وإذا نحرها نزع جلالها مخافة أن يفسدها الدم ثم يتصدق بها أي لئلا تسقط وليظهر الإشعار لئلا يستتر تحتها
ونقل عياض أن التجليل يكون بعد الإشعار لئلا يتلطخ بالدم وإن شق الجلال من الأسنمة قلت قيمتها فإن كانت نفيسة لم تشق
وروى ابن المنذر من طريق أسامة بن زيد عن نافع أن ابن عمر كان يجلل بدنه الإنماط والبرود والحبر حتى يخرج من المدينة ثم ينزعها فيطويها حتى يكون يوم عرفة فيلبسها إياها حتى ينحرها ثم يتصدق بها قال نافع وربما دفعها إلى بني شيبة
قال الحافظ وفي هذا كله استحباب التقليد والتجليل والإشعار وذلك يقتضي أن إظهار التقرب بالهدي أفضل من إخفائه والمقرر إخفاء العمل الصالح غير الفرض أفضل من إظهاره فإما أن يقال أن أفعال الحج مبنية على الظهور كالإحرام والطواف والوقوف فكان الإشعار والتقليد كذلك فيخص ذلك من عموم الإخفاء وإما أن يقال لا يلزم من التقليد والإشعار وغيرهما إظهار العمل الصالح لأن الذي يهديها يمكنه أن يبعثها مع من يقلدها ويشعرها ولا يقول أنها لفلان فتحصل سنة التقليد مع كتمان العمل وأبعد من استدل بذلك على أن العمل إذا شرع فيه صار فرضا وإنما يقال إن التقليد جعل علما لكونها هديا حتى لا يطمع صاحبها في الرجوع فيها انتهى ولعل الجواب بالتخصيص أولى
( مالك عن هشام بن عروة عن أبيه أنه كان يقول لبنيه يا بني لا يهدين أحدكم لله من البدن شيئا يستحي أن يهديه لكريمه فإن الله أكرم الكرماء وأحق من اختير له ) وقد قال الله تعالى { ومن يعظم شعائر الله فإنها من تقوى القلوب } سورة الحج الآية 32 قال جماعة من المفسرين المراد بالشعائر الهدي والأنعام المشعرة ومعنى تعظيمها التسمين والاهتبال بأمرها والمغالاة بها قاله ابن عباس ومجاهد وغيرهما
وقال آخرون الشعائر جمع شعيرة وهو كل شيء لله تعالى فيه أمر أشعر به وأعلم وعلى هذا فالهدي داخل في ذلك فالآية متناولة له إما على انفراده وإما مع غيره
47 العمل في الهدي إذا عطب أو ضل ( مالك عن هشام بن عروة عن أبيه أن صاحب هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم ) مرسل صورة لكنه محمول على الوصل لأن عروة ثبت سماعه من ناجية بالنون والجيم الصحابي فقد أخرجه ابن خزيمة من طريق عبد الرحيم بن سليمان عن هشام عن عروة قال حدثني ناجية ورواه أبو داود وابن عبد البر
____________________
(2/436)
من طريق سفيان بن سعيد الثوري والترمذي وقال حسن صحيح والنسائي من رواية عبدة بن سليمان وابن ماجه من رواية وكيع والطحاوي من طريق سفيان بن عيينة وابن عبد البر من طريق وهيب بن خالد خمستهم عن هشام عن أبيه عن ناجية الأسلمي وكذا رواه جعفر بن عون وروح بن القاسم وغيرهم عن هشام قال في الإصابة ولم يسم أحد منهم والد ناجية لكن قال بعضهم الخزاعي وبعضهم الأسلمي ولا يبعد التعدد فقد ثبت من حديث ابن عباس أن ذؤيبا الخزاعي حدثه أنه كان مع البدن أيضا
وأخرج ابن أبي شيبة عن عروة أن النبي صلى الله عليه وسلم بعث ناجية الخزاعي عينا في فتح مكة وقد جزم أبو الفتح الأزدي وأبو صالح المؤذن بأن عروة تفرد بالرواية عن ناجية الخزاعي فهذا يدل على أنه غير الأسلمي انتهى
لكن جزمها بذلك لا يدل على أن هذا الحديث عنه وكذا بعثه عينا في الفتح وكون ذؤيب مع البدن لا دلالة فيه على أنه السائل فلعل الصواب ورواية من قال إنه الأسلمي لا سيما وهم حفاظ ثقات وقد جزم ابن عبد البر بأنه ناجية بن جندب الأسلمي ثم قال إنه اختلف على ابن عباس فطائفة روت عنه ما يدل على أنه ناجية الأسلمي وطائفة روت أن ذؤيبا الخزاعي والد قبيصة حدثه وربما بعث صلى الله عليه وسلم أيضا معه هديا فسأله كما سأله ناجية انتهى
وقال ابن إسحاق عن بعض أهل العلم عن رجال من أسلم أن ناجية بن جندب الأسلمي صاحب هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم ( قال يا رسول الله كيف أصنع بما عطب ) بكسر الطاء أي هلك ( من الهدي ) قال في المشارق والنهاية وقد يعبر بالعطب عن آفة تعتريه تمنعه عن السير ويخاف عليه الهلاك ( فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم كل بدنة عطبت من الهدي فانحرها ) وجوبا ( ثم ألق قلادتها في دمها ) قال مالك مرة أمره بذلك ليعلم أنه هدي فلا يستباح إلا على الوجه الذي ينبغي وتأوله مرة على أنه نهى أن ينتفع منها بشيء حتى لا تحبس قلادتها لتقلد بها غيرها ( ثم خل بينها وبين الناس يأكلونها ) زاد في مسلم وغيره في حديث ابن عباس ولا تأكل منها أنت ولا أهل رفقتك قال المازري قيل نهاه عن ذلك حماية أن يتساهل فينحره قبل أوانه قال القرطبي لأنه لو لم يمنعهم أمكن أن يبادر بنحره قبل أوانه وهو من المواضع التي وقعت في الشرع وحملها مالك على سد الذرائع وهو أصل عظيم لم يظفر به غير مالك لدقة نظره قال عياض فما عطب من هدي التطوع لا يأكل منه صاحبه ولا سائقه ولا رفقته لنص الحديث وبه قال مالك والجمهور وقالوا لا يدل عليه لأنه موضع بيان ولم يبين ذلك صلى الله عليه وسلم بخلاف الهدي الواجب إذا عطب قبل محله فيأكل منه صاحبه والأغنياء لأن صاحبه يضمنه لتعلقه بذمته وأجاز الجمهور بيعه ومنعه مالك فإن بلغه محله لم يأكل من جزاء وفدية ونذر مساكين وأكل مما سوى ذلك على مشهور المذهب وبه قال فقهاء الأمصار وجماعة من السلف
____________________
(2/437)
( مالك عن ابن شهاب عن سعيد بن المسيب أنه قال من ساق بدنة تطوعا فعطبت ) بكسر الطاء ( فنحرها ثم خلى بين الناس وبينها يأكلونها فليس عليه شيء ) أي لا بدل عليه لأنه فعل ما أمر به النبي صلى الله عليه وسلم في وقت البيان ولم يذكر أن عليه البدل ( وإن أكل منها أو أمر من يأكل منها ) غنيا أو فقيرا ( غرمها ) بكسر الراء دفع بدلها هديا كاملا لا قدر أكله أو ما أمر بأكله على أصح القولين في المذهب
( مالك عن ثور ) بمثلثة ( ابن زيد الديلي ) بكسر الدال وإسكان التحتية ( عن عبد الله بن عباس مثل ذلك ) المروي عن سعيد وروى ذلك أيضا عن عمر وعلي وابن مسعود وعليه جماعة فقهاء الأمصار
( مالك عن ابن شهاب أنه قال من أهدى بدنة جزاء ) عن صيد لزمه ( أو نذرا ) أوجبه على نفسه ( أو هدي تمتع ) أو قران ( فأصيبت في الطريق فعليه البدل ) وله الأكل وإطعام الغني والقريب لضمانه بدله
( مالك عن نافع عن عبد الله بن عمر أنه قال من أهدى بدنة ) مثلا ( ثم ضلت أو ماتت ) قبل بلوغ المحل ( فإنها إن كانت نذرا أبدلها وإن كانت تطوعا فإن شاء أبدلها وإن شاء تركها ) أي لم يبدلها
( مالك أنه سمع أهل العلم يقولون لا يأكل صاحب الهدي من الجزاء ) للصيد ( والنسك ) وهو ما كان لإلقاء تفث أو رفاهية يمنعهما الإحرام والمعروف عن مالك جواز أكل من وجب عليه دم لنقص في حج أو عمرة مطلقا منه حتى هدي الفساد عن المشهور وإنما يمنع من الأكل من الثلاثة السابقة
____________________
(2/438)
48 هدي المحرم إذا أصاب أهله ( مالك أنه بلغه أن عمر بن الخطاب وعلي بن أبي طالب وأبا هريرة ) عبد الرحمن بن صخر أو عمرو بن عامر ( سئلوا عن رجل أصاب ) جامع ( أهله وهو محرم بالحج ) ومثله العمرة ( فقالوا ينفذان ) بضم الفاء وبالذال المعجمة ( يمضيان لوجههما حتى يقضيا ) يتما ( حجهما ) أي الرجل والمرأة لوجوب إتمام فاسد الحج وكذا العمرة
( ثم عليهما حج قابل ) عاجلا قضاء عن هذا الفاسد ( والهدي ) في القضاء جبرا لفعلهما ( قال وقال علي بن أبي طالب وإذا أهلا ) أحرما ( بالحج من عام قابل تفرقا ) وجوبا ( حتى يقضيا حجهما ) لئلا يتذكرا ما كان منهما أولا
( مالك عن يحيى بن سعيد ) الأنصاري ( أنه سمع سعيد بن المسيب ) القرشي ( يقول ما ترون في رجل وقع بامرأته ) جامعها ( وهو محرم ) بحج أو عمرة ( فلم يقل له القوم شيئا ) لأنه سؤال تنبيه ليفيدهم الحكم ( فقال سعيد بن المسيب إن رجلا وقع بامرأته وهو محرم فبعث إلى المدينة يسأل عن ذلك فقال بعض الناس يفرق بينهما ) من وقوع الوقاع ( إلى عام قابل ) وهذا حرج شديد لم يرضه ( فقال سعيد بن المسيب ) ولم يقل فقلت لأنهم لا يحبون نسبة شيء إليهم فكأنه أجنبي ( لينفذا لوجههما ) لقصدهما ( فليتما حجهما الذي أفسداه ) لوجوب ذلك فإذا فرغا رجعا ( فإن أدركهما حج قابل ) بأن عاشا إليه ( فعليهما الحج والهدي ويهلان من حيث أهلا بحجهما الذي أفسداه ويتفرقان ) من إهلالهما ( حتى يقضيا حجهما ) أي يتماه
____________________
(2/439)
( قال مالك يهديان جميعا بدنة بدنة ) بالتكرير أي على كل واحد هدي
( قال مالك في رجل وقع بامرأته ) أي جامعها ( في الحج ما بينه وبين أن يدفع من عرفة ويرمي الجمرة ) ليلة المزدلفة قبل التحلل ( أنه يجب عليه ) إتمام حجه هذا الفاسد و ( الهدي وحج قابل فإن كانت إصابته أهله بعد رمي الجمرة ) وقبل طواف الإفاضة ( فإنما عليه أن يعتمر ويهدي وليس عليه حج قابل ) لأن حجه الأول لم يفسد لوقوعه بعد التحلل غايته أنه وقع فيه نقص جبر بالعمرة والهدي
( والذي يفسد الحج أو العمرة حتى يجب عليه في ذلك الهدي في الحج أو العمرة التقاء الختانين ) ختان الرجل وخفاض المرأة فهو تغليب ( وإن لم يكن ماء دافق ) ذو اندفاق من الرجل والمرأة في رحمها ( قال ويوجب ذلك أيضا الماء الدافق إذا كان من مباشرة ) للجسد استدعائها نزوله وكذا بإدامة نظر أو إدامة فكر
( فأما رجل ذكر شيئا حتى خرج منه ماء دافق ) بدون إدامة ولو قصد اللذة ( فلا أرى عليه شيئا ) أي فسادا ولكن يستحب له الهدي عند الأبهري ورجح غيره وجوبه
( ولو أن رجلا قبل امرأته ولم يكن من ذلك ماء دافق لم يكن عليه في القبلة إلا الهدي ) وكذا لو خرج بالقبلة مذي فإنما عليه الهدي ( وليس على المرأة التي يصيبها زوجها وهي محرمة مرارا في الحج أو العمرة وهي له في ذلك مطاوعة ) وأولى مكرهة ( إلا الهدي وحج قابل إن أصابها في الحج وإن كان أصابها في العمرة فإنما عليه قضاء العمرة التي أفسدت ) فورا بعد إتمام الفاسدة ( والهدي ) للجبر
49 هدي من فاته الحج ( مالك عن يحيى بن سعيد أنه قال أخبرني سليمان بن يسار ) بتحتية ومهملة خفيفة ( أن أبا
____________________
(2/440)
أيوب ) خالد بن زيد ( الأنصاري خرج حاجا حتى إذا كان بالنازية ) بنون فألف فزاي منقوطة فتحتية فهاء عين قرب الصفراء ( من طريق مكة أضل رواحله وإنه قدم على عمر بن الخطاب يوم النحر فذكر له ذلك فقال عمر اصنع ما يصنع المعتمر ) أي تحلل من حجك هذا الذي فاتك بفعل عمرة ( ثم قد حللت فإذا أدركك الحج قابلا فاحجج وأهد ما استيسر من الهدي ) شاة فأعلى
( مالك عن نافع ) مولى ابن عمر ( عن سليمان بن يسار ) الهلالي أحد الفقهاء ( أن هبار بن الأسود ) بن المطلب بن أسد بن عبد العزى بن قصي القرشي الأسدي أسلم بالجعرانة بعد فتح مكة صحابي شهير وللبخاري في التاريخ عن موسى بن عقبة عن سليمان بن يسار عن هبار أنه حدثه أنه ( جاء يوم النحر وعمر بن الخطاب ينحر هديه فقال يا أمير المؤمنين أخطأنا العدة كنا نرى أن هذا اليوم ) الذي هو يوم النحر ( يوم عرفة فقال عمر اذهب إلى مكة فطف أنت ومن معك ) وكان هبار قد حج من الشام كما في رواية ( وانحروا هديا إن كان معكم ثم احلقوا أو قصروا وارجعوا ) وقد أحللتم ( فإذا كان عام قابل فحجوا وأهدوا فمن لم يجد فصيام ثلاثة أيام في الحج وسبعة إذا رجع ) إلى أهله
وفي البخاري عن سالم قال كان ابن عمر يقول أليس حسبكم سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم إن حبس أحدكم عن الحج طاف بالبيت وبالصفا والمروة ثم حل من كل شيء حتى يحج عاما قابلا فيهدي أو يصوم إن لم يجد هديا وقول الصحابي السنة كذا له حكم الرفع وهو قد صرح بإضافتها له صلى الله عليه وسلم فهو مرفوع بلا ريب
( قال مالك ومن قرن الحج والعمرة ثم فاته الحج فعليه أن يحج قابلا ويقرن ) بضم الراء من باب نصر وفي لغة بكسرها كضرب ( بين الحج والعمرة ويهدي هديين هديا لقرانه الحج مع العمرة وهديا لما فاته من الحج ) فلو أفسده مع الفوات وجب عليه هدي ثالث
____________________
(2/441)
هدي من أصاب أهله قبل أن يفيض ( مالك عن أبي الزبير ) محمد بن مسلم ( المكي عن عطاء بن أبي رباح ) براء وموحدة خفيفة مفتوحتين ( عن عبد الله بن عباس أنه سئل عن رجل وقع بأهله وهو بمنى قبل أن يفيض ) أي يطوف طواف الإفاضة ( فأمره أن ينحر بدنة ) وحجه صحيح لوقوع الخلل بعد التحلل برمي الجمرة
( مالك عن ثور ) بمثلثة ( ابن زيد الديلي ) بكسر فسكون ( عن عكرمة ) بن عبد الله البربري ( مولى ابن عباس ) ثقة حجة عند رؤساء علماء الحديث كأحمد وابن معين وابن راهويه ولم يثبت عنه كذب ولا بدعة كما بين ذلك في التمهيد في حديث لا تصوموا حتى تروا الهلال وقال أنه نزل المغرب ومكث بالقيروان مدة قيل وبها مات والصحيح أنه مات بالمدينة
( قال ) ثور ( لا أظنه ) أي عكرمة قال ( إلا أن عبد الله بن عباس أنه قال الذي يصيب أهله قبل أن يفيض ) وقد رمى الجمرة ( يعتمر ويهدي ) لجبر الخلل
( مالك أنه سمع ربيعة بن أبي عبد الرحمن يقول في ذلك مثل قول عكرمة عن ابن عباس ) يعتمر ويهدي
( قال مالك وذلك أحب ما سمعت إلي في ذلك ) من رواية عطاء عن ابن عباس ينحر بدنة يعني ولا عمرة عليه فمال إلى رواية عكرمة دون رواية عطاء مع أنه من أجل التابعين في المناسك والثقة والأمانة وذلك كالصريح في أن عكرمة عنده ثقة قاله أبو عمر
( وسئل مالك عن رجل نسي الإفاضة حتى خرج من مكة ورجع إلى بلاده قال أرى إن لم يكن أصاب النساء ) أي جامع ولو واحدة فالجمع ليس بمقصود ( فليرجع ) وجوبا حلالا إلا من نساء وصيد
____________________
(2/442)
وكره الطيب ( فليفض ثم ليعتمر ليهد ) ومحل وجوب رجوعه ما لم يكن قد تطوع بطواف فيجزيه عن طواف الإفاضة المنسي كما قاله الإمام نفسه في المدونة ولا دم عليه لأن تطوعات الحج تجزىء عن واجباته
( ولا ينبغي أن يشتري هديه من مكة وينحره بها ) لأنه لا بد فيه من الجمع بين الحل والحرم ( ولكن إن لم يكن ساقه معه من حيث اعتمر فليشتره بمكة ثم ليخرج إلى الحل فليسقه منه إلى مكة ثم ينحره بها ) ليجمع فيه بين الحل والحرم كما هو سنة الهدي
51 ما استيسر من الهدي ( مالك عن جعفر ) الصادق ( بن محمد ) الباقر ( عن أبيه أن علي بن أبي طالب كان يقول ) في تفسير قوله تعالى ( ما استيسر ) تيسر ( من الهدي شاة ) تذبح
( مالك أنه بلغه أن عبد الله بن عباس كان يقول ) في تفسير ( ما استيسر من الهدي شاة ) فوافق عليا على تفسيره
( قال مالك وذلك أحب ما سمعت إلي في ذلك لأن الله تبارك وتعالى قال في كتابه { يا أيها الذين آمنوا لا تقتلوا الصيد وأنتم حرم } سورة المائدة الآية 95 ) أي محرمون وداخل الحرم ولعله ذكر القتل دون الذبح للتعميم فشمل ما يؤكل لحمه وما لا إلا الفواسق وما ألحق بها ( ومن قتله منكم متعمدا فجزاء مثل ما قتل من النعم ) ولفظه يشمل الشاة وجاءت السنة من أحكام النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه بوجوب الجزاء في الخطأ كما دل عليه الكتاب في العمد لأن قتل الصيد إتلاف والإتلاف مضمون في العمد والنسيان لكن المتعمد آثم والمخطىء غير ملوم ( يحكم به ) بالجزاء ( ذوا عدل ) رجلان صالحان فإن الأنواع تتشابه ففي النعامة بدنة والفيل بذات سنامين وفي حمار الوحش وبقرة بقرة ( منكم ) من المسلمين ( هديا ) حال من ضمير به ( بالغ الكعبة ) صفة هديا والإضافة لفظية أي واصلا إليه بأن يذبح فيه
____________________
(2/443)
ويتصدق به ( أو كفارة ) عطف على جزاء ( طعام مساكين ) بدل منه أو تقديره هي طعام وقرأ نافع وابن عامر وأبو جعفر كفارة بلا تنوين وطعام بالخفض على الإضافة لأن الكفارة لما تنوعت إلى تكفير بالطعام وتكفير بالجزء المماثل وتكفير بالصيام حسنت إضافتها لأحد أنواعها تبيينا لذلك والإضافة تكون بأدنى ملابسة
( أو عدل ذلك صياما ) أي أو ما ساواه من الصوم فيصوم عن طعام كل مسكين يوما ( فمما يحكم به في الهدي شاة ) لأن النعم اسم للإبل والبقر والغنم ( وقد سماها الله هديا ) بقوله { هديا بالغ الكعبة } سورة المائدة الآية 95 وهذا من بديع الاستنباط والفقه
( وذلك الذي لا اختلاف فيه عندنا ) بالمدينة ( وكيف يشك أحد في ذلك وكل شيء ) من الجزاء ( لا يبلغ أن يحكم فيه ببعير أو بقرة فالحكم فيه شاة ) إذ لا يجوز الحكم عليه بأزيد مما لزمه فهي جملة حالية مقوية للاستفهام الإنكاري أو التعجبي ( وما لا يبلغ أن يحكم فيه بشاة فهو كفارة من صيام أو طعام مساكين ) قال أبو عمر أحسن مالك في احتجاجه هذا وأتى بما لا مزيد لأحد عليه حسنا وعليه جمهور العلماء وفقهاء الأمصار بالحجاز والعراق
( مالك عن نافع أن عبد الله بن عمر كان يقول ما استيسر ) تيسر ( من الهدي بدنة أو بقرة ) لأهل الجدة استحبابا فلا يخالف قول علي وابن عباس شاة يدل على ذلك قول ابن عمر لو لم أجد إلا شاة لكان أحب إلي من أن أصوم ومعلوم أن أعلى الهدي بدنة فكيف تكون ما استيسر
( مالك عن عبد الله بن أبي بكر ) بن محمد بن عمرو بن حزم الأنصاري ( أن مولاة لعمرة بنت عبد الرحمن ) الأنصارية ( يقال لها رقية أخبرته أنها خرجت مع عمرة بنت عبد الرحمن ) مولاتها ( إلى مكة قالت فدخلت عمرة مكة يوم التروية ) ثامن الحجة ( وأنا معها فطافت بالبيت و ) سعت ( بين الصفا والمروة ثم دخلت صفة المسجد ) بضم الصاد مفردة صفف كغرفة وغرف قال ابن حبيب مؤخر المسجد وقيل سقائف المسجد ( فقالت أمعك مقصان ) بكسر الميم وفتح القاف
____________________
(2/444)
والصاد المشددة قال الجوهري المقص المقراض وهما مقصان ( فقلت لا فقالت فالتمسيه ) اطلبيه ( فالتمسته حتى جئت به ) إليها ( فأخذت ) به ( من قرون ) أي ضفائر ( رأسها ) في المسجد إرادة للستر والمبادرة بالتقصير والإحرام من المسجد بالحج ( فلما كان ) وجد ( يوم النحر ذبحت شاة ) عن تمتعها زاد في رواية ابن القاسم للموطأ قال مالك أراها كانت معتمرة ولولا ذلك لم تأخذ من شعر رأسها بمكة يعني أنها دخلتها بعمرة وحلت منها في أشهر الحج فوجب تقصير شعرها للعمرة والهدي للتمتع لإحرامها بالحج قال أبو عمر أدخل هذا هنا شاهدا على أن ما استيسر من الهدي شاة لأن عمرة كانت متمتعة والمتمتع له تأخير الذبح إلى يوم النحر
52 جامع الهدي ( مالك عن صدقة بن يسار ) بفتح التحتية والمهملة الخفيفة الجرزي ( المكي ) نزيل مكة مات سنة اثنين وثلاثين ومائة ( أن رجلا من أهل اليمن جاء إلى عبد الله بن عمر وقد ضفر رأسه ) بفتح المعجمة والفاء الخفيفة ( فقال يا أبا عبد الرحمن ) كنية ابن عمر ( إني قدمت بعمرة منفردة فقال عبد الله بن عمر لو كنت معك أو سألتني لأمرتك أن تقرن ) بضم الراء وكسرها أي لأعلمتك بإباجة ذلك وأن القران مثل التمتع ( فقال اليماني قد كان ذلك ) الذي أخبرتك من التمتع قال أبو عبد الملك معناه قد فاتني الذي تقول لأني طفت وسعيت للعمرة فماذا علي الحلاق أو التقصير ( فقال عبد الله بن عمر خذ ما تطاير ) أي ارتفع ( من ) شعر ( رأسك ) أي قصر ( وأهد ) للتمتع ( فقالت امرأة من أهل العراق ما هديه ) بفتح فسكون فتحتية خفيفة وبكسر الدال وشد التحتية قال أبو عمر هو أولى لأنه مما يهدى لله تعالى ( يا أبا عبد الرحمن فقال هديه فقالت له ما هديه ) بالتثقيل والتخفيف فيهما أيضا واحدة الهدي ما يهدى إلى الحرم من النعم بالتثقيل والخفة أيضا وقيل المثقل جمع المخفف أجمل الهدي أولا وثانيا رجاء أنه يأخذ بالأفضل فلما اضطر للكلام صرح ( فقال عبد الله بن عمر لو لم أجد إلا أن أذبح شاة لكان أحب إلي من أن أصوم )
____________________
(2/445)
وهذا لا يخالف قوله أولا ما استيسر من الهدي بدنة أو بقرة إما لأنه رجع عنه أو لأنه قيد بعدم الوجود فمن وجد البقرة أو البدنة فهو أفضل له قال أبو عمر هذا أصح من رواية من روى عن ابن عمر الصيام أحب إلي من الشاة لأنه معروف من مذهب ابن عمر تفضيل إراقة الدماء في الحج على سائر الأعمال
( مالك عن نافع أن ابن عمر كان يقول المرأة المحرمة ) بحج أو عمرة ( إذا حلت ) من إحرامها
( لم تمتشط ) تسرح شعرها ( حتى تأخذ من قرون رأسها ) للتحلل بذلك
( وإن كان لها هدي لم تأخذ من شعر رأسها شيئا حتى تنحر هديها ) لقوله تعالى { ولا تحلقوا رؤوسكم حتى يبلغ الهدي محله } سورة البقرة الآية 196
( مالك أنه سمع بعض أهل العلم يقول لا يشترك الرجل وامرأته في بدنة واحدة لينحر كل منهما بدنة بدنة ) بالتكرير وبه قال مالك وأجاز الأكثر الاشتراك في الهدي لحديث أبي داود والنسائي وابن ماجه عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ذبح عمن اعتمر من نسائه بقرة بينهن ويأتي لذلك مزيد قريبا
( وسئل مالك عمن بعث معه بهدي ينحره في حج وهو ) أي المبعوث معه ( مهل بعمرة هل ينحره إذا حل من العمرة أم يؤخره حتى ينحره في الحج ويحل هو من عمرته ) قبل نحره ( فقال بل يؤخره حتى ينحره في الحج ) لقوله تعالى { ثم محلها إلى البيت العتيق } سورة الحج الآية 33 وقال { هديا بالغ الكعبة } سورة المائدة الآية 95 أي يوم النحر وسائر أيام منى
( ويحل هو من عمرته ) قبل نحره لأنه ليس له فلا ارتباط له بعمرته
( قال مالك والذي يحكم عليه بالهدي في قتل الصيد أو يجب عليه هدي في غير ذلك )
____________________
(2/446)
كتمتع وقران ( فإن هديه لا يكون إلا بمكة كما قال تعالى هديا بالغ الكعبة ) ويستحب المروة وليس المراد نفس الكعبة للإجماع على أنه لا يجوز ذبح ولا نحر فيها ولا في المسجد
( فأما ما عدل به الهدي من الصيام أو الصدقة فإن ذلك يكون بغير مكة حيث أحب صاحبه أن يفعله فعله ) لأنه لا نفع في الصيام لأهل مكة ولا أهل الحرم وعلى هذا اتفق العلماء واختلفوا في الصدقة
( مالك عن يحيى بن سعيد ) الأنصاري ( عن يعقوب بن خالد المخزومي عن أبي أسماء مولى عبد الله بن جعفر ) الصحابي ابن الصحابي الجواد ابن الجواد ( أنه أخبره أنه كان مع عبد الله بن جعفر فخرج معه من المدينة فمروا على حسين بن علي ) بن أبي طالب ( وهو مريض بالسقيا ) بضم السين المهملة وإسكان القاف وتحتية والقصر ( فأقام عليه عبد الله بن جعفر حتى إذا خاف الفوات ) للحج ( خرج وبعث إلى علي بن أبي طالب وأسماء بنت عميس ) بضم العين الصحابية زوجة علي يومئذ ( وهم بالمدينة فقدما عليه ثم إن حسينا أشار إلى رأسه ) يشكو وجعه ( فأمر علي برأسه فحلق ثم نسك عنه بالسقيا فنحر عنه بعيرا ) كما قال تعالى { أو به أذى من رأسه ففدية من صيام أو صدقة أو نسك } سورة البقرة الآية 196 قال يحيى بن سعيد وكان حسين خرج مع عثمان بن عفان أمير المؤمنين ( في سفره ذلك إلى مكة ) ولم يخرج أبوه علي
53 الوقوف بعرفة والمزدلفة ( مالك أنه بلغه ) وأخرجه ابن وهب في موطآته قال أخبرني محمد بن أبي حميد عن محمد بن المنكدر مرسلا بلفظ الموطأ ووصله عبد الرزاق بلفظه عن معمر عن محمد بن المنكدر عن أبي هريرة ( أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال عرفة كلها موقف ) أي أن الواقف بأي جزء منها آت بسنة
____________________
(2/447)
إبراهيم متبع لطريقته وإن بعد موقفه عن موقفي أراد به رفع توهم تعين الموقف الذي اختاره هو للوقوف ( وارتفعوا عن بطن عرنة ) بضم العين وفتح الراء ونون وفي لغة بضمتين موضع بين منى وعرفات وهي ما بين العلمين الكبيرين جهة عرفة والعلمين الكبيرين جهة منى
( والمزدلفة ) المكان المعروف سميت بذلك لأنه يتقرب فيها من زلف إذا تقرب وقيل لمجيء الناس إليها في زلف من الليل أي ساعات والمزدلفة كلها من الحرم ( كلها موقف ) وفي حديث جابر قد وقفت ههنا ومزدلفة كلها موقف ( وارتفعوا عن بطن محسر ) بكسر السين مشددة بين منى ومزدلفة سمي بذلك لأن فيل أبرهة كل فيه وأعيا فحسر أصحابه بفعله وأوقفهم في الحسرات وإضافته للبيان كشجر أراك وبقية رواية عبد الرزاق المذكورة عقب هذا ومنى كلها منحر وفجاج مكة كلها منحر ففي أي محل وقف أجزأ وإن كان الأفضل أن يقف عند الصخرات التي وقف عندها صلى الله تعالى عليه وعلى آله وسلم
قال النووي وأما ما اشتهر عند العوام من الاعتناء بصعود الجبل وتوهمهم أنه لا يصح الوقوف إلا فيه فغلط بل الصواب جواز الوقوف في كل جزء من أرض عرفات وأن الفضيلة في موقفه صلى الله عليه وسلم عند الصخرات فإن عجز عنه فليقرب منه بحسب الإمكان وهذا الحديث قد جاء أيضا موصولا عن جابر عند مسلم وغيره مرفوعا بلفظ وقفت ههنا وعرفات كلها موقف ووقفت ههنا وجمع كلها موقف وروى الطبراني والديلمي برجال ثقات عن ابن عباس مرفوعا عرفات كلها موقف وارتفعوا عن بطن عرنة ومزدلفة كلها موقف وارتفعوا عن بطن محسر ومنى كلها منحر
( مالك عن هشام بن عروة عن ) عمه ( عبد الله بن الزبير أنه كان يقول اعلموا أن عرفة كلها موقف إلا بطن عرنة ) بالنون لكونها في الحرم ( وإن المزدلفة كلها موقف إلا بطن محسر ) عقب المرفوع بالموقوف إشارة إلى استمرار العمل به فلا يتطرق إليه احتمال النسخ
( قال مالك قال الله تبارك وتعالى { فلا رفث ولا فسوق ولا جدال في الحج } سورة البقرة الآية 197 ) بالفتح في الثلاثة على أن لا للتبرئة والجمهور على أنها فتحة بناء وقيل إعراب وقرىء بالرفع على إلغاء لا وما بعدها مبتدأ سوغ الابتداء بالنكرة تقدم النفي عليها وفي الحج خبر المبتدأ الثالث وحذف خبر الأولين لدلالته عليهما
( قال فالرفث إصابة النساء والله أعلم ) بدليل أنه ( قال الله تبارك وتعالى { أحل لكم ليلة الصيام الرفث إلى نسائكم } سورة البقرة 187 ) أي جماعهن بلا شك فيحمل عليها الرفث في آية الحج وقيل إنه الفحش
____________________
(2/448)
في الكلام وقيل التصريح بذكر الجماع قال الأزهري هي كلمة جامعة لكل ما يريده الرجل من المرأة وخصه ابن عباس بما خوطب به النساء قال عياض يعني من ذكر الجماع وما يوصل إليه لا كل كلام
قال أبو عمر روى ابن وهب عن ابن عمر الرفث إتيان النساء والتكلم بذلك والرجال والنساء فيه سواء
( قال والفسوق الذبح للأنصاب ) جمع نصب بضمتين حجارة تنصب وتعبد ( والله أعلم
قال الله تبارك وتعالى أو فسقا أهل لغير الله به ) فسمى ذلك فسقا فدل على أنه المراد في الحج
وروى ابن وهب عن ابن عمر الفسوق المعاصي في الحرم ولذا قيل المراد ما هو أعم من ذلك وهو الترك لأمر الله والعصيان والخروج عن طريق الحق والفجور
قال الباجي إنما خص مالك الفسوق بما ذكر لأن الحج شرع فيه الذبح فخص بالنهي عن ذلك وإن كان قد نهي عن المعاصي جملة ولا يمتنع حمل الآية على العموم في الحج وغيره لكنه يتأكد في الحج
( قال والجدال في الحج أن قريشا كانت تقف عند المشعر الحرام ) بفتح الميم وبه جاء القرآن وقيل بكسرها وقال بعضهم أنه أكثر في كلام العرب وذكر القعنبي وغيره أنه لم يقرأ بها أحد وذكر الهذلي أن أبا السماك قرأ بالكسر جبل ( بالمزدلفة بقزح ) بفتح القاف وفتح الزاي وبالحاء المهملة وقيل المشعر الحرام كل المزدلفة وقيل هو ما بين المزدلفة ومأزمي عرفات سمي بذلك لأنه معلم للعبادة وموضع لها قال الأزهري الشعائر المعالم التي ندب الله إليها وأمر بالقيام عليها
( وكانت العرب وغيرهم يقفون بعرفة ) على أصل شرع إبراهيم وأما قريش فقال سفيان كان الشيطان قد استهواهم فقال لهم إنكم إن عظمتم غير حرمكم استخف الناس بحرمكم فكانت قريش لا تجاوز الحرم وتقول نحن أهل الله لا نخرج من الحرم وكان سائر الناس يقف بعرفة وذلك قوله تعالى { ثم أفيضوا من حيث أفاض الناس } سورة البقرة الآية 199 رواه الحميدي والإسماعيلي
وفي الصحيحين وغيرهما عن عائشة كانت قريش ومن دان بدينها يقفون بالمزدلفة وكانوا يسمون الحمس وكان سائر العرب يقفون بعرفة فلما جاء الإسلام أمر الله نبيه أن يأتي عرفات فيقف بها ثم يفيض منها فذلك قوله تعالى { ثم أفيضوا من حيث أفاض الناس } وروى ابن خزيمة وابن راهويه وابن إسحاق عن جبير بن مطعم قال كانت قريش إنما تدفع من المزدلفة وتقول نحن الحمس فلا نخرج من الحرم وقد تركوا الموقف بعرفة قال فرأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم في الجاهلية يقف مع الناس بعرفة على جمل له ثم يصبح مع قومه بالمزدلفة فيقف معهم ويدفع إذا دفعوا توفيقا من الله له وفي الصحيحين عن جبير رأيت النبي صلى الله عليه وسلم واقفا بعرفة
____________________
(2/449)
فقلت هذا والله من الحمس فما شأنه ههنا والحمس بضم الحاء المهملة وبالميم الساكنة وسين مهملة هم قريش ومن أخذ مأخذها من القبائل من التحمس وهو التشدد
( فكانوا يتجادلون ) يتخاصمون ( يقول هؤلاء نحن أصوب ) لأنا لم نخرج من الحرم ( ويقول هؤلاء نحن أصوب ) لأنا اتبعنا الشرائع القديمة ولم نبتدع ( فقال الله تعالى ولكل أمة جعلنا منسكا ) بفتح السين وكسرها شريعة ( هم ناسكوه ) عاملون به ( فلا ينازعنك في الأمر وادع إلى ربك ) إلى دينه ( إنك لعلى هدى ) دين ( مستقيم فهذا الجدال فيما نرى ) نظن ( والله أعلم ) بما أراد ( وقد سمعت ذلك من أهل العلم ) وإلى هذا أشار صلى الله عليه وسلم بقوله من حج هذا البيت فلم يرفث ولم يفسق رجع كما ولدته أمه رواه الشيخان ولم يذكر الجدال لارتفاعه بين العرب وقريش بالإسلام ووقف الكل بعرفة
54 وقوف الرجل وهو غير طاهر ووقوفه على دابته ( سئل مالك هل يقف الرجل بعرفة أو بالمزدلفة أو يرمي الجمار ) يوم النحر وغيره ( أو يسعى بين الصفا والمروة وهو غير طاهر ) أي غير متوض ( فقال ) معطيا الحكم بدليله من القياس ( كل أمر تصنعه الحائض من أمر الحج فالرجل يصنعه وهو غير طاهر ثم لا يكون عليه شيء في ذلك ) لأنه صلى الله عليه وسلم قال للحائض اصنعي ما يصنع الحاج غير أن لا تطوفي بالبيت فأباح لها الفعل ولم يجعل عليها شيئا فكذلك الرجل ( و ) لكن ( الفضل ) أي المستحب ( أن يكون الرجل في ذلك ) المذكور في السؤال ( كله طاهرا ) متوضئا لفعله كذلك صلى الله عليه وسلم ( ولا ينبغي له أن يتعمد ذلك ) أي عدم الطهارة في تلك الأماكن
( وسئل مالك عن الوقوف بعرفة للراكب أينزل أم يقف راكبا ) أي أيهما أفضل ( فقال بل
____________________
(2/450)
يقف راكبا ) لأنه صلى الله تعالى عليه وآله وسلم ركب حتى أتى الموقف فاستقبل القبلة فلم يزل واقفا حتى غربت الشمس كما في مسلم وغيره
( إلا أن يكون به أو بدابته علة فالله أعذر بالعذر ) أي بسببه قال القاضي عياض فيه أن الوقوف على ظهور الدواب لمنافع وأغراض لراكبها جائز ما لم يكن ذلك مجحفا بالدابة أو لغير غرض صحيح وأن النهي في ذلك في الأغلب والأكثر ولمن يتخذ ذلك عادة للتحدث عليها كما كانت تفعله الجاهلية وأما من كان راكبا عليها فأخذه الحديث مع جماعة ولم يطل ذلك كثيرا حتى يضر بها فلا يدخل في النهي ومن فعل ذلك قاصدا لغرض صحيح كفعل النبي صلى الله عليه وسلم في تبليغ كلامه أو لخوف على الدابة إن تركها أو على نفسه فيركبها ليحرزها ويحرز نفسه بذلك فلا حرج عليه
وقوف من فاته الحج بعرفة ( مالك عن نافع أن عبد الله بن عمر كان يقول من لم يقف بعرفة من ) أي بعض ( ليلة المزدلفة ) وهي ليلة العيد ( قبل أن يطلع الفجر فقد فاته الحج ) ولو وقف قبل ذلك من الزوال على ظاهره ( ومن وقف بعرفة من ليلة المزدلفة من قبل أن يطلع الفجر فقد أدرك الحج ) وقد جاء هذا بنحوه من وجه آخر عن ابن عمر مرفوعا وزاد فيه وليحل بعمرة وعليه الحج قابلا وروى أصحاب السنن بإسناد صحيح عن عبد الرحمن بن يعمر الديلمي قال شهدت رسول الله صلى الله عليه وسلم بعرفة وأتاه ناس من أهل نجد فسألوه عن الحج فقال صلى الله عليه وسلم الحج عرفة من أدركها قبل أن يطلع الفجر من ليلة جمع فقد تم حجه
( مالك عن هشام بن عروة عن أبيه أنه قال من أدركه الفجر من ليلة المزدلفة ولم يقف بعرفة فقد فاته الحج ) فله التحلل بفعل عمرة
( ومن وقف بعرفة من ليلة المزدلفة قبل أن يطلع الفجر فقد أدرك الحج ) ففي فحوى كلامه أيضا أنه لا يكفي الوقوف نهارا وإليه ذهب مالك رحمه الله وأن الوقوف الركن إنما هو الوقوف بالليل وذهب الأكثرون إلى أنه إذا وقف أي جزء من زوال يوم عرفة إلى طلوع فجر النحر فقد أدرك الحج واختاره جمع من أصحابنا وفي الترمذي صحيحا مرفوعا من شهد صلاتنا هذه أي الصبح ووقف معنا حتى ندفع ووقف قبل ذلك بعرفة ليلا أو نهارا فقد تم حجه وقضى تفثه
قال أبو الحسن اللخمي ليس يشبه أن يكون الفرض من الغروب إلى طلوع الفجر وما قبله من الزوال إلى الغروب تطوعا ويكلف النبي صلى الله عليه وسلم أمته الوقوف من الزوال إلى المغرب مع كثرة ما فيه من المشقة فيما لم يفرض عليهم ثم يكون حظه من الفرض لما دخل بغروب الشمس الانصراف لا ما
____________________
(2/451)
سواه فإن الأحاديث جاءت أنه لما غربت الشمس دفع ولم يقف ويكون الفرض المشي حتى يخرج من المحل والوقوف عبادة يؤتى بها على صفة ما أتى به النبي صلى الله عليه وسلم وقد أتى بالناس ليبين لهم معالم دينهم وقد علموا أنه فرض عليهم الوقوف بعرفة وأتوا لامتثال ما فرض عليهم وهو المبين للأمة فلو كان في تطوع والفرض من الغروب لبينه لأنه ليس يفهم من مجرد فعله أنه كان في تطوع بل المفهوم أنهم كانوا في امتثال ما أمروا به وأتوا إليه
( قال مالك في العبد يعتق في الموقف بعرفة فإن ذلك لا يجزىء عنه من ) أي بدل ( حجة الإسلام ) لأن إحرامه في وقت عدم وجوبه عليه فهو نفل يجب عليه إتمامه ( إلا أن يكون لم يحرم فيحرم بعد أن يعتق ثم يقف بعرفة من تلك الليلة قبل أن يطلع الفجر فإن فعل ذلك أجزأ عنه ) حجة الإسلام إذا نواها ( وإن لم يحرم حتى يطلع الفجر كان بمنزلة من فاته الحج إذا لم يدرك الوقوف بعرفة قبل طلوع الفجر من ليلة المزدلفة ) فيتحلل بفعل عمرة ( ويكون على العبد ) المذكور الذي عتق ( حجة الإسلام يقضيها ) أي يفعلها
56 تقديم النساء والصبيان ( مالك عن نافع عن سالم وعبد الله ) بفتح العين وفي نسخة عبيد الله بضم العين وله ولدان بتكبير العبد وتصغيره ( ابني عبد الله بن عمر أن أباهما عبد الله بن عمر كان يقدم أهله ) نساءه ( وصبيانه من المزدلفة إلى منى ) خوف التأذي بالعجلة والزحام ( حتى يصلوا الصبح بمنى ويرموا قبل أن يأتي الناس ) وفي الصحيحين من رواية ابن شهاب عن سالم كان ابن عمر يقدم ضعفة أهله فيقفون عند
____________________
(2/452)
المشعر الحرام بالمزدلفة بليل يذكرون الله ما بدا لهم ثم يدفعون قبل أن يقف الإمام وقبل أن يدفع إلى منى فمنهم من يقدم منى لصلاة الفجر ومنهم من يقدم بعد ذلك فإذا قدموا رموا الجمرة وكان ابن عمر يقول أرخص في أولئك رسول الله صلى الله عليه وسلم
( مالك عن يحيى بن سعيد عن عطاء بن أبي رباح أن مولاة ) لم تسم لكن قد رواه ابن القاسم عن مالك عند النسائي بلفظ أن مولى بالتذكير وعليه فهو عبد الله كما في الصحيحين ( لأسماء بنت أبي بكر ) ذات النطاقين ( أخبرته قالت جئنا مع أسماء بنت أبي بكر ) الصديق ( منى ) بالصرف ( بغلس ) بفتحتين ظلمة آخر الليل ( قالت فقلت لها لقد جئنا منى بغلس ) يعني تقدمنا على الوقت المشروع ( فقالت قد كنا نصنع ) وفي رواية نفعل ( ذلك مع من هو خير منك ) بكسر الكاف خطاب المؤنث وهذا له حكم الرفع على قول ثم هو صحيح وإن كان فيه إبهام المولاة وقد رواه الشيخان عن عبد الله بن كيسان مولى أسماء أنها نزلت ليلة جمع عند المزدلفة فصلت ساعة ثم قالت يا بني هل غاب القمر قلت لا فصلت ساعة ثم قالت هل غاب القمر قلت نعم قالت فارتحلوا فارتحلنا ومضينا حتى رمت الجمرة ثم رجعت فصلت الصبح في منزلها فقلت لها ما أرانا إلا قد غلسنا فقالت يا بني إن رسول الله صلى الله عليه وسلم أذن للظعن ولا منافاة بين كون السائل هنا ذكر أو في رواية أنثى لحمله على أنهما جميعا سألاها في عام أو عامين وفيه أنه لا يجب المبيت بالمزدلفة إذ لو وجب لم يسقط بالعذر كوقوف عرفة وإنما هو مستحب وهذا مذهب مالك وإن كان أصل النزول بها واجبا بقدر حط الرحل فإن لم ينزل فالدم على الأشهر وأوجب أبو حنيفة المبيت وعن الشافعي القولان
( مالك أنه بلغه أن طلحة بن عبيد الله ) بضم العين أحد العشرة ( كان يقدم نساءه وصبيانه من المزدلفة إلى منى ) عملا بالرخصة
( مالك أنه سمع بعض أهل العلم يكره رمي الجمرة ) للعقبة ( حتى يطلع الفجر من يوم النحر ومن رمى فقد حل له النحر ) وهو في اللبة كالذبح في الحلق
____________________
(2/453)
( مالك عن هشام بن عروة عن ) زوجته ( فاطمة بنت ) عمه ( المنذر ) بن الزبير ( أخبرته أنها كانت ترى ) جدتها ( أسماء بنت أبي بكر بالمزدلفة تأمر الذي يصلي لها ولأصحابها ) أي بهما إماما ( الصبح يصلي لهم الصبح حين يطلع الفجر ثم تركب فتسير إلى منى ولا تقف ) عملا بالرخصة
57 السير في الدفعة ( مالك عن هشام بن عروة عن أبيه أنه قال سئل ) بالبناء للمفعول ( أسامة بن زيد ) الحب ابن الحب ( وأنا جالس معه ) ولمسلم من طريق حماد بن زيد عن هشام عن أبيه سئل أسامة وأنا شاهد أو قال سألت أسامة بن زيد ( كيف كان يسير رسول الله صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع حين دفع ) زاد يحيى الليثي وغيره من عرفة كذا في الفتح ولعله في رواية ابن وضاح عن يحيى وإلا فرواية ابنه ليس فيها ذلك كأكثر رواة الموطأ وإن كان المعنى عليها أي انصرف منها إلى المزدلفة سمي دفعا لازدحامهم إذا انصرفوا فيدفع بعضهم بعضا ( قال ) أسامة ( كان يسير العنق ) بفتح المهملة والنون سير بين الإبطاء والإسراع قال في المشارق وهو سير سهل في سرعة وقال القزاز سير سريع وقيل الذي يتحرك به عنق الدابة وفي الفائق العنق الخطو الفسيح وانتصب على المصدر المؤكد من لفظ الفعل وفي التمهيد سير معروف للدواب ويستعمل مجازا في غيرها قال يا جارتي يا طويلة العنق أخرجتني بالصدود عن عنق ( فإذا وجد فجوة ) بفتح الفاء وسكون الجيم فواو مفتوحة أي مكانا متسعا كذا رواه ابن القاسم وابن وهب والقعنبي والتنيسي وطائفة ورواه يحيى وأبو مصعب ويحيى بن بكير وسعيد بن عفير وجماعة فرحة بضم الفاء وفتحها وسكون الراء قال ابن عبد البر وغيره وهو بمعنى فجوة ( نص ) بفتح النون والصاد المهملة الثقيلة أي أسرع قال أبو عبيد النص تحريك الدابة حتى تستخرج به أقصى ما عندها وأصله غاية الشيء يقال نصصت الشيء رفعته قال الشاعر ونص الحديث إلى أهله فإن الوثيقة في نصه
____________________
(2/454)
أي أرفعه إليهم وأنسبه ثم استعمل في ضرب سريع من السير ( قال مالك قال هشام بن عروة والنص فوق العنق ) أي أرفع منه في السرعة وكذا بين حميد بن عبد الرحمن عند مسلم وأنس بن عياض عند أبي عوانة كلاهما عن هشام أن التفسير من كلامه وأدرجه يحيى القطان عند البخاري وسفيان عند النسائي وعبد الرحيم بن سليمان ووكيع عند ابن خزيمة وعند إسحاق بن راهويه أن التفسير من وكيع وعند ابن خزيمة أنه من سفيان وهما إنما أخذاه عن هشام فرجع التفسير إليه وقد رواه أكثر رواة الموطأ فلم يذكروا التفسير وكذا رواه أبو داود الطيالسي عن حماد بن سلمة ومسلم من طريق حماد بن زيد كلاهما عن هشام قال ابن عبد البر ليس في هذا الحديث أكثر من معرفة كيفية السير في الدفع من عرفة إلى المزدلفة وهو مما يلزم أئمة الحاج فمن دونهم فعله لأجل الاستعجال للصلاة لأن المغرب لا تصلى إلا مع العشاء بالمزدلفة أي فيجمع بين المصلحتين الوقار والسكينة عند الزحمة وبين الإسراع عند عدمها لأجل الصلاة
وقال ابن خزيمة فيه دليل على أن حديث ابن عباس عن أسامة قال فما رأيت ناقته رافعة يديها حتى أتى جمعا محمول على حال الزحام دون غيره يشير إلى ما رواه هو وأبو داود عن ابن عباس عن أسامة أن النبي صلى الله عليه وسلم أردفه حين أفاض من عرفة وقال يا أيها الناس عليكم السكينة فإن البر ليس بالإيجاب قال فما رأيت ناقته رافعة يديها حتى أتى جمعا ورواه البخاري عن ابن عباس ليس فيه أسامة وأخرجه مسلم عن ابن عباس عن أسامة في أثناء حديث قال فما زال يسير على هينة حتى أتى جمعا وهذا يشعر بأن ابن عباس إنما أخذه عن أسامة ورجح في الحديث أيضا أن السلف كانوا يحرصون على السؤال عن كيفية أحواله صلى الله عليه وسلم في جميع حركاته وسكونه ليقتدوا به في ذلك
وأخرجه البخاري عن عبد الله بن يوسف وأبو داود عن القعنبي والنسائي من طريق ابن القاسم الثلاثة عن مالك به وتابعه يحيى بن سعيد القطان عند البخاري وحماد بن زيد وعبدة بن سليمان وعبد الله بن نمير وحميد بن عبد الرحمن عند مسلم وسفيان الثوري عند النسائي ووكيع عند ابن ماجه وحماد بن سلمة عند الطيالسي وعبد الرحيم بن سليمان عند ابن خزيمة وأنس بن عياض عند أبي عوانة العشرة عن هشام به
( مالك عن نافع أن عبد الله بن عمر كان يحرك راحلته في بطن محسر ) بلفظ اسم الفاعل قدر رمية بحجر عملا بالسنة
____________________
(2/455)
58 ما جاء في النحر في الحج ( مالك أنه بلغه ) وأخرجه أحمد وأبو داود وابن ماجه وصححه الحاكم عن جابر ( أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال بمنى ) هذا المكان الذي نحرت فيه ( المنحر ) الأفضل ( وكل منى منحر ) يجوز النحر فيه زاد في حديث جابر فانحروا في رحالكم وهو أمر إباحة لا إيجاب ولا ندب
قال ابن التين منحر النبي صلى الله عليه وسلم عند الجمرة الأولى التي تلي المسجد قال الحافظ وكأنه أخذه مما رواه الفاكهي من طريق ابن جريج عن طاوس قال كان منزل النبي صلى الله عليه وسلم بمنى عن يسار المصلى
قال وقال غير طاوس من أشياخنا مثله وزاد فأمر بنسائه أن ينزلن حيث الدار بمنى وأمر الأنصار أن ينزلوا بالشعب وراء الدار قلت والشعب عند الجمرة المذكورة قال ابن التين فللنحر فيه فضيلة على غيره لقوله هذا المنحر وكل منى منحر
( وقال في العمرة هذا المنحر ) الأفضل ( يعني المروة ) بيان لاسم الإشارة ( وكل فجاج مكة ) بكسر الفاء وجيمين جمع فج بفتح الفاء وهو الطريق الواسع بين الجبلين ( وطرقها منحر ) يجوز النحر فيها قال أبو عبد الملك يريد كل ما قارب بيوت مكة من فجاجها وطرقها منحر وما تباعد من البيوت فليس بمنحر
( مالك عن يحيى بن سعيد ) بن قيس الأنصاري ( قال أخبرتني عمرة بنت عبد الرحمن ) بن سعد بن زرارة الأنصارية ( أنها سمعت عائشة أم المؤمنين تقول خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ) من المدينة سنة عشر من الهجرة ( لخمس ليال بقين من ذي القعدة ) بفتح القاف وكسرها سمي بذلك لأنهم كانوا يقعدون فيه عن القتال ومثل هذا التاريخ في حديث ابن عباس عند البخاري واحتج به ابن حزم على أن خروجه صلى الله عليه وسلم من المدينة كان يوم الخميس قال لأن أول ذي الحجة كان يوم الخميس بلا شك لأن الوقفة كانت يوم الجمعة بلا خلاف وظاهر قوله يقتضي أن خروجه من المدينة يوم الجمعة بناء على ترك عد يوم الخروج وقد ثبت في الصحيح من حديث أنس أنه صلى الظهر بالمدينة أربعا فبان أنه لم يكن يوم الجمعة فتعين أنه يوم الخميس بإلغاء يوم الخروج وتعقبه ابن القيم بأن المتعين أن يكون يوم السبت بناء على عد يوم الخروج أو على ترك عده ويكون ذو القعدة تسعا وعشرين يوما أيده الحافظ بما رواه ابن سعد والحاكم في الإكليل أن خروجه صلى الله عليه وسلم من المدينة كان يوم السبت لخمس بقين من ذي القعدة وفيه رد على منع إطلاق القول في التاريخ لئلا يكون الشهر
____________________
(2/456)
ناقصا فلا يصح الكلام فيقول مثلا إن بقين بأداة الشرط ووجه الجواز أن الإطلاق يكون على الغالب
( ولا نرى ) بضم النون أي نظن ( إلا أنه الحج ) لأنهم كانوا لا يعرفون العمرة في أشهر الحج
وفي البخاري رواية أبي الأسود عن عروة عنها مهلين بالحج
ولمسلم من طريق القاسم عنها لا نذكر إلا الحج وله من هذا الوجه لبينا بالحج فظاهره أن عائشة مع غيرها من الصحابة كانوا أولا محرمين بالحج لكن في رواية عروة السابقة في الموطأ فمنا من أهل بعمرة ومنا من أهل بحجة وعمرة ومنا من أهل بالحج فيحمل الأول على أنها ذكرت ما كانوا يعهدونه من ترك الاعتمار في أشهر الحج فخرجوا لا يعرفون إلا هو ثم بين لهم النبي صلى الله عليه وسلم وجوه الإحرام وجواز العمرة في أشهر الحج تقدم مزيد لذلك
( فلما دنونا ) قربنا ( من مكة ) بسرف كما جاء عن عائشة أو بعد طوافهم بالبيت وسعيهم كما في رواة جابر ويحتمل تكريره الأمر بذلك مرتين في الموضعين وأن العزيمة كانت آخرا حين أمرهم بفسخ الحج إلى العمرة
( أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم من لم يكن معه هدي إذا طاف بالبيت وسعى بين الصفا والمروة أن يحل ) بفتح أوله وكسر ثانيه أي يصير حلالا بأن يتمتع وهذا فسخ الحج إلى العمرة والأكثر على أنه خاص بالصحابة تلك السنة خاصة أو منسوخ
( قالت عائشة فدخل ) بضم الدال وكسر الخاء مبني للمجهول ( علينا يوم النحر ) بالنصب ظرفا أي في يوم النحر ( بلحم بقر فقلت ما هذا فقالوا نحر ) وللبخاري ومسلم من رواية سليمان بن بلال عن يحيى بن سعيد ذبح ( رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أزواجه ) ففيه دلالة على جواز ذبح البقر واتفق عليه العلماء إلا أن الذبح يستحب عندهم لقوله تعالى { إن الله يأمركم أن تذبحوا بقرة } سورة البقرة الآية 67 وخالف الحسن بن صالح فاستحب نحرها وأخذ من الاستفهام عن اللحم أنه لم يستأذنهن في ذلك إذ لو كان بعلمها لم تحتج إلى الاستفهام لكن لا يدفع ذلك احتمال أنه استأذنهن ولما رأت اللحم احتمل عندها أنه الذي وقع فيه الاستئذان وأنه غيره فاستفهمت عنه لذلك
قال ابن بطال أخذ بظاهر جماعة فأجازوا الاشتراك في الهدي ولا حجة فيه لاحتمال أن يكون عن كل واحدة بقرة
وأما رواية يونس عن الزهري عن عمرة عن عائشة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نحر عن أزواجه بقرة واحدة فقال إسماعيل القاضي تفرد يونس بذلك وقد خالفه غيره قال الحافظ ورواية يونس أخرجها النسائي وأبو داود وغيرهما ويونس ثقة حافظ وقد تابعه معمر عند النسائي ولفظ أصرح من لفظ يونس قال ما ذبح عن آل محمد في حجة الوداع إلا بقرة
وللنسائي أيضا من طريق يحيى بن أبي كثير عن أبي سلمة عن أبي هريرة قال ذبح رسول الله صلى الله عليه وسلم
____________________
(2/457)
عمن اعتمر من نسائه في حجة الوداع بقرة بينهن صححه الحاكم وهو شاهد قوي لرواية الزهري
وأما ما رواه عمار الذهني عن عبد الرحمن بن القاسم عن أبيه عن عائشة قالت ذبح عنا رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم يوم حجنا بقرة بقرة أخرجه النسائي أيضا فهو شاذ مخالف لما تقدم انتهى
ولا شذوذ فإن عمار الذهني بضم الذال المهملة وسكون الهاء ونون ثقة صدوق روى له مسلم وأصحاب السنن فزيادته مقبولة فإنه قد حفظ ما لم يحفظ غيره وزيادته ليست مخالفة لغيره فإن قول معمر ما ذبح إلا بقرة المراد بها جنس بقرة أي لا بعير ولا غنم فلا ينافي الرواية الصريحة أنه عن كل واحدة بقرة فمن شرط الشذوذ أن يتعذر الجمع وقد أمكن فلا تأييد فيها لرواية يونس التي حكم إسماعيل القاضي بشذوذها لأنه انفرد بقوله واحدة وحديث أبي هريرة لا شاهد فيه فضلا عن قوته إذ قوله ذبح بقرة بينهن لا صراحة فيه أنه لم يذبح سواها وإن كان ظاهره ذلك فتعارضه الرواية الصريحة في التعدد وقد رواه البخاري في الأضاحي ومسلم أيضا من طريق ابن عيينة عن عبد الرحمن بن القاسم بلفظ ضحى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن نسائه بالبقرة وأخرجه مسلم أيضا من طريق عبد العزيز الماجشون عن عبد الرحمن لكن بلفظ أهدى بدل ضحى قال الحافظ والظاهر أن التصرف من الرواة لأنه ثبت في الحديث ذكر النحر فحمله بعضهم على الأضحية لكن رواية أبي هريرة صريحة في أنه كان عمن اعتمر من نسائه فقويت رواية من رواه بلفظ أهدى وتبين أنه هدي للتمتع فلا حجة فيه على مالك في قوله لا ضحايا على أهل منى قيل وفيه دلالة على أن الإنسان قد يلحقه من عمل غيره ما عمله عنه بغير أمره ولا علمه وتعقب باحتمال الاستئذان كما مر وفيه جواز الأكل من الهدي
( قال يحيى بن سعيد فذكرت هذا الحديث ) الذي أخبرتني به عمرة ( للقاسم بن محمد ) بن أبي بكر الصديق ( فقال أتتك ) عمرة ( والله بالحديث على وجهه ) أي ساقته لك سياقا تاما لم تختصر منه شيئا وكأنه يشير إلى روايته هو عن عائشة فإنها مختصرة كما تقدمت الإشارة إليها رواها البخاري هنا عن عبد الله بن يوسف وفي الجهاد عن القعنبي والترمذي والنسائي وابن ماجه من طريق ابن القاسم ثلاثتهم عن مالك به وتابعه سليمان بن بلال في الصحيحين وعبد الوهاب الثقفي وسفيان عن مسلم ويحيى القطان ويحيى بن أبي زائدة عند أصحاب السنن خمستهم عن يحيى بن سعيد به
( مالك عن نافع عن عبد الله بن عمر عن ) أخته ( حفصة أم المؤمنين أنها قالت لرسول الله صلى الله عليه وسلم ما شأن ) أي أمر وحال ( الناس حلوا ) هكذا ليحيى الليثي النيسابوري وابن بكير والقعنبي وأبي مصعب وغيرهم وزاد التنيسي وإسماعيل بن أبي أويس وابن وهب بعمرة والمعنى واحد عند أهل العلم قاله ابن عبد البر أي أن إحرامهم بعمرة كان سببا لسرعة حلهم ( ولم تحلل ) بفتح أوله وكسر ثالثه ( أنت
____________________
(2/458)
من عمرتك فقال إني لبدت رأسي ) بفتح اللام والموحدة الثقيلة من التلبيد وهو جعل شيء فيه من نحو صمغ ليجتمع الشعر ولا يدخل فيه قمل ( وقلدت هديي ) علقت شيئا في عنقه ليعلم ( فلا أحل ) بفتح الهمزة وكسر الحاء والرفع من إحرامي ( حتى أنحر ) الهدي واحتج به أبو حنيفة وأحمد ومن وافقهما على أن من ساق الهدي لا يحل من العمرة حتى يهل بالحج ويفرغ منه لأنه جعل علة بقائه على إحرامه كونه أهدى وكذا في حديث جابر في الصحيحين وأخبرهم أنه لا يحل حتى ينحر الهدي والأحاديث بذلك متظافرة
وأجاب بعض المالكية والشافعية بأن السبب في عدم تحلله من العمرة كونه أدخلها على الحج وهو مشكل عليه لأنه يقول إنه صلى الله عليه وسلم أفرد الحج وقال بعض العلماء ليس لمن قال كان مفردا عن هذا الحديث انفصال لأنه إن قال به أشكل عليه بتعليله عدم التحلل بسوق الهدي لأن التحلل يمتنع على من كان قارنا عنده وجنح الأصيلي وغيره إلى توهيم مالك في قوله ولم تحلل أنت من عمرتك وأنه لم يقله أحد في حديث حفصة غيره
وتعقبه ابن عبد البر على تقدير تسليم انفراده بأنها زيادة حافظ فيجب قبولها على أنه لم ينفرد فقد تابعه أيوب وعبيد الله بن عمر وهما مع مالك حفاظ أصحاب نافع انتهى
ورواية عبيد الله عن مسلم وأخرجه البخاري عن موسى بن عقبة ومسلم عن ابن جريج والبيهقي عن شعيب بن أبي حمزة ثلاثتهم عن نافع بدونها
وفي رواية عبيد الله عند الشيخين فلا أحل حتى أحل من الحج ولا تنافي هذه رواية مالك لأن القارن لا يحل من العمرة ولا من الحج حتى ينحر فلا حجة فيه لمن قال أنه صلى الله عليه وسلم كان متمتعا لأن قول حفصة ولم تحلل عمرتك وقوله حتى أحل من الحج ظاهر في أنه كان قارنا
وأجاب الإمام الشافعي بأن معنى قولها من عمرتك من إحرامك الذي ابتدأته معهم بنية واحدة بدليل قوله لو استقبلت من أمري ما استدبرت ما سقت الهدي ولجعلتها عمرة أي فأطلقت اسم العمرة على الإحرام بنية الحجة الواحدة تجوزا وقيل معناه ولم تحلل من حجك بعمرة كما أمرت أصحابك ومن تأتي بمعنى الباء كقوله تعالى { يحفظونه من أمر الله } سورة الرعد الآية 11 أي بأمره والتقدير ولم تحلل أنت بعمرة من إحرامك وقيل ظنت أنه فسخ حجه بعمرة كما صنع أصحابه بأمره فقالت لم لم تحلل أنت أيضا من عمرتك وقيل المراد بالعمرة هنا الحج لأنهما يشتركان في كونهما قصدا
وجزم به المنذري وأيده بأنه روى حلوا ولم تحلل أنت من حجتك وهذا نحو جواب الشافعي وضعفت هذه التأويلات بما في الصحيح عن عمر مرفوعا وقل عمرة في حجة
وعن أنس ثم أهل بحج وعمرة
ولمسلم عن عمران بن حصين جمع بين حجة وعمرة
ولأبي داود والنسائي عن البراء مرفوعا إني سقت الهدى وقرنت
وللنسائي من حديث علي مثله ولأحمد عن سراقة أنه صلى الله عليه وسلم قرن في حجة الوداع وله عن طلحة وللدارقطني عن أبي سعيد وأبي قتادة والبزار عن ابن أبي أوفى أنه صلى الله عليه وسلم جمع بين الحج والعمرة وأجاب البيهقي عن هذه الأحاديث وغيرها نصرة لمن
____________________
(2/459)
قال كان مفردا فنقل عن سليمان بن حرب أن رواية أبي قتادة عن أنس أنه سمعهم يصرخون بهما جميعا أثبت من رواية من روى عنه أنه صلى الله عليه وسلم جمع بين الحج والعمرة ثم تعقبه بأن قتادة وغيره من الحفاظ رووه عن أنس كذلك فالاختلاف فيه على أنس نفسه قال فلعله سمع النبي صلى الله عليه وسلم يعلم غيره كيف يهل بالقران فظن أنه أهل عن نفسه وأجاب عن حديث حفصة بما تقدم عن الشافعي وعن حديث عمر بأن جماعة رووه بلفظ صل في هذا الوادي وقل عمرة في حجة وهؤلاء أكثر عددا ممن رواه وقل فقال ذلك ليكون إذنا في القران لا أمرا للنبي صلى الله عليه وسلم في حال نفسه
وعن حديث عمران بأن المراد إذنه لأصحابه في القران بدليل روايته الأخرى أنه صلى الله عليه وسلم تمتع فإن مراده بكل ذلك إذنه
وعن حديث البراء بأنه ساقه في قصة علي وقد رواها أنس يعني في الصحيحين وجابر في مسلم وليس فيها لفظ وقرنت
وأجاب عن باقيها بما حاصله أنه أذن في ذلك لا أنه فعله في نفسه
وقال الخطابي اختلفت الروايه فيما كان صلى الله عليه وسلم به محرما والراجح أنه أفرد الحج وأن كلا أضاف إليه ماأمر به اتساعا وهذا هو المشهور عند المالكية والشافعية ومر له مزيد
وقال النووي الصواب أنه كان قارنا ويؤيده أنه لم يعتمر في تلك السنة بعد الحج ولا شك أن القران أفضل من الإفراد الذي لم يعتمر في سنته ولم يقل أحدا أن الحج وحده أفضل من القران وتعقبه الحافظ بأن الخلاف ثابت قديما وحديثا أما قديما فالثابت عن عمر أنه قال إن أتم لحجكم ولعمرتكم أن تنشئوا لكل منهما سفرا
وعن ابن مسعود نحوه أخرجه ابن أبي شيبة
وأما حديثا فقد صرح القاضي حسين والمتولي بترجيح الإفراد ولو لم يعتمر في تلك السنة انتهى
وهو مقتضى مذهب مالك
وهذا الحديث رواه البخاري عن إسماعيل وعبد الله بن يوسف ومسلم عن يحيى وأبو داود عن القعنبي ومسلم أيضا من رواية خالد بن مخلد كلهم عن مالك به وتابعه عبيد الله بن عمر في الصحيحين وموسى بن عقبة في البخاري وابن جريج في مسلم عن نافع
59 العمل في النحر ( مالك عن جعفر ) الصادق ( بن محمد ) الباقر ( عن أبيه علي بن أبي طالب ) قال أبو عمر كذا ليحيى والقعنبي عن علي ورواه ابن بكير وسعيد بن عفير وابن القاسم وابن نافع وأبو مصعب والشافعي عن مالك فقالوا عن جابر وهو الصحيح وإنما جاء عن علي من حديث عبد الرحمن بن أبي ليلى عنه وأرسله ابن وهب لم يقل عن جابر ولا عن علي والمتن صحيح ثابت عن جابر وعلي انتهى
وعلى رواية يحيى وموافقه فيه انقطاع لأن محمدا لم يدرك عليا ( أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نحر ) بيده الكريمة ( بعض هدية ) وكان مائة بدنة كما في الصحيحين عن علي ( ونحر غيره بعضه ) هو علي ففي أبي داود عن علي
____________________
(2/460)
لما نحر صلى الله عليه وسلم بدنه نحر ثلاثين بيده وأمرني فنحرت سائرها وفي مسلم وغيره عن جابر ثم انصرف صلى الله عليه وسلم إلى المنحر فنحر ثلاثا وستين بيده ثم أعطى عليا فنحر ما غير وهذا أصح وفي أبي داود عن غرفة بن الحارث الكندي شهدت رسول الله صلى الله عليه وسلم وأتى بالبدن فقال ادعوا لي أبا الحسن فدعي له علي فقال خذ بأسفل الحربة وأخذ صلى الله عليه وسلم بأعلاها ثم طعنا بها البدن فلما فرغ ركب بغلته وأردف عليا وجمع الولي العراقي باحتمال أنه صلى الله عليه وسلم انفرد بنحر ثلاثين بدنة وهي التي ذكرت في حديث علي واشترك هو وعلي في نحر ثلاث وثلاثين وهي المذكورة في حديث غرفة بغين معجمة وقيل مهملة
وقول جابر نحر ثلاثا وستين مراده كل ما له دخل في نحره إما منفردا به أو مع مشاركة علي وجمع بين حديثي علي وجابر بأنه صلى الله عليه وسلم نحر ثلاثين ثم أمر عليا أن ينحر فنحر سبعا وثلاثين ثم نحر صلى الله عليه وسلم ثلاثا وثلاثين قال فإن ساغ هذا وإلا فما في الصحيح أصح أي مع مشاركة علي ليلتئم مع حديث غرفة وإن لم يعرج الحافظ عليه وذكر بعضهم أن حكمة نحره ثلاثا وستين بدنة بيده أنه قصد بها سني عمره وهي ثلاث وستون على كل سنة بدنة نقله عياض ثم قال والظاهر أنه صلى الله عليه وسلم نحر البدن التي جاءت معه من المدينة وكانت ثلاثا وستين كما جاء في رواية الترمذي وأعطى عليا البدن التي جاءت معه من اليمن وهي تمام المائة انتهى
وأما قول أنس في الصحيحين وغيرهما نحر النبي صلى الله عليه وسلم بيده سبع بدن فلعلها التي اطلع هو عليها
( مالك عن نافع أن عبد الله بن عمر قال من نذر بدنة فإنه يقلدها نعلين ) يجعلهما في عنقها علامة ( ويشعرها ) في سنامها ( ثم ينحرها عند البيت أو بمنى يوم النحر ليس لها محل دون ذلك ) لأنه لما عبر ببدنة علم أنها هدي ( ومن نذر جزورا من الإبل أو البقر فلينحرها حيث شاء ) أي في أي مكان لأنه أراد إطعام لحمه مساكين موضعه أو ما نوى من المواضع
( مالك عن هشام بن عروة أن أباه كان ينحر بدنه قياما ) حال سوغ وقوعها من النكرة مع تأخرها عنها تخصيص النكرة بالإضافة
وفي الصحيحين عن زياد بن جبير رأيت ابن عمر أتى على رجل قد أناخ ببدنته ينحرها قال ابعثها قياما مقيدة سنة محمد صلى الله عليه وسلم وهذا مرفوع لقوله سنة
وقال ابن عباس في تفسير قوله تعالى { فاذكروا اسم الله عليها صواف } سورة الحج الآية 36 قال قياما رواه سعيد بن منصور وغيره
وصواف بالتشديد جمع صافة أي مصطفة في قيامها
وفي المستدرك عن ابن عباس صواف أي قياما على ثلاثة قوائم معقولة
وفي قراءة ابن مسعود صوافن بكسر الفاء بعدها نون جمع صافنة وهي التي رفعت إحدى يديها بالعقل لئلا تضطرب
وقال أبو عمر أظن اختيار العلماء نحر البدن قياما لقوله تعالى { فإذا وجبت جنوبها }
____________________
(2/461)
( سورة الحج الآية 36 ) والوجوب لغة السقوط إلى الأرض
( قال مالك لا يجوز لأحد أن يحلق رأسه حتى ينحر هديه ) لنهي الآية الشريفة عن ذلك
( ولا ينبغي ) لا يجوز ( لأحد أن ينحر قبل الفجر يوم النحر وإنما العمل كله يوم النحر الذبح ولبس الثياب وإلقاء التفث ) إزالة الأوساخ والشعث كطول الظفر ( والحلاق ) بكسر الحاء مصدر حلق ( لا يكون شيء من ذلك قبل يوم النحر ) لأنه فعل له قبل وقته كمن صلى قبل دخول الوقت
60 الحلاق ( مالك عن نافع عن عبد الله بن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال ) في حجة الوداع كما هو ظاهر سياق الإمام لهذا الحديث في الحج وبه صرح البخاري عن موسى بن عقبة عن نافع عن ابن عمر قال حلق صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع وناس من أصحابه وقصر بعضهم فقال ( اللهم ارحم المحلقين قالوا ) أي الصحابة قال الحافظ ولم أقف في شيء من طرقه على الذي تولى السؤال في ذلك بعد البحث الشديد ( والمقصرين يا رسول الله ) أي قل وارحم المقصرين ( قال اللهم ارحم المحلقين قالوا ) قل ( والمقصرين يا رسول الله ) فالعطف على محذوف وهو يسمى العطف التلقيني كقوله تعالى { قال إني جاعلك للناس إماما قال ومن ذريتي } سورة البقرة الآية 124 قال والمقصرين قال الحافظ فيه إعطاء المعطوف حكم المعطوف عليه ولو تخلل بينهما السكوت بلا عذر ثم هو هكذا في معظم الروايات عن مالك الدعاء للمحلقين مرتين وعطف المقصرين عليهم في المرة الثالثة وانفرد يحيى بن بكير دون رواة الموطأ بإعادة ذلك ثلاث مرات نبه عليه ابن عبد البر في التقصي وأغفله في التمهيد بل قال فيه إنهم لم يختلفوا على مالك في ذلك وقد راجعت أصل سماعي من موطأ يحيى بن بكير فوجدته كما قال في التقصي وفي رواية الليث عن نافع عند مسلم وعلقها البخاري ارحم المحلقين مرة أو مرتين قالوا والمقصرين قال والمقصرين والشك فيه من الليث وإلا فأكثرهم موافق لرواية مالك ولمسلم وعلقه
____________________
(2/462)
البخاري من رواية عبيد الله بالتصغير عن نافع قال في الرابعة والمقصرين
ولمسلم من وجه آخر عن عبيد الله بلفظ مالك سواء وبيان كونها في الرابعة أن قوله والمقصرين عطف على مقدر أي وارحم المحلقين وإنما قاله بعد دعائه لهم ثلاث مرات فيكون دعاؤه للمقصرين في الرابعة
ورواه أبو عوانة من طريق الثوري عن عبيد الله بلفظ قال في الثالثة والمقصرين والجمع بينهما واضح بأن من قال الرابعة فعلى ما شرحناه ومن قال الثالثة أراد أن المقصرين عطف على الدعوة الثالثة أو أراد بالثالثة مسألة السائلين وكان صلى الله تعالى عليه وآله وسلم لا يراجع بعد ثلاث ولو لم يدع لهم ثالث مسألة ما سألوه
ولأحمل من طريق أيوب عن نافع بلفظ اللهم اغفر للمحلقين قالوا وللمقصرين حتى قالها ثلاثا أو أربعا ثم قال والمقصرين ورواية من جزم مقدمة على من شك وقد اختلف المتكلمون على هذا الحديث في الوقت الذي قال فيه ذلك فقال ابن عبد البر لم يذكر أحد من رواة نافع عن ابن عمر أن ذلك كان يوم الحديبية وهو تقصير حذف وإنما جرى ذلك يوم الحديبية حين صد عن البيت وهذا محفوظ مشهور من حديث ابن عمر وأبي سعيد وابن عباس وأبي هريرة وحبشي بن جنادة وغيرهم ثم أخرج حديث أبي سعيد بلفظ سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يستغفر لأهل الحديبية للمحلقين ثلاثا وللمقصرين مرة وحديث ابن عباس بلفظ حلق رجال يوم الحديبية وقصر آخرون فقال صلى الله عليه وسلم رحم الله المحلقين الحديث وحديث أبي هريرة ولم يسق لفظه بل قال وذكر معناه وتجوز في ذلك فليس في حديثه تعيين الموضع ولم يقع في شيء من طرقه التصريح بسماعه له من النبي صلى الله عليه وسلم ولو وقع لقطعنا بأنه كان في حجة الوداع لأنه شهدها ولم يشهد الحديبية ولم يسق ابن عبد البر عن ابن عمر في هذا شيئا ولم أقف على تعيين الحديبية في شيء من الطرق عنه بل صرح موسى بن عقبة عن نافع عن ابن عمر بأنه في حجة الوداع
رواه البخاري في المغازي وعنده من رواية جويرية بن أسماء ومسلم من رواية الليث كلاهما عن نافع عن ابن عمر ما يشعر بأن ذلك وقع في حجة الوداع وإليه يومي صنيع البخاري ومالك
وأما حديث حبشي بن جنادة فرواه ابن أبي شيبة ولم يعين المكان
ورواه أحمد عن حبشي وكان ممن شهد حجة الوداع فذكر هذا الحديث وهذا يشعر بأنه كان فيها
وأما قول ابن عبد البر وغيرهم فقد ورد تعيين الحديبية عن جابر عند الطبراني والمسور بن مخرمة عند ابن إسحاق وكذا جزم إمام الحرمين بأنه في الحديبية وورد تعيين حجة الوداع من حديث أبي مريم السلولي عند أحمد وابن أبي شيبة وأم الحصين عند مسلم وقارب الثقفي عند أحمد وابن أبي شيبة وأم عمارة عند الحارث والأحاديث التي فيها تعيين حجة الوداع أكثر عددا وأصح إسنادا ولذا قال النووي إنه الصحيح المشهور ولا يبعد أنه وقع في الموضعين
وقال عياض كان في الموضعين
وقال ابن دقيق العيد إنه الأقرب قلت بل هو المتعين لتظافر الروايات بذلك في الموضعين إلا أن السبب فيهما مختلف فالذي في الحديبية سببه توقف من توقف من الصحابة عن الإحلال لما دخل عليهم من الحزن لكونهم منعوا من الوصول إلى البيت مع اقتدارهم في أنفسهم على ذلك فخالفهم صلى الله عليه وسلم وصالح قريشا على أن يرجع من العام
____________________
(2/463)
المقبل فلما أمرهم بالإحلال توقفوا فأشارت أم سلمة أن يحل هو ففعل فحلق بعض وقصر بعض فكان من بادر إلى الحلق أسرع إلى امتثال الأمر ممن قصر وصرح بهذا السبب في حديث عند ابن ماجه وغيره أنهم قالوا يا رسول الله ما بال المحلقين ظاهرت لهم بالترحم قال لأنهم لم يشكوا
وأما سبب تكرير الدعاء للمحلقين في حجة الوداع فقال ابن الأثير في النهاية كان أكثر من حج معه صلى الله عليه وسلم لم يسق الهدي فلما أمرهم أن يفسخوا الحج إلى العمرة ثم يتحللوا منها ويحلقوا رؤوسهم شق عليهم فلما لم يكن لهم بد من الطاعة كان التقصير في أنفسهم أخف من الحلق ففعله أكثرهم فرجح النبي صلى الله عليه وسلم فعل من حلق لأنه أبين في امتثال الأمر وفيه نظر وإن تبعه عليهه غير واحد لأن المتمتع يستحب له أن يقصر في العمرة ويحلق في الحج إذا قرب ما بين النسكين وقد كان كذلك هنا والأولى قول الخطابي وغيره إن عادة العرب حب توفير الشعور والتزين بها والحلق فيهم قليل وربما رأوه من الشهرة ومن زي الأعاجم فلذا كرهوا الحلق واقتصروا على التقصير
وفي حديث الباب من الفوائد أن التقصير يجزي عن الحلق وهو مجمع عليه إلا رواية عن الحسن البصري تعين الحلق أول حجة وثبت عنه خلافه وفيه أن الحلق أفضل لأنه أبلغ في العبادة وأبين للخضوع والذلة وأدل على صدق النية والمقصر يبقى على نفسه شيئا مما يتزين به بخلاف الحالق فيشعر بأنه ترك ذلك لله وإشارة إلى التجرد ولذا استحب الصلحاء إلقاء الشعور عند التوبة وتعليل النووي وغيره بأن المقصر مبق على نفسه الشعر الذي هو زينة والحاج مأمور بتركها بل هو أشعث أغبر فيه نظر لأن الحلق إنما يقع بعد انقضاء زمن الأمر بالتقشف فإنه يحل له كل شيء إلا النساء في الحج خاصة وفيه مشروعية حلق جميع الرأس لأنه الذي يقتضيه قوله المحلقين وقال بوجوبه مالك وأحمد واستحبه الكوفيون والشافعي ويجزي البعض عندهم فعند الحنفية الربع إلا أبا يوسف فقال النصف وقال الشافعي أقل ما يجب حلق ثلاث شعرات والتقصير كالحلق يأخذ الرجل من جميع شعره من قرب أصله استحبابا فإن أخذ من أطرافه أجزأ كما في المدونة وإن لم يزد على قدر ما تأخذه المرأة وهو قدر أنملة والمشروع في حق النساء التقصير بإجماع وفي أبي داود عن ابن عباس مرفوعا ليس على النساء حلق إنما على النساء التقصير وللترمذي عن علي نهى أن تحلق المرأة رأسها وفيه أيضا الدعاء لمن فعل ما شرع له وتكراره لمن فعل الراجح من الأمرين المخير فيهما والتنبيه بالتكرار على الرجحان وطلب الدعاء لمن فعل الجائز وإن كان مرجوحا ورواه البخاري عن عبد الله بن يوسف ومسلم عن يحيى كلاهما عن مالك به وله متابعات في الصحيحين وغيرهما
( مالك عن عبد الرحمن بن القاسم عن أبيه أنه كان يدخل مكة ليلا وهو معتمر فيطوف بالبيت و ) يسعى ( بين الصفا والمروة ) أو استعمله في حقيقته اللغوية لأن الشرعية السعي ( ويؤخر الحلاق حتى يصبح ) إذ لا حرج عليه في تأخيره إذا شغله عنه مانع وأظنه لم يجد في الليل من يحلقه قاله أبو
____________________
(2/464)
عمر
( قال ) عبد الرحمن ( ولكنه ) أي أباه القاسم ( لا يعود إلى البيت فيطوف به حتى يحلق رأسه قال وربما دخل المسجد فأوتر فيه ) صلى الوتر ( ولا يقرب البيت ) أي لا يطوف لئلا يكون للعمرة طوافان
( قال مالك التفث حلاق الشعر ولبس ) مصدر ( الثياب وما يتبع ذلك ) من قص الأظفار وإزالة الأوساخ ونحو ذلك
( قال يحيى سئل مالك عن رجل نسي الحلاق بمنى في الحج هل له رخصة في أن يحلق بمكة قال ذلك واسع ) أي جائز ( والحلاق بمنى أحب إلي ) أفضل للاتباع
( قال مالك الأمر الذي لا اختلاف فيه عندنا ) بالمدينة ( أن أحدا لا يحلق رأسه ولا يأخذ من شعره حتى ينحر هديا إن كان معه ولا يحل ) بفتح فكسر ( من شيء حرم عليه حتى يحل بمنى يوم النحر و ) دليل ( ذلك أن الله تبارك وتعالى قال { ولا تحلقوا رؤوسكم حتى يبلغ الهدي محله } سورة البقرة الآية 196 ) أي حيث يحل ذبحه
61 التقصير ( مالك عن نافع أن عبد الله بن عمر كان إذا أفطر من رمضان وهو يريد الحج لم يأخذ من رأسه ولا من لحيته شيئا حتى يحج ) طلبا لمزيد الشعث المطلوب في الحج لكن ( قال مالك ليس ذلك على الناس ) لما فيه من المشقة القوية
( مالك عن نافع أن عبد الله بن عمر كان إذا حلق في حج أو عمرة أخذ من لحيته وشاربه ) لطولهما لتركه الأخذ منهما من أول شوال لا لأنه من تمام التحلل
( مالك عن
____________________
(2/465)
ربيعة بن أبي عبد الرحمن ) فروخ ( أن رجلا ) لم يسم ( أتى القاسم بن محمد فقال إني أفضت ) طفت طواف الإفاضة ( وأفضت معي أهلي ثم عدلت إلى شعب فذهبت لأدنو من أهلي ) أجامعها ( فقالت إني لم أقصر من شعري بعد ) بضم الدال أي إلى الآن ( فأخذت من شعرها بأسناني ثم وقعت بها ) جامعتها ( فضحك القاسم ) تعجبا ( وقال مرها فلتأخذ من شعرها بالجلمين ) بفتح الجيم واللام وبالميم بلفظ تثنية الجلم بفتحتين المقراض يقال فيه الجلم والجلمان كما يقال المقراض والمقراضان والقلم والقلمان ويجوز أن يجعل الجلمان والقلمان اسما واحدا على فعلان كالسرطان والدبران وتجعل النون حرف إعراب ويجوز أن يبقيا على بابهما في إعراب المثنى فيقال شريت الجلمين والقلمين قاله في المصباح قال أبو عمر وإنما قال ذلك لأن التقصير بالأسنان ليس هو من الشأن ولم يفعل الرجل حراما لأن الوطء بعد الإفاضة حلال لكنه أساء بوطئها قبل أن تقصر فعليها التقصير لا غير ولم ير القاسم الدم لقوله صلى الله عليه وسلم افعل ولا حرج ولكن ( قال مالك أستحب في مثل هذا ) أي تقديم الإفاضة على الحلق ( أن يهرق دما ) ولا يجب ( وذلك أن عبد الله بن عباس قال من نسي من نسكه شيئا فليهرق دما ) رواه الإمام فيما يأتي عن أيوب عن سعيد بن جبير عنه
( مالك عن نافع عن عبد الله بن عمر أنه لقي رجلا من أهله ) وهو ابن أخيه عبد الرحمن الأصغر ابن عمر بن الخطاب وهو الذي ( يقال له المجبر ) بجيم وموحدة ثقيلة مفتوحة بوزن محمد لقب بذلك واسمه أيضا عبد الرحمن قيل لأن أباه مات وهو حمل فلما ولد سمته حفصة باسم أبيه وقالت لعل الله يجبره وقيل سقط فتكسر فجبر فقيل له المجبر ( قد أفاض ولم يحلق ولم يقصر جهل ذلك فأمره ) عمه ( عبد الله أن يرجع فيحلق أو يقصر ثم يرجع إلى البيت فيفيض ) ليأتي بالترتيب المطلوب باتفاق
( مالك أنه بلغه أن سالم بن عبد الله كان إذا أراد أن يحرم دعا بالجلمين ) بفتحتين ( فقص شاربه
____________________
(2/466)
وأخذ من لحيته قبل أن يركب وقبل أن يهل ) بالتلبية ( محرما ) لئلا يطول ذلك بالإحرام
62 التلبيد هو أن يجعل المحرم في رأسه صمغا أو غيره ليتلبد شعره أي يلتصق بعضه ببعض فلا يتخلله الغبار ولا يصيبه الشعث ولا القمل وإنما يلبد الشعر من طول مكثه وقد فعله النبي صلى الله عليه وسلم كما مر في حديث حفصة
وفي أبي داود عن ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم لبد رأسه بالعسل بفتح العين والسين المهملتين معروف وهو في معنى الصمغ في إلصاق بعض الشعر ببعض ورواه بعضهم بالغسل بكسر الغين المعجمة وإسكان المهملة وهو ما يغسل به من خطمي وغيره وهو مما يلبد به الشعر أيضا
( مالك عن نافع عن عبد الله بن عمر أن عمر بن الخطاب قال من ضفر ) بالضاد المعجمة والفاء رأسه أي جعله ضفائر كل ضفيرة على حدة بثلاث طاقات فما فوقها ( فليحلق ) وجوبا فإن قصر لم يجزه وعليه الحلق ( ولا تشبهوا ) الضفر ( بالتلبيد ) لأنه أشد منه فيجوز التقصير عند عمر لمن لبد دون من ضفر قال ابن عبد البر روى تشبهوا بضم التاء وفتحها وهو الصحيح أي لا تتشبهوا ومعنى الضم لا تشبهوا علينا فتفعلوا ما لا يشبه التلبيد الذي سنة فاعله الحلق وجاء مثل قول عمر هذا عنه صلى الله عليه وسلم من وجه حسن
( مالك عن يحيى بن سعيد ) الأنصاري ( عن سعيد بن المسيب ) بالكسر والفتح ( أن عمر بن الخطاب قال من عقص رأسه ) لوى شعره وأدخل أطرافه في أصوله ( أو ضفر ) رأسه ( أو لبد ) رأسه ( فقد وجب عليه الحلاق ) ولا يجزيه التقصير وإلى هذا ذهب الجمهور منهم مالك والثوري وأحمد والشافعي في القديم وقال في الجديد كالحنفية لا يتعين إلا إن نذره أو كان شعره خفيفا لا يمكن تقصيره وإذا لم يكن له شعر فيمر الموسى على رأسه واستدل الخطابي لتعين الحلق لمن لبد بحديث اللهم ارحم المحلقين ولا حجة فيه لأنه قال والمقصرين
____________________
(2/467)
63 الصلاة في البيت وقصر الصلاة وتعجيل الخطبة بعرفة ( مالك عن نافع عن عبد الله بن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم دخل الكعبة ) عام فتح مكة كما في البخاري في الجهاد عن يونس بن يزيد عن نافع عن ابن عمر أقبل النبي صلى الله عليه وسلم يوم الفتح من أعلى مكة وله في المغازي عن فليح عن نافع وهو مردف أسامة على القصواء ثم اتفقا ومعه بلال وعثمان بن طلحة حتى أناخ في المسجد
وفي رواية فليح عند البيت وقال لعثمان ائتنا بالمفتاح فجاءه بالمفتاح ففتح له البيت فدخل
ولمسلم وعبد الرزاق عن أيوب عن نافع ثم دعا عثمان بن طلحة بالمفتاح فذهب إلى أمه فأبت أن تعطيه فقال والله لتعطينه أو أخرجن هذا السيف من صلبي فلما رأت ذلك أعطته فجاء به إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ففتح الباب
وظهر من رواية فليح أن فاعل فتح هو عثمان المذكور لكن روى الفاكهي من طريق ضعيفة عن ابن عمر قال كان بنو أبي طلحة يزعمون أنه لا يستطيع أحد فتح الكعبة غيرهم فأخذ صلى الله عليه وسلم المفتاح ففتحها بيده ودخل ( هو وأسامة بن زيد ) بن حارثة الكلبي الحب بن الحب الخليق كل منهما للإمارة بالنص النبوي المختص أبوه بأن الله لم يصرح في كتابه باسم أحد من الصحابة سوى زيد البدري ( وبلال بن رباح ) بفتح الراء والموحدة الخفيفة أحد السابقين الأولين ( وعثمان بن طلحة ) ابن أبي طلحة بن عبد العزى بن عبد الدار بن قصي بن كلاب القرشي ( الحجبي ) بفتح المهملة والجيم نسبة إلى حجابة الكعبة ولذا يقال لأهل بيته الحجبة ويعرفون الآن بالشيبيين نسبة إلى شيبة بن عثمان بن أبي طلحة وهو ابن عم عثمان هذا لا ولده له أيضا صحبة ورواية زاد مسلم من طريق آخر ولم يدخلها معهم أحد
وللنسائي عن ابن عون عن نافع زيادة الفضل بن عباس ولأحمد عن ابن عباس حدثني أخي الفضل وكان معه حين دخلها ( فأغلقها ) الحجبي ( عليه ) صلى الله عليه وسلم ولمسلم عن ابن عون عن نافع فأجاف عليهم الباب ولبعض رواة الموطأ فأغلقاها بضمير التثنية لعثمان وبلال وفي رواية فأغلقوا عليهم الباب وجمع بينهما بأن عثمان هو المباشر لذلك لأنه من وظيفته ولعل بلالا ساعده في ذلك ورواية الجمع يدخل فيها الأمر بذلك والراضي به زاد أبو عوانة من داخل ( ومكث ) بفتح الكاف وضمها ( فيها ) زاد يونس نهارا طويلا وفليح زمانا بدل نهارا
وفي رواية جويرية عن نافع فأطال
ولمسلم عن ابن عون عن نافع فمكث فيها مليا
وله عن عبد الله عن نافع فأجافوا عليهم الباب طويلا
وعن أيوب عن نافع فمكث فيها ساعة
وللنسائي فوجدت شيئا فذهبت ثم جئت سريعا فوجدت النبي صلى الله عليه وسلم خارجا منها
____________________
(2/468)
( قال عبد الله فسألت بلالا ) ولمسلم من وجه آخر بلالا أو عثمان بن طلحة بالشك والمحفوظ أنه سأل بلالا كما رواه الجمهور
ولأبي يعلى عن عبد الرحمن بن العلا عن ابن عمر أنه سأل بلالا وأسامة بن زيد
ولأحمد والطبراني أنه سأل أسامة
ولمسلم والطبراني فقلت أين صلى فقالوا فإن كان محفوظا حمل على أنه ابتدأ بلالا بالسؤال ثم أراد زيادة الاستثبات فسأل عثمان وأسامة ويؤيده قوله وفي رواية لمسلم ونسيت أن أسألهم كم صلى بالجمع وهذا أولى من حزم عياض بوهم رواية مسلم بالشك وكأنه لم يقف على بقية الروايات ( حين خرج ) وفي رواية ثم خرج فابتدر الناس الدخول فسبقتهم وفي أخرى وكنت رجلا شابا قويا فبادرت الناس فبدرتهم وفي أخرى كنت أول الناس ولج على أثره وأخرى فرقيت الدرجة فدخلت البيت وفي رواية مجاهد عن ابن عمر وأجد بلالا قائما بين البابين فسألته ( ما صنع رسول الله صلى الله عليه وسلم ) في الكعبة
وللصحيحين عن سالم عن أبيه فسألته هل صلى فيه قال نعم
وفي رواية فسألته أين صلى فظهر أنه سأل أولا هل صلى أم لا ثم سأل عن موضع صلاته
( فقال جعل عمودا ) بالإفراد ( عن يمينه وعمودين عن يساره وثلاثة أعمدة وراءه ) هكذا رواه يحيى الأندلسي ويحيى النيسابوري والشافعي وابن مهدي في إحدى الروايتين عنهما وبشر بن عمرو
قال ابن القاسم والقعنبي وأبو مصعب ومحمد بن الحسن وإسماعيل والشافعي وابن مهدي في إحدى الروايتين عنهما جل عمودين عن يمينه وعمودا عن يساره بتثنية الأول وإفراد الثاني عكس الرواية الأولى والجمع باحتمال تعدد الواقعة بعيد الاتحاد يخرج الحديث ورجح البيهقي الرواية الثانية ويأتي توجيههما معا ولا إشكال في الروايتين مع قوله ( وكان البيت يومئذ على ستة أعمدة ) أما على رواية عبد الله بن يوسف والجمهور بإفراد عمود فيهما فمشكل مع قوله وكان البيت الخ لأنه يشعر بأن ما عن يمينه أو يساره اثنان وجمع بأنه حيث ثنى أشار إلى ما كان عليه البيت في زمنه صلى الله عليه وسلم وحيث أفرد أشار إلى ما صار إليه بعد ذلك ويومئد إليه قوله وكان البيت يومئذ لأنه يشعر بأنه تغير عن هيئته الأولى
وقال الكرماني لفظ عمود جنس يحتمل الواحد والاثنين فهو مجمل بينته رواية التثنية ويحتمل أن الأعمدة لم تكن على سمت واحد بل اثنان على سمت والثالث على غير سمتهما ويشعر به رواية البخاري عن جويرية عن نافع عن ابن عمر صلى بين العمودين المقدمين
قال الحافظ ويؤيده أيضا رواية مجاهد عن ابن عمر بلفظ بين الساريتين اللتان على يسار الداخل وهو صريح في أنه كان هناك عمودان على اليسار وأنه صلى بينهما فيحتمل أنه كان ثم عمود آخر على اليمين لكنه بعيدا وعلى غير سمت العمودين فيصح رواية جعل عن يمينه عمودين ورواية جعل عمودا عن يمينه
قال الكرماني تبعا لغيره ويجوز أن هناك ثلاثة أعمدة مصطفة فصلى إلى جنب
____________________
(2/469)
الأوسط فمن قال جعل عمودا عن يمينه وعمودا عن يساره لم يعتبر الذي صلى إلى جنبه ومن قال عمودين اعتبره وفيه بعد وأبعد منه قول من قال انتقل في الصلاة من مكان إلى مكان ولا تبطل الصلاة بذلك أقلته وفيه اختلاف رابع قال عثمان بن عمر عن مالك جعل عمودين عن يمينه وعمودين في يساره ويمكن توجيهه بأن يكون هناك أربعة أعمدة اثنان مجتمعان واثنان منفردان فوقف عند المجتمعين لكن يعكر عليه قوله وكان البيت يومئذ على ستة أعمدة بعد قوله وثلاثة أعمدة وراءه وقد قال الدارقطني لم يتابع عثمان بن عمر على ذلك
( ثم صلى ) ركعتين كما رواه الشيخان عن مجاهد عن ابن عمر وأحمد وغيره عن عثمان بن طلحة والبزار عن أبي هريرة والطبراني عن عبد الرحمن بن صفوان وشيبة بن عثمان
قال ابن عبد البر هكذا رواه جماعة من رواة الموطأ
وزاد ابن القاسم في روايته وجعل بينه وبين الجدار نحو ثلاثة أذرع
ولابن مهدي وابن وهب وابن عفير ثلاثة أذرع لم يقولوا نحو انتهى
وللبخاري عن فليح عن نافع عن ابن عمر بين ذينك العمودين المتقدمين وكان البيت على ستة أعمدة سطرين صلى بين العمودين من السطر المتقدم وجعل باب البيت خلف ظهره وقال في آخره وعند المكان الذي صلى فيه مرمرة حمراء
قال الحافظ وكل هذا إخبار عما كان عليه البيت قبل أن يهدم ويبنى زمن ابن الزبير
فأما الآن ففي البخاري عن موسى بن عقبة عن نافع عن ابن عمر أنه كان إذا دخل الكعبة مشى قبل الوجه حتى يدخل ويجعل الباب قبل الظهر يمشي حتى يكون بينه وبين الجدار الذي قبل وجهه قريبا من ثلاثة أذرع فيصلي يتوخى المكان الذي أخبره بلال أنه صلى الله عليه وسلم صلى فيه
وجزم برفع هذه الزيادة مالك عن نافع عند أبي داود من طريق ابن مهدي والدارقطني من طريقه وطريق ابن وهب وغيرهما عن مالك عن نافع عن ابن عمر بلفظ وصلى وبينه وبين القبلة ثلاثة أذرع وكذا رواه أبو عوانة من طريق هشام بن سعد عن نافع وهذا فيه الجزم بثلاثة أذرع لكن رواه النسائي من طريق ابن القاسم عن مالك بلفظ نحوا من ثلاثة أذرع وهذا موافق لرواية موسى بن عقبة
وعند الأزرقي والفاكهي من وجه آخر أن معاوية سأل ابن عمر أين صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال اجعل بينك وبين الجدار ذراعين أو ثلاثة فعلى هذا ينبغي لمن أراد اتباعه أن يجعل بينه وبين الجدار ثلاثة أذرع فإنه يقع قدماه في مكان قدميه صلى الله عليه وسلم إن كانت ثلاثة أذرع سواءا وتقع ركبتاه أو يداه أو وجهه إن كان أقل من ثلاثة
وأما قدر الصلاة ففي الصحيحين من رواية يحيى القطان عن سيف بن سليمان المكي عن مجاهد عن ابن عمر فسألت بلالا أصلى النبي صلى الله عليه وسلم قال نعم ركعتين بين الساريتين اللتين عن يسارك إذا دخلت ثم خرج فصلى في وجه الكعبة ركعتين واستشكله الإسماعيلي وغيره بأن المشهور عن ابن عمر من طريق نافع وغيره أنه قال ونسيت أن أسأله كم صلى فدل على أنه أخبره بالكيفية وهي تعيين الموقف في الكعبة ولم يخبره بالكمية ونسي هو أن يسأله عنها وأجيب باحتمال أن ابن عمر اعتمد في قوله ركعتين على القدر المحقق له لأن بلالا ثبت له أنه صلى ولم ينقل
____________________
(2/470)
أنه صلى الله عليه وسلم تنفل بالنهار بأقل من ركعتين فتحقق فعلهما لما استقرىء من عادته فعلى هذا قوله ركعتين من ابن عمر لا بلال
وروى عمر بن شبة عن عبد العزيز بن أبي داود عن نافع عن ابن عمر فاستقبلني بلال فقلت ما صنع رسول الله ههنا فأشار بيده أن صلى ركعتين بالسبابة والوسطى فعلى هذا قوله نسيت أن أسأله كم صلى محمول على أنه لم يسأله لفظا ولم يجبه لفظا وإنما استفاد منه صلاة الركعتين بإشارته لا بنطقه
ويحمل على أنه لم يتحقق هل زاد على ركعتين أم لا وجمع بعضهم بأن ابن عمر نسي أن يسأل بلالا ثم لقيه مرة أخرى فسأله فيه نظر لأن راوي قول ابن عمر ونسيت هو نافع مولاه ويبعد مع طول ملازمته له إلى موته أن يستمر على حكاية النسيان ولا يتعرض لحكاية الذكر أصلا
ونقل عياض أن قوله ركعتين غلط من يحيى القطان لقول ابن عمر نسيت أن أسأله كم صلى وإنما دخل الوهم عليه من ذكر الركعتين بعد مردود والمغلط هو الغالط فإنه ذكر الركعتين قبل وبعد فلم يهم من موضع إلى موضع ولم ينفرد يحيى القطان بذلك بل تابعه أبو نعيم عند البخاري والنسائي وأبو عاصم عند ابن خزيمة وعمر بن علي عند الإسماعيلي وعبد الله بن نمير عند أحمد ولم ينفرد به مجاهد عن ابن عمر فقد تابعه عليه ابن أبي مليكة عند أحمد والنسائي وعمرو بن دينار عند أحمد أيضا باختصار ولم ينفرد به ابن عمر فقد جاء من حديث عثمان بن طلحة عند أحمد والطبراني بإسناد قوي وأبي هريرة عند البزار ومن حديث عبد الرحمن بن صفوان قال فلما خرج سألت من كان معه فقالوا صلى ركعتين عند السارية الوسطى أخرجه الطبراني بإسناد صحيح
ومن حديث شيبة بن عثمان قال لقد صلى ركعتين عند العمود أخرجه الطبراني بإسناد جيد هذا وفي مسلم عن ابن عباس أخبرني أسامة أنه صلى الله عليه وسلم لما دخل البيت دعا في نواحيه كلها ولم يصل فيه حتى خرج فلما خرج صلى في قبل البيت وقال هذه القبلة وأخرجه البخاري عن ابن عباس لما دخل البيت كبر في نواحيه ولم يصل ولم يقل أخبرني أسامة وابن عباس لم يكن معه وإنما أسنده قتيبة تارة لأسامة كما في مسلم وتارة لأخيه الفضل كما رواه أحمد مع أنه لم يأت أن الفضل كان معهم إلا في رواية شاذة فيحتمل أن الفضل تلقاه عن أسامة
وقد روى أحمد وغيره عن ابن عمر عن أسامة إثبات صلاته فيها فتعارضت الرواية عن أسامة وترجحت رواية بلال لأنه مثبت وأسامة نافي ولأنه لم يختلف عليه في الإثبات واختلف على من نفى وجمع النووي وغيره بين إثبات بلال ونفي أسامة بأنهم لما دخلوا الكعبة واشتغلوا بالدعاء فرأى أسامة النبي صلى الله عليه وسلم يدعو فاشتغل أسامة بالدعاء في ناحية والمصطفى في ناحية ثم صلى فرآه بلال لقربه منه ولم يره أسامة لبعده واشتغاله ولأن بإغلاق الباب تكون الظلمة مع احتمال أن يحجبه بعض الأعمدة فنفاها عملا بظنه
وقال المحب الطبري يحتمل أن أسامة غاب بعد دخوله لحاجة فلم يشهد صلاته انتهى
ويشهد له ما رواه أبو داود الطيالسي بإسناد جيد عن أسامة قال دخلت على النبي صلى الله عليه وسلم في الكعبة فرأى
____________________
(2/471)
صورا فدعا بدلو من ماء فأتيته به فجعل يمحوها ويقول قاتل الله قوما يصورون ما لا يخلقون قال القرطبي فلعله استصحب النفي لسرعة عوده
قال ويمكن حمل الإثبات على التطوع والنفي على الفرض
وجمع غيره بحمل الصلاة المثبتة على اللغوية والمنفية على الشرعية ورد بأن كونها ركعتين صريح في الشرعية
وقال المهلب يحتمل أنه دخل البيت مرتين صلى في إحداهما ولم يصل في الأخرى وقد يؤيده ما رواه عمر بن شبة بسند صحيح عن حماد بن أبي حمزة قلت لابن عباس كيف أصلي في الكعبة قال كما تصلي على الجنازة تسبح وتكبر ولا تركع ولا تسجد ثم عند أركان البيت سبح وكبر وتضرع واستغفر ولا تركع ولا تسجد
وقال ابن حبان الأشبه عندي في الجمع أن يجعل الخبران في وقتين فلما دخل الكعبة في الفتح صلى فيها على ما رواه ابن عمر عن بلال ونفى ابن عباس الصلاة فيها في حجة الوداع لأنه نفاها وأسنده إلى أسامة وابن عمر أثبتها وأسنده إلى بلال وإلى أسامة أيضا فبطل التعارض وهذا جمع حسن لكن تعقبه النووي بأنه لا خلاف أنه صلى الله عليه وسلم دخل الكعبة يوم الفتح لا في حجة الوداع ويشهد له ما رواه الأزرقي عن سفيان عن غير واحد من أهل العلم لأنه صلى الله عليه وسلم إنما دخل الكعبة مرة واحدة عام الفتح ثم حج فلم يدخلها وإذا كان كذلك فلا يمتنع أنه دخلها عام الفتح مرتين والمراد بالوحدة في خبر ابن عيينة وحدة السفر لا الدخول وللدارقطني من طريق ضعيفة ما يشهد لهذا الجمع لكن روى أبو داود والترمذي وصححه هو وابن خزيمة والحاكم عن عائشة أنه صلى الله عليه وسلم خرج من عندها وهو قرير العين ثم رجع وهو حزين فقال دخلت الكعبة فأخاف أن أكون شققت على أمتي وظاهره أن ذلك في حجة الوداع لأن عائشة لم تكن معه في الفتح ولا في عمرته وبه جزم البيهقي ويحتمل أنه قال لها ذلك بالمدينة بعد رجوعه من الفتح فليس في السياق ما يمنع ذلك
وفي حديث الباب استحباب الصلاة في الكعبة وهو ظاهر في النفل وبه قال مالك لأنه الواقع من النبي صلى الله عليه وسلم ومنع الفرض داخلها للأمر باستقبالها خص منه النفل بالسنة فلا يقاس عليه الفرض وقيد بعض الأصحاب النفل بغير الرواتب وما يطلب فيه الجماعة وألحق الجمهور به الفرض إذ لا فرق بينهما في الاستقبال للمقيم
وعن ابن عباس لا تصح الصلاة داخلها مطلقا وعلله بلزوم استدبار بعضها وقد أمر باستقبالها فيحمل استقبال جميعها
وقال به بعض المالكية والظاهرية وابن جرير
وقال المازري مشهور المذهب منع صلاة الفرض داخلها ووجوب الإعادة
وعن ابن عبد الحكم الإجزاء وصححه ابن عبد البر وابن العربي وأن الأشهر أن يعيد في الوقت
وعن ابن حبيب يعيد أبدا
وعن أصبغ إن كان متعمدا
قال الحافظ ونقل النووي في زوائد الروضة أن صلاة الفرض داخل الكعبة إن لم يرج جماعة أفضل منها خارجها مشكل لأن الصلاة خارجها متفق على صحتها بخلاف داخلها فكيف يكون المختلف في صحته أفضل من المتفق عليه وفيه رواية الصحابي وسؤال المفضول والاكتفاء به مع وجود الأفضل والحجة بخبر الواحد ولا يقال هو أيضا خبر واحد فكيف يحتج للشيء بنفسه لأنا نقول هو فرد ينضم إلى نظائر مثله
____________________
(2/472)
توجب العلم بذلك واختصاص السابق بالبقعة الفاصلة والسؤال عن العلم والحرص فيه وفضل ابن عمر لحرصه على تتبع آثاره صلى الله عليه وسلم ليعمل بها وأن الفاضل من الصحابة قد كان يغيب عن المصطفى في بعض المشاهد الفاضلة ويحضره من هو دونه فيطلع على ما لم يطلع عليه لأن العمرين وغيرهما ممن هو أفضل من بلال ومن معه لم يشاركوهم في ذلك وجواز الصلاة بين السواري لكن روى الحاكم بإسناد صحيح عن أنس نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن الصلاة بين السواري فدل فعله على أن النهي للكراهة وفيه مشروعية الأبواب والغلق للمساجد وأن السترة إنما تشرع حيث يخشى المرور لصلاته بين العمودين ولم يصل إلى أحدهما لكن الظاهر أنه ترك ذلك اكتفاء بقربه من الجدار كما مر أن بين مصلاه والجدار نحو ثلاثة أذرع
وفيه استحباب دخول الكعبة وهو متفق عليه
وقد روى البيهقي وابن خزيمة والطبراني عن ابن عباس مرفوعا من دخل البيت دخل في حسنة وخرج من سيئة مغفورا له قال البيهقي تفرد به عبد الله بن المؤمل وفيه ضعف ووثقه ابن سعد ومحله حيث لم يؤذ أحدا بدخوله أو يتأذى هو بنحو زحمة وفيه غير ذلك
وأخرجه البخاري عن عبد الله بن يوسف ومسلم عن يحيى كلاهما عن مالك به وتابعه جماعة عن نافع في الصحيحين وغيرهما
( مالك عن ابن شهاب ) الزهري ( عن سالم بن عبد الله أنه قال كتب عبد الملك بن مروان ) الأموي ( إلى الحجاج بن يوسف ) الثقفي الظالم المبتر المختلف في كفره ولي إمرة العراق عشرين سنة ومات سنة خمس وتسعين ( أن لا تخالف عبد الله بن عمر في شيء من أمر الحج ) أي أحكامه وللقعنبي كتب إليه أن يأتم به في الحج وكان ذلك حين أرسله إلى قتال ابن الزبير وجعله وليا على مكة وأميرا على الحاج كما في البخاري عن عقيل عن ابن شهاب أخبرني سالم أن الحجاج عام نزل بابن الزبير سأل ابن عمر كيف يصنع في الموقف يوم عرفة ( قال ) سالم ( فلما كان ) وجد ( يوم عرفة جاءه عبد الله بن عمر حين زالت الشمس وأنا معه ) ابن عمر والجملة حالية ( فصاح به ) ناداه ( عند سرادقه ) بضم السين قاله الحافظ والكرماني وغيرهما وتعقب بأنه إنما هو الذي يحيه بالخيمة وله باب يدخل منه إليها إنما يعمله غالب الملوك والأكابر ( أين هذا ) أي الحجاج بيان للصياح ( فخرج عليه وعليه ملحفة ) بكسر الميم وإسكان اللام ملاءة يلتحف بها قال الحافظ أي إزار كبير ( معصفرة ) مصبوغة بالعصفر ( فقال ما لك يا أبا عبد الرحمن ) كنية ابن عمر ( فقال الرواح ) بالنصب أي عجل أورح أو على الإغراء ( إن كنت تريد السنة ) وفي رواية ابن وهب إن كنت تريد أن تصيب السنة
____________________
(2/473)
قال ابن عبد البر هذا الحديث يدخل عندهما في المسند لأن المراد سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أطلقت ما لم تضف إلى صاحبها كسنة العمرين قال الحافظ وهي مسألة خلاف عند أهل الحديث والأصول وجمهورهم على ما قال ابن عبد البر وهي طريقة البخاري ومسلم ويقويه قول سالم لابن شهاب إذ قال له أفعل ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال وهل يتبعون إلا سنته ( فقال أهذه الساعة ) وقت الهاجرة ( قال نعم ) هو وقت الرواح إلى الموقف لحديث ابن عمر أيضا غدا رسول الله صلى الله عليه وسلم حين صلى الصبح في صبيحة يوم عرفة حتى أتى عرفة فنزل نمرة وهو منزل الإمام الذي ينزل به بعرفة حتى إذا كان عند صلاة الظهر راح رسول الله صلى الله عليه وسلم مهجرا فجمع بين الظهر والعصر ثم خطب الناس ثم راح فوقف أخرجه أحمد وأبو داود وظاهره أنه توجه من منى حين صلى الصبح بها لكن في مسلم عن جابر أن توجهه صلى الله عليه وسلم منها كان بعد طلوع الشمس ولفظه فضربت له قبة بنمرة فنزل بها حتى زاغت الشمس أمر بالقصواء فرحلت فأتى بطن الوادي ( قال فأنظرني ) بفتح الهمزة وكسر الظاء المعجمة أي أخرني ويروى بألف وصل وضم الظاء أي انتظرني ( حتى أفيض علي ماء ) أي أغتسل ( ثم أخرج ) بالنصب عطفا على أفيض ( فنزل عبد الله ) عن مركوبه وانتظر ( حتى خرج الحجاج ) من مغتسله ففيه الغسل لوقوف عرفة لانتظار ابن عمر له والعلماء يستحبونه قاله ابن بطال ويحتمل أن ابن عمر إنما انتظره لحمله على أن اغتساله عن ضرورة
( فسار بيني وبين أبي ) عبد الله ( فقلت له ) أي الحجاج ( إن كنت تريد أن تصيب ) توافق ( السنة ) النبوية ( اليوم فاقصر الخطبة ) بوصل الهمزة وضم الصاد وقطعها وكسر الصاد
وقد أخرج مسلم في الجمعة أثناء حديث لعمار الأمر بإقصار الخطبة قال ابن التين أطلق أصحابنا العراقيون أن الإمام لا يخطب يوم عرفة
وقال المدنيون والمغاربة وهو قول الجمهور ومعنى قول العراقيين أنه ليس لما يأتي به من الخطبة تعلق بالصلاة كخطبة الجمعة وكأنهم أخذوه من قول مالك كل صلاة يخطب لها يجهر فيها بالقراءة فقيل له فعرفة يخطب فيها ولا يجهر بالقراءة فقال إنما تلك للتعليم
( وعجل الصلاة ) هكذا رواه الجمهور كيحيى وابن القاسم وابن وهب ورواه القعنبي وابن يوسف وأشهب وعجل الوقوف قال ابن عبد البر وهو غلط لأن أكثر الرواة عن مالك قالوا الصلاة قال لكن لها وجه لأن تعجيل الوقوف يستلزم تعجيل الصلاة قاله الحافظ والظاهر أن الاختلاف فيه من مالك وكأنه ذكر باللازم لأن الغرض بتعجيل الصلاة حينئذ تعجيل الوقوف
( قال ) سالم ( فجعل ) الحجاج ( ينظر إلى عبد الله بن عمر كيما يسمع ذلك ) الذي قلت له ( منه )
____________________
(2/474)
ففيه الفهم بالإشارة والنظر لقوله ( فلما رأى ذلك ) نظره إليه ( عبد الله قال صدق سالم ) وفيه أن إقامة الحاج إلى الخلفاء وأن الأمير يعمل في الدين لقول العلماء ويسير إلى رأيهم ومداخلة العلماء السلاطين وأنه لا نقيصة عليهم في ذلك وفتوى التلميذ بحضرة معلمه عند السلطان وغيره وابتداء العالم بالفتوى قبل أن يسأل عنه قاله المهلب وتعقبه ابن المنير أن ابن عمر إنما ابتدأ بذلك لمسألة عبد الملك له في ذلك فإن الظاهر أنه كتب إليه كما كتب إلى الحجاج وفيه طلب العلو لتشوف الحجاج إلى ما أخبره به سالم من ابن عمر ولم ينكره عليه وتعليم الفاجر السنن لمنفعة الناس واحتمال المفسدة الخفيفة لتحصيل المصلحة الكثيرة يؤخذ ذلك من مضي ابن عمر إلى الحجاج وتعليمه وفيه الحرص على نشر العلم لانتفاع الناس به وصحة الصلاة خلف الفاسق وأن التوجه إلى مسجد عرفة حين الزوال للجمع بين الظهرين في أول وقت الظهر سنة ولا يضر التأخير بقدر ما يشتغل به المرء من تعلقات الصلاة كالغسل ونحوه قال الطحاوي وفيه حجة لمن أجاز المعصفر للمحرم ورده الزين بن المنير بأن الحجاج لم يكن يتقي المنكر الأعظم من سفك الدماء وغيره حتى يتقي المعصفر وإنما لم ينه ابن عمر لعلمه أنه لا ينجع فيه النهي ولعلمه أن الناس لا يقتدون بالحجاج ونظر فيه الحافظ بأن الحجة إنما هي بعدم إنكار ابن عمر فبه يتمسك الناس في اعتقاد الجواز
وقال المهلب فيه تأمير الأدون على الأفضل وتعقبه ابن المنير بأن صاحب الأمر في ذلك عبد الملك وليس بحجة ولا سيما في تأمير الحجاج وإنما أطاع ابن عمر بذلك فرارا من الفتنة
وأخرجه البخاري عن عبد الله بن يوسف والقعنبي والنسائي من طريق أشهب الثلاثة عن مالك به
64 الصلاة بمنى يوم التروية والجمعة بمنى وعرفة التروية ثامن الحجة بفتح الفوقية وسكون الراء وكسر الواو وخفة التحتية لأنهم كانوا يروون فيه إبلهم ويتروون من الماء لأن تلك الأماكن لم يكن فيها آبار ولا عيون وأما الآن فكثر جدا واستغنوا عن حمل الماء
وقد روى الفاكهي عن مجاهد قال قال عبد الله بن عمر يا مجاهد إذا رأيت الماء بطريق مكة ورأيت البناء يعلو حاسيتها فخذ حذرك
وفي رواية فاعلم أن الأمر قد أظلك
وقيل سميت تروية لأن آدم رأى فيه حواء واجتمع بها أو لأن إبراهيم رأى ليلته ذبح ابنه فأصبح يتروى أو لأن جبريل أرى إبراهيم فيه المناسك أو لأن الإمام يعلم الناس فيه المناسك وهي شاذة إذ لو كان من الأول لقيل يوم الروية أو الثاني لقيل يوم التروي بشد الواو والثالث لقيل الرؤيا والرابع لقيل الرواية وقوله والجمعة أي ترك صلاتها إذا وافقت أيام منى وعرفة
( مالك عن نافع أن عبد الله بن عمر كان يصلي الظهر والعصر والمغرب والعشاء والصبح بمنى
____________________
(2/475)
ثم يغدو ) بمعجمة يذهب وقت الغدوة ( إذا طلعت الشمس إلى عرفة ) اتباعا لما رواه هو وغيره من فعل النبي صلى الله عليه وسلم فروى أحمد عن ابن عمر أنه كان يحب إذا استطاع أن يصلي الظهر بمنى من يوم التروية وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى الظهر بمنى
وفي الصحيحين عن أنس صلى النبي صلى الله عليه وسلم الظهر والعصر يوم التروية بمنى وفي مسلم عن جابر فلما كان يوم التروية توجهوا إلى منى وركب صلى الله عليه وسلم فصلى بها الظهر والعصر والمغرب والعشاء والفجر
وفي أبي داود والترمذي وأحمد والحاكم عن ابن عباس صلى النبي صلى الله عليه وسلم الظهر يوم التروية والفجر يوم عرفة بمنى ولأحمد عنه صلى النبي صلى الله عليه وسلم بمنى خمس صلوات ولابن خزيمة والحاكم عن عبد الله بن الزبير قال من سنة الحج أن يصلي الإمام الظهر وما بعدها والفجر بمنى ثم يغدون إلى عرفة وقد استحب ذلك الأئمة الأربعة وغيرهم
وأما قول أنس عند الشيخين افعل كما يفعل أمراؤك فإشارة إلى متابعة أولي الأمر والاحتراز عن مخالفة الجماعة وأن ذلك ليس بواجب وأن الأمراء إذ ذاك ما كانوا يواظبون على صلاة الظهر ذلك اليوم بمكان معين
( قال مالك والأمر الذي لا اختلاف فيه عندنا أن الإمام لا يجهر بالقراءة في الظهر يوم عرفة ) لأن الظهر سرية وأنه يخطب بالناس يوم عرفة بجامع نمرة يعلمهم فيها ما يفعلونه بعد ذلك
وفي حديث جابر في مسلم وغيره حتى إذا زاغت الشمس أمر بالقصواء فرحلت له فركب حتى أتى بطن الوادي خطب الناس فقال إن دماءكم الحديث ففيه أنه يستحب للإمام أن يخطب يوم عرفة في هذا الموضع وبه قال الجمهور وهو قول المدنيين والمغاربة من المالكية وهو المشهور في المذهب خلافا للعراقيين ومر تأويله فقول النووي خالف فيها المالكية فيه نظر فإنما هو قول العراقيين منهم والصحيح خلافه واتفق الشافعية أيضا على استحبابها خلافا لما يوهمه عياض والقرطبي وفي حديث جابر المذكور حجة للمالكية وغيرهم أن خطبة عرفة فردة إذ ليس فيه أنه خطب خطبتين وما روي في بعض طرقه أنه خطب خطبتين ضعيف قال البيهقي وغيره ثم لا يرد أنه لم يبين في خبر جابر شيئا من المناسك في هذه الخطبة فينافي قول الفقهاء أنه يعلمهم في خطب الحج ما يحتاجون إليه إلى الخطبة الأخرى لأنه صلى الله عليه وسلم اكتفى بفعله للمناسك عن بيانه بالقول لأنه أوضح واعتنى بما أهمه في الخطبة التي قالها والخطباء بعده ليست أفعالهم قدوة ولا الناس يعتنون بمشاهدتها ونقلها فاستحب لهم البيان بالقول
( وإن الصلاة يوم عرفة إنما هي ظهر وإن وافقت الجمعة فإنما هي ظهر ولكنها قصرت من أجل السفر ) للإجماع على أن حجته صلى الله عليه وسلم كانت يوم الجمعة وفي مسلم وغيره في حديث جابر بعد ذكر الخطبة ثم أذن بلال ثم قام فصلى الظهر ثم أقام فصلى العصر ولم يصل بينهما شيئا
____________________
(2/476)
( قال مالك في إمام الحاج إذا وافق يوم الجمعة يوم عرفة أو يوم النحر أو بعض أيام التشريق ) التي بعد يوم النحر ( إنه لا يجمع ) بالتثقيل لا يصلي الجمعة ( في شيء من تلك الأيام ) لأنه خلاف السنة ولأنه لا جمعة على مسافر
65 صلاة المزدلفة ( مالك عن ابن شهاب عن سالم بن عبد الله عن عبد الله بن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى المغرب والعشاء بالمزدلفة جميعا ) أي جمع بينهما جمع تأخير كما دل على ذلك روايات أخر منها التي تليها
وقوله في رواية ابن أبي ذئب عن ابن شهاب بإقامة إقامة جمع بينهما وإن كان ليس في هذا اللفظ من حيث هو ما يدل على أنه جمع بينهما لأن مدلول جميعا تأكيد كونه صلاهما بالمزدلفة فأما جمعهما أو كل واحدة في وقتها فلا دليل فيه على ذلك وإن كان الواقع أنه جمع بينهما للروايات الأخر ولأنه إنما نفر من عرفة بعد الغروب فلا يمكن أنه وصل إلى المزدلفة قبل دخول وقت العشاء بحيث يصلي كل واحدة في وقتها وفيه الجمع بالعشاءين بالمزدلفة جمع تأخير وهو متفق عليه وأخرجه مسلم عن يحيى وأبو داود عن القعنبي والنسائي من طريق ابن مهدي الثلاثة عن مالك به وتابعه ابن أبي ذئب في البخاري وغيره عن الزهري نحوه
( مالك عن موسى بن عقبة ) بضم العين وسكون القاف المدني ( عن كريب ) بضم الكاف وفتح الراء وسكون التحتية وموحدة ( مولى ابن عباس ) المدني المتوفى سنة ثمان وتسعين ( عن أسامة بن زيد ) قال أبو عمر كذا رواه الحفاظ الأثبات عن مالك إلا أشهب وابن الماجشون فقالا عن كريب عن ابن عباس عن أسامة والصحيح إسقاط ابن عباس من إسناده أنه سمعه يقول دفع رسول الله صلى الله عليه وسلم من عرفة أي رجع من وقوف عرفة بعرفات لأن عرفة اسم لليوم وعرفات بلفظ الجمع اسم للموضع وحينئذ فيكون المضاف إليه محذوفا لكن على مذهب من يقول إن عرفة اسم للمكان أيضا لا حاجة إلى التقدير ( حتى إذا كان بالشعب ) بكسر المعجمة وإسكان المهملة واللام للعهد والمراد الذي دون المزدلفة كما في رواية محمد بن أبي حرملة عن موسى بن عقبة في الصحيحين ( نزل فبال ) ولمسلم
____________________
(2/477)
من طريق محمد بن عقبة عن كريب لما أتى الشعب الذي ينزله الأمراء وله من طريق إبراهيم بن عقبة عن كريب الشعب الذي ينيخ الناس فيه للمغرب وللفاكهي عن عطاء الشعب الذي يصلي فيه الخلفاء الآن المغرب والمراد بالخلفاء والأمراء بنو أمية كانوا يصلون فيه المغرب قبل دخول وقت العشاء هو خلاف السنة وقد أنكره عكرمة فقال اتخذه رسول الله صلى الله عليه وسلم مبالا واتخذتموه مصلى رواه الفاكهي ولابن المنذر عن جابر لا صلاة إلا بجمع وسنده صحيح
ونقل عن الكوفيين وابن القاسم وجوب الإعادة والجمهور على الإجزاء وقاله أبو يوسف وأحمد ( فتوضأ ) بماء زمزم كما رواه عبد الله بن أحمد في زوائد مسند أبيه بإسناد حسن عن علي وفيه رد على من منع استعماله لغير الشرب ( فلم يسبغ الوضوء ) أي خففه ففي رواية محمد بن أبي حرملة فتوضأ وضوءا خفيفا وقيل معناه توضأ مرة مرة أو خفف استعمال الماء بالنسبة إلى غالب عادته أو المراد اللغوي واستبعد وقال ابن عبد البر أي استنجى به وأطلق عليه اسم الوضوء اللغوي لأنه من الوضاءة وهي النظافة ومعنى الإسباغ الإكمال أي لم يكمل وضوءه فيتوضأ للصلاة قال وقد قيل إنه توضأ وضوءا خفيفا لكن الأصول تدفعه لأنه لا يشرع الوضوء لصلاة واحدة مرتين وليس ذلك في رواية مالك وقيل معناه لم يتوضأ في جميع أعضاء الوضوء بل اقتصر على بعضها وهو ضعيف
وحكى ابن بطال أن عيسى بن دينار سبق أبا عمر إلى ما اختاره قال الحافظ وهو متعقب بهذه الرواية الصريحة وقد تابع محمد بن أبي حرملة عليها محمد بن عقبة أخو موسى عند مسلم بمثل لفظه وإبراهيم بن عقبة أخوهما في مسلم أيضا بلفظ فتوضأ وضوءا ليس بالبالغ
وفي البخاري عن يحيى بن سعيد عن موسى بن عقبة بلفظ فجعلت أصب عليه ويتوضأ ولم يكن عادته صلى الله عليه وسلم أن يباشر ذلك منه أحد حال الاستنجاء
وأما اعتلال ابن عبد البر بأن الوضوء لا يشرع مرتين لصلاة واحدة فليس بلازم لاحتمال أنه توضأ ثانيا عن حدث طار وليس شرط تجديده إلا لمن صلى به فرضا أو نفلا بمتفق عليه بل أجازه جماعة وإن كان الأصح خلافه أو إنما توضأ أولا ليستديم الطهارة ولا سيما في تلك الحالة لكثرة ذكر الله حينئذ وخفف الوضوء لقلة الماء
وقال الخطابي إنما ترك إسباغه حتى نزل الشعب ليكون مستصحبا للطهارة في طريقه وتجوز فيه لأنه لم يرد أن يصلي به فلما نزل وأرادها أسبغه
( فقلت له الصلاة ) بالنصب على الإغراء أو بتقدير أتذكر أو تريد قال الحافظ ويؤيده رواية أتصلي ( يا رسول الله ) ويجوز الرفع على تقدير حضرت الصلاة مثلا ( قال الصلاة ) بالرفع على الابتداء وخبره ( أمامك ) بفتح الهمزة والنصب على الظرفية أي موضع هذه الصلاة قدامك وهو المزدلفة فهو من ذكر الحال وإرادة المحل أو التقدير وقت الصلاة قدامك ففيه حذف مضاف إذ الصلاة نفسها لا توجد قبل إيجادها وإذا وجدت لا تكون أمامه أو معنى أمامك لا تفوتك وستدركها وفيه تذكير التابع ما تركه متبوعه ليفعله أو يعتذر عنه أو يبين له وجه صوابه
( فركب ) ناقته القصواء ( فلما
____________________
(2/478)
جاء المزدلفة نزل فتوضأ ) بماء زمزم ( فأسبغ الوضوء ) فيه تجديد الوضوء دون فصل بصلاة قال الخطابي وفيه نظر لاحتمال أنه أحدث ( ثم أقيمت الصلاة فصلى المغرب ) بالناس قبل حط الرحال كما في رواية
( ثم أناخ كل إنسان ) منا ( بعيره في منزله ) رفقا بالدواب أو للأمن من تشويشهم بها
( ثم أقيمت العشاء فصلاها ) بالناس وبين مسلم عن إبراهيم بن عقبة عن كريب أنهم لم يزيدوا بين الصلاتين على الإناخة ولفظه فأقام المغرب ثم أناخ الناس ولم يحلوا حتى أقام العشاء فصلوا ثم حلوا وفيه إشعار بأنه خفف القراءة في الصلاتين وأنه لا بأس بالعمل اليسير بين الصلاتين اللتين يجمع بينهما ولا يقطع ذلك الجمع وجمع التأخير بمزدلفة وهو إجماع لكنه عند الشافعية وطائفة بسبب السفر وعند الحنفية والمالكية بسب النسك وأغرب الخطابي فقال لا يجوز أن يصلي الحاج المغرب إذا أفاض من عرفة حتى يبلغ المزدلفة ولو أجزأته في غيرها لما أخرها النبي صلى الله عليه وسلم عن وقتها الموقت لها في سائر الأيام
( ولم يصل بينهما شيئا ) أي لم يتنفل بينهما لأنه يخل بالجمع لأن الجمع يجعلهما كصلاة واحدة فوجب الولاء كركعات الصلاة ولولا اشتراط الولاء لما ترك النبي صلى الله عليه وسلم الرواتب
وظاهر الحديث أنه لم يؤذن لهما لأنه اقتصر على الإقامة وبه قال الشافعي في الجديد والثوري وأحمد في رواية وفي البخاري والنسائي عن ابن مسعود أنه أتى المزدلفة فأمر رجلا فأذن وأقام ثم صلى المغرب ثم أمر فأذن وأقام ثم صلى العشاء ركعتين فذكر الحديث وقال في آخره رأيت النبي صلى الله عليه وسلم يفعله ففيه مشروعية الأذان والإقامة لهما وبه أخذ مالك واختاره البخاري
قال ابن عبد البر ولا أعلم في ذلك حديثا مرفوعا
وقال ابن حزم لو ثبت ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم لقلت به
وتعقب ذلك الحافظ العراقي في شرح الترمذي بأن قول ابن مسعود رأيت النبي صلى الله عليه وسلم يفعله إن أراد به جميع ما ذكره في الحديث فهو مرفوع وإن أراد به كون العشاءين في هذا الوقت فيكون ذكر الأذانين والإقامتين موقوفا عليه وهو الظاهر
وروى ابن عبد البر أن أحمد بن خالد كان يتعجب من مالك حيث أخذ بحديث ابن مسعود وهو من رواية الكوفيين مع كونه موقوفا عليه ومع كونه لم يروه ويترك ما روى عن أهل المدينة وهو مرفوع
قال ابن عبد البر وأنا أعجب من الكوفيين حيث أخذوا برواية أهل المدينة وهو أن يجمع بينهما بأذان وإقامة واحدة وتركوا قول ابن مسعود مع أنهم لا يعدلون به أحدا
وأجاب الحافظ بأن مالكا اعتمد صنيع عمر في ذلك وإن كان لم يروه في الموطأ فقد رواه الطحاوي بإسناد صحيح عنه ثم أوله بأنه محمول على أن أصحابه تفرقوا عنه فأذن لهم ليجتمعوا ليجمع بهم ولا يخفى تكلفه ولو تأتى له ذلك في حق عمر لكونه الإمام الذي يقيم للناس حجهم لم يتأت له في حق ابن مسعود لأنه إنما كان معه ناس من أصحابه لا يحتاج في جمعهم إلى من يؤذنهم
____________________
(2/479)
واختار الطحاوي حديث جابر في مسلم أنه صلى الله عليه وسلم جمع بينهما بأذان واحد وإقامتين وهذا قول الشافعي في القديم وابن الماجشون ورواية عن أحمد
وجاء عن ابن عمر كل واحدة من هذه الصفات الثلاثة أخرجه الطحاوي وغيره وكأنه رآه من الأمر المخير فيه وعنه صفة رابعة الإقامة لهما مرة واحدة رواه مسلم وأبو داود والنسائي وخامسة الأذان والإقامة مرة واحدة رواه النسائي وسادسة ترك الأذان والإقامة فيهما رواه ابن حزم انتهى ملخصا
فلله در مالك ما أدق نظره لما اختلفت الروايات عن ابن عمر لم يأخذ به وأخذ بما جاء عن عمر وابن مسعود لاعتضاده كما قال ابن عبد البر من جهة النظر فإن النبي صلى الله عليه وسلم سن في الصلاتين بعرفة والمزدلفة أن الوقت لهما جميعا وقت واحد وإذا كان كذلك وكانت كل واحدة تصلى في وقتها لم تكن واحدة أولى بالأذان والإقامة من الأخرى لأنه ليس واحدة منهما فائتة تقضى وإنما هي صلاة تصلى في وقتها وكل صلاة صليت في وقتها فسنتها أن يؤذن لها وتقام في الجماعة وهذا بين انتهى
وهذا الحديث رواه البخاري في الوضوء وأبو داود عن القعنبي والبخاري أيضا هنا عن عبد الله بن يوسف ومسلم عن يحيى الثلاثة عن مالك به وتابعه يحيى بن سعيد الأنصاري عن موسى في الصحيحين
( مالك عن يحيى بن سعيد ) الأنصاري ( عن عدي ) بالدال ( ابن ثابت الأنصاري ) الكوفي المتوفى سنة ست عشرة ومائة وفيه رواية تابعي عن تابعي يحيى عن عدي ( أن عبد الله بن يزيد ) بياء قبل الزاي ابن زيد بلا ياء ابن حصين الأنصاري ( الخطمي ) بفتح المعجمة وسكون المهملة نسبة إلى بني خطمة بطن من الأنصار صحابي صغير زاد في رواية الليث عند مسلم وكان أميرا على الكوفة على عهد ابن الزبير ( أخبره أن أبا أيوب ) خالد بن زيد ( الأنصاري أخبره أنه صلى مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع المغرب والعشاء بالمزدلفة جميعا ) أي جمع بينهما جمع تأخير زاد الطبراني من طريق جابر الجعفي ومحمد بن أبي ليلى كلاهما عن عدي بهذا الإسناد بإقامة واحدة والجعفي ضعيف لكن تقوى بمتابعة محمد ففيه رد على قول ابن حزم ليس في حديث أبي أيوب ذكر أذان ولا إقامة كذا قال الحافظ والظاهر أن نفي ابن حزم بالنظر إلى الصحة وهذا الحديث رواه البخاري في المغازي عن القعنبي عن مالك به وتابعه سليمان بن بلال عند الشيخين والليث بن سعد عند مسلم كلاهما عن يحيى بن سعيد
( مالك عن نافع أن عبد الله بن عمر كان يصلي المغرب والعشاء بالمزدلفة جميعا ) اقتداء
____________________
(2/480)
بالنبي صلى الله عليه وسلم وعقب المرفوع بالموقوف إشارة إلى بقاء العمل به وأنه لا يطرقه احتمال النسخ
وفي رواية جويرية عن نافع كان ابن عمر يجمع بين المغرب والعشاء غير أنه يمر بالشعب الذي أخذه رسول الله صلى الله عليه وسلم فيدخل فينتفض ويتوضأ ولا يصلي حتى يصلي بجمع رواه البخاري وهو بالفاء وضاد معجمة من الانتفاض كناية عن قضاء الحاجة فقد اتبعه حتى في قضاء الحاجة بالشعب لأنه كان شديد الاتباع
66 صلاة منى ( قال مالك في أهل مكة أنهم يصلون بمنى إذا حجوا ركعتين ركعتين ) بالتكرير للتعميم في كل رباعية ( حتى ينصرفوا إلى مكة ) لأن أهل مكة حجوا مع النبي صلى الله عليه وسلم وقصروا معه بمنى ولم يقل لهم أتموا فدل على أنه قصر للنسك إذ ليس بين منى ومكة مسافة قصر وما رواه الترمذي عن عمران بن حصين شهدت مع النبي صلى الله عليه وسلم الفتح فكان يصلي ركعتين ويقول يا أهل مكة أتموا فإنا قوم سفر فضعيف ولو صح فلا دلالة فيه على أنه ترك إعلامهم بمنى استغناء بما تقدم بمكة لأن القصة في الفتح وقصة منى في حجة الوداع فكان لا بد من البيان بعد العهد
( مالك عن هشام بن عروة عن أبيه ) مرسل وهو في الصحيحين وغيرهما من حديث ابن مسعود وابن عمر ( أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ) صلى الصلاة الرباعية بمنى زاد في رواية لمسلم عن ابن عمر وعرفة ( ركعتين ) قصرا ( وأن أبا بكر صلاها بمنى ركعتين ) في خلافته ( وأن عمر بن الخطاب صلاها بمنى ركعتين وأن عثمان صلاها بمنى ركعتين ) وفائدة ذكرى الخلفاء مع قيام الحجة بالفعل النبوي وحده أن هذا الحكم لم ينسخ إذ لو نسخ ما فعله الخلفاء بعده ( شطر ) أي نصف ( إمارته ) بكسر الهمزة أي خلافته وفي مسلم عن ابن عمر وعثمان ثمان سنين أو ست سنين بالشك وتبين من رواية الموطأ أن الصحيح ست لأن خلافته كانت ثنتي عشرة سنة ( ثم أتمها بعد ) بالبناء على الضم لأن القصر والإتمام جائزان للمسافر فرأى عثمان ترجيح طرف الإتمام لأن فيه زيادة مشقة
____________________
(2/481)
وفي الصحيح عن ابن شهاب قلت لعروة ما بال عائشة تتم قال تأولت كما تأول عثمان
وهذا فيه رد على من زعم أن عثمان إنما أتم لأنه تأهل بمكة أو لأنه أمير المؤمنين فكل موضع له دار أو لعزمه على الإقامة بمكة أو لأنه استجد له أرضا بمنى أو لأنه كان سبق الناس إلى مكة لأن جميع ذلك منتف في حق عائشة وأكثره لا دليل عليه بل هي ظنون ممن قالها ويرد الأول أنه صلى الله عليه وسلم كان يسافر بزوجاته وقصر والثاني أنه صلى الله عليه وسلم كان أولى بذلك والثالث أن الإقامة بمكة على المهاجر حرام والرابع والخامس لم ينقلا فلا يكفي الظن في ذلك
والأول وإن نقل وأخرجه أحمد والبيهقي عن عثمان وأنه لما صلى بمنى أربع ركعات أنكر عليه الناس فقال إني تأهلت بمكة لما قدمت وإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول من تأهل ببلد فإنه يصلي صلاة مقيم فهذا حديث لا يصح لأنه منقطع وفي رواته من لا يحتج به ويرده قول عروة إن عائشة تأولت ما تأول عثمان ولا جائز أن تتأهل عائشة أصلا فدل على وهاء ذلك الخبر ثم ظهر لي أنه يمكن أن مراد عروة التشبيه بعثمان في الإتمام بتأويل لا اتحاد تأويلهما ويقويه أن الأسباب اختلفت في تأول عثمان وتكاثرت بخلاف تأويل عائشة والمنقول أن سبب إتمام عثمان أنه كان يرى القصر مختصا بمن كان شاخصا سائرا وأما من أقام في مكان أثناء سفره فله حكم المقيم فيتم لما رواه أحمد بإسناد حسن عن عباد بن عبد الله بن الزبير قال لما قدم معاوية حاجا صلى بنا الظهر ركعتين بمكة ثم انصرف إلى دار الندوة فدخل عليه مروان وعمرو بن عثمان فقالا لقد عبت أمر ابن عمك لأنه كان قد أتم الصلاة قال وكان عثمان حيث أتم الصلاة إذا قدم مكة صلى بها الظهر أربعا والعصر والعشاء أربعا أربعا ثم إذا خرج إلى منى وعرفة قصر الصلاة فإذا فرغ من الحج وقام بمنى أتم الصلاة
وقال ابن بطال الصحيح أن عثمان وعائشة رأيا أن النبي صلى الله عليه وسلم إنما قصر لأنه أخذ بالأيسر على أمته فأخذا أنفسهما بالشدة ورجحه جماعة من آخرهم القرطبي لكن ما قبله أولى لتصريح الراوي بالسبب
وروى الطحاوي وغيره عن الزهري قال إنما صلى عثمان أربعا لأن الأعراب كثروا في ذلك العام فأحب أن يعلمهم أن الصلاة أربع
وروى البيهقي عن عثمان أنه أتم بمنى ثم خطب فقال إن القصر سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وصاحبيه ولكنه حدث طغام يعني بفتح الطاء والمعجمة فخفت أن يستنوا
وله عن ابن جريج أن أعرابيا ناداه بمنى يا أمير المؤمنين ما زلت أصليهما منذ رأيتكم عام أول ركعتين ولا مانع أن يكون هذا أصل سبب الإتمام ولا يعارض الوجه الأول الذي اخترته بل يقويه من حيث إن حالة الإقامة في أثناء السفر قريب إلى قياس الإقامة المطلقة عليها بخلاف السائر وهذا ما أدى إليه اجتهاد عثمان
قاله الحافظ واستدل مالك بهذا الحديث على أن الحجاج يقصرون الصلاة بمنى وعرفة ولو كانوا من أهل مكة وبمكة ولو كانوا من أهل منى وعرفة وإنما يمتنع أن يقصر أهل مكة بها أو أهل منى بها أو عرفة
____________________
(2/482)
بها لقصرهم مع النبي صلى الله عليه وسلم
قال عياض ولأن في تكرار مشاعر الحج ومناسكه مقدار المسافة التي يجوز فيها قصر الصلاة عند الجميع وقال الأكثر إنما يجوز القصر لغير أهل مكة ومنى وعرفة لأنهم مقيمون أو في سفر قصير
وقال بعض المالكية لو لم يجز القصر لأهل مكة بمنى لقال لهم النبي صلى الله عليه وسلم أتموا وليس بين منى ومكة مسافة قصر فدل على أن القصر للنسك
وأجيب بأن الترمذي روى عن عمران بن حصين شهدت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم الفتح فأقام بمكة ثمان عشر ليلة يصلي ركعتين ويقول يا أهل مكة أتموا فإنا قوم سفر فكأنه ترك إعلامهم بذلك بمنى استغناء بما تقدم بمكة قال الحافظ وهذا ضعيف لأن الحديث من رواية علي بن زيد بن جدعان وهو ضعيف ولو صح فالقصة في الفتح وقصة منى في حجة الوداع فكان لا بد من بيان ذلك لبعد العهد قال ولا يخفى أن أصل البحث مبني على تسليم أن المسافة بين مكة ومنى لا قصر فيها وهي من محال الخلاف انتهى
على أنه قد يدعى أن حديث عمران لو صح من أدلتنا إذ قوله ذلك لأهل مكة فيها دون قوله لهم لما حجوا معه بمنى وعرفة دليل على أنهم يقصرون في ذلك كما فهمه أسلم وابن المسيب كما ذكره بقوله
( مالك عن ابن شهاب عن سعيد بن المسيب أن عمر بن الخطاب لما قدم مكة صلى بهم ) إماما لأنه الخليفة ولا يؤم لرجل في سلطانه ( ركعتين ثم انصرف ) من الصلاة بالسلام ( فقال يا أهل مكة أتموا صلاتكم فإنا قوم سفر ) بفتح فسكون جمع سافر كركب وراكب ( ثم صلى عمر بن الخطاب ركعتين بمنى ) بالناس ( ولم يبلغنا أنه قال لهم شيئا ) أي لأهل مكة لخروجهم منها للحج فدل على أن سنتهم حينئذ القصر
( مالك عن زيد بن أسلم عن أبيه أن عمر بن الخطاب صلى للناس ) أي بهم إماما ( بمكة ركعتين فلما انصرف ) سلم من الصلاة ( قال يا أهل مكة أتموا صلاتكم فإنا قوم سفر ثم صلى عمر ) الرباعية ( ركعتين بمنى ولم يبلغنا أنه قال لهم شيئا ) فدل ذلك على أن أهل مكة يقصرون بمنى إذا حجوا إذ لو لزمهم الإتمام لبينه لهم كما بينه في مكة وزعم أنه تركه اكتفاء بالبيان بمكة ممنوع وسنده أن الأصل عدم الاكتفاء في بيان الأحكام لا سيما مع اختلاف المحل وتقدم في القصر طريق ثالث لأثر عمر وهو مالك عن ابن شهاب عن سالم عن أبيه أن عمر كان إذا قدم مكة صلى بهم فذكره
____________________
(2/483)
( سئل مالك عن أهل مكة كيف صلاتهم بعرفة ) الرباعية ( ركعتان ) هي ( أم أربع وكيف بأمير الحاج إن كان من أهل مكة أيصلي الظهر والعصر بعرفة أربع ركعات ) إتماما ( أو ركعتين ) قصرا ( وكيف صلاة أهل مكة في إقامتهم ) أيام الرمي ( فقال مالك يصلي أهل مكة بعرفة ومنى ما أقاموا ) مدة إقامتهم ( بهما ركعتين ركعتين ) بكل رباعية ( يقصرون الصلاة حتى يرجعوا إلى مكة ) عملا بالسنة ( قال وأمير الحاج أيضا إذا كان من أهل مكة قصر الصلاة بعرفة وأيام منى ) لأن سبب القصر النسك فلا فرق بين بعيد وقريب ( وإن كان أحد ساكنا بمنى مقيما بها فإن ذلك ) الأحد ( يتم الصلاة بمنى وإن كان أحد ساكنا بعرفة مقيما بها ) وإن لم يكن من أصل أهلها فالمدار على الإقامة ( فإن ذلك يتم الصلاة بها أيضا ) لأنهما في أوطانهما كأهل مكة إذا أحرموا بالحج بمكة يتمون قبل الخروج إلى منى وعرفة فالضابط أن أهل كل مكان يتمون فيه ويقصرون فيما عداه قال ابن المنير السر في القصر في هذه المواضع المتقاربة إظهار الله تعالى لفضله على عباده حتى اعتد لهم بالحركة القريبة اعتداده بالسفر البعيد فجعل الوافدين من عرفة إلى مكة كأنهم سافروا إليها ثلاثة أسفار سفر إلى المزدلفة ولهذا يقصر أهل عرفة بالمزدلفة وسفر إلى منى ولهذا يقصر أهل المزدلفة بمنى وسفر إلى مكة ولهذا يقصر أهل مكة فهي على قربها من عرفة معدودة بثلاث مسافات كل مسافة منها سفر طويل وسر ذلك والله أعلم أنهم كلهم وفد الله وأن البعيد كالقريب في إسباغ الفضل انتهى
67 صلاة المقيم بمكة ومنى ( قال مالك من قدم مكة لهلال ذي الحجة فأهل بالحج فإنه يتم الصلاة ) بمكة ( حتى يخرج من
____________________
(2/484)
مكة إلى منى فيقصر ) بالنصب ( وذلك أنه قد أجمع ) عزم وصمم ( على مقام أكثر من أربع ليال ) بأيامها
68 تكبير أيام التشريق ( مالك عن يحيى بن سعيد ) الأنصاري ( أنه بلغه أن عمر بن الخطاب خرج الغد من يوم النحر حين ارتفع النهار شيئا ) قليلا ( فكبر فكبر الناس بتكبيره ) اتباعا له لأنه الإمام ( ثم خرج الثانية من يومه ذلك بعد ارتفاع النهار فكبر فكبر الناس بتكبيره ثم خرج ) الثالثة ( حتى زاغت ) بزاي وغين معجمتين زالت ( الشمس فكبر فكبر الناس بتكبيره حتى يتصل التكبير ويبلغ البيت ) الكعبة ( فيعلم أن عمر قد خرج يرمي ) الجمرة
وروى الطحاوي وأحمد وابن أبي شيبة عن مجاهد عن أبي معمر عن عبد الله خرجت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فما ترك التلبية حتى رمى جمرة العقبة إلا أن يخلطها بتكبير أو تهليل
( قال مالك الأمر عندنا أن التكبير في أيام التشريق دبر الصلوات ) أي عقبها بضمتين وتسكين الباء تخفيف وأصله خلاف القبل من كل شيء ( وأول ذلك تكبير الإمام والناس معه دبر صلاة الظهر من يوم النحر وآخر ذلك تكبير الإمام والناس معه دبر صلاة الصبح من آخر أيام التشريق ثم يقطع التكبير ) احتج بالعمل لأنه لم يرو في ذلك حديث
قال الحافظ رحمه الله تعالى اختلف العلماء فيه فمنهم من قصره على أعقاب الصلوات ومنهم من خصه بالمكتوبات دون النوافل ومنهم من خصه بالرجال دون النساء وبالجماعة دون المنفرد وبالمؤداة دون المقضية وبالمقيم دون المسافر وبساكن المصر دون القرية واختلف أيضا في ابتدائه وانتهائه فقيل من صبح يوم عرفة وقيل من ظهره وقيل من عصره وقيل من صبح
____________________
(2/485)
يوم النحر وقيل من ظهره وفي الانتهاء إلى ظهر يوم النحر أو عصره أو ظهر ثانيه أو صبح آخر أيام التشريق أو ظهره أو عصره ولم يثبت في شيء من ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم حديث واضح ما ورد فيه عن الصحابة قول علي وابن مسعود من صبح يوم عرفة إلى آخر أيام منى أخرجهما ابن المنذر وغيره
وأما صفة التكبير فأصح ما ورد فيه ما رواه عبد الرزاق بسند صحيح عن سلمان قال كبروا الله أكبر الله أكبر كبيرا وزاد الشافعي ولله الحمد وقيل يكبر ثلاثا ويزاد لا إله إلا الله وحده لا شريك له الخ
وقيل يكبر ثنتين بعدهما لا إله إلا الله والله أكبر الله أكبر ولله الحمد جاء ذلك عن ابن عمر وابن مسعود وبه قال أحمد وإسحاق وقد أحدث في هذا الزمان زيادة لا أصل لها انتهى
( قال ) مالك ( والتكبير في أيام التشريق على الرجال والنساء ) خلافا لمن خصه بالرجال
وفي البخاري كان النساء يكبرن خلف أبان بن عثمان وعمر بن عبد العزيز ليالي التشريق مع الرجال في المسجد
( من كان في جماعة أو وحده بمنى أو بالآفاق كلها واجب ) مندوب متأكد ( وإنما يأتم ) يقتدي ( الناس في ذلك بإمام الحاج وبالناس بمنى ) في رمي الجمار والتكبير ( لأنهم إذا رجعوا وانقضى الإحرام ائتموا بهم حتى يكونوا مثلهم في الحل فأما من لم يكن حاجا ) من أهل الآفاق كلهم ومن فاته الحج وأقام بمكة أيام منى قاله أبو عمر ( فإنه لا يأتم بهم إلا في تكبير أيام التشريق ) وحكمته كما قال الحطاب ى ن الجاهلية كانوا يذبحون فيها لطواغيتهم فشرع فيها التكبير إشارة إلى تخصيص الذبح له وعلى اسمه عز وجل
( قال مالك الأيام المعدودات أيام التشريق ) كما جاء عن ابن عباس وزاد والأيام المعلومات أيام العشر رواه عبد بن حميد
وروى ابن مردويه من وجه آخر عن ابن عباس قال الأيام المعلومات التي قبل التروية ويوم التروية ويوم عرفة والمعدودات أيام التشريق وإسناده صحيح وظاهره إدخال يوم العيد في أيام التشريق
وروى ابن أبي شيبة من وجه آخر عن ابن عباس المعلومات يوم النحر وثلاثة أيام بعده ورجحه الطحاوي لقوله تعالى { ويذكروا اسم الله في أيام معلومات على ما رزقهم من بهيمة الأنعام } سورة الحج الآية 28 فإنه مشعر بأن المراد أيام النحر وتعقب بأن هذا لا يمنع تسمية أيام العشر معلومات ولا أيام التشريق معدودات بل تسمية أيام التشريق معدودات متفق عليه لقوله تعالى { واذكروا الله في أيام معدودات } سورة البقرة الآية 203 الآية وقد قيل إنما سميت معدودات لأنها إذا زيد عليها شيء بعد ذلك حصرا أي في حكم حصر العدد ثم مقتضى كلام أهل اللغة والفقه أن أيام التشريق ما بعد يوم النحر على اختلافهم في أنها ثلاثة أو يومان لكن ما ذكروه من سبب تسميتها
____________________
(2/486)
بذلك يقتضي دخول يوم العيد فيها
وقد حكى أبو عبيد قولين أحدهما لأنهم كانوا يشرقون فيها لحوم الأضاحي أي يقددونها ويبرزونها للشمس
ثانيهما لأنها كلها أيام تشريق لصلاة يوم النحر فصارت تبعا ليوم النحر وهذا أعجب القولين إلي
وقيل سميت بذلك لأن العيد إنما يصلى بعد أن تشرق الشمس
وعن ابن الأعرابي لأن الهدايا والضحايا لا تنحر حتى تشرق الشمس وكأن من أخرج يوم العيد منها لشهرته بلقب يخصه وهو يوم العيد وإلا فهي في الحقيقة تبع له في التسمية كما تبين من كلامهم ومنه قول علي لا جمعة ولا تشريق إلا في مصر جامع رواه أبو عبيد بإسناد صحيح موقوفا ومعناه لا صلاة جمعة ولا صلاة عيد
ومنه حديث الشعبي مرسلا من ذبح قبل التشريق فليعد أي قبل صلاة العيد رواه أبو عبيد برجال ثقات
وقال أبو حنيفة التشريق التكبير دبر الصلاة أي لا تكبير إلا على أهل الأمصار
قال أبو عبيد وهذا لم نجد أحدا يعرفه ولا وافقه عليه صاحباه ولا غيرهما انتهى
وهذا كله يدل على أن يوم العيد من أيام التشريق
69 صلاة المعرس والمحصب ( مالك عن نافع عن عبد الله بن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أناخ ) بنون ومعجمة أي برك راحلته ( بالبطحاء ) بالمد حين صدر من الحج كما في رواية موسى بن عقبة عن نافع في الصحيحين ( التي بذي الحليفة ) احترازا عن البطحاء التي بين مكة ومنى ( فصلى بها ) وليس هذا من مناسك الحج وإنما يؤخذ منه أماكن نزوله صلى الله عليه وسلم ليتأسى به فيها إذ لا يخلو شيء من أفعاله عن حكمة وأيضا لطلب فضل ذلك الموضع لما في الصحيحين عن سالم عن أبيه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أري في معرسه بذي الحليفة فقيل له إنك ببطحاء مباركة ( قال نافع وكان عبد الله بن عمر يفعل ذلك ) تأسيا بالمصطفى وكان ابن عمر شديد التأسي به
وفي الصحيحين عن موسى بن عقبة وقد أناخ بنا سالم بالمناخ من المسجد الذي كان ابن عمر ينيخ به يتحرى معرس النبي صلى الله عليه وسلم وهو أسفل من المسجد الذي ببطن الوادي بينه وبين القبلة وسط من ذلك
وروى مسلم حديث الباب عن يحيى عن مالك به
( قال مالك لا ينبغي لأحد أن يجاوز المعرس ) بضم الميم وفتح العين والراء الثقيلة وبإسكان
____________________
(2/487)
العين وفتح الراء خفيفة موضع النزول ( إذا قفل ) بقاف ففاء مفتوحتين رجع من الحج ( حتى يصلي فيه ) تأسيا ( وإن مر به في غير وقت صلاة فليقم ) به ( حتى تحل الصلاة ثم صلى ما بدا له ) يعني أي شيء تيسر له ( لأنه بلغني أن رسول الله صلى الله عليه وسلم عرس به ) بشد الراء نزل به ليستريح وصلى به كما مر في الحديث قال أبو زيد التعريس نزول المسافر أي وقت كان من ليل أو نهار للاستراحة وخصه غيره بنزوله آخر الليل
( وأن عبد الله بن عمر أناخ به ) برك راحلته تأسيا وقيل مراده صلى الله عليه وسلم بالنزول بذي الحليفة في رجوعه والمقام به حتى يصبح لئلا يفجأ الناس أهاليهم كما نهى عن ذلك في غير هذا الحديث حتى يبلغهم الخبر فتمتشط الشعثة وتستحد المغيبة ويصلح النساء من شأنهن لئلا تقع عين أو أنف على ما يكره فيقدح ذلك في الألفة حكاه عياض
( مالك عن نافع أن عبد الله بن عمر كان يصلي الظهر والعصر والمغرب والعشاء ) إذا رجع من منى ( بالمحصب ) بضم الميم وفتح الحاء والصاد المهملة الثقيلة وموحدة قال ابن عبد البر وتبعه عياض اسم لمكان متسع بين مكة ومنى وهو أقرب إلى منى ويقال له الأبطح والبطحاء وخيف بني كنانة والخيف وإلى منى يضاف ودليله قول الشافعي وهو عالم بمكة وإحرازها ومنى وأقطارها يا راكبا قف بالمحصب من منى واهتف بقاطن خيفها والناهض قال الأبي وإنما يصح الاحتجاج به إذا جعل من منى في موضع الصفة للمحصب أما إذا علق براكبا فلا حجة فيه ونظيره قول عمر بن أبي ربيعة نظرت إليها بالمحصب من منى وفي نظر لولا التحرج عادم وأبين منهما قول مجنون بني عامر وداع دعا إذ نحن بالخيف من منى فهيج لوعات الفؤاد وما يدري دعا باسم ليلى غيرها فكأنما أطار بليلى طائرا كان في صدري وظاهر قول مالك في المدونة إذا رحلوا من منى نزلوا بأبطح مكة وصلوا الظهر والثلاثة بعدها ويدخلون مكة أول الليل أنه ليس من منى
( ثم يدخل مكة من الليل فيطوف بالبيت ) اتباعا للفعل النبوي كما رواه مسلم من طريق عبيد الله بن عمر عن نافع عن ابن عمر كان النبي صلى الله عليه وسلم وأبو بكر وعمر ينزلون الأبطح وله من طريق صخر بن جويرية عن نافع عن ابن عمر أنه كان يرى التحصيب سنة قال نافع وقد حصب رسول الله صلى الله عليه وسلم والخلفاء بعده وفي الصحيحين عن عائشة نزول الأبطح ليس بسنة إنما نزله
____________________
(2/488)
رسول الله صلى الله عليه وسلم لأنه كان أسمح لخروجه إذا خرج أي أسهل لتوجهه إلى المدينة ليستوعب في ذلك البطيء والمتعذر ويكون مبيتهم وقيامهم في السحر ورحيلهم بأجمعهم إلى المدينة وفيهما عن ابن عباس ليس التحصيب بشيء إنما هو منزل نزله رسول الله صلى الله عليه وسلم ولمسلم وأبي داود وغيرهما عن أبي رافع وكان علي ثقل النبي صلى الله عليه وسلم قال لم يأمرني صلى الله عليه وسلم أن أنزل الأبطح حين خرج من منى ولكن جئت فضربت قبته فجاء فنزل انتهى
لكن لما نزله كان النزول به مستحبا اتباعا له لتقريره على ذلك وقد فعله الخلفاء بعده وإليه ذهب مالك والشافعي والجمهور فالحاصل أن من نفى كونه سنة كعائشة وابن عباس أراد أنه ليس من المناسك فلا يلزم بتركه شيء ومن أثبته كابن عمر أراد دخوله في عموم التأسي بأفعاله لا الإلزام بذلك
70 البيتوتة بمكة ليالي منى بنصب ليالي على الظرفية أي يمنع من ذلك لوجوب المبيت بمنى في لياليها للخبر الآتي أرخص لرعاء الإبل لأن التعبير بالرخصة يقتضي أن مقابلها عزيمة وأن الإذن إنما وقع للعلة المذكورة فإن لم توجد لم يحصل إذن وبالوجوب قال الجمهور
وفي قول للشافعي ورواية عن أحمد وهو مذهب الحنفية أنه سنة ووجوب الدم بتركه ينبني على هذا الخلاف ولا يحصل المبيت إلا بمعظم الليل
( مالك عن نافع أنه قال زعموا أن عمر بن الخطاب كان يبعث رجالا يدخلون الناس من وراء العقبة ) إلى منى لأن العقبة ليست من منى بل هي حد منى من جهة مكة وهي التي بايع النبي صلى الله عليه وسلم الأنصار عندها على الهجرة
( مالك عن نافع عن عبد الله بن عمر أن عمر بن الخطاب قال لا يبيتن أحد من الحاج ليالي منى من وراء العقبة ) فإن بات جل ليلة فالدم
( مالك عن هشام بن عروة عن أبيه أنه قال في البيتوتة بمكة ليالي منى لا يبيتن أحد إلا بمنى )
____________________
(2/489)
لوجوب المبيت بها للحاج ولو لضرورة كخوف على متاعه أو مرض
وقد روى ابن نافع عن مالك من حبسه مرض فبات بمكة عليه هدي إلا للرعاة للحديث الآتي وأهل السقاية لحديث الصحيح رخص النبي صلى الله عليه وسلم للعباس أن يبيت بمكة أيام منى من أجل سقايته
71 رمي الجمار جمع جمرة وهي اسم لمجتمع الحصى سميت بذلك لاجتماع الناس بها يقال تجمر بنو فلان إذا اجتمعوا وقيل إن العرب تسمي الحصى الصغار جمارا فسميت بذلك تسمية للشيء بلازمه وقيل لأن آدم أو إبراهيم لما عرض له إبليس فحصبه جمر بين يديه أي أسرع ذكره في الفتح
وقال الشهاب القرافي الجمار اسم للحصى لا للمكان والجمرة اسم للحصاة وإنما سمي الموضع جمرة باسم ما جاوره وهو اجتماع الحصى فيه والأولى منها هي التي إلى مسجد الخيف أقرب ومن بابه الكبير إليها ألف ذراع ومائتا ذراع وأربعة وخمسون ذراعا وسدس ذراع ومنها إلى الجمرة الوسطى مائتا ذراع وخمسة وسبعون ذراعا ومن الوسطى إلى جمرة العقبة مائتا ذراع وثمانية أذرع كل ذلك بذراع الحديد
( مالك أنه بلغه ) أخرجه عبد الرزاق بسنده عن سليمان بن ربيعة ( أن عمر بن الخطاب كان يقف عند الجمرتين الأوليين ) إحداهما الأولى التي تلي مسجد منى والثانية الوسطى ( وقوفا طويلا حتى يمل القائم ) بفتح الميم اتباعا لما صح عنه صلى الله عليه وسلم في البخاري وغيره أنه أطال الوقوف عندهما
( مالك عن نافع أن عبد الله بن عمر كان يقف عند الجمرتين الأوليين وقوفا طويلا ) مقدار ما يقرأ سورة البقرة كما رواه ابن أبي شيبة بإسناد صحيح عن عطاء عن ابن عمر ( يكبر الله ) زاد سالم على أثر كل حصاة أي من السبع ففيه مشروعية التكبير عند كل حصاة وأجمعوا على أن من تركه لا شيء عليه إلا الثوري فقال يطعم وإن جبره بدم فأحب إلي ( ويسبحه ويحمده ويدعو الله ) بخضوع قلب وخشوع جوارح ( ولا يقف عند جمرة العقبة ) للدعاء زاد في البخاري من رواية سالم عنه ويقول هكذا رأيت النبي صلى الله عليه وسلم يفعل
____________________
(2/490)
( مالك عن نافع أن عبد الله بن عمر كان يكبر عند رمي الجمرة كلما رمى بحصاة ) اتباعا لفعل النبي صلى الله عليه وسلم وقال خذوا عني مناسككم
( مالك أنه سمع بعض أهل العلم يقول الحصى التي يرمى بها الجمار مثل حصى الخذف ) بالخاء والذال المعجمتين أصله الرمي بطرفي الإبهام والسبابة ثم أطلق هنا على الحصى الصغار مجازا واختلف في أنه قدر الفولة أو النواة أو دون الأنملة عرضا وطولا ولا يجزىء الصغير جدا كقمحة وحمصة كالعدم وإنما ( قال مالك وأكبر من ذلك قليلا أعجب إلي ) مع أن في مسلم وأبي داود وغيرهما في حديث جابر أنه صلى الله عليه وسلم رمى الجمرة بسبع حصيات يكبر مع كل حصاة بمثل حصى الخذف فرمى من بطن الوادي لئلا ينقص الرامي منه أو أنه لم يبلغه الحديث والأول أظهر
وفي أبي داود وابن ماجه مرفوعا وإذا رميتم الجمرة فارموا بمثل حصى الخذف وفيه دلالة على اختصاص الرمي بما يسمى حجرا لأنه رمى بالحجر وقال خذوا عني مناسككم
وقال فارموا بمثل حصى الخذف فيجزىء المرمر والبرام والكذان وسائر أنواع الحجر وبه قال مالك والشافعي وأحمد ولا يجزىء اللآلىء وما ليس بحجر من طبقات الأرض كنورة وزرنيخ وأثمد ونحوها
وعند أبي حنيفة يجزىء بزرنيخ ونحوه
( مالك عن نافع أن عبد الله بن عمر كان يقول من غربت له الشمس ) أي عليه ومعناه من ظهر له غروبها ( من أوسط أيام التشريق ) وهو ثانيها ( وهو بمنى فلا ينفرن حتى يرمي الجمار من الغد ) لأنه لا يصدق عليه أنه تعجل في يومين
( مالك عن عبد الرحمن بن القاسم عن أبيه أن الناس كانوا إذا رموا الجمار مشوا ذاهبين وراجعين ) مراده بالناس الصحابة
وقد روى ابن أبي شيبة بإسناد صحيح عن ابن عمر كان يمشي إلى الجمار مقبلا ومدبرا وروى أبو داود عن ابن عمر أنه كان يأتي الجمار في الأيام الثلاثة بعد يوم النحر
____________________
(2/491)
ماشيا ذاهبا وراجعا ويخبر أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يفعل ذلك ( وأول من ركب معاوية بن أبي سفيان ) لعذره بالسمن
ولابن أبي شيبة أن جابر بن عبد الله كان لا يركب إلا من ضرورة
( مالك أنه سأل عبد الرحمن بن القاسم من أين كان القاسم ) أباك ( يرمي جمرة العقبة فقال من حيث تيسر ) من بطن الوادي بمعنى أنه لم يعين محلا منها للرمي وليس المراد من فوقها أو تحتها أو بظهرها لما صح أن النبي صلى الله تعالى عليه وآله وسلم رماها من بطن الوادي
وفي الصحيحين عن عبد الرحمن بن يزيد قال رمى عبد الله يعني ابن مسعود جمرة العقبة من بطن الوادي فقلت يا أبا عبد الرحمن إن أناسا يرمونها من فوقها فقال والذي لا إله غيره هذا مقام الذي أنزلت عليه سورة البقرة صلى الله عليه وسلم
وعند ابن أبي شيبة وغيره أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يعلو إذا رمى الجمر وجمع بأن التي ترمى من بطن الوادي هي جمرة العقبة لأنها عند الوادي بخلاف الجمرة بين الأخيرتين وتمتاز جمرة العقبة عنهما بأربعة أشياء اختصاصها بيوم النحر وأن لا يوقف عندها وترمى ضحى ومن أسفلها ندبا
( سئل مالك هل يرمى عن الصبي والمريض فقال نعم ) يرمى عنهما إن لم يمكن حملهما فإن أمكن حملا ورميا بأنفسهما كما قاله الإمام في المدونة ( ويتحرى المريض حين يرمى ) بالبناء للمجهول ( عنه ) وقت رمي النائب ( فيكبر وهو في منزله ويهريق ) بضم الياء وفتح الهاء وكسر الراء ( دما ) وجوبا ( فإن صح المريض في أيام التشريق رمى الذي رمي ) بضم الراء ( عنه وأهدى ) وجوبا فيهما ( قال مالك لا أرى على الذي يرمي الجمار أو يسعى بين الصفا والمروة وهو غير متوضىء إعادة ) لأنه ليس شرط صحة فيهما ( ولكن لا يتعمد ذلك ) لتفويته الفضيلة على نفسه
( مالك عن نافع أن عبد الله بن عمر كان يقول لا ترمى الجمار في الأيام الثلاثة ) بعد يوم النحر لغير المتعجل واليومين للمتعجل ( حتى تزول الشمس ) فيستحب رميها عقبه قبل صلاة الظهر فإن رماها قبل الزوال أعاد رميها بعده عند الجمهور والأئمة الأربع
____________________
(2/492)
72 الرخصة في رمي الجمار ( مالك عن عبد الله بن أبي بكر ) بن محمد بن عمرو ( بن حزم ) فنسبه إلى جده ( عن أبيه أن أبا البداح ) بفتح الموحدة والدال المهملة المشددة فألف فحاء مهملة ( ابن عاصم بن عدي ) ابن الجد بفتح الجيم ابن العجلان بن حارثة بن ضبيعة القضاعي البلوي العجلاني الأنصاري مولاهم ولا خلف فإنه من بلى بن الحاف بن قضاعة وهم حلفاء بني عمرو بن عوف من الأنصار
قال أحمد بن خالد رواه يحيى فقال عن أبي البداح عاصم ولم يتابع عليه والصواب ابن عاصم كما قال جميع الرواة عن مالك
قال ابن عبد البر والذي عندنا في رواية يحيى أنه كما رواه غيره سواء ولا يوقف على اسمه وكنيته اسمه
وقال الواقدي أبو البداح لقب غلب عليه وكنيته أبو عمرو انتهى
وكذا قال علي بن المديني وابن حبان كنيته أبو عمرو وقيل كنيته أبو بكر وقيل أبو عمر ويقال اسمه عدي مات سنة سبع عشرة ومائة فيما ذكره جماعة وقال الواقدي مات سنة عشر وله أربع وثمانون سنة فعلى هذا يكون ولد سنة ست وعشرين بعد النبي صلى الله عليه وسلم بخمسة عشر سنة وهذا يدفع زعم أن له صحبة ويدفع قول ابن منده أدرك النبي صلى الله عليه وسلم ( أخبره عن أبيه ) عاصم شهد أحدا ولم يشهد بدرا لأنه صلى الله عليه وسلم استعمله على قباء أو على أهل العالية وضرب له بسهمه فكان كمن شهدها يقال رده من الروحاء وللطبراني عن ابن إسحاق أنه عاش خمسة عشر ومائة ( أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أرخص لرعاء الإبل ) بكسر الراء والمد جمع راع ( في البيتوتة ) مصدر بات ( خارجين عن منى يرمون يوم النحر ) جمرة العقبة ( ثم يرمون الغدو من بعد الغد ليومين ) ظاهره أنهم يرمون لهما في يوم النحر وليس بمراد كما بينه الإمام بعد ( ثم يرمون يوم النفر ) بفتح النون وإسكان الفاء الانصراف من منى وهذا الحديث رواه أبو داود عن القعنبي والنسائي والترمذي وقال حسن صحيح وابن ماجه من طرق عن مالك به وتابعه سفيان بن عيينة عند أصحاب السنن لكنه قال عن أبي البداح بن عدي قال البيهقي وكذا قال روح بن القاسم عن عبد الله بن بكر فكأنهما نسبا أبا البداح إلى جده لكن اختلف فيه على سفيان فعند أبي داود عن مسدد والترمذي عن محمد بن يحيى بن أبي عمر عن سفيان عن عبد الله ومحمد بن أبي بكر عن أبيهما عن أبي البداح ورواه النسائي عن الحسين بن حريث ومحمد بن المنبي عن سفيان عن عبد الله وحده ورواه ابن ماجه عن
____________________
(2/493)
أبي بكر بن أبي شيبة عن سفيان عن عبد الله بن أبي بكر عن عبد الملك بن أبي بكر عن أبي البداح ولهذا قال الترمذي رواية مالك أصح
وأما زعم أن تصحيحه لقوله ابن عاصم وقول سفيان بن عدي والرد على الترمذي بأن النسبة إلى الجد سائغ أنا ابن عبد المطلب فليس بشيء إذ هذا لا يخفى على الترمذي وكونه لم يذكر الاختلاف لا يدل على أنه لم يره
( مالك عن يحيى بن سعيد عن عطاء بن أبي رباح أنه سمعه يذكر أنه أرخص للرعاء أن يرموا بالليل ) ما فاتهم رميه نهارا ( يقول في الزمان الأول ) أي زمن الصحابة وبهم القدوة وبهذا قال محمد بن المواز وهو كما قال بعضهم وفاق للمذهب لأنه إذا أرخص لهم في تأخير اليوم الثاني فرميهم بالليل أولى
( قال مالك تفسير الحديث ) أي حديث عاصم بن عدي ( الذي أرخص فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم لرعاء الإبل ) وألحق بها رعاء غيرها لأن العلة الاشتغال بالرعي ( في ) تأخير ( رمي الجمار فيما نرى ) بضم النون نظن ( والله أعلم ) بما أراد رسوله ( أنهم يرمون يوم النحر ) جمرة العقبة ثم ينصرفون لرعيهم ( فإذا مضى اليوم الذي يلي يوم النحر ) وهو ثانيه أتوا يوم الثالث و ( رموا من الغد وذلك يوم النفر الأول ) لمن تعجل في يومين ( فيرمون لليوم الذي مضى ) ثاني النحر ( ثم يرمون ليومهم ذلك ) الحاضر ثالث النحر وإنما كان تفسيره ذلك وإن كان خلاف ظاهره أنهم يرمون لليومين في يوم النحر ( لأنه لا يقضي أحد شيئا حتى يجب عليه فإذا وجب عليه ومضى كان القضاء بعد ذلك ) لأنه عبارة عن فعل ما فات وقته
ويدل لفهم الإمام رواية سفيان لحديث الباب عن أبي داود بلفظ أن النبي صلى الله عليه وسلم رخص للرعاء أن يرموا يوما ويدعوا يوما ( فإن بدا لهم النفر فقد فرغوا ) لأنهم تعجلوا في يومين ( وإن أقاموا ) بمنى ( إلى الغد رموا مع الناس يوم النفر الآخر ) بكسر الخاء ( ونفروا ) انصرفوا وأما أهل السقاية فإنما يرخص لهم في ترك البيات بمنى لا في ترك رمي اليوم الأول من أيام الرمي فيبيتون بمكة ويرمون الجمار نهارا ويعودون لمكة كما في الطراز المذهب لما في الصحيحين وغيرهما عن ابن عمر قال استأذن العباس
____________________
(2/494)
رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يبيت بمكة ليالي منى من أجل سقايته فأذن له وفي رواية رخص صلى الله عليه وسلم للعباس أن يبيت بمكة أيام منى من أجل سقايته فذهب بعضهم إلى اختصاص ذلك بالعباس وهو جمود وقيل يدخل معه آله وقيل فريقه وهم بنو هاشم وقيل كل من احتاج إلى السقاية فله ذلك ثم قيل يختص الحكم بسقاية العباس حتى لو عمل سقاية لغيره لم يرخص لصاحبها في المبيت لأجلها ومنهم من عممه وهو الصحيح في الموضعين والعلة في ذلك إعداد الماء للشاربين وهل يختص ذلك بالماء أو يلحق به ما في معناه من الأكل وغيره محل احتمال والجمهور على اختصاص ذلك بأهل السقاية والرعاء وألحق الشافعية بذلك من له مال يخاف ضياعه أو أمر يخاف فوته أو مريض يتعاهده
وقال المالكية يجب الدم في المذكورات سوى الرعاء وأهل السقاية فمن ترك المبيت بمنى غيرهما وجب عليه دم عن كل ليلة وقال الشافعي عن كل ليلة إطعام مسكين وعنه أيضا التصدق بدرهم وعن الثلاثة دم وهو رواية عن أحمد والمشهور عنه وعن الحنفية لا شيء عليه
( مالك عن أبي بكر بن نافع ) مولى ابن عمر العدوي المدني صدوق يقال اسمه عمر ( عن أبيه ) نافع الشهير شيخ مالك روى عنه هنا بواسطة ابنه ( أن ابنة أخ ) لم تسم هي ولا أبوها ( لصفية بنت أبي عبيد ) بضم العين ابن مسعود الثقفية زوج ابن عمر قيل لها إدراك وأنكره الدارقطني وقال العجلي تابعية ثقة ( نفست ) بضم النون وفتحها مع كسر الفاء فيهما لغتان والضم أشهر أي ولدت وأما بمعنى حاضت فبضم النون فقط عند جماعة وعن الأصمعي الوجهان
( بالمزدلفة فتخلفت هي وصفية ) عمتها ( حتى أتتا منى بعد بعد أن غربت الشمس من يوم النحر فأمرهما عبد الله بن عمر أن ترميا الجمرة حين أتتا ولم ير عليهما شيئا ) هديا لعذرهما تلك بالولادة والعمة بمعاونتها لكن استحب مالك لمن عرض له مثل ما عرض لصفية أن يهدي لأنه لم يرم في الوقت المطلوب
( قال يحيى سئل مالك عمن نسي جمرة من الجمار في بعض أيام منى حتى يمسي قال ليرم أي ساعة ذكر من ليل أو نهار كما يصلي الصلاة إذا نسيها ثم ذكرها ليلا أو نهارا فإن كان ذلك بعد ما صدر ) رجع من منى ( وهو بمكة أو بعد ما يخرج منها فعليه الهدي ) واجب
____________________
(2/495)
73 الإفاضة ( مالك عن نافع وعبد الله بن دينار ) وكل منهما مولى ابن عمر ( عن عبد الله بن عمر أن عمر بن الخطاب خطب الناس بعرفة ) اتباعا له صلى الله عليه وسلم كما مر ( وعلمهم أمر الحج وقال لهم فيما قال إذا جئتم منى فمن رمى الجمرة فقد حل له ما حرم على الحاج إلا النساء والطيب لا يمس أحد نساء ولا طيبا ) لأنه من دواعي الجماع ( حتى يطوف بالبيت ) طواف الإفاضة وهذا مذهب ابن عمر في الطيب وكرهه مالك فقط وقال يحرم الصيد قال ابن عبد البر لقوله تعالى { لا تقتلوا الصيد وأنتم حرم } سورة المائدة الآية 95 ومن لم تحل له النساء فهو حرام
وقال عطاء وطائفة إلا النساء والصيد
وقال الشافعي وغيره إلا النساء خاصة
( مالك عن نافع وعبد الله بن دينار عن عبد الله بن عمر أن عمر بن الخطاب قال من رمى الجمرة ثم حلق أو قصر ونحر هديا إن كان معه فقد حل له ما حرم عليه إلا النساء الطيب حتى يطوف بالبيت ) أعاده لزيادة ثم حلق الخ ولم يدخل ذلك فيما قبله لأنه سمعه من شيخه كذلك وهم يحافظون على تأدية ما سمعوه لا سيما مالك
74 دخول الحائض مكة ( مالك عن عبد الرحمن بن القاسم عن أبيه عن عائشة أم المؤمنين أنها قالت خرجنا ) معاشر المسلمين ( مع رسول الله صلى الله عليه وسلم عام حجة الوداع ) سميت بذلك لأنه صلى الله عليه وسلم ودع الناس فيها وقال لعلي لا
____________________
(2/496)
أحج بعد عامي هذا ولم يحج بعد الهجرة غيرها ( فأهللنا بعمرة ) أي أدخلناها على الحج بعد أن أهللنا به ابتداء وهو إخبار عن حالها وحال من كان مثلها في الإهلال بعمرة لا عن فعل جميع الناس فلا ينافي قولها المتقدم فمنا من أهل بعمرة ومنا من أهل بحج وعمرة ومنا من أهل بالحج وقد اختلفت الروايات فيما أحرمت به عائشة اختلافا كثيرا
( ثم قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وعلى آله وسلم ) لمن معه بعد إحرامهم بالحج وقربهم من مكة بسرف كما في رواية عائشة أو بعد طوافهم بالبيت كما في رواية جابر ويحتمل كما قال عياض وغيره أنه قاله مرتين في الموضعين وإن العزيمة كانت آخرا لما أمرهم بفسخ الحج إلى العمرة ( من كان معه هدي ) بإسكان الدال وخفة الياء وبكسرها وشد الياء والأولى أفصح وأشهر اسم لما يهدى إلى الحرم من الأنعام وسوق الهدي سنة لمريد الحج أو العمرة ( فليهلل بالحج مع العمرة ثم لا يحل حتى يحل ) بالحاء فيهما ( منهما ) أي الحج والعمرة ( جميعا ) وفيه دلالة على أن السبب في بقاء من ساق الهدي على إحرامه أنه أدخل الحج على العمرة لا مجرد سوق الهدي كما يقوله أبو حنيفة وأحمد وجماعة متمسكين برواية عقيل عن الزهري في الصحيحين فقال صلى الله عليه وسلم من أحرم بعمرة ولم يهد فليحلل ومن أحرم بعمرة وأهدى فلا يحل حتى ينحر هديه ومن أحرم بحج فليتم حجه وهي ظاهرة في الدلالة لمذهبهم
وقال مالك والشافعي وجماعة يحل بتمام العمرة قياسا على الإجماع على من لم يسق هديا ولأنه يحل من نسكه فوجب أن يحل له كل شيء
وأجابوا عن هذه الرواية بأن فيها حذفا بينته رواية مالك هذه وتقديره ومن أحرم بعمرة وأهدى فليهلل بالحج وحينئذ فلا يحل حتى ينحر هديه وهذا التأويل متعين لأن فيه جمعا بين الروايتين لأن القصة واحدة والمخرج واحد وهو عائشة ( قالت فقدمت مكة وأنا حائض ) جملة اسمية وقعت حالا وكان ابتداء حيضها بسرف كما صح عنها وذلك يوم السبت لثلاث خلون من ذي الحجة ( فلم أطف بالبيت ) لأن الطهارة شرط فيه ولأنه في المسجد ولا تدخله الحائض ( ولا بين الصفا والمروة ) لأن شرطه أن يعقب الطواف قال الطيبي عطف على المنفي قبله على تقدير ولم أسع نحو علفتها تبنا وماءا باردا ويجوز أن يقدر ولم أطف على طريق المجاز لما في الحديث وطاف بالصفا والمروة سبعة أشواط وإنما ذهب إلى التقدير دون الانسحاب لئلا يلزم استعمال اللفظ الواحد حقيقة ومجازا في حالة واحدة انتهى
أي لأن حقيقة الطواف الشرعي لم توجد لأنها الطواف بالبيت وأجيب أيضا بأنه سمي السعي طوافا على حقيقته اللغوية فالطواف لغة المشي ( فشكوت ذلك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ) لما دخل عليها وهي تبكي فقال ما يبكيك فقلت لا أصلي كما في رواية عنها في الصحيح كنت بذلك عن الحيض وهي من لطيف الكنايات
وفي مسلم عن جابر أن دخوله عليها وشكواها كان يوم التروية
____________________
(2/497)
( فقال انقضي ) بضم القاف وكسر الضاد المعجمة ( رأسك ) أي حلي ضفر شعره ( وامتشطي ) أي سرحيه بالمشط ( وأهلي بالحج ودعي ) اتركي ( العمرة ) ظاهره أنه أمرها أن تجعل عمرتها حجا
ولذا قالت يرجع الناس بحج وعمرة وأرجع بحج فأعمرها من التنعيم واستشكل إذ العمرة لا ترتفض كالحج
وقال مالك ليس العمل على هذا الحديث قديما ولا حديثا
قال ابن عبد البر ليس العلم عليه في رفض العمرة وجعلها حجا بخلاف جعل الحج عمرة فإنه وقع للصحابة واختلف في جوازه من بعدهم وأجاب جماعة منهم الشافعي باحتمال أن معنى دعي عمرتك اتركي التحلل منها أدخلي عليها الحج فتصير قارنة ويؤيده قوله في رواية مسلم وأمسكي عن العمرة أي عن أعمالها وإنما قالت وأرجع بحج لاعتقادها أن أفراد العمرة بالعمل أفضل كما وقع لغيرها من أمهات المؤمنين
ولمسلم أيضا فقال لها صلى الله عليه وسلم طوافك يسعك لحجك وعمرتك فهذا صريح في أنها قارنة وتعقب بأن قوله انقضي رأسك وامتشطي ظاهر في إبطال العمرة لأن المحرم لا يفعل مثل ذلك لتأديته إلى نتف الشعر وأجيب بجوازهما للمحرم وحيث لا يؤدي إلى نتف الشعر مع الكراهة بغير عذر أو كان ذلك لأذى برأسها فأباح لها ذلك كما أباح لكعب بن عجرة الحلاق لأذى برأسه أو نقض رأسها لأجل الغسل لتهل بالحج ولا سيما إن كانت تلبدت فتحتاج إلى نقض الضفر ولعل المراد بالامتشاط تسريح شعرها بأصابعها برفق حتى لا يسقط منه شيء ثم تضفره كما كان أو أعادت الشكوى بعد رمي جمرة العقبة فأباح لها الامتشاط حينئذ
قال المازري وهو تعسف بعيد من لفظ الحديث وكان مذهبها أن المعتمر إذا دخل مكة استباح ما يستبيحه الحاج إذا رمى الجمرة
قال الخطابي وهذا لا يعلم وجهه
( قالت ) عائشة ( فعلت ) بسكون اللام ما ذكر من النقض والامتشاط والإهلال بالحج وترك العمرة وبظاهره استدل الحنفية على أن المرأة إذا أحرمت بالعمرة متمتعة فحاضت قبل أن تطوف تترك العمرة وتهل بالحج مفردا كما صنعت عائشة بأنها تركتها وحجت مفردة ويقويه ما لأحمد عن عطاء عنها وأرجع بحجة ليس معها عمرة ورد بأن في رواية عطاء عنها ضعفا
وفي مسلم في حديث جابر أن عائشة أهلت بعمرة حتى إذا كانت بسرف حاضت فقال لها النبي صلى الله عليه وسلم أهلي بالحج حتى إذا طهرت طافت بالكعبة وسعت فقال قد حلت من حجك وعمرتك قالت يا رسول الله إني أجد في نفسي أني لم أطف بالبيت حتى حججت قال فأعمرها من التنعيم فهذا صريح في أنها كانت قارنة وإنما أعمرها من التنعيم تطيبا لقلبها لكونها لم تطف بالبيت لما دخلت معتمرة
وفي رواية لمسلم وكان صلى الله عليه وسلم رجلا سهلا إذا هويت الشيء تابعها عليه ( فلما قضينا الحج ) أتممناه أي وطهرت
وفي مسلم عن مجاهد عنها أنها طهرت بعرفة
وعن القاسم عنها وطهرت صبيحة ليلة عرفة حين قدمنا منى
وله عنه أيضا فخرجت في حجتي حتى نزلنا
____________________
(2/498)
منى فتطهرت ثم طفنا بالبيت
فاتفقت الروايات كلها على أنها طافت طواف الإفاضة يوم النحر
وجمع بين رواية مجاهد والقاسم بأنها ما رأت الطهر إلا بعد أن نزلت منى
وقول ابن حزم حاضت يوم السبت لثلاث خلون من ذي الحجة وطهرت يوم السبت عاشره إنما أخذه من روايات مسلم المذكورة
( أرسلني رسول الله صلى الله عليه وسلم مع ) أخي ( عبد الرحمن بن أبي بكر الصديق إلى التنعيم ) بفتح الفوقية وسكون النون وكسر المهملة مكان خارج مكة على أربعة أميال منها إلى جهة المدينة كما نقله الفاكهي
وقال المحب الطبري أبعد من أدنى الحل إلى مكة بقليل وليس بطرف الحل بل بينهما نحو ميل ومن أطلق عليه طرف الحل فهو تجوز
قال الحافظ وأراد بالنسبة إلى بقية الجهات
وروى الفاكهي عن عبيد بن عمير إنما سمي التنعيم لأن الجبل الذي عن يمين الداخل يقال له ناعم والذي على اليسار يقال له منعم والوادي نعمان أي بفتح النون
وروى الأزرقي عن ابن جريج رأيت عطاء يصف الموضع الذي أحرمت منه عائشة فأشار إلى الموضع الذي وراء الأكمة وهو المسجد الخرب
ونقل الفاكهي عن ابن جريج وغيره أن ثم مسجدين يزعم أهل مكة أن الخرب الأدنى من الحرم وهو الذي أحرمت منه عائشة وقيل هو المسجد الأبعد عن الأكمة الحمراء ورجحه المحب الطبري وقال الفاكهي لا أعلم ذلك إلا أني سمعت ابن أبي عمير يذكر عن أشياخه أن الأول هو الصحيح عندهم ( فاعتمرت فقال ) صلى الله عليه وسلم ( هذا ) الاعتمار وفي رواية هذه أي العمرة ( مكان ) بالرفع خبر وبالنصب على الظرفية وعامله المحذوف وهو الخبر أي كائنة أو مجعولة مكان ( عمرتك ) قال عياض والرفع أوجه عندي إذ لم يرد به الظرف إنما أراد عوض عمرتك فمن قال كانت قارنة قال مكان عمرتك التي أردت أن تأتي بها مفردة وحينئذ فتكون عمرتها من التنعيم تطوعا لا عن فرض لكنه أراد تطييب نفسها بذلك
ومن قال كانت مفردة قال مكان عمرتك التي فسخت الحج إليها ولم تتمكن من الإتيان بها للحيض
وقال السهيلي الوجه النصب على الظرف لأن العمرة ليست بمكان لعمرة أخرى لكن إن جعلت مكان بمعنى عوض أو بدل مجازا أي هذه بدل عمرتك جاز الرفع حينئذ
( فطاف الذين أهلوا بالعمرة ) وحدها ( بالبيت و ) سعوا أو طافوا بين ( الصفا والمروة ثم أحلوا ) منها بالحلق أو التقصير ( ثم طافوا طوافا آخر ) للإفاضة
ووقع لبعض رواة البخاري طوافا واحدا والصواب الأول قاله عياض
( بعد أن رجعوا من منى لحجهم ) يوم النحر ( وأما الذين كانوا أهلوا بالحج ) مفردا ( أو جمعوا الحج والعمرة فإنما طافوا طوافا واحدا ) لأن القارن يكفيه طواف واحد
____________________
(2/499)
وسعي واحد لأن أفعال العمرة تندرج في أفعال الحج وإلى هذا ذهب مالك والشافعي وأحمد والجمهور
وقال الحنفية لا بد للقارن من طوافين وسعيين لأن القران هو الجمع بين العبادتين فلا يتحقق إلا بالإتيان بأفعال كل منهما والطواف والسعي مقصودان فيهما فلا يتداخلان إذ لا تداخل في العبادات
وحكي عن العمرين وعلي وابنه الحسن وابن مسعود ولا يصح ذلك عن واحد منهم
وحديث علي وابن عمر أنهما جمعا بين حجة وعمرة معا وطافا لهما طوافين وسعيا لهما سعيين وقال كل منهما هكذا رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم صنع وابن مسعود وعمران بن حصين نحوه رواها كلها الدارقطني لا يصح الاحتجاج بها لما في أسانيد كل منها من الضعف وفي أسانيد حديث ابن عمر الحسن بن عمارة وهو متروك والمروي عنه في الموطأ والصحيحين والسنن من طرق كثيرة الاكتفاء بطواف واحد وقال البيهقي إن ثبت أنه طاف طوافين حمل على طواف القدوم والإفاضة
وقال ابن حزم لا يصح عن النبي صلى الله عليه وسلم ولا عن أحد من أصحابه في ذلك شيء أصلا
وقد روى سعيد بن منصور عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال من جمع بين الحج والعمرة كفاه لهما طواف واحد وسعي واحد وأعله الطحاوي بأن الدراوردي أخطأ في رفعه والصواب أنه موقوف لأن أيوب والليث وموسى بن عقبة وغير واحد رووه عن نافع عن ابن عمر موقوفا وتعقب بأن الدراوردي صدوق وليس ما رواه مخالفا لرواية غيره فلا مانع من أن الحديث عند نافع على الوجهين وحديث عائشة ظاهر في الدلالة على الوحدة
( مالك عن ابن شهاب عن عروة بن الزبير عن عائشة بمثل ذلك ) الذي رويته عن عبد الرحمن بن القاسم عن أبيه عنها قال الحافظ ليس مراد المحدث بقوله بمثل ذلك إلا نفسه انتهى
قال ابن عبد البر هكذا رواه يحيى بهذين الإسنادين ولم يروه أحد من رواة الموطأ ولا غيرهم عن مالك كذلك إنما هو عند جميعهم مالك عن ابن شهاب عن عروة عن عائشة ويمكن أنه عند مالك بالإسنادين فذكرهما لما حدث به يحيى انتهى
وفي قوله يمكن الخ نظر لأن من شرط قبول زيادة الثقة أن لا يكون من لم يزدها أوثق منه كما قال ابن عبد البر نفسه وغيره
وقد أخرجه البخاري في مواضع عن القعنبي وعبد الله بن يوسف وإسماعيل ومسلم عن يحيى وأبو داود عن القعنبي والنسائي من طريق ابن القاسم وأشهب وابن مهدي وبشير بن عمر ثمانيتهم عن مالك عن ابن شهاب به وتابعه إبراهيم بن أسعد عند البخاري ومعمر بن راشد عند مسلم كلاهما عن ابن شهاب به
( مالك عن عبد الرحمن بن القاسم عن أبيه عن عائشة أنها قالت قدمت مكة ) في حجة الوداع ( وأنا حائض فلم أطف بالبيت ) لأنه صلاة ( ولا بين الصفا والمروة ) لتوقفه على سبق الطواف وإن صح
____________________
(2/500)
بلا طهارة ( فشكوت ذلك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال افعلي ما يفعل الحاج ) من الوقوف بعرفة وغير ذلك ( غير أن لا تطوفي بالبيت ولا بين الصفا والمروة حتى تطهري ) بسكون الطاء وضم الهاء كذا فيما وقفت عليه من الأصول قاله بعض الشراح وقال الحافظ بفتح التاء والطاء المهملة والهاء المشددتين على حذف إحدى التاءين وأصله تطهري ويؤيده رواية مسلم حتى تغتسلي والحديث ظاهر في نهي الحائض عن الطواف لو فعلته وفي معناها الجنب والمحدث وهو قول الجمهور
وقال الحاكم وحماد ومنصور وسليمان لا بأس بالطواف على غير طهارة رواه ابن أبي شيبة وفي هذا تعقب على قول النووي انفرد أبو حنيفة بأن الطهارة ليست بشرط في الطواف واختلف أصحابه في وجوبها وجبره بالدم إن فعله فلم ينفرد بذلك كما ترى فلعله أراد انفراده عن الأئمة الثلاثة لكن عند أحمد أن الطهارة للطواف واجبة تجبر بالدم وللمالكية قول يوافقه انتهى
وقال الولي في الحديث دليل على امتناع الطواف على الحائض وهو مجمع عليه لكن اختلفوا في علته على حسب اختلافهم في اشتراط الطهارة في صحة الطواف فقال الجمهور ومالك والشافعي وأحمد باشتراطها فالعلة في بطلانه عدم الطهارة وقال أبو حنيفة وداود ليست شرطا فالعلة كونها ممنوعة من اللبث في المسجد بل ومن دخوله على رأي انتهى
وأخرجه البخاري عن عبد الله بن يوسف عن مالك به
( قال مالك في المرأة التي تهل ) تحرم ( بالعمرة ) من الميقات ( ثم تدخل مكة موافية للحج ) أي مظلة عليه ومشرفة يقال أوفى على ثنية كذا أي شارفها وأظل عليها ولا يلزم منه أن يكون دخل فيها ( وهي حائض لا تستطيع الطواف بالبيت ) لفقد شرطه وهو الطهارة ( إنها ) بكسر الهمزة ( إذا خشيت الفوات ) للحج بانتظار الطهر وأفعال العمرة بعده ( أهلت بالحج وأهدت وكانت ) أي صارت قارنة ( مثل من قرن الحج والعمرة ) ابتداء ( وأجزأ عنها طواف واحد ) لأنه الذي على القارن كما دلت عليه الأحاديث ( والمرأة الحائض إذا كانت قد طافت بالبيت وصلت ) ركعتي الطواف ثم حاضت ( فإنها تسعى بين الصفا والمروة ) إذ ليست الطهارة شرطا فيه باتفاق إلا ما روي عن الحسن البصري ورواية عن أحمد لكن روى ابن أبي شيبة بإسناد صحيح عن الحسن مثل ما قال مالك إذا طافت ثم حاضت قبل السعي فلتسع فلعله يفرق بين الحائض والمحدث ( وتقف بعرفة والمزدلفة وترمي الجمار غير أنها لا تفيض حتى تطهر من حيضتها ) كما قال في الحديث افعلي ما يفعل الحاج غير أن لا تطوفي بالبيت
____________________
(2/501)
75 إفاضة الحائض ( مالك عن عبد الرحمن بن القاسم عن أبيه عن عائشة أم المؤمنين أن صفية بنت حيي ) بضم الحاء المهملة وتكسر وفتح التحتية الأولى ابن أخطب بالفتح وإسكان المعجمة الإسرائيلية من سبط لآوى بن يعقوب ثم من سبط هارون بن عمران أم المؤمنين تزوجها بعد خيبر وقيل كان اسمها زينب فلما صارت من الصفا سميت صفية وماتت في رمضان سنة خمسين أو ثنتين وخمسين وقيل سنة ست وثلاثين وغلط قائله بأن علي بن الحسين لم يكن ولد وقد ثبت سماعه منها في الصحيحين ودفنت بالبقيع ولها نحو سنتين لقولها ما بلغت سبع عشرة سنة يوم دخلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم
( حاضت ) بعد أن فاضت يوم النحر كما في البخاري عن أبي سلمة عن عائشة ( فذكرت ) بسكون الراء وضم التاء مبني للفاعل أي قالت عائشة فذكرت ( ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم ) وفي رواية أبي سلمة فقلت يا رسول الله إنها حائض ونحوه في رواية عمرة ( فقال أحابستنا ) بهمزة الاستفهام أي مانعتنا ( هي ) من السفر في الوقت الذي أردناه ظنا منه أنه صلى الله عليه وسلم ظنها لم تطف للإفاضة وهو لا يتركها ويسافر ولا يأمرها بالتوجه معه وهي باقية على إحرامها فيحتاج إلى أن يقيم حتى تطهر وتطوف وتحل الحل الثاني ( فقيل إنها قد أفاضت ) أي طافت طواف الإفاضة والقائل نساؤه كما في الطريق الثانية ومنهن صفية كما في الصحيحين عن الأسود عن عائشة أنه قال لصفية إنك لحابستنا أما كنت طفت يوم النحر قالت بلى وفي رواية أبي سلمة عن عائشة فأفضنا يوم النحر فحاضت صفية فأراد النبي صلى الله عليه وسلم منها ما يريد الرجل من أهله فقلت إنها حائض الحديث وهو مشكل لأنه إن كان علم أنها طافت طواف الإفاضة فكيف يقول أحابستنا هي وإن كان ما علم فكيف يريد وقاعها قبل التحلل الثاني وأجيب بأنه صلى الله عليه وسلم إنما أراد ذلك منها بعد أن استأذنه نساؤه في طواف الإفاضة فأذن لهن فبنى على أنها قد حلت فلما قيل إنها حائض جوز وقوعه لها قبل ذلك حتى منعها فاستفهم فأعلم بطوافها
( فقال فلا ) حبس علينا ( إذا ) بالتنوين أي إذا أفاضت لأنها فعلت ما وجب عليها
وحديث أحمد والنسائي وأبو داود عن الحارث بن عبد الله بن أويس الثقفي قال أتيت عمر فسألته عن المرأة تطوف بالبيت يوم النحر ثم تحيض قال ليكن آخر عهدها بالبيت فقال الحارث كذلك أفتاني
ولفظ أبي داود كذلك حدثني رسول الله صلى الله عليه وسلم أجاب عنه الطحاوي بأنه منسوخ في حق الحائض بحديث عائشة وحديث أم سليم الآتي
قال ابن المنذر عامة الفقهاء بالأمصار ليس على الحائض التي أفاضت طواف وداع
وعن عمر وابنه وزيد بن ثابت أمرها بالمقام لطواف الوداع
____________________
(2/502)
فكأنهم أوجبوه عليها لطواف الإفاضة إذ لو حاضت قبله لم تسقط وثبت رجوع ابن عمر وزيد عن ذلك وبقي عمر فخالفناه لثبوت حديث عائشة
وروى ابن أبي شيبة عن القاسم بن محمد قال كان الصحابة يقولون إذا أفاضت قبل أن تحيض فقد فرغت إلا عمر فإنه قال يكون آخر عهدها بالبيت
وروى ابن المنذر بإسناد صحيح عن ابن عمر قال طافت امرأة بالبيت يوم النحر ثم حاضت فأمر عمر بحبسها بمكة بعد أن سافر الناس حتى تطهر وتطوف وحديث عائشة أحق بالقبول وقد رواه البخاري عن عبد الله بن يوسف عن مالك به
( مالك عن عبد الله بن أبي بكر ) بن محمد بن عمرو ( بن حزم ) الأنصاري قال أحمد حديثه شفاء ( عن أبيه ) أبي بكر ولي القضاء والإمرة والموسم زمن عمر بن عبد العزيز ( عن عمرة بنت عبد الرحمن ) بن سعد بن زرارة الأنصارية ( عن عائشة أم المؤمنين أنها قالت لرسول الله صلى الله عليه وسلم يا رسول الله إن صفية بنت حيي قد حاضت ) أي في أيام منى ليلة النفر من منى كما في الصحيحين عن الأسود عن عائشة ( فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لعلها تحبسنا ) تمنعنا عن الخروج من مكة إلى المدينة حتى تطهر وتطوف
قال الكرماني لعل هنا ليس للترجي بل للاستفهام أو للظن وما شا كله أي كالتوهم ( ألم طافت معكن بالبيت ) طواف الإفاضة وفي رواية مسلم ألم تكن أفاضت ( قلن بلى ) طافت معنا وفي رواية التنيسي قالوا بلى أي النساء ومن معهن من المحارم ( قال فأخرجن ) كذا للأكثر وهو المناسب للسياق
وفي رواية قال فاخرجي خطابا لصفية لأنها كانت حاضرة كما في مسلم أو لعائشة لأنها المخبرة له أي قال لعائشة اخرجي فإنها توافقك أو قال لعائشة قولي لها اخرجي
وهذا الحذيث رواه مسلم هنا عن يحيى والبخاري في الحيض عن عبد الله بن يوسف كلاهما عن مالك به
( مالك عن أبي الرجال ) بكسر الراء وخفة الجيم مشهور بهده الكنية وهي لقب كنيته في الأصل أبو عبد الرحمن ( محمد بن عبد الرحمن ) بن حارثة الأنصاري ( عن ) أمه ( عمرة بنت عبد الرحمن أن عائشة أم المؤمنين كانت إذا حجت ومعها نساء تخاف أن يحضن قبل طواف الإضافة ( قدمتهن يوم النحر فأفضن ) واستنبطت ذلك من استفهامه صلى الله عليه وسلم عن طواف صفية يوم النحر ( فإن حضن بعد ذلك لم
____________________
(2/503)
تنتظرهن ) لأنهن فعلن الواجب ( تنفر بهن وهن حيض ) بالتثقيل جمع حائض ( إذا كن قد أفضن ) طفن طواف الإفاضة عقب المرفوع بالموفوف للإشارة إلى بقاء العمل به وأنه لا يطرقه احتمال النسخ بل هو ناسخ لما أوهم خلافه كما مر ولذا رجع إليها ابن عمر كما رجع زيد لحديث أم سليم كما يأتي
( مالك عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة أم المؤمنين أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ذكر صفية بنت حيي ) بضم الحاء وفتح الياء الأولى وشد الثانية ولعل المراد بالذكر إرادة الوقاع كما في البخاري عن أبي سلمة عن عائشة وحاضت صفية فأراد النبي صلى الله عليه وسلم منها ما يريد الرجل من أهله ( فقيل له ) وفي رواية أبي سلمة فقلت ( إنها قد حاضت فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لعلها حابستنا ) مانعتنا من السفر ( فقالوا ) أي النسوة ومن معهن من المحارم بعد استفهامه عن طوافها كما مر في رواية عمرة ( يا رسول الله إنها قد طافت ) طواف الإفاضة يوم النحر ( فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم فلا ) حبس علينا ( إذا ) بالتنوين لأنها فعلت الفرض وهذا الحديث رواه أبو داود عن القعنبي عن مالك به
وفي الصحيحين عن الأسود عن عائشة حاضت صفية ليلة النفر فقالت ما أراني إلا حابستكم فقال النبي صلى الله عليه وسلم عقرى حلقى أطافت يوم النحر قيل نعم قال فانفري وفي مسلم عن عائشة لما أراد صلى الله عليه وسلم أن ينفر إذا صفية على باب خبائها كئيبة حزينة فقال عقرا حلقا إنك لحابستنا ثم قال لها أكنت أفضت يوم النحر قالت نعم قال فانفري وفي رواية فلا بأس انفري وأخرى أخرجي وأخرى فلتنفر وكلها بيان لرواية فلا إذا ومعانيها متقاربة والمراد بها كلها الرحيل إلى المدينة
وفي أحاديث الباب أن طواف الإفاضة ركن وأن الطهارة شرط في صحته وأن طواف الوداع لا يجب وأن أمير الحاج يلزمه تأخير الرحيل لأجل الحائض قيده مالك بيومين فقط وإكرام صفية بالاحتباس كما احتبس بالناس على عقد عائشة وأما قوله عقرى حلقى بالفتح فيهما ثم السكون والقصر بلا تنوين في الرواية ويجوز لغة التنوين وصوبه أبو عبيد لأن معناه الدعاء بالعقر والحلق كسقيا ورعيا من المصادر التي يدعى بها وعلى الأول هو نعت لا دعاء ومعناها عقرها الله أي جرحها أو جعلها عاقرا لا تلد أو عقر قومها ومعنى حلقى حلق شعرها وهو زينة المرأة وأصابها وجع في حلقها أو حلق قومها أي أهلكهم وحكى أنها كلمة يقولها اليهود للحائض فلا دلالة فيه على وضيعة صفية عنده لأن ذلك أصل هاتين الكلمتين ثم اتسع العرب في قولهما بغير إرادة حقيقتهما كما قالوا قاتله الله وتربت يداك ونحوهما
وقول القرطبي وغيره شتان بين قوله صلى الله عليه وسلم هذا لصفية وبين قوله لعائشة لما حاضت في الحج هذا شيء كتبه الله على بنات آدم لما فيه من الميل لها والحنو عليها بخلاف صفية تعقبه
____________________
(2/504)
الحافظ بأنه ليس فيه دليل على اتضاع قدر صفية عنده لكن اختلف الكلام باختلاف المقام فعائشة دخل عليها وهي تبكي أسفا على ما فاتها من النسك فسلاها بذلك وصفية أراد منها ما يريد الرجل من أهله فأبدت المانع فناسب كلا منهما ما خاطبها به في تلك الحالة
( قال مالك قال هشام قال عروة قالت عائشة ونحن نذكر ذلك ) الحديث جملة حالية ومقولها هو ( فلم يقدم الناس نساءهم إن كان ذلك لا ينفعهن ولو كان الذي يقولون ) من وجوب طواف الوداع ( لأصبح بمنى أكثر من ستة آلاف امرأة حائض كلهن قد أفاضت ) ولابن وضاح قد أفضن أي لو كان طواف الوداع واجبا لأصبح بمنى هذا العدد ينتظرن الطهر حتى يطفن للوداع لكنه لم يكن ذلك فدل أنه ليس بواجب وكذا يدل عليه أن المكي ليس عليه وداع وكذا من حج من غيرها ولم يرد الخروج إذ لو كان من أمر الحج لكان على المكي وغيره
( مالك عن عبد الله بن أبي بكر عن أبيه ) أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم ( أن أبا سلمة بن عبد الرحمن ) بن عوف اسمه كنيته أو عبد الله أو إسماعيل ( أخبره أن أم سليم ) بضم السين ( بنت ملحان ) بكسر الميم وإسكان اللام ابن خالد الأنصارية والدة أنس بن مالك يقال اسمها سهلة أو رميلة أو رميثة أو مليكة أو أنيفة من الصحابيات الفاضلات ( استفتت رسول الله صلى الله عليه وسلم و ) قد ( حاضت أو ولدت ) شك الراوي ( بعد ما أفاضت يوم النحر ) عن طواف الوداع ( فأذن لها رسول الله صلى الله عليه وسلم ) أن تخرج ( فخرجت ) إلى المدينة بلا طوف وداع وهذا الحديث إن سلم أن فيه انقطاعا لأن أبا سلمة لم يسمع أم سليم فله شواهد فأخرج الطيالسي في مسنده حدثنا هشام هو الدستوائي عن قتادة عن عكرمة قال اختلف ابن عباس وزيد بن ثابت في المرأة إذا حاضت وقد طافت بالبيت يوم النحر فقال زيد يكون آخر عهدها بالبيت وقال ابن عباس تنفر إن شاءت فقالت الأنصار لا نتابعك يا ابن عباس وأنت تخالف زيدا فقال سلوا صاحبتكم أم سليم فقالت حضت بعد ما طفت بالبيت فأمرني صلى الله عليه وسلم أن أنفر
وفي مسلم والنسائي والإسماعيلي عن طاوس كنت مع ابن عباس فقال له زيد بن ثابت تفتي أن تصدر الحائض قبل أن يكون آخر عهدها بالبيت فقال إما لا فسل فلانة الأنصارية هل أمرها النبي صلى الله عليه وسلم بذلك فرجع إليه فقال
____________________
(2/505)
ما أراك إلا قد صدقت
ولفظ النسائي فسألها ثم رجع وهو يضحك فقال الحديث كما حدثني
وللإسماعيلي فقال ابن عباس سل أم سليم وصواحبها هل أمرهن صلى الله عليه وسلم بذلك قال الحافظ وقد عرف برواية عكرمة أن الأنصارية هي أم سليم وأما صواحبها فلم أقف على تسميتهن انتهى
وفي هذا كله تعقب على قول أبي عمر لا أعرفه عن أم سليم إلا من هذا الوجه ومن حديث هشام عن قتادة عن عكرمة أن أم سليم فذكره بمعناه وهما منقطعان والمحفوظ في هذا حديث أبي سلمة عن عائشة بقصة صفية انتهى وكون حديثه عن عائشة بذلك محفوظ لا يمنع أنه روى حديث أم سليم وأرسله كيف ولم ينفرد به بل وافقه عكرمة وطاوس في مسلم وغيره عن ابن عباس فكيف لا يعرف ابن عبد البر ما في مسلم والنسائي وهما في يده وقلبه إن لهذا لعجب ( قال مالك والمرأة تحيض ) قبل الإفاضة ( بمنى تقيم حتى تطوف بالبيت لا بد ) لا فراق ولا محالة ( لها من ذلك ) لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال أحابستنا هي ( وإن كانت قد أافاضت فحاضت بعد الإفاضة فلتنصرف إلى بلدها ) إن شاءت بدون طواف وداع ( فإنه قد بلغنا في ذلك رخصة من رسول الله صلى الله عليه وسلم للحائض ) لصفية وغيرها
وفي البخاري عن طاوس رخص بالبناء للمجهول
وفي النسائي رخص رسول الله صلى الله عليه وسلم للحائض أن تنفر إذا أفاضت قال أي طاوس وسمعت ابن عمر يقول إنها لا تنفر ثم سمعته يقول بعد أن النبي صلى الله عليه وسلم رخص لهن وهذا من مراسيل الصحابة
وكذا ما رواه النسائي والترمذي وصححه هو والحاكم عن ابن عمر قال من حج فليكن آخر عهده بالبيت إلا الحيض رخص لهن رسول الله صلى الله عليه وسلم فإن عمر لم يسمعه من النبي صلى الله عليه وسلم
فللنسائي عن إبراهيم بن ميسرة عن طاوس أن ابن عمر كان يقول قريبا من سنتين الحائض لا تنفر حتى يكون آخر عهدها بالبيت ثم قال بعد إنه رخص للنساء
وله للطحاوي عن الزهري عن طاوس أنه سمع ابن عمر يسأل عن النساء إذا حضن قبل النفر وقد أفضن يوم النحر فقال إن عائشة كانت تذكر من رسول الله صلى الله عليه وسلم رخصة لهن وذلك قبل موت ابن عمر بعام ولابن أبي شيبة أن ابن عمر كان يقيم على الحائض سبعة أيام حتى تطوف طواف الوداع قال الشافعي كان ابن عمر سمع الأمر بالوداع ولم يسمع الرخصة ثم بلغته فعمل بها
( قال وإن حاضت المرأة ) أو ولدت ( بمنى قبل أن تفيض فإن كريها يحبس عليها أكثر مما يحبس النساء الدم ) وهو نصف شهر في الحيض واستشكله ابن المواز بأن فيه تعرضا للفساد كقطع الطريق وأجابه عياض بأن محل ذلك مع أمن الطريق كما أن محله أن يكون مع المرأة محرم
وروى البزار وغيره عن جابر والثقفي في فوائده عن أبي هريرة كلاهما مرفوعا أميران وليسا بأميرين المرأة تحج مع القوم فتحيض قبل أن تطوف بالبيت طواف الزيارة فليس لأصحابها أن ينفروها حتى
____________________
(2/506)
يستأمروها والرجل يتبع الجنازة فيصلي عليها فليس له أن يرجع حتى يستأمر أهلها لكن في إسناد كل منهما ضعفا شديدا
76 فدية ما أصيب من الطير والوحش ( مالك عن أبي الزبير ) محمد بن مسلم المكي ( أن عمر بن الخطاب قضى في الضبع ) بضم الباء لغة قيس وسكونها لغة تميم وهي أنثى وقيل يقع على الذكر والأنثى وربما قيل في الأنثى ضبعة بالهاء والذكر ضبعان والجمع ضباعين ويجمع مضموم الباء على ضباع وساكنها على أضبع ( بكبش ) لتقاربهما في القدر ( وفي الغزال بعنز ) للتقارب ( وفي الأرنب بعناق ) بفتح العين والنون أنثى المعز قبل كمال حول ( وفي اليربوع ) يفعول دويبة نحو الفأرة لكن ذنبه وأذناه أطول منها ورجلاه أطول من يديه عكس الزرافة والجمع اليرابيع والعامة تقول جربوع بالجيم ( بجفرة ) بجيم مفتوحة وفاء ساكنة الأنثى من ولد الضأن وقيل منه ومن المعز جميعا وقيل من المعز فقط
قال مالك ليس العمل عندنا على قوله في الأرنب واليربوع لأنه لا يجزىء من الهدي في الجزاء إلا ما يجزىء في الضحايا الثني من المعز فصاعدا ومن الضأن الجذع فصاعدا قال ابن حبيب ففي الأرنب واليربوع عنز مسنة
( مالك عن عبد الملك بن قرير ) بضم القاف وفتح الراء وإسكان التحتية ثم راء بلا نقط العبدي البصري ولم يصب من زعم أنه الأصمعي وأن مالكا غلط فيه بذكره براء آخره لأن أبا الأصمعي قريب بموحدة آخره ققد بين صواب ذلك يحيى بن بكير وأيضا فالأصمعي لم يدرك ابن سيرين
وقال أبو عمر طرح ابن وضاح اسمه وقال عن ابن قرير تبعا لقول ابن معين وهم مالك فيه إنما هو عبد العزيز وقال يحيى بن بكير لم يهم مالك في اسمه ولا في اسم أبيه وإنما هو عبد الملك أخو عبد العزيز ابنا قرير
( عن محمد بن سيرين أن رجلا ) قال الأصيلي هو قبيصة بن جابر الأزدي انتهى وقد رواه الحاكم في المستدرك عنه
( جاء إلى عمر بن الخطاب فقال إني أجريت أنا وصاحب لي ) لم يسم ( فرسين نستبق ) نرمي ( إلى ثغرة ) بضم المثلثة وإسكان المعجمة أعلى ( ثنية ) طريق في الجبل ( فأصبنا ظبيا ونحن محرمان فماذا ترى فقال عمر لرجل إلى جنبه تعال ) بفتح اللام فعل أمر من تعالى
____________________
(2/507)
تعاليا ارتفع وأصله أن الرجل العالي كان ينادي السافل ثم استعمل بمعنى هلم مطلقا سواء كان موضع المدعو أعلى أو أسفل أو مساويا فهو في الأصل معنى خاص ثم استعمل بمعنى عام
( حتى أحكم أنا وأنت ) زاد الحاكم فقال عمر ترى شاة تكفيه قال نعم
( قال فحكمنا عليه بعنز ) أنثى المعز إذا أتى عليها الحول قال الجوهري والعنز الأنثى من الظباء والأوعال
( فولى الرجل وهو يقول هذا أمير المؤمنين لا يستطيع أن يحكم في ظبي ) استقلالا ( حتى دعا ) طلب ( رجلا يحكم معه ) وفي رواية الحاكم فقال إن أمير المؤمنين لم يحسن أن يفتيك حتى سأل الرجل ( فسمع عمر قول الرجل فدعاه فسأله هل تقرأ سورة المائدة قال لا قال فهل تعرف هذا الرجل الذي حكم معي فقال لا فقال عمر لو أخبرتني أنك تقرأ سورة المائدة لأوجعتك ضربا ) إذ لو قرأتها لعلمت أنه لا بد من اثنين في الصيد
وفي المستدرك عن قبيصة فعلاه بالدرة ضربا ثم أقبل إلي ليضربني فقلت إني لم أقل شيئا إنما قاله هو فتركني ويجب تأويله بأن المراد أراد أن يعلوه فأخذ الدرة بيده مريدا ضربه ثم تمهل حتى استفهمه عن المائدة بدليل رواية الموطأ فالقصة واحدة
( ثم قال إن الله تبارك وتعالى يقول في كتابه يحكم به ) أي بالمثل رجلان ( ذوا عدل منكم ) لهما فطنة يميزان بها أشبه الأشياء به ( هديا ) حال من جزاء ( بالغ الكعبة ) أي يبلغ به الحرم فيذبح به ويتصدق به على مساكينه ونصب نعتا لما قبله وإن أضيف لأن إضافته لفظية لا تفيد تعريفا
( وهذا عبد الرحمن بن عوف ) أحد العشرة فمقامه في العدالة معلوم زاد في رواية الحاكم ثم قال عمر أردت أن تقتل الجزاء وتتعدى في الفتيا ثم قال إن في الإنسان عشرة أخلاق تسعة حسنة وواحد سيىء فيفسدها ذلك السيىء ثم قال إياك وعثرات اللسان
( مالك عن هشام بن عروة أن أباه كان يقول في البقرة من الوحش بقرة ) لأنها تماثلها وقد حكم ابن عباس وأبو عبيدة في بقرة الوحش وحماره ببقرة ( وفي الشاة ) الصغيرة ( من الظباء شاة ) تماثلها
( مالك عن يحيى بن سعيد عن سعيد بن المسيب أنه كان يقول في حمام مكة إذا قتل شاة ) لأنه
____________________
(2/508)
يشبهها في العب وبه حكم عمر وابن عباس وغيرهما وذلك لحرمة مكة واستئناس الحمام فيها فلو لم يكن على قاتله إلا عدله من طعام أو صيام لغير مكة لكثر قتله فيها
( وقال مالك في الرجل من أهل مكة يحرم بالحج أو العمرة وفي بيته فراخ من حمام مكة فيغلق ) بفتح اللام وكسرها لغة قليلة ( عليها فتموت فقال أرى بأن يفدي ذلك عن كل فرخ بشاة ) لأنه تسبب في موتها بالغلق ( قال مالك لم أزل أسمع أن في النعامة إذا قتلها المحرم بدنة ) لأنها تقاربها في القدر والصورة
( قال مالك أرى أن في بيضة النعامة عشر ثمن البدنة كما يكون في جنين الحرة غرة ) بضم الغين وشد الراء ( عبد أو وليدة ) أي أمة بيان لغرة ( وقيمة الغرة خمسون دينارا وذلك عشر دية أمه ) لأنها خمسمائة ( وكل شيء من النسور ) جمع نسر طائر معروف ( أو العقبان ) بموحدة جمع عقاب طائر معروف ويجمع أيضا على أعقب ( أو البزاة ) جمع بازي كقضاة وقاضي ضرب من الصقور ( أو الرخم ) جمع رخمة كقصب وقصبة سمي بذلك لضعفه عن الاصطياد ( فإنه صيد يودى كما يودى الصيد إذا قتله المحرم ) أو في الحرم ( وكل شيء فدي ففي صغاره مثل ما يكون في كباره وإنما مثل ) بفتحتين صفة أي قياس ( ذلك مثل دية الحر الصغير والكبير فهما بمنزلة واحدة سواء ) وكذلك المريض مثل الصحيح والقبيح مثل الجميل والأنثى مثل الذكر
77 فدية من أصاب شيئا من الجراد وهو محرم ( مالك عن زيد بن أسلم أن رجلا جاء إلى عمر بن الخطاب فقال يا أمير المؤمنين إني أصبت جرادات ) جمع جرادة والجراد يقع على الذكر والأنثى سمي بذلك لأنه يجرد الأرض أي يأكل ما
____________________
(2/509)
عليها ( بسوطي وأنا محرم فقال له عمر أطعم قبضة ) بفتح القاف والضم لغة أي حفنة ( من طعام ) وهو مذهب مالك في المدونة وغيرها أن في الجراد قيمته وفي الواحدة قبضة أي حفنة
( مالك عن يحيى بن سعيد أن رجلا جاء إلى عمر بن الخطاب فسأله عن جرادة قتلها وهو محرم فقال عمر لكعب ) بن ماتع المعروف بكعب الأحبار ( تعال حتى نحكم ) فقال كعب درهم فقال عمر لكعب أنك لتجد الدراهم حتى تعطي منها درهما ( لتمرة خير من جرادة ) من أمثال العرب المشهورة يعني فإنما فيها قبضة من طعام وإلى احتياجه لحكومة ذهب ابن المواز قال فإن أخرج بغير حكومة أعاد وظاهر المدونة كما قال ابن راشد أن الجراد لا حكومة فيه وهذا يدل على رجوع كعب عن قوله أنه نثرة حوت يجوز للمحرم أكله
78 فدية من حلق قبل أن ينحر ( مالك عن عبد الكريم بن مالك الجزري ) بفتح الجيم والزاي أبي سعيد مولى بني أمية الحراني وثقه الأئمة وقال ابن معين ثقة ثبت
وحكى عنه أن حديثه عن عطاء ردي قاله ابن معين عنى بذلك حديث عائشة كان صلى الله عليه وسلم يقبلها ولا يتوضأ قال وإذا روى الثقات عنه فأحاديثه مستقيمة وأنكر يحيى القطان حديثه عن عطاء في لحم البغل لكن احتج به الستة وكفى برواية مالك عنه توثيقا قال أحمد ويحيى لا نبالي أن نسأل عن من روى عنه مالك وروى عنه أيضا شعبة والسفيانان وقالا إنه ثقة
ويقال أنه رأى أنس بن مالك مات سنة سبع وعشرين ومائة بحران
( عن عبد الرحمن بن أبي ليلى ) كذا ليحيى وأبي مصعب وابن بكير والقعنبي ومطرف والشافعي ومعن وسعيد بن عفير وعبد الله بن يوسف ومصعب ومحمد بن المبارك الصوري
ورواه ابن وهب وابن القاسم عن مالك عن عبد الكريم الجزري عن مجاهد عن عبد الرحمن وهو الصواب ومن أسقط مجاهدا فقد أخطأ فإن عبد الكريم لم يلق ابن أبي ليلى ولا رآه وزعم الشافعي أن مالكا هو الذي وهم في إسقاط مجاهد
____________________
(2/510)
وذكر الطحاوي أن القعنبي رواه عن مالك بإثباته وكذا رواه عنه مكي بن إبراهيم قاله ابن عبد البر
( عن كعب بن عجرة ) بضم العين المهملة وسكون الجيم وفتح الراء ابن أمية البلوي حليف الأنصار شهد الحديبية ونزلت فيه قصة الفدية وسكن الكوفة ومات بالمدينة سنة إحدى وخمسين
( أنه كان مع رسول الله صلى الله عليه وسلم محرما ) بالحديبية ( فأذاه القمل في رأسه ) وفي البخاري عنه وقف علي رسول الله صلى الله عليه وسلم بالحديبية ورأسي يتهافت قملا وفي رواية والقمل يتناثر على وجهي ولأحمد وقع القمل في رأسي ولحيتي حتى حاجبي وشاربي فقال صلى الله عليه وسلم لقد أصابك بلاء وللطبراني إن هذا لأذى قلت شديد يا رسول الله ( فأمره رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يحلق رأسه ) أي يزيل شعره أعم من أن يكون بموسى أو مقص أو نورة ( وقال صم ثلاثة أيام ) بيان لقوله تعالى { ففدية من صيام } سورة البقرة الآية 196 كما بين قوله { أو صدقة } سورة البقرة الآية 196 بقوله ( أو أطعم ستة مساكين ) المراد بهم ما يشمل الفقراء ( مدين مدين ) بالتكرير لإفادة عموم التثنية ( لكل إنسان ) منهم وفي رواية الصحيحين لكل مسكين نصف صاع والصاع أربعة أمداد وعند الأئمة الثلاثة والجمهور فهو موافق لرواية الصحيحين أيضا أو تصدق بفرق بين ستة فإنه بفتحتين وتسكن الراء أيضا مكيال يسع ستة عشر رطلا ولأحمد نصف صاع طعام وفي رواية نصف صاع حنطة ولمسلم والطبراني نصف صاع تمر ولأبي داود نصف صاع زبيب وفي إسناده ابن إسحاق وليس بحجة في الأحكام إذا خالف والمحفوظ كما قال الحافظ رواية التمر لأنها لم يختلف فيها على راويها قال وعرف بذلك قوة قول من قال لا فرق بين التمر والحنطة وأن الواجب ثلاثة آصع لكل مسكين نصف صاع
( أو انسك ) أي تقرب ( بشاة ) تذبحها ( أي ذلك فعلت أجزأ عنك ) صرح بذلك بعد التعبير بأو المفيدة للتخيير زيادة في البيان
( مالك عن حميد بن قيس ) المكي الأعرج القاري وثقه ابن معين وابن سعد وأبو زرعة وأبو حاتم الرازيان وأبو داود والنسائي وغيرهم كأحمد في رواية أبي طالب وقال في رواية ابنه ليس بالقوي لكن احتج به الستة وكفى برواية مالك عنه ( عن مجاهد أبي الحجاج ) كنية مجاهد بن جبر بفتح الجيم وسكون الموحدة المخزومي مولاهم المكي ثقة إمام في التفسير وفي العلم مات سنة إحدى أو اثنين أو ثلاث أو أربع ومائة وله ثلاث وثمانون سنة وليحيى بن الحجاج وهو خطأ إذ لم يقل أحد أن اسم أبيه الحجاج فالصواب أبي بأداة الكنية ( عن ) عبد الرحمن ( بن أبي ليلى ) الأنصاري المدني ثم الكوفي ثقة من كبار التابعين اختلف في سماعه من عمر مات بوقعة الجماجم سنة ثلاث وثمانين
____________________
(2/511)
قيل إنه غرق ( عن كعب بن عجرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال ) له وهو محرم معه بالحديبية والقمل يتناثر على وجهه ( لعلك أذاك هوامك ) بشد الميم جمع هامة بشدها وهي الدابة والمراد بها هنا القمل كما في كثير من الروايات لأنها تطلق على ما يدب من الحيوان وإن لم يقتل كالحشرات والقمل ( فقلت نعم يا رسول الله ) آذاني ( فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم احلق ) بكسر اللام ( رأسك ) أزل شعره ( وصم ثلاثة أيام أو أطعم ستة مساكين ) مدين مدين لكل إنسان كما في الرواية السابقة ( أو انسك بشاة ) أي تقرب بها وهذا دم تخيير استفيد من التعبير بأو المكررة قال ابن عباس ما كان في القرآن أو فصاحبه بالخيار ومر في السابق أي ذلك فعلت أجزأ عنك
ولأبي داود من وجه آخر أنه صلى الله عليه وسلم قال له إن شئت فانسك نسيكة وإن شئت فصم ثلاثة أيام وإن شئت فأطعم ثلاثة آصع من تمر لستة مساكين وفي رواية للشيخين أو انسك ما تيسر ولهما أيضا أتجد شاة قلت لا فنزلت هذه الآية { ففدية من صيام أو صدقة أو نسك } قال فصم ثلاثة أيام أو أطعم ستة مساكين فنزلت في خاصة وهي لكم عامة واستشكل بأن الفاء تدل على الترتيب والآية وردت للتخيير وأجيب بأن التخيير إنما هو عند وجود الشاة أما عند عدمها فالتخيير بين أمرين لا بين الثلاثة
وقال النووي ليس المراد أن الصوم لا يجزىء إلا لعادم الهدي بل هو محمول على أنه سأل عن النسك فإن وجده أخبره أنه مخير بين الثلاث وإن عدمه فهو مخير بين اثنين والحديث رواه البخاري عن عبد الله بن يوسف عن مالك به
( مالك عن عطاء بن عبد الله الخراساني ) كان فاضلا عالما بالقرآن عاملا روى عنه جماعة من الأئمة وإدخاله البخاري في كتاب الضعفاء رده ابن عبد البر كما تقدم وقال قد وثقه ابن معين ولمالك عنه مرفوعا ثلاثة أحاديث هذا ثانيها ( أنه قال حدثني شيخ بسوق البرم ) بضم الموحدة وفتح الراء جمع برمة وهي القدر من الحجر ( بالكوفة ) قال ابن عبد البر يقولون إن هذا الشيخ عبد الرحمن بن أبي ليلى وهذا بعيد لأنه أشهر في التابعين من أن يقول فيه عطاء شيخ وأظن قائل ذلك لما عرف أنه كوفي وأنه الذي يروي الحديث عن كعب ظن أنه هو وقد روى هذا الحديث عبد الله بن معقل عن كعب وقد يكون هو الشيخ الذي ذكره عطاء فهو كوفي لا يبعد أن يلقاه عطاء وهو أشبه عندي انتهى
ورواية ابن معقل وهو بالمهملة وكسر القاف في الصحيحين ( عن كعب بن عجرة أنه قال جاءني رسول الله صلى الله عليه وسلم ) زاد في رواية لمسلم زمن الحديبية ( وأنا
____________________
(2/512)
أنفخ تحت قدر لأصحابي ) وفي رواية قدر لي وفي رواية تحت برمة لي فبين أن القدر برمة ولا تنافي بين إضافته له نارة ولأصحابه أخرى كما هو ظاهر ( وقد امتلأ رأسي ولحيتي قملا ) زاد أحمد حتى حاجبي وشاربي ( فأخذ بجبهتي ثم قال احلق هذا الشعر ) وفي رواية لمسلم فدعا الحلاق فحلق رأسه ( وصم ثلاثة أيام أو أطعم ستة مساكين ) مدين مدين لكل إنسان ( وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم علم ) بقوله لي أتجد شاة قلت لا ( إنه ليس عندي ما أنسك به ) فلم يأمرني به فلا يخالف الروايات الكثيرة أنه خيره بين الثلاثة لأن ذلك عند وجود الشاة فلما أخبره أنها ليست عنده خيره بين الصيام والإطعام
وفي رواية لأبي داود فحلقت رأسي ونسكت وله وللطبراني وغيرهما من طرق تدور على نافع قال فحلق فأمره صلى الله عليه وسلم أن يهدي بقرة وقد اختلف على نافع في الواسطة الذي بينه وبين كعب وعارضه ما هو أصح منه أن الذي أمر به كعب وفعله إنما هو شاة بل قال الحافظ العراقي لفظ بقرة منكر شاذ ثم لا يعارض هذا ما في الصحيحين أنه سأله أتجد شاة قال لا لاحتمال أنه وجدها بعد ما أخبره أنه لا يجدها فنسك بها
وأما ما أخرجه ابن عبد البر أنه قال فحلقت وصمت فإما أنها رواية شاذة أو أنه فعل الصوم أيضا باجتهاده
وفي هذه الأحاديث أن السنة مبينة لمجمل القرآن لإطلاق الفدية فيه وتقييدها بالسنة وحرمة حلق الرأس عن المحرم والرخصة له في حلقها إذا أذاه القمل أو غيره من الأوجاع ووجوب الفدية على العامد بلا عذر فإن إيجابها على المعذور من التنبيه بالأدنى على الأعلى وأنها على التخيير عمدا أو سهوا أو لعذر
وقال أبو حنيفة والشافعي لا يتخير العامد بل يتعين الدم
( قال مالك في فدية الأذى إن الأمر فيه إن أحدا لا يفتدي حتى يفعل ما يوجب عليه الفدية وإن الكفارة إنما تكون بعد وجوبها على صاحبها وأنه يضع فديته حيثما شاء ) بزيادة ما ( النسك أو الصيام أو الصدقة بمكة أو بغيرها من البلاد ) زيادة إيضاح لقوله حيث شاء بخلاف جزاء الصيد لقوله تعالى { هديا بالغ الكعبة } سورة المائدة الآية 95 والإطلاق في آية { ففدية من صيام أو صدقة أو نسك } سورة البقرة الآية 196 ولما بين النبي صلى الله عليه وسلم مجملها في أحاديث كعب لم يقيد بمكة فدل ذلك على الإطلاق ( قال مالك لا يصلح للمحرم ) أي يحرم عليه من الصلاح ضد الفساد وهو حرام ( أن ينتف من شعره شيء ولا يحلقه ) يزيله بموسى أو مقص أو نورة ( ولا يقصره حتى يحل إلا أن يصيبه أذى في رأسه ) كقمل وصداع ( فعليه فدية كما ذكره الله تعالى ) بقوله { فمن كان منكم مريضا أو به أذى من رأسه ففدية من صيام أو صدقة أو نسك }
____________________
(2/513)
( سورة البقرة الآية 196 ) وفي الصحيحين عن كعب بن عجرة في نزلت الآية خاصة وهي لكم عامة وفي لفظ فأنزل الله في خاصة ثم كانت للمسلمين عامة وفي هذا دلالة لأصح قولي مالك إن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب
( ولا يصلح له أن يقلم أظفاره ) لأنه إزالة أذى أو ترفه
( ولا يقتل قملة ) واحدة وأولى ما زاد ( ولا يطرحها من رأسه إلى الأرض ) قيد ( ولا من جلده ) جسده ( ولا من ثوبه فإن طرحها المحرم من جلده أو من ثوبه فليطعم حفنة من طعام ) أي ملء يد واحدة كما قاله في المدونة وإن كانت لغة ملء اليدين
( قال مالك من نتف شعرا من أنفه أو من إبطه أو اطلى ) بشد الطاء افتعل ( جسده بنورة ) بضم النون حجر الكاس ثم غلبت على أخلاط تضاف إليه من زرنيخ وغيره يستعمل لإزالة الشعر ( أو يحلق عن شجة رأسه لضرورة أو يحلق قفاه لموضع المحاجم وهو محرم ناسيا أو جاهلا إن فعل شيئا من ذلك فعليه الفدية في ذلك كله ولا ينبغي له أن يحلق موضع المحاجم ومن جهل ) وفي نسخة نسي ( فحلق رأسه قبل أن يرمي الجمرة افتدى ) لأنه ألقى التفث قبل التحلل وقد أمر كعب بالفدية في الحلق قبل محله لضرورته فكيف بالجاهل والناسي
79 ما يفعل من نسي من نسكه شيئا ( مالك عن أيوب بن أبي تميمة ) كيسان ( السختياني عن سعيد بن جبير عن عبد الله بن عباس قال من نسي من نسكه شيئا أو تركه فليهرق دما ) وبهذا قال مالك وجماعة
( قال أيوب لا أدري قال ترك أو نسي ) يعني أنه إنما قال أحدهما فأو للشك لا للتنويع
( قال مالك ما كان من ذلك ) الدم ( هديا فلا يكون إلا بمكة ) لقوله تعالى { هديا بالغ الكعبة }
____________________
(2/514)
( سورة المائدة الآية 95 ) ( وما كان من ذلك نسكا فهو يكون حيث أحب صاحب النسك ) لأنه لم يسمه هديا
80 جامع الفدية ( قال مالك فيمن أراد أن يلبس شيئا من الثياب التي لا ينبغي ) لا يجوز ( له أن يلبسها وهو محرم أو يقصر شعره أو يمس طيبا من غير ضرورة ليسارة مؤنة الفدية عليه قال لا ينبغي لأحد أن يفعل ذلك ) إذ لا يجوز لأحد أن يأتي الذنب ويكفر ( وإنما أرخص فيه للضرورة على أن من فعل ذلك الفدية ) إلا أن ذا العذر لا يأثم وغيره آثم
( وسئل مالك عن الفدية من الصيام أو الصدقة أو النسك أصاحبه بالخيار في ذلك ) ولو عامدا بلا ضرورة ( وما النسك وكم الطعام وبأي مد هو ) بالمد النبوي أم مد هشام ( وكم الصيام وهل يؤخر شيئا من ذلك أم يفعله في فوره ذلك قال مالك كل شيء في كتاب الله في الكفارات كذا أو كذا ) بأو ( فصاحبه مخير في ذلك أي شيء أحب أن يفعل ذلك فعل ) وقد جاء هذا عن ابن عباس قال ما كان في القرآن بأو فصاحبه بالخيار وقد خير النبي صلى الله عليه وسلم كعبا في الفدية رواه سفيان الثوري في تفسيره عن ليث بن أبي سليم عن مجاهد عنه وروراه ابن جرير عن عطاء وعكرمة ( قال وأما النسك فشاة ) لقوله صلى الله عليه وسلم لكعب أو انسك بشاة والمراد أنها تكفي في النسك فأعلى منها أولى في الكفاية من بقر أو إبل بدليل قوله في الرواية الأخرى أو انسك بما تيسر
( وأما الصيام فثلاثة أيام وأما الطعام فيطعم ستة مساكين لكل مسكين مدان ) مبتدأ وخبر وفي نسخة مدين مفعول يطعم كما ورد ذلك في الحديث المار فهو بيان لمجمل الآية ( بالمد الأول مد النبي صلى الله عليه وسلم ) وفي
____________________
(2/515)
البخاري حدثنا منذر بن الوليد الجارودي قال حدثنا أبو قتيبة قال حدثنا مالك عن نافع قال كان ابن عمر يعطي زكاة رمضان بمد النبي صلى الله عليه وسلم المد الأول وفي كفارة اليمين بمد النبي صلى الله عليه وسلم قال أبو قتيبة قال لنا مالك مدنا أعظم من مدكم ولا نرى الفضل إلا في مد النبي صلى الله عليه وسلم
وقال لنا مالك لو جاء أمير فضرب مدا أصغر من مد النبي صلى الله عليه وسلم بأي شيء كنتم تعطون قلت كنا نعطي بمد النبي صلى الله عليه وسلم قال أفلا ترى أن الأمر إنما يعود إلى مد النبي صلى الله عليه وسلم
وهذا الحديث من البخاري وهو غريب ما رواه عن مالك إلا أبو قتيبة وهو سلم بفتح المهملة وإسكان اللام ولا عنه إلا المنذر وقوله أفلا ترى الخ معناه أنه إذا تعارضت الأمداد الثلاثة الأول والحادث وهو الهشامي وهو زائد عليه والثالث المفروض وقوعه وإن لم يقع وهو دون الأول كان الرجوع إلى الأول أولى لأنه الذي تحققت مشروعيته لنقل أهل المدينة له قرنا بعد قرن وجيلا بعد جيل وقد رجع أبو يوسف بمثل هذا إلى قول مالك
( قال مالك وسمعت بعض أهل العلم يقول إذا رمى المحرم شيئا فأصاب شيئا من الصيد لم يرده ) المحرم الرامي ( فقتله إن ) بالكسر مقول القول ( عليه أن يفديه وكذلك الحلال يرمي في الحرم شيئا فيصيب صيدا لم يرده ) الرامي ( فيقتله إن عليه أن يفديه لأن العمد والخطأ في ذلك بمنزلة سواء ) في الفدية لأنه إتلاف والإتلاف مضمون في العمد والخطأ لكن العامد آثم بخلاف المخطىء وإليه ذهب الجمهور سلفا وخلفا كما دل عليه القرآن في العمد وإنه آثم بقوله { ليذوق وبال أمره } سورة المائدة الآية 95 وجاءت السنة من أحكام النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه بوجوب الجزاء في الخطأ أيضا
( قال مالك في القوم يصيبون الصيد جميعا وهم محرمون بحج أو عمرة ) أو في الحرم ( وهم حلال قال أرى أن على كل إنسان منهم جزاؤه إن ) بالكسر استئناف ( حكم عليهم بالهدي فعلى كل إنسان منهم هدي وإن حكم عليهم بالصيام كان على كل إنسان منهم الصيام ) ببدل ذلك أو إطعام فعلى كل منهم إطعام وكأنه تركه اكتفاء ( ومثل ذلك القوم يقتلون الرجل خطأ فتكون كفارة ذلك عتق رقبة على كل إنسان منهم أو صيام شهرين متتابعين على كل إنسان منهم ) لعله أراد أن ذلك مثل قتل الخطأ فيكون استدل بالقياس ( قال مالك من رمى صيدا أو صاده بعد رميه الجمرة وحلاق رأسه غير أنه لم يفض ) لم يطف طواف الإفاضة ( إن عليه جزاء ذلك الصيد لأن الله تبارك وتعالى قال { وإذا حللتم فاصطادوا } سورة المائدة الآية 2
____________________
(2/516)
ومن لم يفض ) لم يحل الحل الأكبر ( فقد بقي عليه ) من الممنوع ( مس الطيب والنساء ) الأول كراهة والثاني تحريما كالصيد لأنه شرط في إباحته في الآية الإحلال
( قال مالك ليس على المحرم فيما قطع من الشجر في الحرم شيء ) لا جزاء ولا غيره سوى الحرمة فيتوب إلى الله لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال في خطبة فتح مكة لا يحل لامرىء يؤمن بالله واليوم الآخر أن يسفك بها دما ولا يعضد بها شجرة في روايات أخر ليس في شيء منها ذكر جزاء ولا غيره والكفارات لا يقاس عليها
( ولم يبلغنا أن أحدا حكم عليه فيه بشيء وبئس ما صنع ) لارتكاب الحرمة فعليه التوبة ( قال مالك في الذي يجهل أو ينسى صيام ثلاثة أيام في الحج أو يمرض فيها فلا يصومها حتى يقدم ) بفتح الدال ( بلده قالا ليهد إن وجد هديا وإلا فليصم ثلاثة أيام في أهله وسبعة بعد ذلك ) لأن الصيام بكل مكان سواء
81 جامع الحج ( ماكل عن ابن شهاب ) محمد بن مسلم وللنسائي من طريق يحيى القطان عن مالك حدثني الزهري ( عن عيسى بن طلحة ) بن عبيد الله القرشي التيمي المدني أبي محمد ثقة فاضل مات سنة مائة وأبوه طلحة أحد العشرة
وفي رواية ابن جريج عند مسلم وصالح بن كيسان عند البخاري كلاهما عن ابن شهاب قال حدثني عيسى بن طلحة ( عن عبد الله بن عمرو ) بفتح العين ( ابن العاصي ) بالياء وحذفها والإثبات أصح وفي رواية ابن جريج حدثني عبد الله وللبخاري عنه أن عبد الله حدثه وكذا في رواية صالح أن عبد الله حدثه ( أنه قال وقف رسول الله صلى الله عليه وسلم ) على ناقته كما في رواية صالح عند
____________________
(2/517)
البخاري ويونس عند مسلم بلفظ على راحلته ومعمر عند أحمد والنسائي كلهم (1) *
والثاني يوم النحر بعد صلاة الظهر وذلك في وقت الخطبة المشروعة من خطب الحج يعلم الإمام فيها الناس ما بقي عليهم من مناسكهم وصوب النووي هذا الثاني
قال الحافظ فإن قيل لا فرق بين الاحتمالين فإنه ليس في شيء من طريق حديث ابن عمرو وابن عباس بيان الوقت الذي خطب فيه من النهار قلنا نعم لم يقع التصريح بذلك لكن في رواية ابن عباس أن بعض السائلين قال رميت بعد ما أمسيت فدل على أن القصة كانت بعد الزوال لإطلاق المساء على ما بعده فكأن السائل علم أن السنة رمي الجمرة ضحى فلما أخرها إلى الزوال سأل عنه على أن حديث ابن عمرو مخرجه واحد لا يعرف إلا من طريق الزهري ولا خلاف فيه بين أصحابه غايته أن بعضهم ذكر ما لم يذكره الآخر واجتمع من مرويهم ومروي ابن عباس أن ذلك كان يوم النحر بعد الزوال وهو على راحلته يخطب عند الجمرة فإذا تقرر ذلك تعين أنها الخطبة المشروعة لتعلم بقية المناسك فليس قوله خطب مجازا عن مجرد التعليم بل هي حقيقية ولا يلزم من وقوعه عند الجمرة أن يكون حينئذ رماها ففي البخاري وغيره عن ابن عمر أنه وقف يوم النحر بين الجمرات فذكر خطبته فلعل ذلك وقع بعد أن أفاض ورجع إلى منى انتهى
وقال الأبي ترجم البخاري الفتيا على الدابة عند الجمرة فهو يدل على أنها لم تكن خطبة
( والناس يسألونه ) وفي رواية فجعلوا يسألونه وأخرى فطفق ناس يسألونه ( فجاءه رجل ) قال الحافظ لم أقف على اسمه بعد البحث الشديد ولا على اسم أحد ممن سأل في هذه القصة وكانوا جماعة لكن في حديث أسامة بن شريك عند الطحاوي وغيره كان الأعراب يسألونه فكان هذا هو السبب في عدم ضبط أسمائهم ( فقال له يا رسول الله لم أشعر ) بضم العين أي أفطن يقال شعرت بالشيء شعورا إذا فطنت له وقيل الشعور العلم ولم يفصح في رواية مالك بمتعلق الشعور وبينه يونس عند مسلم بلفظ لم أشعر أن الرمي قبل الحلق ( فحلقت ) شعر رأسي ( قبل أن أنحر ) وفي رواية قبل أن أذبح والفاء سببية جعل الحلق مسببا عن عدم الشعور كأنه يعتذر لتقصيره ( فقال رسول الله انحر ) وفي رواية اذبح ( ولا حرج ) قال عياض ليس أمرا بالإعادة وإنما هو إباحة لما فعل لأنه سأل عن أمر فرغ منه فالمعنى افعل ذلك متى شئت ونفي الحرج بين في رفع الفدية عن العامد والساهي وفي رفع الإثم عن الساهي
وأما العامد فالأصل أن تارك السنة عمدا لا
____________________
1* عن ابن شهاب فرواية يحيى القطان عن مالك جلس في حجة الوداع فقام رجل محمول على أنه ركب ناقته وجلس عليها ( للناس بمنى ) زاد التنيسي والنيسابوري وغيرهما في حجة الوداع وفي رواية وقف عند الجمرة وأخرى فخطب يوم النحر قال عياض جمع بعضهم بأنه موقف واحد ومعنى خطب أي علم الناس لا أنها من خطب الحج المشروعة قال ويحتمل أن ذلك في موطنين أحدهما على راحلته عند الجمرة ولم يقل في هذا خطب
(2/518)
يأثم إلا أن يتهاون فيأثم للتهاون لا للترك
( ثم جاءه آخر فقال يا رسول الله لم أشعر ) أفطن أو أعلم زاد يونس أن الرمي قبل النحر ( فنحرت ) الهدي ( قبل أن أرمي ) الجمرة ( قال ارم ولا حرج ) أي لا ضيق عليك في ذلك زاد في رواية ابن جريج في الصحيحين وأشباه ذلك وفي رواية محمد بن أبي حفصة عن الزهري عند مسلم وقال آخر أفضت إلى البيت قبل أن أرمي قال ارم ولا حرج وفي رواية معمر عند أحمد زيادة الحلق قبل الرمي فحاصل ما في حديث عبد الله بن عمرو السؤال عن أربعة أشياء الحلق قبل الذبح والنحر قبل الرمي والحلق قبل الرمي والإفاضة قبل الرمي والأوليان في حديث ابن عباس أيضا في الصحيح وللدارقطني من حديثه أيضا السؤال عن الحلق قبل الرمي وكذا في حديث جابر وأبي سعيد عند الطحاوي وفي حديث علي عند أحمد السؤال عن الإفاضة قبل الحلق وفي حديثه عند الطحاوي والسؤال عن الرمي والإفاضة معا قبل الحلق وفي حديث جابر عند ابن حبان وغيره السؤال عن الإفاضة قبل الذبح وفي حديث أسامة بن شريك السؤال عن السعي قبل الطواف وهو محمول على من سعى بعد طواف القدوم ثم طاف طواف الإفاضة فإنه يصدق عليه أنه سعى قبل الطواف أي الركن فهذا ما تحذر من مجموع الأحاديث وبقي عدة صور لم يذكرها الرواة إما اختصارا وإما لأنها لم تقع وبلغت بالتقسيم أربعا وعشرين صورة منها صورة الترتيب المتفق عليها وهي رمي جمرة العقبة ثم نحر الهدي أو ذبحه ثم الحلق أو التقصير ثم طواف الإفاضة
وفي الصحيحين عن أنس أن النبي أتى منى فأتى الجمرة فرماها ثم أتى منزله بمنى فنحر وقال للحالق جز ولأبي داود رمى ثم نحر ثم حلق وأجمع العلماء على مطلوبية هذا الترتيب إلا أن ابن الجهم استثنى القارن فقال لا يحلق حتى يطوف كأنه لا حظ أنه في عمل العمرة والعمرة يتأخر فيها الحلق عن الطواف ورد عليه النووي وأجمع العلماء على الإجزاء في التقديم والتأخير إلا أنه اختلفوا في الدم فأوجبه مالك في تقديم الإفاضة على الرمي لأنه لم يقع في روايته حديث الباب ولا يلزم بزيادة غيره لأنه أثبت الناس في ابن شهاب وأوجب الفدية في تقديم الحلق على الرمي لوقوعه قبل شيء من التحلل
وذلك أبو حنيفة إلى أن الترتيب واجب وعليه الدم في كل المخالفة وتأول لا حرج على نفي الإثم لأنه فعل على الجهل لا القصد فأسقط الحرج وعذرهم لعدم العلم بدليل قول السائل لم أشعر
وذهب الجمهور والشافعي وأحمد في رواية إلى الجواز وعدم وجوب الدم في شيء لعموم قوله ( قال ) عبد الله بن عمرو ( فما سئل رسول الله ) زاد في رواية يومئذ ( عن شيء قدم ولا أخر إلا قال افعل ولا حرج ) عليك فإنه ظاهر في نفي الإثم والفدية والدم لأن اسم الضيق يشمل ذلك قال الطحاوي لكن يحتمل أنه لا إثم في ذلك الفعل لمن كان ناسيا أو جاهلا أي كالسائلين
____________________
(2/519)
قال وأما من تعمد المخالفة فيجب عليه الفدية وتعقب بأن وجوبها يحتاج إلى دليل ولو وجبت لبينه حينئذ وقت الحاجة فلا يجوز تأخيره
قال الطبري ولم يسقط النبي الحرج وقد أجزأ الفعل إذ لو لم يجز لأمره بالإعادة لأن الجهل والنسيان لا يضعان الحكم اللازم في الحج كما لو ترك الرمي ونحوه فلا يأثم بتركه جاهلا أو ناسيا لكن تجب عليه الإعادة قال والعجب ممن يحمل قوله ولا حرج على نفي الإثم فقط ثم يخص ذلك ببعض الأمور دون بعض فإن كان الترتيب واجبا يجب بتركه دم فليكن في الجميع وإلا فما وجه تخصيص بعض دون بعض مع تعميم الشارع الجميع بنفي الحرج كذا قال
وجوابه إن مالكا خص من العلوم تقديم الحلق على الرمي فأوجب فيه الفدية لعلة أخرى وهي إلقاء التفث قبل فعل شيء من التحلل وقد أوجب الله ورسوله الفدية على المريض أو من برأسه أذى إذا حلق قبل محل الحلق مع جواز ذلك له لضرورته فكيف بالجاهل والناسي وخص منه أيضا تقديم الإفاضة على الرمي لئلا يكون وسيلة إلى النساء والصيد قبل الرمي ولأنه خلاف الواقع منه وقد قال خذوا عني مناسككم ولم يثبت عنده زيادة ذلك في حديث الباب فلا يلزمه زيادة غيره وهو أثبت الناس في ابن شهاب ومحل قبول زيادة الثقة ما لم يكن من لم يزدها أوثق منه ابن أبي حفصة الذي روى ذلك عن ابن شهاب وإن كان صدوقا وروى له الشيخان لكنه يخطىء بل ضعفه النسائي واختلف قول ابن معين في تضعيفه وكان يحيى بن سعيد يتكلم فيه وقال أحمد في رواية إن كان ناسيا أو جاهلا فلا شيء عليه وإن كان عالما فلا لقوله لم أشعر
وأجيب بأن الترتيب لو وجب لما سقط بالسهو كالترتيب بين السعي والطواف إذ لو سعى قبله وجبت إعادة السعي لكن قال ابن دقيق العيد ما قاله أحمد قوي لأن الدليل دل على وجوب اتباعه في الحج لقوله خذوا عني مناسككم وهذه الأحاديث المرخصة قد قرنت بقول السائل لم أشعر فيختص الحكم بهذه الحالة وتبقى حالة العمد على أصل وجوب الاتباع في الحج وأيضا الحكم إذا رتب على وصف يمكن أنه معتبر لم يجز طرحه ولا شك أن عدم الشعور وصف مناسب لعدم المؤاخذة وقد علق به الحكم فلا يمكن طرحه بإلحاق العمد به إذ لا يساويه والتمسك بقوله فما سئل الخ لإشعاره بأن الترتيب مطلقا غير مراعى جوابه إن هذا الإخبار من الراوي يتعلق بما وقع السؤال عنه وهو مطلق بالنسبة إلى حالة السائل والمطلق لا يدل على أحد الخاصين فلا يبقى فيه حجة في حالة العمد انتهى
وفيه وجوب اتباع أفعاله لأن الذين خالفوه لما علموا سألوا عن حكم ذلك وجواز سؤال العالم واقفا وراكبا ولا يعارضه ما روي عن مالك من كراهة ذكر العلم والحديث في الطريق لأن الوقوف بمنى لا يعد من الطرق لأنه موقف عبادة وذكر ووقت حاجة إلى التعلم خوف الفوات إما بالزمان أو المكان وأخرجه البخاري في العلم عن إسماعيل وهنا عن عبد الله بن يوسف ومسلم عن يحيى الثلاثة عن مالك وتابعه جماعة عن ابن شهاب به في الصحيحين وغيرهما
( مالك عن نافع عن عبد الله بن عمر أن رسول الله كان إذا قفل ) بقاف ثم فاء بزنة رجع
____________________
(2/520)
ومعناه ( من غزو أو حج أو عمرة يكبر ) الله تعالى ( على كل شرف ) بفتح المعجمة والراء ثم فاء أي مكان عال ( من الأرض ) ولمسلم من رواية عبيد الله عن نافع إذا أوفى على ثنية أو فدفد كبر أي ارتفع على ثنية بمثلثة فنون فتحتية هي العقبة وفدفد بفتح الفاءين بعد كل دال مهملة الأشهر أنه المكان المرتفع وقيل الأرض المستوية وقيل الفلاة الخالية من شجر وغيره وقيل غليظ الأودية ذات الحصى
( ثلاث تكبيرات ) قال الطيبي وجه التكبير على الأماكن العالية هو ندب الذكر عند تجدد الأحوال والتقلبات وكان يراعي ذلك في الزمان والمكان
وقال الحافظ الزين العراقي مناسبته أن الاستعلاء محبوب للنفس وفيه ظهور وغلبة فينبغي للمتلبس به أن يذكر عنده أن الله أكبر من كل شيء ويكرر ذلك ويستمطر منه المزيد
( ثم يقول لا إله إلا الله ) بالرفع على الخبرية بلا أو على البدلية من الضمير المستتر في الخبر المقدر أو من اسم لا باعتبار محله قبل دخولها ( وحده ) حال أي منفرد ( لا شريك له ) عقلا لاستحالته ونقلا { وإلهكم إله واحد } سورة البقرة الآية 163 في آيات أخر وهو تأكيد لوحده لأن المتصف بها لا شريك له ( له الملك ) بضم الميم السلطان والقدرة وأصناف المخلوقات ( وله الحمد ) زاد في رواية للطبراني يحيي ويميت وهو حي لا يموت بيده الخير ( وهو على كل شيء قدير ) قال الحافظ يحتمل أنه كان يأتي بهذا الذكر عقب التكبير على المكان المرتفع ويحتمل أنه يكمل الذكر مطلقا ثم يأتي بالتسبيح إذا هبط قال القرطبي وفي تعقيب التكبير بالتهليل إشارة إلى أنه المنفرد بإيجاد جميع الموجودات وأنه المعبود في جميع الأماكن
( آيبون ) بالرفع خبر مبتدأ محذوف أي نحن آيبون جمع آيب بوزن راجع ومعناه أي راجعون إلى الله وليس المراد الإخبار بمحض الرجوع فإنه تحصيل الحاصل بل الرجوع في حالة مخصوصة وهي تلبسهم بالعبادة المخصوصة والاتصاف بالأوصاف المذكورة
( تائبون ) من التوبة وهي الرجوع عما هو مذموم شرعا إلى ما هو محمود شرعا وفيه إشارة إلى التقصير في العبادة وقاله تواضعا أو تعليما لأمته أو المراد أمته وقد تستعمل التوبة لإرادة الاستمرار على الطاعة فيكون المراد أن لا يقع منهم ذنب
( عابدون ساجدون لربنا حامدون ) كلها رفع بتقدير نحن وقوله لربنا متعلق بساجدون أو بسائر الصفات على طريق التنازع
( صدق الله وعده ) فيما وعد به من إظهار دينه بقوله { وعدكم الله مغانم كثيرة } سورة الفتح الآية 20 وقوله تعالى { وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنهم في الأرض } سورة النور لاية الآية
وهذا في سفر الغزو ومناسبته للحج والعمرة قوله { لتدخلن المسجد الحرام إن شاء الله آمنين } سورة الفتح الآية 27 ونصر عبده محمدا ( وهزم الأحزاب وحده ) من غير فعل
____________________
(2/521)
أحد من الآدميين ولا سبب من جهتهم وهذا معنى الحقيقة فإن العبد وفعله خلق لربه والكل منه وإليه ولو شاء أن يبيد الكفار بلا قتال لفعل وفيه التفويض إلى الله تعالى قيل الأحزاب هنا كفار قريش ومن وافقهم الذين تحزبوا أي تجمعوا في غزوة الخندق ونزل فيهم سورة الأحزاب وقيل المراد أعم من ذلك أي أحزاب الكفار في جميع الأيام والمواطن قال النووي والمشهور الأول قيل فيه نظر لأنه يتوقف على أن هذا الذكر إنما شرع من بعد الخندق وأجيب بأن غزواته التي خرج فيها بنفسه محصورة والمطابق منها لذلك غزوة الخندق لظاهر قوله تعالى { ورد الله الذين كفروا بغيظهم لم ينالوا خيرا وكفى الله المؤمنين القتال } سورة الأحزاب الآية 25 وقوله قبل ذلك { إذ جاءتكم جنود فأرسلنا عليهم ريحا وجنودا لم تروها } سورة الأحزاب الآية 9 الآية
وأصل الحزب القطعة المجتمعة من الناس فاللام إما جنسية أي كل من تحزب من الكفار وإما عهدية والمراد من تقدم وهو الأقرب
قال القرطبي ويحتمل أن يكون هذا الخبر بمعنى الدعاء أي اللهم اهزم الأحزاب والأول أظهر
ثم ظاهر الحديث اختصاص ذلك بالغزو والحج والعمرة والجمهور على أنه يشرع قول ذلك في كل سفر طاعة كصلة رحم وطلب علم لما يشمل الجميع من اسم الطاعة وإنما اقتصر الصحابي على الثلاث لانحصار سفره فيها وقيل يتعدى أيضا إلى السفر المباح لأن المسافر فيه لا ثواب له فلا يمتنع عليه فعل ما يحصل له الثواب وقيل يشرع في سفر المعصية أيضا لأن مرتكبها أحوج إلى تحصيل الثواب من غيره وتعقب بأن هذا يخصه بسفر الطاعة لا يمنع من سافر في مباح ولا معصية من الإكثار من ذكر الله وإنما النزاع في خصوص هذا الذكر في هذا الوقت المخصوص فذهب قوم إلى الاختصاص لكونها عبادات مخصوصة شرع لها ذكر مخصوص فتختص به كالذكر المأثور عقب الأذان وعقب الصلاة انتهى
وفيه جواز السجع في الدعاء والكلام بلا تكلف وإنما ينهى عن المتكلف لأنه يشغل عن الإخلاص ويقدح في النية
ورواه البخاري هنا عن عبد الله بن يوسف
وفيه الدعوات عن إسماعيل ومسلم من طريق معن الثلاثة عن مالك به وتابعه عبيد الله وأيوب والضحاك عن نافع عند مسلم
( مالك عن إبراهيم بن عقبة ) بالقاف ابن أبي عياش الأسدي مولاهم المدني وثقه أحمد وابن معين والنسائي وروى عنه أيضا السفيانان وحماد بن زيد وابن المبارك وآخرون
وقال ابن عبد البر ثقة حجة أسن من أخيه موسى ومحمد أسن منه وسمع إبراهيم من أم خالد بنت خالد بن سعيد وهي من المبايعات وزعم ابن معين أنهم مواليها لم يتابع عليه والصواب أنهم موالي آل الزبير كما قال مالك والبخاري وغيرهما في الموطأ مرفوعا هذا الحديث الواحد ( عن كريب مولى عبد الله بن عباس ) مرسلا عند أكثر رواة الموطأ ووصله الشافعي وابن وهب ومحمد بن خالد وأبو مصعب وعبد الله بن يوسف فزادوا ( عن ابن عباس أن رسول الله مر بامرأة ) ولمسلم وغيره أنه لقي ركبا بالروحاء
____________________
(2/522)
فقال من القوم فقالوا المسلمون فقالوا من أنت قال رسول الله فرفعت إليه امرأة صبيا ( وهي في محفتها ) بكسر الميم كما جزم به الجوهري وغيره وحكى في المشارق الكسر والفتح بلا ترجيح شبه الهودج إلا أنه لا قبة عليها
( فقيل لها هذا رسول الله فأخذت بضبعي صبي ) بفتح الضاد المعجمة وإسكان الموحدة وفتح العين مثنى وهما باطنا الساعد ( كان معها ) ولأبي داود ففزعت امرأة فأخذت بعضو صبي فأخرجته من محفتها وهو بكسر الزاي أي ذعرت خوفا أن يفوتها المصطفى ويتعذر عليها سؤاله ويحتمل أن المراد بالفزع هنا الاستغاثة والالتجاء أي استغاثت به أو بادرت أو قصدته
( فقال ألهذا حج يا رسول الله قال نعم ) له حج وزادها على السؤال ( ولك أجر ) ترغيبا لها قال عياض والأجر لها فيما تتكلفه من أمره في ذلك وتعليمه وتجنيبه ما يجتنب المحرم
وقال عمر وكثيرون إن الصبي يثاب وتكتب حسناته دون السيئات
واختلف هل هو مخاطب على وجه الندب أو إنما المخاطب الولي بحمله على أدب الشريعة للتمرين وهذا هو الصحيح وعلى هذا فلا يبعد أن الله سبحانه يدخر للصبي ثواب ما عمل
قال النووي والصبي الذي يحرم عنه الولي الصحيح عندنا أنه الولي الذي له النظر ما له من أب أو جد أو وصي أو مقدم قاض أو ناظر ولا يصح إحرام الأم عنه إلا أن تكون وصية أو مقدمة من القاضي وقيل يصح إحرامها وإحرام العصبة وإن لم يكن لهم نظر في المال نقله الأبي وأقره وهو مقتضى مذهب مالك رحمه الله
قال الشيخ ولي الدين لا يصح الاستدلال بهذا الحديث على صحة الإحرام عنه مطلقا لاحتمال أن هذا الصبي كان مميزا فأحرم هو عن نفسه وعلى تقدير أنه لم يميز فلعل له وليا أحرم عنه وعلى تقدير أنها التي أحرمت فلعلها ولية مال وفيه المبادرة إلى استفتاء العلماء والأخذ عنهم قبل فواتهم وجواز ركوب المحفة والمحمل وإن كان الأفضل الركوب على القتب في حق من أطاقه لكن الظاهر أن المحمل في حق المرأة أولى لأنه أستر لها وفيه مشروعية الحج بالصغار وبه قال الأئمة
قال ابن عبد البر وعليه جمهور العلماء في كل قرن
وقالت طائفة لا يحج بهم وهو قول لا يشتغل به ولا يعرج عليه
وقال عياض لا خلاف بين العلماء في جواز الحج بالصبيان وإنما منعه طائفة من أهل البدع لا يلتفت إليهم بل هو مردود بفعل النبي وأصحابه وإجماع الأمة وفيه انعقاد حج الصبي وصحته ووقوعه نفلا وإنه مثاب عليه في جتنب ما يجتنبه الكبير مما يمنعه الإحرام ويلزمه من الفدية والهدي ما يلزمه وبه قال الأئمة الثلاثة والجمهور
وقال أبو حنيفة لا ينعقد وإنما يجنب من ذلك ويفعل للتمرين ليفعله إذا بلغ
قال المازري وغيره والحديث حجة للجمهور وتأوله الحنفية على أنه إنما يفعل به ذلك للتمرين واحتمال أن الصبي كان بالغا لا يصح إذ لا فائدة لقولها ألهذا حج على أنه في بعض
____________________
(2/523)
طرق الحديث صرح بأنه صغير ويدل عليه رفعها له إذ لا يرفع الكبير ويدل له أيضا فأخذت بضبعي صبي وهي في محفة وفي رواية فأخرجته من محفتها
قال عياض وأجمعوا على أنه لا يجزىء إذا بلغ عن حجة الفرض إلا فرقة شذت فقالت يجزئه ولم يلتفت العلماء إلى قولها
وحكى ابن عبد البر عن داود في المملوك البالغ إذا حج قبل عتقه يجزئه عن حجة الإسلام دون الصبي وفرق بخطاب المملوك عنده به والصبي غير مخاطب وجمهور العلماء على أن العبد لا يخاطب بالحج وأنه لا يجزئه عن الفرض كالصبي وهذا الحديث رواه النسائي من طريق محمد بن خالد وابن وهب والطحاوي وغيره من طريق الشافعي وابن عبد البر من طريق ابن أبي مصعب الأربعة عن مالك به متصلا وتابعه سفيان بن عيينة عند مسلم وأبي داود والنسائي وغيرهم ولم يختلف عليه في اتصاله وعبد العزيز بن أبي سلمة وإسماعيل بن إبراهيم بن عقبة كلاهما عند البيهقي موصولا وأخوه موسى بن عقبة ومحمد بن إسحاق رواهما ابن عبد البر متصلا وسفيان الثوري مرسلا في رواية ابن مهدي عنه عند مسلم وموصولا في رواية أبي نعيم الفضل بن دكين عنه عند النسائي فاختلف عليه في وصله وإرساله كما اختلف على مالك في ذلك والظاهر أن كلا من مالك وشيخه إبراهيم حدث به على الوجهين فإن الرواة عن كل منهما بالوصل والإرسال حفاظ ثقات ويقوي ذلك أنه اختلف على ابن القاسم فرواه سحنون عنه عن مالك مرسلا ورواه يوسف بن عمرو والحارث بن مسكين عنه عن مالك متصلا فكأنه سمعه من مالك بالوجهين وقد أخرجه مسلم بالوجهين من طريق السفيانين وكأن البخاري ترك تخريجه في صحيحه لهذا الاختلاف لكن قال ابن عبد البر من وصل هذا الحديث وأسنده فقوله أولى وأصح والحديث صحيح مسند ثابت الاتصال لا يضره تقصير من قصر به لأن الذين أسندوه حفاظ ثقات انتهى
وسبقه إلى ذلك الإمام أحمد فصحح وصله
( مالك عن إبراهيم بن أبي عبلة ) بفتح المهملة وسكون الموحدة واسمه شمر بكسر المعجمة ابن يقظان العقيلي ثم الشامي يكنى أبا إسماعيل ثقة تابعي سمع أنسا وأبو أمامة ووائلة سكن الشام وبها مات سنة اثنين أو إحدى وخمسين ومائة لمالك عنه مرفوعا هذا الحديث الواحد ( عن طلحة بن عبيد الله ) بضم العين ( ابن كريز ) بفتح الكاف وكسر الراء وإسكان التحتية وزاي منقوطة الخزاعي وثقه أحمد والنسائي يكنى أبا المطرف وهو تابعي مات بالشام سنة ثمان عشرة ومائة ووهم من ظنه أحد العشرة لأنه تيمي واسم جده عثمان وهذا خزاعي وجده كريز فحديثه مرسل وزعم ابن الحذاء أنه من الغرائب التي لم يوجد لها إسناد ولا نعلم أحدا أسنده من قصوره الشديد فقد وصله الحاكم في المستدرك عن أبي الدرداء ( أن رسول الله قال ما رئي ) بالبناء للمجهول ( الشيطان يوما ) أي في يوم ( هو فيه أصغر )
____________________
(2/524)
أي أذل ( ولا أدحر ) بإسكان الدال وفتح الحاء وبالراء مهملات أي أبعد عن الخير قال تعالى { مدحورا } سورة الإسراء الآية 18 أي مبعدا من رحمة الله ( ولا أحقر ) أذل وأهون عند نفسه لأنه عند الناس حقير أبدا ( ولا أغيظ ) أشد غيظا محيطا بكبده وهو أشد الحنق ( منه في يوم عرفة وما ذاك إلا لما رأى من تنزل الرحمة ) أي الملائكة النازلين بها على الواقفين بعرفة وهو لعنة الله لا يحب ذلك وليس المراد أنه يرى الرحمة نفسها ولعله رأى الملائكة تبسط أجنحتها بالدعاء للحاج ويحتمل أنه سمع الملائكة تقول غفر لهؤلاء أو نحو ذلك فعلم أنهم نزلوا بالرحمة ورؤيته الملائكة للغيظ لا للإكرام قاله أبو عبد الملك البوني ( وتجاوز الله عن الذنوب العظام ) الكبائر التي زينها لهم لعنه الله وكان يود أن يهلكهم بها وانتقالهم منها إلى الكفر لأنها كما قيل بريده فيخلدوا في العذاب الأليم مثله ( إلا ما أري يوم بدر ) أول غزوة وقع فيها القتال وكانت في ثانية الهجرة ( قيل وما رأى يوم بدر يا رسول الله قال أما ) بالتخفيف ( إنه قد رأى جبريل يزع ) بفتح الياء والزاي المنقوطة وعين مهملة أي يصف ( الملائكة ) للقتال ويمنعهم أن يخرج بعضهم عن بعض في الصف قال الشاعر ولا يزع النفس اللحوح عن الهوى من الناس إلا وافر العقل كامله وقيل معناه يكفهم قال ابن حبيب وليس كذلك إذ لو رأى ذلك لأحبه ولكنه رآه يعبيهم للقتال والمعبي يسمى وازعا ومنه قوله تعالى { وحشر لسليمان جنوده من الجن والإنس والطير فهم يوزعون } سورة النمل الآية 17 أي يحبس أولهم على آخرهم وفيه فضل الحج وشهود عرفة وسعة فضل الله على المذنبين
وفي مسلم والنسائي وابن ماجه عن عائشة مرفوعا ما من يوم أكثر أن يعتق الله فيه عبيدا من النار من يوم عرفة وأنه ليدنو ويتجلى ثم يباهي بهم الملائكة فيقول ما أراد هؤلاء ولأحمد وصححه ابن حبان والحاكم عن أبي هريرة رفعه إن الله يباهي بأهل عرفات أهل السماء فيقول لهم انظروا إلى عبادي جاؤوني شعثا غبرا وروى ابن خزيمة وابن حبان والبزار وأبو يعلى والبيهقي عن جابر رفعه ما من يوم أفضل عند الله من يوم عرفة ينزل الله تعالى إلى سماء الدنيا فيباهي بأهل الأرض أهل السماء فيقول انظروا إلى عبادي جاؤوني شعثا غبرا ضاجين جاؤوا من كل فج عميق يرجون رحمتي ولم يروا عقابي فلم ير يوما أكثر عتقا من النار من يوم عرفة زاد البيهقي فتقول الملائكة إن فلانا فيهم وهو مرهق فيقول الله عز وجل قد غفرت له
( مالك عن زياد بن أبي زياد ) ميسرة المدني الثقة العابد ( مولى عبد الله بن عياش ) بتحتية
____________________
(2/525)
ومعجمة ( ابن أبي ربيعة ) القرشي المخزومي الصحابي ابن الصحابي ( عن طلحة بن عبيد الله بن كريز ) الخزاعي فكافه مفتوحة وأما بضمها ففي عبد شمس من قريش قال ابن عبد البر لا خلاف عن مالك في إرساله ولا أحفظ بهذا الإسناد مسندا من وجه يحتج به وأحاديث الفضائل لا يحتاج إلى محتج به وقد جاء مسندا من حديث علي وابن عمر ثم أخرج حديث علي من طريق ابن أبي شيبة وجاء أيضا عن أبي هريرة أخرجه البيهقي هو وحديث ابن عمرو ( أن رسول الله قال أفضل الدعاء ) مبتدأ خبره ( دعاء يوم عرفة ) قال الباجي أي أعظمه ثوابا وأقربه إجابة ويحتمل أن يريد به اليوم ويحتمل أن يريد الحاج خاصة ( وأفضل ما قلت أنا والنبيون من قبلي ) ولفظ حديث علي أكثر دعائي ودعاء الأنبياء قبلي بعرفة ( لا إله إلا الله وحده لا شريك له ) زاد في حديث أبي هريرة له الملك وله الحمد يحيي ويميت بيده الخير وهو على كل شيء قدير وكذا في حديث علي لكن ليس فيه يحيي ويميت
قال ابن عبد البر يريد أنه أكثر ثوابا ويحتمل أن يريد أفضل ما دعا به والأول أظهر لأنه أورده في تفضيل الأذكار بعضها على بعض والنبيون يدعون بأفضل الدعاء قال وفيه تفضيل الدعاء بعضه على بعض والأيام بعضها على بعض وأن ذلك أفضل الذكر لأنها كلمة الإسلام والتقوى وإليه ذهب جماعة وقال آخرون أفضله الحمد لله رب العالمين لأن فيه معنى الشكر وفيه من الإخلاص ما في لا إله إلا الله وافتتح الله كلامه به وختم به وهو آخر دعوى أهل الجنة وروت كل فرقة بما قالت أحاديث كثيرة وساق جملة منها في التمهيد وقدم الإمام هذا الحديث بسنده ومتنه في الدعاء وقدمت ثمة أنه وقع في تجريد الصحاح لرزين بن معاوية الأندلسي زيادة في أول هذا الحديث هي أفضل الأيام يوم عرفة وافق يوم جمعة وهو أفضل من سبعين حجة في غير يوم الجمعة وأفضل الدعاء الخ
قال الحافظ حديث لا أعرف حاله لأنه لم يذكر صحابيه ولا من خرجه بل أدرجه في حديث الموطأ هذا وليست هذه الزيادة في شيء من الموطآت فإن كان له أصل احتمل أن يريد بالسبعين التحديد أو المبالغة في الكثرة وعلى كل حال منها تثبت المزية انتهى
وفي الهدي لابن القيم ما استفاض على ألسنة العوام أن وقفة الجمعة تعدل ثنتين وسبعين حجة فباطل لا أصل له عن رسول الله ولا عن أحد من الصحابة والتابعين انتهى
( مالك عن ابن شهاب ) محمد بن مسلم بن عبيد الله بن عبد الله بن شهاب الزهري له في الموطأ موفوعا مائة وأحد وثلاثون حديثا منها ( عن أنس بن مالك ) الأنصاري خمسة أحاديث هذا ثالثها ( أن رسول الله دخل مكة عام الفتح ) في رمضان سنة ثمان ( وعلى رأسه المغفر ) بكسر الميم
____________________
(2/526)
وسكون الغين المعجمة وفتح الفاء ثم راء قال صاحب المحكم ما يجعل من فضل درع الحديد على الرأس مثل القلنسوة
وقال في التمهيد ما غطى الرأس من السلاح كالبيضة وشبهها من حديد كان أو غيره وقد زاد بشر بن عمر عن مالك من حديد ولا أعلم أحدا ذكره غيره ولعله أراد في الموطأ وإلا فقد رواه خارجه عشرة عن مالك كذلك أخرجها الدارقطني
ولمسلم وأحمد وأصحاب السنن عن جابر دخل يوم فتح مكة وعليه عمامة سوداء بغير إحرام ورواه ابن عبد البر من طريق مالك عن أبي الزبير عن جابر وقال إنه غريب عن مالك ولا معارضة بينه وبين حديث أنس لإمكان أن المغفر فوق العمامة انتهى
أي وهي تحته وقاية لرأسه من صدإ الحديد
قال غيره أو كانت العمامة السوداء ملفوفة فوق المغفر إشارة للسؤدد وثبات دينه وأنه لا يغير
وجمع عياض باحتمال أن يكون أول دخوله كان على رأسه المغفر ثم أزاله ولبس العمامة بعد ذلك فحكى كل من أنس وجابر ما رآه ويؤيده أن في حديث عمرو بن حريث أنه خطب الناس وعليه عمامة سوداء رواه مسلم وكانت الخطبة عند باب الكعبة وذلك بعد تمام الدخول فزعم الحاكم في الإكليل تعارض الحديثين متعقب لأنه إنما يتحقق التعارض إذا لم يمكن الجمع وقد أمكن هنا بثلاث وجوه حسان ( فلما نزعه ) أي المغفر ( جاءه رجل ) قال الحافظ لم يسم وكأن مراده في رواية وإلا فقد جزم الفاكهاني في شرح العمدة والكرماني بأنه أبو برزة وكذا ذكره ابن طاهر وغيره وقيل سعيد بن حريث
( فقال له يا رسول الله ابن خطل ) بفتح الخاء المعجمة والطاء المهملة ولام اسمه عبد العزى فلما أسلم سماه النبي عبد الله ومن قال اسمه هلال التبس عليه بأخ له يسمى بذلك وهو أحد من أهدر دمه يوم الفتح وقال لا اؤمنهم في حل ولا حرم
( متعلق بأستار الكعبة ) وذلك كما ذكر الواقدي أنه خرج إلى الحندمة ليقاتل على فرس وبيده قناة فلما رأى خيل الله والقتل دخله رعب حتى ما يستمسك من الرعدة فرجع حتى انتهى إلى الكعبة فنزل عن فرسه وطرح سلاحه ودخل تحت أستارها فأخذ رجل من بني كعب سلاحه وفرسه فاستوى عليه وأخبر النبي بذلك ( فقال رسول الله اقتلوه ) زاد الوليد بن مسلم عن مالك فقتل أخرجه ابن عائذ وصححه ابن حبان
وأخرج عمر بن شبة في كتاب مكة عن السائب بن يزيد قال رأيت رسول الله استخرج من تحت أستار الكعبة ابن خطل فضربت عنقه صبرا بين زمزم ومقام إبراهيم وقال لا يقتل قرشي بعد هذا صبرا رجاله ثقات إلا أن في أبي معشر مقالا واختلف هل قاتله سعيد بن حريث أو عمار بن ياسر أو سعد بن أبي وقاص أو سعيد بن زيد أو أبو برزة بفتح الموحدة وإسكان الراء ثم زاي منقوطة مفتوحة الأسلمي وهو أصح ما جاء في تعيين قاتله ورجحه الواقدي وجزم به البلاذري وغيره وتحمل بقية الروايات المخالفة له على أنهم ابتدروا قتله فكان المباشر منهم أبو برزة وجزم ابن هشام في تهذيب
____________________
(2/527)
السيرة بأن سعيد بن حريث وأبا برزة اشتركا في قتله قال ابن إسحاق وغيره وإنما أمر بقتل ابن خطل لأنه أسلم فبعثه مصدقا وبعث معه رجلا من الأنصار وكان معه مولى مسلم يخدمه فنزل منزلا فأمر المولى أن يذبح تيسا ويصنع له طعاما ونام فاستيقظ ولم يصنع له شيئا فقتله ثم ارتد ولحق بمكة واتخذ قينتين تغنيان له بهجاء النبي
( قال مالك ) جوابا عن كون المغفر على رأسه ( ولم يكن رسول الله يومئذ ) أي يوم فتح مكة ( محرما ) إذ لم يرو أحد أنه تحلل يومئذ من إحرامه وظاهره الجزم بذلك ولا ينافيه قوله ( والله أعلم ) لأنها للتبرك والتقوية
ووقع في البخاري عن يحيى بن قزعة عن مالك ولم يكن فيما نرى والله أعلم يومئذ محرما
وقد وراه عبد الرحمن بن مهدي عن مالك جزما عند الدارقطني بإسقاط فيما نرى والله أعلم
وصرح جابر بما جزم به مالك أو ظنه فقال بغير إحرام كما في مسلم وغيره ودخولها بلا إحرام من الخصائص النبوية عند الجمهور وخالف ابن شهاب فأجاز ذلك لغيره
قال أبو عمر لا أعلم من تابعه على ذلك إلا الحسن البصري وروي عن الشافعي والمشهور عنه أنها لا تدخل إلا بإحرام فإن دخلها أساء ولا شيء عليه عنده وعند مالك وجماعة
وقال أبو حنيفة وأصحابه عليه حجة أو عمرة وفيه أن الحرم لا يجير من وجب عليه القتل
وقال أبو حنيفة لا يجوز وتأول الحديث على أنه كان في الساعة التي أبيح له القتل بها
وأجيب بأنه إنما أبيحت له ساعة الدخول حتى استولى عليها وقتل ابن خطل بعد ذلك وتعقب بأن الساعة ما بين أول النهار ودخول وقت العصر كما في مسند أحمد وقتل ابن خطل كان قبل ذلك قطعا لقوله فلما نزع المغفر وذلك عند استقراره بمكة فلا يستقيم هذا الجواب
وهذا الحديث رواه البخاري هنا عن عبد الله بن يوسف وفي الجهاد عن إسماعيل وفي المغازي عن يحيى بن قزعة بفتح القاف والزاي والعين المهملة وفي اللباس عن أبي الوليد هشام بن عبد الملك ومسلم عن القعنبي ويحيى بن يحيى وقتيبة بن سعيد السبعة عن مالك به
قال ابن عبد البر حديث انفرد به مالك لا يحفظ عن غيره ولم يروه أحد عن الزهري سواه من طريق صحيح
وقد روي عن ابن أخي ابن شهاب عن عمه ولا يكاد يصح
وروي أيضا من غير هذا الوجه ولا يثبت العلماء بالنقل إسنادا غير إسناد مالك وقد رواه عنه جماعة من الأئمة يطول ذكرهم من أجلهم ابن جريج وكذا قال الصلاح وغيره أن مالكا تفرد به وقد تعقبه الحافظ الزين العراقي في نكته بأنه ورد من عدة طرق عن ابن شهاب من رواية ابن أخي الزهري عند البزار وأبي أويس عند ابن سعد وابن عدي ومعمر ذكره ابن عدي في الكامل والأوزاعي ذكره المزي قال وروى ابن مسدي في معجم شيوخه أن أبا بكر بن العربي قال لأبي جعفر بن المرخي حين ذكر أنه لا يعرف إلا من حديث مالك
____________________
(2/528)
عن الزهري قد رويته من ثلاث عشر طريقا غير طريق مالك فقالوا له أفدنا هذه الفوائد فوعدهم ولم يخرج لهم شيئا قال الحافظ في نكته قد استبعد أهل أشبيلية قول ابن العربي حتى قال قائلهم يا أهل حمص ومن بها أوصيكم بالبر والتقوى وصية مشفق فخذوا عن العربي أسمار الدجى وخذوا الرواية عن إمام متق إن الفتى ذرب اللسان مهذب إن لم يجد خبرا صحيحا يخلق وعنى بأهل حمص أهل إشبيلية قال وقد تتبعت طرقه فوجدته كما قال ابن العربي بل أزيد فرويناه من طريق الأربعة الذين ذكرهم شيخنا يعني العراقي ورواية معمر في معجم أبي بكر بن المقري ورواية الأوزاعي في فوائد تمام ومن رواية عقيل بن خالد في معجم أبي الحسين بن جميع ويونس بن يزيد في الإرشاد للخليلي ومحمد بن أبي حفصة في رواة مالك للخطيب وسفيان بن عيينة في مسند أبي يعلى وأسامة بن الليثي في الضعفاء لابن حبان وابن أبي ذئب في الحلية لأبي نعيم وعبد الرحمن ومحمد أبي عبد العزيز في فوائد أبي محمد عبد الله بن إسحاق الخراساني ومحمد بن إسحاق في مسند مالك لابن عدي بن عبد الرحمن بن أبي الموالي في الإفراد للدارقطني وبحر بن كثير السقاء ذكره أبو محمد جعفر الأندلسي نزل مصر في تخريج له وصالح بن أبي الأخضر ذكره الحافظ أبو ذر الهروي فهؤلاء ستة عشر نفسا غير مالك رووه عن الزهري
وروي من طريق يزيد الرقاشي عن أنس متابعا للزهري في فوائد أبي الحسين الفراء الموصلي ومن حديث سعد بن أبي وقاص وأبي برزة الأسلمي وهما في سنن الدارقطني وعلي بن أبي طالب في المشيخة الكبرى لأبي محمد الجوهري وسعيد بن يربوع والسائب بن يزيد وهما في مستدرك الحاكم فهذه طرق كثيرة غير طريق مالك عن الزهري عن أنس فكيف يحل لأحد أن يتهم إماما من أئمة المسلمين يعني ابن العربي بغير علم ولا اطلاع
وذكر نحوه في الفتح وزاد لكن ليس في طرقه شيء على شرط الصحيح إلا طريق مالك وأقربها طريق ابن أخي الزهري ويليها رواية أبي أويس فيحمل قول من قال انفرد به مالك أي بشرط الصحة وقول من قال توبع أي في الجملة انتهى
وهذا الحمل أشار إليه ابن عبد البر فيما نقلته أولا عنه والله أعلم
( مالك عن نافع أن عبد الله بن عمر أقبل من مكة ) يريد المدينة ( حتى إذا كان بقديد ) بضم القاف ( وجاءه خبر من المدينة ) بالفتنة كما في رواية عبد الرزاق عن عبيد الله عن نافع ( فرجع فدخل مكة بغير إحرام ) لقرب الموضع
( مالك عن ابن شهاب مثل ذلك ) واحتج به ابن شهاب والحسن البصري وداود وأتباعه على
____________________
(2/529)
جواز دخولها بلا إحرام وقالوا إن موجب الإحرام عليه بحج أو عمرة لم يوجبه الله ولا رسوله ولا اتفق عليه وأبى ذلك الجمهور
قال ابن وهب عن مالك لست آخذ بقول ابن شهاب وكرهه وقال إنما يكون ذلك على مثل ما عمل ابن عمر من القرب إلا رجلا يأتي بالفاكهة من الطائف أو ينقل الحطب يبيعه فلا أرى بذلك بأسا
وقال إسماعيل القاضي كره الأكثر دخولها بلا إحرام ورخصوا للحطابين ومن أشبههم ممن يكثر اختلافه إلى مكة ولمن خرج منها يريد بلده ثم بدا له أن يرجع كما صنع ابن عمر
وأما من سافر إليها في تجارة أو غيرها فلا يدخلها إلا محرما لأنه يأتي الحرم ويؤيد ذلك أنه لو نذر المشي إليها وجب عليه أن يدخلها محرما بحج أو عمرة وما دخلها قط إلا محرما إلا يوم الفتح
( مالك عن محمد بن عمرو ) بفتح العين ( ابن حلحلة ) بمهملتين مفتوحتين بينهما لام ساكنة ( الديلي ) بكسر الدال وسكون التحتية المدني ( عن محمد بن عمران الأنصاري ) قال ابن عبد البر لا أعرفه إلا بهذا الحديث ( عن أبيه ) إن لم يكن عمران بن حيان الأنصاري أو عمران بن عوادة فلا أدري من هو ( أنه قال عدل إلي عبد الله بن عمر ) ابن الخطاب ( وأنا نازل تحت سرحة ) بفتح السين والحاء المهملتين بينهما راء ساكنة شجرة طويلة لها شعب ( بطريق مكة فقال ما أنزلك تحت هذه السرحة فقلت أردت ظلها فقال هل غير ذلك فقلت لا ما أنزلني ) تحتها ( إلا ذلك ) إرادة ظلها ( فقال عبد الله بن عمر قال رسول الله إذا كنت بين الأخشبين من منى ) قال ابن وهب أراد بهما الجبلين اللذين تحت العقبة بمنى فوق المسجد والأخاشب الجبال وقال إسماعيل الأخاشب يقال إنها اسم لجبال مكة ومنى خاصة ( ونفخ ) بخاء معجمة أي أشار ( بيده نحو المشرق ) قال البوني أحسب أن ابن عمر ظن أن عمران يعلم الوادي الذي فيه المزدلفة لذلك ما كرر عليه السؤال ( فإن هناك واديا يقال له السرر ) بضم السين وكسرها ( به شجرة سر تحتها سبعون نبيا ) أي ولدوا تحتها فقطع سرهم بالضم وهو ما تقطعه القابلة من سرة الصبي كما في النهاية وغيرها فقول السيوطي أي قمعت سرتهم إذ ولدوا تحتها مجاز سمى السرسرة لعلاقة المجاورة وقال مالك بشروا تحتها بما يسرهم قال ابن حبيب فهو من السرور أي تنبؤوا تحتها واحدا بعد واحد فسروا بذلك وبه أقول وفيه التبرك بمواضع النبيين وأخرجه النسائي من طريق ابن القاسم عن مالك به
____________________
(2/530)
( مالك عن عبد الله بن أبي بكر بن حزم ) نسبه إلى جده لشهرته وإلا فأبو بكر بن محمد بن عمرو بن حزم بمهملة وزاي ( عن ابن أبي مليكة ) هو عبد الله بفتح العين ابن عبيد الله بضمها ابن عبد الله بفتحها ابن أبي مليكة بضم الميم بالتصغير يقال اسمه زهير التيمي مولى عبد الله بن جدعان أدرك ثلاثين من الصحابة وكان ثقة فقيها مات سنة سبع عشرة ومائة
( أن عمر بن الخطاب مر بامرأة مجذومة ) أصابها داء الجذام يقطع اللحم ويسقطه ( وهي تطوف بالبيت فقال لها يا أمة الله لا تؤذي الناس ) بريح الجذام ( لو جلست في بيتك ) كان خيرا لك أو لو للتمني فلا جواب لها ( فجلست فمر بها رجل ) لم يسم ( بعد ذلك فقال لها إن الذي قد نهاك قد مات فاخرجي ) لعله جاهل أو رجل سوء أو يكون مختبرا لها قاله أبو عبد الملك
( فقالت ما كنت لأطيعه حيا وأعصيه ميتا ) لأنه إنما أمر بحق قال أبو عمر فيه أنه يحال بين المجذوم ومخالطة الناس لما فيه من الأذى وهو لا يجوز وإذا منع آكل الثوم من المسجد وكان ربما أخرج إلى البقيع في العهد النبوي فما ظنك بالجذام وهو عند بعض الناس يعدي وعند جميعهم يؤذي وألان عمر للمرأة القول بعد أن أخبرها أنها تؤذي لأنه لم يتقدم إليها ورحمها للبلاء الذي بها وقد عرف منه أنه كان يعتقد أن شيئا لا يعدي وكان يجالس معيقيبا الدوسي ويؤاكله ويشاربه وربما وضع فمه على موضع فمه وكان على بيت ماله ولعله علم من عقلها ودينها أنها تكتفي بإشارته فلم يحتج إلى نهيها ألم تر إلى أنه لم تخط فراسته فيها فأطاعته حيا وميتا
( مالك أنه بلغه أن عبد الله بن عباس كان يقول ما بين الركن والباب الملتزم ) هكذا رواه ابن وضاح عن يحيى وهو الصواب وفي رواية ابنه عبيد الله ما بين الركن والمقام وهو خطأ لم يتابع عليه فالرواية في الموطأ وغيره والباب
وروى ابن عباس مرفوعا ما بين الركن والباب ملتزم من دعا الله عنده من ذي حاجة أو ذي كربة أو ذي غم فرج عنه قاله ابن عبد البر
وفي أبي داود وابن ماجه أن عبد الله بن عمرو بن العاصي طاف ثم قال نعوذ بالله من النار ثم مضى حتى استلم الحجر وقام بين الركن والباب فوضع صدره ووجهه وذراعيه وكفيه هكذا وبسطهما ثم قال هكذا رأيت رسول الله يفعله
____________________
(2/531)
( مالك عن يحيى بن سعيد ) الأنصاري ( عن محمد بن يحيى بن حبان ) بفتح المهملة والموحدة الثقيلة ( أنه سمعه يذكر أن رجلا ) لم يسم ( مر على أبي ذر بالربذة ) بفتح الراء والموحدة والذال المعجمة ( وأن أبا ذر سأله أين تريد فقال أردت الحج فقال هل نزعك ) بزاي ومهملة أي أخرجك ( غيره ) قال تعالى { ونزع يده } سورة الأعراف الآية 108 أي أخرجها ( فقال لا قال فائتنف العمل ) استقبله لغفر ذنبك ومراده أنه إذا لم يخرج إلا للحج وحده كان أعظم لأجره
( قال الرجل فخرجت حتى قدمت مكة فمكثت ) بضم الكاف وفتحها أقمت ( ما شاء الله ) أن أمكث ( ثم إذا أنا بالناس منقصفين ) أي مزدحمين ( على رجل ) حتى كأن بعضهم يقصف بعضا بدارا إليه ( فضاغطت ) بضاد وغين معجمتين وطاء مهملة زاحمت وضايقت ( عليه الناس ) لأن أراه ( فإذا أنا بالشيخ الذي وجدت بالربذة يعني أبا ذر قال فلما رآني عرفني فقال هو الذي حدثتك ) قال ابن عبد البر هذا لا يجوز أن يكون مثله رأيا وإنما يدرك بالتوقيف من النبي قال وفيه أن الله رضي من عباده بقصد بيته مرة في عمر العبد ليحط أوزاره ويغفر ذنوبه ويخرج منها كيوم ولدته أمه كما قال في الحديث الآخر من حج فلم يرفث ولم يفسق خرج من ذنوبه كيوم ولدته أمه وقال ابن مسعود من حج بنية صادقة ونفقة طيبة خرج من ذنوبه كيوم ولدته أمه
وفيه ما كان عليه أبو ذر من الفقه والعلم
وقد سئل علي عنه فقال وعاء مليء علما عجز الناس عنه وأوكىء عليه فلم يخرج شيئا
ونظر عمر إلى ركب صادرين من الحج فقال لو يعلم الركب ما ينقلبون به من الفضل بعد المغفرة لا تكلوا ولكن ليستأنفوا العمل
وسئل الثوري حين دفع الناس من عرفة إلى المزدلفة عن أخسر الناس صفقة وهو يعرض بالظلمة وأهل الفسق فقال أخسر الناس صفقة من ظن أن الله لا يغفر لهؤلاء
( مالك أنه سأل ابن شهاب عن الاستثناء في الحج ) وهو أن يشترط أن يتحلل حيث أصابه مانع ( فقال أو يصنع ذلك أحد وأنكر ذلك ) وإلى عدم جوازه ونفعه ذهب مالك وأبو حنيفة والأكثرون وكان ابن عمر ينكر الاشتراط في الحج ويقول أليس حسبكم سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم إن حبس أحدكم عن الحج
____________________
(2/532)
طاف بالبيت وبالصفا والمروة ثم يحل من كل شيء حتى يحج عاما قابلا فيهدي أو (1)
____________________
1* يصوم إن لم يجد هديا رواه الشيخان والترمذي وغيرهم
وذهب الشافعي وأحمد وطائفة إلى جوازه ونفعه لحديث الصحيحين وغيرهما عن عائشة دخل النبي على ضباعة بنت الزبير بن عبد المطلب فقالت يا رسول الله إني أريد الحج وأنا شاكية فقال النبي حجي واشترطي وقولي اللهم محلي حيث حبستنيوفي الصحيح عن ابن عباس أن ضباعة أتت النبي فقالت إني امرأة ثقيلة وإني أريد الحج فما تأمرني قال أهلي بالحج واشترطي أن محلي حيث تحبسني قال فأدركت وأجاب الأولون بأنها قضية عين خاصة بضباعة إذ لا عموم فيها وتأوله آخرون على أن المراد التحلل بعمرة وكذلك جاء مفسرا من رواية ابن المسيب أنه أمر ضباعة أن تشترط اللهم الحج أردت فإن تيسر وإلا فعمرة وعن عروة أن عائشة قالت له هل تشترط إذا حججت قال ماذا أقول قالت قل اللهم الحج أردت وله عمدت فإن يسرته فهو الحج وإن حبسني حابس فهو عمرة رواه الشافعي والبيهقي
( سئل مالك هل يحتش الرجل لدابته من الحرم فقال لا ) لقوله لا يعضد شجره ولا يختلى خلاه والخلا ما يبس من النبات
وقال إلا الإذخر وقيس عليه السنا للحاجة العامة إليه فإن احتش فلا جزاء
وقال الشافعي عليه القيمة
ويجوز أن يرعى الإبل في الحرم لأنه لا يمكن الاحتراز عنه ولو منع منه امتنع السفر في الحرم والمقام فيه لتعذر الاحتراز عنه قاله الباجي
82 حج المرأة بغير ذي محرم ( قال مالك في الصرورة ) بفتح الصاد المهملة وضم الراء وإسكان الواو وفتح الراء ( من النساء التي لم تحجج قط ) تفسير للصرورة لصرها النفقة وإمساكها ويسمى من لم يتزوج صرورة أيضا لأنه صر الماء في ظهره وتبتل على مذهب الرهبانية ومنه قول النابغة لو أنها عرضت لأشمط راهب عبد الإله صرورة متلبد وبكل من هذين فسر حديث أبي داود مرفوعا لا صرورة في الإسلام وبثالث وهو أن من قتل في الحرم يقتل ولا يقبل منه أن يقول إني صرورة ما حججت ولا عرفت حرمة الحرم خلافا لما كان أهل الجاهلية يقولون لولي الدم هو صرورة فلا تهجه ( إنها إن لم يكن لها ذو محرم يخرج معها أو كا
(2/533)
لها فلم يستطع أن يخرج معها ) لمانع قام به وكذا إن لم يرض ( أنها لا تترك فريضة الله عليها في الحج ) بقوله { ولله على الناس حج البيت } سورة آل عمران الآية 97 فدخل فيه النساء ( ولتخرج في جماعة النساء ) المأمونة للفرض أما التطوع فلا تخرج إلا مع محرم فليس المحرم أو الزوج شرطا في وجوب حج الفرض عليها عنده وعند الشافعي أما التطوع فلا تخرج إلا مع أحدهما وعليه وعلى السفر المباح حمل حديث الموطأ الآتي في أواخر كتاب الجامع عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر تسافر مسيرة يوم وليلة إلا مع ذي محرم منها زاد في رواية في الصحيحين أو زوج ويأتي إن شاء الله بسط الكلام عليه بعون الله ثمة ويدل على حمله على ذلك الإجماع على أن المرأة إذا أسلمت بدار الحرب يلزمها الخروج إلى بلاد الإسلام وإن لم يكن معها ذو محرم فكذلك تحج الفريضة قياسا على الهجرة التي خص بها الحديث بالإجماع وكره مالك أن يخرج بها ابن زوجها وإن كان ذا محرم منها
قال الباجي وجهه ما ثبت للربائب من العداوة وقلة المراعاة والإشفاق والحرص على طيب الذكر قال وهذا في حال الانفراد والعدد اليسير
أما القوافل العظيمة والطرق العامرة المأمونة فهي مثل البلاد والأمن يحصل لها دون نساء وذي محرم وروي ذلك عن الأوزاعي انتهى
ولم يذكر الجمهور هذا القيد عملا بإطلاق الحديث وهو الراجح
83 صيام التمتع ( مالك عن ابن شهاب عن عروة بن الزبير عن عائشة أم المؤمنين أنها كانت تقول الصيام لمن تمتع بالعمرة ) أي بسبب فراغه منها بمحظورات الإحرام ( إلى الحج ) أي الإحرام به بأن يكون أحرم بها في أشهره ( لمن لم يجد هديا ) كما قال تعالى { فما استيسر من الهدي فمن لم يجد فصيام ثلاثة أيام في الحج وسبعة إذا رجعتم } سورة البقرة الآية 196 ما بين أن يهل بالحج إلى يوم عرفة لأنه إذا أهل بالحج لزمه الهدي فإن لم يجده جاز له الصوم وقبل الإهلال بالحج لم يلزمه شيء فلم يجز له الصوم قبل الوجوب كما لا يجوز له نحو هدي التمتع حينئذ
( فإن لم يصم صام أيام منى ) الثلاثة التي تلي يوم النحر يحتمل أنها تريد أن الصيام قبل يوم النحر أبرأ للذمة وذلك مأمور به أو تراه وقت أداء أو أيام منى
____________________
(2/534)
وقت قضاء وأن صيام ما قبل يوم النحر مباح لكل مريد الصوم وصيام أيام منى ممنوعة إلا للضرورة لمن لم يصم قبل ذلك ليكون صومه في حج امتثالا لقوله تعالى ( فصيام ثلاثة أيام في الحج ) وبعد منى لا يكون الصوم في الحج
وقد قال بعض أصحاب الشافعي إنها قضاء وظاهر المذهب أنها أداء وإن كان الصوم قبلها أفضل كأداء الصلاة أول الوقت قاله الباجي
( مالك عن ابن شهاب عن سالم بن عبد الله عن ) أبيه ( عبد الله بن عمر أنه كان يقول في ذلك مثل قول عائشة رضي الله عنها ) ومر أن ثاني النحر وثالثه لا يصومهما إلا للتمتع ورابعه يصومه من نذره وفرق الباجي بأنه لا يتحقق بالحج لأنه قد يتعجل قبله ولا يجوز التعجيل في اليومين قبله
ونظر فيه ابن زرقون بأن الحج لا يمنع الصوم ومعظمه يوم عرفة ويجوز صومه لكل أحد وإنما منع من صيام أيام التشريق لأنها عيد ولحديث إنها أيام أكل وشرب ثم عقب الحج بالجهاد لمناسبة أن في كل سفرا في طاعة وفي كل مشقة وثواب عظيم فقال
____________________
(2/535)
6 كتاب الجهاد بكسر الجيم أصله المشقة يقال جهدت جهادا بلغت المشقة وشرعا بذل الجهد في قتال الكفار
ويطلق على مجاهدة النفس بتعلم أمور الدين ثم العمل بها ثم على تعليمها وعلى مجاهدة الشيطان بدفع ما يأتي به من الشبهات وما يزينه من الشهوات وعلى مجاهدة الفساق باليد ثم اللسان ثم القلب
وأما مجاهدة الكفار فباليد والمال واللسان والقلب وشرع بعد الهجرة اتفاقا
وللعلماء قولان مشهوران هل كان فرض عين أو كفاية وقال الماوردي كان فرض عين على المهاجرين دون غيرهم ويؤيده وجوب الهجرة قبل الفتح على كل من أسلم إلى المدينة لنصر الإسلام
وقال السهيلي كان عينا على الأنصار دون غيرهم ويؤيده مبايعتهم النبي ليلة العقبة على أن يؤوه وينصروه فتخرج من قولهما أنه كان عينا على الطائفتين كفاية في حق غيرهم ومع ذلك فليس في حق الطائفتين على التعميم بل في حق الأنصار إذا طرق المدينة طارق وفي حق المهاجرين إذا أريد قتال أحد من الكفار ابتداء ويؤيد هذا ما وقع في قصة بدر وقد كان عينا في الغزوة التي يخرج فيها النبي وعلى من عينه ولو لم يخرج
وأما بعده ففرض كفاية على المشهور إلا أن تدعو الحاجة إليه كأن يدهم العدو وبتعيين الإمام وتتأدى الكفاية بفعله في السنة مرة عند الجمهور لأن الجزية بدل عنه وإنما يجب في السنة مرة اتفاقا فبدلها كذلك وقيل يجب كلما أمكن وهو قوي قال بعضهم والتحقيق أن جهاد الكفار متعين على كل مسلم إما بيده وإما بلسانه وإما بماله وإما بقلبه
51 الترغيب في الجهاد ( مالك عن أبي الزناد ) بكسر الزاي وخفة النون عبد الله بن ذكوان ( عن الأعرج ) عبد الرحمن بن هرمز ( عن أبي هريرة أن رسول الله قال مثل المجاهد في سبيل الله ) زاد البخاري عن ابن المسيب
____________________
(3/3)
عن أبي هريرة مرفوعا والله أعلم بمن يجاهد في سبيله أي يعقد نيته إن كانت خالصة لإعلاء كلمته فذلك المجاهد في سبيله وإن كان في نيته حب المال والدنيا واكتساب الذكر فقد أشرك مع سبيل الله الدنيا
( كمثل الصائم ) نهاره ( القائم ) ليله للصلاة ( الدائم الذي لا يفتر ) بضم التاء لا يضعف ولا ينكسر ( من صلاة ولا صيام ) تطوعا ومن كان كذلك فأجره مستمر فكذلك المجاهد لا تضيع ساعة من ساعاته بلا ثواب ( حتى يرجع ) من جهاده
قال تعالى { ذلك بأنهم لا يصيبهم ظمأ ولا نصب } التوبة 120 الآيتين ومثله بالصائم القائم لأنه ممسك لنفسه عن الأكل والشرب والنوم واللذات والمجاهد ممسك لها على محاربة العدو حابس لها على من يقاتله
قال البوني يحتمل أنه ضرب ذلك مثلا وإن كان أحد لا يستطيع كونه قائما مصليا لا يفتر ليلا ولا نهارا ويحتمل أنه أراد التكثير
ولمسلم من طريق أبي صالح عن أبي هريرة كمثل الصائم القائم القانت بآيات الله
زاد النسائي من هذا الوجه الخاشع الراكع الساجد
قال الباجي أحال ثواب الجهاد على الصائم القائم وإن كنا لا نعرف مقداره لما قرر الشرع من كثرته وعرف من عظمه
قال عياض هذا تفخيم عظيم للجهاد لأن الصيام وغيره مما ذكر من الفضائل قد عدلها كلها الجهاد حتى صارت جميع حالات المجاهد وتصرفاته المباحة تعدل أجر المواظب على الصلاة وغيرها وفيه أن الفضائل لا تدرك القياس وإنما هي إحسان من الله لمن شاءه انتهى
ثم لا معارضة بين هذا وبين الخبر المار ألا أنبئكم بخير أعمالكم إلى أن قال ذكر الله إما لأن المراد الذكر الكامل وهو ما اجتمع فيه ذكر اللسان والقلب بالشكر واستحضار عظمة الرب وهذا لا يعدله شيء وفضل الجهاد وغيره إنما هو بالنسبة إلى ذكر اللسان المجرد باعتبار أحوال المخاطبين كما مر مع مزيد حسن في باب ذكر الله من أواخر الصلاة
وقال ابن دقيق العيد القياس يقتضي أن الجهاد أفضل الأعمال التي هي وسائل لأن الجهاد وسيلة إلى إعلان الدين ونشره وإخماد الكفر ودحضه ففضله بحسب فضل ذلك انتهى
وأما حديث ابن عباس مرفوعا ما العمل في أيام الفضل منها في هذه الأيام يعني أيام عشر ذي الحجة قالوا ولا الجهاد في سبيل الله قال ولا الجهاد فيحتمل أن يخص به عموم حديث الباب أو أنه مخصوص بمن خرج قاصدا المخاطرة بنفسه وماله فأصيب
( مالك عن أبي الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة أن رسول الله قال تكفل الله ) ولمسلم من رواية أبي زرعة عن أبي هريرة تضمن الله وللبخاري انتدب الله
وكلها بمعنى واحد ومحصله تحقيق الوعد المذكور في قوله تعالى { إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة } التوبة 111 وذلك التحقق عن وجه الفضل منه سبحانه وتعالى
وعبر عن تفضله تعالى بالثواب بلفظ
____________________
(3/4)
الضمان ونحوه مما جرت به عادة المخاطبين فيما تطمئن به نفوسهم ( لمن جاهد في سبيله ) الكفار عند الإطلاق شرعا وإن كانت جميع أعمال البر في سبيله ( لا يخرجه من بيته إلا الجهاد في سبيله ) ولأحمد والنسائي برجال ثقات عن ابن عمر عن النبي فيما يحكى عن ربه قال أيما عبد من عبادي خرج مجاهدا في سبيلي ابتغاء مرضاتي ضمنت إن رجعته أن أرجعه بما أصاب من أجر أو غنيمة الحديث أخرجه الترمذي وصححه من حديث عبادة يقول إلا المجاهد في سبيلي هو علي ضامن إن رجعته رجعته بأجر أو غنيمة الحديث
( وتصديق كلماته ) قال النووي أي كلمة الشهادتين وقيل تصديق كلام الله تعالى في الأخبار للمجاهدين من عظيم الثواب قال والمعنى لا يخرجه إلا محض الإيمان والإخلاص لله تعالى ( أن يدخله ) إن استشهد ( الجنة ) بلا حساب ولا عذاب ولا مؤاخذة بذنب فتكون الشهادة مكفرة لذنوبه كما في الحديث الصحيح أو المراد يدخله الجنة ساعة موته كما ورد أن أرواح الشهداء تسرح في الجنة
وقال تعالى { أحياء عند ربهم يرزقون } آل عمران 169 قاله الباجي وتبعه عياض وغيره دفعا لإيراد من قال ظاهر الحديث التسوية بين الشهيد والراجع سالما لأن حصول الأجر يستلزم دخول الجنة ومحصل الجواب أن المراد بدخول الجنة دخول خاص
( أو يرده ) بالنصب عطفا على يدخله وفي رواية الأويسي أو يرجعه بفتح أوله والنصب ( إلى مسكنه الذي خرج منه مع ما نال من أجر ) خالص إن لم يغنم شيئا ( أو غنيمة ) مع أجر وكأنه سكت عنه لنقصه بالنسبة إلى الأجر الذي بلا غنيمة والحامل عن التأويل أن ظاهر الحديث أنه إذا غنم لا أجر له وليس بمراد لأن القواعد تقتضي أنه عند عدم الغنيمة أفضل منه وأتم أجرا عند وجودها فالحديث صريح في عدم الحرمان لا في نفي الجمع
وقال الكرماني معناه أن المجاهد إما أن يتشهد أو لا والثاني لا ينفك من أجر أو غنيمة مع إمكان اجتماعهما فالقضية مانعة خلو لا مانعة جمع
وأجيب أيضا بأن أو بمعنى الواو وبه جزم ابن عبد البر والقرطبي ورجحه التوربشتي وقد وقع بالواو ليحيى بن بكير في الموطأ لكن في رواية ابن بكير عن مالك مقال ولم يختلف رواية في أنها بأو وكذا لمسلم عن يحيى عن مغيرة بن عبد الرحمن عن أبي الزناد بالواو ولكن رواه جعفر الفريابي وجماعة عن يحيى بأو وللنسائي من طريق سعيد بن المسيب ومن طريق عطاء بن مينا عن أبي هريرة وأبي داود بإسناد صحيح عن أبي أمامة بالواو وقال الحافظ فإن كانت هذه الروايات محفوظة تعين أن أو بمعنى الواو كما هو مذهب نحاة الكوفيين لكن فيه إشكال صعب لاقتضائه من حيث المعنى وقوع الضمان بمجموع الأمرين لكل من رجع وقد لا يتفق ذلك فإن كثيرا من الغزاة يرجع بلا غنيمة فما فر منه مدعى أنها بمعنى الواو وقع في نظيره لأنه لا يلزم على ظاهرها إن رجع بغنيمة رجع بلا أجر كما يلزم على أنها بمعنى الواو أن كل غاز يجمع له بين الأجر والغنيمة معا انتهى
وهذا الإشكال لابن دقيق العيد وأجاب الدماميني بأنه إنما يرد إذا كان القائل إنها للتقسيم قد فسر المراد بما ذكره هو من قوله فله الأجر إن فاتته الغنيمة الخ
وأما إن سكت عنه فلا
____________________
(3/5)
يتجه الإشكال إذ يحتمل أن التقدير أن يرجعه سالما مع أجر وحده أو غنيمة وأجر كما مر والتقسيم بهذا الاعتبار صحيح والإشكال ساقط مع أنه لو سلم أن القائل بأنها للتقسيم صرح بأن المراد فله الأجر إن فاتته الغنيمة وإن حصلت فلا لم يرد الإشكال أيضا لاحتمال أن تنكير أجر لتعظيمه ويراد به الأجر الكامل فيكون معنى قوله إن فاتته الغنيمة الأجر الكامل وإن حصلت فلا يحصل له هذا الأجر المخصوص وهو الكامل فلا يلزم انتفاء مطلق الأجر عنه انتهى
وقد روى مسلم عن عبد الله بن عمرو ابن العاصي مرفوعا ما من غازية تغزو في سبيل الله فيصيبون الغنيمة إلا تعجلوا ثلثي أجرهم من الآخرة ويبقى لهم الثلث فإن لم يصيبوا غنيمة تم لهم أجرهم قال الحافظ وهذا يؤيد التأويل الأول وأن الذي يغنم يرجع بأجر لكنه أنقص من أجر من لم يغنم فتكون الغنيمة في مقابلة جزء من أجزاء الغزو فإذا قوبل أجر الغانم بما حصل له من الدنيا وتمتعه به بأجر من لم يغنم مع اشتراكهما في التعب والمشقة كان أجر من غنم دون أجر من لم يغنم وهذا موافق لقول خباب في الحديث الصحيح فمنا من مات ولم يأكل من أجره شيئا واستشكل نقص ثواب المجاهد بأخذ الغنيمة بمخالفته لما دل عليه أكثر الأحاديث واشتهر من تمدح النبي بحل الغنيمة وجعلها من فضائل أمته فلو نقصت الأجر ما وقع التمدح بها وأيضا فإن ذلك يستلزم أن أجر أهل بدر أنقص من أجر أهل أحد مثلا مع أن أهل بدر أفضل باتفاق ذكر هذا الاستشكال ابن عبد البر وحكاه عياض وذكر أن بعضهم أجاب بضعف حديث ابن عمر ولأنه من رواية حميد بن هانىء وليس بمشهور وهذا مردود لأنه احتج به مسلم ووثقه النسائي وابن يونس وغيرهما ولا يعرف فيه تجريح لأحد ومنهم من حمل نقص الأجر على غنيمة أخذت على غيرها وظهور فساد هذا الوجه يغني عن رده إذ لو كان كذلك لم يبق لهم ثلث أجر ولا أقل منه ومنهم من حمله على من قصد الغنيمة في ابتداء جهاده وحمل تمامه على من قصد الجهاد محضا وفيه نظر لأن الحديث صرح بأن هذا القسم راجع إلى من أخلص لقوله لا يخرجه إلا الجهاد الخ
وقال عياض الوجه عندي إجراء الحديثين على ظاهرهما واستعمالهما على وجههما ولم يجب عن الإشكال المتعلق بأهل بدر
وقال ابن دقيق العيد لا تعارض بين الحديثين بل الحكم فيهما جار على القياس لأن الأجور تتفاوت بحسب زيادة المشقة لأن لها دخلا في الأجر وإنما المشكل العمل المتصل بأخذ الغنائم يعني فلو نقصت الأجر لما كان السلف الصالح يثابرون عليها فيمكن أن يجاب بأن أخذها من جهة تقديم بعض المصالح الجزئية على بعض لأن أخذها أول ما شرع كان عونا على الدين وقوة لضعفاء المسلمين وهي مصلحة عظيمة يغتفر لها نقص الأجر من حيث هو وأما الجواب عن استشكال ذلك بحال أهل بدر فالذي ينبغي أن التقابل بين كمال الأجر ونقصه لمن يغزو بنفسه إذا لم يغنم أو يغزو فيغنم فغايته أن حال أهل بدر مثلا عند عدم الغنيمة أفضل منه عند وجودها ولا ينفي ذلك أن حالهم هم أفضل من حال غيرهم من جهة أخرى ولم يرد فيهم نص أنهم لو لم يغنموا كان أجرهم بحاله من غير زيادة ولا يلزم من كونهم مغفورا لهم وأنهم أفضل المجاهدين أن لا يكون
____________________
(3/6)
وراءهم مرتبة أخرى وأما الإعتراض بحل الغنائم فلا يرد إذ لا يلزم من الحل وفاء الأجر لكل غاز والمباح في الأصل لا يستلزم الثواب بنفسه لكن ثبت أن أخذ الغنيمة وسلبها من الكفار يحصل الثواب ومع ذلك فصحة ثبوت الفضل في أخذها وصحة التمدح به لا يلزم منه أن كل غاز يحصل له من أجر غزاته نظير من لم يغنم شيئا البتة
قلت والذي مثل بأهل بدر أراد التهويل وإلا فالأمر على ما تقرر آخرا بأنه لا يلزم من كونهم مع أخذ الغنيمة أنقص أجرا عما لو لم يحصل لهم غنيمة أن يكونوا في حال أخذها مفضولين بالنسبة إلى من بعدهم كمن شهد أحدا لكونهم لم يغنموا شيئا بل أجر البدري في الأصل أضعاف أجر من بعده مثال ذلك لو فرض أن أجر البدري بلا غنيمة ستمائة وأجر الأحدي مثلا بلا غنيمة مائة فإذا نسبنا ذلك باعتبار حديث ابن عمر وكان للبدري لأخذه الغنيمة مائتان وهي ثلث الستمائة فيكون أكثر أجرا من الأحدي وإنما امتاز أهل بدر بذلك لأنها أول غزوة شهدها النبي في قتال الكفار وكانت مبدأ اشتهار الإسلام وقوة أهله فكان لمن شهدها مثل أجر من شهد المغازي التي بعدها جميعا فصارت لا يوازيها شيء في الفضل
واختار ابن عبد البر أن المراد بنقص أجر من غنم أن الذي لا يغنم يزداد أجره لحزنه على ما فاته من الغنيمة كما يؤجر من أصيب بماله فكأن الأجر لما نقص عن المضاعفة بسبب الغنيمة عد ذلك كالنقص من أصل الأجر ولا يخفى مباينة هذا التأيل لحديث عبد الله بن عمرو وذكر بعضهم فيه حكمة لطيفة بالغة وذلك أن الله أعد للمجاهدين ثلاث كرامات دنيويتان وأخرية فالدنيويتان السلامة والغنيمة والأخروية دخول الجنة فإذا رجع سالما غانما فقد حصل له ثلثا ما أعد الله وبقي له الثلث وإن رجع بلا غنيمة عوضه الله عن ذلك ثوابا في مقابلة ما فاته فكأن معنى الحديث أن يقال للمجاهد إذا فاتك شيء من أجر الدنيا عوضتك عنه ثوابا وأما الثواب المختص بالجهاد فحاصل للفريقين معا وغاية ما فيه غير النعمتين الدنيويتين الجنة وإنما هي بفضل الله وفيه استعمال التمثيل في الأحكام وإن الأعمال الصالحة لا تستلزم الثواب لأعيانها وإنما يحصل بالنية الخالصة إجمالا وتفصيلا انتهى
وأخرجه البخاري في الخمس عن إسماعيل وفي التوحيد عنه وعن عبد الله بن يوسف كلاهما عن مالك به وتابعه المغيرة بن عبد الرحمن عن أبي الزناد عند مسلم
988 ( مالك عن زيد بن أسلم ) العدوي مولاهم المدني ( عن أبي صالح ) ذكوان ( السمان ) بائع السمن ( عن أبي هريرة أن رسول الله قال الخيل ) زاد القعنبي لثلاثة ( لرجل أجر ) أي ثواب ( ولرجل ستر ) بكسر فسكون أي ساتر لفقره ولحاله ( وعلى رجل وزر ) أي إثم ووجه الحصر في الثلاثة أن الذي يقتنيها إما لركوب أو تجارة وكل منهما إما أن يقترن به فعل طاعة وهو الأول أو معصية
____________________
(3/7)
وهو الأخير أولا ولا وهو الثاني
( فأما الذي هي له أجر فرجل ربطها في سبيل الله ) أي أعدها للجهاد ( فأطال لها ) الحبل الذي ربطها فيه حتى تسرح الرعي ( في مرج ) بفتح الميم وإسكان الراء وجيم موضع كلإ وأكثر ما يطلق في الموضع المطمئن ( أو روضة ) بالشك من الراوي وأكثر ما يطلق الروضة في الموضع المرتفع ( فما أصابت ) أي أكلت وشربت ومشت ( في طيلها ) بكسر الطاء المهملة وفتح التحتية فلام حبلها الذي تربط به ويطول لها لترعى ويقال له طول بالواو المفتوحة أيضا ولم يأت به رواية هنا كما زعم بعضهم إنما ورد في حديث أبي هريرة موقوفا عند البخاري أن فرس المجاهد ليستن في طوله فيكتب له حسنات ( ذلك من المرج ) الأرض الواسعة ذات كلإ يرعى فيه سمي به لأنها تمرج فيه أي تسرح وتجيء وتذهب كيف شاءت
( أو الروضة ) بالشك من الراوي كسابقه ( كان ) ما أصابته وفي نسخة كانت بالتأنيث نظرا لمعنى ما ( له حسنات ) يوم القيامة يجدها موفورة ( ولو أنها قطعت طيلها ذلك فاستنت ) بفتح الفوقية وشد النون جرت بنشاط ( شرفا أو شرفين ) بفتح المعجمة والراء والفاء فيهما شوطا أو شوطين سمي به لأن العالي يشرف على ما يتوجه إليه والشرف العالي من الأرض فبعدت عن الموضع الذي ربطها فيه ورعت في غيره ( كانت آثارها ) بالمد والمثلثة في الأرض بحوافرها عند خطواته ( وأرواثها ) بمثلثة جمع روث أي ثوابها لا أنها بعينها توزن ( حسنات له ) أي لصاحبها يوم القيامة ( ولو أنها مرت بنهر ) بفتح الهاء وسكونها ( فشربت منه ) بغير قصد صاحبها ( و ) الحال أنه ( لم يرد أن يسقي ) بحذف المفعول وللقعنبي أن يسقيها ( به ) أي من ذلك النهر ( كان ذلك ) أي شربها وإرادته أن يسقيها بغيره ( له حسنات ) يوم القيامة وفيه أن الإنسان يؤجر على التفاصيل التي تقع في فعل الطاعة إذا قصد أجرها وإن لم يقصد تلك بعينها
وقال ابن المنير قيل إنما أجر لأن ذلك وقت لا ينتفع بشربها فيه فيغتم صاحبها بذلك فيؤجر وقيل أن المراد حيث تشرب من ماء الغير بغير إذنه فيغتم صاحبها فيؤجر وكل ذلك عدول عن القصد ( فهي له أجر ) في الوجهين
( و ) القسم الثاني الذي هي له ستر ( رجل ربطها تغنيا ) بفتح الفوقية والمعجمة وكسر النون الثقيلة وتحتية أي استغناء عن الناس يقال تغنيت بما رزقني الله تغنيا وتغانيت تغانيا واستغنيت استغناء كلها بمعنى والمعنى أنه يطلب بنتاجها أو بما حصل من أجرتها ممن يركبها ونحو ذلك تغنيا عن سؤال الناس ( وتعففا ) عن مسألتهم
وفي رواية سهيل عن أبيه عند مسلم أما الذي هي له ستر فالرجل يتخذها تعففا وتكرما وتجملا ( ولم ينس حق الله في رقابها ) بلا حساب إليها والقيام بفعلها والشفقة عليها في ركوبها وخص رقابها بالذكر لأنها تستعار كثيرا في الحقوق اللازمة كقوله تعالى
____________________
(3/8)
{ فتحرير رقبة } النساء 92 { ولا } في ( ظهورها ) بإطراق فحلها والحمل عليها في سبيل الله أو لا يحملها ما لا تطيقه ونحو ذلك هذا قول من لم يوجب الزكاة في الخيل وهم الجمهور وقيل المراد بالحق الزكاة وهو قول حماد وأبي حنيفة وخالفه صاحباه قال أبو عمر لا أعلم أحدا سبقه إلى ذلك ولا حجة له في الحديث لطروق الاحتمال ( فهي لذلك ستر ) ساتر من المسكنة ( و ) الثالث الذي هي له وزر ( رجل ربطها فخرا ) بالنصب للتعليل أي لأجل الفخر أي تعاظما ( ورياء ) أي إظهارا للطاعة والباطن بخلافه وفي رواية سهيل وأما الذي هي عليه وزر فالذي يأخذها أشرا وبطرا ورياء للناس ( ونواء ) بكسر النون والمد أي مناوأة وعداوة ( لأهل الإسلام ) قال الخليل ناوأت الرجل ناهضته بالعداوة وحكى عياض فتح النون والقصر وحكاه الإسماعيلي عن رواية أبي أويس فإن ثبت فمعناه بعدا
وقال البوني يروى نوى بفتح النون وكسرها ويروى نواء بالمد مصدر انتهى
والظاهر أن الواو فيه فيما قبله بمعنى أو لأن هذه الأشياء قد تفرد في الأشخاص وكل واحد منهما مذموم على حدته وفيه بيان فضل الخيل وأنها إنما تكون في نواصيها الخير والبركة إذا اتخذت في طاعة أو مباح وإلا فهي مذمومة كما قال ( فهي على ذلك وزر ) أي إثم وقد فهم بعض الشراح من الحديث الحصر في الثالثة فقال اتخاذ الخيل يخرج عن أن يكون مطلوبا أو مباحا أو ممنوعا فدخل في المطلوب الواجب والمندوب وفي الممنوع المكروه والحرام بحسب اختلاف المقاصد واعترض بأن المباح لم يذكر في الحديث لأن القسم الثاني الذي يتخيل فيه ذلك قيد بقوله ولم ينس حق الله فيها فيلحق بالمندوب والسر فيه أنه غالبا إنما يعتني بذكر ما فيه حض أو منع أما المباح الصرف فيسكت عنه لما علم أن سكوته عنه عفو ويمكن أن يقال القسم الثاني هو في الأصل مباح إلا أنه ربما ارتقى إلى الندب بالقصد بخلاف القسم الأول فإنه من ابتدائه مطلوب
( وسئل رسول الله عن الحمر ) بضمتين هل لها حكم الخيل أو عن زكاتها وبه جزم الخطابي قال الحافظ لم أقف على تسمية السائل صريحا ويحتمل أنه صعصعة بن ناجية عم الفرزدق لقوله قدمت على النبي فسمعته يقول { فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره } الزلزلة 7 8 إلى آخر السورة فقلت ما أبالي أن لا أسمع غيرها حسبي
رواه أحمد والنسائي وصححه الحاكم وجزم في المقدمة بهذا الإحتمال ( فقال لم ينزل ) بالبناء للمفعول ( علي فيها شيء ) منصوص وفي رواية ما أنزل الله علي فيها ( إلا هذه الآية الجامعة ) لكل الخيرات والمسرات ( الفاذة ) بالفاء وشد المعجمة سماها جامعة لشمولها الأنواع من طاعة ومعصية وفاذة لانفرادها في معناها
قال أبو عبد الملك يحتمل أنه أراد لم يتكرر مثلها في القرآن بلفظها ويحتمل أنها نزلت وحدها والفاذ هو المنفرد انتهى
وقال ابن التين المراد أن الآية دلت على أن من عمل في اقتناء الحمير طاعة رأى ثواب ذلك وإن عمل معصية رأى عقابها
وقال ابن عبد البر يعني أنها منفردة في عموم الخير والشر والآية أعم منها لأنها تعم كل خير
____________________
(3/9)
وشر فأما الخير فلا خلاف أن المؤمن يراه في القيامة ويثاب عليه وأما الشر فتحت المشيئة
قال وفيه أن ما قاله في الخيل كان بوحي لقوله في الحمر لم ينزل علي فيها شيء إلا الخ وهذا يعضد قول من قال أنه كان لا يتكلم إلا بوحي وتلا { وما ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى } النجم 3 4 واحتج بحديث أوتيت الكتاب ومثله معه وبقول عبد الله بن عمرو يا رسول الله أكتب كل ما أسمع منك قال نعم قال في الرضا والغضب قال نعم فإني لا أقول إلا حقا ( فمن يعمل مثقال ذرة ) أي نملة صغيرة وقيل الذر ما يرى في شعاع الشمس من الهباء ( خيرا يره ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره ) قال ابن بطال فيه تعليم الاستنباط والقياس لأنه شبه ما لم يذكر الله حكمه في كتابه وهي الحمر بما ذكره من يعمل مثقال ذرة من خير أو شر وهذا نفس القياس الذي ينكره من لا فهم عنده وتعقبه ابن المنير بأنه ليس من القياس في شيء وإنما هو استدلال بالعموم وإثبات لصيغته خلافا لمن أنكر أو وقف وفيه تحقيق لإثبات العمل بظواهر العموم وأنها ملزمة حتى يدل التخصيص وإشارة إلى الفرق بين الحكم الخاص المنصوص والعام الظاهر وأن الظاهر دون المنصوص في الدلالة وهو حجة أيضا في عموم النكرة الواقعة في سياق الشرط نحو { من عمل صالحا فلنفسه } فصلت 46 وقد اتفق العلماء على عموم آية { فمن يعمل } القائلون بالعموم ومن لم يقل به
قال ابن مسعود هذه أحكم آية في القرآن وأصدق
وقال كعب الأحبار لقد أنزل الله على محمد آيتين أحصتا ما في التوراة { فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره } الزلزلة 7 8 الحديث أخرجه البخاري في المساقاة عن عبد الله بن يوسف وفي الجهاد وعلامات النبوة عن القعنبي وفي التفسير وفي الاعتصام عن إسماعيل الثلاثة عن مالك به ورواه مسلم في الزكاة مطولا من طرق عن زيد بن أسلم
( مالك عن عبد الله بن عبد الرحمن بن معمر ) بن حزم ( الأنصاري ) أبي طوالة بضم المهملة المدني قاضيها لعمر بن عبد العزيز مات سنة أربع وثلاثين ومائة ويقال بعد ذلك
( عن عطاء بن يسار أنه قال ) مرسل وصله الترمذي من طريق بكير بن الأشج والنسائي وابن حبان من طريق إسماعيل بن عبد الرحمن كلاهما عن عطاء بن يسار عن ابن عباس قال ( قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم ألا أخبركم بخير الناس منزلا ) قال الباجي أي أكثرهم ثوابا وأرفعهم درجة قال عياض وهذا عام مخصوص وتقديره من خير الناس وإلا فالعلماء الذين حملوا الناس على الشرائع والسنن وقادوهم إلى الخير أفضل وكذا الصديقون كما جاء به الأحاديث ويؤيده أن في رواية للنسائي أن من خير الناس رجلا عمل في سبيل الله على ظهر فرسه بمن التي للتبعيض ( رجل آخذ ) اسم فاعل ( بعنان ) بكسر العين لجام ( فرسه يجاهد في سبيل الله ) لبذله نفسه وماله لله تعالى قال الباجي يريد أنه يواظب على ذلك ووصف بأنه
____________________
(3/10)
آخذ بعنانه بمعنى أنه لا يخلو غالبا من ذلك راكبا أو قائدا هذا معظم أمره فوصف بذلك جميع أحواله وإن لم يكن آخذا بعنانه في كثير منها
وفي الصحيحين عن أبي سعيد قيل يا رسول الله أي الناس أفضل فقال مؤمن مجاهد في سبيل الله بنفسه وماله قال الحافظ كان المراد بالمؤمن القائم بما تعين عليه القيام به وحصل هذه الفضيلة لا من اقتصر على الجهاد وأهل الواجبات العينية وحينئذ فيظهر فضل المجاهد لما فيه من بذل نفسه وماله لله تعالى ولما فيه من النفع المتعدي
( ألا أخبركم بخير الناس منزلا ) وفي رواية منزلة ( بعده رجل معتزل في غنيمته ) بضم المعجمة مصغرا إشارة إلى قلتها ( يقيم الصلاة ويؤتي الزكاة ويعبد الله لا يشرك به شيئا ) زاد في الطريق الموصولة ويعتزل شرور الناس وفي حديث أبي سعيد قيل ثم من قال مؤمن في شعب من الشعاب يتقي الله ويدع الناس من شره وإنما كان تلو المجاهد في الفضل لأن مخالط الناس لا يسلم من ارتكاب الآثام فقد لا يفي هذا بهذا ففيه فضل العزلة لما فيها من السلامة من غيبة ولغو وغيرهما لكن قال الجمهور محل ذلك عند وقوع الفتن لحديث الترمذي مرفوعا المؤمن الذي يخالط الناس ويصبر على أذاهم أعظم أجرا من المؤمن الذي لا يخالط الناس ولا يصبر على أذاهم ويؤيده قوله يأتي الناس زمان يكون خير الناس فيه منزلة من أخذ بعنان فرسه في سبيل الله يطلب الموت في مظانه ورجل في شعب من هذه الشعاب يقيم الصلاة ويؤتي الزكاة ويدع الناس إلا من خير رواه مسلم وغيره
وللترمذي وحسنه والحاكم وصححه عن أبي هريرة أن رجلا مر بشعب فيه عين عذبة أعجبه فقال لو اعتزلت ثم استأذن النبي فقال لا تفعل فإن مقام أحدكم في سبيل الله أفضل من صلاة في بيته سبعين عاما قال ابن عبد البر إنما وردت الأحاديث بذكر الشعب والجبل لأن ذلك في الأغلب يكون خاليا من الناس فكل موضع بعيد عنهم داخل في هذا المعنى
( مالك عن يحيى بن سعيد ) الأنصاري ( قال أخبرني عبادة بن الوليد بن عبادة بن الصامت ) الأنصاري ويقال له عبد الله من الثقات ( عن أبيه ) الوليد يكنى أبا عبادة ولد في العهد النبوي وهو من كبار التابعين مات بعد السبعين من الهجرة ( عن جده ) عبادة بن الصامت بن قيس الأنصاري الخزرجي أبي الوليد المدني البدري أحد النقباء قال سعيد بن عفير كان طوله عشرة أشبار مات بالرملة سنة أربع وثلاثين وله ثنتان وسبعون سنة وقيل عاش إلى خلافة معاوية ( قال بايعنا رسول الله ) ليلة العقبة وضمن بايع معنى عاهد فعدى بعلى في قوله ( على السمع ) له بإجابة أقواله ( والطاعة ) له بفعل ما يقول قال الباجي السمع هنا يرجع إلى معنى الطاعة ( في اليسر والعسر ) أي
____________________
(3/11)
يسر المال وعسره ( والمنشط ) بفتح الميم والمعجمة بينهما نون ساكنة آخره طاء مهملة مصدر ميمي من النشاط ( والمكره ) بفتح أوله وثالثه مصدر ميمي أيضا أي وقت النشاط إلى امتثال أوامره وقت الكراهية كذلك وقال ابن التين الظاهر أن المراد في وقت الكسل والمشقة في الخروج ليطابق قوله المنشط ويؤيده رواية أحمد من طريق إسماعيل بن عبيد بن رفاعة عن عبادة في النشاط والكسل وقال الطيبي أي عهدنا بالتزام السمع والطاعة في حالتي الشدة والرخاء والضراء والسراء وإنما عبر بالمفاعلة للمبالغة والإيذان بأنه التزم لهم أيضا بالأجر والثواب والشفاعة يوم الحساب على القيام بما التزموا زاد في رواية مسلم وعلى أثره علينا ( وأن لا ننازع الأمر ) أي الملك والإمارة ( أهله ) قال الباجي يحتمل أن هذا شرط على الأنصار ومن ليس من قريش أن لا ينازعوا أهله وهم قريش ويحتمل أنه مما أخذ على جميع الناس أن لا ينازعوا من ولاه الله الأمر منهم وإن كان فيهم من يصلح لذلك الأمر إذا صار لغيره قال السيوطي الثاني هو الصحيح ويؤيده في أن مسند أحمد زيادة وإن رأيت أن لك في الأمر حقا وعند ابن حبان زيادة وإن أكلوا مالك وضربوا ظهرك وفي البخاري زيادة إلا أن تروا كفرا بواحا أي ظاهرا باديا انتهى
وقال ابن عبد البر اختلف في أهله فقيل أهل العدل والإحسان والفضل والدين فلا ينازعون لأنهم أهله أما أهل الفسق والجور والظلم فليسوا بأهله ألا ترى قوله تعالى { لا ينال عهدي الظالمين } البقرة 124 وإلى منازعة الظالم الجائر ذهبت طوائف من المعتزلة وعامة الخوارج أما أهل السنة فقالوا الاختيار أن يكون الإمام فاضلا عدلا محسنا فإن لم يكن فالصبر على طاعة الجائر أولى من الخروج عليه لما فيه من استبدال الأمن بالخوف وهرق الدماء وشن الغارات والفساد وذلك أعظم من الصبر على جوره وفسقه والأصول تشهد والعقل والدين أن أولى المكروهين أولاهما بالترك
( وأن نقول ) باللام ( أو نقوم ) بالميم شك من يحيى بن سعيد أو مالك وفيه دليل على الإتيان بالألفاظ ومراعاتها قاله ابن عبد البر ( بالحق حيثما كنا لا نخاف في الله ) أي في نصرة دينه ( لومة لائم ) من الناس واللومة المرة من اللوم قال الزمخشري وفيها وفي التنكير مبالغتان كأنه قال لا نخاف شيئا قط من لوم أحد من اللوام ولومة مصدر مضاف لفاعله في المعنى وفيه تغيير المنكر على كل من قدر عليه وأنه إذا لم يلحقه في تغييره إلا اللوم الذي لا يتعدى إلى الأذى وجب أن يغيره بيده فإن لم يقدر فبلسانه فإن لم يقدر فبقلبه وكما وجبت مجاهدة الكفار حتى يظهر دين الله كما قال { وجاهدوا في الله حق جهاده } الحج 78 كذلك يجب مجاهدة كل من عاند الحق حتى يظهر على من قدر عليه
قال ابن عبد البر هكذا روى هذا الحديث عن مالك بهذا الإسناد جمهور رواته وهو الصحيح وما خالفه عن مالك فليس بشيء واختلف فيه على يحيى بن سعيد فذكره مبسوطا أضربت عنه لأن
____________________
(3/12)
الشيخين لم يلتفتا إليه واعتمدا رواية مالك ومن وافقه فأخرجه البخاري في كتاب الأحكام عن إسماعيل عن مالك به ومسلم في المغازي من طريق عبد الله بن إدريس عن يحيى بن سعيد وعبيد الله بن عمر عن عبادة بن الوليد بن عبادة عن أبيه عن جده به
( مالك عن زيد بن أسلم قال كتب أبو عبيدة ) عامر ( ابن الجراح ) أحد العشرة ( إلى عمر بن الخطاب يذكر له جموعا من الروم وما يتخوف ) بالبناء للفاعل أو المفعول ( منهم فكتب إليه عمر بن الخطاب أما بعد فإنه مهما ينزل بعبد مؤمن من منزل ) بضم الميم وفتح الزاي مصدر أو اسم مكان وبفتح الميم وكسر الزاي مكان نزول ( شدة يجعل الله بعده فرجا وإنه لن يغلب عسر يسرين ) للحاكم في المستدرك عن الحسن قال خرج النبي يوما مسرورا فرحا يضحك ويقول لن يغلب عسر يسرين { فإن مع العسر يسرا إن مع العسر يسرا } الشرح 5 6 إسناده صحيح مرسلا
وقد رواه ابن مردويه عن جابر مرفوعا
قال الباجي قيل إن وجه ذلك أنه لما عرف العسر اقتضى استغراق الجنس فكأن العسر الأول هو الثاني ولما نكر اليسر كان الأول فيه غير الثاني
قال وقد قال البخاري عقب هذه الآية لقوله هل تربصون بنا إلا إحدى الحسنيين وهذا يقتضي أن اليسرين عنده الظفر بالمراد والأجر فالعسر لا يغلب هذين اليسرين لأنه لا بد أن يحصل للمؤمن أحدهما قال وهذا عندي وجه ظاهر ( وإن الله تعالى يقول في كتابه { يا أيها الذين آمنوا اصبروا } على الطاعات والمصائب وعن المعاصي { وصابروا } الكفار فلا يكونوا أشد صبرا منكم { ورابطوا } أقيموا على الجهاد
{ واتقوا الله } في جميع أحوالكم { لعلكم تفلحون } ( آل عمران 200 ) تفوزون بالجنة وتنجون من النار
1 النهي عن أن يسافر بالقرآن إلى أرض العدو 99( مالك عن نافع عن عبد الله بن عمر أنه قال نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يسافر بالقرآن ) بالمصحف أي وبهذا اللفظ رواه عبد الرحمن بن مهدي عن مالك ( إلى أرض العدو ) الكفار فالنهي إنما هو عن السفر بالمصحف لا السفر بالقرآن نفسه لأن القرآن المنزل نفسه لا يمكن السفر به وهذا مراد البخاري
____________________
(3/13)
بقوله قد سافر النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه وهم يعلمون القرآن
واعترضه الإسماعيلي بأنه لم يقل أحد أن من يحسن القرآن لا يغزو العدو في دارهم قال الحافظ هذا اعتراض من لم يفهم مراد البخاري وادعى المهلب أن مراده تقوية القول بالتفرقة بين الجيش الكثير فيجوز والطائفة القليلة فيمنع
( قال مالك وإنما ذلك ) أي النهي ( مخافة أن يناله العدو ) فيؤدي إلى استهانته قال ابن عبد البر كذا قال يحيى الأندلسي وابن بكير وأكثر الرواة عن مالك ورواه ابن وهب عنه فقال خشية أن يناله العدو فجعله من المرفوع وكذا قال عبيد الله بن عمر وأيوب عن نافع نهى أن يسافر بالقرآن إلى أرض العدو مخافة أن يناله العدو قال الحافظ أشار إلى تفرد ابن وهب برفعها عن مالك وليس كذلك فقد تابعه عبد الرحمن بن مهدي عن مالك عند ابن ماجه بلفظ مخافة أن يناله العدو ولم يجعله قول مالك
وقد رفعها ابن إسحاق أيضا عند أحمد والليث وأيوب عند مسلم فصح أن التعليل مرفوع وليس بمدرج ولعل مالكا كان يجزم برفعه ثم صار يشك فيه فجعله من تفسير نفسه
قال ابن عبد البر أجمع الفقهاء أن لا يسافر بالمصحف في السرايا والعسكر لصغير المخوف عليه وفي التكبير المأمون خلاف فمنع مالك أيضا مطلقا
وفصل أبو حنيفة وأدار الشافعي الكراهة مع الخوف وجودا وعدما واستدل به على منع بيع المصحف من الكافر للعلة المذكورة فيه وهو التمكن من استهانته ولا خلاف في تحريم ذلك إنما اختلف هل يصح لو وقع ويؤمر بإزالة ملكه عنه أم لا واستدل به على منع تعليم الكافر القرآن وبه قال مالك مطلقا وأجازه أبو حنيفة مطلقا
وعن الشافعي القولان
وفصل بعض المالكية بين القليل لأجل مصلحة قيام الحجة عليهم فأجازه وبين الكثير فمنعه ويؤيده كتب النبي صلى الله عليه وسلم إلى هرقل بعض آيات
ونقل النووي الاتفاق على جواز الكتابة إليهم بمثله زاد بعضهم منع بيع كتب فقه فيها آثار قال السبكي بل الأحسن أن يقال كتب علم وإن لم يكن فيها آثار تعظيما للعلم الشرعي قال ولده التاج وينبغي منع ما يتعلق بالشرعي ككتب النحو والفقه وهذا الحديث رواه البخاري وأبو داود عن القعنبي ومسلم عن يحيى كليهما عن مالك به غير أن البخاري ومسلما لم يذكرا التعليل للاختلاف في رفعه وذكره أبو داود بلفظ أراه مخافة الخ
2 النهي عن قتل النساء والولدان في الغزو ( مالك عن ابن شهاب عن ابن لكعب بن مالك ) الأنصاري ( قال ) مالك ( حسبت أنه ) أي ابن شهاب ( قال ) عن ( عبد الرحمن بن كعب ) الأنصاري أبي الخطاب المدني ثقة من كبار التابعين
____________________
(3/14)
ويقال ولد في عهد النبي صلى الله عليه وسلم ومات في خلافة سليمان قال ابن عبد البر كذا ليحيى وابن القاسم وابن بكير وبشر بن عمر وغيرهم
وقال القعنبي حسبت أنه قال عبد الله بن كعب أو عبد الرحمن بالشك
وقال ابن وهب عن ابن لكعب ولم يقل عبد الله ولا عبد الرحمن ولا حسب شيئا من ذلك واتفق رواة الموطأ على إرساله ولا أعلم أحدا أسنده عن مالك إلا الوليد بن مسلم فقال عن أبيه ( أنه قال نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم ) الخمسة ( الذين قتلوا ابن أبي الحقيق ) بضم الحاء المهملة وقافين مصغر وهو أبو رافع اليهودي قال البخاري اسمه عبد الله ويقال سلام وبالثاني جزم ابن إسحاق وأفاد الحافظ أنه اسمه الأصلي وأن الذي سماه عبد الله هو عبد الله بن أنيس كما أخرجه الحاكم في الإكليل من حديثه مطولا قال البخاري كان أبو رافع بخيبر ويقال في حصن له بأرض الحجاز ويحتمل أن حصنه كان قريبا من خيبر في طرف أرض الحجاز وعند موسى بن عقبة فطرقوا باب أبي رافع بخيبر فقتلوه في بيته
وأخرج البخاري عن البراء بن عازب بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أبي رافع اليهودي رجالا من الأنصار وأمر عليهم عبد الله بن عتيك وكان أبو رافع يؤذي رسول الله صلى الله عليه وسلم ويعين عليه وذكر ابن عائذ عن عروة أنه كان ممن أعان غطفان وغيرهم من مشركي العرب بالمال الكثير على النبي صلى الله عليه وسلم
وعند ابن إسحاق كان فيمن حزب الأحزاب يوم الخندق فبعث إليه عبد الله بن عتيك ومعه أربعة عبد الله بن أنيس وأبا قتادة ومسعود بن سنان والأسود بن خزاعي ويقال فيه خزاعي بن الأسود ونهاهم ( عن قتل النساء والولدان ) فذهبوا إلى خيبر فكمنوا فلما هدأت الأصوات جاؤوا حتى قاموا على بابه وقدموا ابن عتيك لأنه كان يرطن باليهودية فاستفتح فقالت له امرأة أبي رافع من أنت قال جئت أبا رافع بهدية وفي رواية فقالت من أنتم قالوا أناس نلتمس الميرة قالت ذاكم صاحبكم فادخلوا عليه فلما دخلنا أغلقنا عليها وعليه الحجرة تخوفا أن يحال بيننا وبينه ( قال ) ابن كعب ( فكان رجل منهم ) أي الخمسة الذين ذهبوا لقتله ( يقول برحت ) بفتح الموحدة والراء الثقيلة والمهملة أي أظهرت ( بنا امرأة ابن أبي الحقيق بالصياح ) وعند ابن سعد فلما رأت السلاح أرادت أن تصيح فأشار إليها ابن عتيك بالسيف فسكتت
وعند ابن إسحاق فصاحت امرأته فنوهت بنا فيمكن أنهم لما دخلوا صاحت صياحا لم يسمع ثم أرادت رفع صوتها ومداومة الصياح لتسمع الجيران فرفعوا عليها السلاح فسكتت ( فأرفع السيف عليها ) لأقتلها ( ثم أذكر نهي رسول الله صلى الله عليه وسلم فأكف ) عن قتلها ( ولولا ذلك ) أي نهيه ( استرحنا منها )
وفي رواية ابن إسحاق ولما صاحت بنا امرأته جعل الرجل منا يرفع عليها سيفه ثم يذكر نهيه صلى الله عليه وسلم فيكف يده ولولا ذلك لفرغنا منها بليل فعلوه بأسيافهم والذي باشر قتله عبد الله بن عتيك كما في البخاري والقصة مبسوطة في السير
____________________
(3/15)
( مالك عن نافع ) قال ابن عبد البر أرسله أكثر رواة الموطأ ووصله جماعة كعبد الرحمن بن مهدي وابن بكير وأبي مصعب وعبد الله بن يوسف ومعن بن عيسى فقالوا مالك عن نافع ( عن ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رأى في بعض مغازيه ) أي غزوة فتح مكة كما في أوسط الطبراني عن ابن عمر ( امرأة ) لم تسم ( مقتولة فأنكر ذلك ) في رواية الطبراني فقال ما كانت هذه تقاتل ( ونهى عن قتل النساء ) لضعفهن عن القتال ( والصبيان ) لقصورهم عن فعل الكفر ولما في استبقائهم جميعا من الانتفاع بهم إما بالرق أو بالفداء فيمن يجوز أن يفادى به وقد اتفق الجميع كما نقل ابن بطال وغيره على منع القصد إلى قتل النساء والصبيان وحكى الحازمي قولا بجواز قتلهما على ظاهر حديث الصعب وزعم أنه ناسخ لأحاديث النهي وهو غريب وقد أشار أبو داود إلى نسخ حديث الصعب بأحاديث النهي روى الأئمة الستة عن الصعب بن جثامة قال سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أهل الدار يبيتون من المشركين فيصاب من نسائهم وذراريهم قال هم منهم وفي ابن حبان عن الصعب أنه السائل والأولى الجمع بين الحديثين بأن معنى قوله هم منهم أي في الحكم في تلك الحالة المسؤول عنها وهي ما إذا لم يمكن الوصول إلى قتل الرجال إلا بذلك وقد خيف على المسلمين فإذا أصيبوا لاختلاطهم بهم لم يمتنع ذلك وليس المراد إباحة قتلهم بطريق القصد إليهم مع القدرة على تركه جمعا بينهما بدون دعوى نسخ هذا وقد تابع مالكا الليث بن سعد وعبيد الله بن عمر كلاهما عن نافع عن ابن عمر به في الصحيحين وغيرهما وهو يؤيد رواية من وصله عن مالك وكأنه حدث به بالوجهين
( مالك عن يحيى بن سعيد أن أبا بكر الصديق بعث جيوشا إلى الشام فخرج ) الصديق ( يمشي مع يزيد بن أبي سفيان ) صخر بن حرب الأموي صحابي مشهور أمره عمر على دمشق حتى مات بها سنة تسع عشرة بالطاعون ( وكان ) يزيد ( أمير ربع من تلك الأرباع ) التي أمرها الصديق إلى الشام وأمراء الباقي أبو عبيدة ربع وعمرو بن العاصي ربع وشرحبيل بن حسنة ربع ( فزعموا أن يزيد قال لأبي بكر إما أن تركب وإما أن أنزل ) حتى نتساوى في السير ( فقال أبو بكر ما أنت بنازل وما أنا براكب إني أحتسب خطاي هذه في سبيل الله ) لكونها مشيا في طاعة وقد اقتدى الصديق في ذلك بالنبي صلى الله عليه وسلم حين بعث معاذ بن جبل إلى اليمن فخرج يمشي في ظل راحلة معاذ وهو راكب لأمره صلى الله عليه وسلم له بذلك فمشى معه ميلا كما عند أحمد وأبي يعلى وابن عساكر ( ثم قال له إنك ستجد قوما زعموا أنهم حبسوا )
____________________
(3/16)
وقفوا ( أنفسهم لله ) وهم الرهبان ( فذرهم وما زعموا أنهم حبسوا أنفسهم له ) لكونهم لا يقاتلون ولا يخالطون الناس لا تعظيما لفعلهم بل هم أبعد عن الله لأنهم يحسبون أنهم على شيء وما هم ( وستجد قوما فحصوا ) بفتح الفاء والمهملة وضم الصاد مهملة ( عن أوساط رؤوسهم من الشعر ) قال ابن حبيب يعني الشمامسة وهم رؤساء النصارى جمع شماس ( فاضرب ما فحصوا عنه بالسيف ) أي اقتلهم ( وإني موصيك بعشر لا تقتلن امرأة ولا صبيا ) للنهي عن قتلهما ( ولا كبيرا هرما ) لا قتال عنده ( ولا تقطعن شجرا مثمرا ) رجى للمسلمين ( ولا تخربن عامرا ) كذلك ( ولا تعقرن شاة ولا بعيرا إلا لمأكلة ) بفتح الكاف وضمها أي أكل ( ولا تحرقن نحلا ) بالحاء المهملة حيوان العسل ( ولا تغرقنه ) قال الأبهري رجاء أن يطير فيلحق بأرض المسلمين فينتفعون بها ( ولا تغلل ) للنهي عنه في القرآن ( ولا تجبن ) بضم الموحدة تضعف عند اللقاء
( مالك أنه بلغه أن عمر بن عبد العزيز ) خامس أو سادس الخلفاء الراشدين ( كتب إلى عامل من عماله أنه بلغنا ) وصله أحمد ومسلم وأصحاب السنن من طريق سفيان الثوري عن علقمة بن مرثد عن سليمان بن بريدة ( عن أبيه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا بعث سرية ) فعيلة بمعنى فاعلة قطعة من الجيش تخرج منه تغير وترجع إليه سميت بذلك لأنها تكون خلاصة العسكر وخيارهم من الشيء النفيس وقيل لأنها تخفي ذهابها فتسرى في خفية وهذا يقتضي أنها أخذت من السر ولا يصح لاختلاف المادة لأن لام السر راء وهذه ياء قاله ابن الأثير وأجيب بأن اختلافها إنما يمنع الاشتقاق الصغير وهو رد فرع إلى أصل لمناسبة بينهما في المعنى والحروف الأصلية ويجوز أنه أريد بالأخذ مجرد الرد للمناسبة والاشتراك في أكثر الحروف قال ابن السكيت السرية من خمسة إلى ثلثمائة وقال الخليل نحو أربعمائة وفي النهاية يبلغ أقصاها أربعمائة وفي رواية كان إذا أمر أميرا على جيش أو سرية أوصاه في خاصته بتقوى الله ومن معه من المسلمين خيرا ثم ( يقول لهم اغزوا باسم الله ) أي ابدؤوا بذكر الله ( في سبيل الله ) أي أخلصوا نياتكم ( تقاتلون من كفر بالله ) كأنه بيان لسبيل الله جواب عن سؤال اقتضاه كأنه قيل ما هو فلذا ترك العاطف ( لا تغلوا ) أي لا تخونوا في المغنم قال ابن قتيبة سمي بذلك لأن آخذه يغله في متاعه أي يخفيه ونقل النووي الإجماع على أنه من الكبائر ( ولا تغدروا )
____________________
(3/17)
بكسر الدال ثلاثي أي لا تتركوا الوفاء ( ولا تمثلوا ) بالتشديد للمبالغة والتكثير أي لا تقطعوا القتلى ( ولا تقتلوا وليدا ) أي صبيا ويقول صلى الله عليه وسلم لمن يؤمره ( وقل ذلك لجيوشك وسراياك ) وقوله ( إن شاء الله ) للتبرك ( والسلام عليك ) وفيه فوائد مجمع عليها وهي تحريم الغدر والغلول وقتل الصبيان إذا لم يقاتلوا وكراهة المثلة واستحباب وصية الإمام أمراءه وجيوشه بالتقوى والرفق وتعريف ما يحتاجون في غزوهم وما يجب عليهم وما يحل لهم وما يحرم عليهم وما يكره وما يستحب قاله النووي
3 ما جاء في الوفاء بالأمان ( مالك عن رجل من أهل الكوفة ) يقال هو سفيان الثوري ولا يبعد ذلك فقد روى مالك عن يحيى بن مضر الأندلسي عن الثوري قال الطلح المنضود الموز قاله ابن عبد البر ( أن عمر بن الخطاب كتب إلى عامل ) أي أمير ( جيش ) لم يسم ( كان بعثه أنه بلغني أن رجالا منكم يطلبون العلج ) الرجل الضخم من كبار العجم وبعض العرب يطلقه على الكافر مطلقا والجمع علوج وإعلاج مثل حمل وحمول وأحمال ( حتى إذا أسند ) صعد ( في الجبل وامتنع قال رجل مطرس ) هي كلمة فارسية ( يقول ) أي معناها ( لا تخف ) كذا ليحيى مطرس بالطاء المهملة ولغيره مترس قال الحافظ بفتح الميم وتشديد الفوقية وإسكان الراء فمهملة وقد تخفف التاء وبه جزم بعض من لقيناه من العجم وقيل بإسكان التاء وفتح الراء ووقع في الموطأ رواية يحيى الأندلسي مطرس بالطاء بدل التاء قال ابن قرقول هي كلمة أعجمية والظاهر أن الراوي فخم المثناة فصارت تشبه الطاء كما يقع من كثير من الأندلسيين وفي البخاري قال عمر إذا قال مترس فقد آمنه أن الله يعلم الألسنة كلها أي اللغات ويقال أنها ثنتان وسبعون لغة ست عشرة في ولد سام ومثلها في ولد حام والبقية في ولد يافث
( فإذا أدركه قتله وإني والذي نفسي بيده ) إن شاء أبقاها وإن شاء أخذها ( لا أعلم مكان واحد فعل ذلك إلا ضربت عنقه قال يحيى سمعت مالكا يقول ليس هذا الحديث ) أي حديث عمر الموقوف عليه ( بالمجتمع عليه وليس عليه العمل ) أي قوله إلا ضربت عنقه لأنه لا يقتل من فعل ذلك وإن كان حراما
____________________
(3/18)
قال أبو عبد الملك يحتمل أن قسم عمر تغليظ لئلا يفعل ذلك أحد وكذلك تفعل الأئمة تخوف بأغلظ شيء يكون ويحتمل أن رأى إن قاتله لأخذ سلبه بعد إن آمنه يكون محاربا فيجب عليه القتل بالحرابة لا أنه يقتل المسلم بالكافر لحديث لا يقتل مسلم بكافر ( وسئل مالك عن الإشارة بالأمان أهي بمنزلة الكلام فقال نعم ) فيحرم نقضه كما يحرم بالصريح ( وإني أرى أن يتقدم ) بالبناء للمفعول ( إلى الجيوش أن لا تقتلوا أحدا أشاروا إليه بالأمان لأن الإشارة عندي بمنزلة الكلام ولأنه بلغني أن عبد الله بن عباس قال ما ختر ) بفتح الخاء المعجمة والمثناة الفوقية وراء قال الأزهري الختر أقبح الغدر ( قوم بالعهد إلا سلط عليهم العدو ) جزاء لما اجترحوه من نقض العهد المأمور بالوفاء به وهذا ورد عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال خمس بخمس ما نقض قوم العهد إلا سلط عليهم عدوهم وما حكموا بغير ما أنزل الله إلا فشا فيهم الفقر ولا ظهرت فيهم الفاحشة إلا فشا فيهم الموت ولا طففوا المكيال إلا منعوا النبات وأخذوا بالسنين ولا منعوا الزكاة إلا حبس عنهم القطر رواه ابن ماجه والطبراني وله شاهد عن ابن عمر مرفوعا نحوه عند ابن إسحاق
4 العمل في من أعطى شيئا في سبيل الله ( مالك عن نافع عن عبد الله بن عمر أنه كان إذا أعطى شيئا في سبيل الله يقول لصاحبه إذا بلغت وادي القرى ) بضم القاف وفتح الراء مقصور موضع بقرب المدينة لأنه رأس المغزاة فمنه يدخل إلى أول الشام ( فشأنك به ) يعني أنه ملكه له وإنما قال ذلك خيفة أن يرجع المعطي فتتلف العطية ولم يبلغ صاحبه مراده فيها فإذا بلغ الوادي كان أغلب أحواله أن لا يرجع حتى يغزو
( مالك عن يحيى بن سعيد ) الأنصاري ( أن سعيد بن المسيب كان يقول إذا أعطي ) بالبناء للمفعول ( الرجل الشيء في الغزو فيبلغ به رأس مغزاته فهو له ) ملكا وفيه حل ذلك للغازي وإن غنيا فليس كالصدقة
( سئل مالك عن رجل أوجب على نفسه الغزو فتجهز حتى إذا أراد أن يخرج منعه أبواه أو أحدهما فقال لا
____________________
(3/19)
يكابرهما ) أي لا يغالبهما ويعاندهما ولابن وضاح لا أرى أن يكابرهما ( ولكن يؤخر ذلك إلى عام آخر ) وفي الصحيح جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم يستأذنه في الجهاد فقال أحي والداك قال نعم قال ففيهما فجاهد أي خصهما بجهاد النفس في رضاهما وبرهما فعبر عن الشيء بضده لفهم المعنى لأن ظاهره إيصال الضرر الذي كان يحصل لغيرهما لهما وليس بمراد قطعا وإنما المراد القدر المشترك من كلفة الجهاد وهو تعب البدن والمال
وفي مسلم قال ارجع إلى والديك فأحسن صحبتهما وفي أبي داود ارجع فأضحكهما كما أبكيتهما وعنده أيضا ارجع فاستأذنهما فإن أذنا لك فجاهد وإلا فبرهما قال الجمهور يحرم الجهاد إذا منع الأبوان أو أحدهما بشرط أن يكونا مسلمين لأن برهما فرض عين والجهاد فرض كفاية فإذا تعين الجهاد فلا إذن
ففي ابن حبان جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فسأل عن أفضل الأعمال قال الصلاة قال ثم مه قال الجهاد قال فإن لي والدين فقال آمرك بوالديك خيرا فقال والذي بعثك بالحق لأجاهدن ولأتركنهما قال فأنت أعلم فهذا محمول على جهاد فرض العين توفيقا بين الأحاديث
( فأما الجهاز فإني أرى أن يرفعه حتى يخرج به فإن خشي أن يفسد باعه وأمسك ثمنه حتى يشتري به ما يصلحه للغزو ) في العام الآخر ( فإن كان موسرا يجد مثل جهازه ) بفتح الجيم وكسرها ( إذا خرج فليصنع بجهازه ما شاء ) لقدرته على تحصيله
5 جامع النفل في الغزو النفل بفتحتين على المشهور وقد تسكن الفاء واحد الأنفال زيادة يزادها الغازي على نصيبه من الغنيمة ومنه نفل الصلاة وهو ما عدا الفريضة
( مالك عن نافع عن عبد الله بن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث سرية ) في شعبان سنة ثمان قبل فتح مكة قاله ابن سعد وذكر غيره أنها كانت في جمادي وقيل في رمضان من السنة وكان أميرها أبو قتادة وكانوا خمسة عشر رجلا ( فيها عبد الله بن عمر قبل ) بكسر القاف وفتح الموحدة أي جهة ( نجد ) لأجل محارب بها وأمره أن يشن عليهم الغارة فسار الليل وكمن النهار فهجم على حاضر منهم عظيم فأحاط بهم وقاتل منهم رجال فقتل من أشرف منهم ( فغنموا إبلا كثيرة ) وفي رواية لمسلم فأصبنا إبلا وغنما وذكر أهل السير أنها مائة بعير وألفا شاة ( فكان سهمانهم ) بضم السين وسكون الهاء
____________________
(3/20)
جمع سهم أي نصيب كل واحد ( اثني عشر بعيرا ) وتوهم بعضهم أن ذلك جميع الأنسباء قال النووي وهو غلط ( أو أحد عشر بعيرا ) قال ابن عبد البر اتفق رواة الموطأ على روايته بالشك إلا الوليد بن مسلم فرواه عن شعيب ومالك جميعا فقال اثني عشر فلم يشك وكأنه حمل رواية مالك على رواية شعيب وهو منه غلط وكذا أخرجه أبو داود عن القعنبي عن مالك والليث بغير شك فكأنه أيضا حمل رواية مالك على رواية الليث والقعنبي إنما رواه في الموطأ على الشك فلا أدري أمن القعنبي جاء هذا حين خلط حديث الليث بحديث مالك أم من أبي داود وقال سائر أصحاب نافع اثني عشر بعيرا بلا شك لم يقع الشك فيه إلا من قبل مالك
( ونفلوا ) بضم النون مبني للمفعول أي أعطي كل واحد منهم زيادة على السهم المستحق له ( بعيرا بعيرا ) واختلف الرواة في القسم والتنفيل هل كانا معا من أمير ذلك الجيش أو من النبي صلى الله عليه وسلم أو أحدهما من أحدهما فلأبي داود عن ابن إسحاق عن نافع عن ابن عمر فخرجت فيها فأصبنا نعما كثيرا وأعطانا أميرنا بعيرا لكل إنسان ثم قدمنا على النبي صلى الله عليه وسلم فقسم بيننا غنيمتنا فأصاب كل رجل اثني عشر بعيرا بعد الخمس وأخرجه أبو داود أيضا من طريق شعيب بن أبي حمزة عن نافع عن ابن عمر قال بعثنا صلى الله عليه وسلم في جيش قبل نجد وانبعثت سرية من الجيش فكان سهمان الجيش اثني عشر بعيرا ونفل أهل السرية بعيرا بعيرا فكانت سهمانهم ثلاثة عشر بعيرا وأخرجه ابن عبد البر من هذا الوجه وقال في روايته إن ذلك الجيش كان أربعة آلاف أي الذي خرجت منه السرية الخمسة عشر كما عند ابن سعد وغيره قال وظاهر رواية الليث عن نافع عند مسلم أن ذلك صدر من أمير الجيش وأن النبي صلى الله عليه وسلم أقر ذلك وأجازه لأنه قال فيه ولم يغيره النبي صلى الله عليه وسلم
وفي رواية عبيد الله بن عمر عن نافع عنده أيضا ونفل رسول الله صلى الله عليه وسلم بعيرا بعيرا وهذا يحمل على التقرير فتجتمع الروايتان قال النووي معناه أن أمير السرية نفلهم فأجازه النبي صلى الله عليه وسلم فجازت نسبته لكل منهما
قال في الاستذكار في رواية مالك أن النفل من الخمس لا من رأس الغنيمة وكذلك رواية عبيد الله وأيوب عن نافع وفي رواية ابن إسحاق عنه أنه من رأس الغنيمة لكنه ليس كهؤلاء في نافع وفي الحديث أن الجيش إذا انفردت منه قطعة فغنمت شيئا كانت الغنيمة للجميع قال ابن عبد البر لا تختلف الفقهاء في ذلك إذا خرج الجيش جميعه ثم انفردت منه قطعة انتهى
وليس المراد الجيش القاعد في بلاد الإسلام فإنه لا يشارك الخارج إلى بلاد العدو بل قال ابن دقيق العيد في الحديث دلالة على أن المنقطع من الجيش عن الجيش الذي فيه الإمام ينفرد بما يغنمه وإنما قالوا بمشاركة الجيش لهم إذا كانوا قريبا منهم يلحقهم عونه وغوثه لو احتاجوا وهذا القيد في مذهب مالك وفيه مشروعية التنفيل ومعناه تخصيص من له أثر في الحرب بشيء من المال وكره مالك أن يكون من أمير الجيش كأن يحرض على القتال ويعد بأن ينفل الربع إلى الثلث قبل القسم لأن القتال حينئذ يكون
____________________
(3/21)
للدنيا فلا يجوز مثل هذا وخصه عمرو بن شعيب بالنبي صلى الله عليه وسلم دون من بعده ففيه رد على مدعي الإجماع على مشروعيته واختلف العلماء هل هو من أصل الغنيمة أو من خمس الخمس أو مما عدا الخمس قال الخطابي والذي يقرب من حديث الباب أنه من الخمس لأنه أضاف الإثني عشر إلى سهمانهم فكأنه أشار إلى أنه ثبت لهم استحقاقه من الأخماس الأربعة الموزعة عليهم فيبقى النفل من الخمس
ورواه البخاري عن عبد الله بن يوسف ومسلم عن يحيى وأبو داود عن القعنبي كلهم عن مالك به وتابعه جماعة عن نافع في الصحيحين وغيرهما
( مالك عن يحيى بن سعيد أنه سمع سعيد بن المسيب يقول كان الناس ) يعني الصحابة ( في الغزو إذا اقتسموا غنائمهم ) وكان فيها إبل وغنم ( يعدلون ) بكسر الدال من باب ضرب ( البعير بعشر شياه ) أي يجعلونها معادلة أي مماثلة له وقائمة مقامه وأصل ذلك من فعل النبي صلى الله عليه وسلم في الصحيحين عن رافع بن خديج كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم بذي الحليفة بتهامة فأصبنا إبلا وغنما فعدل عشرا من الغنم ببعير ( قال مالك في الأجير في الغزو ) لنحو حراسة ( إنه كان شهد ) حضر ( القتال وكان مع الناس عند القتال وكان حرا فله سهمه وإن لم يفعل ذلك ) أي لم يشهد القتال وكان رقيقا ( فلا سهم له وأرى ) أعتقد ( أن لا يقسم إلا لمن شهد القتال من الأحرار ) لا لغائب ولا رقيق
6 ما لا يجب فيه الخمس ( قال مالك فيمن وجد ) بضم فكسر ( من العدو على ساحل ) أي شاطىء ( البحر بأرض المسلمين فزعموا ) أي العدو الذين وجدوا ( أنهم تجار وأن البحر لفظهم ) بفاء وظاء معجمة ألقاهم في الساحل ( ولا يعرف المسلمون تصديق ذلك ولا أن مراكبهم تكسرت أو عطشوا فنزلوا بغير إذن المسلمين أرى أن ذلك للإمام يرى فيهم رأيه ولا أرى لمن أخذهم فيهم خمسا ) لأنهم لم يوجفوا
____________________
(3/22)
عليهم بخيل ولا ركاب
7 ما يجوز للمسلمين أكله قبل الخمس رح 1003 قال مالك ( لا أرى بذلك بأسا أن يأكل المسلمون إذا دخلوا أرض العدو من طعامهم ما وجدوا من ذلك كله قبل أن تقع المقاسم ) لما في الصحيح عن ابن عمر كنا نصيب في مغازينا العسل والعنب
زاد أبو نعيم والفواكه
والإسماعيلي والسمن فنأكله ولا نرفعه وإلى هذا ذهب الجمهور وإلى أنه يجوز أكل القوت وما يصلح به وكل طعام يعتاد أكله عموما
والمعنى فيه أن الطعام يعز في دار الحرب فأبيح للضرورة وإن لم تكن الضرورة ناجزة
وفي الصحيحين وغيرهما عن عبد الله بن مغفل قال كنا محاصرين قصر خيبر فرمى إنسان بجراب فيه شحم فنزوت لأخذه فالتفت فإذا النبي صلى الله عليه وسلم فاستحييت منه
زاد مسلم فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم متبسما
زاد الطيالسي فقال هو لك وروى ابن وهب أن صاحب المغانم كعب بن عمرو أخذ منه الجراب فقال صلى الله عليه وسلم خل بينه وبين جرابه وكأنه عرف شدة حاجته إليه فسوغ له الاستئثار به
( قال مالك وأنا أرى الإبل والبقر والغنم بمنزلة الطعام يأكل منه المسلمون إذا دخلوا أرض العدو كما يأكلون من الطعام ) بجامع أن كلا مأكول فيجوز ذبحه للأكل بشرط الحاجة كما يأتي
( ولو أن ذلك لا يؤكل حتى يحضر الناس المقاسم ويقسم بينهم أضر ذلك بالجيوش ) وفي الحديث لا ضرر ولا ضرار ( فلا أرى بأسا بما أكل من ذلك كله على وجه المعروف ) دون سرف ( والحاجة إليه ) فلا يجوز بلا حاجة ( ولا أرى أن يدخر أحد من ذلك شيئا يرجع به إلى أهله ) لأن المباح لضرورة لا يتعداها
وقال الزهري لا يأخذ شيئا من الطعام ولا غيره إلا بإذن الإمام
وقال سليمان بن موسى يأخذ ما لم ينه الإمام
وقال ابن المنذر وردت الأحاديث الصحيحة بالتشديد في الغلول واتفق علماء الأمصار على جواز أكل الطعام وجاء الحديث بذلك فليقتصر عليه وفي معناه لعلف واتفقوا على جواز ركوب دوابهم ولبس ثيابهم واستعمال سلاحهم حال الحرب ورده بعد انقضائها وشرط الأوزاعي فيه إذن الإمام وعليه أن يرده كلما فرغت حاجته ولا يستعمله في غير الحرب ولا ينتظر برده انقضاءها لئلا يعرضه للهلاك وحجته حديث أبي داود بإسناد حسن عن رويفع بن ثابت مرفوعا من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يأخذ دابة من المغنم يركبها حتى إذا أعجفها ردها إلى المغانم وذكر في الثوب كذلك
____________________
(3/23)
( وسئل مالك عن الرجل يصيب الطعام في أرض العدو فيأكل منه ويتزود فيفضل منه شيء أيصلح ) أي يجوز ( له أن يحبسه ) يمنعه ( فيأكله في أهله أو ) أن ( يبيعه قبل أن يقدم بلاده فينتفع بثمنه قال مالك إن باعه وهو في الغزو فإني أرى أن يجعل ثمنه في غنائم المسلمين ) لأنه إنما يباح له الأكل للحاجة والبيع زائد عليها فيمنع ( وإن بلغ به بلده فلا أرى بأسا أن يأكله وينتفع به إذا كان يسيرا تافها ) لا يلتفت إليه لا إن كان كثيرا
8 ما يرد قبل أن يقع القسم مما أصاب العدو ( مالك أنه بلغه ) وصله البخاري من طريق يحيى القطان عن عبيد الله عن نافع عن ابن عمر ( أن عبدا لعبد الله بن عمر أبق ) أي هرب فلحق بالروم يوم اليرموك كما رواه عبد الرزاق عن معمر عن أيوب عن نافع عنه ( وأن فرسا له عار ) بعين وراء مخففة مهملتين بينهما ألف أي انطلق هاربا على وجهه قال البخاري مشتق من العير وهو حمار الوحش أي هرب قال ابن التين أراد أنه فعل فعله في النفار وقال الخليل يقال عار الفرس والكلب عيارا أي أفلت وذهب وقال الطبري يقال ذلك للفرس إذا فعله مرة بعد مرة ومنه قيل للبطال من الرجال الذي لا يثبت على طريقة عيار ومنه سهم عائر إذا لم يدر من أين أتى ( فأصابهما المشركون ثم غنمهما المسلمون فردا على عبد الله بن عمر وذلك قبل أن تصيبهما المقاسم ) وفي البخاري عن عبيد الله عن نافع وأن فرسا له عار فلحق بالروم فظهر عليه خالد فرده
وله وللإسماعيلي عن موسى بن عقبة عن نافع عن ابن عمر أنه كان على فرس يوم لقي المسلمون ظبيا وأسدا واقتحم الفرس بابن عمر جرفا فصرعه وسقط عبد الله فعار الفرس فأخذه العدو وأمير المسلمين يومئذ خالد بن الوليد بعثه أبو بكر فلما هزم العدو رد خالد فرسه عليه فصرح بأن قصة الفرس كانت في زمن أبي بكر
وفي البخاري وأبي داود من طريق عبد الله بن نمير عن عبيد الله عن نافع عن ابن عمر قال ذهب فرس له فأخذه العدو فظهر عليه المسلمون فرد عليه في زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبق عبد
____________________
(3/24)
له فلحق بالروم فظهر عليهم المسلمون فرده عليه خالد بن الوليد بعد النبي صلى الله عليه وسلم فصرح بأن قصة الفرس في الزمن النبوي وقصة العبد بعده ووافق ابن نمير إسماعيل بن زكريا عن عبيد الله عند الإسماعيلي وصححه الداودي وأنه كان في غزوة مؤتة وكذا صوبه ابن عبد البر
( قال مالك فيما يصيب العدو من أموال المسلمين أنه إن أدرك قبل أن يقع فيه المقاسم فهو رد على أهله ) لوقوع رد فرس ابن عمر وعبده له قبل القسم في زمن أبي بكر والصحابة متوافرون من غير نكير منهم
( وأما ما وقعت فيه المقاسم فلا يرد على أحد ) وبه قال عمر وسلمان والليث وأحمد وآخرون ونقل عن الفقهاء السبعة وبه جاء حديث مرفوع عن ابن عباس أن رجلا وجد بعيرا له أصابه المشركون فقال صلى الله عليه وسلم إن أصبته قبل أن يقسم فهو لك وإن أصبته بعد ما قسم أخذته بالغنيمة رواه الدارقطني بإسناد ضعيف لكنه تقوى بأثر ابن عمرو عن أبي حنيفة كقول مالك إلا في الآبق فقال هو والثوري صاحبه أحق به مطلقا
( وسئل مالك عن رجل حاز المشركون غلامه ثم غنمه المسلمون قال مالك صاحبه أولى ) أحق به ( بغير ثمن ولا قيمة ولا غرم ما لم تصبه المقاسم فإن وقعت فيه ) المقاسم ( فإني أرى أن يكون الغلام لسيده بالثمن إن شاء ) لأن دار الحرب لها شبهة الملك
وقال الشافعي وجماعة لا يملك أهل الحرب بالغلبة شيئا من مال المسلمين ولصاحبه أخذه قبل الغنيمة وبعدها
وعن علي والزهري وعمرو بن دينار والحسن لا يرد أصلا ويختص به الغانمون
( قال مالك في أم ولد رجل من المسلمين حازها المشركون ثم غنمها المسلمون فقسمت في المقاسم ثم عرفها سيدها بعد القسم أنها لا تسترق ) بعد جريان الحرية فيها بأمومة الولد ( وأرى أن يفتديها الإمام لسيدها ) من الفيء ( فإن لم يفعل فعلى سيدها ) وجوبا كما دل عليه لفظ على ( أن يفتديها ولا يدعها ) بالرفع والنصب ( ولا أرى للذي صارت له أن يسترقها ولا يستحل فرجها ) لجريان الحرية فيها ( وإنما هي بمنزلة الحرة ) إذا حازها الحربيون ثم ظهر عليهم لا تسترق ولا يحل فرجها وعلل كونها
____________________
(3/25)
بمنزلتها بقوله ( لأن سيدها يكلف أن يفتديها إذا جرحت ) إنسانا ( فهذا بمنزلة ذلك ) وحينئذ ( فليس له أن يسلم أم ولده تسترق ويستحل فرجها ) فالفاء للتفريع على ما قبله
( وسئل مالك عن الرجل يخرج إلى العدو في المفاداة ) لما أسروه من المسلمين ( أو التجارة يشتري الحر أو العبد أو يوهبان له ) ما الحكم ( فقال أما الحر فإن اشتراءه به ) بأمره أو بغير أمره ( دين ) خبر إن وفي نسخة بالنصب بتقدير يكون دينا ( عليه ولا يسترق ) لوجوب فدائه على نفسه وحرمة مقامه مع قدرته على الفداء فوجب رجوعه عليه لأنه اشتراه بما كان يلزمه وهو مقدم على جماعة المسلمين في فداء نفسه إذا قدر عليه قاله أبو عمر
( وإن كان وهب له فهو حر وليس عليه شيء إلا أن يكون الرجل أعطى فيه شيئا مكافأة ) بالهمز على الهبة ( فهو دين على الحر بمنزلة ما اشتري به ) لأن هبة الثواب كالبيع ( وأما العبد فإن سيده الأول مخير فيه إن شاء أن يأخذه ويدفع إلى الذي اشتراه ثمنه فذلك له وإن أحب أن يسلمه أسلمه ) لمن اشتراه ( وإن كان وهب له فسيده الأول أحق به ولا شيء عليه إلا أن يكون الرجل أعطى فيه شيئا مكافأة فيكون ما أعطى فيه غرما ) بضم فسكون مصدر غرم أي مؤدى ( على سيده إن أحب أن يفتديه ) وإن أحب تركه له وسواء اشتراه بإذن سيده أم بغير إذنه فيلزمه ما اشتراه به إلا أن يكون أكثر من قيمته مما لا يتغابن بمثله فيخير
9 ما جاء في السلب في النفل ( مالك عن يحيى بن سعيد ) الأنصاري ( عن عمر ) بضم العين كما رواه الأكثر ليحيى وقوم عمرو بفتح العين وللشافعي عن ابن كثير ولم يسمه وهما أخوان وعمر بالضم أجل وأشهر وهو الذي في الموطأ وليس لعمرو بالفتح إلا عند من صحفه قاله ابن عبد البر ( ابن كثير ) بمثلثة ( ابن أفلح ) بالفاء
____________________
(3/26)
والحاء المهملة المدني مولى أبي أيوب الأنصاري وثقه النسائي وغيره وهو تابعي صغير وذكره ابن حبان في أتباع التابعين ( عن أبي محمد ) نافع بن عباس بموحدة ومهملة أو تحتانية ومعجمة معروف باسمه وكنيته المدني الأقرع الثقة ( مولى أبي قتادة ) حقيقة كما جزم النسائي والعجلي وغيرهما وجزم ابن حبان وغيره بأنه قيل له ذلك للزومه وكان مولى عقيلة الغفارية ( عن أبي قتادة ) الحارث أو النعمان أو عمرو ( بن ربعي ) بكسر الراء وسكون الموحدة فمهملة الأنصاري السلمي بفتحتين المدني شهد أحدا وما بعدها ولم يصح شهوده بدرا ومات سنة أربع وخمسين على الأصح الأشهر ( أنه قال خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم عام حنين ) بمهلمة ونون واد بينه وبين مكة ثلاثة أميال في سنة ثمان عقب فتح مكة ( فلما التقينا ) مع المشركين ( كانت للمسلمين جولة ) بفتح الجيم وسكون الواو أي حركة فيها اختلاط وتقدم وتأخر وعبر بذلك احترازا عن لفظ هزيمة ولم تكن هذه الجولة في الجيش كله بل ثبت النبي صلى الله عليه وسلم وطائفة معه أكثر ما قيل فيهم مائة وقد نقلوا الإجماع على أنه لا يجوز عليه صلى الله عليه وسلم الانهزام ولم يرو قط أنه انهزم في موطن بل الأحاديث الصحيحة بإقدامه وثباته في جميع المواطن لا سيما يوم حنين فإنه جعل يركض بغلته نحو الكفار ويقول أنا النبي لا كذب أنا ابن عبد المطلب
ثم نزل عن البغلة واستنصر ثم قبض قبضة من تراب ثم استقبل به وجوههم فقال شامت الوجوه فما خلق الله منهم إنسانا إلا ملأ عينيه ترابا بتلك القبضة فولوا منهزمين ثم تراجع إليه من ولى من المسلمين
( قال ) أبو قتادة ( فرأيت رجلا من المشركين قد علا رجلا من المسلمين ) أي ظهر عليه وأشرف على قتله وصرعه وجلس عليه ليقتله قال الحافظ لم أقف على اسمهما ( قال فاستدرت له ) من الاستدارة ويروى فاستدبرت من الاستدبار ( حتى أتيته من ورائه فضربته بالسيف ) وفي رواية الليث عن يحيى بن سعيد عند البخاري نظرت إلى رجل من المسلمين يقاتل رجلا من المشركين وآخر يختله من ورائه ليقتله فأسرعت إلى الذي يختله فرفع يده ليضربني فأضرب يده فقطعتها ثم أخذني فضمني قال الحافظ يختله بفتح أوله وسكون الخاء المعجمة وكسر الفوقية أي يريد أخذه على غرة وعرف منه أن ضمير ضربته لهذا الثاني الذي يريد أن يختل المسلم ( على حبل عاتقه ) بفتح المهملة وسكون الموحدة عرق أو عصب عند موضع الرداء من العنق بين العنق والمنكب وعرف أن قوله في رواية الليث فأضرب يده فقطعتها أن المراد باليد الذراع والعضد إلى الكتف زاد التنيسي
____________________
(3/27)
فقطعت الدرع أي التي كان لابسها وخلصت الضربة إلى يده فقطعتها ( فأقبل علي فضمني ضمة وجدت منها ريح الموت ) أي شدة كشدته ويحتمل قاربت الموت وفيه إشعار بأن هذا المشرك كان شديد القوة جدا ( ثم أدركه الموت فأرسلني ) أي أطلقني ( قال فلقيت عمر ) فيه حذف بينه رواية الليث فتحلل ودفعته ثم قتلته وانهزم المسلمون وانهزمت معهم فإذا بعمر ( بن الخطاب فقلت ما بال الناس ) قد ولوا ( فقال أمر الله ) أي حكم الله وما قضى به أو أراد ما حال الناس بعد التولي فقال أمر الله غالب والعاقبة للمتقين
( ثم إن الناس رجعوا ) تراجعوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم حين قال للعباس ناد يا معشر الأنصار يا أصحاب سورة البقرة فلما سمعوا نداءه أقبلوا كأنهم الإبل
وفي رواية البقر إذا حنت على أولادها يقولون يا لبيك يا لبيك فتراجعوا فأمرهم النبي صلى الله عليه وسلم أن يصدقوا الحملة فاقتتلوا مع الكفار فقال الآن حمي الوطيس وأنزل الله سكينته على رسوله وعلى المؤمنين وأنزل جنودا وقتل كثير من المسلمين وانهزموا من كل ناحية وأفاء الله على رسوله أموالهم ونساءهم وأبناءهم
( فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم من قتل قتيلا ) أوقع القتيل على المقتول باعتبار ما آل إليه كقوله تعالى { إني أراني أعصر خمرا } يوسف 36 له عليه بينة فله سلبه بفتح المهملة واللام وموحدة ما يوجد مع المحارب من ملبوس وغيره عند الجمهور
وعن أحمد لا تدخل الدابة
وعن الشافعي يختص بأداة الحرب
واتفق الجمهور على أنه لا يقبل قول مدعيه بلا بينة تشهد له أنه قتله لمفهوم قوله له عليه بينة
وعن الأوزاعي يقبل بلا بينة لأنه صلى الله عليه وسلم أعطاه لأبي قتادة بلا بينة وفيه نظر ففي مغازي الواقدي أن أوس بن خولي شهد له وعلى تقدير أن لا يصح فيحمل على أنه صلى الله عليه وسلم علم أنه القاتل بطريق من الطرق ونقل ابن عطية عن أكثر الفقهاء أن البينة هنا شاهد واحد يكتفى به
( قال ) أبو قتادة ( فقمت ثم قلت من يشهد لي ) بقتل ذلك الرجل ( ثم جلست ثم قال ) النبي صلى الله عليه وسلم ( من قتل قتيلا له عليه بينة فله سلبه قال فقمت ثم قلت من يشهد لي ثم جلست ثم قال ) النبي صلى الله عليه وسلم ( ذلك ) القول المرة ( الثالثة فقمت فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم مالك يا أبا قتادة ) تقوم وتقعد ( قال فاقتصصت عليه القصة ) وفي حديث أنس عند أحمد قال أبو قتادة إني ضربت رجلا على حبل العاتق وعليه درع فأعجلت عنه ( فقال رجل من القوم ) وفي رواية الليث من جلسائه قال الحافظ لم أقف على اسمه وذكر الواقدي أن اسمه أسود بن خزاعي وفيه نظر لأن في الرواية الصحيحة أن الذي أخذ السلب قرشي ( صدق يا رسول الله ) أبو قتادة ( وسلب ذلك القتيل عندي
____________________
(3/28)
فأرضه ) بهمزة قطع وكسر الهاء ( منه يا رسول الله فقال أبو بكر الصديق لا هاء الله ) بالألفين بهمزة قطع على المشهور في الرواية وروي أيضا بلام بعد الهاء من غير إظهار شيء من الألفين ويجوز إظهار ألف واحدة بلا همزة نحو التقت حلقتا البطان وحذف الألف وثبوت همزة القطع وفيه الاستغناء عن واو القسم بحرف التنبيه ولم يسمع إلا مع الله فلا يقال لاها الرحمن كما سمع لا والرحمن
وقال أبو حاتم السجستاني العرب تقول لاهاء الله بالهمز القياس تركه
وقال الداودي روي يرفع الله أي يأتي الله وقال غيره إن ثبت الرفع رواية فها للتنبيه والله مبتدأ ولا يعمد خبره ولا يخفى تكلفه وقد نقل الأئمة الاتفاق على الجر فلا يلتفت إلى غيره وهو قسم أي لا والله ( إذا ) بكسر الألف ثم ذال معجمة منونة كما في جميع الروايات المعتمدة والأصول المحققة من الصحيحين وغيرهما وقال الخطابي هكذا يرويه المحدثون وإنما هو في كلام العرب لاها الله ذا والهاء بمنزلة الواو والمعنى لا والله يكون ذا
ونقل عياض في المشارق عن إسماعيل القاضي عن المازني قول الرواة لاها الله إذا خطأ والصواب لاها الله ذا أي ذا يميني وقسمي
وقال أبو زيد ليس في كلامهم إذا وإنما هو ذا وهي صلة في الكلام لا والله هذا ما أقسم به وتوارد كثير ممن تكلم على هذا الحديث أن لفظ إذا خطأ وإنما هو ذا
وقال أبو البقاء يمكن توجيه الرواية بأن التقدير لا والله لا يعطي إذا ويكون لا يعمد الخ تأكيدا للنفي المذكور وموضحا للسبب فيه
وقال الطيبي الرواية صحيحة والمعنى صحيح كقولك لمن قال لك افعل كذا والله إذا لا أفعل فالتقدير والله إذ لا يعمد الخ
ويحتمل أن تكون إذا زائدة كما قال أبو البقاء في قول الحماسي إذا لقام بنصري معشر خشن
في جواب قوله لو كنت من مازن لم تستبح إبلي بنو اللقيطة من ذهل بن شيبانا وقال القوطبي في المفهم الرواية صواب فالهاء عوض عن واو القسم لأن العرب تقول في القسم آلله لأفعلن بمد الهمزة وقصرها فكأنهم عوضوا من الهمزة هاء فقالوا ها الله لتقارب مخرجيهما ولذا قالوا بالمد والقصر وتحقيقه أن الذي مد مع الهاء كأنه نطق بهمزتين أبدل من إحداهما ألفا استثقالا لاجتماعهما كما تقول أألله والذي قصر كأنه نطق بهمزة واحدة كما تقول ألله
وأما إذا فهي بلا شك حرف جزاء وتعليل مثل قوله صلى الله عليه وسلم وقد سئل عن بيع الرطب بالتمر فقال أينقص الرطب إذا جف قالوا نعم قال فلا إذا فلو قال فلا والله إذا لساوى ما هنا من كل وجه لكنه لم يحتج للقسم فتركه
____________________
(3/29)
فقد وضح تقدير الكلام ومناسبته من غير حاجة إلى تكلف بعيد يخرج عن البلاغة ولا سيما من جعل الهاء للتنبيه وذا للإشارة وفصل بينهما بالمقسم به وليس هذا قياسا فيطرد ولا فصيحا فيحمل عليه كلام الفصيح ولا مرويا برواية ثابتة وما وجد للعذري والعبدري في مسلم أنه لاها الله ذا فإصلاح ممن اغتر بكلام النحاة والحق أحق أن يتبع وقال أبو جعفر الغرناطي ممن أدركناه استرسل جماعة من القدماء إلى أن اتهموا الأثبات بالتصحيف فقالوا الصواب ذا باسم الإشارة ويا عجبا من قوم يقبلون التشكيك على الروايات الثابتة ويطلبون لها تأويلات وجوابهم أن ها الله لا يستلزم اسم الإشارة كما قال ابن مالك وأما جعل لا يعمد جواب فأرضه فهو سبب الغلط ولا يصح وإنما هو جواب شرط مقدور دل عليه قوله صدق فأرضه فكأن أبا بكر قال إذا صدق في أنه صاحب السلب إذا لا يعمد فيعطيك حقه فالجزاء صحيح لأن صدقه سبب أن لا يفعل ذلك وهذا واضح لا تكلف فيه انتهى
وهو توجيه حسن والذي قبله أقعد ويؤيده كثرة وقوع هذه الجملة في كثير من الأحاديث كحديث عائشة في قصة بريرة لما ذكرت أن أهلها يشترطون الولاء قالت فقلت لا والله إذا وفي قصة جيبيب بالجيم وموحدتين مصغر أن النبي صلى الله عليه وسلم خطب عليه امرأة من الأنصار إلى أبيها فقال حتى أستأمر أمها قال فنعم إذا فذهب إلى امرأته فقالت لا هاء الله إذا وقد منعناها فلانا صححه ابن حبان عن أنس
وأخرج أحمد في الزهد عن مالك بن دينار أنه قال للحسن يا أبا سعيد لو لبست مثل عباءتي هذه قال لا هاء الله إذا لا ألبس مثل عباءتك هذه
وفي تهذيب الكمال في ترجمة ابن أبي عتيق أنه دخل على عائشة في مرضها فقال كيف أصبحت جعلني الله فداك قالت أصبحت ذاهبة قال فلا إذا وكان فيه دعابة
ووقع أيضا في كثير من الأحاديث في سياق الإثبات بقسم وبغير قسم كحديث عائشة في قصة صفية لما قال صلى الله عليه وسلم أحابستنا هي فقيل إنها طافت فقال فلا إذا
وحديث عمرو بن العاصي في سؤاله عن أحب الناس فقال عائشة قال لم أعن النساء قال فأبوها إذا
وحديث ابن عباس في قصة الأعرابي الذي أصابته الحمى فقال بل هي حمى تفور على شيخ كبير تزيره القبور قال فنعم إذا
وروى الفاكهي عن سفيان لقيت لبطة بن الفرزدق فقلت أسمعت هذا الحديث من أبيك قال إي ها الله إذا سمعت أبي يقول
وروى عبد الرزاق عن ابن جريج قال قلت لعطاء أرأيت لو أني فرغت من صلاتي فلم أرض كمالها أفلا أعود لها قال بلى ها الله إذا
انتهى ما اقتطفته من فتح الباري فقد أطال النفس في ذلك جزاه الله خيرا
ثم أراد بيان السبب في ذلك ( لا يعمد ) بالتحتية وكسر الميم أي لا يقصد النبي صلى الله عليه وسلم ( إلى أسد ) بفتحتين أي إلى رجل كأنه أسد في الشجاعة ( من أسد الله ) بضم الهمزة والسين ( يقاتل عن الله ورسوله ) أي صدور قتاله عن رضا الله ورسوله أي بسببهما كقوله تعالى { وما فعلته عن أمري } الكهف 82 أو المعنى يقاتل ذبا عن دين الله إعلاء لكلمة الله ناصرا لأولياء الله أو يقاتل لنصر دين الله وشريعة رسوله لتكون كلمة الله هي
____________________
(3/30)
العليا
( فيعطيك سلبه ) أي سلب قتيله الذي قتله بغير طيب نفسه وإضافة إليه باعتبار أنه ملكه قال الحافظ ضبط للأكثر بالتحتية في يعمد ويعطي وضبطه النووي بالنون فيهما انتهى
وعبارة النووي ضبطوهما بالياء والنون وكلاهما ظاهر
( فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم صدق ) أبو بكر ( فأعطه ) بهمزة قطع أمر للذي اعترف بأن السلب عنده ( إياه ) أي السلب وفي هذه منقبة جليلة لأبي قتادة حيث سماه الصديق من أسد الله وصدقه النبي صلى الله عليه وسلم ( فأعطانيه فبعت الدرع ) بكسر الدال وراء وعين مهملتين ذكر الواقدي أن الذي اشتراه منه حاطب بن أبي بلتعة بسبع أواق فضة ( فاشتريت به مخرفا ) بفتح الميم والراء ويجوز كسر الراء أي بستانا سمي به لأنه يخترف منه الثمر أي يجتني وإما بكسر الميم فهو اسم الآلة التي يخترف بها قاله الحافظ وظاهر قوله ويجوز أن الرواية بالأول فقط ولا كذلك قال النووي مخرف بفتح الميم والراء على المشهور وقال عياض رويناه بفتح الميم والراء على المشهور وقال عياض رويناه بفتح الميم وكسر الراء كالمسجد أي البستان وقيل السكة من النخل يكون صفين يخترف من أيها شاء أن يجتني وقال ابن وهب هي الجنينة الصغيرة وقال غيره هي تخلات يسيرة انتهى
وفي رواية الليث خرافا بكسر أوله وهو الثمر الذي يخترف أي يجتنى وأطلقه على البستان مجازا فكأنه قال بستان خراف
وذكر الواقدي أن البستان المذكور كان يقال له الوديين ( في بني سلمة ) بكسر اللام بطن من الأنصار وهم قوم أبي قتادة ( فإنه لأول مال تأثلته ) بفوقية فألف فمثلثة أي اقتنيته وأصلته وأثلة كل شيء أصله ( في الإسلام ) وفي رواية ابن إسحاق أول مال اعتقدته أي جعلته عقدة والأصل فيه من العقد لأن من ملك شيئا عقد عليه قال الحافظ أبو عبد الله الحميدي الأندلسي سمعت بعض أهل العلم يقول عند ذكر هذا الحديث لو لم يكن من فضيلة الصديق إلا هذا فإنه لثاقب علمه وشدة صرامته وقوة إنصافه وصحة تحقيقه بادر إلى القول الحق فزجر وأفتى وأمضى وأخبر في الشريعة عنه صلى الله عليه وسلم بحضرته وبين يديه بما صدقه فيه وأجراه على قوله وهذا من خصائصه الكبرى إلى ما لا يحصى من فضائله الأخرى انتهى
ووقع في حديث أنس أن الذي قال ذلك عمر أخرجه أحمد من طريق حماد بن سلمة عن إسحاق بن أبي طلحة عن أنس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال يوم حنين من قتل كافرا فله سلبه فقتل أبو طلحة يومئذ عشرين رجلا وأخذ أسلابهم وقال أبو قتادة إني ضربت رجلا على حبل العاتق وعليه درع فأعجلت عنه فقام رجل فقال أخذتها فأرضه منها وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يسأل شيئا إلا أعطاه أو سكت فسكت فقال عمر والله لا يفيئها الله على أسد من أسده ويعطيكها فقال صلى الله عليه وسلم صدق عمر قال الحافظ وهذا الإسناد قد أخرج به مسلم وأبو داود بعض هذا الحديث ولكن الراجح أن قائل ذلك أبو بكر كما رواه أبو قتادة وهو صاحب القصة فهو أتقن لما وقع فيها من غيره ويحتمل الجمع بأن يكون عمر أيضا قال ذلك تقوية لقول أبي بكر واستدل به على أن السلب يستحقه القاتل
____________________
(3/31)
من كل مقتول بشرط أن يكون من المقاتلة عند الجمهور
وقال أبو ثور وابن المنذر ولو كان امرأة وهذا الحديث أخرجه البخاري هنا وفي البيع عن القعنبي وفي المغازي عن التنيسي ومسلم من طريق ابن وهب ثلاثتهم عن مالك به وتابعه الليث بن سعد في الصحيحين وهشيم عند مسلم كلاهما عن يحيى بن سعيد
( مالك عن ابن شهاب عن القاسم بن محمد ) بن الصديق ( أنه قال سمعت رجلا ) لم يسم ( يسأل عبد الله بن عباس عن الأنفال فقال ابن عباس الفرس من النفل والسلب من النفل قال ) القاسم ( ثم عاد ) الرجل ( لمسألته ) كأنه لم يرض الجواب ( فقال ابن عباس ذلك أيضا ثم قال الرجل الأنفال الذي قال الله في كتابه ) يسألونك عن الأنفال ( ما هي ) لأن جوابك مجمل
وقد روى أبو داود والنسائي وابن حبان والحاكم عن ابن عباس أن المشيخة يوم بدر ثبتوا تحت الرايات وأما الشبان فسارعوا إلى القتل والغنائم فقالت المشيخة للشبان أشركونا معكم فإنا كنا لكم ردءا ولو كان منكم شيء للجأتم إلينا فاختصموا إلى النبي صلى الله عليه وسلم فنزلت { يسألونك عن الأنفال } الأنفال 1 الآية فقسم صلى الله عليه وسلم الغنائم بينهم على السواء ولابن جرير عن مجاهد
أنهم سألوه صلى الله عليه وسلم عن الخمس بعد الأربعة الأخماس فنزلت الآية
فهذا ابن عباس نفسه روى أن المراد بالأنفال في الآية الغنائم ولكنه لم يفصح للرجل بذلك لأنه رآه متعنتا
( قال القاسم فلم يزل يسأله حتى كاد ) قارب ( أن يحرجه ) بضم الياء وإسكان المهملة وكسر الراء وفتح الجيم أي يضيق عليه وسقطت أن في رواية وهو أفصح ( ثم قال ابن عباس أتدرون ما مثل هذا ) أي صفته ( مثل صبيغ ) بصاد مهملة فموحدة فتحتية فغين معجمة بوزن عظيم ابن عسل بكسر العين وإسكان السين المهملتين ويقال بالتصغير ويقال ابن سهل التميمي الحنظلي له إدراك ومثله به لأنه رآه متعنتا غير مصغ للعلم فأشار إلى أنه حقيق أن يصنع به مثل صبيغ ( الذي ضربه عمر بن الخطاب ) أخرج إسماعيل بن إسحاق القاضي ثنا ابن أبي أويس ثنا مالك عن يحيى بن سعيد عن سعيد بن المسيب عن عمر بن الخطاب أنه سأل رجلا قدم من الشام عن الناس فقال إن فيها رجلا يسأل عن متشابه القرآن يقال له صبيغ يريد قدوم المدينة فقال عمر لئن لم تأتني به لأفعلن بك فجعل الرجل يختلف إلى الثنية يسأل عن صبيغ حتى طلع بعير وقد لهج بأن يقول من يلبس الفقه
____________________
(3/32)
بفقهه إليه فانتزع الرجل خطاما من يده حتى أتى به عمر فضربه ضربا شديدا ثم حبسه ثم ضربه أيضا فقال صبيغ إن كنت تريد قتلي فأجهز علي وإن كنت تريد شفاي فقد شفيتني شفاك الله فأرسله عمر
وروى الدارمي عن سليمان بن يسار ونافع قالا قدم المدينة رجل فجعل يسأل عن متشابه القرآن فأرسل إليه عمر وأعد له عراجين النخل فقال من أنت قال أنا عبد الله صبيغ قال وأنا عبد الله عمر فضربه حتى دمى رأسه فقال حسبك يا أمير المؤمنين قد ذهب الذي كنت أجده في رأسي ثم نفاه إلى البصرة ورواه الخطيب وابن عساكر عن أنس والسائب بن يزيد وأبي عثمان النهدي وزادوا عن الثالث وكتب إلينا عمر لا تجالسوه فلو جاء ونحن مائة لتفرقنا
وروى إسماعيل القاضي عن محمد بن سيرين قال كتب عمر إلى أبي موسى لا تجالس صبيغا وأحرمه عطاءه
وأخرج ابن الأنباري وغيره بسند صحيح عن السائب بن يزيد قال جاء صبيغ التميمي إلى عمر فسأله عن الذاريات الحديث وفيه فأمر عمر فضرب مائة سوط فلما برأ دعاه فضربه مائة أخرى ثم حمله على قتب وكتب إلى أبي موسى حرم على الناس مجالسته فلم يزل كذلك حتى أتى أبا موسى فحلف له أنه لا يجد في نفسه شيئا فكتب إلى عمر أنه صلح حاله فكتب إليه خل بينه وبين الناس فلم يزل صبيغ وضيعا في قومه بعد أن كان سيدا فيهم
قال العسكري اتهمه عمر برأي الخوارج
وذكر ابن دريد أنه كان أحمق وأنه وفد على معاوية
قال أبو عمر كان صبيغ من الخوارج في مذاهبهم قال وإنما أتى مالك بحديث ابن عباس بعد حديث أبي قتادة تفسيرا للسلب لأن سلب قتيله كان درعا وزاد ابن عباس من قوله الفرس وفي رواية غير مالك والرمح وذلك كله آلات المقاتل لا ذهب وفضة لأنهما ليسا من آلاته
( سئل مالك عمن قتل قتيلا من العدو أيكون له سلبه بغير إذن الإمام فقال لا يكون ذلك لأحد بغير إذن الإمام ) أي أمير الجيش ( ولا يكون ذلك من الإمام إلا على وجه الاجتهاد ) منه بما يراه مصلحة ووافقه على ذلك أبو حنيفة وطائفة
وعن مالك أيضا يخير الإمام بين أن يعطيه السلب أو يخمسه واختاره إسماعيل القاضي
وعن مكحول والثوري والشافعي يخمس مطلقا لعموم قوله { واعلموا أنما غنمتم من شيء فأن لله خمسه } الأنفال 41 ولم يستثن شيئا
وذهب الجمهور إلى أن القاتل يستحق السلب سواء قال أمير الجيش من قتل قتيلا فله سلبه أو لا
وأجابوا عن عموم الآية بأنه مخصوص بحديث من قتل قتيلا الخ وتعقب بقوله ( ولم يبلغني أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال من قتل قتيلا فله سلبه إلا يوم حنين ) وهي آخر مغازيه التي وقع فيها قتال وغنيمة
وأجيب بأن ذلك حفظ عنه
____________________
(3/33)
صلى الله عليه وسلم يوم بدر كما في الصحيحين أنه قضى بسلب أبي جهل لمعاذ بن عمرو بن الجموح
وعند البيهقي أن حاطب بن أبي بلتعة قتل رجلا يوم أحد فسلم له النبي صلى الله عليه وسلم سلبه
وحديث جابر أن عقيل بن أبي طالب قتل يوم مؤتة رجلا فنفله النبي صلى الله عليه وسلم سلبه
ثم كان ذلك مقررا عند الصحابة كما في مسلم عن عوف بن مالك وإنكاره على خالد بن الوليد أخذ السلب من القاتل
وروى الحاكم والبيهقي بإسناد صحيح عن سعد بن أبي وقاص أن عبد الله بن جحش قال له يوم أحد تعال بنا ندعو فقال سعد اللهم ارزقني رجلا شديدا بأسه فأقاتله ويقاتلني ثم ارزقني عليه الظفر حتى أقتله وآخذ سلبه الحديث
وفي مغازي ابن إسحاق أن عمر قال لعلي لما قتل عمرو بن عبد ود هلا استلبت درعه فإنه ليس للعرب خير منها فقال إنه اتقاني بسوأته ولأحمد بإسناد قوي عن عبد الله بن الزبير قال كانت صفية في حصن حسان يوم الخندق فذكر الحديث في قصة قتلها اليهودي وقولها لحسان انزل فاسلبه من حاجة كذا في فتح الباري وليس في هذا كله أنه قال من قتل قتيلا فله سلبه قبل يوم حنين وإعطاؤه السلب في هذه المواطن لأنه للإمام يجتهد فيه بما شاء وإنما قال ذلك النبي صلى الله عليه وسلم يوم حنين بعد انقضاء القتال كما هو صريح حديث أبي قتادة ولذا قال مالك في المدونة يكره أن يقول الإمام ذلك قبل انقضاء القتال لئلا تضعف نيات المجاهدين
واختلف في أن الكراهة على بابها أو على التحريم وإذا قاله قبله أو في أثنائه استحقه القاتل وعن الحنفية لا كراهة في ذلك
10 ما جاء في إعطاء النفل من الخمس ( مالك عن أبي الزناد ) بكسر الزاي وخفة النون عبد الله بن ذكوان ( عن سعيد بن المسيب أنه قال كان الناس يعطون النفل من الخمس ) قال الحافظ ظاهره اتفاق الصحابة على ذلك
قال ابن عبد البر إن أراد الإمام تفضيل بعض الجيش لمعنى فيه فذلك من الخمس لا من رأس الغنيمة وإن انفردت قطعة فأراد أن ينفلها مما غنمته دون سائر الجيش فذلك من غير الخمس بشرط أن لا يزيد على الثلث انتهى
وهذا الشرط قال به الجمهور
وقال الشافعي لا يتحدد بل هو راجع إلى رأي الإمام من المصلحة ويدل عليه قوله تعالى { قل الأنفال لله والرسول } الأنفال 1 ففوض إليه أمرها اه
( قال مالك وذلك أحسن ما سمعت إلي في ذلك ) من الخلاف
( سئل مالك عن النفل هل يكون في أول مغنم قال ذلك على وجه الاجتهاد من الإمام وليس عندنا ) بالمدينة ( في ذلك أمر معروف موثوق ) بيان لمعروف ( إلا اجتهاد السلطان ) من له سلطنة الإمام أو أمير الجيش ( ولم يبلغني أن
____________________
(3/34)
رسول الله صلى الله عليه وسلم نفل في مغازيه كلها وقد بلغني أنه نفل في بعضها يوم حنين ) وذلك يقتضي أنه لا فرق بين أول مغنم وغيره ( وإنما ذلك على وجه الاجتهاد من الإمام في أول مغنم وفيما بعده ) وقال الأوزاعي لا ينفل من أول الغنيمة ولا ينفل ذهبا ولا فضة وخالفه الجمهور
11 القسم للخيل في الغزو ( مالك قال بلغني أن عمر بن عبد العزيز كان يقول للفرس سهمان وللرجل سهم قال مالك ولم أزل أسمع ذلك ) وقد رواه نافع عن ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قسم للفرس سهمين ولصاحبه سهما فسره نافع فقال إذا كان مع الرجل فرس فله ثلاثة أسهم فإن لم يكن له فرس فله سهم أخرجه البخاري وغيره
ولأبي داود من وجه آخر عن ابن عمر أسهم لرجل ولفرسه ثلاثة أسهم سهما له وسهمين لفرسه وإلى هذا ذهب الأئمة الثلاثة وفقهاء الأمصار
وقال أبو حنيفة للفرس سهم واحد ولصاحبه سهم فللفارس سهمان فقط
واحتجوا له بما في بعض طرق حديث ابن عمر عند الدارقطني بلفظ أسهم للفارس سهمين وتعقب بأنه وهم من راويه كما قال أبو بكر النيسابوري لأنه جاء من وجوه عديدة عند أحمد وابن أبي شيبة وغيرهما بلفظ أسهم للفرس أولا وهم ومعناه أسهم للفارس بسبب فرسه سهمين غير سهمه المختص به فلا حجة فيه واحتج له أيضا بما أخرجه أبو داود عن مجمع بن جارية بجيم وتحتية في حديث طويل في قصة خيبر قال فأعطى للفرس سهمين وللرجل سهما وفي إسناد ضعيف ولو ثبت حمل على ما تقدم لأنه يحتمل الأمرين والجمع بين الروايتين أولى ولا سيما والأسانيد الأول أثبت ومع راويها زيادة علم وأصرح من ذلك ما رواه أبو داود من حديث أبي عمرة أن النبي صلى الله عليه وسلم أعطى للفرس سهمين ولكل إنسان سهما فكان للفارس ثلاثة أسهم وللنسائي عن الزبير أن النبي صلى الله عليه وسلم صرف له أربعة أسهم سهمين لفرسه وسهما له وسهما لقرابته قال محمد بن سمنون انفرد أبو حنيفة بذلك دون فقهاء الأمصار وقال أكره أن أفضل بهيمة على مسلم وهي شبهة ضعيفة لأن السهام كلها للرجل قال الحافظ لو لم يثبت الحديث لكانت الشبهة قوية لأن المفاضلة بين الراجل والفارس فلولا الفرس ما ازداد الفارس سهمين عن الراجل فمن جعل للفارس سهمين فقد سوى بين الفرس وبين الراجل وتعقب هذا أيضا بأن الأصل عدم المساواة بين البهيمة والإنسان فلما خرج عن هذا الأصل بالمساواة فلتكن المفاضلة كذلك وقد فضل الحنفية
____________________
(3/35)
الدابة على الإنسان في بعض الأحكام فقالوا إذا قتل كلب صيد قيمته أكثر من عشرة آلاف أداها فإن قتل عبدا مسلما لم يؤد فيه إلا دون عشرة آلاف درهم والحق أن الاعتماد في ذلك على الخبر ولم ينفرد أبو حنيفة بما قال فقد جاء عن عمر وعلي وأبي موسى لكن الثابت عن عمر وعلي كالجمهور واستدل لهم من حيث المعنى بأن الفرس يحتاج إلى مؤنة لخدمتها وعلفها وبأنه يحصل بها من الغناء في الحرب ما لا يخفى
( سئل مالك عن رجل يحضر بأفراس كثيرة فهل يقسم لها كلها فقال لم أسمع بذلك ولا أرى أن يقسم إلا لفرس واحد الذي يقاتل عليه ) وبهذا قال الجمهور وقال الليث وأبو يوسف وأحمد وإسحاق يسهم لفرسين لا أكثر لحديث أبي عمرة قال أسهم لي رسول الله صلى الله عليه وسلم لفرسي أربعة أسهم ولي سهما فأخذت خمسة أسهم رواه الدارقطني بإسناد ضعيف قال القرطبي ولم يقل أحد أنه يسهم لأكثر من فرسين إلا ما روي عن سليمان بن موسى بسهم لكل فرس سهمان بالغا ما بلغت
( قال مالك لا أرى البراذين ) جمع برذون بكسر الموحدة وسكون الراء وفتح المعجمة والمراد الجفاة الخلقة من الخيل وأكثر ما تجلب من بلاد الروم ولها جلد على السير في الشعاب والجبال والوعر بخلاف الخيل العربية
( والهجن ) بضم الهاء والجيم جمع هجين كبرد وبريد وهو ما أحد أبويه عربي وقيل الهجين الذي أبوه عربي وأما الذي أمه عربية فيسمى المقرف وعن أحمد الهجين البرذون ويحتمل أنه أراد في الحكم ( إلا من الخيل لأن الله تعالى قال في كتابه و ) خلق ( الخيل والبغال والحمير لتركبوها ) وجه الاحتجاج أن الله تعالى من بركوب الخيل وقد أسهم لها النبي صلى الله عليه وسلم واسم الخيل يقع على البرذون والهجين بخلاف البغال والحمير فكأن الآية استوعبت ما ركب من هذا الجنس لما يقتضيه الامتنان فلما لم ينص على البرذون والهجين فيها دل على دخولهما في الخيل قاله ابن بطال
( وقال عز وجل وأعدوا لهم ) لقتالهم ( ما استطعتم من قوة ) قال صلى الله عليه وسلم هي الرمي ( ومن رباط الخيل ) مصدر بمعنى حبسها في سبيل الله ( ترهبون ) تخوفون ( به عدو الله وعدوكم ) الكفار فعموم الخيل شامل للبراذين والهجين ( فأنا أرى البراذين والهجن من الخيل إذا أجازها الوالي ) على الجيش ( وقد قال سعيد بن المسيب وسئل ) والسائل له عبد الله بن دينار كما
____________________
(3/36)
مر في الزكاة ( عن البراذين هل فيها صدقة ) وفي نسخة من صدقة بزيادة من ( فقال وهل في الخيل من صدقة ) أي زكاة فجعلها من الخيل وإلى هذا ذهب الجمهور
ولأبي داود في المراسيل وسعيد بن منصور عن مكحول أن النبي صلى الله عليه وسلم هجن الهجين يوم خيبر وعرب العراب فجعل للعربي سهمين وللهجين سهما وهذا منقطع
وروى الشافعي في الأم وسعيد بن منصور عن علي بن الأقمر قال أغارت الخيل فأدركت العراب وتأخرت البراذين فقام المنذر الوادعي فقال لا أجعل ما أدرك كما لم يدرك فبلغ ذلك عمر فقال هبلت الوداعي أمه لقد أذكرت به امضوها على ما قال فكان أول من أسهم للبراذين دون سهام العرب وفي ذلك يقول شاعرهم ومنا الذي قد سن في الخيل سنة وكانت سواء قبل ذاك سهامها وهذا منقطع أيضا وقد أخذ به أحمد في المشهور عنه وعنه كالجماعة وعنه إن بلغت البراذين مبالغ العربية سوى بينهما وإلا فضلت العربية واختارها بعضهم وعن الليث يسهم للبرذون والهجين دون سهم الفرس
12 ما جاء في الغلول بضم المعجمة واللام أي الخيانة في المغنم سمي بذلك لأن آخذه يغله أي يخفيه في متاعه وأجمعوا على أنه من الكبائر وفي قوله تعالى { ومن يغلل يأت بما غل يوم القيامة } آل عمران 161 وعيد عظيم
( مالك عن عبد الرحمن بن سعيد ) بن قيس الأنصاري الثقة المأمون أخو يحيى بن سعيد روى عنه جماعة من الأئمة ومات سنة تسع وثلاثين وقيل سنة إحدى وأربعين ومائة له في الموطأ مرفوعا ثلاثة أحاديث هذا ثانيها ( عن عمرو ) بفتح العين ( ابن شعيب ) بن محمد بن عبد الله بن عمرو بن العاصي صدوق مات سنة ثماني عشرة ومائة قال ابن عبد البر لا خلاف عن مالك في إرساله ووصله النسائي قال الحافظ بإسناد حسن من طريق حماد بن سلمة عن محمد بن إسحاق عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده وأخرجه النسائي أيضا بإسناد حسن من حديث عبادة بن الصامت ( أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حين صدر ) رجع ( من حنين وهو يريد الجعرانة ) بكسر الجيم وسكون العين وخفة الراء وبكسر العين وشد الراء والأولى أفصح ( سأله الناس ) وزاد في الطريق الموصولة فقالوا اقسم علينا فيئنا ( حتى دنت به ناقته من شجرة ) أي سمرة بفتح المهملة وضم الميم من شجر البادية ذات شوك ففي الصحيح عن جبير بن مطعم أنه بينما هو يسير مع النبي صلى الله عليه وسلم مقفلة من حنين فعلقت الناس الأعراب يسألونه حتى اضطروه إلى سمرة ( فتشبكت بردائه ) أي علق شوكها به ( حتى نزعته
____________________
(3/37)
عن ظهره ) وفي حديث جبير فخطفت رداءه وهو مجازا والمراد خطفته الأعراب ( فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ) زاد النسائي يا أيها الناس ( ردوا علي ردائي ) وفي حديث جبير فوقف وقال أعطوني ردائي يعني خلصوه من الشجرة وأعطوه لي وإن كانوا خطفوه فالرد بلا تخليص ( أتخافون أن لا أقسم بينكم ما أفاء ) رد ( الله عليكم ) من الغنيمة وأصل الفيء الرد والرجوع ومنه سمي الظل بعد الزوال فيئا لرجوعه من جانب إلى جانب فكأن أموال الكفار سميت فيئا لأنها كانت في الأصل للمؤمنين إذ الإيمان هو الأصل والكفر طار عليه
( والذي نفسي بيده ) إن شاء أبقاها وإن شاء أخذها وهو قسم كان يقسم به كثيرا ( لو أفاء ) بالهمز ولا يجوز الإبدال ( الله عليكم مثل سمر ) بفتح المهملة وضم الميم شجر ( تهامة ) جمع سمرة بالتاء شجرة طويلة متفرقة الرأس قليلة الظل صغيرة الورق والشوك صلبة الخشب قاله ابن التين وقال الداودي هي العضاه بكسر المهملة وفتح المعجمة الخفيفة آخره هاء وصلا ووقفا شجر الشوك كطلح وعوسج وسدر وقال الخطابي ورق السمرة أثبت وظلها أكثف ويقال هي شجرة الطلح وللنسائي لو أن لكم بعدد شجر تهامة وفي حديث جبير لو كان لي عدد هذه العضاه ( نعما ) بفتحتين والنصب على التمييز ( لقسمته عليكم ) وفي رواية بينكم ( ثم لا تجدوني ) بنون واحدة وفي رواية تجدونني بنونين ( بخيلا ولا جبانا ولا كذابا ) أي إذا جربتموني لا تجدوني ذا بخل ولا ذا جبن ولا ذا كذب فالمراد نفي الوصف من أصله لا نفي المبالغة التي دل عليها الثلاثة لأن كذابا من صيغ المبالغة وجبانا صفة مشبهة وبخيلا محتمل الأمرين قال ابن المنير وفي جمعه صلى الله عليه وسلم بين هذه الصفات لطيفة لأنها متلازمة وكذا أضداها الصدق والكرم والشجاعة وأصل المعنى هنا الشجاعة فإن الشجاع واثق من نفسه بالخلف من كسب سيفه فبالضرورة لا يبخل وإذا سهل عليه العطاء لا يكذب بالخلف في الوعد لأن الخلف إنما ينشأ من البخل وقوله لو كان لي عدد هذه العضاه تنبيه بطريق الأولى لأنه إذا سمح بمال نفسه فلأن يسمح بقسم غنائمهم عليهم أولى واستعمال ثم هنا ليس مخالفا لمقتضاها وإن كان الكرم يتقدم العطاء لكن علم الناس بكرم الكريم إنما يكون بعد العطاء وليس المراد بثم الدلالة على تراخي العلم بالكرم عن العطاء وإنما التراخي هنا لعلو رتبة الوصف كأنه قال وأعلى من العطاء بما لا يتعارف أن يكون العطاء عن كرم فقد يكون عطاء بلا كرم كعطاء البخيل ونحو ذلك انتهى
وفيه ذم الخصال المذكورة وأن الإمام لا يصلح أن يكون فيه خصلة منها وفيه ما كان عليه صلى الله عليه وسلم من الحلم وحسن الخلق وسعة الجود والصبر على جفاة الأعراب وجواز وصف المرء نفسه بالخصال الحميدة عند الحاجة لخوف ظن أهل الجهل به خلاف ذلك ولا يكون من الفخر المذموم ورضى السائل بالحق
____________________
(3/38)
للوعد إذا تحقق من الواعد التنجيز وأن الخيار للإمام في قسم الغنيمة إن شاء بعد فراغ الحرب وإن شاء بعد ذلك
( فلما نزل رسول الله صلى الله عليه وسلم ) عن ناقته ( قام في الناس فقال أدوا الخياط ) بكسر المعجمة وتحتية بزنة لحاف أي الخيط بدليل رواية الخائط وأعد الخيوط المعروفة وإن احتمل الخياط الإبرة لكن يدفعه قوله ( والمخيط ) بكسر الميم وإسكان المعجمة وفتح الياء فإنه الإبرة بلا خلاف وهذا خرج على التقليل ليكون ما فوقه أولى بالدخول في معناه ( فإن الغلول عار ) شيء يلزم منه شين أو سبة في الدنيا ( ونار ) يوم القيامة ( وشنار ) بفتح الشين المعجمة والنون الخفيفة فألف فراء أقبح العيب والعار ( على أهله يوم القيامة ) قال ابن عبد البر الشنار لفظة جامعة لمعنى النار والعار ومعناها الشين والنار يريد أن الغلول شين وعار ومنقصة في الدنيا وعذاب ونار في الآخرة
( قال ثم تناول من الأرض وبرة ) بفتح الموحدة والراء شعرة ( من بعير أو شيئا ) شك الراوي وللنسائي ثم مال إلى راحلته فأخذ منها وبرة فوضعها بين إصبعيه ( ثم قال والذي نفسي بيده مالي مما أفاء الله عليكم ولا مثل هذه ) الوبرة ( إلا الخمس ) فإنه لي أعمل فيه برأيي ( والخمس مردود عليكم ) باجتهادي لأن الأربعة الأخماس مقسومة على المقاتلين الشريف والمشروف والرفيع والوضيع والغني والفقير والسواء لا مدخل فيها للاجتهاد بالاتفاق المتلقى عن المصطفى لكن اختلف في سهم الفارس كما تقدم
زاد النسائي فقام رجل ومعه كبة شعر فقال يا رسول الله أخذت هذه لأصلح بها بردعة فقال أما ما كان لي ولبني عبد المطلب فهو لك فقال أما إذا بلغت ما أرى فلا أرب لي فيها ونبذها وروى عبد الرزاق أن عقيل بن أبي طالب دخل على امرأته فاطمة بنت شيبة يوم حنين وسيفه ملطخ دما فقال دونكي هذه الإبرة تخيطين بها ثيابكي فدفعها إليها فسمع المنادي يقول من أخذ شيئا فليرده حتى الخيط والمخيط فرجع عقيل فأخذها فألقاها في الغنائم
( مالك عن يحيى بن سعيد ) الأنصاري ( عن محمد بن يحيى بن حبان ) بفتح المهملة والموحدة الثقيلة ( أن زيد بن خالد ) قال ابن عبد البر كذا ليحيى وهو غلط سقط عنه شيخ محمد وهو في رواية غيره إلا أنهم اختلفوا فقال القعنبي وابن القاسم وأبو مصعب ومعن بن عيسى وسعيد بن عفير عن محمد بن يحيى بن حبان عن أبي عمرة وقال ابن وهب ومصعب الزبيري عن ابن أبي عمرة واسمه عبد الرحمن وفي التقريب أبو عمرة الأنصاري عن زيد بن خالد صوابه عن ابن أبي عمرة واسمه عبد الرحمن الأنصاري البخاري يقال ولد في عهد النبي صلى الله عليه وسلم وقال ابن أبي حاتم ثم ليست له صحبة
____________________
(3/39)
انتهى
وأبوه أبو عمرة صحابي شهيد بدري اسمه بشير وقيل أسامة وقيل ثعلبة مات في خلافة علي فعلم أن الصواب رواية ابن وهب ومصعب عن محمد بن يحيى عن ابن أبي عمرة أن زيد بن خالد ( الجهني ) بضم الجيم وفتح الهاء المدني الصحابي المشهور مات بالكوفة سنة ثمان وستين أو سبعين وله خمس وثمانون سنة
( قال توفي رجل ) لم يسم ( يوم خيبر ) بخاء معجمة وآخره راء عند جميع الرواة إلا يحيى فقال يوم حنين وهو وهم منه والصحيح خيبر ويدل عليه قوله من خرز يهود ولم يكن بحنين يهود قاله ابن عبد البر وكذا قال الباجي يدل عليه قوله من خرز يهود ولم يكن يوم حنين يهود يؤخذ خرزهم وإنهم ذكروه لرسول الله صلى الله عليه وسلم ليصلي ( فزعم زيد ) أي قال حقا كقوله صلى الله عليه وسلم زعم جبريل ويطلق أيضا على الكذب ومنه { زعم الذين كفروا أن لن يبعثوا } التغابن 7 وعلى قول لم يوثق به كقوله كذا زعموا خير أهل اليمن وما هنا من الأول ( أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال صلوا على صاحبكم ) لأن الإمام لا يصلي على ذي كبيرة ( فتغيرت وجوه الناس لذلك ) أي عدم صلاته عليه ولم يعلموا ذنبه ( فزعم زيد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال إن صاحبكم قد غل في سبيل الله ) خان في الغنيمة ( قال ) زيد ( ففتحنا متاعه فوجدنا خرزات من خرز ) جمع خرزة برنة قصب وقصبة ما ينظم ( يهود ما يساوين ) وفي رواية ما تساوي ( درهمين ) ففي هذا تعظيم أمر الغلول وأنه لا فرق بين كثيره وقليله وهذا الحديث رواه الترمذي والنسائي من طريق مالك وغيره
( مالك عن يحيى بن سعيد عن عبد الله بن المغيرة بن أبي بردة الكناني ) قال في الإكمال سئل أبو زرعة الرازي عن اسم أبي بردة فقال لا أعرفه ( أنه بلغه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أتى الناس في قبائلهم ) جمع قبيلة الجماعة المجتمعون من قوم شتى ( يدعو لهم وأنه ترك قبيلة من القبائل ) بغير دعاء ( قال وإن القبيلة وجدوا في بردعة ) بدال مهملة ومعجمة حلس يجعل تحت الرحل هذا أصله لغة وفي عرف زماننا هي للحمار بمنزلة السراج للفرس كما في المصباح وقال الباجي هي الفراش المبطن ( رجل منهم عقد ) بكسر العين وإسكان الثاني قلادة ( جزع ) بفتح الجيم وسكون الزاي خرز فيه بياض
____________________
(3/40)
وسواد الواحدة جزعة مثل تمر وتمرة ( غلولا ) خيانة ( فأتاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فكبر عليهم كما يكبر على الميت ) قال الباجي يحتمل أن ذلك زجر لهم إشارة إلى أن حكمهم حكم الموتى الذين لا يسمعون المواعظ ولا يمتثلون الأوامر ولا يجتنبون النواهي ويحتمل أنه إشارة إلى أنهم بمنزلة الموتى الذين انقطع عملهم وأنهم لا يقضى لهم بتوبة انتهى والأول أظهر وبه جزم أبو عمر وقال أعلم هذا الحديث روي مسندا بوجه من الوجوه
( مالك عن ثور ) بمثلثة ( ابن زيد الديلي ) بكسر المهملة وإسكان التحتية المدني ( عن أبي الغيث ) بمعجمة فتحتية فمثلثة ( سالم ) المدني وهو بكنيته أشهر من اسمه وقد سمي هنا فلا التفات لمن قال لا يوقف على اسمه صحيحا نعم لا يعرف اسم أبيه ( مولى ) عبد الله ( بن مطيع ) بن الأسود القرشي العدوي المدني له رؤية وأمره ابن الزبير على الكوفة ثم قتل معه سنة ثلاث وسبعين ( عن أبي هريرة أنه قال خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم عام خيبر ) بمعجمة آخره راء كما رواه ابن وضاح عن يحيى وهو الصواب الذي لجماعة رواة الموطأ وغلط عبيد الله بن يحيى فقال حنين نبه عليه ابن عبد البر
وحكى الدارقطني عن موسى بن هارون أن ثور بن زيد وهم في قوله خرجنا لأن أبا هريرة لم يخرج مع النبي صلى الله عليه وسلم إلى خيبر وإنما قدم بعد خروجهم وقدم عليهم خيبر بعد أن فتحت يعني كما رواه أحمد وابن خزيمة وابن حبان والحاكم عن أبي هريرة قال قدمت المدينة والنبي صلى الله عليه وسلم بخيبر وقد استخلف سباع بن عرفطة الحديث وفيه فزودنا شيئا حتى أتينا خيبر وقد افتتحها النبي صلى الله عليه وسلم فكلم المسلمين فأشركونا في سهامهم وقد رواه محمد بن إسحاق عن ثور بن زيد بلفظ انصرفنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى وادي القرى فلعل ثورا وهم لما حدث به غير ابن إسحاق وزعم أن روايته أرجح لا تسمع فأين يقع سماعه من سماع مالك حتى يقدم عليه وقد تابع مالكا عبد العزيز الدراوردي في مسلم والبيهقي من وجه آخر عن أبي هريرة قال خرجنا مع النبي صلى الله عليه وسلم من خيبر إلى وادي القرى فلعل هذا أصل الحديث ولا يشك أحد أن أبا هريرة حضر قسمة الغنائم ( فلم نغنم ذهبا ولا ورقا ) وفي رواية ولا فضة ( إلا الأموال الثياب والمتاع ) كذا ليحي وحده وللشافعي وابن وهب وابن القاسم وغيرهم إلا الأموال والثياب والمتاع بحرف العطف قال الحافظ وهو المحفوظ
وقال القعنبي إلا الثياب والمتاع والأموال وروى هذا الحديث أبو إسحاق الفزاري عن مالك قال حدثني ثور بن زيد الديلي قال حدثني سالم مولى ابن مطيع أنه سمع أبا هريرة يقول افتتحنا خيبر فلم نغنم ذهبا ولا فضة إنما غنمنا
____________________
(3/41)
الإبل والبقر والمتاع والحوائط أخرجه البخاري في المغازي وهي سالمة من الاعتراض بحمل قوله افتتحنا أي المسلمون وله نظائر قال ابن عبد البر فجوز أبو إسحاق مع جلالته إسناده بسماع بعضهم من بعض وقضى بأنها خيبر لا حنين ورفع الإشكال قال وفي الحديث أن بعض العرب وهي دوس لا تسمي العين مالا وإنما الأموال عندهم الثياب والمتاع والعروض وعند غيرهم المال الصامت من الذهب والورق
وقال الحافظ مقتضاه أن الثياب والمتاع لا يسمى مالا
وقد نقل ثعلب عن ابن الأعرابي عن المفضل الضبي قال المال عند العرب الصامت والناطق فالصامت الذهب والفضة والجوهر والناطق البعير والبقر والشاة فإذا قلت عن حضري كثر ماله فالمراد الصامت وإن قلت عن بدوي فالمراد الناطق انتهى
وقد أطلق أبو قتادة على البستان مالا كما مر من قوله فابتعت به مخرفا فإنه لأول مال تأثلته فالذي يظهر أن المال ما له قيمة لكن قد يغلب على قوم تخصيصه بشيء كما حكاه المفضل فتحمل الأموال على المواشي والحوائط التي ذكرت في الحديث ولا يراد بها النقود لأنه نفاها أولا ثم لا تخالف بين قولي أبي هريرة فكلم المسلمين فأشركونا في سهامهم وبين قول أبي موسى الأشعري ولم يقسم لأحد لم يشهد الفتح غيرنا يعني الأشعريين لأن مراده من غير استرضاء أحد من الغانمين
وأما أبو هريرة وأصحابه فلم يعطهم إلا عن طيب خواطر المسلمين
( قال فأهدى رفاعة بن زيد ) أحد بني الضباب كذا في رواية أبي إسحاق عن مالك بكسر الضاد المعجمة وموحدتين الأولى خفيفة بينهما ألف بلفظ جمع الضب وعند مسلم وهب له رجل من جذام يدعى رفاعة بن زيد من بني الضبيب بضم المعجمة بصيغة التصغير
وفي رواية محمد بن إسحاق رفاعة بن زيد الجذامي ثم الضبني بضم المعجمة وفتح الموحدة بعدها نون وقيل بفتح المعجمة وكسر الموحدة نسبة إلى بطن من جذام قال الواقدي كان رفاعة وفد على النبي صلى الله عليه وسلم في ناس من قومه قبل خروجه إلى خيبر فأسلموا وعقد له على قومه ( غلاما ) عبدا ( أسود يقال له مدعم ) بكسر الميم وسكون الدال وفتح العين المهملتين صحابي رضي الله عنه ( فوجه ) بفتح الواو وقال الكرماني بالبناء للمجهول ( رسول الله ) وفي رواية الفزاري ثم انصرفنا مع رسول الله ( صلى الله عليه وسلم إلى وادي القرى ) بضم القاف وفتح الراء مقصور موضع بقرب المدينة ( حتى إذا كنا بوادي القرى بينما ) بالميم بلا فاء ( مدعم يحط رحل رسوله صلى الله عليه وسلم ) زاد في رواية البيهقي وقد استقبلتنا يهود بالرمي ولم نكن على تعبية ( إذ جاءه ) أي مدعما ( سهم عائر ) بعين مهملة فألف فهمزة فراء بزنة الفاعل أي لا يدري من رمى به وقيل هو الحائد عن قصده ( فأصابه فقتله فقال الناس هنيئا له الجنة ) وفي رواية الفزاري الشهادة ( فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم كلا ) ردع لهم عن هذا القول ( والذي نفسي بيده إن الشملة )
____________________
(3/42)
كساء يشتمل به ويلتف فيه وقيل إنما تسمى شملة إذا كان لها هدب ( التي أخذ ) ها وفي رواية أصابها ( يوم خيبر ) بمعجمة أوله وراء بلا نقط آخره على الصواب ( من الغنائم لم تصبها المقاسم لتشتعل ) بزنة تفتعل عند ابن وضاح ولابن يحيى لتشعل بالبناء للمجهول ( عليه نارا ) قال الحافظ يحتمل أن يكون ذلك حقيقة بأن تصير الشملة نفسها نارا فيعذب بها ويحتمل أن المراد أنها سبب لعذاب النار وكذا يقال في الشراك الآتي
وفي الصحيح عن عبد الله بن عمرو قال كان على ثقل النبي صلى الله عليه وسلم رجل يقال له كركرة فقال صلى الله عليه وسلم هو في النار في عباءة غلها وكلام عياض يشعر باتحاد قصته مع قصة مدعم والذي يظهر من عدة أوجه تغايرهما فإن قصة مدعم كانت بوادي القرى ومات بسهم وغل شملة والذي أهداه رفاعة بخلاف كركرة فأهداه هوزة بن علي وكان نوبيا أسود يمسك دابته صلى الله عليه وسلم في القتال فأعتقه أي وغل عباءة ولم يمت بسهم بل ذكر البلاذري أنه مات في قتال أهل الردة بعده صلى الله عليه وسلم فافترقا
نعم روى مسلم عن عمر لما كان يوم خيبر قالوا فلان شهيد فقال صلى الله عليه وسلم كلا إني رأيته في النار في بردة غلها أو عباءة فهذا يمكن تفسيره بكركرة بفتح الكافين وبكسرهما قاله عياض
وقال النووي إنما اختلف في كافه الأولى
أما الثانية فمكسورة اتفاقا
وقوله هو في النار أي يعذب على معصيته إن لم يعف الله تعالى عنه
( قال فلما سمع الناس ذلك جاء رجل ) قال الحافظ لم أقف على اسمه ( بشراك ) بكسر الشين المعجمة وخفة الراء سير النعل على ظهر القدم ( أو شراكين ) شك الراوي ( إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ) زاد في رواية الفزاري ( فقال هذا شيء كنت أصبته فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم شراك أو شراكان من نار ) تعذب بها أو سبب لعذاب النار والشك من الراوي وفيه تعظيم الغلول وإن قل
وأخرجه البخاري في الأيمان والنذور عن إسماعيل ومسلم من طريق ابن وهب عن مالك به وتابعه عبد العزيز الدراوردي عن ثور به عند مسلم ورواه البخاري في المغازي نازلا عن عبد الله بن محمد عن معاوية بن عمرو عن أبي إسحاق إبراهيم بن محمد الفزاري عن مالك بنحوه بينه وبين مالك ثلاثة
( مالك عن يحيى بن سعيد أنه بلغه ) وقد رواه أبو عمر متصلا ( عن عبد الله بن عباس أنه قال ) موقوفا وحكمه الرفع لأنه لا يقال رأيا وقد رواه ابن ماجه وغيره بنحوه عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم بدون الجملة الأولى وهي ( ما ظهر الغلول ) الخيانة في الغنيمة ( في قوم قط إلا ألقى في قلوبهم الرعب ) بالضم الخوف معاملة بالنقيض فإن المال يقوي القلب فلما أخذوه بغير حل خافوا قال أبو
____________________
(3/43)
عمر من عدوهم فجبنوا عن لقائهم فظهر العدو عليهم ثم لا يحتمل أن ذلك فيمن غل دون من لم يغل ولم يرض به والأظهر أنه عام مع القدرة على التغيير ولم يفعلوا ولم تنكره قلوبهم قال تعالى { فلولا كان من القرون من قبلكم أولوا بقية ينهون عن الفساد في الأرض } هود 116 وقال تعالى { أنجينا الذين ينهون عن السوء وأخذنا الذين ظلموا بعذاب بئيس } الأعراف 165 ولا فشا ظهر وانتشر ( الزنى في قوم قط ) ولم ينكر على فاعله ( إلا كثر فيهم الموت ) كما وقع في قصة بني إسرائيل ( ولا نقص قوم المكيال والميزان إلا قطع عنهم الرزق ) أي البركة فيه أو ضيق عليهم لا أصل الرزق فلا تنافي بين هذا ونحوه كحديث إن العبد ليحرم الرزق بالذنب يصيبه وبين أحاديث إن الرزق لا تزيده الطاعة ولا تنقصه المعصية
( ولا حكم قوم بغير الحق ) عن عمد أو جهل ( إلا فشا فيهم الدم ) ولابن ماجه مرفوعا
ولا حكموا بغير ما أنزل الله إلا فشا فيهم الفقر ولا منافاة بينهما
( ولاختر ) بفتح الخاء المعجمة والمثناة الفوقية وراء بلا نقط غدر ( قوم بالعهد إلا سلط عليهم العدو ) جزاء لما اجترحوا من نقض العهد المأمور بالوفاء به
13 الشهداء في سبيل الله ( مالك عن أبي الزناد ) عبد الله بن ذكوان ( عن الأعرج ) عبد الرحمن بن هرمز ( عن أبي هريرة أن رسول الله قال والذي نفسي بيده ) بملكه وقدرته قاله عياض ( لوددت ) بلام مفتوحة في جواب القسم وفي رواية بغير لام وكسر الدال الأولى وسكون الثانية ( أني أقاتل ) بصيغة المفاعلة ( في سبيل الله فأقتل ثم أحيا ) بضم الهمزة مبني للمفعول فيهما ( فأقتل ثم أحيا فأقتل ) وفي رواية ثم أقتل في المواضع الثلاثة بدل الفاء قال الطيبي ثم وإن دلت على تراخي الزمان لكن الحمل على تراخي الرتبة هو الوجه لأن التمني حصول درجات بعد القتل والإحياء لم يحصل قبل ومن ثم كررها لنيل مرتبة بعد مرتبة إلى أن ينتهي إلى الفردوس الأعلى
( فكان أبو هريرة يقول ثلاثا أشهد الله ) أنه قال ذلك وفائدة التأكيد لتطمئن نفس سامعه إليه ولا يشك فيما حدثه به وهذا من كلام الراوي ويأتي من رواية أبي صالح عن أبي هريرة زيادة في أول الحديث واستشكل هذا التمني منه مع علمه بأنه لا يقتل وأجاب ابن التين باحتمال أنه قبل نزول قوله تعالى { والله يعصمك من الناس } المائدة 67 ورد بأن نزولها كان في أوائل ما قدم إلى
____________________
(3/44)
المدينة وهذا الحديث صرح أبو هريرة في الصحيحين من رواية ابن المسيب عنه بسماعه النبي وإنما قدم أبو هريرة في أوائل سنة سبع والذي يظهر في الجواب أن تمني الفضل والخير لا يستلزم الوقوع فقد قال وددت لو أن موسى صبر وله نظائر فكأنه أراد المبالغة في بيان فضل الجهاد وتحريض المسلمين عليه قال ابن التين وهذا أشبه وفي الحديث استحباب طلب القتل في سبيل الله وجواز قوله وددت حصول كذا من الخير وإن علم أنه لا يحصل لأن فيه إظهار محبة الخير والرغبة فيه والأجر يقع على قدر النية وتمني ما يمتنع عادة وفيه أن الجهاد على الكفاية إذ لو كان على الأعيان ما تخلف عنه أحد قال الحافظ وفيه نظر لأن الخطاب إنما يتوجه على القادر أما العاجز فمعذور وقد قال تعالى { غير أولي الضرر } النساء 95 وأدلة كونه فرض كفاية يؤخذ من غير هذا الحديث
وأخرجه البخاري في التمني عن عبد الله بن يوسف عن مالك به
وأخرجه مسلم وغيره وطرقه كثيرة عن أبي هريرة في الصحيحين وغيرهما
( مالك عن أبي الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة أن رسول الله قال يضحك الله إلى رجلين ) قال الباجي هو كناية عن التلقي بالثواب والإنعام والإكرام أو المراد تضحك ملائكته وخزنة جنته أو حملة عرشه وذلك أن مثل هذا غير معهود انتهى
والنسائي من طريق ابن عيينة عن أبي الزناد إن الله ليعجب من رجلين قال الخطابي الضحك الذي يعتري البشر عند ما يستخفهم الفرح أو الطرب غير جائز على الله تعالى وإنما هذا مثل ضرب لهذا الصنيع الذي يحل محل الإعجاب عند البشر فإذا رأوه أضحكهم ومعناه الإخبار عن رضى الله بفعل أحدهما وقبوله للأجر ومجازاتهما على صنيعهما بالجنة مع اختلاف حاليهما وتأول البخاري الضحك على معنى الرحمة وهو قريب وتأويله على معنى أقرب فإن الضحك يدل على الرضى والقبول والكرام يوصفون عند ما يسألهم السائل بالبشر وحسن اللقاء فيكون معنى يضحك الله يجزل العطاء وقد يكون معناه يعجب ملائكته ويضحكهم من صنيعهما وهذا مجاز يكثر مثله
وقال ابن الجوزي كان أكثر السلف يمتنعون من تأويله ويروونه كما جاء
وينبغي أن يراعى في مثل هذا الإمرار اعتقاد أن لا تشبه صفات الله صفات الخلق ومعنى الإمرار عدم العلم بالمراد منه مع اعتقاد التنزيه قال الحافظ ويدل على أن المراد الإقبال بالرضى تعديته بإلى تقول ضحك فلان إلى فلان إذا توجه إليه طلق الوجه مظهرا للرضى عنه
( يقتل ) بفتح أوله ( أحدهما الآخر كلاهما يدخل الجنة ) زاد مسلم من طريق همام عن أبي هريرة قالوا كيف يا رسول الله قال ( يقاتل هذا في سبيل الله فيقتل ) بضم الياء بالبناء للمجهول أي فيقتل الكافر
____________________
(3/45)
المسلم ( ثم يتوب الله على القاتل ) بأن يهديه إلى الإسلام ( فيقاتل ) الكفار ( فيستشهد ) قال ابن عبد البر يستفاد من الحديث أن كل من قتل في سبيل الله فهو في الجنة قال ومعناه عند أهل العلم أن القاتل الأول كان كافرا قال الحافظ وهو ما استنبطه البخاري ويؤيده أن في رواية همام عند مسلم ثم يتوب الله على الآخر فيهديه إلى الإسلام ثم يجاهد في سبيل الله فيستشهد وأصرح منه ما أخرجه أحمد من طريق الزهري عن ابن المسيب عن أبي هريرة قيل كيف يا رسول الله قال يكون أحدهما كافرا فيقتل الآخر ثم يسلم فيغزو فيقتل ولكن لا مانع من أن يكون مسلما أيضا لعموم قوله ثم يتوب الله على القاتل كما لو قتل مسلم مسلما عمدا بلا شبهة ثم تاب القاتل واستشهد في سبيل الله وإنما يمنع دخول مثل هذا من ذهب إلى أن قاتل المسلم عمدا لا تقبل توبته كابن عباس أخذا بظاهر قوله تعالى { ومن يقتل مؤمنا متعمدا فجزاؤه جهنم خالدا فيها وغضب الله عليه ولعنه وأعد له عذابا عظيما } النساء 93 روى أحمد والنسائي وابن ماجه عن ابن عباس أن الآية نزلت في آخر ما نزل ولم ينسخها شيء حتى قبض ولأحمد والنسائي عن معاوية مرفوعا كل ذنب عسى الله أن يغفره إلا الرجل يموت كافرا أو الرجل يقتل مؤمنا متعمدا لكن ورد عن ابن عباس خلاف ذلك فالظاهر أنه أراد بقوله الأول التشديد والتغليظ وعليه جمهور السلف وجميع أهل السنة وصححوا توبة القاتل كغيره وقالوا المراد بالجلود المكث الطويل لتظاهر الأدلة على أن عصاة المسلمين لا يدوم عذابهم وهذا الحديث رواه البخاري عن عبد الله بن يوسف عن مالك به وتابعه سفيان عن أبي الزناد به عند مسلم وغيره
( مالك عن أبي الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة أن رسول الله قال والذي نفسي بيده ) بقدرته أو في ملكه ( لا يكلم ) بضم الياء وسكون الكاف وفتح اللام أي يجرح ( أحد ) مسلم كما قيد به في الصحيحين من رواية همام عن أبي هريرة ( في سبيل الله عز وجل ) أي الجهاد ( والله أعلم بمن يكلم في سبيله ) جملة معترضة بين المستثنى منه والمستثنى مؤكدة مقررة لمعنى المعترض فيه وتفخيم شأن من يكلم في سبيل الله ونظيره قوله تعالى { قالت رب إني وضعتها أنثى والله أعلم بما وضعت } النساء 93 أي بالشيء الذي وضعت وما علق به من عظائم الأمور ويجوز أن يكون تتميما للصيانة عن الرياء والسمعة وتنبيها على الإخلاص في الغزو وأن الثواب المذكور إنما هو لمن أخلص لتكون كلمة الله هي العليا
( إلا جاء يوم القيامة وجرحه يثعب ) بفتح الياء وإسكان المثلثة وفتح المهملة
____________________
(3/46)
فموحدة ( دما ) أي يجري متفجرا أي كثيرا ( اللون لون الدم والريح ريح المسك ) أي كريحه إذ ليس هو مسكا حقيقة بخلاف لون الدم فلا تقدير فيه لأنه دم حقيقة فليس له من أحكام الدماء وصفاتها إلا اللون فقط
قال العلماء الحكمة في بعثه كذلك ليكون معه شاهد فضيلته ببذله نفسه في طاعة الله تعالى وعلى من ظلمه وظاهر الحديث أنه لا فرق بين أن يستشهد أو تبرأ جراحته
قال الحافظ ويحتمل أن المراد ما مات صاحبه به قبل اندماله لا ما اندمل في الدنيا فإن أثر الجراحة وسيلان الدم يزول ولا ينفي ذلك أن له فضلا في الجملة لكن الظاهر أن الذي يجيء يوم القيامة وجرحه يثعب دما من فارق الدنيا كذلك
ويؤيده ما لابن حبان عن معاذ عليه طابع الشهداء ولأصحاب السنن وصححه الترمذي وابن حبان والحاكم عن معاذ مرفوعا من جرح في سبيل الله أو نكب نكبة فإنها تجيء يوم القيامة كأغزر ما كانت لونها الزعفران وريحها المسك قال وعرف بهذه الزيادة أن الصفة المذكورة لا تختص بالشهيد بل تحصل لكل من جرح انتهى
وقال النووي قالوا وهذا الفضل وإن كان ظاهره أنه في قتال الكفار فيدخل فيه من جرح في سبيل الله في قتال البغاة وقطاع الطريق وفي إقامة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ونحو ذلك
وكذا قال ابن عبد البر واستشهد بقوله من قتل دون ماله فهو شهيد لكن توقف الولي العراقي في دخول من قاتل دون ماله في هذا الفضل لإشارة النبي إلى اعتبار الإخلاص بقوله والله أعلم بمن يكلم في سبيله والمقاتل دون ماله لا يقصد وجه الله بذلك وإنما يقصد صون ماله وحفظه فهو يفعل ذلك بداعية الطبع لا بداعية الشرع ولا يلزم من كونه شهيدا أن يكون دمه يوم القيامة كريح المسك رأى بذل بذل نفسه فيه لله حتى يستحق هذا الفضل
وهذا الحديث رواه البخاري عن عبد الله بن يوسف عن مالك به وتابعه سفيان بن عيينة عن أبي الزناد به عند مسلم وغيره
( مالك عن زيد بن أسلم أن عمر بن الخطاب كان يقول اللهم لا تجعل قتلي بيد رجل صلى لك سجدة واحدة يحاجني ) يجادلني ( بها عندك يوم القيامة ) قال ابن عبد البر أراد أن يكون قاتله مخلدا في النار ولا يكون كذلك إلا من لم يسجد لله سجدة ولم يعمل من الخير والإيمان مثقال ذرة وقد استجاب الله له فجعل قتله بالمدينة بيد فيروز النصراني أو المجوسي أبي لؤلؤة عبد المغيرة بن شعبة الصحابي
( مالك عن يحيى بن سعيد ) الأنصاري ( عن سعيد ) بكسر العين ( ابن أبي سعيد المقبري ) بفتح الباء وضمها نسبة إلى المقبرة قال ابن عبد البر كذا رواه يحيى وابن وهب وابن القاسم ومطرف وابن بكير وأبو مصعب والجمهوري ورواه معن بن عيسى والقعنبي عن مالك عن سعيد بن أبي سعيد لم
____________________
(3/47)
يذكرا يحيى بن سعيد فيمكن أن مالكا سمعه من يحيى عن سعيد ثم سمعه من سعيد وقد رواه الليث وابن أبي ذئب عن سعيد المقبري انتهى
أي بلا واسطة يحيى بن سعيد ومن طريق الليث رواه مسلم ورواه أيضا من طريق يزيد بن هارون عن يحيى بن سعيد المقبري فأثبت الواسطة وهذا يؤيد أن مالكا حدث به بالوجهين ( عن عبد الله بن أبي قتادة ) الأنصاري المدني مات سنة خمس وتسعين ( عن أبيه ) الصحابي فارس المصطفى ( أنه قال جاء رجل إلى رسول الله ) وفي رواية الليث عند مسلم أنه قام فيهم فذكر لهم أن الجهاد في سبيل الله والإيمان بالله أفضل الأعمال فقام رجل ( فقال يا رسول الله إن قتلت في سبيل الله ) الجهاد حال كوني ( صابرا محتسبا ) أي مخلصا ( مقبلا ) على القتال وزاد ( غير مدبر ) لبيان كون الإقبال في جميع الأحوال إذ قد يقبل مرة ويدبر أخرى فيصدق عليه أنه مقبل ( أيكفر الله عني خطاياي فقال رسول الله نعم ) يكفر ( فلما أدبر الرجل ناداه ) دعاه ( رسول الله ) بنفسه ( أو أمر به فنودي له ) شك الراوي ( فقال له رسول الله ) أخبرني ( كيف قلت فأعاد عليه قوله ) المذكور ( فقال رسول الله نعم إلا الدين ) بفتح الدال فلا يكفره إلا عفو صاحبه أو استيفاؤه
قال ابن عبد البر فيه أن الخطايا تكفر بالأعمال الصالحة مع الاحتساب والنية في العمل وأن أعمال البر المقبولة لا تكفر من الذنوب إلا ما بين العبد وبين ربه فأما التبعات فلا بد فيها من القصاص
قال وهذا في دين ترك له وفاء ولم يوص به أو قدر على الأداء فلم يؤد أو أنه في غير حق أو سرف ومات ولم يوفه أما من أدان في حق واجب لفاقة وعسر ومات ولم يترك وفاء فلا يحبس عن الجنة لأن على السلطان فرضا أن يؤدي عنه دينه من الصدقات أو سهم الغانمين أو الفيء
وقد قيل إن تشديده في الدين كان قبل الفتوح انتهى
وقال القرطبي والنووي فيه تنبيه على جميع حقوق الآدميين وإن الجهاد والشهادة وغيرهما من أعمال البر لا تكفر حقوق الآدميين وإنما تكفر حقوق الله تعالى
وقال الحافظ ويستفاد منه أن الشهادة لا تكفر التبعات وهي لا تمنع درجة الشهادة وليس للشهادة معنى إلا أن يثبت من حصلت له ثوابا مخصوصا ويكرمه كرامة زائدة وقد بين الحديث أنه يكفر عنه ما عدا التبعات فإن كان له عمل صالح كفرت الشهادة سيئاته غير التبعات ونفعه عمله الصالح في موازنة ما عليه من التبعات ويبقى له درجة الشهادة خالصة فإن لم يكن له عمل صالح فهو تحت المشيئة انتهى
وقال ابن الزملكاني فيه
____________________
(3/48)
تنبيه على أن حقوق الآدميين لا تكفر لكونها مبنية على المشاحة والتضييق ويمكن أن يقال هذا محمول على الدين الذي هو خطيئة وهو ما استدانه صاحبه على وجه لا يجوز له فعله بأن أخذه بحيلة أو غصبه فثبت في ذمته البدل أو أدان غير عازم على الوفاء لأنه استثنى ذلك من الخطايا والأصل في الاستثناء أن يكون من الجنس ويكون الدين المأذون فيه مسكوتا عنه في هذا الاستثناء فلا يلزم المؤاخذة به لما يلطف الله بعبده من استيهابه له وتعويض صاحبه من فضل الله
فإن قيل ما تقول فيمن مات وهو عاجز عن الوفاء ولو وجد وفاء وفى قلت إن كان المال الذي لزم ذمته إنما لزمها بطريق لا يجوز تعاطي مثله كغصب أو إتلاف مقصود فلا تبرأ الذمة من ذلك إلا بوصوله إلى من وجب له أو بإبرائه منه ولا تسقطه التوبة وإنما تنفع التوبة في إسقاط العقوبة الأخروية فيما يختص بحق الله تعالى لمخالفته إلى ما نهى الله عنه وإن كان المال لزمه بطريق سائغ وهو عازم على الوفاء ولم يقدر فهذا ليس بصاحب ذنب حتى يتوب عنه ويرجى له الخير في العقبى ما دام على هذا الحال انتهى وهو نفيس وقد سبقه إلى معناه أبو عمر كما رأيته
( كذلك قال لي جبريل ) وفي رواية عند أبي عمر إلا الدين فإنه مأخوذ كما زعم جبريل أي قال من إطلاق الزعم على القول الحق
قال ابن عبد البر فيه دليل على أن من الوحي ما يتلى وما لا يتلى وما هو قرآن وما ليس بقرآن وقد قيل في قوله تعالى { واذكرن ما يتلى في بيوتكن من آيات الله والحكمة } الأحزاب 34 أن القرآن الآيات والحكمة السنة وكل من الله إلا ما قام عليه الدليل فإنه لا ينطق عن الهوى انتهى
وفي الطبراني برجال ثقات عن ابن مسعود رفعه القتل في سبيل الله يكفر الذنوب كلها إلا الأمانة والأمانة في الصلاة والأمانة في الصوم والأمانة في الحديث وأشد ذلك الودائع وهذا يعارضه حديث الباب الظاهر في أنه يكفر جميع حقوق الله ومنها الصلاة والصوم إلا أنه يحمل على أنه مطلق استشهاد
وحديث أبي قتادة مقيد بأنه صابر محتسب مقبل غير مدبر
( مالك عن أبي النضر ) سالم بن أبي أمية ( مولى عمر بن عبيد الله ) بضم العينين القرشي التيمي ( أنه بلغه ) قال ابن عبد البر مرسل عند جميع الرواة لكن معناه يستند من وجوه صحاح كثيرة ( أن رسول الله لشهداء أحد ) أي لأجلهم وفي شأنهم لما أشرف عليهم مقتولين كما رواه ابن إسحاق عن عبد الله بن ثعلبة وهم سبعون كما صرح به البراء بن عازب وأنس في الصحيح وأبي بن كعب وقال في حديثه أربعة وستون من الأنصار وستة من المهاجرين رواه الحاكم وابن حبان وصححاه وهو المؤيد بقوله تعالى { أو لما أصابتكم مصيبة قد أصبتم مثليها } آل عمران 165 اتفق علماء التفسير على أن المخاطب بذلك أهل أحد وأن إصابتهم مثليها يوم بدر بقتل سبعين وأسر سبعين وبهذا جزم ابن إسحاق وغيره والزيادة عليهم إن ثبتت فإنما نشأت من الخلاف في تفصيلهم وليست زيادة حقيقة
( هؤلاء أشهد عليهم ) بما فعلوه من بذل أجسامهم وأرواحهم وترك من له الأولاد أولاده كأبي
____________________
(3/49)
جابر ترك تسع بنات طيبة بذلك قلوبهم فرحين مستبشرين بوعد خالقهم حتى أن منهم من قال إني لأجد ريح الجنة دون أحد كأنس بن النضر وسعد بن الربيع ومنهم من ألقى تمرات كن في يده وقاتل حتى قتل ومنهم من قال حين خرج اللهم لا تردني إلى أهلي كعمرو بن الجموح ومنهم من خلفه النبي لكبر سنه فخرج رجاء الشهادة وهو اليمان وثابت بن وقش فحذف المشهود به للعلم به
وقال ابن عبد البر أي أشهد لهم بالإيمان الصحيح والسلامة من الذنوب الموبقات ومن التبديل والتغيير والمنافسة في الدنيا ونحو ذلك انتهى
فجعل على بمعنى اللام
وقال السهيلي أشهد من الشهادة وهي ولاية وقيادة فوصلت بحرف على لأنه مشهود له وعليه
وقال البيضاوي هذه الشهادة وإن كانت لهم لكن لما كان كالرقيب المؤتمن على أمته عدى بعلى ( فقال أبو بكر الصديق ألسنا يا رسول الله بإخوانهم أسلمنا كما أسلموا وجاهدنا كما جاهدوا ) فلم خص هؤلاء بشهادتك عليهم ( فقال رسول الله بلى ) أنتم إخوانهم الخ ( ولكن لا أدري ما تحدثون بعدي ) فلذا خصصتهم بالشهادة المستفادة من حصر المبتدأ في الخبر بقوله هو لا أشهد عليهم ( فبكى أبو بكر ثم بكى ) كرره لمزيد أسفه على فراق المصطفى ( ثم قال أئنا لكائنون ) أي موجودون ( بعدك ) استفهام تأسف لا حقيقي لاستحالته من أبي بكر بعد أن أخبره النبي
قال ابن عبد البر فيه أن شهداء أحد ومن مات قبله أفضل ممن خلفهم بعده وهذا في الجملة لأن منهم من أصاب الدنيا بعده وأصابت منه أما الخصوص والتعيين فلا سبيل إليه
( مالك عن يحيى بن سعيد قال كان رسول الله جالسا وقبر يحفر ) جملة حالية لميت ( بالمدينة ) ولابن وضاح في المدينة ( فاطلع ) نظر ( رجل في القبر فقال بئس مضجع المؤمن ) بفتح الميم والجيم موضع الضجوع جمعه مضاجع ( فقال رسول الله بئس ما قلت ) لأن القبر للمؤمن روضة من رياض الجنة ( فقال الرجل لم أرد هذا ) أي ذم القبر ( يا رسول الله إنما أردت القتل في سبيل الله ) الجهاد ( فقال رسول الله لا مثل للقتل في سبيل الله ) في الثواب والفضل ولكن الدفن بالمدينة مزيد الفضل ( ما على الأرض بقعة ) بضم الباء في الأكثر فيجمع على بقع كغرفة وتفتح فتجمع على بقاع مثل كلبة وكلاب أي قطعة ( من الأرض هي أحب إلي أن يكون قبري بها منها ) أي المدينة
____________________
(3/50)
قال ذلك ( ثلاث مرات ) للتأكيد قال الباجي هذا أحد الأدلة على تفضيل المدينة على مكة وكذا أثر عمر الذي يليه
وقال ابن عبد البر هذا الحديث لا أحفظه مسندا ولكن معناه موجود من رواية مالك وغيره اه
وفيه حضوره الجنائز وحفر القبر والدفن للموعظة والاعتبار ورقة القلب ليتأسى به فيه ويكون سنة بعده وأن الكلام يحمل على ظاهره فيحمد على حسنه ويلام على ضده حتى يعلم مراد قائله فيحمل عليه دون ظاهره
14 ما تكون فيه الشهادة ( مالك عن زيد بن أسلم ) فيه انقطاع وقد رواه البخاري من طريق سعيد بن أبي هلال عن زيد بن أسلم عن أبيه ( أن عمر بن الخطاب قال اللهم إني أسألك ) وفي البخاري ارزقني ( شهادة في سبيلك ) فاستجيب له فقتله أبو لؤلؤة فيروز النصراني عبد المغيرة بن شعبة يوم الأربعاء لأربع بقين من ذي الحجة سنة ثلاث وعشرين فحصل له ثواب الشهادة لأنه قتل ظلما
( ووفاة ببلد رسولك ) فتوفي بها من ضربة أبي لؤلؤة في خاصرته ودفن عند أبي بكر عند النبي صلى الله عليه وسلم وهي أشرف البقاع على الإطلاق بالإجماع وفي طلبه الموت بها إظهار لمحبته إياها أعلى من مكة وعمر من القائلين بفضلها على مكة
وروى الإسماعيلي من طريق روح بن القاسم عن زيد بن أسلم عن أمه عن حفصة بنت عمر قالت سمعت عمر يقول اللهم قتلا في سبيلك ووفاة في بلد نبيك قالت فقلت وأنى يكون هذا قال يأتي الله به إذا شاء ورواه ابن سعد عن هشام بن سعد عن زيد عن أبيه عن حفصة فذكر مثله وقال في آخره إن الله يأتي بأمره إن شاء
( مالك عن يحيى بن سعيد أن عمر بن الخطاب ) منقطع وقد رواه البيهقي في السنن من طريق شعبة عن أبي إسحاق عن حسان بن فائد عن عمر أنه ( قال كرم المؤمن تقواه ) أي فضله إنما هو بالتقوى قال تعالى { إن أكرمكم عند الله أتقاكم } الحجرات 13 وفي المرفوع كرم المرء دينه أي به يشرف ويكرم ظاهرا وباطنا قولا وفعلا والكرم كثرة الخير والمنفعة لا ما في العرف من الإنفاق والبذل سرفا وفخرا
( ودينه حسبه ) أي شرفه انتسابه إلى الدين لا إلى الآباء وفي المرفوع وحسبه خلقه بالضم أي ليس شرفه بشرف آبائه بل بمحاسن أخلاقه
وقال الأزهري أراد أن الحسب يحصل للرجل بكرم
____________________
(3/51)
أخلاقه وإن لم يكن له نسب وإذا كان حسيب الآباء فهو أكرم له
( ومروءته ) بضم الميم والراء وبالهمز ( خلقه ) بضمتين أي إن المروءة التي يحمد الناس عليها ويوصفون بأنهم من ذوي المروءات إنما هي معان مختصة بالأخلاق من الصبر والحلم والجود والإيثار
قال العلائي حاصل المروءة راجعة إلى مكارم الأخلاق لكنها إذا كانت غريزة تسمى مروءة وقيل المروءة إنصاف من دونك والسمو إلى من فوقك والجزاء عما أوتي إليك من خير أو شر
وفي المرفوع ومروءته عقله أي لأن به يتميز عن الحيوانات ويعقل نفسه عن كل خلق دنيء ويكفها عن شهواتها الردية وطباعها الدنية ويؤدي إلى كل ذي حق حقه من الحق والخلق
( والجرأة ) بضم الجيم وإسكان الراء وبالهمز والقصر بوزن الجرعة الهجوم والإسراع بغير توقف
( والجبن ) بضم الجيم وإسكان الموحدة ضعف للقلب ( غرائز ) بغين معجمة فراء آخره زاي منقوطة جمع غريزة أي طبائع لا تكتسب وجمع إما لأن الجمع ما فوق الواحد أو باعتبار الأفراد ( يضعها الله حيث شاء ) من خلقه
وقد روى أبو يعلى عن معدي بن سليمان عن محمد بن عجلان عن أبي هريرة مرفوعا بلفظ الموطأ من أوله إلى هنا ومعدي ضعفه جماعة وقال الشاذكوني كان من أفضل الناس وكان يعد من الأبدال وصحح له الترمذي حديثا وعند الدارقطني من حديثه بهذا السند الحسب المال والكرم التقوى
وروى بعضه أحمد والبيهقي وضعفه والحاكم وصححه على شرط مسلم وتعقب عن أبي هريرة رفعه كرم المؤمن دينه ومروءته عقله وحسبه خلقه ( فالجبان يفر عن أبيه وأمه ) لأنه لجبنه لا يستطيع الدفع عنهما فضلا عن غيرهما ( والجريء يقاتل عما لا يؤوب ) يرجع ( به إلى رحله ) لأن قتاله بمحض الهجوم والسرعة من غير نظر لنفع يعود عليه
( والقتل حتف من الحتوف ) أي نوع من أنواع الموت كالموت بمرض أو نحوه فلأن يموت به في سبيل الله خير من موته على فراشه فيجب أن لا يرتاع منه ولا يهاب هيبة تورث الجبن
قال الشاعر في الجبن عار وفي الإقدام مكرمة والمرء بالجبن لا ينجو من القدر ( والشهيد من احتسب نفسه على الله ) أي رضي بالقتل في طاعة الله رجاء ثوابه تعالى
15 العمل في غسل الشهداء ( مالك عن نافع عن عبد الله بن عمر أن عمر بن الخطاب غسل وكفن وصلي عليه ) بالبناء
____________________
(3/52)
للمفعول والمصلي عليه إماما صهيب رضي الله عنهما
( وكان شهيدا يرحمه الله ) بيد أبي لؤلؤة لعنه الله
( مالك أنه بلغه عن أهل العلم أنهم كانوا يقولون الشهداء في سبيل الله لا يغسلون ولا يصلى على أحد منهم وأنهم يدفنون في الثياب التي قتلوا فيها ) لما في الصحيح عن جابر أنه صلى الله عليه وسلم قال لشهداء أحد أنا شهيد على هؤلاء يوم القيامة وأمر بدفنهم بدمائهم ولم يصل عليهم ولم يغسلوا وأما حديث صلاته عليهم صلاته على الميت فالمراد دعاؤه لهم كدعائه للميت جمعا بين الأدلة
قال ابن عبد البر اختلف في صلاته عليهم ولم يختلف في أنه أمر بدفنهم بثيابهم ودمائهم ولم يغسلوا
( قال مالك وتلك السنة فيمن قتل في المعترك فلم يدرك حتى مات قال وأما من حمل منهم فعاش ما شاء الله بعد ذلك فإنه يغسل ويصلى عليه كما عمل بعمر بن الخطاب رضي الله عنه ) جمعا بين الأحاديث وفعل الصحابة فإن عمر عاش بعد الجراحة وتكلم وصلى وأوصى وجعل الخلافة شورى وقبض بعد ثلاثة أيام
16 ما يكره من الشيء يجعل في سبيل الله ( مالك عن يحيى بن سعيد أن عمر بن الخطاب كان يحمل في العام الواحد على أربعين ألف بعير يحمل الرجل ) الواحد ( إلى الشام على بعير ) لكثرة العدو بها وأنها أكثر الجهات جهادا ورباطا ( ويحمل الرجلين إلى العراق على بعير ) لقلة العدو ( فجاءه رجل من أهل العراق فقال احملني وسحيما ) بضم السين وفتح الحاء المهملتين ( فقال له عمر أنشدك ) ولابن وضاح نشدتك ( الله أسحيم زق قال نعم ) قال الباجي أراد الرجل التحيل على عمر ليوهمه أن له رفيقا يسمى سحيما فيدفع
____________________
(3/53)
إليه ما يحمل رجلين فينفرد هو به وكان عمر يصيب المعنى بظنه فلا يكاد يخطئه فسبق إلى ظنه أن سحيما الذي ذكر هو الزق قال أبو عمر زق كان في رحله وذلك معروف من ذكائه وفطنته
وفي الحديث سيكون في أمتي محدثون فإن يكن فعمر انتهى
وفي الصحاح غيره من جملة معاني السحيم زق الخمر قال ابن عبد البر كذا ترجم يحيى ولم يذكر سوى هذا الأثر وترجم القعنبي وابن بكير ما يكره من الرجعة في الشيء يجعل في سبيل الله وذكرا حديث عمر في الفرس الذي حمل عليه بطريقيه السابقين في كتاب الزكاة ثم ذكرا أثر عمر هذا
17 الترغيب في الجهاد يعني زيادة على ما سبق فإن هذه الترجمة مرت بلفظها أول كتاب الجهاد لكن أحاديثهما متغايرة فلا تكرار وإن كان يمكن جعل جميع الأحاديث ترجمة واحدة
( مالك عن إسحاق بن عبد الله بن أبي طلحة ) زيد بن سهل الأنصاري ( عن ) عمه ( أنس بن مالك قال كان رسول الله إذا ذهب إلى قبا ) بضم القاف والمد والصرف مذكر وبالقصر والتأنيث ومنع الصرف ( يدخل على أم حرام ) بحاء وراء مهملتين مفتوحتين ( بنت ملحان ) بكسر الميم وإسكان اللام ومهملة فألف فنون واسمه مالك بن خالد بن زيد بن حرام بفتح المهملتين الأنصارية خالة أنس قال أبو عمر لم أقف لها على اسم صحيح قال في الإصابة ويقال إنها الرميصا بالراء والغميصا بالغين المعجمة ولا يصح بل الصحيح أن ذلك وصف لأختها أم سليم ثبت ذلك في حديثين لأنس وجابر عند النسائي
( فتطعمه ) مما في بيتها من الطعام ( وكانت أم حرام تحت عبادة بن الصامت ) أي كانت زوجة له حينئذ في الزمن النبوي هذا ظاهره
وللبخاري من وجه آخر التصريح عن أنس أن عبادة تزوجها بعد وجمع ابن التين بأنها كانت إذ ذاك زوجته ثم طلقها ثم راجعها بعد ذلك والحافظ يحمل رواية إسحاق على أنها جملة معترضة أراد وصفها به غير مقيد بحال من الأحوال وظهر من رواية غيره أنه إنما تزوجها بعد وهذا أولى لاتفاق محمد بن يحيى بن حبان وعبد الله بن عبد الرحمن أبي طوالة الأنصاري كلاهما عن أنس عند البخاري على أن عبادة تزوجها بعد ذلك قال ثم ظاهر رواية إسحاق أن الحديث من مسند أنس وكذا هو ظاهر قول أبي طوالة عن أنس دخل رسول الله على بنت ملحان وأما محمد بن يحيى فقال عن أنس عن خالته أم حرام وهو ظاهر في أنه من مسند أم حرام وهو المعتمد وكأن أنسا لم يحضر ذلك فحمله عن خالته ( فدخل عليها رسول الله فأطعمته ) لم يوقف على تعيين ما أكل عندها يومئذ ( وجلست تفلي ) بفتح الفوقية
____________________
(3/54)
وإسكان الفاء وكسر اللام من فلى يفلي كضرب يضرب أي تفتش ( في ) شعر ( رأسه ) لإخراج الهوام أو للتنظيف واختلف هل كان فيه قمل ولا يؤذيه أو لم يكن فيه أصلا وإنما تفلي ثوبه للتنظيف من نحو الغبار وإنما كان يدخل عليها ويمكنها من التفلية لأنها ذات محرم منه لأنها خالة أبيه أو جده عبد المطلب لأن أمه من بني النجار وقال ابن وهب كانت إحدى خالاته من الرضاعة
قال ابن عبد البر فأي ذلك كان فهي محرم له على أنه معصوم ليس كغيره ولا يقاس به سواه انتهى
وحكى النووي الاتفاق على أنها محرم وصحح الحافظ الدمياطي أن لا محرمية بينهما في جزء أفرده لذلك وقال ليس في الحديث ما يدل على الخلوة بها فلعل ذلك كان مع ولد أو زوج أو خادم أو تابع والعادة تقضي المحافظة بين المخدوم وأهل الخادم لا سيما إذا كن مسنات مع ما ثبت له من العصمة وقيل هو من خصائصه وإليه أومأ ابن عبد البر قال في الفتح والذي وضح لنا بالأدلة القوية أن من خصائصه جواز الخلوة بالأجنبية والنظر إليها لمكان عصمته وإن نازع في ذلك القاضي عياض بأن الخصائص لا تثبت بالاحتمال قال وثبوت العصمة مسلم لكن الأصل عدم الخصوصية ( فنام رسول الله يوما ) أي في يوم وفي رواية فقال بالقاف أي نام وقت القائلة ( ثم استيقظ وهو يضحك ) سرورا بكون أمته تبقى بعده مظهرة أمور الإسلام قائمة بالجهاد حتى في البحر والجملة حالية
( قالت ) أم حرام ( فقلت ما يضحكك ) بلفظ المضارع ( قال ناس من أمتي عرضوا علي ) بشد الياء حال كونهم ( غزاة في سبيل الله يركبون ثبج ) بفتح المثلثة والموحدة والجيم ( هذا ) بمعنى ذلك ( البحر ) أي وسطه أو معظمه أو هو له أقوال ولمسلم يركبون ظهر البحر أي السفن التي تجري على ظهره ولما كان غالب جريها إنما يكون في وسطه قيل المراد وسطه وإلا فلا اختصاص له بالركوب زاد في رواية للبخاري الأخضر فقيل المراد الأسود وقال الكرماني الأخضر صفة لازمة للبحر لا مخصصة إذ كل البحار خضر فإن قيل الماء بسيط لا لون له قلت تتوهم الخضرة من انعكاس الهواء وسائر مقابلاته إليه ( ملوكا ) نصب بنزع الخافض أي مثل ملوك كذا قيل والظاهر أنه حال ثانية من ناس بالتقدير المذكور ( على الأسرة ) جمع سرير كسرر بضمتين ( أو مثل الملوك على الأسرة يشك ) بالمضارع ( إسحاق ) شيخ مالك في اللفظ الذي قاله أنس قال أبو عمر رأى صفتهم في الجنة كما قال تعالى { على سرر متقابلين } الصافات 44 وقال النووي الأصح أنه صفتهم في الدنيا أي أنهم يركبون مراكب الملوك لسعة مالهم واستقامة أمرهم وكثرة عددهم
قال الحافظ والإتيان بالتمثيل في معظم طرق الحديث يدل على أنه رأى ما يؤول إليه أمرهم لا أنهم نالوا ذلك في تلك الحالة أو موضع التشبيه أنهم فيما هم فيه من النعيم الذي أثيبوا به على جهادهم مثل ملوك الدنيا على أسرتهم والتشبيه بالمحسوس أبلغ في نفس السامع
____________________
(3/55)
( قالت ) أم حرام ( فقلت ) زاد ابن وضاح له ( يا رسول الله ادع الله أن يجعلني منهم فدعا لها ) واستشكل الدعاء بالشهادة لأن حاصله أن يدعو الله أن يمكن منه كافرا يعصي الله بقتله فيقل عدد المسلمين وتسر قلوب الكفار ومقتضى قواعد الفقه أن لا يتمنى معصية الله لنفسه ولا لغيره
وأجاب ابن المنير بأن المدعو به قصدا إنما هو نيل الدرجة الرفيعة المعدة للشهداء وأما قتل الكافر للمسلم فليس بمقصود للداعي وإنما هو من ضرورات الوجود لأن الله أجرى حكمه أن لا ينال تلك الدرجة إلا شهيد فاغتفر لحصول المصلحة العظمى من دفع الكفار وإذلالهم وقهرهم بقصد قتلهم حصول ما يقع في ضمن ذلك من قتل بعض المسلمين وجاز تمني الشهادة لما بذل عليه من وقعت له في إعلاء كلمة الله حتى بذل نفسه في تحصيل ذلك
وقول ابن التين ليس في الحديث تمني الشهادة إنما فيه تمني الغزو مردود بأن الشهادة هي الثمرة العظمى المطلوبة في الغزو
( ثم وضع رأسه ) ثانيا ( فنام ثم استيقظ ) حال كونه ( يضحك قالت فقلت ) زاد ابن وضاح له ( يا رسول الله ما يضحكك قال ناس من أمتي عرضوا علي غزاة في سبيل الله ) يركبون البر ( ملوكا على الأسرة أو ) قال ( مثل الملوك على الأسرة كما قال في الأولى ) من تشبيهم بالملوك وشك إسحاق ( قالت فقلت يا رسول الله ادع الله أن يجعلني منهم قال أنت من الأولين ) الذين يركبون ثبج البحر زاد أبو عوانة من وجه آخر ولست من الآخرين
وللبخاري من وجه آخر أنه قال في الأولى يغزون هذا البحر وفي الثانية يغزون قيصر فيدل على أن الثانية إنما غزت في البر كما في الفتح لكن في رواية أخرجها ابن عبد البر من طريق محمد بن يحيى بن حبان عن أنس عن أم حرام قال اللهم اجعلها منهم ثم نام فاستيقظ وهو يضحك فقلت مم تضحك فقال عرض علي ناس من أمتي يركبون ظهر البحر لكن المروي في البخاري من الطريق المذكورة فقال مثل ذلك
( قال ) أنس ( فركبت ) أم حرام ( البحر ) مع زوجها عبادة ( في زمان ) غزو ( معاوية بن أبي سفيان ) صخر بن حرب في خلافة عثمان سنة ثمان وعشرين وكان معاوية أميرالجيش من جهة عثمان على غزاة قبرس وهي أول غزوة كانت إلى الروم هذا قول أكثر العلماء وأهل السير
وقال البخاري ومسلم في خلافة معاوية
قال الباجي وعياض وهو الأظهر
( فصرعت عن دابتها حين خرجت من البحر فهلكت ) أي ماتت لما رجعوا من الغزو بغير مباشرة قتال
ففي رواية للبخاري فخرجت مع زوجها عبادة غازيا أول ما ركب المسلمون البحر مع معاوية فلما انصرفوا من غزوهم قافلين نزلوا الشام
____________________
(3/56)
فقربت إليها دابة لتركبها فصرعتها فماتت
وله أيضا فلما رجعت قربت لها دابة لتركبها فوقعت فاندقت عنقها
ولمسلم مرفوعا من مات في سبيل الله فهو شهيد وروى ابن وهب مرفوعا من صرع عن دابته في سبيل الله فمات فهو شهيد أخرجه الطبراني بإسناد حسن ففي حديث أم حرام أن حكم الراجع من الغزو حكم الذاهب إليه في الثواب
وفي الصحيح عن أم حرام أيضا مرفوعا أول جيش من أمتي يغزون البحر قد أوجبوا قلت أنا منهم قال أنت منهم ثم قال أول جيش من أمتي يغزون مدينة قيصر مغفور لهم فقلت أنا منهم قال لا قال المهلب فيه منقبة لمعاوية لأنه أول من غزا البحر ولابنه يزيد لأنه أول من غزا مدينة قيصر وهي القسطنطينية
وتعقبه ابن المنير وابن التين بما حاصله أنه لا يلزم من دخوله في ذلك العموم أن لا يخرج بدليل خاص إذ لا خلاف أن قوله مغفور لهم مشروط بأن يكونوا من أهل المغفرة حتى لو ارتد واحد بعد ذلك لم يدخل في العموم اتفاقا فدل على أن المراد مغفور لمن وجد شرط المغفرة فيه منهم واحتمال أن يزيد لم يحضر مع الجيش مردود إلا أن يراد لم يباشر القتال فيمكن لأنه كان أميرا على ذلك الجيش اتفاقا من قبل أبيه وكان فيه أبو أيوب فمات فدفن عند باب مدينة قيصر سنة اثنين وخمسين وفيه جواز ركوب البحر الملح وذكر مالك أن عمر بن الخطاب منع منه فلما مات استأذن معاوية عثمان فأذن له في ركوبه فلم يزل يركب إلى أيام عمر بن عبد العزيز فمنع من ركوبه ثم ركب بعده إلى الآن
قال ابن عبد البر وإنما منع العمران ركوبه في التجارة وطلب الدنيا أما في الجهاد والحج فلا وقد أباحت السنة ركوبه للجهاد فالحج المفترض أولى
قال وأكثر العلماء يجيزون ركوبه في طلب الحلال إذا تعذر البر ولا خلاف بينهم في حرمة ركوبه عند ارتجاجه وكره مالك ركوب النساء البحر لما يخشى من اطلاعهن على عورات الرجال وعكسه إذ يعسر الاحتراز من ذلك وخصه أصحابه بالسفن الصغار أما الكبار التي يمكن فيها الاستتار بأماكن تخصهن فلا حرج وفيه مشروعية القائلة لما فيها من الإعانة على قيام الليل وعلم من أعلام النبوة وهو الإخبار بما سيقع فوقع كما قال وفضل شهيد البحر
وقد اختلف هل هو أفضل لحديث من لم يدرك الغزو معي فليغز في البحر فإن غزاة في البحر أفضل من غزوتين في البر الحديث وهو ضعيف وشهيد البر أفضل لقوله أفضل الشهداء من عقر جواده وأهريق دمه وفيه غير ذلك
وأخرجه البخاري هنا عن عبد الله بن يوسف وفي الاستئذان عن إسماعيل ومسلم عن يحيى الثلاثة عن مالك به
غ ( مالك عن يحيى بن سعيد ) بن قيس الأنصاري ( عن أبي صالح ) ذكوان ( السمان عن أبي هريرة أن رسول الله قال لولا أن أشق على أمتي ) بعدم طيب نفوسهم بالتخلف عني ولا قدرة لهم على آلة السفر ولا لي ما أحملهم عليه فالاستدراك الآتي مفسر للمراد بالمشقة كرواية
____________________
(3/57)
الصحيحين عن سعيد بن المسيب عن أبي هريرة والذي نفسي بيده لولا أن رجالا من المؤمنين لا تطيب أنفسهم أن يتخلفوا عني ولا أجد ما أحملهم عليه ( لأحببت أن لا أتخلف عن سرية ) قطعة من الجيش تبعث إلى العدو ( تخرج في سبيل الله ) الجهاد ( ولكني لا أجد ما أحملهم عليه ) وفي رواية للبخاري ولكن لا أجد حمولة ولا أجد ما أحملهم عليه والحمولة بالفتح الإبل الكبار التي يحمل عليها ( ولا يجدون ما يتحملون عليه فيخرجون ) معي لعجزهم عن آلة السفر من مركوب وغيره
وفي مسلم عن همام عن أبي هريرة لكن لا أجد سعة فأحملهم ولا يجدون سعة فيتبعوني ( ويشق عليهم أن يتخلفوا بعدي ) وفي رواية للبخاري ويشق علي أن يتخلفوا عني وللطبراني ويشق علي وعليهم ( فوددت ) بكسر الدال الأولى وسكون الثانية تمنيت وسبق من رواية الأعرج والذي نفسي بيده لوددت ( أني أقاتل في سبيل الله فأقتل ثم أحيا فأقتل ثم أحيا فأقتل ) بالبناء للمفعول في الجميع وتمنى ذلك حرصا منه على الوصول إلى أعلى درجات الشاكرين بذلا لنفسه في مرضات ربه وإعلاء كلمته ورغبة في الازدياد من الثواب ولتتأسى به أمته
قال الحافظ حكمه إيراد هذه عقب تلك إرادة تسلية الخارجين في الجهاد عن مرافقته لهم فكأنه قال الوجه الذي تسيرون له فيه من الفضل ما أتمنى لأجله أن أقتل مرات فمهما فاتكم من مرافقتي والقعود معي من الفضل يحصل لكم مثله أو فوقه من فضل الجهاد فراعى خواطر الجميع
وقد خرج في بعض المغازي وخلف عنه المشار إليهم وكان ذلك حيث رجحت مصلحة خروجه على مراعاة حالهم وفيه بيان شدة شفقته على أمته ورأفته بهم والحض على حسن النية وجواز ترك بعض المصالح لمصلحة راجحة أو أرجح أو لدفع مفسدة والسعي في إزالة المكروه عن المسلميين
( مالك عن يحيى بن سعيد ) الأنصاري ( قال لما كان ) وجد ( يوم أحد ) بضم الهمزة والحاء وبالدال المهملتين مذكر مصروف وقيل يجوز تأنيثه على توقع البقعة فيمنع وليس بقوي جبل بالمدينة على أقل من فرسخ منها لأن بين أوله وبين بابها المعروف بباب البقيع ميلان وأربعة أسباع ميل تزيد يسيرا ( قال رسول الله من يأتيني بخبر سعد بن الربيع ) بن عمرو النجاري أحد نقباء الأنصار شهد بدرا وآخى النبي بينه وبين عبد الرحمن بن عوف فقال إني أكثر الأنصار مالا فأمسك مالي ولي زوجتان فأيتهما أحببت أطلقها ثم تتزوجها قال عبد الرحمن بارك الله لك في أهلك ومالك ( الأنصاري ) أفي الأحياء هو أم في الأموات فإني رأيت اثني عشر رمحا شرعى إليه كما عند ابن
____________________
(3/58)
إسحاق
( فقال رجل أنا يا رسول الله ) آتيك بخبره ( فذهب الرجل ) هو أبي بن كعب قاله ابن عبد البر وابن الأثير واليعمري وقال الواقدي هو محمد بن مسلمة
وروى الحاكم عن زيد بن ثابت قال بعثني النبي يوم أحد لطلب سعد بن الربيع وقال لي إن رأيته فأقره مني السلام وقل له يقول لك رسول الله كيف تجدك فلعله بعث الثلاثة متعاقبين أو دفعة واحدة ( يطوف ) يمشي ( بين القتلى ) زاد الواقدي فنادى في القتلى يا سعد بن الربيع مرة بعد أخرى فلم يجبه حتى قال إن رسول الله أرسلني إليك فأجابه بصوت ضعيف ( فقال له سعد بن الربيع ما شأنك فقال الرجل بعثني إليك رسول الله لآتيه بخبرك ) وعند ابن إسحاق أمرني أن أنظر أفي الأحياء أنت أم في الأموات ( قال ) أنا في الأموات ( فاذهب إليه فاقرئه مني السلام ) وزاد الواقدي وقل جزاك الله عنا خير ما جزى نبيا عن أمته وقل له إني لأجد ريح الجنة ( وأخبره أني قد طعنت اثنتي ) ولابن وضاح ثنتي ( عشرة طعنة ) بعدد الرماح التي رآها شرعى إليه
وفي حديث زيد بن ثابت فوجده جريحا في القتلى وبه سبعون ضربة ما بين طعنة برمح وضربة بسيف ورمية بسهم ولا تنافي كما هو ظاهر ( و ) أخبره ( أني قد أنفذت مقاتلي ) فأنا في الأموات ( وأخبر قومك ) وعند الواقدي وأبلغ قومك عني السلام وقل لهم ( إنه لا عذر لهم عند الله إن قتل رسول الله وواحد منهم حي ) زاد ابن إسحاق ثم لم أبرح حتى مات فجئت رسول الله فأخبرته خبره قال ابن عبد البر هذا الحديث لا أحفظه ولا أعرفه مسندا وهو محفوظ عند أهل السير وقد ذكره ابن إسحاق عن محمد بن عبد الله بن عبد الرحمن بن صعصعة المازني قال الحافظ وفي الصحيح من حديث أنس ما يشهد لبعضه
( مالك عن يحيى بن سعيد ) مرسل وصله الشيخان من رواية ابن عيينة عن عمرو بن دينار عن جابر ومسلم من حديث أنس ( أن رسول الله رغب في الجهاد ) يوم بدر فقال والذي نفسي بيده لا يقاتلهم اليوم رجل فيقتل صابرا محتسبا مقبلا غير مدبر إلا أدخله الله الجنة كما عند ابن إسحاق ( وذكر الجنة ) روى مسلم عن أنس أن رسول الله قال يوم بدر قوموا إلى جنة عرضها السموات والأرض فقال عمير بن الحمام يا رسول الله جنة عرضها السموات والأرض قال نعم قال بخ بخ فقال ما يحملك على قولك بخ بخ قال لا والله يا رسول الله إلا رجاء أن أكون من أهلها قال فإنك من أهلها فأخرج تمرات فجعل يأكل منهن ثم قال لئن أنا حييت حتى آكل تمراتي إنها لحياة
____________________
(3/59)
طويلة فرمى بالتمرة ثم قاتل حتى قتل ( ورجل من الأنصار ) هو عمير بضم العين ابن الحمام بضم المهملة وخفة الميم الخزرجي ( يأكل تمرات في يده فقال إني لحريص على الدنيا إن جلست حتى أفرغ منهن ) أي من أكل التمرات ( فرمى ما في يده ) من التمر وقال فما بيني وبين أن أدخل الجنة إلا أن يقتلني هؤلاء ( فحمل بسيفه فقاتل ) القوم ( حتى قتل ) زاد ابن إسحاق وهو يقول ركضنا إلى الله بغير زاد إلا التقى وعمل المعاد والصبر في الله على الجهاد وكل زاد عرضة النفاد 77 غير التقى والبر والرشاد وقتله خالد بن الأعلم العقبلي
قال موسى بن عقبة وهو أول قتيل قتل يومئذ
وقال ابن إسحاق أولهم مهجع
وقال ابن سعد أولهم حارثة بن سراقة وعدة شهداء بدر أربعة عشر رجلا ستة مهاجرين وثمانية أنصار بينتهم في شرح المواهب
( مالك عن يحيى بن سعيد عن معاذ بن جبل أنه قال ) موقوفا وقد رواه أبو داود والنسائي وصححه الحاكم وحسنه ابن عبد البر من طريق خالد بن معدان عن أبي بحرية عن معاذ عن النبي قال ( الغزو غزوان ) غزو على ما ينبغي وغزو على ما لا ينبغي فاختصر الكلام واستغنى بذكر الغزاة وعد أصنافها وشرح حالهم وبيان أحكامهم عن ذكر القسمين وشرح حال كل واحد منهم مفصلا قاله البيضاوي
( فغزو تنفق فيه الكريمة ) قال الباجي أي كرائم المال وخياره وقال غيره أي الناقة العزيزة عليه المختارة عنده وقال البوني أي الذهب والفضة سميت كريمة لأنها كرم عن السؤال وغيره وقال ابن عبد البر أي ما يكرم عليك من المال مما يقيك به الله شح نفسك ولقد أحسن القائل وقد تخرج الحاجات يا أم مالك كرائم من رب بهن ضنين ( ويياشر ) بضم الياء الأولى ( فيه الشريك ) أي يؤخذ باليسر والسهولة مع الرفيق نفعا بالمعونة وكفاية للمؤنة وقال الباجي يريد موافقته في رأيه مما يكون طاعة ومتابعته عليه وقلة مشاحته فيما يشاركه فيه من نفقة أو عمل ( ويطاع فيه ذو الأمر ) بأن يفعل ما أمر به إذا لم يكن معصية إذ لا طاعة فيها إنما الطاعة في المعروف
( ويجتنب فيه الفساد ) بأن لا يتجاوز المشروع في نحو نهب وقتل وتخريب ( فذلك الغزو خير كله ) أي ذو خير وثواب والمراد أن من هذا شأنه فجميع حالاته من حركة وسكون ونوم ويقظة جالبة للخير والثواب أي أن كلا من ذلك له أجر ولفظ المرفوع المشار إليه فأما من غزا ابتغاء
____________________
(3/60)
وجه الله وأطاع الإمام وأنفق الكريمة وياسر الشريك واجتنب الفساد في الأرض فإن نومه ونبهه أجر كله
( وغزو لا ينفق فيه الكريمة ولا يياسر ) بضم الياء الأولى ( فيه الشريك ولا يطاع فيه ذو الأمر ) الإمام أو نائبه ( ولا يجتنب ) بالبناء للمفعول في الأربعة ( فيه الفساد فذلك الغزو لا يرجع صاحبه كفافا ) من كفاف الشيء وهو خياره أو من الرزق أي لا يرجع بخير أو بثواب يغنيه أو لا يعود رأسا برأس بحيث لا أجر ولا وزر بل عليه الوزر العظيم ولفظ المرفوع وأما من غزا فخرا ورياء وعصى الإمام وأفسد في الأرض فإنه لن يرجع بالكفاف
18 ما جاء في الخيل والمسابقة بينها والنفقة في الغزو رح 103( مالك عن نافع عن عبد الله بن عمر أن رسول الله قال الخيل في نواصيها ) جمع ناصية الشعر المسترسل على الجبهة ويحتمل أنه كنى بالنواصي عن جميع الفرس كما يقال فلان مبارك الناصية قاله الخطابي وغيره واستبعده الحافظ بحديث الصحيحين عن أنس مرفوعا البركة في نواصي الخيل وللإسماعيلي البركة تنزل في نواصي الخيل قال ويحتمل أنه خص الناصية لكونها المقدم منها إشارة إلى الفضل في الإقدام بها على العدو دون المؤخر لأن فيه إشارة إلى الإدبار
وقد روى مسلم عن جرير رأيت رسول الله يلوي ناصية فرسه بأصبعه ويقول الخيل معقود في نواصيها
( الخير إلى يوم القيامة ) أي إلى قربه أعلم به أن الجهاد قائم إلى ذلك الوقت زاد الشيخان عن عروة البارقي مرفوعا الأجر والمغنم برفعهما بدل من الخير أو بتقدير هو الأجر
وفي رواية لمسلم قالوا بم ذاك يا رسول الله قال الأجر والمغنم وبه يعلم أنه عام أريد به الخصوص أي الخيل المتخذة للغزو بأن يقاتل عليها أو تربط للغزو ويدل له أيضا الخيل لثلاثة الحديث السابق
ويحتمل أن المراد جنس الخيل أي أنها بصدد أن يكون فيها الخير فأما من ارتبطها لعمل غير صالح فالوزر لطريان ذلك الأمر العارض
ووقع عند الإسماعيلي من رواية عبد الله بن نافع عن مالك بلفظ الخير معقود وليس في الموطأ ولا في الصحيحين من طريقه نعم لفظ معقود فيهما من حديث عروة البارقي وجرير في مسلم وأحمد وأبي هريرة في الطبراني وأبي يعلى وجابر عن أحمد ومعناه ملازم لها كأنه معقود فيها
قال الطيبي
____________________
(3/61)
ويجوز أن الخير المفسر بالأجر والمغنم استعارة مكنية لأن الخير ليس بشيء محسوس حتى يعقد على الناصية لكن شبهه لظهوره وملازمته بشيء محسوس معقود يجعل على مكان مرتفع فنسب الخير إلى لازم المشبه به وذكر الناصية تجريد للاستعارة
والحاصل أنهم يدخلون المعقول في جنس المحسوس ويحكمون عليه بما يحكم على المحسوس مبالغة في اللزوم
وقال عياض في هذا الحديث مع وجيز لفظه من البلاغة والعذوبة ما لا مزيد عليه في الحسن مع الجناس السهل الذي بين الخيل والخير
قال الخطابي وفيه إشارة إلى أن المال الذي يكتسب باتخاذ الخيل من خير وجوه الأموال وأطيبها والعرب تسمي المال خيرا
وقال ابن عبد البر فيه إشارة إلى تفضيل الخيل على غيرها من الدواب لأنه لم يأت عنه في شيء غيرها مثل هذا القول
وفي النسائي عن أنس لم يكن شيء أحب إلى رسول الله بعد النساء من الخيل
وقال عياض إذا كان في نواصيها الخير فيبعد أن يكون فيها شؤم فيحتمل أن حديث إنما الشؤم في ثلاث الفرس والمرأة والدار في غير خيل الجهاد وأن المعدة له هي المخصوصة بالخير والشر يمكن اجتماعهما في ذات واحدة فإنه فسر الخير بالأجر والمغنم ولا يمنع ذلك أن يكون تلك الفرس يتشاءم بها ويأتي إن شاء الله تعالى مزيد بسط لذلك في كتاب الجامع حيث ذكر الإمام الحديث الثاني ثمة وحديث الباب رواه البخاري عن القعنبي ومسلم عن يحيى كلاهما عن مالك به وتابعه جماعة في الصحيحين وغيرهما
( مالك عن نافع عن عبد الله بن عمر أن رسول الله سابق ) أجرى بنفسه أو أمر أو أباح ( بين الخيل التي قد أضمرت ) بضم الهمزة مبنيا للمفعول بأن علفت حتى سمنت وقويت ثم قلل علفها بقدر القوت وأدخلت بيتا وغشيت بالجلال حتى حميت وعرقت فإذا جف عرقها خف لحمها وقويت على الجري ( من الحفياء ) بفتح المهملة وسكون الفاء فتحتية ومد مكان خارج المدينة ويجوز القصر وحكى الحازمي تقديم التحتية على الفاء وحكى ضم أوله وخطأه عياض وغيره
( وكان أمدها ) بفتح الهمزة والميم أي غايتها ( ثنية الوداع ) بالمثلثة وفتح الواو سميت بذلك لأن الخارج من المدينة يمشي معه المودعون إليها قال سفيان بين الحفياء إلى ثنية الوداع خمسة أميال أو ستة وقال موسى بن عقبة بينهما ستة أميال أو سبعة رواهما البخاري قال الحافظ وهو اختلاف قريب وسفيان هو الثوري
( وسابق بين الخيل التي لم تضمر ) بضم التاء وفتح الضاد المعجمة والميم الثقيلة وفي رواية بسكون الضاد وخفة الميم ( من الثنية ) المذكورة ( إلى مسجد بني زريق ) بضم الزاي ثم راء مفتوحة وسكون التحتية فقاف ابن عامر قبيلة من الأنصار وإضافة مسجد إليهم إضافة
____________________
(3/62)
تمييز لا ملك قال سفيان وبينهما ميل وقال ابن عقبة ميل أو نحوه
( وأن عبد الله بن عمر كان فيمن سابق بها ) أي بالخيل أو بهذه المسابقة وهذا من قول ابن عمر عن نفسه كما تقول عن نفسك العبد فعل كذا
وفي رواية عبيد الله بن عمر عن نافع قال ابن عمر وكنت فيمن أجري
وعند الإسماعيلي قال ابن عمر وكنت فيمن أجري فوثب بي فرس جدارا
ولمسلم من رواية أيوب عن نافع فسبقت الناس فطفف بي الفرس مسجد بني زريق أي جاوز بي المسجد الذي هو الغاية وأصل التطفيف مجاوزة الحد وفيه مشروعية المسابقة وأنه ليس من العبث بل من الرياضة المحمودة الموصلة إلى تحصيل المقاصد في الغزو والانتفاع بها عند الحاجة وهي دائرة بين الاستحباب والإباحة بحسب الباعث على ذلك
قال القرطبي لا خلاف في جواز المسابقة على الخيل وغيرها من الدواب مجانا وعلى الأقدام وكذا الترامي بالسهام واستعمال الأسلحة لما في ذلك من التدريب على الحرب وفيه جواز إضمار الخيل ولا يخفى اختصاص استحبابها بالخيل المعدة للغزو ومشروعية الإعلام بالابتداء والانتهاء عند المسابقة ونسبة الفعل إلى الآمر به لأن قوله سابق أي أمر أو أباح أي شامل لذلك وجواز إضافة المسجد إلى مخصوصين وعليه الجمهور خلافا للنخعي لقوله تعالى { وأن المساجد لله } الجن 18 ويرد عليه حديث الباب وجواز معاملة البهائم عند الحاجة بما يكون تعذيبا لها في غير الحاجة كالإجاعة والإجراء وتنزيل الخلق منازلهم لأنه غاير بين منزلة المضمر وغير المضمر ولو خلطهما لأتعب ما لم تضمر
وأخرجه البخاري في الصلاة عن عبد الله بن يوسف ومسلم عن يحيى بن يحيى التميمي كلاهما عن مالك به وتابعه عبيد الله والليث وموسى بن عقبة وأيوب كلهم عن نافع في الصحيحين وغيرهما
( مالك عن يحيى بن سعيد أنه سمع سعيد بن المسيب يقول ليس برهان الخيل بأس ) وإن لم يقع في حديث ابن عمر المذكور عند مالك والأئمة الستة لأنه جاء في بعض طرقه عند أحمد من رواية عبد الله بفتح العين عن نافع عن ابن عمر أن النبي سابق بين الخيل وراهن وقد اتفقوا على جواز المسابقة بعوض بشرط كونه من غير المتسابقين كما قال ( إذا دخل فيها محلل فإن سبق ) بالبناء للفاعل ( أخذ السبق ) بفتحتين أي الرهن الذي يوضع لذلك ( وإن سبق لم يكن عليه شيء ) بشرط أن لا يخرج المحلل من عنده شيئا ليخرج العقد من صورة القمار وهو أن يخرج كل منهما سبقا فمن غلب أخذه فهذا ممنوع اتفاقا وأجمعوا على جواز المسابقة بلا عوض لكن قصرها مالك والشافعي على
____________________
(3/63)
الخف والحافر والنصل لحديث لا سبق إلا في نصل أو خف أو حافر رواه الترمذي وحسنه وابن حبان وصححه عن أبي هريرة وخصه بعض العلماء بالخيل وأجازه عطاء في كل شيء
( مالك عن يحيى بن سعيد ) مرسل وصله ابن عبد البر من طريق عبيد الله بن عمرو الفهري عن مالك عن يحيى عن أنس ( أن رسول الله ريء ) بكسر الراء وهمز مبني للمجهول ( يمسح وجه فرسه بردائه فسئل عن ذلك فقال إني عوتبت الليلة في الخيل ) ووصله أبو عبيدة في كتاب الخيل له من طريق يحيى بن سعيد عن شيخ من الأنصار وقال في إذالة الخيل
وله من مرسل عبد الله بن دينار وقال إن جبريل بات الليلة يعاتبني في إذالة الخيل أي امتهانها
قال البوني يحتمل أن ذلك وحي في المنام ويحتمل في اليقظة انتهى والظاهر الثاني
( مالك عن حميد الطويل ) الخزاعي البصري ( عن أنس بن مالك ) وللبخاري عن أبي إسحاق الفزاري عن حميد قال سمعت أنسا يقول ( أن رسول الله حين خرج إلى خيبر ) بوزن جعفر مدينة كبيرة ذات حصون ومزارع على ثمانية برد من المدينة إلى جهة الشام قال أبو عبيد البكري سميت باسم رجل من العماليق نزلها قال ابن إسحاق خرج إليها النبي في بقية المحرم سنة سبع فأقام يحاصرها بضع عشرة ليلة إلى أن فتحها في صفر ( أتاها ليلا ) لا تخالفه رواية الصحيح عن محمد ابن سيرين عن أنس صبحنا خيبر بكرة لحمله على أنهم قدموها ليلا وباتوا دونها ثم ركبوا إليها بكرة فصبحوها بالقتال والإغارة ويشير إلى هذا قوله ( وكان إذا أتى قوما بليل لم يغر ) بضم الياء وكسر الغين المعجمة من أغار وفي لفظ لا يغير عليهم وفي رواية التنيسي لم يغر بهم بكسر الغين أيضا من الإغارة ولبعض الرواة لم يقربهم بفتح الياء وسكون القاف وفتح الراء وسكون الموحدة وصحح الأول ( حتى يصبح ) أي يطلع الفجر
وللبخاري عن إسماعيل بن جعفر عن حميد عن أنس كان إذا غزا قوما لم يغر بنا حتى يصبح وينظر فإذا سمع أذانا كف عنهم وإلا أغار قال فخرجنا إلى خيبر فانتهينا إليهم ليلا فلما أصبح ولم يسمع أذانا ركب ( فخرجت يهود ) وفي رواية القعنبي وللتنيسي فلما أصبح خرجت يهود زاد أحمد عن قتادة عن أنس إلى زروعهم
وذكر الواقدي أنهم سمعوا بقصد النبي لهم وكانوا يخرجون كل يوم مسلحين مستعدين فلا يرون أحدا حتى إذا كانت الليلة التي قدم فيها المسلمون ناموا فلم تتحرك لهم دابة ولم يصح لهم ديك فخرجوا ( بمساحيهم ) بمهملتين مخففا جمع مسحاة كالمجارف إلا أنها من حديد طالبين زروعهم ( ومكاتلهم ) بفوقية جمع
____________________
(3/64)
مكتل بكسر الميم القفة الكبيرة يحول فيها التراب وغيره ( فلما رأوه قالوا ) هذا ( محمد ) أو جاء محمد ( والله ) قسم ( محمد والخميس ) أي الجيش كما فسر به البخاري سمي خميسا لأنه خمسة أقسام ميمنة وميسرة ومقدمة وقلب وجناحان وضبطه عياض وغيره بالرفع عطف على محمد والنصب مفعول معه ( فقال رسول الله الله أكبر ) كبر حين أنجز له وعده زاد في رواية للبخاري ثلاثا وفي أخرى فرفع يديه وقال الله أكبر ( خربت خيبر ) أي صارت خرابا قال القاضي عياض قيل تفاءل بخرابها بما رآه في أيديهم من آلات الخراب من المساحي وغيرها وقيل أخذه من اسمها والأصح أنه أعلمه الله بذلك
وقال السهيلي يؤخذ منه التفاؤل لأنه لما رأى آلة الهدم مع أن لفظ المسحاة من سحوت إذا قشرت أخذ منه أن مدينتهم ستخرب قال الحافظ ويحتمل أنه قاله بطريق الوحي ويؤيده قوله ( إنا إذا نزلنا بساحة قوم ) بفنائهم وقريتهم وحصونهم وأصل الساحة الفضاء بين المنازل ( فساء صباح المنذرين ) أي بئس الصباح صباح من أنذر بالعذاب وفيه جواز التمثيل والاستشهاد بالقرآن والاقتباس قاله ابن عبد البر وابن رشيق والنووي ولا أعلم خلافا في جوازه في النثر في غير المجوز والخلاعة وهزل الفساق له شربه الخمر واللاطة وألف في جواز ذلك قديما أبو عبيد القاسم بن سلام كتابا جمع فيه ما وقع للصحابة والتابعين من ذلك بالأسانيد المتصلة إليهم ومن المتأخرين الشيخ داود الشاذلي الباجلي كراسة قال فيها لا خلاف بين الشافعية والمالكية في جوازه ونقله عن عياض والباقلاني وقال كفى بهما حجة غير أنهم كرهوه في الشعر خاصة
وروى الخطيب البغدادي وغيره بالإسناد عن مالك أنه كان يستعمله وهذه أكبر حجة على من يزعم أن مذهب مالك تحريمه والعمدة في نفي الخلاف على الشيخ داود فهو أعرف بمذهبه وأما مذهب الشافعي فأئمته مجمعون على الجواز والأحاديث الصحيحة والآثار عن الصحابة والتابعين تشهد لهم فمن نسب تحريمه لمذهب الشافعي فقد فشر وأبان عن أنه أجهل الجاهلين قاله السيوطي ملخصا وهو يقضي عليه بالوهم في قوله في عقود الجمان قلت وأما حكمه في الشرع فمالك مشدد في المنع وليس فيه عندنا صراحة لكن يحيى النووي أباحه في الوعظ نثرا دون نظم مطلقا والشرف المقري فيه حققا جوازه في الزهد والوعظ وفي مدح النبي ولو ينظم فاقتفى وفيه استحباب التكبير عند الحرب وتثليثه وقد قال تعالى { إذا لقيتم فئة فاثبتوا واذكروا الله كثيرا } الأنفال 45
____________________
(3/65)
وأخرجه البخاري هنا عن القعنبي وفي المغازي عن عبد الله بن يوسف كلاهما عن مالك به وتابعه إسماعيل بن جعفر وأبو إسحاق الفزاري في البخاري وغيره وله طرق في الصحيحين وغيرهما بزيادات
( مالك عن ابن شهاب ) محمد بن مسلم الزهري ( عن حميد ) بضم الحاء ( ابن عبد الرحمن بن عوف ) الزهري ( عن أبي هريرة أن رسول الله قال من أنفق زوجين ) أي شيئين من نوع واحد من أنواع المال وقد جاء مفسرا مرفوعا بعيرين شاتين حمارين درهمين وزاد إسماعيل القاضي عن أبي مصعب عن مالك من ماله ( في سبيل الله ) أي في طلب ثواب الله وهو أعم من الجهاد وغيره من العبادات وقال التوربشتي يحتمل أن يريد به تكرير الإنفاق مرة بعد أخرى قال الطيبي وهذا هو الوجه إذا حملت التثنية على التكرير لأن القصد من الإنفاق التثبت من الأنفس بإنفاق كرائم الأموال والمواظبة على ذلك كما قال تعالى { ومثل الذين ينفقون أموالهم ابتغاء مرضات الله وتثبيتا من أنفسهم } الأنفال 45 أي ليثبتوا ببذل المال الذي هو شقيق الروح وبذله أشق شيء على النفس من سائر العبادات الشاقة ( نودي في ) أي عند دخول ( الجنة ) وفي رواية معن نودي من أبواب الجنة ( يا عبد الله هذا خير ) أي فاضل لا بمعنى أفضل وإن أوهمه اللفظ ففائدته رغبة السامع في طلب الدخول من ذلك الباب
وبين البخاري من وجه آخر عن أبي هريرة بيان الداعي ولفظه دعاه خزنة الجنة كل خزنة باب أي خزنة كل باب أي قل هلم بضم اللام لغة في فلان وبه ثبتت الرواية وقيل ترخيمه فاللام مفتوحة قاله الحافظ وقال الباجي يحتمل أن يريد هذا خير أعده الله لك فأقبل إليه من هذا الباب أو هذا خير أبواب الجنة لأن فيه الخير والثواب الذي أعد لك ( فمن كان من أهل الصلاة ) أي من كانت أغلب أعماله وأكثرها ( دعي من باب الصلاة ) قال الحافظ ومعنى الحديث أن كل عامل يدعى من باب ذلك العمل وقد جاء ذلك صريحا من وجه آخر عن أبي هريرة بلفظ لكل عامل باب من أبواب الجنة يدعى منه بذلك العمل أخرجه أحمد وابن أبي شيبة بإسناد صحيح
( ومن كان من أهل الجهاد دعي من باب الجهاد ) محل الشاهد من الحديث ( ومن كان من أهل الصدقة ) المكثرين منها ( دعي من باب الصدقة ) وليس هذا بتكرار مع قوله في صدر الحديث من أنفق زوجين لأن الإنفاق ولو قل خير من الخيرات العظيمة وذلك حاصل من كل أبواب الجنة وهذا استدعاء خاص
( ومن كان من أهل الصيام ) المكثرين منه ( دعي من باب الريان )
____________________
(3/66)
مشتق من الري فخص بذلك لما في الصوم من الصبر على ألم العطش والطمأنينة في الهواجر قاله الباجي وقال الحربي إن كان الريان علما للباب فلا كلام وإن كان صفة فهو من الرواة الذي يروي والمعنى أن الصائم لتعطيشه نفسه في الدنيا يدخل من باب الريان ليأمن من العطش ثوابا له على ذلك وفي التعبير بالريان إيماء إلى زيادة أمر الصوم ومبادرة القبول له واحتمال أنه يدعى إليه كل من روي من حوضه رده عياض بأنه لا يختص الحوض بالصائمين والباب مختص بهم قال وعلى أنه اسم للباب فسمي بذلك لاختصاص الداخلين فيه بالري قال الحافظ فذكر أربعة أبواب من أبواب الجنة وهي ثمانية وبقي الحج فله باب بلا شك والثلاثة باب الكاظمين الغيظ العافين عن الناس رواه أحمد عن الحسن مرسلا إن لله بابا في الجنة لا يدخله إلا من عفا عن مظلمة والباب الأيمن الذي يدخل منه من لا حساب عليه ولا عذاب والثامن لعله باب الذكر ففي الترمذي ما يومي إليه ويحتمل أنه باب العلم ويحتمل أن المراد بالأبواب التي يدعى منها أبواب من داخل أبواب الأصلية لأن الأعمال الصالحة أكثر عددا من ثمانية انتهى
ولا يرد عليه أن الذين لا حساب عليهم يتسورون كما ورد لاحتمال أن هذا الباب من أسفل الجنة التي يتسورون منها فأطلق عليه أنهم دخلوا منها مجازا أو أنه معد لهم تكريما وإن لم يدخلوا منه وتبع في عد الباب الأيمن عياضا وقد تعقبه أبو عبد الله الأبي بأن المراد بالأيمن ما عن يمين الداخل وذلك يختلف بحسب الداخلين وإنما يكون بابا إذا كان اسما وعلما على باب معين
( فقال أبو بكر الصديق يا رسول الله ) زاد معن بأبي أنت وأمي ( ما على من يدعى من هذه الأبواب من ضرورة ) قال المظهري ما نافية ومن زائدة أي ليس ضرورة على من دعي منها إذ لو دعي من واحد لحصل مراده وهو دخول الجنة مع أنه لا ضرورة عليه أن يدعى من جميعها بل هو تكريم وإعزاز
وقال ابن المنير وغيره يريد من أحد تلك الأبواب خاصة دون غيره من الأبواب فأطلق الجميع وأراد الواحد
وقال ابن بطال يريد أن من لم يكن إلا من أهل خصلة واحدة من هذه الخصال ودعي من بابها لا ضرر عليه لأن الغاية المطلوبة دخول الجنة
وقال الطيبي لما خص كل باب بمن أكثر نوعا من العبادة وسمع ذلك الصديق رغب في أن يدعى من كل باب وقال ليس على من دعي منها ضرر بل شرف وإكرام فسأل فقال ( فهل يدعى أحد من هذه الأبواب كلها ) ويختص بهذه الكرامة ( قال نعم ) يقال له عند كل باب إن لك هنا خير أعده الله لك لعبادتك المختصة بالدخول من هذا الباب قاله الباجي
وقال الحافظ وغيره يدعى منها كلها على سبيل التخيير في الدخول من أيها شاء إكراما له لاستحالة الدخول من الكل معا فإنما يدخل من واحد ولعله العمل الذي يكون أغلب عليه ولا ينافيه ما في مسلم عن عمر مرفوعا من توضأ ثم قال أشهد أن لا إله إلا الله الحديث وفيه فتحت
____________________
(3/67)
له أبواب الجنة يدخل من أيها شاء لأنها تفتح له تكريما وإنما يدخل من باب العمل الغالب عليه
( وأرجو أن تكون منهم ) قال العلماء الرجاء من الله ومن نبيه واقع وبه صرح في حديث ابن عباس عند ابن حبان ولفظه فقال أجل وأنت هو يا أبا بكر وفي الحديث إشعار بقلة من يدعى من تلك الأبواب كلها وإشارة إلى أن المراد ما يتطوع به من الأعمال المذكورة لا واجباتها لكثرة من يجتمع له العمل بالواجبات بخلاف التطوعات فقل من يجتمع له العمل بجميع أنواعها ثم الإنفاق في الصدقة والجهاد والعلم والحج ظاهر أما في غيرها فمشكل فيمكن أن المراد بالإنفاق في الصلاة فيما يتعلق بوسائلها من تحصيل آلاتها من طهارة وتطهير ثوب وبدن ومكان
وفي الصيام بما يقويه على فعله وخلوص القصد فيه والإنفاق في العفو عن الناس بترك ما يجب له من حق وفي التوكل ما ينفقه على نفسه في مرضه المانع له من التصرف في طلب المعاش مع الصبر على المصيبة أو ينفق على من أصابه مثل ذلك طلبا للثواب والإنفاق في الذكر على نحو ذلك
وقيل المراد بالإنفاق في الصلاة والصيام بذل النفس والبدن فيهما فالعرب تسمي ما يبذله المرء من نفسه صدقة كما يقال أنفقت في طلب العلم عمري وبذلت فيه نفسي وهذا معنى حسن وأبعد من قال المراد بالزوجين النفس والمال لأن المال في الصلاة والصيام ونحوهما ليس بظاهر إلا بالتأويل المتقدم وكذا من قال النفقة في الصيام تقع بتفطير الصائم والإنفاق عليه لأن ذلك يرجع إلى باب الصدقة
وفي الحديث أن من أكثر من شيء عرف به وأن أعمال البر قل أن تجتمع كلها لشخص واحد على السواء وأن الملائكة تحب صالحي بني آدم وتفرح بهم وأن الإنفاق كلما كان أكثر كان أفضل وأن تمني الخير في الدنيا والآخرة مطلوب
وأخرجه البخاري في الصيام من طريق معن عن مالك به وتابعه شعيب في البخاري ويونس وصالح بن كيسان ومعمر في مسلم الأربعة عن ابن شهاب
19 إحراز من أسلم من أهل الذمة أرضه مصدر أحرز كذا ما جعله في المكان الذي يحفظ فيه استعير هنا لملكه الأرض بالإسلام كان إسلامه مكان حرزها وحفظها له
( سئل مالك عن إمام قبل الجزية من قوم فكانوا يعطونها ) أي الجزية ( أرأيت ) أي أخبرني ( من أسلم منهم أتكون له أرضه أو تكون للمسلمين ويكون لهم ماله فقال مالك ذلك يختلف أما أهل الصلح فإن من أسلم منهم فهو أحق بأرضه وماله ) دون المسلمين
( وأما أهل
____________________
(3/68)
العنوة الذين أخذوا عنوة ) أي بالقهر والغلبة ( من أسلم منهم فإن أرضه وماله للمسلمين لأن أهل العنوة قد غلبوا ) بضم الغين مبني للمجهول ( وصارت فيئا للمسلمين ) قال تعالى { وأورثكم أرضهم وديارهم وأموالهم } الأحزاب 27 وأما أهل الصلح فإنهم قد منعوا أموالهم وأنفسهم من القتال واستمر ( حتى صالحوا عليها فليس عليهم إلا ما صالحوا عليه ) فلهم أرضهم إذا أسلموا ومالهم وأعاد هذا لأجل تعليله للحكم الذي قدمه
20 الدفن في قبر واحد من ضرورة وإنفاذ أبي بكر رضي الله عنه عدة بكسر العين وفتح الدال مصدر وعد وعدا وعدة في الخير ( النبي صلى الله عليه وسلم بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم )
( مالك عن عبد الرحمن بن أبي صعصعة ) بصادين مفتوحتين بعد كل عين مهملات الأنصاري المازني ( أنه بلغه ) قال أبو عمر لم تختلف الرواة في قطعه ويتصل معناه من وجوه صحاح ( أن عمرو ) بفتح العين ( ابن الجموح ) بفتح الجيم وخفة الميم وإسكان الواو ومهملة ابن زيد بن حرام بن كعب بن غنم بن سلمة الأنصاري من سادات الأنصارى وبني سلمة وأشرافهم
روى البخاري في الأدب المفرد والسراج وأبو الشيخ وأبو نعيم عن جابر قال لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم من سيدكم يا بني سلمة قالوا الجد بن قيس على أن نبخله فقال بيده هكذا ومد يده وأي داء أدوأ من البخل بل سيدكم الأبيض الجعد عمرو بن الجموح قال وكان عمرو يولم على رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا تزوج
( وعبد الله بن عمرو ) بفتح العين ابن حرام بن ثعلبة الخزرجي العقبي البدري والد جابر الصحابي المشهور
أخرج أبو يعلى
وابن السكن عن جابر رفعه جزى الله الأنصار عنا خيرا لا سيما عبد الله بن عمرو بن حرام وسعد بن عبادة ورواه النسائي بلفظ لا سيما آل ابن حرام وعمرو ( الأنصاريين المسلميين ) بفتح السين واللام نسبة إلى بني سلمة بكسر اللام بطن من الأنصار الخزرج ( كانا قد حفر السيل قبرهما ) ولابن وضاح عن قبرهما على تضمين حفر معنى كشف وإلا فحفر يتعدى بنفسه ( وكان
____________________
(3/69)
قبرهما مما يلي السيل وكانا في قبر واحد ) روى ابن إسحاق عن أبيه عن رجال من بني سلمة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال حين أصيب عبد الله ابن عمرو وعمرو بن الجموح اجمعوا بينهما فإنهما كانا متصادقين في الدنيا وأخرج ابن أبي شيبة عن قتادة قال أتى عمرو بن الجموح النبي صلى الله عليه وسلم فقال يا رسول الله أرأيت إن قاتلت في سبيل الله حتى أقتل تراني أمشي برجلي هذه صحيحة في الجنة قال نعم وكانت عرجاء فقتل يوم أحد هو وابن أخيه فمر النبي صلى الله عليه وسلم به فقال إني أراك تمشي برجلك هذه صحيحة في الجنة وأمر صلى الله عليه وسلم بهما ومولاهما فجعلوا في قبر واحد وأخرجه أحمد بإسناد حسن
قال ابن عبد البر ليس هو ابن أخيه وإنما هو ابن عمه قال الحافظ وهو كما قال فلعله كان أسن منه قال وابن الجموح كان صديق عبد الله وزوج أخته هند بنت عمرو ( وهما ممن استشهد يوم أحد فحفر عنهما ليغيرا من مكانهما ) أي لينقلا منه لمكان غيره لأجل السيل ( فوجدا لم يتغيرا كأنهما ماتا بالأمس ) لأن الأرض لا تأكل جسم الشهيد ( وكان أحدهما قد جرح فوضع يده على جرحه فدفن وهو كذلك فأميطت ) نحيت ( يده عن جرحه ثم أرسلت فرجعت كما كانت ) { ولا تقولوا لمن يقتل في سبيل الله أموات بل أحياء ولكن لا تشعرون } سورة البقرة الآية 154 وكان بين أحد وبين يوم حفر عنهما ست وأربعون سنة وفي الصحيح عن جابر كان أبي أول قتيل قتل ودفن معه آخر في قبر ثم لم تطب نفسي أن أتركه مع الآخر فاستخرجته بعد ستة أشهر فإذا هو كيوم وضعته فجعلته في قبر على حدة وهذا يخالف في الظاهر حديث الموطأ وجمع ابن عبد البر بتعدد القصة ونظر فيه الحافظ بأن الذي فيه حديث جابر أنه دفن أباه في قبر وحده بعد ستة أشهر وحديث الموطأ أنهما وجدا في قبر واحد بعد ست وأربعين سنة فأما أن المراد بكونهما في قبر واحد قرب المجاورة أو أن السيل جرف أحد القبرين حتى صارا واحدا
وقد ذكر ابن إسحاق القصة في المغازي فقال حدثني أبي عن أشياخ من الأنصار قالوا لما ضرب معاوية عينه التي مرت على قبور الشهداء انفجرت العين عليهم فجئنا فأخرجناهما يعني عمرا وعبد الله وعليهما بردتان قد غطى بهما وجوههما وعلى أقدامهما شيء من نبات الأرض فأخرجناهما كأنهما دفنا بالأمس وله شاهد بإسناد صحيح عند ابن سعد عن جابر
( قال مالك لا بأس بأن يدفن الرجلان والثلاثة في قبر واحد من ضرورة ) لا لغيرها لما رواه أصحاب السنن وصححه الترمذي عن هشام بن عامر الأنصاري قال جاءت الأنصار إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم أحد قالوا أصابنا قرح وجهد قال احفروا وأوسعوا واجعلوا الرجلين والثلاثة في
____________________
(3/70)
القبر ( ويجعل الأكبر ) في الفضل وإن كان أصغر سنا ( مما يلي القبلة ) لما في الصحيح عن جابر كان صلى الله عليه وسلم يجمع بين الرجلين من قتلى أحد في ثوب واحد ثم يقول أيهما أكثر أخذا للقرآن فإذا أشير له إلى أحدهما قدمه في اللحد
( مالك عن ربيعة بن أبي عبد الرحمن ) المدني أحد الأعلام يعرف بربيعة الرأي ( أنه قال ) منقطع قال أبو عمرو باتفاق رواة الموطأ يتصل من وجوه صحاح عن جابر قال ( قدم على أبي بكر الصديق ) في خلافته ( مال من البحرين ) بلفظ تثنية نحو بلد معروف من مال الجزية التي كان النبي صلى الله عليه وسلم صالحهم عليها وأمر عليهم العلاء بن الحضرمي وبعث أبا عبيدة يأتي بجزيتها كما في البخاري من حديث عمرو بن عوف فأغنى ذلك عن قول ابن بطال يحتمل أن يكون المال من الخمس أو من الفيء
( فقال ) على لسان المنادى ( من كان له عند رسول الله صلى الله عليه وسلم وأي ) بفتح الواو وإسكان الهمزة مصدر وأي بزنة وعي وعد وضمان ( أو عدة ) بكسر العين وخفة الدال المهملتين أي وعد وكأن الراوي شك في اللفظ وإن اتحد المعنى وفي البخاري دين أو عدة ( فليأتني ) أف له به ( فجاءه جابر بن عبد الله فحفن له ثلاث حفنات ) جمع حفنة وهي ما يملأ الكفين والمراد أنه حفن له حفنة وقال عدها فوجدها خمسمائة فقال له خذ مثليها
ففي البخاري عن جابر قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم لو قد جاء مال البحرين لقد أعطيتك هكذا وهكذا وهكذا أي ثلاثا فلما قبض صلى الله عليه وسلم وجاء مال البحرين أمر أبو بكر مناديا فنادى من كان له عند رسول الله صلى الله عليه وسلم دين أو عدة فليأتنا فأتيته فقلت إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لي كذا وكذا فحثى لي ثلاثا وفي رواية له فحثى حثية وقال عدها فوجدتها خمسمائة قال فخذ مثلها مرتين
وفي أخرى له أيضا فقال احث فحثوت حثية فقال لي عدها فعددتها فإذا هي خمسمائة فأعطاني ألفا وخمسمائة والمراد بالحثية الحفنة على ما قال الهروي أنهما بمعنى وإن المعروف لغة أن الحثية ملء كف واحد قال الإسماعيلي لما كان وعده صلى الله عليه وسلم لا يجوز أن يخلف نزلوا وعده منزلة الضمان في الصحة فرقا بينه وبين غيره ممن يجوز أن يفي وأن لا يفي وأشار غير واحد إلى أن ذلك من خصائصه صلى الله عليه وسلم وقال ابن بطال وابن عبد البر لما كان النبي صلى الله عليه وسلم أولى الناس بمكارم الأخلاق أدى أبو بكر مواعيده عنه ولم يسأل جابر البينة على ما ادعاه لأنه لم يدع شيئا في ذمة النبي صلى الله عليه وسلم وإنما ادعى شيئا في بيت المال الموكول أمره إلى اجتهاد الإمام فوفاه له أبو بكر
هذا وفي رواية للبخاري أيضا عن جابر فأتيت أبا بكر فسألته فلم يعطني ثم أتيته فلم يعطني ثم أتيته الثالثة فقلت سألتك فلم تعطني فإما أن
____________________
(3/71)
تعطني وإما أن تبخل علي قال قلت تبخل علي وأي داء أدوأ من البخل ما منعتك من مرة إلا وأنا أريد أن أعطيك وإنما أخر أبو بكر إعطاء جابر حتى قال له ذلك إما لأمر أهم منه أو خشية أن يحمله ذلك على الحرص على الطلب أو لئلا يكثر الطالبون لمثل ذلك ولم يرد به المنع على الإطلاق ولذا قال له ما منعتك من مرة الخ
وهذا المال الآتي في زمن الصديق غير المال الآتي من البحرين زمن النبي صلى الله عليه وسلم
ففي الصحيح عن عمرو بن عوف الأنصاري البدري أنه صلى الله عليه وسلم بعث أبا عبيدة بن الجراح إلى البحرين يأتي بجزيتها وكان صلى الله عليه وسلم صالح أهل البحرين وأمر عليهم العلاء بن الحضرمي فقدم أبو عبيدة من البحرين بمال فسمعت الأنصار بقدومه فوافت صلاة الصبح مع النبي صلى الله عليه وسلم فلما صلى بهم انصرف فتعرضوا له فتبسم حين رآهم وقال أظنكم قد سمعتم أن أبا عبيدة قدم بشيء قالوا أجل يا رسول الله قال فأبشروا وأملوا ما يسركم فوالله ما الفقر أخشى عليكم ولكن أخشى عليكم أن تبسط الدنيا عليكم كما بسطت على من كان قبلكم فتنافسوها كما تنافسوها وتهلككم كما أهلكتهم
وفي الصحيح عن أنس أتى النبي صلى الله عليه وسلم بمال من البحرين فقال انثروه في المسجد وكان أكثر مال أتي به إلى أن قال فما قام رسول الله صلى الله عليه وسلم وثم منها درهم وفي مصنف ابن أبي شيبة أنه كان مائة ألف والله أعلم
____________________
(3/72)
كتاب النذور والأيمان جمع مصدر نذر بفتح الذال ينذر بضمها وكسرها وهو لغة الوعد بخير أو شر
وفي الشرع التزام قربة غير لازمة بأصل الشرع
وحديث من نذر أن يعصي الله فلا يعصه إنما سماه نذرا باعتبار الصورة كما قال في الخمر وبائعها مع بطلان البيع ولذا قال في الحديث الآخر لا نذر في معصية
والأيمان بفتح الهمزة جمع يمين وهي خلاف اليسار أطلقت على الحلف لأنهم كانوا إذا تحالفوا أخذ كل يمين صاحبه أو لحفظها المحلوف عليه كحفظ اليمين وسمي ألية وحلفا وشرعا تحقيق ما لم يجب بذكر اسم من أسماء الله تعالى أو صفة من صفاته هذا إن قصد بها الموجبة للكفارة وإلا زيد وما أقيم مقامه ليدخل الحلف بنحو إطلاق أو عتق وابتدأه بالبسملة تبركا فقال
21 ما يجب من النذور في المشي ( مالك عن ابن شهاب عن عبيد الله ) بضم العين ( ابن عبد الله ) بفتحها ( ابن عتبة ) بضمها وإسكان الفوقية ( عن عبد الله بن عباس أن سعد بن عبادة ) الأنصاري الخزرجي أحد النقباء وسيد الخزرج وأحد الأجواد وقع في صحيح مسلم أنه شهد بدرا والمعروف عند أهل المغازي أنه تهيأ للخروج فنهش فأقام مات بالشام سنة خمس عشرة وقيل غير ذلك
قال الحافظ هكذا رواه مالك وتبعه الليث وبكر بن وائل وغيرهما
وقال سليمان بن كثير عن الزهري عن عبيد الله عن ابن عباس عن سعد أخرج جميع ذلك النسائي وأخرجه أيضا من رواية الأوزاعي وابن عيينة كلاهما عن الزهري على الوجهين وابن عباس لم يدرك القصة فترجح رواية من زاد عن سعد ويكون ابن
____________________
(3/73)
عباس أخذه عنه ويحتمل أنه أخذه من غيره وإن من قال عن سعد بن عبادة لم يقصد به الرواية وإنما أراد عن قصة سعد فتتحد الروايتان
( استفتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال إن أمي ) عمرة بنت مسعود وقيل سعد بن قيس الأنصارية الخزرجية أسلمت وبايعت ( ماتت ) والنبي صلى الله عليه وسلم غائب في غزوة دومة الجندل وكانت في شهر ربيع الأول سنة خمس وكان ابنها سعد معه فقدم النبي صلى الله عليه وسلم فجاء قبرها فصلى على قبرها بعد دفنها بشهر ذكره ابن سعد فهذا الحديث مرسل صحابي لأن ابن عباس كان حينئذ بمكة مع أبويه فيحتمل أنه حمله عن سعد أو عن غيره ( وعليها نذر ) وجب كانت علقته على شيء حصل ( ولم تقضه ) لتعذره بسرعة موتها أو أخرته لجواز تأخيره إذ لا يلزم تعجيله ما لم يغلب على الظن الفوات ويستحب تعجيله لبراءة الذمة ويحتمل أن يريد عليها نذر لم يجب أداؤه فماتت قبله لم يلزم قضاؤه وإن فعل فحسن كما قال عمر للنبي صلى الله عليه وسلم إني نذرت اعتكاف يوم في الجاهلية فقال له أوف بنذرك فأمره بوفائه وإن لم يلزم ما نذره في كفره والأظهر الأول لأن على إنما يستعمل فيما يجب كما أن الأظهر أن نذرها مطلق إذ لو كان مقيدا لاستفسره النبي صلى الله عليه وسلم لأن المقيد منه ما يجوز وما لا يجوز قاله الباجي
وقال ابن عبد البر قيل كان صياما نذرته ولا يثبت ذلك وأطال في تضعيفه وقيل كان عتقا لحديث القاسم بن محمد أن سعدا قال إن أمي هلكت فهل ينفعها أن أعتق عنها فقال صلى الله عليه وسلم نعم وقيل كان صدقة لآثار جاءت في ذلك وقيل نذرا مطلقا على ظاهر حديث ابن عباس وكفارته كفارة يمين عند الأكثر وروي ذلك عن عائشة وابن عباس وجابر وجماعة من التابعين انتهى
وفي رواية سليمان بن كثير عن الزهري بسنده أن سعدا قال أفيجزي عنها أن أعتق عنها قال أعتق عن أمك رواه النسائي
قال الحافظ فأفادت هذه الرواية النذر المذكور وهو العتق فماتت قبله
ويحتمل أن نذرها مطلق فيكون الحديث حجة للقول بأن كفارته كفارة يمين والعتق أعلى كفارات اليمين فلذا أمره أن يعتق عنها
( فقال صلى الله عليه وسلم اقضه عنها ) استحبابا لا وجوبا خلافا للظاهرية تعلقا بظاهر الأمر قائلين سواء كان في مال أو بدن
وروى الدارقطني في الغرائب عن حماد بن خالد عن مالك بسنده أن سعدا قال يا رسول الله أينفع أمي أن أتصدق عنها وقد ماتت قال نعم قال فما تأمرني قال اسق الماء والمحفوظ عن مالك حديث الباب
وروى النسائي من طريق سعيد بن المسيب عن سعد بن عبادة قال قلت يا رسول الله إن أمي مات أفأتصدق عنها قال نعم قلت أي الصدقة أفضل قال سقي الماء وللبخاري أن سعدا قال أينفعها شيء إن تصدقت به عنها قال نعم قال فإني أشهدك أن حائطي المخراف صدقة عليها وفي رواية أنها كانت تحب الصدقة وطريق الجمع أنه تصدق عنها بذلك كله العتق وسقي الماء والحائط المسمى بالمخراف بكسر الميم وسكون المعجمة وبالفاء قال الباجي الاستفتاء يكون لجميع الأمة مع النبي صلى الله عليه وسلم وللعامي مع العالم وأما العالمان المجتهدان
____________________
(3/74)
فسؤال أحدهما للآخر على وجه المذاكرة والمناظرة جائز إذا التزما شروط المناظرة من الإنصاف وقصد إظهار الحق والتعاون على الوصول إليه وأما سؤاله مستفتيا مع تساويهما في العلم وتمكن السائل من النظر والاستدلال فلا يجوز اتفاقا فإن كان لأحدهما شغوف في العلم فهل يجوز لمن دونه تقليده مع تمكنه من النظر والاستدلال الذي عليه الجمهور أنه لا يجوز خلافا لبعض أصحاب أبي حنيفة فإن خاف العالم فوات حادثة فذهب عبد الوهاب إلى جواز استفتاء غيره ومنع منه سائر أصحابنا وقالوا يتركها لغيره وهذا يتصور فيما يستفتى فيه
وأما ما يخصه فلا بد فيه مما قاله عبد الوهاب انتهى
ولم يظهر لي مطابقة الترجمة للحديث
ورواه البخاري في الوصايا عن عبد الله بن يوسف ومسلم عن يحيى كلاهما عن مالك به وتابعه شعيب بن أبي حمزة عند البخاري والليث في الصحيحين ويونس ومعمر وبكر بن وائل عند مسلم كلهم عن ابن شهاب
وقال ابن عبد البر ليس عن مالك ولا عن ابن شهاب اختلاف في إسناد هذا الحديث وقد رواه هشام بن عروة عن ابن شهاب حدث به الدراوردي عن هشام به ورواه عبد الله بن سليمان عن هشام عن بكر بن وائل عن الزهري بإسناد مثله انتهى ورواية عبدة في مسلم
( مالك عن عبد الله بن أبي بكر ) بن محمد بن عمرو بن حزم الأنصاري ( عن عمته ) قال ابن الحذاء هي عمرة بنت حزم عمة جد عبد الله بن أبي بكر وقيل لها عمته مجازا وتعقبه الحافظ لأن عمرة صحابية قديمة روى عنها جابر الصحابي فرواية عبد الله عنها منقطعة لأنه لم يدركها فالأظهر أن المراد عمته الحقيقية وهي أم عمرو وأم كلثوم انتهى
والأصل الحمل على الحقيقة وعلى مدعي العمة المجازية بيان الرواية التي فيها دعواه خصوصا مع ما لزم عليها من انقطاع السند والأصل خلافه ( أنها حدثته عن جدته أنها كانت جعلت على نفسها مشيا إلى مسجد قباء ) بضم القاف على ثلاثة أميال من المدينة ( فماتت ولم تقضه فأفتى عبد الله بن عباس ابنتها أنها تمشي عنها ) لأن الأصل أن الإتيان إلى قباء مرغب فيه ولا خلاف أنه قربة لمن قرب منه ومذهب ابن عباس قضاء المشي عن الميت وكذا غيره
روى ابن أبي شيبة عنه إذا مات وعليه نذر قضى عنه وليه ولا يعارضه ما رواه النسائي عنه لا يصلي أحد عن أحد ولا يصوم أحد عن أحد لأن النفي في حق الحي والإثبات في حق الميت ولم يأخذ بقوله في المشي الأئمة ولذا ( قال مالك لا يمشي أحد عن أحد ) قال ابن القاسم أنكر مالك الأحاديث في المشي إلى قباء ولم يعرف المشي إلا إلى مكة خاصة قال ابن عبد البر يعني لا يعرف إيجاب المشي للحالف والناذر
وأما المتطوع فقد روى مالك فيما مر أنه صلى الله عليه وسلم كان يأتي قباء راكبا وماشيا وإن إتيانه مرغب فيه
____________________
(3/75)
( مالك عن عبد الله بن أبي حبيبة ) المدني مولى الزبير بن العوام روى عن أبي أمامة بن سهل بن حنيف وعن عثمان بن عفان ذكره البخاري عن ابن مهدي وروى عن سعيد بن المسيب وروى عنه بكير بن عبد الله الأشج ومالك وأبو حنيفة في مسنده عنه سمعت أبا الدرداء فذكر الحديث في فضل من قال لا إله إلا الله قال ابن الحذاء هو من الرجال الذين اكتفي في معرفتهم برواية مالك عنهم
( قال قلت لرجل وأنا حديث السن ) قال الباجي يريد أنه لم يكن فقه لحداثة سنه ( ما على الرجل أن يقول علي مشي إلى بيت الله ولم يقل علي نذر مشي ) قال ابن حبيب عن مالك كان عبد الله يومئذ قد بلغ الحلم واعتقد أن لفظ الالتزام إذا عري من لفظ النذر لم يجب عليه فيه شيء ( فقال لي رجل هل لك أن أعطيك هذا الجرو ) مثلث الجيم قال ابن السكيت والكسر أفصح الصغير من كل شيء ( لجرو قثاء في يده ) وفي نسخة بيده شبهت بصغار أولاد الكلاب للينها ونعومتها كذا في البارع ( وتقول علي مشي إلى بيت الله قال فقلت نعم ) قال الباجي ما كان ينبغي ذلك للرجل فربما حمله اللجاج على أمر لا يمكنه الوفاء به وكان ينبغي أن يعلمه بالصواب فإن قبل وإلا حضه على السؤال ولعله اعتقد فيه أنه إن لم يلزمه هذا القول ترك السؤال وإن لزمه دعته الضرورة إلى السؤال عنه ( فقلته وأنا يومئذ حديث السن ) صغير لم أتفقه وإن كنت بالغا ( ثم مكثت حتى عقلت ) تفقهت ( فقيل لي إن عليك مشيا ) لأنه لا فرق بين ذكر لفظ نذر وعدمه إذ المدار على الالتزام فلم ير تقليد هؤلاء ( فجئت سعيد بن المسيب فسألته عن ذلك ) لأنه أعلم أهل وقته بعد الصحابة ( فقال عليك مشي فمشيت ) لأنه وإن كان من نذر اللجاج لكنه يلزم إذا كان قربة ولا خلاف في الأخذ بقول الأفضل الأعلم وهل له الأخذ بقول المفضول إذا كملت آلات الاجتهاد فيه اختلف في ذلك وعندي يجوز الأخذ بقول أي من شاء منهم إذ لا خلاف أن بعض الصحابة أفضل من بعض وأعلم وقد كان جميع فقهائهم يفتي وينتهي الناس إلى قوله قاله الباجي
( قال مالك وهذا الأمر عندنا ) وقاله ابن عمر وطائفة من العلماء وروى مثله عن القاسم بن محمد وروى عنه أيضا أن فيه كفارة يمين والمعروف عن ابن المسيب خلاف ما روى عنه ابن أبي حبيبة وأنه لا شيء عليه حتى يقول علي نذر مشي إلى الكعبة وأظنه جعل قوله علي مشي إخبارا بباطل لأن الله لم يوجبه عليه في كتاب ولا سنة حتى يقول نذرت المشي أو علي نذر المشي أو علي
____________________
(3/76)
لله المشي نذرا
والنذر شرعا إيجاب المرء فعل البر على نفسه وهذا خالف مالكا فيه أكثر العلماء وذلك نذر على مخاطرة والعبادات إنما تصح بالنيات لا بالمخاطرة وهذا لم تكن له نية فكيف يلزمه ما لم يقصد به طاعة ولذا قال محمد بن عبد الحكم من جعل على نفسه المشي إلى مكة إن لم يرد حجا ولا عمرة فلا شيء عليه كذا قاله ابن عبد البر
وفي قوله المعروف عن سعيد خلاف ما هنا شيء لأنه إن ثبت ما قال أنه المعروف عنه فيكون رجع عن ذلك وإلا فالإسناد إليه صحيح مالك عن أبي حبيبة عنه لا سيما وهو صاحب القصة ولا يضر مالكا مخالفة الأكثر له لأنه مجتهد بل لو انفرد فلا ضرر
22 ما جاء فيمن نذر مشيا إلى بيت الله ( مالك عن عروة بن أذينة ) بضم الهمزة وفتح الذال المعجمة لقب واسمه يحيى بن مالك ابن الحارث بن عمرو ( الليثي ) من بني ليث بن بكر بن كنانة كان شاعرا غزلا خيرا ثقة وليس له في الموطأ غير هذا الخبر ولجده مالك بن الحارث رواية عن علي قاله ابن عبد البر وذكره البخاري فقال مدني روى عنه مالك وعبيد الله بن عمرو ذكره ابن حبان في الثقات ( أنه قال خرجت مع جدة لي عليها مشي إلى بيت الله حتى إذا كنا ببعض الطريق عجزت ) عن المشي ( فأرسلت مولى لها يسأل عبد الله بن عمر فخرجت معه ) لأسمع الجواب من ابن عمر بلا واسطة ( فسأل عبد الله بن عمر فقال له عبد الله بن عمر مرها فلتركب ثم لتمش ) إذا قدرت بعد ذلك ( من حيث عجزت ) فتمشي ما ركبت ( قال يحيى وسمعت مالكا يقول ونرى عليها مع ذلك ) أي مشى ما ركبت ( الهدي ) لتفريق المشي اللازم في سفر واحد فجعل في سفرين قياسا على المتمتع والقارن وهكذا روى عن ابن عباس أيضا وطائفة من السلف
( مالك أنه بلغه أن سعيد بن المسيب وأبا سلمة بن عبد الرحمن ) بن عوف ( كانا يقولان مثل قول عبد الله بن عمر ) يمشي من حيث عجز
____________________
(3/77)
( مالك عن يحيى بن سعيد ) الأنصاري ( أنه قال كان علي مشي ) قال الباجي لعله لزمه بنذر وأما اليمين بمثل هذا فمكروه ( فأصابتني خاصرة ) أي وجعها ( فركبت حتى أتيت مكة فسألت عطاء بن أبي رباح وغيره فقالوا عليك هدي ) بدون إعادة المشي ( فلما قدمت المدينة سألت علماءها فأمروني أن أمشي مرة أخرى من حيث عجزت ) ولا هدي ( فمشيت ) أخذا بالأحوط لاختلافهم عليه
( قال يحيى سمعت مالكا يقول فالأمر عندنا فيمن يقول علي مشي إلى بيت الله أنه إذا عجز ركب ) إذ لا يكلف الله نفسا إلا وسعها ( ثم عاد فمشى من حيث عجز ) إذا قدر على المشي بعد ( فإن كان لا يستطيع المشي ) جميعه ( فليمش ما قدر عليه ) ولو قل ( ثم ليركب وعليه هدي بدنة ) من الإبل ( أو بقرة أو شاة ) تجزئه ( إن لم يجد إلا هي ) فإن وجد غيرها لم تجزه وفي الواضحة تجزئه قال أبو عمر إنما أوجب العلماء في هذا الباب الهدي دون الصدقة والصوم لأن المشي لا يكون إلا في حج أو عمرة وأفضل القربات بمكة إراقة الدماء إحسانا لفقراء الحرم والموسم
( وسئل مالك عن الرجل يقول للرجل أنا أحملك إلى بيت الله ) قال الباجي يريد مكة ( فقال مالك إن نوى أن يحمله على رقبته يريد بذلك المشقة وتعب نفسه فليس ذلك عليه ) أي ليس عليه حمله ولا إحجاجه لأنه لم يقصد إحجاجه وإنما قصد حمله على عنقه كما لو قال أنا أحمل هذا العمود وشبهه إذ لا قربة فيه ويلزمه هو الحج ماشيا كما قال
( وليمش على رجليه ) لأنه مضمون كلامه لأن من حمل ثقلا إنما يحمله ماشيا فيلزمه المشي
( وليهد ) يريد على وجه الاستحباب كنذر الحفاء انتهى
( وإن لم يكن نوى شيئا ) أي إتعاب نفسه ( فليحج وليركب ) لأنه لما لم يعدل نيته عن القربة لزمه الحج راكبا ( وليحج بذلك الرجل معه ) لأن لفظه اقتضى إحجاجه ( وذلك أنه قال أنا أحملك إلى بيت الله ) لكنه موقوف على إرادة الرجل ( فإن أبى أن يحج معه فليس عليه شيء ) بسبب الرجل ولم يرد أن الحج يسقط عنه ( وقد قضى ما عليه ) أي فعله
____________________
(3/78)
قال أبو عمر دلت السنة الثابتة أنه لا شيء على من قصد المشقة لحديث عقبة بن عامر نذرت أختي أن تمشي إلى بيت الله فاستفتيت لها النبي صلى الله عليه وسلم فقال لتمشي يعني ما قدرت ولتركب ولا شيء عليها فلم يأمرها بهدي ولم يلزمها ما عجزت عنه
وفي رواية ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له إن الله لغني عن نذرها مرها فلتركب وفي رواية فيها ضعف ولتهدي
وفي رواية عن عقبة نذرت أختي أن تمشي حافية إلى بيت الله غير مختمرة فسألت النبي صلى الله عليه وسلم قال مر أختك فلتختمر ولتركب ولتصم ثلاثة أيام أي لأنها حلفت كما في حديث ابن عباس أنه صلى الله عليه وسلم قال إن الله لا يصنع بشقاء أختك شيئا فلتحج راكبة ولتكفر عن يمينها ورأى النبي صلى الله عليه وسلم رجل يتهادى بين ابنيه فسأل عنه فقالوا نذر أن يمشي فقال إن الله لغني عن تعذيب هذا نفسه وأمره أن يركب فركب ولم يذكر هديا ولا صوما
( قال يحيى سئل مالك عن الرجل يحلف بنذور مسماة مشيا ) بالنصب حال أو بنزع الخافض وفي نسخة مشي بالخفض بدل من نذور ( إلى بيت الله أن لا يكلم أخاه أو أباه بكذا أو كذا نذرا لشيء لا يقوى عليه ولو تكلف ذلك كل عام لعرف ) بالبناء للمفعول ( أنه لا يبلغ عمره ما جعل على نفسه من ذلك فقيل له هل يجزئه من ذلك نذر واحد أو نذور مسماة فقال مالك ما أعلمه يجزئه من ذلك إلا الوفاء بما جعل على نفسه ) وجوب الوفاء بالنذر ( فليمش ما قدر عليه من الزمان وليتقرب إلى الله بما استطاع من الخير ) الذي يقدر عليه
23 العمل في المشي إلى الكعبة ( مالك أن أحسن ما سمع ) بالبناء للفاعل وفي نسخة سمعت ( من أهل العلم في الرجل يحلف بالمشي إلى بيت الله أو المرأة فيحنث ) الرجل ( أو تحنث ) المرأة ( أنه إن مشى الحانث منهما في عمرة فإنه يمشي حتى يسعى بين الصفا والمروة فإذا سعى فقد فرغ ) فتبر يمينه ( وأنه إن جعل على نفسه )
____________________
(3/79)
كل منهما ( مشيا في الحج فإنه يمشي حتى يأتي مكة ثم يمشي حتى يفرغ من المناسك كلها ولا يزال ماشيا حتى يفيض ) يطوف طواف الإفاضة ( قال مالك ولا يكون مشي إلا في حج أو عمرة ) لا في غيرهما
قال ابن عبد البر مذهب مالك أن الحالف بالمشي إلى مكة يلزمه المشي وعليه جميع أصحابه إلا رواية رواها العدول الثقات عن ابن القاسم أنه أفتى ابنه عبد الصمد وكان حلف بالمشي إلى مكة فحنث بكفارة يمين وقال له أفتيتك بقول الليث فإن عدت لم أفتك إلا بقول مالك ووافقه أبو حنيفة وذهب جمع إلى أن الحالف به أو بصيام أو بغيره من الأيمان إلا الطلاق والعتق ليس عليه إلا كفارة يمين وأجمعوا على لزوم الطلاق إن حنث وأما العتق فكذلك عند الأكثر وقيل كفارة يمين لقوله تعالى { ذلك كفارة أيمانكم إذا حلفتم } المائدة 89 فعلى كل حالف كفارة يمين إلا الطلاق فإن الإجماع خصصه ولم يجمعوا في العتق
24 ما لا يجوز من النذور في معصية الله ( مالك عن حميد بن قيس ) المكي ( وثور ) بمثلثة ( ابن زيد الديلي ) بكسر الدال وإسكان التحتية ( أنهما أخبراه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ) مرسلا قال أبو عمر يتصل من حديث جابر وابن عباس ومن حديث قيس بن أبي حازم عن أبيه ومن حديث طاوس عن أبي إسرائيل رجل من الصحابة قال وأظن أن حديث جابر هو هذا لأن مجاهدا رواه عن جابر وحميد بن قيس صاحب مجاهد ( وأحدهما يزيد في الحديث على صاحبه ) فجمع حديثهما دون بيان زيادة لأحد لجواز ذلك وقد فعله شيخه الزهري وغيره من الأئمة ( أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رأى رجلا ) وفي البخاري بينا النبي صلى الله عليه وسلم يخطب إذا هو برجل قائم فسأل عنه فقال أبو إسرائيل وعند ابن إسحاق عن جابر كان أبو إسرائيل رجلا من بني فهر فنذر ليقومن في الشمس حتى يصلي النبي صلى الله عليه وسلم الجمعة وليصومن ذلك اليوم
قال الحافظ قيل اسمه قشير بقاف وشين معجمة مصغر وقيل يسير بتحتية ثم مهملة مصغر أيضا وقيل قيصر بقاف وصاد باسم ملك الروم وقيل قيسر بالسين المهملة بدل الصاد وقيل قيص بغير راء في آخره وفي مبهمات الخطيب أنه من قريش وقال ابن الأثير وغيره إنه أنصاري والأول أولى ولا يشاركه في كنيته أحد من
____________________
(3/80)
الصحابة ( قائما في الشمس فقال ما بال هذا ) ما حاله ( فقالوا نذر أن لا يتكلم ولا يستظل من الشمس ولا يجلس ويصوم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم مروه فليتكلم وليستظل وليجلس ) لأنه لا قربة في عدم الثلاثة ( وليتم صيامه ) لأنه قربة
( قال مالك ولم يسمع أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمره بكفارة ) فليس عليه كفارة خلافا لمن قال عليه مع ترك المعصية كفارة يمين ( وقد أمره رسول الله صلى الله عليه وسلم بكفارة ) فليس عليه كفارة خلافا لمن قال عليه مع ترك المعصية كفارة يمين ( وقد أمره رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يتم ما كان لله طاعة ) وهو الصيام ( ويترك ما كان لله معصية ) أي ما حكمه حكمها في أنه لا يلزم الوفاء به ولا الكفارة وإلا فالقيام وعدم الكلام والاستظلال ليست معصية لذاتها إذ أصلها مباح أشار إليه ابن عبد البر وقال الباجي سماه معصية وإن كان أصله مباحا لأنه إذا نذر كان معصية إذ لا يحل نذر ما ليس بقربة وإن فعله بالنذر عصى وبغير نذر مباح وأيضا لأنه إذا بلغ به حد الضرر والعنت كان معصية فعل بنذر أو بغيره انتهى
والحديث أخرجه البخاري وأبو داود وابن ماجه عن ابن عباس ورواه عبد الرزاق عن ابن طاوس عن أبي إسرائيل نفسه وابن عبد البر من طريق ابن إسحاق عن أبان بن صالح عن مجاهد عن جابر
( مالك عن يحيى بن سعيد ) الأنصاري ( عن القاسم بن محمد أنه ) أي يحيى ( سمعه ) أي القاسم ( يقول أتت امرأة إلى عبد الله بن عباس فقالت إني نذرت أن أنحر ابني فقال ابن عباس لا تنحري ابنك وكفري عن يمينك ) بكفارة يمين
وروي عن ابن عباس ينحر مائة من الإبل ديته
وروي عنه أيضا ينحر كبش كما فدى به إبراهيم وتلا
{ وفديناه بذبح عظيم } الصافات 107 وروي قوله الأول عن عثمان وابن عمر وحجته حديث لا نذر في معصية وكفارته كفارة يمين وهو حديث معلول
وروى الأخيران عن علي قاله ابن عبد البر
وقال الباجي سماه يمينا لأن كفارته ككفارة اليمين عنده ولعله منها أنها أتت بذلك على وجه اليمين ( فقال شيخ عند ابن عباس وكيف يكون في هذا كفارة ) وهو نذر معصية ( فقال ابن عباس إن الله عز وجل قال { الذين يظاهرون منكم من نسائهم } المجادلة 2 ثم جعل فيه من الكفارة ما رأيت ) في بقية الآية فتحرير رقبة الخ مع أنه قال { وإنهم ليقولون منكرا من القول وزورا } المجادلة 2 فكذلك يلزم
____________________
(3/81)
المرأة الكفارة
قال ابن عبد البر لا معنى للاعتبار في ذلك بكفارة الظهار لأن الظهار ليس بنذر ونذر المعصية جاء فيه نص النبي صلى الله عليه وسلم قولا في الحديث اللاحق من نذر أن يعصي وفعلا في حديث جابر يعني السابق قبل أثر ابن عباس
( مالك عن طلحة بن عبد الملك الأيلي ) بفتح الهمزة بعدها ياء تحتية ساكنة ثقة مرضي حجة ( عن القاسم بن محمد بن الصديق عن عائشة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال من نذر أن يطيع الله ) عز وجل كأن يصلي الظهر مثلا في أول وقته أو يصوم نفلا ونحو ذلك من المستحب من العبادات البدنية والمالية ( فليطعه ) بالجزم جواب الشرط والأمر للوجوب فينقلب المستحب واجبا بالنذر ويتقيد بما قيده به الناذر
( ومن نذر أن يعصي الله ) كشرب الخمر ( فلا يعصه ) لحرمة وفائه بذلك النذر إذ مفهوم النذر شرعا إيجاب المباح وهو إنما يتحقق في الطاعات وأما المعاصي فلا شيء فيها مباح حتى يجب بالنذر فلا يتحقق فيه النذر فلو نذر صوم العيد لم يجب عليه شيء ولو نذر نحر ولده فباطل وإليه ذهب مالك والشافعي وفقهاء الحجاز وهذا الحديث رواه القعنبي ويحيى بن بكير وأبو مصعب وسائر رواة الموطأ عن مالك مسندا وأخرجه البخاري عن شيخه أبي عاصم الضحاك بن مخلد وأبي نعيم الفضل ابن دكين والترمذي والنسائي عن قتيبة بن سعيد الثلاثة عن مالك به وتابعه عبيد الله عن طلحة عند الترمذي قال ابن عبد البر وما أظنه سقط عند أحد من رواة الموطأ إلا عند يحيى الأندلسي فلم يسنده وإنما ( قال يحيى وسمعت مالكا يقول معنى قول رسول الله صلى الله عليه وسلم من نذر أن يعصي الله فلا يعصه أن ينذر الرجل ) أو المرأة ( أن يمشي إلى الشام أو إلى مصر ) بمنع الصرف البلد المعروف ( أو إلى الربذة ) بفتح الراء والموحدة والذال المعجمة قرية على نحو ثلاثة أيام من المدينة كانت عامرة في صدر الإسلام وبها قبر أبي ذر الغفاري وجماعة من الصحابة
( أو ما أشبه ذلك مما ليس لله بطاعة إن كلم فلانا ) شرط في قوله أن يمشي ( أو ما أشبه ذلك فليس عليه في شيء من ذلك شيء إن هو كلمه أو حنث بما حلف
____________________
(3/82)
عليه ) غير الكلام ( لأنه ليس لله في هذه الأشياء طاعة ) وما كان كذلك لا يجوز نذره ويحرم فعله بالنذر على ما قال الباجي أو يلحق بالمعصية في الحكم كما أشار إليه أبو عمر
( وإنما يوفى لله بما له فيه طاعة ) وجوبا لقوله صلى الله عليه وسلم في صدر الحديث من نذر أن يطيع الله فليطعه
25 اللغو في اليمين ( مالك عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة أم المؤمنين أنها كانت تقول لغو اليمين قول الإنسان لا والله لا والله ) وفي رواية يحيى بن بكير وبلى والله
قال الماوردي أي كل واحدة منهما إذا قالها مفردة لغو فلو قالهما معا فالأولى لغو والثانية منعقدة لأنها استدراك مقصود
وفي أبي داود من طريق إبراهيم بن الصائغ عن عطاء عن عائشة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لغو اليمين هو كلام الرجل في بيته كلا والله وبلى والله
وأشار أبو داود إلى أنه اختلف على عطاء وعلى إبراهيم في رفعه ووقفه
وفي البخاري من طريق يحيى القطان عن هشام عن أبيه عن عائشة قالت أنزلت { لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم } المائدة 89 في قول لا والله وبلى والله ( قال مالك أحسن ما سمعت في هذا أن اللغو حلف الإنسان على الشيء يستيقن أنه كذلك ثم يوجد على غير ذلك فهو اللغو ) الذي ليس فيه كفارة وأما لا والله وبلى والله ففيهما الكفارة ( وعقد اليمين ) في قوله تعالى { ولكن يؤاخذكم بما عقدتم الأيمان } المائدة 89 هو ( أن يحلف الرجل أن لا يبيع ثوبه ) مثلا ( بعشرة دنانير ثم يبيعه بذلك أو يحلف ليضربن غلامه ثم لا يضربه ونحو هذا ) كلا يأكل كذا ثم يأكله أو لا يكلم زيدا ثم يكلمه
( فهذا الذي يكفر صاحبه عن يمينه
وليس في اللغو كفارة ) لقوله تعالى { لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم } وأما الذي يحلف على الشيء وهو يعلم أنه إثم وهو يحلف على الكذب وهو يعلم يقينا أو ظنا أو شكا ( ليرضي به أحدا أو ليعتذر به إلى معتذر ) بفتح التاء والذال ( إليه أو ليقطع ) وفي نسخة ليقتطع ( به مالا فهذا أعظم من أن يكون فيه كفارة ) وهي الغموس لغمس صاحبها في الإثم
____________________
(3/83)
26 ما لا يجب فيه الكفارة من الأيمان ( مالك عن نافع عن عبد الله بن عمر أنه كان يقول من قال والله ) لأفعلن كذا ( ثم قال إن شاء الله ثم لم يفعل الذي حلف عليه لم يحنث ) لأجل استثنائه وذلك لأن المشيئة وعدمها غير معلوم والوقوع بخلافها محال وهذا قد رواه أيوب عن نافع عن ابن عمر مرفوعا من حلف على يمين فقال إن شاء الله فقد استثنى رواه أبو داود به والترمذي بلفظ فلا حنث عليه وقال لم يرفعه غير أيوب
وقال البيهقي المحفوظ وقفه وتعقب بأن غيره رفعه أيضا ورجاله ثقات وقد صححه الحاكم
( قال مالك أحسن ما سمعت في الثنيا ) بضم فسكون من ثنيت الشيء إذا عطفته والمراد الاستثناء المذكور أي الإخراج بإن شاء الله فإن المستثنى عطف بعض ما ذكره لأنه عرفا إخراج بعض ما تناوله اللفظ ( أنها لصاحبها ما لم يقطع كلامه ) بل وصله باليمين ( وما كان من ذلك نسقا يتبع بعضا قبل أن يسكت فإذا سكت وقطع كلامه فلا ثنيا له ) أخذا من قوله في الحديث المرفوع فقال إن شاء الله بالفاء الموضوعة للتعقيب بلا تراخ فمتى انفصل لم يؤثر
( قال مالك في الرجل يقول كفر بالله وأشرك بالله ) أو هو يهودي أو نصراني ونحو ذلك لا يفعل كذا أو ليفعلن كذا ( ثم يحنث إنه ليس عليه كفارة ) لأنه لم يحلف فليس ما قاله بيمين ( وليس بكافر ولا مشرك حتى يكون قلبه مضمرا على الكفر والشرك ) فمتى كان قلبه مطمئنا بالإيمان لم يكفر بقول ذلك وإن أثم ( وليستغفر الله ) يتوب إليه ( ولا يعد إلى شيء من ذلك وبئس ما صنع ) وإنما لم يكفر لحديث الصحيحين عن أبي هريرة مرفوعا من حلف فقال في حلفه باللات والعزى فليقل لا إله إلا الله ولم ينسبه صلى الله عليه وسلم إلى الكفر إذ لو كان كذلك لأمره بتمام الشهادتين كما أشار إليه البخاري
وأما حديثه عن ثابت بن الضحاك رفعه من حلف بغير ملة الإسلام فهو كما قال وحديث ابن عمر مرفوعا من حلف بغير الله فقد كفر أخرجه أحمد والترمذي برجال ثقات وصححه الحاكم على شرطهما وقال غيره على شرط مسلم فالمراد به التهديد والمبالغة في الوعيد لا الحكم بكفره كأنه قال فهو مستحق مثل عذاب من اعتقد ما قال والمراد بالكفر كفر النعمة بفعله فعل الكفار إذ كانوا يحلفون بغير الله وكفر نعمته
____________________
(3/84)
بتعظيم من لم يكن له تعظيمه لأن الحلف لا يصلح إلا بالله فالحالف بغيره معظم له بما ليس له
27 ما يجب فيه الكفارة من الأيمان ( مالك عن سهيل ) بضم السين ( بن أبي صالح ) ذكوان قال ابن عبد البر لم تختلف الرواة عن مالك في هذا الحديث ولا اختلف فيه على سهيل أيضا ( عن أبيه ) أبي صالح ذكوان السمان ( عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال من حلف بيمين فرأى ) غيرها كما في رواية فهو مفعول رأى الأول والثاني قوله ( خيرا منها فليكفر عن يمينه وليفعل الذي هو خير ) يعني من حلف يمينا حقا ثم بدا له أمر فعله أفضل من إبرار يمينه فليفعله وليكفر وظاهر الحديث إجزاء التكفير قبل الحنث وعليه مالك والشافعي وأصحابهما وهو الثابت في حديث عبد الرحمن بن سمرة وأبي هريرة ومنع ذلك أبو حنيفة وأصحابه لأن الكفارة إنما تجب بالحنث ولعجب أنهم لا تجب الزكاة عندهم إلا بتمام الحول وأجازوا تقديمها قبله من غير أن يرووا في ذلك مثل هذه الآثار وأبوا من تقديم الكفارة قبل الحنث مع كثرة الرواية بذلك والحجة في السنة ومن خالفها محجوج بها قاله ابن عبد البر وهذا الحديث رواه مسلم من طريق ابن وهب والترمذي عن قتيبة كليهما عن مالك به وتابعه سليمان بن بلال وعبد العزيز بن المطلب كلاهما عن سهيل في مسلم أيضا
( قال يحيى وسمعت مالكا يقول من قال علي نذر ولم يسم شيئا أن عليه كفارة يمين ) بالله لقوله صلى الله عليه وسلم كفارة النذر إذا لم يسم كفارة اليمين رواه أحمد وأبو داود والترمذي والنسائي عن عقبة بن عامر ورواه مسلم عنه بدون قوله إذا لم يسم فحمله الإمام وغيره على النذر المطلق لأنه الذي لم يسم أما المقيد فهو المعين فلا بد من الوفاء به وأما حمل بعضهم له على نذر اللجاج والغضب فإنما يستقيم على رواية سقوط إذا لم يسم لكن المخرج متحد والحديث واحد وزيادة الثقة مقبولة
( فأما التوكيد فهو حلف الإنسان في الشيء الواحد ) زاد ابن وضاح مرارا ( يردد فيه الأيمان يمينا بعد يمين كقوله والله لا أنقصه ) بإسكان النون وضم القاف والصاد ( من كذا وكذا يحلف بذلك مرارا ثلاثا أو أكثر من ذلك فكفارة ذلك كفارة واحدة مثل كفارة اليمين ) زيادة في الإيضاح ( فإن حلف رجل مثلا فقال والله لا
____________________
(3/85)
آكل هذا الطعام ولا ألبس هذا الثوب ولا أدخل هذا البيت فكان هذا في يمين واحدة ) صفة يمين لأنها مؤنثة ( فإنما عليه كفارة واحدة ) إذا حنث ( وإنما ذلك كقول الرجل لامرأته أنت الطلاق إن كسوتك هذا الثوب وأذنت لك إلى المسجد يكون ذلك نسقا متتابعا في كلام واحد ) بيان لنسقا ( فإن حنث في شيء واحد من ذلك فقد وجب عليه الطلاق وليس عليه فيما فعل بعد ذلك حنث ) لأن حنث اليمين يسقطها ( إنما الحنث في ذلك حنث واحد ) لا يتعدد ( قال مالك الأمر عندنا في نذر المرأة أنه جائز عليها بغير إذن زوجها يجب عليها ذلك ويثبت ) يستمر وجوبه عليها ( إذا كان ذلك في جسدها وكان ذلك لا يضر بزوجها ) فلا يحل له منعها منه ( وإن كان ذلك يضر بزوجها فله منعها منه وكان ذلك عليها حتى تقضيه ) بأن يأذن لها فيه أو تتأيم منه فإن كان في مالها فلزوجها منعها ما زاد على الثلث
28 العمل في كفارة الأيمان ( مالك عن نافع عن عبد الله بن عمر أنه كان يقول من حلف بيمين فوكدها ) قال أيوب قلت لنافع ما التوكيد قال ترداد الأيمان في الشيء الواحد ( ثم حنث فعليه عتق رقبة أو كسوة عشرة مساكين ) ولا يكفي الإطعام عنده ( ومن حلف بيمين فلم يؤكدها ) أي لم يكررها ( ثم حنث فعليه إطعام عشرة مساكين ) أريد ما يشمل الفقراء ( لكل مسكين مد ) بالرفع والنصب ( من حنطة ) ونحوها قال تعالى { من أوسط ما تطعمون أهليكم } المائدة 89 { فمن لم يجد فصيام ثلاثة أيام } كفارته وظاهره أنه لا يشترط تتابعها
____________________
(3/86)
( مالك عن نافع عن عبد الله بن عمر أنه كان يكفر عن يمينه بإطعام عشرة مساكين لكل مسكين مد من حنطة وكان يعتق المرار ) أي المتعدد وفي نسخة مرارا بالتنكير ( إذا وكد اليمين ) على مذهبه
( مالك عن يحيى بن سعيد ) الأنصاري ( عن سليمان بن يسار ) بتحتية ومهملة خفيفة أحد الفقهاء ( أنه قال أدركت الناس ) يعني الصحابة ( وهم إذا أعطوا في كفارة اليمين أعطوا مدا من حنطة ) قمح ( بالمد الأصغر ) أي مد النبي صلى الله عليه وسلم ( ورأوا ذلك مجزيا عنهم ) لأن جميع الكفارات به ما عدا الظهار كما مر
( قال مالك أحسن ما سمعت في الذي يكفر عن يمينه بالكسوة أنه إن كسا الرجال كساهم ثوبا ثوبا ) بالتكرير لكل واحد من العشرة ( وإن كسا النساء كساهن ثوبين ثوبين ) لكل واحدة منهن ( درعا ) أي قميصا ( وخمارا ) بكسر المعجمة ما يستر الوجه بيان للثوبين ( وذلك أدنى ما يجزىء كلا ) من الرجال والنساء ( في صلاته ) لكن كون ذلك أقل ما يجزىء الرجال إنما هو على وجه الكمال إذ الواجب ستر العورة
29 جامع الأيمان ( مالك عن نافع عن عبد الله بن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ) اتفقت الرواة على أنه من مسند ابن عمر وحكى يعقوب ابن شيبة أن عبد الله العمري المكبر الضعيف رواه عن نافع فقال عن ابن عمر عن عمر ( أدرك عمر بن الخطاب وهو يسير في ركب ) راكبي الإبل عشرة فصاعدا وفي مسند يعقوب بن شيبة في غزاة ( وهو يحلف بأبيه ) وفي رواية عبد الله بن دينار عند مسلم وكانت قريش تحلف بآبائها ( فقال
____________________
(3/87)
رسول الله صلى الله عليه وسلم ) زاد القعنبي ألا ( إن الله ينهاكم عن أن تحلفوا بآبائكم ) لأن الحلف بشيء يقتضي تعظيمه والعظمة في الحقيقة إنما هي لله وحده
وفي مصنف ابن أبي شيبة عن عكرمة قال قال عمر حدثت قوما حديثا فقلت لا وأبي فقال رجل من خلفي لا تحلفوا بآبائكم فالتفت فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول لو أن أحدكم حلف بالمسيح هلك والمسيح خير من آبائكم قال الحافظ وهذا مرسل يتقوى بشواهد
وأما قوله صلى الله عليه وسلم أفلح وأبيه إن صدق فقال ابن عبد البر إن هذه اللفظة منكرة غير محفوظة يردها الآثار الصحاح وقيل أنها مصحفة من قوله والله وهو محتمل ولكن مثل هذا لا يثبت بالاحتمال لا سيما وقد ثبت ذلك من لفظ الصديق في قصة السارق الذي سرق حلي ابنته فقال وأبيك لأنبئنك أو لأحدثنك
وأحسن الأجوبة ما قاله البيهقي وارتضاه النووي وغيره إن هذا اللفظ كان يجري على ألسنتهم من غير أن يقصدوا به القسم والنهي إنما ورد في حق من قصد حقيقة الحلف أن في الكلام حذفا أي أفلح ورب أبيه قاله البيهقي أيضا انتهى
ومر لهذا مزيد في الصلاة وجملة ينهاكم في محل رفع خبر أن وأن مصدرية في محل نصب عند الخليل والكسائي أو جر بتقدير حرف الجر أي ينهاكم عن أن تحلفوا عند سيبويه وحكم غير الآباء من سائر الخلق كالآباء في النهي وفي الترمذي وقال حسن والحاكم وقال صحيح عن ابن عمر أنه سمع رجلا يقول لا والكعبة فقال لا تحلف بغير الله فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول من حلف بغير الله فقد كفر وأشرك والتعبير بذلك مبالغة في الزجر والتغليظ وهل النهي للتحريم أو التنزيه قولان شهرا معا عند المالكية والمشهور عند الشافعية أنه للتنزيه وعند الحنابلة للتحريم وبه قال الظاهرية
وقال ابن عبد البر لا يجوز الحلف بغير الله بالإجماع ومراده بنفي الجواز الكراهة أعم من التحريم والتنزيه فإنه قال في موضع آخر أجمع العلماء على أن اليمين بغير الله مكروهة منهي عنها لا يجوز لأحد الحلف بها وإنما خص الحديث بالآباء لوروده على سببه المذكور أو لكونه غالب حلفهم لقوله في الرواية الأخرى وكانت قريش تحلف بآبائها ويدل على التعميم قوله ( من كان حالفا ) أي مريدا للحلف ( فليحلف بالله ) لا بغيره من الآباء وغيرهم ( أو ليصمت ) بضم الميم كما ضبطه غير واحد وكأن الرواية المشهورة وإلا فقد قال الطوفي سمعناه بكسرها وهو القياس لأن قياس فعل بفتح العين يفعل بكسرها كضرب يضرب ويفعل بضم العين فيه دخيل كما في خصائص ابن جني انتهى
أي لا يحلف لا أنه يلزمه الصمت إذا لم يحلف بالله فهو نظير قوله تعالى { سواء عليكم أدعوتموهم أم أنتم صامتون } الأعراف 193 أي أم لم تدعوهم والتخيير في حق من وجبت عليه اليمين فيحلف ليبرأ أو يترك ويغرم وظاهره أن اليمين بالله مباحة لأن أقل مراتب الأمر الإباحة وإليه ذهب الأكثر وهو الصحيح نقلا لأنه صلى الله عليه وسلم حلف كثيرا وأمره الله به { قل إي وربي إنه لحق } يونس 53 ونظرا لأنه تعظيم لله تعالى ومن شرطية في موضع رفع بالابتداء وكان واسمها وخبرها في محل الخبر وظاهره تخصيص الحلف بالله خاصة لكن اتفق الفقهاء على أن اليمين تنعقد بالله وذاته وصفاته
____________________
(3/88)
العلية فكأن المراد بقوله بالله الذات لا خصوص لفظ الله فمن حلف بغيره لم تنعقد يمينه كان المحلوف به يستحق التعظيم كالأنبياء والملائكة والكعبة أو لا كالآحاد أو يستحق التحقير كالشياطين والأصنام وليستغفر الله لإقدامه على ما نهي عنه ولا كفارة نعم استثنى بعض الحنابلة من ذلك الحلف بنبينا محمد صلى الله عليه وسلم فقال ينعقد به اليمين وتجب الكفارة بالحنث به لأنه صلى الله عليه وسلم أحد ركني الشهادة التي لا تتم إلا به ولا حجة في ذلك إذ لا يلزم منه انعقاد اليمين به بل ولا جواز الحلف به ولا سيما مع صحة هذا النهي الصريح عنه صلى الله عليه وسلم عن ذلك ولله تعالى أن يقسم بما شاء من خلقه كالليل والنهار ليعجب بها المخلوقين ويعرفهم قدرته لعظم شأنها عندهم ولدلالتها على خالقها أما المخلوق فلا يقسم إلا بالخالق كما قيل ويقبح من سواك الشيء عندي وتفعله فيحسن منك ذا كا وزاد البخاري ومسلم من طريق سالم عن أبيه قال عمر فوالله ما حلفت منذ سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم ذاكرا ولا آثرا بمد الهمزة وكسر المثلثة أي حاكيا عن غيري أي ما حلفت بأبي عامدا ولا حاكيا عن غيري واستشكل بأن الحاكي لا يسمى حالفا وأجيب بأن العامل محذوف أي ولا ذكرتها آثرا عن غيري أو ضمن حلفت معنى تكلمت أو معناه يرجع إلى التفاخر بالآباء فكأنه قال ما حلفت بآبائي ذاكرا لمآثرهم وحديث الباب رواه البخاري عن القعنبي عن مالك به ورواه مسلم وغيره
( مالك أنه بلغه ) معلوم أن بلاغه صحيح ولعل هذا بلغه من شيخه موسى بن عقبة فقد رواه البخاري في الأيمان من طريق الثوري وفي التوحيد من طريق ابن المبارك وابن عبد البر من طريق سليمان بن بلال الثلاثة عن موسى بن عقبة عن سالم عن ابن عمر ( أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقول ) ولفظ رواية الثوري بسنده كانت يمين النبي صلى الله عليه وسلم ولفظ ابن المبارك عن موسى عن سالم عن أبيه كنت كثيرا ما أسمع النبي صلى الله عليه وسلم يحلف ( لا ) نفي الكلام السابق على اليمين ( ومقلب القلوب ) بتقليب أغراضها وأحوالها لا بتقليب ذات القلوب قال الراغب تقليب الله القلوب والأبصار صرفها عن رأي إلى رأي والتقليب الصرف سمي قلب الإنسان قلبا لكثرة تقلبه ويعبر بالقلب عن المعاني التي تختص به من الروح والعلم والشجاعة
وقال ابن العربي أبو بكر القلب جزء من البدن خلقه الله وجعله للإنسان محل العلم والكلام وغير ذلك من الصفات الباطنة وجعل ظاهر البدن محل التصرفات الفعلية والقولية ووكل بها ملكا يأمر بالخير وشيطانا يأمر بالشر فالعقل بنوره يهديه والهوى بظلمته يغويه والقضاء والقدر مسيطر على الكل والقلب يتقلب بين الخواطر الحسنة والسيئة والمحفوظ من حفظه الله تعالى وقد تمسك بهذا الحديث من أوجب الكفارة على من حلف بصفة من صفات الله تعالى فحنث ولا نزاع في أصل ذلك إنما اختلف في أي صفة تنعقد بها اليمين والتحقيق اختصاصها بصفة لا يشاركه فيها غيره كمقلب القلوب
____________________
(3/89)
( مالك عن عثمان بن حفص بن عمر ) بن عبد الرحمن ( بن خلدة ) بفتح المعجمة وسكون اللام الأنصاري الزرقي كان رجلا صالحا ولي قضاء المدينة في زمن عبد الملك
وروى عن معاوية وعن جده عمر وعن إسماعيل بن محمد بن سعد بن أبي وقاص والزهري وذكره ابن حبان في الثقات وقال ابن عبد البر ثقة فقيه روى عنه مالك وعبد العزيز بن أبي سلمة ولم يرو عنه غيرهما فيما علمت ووهم العقيلي فسماه عمر وبنو خلدة معروفون بالمدينة لهم أحوال وشرف وجلالة في الفقه وحمل العلم ( عن ابن شهاب ) محمد بن مسلم شيخ الإمام روى عنه هنا بواسطة ( أنه بلغه ) وعند ابن وهب في موطئه عن يونس عن الزهري قال أخبرني بعض بني السائب بن أبي لبابة ورواه إسماعيل بن علية عن الزهري عن ابن لكعب بن مالك عن أبيه وعن ابن أبي لبابة عن أبيه ( أن أبا لبابة ) بشير وقيل رفاعة ووهم من سماه مروان ( ابن عبد المنذر ) الأنصاري المدني الأوسي أحد النقباء وعاش إلى خلافة علي ( حين تاب الله عليه ) من إشارته إلى بني قريظة كما جزم به ابن إسحاق وكانوا حلفاء الأوس أو من تخلفه عن غزوة تبوك فارتبط بسارية المسجد حتى نزل { وآخرون اعترفوا بذنوبهم } التوبة 102 الآية كما رواه ابن مردويه وابن جرير عن ابن عباس وابن منده وأبو الشيخ عن جابر بإسناد قوي فيحمل تعدد ربطه نفسه وتعدد النزول ذكر ابن إسحاق وغيره أن بني قريظة بعثوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم أن ابعث لنا أبا لبابة فبعثه فقام إليه الرجال وجهش إليه النساء والصبيان يبكون فرق لهم فقالوا أترى أن ننزل على حكم محمد قال نعم وأشار بيده إلى حلقه إنه الذبح قال فوالله ما زالت قدماي من مكانهما حتى عرفت أني قد خنت الله ورسوله فندمت واسترجعت فنزلت وإن لحيتي لمبتلة من الدموع والناس ينتظرون رجوعي إليهم حتى أخذت من وراء الحصن طريقا أخرى حتى جئت المسجد وارتبطت بالأسطوانة المخلقة وقلت لا أبرح حتى أموت أو يتوب الله علي مما صنعت وعاهدت الله أن لا أطأ بني قريظة أبدا ولا أرى في بلد خنت الله ورسوله فيه أبدا فلما بلغه صلى الله عليه وسلم خبره وكان قد استبطأه قال أما لو جاءني لاستغفرت له وأما إذ فعل ما فعل فما أنا بالذي أطلقه من مكانه حتى يتوب الله عليه وروى ابن مردويه عن أم سلمة أن توبة أبي لبابة نزلت على النبي صلى الله عليه وسلم في بيتها قالت فسمعته من السحر يضحك فقلت يا رسول الله مم تضحك أضحك الله سنك قال تيب على أبي لبابة قلت أفلا أبشره قال ما شئت فقمت على باب الحجرة وذلك قبل أن يضرب الحجاب فقلت يا أبا لبابة أبشر فقد تاب الله عليك فثار الناس إليه ليطلقوه فقال لا والله حتى يطلقني رسول الله صلى الله عليه وسلم بيده فلما خرج إلى الصبح أطلقه ونزلت { وآخرون اعترفوا بذنوبهم } التوبة 102 الآية وروى ابن وهب عن مالك عن عبد الله بن أبي بكر أن أبا لبابة ارتبط بسلسلة ثقيلة بضع عشرة ليلة حتى ذهب سمعه وكاد يذهب بصره فكانت ابنته تحله للصلاة وللحاجة فإذا فرغ أعادته
وذكر ابن إسحاق أنه
____________________
(3/90)
ارتبط ست ليال تأتيه امرأته فتحله للصلاة ثم تربطه فلعل امرأته تقيدت به في الست وابنته في باقي البضع عشرة فلا خلف
( قال يا رسول الله أهجر ) بتقدير همزة الاستفهام ( دار قومي التي أصبت فيها الذنب وأجاورك ) في مسجدك أو أسكن ببيت بجوارك ( وأنخلع من مالي صدقة إلى الله وإلى رسوله ) يصرفها في وجوه البر ( فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم يجزيك من ذلك الثلث ) قال ابن عبد البر كذا هذا الحديث عند يحيى وابن القاسم وابن وهب وطائفة منهم وروته طائفة منهم عبد الله بن يوسف عن مالك أنه بلغه لم يذكر عثمان ولا ابن شهاب وليس هذا الحديث في الموطأ عند أبي بكير ولا القعنبي ولا أكثر الرواة
( مالك عن أيوب بن موسى ) بن عمرو بن سعيد بن العاصي المكي الأموي ثقة مات سنة اثنين وثلاثين ومائة ( عن منصور بن عبد الرحمن ) بن طلحة بن الحارث العبدري ( الحجبي ) بفتح الحاء والجيم نسبة إلى حجابه الكعبة المكي ثقة أخطأ ابن حزم في تضعيفه ( عن أمه ) صفية بنت شيبة بن عثمان بن أبي طلحة العبدرية لها رؤية وحدثت عن عائشة وغيرها من الصحابة
وفي البخاري والتصريح بسماعها من النبي صلى الله عليه وسلم وأنكر الدارقطني إدراكها ( عن عائشة أم المؤمنين أنها سئلت عن رجل قال لي في رتاج الكعبة ) براء مكسورة ففوقية فألف فجيم أي بابها ( فقالت عائشة يكفره ما يكفر اليمين ) ولم يأخذ الإمام بهذا ففي المدونة عنه لا يلزمه شيء لا كفارة يمين ولا غيرها
( قال مالك في الذي يقول مالي في سبيل الله ثم يحنث قال يجعل ثلث ماله في سبيل الله ) الجهاد وغيره ( وذلك الذي جاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في أمر أبي لبابة ) في الحديث المتقدم وإليه ذهب ابن المسيب والزهري وقال الشافعي وأحمد وعليه كفارة يمين وقال أبو حنيفة عليه إخراج ماله كله ولا يترك إلا ما يواري عورته ويقومه فإذا أفاد قيمته أخرجه قال ابن عبد البر أظنه جعله كالمفلس يقسم ماله بين غرمائه ويترك ما لا بد منه حتى يستفيد فيؤدي إليهم
____________________
(3/91)
1
7 كتاب الضحايا جمع ضحية كعطايا وعطية والأضاحي جمع أضحية بضم الهمزة في الأكثر وكسرها اتباعا لكسرة الحاء والأضحى جمع أضحاة مثل أرطى وأرطاة اسم لما يذبح من النعم تقربا إلى الله تعالى في يوم العيد وتالييه قال عياض سميت بذلك لأنها تفعل في الضحى وهو ارتفاع النهار فسميت بزمن فعلها وقال غيره ضحى ذبح الأضحية وقت الضحى هذا أصله ثم كثر حتى قيل ضحى في أي وقت كان من أيام التشريق
1 ما ينهى عنه من الضحايا ( مالك عن عمرو بن الحارث ) بن يعقوب بن عبد الله مولى سعد بن عبادة وقيل مولى ابنه قيس يكنى أبا أمية الأنصاري مولاهم المصري ولد سنة اثنين وتسعين بعثه صالح بن أمية من المدينة إلى مصر مؤدبا لبنيه وهو ثقة فقيه حافظ روى عن أبيه والزهري وغيرهما وعنه مجاهد وهو أكبر منه وبكير بن الأشج وقتادة وهما من شيوخه ومالك هذا الحديث الواحد وهو من أقرانه وابن وهب وقال ما رأيت أحفظ منه ولو بقي لنا ما احتجنا إلى مالك وغيرهم مات سنة ثمان وقيل تسع وأربعين ومائة ( عن عبيد ) بضم العين ( ابن فيروز ) الشيباني مولاهم أبي الضحاك الكوفي نزيل الجزيرة ثقة من أواسط التابعين
قال ابن عبد البر لم تختلف الرواة عن مالك في هذا الحديث وإنما رواه عمرو عن سليمان بن عبد الرحمن عن عبيد فسقط لمالك ذكر سليمان ولا يعرف الحديث إلا له ولم يروه غيره عن عبيد ولا يعرف عبيد إلا بهذا الحديث وبرواية سليمان هذا عنه ورواه عن سليمان جماعة منهم شعبة والليث عن عمرو بن الحارث ويزيد بن أبي حبيب وغيرهم وذكر ابن وهب هذا الحديث عن
____________________
(3/92)
عمرو ابن الحارث والليث وابن لهيعة عن سليمان عن عبيد عن البراء ثم أسنده من هذا الوجه في التمهيد لكن قوله لا يعرف إلا لسليمان عن عبيد منتقد فقد رواه يزيد بن أبي حبيب والقاسم مولى خالد بن يزيد بن معاوية كلاهما عن عبيد كما ذكره المزي في الأطراف
وذكر أيضا أن سليمان رواه عن عبيد بواسطة هي القاسم مولى خالد وبدونها وصرح سليمان في بعض طرقه عند ابن عبد البر بقوله سمعت عبيد بن فيروز ( عن البراء بن عازب ) بن الحارث بن عدي الأنصاري الأوسي صحابي ابن صحابي نزل الكوفة استصغر يوم بدر وكان لدة بن عمر مات سنة اثنين وسبعين ( أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل ماذا يتقى من الضحايا ) قال الباجي دل هذا أن للضحايا صفات يتقى بعضها ولو لم يعلم أنها يتقى منها شيء لسئل هل يتقى من الضحايا شيء ( فأشار بيده وقال أربعا ) تتقى وفي رواية وقال لا يجوز من الضحايا أربع ( وكان البراء بن عازب يشير بيده ويقول يدي أقصر من يد رسول الله صلى الله عليه وسلم ) من إطلاق اسم الكل على البعض ففي رواية ابن عبد البر عن ابن وهب عن عمرو والليث وابن لهيعة بسندهم عن البراء سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم وأشار بأصبعه قال وأصبعي أقصر من أصبع رسول الله وهو يشير بأصبعه يقول لا يجوز من الضحايا أربع ( العرجاء ) بالمد ( البين ) أي الظاهر ( ظلعها ) بفتح الظاء المعجمة وإسكان اللام أي عرجها وهي التي لا تلحق الغنم في مشيها وقال أبو حنيفة تجزي ويرد عليه الحديث ولا شك أن العرجاء تجري وتمشي والعرج من صفات المشي وأما التي لا تمشي فلا يقال لها عرجاء فإن خف العرج فلم يمنعها أن تسير بسير الغنم أجزأت كما هو مفهوم الحديث
( والعوراء ) بالمد تأنيث أعور ( البين عورها ) وهو ذهاب بصر إحدى عينيها فإن كان بها بياض قليل على الناظر لا يمنعها الإبصار أو كان على غير الناظر أجزأت قاله محمد عن مالك وهو مفهوم الحديث
( والمريضة البين مرضها ) بأي مرض كان بشرط وضوحه فهو عام عطف عليه خاصا بقوله ( والعجفاء ) بالمد مؤنث أعجف الضعيفة ( التي لا تنقي ) بضم الفوقية وإسكان النون وقاف أي لا نقي لها والنقي الشحم وكذا جاء في بعض روايات الحديث
وفي رواية قاسم بن أصبغ والكسيرة التي لا تنقي يريد التي لا تقوم ولا تنهض من الهزال وهذه العيوب الأربع مجمع عليها وما في معناها داخل فيها ولا سيما إذا كانت العلة فيها أبين فإذا لم تجز العوراء والعرجاء فالعمياء والمقطوعة الرجل أحرى وفيه أن المرض والعرج الخفيفين والنقطة اليسيرة في العين والمهزولة التي ليست بغاية في الهزال تجزي الضحايا وزعم بعض العلماء أن ما عدا العيوب الأربعة يجوز في الضحايا والهدايا بدليل الخطاب وله وجه لولا ما جاء عنه صلى الله عليه وسلم في الأذن والعين وما يجب أن يضم إلى ذلك وكذلك ما
____________________
(3/93)
كان في معناها عند الجمهور خرج أبو بكر بن أبي شيبة عن علي أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نستشرف العين ولا نضحي بمقابلة ولا بمدابرة ولا شرقاء ولا خرقاء والمقابلة ما قطع طرف أذنها والمدابرة ما قطع طرفا جانبي الأذن والشرقاء المشروقة الأذن والخرقاء المثقوبة الأذن وهذا حديث حسن الإسناد ليس بدون حديث البراء
وزاد في رواية شعبة عن سليمان عن عبيد بن فيروز قال قلت للبراء إني لأكره أن يكون في القرن نقص أو في الأذن نقص أو في السن نقص قال فما كرهته فدعه ولا تحرمه على أحد قاله أبو عمر
( مالك عن نافع أن عبد الله بن عمر كان يتقي من الضحايا والبدن ) أي الهدايا ( التي لم تسن ) روي بكسر السين من السن لأن معروف مذهب ابن عمر أنه لا يضحى إلا بثني المعز والضأن والإبل والبقر وروي بفتح السين قال ابن قتيبة أي التي لم تنبت أسنانها كأنها لم تعط أسنانها كما تقول لم يلبن ولم يسمن ولم يعسل أي لم يعط ذلك قال وهذا مثل النهي عن الهتماء في الأضاحي وقال غيره معناه لم تبدل أسنانها وهذا أشبه بمذهب ابن عمر لأنه يقول في الأضاحي والبدن الثني فما فوقه ولا يجوز عنده الجذع من الضأن وهذا خلاف الآثار المرفوعة وخلاف الجمهور الذين هم حجة على من شذ عنهم قاله ابن عبد البر قال وقوله ( والتي نقص من خلقها ) أصح من رواية من روى عنه جواز الأضحية بالبتراء إلا أنه يحتمل أن اتقاء ابن عمر لمثل ذلك ويحتمل أنه لما نقص منها خلقة وحمله على عمومه أولى وأجمعوا على جواز الجماء في الضحايا فدل على أن النقص المكروه هو ما تتأذى به البهيمة وينقص من ثمنها ومن شحمها
( قال مالك وذلك أحب ما سمعت إلي ) من الخلاف
2 ما يستحب من الضحايا ( مالك عن نافع أن عبد الله بن عمر ضحى مرة بالمدينة قال نافع فأمرني أن أشتري له كبشا فحيلا ) بالغا أي ذكر الأنثى وزاد ياء النسبة إشارة لتحقق ذكورته قال البوني ويحتمل أن يريد لا خصيا ( أقرن ) أي ذا قرنين ( ثم أذبحه ) بالنصب عطفا على أشتري ( يوم الأضحى في مصلى الناس ) اتباعا للمصطفى ففي الصحيح عن أنس كان النبي صلى الله عليه وسلم يضحي بكبشين أملحين أقرنين فذبحهما بيده وفي الصحيح
____________________
(3/94)
أيضا عن ابن عمر كان صلى الله عليه وسلم يذبح وينحر بالمصلى وفيه استحباب إبراز الإمام ضحيته بالمصلى وفيهما دلالة على أن تلك عادته ففيه أفضلية الضأن في الضحايا كما قال مالك ضرورة أنه صلى الله عليه وسلم لا يواظب إلا على ما هو الأفضل
وحديث البيهقي عن ابن عمر كان صلى الله عليه وسلم يضحي بالجزور أحيانا وبالكبش إذا لم يجد الجزور ضعيف في سنده عبد الله بن نافع وفيه مقال وفيه أن الذكر أفضل من الأنثى لأن لحمه أطيب وندب التضحية بالأقرن وأنه أفضل من الأجم الذي لا قرن له
( قال نافع ففعلت ) ما أمرني به من الشراء والذبح بالمصلى ( ثم حمل ) الكبش المذبوح ( إلى عبد الله بن عمر فحلق رأسه ) مقتضى فاء التعقيب أن الحلاق بعد حمل الكبش إليه فأما إن الظرفية في قوله ( حين ذبح الكبش ) مجازية لأنها لما وقعت بعده بقرب كأنها فعلت حينه وإما أن الظرفية حقيقة والتجوز في التعقيب ( وكان مريضا لم يشهد العيد مع الناس ) ولذا استناب في الذبح فلا ينافي أن الأفضل الذبح بيده لمن يحسنه وقدر اتباعه للفعل النبوي
( قال نافع وكان عبد الله بن عمر يقول ليس حلاق الرأس بواجب على من ضحى وقد فعل ذلك عمر ) فلا يعتقد وجوبه بفعله لأنه حلق لمرضه
3 النهي عن ذبح الضحية قبل انصراف الإمام ( مالك عن يحيى بن سعيد ) بن قيس بن عمرو الأنصاري ( عن بشير ) بضم الموحدة وفتح المعجمة مصغر ( ابن يسار ) بفتح التحتية وخفة المهملة الحارثي مولى الأنصار المدني الثقة الفقيه من أواسط التابعين
( أن أبا بردة ) وفي رواية معن عن أبي بردة بضم الموحدة اسمه هانىء ( ابن نيار ) بكسر النون وتحتية خفيفة الأنصاري خال البراء بن عازب وقيل عمه والأول أشهر وقيل اسمه مالك بن هبيرة والأول أصح وقيل الحارث بن عمرو وخطىء قائله وشبهته قول البراء لقيت خالي الحارث بن عمرو لكن يحتمل أن يكون خالا آخر له وهو الأشبه شهد أبو بردة بدرا وما بعدها وروى عن النبي صلى الله عليه وسلم وعنه البراء وجابر بن عبد الله وابنه عبد الرحمن بن جابر وكعب بن عمير بن عقبة بن نيار وبشير بن يسار ويقال لم يسمع منه وليس كذلك فسماعه ممكن وشهد مع علي حروبه كلها ومات سنة إحدى وقيل اثنين وقيل خمس وأربعين
( ذبح ضحيته قبل أن يذبح رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الأضحى ) وفي
____________________
(3/95)
الصحيحين عن البراء قال خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم النحر وفي رواية يوم الأضحى بعد الصلاة فقال من صلى صلاتنا ونسك نسكنا فقد أصاب السنة ومن ذبح قبل الصلاة فتلك شاة لحم فقام أبو بردة بن نيار فقال يا رسول الله نسكت شاتي قبل أن أخرج إلى الصلاة وعرفت أن اليوم يوم أكل وشرب فتعجلت وأكلت وأطعمت أهلي وجيراني فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم تلك شاة لحم وفي حديث أنس في الصحيحين فقال يا رسول الله إن هذا يوم يشتهى فيه اللحم أي لجري العادة بكثرة الذبح فيه فتتشوف له النفس التذاذا به
( فزعم ) أي قال أبو بردة ( أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمره أن يعود بضحية أخرى ) أطلق على الأولى اسم الضحية لأنه ذبحها على أنها ضحية فله فيها ثواب وإن لم تكن ضحية لكونه قصد جبر جيرانه والتوسعة على أهله أو لأن صورتها صورة الضحية لأنه ذبحها في يوم الأضحى
( قال أبو بردة لا أجد إلا جذعا ) بجيم وذال معجمة مفتوحتين وعين مهملة زاد في رواية للبخاري عن البراء من المعز وهي ما استكمل سنة ولم يدخل في الثانية وفيه كما قال الباجي أن أبا بردة علم أن الجذع يتعلق به حكم المنع إما لأنه لا يجزىء أو لأن غيره أفضل منه
( فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم وإن لم تجد إلا جذعا فاذبح ) يحتمل أنه أوجب ذلك عليه وعلى ابن أشقر لئلا يشتغل الناس بالذبح عن الصلاة مع الإمام أو لفعلهما ذلك قبله صلى الله عليه وسلم لأن فيه مخالفة الإمام كذا قال أبو عبد الملك
وفي حديث البراء في الصحيحين فقال عندي عناق جذعة هي خير من شاتي لحم فهل تجزي عني قال نعم ولن تجزىء عن أحد بعدك أي غيرك لأنه لا بد في تضحية المعز من الثنية ففيه تخصيص أبي بردة بإجزاء ذلك عنه
لكن في الصحيحين عن عقبة بن عامر قال قسم النبي صلى الله عليه وسلم بين أصحابه ضحايا فصارت لعقبة جذعة فقلت يا رسول الله صارت لي جذعة قال ضح بها زاد في رواية البيهقي ولا رخصة فيها لأحد بعدك قال البيهقي إن كانت هذه اللفظة محفوظة أي ليست بشاذة كان هذا رخصة لعقبة كما رخص لأبي بردة
قال الحافظ وفي هذا الجمع نظر لأن في كل منهما صيغة عموم أي وهو نفي الإجزاء عن غير المخاطب في كل منهما فأيهما تقدم على الآخر اقتضى انتفاء الوقوع للثاني ويحتمل الجمع بأن خصوصية الأول نسخت بثبوت الخصوصية للثاني لا مانع من ذلك لأنه لم يقع في السياق استمرار المنع لغيره صريحا
وإن تعذر الجمع بين حديثي أبي بردة وعقبة فحديث أبي بردة أصح مخرجا أي لاتفاق الشيخين عليه فيقدم على حديث عقبة ولا سيما وقد روياه بدون زيادة البيهقي وإن كان حديث عقبة عنده من مخرج الصحيح لأنه لا يلزم من إخراجهما لرجاله أن يكون مثل تخريجهما بالفعل وفيه أن الذبح لا يجزي قبل الصلاة وهو إجماع لقوله ومن ذبح قبل الصلاة فإنما هي شاة لحم وذهب مالك والشافعي والأوزاعي أنه لا يجوز بعدها وقبل ذبح الإمام لحديث مسلم عن جابر أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى يوم النحر بالمدينة فسبقه رجال فنحروا وظنوا أنه قد نحر فأمر
____________________
(3/96)
رسول الله صلى الله عليه وسلم من كان نحر قبله أن يعيد بنحر آخر ولا ينحروا حتى ينحر
وقال الحسن في قوله تعالى { لا تقدموا بين يدي الله ورسوله } الحجرات 1 نزلت في قوم ذبحوا قبل النبي صلى الله عليه وسلم فأمرهم أن يعيدوا أخرجه ابن المنذر
وجوز أبو حنيفة والليث الذبح بعد الصلاة وقبل ذبح الإمام لحديث البراء مرفوعا من نسك قبل الصلاة فإنما هي شاة لحم وحديث من ذبح قبل الصلاة فليعد ولا حجة في هذا فليس في نهيه عن الذبح قبل الصلاة دليل على جوازه بعدها وقبل ذبح الإمام هذا لو لم يكن نص فكيف والنص ثابت عن جابر بأمره عليه السلام من ذبح قبله بالإعادة وفيه أن له صلى الله عليه وسلم أن يخص من شاء بما شاء كجعله شهادة خزيمة بشهادة رجلين وترخيصه في النياحة لأم عطية وترك الإحداد لأسماء بنت عميس لما مات زوجها جعفر بن أبي طالب وإنكاح ذلك الرجل المرأة بما معه من القرآن فيما ذكره جماعة كأبي حنيفة وأحمد ومالك وهو أحد قولين مرجحين عند أصحابه وجوزه الشافعي وترخيصه في إرضاع سالم مولى أبي حذيفة وهو كبير وفي تعجيل صدقة عامين للعباس وفي الجمع بين اسمه وكنيته للولد الذي يولد لعلي بعده وفي المكث في المسجد جنبا لعلي وفي فتح باب من داره في المسجد له وفي فتح خوخة فيه لأبي بكر وأكل المجامع في رمضان من كفارة نفسه وفي لبس الحرير للزبير وعبد الرحمن بن عوف فيما قاله جماعة وفي لبس خاتم الذهب للبراء بن عازب وفي قبول الهدية لمعاذ لما بعثه إلى اليمين
( مالك عن يحيى بن سعيد ) الأنصاري ( عن عباد ) بفتح العين المهملة والموحدة الثقيلة ( ابن تميم ) بن غزية الأنصاري المازني المدني التابعي وقد قيل له رؤية ( أن عويمر ) بضم العين مصغر ( ابن أشقر ) بفتح الهمزة وإسكان المعجمة وفتح القاف آخره راء بلا نقط ابن عدي الأنصاري المازني كذا نسبه ابن البرقي ونسبه أبو أحمد العسكري تبعا لابن أبي خيثمة أوسيا وذكره خليفة فيمن لم يتحقق نسبه من الأنصار وفي بعض طرق حديثه أنه بدري ( ذبح أضحيته قبل أن يغدو ) وفي رواية أنه ذبح قبل الصلاة ( يوم الأضحى وأنه ذكر ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم ) بعدما صلى ( فأمره أن يعود بضحية أخرى ) قال ابن عبد البر لم يختلف عن مالك في هذا الحديث وظاهر اللفظ الانقطاع لأن عبادا لم يدرك ذلك الوقت ولذا زعم ابن معين أنه مرسل لكن سماع عباد من عويمر ممكن وقد صرح به في رواية عبد العزيز الدراوردي عن يحيى بن سعيد عن عباد بن تميم أن عويمر بن أشقر أخبره أنه ذبح قبل الصلاة وذكر ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم بعد ما صلى فأمره أن يعيد ضحيته
وفي رواية عن حماد بن سلمة عن يحيى عن عباد عن عويمر أنه ذبح قبل أن يصلي فأمره صلى الله عليه وسلم أن يعيد فهاتان الروايتان تدلان على غلط يحيى بن معين وأن قوله ذلك ظن لم يصب فيه انتهى ملخصا
____________________
(3/97)
وكذا رواه الترمذي في العلل حدثنا يحيى بن موسى حدثنا أبو ضمرة عن يحيى بن سعيد قال أخبرني عباد بن تميم عن عويمر بن أشقر فذكره مثل حديث حماد بن سلمة وبتصريحه بأنه أخبره علم أن قول البخاري فيما نقله الترمذي عنه في الغلل لا أعرف أن عويمرا عاش بعد النبي صلى الله عليه وسلم إنما نفى عرفانه هذا وقد وقع في رواية ابن ماجة وابن حبان أنه صلى الله عليه وسلم أذن عويمرا أن يضحي بجذع من المعز
وروى أبو يعلى والحاكم عن أبي هريرة أن رجلا قال يا رسول الله هذا جذع من الضأن مهزولة وهذا جذع من المعز سمين وهو خيرهما أفأضحي به قال ضح به فإن لله الخير وسنده ضعيف
وأخرج أبو داود وصححه ابن حبان عن زيد بن خالد الجهني أن النبي صلى الله عليه وسلم أعطاه عنقودا جذعا فقال ضح به
وفي الأوسط للطبراني عن ابن عباس والحاكم عن عائشة بسند ضعيف أنه صلى الله عليه وسلم أعطى سعد بن أبي وقاص جذعا من المعز فأمره أن يضحي به ولكن لم يقل لواحد من هؤلاء لا يجزي عن أحد بعدك فوقعت المشاركة لهم مع أبي بردة وعقبة في مطلق الإجزاء لا في خصوص منع الغير فلا منافاة بين ذلك كله وبين حديثي أبي بردة وعقبة لاحتمال أن يكون ذلك في ابتداء الأمر مجربا ثم تقرر الشرع بأن الجذع من المعز لا يجزىء واختص أبو بردة وعقبة بالرخصة في ذلك لكن يبقى التعارض بين حديثيهما فإن ساغ أحد الجمعين المتقدمين فلا تعارض وإن تعذر الجمع الأول بأن في كل منهما صيغة عموم والثاني وهو احتمال نسخ خصوصية الأول بالثاني بأن النسخ لا يثبت بالاحتمال رجعنا إلى الترجيح فحديث أبي بردة أصح كما مر
4 ادخار لحوم الضحايا ( مالك عن أبي الزبير ) محمد بن مسلم المكي ( عن جابر بن عبد الله ) الصحابي ابن الصحابي ( أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن أكل لحوم الضحايا بعد ثلاثة أيام ) من وقت التضحية واختلف في أنه كان نهي تحريم أو تنزيه وصححه المهلب لقول عائشة الضحية كنا نملح منها فتقدم إلى النبي صلى الله عليه وسلم بالمدينة فقال لا تأكلوا إلا ثلاثة أيام قالت وليست بعزيمة ولكن أراد أن يطعم منه والله أعلم رواه البخاري
( ثم قال بعد ) بالبناء على الضم أي بعد النهي ثاني عام النهي ( كلوا وتصدقوا ) أي يستحب الجمع بينهما ( وتزودوا وادخروا ) بدال مهملة مشددة والأمر فيهما للإباحة
وفي البخاري ومسلم عن سلمة بن الأكوع مرفوعا من ضحى منكم فلا يصبحن بعد ثلاثة وفي بيته منه شيء فلما كانوا العام المقبل قالوا يا رسول الله نفعل كما فعلنا العام الماضي قال كلوا وأطعموا وادخروا فإن ذلك العام كان بالناس جهد فأردت أن تعينوا فيها وهذا الحديث رواه مسلم عن يحيى عن مالك به
____________________
(3/98)
( مالك عن عبد الله بن أبي بكر ) بن محمد بن عمرو بن حزم الأنصاري المتوفى سنة خمس وثلاثين ومائة عن سبعين سنة ( عن عبد الله بن واقد ) بالقاف ابن عبد الله بن عمر العدوي المدني التابعي مات سنة تسع عشرة ومائة ( أنه قال نهى رسول الله صلى الله تعالى عليه وعلى آله وسلم عن أكل لحوم الضحايا بعد ثلاث ) من ذبحها ( قال عبد الله بن أبي بكر فذكرت ذلك لعمرة بنت عبد الرحمن ) الأنصارية ( فقالت صدق ) عبد الله بن واقد ( سمعت عائشة زوج النبي صلى الله تعالى عليه وعلى آله وسلم تقول دف ) بفتح الدال المهملة وشد الفاء أي أتى ( ناس من أهل البادية ) والدافة الجماعة القادمة قاله ابن حبيب وقال الخليل قوم يسيرون سيرا لينا ( حضرة الأضحى ) أي وقت الأضحى ( في زمان رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ادخروا ) بشد الدال المهملة ( لثلاث وتصدقوا بما بقي فلما كان بعد ذلك ) في العام المقبل وقد سألوه هل يفعلون كما فعلوا العام الماضي قال ابن المنير كأنهم فهموا أن النهي ذلك العام كان على سبب خاص وهو الدافة فإذا ورد العام على سبب خاص حاك في النفس من عمومه وخصوصه إشكال فلما كان مظنة الاختصاص عاودوا السؤال فبين لهم أنه خاص بذلك السبب ويشبه أن يستدل بهذا من يقول إن العام يضعف عمومه بالسبب فلا يبقى على أصالته ولا ينتهي به إلى التخصيص
ألا ترى أنهم لو اعتقدوا بقاء العموم على أصالته لما سألوا ولو اعتقدوا الخصوص أيضا لما سألوا فدل سؤالهم على أنه ذو شأنين وهذا اختيار الجويني
( قيل لرسول الله صلى الله عليه وسلم لقد كان الناس ينتفعون بضحاياهم ) في الادخار والتزود ( ويجملون ) بالجيم أي يذيبون ( منها الودك ) بفتحتين الشحم ( ويتخذون منها الأسقية ) جمع سقاء ( فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم وما ذلك ) الذي منعهم من الانتفاع ( أو كما قال ) شك الراوي ( قالوا نهيت عن لحوم الضحايا بعد ثلاث فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم إنما نهيتكم من أجل الدافة ) بالمهملة وبعد الألف فاء ثقيلة أصله لغة الجماعة التي تسير سيرا لينا ( التي دفت عليكم ) أي قدمت ( فكلوا وتصدقوا وادخروا ) بشد الدال وكسر الخاء المعجمة ( يعني بالدافة قوما مساكين قدموا المدينة ) فأراد أن يعينوهم ولذا قالت عائشة
____________________
(3/99)
وليست بعزيمة ولكن أراد أن يطعم منها والله أعلم أي بمراد نبيه
وهذا الحديث رواه مسلم من طريق روح بن عبادة وأبو داود عن القعنبي كلاهما عن مالك به
( مالك عن ربيعة ابن أبي عبد الرحمن ) المعروف بربيعة الرأي ( عن أبي سعيد ) بفتح السين وكسر العين سعد بن مالك بن سنان ( الخدري ) له ولأبيه صحبة قال ابن عبد البر لم يسمع ربيعة من أبي سعيد والحديث صحيح محفوظ رواه جماعة عن أبي سعيد منهم القاسم بن محمد ومعلوم ملازمة ربيعة للقاسم حتى كان يغلب على مجلسه وقد جاء من حديث علي وبريدة وجابر وأنس وغيرهم ( أنه قدم ) بكسر الدال ( من سفر فقدم ) بفتح الدال الثقيلة ( إليه أهله لحما ) أي وضعوه بين يديه ( فقال انظروا أن يكون هذا من لحوم الأضحى فقالوا هو منها فقال أبو سعيد ألم يكن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عنها فقالوا ) أي أهله أي زوجته ( إنه قد كان من رسول الله صلى الله عليه وسلم بعدك أمر ) ناقض للنهي عن أكل الأضاحي بعد ثلاث وفي رواية أحمد فقالت له امرأته إن رسول الله صلى الله عليه وسلم رخص فيه وفي رواية البخاري فقال أخروه لا أذوقه ( فخرج أبو سعيد ) من بيته ( فسأل عن ذلك ) وفي البخاري فخرجت من البيت حتى آتي أخي قتادة أي ابن النعمان وكان أخاه لأمه وكان بدريا فذكرت ذلك له فقال لي إنه قد حدث بعدك أمر ( فأخبر ) بالبناء للمجهول ( أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال نهيتكم عن لحوم الأضحى ) أي عن إمساكها وادخارها والأكل منها ( بعد ثلاث ) من الأيام ابتداؤها من يوم الذبح أو من يوم النحر وأمرتكم بالتصدق بما بقي بعد الثلاث زاد في رواية ابن ماجه عن بريدة ليوسع ذو الطول على من لا طول له ( فكلوا ) زاد بريدة ما بدا لكم أي مدة بدو الأكل لكم ( وتصدقوا وادخروا ) فإنه لم يبق تحريم ولا كراهة فيباح الآن الادخار فوق ثلاث والأكل متى شاء مطلقا
قال القرطبي هذا الحديث ونحوه من الأحاديث الدافعة للمنع لم تبلغ من استمر على النهي كعلي وعمر وابنه لأنها أخبار آحاد لا متواترة وما هو كذلك يصح أن يبلغ بعض الناس دون بعض
ونقل النووي عن الجمهور أن هذا من نسخ السنة بالسنة
وقال ابن العربي قد كان أكلها مباحا ثم حرم ثم أبيح ففيه رد على قول المعتزلة لا يكون النسخ إلا بالأخف لا الأثقل وأي هذين كان أخف أو أثقل فقد نسخ أحدهما بالآخر
( ونهيتكم عن الانتباذ ) في أواني كالمزفت والنقير ( فانتبذوا ) في أي وعاء كان ( وكل مسكر
____________________
(3/100)
حرام ) أي ما شأنه الإسكار من أي شراب كان ولا دخل للأواني
وفي مسلم عن بريدة نهيتكم عن الظروف وإن الظروف لا تحل شيئا ولا تحرمه وكل مسكر حرام وفيه عنه أيضا كنت نهيتكم عن الأشربة إلا في ظروف الأدم فاشربوا في كل وعاء غير أن لا تشربوا مسكرا وهذا نسخ صريح لحرمة نهيه عن الانتباذ في الدباء والمزفت ونحوهما في حديث وفد عبد القيس
واختلف هل بقيت الكراهة وعليه مالك ومن وافقه أو لا كراهة وعليه الجمهور
( ونهيتكم عن زيارة القبور ) لحدثان عهدكم بالكفر وكلامكم بالخناء وبما يكره فيها أما الآن حيث انمحت آثار الجاهلية واستحكم الإسلام وصرتم أهل يقين وتقوى ( فزوروها ) زاد في حديث ابن مسعود عند ابن ماجه بإسناد صحيح فإنها تزهد في الدنيا وتذكر الآخرة قال البيضاوي الفاء متعلق بمحذوف أي نهيتكم عن زيارتها مباهاة بالتكاثر فعل الجاهلية أما الآن فقد جاء الإسلام وهدمت قواعد الشرك فزوروها فإنها تورث رقة القلب وتذكر الموت والبلا ( ولا تقولوا هجرا ) بضم الهاء وإسكان الجيم ( يعني لا تقولوا سوءا ) أي قبيحا وفحشا والخطاب للرجال فلم يدخل فيه النساء فلا يندب لهن على المختار لكن يجوز بشروط
وقال ابن عبد البر قيل كان النهي عاما للرجال والنساء ثم نسخ بالإباحة العامة أيضا لهما فقد زارت عائشة قبر أخيها عبد الرحمن وكانت فاطمة تزور قبر حمزة وقيل إنما نسخ للرجال دون النساء لأنه صلى الله عليه وسلم لعن زوارات القبور فالحرمة مقيدة بذلك دون الإباحة لجواز تخصيصها بالرجال دونهن بدليل اللعن
5 الشركة في الضحايا وعن كم تذبح البقرة والبدنة ( مالك عن أبي الزبير ) محمد بن مسلم المكي ( عن جابر بن عبد الله ) رضي الله عنهما ( أنه قال نحرنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم عام الحديبية ) بضم الحاء المهملة وتخفيف الياء على الأشهر الأكثر حتى قال ثعلب لا يجوز فيها غيره
وقال النحاس لم يختلف من أثق بعلمه في أنها مخففة وبتشديدها عند كثير من المحدثين واللغويين وأنكر كثير من أهل اللغة التخفيف واد بينه وبين مكة عشرة أميال أو خمسة عشر ميلا على طريق جدة ولذا قيل إنها على مرحلة من مكة أو أقل من مرحلة ( البدنة عن سبعة والبقرة عن سبعة ) على معنى أنهم أشركوهم في الأجر كما يأتي ووجهه أن المحصر بعدو لا يجب عليه هدي عند مالك خلافا لأشهب وأبي حنيفة والشافعي فكأن الهدي الذي نحروه تطوعا فلم ير الاشتراك في الهدي الواجب ولا في الضحية واختلف قول مالك في هدي التطوع فقال في
____________________
(3/101)
الموازية والواضحة يجوز الاشتراك وحمل عليه حديث الباب وإليه أشار في الموطأ بقوله الآتي وإنما سمعنا الحديث الخ
وروى ابن القاسم عنه لا يشترك في هدي واجب ولا تطوع وهو المشهور وقد ضعف قول أشهب ومن وافقه بوجوب الهدي على المحصر بعدو لقوله تعالى { ولا تحلقوا رؤوسكم حتى يبلغ الهدي محله } البقرة 96 أي مكة أو منى والمحصر بعدو يحلق في أي محل أحصر كما حلق صلى الله عليه وسلم بالحديبية والحديث رواه مسلم عن قتيبة ويحيى وأبو داود عن القعنبي والترمذي عن قتيبة الثلاثة عن مالك به
( مالك عن عمارة ) بضم العين ( ابن ) عبد الله بن ( يسار ) فنسب لجده لشهرته به أبي الوليد المدني ثقة فاضل مات بعد الثلاثين ومائة وأبوه هو الذي كان يقال إنه الدجال ( أن عطاء بن يسار ) بتحتية وخفة المهملة ( أخبره أن أبا أيوب ) خالد بن زيد الأنصاري ( قال كنا نضحي بالشاة ) الواحدة من الغنم ( يذبحها الرجل عنه وعن أهل بيته ثم تباهى ) تغالب وتفاخر ( الناس بعد ) بضم الدال ( فصارت ) الضحية ( مباهاة ) مغالبة ومفاخرة فبعدت عن السنة فإنما عاب ذلك للمباهاة ولم يمنع أن يفعله على وجه القربة إلى الله تعالى وهو الذي استحبه ابن عمر أن يضحى عن كل من في البيت بشاة شاة
( قال مالك وأحسن ما سمعت في البدنة والبقرة والشاة أن الرجل ينحر عنه وعن أهل بيته البدنة ) في الضحايا ( ويذبح البقرة والشاة الواحدة هو يملكها ويذبحها عنهم ويشركهم فيها ) في الأجر ولو أكثر من سبعة كما زاده الإمام في المدونة ( فأما أن يشتري النفر ) بفتح النون والفاء الجماعة من الرجال من ثلاثة إلى عشرة وقيل إلى تسعة ولا يقال نفر فيما زاد على عشرة ( البدنة أو البقرة أو الشاة يشتركون فيها في النسك ) الهدايا ( والضحايا فيخرج كل إنسان منهم حصة من ثمنها ويكون له حصة من لحمها فإن ذلك يكره ) كراهة منع بمعنى أن ذلك لا يجزي ضحية عن واحد منهم ( وإنما سمعنا الحديث ) المذكور عن جابر على أن معناه ( أنه لا يشترك في النسك ) ملكا ( وإنما يكون عن أهل البيت ) الواحد يذكيه صاحبه ويشرك أهله في أجره
____________________
(3/102)
( مالك عن ابن شهاب أنه قال ما نحر رسول الله صلى الله عليه وسلم عنه وعن أهل بيته إلا بدنة احدة أو بقرة واحدة قال مالك لا أدري أيتهما قال ابن شهاب ) قال أبو عمر كذا لجميع أصحاب مالك عنه في الموطأ وغيره إلا جويرية فرواه عن مالك عن الزهري قال أخبرني من لا اتهم عن عائشة فذكره على الشك ورواه معمر ويونس والزبيدي عن الزهري عن عمرة عن عائشة قالت ما ذبح رسول الله صلى الله عليه وسلم عن آل محمد في حجة الوداع إلا بقرة ورواه ابن أخي الزهري عن عمه قال حدثني من لا أتهم عن عمرة عن عائشة فذكره
6 الضحية عما في بطن المرأة وذكر أيام الأضحى ( مالك عن نافع أن عبد الله بن عمر قال الأضحى يومان بعد يوم الأضحى ) وإلى هذا ذهب مالك وأبو حنيفة وأحمد وأكثر العلماء
وقال الشافعي وجماعة الأضحى يوم النحر وثلاثة أيام بعده لحديث ابن حبان في كل أيام التشريق ذبح ولا حجة فيه لأنها الثلاثة التي أولها العيد أو التي بعده خلاف فلا يصح الاحتجاج بمحل النزاع ويؤيد الأول ما رواه أبو عبيد برجال ثقات عن الشعبي مرسلا مرفوعا من ذبح قبل التشريق فليعد أي قبل صلاة العيد
( مالك أنه بلغه عن علي ابن أبي طالب مثل ذلك ) الذي قاله ابن عمر أخرجه ابن عبد البر من طريق زر عن علي قال الأيام المعدودات يوم النحر ويومان بعده اذبح في أيها شئت وأفضلها أولها وقال الطحاوي مثل هذا لا يكون رأيا فدل أنه توقيف انتهى
وذهب ابن سيرين وحميد بن عبد الرحمن وداود الظاهري إلى اختصاص الضحية بيوم النحر لقوله صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع أي يوم هذا قلنا الله ورسوله أعلم فسكت حتى ظننا أنه سيسميه بغير اسمه فقال أليس يوم النحر قلنا بلى أو وجهه أنه أضاف هذا اليوم إلى جنس النحر لأن اللام هنا جنسية فتعم فلا يبقى نحرا إلا في ذلك اليوم لكن قال القرطبي التمسك بإضافة النحر إلى اليوم الأول ضعيف مع قوله تعالى { ويذكروا اسم الله في أيام معلومات على ما رزقهم من بهيمة الأنعام } الحج 28 انتهى
وقد أجاب الجمهور بأن المراد النحر الكامل المفضل والألف واللام كثيرا ما تستعمل للكمال نحو { ولكن البر } البقرة 189 وإنما الشديد
____________________
(3/103)
الذي يملك نفسه ولذا كان اليوم الأول أفضل
( مالك عن نافع أن عبد الله بن عمر لم يكن يضحي عما في بطن المرأة ) لأنه ليس بمشروع عند الجمهور وخلافه شاذ قاله أبو عمر
( قال مالك الضحية سنة ) مؤكدة على كل مقيم ومسافر إلا الحاج ( وليست بواجبة ) أي فرض زيادة في البيان لدفع توهم أن مراده شرعت بالسنة فلا ينافي للوجوب فبين المراد والحجة للسنية ما رواه مسلم من طريق شعبة عن مالك عن عمرو بن مسلم عن سعيد بن المسيب عن أم سلمة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال إذا رأيتم هلال ذي الحجة وأراد أحدكم أن يضحي فليمسك عن شعره وأظفاره ولمسلم وغيره من وجه آخر عن أم سلمة مرفوعا إذا دخل العشر أي عشر ذي الحجة فأراد أحدكم أن يضحي فلا يمس من شعره ولا بشره شيئا ففي قوله أراد دليل على أنها غير واجبة وصرح بالسنية في حديث الطبراني عن ابن عباس مرفوعا الأضحى علي فريضة وعليكم سنة قال الحافظ رجاله ثقات لكن في رفعه خلف فصرح في هذا الحديث بأنها سنة وأن الوجوب من خصائصه
وروى أحمد وأبو يعلى والطبراني والدارقطني والحاكم عن ابن عباس رفعه كتب علي النحر ولم يكتب عليكم وهو أيضا نص في أنه من خصائصه لكن إسناده ضعيف وتساهل الحاكم فصححه وأقرب ما يتمسك به للوجوب الذي ذهب إليه الحنفية حديث أبي هريرة رفعه من وجد سعة فلم يضح فلا يقربن مصلانا أخرجه ابن ماجه ورجاله ثقات لكن اختلف في رفعه ووقفه والوقف أشبه بالصواب قاله الطحاوي وغيره ومع ذلك فليس صريحا في الإيجاب وحديث على أهل كل بيت أضحية وعتيرة أخرجه أحمد والأربعة بسند قوي ولا حجة فيه لأن الصيغة ليست صريحة في الوجوب المطلق فقد ذكر معها العتيرة وليست واجبة عند من قال بوجوب الضحية ويحتمل أن معناه إن شاؤوا فهو كقوله فأراد جمعا بينهما
( ولا أحب لأحد ممن قوي ) أي قدر ( على ثمنها أن يتركها ) لئلا يفوت نفسه الفضل العظيم
روى سعيد بن داود عن مالك عن ثور عن عكرمة عن ابن عباس مرفوعا ما من صدقة بعد صلة الرحم أعظم عند الله من إهراق الدم أخرجه ابن عبد البر وقال هو غريب من حديث مالك
وأخرج عن عائشة قالت يا أيها الناس ضحوا وطيبوا بها نفسا فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول ما من عبد توجه بأضحيته إلى القبلة إلا كان دمها وفرثها وصوفها حسنات محضرات في ميزانه يوم القيامة
____________________
(3/104)
وقال صلى الله عليه وسلم اعملوا قليلا تجزوا كثيرا قال أبو عمر هي أفضل من الصدقة لأنها سنة مؤكدة كصلاة العيد ومعلوم أن السنن أفضل من التطوع وبهذا قال مالك وأصحابه وأحمد وجماعة وعن مالك أيضا والشعبي وغيرهما الصدقة أفضل والصحيح عن مالك وأصحابه تفضيل الضحية إلا بمنى فالصدقة بثمنها أفضل لأنه ليس موضع ضحية
____________________
(3/105)
1
8 كتاب الذبائح
1 ما جاء في التسمية على الذبيحة جمع ذبيحة بمعنى مذبوحة وهي واجبة على الذاكر القادر لا الناسي والمكره والأخرس
قال تعالى { ولا تأكلوا مما لم يذكر اسم الله عليه وإنه لفسق } الأنعام 121 والناسي لا يسمى فاسقا كما هو ظاهر من الآية لأن ذكر الفسق عقبه إن كان عن فعل المكلف وهو إهمال التسمية فلا يدخل الناسي لأنه غير مكلف فلا يكون فعله فسقا وإن كان عن نفس الذبيحة التي لم يسم عليها وليست مصدرا فهو منقول من المصدر والذبيحة المتروكة لتسمية عليها نسيانا لا يصح تسميتها فسقا إذ الفعل الذي نقل منه هذا الاسم ليس بفسق فإما أن تقول دلت الآية على تحريم العمد لا المنسى فبقي على أصل الإباحة أو نقول فيها دليل من حيث مفهوم تخصيص النهي بما هو فسق فما ليس بفسق ليس بحرام قاله ابن المنير في الانتصاف وقال غيره ظاهر الآية تحريم متروك التسمية وخصت حالة النسيان بالحديث أو يجعل الناسي ذاكرا تقديرا ومن أول الآية بالميتة أو مما ذكر غير اسم الله عليه فقد عدل عن ظاهر اللفظ
( مالك عن هشام ) وفي نسخة حدثني هشام ( ابن عروة عن أبيه أنه قال سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم ) لم يختلف على مالك في إرساله وتابعه الحمادان وابن عيينة ويحيى القطان عن هشام ووصله البخاري هنا من طريق أسامة بن حفص المدني وفي التوحيد من طريق أبي خالد سليمان الأحمر وفي البيوع من طريق الطفاوي بضم المهملة بعدها فاء محمد بن عبد الرحمن والإسماعيلي من طريق عبد العزيز
____________________
(3/106)
الدراوردي وابن أبي شيبة عن عبد الرحيم بن سليمان والبزار من طريق أبي أسامة الستة عن هشام عن أبيه عن عائشة قال الدارقطني وإرساله أشبه بالصواب يعني لأن رواته أحفظ وأضبط وأجيب بأن الحكم للواصل إذا زاد عدد من وصل على من أرسل واحتف بقرينة تقوي الوصل كما هنا إذ عروة معروف بالرواية عن عائشة ففيه إشعار بحفظ من وصله عن هشام دون من أرسله والأولى أن هشاما حدث به على الوجهين مرسلا وموصولا ( فقيل له يا رسول الله إن ناسا من أهل البادية يأتونا بلحمان ) بضم اللام جمع لحم ويجمع أيضا على لحوم ولحام بكسر اللام ( ولا ندري هل سموا الله عليها أم لا ) زاد في رواية البخاري قالت عائشة وكانوا أي السائلون حديث عهد بالكفر ( فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم سموا الله عليها ثم كلوها ) ليس المراد أن تسميتهم على الأكل قائمة مقام التسمية الفائتة على الذبح بل طلب الإتيان بالتسمية على الأكل قال الطيبي هذا من أسلوب الحكيم كأنه قيل لهم لا تهتموا بذلك ولا تسألوا عنها والذي يهمكم الآن أن تذكروا اسم الله عليه قال ابن عبد البر فيه أن ما ذبحه المسلم ولم يعلم هل سمى عليه أم لا يجوز أكله حملا على أنه سمى إذ لا يظن بالمؤمن إلا الخير وذبيحته وصيده أبدا محمول على السلامة حتى يصح فيه ترك التسمية عمدا
( قال مالك وذلك في أول الإسلام ) قبل نزول قوله تعالى { ولا تأكلوا مما لم يذكر اسم الله عليه } الأنعام 121 قال ابن عبد البر هذا قول ضعيف لا دليل عليه ولا يعرف وجهه والحديث نفسه يرده لأنه أمرهم فيه بالتسمية على الأكل فدل على أن الآية كانت نزلت واتفقوا على أنها مكية وأن هذا الحديث بالمدينة وأن المراد أهل باديتها وأجمعوا على أن التسمية على الأكل إنما هي للتبرك لا مدخل فيها للذكاة بوجه لأنها لا تدرك الميت انتهى
( مالك عن يحيى بن سعيد أن عبد الله بن عياش ) بالتحتية والشين المعجمة ( ابن أبي ربيعة ) عمرو بن المغيرة بن عبد الله بن عمر ( المخزومي ) القرشي له صحبة وأبوه قديم الإسلام وهاجر الهجرتين ( أمر غلاما له أن يذبح ذبيحة فلما أراد أن يذبحها قال له سم الله فقال ) له ( الغلام قد سميت فقال له سم الله ويحك قال ) ( قد سميت الله ) ولم يسمعه ( فقال له عبد الله بن عياش والله لا أطعمها
____________________
(3/107)
أبدا ) لأنه لم يسمعه يسمي ولم يصدق إخباره لأنه كان بموضع لا تخفى عليه التسمية لقربه منه وعلم عناده بقوله سميت ولا يسمي فاعتقد أنه تركها عمدا إذ لو قال بسم الله بدل سميت لاكتفى بذلك
2 ما يجوز من الذكاة على حال الضرورة ( مالك عن زيد بن أسلم عن عطاء بن يسار ) قال أبو عمر مرسل عند جميع الرواة ووصله أبو العباس محمد بن إسحاق السراج من طريق أيوب والبزار من طريق جرير بن حازم كلاهما عن زيد عن عطاء عن أبي سعيد الخدري ( أن رجلا من الأنصار من بني حارثة ) بطن من الأوس ( كان يرعى لقحة ) بكسر اللام وفتحها ناقة ذات لبن ( له بأحد ) بضم الهمزة والحاء الجبل المعروف بالمدينة ( فأصابها الموت ) أي أسبابه ( فذكاها بشظاظ ) بكسر الشين المعجمة وإعجام الظاءين عود محدد الطرف وفي رواية أيوب فنحرها بوتد فقلت لزيد وتد من حديد أو من خشب قال بل من خشب
وفي رواية يعقوب بن جعفر عن زيد عن عطاء فأخذها الموت فلم يجد شيئا ينحرها به فأخذ وتدا فوجأها به حتى اهراق دمها فعلى هذا فالشظاظ الوتد
وقال ابن حبيب الشظاظ العود الذي يجمع به بين عروتي الغرارتين على ظهر الدابة قاله في التمهيد
( فسئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك فقال ليس بها بأس فكلوها ) أمر إباحة
وفي رواية أيوب فأتى النبي صلى الله عليه وسلم فسأله فأمره بأكلها
( مالك عن نافع عن رجل من الأنصار ) يحتمل أنه ابن كعب بن مالك كما في رواية البخاري عن عبيد الله عن نافع عن ابن لكعب بن مالك عن أبيه والابن عبد الرحمن كما رجحه الحافظ وقيل عبد الله وبه جزم المزي في الأطراف ( عن معاذ بن سعد أو سعد بن معاذ ) كذا وقع على الشك وذكره ابن منده وأبو نعيم وابن فتحون في الصحابة قاله في الإصابة ( أن جارية ) لم تسم ( لكعب بن مالك ) الأنصاري الصحابي الشهير ( كانت ترعى غنما له بسلع ) بفتح المهملة وسكون اللام وعين مهملة جبل بالمدينة ( فأصيبت شاة منها فأدركتها ) قبل الموت ( فذكتها ) وفي رواية فذبحتها ( بحجر ) وفي رواية للبخاري فكسرت حجرا فذبحتها به ( فسئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك ) وفي رواية للبخاري فقال كعب لأهله لا تأكلوا حتى آتي النبي صلى الله عليه وسلم فأسأله أو حتى أرسل إليه من يسأله فأتاه أو بعث إليه ( فقال لا بأس بها فكلوها ) أمر إباحة وفيه التذكية بالحجر وجواز ما ذبحته المرأة حرة أو أمة كبيرة أو صغيرة
____________________
(3/108)
طاهرة أو غير طاهرة لأنه صلى الله عليه وسلم أباح ما ذبحته ولم يستفصل وهذا قول الجمهور ومالك في المدونة والشافعي ونقل ابن عبد الحكم عن مالك الكراهة وأخرجه البخاري عن إسماعيل عن مالك به وتابعه عبيد الله وجويرية بن أسماء عند البخاري والليث بن سعد عند الإسماعيلي وعلقه البخاري الثلاثة عن نافع نحوه
( مالك عن ثور ) بفتح المثلثة ( ابن زيد الديلي ) بكسر الدال وإسكان التحتية ( عن عبد ا ابن عباس ) قال أبو عمر ويرويه ثور عن عكرمة عن ابن عباس كما رواه الدراوردي وغيره وهو محفوظ من وجوه عن ابن عباس ( أنه سئل عن ذبائح نصارى العرب فقال لا بأس بها ) لقوله تعالى { وطعام الذين أوتوا الكتاب حل لكم } المائدة 5 وهم اليهود والنصارى ومن دخل في دينهم
قال ابن عباس طعامهم ذبائحهم رواه البيهقي وعلقه البخاري لأن سائر الأطعمة لا يختص حلها بالملة ( وتلا هذه الآية { ومن يتولهم } يواددهم ويواليهم { منكم فإنه منهم } المائدة 51 ) من جملتهم ولعل مراده بتلاوتها أنه وإن جاز أكل ذبائحهم لكن لا ينبغي للمسلم أن يتخذهم ذباحين لأن في ذلك موالاة لهم
( مالك أنه بلغه أن عبد الله بن عباس كان يقول ما فرى ) قطع ( الأوداج فكلوه ) لحديث الصحيح عن رافع بن خديج أنه قال يا رسول الله ليس لنا مدى فقال ما أنهر الدم وذكر اسم الله عليه فكلوا ليس السن والظفر أما الظفر فمدى الحبشة وأما السن فعظم
( مالك عن يحيى بن سعيد عن سعيد بن المسيب أنه كان يقول ما ذبح به إذا بضع ) بفتحتين قطع الحلقوم والودجين ( لا بأس به إذا اضطررت إليه ) وإلا فالمستحب الحديد المشحوذ لحديث وليحد أحدكم شفرته
____________________
(3/109)
3 ما يكره من الذبيحة في الذكاة ( مالك عن يحيى بن سعيد عن أبي مرة ) بضم الميم وشد الراء اسمه يزيد بتحتية قبل الزاي ويقال عبد الرحمن ( مولى عقيل ) بفتح العين ( ابن أبي طالب ) ويقال مولى أخته أم هانىء ( أنه سأل أبا هريرة عن شاة ذبحت ) وفي رواية عند أبي عمر عن يوسف بن سعد عن أبي مرة قال كانت عناق كريمة فكرهت أن أذبحها فلم ألبث أن تردت فذبحتها فركضت برجلها ( فتحرك بعضها ) أي رجلها ( فأمره أن يأكلها ) أي إباحة لأنها مذكاة ( ثم سأل عن ذلك زيد بن ثابت وقال إن الميتة لتتحرك ) فلا يفيد ذبحها ( ونهاه عن ذلك ) أي أكلها قال أبو عمر لا أعلم أحدا من الصحابة وافق زيدا على ذلك وقد خالفه أبو هريرة وابن عباس وعليه الأكثر
( وسئل مالك عن شاة تردت ) سقطت من علو ( فتكسرت ) وفي نسخة فكسرت بلا تاء قبل الكاف ( فأدركها صاحبها ) فذبحها ( فسال الدم منها ولم تتحرك ) هل تؤكل أم لا ( فقال مالك إن كان ذبحها ونفسها ) أي دمها ( يجري ) أي يسيل سمي الدم نفسا لأن النفس التي هي اسم لجملة الحيوان قوامها بالدم ( وهي تطرف ) تحرك بصرها يقال طرف البصر كضرب تحرك وطرف العين نظرها ( فليأكلها ) لدلالة ذلك على الحياة فعمل فيها الذبح
4 ذكاة ما في بطن الذبيحة ( مالك عن نافع عن عبد الله بن عمر أنه كان يقول إذا نحرت الناقة فذكاة ما في بطنها ) أي جنينها كائنة ( في ذكاتها ) لأنه جزء منها فذكاتها ذكاة لجميع أجزائها ( إذا كان قد تم خلقه ونبت شعره ) المدرك بالحاسة ( فإذا خرج من بطن أمه ذبح ) ندبا كما يفيده السياق ( حتى يخرج الدم من جوفه ) فذبحه إنما
____________________
(3/110)
هو لإنقائه من الدم لا لتوقف الحل عليه وهذا جاء بمعناه مرفوعا روى أبو داود والحاكم عن ابن عمر مرفوعا ذكاة الجنين إذا أشعر ذكاة أمه ولكنه يذبح حتى ينصاب ما فيه من الدم ويعارضه حديث ابن عمر رفعه ذكاة الجنين ذكاة أمه أشعر أو لم يشعر لكن فيه مبارك بن مجاهد ضعيف ولتعارض الحديثين لم يأخذ بهما الشافعية فقالوا ذكاة أمه مغنية عن ذكاته مطلقا ولا الحنفية فقالوا لا مطلقا ومالك ألغى الثاني لضعفه وأخذ بالأول لاعتضاده بالموقوف الذي رواه فقيد به قوله صلى الله عليه وسلم ذكاة الجنين ذكاة أمه رواه أبو داود وصححه الحاكم عن جابر وأحمد وأبو داود والترمذي وحسنه وصححه الحاكم وابن حبان عن أبي سعيد وجاء من رواية جمع من الصحابة وهو برفع ذكاة في الموضعين مبتدأ وخبر أي ذكاة أمه ذكاة له وروي بالنصب على الظرفية كجئت طلوع الشمس أي وقت طلوعها أي ذكاته حاصلة وقت ذكاة أمه قال الخطابي وغيره ورواية الرفع هي المحفوظة والمراد الجنين الذي خرج ميتا فيؤكل بذكاة أمه لأنه جزء منها عند مالك والشافعي وغيرهما لما جاء في بعض طرق الحديث من قول السائل يا رسول الله إنا ننحر الإبل ونذبح البقر والشاة فنجد في بطنها الجنين فنلقيه أو نأكله فقال كلوه إن شئتم فإن ذكاته ذكاة أمه فسؤاله إنما هو عن الميت لأنه محل الشك بخلاف الحي الممكن ذبحه فيذكى لاستقلاله بحكم نفسه فيكون الجواب عن الميت ليطابق السؤال ومن بعيد التأويل قول أبي حنيفة المعنى على التشبيه أي مثل ذكاتها أو كذكاتها فيكون المراد الحي لحرمة الميت عنده ووجه بعده ما فيه من التقدير لمستغنى عنه ومن ثم وافق صاحباه مالكا ومن وافقه لأن التقدير أن يذكى ذكاة مثل ذكاة أمه ففيه حذف الموصول وبعض الصلة وهو إن والفعل بعدها وهو لا يجوز وفيه تكثير الإضمار وهو خلاف الأصل فرواية النصب إما على الظرفية كما مر أو على التوسع نحو { واختار موسى قومه } الأعراف 1 أي ذكاته في ذكاة أمه وكل منهما أولى لقلة الإضمار واتفاقه مع رواية الرفع وإلا نقض كل واحد منهما الآخر
( مالك عن يزيد ) بتحتية قبل الزاي ( ابن عبد الله بن قسيط ) بقاف ومهملتين مصغر ابن أسامة ( الليثي ) المدني الأعرج المتوفى سنة اثنين وعشرين ومائة وله تسعون سنة ( عن سعيد بن المسيب أنه كان يقول ذكاة ما في بطن الذبيحة ) إبلا أو بقرا أو غنما ( في ذكاة أمه إذا كان تم خلقه ) الذي خلقه الله عليه ولو ناقص يد أو رجل قاله الباجي ( ونبت شعره ) أي شعر جسده لا شعر عينيه وحاجبيه وإلا لم يؤكل
5212121 2 1
____________________
(3/111)
9 كتاب الصيد أصل الصيد مصدر ثم أطلق على الصيد كقوله تعالى { أحل لكم صيد البحر } سورة المائدة الآية 96 { لا تقتلوا الصيد وأنتم حرم } سورة المائدة الآية 95 والمراد في هذه الترجمة أحكام الصيد الذي هو المصدر
1 ترك أكل ما قتل المعراض والحجر بكسر الميم وسكون العين المهملة فراء فألف فضاد معجمة قال النووي خشبة ثقيلة أو عصا في طرفها حديد وقد يكون بغير حديدة هذا هو الصحيح في تفسيره
وفي القاموس المعراض سهم بلا ريش دقيق الطرفين غليظ الوسط يصيب بعرضه دون حده
وقال ابن دقيق العيد عصا رأسها محدد
وقال ابن سيده كابن دريد سهم طويل له أربع قذذ رقاق فإذا رمى به اعترض
( مالك عن نافع أنه قال رميت طائرين بحجر وأنا بالجرف ) بضم الجيم والراء وبسكون الراء وبالفاء موضع بالمدينة ( فأصبتهما فأما أحدهما فمات فطرحه عبد الله بن عمر وأما الآخر فذهب عبد الله بن عمر يذكيه بقدوم ) بالتخفيف بزنة رسول آلة النجار مؤنثة قال ابن السكيت لا تشدد وأنشد الأزهري فقلت أعيراني القدوم لعلني
وجعل ابن الأنباري التشديد من خطأ العامة لكن قال الزمخشري وتبعه المطرزي القدوم
____________________
(3/112)
المنحات خفيفة والتشديد لغة ( فمات قبل أن يذكيه فطرحه عبد الله أيضا ) لأنه من الموقوذة المنفوذة المقاتل
( مالك أنه بلغه ) وأخرجه ابن أبي شيبة من طريق عبيد الله بن عمر ( أن القاسم بن محمد كان يكره ما قتل المعراض والبندقة ) المتخذة من طين وتيبس ويرمي بها
وفي البخاري قال ابن عمر في المقتولة بالبندقة تلك الموقوذة
وفي الصحيحين عن عدي بن حاتم سألت النبي صلى الله عليه وسلم عن صيد المعراض فقال ما أصاب بحده فكله وما أصاب بعرضه فهو وقيذ
( مالك أنه بلغه أن سعيد بن المسيب كان يكره أن يقتل الإنسية ) إذا توحشت كبعير شرد وبقرة ( بما يقتل به الصيد من الرمي وأشباهه ) أي لا يؤكل بالعقر وبه قال مالك وربيعة والليث عملا بأصله
وقال الثوري وأبو حنيفة والشافعي إذا عجز عن البعير الشارد صاد كالصيد لحديث رافع بن خديج قال ند لنا بعير فرماه رجل بسهم فحبسه فقال صلى الله عليه وسلم إن لهذه البهائم أوابد كأوابد الوحش فما غلبكم منها فاصنعوا به هكذا وكلوا قال مالك ( ولا أرى بأسا بما أصاب المعراض إذا خسق ) بفتح المعجمة والمهملة وبالقاف أي ثبت
قال ابن فارس خسق السهم الهدف إذا ثبت فيه وتعلق ( وبلغ المقاتل أن يؤكل ) لإباحته صلى الله عليه وسلم ما أصاب بحده لبلوغه المقاتل واستدل لذلك بقوله ( قال الله تبارك وتعالى يا أيها الذين آمنوا ليبلونكم الله ) أي يختبر وهو منه تعالى لإظهار ما علمه من العبد على ما علم لا ليعلم ما لا يعلم وقلل في قوله ( بشيء من الصيد ) ليعلم بأنه ليس من الفتن العظام ( تناله ) أي الصغار منه ( أيديكم ورماحكم ) الكبار منه وكان ذلك بالحديبية وهم محرمون فكانت الوحش والطير تغشاهم وهم في رحالهم
( قال ) مالك ( فكل شيء ناله الإنسان بيده أو رمحه أو بشيء من سلاحه فأنفذه وبلغ مقاتله ) تفسير لأنفذه ( فهو صيد كما قال الله ) بشيء من الصيد
____________________
(3/113)
( مالك أنه سمع أهل العلم يقولون إذا أصاب الرجل الصيد فأعانه عليه غيره من ماء أو كلب غير معلم ) لأن كونه معلما شرط لقوله تعالى { وما علمتم من الجوارح مكلبين } سورة المائدة الآية 4 لم يؤكل ذلك الصيد إلا أن يكون سهم الرامي قد قتله أو بلغ السهم ( مقاتل الصيد حتى لا يشك أحد في أنه قتله وأنه لا يكون للصيد حياة بعده ) فيؤكل لتحقق الإباحة ( وسمعت مالكا يقول لا بأس بأكل الصيد وإن غاب عنك مصرعه ) بنحو غار أو غيضة فلم تره ( إذا وجدت به أثرا من كلبك ) الذي أرسلته عليه ( أو كان به سهمك ما لم يبت فإذا بات فإنه يكره أكله ) كراهة تحريم على المشهور
زاد في المدونة مبالغا وإن أنفذت مقاتله الجوارح أو سهمه وهو فيه بعينه قال مالك وتلك السنة
وروى أبو داود في مراسيله جاء رجل يصيد إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال إني رميت من الليل فأعياني ووجدت سهمي فيه من الغد وعرفت سهمي فقال الليل خلق من خلق الله عظيم لعله أعانك عليه شيء انبذها عنك وورد قريب منه في بعض طرق حديث عدي بن حاتم
2 ما جاء في صيد المعلمات ( مالك عن نافع عن عبد الله بن عمر أنه كان يقول في الكلب المعلم ) وهو الذي إذا زجر انزجر وإذا أرسل أطاع والتعليم شرط لقوله تعالى { وما علمتم من الجوارح مكلبين } سورة المائدة الآية 4 قال ابن حبيب والتكليب التعليم وقيل التسليط ( كل ما أمسك إن قتل وإن لم يقتل ) لقوله صلى الله عليه وسلم لعدي ابن حاتم إذا أرسلت كلبك المعلم وسميت فكل فعمومه يشمل ما إذا لم يقتل لكنه يذكى وفيه مشروعية التسمية وهي محل وفاق وإنما اختلف هل هي شرط في حل الأكل فذهب الشافعي في جماعة وروي عن مالك أنها ليست شرطا فلا يقدح تركها وذهب أحمد إلى الوجوب لجعلها شرطا في حديث عدي وذهب أبو حنيفة ومالك والجمهور إلى أنها شرطا على الذاكر القادر فيجوز متروكها سهوا وعجزا ويدل له أن المعلق بالوصف ينتفي عند انتفائه عند من يقول بالمفهوم والشرط أقوى من
____________________
(3/114)
الوصف ويؤيد القول بالوجوب بشرطه أن الأصل تحريم الميتة وما أذن فيه منها يراعى صفته فالمسمى عليها وافق الوصف وغير المسمى باق على أصل التحريم وفي قوله إذا أرسلت اشتراط الإرسال للحل
( مالك أنه سمع نافعا يقول قال عبد الله بن عمر ) كل ما أمسك عليك ( وإن أكل وإن لم يأكل ) لما رواه أبو داود عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن أعرابيا يقال له أبو ثعلبة قال يا رسول الله إن لي كلابا مكلبة فأفتني في صيدها قال كل مما أمسكن عليك قال إن أكل منه قال وإن أكل منه ولا يعارضه حديث عدي في الصحيحين قلت فإن أكل قال فلا تأكل فإنه لم يمسك عليك إنما أمسك على نفسه لحمل النهي على الكراهة جمعا بين الحديثين
وقواه ابن المواز بأن حديث الأكل صحبه العمل وقال به من الصحابة علي وابن عمر وسعد بن أبي وقاص وغيرهم وما صحبه العمل أولى
وقال الباجي حمل شيوخنا حديث عدي على ما إذا أدركه الكلب ميتا من الجري أو الصدم فأكل منه فإنه صار إلى صفة لا تعلق للإمساك بها ويبين هذا التأويل قوله صلى الله عليه وسلم لعدي ما أمسك عليك فكل فإن أخذ الكلب ذكاة انتهى وأخذ بسكون الخاء مصدر مضاف لفاعله والمفعول محذوف أي الصيد وذكاة خبر إن
( مالك أنه بلغه عن سعد بن أبي وقاص ) مالك الزهري ( أنه سئل عن الكلب المعلم إذا قتل الصيد فقال كل وإن لم تبق ) بفوقية فموحدة ( إلا بضعة ) بفتح الموحدة وتكسر وتضم وضاد معجمة قطعة ( واحدة ) وبهذا قال مالك في المشهور عنه والشافعي في القديم وغيرهما وهو ظاهر قوله تعالى { فكلوا مما أمسكن عليكم } سورة المائدة الآية 4 فإن الباقي بعد أكله قد أمسكه علينا فحل على ظاهر الآية وهو نص حديث ابن عمرو وعن مالك والشافعي في الجديد لا يؤكل لنص حديث عدي لكن قد أمكن الجمع بينهما فوجب المصير إليه كما رأيت
( مالك أنه سمع بعض أهل العلم يقول في البازي ) بزنة القاضي فيعرب إعراب المنقوص والجمع بزاة كقضاة وفي لغة باز بزنة باب فيعرب بالحركات الثلاث ويجمع على أبواز كأبواب وبيزان كبيبان ( والعقاب ) من الجوارح أنثى ويسافده طائر من غير جنسه وقيل الثعلب قال يهجو ما أنت إلا كالعقاب فأمه معروفة وله أب مجهول ( والصقر ) من الجوارح يسمى القطامي بضم القاف وفتحها وبه سمي الشاعر والأنثى صقرة بالهاء قاله ابن الأنباري
( وما أشبه ذلك ) من كل ما يقبل التعليم ( أنه إذا كان يفقه ) يفهم ( كما تفقه الكلاب المعلمة فلا بأس بأكل ما قتلت مما صادت إذا ذكر اسم الله على إرسالها ) لقوله تعالى { وما علمتم من الجوارح مكلبين تعلمونهن مما علمكم الله فكلوا مما أمسكن عليكم واذكروا اسم الله عليه } سورة المائدة الآية 4 وأما قوله صلى الله عليه وسلم إذا
____________________
(3/115)
أرسلت كلبك المعلم فخرج جوابا لسؤال عدي عن الكلب
( قال مالك أحسن ما سمعت في الذي يتخلص ) بالتثقيل يأخذ ( الصيد من مخالب ) جمع مخلب بالكسر وهو للطائر والسبع كالظفر للإنسان لأن الطائر يخلب بمخالبه الجلد أي يقطعه ( البازي أو من في الكلب ثم يتربص به فيموت أنه لا يحل أكله ) لأنه ميتة
( قال مالك وكذلك كل ما قدر على ذبحه وهو في مخالب البازي أو في ) أي ( لكلب ) وإن لم يقدر على تخليصه منها ( فيتركه صاحبه وهو قادر على ذبحه حتى يقتله البازي أو الكلب فإنه لا يحل أكله ) لأنه لا يؤكل بالعقر إلا ما عجز عن تذكيته والفرض أنه قادر عليها
( وكذلك الذي يرمي الصيد ) بسهمه ( فيناله وهو حي فيفرط في ذبحه حتى يموت فإنه لا يحل أكله ) لأنه ترك ذبحه مع إمكانه
( قال مالك الأمر المجتمع عليه عندنا ) بدار الهجرة ( أن المسلم إذا أرسل كلب المجوسي الضاري ) بالضاد المعجمة صفة لكلب أي المعود بالصيد ( فصاد أو قتل أنه إذا كان معلما ) جملة بين بها معنى الضاري ( فأكل ذلك الصيد حلال لا بأس به ) أي لا كراهة فيه إذ حلال بمعنى جائز قد يجامع الكراهة ( وإن لم يذكه ) من التذكية ولابن وضاح يدركه من الإدراك ( المسلم ) جملة حالية إذ ما أدركه حيا وذكاه لا يتوهم عدم حله ( وإنما مثل ذلك مثل المسلم يذبح بشفرة المجوسي ) بفتح الشين السكين العريض جمعها شفار ككتاب وشفرات كسجدات ( أو يرمي بقوسه أو نبله ) سهامه مؤنثة لا واحد لها من لفظها ( فيقتل بها فصيده ذلك وذبيحته حلال لا بأس بأكله ) لأن العبرة بنفس الصائد
____________________
(3/116)
والذابح لا بمالك الآلة ( وإذا أرسل المجوسي كلب المسلم الضاري على صيده فأخذه فإنه لا يؤكل ذلك الصيد إلا أن ) يدرك حيا و ( يذكى ) أي يذكيه المسلم فيحل له أكله ( وإنما مثل ذلك مثل قوس المسلم ونبله يأخذها المجوسي فيرمي بها الصيد فيقتله وبمنزلة شفرة ) سكين ( المسلم يذبح بها المجوسي فلا يحل أكل شيء من ذلك ) لأن العبرة بالفاعل لا الآلة
3 ما جاء في صيد البحر ( مالك عن نافع أن عبد الرحمن بن أبي هريرة سأل عبد الله بن عمر عما لفظ ) بالفاء والمعجمة طرح ( البحر ) من السمك ( فنهاه عن أكله قال نافع ثم انقلب عبد الله فدعا بالمصحف ) طلبه والباء زائدة ( فقرأ ) قوله تعالى ( أحل لكم ) أيها الناس حلالا كنتم أو محرمي ( صيد البحر ) ما صيد بالحيلة حال حياته ( وطعامه ) أي البحر وهو ما قذفه ميتا أو نضب عنه الماء بلا علاج ( قال نافع فأرسلني عبد الله بن عمر إلى عبد الرحمن بن أبي هريرة ) أقول له ( إنه لا بأس بأكله ) وقد قال أبوه عمر بن الخطاب صيده ما صيد وطعامه ما قذف رواه البخاري في التاريخ وعبيد بن حميد
وروى ابن أبي شيبة عن الصديق الطافي حلال
( مالك عن زيد بن أسلم عن سعد الجاري ) بالجيم نسبة إلى الجاري بلد قرب المدينة النبوية ( مولى عمر بن الخطاب أنه قال سألت عبد الله بن عمر عن الحيتان يقتل بعضها بعضا أو تموت ) موتا ( صردا ) أي السمك الذي يموت فيه من البرد كما في النهاية ( فقال ليس بها بأس قال سعد ثم سألت عبد الله بن عمرو بن العاصي فقال مثل ذلك ) لا بأس بها
____________________
(3/117)
( مالك عن أبي الزناد ) عبد الله بن ذكوان ( عن أبي سلمة بن عبد الرحمن ) بن عوف ( عن أبي هريرة وزيد بن ثابت أنهما كانا لا يريان بما لفظ البحر بأسا ) شدة لجوازه
( مالك عن أبي الزناد عن أبي سلمة بن عبد الرحمن أن أناسا من أهل الجار ) بالجيم بلد قرب المدينة ( قدموا ) المدينة ( فسألوا مروان بن الحكم ) الأموي أمير المدينة من قبل معاوية ( عن ما لفظ البحر فقال ليس به بأس وقال اذهبوا إلى زيد بن ثابت وأبي هريرة فاسألوهما ) عن ذلك ( ثم ايتوني فأخبروني ماذا يقولان فأتوهما فسألوهما فقالا لا بأس به فأتوا مروان ) بن الحكم ( فأخبروه ) بما قالا ( فقال ) مروان ( قد قلت لكم ) أنه لا بأس به ولكن أردت أنهما يوافقاني
( قال مالك لا بأس بأكل الحيتان يصيدها المجوسي لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال في البحر هو الطهور ماؤه الحل ميتته ) كما تقدم مسندا في كتاب الوضوء
( قال مالك وإذا أكل ذلك ) حال كونه ( ميتا فلا يضره من صاده ) وقال ابن عباس كل من صيد البحر وإن صاده نصراني أو يهودي أو مجوسي رواه البيهقي
وقال الحسن البصري رأيت سبعين صحابيا يأكلون صيد المجوسي من البحر ولا يتلجلج في صدورهم شيء من ذلك
4 تحريم أكل كل ذي ناب من السباع رح 1096 ظاهره سواء كان يعدو به ويتقوى كأسد ونمر وذئب ودب وفيل وقرد أو ولا كثعلب وضبع وهر
( مالك عن ابن شهاب ) محمد بن مسلم ( عن أبي إدريس الخولاني ) اسمه عائذ الله بتحتية وذال معجمة ابن عبد الله ولد يوم حنين وسمع من كبار الصحابة ومات سنة ثمانين قال سعيد بن
____________________
(3/118)
عبد العزيز كان عالم الشام بعد أبي الدرداء ( عن أبي ثعلبة ) بمثلثة ( الخشني ) بضم الخاء وفتح الشين المعجمتين وبالنون منسوب إلى بني خشين من قضاعة صحابي مشهور بكنيته قيل اسمه جرثوم أو جرثمة أو جرثم أو جرهم بضم الجيم والهاء بينهما راء ساكنة أو لاشر بمعجمة مكسورة بعدها راء أو لاش بغير راء أو لاشق بقاف أو لاشومة أو لاشوم بلا هاء أو ناشب أو ناشر أو غرنوق أو شق أو زيد أو الأسود وفي اسم أبيه أيضا خلف فقيل عمرو وقيل قيس وقيل غير ذلك
قال ابن الكلبي كان ممن بايع تحت الشجرة وضرب له بسهمه في خيبر وأرسله النبي صلى الله عليه وسلم إلى قومه فأسلموا وله أحاديث وعنه ابن المسيب وجماعة
وأخرج ابن عساكر عن أبي الزاهرية قال قال أبو ثعلبة إني لأرجو الله أن لا يخنقني كما أراكم تخنقون عند الموت فبينما هو يصلي في جوف الليل قبض وهو ساجد فرأت ابنته في النوم أن أباها قد مات فاستيقظت فزعة فقالت أين أبي فقيل لها في مصلاه فنادته فلم يجبها فأتته فوجدته ساجدا فحركته فسقط ميتا
سكن الشام أو حمص ومات سنة خمس وسبعين وقيل قبل ذلك بكثير بعد الأربعين والمعروف الأول ( أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال أكل كل ذي ناب من السباع حرام ) قال ابن الأثير الناب السن التي خلف الرباعية وهل المراد كل ذي ناب مطلقا أو المراد ناب يعدو به ويصول على غيره ويصطاد ويعدو بطبعه غالبا بخلاف غير العادي كثعلب وضبع وبه قال الليث والشافعي وأصحاب مالك المدنيين فمن للتبعيض أو للجنس إذ المراد ناب يعدو به كما علم بقرينة قوله ناب ولم يقل كل سبع تنبيها على الافتراس والتعدي وإلا فلا فائدة لذكر الناب إذ السباع كلها ذات أنياب
وقد ورد في حل الضبع أحاديث لا بأس بها وأما الثعلب فورد في تحريمه حديث خزيمة بن جزء عند الترمذي وابن ماجه ولكن سنده ضعيف كما في الفتح قال ابن عبد البر هكذا
قال يحيى في هذا الحديث ولم يتابعه أحد من رواة الموطأ عليه ولا من رواة ابن شهاب وإنما لفظهم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن أكل كل ذي ناب من السباع وما جاء به يحيى هنا إنما هو لفظ الحديث التالي انتهى
وقد رواه البخاري عن عبد الله بن يوسف ومسلم من طريق ابن وهب كلاهما عن مالك بإسناده بلفظ إن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن أكل كل ذي ناب من السباع وقال البخاري تابعه أي مالكا يونس ومعمر وابن عيينة والماجشون عن الزهري ومتابعة ابن عيينة عند البخاري في الطب وعند مسلم ومتابعة معمر ويونس عند مسلم والحسن بن سفيان في مسنده والماجشون عند مسلم وكذا تابعه عمرو بن الحارث وصالح بن كيسان وابن أبي ذئب الثلاثة في مسلم أيضا قال أبو عمر ورواه أبو أويس عن الزهري بإسناده نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الخطفة والنهبة والمجثمة وعن أكل كل ذي ناب من السباع أخرجه قاسم بن أصبغ وكذا رواه صالح بن أبي
____________________
(3/119)
الأخضر عن الزهري وزاد وطء الحبالى ولحوم الحمر الأهلية وانفردا بذلك عن جميع أصحاب ابن شهاب وإنما يحفظ هذا اللفظ من حديث ابن المسيب عن أبي الدرداء بإسناد لين لا أدري كيف مخرجه عن ابن المسيب لقول ابن شهاب لم أسمع بحديث النهي عن أكل كل ذي ناب من السباع من علمائنا بالحجاز حتى قدمت الشام فحدثني به أبو إدريس وكان من فقهاء الشام والمجثمة هي التي تصبر بالنبل انتهى بجيم ومثلثة مفتوحة وتصبر تربط ويرمى إليها بالنبل حتى تموت من جثم بالمكان وقف به قال أبو عمر لما كان نهى محتملا أعقبه الإمام بما يفسره بالحديث الناص على التحريم فقال
( مالك عن إسماعيل بن أبي حكيم ) القرشي مولاهم المدني المتوفى سنة ثلاثين ومائة ( عن عبيدة ) بفتح المهملة وكسر الموحدة ( ابن سفيان ) بن الحارث ( الحضرمي ) المدني التابعي الثقة عن أبي هريرة ( أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال أكل كل ذي ناب من السباع حرام ) فذكره بلفظ حديث أبي ثعلبة على رواية يحيى وهو نص في حرمة الحيوان المفترس ورواه مسلم من طريق ابن مهدي وابن وهب عن مالك به
( قال مالك وهو الأمر ) المعمول به ( عندنا ) بالمدينة قال الترمذي وعليه العمل عند أكثر أهل العلم وعن بعضهم لا يحرم وظاهر مذهب الموطأ التحريم ورواه ابن وهب وابن عبد الحكم عن مالك نصا ورجحه ابن عبد البر وقيل مكروه حملا للنهي على الكراهة ولفظ حرام شذ به يحيى عن رواة الموطأ في حديث أبي ثعلبة لكنهم اتفقوا على لفظ حرام في حديث أبي هريرة فيحمل على المنع الصادق بالكراهة وهو المشهور في المذهب كما قال ابن العربي وغيره وظاهر المدونة لقول مالك فيها لا أحب أكل الضبع والثعلب والذئب والهر الوحشي والإنسي ولا شيء من السباع والقول الثالث لأصحاب مالك المدنيين الفرق بين ما يعدو كالأسد والنمر فيحرم وبين ما لا يعدو كالضبع والهر والثعلب والذئب فيكره نقله عنهم ابن حبيب ووجه المشهور قوله تعالى { قل لا أجد فيما أوحي إلي محرما } سورة الأنعام الآيه 145 الآية فإنه يدل على عدم تحريم غير ما فيها لكن نفي الحرمة لا يقتضي الحل عينا بل يحتمل الكراهة أيضا فأحتيط لذلك وتعقب بأن الآية مكية وحديث التحريم بعد الهجرة باتفاق وبأنها خرجت مخرج الرد على شيء خاص وهو ما حكى الله عنهم بقوله { وقالوا ما في بطون هذه الأنعام خالصة لذكورنا ومحرم على أزواجنا } سورة الأنعام الآية 139 وأجيب بأن الحديث لا دليل فيه على الحرمة لاحتمال أن أكل مصدر مضاف إلى الفاعل فيكون كقوله تعالى { وما أكل السبع } سورة المائدة الآية 3
____________________
(3/120)
وقال ابن عبد البر النهي أن تنظر إلى ما ورد فيه فإن ورد على ما في ملكك فهو نهي إرشاد كالأكل من رأس الصحفة وبالشمال والاستنجاء باليمين وما ورد على غير ملكك فهو على التحريم كالشغار وعن قليل ما أسكر كثيره وعن بيع حبل الحبلة واستباحة الحيوان من هذا القسم قال وحمل النهي على التنزيه ضعيف لا يعضده دليل صحيح انتهى وهو على اختياره ترجيح التحريم
5 ما يكره من أكل الدواب ( مالك أن أحسن ما سمع في الخيل ) جماعة الأفراس لا واحد له من لفظه أو مفرده خائل سميت بذلك لاختيالها في المشية ويكفي في شرفها أن الله أقسم بها في قوله تعالى { والعاديات ضبحا } سورة العاديات الآية 1 { والبغال } جمع كثرة لبغل وجمع القلة أبغال والأنثى بغلة بالهاء والجمع بغلات مثل سجدة وسجدات
( والحمير ) جميع حمار ويجمع أيضا على حمر وأحمرة والأنثى أتان وحمارة بالهاء نادر ( أنها لا تؤكل ) تحريما على مشهور المذهب والصحيح عن أبي حنيفة وقول المفهم مذهب مالك كراهة الخيل ضعيف إلا أن تحمل على التحريم ( لأن الله تبارك وتعالى قال و ) خلق ( الخيل والبغال والحمير لتركبوها وزينة ) مفعول له
( وقال تبارك وتعالى في الأنعام ) الإبل والبقر والغنم في سورة غافر { الله الذي جعل لكم الأنعام } غافر 79 { لتركبوا منها ومنها تأكلون } { ولكم فيها منافع } سورة غافر الآية 80 وأتى بهذه الآية لأن فيها لام التعليل المفيدة للحصر عنده لأنه في مقام الاستدلال ولذا عدل عن قوله في سورة النحل قبل آية الخيل { والأنعام خلقها لكم فيها دفء ومنافع ومنها تأكلون } سورة النحل الآية 5 وقال تبارك وتعالى { ليذكروا اسم الله } التلاوة { ويذكروا اسم الله في أيام معلومات } سورة الحج الآية 28 { على ما رزقهم من بهيمة الأنعام فكلوا منها } { وأطعموا البائس الفقير } سورة الحج الآية 28 وقال بعد ذلك { والبدن جعلناها لكم من شعائر الله لكم فيها خير فاذكروا اسم الله عليها صواف فإذا وجبت جنوبها فكلوا منها } وأطعموا القانع والمعتر ( سورة الحج الآية 36 ) قال مالك وسمعت أن البائس هو الفقير ) فجعل صفة له إيماء إلى شدة فقره لأنه الذي قد تباءس من ضر الفقر ( وأن المعتر هو الزائر ) الذي يعتريك ويتعرض لك لتعطيه ولا يفصح بالسؤال
____________________
(3/121)
قال مالك مبينا وجه استدلاله ( فذكر الله تعالى الخيل والبغال والحمير للركوب والزينة وذكر الأنعام للركوب والأكل ) وبينوا وجه الدليل بأمور أحدها أن لام التعليل تفيد أن الخيل وما عطف عليها لم تخلق لغير ذلك لأن العلة المنصوصة تفيد الحصر فإباحة أكلها خلاف ظاهر الآية الذي هو أولى في الحجية من خبر الآحاد ولو صح
وثانيها عطف البغال والحمير على الخيل دال على اشتراكها معهما في حكم التحريم فيحتاج من أفرد الحكم ما عطف عليه إلى دليل وحديث أسماء في الصحيحين نحرنا فرسا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فأكلناه ونحن بالمدينة زادت في رواية الدارقطني نحن وآل بيت النبي صلى الله عليه وسلم بعد تسليم أنه صلى الله عليه وسلم اطلع على ذلك وأنهم لم يفعلوه باجتهادهم على المرجح من جواز الاجتهاد في العصر النبوي قضية عين يتطرق إليها الاحتمال إذ هو خبر لا عموم فيه
وأما حديث جابر في الصحيحين نهى النبي صلى الله عليه وسلم يوم خيبر عن لحوم الحمر الأهلية ورخص في الخيل فهو من أدلة التحريم لقوله رخص إذ الرخصة استباحة الممنوع لعذر مع قيام المانع فدل على أنه رخص لهم بسبب المخمصة الشديدة التي أصابتهم بخيبر ولا يدل ذلك على الحل المطلق الذي هو محل النزاع وأما كون أكثر الروايات بلفظ أذن كما في مسلم ففيه تقوية لاحتجاجنا لأن لفظ أذن دون أباح أو أحل دال على ذلك وكذا لفظ رواية أمر معناه في هذا الوقت للمخمصة ولو سلمنا أنه لا يدل على التحريم فلا يدل على الحل لتقابل الاحتمالين
ثالثها أن الآية سيقت مساق الامتنان فلو كان ينتفع بها في الأكل لكان الامتنان به أعظم والحكيم لا يمتن بأدنى النعم وهو الركوب والزينة هنا ويترك أعلاها ولا سيما وقد وقع الامتنان بالأكل في المذكورات قبلها في قوله ومنها تأكلون
رابعها لو أبيح أكلها لفاتت المنفعة بها فيما وقع الامتنان به من الركوب والزينة
وأجيب عن الأول بأن آية النحل مكية اتفاقا فلو فهم صلى الله عليه وسلم منها المنع لما أذن في أكلها في خيبر وهي في سابعة الهجرة وجوابه أن محمل الإذن فيه للمخمصة كما قال تعالى { إلا ما اضطررتم إليه } سورة الأنعام الآية 119 في الممنوع منه نصا فإذنه لا ينافي فهمه منها المنع وأما دعوى أن آية النحل ليست نصا في المنع وحديث أسماء صريح في الجواز فيقدم الصريح على المحتمل فجوابه أن المتبادر من الآية المنع وذلك كاف من الاستدلال على ما علم في الأصول والحديث لا صراحة فيه على اطلاع المصطفى بل يحتمل أنه باجتهادهم ولا يرد أن من أصول مالك قول الصحابي لأن محله حيث لا معارض وأما دعوى أن اللام وإن كانت للتعليل لا تفيد الحصر في الركوب والزينة فإنه ينتفع بالخيل في غيرهما وفي غير الأكل اتفاقا كحمل الأمتعة والاستقاء والطحن وإنما ذكر الركوب والزينة لأنهما أغلب ما تطلب له الخيل فجوابه أن معنى الحصر فيهما دون الأكل الممتن به في غير الخيل فهو إضافي فلا ينافي
____________________
(3/122)
الانتفاع بها فيما ذكر والدليل على أنه إضافي الإجماع والحمل ونحوه ركوب حكما
وأجيب عن الثاني بأن عطف البغال والحمير إنما هو دلالة اقتران وهي ضعيفة وجوابه أنا لم نستدل بها فقط بل مع الإخبار بأنه خلقها للركوب والزينة وامتنانه بالأكل من الأنعام دونها
وعن الثالث بأن الامتنان إنما يقصد به غالب ما كان يقع انتفاعهم به فخوطبوا بما ألفوا وعرفوا ولم يكونوا يعرفون أكل الخيل لعزتها في بلادهم بخلاف الأنعام فأكثر انتفاعهم بها كان لحمل الأثقال وللأكل فاقتصر في كل من الصنفين على الامتنان بأغلب ما ينتفع به فلو حصر في الركوب والزينة لأضر
والجواب أن هذا ممنوع وسنده أنه لا دليل على أن المقصود بالامتنان غالب ما يقصد به ولا مشقة في الحصر في الركوب والزينة بل هما من أجل النعم الممتن بها
وأجيب عن الرابع بأنه لو لزم من الإذن في أكلها أن تفنى للزوم مثله في الأنعام المباح أكلها وقد وقع الامتنان بها وجوابه أن الفرق موجود لأن ما وقع التصريح بالامتنان بأكله لا يقاس عليه ما وقع فيه الامتنان بأنه للركوب والزينة فاللازم ممنوع
وقد روى ابن أبي حاتم عن ابن عباس أنه كان يكره لحوم الخيل ويقرأ { والأنعام خلقها لكم } سورة النحل الآية 5 الآية
ويقول هذه للأكل والخيل والبغال والحمير ويقول هذه للركوب فهذا صحابي من أئمة اللسان ومقامه في القرآن معلوم وقد سبق مالكا على الاستدلال بذلك
وروى أبو داود والنسائي عن خالد بن الوليد نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن لحوم الخيل والبغال والحمير لكن ضعفه البخاري وأحمد وابن عبد البر وغيرهم لكنه يتقوى بظاهر القرآن
وذهب الجمهور والشافعي وأحمد إلى حل أكل الخيل بلا كراهة لظاهر حديثي جابر وأسماء بنت أبي بكر وقد علم ما فيه
( قال مالك والقانع هو الفقير أيضا ) وقيل هو السائل قال الشماخ لمال المرء يصلحه فيغنى مفاقره أعف من القنوع أي السؤال يقال منه قنع قنوعا إذا سأل وقنع قناعة إذا رضي بما أعطي وأصل هذا كله الفقر والمسكنة وضعف الحال قاله أبو عمر فقنع بزنة رضى ومعناه وقنع بفتح النون طمع وسأل وقد تظرف القائل العبد حر إن قنع والحر عبد إن قنع فاقنع ولا تقنع فما
شيء يشين سوى الطمع
6 ما جاء في جلود الميتة ( مالك عن ابن شهاب عن عبيدة ) بضم العين ( ابن عبد الله ) بفتحها ( ابن عتبة ) بضمها وإسكان
____________________
(3/123)
الفوقية ( ابن مسعود ) الهذلي ( عن عبد الله بن عباس ) قال ابن عبد البر هكذا رواه يحيى فجود إسناده وأتقنه وتابعه ابن وهب وابن القاسم وجماعة ورواه ابن بكير والقعنبي وقوم عن مالك عن ابن شهاب عن عبيد الله مرسلا والصحيح وصله وكذا رواه معمر ويونس والزبيدي وعقيل كلهم عن الزهري عن عبيد الله عن ابن عباس ( أنه قال مر رسول الله صلى الله عليه وسلم بشاة ميتة ) بشد الياء وتخفف ( كان أعطاها مولاة ) قال الحافظ لم أعرف اسمها ( لميمونة زوج النبي صلى الله عليه وسلم ) زاد في رواية يونس من الصدقة ( فقال أفلا انتفعتم بجلدها ) وفي رواية بإهابها وهو الجلد دبغ أو لم يدبغ
ولمسلم من طريق ابن عيينة هلا أخذتم إهابها فدبغتموه فانتفعتم به لكنها شاذة عن الزهري كما قاله ابن عبد البر وغيره ( فقالوا يا رسول الله إنها ميتة ) بكسر التحتية مشددة أو بسكونها مخففة ( فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم إنما حرم أكلها ) بفتح الحاء وضم الراء وبضم الحاء وكسر الراء الثقيلة روايتان وفيه تخصيص الكتاب بالسنة لأن قوله تعالى { حرمت عليكم الميتة } سورة المائدة الآية 3 شامل لجميع أجزائها في كل حال فخصه بالأكل واستثنى الشافعية جلد الكلب والخنزير وما تولد منهما لنجاسة عينهما عندهم وأخذ غيرهم بعموم الحديث فلم يستثن شيئا واستدل به الزهري على الانتفاع به مطلقا دبغ أو لم يدبغ لكن صح التقييد بالدباغ من وجوه كثيرة عن النبي صلى الله عليه وسلم وبعضهم قصر الجواز على المأكول لورود الحديث في الشاة ويقوي ذلك من حيث النظر أن الدباغ لا يزيد في التطهير على الذكاة وغير المأكول لو ذكي لم يطهر بالذكاة فكذلك الدباغ وأجاب من عمم بالتمسك بعموم اللفظ وهو أولى من خصوص السبب وبعموم الإذن بالانتفاع ولأن الحيوان الطاهر ينتفع به قبل الموت فكأن الدباغ بعد الموت قائما مقام الحياة ومنع قوم الانتفاع من الميتة بشيء دبغ الجلد أو لم يدبغ لحديث عبد الله بن عليم بضم العين ولام مصغر قال أتانا كتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل موته بشهر أن لا تنتفعوا من الميتة بإهاب ولا عصب رواه أحمد والأربعة وحسنه الترمذي وصححه ابن حبان قال الحافظ وأعله بعضهم بكونه كتابا وليس بعلة قادحة وبأن في إسناده اضطرابا ولذا تركه أحمد بعد أن قال إنه آخر الأمرين ورده ابن حبان بأن ابن عليم سمع الكتاب يقرأ وسمعه مشايخ من جهينة من رسول الله صلى الله عليه وسلم فلا اضطراب
وأجيب بأنه يحمل على الانتفاع به قبل الدبغ فإن لفظ إهاب منطبق عليه وبعد الدباغ يسمى أديما وسخيانا
وحديث الباب تابع مالكا عليه صالح بن كيسان ويونس في الصحيحين وابن عيينة في مسلم ثلاثتهم عن ابن شهاب به موصولا
( مالك عن زيد بن أسلم عن ) عبد الرحمن ( ابن وعلة ) بفتح الواو وسكون العين المهملة وفتح
____________________
(3/124)
اللام السبئي بفتح السين المهملة وموحدة ثم همزة ثم ياء نسبة إلى سبأ بن يشجب بن يعرب بن قحطان ( المصري ) بالميم الصدوق التابعي الصغير روى عن ابن عمرو ( عن عبد الله بن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال إذا دبغ الإهاب ) بكسر الهمزة وخفة الهاء ويجمع على أهب ككتاب وكتب الجلد مطلقا قال في الفائق سمي إهابا لأنه أهبة للحي ونبأ للحماية على جسده كما قيل له مسك لإمساكه ما وراءه ولذا قال دبغ بما يحفظ الجلد كما تحفظه الحياة كشب وقرظ ( فقد طهر ) بفتح الهاء وضمها والفتح أفصح طهارة لغوية عند مالك ومن وافقه أي نظف فينتفع به في الماء واليابس وقال غيره طهر ظاهره وباطنه حتى يجوز استعماله في الأشياء الرطبة وتجوز الصلاة فيه ولا فرق بين مأكول اللحم وغيره وفي جواز أكله
ثالثها يجوز أكل جلد مأكول اللحم فقط والأصح المنع مطلقا
وفي طهارة الشعر قولان أصحهما عند الشافعية لا يطهر لأن الدباغ لا يؤثر فيه بخلاف الجلد وهذا الحديث تابع مالكا عليه سليمان بن بلال وابن عيينة والدراوردي كلهم عن زيد بن أسلم به عند مسلم
( مالك عن يزيد ) بتحتية قبل الزاي ( ابن عبد الله بن قسيط ) بقاف ومهملتين مصغر المدني ( عن محمد بن عبد الرحمن بن ثوبان ) بمثلثة القرشي العامري المدني التابعي ( عن أمه ) تابعية مقبولة لا يعرف اسمها ( عن عائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر أن يستمتع بجلود الميتة إذا دبغت ) لا قبل الدبغ وعليه يحمل قوله لا تنتفعوا من الميتة بشيء جمعا بين الأحاديث بدون دعوى نسخ كما مر وهذا الحديث رواه أبو داود عن القعنبي والترمذي والنسائي وأبو داود أيضا من طريق بشر بن عمر وعبد الرحمن بن القاسم وابن ماجه من طريق خالد بن مخلد أربعتهم عن مالك به
7 ما جاء فيمن يضطر إلى أكل الميتة المباح له أكلها بالنصوص القرآنية وحد الاضطرار أن يخاف على نفسه الهلاك علما أو ظنا ولا يشترط أن يصير إلى حال يشرف معها على الموت فإن الأكل عند ذلك لا يفيد
قال العارف ابن أبي جمرة الحكمة في ذلك أن في الميت سمية شديدة فلو أكلها ابتداء لأهلكته فشرع له أن يجوع ليصير في بدنه بالجوع سمية هي أشد من سمية الميت فإذا أكل منها حينئذ لا يتضرر قال في الفتح وهذا إن ثبت حسن بالغ في الحسن
____________________
(3/125)
( مالك أن أحسن ما سمع في الرجل ) وصف طردي فالمراد ولو امرأة ( يضطر إلى الميتة أنه يأكل منها حتى يشبع ويتزود منها فإذا وجد عنها غنى طرحها ) قال ابن العربي ودليله أن الضرورة ترفع التحريم فيعود مباحا ومقدار الضرورة إنما هو في حال العدم للقوت إلى حالة وجوده حتى يجد وغير ذلك ضعيف فإنه نص مالك في موطئه الذي ألفه بنظره وأملاه على أصحابه وقرأه عمره كله وقال ابن الماجشون وابن حبيب يأكل مقدار ما يسد الرمق لأن الإباحة ضرورة فتتقدر بقدر الضرورة قال ومحل الخلاف إذا كانت المخمصة نادرة وأما إذا كانت دائمة فلا خلاف في جواز الشبع منها انتهى
واحتج للمقابل وهو قول الشافعي بظاهر قوله تعالى { فمن اضطر غير باغ ولا عاد } البقرة 173 أي فأكل غير باغ للذة والشهوة ولا متعد مقدار الحاجة وأجيب بأن المراد بالبغي الخروج عن المسلمين وبالتعدي قطع الطريق فلا رخصة له في الميتة إذا اضطر إليها كما قاله مجاهد وسعيد بن جبير وغيرهما
( وسئل مالك عن الرجل يضطر إلى الميتة أيأكل منها وهو يجد ) جملة حالية ( ثمر القوم أو زرعا أو غنما بمكانه ذلك قال مالك إن ظن أن أهل ذلك الثمر ) بمثلثة ( أو الزرع أو الغنم يصدقونه بضرورته ) أي فيها ( حتى لا يعد سارقا فتقطع يده رأيت أن يأكل من أي ذلك وجد ما يرد جوعه ولا يحمل منه شيئا وذلك أحب إلي من أن يأكل الميتة ) ويضمن القيمة وقيل لا ضمان عليه ( وإن هو خشي أن لا يصدقوه وأن يعد سارقا بما أصاب من ذلك فإن أكل الميتة خير له عندي وله في أكل الميتة على هذا الوجه سعة ) بفتحتين ( مع أني أخاف ) لو أطلقت جواز تقديم طعام الغير على الميتة ( أن يعدو عاد ممن لم يضطر إلى الميتة يريد استجازة ) بالزاي ( أخذ أموال الناس وزروعهم وثمارهم بذلك بدون اضطرار وهذا أحسن ما سمعت ) يقتضي أنه سمع غيره
____________________
(3/126)
5111111 1 1
10 كتاب العقيقة بفتح العين المهملة وأصلها كما قال الأصمعي وغيره الشعر الذي يكون على رأس الصبي حين يولد وسميت الشاة التي تذبح عنه عقيقة لأنه يحلق عنه ذلك الشعر عند الذبح قال أبو عبيد فهو من تسمية الشيء باسم غيره إذا كان معه أو من سببه وقيل هي الذبيحة سميت بذلك لأن مذبح الشاة ونحوها يعق أي يشق ويقطع وقد أنكر أحمد قول الأصمعي وغيره أنها الشعر بأنه لا وجه له وإنما هي الذبح نفسه قال أبو عمر وهذا أولى وأقرب إلى الصواب واحتج له بعض المتأخرين بأنه المعروف لغة يقال عق إذا قطع ويدل له قول الشاعر بلاد بها عق الشباب تمائمي وأول أرض مس جلدي ترابها ومثله قول الرماح بن ميادة بلاد بها نيطت علي تمائمي وقطعن عني حين أدركني عقليما جاء في العقيقة ( مالك عن زيد بن أسلم ) العدوي مولاهم المدني ( عن رجل من بني ضمرة ) بفتح الضاد المعجمة وإسكان الميم ( عن أبيه أنه قال سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن العقيقة فقال لا أحب العقوق ) أي العصيان وترك الإحسان ( وكأنه إنما كره الاسم ) لا المعنى الذي هو ذبح واحدة تجزي ضحية لنصه
____________________
(3/127)
عليها في عدة أحاديث وقد تقرر في علم الفصاحة الاحتراز عن لفظ يشترك فيه معنيان أحدهما مكروه فيجاء به مطلقا ( وقال ) صلى الله عليه وسلم ( من ولد له ولد فأحب أن ينسك ) بضم السين من باب نصر يتطوع بقربة لله تعالى ( عن ولده فليفعل ) وفي جعل ذلك موكولا إلى محبته مع تسميته نسكا إشارة إلى الاستحباب قال ابن عبد البر وفيه كراهة ما يقبح معناه من الأسماء وكان صلى الله عليه وسلم يحب الاسم الحسن وكان الواجب بظاهر الحديث أن يقال لذبيحة المولود نسيكة ولا يقال عقيقة لكني لا أعلم أحدا من العلماء مال إلى ذلك ولا قال به وأظنهم تركوا العمل به لما صح عندهم في غيره من الأحاديث من لفظ العقيقة انتهى
ولعل مراده من المجتهدين وإلا فقد قال ابن أبي الدم عن أصحابهم الشافعية يستحب تسميتها نسيكة أو ذبيحة ويكره تسميتها عقيقة كما يكره تسمية العشاء عتمة وزعم بعضهم أنها بدعة تشبثا بحديث الموطأ ولا حجة فيه لذلك ولا لنفي مشروعيتها وأنها نسخت بالضحية كما ادعى محمد بن الحسن بل آخر الحديث يثبتها وإنما غايته أن الأولى يسمى نسيكة لا عقيقة قال ابن عبد البر ولا أعلم معنى هذا الحديث روي عن النبي صلى الله عليه وسلم إلا من هذا الوجه ومن حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أخرجه أبو داود والنسائي
( مالك عن جعفر ) الصادق ( بن محمد ) الباقر ( عن أبيه ) محمد بن علي بن الحسين بن علي ( أنه قال ) مرسل ( وزنت فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم شعر حسن ) بأمر أبيها ففي الترمذي عن علي قال عق رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الحسن بكبش وقال يا فاطمة احلقي رأسه وتصدقي بزنة شعره فضة قال فوزناه فكان درهما أو بعض درهم ( وحسين ) بضم الحاء روى أحمد عن علي قال لما ولد الحسن سميته حربا فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال أروني ابني ما سميتموه قلنا حربا قال بل هو حسن فلما ولد الحسين فذكر مثله وقال بل هو حسين فلما ولد محسن فذكر مثله وقال بل هو محسن ثم قال سميتهم بأسماء ولد هارون شبر وشبير وهشبر إسناده صحيح ومحسن بضم الميم وفتح الحاء وكسر السين المشددة مات صغيرا
( وزينب ) ولدت في حياة جدها وكانت لبيبة جزلة عاقلة لها قوة جنان وتزوجها عبد الله بن عمها جعفر فولدت له عليا وأم كلثوم وعونا وعباسا ومحمدا
( وأم كلثوم ) ولدت قبل وفاة جدها صلى الله عليه وسلم وتزوجها عمر بن الخطاب وأمهرها أربعين ألفا فولدت له زيدا ورقية ولم يعقبا ثم تزوجها بعد موت عمر عون بن جعفر ثم فتزوجها أخوه محمد بن جعفر ثم مات فتزوجها أخوهما عبد الله بن جعفر فماتت عنده فتزوج أختها زينب
( فتصدقت بزنة ذلك فضة ) يحتمل بأمره صلى الله عليه وسلم كما أمرها في الحسن ويحتمل أنها قاست ذلك
____________________
(3/128)
على أمره لها في الحسن بكرها
قال ابن عبد البر أهل العلم يستحبون ما فعلته فاطمة مع العقيقة أودنها الباجي التصدق بزنة الشعر حسن وعمل بر
وفي الصحيح مرفوعا مع الغلام عقيقة فأهريقوا عنه دما وأميطوا عنه الأذى فسره ابن الجلاب تبعا للأصمعي بحلق رأسه
ورواه أبو داود بسند صحيح عن الحسن البصري لكن في الطبراني ويماط عنه الأذى ويحلق رأسه فعطفه عليه فالأولى حمل الأذى على ما هو أعم من حلق الرأس
( مالك عن ربيعة بن أبي عبد الرحمن بن علي بن الحسين ) بن علي بن أبي طالب ( أنه قال ) مرسل ووصله بعضهم فقال عن ربيعة عن أنس وهو خطأ والصواب ما في الموطأ قاله أبو عمر ( وزنت فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم شعر حسن وحسين فتصدقت بزنته فضة ) فيندب ذلك وبالذهب أيضا
1 العمل في العقيقة ( مالك عن نافع أن عبد الله بن عمر لم يكن يسأله أحد من أهله عقيقة إلا أعطاه إياها ) لأنه كان من أشد الصحابة اتباعا للسنة فيجب نشرها
( وكان يعق ) بضم العين من باب نصر ( عن ولده بشاة شاة عن الذكور والإناث ) لكل شاة اتباعا للفعل النبوي وقياسا على الأضحية فإن الذكر والأنثى فيها سواء
( مالك عن ربيعة بن أبي عبد الرحمن عن محمد بن إبراهيم بن الحارث ) بن خالد ( التيمي ) تيم قريش أبي عبد الله المدني مات سنة عشرين ومائة على الصحيح ( أنه قال سمعت أبي يستحب ) وفي نسخة يقول تستحب ( العقيقة ولو بعصفور ) قال ابن عبد البر كلام أخرج على التقليد والمبالغة كقوله صلى الله عليه وسلم لعمر في الفرس ولو أعطاكه بدرهم وكقوله في الأمة
ثم إذا زنت فبيعوها ولو بظفير للإجماع على أنه لا يجوز فيها إلا ما يجوز في الضحايا من الأزواج الثمانية إلا من شذ ممن لا يعتد بخلافه انتهى
____________________
(3/129)
( مالك أنه بلغه أنه عق عن حسن وحسين ابني علي بن أبي طالب ) أخرجه أبو داود من طريق أيوب عن عكرمة عن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم عق عن الحسن والحسين كبشا كبشا أخرجه النسائي من طريق قتادة عن عكرمة عن ابن عباس عق صلى الله عليه وسلم بكبشين كبشين
( مالك عن هشام بن عروة أن أباه عروة بن الزبير كان يعق ) بضم العين ( عن بنيه الذكور والإناث بشاة شاة ) عن كل واحد ( قال مالك الأمر عندنا في العقيقة أن من عق فإنما يعق عن ولده بشاة شاة الذكور والإناث ) قياسا على الضحية فإن الذكر والأنثى فيه متساويان خلافا لمن قال يعق عن الغلام بشاتين
قال ابن رشد من عمل به فما أخطأ ولقد أصاب لما صححه الترمذي عن عائشة أنه صلى الله عليه وسلم أمر أن يعق عن الغلام شاتان متكافيتان وعن الجارية بشاة انتهى
لكن حجة مالك ومن وافقه أنه لما اختلفت الرواية فيما عق به عن الحسنين ترجح تساوي الذكور والإناث بالعمل والقياس على الأضحية
( وليست العقيقة بواجبة ) كالأضحية بحجة أن كلا إراقة دم بغير جناية ولأنه صلى الله عليه وسلم وكل ذلك إلى محبة الأب فلو وجبت ما قال ذلك
( ولكنها يستحب العمل بها ) اتباعا للفعل النبوي وحملا لأمره على الاستحباب لأن القاعدة أن الأمر إذا لم يصلح حمله على الوجوب حمل على الندب وقال الليث وأبو الزناد وداود واجبة
( وهي من الأمر الذي لم يزل عليه الناس عندنا ) فلا ينبغي تركها وفيه رد على من زعم نسخها ومن زعم أنها بدعة إذ لو نسخت ما عمل بها الصحابة فمن بعدهم بالمدينة وقد قال صلى الله عليه وسلم الغلام مرتهن بعقيقته تذبح عنه يوم السابع ويسمى ويحلق رأسه رواه أحمد وأصحاب السنن والحاكم والبيهقي عن سمرة وصححه الترمذي والحاكم وأعله بعضهم بأنه من رواية الحسن عن سمرة
وهو مدلس لكن في البخاري أن الحسن سمع حديث العقيقة من سمرة قال الحافظ فكأنه عنى هذا قال الإمام أحمد مرتهن أي محتبس عن الشفاعة لوالديه إذا مات طفلا أي فشبهه في عدم انفكاكه منها بالرهن في يد مرتهنه قال الخطابي وهو جيد وتعقب بأن شفاعة الولد لوالده ليست بأولى من العكس وبأنه يقال لمن يشفع لغيره مرتهن فالأولى أن المراد أن العقيقة تخليص له من الشيطان الذي طعنه حين خروجه من حبسه له في أسره ومنعه له من سعيه في مصالح آخرته
____________________
(3/130)
( فمن عق عن ولده فإنما هي بمنزلة النسك ) الهدايا ( والضحايا ) فتجوز بالغنم والإبل والبقر خلافا لمن قصرها على الغنم لورود الشاة في الأحاديث السابقة لكن روى الطبراني عن أنس مرفوعا يعق عنه من الإبل والبقر والغنم ( لا يجوز فيها عوراء ) بالمد تأنيث أعور ( ولا عجفاء ) بالمد الضعيفة ( ولا مكسورة ولا مريضة ولا يباع من لحمها شيء ولا جلدها ويكسر عظامها ) جوازا تكذيبا للجاهلية في تحرجهم من ذلك وتفصيلهم إياها من المفاصل إذ لا فائدة في ذلك الاتباع الباطل ولا يلتفت إلى من يقول فائدته التفاؤل بسلامة الصبي وبقائه إذ لا أصل له من كتاب ولا سنة ولا عمل
( ويأكل أهلها من لحمها ويتصدقون منها ولا يمس الصبي بشيء من دمها ) أي يكره لخبر البخاري عن سلمان بن عامر الضبي قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول مع الغلام عقيقة فأهريقوا عنه دما وأميطوا عنه الأذى فسره بعضهم بترك ما كانت الجاهلية تفعله من تلطيخ رأسه بدمها ولو فسر بإماطة الشعر فكذلك لأنا إذا أمرنا به للنظافة بإجماع فلأن لا نقربه بالدم النجس أولى
وروى أبو داود عن بريدة الصحابي قال كنا في الجاهلية فإذا ولد لأحدنا غلام ذبح شاة ولطخ رأسه بدمها فلما جاء الله بالإسلام كنا نذبح شاة ونحلق رأسه ونلطخه بزعفران وإليه أشار في الرسالة بقوله وإن حلق رأسه بخلوق بدلا من الدم الذي كانت تفعله الجاهلية فلا بأس بذلك
____________________
(3/131)
1
11 كتاب الفرائض أي مسائل قسمة المواريث جمع فريضة بمعنى مفروضة أي مقدرة لما فيها من السهام المقدرة فغلبت على غيرها والفرض لغة التقدير وشرعا نصيب ما قدر للوارث ثم قيل للعلم بمسائل الميراث علم الفرائض والعالم به فرضي وفي الحديث أفرضكم زيد أي أعلمكم بهذا النوع
1 ميراث الصلب ( مالك الأمر المجتمع عليه عندنا والذي أدركت عليه أهل العلم ببلدنا في فرائض المواريث أن ميراث الولد من والدهم أو والدتهم أنه إذا توفي الأب أو الأم وتركا ولدا رجالا ونساء فللذكر مثل حظ الأنثيين ) ففضله واختصاصه بلزوم ما لا يلزم الأنثى من الجهاد وغيره أي للذكر منهم أي من أولادكم فحذف الراجع إليه لأنه مفهوم كقولهم السمن منوان بدرهم
وبدأ يذكر ميراث الأولاد لأن تعلق الإنسان بولده أشد التعلقات وبدأ بحظ الذكر ولم يقل للأنثيين مثل حظ الذكر أو الأنثى نصف حظ الذكر لفضله كما ضوعف حظه لذلك ولأنهم كانوا يورثون الذكور دون الإناث وهو السبب لورود الآية فقيل كفى للذكور أن ضوعف لهم نصيب الإناث فلا يتمادى في حظهم حتى يحرموا مع إدلائهن من القرابة بمثل ما يدلون به والمراد به حال الاجتماع أي إذا اجتمع ذكر وانثيان كان له سهمان كما أن لهما سهمين وأما في حال الانفراد فالابن يأخذ المال كله والأنثيان يأخذان الثلثين والدليل عليه أنه أتبعه حكم الانفراد بقوله ( فإن كن نساء ) خلصا بمعنى بنات ليس معهن ابن ( فوق اثنتين ) خبر ثان لكن
____________________
(3/132)
أو صفة لنساء أي نساء زائدات على اثنتين ( فلهن ثلثا ما ترك ) الميت وكذا الاثنتان لأنه للأختين بقوله تعالى { فلهما الثلثان مما ترك } سورة النساء الآية 176 فالبنتان أولى ولأن البنت تستحق الثلث مع الذكر فمع الأنثى أولى وفوق قيل صلة وقيل لدفع توهم زيادة النصيب بزيادة العدد لما فهم استحقاق الثنتين الثلثين من جعل الثلث للواحدة مع الذكر
( وإن كانت واحدة ) منفردة ( فلها النصف ) وعلم منه أن المال كله للذكر إذا انفرد لأنه جعل له مثل حظهما وقد جعل للأنثى النصف إذا انفردت فللذكر المنفرد ضعف النصف وهو الكل
( فإن شركهم ) بفتح المعجمة وبالراء الخفيفة المكسورة ( أحد بفريضة مسماة ) كقوله تعالى { ولأبويه لكل واحد منهما السدس مما ترك إن كان له ولد } النساء 11 وكالزوج والزوجة ( وكان فيهم ذكر بدىء ) بضم الموحدة وكسر الدال بعدها همزة ( بفريضة من شركهم ثم كان ما بقي بعد ذلك بينهم على قدر مواريثهم ) للذكر مثل حظ الأنثيين ( ومنزلة ولد الأبناء الذكور إذا لم يكن ولد كمنزلة الولد سواء ذكورهم كذكورهم وأناثهم كإناثهم يرثون كما يرثون ويحجبون ) من دونهم في الطبقة ( كما يحجبون ) أي الأولاد من دونهم وفرع على ذلك قوله ( فإن اجتمع الولد للصلب وولد الابن وكان في الولد للصلب ذكر فإنه لا ميراث لأحد من ولد الابن ) لقوله صلى الله عليه وسلم ألحقوا الفرائض بأهلها فما بقي فهو لأولى رجل ذكر رواه البخاري وأصحاب السنن الثلاثة عن ابن عباس وأولى من الولي بسكون اللام وهو القرب أي لأقرب أقارب الميت إذا كان الأقرب ذكرا
( فإن لم يكن في الولد للصلب ذكر وكانت ابنتين فأكثر من ذلك من البنات للصلب فإنه لا ميراث لبنات الابن معهن إلا أن يكون مع بنات الابن ذكر هو من المتوفى بمنزلتهن ) في القرب من الميت أو هو ( أطرف ) بالطاء والراء والفاء أبعد ( منهن فإنه يرد على من هو بمنزلته ومن هو فوقه من بنات الأبناء فضلا ) مفعول يرد ( إن فضل ) كبنات وزوجة ( فيقسمونه بينهم للذكر مثل حظ الأنثيين ) أي نصيبهما ( وإن لم يفضل شيء ) كبنات وأبوين ( فلا شيء ) لهم لاستغراق الفروض
____________________
(3/133)
( وإن لم يكن الولد للصلب إلا ابنة واحدة فلها النصف ) بنص القرآن ( ولابنة ابنه واحدة كانت أو أكثر من ذلك من بنات الابن ممن هو من المتوفى بمنزلة واحدة السدس ) تكملة الثلثين لما رواه البخاري والأربعة سئل أبو موسى عن ابنة وابنة ابن وأخت فقال للبنت النصف وللأخت النصف وائت ابن مسعود فسئل ابن مسعود وأخبر بقول أبي موسى فقال لقد ضللت إذا وما أنا من المهتدين أقضي فيها بما قضى النبي صلى الله عليه وسلم للابنة النصف ولابنة الابن السدس وما بقي فللأخت فأخبر أبو موسى بقول ابن مسعود فقال لا تسألوني ما دام هذا الحبر فيكم ولا خلاف بين الفقهاء فيما رواه ابن مسعود وفي جواب أبي موسى إشعار بأنه رجع عما قاله أولا باجتهاده
( فإن كان مع بنات الابن ذكر هو من المتوفى بمنزلتهن فلا فريضة ولا سدس ولكن إن فضل بعد فرائض أهل الفرائض فضل كان ذلك الفضل لذلك الذكر ولمن هو بمنزلته ) من المتوفى ( ومن فوقه من بنات الأبناء للذكر مثل حظ الأنثيين وليس لمن هو أطرف منهم شيء وإن لم يفضل شيء ) من أهل الفرائض ( فلا شيء لهم وذلك ) أي دليله كله ( أن الله تبارك وتعالى قال في كتابه يوصيكم ) يأمركم ( الله في أولادكم ) بما ذكر ( للذكر ) منهم ( مثل حظ ) نصيب ( الأنثيين ) إذا اجتمعتا معه فله نصف المال ولهما النصف فإن كان معه واحدة فلها الثلث وله الثلثان وإذا انفرد حاز المال وفيه دلالة كما أشار له الإمام على دخول أولاد الابن في في لفظ أولاد للإجماع على إرثهم دون أولاد البنت
( فإن كن ) أي الأولاد ( نساء ) فقط ( فوق اثنتين فلهن ثلثا ما ترك ) الميت ( وإن كانت واحدة ) بالنصب والرفع ( فلها النصف ) ولا ذكر للبنتين في الآية فقال ابن عباس لهما النصف لأنه تعالى شرط في إعطاء البنات الثلثين إن يكن فوق اثنتين وقال غيره لهما الثلثان فقيل بالسنة وقيل بالقياس على الأخوة للأم لأن الاثنين فصاعدا منهم سواء فكذلك البنات وقيل على الأخوة للأب لأنه تعالى جعل للواحدة منهن النصف وللثنتين الثلثين كما في آخر السورة وقال الأكثرون بل بالقرآن لأنه جعل للبنت مع الذكر الثلث فمع الأنثى آكد فلم يحتج إلى ذكره واحتيج إلى ذكر ما
____________________
(3/134)
فوق الانثيين وقيل المعنى فإن كن نساء اثنتين فما فوقهما كقولهم راكب الناقة طليحان أي الناقة وراكبها
قال ابن الغرس وفي الآية رد على من يقول بالرد لأنه جعل للواحدة النصف ولما فوق الثلثين فلم تجز الزيادة على ما نص عليه انتهى
أخرج الأئمة الستة عن جابر بن عبد الله قال عادني رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر في بني سلمة ماشيين فوجدني صلى الله عليه وسلم لا أعقل شيئا فدعا بماء فتوضأ ثم رش علي فأفقت فقلت ما تأمرني أن أصنع في مالي فنزلت { يوصيكم الله في أولادكم للذكر مثل حظ الأنثيين } سورة النساء الآية 11 وأخرج أحمد وأصحاب السنن وصححه الحاكم عن جابر قال جاءت امرأة سعد بن الربيع فقالت يا رسول الله هاتان ابنتا سعد قتل أبوهما معك في أحد وإن عمهما أخذ مالهما ولا ينكحان إلا ولهما مال فقال يقضي الله في ذلك فنزلت آية الميراث فأرسل إلى عمهما فقال اعط ابنتي سعد الثلثين وأمهما الثمن وما بقي فهو لك قال الحافظ هذا ظاهر في تقدم نزولها وبه احتج من قال إنها لم تنزل في قصة جابر إنما نزلت في قصة بنتي سعد بن الربيع وليس ذلك بلازم إذ لا مانع أن تنزل في الأمرين معا ويحتمل أن يكون نزول أولها في قصة البنتين وآخرها وهو قوله وإن كان رجل يورث كلالة في قصة جابر ويكون مراده بقوله فنزلت { يوصيكم الله في أولادكم } سورة النساء الآية 11 أي ذكر الكلالة المتصل بهذه الآية انتهى
( قال مالك والأطرف هو الأبعد )
2 ميراث الرجل من امرأته والمرأة من زوجها ( قال مالك وميراث الرجل من امرأته إذا لم تترك ولدا ولا ولد ابن منه أو من غيره النصف فإن تركت ولدا أو ولد ابن ) وإن نزل ( ذكرا كان أو أنثى فلزوجها الربع ) ودخول ولد الابن بالإجماع أو لأن لفظ ولد يشمله بناء على إعمال اللفظ في حقيقته ومجازه ( من بعد ) تنفيذ ( وصية توصي بها ) المرأة ( أو ) قضاء ( دين ) عليها وتقديم الوصية على الدين وإن كانت مؤخرة عنه للاهتمام بها ( وميراث المرأة من زوجها إذا لم يترك ولدا أو ولد ابن ) وإن نزل ( الربع فإن ترك ولدا أو ولد ابن ذكر كان أو أنثى فلامرأته الثمن من بعد وصية يوصي بها أو دين وذلك أن الله تبارك وتعالى يقول في كتابه ولكم نصف ما ترك أزواجكم )
____________________
(3/135)
أي زوجاتكم ( إن لم يكن لهن ولد فإن كان لهن ولد ) منكم أو من غيركم ولو أنثى ( فلكم الربع مما تركن من بعد وصية يوصين بها أو دين ولهن ) أي الزوجات تعددن أو لا ( الربع مما تركتم إن لم يكن لكم ولد فإن كان لكم ولد ) منهن أو من غيرهن ولو أنثى ( فلهن الثمن مما تركتم من بعد وصية توصون بها أو دين ) ودخل ولد الإبن وإن نزل فيهما لشمول اللفظ له أو بالإجماع وفيه مشروعية الوصية واستدل بتقديمها في الذكر من قال بتقديمها على الدين في التركة وأجاب من أخرها بأنها قدمت لئلا يتهاون بها واستدل بعمومها من أجاز الوصية بما قل أو كثر ولو استغرق المال ومن أجازها للوارث والكافر حربيا كان أو ذميا ومن قال إن الدين يمنع انتقال التركة إلى ملك الوارث ومن قال دين الحج والزكاة مقدم على الميراث لعموم قوله دين كذا في الإكليل في استنباط التأويل
3 ميراث الأب والأم من ولدهما ( قال مالك الأمر المجتمع عليه عندنا الذي لا اختلاف فيه والذي أدركت عليه أهل العلم ببلدنا ) المدينة النبوية ( أن ميراث الأب من ابنه وابنته ) فيه تفصيل وهو ( أنه إن ترك المتوفى ولدا أو ولد ابن ) وإن سفل حالة كون كل منهما ( ذكرا فإنه يفرض للأب السدس فريضة ) والباقي للولد الذكر أو ابنه وإن نزل وإن كان الولد انثى فللأب السدس فريضة والبنت النصف والباقي للأب تعصيبا
( وإن لم يترك المتوفى ولدا ولا ولد ابن ذكرا فإنه يبدأ بمن شرك الأب من أهل الفرائض فيعطون فرائضهم فإن فضل من المال السدس فما فوقه كان للأب وإن لم يفضل عنهم السدس فما فوقه فرض للأب السدس فريضة ) يعال له بها وذلك في المنبرية زوجة وأبوان وابنتان فللزوجة الثمن ثلاثة وللبنتين الثلثان ستة عشر وللأم السدس أربعة فيعال فيها بمثل ثمنها فتصير سبعا وعشرين وينقص كل واحد
____________________
(3/136)
تسع ماله لأن الأب لا ينقص عن السدس
( وميراث الأم من ولدها إذا توفي ابنها أو ابنتها فترك المتوفى ولدا أو ولد ابن ذكرا كان أو أنثى أو ترك من الإخوة اثنين فصاعدا ذكورا كانوا أو أناثا من أم وأب ) أي أشقاء ( ومن أب ) فقط ( أو من أم ) فقط ( فالسدس لها ) فريضة وإن لم يترك المتوفى ولدا أو ولد ابن ولا اثنين من الإخوة فإن للأم الثلث كاملا إلا في فريضتين فقط يقال لهما الغراوان لأن الأم غرت بإعطائها الثلث لفظا لا حقيقة
( وإحدى الفريضتين أن يتوفى رجل ويترك امرأته وأبويه فلامرأته الربع ولأمه الثلث مما بقي وهو الربع من رأس المال ) والنصف للأب ( والأخرى ) ثانية الفريضتين ( أن تتوفى امرأة وتترك زوجها وأبويها فيكون لزوجها النصف ولأمها الثلث مما بقي وهو السدس من رأس المال ) والثلث للأب ( و ) دليل ( ذلك أن الله تبارك وتعالى يقول في كتابه ولأبويه ) أي الميت ( لكل واحد منهما السدس ) بدل من أبويه بأعادة العامل وفائدة هذا البدل إفادة أنهما لا يشتركان فيه إذ لو قيل لأبويه السدس لكان ظاهره اشتراكهما فيه ولو قيل لكل واحد من أبويه السدس لذهبت فائدة التأكيد وهو التفصيل بعد الإجمال ولو قيل لأبويه السدسان لأوهم قسمة السدسين عليهما على السوية وعلى خلافها ( مما ترك إن كان له ولد ) ذكر أو أنثى أو ابن ابن بالشمول أو الإجماع ( فإن لم يكن له ولد وورثه أبواه ) أبوه وأمه فغلب الذكر ( فلأمه الثلث ) مما ترك وأخذ بظاهره ابن عباس فقال تأخذه كاملا في مسألة زوج وأبوين أو زوجة وأبوين فيزيد ميراثها على الأب أخرج الدارمي وابن أبي شيبة عن عكرمة قال أرسل ابن عباس إلى زيد بن ثابت أتجد في كتاب الله تعالى ثلث ما بقي فقال إنما أنت رجل تقول برأيك وأنا رجل أقول برأيي لكن رأي الجمهور أنها لو أخذت الثلث الحقيقي فيهما لأدى إلى مخالفة القواعد أن الأب أقوى في الإرث من الأم بدليل أن له ضعف حظها إذا انفرد فلو أخذت في زوج وأبوين الثلث الحقيقي فينقلب الحكم إلى أن للأنثى مثل حظ الذكرين ولا نظير لذلك في اجتماع ذكر وأنثى يدليان بجهة واحدة فخص عموم الآية بالقواعد لأنها من القواطع
____________________
(3/137)
( فإن كان له إخوة ) ذكور أو إناث أشقاء أو لأب أو لأم ( فلأمه السدس ) مما ترك ( فمضت السنة أن الإخوة اثنان فصاعدا ) وبه قال الجمهور وقال ابن عباس لا يحجبها إلا ثلاثة روى البيهقي عن ابن عباس أنه دخل على عثمان فقال إن الأخوين لا يردان الأم عن الثلث قال الله تبارك وتعالى { فإن كان له إخوة } سورة النساء الآية 11 فالأخوان ليسا بلسان قومك إخوة فقال عثمان لا أستطيع أن أغير ما كان قبلي ومضى في الأمصار وتوارث به الناس واحتج بالآية أيضا من قال لا يحجبها الأخوات لأن لفظ الإخوة خاص بالذكور كالبنتين والجمهور على خلاف ذلك أيضا
4 ميراث الإخوة للأم ( قال مالك الأمر المجتمع عليه عندنا أن الإخوة للأم لا يرثون مع الولد ولا مع ولد الابن ذكرانا كانوا أو إناثا شيئا ) مفعول يرثون ( ولا يرثون مع الأب ولا مع الجد أبي الأب شيئا وأنهم يرثون فيما سوى ذلك ) المذكور من الستة ( يفرض للواحد منهم السدس ذكرا كان أو أنثى فإن كانا اثنين فلكل واحد منهم السدس فإن كانوا أكثر من ذلك ) ثلاثة فصاعدا ( فهم شركاء في الثلث يقتسمونه بينهم بالسواء للذكر مثل حظ ) نصيب ( الأنثى وذلك أن الله تبارك وتعالى يقول في كتابه ) العزيز ( وإن كان ) الميت ( رجل يورث ) منه صفة لرجل ( كلالة ) خبر كان أي وإن كان رجل مورث منه كلالة أو يورث خبر كان وكلالة حال من ضمير يورث أي ولا ولد له ولا والد على الأشهر في معنى الكلالة وهي في الأصل مصدر بمعنى الكلال وهو ذهاب القوة من الإعياء ( أو امرأة ) عطف على رجل ( وله أخ أو أخت ) أي من أم كما قرأ به سعد ابن أبي وقاص أخرجه سعيد بن منصور وغيره ( فلكل واحد منهما السدس فإن كانوا أكثر من ذلك فهم شركاء في الثلث )
____________________
(3/138)
لأنهم ورثوا بقرابة الأم وهي لا ترث أكثر من الثلث ( فكأن الذكر والأنثى في هذا بمنزلة واحدة ) لأن النص على الشركة صريح في التسوية ولا سيما وقد بين المراد في غيرهم
5 ميراث الإخوة للأب والأم ( قال مالك الأمر المجتمع عليه عندنا أن الإخوة للأب والأم ) أي الأشقاء ( لا يرثون مع الولد الذكر شيئا ولا مع ولد الابن الذكر شيئا ولا مع الأب دنيا ) بكسر الدال وإسكان النون بعدها تحتية أي قربا احترازا من الجد أبي الأب ( شيئا وهم يرثون مع البنات وبنات الأبناء ما لم يترك المتوفى جدا أبا أب ما فضل من المال ) مفعول يرثون ( يكونون فيه عصبة يبدأ بمن كان له أصل فريضة مسماة فيعطون فرائضهم فإن فضل بعد ذلك فضل ) زيادة على الفريضة ( كان للإخوة للأب والأم ) أي الأشقاء ( يقتسمونه بينهم على كتاب الله عز وجل ذكرانا كانوا أو إناثا للذكر مثل حظ الأنثيين فإن لم يفضل شيء فلا شيء لهم ) لأنهم عصبة يسقطون باستغراق ذوي الفروض السهام ( قال وإن لم يترك المتوفى أبا ولا جدا أبا أب ولا ابنا ولا ولد ابن ذكرا كان أو أنثى فإنه يفرض للأخت الواحدة للأب والأم النصف فإن كانتا اثنتين فما فوق ذلك من الأخوات للأب والأم فرض لهما الثلثان فإن كان معهما أخ ذكر فلا فريضة لأحد من الأخوات واحدة كانت أو أكثر من ذلك يبدأ بمن شركهم ) في الميراث ( بفريضة مسماة فيعطون فرائضهم فما فضل بعد ذلك من شيء كان بين الإخوة للأب والأم للذكر مثل
____________________
(3/139)
حظ الأنثيين إلا في فريضة واحدة فقط لم يكن لهم ) أي الأشقاء ( فيها شيء ) لاستغراق أصحاب الفروض للسهام ( فاشتركوا مع بني الأم فيها ) لأن الأم تجمعهم ( وتلك الفريضة ) الملقبة بالحمارية والمشتركة وغير ذلك ( هي امرأة توفيت وتركت زوجها وأمها وأخوتها لأمها وأخوتها لأبيها وأمها فكان لزوجها النصف ) إذ لا ولد يحجبه عنه ( ولأمها السدس ولأخوتها لأمها الثلث فلم يفضل شيء بعد ذلك ) للأشقاء فيشترك بنو الأب والأم في هذه الفريضة مع بني الأم في ثلثهم فيكون للذكر مثل حظ الأنثى من أجل أنهم كانوا إخوة الشخص ( المتوفى ) وهو المرأة ( لأمه وإنما ورثوا بالأم ) فما زادهم الأب إلا قربا ( وذلك أن الله تبارك وتعالى قال وإن كان رجل يورث ) صفة والخبر ( كلالة ) أي لا والد له ولا ولد ( أو امرأة ) تورث كلالة ( وله ) أي للموروث كلالة ( أخ وأخت ) أي من أم وقرأ به ابن مسعود وغيره ( فلكل واحد منهما السدس ) مما ترك ( فإن كانوا أكثر من ذلك ) أي من واحد ( فهم شركاء في الثلث ) يستوي فيه ذكرهم وأنثاهم ( فلذلك شركوا ) أي الأشقاء ( في هذه الفريضة ) مع الإخوة للأم ( لأنهم كلهم إخوة المتوفى لأمه ) فلذا اشتركوا في الثلث
6 ميراث الإخوة للأب ( قال مالك الأمر المجتمع عليه عندنا أن ميراث الإخوة للأب إذا لم يكن معهم أحد من بني الأب والأم ) أي الأشقاء ( كمنزلة الإخوة للأب سواء ذكرهم كذكرهم وأنثاهم كأنثاهم إلا أنهم لا يشركون مع بني الأم في الفريضة التي شركهم فيها بني الأب والأم ) وهي السابقة فوق هذه الترجمة
____________________
(3/140)
( لأنهم ) أي الإخوة للأب ( خرجوا من ولادة الأم ) أي أنها لم تلدهم الأم ( التي جمعت أولئك ) أي الأشقاء إذ الأم مختلفة فلم يجتمعوا في الولادة فيسقطون ( قال مالك ) موضحا لما حكى عليه الإجماع ( فإن اجتمع الإخوة للأب والأم والإخوة للأب فكان في بني الأب والأم ذكر فلا ميراث لأحد من بني الأب ) لتقديم الأشقاء عليهم لإدلائهم بجهتين ( وإن لم يكن بنو الأب والأم إلا امرأة واحدة وأكثر من ذلك من الإناث ) اثنتان فصاعدا ( لا ذكر معهن فإنه يفرض للأخت الواحدة للأب والأم النصف ويفرض للأخوات للأب السدس تتمة الثلثين فإن كان مع الأخوات للأب ذكر فلا فريضة لهن ويبدأ بأهل الفرائض المسماة فيعطون فرائضهم ) فإن كانت شقيقة واحدة أعطيت النصف واثنتان فأكثر الثلثين ( فإن فضل بعد ذلك فضل كان بين الإخوة للأب للذكر مثل حظ الأنثيين فإن لم يفضل شيء فلا شيء لهم ) كما في المشتركة السابقة ( فإن كان الإخوة للأب والأم امرأتين أو أكثر من ذلك من الإناث فرض لهن الثلثان ) كما قال تعالى { فإن كانتا اثنتين فلهما الثلثان مما ترك } النساء 176 ولا ميراث معهن للأخوات للأب إلا أن يكون معهن أخ لأب فإن كان معهن أخ لأب بدىء بمن شركهم بفريضة مسماة فأعطوا فرائضهم فإن فضل بعد ذلك فضل كان بين الإخوة للأب للذكر مثل حظ الأنثيين وإن لم يفضل شيء فلا شيء لهم لأنهم عصبة يسقطون باستغراق الفروض ( ولبني الأم مع بني الأب والأم ومع بني الأب للواحد السدس وللإثنين فصاعدا الثلث للذكر منهم مثل حظ الأنثى هم فيه بمنزلة واحدة سواء ) لوراثتهم بالأم
____________________
(3/141)
7 ميراث الجد ( مالك عن يحيى بن سعيد ) الأنصاري ( أنه بلغه أن معاوية بن أبي سفيان ) صخر بن حرب الأموي ( كتب إلى زيد بن ثابت ) الأنصاري الذي قال فيه النبي صلى الله عليه وسلم أفرضكم زيد ( يسأله عن الجد فكتب إليه زيد بن ثابت أنك كتبت إلي تسألني عن الجد والله أعلم وذلك ما لم يكن يقضي فيه إلا الأمراء ) يعني الخلفاء ( وقد حضرت الخليفتين قبلك ) يعني عمر وعثمان ( يعطيانه النصف مع الأخ الواحد والثلث مع الاثنين فإن كثرت الإخوة لم ينقصوه من الثلث ) وروى البيهقي بإسناد صحيح أن عمر قضى أن الجد يقاسم الإخوة للأب والإخوة للأم ما كانت المقاسمة خيرا له من الثلث فإن كثرت الإخوة أعطى للجد الثلث وفي فوائد أبي جعفر الرازي بسند صحيح عن عبيدة بن عمرو قال حفظت عن عمر في الجد مائة قضية مختلفة واستبعده بعضهم وتأوله الرازي صاحب المسند على اختلاف حال من يرث مع الجد كأن يكون له أخ واحد أو أكثر أو أخت واحدة أو أكثر ورد بما رواه يزيد بن هارون عن عبيدة بن عمرو قال إني لأحفظ عن عمر في الجد مائة قضية كلها ينقض بعضها بعضا
( مالك عن ابن شهاب عن قبيصة ) بفتح القاف وكسر الموحدة وإسكان التحتية وصاد مهملة مفتوحة فهاء ( ابن ذؤيب ) بذال معجمة مصغر الخزاعي المدني نزيل دمشق من أولاد الصحابة وله رؤية مات سنة بضع وثمانين ( أن عمر بن الخطاب فرض للجد الذي يفرض له الناس اليوم ) من مقاسمة الأخ الواحد بالنصف والاثنين بالثلث فإن زادوا فله الثلث
( مالك أنه بلغه عن سليمان بن يسار أنه قال فرض عمر بن الخطاب وعثمان بن عفان وزيد بن ثابت للجد مع الإخوة الثلث ) ولعبد الرزاق
____________________
(3/142)
عن إبراهيم النخعي قال كان زيد يشرك الجد مع الإخوة إلى الثلث فإذا بلغ الثلث أعطاه وللإخوة ما بقي
( قال مالك والأمر المجتمع عليه عندنا والذي أدركت عليه أهل العلم ببلدنا أن الجد أبا الأب لا يرث مع الأب دنيا شيئا ) لإدلائه به ( وهو يفرض له مع الولد الذكر ومع ابن الابن الذكر السدس فريضة ) كالأب ومع بنت أو بنتي ابن وإن سفل فصاعدا السدس فرضا والباقي تعصيبا
ففي الصحيح عن ابن عباس وابن الزبير أن الذي قال فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم لو كنت متخذا من هذه الأمة خليلا لاتخذته ولكن خلة الإسلام أفضل فإنه أنزله أبا
( وهو فيما سوى ذلك ما لم يترك المتوفى أما أو أختا لأبيه يبدأ بأحد إن شركه بفريضة مسماة فيعطون فرائضهم فإن فضل من المال السدس فما فوقه فرض للجد السدس فريضة ) لأنه لا ينقص عنه ( قال مالك والجد والإخوة للأب والأم إذا شركهم أحد بفريضة مسماة يبدأ بمن شركهم من أهل الفرائض فيعطون فرائضهم فما بقي بعد ذلك للجد والإخوة من شيء فإنه ينظر أي ذلك أفضل لحظ الجد أعطيه ) الجد وبين الأفضل بقوله ( الثلث مما بقي له وللإخوة أو يكون بمنزلة رجل من الإخوة فيما يحصل له ولهم يقاسهم بمثل حصة أحدهم أو السدس من رأس المال كله أي ذلك كان أفضل لحظ الجد أعطيه الجد وكأن ما بقي بعد ذلك للإخوة للأب للذكر مثل حظ الأنثيين إلا في فريضة واحدة ) تسمى الأكدرية وبالغراء ( تكون قسمتهم فيها على غير ذلك وتلك الفريضة امرأة توفيت وتركت زوجها وأمها وأختها لأمها وأبيها ) أي شقيقتها ومثلها الأخت للأب ( وجدها فللزوج النصف وللأم الثلث وللجد السدس وللأخت للأب والأم النصف ) فأصلها من ستة وعالت إلى تسعة
____________________
(3/143)
( ثم يجمع سدس الجد ونصف الأخت ) الشقيقة أو التي للأب ( فتقسم أثلاثا للذكر مثل حظ الأنثيين فيكون للجد ثلثاه وللأخت ثلثه ) والأربعة لا تنقسم على ثلاثة ولا توافق فتضرب المسألة بعولها تسعة في ثلاثة فللزوج ثلاثة في ثلاثة بتسعة وللأم اثنان في ثلاثة بستة وللجد ثمانية وللأخت أربعة
( وميراث الإخوة للأب مع الجد إذا لم يكن معهم إخوة لأب وأم كميراث الإخوة للأب والأم سواء ذكرهم كذكرهم وأنثاهم كأنثاهم فإذا اجتمع الإخوة للأب والأم والإخوة للأب فإن الإخوة للأب والأم يعادون الجد بإخوتهم لأبيهم فيمنعونه بهم كثرة الميراث بعددهم ) ثم يحجبونهم وعبر بالمفاعلة لأنهم يعدونه على الجد وهو يسقط عددهم ويعد الشقائق خاصة فحصل منه عد لكن للشقيق دون من للأب
قال ابن عبد البر تفرد زيد من بين الصحابة في معادته الجد بالإخوة للأب مع الإخوة الأشقاء وخالفه كثير من الفقهاء القائلين بقوله في الفرائض في ذلك لأن الإخوة من الأب لا يرثون مع الأشقاء فلا معنى لإدخالهم معهم لأنه حيف على الجد في المقاسمة
قال وقد سأل ابن عباس زيدا عن ذلك فقال إنما أقول في ذلك برأيي كما تقول أنت برأيك انتهى
( ولا يعادون بالإخوة للأم لأنه لو لم يكن مع الجد غيرهم لم يرثوا معه شيئا وكان المال كله للجد فما حصل للإخوة من بعد حظ الجد فإنه يكون للإخوة من الأب والأم دون الإخوة للأب ولا يكون للإخوة للأب معهم شيء إلا أن يكون الإخوة للأب والأم امرأة واحدة فإن كانت امرأة واحدة فإنها تعاد الجد بإخوتها لأبيها ما كانوا فما حصل لها ولهم من شيء كان لها دونهم ما بينها وبين أن تستكمل فريضتها وفريضتها النصف من رأس المال كله فإن كان فيما يحاز لها ولإخوتها لأبيها فضل عن نصف رأس المال كله ) الذي اختصت به ( فهو لإخوتها لأبيها للذكر مثل حظ الأنثيين فإن لم يفضل شيء فلا شيء لهم ) لأنهم عصبة
____________________
(3/144)
8 ميراث الجدة ( مالك عن ابن شهاب ) محمد بن مسلم الزهري ( عن عثمان بن إسحاق بن خرشة ) بمعجمتين بينهما راء مفتوحات القرشي العامري المدني وثقة ابن معين في رواية وقال ابن عبد البر لا أعرف عثمان هذا بأكثر من رواية ابن شهاب عنه هذا الحديث وحسبك برواية ابن شهاب عنه ( عن قبيصة ابن ذؤيب ) الخزاعي يكنى أبا إسحاق ويقال أبا سعيد ولد يوم الفتح وقيل يوم حنين وأتى به النبي صلى الله عليه وسلم لما ولد ودعا له
وقيل ولد أول سنة الهجرة وتعقبوه
وذكره ابن شاهين في الصحابة وقال ابن قانع له رؤية وروى عن النبي صلى الله عليه وسلم وعن عمر وعثمان وبلال وعبد الرحمن بن عوف وغيرهم
وروى عنه ابن إسحاق والزهري ومكحول وغيرهم وعده أبو الزناد في فقهاء المدينة ومات سنة ست وثمانين وقيل قبلها وقيل سنة ثمان وثمانين
قال ابن عبد البر روى معمر ويونس وأسامة بن زيد وابن عيينة وجماعة هذا الحديث عن ابن شهاب عن قبيصة لم يدخلوا بينهما أحدا والحق ما قاله مالك وقد تابعه عليه أبو أويس انتهى
وكذا قال الترمذي والنسائي الصواب حديث مالك ( أنه قال جاءت الجدة ) أم الأم ( إلى أبي بكر الصديق تسأله ميراثها ) من ولد بنتها ( فقال لها أبو بكر مالك في كتاب الله شيء وما علمت لك في سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئا فارجعي حتى أسأل الناس ) عن ذلك ( فسأل الناس ) بعد ما صلى الظهر كما في رواية عبد الرزاق عن معمر ( فقال المغيرة بن شعبة ) بن مسعود الثقفي أسلم قبل الحديبية وولي إمارة البصرة ثم الكوفة ومات سنة خمسين على الصحيح ( حضرت رسول الله صلى الله عليه وسلم أعطاها السدس فقال أبو بكر هل معك غيرك ) مريدا زيادة الثلث والاستظهار مع الإمكان وفشو الحديث لا عدم قبول خبر الواحد ( فقام محمد بن مسلمة الأنصاري ) أكبر من اسمه محمد من الصحابة وكان من الفضلاء مات بعد الأربعين ( فقال مثل ما قال المغيرة فأنفذه ) بذال معجمة ( لها أبو بكر الصديق ثم جاءت الجدة الأخرى ) أم لأب كما رواه ابن وهب ( إلى عمر بن الخطاب تسأله ميراثها فقال مالك في كتاب الله عز وجل شيء وما كان
____________________
(3/145)
القضاء الذي قضى به ) من النبي صلى الله عليه وسلم وخليفته ( إلا لغيرك ) أي أم الأم ( وما أنا بزائد في الفرائض شيئا ) حتى أقيس ( ولكنه ذلك السدس فإن اجتمعتما فهو بينكما ) بالسوية ( وأيتكما خلت به ) أي انفردت ( فهو لها ) وفيه أن الصديق لم يكن له قاض قاله أبو عمر ولا خلاف فيه وذهب العراقيون أن أول من استقضى عمر فبعث شريحا إلى الكوفة قاضيا وبعث كعب بن سور إلى البصرة قاضيا
وقال مالك أول من استقضى معاوية وهذا الحديث رواه أصحاب السنن من طريق مالك وغيره
( مالك عن يحيى بن سعيد ) بن قيس بن عمرو الأنصاري ( عن القاسم بن محمد ) بن الصديق ( أنه قال أتت الجدتان ) أم الأب وأم الأم ( إلى أبي بكر الصديق فأراد أن يجعل السدس للتي من قبل الأم ) لأنها التي أعطاه لها النبي صلى الله عليه وسلم ( فقال له رجل من الأنصار ) هو عبد الرحمن بن سهل أخبرني حارثة كما في سنن البيهقي ( أما ) بالفتح وخفة الميم ( أنك تترك التي لو ماتت وهو حي كان إياها يرث ) لأنه ابن ابنها وتعطي من لو ماتت وهو حي لم يرثها لأنه ابن بنتها
وفي رواية البيهقي فقال عبد الله يا خليفة رسول الله قد أعطيت التي لو أنها ماتت لم يرثها ( فجعل أبو بكر السدس بينهما ) وكأنه لم يبلغ عمر فقال ما كان القضاء إلا لغيرك
زاد في رواية البيهقي وقد روي هذا عنه صلى الله عليه وسلم بإسناد مرسل ثم روي من طريق إسحاق بن يحيى بن الوليد بن عبادة بن الصامت عن عبادة أن من قضاء رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قضى للجدتين من الميراث بينهما السدس سواء قال وإسحاق عن عبادة مرسل أي منقطع
( مالك عن عبد ربه بن سعيد ) أخي يحيى ( أن أبا بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام كان لا يفرض إلا للجدتين ) أم الأم وأم الأب ( قال مالك والأمر المجتمع عليه الذي لا اختلاف فيه والذي أدركت عليه أهل العلم ببلدنا أن الجدة أم الأم لا ترث مع الأم دنيا شيئا ) لإدلائها بها فحجبتها ( وهي فيما سوى ذلك يفرض لها السدس فريضة وإن الجدة أم الأب لا ترث مع الأم ) لأنها تسقطها ( ولا مع الأب شيئا ) لأنها أدلت به ( وهي فيما سوى ذلك يفرض لها السدس فريضة ) إذا انفردت ( فإذا اجتمعت
____________________
(3/146)
الجدتان أم الأب وأم الأم وليس للمتوفى دونهما أب ولا أم فإني سمعت أن أم الأم إذا كانت أقعدهما ) أقربهما للمتوفى ( لها السدس دون أم الأب ) أي الأم التي من جهته وهي أم أمه ( فإن كانت أم الأب أقعدهما ) أقربهما والبعدى إنما هي التي من جهة الأم كأم أم الأم ( أو كانتا في القعدد ) بضم القاف ( من المتوفى بمنزلة سواء فإن السدس بينهما نصفين قال مالك ولا ميراث لأحد من الجدات إلا للجدتين ) أم الأم وأم الأب وإن عليا فإحداهما من ليس بينهما وبين الميت ذكر أصلا والثانية من بينها وبينه ذكر هو الأب فقط فأم الأب وأم أمه وإن علت ترثها وأما أم جده لأمه فلا ترث اتفاقا وأما أم جده لأبيه فلا ترث عند مالك واحتج بقول ( لأنه بلغني ) في الحديث الذي أسنده قريبا وهذا مما يعطيك أنه يطلق البلاغ على الصحيح ( أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ورث الجدة ثم سأل أبو بكر ) في خلافته ( عن ذلك حتى أتاه الثبت ) بفتح الموحدة ( عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه ورث الجدة ) أم الأم كما رواه ابن وهب ( فأنفذ لها ثم أتت الجدة الأخرى ) أم الأب ( إلى عمر بن الخطاب فقال لها ما أنا بزائد في الفرائض شيئا فإن اجتمعتما فهو بينكما أيتكما خلت ) انفردت ( به فهو لها قال مالك ثم لم نعلم أن أحدا ورث غير جدتين منذ كان الإسلام إلى اليوم ) قال العلماء مثله لم يصح عنده أو لم يبلغه توريث زيد وعلي وابن عباس وابن مسعود ومن وافقهم لأم الجد للأب
9 ميراث الكلالة قال أبو بكر الصديق هي من لم يرثه أب ولا ابن أخرجه ابن أبي شيبة وعليه جمهور العلماء من الصحابة والتابعين ومن بعدهم
قال أبو ميسرة عمرو بن شرجيل التابعي الكبير ما رأيتهم إلا تواطأوا على ذلك رواه عبد الرزاق بإسناد صحيح
قال أبو عبيد وهي مصدر من تكلله النسب أي تعطف النسب عليه وزاد غيره كأنه أخذ طرفيه من جهة الولد والوالد وليس له فيهما أحد وهو قول البصريين
____________________
(3/147)
قالوا وهو مأخوذ من الإكليل كأن الورثة أحاطوا به وليس له أب ولا ابن وقيل هو من كل يكل يقال كلت النسب إذا تباعدت وطال انتسابها وقيل الكلالة من سوى الولد وولد الولد وقيل من سوى الوالد وقيل هم الإخوة وقيل من الأم
وقال الأزهري سمي الذي لا والد له كلالة وسمي الوارث كلالة وسمي الإرث كلالة
وعن عطاء هي المال وقيل الفريضة وقيل الورثة والمال وقيل بنو العم ونحوهم وقيل العصبة وإن بعدوا وقيل غير ذلك ولكثرة الاختلاف فيها صح عن عمر أنه قال لم أقل في الكلالة شيئا
( مالك عن زيد بن أسلم أن عمر بن الخطاب ) مرسل عند يحيى والأكثر ووصله القعنبي وابن القاسم عن مالك عن زيد بن أسلم عن أبيه عن عمر أنه ( سأل رسول الله صلى الله تعالى عليه وعلى آله وسلم عن الكلالة ) لأنها وردت بلفظها مرتين في القرآن واختلفت الورثة ففي أول النساء لأخوة للأم وفي آخرها أشقاء أو لأب
( فقال رسول الله صلى الله تعالى عليه وعلى آله وسلم يكفيك من ذلك الآية التي أنزلت في الصيف آخر سورة النساء ) كذا ليحيى وعند القعنبي في آخر سورة النساء
قال الواحدي أنزل الله في الكلالة آيتين إحداهما في الشتاء وهي في أول النساء والأخرى في الصيف وهي التي في آخرها
وفي مسلم عن عمر ما راجعت رسول الله صلى الله عليه وسلم في شيء ما راجعته في الكلالة وما أغلظ لي في شيء ما أغلظ لي فيه حتى طعن بأصبعه في صدري وقال يا عمر ألا تكفيك آية الصيف التي في آخر النساء
وروى الحاكم عن أبي هريرة أن رجلا قال يا رسول الله ما الكلالة قال أما سمعت الآية التي نزلت في الصيف { يستفتونك قل الله يفتيكم في الكلالة } سورة النساء الآية 176 وفيه فضل عمر عنده صلى الله عليه وسلم وأنه ممن يستنبط المعاني من القرآن لأنه رد ذلك إلى نظره واستنباطه بقوله يكفيك الخ إذ لو كان عنده لا يدري ذلك للزمه إيضاحه له فطعن بعض الملحدة على عمر بهذه القصة مما بان به جهلهم
( قال مالك والأمر عندنا المجتمع عليه الذي لا اختلاف فيه والذي أدركت عليه أهل العلم ببلدنا أن الكلالة على وجهين فأما الآية التي أنزلت في أول النساء ) في الشتاء من قوله { يوصيكم الله في أولادكم } النساء 11 إلى قوله تبارك وتعالى { وإن كان رجل يورث } صفة والخبر ( كلالة ) أو يورث خبر وكلالة حال من ضميره ( أو امرأة ) تورث كلالة ( وله أخ أو أخت ) من أم كما قرأ به ابن مسعود وابن
____________________
(3/148)
أبي وقاص ( فلكل واحد منهما السدس ) مما ترك ( فإن كانوا أكثر من ذلك ) اثنين فصاعدا ( فهم شركاء في الثلث ) يستوي فيه ذكرهم وأنثاهم ( فهذه الكلالة التي لا يرث فيها الأخوة للأم حتى لا يكون ) يوجد ( ولد ولا والد ) للميت ( وأما الآية التي في آخر سورة النساء ) وهي الصيفية ( قال الله تبارك وتعالى يستفتونك ) أي يستخبرونك في الكلالة والاستفتاء طلب الفتوى يقال استفتيت الرجل في المسألة فأفتاني فتوى وفتيا وهما اسمان وضعا موضع الإفتاء ويقال أفتيت فلانا في رؤيا رآها قال تعالى { يوسف أيها الصديق أفتنا في سبع بقرات سمان } يوسف 46 ومعنى الإفتاء إظهار المشكل ( قل الله يفتيكم في الكلالة ) متعلق بيفتيكم على إعمال الثاني وهو اختيار البصريين ولو أعمل الأول لأضمر في الثاني وله نظائر في القرآن كقوله { هاؤم اقرؤوا كتابيه } الحاقة 19 وفي مراسيل أبي داود عن أبي سلمة بن عبد الرحمن قال رجل يا رسول الله ما الكلالة قال من لم يترك ولدا ولا والدا فورثته كلالة ( إن امرؤ ) مرفوع بفعل يفسره ( هلك ) مات ( ليس له ولد ) رفع على الصفة أي هلك امرؤ غير ذي ولد أي ابن وإن وقع ولد على الأنثى لأن الابن يسقط الأخت ولا تسقطها البنت ( وله أخت ) شقيقة أو لأب ( فلها نصف ما ترك ) الميت والفاء جواب إن ( وهو يرثها ) جملة استئنافية لا محل لها من الإعراب دالة على جواب الشرط وليست جوابا خلافا للكوفيين وأبي زيد والضميران عائدان على لفظ امرؤ وأخت دون معناهما فهو من باب قوله وكل أناس قاربوا قيد فحلهم ونحن خلعنا قيده فهو سارب والهالك لا يرث فالمعنى وامرؤ آخر غير الهالك يرث أختا له أخرى ( وإن لم يكن لها ولد ) ذكر فإن كان فلا شيء للأخ وإن كان أنثى فللأخ ما فضل عن فرض البنات وهذا في الأخ للأبوين أو للأب فإن كان لأم ففرضه السدس كما في أول السورة ( فإن كانتا ) أي الأختان ( اثنتين ) أي فصاعدا لأنها نزلت في جابر وقد كان له أخوات ( فلهما ) أو لهن ( الثلثان مما ترك ) الميت ( وإن كانوا ) أي الورثة بالأخوة ( إخوة ) وأخوات فغلب المذكر ( رجالا ونساء ) ذكورا وإناثا ( فللذكر ) منهم ( مثل حظ الأنثيين ) حذف منهم لدلالة المعنى عليه ( يبين الله لكم ) شرائع دينكم ( أن تضلوا ) مفعول لأجله بتقدير مضاف أي كراهة أن تضلوا في حكمها كذا قدر المبرد وقال الكسائي وغيره لا محذوفة بعد أن والتقدير لئلا تضلوا قالوا وحذف لا سائغ ذائع
( والله بكل شيء عليم ) يعلم الأشياء بكنهها قبل كونها وبعده ومنه الميراث
وفي الصحيحين عن البراء آخر آية نزلت خاتمة النساء { قل الله يفتيكم في الكلالة } سورة النساء الآية 176 أي من الفرائض ( قال مالك فهذه
____________________
(3/149)
الكلالة التي تكون فيها الإخوة عصبة إذا لم يكن ولد ) ذكر ( فيرثون مع الجد في الكلالة فالجد يرث مع الإخوة لأنه أولى بالميراث منهم وذلك ) أي بيان أولويته ( أنه يرث مع ذكور ولد المتوفى السدس ) باتفاق كالأب ( والإخوة لا يرثون مع ذكور ولد المتوفى شيئا ) بل يسقطونهم ( وكيف لا يكون ) الجد ( كأحدهم ) أي الإخوة ( وهو يأخذ السدس مع ولد المتوفى فكيف لا يأخذ الثلث مع الإخوة ) الأشقاء أو لأب ( وبنو الأم يأخذون معهم الثلث فالجد هو الذي حجب الإخوة للأم ومنعهم مكانه ) بالرفع فاعل أي وجوده ( الميراث ) مفعول ( فهو أولى ) أي أحق ( بالذي كان لهم ) لو لم يكن الجد ( لأنهم سقطوا من أجله ولو أن الجد لم يأخذ ذلك الثلث أخذه بنوا الأم فإنما أخذ ما لم يكن يرجع إلى إخوة للأب ) لو لم يكن جد ( وكان الإخوة للأم هم أولى ) أحق ( بذلك الثلث من الإخوة للأب وكان الجد هو أولى به من الإخوة للأم ) ولفظ أولى في هذه الألفاظ ليست للتفضيل لأنه حق لهم لا يشاركون فيه ولكنه عبر بذلك لأنه أورده في مقام الاستدلال
10 ما جاء في العمة 112( مالك عن محمد بن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم ) بالمهملة والزاي الأنصاري النجاري المدني قاضيها ( عن عبد الرحمن بن حنظلة الزرقي ) بضم الزاي وفتح الراء وبالقاف بطن
____________________
(3/150)
من الأنصار ( أنه أخبره عن مولى لقريش كان قديما يقال له ابن مرسي ) بكسر الميم وإسكان الراء وسين مهملة فتحتية أخرى ( أنه قال كنت جالسا عند عمر بن الخطاب فلما صلى الظهر قال ) لحاجبه ومولاه ( يا يرفا ) بفتح التحتية وإسكان الراء وبالفاء آخره ألف مخضرم أدرك الجاهلية وحج مع عمر في خلافة أبي بكر تقدم في الصلاة ( هلم ) احضر ( ذلك الكتاب لكتاب كتبه في شأن العمة فنسأل ) بالنصب في جواب الأمر ( عنها ونستخبر ) بموحدة من الاستخبار ( فيها ) الناس ( فأتى به يرفا ) وكأنه بعدما أتاه تغير ما كان رآه من سؤال الناس فصمم على محوه ( فدعا بتور ) بفتح الفوقية إناء يشبه الطشت ( أو قدح ) بالشك أو المراد طلب ما تيسر منهما ( فيه ماء فمحا ذلك الكتاب ) ثم قال ( لو رضيك الله وارثة أقرك ) أثبتك في كتابه كما أقر النساء الوارثات فيه ( لو رضيك الله أقرك ) أعاده للتأكيد وقيل أقرك حتى أسأل وأستخبر
( مالك عن محمد بن أبي بكر بن حزم ) نسبه لجده لشهرته ( أنه سمع أباه كثيرا يقول كان عمر بن الخطاب يقول عجبا للعمة تورث ) أي يرثها أبناء أخيها ( ولا ترث ) منهم شيئا
11 ميراث ولاية العصبة ( مالك الأمر المجتمع عليه عندنا الذي لا اختلاف فيه والذي أدركت عليه أهل العلم ببلدنا أن الأخ للأب والأم أولى بالميراث من الأخ للأب ) لأنه يدلي بجهتين ( والأخ للأب أولى بالميراث من بني الأخ للأب والأم ) لأنه أقرب للميت ( وبنو الأخ للأب والأم أولى من بني الأخ للأب ) لإدلائهما بجهتين مع استواء الدرجة
( وبنو الأخ للأب أولى من بني ابن الأخ للأب والأم ) لأنهم أقرب ( وبنو ابن الأخ للأب أولى من العم أخي الأب للأب والأم ) لقربهم ( والعم أخو الأب للأب والأم أولى من العم
____________________
(3/151)
أخي الأب للأب والأم ) لإدلائه بالجهتين
( والعم أخو الأب للأب أولى من بني العم أخي الأب للأب والأم ) لأنه أقرب ( وابن العم للأب أولى من عم الأب أخي أبي الأب للأب والأم ) أي الشقيق القرب الأول فحاصله أن تقديم الشقيق إنما هو مع التساوي فإن كان الذي للأب أقرب قدم كما أشار إليه حيث ( قال مالك وكل شيء سئلت ) بفتح التاء للخطاب ( عنه من ميراث العصبة فإنه على نحو هذا ) أي مثله ( انسب المتوفى ومن ينازع في ولايته من عصبته فإن وجدت أحدا منهم يلقى المتوفى إلى أب لا يبقاه أحد منهم إلى أب دونه فاجعل ميراثه للذي يلقاه إلى الأب الأدنى دون من يلقاه إلى فوق ذلك ) وأفاد بهذا أيضا أن أولى في كلامه كلها بمعنى أنه يستحقه دون غيره لا المشاركة ( فإن وجدتهم كلهم يلقونه إلى أب واحد يجمعهم جميعا فانظر أقعدهم ) أقربهم ( في النسب فإن كان ) الأقعد ( ابن أب فقط فاجعل الميراث له دون الأطراف ) أي الأبعد ( وإن كان ابن أب وأم ) مبالغة فلا شيء للأبعد الشقيق مع الأقرب الذي لأب ( فإن وجدتهم مستوين ينتسبون من الآباء إلى عدد واحد حتى يلقوا نسب المتوفى جميعا وكانوا كلهم جميعا بني أب أو بني أب وأم ) معا ( فاجعل الميراث بينهم سواء وإن كان والد بعضهم أخا والد المتوفى للأب والأم وكان من سواه منهم إنما هو أخو أبي المتوفى لأبيه فقط فإن الميراث لبني أخي المتوفى لأبيه وأمه ) لأنه يدلي بالجهتين ( دون بني الأخ للأب ) لإدلائه بجهة واحدة ( وذلك أن الله تبارك وتعالى قال وأولو الأرحام ) ذووا القرابات ( بعضهم أولى ببعض في كتاب الله )
____________________
(3/152)
اللوح المحفوظ ( إن الله بكل شيء عليم ) ومنه حكمة الميراث والآية وإن كان سياقها في أنهم أولى في الإرث من التوارث بالإيمان ولهجرة المذكور في الآية التي قبلها لكن الإمام استدل بعموم لفظها على ما ذكره أيضا
( قال مالك والجد أبو الأب أولى من بني الأخ للأب والأم وأولى من العم أخو الأب للأب والأم بالميراث ) فيقدم عليهم فيمنعهم الميراث ( وابن الأخ للأب والأم أولى من الجد بولاء الموالي ) فيقدم على الجد
12 من لا ميراث له ( مالك الأمر المجتمع عليه الذي لا اختلاف فيه ) تأكيد لسابقه ( والذي أدركت عليه أهل العلم ببلدنا أن ابن الأخ للأم والجد أبا الأم والعم أخا الأب للأم والخال والجدة أم أبي الأم وابنة الأخ للأب والأم والعمة والخالة لا يرثون بأرحامهم شيئا ) ولو لم يكن وارث غيرهم بل يكون لبيت المال ( وأنه لا يرث امرأة هي أبعد نسبا من المتوفى ممن سمي في هذا الكتاب ) يعني الأربعة المذكورة ( برحمها شيئا وإنه لا يرث أحد من النساء شيئا إلا حيث سمين ) في الكتاب أو السنة ( وإنما ذكر الله تبارك وتعالى في كتابه ميراث الأم من ولدها ) السدس أو الثلث ( وميراث البنات من أبيهن ) ومثلهن بنات الابن ( وميراث الزوجة من زوجها ) الربع أو الثمن ( وميراث الأخوات للأب والأم وميراث الأخوات للأب ) في قوله { وله أخت فلها نصف ما ترك } النساء 176 الآية ( وميراث الأخوات للأم ) في آية الشتاء { وإن كان رجل يورث كلالة أو امرأة وله أخ أو أخت فلكل واحد منهما السدس } النساء 11 الآية فهؤلاء الخمس نسوة الوارثات بنص الكتاب بإدخال بنات الابن في البنات حيث لا بنات ( وورثت الجدة بالذي جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم فيها ) أنه أعطاها السدس ( و ) السابعة ( المرأة ترث من أعتقت هي نفسها ) بالرفع تأكيد ( لأن الله تبارك وتعالى قال في كتابه { فإخوانكم في الدين ومواليكم } سورة الأحزاب الآية
____________________
(3/153)
5 ) ) ومن جملة الموالي الأنثى المعتقة
13 ميراث أهل الملل ( مالك عن ابن شهاب ) محمد بن مسلم ( عن علي بن حسين بن علي ) بن أبي طالب الهاشمي زين العابدين ثقة ثبت عابد فقيه فاضل قال الزهري ما رأيت قرشيا أفضل منه مات سنة ثلاث وتسعين
وقيل غير ذلك ( عن عمر بن عثمان بن عفان ) الأموي كذا قال مالك عمر بضم العين وجميع أصحاب ابن شهاب يقولون عمرو بفتح العين ولابن القاسم عمرو بفتح العين وليحيى بن بكير عن مالك بالشك عمر بن عثمان أو عمرو بن عثمان والثالث عن مالك عمر بضمها كما رواه يحيى والأكثر وذكر ابن مهدي أن مالكا قال له تراني لا أعرف عمر من عمرو هذه دار عمر وهذه دار عمرو ولا خلاف أن عثمان له ابنان عمر وعمرو وإنما الخلاف في هذا الحديث فأصحاب ابن شهاب يقولون عمرو إلا مالكا فقال عمر وراجعه الشافعي ويحيى القطان فقال هو عمر وأبى أن يرجع وقال كان لعثمان ابن اسمه عمر هذه داره ومالك لا يكاد يقاس به غيره حفظا وإتقانا لكن الغلط لا يسلم منه أحد والجماعة أولى أن يسلم لها وأبى المحدثون أن يكون إلا عمرو بالواو قال ابن المديني قيل لابن عيينة مالك يقول عمر فقال لقد سمعته من الزهري كذا وكذا مرة وتفقدته منه فما قال إلا عمرو وقال أحمد بن زهير خالف مالك الناس قاله ابن عبد البر وكذا حكم مسلم وغيره على مالك بالوهم فيه وروى أبو الفضل السليماني عن معن بن عيسى قلت لمالك الناس يقولون إنك تخطىء في أسامي الرجال تقول عبد الله الصنابحي وإنما هو أبو عبد الله وتقول عمر بن عثمان وإنما هو عمرو وتقول عمر بن الحكم وإنما هو معاوية فقال مالك هكذا حفظنا وهكذا وقع في كتابي ونحن نخطىء ومن يسلم من الخطأ وقد جعل ابن الصلاح ذلك مثالا للمنكر وتعقبه العراقي بأنه لا يلزم من تفرد مالك من بين الثقات باسم هذا الراوي مع أن كلا منهما ثقة نكارة المتن ولا شذوذه بل المتن على كل حال صحيح غايته أن يكون السند منكرا أو شاذا لمخالفة الثقات لمالك في ذلك والنكارة تقع في كل من السند والمتن ( عن أسامة بن زيد ) الحب ابن الحب رضي الله عنهما
____________________
(3/154)
( أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لا يرث المسلم الكافر ) ولا الكافر المسلم هكذا بقية الحديث عند جميع أصحاب ابن شهاب فاختصره مالك كأنه قصد إلى النكتة التي للقول فيها مدخل فقطع ذلك بما رواه من صحيح الأثر فيه وذلك أن معاذ بن جبل ومعاوية وسعيد بن المسيب وطائفة ذهبوا إلى أن المسلم يرث الكافر لا عكسه كما ننكح نساءهم ولا ينكحون نساءنا وأما أن الكافر لا يرث المسلم فلا دخل للقول فيه للإجماع عليه قاله ابن عبد البر ومعلوم أن القياس مع وجود النص فاسد الاعتبار وقد احتج له أيضا بقوله صلى الله عليه وسلم الإسلام يعلو ولا يعلى وأجيب بأن معناه تفضيل الإسلام وليس فيه تعرض للإرث فلا يترك النص الصريح لذلك قال ابن عبد البر والذي عليه سائر الصحابة والتابعين وفقهاء الأمصار أن المسلم لا يرث الكافر كما أن الكافر لا يرث المسلم عملا بهذا الحديث فإن الحجة فيما تنازع فيه المسلمون كتاب الله فإن لم يبين فيه ذلك فالسنة وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال لا يرث المسلم الكافر بنقل الأئمة الحفاظ الثقات فكل من خالفه محجوج به
( مالك عن ابن شهاب عن علي بن حسين بن علي بن أبي طالب ) الملقب بزين العابدين المدفون بالمدينة عند عمه الحسن وجدته فاطمة وما يذكر من مشهده بمصر لم يصح ( أنه أخبره إنما ورث أبا طالب ) عبد مناف أو اسمه وكنيته واحد وشذ من قال اسمه عمران بل هو قول باطل ( عقيل ) بفتح العين وكسر القاف الصحابي تأخر إسلامه إلى الفتح وقيل أسلم بعد الحديبية وهاجر في أول سنة ثمان ( وطالب ) الذي يكنى به ومات كافرا قبل بدر لأنهما كانا كافرين وقت موت أبي طالب ( ولم يرثه علي ) ولا جعفر لأنهما كانا مسلمين كما جاء التعليل بذلك في بعض طرق الحديث عند البخاري
( قال ) علي بن حسين ( فلذلك ) أي لأن المسلم لا يرث الكافر ( تركنا نصيبنا ) أي حصة جدهم علي من أبيه أبي طالب ( من الشعب ) بكسر فإسكان كان منزل بني هاشم غير مساكنهم كان لهاشم ثم صار لابنه عبد المطلب فقسمه عبد المطلب بين بنيه حين ضعف بصره وصار للنبي صلى الله عليه وسلم حظ أبيه كذا قال صاحب المطالع وغيره مع أن عبد الله مات في حياة أبيه فلعل أعمام المصطفى جعلوا له حظ أبيه لو كان حيا فيكون ابتداء عطية من أعمامه أو أن عبد المطلب قسمه في حياة عبد الله فلما مات صار للنبي صلى الله عليه وسلم حظ أبيه وهذا على تسليم أنهم كانوا يوافقون شرعنا وإلا فلا إشكال قال الحافظ وهذا يدل على تقدم هذا الحكم من أوائل الإسلام لموت أبي طالب قبل الهجرة ويحتمل أن الهجرة لما وقعت استولى عقيل وطالب على ما خلفه أبو طالب وكان وضع يده على ما خلفه أبو النبي صلى الله عليه وسلم لأنه شقيقه وكان صلى الله عليه وسلم عنده بعد موت جده فلما مات أبو طالب ثم وقعت الهجرة ولم
____________________
(3/155)
يسلم طالب وتأخر إسلام عقيل استوليا على ما خلف أبو طالب ومات طالب قبل بدر وتأخر عقيل فلما تقرر حكم الإسلام بترك توريث المسلم من الكافر استمر ذلك بيد عقيل وكان عقيل قد باع تلك الدور كلها وأقر صلى الله عليه وسلم عقيلا على ما يخصه هو تفضيلا عليه أو استمالة تأليفا أو تصحيحا لتصرفات الجاهلية كما تصحح أنكحتهم
وحكى الفاكهي أن الدار لم تزل بيد أولاد عقيل حتى باعوها لمحمد بن يوسف أخي الحجاج بمائة ألف دينار
( مالك عن يحيى بن سعيد عن سليمان بن يسار أن محمد بن الأشعث ) بن قيس الكندي الكوفي ثقة من كبار التابعين ووهم من ذكره في الصحابة مات سنة سبع وستين ( أخبره أن عمة له يهودية أو نصرانية توفيت وأن محمد بن الأشعث ذكر ذلك لعمر بن الخطاب وقال له من يرثها قال عمر يرثها أهل دينها ) وكذا رواه ابن جرير عن عمرو بن ميمون عن الغرس بن قيس عن عمر خلاف ما رواه الثوري عن حماد عن إبراهيم أن عمر قال أهل الشرك نرثهم ولا يرثونا قاله ابن عبد البر فلعل عمر رجع عن هذا إلى ما قبله
( ثم أتى عثمان ) في خلافته ( فسأله عن ذلك فقال له عثمان أتراني نسيت ما قال لك عمر بن الخطاب يرثها أهل دينها ) وفائدة ذكر هذا ونحوه بعد المرفوع الإشارة لبقاء العمل به فلا يطرقه احتمال نسخ وتابع مالكا في رواية هذا الأثر ابن جريج وابن عيينة وغيرهما عن يحيى بن سعيد به كما في التمهيد
( مالك عن يحيى بن سعيد ) الأنصاري ( عن إسماعيل بن أبي حكيم ) القرشي مولاهم المدني شيخ مالك روى عنه هنا بواسطة ( أن نصرانيا أعتقه عمر بن عبد العزيز هلك قال إسماعيل فأمرني عمر بن عبد العزيز أن أجعل ماله في بيت المال ) لأن المسلم لا يرث الكافر
( مالك عن الثقة عنده أنه سمع سعيد بن المسيب يقول أبى ) أي امتنع ( عمر بن الخطاب أن
____________________
(3/156)
يورث أحدا من الأعاجم إلا أحدا ولد في العرب ) بمجرد دعوى القرابة وإقرار بعضهم لبعض فأما إذا عرف ذلك وثبت بعدول مسلمين فذلك كالولادة في أرض الإسلام يتوارثون بذلك قاله ابن القاسم عن مالك
( قال مالك وإن جاءت امرأة حامل من أرض العدو فوضعته في أرض العرب فهو ولدها يرثها إن ماتت وترثه إن مات ميراثها في كتاب الله ) السدس أو الثلث ( والأمر المجتمع عليه عندنا والسنة التي لا اختلاف فيها والذي أدركت عليه أهل العلم ببلدنا أنه لا يرث المسلم الكافر بقرابة ولا ولاء ) أي عتق فإن كان رقيقا أخذ ماله بالملك لا الإرث ( ولا رحم ) عملا بعموم لا يرث المسلم الكافر ( ولا يحجب أحدا عن ميراثه ) لأن من لا يرث لا يحجب وارثا كما ( قال مالك وكذلك كل من لا يرث إذا لم يكن دونه وارث فإنه لا يحجب أحدا عن ميراثه ) إذ لا معنى لحجب من لا يرث
14 من جهل أمره بالقتل أو غير ذلك ( مالك عن ربيعة بن أبي عبد الرحمن عن غير واحد من علمائهم أنه لم يتوارث من قتل يوم الجمل ) يوم الخميس عاشر جمادى الأولى وقيل خامس عشره سنة ست وثلاثين أضيف إلى الجمل الذي ركبته عائشة في مسيرها إلى البصرة واسمه عسكر اشتراه لها يعلى بن أبي أمية الصحابي بمائتي درهم على الصحيح وقيل بأربعمائة وخرجت مع طلحة والزبير في ثلاثة آلاف منهم ألف من أهل المدينة ومكة تدعو الناس إلى طلب قتلة عثمان لأن كثيرا منهم انضموا إلى عسكر علي من غير رضى منه لكنه خشي الفتنة لكثرتهم وتغلبهم فخرج علي إليهم فراسلوه في ذلك فأبى أن يدفع إليهم إلا بعد قيام دعوى من ولي الدم بثبوت ذلك على من باشره بنفسه وكان بينهم مقتلة عظيمة من ارتفاع الشمس إلى العصر قتل فيها من أصحاب الجمل ثمانية آلاف وقيل سبعة عشر ألفا ومن أصحاب علي
____________________
(3/157)
نحو ألف وقطع على خطام الجمل نحو من ثمانين كفا معظمهم من بني ضبة كلما قطعت يد رجل أخذ الخطام آخر وفي ذلك يقول قائلهم نحن بني ضبة أصحاب الجمل ننازع الموت إذا الموت نزلوالموت أحلى عندنا من العسلوكانوا قد ألبسوه الأدراع إلى أن عقر فانهزموا فأمر علي بحمل الهودج من بين القتلى فاحتمله محمد بن الصديق وعمار بن ياسر وجهز علي عائشة وأخرج أخاها محمدا معها وشيعها علي بنفسه ميالا وسرح بنيه معها يوما
( ويوم صفين ) بكسر الصاد المهملة والفاء الشديدة موضع قرب الرقة بشاطىء الفرات كانت به الوقعة العظمى بين علي ومعاوية غرة صفر سنة سبع وثلاثين فمن ثم احترز الناس السفر في صفر وذلك أن عليا بايعه أهل الحل والعقد بعد قتل عثمان وامتنع معاوية في أهل الشام فكتب إليه علي مع جرير البجلي بالدخول في الطاعة فأبى فخرج إليه علي في أهل العراق في سبعين ألفا فيهم تسعون بدريا وسبعمائة من أهل بيعة الرضوان وأربعمائة من سائر المهاجرين والأنصار وخرج معاوية في أهل الشام في خمسة وثمانين ألفا ليس فيهم من الأنصار إلا النعمان بن بشير ومسلمة بن مخلد والتقى الجمعان بصفين ودامت الحرب مائة يوم وعشرة أيام فقتل من أهل الشام سبعون ألفا ومن أهل العراق عشرون ألفا وقيل خمسة وأربعون ألفا من أهل الشام وخمسة وعشرون ألفا من أهل العراق وآل الأمر في معاوية ومن معه إلى طلب التحكيم ثم رجع علي إلى العراق فخرجت عليه الحرورية فقتلهم بالنهروان ومات بعد ذلك فبايع ابنه الحسن أربعون ألفا على الموت وخرج بالعساكر لقتال أهل الشام وخرج إليه معاوية فوقع بينهم الصلح كما قال صلى الله عليه وسلم إن ابني هذا سيد ولعل الله يصلح به بين فئتين من المسلمين ( ويوم الحرة ) بفتح الحاء المهملة والراء المشددة أرض ذات حجارة سود كأنها أحرقت بالنار بظاهر المدينة كانت به الوقعة بين أهلها وبين عسكر يزيد بن معاوية وهو سبع وعشرون ألف فارس وخمسة عشر ألف راجل سنة ثلاث وستين بسبب خلع أهل المدينة يزيد وولوا على قريش عبد الله بن مطيع وعلى الأنصار عبد الله بن حنظلة وأخرجوا عامل يزيد عثمان بن محمد بن أبي سفيان من بين أظهرهم فأباح مسلم بن عقبة أمير جيش يزيد المدينة ثلاثة أيام يقتلون ويأخذون النهب ووقعوا على النساء حتى قيل حملت في تلك الأيام ألف امرأة من غير زوج وافتض فيها ألف عذراء وبلغت القتلى من وجوه الناس سبعمائة من قريش والأنصار ومن الموالي وغيرهم من نساء وصبيان وعبيد عشرة آلاف وقيل قتل من القراء سبعمائة ثم أخذ عقبة عليهم البيعة ليزيد على أنهم عبيده إن شاء عتق وإن شاء قتل
وفي البخاري عن سعيد بن المسيب أن هذه الوقعة لم تبق من أصحاب الحديبية أحدا ثم سار إلى قتال ابن الزبير بمكة فمات بقديد واستخلف على الجيش حصين بن نمير بعهد يزيد إليه
____________________
(3/158)
بذلك فنزل مكة وحاصرها ورمى الكعبة بالمنجنيق فجاء الخبر بموت يزيد فرحل بالجيش إلى الشام
( ثم كان يوم قديد ) بضم القاف مصغر موضع قرب مكة ( فلم يورث أحد من صاحبه شيئا إلا من علم أنه قتل قبل صاحبه ) إذ لا إرث بالشك
( قال مالك وذلك الأمر الذي لا اختلاف فيه ولا شك عند أحد من أهل العلم ببلدنا ) المدينة ( وكذلك العمل في كل متوارثين هلكا بغرق أو قتل أو غير ذلك من الموت ) كهدم ( إذا لم يعلم أيهما مات قبل صاحبه لم يرث أحد منهما من صاحبه شيئا وكان ميراثهما لمن بقي من ورثتهما يرث كل واحد منهما ورثته من الأحياء ) الموجودين بعده
( قال مالك لا ينبغي ) لا يصح ( أن يرث أحد أحدا بالشك ولا يرث أحد أحدا إلا باليقين من العلم والشهداء وذلك أن الرجل يهلك هو ومولاه الذي أعتقه أبوه فيقول بنو الرجل العربي ) أي الذي أعتق ( قد ورثه أبونا فليس ذلك لهم أن يرثوه ) بدل من اسم الإشارة ونكتته وصفه بقوله ( بغير علم ولا شهادة أنه مات قبله ) بل بمجرد قولهم ( وإنما يرثه أولى الناس به من الأحياء ) أي أقربهم إليه
( ومن ذلك أيضا الأخوان للأب والأم يموتان ولأحدهما ولد والآخر لا ولد له ولهما أخ لأبيهما فلا يعلم أيهما مات قبل الآخر فميراث الذي لا ولد له لأخيه لأبيه وليس لبني أخيه وأمه شيء ) لتقديم الأخ على ابن الأخ ( ومن ذلك أيضا أن تهلك العمة وابن أخيها أو ابنة الأخ وعمها فلا يعلم أيهما مات قبل لم يرث العم من ابنة أخيه شيئا ) في الصورة الأولى ( ولا يرث الأخ من عمته شيئا ) في الثانية
____________________
(3/159)
15 ميراث ولد الملاعنة وولد الزنا الملاعنة بفتح العين المهملة ويجوز كسرها وهي التي وقع اللعان بينها وبين زوجها
( مالك أنه بلغه أن عروة بن الزبير كان يقول في ولد الملاعنة وولد الزنى أنه إذا مات ورثته أمه حقها ) بالنصب بدل من ضمير ورثته ( في كتاب الله عز وجل ) السدس أو الثلث ( وإخوته لأمه حقوقهم ) السدس للواحد والثلث للاثنين فصاعدا ( وترث البقية موالي أمه إن كانت مولاة ) أي معتقة ( وإن كانت عربية ) أي حرة أصلية ( ورثت حقها وورث إخوته لأمه حقوقهم وكان ما بقي للمسلمين ) أي بيت المال ( قال مالك وبلغني عن سليمان بن يسار مثل ذلك وعلى ذلك أدركت أهل العلم ببلدنا ) وهو قول جمهور العلماء وأكثر فقهاء الأمصار وعند أبي داود من مرسل مكحول ومن رواية عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال جعل النبي صلى الله عليه وسلم ميراث ابن الملاعنة لأمه ولورثتها من بعدها وعند أصحاب السنن الأربعة وحسنه الترمذي وصححه الحاكم عن وائلة رفعه تحوز المرأة ثلاثة مواريث عتيقها ولقيطها وولدها الذي لاعنت فيه وفي إسناده عمر بن روية بضم الراء وسكون الواو فموحدة مختلف فيه ووثقه أحمد وله شاهد من حديث ابن عمر عند ابن المنذر ويأتي في اللعان من حديث سهل بن سعد ثم جرت السنة في ميراثها أنها ترثه ويرث منها ما فرض الله تعالى وقد احتج البخاري لذلك بحديث مالك الآتي في اللعان عن نافع عن ابن عمر أن رجلا لاعن امرأته في زمن النبي صلى الله عليه وسلم وانتفى من ولدها ففرق النبي صلى الله عليه وسلم بينهما وألحق الولد بالمرأة والله تعالى أعلم بالصواب
____________________
(3/160)
5111111 1 1
12 كتاب النكاح هو لغة الضم والتداخل وقال المطرزي والأزهري هو الوطء حقيقة ومنه قول الفرزدق إذا سقى الله قوما صوب غادية فلا سقى الله أرض الكوفة المطرا التاركين على طهر نساءهمو والناكحين بشطي دجلة البقرا وهو مجاز في العقد لأن العقد فيه ضم والنكاح هو الضم حقيقة قال ضممت إلى صدري معطر صدرها كما نكحت أم الغلام صبيها أي كما ضمت أو لأنه سببه فجازت الاستعارة لذلك وقال بعضهم أصله لزوم شيء لشيء مستعليا عليه ويكون في المحسوس والمعاني قالوا نكح المطر الأرض ونكح النعاس العين وتنكحت القمح في الأرض إذا حرثتها وبذرته فيها ونكحت الحصاة أخفاف الإبل
قال المتنبي أنكحت صم حصاها خف يعملة تغشمرت بي إليك السهل والجبلا واليعملة بفتح الياء الناقة المطبوعة على العمل والتغشمر بغين معجمة الأخذ قهرا
وقال الفراء العرب تقول نكح المرأة بضم النون بضعها وهي كناية عن الفرج فإذا قالوا نكحها أرادوا أصاب نكحها أي فرجها
وقال ابن جني سألت أبا علي الفارسي عن قولهم نكحها فقال فرقت العرب فرقا لطيفا يعرف به موضع العقد من الوطء إذا قالوا نكح فلان فلانة أو بنت فلان أو أخته أرادوا تزوجها وعقد عليها
وإذا قالوا نكح امرأته أو زوجته لم يريدوا إلا المجامعة لأن بذكر المرأة أو الزوجة يستغنى عن العقد قال الأبي وهذا يرجع إلى أنه مشترك ويتعين المقصود بالقرائن التي ذكر الفارسي
وفي حقيقته عند الفقهاء ثلاثة أوجه أحدها أنه حقيقة في العقد مجاز في الوطء واحتج له بكثرة ردوده في الكتاب والسنة للعقد حتى قيل لم يرد في القرآن إلا للعقد ولا يرد مثل قوله تعالى { حتى تنكح زوجا غيره } سورة البقرة الآية 230 لأن شرط الوطء في التحليل إنما ثبت بالسنة وإلا فلا بد من العقد لأن معنى تنكح تتزوج أي يعقد عليها ومفهومه أن ذلك كاف بمجرده لكن بينت السنة أنه لا بد من العقد من ذوق العسيلة
قال ابن
____________________
(3/161)
فارس لم يرد النكاح في القرآن إلا للتزويج إلا قوله تعالى { وابتلوا اليتامى حتى إذا بلغوا النكاح } سورة النساء الآية 6 فإن المراد به الحلم
والثاني أنه حقيقة في الوطء مجاز في العقد
والثالث حقيقة فيهما بالاشتراك ويتعين المقصود بالقرينة كما مر عن أبي علي وذكر ابن القطاع للنكاح أكثر من ألف اسم وفوائده كثيرة منها أنه سبب لوجود النوع الإنساني وقضاء الوطر بنيل اللذة والتمتع بالنعمة وهذه هي الفائدة التي في الجنة إذ لا تناسل فيها ومنها غض البصر وكف الناس عن الحرام إلى غير ذلك
بسم الله الرحمن الرحيم ما جاء في الخطبة بكسر الخاء المعجمة التماس النكاح
( مالك عن محمد بن يحيى بن حبان ) بفتح المهملة وشد الموحدة ابن منقذ بالقاف والمعجمة الأنصاري المدني ثقة فقيه مات سنة إحدى وعشرين ومائة وهو ابن أربع وسبعين سنة ( عن الأعرج ) عبد الرحمن بن هرمر ( عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لا يخطب أحدكم على خطبة أخيه ) برفع يخطب خبر بمعنى النهي وهو أبلغ من صريح النهي قال عياض وغيره المنع إنما هو بعد الركون لحديث فاطمة بنت قيس حين أخبرت أنه خطبها ثلاثة فلم ينكر دخول بعضهم على بعض ويأتي تفسير الركون قال الخطابي وفي قوله أخيه دليل أن الأول مسلم فإن كان يهوديا أو نصرانيا لم يمنع وإليه ذهب الأوزاعي والجمهور على خلافه وأجابوا بأن ذكر الأخ جرى على الغالب ولأنه أسرع امتثالا والمعنى في ذلك ما فيه من الإبذاء والتقاطع
( مالك عن نافع عن عبد الله بن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لا يخطب أحدكم على خطبة أخيه ) المسلم وكذا الذمي
زاد ابن جريج عن نافع عن ابن عمر حتى يترك الخاطب قبله أو يأذن له الخاطب الأول رواه البخاري
قال ابن القاسم النهي إنما هو في غير الفاسق أما الفاسق فيخطب على خطبته قال عياض لا ينبغي أن يختلف فيه انتهى
والفرق أنه لا يقر على فسقه بخلاف الذمي وقد تابع مالكا ابن جريج في البخاري والليث وعبيد الله وزاد إلا أن يأذن وأيوب ثلاثتهم عند مسلم الأربعة عن نافع
( قال مالك وتفسير قول رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما نرى ) بضم النون نظن ( والله أعلم ) بما أراد ( لا
____________________
(3/162)
يخطب أحدكم على خطبة أخيه أن يخطب الرجل المرأة فتركن إليه ويتفقان ) بالنون استئناف وفي نسخ بحذفها عطف على يخطب ( على صداق واحد معلوم وقد تراضيا ) على ذلك ( فهي تشترط عليه لنفسها ) وولي المجبرة مثلها في هذا ( فتلك التي نهى ) صلى الله عليه وسلم ( أن يخطبها الرجل على خطبة أخيه ولم يعن ) لم يرد ( بذلك إذا خطب الرجل المرأة فلم يوافقها أمره ولم تركن إليه أن لا يخطبها أحد فهذا باب فساد يدخل على الناس ) لو أريد ذلك لما فيه من الضيق المرفوع من الدين وقال عياض اختلف في أن الركون الرضا بالزوج أو تسمية الصداق وقال الشافعي إنما النهي إذا أذنت لولي العقد أن يعقد لرجل معين ولا خلاف أن الخاطب بعد الركون عاص واختلف إذا وقع العقد في صورة النهي هل يفسد العقد أم لا وقال الشافعي والكوفيون يمضي العقد لأن النهي ليس عندهم للوجوب أي للكراهة أو الحظر والقولان لمالك وله ثالث يفسخ قبل البناء حكاها أبو عمر قال والمشهور أنه يفسخ قبل البناء ويثبت بعده
( مالك عن عبد الرحمن بن القاسم عن أبيه ) القاسم بن محمد بن الصديق ( أنه كان يقول في قول الله تبارك وتعالى ولا جناح عليكم فيما عرضتم ) لوحتم ( به من خطبة النساء ) في عدة غير رجعية ( أو أكنتتم ) أضمرتم ( في أنفسكم ) في قصد نكاحهن فلم تذكروه بألسنتكم لا معرضين ولا مصرحين ( علم الله أنكم ستذكرونهن ) أي بالخطبة ولا تصبرون عنهن فأباح لكم التعريض ( ولكن لا تواعدوهن سرا إلا أن تقولوا قولا معروفا ) أي ما عرف شرعا من التعريض فلكم ذلك والسر النكاح
قال الشاعر لقد زعمت بسباسة اليوم أنني كبرت وأن لا يحسن السر أمثالي فالتعريض ( أن يقول الرجل للمرأة وهي في عدتها من وفاة زوجها ) وكذا من طلاقه البائن لا الرجعي فيحرم فيها التعريض إجماعا حكاه القرطبي ( إنك علي لكريمة ) نفيسة عزيزة جمعها كريمات وكرائم ( إني فيك لراغب ) أي مريد وكان تعريضا لأن الرغبة لا تتعين في النكاح فلا يكون صريحا
____________________
(3/163)
حتى يصرح بمتعلق الرغبة كأن يقول راغب في نكاحك ( وإن الله لسائق إليك خيرا ورزقا نحو هذا من القول ) الذي لا تصريح فيه كإذا حللت فآذنيني ومن يجد مثلك
وفي مسلم أنه صلى الله عليه وسلم قال لفاطمة بنت قيس إذا حللت فآذنيني وفي البخاري عن ابن عباس في التعريض أن يقول إني أريد التزوج ولوددت أن يتيسر لي امرأة صالحة انتهى والله تعالى أعلم
1 استئذان البكر والأيم في أنفسهما الأيم بكسر التحتية لغة من لا زوج له رجلا كان أو امرأة بكرا أو ثيبا
قال الشاعر لقد إمت حتى لامني كل صاحب رجاء سليمى أن تئيم كما إمت والمراد هنا الثيب
( مالك عن عبد الله بن الفضل ) بن العباس بن ربيعة بن الحارث بن عبد المطلب الهاشمي المدني ثقة من رجال الجميع تابعي صغير من طبقة الزهري ( عن نافع بن جبير بن مطعم ) بن عدي القرشي النوفلي وأبا عبد الله المدني ثقة فاضل مات سنة تسع وتسعين روى له الكل ( عن عبد الله بن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال الأيم أحق بنفسها من وليها ) لفظة أحق للمشاركة أي أن لها في نفسها في النكاح حقا ولوليها وحقها آكد من حقه قاله النووي
وقال عياض يحتمل من حيث اللفظ أن المراد أحق في كل شيء من عقد وغيره ويحتمل أنها أحق بالرضا أن لا تزوج حتى تنطق بالإذن بخلاف البكر لكن لما صح قوله صلى الله عليه وسلم لا نكاح إلا بولي مع غيره من الأحاديث الدالة على اشتراط الولي تعين الاحتمال الثاني أن المراد أحق بالرضا دون العقد وأن حق الولي في العقد ودل أفعل التفضيل المقتضي المشاركة أن لوليها حقا آكد وحقها أن لا يتم ذلك إلا برضاها قال واختلف في معنى الأيم هنا مع اتفاق أهل اللغة على إطلاقه على كل امرأة لا زوج لها صغيرة أو كبيرة بكرا أو ثيبا حكاه الحربي وإسماعيل القاضي وغيرهما فقال علماء الحجاز وكافة الفقهاء المراد الثيب المتوفى عنها أو المعلقة لأنه أكثر استعمالا ولأن جماعة من الثقات رووه بلفظ الثيب ولمقابلته بالبكر وقال الكوفيون وزفر والشعبي والزهري الأيم هنا على معناه اللغوي ثيبا أو بكرا بالغة فعقدها على نفسها جائز وليس الولي من أركان صحة العقد بل من تمامه وتعقب بأنه لو كان المراد ذلك لم يكن لفصل الأيم من البكر معنى
( والبكر ) البالغ وفي رواية شعبة عن مالك واليتيمة مكان البكر ( تستأذن في نفسها ) أي
____________________
(3/164)
يستأذنها وليها أبا كان أو غيره تطييبا لنفسها ( وإذنها صماتها ) بالضم سكوتها قال القطربي هذا منه صلى الله عليه وسلم مراعاة لتمام صونها وإبقاء لاستحيائها لأنها لو تكلمت صريحا لظن أنها راغبة في الرجال وذلك لا يليق في البكر واستحب العلماء أن تعلم صماتها إذن واختلف قول مالك في حمل البكر هنا على اليتيمة كما جاء مفسرا في الرواية الأخرى وحمله على ظاهره ولو ذات أب لكن على الندب لا الوجوب وقاله الشافعي وأحمد وغيرهما وقال الكوفيون والأوزاعي يلزم ذلك في كل بكر ومفهوم الحديث أن ولي البكر أحق بها من نفسها لأن الشيء إذا قيد بأخص أوصافه دل على أن ما عداه بخلافه فقوله في الثيب أحق بنفسها جمع نصا ودلالة والعمل بالدلالة واجب كوجوبه بالنص وإنما شرع للولي استئذانها تطييبا لها لا وجوبا بدليل جعله صماتها إذنها والصمات ليس بإذن وإنما جعل بمنزلة الإذن لأنها قد تستحي أن تفصح
ورواه مسلم عن سعيد بن منصور وقتيبة بن سعيد ويحيى التميمي الثلاثة عن مالك به وأخرجه أحمد والشافعي وأصحاب السنن كلهم من طريق مالك وتابعه زياد بن سعد عن عبد الله بن الفضل بإسناده بلفظ الثيب أحق بنفسها من وليها والبكر يستأذنها أبوها وإذنها صماتها وربما قال وصمتها إقرارها رواه مسلم قال ابن عبد البر هذا حديث رفيع أصل من أصول الأحكام
رواه عن مالك جماعة من الجلة كشعبة والسفيانين ويحيى القطان قيل ورواه أبو حنيفة ولا يصح وقال عياض رواه عن مالك أكثر أقرانه ومن هو أكبر منهم كأبي حنيفة والليث
( مالك أنه بلغه عن سعيد بن المسيب أنه قال قال عمر بن الخطاب لا تنكح المرأة إلا بإذن وليها ) كالأب ( أو ذي الرأي من أهلها ) قال مالك في المدونة هو الرجل من العشيرة أو ابن العم أو الموالي وروى ابن نافع عنه أنه الرجل من عصبتها وقال ابن الماجشون العشيرة قد تعظم إنما هو الرجل البطن أو من بطن من أعتقها لأن البطن الصق من العشيرة ( أو السلطان ) لأنه ولي من لا ولي له قال الباجي يريد من له حاكم من إمام أو قاض فيزوجها مع عدم الولي أما معه فروى أصبغ عن ابن القاسم ليس له أن يزوج حتى يسأله فإن امتنع لغير عذر زوجها فإن بدر السلطان أو ذو الرأي من أهلها فأنكحها ففي المدونة يمضي ورأى حديث عمر على المساواة حكاه ابن حبيب عن ابن القاسم ورده بأنه لو كان كذلك لرد قول مالك بتقديم الأبعد وإنما معناه إذا لم يكن لها ولي من القرابة
وقال أبو عمر اختلف أصحابنا في قول عمر هذا فقال بعضهم كل واحد من هؤلاء يجوز إنكاحه إذا أصاب وجه النكاح من الكفء والصلاح وقال آخرون على الترتيب لا التخيير
( مالك أنه بلغه أن القاسم بن محمد وسالم بن عبد الله كانا ينكحان بناتهما الأبكار ) البالغات
____________________
(3/165)
بدليل قوله ( ولا يستأمرانهن ) أي يستأذنانهن إذ غير البالغ لا يستأمرها الأب ( قال مالك وذلك الأمر عندنا في نكاح الأبكار ) أنه لا يحب استئذانهن فالحديث محمول على الندب أو على اليتيمة كما جاء في بعض طرقه
( وليس للبكر جواز في مالها حتى تدخل بيتها ) عند زوجها ( ويعرف من حالها ) الرشد والصلاح
( مالك أنه بلغه عن القاسم بن محمد وسالم بن عبد الله وسليمان بن يسار كانوا يقولون في البكر يزوجها أبوها بغير إذنها إن ذلك لازم لها ) لأنه يجبرها عند الجمهور
2 ما جاء في الصداق والحباء بفتح الصاد في لغة الأكثر والثانية كسرها ويجمع على صدق بضمتين والثالثة لغة الحجاز صدقة بفتح الصاد وضم الدال وتجمع على صدقات على لفظها وفي التنزيل { وآتوا النساء صدقاتهن } سورة النساء الآية 4 والرابعة لغة تميم صدقة والجمع صدقات مثل غرفة وغرفات في وجوهها
والخامسة صدقة وجمعها صدق مثل قرية وقرى وأصدقها بالألف أعطاها صداقها والحباء بالكسر
والمد الإعطاء بلا عوض
( مالك عن أبي حازم ) بالمهملة والزاي سلمة ( بن دينار ) المدني العابد الثقة ( عن سهل بن سعد ) بن مالك الأنصاري الخزرجي ( الساعدي ) الصحابي ابن الصحابي مات وقد جاوز المائة سنة ثمان وثمانين وقيل بعدها ( أن رسول الله صلى الله عليه وسلم جاءته امرأة ) قال الحافظ لم أقف على اسمها وقول ابن القطاع في الأحكام أنها خولة بنت حكيم أو أم شريك أو ميمونة نقله من اسم الواهبة في قوله تعالى { وامرأة مؤمنة إن وهبت نفسها للنبي } سورة الأحزاب الآية وقال في المقدمة ولا يثبت شيء من ذلك ( فقالت يا رسول الله إني قد وهبت نفسي لك ) بلام التمليك استعملت هنا في تمليك المنافع أي وهبت أمر نفسي لك أو نحو ذلك وإلا فالحقيقة غير مرادة لأن رقبة الحر لا تملك فكأنها قالت أتزوجك بلا صداق وزاد في رواية للشيخين فنظر إليها صلى الله عليه وسلم فصعد النظر فيها وصوبه ثم طأطأ رأسه ( فقامت قياما طويلا ) نعت للمصدر أي قياما سمي مصدرا لأنه اسم الفعل أو عدده أو ما يقوم مقامه وهذا قام مقام المصدر فسمي باسم ما وقع موقعه زاد في رواية للشيخين فلما رأت المرأة أنه لم يقض فيها شيئا جلست ( فقام رجل ) لم يعرف الحافظ اسمه ( فقال يا رسول الله زوجنيها ) لم يقل هبها لي لأن ذلك من خصائصه صلى الله عليه وسلم لقوله تعالى { خالصة لك من دون المؤمنين } الأحزاب فلا بد لهم من صداق قال تعالى { وآتوا النساء صدقاتهن نحلة } قال أبو عبيد أي عن طيب نفس
____________________
(3/166)
بالفريضة التي فرضها الله وقال تعالى { والمحصنات من المؤمنات والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم إذا آتيتموهن أجورهن } المائدة 5 وقال في الإماء { فانكحوهن بإذن أهلهن وآتوهن أجورهن } المائدة 5 يعني مهورهن وإن اقتضى القياس أن كل ما يجوز البدل به والعوض يجوز هبته لكن الله حرم بضع النساء إلا بالمهر وأن الموهوبة لا تحل لغيره صلى الله عليه وسلم قاله أبو عمر وغيره
( إن لم تكن ) بفوقية ( لك بها حاجة ) بزواجها وفيه حسن أدبه ( فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم هل عندك من شيء ) بزيادة من في المبتدأ والخبر متعلق الظرف وجملة ( تصدقها إياه ) في موضع رفع صفة لشيء ويجوز جزمه على جواب الاستفهام وتصدق يتعدى لمفعولين ثانيهما إياه وهو العائد من الصفة على الموصوف
( فقال ما عندي إلا إزاري هذا ) زاد في رواية لهما فلها نصفه قال وماله رداء ( فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم إن أعطيتها إياه جلست لا إزار لك ) جواب الشرط ولا نافية والاسم مبني مع لا ولك يتعلق بالخبر أي ولا إزار كائن لك فتنكشف عورتك وفيه أن إصداق الشيء يخرجه عن ملكه فمن أصدق جاريته حرمت عليه وإن شرط المبيع القدرة على تسليمه شرعا سواء امتنع حسا كالطير في الهواء أو شرعا فقط كالمرهون ومثل هذا الذي لو زال إزاره انكشف وفيه نظر الكبير في مصالح القوم وهدايتهم لما فيه من الرفق بهم وفي رواية لهما ما تصنع أي المرأة بإزارك إن لبسته لم يكن عليها منه شيء وإن لبسته لم يكن عليك منه شيء اذهب إلى أهلك ( فالتمس شيئا ) فذهب ثم رجع ( فقال ما أجد شيئا قال التمس ) اطلب ( ولو خاتما من حديد ) قال عياض هو على المبالغة لا التحديد لأن الرجل نفى قبل ذلك وجود شيء ولو أقل من خاتم حديد وقيل لعله إنما طلب منه ما يقدمه لا أن جميع المهر خاتم حديد وهذا يضعفه استحباب مالك تقديم ربع دينار لا أقل وفيه جواز التختم بالحديد واختلف فيه السلف فأجازه قوم إذ لم يثبت النهي عنه ومنعه قوم وقالوا كان هذا قبل النهي وقبل قوله إنه حلية أهل النار ( فالتمس فلم يجد شيئا )
____________________
(3/167)
وفي رواية لهما
فذهب ثم رجع فقال لا والله يا رسول الله ولا خاتما من حديد وفي أخرى فجلس الرجل حتى إذا طال مجلسه قام فرآه صلى الله عليه وسلم موليا فأمر به فدعي له ( فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم هل معك من القرآن شيء قال نعم ) معي ( سورة كذا وسورة كذا ) بالتكرار وفي رواية ثلاثا ( لسور سماها ) في فوائد تمام أنها سبع من المفصل ولأبي داود والنسائي من حديث أبي هريرة سورة البقرة أو التي تليها بأو وللدارقطني عن ابن مسعود البقرة وسورة من المفصل ولأبي الشيخ وغيره عن ابن عباس { إنا أعطيناك الكوثر } وفي فوائد أبي عمر بن حبوية عن ابن عباس قال معي أربع سور أو خمس سور وفي أبي داود بإسناد حسن عن أبي هريرة قال قم فعلمها عشرين آية وهي امرأتك وجمع بينها بأن كلا من الرواة حفظ ما لم يحفظ الآخر أو تعددت القصة وهو بعيد جدا
( فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أنكحتكها ) وللتنيسي زوجناكها
وفي رواية لهما ملكتكها قال الدارقطني هي وهم والصواب زوجتكها وهي رواية الأكثرين
وقال النووي يحتمل صحة الوجهين بأن يكون جرى ذكر التزويج أولا ثم لفظ التمليك ثانيا أي أنه ملك عصمتها بالتزويج السابق ( بما معك من القرآن ) الباء للعوض كبعتك ثوبي بدينار ولم يرد أنه أنكحها بحفظه القرآن أي أن الباء سببية إكراما للقرآن لأنها تكون بمعنى الموهوبة وذلك لا يجوز إلا له صلى الله عليه وسلم قاله المازري وقال عياض يحتمل وجهين أظهرهما أن يعلمها ما معه من القرآن أو قدر منه ويكون صداقها تعليمه إياها وجاء هذا عن مالك واحتج به من قال إن منافع الأعيان تكون صداقا
وفي رواية لمسلم اذهب فعلمها من القرآن
وفي أبي داود فعلمها عشرين آية
وقال الطحاوي والأبهري وغيرهما والليث ومكحول هذا خاص بالنبي صلى الله عليه وسلم والباء على هذا بمعنى اللام أي لما حفظت من القرآن وصرت لها كفؤا في الدين وهذا يحتاج إلى دليل انتهى
وقد حكي أيضا عن أبي حنيفة وأحمد ومالك وهما قولان مرجحان في مذهبه ودليله ما أخرجه سعيد بن منصور وابن السكن عن أبي النعمان الأزدي الصحابي قال زوج رسول الله صلى الله عليه وسلم امرأة على سورة من القرآن وقال لا يكون لأحد بعدك مهرا والقول الثاني لمالك والشافعي وغيرهما جواز جعل الصداق منافع على ظاهر الحديث
قال عياض ويمكن أنه أنكحها له لما معه من القرآن إذ رضيه لها ويبقى ذكر المهر مسكوتا عنه إما لأنه أصدق عنه كما كفر عن الواطىء في رمضان وودى المقتول بخيبر إذ لم يحلف أهله رفقا بأمته أو أبقى الصداق في ذمته وأنكحه تفويضا حتى يجد صداقا أو يتكسبه بما معه من القرآن وليحرص على تعلم القرآن وفضل أهله وشفاعتهم به
وأشار الداودي إلى أنه أنكحها بلا مشورتها ولا صداق لأنه أولى بالمؤمنين من أنفسهم وإذا احتمل هذا كله لم يكن فيه حجة لجواز النكاح بلا صداق وبما لا قدر له اه
وفي حديث ابن مسعود عند الدارقطني وقد أنكحتكها على أن تقريها وتعلمها وإذا رزقك الله
____________________
(3/168)
عوضتها فتزوجها الرجل على ذلك وهذا قد يقوي ذلك الاحتمال وفيه جواز أخذ الأجرة على تعليم القرآن وبه قال الجمهور والأئمة الثلاثة ويدل له أيضا حديث الصحيح إن أحق ما أخذتم عليه أجرا كتاب الله وكرهه أبو حنيفة وأصحابه وجماعة لحديث ابن عباس مرفوعا معلمي صبيانكم شراركم أقله رحمة باليتيم وأغلظه على المسكين وحديث أبي هريرة قلت يا رسول الله ما تقول في المعلمين قال درهمهم حرام وقوتهم سحت وكلامهم رياء
وحديث عبادة بن الصامت أنه علم رجلا من أهل الصفة فأهدى له قوسا فقال له صلى الله عليه وسلم إن سرك أن يطوقك الله طوقا من نار فاقبله
وعن أبي بن كعب مرفوعا مثله
وأجاب ابن عبد البر بأن هذه أحاديث منكرة لا يصح منها شيء قال واحتجوا أيضا بحديث اقرؤوا القرآن ولا تأكلوا به ولا تستكثروا قال وهذا يحتمل التأويل بأنه علمه لله ثم أخذ عليه أجرا ونحو هذا
وروى حديث الباب جماعة كثيرة عن أبي حازم وأحسنهم له سياقة مالك وهو يدخل في التفسير المسند لقوله { وامرأة مؤمنة } سورة الأحزاب الآية الآية انتهى
وأخرجه البخاري عن عبد الله بن يوسف والترمذي من طريق إسحاق بن عيسى وعبد الله بن نافع الثلاثة عن مالك به وتابعه عبد العزيز بن أبي حازم ويعقوب بن عبد الرحمن وسفيان بن عيينة عند الشيخين
وأبو غسان وفضيل بن سليمان عند البخاري وحماد بن زيد والدراوردي وزائدة وحسين بن علي كلهم عن أبي حازم عن سهل عند مسلم قائلا يزيد بعضهم على بعض غير أن في حديث زائدة قال انطلق فقد زوجتكها فعلمها من القرآن ورواه البخاري أيضا وابن ماجه مختصرا من طريق سفيان الثوري عن أبي حازم عن سهل أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لرجل تزوج ولو بخاتم من حديد
( مالك عن يحيى بن سعيد عن سعيد بن المسيب أنه قال قال عمر بن الخطاب أيما رجل تزوج امرأة وبها جنون أو جذام أو برص ) زاد ابن عيينة عن يحيى بن سعيد بسنده أو قرن ( فمسها ) غير عالم ( فلها صداقها كاملا وذلك لزوجها غرم ) بضم فسكون مصدر غرم إذا أدى ( على وليها قال مالك وإنما يكون ذلك غرما على وليها لزوجها إذا كان وليها الذي أنكحها هو أبوها أو أخوها أو من يرى أنه يعلم ذلك منها ) من الأولياء ( فأما إذا كان وليها الذي أنكحها ابن عم أو مولى أو من العشيرة ممن يرى أنه لا يعلم ذلك منها فليس عليه غرم وترد تلك المرأة ما أخذته من صداقها ويترك لها قدر ما تستحل به ) ربع دينار لحق الله تعالى لئلا يخلو البضع عن صداق
____________________
(3/169)
( مالك عن نافع أن ابنة عبيد الله ) بضم العين ( ابن عمر ) ابن الخطاب القرشي العدوي ولد في العهد النبوي وكان من شجعان قريش وفرسانهم قتل مع معاوية بصفين سنة سبع وثلاثين ( وأمها بنت زيد بن الخطاب ) أخي عمر أسلم قبلها واستشهد قبله ( كانت تحت ابن لعبد الله بن عمر بن الخطاب ولم يدخل بها ولم يسم لها صداقا ) بل عقد عليها تفويضا ( فابتغت ) طلبت ( أمها صداقها فقال عبد الله بن عمر ليس لها صداق ولو كان لها صداق لم نمسكه ولم نظلمها فأبت أمها أن تقبل ذلك ) من ابن عمر ( فجعلوا بينهم زيد بن ثابت ) حكما ( فقضى أن لا صداق لها لبقاء بضعها ولها الميراث ) بالموت وبهذا قال علي وجمهور الصحابة وقال جماعة منهم يجب الصداق بالموت وقاله الشافعي وهو قول شاذ عندنا ورجحه ابن العربي وغيره لما في أبي داود والترمذي وقال حسن صحيح عن معقل بن يسار أن بروع بنت واشق نكحت بلا مهر فمات زوجها قبل أن يفرض لها فقضى لها صلى الله عليه وسلم بمهر نسائها وبالميراث لكن قال مالك ليس عليه العمل
( مالك أنه بلغه ) مما جاء من وجوه منها ما رواه عبد الرزاق عن معمر عن أيوب وغيره ( أن عمر بن عبد العزيز كتب في خلافته إلى بعض عماله أن كل ما اشترط المنكح ) بكسر الكاف ( من كان أبا أو غيره من حباء ) بالكسر والمد عطية بلا عوض ( أو كرامة ) شيء يكرم به وهو بمعنى ما قبله ( فهو للمرأة إن ابتغته ) طلبته وقد روى أبو داود من طريق ابن جريج عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن النبي صلى الله عليه وسلم قال أيما امرأة نكحت على صداق أو حباء أو عدة قبل عصمة النكاح فهو لها وما كان بعد عصمة النكاح فهو لمن أعطيه وأحق ما أكرم عليه الرجل ابنته أو أخته ( قال مالك في المرأة ينكحها ) بضم الياء يزوجها ( أبوها ويشترط في صداقها الحباء يحبى به أن ما كان من شرط يقع به النكاح فهو لابنته إن ) وفي نسخة ابن وضاح إذا ( ابتغته ) لا إن تركته لأبيها زاد في غير الموطأ من رواية ابن القاسم عنه وإن أعطاه بعدما زوجه فإنما هي تكرمة أكرمه بها فلا شيء
____________________
(3/170)
لابنته فيها
( وإن فارقها زوجها قبل أن يدخل بها فلزوجها شطر ) أي نصف ( الحباء الذي وقع به النكاح ) لأنه من الصداق وهو يتشطر بالطلاق قبل الدخول ( قال مالك في الرجل يزوج ابنه صغيرا لا مال له أن الصداق على أبيه إذا كان الغلام ) المذكور ( يوم تزوج لا مال له ) زيادة بيان لقوله قبل لا مال له أعاده لقوله ( وإن كان للغلام مال فالصداق في مال الغلام إلا أن يسمي الأب أن الصداق عليه ) فعلى الأب ( وذلك النكاح ثابت على الابن إذا كان صغيرا وكان في ولاية أبيه ) لكن إنما يجبره لغبطة على المنصوص كشريفة أو ابنة عم أو ذات مال
( قال مالك في طلاق الرجل امرأته قبل أن يدخل بها وهي بكر فيعفو أبوها عن نصف الصداق إن ذلك جائز لزوجها من أبيها فيما وضع عنه وذلك أن الله تبارك وتعالى قال في كتابه ) { وإن طلقتموهن من قبل أن تمسوهن وقد فرضتم لهن فريضة فنصف ما فرضتم } سورة البقرة الآية 237 إلا أن يعفون فهن النساء اللاتي قد دخل بهن أو يعفو الذي بيده عقدة النكاح فهو الأب في ابنته البكر والسيد في أمته وهذا الذي سمعت في ذلك أي معنى الآية ( وعليه الأمر عندنا ) بالمدينة
زاد مالك في بعض روايات الموطأ وفي غير الموطأ ولا يجوز لأحد أن يعفو عن شيء من الصداق إلا الأب لا وصي ولا غيره وذهب الأئمة الثلاثة إلى أن الذي بيده عقدة النكاح هو الزوج وعفوه بإتمام الصداق وقال بكل من القولين جماعة واحتج الأئمة بأن ما قالوه مروي عنه صلى الله عليه وسلم وبأن إسقاط الولي ما لموليته على خلاف الأصول
وأجيب عن الأول بأنه ضعيف سلمنا صحته لكن لا نسلم أنه تفسير للآية بلا إخبار عن حال الزوج قبل الطلاق
وعن الثاني بأن الحكم الولاية تصرف الولي بما هو أحسن للمولى عليه وقد يكون العفو أحسن للبنت فيحصل لها بذلك مصلحة وهي رغبة الأزواج فيها إذا سمعوا بعفو الأب عن الزوج المطلق وقد يطلع الولي على أنها بسبب ذلك يرغب فيها من في صلته غبطة عظيمة ولنا وجوه منها أن المفهوم من قولنا بيده كذا أي يتصرف فيه والزوج لا يتصرف في عقد النكاح وإنما يتصرف في الحل والولي الآن هو المتصرف في النكاح فيتناوله اللفظ دون الزوج سلمنا أن الزوج بيده عقدة النكاح لكن بالنسبة إلى ما كان وانقضى وذلك مجاز وأما الولي فعقدة النكاح الآن بيده فهو حقيقة وهي مقدمة على المجاز
ومنها أن المراد بقوله { إلا أن يعفون } سورة البقرة الآية 237 الرشيدات بلا خلاف إذ المحجور عليها لا ينفذ الشرع تصرفها فالذي يحسن في مقابلتهن من المحجورات في أيدي أوليائهن أما بالأزواج فلا مناسبة
ومنها أن الخطاب مع الأزاج لقوله { فنصف ما فرضتم } سورة البقرة
____________________
(3/171)
الآية 237 ) وهو خطاب مشافهة فلو كانوا مرادين في قوله تعالى { أو يعفو } سورة البقرة الآية 237 { الذي بيده عقدة النكاح } وهو خطاب غيبة للزم تغيير الكلام من الخطاب إلى الغيبة وهو خلاف الأولى وضعف هذا الوجه بوروده في قوله تعالى { حتى إذا كنتم في الفلك وجرين بهم بريح طيبة } سورة يونس الآية 22 وقول امرىء القيس تطاول ليلك بالأثمد ونام الخلي ولم ترقد وبات وباتت له ليلة كليلة ذي العائر الأرمد وأجيب بأن إقامة الظاهر مقام المضمر على غير الأصل فلو كان المراد الزوج لقيل إلا أن يعفون أو تعفوا عما استحق لكم فلما عدل عن الظاهر دل على أن المراد غيرهم
ومنها أن الأصل في العطف بأو التشريك في المعنى فقوله { إلا أن يعفون } معناه الإسقاط وقوله { أو يعفو } الذي على رأينا الإسقاط فيحصل التشريك وعلى رأيهم ليس كذلك فيكون قولنا أرجح والله أعلم ( قال مالك في اليهودية أو النصرانية تحت اليهودي أو النصراني فتسلم ) هي ( قبل أن يدخل بها أنه لا صداق ) لها لأن بضعها باق ( قال مالك لا أرى أن تنكح المرأة بأقل من ربع دينار ) أو ثلاثة دراهم فضة أو قيمة ذلك من العروض ( وذلك أدنى ) أقل ( ما يجب فيه القطع ) في السرقة فقاسه عليها بجامع أن كل عضو يستباح بقدر من المال فلا بد أن يكون مقدرا بها ووافق مالكا على قوله جميع أصحابه إلا ابن وهب واحتجوا له أيضا بأن الله شرط عدم الطول في نكاح الإماء فدل على أن الطول لا يجده كل الناس إذ لو كان الفلس والدانق ونحوهما طولا لما عدمه أحد ولأن الطول المال ولا يقع اسم المال على أقل من ثلاثة دراهم وهذا ليس بشيء لأنه لا فرق في أقل الصداق بين حرة وأمة والله إنما شرط الطول في نكاح الحرائر دون الإماء ولا أعلم أحدا قال ذلك بالمدينة قبل مالك وقال له الدراوردي تعرقت فيها يا أبا عبد الله أي ذهبت مذهب أهل العراق قاله ابن عبد البر
وقال عياض انفرد مالك بهذا التفاتا إلى قوله تعالى { أن تبتغوا بأموالكم } وإلى قوله { ومن لم يستطع منكم طولا } سورة النساء الآية 24 25 فدل على أن المراد مال له بال وأقله ما استبيح به العضو في السرقة وكافة العلماء من الحجاز ومصر والشام وغيرهم على جوازه بما تراضى عليه الزوجان أو من
____________________
(3/172)
العقد إليه مما فيه منفعة كسوط ونعل ونحوهما وإن كانت قيمته أقل من درهم
وقال أبو حنيفة وأصحابه أقله عشرة دراهم
وقال ابن شبرمة خمسة دراهم اعتبارا بالقطع عندهما أيضا وكرهه النخعي بأقل من أربعين وقال مرة عشرة وتعقبه الزواوي بأن زعمه تفرد به مالك بذلك تناقض مع ما نقله عن الحنفية فعجب منه كيف غفل عن نفسه وشنع على مالك مع موافقة أصحابه له إلا ابن وهب وموافقة أبي حنيفة وأصحابه في القياس على القطع واشتراطهم فيه أكثر مما اشترطه مالك
قال ابن عبد البر واحتج الحنفية بحديث جابر مرفوعا لا صداق أقل من عشرة دراهم ولا حجة فيه لأنه ضعيف
وروي عن علي مثله ولا يصح عنه أيضا واحتج من أباحه بأي متمول فيه منفعة بقوله التمس ولو خاتما من حديد قال عياض وتأوله بعض أهل المذهب بأنه خرج على المبالغة لا على التقليل وتأوله غيره بأنه طلب ما يقدمه قبل الدخول لا كل المهر ويضعفه أن مالكا استحب تقديم ربع دينار لا أقل قال الزواوي وضعفه بين لأنه ليس في الحديث دلالة على أنه طلب منه ما يقدمه لا جميع المهر بل ظاهره أن المطلوب جميع الصداق لا بعضه
وقال الأبي يرجح قول ابن وهب ويعارض ما احتج به مالك ما صح من حديث من اقتطع مال امرىء مسلم بيمينه حرم الله عليه الجنة وأدخله النار قيل وإن كان يسيرا قال وإن كان قضيبا من أراك فأطلق المال على ما ترى انتهى
وفيه نظر لأن إطلاقه على ذلك تجوز لقصد الزجر عن اقتطاع مال المسلم والحلف الباطل على نحو ما قيل في قوله تعالى { ومن يقتل مؤمنا متعمدا فجزاؤه جهنم خالدا فيها } سورة النساء الآية 93 الآية قال عياض والإجماع على أن الشيء الذي لا يتمول ولا قيمة له لا يكون صداقا قال الحافظ فإن ثبت هذا الإجماع فقد خرقه ابن حزم حيث قال يجوز بكل ما يسمى شيئا ولو حبة من شعير
قال ابن عبد البر ولا توقيت ولا تحديد لأكثر الصداق إجماعا قال واحتج به من جوزه بمتمول ولو قل لأن الله ذكر الصداق ولم يحد أكثره ولا أقله فلو كان له حد لبينه صلى الله عليه وسلم لأنه المبين مراد الله والحد لا يصح إلا بكتاب أو سنة ثابتة لا معارض لها أو إجماع انتهى
وفي الحصر نظر فمن جملة ما يصح به القياس إذ هو من جملة الأدلة
3 إرخاء الستور هو عبارة عن التخلية بين الزوجين وإن لم يكن هناك إرخاء ستر ولا إغلاق باب
( مالك عن يحيى بن سعيد ) الأنصاري ( عن سعيد بن المسيب ) القرشي ( أن عمر بن الخطاب قضى في المرأة إذا تزوجها الرجل أنه إذا أرخيت الستور فقد وجب الصداق ) إذا ادعت المسيس وأنكره الرجل
( مالك عن ابن شهاب أن زيد بن ثابت ) الأنصاري ( كان يقول إذا دخل الرجل بامرأته
____________________
(3/173)
فأرخيت عليهما الستور فقد وجب الصداق ) للمرأة إذا ادعت المس وأنكر
( مالك أنه بلغه أن سعيد بن المسيب كان يقول إذا دخل الرجل بالمرأة في بيتها ) وادعت الوطء وأنكره ( صدق الرجل عليها ) لأن الغالب أنه لا ينشط في بيتها ( وإذا دخلت عليه في بيته صدقت عليه ) لأن الغالب نشاطه في بيته
( قال مالك أرى ذلك ) التصديق ( في المسيس ) أي الجماع ( إذا دخل عليها في بيتها فقالت قد مسني وقال لم أمسها صدق عليها ) فلا يتكمل عليه الصداق ( فإن دخلت عليه في بيته فقال لم أمسها وقالت قد مسني صدقت عليه ) فحاصله أنه يصدق الزائر منهما بيمين فيهما بخلاف خلوة الاهتداء فتصدق المرأة بيمين لأن خلوة الزيارة لا تنشط النفوس فيها بخلاف الاهتداء
4 المقام عند البكر والثيب كذا عند أبي عمر وفي نسخة والأيم أي الثيب بفتح الميم وضمها قال الجوهري قد يكون كل منهما بمعنى الإقامة وقد يكون بمعنى موضع القيام لأنك إن جعلته من قام يقوم فمفتوح وإن جعلته من أقام يقيم فمضموم لأن الفعل إذا جاوز الثلاثة فالموضع مضموم لأنه مشبه ببنات الأربعة نحو دحرج وقوله تعالى { لا مقام لكم } سورة الأحزاب الآية 13 بالفتح أي لا موضع لكم وقرىء بالضم أي لا إقامة لكم
( مالك عن عبد الله بن أبي بكر بن محمد بن عمرو ) بفتح العين ( ابن حزم ) بالمهملة والزاي الأنصاري المدني ( عن عبد الملك بن أبي بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام المخزومي ) المدني ثقة من رجال الجميع مات في أول خلافة هشام ( عن أبيه ) قال ابن عبد البر ظاهره الانقطاع أي الإرسال وهو متصل صحيح قد سمعه أبو بكر من أم سلمة كما في مسلم وأبي داود وابن ماجه من طريق محمد بن أبي بكر عن عبد الملك عن أبيه عن أم سلمة ( أن
____________________
(3/174)
رسول الله صلى الله عليه وسلم حين تزوج أم سلمة ) هند بنت أبي أمية المخزومية الفاضلة بارعة الجمال ( وأصبحت عنده ) وفي رواية لمسلم دخل عليها فأراد أن يخرج أخذت بثوبه ( قال لها ليس بك ) بكسر الكاف وفي رواية إنه ليس بك بضمير الأمر أو الشأن ( على أهلك ) يعني نفسه الكريمة وكل من الزوجين أهل ( هوان ) أي لا أفعل فعلا يظهر به هوانك علي أو تظنيه وفيه اللطف والرفق بمن يخشى منه كراهة الحق حتى يتبين له وجه الحق قاله عياض
وقال النووي معناه لا يلحقك هوان ولا يضيع من حقك شيء بل تأخذينه كاملا
قال الأبي وقيل المراد بأهلها قبيلتها لأن الإعراض عن المرأة وعدم المبالاة بها يدل على عدم المبالاة بأهلها فالباء على الأول متعلقة بهوان وعلى الثاني للسببية أي لا يلحق أهلك هوان بسببك ( إن شئت سبعت عندك ) أي أقمت سبعا لأنهم اشتقوا الفعل من الواحد إلى العشرة ( وسبعت عندهن ) أي أقمت عند كل واحدة من بقية نسائي سبعا ( وإن شئت ثلثت ) أي أقمت ثلاثا ( عندك ودرت ) على بقية نسائي بالقسم يوما يوما ففيه حجة لمالك في أن القسم لا يكون إلا يوما واحدا وأجازه الشافعي يومين يومين أو ثلاثا ثلاثا ولا خلاف في جواز أكثر من يوم مع التراضي هكذا قال عياض وغيره
وقال الأبي وإنما يدل لمالك إن كان معنى درت ما ذكر وإلا فقد قال المخالف معناه درت بالتثليث ورده ابن العربي بأن هذه زيادة لا تقبل إلا بدليل وبقوله للبكر سبع وللثيب ثلاث فجعله حكما مبتدأ والأولى في رده أن قوله درت إحالة على ما عرف من حاله والمعروف منه في القسم إنما كان يوما يوما
وفي رواية لمسلم فقال صلى الله عليه وسلم إن شئت زدتك وحاسبتك به للبكر سبع وللثيب ثلاث ( فقالت ثلث ) قال عياض اختارت التثليث مع أخذها بثوبه حرصا على طول إقامته عندها لأنها رأت أنه إذا سبع لها وسبع لغيرها لم يقرب رجوعه إليها
وقال الأبي لاطفها صلى الله عليه وسلم بهذا القول الحسن أي ليس بك على أهلك هوان تمهيدا للعذر في الاقتصار على الثلاث أي ليس اقتصاري عليها لهوانك علي ولا لعدم رغبة فيك ولكنه الحكم ثم خيرها بين الثلاث ولا قضاء لغيرها وبين السبع ويقضي لبقية أزواجه فاختارت الثلاث ليقرب رجوعه إليها لأن في قضاء السبع لغيرها طول مغيبه عنها انتهى
وفيه تخيير الثيب بين الثلاث بلا قضاء والسبع والقضاء وإليه ذهب الجمهور والشافعي وأحمد وقال مالك وأصحابه لا تخير وتركوا حديث أم سلمة لحديث أنس للبكر سبع وللثيب ثلاث قاله ابن عبد البر وبه تعقب نقل النووي عن مالك موافقة الجمهور قال المازري ويمكن عندي أن مالكا رأى ذلك من خصائصه صلى الله عليه وسلم لأنه خص في النكاح بخصائص اه
ومعناه أن احتمال الخصوصية منع من الاستدلال به فرجع إلى حديث أنس ولا يرد أن التخصيص لا يثبت بالاحتمال وفي قوله إن شئت الخ أنه لا يحاسب الثيب بالثلاث خلافا
____________________
(3/175)
للحنفية إذ لو حوسبت لم يبق فرق بين السبع والثلاث وبين سائر الأعداد
وقال الأبي وجه احتجاج أبي حنيفة بالحديث أنه لو كانت الثلاث حقا للثيب خالصة لكان حقه أن يدور عليهن أربعا لأن الثلاث حق لها
والجواب ما قال ابن القصار أنه إنما هي لها بشرط أن لا تختار السبع أيضا فمعناه عند الأكثر سبعت بعد التثليث
قال القرطبي وقسمه صلى الله عليه وسلم بين أزواجه إنما هو تطييب لقلوبهن وإلا فالقسم لا يجب عليه لقوله تعالى { ترجي من تشاء منهن وتؤوي إليك من تشاء } سورة الأحزاب الآية 51 وهذا على مذهب مالك وذهب الأكثر إلى وجوبه عليه صلى الله عليه وسلم وهذا الحديث رواه مسلم عن يحيى عن مالك به على صورة الإرسال وتابعه على إرساله عبد الرحمن بن حميد عن عبد الملك بن أبي بكر عند مسلم أيضا ووصله محمد بن أبي بكر عن عبد الملك عن أبيه عن أم سلمة وتابعه في شيخه عبد الواحد بن أيمن عن أبي بكر بن عبد الرحمن عن أم سلمة أخرجهما مسلم أيضا ولهذا استدركه الدارقطني على مسلم قال النووي وهو فاسد لأن مسلما بين اختلاف الرواة في إرساله واتصاله ومذهبه ومذهب الفقهاء والأصوليين ومحققي المحدثين إذا روى الحديث مرسلا ومتصلا فالحكم للوصل لأنه زيادة ثقة
( مالك عن حميد ) بن أبي حميد البصري ( الطويل ) لطول يديه أو لأنه كان له جار يقال له حميد القصير فقيل لهذا الطويل للفرق بينهما مات وهو قائم يصلي سنة اثنين ويقال ثلاث وأربعين ومائة وله خمس وسبعون سنة
( عن أنس بن مالك أنه كان يقول للبكر سبع وللثيب ثلاث ) قال ابن العربي هذا لا يقتضيه قياس إذ لا نظير له يشبه به ولا أصل يرجع إليه والعلماء يقولون حكمة ذلك النظر إلى تحصيل الألفة والمؤانسة وأن يستوفي الزوج لذته فإن لكل جديد لذة ولما كانت البكر حديثة عهد بالرجل وحديثة بالاستصعاب والنفار لا تلين إلا بجهد شرعت لها الزيادة على الثيب لأنه ينفي نفارها ويسكن روعها بخلاف الثيب فإنها مارست الرجال فإنما يحتاج مع هذا الحدث دون ما تحتاج إليه البكر قال وهذه حكمة والدليل إنما هو قول الشارع وفعله انتهى وهذا الحديث موقوف
وفي الصحيحين عن خالد عن أبي قلابة عن أنس إذا تزوج البكر على الثيب أقام عندها سبعا وقسم وإذا تزوج الثيب على البكر أقام عندها ثلاثا ثم قسم قال أبو قلابة ولو شئت فقلت إن أنسا رفعه إلى النبي صلى الله عليه وسلم لصدقت ولكنه السنة
ورواه الإسماعيلي من طريق أيوب عن أبي قلابة عن أنس قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكره مصرحا برفعه واختلف هل ذلك حق للزوج على بقية نسائه لحاجته باللذة بهذه الجديدة فجعل له ذلك زيادة في التمتع أو حق للمرأة لقوله للبكر وللثيب بلام التمليك روايتان عن مالك وحكى ابن القصار أنه لهما جميعا وعلى أنه حق للمرأة ففي القضاء به على الزوج رواية ابن القاسم وعدم القضاء رواية عبد الحكم كالمتعة ثم اختلف هل هو حق لها سواء كانت عنده زوجة أخرى أم لا للحديث فإنه لم يفصل ونسبه أبو عمر لأكثر العلماء وقال غيره إنما الحديث فيمن له زوجة غير هذه لأن من لا زوجة له مقيم مع هذه غير مفارق لها وهذا من المعروف المأمور به في قوله تعالى { وعاشروهن بالمعروف } سورة
____________________
(3/176)
النساء الآية 19 ) وهو الظاهر لقوله في الحديث إذا تزوج البكر على الثيب وإذا تزوج الثيب على البكر وقد قال ابن العربي القول بأن ذلك لها وإن لم يكن له زوجة لا معنى له ولا يتصور ولا يلتفت إليه
( قال مالك وذلك ) المروي بالفرق بين الثيب والبكر ( الأمر ) المعمول به ( عندنا ) بالمدينة وبه قال أكثر العلماء خلافا لأهل الرأي والحكم وحماد في أن البكر والثيب في القسم سواء والطارئة مع من عنده سواء فما جلس عند الطارئة حاسبها به وجلس عند أزواجه مثله وخلافا لقول ابن المسيب والحسن والأوزاعي يقيم عند البكر سبعا والثيب أربعا فإذا تزوج بكرا على ثيب مكث ثلاثا وإذا تزوج ثيبا على بكر مكث يومين قال عياض والسنة تخالف الجميع
( فإن كانت له امرأة غير الذي تزوج فإنه يقسم بينهما بعد أن تمضي أيام التي تزوج بالسواء ولا يحسب على التي تزوج ما أقام عندها ) وبهذا قال الجمهور خلافا لأبي حنيفة في قوله يحاسبها لان العدل واجب ابتداء ودواما للظواهر الآمرة بالعدل والحديث يرد عليه لأن اللام في للبكر وللثيب للملك وملك الإنسان لا يحاسبه به وأيضا لو حوسبت لم يبق للفرق بين البكر والثيب وجه ولا فرق بين السبع والثلاث وبين سائر الأعداد إذا كان القضاء واجبا في الجميع قاله المازري
5 ما لا يجوز من الشرط في النكاح ( مالك أنه بلغه أن سعيد بن المسيب سئل عن المرأة تشترط على زوجها أنه لا يخرجها من بلد قال سعيد بن المسيب يخرج بها إن شاء ) وإن كان الأفضل الوفاء بالشرط قال ابن عبد البر جاء هذا البلاغ متصلا رواه أبو بكر بن أبي شيبة عن ابن المبارك عن الحارث بن عبد الرحمن عن مسلم بن يسار عن سعيد بن المسيب به وجاء عن جماعة من السلف أعلاهم علي بن أبي طالب أخرجه ابن أبي شيبة وعبد الرزاق عن عباد بن عبد الله قال رفع إلى علي رجل تزوج امرأة وشرط لها دارها فقال علي شرط الله قبل شرطها أو قبل شرطه ولم ير لها شيئا أي شرط أن لا يخرجها من دارها وشرط الله قوله { أسكنوهن من حيث سكنتم } الطلاق 6 وجاء عن جماعة أعلاهم عمر بن
____________________
(3/177)
الخطاب قال لها شرطها والمسلمون عند شروطهم ويؤيده حديث أحق الشروط أن توفوا به ما استحللتم به الفروج اه بخ لكنه هنا محمول عند مالك وموافقيه على الندب جمعا بين الأدلة
( قال مالك فالأمر عندنا أنه إذا شرط الرجل للمرأة وإن كان ذلك عند عقدة النكاح ) أي إبرامه وأحكامه ( أن لا أنكح عليك ولا أتسرر أن ذلك ليس بشيء ) واجب إذ لا يقتضيه العقد ولا ينافيه ( إلا أن يكون في ذلك يمين بطلاق أو عتاقة ) بفتح العين مصدر عتق ( فيجب ذلك عليه ويلزمه ) إن تزوج أو تسرى
6 نكاح المحلل وما أشبهه ( مالك عن المسور ) بكسر الميم وإسكان المهملة وفتح الواو ( ابن رفاعة ) بكسر الراء ابن أبي مالك ( القرظي ) بضم القاف وفتح الراء وبالظاء المعجمة نسبة إلى بني قريظة تابعي صغير مقبول مات سنة ثمان وثلاثين ومائة له في الموطأ مرفوعا هذا الحديث الواحد ( عن الزبير بن عبد الرحمن بن الزبير ) التابعي الكبير بفتح الزاي فيهما ورواه ابن بكير بضم الأول وروى عنه الفتح فيهما كسائر الرواة عن مالك وهو الصحيح فيهما جميعا قاله ابن عبد البر واقتصر الحافظ على ضم الأول فقوله الصحيح فتحهما أي عن مالك قال في الإصابة هو بضم الزاي بخلاف جده فإنه بفتحها وكسر الموحدة ابن باطيا القرظي من بني قريظة ويقال هو ابن الزبير بن أمية بن زيد الأوسي كذا ذكر ابن منده وأبو نعيم فيحتمل أنه نسب إلى زيد لشيء صنع في الجاهلية وإلا فالزبير بن باطيا معروف من بني قريظة انتهى ولذا صوبه النووي وقال هو الذي ذكره ابن عبد البر والمحققون وقد قتل ابن باطيا كافرا يوم بني قريظة
( أن رفاعة بن سموال ) بكسر السين وإسكان الميم القرظي الصحابي قال ابن عبد البر كذا أرسله أكثر الرواة ووصله ابن وهب وهو من أجل من روى الحديث عن مالك وتابعه ابن القاسم وعلي بن زياد وإبراهيم بن طهمان وعبيد الله بن عبد الحميد الحنفي كلهم عن مالك عن المسور عن الزبير بن عبد الرحمن عن أبيه أن رفاعة بن سموال ( طلق امرأته تميمة ) بفتح الفوقية وقيل بضمها وقيل اسمها أميمة وقيل سهيمة وقيل عائشة ( بنت وهب ) القرظية الصحابية لا
____________________
(3/178)
أعلم لها غير هذه القصة ( في عهد ) أي زمن ( رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاثا ) وفي الصحيحين عن عائشة أن امرأة رفاعة قالت قال رسول الله إن رفاعة طلقني فبت طلاقي وفي رواية لهما أنها قالت طلقني آخر ثلاث تطليقات والروايات تفسر بعضها بعضا فلا حجة فيه لجواز إيقاع الطلاق الثلاث في كلمة بلا كراهة ( فنكحت عبد الرحمن بن الزبير ) بفتح الزاي الصحابي راوي هذا الحديث ( فاعترض عنها فلم يستطع أن يمسها ) لاسترخائه وعدم قدرته
وفي رواية للشيخين وإنما معه مثل الهدبة وأخذت بهدبة من جلبابها شبهته بذلك لصغر ذكره أو لاسترخائه وهو أظهر إذ يبعد أن يكون صغيرا إلى حد لا يغيب معه قدر الحشفة ( ففارقها ) طلقها
قال عياض وهذا إخبار عما اتفق بعد شكايتها للمصطفى ومباكرة عبد الرحمن لها
ففي البخاري أنها لما قالت وإنما معه مثل الهدبة قال كذبت والله إني لأنفضها نفض الأديم ( فأراد رفاعة أن ينكحها وهو زوجها الأول الذي كان طلقها ) بالثلاث فذكرت ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم ( فنهاه عن تزويجها ) وفي رواية للبخاري أن المرأة هي التي ذكرت ولا خلف لجواز أن كلا من الرجل والمرأة ذكر ذلك له صلى الله عليه وسلم ولفظ البخاري عن عائشة وكان معه مثل الهدبة فلم تصل منه إلى شيء تريده فلم يلبث أن طلقها فأتت النبي صلى الله عليه وسلم فقالت إن زوجي طلقني وإني تزوجت زوجا غيره فدخل بي ولم يكن معه إلا مثل الهدبة فلم يقربني إلا هنة واحدة لم يصل مني إلى شيء فأحل لزوجي الأول فقال صلى الله عليه وسلم لا تحلين لزوجك الأول حتى يذوق الآخر عسيلتك وتذوقي عسيلته
وقولها لم يصل مني إلى شيء صريح في أنه لم يطأها لا مرة ولا أزيد فيحمل قولها إلا هنة واحدة على أن معناه لم يرد القرب مني بقصد الوطء إلا مرة احدة وبهذا لا يخالف رواية الموطأ فلم يستطع أن يمسها ( وقال لا تحل لك حتى تذوق العسيلة ) بضم العين وفتح السين تصغير عسلة وهي كناية عن الجماع شبه لذته بلذة العسل وحلاوته فاستعار لها ذوقا وأنث العسل في التصغير لأنه يذكر ويؤنث أي قطعة من العسل أو على إرادة اللذة لتضمنه ذلك ووحده لئلا يظن أنها لا تحل إلا بوطء متعدد وضعف زعم أن التأنيث على إرادة النطفة بأن الإنزال لا يشترط باتفاق العلماء وشذ الحسن فقال العسيلة الإنزال رعيا لمعنى العسيلة قال أبو عمر في قوله لا حتى الخ وجهان أحدهما إن كان كما وصفت فلا سبيل إلى ذوق العسيلة فلا تحل للذي طلقها ثلاثا
والثاني إن كان يرجى ذلك منه فقال لها ذلك طمعا أن يكون وربما كان
قال ابن العربي مغيب الحشفة هو العسيلة وأما الإنزال فهو الدبيلة وذلك أن الرجل لا يزال في لذة الملاعبة فإذا أولج فقد عسل ثم يتعاطى بعد ذلك ما فيه علو
____________________
(3/179)
نفسه وإتعاب نفسه ونزف دمه وإضعاف أعضائه فهو إلى الدبيلة أقرب منه إلى العسيلة لأنه بدأ بلذة وختم بألم
قال الأبي وهذا منه ذهاب إلى أن ما قبل الإنزال أمتع من ساعة الإنزال
قال شيخنا أبو عبد الله يعني محمد بن عرفة من له ذوق يعرف ذلك
وقال الغزالي ساعة الإنزال ألذ لذات الدنيا وإن دامت قتلت وهو ينحو إلى قول الحسن
وهذا الحديث في الصحيحين من طرق عن ابن شهاب عن عروة عن عائشة بنحوه
( مالك عن يحيى بن سعيد ) الأنصاري ( عن القاسم بن محمد ) بن الصديق ( عن ) عمته ( عائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم أنها سئلت عن رجل طلق امرأته ألبتة ) من البت وهو القطع كأنه قطع العصمة التي له بها فهي الثلاث ( فتزوجها بعده رجل آخر فطلقها قبل أن يمسها فهل تصلح لزوجها الأول ) الذي أبتها ( أن يتزوجها فقالت عائشة لا تصلح حتى يذوق عسيلتها ) فأفتت بما روته عن النبي صلى الله عليه وسلم في امرأة رفاعة
وفي مسلم من طريق أبي أسامة عن هشام عن أبيه عن عائشة أنه صلى الله عليه وسلم سئل عن المرأة يتزوجها الرجل فيطلقها فتتزوج رجلا فيطلقها قبل أن يدخل عليها أتحل لزوجها الأول قال لا حتى يذوق عسيلتها وفي الصحيحين من طريق عبيد الله بن عمر عن القاسم بن محمد عن عائشة طلق رجل امرأته ثلاثا فتزوجها رجل ثم طلقها قبل أن يدخل بها فأراد زوجها الأول أن يتزوجها فسئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك فقال لا حتى يذوق الآخر من عسيلتها ما ذاق الأول لفظ مسلم وهذا يحتمل أنه مختصر من قصة رفاعة ويحتمل أنه قصة أخرى ولا يبعد التعدد وإلى هذا ذهب الكافة وانفرد ابن المسيب فقال تحل بالعقد لقوله تعالى { حتى تنكح زوجا غيره } البقرة 230 ورد بأن الآية وإن احتملت العقد لكن الحديث بين أن المراد به الوطء قال ابن عبد البر أظنه لم يبلغه الحديث أو لم يصح عنده قال غيره ولم يوافقه إلا طائفة من الخوارج وشذ في ذلك
( مالك أنه بلغه أن القاسم بن محمد سئل عن رجل طلق امرأته البتة ثم تزوجها بعده رجل آخر فمات عنها قبل أن يمسها هل يحل لزوجها الأول أن يراجعها ) أن يتزوجها ( فقال القاسم بن محمد لا يحل لزوجها الأول أن يراجعها ) لأن الثاني مات ولم يمسها ولا فرق بين الموت والطلاق إذ المدار على مغيب الحشفة ( قال مالك في المحلل ) أي المتزوج مبتوتة بقصد إحلالها لباتها ( أنه لا يقيم على
____________________
(3/180)
نكاحه ذلك ) لفساده ( حتى يستقبل نكاحا جديدا فإن أصابها في ذلك ) الفاسد ( فلها مهرها ) عليه
7 ما لا يجمع بينه من النساء ( مالك عن أبي الزناد ) بكسر الزاي وخفة النون عبد الله بن ذكوان ( عن الأعرج ) عبد الرحمن بن هرمز عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال ( لا يجمع بين المرأة وعمتها ) في نكاح واحد ولا بملك اليمين ( ولا بين المرأة وخالتها ) نكاحا وملكا وحيث حرم الجمع فلو نكحهما معا بطل نكاحهما إذ ليس تخصيص إحداهما بالبطلان بأولى من الأخرى فإن نكحهما مرتبا بطل نكاح الثانية لأن الجمع حصل بها وقد بين ذلك في رواية أبي داود والترمذي وقال حسن صحيح من وجه آخر عن أبي هريرة رفعه لا تنكح المرأة على عمتها ولا العمة على ابنة أخيها ولا المرأة على خالتها ولا الخالة على بنت أختها لا تنكح الصغرى على الكبرى ولا الكبرى على الصغرى والكبرى العمة والخالة والصغرى بنت الأخ وبنت الأخت وهو من عطف التفسير على جهة التأكيد والبيان ولذا لم يجىء بينهما بالعاطف قال عياض أجمع المسلمون على الأخذ بهذا النهي إلا طائفة من الخوارج لا يلتفت إليها واحتجوا بقوله تعالى { وأن تجمعوا بين الأختين } سورة النساء الآية 23 ثم قال { وأحل لكم ما وراء ذلكم } سورة النساء الآية 24 وقالوا الحديث خبر واحد والآحاد لا تخصص القرآن ولا تنسخه وهي مسألة خلاف بين الأصوليين والصحيح جواز الأمرين لأن السنة تبين ما جاء عن الله ولأن علة المنع من الجمع بين الأختين وهي ما تحمل عليه الغيرة من التقاطع والتدابر موجودة في ذلك وقاس بعض أهل السلف عليه جملة القرابة فمنع الجمع بين بنتي العم وبنتي العمة والخالة والجمهور على خلافه وقصر التحريم على ما ورد فيه نص أو ما ينطلق عليه لفظه من العمات والخالات وإن علون كما قال ابن شهاب في الصحيحين فنرى عمة أبيها وخالة أبيها بتلك المنزلة وهو صحيح لأن كلا منهما يطلق عليه اسم عمة وخالة لأن العمة هي كل امرأة تكون أختا لرجل له عليك ولادة فأخت الجد للأب عمة وأخت الجد للأم خالة انتهى
وقال النووي العمة حقيقة إنما هي أخت الأب وتطلق أي مجازا على أخت الجد أو أب الجد وإن علا
والخالة أخت الأم وتطلق على أخت أم الأم أو أم الجدة سواء كانت الجدة لأم أو لأب وهذا الحديث رواه البخاري عن عبد الله بن يوسف ومسلم عن القعنبي كلاهما عن مالك به
( مالك عن يحيى بن سعيد ) الأنصاري ( عن سعيد بن المسيب أنه كان يقول ينهى ) تحريما ( أن
____________________
(3/181)
تنكح المرأة على عمتها أو على خالتها ) وكذا العمة والخالة على بنت الأخ وبنت الأخت كما في الحديث قبله
وفي مسلم من وجه آخر عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن أربع نسوة أن يجمع بينهن المرأة وعمتها والمرأة خالتها وله من وجه آخر عنه مرفوعا لا تنكح المرأة على بنت الأخ ولا بنت الأخت على الخالة ( وأن يطأ الرجل وليدة ) أي أمة ( وفي بطنها جنين لغيره ) لقوله صلى الله عليه وسلم لا توطأ حامل حتى تضع ولا غير ذات حمل حتى تحيض رواه أحمد وأبو داود وصححه الحاكم عن أبي سعيد
8 ما لا يجوز من نكاح الرجل أم امرأته ( مالك عن يحيى بن سعيد أنه قال سئل ) بالبناء للمفعول ( زيد بن ثابت عن رجل تزوج امرأة ) أي عقد عليها ( ثم فارقها قبل أن يصيبها ) أي يجامعها ( هل تحل له أمها فقال زيد بن ثابت لا ) تحل له ( الأم مبهمة ) عن البيان فلا تحل بحال إذ ( ليس فيها شرط ) بالدخول ( وإنما الشرط في الربائب ) كما قال تعالى { وأمهات نسائكم وربائبكم اللاتي في حجوركم من نسائكم اللاتي دخلتم بهن فإن لم تكونوا دخلتم بهن فلا جناح عليكم } سورة النساء الآية 23 ولما سئل ابن عباس عن هذه الآية قال أبهموا ما أبهم الله
وفي رواية قال هذا من مبهم التحريم الذي لا وجه فيه غير التحريم سواء دخلتم بالنساء أم لا فأمهات نسائكم حرمن عليكم من جميع الجهات
وأما قوله وربائبكم الخ فليس من المبهمة لأن لهن وجهين أحللن في أحدهما وحرمن في الآخر فإذا دخل بأمهات الربائب حرمن وإذا لم يدخل بهن لم يحرمن فهذا تفسير المبهم الذي أراد ابن عباس نقله الهروي عن الأزهري
( مالك عن غير واحد أن عبد الله بن مسعود استفتي ) طلب منه الفتوى ( وهو بالكوفة عن نكاح الأم بعد الابنة إذا لم تكن الابنة مست ) جومعت ( فأرخص في ذلك ) بناء على أن الشرط يعمهما ( ثم أن
____________________
(3/182)
ابن مسعود قدم المدينة فسأل عن ذلك فأخبر أنه ليس كما قال وإنما الشرط في الربائب فرجع ابن مسعود إلى الكوفة فلم يصل إلى منزله ) بها لأنه كان ساكنها ( حتى أتى الرجل الذي أفتاه بذلك فأمره أن يفارق امرأته ) روى عبد الرزاق عن الثوري عن أبي فروة عن أبي عمرو الشيباني عن ابن مسعود أن رجلا من بني فزارة تزوج امرأة ثم رأى أمها فعجبته فأفتاه ابن مسعود أن يفارقها ويتزوج أمها إن كان لم يمسها فتزوجها وولدت له أولادا ثم أتى ابن مسعود المدينة فسأل فأخبر أنها لا تحل فلما رجع إلى الكوفة قال للرجل إنها عليك حرام ففارقها قال عبد الرزاق وأخبرني معمر عن يزيد بن أبي زياد أن عمر بن الخطاب هو الذي رد ابن مسعود عن قوله ذلك فيما أحسب
وقوله ففارقها يحتمل أنه أمر وأنه فعل فيكون الرجل امتثل وفي هذا ونحوه الاحتجاج بعمل المدينة لرجوع ابن مسعود عن اجتهاده الذي أفتى به إليهم لأنه إنما أفتى بالاجتهاد وقد ذهب بعض الأئمة المتقدمين إلى جواز نكاح الأم إذا لم يدخل بالبنت وقال الشرط الذي في آخر الآية يعم الأمهات والربائب وجمهور العلماء على خلافه لقول أهل العربية أن الخبرين إذا اختلفا لا يجوز أن يوصف الاسمان بوصف واحد فلا يقال قام زيد وقعد عمرو الظريفان وعلله سيبويه باختلاف العامل لأن العامل في الصفة هو العامل في الموصوف وبيانه في الآية أن قوله { اللاتي دخلتم بهن } سورة النساء الآية 23 يعود عند هذا القائل إلى نسائكم وهو مخفوض بالإضافة وإلى ربائبكم وهو مرفوع والصفة الواحدة لا تتعلق بمختلفي الإعراب ولا بمختلفي العامل
( قال مالك في الرجل يكون تحته المرأة ثم ينكح أمها فيصيبها أنها تحرم عليه امرأته ويفارقهما جميعا ويحرمان عليه أبدا إذا كان قد أصاب الأم فإن لم يصب الأم لم تحرم عليه امرأته وفارق الأم ) وبقي على امرأته البنت
( وقال مالك في الرجل يتزوج المرأة ثم ينكح أمها ) يعقد عليها ( فيصيبها أنه لا تحل له أمها أبدا ولا تحل لأبيه ولا لابنه ولا تحل له ابنتها وتحرم عليه امرأته ) لمسهما معا فإن لم يمس الأم فارقها ولم تحرم عليه امرأته كما قال قبل
( قال مالك ) هذا كله في النكاح ( فأما الزنى فإنه لا يحرم شيئا من ذلك ) المذكور فإن كان
____________________
(3/183)
متزوج بالبنت فزنى بالأم أو عكسه لا تحرم عليه زوجته لأن الحرام لا يحرم الحلال
وقد روى الدارقطني عن عائشة وابن عمر رفعاه لا يحرم الحرام الحلال لكنهما ضعيفا السند إلا أنه يستأنس بهما ( لأن الله تبارك وتعالى قال و ) حرمت عليكم ( أمهات نسائكم فإنما حرم ما كان تزويجا ولم يذكر تحريم الزنى ) والنكاح شرعا إنما يطلق على وطء المعقود عليها لا على مجرد الوطء
( فكل تزويج كان على وجه الحلال يصيب صاحبه امرأته فهو بمنزلة التزويج الحلال ) فيقع به التحريم وكل ما كان محض زنى لا يحرم لأنه ليس بمنزلة التزويج ( فهذا الذي سمعت والذي عليه أمر الناس عندنا ) بالمدينة وبه قال الجمهور والشافعي وأحمد وعليه جل أصحاب مالك بل صريح غير واحد من الأشياخ منهم سحنون بأن جميعهم عليه
وقوله في المدونة إن زنى بأم زوجته أو ابنتها فليفارقها حمله الأكثر على الوجوب واللخمي وابن رشد على الكراهة أي كراهة البقاء معها واستحباب فراقها وذهب أكثر أهل المذهب إلى ترجيح ما في الموطأ وأن دليل من ذهب إلى التحريم كأبي حنيفة وصاحبيه والمدونة بناء على أن الأمر للوجوب لتحريمها عليه ضعيف لأن عمدته قوله تعالى { ولا تنكحوا ما نكح آباؤكم من النساء } سورة النساء الآية 22 فحملوا ولا تنكحوا على العقد ما نكح آباؤكم على الوطء ووجه ضعفه أن النكاح حيث وقع في القرآن فالمراد به العقد إلا ما خص من ذلك نحو { حتى تنكح زوجا غيره } سورة البقرة الآية 230 { الزاني لا ينكح إلا زانية أو مشركة } سورة النور الآية 3 { وليستعفف الذين لا يجدون نكاحا } سورة النور الآية 33 وما ذكروه ليس من ذلك ولئن سلم أن المراد بما نكح آباؤكم الوطء فالمعنى به الوطء الحلال لأنه الذي يطلق عليه في الشرع اسم النكاح أما الزنى فيقال فيه سفاح وأيضا فالزنى لا تثبت به العدة فلا يثبت به تحريم كاللواط وأيضا الحرمة حكم من أحكام النكاح الصحيح كالإحصان والنفقة وإسقاط الحد فلا يثبت بالزنى فإن قيل هو تحريم يثبت بالوطء فوجب أن يثبت بالوطء الحرام كتحريم الفطر به وإفساد الحج أجيب بأنه لا يصح اعتباره به وإن استويا في إفساد الصوم والحج لأنه يجري مجراه في الإفساد اللواط ولا ينشر الحرمة
9 نكاح الرجل أم امرأة قد أصابها على وجه ما يكره ( قال مالك في الرجل يزني بالمرأة فيقام عليه الحد فيها أنه ينكح ابنتها وينكحها ابنه إن شاء ) وأولى إن لم يقم عليه الحد فإنما نص على المتوهم ( وذلك أنه أصابها حراما ) وهو لا يحرم الحلال ( وإنما الذي حرم الله ما أصيب بالحلال أو على وجه الشبهة بالنكاح ) الذي يدرأ الحد ( قال الله تبارك وتعالى { ولا تنكحوا ما نكح آباؤكم من النساء } ) والنكاح في عرف الشرع إنماهو الوطء الحلال لا الزنى
____________________
(3/184)
( فلو أن رجلا نكح امرأة في عدتها نكاحا حلالا ) باستناده لعقد غير عالم بأنها في العدة ( فأصابها حرمت على ابنه أن يتزوجها وذلك أن أباه نكحها على وجه الحلال لا يقام عليه فيه الحد ) للشبهة ( ويلحق به الولد الذي يولد فيه بأبيه ) لأن وطء الشبهة يدرأ الحد ويلحق به الولد ( وكما حرمت على ابنه أن يتزوجها حين تزوجها أبوه في عدتها وأصابها فكذلك يحرم على الأب ابنتها إذا هو أصاب أمها ) لأن وطء الشبهة ينشر الحرمة بخلاف ما إذا لم يصبها لأن العقد في النكاح الصحيح على الأم لا يحرم البنت فأولى الفاسد
10 جامع ما لا يجوز من النكاح ( مالك عن نافع عن ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى ) تحريما ( عن الشغار ) هكذا لجل الرواة وقال ابن وهب عن نكاح الشغار بمعجمتين أولاهما مكسورة فألف فراء مصدر شاغر يشاغر شغارا ومشاغرة
وفي رواية أيوب عن نافع عن ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لا شغار في الإسلام ( والشغار أن يزوج الرجل ابنته ) أو أخته أو أمته ( على أن يزوجه آخر ابنته ) أو وليته ( ليس بينهما صداق ) بل يضع كل منهما صداق الأخرى مأخوذ من قولهم شغر البلد عن السلطان إذا خلا عنه لخلوه عن الصداق أو لخلوه عن بعض الشرائط
وقال ثعلب من قولهم شغر الكلب إذا رفع رجله ليبول كأن كلا من الوليين يقول للآخر لا ترفع رجل ابنتي حتى أرفع رجل ابنتك وفي التشبيه بهذه الهيئة القبيحة تقبيح للشغار وتغليظ على فاعله وأكثر رواة مالك لم ينسبوا هذا التفسير لأحد ولذا قال الشافعي رضي الله عنه لا أدري أهو من كلام النبي صلى الله عليه وسلم أو ابن عمر أو نافع أو مالك حكاه البيهقي
وقال الخطيب وغيره هو قول مالك وصله بالمتن المرفوع بين ذلك ابن مهدي والقعنبي ومحرز بن عون
____________________
(3/185)
فيما أخرجه أحمد
وقال الباجي قوله نهى عن الشغار مرفوعا اتفاقا وباقيه من تفسير نافع والظاهر أنه من جملة الحديث حتى يتبين أنه عن قول الراوي انتهى وقد تبين ذلك ففي مسلم هنا والبخاري في ترك الحيل من طريق عبيد الله قلت لنافع ما الشغار قال فذكره ولذا قال الحافظ الذي تحرر أنه من قول نافع
قال عياض عن بعض العلماء كان الشغار من نكاح الجاهلية يقول شاغرني وليتي بوليتك أي عاوضني جماعا بجماع ولا خلاف أن غير البنت من الإماء والأخوات وغيرهن حكم البنت وتعقبه الأبي بأن مذهب مالك اختصاصه بذوات الجبر وهو في غيرهن بمنزلة من تزوج على أن لا صداق فيمضي بالدخول قال ولا حجة فيما وقع عند مسلم في حديث أبي هريرة نهى صلى الله عليه وسلم عن الشغار زاد ابن نمير وللشغار أن يقول زوجني ابنتك وأزوجك ابنتي وزوجني أختك وأزوجك أختي لأنه ليس من لفظه صلى الله عليه وسلم
قال عياض ولا خلاف في النهي عنه ابتداء فإن وقع أمضاه الكوفيون والليث والزهري وعطاء إذا صحح بصداق المثل وأبطله مالك والشافعي واختلف في علة البطلان فقيل لأن كلا من الفرجين معقود به وعليه وقيل لخلوه من الصداق فعلى الأول فساده في عقده فيفسخ بعد البناء وعلى الثاني فساده في صداقه فيمضي بالبناء وهما قولان لمالك رضي الله عنه
قال غيره وإنما اختلف قول مالك للاختلاف في النهي هل يدل على الفساد أو للخلاف في تفسيره هل هو مرفوع أو من قول ابن عمر وأبي هريرة وهما أدرى بما سمعا لأنهما عربيان عالمان بمواقع الألفاظ وإنما النظر إذا كان من تفسير نافع فإنه عجمي تعرب ولذا اختلف نظر العلماء وليس البطلان لترك ذكر الصداق لصحة النكاح بدون تسميته لكن قال ابن دقيق العيد قوله ليس بينهما صداق يشعر بأن جهة الفساد ترك ذكر الصداق انتهى
أي مع جعل بضع كل منهما صداقا للأخرى وهذا صريح الشغار
قال مالك في المدونة يفسخ وإن طال وولدت الأولاد قال ابن القاسم بطلاق
وأما وجه الشغار وهو أن يسمى لكل صداقا على أن يزوج كلا منهما الآخر فيفسخ قبل البناء ويثبت بعده بالأكثر من المسمى وصداق المثل وأما المركب منهما وهو أن يسمى لإحداهما صداقا والأخرى بلا صداق فالمسمى لها حكم وجهه والأخرى كصريحه وهذا الحديث رواه البخاري عن عبد الله بن يوسف ومسلم عن يحيى كلاهما عن مالك به ورواه أصحاب السنن الأربعة من طريق مالك وتابعه عبيد الله بن عمر في الصحيحين وعبد الرحمن السراج وأيوب عند مسلم الثلاثة عن نافع عن ابن عمر وتابعه أبو هريرة وجابر عن النبي صلى الله عليه وسلم في مسلم أيضا
( مالك عن عبد الرحمن بن القاسم ) التيمي المدني قال ابن عيينة كان أفضل أهل زمانه مات سنة ست وعشرين ومائة وقيل بعدها ( عن أبيه ) القاسم بن محمد بن الصديق أحد الفقهاء ( عن عبد الرحمن ) أبي محمد المدني أخي عاصم بن عمر لأمه يقال ولد في حياة النبي صلى الله عليه وسلم وذكره
____________________
(3/186)
ابن حبان في ثقات التابعين مات سنة ثلاث وتسعين ( و ) عن أخيه ( مجمع ) بضم الميم وفتح الجيم وتشديد الميم الثانية المكسورة وعين مهملة الأنصاري الأوسي تابعي كبير مات سنة ستين ( ابني ) بالتثنية ( يزيد ) بتحتية فزاي ( ابن جارية ) بالجيم والراء والتحتية ( الأنصاري ) الأوسي أبي عبد الرحمن ذكره ابن سعد وغيره في الصحابة
وقال ابن منده يزيد بن جارية وقيل زيد فجعلهما واحدا والصواب أنهما أخوان قاله في الإصابة ( عن خنساء ) بفتح الخاء المعجمة وإسكاء النون مهملة مهموز ممدود ( بنت خدام ) بالخاء المعجمة المكسورة والدال المهملة كما في الفتح والتقريب وقال بعضهم بالذال المعجمة الأنصارية الأوسية زوج أبي لبابة صحابية معروفة من بني عمرو بن عوف ( أن أباها ) خداما الصحابي يقال هو ابن وديعة ويقال ابن خالد وقال أبو نعيم يكنى أبا وديعة ( زوجها وهي ثيب ) لما تأيمت من أنيس بن قتادة الأنصاري حين قتل عنها يوم أحد كما رواه عبد الرزاق عن معمر بن سعيد بن عبد الرحمن عن أبي بكر ابن محمد مرسلا وأخرجه الواقدي عن الخنساء نفسها وأنيس بالتصغير وسماه بعضهم أنسا وأنكره ابن عبد البر وفي المبهمات للقطب القسطلاني أن اسمه أسير وأنه مات ببدر ( فكرهت ذلك ) الرجل الذي أنكحها أبوها إياه لم يعرف الحافظ اسمه قال نعم عند الواقدي أنه من مزينة وعند ابن إسحاق أنه من بني عمرو بن عوف ( فأتت رسول الله صلى الله عليه وسلم ) فقالت إن أبي أنكحني رجلا وإن عم ولدي أحب إلي منه ( فرد نكاحه ) وجعل أمرها إليها كما في رواية عبد الرزاق عن أبي بكر بن محمد
وله عن نافع بن جبير فأتت النبي صلى الله عليه وسلم فقالت إن أبي زوجني وأنا كارهة وقد ملكت أمري قال فلا نكاح له انكحي من شئت فرد نكاحه ونكحت أبا لبابة الأنصاري
وأخرج الواقدي عن خنساء بنت خدام أنها كانت تحت أنيس بن قتادة فقتل عنها يوم أحد فزوجها أبوها رجلا من مزينة فكرهته وجاءت إلى النبي صلى الله عليه وسلم فرد نكاحه فتزوجها أبو لبابة فجاءت بالسائب ابن أبي لبابة قال أبو عمر هذا الحديث مجمع على صحته والقول به لأن من قال لا نكاح إلا بولي قال لا يزوج الثيب وليها أبا أو غيره إلا بإذنها ورضاها ومن قال ليس للولي مع الثيب أمرا وأجازه بلا ولي فأولى بالعمل بهذا الحديث ولا خلاف أن الثيب لا يجوز لأبيها ولا غيره جبرها على النكاح إلا الحسن البصري فقال نكاح الأب جائز على بنته بكرا كانت أو ثيبا أكرهت أم لا قال إسماعيل القاضي لا أعلم أحدا قال بقوله في الثيب
وروى عبد الرزاق عن ابن عباس مرفوعا ليس للولي مع الثيب أمر واختلف في بطلانه ولو رضيت
وقال الشافعي وأحمد لأنه صلى الله عليه وسلم لم يقل لخنساء إلا أن تجيزي وكذا قال مالك إلا أن ترضي بالقرب بالبلد فيجوز لأنه كان في وقت واحد وفور واحد
وقال أبو حنيفة وأصحابه لها أن تجيزه فيجوز أو تبطله فيبطل انتهى ملخصا
وأما حديث النسائي عن جابر أن رجلا زوج ابنته وهي بكر من غير أمرها فأتت النبي صلى الله عليه وسلم ففرق بينهما فحمله البيهقي على أنه زوجها من غير كفؤ أما إذا زوجها بكفؤ فينفذ ولو طلبت هي كفؤا غيره لأنها مجبرة فليس لها اختيار
____________________
(3/187)
الأزواج والأب أكمل نظرا منها بخلاف غير المجبر فلا يزوجها إلا ممن عينته لأن إذنها شرط في أصل تزويجها فاعتبر تعيينها انتهى وهو على مذهب الشافعي
أما على مذهب مالك أنه لا كلام للبكر مع الأب ولو زوجها بغير كفؤ فيحمل على أنه زوجها بذي عيب ليس للأب جبرها عليه وحديث الباب رواه البخاري عن إسماعيل ويحيى بن قزعة بفتحات كليهما عن مالك به ولم يخرجه مسلم
( مالك عن أبي الزبير ) محمد بن مسلم ( المكي أن عمر بن الخطاب أتي ) بضم الهمزة ( بنكاح لم يشهد عليه إلا رجل وامرأة فقال هذا نكاح السر ولا أجيزه ) لأنه صلى الله عليه وسلم قال لا نكاح إلا بولي وشاهدي عدل رواه أحمد والطبراني والبيهقي وغيرهم وإسناده صحيح
( ولو كنت تقدمت ) بفتح التاء والقاف والدال أي سبقت غيري وفي رواية ابن وضاح بضم التاء والقاف وكسر الدال بالبناء للمفعول أي سبقني غيري ( فيه لرجمت ) فاعله وجعله سرا لأن الشهادة لم تتم فيه وقد أجازه الكوفيون بشهادة رجل وامرأتين
وقال مالك والشافعي وأحمد لا دخل للنساء في النكاح فإنما يصح شهادة عدلين إلا أن مالكا أجاز العقد بدون شهادة ثم يشهدان قبل الدخول وقال نكاح السر ما أوصي بكتمه والشافعي والكوفيون وغيرهم ما لم يشهد عليه ويفسخ على كل حال
( مالك عن ابن هشام عن سعيد بن المسيب وعن سليمان بن يسار أن طليحة ) بنت عبيد الله ( الأسدية ) لها إدراك قال أبو عمر كذا وقع الأسدية في بعض نسخ الموطأ من رواية يحيى وهو خطأ وجهل لا أعلم أحدا قاله وإنما هي تيمية أخت طلحة بن عبيد الله أحد العشرة التيمي ( كانت تحت رشيد ) بضم الراء وفتح الشين ( الثقفي ) الطائفي ثم المدني مخضرم ( فطلقها فنكحت في عدتها ) رجلا غير مطلقها ( فضربها عمر بن الخطاب وضرب زوجها بالمخفقة ) بكسر الميم وإسكان المعجمة وفتح الفاء والقاف هكذا ضبط بالقلم في نسخ قديمة قال الجوهري الدرة التي يضرب بها وفي القاموس كمكنسة أي بوزنها فوافق الضبط المذكور ( ضربات ) تعزيرا لهما على العقد في العدة ( وفرق بينهما ثم قال عمر بن الخطاب أيما امرأة نكحت في عدتها فإن كان زوجها الذي تزوجها ) في العدة ( لم يدخل بها فرق بينهما ثم اعتدت بقية عدتها من زوجها الأول ثم كان الآخر ) بعد تمام العدة
____________________
(3/188)
( خاطبا من الخطاب ) لها فتنكح من شاءت ولا يكون الآخر أحق بها ( فإن كان دخل بها ) الآخر ( فرق بينهما ثم اعتدت بقية عدتها من الأول ثم اعتدت من الآخر ) بكسر الخاء ( ثم لا يجتمعان أبدا ) لتأبد التحريم بالوطء في العدة ( قال مالك وقال سعيد بن المسيب ولها مهرها بما استحل منها ) من الوطء ( قال مالك الأمر عندنا في المرأة الحرة يتوفى عنها زوجها فتعتد ) وكأنه قيد بالحرة وإن كانت الأمة كذلك ( لقوله أربعة أشهر وعشرا ) إذ الأمة عدتها شهران وخمس أو هو على سبيل المثال والمراد المعتدة ( أنها لا تنكح بعدها إن ارتابت من حيضتها حتى تستبرىء نفسها من تلك الريبة إذا خافت الحمل ) إذ عدة الحامل وضعه والله أعلم
11 نكاح الأمة على الحرة ( مالك أنه بلغه أن عبد الله بن عباس وعبد الله بن عمر ) رضي الله تعالى عنهم ( سئلا عن رجل كانت تحته امرأة حرة فأراد أن ينكح عليها أمة فكرها أن يجمع بينهما ) واختلف فيه قول مالك فروى عنه لا بأس بذلك وقال ابن القاسم عنه تخير الحرة في نفسها ومحل الخلاف إذا كانت الأمة من مناكحه وإلا فلا يجوز كما أفصح به الإمام بعد قريبا
( مالك عن يحيى بن سعيد ) الأنصاري ( عن سعيد بن المسيب ) القرشي ( أنه كان يقول لا تنكح الأمة على الحرة إلا أن تشاء الحرة فإن طاعت الحرة فلها الثلثان من القسم ) وبهذا قال ابن الماجشون قال وإليه رجع مالك والمشهور وهو اختيار ابن القاسم في المدونة أنه لا يجوز أن تفضل الحرة عليها في القسم ( قال مالك ولا ينبغي ) لا يجوز ( لحر أن يتزوج أمة وهو يجد طولا ) غنى أي مهرا
____________________
(3/189)
( لحرة ولا يتزوج أمة إذا لم يجد طولا لحرة إلا أن يخشى العنت ) الزنى وفحوى كلامه هنا أن الطول هو المال وبه صرح في المدونة وزاد وليس وجود الحرة تحته بطول وروى محمد عنه هو وجود الحرة في عصمته ووجه الباجي الأول بأنه يتوصل بالمال إلى ما يحتاج إليه من نكاح الحرائر وأما الحرة فلا يتوصل بها إلى ذلك ولا يسمى طولا لغة ولا شرعا
( و ) دليل ( ذلك أن الله تبارك وتعالى قال في كتابه { ومن لم يستطع منكم طولا أن ينكح المحصنات } سورة النساء الآية 25 ) الحرائر ( المؤمنات هو جري على الغالب فلا مفهوم له عند الجمهور لأن علة المنع إرقاق الولد في الأماء وهو غير موجود في حرائر الكتابيات وقد نص مالك في المبسوط على هذه العلة وطرد أصله فأجاز نكاح الابن أمة أبيه وجده وأمهاته واختار بعضهم اشتراطه لظاهر الآية قال فإن كان هناك إجماع كما قيل ألغى الوصف بالمؤمنات وإلا فالصحيح اعتباره لأن الأمر هنا بني على اعتبار المفهوم انتهى
ودليل الغاية قوله تعالى { والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم } سورة المائدة الآية 5 { فمن ما ملكت أيمانكم } تنكح ( من فتياتكم المؤمنات ) لا الكافرات فإنها لا تحل بالنكاح بل بالملك
( وقال ذلك ) أي نكاح المملوكات عند عدم الطول ( لمن خشي العنت منكم ) أي خافه ( والعنت هو الزنى ) وأصله المشقة سمي به الزنى لأنه سببه بالحد في الدنيا والعقوبة في الآخرة
12 ما جاء في الرجل يملك امرأته وفي نسخة الأمة وقد كانت تحته ففارقها ( مالك عن ابن شهاب عن أبي عبد الرحمن عن زيد بن ثابت ) قال ابن عبد البر اختلف في اسم أبي عبد الرحمن هذا فقيل سليمان بن يسار وهو بعيد لأنه أجل من أن يستر اسمه ويكنى عنه وقيل هو أبو الزناد وهو أبعد لأنه لم يرو عن زيد ولا رآه ولا روى عنه ابن شهاب وقيل هو طاوس وهو أشبه بالصواب وإنما كتم اسمه مع جلالته لأن طاوسا كان يطعن على بني أمية ويدعو عليهم في مجالسه وكان ابن شهاب يدخل عليهم ويقبل جوائزهم وقد سئل مرة في مجلس هشام أتروي عن طاوس فقال للسائل أما إنك لو رأيت طاوسا لعلمت أنه لا يكذب ولم يجبه بأنه يروي أو لا يروي فهذا كله دليل على أن أبا عبد الرحمن المذكور هو طاوس انتهى
( أنه كان يقول في الرجل يطلق الأمة ) امرأته ( ثلاثا ثم يشتريها أنها لا تحل له حتى تنكح زوجا غيره ) لعموم الآية وعلى هذا الجمهور والأئمة الأربعة خلافا لقول بعض السلف تحل لعموم { أو ما ملكت أيمانكم } النساء 3 { قال }
____________________
(3/190)
أبو عمر هذا خطأ لأنها لا تبيح الأمهات والأخوات والبنات فكذا سائر المحرمات
( مالك أنه بلغه أن سعيد بن المسيب وسليمان بن يسار سئلا عن رجل زوج عبدا له جارية له فطلقها العبد البتة ) أي جميع طلاقه وهو اثنتان ( ثم وهبها سيدها له هل تحل له بملك اليمين فقالا لا تحل له حتى تنكح زوجا غيره ) لدخولها في الآية فوافقا زيدا على فتواه
( مالك أنه سأل ابن شهاب عن رجل كانت تحته أمة مملوكة ) لغيره ( فاشتراها ) منه ( وقد كان طلقها واحدة فقال تحل له بملك يمينه ) ولو طلقها واحدة أو اثنتين ( ما لم يبت ) بضم الباء ( طلاقها فإن بت طلاقها ) أتمه ثلاثا ( فلا تحل له بملك يمينه حتى تنكح زوجا غيره ) للآية إذ لم يفصل فيها بين حرة وأمة
( قال مالك في الرجل ينكح الأمة فتلد منه ثم يبتاعها أنها لا تكون أم ولد له بذلك الولد الذي ولدت منه وهي ) مملوكة ( لغيره ) إذ الولد ملك لسيدها وأم الولد أمة ولدت من مالكها فحملها منه حر ويستمر عدم أمومة الولد ( حتى تلد منه وهي في ملكه بعد ابتياعه إياها ) فتكون أم ولد ( وإن اشتراها وهي حامل ثم وضعت عنده كانت أم ولده بذلك الحمل فيما نرى والله تعالى أعلم ) بالحكم وبه قال الليث
وقال الشافعي وأحمد لا تكون أم ولد وإن ملكها حاملا حتى تحمل منه في ملكه
وقال أبو حنيفة وأصحابه إذا ملكها بعد ولادتها منه صارت أم ولد وزيفه ابن عبد البر بأن ولدها عبد تبع لها فكيف تكون له أم ولد قال وهذا واضح
____________________
(3/191)
13 ما جاء في كراهية إصابة أختين بملك اليمين والمرأة وابنتها كراهية بخفة الياء مصدر كره مثل كراهة والمراد التحريم والمرأة بالخفض عطف على إصابة وبدأ بما أخره في الترجمة فقال ( مالك عن ابن شهاب عن عبيد الله ) بضم العين ( ابن عبد الله ) بفتحها ( ابن عتبة ) بضمها وإسكان الفوقية ( ابن مسعود ) الهذلي المدني الثقة الثبت أحد الفقهاء ( عن أبيه ) عبد الله بن عتبة الهذلي ابن أخي عبد الله بن مسعود ولد في عهد النبي صلى الله عليه وسلم ووثقه العجلي وجماعة وهو من كبار التابعين مات بعد السبعين
( أن عمر بن الخطاب سئل عن المرأة وابنتها من ملك اليمين توطأ إحداهما بعد الأخرى ) ما الحكم ( فقال عمر ما أحب أن أخبرهما ) بفتح الهمزة وإسكان الخاء المعجمة وضم الموحدة أي أطأهما يقال للحراث خبير ومنه المخابرة ( جميعا ونهى عن ذلك ) نهي تحريم باتفاق العلماء إلا ما روي عن ابن عباس أحلتهما آية وحرمتهما آية ولم أكن لأفعله ولم يوافقه أحد لأن الله حرم ذلك في النكاح وملك اليمين تبع له إلا في العدد
( مالك عن ابن شهاب عن قبيصة ) بفتح القاف وكسر الموحدة ( ابن ذؤيب ) بضم المعجمة وفتح الهمزة مصغرا الخزاعي ( أن رجلا ) لم يسم ( سأل عثمان بن عفان عن الأختين من ملك اليمين هل يجمع بينهما فقال عثمان أحلتهما آية ) قال ابن حبيب يريد قوله { والمحصنات من النساء إلا ما ملكت أيمانكم } سورة النساء الآية 24 فعم ولم يخص أختين من غيرهما وقال غيره هي قوله تعالى { والذين هم لفروجهم حافظون إلا على أزواجهم أو ما ملكت أيمانهم } سورة المعارج الآية 30 قيل وهذا أقرب ولو أراد ما قال ابن حبيب لقال أحلتهما آيتان وقال ابن عبد البر يريد تحليل الوطء بملك اليمين مطلقا في غير ما آية انتهى فحمل آية على الجنس وبه يجاب عن ابن حبيب ( وحرمتهما آية ) يعني قوله تعالى { وأن تجمعوا بين الأختين } سورة النساء الآية 24 بلا خلاف وبعد أن بين لسائله اختلاف الآيتين أخبره بما اختاره بقوله ( فأما أنا فلا أحب أن أصنع ذلك ) الجمع بين الأختين بملك اليمين في الوطء إما احتياطا لتعارض الدليلين وإما على الوجوب تقديما للحظر على الإباحة
( قال ) قبيصة
____________________
(3/192)
( فخرج ) الرجل السائل من عنده ( فلقي رجلا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فسأله عن ذلك ) لأن عثمان لم يقطع بالتحريم ولا الحل ( فقال لو كان لي من الأمر شيء ثم وجدت أحدا فعل ذلك لجعلته نكالا ) عبرة مانعة لغيره من ارتكاب مثل ما فعل قال الأزهري النكال العقوبة التي تنكل الناس عن فعل ما جعلت له جزاء قال أبو عمر لم يقل حددته حد الزنى لأن المتأول ليس بزان إجماعا وإن أخطأ إلا ما لا يعذر بجهله وهذا شبهته قوية وهي قول عثمان وغيره ( قال ابن شهاب أراه ) أظن الصحابي القائل هذا ( علي بن أبي طالب ) وكنى عنه قبيصة لصحبته عبد الملك بن مروان وبنو أمية تستثقل سماع ذكر علي لا سيما ما خالف فيه عثمان قاله أبو عمر وجمهور السلف على المنع وأباحه بعضهم وسبب الخلاف أي العمومين يقدم وأي الآيتين أولى أن تخص بها الأخرى والأصح التخصيص بآية النساء لأنها وردت في تعيين المحرمات وتفصيلهن وأخذ الأحكام من مظانها أولى من أخذها لا من مظانها فهي أولى من الآية الواردة في مدح قوم حفظوا فروجهم إلا عما أبيح لهم ولأن أية ملك اليمين دخلها التخصيص باتفاق إذ لا يباح بملك اليمين ذوات محارمه اللائي يصح له ملكهن ولا الأخت من الرضاعة وأما آية التحريم فدخول التخصيص فيها مختلف فيه لأنها عندنا على عمومها وعند المخالف مخصصة وتقرر في الأصول أن العام الذي لم يدخله تخصيص مقدم على ما دخله لأن العام إذا خصص ضعف الاحتجاج به قال عياض وهذا الخلاف كان من بعض السلف ثم استقر الإجماع بعده على المنع إلا طائفة من الخوارج لا يلتفت إليها
( مالك أنه بلغه عن الزبير بن العوام مثل ذلك ) الذي قاله علي ( قال مالك في الأمة تكون عند الرجل فيصيبها ) يجامعها ( ثم يريد أن يصيب أختها أنها لا تحل له حتى يحرم عليه فرج أختها بنكاح ) بأن يزوجها من غيره ( أو عتاقة ) ناجزة أو مؤجلة ( أو كتابة ) لحرمة فرجها عليه بها لأنها أحرزت نفسها ومالها بالكتابة ( أو ما أشبه ذلك ) كأسر وإباق إياس وبيع ( يزوجها عبده أو عبد غيره ) أو حرا بشرطه وهذا إيضاح لقوله أولا بنكاح دفعا لتوهم أنه إذا زوجها عبده لا تحل أختها لبقاء ملكه لها
____________________
(3/193)
14 النهي أن يصيب الرجل أمة كانت لأبيه ( مالك أنه بلغه أن عمر بن الخطاب وهب لابنه جارية فقال لا تمسها فإني قد كشفتها ) قال الباجي معناه أنه نظر إلى بعض ما تستره من جسدها على وجه طلب التلذذ والاستمتاع فأبدى العلة الموجبة للتحريم وهو الكشف فلو كان الملك كافيا كما يقول الشافعي لم يحتج إلى ذلك
( مالك عن عبد الرحمن بن المجبر ) بفتح الجيم والموحدة الثقيلة واسمه أيضا عبد الرحمن ابن عبد الرحمن ثلاثة ابن عمر بن الخطاب ( أنه قال وهب سالم بن عبد الله بن عمر لابنه جارية فقال لا تقربها فإني قد أردتها ) على الجماع ( فلم انبسط إليها ) لم أجامعها بعد كشفها
( مالك عن يحيى بن سعيد أن أبا نهشل ) بفتح النون وإسكان الهاء وفتح الشين المعجمة ولام ابن الأسود ( قال للقاسم بن محمد إني رأيت جارية لي منكشفا عنها ) ثيابها ( وهي في القمر فجلست منها مجلس الرجل من امرأته ) بين وركيها لأنكحها ( فقالت إني حائض فقمت فلم أقربها بعد ) بضم الدال ( أفأهبها لابني يطؤها فنهاه القاسم عن ذلك ) أي هبتها للوطء أما الهبة بلا وطء فيجوز كما فعل عمر وسالم
( مالك عن إبراهيم بن أبي عبلة ) بفتح المهملة وسكون الموحدة واسمه شمر بكسر المعجمة الشامي يكنى أبا إسماعيل ثقة مات سنة اثنين وخمسين ومائة ( عن عبد الملك بن مروان ) بن الحكم الأموي أحد ملوك بني أمية ( أنه وهب لصاحب له جارية ثم سأله عنها فقال قد
____________________
(3/194)
هممت أن أهبها لابني فيفعل بها كذا وكذا ) كناية عن جماعها ( فقال عبد الملك لمروان ) بفتح اللام في جواب القسم أي والله لمروان يعني أباه ( كان أورع منك وهب لابنه ) يحتمل أنه يريد نفسه أو أخاه عبد العزيز أو غيرهما من بنيه ( جارية ثم قال لا تقربها فإني قد رأيت ساقها منكشفة ) فالتذذت بها
15 النهي عن نكاح إماء أهل الكتاب ( قال مالك لا يحل نكاح أمة يهودية ولا نصرانية لأن الله تبارك وتعالى يقول في كتابه والمحصنات ) الحرائر ( من المؤمنات والمحصنات ) الحرائر ( من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم ) حل لكم أن تنكحوهن ( فهن الحرائر من اليهوديات والنصرانيات ) فالمراد بالكتاب التوراة والإنجيل لا المجوس وإن كان لهم شبهة كتاب إذ لا كتاب بأيديهم وكذا من تمسك بصحف شيث وإدريس وإبراهيم وزبور داود لأنها لم تنزل بنظم يدرس ويتلى وإنما أوحى إليهم معانيها أو أنها لم تتضمن أحكاما وشرائع بل كانت حكما ومواعظ
( وقال الله تبارك وتعالى ومن لم يستطع منكم طولا ) غنى ( أن ينكح المحصنات ) الحرائر ( المؤمنات ) أو الكتابيات بدليل والمحصنات من الذين أتوا الكتاب من قبلكم فالوصف جرى على الغالب فلا مفهوم له ( فمن ما ملكت أيمانكم ) تنكح ( من فتياتكم المؤمنات فهن ) أي الفتيات ( الإماء المؤمنات فإنما أحل الله فيما نرى نكاح الإماء المؤمنات ) لمن لم يجد طولا وخاف العنت ( ولم يحلل ) بالفك وفي نسخة يحل بالإدغام ( نكاح إماء أهل الكتاب اليهودية والنصرانية ) وهذا الاستدلال في غاية الجودة والظهور وكذا يحرم نكاح نساء سائر الكفار الحرائر غير اليهود والنصارى كعبدة شمس وقمر وصور ونجوم ومعطلة وزنادقة وباطنية وفرق بين الكتابية وغيرها بأن غيرها اجتمع فيه نقص الكفر في الحال وفساد الدين في الأصل والكتابية فيها نقص واحد وهو كفرها في الحال
( والأمة اليهودية والنصرانية تحل لسيدها
____________________
(3/195)
بملك اليمين ) لعموم قوله تعالى { أو ما ملكت أيمانكم } النساء 3 ولا يحل وطء أمة مجوسية بملك اليمين للقاعدة أن كل من جاز وطء حرائرهم بالنكاح جاز وطء إمائهم بالملك وكل من منع وطء حرائرهم بالنكاح منع وطء إمائهم بالملك
16 ما جاء في الإحصان ( مالك عن ابن شهاب عن سعيد بن المسيب أنه قال ) تفسيرا لقوله تعالى { والمحصنات من النساء } سورة النساء الآية 24 هن أولات الأزواج لأنهن أحصن فروجهن بالتزويج ( ويرجع ) ذلك ( إلى أن الله تعالى حرم الزنى ) وكذا روى نحوه عن علي وابن مسعود فمعنى قوله { إلا ما ملكت أيمانكم } سورة النساء الآية 24 عندهم تملكون عصمتهم بالنكاح وبالشراء أي بجعل إلا للعطف على قول الكوفيين فكأنهن كلهن ملك يمين وما عدا ذلك زنى واقتصرت طائفة من السلف والخلف على أن المراد السبايا ذوات الأزواج خاصة فقوله { إلا ما ملكت أيمانكم } سورة النساء الآية 24 يعني منهن لهدم السبي النكاح وبه قال الأكثر والأئمة الأربع وهو الصواب والحق وقيل المحصنات كل ذات زوج من السبايا وغيرهم فإذا بيعت أمة متزوجة كان ذلك طلاقا وحلت لمشتريها بملك اليمين ويرده أنه صلى الله عليه وسلم خير بريرة بعد ما بيعت وعتقت فلو كان بيعها طلاقها ما خيرها قاله أبو عمر ملخصا
( مالك عن ابن شهاب ) سماعا ( وبلغه عن القاسم بن محمد أنهما كانا يقولان إذا نكح الحر الأمة فمسها فقد أحصنته ) ولا يحصنها ( قال مالك وكل من أدركت كان يقول ذلك ) الذي قاله ابن شهاب والقاسم وهو ( تحصن الأمة الحر إذا نكحها فمسها ) أصابها ( فقد أحصنته ) فهو إيضاح لما أفاده اسم الإشارة
( قال مالك تحصن العبد الحرة إذا مسها بنكاح ولا تحصن ) بضم الفوقية ( الحرة العبد إلا أن يعتق ) أي يعتقه سيده ( وهو زوجها فيمسها بعد عتقه فإن فارقها قبل أن يعتق فليس بمحصن حتى
____________________
(3/196)
يتزوج بعد عتقه ويمس امرأته ) التي تزوجها حرة أو أمة ( والأمة إذا كانت تحت الحر ثم فارقها قبل أن تعتق فلا يحصنها نكاحه إياها وهي أمة حتى تنكح بعد عتقها ويصيبها زوجها فذلك إحصانها ) فالأمة تحصن الحر ولا يحصنها وزاده إيضاحا فقال ( والأمة إذا كانت تحت الحر فتعتق وهي تحته قبل أن يفارقها أنه يحصنها إذا عتقت وهي عنده إذا هو أصابها بعد أن تعتق ) فإن لم يصبها بعده لم تتحصن بنكاحه وهي رقيقة
( والحرة النصرانية واليهودية والأمة المسلمة يحصن ) بضم الياء وإسكان الحاء وكسر الصاد ( الحر المسلم ) بالنصب مفعول ( إذا نكح إحداهن ) فاعل أي نكاح إحداهن ( فأصابها ) جامعها فيحصنه نكاح الكتابية والأمة المسلمة ولا يحصن هو واحدة منهما فقد روى معمر عن الزهري قال سأل عبد الملك بن مروان عبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود أتحصن الأمة الحر قال نعم قال عمن قال أدركنا أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يقولون ذلك
17 نكاح المتعة هو النكاح لأجل كما فسره في المدونة قال ابن أبي عمرة الأنصاري كانت رخصة في أول الإسلام لمن اضطر إليها كالميتة والدم ولحم الخنزير ثم أحكم الله الدين ونهى عنها رواه مسلم
( مالك عن ابن شهاب عن عبد الله ) بن محمد بن علي العلوي أبي هاشم ابن الحنفية ثقة من رجال الكل مات سنة تسع وتسعين بالشام
( والحسن ابني محمد بن علي بن أبي طالب ) الهاشمي أبي محمد ثقة فقيه يقال المدني إنه أول من تكلم في الإرجاء مات سنة مائة أو قبلها بسنة ( عن أبيهما ) محمد بن علي أبي القاسم ابن الحنفية الهاشمي المدني ثقة عالم تابعي كبير مات بعد الثمانين ( عن ) أبيه ( علي بن أبي طالب ) أمير المؤمنين زاد في رواية جويرية بن أسماء عن مالك بهذا الإسناد أنه سمع علي ابن أبي طالب يقول لفلان يعني ابن عباس إنك رجل تايه ( أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن متعة النساء ) ولأحمد من طريق سفيان عن الزهري عن نكاح المتعة وهي النكاح لأجل معلوم أو مجهول
____________________
(3/197)
كقدوم زيد سميت بذلك لأن الغرض منها مجرد التمتع دون التوالد وغيره من أغراض النكاح
وفي رواية عبيد الله عن ابن شهاب بإسناده عن علي أنه سمع ابن عباس يلين في متعة النساء فقال مهلا يا ابن عباس فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عنها ( يوم خيبر ) هكذا اتفق مالك وسائر أصحاب الزهري على خيبر بخاء معجمة وراء آخره إلا ما رواه عبد الوهاب الثقفي عن يحيى القطان عن مالك في هذا الحديث فقال حنين بمهملة ونونين أخرجه النسائي والدارقطني وقالا إنه وهم تفرد به القطان
( وعن أكل لحوم الحمر الإنسية ) قال عياض رواه الأكثر بفتح الهمزة والنون ورواه بعضهم بكسر الهمزة وسكون النون والإنس بالفتح والكسر الناس ولا خلاف في الأخذ بالنهي عن أكلها إلا شيء روي عن ابن عباس وعائشة وبعض السلف وفي أن النهي للتحريم أو الكراهة قولان لمالك وفي أن علة تحريمها أنها لم تكن قسمت أو خوف فناء الظهر أو لأنها كانت جلالة روايات وقيل هو نهي تحريم لغير علة اه
والمعتمد عن مالك تحريمها واختلف في وقت تحريم نكاح المتعة والمتحصل من الأخبار أن أولها خيبر ثم عمرة القضاء كما رواه عبد الرزاق عن الحسن البصري مرسلا ومراسيله ضعيفة لأنه كان يأخذ عن كل أحد ثم الفتح كما في مسلم عن سبرة الجهني مرفوعا بلفظ إنها حرام من يومكم هذا إلى يوم القيامة ثم أوطاس كما في مسلم عن سلمة بن الأكوع بلفظ رخص لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم عام أوطاس في المتعة ثلاثا ثم نهى عنها ويحتمل أنه أطلق على عام الفتح عام أوطاس لتقاربهما لكن يبعد أن يقع الإذن في أوطاس بعد التصريح قبلها في الفتح بأنها حرمت إلى يوم القيامة ثم تبوك فيما أخرجه إسحاق بن راهويه وابن حبان من طريقه من حديث أبي هريرة وهو ضعيف لأنه من رواية المؤمل بن إسماعيل عن عكرمة بن عمار وفي كل منهما مقال وعلى تقدير صحته فليس فيه أنهم استمتعوا في تلك الحالة أو كان النهي قديما فلم يبلغ بعضهم فاستمر على الرخصة ولذلك قرن صلى الله عليه وسلم النهي بالغضب كما رواه الحازمي من حديث جابر لتقدم النهي عنه ثم حجة الوداع كما عند أبي داود لكن اختلف فيه على الربيع ابن سبرة والرواية عنه بأنها في الفتح أصح وأشهر فإن كان حفظه فليس في سياق أبي داود سوى مجرد النهي فلعله صلى الله عليه وسلم أراد إعادة النهي ليسمعه من لم يسمعه قبل ويقويه أنهم حجوا بنسائهم بعد أن وسع الله عليهم بفتح خيبر بالمال والسبي فلم يكونوا في شدة ولا طول غربة
قال عياض الصحيح أن الواقع في حجة الوداع إنما هو تجديد النهي لاجتماع الناس وليبلغ الشاهد الغائب ولإتمام الدين والشريعة كما قرر غير شيء يومئذ اه
فلم يبق صحيح صريح سوى خيبر والفتح مع ما وقع في خيبر من الكلام حتى زعم ابن عبد البر أن ذكر النهي يوم خيبر غلط والسهيلي أنه شيء لا يعرفه أحد من أهل السير ولا رواة الأثر فالذي يظهر أنه وقع فيه تقديم وتأخير في لفظ الزهري اه
أي فيكون نهي يوم خيبر عن لحموم الحمر الإنسية وعن متعة النساء فليس يوم خيبر ظرفا لمتعة النساء لأنه لم يقع في غزوتها تمتع بالنساء فإن الصحابة لم يستمتعوا باليهوديات
____________________
(3/198)
وهذا نقله أبو عمر عن بعض أصحابه وقال إنه تأويل بعيد
وقال ابن عيينة إن تاريخ خيبر في حديث علي إنما هو في النهي عن لحموم الحمر الأهلية قال البيهقي وهو يشبه أنه كما قال فقد روي عنه صلى الله عليه وسلم أنه رخص فيه بعد ذلك ثم نهى عنه فيكون احتجاج بنهيه آخرا حتى تقوم به الحجة على ابن عباس وتعقب هذا كله بأنه بعد اتفاق أصحاب الزهري عنه على ذلك لا ينبغي أن يقال لأنهم حفاظ ثقات ولذا قال عياض تحريمها يوم خيبر صحيح لا شك فيه وقد قال بعضهم إن المتعة مما تناولها الإباحة والتحريم والنسخ مرتين كما اتفق في القبلة وقال النووي الصواب المختار أن التحريم والإباحة كانا مرتين فكانت حلالا قبل خيبر ثم حرمت يوم خيبر ثم أبيحت يوم الفتح وهو يوم أوطاس لاتصالها بها ثم حرمت يومئذ بعد ثلاثة أيام تحريما مؤبدا إلى يوم القيامة
وقال ابن العربي نكاح المتعة من غرائب الشريعة أبيح ثم حرم ثم أبيح ثم حرم فالإباحة الأولى أن الله سكت عنه في صدر الإسلام فجرى الناس في فعله على عادتهم ثم حرم يوم خيبر ثم أبيح يوم الفتح وأوطاس على حديث جابر وغيره ثم حرمت تحريما مؤبدا يوم الفتح على حديث سبرة اه
والإجماع على حرمتها
وما في مسلم عن جابر استمتعنا على عهد النبي صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وعمر زاد في رواية حتى نهى عمر محمول على أن الذي استمتع لم يبلغه النهي ولم يخالف في ذلك إلا الروافض قال المازري محتجين بالأحاديث الواردة في ذلك وبقوله تعالى { فما استمتعتم به منهن } النساء 24 الآية
وقرأ ابن مسعود / < فما استمتعتم به منهن إلى أجل > / ولا حجة في شيء من ذلك لأن تلك الأحاديث نسخت والآية محمولة على النكاح المؤبد وقراءة ابن مسعود لم تتواتر والقرآن لا يثبت بالآحاد واحتجاجهم بأن اختلاف الروايات في حديث النهي تناقض يوجب القدح في الحديث مدفوع بأنه لا تناقض لأنه يصح أن ينهى عن الشيء في زمان ثم يكرر النهي عنه في زمن آخر تأكيدا وتعقب قوله يخالف إلا الروافض بأنه ثبت الجواز عن جمع من الصحابة كجابر وابن مسعود وأبي سعيد ومعاوية وأسماء بنت أبي بكر وابن عباس وعمرو بن الحويرث وسلمة وعن جماعة من التابعين وأجيب بأن الخلاف إنما كان في الصدر الأول إلى آخر خلافة عمر والإجماع إنما هو فيما بعد واختلف هل رجع ابن عباس إلى التحريم أم لا قال ابن عبد البر أصحابه من أهل مكة واليمن يرونه حلالا واختلف الأصوليون في الإجماع بعد الخلاف هل يرفع الخلاف السابق أو لا يرفعه ويكون الخلاف باقيا ومن ثم جاء الخلاف فيمن نكح متعة هل يحد أو لا لشبهة العقد وللخلاف المتقرر فيه ولأنه ليس من تحريم القرآن ولكنه يعاقب عقوبة شديدة وهو المروي عن مالك والشافعي وأجمعوا على أنه متى وقع الآن فسخ قبل الدخول وبعده إلا زفر فقال بصحته لأنه من باب الشروط الفاسدة إذا قارنت النكاح بطلت ومضى النكاح على التأبيد
وفي الاستذكار روي عن علي وابن مسعود نسخ معنى قوله { فما استمتعتم به منهن } الآية
بالطلاق والعدة والميراث
وعن أبي هريرة رفعه مثله
وفي تأويلها قول ثان لجمع
____________________
(3/199)
منهم عمر بن الخطاب والحسن البصري أن المتعة النكاح الحلال فإذا عقد وطلق قبل الدخول فقد استمتع بالعقد فعليه نصف الصداق فإن دخل فلها الصداق كله لاستمتاعه المتعة الكاملة وقوله { ولا جناح عليكم فيما تراضيتم به } سورة النساء الآية 24 معناه أن تترك المرأة ويترك لها كقوله فإن طبن لكم عن شيء وإلا أن يعفون أو يعفو الذي بيده عقدة النكاح
وهذا الحديث رواه البخاري في المغازي عن يحيى بن قزعة بفتح القاف والزاي والمهملة ومسلم عن يحيى التميمي ومن طريق جويرية الثلاثة عن مالك به وتابعه سفيان بن عيينة في الصحيحين وعبيد الله ويونس عند مسلم ثلاثتهم عن ابن شهاب نحوه وقد رواه عن مالك شيخه يحيى بن سعيد الأنصاري
( مالك عن ابن شهاب عن عروة بن الزبير أن خولة بنت حكيم ) بن أمية السلمية يقال لها أم شريك ويقال لها خويلة أيضا بالتصغير صحابية مشهورة يقال أنها التي وهبت نفسها للنبي صلى الله عليه وسلم وكانت قبل ذلك تحت عثمان بن مظعون ( دخلت على عمر بن الخطاب فقالت إن ربيعة بن أمية ) بن خلف القرشي الجمحي أخا صفوان أسلم يوم الفتح وشهد حجة الوداع وروي أن النبي صلى الله عليه وسلم أمره أن يقف تحت صدر راحلته وقال يا ربيعة قل يا أيها الناس إن رسول الله يقول لكم أي بلد هذا الحديث فذكره لأجل هذا في الصحابة من لم يمنعن النظر كالبغوي وأصحابه مع أنه جاء من طرق أن عمر غربه في الخمر إلى خيبر فلحق بهرقل فتنصر فقال عمر لا أغرب بعده أحدا أبدا كما بسطه في الإصابة ( استمتع بامرأة مولدة فحملت منه ) بعد نهيك عن المتعة ( فخرج عمر بن الخطاب فزعا ) بالفاء والزاي ( يجر رداءه ) من العجلة ( فقال هذه المتعة ) التي ثبت نهيه صلى الله عليه وسلم عنها ( ولو كنت تقدمت ) أي سبقت غيري ( فيها لرجمت ) أي لرجمته أو المراد لرجمت فاعلها ربيعة أو غيره لأن حذف المفعول يؤذن بالعموم وهذه القصة وقعت لربيعة قبل تنصره كما في الإصابة
قال ابن عبد البر الخبر عن عمر من رواية مالك منقطع ورويناه متصلا ثم أسنده عن يحيى بن سعيد عن نافع عن ابن عمر قال قال عمر لو تقدمت فيها لرجمت يعني المتعة وهذا القول منه قبل نهيه عنها وهو تغليظ ليرتدع الناس وينزجروا عن سوء مذهبهم وقبيح تأويلاتهم واحتمال أنه لو تقدم بإقامة الحجة من الكتاب والسنة على تحريمها لرجمت كما يرجم الزاني ضعيف لا يصح إلا على من وطىء حراما لم يتأول فيه سنة ولا قرآنا اه
واختلف كبار أصحاب مالك هل يحد حد البكر أو المحصن أو لا حد عليه لشبهة العقد وللخلاف المتقرر فيها ولأنه ليس من تحريم القرآن ولكنه يعاقب عقوبة شديدة وهو المروي عن مالك وأصل هذا عند بعض شيوخنا التفريق بين ما حرمته
____________________
(3/200)
السنة وبين ما حرمه القرآن وأيضا فإن الخلاف بين الأصوليين هل يصح الإجماع على أحد القولين بعد الخلاف أم لا ينعقد وحكم الخلاف باق وهو مذهب الباقلاني وهذا على عدم صحة رجوع ابن عباس عنها فأما على ما روي من رجوعه فقد انقطع الخلاف جملة وأجمعوا على أن من نكح نكاحا مطلقا ونيته أن لا يمكث معها إلا مدة نواها أنه جائز وليس بنكاح متعة لكن قال مالك ليس هذا من الجميل ولا من أخلاق الناس وشذ الأوزاعي فقال هو نكاح متعة ولا خير فيه قاله عياض
18 نكاح العبيد ( مالك أنه سمع ربيعة بن أبي عبد الرحمن يقول ينكح العبد ) أي يجوز له أن ينكح ( أربع نسوة كالحر قال مالك وهذا أحسن ما سمعت في ذلك ) لعموم قوله تعالى { فانكحوا ما طاب لكم من النساء مثنى وثلاث ورباع } النساء 3 وبه قال سالم والقاسم ومجاهد والزهري وداود
وقال ابن وهب لا يجوز له الزيادة على اثنين كما لا يجوز للحر الزيادة على أربع وكأنه قاسه على طلاقه ويحتمل بناء الخلاف على الخلاف في العبد هل هو داخل في عموم الخطاب أم لا وبالثاني قال أبو حنيفة والشافعي وعمر وعلي وعبد الرحمن بن عوف أنه لا ينكح أكثر من ثنتين
قال أبو عمر لا أعلم لهم مخالفا من الصحابة
وفي البخاري عن الحكم أجمع الصحابة على أن المملوك لا يجمع من النساء أربعا
( قال مالك والعبد مخالف للمحلل إن أذن له سيده ثبت نكاحه وإن لم يأذن له سيده فرق بينهما ) والفرض أنه لا ينكح بلا إذنه ( والمحلل يفرق بينهما على كل حال إذا أريد بالنكاح التحليل ) من الزوج المحلل ( قال مالك في العبد إذا ملكته امرأته ) بشراء أو هبة أو إرث ( أو الزوج يملك امرأته ) كذلك ( إن ملك كل واحد منهما صاحبه يكون فسخا بغير طلاق ) وثمرة ذلك ( إن تراجعا بنكاح بعده لم تكن تلك الفرقة طلاقا ) فتبقى معه بعصمة جديدة
( والعبد إذا أعتقته امرأته إذا ملكته وهي في عدة منه لم يتراجعا إلا بنكاح جديد ) لوجود للطلاق قبل العتق
____________________
(3/201)
19 نكاح المشرك إذا أسلمت زوجته قبله ( مالك عن ابن شهاب أنه بلغه ) قال ابن عبد البر لا أعلمه يتصل من وجه صحيح وهو حديث مشهور معلوم عند أهل السير وابن شهاب إمام أهلها وشهرة هذا الحديث أقوى من إسناده إن شاء الله
( أن نساء كن في عهد رسول الله ) أي زمنه ( صلى الله عليه وسلم يسلمن بأرضهن وهن غير مهاجرات وأزواجهن حين أسلمن كفار منهن ) فاختة بفاء ومعجمة وفوقية ( بنت الوليد بن المغيرة ) المخزومية أخت خالد بن الوليد ( وكانت تحت صفوان بن أمية ) بن خلف بن وهب الجمحي أحد الفصحاء والمطعمين في الجاهلية وأحد من انتهى إليه شرف الجاهلية ووصله لهم الإسلام ( فأسلمت يوم الفتح ) وبايعت قبل إسلام زوجها بشهر وليس لها حديث
( وهرب زوجها صفوان بن أمية من الإسلام ) بغضا فيه حتى هداه الله ( فبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم ابن عمه ) أي صفوان ( وهب بن عمير ) بضم العين مصغر ابن وهب بن حذافة بن جمح القرشي الجمحي الصحابي ابن الصحابي قال ابن دريد كان وهب من أحفظ الناس فكانت قريش تقول له قلبان من شدة حفظه فأنزل الله { ما جعل الله لرجل من قلبين في جوفه } الأحزاب 4 فلما كان يوم بدر أقبل منهزما ونعلاه واحدة في يده والأخرى في رجله فقالوا ما فعل الناس قال هزموا فقالوا فأين نعلاك قال في رجلي قالوا فما في يدك فقال ما شعرت فعلموا أنه ليس له قلبان ( برداء رسول الله صلى الله عليه وسلم أمانا لصفوان بن أمية ودعاه رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الإسلام وأن يقدم عليه فإن رضي أمرا قبله وإلا سيره شهرين ) أنظره فيهما ليتروى قال في الإصابة المعروف أن هذه القصة أي البعث بالرداء والأمان كانت لأبي وهب عمير بن وهب كما ذكره موسى بن عقبة وغيره من أهل المغازي ( فلما قدم صفوان على رسول الله صلى الله عليه وسلم بردائه ناداه على رؤوس الناس ) جهرا ( فقال يا محمد إن هذا وهب ) بالنصب والرفع ( ابن عمير جاءني بردائك وزعم أنك دعوتني إلى القدوم عليك فإن رضيت ) بضم التاء ( أمرا ) أي الإسلام ( قبلته وإلا سيرتني شهرين فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم انزل أبا وهب ) كنية صفوان خاطبه بها تعظيما واستئلافا مع أن صفوان خاطبه باسمه فأغضى عن ذلك { وإنك لعلى خلق عظيم } القلم 4 فقال لا والله لا أنزل حتى تبين لي هل خبر
____________________
(3/202)
وهب كما قال أم لا ( فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم بل لك تسيير أربعة أشهر ) فزاده شهرين على ما بعث به إليه تفضلا وزيادة في الاستئلاف ( فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم ) في شوال سنة ثمان ( قبل ) بكسر القاف وفتح الباء جهة ( هوازن ) قبيلة كبيرة فيها عدة بطون ينسبون إلى هوازن بن منصور بن عكرمة بن خصفة بمعجمة فمهملة ففاء مفتوحات ابن قيس عيلان بمهملة ابن إلياس بن مضر ( بحنين ) واد بين مكة والطائف ( فأرسل إلى صفوان بن أمية يستعير ) أي منه ( أداة ) كترس وخودة ( وسلاحا عنده فقال ) صفوان ( أطوعا أم كرها فقال بل طوعا ) وفي رواية فقال أغصبا يا محمد فقال بل عارية مضمونة حتى نردها إليك فقال ليس بهذا بأس ( فأعاره الأداة والسلاح التي عنده ) وفي رواية فأعطى له مائة درع بما فيها من السلاح فسأله صلى الله عليه وسلم أن يكفيهم حملها فحملها إلى أوطاس ويقال أعاره أربعمائة درع بما يصلحها فإن صح فالمائة داخلة في الأربعمائة
( ثم خرج صفوان مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ) وفي نسخة ثم رجع ( وهو كافر فشهد حنينا والطائف وهو كافر وامرأته مسلمة ولم يفرق رسول الله صلى الله عليه وسلم بينه وبين امرأته ) فاختة ( حتى أسلم صفوان ) حين أعطاه من الغنائم فأكثر فقال أشهد ما طابت بهذا إلا نفس نبي فأسلم
وروى مسلم والترمذي عنه والله لقد أعطاني النبي صلى الله عليه وسلم وإنه لأبغض الناس إلي فما زال يعطيني حتى إنه لأحب الناس إلي ( واستقرت عنده امرأته بذلك النكاح ) لإسلامه في عدتها
( مالك عن ابن شهاب أنه قال كان بين إسلام صفوان وبين إسلام امرأته نحو من شهر ) وعند ابن إسحاق ورد صلى الله عليه وسلم امرأة صفوان بعد أربعة أشهر وبين هذا وقول الزهري بون كبير وعلى تقدير صحته يحمل على أن عدتها لم تنقض لحمل ونحوه
( قال ابن شهاب ولم يبلغنا أن امرأة هاجرت إلى
____________________
(3/203)
الله ورسوله وزوجها كافر مقيم بدار الكفر ) وفي نسخة بدار الحرب ( إلا فرقت هجرتها بينها وبين زوجها إلا أن يقدم زوجها مهاجرا قبل أن تنقضي عدتها ) فيقر عليها
( مالك عن ابن شهاب أن أم حكيم بنت الحارث بن هشام ) بن المغيرة المخزومية الصحابية بنت الصحابي ( وكانت تحت ) ابن عمها ( عكرمة بن أبي جهل ) عمرو بن هشام بن المغيرة المخزومي ( فأسلمت يوم الفتح ) لمكة ( وهرب زوجها عكرمة بن أبي جهل من الإسلام حتى قدم اليمن ) وعند ابن إسحاق عن ابن شهاب عن عروة واستأمنت أم حكيم لعكرمة النبي صلى الله عليه وسلم فأمنه وذكر موسى ابن عقبة عن الزهري واستأذنته صلى الله عليه وسلم في طلب زوجها عكرمة فأذن لها وأمنه ( فارتحلت أم حكيم حتى قدمت عليه اليمن ) بإذن المصطفى كما ترى ( فدعته إلى الإسلام فأسلم ) وحسن إسلامه واستشهد بالشام في خلافة أبي بكر على الصحيح
وأخرج ابن مردويه والدارقطني والحاكم عن سعد بن أبي وقاص أن عكرمة لما ركب البحر أصابهم عاصف فقال أصحاب السفينة أخلصوا فإن آلهتكم لا تغني عنكم ها هنا فقال عكرمة والله لئن لم ينجني في البحر إلا الإخلاص فلا ينجيني في البر غيره اللهم إن لك علي عهدا إن عافيتني مما أنا فيه أن آتي محمدا حتى أضع يدي في يده فلأجدنه عفوا كريما
وروى البيهقي عن الزهري والواقدي عن شيوخه
أن امرأته قالت يا رسول الله قد ذهب عنك عكرمة إلى اليمن وخاف أن تقتله فأمنه قال هو آمن فخرجت في طلبه فأدركته وركب سفينة ونوتي يقول له أخلص أخلص قال ما أقول قال قل لا إله إلا الله قال ما هربت إلا من هذا وإن هذا أمر تعرفه العرب والعجم حتى النواتي ما الدين إلا ما جاء به محمد وغير الله ما في قلبي وجاءت أم حكيم تقول يا ابن عم جئتك من عند أبر الناس وأوصل الناس خير الناس لا تهلك نفسك إني قد استأمنت لك رسول الله صلى الله عليه وسلم فرجع معها وجعل يطلب جماعها فتأبى وتقول أنت كافر وأنا مسلمة فقال إن أمرا منعك مني لأمر كبير فلما كبير وافى مكة قال صلى الله عليه وسلم لأصحابه يأتيكم عكرمة مؤمنا فلا تسبوا أباه فإن سب الميت يؤذي الحي فكأنه لما طلب جماعها وأبت وقال ما قال دعته إلى الإسلام فأسلم
( وقدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم عام الفتح ) لمكة ( فلما رآه صلى الله عليه وسلم وثب ) بمثلثة فموحدة قام بسرعة ( فرحا ) به بفتح الراء وكسرها ( وما عليه رداء ) لاستعجاله بالقيام حين رآه ( حتى بايعه )
____________________
(3/204)
وفي الترمذي من حديثه قال النبي صلى الله عليه وسلم يوم جئته مرحبا مرحبا بالراكب المهاجر وعند البيهقي عن الزهري فوقف بين يديه ومعه زوجته منتقبة فقال إن هذه أخبرتني أنك أمنتني فقال صلى الله عليه وسلم صدقت فأنت آمن قال إلام تدعو قال أدعو إلى أن تشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله وتقيم الصلاة وتؤتي الزكاة وكذا حتى عد خصال الإسلام قال ما دعوت إلا إلى خير وأمر جميل قد كنت فينا يا رسول لله قبل أن تدعونا وأنت أصدقنا حديثا وأبرنا ثم قال فإني أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله ثم قال يا رسول الله علمني خير شيء أقوله قال تقول أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا عبده ورسوله قال ثم ماذا قال تقول أشهد الله وأشهد من حضرني أني مسلم مجاهد مهاجر فقال ذلك عكرمة وفي فوائد يعقوب الحصاص عن أم سلمة مرفوعا رأيت لأبي جهل عذقا في الجنة فلما أسلم عكرمة قال صلى الله عليه وسلم يا أم سلمة هو هذا ( فثبتا على نكاحهما ذلك ) إلى أن خرجت أم حكيم معه إلى غزو الروم فاستشهد فتزوجها خالد بن سعيد بن العاصي فلما كانت وقعة مرج الصفراء أراد خالد البناء بها فقالت له لو تأخرت حتى يهزم الله هذه الجموع فقال إن نفسي تحدثني أن أقتل قالت أدن فدنا منها فأعرس بها عند القنطرة فعرفت بها بعد ذلك فقيل قنطرة أم حكيم ثم أصبح فأولم عليها فما فرغوا من الطعام حتى وافتهم الروم ووقع القتال فاستشهد خالد فشدت أم حكيم عليها ثيابها وتبذلت وإن عليها لأثر الخلوق فاقتتلوا على النهر فقتلت أم حكيم يومئذ بعمود الفسطاط الذي أعرس به خالد عليها سبعة من الروم ذكره في الاستيعاب
( قال مالك وإذا أسلم الرجل قبل امرأته وقعت الفرقة بينهما ) إذا لم تكن كتابية ( إذا عرض عليها الإسلام فلم تسلم لأن الله تبارك وتعالى يقول في كتابه { ولا تمسكوا بعصم الكوافر } الممتحنة 10 ) نهى عن استدامة نكاحهن فقيل هو خاص بالمشركات اللاتي كانت بمكة وهو الأصح وقيل عام ثم خص منه الكتابيات وسبب النزول يرده وكذا قوله { واسألوا ما أنفقتم } سورة الممتحنة الآية 10 فإن معناه طلب مهرهن من الكفار الذين فررن إليهم { وليسألوا ما أنفقوا } سورة الممتحنة الآية 10 أي يطلب الكفار من المسلمين مهر من فرت إليهم مسلمة كذا في الإكليل وفيه نظر فالعبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب وإن كانت صورة السبب قطعية الدخول عند الأكثر ولا يرده أيضا قوله { واسألوا ما أنفقتم } فإنه بيان لحكم من وردت الآية بسببهن فلا يخالف الاستدلال بعمومها على حرمة إمساك الكوافر كما فعل مالك خص منه الكتابيات لآية المائدة
____________________
(3/205)
20 ما جاء في الوليمة هي طعام النكاح وقيل طعام الإملاك خاصة قاله عياض مشتقة من الولم وهو الجمع لأن الزوجين يجتمعان
( مالك عن حميد الطويل ) الخزاعي البصري ( عن أنس بن مالك أن عبد الرحمن بن عوف ) قال ابن عبد البر هو من مسند أنس عند جميع رواة الموطأ ورواه روح بن عبادة عن مالك عن حميد عن أنس عن عبد الرحمن أنه جاء فجعله من مسند عبد الرحمن ( جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وبه أثر صفرة ) تعلقت بجلده أو ثوبه من طيب العروس هذا أولى ما فسر به
وفي حديث وبه درع من زعفران أي أثره وليس بداخل في النهي عن تزعفر الرجل لأنه فيما قصد به التشبه بالنساء وقيل يرخص فيه للعروس وفيه أثر ذكره أبو عبيد أنهم كانوا يرخصون فيه للشاب أيام عرسه وقيل لعله صلى الله عليه وسلم لم ينكر عليه لأنه يسير وقيل كان من ينكح أول الإسلام يلبس ثوبا مصبوغا بصفرة علامة للسرور وهذا غير معروف على أن بعضهم جعله أولى ما قيل ومذهب مالك وأصحابه جواز الثياب المزعفرة للرجال وحكاه مالك عن علماء المدينة وهو مذهب ابن عمر وغيره وحجتهم حديث ابن عمر كان صلى الله عليه وسلم يصبغ بالصفرة وحكى ابن شعبان كراهة ذلك في اللحية وكرهه الشافعي وأبو حنيفة في الثياب واللحية قاله عياض
وقال الباجي روى الداودي أن عمر بن الخطاب كان يصبغ لحيته بالصفرة حتى تمتلىء ثيابه من الصفرة وقال إني رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يصبغ بها ولم يكن شيء أحب إليه منها وأنه كان يصبغ بها ثيابه كلها حتى العمامة قال الباجي وهذا في الزعفران وأما بغيره مما ليس بطيب ولا ينفض على الجسد فلا خلاف في جوازه
( فسأله رسول الله صلى الله عليه وسلم ) فقال ما هذا وفي رواية فقال مهيم أي ما هذا وكلاهما في الصحيح
قال عياض فيه افتقاد الكبير أصحابه وسؤاله عما يختلف عليه من حالهم وليس من كثرة السؤال المنهي عنه قال الأبي هذا بناء على أنه ليس سؤال إنكار
وقال الطيبي يحتمل أنه إنكار لأنه كان نهى عن التضمخ بالطيب فأجابه بأنه لم يتضمخ به وإنما تعلق به من العروس
( فأخبر أنه تزوج ) زاد في رواية امرأة من الأنصار قال الحافظ ولم تسم إلا أن الزبير بن بكار جزم بأنها ابنة أبي الحيسر بفتح المهملتين بينهما تحتية ساكنة آخره راء واسمه أنس بن رافع الأنصاري وأنها ولدت له القاسم وأبا عثمان عبد الله ( فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم كم سقت إليها ) مهرا
____________________
(3/206)
وفي رواية كم أصدقتها وفيه أنه لا بد في النكاح من المهر وقد يشعر ظاهره احتياجه إلى تقدير لأن كم موضوعة له ففيه حجة للمالكية والحنفية في أن أقل الصداق مقدر
( فقال ) سقت إليها ( زنة نواة من ذهب ) قال ابن وهب والخطابي والأكثر هي خمسة دراهم من ذهب فالنواة اسم لمقدار معروف عندهم وقال أحمد بن حنبل النواة ثلاثة دراهم وثلث وقيل المراد نواة التمر أي وزنها من ذهب والأول أظهر وأصح
وقال بعض أصحاب مالك النواة بالمدينة ربع دينار وظاهر كلام أبي عبيد أنه دفع خمسة دراهم ولم يكن ثم ذهب إنما هي خمسة دراهم تسمى نواة كما تسمى الأربعون أوقية قاله عياض قال الزواوي لكن قوله من ذهب يبعد أن تكون خمسة دراهم فضة إلا أن يكون التقدير صرف زنة نواة من ذهب ويكون زنتها حينئذ من الذهب صرفها خمسة دراهم وذلك غير بعيد فإن الصرف كان في زمانهم عشرة دراهم بدينار ولا يبعد أن يكون من النوى ما زنته نصف مثقال ويكون ذلك هو المصطلح على الوزن به عندهم اه
لكن ضعف ابن دقيق العيد والطيبي القول بأنه نوى التمر بأن زنتها لا تضبط ولا يعتد بها قال عياض قيل زنة نواة من ذهب ثلاثة دراهم وربع وأراد قائله أن يحتج به على أنه أقل الصداق ولا يصح لقوله من ذهب وذلك أكثر من دينارين وهذا لم يقله أحد وهو غفلة من قائله بل فيه حجة لمن يقول لا يكون أقل من عشرة دراهم ووهم الداودي رواية من ذهب وقال الصحيح نواة ولا وهم فيه على كل تفسير لأنها إن كانت نواة تمر كما قال أو قدرا معلوما عندهم صلح أن يقال فيه وزن كذا وما ذكره من ثلاثة دراهم وربع ووهمه ذكره أبو عمر عن بعض أصحاب مالك ووهمه أيضا بأنه لا خلاف أن المثقال درهمان عددا ودرهم الفضة كيلا درهم وخمسان ووزن ثلاثة دراهم وربع من ذهب أكثر من مثقالين من الذهب
قال الزواوي وهذا الذي ذكراه يصح الانفصال عنه بأن معناه صرفها ثلاثة دراهم وربع كما قلنا في تقدير نواة ولا بعد في هذا للمتأمل مع ما فيه من نفي الوهم عن إمام من أصحاب مالك قال ويصح حمل الحديث على ظاهره بأنه أصدقها ذهبا زنته نواة والنواة وزن معروف هو خمسة دراهم فضة وذلك ثمن أوقية لأنها أربعون درهما ولا مانع من ذلك مع أنه ظاهر الحديث ولا يحتاج إلى ذكر الصرف ولا التأويل اه وهو حسن
وقال الطيبي وابن دقيق العيد في المعنى قولان أحدهما أن الصداق ذهب وزنه خمسة دراهم فيكون ثلاثة مثاقيل ونصف
والثاني أنه دراهم خمسة بوزن نواة من ذهب قال الطيبي وهذا بعيد من اللفظ
قال ابن دقيق العيد وعلى الأول يتعلق قوله من ذهب بلفظ زنة وعلى الثاني بنواة
قال ابن فرحون أما تعلقه بزنة فلأنه مصدر وزن وأما تعلقه بنواة فيصح أنه من تعلق الصفة بالموصوف أي نواة كائنة من ذهب ويكون المراد ما عدلها دراهم أو يكون هو الموزون بها
( فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم ) زاد في رواية للصحيح فبارك الله لك ( أولم ) أمر ندب على المشهور عن مالك والشافعي وقيل للوجوب لحديث من لم يجب الدعوة فقد عصى الله ورسوله قال المازري ولا حجة فيه لأن العصيان في ترك الإجابة لا في ترك الوليمة ولا بعد في أن الدعوة لا تجب والإجابة واجبة كالسلام لا يجب الابتداء به
____________________
(3/207)
ورده واجب
وأجاب بعض أصحابنا البغداديين بأن العصيان مخالفة الأمر والمندوب مأمور به اه
والأول الصواب لاقتضاء الثاني أنه لا يأثم بالترك وإن أطلق عليه اسم العصيان مع أنه إثم ( ولو بشاة ) لو تقليلية لا امتناعية قال عياض فيه التوسعة فيها للواجد بذبح وغيره وأن الشاة لأهل الجدة أقل ما يكون لا التحديد وأنه لا يجزي أقل منها لمن لم يجدها بل على طريق الحض والإرشاد ولا خلاف أنه لا حد لها وهي بقدر حال الرجل وأخذ بعضهم من الحديث أنها بعد الدخول وقال بعضهم لا دليل فيه والأول أظهر وقاله مالك وغيره ووجهه شهرة الدخول لما يتعلق به من الحقوق وللفرق بين النكاح والسفاح وعن مالك جوازها قبل الدخول وعن ابن حبيب استحبابها عند العقد وعند البناء واستحبها بعض شيوخنا قبل البناء ليكون الدخول بها واختلف السلف في تكرارها أكثر من يومين بالإجازة والكراهة واستحب أصحابنا لأهل السعة أسبوعا قال بعضهم وذلك إذا دعا في كل يوم من لم يدع قبله وكرهوا فيها المباهاة والسمعة اه
وقال الباجي أمر صلى الله عليه وسلم بالوليمة لما فيها من إشهار النكاح مع ما يقترن بها من مكارم الأخلاق
قال ابن مزين عن مالك استحب الإطعام في الوليمة وكثرة الشهود ليشتهر النكاح وتثبت معرفته
وروى أشهب عن مالك لا بأس أن يولم بعد البناء قيل فمن أخر إلى السابع قال فليجب وليس كالوليمة
ابن حبيب كان صلى الله عليه وسلم يستحب الإطعام على النكاح عند عقده ولفظ عند يحتمل قبله وبعده وكيفما كان فليس فيه منع لكن تقديم إشهاره قبل أفضل كالإشهاد ويحتمل أن مالكا قال بعده لمن فاته قبل أو لعله اختاره لأن فيه معنى الرضا بما اطلع عليه الزوج من حال الزوجة والمباح من الوليمة ما جرت به العادة من غير سرف ولا سمعة والمختار منها يوم واحد قال ابن حبيب وأبيح أكثر منه وروي أن اليوم الثاني فضل والثالث سمعة وأجاب الحسن في الأول والثاني ولم يجب في الثالث وروي عن ابن المسيب مثله
وأولم ابن سيرين ثمانية أيام قال ابن حبيب من وسع الله عليه فليولم من يوم بنائه إلى مثله يريد إذا قصد إشهار النكاح والتوسعة على الناس لا السمعة والمباهاة وهذا الحديث رواه البخاري عن عبد الله ابن يوسف عن مالك به وتابعه سفيان بن عيينة عند البخاري وشعبة عند مسلم كلاهما عن حميد نحوه وله طرق في الصحيحين وغيرهما وفيه قصة
( مالك عن يحيى بن سعيد ) الأنصاري ( أنه قال لقد بلغني ) وصله النسائي وقاسم بن أصبغ من طريق سعيد بن عفير عن سليمان بن بلال عن يحيى بن سعيد عن حميد عن أنس ( أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يولم بالوليمة ما فيها خبز ولا لحم ) قال حميد قلت بأي شيء يا أبا حمزة يعني أنسا قال تمر وسويق كما في الطريق الموصولة
وفي البخاري عن صفية بنت شيبة قالت أولم النبي صلى الله عليه وسلم على بعض نسائه بمدين من شعير قال الحافظ لم أقف على تعيين اسم التي أولم عليها صريحا لكن
____________________
(3/208)
يحتمل أنها أم سلمة لحديثها عن ابن سعد عن الواقدي أنه صلى الله عليه وسلم لما تزوجها أدخلها بيت زينب بنت خزيمة فإذا جرة فيها شيء من شعير فأخذته فطحنته ثم عصدته في البرمة وأخذت شيئا من إهالة فأدمته فكان ذلك طعامه صلى الله عليه وسلم وأما حديث شريك عن حميد عن أنس أنه صلى الله عليه وسلم أولم على أم سلمة بتمر وسمن وسويق فوهم من شريك لأنه كان سيء الحفظ أو من الراوي عنه وهو جندل بن والق فإن مسلما والبزار ضعفاه وإنما المحفوظ عن حميد عن أنس أن ذلك في قصة صفية أخرجه النسائي اه
( مالك عن نافع عن عبد الله بن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال إذا دعي أحدكم إلى وليمة فليأتها ) أي فليأت مكانها أو التقدير إلى مكان وليمة ولا يضر إعادة الضمير مؤنثا والأمر للإيجاب والمراد وليمة العرس كما حمله عليه مالك في المدونة وغيره لأنها المعهودة عندهم ويؤيده رواية مسلم من طريق عبيد الله عن نافع عن ابن عمر مرفوعا إذا دعي أحدكم إلى وليمة عرس فليجب فتجب إجابة من عين وإن صائما لأن ابن عمر كان يأتيها وهو صائم كما في مسلم بشروط في الفروع كما حكى عليه عياض الاتفاق لكن نوزع بقول ابن القصار المذهب لا تجب الإجابة وإن كان ضعيفا أما وليمة غيره فلا تجب لأن عثمان بن العاصي دعي إلى ختان فلم يجب وقال لم نكن ندعى له على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم رواه أحمد وأوجبها الظاهرية لظاهر الحديث
قال عياض وحملها مالك والأكثر على الندب وكره مالك لأهل الفضل الإجابة لكل طعام دعي إليه فتأوله بعضهم على غير الوليمة وتأوله غيره على غير طعام السرور كختان وإملاك ونفاس وحادث سرور لما في مسلم عن أيوب عن نافع عن ابن عمر مرفوعا إذا دعا أحدكم أخوه فليجب عرسا كان أو غيره وفيه أيضا من طريق الزبيدي عن نافع عن ابن عمر رفعه من دعي إلى عرس أو نحوه فليجب والحديث رواه البخاري عن عبد الله ابن يوسف ومسلم عن يحيى كلاهما عن مالك وتابعه عبيد الله وأيوب والزبيدي وإسماعيل بن أمية وموسى بن عقبة خمستهم عند مسلم عن نافع نحوه
( مالك عن ابن شهاب ) الزهري ( عن الأعرج ) عبد الرحمن بن هرمز ( عن أبي هريرة أنه كان يقول ) قال ابن عبد البر جل رواة مالك لم يصرحوا برفعه ورواه روح بن القاسم عنه مصرحا برفعه وكذا أخرجه الدارقطني في الغرائب من طريق إسماعيل بن سلمة بن قعنب عن مالك مصرحا برفعه إلى النبي صلى الله عليه وسلم ( شر ) وليحيى النيسابوري بئس ( الطعام طعام الوليمة ) قال البيضاوي يريد من شر الطعام فإن من الطعام ما يكون شرا منه وإنما سماه شرا لقوله ( يدعى إليها الأغنياء ويترك المساكين )
____________________
(3/209)
وللتنيسي الفقراء يعني الغالب فيها ذلك فكأنه قال طعام الوليمة التي من شأنها هذا فاللفظ وإن أطلقه فالمراد به التقييد بما ذكر عقبه وكيف يريد به الإطلاق وقد أمر بالوليمة وأوجب إجابة الداعي ورتب العصيان على تركها
وتعقبه الطيبي بأن التعريف في الوليمة للعهد الخارجي وكان من عادتهم مراعاة الأغنياء فيها وتخصيصهم بالدعوة وإيثارهم
وقوله يدعى الخ استئناف بياني لكونها شر الطعام وعلى هذا لا يحتاج إلى تقدير من وقوله ويترك الفقراء حال والعامل يدعى أي يدعى إليها الأغنياء والحال أنه يترك الفقراء والإجابة واجبة فيكون الدعاء سببا لأكل المدعو شر الطعام وقول التنقيح جملة يدعى في موضع الصفة لطعام رده في المصابيح بأن الظاهر أنها صفة للوليمة على جعل اللام جنسية مثلها في قوله ولقد أمر على اللئيم يسبني
ويستغنى حينئذ عن تأويل تأنيث الضمير على تقدير كونها صفة لطعام اه
( ومن لم يأت ) وللتنيسي ومن ترك ( الدعوة ) بفتح الدال على المشهور وهي أعم من الوليمة لأنها خاصة بالعرس كما نقله أبو عمر عن أهل اللغة وقال النووي بفتح الدال دعوة الطعام أما دعوة النسب فبكسرها هذا قول جمهور العرب وعكسه تيم الرباب بكسر الراء فقالوا الطعام بالكسر والنسخ بالفتح وقول قطرب دعوة الطعام بالضم غلطوه اه
والمراد هنا دعوة العرس وإن كان لفظ الدعوة أعم لقوله ( فقد عصى الله ورسوله ) إذ فيه دليل على وجوب الإجابة لأن العصيان لا يطلق إلا على ترك الواجب وإنما تجب إجابة وليمة العرس
قال القرطبي وفيه دلالة على أنه مرفوع لأن أبا هريرة لا يقوله من نفسه ونحوه قول أبي عمر هذا حديث مسند عندهم أيقول أبو هريرة فقد عصى الله ورسوله قال النووي بين الحديث وجه كونه شر الطعام بأنه يدعى له الغني عن أكله ويترك المحتاج لأكله والأولى العكس وليس فيه ما يدل على حرمة الأكل إذ لم يقل أحد بحرمة الإجابة وإنما هو من باب ترك الأولى كخبر خير صفوف الرجال أولها وشرها آخرها ولم يقل أحد بحرمة الصلاة في الصف الأخير والقصد من الحديث الحث على دعوة الفقير وأن لا يقتصر على الأغنياء
وقال عياض إن كان من قول أبي هريرة فأخبر بحال الناس واختصاصهم بها الأغنياء دون المحتاجين وكانوا أولى بها لسد خلتهم وخير الأفعال أكثرها أجرا وذلك غير موجود في الأغنياء وإنما هو نوع من المكارمة وإن كان رفعه وهو الصحيح فهو إخبار منه صلى الله عليه وسلم عما يكون بعده وقد كره العلماء تخصيص الأغنياء بالدعوة فإن فعل فقال ابن مسعود إذا خص الأغنياء أمرنا أن لا نجيب
وقال ابن حبيب من فارق السنة في وليمته فلا دعوة له
وقال أبو هريرة أنتم العاصون في الدعوة
ودعا ابن عمر في وليمة الأغنياء والفقراء فجاءت قريش ومعها المساكين فقال لهم ها هنا فاجلسوا لا تفسدوا عليهم ثيابهم فإنا سنطعمكم مما يأكلون
وهذا الحديث رواه البخاري عن عبد الله بن يوسف ومسلم عن يحيى كلاهما عن مالك به موقوفا وتابعه سفيان ومعمر كلاهما عن ابن شهاب وتابع ابن شهاب أبو الزناد عن الأعرج وتابع
____________________
(3/210)
الأعرج سعيد بن المسيب كل ذلك عند مسلم موقوفا وأخرجه من طريق زياد بن سعد سمعت ثابتا الأعرج يحدث عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال شر الطعام الوليمة يمنعها من يأتيها ويدعى إليها من يأباها ومن لم يجب الدعوة فقد عصى الله ورسوله فخالف ثابت وهو ابن عياض الأحنف الأعرج العدوي مولاهم وهو ثقة عبد الرحمن الأعرج وابن المسيب فإنهما وقفاه عن أبي هريرة وثابت رفعه عنه وقد تابعه محمد بن سيرين عن أبي هريرة في رفعه أخرجه أبو الشيخ
وفي التمهيد روى جماعة هذا الحديث عن ابن شهاب مرفوعا بغير إشكال ثم أخرجه من طريق ابن جريج عن الزهري عن عبد الرحمن الأعرج عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم بئس الطعام فذكره ثم قال وهكذا رواه ابن عيينة مرفوعا اه
لكن الذي في مسلم عن ابن عيينة مرفوعا كما علمت قال النووي إذا روي الحديث موقوفا ومرفوعا حكم برفعه على الصحيح لأنها زيادة عدل اه
وله شواهد مرفوع عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال شر الطعام طعام الوليمة يدعى إليه الشبعان ويحبس عنه الجائع أخرجه الطبراني والديلمي بإسناد فيه مقال
( مالك عن إسحاق بن عبد الله بن أبي طلحة ) زيد الأنصاري ( أنه سمع ) عمه أخا أبيه لأمه ( أنس بن مالك يقول إن خياطا ) بفتح الخاء المعجمة والتحتية الشديدة ولم يعرف الحافظ اسمه ( دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم لطعام صنعه قال أنس فذهبت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى ذلك الطعام فقرب ) الخياط ( إليه خبزا من شعير ) بفتح الشين وقد تكسر ( ومرقا فيه دباء ) بضم الدال وشد الموحدة والمد الواحدة دباءة فهمزته منقلبة عن حرف علة وخطأ المجد الجوهري في ذكره في المقصور أي فيه قرع زاد في رواية القعنبي وابن بكير والتنيسي وقديد
( قال أنس فرأيت رسول صلى الله عليه وسلم يتبع ) بإسكان الفوقية وخفة الموحدة مفتوحة ( الدباء ) القرع أو المستدير منه ( من حول القصعة ) بفتح القاف زاد في رواية يأكلها أي لأنها كانت تعجبه ويترك القديد إذ كان يشتهيه حينئذ ففيه أن المؤكل لأهله وخدمه يأكل ما يشتهيه حيث رآه في ذلك الإناء إذا علم أن مؤاكله لا يكره ذلك وإلا فلا يتجاوز ما يليه وقد علم أن أحدا لا يكره منه صلى الله عليه وسلم شيئا بل كانوا يتبركون بريقه وغيره مما مسه بل كانوا يتبادرون إلى نخامته فيتدلكون بها قال أنس ( فلم أزل أحب الدباء ) أي أكلها ( بعد ذلك اليوم ) اقتداء به صلى الله عليه وسلم
وفي رواية التنيسي وغيره من يومئذ
وفي الترمذي عن طالوت الشامي قال دخلت على أنس وهو يأكل قرعا وهو يقول يا لك من شجرة ما أحبك إلي لحب رسول الله صلى الله عليه وسلم إياك ولأحمد عن أنس أنه صلى الله عليه وسلم قال له إذا
____________________
(3/211)
طبخت قدرا فأكثر فيها من الدباء فإنها تشد قلب الحزين وللطبراني عن وائلة مرفوعا عليكم بالقرع فإنه يزيد في الدماغ وللبيهقي عن عطاء مرسلا عليكم بالقرع فإنه يزيد في العقل ويكبر الدماغ وزاد بعضهم أنه يجلو البصر ويلين القلب وفي تذكرة القرطبي مرفوعا إن الدباء والبطيخ من الجنة قال الخطابي فيه جواز الإجازة على الخياطة ردا على من أبطلها بعلة أنها ليست بأعيان مرئية ولا صفات معلومة
وفي صنعة الخياطة معنى ليس في القين والصائغ والنجار لأن هؤلاء الصناع إنما يكون منهم الصنعة المحضة فيما يستصنعه صاحب الحديد والفضة والذهب والخشب وهي أمور موصوفة يوقف على حدها ولا يخلط بها غيرها والخياط إنما يخيط الثوب في الأغلب بخيط من عنده فيجمع إلى الصنعة الآلة وأحدهما معناه التجارة والأخرى الإجارة وحصة أحدهما لا تتميز من الأخرى وكذلك هذا في الخراز والصباغ إذا كان بخيوطه ويصبغ هذا بصبغه على العادة المعتادة فيما بين الصناع وجميع ذلك فاسد في القياس إلا أن النبي صلى الله عليه وسلم وجدهم على هذه العادة أول زمن الشريعة فلم يغيره إذ لو طولبوا بغير ذلك لشق عليهم فصار بمعزل عن موضع القياس والعمل ماض صحيح لما فيه من الإرفاق اه
ووجه إدخال الإمام هذا الحديث في الوليمة الإشارة إلى أنه لا ينبغي التخلف عن الدعوة وإن لم تكن واجبة لأن دعوة الخياط لم تكن في عرس إذ الظاهر من قوله لطعام صنعه أنه صنعه للنبي صلى الله عليه وسلم وإن كان معناه صنعه في عرس ودعا له المصطفى فالمطابقة ظاهرة وقال أبو عمر أدخله في وليمة العرس ويشبه أنه وصل إليه علم ذلك وليس في ظاهر الحديث ما يدل على أنها وليمة عرس
وأخرجه البخاري في البيوع عن التنيسي وفي الأطعمة عن قتيبة بن سعيد والقعنبي وأبي نعيم الفضل بن دكين وإسماعيل ومسلم في الأطعمة عن قتيبة بن سعيد الخمسة عن مالك به قال ابن عبد البر ورواه جماعة من أصحاب سفيان بن عيينة عنه عن مالك بإسناده
21 جامع النكاح ( مالك عن زيد بن أسلم ) مرسل قال ابن عبد البر وصله عنبسة بن عبد الرحمن وهو ضعيف عن زيد عن أبيه عن عمر وورد بمعناه من حديث ابن عمر وأبي لاس الخزاعي ( أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال إذا تزوج أحدكم المرأة أو اشترى الجارية فليأخذ ) استحبابا ( بناصيتها ) مقدم رأسها ( وليدع بالبركة ) كان يقول اللهم بارك لي فيها وبارك عليها زاد في حديث ابن عمر عند ابن ماجه اللهم إني أسألك خيرها وخير ما جبلتها عليه وأعوذ بك من شرها وشر ما جبلتها عليه
( وإذا اشترى البعير ) بفتح الموحدة وقد تكسر عبر به دون الجمل لأن البعير يشمل الأنثى بخلافه وقصده
____________________
(3/212)
التعميم ( فليأخذ ) عند تسليمه ( بذروة ) بكسر الذال المعجمة وتضم أي أعلى ( سنامه ) أي يقبض عليه بيده والأولى اليمين أو المراد فليركبه ( وليستعذ بالله من الشيطان ) لأن الإبل من مراكب الشيطان فإذا سمع الاستعاذة فر زاد في حديث ابن عمر وليدع بالبركة وليقل مثل ذلك أي اللهم إني أسألك الخ
وفي حديث آخر ما يفيد استحباب البسملة مع الاستعاذة ويحتمل أن الأمر بها لما في الإبل من العز والفخر والخيلاء فهو استعاذة من شر ذلك الذي يحبه الشيطان ويأمر به ويحث عليه
( مالك عن أبي الزبير المكي أن رجلا خطب إلى رجل أخته فذكر ) أخوها ( أنها قد كانت أحدثت ) زنت ( فبلغ ذلك عمر بن الخطاب فضربه أو كاد يضربه ) شك الراوي ( ثم قال مالك وللخبر ) يعني أي غرض لك في إخبار الخاطب بذلك فيجب على الولي ستره عليها لأن الفواحش يجب على الإنسان سترها على نفسه وعلى غيره
وفي الحديث من أصاب من هذه القاذورات شيئا فليستتر بستر الله فإنه من يبد لنا صحفته نقم عليه كتاب الله
( مالك عن ربيعة بن أبي عبد الرحمن أن القاسم بن محمد وعروة بن الزبير كانا يقولان في الرجل يكون عنده أربع نسوة فيطلق إحداهن البتة أنه يتزوج إن شاء ولا ينتظر أن تنقضي عدتها ) لأنه لا عدة على الرجل
( مالك عن ربيعة ابن أبي عبد الرحمن أن القاسم بن محمد وعروة بن الزبير أفتيا الوليد ابن عبد الملك ) بن مروان أحد ملوك بني أمية ( عام قدم المدينة بذلك ) المذكور ( غير أن القاسم بن محمد قال طلقها في مجالس شتى ) بدل قوله طلقها البتة هذا هو المتبادر فطلق فعل ماض وظاهر قول أبي عمر أراد أن يشهر طلاقها البتات ويستفيض فتنقطع عنه الألسنة في تزويج الخامسة أنه قرأه أمرا وليس بظاهر لأنه مراد المحدث بمثل هذا أنهما لم يتفقا على لفظ واحد وهو لم يستشره حتى يأمره إنما سأله عن رجل وقع منه ذلك
____________________
(3/213)
( مالك عن يحيى بن سعيد عن سعيد بن المسيب أنه قال ثلاث ليس فيهن لعب ) أي لا ينفع قصده في عدم اللزوم ( النكاح ) فمن زوج ابنته هازلا انعقد النكاح وإن لم يقصده ( والطلاق ) فيقع طلاق اللاعب إجماعا ( والعتق ) فمن أعتق رقيقه لاعبا عتق وإن لم يقصده لأن اللاعب بالقول وإن لم يلتزم حكمه فترتب الأحكام على الأسباب للشارع لا له فإذا أتى بالسبب لزمه حكمه شاء أم أبى ولا يعتبر قصده لأن الهازل قاصد للقول مريد له مع علمه بمعناه وموجبه وقصد اللفظ المتضمن للمعنى قصد لذلك المعنى لتلازمهما إلا أن يعارضه قصد آخر كالمكره فإنه قصد غير المعنى المقول وموجبه فلذا أبطله الشارع وأصل هذا حديث مرفوع رواه أبو داود وابن ماجه والترمذي وقال حسن غريب عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم ثلاث جدهن جد وهزلهن جد النكاح والطلاق والرجعة قال ابن العربي وروي بدل الرجعة العتق ولا يصح
وقال الحافظ وقع عند الغزالي العتاق بدل الرجعة ولم أجده ومرادهما لا يصح ولم يجده مرفوعا فلا ينافي صحته عن ابن المسيب في الموطأ لكن عجيب نفي وجدانه ففي الاستذكار روى أبو بكر ابن أبي شيبة ثنا عيسى بن يونس عن عمرو عن الحسن عن أبي الدرداء قال كان الرجل في الجاهلية يطلق ثم يرجع يقول كنت لاعبا فأنزل الله { ولا تتخذوا آيات الله هزوا } سورة البقرة الآية 231 فقال صلى الله عليه وسلم من طلق أو أعتق أو أنكح أو أنكح وقال إني كنت لاعبا فهو جائز عليه
( مالك عن ابن شهاب عن رافع بن خديج ) بن رافع بن عدي الحارثي الأوسي الأنصاري أول مشاهده أحد ثم الخندق مات سنة ثلاث أو أربع وسبعين وقيل قبلها ( أنه تزوج بنت محمد بن مسلمة الأنصاري ) أكبر من اسمه محمد من الصحابة ( فكانت عنده حتى كبرت ) بكسر الموحدة أسنت ( فتزوج عليها فتاة شابة فآثر الشابة عليها ) قال ابن عبد البر يريد في الميل بنفسه إليها والنشاط لها لا أنه آثرها عليها في مطعم وملبس ومبيت لأن هذا لا ينبغي أن يظن بمثل رافع والله أعلم
( فناشدته ) طلبت منه ( الطلاق فطلقها واحدة ثم أمهلها حتى إذا كادت ) قاربت ( تحل ) أي تنقضي عدتها ( راجعها ثم عاد فآثر الشابة فناشدته الطلاق فطلقها واحدة ) ثانية ( ثم راجعها ثم عاد فآثر الشابة فناشدته الطلاق فقال ما شئت إنما بقيت واحدة فإن شئت استقررت ) قررت عليك أي بقيت معي ( على ما ترين من الأثرة ) بضم الهمزة وسكون المثلثة وبفتح الهمزة والمثلثة الاستئثار عليك فيما لك فيه اشتراك في الاستلحاق ( وإن شئت فارقتك قالت بل أستقر على الأثرة فأمسكها على ذلك ولم ير رافع عليه إثما حين قرت عنده على الأثرة ) لرضاها بذلك وهو حق لها فلها إسقاطه قال أبو عمر زاد معمر عن الزهري فذلك الصلح الذي بلغنا أنه أنزلت فيه { وإن امرأة خافت من بعلها نشوزا أو إعراضا } سورة النساء الآية 128 الآية
____________________
(3/214)
وروى ابن عيينة عن الزهري عن سعيد بن المسيب أن رافع بن خديج كانت تحته ابنة محمد بن مسلمة فكره من أمرها إما كبرا وإما غيرة فأراد أن يطلقها فقالت لا تطلقني واقسم لي ما شئت فجرت بذلك ونزلت { وإن امرأة خافت من بعلها } سورة النساء الآية 128
____________________
(3/215)
3
13 كتاب الطلاق قدمها على الترجمة ليكون البدء بها حقيقيا وفي كثير من التراجم يقدم عليها الترجمة لأنه يجعلها كالعنوان والابتداء إنما هو فيما بعدها فناسب وصله بالبسملة ذلك من التفنن اللطيف
هو لغة رفع القيد الحسي وهو حل الوثاق يقال أطلق الفرس والأسير
وشرعا رفع القيد الثابت بالنكاح فخرج به العتق لأنه قيد ثابت شرعا لكن لم يثبت بالنكاح وفي مشروعية النكاح مصالح للعباد دينية ودنيوية وفي الطلاق إكمال لها إذ قد لا يوافقه النكاح فيطلب الخلاص منه عند تباين الأخلاق وعروض البغضاء الموجبة لعدم إقامة حدود الله فشرعه رحمة منه سبحانه وفي جعله عددا حكمة لطيفة لأن النفس كذوبة ربما تظهر عدم الحاجة إلى المرأة والحاجة إلى تركها فإذا وقع حصل الندم وضاق الصدر وعيل الصبر فشرعه تعالى ثلاثا ليجرب نفسه في المرة الأولى فإذا كان الواقع صدقها استمر حتى تنقضي العدة وإلا أمكنه التدارك بالرجعة ثم إذا عادت النفس لمثل الأول وغلبته حتى عاد إلى طلاقها نظر أيضا فيما يحدث له فما يوقع الثالثة إلا وقد جرب وقعه في حال نفسه ثم حرمها عليه بعد انتهاء العدد قبل أن تنكح آخر ليثاب بما فيه غيظه وهو الزوج الثاني على ما عليه من جبلة الفحولية بحكمته ولطفه تعالى بعباده
1 ما جاء في البتة بفتح الموحدة والفوقية الشديدة أي من قيل لها أنت البتة ويطلق أيضا على من أنبتت بالثلاث ولذا ذكر حديث ابن عباس وابن مسعود وليس فيهما لفظ البتة
( مالك أنه بلغه ) مما رواه عبد الرزاق وأبو بكر بن أبي شيبة عن سعيد بن جبير وغيره ( أن رجلا قال لعبد الله بن عباس إني طلقت امرأتي مائة تطليقة ) في مرة ( فماذا ترى علي فقال له ابن عباس طلقت
____________________
(3/216)
منك بثلاث ) من المائة ( وسبع وتسعون اتخذت بها آيات الله هزوا ) مهزوءا بها بمخالفاتها لأن الله إنما جعل الطلاق ثلاثا
وفي أبي داود بإسناد صحيح عن مجاهد قال كنت عند ابن عباس فجاءه رجل فقال له إنه طلق امرأته ثلاثا فسكت حتى ظننت أنه رادها إليه ثم قال ينطلق أحدكم فيركب الأحموقة ثم يقول يا ابن عباس إن الله قال { ومن يتق الله يجعل له مخرجا } سورة الطلاق الآية 2 وأنت لم تتق الله فلم أجد لك مخرجا عصيت ربك وبانت منك امرأتك وجاء من طرق كثيرة عن ابن عباس أنه أفتى بلزوم الثلاث لمن أوقعها مجتمعة
وما رواه أحمد وأبو يعلى من طريق ابن إسحاق عن داود بن الحصين عن عكرمة عن ابن عباس قال طلق ركانة بن عبد يزيد امرأته ثلاثا في مجلس واحد فحزن حزنا شديدا فسأله النبي صلى الله عليه وسلم كيف طلقتها قال ثلاثا في مجلس واحد فقال إنما تلك واحدة فارتجعها إن شئت فارتجعها فأجيب بأن أبا إسحاق وشيخه مختلف فيهما وقد عورض بفتوى ابن عباس بوقوع الثلاث فلو كان عنده هذا الحديث لم يخالفه وعلى فرض صحته عنه فلم يخالفه إلا لظهور علة تقتضي عدم العمل به كنسخ أو تخصيص لركانة كما قيل بذلك لأن له أن يخص من شاء بما شاء والجمهور على وقوع الثلاث بل حكى ابن عبد البر الإجماع قائلا إن خلافه شاذ لا يلتفت إليه
( مالك أنه بلغه ) وقد رواه ابن أبي شيبة عن علقمة ( أن رجلا جاء إلى عبد الله بن مسعود فقال إني طلقت امرأتي ثمان تطليقات ) في كلمة بأن قلت لها أنت طالق ثمان تطليقات ( فقال ابن مسعود فماذا قيل لك قال قيل لي إنها قد بانت مني ) فلا تحل لي إلا بعد زوج ( فقال ابن مسعود صدقوا من طلق كما أمره الله ) بقوله { الطلاق مرتان } البقرة 229 فقد بين الله له أن المراد الذي فيه الرجعة بقوله { فإمساك بمعروف أو تسريح بإحسان } البقرة 229 ومن ليس بفتح الموحدة خلط ( على نفسه لبسا ) بإسكان الموحدة خلطا ( جعلنا لبسه ملصقا به لا تلبسوا ) بكسر الموحدة ( على أنفسكم ونتحمله عنكم هو كما يقولون ) إنها بانت منك
ولابن أبي شيبة أيضا عن علقمة أن رجلا قال لابن مسعود إني طلقت امرأتي مائة قال بانت منك بثلاث وسائرهن معصية وفي لفظ عدوان
وعنده أيضا أن رجلا قال كان بيني وبين أهلي كلام فطلقتها عدد النجوم فقال بانت منك فهي وقائع متعددة
وقد روى الدارقطني عن ابن عمر قلت يا رسول الله أرأيت لو طلقتها ثلاثا قال إذا قد عصيت ربك وبانت منك امرأتك والنسائي برجال ثقات عن محمود بن لبيد قال أخبر صلى الله عليه وسلم عن رجل طلق امرأته ثلاث تطليقات جميعا فقام مغضبا فقال أيلعب بكتاب الله وأنا بين أظهركم
____________________
(3/217)
وما في مسلم عن ابن عباس كان الطلاق على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وسنتين من خلافة عمر طلاق الثلاث واحدة فقال عمر إن الناس قد استعجلوا في أمر كان لهم فيه أناة فلو أمضيناه عليهم فأمضاه عليهم فقال العلماء معناه أن الناس كانوا يطلقون ثلاثا
وحاصله أن المعنى أن الطلاق الموقع في زمن عمر ثلاثا كان يوقع قبل ذلك واحدة لأنهم كانوا لا يستعملون الثلاث أصلا وكانوا يستعملونها نادرا وأما في زمن عمر فكثر استعمالهم لها
وأما قوله فأمضاه عليهم فمعناه أنه صنع فيه من الحكم بإيقاع الطلاق ما كان يصنع قبله وقيل في تأويله غير ذلك
( مالك عن يحيى بن سعيد عن أبي بكر ) بن محمد بن عمرو ( بن حزم ) فنسبه إلى جد أبيه لشهرته ( أن عمر بن عبد العزيز قال له البتة ما يقول الناس فيها قال أبو بكر فقلت له كان أبان بن عثمان ) ابن عفان المدني أمير المدينة ( يجعلها واحدة فقال عمر بن عبد العزيز لو كان الطلاق ألفا ما أبقت البتة منه شيئا ) لأنها من البت وهو القطع فمعناها قطع جميع العصمة التي بيده ولم يبق بينه وبين المرأة وصلة منها ( من قال البتة فقد رمى الغاية القصوى ) فلا تحل له من بعد حتى تنكح زوجا غيره
( مالك عن ابن شهاب أن مروان بن الحكم كان يقضي في الذي يطلق امرأته البتة أنها ثلاث تطليقات ) وقضاؤه بذلك بالمدينة مع توفر العلماء بها من غير نكير عليه دال على حقيقته
( قال مالك وهذا أحب ما سمعت إلي في ذلك ) وفي الموازية روى أنه صلى الله عليه وسلم ألزم البتة من طلق بها وألزم الثلاث من طلق بها وقضى عمر فيها بالثلاث وقاله علي وعائشة وابن عمر وابن عباس وزيد بن ثابت وأبو هريرة وقد روى ذلك كله ابن عبد البر وغيره بالأسانيد إليهم وما رواه أبو داود والترمذي وابن ماجه عن ابن عباس أن ركانة طلق زوجته البتة فحلفه صلى الله عليه وسلم أنه ما أراد إلا واحدة فردها إليه فطلقها الثانية في زمن عمر والثالثة في زمان عثمان فمعارض برواية أحمد وغيره أن ركانة طلقها ثلاثا في مجلس واحد كما مر فلما تعارضا تساقطا ورجع لما به العمل
____________________
(3/218)
2 ما جاء في الخلية والبرية وأشباه ذلك ( مالك أنه بلغه أنه كتب ) بالبناء للمفعول ( إلى عمر بن الخطاب من العراق أن رجلا قال لامرأته حبلك على غاربك فكتب عمر بن الخطاب إلى عامله ) على العراق ( أن مره يوافيني ) بمكة ( في الموسم فبينما عمر يطوف بالبيت إذ لقيه الرجل فسلم عليه فقال عمر من أنت فقال أنا الذي أمرت أن أجلب ) بضم الهمزة وإسكان الجيم ( عليك فقال له عمر أسألك برب هذه البنية ) قال الجوهري على فعيلة الكعبة وقال المجد البنية كغنية الكعبة لشرفها شرفها الله ( ما أردت بقولك حبلك على غاربك فقال له الرجل لو استحلفتني في غير هذا المكان ما صدقتك أردت بذلك الفراق فقال عمر بن الخطاب هو ما أردت ) فنواه
وفي المدونة عن مالك يلزمه الثلاث ولا ينوي وظاهره مدخولا بها أم لا
وفي الموازية عنه ينوي في غير المدخول بها ويحلف
وفي النوادر عن أشهب عن مالك لو ثبت عندي أن عمر قال ينوي ما خالفته وقال بعض الغداديين يحتمل أن ما جاء عن عمر لم يدخل بها إذ ليس في أثره أنه بنى أو لم يبن فهو محتمل
( مالك أنه بلغه ) مما صح من طرق ( أن علي بن أبي طالب كان يقول في الرجل يقول لامرأته أنت علي حرام أنها ثلاث تطليقات قال مالك وذلك أحسن ما سمعت في ذلك ) قال في المدونة هي ثلاث في المدخول بها ولا ينوي وله نيته في التي لم يدخل بها ثم كلامه يقتضي أنه سمع غيره وقد روى عبد الرزاق عن الحسن البصري له نيته وقد حكى أبو عمر ثمانية أقوال أشدها قول مالك وقاله علي وزيد بن ثابت وجماعة من التابعين
____________________
(3/219)
( مالك عن نافع أن عبد الله بن عمر كان يقول في الخلية والبرية أنها ثلاث تطليقات كل واحدة منهما ) أي اللفظتين
( مالك عن يحيى بن سعيد عن القاسم بن محمد أن رجلا كانت تحته وليدة ) أمة ( لقوم فقال لأهلها شأنكم بها ) أي خذوها ( فرأى الناس أنها تطليقة واحدة ) لأنها كناية خفية فإذا أراد بها الطلاق وقع واحدة إلا لنية أكثر
( مالك أنه سمع ابن شهاب يقول في الرجل يقول لامرأته برئت ) بكسر التاء خطابا لها ( مني وبرئت ) بضمها للمتكلم ( منك أنها ثلاث تطليقات بمنزلة البتة ) وفيه أن الزهري يرى البتة ثلاثا
( قال مالك في الرجل يقول لامرأته أنت خلية أو برية أو بائنة أنها ثلاث تطليقات للمرأة التي قد دخل بها ويدين ) أي يوكل إلى دينه ( في التي لم يدخل بها ) فيقبل منه ( أواحدة أراد أم ثلاثا فإن قال واحدة أحلف على ذلك ) بالله الذي لا إله إلا هو ( وكان خاطبا من الخطاب ) لا يملك رجعتها لأن الطلاق قبل الدخول بائن ووجه الفرق بينهما ( لأنه لا يخلي ) بضم فسكون فكسر ( المرأة التي قد دخل بها زوجها ولا يبينها ولا يبريها ) بضم أولهما من زوجها ( إلا ثلاث تطليقات والتي لم يدخل بها تخليها وتبريها وتبينها الواحدة ) بضم الفوقية في الثلاث ( قال مالك وهذا أحسن ما سمعت في ذلك ) ولذا ذهب إليه وفي هذه المسائل أقوال أخر
____________________
(3/220)
3 ما يبين من التمليك ( مالك أنه بلغه أن رجلا جاء إلى عبد الله بن عمر فقال يا أبا عبد الرحمن ) كنية ابن عمر ( إني جعلت أمر امرأتي في يدها فطلقت نفسها فماذا ترى فقال عبد الله بن عمر أراه كما قالت فقال الرجل لا تفعل يا أبا عبد الرحمن فقال ابن عمر ) ردا عليه ( أنا أفعل أنت الذي فعلته ) وكان هذا من تسمية القول فعلا
( مالك عن نافع أن عبد الله بن عمر كان يقول إذا ملك الرجل امرأته أمرها فالقضاء ما قضت به ) من واحدة فأكثر ( إلا أن ينكر عليها ويقول لم أرد إلا واحدة فيحلف على ذلك ويكون أملك ) أحق بها من غيره ( ما كانت ) أي مدة كونها ( في عدتها ) فما مصدرية
4 ما يجب فيه تطليقة واحدة من التمليك ( مالك عن سعيد ) بكسر العين ( ابن سليمان بن زيد بن ثابت ) الأنصاري المدني قاضيها من الثقات
ورجال الجميع ( عن ) عمه ( خارجة بن زيد بن ثابت ) الأنصاري أبي زيد المدني الثقة أحد الفقهاء مات سنة مائة وقيل قبلها ( أنه أخبره أنه كان جالسا عند والده زيد بن ثابت فأتاه محمد ) بن عبد الله ( بن أبي عتيق ) محمد بن عبد الرحمن بن أبي بكر الصديق التيمي المدني مقبول روى له البخاري والسنن ( وعيناه تدمعان ) بفتح الميم ( فقال له زيد ما شأنك ) أي حالك ( فقال ملكت امرأتي
____________________
(3/221)
أمرها ففارقتني فقاله له زيد ما حملك على ذلك فقال القدر فقال زيد ارتجعها إن شئت فإنما هي واحدة ) إن قضت بها أو ناكرتها أو أن مذهب زيد أنها واحدة مطلقا ( وأنت أملك بها ) أحق من غيرك
( مالك عن عبد الرحمن بن القاسم عن أبيه ) ابن محمد بن الصديق ( أن رجلا من ثقيف ملك امرأته أمرها فقالت أنت الطلاق فسكت ثم قالت أنت الطلاق فقال ) مناكرا لها ( بفيك الحجر ) بكسر الكاف ( ثم قالت أنت الطلاق فقال بفيك الحجر ) مناكرا أيضا ( فاختصما إلى مروان بن الحكم ) أمير المدينة من جهة معاوية ( فاستحلفه ما ملكها إلا واحدة وردها إليه قال مالك قال عبد الرحمن فكان القاسم ) يعني أباه ( يعجبه هذا القضاء ويراه أحسن ما سمع في ذلك قال مالك وهذا أحسن ما سمعت في ذلك وأحبه إلي ) يقتضي أنه سمع غيره
5 ما لا يبين من التمليك ( مالك عن عبد الرحمن بن القاسم عن أبيه عن ) عمته ( عائشة أم المؤمنين أنها خطبت على ) أي لأخيها ( عبد الرحمن بن أبي بكر ) الصديق ( قريبة ) بفتح القاف وكسر الراء وسكون التحتية وموحدة فتاء تأنيث ويقال بالتصغير بنت أبي أمية بن المغيرة المخزومية الصحابية أخت أم سلمة أم المؤمنين وكانت موصوفة بالجمال روى عمر بن شيبة لما فتحت مكة قال سعد بن عبادة ما رأينا من نساء قريش ما كان يذكر من جمالهن فقال صلى الله عليه وسلم هل رأيت بنات أبي أمية هل رأيت قريبة ( فزوجوه ) وولدت له عبد الله وأم حكيم وحفصة ذكره ابن سعد ( ثم إنهم عتبوا ) أي وجدوا ( على
____________________
(3/222)
عبد الرحمن ) في أمر فعله وكان في خلقه شدة ( وقالوا ما زوجنا إلا عائشة ) أي إنما وثقنا بفضلها وحسن خلقها وأنها لا ترضى لنا بأذى ولا إضرار في وليتنا ( فأرسلت عائشة إلى عبد الرحمن فذكرت ذلك له فجعل أمر قريبة بيدها فاختارت زوجها فلم يكن ذلك طلاقا ) ولابن سعد بسند صحيح عن ابن أبي مليكة قال تزوج عبد الرحمن قريبة أخت أم سلمة وكان في خلقه شدة فقالت له يوما أما والله لقد حذرتك قال فأمرك بيدك فقالت لا أختار على ابن الصديق أحدا فأقام عليها
( مالك عن عبد الرحمن بن القاسم عن أبيه أن عائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم زوجت حفصة بنت عبد الرحمن ) بن الصديق من ثقات التابعيات روى لها مسلم والثلاثة ( المنذر بن الزبير ) بن العوام الأسدي أبا عثمان شقيق عبد الله روى عن أبيه وعنه ابنه محمد وحفيده فليح ذكره ابن حبان في ثقات التابعين وذكر ابن عايذ أن حكيم بن حزام أثنى عليه وذكر مصعب الزبيري أن المنذر غاضب أخاه عبد الله فخرج من مكة إلى معاوية فأجازه بجائزة عظيمة وأقطعه أرضا بالبصرة
وذكر الزبير بن بكار أن المنذر كان عند عبيد الله بن زياد لما امتنع عبد الله بن الزبير من مبايعة يزيد بن معاوية فكتب يزيد إلى عبيد الله أن يوجه إليه المنذر فبلغه فهرب إلى مكة فقتل في الحصار الأول بعد وقعة الحرة سنة أربع وستين ( وعبد الرحمن غائب بالشام فلما قدم عبد الرحمن قال ومثلي يصنع هذا به ومثلي يفتات عليه ) بتزويج بنته وهو غائب ( فكلمت عائشة المنذر بن الزبير ) أخبرته بقول أخيها ( فقال المنذر فإن ذلك بيد عبد الرحمن ) والدها ( فقال عبد الرحمن ما كنت لأرد أمرا قضيته ) بكسر التاء خطابا لأخته عائشة وفي نسخة صحيحة قضيتيه بإثبات الياء لإشباع الكسرة ( فقرت حفصة عند المنذر ولم يكن ذلك طلاقا ) قال مالك في الموازية إنما كان ذلك لمثل عائشة لمكانها من رسول الله صلى الله عليه وسلم أي لأنه إنما يجوز إجازة المجبر تزويج ابنه أو أخيه أو جده إذا كان قد فوض له أموره وإلا لم يجز ولو أجازه الأب كما في المدونة وعائشة ليست واحدا من هؤلاء ولم يفوض لها أموره فالجواز في إجازة فعلها خصوصية قال ابن القاسم وأظنها وكلت عند العقد لكنهم نصوا على أن ولي المرأة لا يوكل إلا مثله وعائشة لا يصح كونها وكيلا عن أخيها فكيف توكل إلا أن يقال ما نصوا عليه
____________________
(3/223)
إذا وكل الولي من يتولى العقد أما إذا وكل من يوكل من يتولى العقد فلا مانع أن يوكل امرأة مثلا وذكر الزبير بن بكار أن المنذر فارق حفصة فتزوجها الحسن بن علي فاحتال المنذر عليه حتى طلقها فأعادها المنذر
( مالك أنه بلغه أن عبد الله بن عمر وأبا هريرة سئلا عن الرجل يملك امرأته أمرها فترد ذلك إليه ولا تقضي فيه شيئا فقالا ليس ذلك بطلاق ) لأنها ردته ولم توقع شيئا
( مالك عن يحيى بن سعيد عن سعيد بن المسيب أنه قال إذا ملك الرجل امرأته أمرها فلم تفارقه وقرت ) بالقاف ثبتت ( عنده فليس ذلك بطلاق ) لردها ما ملك ( قال مالك في المملكة إذا ملكها زوجها أمرها ثم افترقا ولم تقبل من ذلك شيئا فليس بيدها من ذلك شيء وهو لها ما داما في مجلسهما ) فإذا افترقا منه بطل التمليك
6 الإيلاء قال عياض في الإكمال الإيلاء الحلف وأصله الامتناع من الشيء يقال آلى يولي إيلاء وتألى تأليا وائتلى ائتلاء وقال في تنبيهاته الإيلاء لغة الامتناع كقوله تعالى { ولا يأتل أولوا الفضل منكم والسعة } النور 22 الآية ثم استعمل فيما إذا كان الامتناع منه لأجل اليمين فنسبوا اليمين إليه فصار الإيلاء الحلف وهو في عرف الفقهاء الحلف على ترك وطء الزوجة وشذ ابن سيرين فقال هو الحلف على ما في تركه مساءة لها وطئا كان أو غيره كحلفه لا يكلمها
وقال الباجي هو لغة اليمين وقاله ابن الماجشون
( مالك عن جعفر ) الصادق ( ابن محمد ) الباقر ( عن أبيه ) محمد بن علي بن الحسين ( عن علي بن أبي طالب ) وفيه انقطاع لأن محمدا لم يدرك عليا لكن قد رواه ابن أبي شيبة بإسناد صحيح
____________________
(3/224)
عن علي ( أنه كان يقول إذا آلى الرجل من امرأته لم يقع عليه طلاق وإن مضت الأربعة الأشهر حتى يوقف ) عند الحاكم ( فإما أن يطلق وإما أن يفيء ) يطأ ويكفر عن يمينه
( قال مالك وذلك الأمر عندنا ) بالمدينة قال عياض لا خلاف أنه لا يقع الطلاق قبل الأربعة أشهر وإنه يسقط الطلاق إذا حنث نفسه قبل تمامها فإن مضت فقال الكوفيون يقع الطلاق وروى مثله عن مالك والمشهور عنه وعن أصحابه وهو قول الكافة أنه لا يقع بمضيها بل حتى يوقفه الحاكم فيفيء أو يطلق عليه فتقدير الآية عند الكوفيين فإن فاؤا فيهن وعند الجمهور فإن فاؤا بعدها
قال القرطبي وقوله تعالى { فإن الله غفور رحيم } النور 5 حجة للكافة لأنه لو وقع بمضيها لم يقع للعزم عليه بعدها معنى
( مالك عن نافع عن عبد الله بن عمر أنه كان يقول أيما رجل آلى من امرأته فإنه إذا مضت الأربعة الأشهر وقف حتى يطلق ) بنفسه ( أو يفيء ) يرجع إلى جماعها ( ولا يقع عليه طلاق إذا مضت الأربعة الأشهر ) ولم يجامع فيها ( حتى يوقف ) عند الحاكم فيطلق بنفسه أو يفيء وإلا طلق عليه وهذا الأثر ذكره البخاري عن إسماعيل عن مالك وتابعه الليث عن نافع عند البخاري أيضا وعارضه بعض الحنفية بما رواه ابن أبي شيبة بسند على شرط الشيخين عن ابن عباس وابن عمر قالا إذا آلى فلم يفيء حتى مضت أربعة أشهر فهي تطليقة ثابتة وجوابه أنه لا ينهض معارضته ما رواه مالك عن نافع عن ابن عمر وأخرجه البخاري بما رواه غيره عن ابن عمر وإن كان على شرط الصحيح لأنه لا يلزم من إخراج البخاري لرجال السند الذي خرجه غيره أن يكون بمنزلة المخرج فيه نفسه ولذا كان الصحيح مراتب فيقدم عند التعارض ما أخرجه على ما خرجه غيره بشرطه وعلى تسليم انتهاض المعارضة لم يستدل بذلك فيرجع إلى ما دلت عليه الآية وكيف يسلم والترجيح يقع بموافقة الأكثر مع موافقة ظاهر القرآن
( مالك عن ابن شهاب أن سعيد بن المسيب وأبا بكر بن عبد الرحمن كانا يقولان في الرجل يولي من امرأته أنها إذا مضت الأربعة الأشهر فهي تطليقة ) تقع بمضيها ( ولزوجها عليها الرجعة ما
____________________
(3/225)
كانت في العدة ) لأن طلاق الإيلاء رجعي
( مالك أنه بلغه أن مروان بن الحكم كان يقضي في الرجل إذا آلى من امرأته أنها إذا مضت الأربعة الأشهر فهي تطليقة ) واحدة ( وله عليها الرجعة ما دامت في عدتها قال مالك وعلى ذلك كان رأي ابن شهاب ) فوافق رأيه رأي شيخه ابن المسيب وأبي بكر وقاله أبو حنيفة والكوفيون وقال الجمهور كما علم خلافه ونقل ابن المنذر عن بعض الأئمة قال لم نجد في شيء من الأدلة أن العزيمة على الطلاق تكون طلاقا ولو جاز لكان العزم على الفيء فيئا ولا قائل به وليس في شيء من اللغة أن اليمين التي لا ينوي بها الطلاق تقتضي طلاقا والعطف بالفاء على أربعة أشهر يدل على أن التخيير بعد مضي المدة فلا يتجه وقوع الطلاق بمجرد مضيها قال الشافعي رحمه الله ظاهر كتاب الله يدل على أن له أربعة أشهر ومن كانت له أربعة أشهر أجلا له فلا سبيل عليه فيها حتى تنقضي الأربعة أشهر كما لو أجلتني أربعة أشهر لم يكن لك علي أخذ حقك مني حتى تنقضي الأربعة أشهر ودل على أن عليه إذا مضت الأربعة واحدا من حكمين إما أن يفيء أو يطلق فقلنا بهذا وقلنا لا يلزمه طلاق بمضي أربعة أشهر حتى يحدث فيئة أو طلاقا
وأجاب بعض الحنفية بأن الفاء لتعقيب المعنى في الزمان في عطف المفرد كجاء زيد فعمرو وتدخل الجمل لتفصيل مجمل قبلها وغيره فإن كانت للأول نحو { فقد سألوا موسى أكبر من ذلك فقالوا أرنا الله جهرة } سورة النساء الآية 153 فلا يفيد ذلك التعقيب الحقيقي بل التعقيب الذكري بأن ذكر التفصيل بعد الإجمال وإن كانت لغيره فكالأول كجاء زيد فقام عمرو وكل من الأمرين جائز الإرادة في الآية المعنوي بالنسبة إلى الإيلاء فإن فاؤا بعد الإيلاء والذكري فإنه تعالى لما ذكر أن لهم من نسائهم أن يتربصوا أربعة أشهر من غير بينونة مع عدم الوطء كان موضع تفصيل الحال في الأمرين فقوله { فإن فاؤوا } إلى قوله { سميع عليم } البقرة 226 227 واقع لهذا الغرض فيصح كون المراد فإن فاؤا أي رجعوا عما استمروا عليه بالوطء في المدة تعقيبا على الإيلاء التعقيب الذكري أو بعدها تعقيبا على التربص فإن الله غفور رحيم لما حدث منهم من اليمين على الظلم وعقد القلب اه
وما فيه من التعسف الذي ينبو عنه الظاهر غني عن رده
( قال مالك في الرجل يولي من امرأته فيوقف فيطلق عند انقضاء الأربعة الأشهر ثم يراجع امرأته أنه إن لم يصبها حتى تنقضي عدتها فلا سبيل له عليها ) وفي نسخة ابن وضاح فلا سبيل له إليها ولا رجعة له عليها ( إلا أن يكون له عذر من مرض أو سجن أو ما أشبه ذلك من العذر ) الذي لا يقدر معه على الجماع ( فإن ارتجاعه إياها ثابت عليها فإن مضت عدتها ثم تزوجها بعد ذلك فإنه إن لم يصبها حتى تنقضي الأربعة أشهر وقف أيضا فإن لم يفىء ) يطأ ( دخل عليه الطلاق بالإيلاء الأول إذا مضت الأربعة الأشهر ولم يكن له عليها رجعة لأنه نكحها ثم طلقها قبل أن يمسها فلا عدة له عليها ولا رجعة ) كما قال تعالى { ثم طلقتموهن من قبل أن تمسوهن فما لكم عليهن من عدة تعتدونها } الأحزاب
____________________
(3/226)
49 ) ( قال مالك في الرجل يولي من امرأته فيوقف بعد الأربعة أشهر فيطلق ثم يرتجع ولا يمسها فتنقضي أربعة أشهر قبل أن تنقضي عدتها ) لتأخرها بحمل ونحوه ( أنه لا يوقف ولا يقع عليه طلاق وإنه إن أصابها قبل أن تنقضي عدتها كان أحق بها وإن مضت عدتها قبل أن يصيبها فلا سبيل له عليها وهذا أحسن ما سمعت في ذلك
قال مالك في الرجل يولي من امرأته ثم يطلقها فتنقضي الأربعة الأشهر قبل انقضاء عدة الطلاق قال هما تطليقتان إن هو وقف ولم يفىء وإن مضت عدة الطلاق قبل الأربعة الأشهر فليس الإيلاء بطلاق وذلك أن الأربعة الأشهر التي كانت توقف بعدها مضت وليست له يومئذ بامرأة ) جملة حالية والطلاق إنما يقع على المرأة ( ومن حلف أن لا يطأ امرأته يوما أو شهرا ثم مكث ) بلا وطء ( حتى ينقضي أكثر من الأربعة الأشهر فلا يكون ذلك إيلاء ) وبه قال الجمهور وشذ ابن أبي ليلى والحسن في آخرين فقالوا إن حلف على ترك الوطء يوما أو أقل أو أكثر حتى مضت أربعة أشهر فهو مول لظاهر الآية وعكس ابن عمر فقال كل من وقت في يمينه وقتا وإن طال فليس بمول وإنما
____________________
(3/227)
المولي من حلف على ترك الوطء للأبد ( إنما يوقف في الإيلاء من حلف على أكثر من الأربعة الأشهر فأما من حلف أن لا يطأ امرأته أربعة أشهر أو أدنى ) أقل ( من ذلك فلا أرى عليه إيلاء لأنه إذا دخل ) وفي نسخة جاء ( الأجل الذي يوقف عنده خرج من يمينه ولم يكن عليه وقف ) لأن المرأة تصبر على ترك الوطء أربعة أشهر وبعدها يفنى صبرها أو يقل وهذا هو المشهور عن مالك وبه قال الجمهور والشافعي وأحمد وروى عبد الملك يكون موليا بالحلف على أربعة أشهر وبه قال الكوفيون وأبو حنيفة وتمسك الأول بما تعطيه الفاء من قوله تعالى { فإن فاؤوا فإن الله غفور رحيم } سورة البقرة الآية 226 فإن ظاهرها يستلزم تأخير ما بعدها عما قبلها وذلك يؤذن بأن زمن الفيئة بعد الأربعة وكذلك أن الشرطية فإنها تصير الماضي بعدها مستقبلا فلو طلبت الفيئة في الأربعة أشهر ليبقى معنى المضي بعدها على ما كان عليه بعد دخولها وهو باطل ورأى في القول الثاني أن الفاء لمجرد السببية ولا يلزم تأخر المسبب عن سببه في الزمان بل الغالب عليه المقارنة ورأى أيضا حذف كان بعد أن أي فإن كانوا فاؤوا كما تأول مثله في قوله { إن كنت قلته فقد علمته } سورة المائدة الآية 116 والقرينة المعينة لذلك ما دلت عليه اللام من قوله { للذين يؤلون من نسائهم تربص أربعة أشهر } سورة البقرة الآية 226 فالتربص إذا مقصور عليها لا غير ورد بأن الذي في اللام الحلف على ترك الوطء تلك المدة والفيئة أمر يكون بعدها فليس مقصورا عليها
( قال مالك من حلف لامرأته أن لا يطأها حتى تفطم ولدها فإن ذلك لا يكون إيلاء ) لأنه إنما قصد عدم ضرر ولده لا الامتناع من الوطء ( وقد بلغني أن علي بن أبي طالب سئل عن ذلك فلم يره إيلاء ) أتى به تقوية لقوله وإن لم يتفرد به
7 إيلاء العبيد بالجمع وفي نسخة العبد بالإفراد ( مالك أنه سأل ابن شهاب عن إيلاء العبد فقال هو نحو إيلاء الحر وهو عليه واجب ) كالحر ( وإيلاء العبد شهران ) وبه أخذ مالك لكنه قال أكثر من شهرين وقيل أجله كالحر وبه قال الشافعي
____________________
(3/228)
وأبو حنيفة ووجه المشهور أنه معنى يتعلق به حكم البينونة فوجب نقصانه فيه عن الحر أصله الطلاق قاله القاضي عبد الوهاب
8 ظهار الحر بكسر المعجمة مصدر ظاهره مفاعلة من الظهر فيصح أن يراد به معان مختلفة ترجع إلى الظهر معنى ولفظا بحسب اختلاف الأغراض فيقال ظاهرت فلانا إذا قابلت ظهرك بظهره حقيقة وإذا غايظته أيضا وإن لم تدابره حقيقة باعتبار أن المغايظة تقتضي هذه المقابلة وظاهرته إذا نصرته لأنه يقال قوي ظهره إذا نصره وظاهر من امرأته إذا قال أنت علي كظهر أمي وظاهر بين ثوبين إذا لبس أحدهما فوق الآخر على اعتبار جعل ما يلي كل منهما الآخر ظهرا للثوب وغاية ما يلزم كون لفظ الظهر في بعض هذه التراكيب مجازا وذلك لا يمنع الاشتقاق منه ويكون المشتق مجازا أيضا وقد قيل الظهر هنا مجاز عن البطن لأنه إنما يركب البطن فكظهر أمي أي بطنها بعلاقة المجاورة ولأنه عموده لكن لا يظهر ما هو الصارف عن الحقيقة من النكات ذكره بعض المحققين وقال غيره مأخوذ من الظهر لأن الوطء ركوب وهو غالبا إنما يكون على الظهر ويؤيده أن عادة كثير من العرب وغيرهم إتيان النساء من قبل ظهورهن ولم تكن الأنصار تفعل غيره استبقاء للحياء وطلبا للستر وكراهة لاجتماع الوجوه حينئذ والاطلاع على العورات وأما المهاجرون فكانوا يأتونهن من قبل الوجه فتزوج مهاجري أنصارية فراودها على ذلك فامتنعت فأنزل الله { نساؤكم حرث لكم } سورة البقرة الآية 223 الآية على أحد الوجوه في سبب نزولها
( مالك عن سعيد ) بكسر العين وقيل بسكونها بلا ياء ( ابن عمرو ) بفتح العين ( ابن سليم ) بضم السين ( الزرقي ) بضم الزاي وفتح الراء وبالقاف الأنصاري وثقه ابن معين وابن حبان وقال مات سنة أربع وثلاثين ومائة ( أنه سأل القاسم بن محمد عن رجل طلق امرأته إن هو تزوجها ) أي علق طلاقها على تزوجه إياها ( فقال القاسم بن محمد إن رجلا جعل امرأة عليه كظهر أمه إن هو تزوجها فأمره عمر بن الخطاب إن هو تزوجها أن لا يقربها حتى يكفر كفارة المتظاهر ) فقاس القاسم تعليق الطلاق على تعليق الظهار في اللزوم يجامع ما بينهما من المنع من المرأة
____________________
(3/229)
( مالك أنه بلغه أن رجلا سأل القاسم بن محمد وسليمان بن يسار عن رجل تظاهر من امرأة قبل أن ينكحها فقالا إن نكحها فلا يمسها حتى يكفر كفارة المتظاهر ) فوافق سليمان بن يسار على وقوع الظهار المعلق
( مالك عن هشام بن عروة عن أبيه أنه قال في رجل تظاهر من أربعة نسوة له بكلمة واحدة ) بأن قال أنتن علي كظهر أمي ( أنه ليس عليه إلا كفارة واحدة ) لا أربع كفارات
( مالك عن ربيعة بن أبي عبد الرحمن مثل ذلك ) الذي قاله عروة ( قال مالك وعلى ذلك الأمر عندنا ) وهو المشهور في المذهب وفيه قول ضعيف بالتعدد ( قال الله تبارك وتعالى في كفارة المتظاهر ) وفي نسخة في كتابه { والذين يظاهرون من نسائهم ثم يعودون لما قالوا } 09 ( سورة البقرة الآية 223 ) ( فتحرير رقبة ) أي إعتاقها ويشترط أنها مؤمنة لأنه تعالى قيد بذلك في كفارة القتل فيحمل المطلق هنا على ذلك المقيد عند الأئمة الثلاثة وخالف أبو حنيفة لأن اختلاف الأسباب يقتضي اختلاف الأحكام لأجل إصلاح الحكمة والقتل مباين للظهار وهذا ظاهر ببادىء الرأي لكن يرد ما في الصحيح في حديث السوداء أن سيدها قال للنبي صلى الله عليه وسلم علي رقبة ولم يذكر عن ماذا أفأعتقها فلم يأذن له حتى قال أين الله تعالى فقالت في السماء قال ومن أنا قالت رسول الله فقال أعتقها فإنها مؤمنة ( من قبل أن يتماسا ) { ذلكم توعظون به والله بما تعملون خبير } المجادلة 3 { فمن لم يجد فصيام شهرين متتابعين من قبل أن يتماسا } بالوطء والاستمتاع بقبلة أو مباشرة حملا له على عمومه عند أكثر العلماء وبعضهم حمله على الوطء فله أن يقبل ويباشر ويطأ في غير الفرج
( فمن لم يستطع ) الصيام ( فإطعام ستين مسكينا ) عليه من قبل أن يتماسا حملا للمطلق على المقيد لكل مسكين مد وثلثان بمده صلى الله عليه وسلم ولا خلاف عند المالكية أن هذا العدد معتبر فلا يجزىء ما دونه ولو دفع إليهم مقدار طعام الستين وقاله الشافعي
وقال أبو حنيفة إن أطعم مسكينا واحدا ستين يوما أجزأه
____________________
(3/230)
لأنه سد ستين خلة وهو مقصود الشرع ورد بأن الله تعالى نص على عدد المساكين فلا يترك النص الصريح لاستنباط معنى منه لأنه فرع يكر على أصله بالبطلان فهو أولى بالبطلان
( قال مالك في الرجل يتظاهر من امرأته في مجالس متفرقة قال ليس عليه إلا كفارة واحدة فإن تظاهر ثم كفر ثم تظاهر بعد أن يكفر فعليه الكفارة أيضا ) لأنه ظهار مستأنف ( ومن تظاهر من امرأته ثم مسها قبل أن يكفر ليس عليه إلا كفارة واحدة ) وإن فعل حراما إذ لا يلزم منه تعددها ( ويكف عنها حتى يكفر ) لأنه صلى الله عليه وسلم قال لرجل ظاهر من امرأته وواقعها لا تقربها حتى تكفر رواه أبو داود وغيره
( وليستغفر الله ) يتب إليه ويندم ( وذلك أحسن ما سمعت ) وتتحتم عليه الكفارة حينئذ مطلقا بقيت المرأة في عصمته أم لا قامت بحقها في الوطء أم لا لأنه حق لله تعالى بخلاف ما إذا لم يطأ وطلقها أو مات أو لم تقم بحقها في الوطء عند بعضهم فلا تجب الكفارة لأنه حق آدمي وحق الله أوكد
( والظهار من ذوات المحارم من الرضاعة والنسب سواء ) لأنه تشبيه من تحل بمن تحرم فهو شامل لمن حرمت بالرضاعة ( وليس على النساء ظهار ) فإذا تظاهرت المرأة من زوجها لم يلزمها شيء لأن الله تعالى إنما جعله للرجال فلا مدخل فيه للنساء
( قال مالك في قول الله تبارك وتعالى { والذين يظاهرون من نسائهم ثم يعودون لما قالوا } سورة المجادلة الآية 3 قال سمعت أن تفسير ذلك أن يتظاهر الرجل من امرأته ثم يجمع ) بضم فسكون فكسر يعزم ويصمم ( على إمساكها وإصابتها ) الذي هو خلاف قصد الظهار من وصف المرأة بالتحريم ( فإن أجمع ) عزم وصمم ( على ذلك فقد وجبت عليه الكفارة ) لأن دخول الفاء في خبر المبتدأ الموصول دليل على الشرطية كقولك الذي يأتيني فله درهم فبانتفاء العود ينتفي الوجوب وهو ظاهر ولذا قال ( وإن طلقها ولم يجمع بعد تظاهره منها على إمساكها وإصابتها فلا كفارة عليه ) لا وجوبا ولا غيره وإن كان لا يلزم من انتفاء الوجوب انتفاء الجواز لأن الوجوب إما أخص أو حقيقة أخرى لكن أكثر أهل
____________________
(3/231)
المذهب على أن الجواز ينتفي بانتفاء العود
( قال مالك فإن تزوجها بعد ذلك ) الطلاق ( لم يمسها حتى يكفر كفارة المتظاهر ) لعموم الآية
( قال مالك في الرجل يتظاهر من أمته أنه إن أراد أن يصيبها فعليه كفارة الظهار قبل أن يطأها ) لأنه فرج حلال فيحرم بالتحريم فدخلت في قوله تعالى { من نسائهم } المجادلة 3 إذ لا شك أنها من النساء لغة وإنما خصها بالزوجات العرف
وقد أخرج ابن الأعرابي في معجمه من طريق همام سئل قتادة عن رجل ظاهر من سريته فقال قال الحسن وابن المسيب وعطاء وسليمان بن يسار مثل ظهار الحرة وقال الحنفي والشافعي إنما الظهار من الزوجة لا الأمة لأنها ليست من النساء أي عرفا ولقول ابن عباس الظهار كان طلاقا ثم أحل بالكفارة فكما لاحظ للأمة في الطلاق لاحظ لها في الظهار
( ولا يدخل على الرجل إيلاء في تظاهره إلا أن يكون مضارا لا يريد أن يفيء من تظاهره ) فيدخل عليه الإيلاء
( مالك عن هشام بن عروة أنه سمع رجلا يسأل عروة بن الزبير عن رجل قال لامرأته كل امرأة أنكحها عليك ما عشت ) بكسر التاء ( فهي علي كظهر أمي فقال عروة بن الزبير يجزيه عن ذلك عتق رقبة ) إن وجدها وإلا فالصوم ثم الإطعام فالمعنى يجزيه كفارة واحدة
9 ظهار العبيد ( مالك أنه سأل ابن شهاب عن ظهار العبيد فقال نحو ظهار الحر ) بجامع التكليف ( قال مالك يريد أنه يقع عليه كما يقع على الحر ) كالطلاق ( وظهار العبد عليه واجب وصيام العبد في الظهار شهران ) كالحر لأنه منكر من القول وزور فلم يجعل على النصف من الحر وتتعين عليه الكفارة به عند
____________________
(3/232)
مالك وأبي حنيفة والشافعي نعم قال مالك إن أذن له سيده في الإطعام أجزأه
( قال مالك في العبد يتظاهر من امرأته أنه لا يدخل عليه إيلاء وذلك أنه لو ذهب يصوم صيام كفارة المتظاهر ) شهرين ( دخل عليه طلاق الإيلاء قبل أن يفرغ من صيامه ) لأن إيلاء العبد شهران وأجله شهران فلو أفطر ساهيا أو لمرض لا ينقضي أجله قبل تمام كفارته وهو بعض ما يعذر به العبد في عدم دخول الإيلاء عليه هكذا وجهه الباجي وهو أحسن من توجيه ابن عبد البر بأنه مبني على لزوم الطلاق بمجرد مضي الشهرين لأنه خلاف المعروف من مذهب مالك
10 ما جاء في الخيار ( مالك عن ربيعة بن أبي عبد الرحمن ) المدني الفقيه المعروف بربيعة الرأي القائل فيه مالك ذهبت حلاوة الفقه منذ مات ربيعة ( عن القاسم بن محمد ) بن الصديق ( عن ) عمته ( عائشة أم المؤمنين أنها قالت كان في بريرة ) بفتح الموحدة وكسر الراء وإسكان التحتية فراء ثانية فهاء تأنيث بزنة فعيلة من البرير وهو ثمر الأراك قيل اسم أبيها صفوان وإن له صحبة وقيل كانت نبطية وقيل قبطية وقيل حبشية مولاة عائشة وكانت تخدمها قبل أن تشتريها قيل وكانت مولاة لقوم من الأنصار وقيل لآل عقبة بن أبي لهب وقيل لبني هلال وقيل لآل أبي أحمد بن جحش قال في الإصابة وفيه نظر فالذي هو مولاهم إنما هو زوجها والثاني خطأ فإن مولى عتبة سأل عائشة عن حكم هذه المسألة فذكرت له قصة بريرة أخرجه ابن سعد وأصله عند البخاري وأخرج أبو عمر عن زيد بن واقد أن عبد الملك بن مروان قال كنت أجالس بريرة بالمدينة فكانت تقول لي إني أرى فيك خصالا وإنك لخليق أن تلي هذا الأمر فإن وليته فاحذر الدماء فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول إن الرجل ليدفع عن باب الجنة بعد أن ينظر إليه بملء محجمة من دم يريقه من مسلم بغير حق انتهى
عاشت بريرة إلى زمن يزيد بن معاوية ( ثلاث سنن ) أي علم بسببها ثلاثة أحكام من الشريعة قال عياض المعنى أنها شرعت في قصتها وما يظهر فيها مما سوى ذلك كان قد علم من غير قصتها
وقال ابن عبد البر قد أكثر الناس في تشقيق المعاني من حديث بريرة وتخريجها فلمحمد بن جرير في ذلك كتاب ولمحمد بن خزيمة فيه كتاب ولجماعة في ذلك أبواب وأكثر ذلك تكلف واستنباط محتمل لا يستغني عن دليل والذي قصدته عائشة هو عظم الأمر في قصتها
وذكر ابن
____________________
(3/233)
العربي أن ابن خزيمة استخرج منه ما ينيف عن مائتين وخمسين فائدة وجمع بعض الأئمة فوائد هذا الحديث فزادت على ثلثمائة لخصها في فتح الباري ووقع في رواية يزيد بن هارون عن عروة عن بريرة قالت كان في ثلاث سنن أخرجه النسائي وقال إنه خطأ يعني والصواب عن عروة عن عائشة ولأبي داود من وجه آخر عن عائشة أربع سنن وزاد وأمرها أن تعتد عدة الحرائر ( فكانت إحدى السنن الثلاث أنها أعتقت ) بضم الهمزة وكسر الفوقية والذي أعتقها عائشة كما يأتي في كتاب العتق في حديث عائشة وابن عمر ( فخيرت ) بضم الخاء ( في ) فراق ( زوجها ) وفي البقاء معه على عصمته
وفي رواية الدارقطني من طريق أبان بن صالح عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لبريرة اذهبي فقد عتق معك بضعك وزاد ابن سعد عن الشعبي مرسلا فاختاري وإنما خيرت لتضررها بالمقام تحته من جهة أنها تتعير به وأن لسيده منعه عنها وأنه لا ولاية له على ولده وغير ذلك وهذا بخلاف ما إذا عتقت تحت حر فلا خيار لها لأن الكمال الحادث لها حاصل له فأشبه ما إذا أسلمت كتابية تحت مسلم فلو عتق بعضها فلا خيار لبقاء النقصان وأحكام الرق وفيه أن بيع الأمة المتزوجة ليس بطلاق إذ لو طلقت بمجرد البيع لم يكن للتخيير فائدة وإليه ذهب الجمهور وقال بعض الصحابة والتابعين البيع طلاق لظاهر قوله تعالى { والمحصنات من النساء إلا ما ملكت أيمانكم } سورة النساء الآية 24 واحتج الجمهور بحديث الباب ومن حيث النظر أنه عقد على منفعة فلا يبطل بيع الرقبة كما في العين المؤجرة والآية نزلت في المسبيات فهن المراد بملك اليمين على ما ثبت في الصحيح من سبب نزولها وليس في هذا الحديث تصريح بأن زوج بريرة عبد أو حر حين عتقت
وفي البخاري عن ابن عباس كان زوج بريرة عبدا يقال له مغيث كأني أنظر إليه يطوف خلفها ويبكي ودموعه تسيل على لحيته فقال النبي صلى الله عليه وسلم لعباس يا عباس ألا تعجب من حب مغيث بريرة ومن بغض بريرة مغيثا فقال النبي صلى الله عليه وسلم لو راجعته قالت يا رسول الله تأمرني قال إنما أشفع قالت لا حاجة لي فيه وفي الصحيحين والسنن الأربعة عن الأسود عن عائشة أنه كان حرا وبه تمسك الحنفية لقولهم يثبت الخيار للأمة إذا عتقت مطلقا كانت تحت حر أو عبد وتعقب بأن حديث الأسود اختلف فيه على راويه هل هو من قول الأسود أو رواه عن عائشة أو هو قول غيره قال إبراهيم بن أبي طالب أحد الحفاظ من طبقة مسلم خالف الأسود الناس في زوج بريرة
وقال الإمام أحمد وإنما يصح أنه كان حرا عن الأسود وحده وصح عن ابن عباس وغيره أنه كان عبدا ورواه علماء المدينة وإذا روى علماء المدينة شيئا وعملوا به فهو أصح شيء وإذا عتقت الأمة تحت الحر فعقدها المتفق على صحته لا يفسخ بأمر مختلف فيه
وقال البخاري قول الأسود منقطع وقول العباس وابنه عبدا أصح
وقال الدارقطني لم يختلف على عروة عن عائشة أنه كان عبدا وكذا قال جعفر بن محمد بن علي عن أبيه عن عائشة وأبو الأسود أسامة الليثي عن القاسم وأما ما أخرجه قاسم بن أصبغ قال أخبرنا
____________________
(3/234)
أحمد بن يزيد المعلم ثنا موسى بن معاوية عن جرير عن هشام عن أبيه عن عائشة كان زوج بريرة حرا فهو وهم من موسى أو من أحمد فإن الحفاظ من أصحاب هشام ثم أصحاب جرير قالوا كان عبدا ولم يختلف على ابن عباس أنه كان عبدا وبه جزم الترمذي عن ابن عمر وحديثه عند الشافعي والدارقطني وغيرهما
وأخرج النسائي بسند صحيح عن صفية بنت أبي عبيد قالت كان زوج بريرة عبدا
قال النووي ويؤيد ذلك قول عائشة كان عبدا ولو كان حرا لم يخيرها فأخبرت وهي صاحبة القصة بأنه كان عبدا ثم عللت بقولها ولو كان حرا لم يخيرها وهذا لا يكاد أحد يقوله إلا توقيفا وقول من قال كان عبدا قبل العتق حرا عنده لأن الرق يعقبه الحرية لا العكس فلا منافاة بين الروايتين تعقب بأن محل الجمع المذكور إذا تساوت الروايتان في القوة أما مع التفرد في مقابلة الجمع فالمفردة شاذة والشاذ مردود ولهذا لم يعتبر الجمهور الجمع بينهما بما ذكر مع قولهم لا يصار إلى الترجيح مع إمكان الجمع بينهما لأن محله عندهم ما لم يظهر الغلط في إحداهما وقد روى الترمذي عن ابن عباس أنه كان عبدا أسود يوم أعتقت وهذا يبطل الجمع ومغيث بضم الميم وكسر المعجمة وإسكان التحتية آخره مثلثة كما جزم به ابن ماكولا وغيره وهو أثبت ممن قال معتب بفتح العين المهملة وشد الفوقية آخره موحدة
( و ) السنة الثانية ( قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ) حين أرادت عائشة أن تشتريها وقال أهلها الولاء لنا ( الولاء لمن أعتق ) وفي رواية إنما الولاء ويأتي إن شاء الله شرحه في كتاب الولاء
( و ) السنة الثالثة ( دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم ) حجرة عائشة ( والبرمة ) بضم الموحدة وإسكان الراء قال ابن الأثير هي القدر مطلقا وجمعها برم وهي في الأصل المتخذة من الحجر المعروف بالحجاز ( تفور ) بالفاء ( بلحم ) وفي رواية التنيسي والبرمة على النار وكذا لابن وهب وزاد فدعا بطعام ( فقرب ) بضم القاف وكسر الراء الثقيلة قدم ( إليه خبز وأدم من أدم البيت ) بضم الهمزة وإسكان المهملة جمع إدام وهو ما يؤكل مع الخبز أي شيء كان والإضافة للتخصيص ( فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ألم أر برمة ) على النار ( فيها لحم ) والهمزة للتقرير ( فقالوا بلى يا رسول الله ولكن ذلك لحم تصدق ) بضم التاء والصاد وكسر الدال المشددة ( به على بريرة وأنت لا تأكل الصدقة ) لحرمتها عليك ( فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم هو عليها ) وفي رواية لها ( صدقة وهو لنا هدية ) حيث أهدته لنا لأن الصدقة يسوغ للفقير التصرف فيها بالإهداء والبيع وغير ذلك كتصرف الملاك في أملاكهم وأفاد أن التحريم إنما هو على الصفة لا على العين فإذا تغيرت صفة الصدقة تغير حكمها فيجوز للغني ولو هاشميا أكلها وشراؤها
____________________
(3/235)
وسأل الأبي هل من ذلك ما ينفق من نزول المرابطين ببعض أحياء العرب فيضيفونهم بحرام أو الغالب عليه الحرام فيجعلون بعض فقرائهم يقبل ذلك منهم صدقة ثم يهبه لهم
قال وكان شيخنا أبو عبد الله يعني ابن عرفة يقول لا ينجيهم ذلك لأنه تحيل نعم إذا تحققت المفسدة بعدم الأكل جاز
ومن المصالح المجوزة للأكل خوفهم إن لم يأكلوا عدم قبولهم في رد ما نهبوه من أموال الناس ولكن الأولى تقليل الأكل
قال عياض وفيه أن سؤال الرجل عما يرى في بيته ليس بمذموم ولا مناف لمكارم الأخلاق وقوله في حديث أم زرع ولا يسأل عما عهد ليس من هذا وإنما ذلك أن يقول فيما عهد أين هو وما صنع به وأما شيء يجده فيقول ما هذا فليس منه مع أن سؤاله صلى الله عليه وسلم إنما كان ليبين لهم حكم ما جهلوا لأنه علم أنهم لم يقدموا له أدام البيت دون سيد الأدم إلا لأمر اعتقدوه فكان كذلك فبين لهم حكمه وأخرجه البخاري في النكاح عن عبد الله بن يوسف وفي الطلاق عن إسماعيل ومسلم في الزكاة والعتق من طريق ابن وهب الثلاثة عن مالك به
( مالك عن نافع عن عبد الله بن عمر أنه كان يقول في الأمة تكون تحت العبد فتعتق الأمة أن لها الخيار ما لم يمسها ) فإن مسها سقط خيارها ( قال مالك وإن مسها زوجها فزعمت أنها جهلت أن لها الخيار فإنها تتهم ولا تصدق بما ادعت من الجهالة ولا خيار لها بعد أن يمسها ) لاشتهار الحكم
( مالك عن ابن شهاب عن عروة بن الزبير أن مولاة لبني عدي من قريش يقال لها زبراء ) بزاي مفتوحة فموحدة ساكنة فراء فألف ممدودة كما ضبطها ابن الأثير ( كانت تحت عبد وهي أمة يومئذ فعتقت قالت ) زبراء ( فأرسلت إلي حفصة زوج النبي صلى الله عليه وسلم فدعتني فقالت إني مخبرتك ) بضم الميم وإسكان المعجمة فموحدة ( خبرا ولا أحب أن تصنعي شيئا إن أمرك بيدك ما لم يمسك زوجك فإن مسك فليس لك من الأمر شيء ) أي سقط خيارك ( قالت ) زبراء ( فقلت وهو الطلاق ثم الطلاق ثم الطلاق ففارقته ثلاثا ) لكراهتها البقاء معه
قال أبو عمر لا أعلم لابن عمر وحفصة في ذلك مخالفا
____________________
(3/236)
من الصحابة وقد روي في قصة بريرة مرفوعا دليل واضح على ما ذهبا إليه
روى سعيد بن منصور عن ابن عباس لما خيرت بريرة رأيت زوجها يتبعها في سكك المدينة ودموعه تسيل على لحيته فكلم الناس له رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يطالب إليها فقال لها صلى الله عليه وسلم زوجك وأبو ولدك فقالت أتأمرني قال إنما أنا شافع قالت فلا حاجة لي فيه واختارت نفسها وكان اسمه مغيثا عبدا لآل المغيرة من بني مخزوم
( مالك أنه بلغه عن سعيد بن المسيب أنه قال أيما رجل تزوج امرأة وبه جنون أو ضرر فإنها تخير فإن شاءت قرت ) بقيت عنده ( وإن شاءت فارقت ) لما ينالها من الضرر وتخييرها ينفيه ( قال مالك في الأمة تكون تحت العبد ثم تعتق قبل أن يدخل بها أو يمسها أنها إذا اختارت نفسها فلا صداق لها ) لبقاء بضعها ( وهي تطليقة ) واحدة لزوال الضرر بها ( وذلك الأمر عندنا ) بالمدينة
( مالك عن ابن شهاب أنه سمعه يقول إذا خير الرجل امرأته فاختارته ) أي الرجل ( فليس ذلك بطلاق قال مالك وذلك أحسن ما سمعت ) لأنها ردت ما جعله لها
( قال مالك في المخيرة إذا خيرها زوجها فاختارت نفسها فقد طلقت ثلاثا وإن قال زوجها لم أخيرك إلا واحدة فليس له ذلك وذلك أحسن ما سمعت ) فهي بخلاف المملكة ( وإن خيرها فقالت قد قبلت واحدة وقال لم أر هذا إنما خيرتك في الثلاث جميعا أنها إن لم تقبل إلا واحدة أقامت عنده على نكاحها ولم يكن ذلك فراقا إن شاء الله عز وجل ) أتى به تبركا إذ الحكم عنده ما ذكر
____________________
(3/237)
11 ما جاء في الخلع بضم المعجمة وسكون اللام مأخوذ من الخلع بفتح الخاء النزع سمي به لأن كلا من الزوجين لباس للآخر في المعنى قال تعالى { هن لباس لكم وأنتم لباس لهن } سورة البقرة الآية 187 فكأنه بمفارقة الآخر نزع لباسه وضم مصدره تفرقة بين الحسي والمعنوي
وذكر أبو بكر بن دريد في أماليه أن أول خلع كان في الدنيا أن عامر بن الظرب بفتح الظاء المعجمة وكسر الراء وموحدة زوج بنته لابن أخيه عامر بن الحارث بن الظرب فلما دخلت عليه نفرت منه فشكى إلى أبيها فقال لا أجمع عليك فراق أهلك ومالك وقد خلعتها منك بما أعطيتها قال فزعم العلماء أن هذا كان أول خلع في العرب
( مالك عن يحيى بن سعيد ) بن قيس بن عمرو الأنصاري ( عن عمرة بنت عبد الرحمن ) بن سعد بن زرارة الأنصارية المدنية ( أنها أخبرته عن حبيبة ) بفتح المهملة وموحدتين بينهما تحتية ساكنة ( بنت سهل ) بن ثعلبة بن الحارث بن زيد بن ثعلبة ( الأنصاري ) النجاري صحابية ( أنها كانت تحت ثابت ابن قيس بن شماس ) بفتح الشين المعجمة والميم المشددة فألف فمهملة الأنصاري الخزرجي خطيب الأنصار من كبار الصحابة بشره النبي صلى الله عليه وسلم بالجنة واستشهد باليمامة ونفذ خالد بن الوليد وصيته بعد موته بمنام رآه بعضهم
( وأن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج إلى ) صلاة ( الصبح فوجد حبيبة بنت سهل عند بابه في الغلس ) بفتح المعجمة واللام بقية الظلام ( فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم من هذه فقالت أنا حبيبة بنت سهل يا رسول الله قال ما شأنك ) أمرك وحالك ( قالت لا أنا ولا ثابت بن قيس لزوجها ) وفي رواية الديلمي وابن سعد أن ثابتا كان في خلقه شدة فضربها ( فلما جاء زوجها ثابت بن قيس قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه حبيبة بنت سهل فذكرت ما شاء الله أن تذكر ) في شكواها منك ولم يفصح له به دفعا لنفرته
وفي رواية عن ابن عباس أول خلع كان في الإسلام امرأة ثابت بن قيس أتت النبي صلى الله عليه وسلم فقالت يا رسول الله لا يجتمع رأسي ورأس ثابت أبدا إني رفعت جانب الخباء فرأيته أقبل في عدة فإذا هو
____________________
(3/238)
أشدهم سوادا وأقصرهم قامة وأقبحهم وجها فقال أتردين عليه حديقته قالت نعم وإن شاء زدته ( فقالت يا رسول الله كل ما أعطاني عندي ) وفي حديث عمر عند البزار وكان تزوجها على حديقة نخل ( فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لثابت خذ منها ) أمر إرشاد وإصلاح لا أمر يجاب زاد في رواية ابن سعد فردت عليه حديقته ( فأخذ منها ) زاد في رواية وطلقها تطليقة ( وجلست في بيت أهلها ) زاد في رواية ابن سعد فكان ذلك أول خلع في الإسلام قال وتزوجها بعد ثابت أبي بن كعب وهذا الحديث أخرجه أصحاب السنن الثلاثة وابن خزيمة وابن حبان وصححاه من طريق مالك به وتابعه يزيد بن هارون عند الدارمي وابن سعد والدراوردي عند ابن أبي عاصم وحماد بن زيد عند ابن سعد ثلاثتهم عن يحيى بن سعيد بنحوه
وفي البخاري عن ابن عباس تسمية امرأة ثابت جميلة أخت عبد الله بن أبي وكذا عند النسائي بلفظ جميلة بنت أبي ابن سلول وفي ابن ماجة والبيهقي عن ابن عباس أنها جميلة بنت سلول واختلف في سلول هل هي أم أبي أو امرأته وجمع بالحمل على التعدد وأنهما قصتان لشهرة الخبرين وصحة الطريقتين واختلاف السياقين
وفي البزار عن عمر أول مختلعة في الإسلام حبيبة بنت سهل كانت تحت ثابت بن قيس ومقتضاه أن ثابتا تزوج حبيبة قبل جميلة
وللنسائي والطبراني عن الربيع بنت معوذ أن ثابت بن قيس ضرب امرأته فكسر يدها وهي جميلة بنت عبد الله بن أبي فأتى أخوها يشتكي إلى النبي صلى الله عليه وسلم وللدارقطني والبيهقي بسند قوي عن أبي الزبير أن ثابت بن قيس كانت عنده زينب بنت عبد الله بن أبي ابن سلول فيحتمل أنه كان عنده زينب وأختها أو عمتها جميلة واحدة بعد أخرى أو أن اسمها زينب ولقبها جميلة فإن لم يعمل بهذا الاحتمال فالموصول المعتضد بقول أهل النسب أن اسمها جميلة أصح وبه جزم الدمياطي وقال إنها شقيقة عبد الله بن أبي أمهما خولة بنت المنذر
وفي النسائي وابن ماجه تسمية امرأة ثابت مريم المغالية بفتح الميم وخفة المعجمة نسبة إلى مغالة امرأة من الخزرج ولدت لعمرو بن مالك بن النجار ولده عديا فبنو عدي بن النجار يعرفون كلهم ببني مغالة قال في الإصابة وما ذكره أبو عمر من تعدد المختلعات من ثابت ليس ببعيد
( مالك عن نافع عن مولاة ) أمة ( لصفية بنت أبي عبيد ) بضم العين زوج ابن عمر ( اختلعت من زوجها بكل شيء لها فلم ينكر ذلك عبد الله بن عمر ) لعموم قوله تعالى { فلا جناح عليهما فيما افتدت به } البقرة 229 قال مالك في المفتدية التي تفتدي من زوجها أنه إن وفي نسخة إذا ( علم أن زوجها أضر بها وضيق عليها وعلم أنه ظالم لها ) حتى افتدت منه ( مضى الطلاق ورد عليها مالها )
____________________
(3/239)
جبرا عليه ( فهذا الذي كنت أسمع ) من العلماء ( والذي عليه أمر الناس عندنا ) بالمدينة ( ولا بأس بأن تفتدي المرأة من زوجها بأكثر مما أعطاها ) لعموم الآية وقد قرأ النبي صلى الله عليه وسلم قول زوجة ثابت وإن شاء زدته
12 طلاق المختلعة ( مالك عن نافع أن ربيع ) بضم الراء وفتح الموحدة وتثقيل التحتية وعين مهملة صحابية لها أحاديث وربما غزت مع النبي صلى الله عليه وسلم كما في الصحيح ( بنت معوذ ) بشد الواو مفتوحة على الأشهر وجزم بعضهم بالكسر وهو ابن الحارث الأنصاري النجاري شهد بدرا وكان ممن قتل أبا جهل ثم قاتل حتى استشهد ببدر ( ابن عفراء ) بنت عبيد النجارية الصحابية وهي أم معوذ ومعاذ وعوف أولاد الحارث وإليها ينسبون ولها خصوصية لم توجد لغيرها هي أنها صحابية لها سبعة بنين هؤلاء الثلاثة وإخوتهم لأمهم إياس وخالد وعاقل وعامر أولاد البكير بن ياليل الليثي شهد السبعة بدرا مع النبي صلى الله عليه وسلم ( جاءت هي وعمها إلى عبد الله بن عمر فأخبرته أنها ) أي الربيع ( اختلعت من زوجها في زمان عثمان بن عفان ) أي خلافته ( فبلغ ذلك عثمان بن عفان فلم ينكره ) بل قضى عليها فأخرج ابن سعد من طريق عبد الله بن محمد بن عقيل عن الربيع بنت معوذ قالت قلت لزوجي أختلع منك بجميع ما أملك قال نعم فدفعت إليه كل شيء غير درعي فخاصمني إلى عثمان فقال له شرطه فدفعته إليه وأخرجه من وجه آخر أتم منه وقال فيه الشرط أملك خذ كل شيء حتى عقاص رأسها قال وكان ذلك في حصار عثمان يعني سنة خمس وثلاثين
( وقال عبد الله بن عمر عدتها عدة المطلقة ) إذ الخلع طلاق بعوض
( مالك أنه بلغه أن سعيد بن المسيب وسليمان بن يسار وابن شهاب كانوا يقولون عدة المختلعة مثل عدة المطلقة ثلاثة قروء ) إن لم تكن حاملا أو آيسة
( قال مالك في المفتدية أنها لا ترجع إلى
____________________
(3/240)
زوجها إلا بنكاح جديد ) لأن طلاق الخلع بائن ( فإن هو نكحها ) عقد عليها بعد الخلع ( ففارقها قبل أن يمسها لم يكن له عليها عدة من الطلاق الآخر ) الواقع بعد طلاق الخلع ( وتبني على عدتها الأولى ) لعدم المسيس ( وهذا أحسن ما سمعت في ذلك ) لقوله تعالى { ثم طلقتموهن من قبل أن تمسوهن فما لكم عليهن من عدة تعتدونها } الأحزاب 49 فإنه شامل لهذه الصورة
( قال مالك إذا افتدت المرأة من زوجها بشيء على أن يطلقها فطلقها طلاقا متتابعا نسقا ) بلا فاصل وهو بمعنى متتابعا ( فذلك ثابت عليه ) لازم له ( فإن كان بين ذلك صمات ) بضم الصاد مصدر ( فما أتبعه بعد الصمات فليس بشيء ) لأنها بانت بما قبله فلا يلحقها طلاقه
13 ما جاء في اللعان مصدر لاعن سماعي لا قياسي والقياسي الملاعنة من اللعن وهو الطرد والإبعاد يقال منه التعن أي لعن نفسه ولاعن إذا فاعل غيره منه ورجل لعنة بضم اللام وفتح العين كهمزة إذا كان كثير اللعن لغيره وبسكون العين إذا لعنه الناس كثيرا الجمع لعن كصرد ولاعنته امرأته ملاعنة ولعانا فتلاعنا والتعنا لعن بعض بعضا ولاعن الحاكم بينهما لعانا حكم وفي الشرع كلمات معلومة جعلت حجة للمضطر إلى قذف من لطخ فراشه وألحق العار به أو إلى ولد وسميت لعانا لاشتمالها على كلمة اللعن تسمية للكل باسم البعض ولأن كلا من المتلاعنين يبعد عن الآخر بها إذ يحرم النكاح بها أبدا واختير لفظ اللعان على لفظي الشهادة والغضب وإن اشتملت عليهما الكلمات أيضا لأن اللعن كلمة غريبة في قيام الحجج من الشهادات والأيمان والشيء يشهر بما يقع فيه من الغريب وعليه جرت أسماء السور ولأن الغضب يقع في جانب المرأة وجانب الرجل أقوى ولأن لعانه متقدم على لعانها والسبق والتقديم من أسباب الترجيح
( مالك عن ابن شهاب أن سهل بن سعد ) بن مالك ( الساعدي ) الخزرجي الصحابي ابن الصحابي ( أخبره أن عويمرا ) بضم العين وفتح الواو تصغير عامر بن الحارث بن زيد بن الجد بن
____________________
(3/241)
عجلان ( العجلاني ) بفتح العين وسكون الجيم نسبة إلى جده هذا وفي رواية القعنبي عويمر بن أشقر وفي الاستيعاب عويمر بن أبيض قال الحافظ فلعل أباه كان يلقب أشقر أو أبيض وفي الصحابة عويمر ابن أشقر آخر ما زني روى له ابن ماجه حديثا في الأضاحي ( جاء إلى عاصم بن عدي ) بن الجد بن العجلاني ( الأنصاري ) شهد أحدا مات في خلافة معاوية وقد جاز المائة وهو ابن عم والد عويمر زاد في رواية الأوزاعي وكان أي عاصم سيد بني عجلان ( فقال له يا أبا عاصم أرأيت رجلا ) أي أخبرني عن حكم رجل ( وجد مع امرأته رجلا ) أجنبيا منها ( أيقتله ) بهمزة الاستفهام الاستخباري أي أيقتل الرجل ( فتقتلونه ) قصاصا لقوله تعالى { النفس بالنفس } المائدة 45 ولمسلم عن ابن عمر فقال أرأيت إن وجد مع امرأته رجلا فإن تكلم تكلم بأمر عظيم وإن سكت سكت عن مثل ذلك وله عن ابن مسعود إن تكلم جلدتموه وإن قتل قتلتموه وإن سكت سكت على غيظ وفي رواية عن ابن عباس لما نزل { والذين يرمون المحصنات } النور 4 الآية قال عاصم بن عدي إن دخل رجل منا بيته فرأى رجلا على بطن امرأته فإن جاء بأربعة رجال يشهدون بذلك فقد قضى الرجل حاجته وذهب وإن قتله قتل به وإن قال وجدت فلانا معها ضرب وإن سكت سكت على غيظ
( أم كيف ) مفعول به لقوله ( يفعل ) أي أي شيء يفعل وأم تحتمل الاتصال يعني إذا رأى الرجل هذا المنكر الشنيع والأمر الفظيع وثارت عليه الغيرة أيقتله فتقتلونه أم يصبر على ذلك الشنآن والعار ويحتمل الانقطاع سأل أولا عن القتل مع القصاص ثم أضرب عنه إلى سؤال آخر لأن أم المنقطعة متضمنة لما يلي الهمزة والهمزة تستأنف كلاما آخر المعنى أيصبر على العار أو يحدث الله له أمرا آخر لذا قال ( سل لي يا عاصم عن ذلك رسول الله فسأل عاصم عن ذلك رسول الله ) فقال يا رسول الله كذا في رواية الأوزاعي بحذف المقول لدلالة السابق عليه ( فكره رسول الله المسائل ) المذكورة وعابها قال عياض يحتمل أنه كره قذف الرجل امرأته بلا بينة لاعتقاده الحد لأن ذلك كان قبل نزول حكم اللعان بدليل قوله لهلال بن أمية البينة أو الحد في ظهرك ويحتمل أنه كره السؤال لقبح النازلة وهتك ستر المسلم أو لما كان نهى عنه من كثرة السؤال وقد نهى عن كثرته سدا لباب سؤال أهل التشغيب أو لما في كثرته من التضييق في الأحكام التي لو سكتوا عنها لم تلزمهم وتركت لاجتهادهم فيها كما قال اتركوني ما تركتكم فإنما هلك من كان قبلكم لكثرة سؤالهم أنبياءهم
ولقوله أعظم الناس جرما من سأل عما لم يحرم فحرم من أجل مسألته
قال المازري أما إذا كانت المسائل مضطرا إليها فلا بأس بالسؤال عنها وقد كان يسأل عن الأحكام فلا يكره وعاصم إنما سأل لغيره من غير حاجة وإن كان السؤال على وجه التعنيت فهذا الذي يكره ( حتى كبر ) بضم الموحدة
____________________
(3/242)
عظم ( على عاصم ما سمع من رسول الله فلما رجع عاصم إلى أهله جاءه عويمر فقال يا عاصم ماذا قال لك رسول الله ) جوابا عن السؤال ( فقال عاصم لعويمر لم تأتني بخير قد كره رسول الله المسألة التي سألته عنها ) زاد في رواية وعابها ( فقال عويمر والله لا أنتهي حتى أسأل عنها ) قال ابن العربي الحاجة في السؤال يحتمل أنه عاين المقدمات فخاف الانتهاء إلى المكروه وكذلك اتفق والبلاء موكل بالمنطق فإنه قال الذي سألتك عنه وقع
قال عياض ويحتمل أنه علم الحكم وسأل عن جواز أمر يصل به إلى شفاء غليله وإزالة غيرته ويحتمل أنه سأل عن هذا إذا فعله
وقال ابن دقيق العيد فيه الاستعداد وعلم النوازل قبل وقوعها وعليه حمل الفقهاء ما يفرضونه قبل وقوعه ومن السلف من كره الحديث بالشيء قبل وقوعه ورآه من باب التكليف ( فأقبل عويمر حتى أتى رسول الله وسط الناس ) بفتح السين وسكونها ( فقال يا رسول الله أرأيت رجلا ) فيه أن الاستفهام بأرأيت عن السائل كان في العصر النبوي والسؤال عما يشكل ( وجد مع امرأته رجلا أيقتله فتقتلونه ) قيل فيه إنه لا حد في التعريض ولا حجة فيه لأنه لم يسمه ولا أشار إليه ( أم كيف يفعل ) زاد في حديث ابن عمر عند مسلم فسكت النبي فلم يجبه فلما كان بعد ذلك أتاه فقال إن الذي سألتك عنه قد ابتليت به فأنزل الله عز وجل هؤلاء الآيات في سورة النور { والذين يرمون أزواجهم } النور 6 فقال رسول الله قد أنزل بضم الهمزة وكسر الزاي وفي رواية نزل بلا همزة وفي رواية الأوزاعي قد أنزل الله القرآن ( فيك وفي صاحبتك ) زوجتك خولة بنت قيس على المشهور أو بنت عاصم بن عدي المذكور أو بنت أخيه
وأخرج ابن مردويه مرسلا أن عاصما لما نزلت { والذين يرمون المحصنات } سورة النور الآية 4 قال يا رسول الله أين لأحدنا أربعة شهداء فابتلي به في بنت أخيه وفي سنده ضعف
وأخرج ابن أبي حاتم عن مقاتل لما سأل عاصم عن ذلك ابتلي به في أهل بيته فأتاه ابن عمه تحته ابنة عمه رماها بابن عمه المرأة والزوج والخليل ثلاثتهم بنو عم عاصم
وعند ابن مردويه من مرسل ابن أبي ليلى أن الرجل الذي رمى عويمر امرأته به شريك بن سحماء وهو يشهد لصحة هذه الرواية لأنه ابن عم عويمر لأن شريك بن عبدة ابن مغيث بن الجد بن العجلان وسحماء بفتح السين وإسكان الحاء المهملتين والمد أم شريك وهي حبشية أو يمانية
وعند ابن أبي حاتم من مرسل مقاتل فقال عويمر لعاصم يا ابن عم أقسم بالله لقد رأيت شريك بن سحماء على بطنها وإنها لحبلى وما
____________________
(3/243)
قربتها منذ أربعة أشهر ولا مانع أن يتهم شريك بكل من امرأتي عويمر وهلال فلا يعارض ما في الصحيح أن هلال قذف امرأته بشريك بن سحماء ( فاذهب فأت بها ) زاد في رواية الأوزاعي فأمرهما رسول الله بالملاعنة ( قال سهل فتلاعنا ) زاد ابن إسحاق في روايته عن ابن شهاب بعد العصر
قال الدارقطني ولم يقله أحد من أصحابه غيره
وفي رواية ابن جريج فتلاعنا في المسجد ( وأنا مع الناس عند رسول الله ) وفي حديث ابن عمر عند مسلم فتلاهن أي الآيات عليه ووعظه وذكره وأخبره أن عذاب الدنيا أهون من عذاب الآخرة قال والذي بعثك بالحق ما كذبت عليها ثم دعاها فوعظها وذكرها وأخبرها أن عذاب الدنيا أهون من عذاب الآخرة قالت كلا والذي بعثك بالحق إنه لكاذب فبدأ بالرجل فشهد أربعة شهادات بالله إنه لمن الصادقين والخامسة أن لعنة الله عليه إن كان من الكاذبين ثم ثنى بالمرأة فشهدت أربع شهادات بالله إنه لمن الكاذبين والخامسة أن غضب الله عليها إن كان من الصادقين ثم فرق بينهما
( فلما فرغا من تلاعنهما قال عويمر كذبت عليها يا رسول الله إن أمسكتها ) شرط قدم عليه الجواب وفي رواية الأوزاعي إن حبستها فقد ظلمتها ( فطلقها ثلاثا ) ظنا منه أن اللعان لا يحرمها عليه فقال هي طالق ثلاثا ( قبل أن يأمره ) بطلاقها وبه تمسك القائل لا تقع الفرقة بين المتلاعنين إلا بإيقاع الزوج فإن لم يوقعه لم ينقص التلاعن من العصمة شيئا وهو قول عثمان البتي محتجا بأن الفرقة لم تذكر في القرآن وأن ظاهر الأحاديث أن الزوج هو الذي طلق ابتداء
ورده ابن عبد البر بأنه قول لم يتقدمه إليه أحد من الصحابة على أن البتي قد استحب للملاعن أن يطلق بعد اللعان ولم يستحبه قبله فدل على أن اللعان عنده قد أحدث حكما وقال النووي قوله كذبت عليها إن أمسكتها كلام مستقل وقوله فطلقها أي ثم عقب ذلك بطلاقها لأنه ظن أن اللعان لا يحرمها عليه فأراد تحريمها بالطلاق الثلاث فقال النبي لا سبيل لك عليها أي لا ملك لك عليها فلا يقع طلاق وتعقبه الحافظ بأنه يوهم أن قوله لا سبيل لك عليها وقع عقب قول الملاعن هي طالق ثلاثا وأنه موجود كذلك في حديث سهل الذي شرحه وليس كذلك فإن قوله لا سبيل لك عليها لم يقع في حديث سهل وإنما وقع في حديث ابن عمر عقب قوله الله أعلم أن أحدكما كاذب لا سبيل لك عليها
وقال الخطابي لفظ فطلقها يدل على وقوع الفرقة باللعان ولولا ذلك لصارت في حكم المطلقات وأجمعوا على أنها ليست في حكمهن فلا يكون له مراجعتها إن كان الطلاق رجعيا ولا أن يخطبها إن كان بائنا وإنما اللعان فرقة فسخ
( قال مالك قال ابن شهاب فكانت تلك ) أي الفرقة بينهما ( بعد ) بضم الدال أي بعد ذلك ( سنة المتلاعنين ) فلا يجتمعان بعد الملاعنة أبدا فتحرم عليه بمجرد اللعان تحريما مؤبدا ظاهرا
____________________
(3/244)
وباطنا سواء صدقت أو صدق ووطؤها بملك اليمين لحديث البيهقي المتلاعنان لا يجتمعان أبدا وظاهره يقتضي توقف ذلك على تلاعنهما معا وقد قال مالك يقع التحريم بلعان المرأة
وقال الشافعي وسحنون بفراغ الزوج لأن التعان المرأة إنما شرع لدفع الحد عنها بخلاف الرجل فإنه يزيد على ذلك في حقه نفي النسب ولحوق الولد وزوال الفراش وتظهر فائدة الخلاف في التوارث لو مات أحدهما بعد فراغ الرجل وفيما إذا علق طلاق المرأة بفراق أخرى ثم لاعن الأخرى
وقال أبو حنيفة لا تقع الفرقة حتى يوقعها الحاكم لظاهر أحاديث اللعان ويكون فرقة طلاق
وعن أحمد روايتان
وقد زاد سويد بن سعيد عن مالك وكانت حاملا فأنكر حملها وكان ابنها يدعى إليها ثم جرت السنة في الميراث أن يرثها وترث منه ما فرض الله لها
قال ابن عبد البر وهذه الألفاظ لم يروها عن مالك فيما علمت غير سويد اه
لكن ولو انفرد به سويد عن مالك فله أصل فقد رواه يونس عند مسلم وابن جريج عند البخاري عن ابن شهاب عن سهل مثل رواية سويد
وفي رواية الأوزاعي أنها جاءت بالولد على الصفة التي تصدق عويمر أو نحوه في رواية ابن جريج وفي حديث سهل هذا أن الآيات نزلت بسبب قصة عويمر
وفي البخاري عن ابن عباس أن هلال بن أمية قذف امرأته عند النبي بشريك بن سحماء فقال البينة أو حد في ظهرك فقال يا رسول الله إذا رأى أحدنا مع امرأته رجلا ينطلق يلتمس البينة فجعل يقول البينة وإلا حد في ظهرك فقال هلال والذي بعثك بالحق إني لصادق ولينزلن الله ما يبرىء ظهري من الحد فنزل جبريل وأنزل الله { والذين يرمون أزواجهم } حتى بلغ { إن كان من الصادقين } النور الحديث وفيه أنهما تلاعنا وأن الولد جاء على صفة شريك فقال لولا ما مضى من كتاب الله لكان لي ولها شأن وفي مسلم عن أنس وكان هلال أول رجل لاعن في الإسلام قال الحافظ اختلف الأئمة في هذا الموضع فمنهم من رجح نزولها في شأن عويمر ومنهم من رجح نزولها في شأن هلال ومنهم من جمع بأن أول من وقع له ذلك هلال وصادف مجيء عويمر أيضا فنزلت في شأنهما معا وإليه جنح النووي وسبقه الخطيب فقال لعلهما اتفق لهما ذلك في وقت واحد ويؤيده أن القائل في قصة عويمر عاصم بن عدي وفي قصة هلال سعد بن عبادة كما في أبي داود وغيره لما نزلت { والذين يرمون المحصنات } النور 4 الآية قال سعد بن عبادة لو رأيت لكاع قد تفخذها رجل لم يكن لي أن أهيجه حتى آتي بأربعة شهداء ما كنت لآتي بهم حتى يفرغ من حاجته فما لبثوا إلا يسيرا حتى جاء هلال بن أمية الحديث
ولا مانع أن تتعدد القصص ويتحد النزول
وروى البزار عن حذيفة قال قال لأبي بكر لو رأيت مع أم رومان رجلا ما كنت فاعلا به قال كنت فاعلا به شرا قال فأنت يا عمر قال كنت أقول لعن الله الأبعد قال فنزلت ويحتمل أن النزول سبق بسبب هلال فلما جاء عويمر ولم يكن علم بما وقع لهلال أعلمه بالحكم ولذا قال في قصة هلال فنزل جبريل وفي قصة عويمر قد أنزل الله فيك فيؤول بأن معناه ما أنزل في قصة هلال وبهذا أجاب ابن الصباغ في الشامل ويؤيده قول أنس أن هلالا أول من لاعن
وجنح القرطبي
____________________
(3/245)
إلى تجويز نزول الآية مرتين قال وهذه الاحتمالات وإن بعدت أولى من تغليط الرواة الحفاظ وقد أنكر جماعة ذكر هلال بن أمية فيمن لاعن كأبي عبد الله بن أبي صفرة أخي المهلب فقال هو خطأ والصحيح أنه عويمر قال القرطبي وسبقه إلى نحوه الطبري
وقال ابن العربي هو وهم من هشام بن حسان وعليه دار حديث ابن عباس وأنس بذلك
وقال عياض في المشارق لم يقله غيره وإنما القصة لعويمر العجلاني قال ولكن في المدونة في حديث العجلاني ذكر شريك
وقال النووي في مبهماته اختلفوا في الملاعن على ثلاثة أقوال عويمر وهلال وعاصم قال الواحدي أظهرها عويمر وكلام الجميع متعقب
أما قول ابن أبي صفرة فدعوى مجردة وكيف يجزم بخطأ حديث ثابت في الصحيحين مع إمكان الجمع وما نسبه للطبري لم أجده فيه
وأما قول ابن العربي وعياض تفرد به هشام بن حسان فمردود فقد تابعه عباد بن منصور عند أبي داود والطبري وجرير بن حازم عن أيوب عند الطبري
وأما جنوح النووي كالواحدي للترجيح فمرجوح لأن الجمع الممكن أولى من الترجيح وقوله وقيل عاصم فيه نظر لأن عاصما لم يلاعن قط وإنما سأل لعويمر ووقع من عاصم نظير ما وقع من سعد بن عبادة أي من الاستشكال اه ببعض اختصار
وقال غيره تعقبت حكاية النووي الخلاف بأن ملاعنة عويمر وهلال ثبتا فكيف يختلف فيهما وإنما المختلف فيه سبب نزول الآية في أيهما كما سبق
وقوله في التهذيب اتفقوا على أن الموجود زانيا شريك ممنوع إذ لم يوجد زانيا وإنما هم اعتقدوا ذلك ولم يثبت عليه فصواب العبارة اتفقوا على أن المرمي به شريك وأفاد عياض عن ابن جرير الطبري أن قصة اللعان كانت في شعبان سنة تسع من الهجرة وفي حديث سهل فوائد كثيرة غير ما مر ذكر جملة منها في التمهيد وأخرجه البخاري هنا عن إسماعيل وقبله في الطلاق عن عبد الله بن يوسف ومسلم عن يحيى ثلاثتهم عن مالك به وتابعه الأوزاعي وفليح عند البخاري وابن جريج في الصحيحين ويونس عند مسلم الأربعة عن ابن شهاب نحوه
( مالك عن نافع عن عبد الله بن عمر أن رجلا ) هو عويمر العجلاني ( لا عن امرأته ) زوجته خولة بنت قيس العجلانية ( في زمن رسول الله وانتقل ) وفي رواية ابن بكير فانتفى بالفاء فقال الطيبي الفاء سببية أي الملاعنة كانت سببا لانتفاء الرجل من ولد المرأة وإلحاقه بها وتعقبه الحافظ بأنه إن أراد أنها سبب ثبوت الانتفاء فجيد وإن أراد أنها سبب وجود الانتفاء فليس كذلك فإنه إن لم يتعرض لنفي الولد في الملاعنه لم ينتف ( ففرق ) بشد الراء ( رسول الله بينهما ) أي المتلاعنين تنفيذا لما أوجب الله من المباعدة بينهما بنفس اللعان وبظاهره تمسك الحنفية أن مجرد اللعان لا يحصل به التفريق ولا بد من حكم حاكم وحمله الجمهور على أن المراد الإفتاء والإخبار عن حكم الشرع بدليل قوله في الرواية الأخرى لا سبيل لك عليها قال مالي قال لا مال لك إن
____________________
(3/246)
كنت صدقت عليها فهو بما استحللت من فرجها وإن كنت كذبت عليها فذاك أبعد لك كما في الصحيحين من رواية سعيد بن جبير عن ابن عمر
ولهما أيضا من وجه آخر عن سعيد عنه فرق النبي بين أخوي بني العجلان وقال الله يعلم أن أحدكما كاذب فهل منكما تائب فأبيا ثلاث مرات قال عياض ظاهره أنه صلى الله تعالى عليه وعلى آله وسلم قال ذلك بعد الفراغ من اللعان ففيه عرض التوبة على المذنب ولو بطريق الإجمال
وقال الداودي قاله قبل اللعان
تحذيرا لهما
( وألحق الولد بالمرأة ) فترث منه ما فرض الله لها ونفاه عن الرجل فلا توارث بينهما
وزعم الدارقطني أن مالكا تفرد بهذه الزيادة وتعقب بأنها زيادة حافظ غير منافية فوجب قبولها على أنها قد جاءت من أوجه أخرى في حديث سهل وغيره والحديث رواه البخاري هنا عن يحيى بن بكير وفي الفرائض عن يحيى بن قزعة ومسلم عن يحيى التميمي وسعيد بن منصور وقتيبة بن سعد خمستهم عن مالك به وأخرجه أصحاب السنن الأربعة من طريق مالك وتابعه عبيد الله بن عمر عن نافع في الصحيحين وغيرهما نحوه وتابعه في شيخه نافع سعيد بن جبير عن ابن عمر عند الشيخين وغيرهما بنحوه
( قال مالك قال الله تبارك وتعالى والذين يرمون ) يقذفون ( أزواجهم ) بالزنى ( ولم يكن لهم شهداء ) يشهدون على تصديق قولهم ( إلا أنفسهم ) بالرفع بدل من شهداء أو نعت على أن إلا بمعنى غير ( فشهادة أحدهم ) مبتدأ ( أربع شهادات ) نصب على المصدر ( بالله إنه لمن الصادقين ) فيما رمى به زوجته من الزنى ( والخامسة أن لعنة الله عليه إن كان من الكاذبين ) في ذلك وخبر المبتدأ تدرأ عنه العذاب أي حد القذف وقرأ الإخوان وحفص برفع أربع على أنه خبر فشهادة كما في السمين ( ويدرأ ) أي يدفع ( عنها العذاب ) أي حد الزنى إن لم تحلف ( أن تشهد أربع شهادات بالله إنه لمن الكاذبين ) فيما رماها به من الزنى ( والخامسة أن غضب الله عليها إن كان من الصادقين ) في ذلك قال القرطبي في المفهم لفظ أشهد في الآية والحديث بمعنى أحلف قال الشاعر وأشهد عند الله أني أحبها فهذا لها عندي فما عندها ليا وهذا مذهب الجمهور أعني أن شهادات اللعان أيمان
وقال أبو حنيفة شهادات حقيقة من المتلاعنين على أنفسهما وينبني على الخلاف هل يتلاعن الفاسقان والعبدان فعند الجمهور يصح وعنده لا يصح وأما المقسم به فهو لفظ الله دون زيادة عليه لنص الآية والحديث وذكر عياض الخلاف هل يزيد الذي لا إله إلا هو اه
القول بالاقتصار نص مالك في المدونة وبالزيادة قوله في الموازية قال اللخمي وما في المدونة أحسن لأنه نص القرآن ولأن في البخاري أمرهما أن
____________________
(3/247)
يتلاعنا بما في القرآن
( قال مالك السنة عندنا أن المتلاعنين لا يتناكحان أبدا ) بل يتأبد التحريم قال ابن عبد البر أبدى له بعض أصحابنا فائدة وهي أن لا يجتمع ملعون مع غير ملعون لأن أحدهما ملعون في الجملة بخلاف ما إذا تزوجت المرأة غير الملاعن فإنه لا يتحقق وعورض بأنه لو كان كذلك لامتنع عليهما معا التزويج لأنه يتحقق أن أحدهما ملعون وأجيب بأن في هذه الصورة افتراقا في الجملة
( وإن كذب نفسه ) بعد الالتعان ( جلد الحد ) للقذف ( وألحق به الولد ) لثبوت النسب ولم ترجع إليه أبدا إذ الحرمة المؤبدة باللعان لا ترتفع بالتكذيب
( وعلى هذا السنة عندنا التي لا شك فيها ولا اختلاف ) وفي بعض طرق حديث سهل إشارة إليها ( وإذا فارق الرجل امرأته فراقا باتا ليس له عليها فيه رجعة ) عطف بيان لباتا ( ثم أنكر حملها لاعنها إذا كانت حاملا وكان حملها يشبه أن يكون منه إذا ادعته ) أي ادعت أنه منه ( ما لم يأت دون ذلك من الزمان الذي يشك فيه فلا يعرف أنه منه قال فهذا الأمر عندنا والذي سمعت ) زاد في نسخة من أهل العلم ( وإذا قذف الرجل امرأته بعد أن يطلقها ثلاثا وهي حامل ) حال كونه ( يقر بحملها ثم يزعم أنه رآها تزني قبل أن يفارقها جلد الحد ) لأنه قذف أجنبية ( ولم يلاعنها ) لأن شرطه أن يكون لزوجة ( وإن أنكر حملها بعد أن يطلقها ثلاثا لاعنها ) بالشرط الذي قاله فوقه ( وهذا الذي سمعت ) من العلماء ( والعبد بمنزلة الحر في قذفه ولعانه ) لعموم قوله { والذين يرمون أزواجهم } سورة النور الآية 6 إذ هو شامل للعبد ( يجري مجرى الحر في ملاعنته ) بضم الميم قال في المغرب لعنه لعنا ولاعنه ملاعنة ولعانا وتلاعنوا لعن بعضهم بعضا ( غير أنه ليس على من قذف مملوكة حد ) وإنما عليه الأدب كقذف الكتابية إن لم يلاعنهما ( والأمة المسلمة والحرة والنصرانية واليهودية تلاعن الحر المسلم إذا تزوج إحداهن فأصابها وذلك أن الله تبارك وتعالى يقول في كتابه والذين يرمون أزواجهم ) فلم يخص حرة من أمة ولا مسلمة من كتابية ( فهن من الأزواج ) لشمول
____________________
(3/248)
الآية لهن ( وعلى هذا الأمر عندنا ) بالمدينة ( والعبد إذا تزوج المرأة الحرة المسلمة أو الأمة المسلمة أو الحرة النصرانية أو اليهودية لاعنها ) لأن عموم الآية شامل له ولهن ( قال مالك في الرجل يلاعن امرأته فينزع ) بكسر الزاي يرجع ( ويكذب نفسه بعد يمين أو يمينين ما لم ) أي مدة كونه لم ( يلتعن في الخامسة إنه ) بكسر الهمزة ( إذا نزع ) رجع ( قبل أن يلتعن جلد الحد ) لأنه قذفها ( ولم يفرق بينهما ) لأن الفرقة مختصة بلعانها
( وفي الرجل يطلق امرأته فإذا مضت الثلاثة الأشهر قالت المرأة أنا حامل ) منك ( قال إن أنكر زوجها حملها لاعنها ) لنفيه
( وفي الأمة المملوكة يلاعنها زوجها ثم يشتريها إنه لا يطؤها وإن ملكها ) الواو للحال ( وذلك أن السنة مضت أن الملاعنين لا يتراجعان أبدا ) وقد قال المتلاعنان لا يجتمعان أبدا
( وإذا لاعن الرجل زوجته قبل أن يدخل بها فليس لها إلا نصف الصداق ) وإن كان اللعان فسخا لكن لما يعلم صدق الزوج واحتمل أنه أراد تحريمها وإسقاط حقها في نصف الصداق اتهم في ذلك وألزم نصفه أو مراعاة للقول بأنه طلاق
14 ميراث ولد الملاعنة ( مالك أنه بلغه أن عروة بن الزبير كان يقول في ولد الملاعنة ) بفتح العين وكسرها وهي التي وقع اللعان بينها وبين زوجها ( وولد الزنى أنه إذا مات ورثته أمه حقها ) بالنصب بدل من ضمير ورثته ( في كتاب الله تعالى ) الثلث أو السدس ( و ) ورث ( إخوته لأمه حقوقهم ) السدس للواحد والثلث للاثنين فصاعدا ( ويرث البقية موالي أمه إن كانت مولاة ) أي معتقة ( وإن كانت عربية ) أي حرة أصلية ( ورثت حقها وورث إخوته لأمه حقوقهم ) السدس ( وكان ما بقي للمسلمين ) يجعل في بيت ما لهم
____________________
(3/249)
( قال مالك وبلغني عن سليمان بن يسار مثل ذلك وعلى ذلك أدركت أهل العلم ببلدنا ) وبه قال جمهور العلماء وأكثر فقهاء الأمصار وسبق قريبا قول سهل بن سعيد ثم جرت السنة في ميراثها أنها ترثه ويرث منها ما فرض الله تعالى
ولأبي داود من مرسل مكحول ومن حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال جعل النبي صلى الله عليه وسلم ميراث ابن الملاعنة لأمه ولورثتها من بعدها وأخرج أصحاب السنن الأربعة وحسنه الترمذي وصححه الحاكم عن وائلة مرفوعا تحوز المرأة ثلاثة مواريث عتيقها ولقيطها وولدها الذي لاعنت فيه وفي إسناده عمر بن روبة بضم الراء وسكون الواو فموحدة مختلف فيه ووثقه أحمد وله شاهد من حديث ابن عمر عند ابن المنذر وهذه الترجمة ومدخولها بلفظه مرا في آخر الفرائض لأنه محله وأعاده هنا تتميما لحكم اللعان
15 طلاق البكر ( مالك عن ابن شهاب ) الزهري ( عن محمد بن عبد الرحمن بن ثوبان ) بلفظ تثنية ثوب القرشي العامري المدني من ثقات التابعين ( عن محمد بن إياس بن البكير ) بضم الموحدة وفتح الكاف الليثي المدني تابعي ثقة ووهم من ذكره في الصحابة ( أنه قال طلق رجل امرأته ثلاثا قبل أن يدخل بها ثم بدا له أن ينكحها فجاء يستفتي فذهبت معه أسأل ) زاد في رواية له ( فسأل عبد الله بن عباس وأبا هريرة عن ذلك فقالا لا نرى أن تنكحها حتى تنكح زوجا غيرك ) لإطلاق الآية ( قال فإنما طلاقي إياها واحدة فقال ابن عباس إنك أرسلت من يدك ما كان لك من فضل ) زيادة على الواحدة بإيقاعك الثلاث
( مالك عن يحيى بن سعيد ) الأنصاري ( عن بكير ) بضم الموحدة وفتح الكاف ( ابن عبد الله بن الأشج ) مولى بني مخزوم المدني نزيل مصر من الثقات مات سنة عشرين
____________________
(3/250)
ومائة وقيل بعدها ( عن النعمان بن أبي عياش ) بتحتانية ومعجمة ( الأنصاري ) الزرقي أبي سلمة المدني ثقة ( عن عطاء بن يسار ) الهلالي المدني ثقة فاضل صاحب عبادة ومواعظ ( أنه قال جاء رجل يسأل عبد الله بن عمرو بن العاصي ) الصحابي ابن الصحابي ( عن رجل طلق امرأته ثلاثا قبل أن يمسها قال عطاء فقلت إنما طلاق البكر واحدة فقال لي عبد الله بن عمرو بن العاصي إنما أنت قاص ) بشد الصاد المهملة صاحب قصص ومواعظ لا تعلم غوامض الفقه ( الواحدة تبينها ) تجعلها بائنا فلا يعيدها إلا بعقد جديد وصداق ( والثلاث تحرمها حتى تنكح زوجا غيره ) لإطلاق الآية
( مالك عن يحيى بن سعيد عن بكير بن عبد الله بن الأشج ) بمعجمة فجيم ( أنه أخبره عن معاوية بن أبي عياش ) بتحتية ومعجمة ( الأنصاري ) الزرقي ( أنه كان جالسا مع عبد الله بن الزبير ) الصحابي ابن الصحابي ( وعاصم بن عمر ) بن الخطاب ولد في حياة النبي صلى الله عليه وسلم ومات سنة سبعين وقيل بعدها ( قال فجاءهما محمد بن إياس بن البكير ) الليثي ( فقال إن رجلا من أهل البادية طلق امرأته ثلاثا قبل أن يدخل بها فماذا تريان فقال عبد الله بن الزبير إن هذا الأمر ) بالنصب بدل من اسم الإشارة ويروى إن هذا الأمر بالرفع على الخبر دخلت عليه اللام وعلى الأول فالخبر ( ما لنا فيه قول فاذهب إلى عبد الله بن عباس وأبي هريرة فإني تركتهما عند عائشة فسلهما ) بفتح السين وإسكان اللام مخففا فاسألهما ( ثم ائتنا فأخبرنا بجوابهما لك لنعلمه ) ( فذهب فسألهما فقال ابن عباس لأبي هريرة أفته يا أبا هريرة فقد جاءتك معضلة ) بكسر المعجمة أي شديدة ( فقال أبو هريرة الواحدة تبينها والثلاثة تحرمها حتى تنكح زوجا غيره وقال ابن عباس مثل ذلك ) وسبق مثله عن ابن عمرو بن
____________________
(3/251)
العاصي
( قال مالك وعلى ذلك الأمر عندنا ) بالمدينة ( والثيب إذا ملكها الرجل فلم يدخل بها أنها تجري مجرى البكر ) إذ لا فارق بينهما والمدار على وقوع ذلك قبل الدخول ( الواحدة تبينها والثلاثة تحرمها حتى تنكح زوجا غيره ) بشروطه
16 طلاق المريض ( مالك عن ابن شهاب عن طلحة بن عبد الله بن عوف ) الزهري المدني القاضي ابن أخي عبد الرحمن يلقب طلحة الندى ثقة مكثر فقيه تابعي مات سنة سبع وتسعين وهو ابن اثنتين وسبعين
( قال ) ابن شهاب ( وكان ) طلحة ( أعلمهم بذلك ) الخبر المذكور
( وعن أبي سلمة بن عبد الرحمن بن عوف ) كلاهما روى للزهري ( أن عبد الرحمن بن عوف طلق امرأته ) تماضر بضم الفوقية فميم فألف فضاد معجمة فراء بنت الأصبع الكلبية الصحابية أم ابنه أبي سلمة ( البتة وهو مريض ) ثم مات ( فورثها عثمان بن عفان منه بعد انقضاء عدتها ) قال الواقدي هي أول كلبية نكحها قرشي ولم تلد له غير أبي سلمة
وروى بسند له مرسل أن النبي صلى الله عليه وسلم بعث عبد الرحمن إلى بني كلب وقال إن استجابوا لك فتزوج ابنة ملكهم أو سيدهم فلما قدم دعاهم إلى الإسلام فاستجابوا وأقام من أقام منهم على إعطاء الجزية فتزوج عبد الرحمن بن عوف تماضر بنت الأصبغ بن عمرو بن ثعلبة ملكهم ثم قدم بها المدينة
( مالك عن عبد الله بن الفضل ) بن العباس بن ربيعة بن الحارث بن عبد المطلب الهاشمي المدني تابعي صغير ثقة من رجال الجميع ( عن الأعرج ) عبد الرحمن بن هرمز ( أن عثمان بن عفان ورث نساء ابن مكمل ) بضم الميم وسكون الكاف وكسر الميم الثانية فلام اسمه عبد الله بن مكمل بن عوف بن عبد الحارث بن زهرة بن كلاب ذكره الطبري وعمرو بن شبة في الصحابة واستدركه ابن فتحون وقال أكثر ما يأتي في الرواية أن مكمل غير مسمى وسماه بعضهم عبد الرحمن وهو وهم إنما عبد الرحمن ابنه وهو شيخ للزهري كما في الإصابة ونساؤه كن ثلاثا كما
____________________
(3/252)
رواه عبد الرزاق
( وكان طلقهن وهو مريض ) ثم مكث بعد طلاقه سنتين فورثهن عثمان بعد انقضاء العدة كما رواه أيضا عبد الرزاق فلم يمنعهن طلاقه الميراث لوقوعه في المرض فقضى بذلك عثمان ولم ينكره أحد عليه
( مالك أنه سمع ربيعة بن أبي عبد الرحمن يقول بلغني أن امرأة عبد الرحمن بن عوف ) تماضر الكلبية ( سألته أن يطلقها فقال إذا حضت ثم طهرت فآذنيني ) بذال معجمة والمد أعلميني ( فلم تحض حتى مرض عبد الرحمن بن عوف فلما طهرت آذنته ) بمد الألف أعلمته ذلك برسول بعثته إليه ( فطلقها البتة ) ثلاثا ( أو تطليقة لم يكن بقي له عليها من الطلاق غيرها ) شك الراوي ( وعبد الرحمن يومئذ مريض فورثها عثمان بن عفان منه بعد انقضاء عدتها ) لاتصال مرضه الذي طلق فيه بموته وهذا البلاغ أخرجه بنحوه ابن سعد عن يزيد بن هارون عن إبراهيم بن سعد بن إبراهيم عن أبيه عن جده قال كان في تماضر سوء خلق وكانت على تطليقتين فلما مرض عبد الرحمن جرى بينه وبينها شيء فقال والله لئن سألتيني الطلاق لأطلقنك فقالت والله لأسألنك فقال أما لا فأعلميني إذا حضت وطهرت إذا فلما حاضت وطهرت أرسلت إليه تعلمه فمر رسولها ببعض أهله فقال أين تذهب قال أرسلتني تماضر إلى عبد الرحمن أعلمه أنها قد حاضت ثم طهرت فقال ارجع إليها فقل لها لا تفعلي فوالله ما كان ليرد قسمه فقالت والله وأنا لا أرد قسمي فأعلمه فطلقها
وعنده عن محمد بن مصعب عن الأوزاعي عن الزهري عن طلحة بن عبد الله أن عثمان ورث تماضر من عبد الرحمن وكان طلقها في مرضه تطليقة وكانت آخر طلاقها
وعن أيوب عن نافع وسعد بن إبراهيم أنه طلقها ثلاثا فورثها عثمان منه بعد انقضاء العدة
وأخرج ابن سعد عنها أنها تزوجت بعد موت عبد الرحمن الزبير بن العوام فأقام عندها سبعا ثم لم يلبث أن طلقها فكانت تقول للنساء إذا تزوجت إحداكن فلا يغرنك السبع بعد ما صنع بي الزبير
( مالك عن يحيى بن سعيد ) الأنصاري ( عن محمد بن يحيى بن حبان ) بفتح المهملة والموحدة الثقيلة الأنصاري المدني الثقة الفقيه ( قال كانت عند جدي حبان ) بن منقذ بذال معجمة الأنصاري المازني الصحابي ( امرأتان هاشمية وأنصارية فطلق الأنصارية وهي مرضع فمرت بها سنة ثم هلك )
____________________
(3/253)
مات ( ولم تحض ) لأجل الرضاع ( فقالت أنا أرثه لم أحض فاختصما ) أي هي والهاشمية ( إلى عثمان بن عفان فقضى لها بالميراث فلامت الهاشمية عثمان فقال هذا عمل ابن عمك هو أشار علينا بهذا يعني ) بابن عمها ( علي بن أبي طالب ) قال ذلك تطييبا لخاطرها
قال أبو عمر ذكر مالك هذا الأثر هنا ولا دخل له في الباب وإنما موضعه في جامع الطلاق
( مالك أنه سمع ابن شهاب يقول إذا طلق الرجل امرأته ثلاثا وهو مريض فإنها ترثه ) لقضاء عثمان به
( قال مالك وإن طلقها وهو مريض قبل أن يدخل بها فلها نصف الصداق ) كما في القرآن
( ولها الميراث ولا عدة عليها ) كما قال الله تعالى
( وإن دخل بها ثم طلقها فلها المهر كله ) لتكمله بالدخول ( والميراث والبكر والثيب في هذا عندنا سواء ) إذ لا فرق
17 ما جاء في متعة الطلاق ( مالك أنه بلغه أن عبد الرحمن بن عوف طلق امرأة له ) هي تماضر ( فمتع بوليدة ) أمة سوداء أخرج ابن سعد عن ابن نمير عن محمد بن إسحاق عن سعد بن إبراهيم عن أبيه عن أم كلثوم جدته قالت لما طلق عبد الرحمن امرأته الكلبية تماضر متعها بجارية سوداء وزاد في رواية كما في الاستذكار قيمتها ثمانون دينارا
( مالك عن نافع عن عبد الله بن عمر أنه كان يقول لكل مطلقة متعة ) جبرا لما نالها من كسر
____________________
(3/254)
الطلاق ( إلا التي تطلق وقد فرض لها صداق ولم تمس ) هي أي لم يطأها زوجها ( فحسبها ) كافيها ( نصف ما فرض لها ) لأنه لم يحصل لها كبير كسر وبضعها باق
( مالك عن ابن شهاب أنه قال لكل مطلقة متعة ) لقوله تعالى { حقا على المتقين } البقرة 241 { حقا على المحسنين } البقرة 236 قال مالك وبلغني عن القاسم بن محمد مثل ذلك الذي قاله ابن شهاب ( وليس للمتعة عندنا حد معروف في قليلها ولا كثيرها ) بل كما قال الله على الموسع قدره وعلى المقتر قدره
18 ما جاء في طلاق العبد ( مالك عن أبي الزناد ) بكسر الزاي وخفة النون عبد الله بن ذكوان ( عن سليمان بن يسار ) بتحتية ومهملة خفيفة الفقيه ( أن نفيعا ) بضم النون وفتح الفاء مصغر ( مكاتبا كان لأم سلمة ) هند بنت أبي أمية ( زوج النبي صلى الله عليه وسلم أو عبد لها ) شك الراوي ويأتي في رواية ابن المسيب ومحمد بن إبراهيم الجزم بأنه مكاتب ( كانت تحته امرأة حرة فطلقها اثنتين ثم أراد أن يراجعها ) ظنا منه أنه ( كالحر فأمره أزواج النبي صلى الله عليه وسلم أن يأتي عثمان بن عفان ) أمير المؤمنين ( فيسأله عن ذلك فلقيه عند الدرج ) بفتح الدال والراء وجيم موضع بالمدينة ( آخذا بيد زيد بن ثابت فسألهما فابتدراه جميعا فقالا حرمت ) بفتح فضم ( عليك حرمت عليك ) مرتين بالتأكيد حتى تنكح زوجا غيرك
( مالك عن ابن شهاب عن سعيد بن المسيب ) بفتح الياء وكسرها ( أن نفيعا مكاتبا كان لأم سلمة زوج النبي صلى الله عليه وسلم طلق امرأة حرة تطليقتين فاستفتى عثمان بن عفان فقال حرمت عليك ) قبل زوج
____________________
(3/255)
( مالك عن عبد ربه بن سعيد ) بن قيس الأنصاري أخي يحيى ( عن محمد بن إبراهيم بن الحارث التيمي ) تيم قريش المدني ( أن نفيعا مكاتبا كان لأم سلمة زوج النبي صلى الله عليه وسلم استفتى زيد بن ثابت فقال إني طلقت امرأة حرة تطليقتين فقال زيد بن ثابت حرمت عليك ) حتى تنكح زوجا غيرك
( مالك عن نافع أن عبد الله بن عمر كان يقول إذا طلق العبد امرأته تطليقتين قد حرمت عليه حتى تنكح زوجا غيره ) ثم يطلقها وتعتد ( حرة كانت أو أمة ) لأن المنظور إليه في الطلاق الزوج
( وعدة الحرة ثلاث حيض وعدة الأمة حيضتان ) وإن كان زوجها حرا لأن العبرة في العدة المرأة
( مالك عن نافع أن عبد الله بن عمر كان يقول من أذن لعبده أن ينكح ) يتزوج ( فالطلاق بيد العبد ليس بيد غيره ) ولو سيده ( من طلاق شيء ) لأن الله جعله للزوج المسلم المكلف ( فأما أن يأخذ الرجل أمة غلامه أو أمة وليدته ) جاريته ( فلا جناح ) لا إثم ( عليه ) لأن له انتزاع مال رقيقه
19 نفقة الأمة إذا طلقت وهي حامل ( مالك ليس على حر ولا على عبد طلقا مملوكة ) طلاقا بائنا ( ولا على عبد طلق حرة طلاقا بائنا ) أي بائنا بالثلاث أو بالخلع ( نفقة وإن كانت حاملا ) لأن إنفاق العبد على ولده إتلاف لمال السيد فيما لا يعود على سيده منه منفعة ولأن ولد الأمة رقيق لسيدها وليس على الحر أن ينفق على ملك
____________________
(3/256)
غيره ولا ينقض بالنفقة على الزوجة الأمة لأنها في مقابلة الاستمتاع فهي من باب المعاوضات فإن قيل هنا موجبان الأبوة والملك فلم اختص أحدهما بذلك دون الآخر أجيب بأن من القواعد الأخذ بأقوى الموجبين وإسقاط ما عداه ولا شك أن موجب الملك أقوى لأن السيد يتصرف فيه ما لا يتصرف الأب من تزويج ونزع مال وحوز ميراث وأخذ قيمة جراح وعفو عنها ولا تكلم للأب معه حرا أو عبدا له أو لغيره ومحل عدم النفقة ( إن لم يكن له ) أي زوج الأمة حرا أو عبدا وزوج الحرة العبد ( عليها رجعة ) فتجب النفقة لأن الرجعية في حكم الزوجية ( وليس على حر أن يسترضع لابنه وهو عبد قوم آخرين ) بل رضاعه عليهم لأنه ملكهم ( ولا على عبد أن ينفق من ماله على من لا يملك سيده ) لأنه إتلاف لماله بلا فائدة ( إلا بإذن سيده ) فيجوز
20 عدة التي تفقد زوجها ( مالك عن يحيى بن سعيد عن سعيد بن المسيب أن عمر بن الخطاب قال أيما امرأة فقدت ) بفتح القاف ومضارعه بكسرها عدمت ( زوجها فلم تدر أين هو فإنها تنتظر أربع سنين ) من العجز عن خبره لأنها غاية أمد الحمل ولأنها المدة التي تبلغها المكاتبة في بلاد الإسلام سيرا ورجوعا وضعف الأول بقول مالك لو أقامت عشرين سنة ثم رفعت يستأنف لها الأجل وبأنها إذا كانت صغيرة أو آيسة أو الزوج صغيرا تضرب الأربع ولا حمل هنا
والثاني بقول مالك أيضا تستأنف الأربع من بعد اليأس وأنها من يوم الرفع ولو رجع الكاشف بعد سنة انتظرت تمام الأربع ولو كانت العلة كونها أمد الكشف لم تنتظر تمامها وقيل لا علة له إلا الاتباع واستحسن ( ثم تعتد أربعة أشهر وعشرا ) سواء كان بنى بها أم لا ( ثم تحل ) للأزواج
وروي نحوه عن عثمان وعلي قيل وأجمع الصحابة عليه ولم يعلم لهم مخالف في عصرهم وعليه جماعة من التابعين
( قال مالك وإن تزوجت بعد انقضاء عدتها فدخل بها زوجها أو لم يدخل بها فلا سبيل لزوجها الأول إليها ) إذا جاء أو ثبت أنه حي لأن الحاكم أباح للمرأة الزواج مع إمكان حياته فلم يشكف الغيب أكثر مما كان يظن
( قال وذلك الأمر عندنا ) فالعقد بمجرده يفيتها ثم رجع مالك عن هذا قبل موته بعام وقال لا يفيتها على الأول إلا دخول الثاني غير عالم بحياته كذات الولييين وأخذ به ابن القاسم وأشهب
قال في الكافي وهو الأصح من طريق الأثر لأنها مسألة قلدنا فيها عمر وليست مسألة نظر
( وإن أدركها زوجها قبل أن تتزوج فهو أحق بها ) بلا نزاع وأولى إن أدركها في العدة ( وأدركت الناس )
____________________
(3/257)
العلماء ( ينكرون الذي قال ) أي تقول ( بعض الناس على عمر بن الخطاب أنه قال يخير زوجها الأول إذا جاء ) فوجدها تزوجت ( في ) أخذ ( صداقها أو في امرأته ) فإنه لا وجه لتخييره
( قال مالك وبلغني أن عمر بن الخطاب قال في المرأة يطلقها زوجها وهو غائب عنها ثم يراجعها فلا تبلغها رجعته وقد بلغها طلاقه إياها فتزوجت إنه ) بكسر الهمزة مقول عمر ( إن دخل بها زوجها الآخر ) بكسر الخاء أي الثاني ( أو لم يدخل فلا سبيل لزوجها الأول الذي كان طلقها إليها ) بل تفوت بمجرد عقد الثاني
( قال مالك وهذا أحب ما سمعت إلي في هذا وفي المفقود ) أن مجرد العقد فوت وهذا مذهبه في الموطأ ومذهبه في المدونة أنها إنما تفوت بدخول الثاني فيهما لا بعقده وهو المشهور في المذهب ورأى اللخمي أنها لا تفوت بدخول وفرق بينها وبين امرأة المفقود بأنه لم يكن في هذه أمر ولا قضية من حاكم بخلاف امرأة المفقود
21 ما جاء في الإقراء وعدة الطلاق وطلاق الحائض ( مالك عن نافع أن عبد الله بن عمر ) كذا في رواية يحيى وظاهرها الإرسال إذ نافع لم يدرك ذلك وليس بمراد فقد رواه غيره في الموطأ كيحيى النيسابوري وإسماعيل وغيرهما مالك عن نافع عن ابن عمر أنه ( طلق امرأته ) هي آمنة بمد الهمزة وكسر الميم بنت غفار بكسر المعجمة وتخفيف الفاء وبالراء كما ضبطه ابن نقطة وعزاه لابن سعد وذكر أنه وجده كذلك بخط الحافظ أبي الفضيل بن ناصر أو بنت عمار بفتح العين المهملة والميم المشددة قال الحافظ والأول أولى
وفي مسند أحمد اسمها النوار فيمكن أن اسمها آمنة ولقبها النوار صحابية ( وهي حائض ) جملة حالية زاد الليث عن نافع عن ابن عمر تطليقة واحدة أخرجه مسلم وقال جود الليث في قوله تطليقة واحدة قال عياض يعني أنه حفظ وأتقن ما لم يتقنه غيره ممن لم يفسركم الطلاق وممن غلط ووهم وقال طلقها ثلاثا ( على عهد النبي فسأل عمر بن الخطاب رسول الله عن ذلك ) عن حكم طلاق ابنه على هذه الصفة زاد الشيخان من رواية سالم عن أبيه
____________________
(3/258)
فتغيظ رسول الله صلى الله عليه وسلم (1) *
قال ابن العربي يحتمل أن سؤال عمر لأن النازلة لم تكن وقعت فسأل ليعلم الحكم ويحتمل أنه علمه من قوله تعالى { فطلقوهن لعدتهن } سورة الطلاق الآية 1 وقوله تعالى { يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء } سورة البقرة الآية 228 والحيض ليس بقرء فيفتقر إلى بيان الحكم فيه ويحتمل أن يكون سمع النهي والأوسط أقواها ( فقال رسول الله ) لعمر ( مره ) أصله أأمره بهمزتين الأولى للوصل مضمومة تبعا للعين مثل افعل والثانية فاء الكلمة ساكنة تبدل تخفيفا من جنس حركة سابقتها فيقال أومر فإذا وصل الفعل بما قبله زالت همزة الوصل وسكنت الهمزة الأصلية كما في قوله تعالى { وأمر أهلك بالصلاة } سورة طه الآية 132 لكن استعملتها العرب بلا همز فقالوا مر لكثرة الدور لأنهم حذفوا أولا الهمزة الثانية تخفيفا ثم حذفوا همزة الوصل استغناء عنها لتحرك ما بعدها أي مر ابنك عبد الله ( فليراجعها ) والأمر للوجوب عند مالك وجماعة وصححه صاحب الهداية من الحنفية وللندب عند الأئمة الثلاثة ولا حجة لهم في أنه إنما أمره بالرجعة أبوه وليس له أن يضع الشرع لأنه أمره بأمر النبي وهو مبلغ عنه وأما استدلالهم بقوله تعالى { فأمسكوهن بمعروف } سورة الطلاق الآية 2 وغيرها من الآيات المقتضية للتخيير بين الإمساك بالرجعة أو الفراق بتركها فيجمع بينها وبين الحديث بحمل الأمر فيه على الندب جمعا بينهما فليس بناهض إذ الأصل في الأمر الوجوب فيحمل عليه ويخص عموم الآيات بمن لم يطلق في الحيض ( ثم يمسكها ) أي يديم إمساكها وإلا فالرجعة إمساك وفي رواية يحيى التميمي ثم ليتركها ولإسماعيل ثم ليمسكها بإعادة اللام مكسورة ويجوز تسكينها بقراءة { ثم ليقضوا تفثهم } الحج 29 فالكسر على الأصل في لام الأمر فرقا بينها وبين لام التأكيد والسكون للتخفيف إجراء للمنفصل مجرى المتصل وفي رواية ثم ليدعها ( حتى تطهر ثم تحيض ) حيضة أخرى ( ثم تطهر ثم إن شاء أمسك بعد ) أي بعد الطهر من الحيض الثاني ( وإن شاء طلق ) وفي رواية إسماعيل طلقها ( قبل أن يمس ) ولإسماعيل يمسها أي يجامعها فيكره في طهر مس فيه للتلبيس إذ لا يدري أحملت فتعتد بالوضع أو لا فبالأقراء وقد يظهر الحمل فيندم على الفراق وقد ذهب بعض الناس إلى جبره على الرجعة كالمطلق في الحيض فإن قيل لم أمره أن يؤخر الطلاق إلى الطهر الثاني أجيب بأن حيض الطلاق والطهر التالي له بمنزلة قرء واحد فلو طلق فيه لصار كموقع طلقتين في قرء واحد وليس ذلك بطلاق السنة وبأنه عاقبه بتأخير الطلاق تغليظا عليه جزاء بما فعله من الحرام وهو الطلاق في الحيض وهذا معترض بأن ابن عمر لم يعلم بالتحريم ولم يتحققه وحاشاه من ذلك فلا وجه لعقوبته قاله المازري وأجيب بأن تغيظه دون أن يعذره يقتضي أن ذلك في الظهور لا يكاد يخفى على أحد وبأن ابن عمر وإن لم يتعمد فرط بترك السؤال قبل الفعل مع تمكنه منه فعوقب على تركه السؤال وليكون ذلك زجرا لغيره بعده
وقيل إنما أمره بالتأخير لئلا تصير الرجعة لمجرد غرض الطلاق لو طلق في أول الطهر الأول بخلاف الطهر الثاني وكما ينهى عن النكاح لمجرد
____________________
1*
(3/259)
الطلاق ينهى عن الرجعة له واعترض بأنه يلزم أن لا يطلق أحد قبل الدخول لأنه يصير كمن نكح للطلاق لا للنكاح وقيل ليطول مقامه معها والظن بابن عمر أنه لا يمنعها حقها في الوطء فلعله إذا وطىء تطيب نفسه ويمسكها فيكون ذلك حرصا على رفع الطلاق وحضا على بقاء الزوجية حكى ذلك المازري أيضا قال ابن عبد البر رواه يونس بن جبير وأنس بن سيرين وسالم بن عمر بلفظ حتى تطهر من الحيضة التي طلقها فيها ثم إن شاء أمسكها فلم يقولوا ثم تحيض ثم تطهر كما قال نافع نعم رواية الزهري عن سالم موافقة لرواية نافع كما نبه عليه أبو داود وزيادة الثقة مقبولة خصوصا إذا كان حافظا
ولفظ رواية الزهري عن سالم عن أبيه في الصحيحين مره فليراجعها حتى تحيض حيضة مستقبلة سوى حيضتها التي طلقها فيها فإن بدا له أن يطلقها فليطلقها طاهرا من حيضتها قبل أن يمسها ( فتلك العدة التي أمر الله ) أي أذن ( أن يطلق لها النساء ) في قوله تعالى { فطلقوهن لعدتهن } سورة الطلاق الآية 1 وفي رواية لمسلم قال ابن عمر وقرأ النبي / < يا أيها النبي إذا طلقتم النساء فطلقوهن في قبل عدتهن > / سورة الطلاق الآية 1 قال عياض أي في استقبال عدتهن وهذه قراءة ابن عمر وابن عباس
وفي قراءة ابن مسعود لقبل طهرهن قال القشيري وغيره وهذه القراءة على التفسير لا على التلاوة وهي تصحح أن المراد بالأقراء الأطهار إذ لا يستقبل في الحيض عدة عند الجميع ولا يجتزى بها عند أحد من الطائفتين زاد في رواية سالم في الصحيح وكان عبد الله طلقها تطليقة واحدة فحسبت من طلاقها وراجعها عبد الله كما أمره وفيه أن الطلاق يقع في الحيض وإلا لم يكن للأمر بالمراجعة فائدة قال الباجي إذ المراجعة لا تستعمل غالبا إلا بعد طلاق يعتد به فهو حجة على من لا يعتد بخلافهم وهم هشام بن الحكم وابن علية وداود في قولهم لا يقع الطلاق على الحائض
وفي بعض طرق الحديث فحسبت من طلاقها والذي حسب حينئذ النبي لأنه شوور في المسألة وأفتى فيها فمحال أن يعتد بها ابن عمر طلقة من غير أمره ومن جهة القياس أن إلزام الطلاق تغليظ ومنعه تخفيف لأنه لا يلزم الصبي ولا المجنون ولا النائم ويلزم السكران لأنه عاص فإذا لزم من أوقعه على الوجه المأمور به كان إلزامه لمن أوقعه على الوجه الممنوع أحرى
وقال أبو عمر جمهور العلماء على أن الطلاق في الحيض وإن كرهه جميعهم ولا يخالف في ذلك إلا أهل البدع والجهل الذين يرون الطلاق لغير السنة لا يقع وروي ذلك عن بعض التابعين وهو شذوذ لم يعرج عليه أحد من العلماء وقد سئل ابن عمر أيعتد بتلك الطلقة قال نعم روي ذلك عنه من طرق وفي بعضها قال فمه أرأيت إن عجز واستحمق أي عجز عن فرض آخر فلم يأت به أكان يعذر وكان إذا سئل يقول إن طلقت امرأتك وهي حائض مرة أو مرتين فإن الله أمر أن تراجعها وإن طلقتها ثلاثا فقد حرمت عليك حتى تنكح زوجا غيرك فلو كان غير لازم لم يلزمه ثلاثا كان أو واحدة ومن جهة النظر أن الطلاق ليس من القرب كالصلاة فلا تقع إلا على سببها وإنما هو زوال عصمة فإن أوقعه على غير سببه أثم ولزمه ومحال أن يلزم المطيع المتبع للسنة طلاقه ولا يلزم العاصي فيكون أحسن حالا من المطيع وقد قال تعالى { ومن يتعد حدود الله فقد ظلم نفسه } سورة الطلاق الآية 1 أي عصى ربه وفارق
____________________
(3/260)
امرأته وكذلك المطلق في الحيض وقد قال النووي أجمعت الأمة على تحريم طلاق الحائض الحائل بغير رضاها فإن طلقها أثم ووقع وشذ بعض أهل الظاهر فقال لا يقع لأنه لم يؤذن فيه فأشبه طلاق الأجنبية والصواب الأول وبه قال العلماء كافة لأمره عليه السلام بالمراجعة فلو لم يقع لم تكن رجعة وزعم أن المراد الرجعة اللغوية وهي الرد إلى حالها الأول غلط لأن الحمل على الحقيقة الشرعية مقدم على اللغوية كما تقرر في الأصول ولأن ابن عمر صرح بأنه حسبها عليه طلقة اه
وقد روى الدارقطني فقال عمر يا رسول الله أفيحتسب بتلك الطلقة قال نعم فهذا نص في موضع النزاع فيجب المصير إليه
وما في مسلم عن أبي الزبير عن ابن عمر فقال ليراجعها فردها وقال إذا طهرت فليطلق أو يمسك وزاد النسائي وأبو داود فيه ولم يرها أعله أبو داود فقال روى هذا الحديث عن ابن عمر جماعة وأحاديثهم كلهم على خلاف ما قال أبو الزبير وقال ابن عبد البر لم يقلها غير أبي الزبير وليس بحجة فيما خالفه فيه مثله فكيف بمن هو أثبت منه وقال الخطابي لم يرو أبو الزبير حديثا أنكر من هذا
وقال الشافعي نافع أثبت من أبي الزبير والأثبت أولى أن يؤخذ به إذا تخالفا وقد وافق نافعا غيره من أهل التثبت وحمل قوله لم يرها شيئا على أنه لم يعدها شيئا صوابا فهو كما يقال للرجل إذا أخطأ في فعله أو في جوابه لم يصنع شيئا أي شيئا صوابا
وقال الخطابي لم يرها شيئا تحرم معه المراجعة وقد تابع أبا الزبير عبد الله بن مالك عن ابن عمر أنه طلق امرأته وهي حائض فقال ليس ذلك بشيء رواه سعيد بن منصور وهو قابل للتأويل وهو أولى من تغليط بعض الثقات
قال ابن دقيق العيد ويتعلق بالحديث مسألة أصولية وهي أن الأمر بالأمر بالشيء هل هو أمر بذلك الشيء أم لا فإنه قال لعمر مره فأمره بأمره وأطال في فتح الباري الكلام في هذه المسألة والحاصل أن الخطاب إذا توجه لمكلف أن يأمر مكلفا آخر بفعل شيء فالمكلف الأول مبلغ محض والثاني مأمور من قبل الشرع كما هنا وإن توجه من الشارع أن يأمر غير مكلف كحديث مروا أولادكم بالصلاة لسبع لم يكن الأمر بالشيء أمرا بالشيء لأن الأولاد غير مكلفين فلا يتجه عليهم الوجوه وإن توجه الخطاب من غير الشارع بأمر من له عليه الأمر أن يأمر من لا أمر للأول عليه لم يكن الآمر بالشيء آمرا بالشيء أيضا بل هو متعد بأمره للأول أن يأمر الثاني وفي الحديث فوائد غيرما ذكر
وأخرجه البخاري عن إسماعيل ومسلم عن يحيى كلاهما عن مالك به وتابعه الليث وعبيد الله بن عمر عند مسلم كلاهما عن نافع وتابعه سالم عن ابن عمر في الصحيحين وله طرق أخرى فيهما وفي غيرهما
( مالك عن ابن شهاب عن عروة بن الزبير عن عائشة أم المؤمنين أنها انتقلت ) أي نقلت ( حفصة ابنة ) شقيقها ( عبد الرحمن بن أبي بكر الصديق ) لما طلقها المنذر بن الزبير بن العوام ( حين
____________________
(3/261)
دخلت في الدم من الحيضة الثالثة ) لتمام عدتها إذ الأقراء الأطهار كما دل عليه حديث ابن عمر ( قال ابن شهاب فذكر ذلك لعمرة بنت عبد الرحمن ) الأنصارية أحد المكثرين عن عائشة ( فقالت صدق عروة ) فيما روى عن عائشة ( وقد جادلها ) خاصمها بشدة ( في ذلك ناس فقال إن الله تبارك وتعالى يقول في كتابه ) والمطلقات يتربصن بأنفسهن ( ثلاثة قروء ) تمضي من حين الطلاق جمع قرء بفتح القاف ( فقالت صدقتم ) في أنه قاله ولكن ( تدرون ) بحذف همزة الاستفهام أي أتعلمون ( ما الأقراء ) جمع قرء بالضم مثل قفل وأقفال ( إنما الأقراء الأطهار ) قال أبو عمر لم تختلف العلماء ولا الفقهاء أن القرء لغة يقع على الطهر والحيضة إنما اختلفوا في المراد في الآية فقال جمهور أهل المدينة الأطهار وقال العراقيون الحيض وحديث ابن عمر يدل للأول لقوله ثم تحيض ثم تطهر ثم إن شاء طلق قبل أن يمس فتلك العدة التي أمر الله فأخبر أن الطلاق للعدة لا يكون إلا في طهر فهو بيان لقوله تعالى { فطلقوهن لعدتهن } الطلاق 1 وقرىء لقبل عدتهن أي لاستقبالها ونهى عن الطلاق في الحيض لأنها لا تستقبل العدة في تلك الحيضة عند الجميع والقول بأن القرء مأخوذ من قرأت الماء في الحوض ليس بشيء لأن القرء مهموز وهذا ليس بمهموز
وقال الأصمعي أصل القرء الوقت يقال أقرأت النجوم إذا طلعت لوقتها
وقال عياض اختلف السلف ومن بعدهم من العلماء واللغويين في معنى الآية هل هو الحيض أو الطهر أو مشترك فتكون حقيقة فيهما أو حقيقة في الحيض مجاز في الطهر أو المراد به الانتقال من حال إلى حال دون كونه اسما للطهر أو الحيض فمعنى ثلاثة قروء ثلاث انتقالات وإذا علم ما هو مشتق منه اتضح فقيل من الوقت فيحتمل الأمرين وقيل من الجمع فهو ظاهر في الأطهار وقيل من الانتقال من حال إلى حال فيكون ظاهرا في الطهر والحيض جميعا لكن الثلاث انتقالات إنما تستقيم بالانتقال من الطهر إلى الحيض لا عكسه لأن الطلاق في الحيض لا يجوز ويعضده أن براءة الرحم إنما تعرف بالانتقال من الطهر إلى الحيض ولذا كان استبراء الإماء بالحيض لأن مجيئه غالبا دليل على براءة الرحم ولا يدل مجيء الطهر على براءته إذ قد تحمل في آخر حيضها فكانت الثلاث في الحرائر كالواحدة في استبراء الإماء إلا ما حكاه القاضي إسماعيل عن أبي عبيدة وهذا اختيار الطبري والشافعي ومحققي أصحابنا المتأخرين وهو حسن دقيق
( مالك عن ابن شهاب أنه قال سمعت أبا بكر بن عبد الرحمن يقول ما أدركت أحدا من فقهائنا
____________________
(3/262)
إلا وهو يقول هذا ) وفي نسخة ذلك ( يريد قول عائشة ) إنما الأقراء الأطهار ولا يرد عليه قوله فتلك العدة إذ لو أراد الأطهار لقال فذلك كما زعم المخالف لأنه أنث باعتبار الحالة أو العدة
( مالك عن نافع ) مولى ابن عمر ( وزيد بن أسلم ) مولى عمر ( عن سليمان بن يسار أن الأحوص ) بالحاء والصاد المهملتين ابن عبد بن أمية بن عبد شمس بن عبد مناف ذكر ابن الكلبي والبلاذري أنه كان عاملا لمعاوية على البحرين وسعى لمروان بن الحكم في قصة جرت له ومقتضاه أن يكون له صحبة وأنه عمر لأن أباه مات كافرا ومن ولده منصور بن عبد الله بن الأحوص له ذكر بالشام في أيام بني مروان وكان ابنه عبد الله عاملا أيضا لمعاوية على بعض الشام
وفي رواية ابن عيينة عن الزهري عن سليمان بن يسار أن الأحوص بن فلان أو فلان بن الأحوص قال ابن الحذاء الأقوى أن القصة للأحوص وهو ابن عبد ويحتمل أن يكون لولده عبد الله ولم يسم في رواية الزهري قاله في الإصابة لكن هذا الاحتمال إنما هو على رواية الزهري لا الموطأ لقوله الأحوص ( هلك ) مات ( بالشام حين دخلت امرأته في الدم من الحيضة الثالثة وقد كان طلقها ) زاد في رواية ابن أبي شيبة طلقة أو تطليقتين
( فكتب معاوية بن أبي سفيان ) صخر بن حرب زاد ابن أبي شيبة فسأل عنها فضالة بن عبيد ومن هناك من الصحابة فلم يجد عندهم فيها علما فبعث راكبا ( إلى زيد بن ثابت يسأله عن ذلك فكتب إليه زيد أنها إذا دخلت في الدم من الحيضة الثالثة فقد برئت منه وبرىء منها ) مثل سلم وزنا ومعنى أي انقطعت العلاقة بينهما ( ولا ترثه ولا يرثها ) لو كانت هي الميتة ففي هذا أيضا أن الأقراء الأطهار
( مالك أنه بلغه عن القاسم بن محمد وسالم بن عبد الله وأبي بكر بن عبد الرحمن وسليمان بن يسار ) والأربعة من فقهاء المدينة السبعة أو العشرة ( وابن شهاب أنهم كانوا يقولون إذا دخلت المطلقة في الدم من الحيضة الثالثة فقد بانت من زوجها ولا ميراث بينهما ولا رجعة له عليها ) لأن الأقراء الأطهار
( مالك عن نافع أن عبد الله بن عمر كان يقول إذا طلق الرجل امرأته فدخلت في الدم من
____________________
(3/263)
الحيضة الثالثة فقد برئت منه وبرىء منها ) فلا إرث ولا رجعة ( قال مالك وهو الأمر عندنا ) بالمدينة وقال به جمع كثير من الصحابة والتابعين والشافعي وذهب جمع من الصحابة والتابعين وأبو حنيفة إلى أن الأقراء الحيض وعن أحمد القولان واحتجوا بأنه يلزم القائلين بأنها الأطهار مخالفة القرآن لاعتدادها عندهم بطهر الطلاق وإن قل فيكون عدتها قرأين ونصف والله تعالى جعلها ثلاثة وإذا كانت الحيض كانت ثلاثة قروء كاملة لحرمة الطلاق في الحيض وحمل هذا الاعتراض ابن شهاب على أن قال الطهر الذي يقع فيه الطلاق لا يعتد به وهو مذهب انفرد به دون جميع من قال الأقراء الأطهار وأجاب بعض أصحابنا بأن القرء هو الانتقال من حال إلى حال فما بقي من الطهر الذي وقع فيه الطلاق فيه الانتقال من حال إلى حال فإنما وقعت العدة بثلاثة أطهار كاملة وأجاب غيره بأنه لا يبعد تسمية اثنين وبعض الثالث ثلاثة قال تعالى { الحج أشهر معلومات } سورة البقرة الآية 197 وما الحج إلا شهران وعشرة أيام قاله المازري
( مالك عن الفضيل ) بضم الفاء مصغر ( ابن أبي عبد الله ) المدني الثقة ( مولى المهري ) بفتح الميم وسكون الهاء ( أن القاسم بن محمد وسالم بن عبد الله كانا يقولان إذا طلقت المرأة فدخلت في الدم من الحيضة الثالثة فقد بانت منه وحلت ) لمن يتزوجها لأن الأقراء الأطهار واحتج بعضهم بقوله { ثلاثة قروء } سورة البقرة الآية 228 إذ لو أريد الحيض لقال ثلاث بلا تاء لأنها تحذف من المؤنث وتدخل مع المذكر وغلطه المازري بأن العرب تراعي في العدد اللفظ مرة كقولهم ثلاثة منازل والمعنى أخرى كقول عمر بن أبي ربيعة فكان مجني دون ما كنت أتقي ثلاث شخوص كأعيان وجؤذر فأنث على معنى الشخوص وأكثر الإمام من هذه الآثار تقوية لمذهبه أنها الأطهار واحتجاج القائل بأنها الحيض قال به نحو خمسة عشر من الصحابة معارض بقول عائشة وغيرها من الصحابة أنها الأقراء وعائشة مقدمة في الفقه لا سيما في أحوال النساء
( مالك أنه بلغه عن سعيد بن المسيب وابن شهاب وسليمان بن يسار أنهم كانوا يقولون عدة المختلعة ثلاثة قروء ) لأن الخلع طلاق فدخل في الآية
____________________
(3/264)
( مالك أنه سمع ابن شهاب يقول عدة المطلقة الأقراء وإن تباعدت ) لإطلاق الآية
( مالك عن يحيى بن سعيد عن رجل من الأنصار ) يحتمل أنه زوج الربيع بنت معوذ وأنه غيره ( أن امرأته سألته الطلاق فقال لها إذا حضت فآذنيني ) بالمد أعلميني ( فلما حاضت آذنته فقال إذا طهرت فآذنيني فلما طهرت آذنته فطلقها قال مالك وهذا أحسن ما سمعت في ذلك ) أي طلاقها في طهر لم يمس فيه لموافقته لحديث ابن عمر
22 عدة المرأة في بيتها إذا طلقت فيه ( مالك عن يحيى بن سعيد ) الأنصاري ( عن القاسم بن محمد ) بن الصديق ( وسليمان بن يسار ) بتحتية ومهملة خفيفة ( أنه ) أي يحيى ( سمعهما ) القاسم وسليمان ( يذكران أن يحيى بن سعيد بن العاصي ) الأموي أخا عمرو الأشدق تابعي ثقة مات في حدود الثمانين ( طلق ابنة عبد الرحمن بن الحكم ) ابن العاصي أخي مروان قال في المقدمة هي عمرة فيما أظن ( البتة فانتقلها ) أي نقلها أبوها ( عبد الرحمن ابن الحكم فأرسلت عائشة أم المؤمنين إلى مروان بن الحكم ) عم المطلقة ( وهو يومئذ أمير المدينة ) من جهة معاوية ( فقالت اتق الله ) يا مروان ( واردد المرأة إلى بيتها ) تعتد فيه ( فقال مروان ) مجيبا لعائشة ( في حديث سليمان ) بن يسار ( إن عبد الرحمن غلبني ) فلم أقدر على منعها ( وقال مروان في حديث القاسم ) مجيبا لعائشة أيضا ( أو ما بلغك شأن فاطمة بنت قيس ) حيث لم تعتد
____________________
(3/265)
في بيت زوجها وانتقلت إلى غيره ( فقالت عائشة ) لمروان ( لا يضرك أن لا تذكر حديث فاطمة ) لأنه لا حجة فيه للتعميم لأنه كان لعلة ويجوز انتقال المطلقة من منزلها بسبب
وفي البخاري عابت عائشة أي على فاطمة بنت قيس أشد العيب وقالت إن فاطمة كانت في مكان وحش فخيف على ناحيتها فلذلك أرخص له النبي صلى الله عليه وسلم في الانتقال
وفي النسائي عن سعيد بن المسيب أنها كانت لسنة
ولأبي داود عن سليمان بن يسار إنما كان ذلك من سوء الخلق
( فقال مروان ) لعائشة ( إن كان بك الشر ) أي إن كان عندك أن سبب خروج فاطمة بنت قيس ما وقع بينها وبين أقارب زوجها من الشر ( فحسبك ) أي يكفيك في جواز انتقال عمرة ( ما بين هذين ) عمرة ويحيى بن سعيد ( من الشر ) المجوز للانتقال وهذا أخرجه البخاري عن إسماعيل عن مالك به
( مالك عن نافع أن بنت سعيد بن زيد بن عمرو ) بفتح العين ( ابن نفيل ) بضم النون وفتح الفاء العدوي أحد العشرة ( كانت تحت عبد الله بن عمرو بن عثمان بن عفان ) الأموي لقبه المطرف بسكون الطاء المهملة وفتح الراء ثقة مات بمصر سنة ست وتسعين ( فطلقها البتة فانتقلت ) من بيتها ( فأنكر ذلك ) الانتقال ( عليها عبد الله بن عمر ) لمخالفة القرآن
( مالك عن نافع أن عبد الله بن عمر طلق امرأة له في مسكن حفصة ) أخته زوج النبي صلى الله عليه وسلم وكان طريقه إلى المسجد فكان يسلك الطريق الأخرى من أدبار البيوت كراهية بخفة الياء ( أن يستأذن عليها ) من شدة ورعه ( حتى راجعها ) لعصمته
( مالك عن يحيى بن سعيد أن سعيد بن المسيب سئل عن المرأة يطلقها زوجها وهي في بيت بكراء على من الكراء ) في مدة العدة ( فقال سعيد على زوجها قال ) السائل ( فإن لم يكن عند زوجها )
____________________
(3/266)
شيء للكراء ( قال ) سعيد ( فعليها قال فإن لم يكن عندها قال فعلى الأمير ) من بيت المال
23 ما جاء في نفقة المطلقة ( مالك عن عبد الله بن يزيد ) بتحتية فزاي المخزومي المدني الأعور الثقة المتوفى سنة ثمان وأربعين ومائة ( مولى الأسود بن سفيان ) الصحابي ( عن أبي سلمة بن عبد الرحمن بن عوف ) القرشي الزهري إسماعيل أو عبد الله أو اسمه كنيته ( عن فاطمة بنت قيس ) بن خالد القرشية الفهرية أخت الضحاك بن قيس وكانت أسن منه يقال بعشر سنين كانت من المهاجرات الأول ذات جمال وعقل وفي بيتها اجتمع أهل الشورى لما قتل عمر قدمت على أخيها الكوفة وهو أميرها فروى عنها الشعبي قصة الجساسة بطولها فانفردت بها مطولة وتابعها جابر وغيره ( أن أبا عمرو ) بفتح العين ( ابن حفص ) ابن المغيرة بن عبد الله بن عمر بن مخزوم القرشي المخزومي الصحابي سكن المدينة قال النسائي اسمه أحمد وقال الأكثر عبد الحميد قال عياض وهو الأشهر وقيل اسمه كنيته وأمه درة بنت خزاعي الثقفية خرج مع علي إلى اليمن في العهد النبوي فمات هناك ويقال بل رجع إلى أن شهد فتوح الشام
وفي النسائي عن ناشرة بن سمي سمعت عمر يقول إني أعتذر لكم من عزل خالد بن الوليد فقال أبو عمرو بن حفص عزلت عنا غلاما استعمله رسول الله ثم قوله أبا عمرو بن حفص هكذا رواه مالك وابن شهاب وغيرهما وقلبه بعض الرواة فقال إن أبا حفص بن عمرو وبعضهم قال أبا حفص بن المغيرة قال العلماء والمحفوظ الأول ( طلقها ) قال عياض كذا الصحيح عند الجميع طلقها وإن اختلفوا في صفته هل البتة أو الثلاث أو آخرة الثلاث وما يوهمه بعض الروايات أنه مات عنها مؤول ( البتة ) قال في المفهم يعني بها آخرة الثلاث تطليقات كما جاء مفسرا في الرواية الأخرى يعني في مسلم من طريق ابن شهاب عن أبي سلمة عن فاطمة أن أبا عمرو طلقها آخر ثلاث تطليقات قال وليس المراد أنه طلق بلفظ البتة وإنما سمى آخرة الثلاث البتة لأنها طلقة بنت العصمة حتى لم تبق منها شيئا ولما كملت هذه الطلقة الثلاثة عبر عنها في بعض الروايات بالثلاث يعني رواية مسلم من طريق الشعبي عنها قالت طلقني بعلي ثلاثا
قال والرواية المفسرة قاضية على غيرها وهي الصحيحة ( وهو غائب بالشام ) كذا ليحيى وسقط عند النيسابوري وغيره بالشام
وفي مسلم من طريق ابن شهاب عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة أن أبا عمرو بن حفص بن المغيرة خرج مع علي بن أبي طالب إلى اليمن فأرسل إلى فاطمة بنت قيس بتطليقة كانت بقيت من
____________________
(3/267)
طلاقها ( فأرسل إليها وكيله بشعير ) بالرفع فاعل لأنه المرسل كذا قال السيوطي تبعا للنووي
وفي مسلم من طريق أبي بكر بن الجهم سمعت فاطمة بنت قيس تقول أرسل إلي زوجي أبو عمرو عياش بن أبي ربيعة بطلاق وأرسل معه بخمسة آصع من تمر وخمسة آصع من شعير فقلت أما لي نفقة إلا هذا ولا أعتد في منزلكم قال لا وصريح هذا أن وكيله بالنصب مفعول فاعله يعود على الزوج
قال القرطبي فيه العمل بالوكالة وشهرتها عندهم وكان إرسال هذا الشعير متعة فحسبتها هي النفقة الواجبة عليه ( فسخطته ) ورأت أنها تستحق أكثر فأخبرها الوكيل بالحكم ( فقال والله ما لك علينا من شيء ) فلم تقبل ذلك منه فشدت عليها ثيابها ( فجاءت رسول الله ) وفي نسخة إلى رسول الله ( فذكرت ذلك له فقال ) وفي رواية لمسلم فقال كم طلقك فقلت ثلاثا قال صدق ( ليس لك عليه نفقة ) لأنك بائن ولا حمل بك ( وأمرها أن تعتد في بيت أم شريك ) القرشية العامرية وقيل الأنصارية اسمها غزية وقيل غزيلة بغين معجمة مضمومة فيهما ثم زاي فيهما وتحتية ولام على الثاني
وذكرها بعضهم في أزواجه ( ثم قال تلك امرأة يغشاها أصحابي ) أي يلمون بها ويردون عليها ويزورونها لصلاحها وكانت كثيرة المعروف والنفقة في سبيل الله والتضييف للغرباء من المهاجرين وغيرهم وفيه جواز نظر الفجأة إذ لا يؤمن ذلك من تكررهم إليها ومنع المرأة من التعرض لموضع يشق عليها فيه التحرز ممن ينظر إليها لأنها لو أقامت لشق عليها التحفظ لكثرة تكررهم إليها وطول إقامتهم وحديثهم عندها قاله عياض
( اعتدي عند عبد الله بن أم مكتوم ) القرشي العامري أسلم قديما والأشهر في اسم أبيه قيس بن زائدة واسم أمه عاتكة بنت عبد الله المخزومية وكان اسمه عمرا وقيل الحصين فسماه النبي عبد الله ولا يمتنع أنه كان له اسمان شهد القادسية في زمن عمر استشهد بها وقيل رجع إلى المدينة فمات بها
( فإنه رجل أعمى تضعين ثيابك عنده ) ولا يراك
وفي مسلم من وجه آخر عن أبي سلمة عنها عنه فإنك إذا وضعت خمارك لم يرك وأخذ منه جواز نظر المرأة من الرجل ما لا يجوز أن ينظر منها كرأسها وموضع الخصر منها وعورض بما رواه أبو داود والترمذي وحسنه عن نبهان عن أم سلمة أنه قال لها ولميمونة وقد دخل عليهما ابن أم مكتوم احتجبا منه فقالتا إنه أعمى فقال أفعمياوان أنتما ألستما تبصرانه وأجاب عياض بأنه تغليظ على أزواجه في الحجاب لحرمتهن فكما غلظ الحجاب على الرجال فيهن غلظ عليهن أن ينظرن إلى الرجال ولا خلاف أن على المرأة أن تغض بصرها كما على الرجل غضه كما نص الله وإنما خص ابن أم مكتوم بذلك لأنه لا يدري ما ينكشف منها ألا ترى قوله تضعين ثيابك وإذا وضعت خمارك لم يرك فلا يخشى لعماه ما يخشى من غيره من النظر لتردده للمجاورة والملازمة ولما عليها من المشقة في التحرز من النظر إليها وإلى هذا أشار أبو داود وغيره
____________________
(3/268)
قال الزواوي ويحتمل أنه أباح لها الاعتداد عند ابن أم مكتوم لضرورتها إلى ذلك ولا ضرورة بأزواجه في النظر إليه مع أن قوله تعالى { يا نساء النبي لستن كأحد من النساء } الأحزاب 32 يدل على صحة ما قاله أبو داود ومن وافقه
( فإذا حللت فآذنيني ) بمد الهمزة أعلميني
وفي رواية لمسلم لا تفوتيني بنفسك وفي أخرى له وأرسل إليها أن لا تسبقيني بنفسك قيل فيه جواز التعريض واستبعده عياض بأنه ليس في قوله آذنيني ولا تسبقيني بنفسك غير أمرها بالتربص دون تسمية زوج والتعريض إنما هو من الزوج أو نائبه أما المجهول فلا تعريض فيه ولا مواعدة ولو أن الولي أو أجنبيا قال لها إذا حللت زوجتك أو لا تتزوجي أحدا حتى تشاوريني لم يكن تعريضا ولا مواعدة في العدة ولكن الحديث حجة في منع التعريض والمواعدة والخطبة في العدة إذ لم يفعل شيئا من ذلك ورده الزواوي والأبي بأن الله قد أباح التعريض في القرآن قال الزواوي والترك لا يدل على المنع لأنه قد يكون لا لمعنى من المعاني أو لعدم الحاجة إليه في ذلك الوقت أو لمعنى عادي أو طبعي
وقال ابن عبد البر كره جماعة أن يقول لا تفوتيني بنفسك والحديث يرد عليه ونظر فيه الأبي بأنه كره هذا من الخاطب لنفسه أو لمن وكله ولم يكن خاطبا لنفسه ولا لغيره
( قالت فلما حللت ذكرت له أن معاوية بن أبي سفيان ) صخر بن حرب الأموي والقول بأنه غيره قال النووي غلط صريح ( وأبا جهم ) بفتح الجيم مكبر على المعروف ولا ينكر فيه التصغير واسمه حذيفة القرشي العدوي وهو صاحب الانبجانية وذكره الناس كلهم ولم ينسبوه إلا يحيى الأندلسي فقال ( ابن هشام ) وهو غلط ولا يعرف في الصحابة أحد يقال له أبو جهم بن هشام ولم يوافق يحيى على ذلك أحد من رواة الموطأ ولا غيرهم قاله عياض كابن عبد البر إلا أنه قال اسمه عامر بن حذيفة بن غانم العدوي ويقال اسمه عبيد بن حذيفة قال وفي رواية ابن القاسم ابن هشام كرواية يحيى ( خطباني ) وفي رواية لمسلم فخطبني خطاب منهم معاوية وأبو جهم ( قال رسول الله أما أبو جهم فلا يضع عصاه عن عاتقه ) بفوقية فقاف ما بين المنكب والعنق أي أنه كثير الأسفار أو كثير الضرب للنساء ورجحه النووي والقرطبي لقوله في رواية لمسلم أما أبو جهم فرجل ضراب للنساء وفي أخرى له وأبو الجهم فيه شدة على النساء أو يضرب النساء أو نحو هذا وفيه جواز ضربهن لإخباره عنه بهذه الصفة ولم ينهه فلعله كان يؤدبهن فيما أمر الله به وضربهن اليسير للأدب جائز لأنه إنما ذمه بكثرته وتركه أفضل لأنه خلقه ولا خلاف في ضربهن كما أمر الله به للنشوز ومنع الاستمتاع ولا خلاف أن الإفراط ومجاوزة الحد في أدبهن ممنوع والمداومة عليه مكروهة وقد نهى عن ذلك في حديث آخر إذ ليس من مكارم الأخلاق وفيه جواز المبالغة في الكلام واستعمال المجاز وأنها ليست كذبا ولا توجب الحنث في الأيمان للعلم بأنه كان يضع العصا عن عاتقه في حال نومه وأكله وغيرهما ولكنه لما كثر حمله للعصا أطلق عليه هذا اللفظ مجازا قاله عياض وغيره
____________________
(3/269)
( وأما معاوية فصعلوك ) بضم المهملة فقير ( لا مال له ) وفي رواية لمسلم إن معاوية ترب خفيف الحال بالفوقية والراء أي فقير يقال رجل ترب أي فقير وفيه مراعاة المال لا سيما في الزوج لأن به يقوم بحقوق المرأة وجواز عيوب الرجل لضرورة الاستشارة
( انكحي أسامة بن زيد ) الحب ابن الحب الصحابي ابن الصحابي الخليق كل منهما للامارة بالنص النبوي قال عياض فيه إشارة المستشار بغير من استشير فيه قيل وجواز الخطبة على الخطبة إذا لم تكن مراكنة ونكاح من ليس بكفء لأن أسامة مولى وهي قرشية اه
ويرد على قوله بغير من استشير فيه رواية مسلم من وجه آخر فخطبها معاوية وأبو جهم وأسامة فقال أما معاوية فرجل ترب لا مال له وأما أبو جهم فرجل ضراب للنساء ولكن أسامة ( قالت فكرهته ) لشدة سواده ولأنه مولى ولمسلم فقالت بيدها هكذا أسامة أسامة ( ثم قال انكحي أسامة بن زيد ) ولمسلم فقال لها طاعة الله وطاعة رسوله خير لك ( فنكحته فجعل الله في ذلك خيرا واغتبطت به ) بغين معجمة وفتح الفوقية والموحدة أي حصل لي منه ما قرت عيني به وما يغبط فيه ويتمنى لقبولي نصيحة سيد أهل الفضل وانقيادي لإشارته فكانت عاقبته حميدة
وفي رواية لمسلم فتزوجته فشرفني الله بابن زيد وكرمني الله بابن زيد وفي الحديث أن البائن الحائل لا نفقة لها كقوله تعالى { وإن كن أولات حمل فأنفقوا عليهن حتى يضعن حملهن } الطلاق 6 فمفهومه لو لم يكن حاملات فلا نفقة لانتفاء شرطها وهو نص الحديث وإليه ذهب مالك والشافعي ولها السكنى عندهما لقوله تعالى { لا تخرجوهن من بيوتهن ولا يخرجن } الطلاق 1 وقال ابن عباس وأحمد لا نفقة لها ولا سكنى لقوله لفاطمة بنت قيس في بعض طرق الحديث في مسلم لا نفقة ولا سكنى ولنقلها إلى بيت ابن أم مكتوم
وقال عمر وأبو حنيفة لها السكنى والنفقة لأنها محبوسة بسببه ولقوله تعالى { أسكنوهن } الطلاق 6 فتجب النفقة قياسا على السكنى وقد قال عمر لا نترك كتاب الله وسنة نبينا لقول امرأة لا ندري حفظت أو نسيت لها السكنى والنفقة قال تعالى { لا تخرجوهن من بيوتهن ولا يخرجن إلا أن يأتين بفاحشة مبينة } سورة البطلاق الآية 6 أخرجه مسلم
قال الدارقطني قوله سنة نبينا غير محفوظ لم يذكرها جماعة من الثقات قال إسماعيل القاضي الذي في كتاب ربنا إنما هو النفقة لأولات الحمل وبحسب الحديث لها السكنى لأنها موجودة في كتاب الله في قوله { أسكنوهن } الآية فلا حجة لأهل الكوفة في قول عمر والنفقة انتهى
وقد أجيب عن قولهم أنها محبوسة بسببه بأن حبسها صيانة للنسب لا للزوج إذ لو كان له لكان له إسقاطه وليس له ذلك
وعن القياس على السكنى بالفرق بأن النفقة سببها التمكين وهو منتف والسكنى سببها الحبس عن التصرف وهو موجود وإنما نقل صلى الله تعالى عليه وعلى آله وسلم فاطمة لأن مكانها كان وحشا يخاف عليها منه كما في حديث عائشة عند البخاري وفي مسلم عن فاطمة نفسها قلت يا رسول الله زوجي طلقني ثلاثا وأخاف أن يقتحم علي فأمرها فتحولت وقال ابن
____________________
(3/270)
المسيب لأنها كانت لسنة استطالت على أحمائها بلسانها فأمرها بالانتقال عنهم وقيل لأن البيت لم يكن لزوجها ولو سقطت السكنى لم يقصرها عليه السلام على بيت معين قال في المفهم الأولى التعليل الأول بأنها خافت عورة المنزل ويكون فيه دليل على أن المعتدة تنتقل لذلك وأما تعليل ابن المسيب فلا ينبغي أن يقال فيمن رغب الصحابة في زواجها واختاره المصطفى لحبه وابن حبه إذ لو كان كذلك لم يرغبوا فيها ولا اختارها لأسامة حسب ابن المسيب قوله تلك امرأة لسنة أي سيئة اللسان وأنها كانت سلطة وأنها استطالت بلسانها على أحمائها فأمرها أن تنتقل وأن هذا الخشن من القول وبينها وبينه موقف بين يدي الله تعالى كذا قال وقد استطال على ابن المسيب وهو لا يقول ذلك بالظن ولم ينفرد به بل وافقه سليمان بن يسار عند أبي داود بل في بعض طرق الحديث أن عائشة قالت لفاطمة أخرجك هذا اللسان وقد ترجم البخاري حكم المرأة المطلقة إذا خشي عليها في مسكن زوجها أن يقتحم أو تبذو على أهله وأورد فيه أن عائشة أنكرت ذلك أي عدم السكنى قال الحافظ أخذ البخاري الترجمة من مجموع ما ورد في قصة فاطمة فرتب الجواز على أحد الأمرين إما خشية الاقتحام عليها وإما أن يقع منها على أهل مطلقها فحش في القول ولم ير أن بينهما معارضة لاحتمال وقوعهما معا في شأنها اه
وقد تقدم قول مروان لعائشة إن كان بك الشر وأن معناه إن كان سبب خروجها ما وقع بينها وبين أقارب زوجها من الشر نعم ليس المراد باستطالتها السب ولا الشتم بل كثرة الكلام وعدم المسامحة ولا ينافي ذلك رغبة الصحابة في زواجها لأنه لدينها وجمالها ونسبها وسابقتها للإسلام وفي ذلك كانوا يرغبون وهذا الحديث رواه مسلم عن يحيى وأبو داود عن القعنبي كلاهما عن مالك به وتابعه إسماعيل بن جعفر عن عبد الله بن يزيد به عند أبي داود وتابعه في شيخه أبو حازم ومحمد بن عمرو ويحيى بن أبي كثير والزهري وغيرهم عن أبي سلمة بنحوه وبعضهم يزيد على بعض في الحديث عند مسلم وغيره
( مالك أنه سمع ابن شهاب يقول المبتوتة لا تخرج من بيتها حتى تحل ) بانقضاء العدة لنص الآية ( وليست لها نفقة إلا أن تكون حاملا فينفق عليها حتى تضع حملها ) لقوله تعالى { وإن كن أولات حمل فأنفقوا عليهن حتى يضعن حملهن } سورة الطلاق الآية 6 ودليل خطابه لا نفقة إن لم تكن حاملا وهو نص حديث فاطمة
( قال مالك وهذا الأمر عندنا ) بالمدينة
وفي مسلم أن مروان أرسل إلى فاطمة قبيصة بن ذؤيب يسألها عن الحديث فحدثته به فقال مروان لم يسمع هذا الحديث إلا من امرأة سنأخذ بالعصمة التي وجد الناس عليها فقالت فاطمة بيني وبينكم كتاب الله قال تعالى { لا تخرجوهن من بيوتهن }
____________________
(3/271)
الآية ( الطلاق 1 ) قالت هذا لمن كانت له مراجعة فأي أمر يحدث بعد الثلاث فكيف تقولون لا نفقة لها إذا لم تكن حاملا فعلام تحبسونها أي سنأخذ بالأمر الذي اعتصم الناس به وعملوا عليه وروي بالقضية وله معنى متجه والصواب الأول ولا حجة لها في قولها أن الآية في الرجعية لأنها في المطلقات رجعية أو غيرها وقوله لا تدري لعل الله يحدث بعد ذلك أمرا ليس فيه حجة لأن هذه العلة لم تأت للإخراج وإنما جاءت للنهي عن تعدي حدود الله في الزيادة في الطلاق على واحدة قاله عياض
قال الزواوي وفيه تقديم عمل أهل المدينة على خبر الآحاد لأنه جعل ما وجد عليه الناس عصمة وحجة رد بها خبر فاطمة أي فهمها إياه على العموم لأن إخراجها كان لعلة ولذا قالت عائشة ما لفاطمة بنت قيس خير أن نذكر هذا الحديث رواه مسلم وغيره
24 عدة الأمة من طلاق زوجها ( قال مالك الأمر عندنا في طلاق العبد ) وكذا الحر ( الأمة إذا طلقها وهي أمة ثم عتقت بعد ) بالضم أي بعد الطلاق ( فعدتها عدة الأمة لا يغير عدتها ) بالنصب مفعول فاعله ( عتقها ) سواء ( كانت له عليها رجعة أو لم يكن له عليها رجعة لا تنتقل عدتها ) لعدة الحرة بالعتق ( ومثل ذلك الحد يقع على العبد ثم تعتق بعد أن يقع عليه الحد ) أي يلزمه ( فإنما حده حد عبد ) نصف حد الحر للزومه له حال العبودية فلا ينقله عتقه ( والحر يطلق الأمة ثلاثا وتعتد حيضتين ) لأن زواج الحر لها لا ينقلها لحكم الحرائر ( والعبد يطلق الحرة تطليقتين وتعتد ثلاثة قروء ) فكل على حكمه ( والرجل يكون تحته الأمة ) أي متزوجا بها ( ثم يبتاعها ثم يعتقها أنها تعتد عدة الأمة حيضتين ) لأن فسخ النكاح صادفها وهي أمة فلم ينقلها العتق بعده لعدة الحرة ( ما لم يصبها ) يجامعها ( فإن أصابها بعد ملكه إياها قبل عتاقها ) انهدمت عدتها لفسخ النكاح بالملك فإذا أعتقها ( لم يكن له عليها إلا الاستبراء بحيضة ) واحدة عند المدنيين
____________________
(3/272)
25 جامع عدة الطلاق ( مالك عن يحيى بن سعيد ) الأنصاري ( وعن يزيد ) بتحتية فزاي ( ابن عبد الله بن قسيط ) بقاف ومهملة مصغر ( الليثي ) المدني كلاهما ( عن سعيد بن المسيب أنه قال قال عمر بن الخطاب أيما امرأة طلقت فحاضت حيضة أو حيضتين ثم رفعتها حيضتها ) أي لم تأتها ( فإنها تنتظر تسعة أشهر ) إتيان الحيضة ( فإن بان ) ظهر ( بها حمل فذلك ) أي لا تحل إلا بوضعه كله ( وإلا اعتدت بعد التسعة ) الأشهر ثلاثة أشهر ثم حلت للزواج
( مالك عن يحيى بن سعيد عن سعيد بن المسيب أنه كان يقول الطلاق للرجال والعدة للنساء ) وهذا مما لا خلاف فيه
( مالك عن ابن شهاب عن سعيد بن المسيب أنه قال عدة المستحاضة سنة ) إن لم تميز بين الدمين بلا خلاف فإن ميزت فعدتها بالأقراء لا بالسنة على المشهور
وقول ابن القاسم وقال ابن وهب بالسنة مطلقا وهما روايتان عن مالك
( مالك الأمر عندنا في المطلقة التي ترفعها حيضتها حتى يطلقها زوجها أنها تنتظر تسعة أشهر ) كما قال عمر ( فإن لم تحض فيهن اعتدت ثلاثة أشهر ) بعد التسعة ( فإن حاضت قبل أن تستكمل الأشهر الثلاثة استقبلت الحيض ) لأنها صارت من ذوات القروء
( فإن مرت بها تسعة أشهر قبل أن تحيض ) حيضة ثانية ( اعتدت ثلاثة أشهر فإن حاضت الثانية قبل أن تستكمل الأشهر الثلاثة استقبلت الحيض فإن مرت بها تسعة أشهر قبل أن تحيض اعتدت ثلاثة أشهر
____________________
(3/273)
فإن حاضت الثالثة استكملت عدة الحيض ) وحلت ( فإن لم تحض استقبلت ثلاثة أشهر ثم حلت ) للزواج ( ولزوجها عليها في ذلك ) أي مدة الانتظار والاستقبال ( الرجعة قبل أن تحل ) لبقاء عدتها ( إلا أن يكون قد بت طلاقها ) فلا رجعة له ( مالك السنة عندنا أن الرجل إذا طلق امرأته وله عليها رجعة فاعتدت بعض عدتها ثم ارتجعها ثم فارقها قبل أن يمسها أنها لا تبني على ما مضى من عدتها ) لأن الرجعة تهدم العدة إذ الرجعة كالزوجة في العدة ( وأنها تستأنف من يوم طلقها عدة مستقبلة وقد ظلم زوجها نفسه وأخطأ ) في ذلك ( إن كان ارتجعها ولا حاجة له بها ) وقيده ابن القصار وتبعه جماعة بما إذا لم يرد برجعته التطويل عليها فتبني على عدتها الأولى إن لم يمسها ورده ابن عرفة بنص الموطأ هذا أي لأن قوله وقد ظلم نفسه يفيد أنه أثم وإنما يأثم إذا قصد الضرر وزعم أن معناه تحمل مشقة ارتجاعها حياء من أهلها ثم يبدو له فيطلقها ولا يلزم من عدم الحاجة الاضرار بخلاف عكسه بعيد متعسف
وقد روى ابن جرير عن ابن عباس كان الرجل يطلق امرأته ثم يراجعها قبل انقضاء عدتها ثم يطلقها يفعل ذلك يضارها ويعضلها فأنزل الله { وإذا طلقتم النساء فبلغن أجلهن فأمسكوهن بمعروف أو سرحوهن بمعروف ولا تمسكوهن ضرارا لتعتدوا ومن يفعل ذلك فقد ظلم نفسه } البقرة 231 الآية ففيه أن الرجعة تنفذ على هذا الوجه ويكون ظالما
وروى ابن جرير عن السدي قال نزلت في رجل من الأنصار يدعى ثابت بن يسار طلق امرأته حتى إذا انقضت عدتها إلا يومين أو ثلاث راجعها ثم طلقها مضارة فأنزل الله { ولا تمسكوهن ضرارا لتعتدوا } قال مالك والأمر عندنا أن المرأة إذا أسلمت وزوجها كافر ثم أسلم فهو أحق بها ما دامت في عدتها لما مر في النكاح أنه صلى الله عليه وسلم أقر صفوان بن أمية على امرأته فاختة بنت الوليد وبين إسلاميهما نحو شهر وأقر عكرمة بن أبي جهل على زوجته أم حكيم لإسلامه في عدتها ( فإن انقضت عدتها ) قبل إسلامه ( فلا سبيل له عليها وإن تزوجها بعد انقضاء عدتها ) بمهر وولي وشهود ( لم يعد ذلك طلاقا )
____________________
(3/274)
فتبقى معه على عصمة كاملة ( وإنما فسخها منه الإسلام بغير طلاق ) فإن كان طلقها ثم راجعها قبل الإسلام ثم أسلم بقيت عنده على تطليقتين قاله أبو عمر
26 ما جاء في الحكمين ( مالك أنه بلغه ) مما جاء في طرق ثابتة رواها عبد الرزاق وغيره عن عبيدة السلماني ( أن علي بن أبي طالب قال في الحكمين اللذين قال الله تبارك وتعالى وإن خفتم شقاق بينهما ) أصله شقاقا بينهما فأضيف الشقاق إلى الظرف على سبيل الاتساع كقوله تعالى { بل مكر الليل والنهار } سبإ 33 أصله بل مكر في الليل والشقاق العداوة والخلاف لأن كلا منهما يفعل ما يشق على صاحبه أو يميل إلى شق أي ناحية غير شق صاحبه والضمير للزوجين وإن لم يجر لهما ذكر لذكر ما يدل عليهما ( فابعثوا حكما من أهله ) رجلا يصلح للحكومة والإصلاح بينهما ( وحكما من أهلها ) لأن الأقارب أعرف ببواطن الأحوال وأطلب للصلاح ونفوس الزوجين أسكن إليهما فيبرزان ما في ضمائرهما من الحب والبغض وإرادة الصحبة والفرقة ويخلو كل حكم منهما بصاحبه ويفهم مراده ولا يخفى حكم عن حكم شيئا إذا اجتمعا ( إن يريدا ) أي الحكمان ( إصلاحا يوافق الله بينهما ) أي الزوجين أي يقدرهما على ما هو الطاعة من إصلاح أو فراق ( إن الله كان عليما ) بكل شيء ( خبيرا ) بالبواطن كالظواهر ( إن إليهما ) أي الحكمين ( الفرقة بينهما والاجتماع ) فيمضي على الزوجين ما اتفق الحكمان عليه
( قال مالك وذلك أحسن ما سمعت من أهل العلم إن الحكمين يجوز ) ينفذ ( قولهما بين الرجل وامرأته في الفرقة ) إذا اتفقا عليها ( والاجتماع ) كذلك بغير توكيل ولا إذن من الزوجين خلافا لمن قال وعليه الشافعي أن الزوج يوكل حكمه في الطلاق أو الخلع وتوكل هي حكمها في بذل العوض وقبول الطلاق به ويفرقان بينهما إن رأياه صوابا
____________________
(3/275)
27 في يمين الرجل بطلاق ما لم ينكح ( استعمل ما في العاقل على لغة مالك أنه بلغه أن عمر بن الخطاب ) الذي جعل الله الحق على لسانه وقلبه مما روي عنه بسند فيه ضعف وانقطاع لكنه يعتضد بما صح عنه من علق ظهار امرأة على تزوجها أنه لا يقربها حتى يكفر فيقاس عليه تعليق الطلاق أشار له أبو عمر ( وعبد الله بن عمر وعبد الله بن مسعود وسالم بن عبد الله ) بن عمر ( والقاسم بن محمد ) بن الصديق ( وابن شهاب ) الزهري ( وسليمان بن يسار ) المدني ( كانوا يقولون إذا حلف الرجل بطلاق المرأة ) المعينة ( قبل أن ينكحها ثم أثم ) أي حنث ( إن ذلك لازم له إذا نكحها ) من باب لزوم الطلاق المعلق وبه قال جماعة آخرون وهو المشهور عن مالك وقال الجمهور وأحمد والشافعي ومالك في رواية ابن وهب والمخزومي لا يقع
وقال أبو حنيفة وأصحابه يقع مطلقا لأن التعليق بالشرط يمين فلا تتوقف صحته على وجود ملك المحل كاليمين بالله تعالى والمسألة من الخلافيات الشهيرة
قال ابن عبد البر وروي أحاديث كثيرة في عدم الوقوع إلا أنها معلولة عند أهل الحديث ومنهم من يصحح بعضها وأحسنها ما رواه الترمذي وقاسم بن أصبغ مرفوعا لا طلاق إلا بعد نكاح ولأبي داود لا طلاق إلا فيما يملك قال البخاري وهو أصح شيء في الطلاق قبل النكاح
وأجيب عنهما بأنا نقول بموجبهما لأن الذي دلا عليه إنما هو انتفاء وقوع الطلاق قبل النكاح ولا نزاع فيه وإنما النزاع في التزامه بعد النكاح
وروى ابن خزيمة والبيهقي عن سعيد بن جبير قال سئل ابن عباس عن الرجل يقول إن تزوجت فلانة فهي طالق فقال ليس بشيء إنما الطلاق لما ملك قالوا فابن مسعود كان يقول إذا وقت وقتا فهو كما قال فقال يرحم الله أبا عبد الرحمن لو كان كما قال لقال الله إذا طلقتم المؤمنات ثم نكحتموهن
وروى الطبراني عن ابن جريج قال بلغ ابن عباس أن ابن مسعود يقول إن طلق ما لم ينكح فهو جائز فقال ابن عباس أخطأ في هذا إنه تعالى يقول { إذا نكحتم المؤمنات ثم طلقتموهن من قبل أن تمسوهن } سورة الأحزاب الآية 49 ولم يقل إذا طلقتم المؤمنات ثم نكحتموهن اه
ولا حجة في الآية لأنا نقول بموجبها فليست من محل النزاع
( مالك أنه بلغه أن عبد الله بن مسعود كان يقول فيمن قال كل امرأة أنكحها فهي طالق أنه إذا لم
____________________
(3/276)
يسم قبيلة ) بعينها ( أو امرأة بعينها فلا شيء عليه ) للحرج والمشقة وربما أداه إلى العنت ( قال مالك وهذا أحسن ما سمعت ) في ذلك وإنما لم يلزمه حكم اليمين وإن أبقى لنفسه التسري لأن كل أحد لا يقدر عليه ولأن الزوجة أضبط لما له من السرية
( قال مالك في الرجل يقول لامرأته أنت الطلاق وكل امرأة أنكحها فهي طالق وماله صدقة إن لم يفعل كذا وكذا ) لشيء عينه ( فحنث قال أما نساؤه فطلاق ) وفي نسخة فطلق ( كما قال ) لوقوعه على المحل ( وأما قوله كل امرأة أنكحها فهي طالق فإنه إذا لم يسم امرأة بعينها ) كزينب ( أو قبيلة ) كتميم ( أو أرضا ) كمن الأرض الفلانية ( أو نحو هذا ) بلدا كمصر ( فليس يلزمه ذلك وليتزوج ما شاء وأما ماله فليتصدق بثلثه ) ليس عليه غيره
28 أجل الذي لا يمس امرأته ( مالك عن ابن شهاب عن سعيد بن المسيب أنه كان يقول من تزوج امرأة فلم يستطع أن يمسها ) لاعتراض ونحوه ( فإنه يضرب له أجل سنة ) بالإضافة وتنوين أجل فسنة بالنصب ( فإن مسها وإلا فرق بينهما ) رفعا للضرر
( مالك أنه سأل ابن شهاب متى يضرب له الأجل أمن يوم يبني بها أم من يوم ترافعه ) المرأة ( إلى السلطان ) أي الحاكم ( قال بل من يوم ترافعه ) ترفعه ( إلى السلطان ) الحاكم ( قال مالك فأما الذي قد مس امرأته ثم اعترض عنها ) منعه عن جماعها مانع ( فإني لم أسمع أنه يضرب له أجل ولا يفرق بينهما ) ما لم تتضرر فلها التطليق بالضرر كما بين في الفروع
____________________
(3/277)
29 جامع الطلاق ( مالك عن ابن شهاب أنه قال بلغني أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لرجل من ثقيف أسلم ) هو غيلان بغين معجمة ( وعنده عشر نسوة ) فأسلمن معه ( حين أسلم الثقفي ) ظرف لقال ( أمسك ) وفي رواية اختر ( منهن أربعا وفارق سائرهن ) أي باقيهن قال ابن عبد البر هكذا رواه جماعة الموطأ وأكثر رواة ابن شهاب ورواة ابن وهب عن يونس عن ابن شهاب عن عثمان بن محمد بن أبي سويد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لغيلان بن سلمة الثقفي حين أسلم فذكره ووصله معمر عن ابن شهاب عن سالم عن ابن عمر ويقولون إنه من خطأ معمر مما حدث به بالعراق اه
وقد رواه الترمذي وابن ماجه من طريق معمر عن الزهري عن سالم عن أبيه قال الترمذي سمعت محمد بن إسماعيل يقول هذا غير محفوظ والصحيح ما روى شعيب وغيره عن الزهري قال حدثت عن عثمان بن محمد بن أبي سويد الثقفي فذكره اه
وقد حدث به جماعة من أهل البصرة عن معمر ويقال إن معمر أحدث بالبصرة أحاديث وهم فيها وقد كشف مسلم في كتاب التمييز عن علته وبينها بيانا شافيا فقال كان عند الزهري في قصة غيلان حديثان أحدهما مرفوع والآخر موقوف فأدرج معمر المرفوع على إسناد الموقوف فأما المرفوع فرواه عقيل عن الزهري قال بلغنا عن عثمان بن محمد بن أبي سويد أن غيلان فذكره
وأما الموقوف فرواه الزهري عن سالم عن أبيه أن غيلان طلق نساءه في عهد عمر وقسم ميراثه بين بنيه الحديث اه
أي أدرجه في أوله وهو في مسند إسحاق بن راهويه عن معمر عن الزهري عن سالم عن أبيه أن غيلان أسلم وتحته عشر نسوة فقال النبي صلى الله عليه وسلم اختر منهن أربعا فلما كان في عهد عمر طلق نساءه وقسم ماله بين بنيه فبلغ ذلك عمر فقال والله إني لأظن الشيطان فيما يسترق من السمع سمع بموتك فقذفه في نفسك ولا أراك تمكث إلا قليلا وأيم الله لترجعن في مالك ولتراجعن نساءك أو لأورثهن منك ولآمرن بقبرك فيرجم كما يرجم قبر أبي رغال ومات غيلان في آخر خلافة عمر
( مالك عن ابن شهاب أنه قال سمعت سعيد بن المسيب ) التابعي ابن الصحابي ( وحميد ) بضم الحاء ( ابن عبد الرحمن بن عوف ) الزهري تابعي ابن صحابي ( وعبيد الله ) بضم العين ( ابن عبد الله ) بفتحها ( ابن عتبة ) بضمها وفوقية ساكنة ( وسليمان بن يسار كلهم يقول سمعت أبا هريرة يقول سمعت
____________________
(3/278)
عمر بن الخطاب يقول أيما امرأة طلقها زوجها تطليقة أو تطليقتين ثم تركها حتى تحل ) بالخروج من العدة ( وتنكح زوجا غيره فيموت عنها ) الزوج الثاني ( أو يطلقها ثم ينكحها زوجها الأول فإنها تكون عنده على ما بقي من طلاقها ) واحدة أو ثنتين
( قال مالك وعلى ذلك السنة عندنا التي لا اختلاف فيها ) بدار الهجرة وبه قال الجمهور من الصحابة والتابعين والأئمة الثلاثة لأن الزوج الثاني لا يهدم ما دون الثلاث لأنه لا يمنع رجوعها للأول قبله
وقال أبو حنيفة وبعض الصحابة والتابعين يهدم الثاني ما دون الثلاث كما يهدم الثلاث فإذا عادت للأول كانت معه على عصمة كاملة
( مالك عن ثابت ابن ) عياض ( الأحنف ) الأعرج العدوي مولاهم تابعي ثقة ( أنه تزوج أم ولد عبد الرحمن بن زيد بن الخطاب ) العدوي وأمه لبابة بنت لبابة الأنصارية ولد في حياة النبي صلى الله عليه وسلم فأحضره جده أبو أمه عنده صلى الله عليه وسلم فحنكه ومسح رأسه ودعا له بالبركة فكان لبيبا عاقلا وزوجه عمر بنته فاطمة واستشهد أبوه باليمامة وولي هو إمرة مكة ليزيد بن معاوية ومات سنة بضع وستين وقيل كان اسمه محمدا فغيره عمر
( قال ) ثابت ( فدعاني ) ابنه ( عبد الله بن عبد الرحمن بن زيد بن الخطاب ) وأمه فاطمة بنت عمر ( فجئته فدخلت عليه فإذا سياط موضوعة ) جمع سوط ( وإذا قيدان من حديد وعبدان له قد أجلسهما عنده فقال طلقها وإلا والذي يحلف به ) وهو الله سبحانه ( فعلت بك كذا وكذا ) ضربتك بالسياط وقيدتك بالقيدين ( قال فقلت هي الطلاق ألفا فخرجت من عنده فأدركت عبد الله بن عمر ) ابن عم أبيه ( بطريق مكة قال فأخبرته بالذي كان من شأني فتغيظ عبد الله بن عمر وقال ليس ذلك بطلاق ) للإكراه ( وإنها لا تحرم عليك فارجع إلى أهلك قال فلم تقررني نفسي حتى أتيت
____________________
(3/279)
عبد الله بن الزبير وهو يومئذ بمكة ) خليفة زاد في نسخة أمير عليها ( فأخبرته بالذي كان من شأني وبالذي قال لي عبد الله ابن عمر قال فقال لي عبد الله بن الزبير لم تحرم عليك فارجع إلى أهلك وكتب إلى جابر بن الأسود الزهري وهو أمير المدينة ) من جهة ابن الزبير ( يأمره أن يعاقب عبد الله بن عبد الرحمن ) يعزره على ما فعل ( وأن يخلي بيني وبين أهلي ) زوجتي ( قال فقدمت المدينة فجهزت صفية ) فاعل بنت عبيد ( امرأة عبد الله بن عمر امرأتي حتى أدخلتها علي بعلم عبد الله بن عمر ) زوجها ( ثم دعوت عبد الله بن عمر يوم عرسي لوليمتي فجاءني )
وقد روى أحمد وأبو داود وابن ماجه وصححه الحاكم عن عائشة مرفوعا لا طلاق ولا عتاق في إغلاق أي إكراه بكسر الهمزة وسكون المعجمة وقاف سمي به لأن المكره كأنه يغلق عليه الباب ويضيق عليه حتى يطلق فلا يقع طلاقه وزعم أن المراد بالإغلاق الغضب ضعف بأن طلاق الناس غالبا إنما هو في حال الغضب فلو جاز عدم وقوع طلاق الغضبان لكان لكل أحد أن يقول كنت غضبان فلا يقع علي طلاق وهو باطل
وقد صح عن ابن عباس وعائشة أنه يقع طلاق الغضبان وأفتى به جمع من الصحابة وقد قال الأئمة الثلاثة وغيرهم لا يقع طلاق المكره لقوله تعالى { إلا من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان } سورة النحل الآية 106 فنفى الكفر باللسان فكذا الطلاق إذا لم يرده بقلبه ولم ينوه ولم يقصده لم يلزمه ولحديث تجاوز الله لأمتي عن الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه وقال أبو حنيفة وأصحابه يصح طلاق المكره ونكاحه وعتقه وتدبيره لا بيعه
( مالك عن عبد الله بن دينار ) مولى ابن عمر ( أنه قال سمعت عبد الله بن عمر قرأ يا أيها النبي إذا طلقتم النساء فطلقوهن لقبل ) بضم القاف والباء وبإسكانها ( عدتهن ) أي في استقبال عدتهن ( قال مالك يعني بذلك أن يطلق في كل طهر مرة ) لا أكثر وكأنه أتى بكل ليشمل ما إذا كان الطهر عقب حيض طلقت فيه وراجعها لأنه يصدق عليه أنه طلق لاستقبال العدة وأن الأمر في الحديث بأن يمسكها حتى تحيض ثم تطهر للندب لا للوجوب
قال القشيري وغيره وهذه القراءة على التفسير لا التلاوة وهي تصحح أن المراد بالأقراء الأطهار إذ لا يستقبل في الحيض عند الجميع ولا يجتزىء بها عند أحد من الطائفتين قاله عياض
وتقدم أن في مسلم في بعض طرق حديث ابن عمرو قرأ النبي صلى الله عليه وسلم فطلقوهن في قبل عدتهن
____________________
(3/280)
( مالك عن هشام بن عروة عن أبيه أنه قال كان الرجل إذا طلق امرأته ثم ارتجعها قبل أن تنقضي عدتها كان ذلك له وإن طلقها ألف مرة فعمد ) بفتح الميم قصد ( رجل إلى امرأته فطلقها إذا شارفت ) قاربت ( انقضاء عدتها راجعها ثم طلقها ثم قال لا والله لا آويك ) أضمك إلي ( ولا تحلين أبدا ) لغيري ( فأنزل الله تبارك وتعالى الطلاق ) أي التطليق الذي يراجع بعده ( مرتان ) أي ثنتان ( فإمساك ) فعليكم إمساكهن بعده ( بمعروف ) من غير ضرار ( أو تسريح ) إرسال لهن ( بإحسان فاستقبل الناس الطلاق جديدا من يومئذ ) أي من يوم نزول الآية ( من كان طلق منهم أو لم يطلق ) وهذا مرسل تابع مالكا على إرساله عبد الله بن إدريس وعبدة بن سليمان وجرير بن عبد الحميد وجعفر بن عون كلهم عن هشام عن أبيه مرسلا ووصله الترمذي والحاكم وغيرهما من طريق يعلى بن شبيب وابن مردويه من طريق محمد بن إسحاق كلاهما عن هشام عن أبيه عن عائشة قالت كان الناس والرجل يطلق امرأته ما شاء إن يطلقها وهي امرأته إذا ارتجعها وهي في العدة وإن طلقها مائة مرة وأكثر حتى قال رجل لامرأته والله لا أطلقك فتبيني مني ولا آويك أبدا قالت وكيف ذلك قال أطلقك فكلما همت عدتك أن تنقضي راجعتك فذهبت المرأة فأخبرت رسول الله صلى الله عليه وسلم فسكت حتى نزل القرآن { الطلاق مرتان فإمساك بمعروف أو تسريح بإحسان } البقرة 229 قال الترمذي والمرسل أصح
وفي المستدرك صحح الموصول قال ابن عبد البر أجمعوا على أن قوله أو تسريح بإحسان هي الثالثة التي قال الله { فإن طلقها فلا تحل له من بعد حتى تنكح زوجا غيره } البقرة 230 وعند ابن أبي شيبة عن أبي رزين جاء رجل فقال يا رسول الله أرأيت قول الله { الطلاق مرتان } فأين الثالثة فقال صلى الله عليه وسلم { فإمساك بمعروف أو تسريح بإحسان }
( مالك عن ثور ) بمثلثة ( ابن زيد الديلي ) بكسر المهملة وسكون التحتية ( أن الرجل كان يطلق
____________________
(3/281)
امرأته ثم يراجعها ولا حاجة له بها ولا يريد إمساكها كيما تطول بذلك عليها العدة ليضارها فأنزل الله تبارك وتعالى ولا تمسكوهن ضرارا ) مفعول له ( لتعتدوا ) عليهن ( ومن يفعل ذلك فقد ظلم نفسه ) بتعريضها إلى عذاب الله ( يعظهم الله بذلك ) وورد هذا بنحوه من طريق العوفي عن ابن عباس عند ابن جرير قال ابن عبد البر أفاد هذا وما قبله أن نزول الآيتين في معنى واحد متقارب وذلك حبس الرجل المرأة ومراجعتها بقصد الإضرار
( مالك أنه بلغه ) أسنده ابن أبي شيبة عن حاتم بن إسماعيل عن عبد الرحمن بن حرملة ( أن سعيد بن المسيب وسليمان بن يسار سئلا عن طلاق السكران فقالا إذا طلق السكران جاز طلاقه وإذا قتل قتل به
قال مالك وعلى ذلك الأمر عندنا ) وبه قال جماعة من التابعين وجمع من الصحابة والأئمة الأربعة فيصح عنه مع أنه غير مكلف تغليظا عليه ولأن صحته من قبيل ربط الأحكام بالأسباب
( مالك أنه بلغه ) أسنده ابن أبي شيبة عن سفيان عن أبي الزناد ( أن سعيد بن المسيب كان يقول إذا لم يجد الرجل ما ينفق على امرأته فرق بينهما ) للضرر فقلت سنة فقال سنة هذا بقية خبر ابن أبي شيبة
( قال مالك وعلى ذلك أدركت أهل العلم ببلدنا ) المدينة
30 عدة المتوفى عنها زوجها ( مالك عن عبد ربه بن سعيد بن قيس ) بن عمرو الأنصاري أخي يحيى مات سنة تسع وثلاثين ومائة وقيل بعدها له في الموطأ ثلاثة أحاديث مرفوعة هذا ثالثها ( عن أبي سلمة بن عبد الرحمن ) ابن
____________________
(3/282)
عوف ( أنه قال سئل ) بالبناء للمجهول وفي البخاري أن السائل رجل قال الحافظ لم أقف على اسمه ( عبد الله بن عباس وأبو هريرة ) وكان هو وأبو سلمة عند ابن عباس كما في الصحيحين ( عن المرأة الحامل يتوفى عنها زوجها ) وللبخاري عن يحيى بن أبي كثير عن أبي سلمة جاء رجل إلى ابن عباس وأبو هريرة عنده فقال أفتني في امرأة ولدت بعد زوجها بأربعين ليلة ( فقال ابن عباس آخر الأجلين ) عدتها وبالنصب أي تتربص آخر الأجلين أربعة أشهر وعشرا إن ولدت قبلها فإن مضت ولم تلد تربصت حتى تلد جمعا بين آيتي البقرة والطلاق ( وقال أبو هريرة إذا ولدت فقد حلت ) تخصيصا لآية البقرة بآية الطلاق ( فدخل أبو سلمة بن عبد الرحمن ) مع كريب أو وحده لإفتائه بالحل معارضا لابن عباس ( على أم سلمة ) هند بنت أبي أمية ( زوج النبي صلى الله عليه وسلم فسألها عن ذلك فقالت أم سلمة ولدت سبيعة ) بضم السين المهملة وفتح الموحدة وإسكان التحتية فعين مهملة فهاء تأنيث ابنة الحارث ( الأسلمية ) الصحابية ( بعد وفاة زوجها ) سعد بن خولة في حجة الوداع كما في مسلم وغيره عن سبيعة أنها كانت تحت سعد بن خولة وهو من بني عامر بن لؤي وكان ممن شهد بدرا فتوفي عنها في حجة الوداع ( بنصف شهر ) وللبخاري عن يحيى بن أبي كثير عن أبي سلمة عن أم سلمة فوضعت بعد موته بأربعين ليلة
وفي مسلم عن الزهري عن عبيد الله عن سبيعة فلم تنشب أن وضعت
وفي مصنف عبد الرزاق عن عروة بسبع ليال
وعن إبراهيم التيمي بسبع عشرة ليلة أو قال بعشرين ليلة
وعن عكرمة بخمس وأربعين ليلة
وعن معمر قال يقول بعضهم مكثت سبع عشرة ليلة ومنهم من يقول أربعين ليلة
وعند أحمد عن سبيعة فلم أمكث إلا شهرا حتى وضعت
وفي النسائي عشرين ليلة
وروى غير ذلك مما يتعذر فيه الجمع لاتحاد القصة ولعل ذلك السر في إبهام من أبهم المدة ( فخطبها رجلان أحدهما شاب ) هو أبو البشر بفتحتين ابن الحارث العبدري من بني عبد الدار كما أفاده ابن وضاح ( والآخر كهل ) هو أبو السنابل بفتح السين المهملة والنون فألف فموحدة مكسورة فلام بن بعكك بموحدة ثم مهملة ثم كافين وزن جعفر كما سمي في الصحيحين وغيرهما ابن الحارث القرشي العبدري اسمه حبة بموحدة وقيل نون وقيل عمرو وقيل عامر وقيل غير ذلك
( فحطت ) بفتح الحاء والطاء المهملتين أي مالت ونزلت بقلبها ( إلى الشاب ) على عادة النساء ( فقال الشيخ ) أبو السنابل المعبر عنه أولا بكهل ( لم تحلي بعد ) بضم الدال ( وكان أهلها غيبا ) بفتحتين جمع غائب كخادم وخدم ( ورجا إذا جاء أهلها أن يؤثروه بها ) يقدمونه على غيره
____________________
(3/283)
وفي البخاري ومسلم فلما تعدت من نفاسها تجملت للخطاب فدخل عليها أبو السنابل بن بعكك فقال مالي أراك متجملة لعلك ترجين النكاح إنك والله ما أنت بناكح حتى يمر عليك أربعة أشهر وعشر وتعدت بفتح العين المهملة وشد الدال أي خرجت ( فجاءت رسول الله صلى الله عليه وسلم ) فسألته عن ذلك ( فقال قد حللت فانكحي من شئت ) زاد في رواية الأسود عن أبي السنابل ولو رغم أنف أبي السنابل رواه أبو القاسم البغوي
قال ابن سعد أسلم أبو السنابل يوم الفتح وكان شاعرا وبقي زمانا بعد النبي صلى الله عليه وسلم
وذكر ابن البرقي أنه تزوج سبيعة بعد ذلك وأولدها سنابل بن أبي السنابل لكن نقل الترمذي عن البخاري أنه قال لا نعلم أن أبا السنابل عاش بعد النبي صلى الله عليه وسلم
وهذا الحديث رواه النسائي من طريق ابن القاسم عن مالك به وتابعه شعبة عن عبد ربه قال سمعت أبا سلمة فذكره عند أصحاب السنن
( مالك عن نافع عن عبد الله بن عمر أنه سئل عن المرأة يتوفى عنها زوجها وهي حامل فقال عبد الله بن عمر إذا وضعت حملها فقد حلت ) لقوله تعالى { وأولات الأحمال أجلهن أن يضعن حملهن } الطلاق 4 فقد بين صلى الله عليه وسلم بإفتائه لسبيعة أنه مخصص لقوله { والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجا يتربصن بأنفسهن أربعة أشهر وعشرا } البقرة 234 فأخبره رجل من الأنصار وكان عنده أن أباه ( عمر بن الخطاب قال لو وضعت وزوجها على سريره لم يدفن بعد ) أي قبل دفنه ( لحلت ) بالوضع عملا بالآية
( مالك عن هشام بن عروة عن أبيه عن المسور ) بكسر الميم وسكون السين وفتح الواو وبالراء ( ابن مخرمة ) بفتح الميم وإسكان المعجمة له ولأبيه صحبة ( أنه أخبره أن سبيعة الأسلمية ) نسبة إلى أسلم قبيلة شهيرة ( نفست ) بضم النون على المشهور وفي لغة بفتحها وكسر الفاء أي ولدت ( بعد وفاة زوجها ) سعد بن خولة ( بليال ) سبق الخلاف في قدرها لأنه لا يمكن الجمع لاتحاد القصة وأن ذلك لعله السر في إبهامها في نحو هذه الرواية زاد يحيى بن قزعة فجاءت النبي صلى الله عليه وسلم فاستأذنته أن تنكح
____________________
(3/284)
( فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم قد حللت فانكحي من شئت ) لانقضاء عدتك بوضع الحمل وهذا الحديث رواه البخاري عن يحيى بن قزعة بفتح القاف والزاي والمهملة عن مالك به
( مالك عن يحيى بن سعيد ) الأنصاري ( عن سليمان بن يسار ) المدني أن عبد الله بن عباس وأبي سلمة ابن عبد الرحمن بن عوف الزهري ( اختلفا في المرأة تنفس ) بضم التاء وسكون النون وفتح الفاء أي تلد ( بعد وفاة زوجها بليال ) تنقص عن أربعة أشهر وعشر ما عدتها ( فقال أبو سلمة إذا وضعت ما في بطنها فقد حلت ) لآية الطلاق ( وقال ابن عباس آخر الأجلين ) عدتها يعني إن كان الحمل أكثر من أربعة أشهر وعشر انتظرته وإن وضعت قبلها انتظرتها لآية البقرة ووجه الاختلاف أنهما عمومان تعارضا فجمع ابن عباس بينهما بذلك
وفي البخاري عن يحيى بن أبي كثير عن أبي سلمة فقال ابن عباس آخر الأجلين فقلت أنا وأولات الأحمال أجلهن أن يضعن حملهن
زاد الإسماعيلي فقال ابن عباس إنما ذاك في الطلاق ( فجاء أبو هريرة ) لعله كان قام لحاجة وإلا فقد كان جالسا عند ابن عباس لما استفتي كما في البخاري وغيره ( فقال أنا مع ابن أخي يعني أبا سلمة ) قاله على عادة العرب إذ ليس ابن أخيه حقيقة ( فبعثوا كريبا ) بضم الكاف وفتح الراء وإسكان التحتية وموحدة ( مولى عبد الله بن عباس ) وفي البخاري فأرسل ابن عباس غلامه كريبا ( إلى أم سلمة زوج النبي صلى الله عليه وسلم يسألها عن ذلك ) ولا معارضة بين هذا وبين ما مر أن أبا سلمة دخل عليها فسألها لاحتمال أنه دخل معه أو بعده حتى يسمع منها بلا واسطة ولا بين كون الاختلاف في السابق بين أبي هريرة وبين ابن عباس وهنا بينه وبين أبي سلمة لأن أصل الاختلاف بينهما وأبو هريرة وافق أبا سلمة فلا معارضة بهذين الأمرين كما ظن أبو عمر
( فجاءهم ) كريب ( فأخبرهم أنها قالت ولدت سبيعة الأسلمية بعد وفاة زوجها بليال فذكرت ) بسكون التاء سبيعة ( ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم ) لما قال لها أبو السنابل ما أنت بناكح حتى تمر عليك أربعة أشهر وعشر
وفي رواية للبخاري فخطبها أبو السنابل فأبت أن تنكحه فقال والله ما يصلح أن تنكحين حتى تعتدي آخر الأجلين فمكثت قريبا من عشر ليال ثم جاء النبي صلى الله عليه وسلم
____________________
(3/285)
( فقال قد حللت فانكحي من شئت ) لانقضاء عدتك بوضع الحمل فبين مراد الله فلا معنى لمن خالفه
وفيه أن الحجة عند التنازع السنة فيما لا نص فيه من الكتاب وفيما فيه نص إذا احتمل التخصيص لأن السنة تبين مراد الكتاب
قال الشافعي من عرف الحديث قويت حجته ومن نظر في النحو رق طبعه ومن حفظ القرآن نبل قدره ومن لم يصن نفسه لم يصنه العلم
وفيه أن المناظرة وطلب الدليل وموقع الحجة كان قديما من زمن الصحابة ولا ينكره إلا جاهل وأن الكبير لا يرتفع على الصغير ولا يمنع إذا علم أن ينطق بما علم ورب صغير السن كبير العلم وجلالة أبي سلمة وإن كان يفتي مع الصحابة وهو القائل لو رفقت بابن عباس لاستخرجت منه علما وليس هذا الحديث عند القعنبي وابن بكير في الموطأ وهو عند غيرهما
وقد أخرجه النسائي عن قتيبة ومن طريق القاسم كلاهما عن مالك به وتابعه عبد الوهاب الثقفي ويزيد بن هارون والليث الثلاثة عن يحيى بن سعيد عند مسلم قائلا غير أن الليث قال فأرسلوا إلى أم سلمة ولم يسم كريبا وله طرق في الصحيحين والسنن
( قال مالك وهذا الأمر الذي لم يزل ) أي استمر ( عليه أهل العلم عندنا ) أنها تحل بوضع الحمل وأجمع عليه جمهور العلماء من السلف وأئمة الفتوى في الأمصار إلا ما روي عن علي من وجه منقطع أن عدتها آخر الأجلين وما جاء عن ابن عباس هنا لكن جاء عنه أنه رجع إلى حديث أم سلمة في قصة سبيعة قال ابن عبد البر ويصححه أن أصحابه عكرمة وعطاء وطاوسا وغيرهم على أن عدتها الوضع وعليه العلماء كافة وقد روى عبد الرزاق عن ابن مسعود من شاء باهلته أو لاعنته أن الآية التي في سورة النساء القصرى { وأولات الأحمال أجلهن أن يضعن حملهن } الطلاق 4 نزلت بعد الآية التي في سورة البقرة { والذين يتوفون منكم } البقرة 234 قال وبلغه أن عليا قال هي آخر الأجلين فقال ذلك اه
وفي البخاري عن ابن مسعود أتجعلون عليها التغليظ ولا تجعلون عليها الرخصة سورة النساء القصرى بعد الطولى ومراده أنها مخصصة لها لا ناسخة وقد احتج للقائل بآخر الأجلين بأنهما عدتان مجتمعتان بصفتين وقد اجتمعتا في المتوفى زوجها عنها فلا تخرج من عدتها إلا بيقين وهو آخر الأجلين وأجيب بأنه لما كان المقصود الأصلي من العدة براءة الرحم ولا سيما من تحيض حصل المطلوب بالوضع وحديث سبيعة من آخر حكمه صلى الله عليه وسلم لأنه بعد حجة الوداع والله أعلم
31 مقام المتوفى عنها زوجها في بيتها حتى تحل ( مالك عن سعيد ) بكسر العين ليحيى وقال أكثر الرواة سعد بسكون العين قال ابن عبد البر وهو الأشهر ( ابن إسحاق بن كعب بن عجرة ) بضم المهملة وإسكان الجيم البلوي
____________________
(3/286)
المدني حليف الأنصار من الثقات مات بعد الأربعين ومائة ( عن عمته زينب بنت كعب بن عجرة ) صحابية تزوجها أبو سعيد الخدري كذا في التجريد تبعا لابن الأمين وابن فتحون وذكرها غيرهما في التابعين وابن حبان في الثقات وروى عنها ابنا أخويها سعد بن إسحاق وسليمان بن محمد ابنا كعب بن عجرة ( أن الفريعة ) بضم الفاء وفتح الراء وسكون التحتية وفتح العين المهملة كما عند الأكثر وسماها بعض الرواة عند النسائي الفارعة وبعضهم عند الطحاوي الفرعة ( بنت مالك بن سنان ) الصحابي ( وهي أخت أبي سعيد ) سعد بن مالك ( الخدري ) الصحابي الشهير وأمها حبيبة بنت عبد الله بن أبي ( أخبرتها ) أي زينب ( أنها جاءت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم تسأله أن ترجع إلى أهلها في بني خدرة ) بضم الخاء وإسكان الدال من الأنصار ( فإن زوجها خرج في طلب أعبد ) بضم الباء جمع عبد ( له أبقوا حتى إذا كانوا بطرف القدوم ) قال ابن الأثير بالتخفيف والتشديد موضع على ستة أميال من المدينة ( لحقهم فقتلوه قالت ) الفريعة ( فسألت رسول الله صلى الله عليه وسلم أن أرجع إلى أهلي في بني خدرة فإن زوجي لم يتركني في مسكن يملكه ولا ) في ( نفقة قالت فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم نعم ) ارجعي إلى أهلك ( قالت فانصرفت حتى إذا كنت في الحجرة ) بضم الحاء وإسكان الجيم ( ناداني ) دعاني ( رسول الله صلى الله عليه وسلم ) بنفسه ( أو أمر بي فنوديت ) دعيت ( له ) شكت ( فقال كيف قلت فرددت ) أعدت ( عليه القصة التي ذكرت ) أي ذكرتها له أولا ( من شأن زوجي فقال امكثي في بيتك حتى يبلغ الكتاب ) المكتوب من العدة ( أجله ) بأن ينتهي قالت فاعتددت فيه أربعة أشهر وعشرا ( قالت فلما كان عثمان بن عفان ) أي وجد زمن خلافته ( أرسل إلي فسألني عن ذلك فأخبرته فاتبعه وقضى به ) لأنهم لا يعدلون عن حديثه صلى الله عليه وسلم وفيه قبول خبر الواحد ووجوب العمل به وغير ذلك
ورواه أبو داود عن القعنبي والترمذي من طريق معن والنسائي من طريق ابن القاسم الثلاثة عن مالك به
ورواه الناس عن مالك حتى شيخه الزهري أخرجه ابن منده من طريق يونس عن ابن شهاب
____________________
(3/287)
حدثني من يقال له مالك بن أنس فذكره وتابع مالكا عليه شعبة وابن جريج ويحيى بن سعيد الأنصاري ومحمد بن إسحاق وسفيان ويزيد بن محمد عند الترمذي وأبي داود والنسائي وأبو مالك الأحمر عند ابن ماجه سبعتهم عن سعد بن إسحاق نحوه
( مالك عن حميد ) بضم الحاء ( ابن قيس المكي عن عمرو ) بفتح العين ( ابن شعيب ) بن محمد بن عبد الله بن عمرو بن العاصي ( عن سعيد بن المسيب أن عمر بن الخطاب كان يرد المتوفى عنهن أزواجهن من البيداء يمنعهن الحج ) والبيداء بالمد طرف ذي الحليفة
( مالك عن يحيى بن سعيد أنه بلغه أن السائب بن خباب ) بمعجمة وموحدتين المدني أبا مسلم ويقال أبا عبد الرحمن المدني صاحب المقصورة التي استعمله عليها عثمان ورزقه دينارين في كل شهر فتوفي عن ثلاثة رجال مسلم وبكير وعبد الرحمن ذكره عمر بن شبة وهو صحابي مولى فاطمة بنت عتبة بن ربيعة وغفل بن حبان فذكره في ثقات التابعين كما بينه في الإصابة ( توفي وأن امرأته ) أم مسلم كما قال الباجي ( جاءت إلى عبد الله بن عمر فذكرت له وفاة زوجها وذكرت له حرثا لهم بقناة ) بفتح القاف والنون بزنة حصاة موضع بالمدينة ( وسألته هل يصلح لها أن تبيت فيه فنهاها عن ذلك فكانت تخرج من المدينة سحرا فتصبح في حرثهم فتظل ) تقيم ( فيه يومها حتى تدخل المدينة إذا أمست فتبيت في بيتها ) فيباح لها الخروج في حوائجها نهارا
( مالك عن هشام بن عروة عن أبيه أنه كان يقول في المرأة البدوية ) قال الباجي المراد بها ساكنة العمود ( يتوفى عنها زوجها أنها تنتوي ) بالفوقية ( حيث انتوى أهلها ) قال الباجي أي تنزل حيث نزلوا من انتويت المنزل
( قال مالك وهذا الأمر عندنا ) لئلا يشق عليها وعليهم انقطاعها عنهم وانقطاعهم عنها فإن ارتحلوا بقرب اعتدت بمنزل زوجها
____________________
(3/288)
( مالك عن نافع عن عبد الله بن عمر أنه كان يقول لا تبيت المتوفى عنها ولا المبتوتة إلا في بيتها ) وفي مسلم عن جابر طلقت خالتي فأرادت أن تجذ نخلها فزجرها رجل أن تخرج فأمرها النبي صلى الله عليه وسلم فقال بلى فجذي نخلك فإنك عسى أن تصدقي أو تفعلي معروفا قال عياض فيه حجة لمالك والليث في جواز خروج المعتدة نهارا وإنما يلزمها لزوم منزلها بالليل وسواء عند مالك الرجعية والمبتوتة وقد احتج أبو داود بهذا الحديث على خروجها نهارا كقولنا ووجه دلالته أن الجذاذ إنما يكون نهارا عرفا وشرعا لأنه صلى الله عليه وسلم نهى عن جذاذ الليل ولأن نخل الأنصار ليست من البعيد بحيث يحتاج إلى المبيت فيها إذا خرجت نهارا
32 عدة أم الولد إذا توفي عنها سيدها ( مالك عن يحيى بن سعيد ) الأنصاري ( أنه قال سمعت القاسم بن محمد ) بن الصديق ( يقول إن يزيد بن عبد الملك ) بن مروان أحد ملوك بني أمية ( فرق بين رجال ونسائهم وكن أمهات أولاد رجال هلكوا ) ماتوا عنهن ( فتزوجوهن ) أي الرجال ( بعد حيضة أو حيضتين ) بعد موت ساداتهم وأو تحمل على الشك والتنويع أي إن منهن من تزوج بعد حيضة ومنهم من تزوج بعد حيضتين ( فقال القاسم بن محمد سبحان الله ) تعجبا من هذا الحكم مستدلا على إبطاله بقوله ( يقول الله تبارك وتعالى في كتابه { والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجا } البقرة 234 ما هن من الأزواج ) فما عليهن عدتهن إنما عليهن الاستبراء بحيضة
( مالك عن نافع عن عبد الله بن عمر أنه قال عدة أم الولد إذا توفي عنها سيدها حيضة ) وتسميتها عدة تجوز عن الاستبراء
____________________
(3/289)
( مالك عن يحيى بن سعيد عن القاسم بن محمد ) بن أبي بكر ( أنه كان يقول عدة أم الولد إذا توفي عنها سيدها حيضة ) لأنها ليست من الأزواج فلم تدخل في الآية ( قال مالك وهو الأمر عندنا ) بدار الهجرة ( فإن لم تكن ممن تحيض فعدتها ثلاثة أشهر ) على القاعدة في استبراء من لا تحيض
33 عدة الأمة إذا توفي عنها سيدها أو زوجها قال أبو عمر لا أعلم أحدا من الرواة قال سيدها إلا يحيى ولا خلاف أن الأمة إذا مات سيدها لا عدة عليها إنما عليها الاستبراء بحيضة
( مالك أنه بلغه أن سعيد بن المسيب وسليمان بن يسار كانا يقولان عدة الأمة إذا هلك عنها زوجها شهران وخمس ليال ) نصف عدة الحرة
( مالك عن ابن شهاب مثل ذلك ) شهران وخمس ليال
( مالك في العبد يطلق الأمة طلاقا لم يبتها فيه له عليها فيه الرجعة ) بأن طلقها واحدة ( ثم يموت وهي في عدتها من الطلاق أنها تعتد عدة الأمة المتوفى عنها زوجها شهرين وخمس ليال ) فتنتقل لعدة الوفاة للأمة لأن الموجب وهو الموت لما نقلها صادفها أمة فتعتد عدتها في الوفاة ( وأنها إن عتقت وله عليها رجعة ثم لم تختر فراقه بعد العتق حتى يموت وهي في عدتها من طلاقه اعتدت عدة الحرة المتوفى عنها زوجها أربعة أشهر وعشرا ) لأن الموجب وهو الموت لما نقلها صادفها حرة فتعتد عدتها كما أفاده قوله ( وذلك أنها إنما وقعت عليها
____________________
(3/290)
عدة الوفاة بعد ما عتقت فعدتها عدة الحرة وهذا الأمر عندنا ) فلو كان الطلاق بائنا لم ينقلها موته في عدتها على المذهب
34 ما جاء في العزل هو الإنزال خارج الفرج
( مالك عن ربيعة بن أبي عبد الرحمن ) فروخ المدني الفقيه ( عن محمد بن يحيى بن حبان ) بفتح المهملة والموحدة قال ابن عبد البر هذا من رواية النظير عن النظير والكبير عن الصغير ( عن ابن محيريز ) بضم الميم ومهملة وراء وزاي آخر مصغرا عبد الله بن محيريز بن جنادة بن وهب الجمحي بضم الجيم وفتح الميم فمهملة المكي كان يتيما في حجر أبي محذورة ثم نزل بيت المقدس تابعي ثقة عابد مات سنة تسع وتسعين وقيل قبلها ( أنه قال دخلت المسجد فرأيت أبا سعيد الخدري ) سعد بن مالك بن سنان ( فجلست إليه فسألته عن العزل ) أهو جائز أم لا ( فقال أبو سعيد الخدري خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة بني المصطلق ) بضم الميم وسكون الصاد وفتح الطاء المشالة المهملتين وكسر اللام فقاف لقب جذيمة بن سعد الخزاعي سمي بذلك لحسن صوته وكان أول من غنى من خزاعة وهي غزوة المريسيع بضم الميم وفتح الراء وسكون التحتية وكسر المهملة وإسكان التحتية الثانية وعين مهملة ماء لبني خزاعة وفي أنها سنة ست أو خمس أو أربع خلاف وسببها أنه صلى الله عليه وسلم بلغه أن بني المصطلق يجمعون له وقائدهم الحارث بن أبي ضرار فخرج إليهم حتى لقيهم على ماء لهم يقال له المريسيع قريب إلى الساحل فتزاحف الناس واقتتلوا فهزمهم الله وقتل منهم ونقل صلى الله عليه وسلم نساءهم وأبناءهم وأموالهم كذا ذكر ابن إسحاق بأسانيد مرسلة
والذي في الصحيح عن ابن عمر يدل على أنه أغار عليهم على حين غفلة ولفظه أن النبي صلى الله عليه وسلم أغار على بني المصطلق
وهم غارون وأنعامهم تسقى على الماء فقتل مقاتلتهم وسبى ذراريهم الحديث قال الحافظ فيحتمل أنهم حين الإيقاع ثبتوا قليلا فلما كثر فيهم القتل انهزموا بأن يكونوا لما دهمهم وهم على الماء ثبتوا وتصافوا ووقع القتال بينهم ثم وقعت الغلبة عليهم
( فأصبنا سبيا من سبي العرب ) أي نساء أخذناها منهم وفي رواية لمسلم فسبينا كرائم العرب ( فاشتهينا النساء ) أي جماعهن ( واشتدت ) قويت ( علينا العزبة ) بضم المهملة وإسكان الزاي فقد الأزواج والنكاح وهذا يشبه عطف العلة على المعلول
وفي رواية إسماعيل بن جعفر وطالت علينا العزبة
قال القرطبي أي تعذر علينا
____________________
(3/291)
النكاح لتعذر أسبابه لا أن ذلك لطول الإقامة لأن غيبتهم عن المدينة لم تطل اه
وفيه نظر
فقد ذكر ابن سعد وغيره أن غيبتهم في هذه الغزوة كانت ثمانية وعشرين يوما ( وأحببنا الفداء ) ولمسلم ورغبنا في الفداء ( فأردنا أن نعزل ) خوفا من الحمل المانع من الفداء الذي أحببناه ( فقلنا نعزل ورسول الله صلى الله عليه وسلم بين أظهرنا ) أي بيننا وأظهر زائدة ( قبل أن نسأله ) عن الحكم لأنه وقع في نفوسهم أنه من الوأد الخفي كالفرار من القدر قاله المازري
وفي رواية وكنا نعزل ثم سألنا فجمع بينهما بأن منهم من سأل قبل العزل ومنهم من سأل بعده وبأن معنى نعزل عزمنا عليه فيرجع معناها إلى الأولى
( فسألناه عن ذلك ) زاد في رواية جويرية عن مالك فقال أو أنكم لتفعلون قالها ثلاثا وظاهره أنه صلى الله عليه وسلم ما اطلع على فعلهم فيشكل مع قول جابر في الصحيح كنا نعزل على عهد صلى الله عليه وسلم والقرآن ينزل لأن الصحابي إذا قال كنا نفعل كذا على عهد النبي يكون مرفوعا لأن الظاهر اطلاعه عليه
وأجيب بأن دواعيهم كانت متوفرة على سؤاله عن أمور الدين فإذا عملوا شيئا وعلموا أنه لم يطلع عليه بادروا إلى السؤال عن حكمه فيكون الظهور من هذه الحيثية
( فقال ما عليكم ) بأس ( أن لا تفعلوا ) أي ليس عدم الفعل واجبا عليكم أو لا زائدة أي لا بأس عليكم في فعله
وحكى ابن عبد البر عن الحسن البصري أن معناه النهي أي لا تفعلوا العزل ( ما من نسمة ) بفتحات أي نفس ( كائنة ) أي قدر كونها في علم الله ( إلى يوم القيامة إلا وهي كائنة ) أي موجودة في الخارج سواء عزلتم أم لا فلا فائدة في العزل فإنه إن كان خلقها سبقكم الماء فلا ينفعكم الحرص وقد خلق الله آدم من غير ذكر ولا أنثى وخلق حواء من ضلع منه وعيسى من غير ذكر
وعند أحمد والبزار وصححه ابن حبان عن أنس أن رجلا سأل عن العزل فقال صلى الله عليه وسلم لو أن الماء الذي يكون منه الولد أهرقته على صخرة لأخرج الله منها ولدا أو يخرج الله منها ولدا ليخلقن الله نفسا هو خالقها وفي مسلم عن جابر أن رجلا أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال إن لي جارية هي خادمنا وسانيتنا وأنا أطوف عليها وأنا أكره أن تحمل فقال اعزل عنها إن شئت فإنه سيأتيها ما قدر لها فلبث الرجل ثم أتاه فقال إن الجارية قد حبلت فقال قد أخبرتك أنه سيأتيها ما قدر لها وفي رواية له فقال أنا عبد الله ورسوله قال أبو عمر في حديث الباب أنهم انطلقوا على وطء ما وقع في سهامهم من النساء وإنما يكون ذلك بعد الاستبراء بشرط أن تكون الأمة كتابية فإن كان سبي بني المصطلق كتابيات لأن من العرب من تهود وتنصر فذاك وإن كن وثنيات لم يحل وطؤهن بالملك إلا بعد الإسلام عند الجمهور لقوله تعالى { ولا تنكحوا المشركات حتى يؤمن } سورة البقرة الآية 221 وقد روى عبد الرزاق عن الحسن قال كنا نغزو مع الصحابة فإذا أراد أحدهم أن يصيب الجارية من الفيء أمرها فغلست ثيابها واغتسلت ثم علمها الإسلام ثم أمرها بالصلاة واستبرأها بحيضة ثم أصابها اه بمعناه
وأجيب أيضا بأنهن أسلمن
ولا يصح لقوله وأحببنا الفداء إذ لا يقال هذا فيمن
____________________
(3/292)
أسلم ورد بأن الإسلام لا يمنع ملك السابي بل يستمر بعد الإسلام فيجوز فداؤه وبيعه ولو أسلم وبأنه كان يجوز أول الإسلام وطء الأمة المشركة ثم نسخ ولا يصح لاحتياجه إلى دليل ويحتمل أن السؤال وقع عن وطء من أسلم منهن ولو بقي الحديث على ظاهره في الوطء قبل الإسلام لبقي أيضا على ظاهره في القدوم عليه قبل الاستبراء وهو ممنوع اتفاقا فلا بد من تأويل الأمرين وحديث الحسن برفع الإشكال عنهما معا وفيه حجة للجمهور في منع بيع أم الولد لامتناعهم من الفداء للحمل والفداء بيع والإجماع عليه وهي حامل خوف رق الولد وإنما الخلاف في بيعها بعد الوضع والجمهور على المنع وفيه استرقاق جميع العرب كقريش وبه قال الجمهور ومالك والشافعي في الجديد
وقال في القديم وأبو حنيفة وابن وهب لا يجري عليهم الرق لشرفهم فإن أسلموا وإلا قتلوا
وأخرج البخاري في العتق عن عبد الله بن يوسف عن مالك به وتابعه إسماعيل بن جعفر عن ربيعة عند الشيخين وروياه جميعا عن شيخهما عبد الله بن محمد بن أسماء عن عمه جويرية بن أسماء عن مالك عن الزهري عن ابن محيريز عن أبي سعيد أخبره أنه قال أصبنا سبايا وكنا نعزل ثم سألنا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك فقال لنا أو إنكم لتفعلون ثلاثا ما من نسمة كائنة إلى يوم القيامة إلا وهي كائنة قال ابن عبد البر وما أظن أحدا رواه عن مالك بهذا الإسناد غير جويرية اه
لكنها ليست بشاذة عن مالك فهو عنده بالإسنادين
وقد تابعه شعيب عند البخاري في البيع ويونس عنده في القدر وعقيل عنده كلهم عن الزهري عن ابن محيريز به
( مالك عن أبي النضر ) بمعجمة سالم بن أبي أمية ( مولى عمر بن عبيد الله ) بضم العينين القرشي التيمي ( عن عامر بن سعد بن أبي وقاص ) الزهري المدني مات سنة أربع ومائة ( عن أبيه أنه كان يعزل ) لأنه كان يرى الرخصة فيه
( مالك عن أبي النضر مولى عمر بن عبيد الله عن ابن أبي أفلح ) هو عمر بضم العين ابن كثير بن أفلح المدني الثقة ( مولى أبي أيوب الأنصاري عن أم ولد لأبي أيوب الأنصاري أنه كان يعزل ) لأنه كان يرى الترخيص فيه كزيد وجابر وابن عباس وسعد قال ابن عبد البر وهو قول جمهور الفقهاء
____________________
(3/293)
( مالك عن نافع عن عبد الله بن عمر أنه كان لا يعزل وكان يكره العزل ) ويضرب بعض ولده إذا فعله لأنه طريق إلى قطع النسل ولذا قال صلى الله عليه وسلم حين سئل عنه ذلك الوأد الخفي رواه مسلم وغيره
وكذا روي عن عمر وعثمان أنهما كرهاه واختلف فيه عن علي
( مالك عن ضمرة ) بفتح المعجمة وإسكان الميم ( ابن سعيد ) بكسر العين ( المازني ) الأنصاري المدني ( عن الحجاج بن عمرو ) بفتح العين ( ابن غزية ) بفتح الغين المعجمة وكسر الزاي وشد التحتية الأنصاري المازني المدني صحابي شهد صفين مع علي ( أنه كان جالسا عند زيد بن ثابت ) الأنصاري ( فجاءه ابن قهد ) بالقاف المفتوحة ضبطه ابن الحذاء وجوز أنه قيس بن قهد الصحابي قال في التبصرة وفيه بعد ولعل وجهه قوله ( رجل من أهل اليمن ) فإن قيسا الصحابي من الأنصار فيبعد أن يقال فيه ذلك وإن كان أصل الأنصار من اليمن ( فقال يا أبا سعيد ) كنية زيد ( إن عندي جواري ) بفتح الجيم جمع جارية ( لي ليس نسائي اللاتي أكن ) بضم الهمزة وكسر الكاف أضم إلى ( بأعجب إلي منهن وليس كلهن يعجبني أن تحمل مني ) لأني قد أحتاج للبيع ونحو ذلك ( أفأعزل فقال زيد أفته يا حجاج قال فقلت يغفر الله لك إنما نجلس عندك لنتعلم منك ) لمزيد فقهك ( قال أفته قال فقلت هو حرثك ) أي محل زرعك الولد ( إن شئت سقيته وإن شئت أعطشته ) منعته السقي ( قال وكنت أسمع ذلك من زيد فقال زيد صدق ) لأنه يرى حله
( مالك عن حميد بن قيس المكي عن رجل يقال له ذفيف ) بذال معجمة بوزن عظيم المدني مولى ابن عباس قال أبو جعفر مات سنة تسع ومائة ( أنه قال سئل ابن عباس عن العزل فدعا جارية له فقال أخبريهم ) أي السائلين ( فكأنها استحيت فقال هو ذلك أما أنا فأفعله يعني أنه يعزل ) ويروى أنه
____________________
(3/294)
تناجى رجلان عند عمر فقال ما هذه المناجاة قال إن اليهود تزعم أن العزل الموءودة الصغرى فقال علي لا تكون موءودة حتى يمر عليها التارات السبع { ولقد خلقنا الإنسان من سلالة من طين } المؤمنون 12 الآية فقال عمر لعلي صدقت أطال الله بقاك فقيل إنه أول من قالها في الإسلام لكن هذا الخبر خلاف ما روى ابن المسيب أن عمر وعثمان كانا يكرهان العزل قاله أبو عمر
( قال مالك لا يعزل الرجل ) ماءه ( المرأة ) أي عنها فنصب على التوسع ( الحرة إلا بإذنها ) لأن الجماع من حقها ولها المطالبة به وليس الجماع المعروف إلا ما لا عزل فيه فهو من تمام لذتها ولحقها في الولد
وقد روى ابن ماجه عن عمر نهى صلى الله عليه وسلم عن العزل عن الحرة إلا بإذنها لكن في إسناده ابن لهيعة ( ولا بأس بأن يعزل عن أمته ) المملوكة له ( بغير إذنها ) إذ لا حق لها في وطء ولا استيلاد ( ومن كانت تحته أمة قوم ) أي متزوجا بها ( فلا يعزل إلا بإذنهم ) لحقهم في الولد قال عياض ورأى بعض شيوخنا إذنها أيضا لحق الزوجية
وقال الباجي وقيل لا يعزل عنها إلا بإذنها أيضا وعندي أن هذا صحيح لأن لها بالعقد حقا في الوطء فلا يجوز عزله عنها إلا بإذنها وإذن مولاها لحقه في الولد ووافقه أبو حنيفة وأحمد على ذلك وذهب الشافعية إلى الكراهة مطلقا في كل حال وفي كل امرأة وإن رضيت لأنه طريق إلى قطع النسل ولا يحرم في مملوكته ولا زوجته الأمة رضيت أم لا لأن عليه ضررا في أمته بصيرورتها أم ولد وفي زوجته الرقيقة بمصير ولدها رقيقا وأما الحرة فإن أذنت لم يحرم وإلا فوجهان أصحهما لا يحرم قال في الفتح وينتزع من حكم العزل حكم معالجة المرأة إسقاط النطفة قبل نفخ الروح فمن قال بالمنع ففي هذه أولى ومن قال بالجواز فيمكن أن يلتحق به هذا ويمكن أن يفرق بأنه أشد لأن العزل لم يقع فيه تعاطي السبب ومعالجة السقط يقع بعد تعاطي السبب ويلتحق بها تعاطي المرأة ما يقطع الحبل من أصله وأفتى بعض متأخري الشافعية بمنعه وهو مشكل على القول بإباحة العزل مطلقا
35 ما جاء في الإحداد قال ابن بطال الإحداد بالمهملة امتناع المرأة المتوفى عنها زوجها من الزينة كلها من لباس وطيب وغيرهما وكل ما كان من دواعي الجماع
وقال المازري الإحداد الامتناع من الزينة يقال أحدت المرأة فهي محد وحدت فهي حاد إذا امتنعت من الزينة وكل ما يصاغ من حد كيفما تصرف فهو بمعنى المنع فالبواب حداد لمنعه الداخل والخارج والسجان حداد ولما نزل { عليها تسعة عشر }
____________________
(3/295)
قال الكفار ما رأينا سجانين بهذا العدد فقال الصحابة لا تقاس الملائكة بالحدادين يعنون السجانين ومنه سمي الحديد لامتناعه عمن يحاوله وللامتناع به ومنه تحديد النظر لامتناع تقلبه في الجهات قال النابغة إلا سليمان إذا قال الإله له قم في البرية فاحددها عن الفند أي فامنعها
رح 1306 ( مالك عن عبد الله بن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم ) بفتح المهملة وسكون الزاي ( عن حميد بن نافع ) الأنصاري أبي أفلح المدني التابعي ( عن زينب بنت أبي سلمة ) بن عبد الأسد المخزومية الصحابية ربيبته ماتت سنة ثلاث وسبعين ( أنها أخبرته ) أي حميدا ( عن الأحاديث الثلاثة ) التي بينتها له حيث ( قالت زينب دخلت على أم حبيبة ) رملة ( زوج النبي حين توفي أبوها أبو سفيان ) صخر ( بن حرب ) سنة اثنين وثلاثين عند الجمهور وقيل سنة ثلاث ووقع عند البخاري في الجنائز من رواية ابن عيينة لما جاء نعي أبي سفيان من الشام قال الحافظ وفيه نظر لأنه مات بالمدينة بلا خلاف بين أهل الأخبار ولم أر في شيء من طرق هذا الحديث تقييده بذلك إلا في رواية ابن عيينة هذه وأظنها وهما ولابن أبي شيبة والدارمي من طريق شعبة عن نافع جاء نعي لأخي أم حبيبة أو حميم لها فدعت بصفرة فلطخت به ذراعها
ورواه أحمد بلفظ أن حميما لها مات بلا تردد وإطلاق الحميم على الأخ الأقرب من إطلاقه على الأب فقوى الظن أن القصة تعددت لزينب مع أم حبيبة لما جاءها نعي أخيها من الشام سنة ثمان عشرة أو تسع عشرة ثم عند وفاة أبيها أبي سفيان بالمدينة لا مانع من ذلك ( فدعت أم حبيبة بطيب ) أي طلبت طيبا ( فيه صفرة خلوق ) بوزن صبور نوع من الطيب ( أو غيره ) برفعهما وجرهما روايتان اقتصر النووي على الأولى ( فدهنت به جارية ) بالنصب قال الحافظ لم أعرف اسمها ( ثم مسحت ) أم حبيبة ( بعارضيها ) أي جانبي وجهها وجعل العارضين ماسحين تجوز والظاهر أنها جعلت الصفرة في يديها ومسحتها بعارضيها والباء للإلصاق أو الاستعانة ومسح يتعدى بنفسه وبالباء تقول مسحت برأسي ورأسي
وفي الإكمال قال ابن دريد العارضان صفحتا العنق وما بعد الأسنان وفي كتاب العين عارضة الوجه ما يبدو منه ومبسما الفم والثنايا والمراد هنا الأول
وفي المفهم العوارض ما بعد الأسنان أطلقت في الخدين هنا مجازا لأنهما عليهما فهو من مجاز المجاورة أو تسمية الشيء بما كان من سببه زاد في رواية لهما وذراعيها ( ثم قالت والله ما لي بالطيب حاجة ) وفي رواية بزيادة من ( غير أني سمعت
____________________
(3/296)
رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر ) نفي بمعنى النهي على سبيل التأكيد ( أن تحد ) بضم (1)
____________________
1* أوله وكسر الحاء من الرباعي ولم يعرف الأصمعي سواه وحكى غيره فتح أوله وضم ثانيه من الثلاثي يقال حدت المرأة وأحدت بمعنى ( على ميت فوق ثلاث ليال ) فلها أن تحد على القريب ثلاثا فأقل فإن مات في بقية يوم أو بقية ليلة ألغت تلك البقية وعدت الثلاث من الليلة المستقبلة قاله القرطبي والمصدر المنسبك من أن تحد فاعل يحل وفوق ظرف زمان لأنه أضيف إلى زمان ( إلا على زوج ) إيجاب للنفي والجار والمجرور متعلق بتحد فالاستثناء مفرغ ( أربعة أشهر وعشرا ) أي أيامها عند الجمهور فلا تحل حتى تدخل الليلة الحادية عشر فأنث العدد لإرادة المدة أو أريد الأيام بلياليها خلافا للأوزاعي وغيره أنها عشر ليال فتحل في اليوم العاشر ولولا الاتفاق على وجوب إحداد المتوفى عنها لكان ظاهر الحديث الإباحة لأنه استثنى من عموم الحظر وأشار الباجي إلى أنه من عموم الأمر بعد الحظر فيحمل على الندب عند من يقول ذلك من الأصوليين وليس الحديث من ذلك إذ ليس فيه أمر بعد حظر إنما هو استثناء من الحظر واختلف في الحامل يزيد عليها هل عليها الإحداد في الزيادة حتى تضع أو لا يلزمها إحداد في الزيادة لظاهر الحديث قاله عياض
( قالت زينب ) بالسند السابق وهذا الحديث الثاني ( ثم دخلت على زينب بنت جحش زوج النبي حين توفي أخوها ) عبد الله بن جحش كما سمي في كثير من الموطآت كابن وهب وغيره عند الدارقطني وأبي مصعب عند ابن حبان لكن استشكل بأن عبد الله استشهد بأحد وزينب حينئذ صغيرة جدا لأن أباها مات بعد بدر وأن أمها حلت بوضعها وتزوج أمها وهي صغيرة وأجيب بأن ابن عبد البر وغيره حكوا أن زينب ولدت بأرض الحبشة ومقتضاه أن يكون لها عند وفاة عبد الله بن جحش أربع سنين ومثلها يضبط ذلك ويميزه ويجوز أن يراد بالأخ عبيد الله المصغر الذي تنصر ومات بأرض الحبشة فتزوج بعده أم حبيبة فإن زينب ابنة أبي سلمة كانت مميزة لما جاء خبر وفاته وقد يحزن المرء على قريبه الكافر لا سيما إذا تذكر سوء مصيره ولعل ما وقع في تلك الموطآت عبد الله بالتكبير كان عبيد الله بتصغير عبد فلم يضبطه الكاتب ويجوز أن يراد أخ لها من أمها أو من الرضاعة وأما أخوها أبو أحمد ابن جحش واسمه عبد بلا إضافة كان شاعرا أعمى فمات بعد أخته زينب بنت جحش بسنة كما جزم به ابن إسحاق وغيره وحضر جنازة أخته وراجع عمر في شيء بسببها كما عند ابن سعد فلا يصح إرادته هنا هذا ولفظ ثم هنا لترتيب الأخبار لا لترتيب الوقائع لأن زينب ابنة جحش ماتت قبل أبي سفيان بأكثر من عشر سنين على الصحيح المشهور ( فدعت بطيب فمست منه ) وفي رواية به أي شيئا من جسده
(3/297)
( ثم قالت ) زاد التنيسي أما بالتخفيف ( والله ما لي بالطيب حاجة ) ولابن يوسف بزيادة من ( غير أني سمعت رسول الله يقول ) زاد التنيسي على المنبر ( لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر ) هو من خطاب التصحيح لأن المؤمن هو الذي ينتفع بالخطاب وينقاد له فهذا الوصف لتأكيد التحريم لما يقتضيه سياقه ومفهومه أن خلافه مناف للإيمان كما قال تعالى { وعلى الله فتوكلوا إن كنتم مؤمنين } المائدة 23 فإنه يقتضي تأكيد أمر التوكل بربطه بالإيمان ( تحد ) بضم فكسر وبفتح فضم وحذف أن الناصبة ورفع الفعل وهو مقيس ( على ميت فوق ثلاث ليال ) قال ابن بطال أباح الشارع للمرأة أن تحد على غير الزوج ثلاثة أيام لما يغلب من لوعة الحزن ويهجم من أليم الوجد وليس ذلك واجبا للاتفاق على أن الزوج لو طالبها بالجماع لم يحل لها منعه في تلك الحالة ( إلا على زوج ) فتحد عليه ( أربعة أشهر وعشرا ) فالظرف متعلق بمحذوف في المستثنى دل عليه المذكور في المستثنى منه والاستثناء متصل إن جعل بيانا لقوله فوق ثلاث ليال فالمعنى لا يحل لامرأة تحد أربعة أشهر وعشرا على ميت إلا على زوج أربعة أشهر وعشرا وإن جعل معمولا لتحد مضمرا فهو منقطع أي لكن تحد على زوج أربعة أشهر وعشرا قالوا وحكمة هذا العدد أن الولد يتكامل خلقه في مائة وعشرين يوما وهي تزيد على أربعة أشهر لنقص الأهلة فجبر الكسر إلى العقد احتياطا ( قالت زينب ) بالسند السابق وهذا هو الحديث الثالث ( وسمعت ) أمي ( أم سلمة زوج النبي تقول جاءت امرأة ) هي عاتكة بنت نعيم بن عبد الله بن النحام كما في معرفة الصحابة لأبي نعيم ( إلى رسول الله فقالت يا رسول الله إن ابنتي توفي عنها زوجها ) المغيرة المخزومي رواه إسماعيل القاضي في الأحكام وروى الإسماعيلي في تأليفه مسند يحيى بن سعيد الأنصاري عنه عن حميد بن نافع عن زينب عن أمها قالت جاءت امرأة من قريش قال يحيى لا أدري ابنة النحام أو أمها بنت سعد ورواه الإسماعيلي من طرق كثيرة فيها التصريح بأن البنت عاتكة فعلى هذا فأمها لم تسم قاله الحافظ
( وقد اشتكت ) هي أي ابنتي ( عينيها ) بالتثنية والنصب مفعول وفي رواية التنيسى عينها بالإفراد والنصب أيضا كما رجحه المنذري بدليل التثنية بالنصب وبالرفع على الفاعلية واقتصر النووي عليه ونسبت الشكاية إلى نفس العين مجازا وزعم الحريري أن الصواب النصب وأن الرفع لحن ورد بأنه يؤيد الرفع أن في رواية لمسلم اشتكت عيناها بالتثنية إلا أن يجيب بأنه على لغة من يعرب المثنى في الأحوال الثلاث بحركات مقدرة ( أفتكحلهما ) بضم الحاء وهو مما جاء مضموما وإن كانت عينه حرف حلق ( فقال رسول الله لا ) تكحلهما قال ذلك ( مرتين أو ثلاثا كل ذلك يقول لا )
____________________
(3/298)
تأكيدا للمنع ويأتي في حديث أم سلمة أنه قال اجعليه بالليل وامسحيه بالنهار وجمع بينهما بأنه لم يتحقق الخوف هنا على عينيها إذ لو تحققه لأباحه لها لأن المنع مع الضرورة حرج وإنما فهم عنها إنما ذكرته اعتذارا لا على وجه أن الخوف ثبت وبأن المنع منه عند عدم الحاجة ولو بالليل فإن اضطر إليه جاز بالليل دون النهار وأما النهي فإنما هو ندب لتركه لا على الوجوب قاله عياض وغيره
( ثم قال إنما هي ) أي العدة ( أربعة أشهر وعشرا ) بالنصب على حكاية لفظ القرآن وفي رواية أربعة بالرفع على الأصل والمراد تقليل المدة وتهوين الصبر عما منعت منه وهو الاكتحال في العدة ولذا قال ( وقد كانت إحداكن في الجاهلية ترمي بالبعرة ) بفتح الموحدة والعين وتسكن واحدة البعر والجمع أبعار رجيع ذي الخف والظلف وفي ذكر الجاهلية إشارة إلى أن الإسلام صار بخلافه لكن التقدير بقوله ( على رأس الحول ) استمر في الإسلام مدة لقوله تعالى { والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجا وصية لأزواجهم متاعا إلى الحول } سورة البقرة الآية 240 ثم نسخ بقوله { يتربصن بأنفسهن أربعة أشهر وعشرا } سورة البقرة الآية 234 والناسخ مقدم تلاوة متأخر نزولا ولم يوجد في سورة واحدة إلا في هذه وأما من سورتين فموجود قاله عياض وقال غيره مثله سيقول السفهاء مع قوله { قد نرى تقلب وجهك في السماء } البقرة 144 والحديث يدل على النسخ وقيل هو حض للأزواج على الوصية بتمام السنة لمن لا ترث واختلف كيف كان قبل النسخ فقيل كانت النفقة والسكنى من مال الميت فنسخت النفقة بآية المواريث والحول بالأربعة وعشر وقيل كانت مخيرة في المقام فلها النفقة والخروج فلا شيء لها
وقال مجاهد كانت تعتد عند أهل زوجها سنة واجبة فأنزل الله { متاعا إلى الحول غير إخراج فإن خرجن فلا جناح عليكم } سورة البقرة الآي ة 240 والعدة عليها باقية فجعل لها تمام الحول وصية إن شاءت سكنت وإن شاءت خرجت
( قال حميد بن نافع ) بالإسناد السابق ( قلت لزينب ) بنت أبي سلمة ( وما ) معنى قوله ( ترمي بالبعرة على رأس الحول فقالت زينب كانت المرأة ) في الجاهلية ( إذا توفي عنها زوجها دخلت حفشا ) بكسر الحاء المهملة وسكون الفاء وشين معجمة بيتا رديئا كما يأتي وفي رواية النسائي عمدت إلى شر بيت لها فجلست فيه ( ولبست شر ثيابها ) أردأها وهذه تفسير للرواية الأخرى في الصحيحين شر أحلاسها بمهملتين جمع حلس بكسر فسكون ثوب أو كساء رقيق يجعل على ظهر الدابة تحت البردعة ( ولم تمسس ) بفتح أوله وسكون الميم وفي رواية ولم تمس بفتحهما
____________________
(3/299)
بالإدغام ( طيبا ولا شيئا ) تتزين به ( حتى تمر بها سنة ) من موت زوجها ( ثم تؤتى ) بضم أوله وفتح ثالثه ( بدابة حمار ) بالجر والتنوين بدل ( أو شاة أو طير ) بأو للتنويع وإطلاق الدابة عليهما حقيقة لغوية قال المجد الدابة ما دب من الحيوان وغلب على ما يركب ويقع على المذكر ( فتفتض به ) بفاء ففوقية ففاء ثانية ساكنة ففوقية أخرى فضاد معجمة ثقيلة ( فقلما تفتض بشيء ) مما ذكر وما مصدرية أي افتضاضها بشيء ( إلا مات ثم تخرج فتعطى ) بضم الفوقية وفتح الطاء ( بعرة ) من بعر الإبل أو الغنم ( فترمي بها ) أمامها فيكون ذلك إحلالا لها كذا في رواية ابن الماجشون عن مالك وفي رواية ابن وهب عنه من وراء ظهرها إشارة إلى أن ما فعلته من التربص والصبر على البلاء الذي كانت فيه هين بالنسبة إلى فقد زوجها وما يستحقه من المراعاة كما يهون الرامي بالبعرة بها ( ثم تراجع ) بضم الفوقية فراء فألف فجيم مكسورة فمهملة ( بعد ) أي بعد ما ذكر من الافتضاض والرمي ( ما شاءت من طيب أو غيره ) مما كانت ممنوعة منه في العدة وهذا التفسير لم تسنده زينب وساقه شعبة عن حميد بن نافع مرفوعا ولفظه في الصحيحين عن زينب عن أمها أن امرأة توفي زوجها فخافوا على عينيها فأتوا رسول الله فاستأذنوه في الكحل فقال لا قد كانت إحداكن تكون في شر بيتها في أحلاسها أو شرسها فإذا كان حول فمر كلب رمت ببعرة فخرجت أفلا أربعة أشهر وعشرا قال الحافظ حديث الباب لا يقتضي الإدراج في رواية شعبة لأنه من أحفظ الناس فلا يقضى على روايته برواية غيره بالاحتمال اه
وقد يرد عليه أن ذلك ليس بالاحتمال فقد صرح هو في شارح نخبته تبعا لغيره بأن مما يعرف به الإدراج مجيء رواية مبينة للقدر المدرج وما هنا من ذلك فإن رواية مالك عن شيخه عن حميد بينت أن التفسير من زينب وكون شعبة من الحفاظ لا يقتضي أنه لا يروي ما فيه المدرج فلم تزل الحفاظ يروونه كثيرا كابن شهاب وغيره
( قال مالك الحفش البيت الرديء ) وللقعنبي عنه الصغير جدا وهما بمعنى فرداءته لصغره ولابن القاسم عنه الحفش الخص وهو بضم المعجمة ومهملة وللشافعي الذليل الشعث البناء وفي المعلم الحفش البيت الحقير
وفي الحديث أنه قال في الذي بعثه ساعيا على الزكاة هلا قعد في حفش أمه ينظر هل يهدى إليه أم لا وقيل الحفش البيت الذليل القصير السمك شبهه به لضيقه والتحفش الانضمام والاجتماع زاد عياض وقيل الحفش شبه القفة من الخوص تجمع المرأة فيها غزلها وأسبابها ( و ) معنى ( تفتض تمسح به جلدها كالنشرة ) قال ابن وهب معناه تمسح بيدها عليه أو على ظهره وقيل معناه تمسح به ثم تفتض أي تغتسل بالماء العذب والافتضاض الاغتسال بالماءالعذب للإنقاء حتى تصير كالفضة وقال الأخفش معناه تتنظف وتنتقي مأخوذ من الفضة تشبيها بنقائها وبياضها
وقال ابن قتيبة سألت الحجازيين عن الافتضاض فقالوا كانت المعتدة لا تغتسل ولا تمس
____________________
(3/300)
طيبا ولا تقلم ظفرا ولا تزيل شعرا ثم تخرج بعد الحول في أشر منظر ثم تفتض أي تكسر ما هي فيه من العدة بطائر تمسح به قبلها وتنبذه فلا يكاد يعيش وهذا أخص من تفسير مالك لأنه أطلق الجلد وهذا قيده بجلد القبل
وعند النسائي تقبض بقاف فموحدة فمهملة مخففة وهي رواية الشافعي قال ابن الأثير هو كناية عن الإسراع أي تذهب بعدو وسرعة نحو منزل أبويها لكثرة حيائها بقبح منظرها أو لشدة شوقها إلى التزويج لبعد عهدها به قال والمشهور في الرواية الفاء والفوقية والضاد المعجمة وهذا الحديث رواه البخاري عن عبد الله بن يوسف ومسلم عن يحيى وأبو داود عن القعنبي والترمذي من طريق معن بن عيسى وأبو داود والترمذي أيضا والنسائي من طريق ابن القاسم خمستهم عن مالك به وتابعه جماعة وله طرق عندهم
( مالك عن نافع ) مولى ابن عمر ( عن صفية بنت أبي عبيد ) زوجة سيده ( عن عائشة وحفصة زوجي النبي ) هكذا ليحيى وأبي مصعب وطائفة بالواو ولابن بكير والقعنبي وآخرين عن عائشة أو حفصة على الشك وكذا رواه عبد الله بن دينار والليث بن سعد كلاهما عن نافع بالشك ورواه يحيى بن سعيد عن نافع عن صفية عن حفصة وحدها ورواه عبيد الله عن نافع عن صفية عن بعض أزواج النبي أخرج ذلك كله مسلم ( أن رسول الله قال لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر ) نفي بمعنى النهي والتقييد بذلك خرج مخرج الغالب كما يقال هذا طريق المسلمين مع أنه يسلكه غيرهم فالكتابية كذلك عند الجمهور وهو المشهور عن مالك
وقال أبو حنيفة والكوفيون ومالك في رواية وابن نافع وابن كنانة وأشهب وأبو ثور لا إحداد عليها لظاهر الحديث وأجيب بأنه للغالب أو لأن المؤمنة هي التي تنتفع بالخطاب وتنقاد فهذا الوصف لتأكيد التحريم وتغليظه وقد خالف أبو حنيفة قاعدته في إنكاره المفاهيم ( أن تحد على ميت فوق ثلاث ليال إلا على زوج ) فإنها تحد عليه أربعة أشهر وعشرا كما زاده في رواية يحيى بن سعيد عن نافع عند مسلم والحديث يعم كل زوجة صغيرة أو كبيرة حرة أو أمة مدخولا بها أم لا عند الجمهور
وقال أبو حنيفة لا إحداد على صغيرة ولا أمة زوجة وعموم الحديث حجة عليه فبالوجه الذي يلزمها العدة يلزمها الإحداد ولهذا الوجه اعتدت غير المدخول بها في الوفاة استظهارا لحجة الزوج بعد موته إذ لو كان حيا لبين أنه دخل بها كما لا يحكم عليه بالدين حتى تستظهر له بيمين الطالب قالوا وهي الحكمة في جعل عدة الوفاة أزيد من عدة المطلقة لأنه لما عدم الزوج استظهر له بأتم وجوه البراءة وهي الأربعة أشهر وعشر لأنه الأمر الذي يتبين فيه الحمل فبعد الرابع ينفخ فيه الروح وزيدت العشر حتى تتبين حركته ولذا جعلت عدتها بالزمان الذي يشترك في معرفته الجميع ولم توكل إلى أمانة النساء فتجعل بالإقراء كالمطلقات كل ذلك حوطة
____________________
(3/301)
للميت لعدم المحامي عنه ولزمت عدة الوفاة الصغيرة لأن كون الزوجة صغيرة نادر فشملهن الحكم وعمتهن الحوطة ثم قوله إلا على زوج إيجاب بعد النفي فيقتضي حصر الإحداد في المتوفى عنها فلا إحداد على مطلقة عند الأكثر ومالك والشافعي رجعية كانت أو بائنة أو مثلثة واستحبه أحمد والشافعي للرجعية وأوجبه أبو حنيفة والكوفيون على المثلثة وشذ الحسن وحده فقال لا إحداد على متوفى عنها ولا على مطلقة ولولا الاتفاق على وجوب الإحداد لكان ظاهر الحديث الإباحة لأنه استثناء من عموم المنع قاله القاضي عياض
وأجيب بأن حديث التي شكت عينها المتقدم دل على الوجوب وإلا لم يمتنع التداوي المباح وبأن السياق أيضا يدل على الوجوب فإن كل ممنوع منه إذا دل دليل على جوازه كان ذلك الدليل بعينه دالا على الوجوب ويرشح ذلك هنا زيادة مسلم في بعض طرقه بعد قوله إلا على زوج فإنها تحد عليه أربعة أشهر وعشرا فإنه أمر بلفظ الخبر إذ ليس المراد معنى الخبر فإن المرأة قد لا تحد فهو على حد قوله تعالى { والمطلقات يتربصن } سورة البقرة الآية 228 والمراد به الأمر اتفاقا
وفي المفهم القائل بوجوب الإحداد على المطلقة ثلاثا إن قاسه على المتوفى عنها فلا يصح للحصر الذي اقتضاه الحديث وأيضا فعلى أن عدة الوفاة تعبدية يمتنع القياس وكذا على أنها معقولة لوضوح الفرق بأن الإحداد إنما هو مبالغة في التحرز على المرأة من النكاح بتعاطي أسبابه لعدم الزوج وفي الطلاق الزوج حي فهو يبحث ويحتاط لنفسه
( مالك أنه بلغه أن أم سلمة زوج النبي قالت لامرأة حاد ) بشد الدال ( على زوجها اشتكت عينيها ) بالتثنية ( فبلغ ذلك ) الوجع المفهوم من اشتكت ( منها ) مبلغا قويا ( اكتحلي بكحل الجلاء ) بكسر الجيم والمد كحل خاص ( بالليل وامسحيه بالنهار ) فأفتتها بما أفتاها به كما يأتي
( مالك أنه بلغه عن سالم بن عبد الله وسليمان بن يسار أنهما كانا يقولان في المرأة يتوفى عنها إذا خشيت على بصرها من رمد أو شكو ) بفتح فسكون ( أصابها أنها تكتحل وتتداوى بدواء أو كحل وإن كان فيه طيب ) لأن الضرورة تبيح المحظور ( قال مالك وإذا كانت الضرورة ) أي وجدت ( فإن دين الله يسر ) كما قال تعالى { يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر } سورة البقرة الآية 185 فتكتحل وإن كان فيه طيب ليلا وتمسحه نهارا
وأما حديث المرأة التي قالت إن ابنتي اشتكت عينها أفأكحلها فقال لا قالت إني
____________________
(3/302)
أخشى أن تنفقىء عينها قال وإن انفقأت رواه قاسم بن أصبغ وابن منده بإسناد صحيح فأجيب باحتمال أنه كان يحصل لها البرء بغير الكحل كالتضميد بالصبر وبأنه فهم أنها ذكرت ذلك اعتذارا لا أن الخوف ثبت حقيقة إذ لو تحققه لأباحه لها إذ المنع مع الضرورة حرج مرفوع من دينه
( مالك عن نافع أن صفية بنت أبي عبيد ) الثقفية أدركت النبي وأبوها صحابي قاله ابن منده ونفى الدارقطني إدراكها في الإصابة على نفي إدراك السماع منه وذكرها العجلي وابن حبان في ثقات التابعين ( اشتكت عينها وهي حاد ) بشد الدال بلا هاء لأنه نعت للمؤنث لا يشركه فيه المذكر مثل طالق وحائض ( على زوجها عبد الله بن عمر ) تزوجها في خلافة أبيه وأصدقها عمر أربعمائة وزادها ابنه سرا منه مائتي درهم وولدت له واقدا وأبا بكر وأبا عبيدة وعبيد الله وعمر وحفصة وسودة ( فلم تكتحل حتى كادت عيناها ترمصان ) بفتح الميم وصاد مهملة من باب تعب يجمد الوسخ في موقها والرجل أرمص والمرأة رمصاء ولا منافاة بين هذا وبين ما في الصحيحين أن ابن عمر رجع من الحج فقيل له إن صفية في السياق فأسرع السير وجمع جمع تأخير وكان ذلك في إمارة ابن الزبير لأنه عوفيت ثم مات زوجها في حياتها كما صرح به هنا
( قال مالك تدهن المتوفى عنها زوجها بالزيت والشبرق ) بفتح الشين المعجمة ثم موحدة أو تحتية ساكنة دهن السمسم ( وما أشبه ذلك إذا لم يكن فيه طيب ) ما لم تدع الضرورة للطيب وإلا جاز كما قدمه وهو المعتمد في المذهب
( ولا تلبس المرأة الحاد على زوجها شيئا من الحلي ) بفتح فسكون ( خاتما ولا خلخالا ) بفتح الخاء واحد خلاخيل النساء والخلخل لغة فيه أو مقصور منه قال براقة الجيد صموت الخلخل
قاله الجوهري
( ولا غير ذلك من الحلي ) كسوار وخرص وقرط ذهبا كان كله أو فضة قال الباجي ويدخل فيه الجوهر والياقوت
( ولا تلبس شيئا من العصب ) بفتح العين وسكون الصاد المهملتين وموحدة قال ابن الأثير برود يمنية يعصب غزلها أي يجمع ويشد ثم يصبغ وينسج فيأتي موشيا لبقاء ما عصب منه أبيض لم يأخذه الصبغ يقال برد عصب بالتنوين والإضافة وقيل هي برود مخططة والعصب الفتل والعصاب الغزال ( إلا أن يكون عصبا غليظا ) فتلبسه لأنه لا كبير زينة فيه حملا لحديث أم عطية في الصحيحين مرفوعا لا تحد امرأة على ميت فوق ثلاث إلا على زوج أربعة أشهر
____________________
(3/303)
وعشرا ولا تلبس ثوبا مصبوغا إلا ثوب عصب ولا تكتحل ولا تمس طيبا إلا إذا طهرت نبذة من قسط أو أظفار على الغليظ دون الرقيق لأن علة المنع الزينة وهي موجودة في الرقيق
( ولا تلبس ثوبا مصبوغا بشيء من الصبغ ) بكسر فسكون بأحمر أو أصفر أو غيرهما ( إلا بالسواد ) فيجوز قال الباجي يعني به الأسود الغرابي لا السماوي فإنه يتجمل به اه
وخص الأسود بغير ناصعة البياض فإنه يزينها فيمنع عليها لبسه
قال ابن المنذر خص كل من يحفظ عنه العلم في البياض من الحرير وغيره
( ولا تمتشط ) بشيء كطيب وحناء إلا بالسدر وما أشبهه مما لا يحتمر في رأسها
( مالك أنه بلغه ) وصله أبو داود والنسائي من طريق ابن وهب عن مخرمة بن بكير عن أبيه عن المغيرة بن الضحاك عن أم حكيم بنت أسيد عن أمها عن أم سلمة ( أن رسول الله دخل على أم سلمة وهي حاد على أبي سلمة ) عبد الله بن عبد الأسد المخزومي ( وقد جعلت على عينيها ) بالتثنية ( صبر ) بفتح الصاد المهملة وكسر الموحدة في الأشهر الدواء المر وسكون الباء للتخفيف لغة قليلة وقيل لم تسمع في السبعة
وحكى ابن السيد في المثلث جواز التخفيف كنظائره بسكون الباء مع كسر الصاد وفتحها فيكون فيه ثلاث لغات
( فقال ما هذا يا أم سلمة قالت إنما هو صبر يا رسول الله قال اجعليه بالليل وامسحيه بالنهار ) زاد أبو داود ولا تمتشطي بالطيب ولا بالحناء فإنه خضاب قلت فبأي شيء أمتشط يا رسول الله قال بالسدر وتغفلين به رأسك
( قال مالك الإحداد على الصبية التي لم تبلغ المحيض كهيئته على التي قد بلغت المحيض تجتنب ما تجتنب المرأة البالغة إذا هلك زوجها ) لأنه بالوجه الذي يلزمها العدة يلزمها الإحداد به
قال الجمهور وقال أبو حنيفة لا إحداد عليها لقوله لا يحل لامرأة والصبية لا تسمى امرأة
وأجيب على تسليمه بأنه خرج مخرج الغالب
( وتحد الأمة إذا توفي زوجها شهران وخمس ليال مثل ) أي قدر ( عدتها ) لأنها زوجة فشملها الحديث
( وليس على أم الولد إحداد إذا هلك عنها سيدها ولا على أمة ) قنة ( يموت عنها سيدها إحداد ) وقد كان يطؤها
____________________
(3/304)
( وإنما الإحداد على ذوات الأزواج ) لقوله في الحديث إلا على زوج
( مالك أنه بلغه أن أم سلمة زوج النبي كانت تقول تجمع الحاد رأسها ) أي شعره أي تمشطه ( بالسدر والزيت ) الذي لا طيب فيه
____________________
(3/305)
5111111 1 1
14 كتاب الرضاع بفتح الراء وكسرها اسم لمص الثدي وشرب لبنه وهذا الغالب الموافق للغة وإلا فهو اسم لحصول لبن امرأة أو ما حصل منه في جوف طفل والأصل في تحريمه قبل الإجماع قوله تعالى { وأمهاتكم اللاتي أرضعنكم وأخواتكم من الرضاعة } سورة النساء الآية 23 وحديث يحرم من الرضاعة ما يحرم من الولادة
1 رضاعة الصغيرة رح 1313 بفتح الراء وكسرها
( مالك عن عبد الله بن أبي بكر ) بن محمد بن عمرو بن حزم الأنصاري ( عن عمرة بنت عبد الرحمن ) بن سعد بن زرارة الأنصارية ( أن عائشة أم المؤمنين أخبرتها أن رسول الله كان عندها ) في حجرتها ( وأنها سمعت صوت رجل ) قال الحافظ لم أعرف اسمه ( يستأذن في بيت حفصة ) أم المؤمنين بنت عمر والجملة في محل جر صفة رجل
( قالت عائشة ) مريدة علم الحكم ( فقلت يا رسول الله هذا رجل يستأذن في بيتك ) الذي فيه حفصة ( فقال رسول الله أراه ) بضم الهمزة أظنه ( فلانا لعم لحفصة من الرضاعة فقالت عائشة ) من باب الالتفات ومقتضى السياق فقلت ( يا رسول الله لو كان فلان حيا لعمها ) اللام بمعنى عن أي عن عمها ( من الرضاعة دخل علي ) بشد الياء
____________________
(3/306)
أي هل كان يجوز أن يدخل علي قال الحافظ لم أقف على اسم عم عائشة أيضا ووهم من فسره بأفلح أخي أبي القعيس والد عائشة من الرضاعة وأما أفلح فهو أخوه وهو عمها من الرضاعة وقد عاش حتى جاء ليستأذن على عائشة فامتنعت فأمرها أن تأذن له كما يأتي والمذكور هنا عمها أخو أبيها أبي بكر من الرضاعة أرضعتهما امرأة واحدة وقيل هما واحد وغلطه النووي بأن عمها في حديث أبي القعيس كان حيا والآخر كان ميتا كما يدل له قولها لو كان حيا وإنما ذكرت ذلك في العم الثاني لأنها جوزت تبدل الحكم فسألت مرة أخرى قال الحافظ ويحتمل أنها ظنت أنه مات لبعد عهدها به ثم قدم بعد ذلك فاستأذن ( فقال رسول الله نعم ) أي كان يجوز دخوله عليك وعلله بقوله ( إن الرضاعة تحرم ) بضم أوله وشد الراء المكسورة ( ما تحرم الولادة ) أي مثل ما تحرمه ففيه مضاف من سائر الأحكام وفيه أن قليل الرضاع يحرم إذ لم يسأل عن عدة الرضعات بل جعله عاما بلا تفصيل وأطلق في التعليل وأخرجه البخاري عن عبد الله بن يوسف وإسماعيل ومسلم عن يحيى وأبو داود والترمذي والنسائي من طريق معن أربعتهم عن مالك به
( مالك عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة أم المؤمنين أنها قالت جاء عمي من الرضاعة ) هو أفلح كما في الرواية التالية لهذه ( يستأذن ) يطلب الأذن ( علي ) في الدخول ( فأبيت ) امتنعت ( أن آذن ) بالمد ( له علي ) للتردد في أنه محرم وغلبت التحريم على الإباحة ( حتى أسأل رسول الله ) لأنها جوزت تغير الحكم بالنسخ أو نسيت وإلا فكان يكفيها سؤالها عن عمها الأول في قصة حفصة السابقة فهذا مما يرجح أنهما اثنان ويرد القول بأنهما واحد قال عياض وهو الأشبه على أن بعضهم رجح أنهما واحد وأجاب عن هذا فقال لعل عم حفصة بخلاف عم عائشة أفلح إما بأن يكون أحدهما شقيقا والآخر لأب أو لأم أو يكون أحدهما أقرب في العمومة والآخر أبعد أو يكون أحدهما أرضعته زوجة أخيه في حياته والآخر بعد موته فأشكل الأمر عليها في حديث حفصة حتى سألت عن حكم ذلك وحقيقته ( عن ذلك ) سقطت في نسخة ( فجاء رسول الله فسألته عن ذلك فقال إنه عمك فأذني له ) في الدخول عليك ( قالت فقلت يا رسول الله إنما أرضعتني المرأة ) أي امرأة أخيه ( ولم يرضعني الرجل ) الذي
____________________
(3/307)
هو أخوه حتى يكون عمي وفي رواية للشيخين فإن أخاه أبا القعيس ليس هو أرضعني ولكن أرضعتني امرأة أبي القعيس ( فقال إنه عمك فليلج ) بالجيم يدخل عليك لأن سبب اللبن هو ماء الرجل والمرأة معا فوجب أن يكون الرضاع منهما ولذا قال ابن عباس اللقاح واحد كما يأتي
( قالت عائشة وذلك بعدما ضرب علينا الحجاب ) آخر سنة خمس أي حكمه أو آيته
( وقالت عائشة يحرم من الرضاعة ما يحرم ) بفتح أوله وضم ثالثه فيهما ( من الولادة ) كذا رواه هشام عن أبيه موقوفا وتقدم مرفوعا عن عمرة عنها ويأتي عن سليمان وعروة عن عائشة مرفوعا أيضا
وللبخاري عن شعيب عن الزهري عن عروة فلذلك كانت تقول عائشة فذكره فكأنه كان يحدث به بالوجهين
وفي مسلم عن عراك بن مالك عن عروة عن عائشة أن عمها من الرضاعة أفلح استأذن عليها فحجبته فقال لا تحتجبي عنه فإنه يحرم من الرضاعة ما يحرم من النسب قال القرطبي فيه دليل على جواز الرواية بالمعنى أو قال اللفظين في وقتين
قد تابع مالكا في رواية هذا الحديث عن هشام عبد الله بن نمير ولم يسم العم وكذا تابعه حماد بن زيد عن هشام بهذا الإسناد أن أخا أبي قعيس استأذن عليها فذكر نحوه وأبو معاوية عن هشام بهذا الإسناد نحوه غير أنه قال استأذن عليها أبو القعيس كما في مسلم قال عياض المعروف أخو أبي القعيس كما في الأحاديث الأخر وهو أشبه عند أهل الصنعة يعني المحدثين وقال غيره هو وهم من أبي معاوية فقد خالفه حماد بن زيد وهو أحفظ منه لحديث هشام
( مالك عن ابن شهاب عن عروة بن الزبير عن عائشة أم المؤمنين أنها أخبرته أن أفلح ) بفتح الهمزة وإسكان الفاء وفتح اللام وحاء مهملة صحابي قال ابن منده عداده في بني سليم وقال أبو عمر يقال إنه من الأشعريين وفي رواية لمسلم أفلح بن قعيس وفي أخرى له استأذن علي عمي أبو الجعد قال في الإصابة وكأنها كنية أفلح ( أخا أبي القعيس ) بضم القاف وفتح العين المهملة وسكون التحتية وسين مهملة واسمه وائل بن أفلح الأشعري كما عند الدارقطني وقيل اسمه الجعد كما في المقدمة وأخا بالنصب بدل من أفلح
هذا هو الصواب المشهور ولا يخالفه رواية عراك بن مالك عن عروة عن عائشة أفلح بن أبي القعيس لجواز أن يكون أبو القعيس ابن أبي القعيس وقول محمد بن عمرو عن عروة استأذن أبو القعيس وأظنه وهما فابن شهاب لا يقاس به حفظا وإتقانا فلا حجة فيما خالفه قاله أبو عمر
( جاء ) حال كونه ( يستأذن عليها وهو ) أي أفلح ( عمها ) أي عائشة ( من الرضاعة ) وهو التفات وإلا فمقتضى السياق علي وهو عمي
وفي رواية معمر عن الزهري عند مسلم وكان أبو القعيس زوج المرأة التي أرضعت عائشة وكان استئذانه ( بعد أن أنزل الحجاب ) أي آيته أو حكمه
____________________
(3/308)
( قالت ) عائشة ( فأبيت ) امتنعت ( أن آذن ) بالمد ( له ) في الدخول ( علي ) للتردد في أنه محرم وغلبت التحريم على الإباحة زاد في رواية عراك بن مالك عن عروة عند البخاري فقال أتحتجبين مني وأنا عمك فقلت وكيف ذلك قال أرضعتك امرأة أخي بلبن أخي ( فلما جاء رسول الله أخبرته بالذي صنعت ) من منع أفلح وقوله أتحتجبين الخ ( فأمرني أن آذن ) بالمد ( له ) في الدخول ( علي ) بشد الياء وزاد في رواية لهما قلت إنما أرضعتني المرأة ولم يرضعني الرجل قال تربت يداك أو يمينك وفي رواية عراك صدق أفلح ائذني له ولمسلم لا تحتجبي منه فإنه يحرم من الرضاعة ما يحرم من النسب واستشكل عمله بمجرد دعوى أفلح دون بينة وأجيب باحتمال اطلاعه على ذلك وفيه أن لبن الفحل يحرم حتى تثبت الحرمة من جهة صاحب اللبن كما ثبت في جانب المرضعة وأن زوج المرضعة بمنزلة الوالد للرضيع وأخاه بمنزلة العم فإنه أثبت عمومة الرضاع وألحقها بالنسب لأن سبب اللبن هو ماء الرجل والمرأة معا فوجب أن يكون الرضاع منهما وهذا مذهب الأئمة الأربعة كجمهور الصحابة والتابعين وفقهاء الأمصار وقال قوم منهم ربيعة وداود وأتباعه الرضاعة من قبل الرجل لا تحرم شيئا لقوله تعالى { وأمهاتكم اللاتي أرضعنكم وأخواتكم من الرضاعة } سورة النساء الآية 23 ولم يذكر البنات كما ذكرها في تحريم النسب ولا ذكر من يكون من جهة الأب كالعمة كما ذكرها في النسب قال المازري ولا حجة في ذلك لأنه ليس بنص وذكر الشيء لا يدل على سقوط الحكم عما سواه وهذا الحديث نص في الحرمة فهو أولى أي أحق أن يقدم اه
واحتج بعضهم لذلك بأن اللبن لا ينفصل عن الرجل وإنما ينفصل عن المرأة فكيف ينشر الحرمة إلى الرجل وأجيب بأنه قياس في مقابلة النص فلا يلتفت إليه لا سيما وقد قالت له عائشة هذا القياس إنما أرضعتني المرأة ولم يرضعني الرجل فقال إنه عمك فليلج عليك كما مر
وأخرجه البخاري عن عبد الله بن يوسف ومسلم عن يحيى كلاهما عن مالك به وتابعه شعيب عند البخاري ويونس ومعمر عند مسلم كلهم عن ابن شهاب نحوه وتابعه في شيخه عراك بن مالك عند الشيخين نحوه
( مالك عن ثور بن زيد الديلي ) بكسر الدال المهملة وسكون الياء قال أبو عمر لم يسمع ثور من ابن عباس بينهما عكرمة والحديث محفوظ لعكرمة وغيره ( عن عبد الله بن عباس أنه كان يقول ما كان في الحولين وإن كان مصة واحدة فهو يحرم ) تمسكا بعموم الأحاديث وعليه جمهور العلماء من الصحابة والتابعين والأئمة كعلي وابن مسعود وابن عمر ومالك وأبي حنيفة والأوزاعي والثوري وهو مشهور مذهب أحمد وتمسكوا أيضا بقوله تعالى { وأمهاتكم اللاتي أرضعنكم } سورة النساء الآية 23 والقصة توجب تسمية المرأة أما
____________________
(3/309)
من الرضاعة وتعقب بأنه إنما يكون دليلا لو كان اللفظ واللاتي أرضعنكم أمهاتكم فيثبت كونها أما بما قل من الرضاعة
وأجيب بأن مفهوم التلاوة
وأمهاتكم اللاتي أرضعنكم محرمات لأجل أنهن أرضعنكم فتعود إلى معنى ما قالوه وتوجب تعليق الحكم بما يسمى رضاعا
وذهب داود إلى اعتبار ثلاث رضعات لحديث عائشة مرفوعا لا تحرم المصة والمصتان وحديث أم الفضل مرفوعا لا تحرم الرضعة والرضعتان والمصة والمصتان رواهما مسلم فنص الحديث على عدم الحرمة بالرضعة والرضعتين فلو سلم أن ظاهر القرآن الإطلاق فالحديث مبين له وبيانه أحق أن يتبع ولحديث إنما الرضاع ما فتق الأمعاء وحديث إنما الرضاع ما أنشر اللحم يروى بالراء أي شده وأبقاه من نشر الله الميت إذا أحياه وبالزاي زاد فيه وعظمه من النشز وهو الارتفاع والمصة والمصتان لا يفتقان الأمعاء ولا ينشران العظم وتعقب بأن للمصة الواحدة نصيبا فيهما وأما الحديث فلعله كان حين يعتبر في التحريم العشر والعدد قبل نسخه
وأما دعوى وقفه فغير مسلمة لأنه جاء مرفوعا من طرق صحاح كما قال عياض وأعل أيضا بالاضطراب ورد فلما احتمل رجعنا إلى ظاهر القرآن ومفهوم الأخبار وتنزيل النبي إياه منزلة النسب وليس لذلك عدد إلا مجرد الوطء فكذلك الرضاع وقياسا على تحريم الوطء بالصهر وغير ذلك
وقال الشافعي لا يحرم بأقل من خمس رضعات لحديث عائشة الآتي ويجيء الكلام فيه
( مالك عن ابن شهاب عن عمرو ) بفتح العين ( ابن الشريد ) بفتح المعجمة الثقفي أبي الوليد الطائفي من ثقات التابعين ( أن عبد الله بن عباس سئل عن رجل كانت له امرأتان ) وفي رواية قتيبة ومعن عن مالك بسنده جاريتان ( فأرضعت إحداهما غلاما وأرضعت الأخرى جارية ) أي بنتا صغيرة ( فقيل له هل يتزوج الغلام الجارية فقال لا ) يتزوجها ( اللقاح واحد ) بفتح اللام قال الهروي قال الليث اللقاح اسم ماء الفحل ويحتمل أن يكون اللقاح بمعنى الإلقاح يقال لقح الناقة إلقاحا ولقاحا كما يقول أعطى إعطاء وعطاء والأصل فيه للإبل ثم يستعار للنساء اه
وهذا الحديث رواه الترمذي عن قتيبة ومن طريق معن كليهما عن مالك به
( مالك عن نافع أن عبد الله بن عمر كان يقول لا رضاعة إلا لمن أرضع في الصغر ولا رضاعة لكبير ) أي لا تحرم شيئا لقوله تعالى { يرضعن أولادهن حولين كاملين لمن أراد أن يتم الرضاعة }
____________________
(3/310)
( البقرة 233 ) فأشعر جعل تمامها إلى الحولين أن الحكم بعدهما بخلافه لأن الولد يستغني غالبا عن اللبن ولا يشبعه بعدهما إلا اللحم والخبز ونحوهما وإلى هذا ذهب الجمهور ومنهم مالك في رواية ابن وهب لكن روى غيره عنه زيادة أيام يسيرة بعدهما وزيادة شهر وشهرين وثلاثة لافتقار الطفل بعد الحولين إلى مدة يحال فيها فطامه لأن العادة أنه لا يفطم دفعة واحدة بل على التدريج فحكم رضاعه في تلك المدة حكم الحولين ولذا قال المازري إن الخلاف عن مالك في تحديد الزيادة خلاف في حال القدر الذي جرت العادة فيه باستغنائه بالطعام
وقال أبو حنيفة أقصى الرضاع ثلاثون شهرا
ورده المازري بأن قوله تعالى { وحمله وفصاله ثلاثون شهرا } سورة الأحقاف الآية 15 يتضمن أقل الحمل وأكثر الرضاع فلا معنى لاعتباره في الرضاع وحده وقال زفر ثلاث سنين
رح 1319 ( مالك عن نافع أن سالم بن عبد الله بن عمر أخبره أن عائشة أم المؤمنين أرسلت به وهو يرضع ) بفتح الضاد وماضيه رضع بكسرها وأهل نجد يفتحون الماضي ويكسرون المضارع قاله الجوهري ( إلى أختها أم كلثوم ) بضم الكاف ( بنت أبي بكر الصديق ) التيمية تابعية مات أبوها وهي حمل فوضعت بعد وفاته وقصتها بذلك صحيحة في الموطأ وغيره أرسلت حديثا فذكرها بسببه ابن منده وابن السكن في الصحابة فوهما ( فقالت أرضعيه عشر رضعات حتى يدخل علي ) قال السيوطي هذه خصوصية لأزواج النبي خاصة دون سائر النساء
قال عبد الرزاق في مصنفه عن معمر أخبرني ابن طاوس عن أبيه قال كان لأزواج النبي رضعات معلومات وليس لسائر النساء رضعات معلومات ثم ذكر حديث عائشة هذا وحديث حفصة الذي بعده وحينئذ فلا يحتاج إلى تأويل الباجي وقوله لعله لم يظهر لعائشة النسخ بخمس إلا بعد هذه القصة اه
وبه يرد إشارة ابن عبد البر إلى شذوذ رواية نافع هذه بأن أصحاب عائشة الذين هم أعلم بها من نافع وهم عروة والقاسم وعمرة رووا عنها خمس رضعات فوهم من روي عنها عشر رضعات لأنه صح عنها أن الخمس نسخن العشر ومحال أن تعمل بالمنسوخ كذا قال وهو سهو لأن نافعا قال إن سالما أخبره عن عائشة وكل منهما ثقة حجة حافظ وقد أمكن الجمع بأنها خصوصية للزوجات الشريفات كما قاله طاوس فلا وهم ولا شذوذ
( قال سالم فأرضعتني أم كلثوم ثلاث رضعات ثم مرضت فلم ترضعني غير ثلاث مرات فلم أكن أدخل على عائشة من أجل أن أم كلثوم لم تتم لي عشر رضعات ) التي تجعلني محرما لعائشة
____________________
(3/311)
وللزوجات الشريفات في شدة الحجاب ما ليس لغيرهن
( مالك عن نافع أن صفية بنت أبي عبيد ) الثقفية زوجة مولاه ( أخبرته أن حفصة أم المؤمنين أرسلت بعاصم بن عبد الله بن سعد ) بسكون العين ( إلى أختها فاطمة بنت عمر بن الخطاب ترضعه عشر رضعات ليدخل عليها ) إذا بلغ ( وهو صغير يرضع ) متعلق بقوله أرسلت أو بقوله ترضعه لا بيدخل عليها كما هو ظاهر جدا ( ففعلت ) أي أرضعته عشرا ( فكان يدخل عليها ) لأنها خالته من الرضاعة
( مالك عن عبد الرحمن بن القاسم عن أبيه أنه أخبره أن عائشة زوج النبي كان يدخل عليها من أرضعته أخواتها وبنات أخيها ولا يدخل عليها من أرضعه نساء إخوتها ) لأن المرضع إنما هو المرأة والرجل لم يرضع فلا يحرم عند جماعة كابن عمر وجابر وجماعة من التابعين وداود وابن علية كما حكاه أبو عمر قائلا وحجتهم أن عائشة كانت تفتي بخلاف حديث أبي القعيس يعني والعبرة عند قوم برأي الصحابي إذا خالف مرويه قال ولا حجة في ذلك لأن لها أن تأذن لمن شاءت من محارمها وتحجب من شاءت ولكن لم يعلم أنها حجبت من ذكر إلا بخبر واحد كما علمنا المرفوع بخبر واحد فوجب علينا العمل بالسنة إذ لا يضرها من خالفها اه
وقد نسب المازري لعائشة القول بأن لبن الفحل لا يحرم واستبعده الزواوي مع مشافهة النبي إياها بأنه يحرم في حديث أفلح السابق ومحال أن لا يصدر منها مخالفتها لأن التأويل في حقها لا يصح مع مشافهته فأما غيرها فقد يتأول لمعارضة أو غيرها كذا قال والإسناد إليها صحيح بلا شك وكثيرا ما يخالف الصحابي مرويه لدليل قام عنده فيحتمل أنها فهمت أن ترخيصه لها في أفلح لا يقتضي تعميم الحكم في كل فحل لأن له أن يخص ما شاء بما شاء أو فهمت غير ذلك وقد كانت عائشة تتم في السفر مع أنها روت القصر
( مالك عن إبراهيم بن عقبة ) بالقاف المدني ( أنه سأل سعيد بن المسيب عن الرضاعة فقال سعيد كل ما كان في الحولين وإن كان قطرة واحدة ) وصلت لجوف الطفل ( فهو يحرم ) بشد الراء
____________________
(3/312)
المكسورة ( وما كان بعد الحولين فإنما هو طعام يأكله ) فلا يحرم
( قال إبراهيم بن عقبة ثم سألت عروة بن الزبير فقال مثل ما قال سعيد بن المسيب ) لموافقة اجتهاده لاجتهاده
( مالك عن يحيى بن سعيد أنه قال سمعت سعيد بن المسيب يقول لا رضاعة ) محرمة ( إلا ما كان في المهد ) وهو ما يمهد للصبي لينام فيه ( وإلا ما أنبت اللحم والدم ) فرضاع الكبير لا يحرم لأنه لا ينبت شيئا منهما وللدارقطني عن ابن عباس مرفوعا لا رضاع إلا ما كان في الحولين وللترمذي وحسنه لا رضاع إلا ما فتق الأمعاء وكان قبل الحولين
ولأبي داود عن ابن مسعود موقوفا لا رضاع إلا ما شد العظم وأنبت اللحم ورواه مرفوعا إنما الرضاع ما أنشز العظم وفتق الأمعاء
( مالك عن ابن شهاب أنه كان يقول الرضاعة قليلها وكثيرها تحرم ) تنشر الحرمة على ظاهر القرآن والأحاديث كما قال به جمهور العلماء من الصحابة والتابعين والأئمة مع علمهم حديث المصتين وإذا تركوا ذلك لم يسترب أنه لعلة من نسخ أو معارض يوجب تركه وإن صح إسناده ويرجع إلى ظاهر القرآن والأحاديث المطلقة وللقاعدة التي هي أصل في الشريعة أنه متى حصل إشكال في قصة أو تعارض مبيح ومانع فالأخذ به أحق لأنه أحوط
( والرضاعة من قبل الرجال ) بكسر القاف وفتح الباء أي جهتهم ( تحرم ) تنشر الحرمة لنصه على ذلك وتعليله بأن الرضاعة تحرم ما تحرم الولادة ولا عطر بعد عروس فلا عبرة بمخالفة الظاهرية وابن علية
( قال يحيى وسمعت مالكا يقول والرضاعة قليلها ) ولو مصة ( وكثيرها إذا كان في الحولين تحرم فأما ما كان بعد الحولين ) ولو بيوم على ظاهره أو ما قاربهما وفيه روايات عن مالك تقدمت ( فإن قليله وكثيره لا يحرم شيئا وإنما هو بمنزلة الطعام ) وهو لا يحرم
____________________
(3/313)
2 ما جاء في الرضاعة بعد الكبر ( مالك عن ابن شهاب أنه سئل عن رضاعة الكبير ) هل تؤثر التحريم ( فقال أخبرني عروة ابن الزبير ) قال ابن عبد البر هذا حديث يدخل في المسند أي الموصول للقاء عروة عائشة وسائر أزواجه صلى الله عليه وسلم وللقائه سهلة بنت سهيل وقد وصله جماعة منهم معمر وعقيل ويونس وابن جرير عن ابن شهاب عن عروة عن عائشة بمعناه ورواه عثمان بن عمر وعبد الرزاق كلاهما عن مالك عن ابن شهاب عن عروة عن عائشة ( أن أبا حذيفة ) اسمه مهشم وقيل هشيم وقيل هاشم ( ابن عتبة بن ربيعة ) بن عبد شمس بن عبد مناف القرشي العبشمي كان طوالا حسن الوجه ( وكان من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ) السابقين إلى الإسلام قال ابن إسحاق أسلم بعد ثلاثة وأربعين إنسانا وهاجر الهجرتين وصلى إلى القبلتين ( وكان قد شهد بدرا ) وسائر المشاهد واستشهد يوم اليمامة وهو ابن ست وخمسين سنة ( وكان تبنى سالما ) الفارسي المهاجري الأنصاري ( الذي يقال له سالم مولى أبي حذيفة ) قال البخاري كان مولى امرأة من الأنصار قال ابن حبان يقال لها ليلى ويقال ثبيتة بضم المثلثة وفتح الموحدة وسكون التحتية وفتح الفوقية بنت يعار بفتح التحتية والمهملة المخففة فألف فراء ابن زيد بن عبيد وكانت امرأة أبي حذيفة وبهذا جزم ابن سعد وقيل اسمها سلمى وقال ابن شاهين سمعت ابن أبي داود يقول هو سالم بن معقل مولى فاطمة بنت يعار الأنصارية أعتقته سائبة فوالى أبا حذيفة فتبناه أي اتخذه ابنا وشهد اليمامة وكان معه لواء المهاجرين فقطعت يمينه فأخذه بيساره فقطعت فاعتنقه إلى أن صرع فقال ما فعل أبو حذيفة قيل قتل قال فأضجعوني بجنبه فأرسل عمر ميراثه إلى معتقته ثبيتة فقالت إنما أعتقته سائبة فجعله في بيت المال رواه ابن المبارك
وذكر ابن سعد أن عمر أعطى ميراثه لأمه فقال كليه وكان ذلك ترك إلى أن تولى عمر وإلا فاليمامة كانت في خلافة أبي بكر ( كما تبنى ) أي اتخذ ( رسول الله صلى الله عليه وسلم زيد بن حارثة ) الكلبي ابنا ( وأنكح ) أي زوج ( أبو حذيفة سالما وهو يرى أنه ابنه ) المتبنى المذكور ( أنكحه ) أعاده لطول الكلام بالفصل بقوله وهو الخ وهذا حسن موجود في القرآن كقوله { ولما جاءهم كتاب من عند الله مصدق لما معهم وكانوا من قبل يستفتحون على الذين كفروا فلما جاءهم ما عرفوا كفروا به } البقرة 89 فأعاد لما جاءهم لطول الكلام وقوله { أيعدكم أنكم إذا متم وكنتم ترابا وعظاما أنكم مخرجون } سورة المؤمنون الآية 35 فأعاد أنكم ( بنت أخيه فاطمة ) وفي رواية يونس وشعيب وغيرهما عن الزهري هند قال ابن عبد البر والصواب فاطمة ( بنت الوليد بن عتبة بن ربيعة وهي يومئذ من المهاجرات الأول ) الفاضلات ( وهي من أفضل أيامى قريش ) جمع أيم من لا زوج لها بكرا أو ثيبا زاد في رواية شعيب عن الزهري وكان من تبنى رجلا في الجاهلية دعاه الناس إليه وورث ميراثه ( فلما أنزل الله تبارك وتعالى في كتابه في زيد بن حارثة ما أنزل فقال { ادعوهم لآبائهم هو أقسط } أعدل { عند الله فإن لم تعلموا آباءهم فإخوانكم في الدين ومواليكم } سورة الأحزاب الآية 5 { بنو }
____________________
(3/314)
عمكم ( رد ) بالبناء للمفعول ( كل واحد من أولئك إلى أبيه ) الذي ولده ( فإن لم يعلم أبوه رد إلى مولاه ) وفي رواية شعيب فمن لم يعلم له أب كان مولى وأخا في الدين ( فجاءت سهلة ) بفتح المهملة وسكون الهاء ( بنت سهيل ) بضم السين مصغر ابن عمرو بفتح العين أسلمت قديما بمكة ( وهي امرأة أبي حذيفة ) وهاجرت معه إلى الحبشة فولدت له هناك محمدا وهي ضرة معتقة سالم الأنصارية ( وهي من بني عامر بن لؤي ) فهي قرشية عامرية وأبوها صحابي شهير ( إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت يا رسول الله إنا كنا نرى ) نعتقد ( سالما ولدا ) بالتبني ( وكان يدخل علي وأنا فضل ) بضم الفاء والضاد المعجمة قال ابن وهب أي مكشوفة الرأس والصدر وقيل على ثوب واحد لا إزار تحته وقيل متوشحة بثوب على عاتقها خالفت بين طرفيه قال ابن عبد البر أصحها الثاني لأن كشف الحرة الصدر لا يجوز عند محرم ولا غيره ( وليس لنا إلا بيت واحد ) فلا يمكن الاحتجاب منه زاد في رواية شعيب وقد أنزل الله فيه ما علمت ( فماذا ترى في شأنه ) ولمسلم عن القاسم عن عائشة فقالت إني أرى في وجه أبي حذيفة من دخول سالم وهو حليفه
وله من وجه آخر عن القاسم عنها فقالت إن سالما قد بلغ ما يبلغ الرجال وعقل ما عقلوه وإنه يدخل علينا وإني أظن أن في نفس أبي حذيفة من ذلك شيئا ولا منافاة فإن سهلة ذكرت السؤالين للنبي صلى الله عليه وسلم واقتصر كل راو على واحد
( فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم أرضعيه خمس رضعات ) قال ابن عبد البر وفي رواية يحيى بن سعيد الأنصاري عن ابن شهاب بإسناده عشر رضعات والصواب رواية مالك وتابعه يونس خمس رضعات ( فيحرم بلبنها ) زاد في مسلم فقالت كيف أرضعه وهو رجل كبير فتبسم صلى الله عليه وسلم وقال قد علمت
____________________
(3/315)
أنه رجل كبير وكان قد شهد بدرا
وفي لفظ له أرضعيه تحرمي عليه ويذهب الذي في نفس أبي حذيفة فرجعت إليه فقالت إني قد أرضعته فذهب الذي في نفس أبي حذيفة
قال أبو عمر صفة رضاع الكبير أن يحلب له اللبن ويسقاه فأما أن تلقمه المرأة ثديها فلا ينبغي عند أحد من العلماء
وقال عياض ولعل سهلة حلبت لبنها فشربه من غير أن يمس ثديها ولا التقت بشرتاهما إذ لا يجوز رؤية الثدي ولا مسه ببعض الأعضاء
قال النووي وهو حسن ويحتمل أنه عفى عن مسه للحاجة كما خص بالرضاعة مع الكبر وأيده بعضهم بأن ظاهر الحديث أنه رضع من ثديها لأنه تبسم وقال قد علمت أنه رجل كبير ولم يأمرها بالحلب وهو موضع بيان ومطلق الرضاع يقتضي مص الثدي فكأنه أباح لها ذلك لما تقرر في نفسهما أنه ابنها وهي أمه فهو خاص بهما لهذا المعنى وكأنهم رحمهم الله تعالى لم يقفوا في ذلك على شيء
وقد روى ابن سعد عن الواقدي عن محمد بن عبد الله ابن أخي الزهري عن أبيه قال كانت سهلة تحلب في مسعط أإناء قدر رضعته فيشربه سالم في كل يوم حتى مضت خمسة أيام فكان بعد ذلك يدخل عليها وهي حاسر رخصة من رسول الله صلى الله عليه وسلم لسهلة
( وكانت تراه ابنا من الرضاعة ) لقوله صلى الله عليه وسلم أرضعيه تحرمي عليه ( فأخذت بذلك عائشة أم المؤمنين فيمن كانت تحب أن يدخل عليها من الرجال ) الأجانب ( فكانت تأمر أختها أم كلثوم ) بضم الكاف من الكلثمة وهي الحسن ( ابنة أبي بكر الصديق وبنات أخيها ) عبد الرحمن ( أن يرضعن من أحبت أن يدخل عليها من الرجال ) قال ابن المواز ما علمت من أخذ به عاما إلا عائشة ولو أخذ به في رفع الحجاب آخذ لم أعبه وتركه أحب إلى الباجي وانعقد الإجماع على أنه لا يحرم يعني والخلاف إنما كان أولا ثم انقطع القرطبي في قول ابن المواز عاما نظر فحديث الموطأ نص في أنها أخذت به في رفع الحجاب خاصة ألا ترى قوله من تحب أن يدخل عليها من الرجال اه ولا نظر فمراد ابن المواز بالعموم في كل الناس لا خاص بسهلة
وقال ابن العربي ذهب إلى قولها أن رضاع الكبير يحرم عطاء والليث لحديث سهلة هذا ولعمر الله إنه لقوي ولو كان خاصا بسالم لقال لها ولا يكون لأحد بعدك كما قال لأبي بردة في الجذعة اه وليس بلازم
وقال أبو عمر قال به قوم منهم عطاء والليث وروي عن علي ولا يصح عنه
وروى ابن وهب عن الليث أكره رضاع الكبير أن أحل منه شيئا
وروى عبد الله بن صالح أن امرأة جاءت إلى الليث فقالت أريد الحج وليس لي محرم فقال اذهبي إلى امرأة رجل ترضعك فيكون زوجها أبا لك فتحجين معه وحجتهم حديث عائشة هذا وفتواها وعملها به ( وأبى ) امتنع ( سائر ) أي باقي ( أزواج النبي صلى الله عليه وسلم أن يدخل عليهن بتلك الرضاعة أحد من
____________________
(3/316)
الناس ) زاد أبو داود حتى يرضع في المهد ( وقلن ) لعائشة ( لا والله ما نرى ) نعتقد ( الذي أمر به رسول الله صلى الله عليه وسلم سهلة بنت سهيل إلا رخصة من رسول الله صلى الله عليه وسلم في رضاعة سالم وحده ) لأنها قضية في عين لم تأت في غيره واحتفت بها قرينة التبني وصفات لا توجد في غيره فلا يقاس عليه قال المازري ولها أن تجيب بأنه ورد متأخرا فهو ناسخ لما عداه مع ما لأمهات المؤمنين من شدة الحكم في الحجاب والتغليظ فيه كذا قال وفيه نظر لا يخفى
( لا والله لا يدخل علينا بهذه الرضاعة أحد فعلى هذا كان أزواج النبي صلى الله عليه وسلم في رضاعة الكبير ) فأجازته عائشة ومنعه باقيهن
وفي مسلم عن ابن أبي مليكة أنه سمع هذا الحديث من القاسم عن عائشة قال فمكثت سنة أو قريبا منها لا أحدث به رهبة ثم لقيت القاسم فأخبرته قال حدثه عني أن عائشة أخبرتنيه قال أبو عمر هذا يدل على أنه حديث ترك قديما ولم يعمل به ولا تلقاه الجمهور بالقبول على عمومه بل تلقوه على أنه خصوص
وقال ابن المنذر لا يبعد أن يكون حديث سهلة منسوخا وقد روى البخاري بعضه عن شعيب عن الزهري عن عروة عن عائشة ورواه أبو داود والبرقاني تاما نحوه ومسلم من طرق عن زينب بنت أم سلمة عن أمها أنها قالت لعائشة إنه يدخل عليك الغلام الأيفع الذي ما أحب أن يدخل علي فقالت عائشة أمالك في رسول الله أسوة فذكرت الحديث بنحوه
وفي بعض طرقه عن زينب أن أمها قالت أبى سائر أزواج النبي صلى الله عليه وسلم أن يدخل عليهن أحد بتلك الرضاعة وقلن لعائشة والله ما نرى هذا إلا رخصة الخ
( مالك عن عبد الله بن دينار قال جاء رجل ) لم يسم ( إلى عبد الله بن عمر وأنا معه عند دار القضاء ) بالمدينة ( يسأله عن رضاعة الكبير فقال عبد الله بن عمر جاء رجل ) قال أبو عمر هو أبو عبس بن جبر الأنصاري ثم الحارثي البدوي ( إلى عمر بن الخطاب فقال إني كانت لي وليدة ) أمة ( وكنت أطؤها فعمدت ) بفتح الميم قصدت ( امرأتي إليها فأرضعتها ) لتحرمها علي ( فدخلت عليها فقالت دونك فقد والله أرضعتها ) فحرمت عليك ( فقال عمر أوجعها ) أي امرأتك ( وائت جاريتك )
____________________
(3/317)
طأها وهذا معنى إيجاعها ( فإنما الرضاعة رضاعة الصغير ) كما دلت عليه الأحاديث والتنزيل
( مالك عن يحيى بن سعيد ) الأنصاري قال أبو عمر منقطع يتصل من وجوه منها ما رواه ابن عيينة وغيره عن إسماعيل بن أبي خالد عن أبي عمرو الشيباني ( أن رجلا سأل أبا موسى ) عبد الله بن قيس ( الأشعري ) بالكوفة ( فقال إني مصصت ) بكسر الصاد الأولى وفتحها وإسكان الثانية شربت شربا رقيقا ( عن ) وفي نسخة من ( امرأتي من ثديها لبنا ) مفعول مصصت لأنه يتعدى بنفسه وقوله عن أو من متعلق مقدم عليه أي لبنا ناشئا عن أو من امرأتي ( فذهبت في بطني فقال أبو موسى لا أراها ) بضم الهمزة أظنها ( إلا قد حرمت عليك ) لظاهر قوله تعالى { وأمهاتكم اللاتي أرضعنكم } سورة النساء الآية 23 فقال عبد الله بن مسعود انظر نظر تأمل ( ما ) زاد في نسخة ( ذا تفتي به الرجل فقال أبو موسى فماذا تقول أنت فقال عبد الله بن مسعود لا رضاعة ) محرمة ( إلا ما كان في الحولين ) لقوله تعالى { حولين كاملين لمن أراد أن يتم الرضاعة } سورة البقرة الآية 233 فجعل إتمامها حولين يمنع أن الحكم بعدهما كحكمهما فتنفى رضاعة الكبير وفي الصحيحين مرفوعا إنما الرضاعة من المجاعة وفي الحديث لا رضاعة إلا ما شد العظم وأنبت اللحم أو قال أنشز العظم رواه عن ابن مسعود موقوفا ومرفوعا وصحح أبو عمر رفعه
وفي الترمذي وقال حسن مرفوعا لا رضاعة إلا ما فتق الأمعاء وكان قبل الحولين وكل ذلك ينفي رضاعة الكبير لأن رضاعه لا ينفي جوعه ولا يفتق أمعاءه ولا يشد عظمه إلى آخره
( فقال أبو موسى ) زاد في رواية ابن عيينة يا أهل الكوفة ( لا تسألوني عن شيء ما كان ) أي وجد ( هذا الحبر ) بفتح الحاء عند جمهور أهل الحديث وقطع به ثعلب وبكسرها وقدمه الجوهري والمجد أي العالم ( بين أظهركم ) أي بينكم وأظهر زائد وأتى الإمام بهذين الأثرين بعد حديث سهلة للإشارة إلى أن العمل على خلافه فهو خصوصية لها أو منسوخ وهذا مذهب الجمهور بل ادعى الباجي الإجماع عليه بعد الخلاف كما مر
____________________
(3/318)
3 جامع ما جاء في الرضاعة ( مالك عن عبد الله بن دينار ) المدني مولى ابن عمر ( عن سليمان بن يسار وعن عروة بن الزبير ) كلاهما ( عن عائشة ) قال ابن عبد البر هذا غلط من يحيى أي زيادة الواو لم يتابعه أحد من رواة الموطأ عليه والحديث محفوظ في الموطأ وغيره عن سليمان عن عروة عن عائشة ( أم المؤمنين أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال يحرم من الرضاعة ما يحرم من الولادة ) من تحريم النكاح ابتداء ودواما ونشر الحرمة بين الرضيع وأولاد المرضعة فيحرم عليها هو وفروعه من نسب ورضاع ويحرم عليه جميع أولادها ما تقدم وما تأخر وتحرم عليه هي وأخواتها من نسب ورضاع ويصير ابنا لزوجها صاحب اللبن فيحرم هو وأصوله وفروعه من نسب ورضاع إلى آخر ما بين في الفقه ومن جواز النظر والخلوة والمسافرة دون سائر أحكام النسب كميراث ونفقة وعتق بالملك ورد شهادة وهذا الحديث رواه الترمذي من طريق يحيى القطان ومعن القزاز كليهما عن مالك بسنده المذكور بلفظ إن الله حرم من الرضاعة ما حرم من الولادة اه فلعل مالكا حدث به باللفظين
( مالك عن محمد بن عبد الرحمن بن نوفل ) بن خويلد بن أسد بن عبد العزى بن قصي القرشي الأسدي أبي الأسود يتيم عروة الثقة العلامة ( قال أخبرني عروة بن الزبير عن عائشة أم المؤمنين ) رضي الله عنها ( عن جدامة ) بضم الجيم وفتح الدال المهملة على الصحيح عن مالك كما قال مسلم وهو قول الجمهور حتى قال الدارقطني من قالها بالمعجمة فقد صحف وقال الباجي بالمهملة رواية يحيى وقال أبو ذر عنه سماعي منه موطأ أبي مصعب بالمعجمة قال المازري وهي لغة ما لم يندق من السنبل في قول أبي حاتم وقال غيره إذا تحات البر فما بقي في الغربال من قصبة فهو جدامة ( بنت وهب ) بن محصن ويقال بنت جندل ويقال بنت جندب ( الأسدية ) لها سابقة وهجرة زاد في رواية لمسلم أخت عكاشة أي أخته لأمه على المختار خلافا لمن قال لعله أخي عكاشة فتكون بنت أخيه ( أنها ) أي جدامة ( أخبرتها ) أي عائشة قال ابن عبد البر كل الرواة رووه هكذا إلا أبا عامر العقدي فجعله عن عائشة لم يذكر جدامة وكذا رواه القعنبي في غير الموطأ ورواه فيه كسائر الرواة عن عائشة عن جدامة ففي روايتها عنها حرص عائشة على العلم وبحثها عنه
____________________
(3/319)
( أنها سمعت رسول الله ) وفي رواية مسلم حضرت رسول الله في أناس ( صلى الله عليه وسلم يقول لقد هممت ) أي قصدت ( أن أنهى عن الغيلة ) بكسر الغين المعجمة وبالهاء اسم من الغيل بفتحها والغيال بكسرها والغيلة بالفتح والهاء المرة الواحدة وقيل لا تفتح الغين إلا مع حذف الهاء وذكر ابن السراج الوجهين في غيلة الرضاع أما غيلة الفتل فبالكسر لا غير وفي رواية لمسلم عن الغيال وهو صحيح أيضا قاله عياض ( حتى ذكرت أن الروم ) بضم الراء نسبة إلى روم بن عيصو بن إسحاق ( وفارس ) لقب قبيلة ليس بأب ولا أم وإنما هم أخلاط من تغلب اصطلحوا على هذا الاسم ( يصنعون ذلك فلا يضر أولادهم ) وفي رواية لمسلم فنظرت في الروم وفارس فإذا هم يغيلون أولادهم فلا يضر أولادهم ذلك شيئا يعني لو كان الجماع حال الرضاع أو الإرضاع حال الحمل مضرا لضر أولاد الروم وفارس لأنهم يصنعون ذلك مع كثرة الأطباء فيهم فلو كان مضرا لمنعوهم منه فحينئذ لا أنهى عنه
قال عياض ففيه جوازه إذ لم ينه عنه لأنه رأى الجمهور لا يضره وإن أضر بالقليل لأن الماء يكثر اللبن وقد يغيره والأطباء يقولون في ذلك اللبن إنه داء والعرب تتقيه ولأنه قد يكون عنه حمل ولا يعرف فيرجع إلى إرضاع الحامل المتفق على مضرته وأخذ الجواز أيضا من حديث سعد بن أبي وقاص عند مسلم أن رجلا قال إني أعزل عن امرأتي فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لم تفعل ذلك فقال أشفق على ولدها أو على أولادها فقال لو كان ذلك ضارا ضر فارس والروم وقال الباجي لعل الغيلة إنما تضر في النادر فلذا لم ينه عنها رفقا بالناس للمشقة على من له زوجة واحدة
قال عياض وفيه أنه صلى الله عليه وسلم كان يجتهد في الأحكام واختلف الأصوليون فيه قال الأبي ووجه الاجتهاد أنه لما علم برأي أو استفاضة أنه لا يضر فارس والروم قاس العرب عليهم للاشتراك في الحقيقة ورواه مسلم عن يحيى وخلف بن هشام كلاهما عن مالك به وتابعه سعيد بن أبي أيوب ويحيى بن أيوب كلاهما عن محمد بن عبد الرحمن نحوه عند مسلم أيضا وأخرجه أحمد والأربعة من طريق مالك وغيره ولم يخرجه البخاري ولا خرج عن جدامة
( قال مالك الغيلة أن يمس الرجل امرأته وهي ترضع ) أنزل أو لا لأنه إن لم ينزل فقد تنزل المرأة فيضر اللبن وقيل إن لم ينزل فليس بغيلة
قال ابن عبد البر تفسير مالك هو قول أكثر أهل اللغة وغيرهم وقال الأخفش هي إرضاع المرأة ولدها وهي حامل لأنها إذا حملت فسد اللبن فيفسد جسم الصبي ويضعف حتى ربما كان ذلك في عقله
وفي حديث مرفوع إن الغيلة لتدرك الفارس فتعثره عن فرسه أو قال عن سرجه أي يضعف فيسقط عنه
وقال الشاعر فوارس لم يغالوا في رضاع فتنبو في أكفهم السيوف
____________________
(3/320)
ولو كان ما قاله الأخفش حقا لنهى عنه النبي صلى الله عليه وسلم إرشادا لأنه رؤوف بالمؤمنين اه
وفي الأبي احتج من قال أنها وطء المرضع بأن إرضاع الحامل مضر ودليله العيان فلا يصح حمل الحديث عليه لأن الغيلة التي فيه لا تضر وهذه تضر
وقال ابن القيم والخبر يعني حديث الباب لا ينافيه خبر لا تغيلوا أولادكم سرا فإن هذا كالمشورة عليهم والإرشاد لهم إلى ترك ما يضعف الولد ويغيله فإن المرأة المرضع إذا باشرها الرجل حرك منها دم الطمث وأهاجه للخروج فلا يبقى اللبن على اعتداله وطيب وربما حملت الموطوءة فيكون من أضر الأمور على الرضيع لأن جهة الدم حينئذ تنصرف في تغذية الجنين فيصير لبنها رديئا فيضعف الرضيع فهذا وجه الإرشاد لهم إلى تركه ولم يحرمه عليهم ولا نهى عنه لأنه لا يقع دائما لكل مولود
( مالك عن عبد الله بن أبي بكر بن حزم ) بمهملة وزاي ( عن عمرة بنت عبد الرحمن ) الأنصارية ( عن عائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم أنها قالت كان فيما أنزل من القرآن عشر رضعات معلومات ) وصفها بذلك تحرزا عما شك وصوله قاله القرطبي ( يحرمن ثم نسخن بخمس معلومات فتوفي رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو ) ولابن وضاح وهي أي الخمس لأنها أقرب ( فيما يقرأ من القرآن ) المنسوخ فالمعنى أن العشر نسخت بخمس ولكن هذا النسخ تأخر حتى توفي صلى الله عليه وسلم وبعض الناس لم يبلغه النسخ فصار يتلوه قرآنا فلما بلغه ترك فالعشر على قولها منسوخة الحكم والتلاوة والخمس منسوخة التلاوة فقط كآية الرجم ومن يحتج به على العشرة يعيد الضمير عليها ويكون من يقرؤها لم يبلغه النسخ وليس المعنى أن تلاوتها كانت ثابتة وتركوها لأن القرآن محفوظ قاله أبو عبد الله الأبي
وقال ابن عبد البر وبه تمسك الشافعي لقوله لا يقع التحريم إلا بخمس رضعات تصل إلى الجوف
وأجيب بأنه لم يثبت قرآنا وهي قد أضافته إلى القرآن واختلف عنها في العمل به فليس بسنة ولا قرآن
وقال المازري لا حجة فيه لأنه لم يثبت إلا من طريقها والقرآن لا يثبت بالآحاد فإن قيل إذا لم يثبت أنه قرآن بقي الاحتجاج به في عدد الرضعات لأن المسائل العملية يصح التمسك فيها بالآحاد قيل هذا وإن قاله بعض الأصوليين فقد أنكره حذاقهم لأنها لم ترفعه فليس بقرآن ولا حديث وأيضا لم تذكره على أنه حديث وأيضا ورد بطريق الآحاد فيما جرت العادة فيه التواتر فإن قيل إنما لم ترفعه أو لم يتواتر لأنه نسخ
قلنا قد أجبتم أنفسكم فالمنسوخ لا يعمل به وكذا قول عائشة وهي مما يتلى من القرآن أي من القرآن المنسوخ فلو أرادت من القرآن الثابت لاشتهر عند غيرها من الصحابة كما اشتهر سائر القرآن ولذا قال ( مالك وليس العمل على هذا ) بل على التحريم ولو بمصة وصلت للجوف عملا بظاهر القرآن
____________________
(3/321)
وأحاديث الرضاع وبهذا قال الجمهور من الصحابة والتابعين والأئمة وعلماء الأمصار حتى قال الليث أجمع المسلمون أن قليل الرضاع وكثيره يحرم في المهد ما يفطر الصائم حكاه في التمهيد ومن المقرر أنه إذا كان علماء الصحابة وأئمة الأمصار وجهابذة المحدثين قد تركوا العمل بحديث مع روايتهم له ومعرفتهم به كهذا الحديث فإنما تركوه لعلة كنسخ أو معارض يوجب تركه فيرجع إلى ظاهر القرآن والأخبار المطلقة وإلى قاعدة هي أصل في الشريعة وهي أنه متى حصل اشتباه في قصة كان الاحتياط فيها أبرأ للذمة وأنه متى تعارض مانع ومبيح قدم المانع لأنه أحوط وبهذا يندفع تشعيب بعض الشافعية على مالك في عدم قوله بهذا الحديث مع أنه رواه وأطال بعض المالكية في الرد على ذلك البعض بما رأيت الإضراب عن كلاميهما أولى لما في كل منهما من الاستطالة في الكلام للحمية المذهبية وهذا الحديث رواه مسلم عن يحيى وأبو داود عن القعبي والترمذي من طريق معن والنسائي من طريق ابن القاسم الأربعة عن مالك به وتابعه محمد بن إسحاق عن عبد الله بن أبي بكر نحوه عند ابن ماجه وتابعه يحيى ابن سعيد الأنصاري عن عمرة نحوه عند مسلم والله أعلم وأسأله الإعانة على التمام خالصا لوجهه بجاه أفضل الأنام
____________________
(3/322)
5111111 1 1
15 كتاب البيوع جمع بيع وجمع لاختلاف أنواعه كبيع العين وبيع الدين وبيع المنفعة والصحيح والفاسد وغير ذلك وهو لغة المبادلة
ويطلق أيضا على الشراء
قال الفرزدق إن الشباب الرابح من باعه والشيب ليس لبائعه تجار يعني من اشتراه ويطلق الشراء أيضا على البيع ومنه { وشروه بثمن بخس } يوسف 20 سمي البيع بيعا لأن البائع يمد باعه إلى المشتري حالة العقد غالبا كما يسمى صفقة لأن أحد المتبايعين يصفق يده على يد صاحبه لكن رد الأخذ بأن البيع يائي والباع واوي
تقول بعت الشيء بالضم أبوعه بوعا إذا قسمته بالباع واسم الفاعل من باع بائع بالهمز وتحريكه لحن واسم المفعول مبيع وأصله مبيوع فالمحذوف منه واو مفعول لأنها زائدة فهي أولى بالحذف قاله الخليل
وقال الأخفش المحذوف عين الكلمة الأزهري كلاهما صواب المازني كلاهما حسن وقول الأخفش أقيس
قال ابن العربي في القبس البيع والنكاح عقدان يتعلق بهما قوام العالم لأن الله خلق الإنسان محتاجا إلى الغذاء مفتقرا إلى النساء وخلق له ما في الأرض جميعا ولم يتركه سدى يتصرف باختياره كيف شاء فيجب على كل مكلف أن يتعلم ما يحتاج إليه لأنه يجب على كل أحد أن لا يفعل شيئا حتى يعلم حكم الله فيه وقول بعضهم يكفي ربع العبادات ليس بشيء إذ لا يخلو مكلف غالبا من بيع أو شراء
1 ما جاء في بيع العربان بضم العين وسكون الراء ويقال عربون وعربون بالفتح والضم وبالهمزة بدل العين في الثلاث والراء ساكنة في الكل
قال ابن الأثير قيل سمي بذلك لأن فيه إعرابا لعقد البيع أي إصلاحا وإزالة فساد لئلا يملكه غيره باشترائه
وفي الذخيرة العربان لغة أول الشيء
____________________
(3/323)
( مالك عن الثقة عنده ) قال ابن عبد البر تكلم الناس في الثقة هنا والأشبه القول بأنه الزهري عن ابن لهيعة أو ابن وهب عن ابن لهيعة لأنه سمعه من عمرو وسمعه منه ابن وهب وغيره اه
وقال في الاستذكار الأشبه أنه ابن لهيعة ثم أخرجه من طريق ابن وهب عن مالك عن عبد الله بن لهيعة عن عمرو به وقال رواه حبيب كاتب مالك عن مالك عن عبد الله بن عامر الأسلمي عن عمرو به وحبيب متروك كذبوه اه
ورواية حبيب عند ابن ماجه وأشبه من ذلك أنه عمرو بن الحارث المصري فقد رواه الخطيب من طريق الهيثم بن يمان أبي بشر الرازي عن مالك عن عمرو بن الحارث ( عن عمرو ابن شعيب ) بن محمد بن عبد الله بن عمرو بن العاصي صدوق مات سنة ثماني عشرة ومائة ( عن أبيه ) شعيب تابعي صدوق ( عن جده ) أي شعيب وهو عبد الله لأنه ثبت سماع شعيب منه أو ضميره لعمرو ويحمل على الجد الأعلى وهو الصحابي عبد الله بن عمرو ولذا احتج الأكثر بهذه الترجمة خلافا لمن زعم أنها منقطعة لأن جد عمرو محمدا ليس بصحابي ولا رواية له بناء على عود الضمير لعمرو وأنه الجد الأدنى
( أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع العربان ) بضم فسكون وقد أخرجه الإمام أحمد وأبو داود وابن ماجه من طريق مالك به ومن قال حديث منقطع أو ضعيف لا يلتفت إليه ولا يصح كونه منقطعا بحال إذ هو ما سقط منه الراوي قبل الصحابي أو ما لم يتصل وهذا متصل غير أن فيه راويا مبهما
( قال مالك و ) تفسير ( ذلك فيما نرى ) بضم النون نظن ( والله أعلم أن يشتري الرجل ) أو المرأة ( العبد أو الوليدة ) الأمة ( أو يتكارى الدابة ) ثم يقول للذي اشترى منه أو تكارى منه أعطيك دينارا أو درهما أو أكثر من ذلك أو أقل على أني إن أخذت السلعة المبتاعة ( أو ركبت ما تكاريت منك فالذي أعطيتك هو من ثمن السلعة أو من كراء الدابة وإن تركت ) بضم التاء ( ابتياع السلعة أو كراء الدابة فما أعطيتك لك باطل بغير شيء ) أي لا رجوع لي به عليك وهو باطل عند الفقهاء لما فيه من الشرط والغرر وأكل أموال الناس بالباطل فإن وقع فسخ فإن فات مضى لأنه مختلف فيه فقد أجازه أحمد وروي عن ابن عمر وجماعة من التابعين إجازته ويرد العربان على كل حال
قال ابن عبد البر ولا يصح ما روي عنه صلى الله عليه وسلم من إجازته فإن صح احتمل أنه يحسب على البائع من الثمن إن تم البيع وهذا جائز عند الجميع
( قال مالك والأمر عندنا أنه لا بأس بأن يبتاع ) بالبناء للفاعل أي المبتاع المفهوم من يبتاع
____________________
(3/324)
وللمفعول فقوله ( العبد التاجر الفصيح ) بالرفع والنصب ( بالأعبد من الحبشة أو من جنس من الأجناس ليسوا مثله في الفصاحة ولا في التجارة والنفاذ ) بالذال المعجمة المضي في أمره ( والمعرفة ) بالأخذ والعطا ( لا بأس بهذا أن يشتري منه العبد بالعبدين أو بالأعبد إلى أجل معلوم إذا اختلف فبان ) ظهر ( اختلافه فإن أشبه بعض ذلك بعضا حتى يتقارب فلا يأخذ منه اثنين بواحد إلى أجل وإن اختلفت أجناسهم ) بالبياض والسواد ونحوهما ( ولا بأس بأن تبيع ما اشتريت من ذلك قبل أن تستوفيه ) أي تقبضه ( إذا انتقدت ثمنه من غير صاحبه الذي اشتريته منه ) لأن النهي إنما هو عن بيع الطعام قبل قبضه ( ولا ينبغي أن يستثنى جنين من بطن أمه إذا بيعت لأن ذلك غرر لا يدرى أذكر هو أم أنثى أم حسن أم قبيح أو ناقص أو تام أو حي أو ميت وذلك يضع ) ينقص ( من ثمنها ) وصح النهي عن بيع الغرر
( قال مالك في الرجل يبتاع العبد أو الوليدة بمائة دينار إلى أجل ثم يندم فيسأل المبتاع ) المشتري ( أن يقيله بعشرة دنانير يدفعها إليه نقدا أو إلى أجل ويمحو ) يزيل ( عنه المائة دينار التي له لا بأس بذلك ) أي يجوز لأنه بيع مستأنف وإقالة لا تهمة فيها لرجوع سلعته إليه بما اشتراها به من الزيادة وليس في ذلك ذهب بأكثر منه ولا إلى أجل قاله أبو عمر
( وإن ندم المبتاع فسأل البائع أن يقيله في الجارية أو العبد ويزيده عشرة دنانير نقدا أو إلى أجل أبعد من الأجل الذي اشترى إليه العبد أو الوليدة فإن ذلك لا ينبغي ) لا يجوز ( وإنما كره ذلك لأن البائع كأنه باع منه مائة دينار له إلى سنة قبل أن تحل ) السنة ( بجارية وبعشرة دنانير نقدا أو إلى أجل أبعد من السنة ) لأن الإقالة بيع ( فدخل في ذلك بيع الذهب
____________________
(3/325)
بالذهب إلى أجل ) وهو ممنوع ( والرجل يبيع الجارية بمائة دينار إلى أجل ثم يشتريها بأكثر من ذلك الثمن الذي باعها به إلى أبعد من ذلك الأجل الذي باعها إليه إن ذلك لا يصلح ) لا يجوز ( وتفسير ما كره من ذلك أن يبيع الرجل الجارية إلى أجل ثم يبتاعها إلى أجل أبعد منه يبيعها بثلاثين دينارا إلى شهر ثم يبتاعها بستين دينارا إلى سنة أو إلى نصف سنة فصار ) آل أمره ( إن رجعت إليه سلعته بعينها وأعطاه صاحبه ) الذي كان اشترى منه ( ثلاثين دينارا إلى شهر بستين دينارا إلى سنة أو إلى نصف سنة فهذا لا ينبغي ) أي يحرم لأنه حيلة للربا وهذا قول جمهور أهل المدينة وأبي حنيفة وأحمد وغيرهم بناء على قطع الذرائع بما يغلب على الظن أن المتبايعين قصدا إليه وأبى ذلك الأكثر والشافعي حيث لا قصد لأن تهمة المسلم بما لا يحل حرام فلا يفسخ ما ظاهره حلال بالظن
وأما حديث إن أم ولد زيد بن أرقم قالت لعائشة إني بعت لزيد عبدا إلى العطاء بثمانمائة فاحتاج إلى ثمنه فاشتريته منه قبل الأجل بستمائة فقالت بئس ما شريت وبئس ما اشتريت أبلغي زيدا أنه قد أبطل جهاده معه صلى الله عليه وسلم إن لم يتب فقلت إن أخذت الستمائة قالت { فمن جاءه موعظة من ربه فانتهى فله ما سلف } البقرة 275 { وإن تبتم فلكم رؤوس أموالكم لا تظلمون ولا تظلمون } البقرة 279 فضعيف ولفظه منكر لأن العمل الصالح لا يحبطه الاجتهاد بل الردة ومحال أن عائشة تلزم زيدا التوبة برأيها وزعم أنه توقيف لا يصح ولو ثبت عن عائشة احتمل أنها أنكرت البيع إلى العطاء لأنه مجهول وإذا اختلف الصحابة رجع إلى القياس وهو مع زيد لأن السلعة المشتراة إلى أجل مال للمشتري فله بيعها بما شاء ممن شاء قاله أبو عمر ملخصا
2 ما جاء في مال المملوك ( مالك عن نافع عن عبد الله بن عمر أن ) أباه ( عمر بن الخطاب قال من باع عبدا وله مال ) أي للعبد ففي إضافته المال إليه أنه يملك حتى ينتزعه السيد لكنه إذا باعه قبل الانتزاع ( فماله للبائع ) نظرا
____________________
(3/326)
إلى أنه كله مال فباع بعضه وبهذا قال مالك وأحمد والشافعي في القديم وقال في الجديد كأبي حنيفة لا يملك العبد شيئا أصلا لأنه مملوك فلا يجوز أن يكون مالكا وقالوا الإضافة للاختصاص والانتفاع إلا للملك كجل الدابة وسرج الفرس ويدل له قوله فماله للبائع فأضاف الملك إليه وإلى البائع في حالة واحدة ولا يجوز أن يكون الشيء الواحد كله مملوكا لاثنين في حالة واحدة فثبت أن إضافة الملك إلى العبد مجاز أي للاختصاص وإلى المولى حقيقة أي للملك كذا قيل وفيه نظر فإن الاستثناء بقوله ( إلا أن يشترطه المبتاع ) فيكون له يدل على أنه يملك وهذا رواه البخاري عن عبد الله ابن يوسف وأبو داود عن القعنبي كلاهما عن مالك موقوفا
ورواه سالم عن أبيه عن النبي صلى الله عليه وسلم أخرجه البخاري ومسلم من طريق الزهري عنه قال ابن عبد البر وهو أحد الأحاديث الأربعة التي اختلف فيها سالم ونافع فرفعها سالم ووقفها نافع اه ومر في الصلاة
والثاني وإذا ركع وإذا رفع رأسه من الركوع رفعهما أي يديه
والثالث الناس كإبل مائة لا تكاد تجد فيها راحلة
والرابع فيما سقت السماء والعيون العشر فرفع الأربعة سالم ووقفها نافع ورجح مسلم والنسائي رواية نافع هنا وإن كان سالم أحفظ منه نقله البيهقي عنهما وكذا رجحها الدارقطني
ونقل الترمذي في الجامع عن البخاري أن رواية سالم أصح
وفي التمهيد إنها لصواب
وفي العلل للترمذي عن البخاري تصحيحهما جميعا ولعله أشبه لأن ابن عمر إذا رفعه لم يذكر أباه وهي رواية سالم وإذا وقفه ذكر أباه وهي رواية نافع فتحصل أن ابن عمر سمعه من النبي صلى الله عليه وسلم فحدث به سالما وسمعه من أبيه عمر موقوفا فحدث به نافعا فصحت رواية سالم ونافع جميعا وهذا هو المحفوظ عنهما
ورواه النسائي من طريق سفيان بن حسين عن الزهري عن سالم عن أبيه عن عمر مرفوعا وسفيان ضعيف قال المزي والمحفوظ أنه من حديث ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم بلا واسطة
ورواه محمد بن إسحاق وغيره عن نافع عن ابن عمر عن أبيه مرفوعا أخرجه النسائي وقال هذا خطأ والصواب وقفه
( قال مالك الأمر المجتمع عليه عندنا ) بالمدينة ( أن المبتاع ) المشتري ( إن اشترط مال العبد فهو له نقدا كان أو دينا أو عرضا ) عملا بإطلاق الحديث لأن ماله تبع فهو غير منظور إليه وكأنه لم يجعل له حصة من الثمن
وقال الحنفي والشافعي لا يصح هذا البيع لما فيه من الربا ويرد عليهما الحديث وسواء كان ( يعلم أو لا يعلم ) عملا بظاهر الحديث خلافا لمن قال لا بد أن يكون معلوما
( وإن كان للعبد من المال أكثر مما اشترى به ) مبالغة فأولى إن كان قدره أو أقل وسواء كان ( نقدا أو دينا أو عرضا و ) دليل ( ذلك أن مال العبد ليس على سيده فيه زكاة ) فهو يملك ( و ) إنه ( إن كانت للعبد
____________________
(3/327)
جارية استحل فرجها بملكه إياها ) فلو لم يكن يملك لم تحل له إذ لا يجوز للرجل وطء ملك الغير
( وإن عتق العبد أو كاتب تبعه ماله ) إن لم ينتزعه السيد قبلهما ( وإذا فلس أخذ الغرماء ) أصحاب الديون ( ماله ولم يتبع ) بالبناء للمفعول ( سيده بشيء من دينه ) وحاصله أنه استدل بالقياس على هذه المسائل لما أفاده إطلاق الحديث وجرى عليه عمل المدينة ومراده التقوية وإن كان كل واحد من الثلاثة دليلا مستقلا عنده
3 ما جاء في لعهدة ( مالك عن عبد الله بن أبي بكر بن محمد بن عمرو ) بفتح العين ( ابن حزم ) بمهملة وزاي ( أن أبان ) بفتح الهمزة وخفة الموحدة ( ابن عثمان ) بن عفان الأموي المدني ( وهشام بن إسماعيل ) بن هشام بن الوليد بن المغيرة المخزومي ولي المدينة لعبد الملك وذكره ابن حبان في الثقات ( كانا يذكران في خطبتهما ) أي كل واحد إذا خطب ( عهدة الرقيق في الأيام الثلاثة من حين يشترى العبد أو الوليدة ) أي الأمة ( وعهدة السنة ) فالعمل بهما أمر قائم بالمدينة قال الزهري والقضاة منذ أدركنا يقضون بها
وروى ابن أبي شيبة عن الحسن البصري عن سمرة مرفوعا عهدة الرقيق ثلاث وروى أبو داود عن الحسن عن عقبة بن عامر مرفوعا عهدة الرقيق ثلاثة أيام ولم يسمع الحسن عن عقبة وفي سماعه من سمرة خلاف ولذا ضعف بعضهم حديث عقبة لكن اعتضد بحديث سمرة وبعمل المدينة ( قال مالك ما أصاب العبد أو الوليدة في الأيام الثلاثة ) من كل حادث ( من حين يشتريان حتى تنقضي الثلاثة فهو من البائع ) أي ضمانه عليه فللمشتري رده ( وإن عهدة السنة من الجنون والجذام والبرص ) فهي قليلة الضمان كثيرة الزمان عكس الأولى ( فإذا مضت السنة فقد برىء البائع من العهدة كلها ) وإنما يقضى بهما إن شرطا أو اعتيدا في رواية أهل مصر عن مالك وروى المدنيون عنه يقضى بهما مطلقا ( وإن باع عبدا أو وليدة من أهل الميراث أو غيرهم بالبراءة فقد برىء من كل عيب ولا
____________________
(3/328)
عهدة عليه إلا أن يكون علم عيبا فكتمه ) عن المشتري ( فإن كان علم عيبا فكتمه لم تنفعه البراءة وكان ذلك البيع مردودا ) أي له رده ( ولا عهدة عندنا إلا في الرقيق ) والمراد بها كونه في ضمان البائع بعد العقد
4 العيب في الرقيق ( مالك عن يحيى بن سعيد عن سالم بن عبد الله أن عبد الله بن عمر باع غلاما له بثمانمائة درهم وباعه بالبراءة ) من العيوب ( فقال الذي ابتاعه لعبد الله بن عمر بالغلام داء ) بالمد مرض ( لم تسمه لي فاختصما إلى عثمان بن عفان فقال الرجل باعني ) ابن عمر ( عبدا وبه داء لم يسمه لي وقال عبد الله بعته بالبراءة فقضى عثمان على عبد الله بن عمر أن يحلف له لقد باعه العبد وما به داء يعلمه فأبى عبد الله أن يحلف وارتجع العبد فصح ) العبد ( عنده فباعه عبد الله بعد ذلك بألف وخمسمائة درهم ) عوضه الله لإجلاله أن يحلف وإن كان صادقا ضعف ثمنه أو لا
( قال مالك الأمر المجتمع عليه عندنا أن كل من ابتاع وليدة فحملت ) منه ( أو عبدا فأعتقه وكل أمر دخله الفوت ) مصدر فات ( حتى لا يستطاع رده ) كالعتق والإيلاء المذكورين لأفاتته المقصود ( فقامت البينة أنه قد كان به عيب عند الذي باعه أو علم ذلك باعتراف من البائع أو غيره ) كشهادة ذي المعرفة بقدمه ( فإن العبد أو الوليدة يقوم وبه العيب الذي كان به يوم اشتراه فيرد ) من البائع للمشتري
____________________
(3/329)
( من الثمن قدر ما بين قيمته صحيحا وقيمته وبه ذلك العيب ) له ذلك على البائع ( والأمر المجتمع عليه عندنا في الرجل يشتري العبد ثم يظهر ) يطلع ( منه على عيب يرده منه ) أي يوجب له رده ( وقد حدث به عند المشتري عيب آخر أنه إن كان الذي حدث به مفسدا مثل القطع أو العور ) بفتحتين فقد بصر إحدى عينيه ( أو ما أشبه ذلك من العيوب المفسدة ) المتوسطة ( فإن الذي اشترى العبد بخير النظرين ) أحبهما إليه ( إن أحب أن يوضع عنه من ثمن العبد بقدر العيب الذي كان بالعبد يوم اشتراه وضع عنه ) ولزمه ( وإن أحب أن يغرم ) بفتح الراء يدفع ( قدر ما أصاب العبد من العيب ) الحادث ( ثم يرد العبد فله ذلك ) وخير المشتري دون البائع لسبق عيبه
( وإن مات العبد عند الذي اشتراه أقيم ) أي قوم ( العبد وبه العيب الذي كان به يوم اشتراه ) وبين صفة التقويم بقوله ( فينظر كم ثمنه فإن كانت قيمة العبد يوم اشتراه بغير عيب مائة دينار وقيمته يوم اشتراه وبه العيب ثمانون دينارا وضع عن المشتري ما بين القيمتين ) وهي العشرون في مثاله ( وإنما تكون القيمة يوم اشتري العبد ) ولو زادت أو نقصت بعده
( والأمر المجتمع عليه عندنا أن من رد وليدة من ) أجل ( عيب وجده بها وكان قد أصابها ) قبل علمه بالعيب ( أنها إن كانت بكرا فعليه ما نقص من ثمنها وإن كانت ثيبا فليس عليه في إصابتها شيء لأنه كان ضامنا لها ) وإصابة الثيب من الخفيف
( والأمر المجتمع عليه عندنا فيمن باع عبدا أو وليدة أو حيوانا بالبراءة ) من العيوب سواء كان البائع ( من أهل الميراث أو غيرهم فقد برىء من كل عيب فيما باع ) عائد على العبد والوليدة قال أشهب لمالك إنك ذكرت البراءة في الحيوان قال إنما أريد
____________________
(3/330)
العبد ونحو ذلك فبين مالك أن الحيوان دخل في درج الكلام قاله أبو عبد الملك
وقال ابن عبد البر أفتى به مرة في سائر الحيوان ثم رجع إلى تخصيصها بالرقيق ( إلا أن يكون علم في ذلك عيبا فكتمه فإن كان علم عيبا فكتمه ) عن المشتري ( لم ينفعه تبرئته وكان ما باع مردودا عليه ) أي ثبت للمشتري رده وأعاد هذا وإن قدمه قريبا لنسبته لعمل المدينة فلا تكرار
( قال مالك في الجارية تباع بالجاريتين ثم يوجد بإحدى الجاريتين عيب ترد منه قال تقام ) أي تقوم ( الجارية التي كانت قيمة الجاريتين فينظر كم ثمنها ثم تقام ) تقوم ( الجاريتان بغير العيب الذي وجد بإحداهما تقامان صحيحتين سالمتين ثم يقسم ثمن الجارية التي بيعت بالجاريتين عليهما بقدر ثمنهما حتى يقع على كل واحدة منهما حصتها على المرتفعة ) التي لا عيب فيها ( بقدر ارتفاعها ) زيادتها في الثمن لعدم العيب ( وعلى الأخرى ) المعيبة ( بقدرها ثم ينظر إلى التي بها العيب فيرد بقدر الذي وقع عليها من تلك الحصة إن كانت كثيرة أو قليلة ) يعني لا فرق ( إنما يكون قيمة الجاريتين عليه يوم قبضهما
قال مالك في الرجل يشتري العبد فيؤاجره بالإجارة العظيمة أو الغلة القليلة ثم يجد به عيبا يرد منه ) أي من أجله ( إنه يرده بذلك العيب ويكون له إجارته وغلته ) ولو كثرت والتقييد بالقليلة إنما وقع في السؤال ( وذلك الأمر الذي كانت عليه الجماعة ) العلماء ( ببلدنا ) المدينة ( وذلك لو أن رجلا ابتاع عبدا فبنى له دارا قيمة بنائها ثمن العبد أضعافا ثم يوجد به عيب يرده منه رده ولا يحسب للعبد عليه إجارة ) أي أجرة ( فيما عمل له فكذلك يكون له إجارته إذا آجره من غيره لأنه ضامن له ) ومن عليه الغرم له الغنم ( وهذا الأمر عندنا ) بالمدينة
وقد روى أبو داود وغيره عن عائشة أن رجلا ابتاع غلاما فأقام عنده ما شاء الله ثم وجد به عيبا فخاصمه إلى النبي صلى الله عليه وسلم فرده عليه فقال الرجل قد استغل
____________________
(3/331)
غلامي فقال صلى الله عليه وسلم الخراج بالضمان ( والأمر عندنا فيمن ابتاع ) اشترى ( رقيقا في صفقة واحدة ) أي عقد واحد ( فوجد في ذلك الرقيق عبدا مسروقا أو وجد بعبد منهم عيبا أنه ينظر فيما وجد مسروقا أو وجد به عيبا فإن كان هو وجه ) أي أعلى وأحسن ( ذلك الرقيق أو أكثره ثمنا أو من أجله اشترى وهو الذي فيه الفضل ) الزيادة لو سلم من العيب ( فيما يرى الناس كان ذلك البيع مردودا كله ) ولا يجوز التمسك بالباقي بحصته من الثمن ( وإن كان الذي وجد مسروقا أو وجد به العيب من ذلك الرقيق في الشيء اليسير منه ليس هو وجه ذلك الرقيق ولا من أجله اشتري ولا فيه الفضل فيما يرى الناس ) أهل الخبرة بذلك ( رد ذلك الذي وجد به العيب أو وجد مسروقا بعينه بقدر قيمته من الثمن الذي اشترى به أولئك الرقيق ) وتمسك بالباقي بثمنه
5 ما يفعل في الوليدة إذا بيعت والشرط فيها جملة حالية أي والحال أنه فيها الشرط
( مالك عن ابن شهاب أن عبيد الله ) بضم العين ( ابن عبد الله ) بفتحها ( ابن عتبة ) بضمها وإسكان الفوقية ( ابن مسعود أخبره أن عبد الله بن مسعود ابتاع جارية من امرأته زينب ) بنت معاوية أو ابنة عبد الله بن معاوية ويقال بنت أبي معاوية ( الثقفية ) صحابية ولها رواية عن زوجها ( واشترطت عليه أنك إن بعتها فهي لي بالثمن الذي تبيعها به فسأل عبد الله بن مسعود عن ذلك عمر بن الخطاب ) مفعول سأل ( فقال عمر بن الخطاب لا تقربها وفيها شرط لأحد ) مناقض لمقتضى العقد لأنك لم تملكها فلا يحل لك قربانها
____________________
(3/332)
( مالك عن نافع عن عبد الله بن عمر أنه كان يقول لا يطأ الرجل وليدة إلا وليدة إن شاء باعها وإن شاء وهبها وإن شاء أمسكها وإن شاء صنع بها ما شاء ) كعتق وكتابة وتدبير والمراد أن لا يشوب ملكها شيء
( قال مالك فيمن اشترى جارية على شرط أنه لا يبيعها ولا يهبها أو ما أشبه ذلك ) من الشروط المنافية لعقد البيع ( فإنه لا ينبغي ) لا يجوز ( للمشتري أن يطأها وذلك أنه لا يجوز له أن يبيعها ولا أن يهبها فإذا كان لا يملك ذلك منها فلم يملكها ملكا تاما لأنه قد استثني ) اشترط ( عليه فيها ما ملكه بيد غيره فإذا دخل هذا الشرط ) في عقد البيع ( لم يصلح ) من الصلاح ضد الفساد ( وكان بيعا مكروها ) أي ممنوعا لفساده بالشرط المناقض لمقتضى العقد وعليه حمل خبر نهى صلى الله عليه وسلم عن بيع وشرط زاد ابن وهب في روايته للموطأ قال مالك وإن اشتراها بشرط فوطئها فحملت فللبائع قيمتها يوم باعها وتحل لسيدها فيما يستقبل
6 النهي أن يطأ الرجل وليدة ولها زوج ( مالك عن ابن شهاب أن عبد الله بن عامر ) بن كريز بن حبيب بن عبد شمس بن عبد مناف القرشي ولد في عهده صلى الله عليه وسلم وأتى به إليه فتفل عليه وعوذه قال ابن حبان له صحبة وكان جوادا شجاعا ميمونا ولاه ابن خاله عثمان البصرة سنة تسع وعشرين فافتتح خراسان وكرمان وغيرهما وله في الجود أخبار كثيرة ولا رواية له في الكتب الستة مات سنة سبع أو ثمان وخمسين وأبوه صحابي من مسلمة الفتح وعاش حتى قدم البصرة على ابنه وهو أميرها
( أهدى لعثمان بن عفان ) أمير المؤمنين ذي النورين ( جارية ولها زوج ابتاعها ) عبد الله ( بالبصرة فقال عثمان لا أقربها ) لحرمته ( حتى يفارقها زوجها فأرضى ابن عامر زوجها ففارقها ) طلقها فحلت لعثمان بعد العدة
____________________
(3/333)
( مالك عن ابن شهاب عن أبي سلمة بن عبد الرحمن بن عوف أن عبد الرحمن بن عوف ابتاع وليدة ) جارية من عاصم بن عدي كما في رواية سفيان عن ابن شهاب ( فوجدها ذات زوج فردها ) لأنه عيب
7 ما جاء في ثمر المال يباع أصله ( مالك عن نافع عن عبد الله بن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال من باع نخلا قد أبرت ) بضم الهمزة وشد الموحدة وتخفيفها والتأبير التلقيح وهو أن يشق طلع الأناث ويؤخذ من طلع الذكر فيذر فيه ليكون ذلك بإذن الله أجود مما لم يؤبر وهو خاص بالنخل والحق به ما انعقد من ثمر غيرها ( فثمرها ) بمثلثة وفي رواية فثمرتها بمثلثة وتاء تأنيث ( للبائع ) لا للمشتري ويترك في النخل إلى الجذاذ ولكليهما السقي ما لم يضر بالآخر فجعل الشارع الثمر ما دام مستسكنا في الطلع كالولد في بطن الحامل إذا بيعت كان الحمل تابعا لها فإذا ظهر تميز حكمه ومعنى ذلك أن كل ثمر بارز يرى في شجره إذا بيعت أصول الشجر لم تدخل هذه الثمار في البيع ( إلا أن يشترط المبتاع ) أي المشتري أن الثمرة تكون له ويوافقه البائع على ذلك فيكون للمشتري فإن قيل اللفظ مطلق فمن أين يفهم أن المشتري اشترط الثمرة لنفسه أجيب بأن تحقيق الاستثناء يبين المراد وبأن لفظ الافتعال يدل أيضا عليه كما يقال كسب لعياله واكتسب لنفسه
ومفهوم الحديث إن لم تؤبر فالثمر للمشتري وفي جواز شرطها البائع لنفسه ومنعه قولا الشافعي ومالك وقال أبو حنيفة هي للبائع أبرت أو لم تؤبر وللمشتري مطالبته بقلعها عن النخل في الحال ولا يلزمه الصبر إلى الجذاذ وإن شرط إبقاءه إليه فسد البيع لأنه شرط لا يقتضيه العقد قال وتعليق الحكم بالإبار إما للتنبيه به على ما لم يؤبر أو لغير ذلك ولم يقصد به نفي الحكم عما سوى المذكور وفيه أن ذلك يحتاج إلى دليل وقد رده بعضهم بأن التنبيه إنما يكون بالأدنى على الأعلى وبالمشكل على الواضح وما ذكر خارج عن الوجهين ورده الأبي بأن المذكور في الأصول أنه يكون أيضا بالأدنى على الأعلى وحاصل مأخذ المذهبين أن مالكا والشافعي استعملا الحديث لفظا ودليلا أي منطوقا ومفهوما ويسمى في الأصول دليل الخطاب وهو مفهوم المخالفة الثابت منه نقيض حكم المنطوق للمسكوت عنه غير أن الشافعي استعمله بلا تخصيص ومالكا مخصصا بالمشتري كما مر وأبو حنيفة استعمله لفظا ومعقولا وتسمية الأصوليون معقول الخطاب وهو التنبيه على مساواة حكم المسكوت عنه للمنطوق وفيه جواز تذكير النخل قال عياض
____________________
(3/334)
ولا خلاف فيه وقد قال صلى الله عليه وسلم للأنصار لا عليكم أن لا تفعلوا فتركوا التذكير فنقصت الثمار فقال أنتم أعلم بأمر دنياكم وما حدثتكم به عن الله فهو حق رواه البخاري هنا وفي الشروط عن عبد الله بن يوسف ومسلم عن يحيى كليهما عن مالك به ورواه أبو داود والنسائي في الشروط وابن ماجه في التجارات كلهم من طريق مالك وغيره
8 النهي عن بيع الثمار حتى يبدو صلاحها ( مالك عن نافع عن ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع الثمار ) منفردا عن النخل نهي تحريم ( حتى يبدو ) بلا همز أي يظهر ( صلاحها ) ويقع في بعض كتب المحدثين بالألف في الخط وهو خطأ لأنها تحذف في مثل هذا للناصب وإنما اختلف في مثل زيد يبدو والاختيار حذفها أيضا قاله عياض ( نهى البائع ) لئلا يأكل مال أخيه بالباطل إذا هلكت الثمرة كما أشار إليه في الحديث بعده ( و ) نهى ( المبتاع ) أي المشتري وفي نسخة المشتري لئلا يضيع ماله فإن بدا الصلاح جاز وبه قال الجمهور
وصحح الحنفي البيع حالة الإطلاق قبل بدو الصلاح وبعده وأبطل شرط الإبقاء قبله وبعده وبدو الصلاح في بعض حائط كاف في بيع جميعه وفي بيع ما جاوره لا ما بعد عنه على المشهور وإنما كفى بدو صلاح بعضه لأن الله امتن علينا بجعل الثمار لا تطيب دفعة واحدة إطالة زمن التفكه فلو اعتبر الجميع لأدى إلى أن لا يباع شيء قبل كمال صلاحه أو تباع الحبة بعد الحبة وفي كل منهما حرج عظيم ويجوز البيع قبل الصلاح بشرط القطع إذا كان المقطوع منتفعا به كالحصرم إجماعا فإن كان على التبقية منع إجماعا وهذا الحديث رواه البخاري عن عبد الله بن يوسف ومسلم عن يحيى كلاهما عن مالك به وتابعه عبيد الله وموسى بن عقبة كلاهما عن نافع به وأيوب ويحيى بن سعيد والضحاك الثلاثة عن نافع نحوه عند مسلم
( مالك عن حميد الطويل ) الخزاعي البصري ( عن أنس بن مالك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى ) تحريما ( عن بيع الثمار حتى تزهي ) بضم الفوقية من أزهى بالياء قال الخليل أزهى النخل بدا صلاحه وفي رواية تزهو بالواو وصوبها بعضهم وأنكر الياء وصوب الخطابي الياء ونفى تزهو بالواو قال ابن الأثير والصواب الروايتان على اللغتين يقال زها يزهو إذا ظهرت ثمرته وأزهى يزهي
____________________
(3/335)
إذا احمر واصفر
( فقيل له يا رسول الله وما تزهي فقال حين تحمر ) بشد الراء وهذا صريح في الرفع ورواه بعضهم عن حميد موقوفا على أنس والصواب رفعه
وفي رواية قتيبة عن مالك فقال حتى تزهى قال حتى تحمار بفتح الفوقية وسكون المهملة فميم فألف فراء مشددة
( وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم أرأيت إذا منع الله الثمرة ) بأن تلفت ( فبم يأخذ أحدكم مال أخيه ) بحذف ألف ما الاستفهامية عند دخول حرف الجر مثل قولهم فيم وعلام وحتام ولما كانت الاستفهامية متضمنة للهمزة ولها صدر الكلام انبغى أن يقدر أبم والهمزة للإنكار فالمعنى لا ينبغي أن يأخذ أحدكم مال أخيه باطلا لأنه إذا تلفت الثمرة لا يبقى للمشتري في مقابلة ما دفعه شيء وفيه إجراء الحكم على الغالب لأن تطرق التلف إلى ما بدا صلاحه ممكن وعدم تطرقه إلى ما لم يبد صلاحه ممكن فأنيط الحكم بالغالب في الحالين وصرح مالك برفع هذا وتابعه الدراوردي عن حميد وقال الدارقطني خالف مالكا جماعة منهم ابن المبارك وهشيم ومروان بن معاوية ويزيد بن هارون فقالوا فيه قال أنس أرأيت إن منع الله الثمرة الخ قال الحافظ وليس فيه ما يمنع أن يكون التفسير مرفوعا لأن مع الذي رفعه زيادة علم على ما عند الذي وقفه وليس في رواية من وقفه ما ينفي رواية من رفعه وقد روى مسلم من طريق أبي الزبير عن جابر ما يقوي رواية الرفع في حديث أنس ولفظه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لو بعت من أخيك ثمرا فأصابته عاهة فلا يحل لك أن تأخذ منه شيئا بم تأخذ مال أخيك بغير حق وقال ابن خزيمة رأيت مالك بن أنس في المنام فأخبرني أنه مرفوع اه
وقد رواه البخاري في الزكاة عن قتيبة عن عبد الله بن يوسف ومسلم من طريق ابن وهب كلاهما عن مالك به
ورواه البخاري في الزكاة عن قتيبة عن مالك مختصرا بدون قوله وقال أرأيت إن منع الخ فكأن مالكا حدث به على الوجهين والبخاري اختصره
( مالك عن أبي الرجال محمد بن عبد الرحمن بن حارثة ) بمهملة ومثلثة الأنصاري ( عن أمه عمرة بنت عبد الرحمن ) بن سعد بن زرارة مرسلا وصله ابن عبد البر من طريق خارجة بن عبد الله ابن سليمان بن زيد بن ثابت عن أبي الرجال عن عمرة عن عائشة ( أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع الثمار حتى تنجو من العاهة ) وذلك عند طلوع الثريا
( قال مالك وبيع الثمار قبل بدو صلاحها من بيع الغرر ) المنهي عنه فلما أباح صلى الله عليه وسلم بيعها بعد بدو صلاحها علم أنها خرجت من الغرر والغالب حينئذ سلامتها فإن أصابتها جائحة فهي نادرة لا حكم لها قاله أبو عمر
____________________
(3/336)
( مالك عن أبي الزناد ) عبد الله بن ذكوان ( عن خارجة بن زيد بن ثابت ) الأنصاري أحد الفقهاء ( عن ) أبيه ( زيد بن ثابت ) الصحابي ( أنه كان لا يبيع ثماره حتى تطلع الثريا النجم المعروف لأنها تنجو من العاهة حينئذ )
وفي أبي داود عن أبي هريرة مرفوعا إذا طلع النجم صباحا رفعت العاهة عن كل بلدة والنجم الثريا
ولأحمد والبيهقي عن ابن عمر نهى صلى الله عليه وسلم عن بيع الثمار حتى يؤمن عليها العاهة فقيل ومتى ذلك يا أبا عبد الرحمن قال إذا طلعت الثريا وطلوعها صباحا يقع في أول فصل الصيف وذلك عند اشتداد الحر وابتداء نضج الثمار وهو المعتبر في الحقيقة وطلوع النجم علامة له وقد بينه بقوله في رواية البخاري من طريق الليث عن أبي الزناد عن خارجة عن أبيه فزاد على ما هنا فيتبين الأصفر من الأحمر
( قال مالك والأمر عندنا في بيع البطيخ ) بكسر الباء وتقديم الطاء عليها لغة ( والقثاء ) بكسر القاف أكثر من ضمها وهو اسم لما يقول له الناس الخيار والعجور والفقوس وبعضهم يطلقه على نوع يشبه الخيار ( والخربز ) بكسر المعجمة وسكون الراء وموحدة مكسورة فزاي صنف من البطيخ معروف شبيه بالحنظل أملس مدور الرأس رقيق الجلد قاله البوني
( والجزر ) بفتح الجيم وكسرها لغة الواحدة جزرة معروف قال أبو عمر الجزر ليس في أكثر الموطآت لأنه باب آخر من بيع الغائب والمغيب في الأرض ( أن بيعه إذا بدا صلاحه حلال جائز ) هما بمعنى حسنة اختلاف اللفظ ( ثم يكون للمشتري ما ينبت حتى ينقطع ثمره ويهلك ) بكسر اللام ( وليس في ذلك وقت يؤقت وذلك أن وقته معروف عند الناس وربما دخلته العاهة فقطعت ثمرته قبل أن يأتي ذلك الوقت ) المعلوم للناس ( فإذا دخلته العاهة بجائحة تبلغ الثلث فصاعدا كان ذلك موضوعا عن الذي ابتاعه ) اشتراه فإن نقصت عن الثلث لم يوضع لجريان العادة أن الهواء لا بد أن يرمي بعض الثمرة ويأكل الطير منها ونحو ذلك فقد دخل المبتاع على إصابة اليسير واليسير المحقق ما دون الثلث
وروى ابن وهب مرفوعا إذا باع المرء الثمرة فأصابتها عاهة فذهبت بثلث الثمرة فقد وجب على صاحب المال الضياع وعمل به وقاله كثير من الصحابة وإن كان ظواهر الأحاديث وضع الجائحة مطلقا كما قال الشافعي
____________________
(3/337)
9 ما جاء في بيع العرية بزنة فعيلة قال الجمهور بمعنى فاعلة لأنها عريت بإعراء مالكها أي إفراده لها من باقي النخل فهي عارية وقيل بمعنى مفعولة من عراه يعروه إذا أتاه لأن مالكها يعروها أي يأتيها فهي معروة وجمعها عرايا وهي لغة النخلة وفسرها مالك فقال العرية أن يعرى الرجل الرجل نخلة ثم يتأذى بدخوله عليه فرخص له أن يشتريها منه بتمر أسنده ابن عبد البر وعلقه البخاري وهو في المدونة من رواية ابن القاسم
وقال الباجي العرية النخلة الموهوب ثمرها
وفي البخاري عن سعيد بن جبير العرايا تمر يوهب نخلها قال الأبي وإطلاق روايات الحديث بإضافة البيع إليها يمنع تفسيرها بأنها هبة الثمر أو أنها النخلة فالصواب تفسيرها بأنها ما منح من ثمر النخل كما دل عليه كلام الباجي
( مالك عن نافع عن عبد الله بن عمر عن زيد بن ثابت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أرخص ) بهمزة مفتوحة قبل الراء من الإرخاص ( لصاحب العرية ) بفتح المهملة وشد التحتية الرطب أو العنب على الشجر ( أن يبيعها بخرصها ) بفتح المعجمة قال النووي وهو أشهر من كسرها فمن فتح قال هو مصدر أي اسم للفعل ومن كسرها قال هو اسم للشيء المخروص
وقال القرطبي الرواية بالكسر فحاصلهما أنه يروى بالوجهين وإسكان الراء فمهملة زاد في رواية القعنبي عن مالك عند الطبراني كيلا
ولمسلم من رواية يحيى بن سعيد عن نافع بإسناده رخص في العرية يأخذها أهل البيت بخرصها تمرا يأكلونها رطبا والحديث رواه البخاري عن القعنبي ومسلم عن يحيى كلاهما عن مالك به وتابعه يحيى بن سعيد الأنصاري عند الشيخين وعبيد الله وأيوب عند مسلم وموسى بن عقبة عند البخاري ثلاثتهم عن نافع وفيه من لطائف الإسناد صحابي عن صحابي
( مالك عن داود بن الحصين ) بمهملتين مصغر الأموي مولاهم أبي سليمان المدني ثقة إلا في عكرمة ورمى برأي الخوارج لكن لم يكن داعية ووثقه ابن معين والنسائي والعجلي وكفى برواية مالك عنه توثيقا ( عن أبي سفيان ) قيل اسمه وهب وقيل قزمان ( مولى ) عبد الله ( بن أبي أحمد ) اسمه عبد بلا إضافة ابن جحش الأسدي الصحابي أخي زينب أم المؤمنين ( عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أرخص ) بهمزة قبل الراء الساكنة من الإرخاص وفي رواية رخص بشد الخاء من الترخيص ( في بيع ) ثمر ( العرايا ) جمع عرية ( بخرصها فيما دون خمسة أوسق ) جمع وسق بفتح الواو على الأفصح
____________________
(3/338)
وهو ستون صاعا ( أو في خمسة أوسق يشك داود ) شيخ الإمام هل ( قال ) شيخه أبو سفيان ( خمسة أوسق أو دون خمسة أوسق ) وبسبب هذا الشك اختلف قول الإمام فقصر في المشهور الحكم على خمسة أوسق فأقل اتباعا لما وجد عليه العمل ولأن الخمسة أول مقادير المال الذي يجب فيه الزكاة من هذا الجنس فقصر الرفق على شرائها فما زاد عليها خرج إلى المال الكثير الذي يطلب فيه التجر مع ما فيه من المزابنة وعنه أيضا قصر الجواز على أربعة فأقل عملا بالمحقق لأن الخمسة شك فيها والعرايا رخصة أصلها المنع فيقصر الجواز على المحقق وسبب الخلاف أن النهي عن المزابنة وقع مقرونا بالرخصة في العرايا ففي الصحيح نهى صلى الله عليه وسلم عن بيع التمر بالتمر ورخص في العرية أن تباع بخرصها يأكلها أهلها فعلى الأول لا يجوز في الخمسة للشك في رفع التحريم وعلى الثاني يجوز للشك في قدر التحريم
قال عياض والتحديد إنما هو إذا اشتريت بخرصها أما بعين أو عرض فجائز لربها ولغيره وإن أكثر من خمسة قال وفي الحديث دلالة على أن الرخصة إنما هي فيما يكال فيحتج به لأحد القولين يعني المشهور بتعميمها في التمر وكل ما ييبس ويدخر كالزبيب وغيره قال القرطبي وهو الأولى لأن النص إنما هو في التمر واتفقوا على إلحاق الزبيب به ولا سبب لإلحاقه إلا أنه في معنى التمر فيلحق به كلما ييبس ويدخر
وروى محمد قصرها على التمر والزبيب وهذا الحديث مخصص لعموم الأحاديث
ورواه البخاري هنا عن عبد الله بن عبد الوهاب الحجبي وفي محل آخر عن يحيى بن قزعة ومسلم عن القعنبي ويحيى التميمي الأربعة عن مالك به
( قال مالك وإنما تباع العرايا بخرصها من التمر يتحرى ذلك ) بالبناء للمجهول ( ويخرص ) يحزر ( في رؤوس النخل ) بأن يقول الخارص هذا الرطب الذي على النخل إذا يبس يصير ثلاثة أوسق مثلا فيشتريها المعرى ممن أعراها له بثلاثة تمرا يعطيها له عند الجذاذ عند مالك وأصحابه وقال الشافعي وأحمد لا يجوز إلا بالنقد
( وإنما أرخص فيه ) وإن منع أصله فإنها كما قال عياض مستثناة من أصول أربعة ممنوعة المزابنة وهو ظاهر الأحاديث وربا الفضل والنساء والعود في الهبة ( لأنه أنزل بمنزلة التولية ) لما اشتراه بما اشتراه ( والإقالة ) للبيع ( والشرك ) بكسر فسكون أي تشريك غيره فيما اشتراه بما اشتراه وكل من الثلاثة معروف فكذا العرية تجوز للمعروف أي لتتميم لأن المعرى بالفتح يلزمه القيام بها وحراستها وجمع سواقطها وعليه في ذلك كلفة فرخص لمعريها أن يشتريها ليكفيه تلك المؤن وقيل علة ذلك رفع الضرر عن المعرى لتضرره بدخول المعري عليه في بستانه واطلاعه على أهله وعلله مالك وابن القاسم بكل واحد منهما على البدلية فقال في المدونة يجوز للمعري شراء عريته لوجهين إما لرفع الضرر وإما للرفق في كفايته وقيل علته استخلاص الرقبة
( ولو كان ) ما ذكر
____________________
(3/339)
من الثلاث مسائل المقيس عليها ( بمنزلة غيره من البيوع ما أشرك أحد أحدا في طعامه حتى يستوفيه ) للنهي عن ذلك ( ولا إقالة منه ولا ولاه أحدا حتى يقبضه المبتاع ) للنهي الآتي عن بيع الطعام قبل قبضه فجواز المذكوات للمعروف
10 الجائحة في بيع الثمار والزرع الجائحة لغة المصيبة المستأصلة جمعها جوائح وعرفا ما أتلف من معجوز عن دفعه عادة قدرا من ثمر أو نبات
( مالك عن أبي الرجال ) لقب بذلك لأنه كان له أولاد عشرة رجالا كاملين وكنيته في الأصل أبو عبد الرحمن ( محمد بن عبد الرحمن ) الأنصاري ( عن أمه عمرة ) بفتح فسكون ( بنت عبد الرحمن ) الأنصارية ( أنه سمعها تقول ) مرسل وصله البخاري ومسلم بمعناه كما يأتي عن عائشة ( ابتاع رجل ثمر حائط في زمان رسول الله صلى الله عليه وسلم فعالجه وقام فيه حتى تبين له النقصان فسأل ) مبتاع الثمرة ( رب الحائط ) البستان ولم يسم واحد منهما ( أن يضع ) يسقط ( له ) لأجل النقص شيئا من ثمنه ( أو أن يقيله فحلف أن لا يفعل ) الوضع ولا الإقالة ( فذهبت أم المشتري إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكرت ذلك له فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم تألى ) بالهمز وشد اللام حلف مبالغا في النهي ( أن لا يفعل خيرا فسمع بذلك رب الحائط فأتى ) هو ( رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال يا رسول الله هو له ) قال مالك في العتبية لا أدري قوله هو له هل الوضيعة أو الإقالة وهذا الحديث وصله الشيخان بمعناه من طريق يحيى بن سعيد الأنصاري عن أبي الرجال عن عمرة عن عائشة قالت سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم صوت خصوم بالباب عالية أصواتهم وإذا أحدهما يستوضع الآخر ويسترفقه في شيء وهو يقول والله لا أفعل فخرج عليهما صلى الله عليه وسلم فقال أين المتألي على الله لا يفعل المعروف فقال يا رسول الله أناوله أي ذلك أحب وجمع عياض بينه وبين رواية الموطأ بأن يكون سمع أصواتهما ولم يتبين كلامهما فجاءت أم المشتري فأخبرته فخرج
____________________
(3/340)
( مالك أنه بلغه أن عمر بن عبد العزيز قضى بوضع الجائحة قال مالك وعلى ذلك الأمر عندنا والجائحة التي توضع عن المشتري الثلث فصاعدا ولا يكون ما دون ذلك جائحة ) لدخول المشتري على رمي الهواء وأكل الطير ونحو ذلك واليسير ما دون الثلث كما مر قريبا
11 ما يجوز في استثناء الثمر ( مالك عن ربيعة بن أبي عبد الرحمن أن القاسم بن محمد كان يبيع ثمر حائطه ثم يستثني منه ) ولم يبين قدر ما كان يستثني
( مالك عن عبد الله بن أبي بكر أن جده محمد بن عمرو بن حزم باع ثمر حائط له يقال له ) أي يسمى الحائط ( الأفرق ) بفتح الهمزة وسكون الفاء وآخره قاف موضع بالمدينة ( بأربعة آلاف درهم واستثنى منه بثمانمائة درهم تمرا ) وهي دون الثلث
( مالك عن أبي الرجال محمد بن عبد الرحمن بن حارثة أن أمه عمرة بنت عبد الرحمن كانت تبيع ثمارها وتستثني منها ) ولم يبين قدر ما كانت تستثني ( قال مالك الأمر المجتمع عليه عندنا أن الرجل إذا باع ثمر حائطه أن له أن يستثني من ثمر حائطه ما بينه وبين ثلث الثمر لا يجاوز ذلك ) يتعداه ( وما كان دون الثلث فلا بأس بذلك ) أي يجوز ( وأما الرجل يبيع ثمر حائطه ويستثني من ثمر حائطه ثمر نخلة أو نخلات يختارها ويسمي عددها فلا أرى بذلك بأسا ) شدة أي يجوز ( لأن رب الحائط إنما استثنى شيئا من ثمر حائط
____________________
(3/341)
نفسه ) فهو عالم به ( وإنما ذلك شيء احتبسه ) أي منعه ( من حائطه وأمسكه لم يبعه وباع من حائطه ما سوى ذلك ) وهذا صريح في أن المستثنى مبقى
12 ما يكره من بيع التمر ( مالك عن زيد بن أسلم عن عطاء بن يسار ) مرسل قال ابن عبد البر وصله داود بن قيس عن زيد عن عطاء عن أبي سعيد الخدري ( أنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم التمر بالتمر مثلا بمثل ) مصدر في موضع الحال أي موزونا وفي رواية بالرفع
( فقيل له إن عاملك على خيبر ) سواد بن غزية كما يأتي ( يأخذ الصاع ) من التمر الجيد ( بالصاعين ) من التمر الرديء
( فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ادعوه لي فدعي له فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم أتأخذ الصاع بالصاعين فقال يا رسول الله لا يبيعونني الجنيب ) بفتح الجيم وكسر النون وإسكان التحتية فموحدة نوع من جيد التمر ( بالجمع ) بفتح الجيم وسكون الميم تمر رديء
مجموع من أنواع مختلفة ( صاعا بصاع فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ) لاتفعل ( بع الجمع ) التمر الرديء ( بالدراهم ثم ابتع ) اشتر ( بالدراهم ) تمرا ( جنيبا ) فلا يدخله الربا فنهاه عما فعل وعذره فلم يعنفه ولم يرد فعله السابق لأنه فعله باجتهاد قبل نزول آية الربا وقبل أن يتقدم إليه صلى الله عليه وسلم بالنهي عن التفاضل ولذا سأله عن فعله ليعلمه بما أحدث الله فيه ولم يأمره بفسخه
وجاء عن بلال وأبي سعيد أنه صلى الله عليه وسلم أمر برد هذا البيع قاله ابن عبد البر أي برد مثله بعد نزول النهي عن التفاضل فلا يخالف ما قبله بناء على تعدد القصة كما يأتي عنه في تاليه
( مالك عن عبد الحميد ) بالمهملة ثم الميم رواه يحيى وابن نافع وابن يوسف وقال جمهور رواة الموطأ عبد المجيد بميم تليها جيم وهو المعروف وكذا ذكره البخاري والعقيلي وهو الصواب
____________________
(3/342)
والحق الذي لا شك فيه والأول غلط قاله أبو عمر ( ابن سهيل ) بالتصغير زوج الثريا بنت عبد الله الذي يقول فيه عمر بن ربيعة أيها المنكح الثريا سهيلا عمرك الله كيف يلتقيان هي شامية إذا ما استقلت وسهيل إذا استقل يمان ( ابن عبد الرحمن بن عوف ) الزهري ثقة حجة روى عنه مالك وابن عيينة وسليمان بن بلال والدراوردي وله مرفوعا في الموطأ هذا الحديث الواحد ( عن سعيد بن المسيب عن أبي سعيد ) بكسر العين سعد بسكونها ابن مالك بن سنان ( الخدري ) الصحابي ابن الصحابي ( وعن أبي هريرة ) عبد الرحمن ابن صخر أو عمرو بن عامر قولان مرجحان قال أبو عمر ذكر أبي هريرة لا يوجد في غير رواية عبد المجيد وإنما المحفوظ عن أبي سعيد كما رواه قتادة عن ابن المسيب عنه ويحيى بن أبي كثير عن أبي سلمة وعقبة بن عبد الغافر عن أبي سعيد اه وهي زيادة من ثقة غير منافية فليست بشاذة كما ادعاه بقوله المحفوظ إذ يقابله الشاذ ولذا لم يلتفت الشيخان لذلك ورويا الحديث
ومن اقتصر على أبي سعيد فقد قصر فلا يقضى به على من ذكرهما وكأن أبا عمر استشعر هذا بعد ذلك فقال في الاستذكار الحديث محفوظ عن أبي سعيد وأبي هريرة ( أن رسول الله صلى الله عليه وسلم استعمل رجلا ) هو سواد بخفة الواو ابن غزية بمعجمتين بوزن عطية كما سماه الدراوردي عن عبد المجيد عند أبي عوانة والدارقطني ( على خيبر ) أي جعله أميرا عليها ( فجاء بتمر جنيب ) بجيم مفتوحة ونون مكسورة وتحتية ساكنة فموحدة نوع من أعلى التمر قيل الكبيس وقيل الطيب وقيل الصلب وقيل الذي خرج منه حشفه ورد به وقيل الذي لا يخلط بغيره
( فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم أكل تمر خيبر هكذا فقال لا والله يا رسول الله إنا لنأخذ الصاع من هذا ) الجنيب ( بالصاعين ) من الجمع كما زاده سليمان بن بلال عن عبد الحميد عند الشيخين ( والصاعين ) من الجنيب ( بالثلاثة ) من الجمع وفي رواية بالثلاث بدون تاء وهما جائزان لأن الصاع يذكر ويؤنث
( فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لا تفعل بع الجمع ) بفتح فسكون التمر الرديء المجموع من أنواع مختلفة ( بالدراهم ثم ابتع ) اشتر ( بالدراهم ) تمرا ( جنيبا ) ليكون صفقتين فلا يدخله الربا فليس هذا حيلة في بيع الربوي بجنسه متفاضلا لأنه حرام بل توصل إلى تحصيل تملكه
وفي رواية سليمان بن بلال فقال لا تفعلوا ولكن مثلا بمثل أو بيعوا هذا واشتروا بثمنه من هذا وكذلك الميزان قال ابن عبد البر كل من روى عن عبد المجيد هذا الحديث ذكر آخره وكذلك الميزان سوى مالك وهو أمر مجمع عليه
____________________
(3/343)
لا خلاف بين أهل العلم فيه وأجمعوا على أن التمر بالتمر لا يجوز بيع بعضه ببعض إلا مثلا بمثل سواء الطيب والدون وأنه كله على اختلاف أنواعه واحد وأما سكوت من سكت من الرواة عن فسخ البيع المذكور فلا يدل على عدم الوقوع وقد ورد الفسخ من طريق أخرى عند مسلم فقال هذا الربا فرده ويحتمل تعدد القصة وأن التي لم يقع فيها الرد كانت قبل تحريم ربا الفضل اه
واحتج بالحديث من أجاز بيع الطعام من رجل بنقد ويبتاع منه بذلك النقد طعاما قبل الافتراق وبعده لأنه لم يخص فيه بائع الطعام ولا مبتاعه من غيره وبه قال الحنفي والشافعي ومنعه المالكية وأجابوا بأن الحديث مطلق لا يشمل ما ذكر فإذا عمل به في صورة سقط الاحتجاج به فيما عداها بإجماع الأصوليين وبأنه صلى الله عليه وسلم لم يقل وابتع ممن اشترى الجمع بل خرج الكلام غير متعرض لعين البائع من هو فلا يدل على المدعي
وقال ابن عبد البر بيع التمر الجمع بالدراهم وشراء الجنيب بها من رجل واحد في وقت واحد يدخله ما يدخل الصرف في بيع الذهب بدراهم ويشتري بها ذهبا من رجل واحد في وقت والمراعى في ذلك كلمة واحدة فمالك يكره ذلك على أصله وكل من قال بالذرائع كذلك وغيره يراعي السلامة في ذلك لا يفسخ بيعا قد انعقد إلا بيقين وقصد اه
وذكر بعضهم أن الشافعية استدلوا به على جواز الحيلة في بيع الربوي بجنسه متفاضلا بأن يبيعه من صاحبه بدراهم أو عرض ويشتري منه بالدراهم أو يقرض كل منهما صاحبه ويبريه أو يتواهبا أو يهب الفاضل مالكه لصاحبه بعد شرائه منه ما عداه بما يساويه فكل هذا جائز إذا لم يشترط في بيعه وإقراضه وهبته ما يفعله الآخر نعم هي مكروهة إذا نويا ذلك لأن كل شرط أفسد التصريح به العقد يكره إذا نواه كما لو تزوج بشرط أن يطلق لم ينعقد فإن قصد ذلك كره ثم هذه الطرق ليست حيلا في بيع الربوي بجنسه متفاضلا لأنه حرام بل حيل في تمليكه لتحصيل ذلك ففي التعبير بذلك تسامح اه
ورواه البخاري هنا عن قتيبة
وفي الوكالة عن عبد الله بن يوسف
وفي المغازي عن إسماعيل ومسلم عن يحيى كلهم عن مالك به وتابعه سليمان بن بلال عند الشيخين
( مالك عن عبد الله بن يزيد ) بتحتية قبل الزاي المخزومي مولاهم المدني زاد الشافعي وأبو مصعب وغيرهما مولى الأسود بن سفيان ( أن زيدا أبا عياش ) بتحتانية ومعجمة كنيته واسم أبيه عياش المدني تابعي صدوق نقل عن مالك أنه مولى سعد بن أبي وقاص وقيل إنه مولى بني مخزوم قال أبو عمر زعم بعضهم أنه مجهول لا يعرف ولم يذكر إلا في هذا الحديث ولم يرو عنه إلا عبد الله ابن يزيد هذا الحديث فقط وقيل بل روى عنه أيضا عمران بن أنس وقيل إن أبا عياش هو ابن عياش الزرقي واسمه عند طائفة زيد بن الصامت صحابي صغير حفظ عنه صلى الله عليه وسلم وشهد معه بعض مشاهده اه
( أخبره أنه سأل سعد بن أبي وقاص عن ) بيع ( البيضاء ) أي الشعير كما ورد بوجه آخر ولا خلاف فيه عن مالك ووهم وكيع فقال عنه الذرة ولم يقله غيره والبيضاء عند العرب الشعير والسمرة عندهم
____________________
(3/344)
البر قاله أبو عمر ( بالسلت ) بضم السين وإسكان اللام حب بين الحنطة والشعير ولا قشر له كقشر الشعير فهو كالحنطة في ملاسته وكالشعير في طبعه وبرودته قاله الأزهري
وقال الجوهري قيل إنه ضرب من الشعير لا قشر له ويكون في الغور والحجاز ( فقال له سعد أيتهما أفضل ) قال مالك أي أكثر في الكيل ويدل له احتجاج سعد ( فقال البيضاء ) أي الشعير ( فنهاه عن ذلك ) أي بيعها متفاضلا لتقاربهما في المنفعة والخلقة وغيرهما
( وقال سعد ) محتجا لفتواه بالمنع ( سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يسأل عن اشتراء التمر بالرطب فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ) لمن حوله كما في رواية ( أينقص الرطب إذا يبس فقالوا نعم فنهى عن ذلك ) لعدم التماثل فقاس سعد ما سئل عنه من الشعير والسلت على ما سئل عنه المصطفى التمر بالرطب بجامع تقارب المنفعة
13 ما جاء في المزابنة والمحاقلة بضم الميم مفاعلة من الزبن وهو الدفع الشديد ومنه الزبانية ملائكة النار لأنهم يزبنون الكفرة فيها أي يدفعونهم ويقال للحرب زبون لأنها تدفع أبناءها للموت وناقة زبون إذا كانت تدفع حالبها عن الحلب سمي به هذا البيع المخصوص لأن كل واحد من المتبايعين يزبن أي يدفع الآخر عن حقه بما يزداد منه فإذا وقف أحدهما على ما يكره تدافعا فيحرص أحدهما على فسخ البيع والآخر على إمضائه
والمحاقلة بالمهملة والقاف مفاعلة من الحقل وهو الحرث وقال بعض اللغويين اسم للزرع في الأرض وللأرض التي يزرع فيها ومنه قوله صلى الله عليه وسلم للأنصار ما تصنعون بمحاقلكم أي بمزارعكم
( مالك عن نافع عن عبد الله بن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن المزابنة ) بضم الميم وفتح الزاي والموحدة قال القزاز أصله أن المغبون يريد فسخ البيع والغابن لا يريد فسخه فيتزابنان عليه أن يتدافعان زاد ابن بكير وحده والمحاقلة
( والمزابنة بيع الثمر ) بفتح المثلثة والميم الرطب على النخل ولابن بكير بيع الرطب ( بالتمر ) بالفوقية وسكون الميم اليابس ( كيلا ) نصب على التمييز أي من حيث الكيل وليس قيدا في هذه الصورة بل جرى على ما كان من عادتهم فلا مفهوم له أو له مفهوم ولكنه مفهوم موافقة لأن المسكوت عنه أولى بالمنع من المنطوق
( وبيع الكرم ) بفتح الكاف وسكون الراء شجر العنب والمراد العنب نفسه
وفي مسلم من رواية عبيد الله عن نافع وبيع العنب ( بالزبيب
____________________
(3/345)
كيلا ) ووقع في رواية إسماعيل عن مالك وبيع الزبيب بالكرم كيلا من باب القلب فالأصل إدخال الياء على الزبيب كما رواه الجمهور زاد في رواية أيوب عن نافع إن زاد فلي وإن نقص فعلي قال ابن عبد البر هذا التفسير إما مرفوع أو من قول الصحابي الراوي فيسلم له لأنه أعلم به وفيه جواز تسمية العنب كرما وحديث النهي عن تسميته به للتنزيه وعبر به هنا لبيان الجواز قيل وهذا على أن التفسير مرفوع أما على أنه من قول الصحابي فلا
وأخرجه البخاري عن إسماعيل وعبد الله بن يوسف ومسلم عن يحيى ثلاثتهم عن مالك به وتابعه أيوب عند الشيخين وعبيد الله والليث ويونس والضحاك وموسى ابن عقبة كلهم عن نافع عند مسلم نحوه
( مالك عن داود بن الحصين عن أبي سفيان ) وهب أو قزمان بضم القاف وسكون الزاي ( مولى ) عبد الله ( بن أبي أحمد ) عبد بن جحش الأسدي ( عن أبي سعيد الخدري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع المزابنة والمحاقلة ) بضم الميم فحاء مهملة فألف فقاف مأخوذ من الحقل وهو الحرث وموضع الزرع ( والمزابنة اشتراء الثمر ) بالمثلثة ( بالتمر ) بالفوقية ( في رؤوس النخل ) زاد ابن مهدي عن مالك عند الإسماعيلي كيلا وهو موافق لحديث ابن عمر فوقه ومر أنه ليس بقيد
( والمحاقلة كراء الأرض بالحنطة ) وما في معناها من جميع الطعام على اختلاف أنواعه وتفسيرها بذلك يجيء على أن الحقل الأرض التي تزرع كخبر ما تصنعون بمحاقلكم أي بمزارعكم ومنه المثل لا تنبت البقلة إلا الحقلة وهذا التفسير إما مرفوع أو من قول أبي سعيد فيسلم له لأنه أعلم به
ورواه البخاري عن عبد الله بن يوسف ومسلم من طريق ابن وهب كلاهما عن مالك به
( مالك عن ابن شهاب عن سعيد بن المسيب أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن المزابنة والمحاقلة والمزابنة اشتراء الثمر ) بمثلثة وفتح الميم ( التمر ) بالفوقية وسكون الميم فهي في النخل ( والمحاقلة اشتراء الزرع بالحنطة ) أي القمح وبه عبر في رواية عقيل عن الزهري عند مسلم
( واستكراء الأرض بالحنطة ) أي القمح وبه عبر في مسلم وهو عنده مرسل أيضا من رواية عقيل فهو متابع لمالك قال ابن عبد البر هذا الحديث مرسل في الموطأ عند جميع الرواة وكذا رواه أصحاب ابن شهاب عنه وقد روى النهي عنهما جماعة منهم جابر وابن عمر وأبو هريرة ورافع بن خديج وكلهم سمع منه ابن
____________________
(3/346)
المسيب وقد رواه ابن أبي شيبة عن أبي الأحوص عن طارق عن سعيد بن المسيب عن رافع بن خديج قال نهى صلى الله عليه وسلم عن المحاقلة والمزابنة وقال إنما يزرع ثلاثة رجل له أرض فهو يزرعها ورجل منح أرضا فهو يزرعها ما منح ورجل استكرى أرضا بذهب أو فضة اه
وأخرجه الخطيب عن أحمد بن أبي طيبة عيسى بن دينار الجرجاني عن مالك عن الزهري عن ابن المسيب عن أبي هريرة موصولا والجرجاني وإن كان صدوقا لكن له إفراد
( قال ابن شهاب فسألت سعيد بن المسيب عن استكراء الأرض بالذهب والورق ) الفضة ( فقال لا بأس بذلك ) أي يجوز وعليه نص الحديث كما رأيت
( قال مالك نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن المزابنة ) في الأحاديث المذكورة قال عياض ما فسر به الحديث المزابنة هو أحد أنواعها وفسرها الموطأ بما هو أوسع فقال ( وتفسير المزابنة أن كل شيء من الجزاف الذي لا يعلم كيله ولا وزنه ولا عدده ) إشارة إلى أن قوله في الحديث كيلا خرج على الغالب أو مفهوم موافقة وأنها ليست مقصورة على النخل ( ابتيع بشيء مسمى من الكيل أو الوزن أو العدد ) فحاصله ما قاله المازري أنها بيع مجهول بمجهول من جنسه وبيع معلوم بمجهول من جنسه فيشمل تفسير الحديث فإن كان الجنس ربويا حرم البيع للربا والمزابنة أما الربا فلعدم تحقق المساواة والشك في الربا كتحققه وأما المزابنة فلوجود معناها لأن كلا من المتبايعين يدفع الآخر ولذا شرط اتحاد الجنس لأن به ينصرف الغرض إلى القلة والكثرة فكل واحد يقول ما أخذت أكثر وقد غبنت صاحبي وإن كان الجنس غير ربوي حرم البيع للمزابنة فقط لكن إن تحقق الفضل فيما ليس بربوي جاز ويقدر أن المغبون وهب الفضل لظهوره له وتعقب أبو عبد الله الأبي قول عياض تفسير الحديث أحد أنواعه المزابنة بأنه إن عنى أنه لا يتناول إلا بيع المعلوم بالمجهول لقوله كيلا رد بأنه يتناول بيع المجهول بالمجهول بقياس الأولى وإن عنى أنه لا يتناول إلا الربوي فإنما ذلك من حيث اللفظ وأما من حيث المعنى فيتناول غيره لتقرر معنى المزابنة فيه بالمعنى الذي قرره المازري في الوجه الثاني المتقدم فتفسير العلماء المزابنة ليس بأعم من تفسير الحديث بل هو مساو له وهو إما مرفوع فلا معدل عنه أو من الراوي وله مزية وبسط الإمام هذا فقال ( وذلك أن يقول الرجل للرجل يكون له الطعام المصبى ) بشد الموحدة المجموع بعضه فوق بعض ( الذي لا يعلم كيله من الحنطة أو التمر أو ما أشبه ذلك من الأطعمة أو يكون للرجل السلعة من الخبط ) بفتح المعجمة والموحدة ما يسقط من ورق الشجر ( أو النوى ) للبلح ( أو القضب أو العصفر ) نبت معروف ( أو الكرسف ) بالضم القطن ( أو الكتان ) بفتح
____________________
(3/347)
الكاف معروف وله بزر يعتصر ويستصبح به قال ابن دريد الكتان عربي سمي بذلك لأنه يكتن أي يسود إذا ألقى بعضه على بعض ( أو القز ) بفتح القاف وبالزاي معرب قال الليث هو ما يعمل منه الإبريم ولذا قال بعضهم القز والإبريسم مثل الحنطة والدقيق
( أو ما أشبه ذلك من السلع لا يعلم كيل شيء من تلك ولا وزنه ولا عدده فيقول الرجل لرب تلك السلعة كل ) بكسر الكاف ( سلعتك هذه ) بنفسك ( أو مر من يكيلها أوزن من ذلك ما يوزن أو عد منها ما كان يعد فما نقص من كذا وكذا صاعا لتسمية يسميها أو وزن كذا وكذا رطلا أو عدد كذا وكذا فما نقص من ذلك فعلي غرمه ) بضم فسكون أي دفعه ( لك حتى أوفيك تلك التسمية فما زاد على التسمية فهو لي أضمن ما نقص من ذلك على أن يكون لي ما زاد فليس ذلك بيعا ) شرعيا جائزا ( ولكنه المخاطرة ) المستفادة من لفظ المزابنة قال ابن حبيب الزبن الخطر وقيل الدفع كأنه دفع عن البيع الشرعي وعن معرفة التساوي ( والغرر ) مساو لما قبله فهو لغة الخطر ( والقمار ) بكسر القاف المغالبة مبتدأ خبره ( يدخل هذا لأنه لم يشتر منه شيئا بشيء أخرجه ولكنه ضمن له ما سمى من ذلك الكيل أو الوزن أو العدد على أن يكون له ما زاد على ذلك فإن نقصت تلك السلعة من تلك التسمية أخذ من مال صاحبه ما نقص بغير ثمن لا هبة طيبة بها نفسه ) فهو من أكل المال بالباطل ( فهذا يشبه القمار وما كان مثل هذا من الأشياء فذلك يدخله ومن ذلك أيضا أن يقول الرجل للرجل له الثوب أضمن لك من ثوبك هذا كذا وكذا ظهارة ) بكسر الظاء المعجمة ما يظهر للعين وهي خلاف بطانة ( قلنسوة ) بفتح القاف واللام وإسكان النون وضم السين وفتح الواو مفرده قلانس ( قدر كل ظهارة كذا وكذا لشيء يسميه فما نقص من ذلك فعلي غرمه حتى
____________________
(3/348)
أوفيكه وما زاد فلي أو أن يقول الرجل للرجل أضمن لك من ثيابك هذين كذا وكذا قميصا ذرع ) بفتح الذال المعجمة وإسكان الراء قدر ( كل قميص كذا وكذا فما نقص من ذلك فعلي غرمه وما زاد على ذلك فلي أو أن يقول الرجل للرجل له الجلود من جلود البقر أو الإبل أقطع جلودك هذه فعالا على إمام ) بكسر الهمزة أي مثال ( يريه إياه فما نقص من مائية ) أي حقيقة وصفة ( زوج فعلي غرمه وما زاد فهو لي بما ضمنت لك وما يشبه ذلك أن يقول الرجل عنده حب البان ) شجر معروف وهو الخلاف بخفة اللام قال الصغاني وشدها من لحن العوام ( أعصر حبك هذا فما نقص من كذا كذا رطلا فعلي أن أعطيكه وما زاد فهو لي فهذا كله وما أشبهه من الأشياء أو ضارعه ) شابهه فهو مساو وحسنه اختلاف اللفظ والعرب تفعل ذلك للتأكيد ( من المزابنة التي لا تصلح ولا تجوز وكذلك أيضا إذا قال الرجل للرجل له الخبط أو النوى أو الكرسف أو الكتان أو القضب ) بالضاد المعجمة الساكنة نبت معروف ( أو العصفر أبتاع منك هذا الخبط بكذا وكذا صاعا من نوى مثله وفي العصفر والكرسف والكتان والقضب مثل ذلك فهذا كله يرجع إلى ما وصفناه من المزابنة ) فلا يجوز شيء من ذلك لدخوله تحت نهيه صلى الله عليه وسلم عنها قال في الاستذكار يشهد لقول مالك لغة العرب في المزابنة من الزبن وهو المقامرة والدفع والمغالبة وفي معنى ذلك الزيادة والنقص حتى قال بعض اللغويين القمر مشتق من القمار لزيادته ونقصانه فالمزابنة القمار والمخاطرة شيء متداخل المعنى متقارب
____________________
(3/349)
14 جامع بيع الثمر ( قال مالك من اشترى ثمرا من نخل مسماة أو حائط مسمى أو لبنا من غنم مسماة إنه لا بأس بذلك ) أي يجوز ( إذا كان يؤخذ عاجلا يشرع المشتري في أخذه عند دفع الثمن ) بيان للتعجيل ( وإنما مثل ذلك بمنزلة راوية زيت يبتاع منها رجل بدينار أو دينارين ويعطيه ذهبه ويشترط عليه أن يكيل له منها فهذا لا بأس به فإن انشقت الراوية فذهب زيتها فليس للمبتاع إلا ذهبه ولا يكون بينهما بيع وأما كل شيء كان حاضرا يشترى على وجهه مثل اللبن إذا حلب والرطب يستجنى ) بسين التأكيد أي يجنى ( فيأخذ المبتاع يوما بيوم فلا بأس به فإن فني قبل أن يستوفي المشتري ما اشترى رد عليه البائع من ذهبه بحساب ما بقي له أو يأخذ منه المشتري سلعة بما بقي له يتراضيان عليها ولا يفارقه حتى يأخذها فإن فارقه فإن ذلك مكروه لأنه يدخله الدين بالدين وقد نهى ) صلى الله عليه وسلم ( عن الكالىء بالكالىء ) بالهمز وهو الدين بالدين ( فإن وقع في بيعهما أجل فإنه مكروه ولا يحل فيه تأخير ولا نظرة ) بفتح فكسر تأخير ( ولا يصلح إلا بصفة معلومة إلى أجل مسمى فيضمن ذلك البائع للمبتاع ولا يسمى ذلك في حائط بعينه ولا في غنم بأعيانها
وسئل مالك عن الرجل يشتري من الرجل الحائط فيه ألوان ) أنواع ( من النخل من العجوة ) نوع من أجود تمر المدينة ( والكبيس ) نوع من التمر ويقال من أجوده ( والعذق ) بفتح المهملة وإسكان
____________________
(3/350)
المعجمة وقاف أنواع من التمر ومنه عذق ابن الحبيق وعذق ابن طاب وعذق ابن زيد قاله أبو حاتم
( وغير ذلك من ألوان التمر فيستثني البائع منها تمر النخلة أو النخلات يختارها من نخله فقال مالك ذلك لا يصلح لأنه إذا صنع ذلك ترك تمر النخلة من العجوة ومكيلة ثمرها خمسة عشر صاعا وأخذ مكانها ثمر نخلة من الكبيس ومكيلة ثمرها عشرة أصوع ) جمع قلة لصاع ويجمع كثرة على صيعان وفي نسخة آصع جمع أيضا لصاع على القلب كما قيل دار وآدر بالقلب قاله الفاسي وجعله أبو حاتم من خطأ العوام قال ابن الأنباري وليس بخطأ في القياس وإن لم يسمع من العرب لكنه قياس ما نقل عنهم من نقل الهمزة من موضع العين إلى موضع الياء فيقولون أبآر وآبار
( وإن أخذ العجوة التي فيها خمسة عشر صاعا وترك التي فيها عشرة أصوع ) وفي نسخة آصع ( من الكبيس فكأنه اشترى العجوة بالكبيس متفاضلا ) فيدخل في النهي عن ذلك ( وذلك مثل أن يقول الرجل للرجل بين يديه ) أي عنده ( صبرة من التمر قد صبر ) بالتشديد ( العجوة فجعلها خمسة عشر صاعا وجعل صبرة الكبيس عشرة آصع وجعل صبرة العذق اثني عشر صاعا فأعطى صاحب التمر دينارا على أنه يختار فيأخذ أي تلك الصبر شاء فهذا لا يصلح ) لأن المخير يعد منتقلا
( وسئل مالك عن الرجل يشتري الرطب من صاحب الحائط فيسلفه الدينار ماذا له إذا ذهب رطب ذلك الحائط قال مالك يحاسب صاحب الحائط ثم يأخذ منه ما بقي له من ديناره إن كان أخذ بثلثي ديناره رطبا أخذ ثلث الدينار الذي بقي له وإن كان أخذ ثلاثة ) نصب على التوسع أي بثلاثة ( أرباع ديناره رطبا ) مفعول أخذ ( أخذ الربع الذي بقي له أو يتراضيان بينهما فيأخذ بما بقي له من
____________________
(3/351)
ديناره عند صاحب الحائط ما بدا له إن أحب أن يأخذ تمرا أو سلعة سوى التمر أخذها بما فضل له فإن أخذ تمرا أو سلعة أخرى فلا يفارقه حتى يستوفي ذلك منه ) لئلا يلزم عليه بيع الدين بالدين
( وإنما هذا بمنزلة أن يكري الرجل الرجل راحلته بعينها أو يؤاجر غلامه الخياط أو النجار أو العمال ) بالتشديد ( لغير ذلك من الأعمال أو يكري مسكنه ويتسلف إجارة ذلك الغلام أو كراء ذلك المسكن أو تلك الراحلة ثم يحدث في ذلك حدث بموت أو غير ذلك فيرد رب الراحلة أو العبد أو المسكن إن الذي سلفه ما بقي من كراء الراحلة أو إجارة العبد أو كراء المسكن يحاسب صاحبه بما استوفى من ذلك إن كان استوفى نصف حقه رد عليه النصف الباقي الذي عنده وإن كان أقل من ذلك أو أكثر فبحساب ذلك يرد إليه ما بقي له ) وهذا كله ظاهر غني عن شرحه ( ولا يصلح التسليف في شيء من هذا يسلف فيه بعينه إلا أن يقبض المسلف ) بكسر اللام ( ما سلف فيه عند دفعه الذهب إلى صاحبه يقبض العبد أو الراحلة أو المسكن أو يبدأ فيما اشترى من الرطب فيأخذ منه عند دفعه الذهب إلى صاحبه لا يصلح أن يكون في شيء من ذلك أجل ولا تأخير وتفسير ما كره من ذلك أن يقول الرجل للرجل أسلفك في راحلتك فلانة ) المعينة وإطلاقها على غير الإنس أنكره بعضهم ورد بأن في الحديث ماتت فلانة لشاة ( أركبها في الحج وبينه وبين الحج أجل ) أي مدة ( من الزمان أو يقول مثل ذلك في العبد أو المسكن فإنه إذا صنع ذلك كان إنما يسلفه ذهبا على أنه إن وجد تلك الراحلة صحيحة لذلك الأجل
____________________
(3/352)
الذي سمي له فهي له بذلك الكراء وإن حدث بها حدث من موت أو غيره رد عليه ذهبه وكانت عليه على وجه السلف عنده
وإنما فرق بين ذلك القبض ) فاعل فرق ( من قبض ما استأجر أو استكرى فقد خرج من الغرر والسلف الذي يكره وأخذ أمرا معلوما ) بخلاف من لم يقبض
( وإنما مثل ذلك أن يشتري الرجل العبد أو الوليدة فيقبضهما ) بالنصب ( وينقد أثمانهما ) بالجمع كراهة توالي تثنيتين ( فإن حدث بهما حدث من عهدة السنة أخذ ذهبه من صاحبه الذي ابتاع منه فهذا لا بأس به وبهذا مضت السنة في بيع الرقيق ومن استأجر عبدا بعينه أو تكارى راحلة بعينها إلى أجل يقبض العبد أو الراحلة إلى ذلك الأجل فقد عمل بما لا يصلح لا هو قبض ما استكرى أو استأجر ولا هو سلف في دين يكون ضامنا على صاحبه حتى يستوفيه ) بيان لنفي الصلاح
15 بيع الفاكهة ( قال مالك الأمر المجتمع عليه عندنا أن من ابتاع شيئا من الفاكهة رطبها أو يابسها ) بخفضهما ( فإنه لا يبيعه حتى يستوفيه ) لأنه من الطعام وقد نهى عن بيعه قبل استيفائه كما يأتي
( ولا يباع شيء منها بعضه ببعض ) بدل من الشيء ( إلا يدا بيد ) لئلا يدخله ربا النساء ( وما كان منها مما ييبس فيصير فاكهة يابسة يدخر ويؤكل فلا يباع بعضه ببعض إلا يدا بيد ) مناجزة ( ومثلا بمثل ) أي متساويا ( إذا كان
____________________
(3/353)
من صنف واحد ) لدخول ربا الفضل والنساء ( فإن كانا من صنفين مختلفين فلا بأس بأن يباع اثنان بواحد يدا بيد ) أي مناجزة ( ولا يصلح إلى أجل ) لربا النساء ( وما كان منها لا ييبس ولا يدخر وإنما يؤكل رطبا كهيئة البطيخ والقثاء والخريز ) بكسر المعجمة وزاي أخره نوع من البطيخ ( والجزر والأترج ) بضم الهمزة وشد الجيم فاكهة معروفة الواحدة أترجة وفي لغة ضعيفة ترنج قال الأزهري والأولى هي التي تكلم بها الفصحاء وارتضاه النحويون
( والموز ) الفاكهة المعروفة الواحدة موزة
( والرمان ) فعال ونونه أصلية ولذا ينصرف فإن سمى به امتنع حملا على الأكثر الواحدة رمانة
( وما كان مثله وإن يبس لم يكن فاكهة بعد ذلك وليس هو مما ) وفي نسخة مثل ما ( يدخر ويكون فاكهة فأراه خفيفا أن يؤخذ منه من صنف واحد اثنان بواحد يدا بيد فإذا لم يدخل فيه شيء من الأجل فإنه لا بأس به ) أي يجوز
16 بيع الذهب بالورق عينا وتبرا حالان من الذهب فالتبر ما كان من الذهب غير مضروب فإن ضرب دنانير فهو عين
( مالك عن يحيى بن سعيد ) الأنصاري ( أنه قال ) مرسلا
ورواه ابن وهب عن الليث بن سعد وعمرو بن الحارث عن يحيى بن سعيد أنه حدثهما أن عبد الله بن أبي سلمة حدثه أنه بلغه أن رسول الله فذكره قيل إن شيخه عبد الله هو الهذلي يروي عن ابن عمر وغيره وزعم البخاري أنه والد عبد العزيز بن أبي سلمة فالله أعلم قاله أبو عمر
( أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم السعدين ) سعد بن أبي وقاص وسعد ابن عبادة كما رواه يعقوب بن شيبة وغيره بإسناد صحيح عن فضالة قال كنا يوم خيبر فجعل صلى الله عليه وسلم على الغنائم سعد بن أبي وقاص وسعد بن عبادة ( أن يبيعا آنية من المغانم ) أي مغانم خيبر ( من ذهب أو فضة فباعا كل ثلاثة بأربعة عينا أو كل أربعة بثلاثة عينا ) شك الراوي ( فقال لهما رسول الله صلى الله عليه وسلم أربيتما فردا ) ما بعتما وفيه أمر الإمام ببيع المغانم إذا رأى ذلك ويقسم الثمن وإنما رد البيع ولم يأمر
____________________
(3/354)
عامله على خيبر لما باع صاعين يجمع بصاع من جنيب بالرد لاحتمال أن مبتاع الآنية موجود معلوم بخلاف مبتاع الجمع أو لم يتقدم نهي قبل بيع الجنيب فلا يفسخ بخلاف الآنية وإنما بيعت قبل كسرها لأن المشتري لا بد له من كسرها ولا يبقيها للانتفاع بها لحديث الذي يشرب في آنية الفضة فإنما يجرجر في بطنه نار جهنم
( مالك عن موسى بن أبي تميم ) المدني ثقة له في الموطأ مرفوعا هذا الحديث الواحد ( عن أبي الحباب ) بضم المهملة وموحدتين بينهما ألف ( سعيد ) بكسر العين ( ابن يسار ) المدني ثقة متقن ( عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال الدينار بالدينار والدرهم بالدرهم لا فضل بينهما ) أي زيادة فيحرم الربا في الذهب والفضة لعلة الثمنية الغالبة فالربويان المتحد جنسهما كذهب بذهب وفضة بفضة يحرم فيهما التفاضل وكذا النساء والتفرق قبل التقابض وقد زاد في حديث على هند ابن ماجه وصححه الحاكم عقب قوله لا فضل بينهما فمن كانت له حاجة بورق فيصرفها بذهب ومن كانت حاجة بذهب فليصرفها بالورق والصرف هاء وهاء وهذا رواه مسلم من طريق ابن وهب عن مالك وتابعه سليمان بن بلال عن موسى به عند مسلم أيضا ورواه النسائي من طريق مالك وغيره
( مالك عن نافع ) مولى ابن عمر ( عن أبي سعيد الخدري ) سعد بن مالك ( أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لا تبيعوا الذهب بالذهب إلا مثلا بمثل ) أي إلا حال كونهما متماثلين أي متساويين أي مع الحلول والتقابض في المجلس ( ولا تشفوا ) بضم الفوقية وكسر الشين المعجمة وضم الفاء المشددة من الأشفاف أي لا تفضلوا ( بعضها على بعض ) والشف بالكسر الزيادة
( ولا تبيعوا الورق بالورق ) بكسر الراء فيهما الفضة بالفضة ( إلا ) حال كونهما ( مثلا بمثل ) بكسر الميم أي متماثلين ( ولا تشفوا ) أي لا تفضلوا ( بعضها على بعض ولا تبيعوا منها شيئا غائبا ) أي مؤجلا ( بناجز ) بنون وجيم وزاي أي بحاضر فلا بد من التقابض في المجلس وفيه أن الزيادة وإن قلت حرام لأن الشفوف الزيادة القليلة ومنه شفافة الإناء وهي البقية القليلة من الماء ولا خلاف في المنع الصرف المؤخر إلا في دينار في ذمة آخذ صرفه الآن أو في دينار في ذمة وصرفه في ذمة أخرى فيتقاصان معا فذهب مالك وأصحابه إلى جواز الصورتين بشرط حلول ما في الذمة وأن يتناجز في المجلس وأجاز أبو حنيفة وأصحابه الصورتين وإن لم يحل ما في الذمة فيهما مراعاة لبراءة الذمم وأجاز الشافعي وابن كنانة
____________________
(3/355)
وابن وهب للصورة الأولى دون الثانية قاله عياض ورواه البخاري عن عبد الله بن يوسف ومسلم عن يحيى كلاهما عن مالك به ورواه الترمذي والنسائي أيضا من طريق مالك
( مالك عن حميد بن قيس المكي ) أبي صفوان القاري الأعرج من رجال الجماعة ( مجاهد ) بن جبر بفتح الجيم وسكون الموحدة أبي الحجاج المخزومي مولاهم المكي إمام في التفسير وفي العلم مات سنة إحدى أو اثنين أو ثلاث أو أربع ومائة وله ثلاث وثمانون سنة ( أنه قال كنت مع عبد الله بن عمر ) بن الخطاب ( فجاءه صائغ ) هو وردان الرومي كما أخرجه ابن عبد البر من طريق ابن عيينة عن وردان أنه سأل ابن عمر ( فقال يا أبا عبد الرحمن ) كنية ابن عمر ( إني أصوغ الذهب ) أجعله حليا ( ثم أبيع الشيء ) المصوغ ( بأكثر من وزنه فأستفضل ) أستبقي والسين للتأكيد ( من ذلك قدر عمل يدي فنهاه عبد الله عن ذلك ) للربا ( فجعل الصائغ يردد ) يعيد ( عليه المسألة ) المذكورة ( وعبد الله ينهاه عن ذلك حتى انتهى إلى باب المسجد أو إلى دابة يريد أن يركبها ) شك الراوي ( ثم قال عبد الله بن عمر الدينار بالدينار والدرهم بالدرهم لا فضل ) زيادة ( بينهما هذا عهد ) أي وصية ( نبينا ) صلى الله عليه وسلم ( إلينا وعهدنا إليكم ) وقد بلغناكم
قال أبو عمر قوله الدينار بالدينارين الخ إشارة إلى جنس الأصل لا إلى المضروب دون غيره بدليل إشارة ابن عمر الحديث على سؤال الصائغ له عن الذهب المصوغ وبدليل قوله صلى الله عليه وسلم الفضة بالفضة والذهب بالذهب مثلا بمثل وزنا بوزن ولا أعلم أحدا حرم التفاضل في المضروب من الذهب والفضة المدرهمة دون التبر والمصوغ منهما إلا ما جاء عن معاوية والإجماع على خلافه
قال وفي قوله نبينا تصريح بالمراد في قوله في رواية ابن عيينة هذا عهد صاحبنا فقول الشافعي يعني به أباه عمر غلط على أصله لأن صاحبنا مجمل يحتمل أنه أراد النبي صلى الله عليه وسلم وهو الأظهر ويحتمل أنه أراد عمر فلما قال مجاهد عن ابن عمر عهد نبينا فسر ما أجمل وورد أن هذا أصل ما يعتمده الشافعي في الآثار لكن الغلط لا يسلم منه أحد وإنما دخلت الداخلة على الناس من جهة التقليد لأنه إذا تكلم العالم عند من لا ينعم النظر بشيء كتبه وجعله دينا يرد به ما خالفه دون معرفة وجهه فيقع الخلل اه
( مالك أنه بلغه عن جده ) وصله مسلم من طريق ابن وهب عن مخرمة بن بكير عن أبيه عن
____________________
(3/356)
سليمان بن يسار عن ( مالك بن أبي عامر أن عثمان بن عفان قال قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم لا تبيعوا الدينار بالدينارين ولا الدرهم بالدرهمين ) فيحرم ربا الفضل ولو قل فيحتمل أن يكون الذي بلغه ابن وهب أو مخرمة بن بكير
( مالك عن زيد بن أسلم ) العدوي مولاهم المدني ( عن عطاء بن يسار ) بتحتية ومهملة خفيفة ( أن معاوية بن أبي سفيان ) صخر بن حرب ( باع سقاية ) بكسر السين قيل هي البرادة يبرد فيها الماء تعلق ( من ذهب أو ورق ) فضة ( بأكثر من وزنها ) قال ابن حبيب زعم أصحاب مالك أن السقاية قلادة من ذهب فيها جوهر وليس كما قالوا فالقلادة لا تسمى سقاية بل هي كأس كبيرة يشرب بها ويكال بها
وأما القلادة وهي العقد التي تعلقها المرأة على نحرها فغيرها ابتاعها معاوية بستمائة دينار فيها تبر وجوهر من لؤلؤ وياقوت وزبرجد فنهاه عبادة بن الصامت وأخبره أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم ينهى عن ذلك ( فقال أبو الدرداء ) عويمر وقيل عامر بن قيس الأنصاري صحابي جليل عابد أول مشاهده أحد مات في خلافة عثمان وقيل عاش بعد ذلك ( سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم ينهى عن مثل هذا إلا مثلا بمثل ) أي سواء في القدر ( فقال معاوية ما أرى بمثل هذا بأسا ) إما لأنه حمل النهي على المسبوك الذي به التعامل وقيم المتلفات أو كان لا يرى ربا الفضل كابن عباس ( فقال أبو الدرداء من يعذرني ) بكسر الذال المعجمة ( من معاوية ) أي من يلومه على فعله ولا يلومني عليه أو من يقوم بعذري إذا جازيته بصنعه ولا يلومني على ما أفعله به أو من ينصرني يقال عذرته إذا نصرته ( أنا أخبره عن رسول لله صلى الله عليه وسلم ويخبرني عن رأيه ) أنف من رد السنة بالرأي وصدور العلماء تضيق عن مثل هذا وهو عندهم عظيم رد السنن بالرأي ( لا أساكنك بأرض أنت بها ) وجائز للمرء أن يهجر من لم يسمع منه ولم يطعه وليس هذا من الهجرة المكروهة ألا ترى أنه صلى الله عليه وسلم أمر الناس أن لا يكلموا كعب بن مالك حين تخلف عن غزوة تبوك وهذا أصل عند العلماء في مجانبة من ابتدع وهجرته وقطع الكلام عنه وقد رأى ابن مسعود رجلا يضحك في جنازة فقال والله لا أكلمك أبدا قاله أبو عمر
( ثم قدم أبو الدرداء ) من الشام ( على عمر بن الخطاب ) المدينة ( فذكر ذلك له فكتب عمر بن الخطاب إلى معاوية أن لا تبيع ذلك إلا مثلا بمثل وزنا بوزن ) بيان للمثل
____________________
(3/357)
قال أبو عمر لا أعلم أن هذه القصة عرضت لمعاوية مع أبي الدرداء إلا من هذا الوجه وإنما هي محفوظة لمعاوية مع عبادة بن الصامت والطرق متواترة بذلك عنهما اه والإسناد صحيح
وإن لم يرد من وجه آخر فهو من الأفراد الصحيحة والجمع ممكن لأنه عرض له ذلك مع عبادة وأبي الدرداء
( مالك عن نافع عن عبد الله بن عمر أن عمر بن الخطاب قال لا تبيعوا الذهب بالذهب إلا مثلا بمثل ) أي متساويا ( ولا تشفوا ) أي تفضلوا بعضها على بعض ويطلق الشف لغة أيضا على النقص وهو من أسماء الأضداد ( ولا تبيعوا الورق بالورق ) أي الفضة ( إلا مثلا بمثل ) بكسر فسكون فيهما ( ولا تشفوا ) تزيدوا ( بعضها على بعض ولا تبيعوا الورق بالذهب أحدهما غائب ) عن المجلس ( والآخر ناجز ) أي حاضر وهذا تقدم مرفوعا عن أبي سعيد وذكر هذا الموقوف إشارة لاستمرار العمل به ولزيادة قوله ( وإن استنظرك إلى أن يلج ) يدخل ( بيته فلا تنظره ) لا تؤخره ( إني أخاف عليكم الرماء ) بفتح الراء والميم والمد ( والرماء هو الربا ) أي الزيادة والتأخير وفي رواية الإرماء يقال أرمى على الشيء وأربى إذا زاد عليه
( مالك عن عبد الله بن دينار عن عبد الله بن عمر أن عمر بن الخطاب قال لا تبيعوا الذهب بالذهب إلا مثلا بمثل ولا تشفوا بعضها على بعض ولا تبيعوا الورق بالورق إلا مثلا بمثل ولا تشفوا بعضها على بعض ) أعاده لإفادة أنه رواه عن شيخين ولم يجمعهما لاختلاف لفظهما في قوله ( ولا تبيعوا منها شيئا غائبا بناجز ) فإن نافعا قال ولا تبيعوا الورق الخ ومالك يحافظ على ألفاظ شيوخه وإن اتحد معناها واللفظ الثاني طبق المرفوع السابق والأول بمعناه ( وإن استنظرك ) طلب تأخيرك ( إلى أن يلج بيته فلا تنظره إني أخاف عليكم الرماء ) بالمد ( والرماء هو الربا ) الظاهر أن هذا التفسير من ابن عمر لاتفاق نافع وابن دينار عليه ففيه حرمة ربا النساء أي التأخير وإن قل وهو المشهور ومذهب المدونة وخفف القليل مالك في الموازية
____________________
(3/358)
( مالك أنه بلغه عن القاسم بن محمد ) بن الصديق ( أنه قال قال عمر بن الخطاب الدينار بالدينار والدرهم بالدرهم والصاع ) المكيال المعروف ( بالصاع ) من الربويات كالقمح ( ولا يباع كالىء ) بالهمز أي مؤجل ( بناجز ) أي حاضر
( مالك عن أبي الزناد أنه سمع سعيد بن المسيب يقول لا ربا إلا في ذهب أو فضة أو ما يكال أو يوزن مما يؤكل أو يشرب ) كما أشير إلى ذلك في الحديث النبوي
( مالك عن يحيى بن سعيد أنه سمع سعيد بن المسيب يقول قطع الذهب والورق من الفساد في الأرض ) وجاء عن ابن المسيب وعطاء بن أبي رباح في قوله تعالى { وكان في المدينة تسعة رهط يفسدون في الأرض ولا يصلحون } سورة النمل الآية 48 أن إفسادهم كان قطع الذهب والفضة
وعن زيد بن أسلم في قوله تعالى { أو أن نفعل في أموالنا ما نشاء } سورة هود الآية 87 قال قطع الدينار والدراهم
وقال غيره وهو البخس الذي كانوا يفعلونه
وروى ابن أبي شيبة أنه صلى الله عليه وسلم نهى عن كسر سكة المسلمين الجائزة بينهم إلا من بأس قال أبو عمر إسناده لين
( قال مالك ولا بأس بأن يشتري الرجل ) أو المرأة ( الذهب بالفضة والفضة بالذهب جزافا إذا كان تبرا أو حليا ) بفتح فسكون مفرد حلي بضم فكسر ( قد صيغ فأما الدراهم المعدودة والدنانير المعدودة فلا ينبغي ) لا يحل ( لأحد أن يشتري من ذلك جزافا حتى يعلم ويعد ) كل منهما ( فإن اشتري ذلك جزافا فإنما يراد به الغرر حين يترك عده ويشتري جزافا وليس هذا من بيوع المسلمين ) فيحرم لحصول الغرر من جهتي الكمية والآحاد لأنه يرغب في كثرة آحاده ليسهل الشراء بها هكذا علله الأبهري وعبد الوهاب وعلله ابن مسلمة بكثرة ثمن العين فيكثر الغرر ورد بجواز بيع الحلي واللؤلؤ وغيره جزافا كما قال
( فأما ما كان يوزن من التبر والحلي فلا بأس أن يباع ذلك جزافا ) وإنما يبتاع ذلك
____________________
(3/359)
جزافا حال كونه ( كهيئة الحنطة والتمر ونحوهما من الأطعمة التي تباع جزافا ومثلها يكال فليس بابتياع ذلك جزافا بأس ) أي يجوز إذا كان التعامل بالوزن لعدم قصد إفراده حينئذ
( قال مالك من اشترى مصحفا أو سيفا أو خاتما وفي شيء من ذلك ذهب أو فضة بدنانير أو دراهم ) متعلق باشترى ( فإن ما اشترى من ذلك وفيه الذهب بدنانير فإنه ينظر إلى قيمته فإن كان قيمة ذلك الثلثين وقيمة ما فيه من الذهب الثلث فذلك جائز لا بأس به إذا كان ذلك يدا بيد ولا يكون فيه تأخير ) بيان ليد بيد وظاهره أنه ينظر في الثلث وغيره إلى قيمة المحلى مصوغا وكذا هو ظاهر الموازية وقال الباجي ظاهر المذهب أن النظر في ذلك بالوزن
( وما اشتري من ذلك بالورق مما فيه الورق نظر إلى قيمته ) مصوغا ( فإن كان قيمة ذلك الثلثين وقيمة ما فيه من الورق الثلث فذلك جائز لا بأس به ) تأكيد لجائز أو معناه بلا كراهة ( إذا كان ذلك يدا بيد ) أي مناجزة ( ولم يزل على ذلك أمر الناس عندنا ) بالمدينة
17 ما جاء في الصرف ( مالك عن ابن شهاب عن مالك بن أوس بن الحدثان ) بفتح المهملتين والمثلثة ابن عوف ( النصري ) بفتح النون وإسكان المهملة من بني نصر بن معاوية أبي سعيد المدني له رؤية وأبوه صحابي وقال أحمد بن صالح إن لمالك صحبة وقال سلمة بن وردان رأيت جماعة من الصحابة فعده فيهم وذكر الواقدي أنه ركب الخيل في الجاهلية
وروى أنس بن عياض عن سلمة بن وردان عن مالك بن أوس قال كنا عند النبي صلى الله عليه وسلم فقال وجبت وجبت صححه أحمد بن صالح قال في الاستيعاب لا أحفظ له خيرا في صحبته أكثر من هذا
وأما روايته عن عمر فأشهر من أن تذكر وروى عن العشرة والعباس اه
وقال البخاري وابن معين وأبو حاتم الرازي وابن حبان لا يصح له صحبة قال ابن حبان من زعم أن له صحبة فقد وهم قال ابن منده وحديث سلمة عنه كنا عند النبي صلى الله عليه وسلم وهم
____________________
(3/360)
صوابه عن أنس بن مالك أي كما رواه أبو يعلى من طريق ابن أبي فديك عن سلمة عن أنس وذكره ابن البرقي فيمن رأى النبي صلى الله عليه وسلم ولم يثبت له عنه رواية وابن سعد فيمن أدركه ورآه ولم يحفظ عنه شيئا وذكره أيضا في الطبقة الأولى من التابعين وقال كان قديما ولكنه تأخر إسلامه ولم يبلغنا أن له رؤية ولا رواية مات سنة اثنين وتسعين في قول الجمهور قيل سنة إحدى وهو ابن أربع وتسعين ( أنه التمس صرفا ) بفتح الصاد وإسكان الراء من الدراهم وفي رواية للبخاري أنه قال من عنده صرف فقال طلحة أنا
ولمسلم من يصطرف الدراهم ( بمائة دينار ) ذهبا كانت معه ( قال ) مالك ( فدعاني طلحة بن عبيد الله ) بضم العين أحد العشرة ( فتراوضنا ) بإسكان الضاد المعجمة أي تجارينا حديث البيع والشراء وسوما بين المتبايعين من الزيادة والنقصان لأن كل واحد يروض صاحبه وقيل هي المواضعة بالسلعة بأن يصف كل منهما سلعته للآخر ( حتى اصطرف مني ) ما كان معي ( فأخذ الذهب يقلبها في يده ) والذهب يذكر ويؤنث فلا حاجة إلى أنه ضمن الذهب معنى العدد وهو المائة فأنثه لذلك ( ثم قال حتى ) أي اصبر إلى أن ( يأتيني خازني ) لم يسم ( من الغابة ) بغين معجمة فألف فموحدة موضع قرب المدينة به أموال لأهلها وكان لطلحة بها مال نخل وغيره وإنما قال ذلك طلحة لظنه جوازه كسائر البيوع وما كان بلغه حكم المسألة قال المازري وأنه كان يرى جواز المواعدة في الصرف كما هو قول عندنا أو أنه لم يقبضها وإنما أخذها يقلبها ( وعمر بن الخطاب يسمع ) ذلك ( فقال عمر ) لمالك بن أوس ( والله لا تفارقه حتى تأخذ منه ) عوض الذهب
وفي رواية والله لتعطينه ورقه وهذا خطاب لطلحة وفيه تفقد عمر أحوال رعيته في دينهم والاهتمام بهم وتأكيد الأمر باليمين وأن الخليفة أو السلطان إذا سمع أو رأى ما لا يجوز وجب عليه النهي عنه والإرشاد إلى الحق
( ثم قال ) مستدلا على المنع بالسنة لأنها الحجة عن التنازع ( فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم الذهب بالورق ) بفتح الواو وكسر الراء أي الفضة هكذا رواه أكثر أصحاب الزهري كمالك ومعمر وابن عيينة لم يقولوا الذهب بالذهب في كل حديث عمر وهم الحجة على ما خالفهم وهو المناسب لسياق القصة ( ربا ) في جميع الأحوال ( إلا هاء وهاء ) بالمد وفتح الهمزة فيهما على الأصح الأشهر اسم فعل بمعنى خذ يقال هاء درهما أي خذ درهما فنصب درهما باسم الفعل كما ينصب بالفعل وبالقصر بقوله المحدثون وأنكره الخطابي وقال الصواب المد ويجوز كسر الهمزة نحو هات وسكونها نحو خف وأصلها هاك بالكاف فقلبت همزة وليس المراد أنها من نفس الكلمة وإنما المراد أصلها في الاستعمال وهي حرف خطاب وقال ابن مالك وحقها أن لا تقع بعد إلا كما لا يقع بعدها خذ فإذا وقع قدر قول قبله يكون به محكيا أي إلا مقولا عنده من
____________________
(3/361)
المتعاقدين هاء وهاء قال الطيبي فإذا محله النصب على الحال والمستثنى منه مقدر يعني بيع الذهب بالورق ربا في جميع الحالات إلا حال الحضور والتقابض فكنى عنه بقوله هاء وهاء لأنه لازمه وقال الأبي محله النصب على الظرفية ( والبر بالبر ) بضم الموحدة القمح وهي الحنطة أي بيع أحدهما بالآخر ( ربا إلا ) مقولا عنده من المتعاقدين ( هاء ) من أحدهما ( وهاء ) من الآخر أي خذ
( والتمر بالتمر ) أي بيع أحدهما بالآخر ( ربا ) بالتنوين من غير همز ( إلا هاء وهاء ) من المتعاقدين
( والشعير بالشعير ) بفتح الشين على المشهور وقد تكسر قال ابن مكي كل فعيل وسطه حرف حلق مكسور يجوز كسر ما قبله في لغة تميم قال وزعم الليث أن قوما من العرب يقولون ذلك وإن لم تكن عينه حرف حلق نحو كبير وجليل وكريم أي بيع الشعير بالشعير ( ربا إلا ) مقولا عنده من المتعاقدين ( هاء وهاء ) أي يقول كل واحد منهما للآخر خذ وظاهره أن البر والشعير صنفان وبه قال أبو حنيفة والشافعي وفقهاء المحدثين وغيرهم وقال مالك والليث ومعلم علماء المدينة والشام من المتقدمين إنهما صنف واحد زاد مسلم من حديث أبي سعيد والملح بالملح والذهب بالذهب والفضة بالفضة ومثله عنده من حديث عبادة ففي حديث الباب أن النساء يمتنع في ذهب بورق وهما جنسان مختلفان يجوز التفاضل بينهما إجماعا ونصا فأحرى أن لا يجوز في ذهب بذهب ولا ورق بورق لحرمة التفاضل فيهما إجماعا ونصا أي فليس حديث عمر بقاصر عن حديث غيره فتجب المناجزة في الصرف ولا يجوز التأخير ولو كانا بالمجلس لم يتفرقا عند مالك ومحمل قول عمر عنده لا تفارقه حتى تأخذ منه أن ذلك على الفور لا على التراخي وهو المعقول من لفظه صلى الله عليه وسلم هاء وهاء
وقال أبو حنيفة والشافعي يجوز التقابض في الصرف ما لم يفترقا وإن طالت المدة وانتقلا إلى مكان آخر واحتجوا بقول عمر وجعلوه تفسيرا لما رواه وبقوله وإن استنظرك إلى أن يلج بيته فلا تنظره قالوا فعلم منه أن المراعى الافتراق قاله أبو عمر
قال الأبي المناجزة قبض العوضين عقب العقد وهي شرط في تمام الصرف لا في عقده فليس أحدهما أن يرجع وصرح بأنها شرط المازري وابن محرز واختار شيخنا يعني ابن عرفة أنها ركن لتوقف حقيقته عليها وليست بخارجة وظاهر كلام ابن القصار أنها ليست بركن ولا شرط وإنما التأخير مانع من تمام العقد فإن قيل لا يصح أنها شرط لأن الشرط عقليا كالحياة للعلم أو شرعيا كالوضوء للصلاة شرطه أن يوجد دون المشروط والمناجزة لا توجد دون عقد الصرف فما صورة تأخيرها أجيب بأنها إنما هي شرط في الصرف الصحيح وهو متأخر عنها هذا وذهب الجمهور إلى أن التحريم إنما اختص بالستة المذكورة الذهب والفضة والبر والشعير والثمر والملح المعنى فيها فيقاس عليها ما وجد فيه ذلك المعنى ثم اختلف في تعيينه فقال مالك والشافعي العلة في النقدين الثمينة لأنهما أثمان المبيعات وقيم المتلفات فلا يقاس عليهما شيء من الموزون لعدم العلة في شيء منها والقياس إنما هو على العلة لا على الأسماء والعلة في الأربع عند مالك الاقتيات والادخار والإصلاح وعند الشافعي الطعمية فنص صلى الله عليه وسلم على أعلى القوت
____________________
(3/362)
وهو البر وعلى أدناه وهو الشعير تنبيها بالطرفين على الوسط الذي بينهما كسلت وأرز ودخن ذرة وإذا أريد ذكر شيء جملة فربما كان ذكر طرفيه أدل على استيعابه من اللفظ الشامل لجميعه كقولهم مطرنا السهل والجبل وضربته الظهر والبطن وذكر التمر وإن كان مقتاتا لأن فيه ضربا من التفكه حتى أنه يؤكل لا على جهة الاقتيات تنبيها على أن ذلك المعنى لا يخرجه عن بابه ولإدخال ما شابهه وهو الزبيب ولما علم أن هذه الأقوات لا يصلح اقتياتها بلا مصلح حتى أنها دونه تكاد أن تلحق بالعدم ذكر الملح ونبه به على ما هو مثله في الإصلاح ولا يقتات منفردا وفي الحديث فوائد كثيرة وأخرجه البخاري عن عبد الله بن يوسف عن مالك به وتابعه الليث وابن عيينة عند مسلم وغيره ورواه الأربعة من طريق مالك وتبعه جماعة عندهم
( قال مالك إذا اصطرف الرجل دراهم بدينار ) وفي نسخة بدنانير ( ثم وجد فيها درهما زائفا ) أي رديئا ( فأراد رده انتقض صرف الدينار ورد إليه ورقه ) فضته ( وأخذ إليه ديناره وتفسير ما كره من ذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال الذهب بالورق ربا إلا هاء وهاء ) أي خذ ( وقال عمر بن الخطاب ) راوي الحديث ( وإن استنظرك إلى أن يلج بيته فلا تنظره وهو إذا رد عليه درهما من صرف بعد أن يفارقه كان بمنزلة الدين أو الشيء المستأخر فلذلك كره ) أي منع ( ذلك وانتقض الصرف وإنما أراد عمر بن الخطاب أن لا يباع الذهب والورق والطعام كله عاجلا بآجل ) أي مؤخر ( فإنه لا ينبغي أن يكون في شيء من ذلك تأخير ولا نظرة ) أي تأخير فحسن العطف اختلاف العبارة والعرب تفعل ذلك للتأكيد ( وإن كان صنف واحد أو كان مختلفة أصنافه ) لحرمة ربا النساء إجماعا ونصا
18 المراطلة مفاعلة من الرطل ولم أجد لغويا ذكرها وإنما يذكرون الرطل وهي عرفا بيع الذهب بالذهب والفضة بالفضة وزنا وهي المذكورة في حديث أبي سعيد السابق لا تبيعوا الذهب بالذهب الحديث قاله الأبي
____________________
(3/363)
( مالك عن يزيد بن عبد الله بن قسيط ) بقاف ومهملة مصغرا ( أنه رأى سعيد بن المسيب يراطل الذهب بالذهب ) وبين الصفة بقوله ( فيفرغ ذهبه في كفة الميزان ) بكسر الكاف والضم لغة وأما كفة غير الميزان فقال الأصمعي كل مستدير فبالكسر نحو كفة اللغة وهو ما انحدر منها وكفة الصائد وهي حبالته وكل ما استطيل فبالضم نحو كفة الثوب حاشيته وكفة الرمل وقيل بالوجهين في الجميع
( ويفرغ صاحبه الذي يراطله ذهبه في كفة الميزان الأخرى فإذا اعتدل لسان الميزان أخذ وأعطى ) فتجوز المراطلة بالكفتين
وفي حديث القلادة في مسلم انزع ذهبها واجعله في كفة وفي جوازها بالصنجة قولان والجواز أصوب قاله المازري وسمع ابن القاسم لا بأس بالصنجة في كفة واحدة ابن رشد هو أصوب ليتقن المساواة بها من الكفتين إذ قد يكون في الميزان غبن وسمع أشهب وابن نافع لا بأس في المراطلة بالشاهين إذا كان عدلا
ونقل ابن محرز عن مالك يجوز في المراطلة أن يزن ذهبه في الشاهين بمثقال ثم تزن ذهبك وزنة ثانية بذلك العيار وفي تلك الكفة بعينها قال الأبي فهذا نص أو ظاهر في أن الشاهين الصنجة
وأما أنه ميزان العود المسمى بالفرسطون فلا وإن قال شيخنا أنه يغلب على ظني أنه المراد بالشاهين فإن اللغة لا تفسر بغلبة الظن ويبعد أيضا تفسير الشاهين بالوزن المسمى بالرمانة عرفا
( قال مالك الأمر عندنا في بيع الذهب بالذهب والورق بالورق مراطلة ) أي وزنا ( أنه لا بأس بذلك ) أي يجوز ( أن يأخذ أحد عشر دينارا بعشرة دنانير يدا بيد ) أي مناجزة ( إذا كان وزن الذهبين سواء عينا بعين ) لانتفاء التفاضل ( وإن تفاضل ) أي زاد ( العدد ) فاعل تفاضل ( والدراهم أيضا في ذلك بمنزلة الدنانير ) إنما ينظر إلى وزنها إذا بيعت مراطلة
( قال مالك من راطل ذهبا بذهب أو ورقا بورق فكان بين الذهبين فضل ) أي زيادة ( مثقال فأعطى صاحبه قيمته من الورق أو من غيرها ) أنثه على معنى الورق وهو الفضة أي من غير الفضة كالعرض ( فلا يأخذه فإن ذلك قبيح ) ليس بحسن لحرمته ( وذريعة ) بذال معجمة وسيلة ( إلى الربا لأنه إذا جاز له أن يأخذ المثقال بقيمته حتى كأنه اشتراه على حدته ) أي وحده ( جاز له أن يأخذ المثقال بقيمته مرارا ) قصدا ( لأن يجيز ذلك البيع بينه وبين صاحبه ولو
____________________
(3/364)
أنه باعه ذلك المثقال مفردا ليس معه غيره ) صفة كاشفة لمفرد ( لم يأخذه بعشر الثمن الذي أخذه به لأن ) أي لأجل أن ( يجوز له البيع فذلك الذريعة ) الوسيلة ( إلى إحلال الحرام والأمر المنهي عنه ) فلذلك منع
( قال مالك في الرجل ) مثلا ( يراطل الرجل ويعطيه الذهب العتق ) بضمتين جمع عتيق كبرد وبريد كما في المصباح ( الجياد ويجعل معها تبرا ذهبا غير جيدة ويأخذ من صاحبه ذهبا كوفية مقطعة وتلك الكوفية مكروهة عند الناس فيتبايعان ذلك مثلا بمثل أن ذلك لا يصلح ) لحرمته ( وتفسير ما كره من ذلك ) أي بيان وجه منعه ( أن صاحب الذهب الجياد أخذ فضل ) أي زيادة ( عيون ذهبه في التبر الذي طرح مع ذهبه ولولا فضل ذهبه على ذهب صاحبه لم يراطله صاحبه بتبره ذلك إلى ذهبه الكوفية فامتنع ) لدوران الفضل من الجانبين ( وإنما مثل ذلك ) أي صفته بمعنى قياسه ( كمثل رجل أراد أن يبتاع ثلاثة أصوع ) وفي نسخة آصع وكل جمع لصاع ( من تمر عجوة بصاعين ومد من تمر كبيس فقيل له هذا لا يصلح ) للتفاضل ( فجعل صاعين من كبيس وصاعا من حشف ) رديء التمر ( يريد أن يجيز بذلك بيعه ) لاتحاد الكيل ( فذلك لا يصلح لأنه لم يكن صاحب العجوة ليعطيه صاعا من العجوة بصاع من حشف ولكنه إنما أعطاه ذلك لفضل الكبيس ) فاغتفر ذلك للفضل فمنع ( وأن يقول الرجل للرجل يعني ثلاثة أصوع من البيضاء ) أي الحنطة كما يفهم من باقي الكلام فليس المراد بها هنا الشعير وإن سبق عن ابن عمر أنه اسم له عند العرب فمراده بعضهم لأنه نفسه عبر في موضع آخر بقوله عرب الحجاز اه
فلا ينافي أن غيرهم يطلق البيضاء على الحنطة وفي القاموس البيضاء الحنطة
____________________
(3/365)
( بصاعين ونصف من حنطة شامية ) وهي السمراء ( فيقول هذا لا يصلح إلا مثلا بمثل فيجعل صاعين من حنطة شامية وصاعا من شعير يريد أن يجيز ذلك البيع فيما بينهما فهذا لا يصلح لأنه لم يكن ليعطيه بصاع من شعير صاعا من حنطة بيضاء لو كان ذلك الصاع منفردا وإنما أعطاه إياه لفضل الشامية على البيضاء ) فاغتفر أخذ الشعير للفضل ( فهذا لا يصلح وهو مثل ما وصفنا من التبر فكل شيء من الذهب والورق والطعام كله الذي لا ينبغي ) لا يصلح ( أن يبتاع ) وفي نسخة يباع ( إلا مثلا بمثل فلا ينبغي أن يجعل مع الصنف الجيد من المرغوب فيه الشيء ) نائب فاعل يجعل ( الرديء المسخوط ليجاز ) بالجيم ( البيع وليستحل بذلك ما نهى عنه من الأمر الذي لا يصلح إذا جعل ذلك مع الصنف المرغوب فيه وإنما يريد صاحب ذلك أن يدرك ) يصل ( بذلك فضل جودة ما يبيع فيعطي الشيء الذي لو أعطاه وحده لم يقبله صاحبه ولم يهمم ) بفك الإدغام بذلك ( وإنما يقبله من أجل الذي يأخذ معه لفضل سلعة صاحبه على سلعته فلا ينبغي لشيء من الذهب والورق والطعام ) نهى لها والمراد أصابها وهو من البلاغة ( أن يدخله شيء من هذه الصفة ) فهو حرام ( فإن أراد صاحب الطعام الرديء أن يبيعه بغيره فليبعه على حدته ولا يجعل مع ذلك شيئا فلا بأس به إذا كان كذلك ) لعدم الربا
____________________
(3/366)
19 العينة وما يشبهها بكسر العين البيع المتحيل به على دفع عين في أكثر منها
وروى أحمد في الزهد عن ابن عمر أتى علينا زمان وما يرى أحد منا أنه أحق بالدينار والدرهم من أخيه المسلم ثم قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول إذا الناس تبايعوا بالعينة واتبعوا أذناب البقر وتركوا الجهاد في سبيل الله انزل الله بهم بلاء فلا يرفعه عنهم حتى يراجعوا دينهم صححه ابن القطان
( مالك عن نافع عن عبد الله بن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال من ابتاع ) اشترى ( طعاما فلا يبعه ) مجزوم بلا الناهية وفي رواية فلا يبيعه بالرفع على أنها نافية وهو أبلغ في النهي من صريح النهي ( حتى يستوفيه ) أي يقبضه وألحق مالك بالابتياع سائر عقود المعارضة كأخذه مهرا أو صلحا فلا يجوز بيعه قبل قبضه فلو ملك بلا معاوضة كهبة وصدقة وسلف جاز قبل قبضه وألحق بالبيع دفعه عوضا كدفعه مهرا أو خلعا أو هبة ثواب أو إجارة أو صلحا عن دم فيمنع ذلك قبل قبضه أما دفعه قرضا أو قضاء عن قرض فيجوز وعموم قوله طعاما يشمل الربوي وغيره وهو المشهور وفي أن المنع معلل بالعينة ويدل عليه إدخال مالك أحاديثه تحت الترجمة
وما في مسلم عن طاوس قلت لابن عباس لم نهى عن بيعه قبل قبضه قال ألا تراهم يبتاعون بالذهب والطعام مرجا بالهمز وعدمه أي مؤخرا يعني أنهم يقصدون إلى دفع ذهب في أكثر منه والطعام معلل أو تعبدي غير معلل قولان
وأخرجه البخاري عن عبد الله بن يوسف والقعنبي ومسلم عن القعنبي ويحيى الثلاثة عن مالك به وتابعه جماعة عن نافع به
( مالك عن عبد الله بن دينار ) العدوي مولى ابن عمر من الثقات الأثبات ( عن عبد الله بن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال من ابتاع طعاما فلا يبعه حتى يقبضه ) للعينة أو لأن للشارع غرضا في ظهوره للفقراء أو تقوية قلوب الناس لا سيما زمن الشدة والمسغبة وانتفاع الكيال والحمال فلو أبيح بيعه قبل قبضه لباعه أهل الأموال بعضهم من بعض من غير ظهور فلا يحصل ذلك الغرض
وقال محمد بن عبد السلام الصحيح عند أهل المذهب أن النهي عنه تعبدي وظاهر الحديث قصر النهي على الطعام ربويا كان أم لا وعليه مالك وأحمد وجماعة فيجوز فيما عداه إذ لو منع في الجميع لم يكن لذكر الطعام فائدة ودليل الخطاب كالنص عند الأصوليين ومنعه أبو حنيفة إلا فيما لا ينقل كالعقار تعلقا بقوله حتى يستوفيه فاستثنى ما لا ينقل لتعذر الاستيفاء فيه ومنع الشافعي بيع كل مشترى قبل قبضه
____________________
(3/367)
لأنه صلى الله عليه وسلم نهى عن ربح ما لم يضمن فعم وأجيب بقصره على الطعام لحديث ابن عمر لأنه دل بالمفهوم على أن غير الطعام بخلافه وبحمله على بيع الخيار فلا يبيع المشتري قبل أن يختار
وأما قول ابن عباس عند الشيخين وأحسب كل شيء مثله أي الطعام فإنما هو إخبار عن رأيه ليس بمرفوع وشذ عثمان البتي فأجاز ذلك في كل شيء وهو مخالف للإجماع وللحديث فلا يلتفت إليه وتابع مالكا عليه إسماعيل بن جعفر عن ابن دينار عند مسلم
( مالك عن نافع عن عبد الله بن عمر أنه قال كنا في زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم نبتاع ) نشتري ( الطعام فيبعث ) صلى الله عليه وسلم ( علينا من يأمرنا ) محله نصب مفعول يبعث ( بانتقاله ) أي نقله ( من المكان الذي ابتعناه فيه إلى مكان سواه ) أي غيره ( قبل أن نبيعه ) لأن بنقله يحصل قبضه وهذا قد خرج مخرج الغالب والمراد القبض وفرق مالك في المشهور عنه بين الجزاف فأجاز بيعه قبل قبضه لأنه مرئي فيكفي فيه التخلية وبين المكيل والموزون فلا بد من الاستيفاء وقد روى أحمد عن ابن عمر مرفوعا من اشترى بكيل أو وزن فلا يبعه حتى يقبضه ففي قوله بكيل أو وزن دليل على أن ما خالفه بخلافه وجعل مالك رواية حتى يستوفيه تفسيرا لرواية حتى يقبضه لأن الاستيفاء لا يكون إلا بالكيل أو الوزن على المعروف لغة قال تعالى { الذين إذا اكتالوا على الناس يستوفون وإذا كالوهم أو وزنوهم يخسرون } سورة المطففين الآية 2 3 وقال { فأوف لنا الكيل } سورة يوسف الآية 88 وقال { وأوفوا الكيل إذا كلتم } سورة الإسراء الآية 35 والحديث خرجه مسلم عن يحيى عن مالك به
( مالك عن نافع ) مولى ابن عمر ( أن حكيم بن حزام ) بمهملة وزاي ابن خويلد بن أسد بن عبد العزى القرشي الأسدي ابن أخي خديجة أم المؤمنين أسلم يوم الفتح وصحب وله أربع وسبعون سنة ثم عاش إلى سنة أربع وخمسين أو بعدها وكان عالما بالنسب
( ابتاع طعاما أمر به عمر بن الخطاب للناس فباع حكيم الطعام قبل أن يستوفيه ) يقبضه ( فبلغ ذلك عمر بن الخطاب فرده عليه وقال لا تبع طعاما ابتعته حتى تستوفيه ) وفائدة ذكره بعد المرفوع مع قيام الحجة به اتصال العمل به فلا يتطرق إليه احتمال نسخ
____________________
(3/368)
( مالك أنه بلغه ) وصله مسلم بمعناه من طريق الضحاك بن عثمان عن بكير بن عبد الله الأشج عن سليمان بن يسار عن أبي هريرة ( أن صكوكا ) جمع صك ويجمع أيضا على صكاك وهو الورقة التي يكتب فيها ولي الأمر برزق من الطعام لمستحقه ( خرجت للناس في زمان ) إمارة ( مروان بن الحكم ) على المدينة من جهة معاوية ( من طعام الجار ) بجيم فألف فراء موضع بساحل البحر يجمع فيه الطعام ثم يفرق على الناس بصكاك
( فتبايع الناس تلك الصكوك بينهم قبل أن يستوفوها ) يقبضوها ( فدخل زيد بن ثابت ورجل من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ) هو أبو هريرة كما في مسلم ( فقالا أتحل ) ( تجيز ( بيع الربا ) ولمسلم عن أبي هريرة أحللت بيع الربا ( يا مروان ) وفيه أن الترك فعل لأنه لم يحل وإنما ترك النهي وهذا إغلاظ في الإنكار وقد كان زيد ممن يفتي في زمن النبي صلى الله عليه وسلم وفي هذا أن أبا هريرة كان مفتيا على الأمراء وغيرهم وقيل لم يكن مفتيا قال القرطبي وهو باطل وكيف لا يكون مفتيا وهو من أكثر الصحابة ملازمة لخدمته صلى الله عليه وسلم وأحفظهم لحديثه وأغزرهم علما ( فقال مروان أعوذ بالله ) اعتصم به من أن أحل الربا ولمسلم فقال مروان ما فعلت ( وما ذاك فقالا هذه الصكوك تبايعها الناس ثم باعوها قبل أن يستوفوها ) ولمسلم فقال أبو هريرة أحللت بيع الصكاك وقد نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بيع الطعام حتى يستوفي
( فبعث مروان الحرس يتبعونها ينتزعونها من أيدي الناس ويردونها إلى أهلها ) أصحابها
واحتج به بعضهم على فسخ البيعتين معا لأنه لو كان إنما يفسخ البيع الثاني فقط لقال ويردونها إلى من ابتاعها من أهلها قال عياض ولا حجة فيه لاحتمال أن يريد بأهلها من يستحق رجوعها إليه والنهي إنما هو عن بيعه من مشتريه لاعن بيعه ممن كتب له لأنه بمنزلة من رفعه من موضعه أو من وهب له
وفي مسلم فخطب مروان الناس فنهاهم عن بيعها
قال سليمان فنظرت إلى حرس يأخذونها من أيدي الناس
رح 1377 ( مالك أنه بلغه أن رجلا أراد أن يبتاع طعاما من رجل إلى أجل فذهب به الرجل الذي يريد أن يبيعه الطعام إلى السوق فجعل يريه الصبر ) بضم الصاد وفتح الباء جمع صبرة ( ويقول له من أيها
____________________
(3/369)
تحب أن أبتاع ) أشتري ( لك فقال المبتاع ) أي الذي يريد أن يشتري فذكرا ذلك له فقال عبد الله بن عمر ( أتبيعني ما ليس عندك ) وقد نهى عنه ( فأتيا عبد الله بن عمر فذكرا ذلك له فقال عبد الله بن عمر للمبتاع لا تبيع منه ما ليس عنده وقال للبائع لا تبع ما ليس عندك ) وكأنه استنبط ذلك من حديثه في النهي عن بيع الطعام قبل قبضه بطريق الأولى أو بلغه حديث حكيم بن حزام قلت يا رسول الله يأتيني الرجل فيسألني من البيع ما ليس عندي أبتاع له من السوق ثم أبيعه منه فقال لا تبع ما ليس عندك رواه أصحاب السنن
( مالك عن يحيى بن سعيد أنه سمع جميل ) بفتح الجيم وكسر الميم وإسكان التحتية ولام ( ابن عبد الرحمن ) المؤذن المدني أمه من ذرية سعد القرظ وكان يؤذن وسمع ابن المسيب وعمر بن عبد العزيز وعنه مالك بواسطة يحيى وبلال واسطة والصواب أن اسم أبيه عبد الرحمن كما هنا وقيل اسمه عبد الله بن سويد أو سوادة ذكره ابن الحذاء ( يقول لسعيد بن المسيب إني رجل أبتاع من الأرزاق التي تعطى ) بتحتية أو فوقية ( الناس ) بالرفع نائب فاعل يعطى بتحتية والنصب على أنه المفعول الثاني لتعطى بفوقية ونائب الفاعل ضمير هي الناس ( بالجار ) بجيم محل معلوم بالساحل ( ما شاء الله ) في الذمة بدليل قوله ( ثم أريد أن أبيع الطعام المضمون علي إلى أجل فقال له سعيد أتريد أن توفيهم من تلك الأرزاق التي ابتعت فقال نعم فنهاه عن ذلك ) زاد غير يحيى في الموطأ قال مالك وذلك رأيي أي خوفا من التساهل في ذلك حتى يشترط القبض من ذلك الطعام أو بيعه قبل أن يستوفيه فمنع من ذلك للذريعة التي يخاف منها التطرق إلى المحذور وإن قلت قاله البوني
( قال مالك الأمر المجتمع عليه عندنا الذي لا اختلاف فيه ) تأكيد لما قبله ( أنه من اشترى طعاما برا أو شعيرا أو سلتا أو ذرة ) بذال معجمة ( أو دخنا ) بمهملة ( أو شيئا من الحبوب القطنية ) السبعة ( أو شيئا مما يشبه القطنية مما تجب فيه الزكاة ) كتمر وزبيب وزيتون ( أو شيئا من الأدم ) بضمتين جمع إدام بزنة كتاب وكتب ودليل أنه بلفظ الجمع توكيده بقوله ( كلها ) دون كله ( الزيت والسمن والعسل والخل
____________________
(3/370)
والجبن ) بضم الجيم وسكون الباء على الأجود وضمها للإتباع والتثقيل وهي أقلها ومنهم من خصه بالشعر ( واللبن والشيرق ) بتحتية وموحدة بدلها نسختان دهن السمسم قال البوني وهو السيرج أيضا بالجيم ( وما أشبه ذلك من الأدم فإن المبتاع لا يبيع شيئا من ذلك حتى يقبضه ويستوفيه ) عملا بعموم الحديث فإنه شامل للطعام الربوي وغيره وجمع بينهما للإشارة إلى أن الروايتين بمعنى واحد ولأن كل رواية أفادت معنى لأنه قد يستوفيه بالكيل بأن يكيله البائع ولا يقبضه المشتري بل يحبسه عنده لينقده الثمن مثلا أو أن الاستيفاء أكثر معنى من القبض لأنه إذا قبض البعض وحبس البعض لأجل الثمن صدق عليه القبض في الجملة بخلاف الاستيفاء
20 ما يكره من بيع الطعام إلى أجل ( مالك عن أبي الزناد أنه سمع سعيد بن المسيب وسليمان بن يسار ينهيان أن يبيع الرجل ) أو المرأة ( حنطة بذهب إلى أجل ثم يشتري بالذهب تمرا قبل أن يقبض الذهب ) من مشتري الحنطة للنهمة
( مالك عن كثير ) بلفظ ضد قليل ( ابن فرقد ) بفتح الفاء وإسكان الراء وقاف ودال مهملة المدني نزيل مصر من الثقات ( أنه سأل أبا بكر بن محمد بن عمرو بن حزم عن الرجل يبيع الطعام من الرجل ) أي إليه ( بذهب إلى أجل ثم يشتري منه بالذهب تمرا قبل أن يقبض الذهب فكره ذلك ونهى عنه ) منعه
( مالك عن ابن شهاب بمثل ذلك ) أنه كرهه
( قال مالك وإنما نهى سعيد بن المسيب وسليمان بن يسار وأبو بكر بن محمد بن عمرو ) بفتح العين ( ابن حزم ) بمهملة وزاي ( وابن شهاب عن أن لا ) زائدة للتأكيد نحو { ما منعك ألا تسجد } سورة الأعراف الآية 12 يبيع الرجل حنطة بذهب
____________________
(3/371)
ثم يشتري الرجل بالذهب تمرا قبل أن يقبض الذهب من بيعه ) بشد الياء ( الذي اشترى منه الحنطة فأما أن يشتري بالذهب التي باع بها ) أي الذهب لأنه يؤنث ويذكر ( الحنطة إلى أجل ) تمرا ( من غير بائعه ) المعبر عنه قبله ببيعه بالتثقيل لأنه يقال لغة بائع وبيع ( الذي باع منه الحنطة قبل أن يقبض الذهب ويحيل الذي اشترى منه التمر على غريمه الذي باع منه الحنطة بالذهب التي له عليه في ثمن التمر فلا بأس بذلك ) لعدم التهمة
( وقد سألت عن ذلك غير واحد من أهل العلم فلم يروا به بأسا ) والمعنى أنهم وافقوه على ما أداه إليه اجتهاده لا أنه قلدهم
21 السلفة في الطعام ( مالك عن نافع عن عبد الله بن عمر أنه قال لا بأس بأن يسلف الرجل الرجل ) فاعل ومفعول ( في الطعام الموصوف بسعر معلوم إلى أجل مسمى ما لم يكن في زرع لم يبد ) أي يظهر ( صلاحه أو تمر لم يبد صلاحه ) أي يظهر وأصله قوله صلى الله عليه وسلم من أسلف في شيء ففي كيل معلوم ووزن معلوم إلى أجل معلوم رواه الشيخان وغيرهما
( قال مالك الأمر عندنا فيمن سلف في طعام بسعر معلوم إلى أجل مسمى فحل الأجل فلم يجد المبتاع عند البائع وفاء ) بالمد ( مما ابتاع منه فأقاله فإنه لا ينبغي ) لا يجوز ( له أن يأخذ منه إلا ورقه ) فضته أو ذهبه أو الثمن الذي دفع إليه بعينه وإنه لا يشتري منه بذلك الثمن شيئا حتى يقبضه منه وذلك أنه إذا أخذ غير الثمن الذي دفع إليه أو صرفه في سلعة غير الطعام الذي ابتاع منه فهو بيع الطعام قبل أن
____________________
(3/372)
يستوفى يقبض ( وقد نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بيع الطعام قبل أن يستوفى ) فيدخل فيه ذلك ( فإن ندم المشتري فقال للبائع أقلني وانظرك ) بضم الهمزة وسكون النون وكسر المعجمة أؤخرك ( بالثمن الذي دفعت إليك فإن ذلك لا يصلح وأهل العلم ينهون عنه وذلك أنه لما حل الطعام للمشتري على البائع أخر عنه حقه على أن يقيله فكأن ذلك بيع الطعام قبل أن يستوفى ) وهو منهي عنه ( وتفسير ذلك أن المشتري حين حل الأجل وكره الطعام أخذ به دينارا إلى أجل وليس ذلك بالإقالة وإنما الإقالة ما لم يزدد فيه البائع ولا المشتري فإذا وقعت فيه الزيادة بنسيئة ) تأخير ( إلى أجل أو بشيء يزداده أحدهما على صاحبه أو بشيء ينتفع به أحدهما فإن ذلك ليس بالإقالة وإنما تصير الإقالة إذا فعلا ذلك بيعا وإنما أرخص في الإقالة والشركة والتولية ) في قوله صلى الله عليه وسلم من ابتاع طعاما فلا يبعه حتى يقبضه إلا أن يشرك فيه أو يوليه أو يقيله رواه أبو داود وغيره ( ما لم يدخل شيئا من ذلك زيادة أو نقصان أو نظرة ) أي تأخير ( فإن دخل ذلك زيادة أو نقصان أو نظرة صار بيعا يحله ما يحل البيع ويحرمه ما يحرم البيع ) فيشترط له شروطه وانتفاء موانعه والإقالة في الطعام بشرطه جائزة باتفاق مالك وأبي حنيفة والشافعي واختلف في سبب الجواز فأكثر أهل المذهب أنها بيع لا حله فيحتاجون إلى مخصص يخرجها من بيع الطعام قبل قبضه والمخصص استثناؤها في الحديث الذي ذكرته وإليه أشار الإمام كما ترى وقال جماعة إنها حل بيع فلا حاجة للاعتذار وليس الجواز عندها ولا رخصة ومشهور قول مالك جواز التولية والشركة ومنعهما الشافعي وأبو حنيفة ولمالك قول بمنع الشركة واتفق المذهب على جواز التولية لأنها معروف كالإقالة وللحديث
( قال مالك من سلف في حنطة شامية فلا بأس أن يأخذ محموله بعد محل ) بفتح فكسر أي حلول ( الأجل ) لا قبله ( وكذلك من سلف في صنف من الأصناف فلا بأس أن يأخذ خيرا مما سلف )
____________________
(3/373)
لأنه حسن قضاء ( فيه أو أدنى ) لأنه حسن اقتضاء ( بعد الأجل ) لا قبله ( وتفسير ذلك أن يسلف الرجل في حنطة محمولة فلا بأس أن يأخذ شعيرا أو شامية وإن سلف في تمر عجوة فلا بأس أن يأخذ ) بدله ( صيحانيا أو ) تمرا ( جمعا ) بفتح فسكون رديئا ( وإن سلف في زبيب أحمر فلا بأس أن يأخذ أسود ) لأن ذلك كله حسن اقتضاء ( إذا كان ذلك كله بعد محل الأجل إذا كانت مكيلة ذلك سواء بمثل كيل ما سلف فيه ) فحاصله أن الجواز مقيد بقيدين بعد الحلول وقدر الكيل فلا يضر اختلاف الصفة
22 بيع الطعام بالطعام لا فضل بينهما ( مالك أنه بلغه أن سليمان بن يسار قال فني ) بفتح فكسر فرغ ( علف حمار سعد بن أبي وقاص ) مالك الزهري ( فقال لغلامه خذ من حنطة أهلك فابتع بها شعيرا ولا تأخذ إلا مثله ) لأنه يرى اتحادهما جنسا
( مالك عن نافع عن سليمان بن يسار أنه أخبره أن عبد الرحمن بن الأسود بن عبد يغوث ) ابن وهب بن عبد مناف بن زهرة الزهري ولد على عهد النبي صلى الله عليه وسلم ومات أبوه في ذلك الزمان فلذلك عد في الصحابة وقال العجلي من كبار التابعين ( فني علف دابته فقال لغلامه خذ من حنطة أهلك طعاما فابتع بها شعيرا ولا تأخذ إلا مثله ) لاتحاد جنسهما
( مالك أنه بلغه عن القاسم بن محمد عن ابن معيقيب ) بضم الميم وفتح المهملة وإسكان التحتية وكسر القاف وسكون الياء الثانية وموحدة ابن أبي فاطمة ( الدوسي ) حليف بني عبد شمس
____________________
(3/374)
ومعيقيب من السابقين الأولين هاجر الهجرتين وشهد المشاهد وولي بيت المال لعمر ومات في خلافة عثمان أو علي وله ولدان الحارث ومحمد رويا عنه ( مثل ذلك ) قال أبو عمر كذا رواه يحيى وابن عفير وابن بكير عن ابن معيقيب ورواه القعنبي وطائفة فقالوا عن معيقيب ( قال مالك وهو الأمر عندنا ) بالمدينة أن البر والشعير جنس واحد لتقارب المنفعة وبهذا قال أكثر الشاميين أيضا وقد يكون من خبز الشعير ما هو أطيب من خبز الحنطة فلم ينفرد بذلك مالك حتى يشنع عليه بعض أهل الظاهر والله حسيبه ويقول القط أفقه من مالك فإنه إذا رميت له لقمتان إحداهما شعير فإنه يذهب عنها ويقبل على لقمة البر قال الأبي وما حكاه ابن رشد عن السيوري وغيره عن عبد الحميد الصائغ أنه حلف بالمشي إلى مكة ليخالفن مالكا في المسألة فمبالغة ولا يرد أن حلفه على غلبة الظن وهو من الغموس لأنه إنما حلف على أن يخالفه وقد فعل
( قال مالك الأمر المجتمع عليه عندنا أن لا تباع الحنطة بالحنطة ولا التمر بالتمر ولا الحنطة بالتمر ولا التمر بالزبيب ولا الحنطة بالزبيب ولا شيء من الطعام كله إلا يدا بيد ) أي مناجزة وإن جاز الفضل في مختلف الجنس ( فإن دخل شيئا من ذلك الأجل لم يصلح وكان حراما ولا ) يباع ( شيء من الأدم كلها إلا يدا بيد ) للإجماع على حرمة ربا النساء قال عياض وشذ ابن علية وبعض السلف فأجازوا النسيئة مع الاختلاف ولو بلغتهم السنة ما خالفوها لفضلهم وعلمهم وقد انعقد الإجماع بعد ذلك على المنع
( قال مالك ولا يباع شيء من الطعام والأدم إذا كان من صنف واحد اثنان بواحد ) أي متفاضلا ( لا يباع مد حنطة بمدي حنطة ) بالتثنية ( ولا مد تمر بمدي ) بالتثنية ( تمر ولا مد زبيب بمدي زبيب ولا ما أشبه ذلك من الحبوب والأدم كلها إذا كان من صنف واحد وإن كان يدا بيد ) مبالغة لربا الفضل ( إنما ذلك بمنزلة الورق بالورق والذهب بالذهب لا يحل في شيء من ذلك الفضل ) الزيادة ولو قلت ( ولا يحل إلا مثلا بمثل ) أي متساويا ( ويدا بيد ) أي مناجزة
( وإذا اختلف ما يكال أو يوزن مما يؤكل أو يشرب فبان ) أي ظهر ( اختلافه فلا بأس أن يؤخذ منه اثنان بواحد يدا بيد ) لا مؤخرا
( ولا بأس أن يؤخذ
____________________
(3/375)
صاع من تمر بصاعين من حنطة وصاع من تمر بصاعين من زبيب وصاع من حنطة بصاعين من سمن ) لاختلاف الصنف في الجميع كما قال
( فإذا كان الصنفان من هذا مختلفين فلا بأس باثنين منه بواحد أو أكثر من ذلك يدا بيد فإن دخل ذلك ) أي مختلف الصنف ( الأجل فلا يحل ) وأصل ذلك قوله صلى الله عليه وسلم الذهب بالذهب والفضة بالفضة والبر بالبر والشعير بالشعير والتمر بالتمر والملح بالملح مثلا بمثل سواء بسواء يدا بيد فإذا اختلفت هذه الأصناف فبيعوا كيف شئتم إذا كان يدا بيد رواه مسلم وغيره عن عبادة ورواه مسلم وأحمد عن أبي سعيد وفيه فمن زاد أو استزاد فقد أربى والآخذ والمعطي سواء ( ولا تحل صبرة الحنطة بصبرة الحنطة ) لعدم تحقق المماثلة في متحد الصنف
( ولا بأس بصبرة الحنطة ) أي بيعها ( بصبرة التمر يدا بيد وذلك أنه لا بأس أن يشتري الحنطة بالتمر جزافا ) مثلث الجيم والكسر أفصح ( وكل ما اختلف من الطعام والأدم فبان اختلافه ) ظهر كقمح وتمر لا إن لم يبن كقمح وشعير وسلت ( فلا بأس أن يشتري بعضه ببعض جزافا يدا بيد فإن دخله الأجل فلا خير فيه ) أي يمنع للنسيئة ( وإنما اشتراه ذلك جزافا كاشتراء بعض ذلك بالذهب والورق جزافا وذلك أنك تشتري الحنطة بالورق جزافا والتمر بالذهب جزافا فهذا حلال لا بأس به ) لا كره ولا خلاف أولى
( قال مالك ومن صبر ) بالتثقيل ( صبرة طعام وقد علم كيلها ثم باعها جزافا وكتم المشتري كيلها فإن ذلك لا يصلح ) لأن من شرط بيع الجزاف أن لا يعرفه أحد المتبايعين ( فإن أحب المشتري أن يرد ذلك الطعام على البائع رده بما ) أي بسبب ما ( كتمه كيله وغره وكذلك كل ما علم البائع كيله وعدده من الطعام وغيره ثم باعه جزافا ولم يعلم المشتري ذلك فإن المشتري إن أحب أن يرد ذلك على البائع
____________________
(3/376)
رده ) وإن أحب لم يرده
( ولم يزل أهل العلم ينهون عن ذلك ولا خير في خبز قرص بقرصين ولا عظيم ) أي كبير ( بصغير إذا كان بعض ذلك أكبر من بعض فأما إذا كان يتحرى أن يكون مثلا بمثل ) بكسر فسكون فيهما أي متساويا ( فلا بأس به ) أي يجوز ( وإن لم يوزن ) مبالغة ( ولا يصلح مد زبد ) بضم الزاي ( ومد لبن بمدي زبد وهو مثل الذي وصفنا من التمر الذي يباع صاعين من كبيس وصاعا من حشف بثلاثة أصوع من عجوة حين قال لصاحبه إن صاعين من كبيس بثلاثة أصوع من العجوة لا يصلح ) للربا ( ففعل ذلك ليجيز بيعه ) فلا ينفعه ذلك ( وإنما جعل صاحب اللبن اللبن مع زبده ليأخذ فضل زبده ) أي زيادة ( على زبد صاحبه حين أدخل معه اللبن ) وذلك ممنوع
( والدقيق بالحنطة مثلا بمثل لا بأس به وذلك أنه أخلص الدقيق فباعه بالحنطة مثلا بمثل ) فلذا جاز ( ولو جعل نصف المد من دقيق ونصفه من حنطة فباع ذلك بمد من حنطة كان ذلك مثل الذي وصفنا لا يصلح ) لا يجوز ( لأنه إنما أراد أن يأخذ فضل حنطته الجيدة حين جعل معها الدقيق فهذا لا يصلح ) لا يجوز
23 جامع بيع الطعام 1386 ( مالك عن محمد بن عبد الله بن أبي مريم ) الخزاعي مولاهم ويقال مولى ثقيف قال أبو حاتم شيخ مدني صالح وقال يحيى القطان لا بأس به وذكره ابن حبان في الثقات
( أنه سأل سعيد ابن المسيب فقال إني رجل أبتاع الطعام ) وقوله ( يكون من الصكوك ) جمع صك ( بالجار ) بجيم الساحل
____________________
(3/377)
المعروف ساقط للأكثر وابن القاسم والقعنبي قاله أبو عمر ( فربما ابتعت منه بدينار ونصف درهم أفأعطى بالنصف طعاما فقال سعيد لا ولكن أعط أنت درهما وخذ بقيته طعاما ) نصب بقيته على التوسع
( مالك أنه بلغه أن محمد بن سيرين كان يقول لا تبيعوا الحب في سنبله حتى يبيض ) أي يشتد حبه
وفي الصحيح عن ابن عمر أنه صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع النخل حتى يزهو وعن السنبل حتى يبيض ويأمن العاهة نهى البائع والمشتري قال عياض فرق صلى الله عليه وسلم فأجاز بيع الثمار بأول الطيب ولم يجزه في الزرع حتى يتم طيبه لأن الثمار تؤكل غالبا من أول الطيب والزرع لا يؤكل غالبا إلا بعد الطيب
( قال مالك من اشترى طعاما بسعر معلوم إلى أجل مسمى فلما حل الأجل قال الذي عليه الطعام لصاحبه ليس عندي طعام فبعني الطعام الذي لك علي إلى أجل فيقول صاحب الطعام هذا لا يصلح ) لا يجوز ( لأنه قد نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بيع الطعام حتى يستوفى ) أي يقبض ( فيقول الذي عليه الطعام لغريمه فبعني طعاما إلى أجل حتى أقضيكه فهذا لا يصلح لأنه إنما يعطيه طعاما ثم يرده إليه فيصير الذهب الذي أعطاه ثمن الطعام الذي كان له عليه ويصير الطعام الذي أعطاه محللا فيما بينهما ويكون ذلك إذا فعلاه بيع الطعام قبل أن يستوفى ) فلم يخرجا عن النهي بهذه الحيلة
( قال مالك في رجل له على رجل طعام ابتاعه منه ولغريمه على رجل طعام مثل ذلك الطعام فقال الذي عليه الطعام لغريمه أحيلك على غريم لي عليه مثل الطعام الذي لك علي بطعامك ) متعلق
____________________
(3/378)
بأحيلك ( الذي لك علي قال مالك إن كان الذي عليه الطعام إنما هو طعام ابتاعه فأراد أن يحيل غريمه بطعام ابتاعه فإن ذلك لا يصلح ) لا يجوز من الصلاح ضد الفساد ( وذلك بيع الطعام قبل أن يستوفى ) فيدخل في النهي عنه ( فإن كان الطعام سلفا حالا فلا بأس أن يحيل به غريمه لأن ذلك ليس ببيع ولا يحل بيع الطعام قبل أن يستوفى لنهي رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك ) كما مر مسندا
( غير أن أهل العلم قد اجتمعوا ) أي اتفقوا ( على أنه لا بأس بالشرك ) التشريك لغيره في بعض ما اشتراه ( والتولية ) لما اشتراه بما اشتراه ( والإقالة في الطعام وغيره وذلك أن أهل العلم أنزلوه ) أي المذكور من الثلاث ( على وجه المعروف ) فأجازوا ذلك قبل القبض في الطعام ( ولم ينزلوه على وجه البيع ) لأنه كان يمتنع وهذا ظاهر في أن الإقالة حل بيع لا بيع ومر في كلام الإمام ما يشير إلى أنها بيع وهما قولان
( وذلك مثل الرجل يسلف الدراهم النقص فيقضى دراهم وازنة فيها فضل ) زيادة ( فيحل له ذلك ) لأنه حسن قضاء ( ويجوز ) جمع بينهما تقوية ( ولو اشترى دراهم نقصا بوازنة لم يحل ذلك ) لربا الفضل ( ولو اشترط عليه حين أسلفه وازنة وإنما أعطاه نقصا لم يحل له ذلك ) للشرط وهو عين الربا ( ومما يشبه ذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع المزابنة وأرخص في بيع العرايا بخرصها من التمر ) بفتح الخاء وكسرها
( وإنما فرق بين ذلك أن بيع المزابنة بيع على وجه المكايسة والتجارة وأن بيع العرايا على وجه المعروف لا مكايسة فيه ) أي مغالبة
( ولا ينبغي أن يشتري رجل طعاما بربع أو بثلث أو كسر ) بكسر الكاف وسكون السين أي قطعة ( من درهم على أن يعطى بذلك طعاما إلى أجل ولا بأس أن يبتاع الرجل طعاما بكسر ) قطعة
____________________
(3/379)
( من درهم إلى أجل ثم يعطى درهما ويأخذ بما بقي له من درهمه سلعة من السلع لأنه أعطى الكسر ) القطعة ( الذي عليه فضة وأخذ ببقيته سلعة فهذا لا بأس به ) أي يجوز لأنهما صفقتان لم يدخلهما شيء يمنع
( ولا بأس بأن يضع الرجل عند الرجل درهما ثم يأخذه منه بربع أو ثلث أو بكسر معلوم سلعة معلومة فإذا لم يكن في ذلك سعر معلوم وقال الرجل آخذ منك بسعر كل يوم فهذا لا يحل لأنه غرر يقل مرة ويكثر مرة ولم يتفرقا على بيع معلوم ) بيان للغرر للجهل بما يأخذ كل يوم سعره لخفض السعر وارتفاعه
( ومن باع طعاما جزافا ولم يستثن منه شيئا ثم بدا له أن يشتري منه شيئا فلا يصلح له أن يشتري منه شيئا إلا ما كان يجوز له أن يستثني منه وذلك الثلث فما دونه فإن زاد على الثلث صار ذلك إلى المزابنة وإلى ما يكره ) أي يمنع ( فلا ينبغي ) لا يجوز ( أن يشتري منه شيئا إلا ما كان يجوز له أن يستثني منه و ) هو ( لا يجوز له أن يستثني منه إلا الثلث فما دونه ) ومراده رحمه الله زيادة الإيضاح والبيان ( وهذا الأمر الذي لا اختلاف فيه عندنا ) بالمدينة وحاصله أن ما جاز أن يستثنى جاز أن يشترى وهو الثلث فأقل
24 الحكرة والتربص بضم الحاء وسكون الكاف اسم من احتكر الطعام إذا حبسه إرادة للغلاء والحكر بفتحتين وإسكان الثاني لغة بمعناه
والتربص الانتظار فكأنه عطف تفسير
( مالك أنه بلغه أن عمر بن الخطاب قال لا حكرة في سوقنا لا يعمد ) بكسر الميم يقصد
____________________
(3/380)
( رجال بأيديهم فضول ) زيادات عن أقواتهم ( من أذهاب ) جمع ذهب كأسباب وسبب ( إلى رزق من رزق الله نزل بساحتنا فيحتكرونه علينا ) يحبسونه عنا إلى أن يغلو السعر ( ولكن أيما جالب جلب على عمود كبده ) قال ابن الأثير تبعا للهروي أراد به ظهره لأنه يمسك البطن ويقويه فصار كالعمود له وقيل أراد أنه يأتي به على تعب ومشقة وإن لم يكن ذلك الشيء على ظهره وإنما هو مثل وقال غيرهما يريد بكبده الحاملة لأن الجالب إنما يحمل على دوابه لا على ظهره ( في الشتاء والصيف ) قال عيسى يعني في قلب الشتاء وشدة برده وقلب الصيف وشدة حره ( فذلك ضيف ) بضاد معجمة ( عمر ) لا حرج عليه في إمساك ما جلب ( فليبع كيف شاء الله وليمسك كيف شاء الله ) لئلا يمتنع الناس عن الجلب فإن نزل بالناس حاجة ولم يوجد عند غيره جبر على بيعه بسعر الوقت لرفع الضرر عن الناس قاله عياض والقرطبي
( مالك عن يونس بن يوسف ) بن حماس بكسر المهملة وخفة الميم فألف فمهملة قال ابن حبان ثقة من عباد أهل المدينة لمح مرة امرأة فدعا الله فأذهب عينيه ثم دعا الله فردهما عليه
( عن سعيد بن المسيب أن عمر بن الخطاب مر بحاطب بن أبي بلتعة ) بفتح الموحدة وسكون اللام وفتح الفوقية والمهملة عمرو بن عمير اللخمي حليف بني أسد شهد بدرا اتفاقا ومات في سنة ثلاثين عن خمس وستين سنة ( وهو يبيع زبيبا له بالسوق ) بأرخص مما يبيع الناس ( فقال له عمر بن الخطاب إما أن تزيد في السعر ) بأن تبيع بمثل ما يبيع أهل السوق ( وإما أن ترفع من سوقنا ) لئلا تضر بأهل السوق وإلى هذا ذهب جماعة أن الواحد والاثنين ليس لهم البيع بأرخص مما يبيع أهل السوق دفعا للضرر وقال بذلك القاضي عبد الوهاب قال ابن رشد في البيان وهو غلط ظاهر إذ لا يلام أحد على المسامحة في البيع والحطيطة فيه بل يشكر على ذلك إن فعله لوجه الناس ويؤجر إن فعله لوجه الله تعالى
( مالك أنه بلغه أن عثمان بن عفان كان ينهى عن الحكرة ) لقوله صلى الله عليه وسلم من احتكر طعاما فهو خاطىء أخرجه مسلم وأبو داود عن معمر بن عبد الله ورواه الترمذي وصححه وابن ماجه عن معمر أيضا مرفوعا بلفظ لا يحتكر إلا خاطىء ولقوله صلى الله عليه وسلم من احتكر على المسلمين طعامهم ضربه الله
____________________
(3/381)
بالجذام والإفلاس رواه ابن ماجه بإسناد حسن عن عمر
وله وللحاكم بإسناد ضعيف عن عمر مرفوعا الجالب مرزوق والمحتكر ملعون
25 ما يجوز من بيع الحيوان بعضه ببعض والسلف فيه ( مالك عن صالح بن كيسان ) المدني ثقة ثبت فقيه ( عن حسن بن محمد بن علي بن أبي طالب ) المدني ثقة فقيه وأبوه ابن الحنفية ( أن علي بن أبي طالب باع جملا له يدعى عصيفيرا ) بلفظ تصغير عصفور ( بعشرين بعيرا ) صغارا ( إلى أجل ) لاختلاف المنافع
( مالك عن نافع أن عبد الله بن عمر اشترى راحلة ) مركبا من الإبل ذكرا كان أو أنثى وقيل هي الناقة التي تصلح أن ترحل وجمعها رواحل ( بأربعة أبعرة ) جمع بعير يقع على الذكر والأنثى ( مضمونة ) عليه في ذمته ( يوفيها صاحبها بالربذة ) بفتح الراء والموحدة والذال المعجمة قرية قرب المدينة
( مالك أنه سأل ابن شهاب عن بيع الحيوان اثنين بواحد إلى أجل فقال لا بأس بذلك ) أي يجوز ( قال مالك الأمر المجتمع عليه عندنا أنه لا بأس بالجمل ) ذكر الإبل ( بالجمل مثله وزيادة دراهم يدا بيد ) أي مناجزة لأنه بيع لا سلف فيه ( ولا بأس بالجمل ) أي بيعه ( بالجمل مثله وزيادة دراهم الجمل بالجمل يدا بيد ) أي مناجزة لأنه بيع مستقل ( والدراهم إلى أجل ولا خير في الجمل بالجمل مثله وزيادة دراهم الدراهم نقدا والجمل إلى أجل ) أي لا يجوز ( وإن أخرت الجمل والدراهم فلا خير في ذلك أيضا ) أي لا يجوز
( ولا بأس بأن يبتاع البعير النجيب ) بجيم وزن كريم ومعناه ( بالبعيرين أو بالأبعرة من الحمولة ) بالفتح الجماعة ( من حاشية الإبل ) أي دونها ( وإن كانت من نعم واحدة فلا بأس
____________________
(3/382)
بأن يشترى منها اثنان بواحد إلى أجل إذا اختلفت فبان اختلافهما ) ظهر ( وإن أشبه بعضها بعضا واختلفت أجناسها أو لم تختلف فلا يؤخذ منها اثنان بواحد إلى أجل وتفسير ) أي بيان ( ما كره من ذلك أن يؤخذ البعير بالبعيرين ليس بينهما تفاضل في نجابة ولا رحلة ) أي حمل
( فإن كان هذا على ما وصفت لك فلا يشتري منه اثنان بواحد إلى أجل ) ووجه تفرقته هذه أن اختلاف المنافع يصير الجنس الواحد جنسين ويتضح معه أن القصد بالمبايعة حصول النفع والغرض لا الزيادة في السلف وأيضا فمع اختلاف الجنس ليس القصد إلا المنافع لأنها التي تملك وأما الذوات فلا يملكها إلا خالقها وإن كانت المنافع هي المقصودة من دابة الحمل والمقصود من آخر من جنسها الجري صار ذلك بمنزلة دابة وثوب فإن اتفقت منافع الجنس لم يجز لأنه إن قدم الأقل سلف بزيادة وإن قدم الأكثر فضمان يجعل لأنه أعطاه أحد الثوبين على أن يكون الآخر في ذمته إلى أجل وسلفه لينتفع بالضمان وهو ممنوع فلو تحقق السلف دون منفعة لا محققة ولا مقدرة جاز قاله عياض
وقد روى أحمد والأربعة وقال الترمذي حسن صحيح وصححه غيره أيضا عن جابر أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع الحيوان بالحيوان نسيئة فتعلق به الحنفي والحنبلي فمنعوا بيع الحيوان بالحيوان وجعلوه ناسخا للخبر الصحيح أنه صلى الله عليه وسلم اقترض بكرا ورد رباعيا وحمله مالك على متحد الجنس جمعا بينهما وهو أرجح إذ لا يثبت النسخ بالاحتمال
( ولا بأس بأن تبيع ما اشتريت منها قبل أن تستوفيه من غير الذي اشتريته منه ) لاختصاص النهي بالطعام كما هو صريح الأحاديث ( إذا انتقدت ثمنه ) لا بمؤجل
( ومن سلف في شيء من الحيوان إلى أجل مسمى فوصفه وحلاه ) أي وصفه فالعطف مساو ( ونقد ثمنه فذلك جائز وهو لازم للبائع والمبتاع على ما وصفا وحليا ولم يزل ذلك من عمل الناس الجائز بينهم والذي لم يزل عليه أهل العلم ببلدنا ) المدينة
____________________
(3/383)
26 ما لا يجوز من بيع الحيوان ( مالك عن نافع عن عبد الله بن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى ) نهي تحريم ( عن بيع حبل الحبلة ) بفتح الحاء والموحدة فيهما إلا أن الأول مصدر حبلت المرأة والثاني اسم جمع حابل كظالم وظلمة وكاتب وكتبة وقال الأخفش
هو جمع حابلة
ابن الأنباري التاء في الحبلة للمبالغة كقولهم شجرة أبو عبيد والحبل مختص بالآدميات ولا يقال في غيرهن من الحيوان إلا حمل إلا ما في الحديث ورواه بعضهم بسكون الباء في الأول وهو غلط قاله عياض
( وكان ) بيع الحبلة ( بيعا يتبايعه أهل الجاهلية كان الرجل ) منهم ( يبتاع الجزور ) بفتح الجيم وضم الزاي وهو البعير ذكرا كان أو أنثى ( إلى أن تنتج ) بضم الفوقية وسكون النون وفتح الفوقية الثانية أي تلد وهو من الأفعال التي لم تسمع إلا مبنية للمفعول نحو جن وزهي علينا أي تكبر ( الناقة ) مرفوعا بإسناد تنتج إليها أي تضع ولدها فولدها نتاج بكسر النون من تسمية المفعول بالمصدر ( ثم ينتج الذي في بطنها ) أي ثم تعيش المولودة حتى تكبر ثم تلد وعلة النهي ما في الأجل من الغرر وهذا التفسير من قول ابن عمر كما جزم به ابن عبد البر وغيره لما في مسلم من طريق عبيد الله عن نافع عن ابن عمر قال كان أهل الجاهلية يتبايعون لحم الجزور إلى حبل الحبلة وحبل الحبلة أن تنتج الناقة ثم تحمل التي نتجت فنهاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم وبه فسره مالك والشافعي وغيرهما وقيل هو بيع ولد ولد الناقة الحامل في الحال بأن يقول إذا نتجت هذه الناقة ثم نتجت التي في بطنها فقد بعتك ولدها فنهى عنه لأنه بيع ما ليس بمملوك ولا معلوم ولا مقدور على تسليمه فهو غرر وبه فسره أحمد وإسحاق وجماعة من اللغويين وهو أقرب إلى اللفظ لكن الأول أقوى لأنه تفسير ابن عمر وليس مخالفا للظاهر فإن ذاك هو الذي كان في الجاهلية والنهي وارد عليه ومذهب المحققين من أهل الأصول تقديم تفسير الراوي إذا لم يخالف الظاهر قال الطيبي فإن قيل تفسيره مخالف لظاهر الحديث فكيف يقال إذا لم يخالف الظاهر وأجاب باحتمال أن المراد بالظاهر الواقع فإن هذا البيع كان في الجاهلية بهذا الأجل فليس التفسير حلا للفظ بل بيان للواقع ومحصل هذا الخلاف كما قال ابن التين هل المراد البيع إلى أجل أو بيع الجنين وعلى الأول هل المراد بالأجل ولادة الأم أو ولادة ولدها وعلى الثاني هل المراد بيع الجنين الأول أو بيع جنين الجنين فصارت أربعة أقوال اه
وقال المبرد هو عندي بيع حبل الكرمة والحبلة الكرمة لأنها تحبل بالعنب كما جاء في حديث آخر نهى عن بيع الثمر قبل أن يبدو صلاحهويكون هذا أصلا في منع البيع بثمن إلى أجل مجهول قال السهيلي وهو غريب لم يسبقه إليه أحد في تأويل الحديث
وأخرجه البخاري عن عبد الله بن يوسف
____________________
(3/384)
عن مالك به وتابعه الليث عن نافع عند مسلم بدون ذكر التفسير وعبيد الله عن نافع كما علم
( مالك عن ابن شهاب عن سعيد بن المسيب أنه قال لا ربا في الحيوان ) المختلف جنسه كمتحد وبيع يدا بيد فإن بيع إلى أجل واختلفت صفاته جاز وإلا منع عند مالك وأجازه الشافعي مطلقا وهو ظاهر قول ابن المسيب لأنه صلى الله عليه وسلم أمر بعض أصحابه أن يعطي بعيرا في بعيرين إلى أجل فهو مخصص لعموم حرمة الربا
وأجيب بحمله على مختلف الصفة والمنافع جمعا بين الأدلة ومنعه أبو حنيفة اتفقت الصفات أو اختلفت لقوله تعالى { وأحل الله البيع وحرم الربا } البقرة 275 والربا هو الزيادة وهذه زيادة
( وإنما نهى من الحيوان عن ثلاثة المضامين ) جمع مضمون يقال ضمن الشيء بمعنى يضمنه ومنه قولهم مضمون الكتاب كذا وكذا
( والملاقيح ) جمع ملقوح ( وحبل الحبلة ) وهذا أخرجه البزار والطبراني في الكبير عن ابن عباس والبزار عن ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن المضامين والملاقيح وحبل الحبلة وإسناده قوي وصححه بعضهم
( والمضامين بيع ما في بطون إناث الإبل ) لأن البطن قد ضمن ما فيه ( والملاقيح بيع ما في ظهور الجمال ) جمع جمل ذكر الإبل لأنه الذي يلقح الناقة ولذا سميت النخلة التي يلقح بها الثمار فحلا
ووافق الإمام على هذا التفسير جماعة من الأصحاب وعكسه ابن حبيب فقال المضامين ما في الظهور والملاقيح ما في البطون وزعم أن تفسير مالك مقلوب وتعقب بأن مالكا أعلم منه باللغة
( قال مالك لا ينبغي أن يشتري أحد شيئا من الحيوان بعينه ) أي المعين كجمل وحصان معينين ( إذا كان غائبا عنه وإن كان قد رآه ورضيه على أن ينقد ثمنه لا قربيا ولا بعيدا ) قيد في المنع وجوز في المدونة النقد فيما قرب لأن الغالب السلامة بخلاف البعيد فيخشى دخول بيع وسلف وهو غرر
( وإنما كره ذلك لأن البائع ينتفع بالثمن ولا يدري هل توجد تلك السلعة على ما رآها المبتاع أم لا فلذلك كره ذلك ) لتردد الثمن بين السلفية والثمينة ( ولا بأس به إذا كان مضمونا موصوفا ) مفهوم قوله أولا بعينه على أن ينقد ثمنه لزوال علة التردد
____________________
(3/385)
27 بيع الحيوان باللحم ( مالك عن زيد بن أسلم عن سعيد بن المسيب أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع الحيوان باللحم ) نهي تحريم للتفاضل في الجنس الواحد فهو من المزابنة إذ لا يدرى هل في الحيوان مثل اللحم الذي أعطاه أو أقل أو أكثر قال ابن عبد البر لا أعلمه يتصل من وجه ثابت وأحسن أسانيده مرسل سعيد هذا ولا خلاف عن مالك في إرساله
ورواه يزيد بن مروان عن مالك عن ابن شهاب عن سهل بن سعد وهذا إسناد موضوع لا يصح عن مالك ولا أصل له في حديثه
ورواه أبو داود في المراسيل عن القعنبي عن مالك به مرسلا وصححه الحاكم وله شاهد أخرجه البزار من حديث ابن عمر
( مالك عن داود بن الحصين ) بمهملتين مصغر ( أنه سمع سعيد بن المسيب يقول من ميسر ) أي قمار ( أهل الجاهلية بيع الحيوان باللحم بالشاة والشاتين ) قال أبو عمر هذا من القمار والمزابنة لقوله ميسر وهو القمار قال إسماعيل إنما دخل ذلك في المزابنة لأنه لو ضمن له من جزره أو شاته المعينة أرطالا فما زاد فله وما نقص فعليه كان هو المزابنة فلما منع ذلك لم يجز اشتراء الجزور ولا الشاة بلحم لأنه يصير إلى ذلك المعنى
( مالك عن أبي الزناد ) عبد الله بن ذكوان ( عن سعيد بن المسيب أنه كان يقول نهي عن بيع الحيوان باللحم ) بالبناء للمفعول للعلم بالناهي صلى الله عليه وسلم ( قال ابن الزناد فقلت لسعيد بن المسيب أرأيت رجلا ) أي أخبرني الحكم عن رجل ( اشترى شارفا ) بشين معجمة وألف وراء وفاء المسنة من النوق والجمع الشرف مثل بازل وبزل ( بعشر شياه فقال سعيد إن كان اشتراها لينحرها فلا خير في ذلك ) أي لا يجوز إذ كأنه اشتراها بلحم فإن لم يرد نحرها جاز لأن الظاهر أنه اشترى حيوانا بحيوان فوكل إلى نيته وأمانته قاله إسماعيل القاضي
( قال أبو الزناد وكل من أدركت من الناس ينهون عن بيع الحيوان
____________________
(3/386)
باللحم وكان ذلك يكتب في عهود العمال ) جمع عامل ( في زمان أبان بن عثمان ) بن عفان ( وهشام بن إسماعيل ) المخزومي ( ينهون عن ذلك ) فيدل على شهرة ذلك بالمدينة
28 بيع اللحم باللحم ( قال مالك الأمر المجتمع عليه عندنا في لحم الإبل والبقر والغنم وما أشبه ذلك من الوحوش ) كالظباء والمها ( أنه لا يشترى بعضه ببعض إلا مثلا بمثل وزنا بوزن ) جمع بينهما للتأكيد ( يدا بيد ) أي مناجزة ( ولا بأس به وإن لم يوزن إذا تحرى أن يكون مثلا بمثل يدا بيد ولا بأس بلحم الحيتان بلحم البقر والإبل والغنم وما أشبه ذلك من الوحوش كلها اثنين بواحد وأكثر من ذلك يدا بيد فإن دخل ذلك الأجل فلا خير فيه ) لربا النساء
( وأرى لحوم الطير كلها مخالفة للحوم الأنعام والحيتان فلا أرى بأسا بأن يشترى بعض ذلك ببعض متفاضلا ) لاختلاف الصنف ( يدا بيد ولا يباع شيء من ذلك إلى أجل ) لربا النساء
29 ما جاء في ثمن الكلب ( مالك عن ابن شهاب ) محمد بن مسلم الزهري ( عن أبي بكر بن عبد الرحمن ) بن الحارث بن هشام بن المغيرة المخزومي الفقيه اسمه كنيته على الصحيح وقيل اسمه المغيرة ولا يصح وكان يقال له راهب قريش لكثرة صلاته وعبادته كان يصوم الدهر لا يفطر مات فجأة بالمدينة سنة أربع وتسعين
( عن أبي مسعود ) عقبة بالقاف ابن عمرو ( الأنصاري ) يعرف بالبدري لأنه كان يسكن بدرا واختلف في شهوده بدرا قال ابن عبد البر وقع في نسخة يحيى وعن أبي مسعود بالواو وهو وهم
____________________
(3/387)
بين وغلط واضح لا يعرج على مثله ولا يلتفت إليه لأنه من خطأ اليد وسوء النقل والحديث محفوظ في جميع الموطآت ورواه ابن شهاب كلهم لأبي بكر عن أبي مسعود أما لابن شهاب عن أبي مسعود فلا
( أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن ثمن الكلب ) المنهي عن اتخاذه اتفاقا لورود النهي عنه وعن بيعه والأمر بقتله ومن لا ثمن له لا قيمة له إذا قتل والمأذون في اتخاذه ككلب الصيد والحراسة على المشهور للحديث ولأن إباحة المنفعة لا تبيح المبيع كأم الولد ينتفع بها ولا تباع وعلة المنع عند من قال بنجاسته كالشافعي نجاسته فلا يباع مطلقا كما لا تباع العذرة وروي عن مالك أيضا وبه قال سحنون وأبو حنيفة وقال صاحباه يجوز بيع الكلاب التي ينتفع بها لأنه حيوان منتفع به حراسة واصطيادا حتى قال سحنون أبيعه وأحج بثمنه وحملوا هذا الحديث على غير المأذون في اتخاذه لحديث النسائي عن جابر نهى صلى الله عليه وسلم عن ثمن الكلب إلا كلب صيد لكنه حديث ضعيف باتفاق أئمة الحديث
( ومهر البغي ) بفتح الموحدة وكسر المعجمة وشد التحتية فعيل بمعنى فاعل يستوي فيه المذكر والمؤنث
( وحلوان الكاهن ) بضم الحاء المهملة وسكون اللام مصدر حلوته إذا أعطيته إلى هنا الحديث وفسره الإمام بقوله ( يعني بمهر البغي ما تعطاه المرأة على الزنى ) وهو حرام إجماعا وسمي مهرا لشبهه بالمهر في الصورة
( وحلوان الكاهن رشوته ) بكسر الراء وفتحها وضمها
( و ) هي ( ما يعطى على أن يتكهن ) قال أبو عبيد وأصله من الحلاوة شبه ما يعطى الكاهن بشيء حلو لأخذه إياه سهلا دون كلفة يقال حلوت الرجل إذا أطعمته الحلو وعسلته إذا أطعمته العسل والحلو أيضا الرشوة والحيوان في غير هذا ما يأخذه الرجل لنفسه من مهر ابنته وهو عيب عند النساء قالت امرأة تمدح زوجها لا يأخذ الحلوان من بناتنا
وحكى ابن عبد البر والمازري وغيرهما الإجماع على حرمة ما يأخذه الكاهن لأنه باطل كذب كله قال تعالى { تنزل على كل أفاك أثيم } سورة الشعراء الآية 222 وهو من أكل أموال الناس بالباطل
قال الخطابي الكاهن الذي يدعي مطالعة علم الغيب ويخبر الناس عن الكوائن وكان في الجاهلية كهنة يدعون معرفة كثير من الأمور فمنهم من يزعم أن له تابعا من الجن يلقي إليه الأخبار ومنهم من يدعي أنه يدرك الأمور بفهم أعطيه ومنهم من يسمى عرافا وهو من يزعم أنه يعرف الأمور بمقدمات يستدل بها على مواضعها كالشيء يسرق فيعرف المظنون به السرقة والمرأة تتهم فيعرف من صاحبها ونحو ذلك ومنهم من يسمى المنجم كاهنا والحديث شامل لهؤلاء كلهم وأخرجه البخاري هنا عن عبد الله بن يوسف
وفي الإجارة عن قتيبة بن سعيد ومسلم في البيع عن يحيى الثلاثة عن مالك به وتابعه ابن عيينة في الصحيحين والليث في مسلم كلاهما عن ابن شهاب وأخرجه أصحاب السنن
( قال مالك أكره ثمن الكلب الضاري ) المجترىء المولع بالصيد ( وغير الضاري لنهي
____________________
(3/388)
رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ثمن الكلب ) وأطلق فشملهما واختلف في أن الكراهة على بابها ويؤيده رواية ابن نافع عنه لا بأس ببيعه في الميراث والمغانم والدين أو على التحريم وهو المشهور عن مالك المعتمد في مذهبه خلافا لتشهير بعضهم كالقرطبي في المفهم الكراهة ولا خلاف عن مالك أن من قتل كلب صيد أو ماشية أو زرع فعليه قيمته ومن قتل ما لم يؤذن فيه لا شيء عليه وأسقطها الشافعي وأحمد فيهما وأوجبها أبو حنيفة فيهما
30 السلف وبيع العروض بعضها ببعض ( مالك أنه بلغه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع وسلف ) مجتمعين لتهمة الربا وقد وصله أبو داود والترمذي وقال حسن صحيح والنسائي من طريق أيوب السختياني عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده به
ورواه الطبراني في الكبير من حديث حكيم بن حزام بزيادة وشرطين في بيع وبيع ما ليس عندك وربح ما لم تضمن
( قال مالك وتفسير ذلك أن يقول الرجل للرجل آخذ سلعته بكذا على أن تسلفني كذا وكذا فإن عقدا بيعهما على هذا فهو غير جائز ) أي حرام لاتهامهما على قصد السلف بزيادة فإذا كان البائع هو دافع السلف فكأنه أخذ الثمن في مقابلة السلعة والانتفاع بالسلف وإن كان هو المشتري فكأنه أخذ السلعة بما دفعه من الثمن بالانتفاع بالسلف
( فإن ترك الذي اشترك السلف ) مع البيع ( ما اشترط منه ) أي السلف ( كان ذلك البيع جائزا ) لانتفاء التهمة ( ولا بأس أن يشترى الثوب من الكتان أو الشطوي ) بفتح الشين المعجمة والطاء المهملة نسبة إلى شطا قرية بأرض مصر ( أو القصبي ) بفتح القاف والصاد المهملة وموحدة قال المجد القصب ثياب ناعمة من كتان الواحدة قصبى ( بالأثواب من الإتريبي ) بكسر الهمزة وإسكان الفوقية وراء فتحتية فموحدة ثياب تعمل بأتريب قرية من مصر
( أو القسي ) بفتح القاف وكسر السين المهملة الثقيلة وبالياء نوع من الثياب فيه خطوط من حرير منسوبة إلى قيس قرية بمصر على ساحل البحر
( أو الزيقة ) بكسر الزاي وسكون التحتية وفتح القاف وتاء تأنيث نسبة إلى زيق محلة بنيسابور وقال البوني ثياب تعمل بالصعيد غلاظ ردية ونقله أبو عمر عن
____________________
(3/389)
ابن حبيب
( أو الثوب الهروي ) بفتحتين نسبة إلى هراة مدينة بخراسان
( أو المروي ) بفتح فسكون نسبة إلى مرو بلدة بفاس وينسب إليها الآدمي بزيادة زاي على خلاف القياس ولذا تظرف القائل ومروزي جاء في الأناسي والثوب مروي على القياس ( بالملاحف اليمانية ) جمع ملحفة بكسر الميم الملاءة التي يلتحف بها
( والشقائق ) من الثياب وهي الأزر الضيقة الردية قاله البوني كابن عبد البر عن ابن حبيب
( وما أشبه ذلك الواحد بالاثنين أو الثلاثة يدا بيد أو إلى أجل وإن كان من صنف واحد فإن دخل ذلك نسيئة فلا خير فيه ) لا يجوز ( ولا يصلح حتى يختلف فيبين ) بالنصب يظهر ( اختلافه ) ظهورا واضحا ( فإذا أشبه بعض ذلك بعضا وإن اختلفت أسماؤه فلا تأخذ منه اثنين بواحد إلى أجل وذلك أن يأخذ الثوبين من الهروي بالثوب من المروي أو القوهي ) بضم القاف وسكون الواو فهاء قال في القاموس ثياب بيض ( إلى أجل أو يأخذ الثوبين من الفرقبي ) بضم الفاء والقاف بينهما راء ساكنة ثم موحدة وباء نسبة إلى فرقب قال المجد كقنفذ موضع ومنه الثياب الفرقبية أو هي ثياب بيض من كتان ( بالثوب من الشطوي فإذا كانت هذه الأصناف على هذه الصفة فلا يشترى منها اثنان بواحد إلى أجل ) وجاز يدا بيد
( ولا بأس أن تبيع ما اشتريت قبل أن تستوفيه من غير صاحبه ) أي لغير ( الذي اشتريت منه إذا أنقدت ثمنه ) منه
31 السلفة في العروض ( مالك عن يحيى بن سعيد عن القاسم بن محمد أنه قال سمعت عبد الله بن عباس ورجل يسأله عن رجل سلف في سبائب ) بسين مهملة أوله وموحدة آخره شقق رقيقة جمع سبة بالكسر وسبيبة ويجمع أيضا على سبوب كما في القاموس وقال أبو عمر السبائب عمائم الكتان وغيره وقيل
____________________
(3/390)
شقق الكتان وغيره وقيل الملاحف
( فأراد أن يبيعها قبل أن يقبضها فقال ابن عباس تلك الورق بالورق وكره ذلك قال مالك وذلك فيما نرى ) نظن ( والله أعلم أنه إنما أراد أن يبيعها من صاحبها الذي اشتراها منه بأكثر من الثمن الذي ابتاعها به ) فيتهمان على السلف بزيادة وجعلا العقد على السبائب محللا بينهما
( ولو أنه باعها من غير الذي اشتراها منه لم يكن بذلك بأس ) أي يجوز لانتفاء التهمة قال أبو عمر وقد صح أن ابن عباس قال وأحسب أن كل شيء بمنزلة الطعام لكن حجة مالك ومن وافقه كأحمد وداود أنه صلى الله عليه وسلم خص الطعام فإدخال غيره في معناه ليس بأصل ولا قياس لأنه زيادة على النص بغير نص والله أحل البيع مطلقا إلا ما خصه على لسان رسوله أو ذكره في كتابه وحديث حكيم رفعه إذا ابتعت شيئا فلا تبعه حتى تقبضه إنما أراد الطعام بدليل رواية الحفاظ حديث حكيم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له إذا ابتعت طعاما فلا تبعه حتى تقبضه اه
( فالأمر عندنا فيمن سلف في رقيق أو ماشية أو عروض فإذا كان كل شيء من ذلك موصوفا فسلف فيه إلى أجل فحل الأجل فإن المشتري لا يبيع شيئا من ذلك من الذي اشتراه منه بأكثر من الثمن الذي سلفه فيه قبل أن يقبض ما سلفه فيه وذلك أنه إذا فعل ذلك فهو الربا ) بعينه ( صار المشتري إن أعطى الذي باعه دنانير أو دراهم ) فانتفع بها فلما حلت عليه السلعة التي باعها ولم يقبضها المشتري باعها من صاحبها بأكثر مما سلفه فيها فصار الأمر ( أن رد إليه ما سلفه وزاده من عنده ) وذلك الربا
( ومن سلف ذهبا أو ورقا في حيوان أو عروض ) بالجمع وفي نسخة عرض ( إذا كان موصوفا إلى أجل مسمى ثم حل الأجل فإنه لا بأس أن يبيع المشتري تلك السلعة من البائع ) أي له ( قيل أن يحل الأجل أو بعدما يحل بعرض من العروض
____________________
(3/391)
يعجله ولا يؤخره ) جمع بينهما تأكيدا وإن اتحد معناهما ( بالغا ما بلغ ذلك العرض إلا الطعام فإنه لا يحل أن يبيعه حتى يقبضه ) للنهي عن ذلك
( وللمشتري أن يبيع تلك السلعة من غير صاحبه ) أي لغير ( الذي ابتاعها منه بذهب أو ورق أو عرض من العروض يقبض ذلك ولا يؤخره لأنه إذا أخر ذلك قبح ) حرم ( ودخله ما يكره ) أي ( يحرم من الكالىء بالكالىء ) بالهمز أي التأخير ومنه بلغ بك أكلأ العمر أي أطوله وأشده قال الشاعر تعففت عنها في العصور التي خلت فكيف التصابي بعدما أكلأ العمر والكالىء بالكالىء أن يبيع الرجل دينا له على رجل بدين على رجل آخر وقيل مأخوذ من الكلأ وهو الحفظ وإطلاق هذا الاسم على الدين مجاز لأنه مكلوء لا كالىء وإنما الكالىء صاحبه لأن كلا من المتبايعين يكلأ صاحبه أي يحرسه لأجل ماله قبله فعلاقة المجاز الملازمة أي كون كل منهما لازما للآخر إذ يلزم من الحافظ محفوظ وعكسه وقد جاء فاعل بمعنى مفعول كدافق أو مدفوق أو هو مجاز في الإسناد إلى ملابس الفعل أي كالىء صاحبه كعيشة راضية أو مجاز بالحذف أي من بيع مال الكالىء بالكالىء
وقد روى الدارقطني والحاكم والبيهقي من حديث عبد العزيز الدراوردي عن موسى بن عقبة عن نافع عن ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع الكالىء بالكالىء قال الحاكم صحيح على شرط مسلم قال الحافظ وهو وهم فإن راويه موسى ابن عبيدة الربذي لا موسى بن عقبة
وقال أحمد ليس في هذا حديث يصح لكن الإجماع على أنه لا يجوز بيع الدين بالدين
( ومن سلف في سلعة إلى أجل وتلك السلعة مما لا تؤكل ولا تشرب فإن المشتري يبيعها ممن شاء بنقد أو عرض قبل أن يستوفيها من غير صاحبها الذي اشتراها منه ولا ينبغي ) لا يجوز ( له أن يبيعها من الذي ابتاعها منه إلا بعرض يقبضه ولا يؤخره ) لما مر بيانه ( وإن كانت السلعة لم تحل فلا بأس بأن يبيعها من صاحبها بعرض مخالف لها بين ) أي ظاهر ( خلافه يقبضه ولا يؤخره ) لما مر
( قال مالك فيمن سلف دنانير أو دراهم في أربعة أثواب موصوفة إلى أجل فلما حل الأجل تقاضى صاحبها ) طلبها منه ( فلم يجدها عنده ووجد عنده ثيابا دونها من صنفها فقال له الذي عليه
____________________
(3/392)
الأثواب أعطيك بها ثمانية أثواب من ثيابي هذه أنه لا بأس بذلك إذا أخذ تلك الأثواب التي يعطيه قبل أن يفترقا فإن دخل ذلك الأجل فإن ذلك لا يصلح ) لا يجوز ( وإن كان ذلك قبل محل ) أي حلول ( الأجل فإنه لا يصلح أيضا إلا أن يبيعه ثيابا ليست من صنف الثياب التي سلفه فيها ) فيجوز
32 بيع النحاس والحديد وما أشبههما مما يوزن ( قال مالك الأمر عندنا فيما كان مما يوزن من غير الذهب والفضة من النحاس والشبه ) بفتح المعجمة والموحدة أعلى النحاس يشبه الذهب ( والرصاص ) بفتح الراء والقطعة منه رصاصة
( والآنك ) بهمزة ونون وكاف وزان أفلس الرصاص الخالص ويقال الأسود وقيل وزن فاعل إذ ليس في العربي فاعل بضم العين وأما الآنك والآجر فيمن خفف وآمل وكابل فأعجميات
( والحديد ) المعدن المعروف
( والقضب ) بإسكان الضاد المعجمة
( والتين ) المأكول
( والكرسف ) القطن ( وما أشبه ذلك مما يوزن فلا بأس بأن يؤخذ من صنف واحد اثنان بواحد يدا بيد ولا بأس بأن يؤخذ رطل حديد برطلي حديد ورطل صفر برطلي صفر ) بضم الصاد وتكسر النحاس الجيد ( ولا خير فيه اثنان بواحد من صنف واحد إلى أجل فإذا اختلف الصنفان من ذلك فبان اختلافهما فلا بأس بأن يؤخذ منه اثنان بواحد إلى أجل فإن كان الصنف منه يشبه الصنف الآخر وإن اختلفا في الاسم مثل الرصاص والآنك ) بفتح الهمزة الأولى وإسكان الثانية وضم النون ( والشبه والصفر ) فإنهما شديدا الشبه ( فإني أكره أن يؤخذ منه اثنان بواحد إلى أجل ) لاتحاد الصنف حقيقة
( وما اشتريت من هذه الأصناف كلها فلا بأس
____________________
(3/393)
أن تبيعه قبل أن تقبضه من غير صاحبه الذي اشتريته منه إذا قبضت ثمنه إذا كنت اشتريته كيلا أو وزنا فإن اشتريته جزافا فبعه من غير الذي اشتريته منه بنقد أو إلى أجل وذلك أن ضمانه منك إذا اشتريته جزافا ) لدخوله في ملكك بالعقد ( ولا يكون ضمانه منك إذا اشتريته وزنا حتى تزنه وتستوفيه ) تقبضه ( وهذا أحب ما سمعت إلي في هذه الأشياء كلها وهو الذي لم يزل عليه أمر الناس عندنا ) بالمدينة
( والأمر عندنا فيما يكال أو يوزن مما لا يؤكل ولا يشرب مثل العصفر والنوى ) التمر ( والخبط ) بفتحتين ما يخبط بالعصا من ورق الشجر ليعلف للدواب
( والكتم ) بفتحتين نبت فيه حمرة يخلط بالوسمة ويختضب به للسواد وفي كتب الطب الكتم من نبات الجبال ورقه كورق الآس يخضب به مدقوقا ثمر كقدر الفلفل ويسود إذا نضج وقد يعتصر منه دهن يستصبح به في البوادي ( وما أشبه ذلك أنه لا بأس بأن يؤخذ من كل صنف منه اثنان بواحد يدا بيد ولا يؤخذ من صنف منه واحد ) بالجر صفة صنف ( اثنان بواحد إلى أجل فإن اختلف الصنفان فبان اختلافهما فلا بأس بأن يؤخذ منهما اثنان بواحد إلى أجل وما اشتري من هذه الأصناف كلها فلا بأس بأن يباع قبل أن يستوفى إذا قبض ثمنه من غير صاحبه ) أي لغير ( الذي اشتراه منه ) لا له فيمنع لما مر
( وكل شيء ينتفع به الناس من الأصناف كلها وإن كانت الحصباء ) بالمد صغار الحصى ينتفع بها في فرش كمسجد ( والقصة ) بفتح القاف والمهملة الجص بلغة الحجاز ( وكل واحد منهما بمثليه ) مثنى ( إلى أجل فهو ربا وواحد منهما بمثله ) بالإفراد ( وزيادة شيء من الأشياء إلى أجل فهو ربا ) فإن كان نقدا جاز
____________________
(3/394)
33 النهي عن بيعتين في بيعة ( مالك أنه بلغه ) وصله الترمذي وقال حسن صحيح والنسائي عن أبي هريرة ( أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن بيعتين ) بفتح الموحدة كما ضبطه غير واحد وظاهره أنه الرواية ويجوز كسرها على إرادة الهيئة وقيل إنه الأحسن ( في بيعة ) قال الباجي معناه أنه يتناول عقد البيع بيعتين على أن لا يتم منهما إلا واحدة مع لزوم العقد كشرب بدينار وآخر بدينارين يختار أيهما شاء وقد لزمهما ذلك أو لزم أحدهما فهذا لا يجوز كان أحدهما بنقد واحد أو بنقدين مختلفين
قال مالك ومعنى الفساد فيه أن يقدر أنه أخذ أحدهما بدينار ثم تركه وأخذ الثاني بدينارين فصار إلى أن باع ثوبا ودينارا بثوبين ودينارين وأما إن كان بثمن واحد مثل أن يبيع أحد هذين النوعين يختار أيهما شاء وقد ألزمهما ذلك أو لزم أحدهما فيجوز
( مالك أنه بلغه أن رجلا قال لرجل ابتع لي هذا البعير بنقد حتى أبتاعه منك إلى أجل فسئل عن ذلك عبد الله بن عمر فكرهه ونهى عنه ) أدخل تحت هذه الترجمة لأن مبتاعه بالنقد إنما ابتاعه على أنه قد لزم مبتاعه لأجل بأكثر من ذلك الثمن فتضمن بيعتين بيعة النقد وبيعة الأجل وفيها مع ذلك بيع ما ليس عندك لأنه باع منه البعير قبل أن يملكه وسلف بزيادة كأنه أسلفه ما نقده بالثمن المؤجل وهذا كله يمنع الجواز والعينة فيها أظهر قاله الباجي
( مالك أنه بلغه أن القاسم بن محمد سئل عن رجل اشترى سلعة بعشرة دنانير نقدا أو بخمسة عشر دينارا إلى أجل فكره ذلك ونهى عنه ) من باب الذريعة كما أوضحه حيث ( قال مالك في رجل ابتاع سلعة من رجل بعشرة دنانير نقدا أو بخمسة عشر دينارا إلى أجل ) حال كونها ( قد وجبت للمشتري بأحد الثمنين إنه لا ينبغي ذلك لأنه إن أخر العشرة كانت خمسة عشر إلى أجل وإن نقد العشرة كان إنما اشترى بها الخمسة عشر التي إلى أجل ) لجواز أن من له الخيار اختار أولا إنفاذ البيع بأحذ الثمنين
____________________
(3/395)
ثم بدا له فلم يظهره وعدل إلى الآخر وهذا لا يكاد يسلم منه إلى الترجيح في أفضل الأمرين فمنع للذريعة وهذا إذا كان على الإلزام لهما أو لأحدهما فإن كان كل بالخيار لم ينعقد بينهما بيع
( قال مالك في رجل اشترى من رجل سلعة بدينار نقدا أو بشاة موصوفة إلى أجل ) حال كونه ( قد وجب عليه ) أي لزمه ( بأحد الثمنين إن ذلك مكروه لا ينبغي لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد نهى عن بيعتين في بيعة وهذا من بيعتين في بيعة ) فيمنع لذلك
قال مالك في رجل قال لرجل أشتري منك هذه العجوة خمسة عشر صاعا أو الصيحاني عشرة أصوع ) على لزوم البيع بأحدهما ( أو الحنطة المحمولة خمسة عشر صاعا أو الشامية عشرة آصع بدينار ) حال كونه ( قد وجبت لي إحداهما ) أي لزمت ( أن ذلك مكروه لا يحل وذلك أنه قد أوجب له عشرة آصع صيحانيا فهو يدعها ويأخذ خمسة عشر صاعا من العجوة ) ومن خير بين أمرين عد منتقلا ( أو يجب عليه ) وفي نسخة له ( خمسة عشر صاعا من الحنطة المحمولة فيدعها ويأخذ عشرة آصع من الشامية فهذا أيضا مكروه لا يحل ) لجواز أنه رضي بأحدهما ثم انتقل إلى الآخر فباع الأول قبل استيفائه ( وهو أيضا يشبه ما نهي عنه من بيعتين في بيعة ) والشبه ظاهر ( وهو أيضا مما نهي عنه أن يباع من صنف واحد من الطعام اثنان بواحد ) لما علم أن المخير يعد منتقلا
34 بيع الغرر الغرر اسم جامع لبياعات كثيرة كجهل ثمن ومثمن وسمك في ماء وطير في الهواء
وعرفه المازري بأنه ما تردد بين السلامة والعطب
وتعقبه ابن عرفة بأنه غير جامع لخروج الغرر الذي في فاسد بيع الجزاف وبيعتين في بيعة وعرفه بأنه ما شك في حصول أحد عوضيه والمقصود منه غالبا
( مالك عن أبي حازم ) سلمة ( بن دينار ) المدني أحد الأعلام ( عن سعيد بن المسيب ) مرسلا
____________________
(3/396)
باتفاق رواة مالك فيما علمت
ورواه أبو حذافة عن مالك عن نافع عن ابن عمر وهذا منكر والصحيح ما في الموطأ ورواه ابن أبي حازم عن أبيه عن سهل بن سعد وهو خطأ وليس ابن أبي حازم بحجة إذا خالفه غيره وهو لين الحديث ليس بحافظ وهذا الحديث محفوظ عن أبي هريرة ومعلوم أن ابن المسيب من كبار رواته قاله ابن عبد البر وقد رواه مسلم من طريق عبيد الله بن عمر عن أبي الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة ( أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع الغرر ) لأنه من أكل أموال الناس بالباطل على تقدير أن لا يحصل المبيع وقد نبه صلى الله عليه وسلم على هذه العلة في بيع الثمار قبل بدو الصلاح بقوله أرأيت إن منع الله الثمرة فبم يأكل أحدكم مال أخيه قاله المازري وقيل علته ما يؤدي إليه من التنازع بين المتبايعين ورد بأن كثيرا من صور بيع الغرر عرى من التنازع كبيع الآبق والثمر قبل بدو الصلاح وقيل العلة الغرر لاشتماله على حكمة هي عجز البائع عن التسليم وهو ما أشار إليه المازري من ذهاب المال باطلا على تقدير عدم الحصول وهذا كتعليل القصر بوصف السفر لاشتماله على حكمة درء المشقة وكان بعضهم ينكر على فقهاء وقته يقول تعللوه بالغرر ولا تعرفون وجه العلة فيه
قال المازري أجمعوا على فساد بيع الغرر كجنين والطير في الهواء والسمك في الماء وعلى صحة بعضها كبيع الجبة المحشوة وإن كان حشوها لا يرى وكراء الدار شهرا مع احتمال نقصانه وتمامه ودخول الحمام مع اختلاف لبثهم فيه والشرب من السقاء مع اختلاف الشرب واختلفوا في بعضها فوجب أن يفهم أنهم إنما منعوا ما أجمعوا على منعه لقوة الغرر وكونه مقصودا وإنما أجازوا ما أجمعوا على جوازه ليسارته مع أنه لم يقصد وتدعو الضرورة إلى العفو عنه وإذا ثبت ما استنبطناه من هذين الأصلين وجب رد المسائل المختلف فيها بين فقهاء الأمصار إليها فالمجيز رأى الغرر قليلا لم يقصد والمانع رآه كثيرا مقصودا اه
وسبقه لنحوه الباجي فإن شك في يسارة الغرر فالمنع أقرب لظاهر الحديث ولأن شرط البيع علم صفة المبيع والغرر يمنع ذلك فالشك في يسارته شك في الشرط قادح نعم يحتمل أن يقال إنه مانع والشك في المانع لا يقدح ويرد الجواز أن أكثر البياعات لا تخلو عن قليل غرر والقاعدة أنه إذا شك في صورة أن تلحق بأكثر نوعها وأكثر نوعها اليسير المغتفر يعارضه أن أكثر صور الفاسد لا يخلو عن غرر كثير فليس إلحاقه بصورة الجواز أولى من إلحاقه بصورة المنع قاله أبو عبد الله التونسي واعترض على المازري في قيد اليسارة بالضرورة وأجاب عنه غيره بما في إيراده طول
( قال مالك ومن الغرر والمخاطرة أن يعمد ) بكسر الميم يقصد ( الرجل ) حال كونه ( قد ضلت دابته أو أبق غلامه وثمن الشيء من ذلك ) المذكور من دابة وغلام ( خمسون دينارا فيقول رجل أنا
____________________
(3/397)
آخذه منك بعشرين دينارا فإن وجده المبتاع ذهب من البائع ثلاثون دينارا وإن لم يجده ذهب البائع من المبتاع بعشرين دينارا ) وذلك من أكل المال بالباطل
( وفي ذلك أيضا عيب آخر أن تلك الضالة إن وجدت ) بالبناء للمفعول وكذا ( لم يدر أزادت أم نقصت أم ما حدث بها من العيوب فهذا أعظم المخاطرة ) فلذلك فسد البيع وضمانه من بائعه ويفسخ وإن قبض
( قال مالك والأمر عندنا أن من المخاطرة والغرر اشتراء ما في بطون الإناث من النساء والدواب لأنه لا يدرى أيخرج أم لا يخرج فإن خرج لم يدر أيكون حسنا أم قبيحا أم تاما أم ناقصا أم ذكرا أم أنثى وذلك كله يتفاضل لأنه إن كان على كذا فقيمته كذا وإن كان على ) صفة ( كذا فقيمته كذا ) وهذا لا خلاف فيه لأنه غرر مجهول وقد نهى صلى الله عليه وسلم عن الغرر وعن بيع الملامسة والحصاة وحبل الحبلة
وفي حديث وعن بيع ما في بطون الإناث قاله أبو عمر
( قال مالك ولا ينبغي بيع الإناث واستثناء ما في بطونها وذلك ) أي وجه المنع ( أن يقول الرجل للرجل ثمن شاتي الغزيرة ) كثيرة اللبن ( ثلاثة دنانير فهي لك بدينارين ولي ما في بطنها فهذا مكروه ) أي حرام ( لأنه غرر ومخاطرة ) أما على أن المستثنى مبيع فبين وأما على أنه مبقى فلأن الجملة المرئية إذا استثنى منها مجهول متناهي الجهالة أثر ذلك في باقي الجملة جهالة تمنع صحة عقد البيع عليها قاله الباجي
( ولا يحل بيع الزيتون بالزيت ولا الجلجلان ) بضم الجيمين بينهما لام ساكنة ثم لام فألف فنون السمسم في قشره قبل أن يحصد ( بدهن الجلجلان ولا الزبد بالسمن لأن المزابنة تدخله ) إذ لا يدري هل يخرج مثل ما أعطى أم لا
( ولأن الذي يشتري الحب وما أشبهه بشيء مسمى مما يخرج منه لا يدري أيخرج منه أقل من ذلك أو أكثر فهذا غرر ومخاطرة ) وبهذا قال أكثر العلماء
____________________
(3/398)
والشافعي وأحمد
( ومن ذلك أيضا اشتراء حب البان بالسليخة ) بفتح السين المهملة والخاء المعجمة قال المجد دهن ثمر البان قبل أن يزيت ( فذلك غرر لأن الذي يخرج من حب البان هو السليخة ) وذلك مجهول ( ولا بأس بحب البان بالبان المطيب لأن البان المطيب قد طيب ونش ) بضم النون وبالشين المعجمة أي خلط يقال دهن منشوش أي مخلوط ( وتحول عن حال السليخة ) أي صفتها فيجوز كلحم طبخ بتابل فيجوز يدا بيد متفاضلا ومتساويا
( قال مالك في رجل باع سلعة من رجل على أنه لا نقصان على المبتاع إن ذلك بيع غير جائز وهو من المخاطرة ) أي الغرر
( وتفسير ذلك أنه كأنه استأجره بربح إن كان ) أي وجد ( في تلك السلعة وإن باع برأس المال أو بنقصان فلا شيء له وذهب عناؤه ) بالمد تعبه ( باطلا وللمبتاع في هذا أجرة بمقدار ) وفي نسخة بقدر ( ما عالج من ذلك ) أي أجرة مثله ( وما كان في تلك السلعة من نقصان أو ربح فهو للبائع وعليه ) لبقاء السلعة على ملكه لفساد البيع
( وإنما يكون ذلك إذا فاتت السلعة وبيعت فإن لم تفت فسخ البيع بينهما ) لفساده بجهل الثمن
( وأما أن يبيع رجل من رجل سلعة يبت بيعهما ) أي عقداه على اللزوم والقطع ( ثم يندم المشتري فيقول للبائع ضع ) أسقط ( عني فيأبى ) يمتنع ( البائع ويقول بع فلا نقصان عليك فهذا لا بأس به لأنه ليس من المخاطرة ) لوقوعه بعد بت البيع ( وإنما هو شيء وصفه له ) أي لأجله ( وليس على ذلك عقدا بيعهما وذلك الذي عليه الأمر عندنا ) وهو عدة اختلف قول مالك في القضاء بها فقال مالك في كتاب ابن مزين وذلك له لزم ووجهه أنه حمله بما وعده على بيع سلعته فلزمه ذلك
وقال ابن وهب ينقصه بحسب ما يشبه من ثمن السلعة إن نقص من ثمنها
وقال أشهب يرضيه بحسب ما نوى
وقال ابن حبيب جعله مالك مرة إجارة فاسدة أي كما هنا ومرة بيعا فاسدا
وبه قال ابن الماجشون وابن القاسم وأصبغ وبه أقول وهو القياس إذ لو وطئها لم يحد
____________________
(3/399)
ولو كان إجارة لحد وهي في ضمانه من يوم القبض وأجاب ابن زرقون بأنه إنما لم يحد على أنها إجارة فاسدة مراعاة للقول إنه بيع فاسد ولاسم البيع الذي قصداه
35 الملامسة والمنابذة ( مالك عن محمد بن يحيى بن حبان ) بفتح المهملة والموحدة الثقيلة ( وعن أبي الزناد ) عبد الله بن ذكوان كلاهما ( عن الأعرج ) عبد الرحمن بن هرمز ( عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن ) بيع ( الملامسة ) مفاعلة من اللمس ( و ) عن ( المنابذة ) بضم الميم وذال معجمة ( قال مالك والملامسة أن يلمس ) بضم الميم وكسرها من بابي نصر وضرب أي يمس ( الرجل الثوب ) بيده ( ولا ينشره ) يفرده ( ولا يتبين ) يظهر له ( ما فيه أو يبتاعه ليلا ولا يعلم ما فيه والمنابذة أن ينبذ ) بكسر الباء يطرح ( الرجل إلى الرجل ثوبه وينبذ إليه الآخر ثوبه على غير تأمل منهما ) بنظر ولا تقليب ( ويقول كل واحد منهما هذا بهذا ) على الإلزام من غير نظر ولا تراض بل بما فعلاه من منابذة أو ملامسة ( فهذا الذي نهي عنه من الملامسة والمنابذة ) فلو جعلاه على أنه بالخيار إذا زال الظلام ونشر الثوب فإن رضيه أمسكه جاز كما قال عياض وغيره وهو المسمى بالبيع على خيار الرؤية ونص على جوازه الإمام في المدونة وفي الباجي فإن لم يمنعه البائع من تقليبه وقنع المشتري بلمسه بيع ملامسة ولا يمنع صحته اه
وتفسير مالك في الصحيحين عن أبي سعيد قال نهى صلى الله عليه وسلم عن الملامسة والمنابذة في البيع والملامسة لمس الرجل ثوب الآخر بيده بالليل أو بالنهار ولا يقلبه إلا بذلك والمنابذة أن ينبذ الرجل إلى الرجل ثوبه وينبذ الآخر إليه ثوبه ويكون ذلك بيعهما عن غير نظر ولا تراض
ولمسلم عن عطاء بن مينا عن أبي هريرة نهى عن الملامسة والمنابذة أما الملامسة فأن يلمس كل واحد منهما ثوب صاحبه بغير تأمل والمنابذة أن ينبذ كل واحد منهما ثوبه إلى الآخر ولم ينظر واحد منهما إلى ثوب صاحبه وهذا التفسير أقعد بلفظ الملامسة والمنابذة لأنهما مفاعلة فتستدعي وجود الفعل من الجانبين وظاهره أنه مرفوع لكن للنسائي ما يشعر بأنه كلام من دونه صلى الله عليه وسلم ولفظه وزعم أن الملامسة أن يقول الرجل للرجل أبيعك ثوبي بثوبك ولا ينظر واحد منهما إلى ثوب الآخر ولكن يلمسه لمسا والمنابذة أن يقول أنبذ ما معي وتنبذ ما معك ليشتري كل واحد منهما من الآخر ولا يدري كل واحد
____________________
(3/400)
منهما كم مع الآخر ونحو ذلك فالأقرب أنه من الصحابي لأنه يبعد أن يعبر عنه صلى الله عليه وسلم بلفظ زعم وقيل المنابذة نبذ الحصاة والصحيح أنها غيره
قال ابن عبد البر تفسير مالك وتفسير غيره قريب من السواء وكان بيع الملامسة والمنابذة وبيع الحصاة بيوعا في الجاهلية فنهى صلى الله عليه وسلم عنها قال والحصاة أن تكون ثياب مبسوطة فيقول المبتاع للبائع أي ثوب من هذه وقعت عليه الحصاة التي أرمي بها فهو لي بكذا فيقول البائع نعم فهذا وما كان مثله غرر وقمار وهذا الحديث رواه البخاري عن إسماعيل ومسلم عن يحيى كلاهما عن مالك به بدون تفسيره
( قال مالك في الساج ) بمهملة وجيم الطيلسان الأخضر أو الأسود ( المدرج في جرابه ) بكسر الجيم ولا تفتح أو فتحها لغية فيما حكاه عياض وغيره المزود أو الوعاء ( أو الثوب القبطي ) بضم القاف ثياب تنسب إلى القبط بالكسر نصارى مصر على غير قياس وقد تكسر القاف في النسبة على القياس ( المدرج في طيه أنه لا يجوز بيعهما حتى ينشر أو ينظر إلى ما في أجوافهما ) أي ما لم يظهر منهما حالة الطي تشبيها بجوف الحيوان ( وذلك أن بيعهما من بيع الغرر وهو من الملامسة ) المنهي عنها فيمنع اتفاقا فإن عرف طوله وعرضه ونظر إلى شيء منه واشترى على ذلك جاز فإن خالف كان له القيام كالعيب
( وبيع الأعدال على البرنامج ) بفتح الباء وكسر الميم وبكسرهما
وقال الفاكهاني رويناه بفتح الميم ولم يذكر عياض غير الكسر معرب برنامه بالفارسية معناه الورقة المكتوب فيها ما في العدل ( مخالف لبيع الساج في جرابه والثوب في طيه وما أشبه ذلك فرق بين ذلك في الحكم ) الأمر ( المعمول به ومعرفة ذلك في صدور الناس ) أي متقدميهم ( وما مضى من عمل الماضين فيه وإنه لم يزل ) أي استمر ( من بيوع الناس الجائزة والتجارة بينهم التي لا يرون بها بأسا ) شدة لأنها جائزة ( لأن بيع الأعدال على البرنامج على غير نشر لا يراد به الغرر وليس يشبه الملامسة ) لكرة ثياب الأعدال وعظم المؤنة في فتحها نشرها والفرق أن بيع البرنامج بيع على صفة والساج في الجراب والقبطي المطوي بيع على غير صفة ولا رؤية قاله ابن حبيب
____________________
(3/401)
36 بيع المرابحة ( قال مالك الأمر المجتمع عليه عندنا في البز ) بموحدة مفتوحة وزاي الثياب أو متاع البيت من الثياب ونحوها وبائعه البزاز ( يشتريه الرجل ببلد ثم يقدم به بلدا آخر فيبيعه مرابحة أنه لا يحسب فيه أجر السماسرة ) جمع سمسار المتوسط بين البائع والمشتري ( ولا أجرة الطي ولا الشد ولا النفقة ولا كراء البيت ) لأنه لا عين له قائمة ولا يختص بالمبيع غالبا
( فأما كراء البز في حملانه ) بضم الحاء أي حمله ( فإنه يحسب في أصل الثمن ولا يحسب فيه ربح ) لأنه لا عين له قائمة ( إلا أن يعلم ) بضم أوله أي يخبر ( البائع من يساومه بذلك كله فإن ربحوه ) بالتثقيل والجمع على معنى من ( بعد العلم به فلا بأس به ) أي يجوز ( وأما القصارة والخياطة والصباغ وما أشبه ذلك ) كطرز وفتل وكمد وتطرية من كل ماله عين قائمة في المبيع ويختص به غالبا ( فهو بمنزلة البز يحسب فيه الربح كما يحسب في البز ) لزيادته بذلك
( فإن باع البز ولم يبين شيئا مما سميت ) بضم تاء المتكلم ( أنه لا يحسب له فيه ربح فإن فات البز فإن الكراء يحسب ولا يحسب عليه ربح فإن لم يفت البز فالبيع مفسوخ بينهما إلا أن يتراضيا على شيء مما يجوز بينهما ) فلا يفسخ
( قال مالك في الرجل يشتري المتاع بالذهب أو بالورق ) الفضة ( والصرف يوم اشتراه عشرة دراهم بدينار فيقدم به بلدا فيبيعه مرابحة أو يبيعه حيث اشتراه ) أي في المحل الذي اشتراه ( به مرابحة على صرف ذلك اليوم الذي باعه فيه ) وقد اختلف الصرف في وقت البيع والشراء ( فإنه إن كان ابتاعه بدراهم وباعه بدنانير أو ابتاعه بدنانير وباعه بدراهم وكان المبتاع لم يفت فالمبتاع بالخيار إن
____________________
(3/402)
شاء أخذه وإن شاء تركه ) وليس للبائع أن يلزمه إياه بما نقد لأن المبتاع لم يرد الشراء بهذه
( وإن فات المبتاع كان للمشتري بالثمن الذي ابتاعه به البائع ويحسب للبائع الربح على ما اشتراه به على ما ربحه المبتاع ) وقال في المدونة يضرب له الربح على ما هو أفضل للمشتري
وقال في الموازية إلا أن يجيء ذلك أكثر مما رضي به ولم يجعل مالك في هذا قيمة كما جعل في مسألة الزيادة في الثمن
( وإذا باع رجل سلعة قامت عليه بمائة دينار ) صفة سلعة مرابحة ( بعشرة أحد عشر ثم جاءه بعد ذلك أنها قامت عليه بتسعين دينارا وقد فاتت السلعة خير البائع فإن أحب فله قيمة سلعته يوم قبضت ) أي قبضها المشتري منه لأنه يشبه البيع الفاسد كما روي عن مالك تعليله بذلك ووافقه ابن القاسم في المدونة وروى فيها علي عن مالك له قيمتها يوم باعها أي لأنه عقد صحيح ( إلا أن تكون القيمة أكثر من الثمن الذي وجب له به البيع أول يوم فلا يكون له أكثر من ذلك وذلك مائة دينار وعشرة دنانير ) الذي وقع عقد البيع عليها فلا يزاد عليها
( وإن أحب ضرب له الربح على التسعين إلا أن يكون الذي بلغت سلعته من الثمن أقل من القيمة ) فيخير ( في الذي بلغت سلعته وفي رأس ماله وربحه وذلك تسعة وتسعون دينارا ) لا يزاد عليها
( وإن باع رجل سلعة مرابحة فقال قامت علي بمائة دينار ) غلطا على نفسه ( ثم جاءه بعد ذلك ) العلم ( أنها قامت بمائة وعشرين دينارا خير المبتاع فإن شاء أعطى البائع قيمة السلعة يوم قبضها وإن شاء أعطى الثمن الذي ابتاع به على حساب ما ربحه بالغا ما بلغ إلا أن يكون ذلك أقل من الثمن الذي ابتاع به السلعة فليس له أن ينقص رب السلعة من الثمن الذي ابتاعها به لأنه كان قد رضي بذلك ) فيلزمه ما
____________________
(3/403)
رضي به لصحة البيع
( وإنما جاء رب السلعة يطلب الفضل ) الزائد الذي غلط فيه ( فليس للمبتاع في هذا حجة على البائع بأن يضع ) يسقط ( من الثمن الذي به ابتاع على البرنامج ) قال الباجي كذا وقع في الموطأ ورواية علي في المدونة على لفظ التخيير ولا معنى له إلا أن يكون بمعنى أنه يندب للمبتاع أن لا ينقصه شيئا فإن السلعة إن كانت قائمة فللمشتري ردها أو يضرب له الربح على مائة وعشرين وإن فاتت فالقيمة إلا أن تكون أقل من المائة وربحها فلا ينقص أو يكون أكثر من مائة وعشرين وربحها فلا يزاد على ذلك
37 البيع على البرنامج ( قال مالك الأمر عندنا في القوم يشترون السلعة البز أو الرقيق فيسمع به الرجل فيقول لرجل منهم البز الذي اشتريت من فلان قد بلغتني صفته وأمره فهل لك أن أربحك في نصيبك كذا وكذا ) لشيء يسميه ( فيقول نعم فيربحه ويكون شريكا للقوم ) بحصة من باع منهم ( مكانه ) أي بنفس العقد قبل فتح المتاع قاله الباجي ( فإذا نظروا إليه رأوه قبيحا واستغلوه ) وفي نسخة بإفراد نظر ورأي واستغلى وهي أنسب
( قال مالك ذلك لازم له ولا خيار له فيه إذا كان ابتاعه على برنامج وصفة معلومة ) يذكرها ولو اقتصر على قوله بلغتني صفته وأمره لم يصح لأن للمبتاع أن يدعي من الصفة ما شاء ولم يقع بينهما بيع على صفة معينة فلم يجز ذلك ففيه اختصار قاله الباجي والاختصار إنما وقع فيما هو صورة سؤال وإلا فالإمام قيد اللزوم ونفى الخيار بقوله إذا كان ابتاعه الخ وهو حاصل معنى ما بسطه الباجي
( قال مالك في الرجل يقدم له ) بفتح الدال ( أصناف من البز ويحضره السوام ) جمع سائم ( ويقرأ عليهم برنامجه ويقول في كل عدل كذا وكذا ملحفة ) بكسر فسكون ملاءة يلتحف بها ( بصرية ) بفتح الباء وكسرها نسبة إلى البصرة البلد المعروف ( وكذا وكذا ريطة ) بفتح الراء وإسكان
____________________
(3/404)
التحتية وفتح الطاء المهملة كل ملاءمة ليست لفقتين أي قطعتين والجمع رياط مثل كلبة وكلاب وريط أيضا مثل تمرة وتمر وقد يسمى كل ثوب رقيق ريطة ( سابرية ) بمهملة فألف فموحدة مفتوحة نوع رقيق من الثياب قيل إنه نسبة إلى سابور كورة من كور فارس
( ذرعها ) قياسها ( كذا وكذا ويسمي لهم أصنافا من البز بأجناسه ويقول اشتروا مني على هذه الصفة ) على وجه المرابحة ( فيشترون الأعدال على ما وصف لهم ثم يفتحونها فيستغلونها ) يستكثرون ثمنها ( ويندمون قال مالك ذلك لازم لهم إذا كان موافقا للبرنامج الذي باعهم عليه ) قال الباجي يريد وقد اشتروا منه على وجه المرابحة فأما على غير وجهها ففي العتبية عن ابن القاسم عن مالك لا أحب ذلك وهذا يدخله الخديعة
( وهذا الأمر الذي لم يزل عليه الناس عندنا يجيزونه بينهم إذا كان المتاع موافقا للبرنامج ولم يكن مخالفا له ) قال أبو عمر بيع البرنامج من بيوع المرابحة وهو بيع المشاع على الصفة العشرة أحد عشر ونحو ذلك أجازه مالك وأكثر أهل المدينة لفعل الصحابة وكرهه آخرون لأن الصفة إنما تكون في المضمون وهو السلم
38 بيع الخيار بكسر المعجمة اسم من الاختيار وهو طلب الخير الأمرين من إمضاء البيع أو رده
( مالك عن نافع عن عبد الله بن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال المتبايعان ) تثنية متبايع وفي رواية لغير مالك البيعان تثنية بيع ( كل واحد منهما بالخيار ) خبر كل أي محكوم له بالخيار على صاحبه والجملة خبر قوله المتبايعان
( ما لم يتفرقا ) بفوقية قبل الفاء وللنسائي يفترقا بتقديم الفاء ونقل ثعلب عن المفضل بن سلمة افترقا بالكلام وتفرقا بالأبدان ورده ابن العربي بقوله تعالى { وما تفرق الذين أوتوا الكتاب } سورة النساء الآية 130 فإنه ظاهر في التفرق بالكلام لأنه بالاعتقاد
وأجيب بأنه من لازمه في الغالب لأن من خالف آخر في عقيدته كان مستدعيا لمفارقته إياه ببدنه
قال الحافظ ولا يخفى ضعف هذا الجواب والحق حمل كلام المفضل على الاستعمال بالحقيقة وإنما استعمل أحدهما في موضع الآخر اتساعا ( إلا بيع الخيار ) مستثنى من قوله ما لم يتفرقا قال عياض وهذا أصل في جواز بيع المطلق والمقيد قال الأبي يعني بالمطلق المسكوت عن تعيين مدة الخيار فيه وبالمقيد ما عين فيه أمد
____________________
(3/405)
الخيار وإنما يكون أصلا في بيع الخيار على أن الاستثناء من مفهوم الغاية أي فإن تفرقا فلا خيار إلا في بيع شرط فيه الخيار وقيل إنما الاستثناء من الحكم والمعنى المتبايعان بالخيار ما لم يتفرقا إلا في بيع شرط فيه عدم الخيار فحذف المضاف وأقيم المضاف إليه مقامه وقيل المعنى إلا بيعا جرى فيه التخاير بأن يقول أحدهما للآخر في المجلس اختر فيختار فيلزم بالعقد ويسقط خيار المجلس فعلى هذين لا يكون أصلا في بيع الخيار انتهى
قال الباجي والأول أظهر لأن الخيار إذا أطلق شرعا فهم منه إثباته لا قطعه
قال ابن عبد البر أجمع العلماء على ثبوت هذا الحديث وقال به أكثرهم ورده مالك وأبو حنيفة وأصحابهما ولا أعلم أحدا رده غيرهم
قال بعض المالكية رفعه مالك بإجماع أهل المدينة على ترك العمل به وذلك عنده أقوى من خبر الواحد كما قال أبو بكر بن عمرو بن حزم إذا رأيت أهل المدينة أجمعوا على شىء فاعلم أنه الحق
وقال بعضهم لا تصح هذه الدعوى لأن سعيد بن المسيب وابن شهاب روى عنهما نصا ترك العمل به وهما من أجل فقهاء المدينة ولم يرو عن أحد من أهلها نصا ترك العمل به إلا عن مالك وربيعة بخلف عنه وأنكر ابن أبي ذئب وهو من فقهائها في عصر مالك عليه ترك العمل به حتى جرى منه في مالك قول خشن حمله عليه الغضب لم يستحسن مثله منه وهو قوله من قال البيعان بالخيار حتى يفترقا استتيب فكيف يصح لأحد أن يدعي إجماع أهل المدينة في هذه المسألة قال هذا البعض وإنما معنى ما ( قال مالك وليس لهذا عندنا حد معروف ولا أمر معمول به فيه ) أي ليس للخيار عندنا حد بثلاثة أيام كما حده الكوفيون والشافعي بل هو على حال المبيع انتهى
وفي قوله لا أعلم من رده غيرهم قصور كبير من مثله فقد نقل عياض وغيره عن معظم السلف وأكثر أهل المدينة وفقهائها السبعة وقيل إلا ابن المسيب وقيل له قولان نفى خيار المجلس لأن الأصل في العقود اللزوم إذ هي أسباب لتحصيل المقاصد من الأعيان وترتب المسببات على أسبابها هو الأصل فالبيع لازم تفرقا أم لا
وأجيب عن الحديث بحمل المتبايعان على المتشاغلين بالبيع فإن باب المفاعلة شأنها اتحاد الزمان كالمضاربة ويكون الافتراق بالأقوال كقوله تعالى { وإن يتفرقا يغن الله كلا من سعته } النساء 130 وليس من شرط الطلاق التفرق بالأديان فكما أن المتضاربين صدق عليهما حالة المباشرة اللفظ حقيقة فكذلك المتبايعان ويكون الافتراق مجازا جمعا بين الأدلة ولأن ترتيب الحكم على الوصف يدل على علية ذلك الوصف لذلك الحكم فوصف المفاعلة هو علة للخيار فإذا انقضت بطل الخيار لبطلان سببه وحمل المتبايعين على من تقدم منه البيع مجاز كتسمية الخبز قمحا والإنسان نطفة ولا يرد أنا تمسكنا بالمجاز وهو حمل الافتراق على الأقوال وإنما هو حقيقة في الأجسام لأنه راجح على المجاز الثاني لاعتضاده بالقياس والقواعد سلمنا عدم الترجيح فليس أحد المجازين بأولى من الآخر فالحديث مجمل فيسقط به الاستدلال وهذا يمكن الاقتصار عليه في الجواب
وأجيب أيضا بأنه
____________________
(3/406)
معارض بنهيه صلى الله عليه وسلم عن بيع الغرر وهذا منه لأن كل واحد لا يدري ما يحصل له هل الثمن أو المثمون وهو أيضا خيار مجهول العاقبة فيبطل كخيار الشرط إذا كان كذلك ولأن الأمر في قوله { أوفوا بالعقود } سورة المائدة الآية 1 للوجوب وهو ينافي الخيار وقول أبي عمر لا حجة في الآية لأن المأمور بالوفاء به من العقود ما وافق السنة لا ما خالفها كما لو عقدا على الربا فيه نظر فليس هذا مما خالفها فإن من جملة الأجوبة أن مالكا لم يأخذ بالحديث مع أنه رواه لأن في بعض طرقه عن أبي داود والنسائي والترمذي المتبايعان كل واحد منهما بالخيار ما لم يفترقا إلا أن تكون صفقة خيار ولا يحل له أن يفارق صاحبه خشية أن يستقيله فهذه الزيادة تسقط خيار المجلس إذ لو كان مشروعا لم يحتج للاستقالة قاله القرطبي وهذا أشبه الأجوبة وقول عياض الزيادة قوية في وجوب خيار المجلس إذ لو كان مشروعا لم يحتج للاستقالة قاله القرطبي وهذا أشبه الأجوبة وقول عياض الزيادة قوية في وجوب خيار المجلس رده الأبي بأنها ليست بقوية لأنه لم يكره قيامه من جهة أنه قصد أخذ الخيار حتى يكون حجة في إثباته وإنما كره له القيام من جهة أنه قصد به قطع طلب الإقالة في المجلس فالزيادة تسقط خياره إذ لو ثبت لم يحتج إلى طلب الإقالة
وأجيب أيضا بحمل الحديث على الاستحباب لهذه الزيادة واستبعده القرطبي قال محمد بن الحسن عن أبي حنيفة معنى الحديث إذا قال بعتك فله أن يرجع ما لم يقل المشتري قد قبلت وليس المراد ظاهره أرأيت لو كانا في سفينة أو قيد أو سجن كيف يفترقان
وقد أكثر المازري وغيره من الأجوبة عن الحديث واختلف القائلون به فقال الأوزاعي هو أن يتوارى أحدهما عن صاحبه وقال الليث هو أن يقوم أحدهما وقال الباقون هو افتراقهما عن مجلسهما
وفي الصحيحين قال نافع وكان ابن عمر إذا اشترى شيئا يعجبه فارق صاحبه
وفي الترمذي كان إذا ابتاع بيعا وهو قاعد قام ليجيب له
وعند ابن أبي شيبة إذا باع انصرف ليجب البيع قال أبو عمر فعله وهو راوي الحديث يدل على أنه فهم من النبي صلى الله عليه وسلم ما كان يفعل انتهى
ولا دلالة فيه لذلك لاحتمال أنه بحسب فهمه من اللفظ لا من نفس المصطفى
وأخرجه البخاري عن عبد الله بن يوسف ومسلم عن يحيى كلاهما عن مالك به وتابعه يحيى القطان وأيوب والليث في الصحيحين وعبد الله وابن جريج عند مسلم كلهم عن نافع بنحوه وتابع نافعا عبد الله بن دينار عن ابن عمر عند الشيخين وجاء أيضا من حديث حكيم بن حزام عند البخاري
( مالك أنه بلغه ) وصله الشافعي والترمذي من طريق ابن عيينة عن عون بن عبد الله ( أن عبد الله بن مسعود كان يحدث أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال أيما ) زيدت ما على أي لزيادة التعميم قاله الكرماني ( بيعين ) بفتح الموحدة وشد التحتية تثنية بيع ( تبايعا ) ثم تخالفا ( فالقول ما قال البائع أو يترادان ) قال ابن عبد البر جعل مالك حديث ابن مسعود كالمفسر لحديث ابن عمر إذ قد يختلفان قبل الافتراق والتراد إنما يكون بعد تمام البيع فكأنه عنده منسوخ لأنه لم يدرك العمل عليه وقد ذكر له
____________________
(3/407)
حديث ابن عمر فقال لعله مما ترك ولم يعمل به قال وحديث ابن مسعود منقطع لا يكاد يتصل خرجه أبو داود وغيره بأسانيد منقطعة انتهى
وسبقه إلى ذلك الترمذي فقال عون لم يدرك ابن مسعود
( قال مالك فيمن باع من رجل سلعة فقال البائع عند مواجبة البيع أبيعك على أن تستشير فلانا فإن رضي فقد جاز البيع وإن كره فلا بيع بيننا فيتبايعان على ذلك ثم يندم المشتري قبل أن يستشير البائع فلانا ) الذي أراده ( أن ذلك البيع لازم لهما على ما وصفا ولا خيار للمبتاع وهو لازم له إن أحب الذي اشترط له البائع ) الخيار ( أن يجيزه ) بشرط أن يكون حاضرا أو قريب الغيبة فإن بعدت فسد البيع لأنه شراء معين يستحق قبضه إلى أجل بعيد قاله الباجي
( قال مالك الأمر عندنا في الرجل يشتري السلعة من الرجل فيختلفان في الثمن ) قبل قبض السلعة وفواتها ( فيقول البائع بعتكها بعشرة دنانير ويقول المبتاع ابتعتها منك بخمسة دنانير أنه يقال للبائع إن شئت فأعطها المشتري بما قال وإن شئت فاحلف بالله ما بعت سلعتك إلا بما قلت فإن حلف قيل للمشتري إما أن تأخذ السلعة بما قال البائع وإما أن تحلف بالله ما اشتريتها إلا بما قلت ) فإن حلف برىء منها وذلك أي وجه حلفهما جميعا ( أن كل واحد منهما مدع على صاحبه ) فيبدأ البائع باليمين وقيل يبدأ المبتاع وهو شذوذ وبالأول قال أبو حنيفة والشافعي فإن اختلفا بعد قبض السلعة وقبل فواتها تحالفا وتفاسخا رواه ابن القاسم وأشهب فإن فاتت بزيادة أو نقص أو حوالة سوق فالقول قول المبتاع رواه ابن القاسم
39 ما جاء في الربا في الدين ( مالك عن أبي الزناد ) بسكر الزاي وخفة النون عبد الله بن ذكوان ( عن بسر ) بضم الموحدة
____________________
(3/408)
وسكون السين المهملة ( ابن سعيد ) بكسر العين المدني العابد الحافظ الثقة التابعي الصغير ( عن عبيد ) بضم العين وفتح الباء بل إضافة ( أبي صالح ) كنيته ( مولى السفاح ) لقب أول خلفاء بني العباس وهو عبد الله بن محمد بن علي بن عبد الله بن عباس ( أنه قال بعت بزا لي من أهل دار نخلة ) محل بالمدينة فيه البزازون ( إلى أجل ثم أردت الخروج إلى الكوفة فعرضوا علي أن أضع عنهم ) أسقط ( بعض الثمن وينقدوني ) يعجلوا لي باقيه بعد الوضع قبل الأجل ( فسألت عن ذلك زيد بن ثابت ) الصحابي العالم الشهير ( فقال لا آمرك أن تأكل هذا ) أنت ( ولا تؤكله ) للذين اشتروه لمنع ضع وتعجل قال الباجي من له مائة مؤجلة فأخذ خمسين قبل الأجل على أن يضع خمسين لم يجز لأنه اشترى مائة مؤجلة بخمسين معجلة فدخله النساء والتفاضل في الجنس الواحد
( مالك عن عثمان بن حفص بن خلدة ) بفتح الخاء المعجمة واللام والدال المهملة الأنصاري الزرقي الثقة الصالح قاضي المدينة ( عن ابن شهاب ) محمد بن مسلم شيخ الإمام روى عنه هنا بواسطة ( عن سالم بن عبد الله عن ) أبيه ( عبد الله بن عمر أنه سئل عن الرجل يكون له الدين على الرجل إلى أجل فيضع عنه صاحب الحق ويعجله الآخر ) الباقي بعد الوضع ( فكره ذلك عبد الله بن عمر ونهى عنه ) لمنع ضع وتعجل وبه قال الحكم بن عتيبة والشعبي ومالك وأبو حنيفة وأجازه ابن عباس ورآه من المعروف وحكاه اللخمي عن ابن القاسم قال ابن زرقون وأراه وهما
وعن ابن المسيب والشافعي القولان واحتج المجيز بخبر ابن عباس لما أمر صلى الله عليه وسلم بإخراج بني النضير قالوا لنا على الناس ديون لم تحل فقال ضعوا وتعجلوا وأجاب المانعون باحتمال أن هذا الحديث قبل نزول تحريم الربا
( مالك عن زيد بن أسلم أنه قال كان الربا في الجاهلية أن يكون للرجل على الرجل الحق إلى أجل فإذا حل الأجل قال أتقضي أم تربي ) بضم فسكون أي تزيد حتى أصبر عليك ( فإذا قضى أخذ
____________________
(3/409)
وإلا زاده في حقه وأخر عنه ) بمعنى زاد له ( في الأجل ) ولا خلاف أن هذا الربا الذي حرمه الله تعالى ولم تعرف العرب الربا إلا في النسيئة فنزل القرآن بذلك وزاده صلى الله عليه وسلم بيانا وحرم ربا الفضل كما مر قاله أبو عمر
( قال مالك والأمر المكروه الذي لا اختلاف فيه عندنا أن يكون للرجل على الرجل الدين إلى أجل فيضع عنه الطالب ويعجله المطلوب وذلك عندنا بمنزلة الذي يؤخر دينه بعد محله ) أي حلوله ( عن غريمه ويزيده الغريم ) المدين ( في حقه فهذا الربا بعينه لا شك فيه ) لأنه يدخله ربا النساء والتفاضل في الجنس الواحد كما مر
( قال مالك في الرجل يكون له على الرجل مائة دينار إلى أجل فإذا حلت قال له الذي عليه بعني سلعة يكون ثمنها مائة دينار نقدا بمائة وخمسين إلى أجل هذا بيع لا يصلح ) أي فاسد ( ولم يزل أهل العلم ينهون عنه وإنما كره ذلك لأنه إنما يعطيه ثمن ما باعه بعينه ويؤخر عنه المائة الأولى إلى الأجل الذي ذكره آخر مرة ويزداد عليه خمسين دينارا في ) أي بسبب ( تأخيره عنه فهذا مكروه ) أي حرام ( لا يصلح ) لفساده ( وهو أيضا يشبه حديث زيد بن أسلم في بيع أهل الجاهلية أنهم كانوا إذا حلت ديونهم قالوا للذي عليه الدين إما أن تقضي وإما أن تربي فإن قضى أخذوا وإلا زادوهم في حقوقهم وزادوهم في الأجل ) ويدخل في ذلك أيضا بيع وسلف لأنه ابتاع السلعة بمائة معجلة وخمسين مؤجلة ليؤخره التي حلت ووجوه من الفساد كثيرة فإن وقع فسخ فإن فات فالقيمة كما قاله مالك قاله الباجي وقال ابن عبد البر كل من قال بقطع الذرائع يذهب إلى هذا ومن قال لا يلزم المتبايعين إلا ما ظهر من قولهما ولم يظن بها السوء أجازه
____________________
(3/410)
40 جامع الدين والحول بكسر الحاء وفتح الواو أي التحول للدين على غير المدين وقوله تعالى { لا يبغون عنها حولا } الكهف 108 أي تحولا يقال حال من مكانه حولا وعاد في حبها عودا
( مالك عن أبي الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال مطل الغني ) القادر على أداء ما عليه ولو فقيرا
قال عياض المطل منع قضاء ما استحق أداؤه زاد القرطبي مع التمكن من ذلك وطلب صاحب الحق حقه والجمهور أنه مضاف للفاعل وبعضهم جعله مضافا إلى المفعول وإن الغني هو الممطول
عياض وهو بعيد قال الأبي وعليه فالتقدير أن يمطل بضم الياء فالمصدر مبني للمفعول وفي صحة بنائه كذلك خلاف في العربية انتهى
والمعنى أنه يجب وفاء الدين وإن كان صاحبه غنيا ولا يكون غناه سببا لتأخيره عنه وإذا كان ذلك في حق الغني فالفقير أولى وأصل المطل المد تقول مطلت الحديدة أمطلها مطلا إذا مددتها لتطول قاله ابن فارس وقال الأزهري المطل المدافعة
( ظلم ) يحرم عليه قال القرطبي والظلم وضع الشيء في غير محله والماطل وضع المنع موضع القضاء اه
وخرج بالغني المعسر فليس بظلم لأنه إنما فعل ما يجب من إنظاره قال سحنون وأصبغ ترد شهادة الماطل لأنه ظلم
وقال ابن عبد الحكم لا ترد
وفي الإكمال اختلف في أنه جرحة أو حتى يكون ذلك عادة
وفي الفتح لفظ مطل يشعر بتقدم الطلب فيؤخذ منه أن الغني لو أخر الدفع مع عدم طلب صاحبه الحق له لم يكن ظالما وهو المشهور قضية كونه ظلما أنه كبيرة لكن قال النووي مقتضى مذهبنا اعتبار تكراره وورده السبكي بأن مقتضاه عدمه لأن منع الحق بعد طلبه وانتفاء العذر عن أدائه كالغصب والغصب كبيرة لا يشترط فيها التكرار وفيه الزجر عن المطل
( وإذا أتبع ) بضم الهمزة وسكون الفوقية وكسر الموحدة مبنيا للمفعول على المشهور رواية ولغة قاله النووي وعياض وقول القرطبي عند الجميع مردود بقول الخطابي أكثر المحدثين يقولونه بتشديد التاء والصواب التخفيف وقال عياض شددها بعض المحدثين والوجه إسكانها يقال تبعت فلانا بحقي أتبعه تباعة بالفتح إذا طلبته وأنا له تبيع بالتخفيف والمعنى إذا أحيل ( أحدكم ) فضمن معنى أحيل فعدى بعلى في قوله ( على مليء ) بالهمز مأخوذ من الإملاء يقال ملؤ الرجل بضم اللام أي صار مليئا وقال الكرماني ملييكغني لفظا ومعنى قال الحافظ فاقتضى أنه بغير همز وليس كذلك فقد قال إنه في الأصل بالهمز ومن رواه بتركها فقد سهله انتهى
وذكر غيره أن الرواية بالوجهين
( فليتبع ) بإسكان الفوقية على المشهور رواية ولغة ورواه بعضهم بشدها والأول أجود كما قاله القرطبي وقد رواه أحمد عن وكيع عن سفيان الثوري عن أبي الزناد بلفظ إذا أحيل أحدكم على مليء فليحتمل
____________________
(3/411)
والبيهقي من طريق يعلى بن منصور عن ابن أبي الزناد عن أبيه وأشار إلى تفرد يعلى بذلك ولم ينفرد به كما ترى ولكن الظاهر أنها بالمعنى فقد رواه البخاري عن محمد بن يوسف عن الثوري بلفظ الجادة وابن ماجه عن ابن عمر بلفظ إذا أحلت على مليء فاتبعه وهذه بشد التاء خلاف والأمر للاستحباب عند الجمهور ووهم من نقل فيه الإجماع وقيل أمر إباحة وإرشاد وهو شاذ وحمله أكثر الحنابلة وأبو ثور وابن جرير وأهل الظاهر على الوجوب وإليه مال البخاري وهو ظاهر الحديث
وأجاب الجمهور بأن الصارف له عنه إلى الندب أنه راجع لمصلحة دنيوية لما فيه من الإحسان إلى المحيل بتحصيل مقصوده من تحويل الحق عنه وترك تكليفه التحصيل والإحسان مستحب وبأن الصارف كونه أمرا بعد نهي وهو بيع الكالىء بالكالىء فيكون للإباحة والندب على المرجح في الأصول وإذا أتبع بالواو لأكثر رواة الموطأ فلا تعلق للجملة الثانية بالأولى وللتنيسي وغيره فإذا أتبع بالفاء ففيه إشعار بأن الأمر بقبول الحوالة معلل بكون مطل الغني ظلما
قال ابن دقيق العيد ولعل السبب فيه أنه إذا تقرر أنه ظلم فالظاهر من حال المسلم الاحتراز عنه فيكون ذلك سببا للأمر بقبول الحوالة عليه لأن به يحصل المقصود من غير ضرر المطل ويحتمل أن يكون ذلك لأن المليء لا يتعذر استيفاء الحق منه إذا امتنع بل يأخذه الحاكم قهرا عليه ويوفيه ففي قبول الحوالة عليه تحصيل الغرض من غير مفسدة في الحق قال والمعنى الأول أرجح لما فيه من بقاء معنى التعليل بأن المطل ظلم وعلى الثاني تكون العلة عدم وفاء الحق لا الظلم
وقال غيره قد يدعي أن في كل منهما بقاء التعليل بأن المطل ظلم لأنه لا بد في كل منهما من حذف به يحصل الارتباط فيقدر في الأول مطل الغني ظلم والمسلم في الظاهر يجتنبه فمن أتبع الخ
وفي الثاني مطل الغني ظلم والظلم تزيله الحكام ولا تقره فمن أتبع على ملىء فليتبع ولا يخشى من المطل انتهى
والظلم حرام قليله وكثيره وأعظمه الشرك بالله قال تعالى { إن الشرك لظلم عظيم } سورة لقمان الآية 13
كن كيف شئت فإن الله ذو كرم لا تجزعن فما في ذاك من باس إلا اثنتان فلا تقربهما أبدا الشرك بالله والإضرار للناس وقال تعالى { وقد خاب من حمل ظلما } سورة طه الآية 111 أي خاب من رحمة الله بحسب ما ارتكب من الظلم
وقال { ومن يظلم منكم نذقه عذابا كبيرا } سورة الفرقان الآية 19 وفي الحديث القدسي يا عبادي إني حرمت الظلم عليكم فلا تظالموا
وقال صلى الله عليه وسلم لي الواجد يحل عرضه وعقوبته أي مطل الغني يبيح التظلم منه بأن يقال ظلمني ومطلني وعقوبته بالضرب والسجن ونحوهما إذا لد
وأخرجه البخاري عن عبد الله بن يوسف ومسلم عن يحيى كلاهما عن مالك به ورواه بقية الستة
( مالك عن موسى بن ميسرة أنه سمع رجلا يسأل سعيد بن المسيب فقال إني رجل أبيع بالدين فقال سعيد لا تبع إلا ما آويت إلى رحلك ) قال الباجي لما علم أنه يداين الناس خاف عليه العينة
____________________
(3/412)
للذريعة أن يبيع ما لم يملكه أو ما يشتريه بعد موافقة المبتاع منه على بيعه بثمن يتفقان عليه وربما يولي قبضه هذا المبتاع الأخير فيكون كأنه أسلفه ثمنه الذي ابتاعه به في ثمنه الذي باعه منه به وهو أكثر منه
( قال مالك في الذي يشتري السلعة من الرجل على أن يوفيه تلك السلعة إلى أجل مسمى إما لسوق يرجو نفاقه ) بفتح النون أي رواجه ليربح في السلعة وفي نسخة نفاقها أي السلعة به ( وإما لحاجة ) له بالسلعة ( في ذلك الزمان الذي اشترط عليه ) أن يوفيها إياه فيه ( ثم يخلفه البائع عن ذلك الأجل فيريد المشتري رد تلك السلعة على البائع أن ذلك ليس للمشتري وأن البيع لازم له ) لأنه بمنزلة الدين ( وأن البائع لو جاء بتلك السلعة قبل محل الأجل لم يكره ) أي يجبر ( المشتري على أخذها ) لأن له غرضا في التأخير الذي وقع البيع عليه
( قال مالك في الذي يشتري الطعام فيكتاله ثم يأتيه من يشتريه منه فيخبر ) أي يعلم ( الذي يأتيه أنه قد اكتاله لنفسه واستوفاه ) قبضه ( فيريد المبتاع أن يصدقه ويأخذه بكيله أنه ما بيع على هذه الصفة بنقد ) أي معجلا ( فلا بأس به ) أي يجوز ومثل الكيل الوزن
( وما بيع على هذه الصفة إلى أجل فإنه مكروه حتى يكتاله المشتري الآخر لنفسه ) وفي الحديث من ابتاع طعاما فلا يبعه حتى يكتاله
( وإنما كره الذي إلى أجل لأنه ذريعة ) بذال معجمة وسيلة ( إلى الربا ) يريد أنه لم يصدقه إلا من أجل الأجل فكأنه أخذ للأجل ثمنا قاله أبو عمر
( وتخوف ) بفوقية والرفع عطف على ذريعة ( أن يدار ) من الإدارة ( ذلك على هذا الوجه بغير كيل ولا وزن ) فيؤدي إلى تعداد البيع للطعام قبل القبض ( فإن كان إلى أجل فهو مكروه ) أي ممنوع ( ولا اختلاف فيه عندنا ) بالمدينة ( قال مالك لا ينبغي أن يشري دين على رجل غائب ) إن لم يكن به بينة لأنه غرر كشراء الآبق ولعله ينكر فيبطل وإن نقد كان أشد لأنه يكون تارة بيعا وتارة سلفا قاله الباجي ( ولا حاضر إلا بإقرار
____________________
(3/413)
الذي عليه الدين ولا على ميت وإن علم الذي ترك الميت وذلك أن اشتراء ذلك غرر ) لأنه ( لا يدري أيتم أم لا يتم وتفسير ما كره من ذلك ) أي بيان وإيضاح وجه الكراهة بمعنى المنع ( أنه إذا اشترى دينا على غائب أو ميت أنه لا يدرى ما يلحق الميت من الدين الذي لم يعلم به فإن لحق الميت ) أي كان عليه ( دين ذهب الثمن الذي أعطى المبتاع باطلا ) وقد نهى عن إضاعة المال ( وفي ذلك أيضا عين آخر أنه اشترى شيئا ليس بمضمون له وإن لم يتم ذهب ثمنه باطلا فهذا غرر لا يصلح ) فهو بيع فاسد ( وإنما فرق بين أن لا يبيع الرجل إلا ما عنده ) ويمنع بيع ما ليس عنده ( وبين أن يسلف ) أي يسلم ( الرجل في شيء ليس عنده ) فيجوز ( أصله ) أي بناؤه الذي بنى عليه ( إن صاحب العينة ) بكسر العين وإسكان التحتية وبالنون ( إنما يحمل ذهبه التي يريد أن يبتاع بها فيقول هذه عشرة دنانير فما تريد أن أشتري لك بها فكأنه يبيع عشرة دنانير نقدا بخمسة عشر دينارا إلى أجل فلهذا كره هذا ) سدا للذريعة ( وإنما تلك الداخلة ) مثلث الدال المهملة وسكون المعجمة كما في القاموس أي النية إلى التوصل إلى الربا ( والدلسة ) بضم الدال التدليس قال الباجي روى جعفر بن أبي وحشية عن يوسف بن ماهك عن حكيم بن حزام سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت يا رسول الله يأتيني الرجل يسألني البيع ليس عندي ما أبيعه منه ثم أبتاعه من السوق فقال لا تبع ما ليس عندكوهذا أحسن أسانيد هذا الحديث
وأما السلم فله حكمه ولا يصح إلا مؤجلا وإذا جوزنا السلم الحال حمل الحديث أن بيع ما ليس عنده هو أن يبيعه شيئا معينا ويضمن خروجه من ملك ربه
41 ما جاء في الشركة والتولية والإقالة قال المجد الشرك والشركة بكسرهما وضم الثاني بمعنى وقد اشتركا وتشاركا وشارك أحدهما
____________________
(3/414)
الآخر والشرك بالكسر وكأمير المشارك والجمع أشراك وشركاء وهي شريكة جمعها شرائك وشركه في البيع والميراث كعلمه شركة بالكسر
( قال مالك في الرجل يبيع البز المصنف ) بضم الميم وفتح الصاد والنون الثقيلة المجموع من أصناف ( ويستثني ثيابا برقومها ) جمع رقم ( أنه إن اشترط أن يختار من ذلك الرقم فلا بأس به ) أي يجوز إن لم يكن الأكثر ( وإن لم يشترط أن يختار منه حين استثنى فإني أراه ) اعتقده ( شريكا في عدد البز الذي اشتري منه ) فإن كان ثلاثين ثوبا واستثنى منها عشرة كان له ثلثها وللمبتاع الثلثان ( وذلك أن الثوبين يكون رقمهما سواء وبينهما تفاوت في الثمن ) فلذا جعل شريكا ( والأمر عندنا أنه لا بأس بالشرك ) بكسر فسكون من إطلاق اسم المصدر وإرادة المعنى الحاصل به أي التشريك لغيره فيما اشتراه بما اشتراه ( والتولية ) لغيره فيما اشتراه بما اشتراه ( والإقالة منه في الطعام وغيره قبض ذلك أم لم يقبض إذا كان ذلك بالنقد ولم يكن فيه ربح ) أي زيادة ( ولا وضيعة ) أي نقص ( ولا تأخير للثمن ) لأن الثلاثة من عقود المكارمة فاستثنيت من بيع الطعام قبل قبضه كما استثنى بيع العرية من بيع الرطب بالتمر وللحديث الوارد باستثنائها كما مر
( فإن دخل ذلك ربح أو وضيعة أو تأخير من واحد منهما صار بيعا يحله ما يحل البيع ويحرمه ما يحرم البيع وليس بشرك ولا تولية ولا إقالة ) حين دخلها ذلك لأن من سنة هذه العقود الثلاثة أن يتساوى البيع الأول والثاني
( ومن اشترى سلعة ) بزا ( أو رقيقا فبت به ) وفي نسخة فبت شراءه وأخرى بيعه من إطلاق البيع على الشراء ( ثم سأله رجل أن يشركه ففعل ونقدا ) بالتثنية أي المشتري ومن شركه ( الثمن صاحب السلعة جميعا ) تأكيد لضمير التثنية ( ثم أدرك السلعة شيء ينتزعها من أيديهما ) بأن استحقت ( فإن المشرك ) بلفظ اسم المفعول ( يأخذ من الذي أشركه الثمن ) لأن عهدة الشريك على من شركه ( ويطلب الذي أشرك بيعه ) بكسر التحتية الثقيلة بمعنى بائعه ( الذي باعه السلعة بالثمن كله ) لأن
____________________
(3/415)
عهدته عليه ( إلا أن يشترط المشرك على الذي أشرك بحضرة البيع وعند مبايعة البائع الأول وقبل أن يتفاوت ذلك أن عهدتك على الذي ابتعت ) بضم تاء المتكلم ( منه ) فلا عهدة على المشرك بالكسر عملا بشرطه
( وإن تفاوت ذلك وفات البائع الأول فشرط الآخر ) الذي أشرك غيره ( باطل وعليه العهدة ) ووافق الإمام على هذا أصبغ وقال عيسى عن ابن القاسم العهدة في الشركة والتولية إذا كانت بحضرة البيع أنها أبدا على البائع الأول وقيل غير ذلك
( قال مالك في الرجل يقول للرجل اشتر هذه السلعة بيني وبينك وانقد عني وأنا أبيعها لك إن ذلك لا يصلح حين قال انقد عني وأنا أبيعها لك إنما ذلك سلف يسلفه إياه على أن يبيعها له ) قال الباجي فإن وقع هذا فالسلعة بينهما وليس عليه بيع حظ المسلف من السلعة إلا أن يستأجره بعد ذلك استئجارا صحيحا مستأنفا وعليه ما أسلفه نقدا وإن كان قد باع فله أجر مثله في بيع نصيب المسلف ولو ظهر عليه قبل النقد لأمسك المسلف فلم ينقد عنه وهما فيها شريكان يبيع كل نصيبه أو يستأجر على بيعه
( ولو أن تلك السلعة هلكت أو فاتت أخذ ذلك الرجل الذي نقد الثمن من شريكه ما نقد عنه فهذا من السلف الذي يجر منفعة ) فلذا منع قال أبو عمر اختلف قول مالك فيمن أسلف رجلا سلفا ليشاركه وذلك على وجه الرفق والمعروف فكرهه مرة وأجازه مرة واختاره ابن القاسم فإن كان لنفاد بصيرته بالتجارة امتنع لأنه سلف جر نفعا
( ولو أن رجلا ابتاع سلعة فوجبت له ثم قال له الرجل أشركني بنصف هذه السلعة وأنا أبيعها لك جميعا كان ذلك حلالا لا بأس به ) لا شدة ولا حرج لحله ( وتفسير ذلك ) أي بيانه ( أن هذا بيع جديد باعه نصف السلعة على أن يبيع له النصف الآخر ) واجتماع البيع والإجارة جائز عند مالك وأصحابه لأنهما عقدان مبنيان على اللزوم فلا يتنافيان وممنوع عند الشافعي والكوفيين لأن الثمن عندهم مجهول لا يعلم مبلغه من مبلغ ثمن الإجارة حين العقد ولأن الإجارة بيع منافع فصار بيعتين في بيعة
____________________
(3/416)
42 ما جاء في إفلاس الغريم يقال أفلس الرجل كأنه صار إلى حال ليس له فلوس كما يقال له أقهر إذا صار إلى حال يقهر عليه وبعضهم يقول صار ذا فلوس بعد أن كان ذا دراهم ودنانير فهو مفلس والجمع مفاليس وحقيقته الانتقال من حالة اليسر إلى حالة العسر كذا في المصباح
وفي المفهم المفلس لغة من لا عين له ولا عرض وشرعا من قصر ما بيده عما عليه من الديون
( مالك عن ابن شهاب ) محمد بن مسلم الزهري ( عن أبي بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام ) القرشي المخزومي الفقيه التابعي الوسط ولأبيه رؤية فهو صحابي من حيثها تابعي كبير من حيث الرواية وجده من فضلاء الصحابة سأل عن كيفية الوحي كما مر ( أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ) قال ابن عبد البر هكذا في جميع الموطآت ولجميع الرواة عن مالك مرسلا إلا عبد الرزاق بخلف عنه فوصله عن مالك عن ابن شهاب عن أبي بكر عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم وكذا اختلف أصحاب الزهري عنه في إرساله ووصله ورواية من وصله صحيحة فقد رواه عمر بن عبد العزيز عن أبي بكر عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم وبشير بن نهيك وهشام بن يحيى كلاهما عن أبي هريرة مرفوعا الثلاثة في الفلس دون ذكر حكم الموت والحديث محفوظ لأبي هريرة لا يرويه غيره فيما علمت اه ملخصا
( قال أيما ) مركبة من أي وهي اسم ينوب مناب حرف الشرط ومن ما المبهمة المزيدة قال الطيبي من المقحمات التي يستغنى بها عن تفصيل غير حاصر أو عن تطويل غير ممل ( رجل ) بجره بإضافة أي إليه ورفعه بدل من أي وليس المبدل منه على نية الطرح وما زائدة وذكره غالبي والمراد إنسان ( باع متاعا فأفلس الذي ابتاعه ) اشتراه وقوله ( منه ) كذا ليحيى وسقط لغيره ( ولم يقبض الذي باعه من ثمنه شيئا فوجده ) أي متاعه ( بعينه فهو أحق به ) من الغرماء لأن المفلس يمكن أن تطرأ له ذمة بخلاف الميت ولذا قال ( وإن مات الذي ابتاعه فصاحب المتاع فيه أسوة الغرماء ) وبهذا قال مالك وأحمد لنصه صلى الله عليه وسلم على الفرق بين الفلس والموت وهو قاطع لموضع الخلاف وقال الكوفيون ليس أحق به فيهما وقال الشافعي هو أحق به فيهما لحديث أبي داود وابن ماجه وغيرهما عن أبي المعتمر عمرو بن نافع عن عمر بن خلدة الزرقي قال أتينا أبا هريرة في صاحب لنا أفلس فقال أبو هريرة قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم أيما رجل مات أو أفلس فصاحب المتاع أحق بمتاعه إذا وجده بعينه وأجيب بأن أبا المعتمر ليس بمعروف بحمل العلم وقد قال أبو داود عقب روايته من يأخذ
____________________
(3/417)
بهذا أبو المعتمر من هو يعني أنه لا يعرفه وفي التقريب أنه مجهول الحال فحديث التفريق أرجح فوجب العمل به وتقديمه ولو سلم صلاحيته للحجية فقد قال المازري أنه لم يذكر فيه بيعا فيحمل على أنه في الودائع أو غصبا أو تعديا وأيضا فإنه لم يذكر فيه لفظه صلى الله عليه وسلم ولو ذكره لأمكن فيه التأويل وقال بعض أصحابنا لعله لما تبين فلسه قام وطلب فلسه فبادر الموت
ووجه الفرق بين الفلس والموت من جهة المعنى أن ذمة المشتري عينت في الفلس فصار البائع بمنزلة من اشترى سلعة فوجد بها عيبا فله ردها واسترجاع شيئه ولا ضرر على بقية الغرماء لبقاء ذمة المشتري وفي الموت وإن عينت الذمة أيضا لكنها ذهبت رأسا فلو اختص البائع بسلعته عظم الضرر على بقية الغرماء لخراب ذمة الميت وذهابها وإنما يكون لرب السلعة استرجاعها في الفلس إذا لم يعطه الغرماء الثمن فإن أعطوه فذلك لهم لأن استرجاعها إنما كان لعلة وقد زالت وقال الشافعي لا يسقط حقه في استرجاعها ولو دفع له الغرماء الثمن لأنه قد يطرأ غريم فلا يرضى ما صنع هؤلاء اه
ولأنه ليس للمفلس ولا ورثته أخذها لأن الحديث جعل صاحبها أحق بها منهم فالغرماء أبعد من ذلك وإنما الخيار لصاحب السلعة إن شاء أخذها وإن شاء تركها وحاصص بثمنها وبه قال أحمد وأبو ثور وجماعة قال ابن عبد البر هذا الحديث صحيح ثابت من رواية الحجازيين والبصريين وأجمع على القول بجملته فقهاء المدينة والحجاز والبصرة والشام وإن اختلفوا في بعض فروعه ودفعه الكوفيون وأبو حنيفة وأصحابه وهو مما يعد عليهم من السنن التي ردوها بغير سنة صاروا إليها وأدخلوا النظر حيث لا مدخل له مع صحيح الأثر وحجتهم أن السلعة مال المشتري وثمنها في ذمته فغر ماؤه أحق بها كسائر ماله وهذا ما لا يخفى على أحد لولا أن صاحب الشريعة جعل لصاحب السلعة إذا وجدها بعينها أخذها { وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمرا أن يكون لهم الخيرة من أمرهم } { فلا وربك لا يؤمنون } سورة الأحزاب الآية 36 الآية
ولو جاز مثل رد هذه السنة المشهورة عند علماء المدينة وغيرهم بإمكان الوهم والغلط فيها لجاز ذلك في سائر السنن حتى لا تبقى سنة إلا قليل مما أجمع عليه وهذه السنة أصل برأسها فلا سبيل أن ترد إلى غيرها لأن الأصول لا تنقاس وإنما تنقاس الفروع ردا على أصولها ولا أعلم للكوفيين سلفا إلا ما رواه قتادة عن خلاس ابن عمرو عن علي قال هو فيها أسوة الغرماء إذا وجدها بعينها
وأحاديث خلاس عن علي ضعيفة ليس في شيء منها إذا انفرد حجة
وروى مثله عن إبراهيم النخعي وليس في قوله حجة على الجمهور إذ الواجب عليه الرجوع للسنة فكيف يقلد ويتبع
( مالك عن يحيى بن سعيد ) الأنصاري ( عن أبي بكر بن محمد بن عمرو ) بفتح العين ( ابن حزم ) بالمهملة والزاي ( عن عمر بن عبد العزيز ) بن مروان الأموي الخليفة العادل ( عن أبي بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام ) بن المغيرة المخزومي وفي هذا السند أربعة من التابعين يروي
____________________
(3/418)
بعضهم عن بعض ( عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال أيما رجل أفلس فأدرك ) أي وجد ( الرجل ) الذي باعه وأقرضه ( ماله بعينه فهو أحق به من غيره ) من غرماء المفلس وبهذا قال الجمهور وخالف الحنفية فقالوا إنه كالغرماء لقوله تعالى { وإن كان ذو عسرة فنظرة إلى ميسرة } سورة البقرة الآية 280 فاستحق النظرة إليها بالآية وليس له الطلب قبلها ولأن العقد يوجب ملك الثمن للبائع في ذمة المشتري وهو الدين وذلك وصف في الذمة فلا يتصور قبضه وحملوا حديث الباب على المغصوب والعواري والإجارة والرهن وما أشبهها فإن ذلك ماله بعينه فهو أحق به وليس المبيع مال البائع ولا متاعا له وإنما هو مال المشتري إذ هو قد خرج عن ملكه وعن ضمانه بالبيع والقبض واستدل الطحاوي لذلك بحديث سمرة بن جندب أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال من سرق له متاع أو ضاع له متاع فوجده في يد رجل بعينه فهو أحق به ويرجع المشتري على البائع بالثمن رواه ابن ماجه والطبراني وأجيب بأن في سنده الحجاج بن أرطاة وهو كثير الخطأ والتدليس قال ابن معين ليس بالقوي وإن روى له مسلم فمقرون بغيره ولنا أنه وقع النص في حديث الباب أنه في صورة البيع فأخرج ابن خزيمة وابن حبان من طريق سفيان الثوري عن يحيى بن سعيد بهذا الإسناد إذا ابتاع الرجل سلعة ثم أفلس وهي عنده بعينها فهو أحق بها من الغرماء ولمسلم من رواية ابن أبي حسين عن أبي بكر بن محمد بسنده في الرجل الذي يعدم إذا وجد عنده المتاع ولم يعرفه إنه لصاحبه الذي باعه فتبين أن الحديث وارد في صورة البيع فلا وجه لتخصيصه بما قاله الحنفية ولا خلاف أن صاحب الوديعة وما أشبهها أحق بها سواء وجدها عند المفلس أو غيره وقد شرطا الإفلاس في الحديث
قال البيهقي وهذه الرواية الصحيحة الصريحة في البيع والسلعة تمنع من حمل الحكم فيها على الودائع والعواري والمغصوب مع تعليقه إياه في جميع الروايات بالإفلاس اه
وأيضا فصاحب الشرع جعل لصاحب المتاع الرجوع إذا وجده بعينه والمودع أحق بعينه سواء كان على صفته أو تغير عنها فلم يجز حمل الحديث عليه ووجب حمله على البائع لأنه إنما يرجع بعينه إذا كان على صفته لم يتغير فإذا تغير فلا رجوع له وأيضا لا مدخل للقياس إلا إذا عدمت السنة فإن وجدت فهي حجة على من خالفها وهذا الحديث تابع مالكا عليه زهير بن معاوية عند البخاري وسفيان الثوري في جامعه كلاهما عن يحيى بن سعيد نحوه
( قال مالك في رجل باع من رجل متاعا فأفلس المبتاع فإن البائع إذا وجد شيئا من متاعه بعينه أخذه ) إذا وجده كله ( وإن كان المشتري قد باع بعضه وفرقه فصاحب المتاع أحق به من الغرماء لا يمنعه ما فرق المبتاع منه أن يأخذ ما وجد ) بنصيبه من الثمن ( بعينه ) لصدق الحديث بذلك ويحاصص
____________________
(3/419)
بنصيب الغائب وإن شاء سلم ما وجد وحاص بالثمن كله
وقال الشافعي وأحمد ليس له أن يرد من الثمن شيئا وإنما له أخذ ما بقي من سلعته لأنه لو قبض جميع الثمن لم يرده ويأخذ السلعة فكذا هنا
قال الباجي وهذا لا يلزمنا لأنه إذا قبض جميع الثمن فقد سلم العقد بأخذ العوض وإذا قبض بعضه فقد أدرك بقية الثمن عيب الفلس فله أن يرد ما أخذ بتقسط على المبيع لئلا يدخل فيه ضرر الشركة لأنه إذا باع عبدا فرجع إليه جزء منه لحقه ضرر الشركة
( فإن اقتضى من ثمن المبتاع شيئا ) قبل الفلس ( فأحب أن يرده ويقبض ما وجد من متاعه ويكون فيما لم يجد إسوة الغرماء فذلك له ) وإن أحب أن لا يأخذ ما وجد ويحاص بما بقي له فله ذلك أيضا
( ومن اشترى سلعة من السلع غزلا أو متاعا أو بقعة ) بضم الباء قطعة ( من الأرض ثم أحدث في ذلك المشترى عملا ) كما إذا ( بنى البقعة دارا أو نسج الغزل ثوبا ثم أفلس الذي ابتاع ذلك فقال رب البقعة أنا آخذ البقعة وما فيها من البنيان إن ذلك ليس له ) لأنها ليست متاعه بعينه فلم تدخل في الحديث ( ولكن تقوم البقعة وما فيها مما أصلح المشتري ) فيقال ما قيمة هذه الدار مبنية ( ثم ينظر كم ثمن البقعة ) بأن يقال ما قيمتها براحا ( وكم ثمن البنيان من تلك القيمة ثم يكونان شريكين في ذلك لصاحب البقعة بقدر حصته ويكون للغرماء بقدر حصة البنيان وتفسير ذلك ) أي بيانه بالمثال ( أن تكون قيمة ذلك كله ألف درهم وخمسمائة درهم فتكون قيمة البقعة خمسمائة درهم وقيمة البنيان ألف درهم فيكون لصاحب البقعة الثلث ويكون للغرماء الثلثان ) والتقويم يوم الحكم ( وكذلك الغزل وغيره مما أشبهه إذا دخله هذا ولحق المشتري دين لا وفاء له ) عنده و ( هذا العمل فيه فأما ما بيع من السلع التي لم يحدث فيها المبتاع شيئا إلا أن تلك السلعة نفقت ) راجت ( وارتفع ) زاد ( ثمنها فصاحبها يرغب فيها والغرماء يريدون إمساكها فإن الغرماء
____________________
(3/420)
يخيرون بين أن يعطوا رب السلعة الثمن الذي باعها به ولا ينقصون شيئا ) وتكون لهم الزيادة الحاصلة فيها ( وبين أن يسلموا إليه سلعته ) لأنه إنما باعها بذلك الثمن فلم يجز تنقيصه عنه ( وإن كان قد نقص ثمنها فالذي باعها بالخيار إن شاء أن يأخذ سلعته ولاتباعة ) بكسر الفوقية بزنة كتابة الشيء الذي لك فيه بقية شبه ظلامة ونحوها كما في القاموس والمراد هنا لا رجوع ( له في شيء من مال غريمه فذلك له وإن شاء أن يكون غريما من الغرماء يحاص بحقه ولا يأخذ سلعته فذلك له ) فخيرته تنفي ضرره
( وقال مالك فيمن اشترى جارية أو دابة فولدت عنده ثم أفلس المشتري فإن الجارية أو الدابة وولدها للبائع إلا أن يرغب الغرماء في ذلك ويعطونه ) حقه ( كاملا ويمسكون ذلك ) فإن فات الولد ببيع فلمالك في الموازية له أخذ الأم بجميع الثمن أو يسلمها ويحاص الغرماء وله في العتبية يقسم الثمن على الأم والولد فيأخذ الأم بحصتها ويحاص بما أصاب الولد
43 ما يجوز من السلف ( مالك عن زيد بن أسلم ) العدوي مولى عمر المدني العالم الثقة المتوفى سنة ست وثلاثين ومائة ( عن عطاء بن يسار عن أبي رافع ) أسلم أو إبراهيم أو ثابت أو هرمز أو سنان أو صالح أو يسار أو عبد الرحمن أو يزيد أو قزمان أقوال عشرة
قال ابن عبد البر أشهر ما قيل في اسمه أسلم القبطي ( مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم ) أسلم قبل بدر ولم يشهدها وشهد أحدا وما بعدها وقيل كان مولى العباس فوهبه للنبي صلى الله عليه وسلم فأعتقه وروى عنه أحاديث ومات في أول خلافة علي على الصحيح
( أنه قال استسلف رسول الله صلى الله عليه وسلم ) قال الأبي السين في استسلف للطلب وقد تكون للتحقيق وهي هنا كذلك لأنه إخبار عن ماض ( بكرا ) بفتح الموحدة وسكون الكاف وهو الفتي من الإبل كالغلام من الذكور والقلوص الفتية من النوق كالجارية من الإناث وفيه جواز أخذ الدين للضرورة وقد كان يكرهه صلى الله عليه وسلم وإلا فقد خير فاختار التقليل من الدنيا والقناعة قاله في الإكمال
____________________
(3/421)
وفي المفهم
فإن قيل كيف عمر ذمته بالدين وقد كان يكرهه وقال في حديث إياكم والدين فإنه شين وفي آخر فإنه هم بالليل ومذلة بالنهار وكان كثيرا ما يتعوذ منه حتى قيل ما أكثر ما تستعيذ من المغرم فقال إن الرجل إذا غرم حدث فكذب
أجيب بأنه إنما تداين لضرورة ولا خلاف في جرازه لها
فإن قيل لا ضرورة لأن الله خيره أن تكون بطحاء مكة له ذهبا رواه الترمذي ومن هو كذلك فأين الضرورة أجيب بأنه لما خيره اختار الإقلال من الدنيا والقناعة وما عدل عنه زهدا فيه لا يرجع إليه فالضرورة لازمة وأيضا فالدين إنما هو مذموم لتلك اللوازم المذكورة وهو معصوم منها وقد يجب وإن كان لغير ضرورة كره للأحاديث المذكورة ولما فيه من تعريض النفس للمذلة
وأما السلف بالنسبة إلى معطيه فمستحب لأنه من الإعانة على الخير
وأخرج البزار عن ابن مسعود قرض مرتين يعدل صدقة مرتين وفي حديث آخر درهم الصدقة بعشرة ودرهم القرض بسبعين
( فجاءته إبل من الصدقة ) أي الزكاة ( قال أبو رافع فأمرني رسول الله صلى الله عليه وسلم أن أقضي الرجل بكره ) أي بكرا مثل بكره الذي تسلفه منه ولم يسم ذلك الرجل
وفي مسند أحمد أنه أعرابي
وفي أوسط الطبراني عن العرباض ما يفهم أنه هو لكن في النسائي والحاكم ما يقتضي أنه غيره فكأن القصة وقعت لأعرابي ووقع نحوها للعرباض
( فقلت لم أجد في الإبل إلا جملا خيارا رباعيا ) بتخفيف الياء والأنثى رباعية وهو ما دخل في السنة السابعة
قال الهروي إذا ألقى البعير رباعيته في السنة السابعة فهو رباعي ورباعيات الأسنان الأربعة التي تلي الثنايا من جانبها
( فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم أعطه ) بهمزة قطع وكسر الطاء ( إياه فإن خيار الناس أحسنهم قضاء ) للدين قال البوني أظنه أراد أن الله يوفق لهذا خيار الناس اه
قال بعض العارفين وهو الكرم الخفي اللاحق بصدقة السر فإن المعطي له لا يشعر بأنه صدقة سر في علانية ويورث ذلك صحبة ووداد في نفس المقضى له وتخفي نعمتك عليه في ذلك في حسن القضاء فوائد جمة
قال الباجي ولا يشكل الحديث بأن الصدقة لا تحل له صلى الله عليه وسلم فكيف يقضى منها إما لأن هذا قبل تحريمها عليه كما قيل وإما لأنها بلغت محلها للفقراء ونحوهم ثم صارت له صلى الله عليه وسلم بشراء أو غيره وإما لأن استقراضه إنما كان لواحد من أهل الصدقة وكان من الغارمين فيكون فضل الشيء صدقة عليه فلا يقال كيف قضى من إبل الصدقة أجود مما يستحقه الغريم مع أنه لا يجوز لناظر الصدقات تبرعه منها
وعن أبي هريرة أن رجلا أتى النبي صلى الله عليه وسلم يتقاضاه فأغلظ له فهم به بعض أصحابه فقال صلى الله عليه وسلم دعوه فإن لصاحب الحق مقالا ثم قال أعطوه سنا مثل سنه قالوا يا رسول الله لا نجد إلا أمثل من سنه قال اشتروه فأعطوه إياه فإن خيركم أحسنكم قضاء فيحتمل أن ذلك كله قضية واحدة فحفظ أبو رافع أن أصله من إبل الصدقة وحفظ أبو هريرة الشراء اه ملخصا
____________________
(3/422)
وحديث أبي هريرة في الصحيحين واللفظ لمسلم وفيه جواز قرض الحيوان ولا خلاف بين الكافة فيه ومنعه الكوفيون والحديث يرد عليهم ولا يصح دعوى النسخ بلا دليل ويأتي له مزيد والحديث رواه مسلم من طريق ابن وهب عن مالك به وتابعه محمد بن جعفر عن زيد بمثله غير أنه قال فإن خير عباد الله أحسنهم قضاء كما في مسلم أيضا ورواه أصحاب السنن أيضا
( مالك عن حميد ) بضم المهملة ( ابن قيس المكي عن مجاهد ) بن جبر المكي ( أنه قال استسلف عبد الله بن عمر من رجل دراهم ثم قضى دراهم خيرا منها ) أفضل صفة ( فقال الرجل يا أبا عبد الرحمن ) كنية ابن عمر ( هذه خير من دراهمي التي أسلفتك ) أي فهل علمت ذلك ويجوز لي أخذه ( فقال عبد الله بن عمر قد علمت ) أنها خير ( ولكن نفسي بذلك طيبة ) فيحل لك وهذا حسن قضاء ومعروف
( قال مالك لا بأس بأن يقبض ) بضم أوله من أقبض ( من أسلف ) بالبناء للمفعول ( شيئا من الذهب أو الورق أو الطعام أو الحيوان ممن ) أي لمن ( أسلفه ذلك أفضل ) مفعول يقبض ( مما أسلفه إذا لم يكن ذلك على شرط منهما ) وقت التسلف ( أو عادة ) جارية بذلك ( فإن كان ذلك على شرط أو وأي ) بفتح الواو وإسكان الهمزة فتحتية أي مواعدة ( أو عادة فذلك مكروه ) أي حرام ( ولا خير فيه ) لمنعه ( وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قضى جملا رباعيا خيارا مكان بكر استسلفه ) فأفاد جواز القضاء بأفضل صفة على وجه المعروف كانت قيمة تلك الفضيلة قليلة أو كثيرة إذ لا شك أن قيمة الجمل الموصوف بما ذكر أزيد بكثير من قيمة البكر ( وأن عبد الله بن عمر استسلف دراهم فقضى خيرا منها فإن كان ذلك على طيب نفس من المتسلف ولم يكن ذلك على شرط ولا وأي ولا عادة كان ذلك حلالا لا بأس به ) ما لم يكن في مقابلة تلك الفضيلة نقص من وجه آخر كأن يسلفه عشرة ردية فيقضيه ثمانية جيدة أو يكون له عشرة مسكوكة ردية فيقضيه عشرة جيدة فلا يجوز لأنه مبايعة قاله الباجي
____________________
(3/423)
44 ما لا يجوز من السلف ( مالك أنه بلغه أن عمر بن الخطاب قال في رجل أسلف رجلا طعاما على أن يعطيه إياه في بلد آخر فكره ذلك عمر بن الخطاب وقال فأين الحمل ) بفتح فسكون ( يعني حملانه ) يريد أنه ازداد عليه في القرض حمله فيمنع ذلك اتفاقا لأنه سلف جر منفعة ويروى فأين الحمال يريد الضمان قاله الباجي
( مالك أنه بلغه أن رجلا أتى عبد الله بن عمر فقال يا أبا عبد الرحمن إني أسلفت رجلا سلفا واشترطت عليه أفضل مما أسلفته فقال عبد الله بن عمر فذلك الربا ) لوجود الشرط ( فقال كيف تأمرني يا أبا عبد الرحمن ) فيما فعلت ( فقال عبد الله بن عمر السلف على ثلاثة أوجه سلف تسلفه تريد به وجه الله ) أي الثواب من الله ( فلك وجه الله وسلف تسلفه تريد به وجه صاحبك ) المتسلف أي التحبب إليه والحظوة ( فلك وجه صاحبك وسلف تسلفه لتأخذ خبيثا بطيب ) أي حراما بدل حلال ( فذلك الربا ) المحرم بالقرآن ( قال فكيف تأمرني يا أبا عبد الرحمن قال أرى أن تشق الصحيفة ) التي كتبت على الرجل المتسلف ( فإن أعطاك مثل الذي أسلفته قبلته ) كما قال تعالى { وإن تبتم فلكم رؤوس أموالكم لا تظلمون ولا تظلمون } سورة البقرة الآية 279 وإن أعطاك دون الذي أسلفته فأخذته أجرت لأنه حسن اقتضا ( وإن أعطاك أفضل مما أسلفته ) في الصفة ( طيبة به نفسه فذلك شكر شكره لك ولك أجر ما أنظرته ) أخرته قال الباجي من شرط زيادة في السلف وكان مؤجلا فله أن يبطل القرض جملة ويتعجل قبض ماله والأفضل له أن يسقط الشرط ويبقيه على أجله دون شرط
____________________
(3/424)
( مالك عن نافع أنه سمع عبد الله بن عمر يقول من أسلف سلفا فلا يشترط إلا قضاءه ) أي يمنع أن يشترط غيره
( مالك أنه بلغه أن عبد الله بن مسعود كان يقول من أسلف سلفا فلا يشترط أفضل منه وإن كانت قبضة من علف ) ما يعلف للبهائم ( فهو ربا ) والمعنى وإن كان المشترط شيئا قليلا جدا قال أبو عمر هذا كله يقتضي أنه لا ربا في الزيادة إلا أن تشترط والوأي والعادة من قطع الذرائع
وفي الحديث دع ما يريبك إلى ما لا يريبك وقال أبو عمر اتركوا الربا والريبة فالوأي والعادة هنا من الريبة
( قال مالك الأمر المجتمع عليه عندنا أن من استسلف شيئا من الحيوان بصفة وتحلية ) عطف مساوي ( معلومة فإنه لا بأس بذلك وعليه أن يرد مثله إلا ما كان من الولائد ) الإماء جمع وليدة وهي الأمة ( فإنه يخاف في ذلك الذريعة ) الوسيلة ( إلى إحلال ما لا يحل ) من عارية الفروج ( فلا يصلح ) سلف الإماء
( وتفسير ما كره من ذلك أن يستسلف الرجل الجارية فيصيبها ما بدا له ثم يردها إلى صاحبها بعينها ) لأن القرض لا ينافي رد العين فللمقترض رد عين ما اقترض ( فذلك لا يحل ولا يصلح ولم يزل أهل العلم ينهون عنه ولا يرخصون فيه لأحد ) فإن أمن ذلك جاز كإقراضها لذي محرم منها أو لامرأة أو لصغير اقترضها له وليه أو كانت في سن من لا تشتهي وهذا بناء على عكس العلة ومذهب المحققين انعكاسها إذا كانت بسيطة غير مركبة وانعكاسها هو انتفاء الحكم لانتفائها فإن وقع قرض الجارية على الوجه الممنوع فإن لم يطأ فسخ وردت إلى ربها وإن وطئت فقيل تجب القيمة وقيل المثل قاله الأبي واقتصر أبو عمر على مالك عن القيمة قال ويمنع قرض الإماء قال الجمهور ومالك والشافعي لأن الفروج لا تستباح إلا بنكاح أو ملك بعقد لازم والقرض ليس بعقد لازم لأن المقترض يرد متى شاء فأشبه الجارية المشتراة بالخيار ولا يجوز وطؤها بإجماع حتى تنقضي أيام الخيار فيلزم العقد فيها وأجاز داود والمزني وابن جرير استقراض الإماء لأن ملك المقترض صحيح يجوز له فيه
____________________
(3/425)
التصرف كله وكما جاز بيعه جاز قرضه وأجاز الجمهور استقراض الحيوان والسلم فيه لحديث أبي رافع وإيجابه صلى الله عليه وسلم دية الخطأ ودية العمد ودية شبه العمد المجتمع على ثبوتها وذلك إثبات الحيوان بالصفة في الذمة فكذلك القرض والسلم ومنع ذلك الكوفيون وأبو حنيفة لأن الحيوان لا يوقف على حقيقة وصفه وادعوا نسخ حديث أبي رافع بحديث ابن عمر أنه صلى الله عليه وسلم قضى في الذي أعتق نصيبه في عبد مشترك بقيمة نصف شريكه ولم يوجب عليه نصف عبد مثله
وقال داود وطائفة من الظاهرية لا يجوز السلم إلا في المكيل والموزون للنهي عن بيع ما ليس عند البائع ولحديث من أسلم فليسلم في كيل معلوم ووزن معلوم إلى أجل معلوم فخص المكيل والموزون من سائر ما ليس عند البائع
وقال الحجازيون معنى ما ليس عنده من الأعيان وأما المضمون فلا
وقد أجاز أصحاب أبي حنيفة أن يكاتب عبده على مملوك بصفة وأجاز الجميع النكاح على حيوان موصوف وذلك تناقض منهم اه ببعض اختصار
وليس في حديث ابن عمر دلالة على نسخ حديث أبي رافع لا نصا ولا ظاهرا ولذا قال عياض لا يصح دعوى النسخ بلا دليل
45 ما ينهى عنه من المساومة والمبايعة ( مالك عن نافع عن عبد الله بن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لا يبع ) بالجزم على النهي وفي رواية لا يبيع بإثبات الياء على الخبر مرادا به النهي وهو أبلغ في النهي من النهي الصريح ( بعضكم على بيع بعض ) عدي بعلى لأنه ضمن معنى الاستعلاء ويأتي تفسيره بالسوم ويؤيده حديث أبي هريرة في مسلم مرفوعا لا يسم المسلم على سوم المسلم وذكر المسلم ليس للتقييد فلا فرق بين المسلم وغيره عند الجمهور خلافا للأوزاعي وغيره بل لأنه أسرع امتثالا فذكر المسلم أو الأخ في الرواية الأخرى لا يبع على بيع أخيه لا مفهوم له لما ذكر أو لأنه خرج مخرج الغالب
قال الأبي النكاح إذا كان الأول فاسقا تجوز الخطبة على خطبته
قال ابن عرفة وكذا عندي في الصوم إذا كان كسب الأول حراما جاز السوم على سومه وقياسا على ما قاله ابن العربي في النجش أن السلعة إذا لم تبلغ قيمتها جاز السوم على سومه فقيل له يفرق بأن الثاني في السوم سلم حقه في الزيادة بخلاف مسألة النجش فلم يقبل الفرق
قال ابن عبد البر هكذا رواه يحيى وابن القاسم وابن بكير وجماعه مختصرا
وزاد ابن وهب والقعنبي وعبد الله بن يوسف وسليمان بن برد في هذا الحديث عن مالك بسنده ولا تلقوا السلع حتى يهبط بها إلى الأسواق قال وهي زيادة محفوظة من حديث مالك وغيره عن نافع عن ابن عمر اه وأصله لا تتلقوا فحذفت إحدى التاءين والسلع بكسر السين جمع سلعة وهي المباع ويهبط بضم أوله وفتح ثالثه أي ينزل
____________________
(3/426)
ورواه البخاري عن إسماعيل ومسلم عن يحيى التميمي عن مالك به مختصرا
ورواه البخاري عن عبد الله بن يوسف عن مالك به تاما
( مالك عن أبي الزناد ) عبد الله بن ذكوان ( عن الأعرج ) عبد الرحمن ( عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لا تلقوا ) بفتح التاء واللام والقاف وأصله لا تتلقوا فحذفت إحدى التاءين أي لا تستقبلوا ( الركبان ) الذين يحملون المتاع إلي البلد قبل أن يقدموا ( للبيع ) أي لمحل بيعها كما قال في الحديث قبله ولا تلقوا السلع حتى يهبط بها إلى الأسواق ولا خلاف في منعه قرب المصر وأطرافه وفي حده بميل وفرسخين ويومين روايات عن مالك حكاها في المعارضة
وحكى ابن عبد البر وعياض عن مالك جوازه على ستة أميال قال الأبي والمذهب منعه كما يفيده كلام شيخنا يعني ابن عرفة
وقال الباجي يمتنع التلقي فيما قرب أو بعد قال المازري النهي عنه معقول المعنى لما فيه من الضرر بالغير ولا يعارضه لا يبع حاضر لباد المقتضى عدم الاستقصاء للجالب والتلقي يقتضي الاستقصاء له لأنهما من باب واحد لأن الأحكام مبنية على المصالح ومنها تقديم مصلحة الجماعة على الواحد ولذا قدمت مصلحة أهل الحاضرة على مصلحة الواحد الجالب فهما متماثلان متعارضان
أبو عمر أريد بالنهي نفع أهل السوق لا رب السلعة عند مالك ومذهب الشافعي عكسه وأجاز أبو حنيفة والأوزاعي التلقي إلا أن يضر بالناس
( ولا يبع ) مجزوم بلا الناهية وفي رواية لا يبيع بالرفع على أنها نافية ( بعضكم على بيع بعض ) قال الباجي أي لا يشتر قال ابن حبيب إنما النهي للمشتري دون البائع قال أبو عبيد وغيره لأن البائع لا يكاد يدخل على البائع وإنما المعروف زيادة المشتري على المشترى
قال الباجي ويحتمل حمله على ظاهره فيمنع البائع أيضا أن يبيع على بيع أخيه إذا ركن المشتري له وإنما حمل ابن حبيب على ما قاله لأن الإرخاص مستحب مشروع فإذا أتى من يبيع بأرخص من بيع الأول لم يمنع وقد منع من تلقي السلع وفيه إرخاص على متلقيها غير أن فيه إغلاء على أهل الأسواق الذين هم أعم نفعا للمسلمين وللضعيف الذي لا يقدر على التلقي
وقال عياض الأولى حمله على ظاهره وهو أن يعرض سلعته على المشتري برخص ليزيده في شراء سلعة الآخر الراكن إلى شرائها قال الأبي البيع حقيقة إنما هو إذا انعقد الأول فلما تعذرت الحقيقة حمل على أقرب المجاز إليها وهو المراكنة وإذا كانت العلة ما يؤدي إليه من الضرر فلا فرق بين السوم على السوم والبيع على البيع في الصورة التي ذكرها وهي أن يعرض بائع سلعته على مشتر راكن للأول وكثيرا ما يفعله أهل الأسواق اليوم يراكن صاحب الحانوت المشتري فينشر الآخر بحانوته سلعة نظيرها بحيث يراها المشتري ( ولا تناجشوا ) بحذف إحدى التاءين وفتح الجيم وضم الشين المعجمة يأتي تفسيره
( ولا يبع )
____________________
(3/427)
بالجزم نهيا وفي رواية لا يبيع بالرفع نفيا بمعناه ( حاضر لباد ) أي لا يكون سمسارا له قاله ابن عباس في الصحيحين
قال ابن عبد البر حمله مالك على أهل العمود خاصة البعيدين عن الحاضرة الجاهلين بالسعر فيما يجلبونه من فوائد البادية دون شراء وإنما قيده بهذه القيود لأن الغرض من الحديث إرفاق أهل الحضر بأهل البادية مما ليس فيه ضرر ظاهر على أهل البادية وهذا إنما يحصل بمجموع تلك القيود وبيانه إذا لم يكونوا أهل عمود فهم أهل بلاد والغالب أنهم يعرفون السعر فلهم أن يتوصلوا إلى تحصيله بأنفسهم وبغيرهم وكذا إن كان الذي جلبوه اشتروه فهم فيه تجار يقصدون الربح فلا يحال بينهم وبينه ولهم أن يتوصلوا إليه بالسماسرة وغيرهم
وأما أهل العمود الموصوفون بالقيود المذكورة فإن باع لهم السماسرة أو غيرهم ضر بأهل الحضر في استخراج غاية الثمن فيما أصله على أهل العمود بلا ثمن وقصد الشارع إرفاق أهل الحاضرة به وأجاز أبو حنيفة بيع الحاضر للبادي لحديث الدين النصيحة ولا حجة فيه لأنه عام ولا يبع حاضر لباد خاص والخاص يقضي على العام لأنه كان استثنى منه فيستعمل الحديثان
( ولا تصروا ) بضم التاء وفتح الصاد والراء المشددة بعدها واو الجمع ونصب ( الإبل ) على المفعولية ( والغنم ) عطف عليه على الصحيح المشهور في الرواية وعزاه عياض لضبط المتقنين من شيوخه قال وكان شيخنا ابن عتاب يقربه للطلبة فيقول هو مثل فلا تزكوا أنفسكم وهو حسن وقيدناه في غير مسلم بفتح التاء وضم الصاد ونصب الإبل على المفعولية أيضا وبضم التاء وحذف الواو ورفع الإبل على أنه مفعول ما لم يسم فاعله واشتقاقه على الأول من التصرية مصدر صرى بشد الراء وبالألف يصري تصرية إذا جمع يقال صريت الماء في الحوض أي جمعته ومنه صرى الماء في الظهر إذا حبسه سنين لا يتزوج فالتصرية في عرف الفقهاء جمع اللبن في الضرع اليومين والثلاثة حتى يعظم فيظن المشتري أنه لكثرة اللبن والمصراة المذكورة في بعض طرق الحديث هي الناقة أو الشاة المفعول بها ذلك وتسمى أيضا المحفلة في بعض طرقه يقال ضرع حافل أي عظيم
وأما على الضبط الثاني فهو من الصر الذي هو الربط والصواب الأول من التصرية لا من الصر قال أبو عبيد إذ لو كان من الصر لقيل ناقة أو شاة مصرورة وإنما هي مصراة وقال الشافعي التصرية أن تربط أخلاف الناقة أو الشاة ويترك حلبها اليوم واليومين فيزيد المشتري في ثمنها لما يرى من ذلك
قال الخطابي والذي قاله أبو عبيد جيد وما قاله الشافعي صحيح لأن العرب تصر ضروع المحلوبات أي تربطها فسمي ذلك الرباط صرارا واستشهد بقول العرب العبد لا يحسن الكر وإنما يحسن الحلب والصر وبقول مالك بن نويرة فقلت لقومي هذه صدقاتكم مصررة أخلافها لم تجرد قال ويحتمل أن تكون مصراة مصررة أبدل إحدى الراءين ياء كما قال تعالى { وقد خاب من دساها }
____________________
(3/428)
( سورة الشمس الآية 10 ) كرهوا اجتماع ثلاثة أحرف من جنس واحد قال الأبي وما ذكر أبو عبيد يرجع إلى أنه من التصرية ولذا أنكر أن يكون من الصر الذي هو الربط والنهي لحق الغير
( فمن ابتاعها بعد ذلك ) المذكور وهو التصرية أو بعد العلم بهذا النهي ( فهو بخير النظرين ) أفضل الرأيين ( بعد أن يحلبها ) بضم اللام من باب نصر وفي رواية يحتلبها بفوقية قبل اللام المكسورة ( إن رضيها ) أي المصراة ( أمسكها ) ولا شيء له ( وإن سخطها ) كرهها ( ردها وصاعا من تمره ) نصب على أن الواو بمعنى مع أو لمطلق الجمع لا مفعولا معه لأن جمهور النحاة على أن شرط المفعول معه أن يكون فاعلا نحو جئت أنا وزيدا والجملتان شرطيتان عطفت الثانية على الأولى فلا محل لهما من الإعراب إذ هما تفسيريتان أتى بهما لبيان المراد بالنظرين ما هو كما قال مالك إنما خص التمر لأنه غالب عيش أهل المدينة فكذلك في كل بلد إنما يقضى بالصاع من غالب عيشهم
وفي رواية لأبي داود ومسلم وصاعا من طعام زاد في رواية لمسلم وعلقها البخاري وهو بالخيار ثلاثة أيام وحمله الجمهور على الغالب وهو أن التصرية إنما تظهر بثلاثة أيام وهو في معنى ثلاث حلبات لأن الأولى هي الدلسة وبالثانية ظهرت وبالثالثة تحققت لأن الثانية يظن أنها لاختلاف المرعى والمراح أو لاختلال في الضرع بإمساكها مدة التسوق بها
قال ابن عبد البر هذا حديث صحيح أصل في النهي عن النجش والدلسة بالعيب وأصل في الرد به وأن بيع المعيب صحيح ويخير المشتري وممن قال بحديث المصراة مالك في المشهور عنه وهو تحصيل مذهبه وبه قال الشافعي والليث وأحمد وإسحاق وأبو ثور وجمهور أهل الحديث قال ابن القاسم قلت لمالك أتأخذ بهذا الحديث قال نعم أو لأحد في هذا الحديث رأي وقوله في العتبية عنه ليس بالثابت ولا الموطأ عليه الله أعلم بصحته عن مالك
ورد أبو حنيفة وأصحابه الحديث وأتوا بأشياء لا معنى لها إلا مجرد الدعوى فقالوا إنه منسوخ بحديث الخراج بالضمان والغلة بالضمان قالوا والمستهلكات إنما تضمن بالمثل أو القيمة من ذهب أو فضة فهذا يبين نسخه
وقوله وصاعا من ثمر منسوخ بتحريم الربا في حديث التمر ربا إلا هاء وهاء قال أبو عمر حديث المصراة صحيح في أصول السنن وذلك أن لبن التصرية اختلط باللبن الطاري في ملك المشتري فلم يتهيأ تقويم ما للبائع منه لأن ما لا يعرف غير ممكن فحكم صلى الله عليه وسلم بصاع من تمر قطعا للنزاع كحكمه في الجنين بغرة قطعا للخصومة إذ يمكن أن يكون حيا حين ضرب بطن أمه ففيه الدية أو ميتا فلا شيء فيه فقطع النزاع بالغرة وكحكمه في الأصابع والأسنان بأن الصغير فيها كالكبير إذ لا توقف لصحة تفضيل بعضها على بعض في المنفعة وكذا الموضحة حكم في صغيرها وكبيرها بحكم واحد اه
وفي المعلم قال أبو حنيفة والكوفيون إنه منسوخ لحديث الخراج بالضمان وبالأصول التي خالفته وهي أن اللبن مثلي فيلزم مثله فإن تعذر فقيمته والمثل هنا تعذر لتعذر معرفة قدره فكان فيه القيمة بالعين لا مثله ولأنه لما عدل عن المثل إلى غيره نحى به عن البيع فهو طعام بطعام إلى أجل ولأن لبن
____________________
(3/429)
الناقة أثقل من لبن الشاة ولبن النوق في نفسه يختلف بالقلة والكثرة والصاع محدود فكيف يصح أن يلزم متلف القليل مثل ما يلزم متلف الكثير ولأن اللبن غلة فهو للمشتري كسائر الغلات فإنها لا ترد في العيب فالحديث إما منسوخ بحديث الخراج بالضمان أو مرجوح لمعارضته هذه الأربع قواعد الكلية
والجواب أنا نمنع أن اللبن خراج فلم يدخل في الحديث وبأنه عام والمصراة خاص والعام يرد إلى الخاص فلا تعارض ولا نسخ وعن القاعدة الأولى بأنه صلى الله عليه وسلم رأى أن اللبن إنما يراد للقوت وغالب قوتهم التمر فلذا حكم به حتى لو كان غالب قوت بلد غيره لقضى بذلك الغير وقد جعل الشرع الدية على أهل الإبل الإبل والذهب الذهب والورق الورق ما ذاك إلا لأنه غالب كسبهم وأيضا لو كان المردود لبنا لدخل التفاضل والمزابنة إذ ما في الضرع لا يتحقق تقديره بالصاع ولو رد جميع ما حلب لخيف أن فيه شيئا مما هو غلة وحدث عند المشتري فكيف تصح الإقالة وعن الثانية بأنها ليست مبايعة حقيقية حتى يقال إنها طعام بطعام إلى أجل وإنما هو حكم أوجبه الشرع ليس باختيارهما فيتهمان
وعن الثالثة بما قال بعض العلماء إنما قضى بالصاع المحدود عن اللبن المختلف قدره بالقلة والكثرة رفقا للخصام وسدا لذريعة التنازع وكان صلى الله عليه وسلم حريصا على رفع التنازع عن أمته كقضائه بالغرة في الجنين ولم يفرق بين ذكر وأنثى مع اختلافهما في الدية وحد دية الجراح بقدر محدود مع اختلاف قدرها في الصغر والكبر فقد تعم الموضحة جلدة الرأس وقد تكون مدخل مسلة ولهذا أمثلة كثيرة وعن الرابع بأن الغلة ما نشأ والشيء في يد المشتري وهذا كان وهو في يد البائع وكان الأصل رده بعينه لكن لما استحال رد عينه لاختلاطه بما حدث عند المشتري وجب رد العوض وقدر بمعلوم رفعا للنزاع اه ملخصا
وفي المفهم قد يجاب عن الجميع من حيث الجملة بأن حديث المصراة أصل منفرد بنفسه مستثنى من تلك القواعد الكلية كما استثنى ضرب الدية على العاقلة ودية الجنين والعرية والقراض من أصول ممنوعة للحاجة إلى هذه المستثنيات ولو سلم معارضته بأصول تلك القواعد فلا نسلم تقديم القياس على الحديث لأنه صلى الله عليه وسلم قال لمعاذ بم تحكم قال بكتاب الله قال فإن لم تجد قال بسنة رسول الله قال فإن لم تجد قال أجتهد رأيي اه
وفي الحديث فوائد كثيرة غير ما مر
وأخرجه البخاري عن عبد الله بن يوسف ومسلم عن يحيى كلاهما عن مالك به
( قال مالك وتفسير قول رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما نرى ) بضم النون فظن ( والله أعلم ) بمراد رسوله ( لا يبع بعضكم على بيع بعض ) أي يحرم ( أنه إنما نهى أن يسوم الرجل على سوم أخيه ) ففسره بالسوم من المشتري للرواية المصرحة بذلك وخير ما فسرته بالوارد وإن كان لا مانع من أنه البائع أيضا
____________________
(3/430)
يجامع أن علة النهي دفع الضرر فلا فرق بين البيع على البيع والسوم على السوم وبما قيده ( إذا ركن البائع إلى السائم ) أي المشتري ( وجعل يشترط وزن الذهب ) أو الفضة ويتبرأ من العيوب ( وما أشبه مما يعرف به أن البائع قد أراد مبايعة السائم فهذا الذي نهى عنه والله أعلم ) لا قبل الركون فيجوز كما قال
( ولا بأس بالسوم بالسلعة توقف للبيع فيسوم بها غير واحد ) أي أكثر من واحد فإذا كان النهي إنما هو بعد الركن جاز هذا وهو المزايدة
( ولو ترك الناس السوم عند أول من يسوم بها أخذت بشبه الباطل من الثمن ودخل على الباعة في سلعهم المكروه ) وهو البخس ونقص الثمن ( ولم يزل الأمر عندنا على هذا ) أي بيع المزايدة قبل الركون وبنحوه فسره أبو حنيفة وقال سفيان الثوري معناه أن يقول عندي خير منه
وقال الشافعي معناه أن يبتاع سلعة فيقبضها ولم يفترقا وهو مغتبطها فيأتيه من يعرض عليه سلعة أرشد أي أحسن منها فيفسخ بيع صاحبه لأن الخيار قبل التفرق ومذاهب الفقهاء في ذلك متقاربة قاله أبو عمر فحملاه على أنه نهي للبائع لكن تفسير الشافعي على قوله بخيار المجالس
( مالك عن نافع عن عبد الله بن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى ) تحريما ( عن النجش ) بفتح النون وسكون الجيم وفتحها وبالشين المعجمة وهو لغة تنفير الصيد واستثارته من مكانه ليصاد يقال نجشت الصيد أنجشه نجشا ومنه قيل للصائد ناجش لأنه يثير الصيد قال الباجي فكأن غيره للسلعة يثير الزيادة فيها وشرعا ( قال ) مالك ( والنجش أن تعطيه بسلعته ) أي فيها ( أكثر من ثمنها وليس في نفسك اشتراؤها فيقتدي بك غيرك ) وقال الأكثر وهو أن يزيد في السلعة ليغتر به غيره وهذا أعم من تفسير مالك لدخول إعطائه مثل ثمنها أو أقل وخروجه من تفسير مالك قال الأبي والمذهب النهي عنه
قال ابن العربي وعندي إن بلغها لناجش قيمتها ورفع الغبن عن صاحبها جاز وهو مأجور واستبعده ابن عبد السلام بأنه إتلاف لمال المشتري ابن عرفة وكان يسوق الكتبيين بتونس رجل مشهور بالصلاح عارف بقيمة الكتب يستفتح للدلالين ما يبنون عليه ولا غرض له في الشراء وهذا الفعل جائز على ظاهر تفسير مالك وقول ابن العربي لا على قول الأكثر
____________________
(3/431)
وهذا الحديث رواه البخاري هنا عن القعنبي وفي ترك الحيل عن قتيبة بن سعيد ومسلم عن يحيى الثلاثة عن مالك به
46 جامع البيوع ( مالك عن عبد الله بن دينار عن عبد الله بن عمر أن رجلا ) هو حبان بن منقذ كما رواه ابن الجارود والحاكم وغيرهما وصدر به عياض وجزم به النووي في شرح مسلم وهو بفتح المهملة والموحدة الثقيلة ومنقذ بذال معجمة قبلها قاف مكسورة الأنصاري وقيل هو أبو منقذ بن عمرو كما في ابن ماجه وتاريخ البخاري قال ابن عبد البر وهو أصح وتبعه النووي في مبهماته ( ذكر لرسول الله صلى الله عليه وسلم أنه يخدع ) بضم التحتية وسكون المعجمة وفتح المهملة أي يراد به المكروه ( في البيوع ) من حيث لا يعلم ويبدي له غير ما يكتم قال عياض وفي الحديث أنه الذي ذكر ذلك لأنه لم يفقد التمييز والنظر لنفسه بالكلية فلعل ذلك كان يعتريه أحيانا ويتبين ذلك اه
وعند الشافعي وأحمد وابن خزيمة والدارقطني أن حبان بن منقذ كان ضريرا وكان قد شج في رأسه مأمومة وقد ثقل لسانه
وعند الدارقطني وابن عبد البر من طريق محمد بن إسحاق قال حدثني محمد بن يحيى بن حبان عن عمه واسع بن حبان أن جده منقذ بن عمرو كان قد أتى عليه سبعون ومائة سنة فكان إذا بايع غبن فذكر ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم فقال الحديث
وأخرج ابن عبد البر من طريق ابن إسحاق عن نافع عن ابن عمر أن منقذ أسفع في رأسه مأمومة في الجاهلية فخبلت لسانه فكان يخدع في البيع
( فقال ) له ( رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا بايعت فقل لا خلابة ) بكسر الخاء المعجمة وخفة اللام وموحدة أي لا خديعة في الدين لأن الدين النصيحة فلا لنفي الجنس وخبر لا خلابة محذوف قال التوربشتي لقنه النبي صلى الله عليه وسلم هذا القول ليلفظ به عند البيع ليطلع به صاحبه على أنه ليس من ذوي البصائر في معرفة السلع ومقادير القيمة فيها ليرى له كما يرى لنفسه وكان الناس في ذلك الزمان إخوانا لا يغبنون أخاهم المسلم وينظرون له أكثر ما ينظرون لأنفسهم اه
زاد في رواية ابن عبد البر من طريق نافع ثم أنت بالخيار ثلاثا من بيعك قال في الإكمال جعله له عهدة الثلاث لأن أكثر مبايعته كانت في الرقيق ليتبصر ويثبت عيبه وروي أنه جعل له مع ذلك خيار ثلاثة أيام فيما اشتراه
( فكان الرجل إذا بايع يقول لا خلابة ) أي معناه الذي يقدر عليه من النطق
ففي مسلم من طريق إسماعيل بن جعفر عن ابن دينار يقول لا خيابة قال عياض بالتحتية لأنه كان ألثغ يخرج اللام من غير
____________________
(3/432)