شرح الزرقاني على موطأ الإمام مالك
____________________
(1/1)
باب وقوت الصلاة بضم الواو والقاف المفروضة
وقدم ذا الباب على سائر أبواب الكتاب لأنها أصل في وجوب الصلاة إذ هي عبادة مقدرة بالأوقات
قال تعالى { إن الصلاة كانت على المؤمنين كتابا موقوتا } سورة النساء الآية 103 أي فرضا موقتا فإذا دخل الوقت وجب الوضوء وغيره فلذا قدم الأوقات على غيرها
وفي رواية ابن بكير أوقات جمع قلة وهو أظهر لكونها خمسة لكن وجه رواية الأكثرين وقوت جمع كثرة أنها وإن كانت خمسة لكن لتكررها كل يوم صارت كأنها كثيرة كقولهم شموس وأقمار باعتبار ترددهما مرة بعد مرة ولأن الصلوات فرضت خمسين وثوابها كثواب الخمسين كما قال تعالى في حديث المعراج هن خمس وهن خمسون ولأن كل واحد من الجمعين قد يقوم مقام الآخر توسعا أو لأنهما يشتركان في المبدأ من ثلاثة ويفترقان في الغاية على ما ذهب إليه بعض المحققين أو لأن لكل صلاة ثلاثة أوقات اختياري وضروري وقضاء
( قال ) الراوي عن يحيى وهو ابنه عبيد الله بضم العين الليثي فقيه قرطبة ومسند الأندلس كان ذا حرمة عظيمة وجلالة روى عن خلق كثير توفي سنة ثمان وسبعين ومائتين بشر ( حدثني يحيى بن يحيى ) بن كثير بن وسلاس بكسر الواو وسينين مهملتين الأولى ساكنة
____________________
(1/18)
وبينهما لام ألف ويزاد فيه نون فيقال وسلاسن ومعناه بالبربرية سيدهم كما ضبطه صاحب الوفيات أسلم وسلاس على يد يزيد بن عامر الليثي ليث بني كنانة فقيل ( الليثي ) مولاهم القرطبي أبو محمد فقيه ثقة قليل الحديث وله أوهام مات سنة أربع وثلاثين ومائتين على الصحيح عن ثنتين وثمانين سنة سمع الموطأ لأول نشأته من زياد بن عبد الرحمن أبي عبد الله المعروف بشبطون ثم رحل وهو ابن ثمان وعشرين سنة إلى مالك فسمع منه الموطأ غير أبواب في كتاب الاعتكاف شك فيها فحدث بها عن زياد وكان يحيى عند مالك فقيل هذا الفيل فخرجوا لرؤيته ولم يخرج فقال له مالك لم لم تخرج لنظر الفيل وهو لا يكون ببلادك فقال لم أرحل لأنظر الفيل وإنما رحلت لأشاهدك وأتعلم من علمك وهديك فأعجبه ذلك وسماه عاقل الأندلس وإليه انتهت رياسة الفقه بها وانتشر به المذهب وتفقه به من لا يحصى وعرض للقضاء فامتنع فعلت رتبته على القضاة وقبل قوله عند السلطان فلا يولى قاضيا في أقطاره إلا بمشورته واختياره ولا يشير إلا بأصحابه فأقبل الناس عليه لبلوغ أغراضهم وهذا سبب اشتهار الموطأ بالمغرب من روايته دون غيره وكان حسن الهدي والسمت يشبه سمته سمت مالك قال لما ودعت مالكا سألته أن يوصيني فقال لي عليك بالنصيحة لله ولكتابه ولأئمة المسلمين وعامتهم قال وقال لي الليث مثل ذلك ( عن مالك ) بن أنس بن مالك بن أبي عامر بن عمرو الأصبحي أبي عبد الله المدني الفقيه إمام دار الهجرة أكمل العقلاء وأعقل الفضلاء رأس المتقنين وكبير المتثبتين حتى قال البخاري أصح الأسانيد كلها مالك عن نافع عن ابن عمر مات سنة تسع وسبعين ومائة وكان مولده سنة ثلاث وتسعين وقال الواقدي بلغ تسعين سنة ( عن ) محمد بن مسلم بن عبيد الله بضم العين ابن عبد الله بفتحها ( ابن شهاب ) بن عبد الله بن الحارث بن زهرة بن كلاب القرشي الزهري أبي بكر الفقيه الحافظ المتفق على جلالته وإتقانه لقي عشرا من الصحابة ومات سنة خمس وعشرين ومائة وقيل قبلها بسنة أو سنتين له في الموطأ مرفوعا مائة وثلاثة وثلاثون حديثا ( أن عمر بن عبد العزيز ) بن مروان بن الحكم بن أبي العاصي بن أمية بن عبد شمس بن عبد مناف الأموي أمير المؤمنين أمه أم عاصم بنت عاصم بن عمر بن الخطاب ولي إمرة المدينة للوليد وكان مع سليمان كالوزير وولي الخلافة بعده فعد من الخلفاء الراشدين مات في رجب سنة إحدى ومائة وله أربعون سنة ومدة خلافته سنتان ونصف
( أخر الصلاة يوما ) أي صلاة العصر كما للبخاري من طريق الليث عن الزهري زاد ابن عبد البر في إمارته على المدينة ولأبي داود من وجه آخر أن عمر كان قاعدا على المنبر فعرف بهذا سبب تأخيره وكأنه كان مشغولا إذ ذاك بشيء من مصالح المسلمين
قال ابن عبد البر ظاهر سياقه أنه فعل ذلك يوما لا أن ذلك كان عادة له وإن كان أهل بيته معروفين بذلك قال والمراد أنه أخرها
____________________
(1/19)
حتى خرج الوقت المستحب لا أنه أخرها حتى غربت الشمس
قال الحافظ ويؤيده رواية الليث عن الزهري عند البخاري في بدء الخلق ولفظه أخر العصر شيئا وبه تظهر مناسبة ذكر عروة حديث عائشة بعد حديث أبي مسعود وما رواه الطبراني أمسى عمر قبل أن يصليها محمول على أنه قارب المساء لا أنه دخل فيه وقد رجع عمر عن ذلك فروى الأوزاعي أن عمر بن عبد العزيز يعني في خلافته كان يصلي الظهر في الساعة الثامنة والعصر في الساعة العاشرة حين تدخل ( فدخل عليه عروة بن الزبير ) بن العوام بن خويلد الأسدي أبو عبد الله المدني التابعي الكبير الثقة الفقيه المشهور أحد الفقهاء السبعة مات سنة أربع وتسعين على الصحيح ومولده في أوائل خلافة عثمان ( فأخبره أن المغيرة بن شعبة ) بن مسعود بن معتب الثقفي الصحابي المشهور أسلم قبل الحديبية وولي إمرة البصرة ثم الكوفة ومات سنة خمسين على الصحيح
( أخر الصلاة يوما ) أي صلاة العصر فلعبد الرزاق عن معمر عن ابن شهاب بلفظ فقال أمسى المغيرة بن شعبة بصلاة العصر ( وهو بالكوفة ) وكان إذ ذاك أميرا عليها من قبل معاوية بن أبي سفيان
وللبخاري عن القعنبي عن مالك وهو بالعراق وتعقبه الحافظ بأن الذي في الموطأ رواية القعنبي وغيره عن مالك وهو بالكوفة وكذا أخرجه الإسماعيلي عن أبي خليفة عن القعنبي والكوفة من جملة العراق فالتعبير بها أخص من التعبير به
( فدخل عليه أبو مسعود ) عقبة بالقاف ابن عمرو بن ثعلبه ( الأنصاري ) البدري صحابي جليل مات قبل الأربعين وقيل بعدها ( فقال ما هذا ) التأخير ( يا مغيرة أليس ) كذا الرواية وهو استعمال صحيح لكن الأفصح والأكثر استعمالا في مخاطبة الحاضر ألست وفي مخاطبة الغائب أليس وتوجيه الأولى أن في ليس ضمير الشأن كذا قاله ابن السيد في شرح الموطأ وتبعه ابن دقيق العيد والحافظ والزركشي وغيرهم وتعقب ذلك الدماميني بأنه يوهم جواز استعمال هذا التركيب مع إرادة أن يكون ما دخلت عليه ضمير الغائب وليس كذلك بل هما تركيبان مختلفان وليس أحدهما بأفصح من الآخر فإنه يستعمل كل منهما في مقام خاص فإن أريد إدخال ليس على ضمير المخاطب تعين ألست قد علمت وإن أريد إدخالها على ضمير الشأن مخبرا عنه بالجملة التي أسند فعلها إلى المخاطب تعين أليس ( قد علمت ) قال عياض ظاهره علم المغيرة بذلك ويحتمل أنه ظن من أبي مسعود لعلمه بصحبة المغيرة قال الحافظ ويؤيد الأول رواية شعيب عند البخاري في غزوة بدر بلفظ فقال لقد علمت بغير أداة استفهام ونحوه لعبد الرزاق عن معمر وابن جريج معا
____________________
(1/20)
( أن جبريل ) بكسر الجيم وفتحها اسم أعجمي ممنوع من الصرف للعلمية والعجمة
روى ابن أبي حاتم عن ابن عباس قال جبريل كقولك عبد الله جبر عبد وإيل الله وهو أفضل الملائكة كما نقل عن كعب الأحبار
وقال السيوطي لا خلاف أن جبريل وميكائيل وإسرافيل وملك الموت رؤوس الملائكة وأشرافهم وأفضل الأربعة جبريل وإسرافيل وفي التفضيل بينهما توقف سببه اختلاف الآثار في ذلك
وفي معجم الطبراني الكبير حديث أفضل الملائكة جبريل لكن سنده ضعيف وله معارض فالأولى الوقف عن ذلك
( نزل ) قال إمام الحرمين نزوله في صفة رجل معناه أن الله أفنى الزائد من خلقه أو أزاله عنه ثم يعيده إليه بعد وجزم ابن عبد السلام بالإزالة دون الفناء إذ لا يلزم أن يكون انتقالها موجبا لموته بل يجوز أن يبقى الجسد حيا لأن موته بمفارقة الروح لا يجب عقلا بل بعادة أجراها الله في بعض خلقه ونظيره انتقال أرواح الشهداء إلى أجواف طيور خضر تسرح في الجنة
وقال البلقيني يجوز أن الآتي هو جبريل بشكله الأصلي إلا أنه انضم فصار على قدر هيئة الرجل وإذا ترك ذلك عاد إلى هيئته ومثال ذلك القطن إذا جمع بعد أن كان منتفشا فإنه بالنفش يحصل له صورة كبيرة وذاته لم تتغير وهذا على سبيل التقريب
قال الحافظ والحق أن تمثيل الملك رجلا ليس معناه أن ذاته انقلبت رجلا بل معناه أنه ظهر بتلك الصورة تأنيسا لمن يخاطبه والظاهر أن القدر الزائد لا يزول ولا يفنى بل يخفى على الرائي فقط
وقال القونوي يمكن أن جسمه الأول بحاله لم يتغير وقد أقام الله له شبحا آخر وروحه متصرفة فيهما جميعا في وقت واحد وكان نزوله صبيحة الإسراء
قال ابن عبد البر لم يختلف أن جبريل هبط صبيحة الإسراء عند الزوال فعلم النبي الصلاة ومواقيتها وهيئتها
قال ابن إسحاق حدثني عتبة بن مسلم مولى بني تميم عن نافع بن جبير قال وكان نافع كثير الرواية عن ابن عباس قال لما فرضت الصلاة وأصبح النبي
وذكر عبد الرزاق عن ابن جريج قال قال نافع بن جبير وغيره لما أصبح النبي من الليلة التي أسري به لم يرعه إلا جبريل نزل حين زاغت الشمس ولذلك سميت الأولى فأمر فصيح بأصحابه الصلاة جامعة فاجتمعوا فصلى جبريل بالنبي وصلى النبي بالناس طول الركعتين الأولتين ثم قصر الباقيتين ثم سلم جبريل على النبي وسلم النبي على الناس ثم نزل في العصر على مثل ذلك ففعلوا كما فعلوا في الظهر ثم نزل في أول الليل فصيح الصلاة جامعة فصلى جبريل بالنبي وصلى النبي بالناس طول في الأولتين وقصر في الثالثة ثم سلم جبريل على النبي وسلم النبي على الناس ثم لما ذهب ثلث الليل صيح الصلاة جامعة فاجتمعوا فصلى جبريل للنبي وصلى النبي للناس فقرأ في الأولتين فطول فيهما وقصر في الأخيرتين ثم سلم جبريل على النبي وسلم
____________________
(1/21)
النبي على الناس فلما طلع الفجر صيح الصلاة جامعة فصلى جبريل للنبي وصلى النبي للناس فقرأ فيهما فجهر وطول ورفع صوته وسلم جبريل على النبي وسلم النبي على الناس قال الحافظ وفي هذا رد على من زعم أن بيان الأوقات إنما وقع بعد الهجرة والحق أن ذلك وقع قبلها ببيان جبريل وبعدها ببيان النبي
قال السيوطي وهو صريح حديث ابن عباس أمني جبريل عند البيت رواه أبو داود والترمذي وغيرهما
وفي رواية الشافعي عند باب البيت ( فصلى ) جبريل الظهر ( فصلى رسول الله ) معه ( ثم صلى ) العصر ( فصلى رسول الله ) معه ( ثم صلى ) المغرب ( فصلى رسول الله ) معه ( ثم صلى ) العشاء ( فصلى رسول الله ) معه ( ثم صلى ) الصبح ( فصلى رسول الله ) معه
هكذا ذكره خمس مرات
قال عياض وهذا إذا اتبع فيه حقيقة اللفظ أعطى أن صلاة رسول الله كانت بعد فراغ صلاة جبريل لكن مفهوم هذا الحديث والمنصوص في غيره أن جبريل أم النبي فيحمل قوله صلى فصلى على أن جبريل كلما فعل جزءا من الصلاة فعله النبي بعده حتى تكاملت صلاتهما انتهى
وتبعه النووي
وقال غيره الفاء بمعنى الواو واعترض بأنه يلزم أنه كان يتقدم في بعض الأركان على جبريل على ما يقتضيه مطلق الجمع وأجيب بمراعاة الحيثية وهي التبيين فكان لأجل ذلك يتراخى عنه وقيل الفاء للسببية كقوله { فوكزه موسى فقضى عليه } سورة القصص الآية 15
وفي رواية الليث عند البخاري ومسلم نزل جبريل فأمني فصليت معه
وفي رواية عبد الرزاق عن معمر نزل فصلى رسول الله فصلى الناس معه وهذا يؤيد رواية نافع بن جبير المتقدمة وإنما دعاهم بقوله الصلاة جامعة لأن الأذان لم يكن شرع حينئذ
( ثم قال ) جبريل ( بهذا أمرت ) بفتح التاء على المشهور أي هذا الذي أمرت به أن تصليه كل يوم وليلة
وروي بالضم أي هذا الذي أمرت بتبليغه لك
قال ابن العربي نزل جبريل مأمورا مكلفا بتعليم النبي لا بأصل الصلاة واحتج به بعضهم على جواز الائتمام بمن يأتم بغيره
وأجاب الحافظ بحمله على أنه كان مبلغا فقط كما قيل في صلاة أبي بكر خلف النبي وصلاة الناس خلف أبي بكر ورده السيوطي بأنه واضح في قصة أبي بكر وأما هنا ففيه نظر لأنه يقتضي أن الناس اقتدوا بجبريل لا بالنبي
وهو خلاف الظاهر والمعهود مع ما في رواية نافع بن جبير من التصريح بخلافه والأولى أن يجاب بأن ذلك كان خاصا بهذه الواقعة لأنها كانت للبيان المعلق عليه الوجوب واستدل به أيضا على جواز صلاة المفترض خلف المتنفل لأن الملائكة ليسوا مكلفين بمثل ما كلف به الإنس قاله ابن العربي وغيره
وأجاب عياض باحتمال أن لا تكون تلك الصلاة واجبة على النبي حينئذ وتعقبه بما تقدم أنها كانت صبيحة ليلة فرض الصلاة
وأجيب باحتمال أن الوجوب كان معلقا بالبيان فلم يتحقق الوجوب إلا
____________________
(1/22)
بعد تلك الصلاة قال وأيضا لا نسلم أن جبريل كان متنفلا بل كانت تلك الصلاة واجبة عليه لأنه مكلف بتبليغها فهي صلاة مفترض خلف مفترض
وقال ابن المنير قد يتعلق به من يجوز صلاة مفترض بفرض آخر قال الحافظ وهو مسلم له في صورة المؤداة مثلا خلف المؤداة لا في صورة الظهر خلف العصر مثلا
( فقال عمر بن عبد العزيز اعلم ) بصيغة الأمر ( ما تحدث به يا عروة ) وفي رواية للشافعي عن سفيان عن الزهري فقال اتق الله يا عروة وانظر ما تقول
قال الرافعي في شرح المسند لا يحمل مثله على الاتهام ولكن المقصود الاحتياط والاستثبات ليتذكر الراوي ويجتنب ما عساه يعرض من نسيان وغلط
( أو ) بفتح همزة الاستفهام والواو العاطفة على مقدر ( إن ) بكسر الهمزة على الأشهر قال في المطالع ضبطنا إن بالكسر والفتح معا والكسر أوجه لأنه استفهام مستأنف عن الحديث إلا أنه جاء بالواو ليرد الكلام على كلام عروة لأنها من حروف الرد والفتح على تقدير أو علمت أو حدثت أن ( جبريل هو الذي أقام لرسول الله وقت الصلاة ) أي جنس وقتها ورواه المستملي في البخاري وقوت بالجمع
( قال عروة كذلك كان بشير ) بفتح الموحدة ( ابن أبي مسعود الأنصاري ) المدني التابعي الجليل ذكر في الصحابة لكونه ولد في عهد النبي ورآه وقال العجلي تابعي ثقة ( يحدث عن أبيه ) عقبة بن عمرو البدري قال ابن عبد البر هذا السياق منقطع عند جماعة من العلماء لأن ابن شهاب لم يقل حضرت مراجعة عروة لعمر وعروة لم يقل حدثني بشير لكن الاعتبار عند الجمهور ثبوت اللقاء والمجالسة لا بالصيغ
وقال الكرماني هذا الحديث ليس متصل الإسناد إذ لم يقل أبو مسعود شاهدت رسول الله ولا قال قال رسول الله وتعقبه الحافظ بأنه لا يسمى منقطعا اصطلاحا وإنما هو مرسل صحابي لأنه لم يدرك القصة فاحتمل أنه سمعها من النبي أو بلغه عنه بتبليغ من شاهده أو سمعه كصحابي آخر على أن رواية الليث عند البخاري أي ومسلم تزيل الإشكال كله ولفظه فقال عروة سمعت بشير بن أبي مسعود يقول سمعت أبي يقول سمعت رسول الله يقول نزل جبريل فذكره
زاد عبد الرزاق عن معمر عن الزهري فما زال عمر يعتلم وقت الصلاة بعلامة حتى فارق الدنيا
قال ابن عبد البر فإن قيل جهل مواقيت الصلاة لا يسع أحدا فكيف جاز على عمر قيل ليس في جهله بالسبب الموجب لعلم المواقيت ما يدل على جهله بها وقد يكون ذلك عنده عملا واتفاقا وأخذا عن علماء عصره ولا يعرف أصل ذلك كيف كان النزول من جبريل بها
____________________
(1/23)
على النبي صلى الله عليه وسلم أم بما سنه النبي صلى الله عليه وسلم لأمته كما سن غير ما شيء وفرضه في الصلاة والزكاة انتهى
وفي فتح الباري لا يلزم من كون عمر لم يكن عنده علم من إمامة جبريل أن لا يكون عنده علم بتفاصيل الأوقات من جهة العمل المستمر لكن لم يكن يعرف أن أصله بتبيين جبريل بالفعل فإذا استثبت فيه وكأنه كان يرى أن لا مفاضلة بين أجزاء الوقت الواحد وكذا يحمل عمل المغيرة وغيره من الصحابة ولم أقف على شيء من الروايات على جواب المغيرة لأبي مسعود والظاهر أنه رجع إليه وكذا سياق ابن شهاب ليس فيه تصريح بسماعه له من عروة لكن في رواية عبد الرزاق عن معمر عن ابن شهاب قال كنا مع عمر بن عبد العزيز وفي رواية شعيب عن الزهري سمعت عروة يحدث عمر بن عبد العزيز
قال القرطبي ليس فيما ذكره عروة حجة واضحة على عمر إذ لم يعين له الأوقات
وأجاب الحافظ بأن في رواية مالك اختصارا وقد ورد بيانها من طريق غيره فأخرج الدارقطني والطبراني في الكبير وابن عبد البر في التمهيد من طريق أيوب بن عتبة والأكثر على تضعيفه عن أبي بكر بن حزم أن عروة بن الزبير كان يحدث عمر بن عبد العزيز وهو يومئذ أمير المدينة في زمن الحجاج والوليد بن عبد الملك وكان ذلك زمانا يؤخرون فيه الصلاة فحدث عروة عمر قال حدثني أبو مسعود الأنصاري وبشير بن أبي مسعود كلاهما قد صحب النبي أن جبريل جاء إلى النبي حين دلكت الشمس فقال يا محمد صل الظهر فصلى ثم جاءه حين كان ظل كل شيء مثله فقال يا محمد صل العصر فصلى ثم جاءه حين غربت الشمس فقال يا محمد صل المغرب فصلى ثم جاءه حين غاب الشفق فقال يا محمد صل العشاء فصلى ثم جاءه حين انشق الفجر فقال يا محمد صل الصبح فصلى ثم جاءه الغد حين كان ظل كل شيء مثله فقال صل الظهر فصلى ثم أتاه حين كان ظل كل شيء مثليه فقال صل العصر فصلى ثم أتاه حين غربت الشمس فقال صل المغرب فصلى ثم أتاه حين ذهب ساعة من الليل فقال صل العشاء فصلى ثم أتاه حين أضاء الفجر وأسفر فقال صل الصبح فصلى ثم قال ما بين هذين وقت يعني أمس واليوم قال عمر لعروة أجبريل أتاه قال نعم
وأخرج أبو داود وغيره وصححه ابن خزيمة وغيره من طريق ابن وهب والطبراني من طريق يزيد بن أبي حبيب كلاهما عن أسامة بن زيد الليثي أن ابن شهاب أخبره أن عمر بن عبد العزيز كان قاعدا على المنبر فأخر العصر شيئا فقال له عروة أما إن جبريل قد أخبر محمدا بوقت الصلاة فقال له عمر اعلم ما تقول فقال عروة سمعت بشير بن أبي مسعود يقول سمعت أبا مسعود الأنصاري يقول سمعت رسول الله يقول نزل جبريل فأخبرني بوقت الصلاة فصليت معه ثم صليت معه ثم صليت معه ثم صليت معه ثم صليت معه حسب بأصابعه خمس صلوات فرأيت رسول الله يصلي الظهر حين تزول الشمس وربما أخرها حين يشتد الحر ورأيته يصلي العصر والشمس مرتفعة بيضاء
____________________
(1/24)
قبل أن يدخلها الصفرة فينصرف الرجل من الصلاة فيأتي ذا الحليفة قبل غروب الشمس ويصلي المغرب حين تسقط الشمس ويصلي العشاء حين يسود الأفق وربما أخرها حتى تجتمع الناس وصلى الصبح مرة بغلس ثم صلى مرة أخرى فأسفر بها ثم كانت صلاته بعد ذلك التغليس حتى مات لم يعد إلى أن يسفر قال الحافظ ففي هذه الرواية بيان أبي مسعود للأوقات وفيه ما يرفع الإشكال ويوضح احتجاج عروة به
وذكر أبو داود أن أسامة تفرد بتفسير الأوقات وأن أصحاب الزهري لم يذكروا تفسيرا
قال وكذا ذكره هشام بن عروة وحبيب بن أبي مرزوق عن عروة لم يذكرا تفسيرا انتهى
ورواية هشام أخرجها سعيد بن منصور ورواية حبيب أخرجها الحارث بن أبي أسامة في مسنده وقد وجدت ما يعضد رواية أسامة ويزيد عليها أن البيان من فعل جبريل وذلك فيما رواه الباغندي والبيهقي عن أبي بكر بن حزم أنه بلغه عن أبي مسعود فذكره منقطعا لكن رواه الطبراني من وجه آخر عن أبي بكر عن عروة فرجع الحديث إلى عروة ووضح أن له أصلا وأن في رواية مالك ومن تابعه اختصارا وبه جزم ابن عبد البر وليس في روايته ومن وافقه ما ينفي الزيادة المذكورة فلا يوصف والحالة هذه بالشذوذ انتهى
أي فيها اختصارا من وجهين أحدهما أنه لم يعين الأوقات وثانيهما أنه لم يذكر صلاة جبريل بالنبي الخمس إلا مرة واحدة وقد علم من رواية أيوب أنه صلى به الخمس مرتين في يومين وقد ورد من رواية الزهري نفسه فأخرج ابن أبي ذئب في موطئه عن ابن شهاب أنه سمع عروة بن الزبير يحدث عمر بن عبد العزيز عن أبي مسعود الأنصاري أن المغيرة بن شعبة أخر الصلاة فدخل عليه أبو مسعود فقال ألم تعلم أن جبريل نزل على محمد فصلى وصلى وصلى وصلى وصلى ثم صلى ثم صلى ثم صلى ثم صلى ثم صلى ثم قال هكذا أمرت
وثبت أيضا صلاته به مرتين عن ابن عباس عند أبي داود والترمذي وجابر بن عبد الله في الترمذي والنسائي والدارقطني وابن عبد البر في التمهيد وأبي سعيد الخدري عند أحمد والطبراني في الكبير وابن عبد البر وأبي هريرة أخرجه البزار وابن عمر أخرجه الدارقطني وبهذا رد قول ابن بطال في هذا الحديث دليل على ضعف حديث أن جبريل أم النبي في يومين بوقتين مختلفين لكل صلاة لأنه لو كان صحيحا لم ينكر عروة على عمر صلاته في آخر الوقت محتجا بصلاة جبريل مع أن جبريل قد صلى في اليوم الثاني في آخر الوقت وقال الوقت ما بين هذين
قال الحافظ وأجيب باحتمال أن صلاة عمر كانت قد خرجت عن وقت الاختيار وهو مصير ظل كل شيء مثليه لا عن وقت الجواز وهو مغيب الشمس فيتجه إنكار عروة ولا يلزم منه ضعف الحديث أو يكون عروة أنكر مخالفة ما واظب عليه النبي وهو الصلاة في أول الوقت ورأى أن الصلاة بعد ذلك إنما هي لبيان الجواز فلا يلزم منه ضعف الحديث أيضا
____________________
(1/25)
وقد روى سعيد بن منصور عن طلق بن حبيب مرسلا إن الرجل ليصلي الصلاة وما فاتته ولما فاته من وقتها خير له من أهله وماله ورواه أيضا عن ابن عمر من قوله ويؤيد ذلك احتجاج عروة بحديث عائشة أنه كان يصلي العصر والشمس في حجرتها وهي الصلاة التي وقع الإنكار بسببها وبذلك تظهر مناسبة ذكره لحديث عائشة بعد حديث أبي مسعود لأن حديثها يشعر بمواظبته على صلاة العصر في أول الوقت وحديث أبي مسعود يشعر بأن أصل بيان الأوقات كان بتعليم جبريل
وفي الحديث من الفوائد دخول العلماء على الأمراء وإنكارهم عليهم ما يخالف السنة واستثبات العالم فيما يستغربه السامع والرجوع عند التنازع للسنة وفضيلة عمر بن عبد العزيز والمبادرة بالصلاة في أول الوقت الفاضل وقبول الخبر الواحد المثبت واستدل به ابن بطال وغيره على أن الحجة بالمتصل دون المنقطع لأن عروة أجاب عن استفهام عمر له لما أن أرسل الحديث بذكر من حدثه فرجع إليه فكأن عمر قال له تأمل ما تقول فلعله بلغك عن غير ثبت وكأن عروة قال له بل قد سمعته ممن سمع صاحب رسول الله والصاحب قد سمعه من النبي واستدل به عياض على جواز الاحتجاج بالمرسل الثقة لصنيع عروة حين احتج على عمر قال وإنما راجعه عمر ليثبته فيه لا لكونه لم يرض به مرسلا كذا قال وظاهر السياق يشهد لما قاله ابن بطال انتهى
( قال عروة ) مقول ابن شهاب فهو موصول لا معلق كما زعم الكرماني قال الحافظ وهو على بعده مخالف للواقع أي لرواية الصحيحين لهذا القدر وحده أيضا عن سفيان عن الزهري ومن طريق أخرى عن الليث عن ابن شهاب بل وكذا أفرده في الموطأ رواية محمد بن الحسن قال أخبرني مالك قال أخبرني ابن شهاب الزهري عن عروة
( ولقد حدثتني عائشة ) بنت أبي بكر الصديق أم المؤمنين أفقه النساء مطلقا ( زوج النبي ) وأفضل أزواجه إلا خديجة ففيها خلاف أصحه تفضيل خديجة ماتت عائشة سنة سبع وخمسين على الصحيح ( أن رسول الله كان يصلي العصر ) سميت العصر لأنها تعصر رواه الدارقطني عن أبي قلابة وعن محمد بن الحنفية أي يتبطأ بها قال الجوهري قال الكسائي يقال جاء فلان عصرا أي بطيئا
( والشمس في حجرتها ) بضم الحاء المهملة وسكون الجيم أي بيتها قال ابن سيده سميت بذلك لمنعها المال أي ووصول الأغيار من الرجال وللبيهقي في قعر حجرتها وفيه نوع التفات وفي رواية في حجرتي على الأصل
____________________
(1/26)
( قبل أن تظهر ) أي ترتفع قال في الموعب ظهر فلان السطح إذا علاه ومنه { فما اسطاعوا أن يظهروه } سورة الكهف الآية 97 أي يعلوه
وقال الخطابي معنى الظهور الصعود ومنه { ومعارج عليها يظهرون } سورة الزخرف الآية 33 وقال عياض قيل المراد تظهر على الجدر وقيل ترتفع كلها عن الحجرة وقيل تظهر بمعنى تزول عنها كما قال وتلك شكاة ظاهر عنك عارها انتهى
وفي رواية ابن عيينة عن ابن شهاب في الصحيحين كان يصلي صلاة العصر والشمس طالعة في حجرتي لم يظهر الفيء بعد فجعل الظهور للفيء
وفي رواية مالك جعله للشمس وجمع الحافظ بأن كلا من الظهور غير الآخر فظهور الشمس خروجها من الحجرة وظهور الفيء انبساطه في الحجرة في الموضع الذي كانت الشمس فيه بعد خروجها
قال والمستفاد من هذا الحديث تعجيل صلاة العصر في أول وقتها وهذا هو الذي فهمته عائشة وكذا عروة الراوي عنها واحتج به على عمر بن عبد العزيز في تأخيره صلاة العصر كما مر وشذ الطحاوي فقال لا دلالة فيه على التعجيل لاحتمال أن الحجرة كانت قصيرة الجدار فلم تكن تحتجب عنها إلا بقرب غروبها فيدل على التأخير لا على التعجيل وتعقب بأن هذا الاحتمال إنما يتصور مع اتساع الحجرة وقد عرف بالاستفاضة والمشاهدة أن حجر أزواجه لم تكن متسعة ولا يكون ضوء الشمس باقيا في قعر الحجرة الصغيرة لا والشمس قائمة مرتفعة وإلا متى مالت جدا ارتفع ضوؤها عن قاع الحجرة ولو كانت الجدر قصيرة
قال النووي كانت الحجرة ضيقة العرصة قصيرة الجدار بحيث كان طول جدارها أقل من مسافة العرصة بشيء يسير فإذا صار ظل الجدار مثله كانت الشمس بعد في أواخر العرصة انتهى
وفيه أن أول وقت العصر مصير ظل كل شيء مثله بالإفراد ولم ينقل عن أحد من العلماء خلاف ذلك إلا عن أبي حنيفة فالمشهور عنه أنه قال أول وقت العصر مصير ظل كل شيء مثليه بالتثنية
قال القرطبي خالفه الناس كلهم في ذلك حتى أصحابه يعني الآخذين عنه وإلا فقد انتصر جماعة ممن جاء بعدهم فقالوا ثبت الأمر بالإبراد ولا يذهب إلا بعد ذهاب اشتداد الحر ولا يذهب في تلك البلاد إلا بعد أن يصير ظل كل شيء مثله فيكون أول وقت العصر عند مصير الظل مثليه وحكاية مثل هذا تغني عن رده انتهى
وهذا الحديث أخرجه البخاري في المواقيت حدثنا عبد الله بن مسلمة قال قرأت على مالك فذكره
ومسلم أخبرنا يحيى بن يحيى التميمي قال قرأت على مالك فذكره
وأخرجه أبو داود والنسائي وابن ماجه
( مالك عن زيد بن أسلم ) العدوي مولى عمر أبي عبد الله وأبي أسامة المدني فقيه ثقة عالم وكان يرسل وهو من الطبقة الوسطى من التابعين وكانت له حلقة في المسجد النبوي
قال أبو حازم
____________________
(1/27)
لقد رأينا في مجلس زيد بن أسلم أربعين حبرا فقيها أدنى خصلة من خصالهم التواسي بما في أيديهم فما يرى متماريان ولا متنازعان في حديث لا ينفعهما قط وكان عالما بتفسير القرآن له كتاب فيه وكان يقول ابن آدم اتق الله يحبك الناس وإن كرهوا مات في ذي الحجة سنة ست وثلاثين ومائة له في الموطأ أحد وخمسون حديثا مرفوعة ( عن عطاء بن يسار ) الهلالي أبي محمد المدني مولى ميمونة ثقة فاضل كثير الحديث صاحب مواعظ وعبادة مات سنة أربع وتسعين أو تسع وتسعين أو ثلاث أو أربع ومائة بالإسكندرية فيما قيل
( أنه قال ) اتفقت رواة الموطأ على إرساله قال ابن عبد البر وبلغني أن ابن عيينة حدث به عن زيد عن عطاء عن أنس مرفوعا ولا أدري كيف صحة هذا عن سفيان والصحيح عن زيد بن أسلم أنه من مرسلات عطاء وقد ورد موصولا من حديث أنس أخرجه البزار وابن عبد البر في التمهيد بسند صحيح
ومن حديث عبد الرحمن بن يزيد بن حارث أخرجه الطبراني في الكبير والأوسط وعبد الله بن عمرو بن العاصي عند الطبراني الكبير بسند حسن وزيد بن حارثة عند أبي يعلى والطبراني ( جاء رجل إلى رسول الله فسأله عن وقت صلاة الصبح ) وكان ذلك في سفر كما في حديث زيد بن حارثة ولم أقف على اسم الرجل قيل إنما سأله عن آخر وقتها وكان عالما بأوله إذ لا بد أنه صلاها معه أو مع غيره أو وحده أو يكون ذلك حين دخوله في الإسلام والأولى أنه إنما سأله إلى أي وقت يجوز التأخير ( قال فسكت عنه رسول الله ) حتى أراد ذلك بالفعل لأنه أقوى من الخبر ولم يخف اخترام المنية لأن الله نبأه أنه لا يقبضه حتى يكمل الدين قاله أبو عمر والمراد سكت عن جوابه فلا ينافي أن في حديث زيد بن حارثة فقال صلها معي اليوم وغدا
( حتى إذا كان من الغد صلى الصبح حين طلع الفجر ) وكان ذلك بقاع نمرة بالجحفة كما في حديث زيد
( ثم صلى الصبح من الغد بعد أن أسفر ) أي انكشف وأضاء وفي حديث ابن عمرو ثم صلاها من الغد فأسفر وفي حديث زيد فصلاها أمام الشمس أي قدامها بحيث طلعت بعد سلامه منها وفي حديث عبد الرحمن ثم صلاها يوما وفي رواية زيد حتى إذا كان بذي طوى أخرها قال السيوطي فيحتمل أن تكون قصة واحدة ويحتمل تعدد القصة انتهى
( ثم قال ) ( أين السائل عن وقت الصلاة ) في حديث أنس عن وقت صلاة الغداة
( قال
____________________
(1/28)
هأنذا ) قال ابن مالك في شرح التسهيل تفصل ها التنبيه من اسم الإشارة المجرد بأنا وأخواتها كثيرا كقولك ها نحن وقوله تعالى { ها أنتم أولاء تحبونهم } سورة آل عمران الآية 119 وقول السائل عن وقت الصلاة هأنذا ( يا رسول الله فقال ما بين هذين وقت ) يعني هذين وما بينهما وقت وهذا من مفهوم الخطاب كقوله تعالى { فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره } سورة الزلزلة الآية 7 فمن مفهومه من يعمل مثقال قنطار خيرا يره ومثله في القرآن كثير
وفي رواية زيد الصلاة ما بين هاتين الصلاتين وفي حديث ابن عمرو الوقت فيما بين أمس واليوم وإنما أخرجوا به حتى صلى معه في اليومين لأن البيان بالفعل أبلغ وفيه جواز تأخير البيان عن وقت السؤال إلى آخر وقت يجب فيه فعل ذلك أما تأخيره عن تكليف الفعل والعمل حتى ينقضي فلا يجوز اتفاقا قاله أبو عمر
وفي ذا الحديث أن السؤال عن وقت الصبح خاصة وورد السؤال عن كل أوقات الصلوات فروى مسلم وأبو داود والنسائي والدارقطني عن أبي موسى الأشعري أن سائلا سأل النبي عن مواقيت الصلاة فلم يرد عليه شيئا حتى أمر بلالا فأقام الفجر حين انشق الفجر ثم أمره فأقام الظهر حين زالت الشمس ثم أمره فأقام العصر والشمس بيضاء مرتفعة وأمره فأقام المغرب حين غابت الشمس وأمره فأقام العشاء حين غاب الشفق فلما كان الغد صلى الفجر فانصرف فقلت أطلعت الشمس وأقام الظهر في وقت صلاة العصر الذي كان قبله وصلى العصر وقد اصفرت الشمس أو قال أمسى وصلى المغرب قبل أن يغيب الشفق وصلى العشاء إلى ثلث الليل ثم قال أين السائل عن وقت الصلاة الوقت فيما بين هذين وأخرجه مسلم والنسائي أيضا والترمذي وابن ماجه من حديث بريدة والدارقطني والطبراني في الأوسط عن جابر والدارقطني عن محمد بن جارية وأبو يعلى عن البراء بن عازب
قال السيوطي وحينئذ فحديث الموطأ إما مختصر من هذه الواقعة أو هو قضية أخرى وقع السؤال فيها عن صلاة الصبح خاصة
( مالك عن يحيى بن سعيد ) بن قيس الأنصاري أبي سعيد المدني قاضيها روى عن أنس وعدي بن ثابت وخلق وعنه مالك والسفيانان وأبو حنيفة ثقة ثبت من الحفاظ قال أحمد أثبت الناس مات سنة أربع وأربعين ومائة أو بعدها أو قبلها بسنة
( عن عمرة بنت عبد الرحمن ) بن سعد بن زرارة الأنصارية المدنية ثقة حجة كانت في حجر عائشة وأكثرت عنها
قال ابن المديني هي أحد الثقات العلماء بعائشة الأثبات فيها وهي والدة أبي الرجال ماتت قبل المائة ويقال بعدها
( عن عائشة زوج النبي أنها قالت إن كان رسول الله ) بكسر الهمزة وإسكان النون
____________________
(1/29)
مخففة من الثقيلة واسمها ضمير الشأن واللام في ( ليصلي الصبح ) هي الفارقة عند البصريين بين المخففة والنافية الكوفيون يجعلونها بمعنى إلا وإن نافية
( فينصرف النساء ) حال كونهن ( متلفعات ) قال ابن عبد البر رواه يحيى وجماعة بفاءين ورواه كثيرون بفاء ثم عين مهملة وعزاه عياض لأكثر رواة الموطأ قال الأصمعي التلفع أن يشتمل بالثوب حتى يجلل به جسده
وفي النهاية اللفاع ثوب يجلل به الجسد كله ثوبا كان أو غيره وتلفع بالثوب اشتمل به
وقال عبد الملك بن حبيب في شرح الموطأ التلفع أن يلقي الثوب على رأسه ثم يلتف به لا يكون الالتفاع إلا بتغطية الرأس وأخطأ من قال إنه مثل الاشتمال وأما التلفف فيكون مع تغطية الرأس وكشفه ودليل ذلك قول عبيد بن الأبرص كيف يرجون سقاطي بعدما لفع الرأس مشيب وصلع وفي شرح المسند للرافعي التلفع بالثوب الاشتمال به وقيل الالتحاف مع تغطية الرأس
( بمروطهن ) بضم الميم جمع مرط بكسرها أكسية من صوف أو خز كان يؤتزر بها قال تساهم ثوباها ففي الدرع دارة وفي المرط لفاوان ردفهما عبل قاله الجوهري
وقال الرافعي كساء من صوف أو خز أو كتان عن الخليل ويقال هو الإزار ويقال درع المرأة
وفي المحكم هو الثوب الأخضر
وفي مجمع الغرائب المروط أكسية من شعر أسود وعن الخليل أكسية معلمة وقال ابن الأعرابي هي الإزار
وقال ابن الأثير لا يكون المرط إلا درعا وهو من خز أخضر ولا يسمى المرط إلا الأخضر ولا يلبسه إلا النساء
زاد بعضهم أن تكون مربعة وسداها من شعر
وقال ابن حبيب كساء صوف رقيق خفيف مربع كان النساء يأتزرن به ويتلفعن
( ما يعرفن ) أهن نساء أم رجال قاله الداودي وتعقب بأن المعرفة إنما تتعلق بالأعيان فلو كان ذلك المراد لعبر بنفي العلم
وقال غيره يحتمل لا تعرف أعيانهن وإن عرفن أنهن نساء وإن كن مكشفات الوجوه حكاه عياض وحذف النووي الجملة الأخيرة وقال هذا ضعيف لأن المتلفعة في النهار أيضا لا يعرف عينها فلا يبقى في الكلام فائدة
قال السيوطي ومع تتمة الكلام بهذه الجملة لا يتأتى هذا الاعتراض
وفي الفتح ما ذكره النووي من أن المتلفعة بالنهار لا تعرف عينها فيه نظر لأن لكل امرأة هيئة غير هيئة الأخرى في الغالب ولو كان بدنها مغطى
____________________
(1/30)
وقال الباجي هذا يدل على أنهن كن سافرات إذ لو كن متنقبات لمنع تغطية الوجه من معرفتهن لا الغلس
قلت وفيه ما فيه لأنه مبني على الاشتباه الذي أشار إليه النووي
وإما إن قلنا إن لكل واحدة منهن هيئة غالبا فلا يلزم ما ذكر انتهى
( من ) ابتدائية أو تعليلية ( الغلس ) بفتح المعجمة واللام بقايا ظلمة الليل يخالطها ظلام الفجر قاله الأزهري والخطابي وقال ابن الأثير ظلمة آخر الليل إذا اختلطت بضوء الصباح ولا تعارض بين هذا وبين حديث الصحيحين عن ابن برزة أنه كان ينصرف من صلاة الغداة حين يعرف الرجل جليسه لأن هذا مع التأمل له أو في حال دون حال وذاك في نساء مغطيات الرؤوس بعيدات عن الرجال قاله عياض وفيه ندب المبادرة بصلاة الصبح أول وقتها
وأما ما رواه أصحاب السنن الأربعة وصححه الترمذي عن رافع بن خديج سمعت رسول الله يقول أسفروا بالفجر فإنه أعظم للأجر فقد حمله الشافعي وأحمد وإسحاق على تحقق طلوع الفجر لا تأخير الصلاة وآخرون على الليالي المقمرة فإن الصبح لا يتبين فيها فأمر بالاحتياط وحمله الطحاوي على أن المراد الأمر بتطويل القراءة فيها حتى يخرج من الصلاة مسفرا وأبعد من زعم أنه ناسخ للصلاة في الغلس ويرده حديث أبي مسعود الأنصاري أنه أسفر بالصبح مرة ثم كانت صلاته بعد الغلس حتى مات لم يعد إلى أن يسفر رواه أبو داود وغيره وقد تقدم
وروى ابن ماجه عن مغيث بن سمي قال صليت مع عبد الله بن الزبير الصبح بغلس فلما سلمت أقبلت على ابن عمر فقلت ما هذه الصلاة قال هذه كانت صلاتنا مع رسول الله وأبي بكر وعمر فلما طعن عمر أسفر بها عثمان وأما حديث ابن مسعود عند البخاري وغيره ما رأيت النبي صلاها في غير وقتها غير ذلك اليوم يعني الفجر يوم المزدلفة فمحمول على أنه دخل فيها مع طلوع الفجر من غير تأخير ففي حديث زيد بن ثابت وسهل بن سعد ما يشعر بتأخير يسير لا أنه صلاها قبل أن يطلع الفجر وفيه جواز خروج النساء إلى المساجد لشهود الصلاة في الليل وأخذ منه جوازه نهارا بالأولى لأن الليل مظنة الريبة أكثر ومحل ذلك إذا لم يخش عليهن أو بهن فتنة واستدل به بعضهم على جواز صلاة المرأة مختمرة الأنف والفم فكأنه جعل التلفع صفة لشهود الصلاة ورده عياض بأنها إنما أخبرت عن هيئة الانصراف وهذا الحديث أخرجه البخاري عن عبد الله بن مسلمة وعبد الله بن يوسف ومسلم من طريق معن بن عيسى ثلاثتهم عن مالك به
( مالك عن زيد بن أسلم ) العدوي المدني ( عن عطاء بن يسار ) بخفة السين المهملة بلفظ ضد يمين تقدما
____________________
(1/31)
( وعن بسر ) بضم الموحدة وإسكان السين المهملة آخره راء ( ابن سعيد ) المدني العابد ثقة حافظ من التابعين
( وعن الأعرج ) عبد الرحمن بن هرمز المدني ثقة ثبت عالم مات سنة سبع عشرة ومائة
( كلهم يحدثونه ) أي يحدثون زيد بن أسلم ( عن أبي هريرة ) الدوسي الصحابي الجليل حافظ الصحابة قال الشافعي أبو هريرة أحفظ من روى الحديث في الدنيا واختلف في اسمه واسم أبيه على أقوال كثيرة واختلف في أيها أرجح فذهب كثيرون إلى أنه عبد الرحمن بن صخر وذهب جمع من النسابين أنه عمرو بن عامر مات سنة سبع وقيل سنة ثمان وقيل تسع وخمسين وهو ابن ثمان وسبعين سنة
( أن رسول الله قال من أدرك ركعة من الصبح قبل أن تطلع الشمس فقد أدرك الصبح ) الإدراك الوصول إلى الشيء فظاهره أنه يكتفي بذلك وليس مرادا بإجماع فحمله الجمهور على أنه أدرك الوقت فإذا صلى ركعة أخرى فقد كملت صلاته وصرح به في رواية الدراوردي عن زيد بن أسلم بسنده المذكور ولفظه من أدرك من الصبح ركعة قبل أن تطلع الشمس وركعة بعدما تطلع الشمس فقد أدرك الصلاة وأصرح منه رواية أبي غسان محمد بن مطرف عن زيد بن أسلم عن عطاء بن يسار عن أبي هريرة ثم صلى ما بقي بعد طلوع الشمس رواه البيهقي
وللبخاري عن أبي سلمة عن أبي هريرة مرفوعا إذا أدرك أحدكم سجدة من صلاة العصر قبل أن تغرب الشمس فليتم صلاته وإن أدرك سجدة من صلاة الصبح قبل أن تطلع الشمس فليتم صلاته وللنسائي من أدرك ركعة من الصلاة فقد أدرك الصلاة كلها إلا أنه يقضي ما فاته وللبيهقي من أدرك ركعة من الصبح قبل أن تطلع الشمس فليصل إليها أخرى وفي هذا رد على الطحاوي حيث خص الإدراك باحتلام الصبي وطهر الحائض وإسلام الكافر ونحو ذلك وأراد بذلك نصرة مذهبه أن من طلعت عليه الشمس وهو في صلاة الصبح بطلت لأحاديث النهي عن الصلاة عند طلوع الشمس ودعوى أنها ناسخة لهذا الحديث تحتاج إلى دليل إذ لا يصار إلى النسخ بالاحتمال والجمع بين الحديثين ممكن بحمل أحاديث النهي على النوافل ولا شك أن التخصيص أولى من دعوى النسخ
قال ابن عبد البر لا وجه لدعوى نسخ حديث الباب لأنه لم يثبت فيه تعارض بحيث لا
____________________
(1/32)
يمكن الجمع ولا لتقديم حديث النهي عن الصلاة عند طلوع الشمس وعند غروبها عليه لأنه يحمل على التطوع
قال السيوطي وجواب الشيخ أكمل الدين في شرح المشارق عن الحنفية بحمل الحديث على أن المراد فقد أدرك ثواب كل الصلاة باعتبار نيته لا باعتبار عمله وأن معنى قوله فليتم صلاته فليأت بها على وجه التمام في وقت آخر بعيد يرده بقية طرق الحديث
وقد أخرج الدارقطني من حديث أبي هريرة مرفوعا إذا صلى أحدكم ركعة من صلاة الصبح ثم طلعت الشمس فليصل إليها أخرى ( ومن أدرك ركعة من العصر قبل أن تغرب ) وفي رواية تغيب ( الشمس ) زاد البيهقي من طريق أبي غسان ثم صلى ما بقي بعد غروب الشمس ( فقد أدرك العصر ) وللبيهقي عن أبي غسان فلم تفته في الموضعين وهو مبين أن بإدراكها يكون الكل أداء وهو الصحيح ومفهوم الحديث أن من أدرك أقل من ركعة لا يكون مدركا للوقت
وللفقهاء فيه كلام قال أبو السعادات ابن الأثير تخصيص هاتين الصلاتين بالذكر دون غيرهما مع أن هذا الحكم يعم جميع الصلوات لأنهما طرفا النهار والمصلي إذا صلى بعض الصلاة وطلعت الشمس أو غربت عرف خروج الوقت فلو لم يبين هذا الحكم ولا عرف المصلي أن صلاته تجزيه لظن فوات الصلاة وبطلانها بخروج الوقت وليس كذلك آخر أوقات الصلاة ولأنه نهى عن الصلاة عند الشروق والغروب فلو لم يبين لهم صحة صلاة من أدرك ركعة من هاتين الصلاتين لظن المصلي أن صلاته فسدت بدخول هذين الوقتين فعرفهم ذلك ليزول هذا الوهم
وقال الحافظ مغلطاي في رواية من أدرك ركعة من الصبح وفي أخرى من أدرك من الصبح ركعة وبينهما فرق وذلك أن من قدم الركعة فلأنها هي السبب الذي به الإدراك ومن قدم الصبح أو العصر قبل الركعة فلأن هذين الاسمين هما اللذان يدلان على هاتين الصلاتين دلالة خاصة تتناول جميع أوصافها بخلاف الركعة فإنها تدل على بعض أوصاف الصلاة فقدم اللفظ الأعم الجامع وهذا الحديث أخرجه البخاري عن القعنبي ومسلم عن يحيى كلاهما عن مالك به
( مالك عن نافع مولى عبد الله بن عمر ) المدني كثير الحديث أبي عبد الله ثقة ثبت فقيه بعثه عمر بن عبد العزيز إلى مصر يعلمهم السنن وقيل لأحمد بن حنبل إذا اختلف سالم ونافع في ابن عمر أيهما يقدم فلم يفضل
وقال النسائي سالم أجل من نافع قال وأثبت أصحاب نافع مالك مات نافع سنة سبع عشرة ومائة أو بعد ذلك
( أن عمر ) هذا منقطع لأن نافعا لم يلق عمر ( بن الخطاب ) القرشي العدوي أمير المؤمنين ثاني الخلفاء ضجيع المصطفى مناقبه جمة لقبه الفاروق لفرقه بين الحق والباطل وهل الملقب له
____________________
(1/33)
جبريل أو المصطفى أو أهل الكتاب روايات لا تتنافى ولي الخلافة عشر سنين ونصفا واستشهد في ذي الحجة سنة ثلاث وعشرين
( كتب إلى عماله ) بالتثقيل جمع عامل أي المتولين على البلاد ( إن أهم أمركم عندي الصلاة ) المفروضة
( فمن حفظها ) قال ابن رشيق أي علم ما لا تتم إلا به من وضوئها وأوقاتها وما تتوقف عليه صحتها وتمامها
( وحافظ عليها ) أي سارع إلى فعلها في وقتها
( حفظ دينه ومن ضيعها ) قال أبو عبد الملك البوني يريد أخرها ولم يرد أنه تركها
( فهو لما سواها أضيع ) وهذا وإن كان منقطعا لكن يشهد له أحاديث أخر مرفوعة منها ما أخرجه البيهقي في الشعب من طريق عكرمة عن عمر قال جاء رجل فقال يا رسول الله أي شيء أحب عند الله في الإسلام قال الصلاة لوقتها ومن ترك الصلاة فلا دين له والصلاة عماد الدين وفي البخاري عن أنس ما أعرف شيئا مما كان على عهد رسول الله قيل الصلاة قال أليس ضيعتم ما ضيعتم فيها وفيه أيضا عن الزهري دخلت على أنس بدمشق وهو يبكي فقلت له ما يبكيك فقال لا أعرف شيئا مما أدركت إلا هذه الصلاة وهذه الصلاة قد ضيعت والمراد بإضاعتها إخراجها عن وقتها
قال تعالى { فخلف من بعدهم خلف أضاعوا الصلاة } سورة مريم الآية 59 قال البيضاوي تركوها أو أخروها انتهى
والثاني قول ابن مسعود ويشهد له ما رواه ابن سعد عن ثابت فقال رجل لأنس فالصلاة قال جعلتم الظهر عند المغرب أفتلك صلاة رسول الله وقيل المراد بتضييعها تأخيرها عن وقتها المستحب لا عن وقتها بالكلية
ورد بأن الحجاج وأميره الوليد وغيرهما كانوا يؤخرونها عن وقتها فقال ذلك أنس
وفي معجم الطبراني الأوسط عن أنس مرفوعا ثلاث من حفظهن فهو ولي حقا ومن ضيعهن فهو عدو حقا الصلاة والصيام والجنابة والمراد بكون المضيع عدو الله أنه يعاقبه ويذله ويهينه إن لم يدركه العفو فإن ضيع ذلك جاحدا فهو كافر فتكون العداوة على بابها
( ثم كتب ) إليهم ( أن صلوا الظهر إذا كان الفيء ذراعا ) بعد زوال الشمس وهو ميلها إلى جهة المغرب لما صح أنه كان يصلي الظهر بالهاجرة وهي اشتداد الحر في نصف النهار وهذا ما استقر عليه الإجماع وكان فيه خلاف قديم عن بعض الصحابة أنه جوز صلاة الظهر قبل الزوال وعن أحمد وإسحاق مثله في الجمعة
( إلى أن يكون ) أي يصير ( ظل أحدكم مثله ) بالإفراد ( والعصر ) بالنصب ( والشمس مرتفعة بيضاء نقية ) لم يتغير لونها ولا حرها قال مالك في
____________________
(1/34)
المبسوط إنما ينظر إلى أثرها في الأرض والجدر ولا ينظر إلى عينها ( قدر ما يسير الراكب فرسخين أو ثلاثة قبل غروب الشمس ) والمراد أن يوقعوا صلاتها قبل الاصفرار
( و ) أن صلوا ( المغرب إذا غربت الشمس ) مبادرين بها لضيق وقتها
( والعشاء إذا غاب الشفق ) الحمرة في الأفق بعد غروب الشمس ( إلى ثلث الليل ) وهو محسوب من الغروب
( فمن نام فلا نامت عينه ) دعا عليه بعدم الراحة
( فمن نام فلا نامت عينه ) بالإفراد على إرادة الجنس
( فمن نام فلا نامت عينه ) ذكره ثلاث مرات زيادة في التنفير عن النوم لقوله من نام قبل العشاء فلا نامت عينه أخرجه البزار عن عائشة وفي الصحيحين عن أبي برزة أن رسول الله كان يكره النوم قبل العشاء والحديث بعدها قال الترمذي كره أكثر العلماء النوم قبل صلاة العشاء ورخص فيه بعضهم وبعضهم في رمضان خاصة قال الحافظ ومن نقلت عنه الرخصة قيدت عنه في أكثر الروايات بما إذا كان له من يوقظه أو عرف من عادته أنه لا يستغرق وقت الاختيار بالنوم وهذا جيد حيث قلنا علة النهي خشية خروج الوقت وحمل الطحاوي الرخصة على ما قبل دخول وقت العشاء والكراهة على ما بعد دخوله
( و ) صلوا ( الصبح والنجوم بادية ) أي ظاهرة ( مشتبكة ) قال ابن الأثير اشتبكت النجوم أي ظهرت واختلط بعضها ببعض لكثرة ما ظهر منها وشاهد هذه الجملة من المرفوع ما أخرجه أحمد عن أبي عبد الله الصنابحي قال قال رسول الله لا تزال أمتي بخير ما لم يؤخروا المغرب انتظار الإظلام مضاهاة اليهود وما لم يؤخروا الفجر لمحاق النجوم مضاهاة النصرانية
( مالك عن عمه أبي سهيل ) بضم السين نافع بن مالك بن أبي عامر الأصبحي التيمي المدني ثقة من التابعين مات بعد الأربعين ومائة
( عن أبيه ) مالك بن أبي عامر الأصبحي سمع من عمر ثقة من كبار التابعين مات سنة أربع وسبعين على الصحيح
( أن عمر بن الخطاب كتب إلى أبي موسى ) عبد الله بن قيس بن سليم بن حضار بفتح المهملة وشد الضاد المعجمة الأشعري الصحابي المشهور أمره عمر ثم عثمان ومات سنة خمسين وقيل بعدها
____________________
(1/35)
( أن صل الظهر إذا زاغت الشمس ) أي مالت وفي الصحيحين عن أنس أنه خرج حين زاغت الشمس فصلى الظهر ولا يعارض حديث الإبراد لأنه مستحب لا ينافي جواز التقديم
( و ) صل ( العصر والشمس بيضاء نقية ) بنون وقاف لم تتغير ( قبل أن يدخلها صفرة ) بيان لنقية
( والمغرب إذا غربت الشمس وأخر العشاء ) عن الشفق ( ما لم تنم ) وفي الصحيحين عن أبي برزة أنه كان يستحب أن تؤخر العشاء ( وصل الصبح والنجوم بادية مشتبكة ) مختلط بعضها ببعض لكثرة ما ظهر منها
( واقرأ فيها بسورتين طويلتين من المفصل ) وأوله الحجرات على الصحيح إلى عبس
( مالك عن هشام بن عروة ) بن الزبير بن العوام الأسدي
روى عن أبيه وعمه عبد الله بن الزبير وطائفة ثقة فقيه من صغار التابعين روى عنه مالك وأبو حنيفة والسفيانان وشعبة والحمادان وخلق وربما دلس مات سنة خمس أو ست وأربعين ومائة وله سبع وثمانون سنة
( عن أبيه ) عروة أحد الفقهاء السبعة
( أن عمر بن الخطاب كتب إلى أبي موسى الأشعري أن صل العصر والشمس بيضاء نقية قدر ما يسير الراكب ثلاثة فراسخ وأن صل العشاء ما بينك وبين ثلث الليل فإن أخرت فإلى شطر الليل ) أي نصفه فإنه أخر صلاة العشاء إلى نصف الليل ثم صلى ثم قال قد صلى الناس وناموا أما إنكم في صلاة ما انتظرتموها رواه البخاري ومسلم عن أنس
( ولا تكن من الغافلين ) عن الصلاة
قال من حافظ على هؤلاء الصلوات المكتوبات لم يكتب من الغافلين رواه الحاكم وصححه عن أبي هريرة
( مالك عن يزيد ) بتحتية أوله وزاي منقوطة ( ابن زياد ) بزاي أوله ابن أبي زياد وقد ينسب إلى جده مولى بني مخزوم مدني ثقة
( عن عبد الله بن رافع ) المخزومي ( مولى أم سلمة زوج النبي ) المدني التابعي ثقة روى
____________________
(1/36)
له مسلم وأصحاب السنن
( أنه سأل أبا هريرة عن وقت الصلاة ) الواحدة أو الجنس ( فقال أبو هريرة أنا أخبرك ) قال ابن عبد البر وقفه رواة الموطأ والمواقيت لا تؤخذ بالرأي ولا تدرك إلا بالتوقيف يعني فهو موقوف لفظا مرفوع حكما قال وقد روى حديث المواقيت مرفوعا بأتم من هذا أخرجه النسائي بإسناد صحيح عن أبي هريرة ( صل الظهر إذا كان ظلك مثلك ) أي مثل ظلك يعني قريبا منه بغير ظل الزوال
( و ) صل ( العصر إذا كان ظلك مثليك ) أي مثلي ظلك بغير الفيء وهذا بظاهره يؤيد القول بالاشتراك
( والمغرب ) بالنصب ( إذا غربت الشمس والعشاء ما بينك ) أي ما بين وقتك من الغروب قيل ولعل أصله ما بينه وبين ثلث الليل بضمتين ويسكن الثاني وهو وقت المختار وإلا فوقتها إلى آخر الليل والوتر تابع لها
( وصل الصبح ) أعاد العامل اهتماما أو لطول الفصل بالكلام
( بغبش ) بفتح الغين المعجمة والياء الموحدة وشين معجمة كذا رواه يحيى وزياد
( يعني الغلس ) باللام وسين مهملة ولعله تفسير مراد وإلا فقد قال الخطابي الغبش بمعجمتين قبل الغبس بسين مهملة وبعده الغلس باللام وهي كلها في آخر الليل ويكون الغبش أول الليل وفي رواية يحيى بن بكير والقعنبي وسويد بن سعيد وصل الصبح بغلس بفتحتين وهو ظلمة آخر الليل على ما جزم به الجوهري منشدا عليه كذبتك عينك أم رأيت بواسط غلس الظلام من الرباب خيالا وتقدم مزيد له
( مالك عن إسحاق بن عبد الله بن أبي طلحة ) زيد بن سهل الأنصاري المدني ثقة حجة مات سنة اثنين وثلاثين ومائة وقيل بعدها لمالك عنه مرفوعا خمسة عشر حديثا منها عشرة ( عن ) عمه أخي أبيه لأمه ( أنس بن مالك ) بن النضر الأنصاري الخزرجي خادم رسول الله عشر سنين مات سنة اثنين وقيل ثلاث وتسعين وقد جاوز المائة ( أنه قال كنا نصلي العصر ) قال ابن عبد البر هذا يدخل عندهم في المسند وصرح برفعه ابن المبارك وعتيق بن يعقوب الزبيري كلاهما عن مالك بلفظ كنا نصلي العصر مع النبي صلى الله عليه وسلم انتهى
____________________
(1/37)
وهذا اختيار الحاكم أن قول الصحابي كنا نفعل كذا مسند ولو لم يصرح بإضافته إلى زمن النبي
وقال الدارقطني والخطيب وغيرهما هو موقوف قال الحافظ والحق أنه موقوف لفظا مرفوع حكما لأن الصحابي أورده في مقام الاحتجاج فيحمل على أنه أراد كونه في زمنه
وقد روى النسائي عن ابن المبارك عن مالك الحديث فقال فيه كنا نصلي العصر مع النبي
( ثم يخرج الإنسان إلى بني عمرو بن عوف فيجدهم يصلون العصر ) قال أبو عمر معنى الحديث السعة في وقت العصر وأن الصحابة حينئذ لم تكن صلاتهم في فور واحد لعلمهم بما أبيح لهم من سعة الوقت
وقال النووي قال العلماء كانت منازلهم على ميلين من المدينة وكانوا يصلون العصر في وسط الوقت لأنهم كانوا يشتغلون بأعمالهم وحروثهم وزروعهم وحوائطهم فإذا فرغوا من أعمالهم تأهبوا للصلاة ثم اجتمعوا لها فتتأخر صلاتهم لهذا المعنى وهذا الحديث أخرجه البخاري عن القعنبي ومسلم عن يحيى كلاهما عن مالك به
( مالك عن ابن شهاب ) محمد بن مسلم الزهري ( عن أنس بن مالك أنه قال كنا نصلي العصر ) مع النبي كما رواه خالد بن مخلد عن مالك أخرجه الدارقطني في غرائبه وزاد أبو عمر فيمن صرح برفعه عبد الله بن نافع وابن وهب وأبو عامر العقدي كلهم عن مالك عن الزهري عن أنس أن رسول الله كان يصلي العصر ( ثم يذهب الذاهب ) قال الحافظ كأن أنسا أراد نفسه كما يشعر به رواية أبي الأبيض عن أنس كان يصلي بنا العصر والشمس بيضاء محلقة ثم أرجع إلى قومي في ناحية المدينة فأقول لهم قوموا فصلوا فإن رسول الله قد صلى رواه النسائي والطحاوي واللفظ له
وقال الطحاوي نحن نعلم أن قوم أنس لم يكونوا يصلونها إلا قبل اصفرار الشمس فدل ذلك على أنه كان يعجلها
وقال السيوطي بل أراد أعم من ذلك لما أخرجه الدارقطني والطبراني من طريق عاصم بن عمر بن قتادة قال كان أبعد رجلين من الأنصار من رسول الله دارا أبو لبابة بن عبد المنذر وأهله بقبا وأبو عبس بن جبر ومسكنه في بني حارثة وكانا يصليان مع رسول الله ثم يأتيان قومهما وما صلوا لتعجيل رسول الله بها
( إلى قبا ) بضم القاف وموحدة قال النووي يمد ويقصر ويصرف ولا يصرف ويذكر ويؤنث والأفصح التذكير والصرف والمد وهو على ثلاثة أميال من المدينة
( فيأتيهم ) أي أهل قبا ( والشمس
____________________
(1/38)
مرتفعة ) قال ابن عبد البر لم يختلف على مالك أنه قال إلى قبا ولم يتابعه أحد من أصحاب الزهري بل كلهم يقولون إلى العوالي وهو الصواب عند أهل الحديث وقول مالك إلى قبا وهم لا شك فيه إلا أن المعنى متقارب لأن العوالي مختلفة المسافة فأقربها إلى المدينة ما كان على ميلين أو ثلاثة ومنها ما يكون على ثمانية أميال أو عشرة ومثل هذا هو المسافة بين قبا والمدينة
وقد رواه خالد بن مخلد عن مالك فقال إلى العوالي كما قال سائر أصحاب ابن شهاب ثم أسنده من طريقه وقال هكذا رواه خالد وسائر رواة الموطأ قالوا قبا
قال الحافظ وتعقب بأن ابن أبي ذئب رواه عن الزهري إلى قبا كما قال مالك نقله الباجي عن الدارقطني فنسبة الوهم فيه إلى مالك منتقد فإنه إن كان وهما احتمل أن يكون منه وأن يكون من الزهري حين حدث به مالكا وقد رواه خالد بن مخلد عن مالك فقال إلى العوالي كما قال الجماعة فقد اختلف فيه على مالك وتوبع عن الزهري بخلاف ما جزم به ابن عبد البر أي من أنه لم يتابعه أحد عليه
قال وأما قوله الصواب عند أهل الحديث العوالي فصحيح من حيث اللفظ وأما المعنى فمتقارب لكن رواية مالك أخص لأن قبا من العوالي وليست العوالي كل قباء فإنها عبارة عن القرى المجتمعة حول المدينة من جهة نجدها قال ولعل مالكا لما رأى في رواية الزهري إجمالا حملها على الرواية المفسرة وهي روايته المتقدمة عن إسحاق حيث قال فيها ثم يخرج الإنسان إلى بني عمرو بن عوف وتقدم أنهم أهل قبا فبنى مالك على أن القصة واحدة لأنهما جميعا حدثاه عن أنس والمعنى متقارب فهذا الجمع أولى من الجزم بأن مالكا وهم فيه
وأما استدلال ابن بطال على أن الوهم فيه من دون مالك برواية خالد بن مخلد المتقدمة الموافقة لرواية الجماعة عن الزهري ففيه نظر لأن مالكا أثبته في الموطأ باللفظ الذي رواه عنه كافة أصحابه فرواية خالد عنه شاذة فكيف تكون دالة على أن رواية الجماعة وهم بل إن سلمنا أنها وهم فهو من مالك كما جزم به البخاري والدارقطني ومن تبعهما أو من الزهري حين حدثه به والأولى سلوك طريق الجمع التي أوضحناها انتهى
وقال القاضي عياض مالك أعلم ببلده وأماكنها من غيره وهو أثبت في ابن شهاب ممن سواه
وقد رواه بعضهم عن مالك إلى العوالي كما قالت الجماعة
ورواه ابن أبي ذئب عن الزهري فقال إلى قبا كما قال مالك وهذا الحديث أخرجه البخاري عن عبد الله بن يوسف ومسلم عن يحيى كلاهما عن مالك به
( مالك عن ربيعة بن أبي عبد الرحمن ) واسمه فروخ التيمي مولاهم المدني المعروف بربيعة الرأي روى عن أنس والحارث بن بلال المزني وخلق من أكابر التابعين ثقة ثبت فقيه حافظ أحد مفتي المدينة كان يحصي في مجلسه أربعين معتما قال عبد العزيز بن أبي سلمة ما رأيت أحفظ
____________________
(1/39)
للسنة منه
وقال مالك ذهبت حلاوة الفقه منذ مات ربيعة
قال ابن سعد كانوا يتقونه لموضع الرأي مات سنة ست وثلاثين ومائة على الصحيح وقيل سنة ثلاث وقال الباجي سنة اثنين وأربعين
( عن القاسم بن محمد ) بن أبي بكر الصديق أبي محمد المدني أحد الفقهاء قال ابن سعد ثقة رفيع عالم فقيه إمام ورع كثير الحديث مات سنة ست ومائة على الصحيح
( أنه قال ما أدركت الناس ) أي الصحابة لأنه من كبار التابعين ( إلا وهم يصلون الظهر بعشي ) قال في الاستذكار قال مالك يريد الإبراد بالظهر وقال أبو عبد الملك قيل أراد بعد تمكن الوقت ومضي بعضه وأنكر صلاته إثر الزوال انتهى
وفي النهاية والمطالع العشي ما بعد الزوال إلى الغروب وقيل إلى الصباح
2 وقت الجمعة أي إذا زالت الشمس كالظهر عند الجمهور وشذ بعض الأئمة فجوز صلاتها قبل الزوال واحتج مالك بفعل عمر وعثمان لأنهما من الخلفاء الراشدين الذين أمرنا بالاقتداء بهم فقال ( مالك عن عمه أبي سهيل ) واسمه نافع ( بن مالك عن أبيه أنه قال كنت أرى طنفسة ) بكسر الطاء والفاء وبضمهما وبكسر الطاء وفتح الفاء بساط له خمل رقيق قاله في النهاية وفي المطالع الأفصح كسر الطاء وفتح الفاء ويجوز ضمهما وكسرهما وحكى أبو حاتم فتح الطاء مع كسر الفاء وقال أبو علي القالي بفتح الفاء لا غير وهي بساط صغير وقيل حصير من سعف أو دوم عرضه ذراع وقيل قدر عظم الذراع ( لعقيل ) بفتح العين ( ابن أبي طالب ) الهاشمي أخي علي وجعفر وكان الأسن صحابي عالم بالنسب مات سنة ستين وقيل بعدها ( يوم الجمعة تطرح إلى جدار المسجد ) النبوي ( الغربي ) صفة جدار ( فإذا غشي الطنفسة كلها ظل الجدار خرج عمر بن الخطاب وصلى الجمعة ) بالناس في خلافته
قال في فتح الباري هذا إسناد صحيح وهو ظاهر في أن عمر كان يخرج بعد زوال الشمس
____________________
(1/40)
وفهم بعضهم عكس ذلك ولا يتجه إلا إن حمل على أن الطنفسة كانت تفرش خارج المسجد وهو بعيد والذي يظهر أنها كانت تفرش له داخل المسجد وعلى هذا فكان عمر يتأخر بعد الزوال قليلا
وفي حديث السقيفة عن ابن عباس فلما كان يوم الجمعة وزالت الشمس خرج عمر فجلس على المنبر
( قال مالك ) والد أبي سهيل ( ثم نرجع ) بالنون ( بعد صلاة الجمعة فنقيل قائلة الضحاء ) قال البوني بفتح الضاد والمد وهو اشتداد النهار مذكر فأما بالضم والقصر فعند طلوع الشمس مؤنث أي أنهم كانوا يقيلون في غير الجمعة قبل الصلاة وقت القائلة ويوم الجمعة يشتغلون بالغسل وغيره عن ذلك فيقيلون بعد صلاتها القائلة التي يقيلونها في غير يومها قبل الصلاة وقال في الاستذكار أي أنهم يستدركون ما فاتهم من النوم وقت قائلة الضحاء على ما جرت به عادتهم انتهى
وعلى هذا حملوا حديث أنس في البخاري وغيره كنا نبكر بالجمعة ونقيل بعد الجمعة معناه أنهم كانوا يبدؤون بالصلاة قبل القيلولة بخلاف ما جرت به عادتهم في الظهر في الحر فكانوا يقيلون ثم يصلون لمشروعية الإبراد فلا يعارض حديث أنس في البخاري وغيره أيضا أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يصلي الجمعة حين تزول الشمس والتبكير يطلق على فعل الشيء أول وقته وتقديمه على غيره وهو المراد هنا لأن الجمع أولى من دعوى التعارض
( مالك عن عمرو ) بفتح العين ( ابن يحيى ) بن عمارة بن أبي حسن ( المازني ) بالزاي المدني ثقة مات بعد الثلاثين ومائة
( عن ابن أبي سليط ) بفتح السين وكسر اللام اسم لابن عبد الله والأب أسيد بالتصغير ودال آخره وقيل راء وقيل بزيادة هاء آخره فهو عبد الله بن أسيد بن عمرو بن قيس البخاري روى عن أبيه الصحابي البدري وعن عثمان ومحمد بن كعب وعنه عبد الله بن عمرو بن ضميرة وعمرو بن يحيى وغيرهما وذكره ابن حبان في ثقات التابعين
( أن عثمان بن عفان ) بن أبي العاص بن أمية بن عبد شمس الأموي أمير المؤمنين ذا النورين أحد السابقين الأولين والخلفاء الأربعة والعشرة المبشرة والستة أصحاب الشورى استشهد في ذي الحجة بعد عيد الأضحى سنة خمس وثلاثين وكانت خلافته اثنتي عشرة سنة وعمره ثمانون وقيل أكثر وقيل أقل
( صلى الجمعة بالمدينة وصلى العصر ) من يومها ( بملل ) بفتح الميم ولامين بوزن جمل موضع بين مكة والمدينة على سبعة عشر ميلا من المدينة كذا في النهاية وقال بعضهم على ثمانية
____________________
(1/41)
عشر ميلا وقال ابن وضاح على اثنين وعشرين ميلا حكاهما ابن رشيق
( قال مالك وذلك للتهجير ) أي صلاة الجمعة وقت الهاجرة وهي انتصاف النهار بعد الزوال
( وسرعة السير ) فيدرك ملل بعد صلاة الجمعة فدل كل من فعل عمر وعثمان على أن ابتداه وقت الجمعة من الزوال كالظهر وأخرج ابن أبي شيبة عن أبي إسحاق أنه صلى خلف علي الجمعة بعدما زالت الشمس إسناده صحيح
وما رواه أيضا عن أبي رزين كنا نصلي مع علي الجمعة فأحيانا نجد فيئا وأحيانا لا نجد فمحمول على المبادرة عند الزوال أو التأخير قليلا
وعن سماك بن حرب كان النعمان بن بشير يصلي بنا الجمعة بعدما تزول الشمس رواه ابن أبي شيبة بإسناد صحيح وكان النعمان أميرا على الكوفة في أول إمارة يزيد وكذا روى ابن شيبة أن عمرو بن حريث الصحابي كان يصليها إذا زالت الشمس وكان ينوب عن زياد وعن ولده في الكوفة
وأما ما يعارض ذلك عن الصحابة فقال عبد الله بن سلمة بكسر اللام صلى بنا ابن مسعود الجمعة ضحى وقال خشيت عليكم الحر
وقال سعيد بن سويد صلى بنا معاوية الجمعة ضحى رواهما ابن أبي شيبة وسعيد ذكره ابن حبان في الضعفاء وابن سلمة صدوق إلا أنه تغير لما كبر قاله شعبة وغيره فأعرب ابن العربي في نقله الإجماع على أنها لا تجب حتى تزول الشمس إلا قول أحمد إن صلاها قبل الزوال أجزأ انتهى
واحتج له بعض الحنابلة بقوله صلى الله عليه وسلم إن هذا يوم جعله الله عيدا للمسلمين فلما سماه عيدا جازت صلاتها في وقت العيد وتعقب بأنه لا يلزم من تسميته عيدا أن يشتمل على جميع أحكام العيد بدليل أن يوم العيد يحرم صومه مطلقا سواء صام قبله أو بعده بخلاف يوم الجمعة اتفاقا
3 من أدرك ركعة من الصلاة حذف جواب الشرط في الترجمة استغناء بذكره في حديثها ( مالك عن ابن شهاب ) الزهري ( عن أبي سلمة ) قيل اسمه كنيته وقيل عبد الله وقيل إسماعيل ( بن عبد الرحمن ) بن عوف الزهري المدني ثقة فقيه كثير الحديث ولد سنة بضع وعشرين ومات سنة أربع وتسعين أو أربع ومائة
( عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال من أدرك ركعة من الصلاة فقد أدرك الصلاة ) زاد
____________________
(1/42)
النسائي كلها إلا أنه يقضي ما فاته وبهذه الزيادة اتضح معنى الحديث إذ ظاهره بدونها متروك بالإجماع لأنه لا يكون بالركعة الواحدة مدركا لجميع الصلاة بحيث تبرأ ذمته منها فإذن فيه إضمار تقديره فقد أدرك وقت الصلاة أو حكم الصلاة أو نحو ذلك ويلزمه إتمام بقيتها
قال ابن عبد البر لا أعلم خلافا في إسناده ولا في لفظه عند رواة الموطأ وكذا رواه سائر أصحاب ابن شهاب إلا ابن عيينة قال فقد أدرك لم يقل الصلاة والمراد واحد
ورواه عبد الوهاب بن أبي بكر عن الزهري فقال فقد أدرك الصلاة وفضلها وهذه لفظة لم يقلها أحد غيره وليس بحجة على من خالفه فيها من أصحاب الزهري ولا أجاد فيها
قال واختلف في معنى فقد أدرك الصلاة فقيل أدرك وقتها فهو بمعنى الحديث السابق من أدرك ركعة من الصبح وليس كذلك لأنهما حديثان لكل واحد منهما معنى وقيل أدرك حكمها فيما يفوته من سهو الإمام ولزوم الإتمام ونحو ذلك وقيل أدرك فضل الجماعة على أن المراد من أدرك ركعة مع الإمام قال وظاهر الحديث يوجب الإدراك التام الوقت والحكم والفضل ويدخل في ذلك إدراك الجمعة فإذا أدرك منها ركعة مع الإمام أضاف إليها أخرى وإلا صلى أربعا
ثم أخرج من طريق ابن المبارك عن معمر والأوزاعي ومالك عن الزهري عن أبي سلمة عن أبي هريرة مرفوعا من أدرك من الصلاة ركعة فقد أدركها قال الزدري فنرى الجمعة من الصلاة
وقال عياض يدل على أن المراد فضل الجماعة رواية ابن وهب عن يونس عن الزهري بزيادة مع الإمام وليست هذه الزيادة من حديث مالك وغيره عنه قال ويدل عليه أيضا إفراد مالك له في التبويب في الموطأ ويفسره رواية من روى فقد أدرك الفضل انتهى لكن هذا قد أعله ابن عبد البر بالشذوذ فقال رواه أبو علي عبيد الله بن عبد الحميد الحنفي عن مالك فقال فقد أدرك الفضل ولم يقله غيره
ورواه عمار بن مطرف عن مالك فقال فقد أدرك الصلاة ووقتها ولم يقله عن مالك غيره وليس بحجة فيما خولف فيه
قال مغلطاي وهل يكون ذلك مضاعفا كمن حضرها من أولها أو غير مضاعف قولان وإلى التضعيف ذهب أبو هريرة وغيره من السلف انتهى
وهذا الحديث أخرجه البخاري عن عبد الله بن يوسف ومسلم عن يحيى كلاهما عن مالك به
( مالك عن نافع ) المدني مولى ابن عمر أحد الثقات الأثبات ( أن عبد الله بن عمر بن الخطاب ) العدوي أبا عبد الرحمن ولد بعد البعث بقليل واستصغر يوم أحد وكان من أشد الناس اتباعا للأثر مات في آخر سنة ثلاث وسبعين أو أول التي تليها
____________________
(1/43)
( كان يقول إذا فاتتك الركعة فقد فاتتك السجدة ) فلا يكون بإدراك السجدة مدركا للصلاة أخذا من مفهوم الحديث أن من أدرك دون ركعة لا يكون مدركا لها وهو الذي استقر عليه الاتفاق وكان فيه شذوذ قديم
( مالك أنه بلغه أن عبد الله بن عمر ) بن الخطاب ( وزيد بن ثابت ) بن الضحاك الأنصاري النجاري صحابي مشهور كتب الوحي قال مسروق كان من الراسخين في العلم مات سنة خمس أو ثمان وأربعين وقيل بعد الخمسين
( كانا يقولان من أدرك الركعة فقد أدرك السجدة ) أي الصلاة من تسمية الكل باسم البعض
( مالك أنه بلغه ) وبلاغه ليس من الضعيف لأنه تتبع كله فوجد مسندا من غير طريقه
( أن أبا هريرة كان يقول من أدرك الركعة فقد أدرك السجدة ومن فاته قراءة أم القرآن فقد فاته خير كثير ) لموضع التأمين وما يترتب من غفران ما تقدم من ذنبه قاله ابن وضاح وغيره
4 ما جاء في تفسير دلوك الشمس وغسق الليل المذكورين في قوله تعالى { أقم الصلاة لدلوك الشمس إلى غسق الليل } سورة الإسراء الآية 78 قال في الأنوار أصل التركيب للانتقال ومنه الدلك فإن الدالك لا تستقر يده وقيل الدلوك من الدلك لأن الناظر إليها يدلك عينيه لدفع شعاعها واللام للتأقيت مثلها في لثلاث خلون
( مالك عن نافع أن ) مولاه ( عبد الله بن عمر كان يقول دلوك الشمس ميلها ) وقت الزوال وكذا روي عن ابن عباس وأبي هريرة وأبي برزة وعن خلق من التابعين
وروى ابن أبي حاتم عن علي دلوكها غروبها ورجح الأول بأن نافعا وإن وقفه فقد رواه سالم عن أبيه ابن عمر عن
____________________
(1/44)
النبي صلى الله عليه وسلم أخرجه ابن مردويه فلا يعدل عنه وبأنه يدل له أيضا قوله صلى الله عليه وسلم أتاني جبريل لدلوك الشمس حين زالت فصلى بي الظهر أخرجه إسحاق بن راهويه في مسنده وابن مردويه في تفسيره والبيهقي في المعرفة من حديث أبي مسعود الأنصاري
( مالك عن داود بن الحصين ) بمهملتين مصغر المدني وثقه ابن معين وابن سعد والعجلي وابن إسحاق وأحمد بن صالح المصري والنسائي وقال أبو حاتم ليس بقوي لولا أن مالكا روى عنه لترك حديثه
وقال الباجي منكر الحديث متهم برأي الخوارج
قال ابن حبان لم يكن داعية
وقال ابن عدي هو عندي صالح الحديث مات سنة خمس وثلاثين ومائة
( قال أخبرني مخبر ) هو عكرمة وكان مالك يكتم اسمه لكلام ابن المسيب فيه قاله في الاستذكار ونقل ذلك في التمهيد عن غيره ورده بأن مالكا صرح برواية عكرمة في الحج وقدمها على رواية غيره
وقال أبو داود ما روى داود بن الحصين عن عكرمة فمنكر وحديثه عن شيوخه مستقيم
( أن عبد الله بن عباس ) الخبر ترجمان القرآن ذا المناقب الجمة
( كان يقول دلوك الشمس إذا فاء الفيء ) وهو رجوع الظل عن المغرب إلى المشرق وذلك من الزوال ومنتهاه الغروب
( وغسق الليل اجتماع الليل وظلمته ) وهذه الآية إحدى الآيات التي جمعت الصلوات الخمس فدلوك الشمس إشارة للظهرين وغسق الليل العشاءين وقرآن الفجر إلى صلاة الصبح
5 جامع الوقوت ( مالك عن نافع عن عبد الله بن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال الذي تفوته صلاة العصر ) قال ابن بزيزة فيه رد على من كره أن يقال فاتتنا الصلاة
( كأنما وتر ) بضم الواو وكسر الفوقية ونائب الفاعل ضمير عائد على الذي يفوته أي هو فقوله ( أهله وماله ) بالنصب في رواية الجمهور مفعول ثان لوتر إذ يتعدى لمفعولين كقوله { ولن يتركم أعمالكم } سورة محمد الآية 35 والمعنى أصيب بأهله وماله وقيل وتر بمعنى نقص فيرفع وينصب لأن من رد النقص إلى الرجل نصب وأضمر نائب الفاعل ومن رده إلى الأهل رفع
وقال القرطبي روي بالنصب على أن وتر بمعنى سلب يتعدى لمفعولين وبالرفع على أن وتر بمعنى أخذ فأهله هو نائب الفاعل وقيل بدل اشتمال أو بعض وقيل النصب على التمييز أي وتر من حيث الأهل نحو غبن رأيه وألم نفسه ومنه { إلا من سفه نفسه } سورة البقرة الآية 130 في وجه أو
____________________
(1/45)
على نزع الخافض أي في أهله
وقال النووي روي بنصب اللامين ورفعهما والنصب هو الصحيح المشهور على أنه مفعول ثان ومن رفع فعلى ما لم يسم فاعله ومعناه انتزع منه أهله وماله وهذا تفسير مالك وأما النصب فقال الخطابي وغيره معناه نقص أهله وماله وسلبهم فبقي وترا بلا أهل ولا مال فليحذر من تفويتها كحذره من ذهاب أهله وماله
وقال ابن عبد البر معناه عند أهل الفقه واللغة أنه كالذي يصاب بأهله وماله إصابة يطلب بهما وترا والوتر الجناية التي تطلب ثأرها فيجتمع عليه غمان غم المصيبة وغم مقاساة طلب الثأر ولذا قال وتر ولم يقل مات أهله
وقال الداودي معناه يتوجه عليه من الاسترجاع ما يتوجه على من فقدهما فيتوجه عليه الندم والأسف لتفويته الصلاة وقيل معناه فاته من الثواب ما يلحقه من الأسف عليه كما يلحق من ذهب أهله وماله
وقال الحافظ حقيقة الوتر كما قال الخليل هو الظلم في الدم فاستعماله في غيره مجاز لكن قال الجوهري الموتور هو الذي قتل له قتيل فلم يدرك دمه ويقال أيضا وتره حقه أي نقصه وقيل الموتور من أخذ أهله وماله وهو ينظر وذلك أشد لغمه فوقع التشبيه بذلك لمن فاتته الصلاة لأنه يجتمع عليه غمان غم الإثم وغم فوات الصلاة كما يجتمع على الموتور غمان غم السلب وغم الثأر
ويؤيده رواية أبي مسلم الكجي من طريق حماد بن سلمة عن أيوب عن نافع في آخر الحديث وهو قاعد فهو إشارة إلى أنهما أخذا منه وهو ينظرهما
وقال الحافظ زين الدين العراقي كأن معناه أنه وتر هذا الوتر وهو قاعد غير مقاتل عنهم ولا ذاب وهو أبلغ في الغم لأنه لو فعل شيئا من ذلك كان أسلى له ويحتمل أن معناه وهو مشاهد لتلك المصائب غير غائب عنهم فهو أشد لتحسره قال وإنما خص الأهل والمال بالذكر لأن الاشتغال في وقت العصر إنما هو بالسعي على الأهل والشغل بالمال فذكر أن تفويت هذه الصلاة نازل منزلة فقدهما فلا معنى لتفويتهما بالاشتغال بهما مع أن تفويتهما كفواتهما أصلا ورأسا واختلف في معنى الفوات في هذا الحديث فقال ابن وهب هو فيمن لم يصلها في وقتها المختار وقيل بغروب الشمس
وفي موطإ ابن وهب قال مالك تفسيرها ذهاب الوقت وهو محتمل للمختار وغيره
وأخرج عبد الرزاق هذا الحديث عن ابن جريج عن نافع وزاد في آخره قلت لنافع حتى تغيب الشمس قال نعم
____________________
(1/46)
قال الحافظ وتفسير الراوي إذا كان فقيها أولى من غيره
قال السيوطي وورد مرفوعا أخرجه ابن أبي شيبة عن هشام عن حجاج عن نافع عن ابن عمر مرفوعا من ترك العصر حتى تغيب الشمس من غير عذر فكأنما وتر أهله وماله
وقال الأوزاعي فواتها أن تدخل الشمس صفرة أخرجه أبو داود
قال الحافظ ولعله على مذهبه في خروج وقت العصر
وقال مغلطاي في العلل لابن أبي حاتم عن أبيه إن التفسير بذلك من قول نافع
وقال المهلب ومن تبعه إنما أراد فواتها في الجماعة لما يفوته من شهود الملائكة الليلية والنهارية ويؤيده رواية ابن منده الموتور أهله وماله من وتر صلاة الوسطى في جماعة وهي صلاة العصر
قال المهلب وليس المراد فواتها باصفرار الشمس أو مغيبها إذ لو كان كذلك لبطل اختصاص العصر لأن ذهاب الوقت موجود في كل صلاة ونوقض بعين ما ادعاه لأن فوات الجماعة موجود في كل صلاة
ويروى عن سالم أن هذا فيمن فاتته ناسيا ومشى عليه الترمذي فبوب على الحديث ما جاء في السهو عن وقت العصر وعليه فالمراد أنه يلحقه من الأسف عند معاينة الثواب لمن صلى ما يلحق من ذهب أهله وماله ويؤخذ منه التنبيه على أن أسف العامد أشد لاجتماع فقد الثواب وحصول الإثم وقال الداودي إنما هو العامد
النووي وهو الأظهر وأيد بقوله في الرواية السابقة من غير عذر واختلف أيضا في تخصيص صلاة العصر بذلك فقيل نعم لزيادة فضلها وأنها الوسطى ولأنها تأتي في وقت تعب الناس في مقاساة أعمالهم وحرصهم على قضاء أشغالهم وتسويفهم بها إلى انقضاء وظائفهم ولاجتماع المتعاقبين من الملائكة فيها ورجحه الرافعي والنووي وتعقبه ابن المنير بأن الفجر أيضا فيها اجتماع المتعاقبين فلا يختص العصر بذلك قال والحق أن الله تعالى يخص ما شاء من الصلوات بما شاء من الفضيلة
وقال ابن عبد البر يحتمل أن الحديث خرج جوابا لسائل عن من تفوته العصر وأنه لو سئل عن غيرها لأجاب بمثل ذلك فيكون حكم سائر الصلوات كذلك وتعقبه النووي بأن الحديث ورد في العصر ولم تحقق العلة في هذا الحكم فلا يلحق بها غيرها بالشك والوهم وإنما يلحق غير المنصوص به إذا عرفت العلة واشتركا فيها
قال الحافظ هذا لا يدفع الاحتمال وقد احتج ابن عبد البر بما رواه ابن أبي شيبة وغيره من طريق أبي قلابة عن أبي الدرداء مرفوعا من ترك صلاة مكتوبة حتى تفوته الحديث وفي إسناده انقطاع لأن أبا قلابة لم يسمع من أبي الدرداء وقد رواه أحمد من حديث أبي الدرداء بلفظ من ترك العصر فرجع حديث أبي الدرداء إلى تعيين العصر
____________________
(1/47)
وروى ابن حبان وغيره من حديث نوفل بن معاوية مرفوعا من فاتته الصلاة فكأنما وتر أهله وماله وهذا ظاهره العموم في الصلوات المكتوبات
وأخرجه عبد الرزاق عن نوفل بلفظ لأن يوتر أحدكم أهله وماله خير له من أن يفوته وقت صلاة وهذا أيضا ظاهره العموم ويستفاد منه ترجيح رواية النصب المصدر بها لكن المحفوظ من حديث نوفل بلفظ من الصلوات صلاة من فاتته فكأنما وتر أهله وماله أخرجه البخاري ومسلم والطبراني وغيرهم وللطبراني من وجه آخر عن الزهري قلت لأبي بكر يعني ابن عبد الرحمن وهو الذي حدثه به ما هذه الصلاة قال العصر ورواه ابن أبي خيثمة من وجه آخر فصرح بأنها العصر في نفس الخبر والمحفوظ أن كونها العصر من تفسير أبي بكر بن عبد الرحمن
ورواه الطحاوي من وجه آخر وفيه أن التفسير من قول ابن عمر فالظاهر اختصاص العصر بذلك انتهى
قال السيوطي روى النسائي من طريق عراك بن مالك قال سمعت نوفل بن معاوية يقول سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول من الصلوات صلاة من فاتته فكأنما وتر أهله وماله فقال ابن عمر سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول هي العصر نعم في فوائد تمام من طريق مكحول عن أنس مرفوعا من فاتته صلاة المغرب فكأنما وتر أهله وماله فإن كان راويه حفظ ولم يهم دل ذلك على عدم الاختصاص
قال ابن عبد البر في هذا الحديث إشارة إلى تحقير الدنيا وأن قليل العمل خير من كثير منها
وقال ابن بطال لا يوجد حديث يقوم مقام هذا الحديث لأن الله قال { حافظوا على الصلوات } سورة البقرة الآية 238 ولا يوجد حديث فيه تكليف المحافظة غير هذا الحديث
وأخرجه البخاري عن عبد الله بن يوسف ومسلم عن يحيى كلاهما عن مالك به
( مالك عن يحيى بن سعيد ) الأنصاري ( أن عمر بن الخطاب انصرف من صلاة العصر فلقي رجلا لم يشهد ) لم يحضر ( العصر ) قال في الاستذكار ذكر بعض من شرح الموطأ يعني ابن حبيب عن مطرف أن هذا الرجل هو عثمان بن عفان قال وهذا لا يوجد في أثر علمته وإنما هو رجل من الأنصار من بني حديدة
( فقال عمر ما حبسك ) منعك ( عن صلاة العصر ) مع الجماعة ( فذكر له الرجل عذرا ) فكأنه لم يرضه ( فقال له عمر طففت ) بفاءين أي نقصت نفسك حظها من الأجر لتأخرك عن صلاة الجماعة والتطفيف لغة الزيادة على العدل والنقصان منه
____________________
(1/48)
قال يحيى ( قال مالك ويقال لكل شيء وفاء ) بالمد ( وتطفيف ) أي نقص مقابل الوفاء
( مالك عن يحيى بن سعيد أنه كان يقول إن المصلي ليصلي الصلاة وما فاته وقتها ) لكونه صلاها فيه ( ولما فاته من وقتها ) أوله أو أوسطه ( أعظم أو أفضل ) بالشك في اللفظ وإن اتحد المعنى ( من أهله وماله ) قال ابن عبد البر هذا له حكم المرفوع إذ يستحيل أن يكون مثله رأيا وقد ورد نحوه مرفوعا فأخرج الدارقطني في سننه من طريق عبيد الله بن موسى عن إبراهيم بن الفضل عن المقبري عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم إن أحدكم ليصلي الصلاة لوقتها وقد ترك من الوقت الأول ما هو خير له من أهله وماله وأخرج ابن عبد البر عن ابن عمر رفعه إن الرجل ليدرك الصلاة وما فاته منها خير من أهله وماله وأخرجه سعيد بن منصور عنه موقوفا وعن طلق بن حبيب مرسلا مرفوعا ( قال مالك من أدرك الوقت وهو في سفر فأخر الصلاة ساهيا أو ناسيا ) قال بعضهم فيما حكاه عياض السهو شغل عن الشيء والنسيان غفلة عنه وآفة
( حتى قدم على أهله ) المراد حتى تم سفره سواء كان له أهل أم لا
( أنه إن كان قدم على أهله وهو في الوقت فليصل صلاة المقيم ) أي يتم
( وإن كان قد قدم وقد ذهب الوقت فليصل صلاة المسافر ) أي مقصورة ( لأنه إنما يقضي مثل الذي كان عليه قال مالك وهذا الأمر هو الذي أدركت عليه الناس ) يعني التابعين ( وأهل العلم ) أتباعهم ( ببلدنا ) أي المدينة
( وقال مالك الشفق الحمرة التي ) ترى ( في ) أفق ( المغرب ) وهذا هو المعروف في مذهبه وعليه أكثر العلماء وقال أبو حنيفة إنه البياض الذي يليها ورد بأنه مختص في الاستعمال بالحمرة لقول أعرابي وقد رأى ثوبا أحمر كأنه شفق وقال المفسرون في قوله تعالى { فلا أقسم بالشفق } سورة الانشقاق الآية 16 أنه الحمرة
وقال الخليل بن أحمد رقبت البياض فوجدته يبقى إلى ثلث الليل وقال غيره إلى نصفه فلو رتب الحكم عليه لزم تأخيرها إلى ثلثه أو نصفه
( فإذا ذهبت الحمرة فقد وجبت صلاة العشاء ) أي دخل وقت وجوبها وقد صح أن جبريل صلى بالمصطفى العشاء حين غاب الشفق
( وخرجت ) أيها المصلي ( من وقت المغرب ) أي
____________________
(1/49)
المختار وإلا فوقتها الليل كله وهذا ظاهر جدا في امتداد مختارها للشفق وقد قال ابن العربي في شرح الترمذي إنه الصحيح وقال في أحكامه إنه المشهور من مذهب مالك
( مالك عن نافع أن عبد الله بن عمر أغمي عليه فذهب عقله ) من الإغماء ( فلم يقض الصلاة ) حين أفاق ( قال مالك وذلك فيما نرى ) بضم النون نظن ( والله أعلم ) لم يجزم بذلك لأنه لم يعلم حقيقة مذهب ابن عمر ( أن الوقت قد ذهب فأما من أفاق في الوقت فإنه يصلي ) وجوبا إذ ما به السقوط به الإدراك
6 النوم عن الصلاة أي ما حكمه هل كالإغماء أو لا فتجب إذا انتبه
( مالك عن ابن شهاب ) الزهري ( عن سعيد بن المسيب ) ابن حزن بن أبي وهب بن عمرو بن عائذ بن عمر أن ابن مخزوم القرشي المخزومي أحد العلماء الأثبات الفقهاء الكبار من كبار التابعين وأبوه وجده صحابيان واتفقوا على أن مرسلاته أصح المراسيل وقال علي بن المديني لا أعلم في التابعين أوسع علما منه مات سنة أربع وقيل ثلاث وتسعين وقد ناهز الثمانين وهذا مرسل عند جميع رواة الموطأ وقد تبين وصله فأخرجه مسلم وأبو داود وابن ماجه من طريق ابن وهب عن يونس عن ابن شهاب عن سعيد بن المسيب عن أبي هريرة ( أن رسول الله ) ورواية الإرسال لا تضر في رواية من وصله لأن يونس من الثقات الحفاظ احتج به الأئمة الستة وتابعه الأوزاعي وابن إسحاق في رواية ابن عبد البر وتابع مالكا على إرساله معمر في رواية عبد الرزاق عنه وسفيان بن عيينة ووصله في رواية أبان العطار عن معمر لكن عبد الرزاق أثبت في معمر من أبان ومحمد بن إسحاق في السيرة عن ابن شهاب عن سعيد مرسلا فيحمل على أن الزهري حدث به على الوجهين مرسلا وموصولا
( حين قفل ) أي رجع والقفول الرجوع من السفر ولا يقال لمن سافر مبتدئا قفل إلا القافلة تفاؤلا
( من ) غزوة ( خيبر ) بخاء معجمة وراء آخره كما رواه يحيى وابن القاسم وابن بكير والقعنبي
____________________
(1/50)
وغيرهم
قال الباجي وابن عبد البر وغيرهما وهو الصواب
وقال الأصيلي إنما هو من حنين بمهملة ونون يعني حتى لا يخالف قوله في حديث زيد بن أسلم بطريق مكة لأن طريقها غير طريق خيبر ورده أبو عمر وغيره بأن طريقهما من المدينة واحد فلا خلف فلا يحتاج لدعوى التصحيف وقد قال النووي ما قاله الأصيلي غريب ضعيف انتهى
والمراد من خيبر وما اتصل بها من فتح وادي القرى لأن النوم كان حين قرب من المدينة
وفي الصحيحين عن عمران وأبي قتادة كنا في سفر بالإبهام
وفي مسلم وأبي داود عن ابن مسعود أقبل من الحديبية ليلا
ويأتي من مرسل زيد بن أسلم بطريق مكة ولعبد الرزاق من مرسل عطاء بن يسار والبيهقي عن عقبة بن عامر والطبراني عن ابن عمرو بطريق تبوك
قال الحافظ فاختلاف المواطن يدل على تعدد القصة واختلف هل كان نومهم عن الصبح مرة أو أكثر فجزم الأصيلي بأن القصة واحدة ورده عياض بمغايرة قصة أبي قتادة لقصة عمران وهو كما قال وحاول ابن عبد البر الجمع بأن زمان رجوعهم من خيبر قريب من زمان رجوعهم من الحديبية وطريق مكة تصدق بها ولا يخفى تكلفه ورواية غزوة تبوك ترد عليه انتهى
لكن ابن عبد البر ذكرها وقال إنها مرسلة من عطاء لا تصح لأن الآثار الصحاح المسندة على خلاف قوله انتهى
ولعله لم يقف على حديثي عقبة وابن عمرو أو لم يصحا عنده
وقال النووي اختلف هل كان النوم مرة أو مرتين ورجحه القاضي عياض
( أسرى ) سار ليلا يقال سرى وأسرى لغتان وفي رواية أبي مصعب أسرع وفي مسلم سار ليلة ولأحمد من حديث ذي مخبر وكان يفعل ذلك لقلة الزاد فقال له قائل يا نبي الله انقطع الناس وراءك فحبس وحبس الناس معه حتى تكاملوا إليه فقال هل لكم أن نهجع هجعة فنزل ونزلوا
( حتى إذا كان من آخر الليل ) وفي مسلم حتى أدركه الكرى وهو بزنة عصا النعاس وقيل أن يكون الإنسان بين النوم واليقظة وللطبراني عن ابن عمرو حتى إذا كان مع السحر
( عرس ) بتشديد الراء قال الخليل والجمهور التعريس نزول المسافر آخر الليل للنوم والاستراحة ولا يسمى نزول أول الليل تعريسا ويقال لا يختص بزمن بل مطلق نزول المسافر للراحة ثم يرتحل ليلا كان أو نهارا
وفي حديث عمران حتى إذا كنا في آخر الليل وقعنا وقعة ولا وقعة أحلى عند المسافر منها وفي حديث أبي قتادة سرنا مع النبي فقال بعض القوم يا رسول الله لو عرست بنا فقال أخاف أن تناموا عن الصلاة فقال بلال أنا أوقظكم
( وقال ) ( لبلال ) بن رباح المؤذن وهو ابن حمامة وهي أمه مولى أبي بكر من السابقين الأولين وشهد بدرا والمشاهد مات بالشام سنة سبع عشرة أو ثمان عشرة وقيل سنة عشرين وله بضع وستون سنة
( أكلأ ) بالهمزة قال تعالى { قل من يكلؤكم } سورة الأنبياء الآية 42 أي يحفظكم أي احفظ وارقب ( لنا الصبح ) بحيث إذا طلع توقظنا
وفي مسلم الليل أي بحيث إذا تم بطلوع الفجر توقظنا
____________________
(1/51)
( ونام رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه وكلأ بلال ) وفي مسلم فصلى بلال ( ما قدر ) بالبناء للمفعول أي ما يسره الله له (1) *
( ثم استند إلى راحلته وهو مقابل الفجر ) أي مواجه الجهة التي يطلع منها
( فغلبته عيناه ) زاد في مسلم وهو مستند إلى راحلته
( فلم يستيقظ رسول الله ولا بلال ولا أحد من الركب ) وفي مسلم ولا أحد من أصحابه ( حتى ضربتهم الشمس ) قال عياض أي أصابهم شعاعها وحرها وزاد في مسلم فكان رسول الله أولهم استيقاظا
( ففزع رسول الله ) قال النووي أي انتبه وقام وقال الأصيلي فزع لأجل عدوهم خوف أن يكون اتبعهم فيجدهم بتلك الحال من النوم
وقال ابن عبد البر يحتمل أن يكون تأسفا على ما فاتهم من وقت الصلاة قال وفيه دلالة على أن ذلك لم يكن من عادته منذ بعث قال ولا معنى لقول الأصيلي لأنه لم يتبعه عدو وفي انصرافه من خيبر ولا من حنين ولا ذكر ذلك أحد من أهل المغازي بل انصرف من كلا الغزوتين ظافرا غانما
وفي حديث أبي قتادة فقال يا بلال أين ما قلت قال ما ألقيت علي نومة مثلها قط وإنما قال له ذلك تنبيها له على اجتناب الدعوى والثقة بالنفس وحسن الظن بها ولا سيما في مظان الغلبة وسلب الاختيار
وفي مسلم فقال أي بلال
وفي رواية ابن إسحاق ماذا صنعت بنا يا بلال ( فقال بلال يا رسول الله أخذ بنفسي الذي أخذ بنفسك ) قال ابن رشيق أي إن الله استولى بقدرته علي كما استولى عليك مع منزلتك
قال ويحتمل أن المراد النوم غلبني كما غلبك
وقال ابن عبد البر أي إذا كنت أنت في منزلتك من الله قد غلبتك عينك وقبضت نفسك فأنا أحرى بذلك ومعناه قبض نفسي الذي قبض نفسك فالباء زائدة قال وهذا قول من جعل النفس والروح شيئا واحدا لأنه قال في الحديث الآخر إن الله قبض أرواحنا فنص على أن المقبوض هو الروح وفي القرآن { الله يتوفى الأنفس حين موتها } سورة الزمر الآية 42 الآية
ومن قال النفس غير الروح تأول أخذ بنفسي من النوم الذي أخذ بنفسك منه
زاد في رواية ابن إسحاق قال صدقت
ففي هذا الحديث أن أول من استيقظ النبي وأن الذي كلأ الفجر بلال
ومثله في حديث أبي قتادة في الصحيحين وفيهما من حديث عمران أن أول من استيقظ أبو بكر ثم فلان ثم فلان ثم عمر الرابع فكبر حتى استيقظ
وفي حديث أبي قتادة أن العمرين لم يكونا معه لما نام
وفي قصة عمران أنهما كانا معه
وروى الطبراني سببها بقصة عمران وفيه أن الذي كلأ الفجر ذو مخبر وهو بكسر الميم وسكون الخاء المعجمة وفتح الموحدة
____________________
1*
(1/52)
وفي صحيح ابن حبان عن أبي مسعود أنه كلأ لهم الفجر قال الحافظ فهذا كله يدل على تعدد القصة ومع ذلك فالجمع ممكن ولا سيما مع ما في مسلم وغيره أن عبد الله بن رباح راوي الحديث عن أبي قتادة ذكر أن عمران سمعه وهو يحدث الحديث بطوله فقال انظر كيف تحدث فإني كنت شاهد القصة فما أنكر عليه من الحديث شيئا فهذا يدل على اتحادها لكن لمدعي التعدد أن يقول يحتمل أن عمران حضر القصتين فحدث بإحداهما وصدق ابن رباح لما حدث بالأخرى انتهى
فليتأمل الجمع بماذا مع هذا التغاير في الذي كلأ وأول من استيقظ وأن العمرين معه في قصة عمران دون قصة أبي قتادة وسبق اختلاف آخر في محل النوم فالمتجه ما رجحه عياض أن النوم عن صلاة الصبح وقع مرتين وإليه أومى الحافظ قبل ذلك كما مر ولذا قال السيوطي لا يجمع إلا بتعدد القصة
( فقال رسول الله اقتادوا ) بالقاف والفوقية أي ارتحلوا وبه عبر في حديث عمران زاد مسلم من رواية أبي حازم عن أبي هريرة فإن هذا منزل حضرنا فيه الشيطان
ويأتي في رواية زيد بن أسلم وقال إن هذا واد به شيطان فعلله بهذا ولا يعلمه إلا هو قال عياض وهذا أظهر الأقوال في تعليله ويأتي له مزيد في التالي
( فبعثوا رواحلهم ) أثاروها لتقوم ( واقتادوا شيئا ) قليلا وفي حديث عمران فسار غير بعيد ثم نزل وهذا يدل على أن هذا الارتحال وقع على خلاف سيرهم المعتاد
وفي مسلم ثم توضأ زاد ابن إسحاق وتوضأ الناس
( ثم أمر رسول الله بلالا فأقام الصلاة ) قال عياض أكثر رواة الموطأ على فأقام وبعضهم قال فأذن أو أقام بالشك ولأحمد من حديث ذي مخبر فأمر بلالا فأذن ثم قام فصلى الركعتين قبل الصبح وهو غير عجل ثم أمره فأقام الصلاة
( فصلى بهم رسول الله الصبح ) زاد الطبراني من حديث عمران فقلنا يا رسول الله أنعيدها من الغد لوقتها قال نهانا الله عن الربا ويقبله منا
وعند ابن عبد البر لا ينهاكم الله عن الربا ويقبله منكم
( ثم قال حين قضى الصلاة من نسي الصلاة ) زاد في رواية القعنبي أو نام عنها وبه يطابق الترجمة ( فليصلها إذا ذكرها ) ولأبي يعلى والطبراني وابن عبد البر عن أبي جحيفة ثم قال إنكم كنتم أمواتا فرد الله إليكم أرواحكم فمن نام عن الصلاة فليصلها إذا استيقظ ومن نسي صلاة فليصلها إذا ذكرها وفي الصحيحين عن أنس مرفوعا من نسي صلاة أو نام عنها فكفارتها أن
____________________
(1/53)
يصليها إذا ذكرها لا كفارة لها إلا ذلك وبهذا كله علم أن في حديث الباب اختصارا من بعض رواته فزعم أنه أراد بالنسيان مطلق الغفلة عن الصلاة لنوم أو غيره وأنه لم يذكر النوم أصلا لأنه أظهر في العموم الذي أراده فاسد نشأ من عدم الوقوف على الروايات
( فإن الله تبارك وتعالى يقول في كتابه أقم الصلاة لذكري ) قال عياض قال بعضهم فيه تنبيه على ثبوت هذا الحكم وأخذه من الآية التي تضمنت الأمر لموسى عليه السلام وأنه مما يلزمنا اتباعه
وقال غيره استشكل وجه أخذ الحكم من الآية فإن معنى الذكرى إما لذكرى فيها وإما لأذكرك عليها على اختلاف القولين في تأويلها وعلى كل فلا يعطى ذلك
قال ابن جرير ولو كان المراد حين تذكرها لكان التنزيل لذكرها وأصح ما أجيب به أن الحديث فيه تغيير من الراوي وإنما هو للذكرى بلام التعريف وألف القصر كما في سنن أبي داود وفيه وفي مسلم زيادة وكان ابن شهاب يقرؤها للذكرى فبان بهذا أن استدلاله إنما كان بهذه القراءة فإن معناها للتذكر أي لوقت التذكر قال عياض وذلك هو المناسب لسياق الحديث وعرف أن التغيير صدر من الرواة عن مالك أو ممن دونهم لا من مالك ولا ممن فوقه
قال في الصحاح الذكرى نقيض النسيان انتهى
وقد جمع العلماء بين هذا الحديث وبين قوله إن عيني تنامان ولا ينام قلبي بأن القلب إنما يدرك الحسيات المتعلقة به كالحدث والألم ونحوهما ولا يدرك ما يتعلق بالعين لأنها نائمة والقلب يقظان
قال النووي هذا هو الصحيح المعتمد قال الحافظ ولا يقال القلب وإن لم يدرك ما يتعلق بالعين من رؤية الفجر مثلا لكنه يدرك إذا كان يقظانا مرور الوقت الطويل فإن من ابتداء الفجر إلى أن حميت الشمس مدة لا تخفى على من لم يستغرق لأنا نقول يحتمل أن قلبه كان مستغرقا بالوحي ولا يلزم وصفه بالنوم كما كان يستغرق حالة إلقاء الوحي يقظة وحكمة ذلك بيان التشريع بالفعل لأنه أوقع في النفس كما في سهوه في الصلاة قال وقريب من هذا جواب ابن المنير بأن السهو قد يحصل له في اليقظة لمصلحة التشريع ففي النوم أولى أو على السواء وجمع أيضا بأنه كان له حالان أحدهما ينام فيه القلب فصادف هذا الموضع والثاني لا ينام وهو الغالب من أحواله وهذا ضعيف وقيل غير ذلك كما بسطه في فتح الباري
( مالك عن زيد بن أسلم أنه قال ) مرسلا باتفاق رواة الموطأ وجاء معناه متصلا من وجوه صحاح قاله أبو عمر ( عرس رسول الله ليلة بطريق مكة ) قال ابن عبد البر لا يخالف ما في الحديث قبله لأن طريق خيبر وطريق مكة من المدينة واحد
( ووكل بلالا أن يوقظهم للصلاة ) أي صلاة الصبح بتخفيف الكاف يقال وكله من باب وعد
____________________
(1/54)
بكذا إذا استكفاه إياه وصرف أمره إليه وبتشديدها كقوله تعالى { الذي وكل بكم } سورة السجدة الآية 11 فرقد بلال ورقدوا نام وناموا قبله واستمروا راقدين ( حتى استيقظوا ) انتبهوا من نومهم
( و ) الحال أنه ( قد طلعت عليهم الشمس فاستيقظ القوم وقد فزعوا ) أسفا على فوات وقت الصلاة لا خوفا من عدو كما زعم
( فأمرهم رسول الله أن يركبوا ) فقال ارتحلوا وفي رواية اقتادوا
( حتى يخرجوا من ذلك الوادي وقال إن هذا واد به شيطان ) ولمسلم عن أبي هريرة فإن هذا منزل حضرنا فيه الشيطان
قال ابن رشيق قد علله بذلك ولا يعلمه إلا هو قال عياض هذا أظهر الأقوال في تعليله وقيل لاشتغالهم بأحوال الصلاة وقيل تحرزا من العدو وقيل ليستيقظ النائم وينشط الكسلان وقيل لكون الوقت وقت كراهة ورد بقوله في الحديث السابق حتى ضربتهم الشمس
وفي حديث عمران حتى وجدوا حر الشمس
وللطبراني حتى كانت الشمس في كبد السماء وذلك لا يكون حتى يذهب وقت الكراهة
وقال ابن عبد البر وتبعه القرطبي أخذ بهذا بعض العلماء فقال من انتبه من نوم عن صلاة فاتته في حضر فليتحول عن موضعه وإن كان واديا فليخرج عنه وقيل هو خاص بالنبي لأنه لا يعلم من حال ذلك الوادي ولا غيره ذلك إلا هو
وقال غيرهما يؤخذ منه أن من حصلت له غفلة في مكان عن عبادة استحب له التحول منه ومنه أمر الناعس في سماع الخطبة يوم الجمعة بالتحول من مكان إلى مكان آخر
وروي عن ابن وهب وغيره أن تأخير قضاء الفائتة منسوخ بقوله تعالى { وأقم الصلاة لذكري } سورة طه الآية 14 وفيه نظر لأن الآية مكية والحديث مدني فكيف ينسخ المتقدم المتأخر ( فركبوا حتى خرجوا من ذلك الوادي ) فساروا غير بعيد
( ثم أمرهم رسول الله أن ينزلوا وأن يتوضؤوا ) وفي مسلم وابن إسحاق ثم توضأ وتوضأ الناس
( وأمر بلالا أن ينادي ) يؤذن ( بالصلاة أو يقيم ) بالشك ( فصلى رسول الله بالناس ) الصبح ( ثم انصرف ) التفت ( إليهم وقد رأى من ) أي بعض ( فزعهم ) أسفا على خروج الوقت
( فقال ) مؤنسا لهم بأنه لا حرج عليهم في ذلك لأنهم لم يتعمدوه كما آنسهم قبل الارتحال لما شكوا إليه الذي أصابهم فقال لا ضيرا ولا يضير
وفي مستخرج أبي نعيم لا يسوء ولا يضير
وفي حديث أبي قتادة عند مسلم وركب وركبنا معه فجعل بعضنا يهمس إلى بعض ما كفارة ما صنعنا بتفريطنا في صلاتنا فقال أما لكم في
____________________
(1/55)
أسوة إنما التفريط على من لم يصل الصلاة حتى يجيء وقت الصلاة الأخرى
( يا أيها الناس إن الله قبض أرواحنا ) زاد أبو داود من حديث ذي مخبر ثم ردها إلينا فصلينا
وله من حديث أنس إن هذه الأرواح عارية في أجساد العباد يقبضها ويرسلها إذا شاء
( ولو شاء لردها إلينا في حين ) وقت ( غير هذا ) قال العز بن عبد السلام في كل جسد روحان روح اليقظة التي أجرى الله العادة أنها إذا كانت في الجسد كان الإنسان مستيقظا فإذا نام خرجت منه ورأت الروح المنامات وروح الحياة التي أجرى الله العادة أنها إذا كانت في الجسد فهو حي فإذا فارقته مات فإذا رجعت إليه حيى وهاتان الروحان في باطن الجسد لا يعلم مقرهما إلا من أطلعه الله على ذلك فهما كجنينين في بطن امرأة واحدة قال ولا يبعد عندي أن تكون الروح في القلب ويدل على وجود روحي الحياة واليقظة قوله تعالى { الله يتوفى الأنفس حين موتها والتي لم تمت } سورة الزمر الآية 42 تقديره ويتوفى الأنفس التي لم تمت أجسادها في منامها فيمسك الأنفس التي قضى عليها الموت عنده ولا يرسلها إلى أجسادها ويرسل الأنفس الأخرى وهي أنفس اليقظة إلى أجسادها إلى انقضاء أجل مسمى وهو أجل الموت فحينئذ يقبض أرواح الحياة وأرواح اليقظة جميعا من الأجساد
( فإذا رقد أحدكم عن الصلاة أو نسيها ثم فزع ) قام ( إليها فليصلها كما كان يصليها في وقتها ) وقال لو أن الله أراد أن لا تناموا عنها لم تناموا ولكن أراد أن تكون لمن بعدكم فهكذا لمن نام أو نسي رواه أحمد عن ابن مسعود
وله عن ابن عباس موقوفا ما يسرني بها الدنيا وما فيها يعني الرخصة ولابن أبي شيبة عن مسروق ما أحب أن لي الدنيا وما فيها بصلاة رسول الله بعد طلوع الشمس ( ثم التفت رسول الله إلى أبي بكر ) الصديق عبد الله بن عثمان خير الناس بعد الأنبياء بإجماع والمقدم على جميع الصحابة بلا دفاع مناقبه جمة ( فقال إن الشيطان أتى بلالا وهو قائم يصلي ) نفلا بالسحر ( فأضجعه فلم يزل يهديه ) قال ابن عبد البر أهل الحديث يروون هذه اللفظة بلا همز وأصلها عند أهل اللغة الهمز وقال في المطالع هو بالهمز أي يسكنه وينومه من هدأت الصبي إذا وضعت يدك عليه لينام ورواه المهلب بلا همز على التسهيل ويقال أيضا يهدنه بالنون وروي يهدهده من هدهدت الأم ولدها لينام أي حركته
( كما يهدى الصبي حتى نام ) بلال ( ثم دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم بلالا فأخبر بلال رسول الله صلى الله عليه وسلم مثل الذي أخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم أبا بكر )
____________________
(1/56)
وفيه تأنيس لبلال واعتذار عنه وأنه ليس باختياره (1) *
( فقال أبو بكر أشهد أنك رسول الله ) لما شاهد من المعجزة الباهرة وهي إخباره بما صنع الشيطان ببلال
7 النهي عن الصلاة بالهاجرة وهي نصف النهار عند اشتداد الحر قاله الجوهري وغيره والنهي للكراهة وهو مأخوذ من مفهوم أحاديث الباب
( مالك عن زيد بن أسلم عن عطاء بن يسار أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال ) هذا مرسل يقويه الأحاديث المتصلة التي رواها مالك وغيره من طرق كثيرة قاله أبو عمر وقول البوني قدم المرسل على الحديث بعده وهو مسند لأنه يراهما سواء إذ لا يروى عن غير عدل بل قد يكون الراوي إذا ترك ذكر من روى عنه أقوى لأنه استقل بعلم حاله من ذكره لأنه وكله إلى من نقله إليهم مبني على قول ضعيف حكاه في أول التمهيد
( إن شدة الحر من فيح ) بفتح الفاء وإسكان التحتية وحاء مهملة ( جهنم ) أي من سعة انتشارها وتنفسها ومنه مكان أفيح أي متسع وهذا كناية عن شدة استعارها وظاهره أن مثار وهج الحر في الأرض من فيحها حقيقة وعليه الجمهور وقيل هو من مجاز التشبيه أي كأنه نار جهنم في الحر فاجتنبوا ضرره قال عياض كلا الحملين ظاهر وحمله على الحقيقة أولى قال الحافظ ويؤيده قوله اشتكت الخ
وقال النووي إنه الصواب لأنه ظاهر الحديث ولا مانع من حمله على حقيقته فوجب الحكم بأنه على ظاهره وجهنم اسم أعجمي عند أكثر النحاة وقيل عربي ولم يصرف للتأنيث والعلمية سميت بذلك لبعد قعرها كما في المحكم
( فإذا اشتد ) أصله اشتدد بوزن افتعل من الشدة ثم أدغمت إحدى الدالين في الأخرى ( الحر فأبردوا ) بقطع الهمزة وكسر الراء أي أخروا إلى أن يبرد الوقت يقال أبرد إذا دخل في البرد وأظهر إذا دخل في الظهيرة ومثله في المكان أنجد وأتهم إذا دخل نجدا وتهامة
( عن الصلاة ) أي بالصلاة كما جاء في رواية وعن تأتي بمعنى الباء كرميت عن القوس أي به قاله عياض وبه جزم النووي قال عياض أو زائدة أي أبردوا الصلاة يقال أبرد الرجل كذا إذا فعله في برد النهار واختاره في القبس أو للمجاوزة أي تجاوزوا عن وقتها المعتاد إلى أن تنكسر شدة الحر
وقال الخطابي أي تأخروا عن الصلاة مبردين أي داخلين في وقت الإبراد
____________________
1*
(1/57)
( وقال ) صلى الله عليه وسلم ( اشتكت النار إلى ربها ) حقيقة بلسان المقال ( فقالت يا رب أكل بعضي بعضا فأذن لها ) ربها تعالى ( بنفسين ) بفتح الفاء تثنية نفس وهو ما يدخل في الجوف ويخرج منه من الهواء فشبه الخارج من حرارتها وبردها إلى الدنيا بالنفس الخارج من جوف الحيوان وقيل شكواها مجاز بلسان الحال أو تكلم خازنها أو من شاء الله عنها قال ابن عبد البر لكلا القولين وجه ونظائر والأرجح حمله على الحقيقة أنطقها الله الذي أنطق كل شيء وقال عياض إنه الأظهر والله قادر على خلق الحياة بجزء منها حتى تتكلم أو يخلق لها كلاما يسمعه من شاء من خلقه
وقال القرطبي لا إحالة في حمل اللفظ على حقيقته وإذا أخبر الصادق بأمر جائز لم يحتج إلى تأويله فحمله على حقيقته أولى
وقال النووي الصواب الحقيقة وجعل الله فيها إدراكا وتمييزا بحيث تكلمت وقال بهذا نحوه التوربشتي ورجح البيضاوي المجاز فقال شكواها مجاز عن غليانها وأكل بعضها بعضا مجاز عن ازدحام أجزائها وتنفسها مجاز عن خروج ما يبرز منها
وقال الزين بن المنير المختار الحقيقة لصلاحية القدرة لذلك ولأن استعارة الكلام للحال وإن عهدت وسمعت لكن الشكوى وتفسيرها والتعليل له والإذن والقبول والنفس وقصره على اثنين فقط بعيد من المجاز خارج عما ألف من استعماله ( في كل عام نفس في الشتاء ونفس في الصيف ) هما بالجر على البدل أو البيان ويجوز الرفع بتقدير أحدهما والنصب بتقدير أعني
( مالك عن عبد الله بن يزيد ) بتحتية وزاي المخزومي المدني المقبري الأعور ثقة مات سنة ثمان وأربعين ومائة
( مولى الأسود بن سفيان ) بن عبد الأسد بن هلال بن عبد الله بن عمر بن مخزوم القرشي المخزومي ابن أخي أبي سلمة بن عبد الأسد زوج أم سلمة ذكره ابن عبد البر وقال في صحبته نظر وأشار في الإصابة إلى ترجيح أنه صحابي
( عن أبي سلمة ) إسماعيل أو عبد الله أو اسمه كنيته ( ابن عبد الرحمن ) بن عوف الزهري
( وعن محمد بن عبد الرحمن بن ثوبان ) بلفظ تثنية ثوب العامري عامر قريش المدني ثقة من أواسط التابعين
____________________
(1/58)
( عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال إذا اشتد الحر فأبردوا ) بقطع الهمزة وكسر الراء بخلاف حديث الحمى من فيح جهنم فأبردوها بالماء فإنه بوصل الألف لأنه ثلاثي من برد الماء حرارة جوفي ( عن الصلاة ) أي صلاة الظهر لأنها التي يشتد الحر غالبا في أول وقتها وبه صرح في حديث أبي سعيد عند البخاري وغيره بلفظ أبردوا بالظهر فيحمل المطلق على المقيد كما أفاده الإمام في الترجمة وحمل بعضهم الصلاة على عمومه بناء على أن المفرد المعرف يعم فقال به أشهب في العصر وأحمد في العشاء في الصيف دون الشتاء ولم يقل به أحد في المغرب ولا في الصبح لضيق وقتهما
( فإن شدة الحر من فيح جهنم ) تعليل لمشروعية الإبراد وحكمته دفع المشقة لأنها تسلب الخشوع وهذا أظهر وقيل لأنها الساعة التي ينتشر فيها العذاب لقوله في حديث عمرو بن عبسة عند مسلم أقصر عن الصلاة عند استواء الشمس فإنها ساعة تسجر فيها جهنم واستشكل بأن الصلاة مظنة وجود الرحمة ففعلها مظنة طرد العذاب فكيف أمر بتركها وأجيب بأن التعليل إذا جاء من الشارع وجب قبوله وإن لم يفهم معناه واستنبط له ابن المنير معنى مناسبا فقال وقت ظهور أثر الغضب لا ينجع فيه الطلب إلا ممن أذن له فيه والصلاة لا تنفك عن كونها طلبا ودعاء فناسب الإقصار حينئذ واستدل بحديث الشفاعة حيث اعتذر الأنبياء كلهم للأمم بأن الله غضب غضبا لم يغضب قبله مثله ولا يغضب بعده مثله سوى نبينا فلم يعتذر بل طلب لأنه أذن له في ذلك ويمكن أن يقال سجر جهنم سبب فيحها وفيحها سبب وجود شدة الحر وهو مظنة المشقة التي هي مظنة سلب الخشوع فناسب أن لا يصلي فيها لكن يرد عليه أن سجرها مستمر في جميع السنة والإبراد مختص بشدة الحر فهما متغايران فحكمة الإبراد دفع المشقة وحكمة الترك وقت سجرها لكونه في وقت ظهور أثر الغضب قاله الحافظ واستدراكه مبني على مذهبه من الاختصاص أما على مذهب مالك من ندب الإبراد في جميع السنة ويزاد لشدة الحر فلا استدراك
( وذكر ) النبي صلى الله عليه وسلم فهو بالإسناد المذكور ووهم من جعله موقوفا على أبي هريرة أو معلقا وقد أفرده أحمد في مسنده ومسلم من طريق آخر عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم ذكر ( أن النار اشتكت إلى ربها ) حقيقة بلسان المقال كما رجحه من فحول الرجال ابن عبد البر وعياض والقرطبي والنووي وابن المنير والتوربشتي ولا مانع منه سوى ما يخطر للواهم من الخيال
( فأذن لها في كل عام بنفسين ) تثنية نفس بالفتح ( نفس في الشتاء ونفس في الصيف ) الرواية بجر نفس في الموضعين إذ في رواية الصحيحين فهو أشد ما تجدون من الحر وأشد ما تجدون من
____________________
(1/59)
الزمهرير أي وهو شدة البرد
وفي مسلم من طريق أبي سلمة عن أبي هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال قالت النار رب أكل بعضي بعضا فأذن لي أتنفس فأذن لها بنفسين نفس في الشتاء ونفس في الصيف فما وجدتم من برد وزمهرير فمن نفس جهنم وما وجدتم من حر أو حرور فمن نفس جهنم قال القاضي عياض قيل معناه إنها إذا تنفست في الصيف قوي لهب تنفسها حر الشمس وإذا تنفست في الشتاء دفع حرها شدة البرد إلى الأرض
وقال ابن عبد البر لفظ الحديث يدل على أن نفسها في الشتاء غير الشتاء ونفسها في الصيف غير الصيف
وقال ابن المنير إن قيل كيف يجمع بين البرد والحر في النار فالجواب أن جهنم فيها زوايا فيها نار وزوايا فيها زمهرير وليست محلا واحدا يستحيل أن يجتمعا فيه
وقال مغلطاي لقائل أن يقول الذي خلق الملك من ثلج ونار قادر على جمع الضدين في محل واحد
وأيضا فالنار من أمور الآخرة لا تقاس على أمر الدنيا
وقال ابن العربي فيه إشارة إلى أن جهنم مطبقة محاط عليها بجسم يكتنفها من جميع نواحيها والحكمة في التنفيس عنها إعلام الخلق بأنموذج منها انتهى
وفي الطبراني الكبير بسند حسن عن ابن مسعود قال تطلع الشمس من جهنم في قرن شيطان وبين قرني شيطان فما ترتفع من قصبة إلا فتح باب من أبواب النار فإذا اشتد الحر فتحت أبوابها كلها
قال السيوطي وهذا يدل على أن التنفس يقع من أبوابها وعلى أن شدة الحر من فيح جهنم حقيقة انتهى
وهذا الحديث أخرجه مسلم حدثني إسحاق بن موسى الأنصاري قال حدثنا معن قال حدثنا مالك فذكره
( مالك عن أبي الزناد ) عبد الله بن ذكوان القرشي مولاهم المدني يكنى بأبي عبد الرحمن ثقة فقيه من صغار التابعين روى عن أنس وابن جعفر ولقي ابن عمر وأبا أمامة بن سهل بن حنيف وعن خلق من التابعين وهو ممن سمي أمير المؤمنين في الحديث وكان يغضب ممن يلقبه بأبي الزناد
وقال عبد ربه بن سعيد رأيت أبا الزناد دخل المسجد النبوي ومعه من الأتباع مثل ما مع السلطان فمن سائل عن فريضة وعن الحساب وعن الشعر وعن الحديث وعن معضلة
وقال الليث رأيت أبا الزناد وخلفه ثلاثمائة تابع من طالب فقه وعلم وشعر وصنوف العلم مات سنة إحدى وثلاثين ومائة وقيل بعدها
( عن الأعرج ) عبد الرحمن بن هرمز ( عن أبي هريرة ) وهذا الإسناد من الأسانيد الموصوفة قال البخاري أصح أسانيد أبي هريرة أبو الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة
____________________
(1/60)
( أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال إذا اشتد الحر فأبردوا عن الصلاة ) قال في القبس ليس للإبراد في الشريعة تحديد إلا ما في حديث ابن مسعود كان قدر صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم في الصيف ثلاثة أقدام إلى خمسة أقدام وفي الشتاء خمسة أقدام إلى سبعة أقدام أخرجه أبو داود والنسائي قال وذلك بعد ظل الزوال فلعل الإبراد كان ريثما يكون للجدار ظل يأوي إليه المجتاز انتهى
والأمر للاستحباب عند الجمهور وقيل أمر إرشاد وقيل للوجوب حكاه عياض وغيره فنقل الكرماني الإجماع على عدم الوجوب غفلة وخصه بعضهم بالجماعة فأما المنفرد فالتعجيل في حقه أفضل وهذا قول أكثر المالكية والشافعي لكن خصه أيضا بالبلد الحار وقيد الجماعة بما إذا كانوا ينتابون مسجدا من بعد فلو كانوا مجتمعين أو كان المنتابون في كن فالأفضل لهم التعجيل والمشهور عن أحمد التسوية من غير تخصيص ولا قيد وهو قول إسحاق والكوفيين وابن المنذر وذهب بعضهم إلى أن تعجيل الظهر أفضل مطلقا وقالوا معنى أبردوا صلوا في أول الوقت أخذا من برد النهار وهو أوله وهو تأويل بعيد يرده قوله ( فإن شدة الحر من فيح جهنم ) فإن التعجيل بذلك يدل على أن المطلوب التأخير وحديث أبي ذر صريح في ذلك حيث قال كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم في سفر فأراد المؤذن أن يؤذن فقال صلى الله عليه وسلم أبرد حتى رأينا فيء التلول رواه البخاري ومسلم والحامل لهم على ذلك حديث خباب شكونا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم حر الرمضاء في جباهنا وأكفنا فلم يشكنا رواه مسلم أي لم يزل شكوانا
وتمسكوا أيضا بالأحاديث الدالة على فضل أول الوقت وبأن الصلاة حينئذ أكثر مشقة فيكون أفضل
والجواب عن حديث خباب أنه محمول على أنهم طلبوا تأخيرا زائدا عن وقت الإبراد وهو زوال حر الرمضاء وذلك قد يستلزم خروج الوقت فلذلك لم يجبهم أو هو منسوخ بأحاديث الإبراد فإنها متأخرة عنه واستدل له الطحاوي بحديث المغيرة كنا نصلي مع رسول الله صلى الله عليه وسلم الظهر بالهاجرة ثم قال لنا أبردوا بالصلاة الحديث رواه أحمد وابن ماجه برجال ثقات وصححه ابن حبان ونقل الخلال عن أحمد أن هذا آخر الأمرين من النبي صلى الله عليه وسلم وجمع بعضهم بين الحديثين بأن الإبراد رخصة والتعجيل أفضل وهو قول من قال إنه أمر إرشاد وعكسه بعضهم فقال الإبراد أفضل وحديث خباب يدل على الجواز وهو الصارف للأمر عن الوجوب وفيه نظر لأن ظاهره منع التأخير وقيل معنى قول خباب فلم يشكنا لم يحوجنا إلى شكوى بل أذن لنا في الإبراد حكي عن ثعلب ويرده أن في الخبر زيادة رواها ابن المنذر بعد قوله فلم يشكنا وقال إذا زالت الشمس فصلوا وأحسن الأجوبة كما قال المازري الأول
والجواب عن أحاديث أول الوقت أنها عامة أو مطلقة والأمر بالإبراد خاص ولا التفات إلى من قال التعجيل أكثر مشقة فيكون أفضل لأن الأفضلية لم تنحصر في المشق بل قد يكون الأخف أفضل كقصر الصلاة في السفر ذكره الحافظ
____________________
(1/61)
النهي عن دخول المسجد بريح الثوم بضم المثلثة ما دامت ريحها موجودة
ووقع لابن خزيمة أنه قال يمنع منه ثلاثا واحتج بما رواه من أكل من هذه البقلة الخبيثة فلا يقربن مسجدنا ثلاثا وتعقب باحتمال أن قوله ثلاثا يتعلق بالقول أي قال ذلك ثلاثا بل هذا هو الظاهر لأن علة المنع وجود الرائة وهو لا تبقى هذه المدة والنهي عن تغطية الفم في الصلاة كذا في النسخ القديمة وبه يظهر مطابقة أثر سالم للترجمة وسقط من كثير من النسخ فأشكلت المطابق
مالك عن ابن شهاب عن سعيد بن المسيب بكسر الياء وفتحها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال أرسله رواة الموطأ كلهم إلا روح بن عبادة فرواه عن مالك موصولا فزاد عن أبي هريرة وقد رواه مسلم من طريق معمر وابن ماجة من طريق ابراهيم بن سعد وابن وهب عن يونس ثلاثتهم عن الزهرير عن سعيد عن أبي هريرة أنه أنه صلى الله عليه وسلم قال من أكل من هذه الشجرة يعني الثوم وفيه مجاز لأن المعروف لغة أن الشجر ما له ساق وما لا ساق له فنجم وبه فسر ان عباس والنجم والشجر يسجدان ومن أهل اللغة من قال ما نبت له اصل في الأرض يخلف ما قطع منه فشجر وإلا فنجم
وقال الخطابي في هذا الحديث إطلاق الشجر على الثوم والعامة لا تعرف الشجر إلا ماكان له ساق انتهى وقيل بينهما عموم وخصوص فكل نجم شجر ولا عكس كالنخل والشجر فكل نخل شجر ولا عكس
قال ابن بطال وهذا يدل على إباحة أكل الثوم لأن قوله من أكل لفظ إباحة ورده ابن المنير بأن هذه الصيغة إنما تعطي الوجود لا الحكم أي من وجد منه الأكل وهو أعم من كونه مباحا أم لا وفي رواية جابر في الصحيحين من أكل ثوما أو بصل
فلا يقرب مساجدنا أيها المسلمون فالجمع في هذه الرواية كرواية أحمد فيشمل جميع المساجدة وعليه الأكثر وقيل خاص بمسجد المدينة لأجل نزول جبريل فيه ولرواية مسجدنا بالإفراد ورد بأن المراد به الجنس لرواية الجمع والملائكة تحضر في غير المسجد النبوي والعلة التأذي حتى للبشر كما قال يؤذينا بريح الثوم بضم المثلثة زاد في حديث جابر وليقعد في بيته
وقد حكى ابن بطال هذا القول عن بعض العلماء وضعفه ولعبد الرزاق عن ابن جريح قلت لعطاء هل النهي للمسجد الحرام خاصة أو في المساجد قال بل في المساجد وقيل أراد مسجده الذي أعده للصلاة فيه يوم خيبر فكأنه تشبث بما رواه البخاري عن ابن عمر نهى صلى الله عليه وسلم عن أكل الثوم يوم خيبر ومثل الثوم البصل والكراث كما في مسلم
____________________
(1/62)
ونقل ابن التين عن مالك الفجل إن ظهر ريحه فكالثوم وقيده عياض بالجشاء وفي الطبراني الصغير النص على الفجل من حديث جابر لكن في إسناده يحيى بن راشد ضعيف وألحق بعضهم بذلك من بفمه بخر أو به جرح له رائحة كريهة وزاد غيره أصحاب الصنائع الكريهات كالسماك وأصحاب العاهات كالمجذوم ومن يؤذي الناس بلسانه ابن دقيق العيد وذلك كله توسع غير مرضي
وقال ابن المنير ألحق بعض أصحابنا المجذوم وغيره بآكل الثوم في المنع من المسجد وفيه نظر لأن آكله أدخل على نفسه هذا المانع باختياره والمجذوم علته سماوية قال لكن قوله صلى الله عليه وسلم من جوع أو غيره يدل على التسوية وتعقبه الحافظ بأنه رأى قول البخاري في الترجمة قوله النبي الخ فظنه لفظ حديث وليس كذلك بل هو من تفقه البخاري وتجويزه لذكر الحديث بالمعنى وحكم رحبة المسجد وما قرب منها حكمه فقد كان صلى الله عليه وسلم إذا وجد ريحها في المسجد أمر بإخراج من وجدت منه إلى البقيع كما في مسلم عن ابن عمر
مالك عن عبد الرحمن بن المجبر بضم الميم وفتح الجيم والموحدة الثقيلة القرشي العدوي روى عن أبيه وسالم وعنه ابنه محمد ومالك وغيرهما ووثقه الفلاس وغيره قال في الاستذكار المجبر هو عبد الرحمن بن عبد الرحمن بن عمر بن الخطاب وإنما قيل له المجبر لأنه سقط فتكسر فجبر وقال ابن ماكولا لا يعرف في الرواة عبدالرحمن بن عبد الرحمن بن عبد الرحمن ثلاثة في نسق إلا هذا وذكر الزبير بن بكار أن أباه عبد الرحمن الأصغر مات وهو حمل فلما ولد سمته حفصة باسم أبيه وقالت لعل الله يجبره وقال في الاستيعاب كان لعمر ثلاثة أولاد كلهم عبد الرحمن أكبرهم صحابي والثاني يكنى أبا شحمة وهو الذي ضربه أبوه في الخمر والثالث والد المجبر بالجيم والموحدة الثقيلة
أنه كان يرى سالم بن عبد الله بن عمر أحد الفقهاء اذا رأى الإنسان يغطي فاه وهو يصلي جبذ الثوب عن فيه جبذا بجيم وموحدة ومعجمة شديدا لأنه أبلغ في تعليمه حتى ينزعه عن فيه قال المجد الجبذ الجذب وليس مقلوبه بل لغة صحيحة ووهم الجوهري وغيره كالاجتباذ والفعل كضرب ففعل سالم وهو من الفقهاء السبعة دليل على أن كراهة تغطية الفم في الصلاة كان أمرا مقررا عندهم بالمدينة
____________________
(1/63)
3 كتاب الطهارة
1 العمل في الوضوء بالضم الفعل والفتح الماء الذي يتوضأ به على المشهور فيهما وحكى في كل منهما الأمران مشتق من الوضاءة الحسن والنظافة لأن المصلي يتنظف به فيصير وضيئا واختلف السلف في معنى الآية فقال الأكثرون التقديم إذا قمتم إلى الصلاة محدثين
وقال آخرون الأمر على عمومه بلا تقدير حذف إلا أنه في حق المحدث على الإيجاب وفي غيره على الندب وقال بعضهم كان على الإيجاب ثم صار مندوبا ويدل له ما روى أحمد وأبو داود عن عبد الله بن حنظلة أن رسول الله أمر بالوضوء لكل صلاة طاهرا كان أو غير طاهر فلما شق عليه وضع عنه الوضوء إلا من حدث وفي مسلم عن بريدة كان يتوضأ كل صلاة فلما كان يوم الفتح صلى الصلوات بوضوء واحد فقال له عمر إنك فعلت شيئا لم تكن تفعله قال عمدا فعلته أي لبيان الجواز وتمسك بالآية من قال أول ما فرض الوضوء بالمدينة فأما قبل فنقل ذلك ابن عبد البر اتفاق أهل السير أن غسل الجنابة فرض على النبي وهو بمكة كما فرضت الصلاة وأنه لم يصل قط إلا بوضوء قال وهذا لا يجهله عالم
وقال الحاكم في المستدرك أهل السنة بهم حاجة إلى دليل الرد على من زعم أن الوضوء لم يكن قبل نزول آية المائدة ثم ساق حديث ابن عباس دخلت فاطمة على النبي وهي تبكي فقالت هؤلاء الملإ من قريش قد تعاهدوا ليقتلوك فقال ائتوني بوضوء فتوضأ الحديث
قال الحافظ وهذا يصلح ردا على من أنكر وجود الوضوء قبل الهجرة لا على من أنكر وجوبه حينئذ وقد جزم ابن الجهم المالكي أنه كان قبل الهجرة مندوبا وجزم ابن حزم بأنه لم يشرع إلا بالمدينة ورد عليه بما أخرجه ابن لهيعة في مغازيه عن أبي الأسود عن عروة أن جبريل علم النبي الوضوء عند نزوله عليه بالوحي وهو مرسل ووصله أحمد عن ابن لهيعة عن الزهري عن عروة عن أسامة بن زيد عن أبيه وأخرجه ابن ماجه من طريق عقيل عن الزهري لكن لم يذكر زيدا ولو ثبت لكان على شرط الصحيح لكن المعروف رواية ابن لهيعة واستدل الحليمي بقوله إن أمتي يدعون يوم القيامة غرا محجلين من آثار الوضوء رواه البخاري ومسلم على أن الوضوء من خصائص هذه الأمة وفيه نظر لأنه ثبت عن البخاري في
____________________
(1/64)
قصة سارة مع الملك الذي أعطاها هاجر أن سارة لما هم الملك بالدنو منها قامت تتوضأ وتصلي
وفي قصة جريج الراهب أنه قام فتوضأ وصلى ثم كلم الغلام
فالظاهر أن الذي اختصت به هذه الأمة هو الغرة والتحجيل لا أصل الوضوء وقد صرح بذلك في رواية مسلم عن أبي هريرة مرفوعا سيما ليست لأحد غيركم تردون علي الحوض غرا محجلين من آثار الوضوء وسيما بكسر المهملة وإسكان التحتية أي علامة واعترض بعضهم على الحليمي بحديث هذا وضوئي ووضوء الأنبياء قبلي وهو حديث ضعيف لا حجة فيه لضعفه ولاحتمال أن يكون الوضوء من خصائص الأنبياء دون أممهم إلا هذه الأمة
( مالك عن عمرو ) بفتح العين ( ابن يحيى المازني ) بكسر الزاي من بني مازن البخاري الأنصاري ( عن أبيه ) يحيى بن عمارة بضم العين وخفة الميم ابن أبي حسن واسمه تميم بن عمرو الأنصاري المدني من ثقات التابعين ولأبي حسن صحبة وكذا لعمارة فيما جزم به ابن عبد البر وقال أبو نعيم فيه نظر ( أنه قال لعبد الله بن زيد بن عاصم ) بن كعب الأنصاري المازني أبي محمد صحابي شهير روى صفة الوضوء وعدة أحاديث وشهد بدرا وما بعدها فيما جزم به أبو أحمد الحاكم وابن منده وأخرجه الحاكم في المستدرك وقال ابن عبد البر شهد أحدا وغيرها ولم يشهد بدرا ويقال إنه الذي قتل مسيلمة الكذاب واستشهد يوم الحرة سنة ثلاث وستين وسمي سفيان بن عيينة جده عبد ربه فغلطه الحفاظ المتقدمون والمتأخرون لأنهما صحابيان متغايران أحدهما جده عاصم وهو راوي هذا الحديث والآخر جده عبد ربه راوي حديث الأذان وقد قيل لا يعرف له سواه وممن نص على غلط ابن عيينة البخاري وقد اختلف رواة الموطأ في تعيين السائل ففي رواية يحيى كما ترى أنه يحيى بن عمارة ووافقه القعنبي والشافعي وفي رواية معن بن عيسى القزاز ومحمد بن الحسن عن عمرو عن أبيه يحيى أنه سمع جده أبا حسن يسأل عبد الله بن زيد وكذا ساقه سحنون في المدونة ورواه أبو مصعب وأكثر رواة الموطأ أن رجلا قال لعبد الله بن زيد بإبهام السائل للبخاري من طريق وهيب قال شهدت عمرو بن أبي حسن سأل عبد الله بن زيد وجمع الحفاظ بأنه اجتمع عند عبد الله بن زيد أبو حسن الأنصاري وابنه عمرو وابن ابنه يحيى بن عمارة فسألوه عن صفة الوضوء وتولى السؤال منهم له عمر وابن أبي حسن فحيث نسب السؤال إليه كان على الحقيقة
ويؤيده رواية البخاري عن سليمان بن بلال حدثني عمرو بن يحيى عن أبيه قال كان عمي
____________________
(1/65)
يعني عمرو بن أبي حسن يكثر الوضوء فقال لعبد الله بن زيد أخبرني فذكره وحيث نسب السؤال إلى أبي حسن فعلى المجاز لكونه الأكبر وكان حاضرا وحيث نسب السؤال ليحيى بن عمارة فعلى المجاز أيضا لكونه ناقل الحديث وقد حضر السؤال ويؤيده رواية الإسماعيلي عن خالد الواسطي عن عمرو بن يحيى عن أبيه قال قلنا لعبد الله فإنه يشعر بكونهم اتفقوا على سؤاله لكن متوليه منهم عمرو بن أبي حسن ويزيد ذلك وضوحا رواية أبي نعيم في المستخرج عن الدراوردي عن عمرو بن يحيى عن أبيه عن عمه عمرو بن أبي الحسن قال كنت كثير الوضوء فقلت لعبد الله بن يزيد ( وهو جد عمر بن يحيى المازني ) قال ابن عبد البر كذا لجميع رواة الموطأ وانفرد به مالك ولم يتابعه عليه أحد فلم يقل أحد أن عبد الله بن زيد جد عمرو قال ابن دقيق العيد هذا وهم قبيح من يحيى بن يحيى أو غيره وأعجب منه أن ابن وضاح سأل عنه وكان من الأئمة في الحديث والفقه فقال هو جده لأمه ورحم الله من انتهى إلى ما سمع ووقف دون ما لم يعلم وكيف جاز هذا على ابن وضاح والصواب في المدونة التي كان يقريها ويرويها عن سحنون وهي بين يديه ينظر فيها كل حين قال وصواب الحديث مالك عن عمرو بن يحيى عن أبيه أن رجلا قال لعبد الله بن زيد وهذا الرجل هو عمارة بن أبي حسن وهو جد عمرو بن يحيى
وقال الحافظ الضمير راجع للرجل القائل الثابت في أكثر الروايات فإن كان أبو حسن فهو جد عمرو حقيقة أو ابنه عمرو فمجاز لأنه عم أبيه يحيى فسماه جدا لأنه في منزلته ووهم من زعم أن ضمير وهو لعبد الله بن زيد لأنه ليس جدا لعمرو بن يحيى لا حقيقة ولا مجازا وقول صاحب الكمال ومن تبعه إن عمرو بن يحيى ابن بنت عبد الله بن زيد غلط توهمه من هذه الرواية وقد ذكر ابن سعد أن أم عمرو حميدة بنت محمد بن إياس بن البكير وقال غيره هي أم النعمان بنت أبي حبة
( وكان ) عبد الله بن زيد ( من أصحاب رسول الله ) قال ابن عبد البر رواه سفيان بن عيينة عم عمرو فقال فيه عن عبد الله بن زيد بن عبد ربه وأخطأ فيه إنما هو عبد الله بن زيد بن عاصم وهما صحابيان متغايران وهم إسماعيل بن إسحاق فيهما فجعلهما واحدا والغلط لا يسلم منه أحد وإذا كان ابن عيينة مع جلالته غلط في ذلك فإسماعيل أين يقع منه إلا أن المتأخرين أوسع علما وأقل عذرا
( هل تستطيع أن تريني ) أي أرني قال الحافظ وفيه ملاطفة الطالب للشيخ وكأنه أراد الإراءة بالفعل ليكون أبلغ في التعليم وسبب الاستفهام ما قام عنده من احتمال أن يكون نسي ذلك لبعد العهد
( كيف كان رسول الله يتوضأ ) للصلاة
( فقال عبد الله بن زيد بن عاصم نعم ) أستطيع
____________________
(1/66)
( فدعا بوضوء ) بفتح الواو ما يتوضأ به وللبخاري عن ابن يوسف عن مالك فدعا بماء وله من وجه آخر فدعا بتور من ماء بفوقية مفتوحة قدح أو إناء يشرب منه أو الطست أو شبه الطست أو مثل القدر يكون من صفر أو حجارة وله من طريق آخر عن عبد الله بن زيد أتانا رسول الله فأخرجنا له في تور من صقر بضم المهملة وقد تكسر صنف من جيد النحاس ويسمى أيضا الشبه بفتح المعجمة والموحدة سمي بذلك لأنه يشبه الذهب والتور المذكور هو الذي توضأ منه عبد الله بن زيد إذ سئل عن صفة الوضوء فيكون أبلغ في حكاية صورة الحال على وجهها
( فأفرغ ) أي صب يقال أفرغ وفرغ لغتان حكاهما في المحكم ( على يده ) زاد أبو مصعب ويحيى بن بكير اليمني وفي رواية ابن وضاح بالتثنية فالتقدير على إحدى يديه أو المراد باليد جنسها فيتفق الروايتان معنى
( فغسل يديه ) بالتثنية لجمهور رواة الموطأ ولعبد الله بن يوسف عن مالك يده بالإفراد على الجنس فيتفق الروايتان وقد رواه وهيب وسليمان بن بلال عند البخاري والدراوردي عند أبي نعيم يديه بالتثنية ( مرتين مرتين ) قال الحافظ كذا لمالك وعند هؤلاء وكذا خالد بن عبد الله عند مسلم ثلاثا وهؤلاء حفاظ وقد اجتمعوا فزيادتهم مقدمة على الحافظ الواحد وقد ذكر مسلم عن وهيب أنه سمع هذا الحديث مرتين من عمرو بن يحيى إملاء فتأكد ترجيح روايته ولا يحمل على واقعتين لاتحاد المخرج والأصل عدم التعدد وفيه غسل اليد قبل إدخالها الإناء ولو كان على غير نوم ومثله في حديث عثمان والمراد باليدين هنا الكفان لا غير
( ثم تمضمض واستنثر ) كذا ليحيى ولأبي مصعب بدله واستنشق فأطلق الاستنثار على الاستنشاق لأنه يستلزمه بلا عكس وفي رواية وهيب فمضمض واستنشق واستنثر فجمع بين الثلاثة قاله الحافظ وقال النووي الذي عليه جمهور أهل اللغة وغيرهم أن الاستنشاق غير الاستنثار مأخوذ من النثرة وهي طرف الأنف وهو إخراج الماء من الأنف بعد الاستنشاق وهو إيصال الماء إلى داخل الأنف وجذبه بالنفس إلى أقصاه خلافا لقول ابن الأعرابي وابن قتيبة أنهما بمعنى واحد
( ثلاثا ) زاد وهيب بثلاث غرفات وفيه استحباب الجمع بين المضمضة والاستنشاق من كل غرفة وفي رواية خالد بن عبد الله مضمض واستنشق من كف واحدة فعل ذلك ثلاثا وهو صريح في الجمع في كل مرة بخلاف رواية وهيب فيطرقها احتمال التوزيع بلا تسوية قاله ابن دقيق العيد
( ثم غسل وجهه ثلاثا ) لم تختلف الروايات في ذلك ويلزم من استدل بالحديث على وجوب تعميم الرأس بالمسح يعني كمالك وتبعه البخاري أن يستدل به على وجوب الترتيب للإتيان بقوله ثم في الجميع لأن كلا الحكمين مجمل في الآية بينته السنة بالفعل كذا قال الحافظ ولا يلزم ذلك لأن إسقاط الباء في قوله مسح رأسه مع كونها في الآية ظاهر في وجوب مسح جميعه ولا سيما وقد
____________________
(1/67)
أكده في رواية بلفظ كله بخلاف لفظ ثم لا يفيد وجوب الترتيب بل يتحقق بالسنة وإلا لزم أن التثليث ونحوه واجب لأنه مجمل في الآية أيضا
( ثم غسل يديه مرتين مرتين ) بالتكرار لئلا يتوهم أن المرتين لكلتا اليدين
قال الولي العراقي المنقول في علم العربية أن أسماء الأعداد والمصادر والأجناس إذا كررت كان المراد حصولها مكررة لا التأكيد اللفظي فإنه قليل الفائدة لا يحسن حيث يكون للكلام محمل غيره مثال ذلك جاء القوم اثنين اثنين أو رجلا رجلا وضربته ضربا ضربا أي اثنين بعد اثنين ورجلا بعد رجل وضربا بعد ضرب قال وهذا منه أي غسلهما مرتين بعد مرتين أي أفرد كل واحدة منهما بالغسل مرتين
وقال الحافظ لم تختلف الروايات عن عمرو بن يحيى في غسل اليدين مرتين
ولمسلم من طريق حبان بن واسع عن عبد الله بن زيد أنه رأى النبي توضأ وفيه وغسل يده اليمنى ثلاثا ثم الأخرى ثلاثا
فيحمل على أنه وضوء آخر لاختلاف مخرج الحديثين
( إلى المرفقين ) تثنية مرفق بكسر الميم وفتح الفاء وبفتح الميم وكسر الفاء لغتان مشهورتان وهو العظم الناتىء في آخر الدماغ سمي به لأنه يرتفق به في الاتكاء ونحوه وذهب جمهور العلماء إلى دخولهما في غسل اليدين لأن إلى في الآية بمعنى مع كقوله تعالى { ولا تأكلوا أموالهم إلى أموالكم } سورة النساء الآية 2 ورد بأنه خلاف الظاهر وأجيب بأن القرينة دلت عليه وهي أن ما بعد إلى من جنس ما قبلها
وقال ابن القصار اليد يتناولها الاسم إلى الإبط لحديث عمار أنه تيمم إلى الإبط وهو من أهل اللغة فلما جاء قوله تعالى { إلى المرافق } سورة المائدة الآية 6 مغسولا مع الذراعين بحق الاسم انتهى
فإلى هنا حد للمتروك لا للمغسول
وقال الزمخشري لفظ إلى يفيد معنى الغاية مطلقا فأما دخولها في الحكم وخروجها فأمر يدور مع الدليل فقوله تعالى { ثم أتموا الصيام إلى الليل } سورة البقرة الآية 187 دليل عدم دخوله النهي عن الوصال
وقول القائل حفظت القرآن من أوله إلى آخره دليل الدخول كون الكلام مسوقا لحفظ جميع القرآن
وقوله تعالى { إلى المرافق } لا دليل فيه على أحد الأمرين قال فأخذ العلماء بالاحتياط ووقف زفر مع المتيقن قال الحافظ ويمكن أن يستدل لدخولهما بفعله ففي الدارقطني بإسناد حسن عن عثمان فغسل يديه إلى المرفقين حتى مس أطراف العضدين وفيه عن جابر بإسناد ضعيف كان إذا توضأ أدار الماء على مرفقيه وفي البزار والطبراني عن ثعلبة بن عباد عن أبيه مرفوعا ثم يغسل ذراعيه حتى يجاوز المرفق
وفي الطحاوي والطبراني عن ابن عباد عن أبيه مرفوعا ثم يغسل ذراعيه حتى يسيل الماء على مرفقيه فهذه الأحاديث يقوي بعضها بعضا
قال إسحاق بن راهويه إلى في الآية تحتمل أن تكون بمعنى الغاية وأن تكون بمعنى
____________________
(1/68)
مع وقد قال الشافعي لا أعلم مخالفا في إيجاب دخول المرفقين في الوضوء فعلى هذا فزفر محجوج بالإجماع قبله وكذا من قال بذلك من أهل الظاهر بعده ولم يثبت ذلك عن مالك صريحا وإنما حكى عنه أشهب كلاما محتملا
( ثم مسح رأسه ) زاد ابن الطباع كله ولأبي مصعب برأسه قال القرطبي الباء للتعدية فيجوز حذفها وإثباتها لذلك يقال مسحت رأس اليتيم ومسحت برأسه وقيل إنما دخلت الباء لتفيد معنى بديعا وهو أن الغسل لغة يقتضي مغسولا به والمسح لا يقتضي ممسوحا به فلو قيل رؤوسكم لأجزأ المسح باليد إمرارا من غير شيء على الرأس فدخلت الباء لتفيد ممسوحا به وهو الماء فكأنه قال وامسحوا برؤوسكم الماء وذلك فصيح في اللغة على وجهين أما على القلب كما أنشد سيبويه كنواح ريش حمامة نجدية ومسحت باللثتين عصف الإثمد واللثة هي الممسوحة بعصف الإثمد وأما على الاشتراك في الفعل والتساوي في معناه كقوله مثل القنافذ هذا جون قد بلغت نجران أو بلغت سوآتهم هجر انتهى
وأخرج ابن خزيمة عن إسحاق بن عيسى بن الطباع قال سألت مالكا عن الرجل يمسح مقدم رأسه في وضوئه أيجزيه ذلك فقال حدثني عمرو بن يحيى عن أبيه عن عبد الله بن زيد قال مسح رسول الله في وضوئه من ناصيته إلى قفاه ثم رد يديه إلى ناصيته فمسح رأسه كله فإن كان لفظ الآية محتملا مسح الكل فالباء زائدة أو البعض فتبعيضية فقد تبين بفعله أن المراد الأول ولم ينقل عنه أنه مسح بعض رأسه إلا في حديث المغيرة أنه مسح على ناصيته وعمامته رواه مسلم
قال علماؤنا ولعل ذلك كان لعذر بدليل أنه لم يكتف بمسح الناصية حتى مسح على العمامة إذ لو لم يكن مسح كل الرأس واجبا ما مسح على العمامة واحتجاج المخالف بما صح عن ابن عمر من الاكتفاء بمسح بعض الرأس ولم يصح عن أحد من الصحابة إنكار ذلك لا ينهض إذ المختلف فيه لا يجب إنكاره وقول ابن عمر لم يرفعه فهو رأي له فلا يعارض المرفوع ( بيديه ) بالتثنية ( فأقبل بهما وأدبر ) قال عياض قيل معناه أقبل إلى جهة قفاه ورجع كما فسر بعده وقيل المراد أدبر وأقبل والواو لا تعطي رتبة قال وهذا أولى
ويعضده رواية وهيب في البخاري فأدبر بهما وأقبل
وفي مسلم مسح رأسه كله وما أقبل وما أدبر وصدغيه
( بدأ ) أي ابتدأ ( بمقدم رأسه ) بفتح الدال مشددة ويجوز كسرها والتخفيف وكذا مؤخر
( ثم ذهب بهما إلى قفاه ) بالقصر وحكى مده وهو قليل مؤخر العنق وفي المحكم وراء العنق يذكر ويؤنث
( ثم ردهما حتى رجع إلى المكان
____________________
(1/69)
الذي بدأ منه ) ليستوعب جهتي الشعر بالمسح والمشهور عند من أوجب التعميم أن الأولى واجبة والثانية سنة وجملة قوله بدأ الخ عطف بيان لقوله فأقبل بهما وأدبر ومن ثم لم تدخل الواو على بدأ قال الحافظ والظاهر أنه من الحديث وليس مدرجا من كلام مالك ففيه حجة على من قال السنة أن يبدأ بمؤخر الرأس إلى أن ينتهي إلى مقدمه لظاهر قوله أقبل وأدبر ويرد عليه أن الواو لا تقتضي الترتيب
وفي رواية للبخاري فأدبر بيديه وأقبل فلم يكن في ظاهره حجة لأن الإقبال والإدبار من الأمور الإضافية ولم يعين ما أقبل إليه ولا ما أدبر عنه ومخرج الطريقين متحد فهما بمعنى واحد وعينت رواية مالك البداءة بالمقدم فيحمل قوله أقبل على أنه من تسمية الفعل بابتدائه أي بدأ بقبل الرأس انتهى
وقال ابن عبد البر روى ابن عيينة هذا الحديث فذكر فيه مسح الرأس مرتين وهو خطأ لم يذكره أحد غيره قال وأظنه تأوله على أن الإقبال مرة والإدبار أخرى
( ثم غسل رجليه ) إلى الكعبين كما في رواية وهيب عند البخاري والبحث فيه كالبحث في إلى المرفقين والمشهور أن الكعبين هما العظمان الناتئان عند مفصل الساق والقدم من كل رجل
وحكى محمد عن أبي حنيفة وابن القاسم عن مالك أنه العظم الذي في ظهر القدم عند مقعد الشراك والأول هو الصحيح الذي تعرفه أهل اللغة وقد أكثروا من الرد على الثاني ومن أوضح الأدلة فيه حديث النعمان بن بشير الصحيح في صفة الصف في الصلاة فرأيت الرجل منا يلزق كعبه بكعب صاحبه هذا
وقال القرطبي لم يجىء في حديث عبد الله بن زيد للأذنين ذكر ويمكن أن ذلك لأن اسم الرأس يعمهما ورده الولي العراقي بأن الحاكم والبيهقي رويا من حديثه وصححاه رأيت رسول الله يتوضأ فأخذ ماء لأذنيه خلاف الماء الذي مسح به رأسه والحديث أخرجه البخاري عن عبد الله بن يوسف ومسلم من طريق معن كلاهما عن مالك به
( مالك عن أبي الزناد ) بكسر الزاي وبالنون واسمه عبد الله بن ذكوان وكنيته أبو عبد الله وأبو الزناد لقب وكان يغضب منه لما فيه من معنى ملازم النار لكنه اشتهر به لجودة ذهنه وحدة فهمه كأنه نار موقدة
( عن الأعرج ) عبد الرحمن بن هرمز ( عن أبي هريرة ) عبد الرحمن بن صخر أو عمرو بن عامر
( أن رسول الله قال إذا توضأ ) أي إذا شرع في الوضوء ( أحدكم فليجعل في أنفه ) ماء كما
____________________
(1/70)
في رواية القعنبي وابن بكير وأكثر الرواة وكذا ثبت في رواية سفيان عن أبي الزناد عند مسلم وسقط من رواية يحيى وكذا من رواية الأكثر في البخاري قال أبو عمرو لأنه مفهوم من الخطاب فإن المجعول في أنفه إذا توضأ إنما هو ماء ولذا قال ( ثم لينثر ) بكسر المثلثة بعد النون الساكنة على المشهور وحكي ضمها قاله النووي وفي الصحيح ثم لينتثر بزيادة تاء وفي النسائي ثم ليستنثر بزيادة سين وتاء كذا قال السيوطي وفي فتح الباري قوله لينتثر كذا لأبي ذر والأصيلي بوزن يفتعل ولغيرهما ثم لينثر بمثلثة مضمومة بعد النون الساكنة والروايتان لأصحاب الموطأ أيضا قال الفراء يقال نثر الرجل وانتثر
واستنثر إذا حرك النثرة وهي طرف الأنف في الطهارة انتهى
فما أوهمه كلام السيوطي من أنه لم يرو في الموطأ ولا في البخاري إلا بواحدة فيه نظر
وقال عياض هو من النثر وهو الطرح وهو هنا طرح الماء الذي تنشق منه قبل ليخرج ما تعلق به من قذر الأنف
وقال ابن الأثير نثر ينثر بالكسر إذا امتخط واستنثر استفعل منه أي استنشق الماء ثم استخرج ما في الأنف ولم يذكر مالك عددا وقد زاد سفيان عن أبي الزناد وترا رواه مسلم
( ومن استجمر فليوتر ) أي استعمل الجمار وهي الحجارة الصغار في الاستجمار وحمله بعضهم على استعمال البخور فإنه يقال فيه تجمر واستجمر حكاه ابن حبيب عن ابن عمرو لا يصح وابن عبد البر عن مالك وروى ابن خزيمة عنه خلافه واستدل به بعض من نفى وجوب الاستنجاء للإتيان فيه بحرف الشرط ولا دلالة فيه وإنما مقتضاه التخيير بين الاستنجاء بالماء أو بالأحجار قاله في الفتح وفي الإكمال قال الهروي الاستجمار المسح بالجمار وهي الأحجار الصغار ومنه سميت حجارة الرمي
وقال ابن القصار يجوز أنه أخذ من الاستجمار بالبخور الذي تطيب به الرائحة وهذا يزيل الرائحة القبيحة واختلف قول مالك وغيره في معنى الاستجمار في الحديث فقيل هذا وقيل المراد به في البخور أن يأخذ منه ثلاث قطع أو يأخذ ثلاث مرات يستعمل واحدة بعد أخرى قال والأول أظهر انتهى
وقال النووي إنه الصحيح المعروف وهذا الحديث رواه البخاري عن عبد الله بن يوسف عن مالك به وتابعه ابن عيينة عن أبي الزناد عند مسلم
( مالك عن ابن شهاب عن أبي إدريس الخولاني ) اسمه عائذ الله بعين مهملة وتحتية وذال معجمة ابن عبد الله ولد في حياة النبي يوم حنين وسمع كبار الصحابة قال سعيد بن عبد العزيز كان عالم الشام بعد أبي الدرداء وقال مكحول ما رأيت أعلم منه مات سنة ثمانين
____________________
(1/71)
( عن أبي هريرة أن رسول الله قال من توضأ فليستنثر ) بأن يخرج ما في أنفه بعد الاستنشاق لما فيه من تنقية مجرى النفس الذي به تلاوة القرآن وبإزالة ما فيه من الثقل تصح مخارج الحروف وفيه طرد الشيطان لما رواه البخاري ومسلم إذا استيقظ أحدكم من منامه فتوضأ فليستنثر ثلاثا فإن الشيطان يبيت على خيشومه أي أعلى أنفه ونومه عليه حقيقة أو استعارة لأن ما ينعقد من الغبار ورطوبة الخياشيم قذارة توافق الشيطان فهو على عادة العرب في نسبة المستخبث والمستبشع إلى الشيطان أو ذلك عبارة عن تكسيله عن القيام إلى الصلاة ولا مانع من حمله على الحقيقة وهل مبيته لعموم النائمين أو مخصوص بمن لم يفعل ما يحترس به في منامه كقراءة آية الكرسي الأقرب الثاني قال الحافظ وظاهر الأمر فيه الوجوب فيلزم من قال بوجوب الاستنشاق لورود الأمر به كأحمد وإسحاق وغيرهما أن يقول به في الاستنثار وهو ظاهر كلام صاحب المغني من الحنابلة وأن مشروعية الاستنشاق إنما تحصل بالاستنثار
وصرح ابن بطال بأن بعض العلماء قال بوجوب الاستنثار وفيه تعقب على من نقل الإجماع على عدم وجوبه واستدل الجمهور على أن الأمر فيه للندب بقوله للأعرابي توضأ كما أمرك الله حسنه الترمذي وصححه الحاكم فأحاله على الآية وليس فيها استنشاق ولا استنثار وتعقب باحتمال أن يراد بالأمر ما هو أعم من آية الوضوء فقد أمر الله باتباع نبيه ولم يحك أحد ممن وصف وضوءه على الاستقصاء أنه ترك الاستنشاق بل ولا المضمضة وهذا يرد على من لم يوجب المضمضة أيضا
وقد ثبت الأمر بها في سنن أبي داود بإسناد صحيح وذكر ابن المنذر أن الشافعي لم يحتج على عدم وجوب الاستنشاق مع صحة الأمر به إلا لكونه لا يعلم خلافا في أن تاركه لا يعيد وهذا دليل فقهي فإنه لا يحفظ ذلك عن أحد من الصحابة ولا التابعين إلا عطاء وثبت عنه أنه رجع عن الإعادة انتهى
( ومن استجمر فليوتر ) ندبا لزيادة أبي داود وابن ماجه بإسناد حسن من فعل فقد أحسن ومن لا فلا حرج وبهذا أخذ مالك وأبو حنيفة وداود ومن وافقهم في أن الإيتار مستحب فقط لا شرط ولا يخالفه حديث سلمان عند مسلم مرفوعا لا يستنج أحدكم بأقل من ثلاثة أحجار لحمله على الكمال وكذا أمره لابن مسعود أن يأتيه بثلاثة أحجار لأنه شرط كما قال الشافعي وأحمد وأصحاب الحديث لتصريحه في هذه الرواية بأن الأمر ليس للوجوب وبه حصل الجمع بين الأدلة وحمله على الزائد على الثلاثة إن لم تنق تحكم وهذا الحديث أخرجه مسلم عن يحيى عن مالك به وتابعه يونس عن الزهري عند البخاري ومسلم
( قال يحيى ) بن يحيى الليثي ( سمعت مالكا يقول في الرجل يتمضمض ويستنثر من غرفة
____________________
(1/72)
واحدة ) في الست مرات ( أنه لا بأس بذلك ) أي يجوز وإن كان الأفضل خلافه
( مالك أنه بلغه أن عبد الرحمن بن أبي بكر ) الصديق شقيق عائشة تأخر إسلامه إلى قبيل الفتح وشهد اليمامة والفتوح قال في الإصابة قال ابن سعد وغير واحد مات سنة ثلاث وخمسين وقال يحيى بن بكير سنة أربع وقيل خمس وقيل ست حكاها أبو نعيم
وقال أبو زرعة الدمشقي سنة تسع
وقال ابن حبان سنة ثمان
وقال البخاري مات قبل عائشة وبعد سعد انتهى
وهذا الحديث يؤيده مع لحظ المشهور في وفاة سعد وهو صادق حتى بالسنة التي مات فيها سعد وهذا البلاغ يحتمل أن يكون بلغ الإمام من تلميذه ابن وهب أو من مخرمة فقد رواه مسلم من طريق ابن وهب عن مخرمة بن بكير عن أبيه ومن طريق ابن وهب أيضا عن حيوة عن محمد بن عبد الرحمن كلاهما عن سالم مولى شداد قال دخلت على عائشة يوم توفي سعد
( فدخل ) عبد الرحمن بن أبي بكر ( على عائشة ) أخته ( زوج النبي يوم مات سعد بن أبي وقاص ) مالك بن وهيب بن عبد مناف بن زهرة بن كلاب الزهري أحد العشرة وأول من رمي بسهم في سبيل الله ومناقبه كثيرة مات بالعقيق سنة خمس وخمسين على المشهور
( فدعا بوضوء ) أي بما يتوضأ به ( فقالت له عائشة يا عبد الرحمن أسبغ الوضوء ) بفتح الهمزة من الإسباغ وهو إبلاغه مواضعه وإيفاء كل عضو حقه وكأنها رأت منه تقصيرا أو خشيت عليه ذلك
( فإني سمعت رسول الله يقول ويل ) قال النووي أي هلكة وخيبة
وقال الحافظ اختلف في معناه على أقوال أظهرها ما رواه ابن حبان في صحيحه عن أبي سعيد مرفوعا ويل واد في جهنم ( للأعقاب ) جمع عقب بكسر القاف وسكونها وهو مؤخر القدم ( من النار ) قال البغوي معناه لأصحاب الأعقاب المقصرين في غسلها وقيل أراد أن العقب يختص بالعقاب إذا قصر في غسلها زاد عياض فإن مواضع الوضوء لا تمسها النار كما في أثر السجود أنه محرم على النار ويلحق بالأعقاب ما في معناها من جميع الأعضاء التي قد يحصل التساهل في إسباغها وإنما خصت بالذكر لصورة السبب كما في حديث عبد الله بن عمرو بن العاصي قال تخلف النبي عنا في سفرة فأدركنا وقد أرهقتنا العصر فجعلنا نتوضأ ونمسح على أرجلنا فنادى بأعلى صوته ويل للأعقاب من النار مرتين أو ثلاثا رواه الشيخان
ورواه أحمد والدارقطني والطبراني والحاكم عن عبد الله بن الحارث مرفوعا ويل للأعقاب وبطون الأقدام من النار
____________________
(1/73)
قال ابن عبد البر وهذا الحديث ورد عن جماعة من الصحابة وأصحها من جهة الإسناد ثلاثة حديث أبي هريرة وابن عمرو يعني وهما في الصحيحين وحديث عبد الله بن الحارث بن جزء الزبيدي وقد رأيت من رواه ثم حديث عائشة فهو مدني حسن انتهى
وقد أخرجه مسلم في الصحيح كما علم وفيه أن غسل الرجلين واجب إذ لو أجزأ المسح لما توعد بالنار فلا عبرة بقول الشيعة الواجب المسح لظاهر قوله { وأرجلكم } سورة المائدة الآية 6 بالخفض ورد بأنه على المجاورة وقد تواترت الأخبار عن النبي في صفة وضوئه أنه غسل رجليه وهو المبين لأمر الله
وقال في حديث عمرو بن عبسة عند ابن خزيمة وغيره مطولا ثم يغسل قدمه كما أمره الله
ولم يثبت عن أحد من الصحابة خلاف ذلك إلا علي وابن عباس وأنس وثبت عنهم الرجوع عن ذلك
قال عبد الرحمن بن أبي ليلى أجمع أصحاب رسول الله على غسل القدمين رواه سعد بن منصور وادعى الطحاوي وابن حزم أن المسح منسوخ
( مالك عن يحيى بن محمد بن طحلاء ) بفتح الطاء وسكون الحاء المهملة ممدود المدني التيمي مولاهم أخي يعقوب روى عن أبيه وعثمان المذكور وعنه مالك والدراوردي وآخرون وذكره ابن حبان في الطبقة الثالثة من التابعين
( عن عثمان بن عبد الرحمن ) بن عثمان بن عبيد الله التيمي المدني ثقة روى له البخاري وأبو داود والترمذي
( أن أباه ) عبد الرحمن بن عثمان التيمي صحابي قتل مع ابن الزبير وهو ابن أخي طلحة بن عبيد الله أحد العشرة
( حدثه أنه سمع عمر بن الخطاب ) يقول ( يتوضأ ) أي يتطهر ( بالماء لما تحت إزاره ) كناية عن موضع الاستنجاء تأدبا أي إنه بالماء أفضل منه بالحجر وبينت السنة أن الجمع بينهما أفضل روى ابن خزيمة والبزار عن عويم بن ساعدة أنه أتاهم في مسجد قباء فقال إن الله قد أثنى عليكم في الطهور في قصة مسجدكم فما هذا الطهور الذي تطهرون به قالوا والله يا رسول الله ما نعلم شيئا إلا أنه كان لنا جيران من اليهود فكانوا يغسلون أدبارهم من الغائط فغسلنا كما غسلوا
وفي حديث البزار فقالوا نتبع الحجارة بالماء فقال هو ذاك فعليكموه وكأن الإمام أراد بذكر أثر عمر هذا الرد على من كره الاستنجاء بالماء
روى ابن أبي شيبة بأسانيد صحيحة عن حذيفة بن اليمان أنه سئل عن الاستنجاء بالماء فقال إذن لا يزال في يدي نتن
وعن نافع أن ابن عمر كان لا يستنجي بالماء
وعن ابن الزبير ما كنا نفعله
وفي البخاري عن أنس كان إذا خرج لحاجته أجيء أنا وغلام معنا إداوة من ماء يعني يستنجي به وللإسماعيلي معنا إداوة فيها ماء يستنجي منها النبي صلى الله عليه وسلم (1) *
ولمسلم فخرج علينا
____________________
1*
(1/74)
النبي صلى الله عليه وسلم وقد استنجى بالماء وللبخاري أيضا عن أنس كان إذا تبرز لحاجته أتيته بماء فيغسل به ولابن خزيمة عن جرير أنه (1) *
وعن عائشة أنها قالت مرن أزواجكن أن يغسلوا أثر البول والغائط فإن النبي كان يفعله فلعل نقل ابن التين عن مالك أنه أنكر أن يكون استنجى بالماء لا يصح عنه إذ هو نجم السنن مع أنه خلاف معروف مذهبه أن الماء أفضل وأفضل منه الجمع بينه وبين الحجر وقول ابن حبيب يمنع الاستنجاء بالماء لأنه مطعوم ضعيف
( سئل مالك عن رجل توضأ فنسي فغسل وجهه قبل أن يتمضمض أو غسل ذراعيه قبل أن يغسل وجهه ) ما حكمه ( فقال أما الذي غسل وجهه قبل أن يتمضمض فليمضمض ) فاه ( ولا يعد غسل وجهه ) لأن ترتيب السنن مع الفرائض مستحب وقد فات
( وأما الذي غسل ذراعيه قبل وجهه فليغسل وجهه ثم ليعد ) على وجه السنية ( غسل ذراعيه حتى يكون غسلهما بعد وجهه إذا كان ذلك في مكانه أو بحضرة ذلك ) أي بقربه فإن بعد بأن جفت أعضاؤه أعاد المنكس وحده فيغسل وجهه ولا يعيد غسل ذراعيه وسواء فعل ذلك عمدا أو سهوا لأن ترتيب الفرائض سنة
والنسيان إنما وقع في السؤال
( وسئل مالك عن رجل نسي أن يتمضمض ويستنثر حتى صلى قال ليس عليه أن يعيد صلاته ) لأنهما من سنن الوضوء فما على تاركهما ولو عمدا إعادة وقيد النسيان إنما وقع في السؤال
( وليمضمض ويستنثر ما يستقبل ) بكسر الباء من الصلوات ( إن كان يريد أن يصلي ) بهذا الوضوء وإلا فلا إعادة
2 وضوء النائم إذا قام إلى الصلاة ( مالك عن أبي الزناد ) عبد الله بن ذكوان ( عن الأعرج ) عبد الرحمن بن هرمز ( عن أبي هريرة
____________________
1* دخل الغيضة فقضى حاجته فأتاه جرير بإداوة من ماء فاستنجى بها وللترمذي وقال حسن صحيح
(1/75)
أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال إذا استيقظ أحدكم من نومه فليغسل ) ندبا ( يده ) بالإفراد زاد مسلم وغيره ثلاثا وفي رواية ثلاث مرات
( قبل أن يدخلها في وضوئه ) بفتح الواو الماء الذي يتوضأ به أي في الإناء المعد للوضوء ولمسلم في الإناء ولابن خزيمة في إنائه أو وضوئه على الشك ولمسلم وابن خزيمة وغيرهما من طرق فلا يغمس يده في الإناء حتى يغسلها وهي أبين في المراد من رواية الإدخال لأن مطلق الإدخال لا يترتب عليه كراهة كمن أدخل يده في إناء واسع فاغترف منه بإناء صغير لم يلامس يده الماء قال الحافظ والظاهر اختصاص ذلك بإناء الوضوء ويلحق به إناء الغسل وكذا في الآنية قياسا لكن في الاستحباب بلا كراهة لعدم النهي فيها عن ذلك وخرج بالإناء البرك والحياض التي لا تفسد بغمس اليد فيها على تقدير نجاستها فلا يتناولها الأمر والنهي للاستحباب عند الجمهور لأنه علله بالشك في قوله ( فإن أحدكم لا يدري أين باتت يده ) أي كفه لا ما زاد عليه اتفاقا زاد ابن خزيمة والدارقطني منه أي من جسده أي هل لاقت مكانا طاهرا منه أو نجسا أو بثرة أو جرحا أو أثر الاستنجاء بالأحجار بعد بلل الماء أو اليد بنحو عرق ومقتضاه إلحاق من شك في ذلك ولو مستيقظا ومفهومه أن من درى أين باتت يده كمن لف عليها خرقة مثلا فاستيقظ وهي على حالها لا كراهة وإن سن غسلها كالمستيقظ ومن قال الأمر للتعبد كمالك لا يفرق بين شاك ومتيقن وحمله أحمد على الوجوب في نوم الليل دون النهار وعنه في رواية استحبابه في نوم النهار واتفقوا على أنه لو غمس يده لم يضر الماء
وقال إسحاق وداود والطبري ينجس لأمره بإراقته بلفظ فإن غمس يده في الإناء قبل أن يغسلها فليرق ذلك الماء لكنه حديث ضعيف أخرجه ابن عدي وقال هذه زيادة منكرة لا تحفظ والقرينة الصارفة للأمر عن الوجوب التعليل بأمر يقتضي الشك لأنه لا يقتضي وجوبا استصحابا لأصل الطهارة واحتج أبو عوانة بوضوئه صلى الله عليه وسلم من الشن بعد قيامه من الليل وتعقب بأن قوله أحدكم يقتضي اختصاصه بغيره وأجيب بأنه صح عنه غسل يديه قبل إدخالهما الإناء في حديث اليقظة فبعد النوم أولى ويكون تركه لبيان الجواز وأيضا فقد قال في رواية لمسلم وأبي داود وغيرهما فليغسلهما ثلاثا
وفي رواية ثلاث مرات
والتقييد بالعدد في غير النجاسة العينية يدل على السنية
وفي رواية لأحمد فلا يضع يده في الوضوء حتى يغسلها والنهي للتنزيه فإن ترك كره وهذا لمن قام من النوم كما دل عليه مفهوم الشرط وهذا حجة عند الجمهور أما المستيقظ فيطلب بالفعل ولا يكره الترك لعدم ورود نهي عنه وقال البيضاوي فيه إيماء إلى أن الباعث على الأمر بذلك احتمال النجاسة لأن الشارع إذا ذكر حكما وعقبه بعلة دل على أن ثبوت الحكم لأجلها ومثله قوله
____________________
(1/76)
في حديث المحرم الذي سقط فمات فإنه يبعث ملبيا بعد نهيهم عن تطبيبه فنبه على علة النهي وهي كونه محرما وعبارة الشيخ أكمل الدين إذا ذكر الشارع حكما وعقبه أمرا مصدرا بالفاء كان ذلك إيماء إلى ثبوت الحكم لأجله نظيره قوله الهرة ليست نجسة فإنها من الطوافين عليكم والطوافات
وعموم قوله من نومه يشمل النهار وبه قال الجمهور وخصه أحمد بنوم الليل لقوله باتت لأن حقيقة البيات بالليل ولأبي داود والترمذي من وجه إذا قام أحدكم من الليل ولأبي عوانة إذا قام أحدكم إلى الصلاة حين يصبح لكن التعليل يقتضي إلحاق نوم النهار بنوم الليل وإنما خصه للغلبة
قال الرافعي في شرح المسند يمكن أن يقال الكراهة في الغمس لمن نام ليلا أشد لمن نام نهارا لأن الاحتمال في نوم الليل أقرب لطوله عادة
وفي الدارقطني عن جابر فإنه لا يدري أين باتت يده ولا على ما وضعها ولأبي داود عن أبي هريرة فإنه لا يدري أين باتت يده أو أين كانت تطوف قال الولي العراقي يحتمل أنه شك من بعض رواته وهو الأقرب ويحتمل أنه ترديد من النبي صلى الله عليه وسلم وذكر غير واحد أن بات بمعنى صار وإن كان أصلها للكون ليلا كما قاله الخليل وغيره واستشكل هذا التركيب بأن انتفاء الدراية لا يتعلق بلفظ أين باتت يده ولا بمعناه لأن معناه الاستفهام ولا يقال إنه لا يدري الاستفهام
وأجيب بأن معناه لا يدري تعيين الموضع الذي باتت فيه يده ففيه مضاف محذوف وليس استفهاما وإن كان على صورته وهذا الحديث أخرجه البخاري عن عبد الله بن يوسف عن مالك به لكنه وصله بالحديث السابق إذا توضأ أحدكم فقال عقب فليوتر وإذا استيقظ قال الحافظ فاقتضى سياقه أنه حديث واحد وليس هو كذلك في الموطأ
وقد أخرجه أبو نعيم في المستخرج من الموطأ من رواية عبد الله بن يوسف شيخ البخاري مفرقا وكذا هو في موطأ يحيى بن بكير وغيره وكذا فرقه الأسماء على حديث مالك
وأخرج مسلم الحديث الأول من طريق ابن عيينة عن أبي الزناد والثاني من طريق المغيرة بن عبد الرحمن عن أبي الزناد وعلى هذا فكان البخاري يرى جمع الحديثين إذا اتحد سندهما في سياق واحد كما يرى جواز تفريق الحديث الواحد إذا اشتمل على حكمين مستقلين انتهى
( مالك عن زيد بن أسلم أن عمر بن الخطاب قال إذا نام أحدكم مضطجعا فليتوضأ ) وجوبا لانتقاض وضوئه وهذا ونحوه محمول عند مالك على ما إذا كان ثقيلا ولو قصر لا إن خف إلا أن يطول فيستحب الوضوء لأن العبرة عنده بصفة النوم لا النائم واعتبر الشافعي صفة النائم لا النوم
____________________
(1/77)
( مالك عن زيد بن أسلم ) العدوي وكان من العلماء بالتفسير وله كتاب فيه ( أن تفسير هذه الآية ) وهي { يا أيها الذين آمنوا إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا وجوهكم وأيديكم إلى المرافق } سورة المائدة الآية 6 أي معها كما بينته السنة ففي مسلم وغيره أن أبا هريرة توضأ فغسل وجهه ثم غسل يده اليمنى حتى أشرع في العضد الحديث ثم قال هكذا رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يتوضأ وكذا الإجماع كما حكاه الشافعي فهو حجة على زفر لانعقاد الإجماع قبله على خلافه كما مر { وامسحوا برؤوسكم } أي رؤوسكم كلها بالماء فزيدت الباء لتفيد ممسوحا به { وأرجلكم } بالنصب عطفا على أيديكم والجر على الجوار { إلى الكعبين } أي معهما كما بينته السنة
( أن ذلك إذا قمتم من المضاجع يعني النوم ) وهذا التفسير موافق لقول أكثر السلف أن التقدير إذا قمتم محدثين وقيل لا تقدير بل الأمر على عمومه لكنه في حق المحدث على الإيجاب وفي غيره على الندب
واختلف العلماء أيضا في موجب الوضوء فقيل يجب بالحدث وجوبا موسعا وقيل به وبالقيام إلى الصلاة معا ورجحه جماعة من الشافعية وقيل بالقيام إلى الصلاة فقط لقوله صلى الله عليه وسلم إنما أمرت بالوضوء إذا قمت إلى الصلاة رواه أصحاب السنن عن ابن عباس واستنبط بعض العلماء من الآية إيجاب النية في الوضوء لأن التقدير إذا أردتم القيام إلى الصلاة فتوضؤوا لأجلها ومثله قولهم إذا رأيت الأمير فقم لأجله
( قال مالك الأمر ) المعمول به ( عندنا ) بالمدينة ( أنه لا يتوضأ من رعاف ) خروج الدم من الأنف ( ولا من دم ) خرج من الجسد ولو بحجامة وفصد
( ولا من قيح يسيل من الجسد ) وفي رواية ولا من شيء يسيل وهي أعم وسواء كان طاهرا أو نجسا لأن الوضوء المجمع عليه لا ينتقض إلا بسنة أو إجماع ولم يرد في ذلك سنة ولا إجماع
( ولا يتوضأ إلا من حدث يخرج من ذكر ) وهو البول والمذي والمني في بعض أحواله
( أو دبر ) وهو الغائط والريح ولو بلا صوت
( أو نوم ) ثقيل زاد ابن بكير أو مباشرة أي لمس بلذة أو قصد وذكر النوم مع الحدث لأن النوم إذا ثقل كان من باب الحدث في الأغلب وكذا يتوضأ من مس الذكر وقد قال صلى الله عليه وسلم لا يقبل الله صلاة من أحدث حتى يتوضأ فقال رجل من حضرموت ما الحدث يا أبا هريرة قال فساء أو ضراط
رواه البخاري وغيره وإنما فسره أبو هريرة بهما تنبيها بالأخف على الأغلظ وأنه أجاب السائل بما يحتاج إلى معرفته في غالب الأمور وإلا فالحدث
____________________
(1/78)
يطلق على الخارج المعتاد وعلى نفس الخروج وعلى الوصف الحكمي المقدر قيامه بالأعضاء قيام الأوصاف الحسية وعلى المنع من العبادة المترتب على كل واحد من الثلاثة وقد جعل في الحديث الوضوء رافعا للحدث فلا يعني به الخارج ولا نفس الخروج لأن الواقع لا يرتفع فلم يبق إلا أنه يعني المنع والصفة
( مالك عن نافع أن ابن عمر كان ينام جالسا ثم يصلي ولا يتوضأ ) لأن النوم ليس بحدث وإنما هو سبب وقد كان نومه خفيفا أو أنه كان مستثفرا سادا مخرجه والله أعلم
3 الطهور للوضوء رح 40 ( مالك عن صفوان بن سليم ) بضم السين المدني الزهري مولاهم أبي عبد الله روى عن مولاه حميد بن عبد الرحمن بن عوف وعن ابن عمر وأنس وأبي أمامة بن سهل وعبد الله بن جعفر وأم سعد الجمحية ولها صحبة وجماعة عنه وعنه الليث ومالك والسفيانان وخلق
قال ابن سعد كان ثقة كثير الحديث عابدا وذكر عند أحمد فقال هذا رجل يستشفى بحديثه وينزل القطر من السماء بذكره مات سنة اثنين وثلاثين ومائة وله اثنتان وسبعون سنة
( عن سعيد ) بفتح السين وكسر العين ( ابن سلمة ) المخزومي ( من آل بني الأزرق ) وثقه النسائي وقول ابن عبد البر لم يرو عنه فيما علمت إلا صفوان ومن كانت هذه حالته فهو مجهول لا تقوم به حجة تعقب بأنه روى عنه الجلاح أبو كبير وحديثه عنه في مستدرك الحاكم قال الرافعي وعكس بعض الرواة الاسمين فقال سلمة بن سعيد وبدل بعضهم فقال عبد الله بن سعيد
( عن المغيرة بن أبي بردة ) ويقال ابن عبد الله بن أبي بردة من أوسط التابعين وثقه النسائي وقد ولي إمرة الغزو بالمغرب مات بعد المائة قال في الإكمال أبو زرعة الرازي عن اسم أبي بردة والد المغيرة فقال لا أعرفه
( وهو من بني عبد الدار ) بن قصي فهو قرشي كذا في رواية يحيى قال ابن وضاح ليس هو من بني عبد الدار وطرحه ولم يقع ذلك في موطأ محمد بن الحسن
قال ابن عبد البر سأل الترمذي البخاري عن حديث مالك هذا فقال حديث صحيح قلت هشيم يقول فيه المغيرة بن أبي بزرة يعني بفتح الموحدة والزاي فقال وهم فيه ( أنه سمع أبا هريرة ) قال الرافعي رواه بعضهم عن المغيرة عن أبيه عن أبي هريرة ولا يوهم
____________________
(1/79)
إرسالا في الإسناد للتصريح فيه بسماع المغيرة من أبي هريرة يعني فرواية هذا البعض من المزيد في متصل الأسانيد ( يقول جاء رجل ) من بني مدلج كما في مسند أحمد وللطبراني أن اسمه عبد الله وفي رواية له ولابن عبد البر أنه الفراسي وفي الإصابة عبد بسكون الموحدة بغير إضافة العركي بفتح المهملة والراء بعدها كاف هو الملاح ووهم من قال إنه اسم بلفظ النسب قيل هو اسم الذي سأل عن ماء البحر في هذا الحديث
وحكى ابن بشكوال أن اسمه عبد الله المدلجي
وقال الطبراني اسمه عبيد بالتصغير
وقال البغوي اسمه حميد بن صخرة قال وبلغني أن اسمه عبد ود انتهى
( إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال يا رسول الله إنا نركب البحر ) الملح لأنه المتوهم فيه لأنه مالح ومر وريحه منتن قال أبو عبد الملك فيه جواز ركوبه لغير حج ولا عمرة ولا جهاد لأن السائل إنما ركبه للصيد كما جاء من غير طريق مالك
( ونحمل معنا القليل من الماء ) بقدر الاكتفاء ( فإن توضأنا به عطشنا ) بكسر الطاء ( أفنتوضأ به ) أي بماء البحر ( فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم هو ) أي البحر ( الطهور ماؤه ) بفتح الطاء البالغ في الطهارة ومنه قوله تعالى { وأنزلنا من السماء ماء طهورا } سورة الفرقان الآية 48 أي طاهرا في ذاته مطهرا لغيره ولم يقل في جوابه نعم مع حصول الغرض به ليقرن الحكم بعلته وهي الطهورية المتناهية في بابها ودفعا لتوهم حمل لفظة نعم على الجواز ولما وقع جوابا للسائل بين أن ذلك وصف لازم له ولم يقل ماؤه الطهور لأنه أشد اهتماما بذكر الوصف الذي اتصف به الماء المجوز للوضوء وهو الطهورية فالتطهير به حلال صحيح كما عليه جمهور السلف والخلف وما نقل عن بعضهم من عدم الإجزاء به مزيف أو مؤول بأنه أراد عدم الإجزاء على وجه الكمال عنده
( الحل ) أي الحلال كما في رواية الدارقطني عن جابر وأنس وابن عمرو ( ميتته ) قال الرافعي لما عرف صلى الله عليه وسلم اشتباه الأمر على السائل في ماء البحر أشفق أن يشتبه عليه حكم ميتته وقد يبتلى بها راكب البحر فعقب الجواب عن سؤاله ببيان حكم الميتة
وقال غيره سأله عن مائه فأجابه عن مائه وطعامه لعلمه بأنه قد يعوزهم الزاد فيه كما يعوزهم الماء فلما جمعتهم الحاجة انتظم الجواب بهما
قال ابن العربي وذلك من محاسن الفتوى بأكثر مما سئل عنه تتميما للفائدة وإفادة لعلم آخر غير المسؤول عنه ويتأكد ذلك عند ظهور الحاجة إلى الحكم كما هنا لأن من توقف في طهورية ماء البحر فهو عن العلم بحل ميتته مع تقدم تحريم الميتة أشد توقفا
____________________
(1/80)
قال اليعمري وهذان الحكمان عامان وليسا في مرتبة واحدة إذ لا خلاف في العموم في حل ميتته لأنه عام مبتدأ لا في معرض جواب بخلاف الأول لأنه في معرض الجواب عن مسؤول عنه
والثاني ورد بطريق الاستقلال فلا خلاف في عمومه عند القائلين به ولو قيل في الأول إن السؤال وقع عن الوضوء وكون مائه طهورا يفيد الوضوء وغيره فهو أعم من المسؤول عنه لكان له وجه ولفظ الميتة مضاف إلى البحر ولا يجوز حمله على مطلق ما يجوز إضافته إليه مما يطلق عليه اسم الميتة وإن ساغت الإضافة فيه لغة بل محمول على الميتة من دوابه المنسوبة إليه مما لا يعيش إلا فيه وإن كان على غير صورة السمك ككلب وخنزير وهذا الحديث أصل من أصول الإسلام تلقته الأئمة بالقبول وتداولته فقهاء الأمصار في سائر الأعصار في جميع الأقطار ورواه الأئمة الكبار مالك والشافعي وأحمد وأصحاب السنن الأربعة والدارقطني والبيهقي والحاكم وغيرهم من عدة طرق وصححه ابن خزيمة وابن حبان وابن منده وغيرهم وقال الترمذي حسن صحيح
وسألت عنه البخاري فقال حديث صحيح والله أعلم
( مالك عن إسحاق بن عبد الله بن أبي طلحة ) زيد بن سهل الأنصاري ( عن ) زوجته ( حميدة ) بضم الحاء المهملة وفتح الميم عند رواة الموطأ إلا يحيى الليثي فقال إنها بفتح الحاء وكسر الميم نبه عليه أبو عمر ( بنت أبي عبيدة بن فروة ) كذا قال يحيى وهو غلط منه لم يتابعه عليه أحد وإنما يقول رواة الموطأ كلهم ابنة عبيد بن رفاعة إلا أن زيد بن الحباب قال فيه عن مالك حميدة بنت عبيد بن رافع نسب أباها إلى جده وهو عبيد بن رفاعة بن رافع بن مالك بن العجلان وحميدة هذه امرأة إسحاق وبه صرح في رواية يحيى القطان ومحمد بن الحسن وابن المبارك عن مالك عن إسحاق قال حدثتني امرأتي حميدة وتكنى أم يحيى قاله ابن عبد البر أي باسم ابنها يحيى بن إسحاق وهي أنصارية مدنية مقبولة من التابعيات روى لها أصحاب السنن ( عن خالتها كبشة ) بفتح الكاف والشين المعجمة بينهما موحدة ساكنة ( بنت كعب بن مالك ) الأنصارية قال ابن حبان لها صحبة وتبعه المستغفري ( وكانت تحت ) عبد الله ( ابن أبي قتادة الأنصاري ) المدني الثقة التابعي المتوفى سنة خمس وتسعين وقال ابن سعد تزوجها ثابت بن أبي قتادة فولدت له وفي رواية ابن المبارك عن مالك وكانت امرأة أبي قتادة قال ابن عبد البر وهو وهم منه إنما هي امرأة ابنه ووقع في الأم للشافعي عن مالك وكانت تحت ابن أبي قتادة أو أبي قتادة الشك من الربيع كذا وقع في الأصل قال الرافعي وفي نسبة الشك إليه شبهة لأن عبد الملك بن محمد بن عدي روى عن الحسن بن محمد الزعفران عن الشافعي عن مالك الحديث وقال فيه كذلك وهذا يوهم أن الشك من غير الربيع وفي رواية عبد الرزاق وغيره عن مالك وكانت عند أبي قتادة وهذا يصدق على
____________________
(1/81)
التقديرين قال والواقع على ما رواه الأكثرون الأولى أي أنها زوج ابنه وكذا رواه الربيع عن الشافعي في موضع آخر بلا شك ويدل عليه قوله لها يا بنة أخي ولا يحسن تسمية الزوجة باسم المحارم
( أنها ) أي كبشة ( أخبرتها ) أي حميدة ( أن أبا قتادة ) الأنصاري اسمه الحارث ويقال عمرو ويقال النعمان بن ربعي بكسر الراء وسكون الموحدة بعدها مهملة السلمي بفتحتين المدني شهد أحدا وما بعدها ولم يصح شهوده بدرا ومات سنة أربع وخمسين على الأصح الأشهر
( دخل عليها فسكبت ) أي صبت ( له وضوءا ) أي الماء الذي يتوضأ به
( فجاءت هرة لتشرب منه فأصغى ) بغين معجمة أي أمال ( لها الإناء حتى شربت ) منه ( قالت كبشة فرآني أنظر إليه ) نظر المنكر أو المتعجب ( فقال أتعجبين يا ابنة أخي ) في الصحبة لأن أباها صحابي مثله وسلمي من قبيلته وهو أحد الثلاثة ( قالت فقلت ) له ( نعم ) أعجب ( فقال ) لا تعجبي ( إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال إنها ليست بنجس ) وصف بالمصدر فيستوي فيه المذكر والمؤنث قاله الرافعي وضبطه المنذري والنووي وابن دقيق العيد وابن سيد الناس بفتح الجيم من النجاسة قال تعالى { إنما المشركون نجس } سورة التوبة الآية 28 ذكره السيوطي على النسائي ( إنما هي من الطوافين عليكم ) أي الذين يداخلونكم ويخالطونكم قاله أبو عمر
( أو الطوافات ) شك من الراوي أو تنويع أي ذكورها من ذكور من يطوف وإناثها من الإناث ويؤيده أن في رواية بالواو قاله الرافعي وهي رواية محمد بن الحسن للموطأ
وقال البوني الطوافين الخدم والطوافات الخادمات ونظيره قوله تعالى { ويطوف عليهم ولدان } سورة الإنسان الآية 19 فالهر في اختلاطه كبعض الخدم
وروى ابن ماجه والحاكم وابن عدي عن أبي هريرة مرفوعا الهرة لا تقطع الصلاة إنما هي من متاع البيت والدارقطني عن عائشة مرفوعا إنها ليست بنجس هي كبعض أهل البيت قال الرافعي ولو قرىء تنجس أي بفوقية قبل النون وشد الجيم أي ما تلغ فيه لصح معناه وكان قوله إنما هي من الطوافين حسن الموقع أي إذا كانت تطوف في البيت ولا يستغنى عنها يخفف الأمر فيما ولغت فيه ولذا صار بعضهم إلى العفو مع تيقن نجاسة فمها لكن الرواية لا تساعده اه
وهذا الحديث أخرجه الشافعي في الأم عن مالك به ورواه أصحاب السنن الأربعة وأخرج أحمد والدارقطني والحاكم والبيهقي عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم دعي إلى دار قوم فأجاب ودعي
____________________
(1/82)
إلى دار آخرين فلم يجب فقيل له في ذلك فقال صلى الله عليه وسلم إن في دار فلان كلبا وفي دار الآخر هرة والهرة ليست بنجسة إنما هي من الطوافين عليكم والطوافات
( قال مالك لا بأس به ) أي يجوز الوضوء بما شربت منه ( إلا أن يرى على فمها نجاسة ) فإن غيرت الماء منع
( مالك عن يحيى بن سعيد ) الأنصاري ( عن محمد بن إبراهيم بن الحارث ) بن خالد القرشي ( التيمي ) أبي عبد الله المدني ثقة له أفراد من صغار التابعين روى عن جابر وعائشة وأنس وخلق وعنه ابنه موسى ويحيى الأنصاري والأوزاعي وجماعة وثقه ابن معين وأبو حاتم والنسائي وغيرهم وقال أحمد في أحاديثه شيء يروي أحاديث مناكير مات سنة عشرين ومائة على الصحيح وقيل قبلها بسنة
( عن يحيى بن عبد الرحمن بن أبي حاطب ) بن أبي بلتعة ثقة من التابعين مات سنة أربع ومائة روى له مسلم والأربعة
( أن عمر بن الخطاب خرج في ركب فيهم عمرو بن العاصي ) بن وائل السهمي الصحابي المشهور أسلم عام الحديبية وولي إمرة مصر مرتين وهو الذي فتحها وبها مات سنة نيف وأربعين وقيل بعد الخمسين
( حتى وردوا حوضا فقال عمرو بن العاصي لصاحب الحوض يا صاحب الحوض هل ترد حوضك السباع ) للشرب منه فنمتنع عنه
( فقال عمر بن الخطاب يا صاحب الحوض لا تخبرنا ) واتركنا على اليقين الأصلي الذي لا يزول بالشك العارض أي فكل ذلك عندنا سواء أخبرتنا أم لم تخبرنا بدليل قوله ( فإنا نرد على السباع وترد علينا ) أي أنه أمر لا بد منه وهي طاهرة لا ينجس الماء بشربها منه وقد قال صلى الله عليه وسلم لها ما حملت ولنا ما بقي شراب وطهور رواه عبد الرزاق
وقال صلى الله عليه وسلم الماء لا ينجسه شيء رواه الطيالسي والشافعي وأحمد وغيرهم
رح 4( مالك عن نافع أن عبد الله بن عمر كان يقول إن ) مخففة من الثقيلة واسمها ضمير الشأن أي أنه ( كان الرجال والنساء ) ظاهره التعميم فاللام للجنس لا للاستغراق كذا في فتح الباري ومراده بالتعميم أن اللفظ لا يختص بالمحارم والزوجات بل يشمل غيرهم لأن هذا كان قبل الحجاب وإلا نافى كلامه بعضه بعضا
( في زمان رسول الله صلى الله عليه وسلم ) فيه أن الصحابي إذا أضاف الفعل
____________________
(1/83)
إلى زمان المصطفى يكون حكمه الرفع وهو الصحيح وقال قوم لا لاحتمال أنه لم يطلع عليه وهو ضعيف لتوفر دواعي الصحابة على سؤالهم إياه عن الأمور التي تقع لهم ومنهم ولو لم يسألوه لم يقروا على فعل غير جائز في زمن التشريع
( ليتوضؤون جميعا ) أي حال كونهم مجتمعين لا مفترقين زاد ابن ماجه عن هشام بن عروة عن مالك في هذا الحديث من إناء واحد
وزاد أبو داود من طريق عبيد الله بن عمر عن نافع عن ابن عمر ندلي فيه أيدينا
وظاهر قوله جميعا أنهم كانوا يتناوبون الماء في حالة واحدة ولا مانع من ذلك قبل نزول الحجاب وأما بعده فيختص بالزوجات والمحارم قاله الحافظ
وقال الرافعي يريد كل رجل مع امرأته وأنهما كانا يأخذان من إناء واحد وكذلك ورد في بعض الروايات واستحسنه السيوطي وقال إن غيره تخليط
وقال قوم معناه كانوا يتوضؤون جميعا في موضع واحد الرجال على حدة والنساء على حدة قال الحافظ والزيادة المتقدمة في قوله من إناء واحد ترد عليه وكأن هذا القائل استبعد اجتماع الرجال والنساء الأجانب
وأجاب ابن التين بما حكاه عن سحنون أن معناه كان الرجال يتوضؤون ويذهبون ثم يأتي النساء فيتوضؤون وهو خلاف الظاهر من قوله جميعا قال أهل اللغة الجميع ضد المتفرق
وقد صرح بوحدة الإناء في صحيح ابن خزيمة من طريق معمر عن عبيد الله عن نافع عن ابن عمر أنه أبصر النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه يتطهرون والنساء معهم في إناء واحد كلهم يتطهرون منه وفيه دلالة على جواز الوضوء بفضل وضوء المرأة لأنهما إذا توضآ جميعا منه صدق أن الباقي في الإناء فضل وضوء المرأة وإليه ذهب الجمهور ومنهم الأئمة الثلاثة وقال أحمد وداود لا يجوز إذا خلت به ووجهه شيخنا حافظ العصر البابلي بأنها ناقصة عقل ودين فربما إذا خلت به أدخلت فيه شيئا لم يطلع عليه الرجل ونقضه شيخنا العلامة الشمرلسي لما ذكرته له بأن المرأة لها الوضوء بما خلت به المرأة بلا كراهة عند أحمد وعن الحسن وابن المسيب كراهة فضلها مطلقا وهذا الحديث أخرجه البخاري عن عبد الله بن يوسف عن مالك به
4 ما لا يجب منه الوضوء كأنه أراد بالوضوء ما هو أعم من الشرعي واللغوي بدليل الحديث المبدوء به وهو ( مالك عن محمد بن عمارة ) بن عمرو بن حزم الأنصاري المدني
وثقه ابن معين ولينه أبو حاتم وفي التقرب أنه صدوق
( عن محمد بن إبراهيم ) التميمي المدني ( عن أم ولد ) اسمها
____________________
(1/84)
حميدة تابعية صغيرة مقبولة ( لإبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف ) الزهري قيل له رؤية وسماعه من عمر أثبته يعقوب بن شيبة مات سنة خمس وقيل ست وتسعين ورواه قتيبة عند الترمذي وهشام بن عمار عند ابن ماجه كلاهما عن مالك فقال أم ولد لعبد الرحمن بن عوف قال الترمذي ورواه عبد الله بن المبارك فقال عن أم ولد لهود بن عبد الرحمن بن عوف قال وهو وهم وإنما هو لإبراهيم وهو الصحيح
( أنها سألت أم سلمة ) هند بنت أبي أمية بن المغيرة بن عبد الله بن عمر بن مخزوم القرشية المخزومية أم المؤمنين ( زوج النبي صلى الله عليه وسلم ) تزوجها بعد أبي سلمة سنة أربع وقيل ثلاث وعاشت بعد ذلك ستين سنة وماتت سنة اثنين وستين وقيل سنة إحدى وقيل قبل ذلك والأول أصح
قال ابن عبد البر رواه الحسين بن الوليد عن مالك فقال عن حميدة أنها سألت عائشة وهذا خطأ إنما هو لأم سلمة كما رواه الحفاظ في الموطأ وغيره عن مالك
( فقالت إني امرأة أطيل ذيلي وأمشي في المكان القذر ) بذال معجمة ( قالت أم سلمة قال رسول الله صلى الله عليه وسلم يطهره ما بعده ) قال ابن عبد البر وغيره قال مالك معناه في القشب اليابس والقذر الجاف الذي لا يلصق منه بالثوب شيء وإنما يعلق به فيزول المتعلق بما بعده لا أن النجاسة يطهرها غير الماء اه
وعن مالك أيضا إنما هو أن يطأ الأرض القذرة ثم يطأ اليابسة النظيفة فإن بعضها يطهر بعضا
وأما النجاسة مثل البول ونحوه يصيب الثوب أو بعض الجسد فلا يطهره إلا الغسل قال وهذا إجماع الأمة
وقال الشافعي هذا إنما هو فيما جر على ما كان يابسا لا يعلق بالثوب منه شيء فأما إذا جر على رطب فلا يطهر إلا بالغسل وقال أحمد ليس معناه إذا أصابه بول ثم مر بعده على الأرض أنها تطهره ولكنه يمر بالمكان فيقذره ثم يمر بمكان أطيب منه فيكون هذا بذاك لا على أنه لا يصيبه منه شيء
وذهب بعض العلماء إلى حمل القذر في الحديث على النجاسة ولو رطبة وقالوا يطهر بالأرض اليابسة لأن الذيل للمرأة كالخف والنعل للرجل
ويؤيده ما في ابن ماجه عن أبي هريرة قيل يا رسول الله إنا نريد المسجد فنطأ الطريق النجسة فقال صلى الله عليه وسلم الأرض يطهر بعضها بعضا لكنه حديث ضعيف كما قاله البيهقي وغيره
وحديث مالك رواه أبو داود عن عبد الله بن مسلمة والترمذي عن قتيبة وابن ماجه عن هشام بن عمار ثلاثتهم عن مالك وله شاهد عند أبي داود وابن ماجه عن امرأة من بني عبد الأشهل
____________________
(1/85)
قالت قلت يا رسول الله إن لنا طريقا إلى المسجد منتنة فكيف نفعل إذا مطرنا قال أليس بعدها طريق هي أطيب منها قلت بلى قال فهذه بهذه
( مالك أنه رأى ربيعة بن أبي عبد الرحمن ) واسمه فروخ القرشي مولاهم المدني ( يقلس ) بكسر اللام من باب ضرب قال في النهاية القلس بالتحريك وقيل بالسكون ما خرج من الجوف ملء الفم أو دونه وليس بقيء فإن عاد فهو القيء ( مرارا وهو في المسجد ) النبوي ( فلا ينصرف ولا يتوضأ حتى يصلي ) لأنه ليس بناقض
( وسئل مالك عن رجل قلس طعاما هل عليه وضوء فقال ليس عليه وضوء وليمضمض من ذلك ) فاه ( وليغسل فاه ) استحبابا
( مالك عن نافع أن عبد الله بن عمر حنط ) بفتح المهملة والنون الثقيلة والطاء المهملة أي طيب بالحنوط وهو كل شيء خلط من الطيب للميت خاصة ( ابنا ) اسمه عبد الرحمن كما في رواية الليث عن نافع عند العلاء بن موسى بن الجهم في نسخته ( لسعيد بن زيد ) بن عمرو بن نفيل العدوي أحد العشرة مات سنة خمسين أو بعدها بسنة أو سنتين
( وحمله ثم دخل المسجد فصلى ولم يتوضأ ) قال أبو عمر أدخل مالك هذا الحديث إنكارا لما روي مرفوعا من غسل ميتا فليغتسل ومن حمله فليتوضأ وإعلاما أن العمل عندهم بخلافه ولم يختلف قوله إنه لا وضوء على من حمل ميتا واختلف قوله في غسل من غسل ميتا
ومعنى الحديث أن من حمل ميتا أو شيعه فليكن على وضوء لئلا تفوته الصلاة عليه لا أن حمله حدث اه
وحديث من غسل ميتا الخ رواه أبو داود من طريق عمرو بن عمير عن أبي هريرة مرفوعا ورواته ثقات إلا عمرا فليس بمعروف وقال أبو داود إنه منسوخ ولم يبين ناسخه
وحكى الحاكم عن الذهبي ليس في من غسل ميتا فليغتسل حديث ثابت
( وسئل مالك هل في القيء وضوء قال لا
ولكن ليتمضمض من ذلك وليغسل فاه ) ندبا ( وليس عليه وضوء ) زيادة إيضاح لأنه مفاد قوله لا
____________________
(1/86)
5 ترك الوضوء مما مسته النار قال المهلب كانوا في الجاهلية قد ألفوا قلة التنظيف فأمروا بالوضوء مما مست النار ولما تقررت النظافة في الإسلام وشاعت نسخ الوضوء تيسيرا على المسلمين
وقال النووي كان الخلاف فيه معروفا بين الصحابة والتابعين ثم استقر الإجماع على أن لا وضوء مما مست النار إلا لحوم الإبل فقال أحمد بالوضوء منه لشدة زهومته واختاره ابن خزيمة وغيره من محدثي الشافعية
( مالك عن زيد بن أسلم ) العدوي مولى عمر ( عن عطاء بن يسار ) بلفظ ضد يمين ( عن عبد الله بن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أكل كتف شاة ) أي لحمه وفي رواية للبخاري معرق أي أكل ما على العرق بفتح المهملة وسكون الراء وهو العظم ويقال له أيضا العراق بالضم وأفاد القاضي إسماعيل ذلك في بيت ضباعة بنت الزبير بن عبد المطلب وهي بنت عمه صلى الله عليه وسلم ويحتمل أنه كان في بيت ميمونة كما في الصحيحين عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم أكل عندها كتفا ثم صلى ولم يتوضأ ولا مانع من التعدد كما في الفتح
( ثم صلى ولم يتوضأ ) فهذا نص في أن لا وضوء مما مست النار
وأما خبر زيد بن ثابت مرفوعا الوضوء مما مست النار وحديث أبي هريرة وعائشة رفعاه توضؤوا مما مست النار أخرج الثلاثة مسلم وحديث جابر بن سمرة عند مسلم أن رجلا سأل النبي صلى الله عليه وسلم أتوضأ من لحم الغنم قال إن شئت فتوضأ وإن شئت فلا تتوضأ قال أتوضأ من لحم الإبل قال نعم توضأ من لحوم الإبل فقد حمل ذلك الوضوء على غسل اليد والمضمضة لزيادة دسومته وزهومة لحم الإبل وقد نهى صلى الله عليه وسلم أن يبيت وفي يده أو فمه دسم خوفا من عقرب ونحوها وبأنها منسوخة بقول جابر كان آخر الأمرين من رسول الله صلى الله عليه وسلم ترك الوضوء مما مست النار رواه أبو داود وغيره
وقد أومأ مسلم إلى النسخ فروى أولا أحاديث زيد وأبي هريرة وعائشة ثم عقبها بحديث ابن عباس هذا فرواه عن القعنبي والبخاري عن ابن يوسف كلاهما عن مالك به
( مالك عن يحيى بن سعيد ) بكسر العين الأنصاري ( عن بشير ) بضم الموحدة وفتح المعجمة ( ابن يسار ) بتحتية ومهملة ( مولى بني حارثة ) من الأنصار الأنصاري الحارثي المدني وثقه ابن معين قال ابن سعد كان شيخا كبيرا فقيها أدرك عامة الصحابة وكان قليل الحديث
____________________
(1/87)
( عن سويد ) بضم السين ( ابن النعمان ) بضم النون ابن مالك الأنصاري صحابي شهد أحدا وما بعدها ما روى عنه سوى بشير وذكر العسكري أنه استشهد بالقادسية قال في الإصابة وفيه نظر لأن بشير بن يسار سمع منه وهو لم يلحق ذلك الزمان
( أنه أخبره أنه خرج مع رسول الله صلى الله عليه وسلم عام خيبر ) بخاء معجمة مفتوحة وتحتية ساكنة وموحدة مفتوحة وراء غير منصرف للعلمية والتأنيث وهي مدينة كبيرة ذات حصون ومزارع ونخل كثير على ثمانية برد من المدينة إلى جهة الشام ذكر أبو عبيد البكري أنها سميت باسم رجل من العماليق نزلها وهو خيبر أخو يثرب ابنا قانية ابن مهاييل وقيل الخيبر بلسان اليهود الحصن ولذا سميت خيابر أيضا ذكره الحازمي
( حتى إذا كانوا بالصهباء ) بفتح المهملة والمد ( وهي أدنى ) أي أسفل ( خيبر ) أي طرفها مما يلي المدينة وفي رواية للبخاري وهي على روحة من خيبر
وقال أبو عبيد البكري هي على بريد
وبين البخاري في الأطعمة من حديث ابن عيينة أن قوله وهي أدنى خيبر من قول يحيى بن سعيد أدرجت
( نزل رسول الله صلى الله عليه وسلم فصلى العصر ثم دعا بالأزواد ) جمع زاد وهو ما يؤكل في السفر
( فلم يؤت إلا بالسويق ) قال الداودي وهو دقيق الشعير أو السلت المقلو وقال غيره يكون من القمح وقد وصفه أعرابي فقال عدة المسافر وطعام العجلان وبلغة المريض
( فأمر به فثرى ) بضم المثلثة وشد الراء ويجوز تخفيفها أي بل بالماء لما لحقه من اليبس
( فأكل رسول الله صلى الله عليه وسلم ) منه ( وأكلنا ) منه زاد في رواية للبخاري وشربنا وله في أخرى فلكنا وأكلنا وشربنا أي من الماء أو من مائع السويق
( ثم قام إلى المغرب فمضمض ) قبل الدخول في الصلاة ( ومضمضنا ) وفائدتها وإن كان لا دسم في السويق أنه يحتبس بقاياه بين الأسنان ونواحي الفم فيشغله ببلعه عن الصلاة
( ثم صلى ولم يتوضأ ) بسبب أكل السويق قال الخطابي فيه أن الوضوء مما مست النار منسوخ لأنه متقدم وخيبر كانت سنة سبع قال الحافظ لا دلالة فيه لأن أبا هريرة حضر بعد فتحها وروى الأمر بالوضوء كما في مسلم وكان يفتي به بعد النبي صلى الله عليه وسلم واستدل به البخاري على جواز صلاتين فأكثر بوضوء واحد وعلى استحباب المضمضة بعد الطعام وفيه جمع الرفقاء على الزاد في السفر وإن كان بعضهم أكثر أكلا وحمل الأزواد في السفر وأنه لا يقدح في التوكل وأخذ منه المهلب أن الإمام يأخذ المحتكرين بإخراج الطعام عند قلته ليبيعوه من أهل الحاجة وأن الإمام ينظر لأهل العسكر فيجمع الزاد ليصيب منه من لا زاد معه وأخرجه البخاري عن عبد الله بن يوسف عن مالك به ولم يخرجه مسلم
____________________
(1/88)
( مالك عن محمد بن المنكدر ) بن عبد الله بن الهدير بالتصغير التيمي المدني عن أبيه وجابر وابن عمر وابن عباس وأبي أيوب وأبي هريرة وعائشة وخلق وعنه الزهري وأبو حنيفة ومالك والسفيانان وخلق قال ابن عيينة كان من معادن الصدق ويجتمع إليه الصالحون وثقه ابن معين وأبو حاتم مات سنة ثلاثين ومائة أو بعدها بسنة
( وعن صفوان بن سليم ) بضم السين ( أنهما أخبراه ) أي مالكا ( عن محمد بن إبراهيم بن الحارث التيمي ) أي تيم قريش ( عن ربيعة بن عبد الله بن الهدير ) بالتصغير ابن عبد العزى بن عامر بن الحارث بن حارثة بن سعد بن تيم بن مرة التيمي ولد في حياة النبي صلى الله عليه وسلم وله عن أبي بكر وعمر وغيرهما وهو معدود في كبار التابعين قاله أبو عمر ومنهم من أدخل بين عبد الله والهدير ربيعة آخر وذكره ابن حبان فقال له صحبة ثم ذكره في ثقات التابعين
وقال الدارقطني تابع كبير قليل المسند وكان ثقة من خيار الناس مات سنة ثلاث وتسعين
( أنه تعشى مع عمر بن الخطاب ) طعاما مسته النار ( ثم صلى ) عمر ( ولم يتوضأ ) ففيه دلالة على النسخ
وقد روى الطبراني في مسند الشاميين بإسناد حسن عن مسلم بن عامر قال رأيت أبا بكر وعمر وعثمان أكلوا مما مست النار ولم يتوضؤوا
وجاء من طرق كثيرة عن جابر مرفوعا وموقوفا على الثلاثة مفرقا ومجموعا
( مالك عن ضمرة ) بفتح المعجمة وإسكان الميم ( ابن سعد ) بن أبي حنة بمهملة ثم نون وقيل موحدة الأنصاري ( المازني ) نسبة إلى مازن بن النجار المدني تابع صغير ثقة
( عن أبان بن عثمان ) الأموي أبي سعيد أو أبي عبد الله المدني ثقة مات سنة خمس ومائة
( أن ) أباه ( عثمان بن عفان ) أمير المؤمنين ( أكل خبزا ولحما ثم مضمض ) فاه ( وغسل يديه ومسح بهما وجهه ) لعله خشي أن يعلق به شيء من الطعام
( ثم صلى ولم يتوضأ ) فهو دليل أيضا على نسخ الوضوء مما مست النار
( مالك أنه بلغه أن علي بن أبي طالب ) أبا الحسن الهاشمي أمير المؤمنين كثير الفضائل
____________________
(1/89)
( وعبد الله بن عباس كانا لا يتوضآن مما مست النار ) لأنه ليس بناقض
( مالك عن يحيى بن سعيد ) الأنصاري ( أنه سأل عبد الله بن عامر بن ربيعة ) العنزي حليف بني عدي ولد على عهد النبي صلى الله عليه وسلم ووثقه العجلي مات سنة بضع وثمانين
( عن الرجل يتوضأ للصلاة ثم يصيب طعاما قد مسته النار أيتوضأ قال رأيت أبي ) عامر بن ربيعة بن كعب بن مالك العنزي بفتح المهملة وسكون النون وزاي حليف آل الخطاب صحابي مشهور أسلم قديما وهاجر وشهد بدرا مات ليالي قتل عثمان
( يفعل ذلك ولا يتوضأ ) فدل ذلك على النسخ أيضا
( مالك عن أبي نعيم ) بضم النون ( وهب بن كيسان ) القرشي مولاهم المدني المعلم عن جابر وابن عباس وابن الزبير وأسماء وعدة وعنه مالك وابن إسحاق وأيوب السختياني وآخرون وثقه النسائي وغيره وروى له الجميع ومات سنة سبع وعشرين ومائة
( أنه سمع جابر بن عبد الله ) بن عمرو بن حرام بمهملة وراء ( الأنصاري ) السلمي بفتحتين صحابي ابن صحابي غزا تسع عشرة غزوة مع المصطفى ولم يشهد بدرا ولا أحدا منعه أبوه واستغفر له النبي صلى الله عليه وسلم ليلة البعير خمسا وعشرين مرة وكانت له حلقة في المسجد النبوي يؤخذ عنه ومات بالمدينة وقيل بمكة وقيل بقبا سنة ثمان وسبعين أو سنة تسع أو سبع أو أربع أو ثلاث أو اثنين وهو ابن أربع وتسعين سنة
( يقول رأيت أبا بكر الصديق ) لسبقه لتصديق النبي صلى الله عليه وسلم وكان علي يحلف أن الله أنزل اسم أبي بكر من السماء الصديق
( أكل لحما ثم صلى ولم يتوضأ ) فهؤلاء الخلفاء الأربع وعامر بن ربيعة وابن عباس فعلوا ذلك بعد النبي صلى الله عليه وسلم فدل على نسخ الوضوء مما مست النار وقد قال مالك إذا جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم حديثان مختلفان وعمل أبو بكر وعمر بأحدهما دل على أن الحق ما عملا به
وكان مكحول يتوضأ مما مست النار فأخبره عطاء بن أبي رباح بحديث جابر هذا عن أبي بكر فترك الوضوء وقال لأن يقع أبو بكر من السماء إلى الأرض أحب إليه من أن يخالف رسول الله صلى الله عليه وسلم وأتى الإمام بذلك لرد قول شيخه ابن شهاب أنه ناسخ لحديث الإباحة
____________________
(1/90)
روى البخاري ومسلم عن عمرو بن أمية أنه رأى النبي صلى الله عليه وسلم يحتز كتف شاة يأكل منها فدعي إلى الصلاة فألقاها والسكين وصلى ولم يتوضأ زاد البيهقي قال الزهري فذهبت تلك القصة في الناس ثم أخبر رجال من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ونساء من أزواجه أنه قال توضؤوا مما مست النار قال وكان الزهري يرى أن الأمر بذلك ناسخ لأحاديث الإباحة لأن الإباحة سابقة واعترض عليه بحديث جابر قال كان آخر الأمرين من رسول الله صلى الله عليه وسلم ترك الوضوء مما مست النار رواه أبو داود والنسائي وغيرهما وصححه ابن خزيمة وابن حبان وغيرهما لكن قال أبو داود وغيره المراد بالأمر هنا الشأن والقصة لا مقابل النهي وأن هذا اللفظ مختصر من حديث جابر المشهور في قصة المرأة التي صنعت للنبي صلى الله عليه وسلم شاة فأكل منها ثم توضأ وصلى الظهر ثم أكل منها وصلى العصر ولم يتوضأ فيحتمل أن هذه القصة وقعت قبل الأمر بالوضوء مما مست النار وأن وضوءه لصلاة الظهر كان لحدث لا للأكل من الشاة
وحكى البيهقي عن عثمان الدارمي أنه قال لما اختلفت أحاديث الباب ولم يتبين الراجح منها نظرنا إلى ما عمل به الخلفاء الراشدون بعد النبي صلى الله عليه وسلم فرجحنا به أحد الجانبين وبهذا يظهر حكمة ذكر الإمام لفعل الخلفاء الأربعة وغيرهم من الصحابة بعد تصديره بحديثي ابن عباس وسويد في أن المصطفى أكل مما مست النار ولم يتوضأ وجمع الخطابي بوجه آخر وهو أن أحاديث الأمر محمولة على الاستحباب لا على الوجوب
( مالك عن محمد بن المنكدر ) وصله أبو داود من طريق ابن جريج والترمذي من طريق سفيان بن عيينة كلاهما عن محمد بن المنكدر عن جابر ( أن رسول الله صلى الله عليه وسلم دعي لطعام ) أي دعته امرأة من الأنصار كما في الطريق الموصولة ( فقرب إليه لحم ) من شاة ذبحتها له الأنصارية ( وخبز فأكل منه ثم توضأ ) للأكل من الشاة أو لأنه كان محدثا فلا دلالة فيه على وجوب الوضوء مما مست النار ولا على ندبه
( وصلى ) الظهر ( ثم أتى بفضل ) أي باقي ( ذلك الطعام فأكل منه ثم صلى ) العصر ( ولم يتوضأ ) وفي رواية ابن القاسم وابن بكير ثم دعي بفضل ذلك الطعام فقال دعي مكان أتى فيحتمل أن صاحب الطعام سأله ذلك فأجابه لإدخال السرور عليه ويكون وقت قيامه للصلاة لم ينو الرجوع لحديث إذا حضر الطعام فابدؤوا به قبل الصلاة أي لئلا يشتغل به عن الإقبال إليها وإن كان صلى الله عليه وسلم ليس كغيره لكنه مشرع وفيه أنه أكل اللحم في يوم مرتين ولا يلزم أنه شبع منه فلا يعارضه قول عائشة ما شبع من لحم في يوم مرتين كما توهم
____________________
(1/91)
( مالك عن موسى بن عقبة ) بالقاف ابن أبي عياش بتحتية ومعجمة القرشي مولاهم المدني عن أم خالد بنت خالد ولها صحبة ونافع وسالم والزهري وخلق وعنه مالك وشعبة والسفيانان وابن جريج وغيرهم وثقه أحمد ويحيى وأبو حاتم وغيرهم ولم يصح أن ابن معين لينه
وقال معن وغيره وكان مالك إذا سئل عن المغازي يقول عليك بمغازي الرجل الصالح موسى بن عقبة فإنها أصح المغازي مات سنة إحدى وأربعين ومائة وقيل بعدها
( عن عبد الرحمن بن يزيد ) بتحتية قبل الزاي ابن جارية بجيم وتحتية ( الأنصاري ) أبي محمد المدني أخي عاصم بن عمر لأمه يقال ولد في حياة النبي صلى الله عليه وسلم وذكره ابن حبان في ثقات التابعين مات سنة ثلاث وتسعين وأبوه صحابي مشهور
( أن أنس بن مالك قدم من العراق فدخل عليه ) زوج أمه ( أبو طلحة ) زيد بن سهل الأنصاري النجاري مشهور بكنيته من كبار الصحابة شهد بدرا وما بعدها مات سنة أربع وثلاثين
وقال أبو زرعة الدمشقي عاش بعد النبي صلى الله عليه وسلم أربعين سنة
( وأبي بن كعب ) الأنصاري الخزرجي أبو المنذر سيد القراء من فضلاء الصحابة في سنة موته خلف كثير فقيل سنة تسع عشرة وقيل اثنين وثلاثين وقيل غير ذلك
( فقرب لهما طعاما قد مسته النار فأكلوا منه فقام أنس فتوضأ فقال ) له ( أبو طلحة وأبي بن كعب ما هذا ) الفعل ( يا أنس أعراقية ) أي أبالعراق استفدت هذا العلم وتركت عمل أهل المدينة المتلقى عن النبي صلى الله عليه وسلم ( فقال أنس ليتني لم أفعل ) أي لأنه يوهم للشبهة
( وقام أبو طلحة وأبي بن كعب فصليا ولم يتوضآ ) فدل فعلهما وإنكارهما وهما منهما على أنس ورجوعه إليهما على أن إجماع أهل المدينة على أن لا وضوء مما مست النار وهو من الحجج القوية الدالة على نسخ الوضوء منه ومن ثم ختم به هذا الباب وهو يفيد أيضا رد ما ذهب إليه الخطابي من حمل أحاديث الأمر على الاستحباب إذ لو كان مستحبا ما ساغ إنكارهما عليه والله أعلم
____________________
(1/92)
6 جامع الوضوء ( مالك عن هشام بن عروة ) من صغار التابعين مجمع على ثقته واحتج به جميع الأئمة وقول عبد الرحمن بن حراش كان مالك لا يرضاه محمول على ما قاله يعقوب بن شيبة أنه لما صار إلى العراق في قدمته الثالثة انبسط في الرواية عن أبيه فأنكر ذلك عليه أهل بلده والذي نراه أنه كان لا يحدث عن أبيه إلا بما سمعه منه وكان تساهله أنه أرسل عن أبيه ما سمعه من غير أبيه عن أبيه وهذا هو التدليس ذكره في مقدمة فتح الباري فالمعنى لا يرضى ما حدث به في آخر عمره لكونه دلسه لا مطلقا إذ قد رضيه فروى عنه كثيرا في الموطأ وغيره
( عن أبيه ) عروة بن الزبير أرسله رواة الموطأ كلهم ووصله أبو داود والنسائي من طريق مسلم بن قرط بضم القاف وسكون الراء ومهملة وهو مقبول عن عروة عن عائشة ( أن رسول الله ) ووقع لابن بكير في الموطأ مالك عن هشام عن أبيه عن أبي هريرة وكذا رواه بعضهم عن سحنون عن ابن القاسم عن مالك به وهو غلط فاحش لم يروه أحد كذلك لا من أصحاب هشام ولا من أصحاب مالك ولا رواه أحد عن عروة عن أبي هريرة قاله أبو عمر
( سئل عن الاستطابة ) طلب الطيب قال أهل اللغة الاستطابة الاستنجاء يقال استطاب وأطاب إطابة أيضا لأن المستنجي تطيب نفسه بإزالة الخبث عن المخرج
وقال أبو عمر هي والاستجمار والاستنجاء بمعنى واحد إلا أن الاستنجاء إنما يكون بالأحجار والاستجمار والاستطابة يكونان بالماء وبالحجر كما أفاده
( فقال أولا يجد أحدكم ثلاثة أحجار ) يستطيب بها وتمسك بظاهره أصبغ فقصر الاستجمار على ما كان من جنس الأرض لأنه رخصة لا يتعدى بها ما ورد وقاس المشهور عليها غيرها من كل جامد طاهر منق غير مؤذ ولا محترم لأن الرخصة في نفس الفعل لا في المفعول به ولأنه مقتضى تعليله رد الروثة بأنها رجس لا بأنها ليست بحجر ولقوله إذا قضى أحدكم حاجته فليستنج بثلاثة أعواد أو ثلاثة أحجار أو ثلاث حثيات من تراب ولأن الأحجار لقب لم يقل بمفهومه الجمهور
( مالك عن العلاء بن عبد الرحمن ) بن يعقوب الحرقي بضم الحاء المهملة وفتح الراء بعدها قاف المدني عن ابن عمر وأنس وطائفة وعنه ابنه شبل بكسر المعجمة وسكون الموحدة ومالك وشعبة والسفيانان وخلق وثقه أحمد وغيره مات سنة بضع وثلاثين ومائة
____________________
(1/93)
( عن أبيه ) عبد الرحمن بن يعقوب الجهني المدني مولى الحرقة بضم المهملة وفتح الراء وقاف فخذ من جهينة ثقة روى له ولابنه مسلم والأربعة
( عن أبي هريرة أن رسول الله خرج إلى المقبرة ) بتثليث الباء والكسر أقلها موضع القبور
( فقال ) ليحصل لهم ثواب التحية وبركتها ( السلام عليكم دار قوم مؤمنين ) قال ابن قرقول بنصب دار على الاختصاص أو النداء المضاف والأول أظهر قال ويصح الجر على البدل من الكاف والميم في عليكم والمراد بالدار على هذين الوجهين الأخيرين الجماعة أو الأهل وعلى الأول مثله أو أهل المنزل قال الأبي يعني الاختصاص اللغوي لا الصناعي لفقد شرطه وهو تقديم ضمير المتكلم أو المخاطب اه
وتعقب بأنه اصطلاحي أيضا
قال التفتازاني في حاشية الكشاف المراد بالاختصاص هنا النصب بإضمار فعل وقد أكثر الكرماني من التعبير بالاختصاص في مثل هذا
قال الباجي وعياض يحتمل أنهم أحيوا له حتى سمعوا كلامه كأهل القليب ويحتمل أن يسلم عليهم مع كونهم أمواتا لامتثال أمته ذلك بعده قال الباجي وهو الأظهر
( وإنا إن شاء الله بكم لاحقون ) قال النووي وغيره للعلماء في إتيانه بالاستثناء مع أن الموت لا شك فيه أقوال أظهرها أنه ليس للشك وإنما هو للتبرك وامثتال أمر الله فيه
قال أبو عمر الاستثناء قد يكون في الواجب لا شكا كقوله { لتدخلن المسجد الحرام إن شاء الله } سورة الفتح الآية 27 ولا يضاف الشك إلى الله
والثاني أنه عادة المتكلم يحسن به كلامه
والثالث أنه عائد إلى اللحوق في هذا المكان والموت بالمدينة
والرابع أن إن بمعنى إذ
والخامس أنه راجع إلى استصحاب الإيمان لمن معه
والسادس أنه كان معه من يظن بهم النفاق فعاد الاستثناء إليهم
وحكى ابن عبد البر أنه عائد إلى معنى مؤمنين أي لاحقون في حال إيمان لأن الفتنة لا يأمنها أحد ألا ترى قول إبراهيم { واجنبني وبني أن نعبد الأصنام } سورة إبراهيم الآية 35 وقول يوسف { توفني مسلما وألحقني بالصالحين } سورة يوسف الآية 101 ولأن نبينا يقول اللهم اقبضني إليك غير مفتون اه
واستبعد الأبي الثالث بقوله للأنصار المحيا محياكم والممات مماتكم قال إلا أن يكون قال ذلك قبل
( وددت أني قد رأيت ) في الحياة الدنيا ويحتمل تمني لقائهم بعد الموت قاله عياض وقال بعضهم لعله أراد أن ينقل أصحابه من علم اليقين إلى عين اليقين ويراهم هو ومن معه وفي رواية إني لقيت ( إخواننا ) قيل وجه اتصال وده ذلك برؤية أصحاب القبور أنه عند تصوره السابقين تصور
____________________
(1/94)
اللاحقين أو كشف له عن عالم الأرواح السابقين واللاحقين
( فقالوا يا رسول الله ألسنا بإخوانك قال بل أنتم أصحابي ) قال الباجي لم ينف بذلك أخوتهم ولكن ذكر مرتبتهم الزائدة بالصحبة واختصاصهم بها وإنما منع أن يسموا بذلك لأن التسمية والوصف على سبيل الثناء والمدح للمسمى يجب أن يكون بأرفع حالاته وأفضل صفاته وللصحابة بالصحبة درجة لا يلحقهم فيها أحد فيجب أن يوصفوا بها اه
وقبله عياض ثم النووي وزاد فهؤلاء إخوة صحابة والذين لم يأتوا إخوة ليسوا بصحابة
وقال الأبي حمل الباجي الأخوة على أنها في الإيمان ولا شك أن الصحبة أخص وحملها أبو عمر على أخوة العلم والقيام بالحق عند قلة القائمين به المقول فيهم وهو يخاطب أصحابه العامل منهم أجر سبعين منكم وغير ذلك مما وصفهم به ورأى أن هذه الأخوة أخص من مطلق الصحبة ولا يبعد كل من الحملين
( وإخواننا الذين لم يأتوا بعد ) ودل بإثبات الإخوة لهؤلاء على علو مرتبتهم وأنهم حازوا فضيلة الآخرية كما حاز وأصحابه فضيلة الأولية وهم الغرباء المشار إليهم بقوله بدأ الإسلام غريبا وسيعود غريبا فطوبى للغرباء وهم الخلفاء الذين أفادهم بقوله رحم الله خلفائي وهم القابضون على دينهم عند الفتن المشار إليهم بقوله القابض على دينه كالقابض عل الجمر وهم المؤمنون بالغيب إلى غير ذلك مما لا يعسر على الفطن استخراجه من الأحاديث وأورد كيف يتمنى رؤيتهم وهو حي وهم حينئذ في علم الله تعالى لا وجود لهم في الخارج والمعدوم لا يرى وأيضا هو من تمني ما لا يكون لأن عمره لا يمتد حتى يرى آخرهم
وأجيب بأن الرؤية بمعنى العلم وهو يتعلق بالمعدوم أو رؤية تمثيل بمعنى أن يمثلوا له كما مثلت له الجنة في عرض الحائط أو أن هذا من رؤية الكون وزوى الأرض حتى رأى مشارقها ومغاربها كرامة من الله له وعبر عن هذا بعض العارفين بأن علم الأنبياء مستمد من علم الله وعلمه لا يختلف باختلاف النسب الزمانية فكذا علم أنبيائه حالة التجلي والكشف فهم لما خلقوا عليه من التطهير والتجرد عن الأدناس صارت مرآة الكون تنجلي في سرائرهم وصار الكون كله كأنه جوهرة واحدة وهم مرآته المصقولة التي تنجلي فيها الحقائق والدقائق لكن ذلك لا يكون إلا في مقام الجمع ووقت التجلي وربما كان في أقل من لمحة ثم بعدها يرجع العبد لوطنه وإلى شهود تفرقته وأحكام حسه فلما لم يكن ذلك الحال مستمرا تمنى أن يراهم رؤية كشف وإدراك في ذلك الآن وبتأمل هذا يعلم أنه لا تعارض بينه وبين خبر تجلى لي علم ما بين المشرق والمغرب وخبر زويت لي الأرض اه
وأورد على أن المراد بعد الموت أنه يلزم منه تمني الموت وقد قال ( لا يتمنين أحدكم الموت ) وأجيب بمنع الملزومية وإن سلمت فالمنع لما قال لضر نزل به قال الأبي وهذا كله
____________________
(1/95)
على أنه تمن حقيقي وقد لا يكون حقيقة وإنما هو تشريف لقدر أولئك الإخوان
( وأنا فرطهم ) بفتح الفاء والراء وبعد الطاء هاء أي فرط إخواننا وهو في مسلم بالكاف بدل الهاء خطابا للصحابة
( على الحوض ) قال للباجي يريد أنه يتقدمهم إليه ويجدونه عنده يقال فرطت القوم إذا تقدمتهم لترتاد لهم الماء وتهيىء لهم الدلاء والرشاء وافترط فلان ابنا له أي تقدم له ابن اه
وبهذا فسره أبو عبيد فضرب مثلا لمن تقدم من أصحابه يهيىء لهم ما يحتاجون إليه وقيل معناه أنا أمامكم وأنتم ورائي لأنه يتقدم أمته شافعا وعلى الحوض
( فقالوا يا رسول الله كيف تعرف من يأتي بعدك من أمتك ) وفي رواية مسلم من طريق إسماعيل بن جعفر عن العلاء كيف تعرف من لم يأت بعد من أمتك والمعنى واحد
( قال أرأيت ) أخبرني ( لو كان لرجل ) ولمسلم لو أن رجلا له ( خيل غر ) بضم المعجمة وشد الراء جمع أغر أي ذو غرة
وهي بياض في جبهة الفرس ( محجلة ) بمهملة فجيم من التحجيل وهو بياض في ثلاثة قوائم من قوائم الفرس وأصله من الحجل وهو الخلخال ( في خيل دهم ) بضم الدال وسكون الهاء جمع أدهم والدهمة السواد ( بهم ) جمع بهيم قيل هو الأسود أيضا وقيل الذي لا يخالط لونه لون سواه سواء كان أسود أو أبيض أو أحمر بل يكون لونه خالصا
( ألا يعرف خيله قالوا بلى يا رسول الله ) يعرفها وبلى حرف إيجاب يرفع حكم النفي ويوجب نقيضه أبدا
( قال فإنهم يأتون يوم القيامة ) حال كونهم ( غرا ) أصل الغرة لمعة بيضاء في جبهة الفرس ثم استعملت في الجمال والشهرة وطيب الذكر والمراد بها هنا النور الكائن في وجوه أمته
( محجلين ) من التحجيل والمراد النور أيضا
( من الوضوء ) بضم الواو ويجوز فتحها على أنه الماء قاله ابن دقيق العيد وظاهره أن هذه السيما إنما تكون لمن توضأ في الدنيا وبه جزم الأنصاري في شرح البخاري ففيه رد على من زعم أنها تكون حتى لمن لم يتوضأ كما يقال لهم أهل القبلة من صلى ومن لا وفي قياسه على الإيمان نظر لأنه التصديق والشهادة وإن ترك الواجب وفعل الحرام بخلاف الغرة والتحجيل فمجرد فضيلة وتشريف لمن توضأ بالفعل لا لسواه والذي يظهر أن المراد المتوضىء في حياته لا من وضأه الغاسل فلو تيمم لعذر طول حياته حصلت له السيما لقيامه مقام الوضوء وقد سماه النبي وضوءا فقال الصعيد الطيب وضوء المؤمن أخرجه النسائي بسند قوي عن أبي ذر
( وأنا فرطهم ) متقدمهم السابق
( على الحوض ) وهذا تأكيد لتقدمه سابقا لكن قد علم أن مسلما روى السابق بالكاف فعليه يكون بين بهذا أنه كما أنه فرط أصحابه الذين خاطبهم بهذا أولا
____________________
(1/96)
كذلك هو فرط لأمته الآتين بعده ولله الحمد
( فلا يذادن ) بذال معجمة فألف فمهملة أي لا يطردن كذا رواه يحيى ومطرف وابن نافع على النهي أي لا يفعلن أحد فعلا يذاد به عن حوضي
قال ابن عبد البر ويشهد لهذه الرواية حديث سهل بن سعد مرفوعا إني فرطهم على الحوض من ورد شرب ومن شرب لم يظمأ أبدا فلا يردن علي أقوام أعرفهم ويعرفونني ثم يحال بيني وبينهم ورواه الأكثرون ومنهم ابن وهب وابن القاسم وأبو مصعب فليذادن بلام التأكيد على الإخبار أي ليكونن لا محالة من يذاد
قال الباجي وابن عبد البر وأسلم عن إسماعيل بن جعفر عن العلاء ألا ليذادن ( رجال ) بالجمع عند جميع الرواة إلا يحيى فقال رجل بالإفراد قاله أبو عمران على إرادة الجنس ( عن حوضي كما يذاد البعير ) يطلق على الذكر والأنثى من الإبل بخلاف الجمل فالذكر كالإنسان والرجل
( الضال ) الذي لا رب له فيسقيه ( أناديهم ألا هلم ) بفتح الميم مشددة يستوي فيه الجمع والمفرد والمذكر والمؤنث في لغة الحجاز ومنه والقائلين لإخوانهم هلم إلينا أي تعالوا
( ألا هلم ألا هلم ) ذكره ثلاثا ( فيقال إنهم قد بدلوا بعدك ) قيل معناه غيروا سنتك وفي حديث آخر فأقول رب إنهم من أمتي فيقول ما تدري ما أحدثوا بعدك واستشكل مع قوله حياتي خير لكم ومماتي خير لكم تعرض علي أعمالكم فما كان من حسن حمدت الله عليه وما كان من شيء استغفرت الله لكم رواه البزار بإسناد جيد
وأجيب بأنها تعرض عليه عرضا مجملا فيقال عملت أمتك شرا عملت خيرا أو أنها تعرض دون تعيين عاملها ذكره الأبي وفيهما بعد فقد روى ابن المبارك عن سعيد بن المسيب ليس من يوم إلا وتعرض على النبي أعمال أمته غدوة وعشيا فيعرفهم بسيماهم وأعمالهم فقد أجاب بعضهم بأن مناداتهم لزيادة الحسرة والنكال إذ بمناداته لهم حصل عندهم رجاء النجاة وقطع ما يرجى أشد في النكال والحسرة من قطع ما لا يرجى ولا ينافيه قولهم إنهم بدلوا بعدك لأنه أيضا زيادة في تنكيلهم وهي أجوبة إقناعية يرد على ثالثها رواية فأقول رب إنهم من أمتي فيقول ما تدري ما أحدثوا بعدك ( فأقول فسحقا ) بضم الحاء وسكونها لغتان أي بعدا ( فسحقا فسحقا ) ثلاث مرات ونصبه بتقدير ألزمهم الله أو سحقهم سحقا
قال الباجي يحتمل أن المنافقين والمرتدين وكل من توضأ يحشر بالغرة والتحجيل فلأجلها دعاهم ولو لم تكن السيما إلا للمؤمنين لما دعاهم ولما ظن أنهم منهم ويحتمل أن يكون ذلك لمن رأى النبي فبدل بعده وارتد فدعاهم النبي لعلمه بهم أيام حياته وإظهارهم الإسلام وإن لم تكن لهم يومئذ غرة ولا تحجيل لكن لكونهم عنده في حياته وصحبته باسم الإسلام وظاهره
____________________
(1/97)
قال عياض والأول أظهر فقد ورد أن المنافقين يعطون نورا ويطفأ عند الحاجة فكما جعل الله لهم نورا بظاهر إيمانهم ليغتروا به حتى يطفأ عند حاجتهم على الصراط كذلك لا يبعد أن يكون لهم غرة وتحجيل حتى يذادوا عند حاجتهم إلى الورود نكالا من الله ومكرا بهم
وقال الداودي ليس في هذا ما يحتم به للمذادين بدخول النار فيحتمل أن يذادوا وقتا فتلحقهم شدة ويقول لهم سحقا ثم يتلافاهم الله برحمته ويشفع فيهم النبي
قال عياض والباجي وكأنه جعلهم من أهل الكبائر من المؤمنين
زاد عياض أو من بدل ببدعة لا تخرجه عن الإسلام
قال غيره وعلى هذا لا يبعد أن يكونوا أهل غرة وتحجيل لكونهم من جملة المؤمنين
وقال ابن عبد البر كل من أحدث في الدين ما لا يرضاه الله فهو من المطرودين عن الحوض وأشدهم من خالف جماعة المسلمين كالخوارج والروافض وأصحاب الأهواء وكذلك الظلمة المسرفون في الجور وطمس الحق والمعلنون بالكبائر فكل هؤلاء يخاف عليهم أن يكونوا ممن عنوا بهذا الخبر اه
وهذا الحديث أخرجه مسلم من طريق معن عن مالك به وتابعه إسماعيل بن جعفر عن العلاء بنحوه في مسلم أيضا ولم يخرجه البخاري ومن اللطائف أن ابن شاكر روى في كتاب مناقب الشافعي عن يونس بن عبد الأعلى قال ذكر الشافعي الموطأ فقال ما علمنا أن أحدا من المتقدمين ألف كتابا أحسن من موطأ مالك وما ذكر فيه من الأخبار ولم يذكر مرغوبا عنه الرواية كما ذكره غيره في كتبه وما علمته ذكر حديثا فيه ذكر أحد من الصحابة إلا ما في حديث ليذادن رجال عن حوضي فلقد أخبرني من سمع مالكا ذكر هذا الحديث وأنه ود أنه لم يخرجه في الموطأ
( مالك عن هشام بن عروة ) بن الزبير بن العوام تابعي صغير حفيد حواري رسول الله ( عن أبيه ) عروة أحد كبار التابعين الفقهاء ( عن حمران ) بضم الحاء المهملة ابن أبان ( مولى عثمان بن عفان ) اشتراه زمن أبي بكر الصديق وروى عن مولاه ومعاوية
وعنه أبو وائل وعروة والحسن وزيد بن أسلم وغيرهم ذكره ابن معين في تابعي أهل المدينة ومحدثيهم وكان يصلي خلف عثمان ويفتح عليه وكان صاحب إذنه وكاتبه وهو ثقة روى له الستة وقدم البصرة فكتب عنه أجلها ومات سنة خمس وسبعين وقيل غير ذلك
( أن عثمان بن عفان جلس على المقاعد ) قال ابن عبد البر هي مصاطب حول المسجد وقيل حجارة بقرب دار عثمان يقعد عليها مع الناس وقال الداودي هي الدرج وقيل هي دكاكين حول دار عثمان
قال عياض ولفظها يقتضي أنها مواضع جرت العادة بالقعود فيها ( فجاء المؤذن
____________________
(1/98)
فآذنه ) أعلمه ( بصلاة العصر ) قال الباجي كان المؤذن يعلمه باجتماع الناس بعد الأذان لشغله بأمور الناس
( فدعا بماء فتوضأ ثم قال والله لأحدثنكم ) أكد بالقسم واللام لزيادة تحريضهم على حفظه وعدم الاغترار به ( حديثا لولا أنه ) كذا رواه يحيى وابن بكير بالنون وهاء الضمير أي لولا أن معناه ( في كتاب الله ما حدثتكموه ) أي ما كنت حريصا على تحديثكم به لئلا تتكلوا ورواه أبو مصعب بالياء ومد الألف وهاء التأنيث أي لولا آية تتضمن معناه قاله الباجي وغيره وذكر في فتح الباري أن النون تصحيف من بعض رواته نشأ من زيادة مسلم والموطأ في كتاب الله ورواه البخاري لولا آية ما حدثتكموه ( ثم قال سمعت رسول الله يقول ما من امرىء يتوضأ ) وفي البخاري ومسلم لا يتوضأ رجل ( فيحسن وضوءه ) أي يأتي به بكمال صفته وآدابه والفاء بمعنى ثم لأن إحسان الوضوء ليس متأخرا عن الوضوء حتى يعطف عليه بفاء التعقيب بل هي لبيان المرتبة دلالة على أن الإجادة في الوضوء أفضل وأكمل من الاقتصار على الفرض منه
( ثم يصلي الصلاة ) المكتوبة كما في مسلم ( إلا غفر له ما بينه ) أي بين صلاته بالوضوء ( وبين الصلاة الأخرى ) أي التي تليها كما في مسلم ( حتى يصليها ) قال الحافظ أي يشرع في الصلاة الثانية وقال غيره أي يفرغ منها فحتى غاية تحصل المقدر في الظرف إذ الغفران لا غاية له ثم هذا مخصوص بالصغائر كما صرح به في أحاديث أخر قال الحافظ ظاهره يعم الكبائر والصغائر لكن العلماء خصوه بالصغائر لوروده مقيدا باستثناء الكبائر في غير هذه الرواية وهو في حق من له كبائر وصغائر فمن ليس له إلا صغائر كفرت عنه ومن ليس له إلا الكبائر خفف عنه منها بمقدار ما لصاحب الصغائر ومن ليس له صغائر ولا كبائر يزاد في حسناته بنظير ذلك اه
وفي مسلم من وجه آخر عن عثمان مرفوعا ما من امرىء مسلم تحضره صلاة مكتوبة فيحسن وضوءها وخشوعها وركوعها إلا كانت كفارة لما قبلها من الذنوب ما لم يؤت كبيرة وذلك الدهر كله وفي هذا كله فضل الوضوء وأنه مكفر للذنوب وشرف الصلاة عقبه وأن العبادة يكفر بها ذنوب كثيرة بمحض فضل الله وكرمه ولو كان ذلك على حكم محض الجزاء وتقدير الثواب بالفعل لكانت العبادة الواحدة تكفر سيئة واحدة فلما كفرت ذنوبا كثيرة علم أنه ليس على حكم المقابلة ولا على مقتضى المعاوضة بل بمحض الفضل العميم
____________________
(1/99)
( قال مالك أراه ) أي أظن عثمان ( يريد هذه الآية أقم الصلاة طرفي النهار ) الغداة والعشي أي الصبح والظهر والعصر ( وزلفا ) جمع زلفة أي طائفة ( من الليل ) المغرب والعشاء ( إن الحسنات ) كالصلوات الخمس ( يذهبن السيئات ) الذنوب الصغائر ( ذلك ذكرى ) عظة ( للذاكرين ) المتعظين نزلت فيمن قبل أجنبية فأخبره فقال ألي هذا قال لجميع أمتي رواه الشيخان
قال الباجي وعلى هذا التأويل يصح الروايتان أنه آية
وفي الصحيحين عن عروة أن الآية { إن الذين يكتمون ما أنزلنا من البينات والهدى } سورة البقرة الآية 159 زاد مسلم إلى قوله تعالى { اللاعنون } والمعنى لولا آية تمنع من كتمان شيء من العلم ما حدثتكم به وعلى هذا لا تصح رواية النون قاله الباجي وعياض والنووي وزاد والصحيح تأويل عروة قال الحافظ لأن عروة راوي الحديث ذكره بالجزم فهو أولى أي لأن مالكا ظنه قال وهي وإن نزلت في أهل الكتاب لكن العبرة بعموم اللفظ وقد جاء نحو ذلك لأبي هريرة أخرج أبو خيثمة زهير بن حرب في كتاب العلم له قال حدثنا حجاج بن محمد عن ابن جريج قال أخبرني عطاء أنه سمع أبا هريرة والناس يسألونه يقول لولا آية نزلت في سورة البقرة ما أخبرت بشيء { إن الذين يكتمون ما أنزلنا من البينات والهدى } الآية ثم ظاهر الحديث يقتضي أن المغفرة لا تحصل بإحسان الوضوء حتى ينضاف إليه الصلاة لأن الثواب المترتب على مجموع أمرين لا يترتب على أحدهما إلا بدليل خارج ولا يعارضه الأحاديث التالية الدالة على أن الخطايا تخرج مع الوضوء حتى يخرج من الوضوء نفيا من الذنوب ثم كانت صلاته ومشيه إلى المسجد نافلة لاحتمال أن يكون ذلك باختلاف الأشخاص فرب متوض يحضره من الخشوع ما يستقل وضوءه في التكفير وآخر عند تمام الصلاة وحديث الباب أخرجه مسلم من رواية إسماعيل وسفيان بن عيينة كلاهما عن هشام بن عروة ورواه البخاري ومسلم من طريق صالح بن كيسان عن ابن شهاب عن عروة فحصلت متابعة لمالك في شيخه هشام ولهشام في شيخه عروة
( مالك عن زيد بن أسلم عن عطاء بن يسار عن عبد الله الصنابحي ) بضم الصاد المهملة وفتح النون وكسر الموحدة نسبة إلى صنابح بطن من مراد كذا لأكثر رواة الموطأ بلا أداة كنية وهو مختلف فيه قال ابن السكن يقال له صحبة مدني روى عنه عطاء بن يسار
وقال ابن معين عبد الله
____________________
(1/100)
الصنابحي الذي روى عنه المدنيون يشبه أن يكون له صحبة وأما أبو عبد الله الصنابحي المشهور فروى عن أبي بكر وعبادة ليست له صحبة ورواه مطرف وإسحاق بن الطباع عن مالك بهذا الإسناد عن أبي عبد الله الصنابحي بأداة الكنية وشذا بذلك وقد أخرجه النسائي من طريق مالك بلا أداة كنية ولم ينفرد به مالك بل تابعه أبو غسان محمد بن مطرف عن زيد بن أسلم عن عطاء عن عبد الله الصنابحي أخرجه ابن منده به ونقل الترمذي عن البخاري أن مالكا وهم في قوله عبد الله وإنما هو أبو عبد الله واسمه عبد الرحمن بن عسيلة ولم يسمع من النبي وظاهره أن عبد الله الصنابحي لا وجود له وفيه نظر فقد روى سويد بن سعيد حديثا غير هذا عن حفص بن ميسرة عن زيد بن أسلم عن عطاء بن يسار عن عبد الله الصنابحي سمعت النبي يقول إن الشمس تطلع بين قرني شيطان الحديث وكذا أخرجه الدارقطني في غرائب مالك من طريق إسماعيل بن الحارث وابن منده من طريق إسماعيل الصائغ كلاهما عن مالك وزهير بن محمد قالا حدثنا زيد بن أسلم بهذا
قال ابن منده رواه محمد بن جعفر بن أبي كثير وخارجة بن مصعب عن زيد قلت روى زهير بن محمد وأبو غسان محمد بن مطرف عن زيد بن أسلم بهذا السند حديثا آخر عن عبد الله الصنابحي عن عبادة بن الصامت في الوتر أخرجه أبو داود فورود عبد الله الصنابحي في هذين الحديثين من رواية هؤلاء الثلاثة عن شيخ مالك يدفع الجزم بوهم مالك فيه ذكره الحافظ في الإصابة اه
فلله دره حافظا فارسا ( أن رسول الله قال إذا توضأ العبد المؤمن فتمضمض خرجت الخطايا من فيه ) قال الباجي يحتمل أن المضمضة كفارة لما يخص الفم من الخطايا فعبر عن ذلك بخروجها منه ويحتمل أن يعفو تعالى عن عقاب الإنسان بالذنوب التي اكتسبها وإن لم تختص بذلك العضو
وقال عياض ذكر خروج الخطايا استعارة لحصول المغفرة عند ذلك لأن الخطايا في الحقيقة شيء يحل في الماء أي لأنها ليست بأجسام ولا كائنة في أجسام فتخرج حقيقة وإنما هو تمثيل شبه الخطايا الحاصلة باكتساب أعضائه بأجسام ردية امتلأ بها وعاء أريد تنظيفه فتخرج منه شيئا فشيئا
( وإذا استنثر ) بوزن استفعل أخرج ماء الاستنشاق ( خرجت الخطايا من أنفه فإذا غسل وجهه خرجت الخطايا من وجهه حتى تخرج من تحت أشفار عينيه ) جمع شفر قال ابن قتيبة والعامة تجعل أشفار العين الشعر وهو غلط وإنما الأشفار حروف العين التي ينبت عليها الشعر والشعر الهدب
قال الباجي جعل العينين مخرجا لخطايا الوجه دون الفم والأنف لأنهما يختصان بطهارة مشروعة في الوضوء دون العينين
____________________
(1/101)
( فإذا غسل يديه خرجت الخطايا من يديه حتى تخرج من تحت أظفار يديه ) جمع ظفر بضمتين على أفصح لغاته وبها قرأ السبعة { حرمنا كل ذي ظفر } سورة الأنعام الآية 146 ويجمع أيضا على أظفر وبإسكان الفاء للتخفيف وبه قرأ الحسن البصري وبكسر الطاء بزنة حمل وبكسرتين للاتباع وبهما قرىء في الشواذ وأظفور جمعه أظافير مثل أسبوع وأسابيع
قال الشاعر ما بين لقمته الأولى إذا انحدرت وبين أخرى تليها قيد أظفور ( فإذا مسح برأسه خرجت الخطايا من رأسه حتى تخرج من أذنيه ) تثنية أذن بضمتين وقد تسكن الذال تخفيفا مؤنثة قال الباجي جعلهما مخرجا لخطايا الرأس مع إفرادهما بأخذ الماء لهما ولم يجعل الفم والأنف مخرجا لخطايا الوجه لأنهما مقدمان على الوجه فلم يكن لهما حكم التبع وخرجت خطاياهما منهما قبل خروجها من الوجه والأذنان مؤخران عن الرأس فكان لهما حكم التبع اه
وفيه إشعار بأن خطايا الرأس متعلقة بالسمع وأصرح منه حديث أبي أمامة عند الطبراني في الصغير وإذا مسح برأسه كفر به ما سمعت أذناه ( فإذا غسل رجليه خرجت الخطايا من رجليه حتى تخرج من تحت أظفار رجليه ) ولما كانت إزالة النجاسة العينية بإسالة الماء الذي هو الغسل ناسب في ذكر إزالة النجاسة الباطنية التي هي الآثام ذكر الإسالة التي هي الغسل دون المسح
( قال ) ( ثم كان مشيه إلى المسجد وصلاته نافلة له ) أي زيادة له في الأجر على خروج الخطايا وغفرانها ومعلوم ما في المشي والصلاة من الثواب الجزيل وهذا الحديث رواه الإمام أحمد والنسائي وابن ماجه وصححه الحاكم كلهم من هذا الطريق عن عبد الله الصنابحي به
وأخرج مسلم عن عثمان مرفوعا من توضأ فأحسن الوضوء خرجت خطاياه من جسده حتى تخرج من تحت أظفاره
( مالك عن سهيل ) بضم السين وفتح الهاء ( ابن أبي صالح ) ذكوان المدني يكنى أبا يزيد صدوق تغير حفظه بآخرة وهو أحد الأئمة المشهورين المكثرين وثقه النسائي والدارقطني وغيرهما
وقال أبو حاتم يكتب حديثه ولا يحتج به
وقال ابن معين صويلح
وقال البخاري كان له أخ فمات فوجد عليه فساء حفظه
وله في البخاري حديث واحد في الجهاد مقرون بيحيى بن سعيد
____________________
(1/102)
الأنصاري وذكر له حديثين آخرين متابعة في الدعوات واحتج به الباقون ومعلوم أن رواية مالك ونحوه عنه كانت قبل التغير وله في الموطأ عشرة أحاديث مرفوعة مات في خلافة المنصور
( عن أبيه ) أبي صالح ذكوان السمان الزيات لأنه كان يبيع السمن والزيت ويختلف بهما من العراق إلى الحجاز المدني ثقة ثبت كثير الحديث روى عن سعيد وأبي الدرداء وأبي هريرة وعائشة وخلق وعنه بنوه سهيل وصالح وعبد الله وعطاء بن أبي رباح والأعمش وغيرهم مات سنة إحدى ومائة من الهجرة
( عن أبي هريرة أن رسول الله قال إذا توضأ العبد المسلم أو المؤمن ) قال الباجي شك من الراوي على الظاهر قال غيره وفيه تحرى المسموع وإلا فهما متقاربان ويحتمل أن يكون تنبيها من النبي على الترادف فإنهما يستعملان مترادفين وعبر بالعبد إشارة إلى كونه عبادة وجواب الشرط قوله ( فغسل وجهه ) والفاء مرتبة له على الشرط أي إذا أراد الوضوء فغسل وجهه كذا قال بعض شراح مسلم وفيه تعسف والمتبادر أن الجواب قوله ( خرجت من وجهه كل خطيئة ) إثم ( نظر إليها بعينه ) بالإفراد ويروى بالتثنية أي نظر إلى سببها إطلاقا لاسم المسبب على السبب مبالغة وفيه دلالة على أن الوضوء يكفر عن كل عضو ما اختص به من الخطايا
( مع الماء أو مع آخر قطر الماء ) شك من الراوي وقيل ليس بشك بل لأحد الأمرين نظرا إلى البداية والنهاية فإن الابتداء بالماء والنهاية بآخر قطر الماء وتخصيص العين في هذا الحديث والوجه مشتمل على العين والفم والأنف والأذن لأن جناية العين أكثر فإذا خرج الأكثر خرج الأقل فالعين كالغاية لما يغفر وقال الطيبي لأن العين طليعة القلب ورائده فإذا ذكرت أغنت عن سواها
( فإذا غسل يديه ) بالتثنية ( خرجت من يديه كل خطيئة بطشتها ) أي عملتها ( يداه ) والبطش الأخذ بعنف وبطشت اليد إذا عملت فهي باطشة وبابه ضرب وبه قرأ السبعة وفي لغة من باب قتل وبها قرأ الحسن البصري وأبو جعفر المدني ( مع الماء أو مع آخر قطر الماء ) مصدر قطر من باب نصر أي سيلانه كذا لأكثر رواة الموطأ وزاد ابن وهب ( فإذا غسل رجليه خرجت كل خطيئة مشتها رجلاه ) أي مشى لها بهما أو مشت فيها قال تعالى { كلما أضاء لهم مشوا فيه } سورة البقرة الآية 20 فالضمير يرجع إلى خطيئة ونصب بنزع الخافض أو هو مصدر أي مشت المشية رجلاه
( مع الماء أو مع آخر قطر الماء ) وقوله بعينه ويداه ورجلاه تأكيدات تفيد المبالغة في الإزالة ( حتى يخرج نقيا ) بالنون والقاف نظيفا ( من الذنوب ) بخروجها عنه
____________________
(1/103)
وخص العلماء هذا ونحوه من الأحاديث التي فيها غفران الذنوب بالصغائر أما الكبائر فلا يكفرها إلا التوبة لحديث الصحيحين الصلوات الخمس والجمعة إلى الجمعة ورمضان إلى رمضان كفارت لما بينها ما اجتنبت الكبائر فجعلوا التقييد في هذا الحديث مقيدا للإطلاق في غيره لكن قال ابن دقيق العيد فيه نظر
وقال ابن التين اختلف هل يغفر له بهذا الكبائر إذا لم يصر عليها أم لا يغفر سوى الصغائر قال وهذا كله لا يدخل فيه مظالم العباد وقال في المفهم لا يبعد أن بعض الأشخاص تغفر له الكبائر والصغائر بحسب ما يحضره من الإخلاص ويراعيه من الإحسان والآداب وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء
وقال النووي ما وردت به الأحاديث أنه يكفر إن وجد ما يكفره من الصغائر كفره وإن لم يصادف صغيرة ولا كبيرة كتب له به حسنات ورفع به درجات وإن صادف كبيرة أو كبائر ولم يصادف صغيرة رجونا أن يخفف من الكبائر اه
وهذا الحديث أخرجه مسلم حدثنا سويد بن سعيد عن مالك عن أنس وحدثني أبو طاهر واللفظ له قال أخبرنا عبد الله بن وهب عن مالك بن أنس فذكره
ورواه الترمذي عن قتيبة ومن طريق معن بن عيسى كليهما عن مالك به كرواية الأكثر دون زيادة ابن وهب لكنها زيادة ثقة حافظ غير منافية فيجب قبولها لأنه حفظ ما لم يحفظ غيره
( مالك عن إسحاق بن عبد الله بن أبي طلحة ) زيد بن سهل عن أنس بن مالك قال ( رأيت ) أي أبصرت ( رسول الله و ) الحال أنه قد ( حانت ) بالحاء المهملة أي قربت ( صلاة العصر ) زاد في رواية الشيخين من طريق سعيد عن قتادة عن أنس وهو بالزوراء بفتح الزاي وسكون الواو ثم راء موضع بسوق المدينة وزعم الداودي أن الزوراء مكان مرتفع كالمنارة قال الحافظ وكأنه أخذه من أمر عثمان بالتأذين على الزوراء وليس بلازم بل الواقع أن المكان الذي أمر بالتأذين فيه كان بالزوراء لا أنه الزوراء نفسها
ولأبي نعيم من طريق همام عن قتادة عن أنس شهدت النبي مع أصحابه عند الزوراء أو عند بيوت المدينة
( فالتمس ) أي طلب ( الناس وضوءا ) بفتح الواو ما يتوضؤون به ( فلم يجدوه ) أي لم يصيبوا الماء وفي رواية بحذف الضمير قال أبو عمر فيه تسمية الشيء باسم ما قرب منه وكان في معناه وارتبط به لأنه سمى الماء وضوءا لأنه يقوم به الوضوء اه
وكأنه قرأه بضم الواو
( فأتي ) بضم الهمزة مبني للمفعول ( رسول الله بوضوء في إناء ) وفي رواية فجاء رجل بقدح فيه ماء ورد فصغر أن يبسط فيه كفه فضم أصابعه وروى المهلب أن الماء كان مقدار وضوء رجل واحد
ولأبي نعيم والحارث بن أبي أسامة من طريق شريك عن أنس أنه الآتي بالماء
____________________
(1/104)
ولفظه قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم انطلق إلى بيت أم سلمة فأتيته بقدح ماء إما ثلثه وإما نصفه الحديث وفيه أنه رده بعد فراغهم إليها وفيه (1) *
( فوضع رسول الله في ذلك الإناء يده ) اليمنى على الظاهر كما قال شيخ الإسلام الأنصاري
( ثم أمر الناس يتوضؤون ) وفي رواية أن يتوضؤوا ( منه ) أي من ذلك الإناء قال الباجي هذا إنما يكون بوحي يعلم به أنه إذا وضع يده في الإناء نبع الماء حتى يعم أصحابه الوضوء
( قال أنس فرأيت الماء ينبع ) بفتح أوله وضم الموحدة ويجوز كسرها وفتحها أي يخرج ( من تحت ) وفي رواية يفور من بين ( أصابعه ) قال القرطبي لم نسمع بهذه المعجزة عن غير نبينا حيث نبع الماء من بين عظمه ولحمه ودمه
ونقل ابن عبد البر عن المزني أن نبع الماء من بين أصابعه أبلغ في المعجزة من نبع الماء من الحجر حيث ضربه موسى بالعصا فتفجرت منه المياه لأن خروج الماء من الحجارة معهود بخلاف خروج الماء من بين اللحم والدم
( فتوضأ الناس ) وكانوا ثمانين رجلا كما في رواية حميد عن أنس عند البخاري وله عن الحسن عن أنس كانوا سبعين أو نحوه وفي مسلم سبعين أو ثمانين وفي الصحيحين من طريق سعيد عن قتادة عن أنس أتى النبي بإناء وهو بالزوراء فوضع يده في الإناء فجعل الماء ينبع من بين أصابعه وأطراف أصابعه حتى توضأ القوم قال أي قتادة فقلنا لأنس كم كنتم قال كنا ثلاثمائة أو زهاء ثلاثمائة وللإسماعيلي ثلاثمائة بالجزم دون قوله أو زهاء بضم الزاي أي مقارب وبهذا يظهر تعدد القصة إذ كانوا مرة ثمانين أو سبعين ومرة ثلاثمائة أو ما قاربها فهما كما قال النووي قضيتان جرتا في وقتين حضرهما جميعا أنس
( حتى توضؤوا من عند آخرهم ) قال الكرماني حتى للتدريج ومن للبيان أي توضأ الناس حتى توضأ الذين هم عند آخرهم وهو كناية عن جميعهم وعند بمعنى في لأن عند وإن كانت للظرفية الخاصة لكن المبالغة تقتضي أن تكون لمطلق الظرفية فكأنه قال الذين هم في آخرهم
وقال التيمي المعنى توضأ القوم حتى وصلت النوبة إلى الآخر
وقال النووي من هنا بمعنى إلى وهي لغة وتعقبه الكرماني بأنها شاذة قال ثم إن إلى لا يجوز أن تدخل على عند ويلزم عليه وعلى ما قاله التيمي أن لا يدخل الأخير لكن ما قاله الكرماني من أن إلى لا تدخل على عند لا يلزم مثله في من إذا وقعت بمعنى إلى وعلى توجيه النووي يمكن أن يقال عند زائدة
وفي الحديث دليل على أن المواساة مشروعة عند الضرورة لمن كان في مائه فضلة عن وضوئه وأن اغتراف المتوضىء من الماء لا يصيره مستعملا واستدل به الشافعي على أن الأمر بغسل اليد قبل إدخالها الإناء أمر ندب لا حتم
____________________
1* قدر ما كان فيه أولا
(1/105)
قال عياض نبع الماء رواه الثقات من العدد الكثير والجم الغفير عن الكافة متصلة بالصحابة وكان ذلك في مواطن اجتماع الكثير منهم في المحافل ومجامع العساكر ولم يرد عن أحد منهم إنكار على راوي ذلك فهذا النوع ملحق بالقطعي من معجزاته
وقال القرطبي نبع الماء من بين أصابعه تكرر في عدة مواطن في مشاهد عظيمة وورد من طرق كثيرة يفيد مجموعها العلم القطعي المستفاد من التواتر المعنوي قال الحافظ فأخذ القرطبي كلام عياض وتصرف فيه وحديث نبع الماء جاء من رواية أنس عند الشيخين وأحمد وغيرهم من خمسة طرق وعن جابر عندهم من أربعة وعن ابن مسعود في البخاري والترمذي وعن ابن عباس عند أحمد والطبراني من طريقين وعن أبي ليلى والد عبد الرحمن عند الطبراني فعد هؤلاء الصحابة أي الخمسة ليس كما يفهم من إطلاقهما
وأما تكثير الماء بأن لمسه بيده أو تفل فيه أو أمر بوضع شيء فيه كسهم من كنانته فجاء عن عمران في الصحيحين والبراء بن عازب في البخاري وأحمد من طريقين وأبي قتادة في مسلم وأنس في دلائل البيهقي وزياد بن الحارث الصداي عنده وعن بريج بضم الموحدة وشد الراء الصداي أيضا فإذا ضم هذا إلى هذا بلغ الكثرة المذكورة أو قاربها
وأما من رواها من أهل القرن الثاني فهم أكثر عددا وإن كان شطر طرقه أفرادا وبالجملة يستفاد منها رد قول ابن بطال هذا الحديث شهده جمع من الصحابة إلا أنه لم يرو إلا من طريق أنس وذلك لطول عمره وطلب الناس علو السند وهذا ينادى عليه بقلة الاطلاع والاستحضار لأحاديث الكتاب الذي شرحه انتهى
وحديث الباب رواه البخاري عن عبد الله بن يوسف ومسلم في الفضائل من طريق معن بن عيسى وعبد الله بن وهب الثلاثة عن مالك به
( مالك عن نعيم ) بضم النون وفتح العين ( ابن عبد الله المدني ) مولى آل عمر روى عن جابر وابن عمر وأبي هريرة وأنس وجماعة وعن محمد ابنه ومالك وآخرون وثقه ابن معين وأبو حاتم وغيرهما
( المجمر ) بضم الميم وسكون الجيم وكسر الميم الثانية اسم فاعل من الإجمار على المشهور وبفتح الجيم وشد الميم الثانية من التجمير قال الحافظ وصف هو وأبوه بذلك لكونهما كانا يبخران مسجد النبي وزعم بعض العلماء أن وصف عبد الله بذلك حقيقة ووصف ابنه نعيم بذلك مجاز فيه نظر فقد جزم إبراهيم الحربي بأن نعيما كان يباشر ذلك وقال السيوطي كان عبد الله يجمر المسجد إذا قعد عمر على المنبر وقيل كان من الذين يجمرون الكعبة زاد غيره وقيل كان عبد الله يجمر المسجد النبوي في رمضان وغيره ولا مانع من الجمع
____________________
(1/106)
( أنه سمع أبا هريرة يقول ) قال ابن عبد البر قال مالك وغيره كان نعيم يوقف كثيرا من أحاديث أبي هريرة ومثل هذا الحديث لا يقال من جهة الرأي فهو مسند وقد ورد معناه من حديث أبي هريرة وغيره بأسانيد صحاح
( من توضأ فأحسن وضوءه ) بإتيانه بفرائضه وسننه وفضائله وتجنب منهياته
( ثم خرج عامدا إلى الصلاة ) أي قاصدا لها دون غيرها ( فإنه في صلاة ) أي في حكمها من جهة كونه مأمورا بترك العبث وفي استعمال الخشوع وللوسائل حكم المقاصد وهذا الحكم مستمر
( ما دام يعمد ) بكسر الميم يقصد وزنا ومعنى وماضيه عمد كقصد وفي لغة قليلة من باب فرح
( إلى الصلاة ) أي ما دام مستمرا على ما يقصده ثم المراد أن يكون باعث خروجه قصد الصلاة وإن عرض له في خروجه أمر دنيوي فقضاه والمدار على الإخلاص فحسب وفي معناه ما روى الحاكم عن أبي هريرة مرفوعا إذا توضأ أحدكم في بيته ثم أتى المسجد كان في صلاة حتى يرجع فلا يفعل هكذا وشبك بين أصابعه وروى أحمد وأبو داود والترمذي وصححه ابن خزيمة وابن حبان عن كعب بن عجرة مرفوعا إذا توضأ أحدكم فأحسن وضوءه ثم خرج عامدا إلى المسجد فلا يشبكن بين يديه فإنه في صلاة
( وأنه ) بفتح الهمزة وكسرها ( يكتب له بإحدى خطوتيه ) بضم الخاء ما بين القدمين وبالفتح المرة الواحدة قاله الجوهري وجزم اليعمري أنها هنا بالفتح والقرطبي والحافظ بالضم وهي اليمنى
( حسنة ويمحى عنه بالأخرى ) أي اليسرى ( سيئة ) قال الباجي يحتمل أن لخطائه حكمين فيكتب له ببعضها حسنات ويمحى عنه ببعضها سيئات وأن حكم زيادة الحسنات غير حكم محو السيئات وهذا ظاهر اللفظ ولذلك فرق بينهما وذكر قوم أن معنى ذلك واحد وأن كتب الحسنات هو بعينه محو السيئات انتهى
وقال غيره فيه تكفير السيئات مع رفع الدرجات لأنه قد يجتمع في العمل شيئان أحدهما رافع والآخر مكفر كل منهما باعتبار فلا إشكال فيه ولا تأويل كما ظن وفيه إشعار بأن هذا الجزاء للماشي لا للراكب أي بلا عذر وذكر رجله غالبي فبدلها في حق فاقدها مثلها
وروى الطبراني والحاكم وصححه البيهقي عن ابن عمر رفعه إذا توضأ أحدكم فأحسن الوضوء ثم خرج إلى المسجد لا ينزعه إلا الصلاة لم تزل رجله اليسرى تمحو عنه سيئة وتكتب له اليمنى حسنة حتى يدخل المسجد
وروى أبو داود والبيهقي عن سعيد بن المسيب عن بعض الأنصار سمعت رسول الله يقول إذا توضأ أحدكم فأحسن الوضوء ثم خرج إلى الصلاة لم يرفع قدمه اليمنى إلا كتب الله
____________________
(1/107)
عز وجل له حسنة ولم يضع قدمه اليسرى إلا حط الله عنه سيئة فليقرب أحدكم أو ليبعد قال العراقي خص تحصيل الحسنة باليمنى لشرف جهة اليمنى وحكمة ترتب الحسنة على رفعها حصول رفع الدرجة بها وحكمة ترتب حط السيئة على وضع اليسرى مناسبة الحط للوضع فلم يرتب حط السيئة على رفع اليسرى كما فعل في اليمنى بل على وضعها أو يقال إن قاصد المشي للعبادة أول ما يبدأ برفع اليمنى للمشي فرتب الأجر على ابتداء العمل
( فإذا سمع أحدكم الإقامة ) للصلاة وهو ماش إليها ( فلا يسع ) أي لا يسرع ولا يعجل في مشيته بل يمشي على هينته لئلا يخرج عن الوقار المشروع في إتيان الصلاة ولأنه تقل به الخطا وكثرتها مرغب فيه لكتب الحسنات ومحو السيئات كما ذكر
( فإن أعظمكم أجرا أبعدكم دارا ) من المسجد
( قالوا لم ) أي لأي شيء ( يا أبا هريرة ) بعد الدار أعظم أجرا ( قال من أجل كثرة الخطا ) بضم الخاء وفتح الطاء جمع خطوة بالضم وفيه فضل الدار البعيدة عن المسجد
وقد روى الترمذي وحسنه والحاكم وصححه عن أبي سعيد الخدري والطبراني عن ابن عباس كانت بنو سلمة في ناحية المدينة فأرادوا النقلة إلى قرب المسجد فنزلت هذه الآية { إنا نحن نحيي الموتى ونكتب ما قدموا وآثارهم } سورة يس الآية 12 فقال النبي إن آثاركم تكتب فلم ينتقلوا أي أعمالهم المندرجة فيها آثار خطاهم ولا يعارضه ما ورد إن من شؤم الدار بعدها عن المسجد لأن شؤمها من حيث إنه قد يؤدي إلى تفويت الصلاة بالمسجد وفضلها بالنسبة إلى من يتحمل المشقة ويتكلف المسافة لإدراك الفضل فشؤمها وفضلها أمران اعتباريان فلا تنافى
( مالك عن يحيى بن سعيد أنه سمع سعيد بن المسيب يسأل عن الوضوء من الغائط بالماء فقال سعيد إنما ذلك وضوء النساء ) قال ابن نافع يريد أن الاستجمار بالحجارة يجزي الرجل وإنما يكون أي يتعين الاستنجاء بالماء للنساء
وقال الباجي يحتمل أنه أراد أن ذلك عادة النساء وأن عادة الرجال الاستجمار وأن يريد عيب الاستنجاء بالماء كقوله إنما التصفيق للنساء وهذا لا يراه مالك ولا أكثر أهل العلم
( مالك عن أبي الزناد ) بكسر الزاي عبد الله بن ذكوان القرشي مولاهم المدني ( عن الأعرج )
____________________
(1/108)
عبد الرحمن بن هرمز ( عن أبي هريرة أن رسول الله قال إذا شرب الكلب ) قال الحافظ كذا للموطأ والمشهور عن أبي الزناد من رواية جمهور أصحابه عنه إذا ولغ وهو المعروف لغة يقال ولغ يلغ بالفتح فيهما إذا شرب بطرف لسانه أو أدخل لسانه فيه فحركه وقال ثعلب هو أن يدخل لسانه في الماء وغيره من كل مائع ليحركه زاد ابن درستويه شرب أو لم يشرب وقال مكي فإن كان غير مائع يقال لعقه وقال المطرز فإن كان فارغا يقال لحسه وادعى ابن عبد البر أن لفظ شرب لم يروه إلا مالك وأن غيره رواه بلفظ ولغ وليس كما ادعى فقد رواه ابن خزيمة وابن المنذر من طريقين عن هشام بن حسان عن ابن سيرين عن أبي هريرة بلفظ إذا شرب لكن المشهور عن هشام بن حسان بلفظ إذا ولغ أخرجه مسلم وغيره من طرق عنه
وقد رواه عن أبي الزناد شيخ مالك بلفظ إذا شرب ورقاء بن عمر أخرجه الجوزقي والمغيرة بن عبد الرحمن أخرجه أبو يعلى نعم وروي عن مالك بلفظ إذا ولغ أخرجه أبو عبيد في كتاب الطهور له عن إسماعيل بن عمر عنه ومن طريقه أورده الإسماعيلي وكذا أخرجه الدارقطني في الموطآت له عن طريق أبي علي الحنفي عن مالك وهو في نسخة صحيحة من سنن ابن ماجه من رواية روح بن عبادة عن مالك أيضا وكأن أبا الزناد حدث به باللفظين لتقاربهما في المعنى لكن الشرب كما بينا أعم من الولوغ فلا يقوم مقامه ومفهوم الشرط في إذا ولغ يقتضي قصر الحكم على ذلك
( في ) أي من كما في رواية أو التقدير شرب الماء في ( إناء أحدكم ) ظاهره العموم في الآنية والإضافة يلغي اعتبارها لأن ذلك لا يتوقف على ملك وكذا قوله ( فليغسله ) لا يتوقف على أن يكون هو الغاسل وزاد علي بن مسهر عن الأعمش عن أبي صالح وأبي رزين عن أبي هريرة فليرقه رواه مسلم والنسائي قائلا لا أعلم أحدا تابع علي بن مسهر على زيادة فليرقه وقال حمزة الكتاني إنها غير محفوظة وقال ابن عبد البر لم يذكرها الحفاظ من أصحاب الأعمش وقال ابن منده لا تعرف عن النبي بوجه من الوجوه إلا عن علي بن مسهر قال الحافظ ورد الأمر بالإراقة أيضا من طريق عطاء عن أبي هريرة مرفوعا أخرجه ابن عدي لكن في رفعه نظر والصحيح أنه موقوف وكذا ذكر الإراقة حماد بن زيد عن أيوب عن ابن سيرين عن أبي هريرة موقوفا وإسناده صحيح أخرجه الدارقطني وغيره
( سبع مرات ) قال الحافظ لم يقع في رواية مالك التتريب ولا ثبت في شيء من الروايات عن أبي هريرة إلا عن ابن سيرين على أن بعض أصحابه لم يذكره عنه وروي أيضا عن الحسن وأبي رافع عند الدارقطني وعبد الرحمن والد السدي عند البزار واختلفت الرواة عن ابن سيرين فلمسلم وغيره من طريق هشام بن حسان عنه أولاهن بالتراب وهي رواية الأكثر عنه وكذا في حديث أبي رافع وللشافعي عن ابن عيينة عن ابن سيرين أولاهن أو أخراهن وقال قتادة عن ابن
____________________
(1/109)
سيرين أولاهن عند الدارقطني ولأبي داود عن قتادة عنه السابعة بالتراب اه
فحاصله أنها شاذة وإن صح إسنادها فلذا لم يقل مالك بالتتريب أصلا مع قوله باستحباب التسبيع في ولوغه في الماء فقط على المشهور وقول الحافظ أوجب المالكية التسبيع على المشهور عندهم ولم يقولوا بالتتريب لأنه لم يقع في رواية مالك تبع فيه قول جماعة إنه ظاهر المذهب ولكنه ضعيف وقول الشهاب القرافي صحت الأحاديث بالتتريب فالعجب منهم كيف لم يقولوا بها مدفوع بأنها شاذة وإن صحت كما أفاده الحافظ بما قدمته عنه وقال بعده بكثير لو سلكنا الترجيح في هذا الباب لم نقل بالتتريب أصلا لأن رواية مالك بدونه أرجح من رواية من أثبته وهذا الحديث أخرجه البخاري عن عبد الله بن يوسف ومسلم عن يحيى كلاهما عن مالك به
( مالك أنه بلغه ) جاء هذا صحيحا مسندا من حديث ابن عمر وعند ابن ماجه والبيهقي إلا أن فيه واعلموا أن من أفضل أعمالكم الصلاة
ومن حديث ثوبان أخرجه أحمد وابن ماجه وابن حبان والحاكم وصححه على شرطهما والبيهقي إلا أن فيه واعلموا أن خير أعمالكم الصلاة وسائره بلفظ الموطأ ( أن رسول الله قال استقيموا ) أي لا تزيغوا وتميلوا عما سن لكم وفرض عليكم وليتكم تطيقون ذلك قاله ابن عبد البر وقال غيره أي الزموا المنهج المستقيم بالمحافظة على إيفاء حقوق الحق جل جلاله ورعاية حدوده والرضا بالقضاء
( ولن تحصوا ) ثواب الاستقامة إن استقمتم قاله مطرف قال تعالى { وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها } سورة النحل الآية 18 ولن تطيقوا أن تستقيموا حق الاستقامة لعسرها كما أشار له ابن عبد البر بقوله وليتكم تطيقون أو لن تطيقوها بقوتكم وحولكم وإن بذلتم جهدكم بل بالله أو استقيموا على الطريق الحسنى وسددوا وقاربوا فإنكم لن تطيقوا الإحاطة في الأعمال ولا بد للمخلوق من تقصير وملال وهذا معنى قول الباجي أي لا يمكنكم استيعاب أعمال البر من قوله تعالى { علم أن لن تحصوه } سورة المزمل الآية 20 اه
وكأن القصد به تنبيه المكلف على رؤية التقصير وتحريضه على الجد لئلا يتكل على عمله ولذا قال البيضاوي أخبرهم بعد الأمر بذلك أنهم لا يقدرون على إيفاء حقه والبلوغ إلى غايته لئلا يغفلوا عنه فكأنه يقول لا تتكلوا على ما تأتون به ولا تيأسوا من رحمة ربكم فيما تذرون عجزا وقصورا لا تقصيرا
وقال الطيبي قوله ولن تحصوا إخبار واعتراض بين المعطوف والمعطوف عليه كما اعترض ولن تفعلوا بين الشرط والجزاء في قوله { فإن لم تفعلوا ولن تفعلوا فاتقوا } سورة البقرة الآية 24 كأنه لما أمرهم بالاستقامة وهي شاقة جدا تداركه بقوله ( ولن تحصوا ) رحمة ورأفة منه على هذه الأمة المرحومة كما قال الله تعالى { فاتقوا الله ما استطعتم } سورة التغابن الآية 16 بعدما أنزل { اتقوا الله حق تقاته } سورة آل عمران الآية 102 أي واجب تقواه
____________________
(1/110)
( واعملوا ) الأعمال الصالحة كلها
( وخير أعمالكم الصلاة ) أي إنها أكثر أعمالكم أجرا فلذا كانت أفضل الأعمال لجمعها العبادات كقراءة وتسبيح وتكبير وتهليل وإمساك عن كلام البشر والمفطرات وهي معراج المؤمن ومقربته إلى الله فالزموها وأقيموا حدودها سيما مقدمتها التي هي شطر الإيمان فحافظوا عليها فإنه لا يحافظ عليها إلا مؤمن راسخ القدم في التقوى كما قال
( ولا ) وفي رواية ولن ( يحافظ على الوضوء ) الظاهري والباطني ( إلا مؤمن ) كامل الإيمان فلا يديم فعله في المكاره وغيرها منافق فالظاهري ظاهر والباطني طهارة السر عن الأغيار والمحافظة على المجاهدة التي يكون بها تارة غالبا وتارة مغلوبا أي لن تطيقوا الاستقامة في تطهير سركم ولكن جاهدوا في تطهيره مرة بعد أخرى كتطهير الحدث مرة بعد أخرى فأنتم في الاستقامة بين عجز البشرية وبين الاستظهار بالربوبية فتكونون بين رعاية وإهمال وتقصير وإكمال ومراقبة وإغفال وبين جد وفتور كما أنكم بين حدث وطهور وفيه استحباب إدامة الوضوء وتجديده إن صلى به لأن تجديده من المحافظة الكاملة عليه ومن شواهد هذا الحديث أيضا قوله استقيموا ونعما إن استقمتم وخير أعمالكم الصلاة ولن يحافظ على الوضوء إلا مؤمن رواه ابن ماجه عن أبي أمامة والطبراني
7 ما جاء في المسح بالرأس والأذنين ( مالك عن نافع أن عبد الله بن عمر كان يأخذ الماء بأصبعيه لأذنيه ) قال عيسى أي يقبض أصابعه من كلتا يديه ويمر سبابتيه ثم يمسح بهما أذنيه من داخل وخارج قال وهو حسن من الفعل
قال الباجي ويحتمل أن يأخذ الماء بأصبعين من كل يد فيمسح بهما أذنيه نحو حديث ابن عباس أن باطن الأذنين يمسح بالسبابة وظاهرهما بالإبهام
رح 67 ( مالك أنه بلغه أن جابر بن عبد الله الأنصاري سئل عن المسح على العمامة فقال لا حتى يمسح الشعر بالماء ) لأن الله تعالى قال { وامسحوا برؤوسكم } سورة المائدة الآية 6 والماسح على العمامة لم يمسح برأسه
____________________
(1/111)
قال ابن عبد البر روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه مسح على عمامته من حديث عمرو بن أمية وبلال والمغيرة وأنس وكلها معلومة
وخرج البخاري حديث عمرو وقد بينا فساد إسناده في كتاب الأجوبة عن المسائل المستغربة من البخاري وأجاز المسح عليها أحمد والأوزاعي وداود وغيرهم للآثار وقياسا على الخفين ومنعه مالك والشافعي وأبو حنيفة لأن المسح على الخفين مأخوذ من الآثار لا من القياس ولو كان منه لجاز المسح على القفازين
وقال الخطابي فرض الله مسح الرأس وحديث مسح العمامة محتمل للتأويل فلا يترك المتيقن للمحتمل وقياسه على الخف بعيد لمشقة نزعه بخلافها وتعقب بأن الآية لا تنفي الاقتصار على المسح لا سيما عند من يحمل المشترك على حقيقته ومجازه لأن من قال قبلت رأس فلان يصدق ولو على حائل وبأن المجيزين الاقتصار على مسح العمامة شرطوا فيه مشقة نزعها كالخف ورد الأول بأن الأصل حمل اللفظ على حقيقته ما لم يرد نص صريح بخلافه والنصوص وردت عن النبي صلى الله عليه وسلم فعلا وأمرا بمسح الرأس فتحمل رواية مسح العمامة على أنه كان لعذر بدليل المسح على الناصية معها كما في مسلم
( مالك عن هشام بن عروة أن أباه عروة بن الزبير كان ينزع العمامة ويمسح رأسه بالماء ) إذا توضأ
( مالك عن نافع أنه رأى صفية بنت أبي عبيد ) ابن مسعود الثقفية ( امرأة عبد الله بن عمر ) تزوجها في حياة أبيه وأصدقها عمر عنه أربعمائة درهم وزاد هو سرا مائتي درهم وولدت له واقدا وأبا بكر وأبا عبيدة وعبيد الله وعمر وحفصة وسودة
قال ابن منده أدركت النبي صلى الله عليه وسلم ولم تسمع منه وأنكره الدارقطني وذكرها العجلي وابن حبان في ثقات التابعين وجمع في الإصابة بأنها ولدت في عهد النبي صلى الله عليه وسلم وأبوها صحابي فيحمل نفي الإدراك على إدراك السماع فكأنها لم تميز إلا بعد الوفاة النبوية وقد حدثت عن عمر وحفصة وعائشة وأم سلمة وعنها سالم ابن زوجها ونافع مولاه وعبد الله بن دينار وموسى بن عقبة وأسنت فكانت تطوف على راحلة ( تنزع خمارها ) بكسر المعجمة ما تغطي به رأسها ( وتمسح على رأسها بالماء ونافع يومئذ
____________________
(1/112)
صغير ) لم يبلغ فلذا رآها وفيه قبول رواية الصغير إذا رواها كبيرا وكذا الكافر إذا روى بعد إسلامه
( وسئل مالك عن المسح على العمامة والخمار ) للرجل والمرأة ( فقال لا ينبغي ) أي لا يجوز ( أن يمسح الرجل ولا المرأة على عمامة ولا خمار ) ولا يكفي إن وقع كما أفاده قوله ( وليمسحا على رؤوسهما ) بالجمع كراهة توالي تثنيتين نحو فقد صغت قلوبكما
( وسئل مالك عن رجل توضأ فنسي أن يمسح على رأسه حتى جف وضوؤه قال أرى ) بفتح الهمزة ( أعتقد أن يمسح برأسه ) وحده ويصح وضوءه لأن الفور إنما يجب مع الذكر لا مع النسيان قال الباجي فإن ذكره بحضرة الوضوء أو قربه مسح رأسه وما بعده ليحصل الترتيب المشروع في الطهارة
( وإن كان صلى أن يعيد الصلاة ) بعد مسح رأسه وجوبا لتركه فرضا من الوضوء
حبشر
8 ما جاء في المسح على الخفين نقل ابن المنذر عن ابن المبارك قال ليس في المسح على الخفين عن الصحابة اختلاف لأن كل من روى عنه منهم إنكاره روى إثباته
وقال ابن عبد البر لا أعلم أحدا أنكره إلا مالكا في رواية أنكرها أكثر أصحابه والروايات الصحيحة عنه مصرحة بإثباته وموطأه يشهد للمسح في الحضر والسفر وعليها جميع أصحابه وجميع أهل السنة
وقال الباجي رواية الإنكار في العتبية وظاهرها المنع منه وإنما معناها أن الغسل أفضل من المسح
قال ابن وهب آخر ما فارقت مالكا على المسح في الحضر والسفر
وقال ابن أصبغ المسح عن النبي وعن أكابر الصحابة في الحضر أثبت عندنا من أن نتبع مالكا على خلافه يعني في الرواية الثالثة جوازه للمسافر دون المقيم وهي مقتضى المدونة وبها جزم ابن الحاجب والمشهور الإطلاق وصرح الباجي بأنه الأصح وصرح جمع من الحفاظ بأن المسح على الخفين متواتر وجمع بعضهم رواته فجاوزوا الثمانين منهم العشرة
وروى ابن أبي شيبة وغيره عن الحسن البصري حدثني سبعون من الصحابة بالمسح على الخفين واتفق العلماء على جوازه إلا أن قوما ابتدعوا كالخوارج فقالوا لم يرد به القرآن والشيعة لأن عليا امتنع منه ورد بأنه لم يثبت عن علي بإسناد موصول يثبت بمثله كما قاله البيهقي وتواتر عن المصطفى المسح وقال الكرخي أخاف الكفر على من لا يرى مسح الخفين
____________________
(1/113)
( مالك عن ابن شهاب ) الزهري ( عن عباد ) بفتح المهملة وشد الموحدة ( ابن زياد ) أخي عبيد الله بن زياد المعروف بابن أبيه ويقال له ابن أبي سفيان يكنى عباد أبا حرب وكان والي سجستان سنة ثلاث وخمسين وثقه ابن حبان وروى له مسلم وأبو داود والنسائي ومات سنة مائة
وقوله ( من ولد المغيرة بن شعبة ) وهم من مالك وإنما هو مولى المغيرة قاله الشافعي ومصعب الزبيري وأبو حاتم والدارقطني وابن عبد البر قال وانفرد يحيى وعبد الرحمن بن مهدي بوهم ثان فقالا ( عن أبيه ) ولم يقله من رواة الموطأ غيرهما وإنما يقولون ( عن المغيرة بن شعبة ) ثم هو منقطع فعباد لم يسمع من المغيرة ولا رآه وإنما يرويه الزهري عن عباد عن عروة وحمزة ابني المغيرة عن أبيهما وربما حدث به الزهري عن عروة وحده دون حمزة قال الدارقطني فوهم مالك في إسناده في موضعين أحدهما قوله عباد من ولد المغيرة
والثاني إسقاطه عروة وحمزة
قال ورواه إسحاق بن راهويه عن روح بن عبادة عن مالك عن الزهري عن عباد بن زياد عن رجل من ولد المغيرة فإن كان روح حفظه عن مالك فقد أتى بالصواب عن الزهري قال وبعض الرواة عن عروة بن المغيرة عن أبيه لم يذكر عبادا والصحيح قول من ذكر عبادا وعروة ( أن رسول الله ذهب لحاجته ) أي لقضاء حاجة الإنسان وفي مسلم فتبرز قبل الغائط فحملت معه إداوة قبل صلاة الفجر ولابن سعد عن المغيرة لما كنا بين الحجر وتبوك ذهب لحاجته وتبعته بماء بعد الفجر ويجمع بأن خروجه كان بعد طلوع الفجر وقبل صلاة الصبح ( في غزوة تبوك ) آخر مغازيه بنفسه بمنع الصرف للتأنيث والعلمية كذا قال النووي وتبعه في الفتح وتعقب بأنه سهو لأن علة منعه كونه على مثال الفعل كتقول والمذكر والمؤنث في ذلك سواء مكان بينه وبين المدينة من جهة الشام أربعة عشر مرحلة وبينها وبين دمشق إحدى عشرة وسميت بذلك في أحاديث صحيحة كقوله إنكم ستأتون غدا عين تبوك فمقتضاه قدم تسميتها بذلك وقيل سميت به لقوله عليه السلام وقد رأى قوما من أصحابه يبوكون عين الماء أي يدخلون فيها القدح ويحركونه ليخرج الماء ما زلتم تبوكونها بوكا ( قال المغيرة فذهبت معه بماء ) في إداوة وللبخاري في الجهاد وغيره عن مسروق عن المغيرة أن النبي أمره أن يتبعه بالإداوة فانطلق حتى توارى عني فقضى حاجته ثم أقبل فتوضأ وفي رواية أحمد أن الماء أخذه المغيرة من أعرابية صبته له من قربة من جلد ميتة فقال له سلها فإن كانت دبغتها فهو طهورها فقالت أي والله لقد دبغتها وفيه قبول خبر الواحد في الأحكام ولو امرأة سواء كان مما تعم به البلوى أم لا لقبول خبر الأعرابية
____________________
(1/114)
( فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم ) بعد قضاء حاجته ( فسكبت عليه الماء فغسل وجهه ) زاد في رواية أحمد ثلاث مرات وفي هذه الرواية (1) *
( ثم ذهب يخرج يديه من كمي ) بضم الكاف ( جبته ) وهي ما قطع من الثياب مشمرا قاله في المشارق وللبخاري وعليه جبة شامية ولأبي داود من صوف من جباب الروم
قال القرطبي ففيه أن الصوف لا ينجس بالموت لأن الشام إذ ذاك كانت دار كفر ومأكولها كلها الميتات كذا قال
( فلم يستطع من ضيق كمي الجبة ) إخراج يديه وفيه التشمير في السفر ولبس الثياب الضيقة فيه لأنها أعون عليه قال ابن عبد البر بل هو مستحب في الغزو للتشمير والتأسي به ولا بأس به عندي في الحضر
( فأخرجهما من تحت الجبة ) زاد مسلم وألقى الجبة على منكبيه
( فغسل يديه ) ولأحمد فغسل يده اليمنى ثلاث مرات ويده اليسرى ثلاث مرات
( ومسح برأسه ) وفي رواية لمسلم ومسح بناصيته وعلى العمامة وفيه وجوب تعميم الرأس لأنه كمل بالمسح على العمامة وكأنه لعذر ولم يكتف بالمسح على ما بقي
( ومسح على الخفين ) محل الشاهد من الحديث وفيه رد على من زعم أن المسح عليهما منسوخ بآية المائدة لأنها نزلت في غزوة المريسيع وهذه القصة في غزوة تبوك بعدها باتفاق إذ هي آخر المغازي ثم المسح على الخفين خاص بالوضوء لا مدخل للغسل فيه بإجماع
( فجاء رسول الله وعبد الرحمن بن عوف يؤمهم ) وفي مسلم قال أي المغيرة فأقبلت معه حتى نجد الناس قد قدموا عبد الرحمن ولابن سعد فأسفر الناس بصلاتهم حتى خافوا الشمس فقدموا عبد الرحمن
( وقد صلى بهم ركعة ) من صلاة الفجر كما في مسلم وأبي داود وزاد أحمد قال المغيرة فأردت تأخير عبد الرحمن فقال دعه
وعند ابن سعد فانتهينا إلى عبد الرحمن وقد ركع ركعة فسبح الناس له حين رأوا رسول الله حتى كادوا يفتتنون فجعل عبد الرحمن يريد أن ينكص فأشار إليه أن اثبت
( فصلى رسول الله الركعة التي بقيت عليهم ) لفظ مسلم وأبي داود فصلى وراء عبد الرحمن بن عوف الركعة الثانية ثم سلم عبد الرحمن فقام في صلاته ففزع المسلمون
____________________
1* اختصار فعند أحمد من طريق عياد بن زياد المذكور أنه غسل كفيه وله من وجه آخر قوي فغسلهما فأحسن غسلهما وللبخاري في الجهاد وتمضمض واستنشق وفي مسلم فلما رجع أخذت أهريق على يديه من الإداوة وغسل يديه ثلاث مرات ثم غسل وجهه
(1/115)
فأكثروا التسبيح لأنهم سبقوا النبي بالصلاة فلما سلم قال أصبتم أو أحسنتم
وفي رواية ابن سعد فصلينا الركعة التي أدركنا وقضينا التي سبقتنا فقال حين صلى خلف عبد الرحمن ما قبض نبي قط حتى يصلي خلف رجل صالح من أمته
( ففزع الناس ) لسبقهم رسول الله بالصلاة وأكثروا التسبيح رجاء أن يشير لهم هل يعيدونها معه أم لا لظنهم أنه أدركها من أولها وأن قيامه لأمر حدث كأنهم ظنوا الزيادة في الصلاة كما زعم بعضهم لتصريحه في رواية ابن سعد بأنهم علموا بالنبي حين دخل معهم فسبحوا حتى كادوا يفتتنوا
( فلما قضى رسول الله صلاته قال أحسنتم ) إذ جمعتم الصلاة لوقتها ويحتمل أنه أراد أن يسكن ما بهم من الفزع قاله الأصيلي وقد زاد مسلم يغبطهم أن صلوا لوقتها بالتشديد أي يحملهم على الغبطة لأجل ذلك ويجعل هذا الفعل عندهم مما يغبط عليه وإن روي بالتخفيف فيكون قد غبطهم لتقدمهم وسبقهم إلى الصلاة قاله ابن الأثير
قال ابن عبد البر وفي قوله أحسنتم أنه ينبغي شكر من بادر إلى أداء فرضه وعمل ما يجب عليه وفضل عبد الرحمن إذ قدمه الصحابة بدلا عن نبيهم وفيه اقتداء الفاضل بالمفضول وصلاة النبي خلف بعض أمته
وروى البزار عن الصديق مرفوعا ما قبض نبي حتى يؤمه رجل من أمته وتقدم من حديث المغيرة وأما بقاء عبد الرحمن وتأخر أبي بكر ليتقدم النبي فالفرق أن عبد الرحمن كان قد ركع ركعة فترك التقدم لئلا يختل ترتيب صلاة القوم بخلاف صلاة أبي بكر فلا اختلال فيها لأن الإمام إنما هو المصطفى وأبو بكر إنما كان يسمع الناس وفرق أيضا بأنه أراد أن يعين لهم حكم قضاء المسبوق بفعله كما بينه بقوله نعم
روى الترمذي وصححه عن جابر والنسائي عن أنس قالا آخر صلاة صلاها رسول الله في ثوب واحد متوشحا به خلف أبي بكر وأخرج الترمذي وقال حسن صحيح
والنسائي عن عائشة صلى رسول الله خلف أبي بكر في مرضه الذي مات فيه قاعدا وروى ابن حبان عنها أن أبا بكر صلى بالناس ورسول الله في الصف خلفه واستشكلت هذه الأحاديث بما في الصحيح عن عائشة قالت لما مرض النبي مرضه الذي مات فيه فحضرت الصلاة أذن أي النبي فقال مروا أبا بكر فليصل بالناس فخرج أبو بكر يصلي فوجد من نفسه خفة فخرج يهادي بين رجلين كأني أنظر رجليه تخطان من الوجع فأراد
____________________
(1/116)
أبو بكر أن يتأخر فأومأ إليه أن مكانك ثم أتى به حتى جلس إلى جنبه فقيل للأعمش فكان يصلي وأبو بكر يصلي بصلاته والناس بصلاة أبي بكر فقال نعم
ولمسلم عن جابر نحوه وفيه أن النبي كان هو الإمام وأن أبا بكر كان مأموما ويسمع الناس تكبيره وجمع ابن حبان بأنه صلى في مرضه صلاتين في المسجد جماعة كان في إحداهما مأموما وفي الأخرى إماما بدليل أن في خبر عبيد الله عن عائشة خرج بين رجلين تريد بأحدهما العباس والآخر عليا وفي خبر مسروق عنها خرج بين بريرة ونوبة يعني بنون وموحدة واختلف في أنه رجل أو امرأة وكذا جمع البيهقي وبين أن الصلاة التي صلاها أبو بكر مأموما صلاة الظهر والتي صلاها النبي خلفه هي صلاة الصبح يوم الاثنين وهي آخر صلاة صلاها وكذا جمع ابن حزم فقال إنهما صلاتان متغايرتان بلا شك إحداهما التي رواها الأسود عن عائشة وعبيد الله عنها وعن ابن عباس صفتها أنه أم الناس والناس خلفه وأبو بكر عن يمينه في موقف المأموم يسمع الناس تكبيره
والثانية التي رواها مسروق وعبيد الله عن عائشة وحميد عن أنس صفتها أنه كان خلف أبي بكر في الصف مع الناس فارتفع الإشكال جملة قال وليست صلاة واحدة في الدهر فيحمل ذلك على التعارض بل في كل يوم خمس صلوات ومدة مرضه اثنا عشر يوما فيه ستون صلاة أو نحو ذلك اه
فقد ثبت بهذا كله أنه صلى خلف أبي بكر وابن عوف فيرد ذلك على قول عياض لا يجوز لأحد أن يؤمه لأنه لا يجوز التقدم بين يديه في الصلاة ولا غيرها لا لعذر ولا لغيره وقد نهى الله تعالى المؤمنين عن ذلك ولا يكون أحد شافعا له وقد قال أئمتكم شفعاؤكم ولذا قال أبو بكر ما كان لابن أبي قحافة أن يتقدم بين يدي رسول الله
وحكاه عنه صاحب الأنموذج وقال إنه من خصائصه ويمكن أن يجاب بأن معناه لا يجوز لأحد أن يؤمه ابتداء ولو لعذر أما إذا أم غيره فجاء وأبقاه فيجوز بدليل قصتي أبي بكر وعبد الرحمن فأما الصديق فإنما أم غيره لغيبته لمرضه واستخلافه إياه على الإمامة
وأما ابن عوف فإنما أم لغيبته لقضاء حاجته بتقديم الناس له حين خافوا طلوع الشمس ولهذا لما أتى هم كل منهما أن ينكص حتى أشار له أن اثبت والله أعلم
ثم حديث الباب صحيح بلا شك وإن وقع في إسناده الوهمان السابقان وقد خرجه مسلم من عدة طرق بألفاظ متقاربة وخرج البخاري بعضه في مواضع من طرق وهو متواتر عن المغيرة بن شعبة ذكر البزار أنه رواه عنه ستون رجلا
( مالك عن نافع وعبد الله بن دينار ) العدوي مولاهم المدني أبي عبد الرحمن روى عن مولاه
____________________
(1/117)
ابن عمر وأنس وعنه الثوري وابن عيينة ومالك وشعبة قال ابن سعد ثقة كثير الحديث مات سنة سبع وعشرين ومائة
( أنهما أخبراه ) أي مالكا ( أن عبد الله بن عمر ) بن الخطاب ( قدم الكوفة على سعد بن أبي وقاص ) مالك الزهري ( وهو أميرها ) من قبل عمر
( فرآه عبد الله بن عمر يمسح على الخفين فأنكر ذلك عليه ) لأنه لم يبلغه مع قدم صحبته وكثرة روايته إذ قد يخفى على قديم الصحبة من الأمور الجلية في الشرع ما يطلع عليه غيره ويحتمل أنه أنكر عليه المسح في الحضر لا في السفر على ظاهر هذه القصة وأما السفر فكان ابن عمر يعلمه ورواه عن النبي كما روى ابن أبي خيثمة وابن أبي شيبة عن سالم عن أبيه رأيت النبي يمسح على الخفين بالماء في السفر ( فقال له سعد سل أباك إذا قدمت عليه ) المدينة ( فقدم عبد الله فنسي أن يسأل عمر عن ذلك حتى قدم سعد فقال ) لابن عمر لإزالة إنكاره وإفادته الحكم ( أسألت أباك فقال لا ) ولأحمد من وجه آخر فلما اجتمعنا عند عمر قال لي سعد سل أباك ( فسأله عبد الله ) ولابن خزيمة عن أيوب عن نافع عن ابن عمر فقال عمر كنا ونحن مع نبينا نمسح على خفافنا لا نرى بذلك بأسا
( فقال عمر إذا أدخلت رجليك في الخفين وهما طاهرتان ) طهارة كاملة مائية ( فامسح عليهما قال عبد الله وإن جاء أحدنا من الغائط فقال عمر نعم وإن جاء أحدكم من الغائط ) وفي البخاري عن أبي سلمة بن عبد الرحمن عن ابن عمر عن سعد عن النبي أنه مسح على الخفين وأن ابن عمر سأل أباه عن ذلك فقال نعم إذا حدثك شيئا سعد عن النبي فلا تسأل عنه غيره
وللإسماعيلي إذا حدثك سعد عن النبي فلا تبغ وراء حديثه شيئا أي لقوة الوثوق بنقله ففيه تعظيم عظيم من عمر لسعد وفيه دليل على أن الصفات الموجبة للترجيح إذا اجتمعت في الراوي كانت من جملة القرائن التي إذا حفت خبر الواحد قامت مقام الأشخاص المتعددة وقد يفيد العلم عند بعض دون بعض وأن عمر كان يقبل خبر الواحد وما نقل عنه من التوقف إنما كان عند وقوع ريبة له في بعض المواضع واحتج به من قال بتفاوت رتب العدالة ودخول الترجيح في ذلك عند التعارض ويمكن إبداء الفرق في ذلك بين الرواية والشهادة
( مالك عن نافع أن عبد الله بن عمر بال في السوق ثم توضأ فغسل وجهه ويديه ومسح رأسه
____________________
(1/118)
ثم دعي لجنازة ليصلي عليها حين دخل المسجد ) النبوي ( فمسح على خفيه ) لأنه كان قد لبسهما على طهارة ( ثم صلى عليها ) قال أبو عمر تأخيره مسح خفيه محمول عند أصحابنا أنه نسي وقال غيره لأنه كان برجليه علة فلم يمكنه الجلوس في السوق حتى أتى المسجد فجلس ومسح والمسجد قريب من السوق
وقال الباجي يحتمل أنه نسي وأنه اعتقد جواز تفريق الطهارة وأنه لعجز الماء عن الكفاية وقد قال ابن القاسم في المجموعة لم يأخذ مالك بفعل ابن عمر في تأخير المسح
( مالك عن سعيد بن عبد الرحمن بن رقيش ) بضم الراء وبالقاف والشين المعجمة مصغر الأشعري الأسدي المدني ثقة من صغار التابعين
( أنه قال رأيت أنس بن مالك أتى قبا ) بضم القاف ( فبال ثم أتى بوضوء ) بالفتح ما يتوضأ به
( فتوضأ فغسل وجهه ويديه إلى المرفقين ومسح برأسه ومسح على الخفين ثم جاء المسجد فصلى ) والقصد من ذكر هذا وما قبله أن المسح عليهما معمول به عند الصحابة بعده بالمدينة وغيرها فلو كان منسوخا كما زعم الخوارج ما عملوا به وقولهم إنه خلاف القرآن وعسى أن يكون القرآن نسخه مردود بما في مسلم وغيره أن جرير بن عبد الله البجلي بال ثم توضأ ومسح على خفيه فقيل تفعل هذا فقال نعم رأيت رسول الله بال ثم توضأ ومسح على خفيه
قال إبراهيم النخعي فكان يعجبهم هذا الحديث لأن إسلام جرير كان بعد نزول المائدة
وفي لفظ أن جريرا قال ما أسلمت إلا بعد نزول المائدة وكان إسلامه في سنة عشر وقيل أول سنة إحدى عشرة
( قال يحيى وسئل مالك عن رجل توضأ وضوء الصلاة ثم لبس خفيه ثم بال ثم نزعهما ثم ردهما في رجليه أيستأنف الوضوء فقال لينزع خفيه وليغسل رجليه ) لأن المسح عليهما بطل بنزعهما
( وإنما يمسح على الخفين من أدخل رجليه في الخفين وهما طاهرتان بطهر الوضوء ) كما
____________________
(1/119)
روى البخاري عن المغيرة كنت مع النبي في سفر فأهويت لأنزع خفيه فقال دعهما فإني أدخلتهما طاهرتين فمسح عليهما ولأبي داود فإني أدخلت القدمين الخفين وهما طاهرتان فمفهومه قول الإمام ( فأما من أدخل رجليه في الخفين وهما غير طاهرتين بطهر الوضوء فلا يمسح على الخفين ) لأن الحديث جعل الطهارة قبل لبسهما شرطا لجواز المسح
( وسئل مالك عن رجل توضأ وعليه خفاه فسها عن المسح على الخفين حتى جف وضوءه وصلى قال ليمسح على خفيه وليعد الصلاة ) وجوبا لأنه صلاها بوضوء ناقص
( ولا يعيد الوضوء ) لأن الفور والموالاة إنما تشرع مع القدرة والذكر والسؤال أنه منها
( وسئل مالك عن رجل غسل قدميه ) أي رجليه ( ثم لبس خفيه ثم استأنف الوضوء فقال لينزع خفيه ثم ليتوضأ وليغسل رجليه ) لأنه لم يلبس الخفين على طهارة كاملة
9 العمل في المسح على الخفين 74 أي صفته وما يجزى منه
( مالك عن هشام بن عروة أنه رأى أباه يمسح على الخفين قال ) هشام ( وكان ) عروة ( لا يزيد إذا مسح على الخفين على أن يمسح ظهورهما ولا يمسح بطونهما ) لأن ظهر الخف محل لوجوب المسح اتفاقا وظاهر المذهب وجوب استيعابهما فإن مسح أعلاه دون أسفله أعاد في الوقت وعكسه يعيد أبدا
قال علي رضي الله عنه لو كان الدين بالرأي لكان أسفل الخف أولى بالمسح من أعلاه وقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يمسح على ظاهر خفيه
وقال المغيرة رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يمسح ظهري الخفين
( مالك أنه سأل ابن شهاب عن المسح على الخفين كيف هو ) أي كيف صفته المستحبة
____________________
(1/120)
( فأدخل ابن شهاب إحدى يديه ) أي اليسرى تحت الخف للرجل اليمنى ( والأخرى ) أي اليد اليمنى ( فوقه ثم أمرهما ) على جميع الخف حتى استوعبه واختلفوا هل الرجل اليسرى كذلك أو يجعل اليد اليسرى فوقها ( قال مالك وقول ابن شهاب ) أي فعله المذكور ( أحب ما سمعت إلي في ذلك ) وكيف ما مسح أجزأه إذا أوعب
10 ما جاء في الرعاف مصدر رعف
قال المجد كنصر ومنع وكرم وعنى وسمع خرج من أنفه الدم رعفا ورعافا كغراب والرعاف أيضا الدم بعينه ويقع في نسخ سقيمة والقيء ولا وجود لها في النسخ العتيقة المقروءة ويلزم عليها أنه ترجم لشيء ولم يذكره وكان أصلها هامش فأدخله الناسخ جهلا
( مالك عن نافع أن عبد الله بن عمر كان إذا رعف ) بفتح العين وضمها ( انصرف ) من صلاته ( فتوضأ ) أي غسل الدم ( ثم رجع ) إلى مصلاه ( فبنى ) على ما صلى ( ولم يتكلم ) جملة حالية إذ لو تكلم بلا عذر بطلت
( مالك أنه بلغه أن عبد الله بن عباس كان يرعف ) بضم العين وفتحها
( فيخرج فيغسل الدم ) عنه ( ثم يرجع فيبني على ما قد صلى ) لأن وضوءه لم ينتقض ولم يحصل منه مناف والرعاف ليس بناقض
( مالك عن يزيد ) بتحتية قبل الزاي ( ابن عبد الله بن قسيط ) بقاف ومهملتين مصغر ابن أسامة ( الليثي ) أبي عبد الله المدني روى عن أبي هريرة وابن عمر وجمع وثقه النسائي وابن سعد وغيرهما وروى له الجميع ومات سنة اثنتين وعشرين ومائة وله تسعون سنة
( أنه رأى سعيد بن المسيب رعف وهو يصلي فأتى حجرة أم سلمة زوج النبي صلى الله عليه وسلم ) لأنها أقرب موضع إلى المسجد ليقل المشي في أثناء الصلاة ( فأتي ) بضم الهمزة ( بوضوء ) بالفتح ماء الوضوء ( فتوضأ ) أي غسل الدم ( ثم رجع فبنى على ما قد صلى ) فأفاد فعل هؤلاء أن الرعاف ليس
____________________
(1/121)
بناقض للوضوء وأنه إذا خرج لغسله ولم يتكلم ولم يجاوز أقرب مكان يبني على ما صلى وللمسألة قيود في الفروع
11 العمل في الرعاف وهو كثير فيخرج إلى غسله وقليل فيفتله بأصابعه حتى يجف ويتمادى على صلاته واختضاب الأنامل العليا قليل والكثير أن يسيل أو يقطر لقوله تعالى { أو دما مسفوحا } سورة الأنعام الآية 145 فيقطع صلاته وليستأنفها بعد الغسل لأنه حامل نجاسة قاله الباجي
( مالك عن عبد الرحمن بن حرملة ) بن عمرو بن سنة بفتح المهملة وتثقيل النون ( الأسلمي ) أبي حرملة المدني صدوق روى له مسلم وأصحاب السنن مات سنة خمس وأربعين ومائة
( أنه قال رأيت سعيد بن المسيب يرعف فيخرج منه الدم حتى تختضب أصابعه من الدم الذي يخرج من أنفه ثم يصلي ولا يتوضأ ) لأن وضوءه لم ينتقض
( مالك عن عبد الرحمن بن المجبر ) بضم الميم وفتح الجيم والموحدة الثقيلة لأنه سقط فانكسر فجبر واسمه أيضا عبد الرحمن بن عبد الرحمن بن عمر بن الخطاب ( أنه رأى سالم بن عبد الله يخرج من أنفه الدم حتى تختضب أصابعه ثم يفتله ) بكسر التاء يحركه ( ثم يصلي ولا يتوضأ ) لبقاء وضوئه
وفي موطأ محمد بن الحسن أخبرنا مالك أخبرنا عبد الرحمن بن المجبر بن عمر بن الخطاب أنه رأى سالم بن عبد الله بن عمر يدخل أصبعه في أنفه أو أصبعيه ثم يخرجها وفيها شيء من دم فيفتله وينفضه ثم يصلي ولا يتوضأ
____________________
(1/122)
12 العمل فيمن غلبه الدم من جرح أو رعاف ( مالك عن هشام بن عروة ) بن الزبير بن العوام ( عن أبيه أن المسور ) بكسر الميم وإسكان المهملة وفتح الواو ثم راء ( ابن مخرمة ) بفتح الميم وإسكان الخاء المعجمة ابن نوفل بن أهيب بن عبد مناف بن زهرة الزهري له ولأبيه صحبة مات سنة أربع وستين
( أخبره أنه دخل على عمر بن الخطاب من الليلة التي طعن فيها ) من أبي لؤلؤة فيروز النصراني عبد المغيرة بن شعبة قال الباجي هذا يقتضي أن الصبح من الليل لأن عمر طعن في صلاة الصبح وروى عيسى عن ابن القاسم عن مالك أن عمر مات من يومه الذي طعن فيه وعند مالك أن النهار من طلوع الفجر
( فأيقظ عمر لصلاة الصبح ) قال أبو عمر قال ابن عباس لما طعن عمر احتملته أنا ونفر من الأنصار حتى أدخلناه منزله فلم يزل في غشية واحدة حتى أسفر فقال رجل إنكم لن تفزعوه بشيء إلا بالصلاة قال فقلنا الصلاة يا أمير المؤمنين فمسح عينيه ثم قال أصلى الناس قلنا نعم ( فقال عمر نعم ) بفتحتين أي استيقظ وبكسر فسكون أي نعم ما أيقظتني إليه ( ولا حظ في الإسلام لمن ترك الصلاة ) مكذبا بها ويحتمل أنه على ظاهره أي لا ينتفع بسائر الأعمال أو أراد لا يحقن دمه قاله الباجي
وقال ابن عبد البر يحتمل أن يريد لا كبير حظ له في الإسلام كخبر لا صلاة لجار المسجد إلا في المسجد ولا إيمان لمن لا أمانة له وليس المسكين بالطواف وهو كلام خرج على ترك عمل الصلاة لا على جحودها
وقال السيوطي أخذ بظاهره من كفر بترك الصلاة تكاسلا وهو مذهب جمع من الصحابة وقال به أحمد وإسحاق ومال إليه الحافظ المنذري في ترغيبه
( فصلى عمر وجرحه يثعب دما ) بمثلثة ثم عين مفتوحة قال ابن الأثير أي يجري وقال في العين أي يتفجر
( مالك عن يحيى بن سعيد أن سعيد بن المسيب قال ما ترون فيمن غلبه الدم من رعاف فلم ينقطع عنه ) وهو يصلي ( قال مالك قال يحيى بن سعيد ) الأنصاري ( ثم قال سعيد بن
____________________
(1/123)
المسيب أرى أن يومي برأسه إيماء ) مخافة تلويث ثيابه بنجاسة الدم وتنجيس موضع سجوده
( قال مالك وذلك أحب ما سمعت إلي في ذلك ) لأن الإيماء إذا جاز لمن في الطين فمن غلبه الدم أولى ولم يختلف قول مالك في إيماء من غلبه الرعاف واختلف قوله في الصلاة في إيماء الطين وفيه سؤال العالم وطرحه على تلاميذه وجلسائه المسائل وأصله قوله صلى الله عليه وسلم أخبروني بشجرة الحديث
13 الوضوء من المذي بفتح الميم وسكون الذال المعجمة وتخفيف الياء على الأفصح ثم بكسر الذال وشد الياء ثم الكسر مع التخفيف ماء أبيض رقيق لزج يخرج عند الملاعبة أو تذكر الجماع أو إرادته وقد لا يحس بخروجه
( مالك عن أبي النضر ) بالضاد المعجم سالم بن أبي أمية القرشي مولاهم المدني ثقة ثبت من رجال الجميع وكان يرسل روى عن أنس والسائب بن يزيد وغيرهما وعنه الليث والسفيانان ومالك وجماعة مات سنة تسع وعشرين ومائة
( مولى عمر بن عبيد الله ) بضم العين ابن معمر بن عثمان بن عمرو بن سعد بن تيم بن مرة القرشي التيمي كان أحد وجوه قريش وأشرافها جوادا ممدحا شجاعا له في الجود والشجاعة أخبار شهيرة مات بدمشق سنة اثنين وثمانين وجده معمر صحابي ابن عم أبي قحافة والد الصديق
( عن سليمان بن يسار ) الهلالي المدني مولى ميمونة وقيل أم سلمة ثقة فاضل كثير الحديث أحد الفقهاء السبعة بالمدينة وعلمائها وصلحائها مات سنة أربع ومائة وقيل سنة سبع وقيل سنة مائة وقيل قبلها سنة أربع وتسعين عن ثلاث وسبعين سنة
( عن المقداد بن الأسود ) بن عبد يغوث الزهري تبناه وهو صغير فعرف به وهو المقداد بن عمرو بن ثعلبة البهراني بفتح الموحدة والراء قبيلة من قضاعة ثم الكندي حالف أبوه كندة ثم الزهري صحابي مشهور من السابقين شهد المشاهد كلها وكان فارسا يوم بدر ولم يثبت أنه شهدها فارس غيره روى عنه علي وابن مسعود وابن عباس وجماعة مات سنة ثلاث وثلاثين اتفاقا وهو ابن سبعين سنة وفي الإسناد انقطاع سقط منه ابن عباس لأن سليمان بن يسار لم يسمع المقداد لأنه ولد سنة أربع وثلاثين بعد موت المقداد بسنة وقد أخرجه مسلم والنسائي من طريق ابن وهب عن مخرمة بن بكير عن أبيه عن سليمان بن يسار عن ابن عباس
____________________
(1/124)
( أن علي بن أبي طالب أمره أن يسأل له رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الرجل إذا دنا ) قرب ( من أهله ) حليلته ( فخرج منه المذي ماذا عليه ) وذكر أبو داود والنسائي وابن خزيمة سبب السؤال من طريق أخرى عن علي قال كنت رجلا مذاء فجعلت أغتسل منه في الشتاء حتى تشقق ظهري
وفي الصحيحين عن ابن الحنفية عن علي فأمرت المقداد أن يسأل وكذا لمسلم عن ابن عباس عنه
وللنسائي أن عليا أمر عمارا أن يسأل
ولابن حبان والإسماعيلي أن عليا قال سألت وجمع ابن حبان بأن عليا أمر عمارا أن يسأل ثم أمر المقداد بذلك ثم سأل بنفسه قال الحافظ وهو جمع جيد إلا آخره لأنه مغاير لقوله ( قال علي فإن عندي ابنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا أستحي أن أسأله ) وللبخاري فاستحيت أن أسأل لمكان ابنته
ولمسلم من أجل فاطمة
قال الحافظ فتعين حمله على المجاز بأن بعض الرواة أطلق أنه سأل لكونه الآمر بذلك وبهذا جزم الإسماعيلي ثم النووي ويؤيد أنه أمر كلا من المقداد وعمار بالسؤال ما رواه عبد الرزاق عن عابس بن أنس قال تذاكر علي والمقداد وعمار المذي فقال علي إنني رجل مذاء فاسألا عن ذلك النبي صلى الله عليه وسلم فسأله أحد الرجلين
وصحح ابن بشكوال أن المقداد هو الذي تولى السؤال وعليه فنسبته إلى عمار مجاز أيضا لكونه قصده لكن تولى المقداد السؤال دون عمار
( قال المقداد فسألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك فقال إذا وجد ذلك أحدكم فلينضح ) كذا ليحيى ورواه ابن وهب والقعنبي وابن بكير فليغسل والنضح لغة الرش والغسل فرواية يحيى مجملة يفسرها رواية غيره قاله أبو عمر أي يغسل ( فرجه بالماء ) أي يتعين فيه الماء دون الأحجار لأن ظاهره تعين الغسل والمعين لا يقع الامتثال إلا به قاله ابن دقيق العيد وهو مذهب مالك
قال ابن عبد البر وليس في أحاديث المذي على كثرتها ذكر الاستجمار وصححه النووي في شرح مسلم وصحح في باقي كتبه جواز الأحجار إلحاقا له بالبول وحمل الأمر بالماء على الاستحباب أو على أنه خرج مخرج الغالب وفيه أيضا وجوب غسله كله عملا بالحقيقة لا محل المخرج فقط كالبول وقد رد الباجي إلحاقه بالبول بأنه يخرج من الذكر بلذة فوجب به غسل يزيد على ما يجب بالبول كالمني قال في النهاية يرد النضح بمعنى الغسل والإزالة وأصله الرشح ويطلق على الرش
____________________
(1/125)
وضبطه النووي بكسر الضاد واتفق في بعض مجالس الحديث أن أبا حيان قرأه بفتح الضاد فقال له السراج الدمنهوري ضبطه النووي بالكسر فقال أبو حيان حق النووي أن يستفيد هذا مني وما قلته هو القياس
قال الزركشي وكلام الجوهري يشهد للنووي لكن نقل عن صاحب الجامع أن الكسر لغة وأن الأفصح الفتح
( وليتوضأ وضوءه للصلاة ) أي كما يتوضأ إذا قام لها لا أنه يجب الوضوء بمجرد خروجه كما قال به قوم ورد عليهم الطحاوي بما رواه عن علي قال سئل النبي صلى الله عليه وسلم عن المذي فقال فيه الوضوء وفي المني الغسل فعرف أنه كالبول وغيره من نواقض الوضوء لا يوجب الوضوء بمجرده قال الرافعي وفي قوله وضوءه للصلاة قطع احتمال حمل التوضي على الوضاءة الحاصلة بغسل الفرج فإن غسل العضو الواحد قد يسمى وضوءا كما ورد أن الوضوء قبل الطعام ينفي الفقر والمراد غسل اليد
وفي رواية للشيخين توضأ واغسل ذكرك والمعنى واحد فيجوز تقديم غسله على الوضوء وهو أولى وتقديم الوضوء على غسله لكن من يقول بنقض الوضوء بمس الذكر يشترط أن يكون ذلك بلا حائل واستدل به على قبول خبر الواحد وعلى جواز الاعتماد على الظن مع القدرة على المقطوع به وفيهما نظر لأن السؤال كان بحضرة علي روى النسائي عنه فقلت لرجل جالس إلى جنبي سله فسأله وقد أطبق أصحاب الأطراف والمسانيد على إيراد هذا الحديث في مسند علي ولو حملوه على أنه لم يحضر لأوردوه في مسند المقداد ثم لو صح أن السؤال كان في غيبة علي لم يكن دليلا على المدعي لاحتمال وجود القرائن التي تحف الخبر فترقيه عن الظن إلى القطع قاله عياض
وقال ابن دقيق العيد المراد بالاستدلال به على قبول خبر الواحد مع كونه خبر واحد أنه صورة من الصور التي تدل وهي كثيرة تقوم الحجة بجملتها لا بفرد معين منها وفيه جواز الاستنابة في الاستفتاء وفيه ما كان عليه الصحابة من حفظ حرمة النبي صلى الله عليه وسلم وتوقيره واستعمال الأدب في ترك المواجهة بما يستحيا منه عرفا وحسن العشرة مع الأصهار وترك ذكر ما يتعلق بجماع المرأة ونحوه بحضرة أقاربها واستدل به البخاري لمن استحى فأمر غيره بالسؤال لأن فيه جمعا بين المصلحتين استعمال الحياء وعدم التفريط في معرفة الحكم
( مالك عن يزيد بن أسلم عن أبيه ) أسلم العدوي مولى عمر ثقة مخضرم روى عن مولاه وأبي بكر وعثمان ومعاذ وغيرهم وعنه ابنه ونافع والقاسم بن محمد وروى ابن منده عن عبد الرحمن بن زيد بن أسلم عن أبيه عن جده أنه سافر مع النبي صلى الله عليه وسلم سفرتين قال في الإصابة والمعروف أن عمر اشترى أسلم بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم ذكره ابن إسحاق وغيره وقال ابنه زيد مات أسلم وهو ابن أربع عشرة ومائة سنة وصلى عليه مروان بن الحكم
____________________
(1/126)
( أن عمر بن الخطاب قال إني لأجده ينحدر مني مثل الخريزة ) بخاء معجمة ثم راء فتحتية فزاي منقوطة تصغير خرزة بفتحتين الجوهرة وفي رواية مثل الجمانة بضم الجيم وهي اللؤلؤة
( فإذا وجد ذلك أحدكم فليغسل ذكره وليتوضأ وضوءه للصلاة ) قال الباجي يريد إذا وجده على غير هذا الوجه ويحتمل أنه خصهم بهذا الحكم وإن كان هو غير داخل فيه إذا كان خروجه منه على غير وجه اللذة ويحتمل أنه أمرهم وحكمه حكمهم
وقال ابن عبد البر روي أن عمر قال إني لأجده ينحدر مني مثل الجمان فما ألتفت إليه ولا أباليه وهذا يدل على أنه استنكحه ذلك ( يعني المذي ) بيان للضمير في قوله إني لأجده
( مالك عن زيد بن أسلم عن جندب ) بضم الجيم وسكون النون وبفتح الدال وتضم
( مولى عبد الله بن عياش ) بتحتية ومعجمة ابن أبي ربيعة المخزومي قال ابن الحذاء لم يذكره البخاري ( أنه قال سألت عبد الله بن عمر عن المذي فقال إذا وجدته فاغسل فرجك وتوضأ وضوءك للصلاة ) واستدل بهذا كالحديث على وجوب الوضوء على من به سلس المذي للأمر بالوضوء لمن قال كنت مذاء بصيغة المبالغة الدالة على الكثرة وتعقبه ابن دقيق العيد بأن الكثرة هنا ناشئة عن غلبة الشهوة مع صحة الجسد بخلاف صاحب السلس فإنه ينشأ عن علة في الجسد
وقال ابن عبد البر عن المغيرة بن عبد الرحمن كان يخرج مني المذي فربما توضأت المرتين والثلاث فجئت القاسم بن محمد فقال إنما ذلك من الشيطان فاله عنه فلهوت عنه فانقطع مني وترجم مالك إثر هذا الباب
14 الرخصة في ترك الوضوء من المذي أي الخارج من فساد وعلة فلا وضوء فيه عند مالك وعلماء بلده لأن ما لا ينقطع لا وجه للوضوء منه
( مالك عن يحيى بن سعيد ) الأنصاري ( عن سعيد بن المسيب أنه ) أي يحيى ( سمعه ) أي
____________________
(1/127)
سعيدا ( ورجل يسأله فقال ) أي الرجل ( إني لأجد البلل وأنا أصلي أفأنصرف ) أقطع صلاتي ( فقال له سعيد لو سال على فخذي ما انصرفت حتى أقضي ) أتم ( صلاتي ) لأن مذهبه أن البلل لا يبطل الوضوء في الصلاة وإن قطر وسال وحمله مالك على سلس المذي قاله الباجي
وقال أبو عمر معناه أن كثرة المذي وفحشه في البدن والثوب لا يمنع المصلي إتمام صلاته وإن كان يؤمر بغسل الفاحش قبل دخوله في الصلاة
وفي رواية ابن القاسم عن مالك في هذا الحديث قال يحيى بن سعيد وأخبرني من كان عند سعيد أنه قال للرجل فإذا انصرفت إلى أهلك فاغسل ثوبك
قال يحيى وأما أنا فلم أسمعه منه وهذه الرواية توضح ما ذكرناه ومذهب مالك أن ما خرج من مني أو مذي أو بول على وجه السلس لا ينقض الطهارة خلافا لأبي حنيفة والشافعي قالوا يتوضأ لكل صلاة وإن لم ينقطع كما يصلي والبول ونحوه لا ينقطع فكذلك يتوضأ اه
واستدل لهم بأن الشارع أمر بالوضوء من المذي ولم يستفصل فدل على عموم الحكم
رح 87 ( مالك عن الصلت ) بفتح الصاد المهملة وسكون اللام وفوقية ( ابن زييد ) بضم الزاي ومثناتين تحت مصغر زيد أو زياد الكندي وثقه العجلي وغيره وروى عن سليمان بن يسار وغير واحد من أهله وعنه مالك وعبد العزيز بن أبي سلمة
قال ابن الحذاء هو ابن أخي كثير بن الصلت وولي الصلت هذا قضاء المدينة ( أنه قال سألت سليمان بن يسار عن البلل أجده فقال أنضح ما تحت ثوبك ) أي إزارك أو سروالك ( بالماء واله عنه ) أمر من لهى يلهى كرضى يرضى أي اشتغل عنه بغيره دفعا للوسواس وقد قال صلى الله عليه وسلم إذا توضأت فانتضح رواه ابن ماجه عن أبي هريرة أي لدفع الوسوسة حتى إذا أحس ببلل قدر أنه بقية الماء لئلا يشوش الشيطان فكره ويتسلط عليه بالوسوسة
وروى أحمد وأبو داود والنسائي وابن ماجه وصححه الحاكم عن الحكم بن سفيان مرسلا كان صلى الله عليه وسلم إذا توضأ أخذ كفا من ماء فنضح به فرجه قيل كان يفعله لدفع الوسوسة وقد أجير منها تعليما لأمته أو ليرتد البول فإن الماء البارد يقطعه والنضح الرش أو الغسل قال الغزالي وبه يعرف أن الوسوسة تدل على قلة الفقه
____________________
(1/128)
الوضوء من مس الفرج
أي وجوبه وقال به عمر وابنه والبراء وجابر وجماعة من الصحابة والتابعين وعليه الأئمة الثلاثة ولم ير ذلك علي وعمار وغيرهما من الصحابة وغيرهم وعليه أبو حنيفة لحديث طلق بن علي أنه قال يا رسول الله ما ترى في مس الرجل ذكره بعدما يتوضأ فقال وهل هو إلا بضعة منك
وأجيب بأنه منسوخ بحديث بسرة لأنها أسلمت عام الفتح وطلق قدم على النبي صلى الله عليه وسلم وهو يبني المسجد ثم رجع إلى قومه
مالك عن عبد الله بن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم الأنصاري المدني قاضيها من الثقات مات سنة خمس وثلاثين ومائة بالمدينة وهو ابن سبعين سنة وصحف يحيى بن محمد فقال عن محمد بن عمرو قال ابن عبد البر وهو خطأمنه بلا شك وليس الحديث لمحمد عند أحد من أهل الحديث ولا رواه بوجه من الوجوه وقد حدث به ابن وضاح على الصحة فقال ابنه
أنه سمع عروة بن الزبير يقول دخلت على مروان بن الحكم بن ابي العاصي بن أبي أمية الأموي المدني لا يثبت له صحبة ولي الخلافة في آخر سنة أربع وستين ومات في رمضان سنة خمس وله ثلاث أو احدى وستون سنة فتذاكرنا ما يكون منه الوضوء فقال مروان ومن مس الذكر الوضوء قال عروة ما علمت هذا قال ابن عبد البر هذا مع منزلته من العلم والفضل دليل على أن الجهل ببعض المعلومات لا يدخل نقيصة على العالم إذا كان عالما بالسنن إذ الإحاطة بجميع المعلومات لا سبيل إليها
فقال مروان بن الحكم أخبرتني بسرة بضم الموحدة وسكون السين المهملة بنت صفوان بن نوفل بن أسد بن عبد العزى الأسدية صحابية لها سابقة وهجرة عاشت إلى خلافة معاوية أنها سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول إذا مس أحدكم ذكره بلا حائل ببطن الكف لحديث من أفضى بيده إلى فرجه ليس دونه حجاب والإفضاء لغة المس ببطن الكف فليتوضأ
وفي رواية الترمذي فلا يصلي حتى يتوضأ أي لانتقاض وضوئه فهذا نص في موضع النزاع وقد رواه أيضا الشافعي وأحمد وأصحاب السنن وابن خزيمة وابن الجارودي الحاكم الثلاثة في صحاحهم وصرح أحمد وابن معين والترمذي والحاكم والدارقطني والبيهقي والحازمي بأنه حديث صحيح وهو على شرط البخاري بكل حال وإن كان المخالف يقول أنه من رواية مروان ولا
____________________
(1/129)
صحبة له ولا كان من التابعين بإحسان فقد قال الحافظ في مقدمة فتح الباري يقال له رؤية فإن ثبتت فلا يعرج على من تكلم فيه وإلا فقد قال عروة كان مروان لا يتهم في الحديث وقد روى عنه سهل بن سعد الصحابي اعتمادا على صدقه وإنما نقموا عليه أنه رمى طلحة بن عبيد الله يوم الجمل بسهم فقتله ثم شهر السيف في طلب الخلافة حتى جرى ما جرى فأما قبل طلحة فكان متأولا كما قرره الإسماعيلي وغيره وأما بعد ذلك فإنما حمل عنه سهل وعروة وعلي بن الحسين وأبو بكر بن عبد الرحمن بن الحارث وهؤلاء أخرج البخاري أحاديثهم عنه في صحيحه لما كان أميرا عندهم بالمدينة قبل أن يبدو منه الخلاف على ابن الزبير ما بدا وقد اعتمد مالك على حديثه الباقون سوى مسلم اه
وكان ابن حنبل يصحح حديث بسرة هذا ويفتي به وقال بن معين لولا رواه مالك لقت يصح في مس الذكر شيء وذكر أحمد حديث أم حبيبة سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول من مس فرجه فليتوضأ وقال هو حسن الإسناد وقال غيره فيه انقطاع لأن مكحولا رواه عن عنبسة ولم يسمع منه وصحح ابن السكن حديث أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال من أفضى بيده إلى فرجه ليس دونه حجاب فقد وجب عليه الوضوء ولا يعارض هذا حديث طلق إما لأنه بفرض صحته منسوخ كما مر وإنما لأنه محمول على المس بحائل وإن كان خلاف الأصل
وزعم الحنفية أن مس الذكر في حديث بسرة كناية عما يخرج منه قالوا وهو من أسرار البلاغة يكنى عن الشيء ويرمز إليه بذكر ما هو من روادفه فلما كان مس الذكر غالبا يرادف خروج الحدث منه ويلازم عبر به عنه كما عبر بالمجيء من الغائظ عما قصد الغائظ لأجله وهذا من تأويلاتهم البعيدة وقالوا أيضا إن خبر الواحد لا يعمل به فيما تعم به البلوى ومثلوا بهذا الحديث لأن ما تعم به البلوى ومثلوا بهذا الحديث لأن ما تعم به البلوى يكثر السؤال عنه فتقضي العاد بنفله تواترا لتوفر الدواعي على نقله فلا يعمل بخبر الآحاد فيه وتعقب بأن لا نسلم قضاء العادة بذلك وبأن الحديث متواتر رواه سبعة عشر صحابيا نقله ابن الرفعة عن القاضي أبي الطيب وقد عده السيوطي في الأحاديث المتواترة والله أعلم
مالك عن إسماعيل بن محد بن سعد بن أبي وقاص الزهري أبي محمد المدني روا عن أبيه وعميه عامر ومصعب وأنس وغيرهم وعنه ابن جريج وابن عيينة ومالك وصالح بن كيسان وثقة ابن معين وقال غيره ثقة حجة روى له الخمسة مات سنة أربع وثلاثين ومائة
عن عمه مصعب بن سعد بن أبي وقاص مالك الزهري أبي زرارة المدني ثقة روى له الجميع مات سنة ثلاث ومائة أنه قال كنت أمسك المصحف أي آخذه على سعد بن أبي
____________________
(1/130)
وقاص يعني أباه أي لأجله حال قراءته غيبا أو نظرا فاحتككت أي تحت إزاري فقال سعد لعلك مسست بكسر السين الأولى أفصح من فتحها أي لمست بكفك ذكرك بلا حائل قال مصعب فقلت نعم قال سعد قم فتوضأ فقمت فتوضأت ثم رجعت فدل ذلك على عمل سعد وهو أحد العشرة بحديث النقض بمس الذكر واحتمال إرادة الوضوء اللغوي وهو غسل اليد دفعا لشبهة ملاقاة النجاسة ممنوع وسنده أنه خلاف المتبادر
مالك عن نافع أن عبد الله بن عمر كان يقول إذا مس أحدكم ذكره فقد وجب عليه الوضوء وقد رواه البزار عن ابن عمر رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم
مالك عن هشام بن عروة عن أبيه أنه كان يقول من مس ذكره فقد وجب عليه الوضوء ورواه البزار عنه عنه عائشة مرفوعا
مالك عن ابن شهاب عن سالم بن عبدالله أنه قال رأيت أبي عبدالله بنصب عبد ابن عمر يغتسل ثم يتوضأ فقلت له يا أبت أما يجزيك بفتح الياء يكفيك الغسل من الوضوء أي عنه أو بدله فإن الغسل وضوء وزياده كما ورد فيرفع صغير الحدث وكبيره قال بلى يجزي ولكني أحيانا أمس ذكري سهوا أو عمدا للدلك ونحوه فأتوضأ لمسه الناقض لا لأن الغسل لا يجزي عنه قال الباجي إنما سأل سالم أباه لأنه رآه توضأ بعد غسل افتتحه بالوضوء ولا يصح أن ينكر عليه الوضوء مع الغسل لاستحباب الوضوء معه
مالك عن نافع عن سالم بن عبدالله أنه قال كنت مع عبد الله بن عمر في سفر فرأيته بعد أن طلعت الشمس توضأ ثم صلى يعنى وقد كان صلى الصبح قال سالم فقلت له إن هذه
____________________
(1/131)
لصلاة ما كنت تصليها قال إني بعد أن توضأت لصلاة الصبح مسست فرجي ثم نسيت أن أتوضأ فصليت الصبح بذلك الوضوء الحاصل بعده بمس الفرج واستمر نسياني لهذا الوقت فتذكرت فتوضأت وعدت لصلاتي أي أعدت الصبح لبطلانها بمس الفرج بعد الوضوء
واعلم أن حديث الوضوء من مس الفرج متواتر أخرجه من سبق عن بسرة وابن ماجة عن جابر وأم حبيبة والحاكم عن سعد وأبي هريرة وأم سلمة وأحمد عن زيد بن خالد الجهني وابن عمرو والبزار عن ابن عم وعائشة والبيهقي عن ابن عباس وأروي بنت أنيس وذكره ابن منده عن أبي وأنس وقبيصة ومعاوية بن حيدر والنعمان بن بشير وأصحها كما قال البخاري حديث بسرة
16 الوضوء من قبلة الرجل امرأته ( مالك عن ابن شهاب عن سالم بن عبد الله عن أبيه عبد الله بن عمر أنه كان يقول قبلة الرجل امرأته وجسها بيده ) بلا حائل ( من الملامسة ) التي قال الله تعالى فيها { أو لامستم النساء } سورة النساء الآية 43 فمن قبل امرأته أو جسها بيده فعليه الوضوء لانتقاضه وبه قال ابن مسعود وجماعة من التابعين والليث والأئمة الثلاثة وغيرهم إلا أن الشافعي لم يشترط وجود اللذة لظاهر قول ابن عمر وابن مسعود وعموم الآية وللإجماع على وجوب الغسل على المستكرهة والنائمة بالتقاء الختانين وإن لم تقع لذة واشترط مالك اللذة أو وجودها عند اللمس وهو أصح لأنه لم يأت في الملامسة إلا قولان الجماع وما دونه ومن قال بالثاني إنما أراد ما دونه مما ليس بجماع ولم يرد اللطمة ولا قبلة الرجل بنته ولا اللمس بلا شهوة فلم يبق إلا ما وقعت به اللذة إذ لا خلاف أن من لطم امرأته أو داوى جرحها لا وضوء عليه فكذلك من لمس ولم يلتذ كذا قال ابن عبد البر وفيه نظر فمذهب الشافعي أن مس المرأة بلطمها أو مداواة جرحها ناقض للوضوء فإن أراد نفي الخلاف في مذهبه لم يتم الدليل لأنه من جملة محل النزاع
وقال ابن عباس اللمس هو الجماع ولكن الله تعفف وكنى عنه وقال ما أبالي قبلت امرأتين أو شممت ريحانة وكذا روي عن عمر وقال به جماعة من التابعين وأبو حنيفة وطائفة واحتجوا بأحاديث ضعيفة لا حجة فيها والحجة لنا أن العرب لا تعرف من الملامسة إلا لمس اليد قال تعالى { فلمسوه بأيديهم } سورة الأنعام الآية 7 وقال صلى الله عليه وسلم اليدان تزنيان وزناهما اللمس ومنه بيع الملامسة وقد قرىء { أو لامستم النساء } وحمله على التصريح أولى من
____________________
(1/132)
حمله عن الكناية
وأتى إلى النبي صلى الله عليه وسلم رجل فسأله عن رجل أصاب من امرأة لا تحل له ما يصيب الرجل من امرأته إلا الجماع فقال يتوضأ وضوءا حسنا وحديث عائشة فقدت رسول الله صلى الله عليه وسلم فالتمسته فوقعت يدي على باطن قدمه وهو يصلي دليل على أن كل لمس بلا لذة ليس من معنى الآية
وجعل جمهور السلف القبلة من الملامسة وهي بغير اليد وإن كانت في الأغلب باليد فمعناها التقاء البشرتين فأي عضو كان مع الشهوة فهي الملامسة التي عنى الله تعالى ذكره أبو عمر
( مالك أنه بلغه أن عبد الله بن مسعود كان يقول من قبلة الرجل ) من إضافة المصدر لفاعله ( امرأته ) مفعوله ( الوضوء ) لأنها من مشمول { أو لامستم النساء } وقيده مالك باللذة وبأن يكون في غير الفم إلا لوداع أو رحمة
( مالك عن ابن شهاب أنه كان يقول من قبلة الرجل امرأته الوضوء ) لأنه ملامسة وزيادة واللامس والملموس عند مالك سواء إذا التذ من التذ منهما
وللشافعي في الملموس قولان الوضوء ونفيه وهو قول داود لحديث عائشة السابق قال نافع قال مالك وذلك أحب ما سمعت إلي اه
17 العمل في غسل الجنابة قال الله تعالى { وإن كنتم جنبا فاطهروا } سورة المائدة الآية 6 أي اغتسلوا كما قال في النساء { ولا جنبا إلا عابري سبيل حتى تغتسلوا } سورة النساء الآية 43 قال الشافعي في الأم فرض الله تعالى الغسل مطلقا لم يذكر فيه شيئا يبدأ به قبل شيء فكيف ما جاء به المغتسل أجزأه إذا أتى بغسل جميع بدنه والاحتياط في الغسل ما روت عائشة ثم روى حديث الباب عن مالك بسنده قال ابن عبد البر هو أحسن حديث روي في ذلك فإن لم يتوضأ قبل الغسل ولكن عم جسده ورأسه ونواه فقد أدى ما عليه بلا خلاف لكنهم مجمعون على استحباب الوضوء قبل الغسل
( مالك عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة ) بالهمز وعوام الحديث يبدلونها ياء ( أم المؤمنين ) بنص { وأزواجه أمهاتهم } سورة الأحزاب الآية 6 وهل هن
____________________
(1/133)
أمهات المؤمنات أيضا قولان مرجحان ( أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا اغتسل ) أي شرع في الغسل أو أراد أن يغتسل ( من الجنابة ) أي لأجلها فمن سببية ( بدأ بغسل يديه ) قال الحافظ يحتمل للتنظيف من مستقذر ويقويه حديث ميمونة ويحتمل أنه الغسل المشروع عند القيام من النوم ويدل عليه زيادة ابن عيينة في هذا الحديث عن هشام قبل أن يدخلهما في الإناء رواه الشافعي والترمذي وزاد أيضا ثم يغسل فرجه وكذا لمسلم من رواية أبي معاوية وأبي داود من رواية حماد بن زيد كلاهما عن هشام وهي زيادة جليلة لأن بتقديم غسله يحصل الأمن من مسه في أثناء الغسل
( ثم توضأ كما يتوضأ للصلاة ) احترازا عن الوضوء اللغوي وهو غسل اليدين وظاهره أنه يتوضأ وضوءا كاملا وهو مذهب مالك والشافعي قال الفاكهاني وهو المشهور وقيل يؤخر غسل قدميه إلى بعد الغسل لحديث ميمونة وقيل إن كان موضعه وسخا أخر وإلا فلا وقال الحنفية إن كان في مستنقع أخر وإلا فلا وظاهره أيضا مشروعية التكرار ثلاثا وهو كذلك لكن قال عياض لم يأت في شيء من الروايات في وضوء الغسل ذكر التكرار وقد قال بعض شيوخنا إن التكرار في الغسل لا فضيلة فيه ورده الحافظ بأنه ورد من طرق صحيحة أخرجها النسائي والبيهقي من طريق أبي سلمة عن عائشة أنها وصفت غسل رسول الله صلى الله عليه وسلم من الجنابة الحديث وفيه ثم تمضمض ثلاثا واستنشق ثلاثا وتعقبه الأبي أيضا بأن إحالتها على وضوء الصلاة يقتضي التثليث ولا يلزم منه أنه لا فضيلة في عمل الغسل أن لا يكون في وضوئه ومن شيوخنا من كان يفتي سائله بالتكرار وقيل معنى التشبيه أنه يكتفي بغسلهما في الوضوء عن إعادته وعليه فيحتاج إلى نية غسل الجنابة في أول عضو وإنما قدم غسل أعضاء الوضوء تشريفا لها وليحصل له صورة الطهارتين الصغرى والكبرى
قال ابن عبد البر وأجمعوا على أنه ليس عليه أن يعيد غسل أعضاء الوضوء في غسله لأنه قد غسلها في وضوئه وإنما بدأ بتلك الأعضاء خاصة للسنة لأنه ليس في الغسل رتبة وكذا قال ابن بطال قال الحافظ وهو مردود فقد ذهب أبو ثور وداود وجماعة إلى أن الغسل لا ينوب عن الوضوء للحدث اه
وأورد ابن دقيق العيد أن الحديث يدل على أن هذه الأعضاء مغسولة عن الجنابة إذ لو كانت للوضوء لم يصح التشبيه لعدم المغايرة وأجاب بحصول المغايرة من حيث إنه شبه الوضوء الواقع في ابتداء غسل الجنابة بالوضوء للصلاة المعتاد المنفرد بنفسه في غير الغسل وبأن وضوء الصلاة له صورة معنوية ذهنية فشبه هذا الفرد الواقع في الخارج بتلك الصورة المعهودة في الذهن
____________________
(1/134)
( ثم يدخل أصابعه في الماء فيخلل بها ) أي أصابعه التي أدخلها في الإناء ( أصول شعره ) أي شعر رأسه لرواية حماد بن سلمة عن هشام عند البيهقي يخلل بها شق رأسه الأيمن فيتبع بها أصول الشعر ثم يغسل شق رأسه الأيسر كذلك
وقال القاضي عياض احتج به بعضهم على تخليل شعر اللحية في الغسل إما لعموم قوله أصول شعره وإما بالقياس على شعر الرأس وفائدة التخليل إيصال الماء إلى الشعر والبشرة ومباشرة الشعر باليد ليحصل تعميمه بالماء وتأنيس البشرة لئلا يصيبها بالصب ما تتأذى به ثم هذا التخليل غير واجب اتفاقا إلا إن كان الشعر ملبدا بشيء يحول بين الماء وبين الوصول إلى أصوله
وفي رواية مسلم ثم يأخذ الماء فيدخل أصابعه في أصول الشعر
وللترمذي والنسائي من طريق ابن عيينة ثم يشرب شعره الماء
( ثم يصب ) ذكرته بلفظ المضارع وما قبله بلفظ الماضي وهو الأصل لإرادة استحضار صورة الحال للسامعين ( على رأسه ثلاث غرفات بيديه ) بفتح الراء جمع غرفة على المشهور في جمع القلة والأصل في مميز الثلاثة أن يكون من جموع القلة ووقع لرواة البخاري غرف جمع كثرة إما لقيامه مقام جمع القلة أو بناء على قول الكوفيين أنه جمع قلة كعشر سور وثماني حجج والتثليث خاص بالرأس كما هو مدلول رأسه وهو المشهور عند المالكية قال القرطبي وحمل التثليث في هذه الرواية على رواية ابن القاسم عن عائشة أن كل غرفة كانت في جهة من جهات الرأس
( ثم يفيض ) أي يسيل ( الماء على جلده ) أي بدنه وقد يكنى بالجلد عن البدن قاله الرافعي واحتج به من لم يشترط الدلك لأن الإفاضة الإسالة وقال المازري لا حجة فيه لأن فاض بمعنى غسل فالخلاف فيه قائم
( كله ) أكده دلالة على أنه عم جميع بدنه بالغسل بعدما تقدم دفعا لتوهم إطلاقه على أكثره تجوزا ففيه استحباب إكمال الوضوء قبل الغسل ولا يؤخر غسل الرجلين إلى فراغه وهو ظاهر قولها كما يتوضأ للصلاة وهذا هو المحفوظ في حديث عائشة من هذا الوجه ولمسلم من رواية أبي معاوية عن هشام فقال في آخره ثم أفاض على سائر جسده ثم غسل رجليه وهذه الزيادة تفرد بها أبو معاوية دون أصحاب هشام قال البيهقي هي غريبة صحيحة قال الحافظ لكن لها شاهد من رواية أبي سلمة عن عائشة بلفظ فإذا فرغ غسل رجليه رواه أبو داود
فأما أن يحمل قولها كما يتوضأ للصلاة على أكثره وهو ما سوى الرجلين أو يحمل على ظاهره ويستدل برواية أبي معاوية على جواز تفريق الوضوء ويحتمل أن قوله ثم غسل رجليه أي أعاد غسلهما لاستيعاب الغسل بعد أن كان غسلهما في الوضوء فيوافق حديث الباب
ورواه البخاري عن عبد الله بن يوسف وأبو داود والترمذي والنسائي عن قتيبة كلاهما عن
____________________
(1/135)
مالك به وتابعه أبو معاوية وجرير وعلي بن مسهر وابن نمير ووكيع كلهم عن هشام عند مسلم قائلا وليس في حديثهم غسل الرجلين إلا في حديث أبي معاوية يعني فروايته شاذة كما علم ثم الشذوذ إنما هو في حديث عائشة هذا وإلا فهو ثابت في حديث ميمونة في الصحيحين وجمع بينهما بأنه فعل عند كل منهما ما حدثت به فبحسب اختلاف الحالين اختلف نظر العلماء كما تقدم والله أعلم
( مالك عن ابن شهاب ) محمد بن مسلم ( عن عروة بن الزبير ) بن العوام كذا رواه أكثر أصحاب الزهري عنه وخالفهم إبراهيم بن سعد فرواه عنه عن القاسم بن محمد أخرجه النسائي ورجح أبو زرعة الأول ويحتمل أن للزهري فيه شيخين فإن الحديث محفوظ عن القاسم وعروة من طرق أخرى ( عن عائشة أم المؤمنين أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يغتسل من إناء ) زاد ابن أبي ذئب واحد من قدح وكذا في رواية سفيان كلاهما عن ابن شهاب وللحاكم من رواية هشام عن عروة من تور من شبه وكذا قال ابن التين كان هذا الإناء من شبه بفتح المعجمة والموحدة
( هو الفرق ) بفتحتين عند جميع الرواة وهو الصحيح إلا يحيى فرواه بسكون الراء قاله الباجي وقال النووي الفتح أفصح وأشهر وزعم الباجي أنه الصواب وليس كما قال بل هما لغتان قال الحافظ لعل مستند الباجي قول ثعلب وغيره الفرق بالفتح في كلام العرب والمحدثون يسكنونه حكاه الأزهري وقد حكى الإسكان أبو زيد وابن دريد وغيرهما من أهل اللغة اه
والظاهر أن قول الباجي هو الصحيح يعني في الرواية لكن يحيى انفرد بالإسكان دون سائر الرواة لا من حيث اللغة وأما مقداره في الرواية فلمسلم قال سفيان يعني ابن عيينة الفرق ثلاثة آصع
قال النووي وكذا قال الجماهير وقيل صاعان لكن نقل أبو عبيد الاتفاق على أن الفرق ثلاثة آصع وأنه ستة عشر رطلا ولعله يريد اتفاق اللغويين وإلا فقد قال بعض الفقهاء إنه ثمانية أرطال ويؤيد كونه ثلاثة آصع ما رواه ابن حبان من طريق عطاء عن عائشة بلفظ قدر ستة أقساط والقسط بكسر القاف نصف صاع باتفاق أهل اللغة واتفقوا على أنه ستة عشر رطلا
وحكى ابن الأثير أنه بالفتح ستة عشر وبالإسكان مائة وعشرون رطلا وهو غريب
( من الجنابة ) أي بسبب الجنابة وهذا الحديث أخرجه مسلم عن يحيى وأبو داود عن القعنبي كلاهما عن مالك به وتابعه ابن أبي ذئب عند البخاري وسفيان بن عيينة والليث بن سعد عند مسلم ثلاثتهم عن الزهري به بزيادة وكنت أغتسل أنا وهو في الإناء الواحد
____________________
(1/136)
( مالك عن نافع أن عبد الله بن عمر كان إذا اغتسل من الجنابة ) أي بسببها ( بدأ فأفرغ ) أي صب الماء ( على يده اليمنى فغسلها ثم غسل فرجه ) بشماله ( ثم مضمض ) بيمينه ( واستنثر ) بشماله بعدما استنشق بيمينه وفي رواية محمد بن الحسن مضمض واستنشق بيمينه وهما سنتان في الغسل عند مالك والشافعي والجمهور وقال أبو حنيفة واجبتان في الغسل لا الوضوء وأحمد واجبان فيهما
( ثم غسل وجهه ونضح ) أي رش الماء ( في عينيه ) قال ابن عبد البر لم يتابع ابن عمر على النضح في العينين أحد قال وله شذائذ فيها حمله عليها الورع قال وفي أكثر الموطآت سئل مالك عن ذلك فقال ليس عليه العمل وحديث أبي هريرة مرفوعا أشربوا أعينكم من الماء عند الوضوء رواه أبو يعلى وابن عدي قال الزين العراقي سنده ضعيف بل قال ابن الصلاح وتبعه النووي لم نجد له أصلا أي يعتد به
( ثم غسل يده اليمنى ثم اليسرى ) مع المرفقين ( ثم غسل رأسه ثم اغتسل وأفاض عليه الماء ) تفسير لاغتسل وفي رواية محمد بن الحسن ثم غسل رأسه وأفاض الماء على جلده
( مالك أنه بلغه ) وبلاغاته صحيحة قال سفيان إذا قال مالك بلغني فهو إسناد قوي ( أن عائشة سئلت عن غسل المرأة من الجنابة فقالت لتحفن ) بكسر الفاء ( على رأسها ثلاث حفنات ) بفتح الفاء مثل سجدة وسجدات والفعل كضرب وهي ملء اليدين من الماء
( ولتضغث ) بإسكان الضاد وفتح الغين المعجمة من باب نفع ومثلثة قال ابن الأثير الضغث معالجة شعر الرأس باليد عند الغسل كأنها تخلط بعضه ببعض ليدخل فيه الغسول والماء ( رأسها بيديها ) قال مالك ليداخله الماء ويصل إلى بشرة الرأس لأن الغرض استيعاب البشرة بالغسل نقله الباجي وقال ابن عبد البر قال مالك اغتسال المرأة من الحيص كاغتسالها من الجنابة ولا تنقض رأسها قال وفي قولها إنكار قول من رأى نقض ضفائر رأسها عند غسلها لأن الذي عليها بل شعرها وإيصال الماء إلى أصوله وقد أنكرت عائشة على عبد الله بن عمرو بن العاصي أمره النساء أن ينقضن رؤوسهن عند الغسل وقالت ما كنت أزيد أن أفرغ على رأسي ثلاث غرفات مع رسول الله صلى الله عليه وسلم
وقالت أم سلمة يا رسول الله أنقض رأسي عند الغسل قال يكفيك أن تصبي على رأسك ثلاث غرفات
____________________
(1/137)
18 واجب الغسل إذا التقى الختانان المراد بهذه التثنية ختان الرجل وهو قطع جلدة كمرته وخفاض المرأة وهو قطع جليدة في أعلى فرجها تشبه عرف الديك بينها وبين مدخل الذكر جلدة رقيقة وإنما ثنيا بلفظ واحد تغليبا وله نظائر وقاعدته رد الأثقل إلى الأخف والأدنى إلى الأعلى
( مالك عن ابن شهاب عن سعيد بن المسيب أن عمر بن الخطاب وعثمان بن عفان وعائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم كانوا يقولون إذا مس الختان ) أي موضع القطع من الذكر ( الختان ) أي موضعه من فرج الأنثى وهو مشاكلة لأنه إنما يسمى خفاضا لغة كقوله صلى الله عليه وسلم اخفضي ( فقد وجب الغسل ) وإن لم ينزل والمراد بالمس والالتقاء في خبر إذا التقى المجاوزة كرواية الترمذي بلفظ إذا جاوز وليس المراد حقيقة المس لأنه لا يتصور عند غيبة الحشفة فلو وقع مس بلا إيلاج لم يجب الغسل بالإجماع وصدر الإمام بهذا الخبر إشارة لدفع ما رواه زيد بن خالد الجهني أنه سأل عثمان إذا جامع الرجل فلم يمن قال عثمان يتوضأ كما يتوضأ للصلاة ويغسل ذكره سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم قال زيد فسألت عن ذلك عليا والزبير وطلحة وأبي بن كعب فأمروه بذلك رواه الشيخان واللفظ للبخاري وللإسماعيلي فقالوا بمثل ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم
قال الإمام أحمد حديث معلول لأنه ثبت عن هؤلاء الخمسة الفتوى بخلاف هذا الحديث
وقال علي بن المديني إنه شاذ
قال ابن عبد البر ومحال أن يسمعوا من النبي صلى الله عليه وسلم إسقاط الغسل من التقاء الختانين ثم يفتوا بإيجابه
وأجاب الحافظ وغيره بأن الحديث ثابت من جهة اتصال إسناده وحفظ رواته وليس هو فردا ولا يقدح فيه إفتاؤهم بخلافه لأنه ثبت عندهم ناسخه فذهبوا إليه فكم من حديث منسوخ وهو صحيح من حيث الصناعة الحديثية
وقد ذهب الجمهور إلى نسخه بحديث أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال إذا جلس بين شعبها الأربع ثم جهدها فقد وجب الغسل رواه الشيخان وأبو داود والنسائي وابن ماجه وبحديث عائشة نحوه مرفوعا في مسلم وغيره
وروى أحمد والشافعي والنسائي وابن ماجه والترمذي وقال حديث حسن صحيح
وابن حبان وصححه عن عائشة مرفوعا إذا التقى الختانان فقد وجب الغسل وبما رواه أحمد وأبو داود وغيرهما عن سهل بن سعد حدثني أبي بن كعب أن الفتيا التي كانوا يقولون الماء من الماء رخصة كان رسول الله صلى الله عليه وسلم رخص بها في أول الإسلام ثم أمر بالاغتسال بعد صححه ابن خزيمة وابن حبان وغيرهما
____________________
(1/138)
قال الحافظ على أن حديث الغسل وإن لم ينزل أرجح لأنه بالمنطوق من حديث الماء من الماء لأنه بالمفهوم أو بالمنطوق أيضا لكن ذاك أصرح منه
وروى ابن أبي شيبة وغيره عن ابن عباس أنه حمل حديث الماء من الماء على صورة مخصوصة وهي ما يقع في المنام من رؤية الجماع وهو تأويل يجمع بين الحديثين من غير تعارض اه
ونحوه قول ابن عبد البر حديث الماء من الماء لا حجة فيه لأنه لا يدفع أن يكون الماء من التقاء الختانين ولا خلاف أن الماء من الماء
وقال ابن عباس إنما الماء من الماء في الاحتلام يريد لأنه لا يجب في الاحتلام على من رأى أنه يجامع ولم ينزل غسل وهذا لا خلاف فيه اه
وفيه عندي وقفة ففي مسلم عن أبي سعيد خرجت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الإثنين إلى قبا حتى إذا كنا في بني سالم وقف صلى الله عليه وسلم على باب عتبان فصرخ به فخرج يجر إزاره فقال صلى الله عليه وسلم أعجلنا الرجل فقال عتبان يا رسول الله أرأيت الرجل يعجل عن امرأته ولم يمن ماذا عليه فقال صلى الله عليه وسلم إنما الماء من الماء ومعلوم أن صورة السبب قطعية الدخول وقد أتى الحديث بأداة الحصر جوابا عن سؤال من أولج ولم يمن فلا يصح قولهما إنه لا يدفع كونه من التقاء الختانين وهو أيضا متأكد لحمله على رؤيا المنام فالصواب أنه منسوخ ولذا عقب مسلم هذا الحديث بما رواه عن العلاء بن الشخير قال كان صلى الله عليه وسلم ينسخ حديثه بعضه بعضا كما ينسخ القرآن بعضه بعضا والله أعلم
( مالك عن أبي النضر ) بالنون والضاد المعجمة سالم بن أبي أمية ( مولى عمر بن عبيد الله ) بضم العين ( عن أبي سلمة ) إسماعيل أو عبد الله أو اسمه كنيته ( ابن عبد الرحمن بن عوف أنه قال سألت عائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم ما يوجب الغسل فقالت ) تلاطفه أو تعاتبه ( هل تدري ما مثلك يا أبا سلمة ) فكأنه قال لا قالت مثلك ( مثل الفروج ) قال المجد كتنور ويضم كسبوح فرخ الدجاج ( يسمع الديكة ) بزنة عنبة جمع ديك ويجمع أيضا على ديوك ذكر الدجاج ( تصرخ ) بضم الراء تصيح ( فيصرخ معها ) قال ابن عبد البر عاتبته بهذا الكلام لأنه قلد فيه من لا علم له به لمكانها من النبي صلى الله عليه وسلم وقد كان أبو سلمة لا يغتسل من التقاء الختانين لروايته عن أبي سعيد حديث الماء من الماء فلذلك نفرته عنه
وقال الباجي يحتمل أنه كان زمن في الصبا قبل البلوغ يسأل عن مسائل الجماع وهو لا يعرفه إلا بالسماع كالفروج يصرخ لسماع الديكة وإن لم يبلغ حد الصراخ ويحتمل أنه لم يبلغ مبلغ الكلام في العلم لكنه سمع الرجال يتكلمون فيه فيتكلم معهم
____________________
(1/139)
( إذا جاوز الختان الختان فقد وجب الغسل ) وهذا رواه الإمام أحمد والترمذي من وجه آخر عن عائشة عن النبي صلى الله عليه وسلم بهذا اللفظ
وأخرجه الطبراني في الكبير عن أبي أمامة وعن رافع بن خديج والشيرازي في الألقاب عن معاذ بن جبل كلهم مرفوعا به
( مالك عن يحيى بن سعيد ) بن قيس الأنصاري ولقيس صحبة
( عن سعيد بن المسيب ) ابن حزن التابعي الكبير ولأبيه وجده صحبة
( أن أبا موسى ) عبد الله بن قيس ( الأشعري ) الصحابي المشهور ( أتى عائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم فقال لها لقد شق ) صعب ( علي اختلاف أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم في أمر إني لأعظم ) أفخم وأكبر ( أن أستقبلك ) أواجهك ( به ) لكونه مما يستحي من ذكره للنساء
( فقالت ما هو ) فإنه لا حياء في الدين ثم آنسته بقولها ( ما كنت سائلا عنه أمك فسلني عنه ) زادت في مسلم فإنما أنا أمك
( فقال ) أبو موسى ( الرجل يصيب أهله ) يجامع حليلته ( ثم يكسل ولا ينزل ) بضم الياء وكسر السين من أكسل أو بفتح الياء والسين من كسل من باب فرح يفرح قال ابن الأثير أكسل الرجل إذا جامع ثم أدركه فتور فلم ينزل ومعناه صار ذا كسل وفي كتاب العين كسل الفحل إذا فتر عن الضراب
وفي القاموس الكسل التثاقل عن الشيء والفتور فيه كسل كفرح إلى أن قال وأكسله الأمر ( فقالت إذا جاوز الختان الختان فقد وجب الغسل ) قال ابن عبد البر هذا وإن لم ترفعه ظاهرا يدخل في المرفوع بالمعنى والنظر لأنه محال أن ترى عائشة نفسها في رأيها حجة على الصحابة المختلفين فيه ومحال أن يسلم أبو موسى لها قولها من رأيها وقد خالفها صحابة برأيهم وكل واحد ليس بحجة على صاحبه في الرأي فلم يبق إلا أن أبا موسى علم أن ما احتجت به كان من النبي صلى الله عليه وسلم
( فقال أبو موسى الأشعري لا أسأل عن هذا أحدا بعدك أبدا ) وتقدم أنه ورد عنها مرفوعا بهذا اللفظ في الترمذي وأحمد
وأخرج مسلم عن أبي موسى قال اختلف في ذلك رهط من المهاجرين والأنصار فقال الأنصار لا يجب الغسل إلا من الماء وقال المهاجرون بل إذا خالط فقد وجب الغسل قال أبو موسى فأنا أشفيكم في ذلك فقمت فاستأذنت على عائشة فأذن لي فقلت لها يا أماه أو يا أم المؤمنين إني أسألك عن شيء وإني استحييتك فقالت لا تستح أن تسأل عما كنت سائلا عنه أمك التي ولدتك فإنما أنا أمك قلت ما يوجب الغسل قالت على
____________________
(1/140)
الخبير سقطت قال صلى الله عليه وسلم إذا جلس بين شعبها الأربع ومس الختان الختان فقد وجب الغسل وأخرج أيضا من رواية أم كلثوم عن عائشة أن رجلا سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن الرجل يجامع أهله ثم يكسل هل عليهما الغسل وعائشة جالسة فقال صلى الله عليه وسلم إني لأفعل ذلك أنا وهذه ثم نغتسل
( مالك عن يحيى بن سعيد عن عبد الله بن كعب ) الحميري المدني ( مولى عثمان بن عفان ) صدوق روى له مسلم والنسائي ( أن محمود بن لبيد ) بفتح اللام وكسر الموحدة ابن عقبة بن رافع ( الأنصاري ) الأوسي الأشهل أبا نعيم المدني صحابي صغير وجل روايته عن الصحابة مات سنة ست وتسعين وقيل سنة سبع وله تسع وتسعون سنة
( سأل زيد بن ثابت ) أحد كتاب الوحي ( عن الرجل يصيب أهله ثم يكسل ولا ينزل فقال زيد يغتسل فقال له محمود إن أبي بن كعب كان لا يرى الغسل فقال له زيد بن ثابت إن أبي بن كعب نزع ) بنون وزاي كف وأقلع ورجع ( عن ذلك قبل أن يموت ) وفي رجوعه دليل على أنه صح عنده أنه منسوخ ولولا ذلك لما رجع عنه
قال ابن عبد البر ومر أن أبيا روى الأمر بالاغتسال عن المصطفى وروى ابن أبي شيبة والطبراني بإسناد حسن عن رفاعة بن رافع قال كنت عند عمر فقيل له إن زيد بن ثابت يفتي الناس في المسجد بأنه لا غسل على من يجامع ولم ينزل فقال عمر علي به فأتي به فقال يا عدو نفسه أوبلغ من أمرك أن تفتي برأيك قال ما فعلت يا أمير المؤمنين وإنما حدثني عمومتي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال أي عمومتك قال أبي بن كعب وأبو أيوب ورفاعة فالتفت عمر إلي وقال ما تقول قلت كنا نفعله على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فجمع عمر الناس فاتفقوا على أن الماء لا يكون إلا من الماء إلا علي ومعاذ فقالا إذا التقى الختانان فقد وجب الغسل فقال عمر قد اختلفتم وأنتم أهل بدر فقال علي لعمر سل أزواج النبي صلى الله عليه وسلم فأرسل إلى حفصة فقالت لا أعلم فأرسل إلى عائشة فقالت إذا جاوز الختان الختان فقد وجب الغسل فتحطم عمر أي تغيظ وقال لا أوتي بأحد فعله ولم يغتسل إلا أنهكته عقوبة فلعل إفتاء زيد لمحمود بن لبيد بقوله يغتسل كان بعد هذه القصة إلا أنه يشكل عليها ما صح عن أبي بن كعب أن الماء من الماء رخصة كان رخص بها النبي صلى الله عليه وسلم أول الإسلام ثم أمر بالاغتسال كما مر إلا أن يقال لم يكن حاضرا مع الناس الذين جمعهم عمر وكان حاضرا وخشي على زيد لأنه سمع منه الرخصة ولم يسمع منه النسخ فأراد أبي أن يشهر النسخ لعلمه بأن عمر يبحث عن ذلك ويستثبته والله أعلم
____________________
(1/141)
( مالك عن نافع أن عبد الله بن عمر كان يقول إذا جاوز الختان الختان فقد وجب الغسل ) ومر أن أربعا من الصحابة رووه عن النبي صلى الله عليه وسلم بهذا اللفظ
وذكر الشافعي أن كلام العرب يقتضي أن الجنابة تطلق حقيقة على الجماع وإن لم ينزل فإن كل من خوطب بأن فلانا أجنب من فلانة عقل أنه أصابها وإن لم ينزل قال ولا خلاف أن الزنى الذي يجب له الحد هو الجماع وإن لم ينزل
وقال الطحاوي أجمع المهاجرون والخلفاء الأربع على أن ما أوجب الجلد والرجم أوجب الغسل وعليه عامة الصحابة والتابعين وجمهور فقهاء الأمصار
وقال ابن العربي إيجاب الغسل أطبق عليه الصحابة ومن بعدهم إلا داود ولا عبرة بخلافه وتعقب بقول الخطابي قال بنفيه جماعة من الصحابة فسمى بعضهم قال ومن التابعين الأعمش اه
وثبت ذلك عن أبي سلمة بن عبد الرحمن في سنن أبي داود بإسناد صحيح وعن هشام بن عروة ورواه عبد الرزاق بإسناد صحيح وروي أيضا عن عطاء
لا تطيب نفسي إذا لم أنزل حتى أغتسل من أجل اختلاف الناس لآخذ بالعروة الوثقى
وقال الشافعي حديث الماء من الماء ثابت لكنه منسوخ وخالفنا بعض الحجازيين فقالوا لا يجب حتى ينزل اه
فعرف بهذا أن الخلاف كان مشهورا بين التابعين ومن بعدهم لكن الجمهور على إيجاب الغسل وهو الصواب والله أعلم
19 وضوء الجنب إذا أراد أن ينام أو يطعم قبل أن يغتسل بفتح أوله والعين من باب فرح أي يأكل الطعام وهو يقع على كل ما يساغ حتى الماء وذوق الشيء في التنزيل ومن لم يطعمه فإنه مني وقال صلى الله عليه وسلم في زمزم إنها طعام طعم أي يشبع منه الإنسان والطعم بالضم الطعام
قال الشاعر 77 وأوثر غيري من عيالك بالطعم أي بالطعام
وفي التهذيب الطعم بالضم الحب الذي يلقى للطير وإذا أطلق أهل الحجاز لفظ الطعام عنوا به البر خاصة
وفي العرف الطعام اسم لما يؤكل كالشراب لما يشرب
( مالك عن عبد الله بن دينار ) هكذا اتفق عليه رواة الموطأ
ورواه مالك خارج الموطأ عن
____________________
(1/142)
نافع بدل ابن دينار وقال أبو علي الجياني والحديث محفوظ لمالك عنهما جميعا
وقال ابن عبد البر الحديث لمالك عنهما لكن المحفوظ عن ابن دينار وحديث نافع غريب وتعقبه الحافظ بأنه رواه عن مالك عن نافع خمسة أو ستة فلا غرابة وإن ساقه الدارقطني في غرائب مالك فمراده ما رواه خارج الموطأ فهي غرابة خاصة بالنسبة للموطأ نعم رواية الموطأ لشهر ( عن عبد الله بن عمر أنه قال ذكر عمر بن الخطاب لرسول الله صلى الله عليه وسلم ) مقتضاه أنه من مسند ابن عمر كما هو عند أكثر الرواة ورواة أبو نوح عن مالك فزاد فيه عن عمر وقد بين النسائي سبب ذلك من طريق ابن عون عن نافع قال أصاب ابن عمر جنابة فأتى عمر فذكر ذلك له فأتى عمر النبي صلى الله عليه وسلم فاستأمره فقال ليتوضأ ويرقد وعلى هذا فالضمير في قوله ( أنه يصيبه ) لابن عمر ( جنابة من الليل ) أي في الليل كقوله من يوم الجمعة أي فيه ويحتمل أنها لابتداء الغاية في الزمان أي ابتداء إصابة الجنابة الليل كما قيل في قوله تعالى { من أول يوم }
( فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم توضأ ) يحتمل أن يكون ابن عمر كان حاضرا فوجه الخطاب إليه ويحتمل أن الخطاب لعمر في غيبة ابنه جواب استفتائه ولكن يرجع إلى ابنه لأن استفتاء عمر إنما هو لأجل ابنه ( واغسل ذكرك ) أي اجمع بينهما فالواو لا ترتب وفي رواية أبي نوح عن مالك اغسل ذكرك ثم توضأ ولذا قال أبو عمر هذا من التقديم والتأخير أراد اغسل ذكرك وتوضأ
وكذا روي من غير طريق بتقديم غسله على الوضوء قال الحافظ وهو يرد على من حمله على ظاهره فقال يجوز تقديم الوضوء على غسل الذكر لأنه ليس بوضوء يرفع الحدث وإنما هو للتعبد إذ الجنابة أشد من مس الذكر وتبين من رواية أبي نوح أن غسله مقدم على الوضوء ويمكن أن يؤخر عنه بشرط أن لا يمسه على القول بأن مسه ينقض ( ثم نم ) فيه من البديع جناس التصحيف وجاء هذا الحديث بصيغة الأمر وجاء بصيغة الشرط في البخاري من طريق جويرية بن أسماء عن نافع عن ابن عمر قال استفتى عمر النبي صلى الله عليه وسلم أينام أحدنا وهو جنب قال نعم ينام إذا توضأ قال ابن دقيق العيد وهو متمسك لمن قال بوجوبه
وقال ابن عبد البر ذهب الجمهور إلى أنها للاستحباب وهو قول مالك والشافعي وأحمد وذهب أهل الظاهر إلى وجوبه وهو شذوذ
وقال ابن العربي قال مالك والشافعي لا يجوز للجنب أن ينام قبل أن يتوضأ وأنكر عليه لأنهما لم يقولا بوجوبه ولا يعرف عنهما وقد نص مالك في المجموعة على أن هذا الوضوء ليس بواجب وأجيب بأن مراده نفي الإباحة المستوية الطرفين لا إثبات الوجوب أو أراد أنه متأكد الاستحباب بدليل أنه قابله بقول ابن حبيب هو واجب وجوب الفرائض واستدل ابن خزيمة وأبو
____________________
(1/143)
عوانة لعدم الوجوب بقوله صلى الله عليه وسلم إنما أمرت بالوضوء إذا قمت إلى الصلاة وقدح في هذا الاستدلال ابن رشد وهو واضح ثم جمهور العلماء أن الوضوء هنا الشرعي وحكمته تخفيف الحدث لا سيما على القول بجواز تفريق الغسل فينويه فيرتفع الحدث عن تلك الأعضاء وقد علله شداد بن أوس الصحابي بأنه نصف غسل الجنابة رواه ابن أبي شيبة ورجاله ثقات وقيل حكمته أنه ينشط إلى العود أو إلى الغسل إذا بل أعضاءه وقيل ليبيت على إحدى طهارتين خشية أن يموت في منامه
وقد روى الطبراني في الكبير بسند لا بأس به عن ميمونة بنت سعد قالت قلت يا رسول الله هل يأكل أحدنا وهو جنب قال لا يأكل حتى يتوضأ قلت يا رسول الله هل يرقد الجنب قال ما أحب أن يرقد وهو جنب حتى يتوضأ فإني أخشى أن يتوفى فلا يحضره جبريل وفي الحديث أن غسل الجنابة ليس على الفور وإنما يتضيق عند القيام إلى الصلاة واستحباب التنظيف عند النوم قال ابن الجوزي وحكمته أن الملائكة تبعد عن الوسخ والريح الكريهة بخلاف الشياطين فإنها تقرب من ذلك
وأخرجه البخاري عن عبد الله بن يوسف ومسلم عن يحيى وأبو داود عن القعنبي والنسائي عن قتيبة الأربعة عن مالك به
( مالك عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم أنها كانت تقول إذا أصاب أحدكم المرأة ) أي جامعها من أصاب بغيته نالها ( ثم أراد أن ينام قبل أن يغتسل فلا ينم حتى يتوضأ وضوءه للصلاة ) وفي الصحيحين واللفظ لمسلم من طريق أبي سلمة عن عائشة أنه صلى الله عليه وسلم كان إذا أراد أن ينام وهو جنب توضأ وضوءه للصلاة قبل أن ينام قال ابن عبد البر أردف مالك حديث ابن عمر بقول عائشة هذا لإفادة أن الوضوء المأمور به ليس للصلاة
قلت ولإفادة أنه مثله خلافا لمن ذهب إلى أن الوضوء المأمور به غسل الأذى وغسل ذكره ويديه وهو التنظف قال مالك في المجموعة ولا يبطل هذا الوضوء ببول ولا غائط ولا يبطل بشيء إلا بمعاودة الجماع ونظمه القائل إذا سئلت وضوءا ليس ينقضه سوى الجماع وضوء النوم للجنب رح 107
____________________
(1/144)
( مالك عن نافع أن عبد الله بن عمر كان إذا أراد أن ينام أو يطعم وهو جنب غسل وجهه ويديه إلى المرفقين ومسح برأسه ثم طعم أو نام ) قال ابن عبد البر أتبعه بفعل ابن عمر أنه كان لا يغسل رجليه إعلاما بأن هذا الوضوء ليس بواجب ولم يعجب مالكا فعل ابن عمر اه
أو يحمل على أنه كان لعذر وقد ذكر بعض العلماء أنه فدع في خيبر في رجليه فكان يضره غسلهما
وفي فتح الباري ونقل الطحاوي أن أبا يوسف ذهب إلى عدم الاستحباب وتمسك بما رواه أبو إسحاق السبيعي عن الأسود عن عائشة أنه صلى الله عليه وسلم كان يجنب ثم ينام ولا يمس ماء رواه أبو داود وغيره وتعقب بأن الحفاظ قالوا إن أبا إسحاق غلط فيه وبأنه لو صح حمل على أنه ترك الوضوء لبيان الجواز لئلا يعتقد وجوبه أو أن المعنى لم يمس ماء للغسل وقد أورد الطحاوي من الطريق المذكورة عن أبي إسحاق ما يدل على ذلك ثم جنح الطحاوي إلى أن المراد بالوضوء التنظيف واحتج بأن ابن عمر راوي الحديث وهو صاحب القصة كان يتوضأ وهو جنب ولا يغسل رجليه كما في الموطأ
وأجيب بأنه ثبت تقييد الوضوء بأنه كوضوء الصلاة من روايته ومن رواية عائشة كما تقدم فيعتمد ويحمل ترك ابن عمر على عذر
وروى البيهقي بإسناد حسن عن عائشة أنه صلى الله عليه وسلم كان إذا أجنب فأراد أن ينام توضأ أو تيمم يحتمل أن التيمم هنا عند عسر وجود الماء انتهى
قال مالك والشافعي ليس ذلك على الحائض لأنها لو اغتسلت لم يرتفع حدثها بخلاف الجنب قال مالك يأكل الجنب بلا وضوء الباجي لأن النوم وفاة فشرع له نوع من الطهارة كالموت بخلاف الأكل الذي يراد للحياة وقول عائشة كان صلى الله عليه وسلم إذا كان جنبا فأراد أن يأكل أو ينام توضأ وضوءه للصلاة أخرجه مسلم عن الأسود عنها أوله الباجي بأنها أرادت أنه يتوضأ للنوم الوضوء الشرعي وللأكل غسل يديه من الأذى فلما اشتركا في اللفظ جمعت بينهما كقوله تعالى { إن الله وملائكته يصلون على النبي } سورة الأحزاب الآية 56 والصلاة من الله رحمة ومن الملائكة دعاء انتهى
يعني لما رواه النسائي عنها كان صلى الله عليه وسلم إذا أراد أن ينام وهو جنب توضأ وإذا أراد أن يأكل أو يشرب غسل يديه ثم يأكل ويشرب
____________________
(1/145)
20 إعادة الجنب الصلاة وغسله إذا صلى ولم يذكر من الذكر بضم الذال وارد كثيرا وإن كان المتبادر أنه من الذكر بكسرها لأنه يصير محتملا أن معناه لم يتكلم وليس بمراد لأن المعنى أن الجنب إذا صلى ناسيا للجنابة وجب عليه الغسل وإعادة الصلاة
( وغسله ثوبه ) أي ما يراه فيه من النجاسة ونضح ما شك فيه
( مالك عن إسماعيل بن أبي حكيم ) القرشي مولاهم المدني روى عن ابن المسيب وعروة والقاسم وغيرهم وعنه مالك وابن إسحاق وثقه ابن معين والنسائي وروى له هو ومسلم وأبو داود وابن ماجه وكان عاملا لعمر بن عبد العزيز مات سنة ثلاثين ومائة له مرفوعا في الموطأ أربعة أحاديث
( أن عطاء بن يسار ) أخا سليمان وعبد الله وعبد الملك موالي ميمونة أم المؤمنين كاتبتهم وكلهم أخذ عنه العلم وعطاء أكثرهم حديثا وسليمان أفقههم والآخران قليلا الحديث وكلهم ثقة رضى
( أخبره ) مرسل رواه الشيخان وأبو داود والنسائي من طريق الزهري عن أبي سلمة عن أبي هريرة بنحوه وأخرجه أبو داود من حديث أبي بكرة ( أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كبر في صلاة من الصلوات ) هي الصبح روى أبو داود وابن حبان عن أبي بكرة أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل في صلاة الفجر فكبر ثم أومى إليهم ويعارضه ما في الصحيحين عن أبي هريرة أنه صلى الله عليه وسلم خرج وقد أقيمت الصلاة وعدلت الصفوف حتى إذا قام في مصلاه انتظرنا أن يكبر فانصرف وفي رواية فلما قام في مصلاه ذكر أنه جنب فقال لنا مكانكم فظاهره أنه انصرف قبل أن يدخل في الصلاة ويمكن الجمع بينهما بحمل قوله كبر على أنه أراد أن يكبر أو بأنهما واقعتان أبداه عياض والقرطبي احتمالا وقال النووي إنه الأظهر وجزم به ابن حبان كعادته فإن ثبت وإلا فما في الصحيح أصح كذا في الفتح
وقال أبو عمر من قال إنه كبر زاد زيادة حافظ يجب قبولها
( ثم أشار إليهم بيده أن امكثوا ) مثله في رواية أبي هريرة عند الإسماعيلي فقوله في رواية الصحيحين فقال لنا مكانكم من إطلاق القول على الفعل ويحتمل أنه جمع بين الإشارة والكلام
( فذهب ثم رجع وعلى جلده أثر الماء ) وفي حديث أبي هريرة ثم رجع فاغتسل ثم رجع إلينا
____________________
(1/146)
ورأسه يقطر فكبر
وفي رواية فمكثنا على هيئتنا حتى خرج إلينا رأسه ينطف ماء وقد اغتسل
وفي رواية فصلى بهم كما في الصحيحين زاد الدارقطني فقال إني كنت جنبا فنسيت أن أغتسل وفيه جواز النسيان على الأنبياء في أمر العبادة للتشريع وطهارة الماء المستعمل وجواز الفصل بين الإقامة والصلاة لأنه قوله فكبر وقوله فصلى بهم ظاهر في أن الإقامة لم تعد والظاهر أنه مقيد بالضرورة وبأمن خروج الوقت
وعن مالك إذا بعدت الإقامة من الإحرام تعاد وينبغي حمله على ما إذا لم يكن عذر كذا في الفتح
وقال النووي هذا محمول على قرب الزمان فإن طال فلا بد من إعادة الإقامة قال ويدل على قرب الزمان في هذا الحديث قوله صلى الله عليه وسلم مكانكم
وقوله وخرج إلينا ورأسه يقطر
وقال أبو العباس القرطبي مذهب مالك أن التفريق إن كان لغير عذر ابتدأ الإقامة طال التفريق أو لا كما قال في المدونة في المصلي بثوب نجس يقطع الصلاة ويستأنف الإقامة وكذلك قال في القهقهة وإن كان لعذر فإن طال استأنف الإقامة وإلا بنى عليها وفيه أنه لا حياء في الدين وسبيل من غلب أن يأتي بأمره موهم كأن يمسك بأنفه ليوهم أنه رعف وفيه أنه لا يتيمم قبل الخروج من المسجد خلافا للثوري وإسحاق وبعض المالكية من نام في المسجد فاحتلم وجب عليه التيمم قبل الخروج واحتج به الشافعي ومن وافقه على جواز تكبير المأموم قبل الإمام لأنهم لم يكبروا بعد تكبيره الواقع بعدما اغتسل بل اكتفوا بتكبيرهم أولا
وقال علي عن مالك هذا خاص للنبي صلى الله عليه وسلم ودعوى ابن بطال أن الشافعي ناقض أصله في الاحتجاج بالمرسل متعقبة بأنه لا يرد المرسل مطلقا بل يحتج منه بما اعتضد وهنا كذلك لاعتضاده بحديث أبي بكرة وفيه تخصيص ما رواه مسلم وأبو داود وغيرهما عن أبي هريرة أنه رأى رجلا قد خرج من المسجد بعد أن أذن المؤذن فقال أما هذا فقد عصى أبا القاسم بمن ليست له ضرورة فيلحق بالجنب المحدث والراعف والحاقن ونحوهم وكذا من يكون إماما بمسجد آخر وقد رواه الطبراني في الأوسط فصرح برفعه وبالتخصيص فقال عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لا يسمع النداء في مسجدي ثم يخرج منه إلا لحاجة ثم لا يرجع إليه إلا منافق
( مالك عن هشام بن عروة عن زييد ) بضم الزاي ومثناتين من تحت ( ابن الصلت ) بن معديكرب الكندي أخو كثير بن الصلت المولود في العهد النبوي وقدم عمومتهم على النبي صلى الله عليه وسلم فأسلموا ورجعوا إلى اليمن ثم ارتدوا وقتلوا زمن الصديق وهاجر كثير وأخواه زييد وعبد الرحمن إلى المدينة فسكنوها روى زييد عن أبي بكر وعمر وعثمان وغيرهم قال ابن الحذاء هو قاضي
____________________
(1/147)
المدينة زمن هشام بن عبد الملك قال الحافظ وهو بعيد وأظن قاضي المدينة ولده الصلت بن زييد يعني شيخ مالك تقدمت روايته عنه في المذي ( أنه قال خرجت مع عمر بن الخطاب إلى الجرف ) بضم الجيم والراء وفاء قال الرافعي على ثلاثة أميال من المدينة من جانب الشام كذا ضبطه بضمتين الحافظ والسيوطي وغيرهما واقتصر المجد على أنه بسكون الراء وكذا المصباح فقال الجرف بضم الراء وتسكن للتخفيف ما جرفته السيول وأكلته من الأرض وبالمخفف سمي ناحية قريبة من أعمال المدينة على نحو من ثلاثة أميال
( فنظر ) في ثوبه كما في الرواية التالية ( فإذا هو قد احتلم ) رأى في منامه رؤيا أي رأى في ثوبه أثر الاحتلام وهو المني
( وصلى ولم يغتسل ) لعدم رؤيته لذلك قبل الصلاة
( فقال والله ما أراني إلا احتلمت وما شعرت ) بفتحتين أي علمت
( وصليت وما اغتسلت قال فاغتسل وغسل ما رأى في ثوبه ) من أثر الاحتلام ( ونضح ) أي رش ( ما لم ير ) فيه أذى لأنه شك هل أصابه المني أم لا ومن شك في إصابة النجاسة لثوب وجب نضحه تطييبا للنفس ومدافعة للشيطان ففيه دليل على نجاسة المني عنده
ولو لم يكن علته إلا خروجه من مخرج البول والمذي والودي لكفى وقول الرافعي يحتمل أن غسله لأنه استنجى بالحجر وأنه كان نظيفا ولذا نضح ما لم ير فيه شيئا مبالغة في التنظيف بناء على مذهبه من طهارة المني وفي احتماليه بعد إذ لم يكن يشتغل بغسل شيء طاهر قبل الصلاة خصوصا وكان الوقت قد ضاق لأن وقت الفائتة ذكرها وقد قال ( وأذن أو أقام ) بالشك ( ثم صلى بعد ارتفاع الضحى متمكنا ) في الارتفاع هذا ظاهره وقال أبو عبد الملك يريد متمكنا في غسله وفي فعله كله
رح 110 ( مالك عن إسماعيل بن أبي حكيم ) السابق ( عن سليمان بن يسار ) الهلالي المدني أحد الفقهاء السبعة
( أن عمر بن الخطاب غدا ) ذهب أول النهار ( إلى أرضه بالجرف فرأى في ثوبه احتلاما فقال لقد ابتليت بالاحتلام منذ وليت أمر الناس ) قال ابن عبد البر ذلك والله أعلم لاشتغاله بأمرهم ليلا ونهارا عن النساء فكثر عليه الاحتلام
وقال الباجي يحتمل ذلك ويحتمل أن ذلك كان وقتا لابتلائه به لمعنى من المعاني ووقته بما ذكر من ولايته
____________________
(1/148)
( فاغتسل وغسل ما رأى في ثوبه من الاحتلام ) وهو المني وهذا صريح في دفع احتمال الرافعي في سابقيه
( ثم صلى بعد أن طلعت الشمس ) وعلت في ارتفاعها كما في الذي قبله
( مالك عن يحيى بن سعيد عن سليمان بن يسار أن عمر بن الخطاب صلى بالناس الصبح ) فصرح في هذا الطريق بأن صلاته كانت بالناس
( ثم غدا إلى أرضه بالجرف ) فيه أن الإمام ومن ولي شيئا من أمر المسلمين له أن يتعاهد ضيعته وأمور دنياه
وروى ابن حبيب عن مالك لا بأس أن يطلع القاضي ضيعته ويقيم في إصلاحها يومين وثلاثة وأكثر
( فوجد في ثوبه احتلاما ) أثره وهو المني ( فقال إنا لما أصبنا الودك ) بفتحتين دسم اللحم والشحم وهو ما يتحلب من ذلك ( لانت العروق ) فنشأ من ذلك الاحتلام قيل إن عمر كان يطعمه الوفود ويأكل معهم استئلافا والمشهور عنه أنه لم يتغير عن حاله وأنه لم يصنع لهم إلا ما كان يأكله تعليما لهم وإنكارا للسرف ويحتمل أن يكون الناس قبل ذلك في جهد من الجدب فامتنع من أكل الودك والسمن ليكون حاله في القلة كالمسلمين حتى ضر بطنه وقال لتمرني على أكل الزيت ما دام السمن يباع بالأواقي وجعل على نفسه ألا يأكل سمنا حتى يأكله الناس ثم أخصب الناس فعاد فأكل السمن والودك ذكره الباجي
( فاغتسل وغسل الاحتلام من ثوبه وعاد لصلاته ) أي أعادها لبطلانها وفي إعادته وحده دون من صلى خلفه دليل على أنه لا إعادة على من صلى خلف جنب أو محدث إذا لم يعلموا وكان الإمام ناسيا فإن كان عالما بطلت صلاتهم
وقال الشافعي وابن نافع صحيحة في الوجهين إذا لم يعلموا لأنهم لم يكلفوا علم حال الإمام ويأثم هو في العمد لا السهو وقال أبو حنيفة باطلة في الوجهين لارتباط صلاة المأموم بصلاة الإمام
قال الباجي وابن عبد البر ذكر مالك حديث عمر من أربعة طرق ليس في شيء منها أنه صلى بالناس إلا في طريق يحيى بن سعيد وهو أحسنها انتهى
لكن هذه الطرق الثلاثة واقعة واحدة بخلاف الرابعة فقصة أخرى وهي التي ذكرها بقوله
( مالك عن هشام بن عروة عن أبيه عن يحيى بن عبد الرحمن بن حاطب ) بن أبي بلتعة بفتح الموحدة والفوقية بينهما لام ساكنة ثم مهملة تابعي ثقة روى له مسلم والأربعة مات سنة أربع ومائة ولأبيه عبد الرحمن رؤية وعدوه في كبار الثقات التابعين من حيث الرواية وجده صحابي
____________________
(1/149)
شهير بدري قال أبو عبد الملك هذا مما عد أن مالكا وهم فيه لأن أصحاب هشام الفضل بن فضالة وحماد بن سلمة ومعمرا قالوا عن هشام عن أبيه عن يحيى بن عبد الرحمن بن حاطب عن أبيه فسقط لمالك عن أبيه ( أنه اعتمر مع عمر بن الخطاب في ) أي مع ( ركب فيهم عمرو بن العاصي ) بالياء وحذفها والصحيح بالياء
( وأن عمر بن الخطاب عرس ) بمهملات مثقلا نزل آخر الليل للاستراحة ( ببعض الطريق قريبا من بعض المياه ) رفقا بالركب ( فاحتلم عمر وقد كاد أن يصبح فلم يجد مع الركب ماء ) يغتسل به ويغسل ثوبه
( فركب حتى جاء الماء ) الذي عرس بقربه ( فجعل يغسل ما رأى من ذلك الاحتلام حتى أسفر فقال له عمرو بن العاصي أصبحت ) دخلت في الصباح ( ومعنا ثياب فدع ثوبك يغسل ) بتمامه والبس ثوبا من ثيابنا
( فقال عمر بن الخطاب واعجبا لك يا عمرو بن العاصي لئن كنت ) بفتح تاء الخطاب ( تجد ثيابا أفكل الناس يجد ثيابا والله لو فعلتها ) أنا ( لكانت سنة ) طريقة أتبع فيها فيشق على الناس الذين لا يجدون ثيابا
قال الباجي قول عمر ذلك لعله بمكانه من قلوب المسلمين ولاشتهار قوله صلى الله عليه وسلم عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين من بعدي فخشي التضييق على من ليس له إلا ثوب واحد
( بل أغسل ما رأيت وأنضح ما لم أر ) أي أرشه وهو عند العلماء طهر لما شك فيه كأنه دفع للوسوسة وأباه بعضهم وقال لا يزيده النضح إلا انتشارا قاله ابن عبد البر
وقال الباجي مقتضاه وجوب النضح لأنه لا يشتغل عن الصلاة بالناس مع ضيق الوقت إلا بأمر واجب مانع للصلاة
وقال أبو حنيفة والشافعي لا ينضح بالشك وهو على طهارته
( قال مالك في رجل وجد في ثوبه أثر احتلام ولا يدري متى كان ولا يذكر شيئا رأى في منامه قال ليغتسل من أحدث ) أقرب أي آخر ( نوم نامه فإن كان صلى بعد ذلك النوم ) الأخير ( فليعد ما كان صلى بعد ذلك النوم ) لا ما صلاه قبل النوم الأخير فلا إعادة لأنه شك طرأ بعد كمال الصلاة وبراءة الذمة فلا يؤثر فيها لحدوثه بعد تيقن سلامة العبادة وعلل ذلك أي عدم إعادته ما
____________________
(1/150)
صلاه قبل آخر نوم بقوله ( من أجل أن الرجل ربما احتلم ) رأى أنه يجامع ( ولا يرى شيئا ) أي منيا ( ويرى ) المني في ثوبه ( ولا يحتلم ) لا يرى أنه يجامع ( فإذا وجد في ثوبه ماء فعليه الغسل ) وجوبا ( وذلك أن عمر أعاد ما كان صلى لآخر نوم نامه ولم يعد ما كان قبله ) ولا فرق بين أن يكون لا ينام إلا في ذلك الثوب الذي رأى فيه المني أو كان ينام فيه في بعض الأوقات لأن الذي ينام فيه أبدا تيقن أن ما صلى بعد آخر نومة على حدث وشك فيما قيل وكذلك حال ما نام فيه مرة وفي غيره أخرى قاله الباجي
21 غسل المرأة إذا رأت في المنام مثل ما يرى الرجل ( مالك عن ابن شهاب عن عروة بن الزبير أن أم سليم ) كذا لرواة الموطأ ولابن أبي أويس عن أم سليم وكل من رواه عن مالك لم يذكر فيه عائشة إلا ابن نافع وابن أبي الوزير فروياه عن مالك عن الزهري عن عروة عن عائشة أن أم سليم أخرجه ابن عبد البر وقال تابعهما معن وعبد الملك بن الماجشون وحباب بن جبلة وتابعهم خمسة عن ابن شهاب وتابعه مسافع الحجبي عن عروة عن عائشة وقد أخرجه مسلم وأبو داود من طريق عقيل عن الزهري عن عروة عن عائشة أن أم سليم ( قالت لرسول الله ) ولمسلم من رواية إسحاق بن أبي طلحة عن أنس قال جاءت أم سليم إلى رسول الله فقالت له وعائشة عنده يا رسول الله ( المرأة ترى في المنام مثل ما يرى الرجل ) ولأحمد من حديث أم سليم أنها قالت يا رسول الله إذا رأت المرأة أن زوجها يجامعها في المنام ( أتغتسل فقال لها رسول الله نعم فلتغتسل ) إذا رأت الماء كما في تاليه
وعند ابن أبي شيبة فقال هل تجد شهوة قالت لعله فقال هل تجد بللا قالت لعله قال فلتغتسل
فلقيتها النسوة فقلن فضحتينا عند رسول الله قالت ما كنت لأنتهي حتى أعلم في حل أنا أم في حرام ففيه وجوب الغسل على المرأة بالإنزال في المنام ونفى ابن بطال الخلاف فيه لكن رواه ابن أبي شيبة عن إبراهيم النخعي وإسناده جيد فيدفع استبعاد النووي صحته عنه وكأن أم سليم لم تسمع حديث الماء من الماء أو سمعته وتوهمت خروج المرأة من ذلك لندور نزول الماء منها
وروى أحمد عنها فقلت يا رسول الله وهل للمرأة ماء فقال هن شقائق الرجال قال الرافعي أي نظائرهم وأمثالهم في الخلق
( فقالت لها عائشة أف لك ) قال عياض أي استحقارا أو هي كلمة تستعمل في الأقذار
____________________
(1/151)
والاستحقار وقيل التضجر والكراهة
قال الباجي وهي هنا بمعنى الإنكار
قال ابن العراقي ولا مانع من أنها على بابها أي أنها تضجرت من ذكر ذلك وكرهته أو استقذرت ذكره بحضرة الرجال
قال عياض وأصل الأف وسخ الأظفار وقيل وسخ الأذن وهو بضم الهمزة وكسر الفاء وضمها وفتحها بالتنوين وتركه فهذه ستة وأفه بالهاء وإف بكسر الهمزة وفتح الفاء وأف بضمها وسكون الفاء وأفي بضم الهمزة والقصر
قال السيوطي بل فيه نحو أربعين لغة حكاها أبو حيان وغيره
ومثل هذا في رواية إسحاق عن أنس عند مسلم وله عن قتادة عن أنس فقالت أم سلمة واستحيت هل يكون هذا وله عن أم سلمة فقالت أم سلمة يا رسول الله وتحتكم المرأة فقال تربت يداك فيما يشبهها ولدها
وجمع عياض باحتمال أن عائشة وأم سلمة كلتاهما أنكرتا على أم سليم فأجاب كل واحدة منهما بما أجابها وإن كان أهل الحديث يقولون الصحيح هنا أم سلمة لا عائشة وهو جمع حسن في الفتح
( وهل ترى ذلك ) بكسر الكاف ( المرأة ) قال الولي العراقي أنكرت عليها بعد جواب المصطفى لها لأنه لا يلزم من ذكر حكم الشيء تحقق وقوعه فالفقهاء يذكرون الصور الممكنة ليعرفوا حكمها وإن لم يقع بل قد يصورن المستحيل ولتشحيذ الأذهان انتهى
وقال ابن عبد البر فيه دليل على أنه ليس كل النساء يحتلمن وإلا لما أنكرت عائشة وأم سلمة ذلك قال وقد يوجد عدم الاحتلام في بعض الرجال إلا أن ذلك في النساء أوجد وأكثر وعكس ذلك ابن بطال فقال فيه دليل على أن كل النساء يحتلمن قال الحافظ والظاهر أن مراده الجواز لا الوقوع أي فيهن قابلية ذلك قال السيوطي وأي مانع أن يكون ذلك خصوصية لأزواجه أنهن لا يحتلمن كما أن من خصائص الأنبياء لا يحتلمون لأنه من الشيطان فلم يسلطه عليهم وكذا لا يسلط على أزواجه تكريما له قلت المانع من ذلك أن الخصائص لا تثبت بالاحتمال وهو كغيره لم يثبت ذلك للأنبياء إلا بالدليل وقد قال الحافظ ولي الدين العراقي بحث بعض أصحابنا في الدرس فمنع وقوعه من أزواجه بأنهن لا يطعن غيره لا يقظة ولا مناما والشيطان لا يتمثل به وفيه نظر لأنهن قد يحتلمن من غير رؤية كما يقع لكثير من الناس أو يكون سبب ذلك شبعا أو غيره والذي منعه بعض العلماء هو وقوع الاحتلام من الأنبياء عليهم الصلاة والسلام انتهى
( فقال لها رسول الله ) ولمسلم عن أنس فقالت عائشة يا أم سليم فضحت النساء تربت يمينك فقال بل أنت ( تربت يمينك ) قال النووي في هذه اللفظة خلاف كثير منتشر جدا للسلف والخلف من الطوائف كلها والأصح الأقوى الذي عليه المحققون في معناها أن أصلها افتقرت ولكن العرب اعتادت
____________________
(1/152)
استعمالها غير قاصدة حقيقة معناها فيقولون تربت يداك وقاتله الله ما أشجعه ولا أم له ولا أب له وثكلته أمه وما أشبه هذا عند إنكار الشيء أو الزجر عنه أو الذم عليه أو استعظامه أو الحث عليه أو الإعجاب به
وقال عياض هذا اللفظ وما أشبهه يجري على ألسنة العرب من غير قصد الدعاء وقد قال البديع في رسالته
قد يوحش اللفظ وكله ود ويكره الشيء وليس من فعله بد هذه العرب تقول لا أب لك للشيء إذا أهم وقاتله الله ولا يريدون الذم وويل أمه للأمر إذا تم وللألباب في هذا الباب أن تنظر إلى القول وقائله فإن كان وليا فهو الولاء وإن خشن وإن كان عدوا فهو البلاء وإن حسن
وقال الباجي الأظهر أنه خاطبها على عادة العرب في تخاطبها من استعمال هذه اللفظة عند الإنكار لمن لا يريدون فقره ولمن كان معناها افتقرت يقال ترب فلان إذا افتقر فلصق بالتراب وأترب إذا استغنى وصار ماله كالتراب كثرة
وكذا قال عيسى بن دينار ما أره أراد إلا خيرا وما الأتراب إلا الغنى فرأى أنه منه وإنما هو من التراب ويحتمل أنه قال ذلك لها تأديبا لإنكارها ما أقر عليه وهو لا يقر إلا على الصواب وقد قال اللهم أيما مؤمن سببته فاجعل ذلك قربة إليك فلا يمتنع أن يقول لها ذلك لتؤجر وليكفر لها ما قالته انتهى
ويؤيده أن عائشة قالت لأم سليم تربت يمينك فرد عليها بقوله بل أنت تربت يمينك كما قدمته من مسلم وقيل معناه ضعف عقلك أتجهلين هذا أو افتقرت بذلك من العلم أي إذا جهلت مثل هذا فقد قل حظك من العلم
وقال الأصمعي معناه الحض على تعلم مثل هذا
وقال أبو عمر معناه أصابها التراب ولم يدع عليها بالفقر
( ومن أين يكون الشبه ) بفتح الشين والباء وبكسر الشين وسكون الباء أي شبه الابن لأحد أبويه أو لأقاربه فللمرأة ما تدفعه عند اللذة الكبرى كما للرجل ما يدفعه عندها
وفي مسلم عن أنس فقال نبي الله نعم فمن أين يكون الشبه إن ماء الرجل غليظ أبيض وماء المرأة رقيق أصفر فمن أيهما علا أو سبق يكون منه الشبه
وفي رواية لمسلم أيضا عن عائشة فقال وهل يكون الشبه إلا من قبل ذلك إذا علا ماؤها ماء الرجل أشبه الولد أخواله وإذا علا ماء الرجل ماءها أشبه أعمامه
وفي مسلم أيضا عن ثوبان أنه أجاب اليهودي عن ذلك بقوله ماء الرجل أبيض وماء المرأة أصفر فإذا اجتمعا فعلا مني الرجل مني المرأة ذكر بإذن الله وإذا علا مني المرأة مني الرجل أنثى بإذن الله فدل مجموع الحديثين على أنه إذا سبق ماء الرجل جاء الولد ذكرا وأشبه أعمامه وإذا سبق ماء المرأة جاء أنثى وأشبه خاله والمشاهدة تدفعه لأنه قد يكون الولد ذكرا ويشبه أخواله وقد يكون أنثى ويشبه أعمامه فتعين تأويل أحد الحديثين
قال القرطبي والذي يتعين تأويل حديث ثوبان فيقال إن ذلك العلو معناه سبق الماء إلى الرحم ووجهه أن العلو لما كان معناه الغلبة والسابق غالبا في ابتدائه في الخروج قبل غلبه علاه ويؤيده أنه روي في غير مسلم إذا سبق ماء الرجل ماء المرأة أذكرا وإذا سبق ماء المرأة ماء الرجل آنثا انتهى
____________________
(1/153)
ويشكل عليه قوله في رواية مسلم السابقة فمن أيهما علا أو سبق يكون منه الشبه ويجوز أن يقال الذكورة والأنوثة شبه أيضا باعتبار الجنسية فيكون كثرته مقتضية للشبه في الصورة وسبقه مقتضيا للشبه في الجنسية
وفي الحديث رد على من زعم أن الولد من ماء المرأة فقط وأن ماء الرجل عاقد له كالأنفحة للبن بل هو مخلوق من الماءين جميعا وفيه استعمال القياس لأن معناه من كان منه إنزال الماء عند الجماع أمكن منه إنزال الماء عند الاحتلام فأثبت الإنزال عند الجماع بدليل وهو الشبه وقاس عليه الإنزال بالاحتلام ذكره الحافظ ولي الدين
( مالك عن هشام بن عروة عن أبيه عن زينب بنت أبي سلمة ) عبد الله بن عبد الأسد المخزومية ولدت بأرض الحبشة وكان اسمها برة فسماها النبي زينب وروت عنه وعن أمها وعائشة وغيرهم وعنها ابنها أبو عبيدة بن عبد الله بن زمعة وأبو سلمة بن عبد الرحمن وعروة وعلي بن الحسين وغيرهم وماتت سنة ثلاث وسبعين وحضر ابن عمر جنازتها قبل أن يحج ويموت بمكة
( عن ) أمها ( أم سلمة زوج النبي ) وفي رواية الزهري عن عروة عن عائشة عند مسلم أن المراجعة وقعت بين أم سليم وعائشة كما مر
قال الحافظ ونقل القاضي عياض عن أهل الحديث أن الصحيح أن القصة وقعت لأم سلمة لا لعائشة وهذا يقتضي ترجيح رواية هشام أي على رواية الزهري وهو ظاهر صنيع البخاري لكن نقل ابن عبد البر عن الذهلي بذال ولام أنه صحح الروايتين معا وأشار أبو داود إلى تقوية رواية الزهري بأن مسافع بن عبد الله تابعه عن عروة عن عائشة وأخرج مسلم أيضا رواية مسافع وأخرج أيضا عن أنس قال جاءت أم سليم إلى رسول الله فقالت له وعائشة عنده
وروى أحمد عن إسحاق بن عبد الله عن جدته أم سليم وكانت مجاورة لأم سلمة فقالت أم سليم يا رسول الله الحديث وفيه أن أم سلمة هي التي راجعتها وهذا يقوي رواية هشام
قال النووي في شرح مسلم أي تبعا لعياض يحتمل أن تكون عائشة وأم سلمة جميعا نكرتا على أم سليم وهو جمع حسن لأنه لا يمتنع حضور أم سلمة وعائشة عند النبي في مجلس واحد
وقال في شرح المهذب يجمع بين الروايات بأن أنسا وعائشة وأم سلمة حضروا القصة قال الحافظ والذي يظهر أن أنسا لم يحضرها وإنما تلقاها عن أمه أم سليم وفي مسلم من حديثه ما يشير إلى ذلك وروى أحمد عن ابن عمر نحو القصة وإنما تلقاها ابن عمر من أم سليم أو غيرها ( أنها قالت جاءت أم سليم ) بضم السين وفتح اللام بنت ملحان بكسر الميم ابن خالد الأنصارية يقال اسمها سهلة أو رميثه أو مليكة أو أنيقة وهي الغميصاء بغين معجمة أو الرميصاء وكانت من الصحابيات الفاضلات ماتت في خلافة عثمان ( امرأة أبي طلحة ) زيد بن سهل البدري
____________________
(1/154)
( الأنصاري ) النجاري من كبار الصحابة زاد أبو داود وهي أم أنس بن مالك ( إلى رسول الله فقالت يا رسول الله إن الله لا يستحيي ) بياءين لغة الحجاز وياء واحدة لغة تميم ( من الحق ) أي لا يأمر بالحياء فيه أو لا يمتنع من ذكره امتناع المستحي قاله الباجي وغيره لأن الحياء تغير وانكسار وهو يستحيل في حق الله تعالى
وقال الرافعي معناه لا يتركه فإن من استحى من شيء تركه والمعنى أن الحياء لا ينبغي أن يمنع من طلب الحق ومعرفته
قال ابن دقيق العيد قد يقال إنما يحتاج إلى التأويل في الإثبات كحديث إن الله حي كريم وأما النفي فالمستحيلات على الله تعالى تنفي ولا يشترط أن يكون النفي ممكنا وجوابه أنه لم يرد النفي على الاستحياء مطلقا بل ورد على الاستحياء من الحق فيقتضي بالمفهوم أنه يستحي من غير الحق فعاد إلى جانب الإثبات فاحتيج إلى تأويله
قال الباجي وغيره وقدمت ذلك بين يدي قولها لما احتاجت إليه من السؤال عن أمر يستحي النساء من ذكره ولم يكن لها بد منه
قال الولي العراقي وهذا أصل فيما يفعله البلغاء في ابتداء كلامهم من التمهيد لما يأتون به بعده ووجه حسنه أن الاعتذار إذا تقدم أدركته النفس صافيا من العيب فتدفعه وإذا تأخر استقبلت النفس المعتذر عنه فأدركت قبحه حتى يرفعه العذر والدفع أسهل من الرفع
( هل على المرأة من ) زائدة وسقطت في رواية إسماعيل بن أبي أويس ( غسل إذ هي احتلمت ) افتعلت من الحلم بضم المهملة وسكون اللام وهو ما يراه النائم في منامه يقال منه حلم واحتلم والمراد هنا أمر خاص منه وهو الجماع ولأحمد عن أم سليم أنها قالت يا رسول الله إذا رأت المرأة أن زوجها يجامعها في المنام أتغتسل وفي ربيع الأبرار عن ابن سيرين قال لا يحتلم ورع إلا على أهله
( فقال نعم إذا رأت الماء ) أي المني بعد الاستيقاظ زاد البخاري من رواية أبي معاوية عن هشام فغطت أم سلمة يعني وجهها وقالت يا رسول الله أوتحتلم المرأة قال نعم تربت يمينك فلم يشبهها ولدها وهو عطف على مقدر يظهر من السياق أي أترى المرأة الماء وتحتلم وكذا روى هذه الزيادة أصحاب هشام عنه سوى مالك فلم يذكرها وللبخاري أيضا من طريق يحيى القطان عن هشام فضحكت أم سلمة ويجمع بينهما بأنها تبسمت تعجبا وغطت وجهها استحياء
وللبخاري من طريق وكيع عن هشام فقالت لها أم سلمة يا أم سليم فضحت النساء
وكذا لأحمد من حديث أم سليم
وهذا يدل على أن كتمان ذلك من عادتهن وفيه وجوب غسل المرأة بالإنزال في المنام
وروى أحمد أن أم سلمة قالت يا رسول الله وهل للمرأة ماء فقال هن شقائق الرجال
____________________
(1/155)
ولعبد الرزاق فقال إذا رأت إحداكن الماء كما يراه الرجل وفيه رد على من زعم أن ماء المرأة لا يبرز وإنما يعرف إنزالها بشهوتها
وحمل قوله إذا رأت الماء أي علمت به لأن وجود العلم هنا متعذر لأنه إن أراد به علمها بذلك وهي نائمة فلا يثبت به حكم لأن الرجل لو رأى أنه جامع وعلم أنه أنزل في النوم ثم استيقظ فلم ير بللا لم يجب عليه الغسل اتفاقا فكذلك المرأة وإن أراد به علمها بذلك بعد أن استيقظت فلا يصح لأنه لا يستمر في اليقظة ما كان في النوم إلا إذا كان مشاهدا فحمل الرؤيا على ظاهرها هو الصواب وفيه استفتاء المرأة بنفسها وسياق صور الأحوال في الوقائع الشرعية وجواز التبسم في التعجب وقد سألت عن هذه المسألة أيضا خولة بنت حكيم عند أحمد والنسائي وابن ماجه وفي حديثها فقال ليس عليها غسل حتى تنزل كما ينزل الرجل كما ليس على الرجل غسل إذا رأى ذلك ولم ينزل وسهلة بنت سهيل عند الطبراني وبسرة بنت صفوان عند ابن أبي شيبة ذكره الحافظ وفي الحديث ما كان عليه النساء من الاهتمام بأمر دينهن والسؤال عنه
وقال شفاء العي السؤال وقالت عائشة رحم الله نساء الأنصار لم يمنعهن الحياء أن يسألن عن أمر دينهن وأخرجه البخاري في الطهارة عن عبد الله بن يوسف وفي الأدب عن إسماعيل كلاهما عن مالك به وتابعه أبو معاوية وغيره عن هشام في الصحيحين
22 جامع غسل الجنابة ( مالك عن نافع أن عبد الله بن عمر كان يقول لا بأس ) أي يجوز ( أن يغتسل بفضل المرأة ما لم تكن حائضا أو جنبا ) فيكره عنده وذهب جمهور الصحابة والتابعين إلى الجواز بلا كراهة وعليه فقهاء الأمصار إلا ابن حنبل فكرهه إذا خلت به وحجة الجمهور ما صح عن عائشة كنت أغتسل أنا ورسول الله صلى الله عليه وسلم من إناء واحد من الجنابة كما تقدم وفعله مع ميمونة وغيرها من أزواجه
قال ابن عبد البر والآثار في معناه متواترة
رح 116 ( مالك عن نافع أن عبد الله بن عمر كان يعرق ) بفتح الراء كفرح يرشح جلده ( في الثوب وهو جنب ثم يصلي فيه ) لأن عرق الجنب طاهر باتفاق
____________________
(1/156)
وفي الصحيحين عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم لقيه في بعض طريق المدينة وهو جنب فانخنس منه فذهب فاغتسل ثم جاء فقال أين كنت يا أبا هريرة قال كنت جنبا فكرهت أن أجالسك وأنا على غير طهارة فقال سبحان الله إن المؤمن لا ينجس وتمسك بمفهومه بعض أهل الظاهر فقال إن الكافر نجس العين وقواه بقوله تعالى { إنما المشركون نجس } سورة التوبة الآية 28 وأجاب الجمهور عن الحديث بأن المراد أن المؤمن طاهر الأعضاء لاعتياده مجانبة النجاسة بخلاف المشرك لعدم تحفظه عنها وعن الآية بأن المراد أنهم نجس في الاعتقاد والاستقذار أو لأنه يجب اجتنابهم كالنجاسة أو لأنهم لا يتطهرون ولا يجتنبون النجاسة فهم ملابسون لها غالبا وحجة الجمهور أن الله تعالى أباح نكاح نساء أهل الكتاب ومعلوم أن عرقهن لا يسلم منه من يضاجعهن ومع ذلك فلم يجب عليه من الغسل من الكتابية إلا مثل ما يجب عليه من المسلمة فدل على أن الآدمي الحي ليس بنجس العين إذ لا فرق بين النساء والرجال
رح 117 ( مالك عن نافع أن عبد الله بن عمر كان يغسل جواريه رجليه ) قال سحنون كان يفعل ذلك في الوضوء
وفي العتبية عن أشهب سئل مالك ألا يخاف ابن عمر أنه لمس قال لا ما كان يفعل ذلك إلا لشغل أو ضعف يعني فلم يقصد اللذة ولم يجدها فليس بلمس ناقض
( ويعطينه الخمرة ) بضم الخاء المعجمة وسكون الميم قال الطبري مصلى صغير يعمل من سعف النخل سمي بذلك لسترها الوجه والكفين من حر الأرض وبردها فإن كانت كبيرة سميت حصيرا وكذا قال الأزهري وصاحبه أبو عبيد الهروي وجماعة بعدهم وزاد في النهاية ولا يكون خمرة إلا في هذا المقدار وسميت خمرة لأن خيوطها مستورة بسعفها
وقال الخطابي هي السجادة التي يسجد عليها المصلي سميت خمرة لأنها تغطي الوجه قال وحديث ابن عباس في الفأرة التي جرت الفتيلة حتى ألقتها على الخمرة التي كان صلى الله عليه وسلم قاعدا عليها صريح في إطلاقها على ما زاد على قدر الوجه
( وهن حيض ) بضم الحاء وشد الياء جمع حائض لأن عرقها وكل عضو منها لا نجاسة فيه طاهر
وفي مسلم عن أبي هريرة بينما النبي صلى الله عليه وسلم في المسجد قال يا عائشة ناوليني الثوب فقالت إني حائض فقال إن حيضتك ليست في يدك فناولته
وقول البوني قوله وهن حيض خلاف قوله ما لم تكن حائضا فهو اختلاف قول من ابن عمر سهو لاختلاف الموضوع فالأول كره الاغتسال بفضل اغتسال الحائض وهذا الثاني إنما كان الحيض يغسلن رجليه بغير فضل اغتسالهن
( وسئل مالك عن رجل له نسوة وجواري هل يطأهن جميعا قبل أن يغتسل فقال لا بأس )
____________________
(1/157)
أي يجوز ( بأن يصيب الرجل جاريتيه ) أو جواريه ( قبل أن يغتسل ) ولكن يغسل فرجه استحبابا قبل الوطء الثاني
( فأما النساء الحرائر فيكره أن يصيب الرجل المرأة الحرة في يوم الأخرى ) كراهة تحريم إلا أن تأذن وحديث طوافه صلى الله عليه وسلم على نسائه في غسل واحد خاص به إذ لا يجب عليه القسم على مشهور المذهب وإن كان يفعله تكرما أو أبحن له ذلك أو فعله حين قدم من سفر ونحوه في يوم ليس لواحدة معينة ثم دار عليهن بالقسم على وجوب القسم عليه كغيره
( فأما أن يصيب الجارية ثم يصيب الأخرى وهو جنب فلا بأس بذلك ) ولكن يستحب له غسل ذكره قبل العود حملا لقوله صلى الله عليه وسلم إذا أتى أحدكم أهله ثم أراد أن يعود فليتوضأ
أخرجه مسلم وأصحاب السنن
زاد ابن حبان فإنه أنشط للعود على غسل الفرج لقوله في رواية أخرى فليغسل فرجه أي لأن فيه تقوية العضو وإتمام اللذة وغير ذلك وسواء عاد للموطوءة الأولى أو غيرها على ظاهر النص خلافا لمن قال يجب غسل الذكر إن وطىء غير الأولى لئلا يدخل فيها نجاسة غيرها
( وسئل مالك عن رجل جنب وضع له ماء يغتسل به فسها فأدخل أصبعه فيه ليعرف حر الماء من برده قال مالك إن لم يكن أصاب أصبعه أذى فلا أرى ) أعتقد ( ذلك ينجس عليه الماء ) بل هو طهور باتفاق وإن كان أصابه أذى والماء كثير لم يتغير فكذلك فإن قل وكان لا يتغير بوضع أصبعه فكذلك على المذهب فإن كان يتغير بوضع أصبعه احتال فيما يتناول به الماء لغسله فإن لم يمكنه تركه وتيمم كعادم الماء
23 هذا باب في التيمم هو لغة القصد قال امرؤ القيس تيممتها من أذرعات وأهلها بيثرب أعلى دارها نظر عالي كذا رواه بعضهم والمشهور تنورتها أي نظرت إليها وشرعا القصد إلى الصعيد لمسح الوجه
____________________
(1/158)
واليدين بنية استباحة الصلاة
وقال ابن السكيت قوله { فتيمموا صعيدا طيبا } سورة النساء الآية 43 أي اقصدوا الصعيد ثم كثر استعمالهم حتى صار التيمم مسح الوجه واليدين بالصعيد فعلى هذا هو مجاز لغوي وعلى الأول حقيقة شرعية وفي أنه عزيمة أو رخصة خلاف وفصل بعضهم فقال هو لعدم الماء عزيمة وللعذر رخصة وهو من خصائص هذه الأمة لقوله أعطيت خمسا لم يعطهن أحد من الأنبياء قبلي نصرت بالرعب مسيرة شهر
وجعلت لي الأرض مسجدا وطهورا فأيما رجل من أمتي أدركته الصلاة فليصل
الحديث في الصحيحين عن جابر أي بعد أن تيمم
ففي رواية البيهقي من حديث أبي أمامة فأيما رجل من أمتي أتى الصلاة فلم يجد ماء وجد الأرض طهورا ومسجدا ولأحمد فعنده طهوره ومسجده
( مالك عن عبد الرحمن بن القاسم ) بن محمد بن أبي بكر الصديق القرشي التيمي أبي محمد المدني روى عن أبيه وأسلم مولى عمر وسعيد بن المسيب وعروة وعنه مالك وسماك بن حرب وأيوب والزهري وحميد الطويل والسفيانان وخلق وكان ثقة جليلا
قال ابن عيينة كان أفضل أهل زمانه مات بالشام سنة ست وعشرين ومائة وقيل بعدها
( عن أبيه ) القاسم بن محمد أبي عبد الرحمن المدني أحد الفقهاء بها قال ابن سعد ثقة رفيع عالم فقيه إمام ورع كثير الحديث قال يحيى بن سعيد ما أدركنا بالمدينة أحدا نفضله عليه
وقال أبو الزناد ما رأيت أحدا أعلم بالسنة منه وما كان الرجل يعد رجلا حتى يعرف السنة
وقال أيوب ما رأيت أفضل منه مات سنة ست ومائة على الصحيح
( عن عائشة أم المؤمنين أنها قالت خرجنا مع رسول الله في بعض أسفاره ) قال في التمهيد يقال إنها غزاة بني المصطلق في سنة ست وقيل خمس وجزم بذلك في الاستذكار وسبقه ابن سعد وابن حبان وغزاة بني المصطلق هي غزاة المريسيع وفيها وقعت قصة الإفك لعائشة وكان ابتداء ذلك بسبب وقوع عقدها أيضا فإن كان ما جزموا به ثابتا حمل على أنه سقط منها في تلك السفرة مرتين لأجل اختلاف القصتين كما هو بين في سياقهما وذهب جماعة إلى تعدد ضياع العقد وأن هذه كانت بعد قصة الإفك محتجين بما رواه الطبراني عن عائشة لما كان من أمر عقدي ما كان وقال أهل الإفك ما قالوا خرجت مع رسول الله في غزاة أخرى فسقط أيضا عقدي حتى حبس الناس على التماسه فقال أبو بكر يا بنية في كل مرة تكونين عناء وبلاء على الناس فأنزل الله آية التيمم فقال أبو بكر إنك لمباركة ففيه التصريح بأن ضياع العقد كان مرتين في غزوتين وبذلك جزم محمد بن حبيب الأخباري فقال سقط عقدها في غزاة بني المصطلق وفي ذات الرقاع واختلف أهل المغازي في أيهما كانت أولا
وروى ابن أبي شيبة عن أبي هريرة لما نزلت آية التيمم لم أدر كيف أصنع ففيه دلالة على تأخرها عن بني المصطلق لأن إسلام أبي هريرة كان في السابعة وهي بعدها بلا خلاف
____________________
(1/159)
( حتى إذا كنا بالبيداء ) بفتح الموحدة والمد وهي الشرف الذي قدام ذي الحليفة من طريق مكة
( أو بذات الجيش ) بفتح الجيم وسكون التحتية وشين معجمة موضع على بريد من المدينة وبينها وبين العقيق سبعة أميال قاله أبو عبيد البكري في معجمه والعقيق من طريق مكة لا من طريق خيبر فقول النووي البيداء وذات الجيش بين المدينة وخيبر فيه نظر ويؤيد الأول رواية الحميدي عن سفيان عن هشام عن أبيه عروة عن عائشة أن القلادة سقطت ليلة الأبواء والأبواء بين مكة والمدينة
وللنسائي وجعفر الفريابي وابن عبد البر من طريق علي بن مسهر عن هشام عن أبيه عنها وكان ذلك بمكان يقال له الصلصل بمهملتين مضمومتين ولامين أولاهما ساكنة وهو جبل عند ذي الحليفة ذكره البكري في الصاد المهملة ووهم مغلطاي فزعم أنه ضبطه بالمعجمة وقلده بعض الشراح فزاده وهما ذكره كله الحافظ وقال غيره والشك من عائشة
( انقطع عقد لي ) بكسر المهملة كل ما يعقد ويعلق في العنق ويسمى قلادة وللبخاري من وجه آخر سقطت قلادة لي بالبيداء ونحن داخلون المدينة فأناخ ونزل وهذا مشعر بأن ذلك كان عند قربهم من المدينة ولأبي داود وغيره من حديث عمار بن ياسر أن العقد كان من جزع ظفار وجزع بفتح الجيم وسكون الزاي خرز يمني وظفار مدينة بسواحل اليمن بكسر الظاء المعجمة مصروف أو فتحها والبناء بوزن قطام وإضافته إليها لكونه في يدها وتصرفها فلا يخالف رواية البخاري وغيره عن عروة عنها أنها استعارته من أسماء أختها بناء على اتحاد القصة وهو أظهر من دعوى تعددها
( فأقام رسول الله على التماسه ) أي لأجل طلبه ( وأقام الناس معه وليسوا على ماء وليس معهم ماء ) ففيه إشارة إلى ترك إضاعة المال واعتناء الإمام بحفظ حقوق المسلمين وإن قلت فقد روي أن ثمن العقد كان اثني عشر درهما ويلحق بتحصيل الضائع الإقامة للحاق المنقطع ودفن الميت ونحو ذلك من مصالح الرعية واستدل به على جواز الإقامة في مكان لا ماء فيه وسلوك طريق لا ماء فيها ونظر فيه الحافظ بأن المدينة كانت قريبة منهم وهم على قصد دخولها قال ويحتمل أنه لم يعلم بعدم الماء مع الركب وإن علم أن المكان لا ماء فيه ويحتمل أن قوله وليس معهم ماء أي للوضوء وأما الشرب فيحتمل أنه معهم والأول محتمل لجواز إرسال المطر ونبع الماء من بين أصابعه كما وقع في مواطن أخرى
( فأتى الناس إلى أبي بكر الصديق فقالوا ألا ترى ) بهمزة الاستفهام ( ما صنعت عائشة أقامت برسول الله وبالناس وليسوا على ماء وليس معهم ماء ) أسند الفعل إليها لأنه كان بسببها وفيه شكوى
____________________
(1/160)
المرأة إلى أبيها وإن كان لها زوج وكأنهم إنما شكوا له لأنه نائم وكانوا لا يوقظونه قاله الحافظ أو خافوا تغيظه لشدة محبة المصطفى لها قاله بعض شيوخي
( قالت عائشة فجاء أبو بكر ورسول الله واضع رأسه على فخذي ) بالذال المعجمة ( قد نام ) ففيه جواز دخول الرجل على بنته وإن كان زوجها عندها إذا علم رضاه بذلك ولم تكن حالة مباشرة
( فقال حبست ) منعت ( رسول الله والناس وليسوا على ماء وليس معهم ماء ) وفيه ضرر شديد ( قالت عائشة فعاتبني أبو بكر ) لم تقل أبي لأن قضية الأبوة الحنو والعتاب بالقول والتأديب بالفعل مغاير لذلك في الظاهر فأنزلته منزلة الأجنبي
( فقال ما شاء الله أن يقول ) فقال حبست الناس في قلادة وفي كل مرة تكونين عناء وبلاء على الناس
( وجعل يطعن بيده ) بضم العين وكذا جميع ما هو حسي وأما المعنوي فبالفتح على المشهور فيهما وحكى الفتح فيهما معا في المطالع وغيرها والضم فيهما صاحب الجامع ( في خاصرتي ) هو الشاكلة وخصر الإنسان بفتح المعجمة وسكون المهملة وسطه كما في الكواكب وفيه تأديب الرجل بنته ولو متزوجة كبيرة خارجة عن بيته ويلحق به تأديب من له تأديبه ولو لم يأذن الإمام
( فلا يمنعني من التحرك إلا مكان ) أي كون واستقرار رأس ( رسول الله على فخذي ) فأرادت بالمكان هنا الكون والاستقرار فلا يرد أن الفخذ هو المكان فلا معنى للجمع بينهما وفيه استحباب الصبر لمن ناله ما يوجب الحركة ويحصل به التشويش لنائم وكذا لمصل أو قار أو مشتغل بعلم أو ذكر
( فنام رسول الله حتى أصبح ) دخل في الصباح ( على غير ماء ) متعلق بنام وأصبح فتنازعا فيه هكذا الرواية في الموطأ حتى وهي رواية مسلم عن يحيى والبخاري في فضل أبي بكر عن قتيبة عن مالك ورواه في التيمم عن عبد الله بن يوسف بلفظ حين بتحتية ونون قال الحافظ ومعناهما متقارب لأن كلا منهما يدل على أن قيامه من نومه كان عند الصبح وقال بعضهم ليس المراد بقوله حتى أصبح بيان غاية النوم إلى الصباح بل بيان غاية فقد الماء إلى الصباح لأنه قيد الغاية بقوله على غير ماء أي آل أمره إلى أن أصبح على غير ماء
وأما رواية عمرو بن الحارث فلفظها ثم إن النبي استيقظ وحضرت الصبح فإن أعربت الواو حالية كان دليلا على أن الاستيقاظ وقع حال وجود الصباح وهو الظاهر واستدل به على الرخصة في ترك التهجد في السفر إن ثبت أنه كان واجبا عليه وعلى أن طلب الماء لا يجب إلا بعد دخول الوقت لقوله في رواية عمرو بعد قوله وحضرت الصبح فالتمس الماء فلم يوجد
____________________
(1/161)
( فأنزل الله تعالى آية التيمم ) قال ابن العربي هذه معضلة ما وجدت لدائها من دواء لأنا لا نعلم أي الآيتين عتت عائشة
وقال ابن بطال هي آية النساء أو المائدة
وقال القرطبي هي آية النساء لأن آية المائدة تسمى آية الوضوء وآية النساء لا ذكر للوضوء فيها
وأورد الواحدي في أسباب النزول هذا الحديث عند ذكر آية النساء قال الحافظ وخفي على الجميع ما ظهر للبخاري أنها آية المائدة بلا تردد لرواية عمرو بن الحارث عن عبد الرحمن بن القاسم عند البخاري في التفسير إذ قال فيها فنزلت آية { يا أيها الذين آمنوا إذا قمتم إلى الصلاة } سورة المائدة الآية 6 الآية قال واستدل به على أن الوضوء كان واجبا قبل نزول الآية ولذا استعظموا نزولهم على غير ماء ووقع من أبي بكر في حق عائشة ما وقع قال ابن عبد البر معلوم عند جميع أهل المغازي أنه لم يصل منذ فرضت الصلاة إلا بوضوء ولا يدفع ذلك إلا جاهل أو معاند قال وفي قوله آية التيمم إشارة إلى أن الذي طرأ عليهم من العلم حينئذ حكم التيمم لا حكم الوضوء قال والحكمة في نزول آية الوضوء مع تقدم العمل به ليكون فرضه متلوا بالتنزيل وقال غيره يحتمل أن أول آية الوضوء نزل قديما فعملوا به ثم نزل بقيتها وهو ذكر التيمم في هذه القصة وإطلاق آية التيمم على هذا من إطلاق الكل على البعض لكن رواية عمرو بن الحارث تدل على أن الآية نزلت في هذه القصة فالظاهر ما قاله ابن عبد البر انتهى
وقد ثبت في رواية محمد بن الحسن وعبد الله التنيسي ويحيى التميمي قوله ( فتيمموا ) وسقط من رواية يحيى وغيره قال الحافظ يحتمل أنه خبر عن فعل الصحابة أي فتيمم الناس بعد نزول الآية ويحتمل أنه حكاية لبعض الآية وهو الأمر في قوله { فتيمموا صعيدا طيبا } سورة المائدة الآية 6 بيانا لقوله آية التيمم أو بدلا واستدل بالآية على وجوب النية في التيمم لأن معناه اقصدوا كما تقدم وهو قول فقهاء الأمصار إلا الأوزاعي
( فقال أسيد ) بضم الهمزة وفتح السين ( ابن حضير ) بضم المهملة وفتح الضاد المعجمة ابن سماك الأنصاري الأشهلي أبو يحيى الصحابي الجليل مات سنة عشرين أو إحدى وعشرين ( ما هي بأول بركتكم يا آل أبي بكر ) بل هي مسبوقة بغيرها من البركات والمراد بآله نفسه وأهله وأتباعه
وفي رواية عمرو بن الحارث
لقد بارك الله فيكم
وللبخاري من وجه آخر فقال أسيد لعائشة جزاك الله خيرا فوالله ما نزل بك أمر تكرهينه إلا جعل الله لك وللمسلمين فيه خيرا
وفي لفظ له إلا جعل الله لك منه مخرجا وجعل للمسلمين فيه بركة
وإنما قال ذلك أسيد دون غيره لأنه كان رأس من بعث في طلب العقد الذي ضاع
وفي تفسير إسحاق المسيبي من طريق ابن أبي مليكة عن عائشة أن النبي قال لها ما كان أعظم بركة قلادتك ( قالت فبعثنا ) أي أثرنا ( البعير الذي كنت ) راكبة ( عليه ) حالة السير ( فوجدنا العقد تحته ) هذا
____________________
(1/162)
ظاهر في أن الذين توجهوا في طلبه أولا لم يجدوه
وفي رواية عروة عن عائشة في البخاري فبعث رجلا فوجدها أي القلادة
وللبخاري ومسلم فبعث ناسا من أصحابه فطلبها
ولأبي داود فبعث أسيد بن حضير وناسا معه وطريق الجمع بين هذه الروايات أن أسيدا كان رأس من بعث لذلك فلذا سمي في بعض الروايات دون غيره وأسند إلى واحد منهم في رواية دون غيره وهو المراد به وكأنهم لم يجدوا العقد أولا فلما رجعوا ونزلت الآية وأرادوا الرحيل وأثاروا البعير وجده أسيد
فقوله في رواية عروة فوجدها أي بعد جميع ما تقدم من التفتيش وغيره
وقال النووي يحتمل أن فاعل وجدها النبي
وقد بالغ الداودي في توهيم رواية عروة ونقل عن إسماعيل القاضي أنه حمل الوهم فيها على عبد الله بن نمير راويها عن هشام عن أبيه وقد بان أن لا تخالف بينهم ولا وهم ذكره الحافظ
وحديث الباب أخرجه البخاري هنا وفي النكاح عن عبد الله بن يوسف وفي المناقب عن قتيبة بن سعيد وفي التفسير والمحاربين عن إسماعيل ومسلم عن يحيى الأربعة عن مالك به قال الحافظ ولم يقع في شيء من طرق حديث عائشة هذا كيفية التيمم وقد روى عمار بن ياسر قصتها هذه لكن اختلفت الرواة عنه في الكيفية فورد بالاقتصار على الوجه والكفين في الصحيحين وبذكر المرفقين في السنن وفي رواية إلى نصف الذراع وفي رواية أخرى إلى الإبط فأما رواية إلى المرفقين وكذا نصف الذراع ففيهما مقال وأما رواية إلى الآباط فقال الشافعي وغيره إن كان وقع ذلك بأمر النبي فكل تيمم صح للنبي فهو ناسخ له وإن كان بغير أمره فالحجة فيما أمر به ومما يقوي رواية الصحيحين في الاقتصار على الوجه والكفين كون عمار كان يفتي بعده بذلك وراوي الحديث أعرف بالمراد من غيره ولا سيما الصحابي المجتهد انتهى
( وسئل مالك عن رجل تيمم لصلاة حضرت ثم حضرت صلاة أخرى أيتيمم لها أم يكفيه تيممه ذلك فقال بل يتيمم لكل صلاة لأن عليه أن يبتغي ) يطلب ( الماء لكل صلاة ) على ظاهر قوله تعالى { فلم تجدوا ماء } سورة المائدة الآية 6 فمن ابتغى الماء فلم يجده فإنه يتيمم إذ التيمم مبيح للصلاة لا رافع للحدث على المشهور فيطلب لكل صلاة بذلك المبيح
( وسئل مالك عن رجل تيمم أيؤم أصحابه وهم على وضوء قال يؤمهم غيره أحب إلي ولو أمهم هو لم أر بذلك بأسا ) أي أنه جائز مع الكراهة ودليل الجواز ما رواه أبو داود والحاكم عن عمرو بن العاص قال احتلمت في ليلة باردة في غزوة ذات السلاسل فأشفقت أن أغتسل فأهلك فتيممت ثم صليت بأصحابي الصبح فذكروا ذلك للنبي فقال يا عمرو صليت بأصحابك وأنت جنب فأخبرته بالذي منعني عن الاغتسال وقلت إني سمعت الله يقول { ولا تقتلوا أنفسكم إن الله كان بكم رحيما }
____________________
(1/163)
( سورة المائدة الآية 6 ) فضحك رسول الله ولم يقل شيئا وإسناده قوي
( قال مالك في رجل تيمم حين لم يجد ماء فقام وكبر ودخل في الصلاة فطلع عليه إنسان معه ماء قال لا يقطع صلاته بل يتمها بالتيمم وليتوضأ لما يستقبل من الصلوات ) لأنه لم يثبت في سنة ولا إجماع ما يوجب قطع صلاته وهو كمن وجب عليه صوم ظهار أو قتل فصام أكثره ثم أيسر لا يعود إلى العتق وبه قال الشافعي وداود وقال أبو حنيفة وأحمد وغيرهما يقطع الصلاة ويتوضأ ويستأنف للإجماع في المعتدة بالشهور يبقى أقلها ثم تحيض أنها تستقبل عدتها بالحيض وأما إن وجد الماء قبل الدخول في الصلاة فعليه الوضوء إجماعا عند ابن عبد البر وقد قال أبو سلمة ليس عليه الوضوء وإن وجد بعدها فلا إعادة عند الجمهور ومنهم من استحبها في الوقت
( قال مالك من قام إلى الصلاة فلم يجد ماء فعمل بما أمره الله به من التيمم ) بقوله { فلم تجدوا ماء فتيمموا صعيدا طيبا } فقد أطاع الله لأنه فعل ما أمره به ( وليس الذي وجد الماء بأطهر منه ) يعني في الإجزاء لا في الفضيلة كذا قال الباجي والظاهر خلافه لا سيما مع قوله ( ولا أتم صلاة ) فالمعنى أن كل واحد منهما تام الطهارة في تأدية فرضه ( لأنهما أمرا جميعا فض كل عمل بما أمره الله به وإنما العمل بما أمر الله به من الوضوء لمن وجد الماء والتيمم لا لمن لم يجد الماء قبل أن يدخل في الصلاة ) فإن دخل فلا قطع إلا ناسيه وبعدها لا إعادة كما مر
( وقال مالك في الرجل الجنب إنه يتيمم ويقرأ حزبه من القرآن ويتنفل ) تبعا للفرض بعده ( ما لم يجد ماء ) فإن وجده منع حتى يغتسل ( وإنما ذلك في المكان الذي يجوز له أن يصلي فيه بالتيمم ) وهو عدم الماء حقيقة أو حكما وهو عدم القدرة على استعماله
____________________
(1/164)
24 العمل في التيمم ( مالك عن نافع أنه أقبل هو وعبد الله بن عمر من الجرف ) بضم فسكون أو بضمتين موضع على ثلاثة أميال من المدينة كما تقدم
( حتى إذا كانا بالمربد ) بكسر الميم وسكون الراء وموحدة مفتوحة ومهملة على ميل أو ميلين من المدينة قاله الباجي وهما قولان جزم الحافظ بأنه على ميل وغيره بأنه على ميلين
( نزل عبد الله فتيمم صعيدا طيبا فمسح بوجهه ويديه إلى المرفقين ثم صلى ) حفظا للوقت قال ابن سحنون في شرح الموطأ عن أبيه معناه أن ابن عمر كان على وضوء لأنه روى أنه كان يتوضأ لكل صلاة فجعل التيمم حين عدم الماء عوضا من الوضوء وقال الباجي فيه التيمم في الحضر لعدم الماء إذ من قصره على السفر لا يجيزه إلا في مسافة قصر وليس بين الجرف والمدينة مسافة القصر قال محمد بن مسلمة وإنما تيمم بالمربد لأنه خاف فوات الوقت يعني المستحب
وروى يعني في البخاري أنه دخل المدينة والشمس مرتفعة ولم يعد ويحتمل أن تكون مرتفعة إلا أن الصفرة دخلتها أو لعله رأى أنه في ضيق من الوقت ثم تبين غير ذلك
وقال البوني يحتمل أنه يرى حل التيمم بدخول الوقت وأنه ليس عليه التأخير انتهى
وإلى جوازه في الحضر ذهب مالك وأصحابه وأبو حنيفة والشافعي لأنه شرع لإدراك الوقت فإذا لم يجد الحاضر الماء تيمم والآية خرجت على الأغلب أن المسافر لا يجد الماء كما أن الأغلب أن الحاضر يجده فلا مفهوم لها
وقال أبو يوسف وزفر لا يجوز التيمم في الحضر بحال ولو خرج الوقت حتى يجد الماء وعلى التيمم ففي الإعادة روايتان المشهور لا إعادة قياسا على المسافر والمريض بجامع أنه شرع لهما لإدراك الوقت فيلحق بهما الحاضر إذا لم يجد الماء في عدم الإعادة كما ألحق بهما في التيمم والرواية الثانية وجوب الإعادة وقال بها ابن عبد الحكم وابن حبيب والشافعي لندور ذلك
مالك عن نافع أن عبد الله بن عمر كان يتيمم إلى المرفقين ) ليجمع بين الفرض والسنة أو أن مذهبه أنه فرض إليهما
( وسئل مالك كيف التيمم وأين يبلغ به فقال يضرب ضربة للوجه وضربة لليدين ) ليجمع بين
____________________
(1/165)
الفرض والسنة فلو اقتصر على ضربة واحدة لهما كفاه ولا إعادة على المذهب
( ويمسحهما إلى المرفقين ) تحصيلا للسنة ولو مسحهما إلى الكوع صح ويستحب الإعادة في الوقت فأجاب رحمه الله بالصفة الكاملة وإن كان الواجب عنده ضربة لهما وإلى الكوعين لما في الصحيحين من حديث عمار أنه أجنب فتمعك أي تمرغ في التراب وصلى قال فذكرت ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم قال إنما كان يكفيك هكذا فضرب صلى الله عليه وسلم بكفيه الأرض ونفخ فيهما ثم مسح بهما وجهه وكفيه وفي رواية فقال صلى الله عليه وسلم يكفيك الوجه والكفان فعلمه فعلا وقولا
ففيه أن الزائد عليهما ليس بفرض وإليه ذهب أحمد وأصحاب الحديث والشافعي في القديم وأنكره الماوردي وغيره قال النووي في شرح المهذب وهو إنكار مردود فقد رواه عنه أبو ثور وغيره وأبو ثور إمام ثقة وهذا القول وإن كان مرجوحا عند الأصحاب فهو القوي في الدليل
وقال في شرح مسلم جوابا عن حديث عمار بأن المراد به بيان صورة الضرب للتعليم لا بيان جميع ما يحصل به التيمم
قال الحافظ وتعقب بأن سياق القصة يدل على أن المراد جميع ذلك لأنه الظاهر من قوله إنما كان يكفيك وأما ما استدل به لاشتراط بلوغ المسح إلى المرفقين بأن ذلك شرط في الوضوء فجوابه أنه قياس مع وجود النص فهو فاسد الاعتبار وقد عارضه من لم يشترط ذلك بقياس آخر وهو الإطلاق في آية السرقة ولا حاجة لذلك مع وجود هذا النص انتهى
وذهب أبو حنيفة والشافعي في الجديد وغيرهما إلى وجوب ضربتين ووجوبه إلى المرفقين لحديث أبي داود أنه صلى الله عليه وسلم تيمم ضربتين مسح بإحداهما وجهه والأخرى يديه إلى المرفقين وروى الحاكم والدارقطني عن ابن عمر مرفوعا التيمم ضربتان ضربة للوجه وضربة لليدين إلى المرفقين وتعقب بأن الصواب وقفه على ابن عمر وخبر أبي داود ليس بالقوي ولو ثبت بالأمر دل على النسخ فيلزم قبوله لكن إنما ورد بالفعل فيحمل على الأكمل جمعا بينه وبين حديث عمار
25 تيمم الجنب ( مالك عن عبد الرحمن بن حرملة أن رجلا سأل سعيد بن المسيب عن الرجل الجنب يتيمم ثم يدرك الماء فقال سعيد إذا أدرك الماء فعليه الغسل لما يستقبل ) من الصلوات وقد قال صلى الله عليه وسلم للذي أجنب فلم يصل معه عليك بالصعيد فإنه يكفيك ثم لما وجد الماء أعطاه إناء من ماء قال اذهب فأفرغه عليك كما في الصحيحين لأنه وجد الماء فبطل تيممه
( قال مالك فيمن احتلم وهو في سفر ولا يقدر من الماء إلا على قدر الوضوء وهو لا يعطش
____________________
(1/166)
حتى يأتي الماء قال يغسل بذلك ) الماء ( فرجه وما أصابه من ذلك الأذى ثم يتيمم صعيدا طيبا ) طاهرا ( كما أمره الله ) إذ ليس معه ما يكفيه لغسله
( وسئل مالك عن رجل جنب أراد أن يتيمم فلم يجد ترابا إلا تراب سبخة ) بمهملة وموحدة ثم معجمة مفتوحات أرض مالحة لا تكاد تنبت وإذا وصفت الأرض قلت أرض سبخة بكسر الموحدة أي ذات سباخ ( هل يتيمم بالسباخ وهل تكره الصلاة في السباخ قال مالك لا بأس بالصلاة في السباخ ) أي يجوز ( والتيمم منها ) وبه قال جماعة الفقهاء إلا إسحاق بن راهويه قاله ابن عبد البر زاد الباجي وهو مروي عن مجاهد انتهى
واحتج ابن خزيمة لجوازه بالسبخة بقوله صلى الله عليه وسلم أريت دار هجرتكم سبخة ذات نخل يعني المدينة قال وقد سماها طيبة فدل على أن السبخة داخلة في الطيب ولذا قال الإمام ( لأن الله تبارك وتعالى قال فتيمموا صعيدا ) والصعيد وجه الأرض كان عليه تراب أو لم يكن قاله الخليل وابن الأعرابي والزجاج قائلا لا أعلم فيه خلافا بين أهل اللغة قال الله تعالى { وإنا لجاعلون ما عليها صعيدا جرزا } سورة الكهف الآية 8 أي أرضا غليظة لا تنبت شيئا
وقال { فتصبح صعيدا زلقا } سورة الكهف الآية 40 ومنه قول ذي الرمة كأنه بالضحى يرمى الصعيد به ذبابه في خطام الرأس خرطوم وإنما سمي صعيدا لأنه نهاية ما يصعد إليه من الأرض ( طيبا ) أي طاهرا باتفاق العلماء
( فكل ما كان صعيدا فهو يتيمم به سباخا كان أو غيره ) من وجه الأرض كلها لأنه مدلول الصعيد لغة
وقال صلى الله عليه وسلم وجعلت لي الأرض مسجدا وطهورا رواه الشيخان في حديث جابر فكل موضع جازت الصلاة فيه من الأرض جاز التيمم به
وقال صلى الله عليه وسلم يحشر الناس على صعيد واحد أي أرض واحدة
وقال ابن عباس أطيب الصعيد أرض الحرث
فدل على أن الصعيد يكون غير أرض الحرث وبهذا قال أبو حنيفة وأحمد وعنه أيضا كالشافعي هو التراب خاصة لحديث حذيفة عند مسلم وجعلت لنا الأرض كلها مسجدا وجعلت تربتها طهورا إذا لم نجد الماء وهذا خاص فينبغي حمل العام عليه فيخص الطهورية بالتراب ورد بأن تربة كل مكان ما فيه من تراب أو غيره
وأجيب بأنه ورد حديث حذيفة بلفظ وترابها رواه ابن خزيمة وغيره
وفي حديث علي وجعل التراب لي طهورا أخرجه أحمد والبيهقي بإسناد حسن فقوي تخصيص عموم حديث جابر بالتراب قال القرطبي وليس كذلك وإنما هو من باب النص على بعض أشخاص العموم كما قال تعالى { فيهما فاكهة ونخل ورمان }
____________________
(1/167)
( سورة الرحمن الآية 68 ) انتهى أي لأن شرط المخصص أن يكون منافيا والتراب ليس بمناف للصعيد لأنه بعض منه فالنص عليه في حديث علي وحذيفة لبيان أفضليته على غيره لا لأنه لا يجزى غيره والصعيد اسم لوجه الأرض وهو نص القرآن وليس بعد بيان الله تعالى بيان وقد قال صلى الله عليه وسلم للجنب عليك بالصعيد فإن يكفيك فنص له على العام في وقت البيان ودعوى أن الحديث سبق لإظهار التخصيص والتشريف فلو جاز بغير التراب لما اقتصر عليه في حديث حذيفة وعلي ممنوعة وسنده عليه أن شأن الكريم الامتنان بالأعظم وترك الأدون على أنه قد امتن بالكل في حديث جابر فقد حصلت المنة بهذا تارة وبالآخر أخرى لمناسبة اقتضاء الحال وكذا زعم أن افتراق اللفظ بالتأكيد في رواية وجعلت لنا الأرض كلها مسجدا دون الآخر دال على افتراق الحكم وإلا لعطف أحدهما على الآخر بلا تأكيد كما في رواية جابر مدفوع بأن حديث جابر دل على عدم الافتراق إذ لو كان المراد افتراق الحكم لما تركه في حديث جابر وقد يكون المقام اقتضى تأكيد كون الأرض مسجدا ردا على منكر ذلك دون كونها صعيدا لثبوته بالقرآن فلا دلالة فيه على افتراق الحكم ألبتة والله تعالى أعلم
26 ما يحل للرجل من امرأته وهي حائض ( مالك عن زيد بن أسلم أن رجلا سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم ) قال ابن عبد البر لا أعلم أحدا رواه بهذا اللفظ مسندا ومعناه صحيح ثابت انتهى
وقد روى أبو داود عن عبد الله بن سعد قال سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم ما يحل لي من امرأتي وهي حائض قال لك ما فوق الإزار سكت عليه أبو داود فهو صالح للحجية وبه علم اسم الرجل السائل واختلف في أنه أنصاري أو قرشي عم حكيم بن حزام ( فقال ما يحل لي من امرأتي وهي حائض فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لتشد عليها إزارها ) ما تأتزر به في وسطها
( ثم شأنك ) بالنصب أي دونك ( بأعلاها ) استمتع به إن شئت وجعل المئزر قطعا للذريعة
وفي الصحيحين عن عائشة كانت إحدانا إذا كانت حائضا فأراد صلى الله عليه وسلم أن يباشرها أمرها أن تتزر
____________________
(1/168)
في فور حيضتها ثم يباشرها قالت وأيكم يملك إربه كما كان النبي صلى الله عليه وسلم يملك إربه واستدل به الجمهور ومنهم الأئمة الثلاثة على تحريم الاستمتاع بما بين سرتها وركبتها بوطء وغيره وذهب كثير من السلف والثوري وأحمد وإسحاق إلى أن الممتنع من الحائض الفرج فقط وبه قال محمد بن الحسن ورجحه الطحاوي واختاره أصبغ وابن المنذر لحديث مسلم والترمذي وأبي داود عن أنس أن اليهود كانوا إذا حاضت المرأة منهم لم يواكلوها ولم يجامعوها في البيوت فسأل أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم فأنزل الله { ويسألونك عن المحيض } سورة البقرة الآية 222 الآية فقال صلى الله عليه وسلم اصنعوا كل شيء إلا النكاح وسمى من السائلين ثابت بن الدحداح رواه الباوردي في معرفة الصحابة وحملوا حديث عائشة وحديث الموطأ على الاستحباب جمعا بين الأدلة وقال ابن دقيق العيد حديث عائشة يقتضي منع ما تحت الإزار لأنه فعل مجرد قال النووي وهذا القول أرجح دليلا قال الحافظ ويدل على الجواز ما رواه أبو داود بإسناد قوي عن عكرمة عن بعض أزواج النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان إذا أراد من الحائض شيئا ألقى على فرجها ثوبا واستدل الطحاوي للجواز بأن المباشرة تحت الإزار دون الفرج لا توجب حدا ولا غسلا فأشبهت المباشرة فوقه وفصل بعض الشافعية فقال إن كان يضبط نفسه عند المباشرة عن الفرج ويثق منها باجتنابه جاز واستحسنه النووي ولا يبعد تخريج وجه الفرق بين ابتداء الحيض وما بعده لظاهر التقييد فقولها فور حيضتها ويؤيده ما رواه ابن ماجه بإسناد حسن عن أم سلمة أنه صلى الله عليه وسلم كان يتقي سورة الدم ثلاثا ثم يباشر بعد ذلك يجمع بينه وبين الأحاديث الدالة على المباشرة إلى المبادرة باختلاف هاتين الحالتين انتهى
( مالك عن ربيعة بن أبي عبد الرحمن أن عائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم كانت مضطجعة ) نائمة على جنبها ( مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في ثوب واحد ) فيه جواز نوم الشريف مع أهله في ثوب واحد
( وأنها قد وثبت ) أي قفزت والعامة تستعمل الوثوب بمعنى المبادرة والمسارعة ( وثبة شديدة ) خوفا من وصول شيء من دمها إليه أو خافت أن يطلب الاستمتاع بها فذهبت لتتأهب لذلك أو تقذرت نفسها ولم ترضها لمضاجعته فلذا أذن لها في العود قاله النووي ( فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم ما لك ) أي شيء حدث لك حتى وثبت قال أبو عمر فيه أنه صلى الله عليه وسلم لم يكن يعلم من الغيب إلا ما علمه الله تعالى ( لعلك نفست ) بفتح النون وكسر الفاء على المعروف في الرواية وهو الصحيح المشهور لغة أي حضت أما الولادة فبضم النون وقال الأصمعي وغيره
____________________
(1/169)
بالوجهين فيهما وأصله خروج الدم وهو يسمى نفسا قاله النووي لكن قال الحافظ ثبت في روايتنا بالوجهين فتح النون وضمها ( يعني الحيضة ) بالفتح المرة من الحيض تفسير من بعض الرواة للمراد لإطلاق نفست عليها وعلى الولادة لغة
( قالت نعم ) نفست ( قال شدي على نفسك إزارك ثم عودي إلى مضجعك ) بفتح الميم والجيم موضع ضجوعك والجمع مضاجع
قال ابن عبد البر لم يختلف رواة الموطأ في إرسال هذا الحديث ولا أعلم أنه روي بهذا اللفظ من حديث عائشة ألبتة ويتصل معناه من حديث أم سلمة وهو في الصحيح وغيره يعني ما أخرجه البخاري ومسلم والنسائي عن أم سلمة بينا أنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم مضطجعة في خميلة إذ حضت فانسللت فأخذت ثياب حيضتي قال أنفست قلت نعم فدعاني فاضطجعت معه في الخميلة وفيه جواز النوم مع الحائض في ثيابها والاضطجاع معها في لحاف واحد واستحباب اتخاذ المرأة ثيابا للحيض غير ثيابها المعتادة
( مالك عن نافع أن عبيد الله ) بضم العين ( ابن عبد الله بن عمر ) بن الخطاب العدوي أبا بكر المدني شقيق سالم ثقة مات سنة ست ومائة ( أرسل إلى عائشة يسألها هل يباشر الرجل امرأته وهي حائض فقالت لتشد ) بكسر اللام وشد الدال المفتوحة أي لتربط ( إزارها على أسفلها ) أي ما بين سرتها وركبتها ( ثم يباشرها ) الرجل بالعناق ونحوه فالمراد بالمباشرة هنا التقاء البشرتين لا الجماع ( إن شاء ) أي أراد فأفتته بما كان يفعله صلى الله عليه وسلم مع أزواجه كما في الصحيحين عنها وعن ميمونة أم المؤمنين أيضا
( مالك أنه بلغه أن سالم بن عبد الله ) أحد الفقهاء السبعة ( وسليمان بن يسار ) أحدهم أيضا ( سئلا عن الحائض هل يصيبها زوجها إذا رأت الطهر ) أي علامته بقصة أو جفوف ( قبل أن تغتسل فقالا ) أي كل منهما ( لا ) أي لا يصيبها ( حتى تغتسل ) لقوله تعالى { ولا تقربوهن حتى يطهرن } سورة البقرة الآية 222 إذ هو تأكيد للحكم وبيان لغايته وهو أن يغتسلن بعد الانقطاع ويدل عليه صريحا قراءة يطهرن بالتشديد بمعنى يغتسلن والتزاما قوله { فإذا تطهرن فأتوهن } سورة البقرة الآية 222 فإنه يقتضي تأخر جواز الإتيان عن الغسل وبهذا قال مالك والشافعي وأحمد وزفر وجمهور الفقهاء وحكى إسحاق بن راهويه إجماع علماء التابعين عليه وسواء انقطع دمها لأكثر دم الحيض أو لأقله وقال أبو حنيفة إن انقطع لأكثره وهو عشرة أيام جاز وطؤها قبل الغسل وإن انقطع قبل ذلك منع حتى تغتسل أو يحكم بطهرها بمجيء آخر وقت الصلاة قال ابن عبد البر وهذا تحكم لا وجه له وقد حكموا أي الحنفية للحائض بعد انقطاع دمها بحكم الحائض في العدة وقالوا لزوجها عليها الرجعة ما لم تغتسل قال فإن قيل قال الله تعالى { حتى يطهرن } وحتى يجاء فيما بعدها بخلافها قيل فإن قوله تعالى { فإذا تطهرن } دليل على المنع
____________________
(1/170)
حتى يطهرن بالماء لا يطهرن بالانقطاع كقوله تعالى { وإن كنتم جنبا فاطهروا } يريد الاغتسال بالماء وقد يقع التحريم لشيء ولا يزول بزواله لعلة أخرى كقوله في المبتوتة { فلا تحل له من بعد حتى تنكح زوجا غيره } سورة البقرة الآية 230 وليس بنكاح الزوج تحل له حتى يطلقها الزوج وتعتد
27 طهر الحائض ( مالك عن علقمة بن أبي علقمة ) واسمه بلال المدني ثقة علامة روى له الجميع مات سنة بضع وثلاثين ومائة
( عن أمه ) واسمها مرجانة ( مولاة عائشة أم المؤمنين ) وتكنى أم علقمة وثقها ابن حبان
( أنها قالت كان النساء يبعثن إلى عائشة أم المؤمنين بالدرجة ) بكسر الدال وفتح الراء والجيم جمع درج بضم فسكون كذا يرويه أصحاب الحديث قاله ابن بطال وضبطه ابن عبد البر بالضم ثم السكون وقال إنه تأنيث درج قال وكان الأخفش يرويه هكذا ويقول جمع درج مثل ترسة وترس وضبطه الباجي بفتحتين ونوزع فيه بأنه لم يرو بذلك ولا تساعد عليه اللغة والمراد وعاء أو خرقة ( فيها الكرسف ) بضم الكاف والسين المهملة بينهما راء ساكنة ثم بالفاء القطن ( فيه ) أي الكرسف ( الصفرة ) الحاصلة ( من دم الحيضة ) بعد وضع ذلك في الفرج لاختبار الطهر واخترن القطن لبياضه ولأنه ينشف الرطوبة فيظهر فيه من آثار الدم ما لا يظهر في غيره ( يسألنها عن الصلاة فتقول ) عائشة ( لهن لا تعجلن ) بالفوقية أو التحتية جمع المؤنث خطابا وغيبة كما في الكواكب ( حتى ترين ) غاية لقولها لا تعجلن باعتبار معناه وهو أمهلن أو غاية لمحذوف هو بل أمهلن بالاغتسال والصلاة حتى ترين
( القصة البيضاء ) بفتح القاف وشد الصاد المهملة ماء أبيض يدفعه الرحم عند انقطاع الحيض
قال مالك سألت النساء عنه فإذا هو أمر معلوم عندهن يرينه عند الطهر ( تريد بذلك الطهر من الحيضة ) شبهت القصة لبياضها بالقص وهو الجص ومنه قصص داره أي جصصها بالجير
قال الهروي وتبعه في النهاية هي أن تخرج القطنة أو الخرقة التي تحتشى بها الحائض كأنها قصة بيضاء لا يخالطها صفرة قال عياض كأنه ذهب بها إلى معنى الجفوف وبينهما عند النساء وأهل
____________________
(1/171)
المعرفة فرق بين زاد غيره لأن الجفوف عدم والقصة وجود وهو أبلغ من العدم وكيف والرحم قد يجف في أثناء الحيض وقد تتنظف الحائض فيجف رحمها ساعة والقصة لا تكون إلا طهرا
( مالك عن عبد الله بن أبي بكر ) بن محمد بن عمرو بن حزم ( عن عمته ) قال ابن الحذاء هي عمرة بنت حزم عمة جد عبد الله بن أبي بكر وقيل لها عمته مجازا وتعقبه الحافظ بأن عمرة صحابية قديمة روى عنها جابر الصحابي ففي روايتها عن بنت زيد بن ثابت بعد فإن كانت ثابتة أي لوقوع رواية الأكابر عن الأصاغر فرواية عبد الله عنها منقطعة لأنه لم يدركها ويحتمل أن المراد عمته الحقيقية وهي أم عمرو أو أم كلثوم انتهى
والأصل الحمل على الحقيقة وعلى الحذاء المدعى العمة المجازية بيان الرواية التي فيها دعواه خصوصا مع ما لزم على قوله من انقطاع السند والأصل خلافه ( عن ابنة زيد بن ثابت ) قال الحافظ ذكروا لزيد بن ثابت من البنات حسنة وعمرة وأم كلثوم وغيرهن ولم أر لواحدة منهن رواية إلا لأم كلثوم وكانت زوج سالم بن عبد الله بن عمر فكأنها هي المبهمة هنا وزعم بعض الشراح أنها أم سعد قال لأن ابن عبد البر ذكرها في الصحابة وليس في ذكره لها دليل على المدعى لأنه لم يقل إنها صاحبة هذه القصة بل لم يأت لها ذكر عنده ولا عند غيره إلا من طريق عنبسة بن عبد الرحمن وقد كذبوه وكان مع ذلك يضطرب فيها فتارة يقول بنت زيد بن ثابت وتارة يقول امرأة زيد ولم يذكر أحد من أهل المعرفة بالنسب في أولاد زيد من يقال لها أم سعد انتهى
فالعجب من جزم السيوطي بأنها أم سعد ( أنه بلغها أن نساءكن يدعون ) أي يطلبن ( بالمصابيح ) السرج ( من جوف الليل ينظرن إلى ) ما يدل على ( الطهر فكانت ) ابنة زيد ( تعيب ذلك عليهن وتقول ما كان النساء ) أي نساء الصحابة فاللام للعهد كما في الفتح ( يصنعن هذا ) وإنما عابت عليهن لتكلفهن ما لا يلزم وإنما يلزم النظر إلى الطهر إذا أردن النوم أو إذا قمن لصلاة الصبح قاله مالك في المبسوط ذكره الباجي وقال ابن بطال وغيره لأن ذلك يقتضي الحرج والتنطع وهو مذموم وقال ابن عبد البر لكون ذلك كان في غير وقت الصلاة وهو جوف الليل قال الحافظ وفيه نظر لأنه وقت العشاء ويحتمل أن العيب لكون الليل لا يتبين فيه البياض الخالص من غيره فيحسبن أنهن طهرن وليس كذلك فيصلين قبل الطهر
( وسئل مالك عن الحائض تطهر فلا تجد ماء هل تتيمم قال نعم لتتيمم فإن مثلها ) مثل ( الجنب إذا لم يجد ماء تيمم ) من باب قياس لا فارق
____________________
(1/172)
28 جامع الحيضة ( مالك أنه بلغه أن عائشة قالت في المرأة الحامل ترى الدم أنها تدع الصلاة ) لأنها حائض وإلى أن الحامل تحيض ذهب ابن المسيب وابن شهاب ومالك في المشهور عنه والشافعي في الجديد وغيرهم محتجين بقول عائشة المذكور من غير نكير فكان إجماعا سكوتيا وبأنه كما جاز النفاس مع الحمل إذا تأخر أحد التوأمين فكذلك الحيض وذهب أبو حنيفة وأصحابه وأحمد والثوري إلى أنها لا تحيض وأقوى حججهم أن استبراء الأمة اعتبر بالحيض فلو كانت الحامل تحيض لم تتم البراءة بالحيض
وأجيب بأن دلالته على براءة الرحم على سبيل الغالب وحيض الحامل قليل والنادر لا يناقض فيه بالغالب
وأما التعلق لهم بحديث الصحيحين عن أنس مرفوعا إن الله وكل بالرحم ملكا يقول يا رب نطفة يا رب علقة يا رب مضغة فإذا أراد الله أن يقضي خلقه قال أذكر أم أنثى شقي أم سعيد فما الرزق فما الأجل فيكتب في بطن أمه ويقضي أي يتم خلقه
وللطبراني بسند صحيح عن ابن مسعود إذا وقعت النطفة في الرحم بعث الله ملكا يقول يا رب مخلقة أو غير مخلقة فإن قال غير مخلقة مجها الرحم دما فقال الحافظ في الاستدلال به على أن الحامل لا تحيض نظر إذ لا يلزم من كون ما يخرج من الحامل هو السقط الذي لم يصور أن يكون الدم الذي تراه من يستمر حملها ليس بحيض قال وما ادعاه المخالف من أنه رشح من الولد أو فضلة غذائية أو دم فساد وعلة فمحتاج إلى دليل وما ورد في ذلك من خبر أو أثر لا يثبت لأن هذا دم بصفات الحيض وفي زمن إمكانه فله حكم دم الحيض ومن ادعى خلافه فعليه البيان قال واستدل ابن المنير على أنه ليس بدم حيض بأن الملك موكل برحم الحامل والملائكة لا تدخل بيتا فيه قذر ولا يلايمها ذلك
وأجيب بأنه لا يلزم من كون الملك موكلا به أن يكون حالا فيه ثم هو مشترك الإلزام لأن الدم كله قذر
( مالك أنه سأل ابن شهاب عن المرأة الحامل ترى الدم قال تكف عن الصلاة ) والصوم وغيرهما من كل ما تمنع منه الحائض
( قال مالك وذلك ) المذكور من قول عائشة وابن شهاب ( الأمر عندنا ) بالمدينة أي أنهم أجمعوا عليه وإجماعهم حجة
____________________
(1/173)
( مالك عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم أنها قالت كنت أرجل ) بضم الهمزة وشد الجيم أمشط ( رأس ) أي شعر ( رسول الله صلى الله عليه وسلم ) وأسرحه لأن الترجيل للشعر وهو تسريحه وتنظيفه لا المرأس فهو من مجاز الحذف أو من إطلاق المحل على الحال مجازا ( وأنا حائض ) جملة اسمية حالية ففيه دلالة على طهارة بدن الحائض وألحق عروة بها الجنب وهو قياس جلي لأن الاستقذار بالحائض أكثر من الجنب وألحق أيضا الخدمة بالترجيل كما في البخاري عنه
قال ابن عبد البر في ترجيله صلى الله عليه وسلم لشعره وسواكه وأخذه من شاربه ونحو ذلك دليل على أن خلاف النظافة وحسن الهيئة في اللباس والزينة ليس من الشريعة وأن قوله صلى الله عليه وسلم البذاذة من الإيمان أراد به إطراح السرف والشهرة للملبس الداعي إلى التبختر والبطر لتصح معاني الآثار ولا يتضاد ومن هذا نهيه صلى الله عليه وسلم عن الترجل إلا غبا يريد لغير الحاجة لئلا يكون ثائر الرأس شعثه كأنه شيطان كما جاء عنه صلى الله عليه وسلم انتهى
وهذا الحديث أخرجه البخاري عن عبد الله بن يوسف وأبو داود والترمذي والنسائي عن قتيبة كلاهما عن مالك به
( مالك عن هشام بن عروة عن أبيه ) كذا ليحيى وحده وهذا خطأ بين منه وغلط بلا شك ولم يرو عروة عن فاطمة شيئا وإنما هو في الموطآت لهشام عن امرأته فاطمة وكذا كل من رواه عن هشام مالك وغيره قاله ابن عبد البر ( عن فاطمة بنت المنذر بن الزبير ) بن العوام زوجة ابن عمها هشام الراوي عنها وكانت أسن منه بثلاث عشرة سنة روت عن جدتها وأم سلمة وعنها زوجها ومحمد بن إسحاق ومحمد بن سوقة وثقها العجلي وروى لها الجميع
( عن أسماء ابنة أبي بكر الصديق ) أسلمت قديما وهاجرت وروى عنها ابناها عبد الله وعروة وابن عباس وجماعة وماتت بمكة بعد ابنها عبد الله بقليل سنة ثلاث وسبعين أو أربع وسبعين وقد جاوزت المائة ولم يسقط لها سن ولم ينكر لها عقل وهي جدة هشام وفاطمة لأبويهما
( أنها قالت سألت امرأة رسول الله صلى الله عليه وسلم ) في رواية سفيان بن عيينة عن هشام عن فاطمة أن أسماء قالت سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم أخرجه الشافعي قال الحافظ وأغرب النووي فضعف هذه الرواية وهي صحيحة الإسناد لا علة لها ولا بعد في أن يبهم الراوي اسم نفسه كما في حديث أبي سعيد في قصة الرقية بفاتحة الكتاب انتهى
____________________
(1/174)
وظهر لي أن مراد النووي بالضعف الشذوذ وهي مخالفة سفيان للحفاظ من أصحاب هشام لاتفاقهم على قولهم سألت امرأة فخالفهم سفيان فقال إن أسماء قالت سألت وإلى هذا أشار البيهقي بقوله الصحيح سألت امرأة فأشار إلى أن فاعل سألت سقط من روايته فأوهم أنها السائلة والشاذ ما خالف فيه الثقة الملأ أو ما انفرد به الراوي
وقال الرافعي يمكن أن تعني في رواية مالك نفسها ويمكن أنها سألت عنه وسأل غيرها أيضا فترجع كل رواية إلى سؤال قال وذكر البيهقي أن الصحيح سألت امرأة يعني بالإبهام ( فقالت أرأيت ) استفهام بمعنى الأمر لاشتراكهما في الطلب أي أخبرني وحكمة العدول سلوك الأدب ويجب لهذه التاء إذا لم تتصل بها الكاف ما يجب لها مع سائر الأفعال من تذكير وتأنيث وتثنية وجمع ( إحدانا إذا أصاب ثوبها ) بالنصب مفعول ( الدم ) بالرفع فاعل ( من الحيضة ) بفتح الحاء وفي رواية يحيى القطان عن هشام جاءت امرأة للنبي صلى الله عليه وسلم فقالت أرأيت إحدانا تحيض في الثوب ( كيف تصنع فيه فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أصاب ثوب إحداكن الدم من الحيضة ) بفتح الحاء أي الحيض وقال الرافعي يجوز الكسر وهي الحالة التي عليها المرأة ويجوز الفتح وهي المرة من الحيض قال وهذا أظهر انتهى
وظاهر كلام غيره أنه الرواية
( فلتقرصه ) بضم الراء وتخفيفها رواه يحيى والأكثر ورواه القعنبي بكسر الراء وتشديدها ومعناه تأخذ الماء وتغمزه بأصبعها للغسل قاله الباجي وذكر الشيخ ولي الدين أن الرواية الأولى أشهر وأنه بالصاد المهملة على الروايتين وأنه يحتمل أن تقرصه بغير ماء إما مع اليبوسة أو ببل قليل لا يسمى غسلا ولا نضحا ويحتمل أن قوله الآتي بالماء متعلق بهما وهو الأظهر لأن في رواية أبي داود من طريق حماد بن زيد وحماد بن سلمة وعيسى بن يونس ثلاثتهم عن هشام حتيه ثم اقرصيه بالماء ثم انضحيه انتهى بمعناه
والثاني قريب من المتعين لأن الروايات تبين بعضها وعليه أكثر الشراح
وفي فتح الباري بالفتح وإسكان القاف وضم الراء والصاد المهملتين كذا في روايتنا وحكى القاضي عياض وغيره الضم وفتح القاف وتشديد الراء المكسورة أي تدلك موضع الدم بأطراف أصابعها ليتحلل بذلك ويخرج ما تشربه الثوب منه انتهى
وقال النووي معناه تقطعه بأطراف الأصابع مع الماء ليتحلل ولا يرد عليه أن تفسيره بالقطع مجاز إذ القطع إنما هو معنى القرض بالضاد المعجمة فلا حاجة إلى تفسيره بالقطع ثم تأويله بأن المراد أنها تحوزه وتجمعه في محل واحد كما توهم بعض أشياخي لأنه بالصاد المهملة بمعنى القطع أيضا قال أبو عبيد قرصته بالتشديد أي قطعته وفي المحكم في الصاد المهملة المقرص المقطع المأخوذ بين شيئين وقد قرصته وقرصته يعني بالتخفيف والتثقيل
____________________
(1/175)
( ثم لتنضحه بالماء ) بفتح الضاد المعجمة أي تغسله قاله الخطابي وابن عبد البر وابن بطال وغيرهم
وقال القرطبي المراد به الرش لأن غسل الدم استفيد من قوله تقرصه وأما النضح فهو لما شكت فيه من الثوب ورده الحافظ بأنه يلزم منه اختلاف الضمائر لأن ضمير تنضحه للثوب وتقرصه للدم وهو خلاف الأصل ثم إن الرش على المشكوك فيه لا يفيد شيئا لأنه إن كان طاهرا فلا حاجة إليه وإن كان نجسا لم يتطهر بذلك فالأحسن ما قاله الخطابي انتهى
لكن القرطبي بناه على مذهبه أنه إن شك في إصابة النجاسة لثوب وجب نضحه ويطهر بذلك والحافظ لم يجهل ذلك إنما قال فالأحسن ليوافق الضمائر ولحمل الحديث على صورة متفق عليها
( ثم لتصلي فيه ) بلام الأمر عطف على سابقه وفيه إشارة إلى امتناع الصلاة في الثوب النجس وجواز استفتاء المرأة بنفسها ومشافهتها للرجل فيما يتعلق بأحوال النساء ويستحي من ذكره والإفصاح بذكر ما يستقذر للضرورة وندب فرك النجاسة اليابسة ليهون غسلها وفيه كما قال الخطابي أن النجاسات إنما تزال بالماء دون غيره لأن جميع النجاسات بمثابة الدم لا فرق بينه وبينها إجماعا وهو قول الجمهور أي تعيين الماء لإزالة النجاسة
وعن أبي حنيفة وأبي يوسف يجوز تطهير النجاسة بكل مائع طاهر ومن حجتهم حديث عائشة ما كان لإحدانا إلا ثوب واحد تحيض فيه فإذا أصابه شيء من دم الحيض قالت يريقها فمصعته بظفرها ولأبي داود بلته بريقها
وجه الحجة منه أنه لو كان الريق لا يطهر لزادت النجاسة وأجيب باحتمال أن تكون قصدت بذلك تحليل أثره ثم غسلته بعد ذلك ذكره الحافظ
والحديث أخرجه البخاري عن عبد الله بن يوسف وأبو داود عن القعنبي كلاهما عن مالك به ومسلم حدثني أبو الطاهر أخبرني ابن وهب قال أخبرني يحيى بن عبد الله بن سالم ومالك بن أنس وعمرو بن الحرث كلهم عن هشام به والبخاري ومسلم من طريق يحيى بن سعيد القطان عن هشام ومسلم أيضا من طريق وكيع وعبد الله بن نمير عن هشام فقد تابع مالكا عليه خمسة
29 في المستحاضة وهي التي لم يرقأ دم حيضتها قاله ابن سيده
وقال الجوهري استحيضت المرأة أي استمر بها الدم بعد أيامها فهي مستحاضة
وقال الأزهري والهروي وغيرهما الحيض جريان دم المرأة في أوقات معلومة يرخيه قعر رحمها بعد بلوغها والاستحاضة جريانه في غير أوانه يسيل من عرق في أدنى الرحم دون قعره يقال استحيضت المرأة بالبناء للمفعول فهي مستحاضة وأصل الكلمة من الحيض والزوائد التي لحقتها للمبالغة كما يقال قر في المكان ثم يزاد للمبالغة فيقال استقر وأعشب ثم يزاد للمبالغة فيقال اعشوشب
____________________
(1/176)
( مالك عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة زوج النبي أنها قالت قالت فاطمة بنت أبي حبيش ) بضم الحاء المهملة وفتح الموحدة وسكون التحتية ومعجمة واسمه قيس بن عبد المطلب بن أسد بن عبد العزى بن قصي القرشية الأسدية وهي غير فاطمة بنت قيس القرشية الفهرية التي طلقت ثلاثا خلافا لظن بعضهم أنها هي والصواب أنها غيرها كما نبه عليه في الفتح
( يا رسول الله إني لا أطهر ) قال الباجي أي لا ينقطع عني الدم وفي رواية أبي معاوية عن هشام إني امرأة أستحاض فلا أطهر
قال الحافظ ففيه بيان السبب وكان عندها أن طهارة الحائض لا تعرف إلا بانقطاع الدم فكنت بعدم الطهر عن إرساله وكانت قد علمت أن الحائض لا تصلي فظنت أن ذلك الحكم مقترن بجريان الدم من الفرج فأرادت تحقيق ذلك فقالت ( أفأدع الصلاة ) أي أتركها والعطف على مقدر بعد الهمزة لأن لها صدر الكلام أي أيكون لي حكم الحائض فأترك الصلاة أو أن الاستفهام ليس للنفي بل للتقرير فزالت صدريتها لكن ينافي هذا أن التقريري حمل المخاطب على الاعتراف بأمر استقر عنده فيؤكد ويقتضي أيضا أن يكون عالما وهي هنا ليست عالمة بالحكم قال الكرماني أو الهمزة مقحمة أو توسطها جائز بين المعطوفين إذا كان عطف جملة على جملة لعدم انسحاب حكم الأول على الثاني
( فقال لها رسول الله ) زاد في رواية أبي معاوية لا أي لا تدعيها ( إنما ذلك ) بكسر الكاف ( عرق ) بكسر العين يسمى بالعاذل بمهملة وذال معجمة مكسورة ( وليس بالحيضة ) بفتح الحاء كما نقله الخطابي عن أكثر المحدثين أو كلهم وإن كان قد اختار هو الكسر على إرادة الحالة لكن الفتح هنا أظهر أي الحيض وقال النووي هو متعين أو قريب من المتعين لأنه أراد إثبات الاستحاضة ونفي الحيض
قال وأما ما يقع في كتب الفقه إنما ذلك عرق انقطع وانفجر فهي زيادة لا تعرف في الحديث وإن كان لها معنى
( فإذا أقبلت الحيضة ) قال النووي يجوز هنا الكسر والفتح جوازا حسنا قال الحافظ والذي في روايتنا بفتح الحاء في الموضعين
( فاتركي الصلاة ) تضمن نهي الحائض عن الصلاة وهو للتحريم ويقتضي فساد الصلاة بالإجماع وكان بعض السلف يرى للحائض الغسل ويأمرها أن تتوضأ وقت الصلاة وتذكر الله مستقبلة القبلة قاله عقبة بن عامر وقال مكحول كان ذلك من هدى نساء المسلمين وقال معمر بلغني أن الحائض كانت تؤمر بذلك عند كل صلاة واستحسن ذلك عطاء قال ابن عبد البر وهذا أمر متروك قال أبو قلابة سألنا عنه فلم نجد له أصلا وجماعة الفقهاء يكرهونه
( فإذا ذهب قدرها ) أي قدر الحيضة على ما قدره الشرع أو على ما تراه المرأة باجتهادها أو على
____________________
(1/177)
ما تقدم من عادتها في حيضتها احتمالات للباجي وفي رواية أبي معاوية وإذا أدبرت أي الحيضة ( فاغسلي عنك الدم وصلي ) أي بعد الاغتسال كما صرح به في رواية أبي أسامة عن هشام عند البخاري بلفظ ثم اغتسلي وصلي ولم يذكر غسل الدم وهذا الاختلاف واقع بين أصحاب هشام منهم من ذكر غسل الدم ومنهم من ذكر الاغتسال دون غسل الدم وكلهم ثقات وأحاديثهم في الصحيحين فيحمل على أن كل فريق اختصر أحد الأمرين لوضوحه عنده وفيه اختلاف آخر وهو أن أبا معاوية زاد في آخره ثم توضئي لكل صلاة ولم ينفرد بذلك فقد رواه النسائي من طريق حماد بن زيد عن هشام وادعى أن حمادا انفرد بهذه الزيادة وإليه أومى مسلم وليس كذلك فقد رواها الدارمي من طريق حماد بن سلمة والسراج من طريق يحيى بن سليم كلاهما عن هشام وفي الحديث دلالة على أن المرأة إذا ميزت دم الحيض من دم الاستحاضة تعتبر دم الحيض وتعمل على إقباله وإدباره فإذا انقضى قدره اغتسلت منه ثم صار حكم دم الاستحاضة حكم الحدث فتوضأ لكل صلاة لكنها لا تصلي بذلك الوضوء أكثر من فريضة واحدة مؤداة أو مقضية لظاهر قوله ثم توضئي لكل صلاة وبهذا قال الجمهور
وعند الحنفية أن الوضوء متعلق بوقت الصلاة فلها أن تصلي به الفريضة الحاضرة وما شاءت من الفوائت ما لم يخرج وقت الحاضرة وعلى قولهم المراد بقوله توضئي لكل صلاة أي لوقت كل صلاة ففيه مجاز الحذف ويحتاج إلى دليل وعند المالكية يستحب لها الوضوء لكل صلاة ولا يجب إلا بحدث آخر
وقال أحمد وإسحاق إن اغتسلت لكل صلاة فهو أحوط ذكره في الفتح
وقال ابن عبد البر ليس في حديث مالك هذا ذكر الوضوء لكل صلاة على المستحاضة وذكر في حديث غيره فلذا كان مالك يستحبه لها ولا يوجبه كما لا يوجبه على صاحب التسلسل
وأخرجه البخاري عن عبد الله بن يوسف وأبو داود عن القعنبي والترمذي والنسائي عن قتيبة الثلاثة عن مالك به وله في الصحيحين وغيرهما طرق عن هشام
( مالك عن نافع عن سليمان بن يسار عن أم سلمة زوج النبي ) قال ابن عبد البر هكذا رواه مالك وأيوب ورواه الليث بن سعد وصخر بن جويرية وعبيد الله بن عمر عن نافع عن سليمان بن يسار أن رجلا أخبره عن أم سلمة فأدخلوا بينها وبين سليمان رجلا
وقال النووي في الخلاصة حديث صحيح رواه مالك والشافعي وأحمد وأبو داود والنسائي بأسانيد على شرط البخاري ومسلم انتهى
فلم يعرج على دعوى الانقطاع ونازعه ابن عبد البر بأنهما حديثان متغايران إذ قد يمكن أن سليمان سمعه من رجل عن أم سلمة ثم سمعه منها فحدث به على الوجهين
____________________
(1/178)
( أن امرأة ) قال أيوب السختياني هي فاطمة بنت أبي حبيش ( كانت تهراق ) بضم التاء وفتح الهاء ( الدماء ) بالنصب قال الباجي يريد أنها من كثرة الدم بها كأنها كانت تهريقه
وقال ابن الأثير جاء الحديث على ما لم يسم فاعله أي تهراق هي الدماء منصوب على التمييز وإن كان معرفة وله نظائر أي كقوله تعالى { سفه نفسه } سورة البقرة الآية 130 وهو مطرد عند الكوفيين وشاذ عند البصريين أو أجرى تهراق مجرى نفست المرأة غلاما ونتج الفرس مهرا قال ويجوز الرفع بتقدير تهراق دماؤها وأول بدل من الإضافة كقوله { أو يعفو الذي بيده عقدة النكاح } سورة البقرة الآية 237 أي عقدة نكاحه ونكاحها قال والهاء في هراق بدل من همزة أراق يقال أراق الماء يريقه وهراقه يهريقه بفتح الهاء هراقة
وقال أبو حيان في شرح التسهيل أجاز بعض المتأخرين تشبيه الفعل اللازم بالمتعدي كما شبه وصفه باسم الفاعل المتعدي مستدلا بحديث تهراق الدماء ومنعه الشلوبين وقال لا يكون ذلك إلا في الصفات وتأول الحديث على أنه على إسقاط حرف الجر أي بالدماء أو على إضمار فاعل أي يهريق الله الدماء منها قال أبو حيان وهذا هو الصحيح إذ لم يثبت ذلك من لسان العرب ( في عهد رسول الله فاستفتت لها أم سلمة ) بأمرها إياها بذلك ففي رواية الدارقطني أن فاطمة بنت أبي حبيش استحيضت حتى كان المركن ينقل من تحتها وأعلاه الدم قال فأمرت أم سلمة أن تسأل لها ( رسول الله ) كذا في هذه الرواية وفي حديث عائشة السابق أن فاطمة هي السائلة ولأبي داود عن عروة كذلك عن فاطمة نفسها أنها قالت سألت رسول الله وفي حديث آخر أن أسماء بنت عميس سألت لها قال الحافظ ولي الدين العراقي ولعل الجمع بينها أن فاطمة سألت كلا من أم سلمة وأسماء أن تسأل لها فسألتا مجتمعتين أو سألت كل واحدة منهما مع عدم علمها بسؤال الأخرى وصح إطلاق السؤال على فاطمة باعتبار أمرها بالسؤال وأنها حضرت معهما فلما بدأتا بالكلام تكلمت هي حينئذ انتهى
وهو مبني على أن تسليم هذه المرأة المبهمة فاطمة وقد قال ابن عبد البر قال أيوب السختياني هذه المرأة هي فاطمة المذكورة في الحديث الأول وهو عندنا حديث آخر وكذا جعله ابن حنبل حديثا غير الأول فإنه في امرأة عرفت إقبال حيضتها وإدبارها وهذا الحديث في امرأة كان لها أيام معروفة فزادها الدم وأطبق عليها فلم تميزها فأمرها أن تترك الصلاة قدر أيامها من الشهر
( فقال لتنظر إلى عدد الليالي والأيام التي كانت تحيضهن من الشهر قبل أن يصيبها الذي أصابها فلتترك الصلاة ) والصوم ونحوهما ( قدر ذلك من الشهر ) وأجاب ابن العراقي بأنه إن صح أن
____________________
(1/179)
المبهمة فاطمة فلعلها كانت لها أحوال كانت في بعضها مميزة وفي بعضها ليست مميزة وجاء الجواب لها باعتبار حالتيها قال وفيه تصريح بأنها لم تكن مبتدأة بل كانت لها عادة تعرفها وليس فيه بيان كونها مميزة أم لا فاحتج به من قال إن المستحاضة المعتادة ترد لعادتها ميزت أم لا وافق تمييزها عادتها أم خالفها وهو مذهب أبي حنيفة وأحد قولي الشافعي وأشهر الروايتين عن أحمد وهو مأخوذ من قاعدة ترك الاستفصال فإنه لم يسألها هل هي مميزة أم لا وأصح قولي الشافعي وهو مذهب مالك أنها إنما ترد لعادتها إذا لم تكن مميزة وإلا ردت إلى تمييزها ويدل له قوله في حديث فاطمة بنت حبيش إذا كان دم الحيض فإنه دم أسود يعرف رواه أبو داود وأجابوا عن هذا الحديث باحتمال أنه علم أنها غير مميزة فحكم عليها بذلك والذي اضطرهم إلى حمله على ذلك معارضة الحديث الآخر له والجمع بين الدليلين ولو من وجه أولى من طرح أحدهما ومتى ردت إلى العادة مطلقا ألغى الحديث الآخر بالكلية
( فإذا خلفت ذلك ) بفتح المعجمة واللام الثقيلة والفاء أي تركت أيام الحيض الذي كانت تعهده وراءها ( فلتغتسل ثم لتستثفر ) بفتح الفوقية وإسكان السين المهملة وفتح الفوقية وإسكان المثلثة وكسر الفاء أي تشد فرجها ( بثوب ) خرقة عريضة بعد أن تحتشي قطنا وتوثق طرفي الخرقة في شيء تشده على وسطها فيمنع بذلك سيل الدم مأخوذ من ثفر الدابة بفتح الفاء الذي يجعل تحت ذنبها وقيل مأخوذ من الثفر بإسكان الفاء وهو الفرج وإن كان أصله للسباع فاستعير لغيرها قال أبو عبد الملك رواه الأكثر عن مالك بمثلثة ورواه مطرف عنه لتستذفر بذال معجمة بدلها أي تجفف الدم بالخرقة ( ثم لتصلي ) بإثبات الياء للإشباع كقوله تعالى { إنه من يتق ويصبر } سورة يوسف الآية 90 كذا قاله الشيخ ولي الدين العراقي لا يقال فيه نظر لأنه أمر لأنثى
لأنا نقول هو ليس خطابا وإنما هو مسند لضمير الغائب أي لتصلي هي فكان الواجب حذف الياء للام الأمر فجيء بها للإشباع فحذف الجازم ياء العلة والموجودة إشباع وفيه أن حكم المستحاضة حكم الطاهرة في الصلاة وغيرها كصيام واعتكاف وقراءة ومس مصحف وحمله وسجود تلاوة وسائر العبادات وهذا أمر مجمع عليه وإنما اختلف في إباحة وطئها والجمهور على الجواز وقد استدل الشافعي بالأمر بالصلاة على جواز الوطء قال لأن الله أمر باعتزالها حائضا وأذن في إتيانها طاهرا فلما حكم للمستحاضة بحكم الطاهر في أن تغتسل وتصلي دل ذلك على جواز وطئها
وفي البخاري عن ابن عباس ويأتيها زوجها إذا صلت الصلاة أعظم وفيه أن العادة في الحيض تثبت بمرة لأنه ردها إلى الشهر الذي يلي شهر الاستحاضة وهو الأصح عند المالكية والشافعية ولا يرد أنه قال كانت تحيضهن لأن الصحيح في الأصول أن كان لا تدل على تكرر الفعل ولا دوامه وهذا الحديث أخرجه أبو داود عن عبد الله بن سلمة والنسائي عن قتيبة بن سعيد كلاهما عن مالك به وتابعه أيوب السختياني عن أبي داود وعبيد الله بن عمر عند ابن ماجه كلاهما عن نافع به
____________________
(1/180)
والنسائي من طرق عن أبي أسامة عن عبيد الله عن نافع عن سليمان بن يسار عن أم سلمة سألت امرأة رسول الله فذكره وأخرجه أبو داود من طريق أنس بن عياض عن عبيد الله عن نافع عن سليمان عن رجل من الأنصار أن امرأة الخ فاختلف على عبيد الله في إسناده
رح 134 ( مالك عن هشام بن عروة عن أبيه عن زينب بنت أبي سلمة ) عبد الله بن عبد الأسد المخزومية ربيبة النبي ( أنها رأت زينب بنت جحش ) قال عياض اختلف أصحاب الموطأ في هذا فأكثرهم يقولون زينب منهم يقول ابنة جحش وهذا هو الصواب ويبين الوهم فيه قوله ( التي كانت تحت عبد الرحمن بن عوف ) وزينب هي أم المؤمنين لم يتزوجها عبد الرحمن قط وإنما تزوجها أولا زيد بن حارثة ثم تزوجها النبي والتي كانت تحت عبد الرحمن هي أم حبيبة وقال ابن عبد البر قيل إن بنات جحش الثلاثة زينب وأم حبيبة وحمنة زوج طلحة بن عبيد الله كن يستحضن كلهن وقيل لم يستحض منهن إلا أم حبيبة
وذكر القاضي يونس بن مغيث في كتابه الموعب شرح الموطأ مثل هذا وذكر أن كل واحدة منهن اسمها زينب ولقب إحداهن حمنة وإذا كان كذلك فقد سلم مالك من الخطأ في تسمية أم حبيبة زينب وقد ذكر البخاري من حديث عائشة أن امرأة من أزواجه كانت تستحاض
وفي رواية أن بعض أمهات المؤمنين
وفي أخرى أن النبي اعتكف معه بعض نسائه وهي مستحاضة انتهى كلام عياض
وفي فتح الباري قيل حديث الموطأ هذا وهم وقيل صواب وأن اسمها زينب وكنيتها أم حبيبة بإثبات الهاء على المشهور في الروايات الصحيحة خلافا للواقدي وتبعه إبراهيم الحربي الصحيح أم حبيب بلا هاء واسمها حبيبة وإن رجحه الدارقطني قال وأما أختها أم المؤمنين فلم يكن اسمها الأصلي زينب وإنما كان اسمها برة فغيره النبي وفي أسباب النزول للواحدي إنما كان اسمها زينب بعد أن تزوجها النبي فلعله سماها باسم أختها لأن أختها غلبت عليها الكنية فأين اللبس قال أعني الحافظ
ولم ينفرد الموطأ بتسمية أم حبيبة زينب بل وافقه يحيى بن كثير أخرجه أبو داود الطيالسي في مسنده انتهى
وبه يرد قول صاحب المطالع لا يلتفت لقول من قال إن بنات جحش اسم كل منهن زينب لأن أهل المعرفة بالأنساب لا يثبتونه وإنما حمل عليه من قاله أن لا ينسب إلى مالك وهم كذا قال وقد علم أنه لم ينفرد به
( وكانت تستحاض فكانت تغتسل وتصلي ) وروى أبو داود من طريق سليمان بن كثير عن الزهري عن
____________________
(1/181)
عروة عن عائشة استحيضت زينب بنت جحش فقال لها النبي اغتسلي لكل صلاة قال الحافظ قال شيخنا الإمام البلقيني يحمل على أن زينب استحيضت وقتا بخلاف أختها فإن استحاضتها دامت
وروى الشيخان وغيرهما عن عائشة أن أم حبيبة استحيضت سبع سنين فسألت رسول الله عن ذلك فأمرها أن تغتسل فقال هذا عرق فكانت تغتسل لكل صلاة زاد مسلم والإسماعيلي وتصلي والأمر بالاغتسال مطلق فلا يدل على التكرار فلعلها فهمت طلب ذلك منها لقرينة فلذا كانت تغتسل لكل صلاة
وقال الشافعي إنما كانت تغتسل لكل صلاة تطوعا وكذا قال الليث بن سعد لم يذكر ابن شهاب أنه أمرها أن تغتسل لكل صلاة وإنما هو شيء فعلته رواه مسلم وإلى هذا ذهب الجمهور قالوا لا يجب على المستحاضة الغسل لكل صلاة إلا المتحيرة لكن يجب عليها الوضوء ويؤيده ما رواه أبو داود من طريق عكرمة أن أم حبيبة استحيضت فأمرها رسول الله أن تنتظر أيام أقرائها ثم تغتسل وتصلي فإن رأت شيئا من ذلك توضأت وصلت واستدل المهلب بقوله لها هذا عرق على أنه لم يوجب عليها الغسل لكل صلاة لأن دم العرق لا يوجب غسلا
وأما ما عند أبي داود من طريق سليمان بن كثير وابن إسحاق عن الزهري في هذا الحديث فأمرها بالغسل لكل صلاة فقد طعن الحفاظ في هذه الزيادة بأن الأثبات من أصحاب الزهري لم يذكروها وقد صرح الليث بأن الزهري لم يذكرها كما في مسلم لكن روى أبو داود من طريق يحيى بن أبي كثير عن أبي سلمة بن عبد الرحمن عن زينب بنت أبي سلمة في هذه القصة فأمرها أن تغتسل عند كل صلاة فيحمل الأمر على الندب جمعا بين الروايتين هذه ورواية عكرمة
وقال الطحاوي حديث أم حبيبة منسوخ بحديث فاطمة بنت أبي حبيش أي لأن فيه الأمر بالوضوء لكل صلاة لا الغسل والجمع بين الحديثين بحمل الأمر في حديث أم حبيبة على الندب أولى انتهى
( مالك عن سمي ) بضم السين المهملة مصغر ( مولى أبي بكر ) بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام ثقة روى له الجميع مات مقتولا سنة ثلاثين ومائة
( أن القعقاع ) بقافين مفتوحتين بينهما عين ساكنة ثم ألف فعين ( ابن حكيم ) الكناني المدني تابعي وثقه أحمد ويحيى وغيرهما وروى له مسلم والأربعة
( وزيد بن أسلم أرسلاه إلى سعيد بن المسيب يسأله كيف تغتسل المستحاضة فقال تغتسل من طهر إلى طهر )
____________________
(1/182)
قال ابن سيد الناس اختلف فيه فمنهم من رواه بالطاء المهملة ومنهم من رواه بالظاء المعجمة أي من وقت صلاة الظهر إلى وقت صلاة الظهر قال ابن العراقي وفيه نظر فالمروي إنما هو الإعجام وأما الإهمال فليس رواية مجزوما بها فقد قال أبو داود قال مالك إني لأظن حديث ابن المسيب من طهر إلى طهر أي بالإهمال فيهما ولكن الوهم دخل فيه قال أبو داود ورواه مسور بن عبد الملك من طهر إلى طهر أي بالإهمال فقلبها الناس
وقال ابن عبد البر قال مالك ما أرى الذي حدثني به من ظهر إلا قد وهم قال أبو عمر ليس ذلك بوهم لأنه صحيح عن سعيد معروف من مذهبه وقد رواه كذلك السفيانان عن سمي به بالإعجام ولم ينفرد به سمي ولا القعقاع فقد رواه وكيع عن سعيد بن أبي عروبة عن قتادة عن ابن المسيب مثله بالإعجام
وأخرجه ابن أبي شيبة
وقال الخطابي ما أحسن ما قال مالك وما أشبهه بما ظن لأنه لا معنى للاغتسال في وقت صلاة الظهر إلى مثلها من الغد ولا أعلمه قولا لأحد وإنما هو من طهر إلى طهر وقت انقطاع الحيض
وتعقبه ابن العربي بأن له معنى لأنه إذا سقط لأجل المشقة اغتسالها لكل صلاة فلا أقل من الاغتسال مرة في كل يوم عند الظهر في وقت دفء النهار وذلك للتنظيف انتهى
قال ابن العراقي وقوله لا أعلمه قولا لأحد فيه نظر لأن أبا داود نقله عن جماعة من الصحابة والتابعين ولعل الخطابي يرى أنه حرف النقل عنهم كما حرف عن ابن المسيب لكن برد دعوى التحريف ورود مثله عن عائشة بلفظ تغتسل كل يوم وفي رواية عنها تغتسل عند الظهر حكاهما أبو داود
وكذا رواه ابن أبي شيبة عن الحسن البصري بلفظ تغتسل من صلاة الظهر إلى مثلها من الغد انتهى
( وتتوضأ لكل صلاة ) وجوبا عند الجمهور واستحبابا عند مالك
( فإن غلبها الدم استثفرت ) هكذا رواية مالك في الموطأ وكذا الشافعي عنه بالمثلثة بين الفوقية والفاء ورواه أبو داود عن القعنبي عن مالك بلفظ استذفرت بثوب بذال معجمة بدل المثلثة فقيل إنه مثل الاستثفار قلبت الثاء ذالا وهو الثفر والذفر وقيل معناه فلتستعمل طيبا تزيل به هذا الشيء عنها والذفر بفتح المعجمة والفاء كل رائحة ذكية من طيب أو نتن وسمي الثوب طيبا لقيامه مقامه في إزالة الرائحة وإن روي بالدال المهملة فمعناه تدفع عن نفسها الذفر بإسكان الفاء وهو الرائحة الكريهة فإن قيل سئل ابن المسيب عن كيفية اغتسال المستحاضة فأجاب بذكر وقته
قلت وفيه من جملة صفاته وهيئاته وكيفية اغتسالها لا تخالف كيفية اغتسال غيرها وإنما تخالف غيرها في الوقت فأجاب بذكر ما خالفت فيه غيرها أو أنه فهم من السائل استبعاد اغتسالها مع جريان الدم منها فأجابه بأن جريانه منها لا يمنع من اغتسالها في وقته وهو وقت صلاة الظهر عنده وغايته أنه إذا قوي عليها الدم وغلبها استثفرت ذكره العلامة الولي بن العراقي
( مالك عن هشام بن عروة عن أبيه أنه قال ليس على المستحاضة إلا أن تغتسل ) عند انقضاء
____________________
(1/183)
المدة التي كانت تحيض فيها قبل الاستحاضة ( غسلا واحدا ) لأنه الذي أمر به النبي أم حبيبة وأحاديث أمرها به لكل صلاة روي من وجوه كلها ضعيفة كما صرح به ابن عبد البر والبيهقي وغيرهما
وأما فعلها هي ذلك فمن عند نفسها كما قاله الزهري والليث والشافعي وغيرهم فلا حجة فيها لمن ذهب إلى أنه يجب عليها الاغتسال لكل صلاة خلافا لابن حزم حيث صححها وزعم أنه قال بها جماعة من الصحابة فقد رده عليه الولي العراقي
( ثم تتوضأ بعد ذلك لكل صلاة ) وجوبا عند الجمهور واستحبابا عند مالك محتجا لعدم الوجوب بقوله ذلك عرق والعرق لا يجب منه الوضوء
( قال مالك الأمر عندنا أن المستحاضة إذا صلت أن لزوجها أن يصيبها ) وبه قال جمهور العلماء
وفي البخاري عن ابن عباس ويأتيها زوجها إذا صلت الصلاة أعظم قال مالك قال رسول الله إنما ذلك عرق وليس بالحيضة فإذا لم تكن حيضة فما يمنعه أن يصيبها وهي تصلي
وقال سليمان بن يسار والزهري والنخعي وابن سيرين وطائفة لا يصيبها وروي عن عائشة
وقال أحمد أحب إلي أن لا يطأ إلا أن يطول
( وكذا النفساء إذا بلغت أقصى ما يمسك النساء ) بالنصب مفعول فاعله ( الدم ) أي لا يصيبها وأقصاه عند مالك وبه أخذ أصحابه شهران ستون يوما وقال أكثر العلماء أربعون يوما وقيل غير ذلك
( فإن رأت الدم بعد ذلك فإنه يصيبها زوجها وإنما هي بمنزلة المستحاضة ) وقد علم إجماع أهل المدينة على جواز إصابته لها
( قال مالك الأمر عندنا في المستحاضة على حديث هشام بن عروة عن أبيه ) عن عائشة المتقدم أولا ( وهو أحب ما سمعت إلي في ذلك ) قال ابن منده في صحيحه بعد إخراجه من طريق مالك هذا إسناد مجمع على صحته
وقال الأصيلي هو أصح حديث جاء في المستحاضة
وقال أحمد بن حنبل في الحيض ثلاثة أحاديث حديثان ليس في نفسي منهما شيء حديث عائشة في قصة فاطمة بنت أبي حبيش وحديث أم سلمة والثالث في قلبي منه شيء وهو حديث حمنة بنت جحش قال أبو داود وما عدا هذه الثلاثة أحاديث ففيها اختلاف واضطراب
____________________
(1/184)
وعد في فتح الباري المستحاضات من الصحابيات في زمن النبي عشرا بنات جحش الثلاثة على ما تقدم وفاطمة بنت أبي حبيش المتقدمة وسودة بنت زمعة وحديثها عند أبي داود معلقا وابن خزيمة موصولا وأم سلمة وحديثها في سنن سعيد بن منصور وأسماء بنت عميس رواه الدارقطني وهو في أبي داود لكن على التردد هل هو عنها أو عن فاطمة بنت أبي حبيش وسهلة بنت سهيل ذكرها أبو داود أيضا وأسماء بنت مرثد ذكرها البيهقي وغيره وبادية بنت غيلان ذكرها ابن منده وروى البيهقي والإسماعيلي أن زينب ابنة أم سلمة استحيضت لكن الحديث في أبي داود من حكاية زينب عن غيرها وهو أشبه فإنها كانت في زمنه صغيرة لأنه دخل على أمها في السنة الثالثة وزينب ترضع وقد كملن عشرا بحذف زينب بنت أبي سلمة انتهى
ونظم السيوطي في قلائد الفوائد تسعا فقال قد استحيضت في زمان المصطفى تسع نساء قد رواها الراويه بنت جحش سودة فاطمة زينب أسما سهلة وباديه 3 فعد بنت أبي سلمة وأسقط أم سلمة وأسماء بنت عميس أو بنت مرثد لأن النظم فيه أسماء واحدة وهما اثنتان فلو قال قد استحيضت في زمان المصطفى بنات جحش سهلة وباديه وهند أسما سودة فاطمة وبنت مرثد رواها الروايه لوفى بالعشرة وسلم من عد زينب ابنة أم سلمة واسمها هند والله أعلم
30 ما جاء في بول الصبي ( مالك عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة أم المؤمنين ) وفي نسخة زوج النبي صلى الله عليه وسلم ( أنها قالت أتي ) بضم الهمزة وكسر التاء ( رسول الله صلى الله عليه وسلم بصبي ) قال الحافظ يظهر لي أنه ابن أم قيس المذكور بعده ويحتمل أنه الحسن بن علي أو الحسين فقد روى الطبراني في الأوسط بإسناد حسن عن أم سلمة قالت بال الحسن أو الحسين على بطن رسول الله صلى الله عليه وسلم فتركه حتى قضى بوله ثم دعا بماء فصبه عليه
ولأحمد عن أبي ليلى نحوه
ورواه الطحاوي من طريقه قال فجيء بالحسن ولم يتردد
وكذا للطبراني عن أبي أمامة وإنما رجحت به غيره لأن في البخاري من طريق يحيى القطان عن هشام أتي النبي صلى الله عليه وسلم بصبي يحنكه فبال على ثوبه
____________________
(1/185)
وأما الحسن فبال على بطنه صلى الله عليه وسلم وللطبراني عن زينب بنت جحش أنه جاء وهو يحبو والنبي صلى الله عليه وسلم نائم فصعد على بطنه ووضع ذكره في سرته فذكر الحديث بتمامه فظهرت التفرقة بينهما وزعم العيني أن أظهر الأقوال أنه عبد الله بن الزبير لأن أمه قالت فأخذته أخذا عنيفا فقال صلى الله عليه وسلم إنه لم يأكل الطعام فلا يضر بوله
وفي لفظ لم يطعم الطعام فلا يقذر بوله انتهى
وليس في قول أمه ذلك ما يقضي بأنه الأظهر وقيل المراد به سليمان بن هشام حكاه الزركشي ( فبال على ثوبه ) أي ثوب رسول الله صلى الله عليه وسلم ( فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم بماء فأتبعه ) بفتح الهمزة وسكون الفوقية وفتح الموحدة ( إياه ) أي أتبع رسول الله البول الذي على الثوب الماء بصبه عليه فالضمير المتصل للبول والمنفصل للماء ويجوز عكسه لأن إتباع الماء البول هو النضح دون الغسل زاد مسلم من طريق عبد الله بن نمير عن هشام ولم يغسله
وللطحاوي من رواية زائدة الثقفي عن هشام فنضحه عليه
ولابن المنذر من طريق الثوري عن هشام فصب عليه الماء وهذا الحديث أخرجه البخاري عن عبد الله بن يوسف عن مالك به وتابعه عبد الله بن نمير وجرير وعيسى ثلاثتهم عن هشام نحوه في مسلم
رح 138 ( مالك عن ابن شهاب عن عبيد الله ) بضم العين ( ابن عبد الله ) بفتحها ( ابن عتبة ) بإسكان الفوقية ( ابن مسعود ) الهذلي المدني ثقة ثبت فقيه من كبار التابعين كثير الحديث أحد السبعة مات سنة أربع وتسعين وقيل سنة ثمان وقيل غير ذلك
( عن أم قيس بنت محصن ) بكسر الميم وإسكان الحاء وفتح الصاد المهملتين قال ابن عبد البر اسمها جذامة يعني بالجيم والذال المعجمة وقال السهيلي اسمها آمنة وحكى مثله أبو القاسم الجوهري في مسند الموطأ أسلمت قديما بمكة وهاجرت ولها أحاديث وقد زاد مسلم من طريق يونس وكانت من المهاجرات الأول اللاتي بايعن رسول الله صلى الله عليه وسلم وهي أخت عكاشة بن محصن أحد بني أسد بن خزيمة ( أنها أتت بابن لها صغير ) قال الحافظ لم أقف على اسمه ومات في عهده صلى الله عليه وسلم وهو صغير كما رواه النسائي عنها قالت توفي ابن لي فجزعت فقلت للذي يغسله لا تغسل ابني بالماء البارد فغسله فذكر ذلك عكاشة للنبي صلى الله عليه وسلم فقال ما لها طال عمرها قال فلا يعلم امرأة عمرت ما عمرت
( لم يأكل الطعام ) قال ابن التين يحتمل أنها أرادت أنه لم يتقوت بالطعام ولم يستغن به عن الرضاع ويحتمل أنها جاءت به عند ولادته ليحنكه صلى الله عليه وسلم فيحمل النفي على عمومه ويؤيده رواية البخاري في العقيقة أتي بصبي يحنكه ( إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأجلسه في حجره ) بفتح الحاء على الأشهر
____________________
(1/186)
وتكسر وتضم كما في المحكم وغيره الحضن أي وضعه إن قلنا كان كما ولد ويحتمل أن الجلوس حصل منه على العادة إن قلنا كان في سن من يحبو كما في قصة الحسن ( فبال على ثوبه ) أي ثوب النبي صلى الله عليه وسلم
وأغرب ابن شعبان من المالكية فقال المراد ثوب الصبي والصواب الأول كذا قال الحافظ وتعقب بأنه أفهم أن الثاني خطأ وليس كذلك فمعناه أن الابن بال على ثوب نفسه وهو في حجره صلى الله عليه وسلم فنضح الماء عليه خوفا أن يكون طار على ثوبه منه شيء وبهذا يكون دليلا للقائلين بنجاسة بوله وإن لم يأكل الطعام
( فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم بماء فنضحه ) صب الماء عليه ( ولم يغسله ) أي لم يعركه والنضح لغة يقال للرش ولصب الماء أيضا كقوله صلى الله عليه وسلم إني لأعلم أرضا يقال له عمان ينضح بناحيتها البحر بها حي من العرب لو أتاهم رسولي ما رموه بسهم ولا حجر قاله ابن عبد البر وادعى الأصيلي أن قوله ولم يغسله مدرج من ابن شهاب وأن المرفوع انتهى بقوله فنضحه قال وكذلك روى معمر عن ابن شهاب فقال فنضحه ولم يزد وكذا أخرجه ابن أبي شيبة عن ابن عيينة عن ابن شهاب قال فرشه ولم يزد على ذلك
قال الحافظ ليس في سياق معمر ما يدل على الإدراج
وقد أخرجه عبد الرزاق بنحو سياق مالك لكنه لم يقل ولم يغسله وقد قالها مع ذلك الليث وعمرو بن الحارث ويونس بن يزيد كلهم عن ابن شهاب أخرجه ابن خزيمة والإسماعيلي وغيرهما من طريق ابن وهب عنه وهو في مسلم عن يونس وحده نعم في رواية معمر قال ابن شهاب فمضت السنة أن يرش بول الصبي ويغسل بول الجارية فلو كانت هذه الزيادة هي التي زادها مالك ومن تبعه لأمكن دعوى الإدراج لكنها غيرها فلا إدراج
وأما ما ذكره عن ابن أبي شيبة فلا اختصاص له بذلك فإنها لفظ رواية ابن عيينة عن ابن شهاب في مسلم وغيره وليست مخالفة لرواية مالك وفي هذا الحديث من الفوائد الندب إلى حسن المعاشرة والتواضع والرفق بالصغار وتحنيك المولود والتبرك بأهل الفضل وحمل الأطفال إليهم حال الولادة وبعدها وحكم بول الغلام والجارية قبل أن يطعما وهو مقصود الباب واختلف العلماء في ذلك على ثلاثة مذاهب أصحها عند الشافعية الاكتفاء بالنضح أي الرش في بول الصبي لا الصبية وهو قول علي وعطاء والحسن والزهري وأحمد وإسحاق وابن وهب وغيرهم ورواه الوليد بن مسلم عن مالك لكن قال أصحابه هي رواية شاذة
والثاني يكفي النضح فيهما وهو مذهب الأوزاعي وحكي عن مالك والشافعي وخصص ابن العربي النقل في هذا بما إذا كانا لم يدخل في أجوافهما شيء أصلا
والثالث هما سواء في وجوب الغسل وهو المشهور عن مالك وأبي حنيفة وأتباعهما وبه قال جماعة
____________________
(1/187)
قال ابن عبد البر وأحاديث التفرقة بين بول الصبي والصبية ليست بالقوية
وقال الحافظ في الفرق أحاديث ليست على شرط الصحيح منها حديث علي مرفوعا ينضح بول الغلام ويغسل بول الجارية أخرجه أحمد وأصحاب السنن إلا النسائي وروي موقوفا
ومنها حديث لبابة بنت الحارث مرفوعا إنما يغسل من بول الأنثى وينضح من بول الذكر أخرجه أحمد وابن ماجه وصححه ابن خزيمة وغيره
ومنها حديث أبي السمح نحوه بلفظ يرش رواه أبو داود والنسائي وصححه ابن خزيمة أيضا
قال ابن دقيق العيد وفي وجه التفرقة بينهما أوجه ركيكة وأقواها ما قيل إن النفوس أعلق بالذكر منها بالإناث يعني فحصلت الرخصة في الذكور لكثرة المشقة وقد احتج الحنفية والمالكية بأن الغسل منهما هو القياس والأصل في إزالة النجاسة وقياس الصبي على الصبية لاتفاق العلماء على استواء الحكم فيهما بعد أكل غير اللبن فلا بد من غسل بولهما بالإجماع وأجابوا عن هذا الحديث بأجوبة تقدمت الإشارة إلى بعضها أحدها أن المراد بالنضح هنا الغسل وذلك معروف في لسان العرب ومنه الحديث السابق إني لأعرف قرية ينضح البحر بناحيتها
وقال صلى الله عليه وسلم في المذي فلينضح فرجه رواه أبو داود وغيره والمراد الغسل كما في مسلم والقصة واحدة كالراوي وحديث أسماء في غسل الدم وانضحيه وقد جاء الرش وأريد به الغسل كما في الصحيح عن ابن عباس لما حكى الوضوء النبوي قال أخذ غرفة من ماء ورش على رجله اليمنى حتى غسلها وأراد بالرش هنا الصب قليلا قليلا وتأولوا قوله ولم يغسله أي غسلا مبالغا فيه كغيره ويؤيده رواية مسلم من طريق يونس بن يزيد ولم يغسله غسلا فدل بالمصدر المنون على نفي الكثير البليغ مع وجود أصل الغسل
ثانيها أن معنى ولم يغسله لم يعركه فأريد بالغسل العرك قال ابن العربي والغسل في كلام العرب هو عرك المغسول وقد يسمى زوال القذر غسلا وإن لم يتصل به عرك وذلك مجاز بدليل قول الراوي ولم يغسله وإنما لم يحتج هنا إلى عرك لأن البول إذا أتبع بالماء بقرب ملاقاته الثوب خرج منه من غير عرك
ثالثها أن ضمير على ثوبه عائد على الصغير كما مر
رابعها أن قولها لم يأكل الطعام ليس علة للحكم وإنما هو وصف حال وحكاية قضية كما قال في الحديث الآخر رضيع واللبن طعام وحكمه حكمه في كل حال فأي شيء فرق بينه وبين الطعام والنبي صلى الله عليه وسلم لم يعلل بهذا ولا أشار إليه فنكل الحكم فيه إليه
خامسها أن الأبهري نقل عن مالك ليس هذا الحديث بالمتواطأ عليه أي على العمل به وأما أحاديث التفرقة بين بول الأنثى فيغسل وبول الصبي ينضح فليست بقوية وعلى فرض صحتها فالمراد بالنضح الغسل قال الطحاوي وإنما فرق بينهما لأن بول الذكر يكون في موضع
____________________
(1/188)
واحد لضيق مخرجه وبول الجارية يتفرق لسعة مخرجه فأمر في بول الغلام بالنضح يريد صب الماء في موضع واحد وأراد بغسل الجارية أن يتبع بالماء لأنه يقع في مواضع متفرقة
( تنبيه ) قال الخطابي ليس تجويز من جوز النضح بمعنى الرش من أجل أن بول الصبي غير نجس ولكنه لتخفيف نجاسته انتهى
وجزم ابن عبد البر وابن بطال وغيرهما بأن الشافعي وأحمد قالا بطهارته رد بأنه لا يعرف عنهما
قال النووي هذه حكاية باطلة وكأنهم أخذوا ذلك من طريق اللازم وأصحاب صاحب المذهب أعلم بمراده من غيرهم انتهى
نعم نقل الطحاوي عن قوم القول بطهارة بول الصبي قبل الطعام وحديث الباب أخرجه البخاري عن عبد الله بن يوسف وأبو داود عن عبد الله بن مسلمة والنسائي عن قتيبة الثلاثة عن مالك به وتابعه ابن عيينة والليث ويونس كلهم عن ابن شهاب بنحوه عند مسلم
31 ما جاء في البول قائما ( مالك عن يحيى بن سعيد ) مرسل وصله البخاري من طريق ابن المبارك ومسلم من طريق عبد العزيز بن محمد الدراوردي والشيخان معا من طريق يحيى القطان ثلاثتهم عن يحيى بن سعيد الأنصاري أنه قال سمعت أنس بن مالك قال ( دخل أعرابي ) حكى أبو بكر التاريخي عن عبد الله بن رافع المدني أن هذا الأعرابي هو الأقرع بن حابس التميمي لكن أخرج أبو موسى المدني في الصحابة من طريق محمد بن عمرو عن عطاء عن سليمان بن يسار أنه ذو الخويصرة اليماني وكان رجلا جافيا وهو مرسل وفيه راو مبهم وأخرجه أبو زرعة الدمشقي بهذا السند وقال وفيه ذو الخويصرة التميمي والتميمي هو حرقوص بن زهير الذي صار بعد ذلك من رؤوس الخوارج وقد فرق بعضهم بينه وبين اليماني
ونقل عن أبي الحسين بن فارس أنه عيينة بن حصن والعلم عند الله تعالى قاله الحافظ وتوقف الحافظ ولي الدين في أنه ذو الخويصرة اليماني فقال كيف يستقيم ذلك وذو الخويصرة منافق وهذا مسلم حسن الإسلام لرواية ابن ماجه وابن حبان عن أبي هريرة ففيها فقال الأعرابي بعد أن فقه في الإسلام فقام إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بأبي وأمي فلم يؤنبني ولم يسبني وهو يدل على سلامة صدره وعدم إحاطته بهذا الحكم حين صدر منه ما صدر لا على نفاقه وكذا يدل عليه رواية الدارقطني عن ابن مسعود جاء أعرابي إلى النبي صلى الله عليه وسلم شيخ كبير فقال يا محمد متى الساعة قال ما أعددت لها قال لا والذي بعثك بالحق ما أعددت لها من كبير صلاة ولا صيام إلا أني أحب الله ورسوله قال
____________________
(1/189)
فإنك مع من أحببت قال فذهب الشيخ فأخذه البول في المسجد فمر عليه الناس فأقاموه فقال صلى الله عليه وسلم دعوه عسى أن يكون من أهل الجنة فصبوا على بوله الماء
قال ابن العربي فبين أن البائل في المسجد هو السائل عن الساعة المشهود له بالجنة انتهى
( المسجد ) النبوي زاد ابن عيينة عند الترمذي وغيره في أوله أنه صلى ركعتين ثم قال اللهم ارحمني ومحمدا ولا ترحم معنا أحدا فقال له النبي صلى الله عليه وسلم لقد تحجرت واسعا فلم يلبث أن بال في المسجد
وأخرجه أبو داود والنسائي والبخاري من طريق الزهري عن أبي سلمة عن أبي هريرة بقصة الدعاء فقط
وأخرجه ابن ماجه وابن حبان بتمامه من رواية محمد بن عمرو عن أبي سلمة عن أبي هريرة وتحجرت أي ضيقت من رحمة الله ما وسعته إذ خصصتني وخصصت بها نفسك دون غيرنا مع أنها تسع كل شيء فهو تحجر تفعل من الحجر المنع هكذا فسره الجمهور
( فكشف عن فرجه ليبول فصاح الناس به ) زاجرين له ( حتى علا الصوت ) ارتفع وفي رواية فزجره الناس وأخرى فتناوله الناس وأخرى فثار إليه الناس وأخرى فقاموا إليه وكلها في البخاري
وللإسماعيلي فأراد أصحابه أن يمنعوه
ولمسلم من طريق إسحاق عن أنس فقال الصحابة مه مه
( فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم اتركوه ) يبول لئلا يؤدي قطع البول إلى ضرر كبير يحصل له وقد يغلبه قبل الخروج من المسجد فيؤدي إلى انتشار النجاسة فيه وتنجيس مكان واحد أخف من تنجيس أماكن وأيضا قد يغلبه فيخرج في ثيابه فيؤدي إلى تنجيسها وتنجيس بدنه ذكره المازري
وفي حديث أبي هريرة عند البخاري فقال لهم النبي صلى الله عليه وسلم دعوه وهريقوا على بوله سجلا من ماء أو ذنوبا من ماء فإنما بعثتم ميسرين ولم تبعثوا معسرين ( فتركوه فبال ) في طائفة المسجد كما في البخاري أي في قطعة من أرضه والطائفة القطعة من الشيء ولمسلم ناحية من المسجد
( ثم أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم ) لما قضى الأعرابي بوله ( بذنوب ) بفتح الذال المعجمة قال الخليل هو الدلو ملآى ماء وقال ابن فارس الدلو العظيمة وقال ابن السكيت فيها ماء قريب من الملء ولا يقال لها وهي فارغة ذنوب وقال ( من ماء ) مع أن الذنوب من شأنها ذلك لأنه لفظ مشترك بينه وبين الفرس الطويل وغيرهما
( فصب على ذلك المكان ) زاد مسلم من طريق إسحاق بن أبي طلحة عن أنس ثم إن رسول الله صلى الله عليه وسلم دعاه فقال له إن هذه المساجد لا تصلح لشيء من هذا البول ولا القذر إنما هي لذكر الله عز وجل والصلاة وقراءة القرآن قال الحافظ وظاهره الحصر في الثلاثة لكن الإجماع على أن مفهوم الحصر منه غير معمول به ولا ريب أن فعل غير المذكورات وما في معناها فيه خلاف الأولى وفي الحديث من الفوائد أن الاحتراز من النجاسة كان مقررا في نفوس الصحابة ولذا بادروا
____________________
(1/190)
بالإنكار بحضوره صلى الله عليه وسلم قبل استئذانه ولما تقرر عندهم أيضا من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وفيه جواز التمسك بالعموم حتى يظهر الخصوص
قال ابن دقيق العيد والظاهر تحتم التمسك عند احتمال التخصيص عند المجتهد ولا يجب التوقف عن العمل بالعموم لذلك لأن علماء الأمصار ما برحوا يفتون بما بلغهم من غير بحث عن التخصيص وبهذه القصة أيضا إذ لم ينكر صلى الله عليه وسلم عليهم ولم يقل لهم لم نهيتم الأعرابي بل أمرهم بالكف عنه للمصلحة الراجحة وهي دفع أعظم المفسدتين باحتمال أيسرهما وتحصيل أعظم المصلحين بترك أيسرهما وفيه المبادرة إلى إزالة المفاسد عند زوال المانع لأمرهم عند فراغه بصب الماء وتعين الماء لإزالة النجاسة إذ لو كفى الجفاف بالريح والشمس لما طلب الدلو وأنه لا يشترط حفرها مطلقا خلافا للحنفية في أنه لا بد من حفرها إذا كانت صلبة وإلقاء التراب لأن الماء لم يغمر أعلاها وأسفلها بخلاف الرخوة التي يغمرها الماء فلا حفر وفيه رأفة المصطفى وحسن خلقه وتعظيم المسجد وتنزيهه عن الأقذار
( مالك عن عبد الله بن دينار أنه قال رأيت عبد الله بن عمر يبول قائما ) لأن مذهبه جوازه بلا كراهة وبه قال أبوه وزيد بن ثابت وابن المسيب وابن سيرين والنخعي وأحمد وقال مالك إن كان في مكان لا يتطاير عليه منه شيء فلا بأس به وإلا كره وكرهه تنزيها عامة العلماء
وفي الصحيحين وغيرهما عن حذيفة أتى النبي صلى الله عليه وسلم سباطة قوم فبال قائما قال ابن حبان لأنه لم يجد مكانا يصلح للقعود فقام لكون المكان الذي يليه من السباطة غالبا فأمن أن يرتد إليه شيء من بوله وقيل لأن السباطة رخوة يتخللها البول فلا يرتد إلى البائل شيء من بوله وقيل إنما بال قائما لأنها حالة يؤمن معها خروج الريح بصوت فعل ذلك لكونه قريبا من الديار ويؤيده ما رواه عبد الرزاق عن معمر قال البول قائما أحصن للدبر وقيل سبب ذلك ما روي عن الشافعي وأحمد أن العرب كانت تستشفى به لوجع الصلب فلعله كان به
وروى الحاكم والبيهقي عن أبي هريرة قال إنما بال صلى الله عليه وسلم قائما لوجع كان في مأبضه وهو بهمزة ساكنة فموحدة فمعجمة باطن الركبة فكأنه لم يتمكن لأجله من القعود ولو صح هذا الحديث لأغنى عن جميع ما تقدم لكن ضعفه الدارقطني والبيهقي والأظهر أنه فعل ذلك لبيان الجواز وكان أكثر أحواله البول قاعدا وزعم أبو عوانة وابن شاهين أن البول عن قيام منسوخ واستدلا بحديث عائشة ما بال صلى الله عليه وسلم قائما بعد أن أنزل عليه القرآن رواه أبو عوانة والحاكم
وبحديثها من حدثكم أنه كان يبول قائما فلا تصدقوه ما كان يبول إلا قاعدا والصواب أنه غير منسوخ وحديث عائشة مستند إلى علمها فيحمل على ما وقع منه في البيوت فلم تطلع هي على بوله قائما وقد حفظه حذيفة وهو من كبار الصحابة وكان ذلك بالمدينة فيتضمن الرد على ما نفته من أنه لم يقع بعد نزول القرآن وقد ثبت عن عمر وابنه وعلي وزيد بن ثابت وغيرهم أنهم بالوا قياما وهو دال على
____________________
(1/191)
الجواز من غير كراهة إذا أمن الرشاش ولم يثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم في النهي عنه شيء ذكره في فتح الباري
( قال يحيى وسئل مالك عن غسل الفرج من البول والغائط هل جاء فيه أثر فقال بلغني أن بعض من مضى كانوا يتوضؤون ) أي يغسلون الدبر ( من الغائط ) قال في الاستذكار عنى به ابن عمر بن الخطاب لأنه من روايته عنه يعني سابقا أنه كان يتوضأ بالماء لما تحت إزاره وقد روي في قصة أهل قباء أنهم كانوا يتوضؤون من الغائط بالماء
( وأنا أحب أن أغسل الفرج من البول ) أيضا وإن جاز بالحجر
32 ما جاء في السواك بكسر السين على الأفصح مذكر وقيل مؤنث وأنكره الأزهري مشتق من ساك إذا دلك أو من جاءت الإبل تساوك هزالا أي تتمايل ويطلق على الفعل وهو المراد هنا وعلى الآلة وتجوز إرادته بتقدير مضاف أي استعماله وأل فيه لتعريف الحقيقة لا للاستغراق أو للعهد لأن السواك كان معهودا لهم على هيئات وكيفيات فيحتمل العود إليها والأول أقرب
( مالك عن ابن شهاب عن عبيد ) بضم العين بلا إضافة ( ابن السباق ) بسين مهملة وموحدة المدني أبي سعيد من ثقات التابعين وأشرافهم روى له الستة وذكر في التقصي أنه من بني عبد الدار بن قصي وفي التقريب وغيره أنه ثقفي وهو مرسل وقد وصله ابن ماجه من طريق صالح بن أبي الأخضر عن الزهري عن عبيد بن السباق عن ابن عباس ( أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال في ) يوم ( جمعة ) بضم الميم لغة الحجاز وفتحها لغة تميم وإسكانها لغة عقيل وبها قرأ الأعمش ( من الجمع ) جمع جمعة وتجمع أيضا على جمعات مثل غرفة وغرفات في وجوهها وأما الجمعة بسكون الميم فاسم لأيام الأسبوع وأولها السبت وأول الأيام يوم الأحد هكذا عند العرب قاله ابن الأعرابي
( يا معشر المسلمين ) قال النووي المعشر الطائفة الذين يشملهم وصف فالشباب معشر والشيوخ معشر والنساء معشر والأنبياء معشر وما أشبهه
( إن هذا يوم جعله الله عيدا ) لهذه الأمة خاصة جزم به أبو سعيد في شرف المصطفى وابن سراقة وذلك أنه سبحانه خلق العالم في ستة أيام وكسا كل يوم منها اسما يخصه وخص كل يوم بصنف من الخلق أوجده فيه وجعل يوم كمال الخلق مجمعا وعيدا للمؤمنين يجتمعون فيه لعبادته وذكره والتفرغ لشكره والإقبال على خدمته وذكر ما كان في ذلك اليوم وما يكون من المعاد
____________________
(1/192)
قال الراغب والعيد ما يعاود مرة بعد أخرى وخصه الشرع بيومي الأضحى والفطر ولما كان ذلك اليوم مجعولا في الشرع للسرور استعمل العيد في كل يوم مسرة أيا ما كان قال ابن عبد البر فيه أن من حلف أن يوم الجمعة يوم عيد لم يحنث وكذا لو حلف على فعل شيء يوم عيد ولا نية له بر بفعله يوم الجمعة لكن قال عبد الحق في شرح الأحكام العرف لا يقتضيه
( فاغتسلوا ) استنانا مؤكدا
( ومن كان عنده طيب فلا يضره أن يمس منه ) إذ هو مستحب للقادر عليه وقد كان يعرف خروجه صلى الله عليه وسلم إلى الصلاة برائحة الطيب إذا مشى وأوجبه أبو هريرة يوم الجمعة ولعله إيجاب سنة وأدب وإن كان حقيقة فالجمهور على خلافه قاله أبو عمر
( وعليكم بالسواك ) أي الزموه لتأكد استحبابه قالت عائشة كان صلى الله عليه وسلم إذا دخل على أول ما يبدأ بالسواك وسمعته يقول السواك مطهرة للفم مرضاة للرب وكان ربما استاك في الليلة مرارا وقد علم أن هذا الحديث مرسل وأن ابن ماجه وصله بذكر ابن عباس لكن عورض بما في الصحيح أنه ذكر عند ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال اغتسلوا يوم الجمعة وإن لم تكونوا جنبا وأصيبوا من الطيب قال ابن عباس أما الغسل فنعم وأما الطيب فلا أدري فكيف ينفي درايته مع روايته هذا الحديث ومن كان عنده طيب الخ
وصالح بن الأخضر أبي الأخضر الذي رواه عن الزهري موصولا ضعيف وقد خالفه مالك فرواه عن الزهري عن عبيد مرسلا قال الحافظ فإن كان صالح حفظ فيه ابن عباس احتمل أن يكون ذكره بعدما نسيه أو عكس ذلك
( مالك عن أبي الزناد ) بكسر الزاي وخفة النون ( عن الأعرج ) عبد الرحمن بن هرمز ( عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لولا أن أشق ) أي أثقل يقال شققت عليه إذا أدخلت عليه المشقة أشق شقا بالفتح ( على أمتي ) كذا رواه يحيى الليثي ورواه أكثر رواة الموطأ على المؤمنين ورواه كثير منهم لولا أن أشق على أمتي أو على الناس بالشك
وللبخاري عن عبد الله بن يوسف عن مالك لولا أن أشق على أمتي أو لولا أن أشق على الناس قال الحافظ ولم أقف عليه بهذا اللفظ في شيء من الروايات عن مالك ولا عن غيره وقد أخرجه الدارقطني في الموطآت من طريق الموطأ لعبد الله بن يوسف شيخ البخاري فيه بلفظ أو على الناس فلم يعد قوله لولا أن أشق ( لأمرتهم بالسواك ) أي باستعماله لا الآلة زاد البخاري مع كل صلاة ولم أرها أيضا في شيء من روايات الموطأ إلا عن معن بن عيسى لكن بلفظ عند كل صلاة وكذا للنسائي عن قتيبة عن مالك
____________________
(1/193)
وكذا رواه مسلم من طريق ابن عيينة عن أبي الزناد وخالفه سعيد بن أبي هلال عن الأعرج فقال مع الوضوء بدل الصلاة أخرجه أحمد
قال البيضاوي لولا كلمة تدل على انتفاء الشيء لثبوت غيره والحق أنها مركبة من لو الدالة على انتفاء الشيء لانتفاء غيره ولا النافية فدل الحديث على انتفاء الأمر لثبوت المشقة لأن انتفاء النفي ثبوت فيكون الأمر منفيا لثبوت المشقة فيه وفيه دليل على أن الأمر للوجوب من وجهين أحدهما أنه نفي الأمر مع ثبوت الندبية ولو كان للندب لما جاز النفي
ثانيهما أنه جعل الأمر للمشقة عليهم وإنما يتحقق إذا كان للوجوب إذ الندب لا مشقة فيه لأنه جائز الترك
وقال الشيخ أبو إسحاق في شرح اللمع في الحديث دليل على أن الاستدعاء على جهة الندب ليس بأمر حقيقة لأن السواك عند كل صلاة مندوب إليه وقد أخبر الشارع أنه لم يأمر به انتهى
ويؤيده قوله في رواية سعيد المقبري عن أبي هريرة عند النسائي بلفظ لفرضت عليهم بدل لأمرتهم
وقال الشافعي فيه دليل على أن السواك ليس بواجب لأنه لو كان واجبا لأمرهم به شق عليهم أو لم يشق انتهى
وإلى القول بعدم وجوبه صار أكثر أهل العلم بل ادعى بعضهم فيه الإجماع لكن حكى أبو حامد وتبعه الماوردي عن إسحاق بن راهويه أنه قال هو واجب لكل صلاة فمن تركه عامدا بطلت صلاته
وعن داود واجب لكن ليس شرطا واحتج من قال بوجوبه بورود الأمر به فعند ابن ماجه عن أبي أمامة مرفوعا تسوكوا ولأحمد نحوه في حديث العباس ولا يثبت شيء منها وعلى تقدير الصحة فالمنفي في مفهوم حديث الباب الأمر به مقيدا بكل صلاة لا مطلق الأمر ولا يلزم من نفي المقيد نفي المطلق ولا من ثبوت المطلق التكرار كما قال من احتج به على أن الأمر يقتضي التكرار لأن الحديث دل على كون المشقة هي المانعة من الأمر بالسواك ولا مشقة في وجوبه مرة وإنما المشقة في وجوب التكرار وفيه نظر لأن التكرار لم يؤخذ هنا من مجرد الأمر وإنما أخذ من تقييده بكل صلاة
وقال المهلب فيه إن المندوبات ترتفع إذا خشي منها الحرج وفيه ما كان النبي صلى الله عليه وسلم عليه من الشفقة على أمته وجواز اجتهاده فيما لم ينزل عليه فيه نص لأنه جعل المشقة سببا لعدم أمره فلو وقف الحكم على النص لكان سبب انتفاء الوجوب عدم ورود النص لا وجود المشقة وفيه بحث لجواز أنه إخبار منه صلى الله عليه وسلم بأن سبب عدم ورود النص وجود المشقة فيكون معنى لأمرتهم أي عن الله بأنه واجب انتهى
قال السيوطي وفي الحديث اختصار من أثنائه وآخره فقد أخرجه الشافعي في الأم عن سفيان عن أبي الزناد بسنده لولا أن أشق على أمتي لأمرتهم بتأخير العشاء والسواك عند كل صلاة وقد علم أن هذا الحديث رواه البخاري عن عبد الله بن يوسف والنسائي عن قتيبة بن سعيد كلاهما عن مالك وتابعه سفيان بن عيينة عند مسلم
( مالك عن ابن شهاب عن حميد ) بضم المهملة ( ابن عبد الرحمن بن عوف ) الزهري المدني من
____________________
(1/194)
كبار التابعين ثقة من رجال الجميع مات سنة خمس ومائة على الصحيح
( عن أبي هريرة أنه قال لولا أن يشق ) وفي نسخة لولا أن أشق ( على أمته ) صلى الله عليه وسلم وإن مصدرية في محل رفع على الابتداء والخبر محذوف وجوبا أي لولا المشقة موجودة ( لأمرهم ) صلى الله عليه وسلم على نسخة يشق وفي نسخة لأمرتهم على نسخة أشق ( بالسواك مع كل وضوء ) أي مصاحبا له كقوله في رواية عند كل وضوء ويحتمل أن معناه لأمرتهم به كما أمرتهم بالوضوء وهذا الحديث موقوف لفظا مرفوع حكما
قال ابن عبد البر هذا الحديث يدخل في المسند أي المرفوع لاتصاله من غير وجه ولما يدل عليه اللفظ قال وبهذا اللفظ رواه يحيى وأبو مصعب وابن بكير والقعنبي وابن القاسم وابن وهب وابن نافع وأكثر الرواة ورواه معن بن عيسى وأيوب بن صالح وعبد الرحمن بن مهدي وغيرهم عن مالك عن الزهري عن حميد عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لولا أن أشق على أمتي لأمرتهم بالسواك مع كل وضوء انتهى
وكذا أخرجه الشافعي في مسنده مصرحا برفعه والبيهقي وأخرجه الطبراني في الأوسط بإسناد حسن من حديث علي مرفوعا بهذا اللفظ وللحاكم والبيهقي عن أبي هريرة رفعه لولا أن أشق على أمتي لفرضت عليهم السواك مع الوضوء قال الحاكم صحيح على شروطهما وليس له علة وفي مسند أحمد من حديث قثم بن العباس أو تمام بن العباس لولا أن أشق على أمتي لفرضت عليهم السواك كما فرضت عليهم الوضوء وروى البزار والطبراني وأبو يعلى والحاكم عن العباس بن عبد المطلب مرفوعا لولا أن أشق على أمتي لفرضت عليهم السواك عند كل صلاة كما فرضت عليهم الوضوء ولابن ماجه عن أبي أمامة ما جاءني جبريل إلا وأوصاني بالسواك حتى خشيت أن يفرض علي وعلى أمتي ولولا أني أخاف على أمتي لفرضته عليهم ولسعيد بن منصور من مرسل مكحول لولا أن أشق على أمتي لأمرتهم بالسواك والطيب عند كل صلاة ولأبي نعيم عن ابن عمرو بن العاصي لولا أن أشق على أمتي لأمرتهم أن يستاكوا بالأسحار وتمسك بعموم هذه الأحاديث كلها من لم يكره السواك للصائم بعد الزوال لدخول الصائم فيها وغيره شهر رمضان وغيره وهو جلي والله أعلم
33 ما جاء في النداء للصلاة أي الأذان لها
قال تعالى { إذا نودي للصلاة من يوم الجمعة } سورة الجمعة الآية 9 وقال سبحانه { وإذا ناديتم إلى الصلاة اتخذوها هزوا ولعبا ذلك بأنهم قوم لا يعقلون } سورة المائدة الآية 58 قال ابن شهاب قد ذكر الله التأذين في هذه الآية رواه ابن أبي حاتم وفي الآيتين إشارة إلى أن ابتداء الأذان كان بالمدينة لأن ابتداء الجمعة كان بها وذكر أهل التفسير أن اليهود لما سمعوا الأذان قالوا لقد بدعت يا محمد شيئا لم يكن فيما مضى فنزل { وإذا ناديتم إلى الصلاة } الآية
____________________
(1/195)
والراجح أنه شرع في السنة الأولى من الهجرة وقيل الثانية
وروى أبو الشيخ عن ابن عباس قال الأذان نزل على رسول الله مع فرض الصلاة { يا أيها الذين آمنوا إذا نودي للصلاة من يوم الجمعة فاسعوا إلى ذكر الله } قال مغلطاي أي مع فرض الجمعة
قال الكرماني صلات الأفعال تختلف بحسب مقاصد الكلام فقصد في قوله تعالى { إلى الصلاة } معنى الانتهاء
وفي قوله { للصلاة } معنى الاختصاص
قال الحافظ ويحتمل أن اللام بمعنى إلى أو العكس قال ومن أغرب ما وقع في بدء الأذان ما رواه أبو الشيخ بسند مجهول عن عبد الله بن الزبير قال أخذ الأذان من أذان إبراهيم { وأذن في الناس بالحج } سورة الحج الآية 27 الآية قال فأذن
وما رواه أبو نعيم في الحلية بسند فيه مجاهيل أن جبريل نادى بالأذان لآدم حين أهبط من الجنة انتهى
وهو كالإقامة من خصائص هذه الأمة ولا يشكل بما رواه الحاكم وابن عساكر وأبو نعيم بإسناد فيه مجاهيل أن آدم لما نزل بالهند استوحش فنزل جبريل فنادى بالأذان لأن مشروعيته للصلاة هو الخصوصية على فرض صحة المروى
( مالك عن يحيى بن سعيد ) الأنصاري ( أنه قال ) مرسلا ( كان رسول الله ) لما كثر الناس ( قد أراد أن يتخذ خشبتين ) هما الناقوس وهو خشبة طويلة تضرب بخشبة أصغر منها فيخرج منهما صوت كما في الفتح وغيره ( يضرب بهما ليجتمع الناس للصلاة ) قال ابن عمر كان المسلمون حين قدموا المدينة يجتمعون فيتحينون الصلاة ليس ينادى لها فتكلموا يوما في ذلك فقال بعضهم أنتخذ ناقوسا مثل ناقوس النصارى وقال بعضهم بل بوقا مثل قرن اليهود الحديث في الصحيحين
وقال أنس لما كثر الناس ذكروا أن يعلموا وقت الصلاة بشيء يعرفونه فذكروا أن يوروا نارا أو يضربوا ناقوسا رواه البخاري ومسلم وفيه اختصار وهو في أبي داود وغيره بإسناد صحيح عن أبي عمير بن أنس عن عمومة له من الأنصار اهتم النبي للصلاة كيف يجمع الناس لها قيل له انصب راية فإذا رآها الناس أذن بعضهم بعضا فلم يعجبه ذلك فذكر له القبع أي شبور اليهود فقال هو من أمر اليهود فذكر له الناقوس فقال هو من أمر النصارى وكأنه كرهه أولا ثم أمر بعمله
ففي أبي داود عن عبد الله بن زيد لما أمر رسول الله بالناقوس يعمل ليضرب به للناس ليجتمعوا للصلاة طاف بي وأنا نائم رجل يحمل ناقوسا ( فأري عبد الله بن زيد ) بن ثعلبة بن عبد ربه أبو محمد ( الأنصاري ثم من بني الحارث بن
____________________
(1/196)
الخزرج ) فيقال له الخزرجي الحارثي شهد العقبة وبدرا قال الترمذي لا نعرف له عن النبي شيئا إلا هذا الحديث الواحد في الأذان وكذا قال ابن عدي قال في الإصابة وأطلق غير واحد أنه ما له غيره وهو خطأ فقد جاءت عنه أحاديث ستة أو سبعة جمعتها في جزء مفرد ومات سنة اثنين وثلاثين وهو ابن أربع وستين وصلى عليه عثمان قاله ولده محمد بن عبد الله نقله المدايني وقال الحاكم الصحيح أنه قتل بأحد فالروايات عنه كلها منقطعة وخالف ذلك في المستدرك ( خشبتين في النوم ) متعلق بأري ( فقال إن هاتين لنحو مما يريد رسول الله ) أن يجمع به الناس للصلاة ( فقيل ألا تؤذنون للصلاة ) وأسمعه الأذان فاستيقظ ( فأتى رسول الله حين استيقظ فذكر له ذلك ) فقال إنها لرؤيا حق إن شاء الله ( فأمر رسول الله بالأذان ) كذا أورد الحديث مرسلا مختصرا كما سمعه من يحيى بن سعيد قال ابن عبد البر وروى قصة عبد الله بن زيد هذه في بدء الأذان جماعة من الصحابة بألفاظ مختلفة ومعان متقاربة والأسانيد في ذلك متواترة وهي من وجوه حسان انتهى
وأخرج أبو داود والترمذي وقال حسن صحيح وابن ماجه وابن خزيمة وابن حبان وصححاه من حديث محمد بن عبد الله بن زيد قال حدثني أبي لما أمر بالناقوس يعمل به للناس ليجتمعوا للصلاة طاف بي وأنا نائم رجلا يحمل ناقوسا في يده فقلت يا عبد الله أتبيع الناقوس قال وما تصنع به فقلت ندعو به إلى الصلاة قال أفلا أدلك على ما هو خير من ذلك فقلت بلى قال تقول الله أكبر فذكره مربع التكبير بلا ترجيع قال ثم استأخر عني غير بعيد فقال تقول إذا قمت إلى الصلاة فذكر الإقامة مفردة وثنى قد قامت الصلاة فلما أصبحت أتيت رسول الله فأخبرته بما رأيت فقال إنها لرؤيا حق إن شاء الله فقم مع بلال فألق عليه ما رأيت فليؤذن به فإنه أندى منك صوتا فقمت مع بلال فجعلت ألقيه عليه ويؤذن به قال فسمع بذلك عمر بن الخطاب وهو في بيته فخرج يجر رداءه يقول والذي بعثك بالحق يا رسول الله لقد رأيت مثل ما أرى فقال فلله الحمد اه لفظ أبي داود وهو كالشرح لمرسل الموطأ
ونقل ابن خزيمة عن محمد بن يحيى الذهلي بذال ولام أن هذه الطريق أصح طرقه وشاهده حديث عبد الرزاق عن معمر عن الزهري عن سعيد بن المسيب مرسلا ومنهم من وصله عن سعيد عن عبد الله بن زيد والمرسل أقوى إسنادا
ولأحمد عن معاذ بن جبل أن عبد الله بن زيد قال يا رسول الله إني رأيت فيما يرى النائم ولو قلت إني لم أكن نائما لصدقت رأيت شخصا عليه ثوبان أخضران فاستقبل القبلة فقال الله أكبر فذكر الحديث
وعند أبي داود في حديث أبي عمير بن أنس عن عمومته من الأنصار وكان عمر قد رآه قبل ذلك
____________________
(1/197)
فكتمه عشرين يوما ثم أخبر النبي فقال له ما منعك أن تخبرني فقال سبقني عبد الله بن زيد فاستحيت وظاهره يعارض ما قبله
قال الحافظ ولا مخالفة لأنه يحمل على أنه لم يخبر بذلك عقب إخبار عبد الله بن زيد بل متراخيا عنه فقوله ما منعك أن تخبرني أي عقب إخبار عبد الله فاعتذر بالاستحياء فدل على أنه لم يخبره على الفور انتهى
وبعده لا يخفى مع قوله فسمع عمر فخرج يقول يا رسول الله لقد رأيت مثل ما أرى فجعله حالا من فاعل خرج أي قائلا في حال خروجه لكنه لا يمتنع للجمع بين الحديثين مع صحتهما
وللطبراني في الأوسط أن أبا بكر أيضا رأى الأذان وذكر الجيلي في شرح التنبيه أنه رآه أربعة عشر رجلا وأنكره ابن الصلاح فقال لم أجده بعد إمعان البحث ثم النووي فقال في تنقيحه هذا ليس بثابت ولا معروف وإنما الثابت خروج عمر يجر رداءه وفي سيرة مغلطاي عن بعض كتب الفقهاء أنه رآه سبعة من الأنصار قال الحافظ ولا يثبت شيء من ذلك إلا لعبد الله بن زيد وقصة عمر جاءت في بعض طرقه وفي مسند الحارث بن أبي أسامة بسند واهي عن كثير الحضرمي قال أول من أذن بالصلاة جبريل في السماء الدنيا فسمعه عمر وبلال فسبق عمر بلالا فأخبر النبي ثم جاء بلال فقال له سبقك بها عمر قال وقد استشكل إثبات حكم الأذان برؤيا عبد الله بن زيد لأن رؤيا غير الأنبياء لا ينبني عليها حكم شرعي وأجيب باحتمال مقارنة الوحي لذلك أو لأنه أمر بمقتضى الرؤيا لينظر أيقر على ذلك أم لا ولا سيما لما رأى نظمها يبعد دخول الوسواس فيه وهذا ينبني على القول بجواز اجتهاده في الأحكام وهو المنصور في الأصول ويؤيد الأول ما رواه عبد الرزاق وأبو داود في المراسيل عن عبيد بن عمير أحد كبار التابعين أن عمر لما رأى الأذان جاء ليخبر به النبي فوجد الوحي قد ورد بذلك فما راعه إلا أذان بلال فقال له النبي سبقك بذلك الوحي وهذا أصح مما حكى الداودي عن ابن إسحاق أن جبريل أتى النبي بالأذان قبل أن يخبره عبد الله بن زيد وعمر بثمانية أيام وجاءت أحاديث تدل على أن الأذان شرع بمكة قبل الهجرة منها للطبراني عن ابن عمر قال لما أسري بالنبي أوحى الله إليه الأذان فنزل به فعلمه بلالا وفي إسناده طلحة بن زيد وهو متروك وللدارقطني عن أنس أن جبريل أمر النبي بالأذان حين فرضت الصلاة وإسناده ضعيف أيضا ولابن مردويه عن عائشة مرفوعا لما أسري بي أذن جبريل فظنت الملائكة أنه يصلي بهم فقدمني فصليت وفيه من لا يعرف
وللبزار وغيره عن علي لما أراد الله أن يعلم رسوله الأذان أتاه جبريل بالبراق فركبها الحديث وفيه إذ خرج ملك من الحجاب فقال الله أكبر وفي آخره فأخذ الملك بيده فأم بأهل السماء
وفي إسناده زياد بن المنذر أبو الجارود وهو متروك أيضا ويمكن على تقدير الصحة أن يحمل على تعدد الإسراء فيكون وقع ذلك بالمدينة وقول القرطبي لا يلزم من كونه سمعه
____________________
(1/198)
ليلة الإسراء أن يكون مشروعا في حقه فيه نظر لقوله أوله لما أراد الله أن يعلم رسوله الأذان وكذا قول المحب الطبري يحمل الأذان ليلة الإسراء على الأذان اللغوي وهو الإعلام فيه نظر أيضا لتصريحه بصفته المشروعة فيه والحق أنه لا يصح شيء من هذه الأحاديث وقد جزم ابن المنذر بأنه كان يصلي بلا أذان منذ فرضت الصلاة بمكة إلى أن هاجر إلى المدينة إلى أن وقع التشاور في ذلك على ما في حديث ابن عمر ثم في حديث عبد الله بن زيد انتهى
ومن الواهي أيضا ما لابن شاهين عن زياد بن المنذر حدثني العلاء قال قلت لابن الحنفية كنا نتحدث أن الأذان رؤيا رآها رجل من الأنصار ففزع وقال عمدتم إلى أحسن دينكم فزعمتم أنه كان رؤيا هذا والله الباطل ولكن رسول الله لما عرج به انتهى إلى مكان من السماء وقف وبعث الله ملكا ما رآه أحد في السماء قبل ذلك اليوم فعلمه الأذان ففيه كما رأيت زياد بن المنذر متروك وقد صرح الحافظ الذهبي بأن هذا باطل
قال الحافظ وقد حاول السهيلي الجمع فتكلف وتعسف والأخذ بما صح أولى فقال بانيا على صحة الحكمة في مجيء الأذان على لسان الصحابي أن النبي سمعه فوق سبع سموات وهو أقوى من الوحي فلما تأخر الأمر بالأذان عن فرض الصلاة وأراد إعلامهم بالوقت رأى الصحابي المنام فقصه فوافق ما كان سمعه فقال إنها لرؤيا حق وعلم حينئذ أن مراد الله بما أراه في السماء أن يكون سنة في الأرض وتقوى ذلك بموافقة عمر لأن السكينة تنطبق على لسانه والحكمة أيضا في إعلام الناس به على غير لسانه التنوية بقدره والرفع لذكره بلسان غيره ليكون أقوى لأمره وأفخر لشأنه انتهى ملخصا
والثاني حسن بديع ويؤخذ من عدم الاكتفاء برؤية عبد الله بن زيد حتى أضيف إليه عمر للتقوية التي ذكرها ولم يقتصر على عمر ليصير في معنى الشهادة وجاء في رواية ضعيفة ما ظاهره أن بلالا رأى أيضا لكنها مؤولة فإن لفظها سبقك بها بلال فيحمل على مباشرة التأذين برؤيا عبد الله بن زيد ومما يكثر السؤال عنه هل باشر النبي الأذان بنفسه وقد روى الترمذي بإسناد حسن عن يعلى بن مرة الثقفي أن النبي أذن في سفر وصلى بأصحابه وهم على رواحلهم السماء من فوقهم والبلة من أسفلهم قال السهيلي فنزع بعض الناس بهذا الحديث أنه أذن بنفسه لكن روى الحديث الدارقطني بسند الترمذي ومتنه وقال فيه فأمر بالأذان فقام المؤذن فأذن والمفصل يقضي على المجمل المحتمل انتهى
وتبع هذا البعض النووي فجزم أن النبي أذن مرة في سفره وعزاه للترمذي وقواه وتعقبه الحافظ فقال ولكن وجدنا الحديث في مسند أحمد من الوجه الذي أخرجه منه الترمذي بلفظ فأمر بلالا فأذن فعرف أن في رواية الترمذي اختصارا وأن معنى أذن أمر بلالا به كما يقال أعطى الخليفة العالم الفلاني ألفا وإنما ناشر العطاء غيره ونسب للخليفة لكونه أمر به انتهى
وانتصر بعض للنووي تبعا للبعض بأن هذا إنما يصار إليه لو لم يحتمل تعدد الواقعة أما إذا
____________________
(1/199)
أمكن فيجب المصير إليه إبقاء لأذن على حقيقته عملا بقاعدة الأصول أنه يجب إبقاء اللفظ على حقيقته وهو مردود بأن ذلك إنما يصح إذا اختلف سند الحديث ومخرجه أما مع الاتحاد فلا ويجب رجوع المجمل إلى المفصل عملا بقاعدة الأصول وأهل الحديث وقال بعض المحدثين لو لم نكتب الحديث من ستين وجها ما عقلناه لاختلاف الرواة في ألفاظه ونحوها نعم قال السيوطي في شرح البخاري قد ظفرت بحديث آخر مرسلا رواه سعيد بن منصور حدثنا أبو معاوية حدثنا عبد الرحمن بن أبي بكر القرشي عن ابن أبي مليكة قال أذن رسول الله مرة فقال حي على الفلاح قال وهذه رواية لا تقبل التأويل انتهى
فهذا الذي يجزم فيه بالتعدد لاختلاف سنده وانظر ما أحسن قوله آخر لكن لم يبين هل كان في سفر أو حضر
( مالك عن ابن شهاب عن عطاء بن يزيد ) بتحتية وزاي ( الليثي ) المدني نزيل الشام من ثقات التابعين ورجال الجميع مات سنة خمس أو سبع ومائة وقد جاوز الثمانين ولأبي عوانة من رواية ابن وهب عن مالك ويونس عن الزهري أن عطاء بن يزيد أخبره ( عن أبي سعيد ) سعد بن مالك بن سنان بن عبيد الأنصاري ( الخدري ) له ولأبيه صحبة واستصغر بأحد ثم شهد ما بعدها روى الكثير ومات بالمدينة سنة ثلاث أو أربع أو خمس وستين وقيل سنة أربع وسبعين
( أن رسول الله قال إذا سمعتم النداء ) أي الأذان سمي به لأنه نداء إلى الصلاة ودعاء إليها
( فقولوا مثل ما يقول المؤذن ) ادعى ابن وضاح أن قوله المؤذن مدرج وأن الحديث انتهى بقوله ما يقول وتعقب بأن الإدراج لا يثبت بمجرد الدعوى وقد اتفقت الروايات في الصحيحين والموطأ على إثباتها ولم يصب صاحب العمدة في حذفها وظاهره اختصاص الإجابة بمن سمع حتى لو رأى المؤذن على المنارة مثلا في الوقت وعلم أنه يؤذن لكن لم يسمع أذانه لبعد أو صمم لا يشرع له المتابعة قاله النووي في شرح المهذب وقال مثل ما يقول ولم يقل مثل ما قال ليشعر بأنه يجيبه بعد كل كلمة مثل كلمتها قاله الكرماني والصريح في ذلك ما رواه النسائي عن أم حبيبة أنه كان يقول مثل ما يقول المؤذن حتى يسكت
وقال أبو الفتح اليعمري ظاهر الحديث أنه يقول مثل ما يقول عقب فراغ المؤذن لكن الأحاديث التي تضمنت إجابة كل كلمة عقبها دلت على أن المراد المساوقة يشير إلى حديث عمر في مسلم وغيره وظاهره أيضا أنه يقول مثله في جميع الكلمات لكن حديث عمر أيضا وحديث معاوية في البخاري وغيره دلا على أنه يستثنى من ذلك حي على الصلاة وحي على الفلاح فيقول بدلهما لا حول ولا قوة إلا بالله وهو المشهور عند الجمهور
وقال ابن المنذر يحتمل أن يكون ذلك من الاختلاف المباح فيقول تارة كذا وتارة كذا
وحكي
____________________
(1/200)
عن بعض أهل الأصول أن الخاص والعام إذا أمكن الجمع بينهما وجب إعمالهما فلم لا يستحب للسامع أن يجمع بين الحيعلة والحوقلة وهو وجه عند الحنابلة
وأجيب عن المشهور من حيث المعنى بأن الأذكار الزائدة على الحيعلة يشترك السامع والمؤذن في ثوابها وأما الحيعلة فمقصودها الدعاء إلى الصلاة وذلك يحصل من المؤذن فعوض السامع عما فاته من ثوابها بثواب الحوقلة ولقائل أن يقول يحصل للمجيب الثواب لامتثاله الأمر ويمكن أن يزداد استيقاظا وإسراعا إلى القيام إلى الصلاة إذا تكرر على سمعه الدعاء إليها من المؤذن ومن نفسه
قيل وفي الحديث دليل على أن لفظ مثل لا يقتضي المساواة من كل جهة لأنه لا يطلب برفع الصوت المطلوب من المؤذن وفيه بحث لأن المماثلة وقعت في القول لا في صفته والفرق أن المؤذن قصده الإعلام فاحتاج لرفع الصوت والسامع مقصوده ذكر الله فيكفي السر أو الجهر لا مع رفع الصوت نعم لا يكفي إجراؤه على خاطره من غير تلفظ لظاهر الأمر بالقول وفيه جواز إجابة المؤذن في الصلاة عملا بظاهر الأمر ولأن المجيب لا يقصد المخاطبة واستدل به على وجوب إجابة المؤذن حكاه الطحاوي عن قوم من السلف وبه قال الحنفية والظاهرية وابن وهب واستدل الجمهور لحديث مسلم وغيره أنه سمع مؤذنا فلما كبر قال على الفطرة فلما تشهد قال خرج من النار فلما قال غير ما قال المؤذن علم أن الأمر للاستحباب وتعقب بأنه ليس في الحديث أنه لم يقل مثل ما قال فيجوز أنه قاله ولم ينقله الراوي اكتفاء بالعادة ونقل القول الزائد وبأنه يحتمل أن ذلك وقع قبل صدور الأمر وأن يكون لما أمر لم يرد أن يدخل نفسه في عموم من خوطب بذلك انتهى
والحديث أخرجه البخاري عن عبد الله بن يوسف ومسلم عن يحيى كلاهما عن مالك به قال الحافظ واختلف عن الزهري في إسناده وعلى مالك أيضا لكنه اختلاف لا يقدح في صحته فرواه عبد الرحمن بن إسحاق عن الزهري عن سعيد عن أبي هريرة أخرجه النسائي وابن ماجه
وقال أبو حاتم وأحمد بن صالح والترمذي وأبو داود حديث مالك ومن تابعه أصح
ورواه يحيى القطان عن مالك عن الزهري عن السائب بن يزيد أخرجه مسدد في مسنده وقال إنه خطأ والصواب الرواية الأولى وفيه اختلاف آخر دون ما ذكر لا نطيل به انتهى
( مالك عن سمي ) بضم السين المهملة بلفظ التصغير ( مولى أبي بكر بن عبد الرحمن ) بن الحارث بن هشام ( عن أبي صالح ) ذكوان ( السمان ) لأنه كان يتجر في السمن والزيت فلذا قيل له الزيات أيضا ( عن أبي هريرة أن رسول الله قال لو يعلم الناس ) وضع المضارع موضع الماضي ليفيد استمرار العلم قاله الطيبي ( ما في النداء ) أي الأذان وهي رواية بشر بن عمر عن مالك عند
____________________
(1/201)
السراج ( والصف الأول ) زاد أبو الشيخ من طريق الأعرج عن أبي هريرة من الخير والبركة وقال الطيبي أطلق مفعول يعلم وهو ما ولم يبين الفضيلة ما هي ليفيد ضربا من المبالغة وأنه مما لا يدخل تحت الوصف والإطلاق إنما هو في قدر الفضيلة وإلا فقد ميزت في رواية بالخير والبركة
قال الباجي اختلف في الصف الأول هل هو الذي يلي الإمام أو المبكر السابق إلى المسجد قال القرطبي والصحيح أنه الذي يلي الإمام قالا فإن كان بين الإمام والناس حائل كما أحدث الناس المقاصير فالصف الأول هو الذي يلي المقصورة
وقال ابن عبد البر لا أعلم خلافا أن من بكر وانتظر الصلاة وإن لم يصل في الصف الأول أفضل ممن تأخر وصلى في الصف الأول وفي هذا ما يوضح معنى الصف الأول وأنه ورد من أجل البكور إليه والتقدم
وقال أتموا الصف المقدم ثم الذي يليه فما كان من نقص فليكن في المؤخر ( ثم لم يجدوا ) شيئا من وجوه الأولوية بأن يقع التساوي أما في الأذان فبأن يستووا في معرفة الوقت وحسن الصوت ونحو ذلك
وأما في الصف فبأن يصلوا دفعة واحدة ويتساووا في الفضل
( إلا أن يستهموا ) أي يقترعوا ( عليه ) أي على ما ذكر من الأمرين ليشمل الأذان والصف
وقال ابن عبد البر الهاء عائدة على الصف الأول لا على النداء وهو وجه الكلام لأن الضمير يعود إلى أقرب مذكور ولا يعدل عنه إلا بدليل ونازعه القرطبي وقال يلزم منه أن يبقى النداء ضائعا لا فائدة له قال والضمير يعود على معنى الكلام المتقدم ومثله قوله تعالى { ومن يفعل ذلك يلق أثاما } سورة الفرقان الآية 68 أي جميع ما ذكر قال الحافظ وقد رواه عبد الرزاق عن مالك بلفظ لاستهموا عليهما فهذا مفصح بالمراد من غير تكلف
( لاستهموا ) اقترعوا ومنه قوله تعالى { فساهم فكان من المدحضين } سورة الصافات الآية 141 قال الخطابي وغيره قيل له استهام لأنهم كانوا يكتبون أسماءهم على سهام إذا اختلفوا في شيء فمن خرج اسمه غلب واستدل به بعضهم لمن قال بالاقتصار على مؤذن واحد وليس بظاهر لصحة استهام أكثر من واحد ولأن الاستهام على الأذان متوجه من جهة التولية من قبل الإمام لما فيه من المزية وزعم بعضهم أن المراد بالاستهام هنا الترامي بالسهام وأنه خرج مخرج المبالغة واستأنس بحديث لتجالدوا عليه بالسيوف لكن فهم البخاري أن المراد اقترعوا أولى لرواية مسلم لكانت قرعة
وقد روى سيف بن عمر في كتاب الفتوح والطبراني عن عبد الله بن شبرمة عن شقيق وهو أبو وائل قال افتتحنا القادسية صدر النهار فتراجعنا وقد أصيب المؤذن فتشاح الناس في الأذان بالقادسية
____________________
(1/202)
فاختصموا إلى سعد بن أبي وقاص فأقرع بينهم فخرجت القرعة لرجل منهم فأذن والقادسية مكان معروف بالعراق نسب إلى قادس رجل نزل به
وحكى الجوهري أن إبراهيم الخليل قدس على ذلك المكان فلذا صار منزلا للحاج وكان بها وقعة مشهورة للمسلمين مع الفرس في خلافة عمر سنة خمس عشرة وكان سعد يومئذ الأمير على الناس
( ولو يعلمون ما في التهجير ) أي التبكير إلى الصلوات أي صلاة كانت قاله الهروي وغيره قال ابن عبد البر التهجير معروف وهو البدار إلى الصلاة أول وقتها وقبله وانتظارها قال تعالى { فاستبقوا الخيرات } سورة البقرة الآية 148 وقال منتظر الصلاة في صلاة ما انتظرها وحسبك بهذا فضلا
وسمى انتظار الصلاة بعد الصلاة رباطا وجاء رباط يوم خير من صوم شهر انتهى
وحمله خليل والباجي وغيرهما على ظاهره فقالوا المراد الإتيان إلى صلاة الظهر في أول الوقت لأن التهجير مشتق من الهاجرة وهي شدة الحر نصف النهار وهو أول وقت الظهر وإلى ذلك مال البخاري قال الحافظ ولا يرد على ذلك مشروعية الأمر بالإبراد لأنه أريد به الرفق وأما من ترك قائلته وقصد إلى المسجد لينتظر الصلاة فلا يخفى ما له من الفضل
( لاستبقوا إليه ) أي التهجير قال ابن أبي جمرة المراد الاستباق معنى لا حسا لأن المسابقة على الإقدام حسا تقتضي السرعة في المشي وهو ممنوع منه انتهى
( ولو يعلمون ما في العتمة ) أي العشاء وثبت النهي عن تسميتها عتمة فهذا الحديث بيان للجواز وأن النهي ليس للتحريم أو استعمل العتمة هنا لمصلحة ونفي مفسدة لأن العرب كانت تستعمل العشاء في المغرب فلو قال ما في العشاء لحملوها على المغرب ففسد المعنى وفات المطلوب فاستعمل العتمة التي يعرفونها ولا يشكون فيها وقواعد الشرع متظاهرة على احتمال أخف المفسدتين لدفع أعظمهما قاله النووي ( والصبح ) أي ثواب صلاتهما في جماعة ( لأتوهما ولو حبوا ) بفتح المهملة وسكون الموحدة أي مشيا على اليدين والركبتين أو على مقعدته
ولابن أبي شيبة من حديث أبي الدرداء ولو حبوا على المرافق والركب قال الباجي خص هاتين الصلاتين بذلك لأن السعي إليهما أشق من غيرهما لما فيه من تنقيص أول النوم وآخره
وقال ابن عبد البر الآثار فيهما كثيرة منها قوله أثقل الصلاة على المنافقين صلاة العشاء وصلاة الفجر وقال أبو الدرداء في مرض موته اسمعوا وبلغوا حافظوا على هاتين الصلاتين يعني في جماعة العشاء والصبح ولو تعلمون ما فيهما لأتيتموهما ولو حبوا على مرافقكم وركبكم
وكذلك
____________________
(1/203)
قال عمر وعثمان وروي مرفوعا شهود صلاة العشاء خير من قيام نصف ليلة وشهود صلاة الصبح خير من قيام ليلة وقال عمر والحسن لأن أشهد صلاة العشاء والفجر أحب إلي من أن أحيي ما بينهما
وقال ابن عمر كنا إذا فقدنا الرجل في صلاة العشاء وصلاة الفجر أسأنا به الظن انتهى
وهذا الحديث رواه البخاري عن عبد الله بن يوسف ومسلم عن يحيى كلاهما عن مالك به
( مالك عن العلاء بن عبد الرحمن بن يعقوب ) المدني ( عن أبيه ) وهو تابعي كابنه
( وإسحاق بن عبد الله ) بن أبي طلحة أحد شيوخ مالك روى عنه هنا بواسطة ( أنهما أخبراه ) أي العلاء ( أنهما سمعا أبا هريرة يقول قال رسول الله إذا ثوب بالصلاة ) بضم المثلثة وشد الواو وموحدة قال ابن عبد البر أي أقيم وأصل ثاب رجع يقال ثاب إلى المريض جسمه فكأن المؤذن رجع إلى ضرب من الأذان للصلاة وقد جاء هذا الحديث عن أبي هريرة بلفظ إذا أقيمت الصلاة وهو يبين أن التثويب هنا الإقامة انتهى
وهي رواية الصحيحين من وجه آخر عن أبي هريرة وفي رواية لهما أيضا إذا سمعتم الإقامة وهي أخص من قوله في حديث أبي قتادة عندهما أيضا إذا أتيتم الصلاة لكن الظاهر كما قال الحافظ إنه في مفهوم الموافقة لأن المسرع إذا أقيمت الصلاة يترجى إدراك فضيلة التكبيرة الأولى ونحوها ومع ذلك نهى عن الإسراع فغيره ممن جاء قبل الإقامة لا يحتاج إلى الإسراع لأنه يتحقق إدراك الصلاة كلها فينهى من باب أولى ولحظ فيه بعضهم معنى آخر فقال حكمة التقييد بالإقامة أن المسرع إذا أقيمت الصلاة يصل إليها وقد تعب فيقرأ وهو بتلك الحالة فلا يحصل له تمام الخشوع في الترتيل وغيره بخلاف من جاء قبل ذلك فلا تقام الصلاة حتى يستريح لكن قضية هذا أنه لا يكره الإسراع لمن جاء قبل الإقامة وهو مخالف لصريح قوله إذا أتيم الصلاة لأنه يتناول ما قبل الإقامة وإنما قيده بالإقامة لأنها الحاملة غالبا على الإسراع انتهى
( فلا تأتوها وأنتم تسعون ) تمشون بسرعة وتطلق على العمل نحو { ومن أراد الآخرة وسعى لها سعيها وهو مؤمن } سورة الإسراء الآية 19 { إن سعيكم لشتى } سورة الليل الآية 4 وعليه حمل قوله تعالى { فاسعوا إلى ذكر الله } سورة الجمعة الآية 9 كقوله { وأن ليس للإنسان إلا ما سعى } سورة النجم الآية 39 أو المراد الذهاب فليس معناه الإسراع
قال الطيبي ( وأنتم تسعون ) حال من ضمير الفاعل وهو أبلغ في النهي من لا تسعوا وذلك لأنه مناف لما هو أولى به من الوقار والأدب وعقبه بما يدل على حسن الأدب بقوله ( وأتوها وعليكم السكينة ) ضبطه القرطبي بالنصب على الإغراء والنووي بالرفع على أنها جملة في
____________________
(1/204)
موضع الحال زاد غيره أو السكينة مبتدأ وعليكم خبره
وذكر الحافظ العراقي في شرح الترمذي أن المشهور في الرواية الرفع
ووقع في رواية الحافظ أبي ذر الهروي للبخاري بالسكينة بالباء واستشكل بأنه متعد بنفسه عليكم أنفسكم وفيه نظر لثبوت زيادتها في أحاديث صحيحة كحديث عليكم برخصة الله وحديث فعليه بالصوم فإنه له وجاء وحديث عليك بالمرأة قاله لأبي طلحة في قصة صفية
وحديث عليكم بقيام الليل وحديث عليك بخويصة نفسك وغير ذلك تعليل هذا المعترض لا يوفي بمقصوده إذ لا يلزم من تعديه بنفسه امتناع تعديه بالباء إذا ثبت ذلك فيدل على أن فيه لغتين زاد في الصحيحين من وجه آخر عن أبي هريرة والوقار قال عياض والقرطبي هو بمعنى السكينة وذكر للتأكيد وقال النووي الظاهر أن بينهما فرقا وأن السكينة التأني في الحركات واجتناب العبث والوقار في الهيئة كغض البصر وخفض الصوت وعدم الالتفات ذكره الحافظ وقد منع الرضي الاعتراض بأن أسماء الأفعال وإن كان حكمها في التعدي واللزوم حكم الأفعال التي بمعناها لكن كثيرا ما تزاد الباء في مفعولها لضعفها في العمل
( فما أدركتم ) الفاء جواب شرط محذوف أي إذا فعلتم ما أمرتكم به من السكينة فما أدركتم ( فصلوا ) مع الإمام ( وما فاتكم ) معه ( فأتموا ) أي أكملوا وفي رواية فاقضوا والأولى أكثر رواية وأعمل مالك في المشهور في مذهبه الروايتين فقال يقضى القول ويبنى الفعل وعنه بانيا فيهما عملا برواية فأتموا وعليها الشافعي حملا لرواية فاقضوا على معنى الأداء والفراغ فلا يغاير قوله فأتموا لأنه إذا اتحد مخرج الحديث واختلف في لفظة منه وأمكن رد الاختلاف إلى معنى واحد كان أولى وهنا كذلك لأن القضاء وإن كان يطلق على الفائت غالبا لكنه يطلق على الأداء أيضا ويرد بمعنى الفراغ كقوله تعالى { فإذا قضيت الصلاة } سورة الجمعة الآية 10 وعنه يكون قاضيا فيهما وبه قال أبو حنيفة وفي هذا تنبيه لدفع توهم أن النهي إنما هو لمن لم يخف فوت بعض الصلاة فصرح بالنهي وإن فات من الصلاة ما فات وبين ما يفعل فيما فات بقوله فما الخ
قال ابن عبد البر الواجب أي المطلوب إتيان الصلاة بالسكينة ولو خاف فواتها لأمره بذلك وهو الحجة خلافا لمن جوز السعي لخوف الفوات وقد أكد ذلك ببيان العلة بقوله ( فإن أحدكم في صلاة ما كان ) مدة كونه ( يعمد ) بكسر الميم يقصد ( إلى الصلاة ) أي إنه في حكم المصلي فينبغي له اعتماد ما ينبغي للمصلي اعتماده واجتناب ما ينبغي له اجتنابه ونبه بهذا على أنه لو لم يدرك من الصلاة شيئا لكان محصلا لمقصوده لكونه في صلاة وعدم الإسراع أيضا يستلزم كثرة الخطأ وهو معنى مقصود لذاته وجاءت فيه أحاديث تقدم شيء منها وفي الصحيحين عن أنس أن بني سلمة أرادوا أن يتحولوا عن منازلهم فينزلوا قريبا من النبي فكره أن يعروا منازلهم فقال يا بني سلمة ألا تحتسبون آثاركم فأقاموا
ولمسلم عن جابر فقالوا ما يسرنا إذا كنا تحولنا
____________________
(1/205)
واستدل به الجمهور على حصول فضل الجماعة بإدراك أي جزء من الصلاة لقوله فما أدركتم فصلوا ولم يفصل بين قليل وكثير وقيل إنما يدرك فضلها بركعة وهو مذهب مالك للحديث السابق من أدرك ركعة من الصلاة فقد أدرك الصلاة وقياسا على الجمعة واستدل به أيضا على طلب الدخول مع الإمام في أي حالة وجد عليها وأصرح منه ما أخرجه ابن أبي شيبة عن رجل من الأنصار مرفوعا من وجدني قائما أو راكعا أو ساجدا فليكن معي على حالتي التي أنا عليها واستدل به أيضا على أن من أدرك الإمام راكعا لم تحسب له تلك الركعة للأمر بإتمام ما فاته وقد فاته الوقوف والقراءة فيه وهو قول أبي هريرة وجماعة واختاره ابن خزيمة وغيره وقواه التقي السبكي وحجة الجمهور حديث أبي بكرة لما ركع دون الصف فقال له النبي زادك الله حرصا ولا تعد ولم يأمره بإعادة تلك الركعة وقد تابع مالكا في رواية هذا الحديث عن العلاء إسماعيل بن جعفر قال أخبرني العلاء رواه مسلم بلفظه وهو في مسند أحمد والكتب الستة من طرق عن الزهري عن أبي سلمة عن أبي هريرة بلفظ إذا أقيمت الصلاة فلا تأتوها وأنتم تسعون وأتوها وأنتم تمشون وعليكم السكينة فما أدركتم فصلوا وما فاتكم فأتموا وله طرق كثيرة وألفاظ متقاربة
وأخرجه الشيخان أيضا من حديث أبي قتادة بلفظ إذا أتيتم الصلاة فعليكم بالسكينة والباقي نحوه
رح 148 ( مالك عن عبد الرحمن بن عبد الله بن عبد الرحمن بن أبي صعصعة ) بمهملات مفتوحات إلا العين الأولى فساكنة عمرو بن زيد ( الأنصاري ثم المازني ) بالزاي والنون من بني مازن بن النجار من الثقات مات في خلافة المنصور ( عن أبيه ) عبيد الله المدني من ثقات التابعين زاد ابن عيينة وكان يتيما في حجر أبي سعيد وكانت أمه عند أبي سعيد أخرجه ابن خزيمة ومات أبو صعصعة في الجاهلية وابنه عبد الرحمن صحابي
( أنه أخبره أن أبا سعيد ) سعد بن مالك بن سنان الصحابي ابن الصحابي ( الخدري قال له ) أي لعبد الله بن عبد الرحمن ( إني أراك تحب الغنم والبادية ) أي لأجل الغنم لأن محبها يحتاج إلى إصلاحها بالمرعى وهو الغالب يكون في البادية وهي الصحراء التي لا عمارة فيها
( فإذا كنت في غنمك أو باديتك ) يحتمل أن أو شك من الراوي وأنها للتنويع لأن الغنم قد لا تكون في البادية وقد يكون في البادية حيث لا غنم قاله الحافظ وغيره
( فأذنت بالصلاة ) أي أعلمت بوقتها وفي رواية للبخاري للصلاة باللام بدل الموحدة أي لأجلها
( فارفع صوتك بالنداء ) أي الأذان وفيه إشعار بأن أذان مريد الصلاة كان مقررا عندهم
____________________
(1/206)
لاقتصاره على الأمر بالرفع دون أصل التأذين وفيه استحباب أذان المنفرد وهو الراجح عند الشافعية والمالكية إن سافر بناء على أن الأذان حق الوقت ولو لم يرج حضور من يصلي معه لأنه إن فاته دعاء المصلين لم تفته شهادة من سمعه من غيرهم
وقيل لا يستحب بناء على أنه لاستدعاء الجماعة ومنهم من فصل بين من يرجو جماعة فيستحب ومن لا فلا
( فإنه لا يسمع مدى ) بفتح الميم والقصر أي غاية ( صوت المؤذن ) قال البيضاوي غاية الصوت يكون للمصغى أخفى من ابتدائه فإذا شهد له من بعد عنه ووصل إليه منتهى صوته فلأن يشهد له من دنا منه وسمع مبادي صوته أولى ( جن ) قال الرافعي يشبه أن يريد مؤمني الجن وأما غيرهم فلا يشهدون للمؤذن بل يفرون وينفرون من الأذان
( ولا إنس ) قيل خاص بالمؤمنين فأما الكافر فلا شهادة له قال عياض وهذا لا يسلم لقائله لما جاء في الآثار من خلافه
( ولا شيء ) ظاهره يشمل الحيوانات والجمادات فهو من العام بعد الخاص ويؤيده رواية ابن خزيمة لا يسمع صوته شجر ولا مدر ولا حجر ولا جن ولا إنس وله ولأبي داود والنسائي من طريق أبي يحيى عن أبي هريرة بلفظ المؤذن يغفر له مدى صوته ويشهد له كل رطب ويابس ونحوه للنسائي من حديث البراء وصححه ابن السكن قال الخطابي مدى الشيء غايته أي أنه يستكمل المغفرة إذا استوفى وسعه في رفع الصوت فيبلغ الغاية من المغفرة إذا بلغ الغاية من الصوت أو أنه كلام تمثيل وتشبيه يريد أن المكان الذي ينتهي إليه الصوت لو قدر أن يكون بين أقصاه وبين مقامه الذي هو فيه ذنوب تملأ تلك المسافة غفرها الله تعالى له واستشهد المنذري لقوله الأول برواية يغفر له مد صوته بتشديد الدال أي بقدر مد صوته قال الحافظ فهذه الأحاديث تبين المراد من قوله ولا شيء وتكلم بعض من لم يطلع عليها في تأويله على ما يقتضيه ظاهره فقال القرطبي المراد بالشيء الملائكة وتعقب بأنهم دخلوا في الجن لأنهم يستخفون عن الأبصار
وقال غيره المراد كل ما يسمع المؤذن من الحيوان حتى ما لا يعقل لأنه الذي يصح أن يسمع صوته دون الجمادات ومنهم من حمله على ظاهره ولا يمتنع ذلك عقلا ولا شرعا
قال ابن بزيزة تقرر في العادة أن السماع والشهادة والتسبيح لا يكون إلا من حي فهل ذلك حكاية على لسان الحال لأن الموجودات ناطقة بلسان حالها بجلال بارئها أو هو على ظاهره ولا يمتنع عقلا أن الله يخلق فيها الحياة والكلام وتقدم البحث في ذلك في قول النار أكل بعضي بعضا
وفي مسلم عن جابر بن سمرة مرفوعا إني لأعرف حجرا بمكة كان يسلم علي قبل أن أبعث ونقل ابن التين عن أبي عبد الملك أن قوله هنا ولا شيء نظير قوله تعالى { وإن من شيء إلا يسبح بحمده } سورة الإسراء الآية 44 وتعقبه بأن الآية مختلف فيها وما عرفت وجه هذا التعقب فإنهما سواء في الاحتمال ونقل الاختلاف إلا أن يقول إن
____________________
(1/207)
الآية لم يختلف في كونها على عمومها وإنما اختلف في تسبيح بعض الأشياء هل هو على الحقيقة أو المجاز بخلاف الحديث ( إلا شهد له يوم القيامة ) قال الزين بن المنير السرفي هذه الشهادة مع أنها تقع عند عالم الغيب والشهادة أن أحكام الآخرة جرت على أحكام نعت الخلق في الدنيا من توجيه الدعوى والجواب والشهادة
وقال التوربشتي المراد من هذه الشهادة إشهار المشهود له يوم القيامة بالفضل وعلو الدرجة وكما أن الله يفضح بالشهادة قوما فكذلك يكرم بالشهادة آخرين
وقال الباجي فائدة ذلك أن من يشهد له يوم القيامة يكون أعظم أجرا في الآخرة ممن أذن فلم يسمعه من يشهد له
( قال أبو سعيد سمعته من رسول الله ) أي هذا الكلام الأخير وهو أنه لا يسمع الخ
فقد رواه ابن خزيمة من رواية ابن عيينة بلفظ قال أبو سعيد إذا كنت في البوادي فارفع صوتك بالنداء فإني سمعت رسول الله يقول لا يسمع فذكره
ورواه يحيى بن سعيد القطان عن مالك بلفظ أن النبي قال إذا أذنت فارفع صوتك فإنه لا يسمع فذكره فالظاهر أن ذكر الغنم والبادية موقوف خلافا لإيراد الرافعي الحديث في الشرح بلفظ أن النبي قال لأبي سعيد إنك رجل تحب الغنم
وساقه إلى آخره وسبقه إلى ذلك الغزالي وإمام الحرمين والقاضي حسين وغيرهم وتعقبهم النووي وأجاب ابن الرفعة عنهم بأنهم فهموا أن قوله سمعته من رسول الله عائد إلى كل ما ذكر ولا يخفى بعده ذكره الحافظ بل تمنعه روايتا ابن عيينة والقطان وقد خالف الرافعي نفسه فقال في شرح المسند قوله سمعته يعني قوله أنه لا يسمع الخ انتهى وهو الصواب
وفي الحديث استحباب رفع الصوت بالأذان ليكثر من يشهد له ما لم يجهده أو يتأذى به وفيه أن حب الغنم والبادية ولا سيما عند نزول الفتنة من عمل السلف الصالح وفيه جواز التبدي ومساكنة الأعراب ومشاركتهم في الأسباب بشرط حظ من العلم وأمن غلبة الجفا
قال ابن عبد البر فيه إباحة لزوم البادية ولكن في البعد عن الجماعة والجمعة ما فيه من البعد عن الفضائل إلا أن الزمان إذا كثر فيه الشر وتعذرت فيه السلامة طابت العزلة وهي خير من خليط السوء والجليس الصالح خير من الوحدة
وقال يوشك أن يكون خير مال المسلم غنما يتبع بها شعف الجبال ومواضع القطر يفر بدينه من الفتن وهذا الحديث أخرجه البخاري هنا عن عبد الله بن يوسف وفي بدء الخلق عن قتيبة بن سعيد كلاهما عن مالك به ولم يخرجه مسلم
( مالك عن أبي الزناد ) عبد الله بن ذكوان ( عن الأعرج ) عبد الله بن هرمز ( عن أبي هريرة أن رسول الله قال إذا نودي للصلاة ) أي لأجلها وللنسائي عن قتيبة عن مالك بالصلاة وهي رواية
____________________
(1/208)
لمسلم أيضا ويمكن حملهما على معنى واحد ( أدبر الشيطان ) إبليس على الظاهر ويدل عليه كلام كثير من الشراح ويحتمل أن المراد جنس الشيطان وهو كل متمرد من الجن أو الإنس لكن المراد هنا شيطان الجن خاصة ( له ضراط ) جملة اسمية وقعت حالا بدون واو لحصول الارتباط بالضمير وفي رواية للبخاري وله بالواو وقال عياض يمكن حمله على ظاهره لأنه جسم متغذ يصح منه خروج الريح ويحتمل أنه عبارة عن شدة نفاره ويقربه رواية مسلم له حصاص بمهملات مضموم الأول وفسره الأصمعي وغيره بشدة العدو وقال الطيبي شبه شغل الشيطان نفسه عن سماع الأذان بالصوت الذي يملأ السمع ويمنعه عن سماع غيره ثم سماه ضراطا ( حتى لا يسمع النداء ) أي التأذين كما هو رواية التنيسي للموطأ ومسلم من رواية المغيرة عن أبي الزناد والمعنى واحد وقال الحافظ ظاهره أنه يتعمد إخراج ذلك إما ليشتغل بسماع الصوت الذي يخرجه عن سماع المؤذن أو يصنع ذلك استخفافا كما تفعله السفهاء أو ليقابل ما يناسب الصلاة من الطهارة بالحدث ويحتمل أن لا يتعمد ذلك بل يحصل له عند سماع الأذان شدة خوف يحدث له ذلك الصوت بسببها وفيه استحباب رفع الصوت بالأذان لأنه ظاهر في أنه يبعد إلى غاية ينتفي فيها سماعه للصوت وقد بينت الغاية في رواية مسلم من حديث جابر فقال حتى يكون مكان الروحاء قال سليمان يعني الأعمش فسألته أي أبا سفيان رواية عن جابر عن الروحاء فقال هي من المدينة ستة وثلاثون ميلا وقد أدرج هذا إسحاق بن راهويه في مسنده فقال حتى يكون بالروحاء وهي ستة الخ والمعتمد الأول
( فإذا قضي النداء ) بضم القاف أي فرغ وانتهى منه ويروى بفتح القاف على حذف الفاعل والمراد المنادي أي إذا قضى المنادي النداء ( أقبل ) زاد مسلم في رواية أبي صالح عن أبي هريرة فوسوس ( حتى إذا ثوب بالصلاة أدبر ) بضم المثلثة وشد الواو المكسورة قيل من ثاب إذا رجع وقيل من ثوب إذا أشار بثوبه عند الفزع لإعلام غيره قال الجمهور المراد هنا الإقامة وبه جزم أبو عوانة والخطابي وغيرهم وقال القرطبي ثوب بالصلاة أي أقيمت وأصله أنه رجع إلى ما يشبه الأذان وكل مردد صوت فهو مثوب ويدل عليه رواية مسلم من طريق أبي صالح عن أبي هريرة فإذا سمع الإقامة ذهب وزعم بعض الكوفيين أن المراد بالتثويب قول المؤذن بين الأذان والإقامة حي على الصلاة حي على الفلاح قد قامت الصلاة وحكاه ابن المنذر عن أبي يوسف عن أبي حنيفة وزعم أنه تفرد به لكن في سنن أبي داود عن ابن عمر أنه كره التثويب بين الأذان والإقامة فهذا يدل على أن له سلفا في ذلك في الجملة ويحتمل أن يكون الذي تفرد به القول الخاص قال الخطابي لا تعرف العامة التثويب إلا قول المؤذن الصلاة خير من النوم لكن المراد به هنا الإقامة
____________________
(1/209)
( حتى إذا قضي التثويب ) بالرفع نائب الفاعل والنصب مفعول ( أقبل حتى يخطر ) بفتح أوله وكسر الطاء كما ضبطه عياض عن المتقنين وقال إنه الوجه ومعناه يوسوس وأصله من خطر البعير بذنبه إذا حركه فضرب به فخذيه قال وسمعناه من أكثر الرواة بضم الطاء ومعناه المرور أي يدنو منه فيمر بينه وبين قلبه فيشغله عما هو فيه وبهذا فسره الشارحون للموطأ وبالأول فسره الخليل وضعف الهجري في نوادره الضم وقال هو يخطر بالكسر في كل شيء
( بين المرء ونفسه ) أي قلبه وكذا هو للبخاري من وجه آخر في بدء الخلق قال الباجي المعنى أنه يحول بين المرء وبين ما يريده من إقباله على صلاته وإخلاصه فيها ( يقول ) الشيطان ( اذكر كذا اذكر كذا ) وفي رواية للبخاري ومسلم بواو العطف واذكر كذا للبخاري أيضا في صلاة السهو اذكر كذا وكذا
( لما لم يكن يذكر ) أي لشيء لم يكن على ذكره قبل دخوله في الصلاة وفي رواية لمسلم لما لم يذكر من قبل وله أيضا من رواية عبد ربه عن الأعرج فهناه ومناه وذكره من حاجاته ما لم يكن يذكر ومن ثم استنبط أبو حنيفة الذي شكى إليه أنه دفن مالا ثم لم يهتد لمكانه أن يصلي ويحرص على أن لا يحدث نفسه بشيء من أمر الدنيا ففعل فذكر مكان المال في الحال قيل خصه بما يعلم دون ما لم يعلم لأنه يميل لما يعلم أكثر لتحقق وجوده والذي يظهر أنه أعم من ذلك فيذكره لما سبق له به علم ليشغل باله به ولما لم يكن سبق له ليوقعه في الفكرة فيه وهذا أعم من أن يكون في أمور الدنيا أو في أمور الدين كالعلم لكن هل يشمل ذلك التفكر في معاني الآيات التي يتلوها لا يبعد ذلك لأن غرضه نقص خشوعه وإخلاصه بأي وجه كان
( حتى يظل الرجل ) بالظاء المعجمة المفتوحة رواية الجمهور ومعناه في الأصل اتصاف المخبر عنه بالخبر نهارا لكنها هنا بمعنى يصير أو يبقى وفي رواية بالضاد الساقطة مكسورة أي ينسى ومنه أن تضل إحداهما أو يخطىء ومنه { لا يضل ربي ولا ينسى } سورة طه الآية 52 ومفتوحة أي يتحير من الضلال وهو الحيرة والمشهور الأول
( إن يدري ) بكسر همزة إن النافية بمعنى لا وفي رواية التنيسي لا يدري وروي بفتح الهمزة ونسبها ابن عبد البر لأكثر رواة الموطأ ووجهها بما تعقبه عليه جماعة وقال القرطبي ليست رواية الفتح بشيء إلا مع رواية الضاد الساقطة فيكون أن والفعل بتأويل المصدر ومفعول ضل إن بإسقاط حرف الجر أي يضل عن درايته وكذا قال عياض لا يصح فتحها إلا على رواية يضل بكسر الضاد فتكون أن مع الفعل مفعوله أي يجهل درايته وينسى عدد ركعاته
( كم صلى ) وللبخاري في بدء الخلق من وجه آخر عن أبي هريرة حتى لا يدري أثلاثا صلى أم أربعا
واختلف العلماء في حكمة هروب الشيطان عند سماع الأذان والإقامة دون سماع القرآن والذكر في الصلاة فقيل حتى لا يشهد للمؤذن يوم القيامة فإنه لا يسمع صوته جن ولا إنس إلا شهد له كما تقدم
وقيل نفورا عن سماع الأذان ثم يرجع موسوسا ليفسد على المصلي صلاته فصار رجوعه من
____________________
(1/210)
جنس فراره والجامع بينهما الاستخفاف
وقيل لأن الأذان دعاء إلى الصلاة المشتملة على السجود الذي أباه وعصى بسببه واعترض بأنه يعود قبل السجود فلو كان هروبه لأجله لم يعد إلا عند فراغه
وأجيب بأنه يهرب عند سماع الدعاء لذلك ليغالط نفسه بأنه لم يخالف أمرا ثم يرجع ليفسد على المصلي سجوده الذي أباه
وقيل إنما يهرب لاتفاق الجميع على الإعلان بشهادة الحق وإقامة الشريعة واعترض بأن الاتفاق على ذلك حاصل قبل الأذان وبعده من جميع من يصلي
وأجيب بأن الإعلان أخص من الاتفاق فإن الإعلان المختص بالأذان لا يشاركه فيه غيره من الجهر بالتكبير والشهادة مثلا ولذا قال لعبد الله بن زيد ألقه على بلال فإنه أندى منك صوتا أي اقعد بالمد والإطالة والإسماع ليعم الصوت ويطول أمد التأذين فيكثر الجمع ويفوت على الشيطان مقصوده من إلهاء الآدمي عن إقامة الصلاة في جماعة أو إخراجها عن وقتها أو وقت فضيلتها فيفر حينئذ وقد يئس أن يردهم عما أعلنوا به ثم يرجع لما طبع عليه من الأذى إلى الوسوسة
وقال ابن الجوزي على الأذان هيئة يشتد انزعاج الشيطان بسببها لأنه لا يكاد يقع في الأذان رياء ولا غفلة عند النطق به لأن النفس لا تحضره بخلاف الصلاة فإن النفس تحضر فيها فيفتح لها الشيطان أبواب الوسوسة وقد ترجم عليه أبو عوانة في صحيحه الدليل على أن المؤذن في أذانه وإقامته منفي عنه الوسوسة والرياء لتباعد الشيطان منه وقيل لأن الأذان إعلام بالصلاة التي هي أفضل الأعمال بألفاظ هي من أفضل الذكر لا يزاد فيها ولا ينقص منها بل تقع على وفق الأمر فيفر من سماعها وأما الصلاة فلما يقع من كثير من الناس فيها من التفريط تمكن الخبيث من المفرط فلو قدر أن المصلي وفي جميع ما أمر به فيها لم يقربه فيها إن كان وحده وهو نادر وكذا إذا انضم إليه من هو مثله وهو أندر أشار إليه ابن أبي جمرة قال ابن بطال ويشبه أن يكون الزجر عن الخروج من المسجد بعد الأذان من هذا المعنى لئلا يكون متشبها بالشيطان الذي يفر عند سماع الأذان وفهم بعض السلف من هذا الحديث الإتيان بصورة الأذان وإن لم يوجد فيه شروط الأذان من وقوعه في الوقت وغير ذلك ففي مسلم من رواية سهيل بن أبي صالح قال أرسلني أبي إلى بني حارثة ومعي غلام لنا أو صاحب لنا فناداه مناد من حائط باسمه فأشرف الذي معي على الحائط فلم ير شيئا فذكرت ذلك لأبي فقال لو شعرت أنك تلقى هذا لم أرسلك ولكن إذا سمعت صوتا فناد بالصلاة فإني سمعت أبا هريرة يحدث عن رسول الله أنه قال إن الشيطان إذا نودي بالصلاة ولى وله حصاص وقال ابن عبد البر قال مالك استعمل زيد بن أسلم على معدن بني سليم وكان لا يزال يصاب فيه الناس من الجن فلما وليهم شكوا ذلك إليه فأمرهم بالأذان وأن يرفعوا أصواتهم به ففعلوا فارتفع ذلك عنهم فهم عليه حتى اليوم
قال مالك أعجبني ذلك من زيد وذكرت الغيلان عند عمر بن
____________________
(1/211)
الخطاب فقال إن شيئا من الخلق لا يستطيع أن يتحول في غير خلقه ولكن للجن سحرة كما للإنس سحرة فإذا خشيتم شيئا من ذلك فأذنوا بالصلاة وهذا الحديث رواه البخاري عن عبد الله بن يوسف عن مالك به ورواه في السهو عن الليث عن جعفر بن ربيعة عن الأعرج به ومسلم من طريق المغيرة الخزاعي عن أبي الزناد به ومن طريق الأعمش وسهيل كلاهما عن أبي صالح عن أبي هريرة بنحوه
( مالك عن أبي حازم ) بمهملة وزاي سلمة ( بن دينار ) الأعرج المدني العابد الثقة من رجال الجميع قال أبو عمر كان أبو حازم هذا أحد الفضلاء الحكماء العلماء الثقات الأثبات وله حكم وزهديات ومواعظ ورقائق ومقطعات ومات سنة أربعين ومائة على الأصح وقيل غير ذلك
( عن سهل بن سعد ) بن مالك بن خالد الأنصاري الخزرجي ( الساعدي ) أبي العباس الصحابي ابن الصحابي مات سنة ثمان وثمانين وقيل بعدها وقد جاوز المائة
( أنه قال ساعتان ) قال ابن عبد البر هذا الحديث موقوف عند جماعة رواة الموطأ ومثله لا يقال بالرأي وقد رواه أيوب بن سويد ومحمد بن مخلد وإسماعيل بن عمرو عن مالك مرفوعا وروي من طرق متعددة عن أبي حازم عن سهل قال قال رسول الله ساعتان ( يفتح لهما أبواب السماء ) أي فيهما أو من أجل فضيلتهما
( وقل داع ترد عليه دعوته ) إخبار بأن الإجابة في هذين الوقتين هي الأكثر وأن رد الدعاء فيهما يندر ولا يكاد يقع قاله الباجي فأشار بقوله قل إلى أنها قد ترد لفوات شرط من شروط الدعاء أو ركن من أركانه أو نحو ذلك
وقال السيوطي بل قل هنا للنفي المحض كما هو أحد استعمالاتها
قال ابن مالك في التسهيل وغيره ترد قل للنفي المحض فترفع الفاعل متلوا بصفة مطابقة له نحو قل رجل يقول ذلك وقل رجلان يقولان ذلك وهي من الأفعال التي منعت التصريف
( حضرة النداء للصلاة ) أي الأذان ( والصف في سبيل الله ) أي في قتال الكفار لإعلاء كلمة الله وقد روى الطبراني والحاكم في المستدرك والديلمي الحديث عن سهل به مرفوعا
وروى أبو نعيم في الحلية عن عائشة رفعته ثلاث ساعات للمرء المسلم ما دعا فيهن إلا استجيب له ما لم يسأل قطيعة رحم أو مأثما حين يؤذن المؤذن بالصلاة حتى يسكت وحين يلتقي الصفان حتى يحكم الله بينهما وحين ينزل المطر حتى يسكن
( وسئل مالك عن النداء يوم الجمعة هل يكون قبل أن يحل الوقت فقال لا يكون إلا بعد أن تزول الشمس ) لأن وقتها زوال الشمس كالظهر عند جمهور الفقهاء وأجاز أحمد صلاتها قبل الزوال وهو
____________________
(1/212)
شذوذ قال مالك لو خطب قبل الزوال وصلى بعده لم تجز ويعيدون الجمعة بخطبة ما لم تغرب الشمس نقله ابن حبيب عن مطرف عنه
وقال ابن سحنون يعيدون الظهر أبدا أفذاذا
( وسئل مالك عن تثنية النداء والإقامة ومتى يجب القيام على الناس حين تقام الصلاة فقال لم يبلغني في النداء والإقامة إلا ما أدركت الناس عليه ) وهو شفع الأذان لما في البخاري عن أنس قال أمر بلال أن يشفع الأذان ويوتر الإقامة قال الزين بن المنير وصف الأذان بأنه شفع يفسره قوله مثنى أي مرتين مرتين وذلك يقتضي أن يستوي جميع ألفاظه في ذلك لكن لم يختلف في أن كلمة التوحيد التي في آخره مفردة فيحمل قوله مثنى على ما سواها انتهى
ففيه دليل على أن التكبير ليس مربعا وكذا قوله الأذان مثنى مثنى أخرجه أبو داود الطيالسي عن ابن عمر ورواه أبو داود والنسائي وصححه ابن خزيمة وغيره من حديث ابن عمر بلفظ مرتان مرتان
( فأما الإقامة فإنها لا تثنى ) حتى قد قامت الصلاة بل تفرد ( وذلك الذي لم يزل عليه أهل العلم ببلدنا ) المدينة مع تأييده بالحديث الصحيح
وأما قوله في رواية أيوب السختياني عن أبي قلابة عن أنس ويوتر الإقامة إلا الإقامة أي قد قامت الصلاة فالمثبت غير المنفي فهو مدرج من قول أيوب وليس من الحديث كما جزم به الأصيلي وابن منده لأن إسماعيل بن إبراهيم قال حدثنا خالد الحذاء عن أبي قلابة عن أنس قال أمر بلال أن يشفع الأذان ويوتر الإقامة قال إسماعيل فذكرته لأيوب فقال إلا الإقامة رواه البخاري ومسلم ونظر فيما قاله الحافظ بأن عبد الرزاق رواه عن معمر عن أيوب بسنده بلفظ كان بلال يثني الأذان ويوتر الإقامة إلا قوله قد قامت الصلاة
والأصل أن ما كان في الخير فهو منه حتى يقوم دليل على خلافه ولا دليل في رواية إسماعيل لأن محصلها أن خالدا كان لا يذكرها الزيادة وأيوب يذكر وكل منهما روى الحديث عن أبي قلابة عن أنس فكان في رواية أيوب زيادة حافظ فتقبل انتهى
لكن إنما يتم له هذا النظر لو صرح أيوب بروايته له عن أبي قلابة لما ذكر إسماعيل رواية خالد وهو إنما قال إلا الإقامة فيتبادر منه أنه إخبار عن رأيه
وأما رواية عبد الرزاق فلا دليل فيها على عدم الإدراج لأنها من محل النزاع وقد دلت رواية إسماعيل على الإدراج ثم هذا الحديث حجة على من قال إن الإقامة مثناة وزعم بعض الحنفية أن إفرادها كان أولا ثم نسخ بحديث أبي محذورة عند أصحاب السنن وفيه تثنية الإقامة وهو متأخر عن حديث أنس فيكون ناسخا وعورض بأن في بعض طرق حديث أبي محذورة المحسنة التربيع والترجيع فكان يلزمهم القول به وقد أنكر أحمد على من ادعى النسخ بحديث أبي محذورة واحتج بأنه رجع بعد الفتح إلى المدينة وأقر بلال على إفراد الإقامة وعلمه سعد القرظ فأذن به بعده كما رواه الدارقطني والحاكم
____________________
(1/213)
وقال ابن عبد البر ذهب أحمد وإسحاق وداود وابن جرير إلى أن ذلك من الاختلاف المباح فإن ربع التكبير الأول في الأذان أو ثناه أو رجع في التشهد أو لم يرجع أو ثنى الإقامة أو أفردها كلها أو إلا قد قامت الصلاة فالجميع جائز قيل الحكمة في تثنية الأذان وإفراد الإقامة أن الأذان لإعلام الغائبين فكرر ليكون أوصل إليهم بخلاف الإقامة فللحاضرين ومن ثم استحب أن يكون الأذان في مكان عال بخلاف الإقامة وأن يكون الصوت في الأذان أرفع منه في الإقامة قال الحافظ وهذا توجيه ظاهر
وأما قول الخطابي لو سوى بينهما لاشتبه الأمر في ذلك وصار يفوت كثيرا من الناس صلاة الجماعة ففيه نظر لأن الأذان يستحب على مرتفع ليشترك فيه الإسماع وأن يكون مرتلا والإقامة مسرعة ويؤخذ حكمة الترجيع مما تقدم وإنما اختص بالتشهد لأنه أعظم ألفاظ الأذان والله أعلم
( وأما قيام الناس حين تقام الصلاة فإني لم أسمع في ذلك بحد يقام له ) وما في الصحيحين عن أبي قتادة قال إذا أقيمت الصلاة فلا تقوموا حتى تروني خرجت فهو نهي عن القيام قبل خروجه وتسويغ له عند رؤيته وهو مطلق غير مقيد بشيء من ألفاظ الإقامة ومن ثم اختلف السلف في ملك فقال مالك ( إلا أني أرى ذلك على قدر طاقة الناس فإن منهم الثقيل والخفيف ولا يستطيعون أن يكونوا كرجل واحد ) وذهب الأكثر إلى أنهم إذا كان الإمام معهم في المسجد لم يقوموا حتى تفرغ الإقامة وإذ لم يكن في المسجد لم يقوموا حتى يروه
وعن أنس أنه كان يقوم إذا قال المؤذن قد قامت الصلاة رواه ابن المنذر وغيره ورواه سعيد بن منصور من طريق أبي إسحاق عن أصحاب عبد الله وعن سعيد بن المسيب أنه إذا قال المؤذن الله أكبر وجب القيام وإذا قال حي على الصلاة عدلت الصفوف وإذا قال لا إله إلا الله كبر الإمام وعن أبي حنيفة يقومون إذا قال حي على الفلاح فإذا قال قد قامت الصلاة كبر الإمام والحديث حجة على هؤلاء المفصلين
قال القرطبي ظاهر هذا الحديث أن الصلاة كانت تقام قبل أن يخرج من بيته وهو معارض لحديث جابر بن سمرة عند مسلم إن بلالا كان لا يقيم حتى يخرج ويجمع بينهما بأن بلالا كان يراقب خروج النبي فأول ما يراه يشرع في الإقامة قبل أن يراه غالب الناس ثم إذا رأوه قاموا فلا يقوم في مقامه حتى تعتدل صفوفهم
قال الحافظ ويشهد له ما رواه عبد الرزاق عن ابن جريج عن ابن شهاب كانوا ساعة يقول المؤذن الله أكبر يقومون إلى الصلاة فلا يأتي النبي حتى تعتدل الصفوف وأما حديث أبي هريرة في البخاري بلفظ أقيمت الصلاة فسوى الناس صفوفهم فخرج ولفظه في مستخرج أبي نعيم وصف الناس صفوفهم ثم خرج علينا ولفظه في مسلم أقيمت الصلاة فقمنا فعدلنا الصفوف قبل أن
____________________
(1/214)
يخرج إلينا النبي صلى الله عليه وسلم فأتى فقام مقامه فيجمع بينه وبين حديث أبي قتادة بأن ذلك ربما وقع لبيان الجواز وبأن صنعهم في حديث أبي (1) *
( وسئل مالك عن قوم حضور أرادوا أن يجمعوا المكتوبة فأرادوا أن يقيموا ولا يؤذنوا قال ذلك مجزىء عنهم ) إذ الأذان ليس بشرط في صحة الصلاة عند جمهور الفقهاء خلافا لعطاء
( وإنما يجب النداء في مساجد الجماعات التي تجمع فيها الصلاة ) وجوب السنن المؤكدة على المذهب
وأما في المصر فواجب كفاية فلو اتفقوا على تركه أثموا وقوتلوا عليه لأنه شعار الإسلام ومن العلامات المفرقة بين دار الإسلام والكفر وفي الصحيحين واللفظ لمسلم عن أنس كان يغير إذا طلع الفجر وكان يستمع الأذان فإن سمع أذانا أمسك وإلا أغار ( وسئل مالك عن تسليم المؤذن على الإمام ودعائه إياه للصلاة وعن أول من سلم عليه فقال لم يبلغني أن التسليم كان في الزمن الأول ) قال الباجي أي لم يكن في زمن النبي وأبي بكر وعمر وعثمان وعلي رضي الله عنهم وإنما كان المؤذن يؤذن فإن كان الإمام في شغل جاء المؤذن فأعلمه باجتماع الناس دون تكلف ولا استعمال فأما ما يتكلف اليوم من وقوف المؤذن بباب الأمير والسلام عليه والدعاء للصلاة بعد ذلك فإنه من المباهاة والتكبر والصلاة تنزه عن ذلك
وقد قال القاضي أبو إسحاق في المبسوط عن عبد الملك بن الماجشون كيفية السلام السلام عليك أيها الأمير ورحمة الله وبركاته الصلاة يرحمك الله
قال إسماعيل روي أن عمر أنكر على أبي محذورة دعاءه إياه إلى الصلاة وأول من فعله معاوية وقال ابن عبد البر أول من فعل ذلك معاوية أمر المؤذن أن يشعره ويناديه فيقول السلام على أمير المؤمنين الصلاة يرحمك الله
وقيل أول من فعله المغيرة بن شعبة والأول أصح انتهى
وروى ابن أبي شيبة عن مجاهد قال لما قدم عمر مكة أتاه أبو محذورة وقد أذن فقال الصلاة يا أمير المؤمنين حي على الصلاة حي على الفلاح قال ويحك أمجنون أنت أما كان في دعائك الذي دعوتنا ما نأتيك حتى تأتينا
وفي الأوائل للعسكري من طريق الواقدي عن ابن أبي ذئب قال قلت للزهري من أول من سلم عليه فقيل السلام عليك يا أمير المؤمنين ورحمة الله وبركاته حي على الصلاة حي على الفلاح الصلاة يرحمك الله فقال معاوية بالشام ومروان بن الحكم بالمدينة
____________________
1* هريرة كان سبب النهي في حديث أبي قتادة وأنهم كانوا يقومون ساعة تقام الصلاة ولو لم يخرج فنهاهم عن ذلك لاحتمال أن يقع له شغل يبطىء فيه عن الخروج فيشق عليهم انتظاره ولا يرد هذا حديث أنس في الصحيح أنه قام في مقامه طويلا في مناجاة بعض القوم لاحتمال وقوعه نادرا أو فعله لبيان الجواز انتهى
(1/215)
وروى ابن سعد في طبقاته عن محمد بن سعد القرظ قال كنا نؤذن على عمر بن عبد العزيز في داره للصلاة فنقول السلام عليك أيها الأمير ورحمة الله وبركاته حي على الصلاة حي على الفلاح وفي الناس الفقهاء فلا ينكرون ذلك
وبهذا كله تعلم ضعف ما في خطط المقريزي
قال الواقدي وغيره كان بلال يقف على باب رسول الله بعد الأذان فيقول السلام عليك يا رسول الله فلما ولي أبو بكر كان سعد القرظ يقف فيقول السلام عليك يا خليفة رسول الله الصلاة يا خليفة رسول الله فلما ولي عمر ولقب أمير المؤمنين كان المؤذن يقف على بابه ويقول السلاك عليك يا أمير المؤمنين الصلاة يا أمير المؤمنين ثم إن عمر أمر المؤذن فزاد فيها رحمك الله
ويقال إن عثمان هو الذي زادها
وما زال المؤذنون إذا أذنوا سلموا على الخلفاء وأمراء الأعمال ثم يقيمون الصلاة بعد السلام فيخرج الخليفة أو الأمير فيصلي بالناس هكذا كان العمل مدة أيام بني أمية ثم مدة بني العباس حتى ترك الخلفاء الصلاة بالناس فترك ذلك انتهى
والواقدي متروك ولعل غيره تبعه والله أعلم
( وسئل مالك عن مؤذن أذن لقوم ثم انتظر هل يأتيه أحد فلم يأته أحد فأقام الصلاة وصلى وحده ثم جاء الناس بعد أن فرغ أيعيد الصلاة معهم فقال لا يعيد الصلاة ومن جاء بعد انصرافه ) فراغه من الصلاة ( فليصل لنفسه وحده ) قال ابن نافع معناه أن المؤذن هنا هو الإمام الراتب ولم يرد المؤذن فإن لم يكن الإمام الراتب فلا بأس أن يجمعوا تلك الصلاة ويعيدها المؤذن معهم إن شاء قال ابن عبد البر وهذا التفسير حسن على أصل قول مالك المسجد الذي له إمام راتب لا يجمع فيه صلاة واحدة مرتين وبه قال سفيان الثوري وأجازه أشهب
وقال الباجي إذا كان المؤذن إماما راتبا فكما قال مالك لأن الاعتبار في الجماعة بالإمام دون المأموم لما في ذلك من مخالفة الأئمة ومفارقة الجماعة ولأن ذلك يؤدي أن لا تراعى أوقات الصلاة ويؤخر من شاء ويصلي في جماعة وإن لم يكن المؤذن إماما راتبا فقال ابن نافع حكمه حكم الفذ
وقال عيسى كالجماعة ويظهر لي أن قول عيسى في مسجد له مؤذن راتب وليس له إمام راتب لتعلق حكم الجماعة به دون المؤذن
وقال ابن عبد البر ولا أصل لهذه المسألة إلا المنع من الاختلاف على الأئمة وردع أهل البدع ليتركوا إظهار بدعتهم لأنهم كانوا يرغبون عن صلاة الإمام ثم يأتون بعده فيجمعون بإمامهم
وقال أبو حنيفة والشافعي والجمهور لا بأس أن يجمع في المسجد مرتين ولم ينه الله عنه ولا رسوله ولا اتفق عليه العلماء
ودليل الجواز حديث أنه صلى إحدى صلاتي العشي فلما سلم دخل رجل لم يدرك الصلاة معه فاستقبل القبلة ليصلي فقال ألا رجل يتصدق على هذا فيصلي معه فقام رجل ممن صلى مع النبي فصلى معه انتهى
والجواب أن هذه واقعة حال محتملة فلا ينهض حجة في عدم الكراهة
____________________
(1/216)
( وسئل مالك عن مؤذن أذن لقوم ثم تنفل فأرادوا أن يصلوا بإقامة غيره فقال لا بأس بذلك إقامته وإقامة غيره سواء ) وبهذا قال أبو حنيفة
وقال الليث والثوري والشافعي وأكثر أهل الحديث من أذن فهو يقيم لحديث عبد الله بن الحارث الصدائي قال أتيت رسول الله فلما كان الصبح أمرني فأذنت ثم قام إلى الصلاة فجاء بلال ليقيم فقال إن أخا صداء أذن ومن أذن فهو يقيم قال ابن عبد البر انفرد به عبد الرحمن بن زياد الإفريقي وليس بحجة عندهم وحجة مالك حديث عبد الله بن زيد حين أتى رسول الله بالأذان فأمره أن يلقيه على بلال وقال إنه أندى منك صوتا فلما أذن بلال قال لعبد الله بن زيد أقم أنت فأقام
وهذا الحديث أحسن إسنادا
( قال مالك لم تزل صلاة الصبح ينادى لها قبل الفجر ) في أول السدس الأخير من الليل قاله ابن وهب وسحنون وقال ابن حبيب نصف الليل وحجة العمل المذكور حديث ابن عمر الآتي إن بلالا ينادي بليل وبه قال الجمهور والأئمة الثلاثة
وقال أبو حنيفة وطائفة لا يؤذن لها حتى يطلع الفجر
( فأما غيرها من الصلوات فإنا لم نرها ينادى لها إلا بعد أن يحل وقتها ) لحرمته قبل الوقت في غير الصبح
قال الكرخي من الحنفية كان أبو يوسف يقول بقول أبي حنيفة لا يؤذن لها حتى أتى المدينة فرجع إلى قول مالك وعلم أنه عملهم المتصل قال الباجي يظهر لي أنه ليس في الأثر ما يقتضي أن الأذان قبل الفجر لصلاة الفجر فإن كان الخلاف في الأذان ذلك الوقت فالآثار حجة لمن أثبته وإن كان الخلاف في المقصود به فيحتاج إلى ما يبين ذلك من إبطال الأذان إلى الفجر أو غير ذلك مما يدل عليه
( مالك أنه بلغه أن المؤذن جاء إلى عمر بن الخطاب يؤذنه لصلاة الصبح فوجده نائما فقال الصلاة خير من النوم فأمره عمر أن يجعلها في نداء الصبح ) هذا البلاغ أخرجه الدارقطني في السنن من طريق وكيع في مصنفه عن العمري عن نافع عن ابن عمر عن عمر
وأخرجه أيضا عن سفيان عن محمد بن عجلان عن نافع عن ابن عمر عن عمر أنه قال لمؤذنه إذا بلغت حي على الفلاح في الفجر فقل الصلاة خير من النوم الصلاة خير من النوم فقصر ابن عبد البر في قوله لا أعلم هذا روي عن عمر من وجه يحتج به وتعلم صحته وإنما أخرجه ابن أبي شيبة من حديث هشام بن عروة عن رجل يقال له إسماعيل لا أعرفه قال والتثويب محفوظ في أذان بلال وأبي محذورة في صلاة الصبح للنبي ص (1)
____________________
1-
(1/217)
والمعنى هنا أن نداء الصبح موضع قوله لا هنا كأنه كره أن يكون منه نداء آخر عند باب الأمير كما (1) *
ونحو تأويله قول الباجي يحتمل أن عمر قال ذلك إنكارا لاستعماله لفظة من ألفاظ الأذان في غيره وقال له اجعلها فيه يعني لا تقلها في غيره انتهى وهو حسن متعين
فقد روى ابن ماجه من طريق ابن المسيب عن بلال أنه أتى النبي يؤذنه لصلاة الفجر فقيل هو نائم فقال الصلاة خير من النوم مرتين فأقرت في تأذين الفجر فثبت الأمر على ذلك
وروى بقي بموحدة ابن مخلد عن أبي محذورة قال كنت غلاما صبيا فأذنت بين يدي رسول الله الفجر يوم حنين فلما انتهيت إلى حي على الفلاح قال ألحق فيها الصلاة خير من النوم
وقال مالك في مختصر ابن شعبان لا يترك المؤذن قوله في نداء الصبح الصلاة خير من النوم في سفر ولا حضر ومن أذن في ضيعته متنحيا عن الناس فتركه فلا بأس وأحب إلينا أن يأتي به
( مالك عن عمه أبي سهيل ) بضم السين واسمه نافع ( ابن مالك عن أبيه ) مالك بن أبي عامر الأصبحي ( أنه قال ما أعرف شيئا مما أدركت عليه الناس ) يعني الصحابة ( إلا النداء بالصلاة ) فإنه باق على ما كان عليه لم يدخله تغيير ولا تبديل بخلاف الصلاة فقد أخرت عن أوقاتها وسائر الأفعال قد دخلها التغير فأنكر أكثر أفعال أهل عصره والتغيير يمكن أن يلحق صفة الفعل كتأخير الصلاة وأن يلحق الفعل جملة كترك الأمر بكثير من المعروف والنهي عن كثير من المنكر مع علم الناس بذلك كله قاله الباجي
وقال ابن عبد البر فيه إن الأذان لم يتغير عما كان عليه وكذا قال عطاء ما أعلم تأذينهم اليوم يخالف تأذين من مضى وفيه تغير الأحوال عما كانت عليه زمن الخلفاء الأربع في أكثر الأشياء واحتج بهذا بعض من لم ير عمل أهل المدينة حجة وقال لا حجة إلا فيما نقل بالأسانيد الصحاح عن النبي أو عن الخلفاء الأربعة ومن سلك سبيلهم
( مالك عن نافع أن عبد الله بن عمر سمع الإقامة وهو بالبقيع فأسرع المشي إلى المسجد ) بدون جري لأن الإسراع المنهي عنه بقوله فلا تأتوها وأنتم تسعون هو الجري لأنه ينافي الوقار المشروع في الصلاة وفي قصدها وأما ما لا ينافي الوقار فجائز وكذا قول مالك بجواز تحريك الفرس
____________________
1* أحدثته الأمراء وإلا فالتثويب أشهر عند العلماء والعامة من أن يظن بعمر أنه جهل ما سن رسول الله وأمر به مؤذنيه بلالا بالمدينة وأبا محذورة بمكة انتهى
(1/218)
لمن سمع الأذان ليدرك الصلاة يريد تحريكه للإسراع في المشي دون جري ولا خروج عن حد الوقار قاله الباجي
وقال ابن عبد البر الواجب أن يأتي الصلاة بالسكينة خاف فواتها أو لم يخف لأمره بذلك وهو الحجة قال وقال بعض أصحابنا إن ابن عمر لم يزد على مشيه المعهود لأن الإسراع كان عادته لبعده من الزهو وليس ببين لأن نافعا مولاه قد عرف مشيه ثم أخبر أنه لما سمع الإقامة أسرع ولا يخالفه قول محمد بن زيد كان ابن عمر إذا مشى إلى الصلاة لو مشت معه نملة ما سبقها لأنه في حال لا يخاف فيها فوات شيء من الصلاة وهي أغلب أحواله انتهى
34 النداء في السفر وعلى غير وضوء كذا زاد يحيى في الترجمة وعلى غير وضوء ولم يتابعه أحد على زيادته ولا في الباب ما يدل عليه وإنما فيه أذان الراكب قاله أبو عمر
( مالك عن نافع أن عبد الله بن عمر أذن بالصلاة في ليلة ذات برد وريح ) وكان مسافرا فأذن بمحل يقال له ضجنان بفتح الضاد المعجمة وسكون الجيم ونونين بينهما ألف بزنة فعلان غير منصرف قال في الفائق جبل بينه وبين مكة خمسة وعشرون ميلا وبهذا يطابق الترجمة وقد أخرجه البخاري من طريق عبيد الله بن عمر قال حدثني نافع قال أذن ابن عمر في ليلة باردة بضجنان ( فقال ألا صلوا في الرحال ) جمع رحل وهو المنزل والمسكن قال الرافعي وقد سمي ما يستصحبه الإنسان في سفره من الأثاث رحلا وقال الباجي لفظ في الرحال يدل على السفر فأذن لهم أن يصلوا بصلاته إذا كان إماما ويحتمل أنه أذن لهم أن يصلوا فيها أفذاذا أو يؤم كل طائفة رجل منهم
( ثم قال ) ابن عمر ( إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يأمر المؤذن إذا كانت ليلة باردة ذات مطر يقول ألا صلوا في الرحال ) فقاس ابن عمر الريح على المطر والعلة الجامعة بينهما المشقة اللاحقة قاله الباجي وقوفا مع هذه الرواية
وفي البخاري في الطريق التي ذكرتها وأخبرنا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يأمر مؤذنا يؤذن ثم يقول على أثره ألا صلوا في الرحال في الليلة الباردة والمطيرة في السفر قال الحافظ وأو للتنويع لا للشك وظاهره اختصاص ذلك بالسفر ورواية مالك مطلقة وبها أخذ الجمهور لكن قاعدة حمل المطلق على المقيد تقتضي أن يختص ذلك بالمسافر مطلقا ويلحق به من يلحقه بذلك مشقة في الحضر دون من لا يلحقه قال وفي صحيح أبي عوانة ليلة باردة أو ذات مطر أو ذات ريح ودل ذلك على أن كلا من الثلاثة عذر في التأخير عن الجماعة
____________________
(1/219)
ونقل ابن بطال فيه الإجماع لكن المعروف عند المالكية والشافعية أن الريح عذر في الليل فقط وظاهر الحديث اختصاص الثلاثة بالليل لكن في السنن من طريق ابن إسحاق عن نافع في هذا الحديث في الليلة المطيرة والغداة القرة وفيها بإسناد صحيح من حديث أبي المليح عن أبيه أنهم مطروا يوما فرخص لهم ولم أر في شيء من الأحاديث الترخيص بعذر الريح في النهار صريحا لكن القياس يقتضي إلحاقه وقد نقله ابن الرفعة وجها قال أعني الحافظ وصريح قوله ثم يقول على أثره أن القول المذكور كان بعد فراغ الأذان
وقال القرطبي لما ذكر رواية مسلم بلفظ يقول في آخر ندائه يحتمل أن المراد في آخره قبيل الفراغ منه جمعا بينه وبين حديث ابن عباس يعني المروي في الصحيحين عن عبد الله بن الحارث خطبنا ابن عباس في يوم رزع بفتح الراء وإسكان الزاي ومهملة أي غيم بارد فيه مطر قليل وفي رواية في يوم مطير فلما بلغ المؤذن حي على الصلاة أمر أن ينادي الصلاة في الرحال فنظر القوم بعضهم إلى بعض فقال فعل هذا من هو خير مني وحمله ابن خزيمة على ظاهره وأنه يقال بدلا من الحيعلة نظرا إلى المعنى لأن معناها هلموا إلى الصلاة ومعنى صلوا في الرحال تأخروا عن المجيء فلا يناسب إيراد اللفظين معا لأن أحدهما نقيض الآخر ويمكن الجمع بينهما ولا يلزم منه ما قال لأنه ندب إلى المجيء من أراد استكمال الفضيلة ولو تحمل المشقة ويؤيده حديث جابر في مسلم خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في سفر فمطرنا فقال ليصل منكم من شاء في رحله وقال النووي في حديث ابن عباس إن هذه الكلمة تقال في الأذان
وفي حديث ابن عمر أنها تقال بعده والأمران جائزان كما نص عليه الشافعي لكن بعده أحسن ليتم نظم الأذان فدل كلامه على أنها ليست بدلا من حي على الصلاة بخلاف كلام ابن خزيمة وورد الجمع بينهما في حديث رواه عبد الرزاق وغيره بإسناد صحيح عن نعيم بن النحام قال أذن مؤذن النبي صلى الله عليه وسلم للصبح في ليلة باردة فتمنيت لو قال ومن قعد فلا حرج فلما قال الصلاة خير من النوم قالها انتهى
وقال ابن عبد البر أجاز قوم بهذا الحديث الكلام في الأذان إذا كان لا بد منه ورخص فيه قوم مطلقا منهم أحمد وكرهه مالك كرد السلام وتشميت العاطس فإن فعل أساء وبنى وقاله الشافعي وأبو حنيفة وجماعة ولم يقل أحد فيما علمت بإعادته لمن تكلم فيه إلا ابن شهاب بإسناد فيه ضعف انتهى
وهذا الحديث رواه البخاري في صلاة الجماعة عن عبد الله بن يوسف ومسلم عن يحيى كلاهما عن مالك به وتابعه عبيد الله بن عمر بضم العين فيهما عن نافع نحوه كما مر عند البخاري هنا ومسلم في الجماعة
رح ( مالك عن نافع أن عبد الله بن عمر كان لا يزيد على الإقامة في السفر ) لأنه لا معنى للتأذين إلا
____________________
(1/220)
ليجتمع الناس والمسافر سقطت عنه الجمعة فكذا الجماعة ( إلا في الصبح فإنه كان ينادي ) يؤذن ( فيها ويقيم ) إظهارا لشعائر الإسلام لأنه وقت الإغارة على الكفار وكان صلى الله عليه وسلم في ذلك الوقت يغير إذا لم يسمع الأذان ويمسك إذا سمعه ويحتمل أن ابن عمر كان في السفر الذي قال فيه ألا صلوا في الرحال أميرا وفي السفر الذي لم يزد فيه على الإقامة غير أمير قاله الباجي
وقال البوني إنه لإعلام من معه من نائم وغيره بطلوع الفجر وسائر الصلوات لا تخفى عليهم
( وكان يقول إنما الأذان للإمام الذي يجتمع إليه الناس ) وفي رواية عبد الرزاق بإسناد صحيح عن ابن عمر إنما التأذين لجيش أو ركب عليهم أمير فينادى بالصلاة ليجتمعوا لها فأما غيرهم فإنما هي الإقامة
وحكى نحوه عن مالك والمشهور من مذهبه وعليه الأئمة الثلاثة وغيرهم مشروعية الأذان لكل أحد
وبالغ عطاء فقال إذا كنت في سفر فلم تؤذن ولم تقم فأعد الصلاة ولعله كان يراه شرطا في صحة الصلاة واستحباب الإعادة لا وجوبها
قال ابن عبد البر والحجة لذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يؤذن لها في السفر والحضر ويأمر بذلك وأجمعوا على جوازه للمسافر وأنه مأجور في أذانه وأجمعوا على الأذان في الأمصار فلا تسقط تلك السنة في السفر لأنهم لم يجمعوا على سقوطها فدل على إبطال قول من زعم أنه لا معنى له إلا ليجتمع الناس بل له فضل كثير جاءت به الآثار
( مالك عن هشام بن عروة أن أباه قال له إذا كنت في سفر فإن شئت أن تؤذن وتقيم ) لتحصيل المستحب الوارد به السنة ( فعلت وإن شئت فأقم ولا تؤذن ) لأنه لا خلاف في مشروعية الإقامة في كل حال
قال ابن عبد البر وكان عروة يختار لنفسه أن يؤذن لفضل الأذان عنده في السفر والحضر
( قال يحيى سمعت مالكا يقول لا بأس أن يؤذن الراكب وهو راكب ) قال ابن عبد البر كان ابن عمر يؤذن على البعير وينزل فيقيم وأجاز الحسن أن يؤذن ويقيم على راحلته ثم ينزل فيصلي ولا أعلم خلافا في أذان المسافر راكبا وكرهه عطاء إلا من علة أو ضرورة ومن كرهه للمقيم لم ير عليه إعادة الأذان وكره مالك والأوزاعي أن يؤذن قاعدا وأجازه أبو حنيفة
وقال وائل بن حجر حق وسنة مسنونة أن لا يؤذن إلا وهو قائم ولا يؤذن إلا وهو على طهر ووائل صحابي وقوله سنة يدخل في المسند وذلك أولى من الرأي انتهى
____________________
(1/221)
وفي الصحيحين أنه صلى الله عليه وسلم قال يا بلال قم فأذن قال ابن المنذر وابن خزيمة وعياض فيه حجة لشرع الأذان قائما وتعقبه النووي بأن المراد بقوله قم اذهب إلى موضع بارز فناد فيه بالصلاة ليسمعك الناس وليس فيه تعرض للقيام في حال الأذان قال الحافظ وما نفاه ليس ببعيد من ظاهر اللفظ فإن الصيغة محتملة للأمرين وإن كان ما قاله أرجح
ونقل عياض أن مذهب العلماء كافة أن الأذان قاعدا لا يجوز إلا أبا ثور وأبا الفرج المالكي وتعقب بأن الخلاف معروف عند الشافعية وغيرهم وأنه لو أذن قاعدا صح والصواب قول ابن المنذر اتفقوا على أن القيام من السنة
رح 157 ( مالك عن يحيى بن سعيد ) بن قيس الأنصاري ( عن سعيد بن المسيب أنه كان يقول من صلى بأرض فلاة ) بزنة حصاة لا ماء فيها والجمع فلا كحصى وجمع الجمع أفلاء مثل سبب وأسباب
( صلى عن يمينه ملك وعن شماله ملك ) يحتمل أنهما الحافظان وأن ذلك مكانهما من المكلف في الصلاة وغيرها ويحتمل أن هذا حكم يختص بالملائكة وحكم الآدميين مخالف لذلك فإنه لو صلى معه رجلان قاما وراءه لحديث أنس فقمت أنا واليتيم وراءه والعجوز من ورائنا ويحتمل أن يبلغ بالملكين درجة الجماعة إذا كان بموضع لا يقدر عليها وهو راغب فيها
( فإن أذن وأقام الصلاة أو أقام ) كذا رواية يحيى بأو وفي رواية أبي مصعب فإن أذن وأقام ( صلى وراءه من الملائكة أمثال الجبال ) وهذه الرواية عندي هي الأصل ورواية يحيى تحتمل الشك وتحتمل التقسيم والأظهر رواية غيره وفيه أن للجماعة الكثيرة من الفضيلة ما ليس لليسيرة وإلا فلا فائدة لهذا المصلي في ذلك قاله كله الباجي وفي السيوطي هذا الحديث مرسل له حكم الرفع وقد ورد موصولا ومرفوعا فأخرج النسائي من طريق داود بن أبي هند عن أبي عثمان النهدي عن سلمان الفارسي قال قال النبي صلى الله عليه وسلم إذا كان الرجل في أرض فيء فأقام الصلاة صلى خلفه ملكان فإن أذن وأقام صلى خلفه من الملائكة ما لا يراه طرفاه يركعون بركوعه ويسجدون بسجوده ويؤمنون على دعائه ورواه سعيد بن منصور وابن أبي شيبة والبيهقي من طريق سليمان التيمي عن أبي عثمان النهدي عن سلمان موقوفا واستدل به الحناطي من الشافعية على أنه لو حلف من صلى في فضاء من الأرض منفردا بأذان وإقامة أنه صلى بالجماعة كان بارا في يمينه ولا كفارة عليه ووقفه السبكي في الحلبيات واستدل به وبحديث الموطأ هذا انتهى وفيه نظر لأن الأيمان مبنية على العرف
____________________
(1/222)
35 قدر السحور من النداء ( مالك عن عبد الله بن دينار عن عبد الله بن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال إن بلالا ينادي ) أي يؤذن وهي رواية الأصيلي في البخاري ( بليل ) أي فيه ( فكلوا واشربوا ) فيه إشعار بأن الأذان كان علامة عندهم على دخول الوقت فبين لهم أن أذان بلال بخلاف ذلك
( حتى ينادي ابن أم مكتوم ) اسمه عمرو وقيل كان اسمه الحصين فسماه النبي صلى الله عليه وسلم عبد الله ولا يمتنع أنه كان له اسمان وهو قرشي عامري أسلم قديما والأشهر في اسم أبيه قيس بن زائدة وكان صلى الله عليه وسلم يكرمه ويستخلفه على المدينة وشهد القادسية في خلافة عمر واستشهد بها وقيل رجع إلى المدينة فمات وهو الأعمى المذكور في سورة عبس واسم أمه عاتكة بنت عبد الله المخزومية وزعم بعضهم أنه ولد أعمى فكنيت أمه به لاكتتام نور بصره والمعروف أنه عمي بعد بدر بسنتين كذا في فتح الباري وتعقب بأن نزول عبس بمكة قبل الهجرة فالظاهر والله أعلم بعد البعثة بسنتين
وقد روى ابن سعد والبيهقي عن أنس قال إن جبريل أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم وعنده ابن أم مكتوم فقال متى ذهب بصرك قال وأنا غلام ولفظ البيهقي وأنا صغير فقال قال الله تعالى إذا ما أخذت كريمة عبدي لم أجد له بها جزاء إلا الجنة وفي الحديث جواز الأذان قبل الفجر واستحباب أذان واحد بعد واحد واثنان معا فمنع منه قوم وقالوا أول من أحدثه بنو أمية وقال الشافعية لا يكره إلا إن حصل من ذلك تهويش وجواز اتخاذ مؤذنين في مسجد واحد وأما الزيادة عليهما فليس في الحديث تعرض له وقد روى علي عن مالك لا بأس أن يؤذن للقوم في السفر والحرس والمركب ثلاثة وأربعة وفي المسجد أربعة وخمسة وقيده ابن حبيب بما إذا اتسع وقته كالصبح والظهر والعشاء فيؤذن خمسة إلى عشرة واحد بعد واحد وفي العصر ثلاثة إلى خمسة وفي المغرب لا يؤذن إلا واحد وفيه جواز كون الأعمى مؤذنا إذا كان له من يعلمه بالأوقات وجواز تقليده البصير في دخول الوقت وجواز العمل بخبر الواحد وأن ما بعد الفجر من النهار
قيل وجواز الأكل مع الشك في طلوع الفجر لأن الأصل بقاء الليل وفيه نظر فأين الشك مع إخبار الصادق أنه يؤذن بليل فلا يرد على قول مالك بحرمته ووجوب القضاء وفيه جواز اعتماد الصوت في الرواية إذا كان عارفا به وإن لم يشاهد الراوي وخالف في ذلك شعبة لاحتمال الاشتباه وجواز نسبة الرجل إلى أمه إذا اشتهر بذلك واحتيج إليه وأخرجه البخاري عن عبد الله بن يوسف عن مالك به
____________________
(1/223)
ف رح 159 ( مالك عن ابن شهاب عن سالم بن عبد الله ) هذا إسناد آخر لمالك في هذا الحديث قال ابن عبد البر لم يختلف على مالك في الإسناد الأول أنه موصول وأما هذا فرواه يحيى وأكثر الرواة مرسلا ووصله القعنبي فقال عن أبيه ( أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال ) ووافقه على وصله جماعة منهم ابن أبي أويس وابن نافع وابن مهدي انتهى
وقضيته أنه في الموطأ وقال الدارقطني تفرد القعنبي بروايته إياه في الموطأ موصولا عن مالك ولم يذكر غيره من رواة الموطأ فيه ابن عمر ووافقه على وصله عن مالك خارج الموطأ عبد الرحمن بن مهدي وعبد الرزاق وروح بن عبادة وأبو قرة وكامل بن طلحة وآخرون ووصله عن الزهري جماعة من حفاظ أصحابه ( إن بلالا ينادي بليل ) فيه إشعار بأن ذلك كان من عادته المستمرة وزعم بعضهم أنه ابتدأ ذلك باجتهاد منه وعلى تقدير صحته فقد أقره النبي صلى الله عليه وسلم على ذلك فصار في حكم المأمور به
( فكلوا واشربوا حتى ينادي ابن أم مكتوم ) وفي صحيح ابن خزيمة وابن المنذر وابن حبان وغيرهم من طرق من حديث أنيسة مرفوعا أن ابن أم مكتوم ينادي بليل فكلوا واشربوا حتى يؤذن بلال وادعى ابن عبد البر وجماعة من الأئمة أنه مقلوب وأن الصواب حديث الباب قال الحافظ وقد كنت أميل إلى ذلك إلى أن رأيت الحديث في صحيح ابن خزيمة من طريقين آخرين عن عائشة وفي بعض ألفاظه ما يبعد وقوع الوهم فيه وهو قوله إذا أذن عمرو فإنه ضرير البصر فلا يغرنكم وإذا أذن بلال فلا يطعمن أحد وأخرجه أحمد
وجاء عن عائشة أيضا أنها كانت تنكر حديث ابن عمر وتقول إنه غلط أخرج ذلك البيهقي من طريق الدراوردي عن هشام عن أبيه عنها مرفوعا أن ابن أم مكتوم يؤذن بليل فكلوا واشربوا حتى يؤذن بلال قالت عائشة وكان بلال لا يؤذن حتى يبصر الفجر قال وكانت عائشة تقول غلط ابن عمر انتهى
وهذا مما يقضي منه العجب ففي صحيح البخاري من طريق القاسم بن محمد عن عائشة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال إن بلالا يؤذن بليل فكلوا واشربوا حتى ينادي ابن أم مكتوم فإنه لا يؤذن حتى يطلع الفجر وكذا أخرجه مسلم فقد جاء عنها في أرفع الصحيح مثل رواية ابن عمر فكيف تغلطه فالظاهر أن تلك الرواية وهم من بعض الرواة عنها والله أعلم
قال الحافظ عقب ما مر وقد جمع ابن خزيمة والصبغي بين الحديثين باحتمال أن الأذان كان نوبا بين بلال وابن أم مكتوم فكان النبي صلى الله عليه وسلم يعلم الناس أن الأذان الأول منهما لا يحرم على الصائم شيئا ولا يدل على دخول وقت الصلاة بخلاف الثاني وجزم ابن حبان بذلك ولم يبده احتمالا وأنكر ذلك عليه الضياء وغيره
____________________
(1/224)
قال السيوطي قد ورد ذلك قال ابن أبي شيبة حدثنا عثمان حدثنا شعبة عن حبيب بن عبد الرحمن قال سمعت عمتي تقول وكانت حجت مع النبي صلى الله عليه وسلم قالت كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول إن ابن أم مكتوم ينادي بليل فكلوا واشربوا حتى ينادي بلال وإن بلالا ينادي بليل فكلوا واشربوا حتى ينادي ابن أم مكتوم انتهى
قال الحافظ وقيل لم يكن نوبا وإنما كانت لهما حالتان مختلفتان فإن بلالا كان في أول ما شرع الأذان يؤذن وحده ولا يؤذن للصبح حتى يطلع الفجر وعلى ذلك تحمل رواية عروة عن امرأة من بني النجار قالت كان بلال يجلس على بيتي وهو أعلى بيت في المدينة فإذا رأى الفجر تمطى ثم أذن أخرجه أبو داود وإسناده حسن
ورواية حميد عن أنس أن سائلا سأل عن وقت الصلاة فأمر صلى الله عليه وسلم بلالا فأذن حين طلع الفجر الحديث أخرجه النسائي وإسناده صحيح ثم أردف بابن أم مكتوم فكان يؤذن بليل واستمر بلال على حالته الأولى وعلى ذلك تنزل رواية أنيسة وغيرها ثم في آخر الأمر أخر ابن أم مكتوم لضعفه ووكل به من يراعي له الفجر واستقر أذان بلال بليل وكان سبب ذلك ما روي أنه كان ربما أخطأ الفجر فأذن قبل طلوعه وأنه أخطأه مرة فأمره صلى الله عليه وسلم أن يرجع فيقول ألا إن العبد نام يعني إن غلبة النوم على عينيه منعته من تبين الفجر وهو حديث أخرجه أبو داود وغيره من طريق حماد بن سلمة عن أيوب عن نافع عن ابن عمر موصولا مرفوعا ورواته ثقات حفاظ لكن اتفق أئمة الحديث علي بن المديني وأحمد والبخاري والذهلي وأبو حاتم وأبو داود والترمذي والأثرم والدارقطني على أن حمادا أخطأ في رفعه وأن الصواب وقفه على عمر بن الخطاب أنه هو الذي وقع له ذلك مع مؤذنه وأن حمادا انفرد برفعه ومع ذلك فقد وجد له متابع أخرجه البيهقي من طريق سعيد بن زربي وهو بفتح الزاي وسكون الراء بعدها موحدة ثم ياء كياء النسبة فرواه عن أيوب موصولا لكن سعيد ضعيف ورواه عبد الرزاق عن معمر عن أيوب أيضا لكنه أعضله فلم يذكر نافعا ولا ابن عمر وله طريق أخرى عن نافع عند الدارقطني وغيره اختلف في رفعها ووقفها أيضا وأخرى مرسلة من طريق يونس بن عبيد وغيره عن حميد بن هلال وأخرى من طريق سعيد عن قتادة مرسلة ووصلها أبو يوسف عن سعيد بذكر أنس فهذه طرق يقوي بعضها ببعض قوة ظاهرة فلهذا والله أعلم استقر بلال يؤذن الأذان الأول انتهى
( قال وكان ابن أم مكتوم رجلا أعمى ) ظاهره على رواية القعنبي أن فاعل قال هو ابن عمر وبه جزم الشيخ موفق الدين الحنبلي في المغني وفي البخاري في الصيام ما يشهد له وصرح الحميدي في الجمع بأن عبد العزيز بن أبي سلمة رواه عن ابن شهاب عن سالم عن أبيه أنه قال وكان ابن أم مكتوم فثبتت صحة وصله لكن رواه الإسماعيلي عن أبي خليفة والطحاوي عن يزيد بن سنان كلاهما عن القعنبي تعينا أن فاعل قال ابن شهاب وكذا رواه إسماعيل بن إسحاق ومعاذ بن المثنى وأبو مسلم
____________________
(1/225)
الكجي الثلاثة عند الدارقطني والخزاعي عند أبي الشيخ وتمام عند أبي نعيم وعثمان الدارمي عند البيهقي كلهم عن القعنبي ورواه البيهقي من رواية الربيع بن سليمان عن ابن وهب عن يونس والليث جميعا عن ابن شهاب وفيه قال سالم وكان رجلا ضرير البصر قال الحافظ ولا يمنع كون ابن شهاب قاله أن يكون شيخه سالم قاله وكذا شيخ شيخه ابن عمر أيضا ولابن شهاب فيه شيخ آخر رواه عبد الرزاق عن معمر عنه عن سعيد بن المسيب وفيه الزيادة قال ابن عبد البر هو حديث آخر لابن شهاب وقد وافق ابن إسحاق معمرا فيه عن الزهري ( لا ينادي حتى يقال له أصبحت أصبحت ) بالتكرار للتأكيد أي دخلت في الصباح هذا ظاهره واستشكل بأنه جعل أذانه غاية للأكل فلو لم يؤذن حتى يدخل الصباح للزم منه جواز الأكل بعد طلوع الفجر والإجماع على خلافه إلا من شذ كالأعمش وأجاب ابن حبيب وابن عبد البر والأصيلي وجماعة من الشراح بأن المراد قاربت الصباح ويعكر على هذا الجواب أن في رواية الربيع التي قدمناها ولم يكن يؤذن حتى يقول له الناس حين ينظرون إلى بزوغ الفجر أذن
وأصرح من ذلك رواية البخاري في الصيام حتى يؤذن ابن أم مكتوم فإنه لا يؤذن حتى يطلع الفجر وإنما قلت إنه أبلغ لكون جميعه من كلام النبي صلى الله عليه وسلم وأيضا فقوله إن بلالا يؤذن بليل يشعر أن ابن أم مكتوم بخلافه ولأنه لو كان قبل الصبح لم يكن بينه وبين بلال فرق لصدق أن كلا منهما أذن قبل الوقت وهذا الموضع عندي في غاية الإشكال وأقرب ما يقال فيه إنه جعل علامة لتحريم الأكل وكان له من يراعي الوقت بحيث يكون أذانه مقارنا لابتداء طلوع الفجر وهو المراد بالبزوغ وعند أخذه في الأذان يعترض الفجر في الأفق ثم ظهر لي أنه لا يلزم من كون المراد بقولهم أصبحت أي قاربت الصباح وقوع أذانه قبل الفجر لاحتمال أن قولهم ذلك يقع في آخر جزء من الليل وأذانه يقع في أول جزء من طلوع الفجر وهذا وإن كان مستبعدا في العادة فليس بمستبعد من مؤذن النبي صلى الله عليه وسلم المؤيد بالملائكة فلا يشاركه فيه من لم يكن بتلك الصفة
وقد روى أبو قرة من وجه آخر عن ابن عمر حديثا فيه وكان ابن أم مكتوم يتوخى الفجر فلا يخطيه ذكره الحافظ ولا عطر بعد عروس قال رحمه الله وفيه جواز أذان الأعمى إذا كان له من يخبره بالوقت لأنه في الأصل مبني على المشاهدة وعلى هذا القيد يحمل ما روى ابن أبي شيبة وابن المنذر عن ابن مسعود وابن الزبير وغيرهما أنهم كرهوا أن يكون المؤذن أعمى
ونقل النووي عن أبي حنيفة وداود أن أذان الأعمى لا يصح وتعقبه السروجي بأنه غلط على أبي حنيفة نعم في المحيط للحنفية كراهته وفيه جواز تقليده للبصير في دخول الوقت وجواز ذكر الرجل بما فيه من العاهة إذا كان لقصد التعريف ونحوه والأذان قبل الفجر وإليه ذهب الجمهور وخالف النووي وأبو حنيفة ومحمد وهل يكتفي به وإليه ذهب مالك والشافعي وأحمد وأصحابهم وخالف ابن خزيمة وابن المنذر وطائفة من أهل الحديث وادعى بعضهم أنه لم يرد في
____________________
(1/226)
شيء من الحديث ما يدل على الاكتفاء وتعقب بحديث ابن مسعود في الصحيحين مرفوعا لا يمنعن أحدكم بلال من سحور فإنه يؤذن بليل ليرجع قائمكم ولينبه نائمكم وأجيب بأنه مسكوت عنه فلا يدل وعلى التنزل فمحله إذا لم يرد خلافه وهنا وقد ورد حديث ابن عمر وعائشة بما يشعر بعدم الاكتفاء نعم حديث زياد بن الحارث عند أبي داود يدل على الاكتفاء فإن فيه أنه أذن قبل الفجر بأمره صلى الله عليه وسلم وأنه استأذنه في الإقامة فمنعه إلى أن يطلع الفجر فأمره فأقام لكن في إسناده ضعف وأيضا فهي واقعة عين وكانت في سفر ومن ثم قال القرطبي إنه مذهب واضح على أن العمل المنقول بالمدينة على خلافه فلم يرده إلا بالعمل على قاعدة المالكية وادعى بعض الحنفية أن النداء قبل الفجر لم يكن بألفاظ الأذان وإنما كان تذكيرا أو تسحيرا كما يقع للناس اليوم وهذا مردود لأن الذي يصنعه الناس اليوم محدث قطعا وقد تظافرت الطرق على التعبير بلفظ الأذان فحمله على معناه الشرعي مقدم ولأن الأذان الأول لو كان بألفاظ مخصوصة لما التبس على السامعين وسياق الخبر يقتضي أنه خشي عليهم الالتباس وادعى ابن القطان أن ذلك كان في رمضان خاصة وفيه نظر وتمسك الطحاوي بحديث ابن مسعود هذا لمذهبه فقال قد أخبر أن ذلك النداء كان لما ذكر لا للصلاة وتعقب بأن قوله لا للصلاة زيادة في الخبر وليس فيه حصر فيما ذكر فإن قيل تقدم في تعريف الأذان الشرعي أنه إعلام بدخول وقت الصلاة بألفاظ مخصوصة والأذان قبل الوقت ليس إعلاما به
فالجواب أن الإعلام بالوقت أعم من أن يكون إعلاما بأنه دخل أو قارب أن يدخل وإنما اختصت الصبح بذلك من بين الصلوات لأن الصلاة في أول وقتها مرغب فيه والصبح تأتي غالبا عقب نوم فناسب أن ينصب من يوقظ الناس قبل دخول وقتها ليتأهبوا ويدركوا فضيلة أول الوقت انتهى
وهذا الحديث رواه البخاري حدثنا عبد الله بن مسلمة عن مالك به
36 افتتاح الصلاة ( مالك عن ابن شهاب ) محمد بن مسلم الزهري ( عن سالم بن عبد الله ) بن عمر ( عن ) أبيه ( عبد الله بن عمر أن رسول الله كان إذا افتتح الصلاة رفع يديه حذو ) بحاء مهملة وذال معجمة ساكنة أي مقابل ( منكبيه ) تثنية منكب وهو مجمع عظم العضد والكتف وبهذا أخذ مالك والشافعي والجمهور وذهب الحنفية إلى حديث مالك بن الحويرث أنه كان إذا صلى كبر ثم رفع حتى يحاذي بهما أذنيه رواه مسلم وفي لفظ له حتى يحاذي بهما فروع أذنيه ولأبي داود عن وائل بن حجر حتى حاذيا أذنيه ورجح الأول بكونه أصح إسنادا ثم الرفع يكون مقارنا للتكبير وانتهاؤه مع انتهائه لرواية شعيب عن الزهري في هذا الحديث عند البخاري يرفع يديه حين يكبر
____________________
(1/227)
وروى أبو داود عن وائل بن حجر أنه صلى الله عليه وسلم رفع يديه مع التكبير وقضية المقارنة أنه ينتهي بانتهائه وهذا هو الأصح عند الشافعية والمالكية وجاء تقديم الرفع على التكبير (1) *
وله في حديث مالك بن الحويرث كبر ثم رفع يديه
وقال صاحب الهداية من الحنفية الأصح يرفع ثم يكبر لأن الرفع صفة نفي الكبرياء عن غير الله والتكبير إثبات ذلك له والنفي سابق على الإثبات كما في كلمة الشهادة قال الحافظ وهذا مبني على أن حكمة الرفع ما ذكر وقد قال فريق من العلماء الحكمة في اقترانهما أنه يراه الأصم ويسمعه الأعمى وقيل الإشارة إلى طرح الدنيا والإقبال بكليته على العبادة وقيل إلى الاستسلام والانقياد فيناسب فعله قوله الله أكبر وقيل إلى استعظام ما دخل فيه وقيل إلى تمام القيام وقيل إلى رفع الحجاب بين العبد والمعبود وقيل ليستقبل بجميع بدنه قال القرطبي هذا أشبهها
وقال الربيع قلت للشافعي ما معنى رفع اليدين قال تعظيم الله واتباع سنة نبيه انتهى
وقال ابن عبد البر رفع اليدين معناه عند أهل العلم تعظيم لله وعبادة له وابتهال إليه واستسلام له وخضوع في حالة الوقوف بين يديه واتباع لسنة نبيه وكان ابن عمر يقول لكل شيء زينة وزينة الصلاة التكبير ورفع الأيدي
وقال عقبة بن عامر له بكل إشارة عشر حسنات بكل أصبع حسنة انتهى
وهذا رواه الطبراني بسند حسن عن عقبة قال يكتب في كل إشارة يشيرها الرجل بيده في الصلاة بكل أصبع حسنة أو درجة موقوف لفظا مرفوع حكما إذ لا دخل للرأي فيه وهذا الرفع مستحب عند جمهور العلماء عند افتتاح الصلاة لا واجب كما قال الأوزاعي والحميدي شيخ البخاري وابن خزيمة وداود وبعض الشافعية والمالكية
قال ابن عبد البر وكل من نقل عنه الوجوب لا تبطل الصلاة بتركه إلا في رواية عن الأوزاعي والحميدي وهو شذوذ وخطأ وقيل لا يستحب حكاه الباجي عن كثير من المالكية ونقله اللخمي رواية عن مالك ولذا كان أسلم العبارات قول أبي عمر أجمع العلماء على جواز رفع اليدين عند افتتاح الصلاة
وقول ابن المنذر لم يختلفوا أنه كان يرفع يديه إذا افتتح الصلاة
( وإذا رفع رأسه من الركوع رفعهما ) أي يديه ( كذلك ) أي حذو منكبيه ( أيضا ) كذا ليحيى والقعنبي والشافعي ومعن ويحيى والنيسابوري وابن نافع وجماعة فلم يذكروا الرفع عند الانحطاط للركوع
ورواه ابن وهب وابن القاسم وابن مهدي ومحمد بن الحسن وعبد الله بن يوسف وابن نافع وجماعة غيرهم في الموطأ بإثباته فقالوا وإذا ركع وإذا رفع رأسه من الركوع رفعهما كذلك أيضا
قال ابن عبد البر وهو الصواب وكذلك لسائر من رواه عن ابن شهاب
وقال جماعة إن ترك ذكر الرفع عند الانحطاط إنما أتى من مالك وهو الذي ربما أوهم فيه لأن جماعة حفاظا رووا عنه الوجهين
____________________
1* وعكسه أخرجهما مسلم فعنده من رواية ابن جريج وغيره عن ابن شهاب بلفظ رفع يديه ثم كبر
(1/228)
جميعا واختلف في مشروعيته فروى ابن القاسم عن مالك لا يرفع في غير الإحرام وبه قال أبو حنيفة وغيره من الكوفيين
وروى أبو مصعب وابن وهب وأشهب وغيرهم عن مالك أنه كان يرفع إذا ركع وإذا رفع منه على حديث ابن عمر وبه قال الأوزاعي والشافعي وأحمد وإسحاق والطبري وجماعة أهل الحديث وكل من روى عنه من الصحابة ترك الرفع فيهما روى عنه فعله إلا ابن مسعود
وقال محمد بن الحكم لم يرو أحد عن مالك ترك الرفع فيهما إلا ابن القاسم والذي تأخذ به الرفع لحديث ابن عمر انتهى كلام ابن عبد البر
وقال الأصيلي لم يأخذ به مالك لأن نافعا وقفه على ابن عمر وهو أحد الأربع التي اختلف فيها سالم ونافع
ثانيهما من باع عبدا وله مال فماله للبائع
والثالث الناس كإبل مائة لا تكاد تجد فيها راحلة
والرابع فيما سقت السماء والعيون العشر فرفع الأربعة سالم ووقفها نافع انتهى
وبه يعلم تحامل الحافظ في قوله لم أر للمالكية دليلا على تركه ولا متمسكا إلا قول ابن القاسم انتهى
لأن سالما ونافعا لما اختلفا في رفعه ووقفه ترك مالك في المشهور القول باستحباب ذلك لأن الأصل صيانة الصلاة عن الأفعال
قال الحافظ وأما الحنفية فعولوا على رواية مجاهد أنه صلى خلف ابن عمر فلم يره يرفع فيهما ورد بأن في إسناده عن مجاهد مقالا وعلى تقدير صحته فقد أثبت ذلك سالم ونافع وغيرهما عنه والعدد الكثير أولى من واحد لا سيما وهم مثبتون وهو نافي مع أن الجمع ممكن بأنه لم يره واجبا ففعله تارة وتركه أخرى يدل على ضعفه ما رواه البخاري في جزء رفع اليدين عن مالك عن نافع أن ابن عمر كان إذا رأى رجلا لا يرفع يديه إذا ركع وإذا رفع رماه بالحصى واحتجوا أيضا بحديث ابن مسعود أنه رأى النبي يرفع يديه عند الافتتاح ثم لا يعود أخرجه أبو داود ورده الشافعي بأنه لم يثبت قال ولو ثبت لكان المثبت مقدما على النافي وقد صححه بعض أهل الحديث لكنه استدل به على عدم الوجوب ومقابل هذا قول بعض الحنفية أنه يبطل الصلاة ونسب بعض متأخري المغاربة فاعله إلى البدعة وبه قال بعض محققيهم درءا لهذه المفسدة لكن قال البخاري في جزء رفع اليدين من زعم أنه بدعة فقد طعن في الصحابة لأنه لم يثبت عن أحد منهم تركه ولا أسانيد أصح من أسانيد الرفع
( وقال سمع الله لمن حمده ) قال العلماء معنى سمع هنا أجاب ومعناه أن من حمده متعرضا لثوابه استجاب الله تعالى له وأعطاه ما تعرض له فإنا نقول ربنا لك الحمد لتحصيل ذلك ( ربنا ولك الحمد ) قال العلماء الرواية بثبوت الواو أرجح وهي زائدة وقيل عاطفة على محذوف أي حمدناك وقيل هي واو الحال قاله ابن الأثير وضعف ما عداه واستدل به على أن الإمام يجمع بين اللفظين لأن غالب أحواله الإمامة وعليه الشافعي وأبو يوسف ومحمد وجماعة أن الإمام والمأموم والفذ يقول اللفظين
وقال مالك وأبو حنيفة يقول الإمام سمع الله لمن حمده فقط والمأموم ربنا لك الحمد فقط لحديث إذا قال الإمام سمع الله لمن حمده فقولوا ربنا ولك الحمد فقصر الإمام على قول ذلك والمأموم على الآخر وهذه قسمة منافية للشركة كحديث البينة على المدعي واليمين على من أنكر
____________________
(1/229)
وأجابوا عن هذا الحديث بحمله على صلاته صلى الله عليه وسلم منفردا أو على صلاة النافلة توفيقا بين الحديثين والمنفرد يجمع بينهما على الأصح (1) *
( وكان لا يفعل ذلك ) أي رفع يديه ( في السجود ) لا في الهوي إليه ولا في الرفع منه كما صرح به في رواية شعيب عن الزهري بلفظ حين يسجد ولا حين يرفع رأسه وهذا يشمل ما إذا نهض من السجود إلى الثانية والرابعة والتشهدين ويشمل ما إذا قام إلى الثالثة أيضا لكن بدون تشهد لكونه غير واجب وإذا قلنا باستحباب جلسة الاستراحة لم يدل هذا اللفظ على نفي ذلك عن القيام منها إلى الثانية والرابعة لكن روى يحيى القطان عن مالك عن نافع عن ابن عمر مرفوعا هذا الحديث وفيه ولا يرفع بعد ذلك أخرجه الدارقطني في الغرائب بإسناد حسن وظاهره النفي عما عدا المواطن الثلاثة
لكن روى البخاري من رواية عبيد الله عن نافع وأبو داود من رواية محارب بن دثار كلاهما عن ابن عمر أن النبي كان إذا قام من الركعتين كبر ورفع يديه وله شواهد من حديث علي وأبي حميد الساعدي أخرجهما أبو داود وصححهما ابن خزيمة وابن حبان
وقال البخاري في جزء رفع اليدين ما زاده ابن عمر وعلي وأبو حميد في عشرة من الصحابة من الرفع عند القيام من الركعتين صحيح لأنهم لم يخلوا صلاة واحدة فاختلفوا فيها وإنما زاد بعضهم على بعض والزيادة مقبولة من أهل العلم
وقال ابن بطال هذه الزيادة يجب قبولها لمن يقول بالرفع
وقال الخطابي لم يقل به الشافعي وهو لازم على أصله في قبول الزيادة
وقال ابن خزيمة هو سنة وإن لم يذكره الشافعي فالإسناد صحيح وقد قال قولوا بالسنة ودعوا قولي
وقد قال ابن دقيق العيد قياس نظير الشافعي أن يستحب الرفع فيه لأنه أثبت الرفع عند الركوع والرفع منه لكونه زائدا على من اقتصر عليه عند الافتتاح والحجة في الموضعين واحدة وأول راض سيرة من يسيرها قال والصواب إثباته
وأما كونه مذهب الشافعي لقوله إذا صح الحديث فهو مذهبي ففيه نظر انتهى
لأن محل العمل به إذا علم أنه لم يطلع على الحديث أما إذا عرف أنه اطلع عليه ورده أو تأوله بوجه فلا والأمر هنا محتمل وأطلق النووي في الروضة أنه نص عليه لكن الذي في الأم خلافه لقوله ولا يأمره بالرفع إلا في هذه المواضع الثلاثة المذكورة في حديث ابن عمر يعني حديث الباب وهو متواتر ذكر البخاري في جزء رفع اليدين أنه رواه سبعة عشر رجلا من الصحابة وذكر الحاكم وابن منده ممن رواه العشرة المبشرة وذكر شيخنا أبو الفضل الحافظ أنه تتبع من رواه من الصحابة فبلغوا خمسين رجلا ذكره في فتح الباري والحديث رواه البخاري عن القعنبي عن مالك بنحوه
( مالك عن ابن شهاب عن علي بن حسين بن علي بن أبي طالب ) الهاشمي زين العابدين ثقة
____________________
1*
(1/230)
ثبت عابد فقيه فاضل مشهور من رجال الجميع قال الزهري ما رأيت قرشيا أفضل منه مات سنة ثلاث وتسعين وقيل غير ذلك
( أنه قال كان رسول الله يكبر في الصلاة كلما خفض ) للركوع والسجود ( ورفع ) رأسه من السجود لا من الركوع لأنه كان يقول سمع الله لمن حمده كما مر في حديث ابن عمر
( فلم تزل تلك صلاته حتى لقي الله ) قال ابن عبد البر لا أعلم خلافا بين رواة الموطأ في إرسال هذا الحديث رواه عبد الوهاب بن عطاء عن مالك عن ابن شهاب عن علي عن أبيه موصولا ورواه عبد الرحمن بن خالد بن نجيح عن أبيه عن مالك عن ابن شهاب عن علي بن الحسين عن علي بن أبي طالب ولا يصح فيه إلا ما في الموطأ مرسل وأخطأ فيه محمد بن مصعب فرواه عن مالك عن الزهري عن سالم عن أبيه ولا يصح فيه هذا الإسناد والصواب عندهم ما في الموطأ
( مالك عن يحيى بن سعيد عن سليمان بن يسار ) أحد الفقهاء التابعي ( أن رسول الله كان يرفع يديه في الصلاة ) رواه شعبة عن يحيى بن سعيد عن سليمان كذلك مرسلا بلفظ كان يرفع يديه إذا كبر لافتتاح الصلاة وإذا رفع رأسه من الركوع
رح 16( مالك عن ابن شهاب عن أبي سلمة بن عبد الرحمن بن عوف ) التابعي ابن الصحابي ( أن أبا هريرة كان يصلي لهم ) أي لأجلهم إماما وفي رواية بهم بالباء ( فيكبر كلما خفض ورفع ) تجديدا للعهد في أثناء الصلاة بالتكبير الذي هو شعار النية المأمور بها في أول الصلاة مقرونة بالتكبير التي كان من حقها أن تستصحب إلى آخر الصلاة قاله الناصر بن المنير
وظاهر الحديث عمومه في جميع الانتقالات لكن خص منه الرفع من الركوع بالإجماع فإنه يشرع فيه التحميد وقد جاء بهذا اللفظ العام أيضا من حديث أبي موسى عند أحمد وابن مسعود عند الدارمي والطحاوي وابن عمر عند أحمد والنسائي وعبد الله بن زيد عند سعيد بن منصور ووائل بن حجر عند ابن حبان وجابر عند البزار وعمران بن حصين في البخاري ومسلم أنه صلى مع علي بالبصرة فقال ذكرنا هذا الرجل صلاة كنا نصليها مع النبي فذكر أنه كان يكبر كلما رفع وكلما وضع
____________________
(1/231)
وروى أحمد والطحاوي بإسناد صحيح عن أبي موسى الأشعري قال ذكرنا عن صلاة كنا نصليها مع رسول الله إما نسيناها وإما تركناها عمدا وفيه إشارة إلى أن التكبير المذكور كان قد ترك ولأحمد عن عمران أول من ترك التكبير عثمان بن عفان حين كبر وضعف صوته وهذا يحتمل إرادة ترك الجهر
وللطبري عن أبي هريرة أول من تركه معاوية
ولأبي عبيد أول من تركه زياد ولا ينافي ما قبله لأن زيادا تركه بترك معاوية وكأنه تركه بترك عثمان وقد حمله جماعة من العلماء على الإخفاء لكن حكى الطحاوي أن قوما كانوا يتركون التكبير في الخفض دون الرفع قال وكذلك كانت بنو أمية تفعل
وروى ابن المنذر نحوه عن ابن عمر وأن بعض السلف كان لا يكبر سوى تكبيرة الإحرام وفرق بعضهم بين الفذ وغيره ووجهه بأنه شرع للإيذان بحركة الإمام فلا يحتاج إليه الفذ لكن استقر الأمر على مشروعية التكبير في الخفض والرفع لكل مصل والجمهور على سنية ما عدا تكبيرة الإحرام
وعن أحمد وبعض أهل الظاهر يجب كله
قال ابن بطال ترك الإنكار على من تركه يدل على أن السلف لم يتلقوه على أنه ركن من الصلاة
وقال ابن عبد البر هذا يدل على أن السلف لم يتلقوه على الوجوب ولا على السنن المؤكدة
قال وقد اختلف في تاركه فقال ابن القاسم إن أسقط ثلاث تكبيرات سجد لسهوه وإلا بطلت وواحدة أو اثنتين سجد أيضا فإن لم يسجد فلا شيء عليه
وقال عبد الله بن عبد الحكم وأصبغ إن سها سجد فإن لم يسجد فلا شيء عليه وعمدا أساء وصلاته صحيحة وعلى هذا فقهاء الأمصار من الشافعيين والكوفيين وأهل الحديث والمالكيين إلا من ذهب منهم مذهب ابن القاسم
( فإذا انصرف ) من الصلاة ( قال والله إني لأشبهكم بصلاة رسول الله ) في تكبيرات الانتقالات والإتيان بها قال الرافعي هذه الكلمة مع الفعل المأتي به نازلة منزلة حكاية فعله انتهى
وقد جاء ذلك عنه صريحا ففي الصحيحين من رواية ابن شهاب أخبرني أبو بكر بن عبد الرحمن أنه سمع أبا هريرة يقول كان إذا قام إلى الصلاة يكبر حين يقوم ثم يكبر حين يرفع ثم يقول سمع الله لمن حمده حين يرفع صلبه من الركوع ثم يقول وهو قائم ربنا لك الحمد ثم يكبر حين يهوي ثم يكبر حين يرفع رأسه ثم يكبر حين يسجد ثم يكبر حين يرفع رأسه ثم يفعل ذلك في الصلاة جميعا حتى يقضيها ويكبر حين يقوم من اثنتين بعد الجلوس وهذا الحديث رواه البخاري عن عبد الله بن يوسف ومسلم عن يحيى كلاهما عن مالك به
____________________
(1/232)
( مالك عن ابن شهاب عن سالم بن عبد الله أن عبد الله بن عمر كان يكبر في الصلاة كلما خفض ورفع ) زاد أشهب ويخفض بذلك صوته قال ابن عبد البر لم يقله عن مالك وغيره من الرواة
وقال الإمام أحمد يروى عن ابن عمر أنه كان لا يكبر إذا صلى وحده ورواية مالك أولى إلا أن تحمل على المجمل والمفسر فتكون رواية مالك إذا صلى إماما أو مأموما وما حكى أحمد إذا صلى وحده
( مالك عن نافع أن عبد الله بن عمر كان إذا افتتح الصلاة رفع يديه حذو منكبيه ) نقل ابن عبد البر وغيره أن هذا أحد الأحاديث الأربعة التي وقفها نافع عن ابن عمر ورفعها سالم عن أبيه والقول قول سالم ولم يلتفت الناس فيها إلى نافع
ونقل الحافظ أن البخاري أشار إلى رد هذا بأنه اختلف على نافع في رفعه ووقفه فرواه مالك وغيره عنه موقوفا ورواه أيوب عنه عن ابن عمر كان إذا كبر رفع يديه وإذا ركع وإذا رفع رأسه من الركوع والذي يظهر لي أن السبب في هذا الاختلاف أن نافعا كان يرويه موقوفا ثم يعقبه بالرفع فكأنه كان أحيانا يقتصر على الموقوف أو يقتصر عليه بعض الرواة عنه والله أعلم بالصواب
( وإذا رفع رأسه من الركوع رفعهما دون ذلك ) كذا رواه مالك عن نافع وأخرجه من طريقه أبو داود ويعارضه قول ابن جريج قلت لنافع أكان ابن عمر يجعل الأولى أرفعهن قال لا
ذكره أبو داود أيضا وقال لم يذكر رفعهما دون ذلك غير مالك فيما أعلم انتهى
ومعارضته بذلك لا تنهض إذ مالك أثبت من ابن جريج لا سيما في نافع لكثرة ملازمته له على أنه يمكن الجمع بأن نافعا نسي لما سأله ابن جريج فأجابه بالنفي ولما حدث به مالكا كان متذكرا فحدثه به تاما فصدق كل من روايتيه
وأما زعم أبي داود تفرد مالك بزيادة دون ذلك فبفرض تسليمه لا يقدح لأنها زيادة من ثقة حافظ غير منافية فيجب قبولها كما هو مقرر في علوم الحديث
( مالك عن أبي نعيم وهب بن كيسان ) القرشي مولاهم المدني المعلم ثقة روى له الجميع ( عن جابر بن عبد الله أنه كان يعلمهم ) أي أصحابه التابعين ( التكبير في الصلاة قال ) وهب ( فكان ) جابر ( يأمرنا أن نكبر كلما خفضنا ) أي هبطنا للركوع والسجود
( ورفعنا ) من السجود وفي هذا
____________________
(1/233)
وما قبله من المرفوع تضعيف ما رواه أبو داود عن عبد الرحمن بن أبزي صليت خلف النبي فلم يتم التكبير وقد نقل البخاري في التاريخ عن أبي داود الطيالسي أنه قال هذا عندنا باطل
وقال الطبري والبزار تفرد به الحسن بن عمارة وهو مجهول وأجيب على تقدير صحته بأنه فعله لبيان الجواز والمراد لم يتم الجهر به أو لم يمد
( مالك عن ابن شهاب أنه كان يقول إذا أدرك الرجل الركعة ) مع الإمام قبل رفع رأسه من الركوع ( فكبر تكبيرة واحدة أجزأت عنه تلك التكبيرة ) ظاهره وإن لم ينو بها تكبيرة الإحرام
( قال مالك وذلك إذا نوى بتلك التكبيرة افتتاح الصلاة ) قال ابن عبد البر ليس في قول ابن شهاب دليل على تفسير مالك بل هو معروف من مذهب ابن شهاب أن تكبيرة الافتتاح ليست فرضا ففسره مالك على مذهبه كأنه قال وذلك عندنا
وقال الباجي عن مالك روايتان إحداهما أنه يبتديها والثانية يتمادى ويعيد لئلا يبطل عملا اختلف في إجزائه لقوله تعالى { ولا تبطلوا أعمالكم } سورة محمد الآية 33 انتهى
وتكبيرة الإحرام ركن عند الجمهور ومنهم الأئمة الأربعة وقيل شرط وهو عند الحنفية ووجه للشافعية وقيل سنة قال ابن المنذر لم يقل به غير ابن شهاب ونقل ابن عبد البر عنه وعن ابن المسيب والحسن والحكم وقتادة والأوزاعي أنهم قالوا تجزيه تكبيرة الركوع قال في فتح الباري وكذا نقل عن مالك ولم يثبت عن أحد منهم التصريح بالسنية إنما قالوا فيمن أدرك الإمام راكعا تجزيه تكبيرة الركوع نعم نقله الكرخي من الحنفية عن ابن علية وأبي بكر الأصم ومخالفتهما للجمهور كثيرة وأما وجوب النية للصلاة فلا خلاف فيها
( وسئل مالك عن رجل دخل مع الإمام فنسي تكبيرة الافتتاح وتكبيرة الركوع حتى صلى ركعة ثم ذكر أنه لم يكن كبر تكبيرة الافتتاح ولا عند الركوع وكبر في الركعة الثانية قال يبتدىء صلاته أحب إلي ) أحب للوجوب فإنه قد يطلقه عليه أحيانا قاله ابن عبد البر قال وقد اضطرب أصحاب مالك في هذه المسألة وفرقوا بين تكبيرة الداخل للركوع دون الإحرام بين الركعة الأولى والثانية بما لا معنى لإيراده
( ولو سها ) المأموم حال كونه ( مع الإمام ) فليس السهو واقعا من الإمام أيضا ( عن تكبيرة الافتتاح وكبر في الركوع الأول رأيت ذلك مجزيا عنه إذا نوى بها تكبيرة الافتتاح ) وحكم من وقع منه
____________________
(1/234)
ذلك في أي ركعة كذلك وإنما جاء التقييد لكونه جوابا للسؤال والمسألة مبسوطة في الفروع وهذا كله للمأموم فقط لا للمنفرد ولا للإمام فصلاتهما باطلة كما ( قال مالك في الذي يصلي لنفسه فينسى تكبيرة الافتتاح إنه يستأنف صلاته ) لبطلانها بترك ركن وهو تكبيرة الإحرام
( وقال مالك في إمام ينسى تكبيرة الافتتاح حتى يفرغ من صلاته قال أرى أن يعيد ويعيد من خلفه الصلاة ) لبطلانها ( وإن كان من خلفه قد كبروا فإنهم يعيدون ) لأن كل صلاة بطلت على الإمام بطلت على المأموم إلا في مسائل ليست هذه منها
37 القراءة في المغرب والعشاء أي تقديرها فيهما لكونهما جهريتين وقدمهما على ترجمة القراءة في الصبح لأن الليل سابق النهار ولم يذكر للقراءة في الظهر والعصر ترجمة لأنهما سريتان لم تسمع قراءة النبي فيهما ومن ترجم لهما أراد إثبات القراءة فيهما وقد ترجم البخاري لهما وروى في الترجمتين حديث أبي قتادة كان النبي يقرأ في الركعتين من الظهر والعصر بفاتحة الكتاب وسورة سورة ويسمعنا الآية أحيانا وحديث أبي معمر قال قلت لخباب أكان النبي يقرأ في الظهر والعصر قال نعم قلت بأي شيء كنتم تعلمون قراءته قال باضطراب لحيته وأورد على الأول أن العلم بقراءة السورة في السرية إنما يكون بسماع كلها وأجيب باحتمال أنه مأخوذ من سماع بعضها مع قيام القرينة على قراءة باقيها وباحتمال أنه كان يخبرهم عقب الصلاة دائما أو غالبا بقراءة السورتين وهو بعيد جدا قاله ابن دقيق العيد
وعلى الثاني أن اضطراب لحيته لا يعين القراءة لحصوله بالذكر والدعاء وأجيب بأنهم نظروه بالجهرية لأن ذلك المحل منها هو محل القراءة لا الذكر والدعاء وإذا انضم إلى ذلك قول أبي قتادة كان يسمعنا الآية أحيانا قوي الاستدلال وقال بعضهم احتمال الذكر ممكن لكن جزم الصحابي بالقراءة مقبول لأنه أعرف بأحد المحتملين فقبل تفسيره واستدل به البيهقي على أن الإسرار بالقراءة لا بد فيه من إسماع المرء نفسه وذلك لا يكون إلا بتحريك اللسان والشفتين بخلاف ما لو أطبق شفتيه وحرك لسانه بالقراءة فإنه لا يضطرب بذلك لحيته قال الحافظ وفيه نظر لا يخفى
____________________
(1/235)
( مالك عن ابن شهاب عن محمد بن جبير ) بضم الجيم وفتح الموحدة ( ابن مطعم ) القرشي النوفلي أبي سعيد المدني ثقة من رجال الجميع عارف بالأنساب مات على رأس المائة
( عن أبيه ) جبير بن مطعم بن عدي بن نوفل بن عبد مناف صحابي أسلم يوم فتح مكة وقيل قبله وكان أحد الأشراف ومن حلماء قريش وساداتهم عارفا بالأنساب مات سنة ثمان أو تسع وخمسين
( أنه قال سمعت رسول الله قرأ ) كذا في نسخ الموطأ ومثله في البخاري من رواية ابن يوسف عن مالك قرأ بلفظ الماضي وفي فتح الباري قوله قرأ في رواية ابن عساكر يقرأ وكذا هو في الموطأ ومسلم
( بالطور في المغرب ) وللبخاري في الجهاد من طريق معمر عن الزهري وكان جاء في أسارى بدر ولابن حبان من طريق محمد بن عمرو عن الزهري في فداء أهل بدر وزاد الإسماعيلي من طريق معمر وهو يومئذ مشرك وللبخاري في المغازي من رواية معمر أيضا وذلك أول ما وقر الإيمان في قلبي وللطبراني من طريق أسامة بن زيد نحو وزاد في آخره فأخذني من قراءته الكرب ولسعيد بن منصور عن هشيم عن الزهري فكأنما صدع قلبي حين سمعت القرآن واستدل به على صحة أداء ما تحمله الراوي في حال الكفر وكذا الفسق إذا أداه في حالة العدالة وقوله بالطور أي بسورة الطور
وقال ابن الجوزي يحتمل أن الباء بمعنى من كقوله تعالى { يشرب بها عباد الله } سورة الإنسان الآية 6 واستدل الطحاوي لذلك بما رواه من طريق هشيم عن الزهري فسمعته يقول { إن عذاب ربك لواقع } سورة الطور الآية 7 قال فأخبر أن الذي سمعه من هذه السورة هو هذه الآية خاصة قال الحافظ وليس في السياق ما يقتضي قوله خاصة مع أن رواية هشيم بخصوصها مضعفة بل جاء في روايات أخرى ما يدل على أنه قرأ السورة كلها فعند البخاري في التفسير فلما بلغ هذه الآية { أم خلقوا من غير شيء أم هم الخالقون } سورة الطور الآية 35 { أم خلقوا السماوات والأرض بل لا يوقنون } سورة الطور الآية 36 { أم عندهم خزائن ربك أم هم المصيطرون } سورة الطور الآية 37 كاد قلبي يطير ونحوه لقاسم بن أصبغ
وللطبراني وابن حبان سمعته يقرأ { والطور وكتاب مسطور } سورة الطور الآية 1 2 ومثله لابن سعد وزاد فاستمعت قراءته حتى خرجت من المسجد انتهى
ورواه يزيد بن أبي حبيب عن الزهري فجعل موضع المغرب العتمة
ورواه سفيان بن حسين عن الزهري عن محمد عن أبيه أتيت رسول الله لأكلمه في أسارى بدر فوافقته وهو يصلي بأصحابه المغرب أو العشاء وهو يقرأ وقد خرج صوته من المسجد { إن عذاب ربك لواقع ما له من دافع } سورة الطور الآية 7 8 فكأنما صدع قلبي أخرجهما ابن عبد البر فأما رواية الشك فالصحيح منه المغرب وأما رواية العتمة فضعيفة لأنها من رواية ابن لهيعة عن يزيد كما قال ابن عبد البر يعني وابن لهيعة لا يحتج به إذا انفرد فكيف إذا خالف والمحفوظ عن الزهري عند حفاظ أصحابه المغرب
____________________
(1/236)
وقد أخرجه البخاري عن عبد الله بن يوسف ومسلم عن يحيى كلاهما عن مالك به
( مالك عن ابن شهاب عن عبيد الله ) بضم العين ( ابن عبد الله ) بفتحها ( ابن عتبة ) بضمها بعدها فوقية ( ابن مسعود ) أحد الفقهاء ( عن عبد الله بن عباس ) الحبر الترجمان ( أن ) أمه ( أم الفضل ) اسمها لبابة بضم اللام وتخفيف الموحدتين ( بنت الحارث ) بن حزن بفتح المهملة وسكون الزاي بعدها نون الهلالية زوج العباس وأم بنيه الستة النجباء وأخت ميمونة أم المؤمنين لها صحبة ورواية وكان يزورها ويقيل عندها ويقال إنها أول امرأة أسلمت بعد خديجة ورد بأنها وإن كانت قديمة الإسلام لكنها سبقتها أم عمار وأم بلال وغيرهما قال في الفتح هنا والصحيح أي في أول من أسلم بعد خديجة فاطمة أخت عمر زوج سعيد بن زيد كما في المناقب من حديثه لقد رأيتني وعمر موثقي وأخته على الإسلام قال ابن حبان ماتت بعد العباس في خلافة عثمان
( سمعته وهو ) أي عبد الله بن عباس ( يقرأ ) جملة حالية وفيه التفات من الحاضر إلى الغائب لأن القياس سمعتني وأنا أقرأ
( والمرسلات عرفا ) أي الرياح متتابعة كعرف الفرس يتلو بعضه بعضا ونصبه على الحال
( فقالت له يا بني ) بضم الموحدة مصغر ( لقد ذكرتني ) بشد الكاف شيئا نسيته ( بقراءتك هذه السورة ) منصور بقراءة عند البصريين وبذكرتني عند الكوفيين
( إنها لآخر ما سمعت رسول الله يقرأ بها في المغرب ) زاد البخاري في الوفاة النبوية من رواية عقيل عن ابن شهاب ثم ما صلى لنا بعدها حتى قبضه الله
وللبخاري عن عائشة أن الصلاة التي صلاها النبي بأصحابه في مرض موته كانت الظهر والجمع بينهما أن التي حكتها عائشة كانت في المسجد والتي حكتها أم الفضل كانت في بيته كما رواه النسائي لكن يعكر عليه رواية ابن إسحاق عن ابن شهاب في هذا الحديث بلفظ خرج إلينا رسول الله وهو عاصب رأسه في مرضه فصلى المغرب الحديث أخرجه الترمذي ويمكن حمل قولها خرج إلينا أي من مكانه الذي كان راقدا فيه إلى من في البيت فصلى بهم فتلتئم الروايات قاله الحافظ
واستدل بهذين الحديثين على امتداد وقت المغرب وعلى جواز القراءة فيها بغير قصار المفصل
وفي البخاري عن مروان بن الحكم قال قال لي زيد بن ثابت ما لك تقرأ في المغرب بقصار المفصل وقد سمعت النبي يقرأ بطولي الطوليين تأنيث أطول والطوليين بتحتية تثنية طولى أي بأطول السورتين الطويلتين
وفي رواية ابن خزيمة والله لقد كان يقرأ فيها بسورة الأعراف
____________________
(1/237)
في الركعتين جميعا
واتفقت الروايات على تفسير الطولى بالأعراف وفي تفسير الأخرى بالمائدة والأنعام ويونس روايات المحفوظ منها الأنعام
وفي حديث سليمان بن يسار عن أبي هريرة ما رأيت أحدا أشبه صلاة برسول الله من فلان قال سليمان فكان يقرأ في الصبح بطوال المفصل وفي المغرب بقصار المفصل أخرجه النسائي وصححه ابن حبان
وطريق الجمع بين هذه الأحاديث أنه كان أحيانا يطيل القراءة في المغرب إما لبيان الجواز وإما للعلم بعدم المشقة على المأمومين وليس في حديث جبير دليل على أن ذلك تكرر منه
وأما حديث زيد بن ثابت ففيه إشعار بذلك لكونه أنكر على مروان المواظبة على القراءة بقصار المفصل ولو علم مروان أنه واظب على ذلك لاحتج به على زيد لكن لم يرد زيد منه المواظبة على القراءة بالطوال وإنما أراد منه أن يتعاهد ذلك كما رآه من النبي
وفي حديث أم الفضل إشعار بأنه كان يقرأ في الصحة بأطول من المرسلات لكونه حال شدة مرضه وهو مظنة التخفيف وهو يرد على أبي داود ادعاء نسخ التطويل لأنه روى عقب حديث زيد بن ثابت عن عروة أنه كان يقرأ في المغرب بالقصار قال وهذا يدل على نسخ حديث زيد ولم يبين وجه الدلالة وكأنه لما رأى عروة راوي الحديث عمل بخلافه حمله على أنه اطلع على ناسخه ولا يخفى بعد هذا الحمل وكيف يصح دعوى النسخ وأم الفضل تقول آخر صلاة صلاها بهم قرأ بالمرسلات قال ابن خزيمة هذا من الاختلاف المباح فجائز للمصلي أن يقرأ في المغرب وفي الصلوات كلها بما أحب إلا أنه إذا كان إماما استحب له تخفيف القراءة وهذا أولى من قول القرطبي ما ورد من تطويل القراءة فيما استقر عليه التقصير أو عكسه فهو متروك انتهى
ونقل الترمذي عن مالك أنه كره القراءة في المغرب بالطور والمرسلات ونحوهما وعن الشافعي لا أكره ذلك بل أستحبه غريب فالمعروف عند المالكية والشافعية أنه لا كراهة في ذلك ولا استحباب بل هو جائز كما قال ابن عبد البر وغيره نعم المستحب تقصيرها للعمل بالمدينة وبغيرها قال ابن دقيق العيد استمر العمل على تطويل القراءة في الصبح وتقصيرها في المغرب والحق عندنا أن ما صح عنه في ذلك وثبتت مواظبته عليه فهو مستحب وما لم تثبت مواظبته عليه فلا كراهة فيه
واستدل الخطابي وغيره بالأحاديث على امتداد وقت المغرب إلى الشفق وفيه نظر لأن من قال إن لها وقتا واحدا لم يحده بقراءة معينة بل قالوا لا يجوز تأخيرها عن أول غروب وله أن يطول القراءة فيها إلى الشفق ومنهم من قال ولو غاب الشفق وحمله الخطابي على أنه وقع ركعة في أول الوقت ويديم الباقي ولو غاب الشفق ولا يخفى ما فيه لأن تعمد إخراج الصلاة عن الوقت ممنوع ولو أجزأت فلا يحمل ما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم على ذلك
____________________
(1/238)
وحديث أم الفضل أخرجه البخاري عن عبد الله بن يوسف ومسلم عن يحيى كلاهما عن مالك به (1) *
( مالك عن أبي عبيد ) بضم العين مصغر المذحجي قيل اسمه عبد الملك وقيل حي وقيل حيي وقيل حوي بضم المهملة وفتح الواو بعدها تحتية ثقيلة ثقة روى له مسلم وأبو داود والنسائي وعلق له البخاري
( مولى سليمان بن عبد الملك ) بن مروان أحد ملوك بني أمية وحاجبه
( عن عبادة ) بضم العين والتخفيف وهاء آخره ( بن نسي ) بضم النون وفتح المهملة الخفيفة الكندي الشامي قاضي طبرية ثقة فاضل تابعي مات سنة ثمان عشرة ومائة
( عن قيس بن الحارث ) الكندي الحمصي ثقة من التابعين
( عن أبي عبد الله الصنابحي ) بضم الصاد المهملة وفتح النون فألف فموحدة فمهملة اسمه عبد الرحمن بن عسيلة بمهملتين مصغر المرادي ثقة من كبار التابعين قدم المدينة بعد موت النبي بخمسة أيام ومات في خلافة عبد الملك
( قال قدمت المدينة في خلافة أبي بكر الصديق فصليت وراءه المغرب فقرأ في الركعتين الأوليين بأم القرآن وسورة سورة من قصار المفصل ) وهل أوله الصافات أو الجاثية أو الفتح أو الحجرات أو قاف أو الصف أو تبارك أو سبح أو الضحى إلى آخر القرآن أقوال أكثرها مستغرب والراجح عند المالكية والشافعية الحجرات ونقل المحب الطبري قولا شاذا أن المفصل جميع القرآن
( ثم قام في الثالثة فدنوت منه حتى إن ثيابي لتكاد أن تمس ثيابه فسمعته قرأ بأم القرآن وبهذه الآية { ربنا لا تزغ قلوبنا } سورة آل عمران الآية 8 ) تملها عن الحق بابتغاء تأويله الذي لا يليق بنا كما زاغت قلوب أولئك ( بعد إذ هديتنا ) أرشدتنا إليه ( وهب لنا من لدنك ) من عندك ( رحمة ) تثبيتا ( إنك أنت الوهاب ) قال الباجي قراءته في الثالثة هذه الآية ضرب من القنوت والدعاء لما كان فيه من أهل الردة وأجاز جماعة من العلماء القنوت في المغرب وكل صلاة ومنهم من لا يراه أصلا
وقال ابن عبد البر قراءة النبي في المغرب بالطور والمرسلات وفي العشاء بالتين والزيتون وقراءة أبي بكر بما ذكر كل ذلك من المباح يقرأ بما شاء مع أم القرآن ما لم يكن إماما فلا يطول على من خلفه وتخفيفه مرة وربما طول يدل على أن لا توقيت في القراءة بعد الفاتحة
____________________
1*
(1/239)
وهذا إجماع وقد قال من أم بالناس فليخفف ولم يحد شيئا وأجمعوا على أن لا صلاة إلا بقراءة وكان الشافعي يقول ببغداد تسقط القراءة عمن نسي فإن النسيان موضوع ثم رجع عن ذلك بمصر وأظنه كانت دخلت عليه الشبهة بما روي أن عمر صلى المغرب فلم يقرأ فذكر له ذلك فقال كيف كان الركوع والسجود قيل حسن قال لا بأس إذا
وهذا حديث منكر كان مالك ذكره في الموطأ مرسلا ثم رماه من كتابه وصح أن عمر أعاد تلك الصلاة بإقامة وقال لا صلاة إلا بقراءة
وروى أشهب عن مالك أنه أنكر أن يكون عمر فعله وقال يرى الناس عمر يفعل هذا في المغرب فلا يسبحون له ولا يخبرونه
( مالك عن نافع أن عبد الله بن عمر كان إذا صلى وحده ) أي منفردا ( يقرأ في الأربع ) من ركعات الصلاة ( جميعا ) أي في جميعهن لا في بعضهن زاد في رواية محمد بن الحسن من الظهر والعصر ( في كل ركعة بأم القرآن وسورة من القرآن ) طويلة أو قصيرة وهذا لم يوافقه عليه مالك ولا الجمهور بل كرهوا قراءة شيء بعد الفاتحة في الأخريين وثالثة المغرب لما في الصحيحين وغيرهما عن أبي قتادة أن النبي كان يقرأ في الظهر في الأوليين بأم القرآن وسورتين وفي الركعتين الأخريين بأم الكتاب ويطول في الركعة الأولى ما لا يطول في الثانية وهكذا في العصر
( وكان يقرأ أحيانا بالسورتين والثلاث في الركعة الواحدة من صلاة الفريضة ) وبجواز ذلك قال الأئمة الأربعة وغيرهم
وفي الصحيحين عن ابن مسعود لقد عرفت النظائر التي كان النبي يقرن بينهن فذكر عشرين آية من المفصل سورتين في كل ركعة
( ويقرأ في الركعتين من المغرب كذلك بأم القرآن وسورة سورة ) بيان لمراده بالتشبيه
( مالك عن يحيى بن سعيد ) بن قيس الأنصاري ( عن عدي بن ثابت الأنصاري ) الكوفي ثقة روى له الجميع ورمي بالتشيع مات سنة ست عشرة ومائة
( عن البراء بن عازب ) الصحابي ابن الصحابي ( أنه قال صليت مع رسول الله العشاء ) زاد البخاري من رواية شعبة عن عدي في سفر زاد الإسماعيلي ركعتين ( فقرأ فيهما بالتين ) أي بسورة التين ( والزيتون ) زاد النسائي في الركعة الأولى
____________________
(1/240)
وفي كتاب الصحابة لابن السكيت في ترجمة ورقة بن خليفة رجل من أهل اليمامة أنه قال سمعنا بالنبي فأتيناه فعرض علينا الإسلام فأسلمنا وأسهم لنا وقرأ في الصلاة بالتين والزيتون وإنا أنزلناه في ليلة القدر
قال الحافظ يمكن إن كانت في الصلاة التي عين البراء أنها العشاء أن يقال قرأ في الأولى بالتين وفي الثانية بالقدر وإنما قرأ فيها بقصار المفصل لكونه مسافرا والسفر يطلب فيه التخفيف وحديث أبي هريرة في الصحيحين أنه قرأ فيها { إذا السماء انشقت } سورة الانشقاق الآية 1 محمول على الحضر فلذا قرأ فيها بأواسط المفصل
وللبخاري من رواية مسعر عن عدي عن البراء بزيادة ما سمعت صوتا أحسن منه أو قراءة
ولمسلم من هذا الوجه صوتا أحسن منه بدون شك
38 العمل في القراءة رح 17( مالك عن نافع عن إبراهيم بن عبد الله بن حنين ) بضم الحاء المهملة وفتح النون الهاشمي مولاهم المدني التابعي قال ابن سعد كان ثقة كثير الحديث روى له الجميع ومات بعد المائة
( عن أبيه ) عبد الله التابعي الثقة المتوفى في أول إمارة يزيد روى له الجماعة وفي الإسناد ثلاثة من التابعين يروي بعضهم عن بعض وهو من اللطائف ( عن علي بن أبي طالب ) بن عبد المطلب بن هاشم أبي الحسن من السابقين الأولين ورجح جماعة أنه أول من أسلم أمير المؤمنين مناقبه كثيرة جدا حتى قال أحمد والنسائي وإسماعيل القاضي لم يرد في حق أحد بالأسانيد الجياد ما ورد في حق علي مات في رمضان سنة أربعين وهو يومئذ أفضل الأحياء من بني آدم بالأرض بإجماع أهل السنة وله ثلاث وستون سنة على الأصح
( أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن لبس القسي ) بفتح القاف وكسر السين وتحتية مشددتين قال ابن وهب ثياب مضلعة أي مخططة بالحرير كانت تعمل بالقس موضع بمصر يلي الفر ما قاله الباجي
وفي مسلم عن أبي بردة قلت لعلي ما القسية قال ثياب أتتنا من مصر والشام مضلعة فيها حرير أمثال الأترج
وقال أبو عبيد أهل الحديث يكسرون القاف وأهل مصر يفتحونها نسبة إلى بلد على ساحل البحر يقال لها القس بقرب دمياط وقال الحافظ الكسر غلط لأنه جمع قوس
وقال ابن الأثير هي ثياب من كتان مخلوط بحرير يؤتى بها من مصر نسبت إلى قرية على ساحل البحر قريبا من تنيس يقال لها القس وبعض أهل الحديث يكسرها وقيل أصل القسي القزي بالزاي منسوب إلى القز وهو ضرب من الإبريسم فأبدل من
____________________
(1/241)
الزاي سين وقيل منسوب إلى القس وهو الصقيع لبياضه
وفي رواية أبي مصعب والقعنبي ومعن وجماعة زيادة والمعصفر والنهي للتنزيه على المشهور ففي المدونة كره مالك الثوب المعصفر المقدم للرجال في غير الإحرام والمقدم بضم الميم وسكون الفاء وفتح الدال المهملة القوي الصبغ المشبع الذي رد في العصفر مرة بعد أخرى
وأما المعصفر غير المقدم والمزعفر فيجوز لبسهما في غير الإحرام نص على الأول في المدونة وعلى المزعفر في غيرها
قال مالك لا بأس بالمزعفر لغير الإحرام وكنت ألبسه
( وعن تختم الذهب ) نهي تحريم للرجال دون النساء
( وعن قراءة القرآن في الركوع ) والسجود كما زاده معمر عن ابن شهاب عن إبراهيم عن أبيه عن علي عند مسلم فتكره القراءة فيهما عند الجميع لهذا الحديث ولخبر مسلم عن ابن عباس مرفوعا ألا وإني قد نهيت عن القراءة في الركوع والسجود فأما الركوع فعظموا فيه الرب وأما السجود فاجتهدوا في الدعاء فقمن أن يستجاب لكم وحديث الباب رواه مسلم في اللباس عن يحيى والترمذي في الصلاة عن قتيبة ومن طريق معن الثلاثة عن مالك به وتابعه الزهري في شيخه نافع عن إبراهيم عن أبيه عن علي في مسلم أيضا
( مالك عن يحيى بن سعيد عن محمد بن إبراهيم بن الحارث التيمي ) بفوقية فتحتية نسبة إلى تيم قريش ( عن أبي حازم ) بمهملة وزاي ( التمار ) اسمه دينار مولى الأنصار كذا في رواية للنسائي وله في أخرى مولى الغفاريين وقد قيل إنه مولى أبي رهم الغفاري
وذكر حبيب بن إبراهيم عن مالك أن اسمه يسار مولى قيس بن سعد بن عبادة
وقال الآجري قلت لأبي داود أبو حازم التمار حدث عنه محمد بن إبراهيم من هو قال هو الرجل الذي من بياضة وقيل هما اثنان التمار مولى أبي رهم الغفاري والبياضي مولى الأنصار مختلف في صحبته
( عن البياضي ) بفتح الموحدة وضاد معجمة اسمه فروة بفتح الفاء وسكون الراء ابن عمرو بفتح العين ابن ودقة بفتح الواو وسكون الدال المهملة بعدها قاف كما ضبطه الداني في أطراف الموطأ قال وهي الروضة ابن عبيد بن غانم بن بياضة فخذ من الخزرج الأنصاري شهد العقبة وبدرا وما بعدها وآخى النبي صلى الله عليه وسلم بينه وبين عبد الله بن مخرمة العامري وروى عبد الرزاق عن رافع بن خديج أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يبعث فروة بن عمرو يخرص النخل فإذا دخل الحائط حسب ما فيه من الأقناء ثم ضرب بعضها على بعض على ما يرى فيها فلا يخطىء
وذكر وثيمة في كتاب الردة أن فروة كان ممن قاد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فرسين في سبيل الله وكان يتصدق في كل يوم من نخله بألف وسق وكان من أصحاب علي يوم الجمل وزعم ابن مزين وابن وضاح أن مالكا سكت عن اسمه لأنه كان ممن أعان على عثمان قال ابن عبد البر وهذا لا يثبت ولا وجه لما قالاه من ذلك ولم يكن قائل هذا علم بما كان من الأنصار يوم الدار
____________________
(1/242)
( أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج على الناس وهم يصلون ) وفي رواية حماد بن زيد عن يحيى بن سعيد أن ذلك كان في رمضان والنبي صلى الله عليه وسلم معتكف في قبة على بابها حصير والناس يصلون عصبا عصبا أخرجه ابن عبد البر
( وقد علت أصواتهم بالقراءة فقال إن المصلي يناجي ربه ) قال ابن بطال مناجاة المصلي ربه عبارة عن إحضار القلب والخشوع في الصلاة وقال عياض هي إخلاص القلب وتفريغ السر بذكره وتحميده وتلاوة كتابه في الصلاة وقال غيره مناجاة العبد لربه ما يقع منه من الأفعال والأقوال المطلوبة في الصلاة وترك الأفعال والأقوال المنهي عنها ومناجاة الرب لعبده إقباله عليه بالرحمة والرضوان وما يفتحه عليه من العلوم والأسرار وفيه كما قال الباجي تنبيه على معنى الصلاة والمقصود بها ليكثر الاحتراز من الأمور المكروهة المدخلة للنقص فيها والإقبال على أمور الطاعة المتممة لها
( فلينظر بما يناجيه به ) أراد به التحذير من أن يناجيه بالقرآن على وجه مكروه وإن كان القرآن كله طاعة وقربة
( ولا يجهر بعضكم على بعض بالقرآن ) لأن فيه أذى ومنعا من الإقبال على الصلاة وتفريغ السر لها وتأمل ما يناجي به ربه من القرآن وإذا منع رفع الصوت بالقرآن حينئذ لأذى المصلين فبغيره من الحديث وغيره أولى انتهى
وقال ابن عبد البر وإذا نهي المسلم عن أذى المسلم في عمل البر وتلاوة القرآن فإيذاؤه في غير ذلك أشد تحريما وقد ورد مثل هذا الحديث من رواية أبي سعيد الخدري أخرج أبو داود عنه قال اعتكف صلى الله عليه وسلم في المسجد فسمعهم يجهرون بالقراءة فكشف الستر وقال ألا إن كلكم يناجي ربه فلا يؤذين بعضكم بعضا ولا يرفع بعضكم على بعض في القراءة
وقال في الصلاة
قال ابن عبد البر حديث البياضي وأبي سعيد ثابتان صحيحان
قال وقد روي بسند ضعيف عن علي قال نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يرفع صوته بالقرآن قبل العشاء وبعدها يغلط أصحابه وهم يصلون قال السيوطي وكثيرا ما يسأل عما اشتهر على الألسنة ما أنصف القارىء المصلي ولا أصل له ولكن هذه أصوله
( مالك عن حميد ) بضم الحاء ابن أبي حميد البصري يكنى أبا عبيدة مولى طلحة بن عبد الله الخزاعي الذي يقال له طلحة الطلحات واسم أبيه طرخان أو مهران أو غير ذلك إلى نحو عشر أقوال وهو من الثقات المتفق على الاحتجاج بهم إلا أنه كان يدلس حديث أنس وكان سمع أكثره من ثابت وغيره من أصحاب أنس قال شعبة لم يسمع حميد من أنس إلا أربعة وعشرين حديثا والباقي سمعها من ثابت أو ثبته فيها وعابه زائدة لدخوله في شيء من أمر الخلفاء وجملة الذي رواه مالك في
____________________
(1/243)
الموطأ عنه سبعة أحاديث مات وهو قائم يصلي في جمادى الأولى سنة اثنين ويقال ثلاث وأربعين ويقال سنة أربعين ومائة ولقب ( الطويل ) قيل لطول يديه وقال الأصمعي رأيته ولم يكن بالطويل ولكن كان له جار يعرف بحميد القصير فقيل حميد الطويل ليعرف من الآخر
( عن أنس بن مالك أنه قال قمت وراء أبي بكر وعمر وعثمان ) قال الباجي أي وقفت مستقبل القبلة القيام المعتاد في الصلاة على رجليه جميعا فيقرنهما ولا يحركهما ( فكلهم كان لا يقرأ بسم الله الرحمن الرحيم إذا افتتح الصلاة ) قال ابن عبد البر هكذا في الموطأ عند جماعة رواته فيما علمت موقوفا وروته طائفة منهم الوليد بن مسلم وموسى بن طارق وإسماعيل بن موسى السدي عن مالك عن حميد عن أنس قال صليت خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وعمر وعثمان فكلهم إلى آخره وليس ذلك بمحفوظ
وكذلك رواه ابن أخي ابن وهب عن عمه عبد الله بن وهب قال حدثنا عبيد الله بن عمر ومالك وابن عيينة عن حميد عن أنس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان لا يجهر بالقراءة ببسم الله الرحمن الرحيم وهو خطأ عندهم من ابن أخي ابن وهب في رفعه ذلك عن عمه عن مالك والصواب عنه ما في الموطأ خاصة وذكر الحافظ في نكته على ابن الصلاح أن حميدا سمع هذا الحديث من أنس وقتادة إلا أنه سمع الموقوف من أنس ومن قتادة عنه المرفوع قال ابن أبي عدي فكان حميد إذا قال عن أنس لم يرفعه وإذا قال عن قتادة عنه رفعه انتهى
ولا يعارضه ما رأيت أن طائفة روته عن مالك فرفعته بدون ذكر قتادة لقول أبي عمر إنه ليس بمحفوظ
نعم يرد عليه رواية ابن عيينة والعمري له بدون ذكر قتادة فإن أبا عمر لم يعللها لكن قد أعلها غيره أيضا
قال ابن عبد البر وقد روى هذا الحديث عن أنس ثابت وقتادة وحميد أيضا من طرق كثيرة بأسانيد صحيحة كلهم ذكر فيه النبي صلى الله عليه وسلم لكن اختلف عليهم في لفظه اختلافا كثيرا مضطربا متدافعا منهم من قال كانوا لا يقرؤون بسم الله الرحمن الرحيم
ومنهم من قال كانوا لا يجهرون بها
وبعضهم قال كانوا يجهرون
وبعضهم قال كانوا لا يتركونها
ومنهم من قال كانوا يفتتحون القراءة بالحمد لله رب العالمين وهذا اضطراب لا تقوم معه حجة لأحد من الفقهاء
قال الحافظ طريق الجمع بين هذه الألفاظ حمل نفي القراءة على نفي السماع ونفي السماع على نفي الجهر ولا يلزم من قوله كانوا يفتتحون بالحمد وهو بضم الدال على الحكاية أنهم لم يقرؤوا البسملة سرا
ويؤيده أن في رواية الحسن عن أنس عند ابن خزيمة كانوا يسرون ببسم الله الرحمن الرحيم فاندفع بهذا تعليل من أعله بالاضطراب كابن عبد البر لأن الجمع إذا أمكن تعين المصير إليه انتهى
ولا يخفى تعسفه فإنه لم يذكر رواية كانوا يجهرون ورواية كانوا لا يتركونها إذ جمعه لا يمكن
____________________
(1/244)
معهما فالحق مع ابن عبد البر ومن وافقه ثم كيف يحمل نفي السماع على نفي الجهر ويقدم عليه رواية من أثبته مع كون أنس صحب النبي صلى الله عليه وسلم عشر سنين ثم صحب أبا بكر وعمر وعثمان خمسا وعشرين سنة فلا يسمع الجهر بها منهم في صلاة واحدة وهذا من البعد بمكان وتأييده بما جاء أن سعيد بن يزيد سأل أنسا عن ذلك فقال إنك لتسألني عن شيء لا أحفظه ولا سألني عنه أحد قبلك رواه ابن خزيمة وغيره وبه أعل حديث الباب ليس بناهض لأن أحمد روى بإسناد الصحيحين أن قتادة سأل أنسا مثل سؤال سعيد فأجابه بقوله صليت خلف النبي صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وعمر وعثمان فلم يكونوا يفتتحون القراءة ببسم الله الرحمن الرحيم
وأخرجه أبو يعلى والسراج وغيرهما
وروى ابن المنذر عن قتادة سألت أنسا أيقرأ الرجل في الصلاة بسم الله الرحمن الرحيم فقال صليت وراء رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وعمر وعثمان فلم أسمع أحدا منهم يقرأ بسم الله الرحمن الرحيم وجمع بينهما بأنه أجاب قتادة بالحكم دون سعيد فلعله تذكره لما سأله قتادة بدليل قوله في رواية سعيد ما سألني عنه أحد قبلك وقاله لهما معا فحفظه قتادة دون سعيد فإن قتادة أحفظ منه بلا نزاع
والإنصاف قول السيوطي قد كثرت الأحاديث الواردة في البسملة إثباتا ونفيا وكلا الأمرين صحيح أنه صلى الله عليه وسلم قرأ بها وتركها وجهر بها وأخفاها والذي يوضح صحة الأمرين ويزيل إشكال من شكك على الفريقين معا أعني من أثبت أنها آية من أول الفاتحة وكل سورة ومن نفى ذلك قائلا إن القرآن لا يثبت بالظن ولا ينفى بالظن ما أشار إليه طائفة من المتأخرين أن إثباتها ونفيها كلاهما قطعي ولا يستغرب ذلك فإن القرآن نزل على سبعة أحرف ونزل مرات متكررة فنزل في بعضها بزيادة وفي بعضها بحذف كقراءة ملك ومالك وتجري تحتها ومن تحتها في براءة وأن الله هو الغني وأن الله الغني في سورة الحديد فلا يشك أحد ولا يرتاب في أن القراءة بإثبات الألف ومن وهو ونحو ذلك متواترة قطعية الإثبات وأن القراءة بحذف ذلك أيضا متواترة قطعية الحذف وأن ميزان الإثبات والحذف في ذلك سواء وكذلك القول في البسملة أنها نزلت في بعض الأحرف ولم تنزل في بعضها فإثباتها قطعي وحذفها قطعي وكل متواتر وكل في السبع فإن نصف القراء السبعة قرؤوا بإثباتها ونصفهم قرؤوا بحذفها وقراءات السبعة كلها متواترة فمن قرأ بها فهي ثابتة في حرفه متواترة إليه ثم منه إلينا ومن قرأ بحذفها فحذفها في حرفه متواتر إليه ثم منه إلينا والعطف من ذلك أن نافعا له راويان قرأ أحدهما عنه بها والآخر بحذفها فدل على أن الأمرين تواترا عنده بأن قرأ بالحرفين معا كل بأسانيد متواترة فبهذا التقرير اجتمعت الأحاديث المختلفة على كثرة كل جانب منها وانجلى الإشكال وزال التشكيك ولا يستغرب الإثبات ممن أثبت ولا النفي ممن نفي وقد أشار إلى بعض ما ذكرته أستاذ القراء المتأخرين الإمام شمس الدين بن الجزري فقال بعد أن حكى خمسة أقوال في كتابه النشر وهذه الأقوال ترجع إلى النفي والإثبات والذي نعتقده أن كليهما صحيح وأن كل ذلك حق فيكون الاختلاف فيها كاختلاف القراءات انتهى
____________________
(1/245)
وقرره أيضا بأبسط منه الحافظ فيما نقله الشيخ برهان الدين البقاعي في معجمه انتهى
وسبقهما إلى ذلك أبو أمامة بن النقاش
( مالك عن عمه أبي سهيل ) اسمه نافع ( ابن مالك عن أبيه ) مالك بن أبي عامر ( أنه قال كنا نسمع قراءة عمر بن الخطاب عند دار أبي جهم ) بفتح الجيم وإسكان الهاء واسمه عامر وقيل عبيد بن حذيفة صحابي قرشي عدوي من مسلمة الفتح ومشيخة قريش ومعمريهم حضر بناء قريش للكعبة في الجاهلية وبناء ابن الزبير لها وهو أحد من ترك الخمر في الجاهلية خوفا على عقله
( بالبلاط ) بفتح الموحدة بزنة سحاب موضع بالمدينة بين المسجد والسوق مبلط كما في القاموس
قال ابن عبد البر وكان عمر مديد الصوت فيسمع صوته حيث ذكر وفيه تفسير لحديث لا يجهر بعضكم على بعض بالقرآن أنه في المنفردين
وأما قراءة الإمام في المكتوبة أو غيرها فلا
وقال الباجي لا بأس أن يرفع الإمام صوته فيما يجهر فيه من الفرائض وكذا النوافل
وقد روى أشهب عن مالك لا بأس أن يرفع المتنفل ببيته صوته بالقراءة ولعله أنشط له وأقوى
( مالك عن نافع أن عبد الله بن عمر كان إذا فاته شيء من الصلاة مع الإمام فيما جهر فيه الإمام بالقراءة أنه إذا سلم الإمام قام عبد الله بن عمر فقرأ لنفسه فيما يقضي وجهر ) قال الباجي يحتمل أن يكون جهره فيما يقضي لأنه يرى أن المأموم يقضي على نحو ما فاته من القراءة والجهر مثل رواية ابن القاسم عن مالك وهذا أظهر
ويحتمل أنه يرى أن ما يأتي به آخر صلاته أن تفوته ركعة من الصبح أو ركعتان من المغرب أو ثلاثا من العشاء فإن الخلاف يرتفع هنا ولا بد للمأموم من الجهر في القضاء على القولين
( مالك عن يزيد بن رومان ) المدني الثقة المتوفى سنة ثلاثين ومائة ( أنه قال كنت أصلي إلى جانب نافع بن جبير بن مطعم ) النوفلي التابعي الثقة الفاضل المتوفى سنة تسع وتسعين ( فيغمزني ) بكسر الميم كضرب يشير إلي ( فأفتح عليه ونحن نصلي ) وبهذا قال مالك في مختصر ابن عبد الحكم وأشهب وابن حبيب وفيه جواز الفتح على الإمام بالأولى من إجازة الفتح على من ليس معه في صلاة
____________________
(1/246)
لأنها تلاوة قرآن في صلاة والأصح وبه قال ابن القاسم بطلان صلاة من فتح على من ليس معه في صلاة لأنه وإن كان تلاوة قرآن لكنه في معنى المكالمة وكره الكوفيون الفتح على الإمام وأجازه مالك والشافعي وأكثر العلماء لأن الله لم ينه عنه ولا رسوله من وجه يحتج به وقد تردد صلى الله عليه وسلم في آية فلما انصرف قال ألم يكن في القوم أبي يريد الفتح عليه
39 القراءة في الصبح ( مالك عن هشام بن عروة عن أبيه أن أبا بكر الصديق ) هذا منقطع لأن عروة ولد في أوائل خلافة عثمان لكنه ورد عن أنس وغيره فلعل عروة حمله عن أنس أو غيره
( صلى الصبح فقرأ فيها بسورة البقرة في الركعتين كلتيهما ) فقيل له حين سلم كادت الشمس أن تطلع فقال لو طلعت لم تجدنا غافلين كما في حديث أنس وإنما طول لعلمه برضا من خلفه وأدخل مالك هذا هنا للدلالة على أن قراءة الصبح طويلة وعلى هذا يصح استعمال الآثار في التغليس والإسفار بالصبح لأنه معلوم أن أبا بكر لم يدخل فيها إلا مغلسا ثم طول حتى أسفر على أن حديث عائشة السابق إن كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ليصلي الصبح فينصرف النساء متلفعات بمروطهن ما يعرفن من الغلس يدل على التعجيل
وكره مالك أن يقسم المصلي سورة بين ركعتين في الفريضة لأنه لم يبلغه أنه صلى الله عليه وسلم فعله
ذكره ابن عبد البر أو بلغه وحمله على بيان الجواز وهذا أولى
( مالك عن هشام بن عروة عن أبيه ) زيادة في الإسناد خالف فيها مالك أصحاب هشام أبا سلمة ووكيعا وحاتما فقالوا عن هشام أخبرني عبد الله بن عامر ولم يقولوا عن أبيه قاله مسلم ( أنه سمع عبد الله بن عامر بن ربيعة ) العتري حليف بني عدي ولد على عهد النبي صلى الله عليه وسلم وثقه العجلي وأبوه صحابي مشهور
( يقول صلينا وراء عمر بن الخطاب الصبح فقرأ فيها بسورة يوسف وسورة الحج قراءة بطيئة ) قال عروة ( فقلت والله إذا لقد كان يقوم ) إلى الصلاة أي يبتديها ( حين يطلع الفجر قال أجل ) جواب كنعم إلا أنه أحسن منه في التصديق ونعم أحسن منه في الاستفهام
____________________
(1/247)
( مالك عن يحيى بن سعيد وربيعة بن عبد الرحمن عن القاسم بن محمد ) بن أبي بكر الصديق أحد الفقهاء ( أن الفرافصة ) بضم الفاء ثم راء فألف ففاء ثانية فصاد مهملة ( ابن عمير ) بضم العين ( الحنفي ) نسبة إلى بني حنيفة قبيلة من العرب المدني وثقه العجلي وابن حبان روى عن عمر وعثمان والزبير وعنه يحيى وربيعة والقاسم وعبد الله بن أبي بكر وقد وافق اسمه اسم والد زوجة عثمان التي كانت عنده حين قتل واسمها نائلة بنون فألف فياء مهموزة بنت الفرافصة بن الأحوص بن عمرو بن ثعلبة الكلبية كما ذكره عمر بن شبة فهو غير هذا الراوي لأن اسم أبيه عمير ونسبته الحنفي فافترقا كما بينه في تعجيل المنفعة ( قال ما أخذت سورة يوسف إلا من قراءة عثمان بن عفان إياها في الصبح من كثرة ما كان يرددها ) أي يكررها يحتمل أن ذلك لحديث إيذان له وبشره بالجنة على بلوى تصيبه وسورة يوسف فيها البلوى قاله أبو عبد الملك قال أبو عمر لا أشك أن أبا بكر وعمر وعثمان كانوا يعرفون من حرص من خلفهم ما يحملهم على التطويل أحيانا وفي ذلك استحباب طول القراءة في الصبح وقد استحبه مالك وجماعة وذلك في الشتاء أكثر منه في الصيف وأما اليوم فواجب التخفيف لقوله صلى الله عليه وسلم من أم الناس فليخفف فإن فيهم الضعيف والسقيم والكبير وذا الحاجة ومن صلى لنفسه فليطول ما شاء وقال لمعاذ أفتان أنت يا معاذ اقرأ باسم ربك والشمس وضحاها ونحو ذلك
وقال عمر لبعض من طول من الأئمة لا تبغضوا الله إلى عباده
وإذا أمر بالتخفيف في الزمن الأول فما ظنك باليوم
( مالك عن نافع أن عبد الله بن عمر كان يقرأ في الصبح في السفر بالعشر السور الأول من المفصل ) بمعنى أنه يقرأ فيه بسورتين منه كما أفاده قوله ( في كل ركعة بأم القرآن وسورة ) فدفع بهذا ما أوهمه أول كلامه أنه يقرأ العشر في الركعتين ولم يذكر الإمام في هذه الترجمة حديثا مرفوعا
وفي البخاري عن أم سلمة أنه صلى الله عليه وسلم قرأ فيها بالطور
وفيه عن أبي برزة أنه صلى الله عليه وسلم كان يقرأ في الركعتين أو إحداهما ما بين الستين إلى المائة
وفي مسلم عن جابر بن سمرة أنه صلى الله عليه وسلم قرأ في الصبح بقاف وفي رواية له بالصافات وللحاكم بالواقعة وللسراج بسند صحيح بأقصر سورتين في القرآن
وهذا الاختلاف بحسب اختلاف الأحوال
قال الزين بن المنير ذهب مالك إلى أن المصلي يقرأ في كل ركعة بسورة كما قال ابن عمر
____________________
(1/248)
لكل سورة حقها من الركوع والسجود ولا يقسم السورة في الركعتين ولا يقتصر على بعضها ويترك الباقي ولا يقرأ بسورة قبل سورة تخالف ترتيب المصحف فإن فعل ذلك كله خالف الأولى وما ورد مما يخالف هذا لا يخالف ما قال مالك لأنه محمول على بيان الجواز قال والذي يظهر أن تكرير السورة أخف من قسمها في ركعتين قال الحافظ وسبب ذلك فيما يظهر أن السورة يرتبط بعضها ببعض فأي موضع قطع فيه لم يكن كانتهائه إلى آخر السورة فإنه إن قطع في وقف غير تام كانت الكراهة ظاهرة وإن قطع في وقف تام فلا يخفى أنه خلاف الأولى وفي قصة الأنصاري الذي رماه العدو بسهم فلم يقطع صلاته وقال كنت في سورة فكرهت أن أقطعها وأقره النبي صلى الله عليه وسلم على ذلك انتهى
40 ما جاء في أم القرآن أي أصل القرآن كما قيل أم القرى مكة لأنها أول ما يقرأ في الصلاة وكرهت طائفة أن يقال أم القرآن وقالوا فاتحة الكتاب ولا وجه لكراهتهم لذلك قاله ابن عبد البر لأنه قد نطق بذلك النبي صلى الله عليه وسلم فقال أم القرآن هي السبع المثاني والقرآن العظيم رواه البخاري عن أبي هريرة بهذا اللفظ
قال الخطابي فيه رد على ابن سيرين في قوله لا يقال لها أم القرآن بل فاتحة الكتاب وأم الكتاب اللوح المحفوظ وأم الشيء أصله سميت بذلك لأنها أصل القرآن وقيل لأنها متقدمة كأنها تؤمه
( مالك عن العلاء بن عبد الرحمن بن يعقوب ) المدني ( أن أبا سعيد ) قال ابن عبد البر هو تابعي مدني لا يوقف له على اسم وفي تهذيب المزي أنه روى عن أبي هريرة والحسن البصري ولم يذكر لهما ثالثا مع أن من الرواة عن مالك من قال عن العلاء بن عبد الرحمن أن أبا سعيد مولى عامر أخبره أنه سمع أبي بن كعب يقول أن النبي صلى الله عليه وسلم ناداه أخرجه الحاكم
قال الحافظ ووهم ابن الأثير حيث ظن أن أبا سعيد هو ابن المعلى فإنه صحابي أنصاري مدني وهذا تابعي مكي من موالي قريش كما قال
( مولى عامر بن كريز ) بضم الكاف بن ربيعة بن حبيب بن عبد شمس بن عبد مناف القرشي العبشمي صحابي من مسلمة الفتح وعاش حتى قدم البصرة على ابنه عبد الله وله صحبة لما كان أميرا عليها من جهة عثمان وقد اختلف فيه على العلاء فأخرجه الترمذي من طريق الدراوردي والنسائي من طريق روح بن القاسم وأحمد من طريق عبد الرحمن بن إبراهيم وابن خزيمة من طريق حفص بن ميسرة كلهم عن العلاء عن أبيه عن أبي هريرة قال خرج النبي صلى الله عليه وسلم على أبي بن كعب الحديث
____________________
(1/249)
وأخرجه الترمذي وابن خزيمة من طريق عبد الحميد بن جعفر والحاكم من طريق شعبة كلاهما عن العلاء عن أبيه عن أبي ورجح الترمذي أنه من مسند أبي هريرة انتهى
ولكن حيث صحت الطريق عن أبي بن كعب أيضا فأي مانع من كونهما جميعا رويا الحديث ( أخبره أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نادى أبي بن كعب وهو يصلي ) وفي حديث أبي هريرة خرج صلى الله عليه وسلم وهو يصلي فقال أي أبي فالتفت فلم يجبه ثم صلى فخفف
( فلما فرغ من صلاته لحقه ) زاد في رواية أبي هريرة فقال سلام عليك يا رسول الله قال ويحك ما منعك إذ دعوتك أن تجيبني أوليس تجد فيما أوحى الله إلي أن { استجيبوا لله وللرسول } الآية فقلت بلى يا رسول الله لا أعود إن شاء الله
( فوضع رسول الله صلى الله عليه وسلم يده على يده ) للتأنيس وتأكيد الود وهذا يستحسن من الكبير للصغير
( وهو يريد أن يخرج من باب المسجد فقال إني لأرجو أن لا تخرج من المسجد حتى تعلم سورة ) أي تعلم من حالها ما لم تكن تعلمه قبل ذلك وإلا فقد كان عالما بالسورة وحافظا لها وعبر بأرجو على معنى التسليم لأمر الله والإقرار بقدرته وأنه وإن كان يعلم ذلك يسيرا إلا أنه لا يقطع بتمامه إلا أن يعلمه الله بذلك قاله الباجي
وقال غيره قال العلماء الرجاء من الله ومن نبيه واقع وفي حديث أبي هريرة أتحب أن أعلمك سورة ( ما أنزل في التوراة ولا في الإنجيل ) زاد في رواية أبي هريرة ولا في الزبور ( ولا في القرآن مثلها ) قال ابن عبد البر يعني في جمعها لمعاني الخير لأن فيها الثناء على الله بالحمد الذي هو له حقيقة لأن كل خير منه وإن حمد غيره فإليه يعود الحمد وفيها التعظيم له وأنه الرب للعالم أجمع ومالك الدنيا والآخرة المعبود المستعان وفيها الدعاء إلى الهدى ومجانبة من ضل والدعاء باب العبادة فهي أجمع سورة للخير وقيل معناه تجزى في الصلاة دون غيرها عنها وليس هذا بتأويل مجمع عليه
وقال الباجي ذكر بعض شيوخنا أن معنى ذلك أنها تجزى عن غيرها في الصلاة ولا يجزى عنها غيرها وسائر السور يجزى بعضها عن بعض وهي سورة قسمها الله تعالى بينه وبين عبده ويحتمل أن تكون هذه من الصفات التي تختص بها ولها مع ذلك صفات تختص بها من أنها السبع المثاني وغير ذلك من كثرة ثواب أو حسنة وأيده السيوطي بما أخرجه عبد بن حميد عن ابن عباس رفعه فاتحة الكتاب تعدل بثلثي القرآن ولم يرد في سورة مثل ذلك وإنما ورد أن قل هو الله أحد تعدل ثلث القرآن وفي قل يا أيها الكافرون أنها ربع القرآن انتهى وفيه نظر
فقد روى البيهقي في الشعب عن أبي هريرة يرفعه من قرأ يس مرة فكأنما قرأ القرآن عشر مرات وقد أورده هو في جامعيه
____________________
(1/250)
وقال ابن التين معناه أن ثوابها أعظم من غيرها واستدل به على جواز تفضيل بعض القرآن على بعض وقد منع ذلك الأشعري وجماعة لأن المفضول ناقص عن درجة الأفضل وأسماء الله وصفاته وكلامه لا نقص فيها
وأجيب بأن معنى التفاضل أن ثواب بعضه أعظم من ثواب بعض فالتفاضل إنما هو من حيث المعاني لا من حيث الصفة ويؤيد التفضيل قوله تعالى { نأت بخير منها أو مثلها } سورة البقرة الآية 106 وقد روى ابن أبي حاتم من طريق علي بن أبي طلحة عن ابن عباس قال بخير منها أي في المنفعة والرفعة وفي هذا رد على من قال فيه تقديم وتأخير والتقدير نأت منها بخير وهو كقوله { من جاء بالحسنة فله خير منها } سورة النمل الآية 89 لكن قوله في الآية أو مثلها يرجح الاحتمال الأول فهو المعتمد
( قال أبي ) هذا يشعر بأن أبا سعيد حمل الحديث عن أبي ( فجعلت أبطىء في المشي رجاء ذلك ) قال الداودي إبطاؤه خوفا على النبي صلى الله عليه وسلم من النسيان ( ثم قلت يا رسول الله ) علمني ( السورة التي وعدتني قال كيف تقرأ إذا افتتحت الصلاة قال ) أبي ( فقرأت ) عليه ( الحمد لله رب العالمين حتى أتيت على آخرها ) قال ابن عبد البر استدل به بعض أصحابنا على أن البسملة ليست منها ولا حجة فيه لأن الحمد لله رب العالمين اسم لها كما يقال قرأت يس وغيرها من أسماء السورة انتهى
وتعقب بأنها تسمى سورة الحمد ولا تسمى الحمد لله رب العالمين وأجيب بأن هذا الحديث يرد هذا التعقب ورد بقوله ( فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم هي هذه السورة ) وقد قرأها أبي بلا بسملة على المتبادر الظاهر منه فثبت المدعي لا سيما مع قوله صلى الله عليه وسلم ( وهي السبع المثاني ) المذكورة في قوله تعالى { ولقد آتيناك سبعا من المثاني } سورة الحجر الآية 87 فالمراد السبع الآي لأنها سبع آيات سميت مثاني لأنها تثنى في كل ركعة أي تعاد أو لأنها يثنى بها على الله أو لأنها استثنيت لهذه الأمة ولم تنزل على من قبلها
وروى النسائي والطبري والحاكم بإسناد صحيح عن ابن عباس أن السبع المثاني هي السبع الطول أي السور من أول البقرة إلى آخر الأعراف ثم براءة
وفي لفظ الطبري البقرة وآل عمران والنساء والمائدة والأنعام والأعراف
قال الراوي وذكر السابعة فنسيتها
وفي رواية صحيحة عند ابن أبي حاتم عن مجاهد وسعيد بن جبير أنها يونس
وعند الحاكم أنها الكهف وزاد قيل له ما المثاني قال تثني فيهن القصص وقيل غير ذلك في تفسيرها
ورجح ابن جرير القول الأول لصحة الخبر فيه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فلا معدل عنه
وقال ابن عبد البر وهو الصحيح وإلا ثبت عن ابن عباس
____________________
(1/251)
وقد روى الطبري بإسناد حسن عن ابن عباس أنه قرأ فاتحة الكتاب ثم قال ولقد آتيناك سبعا من المثاني فقال هي فاتحة الكتاب
وبإسنادين جيدين عن عمر ثم عن علي السبع المثاني فاتحة الكتاب زاد عن عمر تثنى في كل ركعة
ومن طريق أبي جعفر الرازي عن الربيع بن أنس عن أبي العالية السبع المثاني الفاتحة قلت للربيع إنهم يقولون إنها السبع الطول قال لقد أنزلت هذه الآية وما أنزل من الطول شيء
( والقرآن العظيم الذي أعطيت ) مبتدأ وخبر أي هو الذي أعطيته فهو معطوف على قوله وهي السبع وليس معطوفا على السبع لأن الفاتحة ليست هي القرآن العظيم وإن جاز إطلاقه عليها لأنها منه لكنها ليست هي القرآن كله
وقد روى ابن أبي حاتم من طريق أخرى عن أبي هريرة الحديث بلفظ والقرآن العظيم الذي أعطيتموه أي هو الذي أعطيتموه فيكون هذا هو الخبر ذكره الحافظ
وقال ابن عبد البر معناه عندي هي السبع المثاني وخرج والقرآن العظيم على معنى التلاوة اه
لكن فيه أنه قال الذي أعطيت فلا يكون مجرد تلاوة فتعين أنه من عطف الجمل وعلم أنه لا حاجة لقول الباجي إنما قيل لها القرآن العظيم على معنى التخصيص لها بهذا الاسم وإن كان كل شيء من القرآن عظيما كما يقال الكعبة بيت الله وإن كانت البيوت كلها لله ولكن على سبيل التخصيص والتعظيم لها اه
وقد روى البخاري عن أبي سعيد بن المعلى قال كنت أصلي في المسجد فدعاني رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم أجبه وفي رواية فلم آته حتى صليت ثم أتيته فقلت إني كنت أصلي فقال ألم يقل الله { استجيبوا لله وللرسول إذا دعاكم لما يحييكم } سورة الأنفال الآية 24 ثم قال لأعلمنك سورة هي أعظم سورة في القرآن قبل أن تخرج من المسجد ثم أخذ بيدي فلما أراد أن يخرج قلت له ألم تقل لأعلمنك سورة هي أعظم سورة في القرآن قال الحمد لله رب العالمين هي السبع المثاني والقرآن العظيم الذي أوتيته وجمع البيهقي فإن القصة وقعت لأبي بن كعب ولأبي سعيد بن المعلى ويتعين المصير إلى ذلك لاختلاف مخرج الحديثين واختلاف سياقهما كما رأيته
وفي الحديث من الفوائد استعمال صيغة العموم في الأحوال كلها وإجراء لفظ العموم على جميع مقتضاه وأن الخاص والعام إذا تقابلا كان العام منزلا على الخاص لأنه حرم الكلام في الصلاة على العموم ثم استثنى منه إجابة دعاء النبي صلى الله عليه وسلم في الصلاة قاله الخطابي
وقال ابن عبد البر الإجماع على تحريم الكلام في الصلاة يدل على خصوصية النبي صلى الله عليه وسلم بذلك وكذا قال القاضي عبد الوهاب وأبو الوليد أن إجابته فيها فرض يعصي المرء بتركه وأنه حكم مختص به
وصرح جماعة بأن الصلاة لا تبطل بذلك وهو المعتمد عند الشافعية والمالكية وبحث فيه الحافظ لاحتمال أن إجابته واجبة مطلقا سواء كان المخاطب مصليا أو غير مصل أما كونه يخرج بالإجابة من الصلاة أو لا يخرج فليس في الحديث ما يستلزمه فيحتمل أن تجب الإجابة ولو خرج
____________________
(1/252)
المجيب من الصلاة وإلى ذلك جنح بعضهم وهل يختص هذا الحكم بالنداء أو يشمل ما هو أعم حتى تجب إجابته إذا سأل فيه بحث وقد جزم ابن حبان بأن إجابة الصحابة في قصة ذي اليدين كان كذلك
( مالك عن أبي نعيم وهب بن كيسان أنه سمع جابر بن عبد الله يقول من صلى ركعة لم يقرأ فيها بأم القرآن فلم يصل ) لأنه ترك ركنا من الصلاة وفيه وجوبها في كل ركعة ( إلا وراء الإمام ) فقد صلى ففيه أنها لا تجب على المأموم
قال أحمد فهذا صحابي تأول قوله صلى الله عليه وسلم لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب على ما إذا كان وحده نقله الترمذي يعني أو كان إماما لأن الاستثناء معيار العموم
وقال أبو عبد الملك هذا الحديث موقوف على جابر وقد أسنده بعضهم أي رفعه ورواه الترمذي من طريق معن عن مالك به موقوفا وقال حسن صحيح
41 القراءة خلف الإمام فيما لا يجهر فيه بالقراءة قال الباجي الترجمة إنما هي على قول أبي هريرة اقرأ بها في نفسك ولا يجوز أن يكون على قوله خداج لأن القراءة فضيلة وخداج محمول على غير التمام
( مالك عن العلاء بن عبد الرحمن بن يعقوب ) هكذا في الموطأ عند جميع الرواة عن العلاء وانفرد مطرف في غير الموطأ فرواه عن مالك عن ابن شهاب عن أبي السائب بلفظ الموطأ سواء وليس بمحفوظ
قال الدارقطني غريب لم يروه غير مطرف قاله أبو عمر
( أنه سمع أبا السائب ) الأنصاري المدني قال الحافظ يقال اسمه عبد الله بن السائب ثقة روى له مسلم والأربعة والبخاري في جزء القراءة ( مولى هشام بن زهرة ) ويقال مولى عبد الله بن هشام بن زهرة ويقال مولى بني زهرة
روى عن أبي هريرة وأبي سعيد والمغيرة بن شعبة
وعنه الزهري وشريك وجماعة ( يقول سمعت أبا هريرة يقول سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول من صلى صلاة لم يقرأ فيها بأم القرآن ) الفاتحة لأنها أصله أو لتقدمها عليه كأنها تؤمه أو لاشتمالها على المعاني التي فيه من الثناء على الله والتعبد بالأمر والنهي والوعد والوعيد وذكر الذات والصفات والفعل والمبدأ والمعاد والمعاش
____________________
(1/253)
بطريق الإجمال
وفيه رد على من كره تسميتها أم القرآن ولعله وقف عند لفظ أم وإذا ثبت النص النبوي سقط ما دونه
( فهي خداج ) بكسر الخاء المعجمة ودال مهملة فألف فجيم أي ذات خداج أي نقصان ( هي خداج هي خداج ) ذكره ثلاثا للتأكيد يقال خدجت الناقة إذا ألقت ولدها قبل أوان النتاج وإن كان تام الخلق وأخدجته إذا ولدته ناقصا وإن كان لتمام الولادة هذا قول الخليل والأصمعي وأبي حاتم وآخرين
وقال جماعة من أهل اللغة خدجت وأخدجت إذا ولدت لغير تمام
( غير تمام ) تأكيد فهو حجة قوية على وجوب قراءتها في كل صلاة لكنه محمول عند مالك ومن وافقه على الإمام والفذ لقوله صلى الله عليه وسلم وإذا قرأ فأنصتوا رواه مسلم
قال ابن عبد البر وزعم من لم يوجب قراءتها في الصلاة أن قوله خداج يدل على جوازها لأن الصلاة الناقصة جائزة وهذا تحكم فاسد لأن الناقص لم يتم ومن خرج من صلاته قبل أن يتمها فعليه إعادتها تامة كما أمر ومن ادعى أنها تجوز مع إقراره بنقصها فعليه الدليل
( قال ) أبو السائب ( فقلت يا أبا هريرة إني أحيانا أكون وراء الإمام قال فغمز ذراعي ) قال الباجي هو على معنى التأنيس له وتنبيهه على فهم مراده والبعث له على جمع ذهنه وفهمه لجوابه
( ثم قال اقرأ بها في نفسك يا فارسي ) قال الباجي أي بتحريك اللسان بالكلم وإن لم يسمع نفسه رواه سحنون عن ابن القاسم في العتبية قال ولو أسمع نفسه يسيرا كان أحب إلي
وقال عيسى وابن نافع ليس العمل على قوله اقرأ بها في نفسك ولعله أراد إجراءها على قلبه دون أن يقرأها بلسانه ورد بأنه ليس بقراءة لجوازه للجنب وقيل معناه تدبرها إذا سمعت الإمام يقرؤها
( فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول قال الله تبارك وتعالى قسمت الصلاة ) أي الفاتحة سميت صلاة لأنها لا تصح إلا بها كقوله الحج عرفة أو لأنها في معنى الدعاء قاله ابن عبد البر وجماعة من العلماء
وقال المنذري أي قراءتها بدليل تفسيره بها
وقال غيره الصلاة من أسماء الفاتحة فهي المعنية في الحديث والمراد قسمتها من جهة المعنى لأن نصفها الأول تحميد لله وتمجيد وثناء عليه وتفويض إليه والنصف الثاني سؤال وتضرع وافتقار ( بيني وبين عبدي ) قدم نفسه فقال بيني لأنه الواجب الوجود لنفسه وإنما استفاد العبد الوجود منه ( بنصفين ) كذا في نسخ صحيحة بالباء قبل النون وفي أخرى بحذفها وهي التي في مسلم عن قتيبة عن مالك والباء يحتمل أنها زائدة وأنها للملابسة أي متلبسا قسمها بنصفين باعتبار المعنى لا اللفظ لأن نصف الدعاء يزيد على نصف الثناء فلا ضير في ذلك لأن كل شيء تحته نوعان فأحدهما نصف له وإن لم يتحد عددهما أو المراد قسمين والنصف قد يراد به أحد قسمي الشيء ( فنصفها لي ) خاصة وهو الثلاث آيات الحمد لله رب العالمين الرحمن الرحيم مالك يوم الدين
____________________
(1/254)
( ونصفها لعبدي ) وهو من اهدنا إلى آخرها وإياك نعبد وإياك نستعين بينه وبين عبده
( ولعبدي ما سأل ) أي سؤاله ومني الإعطاء ( قال رسول الله صلى الله عليه وسلم اقرؤوا يقول العبد ) ولمسلم من رواية ابن عيينة عن العلاء إسقاط هذه الجملة وقال عقب قوله ما سأل فإذا قال العبد ( الحمد لله رب العالمين ) فيه حجة قوية على أن البسملة ليست من الفاتحة قال النووي هو من أوضح ما احتجوا به لأنها سبع آيات بالإجماع فثلاث في أولها ثناء أولها الحمد لله وثلاث دعاء أولها اهدنا والسابعة متوسطة وهي إياك نعبد وإياك نستعين ولأنه لم يذكر البسملة فيما عدده ولو كانت منها لذكرها
وأجيب بأن التنصيف عائد على جملة الصلاة لا إلى الفاتحة هذا حقيقة اللفظ أو عائد إلى ما يختص بالفاتحة من الآيات الكاملة والأول تعسف باطل سببه الحماية المذهبية لأنا أجمعنا على أن المراد بالصلاة الفاتحة وقراءتها ولا يصح إرادة الحقيقة بوجه بعد قوله فإذا قال العبد الحمد لله رب العالمين والثاني إن عوده إلى ما يختص بالفاتحة دليل لنا على أنها ليست منها إذ هي بدونها سبع آيات بإجماع كما قال
وقالوا أيضا أن معنى يقول العبد الحمد لله أي إذا انتهى إلى ذلك وهذا مجاز لا دليل عليه وبعد ذلك لا دلالة فيه على أن البسملة منها
( يقول الله تبارك وتعالى حمدني عبدي ) أثنى علي بجميل الفعال وبما أنا أهله ( ويقول العبد الرحمن الرحيم ) أي الموصوف بكمال الإنعام ( يقول الله أثنى علي عبدي ) جعل جوابا لهما لاشتمال اللفظين على الصفات الذاتية والفعلية
( يقول العبد ملك يوم الدين ) أي الجزاء وهو يوم القيامة وخص بالذكر لأنه لا ملك ظاهرا فيه لأحد إلا لله تعالى لمن الملك اليوم لله ومن قرأ مالك فمعناه مالك الأمر كله في يوم القيامة أي هو موصوف بذلك دائما كغافر الذنب فصح وقوعه صفة للمعرفة
( يقول الله مجدني عبدي ) أي عظمني زاد مسلم وقال مرة فوض إلي عبدي قال العلماء إنما قال حمدني وأثنى علي ومجدني لأن الحمد الثناء بجميل الفعال والتمجيد الثناء بصفات الجلال ويقال أثنى عليه فيهما ولهذا جاء جوابا للرحمن الرحيم لاشتمال اللفظين على الصفات الذاتية والفعلية
( يقول العبد إياك نعبد ) أي نخصك بالعبادة من توحيد وغيره وقدم المعمول إفادة للاختصاص والحصر
( وإياك نستعين ) نطلب المعونة على العبادة وغيرها
( فهذه الآية ) ولمسلم قال هذا ( بيني وبين عبدي ) قال الباجي معناه أن بعضها تعظيم لله تعالى وبعضها استعانة للعبد على أمر دينه ودنياه اه
فالذي لله منها إياك نعبد والذي للعبد وإياك نستعين ( ولعبدي ما سأل ) من العون قال بعض الصوفية ومن هو العبد حتى يقول الله تعالى يقول العبد كذا فيقول الله كذا لولا العناية الإلهية والفضل الرباني لما وقع الاشتراك في المناجاة
( يقول العبد اهدنا الصراط المستقيم )
____________________
(1/255)
أي أرشدنا إلى المنهاج الواضح الذي لا اعوجاج فيه ويبدل منه
( صراط الذين أنعمت عليهم ) بالهداية ويبدل من الذين بصلته
( غير المغضوب عليهم ) وهم اليهود ( ولا ) بمعنى غير ( الضالين ) وهم النصارى ونكتة البدل إفادة أن المهتدين ليسوا بيهود ولا نصارى
( فهؤلاء ) الآيات ولمسلم قال هذا ( لعبدي ) أي هؤلاء الآيات مختصة به لأنها دعاؤه بالتوفيق إلى صراط من أنعم عليه والعصمة من صراط المغضوب عليهم والضالين
قال عياض هذا يدل أن من اهدنا إلى آخرها ثلاث آيات وأن صراط الذين أنعمت عليهم آية وهو عداد المدنيين والبصريين والشاميين وبه تتم القسمة المتقدمة ولو كانت على عداد الكوفيين والمكيين أن صراط الذين أنعمت عليهم إلى آخرها آية واحدة وجعلوا السابعة البسملة لم تصح تلك القسمة لأن أربعة أولا لله تعالى وواحدة مشتركة وثنتان للعبد
( ولعبدي ما سأل ) من الهداية وما بعدها قال بعض العارفين وإذا حققت وجدت الآيات كلها لله تعالى فإنك إنما عبدته بإرادته ومشيئته ومعونته إذ العبد لا حول له ولا قوة ولا إرادة إلا بحول الله وإرادته
وقال البخاري في كتاب خلق أفعال العباد قد بين بهذا الحديث أن القراءة غير المقروء فالقراءة هي التلاوة والتلاوة غير المتلو فبين أن سؤال العبد غير ما يعطيه الله وأن قول الغير كلام الرب والقراءة فعل العبد اه
وهذا الحديث أخرجه مسلم عن قتيبة بن سعيد عن مالك به وتابعه ابن جريج عند مسلم ورواه أيضا من طريق سفيان بن عيينة عن العلاء عن أبيه عن أبي هريرة فذكره بتغيير بعض ألفاظ قد بينتها لك وبه تعلم أن للعلاء فيه شيخين هما أبوه وأبو السائب وبه صرح في رواية أبي أويس قال أخبرني العلاء قال سمعته من أبي ومن أبي السائب وكانا جليسين لأبي هريرة قالا قال أبو هريرة فذكره بمثل حديثهم رواه مسلم أيضا
( مالك عن هشام بن عروة عن أبيه أنه كان يقرأ خلف الإمام فيما لا يجهر فيه الإمام بالقراءة ) ولا يقرأ فيما جهر فيه
( مالك عن يحيى بن سعيد وعن ربيعة بن أبي عبد الرحمن أن القاسم بن محمد ) بن أبي بكر الصديق ( كان يقرأ خلف الإمام فيما لا يجهر فيه الإمام بالقراءة ) كفعل عروة وهما من الفقهاء
____________________
(1/256)
( مالك عن يزيد ) بتحتية أوله ( ابن رومان ) بضم الراء ( أن نافع بن جبير بن مطعم ) التابعي ابن الصحابي ( كان يقرأ خلف الإمام فيما لا يجهر فيه الإمام بالقراءة ) ولا يقرأ فيما جهر
( قال مالك وذلك أحب ما سمعت إلي في ذلك ) أي أن اجتهاده وافق اجتهاد هؤلاء الثلاثة التابعين فيما فعلوه وترجم بمفهوم ما ذكر فقال
42 ترك القراءة خلف الإمام فيما جهر فيه ( مالك عن نافع أن عبد الله بن عم كان إذا سئل هل يقرأ أحد خلف الإمام قال إذا صلى أحدكم خلف الإمام فحسبه ) أي كافيه ( قراءة الإمام ) ولا يقرأ لقوله صلى الله عليه وسلم وإذا قرأ فانصتوا ( وإذا صلى وحده فليقرأ ) فعلم منه وجوبها عنده على الإمام والفذ
( قال وكان عبد الله بن عمر لا يقرأ خلف الإمام ) قال ابن عبد البر ظاهر هذا أنه لا يرى القراءة في سر الإمام ولا في جهره ولكن مالك قيده بترجمة الباب أن ذلك فيما جهر به الإمام بما علم من المعنى ويدل على صحته ما رواه عبد الرزاق عن ابن جريج عن الزهري عن سالم أن ابن عمر كان ينصت للإمام فيما جهر فيه ولا يقرأ معه وهو يدل على أنه كان يقرأ معه فيما أسر فيه ( قال يحيى سمعت مالكا يقول الأمر عندنا ) بالمدينة ( أن يقرأ الرجل وراء الإمام فيما لا يجهر فيه الإمام بالقراءة ويترك القراءة فيما يجهر فيه الإمام بالقراءة ) قال ابن عبد البر وحجته قوله تعالى { وإذا قرئ القرآن فاستمعوا له وأنصتوا } سورة الأعراف الآية 204 لا خلاف أنه نزل في هذا المعنى دون غيره ومعلوم أنه في صلاة الجهر لأن السر لا يسمع فدل على أنه أراد الجهر خاصة وأجمعوا على أنه لم يرد به كل موضع يستمع فيه القرآن وإنما أراد الصلاة ويشهد له قوله صلى الله عليه وسلم في الإمام وإذا قرأ فأنصتوا صححه ابن حنبل فأين المذهب عن السنة وظاهر القرآن قال أبو هريرة كانوا يتكلمون في الصلاة حتى نزلت الآية قال إبراهيم بن مسلم قلت لأبي عياض لقد كنت أظن أن أحدا لا يسمع القرآن إلا يستمع قال لا إنما ذلك في الصلاة فأما في غيرها فإن شئت
____________________
(1/257)
استمعت وأنصت وإن شئت مضيت ولم تستمع وبهذا قال جماعة من التابعين أن الآية في الصلاة وزاد مجاهد وقتادة والضحاك وخطبة الجمعة
( مالك عن ابن شهاب عن ابن أكيمة ) بضم الهمزة وفتح الكاف مصغر أكمة واسمه عمارة بضم المهملة والتخفيف والهاء وقيل عمار بالفتح والتخفيف وقيل عمرو بفتح العين وقيل عامر ( الليثي ) أبي الوليد المدني ثقة مات سنة إحدى ومائة وله تسع وسبعون سنة ( عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم انصرف من صلاة جهر فيها بالقراءة ) وعند ابن عبد البر من طريق سفيان عن الزهري سمعت ابن أكيمة يحدث سعيد بن المسيب قال سمعت أبا هريرة يقول صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاة الصبح ورواه أبو داود عن سفيان بن عيينة عن الزهري بسنده فقال نظن أنها صلاة الصبح ( فقال هل قرأ معي منكم أحد آنفا ) بمد أوله وكسر النون أي قريبا ( فقال رجل نعم أنا يا رسول ) قرأت ( قال ) أبو هريرة ( فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم إني أقول ما لي أنازع القرآن ) هو بمعنى التثريب واللوم لمن فعل ذلك قال أبو عبد الملك أي إذا جهرت بالقراءة فإن قرأتم ورائي فكأنما تنازعوني القرآن الذي أقرأ ولكن انصتوا وقال الباجي ومعنى منازعتهم له أن لا يفردوه بالقراءة ويقرؤوا معه من التنازع بمعنى التجاذب وقوله ( فانتهى الناس عن القراءة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما جهر فيه ) لا فيما أسر فيه ( رسول الله صلى الله عليه وسلم بالقراءة حين سمعوا ذلك من رسول الله صلى الله عليه وسلم ) يجعله أكثر رواة ابن شهاب من كلام ابن شهاب ومنهم من يجعله من كلام أبي هريرة وعموم الحديث يقتضي أن لا تجوز القراءة مع الإمام إذا جهر بأم القرآن ولا غيرها قاله ابن عبد البر وبسط الكلام على ذلك في التمهيد والحديث رواه أبو داود عن القعنبي والترمذي من طريق معن كليهما عن مالك به وقال الترمذي حديث حسن
____________________
(1/258)
43 ما جاء في التأمين خلف الإمام مصدر أمن بالتشديد أي قال آمين وهي بالمد والتخفيف في جميع الروايات وعن جميع القراء وحكى الواحدي عن حمزة والكسائي الإمالة وفيها ثلاث لغات أخرى شاذة القصر حكاه ثعلب وأنشد له شاهدا وأنكره ابن درستويه وطعن في الشاهد بأنه لضرورة الشعر وحكى عياض ومن تبعه عن ثعلب أنه إنما أجازه في الشعر خاصة والتشديد مع المد والقصر وخطأهما جماعة من أهل اللغة وهي من أسماء الأفعال مثل صه للسكوت وتفتح في الوصل لأنها مبنية بالاتفاق مثل كيف وإنما لم تكسر لثقل الكسرة بعد الياء ومعناه اللهم استجب عند الجمهور وقيل غير ذلك مما يرجع جميعه إلى هذا المعنى كقول من قال معناه اللهم أمنا بخير وقيل كذلك يكون وقيل درجة في الجنة تجب لقائلها وقيل لمن استجيب له كما استجيبت للملائكة وقيل هو اسم من أسماء الله رواه عبد الرزاق عن أبي هريرة بإسناد ضعيف وعن هلال بن يساف التابعي مثله وأنكره جماعة وقال من مد وشدد معناه قاصدين إليه ونقل ذلك عن جعفر الصادق وقال من قصر وشدد هي كلمة عبرانية أو سريانية وعند أبي داود من حديث أبي غير الصحابي أن آمين مثل الطابع على الصحيفة ثم ذكر قوله صلى الله عليه وسلم إن ختم بآمين فقد أوجب ذكره في فتح الباري
( مالك عن ابن شهاب عن سعيد بن المسيب وأبي سلمة بن عبد الرحمن ) بن عوف التابعي ابن الصحابي وكذا سعيد ( أنهما أخبراه ) ظاهره أن لفظهما واحد لكن في رواية محمد بن عمرو عن أبي سلمة مغايرة قليلة للفظ الزهري ( عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال إذا أمن الإمام ) ظاهر في أن الإمام يؤمن وبه قال مالك في رواية المدنيين والشافعي والجمهور وتعقب لأنها قضية شرطية وأجيب بأن التعبير بإذا يشعر بتحقيق الوقوع
وقال مالك في رواية ابن القاسم وهي المشهورة لا يؤمن الإمام في الجهرية وعنه لا يؤمن مطلقا وأجاب عن حديث ابن شهاب بأنه لم يره في حديث غيره وهي علة لا تقدح فابن شهاب إمام لا يضره التفرد مع أن ذلك جاء في حديث غيره أيضا ورجح بعض المالكية كون الإمام لا يؤمن من جهة المعنى بأنه داع فناسب أن يختص المأموم بالتأمين وهذا يجيء على قولهم لا قراءة على المأموم أما على قول من أوجبها فله أن يقول كما اشتركا في القراءة ينبغي أن يشتركا في التأمين ومنهم من أول قوله إذا أمن بأن معناه دعا وتسمية الداعي مؤمنا سائغة كما في قوله أجيبت دعوتكما وكان موسى
____________________
(1/259)
داعيا وهارون مؤمنا رواه ابن مردويه من حديث أنس ورد بعدم الملازمة فلا يلزم من تسمية المؤمن داعيا عكسه قاله ابن عبد البر والحديث لا يصح ولو صح فكون هارون داعيا تغليب وقيل معنى أمن بلغ موضع التأمين كما يقال أنجد بلغ نجدا وإن لم يدخلها وقال ابن العربي هذا بعيد لغة وشرعا وقال ابن دقيق العيد هذا مجاز فإن وجد دليل يرجحه عمل به أهم ودليله الحديث التالي إذا قال الإمام ولا الضالين فقولوا آمين فالجمع بين الروايتين يقتضي حمل أمن على المجاز ( فأمنوا ) أي قولوا آمين ( فإنه من وافق ) ولابن عيينة في البخاري ويونس في مسلم كلاهما عن ابن شهاب فإن الملائكة تؤمن فمن وافق ( تأمينه تأمين الملائكة ) في القول والزمان كما دلت عليه رواية الصحيحين المذكورة خلافا لمن قال المراد الموافقة في الإخلاص والخشوع كابن حبان فإنه لما ذكر الحديث قال يريد موافقة الملائكة في الإخلاص بغير إعجاب وكذا جنح إليه غيره فقال ونحو ذلك من الصفات المحمودة أو في إجابة الدعاء أو في الدعاء بالطاعة خاصة أو المراد بتأمين الملائكة استغفارهم للمؤمنين
وقال ابن المنير الحكمة في إيثار الموافقة في القول والزمان أن يكون المؤمن على يقظة للإتيان بالوظيفة في محلها لأن الملائكة لا غفلة عندهم فمن وافقهم كان مستيقظا ثم ظاهره أن المراد بالملائكة جميعهم واختاره ابن بزيزة وقيل الحفظة منهم وقيل الذين يتعاقبون منهم إذا قلنا أنهم غير الحفظة والذي يظهر أن المراد بهم من يشهد تلك الصلاة من الملائكة ممن في الأرض أو في السماء للحديث الآتي وقالت الملائكة في السماء وفي رواية لمسلم فوافق ذلك قول أهل السماء وروى عبد الرزاق عن عكرمة قال صفوف أهل الأرض على صفوف أهل السماء فإذا وافق آمين في الأرض آمين في السماء غفر للعبد ومثله لا يقال بالرأي فالمصير إليه أولى ذكره الحافظ ( غفر له ما تقدم من ذنبه ) قال الباجي ظاهره غفران جميع ذنوبه المتقدمة قال الحافظ وهو محمول عند العلماء على الصغائر قال ووقع في أمالي الجرجاني عن أبي العباس الأصم عن بحر بن نصر عن ابن وهب عن يونس وما تأخر وهي زيادة شاذة فقد رواه ابن الجارود في المنتقي عن بحر بن نصر بدونها وكذا مسلم عن حرملة ويونس بن عبد الأعلى كلاهما عن ابن وهب بدونها وكذا في جميع الطرق عن أبي هريرة إلا أني وجدته في بعض نسخ ابن ماجه عن هشام بن عمار وأبي بكر بن أبي شيبة كلاهما عن ابن عيينة بإثباتها ولا يصح لأن أبا بكر رواه في مسنده ومصنفه بدونها وكذا حفاظ أصحاب ابن عيينة الحميدي وابن المديني وغيرهما اه
( قال ابن شهاب وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول آمين ) هذا مرسل وصله حفص بن عمر المدني
____________________
(1/260)
عن مالك عن ابن شهاب عن سعيد بن المسيب عن أبي هريرة به أخرجه الدارقطني في الغرائب والعلل وقال تفرد به حفص وهو ضعيف وقال ابن عبد البر لم يتابع حفص على هذا اللفظ بهذا الإسناد
ورواه روح بن عبادة عن مالك بلفظ قال ابن شهاب وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا قال ولا الضالين جهر بآمين أخرجه ابن السراج
ولابن حبان من رواية الزبيدي عن ابن شهاب فإذا فرغ صلى الله عليه وسلم من قراءة أم القرآن رفع صوته وقال آمين وللحميدي من طريق سعيد المقبري وأبي داود من رواية أبي عبد الله ابن عم أبي هريرة كلاهما عن أبي هريرة نحوه بلفظ إذا قال ولا الضالين رفع صوته وقال آمين حتى يسمع من يليه من الصف الأول فقد اعتضد هذا المرسل بالمسند لكن قال بعضهم إنما كان صلى الله عليه وسلم يجهر بالتأمين في ابتداء الإسلام ليعلمهم فأومأ إلى نسخه ورد بأن أبا داود وابن حبان رويا عن وائل بن حجر صليت خلف النبي صلى الله عليه وسلم فجهر بآمين ووائل متأخر الإسلام والجواب أنه جهر لبيان الجواز وهذا الحديث رواه البخاري عن عبد الله بن يوسف ومسلم عن يحيى كلاهما عن مالك به
( مالك عن سمي ) بضم المهملة وفتح الميم وشد التحتية ( مولى أبي بكر ) بن عبد الرحمن بن الحارث ( عن أبي صالح ) ذكوان ( السمان عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال إذا قال الإمام غير المغضوب عليهم ولا الضالين فقولوا ) أيها المؤمنون ( آمين ) فيه حجة ظاهرة على أن الإمام لا يؤمن وهو الحامل على صرف قوله إذا أمن عن ظاهره لأن الأحاديث يفسر بعضها بعضا والأمر للندب عند الجمهور
وحكى ابن بزيزة عن بعض العلماء وجوبه على المأموم لظاهر الأمر قال وأوجبه الظاهرية على كل مصل ورد بحديث المسيء صلاته حيث اقتصر له صلى الله عليه وسلم على الفرائض ولم يذكر له التأمين ولا غيره فدل على أنه استحباب واستدل به القرطبي على تعيين قراءة الفاتحة للإمام أي لاختصاص التأمين بها ومقتضى السياق أن قراءتها كانت أمرا معلوما عندهم وعلى أن المأموم ليس عليه أن يقرأ فيما جهر فيه إمامه وقد اتفقوا على أنه لا يقرؤها حال قراءة الإمام لها وقال ابن عبد البر فيه دليل على أن المأموم لا يقرأ خلف الإمام إذا جهر لا بأم القرآن ولا غيرها لأن القراءة بها لو كانت عليهم لأمرهم إذا فرغوا من الفاتحة أن يؤمن كل واحد بعد فراغه من قراءته لأن السنة فيمن قرأ بأم القرآن أنه يؤمن عند فراغه منها ومعلوم أن المأمومين إذا اشتغلوا بالقراءة خلف الإمام لم يسمعوا فراغه من قراءة الفاتحة فكيف يؤمرون بالتأمين عند قوله ولا الضالين ويؤمرون بالاشتغال عن سماع ذلك هذا لا يصح وقد أجمع العلماء على أنه لا يقرأ مع الإمام فيما جهر فيه بغير الفاتحة والقياس أن الفاتحة وغيرها سواء لأن عليهم إذا فرغ إمامهم منها أن يؤمنوا فوجب أن لا يشتغلوا بغير الاستماع اه
____________________
(1/261)
( فإنه من وافق قوله قول الملائكة غفر له ما تقدم من ذنبه ) من الصغائر والكبائر على ظاهره لكن ثبت أن الصلاة إلى الصلاة كفارة لما بينهما ما اجتنبت الكبائر فإذا كانت الفرائض لا تكفرها فأولى التأمين المستحب وأجيب بأن المكفر ليس التأمين الذي هو فعل المؤمن بل وفاق الملائكة وليس ذلك إلى صنعه بل فضل من الله وعلامة على سعادة الموافق قاله التاج السبكي في الأشباه والنظائر ولا يرد عليه أنه عليه السلام عين محل إيقاع التأمين فيكون فائدته الموافقة لأنه لم يجزم بأنه موافق الملائكة بل أمر به فإن وافق غفر وذلك ليس من فعله والحق أنه عام خص منه ما يتعلق بحقوق الناس فلا يغفر بالتأمين للأدلة فيه لكنه شامل للكبائر كما تقدم إلا أن يدعي خروجها بدليل آخر وفيه فضل التأمين
قال ابن المنير وأي فضل أعظم من كونه قولا يسيرا لا كلفة فيه ثم قد ركبت عليه المغفرة قال ابن عبد البر وفيه أن أعمال البر تغفر بها الذنوب كقوله تعالى { إن الحسنات يذهبن السيئات } سورة هود الآية 114 وقال الباجي تقدم حديث أن المتوضىء يخرج نقيا من الذنوب وأن مشيه إلى المسجد وصلاته نافلة فما الذي يغفر بقول آمين قال الداودي يحتمل أنه صلى الله عليه وسلم قال هذا الحديث قبل قوله في الوضوء ويحتمل أنه قاله بعده فيكون معناه أنه يغفر له ما يحدث له في ممشاه من الذنوب وهذا الحديث أخرجه البخاري عن عبد الله بن مسلمة عن مالك به ومسلم من رواية سهيل بن أبي صالح عن أبيه عن أبي هريرة به فهي متابعة لمالك في شيخه
( مالك عن أبي الزناد ) عبد الله بن ذكوان ( عن الأعرج ) عبد الرحمن بن هرمز ( عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال إذا قال أحدكم آمين ) عقب قراءة الفاتحة في صلاة أو غيرها على مقتضى إطلاقه لكن في مسلم من هذا الوجه إذا قال أحدكم في صلاته فيحمل المطلق على المقيد نعم في رواية همام عن أبي هريرة عن أحمد إذا أمن القارىء فأمنوا فيحمل المطلق على إطلاقه فيستحب التأمين لكل من سمعه من مصل أو غيره والمقيد على تقييده إلا أن يراد بالقارىء الإمام إذا قرأ الفاتحة فإن الحديث واحد اختلفت ألفاظه فيبقى التقييد على حاله ذكره الحافظ وغيره
( وقالت ) هكذا بالواو في النسخ الصحيحة من الموطأ وهو الذي في البخاري من طريق مالك ومسلم من طريق غيره فما يقع في نسخ من إسقاط الواو ليس بشيء لأنه ليس جواب الشرط إذ جوابه غفر له ولا يستقيم المعنى على حذفها ( الملائكة في السماء آمين فوافقت إحداهما الأخرى ) أي وافقت كلمة تأمين أحدكم كلمة تأمين الملائكة في السماء وهو يفيد أن الملائكة لا تختص بالحفظة
____________________
(1/262)
كما مر ولمسلم من وجه آخر فوافق قوله قول أهل السماء ولأحمد وابن خزيمة وغيرهما فوافق ذلك قول أهل السماء ( غفر له ) أي للقائل منكم ( ما تقدم من ذنبه ) أي ذنبه المتقدم كله فمن بيانية لا تبعيضية وظاهره أن المراد السماء حقيقة وحمله ابن عبد البر على ما هو أعم منها وأن المراد كل ماعلا قائلا لأن العرب تسمي المطر سماء لنزوله من علو والربيع أيضا سماء لتولده من مطر السماء ويسمى الشيء باسم ما قرب منه وجاوره وقال الشاعر إذا نزل السماء بأرض قوم رعيناه وإن كانوا غضابا والله أعلم بمراد رسوله بقوله في السماء اه وفيه شيء والحديث رواه البخاري عن عبد الله بن يوسف عن مالك به وتابعه المغيرة عن أبي الزناد به عند مسلم
( مالك عن سمي مولى أبي بكر ) بن عبد الرحمن ( عن أبي صالح السمان عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال إذا قال الإمام سمع الله لمن حمده ) بإجابة دعائه قال الباجي الأظهر عندي أن معناه الترغيب في التحميد وقال ابن شعبان هو على معنى الدعاء وقال ابن عبد البر معناه تقبل الله حمد من حمده ومنه قولهم سمع الله دعاءك أي أجابه وتقبله ( فقولوا اللهم ربنا ) أي يا الله يا ربنا ففيه تكرار النداء ( لك الحمد ) وفي رواية ولك بالواو وقال النووي فيكون متعلقا بما قبله أي سمع الله لمن حمده ربنا فاستجب دعاءنا ولك الحمد على هدايتنا وفيه رد على ابن القيم حيث جزم بأنه لم يرد الجمع بين اللهم والواو في ولك الحمد وقال ابن دقيق العيد كأن إثبات الواو دال على معنى زائد لأن تقديره مثلا ربنا استجب ولك الحمد فيشتمل على معنى الدعاء ومعنى الخير وهذا بناء منه على أن الواو عاطفة وقد تقدم أن ابن الأثير قال أنها واو الحال وضعف ما عداه وروى ابن القاسم عن مالك أنه يقول اللهم ربنا ولك الحمد بالواو وروى عنه أشهب إسقاط الواو واختار كل روايته
قال الأثرم سمعت أحمد يثبت الواو ويقول ثبتت فيه عدة أحاديث وفيه دلالة ظاهرة لقول أبي حنيفة ومالك أن الإمام لا يقول ربنا ولك الحمد والمأموم لا يقول سمع الله لمن حمده لأنه جعل التسميع الذي هو طلب التحميد للإمام والتحميد الذي هو طلب الإجابة للمأموم لأنه المناسب لحال كل منهما وهذه قسمة منافية للشركة كخبر البينة على المدعي واليمين على من أنكر ويقويه حديث أبي موسى عند مسلم وغيره وإذا قال سمع الله لمن حمده فقولوا ربنا ولك الحمد يسمع الله لكم وأجابوا عن حديث جمعه صلى الله عليه وسلم بينهما بأنه كان منفردا أو في نافلة جمعا بين الحديثين سلمنا أنه كان إماما لأنه غالب أحواله فجمع بينهما لبيان الجواز
____________________
(1/263)
( فإنه من وافق قوله قول الملائكة ) أي حمده حمدهم ( غفر له ما تقدم من ذنبه ) وفيه إشعار بأن الملائكة تقول ما يقول المأمومون
وقال ابن عبد البر الوجه عندي في هذا والله أعلم تعظيم فضل الذكر وأنه يحط الأوزار ويغفر الذنوب وقد أخبر الله تعالى عن الملائكة بأنهم يستغفرون للذين آمنوا فمن كان منه من القول مثل هذا بإخلاص واجتهاد ونية صادقة وتوبة صحيحة غفرت ذنوبه إن شاء الله قال ومثل هذه الأحاديث المشكلة المعاني البعيدة التأويل عن مخارج لفظها واجب ردها إلى الأصول المجمع عليها والحديث رواه البخاري عن عبد الله بن يوسف ومسلم عن يحيى كلاهما عن مالك به وتابع سميا سهيل عن أبيه أبي صالح عند مسلم
44 العمل في الجلوس في الصلاة ( مالك عن مسلم بن أبي مريم ) واسمه يسار المدني مولى الأنصاري عن ابن عمر وأبي سعيد وجماعة وعنه شعبة والسفيانان وابن جريج ومالك وآخرون وثقة أبو داود والنسائي وابن معين وأثنى عليه مالك قال كان رجلا صالحا يهاب رفع الأحاديث وروى له البخاري ومسلم ومات في خلافة المنصور
( عن علي بن عبد الرحمن المعاوي ) بضم الميم وفتح العين وبعد الألف واو قال ابن عبد البر منسوب إلى بني معاوية فخذ من الأنصار تابعي مدني ثقة روى له مسلم وأبو داود والنسائي ( أنه قال رآني عبد الله بن عمر ) بن الخطاب ( وأنا أعبث بالحصباء ) صغار الحصى ( في الصلاة فلما انصرفت نهاني ) عن ذلك لكراهته كالعبث بكل شيء ولم يأمره بالإعادة لأن ذلك كان يسيرا لا يشغله عن صلاته وجاء في حديث أبي ذر ومسح الحصباء مرة واحدة وتركها خير من حمر النعم قاله أبو عمر وفي رواية ابن عيينة عن مسلم عن علي فلما انصرف ومرة قال فرغ من صلاته قال لا تقلب الحصباء فإن تقليب الحصباء من الشيطان
( وقال اصنع كما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصنع فقلت وكيف كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصنع قال كان إذا جلس في الصلاة وضع كفه اليمنى على فخذه اليمنى وقبض أصابعه كلها وأشار بإصبعه التي
____________________
(1/264)
تلي الإبهام ) وهي السبابة زاد سفيان بن عيينة عند مسلم بإسناده المذكور وقال هي مذبة الشيطان لا يسهو أحدكم مادام يشير بإصبعه ويقول هكذا قال الباجي فيه أن معنى الإشارة دفع السهو وقمع الشيطان الذي يوسوس وقيل إن الإشارة هنا معناها التوحيد ( ووضع كفه اليسرى على فخذه اليسرى وقال هكذا كان يفعل ) رسول الله صلى الله عليه وسلم وفيه أن على اليدين عملا في الصلاة يشتغلان به فيها فكان ابن عمر أشغلهما بما في السنة ولا يعبث بالحصباء قاله أبو عمر والحديث رواه مسلم عن يحيى عن مالك به ورواه أيضا من رواية سفيان عن مسلم بن أبي مريم وقال فذكر نحو حديث مالك ولم يسق لفظه وقد أخرجه وساقه أبو عمر بإسناده وفيه زيادتان على رواية مالك كما رأيت
( مالك عن عبد الله بن دينار أنه سمع عبد الله بن عمر ) بن الخطاب ( وصلى إلى جنبه رجل فلما جلس الرجل في أربع تربع وثنى رجليه ) قال الباجي التربع ضربان أحدهما أن يخالف بين رجليه فيضع رجله اليمنى تحت ركبته اليسرى ورجله اليسرى تحت ركبته اليمنى والثاني أن يتربع ويثني رجليه في جانب واحد فتكون رجله اليسرى تحت فخذه وساقه اليمنى ويثني رجله اليمنى فتكون عند أليته اليمنى ويشبه أن تكون هذه هي التي عابها كما قال ( فلما انصرف عبد الله عاب ذلك عليه ) لأن التربع لا يجوز للرجال الأصحاء في جلوس الصلاة واختلف فيه للنساء ( فقال الرجل فإنك تفعل ذلك فقال عبد الله بن عمر فإني أشتكي ) قال الباجي لأنه كان فدع بخيبر فلم تعد رجلاه إلى ما كانت عليه
( مالك عن صدقة بن يسار ) الجرزي نزيل مكة تابعي صغير ثقة مات سنة اثنتين وثلاثين ومائة ( عن المغيرة بن حكيم ) الصنعاني تابعي ثقة ( أنه رأى عبد الله بن عمر يرجع في سجدتين في الصلاة على صدور قدميه فلما انصرف ) فرغ من صلاته ( ذكر له ذلك فقال ) ابن عمر ( إنها ليست سنة الصلاة وإنما أفعل هذا من أجل أني أشتكي ) فلا أقدر على فعل السنة للعذر
____________________
(1/265)
( مالك عن عبد الرحمن بن القاسم ) بن محمد بن أبي بكر الصديق ( عن عبد الله بن عبد الله بن عمر ) بن الخطاب أبي عبد الرحمن المدني التابعي الثقة سمي باسم أبيه وكني بكنيته وكان وصي أبيه ومات سنة خمس ومائة ( أنه أخبره ) أي عبد الرحمن فهذا صريح في أنه حمله عنه بلا واسطة وفي رواية معن وغيره عن مالك عن عبد الرحمن بن القاسم عن أبيه عن عبد الله بن عبد الله فكأن عبد الرحمن سمعه من أبيه عنه ثم لقيه أو سمعه من معه وثبته فيه أبوه ذكره الحافظ ( أنه كان يرى عبد الله بن عمر يتربع في الصلاة إذا جلس ) للتشهد ( قال ففعلته ) أي التربع ( وأنا يومئذ حديث السن ) صغير ( فنهاني ) عنه ( عبد الله ) أبي ( وقال إنما سنة الصلاة ) هذه الصيغة حكمها الرفع إذا قالها الصحابي ولو بعد النبي صلى الله عليه وسلم بزمان كما هنا ( أن تنصب رجلك اليمنى وتثني ) بفتح أوله ( رجلك اليسرى ) لم يبين ما يصنع بعد ثنيها هل يجلس فوقها أو يتورك وقد بينه في رواية القاسم اللاحقة أنه جلس على وركه الأيسر لا فوقها ( فقلت له فإنك تفعل ذلك ) التربع ( فقال إن رجلي لا تحملاني ) بتشديد النون ويجوز التخفيف ورجلي بتشديد الياء بلا ألف رواية الأكثر وفي رواية حكاها ابن التين رجلاي بالألف على لغة من يلزم المثنى الألف أو إن بمعنى نعم ثم استأنف أو غير ذلك مما قيل في قراءة { إن هذان لساحران } سورة طه الآية 63 قال ابن عبد البر اختلفوا في التربع في النافلة وفي الفريضة للمريض فأما الصحيح فلا يجوز له التربع بإجماع العلماء ولعله أراد بنفي الجواز إثبات الكراهة وروى ابن أبي شيبة عن ابن مسعود قال لأن أقعد على رضفتين أحب إلي من أن أقعد متربعا وهذا يشعر بتحريمه عنده ولكن المشهور عند أكثر العلماء أن صفة الجلوس في التشهد مستحبة وهذا الحديث رواه البخاري عن القعنبي عن مالك به
( مالك عن يحيى بن سعيد أن القاسم بن محمد أراهم الجلوس في التشهد فنصب رجله اليمنى وثنى رجله اليسرى وجلس على وركه الأيسر ولم يجلس على قدمه ثم قال أراني هذا ) الجلوس ( عبد الله بن عبد الله بن عمر ) بن الخطاب ( وحدثني أن أباه كان يفعل ذلك ) فتبين من رواية القاسم ما
____________________
(1/266)
أجمل في رواية ابنه عبد الرحمن ولهذا أتى الإمام بها تلو تلك ولم يكتف بهذه لتصريح الأولى بأنه السنة المقتضية الرفع بخلاف هذه فحسن منه ذكرهما معا
45 التشهد في الصلاة أي لفظه وهو تفعل من تشهد سمي بذلك لاشتماله على النطق بشهادة الحق تغليبا لها على بقية أذكاره لشرفها
وأما حكمه فلم يوجبه مالك وأبو حنيفة وجماعة بل قال مالك سنة وأوجبه أحمد وجماعة في الجلوسين معا وأوجبه الشافعي في الآخر دون الأول ورواه عن مالك أبو مصعب وقال من تركه بطلت صلاته واستدلوا للوجوب بقوله فإذا صلى أحدكم فليقل وأجاب بعض المالكية بأن الأمر لا يتحتم للوجوب ألا ترى أن التسبيح في الركوع والسجود مندوب وقد أمر به لما نزل { فسبح باسم ربك العظيم } سورة الواقعة الآية 74 فقال اجعلوها في ركوعكم الحديث فكذلك التشهد والصارف له عن الوجوب حديث المسيء صلاته فإنه لم يذكر له التشهد والله أعلم
( مالك عن ابن شهاب عن عروة بن الزبير عن عبد الرحمن بن عبد ) بغير إضافة ( القاري ) بتشديد الياء نسبة إلى قارة بطن من خزيمة بن مدركة المدني عامل عمر على بيت المال يقال إنه رأى النبي وذكره العجلي في ثقات التابعين واختلف قول الواقدي فيه قال تارة له صحبة وتارة تابعي مات سنة ثمان وثمانين ( أنه سمع عمر بن الخطاب وهو على المنبر يعلم الناس التشهد ) قال في الاستذكار ما أورده مالك عن عمر وابنه وعائشة حكمه الرفع لأن من المعلوم أنه لا يقال بالرأي ولو كان رأيا لم يكن ذلك القول من الذكر أولى من غيره من سائر الأذكار فلم يبق إلا أن يكون توقيفا وقد رفعه غير مالك عن عمر عن النبي
( يقول قولوا التحيات ) جمع تحية ومعناها السلام أو البقاء أو العظمة أو السلامة من الآفات والنقص أو الملك ( لله ) وقال أبو سعيد الضرير ليست التحية الملك نفسه لكنها الكلام الذي يحيي به الملك وقال ابن قتيبة لم يكن يحيي إلا الملك خاصة وكان لكل ملك تحية تخصه فلهذا جمعت وكان المعنى التحيات التي كانوا يسلمون بها على الملوك كقولهم أنعم صباحا وأبيت اللعن وعش كذا سنة كلها مستحقة لله تعالى وقال الخطابي ثم البغوي ولم يكن في تحياتهم شيء يصلح للثناء على الله فلهذا أبهمت ألفاظها واستعمل منها معنى التعظيم فقال قولوا التحيات لله أي أنواع الثناء والتعظيم له
وقال المحب الطبري يحتمل أن لفظ التحية مشترك بين المعاني المتقدمة وكونها بمعنى السلام أنسب هنا
____________________
(1/267)
( الزاكيات لله ) قال ابن حبيب هي صالح الأعمال التي يزكو لصاحبها الثواب في الآخرة ( الطيبات ) أي ما طاب من القول وحسن أن يثنى به على الله دون ما لا يليق بصفاته مما كان الملوك يحيون به وقيل الطيبات ذكر الله وقيل الأقوال الصالحة كالدعاء والثناء وقيل الأعمال الصالحة وهو أعم ( الصلوات ) الخمس أو ما هو أعم من الفرائض والنوافل في كل شريعة أو العبادات كلها أو الدعوات أو الرحمة ( لله ) على عباده وقيل التحيات العبادات القولية والطيبات الصدقات المالية والصلوات العبادات الفعلية ( السلام ) قال النووي يجوز فيه وفيما بعده حذف اللام وإثباتها والإثبات أفضل وهو الموجود في روايات الصحيحين وقال الحافظ لم يقع في شيء من طرق حديث ابن مسعود بحذف اللام وإنما اختلف في ذلك في حديث ابن عباس وهو من أفراد مسلم قال الطيبي والتعريف للعهد التقديري أي ذلك السلام الذي وجه إلى الأنبياء والرسل
( عليك أيها النبي ورحمة الله ) أي إحسانه ( وبركاته ) وأما للجنس بمعنى أن حقيقة السلام الذي يعرفه كل أحد وعمن يصدر وعلى من ينزل عليك ويجوز أن يكون للعهد الخارجي إشارة إلى قوله تعالى { وسلام على عباده الذين اصطفى } سورة النمل الآية 59 قال ولا شك أن هذه التقديرات أولى من تقدير النكرة لأن أصل سلام عليك سلمت سلاما عليك ثم حذف الفعل وأقيم المصدر مقامه وعدل عن النصب إلى الرفع على الابتداء للدلالة على ثبوت المعنى واستقراره اه
وذكر صاحب الإقليد عن أبي حامد أن التنكير فيه للتعظيم وهو وجه من وجوه الترجيح لا يقف عن الوجوه المتقدمة ( السلام ) الذي وجه إلى الأمم السالفة من الصلحاء ( علينا ) يريد به المصلي نفسه والحاضرين من الإمام والمأمومين والملائكة وفيه استحباب البداءة بالنفس في الدعاء وفي الترمذي مصححا من حديث أبي بن كعب أن رسول الله كان إذا ذكر أحدا فدعا له بدأ بنفسه وأصله في مسلم ومنه قول نوح وإبراهيم كما في التنزيل ( وعلى عباد الله الصالحين ) جمع صالح والأشهر في تفسيره أنه القائم بما يجب عليه من حقوق الله تعالى وحقوق عباده وتتفاوت درجاته
قال الترمذي الحكيم من أراد أن يحظى بهذا السلام الذي يسلمه الخلق في صلاتهم فليكن عبدا صالحا وإلا حرم هذا الفضل العظيم وقال الفاكهاني ينبغي للمصلي أن يستحضر في هذا المحل جميع الأنبياء والملائكة والمؤمنين ليتوافق لفظه مع قصده
وقال البيضاوي علمهم أن يفردوه بالذكر لشرفه ومزيد حقه عليهم ثم علمهم أن يخصصوا أنفسهم أولا لأن الاهتمام بها أهم ثم أمرهم بتعميم السلام على الصالحين إعلاما منه بأن الدعاء للمؤمنين ينبغي أن يكون شاملا لهم ( أشهد أن لا إله إلا الله ) زاد في حديث عائشة الآتي وحده لا شريك له
( وأشهد أن محمدا عبده
____________________
(1/268)
ورسوله ) وقد اختار مالك وأصحابه تشهد عمر هذ لكونه كان يعلمه الناس على المنبر والصحابة متوافرون فلم ينكره عليه أحد فدل ذلك على أنه أفضل من غيره وتعقب بأنه موقوف فلا يلحق بالمرفوع ورد بأن ابن مردويه رواه في كتاب التشهد مرفوعا واختار الشافعي تشهد ابن عباس وهو ما رواه مسلم وأصحاب السنن عن ابن عباس قال كان رسول الله يعلمنا التشهد كما يعلمنا السورة من القرآن وكان يقول التحيات المباركات الصلوات الطيبات لله السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدا رسول الله وهذا قريب من حديث عمر إلا أنه أبدل الزاكيات بالمباركات قال الحافظ وكأنها بالمعنى واختار أبو حنيفة وأحمد وأصحاب الحديث وأكثر العلماء تشهد ابن مسعود وهو ما أخرجه الأئمة الستة عنه قال كنا إذا صلينا خلف النبي صلى الله عليه وسلم قلنا السلام على الله السلام على جبريل وميكائيل السلام على فلان وفلان فالتفت إلينا رسول الله فقال إن الله هو السلام فإذا صلى أحدكم فليقل التحيات لله والصلوات والطيبات السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين فإنكم إذا قلتموها أصابت كل عبد لله صالح في السماء والأرض أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدا عبده ورسوله
قال الترمذي هذا أصح حديث في التشهد
وقال البزار لما سئل عن أصح حديث في التشهد هو عندي حديث ابن مسعود روي من نيف وعشرين طريقا ثم سرد أكثرها وقال لا أعلم في التشهد أثبت منه ولا أصح أسانيد ولا أشهر رجالا قال الحافظ ولا خلاف بين أهل الحديث في ذلك وممن جزم بذلك البغوي في شرح السنة ومن مرجحاته أنه متفق عليه دون غيره وأن الرواة عنه من الثقات لم يختلفوا في ألفاظه بخلاف غيره وأنه تلقاه تلقينا فروى الطحاوي عنه قال أخذت التشهد من رسول الله ولقننيه كلمة كلمة
وفي البخاري عن ابن مسعود علمني رسول الله التشهد وكفي بين كفيه كما يعلمني السورة من القرآن ورجح أيضا ثبوت الواو في الصلوات والطيبات وهو يقتضي المغايرة بين المعطوف والمعطوف عليه فيكون كل جملة ثناء مستقلا بخلاف حذفها فيكون صفة لما قبلها وتعدد الثناء في الأول صريح فيكون أولى ولو قيل إن الواو مقدرة في الثاني وبأنه ورد بصيغة الأمر بخلاف غيره فمجرد حكاية ولأحمد عنه أنه علمه التشهد وأمره أن يعلمه الناس فدل ذلك على مزيته اه
وقد ورد حديث عمر بالأمر أيضا كما رأيت فدل ذلك مع عدم الإنكار على المزية وهذا الاختلاف كله إنما هو في الأفضل ولذا قال ابن عبد البر كل حسن متقارب المعنى إنما فيه كلمة زائدة أو ناقصة وتسليم الصحابة لعمر ذلك مع اختلاف رواياتهم دليل على الإباحة والتوسعة
( مالك عن نافع أن عبد الله بن عمر كان يتشهد فيقول باسم الله ) في أوله كذا وقع موقوفا عليه
____________________
(1/269)
ووردت أيضا في حديث أبيه عمر من رواية هشام بن عروة عند سعيد بن منصور وعبد الرزاق وغيرهما وعورض برواية مالك عن الزهري حديث عمر وليست فيه وفي حديث جابر المرفوع عند النسائي وابن ماجه والترمذي في العلل بلفظ كان رسول الله يعلمنا التشهد كما يعلمنا السورة من القرآن باسم الله وبالله التحيات إلى آخره وصححه الحاكم لكن ضعفه الحفاظ البخاري والترمذي والنسائي والبيهقي وغيرهم وقالوا إن راويه أخطأ فيه ويدل على ذلك أنه ثبت في حديث أبي موسى مرفوعا فإذا قعد أحدكم فليكن أول قوله التحيات لله رواه عبد الرزاق وغيره وقد أنكر ابن مسعود وابن عباس وغيرهما على من زادها أخرجه البيهقي وغيره وبالجملة لم تصح رواية البسملة كما قاله الحافظ ولذا قال في المدونة لم يعرف مالك في أوله باسم الله أي لم يعرفه في حديث صحيح مرفوع فلا ينافي أنه قد رواه هنا عن ابن عمر موقوفا ( التحيات لله الصلوات لله ) لا يجوز أن يقصد بها غيره أو هو عبارة عن قصد إخلاصنا له ( الزاكيات لله ) وفي حديث ابن عباس المباركات بدل الزاكيات وهو مناسب لقوله تعالى { تحية من عند الله مباركة طيبة } سورة النور الآية 61 والسلام على النبي كذا وقع بإسقاط كاف الخطاب ولفظ أيها قال في فتح الباري وورد في بعض طرق حديث ابن مسعود ما يقتضي المغايرة بين زمانه فيقال بلفظ الخطاب وبعده فبلفظ الغيبة فروى البخاري في الاستئذان من طريق أبي معمر عن ابن مسعود بعد أن ساق الحديث التشهد قال وهو بين ظهرانينا فلما قبض قلنا السلام يعني على النبي ورواه أبو عوانة والسراج والجوزقي وأبو نعيم الأصبهاني والبيهقي من طرق متعددة من طريق أبي نعيم شيخ البخاري فيه بلفظ فلما قبض قلنا السلام على النبي بحذف لفظ يعني وكذا رواه أبو بكر بن أبي شيبة عن أبي نعيم وهذا صحيح بلا ريب وقد وجدت له متابعا قويا قال ابن عبد الرزاق أخبرنا ابن جريج أخبرني عطاء أن الصحابة كانوا يقولون والنبي حي السلام عليك أيها النبي فلما مات قالوا السلام على النبي وهذا إسناد صحيح وما رواه سعيد بن منصور من طريق أبي عبيدة بن عبد الله بن مسعود عن أبيه أن النبي علمهم التشهد فذكره قال فقال ابن عباس إنما كنا نقول السلام عليك أيها النبي إذا كان حيا فقال ابن مسعود هكذا علمنا وهكذا نعلم فظاهره أن ابن عباس قاله بحثا وأن ابن مسعود لم يرجع إليه لكن رواية أبي معمر أصح لأن أبا عبيدة لم يسمع من أبيه والإسناد إليه مع ذلك ضعيف اه
( ورحمة الله ) أي إحسانه ( وبركاته ) أي زيادة من كل خير ( السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين ) استنبط منه السبكي أن في الصلاة حقا للعباد مع حق الله وأن من تركها أخل بحق جميع المسلمين من مضى ومن يجيء إلى يوم القيامة لقوله السلام علينا الخ وفي فتاوى القفال تركها يضر بجميع المسلمين لأن المصلي يقول ذلك في التشهد فيكون التارك مقصرا في خدمة الله وفي حق
____________________
(1/270)
نفسه وفي حق كافة الناس ولذا عظمت المعصية بتركها ( شهدت أن لا إله إلا الله شهدت أن محمدا رسول الله ) هذا مخالف للمروي في الأحاديث الصحيحة بلفظ أشهد في الموضعين وهو الذي عليه المعول والعمل ( يقول هذا ) ابن عمر ( في ) التشهد الواقع بعد ( الركعتين الأوليين ويدعو ) ابن عمر ( إذا قضى تشهده ) المذكور ( بما بدا له ) وأجازه مالك في رواية ابن نافع والمذهب رواية علي وغيره عنه كراهة الدعاء في التشهد الأول لأن المطلوب تقصيره ( فإذا جلس في آخر صلاته تشهد كذلك أيضا إلا أنه يقدم التشهد ثم يدعو بما بدا له ) من أمر الدنيا والآخرة لقوله في حديث ابن مسعود بعد التشهد ثم يتخير من الدعاء أعجبه إليه فيدعو به وخالف في ذلك طاوس والنخعي وأبو حنيفة فقالوا لا يدعو في الصلاة إلا بما في القرآن كذا أطلق ابن بطال وجماعة عن أبي حنيفة والموجود في كتب الحنفية أنه لا يدعو في الصلاة إلا بما في القرآن أو ثبت في الحديث أو كان مأثورا أعم من أن يكون مرفوعا أو غير مرفوع لكن ظاهر الحديث يرد عليهم وكذا يرد على قول ابن سيرين لا يدعو في الصلاة إلا بأمر الآخرة واستثنى بعض الشافعية ما يقبح من أمر الدنيا فإن أراد الفاحش من اللفظ فمحتمل وإلا فلا شك أن الدعاء بالأمور المحرمة مطلقا لا يجوز ذكره الحافظ ( فإذا قضى تشهده وأراد أن يسلم قال السلام على النبي ورحمة الله وبركاته السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين ) وهذه زيادة تكرير في التشهد كأن ابن عمر اختاره ليختمه بالسلام على النبي والصالحين لأنه فصل بين التشهد والسلام بالدعاء وروى علي عن مالك استحباب ذلك قال الباجي ولا يثبت ( السلام عليكم عن يمينه ) تسليمة التحليل ( ثم يرد على الإمام فإن سلم عليه أحد عن يساره ) بأن كان مصليا مع الإمام ( رد عليه ) ولعل مالكا ذكر حديث ابن عمر هذا الموقوف عليه لما فيه من أن المأموم يسلم ثلاثا إن كان على يساره أحد لأنه المشهور من قول مالك وقال الأئمة الثلاثة وغيرهم على كل مصل تسليمتان عن يمينه وشماله ولو مأموما وإلا فمالك لا يقول بما في خبر ابن عمر هذا من البسملة في أوله وإبداله أشهد بشهدت والدعاء في التشهد الأول وإعادة السلام على النبي والصالحين بعد الدعاء وقبل السلام ولا إبدال عليك أيها النبي بالسلام على النبي
رح 20( مالك عن عبد الرحمن بن القاسم عن أبيه عن عائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم أنها كانت تقول إذا
____________________
(1/271)
تشهدت التحيات الطيبات الصلوات الزاكيات لله ) فتسقط لفظ لله عقب التحيات والصلوات بخلاف ما في (1) *
وفي حديث ابن عباس عند مسلم وغيره وأشهد أن محمدا رسول الله ومنهم من حذف أشهد ورواه ابن ماجه بلفظ ابن مسعود ( السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته ) قال التوربشتي السلام بمعنى السلامة كالمقام والمقامة والسلام اسم من أسماء الله تعالى وضع المصدر موضع الاسم مبالغة والمعنى أنه سالم من كل عيب وآفة ونقص وفساد ومعنى السلام عليك الدعاء أي سلمت من المكاره وقيل معناه اسم السلام عليك كأنه برك عليه باسم الله فإن قيل كيف شرع هذا اللفظ وهو خطاب بشر مع أنه منهي عنه في الصلاة فالجواب أن ذلك من خصائصه ( السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين ) القائمين بحق الله وحق العباد تعميم بعد تخصيص ( السلام عليكم ) للخروج من الصلاة
( مالك عن يحيى بن سعيد الأنصاري عن القاسم بن محمد أنه أخبره أن عائشة زوج النبي كانت تقول إذا تشهدت ) في الصلاة ( التحيات الطيبات الصلوات الزاكيات لله أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدا عبد الله ورسوله السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته )
____________________
1* حديث عمر وابن مسعود وابن عباس من إثباتها وهي مرفوعة فتقدم على الموقوف ( أشهد أن لا إله إلا الله ) وزادت على حديث عمر ( وحده لا شريك له ) وكذا ثبتت هذه الزيادة في حديث أبي موسى مرفوعا عند مسلم وكذا في حديث ابن مسعود عند ابن أبي شيبة وسنده ضعيف وكذا في حديث ابن عمر مرفوعا عند الدارقطني لكن سنده ضعيف وقد روى أبو داود من وجه صحيح عن ابن عمر في التشهد أشهد أن لا إله إلا الله قال ابن عمر زدت فيها وحده لا شريك له وهذا ظاهره الوقف ( وأن محمدا عبد الله ورسوله ) لم تختلف الطرق عنها ولا عن ابن مسعود في ذلك وكذا في حديث أبي موسى وابن عمر وجابر والزبير عند الطحاوي وغيره وروى عبد الرزاق عن ابن جريج عن عطاء قال بينا النبي عليه وسلم يعلم الناس التشهد إذ قال رجل وأشهد أن محمدا رسوله وعبده فقال لقد كنت عبدا قبل أن أكون رسولا قل عبده ورسوله رجاله ثقات وهو مرسل
(1/272)
سأل الطيبي عن حكمة العدول عن الغيبة إلى الخطاب في هذا مع أن لفظ الغيبة هو مقتضى السياق كأن يقول السلام على النبي فينتقل من تحية الله إلى تحية النبي ثم إلى تحية النفس ثم إلى الصالحين
وأجاب بما حاصله نحن نتبع لفظ الرسول بعينه الذي علمه للصحابة ويحتمل أن يقال على طريقة أهل العرفان إن المصلين لما استفتحوا باب الملكوت بالتحيات أذن لهم بالدخول في حرم الحي الذي لا يموت فقرت أعينهم بالمناجاة فنبهوا على أن ذلك بواسطة نبي الرحمة وبركة متابعته فالتفتوا فإذا الحبيب في حرم الحبيب حاضر فأقبلوا عليه قائلين السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته
وقدح الحافظ في وجه هذا الاحتمال بما تقدم أنه صح المغايرة بين حياته فيقول بالخطاب وبعد مماته فيقول على النبي بلفظ الغيبة اه
لكن المقرر في الفروع إنما يقال السلام عليك أيها النبي ولو بعد وفاته اتباعا لأمره وتعليمه فتمت النكتة
ثم قال الحافظ فإن قيل لم عدل عن الوصف بالرسالة إلى الوصف بالنبوة مع أن وصف الرسالة أعم في حق البشر أجاب بعضهم بأن حكمة ذلك أن يجمع له الوصفين لأنه وصف بالرسالة في آخر التشهد وإن كان الرسول البشري يستلزم النبوة لكن التصريح بهما أبلغ قيل وحكمة تقديم وصف النبوة أنها كذلك وجدت في الخارج لنزول قوله تعالى { اقرأ باسم ربك } سورة العلق الآية 1 قبل قوله { يا أيها المدثر قم فأنذر } سورة المدثر الآية 1 2 السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين السلام عليكم قال ابن عبد البر روي عن النبي أنه كان يسلم تسليمة واحدة من طرق معلولة لا تصح لكن روي عن الخلفاء الأربعة وابن عمر وأنس وابن أبي أوفى وجمع من التابعين أنهم كانوا يسلمون واحدة واختلف عن أكثرهم فروي عنهم تسليمتان كما رويت الواحدة والعمل المشهور المتواتر بالمدينة التسليمة الواحدة ومثل هذا يصح الاحتجاج به لوقوعه في كل يوم مرارا والحجة له قوله تحليلها التسليم والواحدة يقع عليها اسم التسليم وعنه أنه كان يسلم تسليمتين من وجوه كثيرة صحاح
رح 204 ( مالك أنه سأل ابن شهاب ونافعا مولى ابن عمر عن رجل دخل مع الإمام في الصلاة وقد سبقه الإمام بركعة أيتشهد معه في الركعتين والأربع وإن كان ذلك له وترا فقالا ليتشهد معه قال مالك وهو الأمر عندنا ) بالمدينة وهذا مما لا نزاع فيه لحديث إنما جعل الإمام ليؤتم به فلا تختلفوا عليه
____________________
(1/273)
46 ما يفعل من رفع رأسه قبل الإمام رح 205 ( مالك عن محمد بن عمرو بن علقمة ) بن وقاص الليثي المدني روى عن أبيه ونافع وأبي سلمة بن عبد الرحمن وخلق وعنه مالك وشعبة والسفيانان وجماعة وثقه النسائي وابن المديني وأبو حاتم وغيرهم وروى له الأئمة الستة ومات سنة خمس وأربعين ومائة على الصحيح وقيل قبلها
( عن مليح بن عبد الله السعدي عن أبي هريرة أنه قال الذي يرفع رأسه ) من الركوع أو السجود ( ويخفضه ) فيهما ( قبل الإمام فإنما ناصيته بيد شيطان ) قال الباجي معناه الوعيد لمن فعل ذلك وإخبار أن ذلك من فعل الشيطان به وأن انقياده له وطاعته إياه في المبادرة بالخفض والرفع قبل إمامه انقياد من كانت ناصيته بيده
وقال في القبس ليس للتقدم قبل الإمام سبب إلا طلب الاستعجال ودواؤه أن يستحضر أنه لا يسلم قبل الإمام فلا يستعجل في هذه الأفعال
قال ابن عبد البر هذا الحديث رواه مالك موقوفا
ورواه الدراوردي عن محمد بن عمرو عن مليح عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم اه
وأخرجه البزار قال الحافظ أخرجه عبد الرزاق من هذا الوجه موقوفا وهو المحفوظ وقد روى الأئمة الستة عن أبي هريرة مرفوعا أما يخشى أحدكم إذا رفع رأسه قبل الإمام أن يجعل الله رأسه رأس حمار أو يجعل الله صورته صورة حمار واختلف في أن ذلك معنوي فإن الحمار موصوف بالبلادة فاستعير هذا المعنى للجاهل بما يجب عليه من متابعة الإمام ويرجح هذا المجاز أن التحويل لم يقع مع كثرة الفاعلين أو حقيقي إذ لا مانع من جواز وقوعه
قال ابن دقيق العيد لكن لا دلالة في الحديث على أنه لا بد من وقوعه وإنما يدل على أن فاعله متعرض لذلك وكون فعله ممكنا لأن يقع ذلك الوعيد ولا يلزم من التعرض للشيء وقوع ذلك الشيء
وقال ابن بزيزة يحتمل أن يراد بالتحويل المسخ أو تحويل الهيئة الحسية أو المعنوية أو هما معا
قال الحافظ ويقوي حمله على ظاهره رواية ابن حبان أن يحول الله رأسه رأس كلب فهذا يبعد المجاز لانتفاء المناسبة التي ذكروها من بلادة الحمار ويبعده أيضا إيراد الوعيد بالمستقبل وباللفظ الدال على تغيير الهيئة الحاصلة لأن البلادة حاصلة في فاعل ذلك عند فعله فلا يحسن أن يقال يخشى إذا فعل ذلك أن يصير بليدا مع أن فعله إنما نشأ من البلادة
( قال مالك فيمن سها فرفع رأسه قبل الإمام في ركوع أو سجود أن السنة في ذلك أن يرجع
____________________
(1/274)
راكعا أو ساجدا ولا ينتظر الإمام ) حتى يرفع ( وذلك خطأ ممن فعله ) يقتضي أنه فعله عامدا لأن الساهي لا يقال فيه إنه خطىء لرفع الإثم عنه قاله ابن عبد البر
( لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال إنما جعل الإمام ) إماما ( ليؤتم به ) ليقتدى به في أحوال الصلاة فتنتفي المقارنة والمسابقة والمخالفة كما قال
( فلا تختلفوا عليه ) والرفع قبله والخفص من الاختلاف عليه فيرجع ليرفع بعد رفعه ويخفض بعد خفضه
( وقال أبو هريرة الذي يرفع رأسه ويخفضه قبل الإمام إنما ناصيته ) شعر مقدم رأسه ( بيد شيطان ) يجره منها إلى حيث شاء فيوقعه في حرمة التقدم على الإمام كما هو ظاهر الحديث وحديث أما يخشى لأنه توعد عليه بالمسخ وهو أشد العقوبات والجمهور الحرمة للعامد وصحة الصلاة فلا إعادة
وقال الظاهرية وأحمد في رواية تبطل صلاة المتعمد بناء على أن النهي يقتضي الفساد في المعنى قال أحمد في رسالته لا صلاة لمن سبق الإمام للحديث ولو صحت صلاته لرجى له الثواب ولم يخش عليه العقاب وكذا قال ابن عمر لا صلاة لمن خالف الإمام
47 ما يفعل من سلم من ركعتين ساهيا 206 ( مالك عن أيوب بن أبي تميمة ) بفوقية وميمين بينهما تحتية ساكنة ثم هاء واسمه كيسان ( السختياني ) بفتح السين المهملة على الأصح وحكي ضمها وكسرها وإسكان الخاء المعجمة وفوقية مفتوحة ثم تحتية خفيفة فألف فنون نسبة إلى السختيان وهو الجلد لأنه كان يبيعه بالبصرة كما جزم به أبو عمر وقال غيره لبيع أو عمل البصري أبي بكر ثقة ثبت حجة من كبار الفقهاء العباد رأى أنس بن مالك وروى عن سالم ونافع وسعيد بن جبير وعطاء بن أبي رباح وغيرهم وعنه السفيانان والحمادان ومالك وخلق قال شعبة كان سيد الفقهاء ما رأيت مثله مات سنة إحدى وثلاثين ومائة وله خمس وستون سنة
( عن محمد بن سيرين ) بن أبي عمرة الأنصاري مولاهم البصري روى عن مولاه أنس وأبي قتادة وسعيد وأبي هريرة وابن عباس وعائشة وخلق وعنه ثابت وأيوب وقتادة وخلق وثقة أحمد ويحيى وغيرهما وقال ابن سعد كان ثقة مأمونا عالما فقيها إماما كثير العلم ورعا وكان به صمم قال ابن حبان كان من أورع أهل البصرة فقيها فاضلا حافظا متقنا يعبر الرؤيا رأى ثلاثين من الصحابة مات في شوال سنة عشر ومائة بعد الحسن بمائة يوم وهو ابن سبع وسبعين سنة
____________________
(1/275)
( عن أبي هريرة أن رسول الله انصرف ) أي سلم ( من اثنتين ) أي ركعتين ( فقال له ذو اليدين ) اسمه الخرباق بكسر الخاء المعجمة وسكون الراء بعدها موحدة فألف فقاف ابن عمرو السلمي بضم السين ففي مسلم من رواية أبي سلمة عن أبي هريرة فقام إليه رجل يقال له الخرباق وكان في يديه طول بناء على اتحاد حديثي أبي هريرة وعمران ورجحه الحافظ وقيل إن ذا اليدين غير الخرباق وطول يديه محمول على الحقيقة ويحتمل أنه كناية عن طولهما بالعمل وبالبذل قال القرطبي وجزم ابن قتيبة بأنه كان يعمل بيديه جميعا وزعم بعض أنه كان قصير اليدين وكأنه ظن أنه حميد الطويل فهو الذي فيه الخلاف وقال جماعة كان ذو اليدين يكون بالبادية فيجيء فيصلي مع النبي
( أقصرت ) بضم القاف وكسر المهملة على البناء للمفعول ( الصلاة ) أي أقصرها الله وبفتح القاف وضم الصاد على البناء للفاعل أي صارت قصيرة قال النووي هذا أكثر وأرجح ( أم نسيت يا رسول الله ) فاستفهم لأن الزمان زمان نسخ وفيه دلالة على ورع الصحابي إذ لم يجزم بشيء بغير علم
( فقال رسول الله أصدق ذو اليدين ) فيما قال
( فقال الناس ) أي الصحابة الذين صلوا معه ( نعم ) صدق وفي مسلم عن ابن عيينة عن أيوب قالوا صدق لم تصل إلا ركعتين وفي الصحيحين عن أبي سلمة عن أبي هريرة فقال لأصحابه أحق ما يقول فقالوا نعم
( فقام رسول الله ) وفي الصحيحين من وجه آخر ثم سلم ثم قام إلى خشبة في مقدم المسجد فوضع يده عليها وفيهم أبو بكر وعمر فهابا أن يكلماه فلذا قيل معنى قام اعتدل وقيل القيام كناية عن الدخول في الصلاة وقال ابن المنير فيه إيماء إلى أنه أحرم ثم جلس ثم قام قال الحافظ وهو بعيد جدا ولا بعد فيه فضلا عن قوته إذ غاية ما قال فيه إيماء
( فصلى ركعتين أخريين ) بتحتيتين بعد الراء
( ثم سلم ثم كبر ) قال القرطبي فيه دلالة على أن التكبير للإحرام لإتيانه بثم المقتضية للتراخي فلو كان التكبير للسجود لكان معه وقد اختلف هل يشترط لسجود السهو بعد السلام تكبيرة إحرام أو يكتفي بتكبير السجود فالجمهور على الاكتفاء ومذهب مالك وجوب التكبير لكن لا تبطل بتركه وأما نية إتمام ما بقي فلا بد منها
( فسجد ) للسهو ( مثل سجوده ) للصلاة ( أو أطول ثم رفع ) من سجوده ( ثم كبر فسجد ) ثانية ( مثل سجوده ) للصلاة ( أو أطول ) منه ( ثم رفع ) أي ثانيا من السجدة الثانية ولم يذكر أنه تشهد بعد سجدتي السهو وقد روى البخاري تلو هذا الحديث عن سلمة بن علقمة قال قلت لمحمد يعني ابن سيرين في
____________________
(1/276)
سجدتي السهو تشهد قال ليس في حديث أبي هريرة ومفهومه أنه ورد في حديث غيره
وقد روى أبو داود والترمذي وابن حبان والحاكم من طريق أشعث بن عبد الملك عن ابن سيرين عن خالد الحذاء عن أبي قلابة عن ابن المهلب عن عمران بن حصين أن النبي صلى بهم فسها فسجد سجدتين ثم تشهد ثم سلم صححه الحاكم على شرطهما
وقال الترمذي حسن غريب
وضعفه البيهقي وابن عبد البر وغيرهما ووهموا رواية أشعث لمخالفته غيره من الحفاظ عن ابن سيرين فإن المحفوظ عنه في حديث عمران ليس فيه ذكر التشهد وكذا المحفوظ عن خالد الحذاء بهذا الإسناد لا ذكر للتشهد فيه كما أخرجه مسلم فصارت زيادة أشعث شاذة لكن قد جاء التشهد في سجود السهو عن ابن مسعود عند أبي داود والنسائي وعن المغيرة عند البيهقي وفي إسنادهما ضعف إلا أنه باجتماع الأحاديث الثلاثة ترتقي إلى درجة الحسن قال العلاء وليس ذلك ببعيد وقد صح ذلك عند أبي شيبة عن ابن مسعود من قوله وهذا الحديث أخرجه البخاري عن عبد الله بن يوسف عن مالك به وتابعه سفيان بن عيينة وحماد وغيرهما عن أيوب بنحوه في الصحيحين وغيرهما
رح 207 ( مالك عن داود بن الحصين ) بمهملتين مصغر الأموي مولاهم المدني وثقه ابن معين وروى له الستة
وقال ابن حبان من أهل الحفظ والإتقان ورمى برأي الخوارج ولكن لم يكن داعية
قال أبو حاتم لولا أن مالكا روى عنه لترك حديثه مات سنة خمس وثلاثين ومائة عن ثنتين وسبعين سنة
( عن أبي سفيان ) اسمه وهب قاله الدارقطني وقال غيره اسمه قزمان بضم القاف وإسكان الزاي قال ابن سعد ثقة قليل الحديث روى له الستة
( مولى ) عبد الله ( بن أبي أحمد ) بن جحش القرشي الأسدي الصحابي وابنه عبد الله ولد في حياة النبي وذكره جماعة في ثقات التابعين
( أنه قال سمعت أبا هريرة يقول صلى رسول الله ) كذا رواه يحيى وزاد ابن وهب والقعنبي والشافعي وابن القاسم وقتيبة لنا ففيه تصريح بحضور أبي هريرة القصة ( صلاة العصر ) جزم به في هذه الرواية ولمسلم عن أبي سلمة عن أبي هريرة بينما أنا أصلي مع رسول الله صلاة الظهر وفي البخاري ومسلم من وجه آخر الظهر أو العصر بالشك ولمسلم إحدى صلاتي العشي قال ابن سيرين سماهما أبو هريرة ولكن نسيت أنا
وللبخاري عن ابن سيرين وأكثر ظني أنها العصر قال الحافظ والظاهر أن الاختلاف من الرواة وأبعد من قال يحمل على أن القصة وقعت مرتين بل روى النسائي من طريق ابن عون عن ابن سيرين أن الشك من أبي هريرة ولفظه صلى النبي إحدى صلاتي العشي قال أبو هريرة ولكن نسيت فالظاهر أن أبا هريرة روى الحديث كثيرا على الشك وكان ربما غلب على ظنه أنها الظهر فجزم بها وتارة غلب على ظنه أنها العصر
____________________
(1/277)
فجزم به وطرأ الشك في تعيينها أيضا على ابن سيرين وكان السبب في ذلك الاهتمام بما في القصة من الأحكام اه
وكذا قال الولي بن العراقي الصواب أنها قصة واحدة وأن الشك من أبي هريرة لرواية النسائي المذكورة وإسنادها صحيح وأن الشك طرأ على ابن سيرين أيضا
( فسلم في ركعتين فقال ذو اليدين ) الخرباق السلمي بضم السين ( فقال أقصرت الصلاة ) بفتح القاف وضم الصاد أي صارت قصيرة وفي رواية بضم القاف وكسر الصاد أي أقصرها الله والأولى أكثر وأرجح كما قال النووي ( يا رسول الله أم نسيت ) ولم يهب السؤال لأنه غلب عليه حرصه على تعلم الدين فاستصحب حكم الإتمام وأن الوقت قابل للنسخ وبقية الصحابة ترددوا بين استصحاب وتجويز النسخ فسكتوا وهاب الشيخان أن يكلماه لأنه غلب عليهما احترامه وتعظيمه مع علمهما أنه يبين بعد ذلك والسرعان بنوا على النسخ فخرجوا يقولون قصرت الصلاة ( فقال رسول الله كل ذلك لم يكن ) أي لم أنس ولم تقصر كما في أكثر طرق حديث أبي هريرة وهو يؤيد قول أصحاب المعاني لفظ كل إذا تقدم على النفي كان نافيا لكل فرد لا للمجموع لأنه من باب تقوية الحكم فيفيد التأكيد في المسند والمسند إليه ولا يصح أن يقال فيه بل كان بعضه بخلاف ما إذا تأخر كما لو قيل لم يكن كل ذلك إذ لا تأكيد فيه فيصح أن يقال بل كان بعضه ولذا أجابه ذو اليدين ( فقال قد كان بعض ذلك يا رسول الله ) وأجابه في رواية أخرى بقوله بلى قد نسيت لأنه لما نفى الأمرين وكان مقررا عند الصحابي أن السهو لا يجوز عليه في الأمور البلاغية جزم بوقوع النسيان لا القصر وهو حجة لمن قال لا يجوز السهو على الأنبياء فيما طريقه التشريع وإن كان عياض حكى الإجماع على عدم جواز دخول السهو في الأقوال التبليغية وخص الخلاف بالأفعال لكنهم تعقبوه نعم اتفق من جوز ذلك على أنه لا يقر عليه بل يقع له بيان ذلك إما متصلا بالفعل كما في هذه القصة وإما غير متصل
( فأقبل رسول الله على الناس ) الذين صلوا معه ( فقال أصدق ذو اليدين ) فيما قال ( فقالوا نعم ) صدق ( فقام رسول الله فأتم ) بشد الميم كمل ( ما بقي من الصلاة ) وهو الركعتان ( ثم سجد سجدتين ) للسهو مثل سجوده للصلاة أو أطول كما في الحديث قبله ( بعد التسليم وهو جالس ) ففيه أن الإمام إنما يرجع عن يقينه لكثرة المأمومين لأنه سلم من ركعتين معتقدا الكمال فلم يرجع إلا بإخبار الجميع وجواز البناء على الصلاة لمن أتى بالمنافي سهوا
____________________
(1/278)
وقال سحنون إنما يبني من سلم ركعتين كما في قصة ذي اليدين لأن ذلك وقع على غير القياس فيقتصر به على مورد النص وألزم بقصر ذلك على إحدى صلاتي العشي فيمنعه مثلا في الصبح والذين قالوا يجوز البناء مطلقا قيدوه بما إذا لم يطل الفصل واختلفوا في قدر الطول فقيل بالعرف أو الخروج من المسجد أو قدر ركعة وعن أبي هريرة قدر التي وقع فيها السهو وفيه أن السلام ونية الخروج من الصلاة سهوا لا يقطع الصلاة وأن سجود السهو بعد السلام إذا كان لزيادة لأنه زاد السلام والكلام وأن الكلام سهوا لا يقطع الصلاة خلافا للحنفية وزعم بعضهم أن قصة ذي اليدين كانت قبل نسخ الكلام في الصلاة ضعيف فقد ثبت شهود أبي هريرة للقصة كما تقدم وشهدها عمران بن حصين وكل منهما متأخر الإسلام وروى معاوية بن خديج بمهملة وجيم مصغر قصة أخرى في السهو ووقع فيها الكلام ثم البناء أخرجها أبو داود وابن خزيمة وغيرهما وكان إسلامه قبل موت النبي بشهرين
وقال ابن بطال يحتمل أن يكون قول زيد بن أرقم ونهينا عن الكلام أي إلا إذا وقع عمدا لمصلحة الصلاة فلا يعارض قصة ذي اليدين وفيه أن تعمد الكلام لإصلاح الصلاة لا يبطلها وتعقب بأنه إنما تكلم ناسيا وأما قول ذي اليدين له قد كان بعض ذلك أو بلى قد نسيت وقول الصحابة له صدق فإنهم تكلموا معتقدين للنسخ في وقت يمكن وقوعه فيه فتكلموا ظنا أنهم ليسوا في صلاة كذا قيل وهو فاسد لأنهم تكلموا بعد قوله لم تقصر والجواب بأنهم لم ينطقوا وإنما أومؤوا كما في رواية لأبي داود إطلاق القول على الإشارة مجاز سائغ مدفوع بأن هذا خلاف ظاهر روايات الأكثرين وبقول ذي اليدين بلى قد نسيت أو قد كان بعض ذلك فنرجح كونهم نطقوا وانفصل عنه من قال كأن نطقهم جوابا للنبي وجوابه لا تبطل به الصلاة وفيه أن اليقين لا يترك إلا باليقين لأن ذا اليدين كان على يقين أنها أربع فلما اقتصر على اثنين سأل ولم ينكر عليه سؤاله وإن الظن قد يصير يقينا بخبر أهل الصدق بناء على أنه رجع لخبر الجماعة وفيه أن الإمام يرجع لقول المأمومين في أفعال الصلاة ولو لم يتذكر إذا كثروا جدا بحيث يفيد خبرهم العلم وبه قال مالك وأحمد وغيرهما وفيه غير هذا مما يطول وأخرجه مسلم عن قتيبة بن سعيد عن مالك به
208 ( مالك عن ابن شهاب عن أبي بكر ) قال ابن عبد البر لا يوقف له على اسم وهو من ثقات التابعين عارف بالنسب ( ابن سليمان بن أبي حثمة ) بفتح الحاء المهملة وإسكان المثلثة ابن غانم العدوي وفي الإصابة أبوه سليمان له روية وجده أبو حثمة صحابي من مسلمة الفتح ( قال بلغني ) قال أبو عمر حديثه هذا منقطع عند جميع رواة الموطأ ( أن رسول الله ركع ركعتين من إحدى صلاتي
____________________
(1/279)
النهار ) لا تخالف رواية من روى إحدى صلاتي العشي لأن العشي بفتح العين وكسر المعجمة وشد الياء من الزوال وقد قال ( الظهر أو العصر ) بالشك وتقدم ما فيه ( من اثنتين ) أي من ركعتين ( فقال له ذو الشمالين ) رجل من بني زهرة بن كلاب أي من حلفائهم وهو خزاعي واسمه عمير بن عبد عمرو استشهد يوم بدر قال الحافظ اتفق أئمة الحديث كما نقله ابن عبد البر وغيره على أن الزهري وهم في ذلك لأنه قتل ببدر وهي قبل إسلام أبي هريرة بأكثر من خمس سنين وإنما هو ذو اليدين عاش مدة بعد النبي وحدث بهذا الحديث كما أخرجه الطبراني وغيره وجوز بعض الأئمة أن تكون القصة وقعت لكل من ذي الشمالين وذي اليدين وأن أبا هريرة روى الحديثين فأرسل أحدهما وهو قصة ذي الشمالين وشاهد الثاني وهو قصة ذي اليدين وهذا محتمل في طريق الجمع وقيل يحمل على أن ذي الشمالين كان يقال له أيضا ذو اليدين وبالعكس فكان ذلك سبب الاشتباه قال وذهب الأكثر إلى أن اسم ذي اليدين الخرباق اعتمادا على ما في مسلم عن عمران بن حصين فقام إليه رجل يقال له الخرباق وكان في يديه طول وهذا منبع من يوحد حديث أبي هريرة بحديث عمران وهو الراجح في نظري وإن كان ابن خزيمة ومن تبعه جنحوا إلى التعدد لاختلاف السياقين ففي حديث أبي هريرة أنه سلم من اثنتين وأنه قام إلى خشبة في المسجد وفي حديث عمران أنه سلم من ثلاث ركعات وأنه دخل منزله لما فرغ من الصلاة فأما الأول فقد حكى العلائي أن بعض شيوخه حمله على أن المراد به أنه سلم في ابتداء الركعة الثالثة واستبعده ولكن طريق الجمع يكتفي فيها بأدنى مناسبة وليس بأبعد من دعوى تعدد القصة فإنه يلزم منه كون ذي اليدين في كل مرة سأل قصرت الصلاة أم نسيت وأن النبي استفهم الصحابة عن صحة قوله وأما الثاني فلعل الراوي لما رآه تقدم من مكانه إلى جهة الخشبة ظن أنه دخل منزله لأن الخشبة كانت في جهته فإن كان كذلك وإلا فرواية أبي هريرة أرجح لموافقة ابن عمر له على سياقه كما أخرجه الشافعي وأبو داود وابن ماجه وابن خزيمة ولموافقة ذي اليدين نفسه على سياقه كما أخرجه أبو بكر الأثرم وعبد الله بن أحمد في زيادات المسند وأبو بكر بن أبي حثمة وغيرهم وفي الصحيحين عن ابن سيرين ما يدل على أنه كان يرى التوحيد بينهما وذلك أنه قال في آخر حديث أبي هريرة نبئت أن عمران بن حصين قال ثم سلم وفيما رجحه نظر فإن حمله على أنه سلم في ابتداء الركعة الثالثة لا يصح لأن السلام وقع وهو جالس عقب الركعتين فأين ابتداء الثالثة وغاية ما يمكن تصحيحه بتقدير مضاف هو في إرادة ابتداء الركعة الثالثة فسلم سهوا قبل القيام ولا دليل عليه وقوله ليس بأبعد من دعوى التعدد للزوم وقوع الاستفهام في المرتين من ذي اليدين والنبي مردود بأنه لا بعد فيه ولو لزم ذلك استفهام دعوى ذي اليدين أولا لأنه لم يمنع استفهامه ثانيا لأنه زمان نسخ
____________________
(1/280)
لا سيما وقد اقتصر عمران على قوله أقصرت الصلاة يا رسول الله كما في مسلم وكذلك استفهام المصطفى الصحابة عن صحة قول ذي اليدين في المرة الأولى لا يمنع ذلك في المرة الثانية لأن الصلاة لم تقصر وقد سلم معتقدا الكمال والإمام لا يرجع عن يقينه لقول المأمومين إلا لكثرتهم جدا بل عند الشافعي ولا لكثرتهم جدا ولا ريب أن هذا أقرب من إخراج اللفظ عن ظاهره المحوج إلى تقديره مضاف بلا قرينة وكونها حديث أبي هريرة لا ينهض لاختلاف المخرج أي الصحابي ثم ماذا يصنع بقول عمران في حديثه فصلى ركعة ثم سلم وفي رواية فصلى الركعة التي كان ترك ثم سلم ثم سجد سجدتي السهو ثم سلم وكلاهما في مسلم وتصحيحه بجنس الركعة ينبو عنه المقام نبوا ظاهرا فدعوى التعدد أقرب من هذا بكثير وموافقة ابن عمر وذي اليدين لأبي هريرة على سياقه لا يمنع الجمع بالتعدد الذي صار إليه ابن خزيمة وغيره وليس في قول ابن سيرين نبئت أن عمران قال ثم سلم دلالة قوية على أنه يرى اتحاد الحديثين إذ غاية ما أفاده أن عمران قال في حديثه ثم سلم ففيه إثبات السلام عقب سجدتي السهو الخالي منه حديث أبي هريرة وبعد ذلك هل هو متحد مع حديث أبي هريرة أو حديث آخر مسكوت عنه وأما قوله لعله ظن أنه دخل منزله فبعيد جدا أو ممنوع لما يلزم عليه أن عمران أخبر بالظن وهو قد شاهد القصة كيف وقد قال إنه صلى الله تعالى عليه وآله وسلم سلم في ثلاث ركعات من العصر ثم قام فدخل الحجرة فقام رجل بسيط اليدين فقال أقصرت الصلاة يا رسول الله فخرج مغضبا فصلى الركعة التي كان ترك ثم سلم ثم سجد سجدتي السهو ثم سلم أخرجه مسلم عن عمران
أفلا يعلم الحجرة من الخشبة التي في المسجد ويؤول بذلك التأويل المتعسف فرارا من دعوى التعدد مع أنه أقرب من هذا بلا ريب
( أقصرت الصلاة يا رسول الله أم نسيت فقال له رسول الله ما قصرت الصلاة وما نسيت ) فصرح بنفيهما معا عنه وهو يفسر المراد بقوله في الرواية السابقة كل ذلك لم يكن من أنه نفي لكل واحد منهما لا لمجموعهما ولذا أجابه ( فقال ذو الشمالين قد كان بعض ذلك يا رسول الله ) وفي رواية بلى قد نسيت لأنه لما نفى الأمرين وكان مقررا عند الصحابي أنه لا يجوز السهو عليه في الأمور البلاغية جزم بوقوع النسيان لا القصر وفائدة جواز السهو في مثل هذا بيان الحكم الشرعي إذا وقع مثله لغيره وفيه حجة لمن جوز السهو على الأنبياء فيما طريقه التشريع ولكن لا يقر عليه وأما من منع السهو مطلقا فأجابوا عن هذا الحديث بأنه نفي النسيان ولا يلزم منه نفي السهو وهذا قول من فرق بينهما وهو مردود ويكفي فيه قوله بلى قد نسيت وأقره على ذلك وبأن قوله وما نسيت على ظاهره وحقيقته وكان يتعمد ما يقع منه من ذلك ليقع للتشريع بالفعل لأنه أبلغ من القول وبأن معنى وما نسيت أي في اعتقادي لا في نفس الأمر ويستفاد منه أن الاعتقاد عند فقد اليقين يقوم
____________________
(1/281)
مقامه وتعقب بحديث ابن مسعود في الصحيحين إنما أنا بشر أنسى كما تنسون فأثبت العلة قبل الحكم بقوله إنما أنا بشر ولم يكتف بإثبات وصف النسيان حتى دفع قول من عساه يقول ليس نسيانه كنسياننا فقال كما تنسون وهذا الحديث أيضا يرد قول من قال معنى قوله ما نسيت إنكار للفظ الذي نفاه عن نفسه حيث قال إني لا أنسى ولكن أنسى وإنكار اللفظ الذي أنكره على غيره بقوله بئسما لأحدكم أن يقول نسيت آية كذا وكذا وتعقبوا هذا أيضا بأن حديث إني لا أنسى من بلاغات مالك التي لم توجد موصولة وأما الآخر فلا يلزم من ذم إضافة نسيان الآية ذم إضافة كل شيء فإن الفرق بينهما واضح جدا وقيل قوله وما نسيت راجع إلى السلام أي سلمت قصدا بانيا على اعتقادي أني صليت أربعا وهذا جيد فإن ذا اليدين فهم العموم فقال بلى قد نسيت فأوقع قوله شكا احتاج معه إلى الاستثبات من الحاضرين
( فأقبل رسول الله على الناس فقال أصدق ذو اليدين فقالوا نعم يا رسول الله ) صدق لم تصل إلا ركعتين وبهذا التقرير يندفع إيراد من استشكل كون ذي اليدين لم يقبل خبره بمفرده فسبب التوقف فيه كونه أخبر بأمر يتعلق بفعل المسؤول مغاير لما في اعتقاده وبهذا أجيب عمن قال من أخبر بأمر حسي بحضرة جمع لا يخفى عليهم ولا يجوز عليهم التواطؤ ولا حامل لهم على السكوت عنه ثم لم يكذبوه أنه يقطع بصدقه فإن سبب عدم القطع كون خبره معارضا باعتقاد المسؤول خلاف ما أخبر به وفيه أن الثقة إذا انفرد بزيادة خبر وكان المحل متحدا ومنعت العادة غفلتهم عن ذلك فإنه لا يقبل خبره
( فأتم رسول الله ما بقي من الصلاة ثم سلم ) قال الباجي لم يذكر ابن شهاب في حديثه هذا سجود السهو وقد ذكره جماعة من الحفاظ عن أبي هريرة والأخذ بالزائد أولى إذا كان رواية ثقة
وقال أبو عمر كان ابن شهاب أكثر الناس بحثا عن هذا الشأن فكان ربما اجتمع له في الحديث جماعة فحدث به مرة عنهم ومرة عن أحدهم ومرة عن بعضهم على قدر نشاطه حين تحديثه وربما أدخل حديث بعضهم في حديث بعض كما صنع في حديث الإفك وغيره وربما كسل فلم يسند وربما انشرح فوصل وأسند على حسب ما تأتي به المذاكرة فلذا اختلف عليه أصحابه اختلافا كثيرا ويبين ذلك روايته حديث ذي اليدين رواه عنه جماعة فمرة يذكر فيه واحدا ومرة اثنين ومرة جماعة ومرة جماعة غيرها ومرة يصل ومرة يقطع اه
رح 209 ( مالك عن ابن شهاب عن سعيد بن المسيب وعن أبي سلمة بن عبد الرحمن مثل ذلك )
____________________
(1/282)
المتقدم عن ابن شهاب عن أبي بكر بن سليمان بلاغا قال ابن عبد البر اضطرب الزهري في هذا الحديث اضطرابا أوجب عند أهل النقل تركه من روايته خاصة ثم ذكر طرقه وبين اضطرابها في المتن والإسناد وقال إنه لم يقم له متنا ولا إسنادا وإن كان إماما عظيما في هذا الشأن فالغلط لا يسلم منه بشر والكمال لله وكل أحد يؤخذ من قوله ويترك إلا النبي اه
لكن رواية مالك عنه غاية ما فيها أنه في هذه الثانية أرسله وهو ثابت من طرق عن أبي سلمة عن أبي هريرة وأحال لفظها على لفظ الأولى وقد جمع فيها بين ذي الشمالين وذي اليدين وتقدم احتمال أن ذا اليدين يلقب بهما أو عكسه وأن القصة وقعت لهما وأرسل أبو هريرة حديث ذي الشمالين وشاهد حديث ذي اليدين ولم يذكر فيها سجود السهو وليس بكبير علة وجعل الإسناد بلاغا حسبما حدثه شيخه أبو بكر بن سليمان وهو متصل من وجوه صحاح
( قال مالك كل سهو كان نقصانا من الصلاة ) كترك الجلوس الوسط ( فإن سجوده قبل السلام ) كما فعل في حديث ابن بحينة الآتي
( وكل سهو كان زيادة في الصلاة فإن سجوده بعد السلام ) كفعله في قصة ذي اليدين لأنه زاد سلاما وعملا وكلاما وسجد بعد السلام وبهذا قال المزني وأبو ثور قال النووي وهو أقوى المذاهب
وقال ابن عبد البر إنه أقوى الأقوال للجمع بين الخبرين وهو أولى من ادعاء النسخ قال وهو موافق للنظر لأن في النقص جبرا فينبغي أن يكون قبل الخروج من الصلاة وفي الزيادة ترغيم الشيطان فينبغي أن يكون بعد الفراغ منها
قال ابن دقيق العيد لا شك أن الجمع أولى من الترجيح وادعاء النسخ ويترجح الجمع المذكور بالمناسبة المذكورة وإذا كانت المناسبة ظاهرة وكان الحكم على وفقها كان علة فيعم الحكم في جميع محالها فلا يتخصص إلا بنص وتعقب بأن كون سجود الزيادة ترغيما للشيطان فقط ممنوع بل هو جبر أيضا للخلل لأنه وإن كان زيادة فهو نقص في المعنى وهذا مردود فإنه لم يدع أنه ترغيم فقط كما زعم المتعقب وكونه نقصا في المعنى لم ينظر إليه وإنما نظر إلى الحسي حتى لا يحصل التعارض بين الأخبار فيضطر إلى دعوى النسخ بلا دليل والترجيح بلا مرجح ومذهب المحدثين والأصوليين والفقهاء متى أمكن الجمع بين الحديثين وجب الجمع وعند الحنفي سجود السهو كله بعد السلام وعند الشافعي كله قبل السلام
ونقل ابن عبد البر والماوردي وغيرهما الإجماع على صحته قدم أو أخر وتعقب بأن الخلاف موجود عند أصحاب المذاهب الأربع وأجيب بأن الإجماع قبل حدوث هذه الآراء في المذاهب بين أهلها وقال أحمد يسجد كما سجد ففي سلامه من اثنين بعد السلام كقصة ذي اليدين وكذا إذا سلم من ثلاث لحديث عمران
____________________
(1/283)
وفي التحري بعد السلام لحديث ابن مسعود وفي القيام من ثنتين قبل السلام لحديث ابن بحينة وفي الشك يبني على اليقين ويسجد قبل السلام على حديث أبي سعيد وابن عون وما عدا هذه المواضع يسجد فيها قبل السلام لأنه يتم ما نقص من صلاته ولولا الأحاديث لرأيت السجود كله قبل السلام وزعم بعضهم أن هذا أقوى المذاهب لاستعماله كل حديث فيما ورد فيه وتقدم عن ابن دقيق العيد ما يرد وقال إسحاق مثله إلا أنه قال ما لم يرد فيه شيء يفرق فيه بين الزيادة فبعده والنقص فقبله فحرر مذهبه من قول مالك وأحمد وزعم بعض أنه أعدل المذاهب فيما يظهر وأما داود فجرى على ظاهريته فقال لا يشرع سجود السهو إلا في المواضع الخمس التي سجد النبي فيها فقط
48 إتمام المصلي ما ذكر إذا شك في صلاته ( مالك عن زيد بن أسلم عن عطاء بن يسار ) مرسلا عند جميع الرواة وتابع مالكا على إرساله الثوري وحفص بن ميسرة ومحمد بن جعفر وداود بن قيس في رواية ووصله الوليد بن مسلم ويحيى بن راشد المازني كلاهما عن مالك عن زيد عن عطاء عن أبي سعيد الخدري ( أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال ) وقد وصله مسلم من طريق سليمان بن بلال وداود بن قيس كلاهما عن زيد بن أسلم عن عطاء بن يسار عن أبي سعيد به وله طرق في النسائي وابن ماجه عن زيد موصولا ولذا قال أبو عمر هذا الحديث وإن كان الصحيح فيه عن مالك الإرسال فإنه متصل من وجوه ثابتة من حديث من تقبل زيادته لأنهم حفاظ فلا يضره تقصير من قصر في وصله وقد قال الأثرم لأحمد بن حنبل أتذهب إلى حديث أبي سعيد قال نعم قلت إنهم يختلفون في إسناده قال إنما قصر به مالك وقد أسنده عدة منهم ابن عجلان وعبد العزيز بن أبي سلمة
( إذا شك أحدكم في صلاته فلم يدر كم صلى أثلاثا أم أربعا فليصلي ) كذا بالياء للإشباع كقوله { من يتق ويصبر } سورة يوسف الآية 90 ركعة وفي رواية مسلم فليطرح الشك وليبن على ما استيقن ( وليسجد سجدتين وهو جالس قبل التسليم فإن كانت الركعة التي صلى خامسة شفعها بهاتين السجدتين ) أي ردها إلى الشفع قال الباجي يحتمل أن الصلاة مبنية على الشفع فإن دخل عليه ما يوترها من زيادة وجب إصلاح ذلك بما يشفعها
( وإن كانت رابعة فالسجدتان ترغيم ) أي إغاظة وإذلال ( للشيطان ) قال النووي المعنى أن
____________________
(1/284)
الشيطان لبس عليه صلاته وتدارك ما لبسه عليه فأرغم الشيطان ورد خاسئا مبعدا عن مراده وكملت صلاة ابن آدم وامتثل أمر الله تعالى الذي عصى به إبليس من امتناعه من السجود
قال ابن عبد البر وفي الحديث دلالة قوية لقول مالك والشافعي والثوري وغيرهم أن الشاك يبني على اليقين ولا يجزيه التحري
وقال أبو حنيفة إن كان ذلك أول ما شك استقبل وإن اعتراه غير مرة تحرى وليس في شيء من الأحاديث فرق بين من اعتراه ذلك أول مرة أو مرة بعد مرة وقال أحمد الشك على وجهين اليقين والتحري فمن رجع إلى اليقين ألغى الشك وسجد قبل السلام على حديث أبي سعيد وإذا رجع إلى التحري وهو أكثر الوهم سجد للسهو بعد السلام على حديث ابن مسعود الذي يرويه منصور وهو حديث معلول وقال جماعة التحري هو الرجوع إلى اليقين وعلى هذا يصح استعمال الخبرين بمعنى واحد وأي متحر يكون لمن انصرف وهو شاك غير متيقن ومعلوم أن من تحرى على أغلب ظنه أن شعبة من الشك تصحبه
( مالك عن عمر بن محمد بن زيد ) بن عبد الله بن عمر بن الخطاب المدني نزيل عسقلان ثقة روى له الشيخان وغيرهما مات قبل سنة خمسين ومائة
( عن سالم بن عبد الله أن عبد الله بن عمر كان يقول إذا شك أحدكم في صلاته فليتوخ ) أي يتحرى ( الذي يظن أنه نسي من صلاته فليصله ) قال ابن عبد البر هو عنده البناء على اليقين وتأوله من قال بالتحري أنه أراد العمل على أكثر الظن وتأويلنا أحوط وأبين لأنه أمره أن يصلي ما ظن أنه نسيه ويعضده حديث أبي سعيد
( ثم ليسجد سجدتي السهو وهو جالس ) وقد روى ابن عبد البر من طريق إسماعيل بن أبي أويس عن أخيه عن سليمان بن بلال عن عمر بن محمد عن سالم عن أبيه أنه صلى الله عليه وسلم قال إذا صلى أحدكم فلم يدر كم صلى ثلاثا أم أربعا فليركع ركعة يحسن ركوعها وسجودها ثم يسجد سجدتين قال أبو عمر لا يصح رفعه لأن مالكا رواه موقوفا ولم يرفعه من يوثق به فإسماعيل وأخوه ضعيفان وإنما ذكرته ليعرف
( مالك عن عفيف بن عمرو ) بن المسيب ( السهمي ) مقبول ( عن عطاء بن يسار أنه قال سألت عبد الله بن عمرو بن العاصي ) الصحابي ابن الصحابي ( وكعب الأحبار ) أي ملجأ العلماء الحميري من كبار التابعين ( عن الذي يشك في صلاته فلا يدري كم صلى أثلاثا أم أربعا فكلاهما قال ليصل
____________________
(1/285)
ركعة أخرى ) بانيا على ما تيقن ( ثم يسجد سجدتين وهو جالس ) كما في حديث أبي سعيد
وروى أحمد وابن ماجه والحاكم والبيهقي عن عبد الرحمن بن عوف مرفوعا إذا شك أحدكم في الاثنين والواحدة فليجعلها واحدة وإذا شك في الثنتين والثلاث فليجعلها اثنتين وإذا شك في الثلاث والأربع فليجعلها ثلاثا حتى يكون الوهم في الزيادة ثم يتم ما بقي من صلاته ثم يسجد سجدتين وهو جالس قبل أن يسلم
( مالك عن نافع أن عبد الله بن عمر كان إذا سئل عن النسيان في الصلاة قال ليتوخ أحدكم الذي يظن أنه نسي من صلاته فليصله ) وهذا ظاهر في أنه يبني على اليقين وزاد في رواية سالم المتقدمة ثم يسجد سجدتي السهو وهو جالس
49 من قام بعد الإتمام أو في الركعتين أي بعد الركعتين قبل أن يتشهد ( مالك عن ابن شهاب عن الأعرج عن عبد الله بن بحينة ) بضم الموحدة وفتح الحاء المهملة وسكون التحتية ونون اسم أمه وأم أبيه فينبغي كتابة ابن بألف واسم أبيه مالك بن القشب بكسر القاف وسكون المعجمة وموحدة الأزدي أبي محمد حليف بني المطلب صحابي معروف مات بعد الخمسين
( أنه قال صلى لنا ) أي بنا أو لأجلنا وللبخاري من رواية شعيب عن الزهري صلى بهم
ومن رواية ابن أبي ذئب عن ابن شهاب صلى بنا ( رسول الله صلى الله عليه وسلم ركعتين ) زاد عبد الله بن يوسف ويحيى التيمي من بعض الصلوات ويأتي في الحديث التالي أنها الظهر
( ثم قام فلم يجلس ) فترك الجلوس والتشهد زاد الضحاك بن عثمان عن الأعرج فسبحوا به فمضى حتى فرغ من صلاته أخرجه ابن خزيمة
وفي حديث معاوية عند النسائي وعقبة بن عامر عند الحاكم نحو هذه القصة بهذه الزيادة ( فقام الناس معه ) قال الباجي يحتمل أن يكونوا قد علموا حكم هذه الحادثة وأنه إذا استوى قائما لا يرجع إلى الجلسة لأنها ليست بفرض ولا محلا للفرائض وأن يكونوا لم يعلموا فسبحوا فأشار إليهم أن يقوموا وقد قام المغيرة من ركعتين فسبح به فأشار إليهم أن قوموا ثم قال هكذا صنع رسول الله صلى الله عليه وسلم اه
وفي الحديث أن تارك الجلوس الأول إذا قام لا يرجع له فإن رجع بعد استوائه قائما لم تفسد
____________________
(1/286)
صلاته عند جمهور الفقهاء ومنهم مالك لأنه رجع إلى أصل ما كان عليه ومن زاد في صلاته ساهيا لم تفسد فالذي يقصد إلى عمل ما أسقطه من عملها أحرى وقيل تبطل وهو مذهب الشافعي وفيه أن التشهد الأول سنة إذ لو كان فرضا لرجع حتى يأتي به كما لو ترك ركعة أو سجدة إذ الفرض يستوي فيه العمد والسهو إلا في الإثم
( فلما قضى صلاته ) أي فرغ منها ( ونظرنا ) أي انتظرنا وفي رواية شعيب ونظر الناس ( تسليمه كبر ثم سجد سجدتين ) زاد في رواية الليث عن الزهري يكبر في كل سجدة ( وهو جالس ) جملة حالية متعلقة بقوله سجد أي أنشأ السجود جالسا وفي رواية الليث عن ابن شهاب وسجدهما الناس معه مكان ما نسي من الجلوس رواه البخاري ومسلم ( قبل التسليم ثم سلم ) بعد ذلك وزعم بعضهم أنه سجد في هذه القصة قبل السلام سهوا يرده قوله ونظرنا تسليمه أو أن المراد بالسجدتين سجدتا الصلاة أو المراد به التسليمة الثانية ولا يخفى ضعف ذلك وبعده وفيه مشروعية سجود السهو وأنه سجدتان وأنه يكبر لهما كما يكبر لغيرهما من السجود وفيه أن سجود السهو قبل السلام إذا كان عن نقص ورد على من زعم أن جميعه بعد السلام أو قبله واستدل به على الاكتفاء بالسجدتين للسهو ولو تكرر لأن الذي فات التشهد والجلوس وكل منهما لو سها عنه المصلي على انفراده يسجد لأجله ولم ينقل أنه صلى الله عليه وسلم سجد في هذه الحالة غير سجدتين وتعقب بأنه ينبني على ثبوت مشروعية السجود لترك ما ذكر ولم يستدلوا عليه بغير هذا الحديث فيستلزم إثبات الشيء بنفسه وفيه ما فيه وقد صرح في بقية الحديث بأن السجود مكان ما نسي من الجلوس نعم حديث ذي اليدين دال لذلك واحتج بهذه الزيادة على أن السجود خاص بالسهو فلو تعمد ترك شيء مما يجيز بالسجود لم يسجد عند الجمهور وفيه أن المأموم يسجد مع الإمام إذا سها الإمام وإن لم يسه المأموم ونقل ابن حزم فيه الإجماع والحديث أخرجه البخاري عن عبد الله بن يوسف ومسلم عن يحيى كليهما عن مالك به بزيادة من بعض الصلوات كما مر وله طرق عندهما
( مالك عن يحيى بن سعيد عن عبد الرحمن بن هرمز ) بضم الهاء والميم وسكون الهاء بينهما ثم زاي منقوطة الأعرج ( عن عبد الله بن بحينة أنه قال صلى لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم الظهر ) فصرح بالصلاة المبهمة في الرواية الأولى وبه صرح ابن شهاب أيضا في رواية الليث عنه ( فقام في اثنتين ولم يجلس فيهما ) أي بينهما وهي رواية التنيسي ( فلما قضى صلاته سجد سجدتين ) للسهو وسجدهما الناس معه
____________________
(1/287)
( ثم سلم بعد ذلك ) أي بعد السجدتين من غير تشهد بعدهما كسجود التلاوة واستدل به من قال السلام ليس من فرائض الصلاة حتى لو أحدث بعد أن جلس وقبل أن يسلم تمت صلاته وهو قول بعض الصحابة والتابعين وبه قال أبو حنيفة وتعقب بأن السلام لما كان للتحليل من الصلاة كأن المصلي إذا انتهى إليه كمن فرغ من الصلاة ويدل على ذلك قوله في رواية ابن ماجه من طريق جماعة من الثقات عن يحيى بن سعيد حتى إذا فرغ من الصلاة إلا أن يسلم فدل على أن بعض الرواة حذف الاستثناء لوضوحه والزيادة من الحافظ مقبولة والحديث أخرجه البخاري عن عبد الله بن يوسف عن مالك به وتابعه حماد بن زيد عن يحيى بن سعيد بنحوه في مسلم
( قال مالك فيمن سها في صلاته فقام بعد إتمامه الأربع ) في الرباعية وكذا الثلاث في الثلاثية في المغرب والاثنين في الصبح
( فقرأ ثم ركع فلما رفع رأسه من ركوعه ذكر أنه قد كان أتم ) الصلاة ( أنه يرجع فيجلس ولا يسجد ) فإن سجد بطلت ( ولو سجد إحدى السجدتين ) قبل التذكر ( لم أر أن يسجد الأخرى ) بل إن سجدها بطلت قال ابن عبد البر أجمعوا أن من زاد في صلاته شيئا وإن قل من غير الذكر المباح فسدت صلاته وإجماعهم على هذا يصحح قول مالك
( ثم إذا قضى صلاته ) فرغ منها بالتشهد والسلام
( فليسجد سجدتين وهو جالس بعد التسليم ) للزيادة والأصل في ذلك حديث ابن مسعود أنه صلى الله عليه وسلم صلى الظهر خمسا فقيل له أزيد في الصلاة قال وما ذاك قالوا صليت خمسا فسجد سجدتين بعدما سلم ثم أقبل علينا بوجهه فقال إنه لو حدث في الصلاة شيء أنبأتكم به ولكن إنما أنا بشر مثلكم أنسى كما تنسون فإذا نسيت فذكروني وإذا شك أحدكم في صلاته فليتحر الصلاة فليتم عليه ثم ليسجد سجدتين رواه الشيخان ولا يعارضه حديث أبي سعيد السابق قبل أن يسلم لحمل الصورتين على حالتين وأما الصورة الواقعة له صلى الله عليه وسلم فاتفق العلماء على أنه بعد السلام لأنه لم يعلم بالسهو فلا حجة فيه لمن قال جميعه بعد السلام
النظر في الصلاة إلى ما يشغلك عنها بفتح الياء والغين وبضم أوله وكسر الغين أي يلهيك قال المجد شغله كمنعه شغلا ويضم وأشغله لغة جيدة أو قليلة أو ردية
( مالك عن علقمة بن أبي علقمة ) واسمه بلال ويقال له أيضا علقمة ابن أم علقمة واسمها
____________________
(1/288)
مرجانة مولاة عائشة بلا خلاف وأما أبوه فقال مالك إنه مولاها أيضا
وقال الزبير بن بكار مولى مصعب بن عبد الرحمن بن عوف كان علقمة ثقة مأمونا روى عنه مالك وغيره من الأئمة
قال مصعب الزبيري عن أبيه تعلمت النحو في كتاب علقمة بن أبي علقمة وكان نحويا
( عن أمه ) مرجانة روت عن عائشة ومعاوية وثقها ابن حبان
( أن عائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم ) هكذا الجميع رواة الموطأ وسقط ليحيى عن أمه وهو مما عد عليه ولم يتابعه عليه أحد قاله ابن عبد البر
( قالت أهدى أبو جهم ) بفتح الجيم وسكون الهاء ويقال فيه أبو جهيم بالتصغير ( ابن حذيفة ) بن غانم بن عامر بن عبد الله بن عبيد بن عويج بن عدي بن كعب القرشي العدوي قال البخاري وجماعة اسمه عامر وقال سعد والزبير بن بكار وغيرهما اسمه عبيد بالضم صحابي من مسلمة الفتح كان من معمري قريش ومشيختهم ونسابهم حضر بناء الكعبة حين بنتها قريش وحين بناها ابن الزبير وهو المذكور في حديث وأما أبو جهم فلا يضع عصاه عن عاتقه قيل إنه كان ضرابا للنساء ذكر ابن سعد أنه مات في آخر خلافة معاوية لكن ذكر ابن بكار عن عمه مصعب أن أبا جهم حضر بناء ابن الزبير للكعبة وهذا يدل على تأخر موته إلى أوائل خلافة ابن الزبير ويؤيده ما روي أنه وفد على يزيد بن معاوية ثم على ابن الزبير بعد ذلك
( لرسول الله صلى الله عليه وسلم خميصة ) بفتح الخاء المعجمة وكسر الميم وصاد مهملة كساء رقيق مربع ويكون من خز أو صوف وقيل لا تسمى بذلك إلا أن تكون سوداء مظلمة سميت خميصة للينها ورقتها وصغر حجمها إذا طويت مأخوذ من الخمص وهو ضمور البطن وفي التمهيد الخميصة كساء رقيق قد يكون بعلم وبغير علم وقد يكون أبيض معلما وقد يكون أصفر وأحمر وأسود وهي من لباس أشراف العرب
( شامية لها ) بالتأنيث على لفظ خميصة وفي رواية له بالتذكير على معنى أنها كساء
( علم ) في رواية عروة عن عائشة في الصحيحين له أعلام فالمراد الجنس ( فشهد فيها الصلاة ) أي صلى وهو لابس لها
( فلما انصرف قال ) لعائشة ( ردي هذه الخميصة إلى أبي جهم فإني نظرت إلى علمها ) وفي حديث عروة عن عائشة صلى في خميصة له أعلام فنظر إلى أعلامها نظرة في الصلاة ( فكاد يفتنني ) بفتح أوله من الثلاثي أي يشغلني عن خشوع الصلاة وفيه أن الفتنة لم تقع فإن كاد تقتضي القرب وتمنع الوقوع ولذا قال بعض العلماء لا يخطف البرق بصر أحد لقوله تعالى { يكاد البرق يخطف أبصارهم } سورة البقرة الآية 20 ولذا أولوا قوله في رواية الصحيحين فإنها ألهتني عن صلاتي بأن المعنى قاربت أن تلهيني فإطلاق الإلهاء مبالغة في القرب لا لتحقق وقوع الإلهاء وفيه من الفقه قبول الهدايا وكان صلى الله عليه وسلم يقبلها ويأكلها والهدية مستحبة ما لم يسلك بها طريق الرشوة لدفع حق أو تحقيق باطل أو أخذ
____________________
(1/289)
على حق يجب القيام به وأن الواهب إذا ردت عليه عطيته من غير أن يكون هو الراجع فيها فله قبولها بلا كراهة وأن كل ما يشغل المرء في صلاته ولم يمنعه من إقامة فرائضها وأركانها لا يفسدها ولا يوجب عليه إعادتها ومبادرته صلى الله عليه وسلم إلى مصالح الصلاة ونفي ما لعله يحدث فيها وأما بعثه بالخميصة إلى أبي جهم فلا يلزم منه أن يلبسها في الصلاة ومثله قوله في حلة عطارد حيث بعث بها إلى عمر إني لم أبعث بها إليك لتلبسها ويحتمل أن يكون ذلك من جنس قوله كل فإني أناجي من لا تناجي
وقال الطيبي فيه إيذان بأن للصور والأشياء الظاهرة تأثيرا في القلوب الطاهرة والنفوس الزكية يعني فضلا عمن دونها
وقال ابن قتيبة إنما ردها صلى الله عليه وسلم لأنه كرهها ولم يكن يبعث إلى غيره ما كرهه لنفسه وقد قال لعائشة لا تتصدقي بما لا تأكلين وكان أقوى الخلق على دفع الوسوسة لكن لما أعلم أبو جهم بما نابه فيها دل على أنه لا يلبسها في الصلاة لأنه أحرى أن يخشى على نفسه الشغل بها عن الخشوع ويحتمل أنه أعلمه بما نابه لتطيب نفسه ويذهب عنه ما يجد من رد هديته
قال الباجي أو ليقتدي به في ترك لبسها من غير تحريم اه
واستنبط الإمام من الحديث كراهة النظر إلى كل ما يشغل عن الصلاة من صبغ وعلم ونقوش ونحوها لقوله في الترجمة النظر إلى ما يشغلك عنها فعم ولم يقيد بخميصة ولا غيرها واستنبط منه الباجي صحة المعاطاة لعدم ذكر الصيغة وهذا الحديث في الصحيحين من رواية الزهري عن عروة عن عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى في خميصة له أعلام فنظر إلى أعلامها نظرة فلما انصرف قال اذهبوا بخميصتي هذه إلى أبي جهم وائتوني بأنبجانية أبي جهم فإنها ألهتني آنفا عن صلاتي
( مالك عن هشام بن عروة عن أبيه ) كذا أرسله جميع الرواة إلا معن بن عيسى فقال عن عائشة وكذا قال كل أصحاب هشام عن عائشة ( أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لبس خميصة لها علم ) زاد ابن أبي شيبة من رواية وكيع عن هشام عن أبيه عن عائشة فكاد يتشاغل بها في الصلاة ( ثم أعطاها إلى أبي جهم وأخذ من أبي جهم أنبجانية ) بفتح الهمزة وسكون النون وكسر الموحدة وخفة الجيم فألف فنون فياء نسبة كساء غليظ لا علم له وقال ثعلب يجوز فتح همزته وكسرها وكذا الباء الموحدة قال أبو موسى المديني الصواب أن هذه النسبة إلى موضع يقال له أنبجان لا إلى منبج بالميم البلد المعروف بالشام وبه رد قول أبي حاتم السجستاني لا يقال كساء أنبجاني وإنما يقال منبجاني وهذا مما يخطىء فيه العامة ورد أيضا بأن الصواب أنبجانية كما في الحديث لأنها رواية عرب فصحاء ومن النسب ما لا يجري على قياس لو صح أنه منسوب إلى منبج ( له فقال يا رسول الله ولم ) فعلت هذا ( فقال إني
____________________
(1/290)
نظرت إلى علمها في الصلاة ) زاد في رواية للبخاري تعليقا عن هشام عن أبيه عن عائشة فأخاف أن تفتنني وذكر ابن الجوزي في الحديث سؤالين أحدهما كيف يخاف الافتتان بعلم من لم يلتفت إلى الأكون بليلة ما زاغ البصر وما طغى وأجاب بأنه كان في تلك الليلة خارجا عن طباعه فأشبه ذلك نظره من ورائه فإذا رد إلى طباعه أثر فيه ما يؤثر في البشر
الثاني المراقبة في الصلاة شغلت خلقا من أتباعه حتى أنه وقع السقف إلى جانب مسلم بن يسار ولم يعلم
وأجاب بأن أولئك كانوا يؤخذون عن طباعهم فيغيبون عن وجودهم وكان الشارع يسلك طريق الخواص وغيرهم فإذا سلك طريق الخواص عبر الكل فقال لست كأحدكم وإن سلك طريق غيرهم قال إنما أنا بشر فرد إلى حالة الطبع ليستن به في ترك كل شاغل اه
وهذا الحديث أخرجه أحمد وابن أبي شيبة ومسلم وأبو داود من طريق هشام عن أبيه عن عائشة بنحوه
( مالك عن عبد الله بن أبي بكر ) بن محمد بن عمرو بن حزم قال ابن عبد البر هذا الحديث لا أعلمه يروى من غير هذا الوجه وهو منقطع
( إن أبا طلحة الأنصاري ) زيد بن سهل ( كان يصلي في حائطه ) وفي نسخة في حائط له أي بستان ( فطار دبسي ) بضم الدال المهملة وإسكان الموحدة وسين مهملة قال ابن عبد البر طائر يشبه اليمامة وقيل هو اليمامة نفسها وقال الدميري منسوب إلى دبس الرطب لأنهم يغيرون في النسب ( فطفق ) بكسر الفاء جعل ( يتردد يلتمس مخرجا ) قال الباجي يعني أن اتساق النخل واتصال جرائدها كانت تمنع الدبسي من الخروج فجعل يتردد ويطلب المخرج ( فأعجبه ذلك ) سرورا بصلاح ماله وحسن إقباله
( فجعل يتبعه بصره ساعة ثم رجع إلى صلاته ) بالإقبال عليها وتفريغ نفسه لتمامها
( فإذا هو لا يدري كم صلى فقال لقد أصابتني في مالي هذا فتنة ) أي اختبار أي اختبرت في هذا المال فشغلت عن الصلاة
وقال أبو عمر كل من أصابته مصيبة في دينه فقد فتن والفتنة لغة على وجوه
( فجاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكر له الذي أصابه في حائطه من الفتنة وقال يا رسول الله هو صدقة لله فضعه حيث شئت ) قال الباجي أراد إخراج ما فتن به من ماله وتكفير اشتغاله عن صلاته قال وهذا يدل على أن مثل هذا كان يقل منهم ويعظم في نفوسهم وصرف ذلك إلى اختياره صلى الله عليه وسلم لعلمه بأفضل ما تصرف إليه الصدقة وقال الغزالي كانوا يفعلون ذلك قطعا لمادة الفكر وكفارة لما جرى من نقصان الصلاة وهذا
____________________
(1/291)
هو الدواء القاطع لمادة العلة ولا يغني عنه غيره
وقال أبو عمر فيه إن كل ما جعل لله مطلقا ولم يبين وجها أن للإمام والحاكم الفاضل أن يضعها حيث رأى من سبل البر وينفذ بلفظ الصدقة لله وليست الهبة والعطية والمنحة كذلك
( مالك عن عبد الله بن أبي بكر ) الأنصاري المدني قاضيها ( أن رجلا من الأنصار كان يصلي في حائط له بالقف ) بضم القاف وبالفاء المشددة ( واد من أودية المدينة في زمان الثمر ) بفتحتين ( والنخل ) بالرفع ( قد ذللت ) أي مالت الثمرة بعراجينها لأنها عظمت وبلغت حد النضج ( فهي مطوقة ) أي مستديرة فطوق كل شيء ما استدار به ( بثمرها ) بفتح المثلثة والميم مفرد ثمار وبضمها وضم الميم جمع ثمار مثل كتب وكتاب وهو الحمل الذي تخرجه الشجرة وسواء أكل أم لا فكما يقال ثمر النخل والعنب يقال ثمر الإراك وثمر العوسج
وقال أبو عبد الملك البوني تذليلها أنها إذا طابت ودنا جذها تفتل عراجينها بما فيها من قنوانها ليذبل بذلك الثمر فيصير تمرا فإذا فتلت العراجين انعطفت وتذللت قنوانها بالتمر حول الجريد مستديرة بها فهذا تطويقها وذلك أيضا مأخوذ من طوق القميص الدائر حوله قال عيسى كانوا يفعلون ذلك ليتمكن لهم الخرص فيها وقيل ليكون أظهر عند البيع
( فنظر إليها فأعجبه ما رأى من ثمرها ثم رجع إلى صلاته فإذا هو لا يدري كم صلى فقال لقد أصابتني في مالي هذا فتنة ) أي اختبار وتكون بمعنى الميل عن الحق قال تعالى { وإن كادوا ليفتنونك } سورة الإسراء الآية 73 { فجاء } الرجل ( عثمان بن عفان وهو يومئذ خليفة فذكر له ذلك ) الذي أصابه في حائطه ( وقال هو صدقة فاجعله في سبل ) بضمتين جمع سبيل ( الخير فباعه عثمان بن عفان بخمسين ألفا ) قال أبو عمر لأنه فهم مراد الأنصاري فباعه وتصدق بثمنه ولم يجعله وقفا واختلف في الأفضل منهما وكلاهما حسن والدائم كالعيون أحسن وهو جار لصاحبه ما لم تعتوره آفة وآفات الدهر كثيرة وفيه أن المصلي يقبل على صلاته ولا يلتفت يمينا ولا شمالا ( فسمي ذلك المال الخمسين ) لبلوغ ثمنه خمسين ألفا كما سمي الفيوم لبلوغ خراجه كل يوم ألف دينار قاله ابن حبيب
____________________
(1/292)
51 العمل في السهو ( مالك عن ابن شهاب ) محمد بن مسلم ( عن أبي سلمة بن عبد الرحمن بن عوف عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال إن أحدكم إذا قام يصلي ) الصلاة الشرعية أعم من أن تكون فريضة أو نافلة
( جاءه الشيطان فلبس ) بخفة الموحدة المفتوحة على الصحيح أي خلط ( عليه ) أمر صلاته ومضارعه بكسرها من باب ضرب قال تعالى { وللبسنا عليهم ما يلبسون } سورة الأنعام الآية 9 وأما من اللباس فبابه سمع ( حتى لا يدري كم صلى فإذا وجد ذلك أحدكم فليسجد سجدتين ) ترغيما للشيطان لما لبس عليه وليس عليه أثقل من السجود لما لحقه من سخط الله لامتناعه من السجود لآدم
( وهو جالس ) بعد السلام كما في حديث عبد الله بن جعفر مرفوعا من شك في صلاته فليسجد سجدتين بعدما يسلم رواه أحمد وأبو داود والنسائي وقد زاد ابن إسحاق وابن أخي الزهري كلاهما عن ابن شهاب في حديث الباب قبل أن يسلم ثم يسلم لكن أعله أبو داود وغيره بأن الحفاظ من أصحاب ابن شهاب ابن عيينة ومعمرا والليث ومالكا لم يقولوا قبل أن يسلم وإنما ذكره هذان وليسا بحجة على من لم يذكروه
قال أبو عمر هذا الحديث محمول عند مالك والليث وابن وهب وجماعة على المستنكح الذي لا يكاد ينفك عنه ويكثر عليه السهو ويغلب على ظنه أنه قد أتم لكن الشيطان يوسوس له فيجزيه أن يسجد للسهو دون أن يأتي بركعة لأنه لا يأمن أن ينوبه مثل ذلك فيما يأتي به وأما من غلب على ظنه أنه لم يكمل صلاته فيبني على يقينه فإن اعتراه ذلك أيضا فيما يبني لهى عنه أيضا كما قاله ابن القاسم وغيره والدليل على أن حديث أبي هريرة هذا غير حديث البناء على اليقين أن أبا سعيد راوي حديث البناء على اليقين المتقدم روى أيضا حديث إذا صلى أحدكم فلم يدر أزاد أم نقص فليسجد سجدتين وهو قاعد رواه أبو داود ومحال أن يكون معناهما واحدا لاختلاف ألفاظهما بل لكل واحد منهما موضع كما ذكرنا اه
وظاهر الحديث سواء كانت الصلاة فريضة أو تطوعا فيفيد ما ذهب إليه الجمهور من أن السهو في النافلة كالسهو في الفريضة إلا في مسائل وخالف في ذلك ابن سيرين وقتادة وعطاء فقالوا لا سجود في السهو في النافلة وقد اختلف في إطلاق الصلاة عليهما هل هو من الاشتراك اللفظي أو المعنوي وإليه ذهب جمهور الأصوليين لجامع ما بينهما من عدم التباين في بعض الشروط التي لا تنفك ومال الفخر الرازي إلى الأول لما بينهما من التباين في بعض الشروط لكن طريقة من أعمل المشترك في معانيه عند التجرد تقتضي دخول النافلة أيضا في هذه العبادة
____________________
(1/293)
فإن قيل حديث إذا نودي للصلاة وإذا ثوب بالصلاة قرينة في أن المراد الفريضة
أجيب بأن ذلك لا يمنع تناول النافلة لأن الإتيان بها مطلوب لقوله صلى الله عليه وسلم بين كل أذانين صلاة وعندي في ورود هذا السؤال من أصله وقفة إذ حديث النداء بالصلاة لا يخصص حديث السهو بالفريضة لأن جواب الشرط فلا تأتوها وأنتم تسعون لا دلالة فيه على تخصيص بوجه والحديث رواه البخاري عن عبد الله بن يوسف ومسلم عن يحيى كلاهما عن مالك به وتابعه سفيان بن عيينة والليث بن سعد كلاهما عن ابن شهاب ونحوه في مسلم
( مالك أنه بلغه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال إني لأنسى أو أنسى لأسن ) قال ابن عبد البر لا أعلم هذا الحديث روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم مسندا ولا مقطوعا من غير هذا الوجه وهو أحد الأحاديث الأربعة التي في الموطأ التي لا توجد في غيره مسندة ولا مرسلة ومعناه صحيح في الأصول اه
وما وقع في فتح الباري أنه لا أصل له فمعناه يحتج به لأن البلاغ من أقسام الضعيف وليس معناه أنه موضوع معاذ الله إذ ليس البلاغ بموضوع عند أهل الفن لا سيما من مالك كيف وقد قال سفيان إذا قال مالك بلغني فهو إسناد صحيح
وقال الباجي أو في الحديث للشك عند بعضهم
وقال عيسى بن دينار وابن نافع ليست للشك ومعنى ذلك أنسى أنا أو ينسيني الله تعالى قال ويحتاج هذا إلى بيان لأنه أضاف أحد النسيانين إليه والثاني إلى الله تعالى وإن كنا نعلم أنه إذا نسي فإن الله هو الذي أنساه أيضا وذلك يحتمل معنيين أحدهما أن يريد لأنسى في اليقظة وأنسى في النوم فأضاف النسيان في اليقظة إليه لأنها حالة التحرز في غالب أحوال الناس وأضاف النسيان في النوم إلى غيره لما كانت حالا يقل فيها التحرز ولا يمكن فيها ما يمكن في حال اليقظة
والثاني أن يريد إني لأنسى على حسب ما جرت العادة به من النسيان مع السهو والذهول عن الأمر أو أنسى مع تذكر الأمر والإقبال عليه والتفرغ له فأضاف أحد النسيانين إلى نفسه لما كان كالمضطر إليه وفي الشفاء لعياض قيل هذا اللفظ شك من الراوي وقد روي إني لا أنسى ولكن أنسى لأسن أي بلا النافية عوض لام التأكيد في الرواية الأولى وقال قبل ذلك بل قد روي لست أنسى ولكن أنسى لأسن اه
فهي ثلاث روايات ترجع إلى ثنتين النفي والإثبات ولا منافاة بينهما لأن نسبته إليه باعتبار حقيقة اللغة ونفيه عنه باعتبار أنه ليس موجدا له حقيقة والموجد الحقيقي هو الله كما يقال مات زيد وأماته الله فحيث أثبت له النسيان أراد قيام صفته به وحيث نفاه عنه فباعتبار أنه ليس بإيجاده ولا من مقتضى طبعه والموجد له وهو الله
____________________
(1/294)
( مالك أنه بلغه أن رجلا سأل القاسم بن محمد ) بن أبي بكر الصديق ( فقال إني أهم في صلاتي ) أتوهم أني نقصتها ركعة مثلا مع غلبة ظني بالإتمام ( فيكثر ذلك علي ) بحيث أصير مستنكحا ( فقال القاسم بن محمد امض في صلاتك ) ولا تعمل على هذا الوهم ( فإنه لن يذهب عنك حتى تنصرف وأنت تقول ما أتممت صلاتي ) فلا يتهيأ لك أصلا قال ابن عبد البر أردف مالك حديث أبي هريرة بقول القاسم إشارة إلى أنه محمول عنده على المستنكح الذي لا ينفك عنه فلا يعمل عليه
52 العمل في غسل يوم الجمعة ( مالك عن سمي ) بضم المهملة وفتح الميم ( مولى أبي بكر بن عبد الرحمن ) بن الحارث بن هشام ( عن أبي صالح ) ذكوان ( السمان ) بائع السمن ( عن أبي هريرة أن رسول الله قال من اغتسل ) يدخل فيه كل من يصح التقرب منه من ذكر أو أنثى حر أو عبد ( يوم الجمعة غسل الجنابة ) بالنصب نعت لمقدر محذوف أي غسلا كغسل الجنابة وهو قول الأكثر وفي رواية ابن جريج عن سمي عند عبد الرزاق فاغتسل أحدكم كما يغتسل من الجنابة وظاهره أن التشبيه للكيفية لا للحكم وهو كقوله تعالى { وهي تمر مر السحاب } سورة النمل الآية 88 وقيل إشارة إلى الجماع يوم الجمعة ليغتسل فيه من الجنابة والحكمة فيه أن تسكن نفسه في الرواح إلى الصلاة ولا تمتد عينه إلى شيء يراه فيه وأيضا حمل المرأة على الاغتسال ذلك اليوم وعليه حمل قائل ذلك حديث من غسل واغتسل المخرج في السنن على رواية غسل بالتشديد قال النووي ذهب بعض أصحابنا إلى هذا وهو ضعيف أو باطل والصواب الأول وتعقبه الحافظ بأنه حكاه ابن قدامة عن أحمد وثبت أيضا عن جماعة من التابعين وقال القرطبي أنه أنسب الأقوال فلا وجه لادعاء بطلانه وإن كان الأول أرجح ولعله عنى أنه باطل في المذهب
قال السيوطي ويؤيده حديث أيعجز أحدكم أن يجامع أهله في كل يوم جمعة فإن له أجرين اثنين أجر غسله وأجر امرأته أخرجه البيهقي في شعب الإيمان من حديث أبي هريرة
____________________
(1/295)
( ثم راح في الساعة الأولى فكأنما قرب بدنة ) أي تصدق بها متقربا إلى الله تعالى وقيل المراد أن للمبادر في أول ساعة نظير ما لصاحب البدنة من الثواب ممن شرع له القربان لأن القربان لم يشرع لهذه الأمة على الكيفية التي كانت للأمم السابقة
وفي رواية ابن جريج عن سمي فله من الأجر مثل الجزور وظاهره أن الثواب لو تجسد لكان قدر الجزور وقيل ليس المراد بالحديث إلا بيان تفاوت المبادرين إلى الجمعة وأن نسبة الثاني من الأول نسبة البقرة إلى البدنة في القيمة مثلا ويدل عليه أن في مرسل طاوس عند عبد الرزاق كفضل صاحب الجزور على صاحب البقرة
وفي رواية الزهري عند البخاري بلفظ كمثل الذي يهدي بدنة فكان المراد بالقربان في رواية الباب الإهداء إلى الكعبة
قال الطيبي وفي لفظ الإهداء جماع معنى التعظيم للجمعة وأن المبادر إليها كمن ساق الهدي والمراد بالبدنة البعير ذكرا كان أو أنثى والهاء فيه للوحدة لا للتأنيث
وحكى ابن التين أن مالكا كان يتعجب ممن يخص البدنة بالأنثى قال الزهري البدنة لا تكون إلا من الإبل وصح ذلك عن عطاء
وأما الهدي فمن الإبل والبقر والغنم هذا لفظه
وحكى النووي عنه أنه قال البدنة تكون من الإبل والبقر والغنم وكأنه خطأ نشأ عن سقط
وفي الصحاح البدنة ناقة أو بقرة تذبح بمكة سميت بذلك لأنهم كانوا يسمنونها اه
واستدل به على أن البدنة تختص بالإبل لأنها قوبلت بالبقرة عند الإطلاق وقسم الشيء لا يكون قسيمه أشار إلى ذلك ابن دقيق العيد
( ومن راح في الساعة الثانية فكأنما قرب بقرة ) ذكرا أو أنثى فالتاء للوحدة لا للتأنيث
( ومن راح في الساعة الثالثة فكأنما قرب كبشا ) ذكرا ( أقرن ) قال النووي وصفه به لأنه أكمل وأحسن صورة ولأن قرنه ينتفع به
( ومن راح في الساعة الرابعة فكأنما قرب دجاجة ) بفتح الدال ويجوز الكسر والضم وعن محمد بن حبيب أنها بالفتح من الحيوان وبالكسر من الناس
( ومن راح في الساعة الخامسة فكأنما قرب بيضة ) واستشكل التعبير فيها وفي دجاجة بقرب كقوله في رواية ابن شهاب كالذي يهدي لأن الهدي لا يكون منهما وأجاب عياض تبعا لابن بطال بأنه لما عطفه على ما قبله أعطاه حكمه في اللفظ فهو من الاتباع كقوله متقلدا سيفا ورمحا وتعقبه ابن المنير بأن شرط الاتباع أن لا يصرح باللفظ في الثاني فلا يسوغ أن يقال متقلدا سيفا ومتقلدا رمحا والذي يظهر أنه من المشاكلة وإلى ذلك أشار ابن العربي بقوله وهو من تسمية الشيء باسم قرينه
____________________
(1/296)
وقال ابن دقيق العيد قوله قرب بيضة وفي الرواية الأخرى كالذي يهدي يدل على أن المراد بالتقرب الهدي وينشأ منه أن الهدي يطلق على مثل هذا حتى لو التزم هديا هل يكفيه ذلك أو لا اه
والصحيح من المذاهب الأربعة الثاني وهذا ينبني على أن النذر هل يسلك به مسلك جائز الشرع أو واجبه فعلى الأول يكفي أقل ما يتقرب به وعلى الثاني يحمل على أقل ما يتقرب به من ذلك الجنس ويقوي الصحيح أيضا أن المراد بالهدي هنا التصدق وللنسائي من طريق الليث عن ابن عجلان عن سمي زيادة مرتبة بين الدجاجة والبيضة وهي العصفور وله أيضا من طريق عبد الأعلى عن معمر عن الزهري زيادة بطة فقال في الرابعة فكأنما قرب بطة وجعل الدجاجة في الخامسة والبيضة في السادسة لكن خالفه عبد الرزاق فلم يذكرها وهو أثبت منه في معمر قال النووي في الخلاصة هاتان الروايتان وإن صح إسنادهما فهما شاذتان لمخالفتهما الروايات المشهورة
( فإذا خرج الإمام ) في الجامع عما كان مستورا فيه من منزل أو غيره قاله الباجي فلا دليل فيه لما استنبطه الماوردي منه أن الإمام لا يستحب له المبادرة بل يستحب له التأخير لوقت الخطبة قال ويدخل المسجد من أقرب أبوابه إلى المنبر وتعقبه الحافظ بأن ما قاله لا يظهر لإمكان أن يجمع بين الأمرين بأن يبكر ولا يخرج من المكان المعد له في الجامع إلا إذا حضر الوقت أو يحمل على من ليس له مكان معد ( حضرت ) بفتح الضاد أفصح من كسرها ( الملائكة يستمعون الذكر ) ما في الخطبة من المواعظ وغيرها وهم غير الحفظة وظيفتهم كتابة حاضري الجمعة
وفي رواية للشيخين من طريق الزهري عن أبي عبد الله الأعز عن أبي هريرة مرفوعا إذا كان يوم الجمعة وقفت الملائكة على باب المسجد يكتبون الأول فالأول فذكر الحديث إلى أن قال فإذا جلس الإمام طووا الصحف وجاؤوا يستمعون الذكر ونحوه في رواية ابن عجلان عن سمي عند النسائي فكان ابتداء طي الصحف عند ابتداء خروج الإمام وانتهاؤه بجلوسه على المنبر وهو أول سماعهم للذكر
وفي رواية العلاء عن أبيه عن أبي هريرة عند ابن خزيمة على كل باب من أبواب المسجد ملكان يكتبان الأول فالأول فكان المراد بقوله في رواية الزهر على باب المسجد جنس الباب ويكون من مقابلة المجموع بالمجموع فلا حجة فيه لمن أجاز التعبير عن الاثنين بلفظ الجمع
وأخرج أبو نعيم في الحلية عن ابن عمر مرفوعا إذا كان يوم الجمعة بعث الله ملائكة بصحف من نور وأقلام من نور الحديث فبين صفة الصحف ودل على أنهم غير الحفظة والمراد بطي الصحف على صحف الفضائل المتعلقة بالمبادر إلى الجمعة دون غيرها من سماع الخطبة وإدراك الصلاة والذكر والدعاء والخشوع ونحو ذلك فإنه يكتبه الحافظان قطعا
وفي حديث الزهري عند ابن ماجه فمن جاء بعد ذلك فإنما يجيء لحق الصلاة وفي رواية ابن جريج عن سمي زيادة في آخره هي ثم إذا استمع وأنصت غفر له ما بين الجمعتين وزيادة ثلاثة أيام وفي حديث عمرو بن
____________________
(1/297)
شعيب عن أبيه عن جده عند ابن خزيمة فيقول بعض الملائكة لبعض ما حبس فلانا فيقول اللهم إن كان ضالا فاهده وإن كان فقيرا فأغنه وإن كان مريضا فعافه وفي الحديث من الفوائد غير ما تقدم الحض على الغسل يوم الجمعة وفضله وفضل السبق إليها وأنه إنما يحصل لمن جمعهما وعليه يحمل ما أطلقه في باقي الروايات من ترتب الفضل على السبق من غير تقييد بالغسل وفيه أن مراتب الناس في الفضل بحسب أعمالهم وأن القليل من الصدقة غير محتقر في الشرع وأن التقرب بالإبل أفضل من التقرب بالبقر وهو باتفاق في الهدي وفي الضحايا خلاف فالأكثر كذلك
وقال مالك الأفضل في الضحايا الغنم قال أبو عمر لأنه ضحى بكبشين أملحين وأكثر ما ضحى به الكباش وقال تعالى { وفديناه بذبح عظيم } سورة الصافات الآية 107 ولو كان غيره أعظم منه لفدي به ولو لم يكن من فضل الكبش إلا أنه أول قربان تقرب به إلى الله في الدنيا وأنه فدي به نبي كريم من الذبح وقال الله فيه { بذبح عظيم }
ذكر عبد الرزاق مر النعمان بن أبي قطبة على النبي بكبش أعين أقرن فقال ما أشبه هذا الكبش بالكبش الذي ذبحه إبراهيم فاشترى معاذ بن عفراء كبشا أعين أقرن فأهداه إلى النبي فضحى به وقال الزين بن المنير فرق مالك بين التقربين باختلاف المقصودين لأن أصل مشروعية الأضحية التذكير بقضية الذبيح وهو قد فدي بالغنم والمقصود بالهدي التوسعة على المساكين فناسب البدن واختلف في المراد بالساعات فذهب الجمهور وابن حبيب إلى أنها ساعات النهار من أوله فاستحبوا المسير إليها من طلوع الشمس وذهب مالك وأصحابه إلا القليل وإمام الحرمين والقاضي حسين إلى أنها لحظات لطيفة أولها زوال الشمس وآخرها قعود الإمام على المنبر لأن الساعة تطلق على جزء من الزمان غير محدود تقول جئت ساعة كذا
وقوله في الحديث ثم راح يدل على ذلك لأن حقيقة الرواح من الزوال إلى آخر النهار والغدو من أوله إلى الزوال قال تعالى { غدوها شهر ورواحها شهر } سورة سبأ الآية 12 وقال المازري تمسك مالك بحقيقة الرواح وتجوز في الساعة وعكس غيره اه
وقال غيره حملها على ساعات النهار الزمانية المنقسمة إلى اثني عشر جزءا تبعد حالة الشرع عليه لاحتياجه إلى حساب ومراجعة آلات تدل عليه ولأنه قال إذا كان يوم الجمعة قام على كل باب من أبواب المسجد ملائكة يكتبون الأول فالأول فالمهجر إلى الجمعة كالمهدي بدنة الحديث فإن قالوا قد تستعمل الهاجرة في غير موضعها فيجب الحمل عليه جمعا بينه وبين لفظ ساعة
قلنا ليس إخراجها عن ظاهرها بأولى من إخراج الساعة عن ظاهرها فإذا تساويا على زعمكم فمجازنا أرجح لأنه عمل الناس جيلا بعد جيل لم يعرف أن أحدا من الصحابة كان يأتي المسجد لصلاة الجمعة من طلوع الشمس ولا يمكن حمل حالهم على ترك هذه الفضيلة العظيمة وبأنه يلزم عليه إشكال قوي وهو
____________________
(1/298)
صحة الجمعة قبل الزوال لأنه قسم الساعات إلى خمس وعقب بخروج الإمام فيقتضي أنه يخرج في أول الساعة السادسة وهي قبل الزوال وأما زيادة ابن عجلان العصفور في حديث سمي فشاذة كما قال النووي لأن الحفاظ من أصحاب سمي لم يذكروها وقد تعسفوا الجواب عن هذا بما لا يخلو عن نظر وقول الإمام أحمد كراهة مالك التبكير خلاف حديث رسول الله سبحان الله إلى أي شيء ذهب والنبي قال كالمهدي جزورا وكالمهدي كذا مدفوع بقوله أول الحديث المذكور فالمتهجر إلى الجمعة وهذه اللفظة مأخوذة من الهاجرة والهجير وذلك وقت النهوض إلى الجمعة وليس ذلك عند وقت طلوع الشمس لأنه ليس وقت هاجرة ولا هجير
وقول ابن حبيب إنه تحريف في تأويل الحديث ومحال أن تكون ساعات في ساعة واحدة والشمس إنما تزول في الساعة السادسة وهو وقت الأذان وخروج الإمام إلى الخطبة فدل ذلك على أنها ساعات النهار المعروفة فبدأ بأولها فقال من راح في الساعة الأولى فكأنما قرب بدنة ثم قال في الخامسة بيضة فشرح الحديث بين في لفظه ولكنه حرف عن وجهه وشرح بالخلف من القول وبما لا يكون وزهد شارحه بذلك الناس فيما رغبهم فيه النبي وزعم أن ذلك كله يجتمع في ساعة واحدة عند زوال الشمس قال ابن عبد البر هذا تحامل منه على مالك فإنه قد قال ما أنكره وجعله تحريفا في التأويل وخلفا من القول
قال ابن وهب سألت مالكا عن هذا فقال إنما أراد ساعة واحدة تكون فيها هذه الساعات ولو لم يكن كذلك ما صليت الجمعة حتى يكون تسع ساعات وذلك وقت العصر أو قريب منه وقول مالك هو الذي تشهد له الأحاديث الصحيحة مع ما صحبه من عمل المدينة فإن مالكا كان مجالسا لهم ومشاهدا لوقت خروجهم إلى الجمعة فلو كانوا يخرجون إليها مع طلوع الشمس ما أنكره مع حرصه على اتباعهم ثم روى بأسانيده أحاديث تشهد لقول مالك وأطال النفس في ذلك وحديث الباب رواه البخاري عن عبد الله بن يوسف ومسلم عن قتيبة بن سعيد كلاهما عن مالك به
رح 224 ( مالك عن سعيد بن أبي سعيد ) كيسان ( المقبري ) بضم الموحدة وفتحها كان مجاور للمقبرة فنسب إليها المدني التابعي المتفق على توثيقه روى له الجميع كبر واختلط قبل موته بأربع سنين ومات سنة ثلاث وعشرين ومائة وكان سماع مالك ونحوه منه قبل الاختلاط
( عن أبي هريرة أنه كان يقول غسل يوم الجمعة واجب على كل محتلم ) أي بالغ ( كغسل الجنابة ) في الصفة لا في الوجوب لكن على هذا رأى الجمهور أنه سنة مؤكدة وهذا قد رواه مالك موقوفا كما ترى على أبي هريرة وقد حكى ابن المنذر عنه وعن عمار بن ياسر وغيرهما الوجوب
____________________
(1/299)
الحقيقي وهو قول الظاهرية ورواية عن أحمد فلا يؤول قول أبي هريرة لأنه مذهبه قال في التمهيد وقد رفعه رجل لا يحتج به عن عبيد الله بن عمر عن سعيد عن أبي هريرة عن النبي
( مالك عن ابن شهاب عن سالم بن عبد الله ) بن عمر كذا رواه الأكثر عن مالك مرسلا لم يقولوا عن أبيه ورواه روح بن عبادة وجويرية بن أسماء وأبو عاصم النبيل وابن مهدي وإبراهيم بن طهمان ويحيى بن مالك بن أنس وغيرهم عن مالك موصولا فقالوا عن ابن عمر وقد أخرجه البخاري من طريق جويرية بن أسماء عن مالك ومسلم من طريق ابن وهب عن يونس كلاهما عن الزهري عن سالم عن أبيه وكذا وصله معمر عن الزهري عند أحمد وأبو أويس عند قاسم بن أصبغ بذكر ابن عمر
( أنه قال دخل رجل من أصحاب رسول الله ) هو عثمان بن عفان كما سماه ابن وهب وابن القاسم عن مالك في روايتهما للموطأ وكذا سماه معمر عن الزهري عند الشافعي وعبد الرزاق وابن وهب في روايته عن أسامة بن زيد الليثي عن نافع عن ابن عمر وكذا سماه أبو هريرة عند مسلم قال ابن عبد البر لا أعلم خلافا في ذلك ( المسجد يوم الجمعة وعمر بن الخطاب يخطب ) وفي رواية جويرية أن عمر بينما هو قائم في الخطبة إذ دخل رجل من المهاجرين الأولين من أصحاب النبي فناداه عمر ( فقال عمر أية ساعة هذه ) بشد التحتية تأنيث أي يستفهم بها والساعة اسم لجزء من الزمان مقدر ويطلق على الوقت الحاضر وهو المراد هنا وهذا استفهام توبيخ وإنكار كأنه يقول لم تأخرت إلى هذه الساعة وقد ورد التصريح بالإنكار في رواية أبي هريرة بلفظ فقال عمر لم تحتبسون عن الصلاة ولمسلم فعرض به عمر فقال ما بال رجال يتأخرون بعد النداء قال الحافظ والذي يظهر أن عمر قال ذلك كله فحفظ بعض الرواة ما لم يحفظ الآخر ومراد عمر التلميح إلى ساعات التبكير التي وقع الترغيب فيها وأنها إذا انقضت طوت الملائكة الصحف وهذا من أحسن التعريضات وأرشق الكنايات وفهم عثمان ذلك فبادر إلى الاعتذار عن التأخير ( فقال يا أمير المؤمنين انقلبت ) أي رجعت ( من السوق ) روى أشهب عن مالك في العتبية أن الصحابة كانوا يكرهون ترك العمل يوم الجمعة على نحو تعظيم اليهود السبت والنصارى الأحد ( فسمعت النداء ) أي الأذان بين يدي الخطيب وفي رواية جويرية إني شغلت فلم أنقلب إلى أهلي حتى سمعت التأذين ( فما زدت على أن توضأت ) أي لم أشتغل بشيء بعد أن سمعت النداء إلا بالوضوء ( فقال عمر ) إنكار آخر على ترك السنة المؤكدة وهي الغسل ( الوضوء ) بالنصب أي أتتوضأ الوضوء مقتصرا عليه وبالرفع مبتدأ حذف خبره أي تقتصر عليه أو خبر مبتدؤه محذوف أي كفايتك الوضوء
____________________
(1/300)
وقال ابن السيد يروى بالرفع على لفظ الخبر والصواب أن آلوضوء بالمد على لفظ الاستفهام كقوله تعالى { آلله أذن لكم } سورة يونس الآية 59 فهمزة الاستفهام داخلة على همزة الوصل هكذا رواية الموطأ الوضوء بلا واو وفي البخاري من رواية جويرية بن أسما عن مالك فقال والوضوء بالواو بإسقاط لفظ عمر ولمسلم بإثبات عمر والواو وهو بالنصب كما اقتصر عليه النووي عطفا على الإنكار الأول أي والوضوء أيضا اقتصرت عليه أو اخترته دون الغسل والمعنى أما اكتفيت بتأخير الوقت وتفويت الفضيلة حتى تركت الغسل واقتصرت على الوضوء وجوز القرطبي الرفع على أنه مبتدأ حذف خبره أي والوضوء تقتصر عليه وأغرب السهيلي فقال اتفق الرواة على الرفع لأن النصب يخرجه إلى معنى الإنكار يعني والوضوء لا ينكر قال الحافظ وجوابه ما تقدم أي من عطفه على الإنكار الأول والظاهر أن الواو عاطفة
وقال القرطبي هي عوض عن همزة الاستفهام كقراءة ابن كثير / < قال فرعون وآمنتم به > / سورة الأعراف الآية 123 وتعقبه في المصابيح بأن تخفيف الهمزة بإبدالها واوا صحيح في الآية لوقوعها مفتوحة بعد ضمة وأما في الحديث فليس كذلك لوقوعها مفتوحة بعد فتح فلا وجه لإبدالها فيه واوا ولو جعله على حذف الهمزة أي أو تخص الوضوء لجرى على مذهب الأخفش في جواز حذفها قياسا عند أمن اللبس والقرينة الحالية المقتضية للإنكار شاهدة بذلك فلا لبس اه
وهو مبني على إسقاط لفظ عمر كما في رواية البخاري أما على إثباتها كما في مسلم فتوجيه القرطبي وجيه ( أيضا ) مصدر آض يئيض أي عاد ورجع أي ألم يكفك أن فاتك فضل المبادرة إلى الجمعة حتى أضفت إليه ترك الغسل ( و ) الحال أنك ( قد علمت أن رسول الله كان يأمر بالغسل ) كذا في جميع الروايات لم يذكر المأمور إلا أن في رواية جويرية عن نافع عن ابن عمر عند الطحاوي وغيره أن عمر قال أما علمت أنا كنا نؤمر والطحاوي عن ابن عباس أن عمر قال له لقد علمت أنا أمرنا بالغسل قلت أنتم أيها المهاجرون الأولون أم الناس جميعا قال لا أدري رواته ثقات إلا أنه معلول وفي رواية أبي هريرة في الصحيحين وغيرهما أن عمر قال ألم تسمعوا أن رسول الله قال إذا راح أحدكم إلى الجمعة فليغتسل وهذا ظاهر في عدم التخصيص بالمهاجرين الأولين ولم أقف في شيء من الروايات على جواب عثمان عن ذلك والظاهر أنه سكت عنه اكتفاء بالاعتذار الأول لأنه قد أشار إلى أنه كان ذاهلا عن الوقت وأنه بادر عند سماع النداء وإنما ترك الغسل لأنه تعارض عنده إدراك سماع الخطبة والاشتغال بالاغتسال وكل منهما مرغب فيه فآثر سماع الخطبة ولعله كان يرى فرضيته فلذلك آثره قاله الحافظ
قال وفي هذا الحديث من الفوائد القيام في الخطبة وعلى المنبر وتفقد الإمام رعيته وأمره لهم بمصالح دينهم وإنكاره على من أخل منهم بالفضل وإن كان عظيم المحل ومواجهته بالإنكار ليرتدع من دونه بذلك وأن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في أثناء الخطبة لا يفسدها وسقوط الإنصات عن المخاطب بذلك والاعتذار إلى ولاة الأمور وإباحة الشغل والتصرف يوم الجمعة قبل النداء ولو
____________________
(1/301)
أفضى إلى ترك فضيلة البكور إلى الجمعة لأن عمر لم يأمر برفع السوق لأجل هذه القضية واستدل به مالك على أن السوق لا يمنع يوم الجمعة قبل النداء لكونها كانت في زمان عمر والذاهب إليها مثل عثمان وفيه شهود الفضلاء السوق ومعناه التجر فيها وأن فضيلة التوجه إلى الجمعة إنما تحصل قبل التأذين
قال عياض وفيه أن السعي إنما يجب بسماع الأذان وأن شهود الخطبة لا يجب وهو مقتضى قول أكثر المالكية وتعقب بأنه لا يلزم من التأخير إلى سماع النداء فوات الخطبة بل قول عثمان ما زدت على أن توضأت يشعر بأنه لم يفته شيء من الخطبة وعلى أنه فاته شيء منها فلا دلالة فيه على أنه لا يجب شهودها على من تنعقد به الجمعة واستدل به على أن غسل الجمعة واجب لقطع عمر الخطبة وإنكاره على عثمان تركه وهو متعقب لأنه أنكر عليه ترك السنة وهي التبكير إلى الجمعة فيكون الغسل كذلك وعلى أن الغسل ليس شرطا لصحة الجمعة اه
وقال الباجي رأى عمر اشتغاله بسماع الخطبة والصلاة أولى من خروجه للغسل ولذا لم يأمر به ولا أنكر عليه قعوده ويقتضي ذلك إجماع الصحابة على أن غسل الجمعة ليس بواجب
وقال ابن عبد البر قد روي هذا الحديث مرفوعا ثم أخرج من طريق محمد بن أبي عمر العدني قال حدثنا بشر بن السري عن عمر بن الوليد السني عن عكرمة عن ابن عباس قال جاء رجل والنبي يخطب يوم الجمعة فقال له النبي يلهو أحدكم حتى إذا كادت الجمعة تفوته جاء يتخطى رقاب الناس يؤذيهم فقال ما فعلت يا رسول الله ولكن كنت راقدا ثم استيقظت وقمت فتوضأت ثم أقبلت فقال أو يوم وضوء هذا قال أبو عمر كذا روي مرفوعا وهو عندي وهم لا أدري ممن وإنما القصة محفوظة لعمر لا للنبي
( مالك عن صفوان بن سليم ) بضم السين المدني أبي عبد الله الزهري مولاهم تابعي ثقة مفتي عابد مات سنة اثنين وثلاثين ومائة وله اثنان وسبعون سنة
( عن عطاء بن يسار ) بتحتية وخفة المهملة ( عن أبي سعيد ) سعد بن مالك بن سنان ( الخدري ) صحابي ابن صحابي وقد تابع مالكا على روايته الدراوردي عن صفوان أخرجه ابن حبان وخالفهما عبد الرحمن بن إسحاق فرواه عن صفوان عن أبي هريرة أخرجه أبو بكر المروزي في كتاب الجمعة له قاله الحافظ
وقال الدارقطني في العلل رواه عبد الرحمن عن صفوان عن عطاء عن أبي هريرة وأبي سعيد معا ومنهم من قال عنه بالشك ورواه نافع القارىء عن صفوان عن عطاء عن أبي هريرة ووهم فيه والصحيح صفوان عن ابن يسار عن أبي سعيد ( أن رسول الله قال غسل يوم الجمعة ) ظاهر إضافته لليوم حجة لأن الغسل لليوم لا للجمعة وهو قول جماعة ومذهب مالك والشافعي وأبي حنيفة وغيرهم أنه للصلاة لا لليوم وقد روى
____________________
(1/302)
مسلم هذا الحديث بلفظ الغسل يوم الجمعة وكذا رواه الشيخان من وجه آخر عن أبي سعيد وظاهره أنه حيث وجد الغسل فيه كفى لأنه جعل اليوم ظرفا للغسل ويحتمل أن اللام للعهد فتتفق الروايتان ( واجب ) أي مسنون متأكد قال ابن عبد البر ليس المراد أنه فرض بل هو مؤول أي واجب في السنة أو في المروءة أو في الأخلاق الجميلة كقول العرب وجب حقك ثم أخرج بسنده عن أشهب أن مالكا سئل عن غسل يوم الجمعة أواجب هو قال هو حسن وليس بواجب
وأخرج عن ابن وهب أن مالكا سئل عن غسل يوم الجمعة أواجب هو قال هو سنة ومعروف قيل إن في الحديث واجب قال ليس كل ما جاء في الحديث يكون كذلك
( على كل محتلم ) أي بالغ وإنما ذكر الاحتلام لكونه الغالب فيدخل النسائي في ذلك وتفسيره بالبالغ مجاز لأن الاحتلام يستلزم البلوغ والقرينة المانعة عن الحمل على الحقيقة أن الاحتلام إذا كان معه الإنزال موجب للغسل سواء كان يوم جمعة أم لا
ونقل ابن المنذر والخطابي عن مالك فرضية الغسل حقيقة رده عياض وغيره بأن ذلك ليس بمعروف في مذهبه
وقال ابن دقيق العيد نص مالك على وجوبه فحمله من لم يمارس مذهبه على ظاهره وأبى ذلك أصحابه قال وإلى السنية ذهب الأكثرون وهم محتاجون إلى الاعتذار عن مخالفة هذا الظاهر وقد أولوا صيغة الأمر على الندب والوجوب على التأكيد كما يقال إكرامك علي واجب وهو تأويل ضعيف إنما يصار إليه إذا كان المعارض راجحا على هذا الظاهر وأقوى ما عارضوا به حديث من توضأ يوم الجمعة فيها ونعمت ومن اغتسل فالغسل أفضل
ولا يعارض سنده سند هذه الأحاديث قال وربما أولوه تأويلا مستنكرا كمن حمل الوجوب على السقوط
قال الحافظ فأما الحديث فعول على المعارضة به كثير ووجه الدلالة منه قوله فالغسل أفضل فإنه يقتضي اشتراك الوضوء والغسل في أصل الفضل فيستلزم إجزاء الوضوء ولهذا الحديث طرق أشهرها وأقواها رواية الحسن عن سمرة أخرجها أصحاب السنن الثلاثة وابن خزيمة وابن حبان وله علتان إحداهما عنعنة الحسن والأخرى أنه اختلف عليه فيه
وأخرجه ابن ماجه عن أنس والطبراني عن عبد الرحمن بن سمرة والبزار عن أبي سعيد وابن عدي عن جابر وكلها ضعيفة وعارضوا أيضا بأحاديث منها حديث أبي سعيد في الصحيحين من وجه آخر أشهد على رسول الله أنه قال الغسل يوم الجمعة واجب على كل محتلم وأن يستن وأن يمس طيبا إن وجد قال القرطبي ظاهره وجوب الاستنان والطيب لذكرهما بالعاطف والتقدير الغسل واجب والاستنان والطيب كذلك وليسا بواجبين اتفاقا فدل على أن الغسل ليس بواجب إذ لا يصح تشريك ما ليس بواجب مع الواجب بلفظ واحد وسبقه إلى ذلك الطبري والطحاوي وتعقبه ابن الجوزي بأنه لا يمتنع عطف ما ليس بواجب على الواجب لا سيما ولم يقع التصريح بحكم المعطوف
وقال ابن المنير إن سلم أن المراد بالواجب الفرض لم ينفع دفعه بعطفه ما ليس بواجب عليه لإمكان أنه خرج
____________________
(1/303)
بدليل فبقي ما عداه على الأصل على أن دعوى الإجماع في الطيب مردودة فقد روى سفيان بن عيينة في جامعه بإسناد حسن عن أبي هريرة أنه كان يوجب الطيب يوم الجمعة وقال به بعض أهل الظاهر ومنها حديث أبي هريرة مرفوعا من توضأ فأحسن الوضوء ثم أتى الجمعة فاستمع وأنصت غفر له أخرجه مسلم
قال القرطبي ذكر الوضوء وما معه مرتبا عليه الثواب المقتضي للصحة يدل على أن الوضوء كاف وأجيب بأنه ليس فيه نفي الغسل وقد ورد من وجه آخر في الصحيحين بلفظ من اغتسل فيحتمل أن ذكر الوضوء لمن تقدم غسله على الذهاب فاحتاج إلى إعادة الوضوء ومنها حديث ابن عباس أنه سئل عن غسل يوم الجمعة أواجب هو فقال لا ولكنه أطهر لمن اغتسل ومن لم يغتسل فليس بواجب عليه وسأخبركم عن بدء الغسل كان الناس مجهودين يلبسون الصوف ويعملون وكان مسجدهم ضيقا فلما آذى بعضهم بعضا قال أيها الناس إذا كان هذا اليوم فاغتسلوا
قال ابن عباس ثم جاء الله بالخير ولبسوا غير الصوف وكفوا العمل ووسع المسجد أخرجه أبو داود والطحاوي وإسناده حسن لكن الثابت عن ابن عباس خلافه ففي البخاري عن طاوس قلت لابن عباس ذكروا أن النبي قال اغتسلوا يوم الجمعة واغسلوا رؤوسكم وإن لم تكونوا جنبا وأصيبوا من الطيب قال ابن عباس أما الغسل فنعم وما الطيب فلا أدري وعلى تقدير الصحة فالمرفوع منه ورد بصيغة الأمر الدال على الوجوب وأما نفي الوجوب فهو موقوف لأنه من استنباط ابن عباس وفيه نظر إذ لا يلزم من زوال السبب زوال المسبب كما في الرمل والجمار وعلى تسليمه فلمن قصر الوجوب على من به رائحة كريهة أن يتمسك به وهذا الحديث أخرجه البخاري عن عبد الله بن يوسف وعبد الله بن مسلمة عن مالك به ومسلم عن يحيى بلفظ الغسل يوم الجمعة الخ
رح 227 ( مالك عن نافع عن ابن عمر أن رسول الله قال إذا جاء أحدكم ) بإضافة أحد إلى ضمير الجمع وذلك يعم الرجال والنساء والصبيان والمشهور من مذهب مالك وهو رواية ابن القاسم عنه أن الغسل يسن لمن أتى الجمعة ممن تجب عليه أو لا من مسافر أو عبد أو امرأة أو صبي إذا أتوها ولمالك في المختصر أن من لا تلزمه إن حضرها لابتغاء الفضل شرع له الغسل وسائر آداب الجمعة وإن حضرها لأمر اتفاقي أو لمجرد الصلاة فلا
( الجمعة ) أي الصلاة أو المكان الذي تقام فيه وذكر المجيء لكونه الغالب وإلا فالحكم شامل لمن كان مقيم بالجامع
( فليغتسل ) الفاء للتعقيب فظاهره أن الغسل يعقب المجيء وليس بمراد وإنما المراد إذا أراد أحدكم أن يأتي الجمعة فليغتسل رواه بهذا اللفظ الليث عن نافع عند مسلم ونظيره قوله تعالى { إذا ناجيتم الرسول فقدموا بين يدي نجواكم صدقة } سورة المجادلة الآية 12 فإن معناه إذا أردتم المناجاة بلا خلاف ويقوي رواية الليث حديث أبي هريرة السابق من اغتسل يوم الجمعة ثم راح فهو صريح في تأخر الرواح عن الغسل وبهذا علم
____________________
(1/304)
فساد قول من حمله على ظاهره وتمسك به على أن الغسل لليوم لا للصلاة لأن الحديث واحد ومخرجه واحد وقد بين الليث في روايته المراد وقواه حديث أبي هريرة واستدل بمفهوم قوله إذا جاء الجمهور على أن الغسل لا يشرع لمن لم يحضر الجمعة خلافا لأكثر الحنفية وقد صرح بالمفهوم في رواية ابن واقد عن نافع بلفظ ومن لم يأتها فليس عليه غسل كما يأتي
ورواية نافع لهذا الحديث مشهورة جدا وقد اعتنى بتخريج طرقه أبو عوانة في صحيحه فساقه من طريق سبعين نفسا رووه عن نافع وقد تتبعت ما فاته وجمعت ما وقع لي من طرقه في جزء مفرد لغرض اقتضى ذلك فبلغت أسماء من رواه عن نافع مائة وعشرين نفسا فما يستفاد هنا ذكر سبب الحديث ففي رواية إسماعيل بن أمية عن نافع عند أبي عوانة وقاسم بن أصبغ كان الناس يغدون في أعمالهم فإذا كانت الجمعة جاؤوا عليهم ثياب متغيرة فشكوا ذلك إلى رسول الله فقال من جاء منكم الجمعة فليغتسل ومنها ذكر محل القول ففي رواية الحكم بن عيينة عن نافع عن ابن عمر سمعت رسول الله على أعواد هذا المنبر بالمدينة أخرجه يعقوب الحصاص في فوائده من رواية اليسع بن قيس عن الحكم وطريق الحكم عند النسائي وغيره عن شعبة عنه بلفظ حديث الباب إلا قوله جاء فعنده راح ومنها ما يدل على تكرار ذلك ففي رواية صخر بن جويرية عن نافع عن أبي مسلم الكجي بلفظ كان إذا خطب يوم الجمعة قال الحديث ومنها زيادة في المتن ففي رواية عثمان بن واقد عن نافع عن أبي عوانة وابن خزيمة وابن حبان في صحاحهم بلفظ من أتى الجمعة من الرجال والنساء فليغتسل ومن لم يأتها فليس عليه غسل ورجاله ثقات لكن قال البزار أخشى أن يكون عثمان بن واقد وهم فيه
ومنها زيادة في المتن والإسناد أيضا أخرجه أبو داود والنسائي وابن خزيمة وابن حبان وغيرهم من طرق عن مفضل بن فضالة عن عياش بن عباس القتباني عن بكير بن عبد الله الأشج عن نافع عن ابن عمر عن حفصة قالت قال رسول الله الجمعة واجبة على كل محتلم وعلى كل من راح إلى الجمعة الغسل قال الطبراني في الأوسط لم يروه عن نافع بزيادة حفصة إلا بكير ولا عنه إلا عياش تفرد به مفضل قلت رواته ثقات فإن كان محفوظا فهو حديث آخر ولا مانع أن يسمعه ابن عمر من النبي ومن غيره من الصحابة ولا سيما مع اختلاف المتون
قال ابن دقيق العيد في الحديث دليل على تعليق الغسل بالمجيء للجمعة ولقد أبعد الظاهري إبعادا يكاد أن يكون مجزوما ببطلانه حيث لم يشترط تقدم الغسل على صلاة الجمعة حتى لو اغتسل قبل الغروب كفى عنده تعلقا بإضافة الغسل إلى اليوم وقد تبين من بعض الروايات أن الغسل لإزالة الرائحة الكريهة وفهم منه أن المقصود عدم تأذي الحاضرين وذلك لا يتأتى بعد إقامة الجمعة اه
____________________
(1/305)
وقد حكى ابن عبد البر الإجماع على أن من اغتسل بعد الصلاة لم يغتسل للجمعة ولا فعل ما أمر به وادعى ابن حزم أنه قول جماعة من الصحابة والتابعين وأطال في تقرير ذلك بما هو بصدد المنع والرد ويفضي إلى التطويل بما لا طائل تحته ولم يورد عن أحد ممن ذكر التصريح بإجزاء الغسل بعد الجمعة وإنما أورد عنهم ما يدل على أنه لا يشترط اتصاله بالذهاب فأخذه هو منه أنه لا فرق بين ما قبل الزوال وبعده والفرق بينهما ظاهر كالشمس اه ملخصا من فتح الباري والحديث رواه البخاري عن عبد الله بن يوسف عن مالك به وتابعه الليث عن نافع بنحوه عند مسلم ( قال مالك من اغتسل يوم الجمعة أول نهاره وهو يريد بذلك غسل الجمعة فإن ذلك الغسل لا يجزي ) بفتح أوله لا يكفي ( عنه حتى يغتسل لرواحه و ) دليل ( ذلك أن رسول الله قال في حديث ابن عمر الذي رويته عن نافع عنه إذا جاء أحدكم الجمعة فليغتسل ) فعلق الغسل بالمجيء للجمعة فيفيد أن شرطه اتصاله بالذهاب إليها لأن المعلق على شيء إنما يوجد إذا وجد وهذا استدلال جلي وقد وافق مالكا على اشتراط ذلك الليث والأوزاعي وقال الجمهور يجزي من بعد الفجر والأفضل تأخيره وغاية ما استدلوا به حديث اغتسلوا يوم الجمعة وليس بقوي الدلالة لأنه مجمل فحمله على هذا المبين أولى وهو مقتضى النظر أيضا لأن حكمة الأمر به التنظيف لرعاية الحاضرين من التأذي بالروائح الكريهة فلحظ ذلك مالك ومن وافقه فشرط اتصال الغسل بالذهاب ليحصل الأمن مما يغاير التنظيف فدل المعنى على أنه لا يعتد به إذا لم يتصل بالذهاب
قال ابن دقيق العيد والمعنى إذا كان معدوما كالنص قطعا أو ظنا متقاربا للقطع فاتباعه وتعليق الحكم به أولى من اتباع مجرد اللفظ اه
ويقوي ذلك حديث عائشة في الصحيحين قالت كان الناس ينتابون يوم الجمعة من منازلهم ومن العوالي فيأتون في العباء ويصيبهم الغبار فيخرج منهم الريح فأتى رسول الله إنسان منهم وهو عندي فقال لو أنكم تطهرتم ليومكم هذا وفي رواية فقيل لهم لو اغتسلتم يوم الجمعة ( قال مالك ومن اغتسل يوم الجمعة ) سواء كان ( معجلا ) بكسر الجيم أي ذاهبا لها قبل الزوال ولو بكثير مرتكبا للمكره ( أو مؤخرا ) بكسر الخاء أي رائحا لها في الوقت المطلوب لأن المدار إنما هو على اتصاله بالرواح ويجوز فتح الجيم والخاء على أنه صفه مصدر أي غسلا معجلا لكن الأول أنسب بقوله ( وهو ينوي بذلك غسل الجمعة ) جملة حالية لإفادة القيد ( فأصابه ما ينقض وضوءه ) من نواقض الوضوء ( فليس عليه إلا الوضوء وغسله ذلك يجزي عنه ) وقد كان عبد الرحمن بن أبزي الصحابي يغتسل يوم الجمعة ثم يحدث ويتوضأ ولا يعيد الغسل رواه ابن أبي شيبة بإسناد صحيح
____________________
(1/306)
53 ما جاء في الإنصات يوم الجمعة والإمام يخطب أشار بهذا إلى الرد على من جعل وجوب الإنصات من خروج الإمام لأن قوله في الحديث والإمام يخطب جملة حالية تخرج ما قبل خطبته من حين خروجه وما بعده إلى أن يشرع في الخطبة نعم الأفضل أن ينصت لما ورد من الترغيب فيه
رح 228 ( مالك عن أبي الزناد ) بكسر الزاي وخفة النون عبد الله بن ذكوان ( عن الأعرج ) عبد الرحمن بن هرمز هكذا رواه يحيى وجماعة من الرواة ورواه ابن وهب وابن القاسم ومعن سعد بن عفير في الموطأ عن مالك عن ابن شهاب عن سعيد بن المسيب والحديث صحيح من الوجهين وكل من سعيد والأعرج ( عن أبي هريرة ) عبد الرحمن بن صخر أو عمرو بن عامر ( أن رسول الله قال إذا قلت لصاحبك ) الذي تخاطبه إذ ذاك أو جليسك سمي صاحبا لأنه صاحبه في الخطاب أو لكونه الأغلب ( أنصت ) أسكت عن الكلام مطلقا واستمع الخطبة وقول ابن خزيمة عن مكالمة الناس دون ذكر الله تعقب بأنه يلزم منه جواز القراءة والذكر حال الخطبة وهو خلاف الظاهر ويحتاج إلى دليل ولا يلزم من جواز التحية عند من قال بها لدليلها الخاص جواز الذكر مطلقا
( والإمام يخطب ) جملة حالية تفيد أن وجوب الإنصات من الشروع في الخطبة لا من خروج الإمام كما يقوله ابن عباس وابن عمر وأبو حنيفة قاله ابن عبد البر
( يوم الجمعة ) ظرف لقلت ومفهومه أن غير يوم الجمعة بخلاف ذلك ( فقد لغوت ) بالواو ومثله في رواية الزهري عن ابن المسيب عن أبي هريرة في الصحيحين ولمسلم من رواية سفيان عن أبي الزناد وهي لغة أبي هريرة وإنما هي فقد لغوت لكن قال النووي وتبعه الكرماني ظاهر القرآن يقتضيها إذ قال { والغوا } سورة فصلت الآية 26 وهي من لغى يلغي ولو كان يلغوا لقال إلغوا بضم الغين اه
قال النصر بن شميل معنى لغوت خبت من الأجر وقيل بطلت فضيلة جمعتك وقيل صارت جمعتك ظهرا
قال الحافظ ويشهد للثالث ما رواه أبو داود وابن خزيمة من حديث عبد الله بن عمرو مرفوعا ومن لغى وتخطى رقاب الناس كانت له ظهرا قال ابن وهب أحد رواته معناه أجزأت عنه الصلاة وحرم فضيلة الجمعة
ولأحمد من حديث علي مرفوعا ومن قال صه فقد تكلم ومن تكلم فلا جمعة له ولأبي داود ونحوه لأحمد والبزار عن ابن عباس مرفوعا من تكلم يوم الجمعة والإمام يخطب فهو كالحمار يحمل أسفارا والذي يقول له أنصت ليست له جمعة وله شاهد قوي في جامع حماد بن سلمة عن ابن عمر مرفوعا قال العلماء معنى لا جمعة له كاملة للإجماع على إسقاط فرض الوقت عنه
____________________
(1/307)
وحكى بن التين عن بعض من جوز الكلام في الخطبة أنه تأول قوله فقد لغوت أي أمرت بالإنصات من لا يجب عليه وهو جمود شديد لأن الإنصات لم يختلف في مطلوبيته فكيف يكون من أمر بما طلبه الشرع لاغيا بل النهي عن الكلام مأخوذ من الحديث بدلالة الموافقة لأنه إذا جعل قوله أنصت مع كونه أمرا بمعروف لغوا فغيره من الكلام أولى أن يسمى لغوا
ولأحمد من رواية الأعرج عن أبي هريرة في آخر هذا الحديث بعد قوله فقد لغوت عليك بنفسك اه
وقال الباجي معناه المنع من الكلام وأكد ذلك بأن من أمر غيره بالصمت حينئذ فهو لاغ لأنه قد أتى من الكلام بما ينهي عنه كما أن من نهى في الصلاة مصليا عن الكلام فقد أفسد على نفسه صلاته وإنما نص على أن الأمر بالصمت لاغ تنبيها على أن كل مكلم غيره لاغ واللغو رديء الكلام وما لا خير فيه اه
وقال الأخفش اللغو الكلام الذي لا أصل له من الباطل وشبهه وقال الحسن بن عرفة السقط من القول وقيل الميل عن الصواب وقيل الإثم لقوله تعالى { وإذا مروا باللغو مروا كراما } سورة الفرقان الآية 72 وقال الزين بن المنير اتفقت أقوال المفسرين على أن اللغو ما لا يحسن من الكلام وأغرب أبو عبيد الهروي في الغريب فقال معنى لغى تكلم كذا أطلق والصواب التقييد قال الحافظ أقوال أهل اللغة متقاربة المعنى واستدل بالحديث على منع جميع أنواع الكلام حال الخطبة وبه قال الجمهور في حق من يسمعها وكذا الحكم في حق من لا يسمعها عند الأكثر قالوا وإذا أراد الأمر بالمعروف فليجعله بالإشارة وأغرب ابن عبد البر فنقل الإجماع على وجوب الإنصات على من سمعها إلا عن قليل من التابعين ولفظه لا خلاف علمته بين فقهاء الأمصار في وجوب الإنصات على من سمعها في الجمعة وأنه غير جائز أن يقول لمن سمعه من الجهال يتكلم والإمام يخطب أنصت ونحوها آخذا بهذا الحديث
وروي عن الشعبي وناس قليل أنهم كانوا يتكلمون إلا في حين قراءة الإمام في الخطبة خاصة وفعلهم ذلك مردود عند أهل العلم وأحسن أحوالهم أن يقال إنه لم يبلغهم الحديث اه
وللشافعي في المسألة قولان مشهوران وبناهما بعض الأصحاب على الخلاف في أن الخطبتين بدل عن الركعتين أم لا فعلى الأول يحرم لا على الثاني وهو الأصح عندهم فمن ثم أطلق من أطلق منهم إباحة الكلام حتى شنع عليهم من شنع من المخالفين
وعن أحمد أيضا روايتان وعنهما أيضا التفرقة بين من يسمع الخطبة ومن لا يسمعها والذي يظهر أن من نفى وجوبه أراد أنه لا يشترط في صحة الجمعة بخلاف غيره اه
وفيه نظر إذ القائلون بوجوب الإنصات لا يجعلونه شرطا في صحة الجمعة وعلى ما ذكره يكون الخلاف لفظيا وليس كذلك وقد قال هو قبل ذلك كما مر في حديث علي مرفوعا عند أحمد ومن قال صه فقد تكلم ومن تكلم فلا جمعة له ما نصه قال العلماء معناه لا جمعة له كاملة للإجماع على إسقاط فرض الوقت عنه اه
____________________
(1/308)
ثم قال أعني الحافظ ويدل على الوجوب في حق السامع أن في حديث علي المشار إليه آنفا ومن دنا فلم ينصت فإن عليه كفلين من الوزر لأن الوزر لا يترتب على من فعل مباحا ولو كره تنزيها
وأما ما استدل به من أجاز مطلقا من قصة السائل في الاستسقاء ونحوه فيه نظر لأنه استدلال بالأخص على الأعم فيمكن أن يخص عموم الأمر بالإنصات بمثل ذلك كأمر عارض في مصلحة عامة وقد استثنى من الإنصات في الخطبة ما إذا انتهى الخطيب إلى كل ما لم يشرع في الخطبة مثل الدعاء للسلطان مثلا بل جزم صاحب التهذيب بأنه مكروه
وقال النووي محله إذا جازف وإلا فالدعاء لولاة الأمر مطلوب اه
ومحل الترك إذا لم يخف الضرر وإلا فيباح للخطيب إذا خشي على نفسه اه
( مالك عن ابن شهاب عن ثعلبة بن أبي مالك القرظي ) بضم القاف وبالظاء المعجمة حليف الأنصار مختلف في صحبته
قال ابن معين له رؤية وقال ابن سعد قدم أبو مالك واسمه عبد الله بن سام من اليمن وهو من كندة فتزوج امرأة من قريظة فعرف بهم وقال مصعب كان ثعلبة ممن لم يثبت يوم قريظة فترك كما ترك عطية ونحوه وله رواية عند النبي وذكره ابن حيان والعجلي في ثقات التابعين وقال أبو حاتم هو تابعي وحديثه مرسل ورده في الإصابة بأن من يقتل أبوه بقريظة ويكون هو بصدد القتل لولا عدم الإنبات لا يمتنع أن يصح سماعه من النبي ( أنه أخبره أنهم كانوا في زمان عمر بن الخطاب ) أي في خلافته ( يصلون يوم الجمعة ) النوافل ( حتى يخرج عمر فإذا خرج عمر وجلس على المنبر وأذن المؤذنون قال ثعلبة جلسنا نتحدث ) نتكلم بالعلم ونحوه لا بكلام الدنيا
قال ابن عبد البر هذا موضع شبه فيه على بعض أصحابنا وأنكر أن يكون الأذان يوم الجمعة بين يدي الإمام كان في زمن النبي وأبي بكر وعمر وأن ذلك حدث في زمن هشام بن عبد الملك وهذا قول من قل علمه
قال ابن السائب بن يزيد كان النداء يوم الجمعة إذا جلس الإمام على المنبر على عهد النبي وأبي بكر وعمر فلما كان عثمان وكثر الناس زاد النداء الثالث على الزوراء خرجه البخاري وسماه ثالثا باعتبار الإقامة لأنها نداء إلى الصلاة قال وقد رفع الإشكال فيه ابن إسحاق عن الزهري عن السائب قال كان يؤذن بين يدي رسول الله إذا جلس على المنبر يوم الجمعة وأبي بكر وعمر فلما كان عثمان وكثر الناس زاد النداء على الزوراء قال ابن المسيب أراد أن يسعى الناس إلى الجمعة فهذا نص في أن الأذان كان بين يدي الإمام وعليه العمل بالأمصار
( فإذا سكت المؤذنون ) أي فرغوا من أذانهم ( وقام عمر يخطب أنصتنا فلم يتكلم منا أحد ) ذكر
____________________
(1/309)
الإمام هذا تقوية لما فهمه من مفهوم الحديث وهو أن منع الكلام إنما هو إذا خطب لا بمجرد خروجه ( قال ابن شهاب فخروج الإمام يقطع الصلاة ) أي الشروع فيها ( وكلامه يقطع الكلام ) قال ابن عبد البر هذا يدل على أن الأمر بالإنصات وقطع الصلاة ليس برأي وأنه سنة احتج بها ابن شهاب لأنه خبر عن علم علمه لا عن رأي اجتهده بل هو سنة وعمل مستفيض في زمن عمر وغيره
( مالك عن أبي النضر ) بالمعجمة سالم بن أبي أمية المدني ثقة ثبت روى عن ابن عمرو بن أبي أوفى والسائب بن يزيد وكان مالك يصفه بالفضل والعبادة
( مولى عمر بن عبيد الله ) بن معمر التيمي تيم قريش ( عن مالك بن أبي عامر ) الأصبحي جد الإمام من ثقات التابعين
( أن عثمان بن عفان كان يقول في خطبته قلما يدع ) أي يترك ( ذلك القول إذا خطب ) والقول هو ( إذا قام الإمام يخطب يوم الجمعة فاستمعوا وأنصتوا ) وإن لم تسمعوا لنحو صمم أو بعد ( فإن للمنصت الذي لا يسمع من الحظ ) النصيب من الأجر ( مثل ما للمنصت السامع ) قال الداودي يعني إذا لم يفرط في التهجير قال الباجي والظاهر أن أجرهما في الإنصات واحد ويتباين أجرهما في التهجير وتلك قربة أخرى غير الإنصات
( فإذا قامت الصلاة فاعدلوا ) سووا وأقيموا ( الصفوف وحاذوا بالمناكب فإن اعتدال الصفوف من تمام الصلاة ) قال أبو عمر هذا أمر مجمع عليه والآثار فيه كثيرة منها قول أنس أقيمت الصلاة فأقبل علينا النبي بوجهه قبل أن يكبر فقال تراصوا وأقيموا صفوفكم إني لأراكم من وراء ظهري وقوله سووا صفوفكم فإن ذلك من تمام الصلاة وقوله إن الله وملائكته يصلون على الذي يصلون الصفوف
وقال البراء بن عازب كان إذا أقيمت الصلاة مسح صدورنا وقال رصوا المناكب بالمناكب والأقدام بالأقدام فإن الله يحب في الصلاة ما يحب في القتال كأنهم بنيان مرصوص
وتعديل الصفوف من سنة الصلاة
وليس بشرط في صحتها عن الأئمة الثلاثة
وقال أحمد وأبو ثور من صلى خلف الصفوف بطلت صلاته
( ثم لا يكبر ) عثمان ( حتى يأتيه رجال قد وكلهم ) بخفة الكاف وتشديدها ( بتسوية الصفوف
____________________
(1/310)
فيخبرونه أن قد استوت فيكبر ) أراد أن يستوي حالهم فلا يكون الإمام في صلاة والقوم في عمل وفيه جواز الكلام بين الإقامة والإحرام وأنه العمل بالمدينة
( مالك عن نافع أن عبد الله بن عمر رأى رجلين يتحدثان والإمام يخطب يوم الجمعة فحصبهما ) رماهما بالحصباء ( أن اصمتا ) فيه تعليم كيف الإنكار لذلك وأن ذلك لا يفسد عليهما صلاتهما لأنه لم يأمرهما بالإعادة قاله أبو عمر قال عيسى بن دينار ليس العمل على حصبه ولا بأس أن يشير إليهما
قال الباجي مقتضى مذهب مالك أن لا يشير إليهما لأن الإشارة بمنزلة قوله اصمتا وذلك لغو
( مالك أنه بلغه أن رجلا عطس ) بفتحتين من باب ضرب ونصر ( يوم الجمعة والإمام يخطب فشمته إنسان إلى جنبه فسأل عن ذلك سعيد بن المسيب فنهاه عن ذلك وقال لا تعد ) قال ابن عبد البر إنما قال سعيد ذلك للسائل بعد السلام من الصلاة وقد منعه كرد السلام أكثر أهل المدينة ومالك وأبو حنيفة والشافعي في القديم
وقال في الجديد يشمت ويرد السلام لأنه فرض وأكره أن يسلم عليه أحد اه
واستدل في الأم بحديث الحسن البصري رفعه مرسلا إذا عطس الرجل والإمام يخطب يوم الجمعة فشمته ولابن أبي شيبة عن إبراهيم النخعي قال كانوا يردون السلام يوم الجمعة والإمام يخطب ويشمتون العاطس فهذا عاضد المرسل لأن الشافعي إنما يحتج به إذا اعتضد لكن قال الحافظ العراقي مراسيل الحسن عند المحدثين شبه الريح لروايته عن كل أحد
( مالك أنه سأل ابن شهاب عن الكلام يوم الجمعة إذا نزل الإمام عن المنبر قال أن يكبر فقال ابن شهاب لا بأس بذلك ) أي يجوز لفراغ الخطبة التي أمر بالاستماع إليها وعليه العمل والفتيا بالمدينة خلاف ما ذهب إليه العراقيون أخذا من قول بلال للنبي لا تسبقني بآمين وأخذوا منه أنه كان يكبر قبل فراغ بلال من الإقامة والأمر فيه عندي مباح كله قاله أبو عمر
____________________
(1/311)
54 ما جاء فيمن أدرك ركعة يوم الجمعة رح 234 ( مالك عن ابن شهاب أنه كان يقول من أدرك من صلاة الجمعة ركعة فليصل إليها أخرى ) بعد سلام الإمام ( قال ابن شهاب وهي ) أي صلاته إليها أخرى ( السنة ) فإن لم يدرك ركعة صلى أربعا ( قال مالك وعلى ذلك أدركت أهل العلم ببلدنا ) المدينة وبه قال ابن مسعود وابن عمر وأنس وغيرهم من الصحابة والتابعين والليث والشافعي وأحمد ومالك ( و ) دليل ( ذلك ) وبيان قول ابن شهاب هي السنة ( أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال ) كما تقدم مسندا في الوقوت ( من أدرك من الصلاة ركعة فقد أدرك الصلاة ) وهذا عموم يشمل الجمعة وغيرها زاد في رواية إلا أنه يقضي ما فاته خلافا لقول مجاهد وعطاء وجماعة من التابعين من فاتته الخطبة صلى أربعا واحتجوا بالإجماع أن الإمام لو لم يخطب لم يصلوا إلا أربعا
وقال أبو حنيفة وأبو يوسف وجماعة إن أحرم في الجمعة قبل سلام الإمام صلى ركعتين لحديث ما أدركتم فصلوا وما فاتكم فأتموا وقد أدرك جزءا قبل السلام وهو مأمور بالدخول معه والذي فاته ركعتان فيقضيهما لا أربعا
( قال مالك في الذي يصيبه زحام يوم الجمعة فيركع ولا يقدر على أن يسجد حتى يقوم الإمام أو يفرغ الإمام من صلاته أنه إن قدر على أن يسجد إن كان قد ركع فليسجد إذا قام الناس ) وتتم صلاته ( وإن لم يقدر على أن يسجد حتى يفرغ الإمام من صلاته فإنه أحب إلي أن يبتدىء صلاته ظهرا أربعا ) وجوبا لأنه لم يتم له مع الإمام ركعة ولا أدرك معه ركعة فيبني عليها وأحب هنا على معنى اختياره من مذاهب من قبله وذلك واجب عنده وعند أصحابه قاله ابن عبد البر
ما جاء فيمن رعف يوم الجمعة ( قال مالك من رعف ) بفتح العين وضمها ( يوم الجمعة والإمام يخطب فخرج ) لغسل الدم
____________________
(1/312)
( فلم يرجع حتى فرغ الإمام من صلاته فإنه يصلي أربعا ) باتفاق إذ لم يدرك شيئا ( قال مالك في الذي يركع ركعة مع الإمام يوم الجمعة ثم يرعف ) بضم العين وفتحها من بابي نصر ومنع ( فيخرج ) لغسل الدم ( فيأتي ) أي يرجع ( وقد صلى الإمام الركعتين كلتيهما أنه يبني بركعة أخرى ما لم يتكلم ) ولم يطأ نجسا ولم يستدبر بلا عذر ولم يجاوز أقرب مكان ممكن ( قال مالك ليس على من رعف أو أصابه أمر لا بد له من الخروج ) كالحدث والإمام يخطب ( أن يستأذن الإمام يوم الجمعة إذا أراد أن يخرج ) وبه قال جمهور الفقهاء لأنه يشق على الناس خصوصا مع كثرتهم وكبر المسجد وما في الدين من حرج وتأولوا قوله تعالى { وإذا كانوا معه على أمر جامع لم يذهبوا حتى يستأذنوه } سورة النور الآية 62 على السرايا لا تخرج من العسكر إلا بإذن الإمام وقال جماعة من التابعين لا يخرج في الجمعة حتى يستأذن الإمام وتأولوا عليه الآية
وقال ابن سيرين كانوا يستأذنون الإمام يوم الجمعة وهو يخطب في الحدث والرعاف فلما كان زمن زياد كثر ذلك فقال زياد من أخذه مانعه فهو إذن 5664 ما جاء في السعي يوم الجمعة الواجب المستدل عليه قوله تعالى { إذا نودي للصلاة من يوم الجمعة فاسعوا إلى ذكر الله } سورة الجمعة الآية 9 لأن الأمر بالسعي يدل على الوجوب إذ لا يجب إلا إلى واجب والأكثر أنها فرضت بالمدينة ويؤيده أن الآية مدنية
وقال الشيخ أبو حامد فرضت بمكة وهو غريب قال الزين ابن المنير وجه الدلالة من الآية الكريمة على وجوبها مشروعية النداء لها إذ الأذان من خواص الفرائض وكذا النهي عن البيع لأنه لا ينهى عن المباح يعني نهي تحريم إلا إذا أفضى إلى ترك واجب ويضاف إلى ذلك التوبيخ على قطعها
رح 236 ( مالك أنه سأل ابن شهاب عن قول الله عز وجل { يا أيها الذين آمنوا إذا نودي للصلاة } ) أذن لها عند قعود الإمام على المنبر ( من يوم الجمعة ) بيان وتفسير لإذا وقيل من بمعنى في ( فاسعوا إلى ذكر الله ) موعظة الإمام بالخطبة أوالصلاة أو هما معا أي سألته عن معنى فاسعوا ( فقال ابن
____________________
(1/313)
شهاب ) معناه فامضوا لأنه ( كان عمر بن الخطاب يقرؤها إذا نودي للصلاة من يوم الجمعة فامضوا إلى ذكر الله ) والزهري لم يدرك عمر وقد وصله عبد بن حميد في تفسيره أخبرنا عبد الرزاق عن معمر عن الزهري عن سالم عن أبيه قال لقد توفي عمر وما يقرأ هذه الآية التي في سورة الجمعة إلا فامضوا إلى ذكر الله وأخرج مثله عن أبي وابن مسعود وكان يقول لو قرأتها فاسعوا لسعيت حتى يسقط ردائي قال أبو عمر فيه دليل على الاحتجاج بما ليس في مصحف عثمان على جهة التفسير وإن لم يقطع بأنه كتاب الله كالسنن الواردة بنقل الآحاد
وقال الباجي ما جاء من القراءات مما ليس في المصحف يجري عند جماعة من أهل الأصول مجرى الآحاد سواء أسندها أم لم يسندها
وقال آخرون إنما تجري مجرى الآحاد إذا أسندت إلى النبي صلى الله عليه وسلم وإلا فهي بمنزلة قول القارىء لاحتمال أنه أتى بها على وجه التفسير
وقال أبو بكر بن الطيب لا يجوز القراءة بها ولا العمل بمضمونها وهو أبين
( قال مالك وإنما السعي في كتاب الله العمل والفعل ) إن أطلق لغة على ذلك وعلى الإسراع والجري كحديث إذا ثوب بالصلاة فلا تأتوها وأنتم تسعون ( يقول الله تبارك وتعالى وإذا تولى ) انصرف عنك ( سعى في الأرض ) ليفسد فيها ويهلك الحرث والنسل
روى ابن أبي حاتم عن ابن عباس لما أصيبت السرية التي فيها عاصم ومرثد قال رجلان من المنافقين يا ويح هؤلاء المفتونين الذين هلكوا لا هم قعدوا في أهليهم ولا هم أدوا رسالة صاحبهم فأنزل الله { ومن الناس من يعجبك قوله } سورة البقرة الآية 204 الآية
وأخرج ابن جرير عن السدي قال نزلت في الأخنس بن شريق أقبل إلى النبي صلى الله عليه وسلم وأظهر الإسلام فأعجبه ذلك منه ثم خرج فمر بزرع لقوم من المسلمين وحمر فأحرق الزرع وعقر الحمر فأنزل الله الآية لكن تاب الأخنس بعد ذلك وحسن إسلامه وشهد حنينا
( وقال تعالى وأما من جاءك يسعى ) حال من فاعل جاء ( وهو يخشى ) الله حال من فاعل يسعى وهو الأعمى ( وقال ثم أدبر ) فرعون عن الإيمان ( يسعى ) في الأرض بالفساد ( وقال إن سعيكم ) عملكم ( لشتى ) مختلف فعامل للجنة بالطاعة وعامل للنار بالمعصية
( قال مالك فليس السعي الذي ذكر الله في كتابه بالسعي على الأقدام ولا الاشتداد ) أي الجري ( وإنما عنى العمل والفعل ) ومن ذلك أيضا قوله تعالى { ومن أراد الآخرة وسعى لها سعيها }
____________________
(1/314)
( سورة الإسراء الآية 19 ) وقوله { الذين ضل سعيهم في الحياة الدنيا } سورة الكهف الآية 104 وهو كثير في القرآن فتكون آية الجمعة مثله
57 ما جاء في الإمام ينزل بقرية يوم الجمعة في السفر كذا ترجم يحيى ولم يذكر تحتها شيئا جاء في ذلك إنما ذكر الحكم فقط فقال ( قال مالك إذا نزل الإمام بقرية تجب فيها الجمعة والإمام مسافر فخطب وجمع بهم فإن أهل تلك القرية وغيرهم يجمعون معه ) لأن المستحب أن يصلي بهم الإمام دون الوالي لأنه إنما ينوب عنه فإذا حضر كان أحق بالصلاة فإن صلى الوالي جاز كما لو استخلف في وطنه قاله الباجي وأصل ذلك أنه صلى الله عليه وسلم في سفر الهجرة لما خرج من قبا يوم الجمعة حين ارتفع النهار أدركته الجمعة في بني سالم بن عوف فصلاها بمسجدهم فسمي مسجد الجمعة وهي أول جمعة صلاها ذكره ابن إسحاق ( قال مالك وإن جمع الإمام وهو مسافر بقرية لا تجب فيها الجمعة ) على أهلها لفقد شروطها ( فلا جمعة له ولا لأهل تلك القرية ولا لمن جمع معهم من غيرهم وليتمم ) وفي نسخة وليتم بالإدغام ( أهل تلك القرية وغيرهم ممن ليس بمسافر الصلاة ) قال الباجي يحتمل معنيين أحدهما أن يعود إلى الإتمام والثاني أن يتموا على ما تقدم من صلاتهم وهو الظاهر من اللفظ لأنه لو أراد المعنى الأول لقال وليعد جميع المصلين معه فيتم المقيم ويقصر المسافر فلما خص المقيمين بالذكر كان الأظهر أن صلاة المسافرين جائزة وقد اختلف في ذلك فروى ابن القاسم عن مالك في المدونة والمجموعة أن الصلاة لا تجزي الإمام ولا غيره ممن معه
وروى ابن نافع عن مالك تجزيه ولا تجزي أحدا من أهل القرية حتى يتموا عليها ظهرا أربعا
وقال ابن عبد البر مذهب الموطأ أن أهل القرية يبنون على الركعتين اللتين صلوا معه ظهرا وليس عليهم أن يبتدوا ويجزي كل مسافر معه صلاة سفر لا جمعة والصواب رواية ابن نافع وليس جهره من تعمد الفساد لأنه متأول اه
والمعتمد مافي المدونة ( قال مالك ولا جمعة على مسافر ) إجماعا قال صلى الله عليه وسلم ليس على مسافر جمعة
رواه الطبراني في الأوسط عن ابن عمر
____________________
(1/315)
58 ما جاء في الساعة التي في يوم الجمعة رح 238 أي التي يجاب فيها الدعاء
( مالك عن أبي الزناد ) عبد الله بن ذكوان ( عن الأعرج ) عبد الرحمن بن هرمز ( عن أبي هريرة أن رسول الله ذكر يوم الجمعة فقال فيه ساعة ) أبهمها هنا كليلة القدر والاسم الأعظم والرجل الصالح حتى تتوفر الدواعي على مراقبة ذلك اليوم وقد ورد إن لربكم في أيام دهركم نفحات ألا فتعرضوا لها ويوم الجمعة من جملة تلك الأيام فينبغي أن يكون العبد في جميع نهاره متعرضا لها بإحضار القلب وملازمة الذكر والدعاء والنزوع عن وساوس الدنيا فعساه أن يحظى بشيء من تلك النفحات
( لا يوافقها ) أي لا يصادفها وهو أعم من أن يقصد لها أو يتفق وقوع الدعاء فيها ( عبد مسلم وهو قائم ) جملة اسمية حالية ( يصلي ) جملة فعلية حالية ( يسأل الله شيئا ) مما يليق أن يدعو به المسلم
وللبخاري في الطلاق عن ابن سيرين ومسلم عن محمد بن زياد كلاهما عن أبي هريرة يسأل الله خيرا والجمل صفات للمسلم أعربت أحوالا ويحتمل أن يكون يصلي حالا منه لاتصافه بقائم ويسأل حال مرادفة أو متداخلة
( إلا أعطاه إياه ) ولأحمد من حديث سعد بن عبادة ما لم يسأل إثما أو قطيعة رحم وهو نحو خيرا والقطيعة من الإثم فهو من عطف الخاص على العام للاهتمام به وأفاد ابن عبد البر أن قوله قائم يصلي سقط من رواية أبي مصعب وابن أبي أويس ومطرف والتنيسي وقتيبة فقالوا وهو يسأل الله فيها شيئا إلا أعطاه وبعضهم يقول أعطاه إياه وأثبتها الباقون قال وهي زيادة محفوظة عن أبي الزناد من رواية مالك وورقاء وغيرهما عنه
وكذا رواه ابن سيرين عن أبي هريرة
قال الحافظ وحكى أبو محمد بن السيد عن محمد بن وضاح أنه كان يأمر بحذفها من الحديث وكأن سبب ذلك أنه يشكل على أصح الأحاديث الواردة في تعيين هذه الساعة وهما حديثان أحدهما أنها من جلوس الخطيب على المنبر إلى انصرافه من الصلاة والثاني أنها من بعد العصر إلى غروب الشمس وقد احتج أبو هريرة على ابن سلام لما ذكر له القول الثاني بأنه ليست ساعة صلاة وقد ورد النص بالصلاة فأجابه بالنص الآخر أن منتظر الصلاة في حكم المصلي فلو كان قوله قائم يصلي عند أبي هريرة ثابتا لاحتج به لكن سلم له الجواب وارتضاه وأفنى به بعده وأما الإشكال على الحديث الأول فمن جهة أنه يتناول حال الخطبة كله وليست صلاة على الحقيقة وقد أجيب عن الإشكال بحمل الصلاة على الدعاء والانتظار وبحمل القيام على الملازمة أو
____________________
(1/316)
المواظبة ويؤيد ذلك أن حال القيام في الصلاة غير حال السجود والركوع والتشهد مع أن السجود مظنة إجابة الدعاء فلو كان المراد بالقيام حقيقته لأخرجه فدل على أن المراد مجاز القيام وهو المواظبة ومنه قوله تعالى { إلا ما دمت عليه قائما } سورة آل عمران الآية 75 فعلى هذا يكون التعبير عن المصلي بالقائم من باب التعبير عن الكل بالجزء والنكتة فيه أنه أشهر أحوال الصلاة اه
ولا يظهر قوله فعلى هذا لأن الحديث جمع بينهما فقال وهو قائم يصلي ( وأشار رسول الله بيده يقللها ) ترغيبا فيها وحضا عليها ليسارة وقتها وغزارة فضلها قاله الزين بن المنير وللبخاري من طريق سلمة بن علقمة عن ابن سيرين عن أبي هريرة وضع أنملته على بطن الوسطى والخنصر قلنا يزهدها وبين أبو مسلم الكجي أن الذي وضع هو بشر بن المفضم راويه عن سلمة بن علقمة وكأنه فسر الإشارة بذلك وأنها ساعة لطيفة تنتقل ما بين وسط النهار إلى قرب آخره وبهذا يحصل الجمع بينه وبين قوله يزهدها أي يقللها
ولمسلم في رواية محمد بن زياد عن أبي هريرة وهي ساعة خفيفة
وللطبراني في الأوسط في حديث أنس وهي قدر هذا يعني قبضه وفي الحديث فضل يوم الجمعة لاختصاصه بساعة الإجابة وأنها أفضل ساعاته
قال الباجي والفضائل لا تدرك بقياس وإنما فيها التسليم وفيه فضل الدعاء والإكثار منه قال الزين بن المنير وإذا علم أن فائدة إبهام هذه الساعة وليلة القدر بعث الدواعي على الإكثار من الصلاة والدعاء ولو بين لاتكل الناس على ذلك وتركوا ما عداها فالعجب بعد ذلك ممن يجتهد في طلب تحديدها اه
فإن قيل ظاهر الحديث حصول الإجابة لكل داع بشرطه مع أن الزمان يختلف باختلاف البلاد والمصلي فيتقدم بعض على بعض وساعات الإجابة متعلقة بالوقت فكيف تتفق مع الاختلاف أجيب باحتمال أن ساعة الإجابة متعلقة بفعل كل مصل كما قيل نظيره في ساعة الكراهة ولعل هذا فائدة جعل الوقت الممتد مظنة لها وإن كانت هي خفيفة ويحتمل أن يكون عبر عن الوقت بالفعل فيكون التقدير وقت جواز الخطبة أو الصلاة ونحو ذلك
واستدل بالحديث على بقاء الإجمال بعد النبي وتعقب بأن الخلاف في بقاء الإجمال في الأحكام الشرعية لا في الأمور الوجودية كوقت الساعة فهذا لا خلاف في إجماله والحكم الشرعي المتعلق بساعة الجمعة وليلة القدر وهو تحصيل الأفضلية يمكن الوصول إليه والعمل بمقتضاه باستيعاب اليوم والليلة فلم يبق في الحكم الشرعي إجمال
وهذا الحديث رواه البخاري عن القعنبي ومسلم عن يحيى وقتيبة بن سعيد الثلاثة عن مالك به
ثم ذكر الإمام حديثا فيه بيان الساعة المبهمة في الأول وذلك من حسن التصنيف فقال ( مالك عن يزيد ) بتحتية أوله ( ابن عبد الله ) بن أسامة ( بن الهاد ) فنسب أبوه إلى جده الليثي أبي
____________________
(1/317)
عبد الله المدني روى عن عمير مولى آبي اللحم وثعلبة بن أبي مالك وخلق وعنه مالك والثوري وآخرون وثقة النسائي وابن معين وابن سعد وروى له الستة مات بالمدينة سنة تسع وثلاثين ومائة قال ابن عبد البر لا أعلم أحدا ساق هذا الحديث أحسن سياقه من يزيد بن الهاد ولا أتم معنى فيه منه إلا أنه قال فيه فلقيت بصرة بن أبي بصرة ولم يتابعه أحد عليه وإنما المعروف فلقيت أبا بصرة
( عن محمد بن إبراهيم بن الحارث التيمي ) من تيم قريش ( عن أبي سلمة بن عبد الرحمن بن عوف ) القرشي الزهري المدني ( عن أبي هريرة أنه قال خرجت إلى الطور ) قال الباجي هو لغة كل جبل إلا أنه في الشرع جبل بعينه وهو الذي كلم فيه موسى وهو الذي عنى أبو هريرة ( فلقيت كعب الأحبار ) جمع حبر بكسر الحاء وفتحها ويضاف إليه كالأول إما لكثرة كتابته بالحبر أو معناه ملجأ العلماء وقول المجد كعب الحبر ولا تقل الأحبار فيه نظر فقد أثبته غير واحد ويكفي قول مثل أبي هريرة كعب الأحبار وهو كعب بن ماتع بفوقية الحميري أدرك الزمن النبوي وسلم في خلافة عمر على المشهور ( فجلست معه فحدثني عن التوراة وحدثته عن رسول الله فكان فيما حدثته أن قلت قال رسول الله خير يوم ) قال القرطبي خير وشر يستعملان للمفاضلة ولغيرها فإذا كانتا للمفاضلة فأصلهما أخير وأشرر على وزن أفعل وهي هنا للمفاضلة غير أنها مضافة لنكرة موصوفة بقوله ( طلعت عليه الشمس يوم الجمعة ) استدل به على أنه أفضل من يوم عرفة والأصح أن يوم عرفة أفضل وجمع بأنه أفضل أيام السنة ويوم الجمعة أفضل أيام الأسبوع ( فيه خلق آدم ) في آخر ساعة ( وفيه أهبط من الجنة ) ولمسلم من رواية أبي الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة أنه قال خير يوم طلعت عليه الشمس يوم الجمعة فيه خلق آدم وفيه أدخل الجنة وفيه أخرج منها ولا تقوم الساعة إلا في يوم الجمعة وله من وجه آخر عن أبي هريرة وخلق آدم في آخر ساعة من يوم الجمعة قال الحافظ ابن كثير فإن كان يوم خلقه يوم إخراجه وقلنا الأيام الستة كهذه الأيام فقد أقام في الجنة بعض يوم من أيام الدنيا وفيه نظر وإن كان إخراجه في غير اليوم الذي خلق فيه وقلنا أن كل يوم بألف سنة كما قال ابن عباس ومجاهد والضحاك واختاره ابن جرير فقد لبث هناك مدة طويلة اه
( وفيه تيب عليه ) بالبناء للمفعول والفاعل معلوم ( وفيه مات ) وله ألف سنة كما في حديث أبي هريرة وابن عباس مرفوعا وقيل إلا سبعين وقيل إلا ستين وقيل إلا أربعين قيل بمكة ودفن بغار أبي
____________________
(1/318)
قبيس وقيل عند مسجد الخيف وقيل بالهند وصححه ابن كثير وقيل بالقدس رأسه عند الصخرة ورجلاه عند مسجد الخليل
( وفيه ) ينقضي أجل الدنيا و ( تقوم الساعة ) أي القيامة وفيه يحاسب الله الخلق ويدخل أهل الجنة الجنة وأهل النار النار
وقول القاضي عياض الظاهر أن هذه القضايا المعدودة ليست لذكر فضيلته لأن الإخراج من الجنة وقيام الساعة لا يعد فضيلة وإنما هو بيان لما وقع فيه من الأمور العظام وما سيقع ليتأهب العبد فيه بالأعمال الصالحة لنيل رحمة الله تعالى ودفع نقمته مردود بقول ابن العربي في الأحوذي الجميع من الفضائل وخروج آدم من الجنة سبب لوجود الذرية وهذا النسل العظيم ووجود المرسلين والأنبياء والأولياء والصالحين ولم يخرج منها طردا بل لقضاء أوطاره ثم يعود إليها وأما قيام الساعة فسبب لتعجيل جزاء النبيين والصديقين والأولياء وغيرهم وإظهار كرامتهم وشرفهم ( وما من دابة إلا وهي مصيخة ) بالصاد المهملة والخاء المعجمة أي مستمعة مصغية وروي بسين بدل الصاد وهما بمعنى قال ابن الأثير والأصل الصاد ( يوم الجمعة من حين تصبح حتى تطلع الشمس شفقا ) خوفا ( من الساعة ) كأنها أعلمت أنها تقوم يوم الجمعة فتخاف من قيامها كل جمعة وفيه أنها إذا طلعت عرفت الدواب أنه ليس ذلك اليوم ففيه أن قيامها بين الصبح وطلوع الشمس وليس فيه علم متى تقوم لأن يوم الجمعة متكرر مع أيام الدنيا وقد قال تعالى { إنما علمها عند ربي } سورة الأعراف الآية 187 وقال { لا تأتيكم إلا بغتة } سورة الأعراف الآية 187 وقال لجبريل ما المسؤول عنها بأعلم من السائل ( إلا الجن والإنس ) قال الباجي استثناء من الجنس لأن اسم الدابة يقع على كل ما دب ودرج قيل وجه عدم إشفاقهم أنهم علموا أن بين يدي الساعة شروطا ينتظرونها وليس بالبين لأنا نجد منهم من لا يصيخ ولا علم له بالشروط وقد كان الناس قبل أن يعلموا بالشروط لا يصيخون
قال ابن عبد البر وفيه أن الجن والإنس لا يعلمون من أمر الساعة ما يعرفه غيرهم من الدواب وهذا أمر يقصر عنه الفهم
وقال الطيبي وجه إصاخة كل دابة وهي لا تعقل أن الله يلهمها ذلك ولا عجب عند قدرة الله سبحانه وحكمة الإخفاء عن الثقلين أنهم لو كوشفوا بذلك اختلفت قاعدة الابتلاء والتكليف وحق القول عليهم ووجه آخر أنه تعالى يظهر يوم الجمعة من عظائم الأمور وجلائل الشؤون ما تكاد الأرض تميد بها فتبقى كل دابة ذاهلة دهشة كأنها مصيخة للرهب الذي داخلها شفقا لقيام الساعة ( وفيه ساعة لا يصادفها ) يوافقها ( عبد مسلم ) قصدها أو اتفق له وقوع الدعاء فيها ( وهو يصلي يسأل الله شيئا ) يليق بالمسلم سؤاله وفي رواية خيرا ( إلا أعطاه إياه ) ولابن ماجه من حديث أبي أمامة ما لم يسأل حراما ( قال كعب ذلك في كل سنة يوم فقلت بل في كل جمعة ) للنص النبوي ( فقرأ كعب التوراة
____________________
(1/319)
فقال صدق رسول الله صلى الله عليه وسلم ) قال أبو عمر فيه أن العالم يخطي وربما قال على أكثر ظنه فيخطيه ظنه وأن العالم إذا رد عليه (1) *
وقال ابن الربيع شهد فتح مصر واختط بها دارا ولهم عنه عشرة أحاديث وفي الإصابة في الحاء المهملة حميل بالتصغير ابن بصرة الغفاري قال علي بن المديني سألت شيخا من غفار هل يعرف فيكم جميل بن بصرة قلته بفتح الجيم قال صحفت يا شيخ إنما هو حميل بالتصغير والمهملة هو جد هذا الغلام وأشار إلى غلام معه وقال مصعب الزبيري حميل وبصرة وجده أبو بصرة صحابة
قال ابن السكن شهد جده أبو بصرة خيبر مع النبي وحميل يكنى أبا بصرة أيضا ( فقال من أين أقبلت فقلت من الطور فقال لو أدركتك قبل أن تخرج إليه ما خرجت سمعت رسول الله يقول لا تعمل المطي ) أي لا تسير ويسافر عليها
وفي الصحيحين من وجه آخر عن أبي هريرة وأبي سعيد لا تشد الرحال ( إلا إلى ثلاثة مساجد ) استثناء مفرغ أي إلى موضع للصلاة فيه إلا لهذه الثلاثة وليس المراد أنه لا يسافر أصلا إلا لها
قال ابن عبد البر وإن كان أبو بصرة رآه عاما فلم يره أبو هريرة إلا في الواجب من النذر وأما في التبرر كالمواضع التي يتبرك بشهودها والمباح فكزيارة الأخ في الله وليس بداخل في النهي ويجوز أن خروج أبي هريرة إلى الطور لحاجة عنت له
وقال السبكي ليس في الأرض بقعة لها فضل لذاتها حتى يسافر إليها لذلك الفضل غير هذه الثلاثة وأما غيرها فلا يسافر إليها لذاتها بل لمعنى فيها من علم أو جهادا أونحو ذلك فلم تقع المسافرة إلى المكان بل إلى من في ذلك المكان ( إلى المسجد الحرام ) بدل بإعادة الجار لأن الحج إليه قال تعالى { ولله على الناس حج البيت } سورة آل عمران الآية 97 وإلى مسجدي هذا لأنه أسس على التقوى ( وإلى مسجد إيلياء ) بكسر الهمزة وإسكان التحتية ولام مكسورة فتحتية فألف ممدود وحكى قصره وشد الياء بيت المقدس معرب ( أو ) قال إلى ( بيت المقدس ) بدل مسجد إيليا ( يشك ) الراوي في اللفظ الذي قاله وإن كان
____________________
1* طلب التثبت فيه ( قال أبو هريرة فلقيت بصرة بن أبي بصرة الغفاري ) بفتح الموحدة وسكون الصاد المهملة صحابي ابن صحابي والمحفوظ أن الحديث لوالده أبي بصرة حميل بضم الحاء المهملة مصغرا ابن بصرة ولذا قال ابن عبد البر الصواب فلقيت أبا بصرة قال والغلط من يزيد لا من مالك قال المزي في التهذيب له هذا الحديث الواحد وذكره ابن سعد فيمن نزل مصر من الصحابة وقال هو وأبوه وابنه صحبوا النبي ورووا عنه وتوفي بمصر ودفن بالمقطم
(1/320)
المعنى واحدا وفي رواية الصحيحين والمسجد الأقصى قال البيضاوي لما كان ما عدا الثلاثة من المساجد متساوية الأقدار في الشرف والفضل وكان التنقل والارتحال لأجلها عبثا ضائعا نهى عنه لأنه ينبغي للإنسان أن لا يشتغل إلا بما فيه صلاح دنيوي أو فلاح أخروي
قال والمقتضى لشرف الثلاثة أنها أبنية الأنبياء ومتعبداتهم
قال الطيبي وأخرج النهي مخرج الإخبار لأنه أبلغ أي لا ينبغي ولا يستقيم ذلك
( قال أبو هريرة ثم لقيت عبد الله بن سلام ) بالتخفيف الإسرائيلي أبا يوسف حليف بني الخزرج قيل كان اسمه الحصين فسماه النبي عبد الله مشهور له أحاديث وفضل مات بالمدينة سنة ثلاث وأربعين
( فحدثته بمجلسي مع كعب الأحبار وما حدثته ) أنا ( به ) وفي نسخة وما حدثنيه ( في يوم الجمعة فقلت قال كعب ذلك في كل سنة قال عبد الله بن سلام كذب كعب ) أي غلط ومنه قول عبادة في الموطأ كذب أبو محمد وفيه أن من سمع الخطأ وجب عليه إنكاره ورده على كل من سمعه إذا كان عنده في رده أصل صحيح قاله ابن عبد البر
( فقلت ثم قرأ كعب التوراة فقال بل هي في كل جمعة فقال عبد الله بن سلام صدق كعب ) لأنه الواقع قال أبو عمر فيه دليل على ما كانوا عليه من إنكار ما يجب إنكاره والرجوع إلى الحق
( ثم قال عبد الله بن سلام قد علمت أية ساعة هي ) فيه دليل على أن للعالم أن يقول قد علمت كذا إذا لم يكن على سبيل الفخر والسمعة وما الفخر بالعلم إلا تحدث بنعمة الله تعالى قاله ابن عبد البر
( قال أبو هريرة فقلت له أخبرني بها ولا تضن علي ) أي لا تبخل بفتح الضاد وكسرها كما في القاموس وغيره
( فقال عبد الله بن سلام هي آخر ساعة في يوم الجمعة ) وروى ابن ماجه من طريق أبي النضر عن أبي سلمة عن عبد الله بن سلام قال قلت ورسول الله جالس إنا لنجد في كتاب الله أن في الجمعة ساعة فقال أو بعض ساعة قلت نعم أو بعض ساعة الحديث وفيه قلت أي ساعة فذكره قال الحافظ وهذا يحتمل أن قائل قلت عبد الله بن سلام فيكون مرفوعا ويحتمل أنه أبو سلمة فيكون موقوفا وهو الأرجح لتصريحه في رواية يحيى بن أبي كثير عن أبي سلمة بأن ابن سلام لم يذكر النبي في الجواب أخرجه ابن أبي خيثمة نعم رواه ابن جرير من طريق العلاء بن عبد
____________________
(1/321)
الرحمن عن أبيه عن أبي هريرة مرفوعا أنها آخر ساعة بعد العصر يوم الجمعة ولم يذكر القصة ولا ابن سلام ورواه أبو داود والنسائي والحاكم بإسناد حسن عن جابر مرفوعا وفي أوله إن النهار ثنتا عشرة ساعة ( قال أبو هريرة فقلت وكيف يكون آخر ساعة في يوم الجمعة وقد قال رسول الله لا يصادفها عبد مسلم وهو يصلي وتلك ساعة لا يصلي فيها ) للنهي عن ذلك ( فقال عبد الله بن سلام ألم يقل رسول من جلس مجلسا ينتظر الصلاة فهو في صلاة ) أي في حكمها ( حتى يصلي قال أبو هريرة فقلت بلى ) أي بل قال ذلك ( قال فهو ذلك ) أي مثله قال السيوطي هذا مجاز بعيد ويوهم أن انتظار الصلاة شرط في الإجابة ولأنه لا يقال في منتظر الصلاة قائم يصلي وإن صدق أنه في صلاة لأن لفظ قائم يشعر بملابسة الفعل اه
لكن بعد ثبوت الحديث عن النبي لا يليق التشغيب عليه بمثل هذا لا سيما وقد تناظر فيه الصحابيان فتعذر حمل يصلي على الحقيقة وقد أطبق البلغاء على المجاز أبلغ منها ولا يوهم حمله عليه أن الانتظار شرط في الإجابة لأنه لم يعلق على ذلك وقائم وإن أشعر بملابسة الفعل لكنه يطلق على من عزم على التلبس بالفعل ولا ريب أن الداعي في آخر ساعة عازم على صلاة المغرب وقد ذهب جمع إلى ترجيح قول ابن سلام هذا فحكى الترمذي عن أحمد أنه قال أكثر الأحاديث عليه
وقال ابن عبد البر إنه أثبت شيء في هذا الباب
وروى سعيد بن منصور بإسناد صحيح إلى أبي سلمة بن عبد الرحمن أن ناسا من الصحابة اجتمعوا فتذاكروا ساعة الجمعة ثم افترقوا فلم يختلفوا أنها آخر ساعة من يوم الجمعة ورجحه كثير من الأئمة أيضا كأحمد وإسحاق بن راهويه والطرطوشي من أئمة المالكية وحكى العلائي أن شيخه الزملكاني شيخ الشافعية في وقعته كان يختاره ويحكيه عن نص الشافعي وذهب آخرون إلى ترجيح حديث أبي موسى الذي رواه مسلم وأبو داود من طريق مخرمة بن بكير عن أبيه عن أبي بردة بن أبي موسى عن أبيه سمعت رسول الله يقول هي ما بين أن يجلس الإمام إلى أن تنقضي الصلاة
وروى البيهقي أن مسلما قال حديث أبي موسى أجود شيء في هذا الباب وأصحه وبذلك قال البيهقي وابن العربي وجماعة
وقال القرطبي هو نص في موضع الخلاف فلا يلتفت إلى غيره
وقال النووي هو الصحيح بل الصواب وجزم في الروضة بأنه الصواب ورجح أيضا بكونه مرفوعا نصا وفي أحد الصحيحين وأجاب الأولون بأن حديث مالك هذا صحيح على شرط الشيخين رواه أحمد وأبو داود والنسائي
____________________
(1/322)
والترمذي وقال صحيح وصححه ابن خزيمة وابن حبان والحاكم وقال على شرطهما وسلمه الذهبي وورد تعيين الساعة بأنها آخر ساعة مرفوعا نصا كما مر قال الحافظ والترجيح بما في الصحيحين أو أحدهما إنما هو حيث لا يكون مما انتقده الحفاظ كحديث أبي موسى هذا فإنه أعل بالانقطاع والاضطراب أما الانقطاع فلأن مخرمة بن بكير لم يسمع من أبيه قاله أحمد عن حماد بن خالد عن مخرمة نفسه وكذا قال سعيد بن أبي مريم عن موسى بن سلمة عن مخرمة وزاد إنما هي كتب كانت عندنا
وقال علي بن المديني لم أسمع أحدا من أهل المدينة يقول عن مخرمة أنه قال في شيء من حديثه سمعت أبي
ولا يقال مسلم يكتفي في المعنعن بإمكان اللقاء مع المعاصرة وهو كذلك
لأنا نقول وجود التصريح عن مخرمة بأنه لم يسمع من أبيه كاف في دعوى الانقطاع وأما الاضطراب فقد رواه أبو إسحاق وواصل الأحدب ومعاوية بن قرة وغيرهم عن أبي بردة من قوله وهؤلاء من أهل الكوفة وأبو بردة كوفي فهم أعلم بحديثه من بكير المدني وهم عدد وهو واحد وأيضا فلو كان عند أبي بردة مرفوعا لم يفت فيه برأيه بخلاف المرفوع ولهذا جزم الدارقطني بأن الموقوف هو الصواب وسلك صاحب الهدى مسلكا آخر فاختار أن ساعة الإجابة منحصرة في أحد الوقتين المذكورين وأن أحدهما لا يعارض الآخر لاحتمال أن يكون دل على أحدهما في وقت وعلى الآخر في وقت آخر وهذا كقول ابن عبد البر الذي ينبغي الاجتهاد في الدعاء في الوقتين المذكورين وسبق إلى نحو ذلك الإمام أحمد وهو أولى في طريق الجمع ذكره في فتح الباري بعد أن بسط الكلام على الأقوال فنذكره وإن طال لفوائده لأنه كمؤلف مستقل
( قال رحمه الله تعالى ) اختلف أهل العلم من الصحابة والتابعين ومن بعدهم في هذه الساعة هل هي باقية أو رفعت وعلى البقاء هل هي في كل جمعة أو جمعة واحدة من كل سنة وهل هي في وقت من اليوم معين أو مبهم وعلى التعيين هل تستوعب الوقت أو تبهم فيه وعلى الإبهام ما ابتداؤه وما انتهاؤه وعلى كل ذلك هل تستمر أو تنتقل وعلى الانتقال هل تستغرق اليوم أو بعضه وها أنا أذكر تلخيص ما اتصل إلي من الأقوال مع أدلتها ثم أعود إلى الجمع بينها أو الترجيح
( فالأول ) أنها رفعت حكاه ابن عبد البر عن قوم وزيفه وقال عياض رده السلف على قائله وروى عبد الرزاق عن ابن جريج أخبرني داود بن أبي عاصم عن عبد الله بن بخنس مولى أبي معاوية قال قلت لأبي هريرة إنهم زعموا أن الساعة التي يستجاب فيها الدعاء رفعت فقال كذب من قال ذلك قلت فهي في كل جمعة قال نعم إسناده قوي
وفي الهدي إن أراد قائله أنها كانت معلومة فرفع علمها عن الأمة فصارت مبهمة احتمل وإن أراد أن حقيقتها رفعت فهو مردود على قائله
( الثاني ) أنها موجودة لكن في جمعة واحدة من كل سنة قاله كعب الأحبار لأبي هريرة فرده عليه فرجع إليه رواه الموطأ وأصحاب السنن
( الثالث ) أنها مخفية في جميع اليوم كما أخفيت ليلة القدر في العشر روى ابن خزيمة والحاكم
____________________
(1/323)
عن أبي سلمة سألت أبا سعيد عن ساعة الجمعة فقال سألت النبي عنها فقال أعلمتها ثم أنسيتها كما أنسيت ليلة القدر
وروى عبد الرزاق عن معمر أنه سأل الزهري فقال لم أسمع فيها بشيء إلا أن كعبا كان يقول لو أن إنسانا قسم جمعة في جمع لآتى على تلك الساعة
قال ابن المنذر معناه أنه يبدأ فيدعو في جمعة من الجمع من أول النهار إلى وقت معلوم ثم في جمعة أخرى يبتدىء من ذلك الوقت إلى وقت آخر حتى يأتي على النهار قال وكعب هذا هو كعب الأحبار قال وروينا عن ابن عمر أنه قال إن طلب حاجة في يوم ليسير قال ومعناه أنه ينبغي المداومة على الدعاء في يوم الجمعة كله ليمر بالوقت الذي تستجاب فيه الدعاء اه
والذي قاله ابن عمر يصلح لمن يقوى على ذلك وإلا فالذي قاله كعب سهل على كل أحد وقضية ذلك أنهما كانا يريان أنها غير معينة وهو قضية كلام جمع كالرافعي وصاحب المغني وغيرهما حيث قالوا ويستحب أن يكثر من الدعاء يوم الجمعة رجاء أن يصادف ساعة الإجابة ومن حجة هذا القول تشبيهها بليلة القدر والاسم الأعظم وحكمة ذلك بعث العباد على الاجتهاد في الطلب واستيعاب الوقت بالعبادة بخلاف ما لو تحقق الأمر في شيء من ذلك لاقتضى الاقتصار عليه وإهمال ما عداه
( الرابع ) أنها تنتقل في يوم الجمعة ولا تلزم ساعة معينة لا ظاهرة ولا مخفية قال الغزالي هذا أشبه الأقوال وذكره الأثرم احتمالا وجزم به ابن عساكر وغيره وقال المحب الطبري إنه الأظهر وهذا لا ينافي ما قاله كعب في الجزم بتحصيلها
( الخامس ) إذا أذن المؤذن لصلاة الغداة ذكره شيخنا الحافظ أبو الفضل في شرح الترمذي وشيخنا ابن الملقن في شرح البخاري ونسباه لتخريج ابن أبي شيبة عن عائشة وقد رواه الروياني عنها فأطلق الصلاة ولم يقيدها ورواه ابن المنذر فقيد بصلاة الجمعة
( السادس ) من طلوع الفجر إلى طلوع الشمس رواه ابن عساكر من طريق أبي جعفر الرازي عن ليث بن أبي سليم عن مجاهد عن أبي هريرة قوله وحكاه المحب الطبري وابن الصباغ وعياض والقرطبي وغيرهم وعبارة بعضهم بين طلوع الفجر وطلوع الشمس
( السابع ) مثله وزاد ومن العصر إلى الغروب رواه سعيد بن منصور عن خلف بن خليفة عن ليث بن أبي سليم عن مجاهد عن أبي هريرة وليث ضعيف وقد اختلف عليه فيه كما ترى
( الثامن ) مثله وزاد وما بين أن ينزل الإمام من المنبر إلى أن يكبر رواه حميد بن زنجويه عن أبي هريرة قال التمسوا الساعة التي يجاب فيها الدعاء يوم الجمعة في هذه الأوقات الثلاث فذكره
( التاسع ) أنها أول ساعة بعد طلوع الشمس حكاه الجيلي والمحب الطبري
( العاشر ) عند طلوع الشمس حكاه الغزالي وعبر عنه الزين بن المنير بقوله هي ما بين أن ترتفع الشمس شبرا إلى ذراع وعزاه لأبي ذر
( الحادي عشر ) في آخر الساعة الثالثة من النهار حكاه صاحب المغني وهو في مسند أحمد من طريق علي بن أبي طلحة عن أبي هريرة مرفوعا يوم الجمعة فيه طبعت طينة آدم وفي آخر ثلاث
____________________
(1/324)
ساعات منه من دعا الله فيها استجيب له وفي إسناده فرج بن فضالة وهو ضعيف وعلي لم يسمع من أبي هريرة قال المحب الطبري قوله في آخر ساعات يحتمل أن المراد الساعة الأخيرة من الثلاث الأول وأن المراد أن في آخر كل ساعة من الثلاث ساعة إجابة فيكون فيه تجوز لإطلاق الساعة على بعضها
( الثاني عشر ) من الزوال إلى أن يصير الظل نصف ذراع حكاه المحب الطبري والمنذري
( الثالث عشر ) مثله لكن قال إلى أن يصير الظل ذراعا حكاه عياض والقرطبي والنووي ( الرابع عشر ) بعد زوال الشمس بيسير إلى ذراع رواه ابن المنذر وابن عبد البر بإسناد قوي عن أبي ذر ولعله مأخذ القولين بعده
( الخامس عشر ) إذا زالت الشمس حكاه ابن المنذر عن أبي العالية وورد نحوه عن علي ولعبد الرزاق عن الحسن أنه كان يتحراها عند زوال الشمس ولابن عساكر عن قتادة كانوا يرون الساعة المستجاب فيها الدعاء إذا زالت الشمس وكأن مأخذهم في ذلك أنها وقت اجتماع الملائكة وابتداء دخول وقت الجمعة وابتداء الأذان ونحو ذلك
( السادس عشر ) إذا أذن المؤذن لصلاة الجمعة رواه ابن المنذر عن عائشة قالت يوم الجمعة مثل يوم عرفة تفتح فيه أبواب السماء وفيه ساعة لا يسأل الله فيها العبد شيئا إلا أعطاه قيل أية ساعة قالت إذا أذن المؤذن لصلاة الجمعة وهذا يغاير ما قبله من حيث إن الأذان قد يتأخر عن الزوال قال الزين بن المنير ويتعين حمله على الأذان بين يدي الخطيب
( السابع عشر ) من الزوال إلى أن يدخل الرجل في الصلاة ذكره ابن المنذر وحكاه ابن الصباغ بلفظ إلى أن يدخل الإمام
( الثامن عشر ) من الزوال إلى أن يخرج الإمام حكاه القاضي أبو الطيب الطبري
( التاسع عشر ) من الزوال إلى غروب الشمس حكاه أبو العباس أحمد بن علي عن الحسن
( العشرون ) ما بين خروج الإمام إلى أن تقام الصلاة رواه ابن المنذر عن الحسن
( الحادي والعشرون ) عند خروج الإمام رواه حميد بن زنجويه عن الحسن
( الثاني والعشرون ) ما بين خروج الإمام إلى أن تنقضي الصلاة رواه ابن جرير عن الشعبي وأبي بردة بن أبي موسى من قولهما وأن ابن عمر صوب ذلك
( الثالث والعشرون ) ما بين أن يحرم البيع إلى أن يحل رواه ابن المنذر وغيره عن الشعبي
قوله أيضا قال الزين بن المنير وجهه أنه أخص أحكام الجمعة لأن العقد باطل عند الأكثر فلو اتفق ذلك في غير هذه الساعة بحيث ضاق الوقت فتشاغل اثنان بعقد البيع فخرج وفاتت تلك الصلاة لأثما ولم يبطل البيع
( الرابع والعشرون ) ما بين الأذان إلى انقضاء الصلاة رواه ابن زنجويه عن ابن عباس
____________________
(1/325)
( الخامس والعشرون ) ما بين أن يجلس الإمام على المنبر إلى أن تنقضي الصلاة رواه مسلم أبو داود عن أبي موسى مرفوعا وهذا القول يمكن أن يتحد مع اللذين قبله
( السادس والعشرون ) عند التأذين وعند تذكير الإمام وعند الإقامة رواه ابن زنجويه عن عوف بن مالك الصحابي قوله
( السابع والعشرون ) مثله لكن قال إذا أذن وإذا رقي المنبر وإذا أقيمت الصلاة رواه ابن أبي شيبة وابن المنذر عن أبي أمامة الصحابي قوله قال الزين بن المنير ما ورد عند الأذان من إجابة الدعاء فيتأكد يوم الجمعة وكذلك عند الإقامة وأما زمان جلوس الإمام على المنبر فلأنه وقت استماع الذكر والابتداء في المقصود من الجمعة
( الثامن والعشرون ) من حين يفتتح الإمام الخطبة حتى يفرغ منها رواه ابن عبد البر عن ابن عمر مرفوعا وإسناده ضعيف
( التاسع والعشرون ) إذا بلغ الخطيب المنبر وأخذ في الخطبة حكاه الغزالي
( الثلاثون ) عند الجلوس بين الخطبتين حكاه الطيبي
( الحادي والثلاثون ) عند نزول الإمام من المنبر رواه ابن أبي شيبة وابن زنجويه وابن جرير وابن المنذر بإسناد صحيح عن أبي بردة قوله وحكاه الغزالي بلفظ إذا قام الناس إلى الصلاة
( الثاني والثلاثون ) حين تقام الصلاة حتى يقوم الإمام في مقامه حكاه ابن المنذر عن الحسن وروى الطبري عن ميمونة بنت سعد نحوه مرفوعا بإسناد ضعيف
( الثالث والثلاثون ) حين تقام الصلاة إلى الانصراف منها رواه الترمذي وابن ماجه عن كثير بن عبد الله بن عمرو بن عوف عن أبيه عن جده مرفوعا وكثير ضعيف ورواه البيهقي بلفظ ما بين أن ينزل الإمام من المنبر إلى أن تنقضي الصلاة
ورواه ابن أبي شيبة بإسناد قوي عن أبي بردة قوله وإن ابن عمر استحسن ذلك منه وبارك عليه ومسح على رأسه
( الرابع والثلاثون ) هي الساعة التي كان يصلي فيها الجمعة رواه ابن عساكر بسند صحيح عن ابن سيرين وهذا يغاير ما قبله من جهة إطلاق ذاك وتقييد هذا وكأنه أخذه من جهة أن صلاة الجمعة أفضل صلوات ذلك اليوم وأن الوقت الذي كان يصلي فيه أفضل الأوقات وأن جميع ما تقدم من الأذان والخطبة وغيرهما وسائل وصلاة الجمعة هي المقصودة بالذات ويؤيده ورود الأمر في القرآن بتكثير الذكر حال الصلاة في قوله { إذا نودي للصلاة من يوم الجمعة } إلى قوله { واذكروا الله كثيرا لعلكم تفلحون } سورة الجمعة الآية 9 وليس المراد إيقاع الذكر بعد الانتشار وإن عطف عليه وإنما المراد تكثير الذكر المشار إليه في أول الآية
( الخامس والثلاثون ) من صلاة العصر إلى غروب الشمس رواه ابن خزيمة عن ابن عباس موقوفا وعن أبي سعيد مرفوعا بلفظ فالتمسوها بعد العصر وزاد ابن منده أغفل ما يكون
____________________
(1/326)
الناس وذكر ابن عبد البر أن قوله فالتمسوها مدرج من قول أبي سلمة راويه عن أبي سعيد ورواه الترمذي عن أنس مرفوعا بلفظ بعد العصر إلى غيبوبة الشمس وإسناده ضعيف
( السادس والثلاثون ) في صلاة العصر رواه عبد الرزاق عن يحيى بن إسحاق بن أبي طلحة مرسلا مرفوعا
( السابع والثلاثون ) بعد العصر إلى آخر وقت الاختيار حكاه الغزالي ( الثامن والثلاثون ) بعد العصر مطلقا رواه ابن عساكر عن أبي هريرة وأبي سعيد مرفوعا بلفظ وهي بعد العصر وذكر عبد الرزاق عن ابن عباس مثله فقيل له لا صلاة بعد العصر قال بلى لكن من كان في مصلاه لم يقم فهو في صلاة
( التاسع والثلاثون ) من وسط النهار إلى قرب آخر النهار
( الأربعون ) من حين تصفر الشمس إلى أن تغيب رواه عبد الرزاق عن طاوس قوله وهو قريب مما بعده
( الحادي والأربعون ) آخر ساعة بعد العصر رواه أبو داود والحاكم بإسناد حسن عن جابر مرفوعا وهو في الموطأ وغيره عن ابن سلام
( الثاني والأربعون ) من حيث يغيب نصف قرص الشمس أو من حين تدلي الشمس للغروب إلى أن يتكامل غروبها رواه الطبراني في الأوسط والدارقطني في العلل والبيهقي عن فاطمة عن أبيها وفي إسناده اختلاف وفي رواته من لا يعرف
( فهذا ) جميع ما اتصل إلي من الأقوال مع ذكر أدلتها وبيان حالها في الصحة أو الضعف والرفع والوقف والإشارة إلى مأخذ بعضها وليست كلها متغايرة من كل جهة بل كثير منها يمكن أن يتحد مع غيره
وقال صاحبنا العلامة الحافظ شمس الدين الجزري في كتابه الحصن الحصين وأذن لي في روايته عنه ما نصه والذي أعتقده أنها وقت قراءة الإمام الفاتحة في صلاة الجمعة إلى أن يقول آمين جمعا بين الأحاديث التي صحت كذا قال ويخدش فيه أن يفوت على الداعي حينئذ الإنصات لقراءة الإمام ولا شك أن أرجح الأقوال حديث أبي موسى وحديث عبد الله بن سلام واختلف في أيهما أرجح كما تقدم ولا يعارضهما حديث أبي سعيد أنه أنسيها بعد أن علمها لاحتمال أنهما سمعا ذلك منه قبل أن ينسى أشار له البيهقي وغيره وما عداهما إما موافق لهما أو لأحدهما أو ضعيف الإسناد أو موقوف استند قائله إلى اجتهاد دون توقيف قال الزين بن المنير وذكر مما مر عشرة أقوال تبعا لابن بطال بحسن جمعها فتكون ساعة الإجابة واحدا منها لا بعينها فيصادفها من اجتهد في الدعاء في جميعها وليس المراد من أكثرها أنه يستوعب جميع الوقت الذي عين بل المراد أنها تكون في أثنائه لقوله فيما مضى يقللها
وقوله وهي ساعة خفيفة وفائدة ذكر الوقت أنها تنتقل فيه فيكون ابتداء مظنتها ابتداء الخطبة مثلا وانتهاؤه انتهاء
____________________
(1/327)
الصلاة وكأن كثيرا من القائلين عين ما اتفق له وقوعه فيه من ساعة في أثناء وقت من الأوقات المذكورة فهذا التقريب يقل الانتشار جدا اه ببعض اختصار ولم يظهر لي عده القول الثاني أنها جمعة في كل سنة مع أنه ليس بقول إنما كان خطأ من كعب ثم رجع إلى الصواب
وقال السيوطي الذي أختاره أنا من هذه الأقوال أنها عند إقامة الصلاة وغالب الأحاديث المرفوعة تشهد له أما حديث ميمونة فصريح فيه وكذا حديث عمرو بن عوف ولا ينافيه حديث أبي موسى أنها ما بين أن يجلس الإمام إلى أن تنقضي الصلاة لأنه صادق بالإقامة بل منحصر فيها لأن وقت الخطبة ليس وقت صلاة ولا دعاء ووقت الصلاة غالبه ليس وقت دعاء ولا يظن إرادة استغراق الوقت قطعا لأنها خفيفة بالنصوص والإجماع ووقت الخطبة والصلاة متسع وغالب الأقوال المذكورة بعد الزوال وعند الأذان يحمل على هذا فيرجع إليه ولا تتنافى وقد أخرج الطبراني عن عوف بن مالك الصحابي قال إني لأرجو أن تكون ساعة الإجابة في إحدى الساعات الثلاث إذا أذن المؤذن وما دام الإمام على المنبر وعند الإقامة وأقوى شاهد له قوله وهو قائم يصلي فأحمل وهو قائم على القيام للصلاة عند الإقامة ويصلي على الحال المقدرة وتكون هذه الجملة الحالية شرطا في الإجابة وأنها مختصة بمن شهد الجمعة ليخرج من تخلف عنها هذا ما ظهر لي اه
وفيه نظر لا يخفى فإنه بعد أن استبعد حمل ابن سلام وموافقة أبي هريرة له قوله وهو قائم يصلي على المجاز اضطر إليه فيما اختاره هو ثم جره ذلك إلى دعوى التخصيص بدون مخصص ولا دليل وعجب منه مع مزيد حفظه ونباهته يعدل عن النص النبوي في حديثين صحيحين ويختار قولا ضعيفا ويحتج له بحديث ميمونة بنت سعد وعمرو بن عوف مع أن كلا منهما إسناده ضعيف كما مر عن الحافظ وأما إيماؤه إلى تقوية ذلك بقول عمرو بن عوف إني لأرجو الخ فليس بشيء وهو اجتهاد منه كما أشعر به لفظه وهو مما يقوي ضعف حديثه المرفوع أنها عند إقامة الصلاة إذ لو سمع ذلك من النبي لجزم به وما تردد في أنها إحدى الساعات الثلاث والله أعلم
59 الهيئة وتخطي الرقاب واستقبال الإمام يوم الجمعة رح 240 ( مالك عن يحيى بن سعيد أنه بلغه ) وصله ابن عبد البر من طريق يحيى بن سعيد الأموي عن يحيى بن سعيد الأنصاري عن عمرة عن عائشة ومن طريق مهدي بن ميمونة عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة ( أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال ما على أحدكم ) استفهام يتضمن التنبيه والتوبيخ فيقال لمن أهمل شيئا أو قصر فيه أو غفل عنه ما عليه لو فعل كذا أي أي شيء يلحقه من ضرر أو عيب أو عار أو نحو ذلك ( لو اتخذ ثوبين ) قميص ورداء أو جبة ورداء قاله ابن عبد البر فقصر من نظر في المراد
____________________
(1/328)
بالثوبين ( لجمعته ) زاد في رواية هشام عن عروة عن عائشة أو عيده ( سوى ثوبي مهنته ) قال ابن الأثير أي بذلته وخدمته والرواية بفتح الميم وقد تكسر قال الزمخشري والكسر عند الأثبات خطأ قال الأصمعي المهنة بفتح الميم هي الخدمة ولا يقال مهنة بالكسر وكان القياس لو قيل مثل جلسة وخدمة إلا أنه جاء على فعلة واحدة وقال ابن عبد البر المهنة بفتح الميم الخدمة وأجاز غير الأصمعي كسر الميم قال وفيه الندب لمن وجد سعة أن يتخذ الثياب الحسان للجمع وكذا الأعيان ويتجمل بها وكان صلى الله عليه وسلم يفعل ذلك ويعتم ويتطيب ويلبس أحسن ما يجد في الجمعة والعيد وفيه الأسوة الحسنة وكان يأمر بالطيب والسواك والدهن
وفي فتح الباري في إسناد ابن عبد البر لهذا الحديث عن عمرة عن عائشة نظر فقد رواه أبو داود من طريق عمرو بن الحارث وسعيد بن منصور عن ابن عيينة وعبد الرزاق عن الثوري ثلاثتهم عن يحيى بن سعيد عن محمد بن يحيى بن حبان مرسلا ووصله أبو داود وابن ماجه من وجه آخر عن محمد بن يحيى عن عبد الله بن سلام ولحديث عائشة طرق أخرى عند ابن خزيمة وابن ماجه اه
وقد يقال لا نظر لأن الأموي راويه عن الأنصاري عن عمرة ثقة روى له الستة وأي مانع من كون يحيى الأنصاري له فيه شيخان عمرة عن عائشة ومحمد بن يحيى مرسلا وقد حصلت المتابعة للأنصاري في عمرة حيث رواه عروة عن عائشة وأيد ذلك مجيئه من طرق عنها
وروى ابن ماجه وابن عبد البر عن عائشة قالت خطب النبي صلى الله عليه وسلم الناس يوم الجمعة فرأى عليهم ثياب النمار فذكره وهو بالنون كساء فيه خطوط بيض وسود قال ابن الأثير كأنها أخذت من لون النمر ورواه ابن عبد البر عن عبد الله بن سلام خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم جمعة فقال وما على أحدكم لو اشترى ثوبين لجمعته سوى ثوبي مهنته وله من وجه آخر عن يوسف بن عبد الله بن سلام مرفوعا لا يضر أحدكم أن يتخذ ثوبين للجمعة سوى ثوبي مهنته
( مالك عن نافع أن عبد الله بن عمر كان لا يروح إلى الجمعة إلا ادهن ) استعمل الدهن لإزالة شعث الشعر به ( وتطيب ) فيجمع بينهما إشارة للتزين وحسن الرائحة ذلك اليوم ( إلا أن يكون حراما ) أي محرما بحج أو عمرة فلا يفعلهما وفي الصحيح عن سلمان مرفوعا لا يغتسل رجل يوم الجمعة ويتطهر ما استطاع من طهر ويدهن من دهنه أو يمس من طيب بيته ثم يخرج فلا يفرق بين اثنين ثم يصلي ما كتب له ثم ينصت إذا تكلم الإمام إلا غفر له ما بينه وبين الجمعة الأخرى
( مالك عن عبد الله بن أبي بكر ) بن محمد بن عمرو ( بن حزم ) فنسب أبوه إلى جده الأعلى
____________________
(1/329)
لشهرته الأنصاري المدني الثقة القاضي
مات سنة خمس وثلاثين ومائة وهو ابن سبعين سنة
( عمن حدثه عن أبي هريرة أنه كان يقول لأن يصلي أحدكم بظهر الحرة ) بفتح الحاء المهملة والراء الثقيلة أرض ذات حجارة سود كأنها أحرقت بالنار بظاهر المدينة ( خير له من أن يقعد حتى إذا قام الإمام يخطب جاء يتخطى رقاب الناس يوم الجمعة ) قال ابن عبد البر هذا المعنى مرفوع ثم ساق ما أخرجه أحمد وأبو داود وصححه ابن حبان والحاكم عن أبي سعيد وأبي هريرة قال صلى الله عليه وسلم من اغتسل يوم الجمعة واستن ومس طيبا إن كان عنده ولبس من أحسن ثيابه ثم خرج حتى أتى المسجد ولم يتخط رقاب الناس ثم ركع ما شاء الله أن يركع ثم أنصت إذا خرج الإمام فلم يتكلم حتى يفرغ من صلاته كانت كفارة ما بينها وبين الجمعة الأخرى وأخرج أحمد وأبو داود عن عبد الله بن عمرو بن العاصي قال صلى الله عليه وسلم يحضر الجمعة ثلاثة نفر رجل حضرها يلغو وهو حظه منها ورجل حضرها يدعو فهو رجل دعا الله إن شاء الله أعطاه وإن شاء منعه ورجل حضرها بإنصات وسكون ولم يتخط رقبة مسلم ولم يؤذ أحدا فهو كفارة إلى الجمعة التي تليها وزيادة ثلاثة أيام وذلك بأن الله يقول { من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها } سورة الأنعام الآية 160 وروى أبو داود والبيهقي عن ابن عمر وأيضا مرفوعا من اغتسل يوم الجمعة ومس من طيب امرأته إن كان لها ولبس من صالح ثيابه ثم لم يتخط رقاب الناس ولم يلغ عند الموعظة كانت كفارة لما بينهما ومن لغا وتخطى رقاب الناس كانت له ظهرا ( قال مالك السنة عندنا أن يستقبل الناس الإمام يوم الجمعة إذا أراد أن يخطب من كان منهم يلي القبلة وغيرها ) ليتفرغوا لسماع موعظته ويتدبروا كلامه ولا يشتغلوا بغيره ليكون أدعى إلى انتفاعهم ليعملوا بما علموا
قال ابن عبد البر لم يختلفوا في ذلك ولا أعلم فيه حديثا مسندا إلا أن الشعبي قال من السنة أن يستقبل الإمام يوم الجمعة
وقال عدي بن ثابت كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا خطب استقبله أصحابه بوجوههم وروى البيهقي أن ابن عمر كان يفرغ من سبحته يوم الجمعة قبل خروج الإمام فإذا خرج لم يقعد الإمام حتى يستقبله
وروى نعيم بن حماد بإسناد صحيح عن أنس أنه كان إذا أخذ الإمام في الخطبة يوم الجمعة استقبله بوجهه حتى يفرغ من الخطبة
قال ابن المنذر لا أعلم في ذلك خلافا بين العلماء
وحكى غيره عن سعيد بن المسيب والحسن شيئا محتملا وقال الترمذي لا يصح عن النبي صلى الله عليه وسلم فيه شيء يعني صريحا
____________________
(1/330)
وقد استنبط البخاري مما رواه عن أبي سعيد أن النبي صلى الله عليه وسلم جلس يوما على المنبر وجلسنا حوله أن جلوسهم حوله لسماع كلامه يقتضي نظرهم إليه غالبا ولا يشكل عليه القيام في الخطبة لأنه محمول على أنه كان يتحدث وهو جالس على مكان عال وهم جلوس أسفل منه وإذا كان ذلك في غير حال الخطبة كان حالها أولى لورود الأمر بالاستماع لها والإنصات عندها
60 القراءة في صلاة الجمعة والاحتباء ومن تركها من غير عذر وهو جمع الظهر والساقين بثوب أو غيره وقد يكون باليدين قال أبو عمر كذا ترجم يحيى ولم يذكر فيه شيئا
وفي رواية ابن بكير وغيره مالك أنه بلغه أن عبد الله بن عمر كان يحتبي يوم الجمعة والإمام يخطب قال ولم يرو عن أحد من الصحابة خلافه ولا روي عن أحد من التابعين كراهية الاحتباء يوم الجمعة إلا وقد روي عنه جوازه
وأخرج أبو داود أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن الاحتباء يوم الجمعة والإمام يخطب قال أبو داود كان ابن عمر وأنس وشريح وصعصعة بن صوحان وابن المسيب والنخعي ومكحول يحتبون يوم الجمعة وهو مذهب الأئمة الأربعة وغيرهم
وقال الباجي روى ابن نافع عن مالك لا بأس أن يحتبي الرجل والإمام يخطب وأن يمد رجليه لأن ذلك معونة فليفعل من ذلك ما هو أرفق به
( ومن تركها من غير عذر ) من الأعذار المقررة في الفروع
رح 24( مالك عن ضمرة ) بفتح المعجمة وسكون الميم ( ابن سعيد ) بفتح السين ابن أبي حنة بمهملة ثم نون وقيل موحدة الأنصاري ( المازني ) بزاي ونون من بني مازن بن النجار المدني ثقة روى له مسلم وأصحاب السنن ( عن عبيد الله ) بضم العين ( ابن عبد الله ) بفتحها ( ابن عتبة ) بضمها وإسكان الفوقية ( ابن مسعود ) أحد الفقهاء ( أن الضحاك بن قيس ) بن خالد بن وهب الفهري أبو أنيس الأمير المشهور صحابي قتل في وقعة مرج راهط سنة أربع وستين ( سأل النعمان بن بشير ) بن سعد بن ثعلبة الأنصاري الخزرجي له ولأبيه صحبة ثم سكن الشام ثم ولي إمرة الكوفة ثم قتل بحمص سنة خمس وستين وله أربع وستون سنة
( ماذا كان يقرأ به رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الجمعة ) بعد الفاتحة في الركعة الثانية ( على أثر سورة الجمعة ) التي كان يقرؤها في الركعة الأولى ( قال كان يقرأ هل أتاك حديث الغاشية ) قال أبو عمر قوله على أثر سورة الجمعة يدل على أنه كان يقرؤها فلم يحتج إلى السؤال عن ذلك لعلمه به ويدل على أنه لو كان يقرأ معها شيئا واحدا أبدا لعلمه كما علم سورة الجمعة ولكنه
____________________
(1/331)
كان مختلفا فسأل عن الأغلب منه وقد اختلف الآثار فيه والعلماء وهو من الاختلاف المباح الذي ورد ورود التخيير فروي أنه صلى الله عليه وسلم كان يقرأ في العيدين والجمعة ب { سبح اسم ربك الأعلى } و { هل أتاك حديث الغاشية }
وإذا اجتمع العيدان في يوم قرأهما جميعا
وروي أنه صلى الله عليه وسلم قرأ بسورة الجمعة في الركعة الأولى و { إذا جاءك المنافقون } في الآخرة واختار هذا الشافعي وهو قول أبي هريرة وعلي وهي آثار صحاح
وذهب مالك إلى ما في الموطأ أنه يقرأ بسورة الجمعة و { هل أتاك } وأجاز في الثانية { سبح اسم ربك الأعلى }
وجملة قوله إنه لا يترك الجمعة في الأولى ويقرأ في الثانية بما شاء إلا أنه يستحب ما ذكرنا
رح 244 ( مالك عن صفوان بن سليم ) بضم السين الزهري مولاهم المدني الثقة العابد التابعي الصغير
( قال مالك لا أدري أعن النبي صلى الله عليه وسلم أم لا ) قال أبو عمر هذا يسند من وجوه أحسنها حديث أبي الجعد الضمري بنحوه عن النبي صلى الله عليه وسلم ( أنه قال من ترك الجمعة ) ممن تجب عليه ( ثلاث مرات من غير عذر ) كشدة وحل ( ولا علة ) من مرض ونحوه ( طبع الله على قلبه ) أي ختم عليه وغشاه ومنعه ألطافه فلا يصل إليه شيء من الخير أو جعل فيه الجهل والجفا والقسوة أو صير قلبه قلب منافق والطبع بسكون الباء الختم وبالتحريك الدنس وأصله الوسخ يغشي السيف ثم استعمل فيما يشبه ذلك من الآثام والقبائح
أخرج الشافعي في الأم وأحمد وأصحاب السنن وصححه الحاكم وغيره عن أبي الجعد الضمري مرفوعا من ترك الجمعة ثلاث مرات تهاونا بها طبع الله على قلبه وأخرج ابن عبد البر عن أبي قتادة مرفوعا من ترك الجمعة ثلاث مرات من غير ضرورة فقد طبع على قلبه وأخرج أيضا عن أبي هريرة رفعه من ترك الجمعة ثلاثا ولاء من غير عذر فقد طبع الله على قلبه وأخرج الشافعي عن ابن عباس مرفوعا من ترك الجمعة ثلاثا من غير ضرورة كتب منافقا في كتاب لا يمحى ولا يبدل والمراد النفاق العملي
وأخرج أبو يعلى برواة الصحيح عن ابن عباس رفعه من ترك ثلاث جمعات متواليات فقد نبذ الإسلام وراء ظهره وفي مسلم عن ابن عمر وأبي هريرة أنهما سمعا رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول لينتهين أقوام عن ودعهم الجمعات أو ليختمن على قلوبهم ثم ليكونن من الغافلين وقال ابن مسعود والحسن إن الصلاة التي أراد صلى الله عليه وسلم أن يحرق على من تخلف عنها بيته هي الجمعة
قال أبو عمر سأل رجل ابن عباس شهرا كل يوم يسأله ما تقول في رجل يصوم النهار ويقوم
____________________
(1/332)
الليل ولا يشهد الجمعة ولا الجماعات فكان ابن عباس يقول له في ذلك كله صاحبك في النار
3 ويحتمل أن ابن عباس عرف حال المسؤول عنه باعتقاد مذهب الخوارج في استحلال دماء المسلمين وتكفيرهم ولذا ترك الجمعة والجماعات فأجابه بذلك تغليظا عليه
رح 245 ( مالك عن جعفر ) الصادق لصدقه في مقاله ( ابن محمد ) الباقر بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب الهاشمي المدني الفقيه الصدوق الإمام المتوفى سنة ثمان وأربعين ومائة ذكر مصعب الزبيري عن مالك قال اختلفت إلى جعفر بن محمد زمانا فما كنت أراه إلا على ثلاث خصال إما مصل وإما صائم يقرأ القرآن وما رأيته يحدث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا على طهارة وكان لا يتكلم فيما لا يعنيه وكان من العلماء العباد الزهاد الذين يخشون الله ولقد حججت معه سنة فلما أتى الشجرة أحرم فلما أراد أن يهل كاد يغشى عليه فقلت له لا بد لك من ذلك وكان يحبني وينبسط إلي فقال لي يا ابن أبي عامر إني أخشى أن أقول لبيك اللهم لبيك فيقول لا لبيك ولا سعديك
وذكر عن جده علي بن حسين أنه لما أراد أن يقول لبيك أو قالها غشي عليه وسقط من ناقته فتهشم وجهه ( عن أبيه ) محمد الباقر لأنه بقر العلم أي شقه فعرف أصله وخفيه ثقة فاضل تابعي ( أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خطب خطبتين يوم الجمعة وجلس بينهما ) أرسله الموطأ وهو يتصل من غير حديث مالك ففي الصحيحين من طريق عبيد الله بن عمر عن نافع عن ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يخطب خطبتين قائما يفصل بينهما بجلوس وبهذا استدل الشافعية على وجوب الجلوس بينهما لمواظبته عليه السلام على ذلك مع قوله صلوا كما رأيتموني أصلي وتعقبه ابن دقيق العيد بأن ذلك يتوقف على ثبوت أن إقامة الخطبتين داخل في كيفية الصلاة وإلا فهو استدلال بمجرد الفعل اه
وذهب الجمهور والأئمة الثلاثة إلى أنها سنة وحكمة ذلك الفصل بين الخطبتين وقيل الراحة وعلى الأول وهو الأظهر يكفي السكوت بقدرها
61 الترغيب في الصلاة في رمضان ( مالك عن ابن شهاب ) الزهري ( عن عروة بن الزبير ) بن العوام ( عن عائشة زوج النبي أن رسول الله صلى ) صلاة الليل ( في المسجد ذات ليلة ) من ليالي رمضان
وفي رواية عمرة عن
____________________
(1/333)
عائشة عند البخاري أنه صلى في حجرته وليس المراد بها بيته بل الحصير التي كانت يحتجر بها بالليل في المسجد فيجعلها على باب بيت عائشة فيصلي فيه ويجلس عليه وقد جاء ذلك مبينا من طريق سعيد المقبري عن أبي سلمة عن عائشة كان يحتجر حصيرا بالليل فيصلي عليه ويبسطه بالنهار فيجلس عليه رواه البخاري في اللباس
ولأحمد من رواية محمد بن إبراهيم عن عائشة فأمرني أن أنصب له حصيرا على باب حجرتي ففعلت فخرج الحديث
قال النووي معنى يحتجر يحوط موضعا من المسجد بحصير يستره ليصلي فيه ولا يمر بين يديه مار ليتوفر خشوعه ويتفرغ قلبه
وتعقبه الكرماني بأن لفظ الحديث لا يدل على أن احتجاره كان في المسجد ولو كان كذلك لزم أن يكون تاركا للأفضل الذي أمر الناس به بقوله صلوا في بيوتكم فإن أفضل صلاة المرء في بيته إلا المكتوبة ثم أجاب بأنه صح أنه كان في المسجد فهو إذا احتجر صار كأنه بيت بخصوصه أو أن سبب كون صلاة التطوع في البيت أفضل عدم شوبه بالرياء غالبا والنبي منزه عن الرياء في بيته وفي غير بيته
( فصلى بصلاته ناس ثم صلى الليلة القابلة ) وللبخاري من هذا الطريق من القابلة ولبعض رواته من القابل بالتذكير أي الوقت ولأحمد من رواية معمر عن ابن شهاب من الليلة المقبلة
( فكثر الناس ثم اجتمعوا من الليلة الثالثة أو الرابعة ) بالشك في رواية مالك ولمسلم من رواية يونس عن ابن شهاب فخرج رسول الله في الليلة الثانية فصلوا معه فأصبح الناس يذكرون ذلك فكثر أهل المسجد من الليلة الثالثة فصلوا بصلاته فلما كانت الليلة الرابعة عجز المسجد عن أهله ولأحمد من رواية معمر عن الزهري امتلأ المسجد حتى اغتص بأهله وله من طريق سفيان بن حسين عنه فلما كانت الرابعة غص المسجد بأهله ( فلم يخرج إليهم رسول الله ) زاد في رواية أحمد عن ابن جريج عن ابن شهاب حتى سمعت ناسا منهم يقولون الصلاة وفي رواية سفيان بن حسين فقالوا ما شأنه وفي حديث زيد بن ثابت ففقدوا صوته وظنوا أنه قد تأخر فجعل بعضهم يتنحنح ليخرج إليهم وفي لفظ عن زيد فرفعوا أصواتهم وحصبوا الباب رواهما البخاري
قال ابن عبد البر تفسر هذه الليالي المذكورات في حديث عائشة بما رواه النعمان بن بشير قال قمنا مع رسول الله في شهر رمضان ليلة ثلاث وعشرين إلى ثلث الليل ثم قمنا معه ليلة خمس وعشرين إلى نصف الليل ثم قمنا ليلة سبع وعشرين حتى ظننا ألا ندرك الفلاح وكان يسمون به السحور أخرجه النسائي
وأما عدد ما صلى ففي حديث ضعيف عن ابن عباس أنه صلى عشرين ركعة والوتر أخرجه ابن أبي شيبة
وروى ابن حبان عن جابر أنه صلى بهم ثمان ركعات ثم أوتر وهذا أصح
وقال الحافظ لم أر في شيء من طرقه أي حديث عائشة بيان عدد صلاته في تلك الليالي
____________________
(1/334)
لكن روى ابن خزيمة وابن حبان عن جابر صلى بنا رسول الله في رمضان ثمان ركعات ثم أوتر فلما كانت القابلة اجتمعنا في المسجد ورجونا أن يخرج إلينا حتى أصبحنا ثم دخلنا فقلنا يا رسول الله الحديث فإن كانت القصة واحدة احتمل أن جابرا ممن جاء في الليلة الثانية فلذا اقتصر على وصف ليلتين وما في مسلم عن أنس كان يصلي في رمضان فجئت فقمت إلى جنبه فجاء رجل فقام حتى كنا رهطا فلما أحس بنا تجوز ثم دخل رجل الحديث فالظاهر أن هذا كان في قصة أخرى
( فلما أصبح قال قد رأيت الذي صنعتم ) من حرصكم على الصلاة معي وفي رواية للبخاري فلما قضى صلاة الفجر أقبل على الناس فتشهد ثم قال أما بعد فإنه لم يخف علي مكانكم وفي مسلم شأنكم
( ولم يمنعني من الخروج إليكم إلا أني خشيت أن تفرض عليكم ) صلاة الليل فتعجزوا عنها كما في رواية يونس عند مسلم ونحوه في رواية عقيل عند البخاري أي تشق عليكم فتتركوها مع القدرة عليها وليس المراد العجز الكلي لأنه يسقط التكليف من أصله وقد استشكلت هذه الخشية مع قوله سبحانه هن خمس وهن خمسون لا يبدل القول لدي فإذا أمن التبديل كيف يخاف من الزيادة وأجاب الخطابي بأن صلاة الليل كانت واجبة عليه وأفعاله الشرعية يجب على الأمة الاقتداء به فيها عند المواظبة فترك الخروج إليهم لئلا يدخل ذلك في الواجب بطريق الأمر بالاقتداء به لا من طريق إنشاء فرض جديد زائد على الخمس وهذا كما يوجب المرء على نفسه صلاة نذر فيجب عليه ولا يلزم زيادة فرض في أصل الشرع وباحتمال أن الله لما فرض الصلاة خمسين ثم حط معظمها بشفاعة نبيه فإذا عادت الأمة فيما استوهب لها والتزمت ما استعفى لهم نبيهم لم ينكر أن يثبت ذلك فرضا كما التزم ناس الرهبانية من قبل أنفسهم ثم عاب الله التقصير فيها بقوله { فما رعوها حق رعايتها } سورة الحديد الآية 27 فخشي أن يكون سبيلهم سبيل أولئك فقطع العمل شفقة عليهم انتهى
وتبعه جماعة من الشراح وهو مبني على وجوب قيام الليل ووجوب الاقتداء بأفعاله في كل شيء وفي كل من الأمرين نزاع
وجواب الكرماني بأن حديث الإسراء يدل على أن المراد الأمن من نقص شيء ولم يتعرض للزيادة فيه نظر لأن ذكر المضعف بقوله هن خمس وهن خمسون إشارة إلى عدم الزيادة أيضا لأن التضعيف لا ينقص عن العشر ودفع بعضهم في أصل السؤال بأن الزمان قابل للنسخ فلا مانع من خشية الافتراض فيه نظر لأن قوله لا يبدل القول لدي خبر ولا يدخله النسخ على الراجح وليس كقوله مثلا صوموا الدهر أبدا فإنه يجوز فيه النسخ
وقال الباجي قال القاضي أبو بكر يحتمل أن يكون أوحى الله إليه أنه إن واصل الصلاة معهم فرضها عليهم ويحتمل أنه ظن أن ذلك سيفرض عليهم لما جرت عادته بأن ما داوم عليه على
____________________
(1/335)
وجه الاجتماع من القرب فرض على أمته ويحتمل أن يريد بذلك أنه خاف أن يظن أحد من أمته بعده إذا داوم عليها وجوبها وإلى الثالث نحا القرطبي فقال قوله أن يفرض عليكم أي تظنونه فرضا فيجب من ظن ذلك كما إذا ظن المجتهد حل شيء أو حرمته فيجب عليه العمل به وقيل كان حكمه إذا واظب على شيء من الأعمال واقتدى الناس به فيه أنه يفرض عليهم اه
ولا يخفى بعده فقد واظب على رواتب الفرائض وتابعه أصحابه ولم تفرض
وقال ابن بطال يحتمل أن هذا القول صدر منه لما كان قيام الليل فرضا عليه دون أمته فخشي إن خرج إليهم والتزموه معه أن يسوي بينهم وبينه في حكمه لأن أصل الشرع المساواة بين النبي وأمته في العبادة
ويحتمل أنه خشي من مواظبتهم عليها أن يضعفوا عنها فيعصي تاركها بترك اتباعه
قال الحافظ وحديث هن خمس وهن خمسون لا يبدل القول لدي يدفع في صدور هذه الأجوبة كلها وقد فتح الباري بثلاثة أجوبة سواها أحدها أنه خاف جعل التهجد في المسجد جماعة شرطا في صحة التنفل بالليل ويومي إليه قوله في حديث زيد بن ثابت خشيت أن يكتب عليكم ولو كتب عليكم ما قمتم به فصلوا أيها الناس في بيوتكم فمنعهم من التجميع في المسجد إشفاقا عليهم من اشتراطه وأمن مع إذنه في المواظبة على ذلك في بيوتهم من افتراضه عليهم
ثانيها أنه خاف افتراضه كفاية لا عينا فلا يكون زائدا على الخمس بل هو نظير ما ذهب إليه قوم في العيد ونحوها
ثالثها أنه خاف فرض قيام رمضان خاصة كما قال
( وذلك في رمضان ) وفي رواية سفيان بن حسين خشيت أن يفرض عليكم قيام هذا الشهر فعلى هذا يرتفع الإشكال لأن قيام رمضان لا يتكرر كل يوم في السنة فلا يكون ذلك قدرا زائدا على الخمس
قال وأقوى هذه الثلاثة في نظري الأول وفي الحديث ندب قيام الليل ولا سيما في رمضان جماعة لأن الخشية المذكورة أمنت بعده ولذا جمعهم عمر كما في الحديث التالي وفيه أن الكبير إذا فعل شيئا خلاف ما اعتاده أتباعه أن يذكر لهم عذره وحكمه وشفقته على أمته ورأفته بهم وترك بعض المصالح لخوف المفسدة وتقديم أهم المصلحتين وجواز الاقتداء بمن لم ينو الإمامة وفيه نظر لأن نفي النية لم ينقل ولم يطلع عليه بالظن وترك الأذان والإقامة للنوافل إذا صليت جماعة وأخرجه البخاري عن عبد الله بن يوسف ومسلم عن يحيى كلاهما عن مالك به
( مالك عن ابن شهاب عن أبي سلمة بن عبد الرحمن بن عوف ) الزهري ورواه عقيل ويونس وشعيب وغيرهم عن الزهري عن حميد بدل أبي سلمة وصح عند البخاري الطريقان فأخرجهما على الولاء وأخرجه النسائي من طريق جويرية عن مالك عن ابن شهاب عن حميد وأبي سلمة جميعا ( عن أبي هريرة أن رسول الله كان يرغب ) بضم أوله وفتح الراء وشد الغين المعجمة
____________________
(1/336)
المكسورة ( في قيام رمضان ) أي صلاة التراويح قاله النووي وقال غيره بل مطلق الصلاة الحاصل بها قيام الليل كالتهجد سرا وأغرب الكرماني في قوله اتفقوا على أن المراد بقيام رمضان صلاة التراويح ( من غير أن يأمر بعزيمة ) أي من غير أن يوجبه بل أمر ندب وترغيب وفسره بصيغة تقتضي الترغيب والندب دون الإيجاب بقوله ( فيقول من قام رمضان ) قال ابن عبد البر أجمع رواة الموطأ على لفظ قام ولذا أدخله مالك في قيام رمضان ويصحح ذلك أي يقويه قوله كان يرغب في قيام رمضان وتابع مالكا عليه معمر ويونس وأبو أويس كلهم عن ابن شهاب بلفظ قام ورواه ابن عيينة وحده عن الزهري بلفظ من صام رمضان أي بالصاد من الصيام وكذا رواه محمد بن عمرو ويحيى بن أبي كثير ويحيى بن سعيد الأنصاري ثلاثتهم عن أبي سلمة عن أبي هريرة بلفظ من صام رمضان ورواه عقيل عن الزهري بلفظ من صام رمضان وقامه اه
والظاهر أنه كان عند ابن شهاب باللفظين عن أبي سلمة فتارة يرويه بلفظ قام وتارة بلفظ صام لأن الرواة المذكورين عن ابن شهاب كلهم حفاظ ويقوي ذلك رواية عقيل عنه الجمع بينهما
( إيمانا ) تصديقا بأنه حق معتقدا أفضليته
( واحتسابا ) طلبا لثواب الآخرة لا لرياء ونحوه مما يخالف الإخلاص طيب النفس به غير مستثقل لقيامه ولا مستطيل له ونصبهما على المصدر أو الحال
( غفر له ما تقدم من ذنبه ) أي ذنبه المتقدم كله فمن للبيان لا للتبعيض أي الصغائر لا الكبائر كما قطع به إمام الحرمين والفقهاء وعزاه عياض لأهل السنة وجزم ابن المنذر بأنه يتناولهما
وقال الحافظ إنه ظاهر الحديث
وقال ابن عبد البر اختلف فيه العلماء فقال قوم يدخل فيه الكبائر وقال آخرون لا تدخل فيه إلا أن يقصد التوبة والندم ذاكرا لها
وقال بعضهم يجوز أن يخفف من الكبائر إذا لم يصادف صغيرة
وزاد حامد بن يحيى عن سفيان بن عيينة عن الزهري بإسناده في هذا الحديث وما تأخر رواه ابن عبد البر وقال هي زيادة منكرة في حديث الزهري ودفعه الحافظ بأنه تابعه على الزيادة قتيبة بن سعيد عن سفيان عند النسائي في السنن الكبرى والحسين المروزي في كتاب الصيام له وهشام بن عمار في فوائده ويوسف الحاجي في فوائده كلهم عن ابن عيينة ووردت أيضا عند أحمد من طريق أبي سلمة عن أبي هريرة وعن ثابت عن الحسن كلاهما عن النبي ووردت أيضا من رواية مالك نفسه أخرجها أبو عبد الله الجرجاني في أماليه من طريق بحر بن نصر عن ابن وهب عن مالك ويونس عن الزهري ولم يتابع بحرا على ذلك أحد من أصحاب ابن وهب ولا من أصحاب مالك ولا يونس سوى ما قدمناه وقد ورد في غفران ما تقدم وما تأخر عدة أحاديث جمعتها في كتاب مفرد واستشكل بأن المغفرة تستدعي سبق ذنب والمتأخر من الذنوب لم يأت فكيف يغفر وأجيب بأن ذنوبهم تقع مغفورة وقيل هو كناية عن حفظ الله إياهم في المستقبل عن الذنوب كما قيل في قوله إن الله اطلع على أهل بدر فقال اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم وعورض الأخير بورود
____________________
(1/337)
النقل بخلافه فقد شهد مسطح بدرا ووقع منه في عائشة ما وقع كما في الصحيح وقصة نعيمان مشهورة
( قال ابن شهاب فتوفي رسول الله والأمر على ذلك ) أي ترك الجماعة في صلاة التراويح وفي رواية ابن أبي ذئب عن الزهري ولم يكن رسول الله جمع الناس على القيام رواه أحمد وأدرج معمر قول ابن شهاب في نفس الخبر رواه الترمذي وما رواه ابن وهب عن أبي هريرة خرج رسول الله وإذا الناس يصلون في ناحية المسجد فقال ما هذا فقيل ناس يصلي بهم أبي بن كعب فقال أصابوا ونعم ما صنعوا ذكره ابن عبد البر ففيه مسلم بن خالد وهو ضعيف والمحفوظ أن عمر هو الذي جمع الناس على أبي بن كعب قاله الحافظ وقال الباجي هذا مرسل من ابن شهاب ومعناه أن حال الناس على ما كانوا عليه في زمنه من ترك الناس والندب إلى القيام وأن لا يجتمعوا على إمام يصلي بهم خشية أن يفرض عليهم ويصح أن يكونوا لا يصلون إلا في بيوتهم وأن يصلي الواحد منهم في المسجد ويصح أن يكونوا لم يجتمعوا على إمام واحد ولكنهم كانوا يصلون أوزاعا متفرقين
( ثم كان الأمر على ذلك في خلافة أبي بكر ) الصديق رضي الله عنه ( وصدرا من خلافة عمر بن الخطاب ) بنصب صدرا عطف على خبر كان وفي نسخة بالخفض عطف على خلافة
قال ابن عبد البر اختلف رواة مالك في إسناد هذا الحديث فرواه يحيى بن يحيى متصلا هكذا وتابعه يحيى بن بكير وسعيد بن عفير وعبد الرزاق وابن القاسم ومعن وعثمان بن عمر عن مالك به ورواه القعنبي وأبو مصعب ومطرف وابن نافع وابن وهب والأكثر عن مالك مرسلا لم يذكروا أبا هريرة وقد رواه موصولا أصحاب ابن شهاب وتابع ابن شهاب على وصله يحيى بن أبي كثير ومحمد بن عمرو عن أبي سلمة فتبين بذلك صحة رواية يحيى ومن تابعه دون رواية من أرسله وأنهم لم يقيموا الحديث ولم يتقنوه إذ أرسلوه وهو متصل صحيح
قال وعند القعنبي ومطرف والشافعي وابن نافع وابن بكر وأبي مصعب عن مالك عن ابن شهاب عن حميد عن عبد الرحمن عن أبي هريرة أن رسول الله قال من قام رمضان إيمانا واحتسابا غفر له ما تقدم من ذنبه هكذا رووه في الموطأ ليس فيه أن رسول الله كان يرغب في رمضان من غير أن يأمر بعزيمة كما في حديث أبي سلمة وليس عند يحيى أصلا رواية حميد وعند الشافعي رواية حميد لا أبي سلمة وذكر البخاري رواية حميد من حديث مالك أي فقال حدثنا عبد الله بن يوسف أخبرنا مالك وكذا مسلم قال ثنا يحيى بن يحيى قال قرأت على مالك فذكراه قال وقد رواه جويرية بن أسماء عن مالك عن الزهري عن أبي سلمة وحميد عن أبي هريرة أن رسول الله قال من قام رمضان إيمانا واحتسابا غفر له ما تقدم من ذنبه وتابعه ابن وهب على ذلك في رواية أحمد بن صالح وهو أثبت الناس في ابن وهب ثم أسنده ابن عبد البر من طريقه
____________________
(1/338)
وحاصله أن لابن شهاب فيه شيخين أبا سلمة حدثه تاما به وحميد حدثه مختصرا فكان الزهري يحدث به على الوجهين ثم مالك بعده حدث به بالوجهين أيضا فمن رواته من روى حديث أبي سلمة ومنهم من روى حديث حميد ومنهم من جمع بينهما وهو جويرة وابن وهب لكن ذكر ما اتفقا عليه وهو لفظ الحديث دون القصة ودون قوله كان يرغب الخ
وقد ذكر الدارقطني الاختلاف فيه وصحح الطريقين والله أعلم
62 ما جاء في قيام رمضان وتسمى التراويح جمع ترويحة وهي المرة الواحدة من الراحة كتسليمة من السلام سميت الصلاة جماعة في ليالي رمصان تراويح لأنهم أول ما اجتمعوا عليها كانوا يستريحون بين كل تسليمتين قال الليث قدر ما يصلي الرجل كذا وكذا ركعة
( مالك عن ابن شهاب عن عروة بن الزبير عن عبد الرحمن بن عبد ) بالتنوين بلا إضافة ( القاري ) بشد الياء التحتية نسبة إلى القارة بطن من خزيمة بن مدركة
( أنه قال خرجت مع عمر بن الخطاب ) ليلة ( في رمضان إلى المسجد ) النبوي ( فإذا الناس أوزاع ) بفتح الهمزة وسكون الواو فألف فعين مهملة جماعات ( متفرقون ) نعت لفظي للتأكيد مثل نفخة واحدة لأن الأوزاع الجماعات المتفرقة لا واحد له من لفظه قال ابن عبد البر وهم العزون قال تعالى { عن اليمين وعن الشمال عزين } سورة المعارج الآية 37 وفي الحديث ما لي أراكم عزين وذكر ابن فارس والجوهري والمجد أن الأوزاع الجماعات ولم يقولوا متفرقين فعليه يكون النعت للتخصيص أراد أنهم كانوا يتنفلون في المسجد بعد صلاة العشاء متفرقين
( يصلي الرجل لنفسه ويصلي الرجل فيصلي بصلاته الرهط ) ما بين الثلاثة إلى العشرة وهذا بيان لما أجمله أولا بقوله أوزاع
( فقال عمر والله إني لأراني ) من الرأي ( لو جمعت هؤلاء على قارىء واحد لكان أمثل ) لأنه أنشط لكثير من المصلين ولما في الاختلاف من افتراق الكلمة
قال الباجي وابن التين وغيرهما استنبط عمر ذلك من تقرير النبي صلى الله عليه وسلم من صلى معه في تلك الليالي وإن كان كره ذلك لهم فإنما كرهه خشية أن يفرض عليهم فلما مات صلى الله عليه وسلم أمن ذلك
وقال ابن عبد البر لم يسن عمر إلا ما رضيه صلى الله عليه وسلم ولم يمنعه من المواظبة عليه إلا خشية أن يفرض على أمته وكان بالمؤمنين رؤوفا رحيما فلما أمن ذلك
____________________
(1/339)
عمر أقامها وأحياها في سنة أربع عشرة من الهجرة ويدل على أنه صلى الله عليه وسلم سن ذلك قوله إن الله فرض عليكم صيام رمضان وسننت لكم قيامه فمن صامه وقامه إيمانا واحتسابا غفر له ما تقدم من ذنبه ( فجمعهم على أبي بن كعب ) أي جعله إماما لهم قال ابن عبد البر واختار أبيا لقوله صلى الله عليه وسلم يؤم القوم أقرؤهم وقوله صلى الله عليه وسلم أقرؤهم أبي وقال عمر علي أقضانا وأبي أقرأنا وإنا لنترك أشياء من قراءة أبي ( قال ) عبد الرحمن القاري ( ثم خرجت معه ليلة أخرى والناس يصلون بصلاة قارئهم ) أي إمامهم قال ابن عبد البر فيه أن عمر كان لا يصلي معهم إما لشغله بأمور الناس وإما لانفراده بنفسه في الصلاة ( فقال عمر نعمت البدعة هذه ) وصفها بنعمت لأن أصل ما فعله سنة وإنما البدعة الممنوعة خلاف السنة
وقال ابن عمر في صلاة الضحى نعمت البدعة
وقال تعالى { ورهبانية ابتدعوها ما كتبناها عليهم إلا ابتغاء رضوان الله } سورة الحديد الآية 27 وأما ابتداع الأشياء من عمل الدنيا فمباح قاله ابن عبد البر
وقال الباجي نعمت التاء على مذهب البصريين لأن نعم فعل لا يتصل به إلا التاء وفي نسخ نعمه بالهاء وذلك على أصول الكوفيين وهذا تصريح منه بأنه أول من جمع الناس في قيام رمضان على إمام واحد لأن البدعة ما ابتدأ بفعلها المبتدع ولم يتقدمه غيره فابتدعه عمر وتابعه الصحابة والناس إلى هلم جرا وهذا يبين صحة القول بالرأي والاجتهاد انتهى
فسماها بدعة لأنه صلى الله عليه وسلم لم يسن الاجتماع لها ولا كانت في زمان الصديق وهو لغة ما أحدث على غير مثال سبق وتطلق شرعا على مقابل السنة وهي ما لم يكن في عهده صلى الله عليه وسلم ثم تنقسم إلى الأحكام الخمسة وحديث كل بدعة ضلالة عام مخصوص وقد رغب فيها عمر بقوله نعمت البدعة وهي كلمة تجمع المحاسن كلها كما أن بئس تجمع المساوي كلها وقد قال صلى الله عليه وسلم اقتدوا باللذين من بعدي أبي بكر وعمر وإذا أجمع الصحابة على ذلك مع عمر زال عنه اسم البدعة
( والتي تنامون ) بفوقية أي الصلاة وتحتية أي الفرقة التي ينامون ( عنها أفضل من ) الصلاة ( التي تقومون ) بفوقية وتحتية أي الفرقة التي كسابقه ( يعني آخر الليل ) وهذا تصريح منه بأن الصلاة آخر الليل أفضل من أوله وقد أثنى الله على المستغفرين بالأسحار وقال أهل التأويل في قول يعقوب { سوف أستغفر لكم ربي } سورة يوسف الآية 98 أخرهم إلى السحر لأنه أقرب للإجابة
ويأتي حديث ينزل ربنا إلى السماء الدنيا حين يبقى ثلث الليل ( وكان الناس يقومون أوله ) ثم جعله عمر في آخر الليل لقول ابن عباس دعاني عمر أتغذى معه في رمضان يعني السحور فسمع هيعة الناس حين انصرفوا من القيام فقال عمر أما إن الذي بقي من الليل أحب إلي مما مضى منه ففيه دليل على أن قيامهم كان أول الليل ثم جعله عمر في
____________________
(1/340)
آخره فكان كذلك إلى زمن أبي بكر بن حزم كما يأتي أنه يستعجل الخدم بالطعام مخافة الفجر قاله أبو عمر وهذا الحديث رواه البخاري حدثنا عبد الله بن يوسف أخبرنا مالك به
( مالك عن محمد بن يوسف ) الكندي المدني الأعرج ثقة ثبت مات في حدود الأربعين ومائة عن السائب بن يزيد بن سعيد بن ثمامة الكندي صحابي له أحاديث وحج به في حجة الوداع وهو ابن سبع سنين وولاه عمر سوق المدينة ومات سنة إحدى وتسعين وقيل قبلها وهو آخر من مات بالمدينة من الصحابة
( أنه قال أمر عمر بن الخطاب أبي بن كعب ) أبا المنذر سيد القراء ( وتميما ) هو ابن أوس بن خارجة ( الديري ) كذا يرويه يحيى وابن بكير وغيرهما بالتحتية بعد الدال ورواه ابن القاسم والقعنبي والأكثر الداري بألف بعد الدال وكلاهما صواب لاجتماع الوصفين فيه فبالياء نسبة إلى دير كان فيه تميم قبل إسلامه وقيل إلى قبيلة وهو بعيد شاذ وبالألف نسبة إلى جده الأعلى الدار بن هاني عند الجمهور وقيل إلى دارين مكان عند البحرين قال في المطالع وليس في الموطأ والصحيحين داري ولا ديري إلا تميم ويكنى أبا رقية بقاف مصغر صحابي شهير أسلم سنة تسع وكان بالمدينة ثم سكن بيت المقدس بعد قتل عثمان مات سنة أربعين
( أن يقوما للناس بإحدى عشرة ركعة ) قال الباجي لعل عمر أخذ ذلك من صلاة النبي صلى الله عليه وسلم ففي حديث عائشة أنها سئلت عن صلاته في رمضان فقالت ما كان يزيد في رمضان ولا في غيره عن إحدى عشرة ركعة
وقال ابن عبد البر روى غير مالك في هذا الحديث أحد وعشرون وهو الصحيح ولا أعلم أحدا قال فيه إحدى عشرة إلا مالكا ويحتمل أن يكون ذلك أولا ثم خفف عنهم طول القيام ونقلهم إلى إحدى وعشرين إلا أن الأغلب عندي أن قوله إحدى عشرة وهم انتهى ولا وهم مع أن الجمع بالاحتمال الذي ذكره قريب وبه جمع البيهقي أيضا
وقوله إن مالكا انفرد به ليس كما قال فقد رواه سعيد بن منصور من وجه آخر عن محمد بن يوسف فقال إحدى عشرة كما قال مالك
وروى سعيد بن منصور عن عروة أن عمر جمع الناس على أبي بن كعب فكان يصلي بالرجال وكان تميم الداري يصلي بالنساء ورواه محمد بن نصر عن عروة فقال بدل تميم سليمان بن أبي حثمة قال الحافظ ولعل ذلك كان في وقتين
( قال ) السائب وقد كان القاري يقرأ بالمئين بكسر الميم وقد تفتح والكسر أنسب بالمفرد وهو
____________________
(1/341)
مائة وكسر الهمزة وإسكان التحتية أي السور التي تلي السبع الطول أو التي أولها ما يلي الكهف لزيادة كل منها على مائة آية أو التي فيها القصص وقيل غير ذلك
( حتى كنا نعتمد ) بنون ( على العصي ) بكسر العين والصاد المهملتين جمع عصا كقوله تعالى { وعصيهم } سورة الشعراء الآية 44 وفي نسخة حتى يعتمد بتحتية وإسقاط لفظ كنا أي القاري فعلى العصا بالإفراد ( من طول القيام ) لأن الاعتماد في النافلة لطول القيام على حائط أو عصا جائز وإن قدر على القيام بخلاف الفرض
( وما كنا ننصرف إلا في بزوغ الفجر ) قال الباجي هي أوائله وأول ما يبدو منه
( مالك عن يزيد ) بتحتية فزاي ( ابن رومان ) بضم الراء المدني الثقة المتوفى سنة ثلاثين ومائة
( أنه قال كان الناس يقومون في زمان عمر بن الخطاب في رمضان بثلاث وعشرين ركعة ) وجمع البيهقي وغيره بين هذا وسابقه بأنهم كانوا يقومون بإحدى عشرة واحدة منها وتر ثم قاموا بعشرين وأوتروا بثلاث
قال الباجي فأمرهم أولا بتطويل القراءة لأنه أفضل ثم ضعف الناس فأمرهم بثلاث وعشرين فخفف من طول القراءة واستدرك بعض الفضيلة بزيادة الركعات انتهى
وروى ابن أبي شيبة عن ابن عباس كان النبي صلى الله عليه وسلم يصلي في رمضان في غير جماعة بعشرين ركعة والوتر لكن ضعفه ابن عبد البر والبيهقي برواية أبي شيبة جد ابن أبي شيبة
قال الباجي وكان الأمر على ذلك إلى يوم الحرة فثقل عليهم القيام فنقصوا من القراءة وزادوا الركعات فجعلت ستا وثلاثين غير الشفع والوتر
وذكر ابن حبيب أنها كانت أولا إحدى عشرة كانوا يطيلون القراءة فثقل عليهم فخففوا القراءة وزادوا في عدد الركعات فكانوا يصلون عشرين ركعة غير الشفع والوتر بقراءة متوسطة ثم خففوا القراءة وجعلوا الركعات ستا وثلاثين غير الشفع والوتر ومضى الأمر على ذلك
وروى محمد بن نصر عن داود بن قيس قال أدركت الناس في إمارة أبان بن عثمان وعمر بن عبد العزيز يعني بالمدينة يقومون بست وثلاثين ركعة ويوترون بثلاث وقال مالك هو الأمر القديم عندنا
( مالك عن داود بن الحصين ) بمهملتين مصغر ( أنه سمع الأعرج ) عبد الرحمن بن هرمز ( يقول ما أدركت الناس ) قال الباجي أي الصحابة
وقال ابن عبد البر أدرك الأعرج جماعة من الصحابة وكبار التابعين ( إلا وهم يلعنون الكفرة في رمضان ) في قنوت الوتر اقتداء بدعائه صلى الله عليه وسلم في القنوت على
____________________
(1/342)
رعل وذكوان وبني لحيان الذين قتلوا أصحابه ببئر معونة وفيه إباحة لعن الكفرة كان لهم ذمة أم لا غضبا لله
وروى المدنيون وابن وهب عن مالك أن الإمام كان يقنت في النصف الآخر من رمضان يلعن الكفرة ويؤمن من خلفه
وروى ابن نافع عن مالك أن القنوت في الوتر واسع إن شاء فعل وإن شاء ترك
وروى ابن القاسم عنه ليس عليه العمل ومعناه عندي ليس بسنة لكنه مباح ذكره ابن عبد البر لكن روى المصريون أن مالكا قال لا يقنت في الوتر أي لا في رمضان ولا في غيره وهو المذهب وقد قال ابن القاسم كان مالك بعد ذلك ينكره إنكارا شديدا ولا أرى أن يعمل به
( قال وكان القارىء يقرأ سورة البقرة في ثمان ركعات ) لحديث أفضل الصلاة طول القيام ( فإذا قام بها في اثنتي عشرة ركعة رأى الناس أنه قد خفف ) وجملة القول أنه لا حد في مبلغ القراءة وقد قال صلى الله عليه وسلم من أم بالناس فليخفف وقال لمعاذ لما بعثه إلى اليمن وأطل القراءة على قدر ما يطيقون لا يملون أمر الله ولا يكرهونه هذا في الفرائض فكيف في النوافل قاله أبو عمر
( مالك عن عبد الله بن أبي بكر ) بن محمد بن عمرو بن حزم الأنصاري المدني ( قال سمعت أبي ) أبا بكر اسمه وكنيته واحد وقيل يكنى أبا محمد الأنصاري البخاري الثقة المدني قاضيها ( يقول كنا ننصرف في رمضان ) زاد في نسخة من القيام ( فنستعجل الخدم ) جمع خادم ( بالطعام ) للسحور ( مخافة الفجر ) لأن عمر كان جعل القيام في آخر الليل فاستمر إلى زمن أبي بكر هذا بعد أن كان أول الليل كما مر
( مالك عن هشام بن عروة عن أبيه أن ذكوان ) بذال معجمة ( أبا عمرو ) المدني الثقة روى له البخاري وأبو داود والنسائي ( وكان عبدا لعائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم فأعتقته عن دبر منها كان يقوم يقرأ لها في رمضان ) أي يصلي لها إماما قال أبو عمر لا خلاف في جواز إمامة العبد البالغ فيما عدا الجمعة أي لأنها لا تجب عليه
وروى ابن أبي شيبة وغيره عن ابن أبي مليكة عن عائشة أنها أعتقت غلاما لها عن دبر فكان يؤمها في رمضان في المصحف
وروى الشافعي وعبد الرزاق عن أبي مليكة أنه كان يأتي عائشة هو وأبوه وعبيد بن عمير والمسور بن مخرمة وناس كثير فيؤمهم أبو عمرو مولى عائشة وهو يومئذ غلام لم يعتق
____________________
(1/343)
63 ما جاء في صلاة الليل من أفضل نوافل الخير المستحبة المرغب فيها قال رحم الله رجلا قام بالليل فصلى ثم أيقظ أهله فصلوا رحم الله امرأة قامت من الليل فصلت ثم أيقظت زوجها فصلى قال أبو هريرة وأبو سعيد إذا أيقظ الرجل أهله فصليا كتبا من الذاكرين الله كثيرا والذاكرات
وقال أفضل الصلاة بعد الفريضة صلاة الليل وقال استعينوا على قيام الليل بالقيلولة والأحاديث في هذا كثيرة
واختار ابن عبد البر أنه سنة لمواظبته عليه قال وقول قوم إنها واجبة عليه لا وجه له لقوله { ومن الليل فتهجد به } سورة الإسراء الآية 79 نافلة لك أي فضيلة والإجماع على نسخ الوجوب في حق الأمة وشذ عبيدة السلماني التابعي فأوجبه قدر حلب شاة وتعقب بأن معنى نافلة فضيلة لك زائدة في فرائضك
رح 254 ( مالك عن محمد بن المنكدر ) بن عبد الله المدني الثقة الفاضل ( عن سعيد بن جبير ) الأسدي مولاهم الكوفي ثقة ثبت فقيه أحد الأعلام قتله الحجاج ظلما في شعبان سنة خمس وتسعين وهو ابن سبع وخمسين وقيل تسع وأربعين قال ميمون بن مهران لقد مات وما على وجه الأرض أحد إلا وهو محتاج إلى علمه ( عن رجل عنده رضي ) قال ابن عبد البر قيل إنه الأسود بن يزيد النخعي فقد أخرجه النسائي من طريق ابن جعفر الرازي عن محمد بن المنكدر عن سعيد بن جبير عن الأسود بن يزيد عن عائشة به ورواه النسائي أيضا من وجه آخر عن أبي جعفر عن ابن المنكدر عن سعيد عن عائشة بلا واسطة وجزم الحافظ بأن روايته عن عائشة وأبي موسى ونحوهما مرسلة
قال الحافظ العراقي وقد جاء من حديث أبي الدرداء بنحو حديث عائشة أخرجه النسائي وابن ماجه والبزار بإسناد الصحيح ( أنه أخبره أن عائشة زوج النبي أخبرته أن رسول الله قال ما ) نافية ( من ) زائدة ( امرىء ) محرر لفظا مرفوع اسم ما إن جعلت حجازية وعلى الابتداء إن جعلت تميمية ( تكون له صلاة بليل يغلبه عليها نوم ) قال الباجي هو على وجهين أحدهما أن يذهب به النوم فلا يستيقظ
والثاني أن يستيقظ ويمنعه غلبة النوم من الصلاة فهذا حكمه أن ينام حتى يذهب عنه مانع النوم ( إلا كتب له أجر صلاته ) التي اعتادها وغلبه النوم أحيانا مكافأة له على نيته
قال الباجي وذلك يحتمل أن له أجرها غير مضاعف ولو عملها لضوعف له أجرها إذ لا خلاف أن المصلي أكمل حالا ويحتمل أن يريد له أجر نيته وأن له أجر من تمنى أن يصلي تلك الصلاة أو أجر تأسفه على ما فاته منها واستظهر غيره الأول أي أجر نيته لا سيما مع قوله ( وكان نومه عليه صدقة )
____________________
(1/344)
قال الباجي يعني أنه لا يحتسب به ويكتب له أجر المصلين
وقال ابن عبد البر فيه إن المرء يجازى على ما نوى من الخير وإن لم يعمله كما لو عمله فضلا من الله تعالى إذا لم يحبسه عنه شغل دنيا وكان المانع من الله وأن النية يعطى عليها كالذي يعطى على العمل إذا حيل بينه وبين ذلك العمل بنوم أو نسيان أو غير ذلك من الموانع وقد قال نية المؤمن خير من عمله ونية الفاجر شر من عمله وكل يعمل على نيته ومعناه أن النية بلا عمل خير من العمل بلا نية لأن العمل بدونها لا ينفع والنية الحسنة تنفع بلا عمل ويحتمل أن يريد أن نية المؤمن في الأعمال الصالحة أكثر مما يقوى عليه منها انتهى
والحديث رواه النسائي عن قتيبة عن مالك به وتابعه أبو جعفر الرازي عند النسائي أيضا وقال أبو جعفر ليس بقوي في الحديث
( مالك عن أبي النضر ) بفتح النون وسكون المعجمة واسمه سالم بن أبي أمية ( مولى عمر ) بضم العين ( ابن عبيد الله ) بتصغير العبد التيمي ( عن أبي سلمة بن عبد الرحمن ) بن عوف ( عن عائشة زوج النبي أنها قالت كنت أنام بين يدي رسول الله ورجلاي في قبلته ) جملة حالية أي في مكان سجوده ( فإذا سجد غمزني ) أي طعن بأصبعه في لأقبض رجلي من قبلته وقيل معناه أشار والأول أولى لأن معناه جاء في رواية قاله الحافظ البرهان في شرح البخاري ( فقبضت رجلي ) بشد الياء مثنى ( فإذا قام بسطتهما ) بالتثنية وكذا رواه الأكثر في البخاري ولبعض رواته رجلي وبسطتها بالإفراد فيهما ( قالت والبيوت يومئذ ليس فيها مصابيح ) إذ لو كانت لقبضت رجلي وما أحوجته للغمز قالت ذلك اعتذارا
قال ابن عبد البر قولها يومئذ تريد حينئذ إذ المصابيح إنما تتخذ في الليالي دون الأيام وهذا مشهور في لسان العرب يعبر باليوم عن الحين كما يعبر به عن النهار وفي قولها غمزني دلالة على أن لمس المرأة بلا لذة لا ينقض الوضوء لأن شأن المصلي عدم اللذة لا سيما النبي واحتمال الحائل أو الخصوصية الأصل عدم الحائل والخصائص لا تثبت بالاحتمال وعلى أن المرأة لا تقطع صلاة من صلى إليها وهو قول مالك والشافعي وأبي حنيفة وجماعة من التابعين وغيرهم نعم كرهه مالك لئلا يذكر منها ما يشغله عن الصلاة أو يبطلها والنبي معصوم وهذا الحديث كما قاله أبو عمر من أثبت ما جاء في هذا المعنى
ورواه البخاري عن إسماعيل وعبد الله بن يوسف ومسلم عن يحيى الثلاثة عن مالك به
____________________
(1/345)
( مالك عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة زوج النبي أن رسول الله قال إذا نعس ) بفتح العين وغلط من ضمها وأما المضارع فبضمها وفتحها ( أحدكم في صلاته ) الفرض والنفل في الليل أو النهار عند الجمهور أخذ بعمومه لكن لا يخرج فريضة عن وقتها وحمله مالك وجماعة على نفل الليل لأنه محل النوم غالبا ( فليرقد ) وفي رواية فلينم وأخرى فليضطجع والنعاس أول النوم والرقاد المستطاب من النوم ذكره الراغب وفي رواية النسائي فلينصرف والمراد به التسليم من الصلاة بعد تمامها فرضا كانت أو نفلا فالنعاس سبب للنوم أو للأمر به ولا يقطع الصلاة بمجرد النعاس وحمله المهلب على ظاهره فقال إنما أمر بقطع الصلاة لغلبة النوم عليه فدل على أنه إن كان النعاس أقل من ذلك عفي عنه ( حتى يذهب عنه النوم ) فهو غشي سقيم يهجم على القلب فيقطعه عن معرفة الأشياء والأمر للندب لا للوجوب لأنه إذا اشتد انقطعت الصلاة فلا يتأتى وجوب القطع لحصوله بغير اختيار المصلي ذكره الولي العراقي مخالفا لأبيه في تفصيله بين شدة النعاس وخفته ( فإن أحدكم إذا صلى وهو ناعس ) في أوائل النوم ( لا يدري ) ما يفعل فحذف المفعول للعلم له واستأنف بيانيا قوله ( لعله يذهب يستغفر ) أي يدعو برفعهما ( فيسب نفسه ) أي يدعو عليها ففي النسائي من طريق أيوب عن هشام يدعو على نفسه وهو بالنصب جوابا للعل والرفع عطفا على يستغفر قال الطيبي والنصب أولى لأن المعنى يطلب من الله الغفران لذنبه ليصير مزكى فيتكلم بما يجلب الذنب فيزيد العصيان على العصيان وكأنه قد سب نفسه وجعل ابن أبي جمرة علة النهي خشية أن يوافق ساعة إجابة والرجاء في لعل عائد على المصلي لا إلى المتكلم به أي لا يدري استغفر أم سب مترجيا للاستغفار وهو في الواقع بضد ذلك وعبر أولا بنعس ماضيا وثانيا بناعس اسم فاعل تنبيها على أنه لا يكفي تجدد أدنى نعاس ونقيضه في الحال بل لا بد من ثبوته بحيث يفضي إلى عدم درايته بما يقول وعدم علمه بما يقرأ
قال الزين العراقي وإنما أخذ بما لم يقصد من سبه نفسه وهو ناعس لأنه عرض نفسه للوقوع فيه بعد النهي عنه فهو متعد ويفرض عدم إثمه بعدم قصده فالقصد من الصلاة أداؤها كما أمر وتحصيل الدعاء لنفسه وبفواته يفوت المقصود
قال أبو عمر فيه إنه لا يجوز للمرء سب نفسه وأن الصلاة لا ينبغي أن يقربها من لا يقيمها على حدودها وإن ترك ما يشغله عن خشوعها واستعمال الفراغ لها واجب
وقال الضحاك في قوله تعالى { لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى } سورة النساء الآية 43 قال من النوم ولا أعلم أحدا تابعه على ذلك
____________________
(1/346)
وقال الباجي قال جماعة من أهل التفسير معنى ذلك من النوم والأغلب أن يكون ذلك في صلاة الليل فمن أصابه ذلك وفي الوقت سعة ومعه من يوقظه فليرقد ليتفرغ لصلاته وإن ضاق الوقت صلى واجتهد في تصحيحها فإن تيقن تمام فرضه وإلا قضاه بعد النوم وهذا الحديث أخرجه البخاري عن عبد الله بن يوسف ومسلم عن قتيبة بن سعيد كلاهما عن مالك به وتابعه أبو أسامة وعبد الله بن نمير كلاهما عن هشام عند مسلم
( مالك عن إسماعيل بن أبي حكيم ) القرشي مولاهم المدني ثقة روى له الشيخان ( أنه بلغه ) كذا رواه إسماعيل بلاغا وقد رواه القعنبي عن مالك عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة قال ابن عبد البر تفرد به القعنبي في الموطأ دون بقية رواته فاقتصروا منه على طرف مختصر وهو متصل من طرق صحاح ثابتة من حديث مالك وغيره فأخرجه البخاري حدثنا عبد الله بن مسلمة عن مالك عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة والبخاري ومسلم من طريق يحيى بن سعيد القطان عن هشام عن أبيه عن عائشة والعقيلي من طريق الضحاك بن عثمان عن إسماعيل بن أبي حكيم عن القاسم بن محمد عن عائشة أن رسول الله سمع امرأة من الليل تصلي أي سمع ذكر صلاتها فلفظ رواية القعنبي المذكورة عن عائشة قالت كان عندي امرأة من بني أسد فدخل علي رسول الله فقال من هذه قلت فلانة لا تنام بالليل نذكر من صلاتها فقال مه عليكم ما تطيقون من الأعمال فإن الله لا يمل حتى تملوا ولكن تغايره رواية الزهري عن عروة عن عائشة عند مسلم أن الحولاء مرت بها وعندها رسول الله الحديث إذ يحتمل أن المارة امرأة غيرها من بني أسد أيضا فالقصة تعددت وأجاب الحافظ بأنها واحدة ويحمل أنها كانت أولا عند عائشة فلما دخل على عائشة قامت المرأة لتخرج فمرت به في حال ذهابها فسأل عنها كما في رواية حماد بن سلمة عن هشام بلفظ كانت عندي امرأة فلما قامت قال رسول الله من هذه قلت فلانة وهي أعبد أهل المدينة الحديث رواه الحسن بن سفيان في مسنده ودل هذا على أنها لم تذكر ذلك إلا بعد خروج المرأة فلا يأتي قول ابن التين لعلها أمنت عليها الفتنة فمدحتها في وجهها
( فقال من هذه فقيل له ) القائل عائشة ففي مسلم من رواية الزهري عن عروة عن عائشة فقلت ( هذه الحولاء ) بالحاء المهملة والمد وهو اسمها فكنت عنها بفلانة في رواية هشام وصرحت في رواية الزهري وفي هذا البلاغ باسمها واسم أبيها فقالت ( بنت تويت ) بفوقيتين مصغر ابن حبيب بفتح المهملة ابن أسد بن عبد العزى بن قصي من رهط خديجة أم المؤمنين أسلمت وبايعت ( لا تنام الليل ) تصلي كما زاده أحمد ومسلم من رواية يحيى القطان عن هشام وفي مسلم من طريق الزهري وزعموا أنها لا تنام الليل وهذا يوافق رواية أن عائشة حكت ذلك عن غيرها ( فكره ) ذلك ( رسول
____________________
(1/347)
الله صلى الله عليه وسلم حتى عرفت الكراهية ) بخفة الياء ( في وجهه ) قال الباجي تعني أنه رؤي في وجهه من التقطيب وغير (1) *
وقال الحافظ الملال استثقال الشيء ونفور النفس عنه بعد محبته وهو محال على الله تعالى باتفاق قال الإسماعيلي وجماعة من المحققين إنما أطلق هذا على جهة المقابلة اللفظية مجازا كما قال تعالى { وجزاء سيئة سيئة مثلها } وأنظاره
وقال القرطبي وجهة مجازه أنه تعالى لما كان يقطع ثوابه عمن قطع العمل ملالا عبر عن ذلك بالملال من تسمية الشيء باسم سببه
وقال الهروي معناه لا يقطع عنكم فضله حتى تملوا سؤاله فتزهد في الرغبة إليه
وقال غيره معناه لا يتناهى حقه عليكم في الطاعة حتى يتناهى جهدكم وهذا كله بناء على أن حتى على بابها في انتهاء الغاية وما يترتب عليها من المفهوم وجنح بعضهم إلى تأويلها فقيل معناه لا يمل الله إذا مللتم وهو مستعمل في كلام العرب يقولون لا أفعل كذا حتى يبيض القار وحتى يشيب الغراب
ومنه قولهم في البليغ لا ينقطع حتى ينقطع خصومه لأنه لو انقطع لم يكن له عليهم مزية
وهذا المثال أشبه من الذي قبله لأن شيب الغراب ليس ممكنا عادة بخلاف الملل من العابد
وقال المازري قيل حتى بمعنى الواو فالتقدير لا يمل وتملون فنفى عنه الملل وأثبته لهم قال وقيل حتى بمعنى حين والأول أليق وأجرى على القواعد وأنه من باب المقابلة اللفظية ويؤيده ما ورد في بعض طرق حديث عائشة إن الله لا يمل من الثواب حتى تملوا من العمل أخرجه ابن جرير لكن في سنده موسى بن عبيدة وهو ضعيف
وفي بعض طرقه ما يدل على أن ذلك من قول بعض رواة الحديث
وقال ابن حبان هذا من ألفاظ التعارف التي لا يتهيأ للمخاطب أن يعرف القصد بما يخاطب به إلا بها وهذا رأيه في جميع المتشابه
( اكلفوا ) بسكون الكاف وفتح اللام أي خذوا وتحملوا ( من العمل ) أي عمل البر من صلاة وغيرها ( ما لكم به ) أي بالمداومة عليه ( طاقة ) قوة فمنطوقه الأمر بالاقتصار على ما يطاق من العبادة
____________________
1* ذلك ما عرفت به كراهيته لما وصفت به ولمسلم من رواية الزهري فقال لا تنام الليل ( ثم قال إن الله تبارك وتعالى لا يمل حتى تملوا ) بفتح الميم فيهما قال ابن عبد البر أي أن من مل من عمل قطع عنه جزاءه فعبر عنه بالملال لأنه بحذائه وجواب له فهو لفظ خرج على مثال لفظ والعرب تفعل ذلك إذا جعلوه جوابا له أو جزاء ذكروه مثل لفظه وإن كان مخالفا له في المعنى كقوله تعالى { وجزاء سيئة سيئة مثلها } سورة الشورى الآية 40 { فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم } سورة البقرة الآية 194 { ومكروا ومكر الله } سورة آل عمران الآية 54 { نحن مستهزؤون } سورة البقرة الآية 14 { الله يستهزئ بهم } سورة البقرة الآية 15 { يكيدون كيدا وأكيد كيدا } سورة الطارق الآية 15
(1/348)
ومفهومه النهي عن تكلف ما لا يطاق
وقال عياض يحتمل أن هذا خاص بصلاة الليل ويحتمل أنه عام في الأعمال الشرعية
وقال الحافظ سبب وروده خاص بالصلاة لكن اللفظ عام وهو المعتبر وقد عبر بقوله أي في حديث عائشة عليكم وبقوله هنا اكلفوا مع أن المخاطب النساء طلبا لتعميم الحكم فغلب الذكور على الإناث انتهى
وقال الباجي الأظهر أنه أراد به عمل البر لأنه ورد على سببه والصحيح وهو قول مالك أن اللفظ الوارد على سبب غير مقصور عليه ولأنه لفظ ورد من الشارع فوجب أن يحمل على الأعمال الشرعية وقد أخذ بظاهر الحديث جماعة من الائمة فقالوا يكره قيام جميع الليل وبه قال مالك مرة ثم رجع فقال لا بأس به ما لم يضر بصلاة الصبح فإن كان يأتي وهو ناعس فلا يفعل وإن كان إنما يدركه كسل وفتور فلا بأس بذلك وكذا قال الشافعي لا أكرهه إلا لمن خشي أن يضر بصلاة الصبح
( مالك عن زيد بن أسلم عن أبيه أن عمر بن الخطاب كان يصلي من الليل ما شاء الله حتى إذا كان من آخر الليل أيقظ أهله للصلاة ) أي لإدراك شيء من صلاة السحر والاستغفار فيه ويحتمل أن يكون إيقاظه لصلاة الصبح وأيما كان فإنه امتثل الآية وفيه أنه لم يشغله أمور المسلمين عن صلاة الليل لفضل التهجد وأنه لم يكلف أهله منه ما كان هو يفعله
( يقول لهم الصلاة الصلاة ) بنصبهما ( ثم يتلو هذه الآية وأمر أهلك بالصلاة واصطبر ) اصبر ( عليها لا نسألك ) لا نكلفك ( رزقا ) لنفسك ولا لغيرك ( نحن نرزقك والعاقبة ) الجنة ( للتقوى ) أي لأهلها
روى ابن مردويه عن أبي قال حين نزلت هذه الآية كان يأتي باب علي فيقول الصلاة رحمكم الله { إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيرا } سورة الأحزاب الآية 33
( مالك أنه بلغه أن سعيد بن المسيب كان يقول يكره النوم قبل العشاء ) لما فيه من تعريضها للفوات ( والحديث بعدها ) لمنعه من صلاة الليل وقد أرخص في ذلك لمن تحدث مع ضيف أو غلمان أو لعرس أو لمسافر قاله الباجي وهذا البلاغ حديث مرفوع روى الشيخان عن أبي برزة بفتح الموحدة والزاي بينهما راء ساكنة أن رسول الله كان يكره النوم قبل العشاء والحديث بعدها قال
____________________
(1/349)
الترمذي كره أكثر أهل العلم النوم قبل صلاة العشاء ورخص فيه بعضهم ورخص بعضهم فيه في رمضان خاصة انتهى
قال الحافظ ومن نقلت عنه الرخصة قيدت عنه في أكثر الروايات بما إذا كان له من يوقظه أو عرف من عادته أنه لا يستغرق وقت الاختيار بالنوم وهذا جيد حيث قلنا إن علة النهي خشية خروج الوقت
وحمل الطحاوي الرخصة على ما قبل دخول وقت العشاء والكراهة على ما بعد دخوله
( مالك أنه بلغه أن عبد الله بن عمر كان يقول ) بلاغه صحيح وقد رواه ابن وهب أخبرني عمرو بن الحارث عن بكير بن عبد الله بن الأشج أن محمد بن عبد الرحمن بن قرمان حدثه أنه سمع ابن عمر يقول ( صلاة الليل والنهار ) أي التنفل فيه إذ لا يقال للظهر ولا للعصر ( مثنى مثنى ) بفتح الميم أي اثنين اثنين ( يسلم من كل ركعتين ) قال أبو عمر هذا تفسير لحديثه بعد هذا في الموطأ مرفوعا صلاة الليل مثنى مثنى قال الشافعي هو حديث خرج على جواب سائل كأنه قيل كيف صلاة الليل قال مثنى مثنى
ولو سأله عن صلاة النهار لقال مثل ذلك لقول ابن عمر هذا فهو يرد على الكوفيين في إجازتهم عشر ركعات وثمانيا وستا وأربعا بغير سلام
وروي أن ابن عمر كان يتطوع بالنهار أربعا لا يفصل بينهن وهذا لو صح احتمل أن يكون لا يفصل بينهن بتقدم عن موضعه ولا تأخر وجلوس طويل وكلام
وقد روى ابن عمر أنه كان يصلي قبل الظهر ركعتين وبعدها ركعتين وقبل العصر ركعتين وبعد المغرب ركعتين وهو كان أشد الناس امتثالا له فكيف يقبل مع هذا أن ابن عمر كان يتطوع بالنهار أربعا لا يفصل بينهن
( قال مالك وهو الأمر عندنا ) بالمدينة الذي أجمعوا عليه
64 صلاة النبي في الوتر رح 261 بكسر الواو الفرد وبفتحها الثار وفي اللغة مترادفان
( مالك عن ابن شهاب عن عروة بن الزبير عن عائشة زوج النبي أن رسول الله كان يصلي من الليل إحدى عشرة ركعة ) زاد يونس والأوزاعي وابن أبي ذئب عن الزهري بإسناده يسلم من كل ركعتين ( يوتر منها بواحدة فإذا فرغ اضطجع على شقه الأيمن ) للاستراحة من طول القيام هكذا اتفق عليه رواة الموطأ
____________________
(1/350)
وأما أصحاب ابن شهاب فرووا هذا الحديث عنه بإسناده فجعلوا الاضطجاع بعد ركعتي الفجر لا بعد الوتر فقالوا فإذا تبين له الفجر وجاءه المؤذن ركع ركعتين خفيفتين ثم اضطجع على شقه الأيمن حتى يأتيه المؤذن للإقامة
وزعم محمد بن يحيى الذهلي بذال ولام وغيره أنه الصواب دون رواية مالك ورده ابن عبد البر بأنه لا يدفع ما قاله مالك لموضعه من الحفظ والإتقان ولثبوته في ابن شهاب وعلمه بحديثه
وقد قال يحيى بن معين إذا اختلف أصحاب ابن شهاب فالقول ما قال مالك فهو أثبتهم فيه وأحفظهم لحديثه ويحتمل أن يضطجع مرة كذا ومرة كذا ولرواية مالك شاهد وهو حديث ابن عباس الآتي أن اضطجاعه كان بعد الوتر وقبل ركعتي الفجر فلا ينكر أن يحفظ ذلك مالك في حديث ابن شهاب وإن لم يتابع عليه انتهى
أي لأنه إمام متقن حافظ فلا يضره التفرد
وقد أخرجه الترمذي من طريق معن عن مالك وقال حسن صحيح ومسلم عن يحيى عن مالك به وزاد حتى يأتيه المؤذن فيصلي ركعتين خفيفتين يعني ركعتي الفجر
ثم روى بعده من طريق عمرو بن الحارث ويونس عن ابن شهاب بسنده وفيه أن الاضطجاع بعد ركعتي الفجر فأشار إلى أن الروايتين محفوظتان لأن شرط الشذوذ تعذر الجمع وقد أمكن بما قال أبو عمر مرة كذا ومرة كذا وبأنه لا يلزم من ذكر الاضطجاع في أحد الوقتين نفي الآخر فكان يفعله قبل وبعد ورجح هذا بأنه لم يثبت ترك الاضطجاع
رح 26( مالك عن سعيد بن أبي سعيد ) كيسان ( المقبري ) بفتح الميم وسكون القاف وضم الموحدة وفتحها نسبة إلى المقبرة لأنه كان مجاورا لها ( عن أبي سلمة ) إسماعيل أو عبد الله أو اسمه كنيته ( ابن عبد الرحمن بن عوف ) الزهري التابعي ابن الصحابي ( أنه سأل عائشة زوج النبي كيف كانت صلاة رسول الله في رمضان فقالت ما كان رسول الله يزيد في رمضان ولا في غيره على إحدى عشرة ركعة ) أي غير ركعتي الفجر كما في رواية القاسم عنها وفيه أن صلاته كانت متساوية في جميع السنة ولا ينافي ذلك حديثها كان إذا دخل العشر يتهجد فيه ما لا يتهجد في غيره لأنه يحمل على التطويل في الركعات دون الزيادة في العدد وما رواه ابن أبي شيبة عن ابن عباس كان يصلي في رمضان عشرين ركعة والوتر فإسناده ضعيف وقد عارضه هذا الحديث الصحيح مع كون عائشة أعلم بحال النبي ليلا من غيرها
قال الحافظ وظهر لي أن الحكمة في عدم الزيادة على إحدى عشرة ركعة أن التهجد والوتر مختص بصلاة الليل وفرائض النهار الظهر وهي أربع والعصر وهي أربع والمغرب وهي ثلاث وتر النهار فناسب أن تكون صلاة الليل كصلاة النهار في العدد جملة وتفصيلا
وأما مناسبة ثلاثة عشر فبضم صلاة الصبح لكونها نهارية إلى ما بعدها انتهى
____________________
(1/351)
وتعقب بأن الصبح نهارية لقوله تعالى { وكلوا واشربوا حتى يتبين لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود } سورة البقرة الآية 187 والمغرب ليلية لحديث إذا أقبل الليل من ها هنا فقد أفطر الصائم ويرد بقوله صلاة المغرب وتر النهار فأوتروا صلاة الليل إسناده صحيح كما قاله الحافظ العراقي فأضيفت إلى النهار لوقوعها عقبه فهي نهارية حكما ليلية حقيقة كما يأتي قريبا
( يصلي أربعا فلا تسأل عن حسنهن وطولهن ) أي إنهن في نهاية من كمال الحسن والطول مستغنيات بظهور ذلك عن السؤال عنه
( ثم يصلي أربعا فلا تسأل عن حسنهن وطولهن ) يعني أربعا في الطول والحسن وترتيب القراءة ونحو ذلك فلا ينافي أنه كان يجلس في كل ركعتين ويسلم لقوله صلاة الليل مثنى مثنى ومحال أن يأمر بشيء ويفعل خلافه وإلى هذا ذهب فقهاء الحجاز وجماعة من أهل العراق وذهب قوم إلى أن الأربع لم يكن بينهما سلام وقال بعضهم ولا جلوس إلا في آخرها ويرد عليه أن في رواية عروة عن عائشة أنه كان يسلم من كل ركعتين ذكره في التمهيد اه
( ثم يصلي ثلاثا ) يوتر منها بواحدة كما في حديثها فوقه والركعتان شفع ( فقالت عائشة فقلت ) بفاء العطف على السابق ( يا رسول الله أتنام قبل أن توتر ) بهمزة الاستفهام الاستخباري لأنها لم تعرف النوم قبل الوتر لأن أباها كان لا ينام حتى يوتر وكان يوتر أول الليل فكان مقررا عندها أن لا نوم قبل الوتر فأجابها بأنه ليس كغيره ( فقال يا عائشة إن عيني تنامان ولا ينام قلبي ) لأن القلب إذا قويت حياته لا ينام إذا نام البدن ولا يكون ذلك إلا للأنبياء كما قال إنا معاشر الأنبياء تنام أعيننا ولا تنام قلوبنا ولذا قال ابن عباس وغيره من العلماء رؤيا الأنبياء وحي ولو سلط النوم على قلوبهم كانت رؤياهم كرؤيا من سواهم ولذا كان ينام حتى ينفخ ويسمع غطيطه ثم يصلي ولا يتوضأ لأن الوضوء إنما يجب بغلبة النوم على القلب لا على العين ولا يعارض نومه بالوادي لأن رؤية الفجر متعلق بالعين لا بالقلب كما مر مبسوطا
قال ابن عبد البر في هذا الحديث تقديم وتأخير لأن السؤال بعد ذكر الوتر ومعناه أنه كان ينام قبل صلاته وهذا يدل على أنه كان يقوم ثم ينام ثم يقوم ثم ينام ثم يقوم فيوتر ولذا جاء الحديث أربعا ثم أربعا ثم ثلاثا أظن ذلك والله أعلم من أجل أنه كان ينام بينهن فقال أربعا ثم أربعا تعني بعد نوم ثم ثلاث بعد نوم ولذا قالت أتنام قبل أن توتر وقد قالت أم سلمة كان يصلي ثم ينام قدر ما صلى ثم يصلي قدر ما ينام ثم ينام قدر ما صلى الحديث يعني فهذا شاهد لحمل خبر عائشة على ما ذكر
____________________
(1/352)
وأخرجه البخاري في الصلاة عن عبد الله بن يوسف وفي الصوم عن إسماعيل وفي الصفة النبوية عن القعنبي ومسلم عن يحيى وأصحاب السنن الثلاثة عن قتيبة ومن طريق ابن القاسم وابن مهدي والترمذي من طريق معن الثمانية عن مالك به
( مالك عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة أم المؤمنين قالت كان رسول الله يصلي بالليل ثلاث عشرة ركعة ) ظاهره يخالف ما قبله من رواية أبي سلمة عنها ما كان يزيد في رمضان ولا في غيره على إحدى عشرة ركعة فيحتمل أنها أضافت إلى صلاة الليل سنة العشاء لأنه كان يصليها في بيته أو ما كان يفتتح به صلاة الليل كما في مسلم من طريق سعد بن هشام عنها أنه كان يفتتحها بركعتين خفيفتين وهذا أرجح في نظري لأن رواية أبي سلمة الدالة على الحصر جاء في صفتها يصلي أربعا ثم أربعا ثم ثلاثا فدل على أنها لم تتعرض للركعتين الخفيفتين وتعرضت لهما هنا في رواية عروة والزيادة من الحافظ مقبولة
وفي الصحيح عن مسروق سئلت عائشة عن صلاة رسول الله بالليل فقالت سبعا وتسعا وإحدى عشرة سوى ركعتي الفجر ومرادها أن ذلك وقع منه في أوقات مختلفة فتارة سبعا وتارة إلى آخره
ورواية القاسم عنها في الصحيحين كان يصلي ثلاث عشرة ركعة منها الوتر وركعتا الفجر محمولة على أن ذلك كان غالب حاله وبهذا يجمع بين الروايات
قال القرطبي أشكلت روايات عائشة على كثير من العلماء حتى نسب بعضهم حديثها إلى الاضطراب وهذا إنما يتم لو كان الراوي عنها واحدا وأخبرت عن وقت واحد
والصواب أن كل شيء ذكرته من ذلك محمول على أوقات متعددة وأحوال مختلفة بحسب النشاط وبيان الجواز ذكره في فتح الباري
وقال الباجي ذكر بعض من لم يتأمل أن رواية عائشة اضطربت في الحج والرضاع وصلاة النبي بالليل وقصر الصلاة في السفر قال وهذا غلط ممن قاله فقد أجمع العلماء على أنها أحفظ الصحابة أي من أحفظهم فكيف بغيرهم وإنما حمله على هذا قلة معرفته بمعاني الكلام ووجوه التأويل فإن الحديث الأول إخبار عن صلاته المعتادة غالبا والثاني إخبار عن زيادة وقعت في بعض الأوقات أو ضمت ما كان يفتتح به صلاته من ركعتين خفيفتين قبل الإحدى عشرة
وقال ابن عبد البر ذكر قوم من رواة هذا الحديث عن هشام أنه كان يوتر ذلك بخمس لا يجلس في شيء من الخمس ركعات إلا في آخرهن رواه حماد بن سلمة وأبو عوانة ووهيب وغيرهم وأكثر الحفاظ رووه عن هشام كما رواه مالك والرواية المخالفة له إنما حدث بها عن هشام أهل العراق وما حدث به هشام قبل خروجه إلى العراق أصح عندهم
____________________
(1/353)
( ثم يصلي إذا سمع النداء ) أي الأذان ( بالصبح ركعتين خفيفتين ) رغيبتي الفجر
وفي رواية عمرة عن عائشة حتى إني لأقول هل قرأ بأم الكتاب أم لا واختلف في حكمة تخفيفها فقيل ليبادر إلى صلاة الصبح في أول الوقت وبه جزم القرطبي وقيل ليستفتح صلاة النهار بركعتين خفيفتين كما كان يصنع في صلاة الليل ليدخل في الفرض أو ما شابهه في الفضل بنشاط واستعداد تام والله أعلم
وهذا الحديث رواه البخاري عن عبد الله بن يوسف وأبو داود عن القعنبي والثلاثة عن قتيبة ثلاثتهم عن مالك به
( مالك عن مخرمة ) بإسكان الخاء وفتح غيرها ( ابن سليمان ) الأسدي الوالبي بكسر اللام والموحدة المدني روى عن ابن الزبير وأسماء بنت أبي بكر وعدة وعنه جماعة وثقه ابن معين وغيره قال الواقدي قلته الحرورية بقديد سنة ثلاثين ومائة وهو ابن سبعين سنة ( عن كريب ) بضم الكاف وفتح الراء ابن أبي مسلم الهاشمي مولاهم المدني يكنى بأبي رشدين ( مولى ابن عباس ) عن مولاه وابن عمر وزيد بن ثابت وأسامة وعائشة وميمونة وأم سلمة وعنه ابناه رشدين ومحمد وبكير بن الأشج ومكحول وموسى بن عقبة وآخرون وثقه ابن معين وابن سعد والنسائي واحتج به الجماعة مات سنة ثمان وتسعين
( أن عبد الله بن عباس ) الحبر واسع العلم فقها وحديثا وعربية وأنسابا وشعرا وتفسيرا روى الطبراني عنه دعاني فقال نعم ترجمان القرآن أنت دعاك جبريل مرتين
وعنه وضع يده على كتفي أو منكبي ثم قال اللهم فقهه في الدين وعلمه التأويل رواه أحمد والطبراني برجال الصحيح
وعنه أن رسول الله وضع يده على صدره فوجد بردها في صدره ثم قال اللهم احش جوفه علما وحلما
وعنه ضمني إلى صدره وقال اللهم علمه الحكمة وفي رواية الكتاب رواهما البخاري
( أخبره أنه بات ليلة عند ميمونة زوج النبي وهي خالته ) زاد شريك بن أبي نمر عن كريب عند مسلم فرقبت رسول الله كيف يصلي زاد أبو عوانة من هذا الوجه بالليل
ولمسلم من طريق عطاء عن ابن عباس قال بعثني العباس إلى النبي زاد النسائي من طريق حبيب بن أبي ثابت عن كريب في إبل أعطاه إياها من الصدقة أي صدقة التطوع أو ليتولى صرفه في مصالح غيره ممن يحل له أخذ ذلك وإلا فالعباس هاشمي لا يعطى صدقة الفرض
ولأبي عوانة عن علي بن عبد الله بن عباس عن أبيه أن العباس بعثه إلى النبي في حاجة قال فوجدته جالسا في المسجد فلم أستطع أن أكلمه فلما صلى المغرب قام فركع حتى أذن المؤذنون بصلاة العشاء ولابن خزيمة
____________________
(1/354)
عن طلحة بن نافع عنه كان صلى الله عليه وسلم وعد العباس ذودا من الإبل فبعثني إليه بعد العشاء وكان في بيت ميمونة (1) *
وهذا يخالف ما قبله ويجمع بأنه لما لم يكلمه في المسجد عاد إليه بعد العشاء
وفيه جواز تقاضي الوعد وإن كان من وعد به مقطوعا بوفائه
ولمحمد بن نصر من طريق محمد بن الوليد عن كريب فقال لي يا بني بت الليلة عندنا
وفي رواية حبيب المذكورة فقلت لأنام حتى أنظر إلى ما يصنع رسول الله أي في صلاة الليل
ولمسلم عن الضحاك بن عثمان عن مخرمة فقلت لميمونة إذا قام فأيقظيني
فكأنه عزم في نفسه على السهر ليطلع على الكيفية التي أرادها ثم خشي أن يغلبه النوم فوصى ميمونة أن توقظه
وفيه فضل ابن عباس وقوة فهمه وحرصه على تعليم أمر الدين وحسن تأنيه في ذلك
( قال فاضطجعت ) أي وضعت جنبي بالأرض ( في عرض ) بفتح العين على المشهور وبضمها أيضا وأنكره الباجي نقلا ومعنى قال لأن العرض هو الجانب وهو لفظ مشترك ورده العسقلاني بأنه لما قال في طولها تعين المراد وقد صحت به الرواية فلا وجه للإنكار
( الوسادة ) ما يوضع عليه الرأس للنوم ولمحمد بن نصر وسادة من أدم حشوها ليف
( واضطجع رسول الله وأهله في طولها ) أي الوسادة
قال ابن عبد البر كان ابن عباس والله أعلم مضطجعا عند أرجلهما أو عند رأسهما
وقال الباجي هذا ليس بالبين لأنه لو كان كذلك لقال توسدت عرضها
وقوله فاضطجعت في عرض يقتضي أن العرض محل لاضطجاعه
وفي رواية طلحة بن نافع عند ابن خزيمة ثم دخل مع امرأته في فراشها وكانت ليلتئذ حائضا وفيه مبيت الصغير عند محرمه وإن كان زوجها عندها والاضطجاع مع الحائض وترك الاحتشام في ذلك بحضرة الصغير وإن كان مميزا بل مراهقا
وللبخاري في التفسير ومسلم من رواية شريك عن كريب فتحدث مع أهله ساعة
ولأبي زرعة الرازي في العلل عن ابن عباس أتيت خالتي ميمونة فقلت إني أريد أن أبيت عندكم فقالت كيف تبيت وإنما الفراش واحد فقلت لا حاجة لي بفراشكم أفرش نصف إزاري وأما الوسادة فإني أضع رأسي مع رأسكما من وراء الوسادة فجاء فحدثته ميمونة بما قلت فقال هذا شيخ قريش ( فقام رسول الله حتى إذا انتصف الليل أو قبله بقليل أو بعده بقليل ) قال ابن عبد البر فيه التحري في الألفاظ وفي المعاني
وللبخاري عن القعنبي عن مالك حتى انتصف الليل أو قريبا منه
وله عن شريك عن كريب الجزم بثلث الليل الأخير
قال الحافظ ويجمع بينهما بأن الاستيقاظ وقع مرتين في الأولى نظر إلى السماء ثم تلا الآيات ثم عاد لمضجعه فنام
وفي الثالثة أعاد ذلك ثم توضأ وصلى
وبين ذلك محمد بن الوليد في روايته المذكورة وفي رواية الثوري عن سلمة بن كهيل
____________________
1*
(1/355)
عن كريب في الصحيحين فقام من الليل فأتى حاجته ثم غسل وجهه ويديه ثم نام ثم قام فأتى القربة الحديث
وفي رواية سعيد بن مسروق عن سلمة عند مسلم ثم قام قومة أخرى
وعنده من رواية شعبة عن سلمة فبال بدل فأتى حاجته
( استيقظ رسول الله ) إن جعلت إذا ظرفية فقبله ظرف لاستيقظ أي استيقظ وقت الانتصاف أو قبله وإن جعلت شرطية فمتعلق بفعل مقدر واستيقظ جواب الشرط أي حتى إذا انتصف الليل أو كان قبله أو بعده استيقظ ( فجلس ) حال كونه ( يمسح النوم عن وجهه ) قال الباجي يحتمل أنه أراد إزالة النوم وأنه أراد إزالة الكسل بمسح الوجه ( بيده ) بالإفراد أي يمسح بيده عينيه من إطلاق اسم الحال على المحل لأن المسح إنما يقع على العين والنوم لا يمسح أو المراد يمسح أثر النوم من إطلاق السبب على المسبب قاله الحافظ وتعقب بأن أثر النوم من النوم لأنه نفسه ورد بأن الأثر غير المؤثر فالمراد هنا ارتخاء الجفون من النوم ونحوه
( ثم قرأ ) ( العشر الآيات ) من إضافة الصفة للموصوف واللام تدخل في العدد المضاف نحو الثلاثة الأثواب ( الخواتم ) بالنصب صفة العشر ( من سورة آل عمران ) أولها { إن في خلق السماوات والأرض } سورة آل عمران الآية 190 إلى آخر السورة
قال الباجي يحتمل أن ذلك ليبتدىء يقظته بذكر الله كما ختمها بذكره عند نومه
ويحتمل أن ذلك ليتذكر ما ندب إليه من العبادة وما وعد على ذلك من الثواب فإن هذه الآيات جامعة لكثير من ذلك ليكون تنشيطا له على العبادة
قال ابن عبد البر فيه قراءة القرآن على غير وضوء ولا خلاف فيه
وقد قال علي كان لا يحجزه عن قراءة القرآن إلا الجنابة وعليه جمهور العلماء وشذ قوم فأجازوا قراءته للجنب وهم محجوبون بالسنة
وقال ابن بطال فيه دليل على من كره قراءة القرآن على غير طهارة لأنه قرأ هذه الآيات بعد قيامه من النوم قبل أن يتوضأ وتعقبه ابن المنير وغيره بأن ذلك مفرع على أن نومه ناقض وليس كذلك لقوله إن عيني تنامان ولا ينام قلبي وأما وضوءه عقبه فلعله تجديد أو أحدث بعد ذلك فتوضأ قال الحافظ وهو تعقب جيد بالنسبة إلى قول ابن بطال بعد قيامه من النوم لأنه لم يتعين أنه أحدث في النوم لكن لما عقب ذلك بالوضوء كان ظاهرا في أنه أحدث ولا يلزم من كون نومه لا ينقض وضوءه أن لا يقع منه حدث وهو نائم نعم خصوصيته أنه إن وقع شعر به بخلاف غيره وما ادعوه من التجديد وغيره الأصل عدمه وقد سبق الإسماعيلي إلى معنى ما ذكر ابن المنير
( ثم قام إلى شن معلق ) بفتح الشين المعجمة وشد النون قربة خلقة من أدم وذكر الوصف باعتبار لفظه أو الأدم أو الجلد أو السقاء أو الوعاء
وفي رواية للبخاري من هذا الوجه معلقة بتأنيث الوصف
____________________
(1/356)
لإرادة القربة ( فتوضأ منه ) أي الشن وللبخاري منها أي القربة ولمحمد بن نصر من طريق محمد بن الوليد عن كريب ثم استفرغ من الشن في إناء ثم توضأ وفيه جواز الاغتراف من الماء القليل لأن الإناء المذكور كان قصعة أو صحفة
( فأحسن وضوءه ) أي أتمه بأن أتى بمندوباته ولابن خزيمة ومحمد بن نصر فأسبغ الوضوء
وللبخاري من رواية عمرو بن دينار عن كريب فتوضأ وضوءا خفيفا
ويجمع بينهما برواية الثوري في الصحيحين فتوضأ وضوءا بين وضوءين لم يكثر وقد أبلغ
ولمسلم فأسبغ الوضوء ولم يمس من الماء إلا قليلا وزاد فيها فتسوك
( ثم قام يصلي ) ولمحمد بن نصر ثم أخذ بردا له حضرميا فتوشحه ثم دخل البيت فقام يصلي ( قال ابن عباس فقمت فصنعت مثل ما صنع ) يقتضي أنه صنع جميع ما ذكر من القول والنظر والوضوء والسواك والتوشح ويحتمل أن يحمل على الأغلب إذ لا يلزم من إطلاق المثلية المساواة من كل جهة وزاد سلمة عن كريب في الدعوات من البخاري في أول الحديث فقمت فتمطيت كراهية أن يرى أني كنت أرقبه وكأنه خشي أن يترك بعض عمله لما جرى من عادته أنه كان يترك بعض العمل خشية أن يفرض على أمته ( ثم ذهبت فقمت إلى جنبه ) أي الأيسر وظاهره المساواة ( فوضع رسول الله يده اليمنى على رأسي ) قال ابن عبد البر يعني أنه أداره فجعله عن يمينه وهذا ذكره أكثر الرواة في هذا الحديث ولم يذكره مالك وفي مسلم فقمت عن يساره فأدارني من خلفه حتى جعلني عن يمينه ( وأخذ بأذني ) بضم الهمزة والمعجمة ( اليمنى ) حال كونه ( يفتلها ) أي يدلكها زاد محمد بن نصر فعرفت أنه إنما صنع ذلك ليونسني بيده في ظلمة الليل
ولمسلم فجعلت إذا أغفيت أخذ بشحمة أذني وفي هذا رد على من زعم أن أخذ الأذن إنما كان حال إدارته له من اليسار إلى اليمين متمسكا برواية للبخاري في التفسير بلفظ فأخذ بأذني فأدارني عن يمينه لكن لا يلزم من إدارته على هذه الصفة أن لا يعود إلى مسك أذنه لما ذكر من تأنيسه وإيقاظه لأن حاله يقتضي ذلك لصغر سنه وفيه جواز قتل أذن الصغير لتأنيسه وإيقاظه وقد قيل إن المتعلم إذا تعوهد فتل أذنه كان أدعى لفهمه وفيه أن قليل العمل في الصلاة لا يفسدها
( فصلى ركعتين ثم ركعتين ثم ركعتين ثم ركعتين ثم ركعتين ثم ركعتين ) ذكرها ست مرات فالجملة ثنتا عشرة ركعة وظاهره أنه فصل بين كل ركعتين وبه صرح في رواية طلحة بن نافع عن ابن عباس عند ابن خزيمة قال يسلم من كل ركعتين
ولمسلم من رواية علي بن عبد الله بن عباس التصريح بالفصل أيضا وأنه استاك بين كل ركعتين إلى غير ذلك
____________________
(1/357)
( ثم أوتر ) بواحدة وللبخاري فتنامت ولمسلم فتكاملت صلاته ثلاث عشرة ركعة وللبخاري أيضا من وجه آخر عن كريب فصلى ثلاث عشرة ركعة ( ثم اضطجع حتى أتاه المؤذن ) بلال كما في رواية للبخاري وله في أخرى ثم اضطجع فنام حتى نفخ ثم قام ( فصلى ركعتين خفيفتين ) الفجر قبل الصبح ( ثم خرج ) من الحجرة إلى المسجد ( فصلى الصبح ) بالجماعة واتفق أكثر أصحاب كريب على أنه صلى ثلاث عشرة ركعة وركعتي الفجر
وفي رواية شريك عنه عند البخاري فصلى إحدى عشرة ركعة ثم أذن بلال فصلى ركعتين ثم خرج فخالف شريك الأكثر وروايتهم مقدمة على روايته لما معهم من الزيادة ولكونهم أحفظ منه وحمل بعضهم الزيادة على الركعتين بعد العشاء وبعده لا يخفى لا سيما مع رواية حديث الباب وحمله على أنه أخرهما حتى استيقظ يعكر عليه رواية المنهال الآتية قريبا واختلف على سعيد بن جبير أيضا فللبخاري في التفسير من طريق الحكم عنه فصلى أربع ركعات ثم نام ثم صلى خمس ركعات وحمل محمد بن نصر هذه الأربعة على سنة العشاء لوقوعها قبل النوم يعكر عليه ما رواه هو من طريق المنهال بن عمرو عن علي بن عبد الله بن عباس بلفظ فصلى العشاء ثم صلى أربع ركعات بعدها حتى لم يبق في المسجد غيره ثم انصرف فإنه يقتضي أنه صلى الأربع في المسجد لا في البيت
ورواية ابن جبير أيضا تقتضي الاقتصار على خمس ركعات بعد النوم وفيه نظر وظهر لي من رواية أخرى ما يرفع الإشكال ويوضح أن رواية الحكم وقع فيها تقصير فعند النسائي من طريق يحيى بن عباد عن سعيد بن جبير فصلى ركعتين ركعتين حتى صلى ثمان ركعات ثم أوتر بخمس لم يجلس بينهن فبهذا يجمع بين روايتي سعيد وكريب وأما ما فيهما من الفصل والوصل فرواية سعيد صريحة في الوصل ورواية كريب محتملة فتحمل على رواية سعيد
وقوله في رواية طلحة بن نافع يسلم من كل ركعتين يحتمل تخصيصه بالثمان فيوافق رواية سعيد ويوافقه رواية يحيى الجزار الآتية ولم أر في شيء من طريق حديث ابن عباس ما يخالف ذلك لأن أكثر الرواة عنه لم يذكروا عددا ومن ذكر العدد منهم لم يزد على ثلاث عشرة ولم ينقص عن إحدى عشرة إلا أن في رواية علي بن عبد الله بن عباس عند مسلم ما يخالفهم فإن فيه فصلى ركعتين أطال فيهما ثم انصرف فنام حتى نفخ ففعل ذلك ثلاث مرات بست ركعات كل ذلك يستاك ويتوضأ ويقرأ هؤلاء الآيات يعني آخر آل عمران ثم أوتر بثلاث فأذن المؤذن فخرج إلى الصلاة فزاد على الرواة تكرار الوضوء وما معه ونقص عنهم ركعتين أو أربعا ولم يذكر ركعتي الفجر أيضا وأظن ذلك من الرازي عنه حبيب بن أبي ثابت فإن فيه مقالا وقد اختلف عليه في إسناده ومتنه ويحتمل أنه لم يذكر الأربع كما لم يذكر الحكم الثمان كما تقدم
وأما الفجر فقد ثبت ذكره في طريق أخرى عن علي بن عبد الله عند أبي داود
____________________
(1/358)
والحاصل أن قصة مبيت ابن عباس يغلب على الظن اتحادها فينبغي الاعتناء بالجمع بين مختلف الروايات فيها ولا شك أن الأخذ بما اتفق عليه الأكثر والأحفظ أولى مما خالفهم فيه من هو دونهم ولا سيما إن زاد أو نقص والمحقق من عدد صلاته تلك الليلة إحدى عشرة
وأما رواية ثلاث عشرة فيحتمل أن تكون سنة العشاء ويوافق ذلك رواية أبي جمرة عن ابن عباس عند البخاري كانت صلاة النبي ثلاث عشرة يعني بالليل ولم يبين هل سنة الفجر منها أو لا وبينها يحيى الجزار عن ابن عباس عند النسائي بلفظ كان يصلي ثمان ركعات ويوتر بثلاث ويصلي ركعتين قبل صلاة الصبح ولا يعكر على هذا الجمع إلا ظاهر سياق حديث الباب فيمكن حمل قوله صلى ركعتين ثم ركعتين أي قبل أن ينام ويكون منها سنة العشاء
وقوله ثم ركعتين الخ أي بعد أن قام
وجمع الكرماني بين مختلف روايات قصة ابن عباس هذه باحتمال أن بعض رواته ذكر القدر الذي اقتدى ابن عباس به وفصله عما لم يقتد به فيه وبعضهم ذكر الجميع مجملا كذا في فتح الباري ولا يخفى ما في جمعه هو من التكلف البعيد والله أعلم
والحديث أخرجه البخاري عن إسماعيل وعن القعنبي وقتيبة والتنيسي ومن طريق معن وعبد الرحمن بن مهدي ومسلم عن يحيى السبعة عن مالك به
( مالك عن عبد الله بن أبي بكر ) بن محمد بن عمرو بن حزم الأنصاري المدني قاضيها الثقة المتوفى سنة خمس وثلاثين ومائة وله سبعون سنة
( عن أبيه ) أبي بكر اسمه وكنيته واحد وقيل يكنى أبا محمد ثقة عابد تقدما غير مرة
( أن عبد الله بن قيس بن مخرمة ) بفتح الميم وإسكان الخاء المعجمة وفتح الراء والميم الثانية ابن المطلب بن عبد مناف المطلبي قال العسكري إنه رأى النبي
وذكره ابن أبي خيثمة والبغوي وابن شاهين في الصحابة
وذكره البخاري وابن أبي حاتم وابن حبان في كبار التابعين وأبوه صحابي روى هو عن أبيه وزيد بن خالد وأبو هريرة وابن عمر وعنه ابناه محمد والمطلب وإسحاق بن يسار والد محمد صاحب السيرة وثقه النسائي وعمل لعبد الملك بن مروان على العراق واستقضاه الحجاج على المدينة سنة ثلاث وسبعين ومات سنة ست وسبعين
( أخبره عن زيد بن خالد الجهني ) المدني صحابي شهير مات بالكوفة سنة ثمان وستين أو سبعين وله خمس وثمانون سنة
( أنه قال ) هذا هو الصواب
ووقع في رواية أبي أويس عن عبد الله بن أبي بكر عن أبيه عبد الله بن قيس قال لأرمقن رواه ابن أبي خيثمة وهو خطأ وأبو أويس كثير الوهم فسقط منه الصحابي وسماع أبي أويس كان مع مالك فالعمدة على رواية مالك وهي الصواب وقد أخرجه مسلم وأصحاب السنن من طريق مالك بهذا الإسناد عن زيد بن خالد أنه قال ( لأرمقن ) بفتح الهمزة وإسكان الراء وضم الميم وفتح القاف والنون الثقيلة وأصله النظر إلى الشيء شزرا نظر العداوة
____________________
(1/359)
واستعير هنا لمطلق النظر وعدل عن الماضي فلم يقل رمقت استحضارا لتلك الحالة الماضية ليقررها للسامع أبلغ تقرير أي لأنظرن ( الليلة صلاة رسول الله قال فتوسدت عتبته ) أي عتبة بابه أي جعلتها كالوسادة بوضع رأسي عليها ( أو فسطاطه ) بضم الفاء وكسرها بيت من الشعر قال الباجي والخبر بالتفسير الأول أشبه ويحتمل أن ذلك شك من الراوي وقال غيره هو محمول على أن ذلك حين سمعه قام يصلي لا قبل ذلك لأنه من التجسس المنهي عنه وأما ترقبه للصلاة فمحمود
( فقام رسول الله فصلى ركعتين طويلتين طويلتين طويلتين ) كذا في رواية يحيى ثلاثا وسائر أصحاب الموطأ قالوا ذلك مرتين فقط يعني بذلك المبالغة في طولهما كذا قال الباجي
والذي قاله أبو عمر بن عبد البر إن يحيى قال طويلتين مرتين وغيره يقول ثلاث مرات وهو الصواب فإنه في رواية مسلم وغيره من طريق مالك ثلاثا
( ثم صلى ركعتين وهما دون اللتين قبلهما ) يعني في الطول قال ابن عبد البر لم يتابع يحيى على هذا أحد من الرواة والذي في الموطأ عند جميعهم فصلى ركعتين خفيفتين ثم صلى ركعتين طويلتين طويلتين طويلتين فأسقط يحيى ذكر الركعتين الخفيفتين وذلك خطأ واضح لأن المحفوظ عن النبي من حديث زيد بن خالد وغيره كعائشة أنه كان يفتتح صلاة الليل بركعتين خفيفتين وقال أيضا طويلتين مرتين وغيره يقول ثلاث مرات فوهم يحيى في الموضعين وذلك مما عد عليه من سقطه وغلطه والغلط لا يسلم منه أحد
( ثم صلى ركعتين وهما دون اللتين قبلهما ) في الطول ( ثم صلى ركعتين وهما دون اللتين قبلهما ثم صلى ركعتين وهما دون اللتين قبلهما ثم صلى ركعتين وهما دون اللتين قبلهما ) فذكرهما ست مرات أولاهما خفيفتين على الصواب ثم التالية أطولها ثم الأربع التي بعدها كل ركعتين أقصر مما قبلهما
( ثم أوتر ) بواحدة ( فتلك ثلاث عشرة ركعة ) ذكر ذلك مع استفادته من العد لئلا يسقط ركعتان مثلا والحديث رواه مسلم والترمذي والنسائي عن قتيبة وأبو داود عن القعنبي والترمذي أيضا من طريق معن وابن ماجه من طريق عبد الله بن نافع أربعتهم عن مالك به كلهم مثل رواية الجمهور عنه إلا أنه لم يقع عند مسلم قوله فتوسدت عتبته أو فسطاطه
____________________
(1/360)
65 الأمر بالوتر اختلف فيه في سبعة أشياء في وجوبه وعدده واشتراط النية فيه واختصاصه بقراءة واشتراط شفع قبله وفي آخر وقته وصلاته في السفر على الدابة قاله ابن التين
زاد غيره وفي قضائه والقنوت فيه وفي محل القنوت منه وفيما يقال فيه وفي فصله ووصله وهل يسن ركعتان بعده وفي صلاته عن قعود لكن هذا الأخير ينبني على كونه مندوبا أم لا واختلف في أول وقته أيضا وفي أنه أفضل صلاة التطوع أو الرواتب أفضل منه أو خصوص ركعتي الفجر
( مالك عن نافع وعبد الله بن دينار ) وكلاهما مولى ابن عمر قال الحافظ لم يختلف على مالك في إسناده إلا أن في رواية مكي بن إبراهيم عن مالك أن نافعا وعبد الله بن دينار أخبراه كذا في الموطآت للدارقطني وأورده الباقون بالعنعنة ( عن عبد الله بن عمر أن رجلا سأل ) لم أقف على اسمه وللطبراني في الصغير أنه ابن عمر لكن يعكر عليه رواية عبد الله بن شقيق عن ابن عمر عند مسلم أن رجلا سأل النبي وأنا بينه وبين السائل الحديث وفيه ثم سأله رجل على رأس الحول وأنا بذلك المكان منه فما أدري أهو ذلك الرجل أو غيره وللنسائي من هذا الوجه أن السائل من أهل البادية
ولمحمد بن نصر في كتاب أحكام الوتر وهو كتاب نفيس في مجلد من رواية عطية عن ابن عمر أن أعرابيا سأل فيحتمل أن يجمع بتعدد من سأل ( رسول الله عن صلاة الليل ) وللبخاري من رواية أيوب عن نافع عن ابن عمر أن رجلا جاء للنبي وهو يخطب فقال كيف صلاة الليل ( فقال رسول الله صلاة الليل مثنى مثنى ) أي اثنين اثنين لا ينصرف لتكرار العدل فيه قاله الكشاف وقال آخرون للعدل والوصف وإعادة مثنى مبالغة في التأكيد ولمسلم عن عقبة بن الحارث قلت لابن عمر ما مثنى مثنى قال يسلم من كل ركعتين وفيه رد على من زعم من الحنفية أن معنى مثنى يتشهد بين كل ركعتين لأن راوي الحديث أعلم بالمراد وتفسيره هو المتبادر إلى الفهم لأنه لا يقال في الرباعية مثلا أنها مثنى وتبين من الجواب أن السؤال عن عددها أو عن الفصل والوصل ولمحمد بن نصر عن أيوب عن نافع عن ابن عمر قال رجل يا رسول الله كيف تأمرنا أن نصلي من الليل وقول ابن بزيزة جوابه بقوله مثنى يدل على أنه فهم أن السائل طلب كيفية العدد لا مطلق الكيفية فيه نظر وأولى ما فسر به الحديث من الحديث وفيه تعين الفصل بين كل ركعتين من صلاة الليل قال ابن دقيق العيد وهو ظاهر لحصر المبتدأ في الخبر وحمله الجمهور على أنه لبيان الأفضل لما صح من فعله بخلافه ولم يتعين أيضا كونه كذلك بل يحتمل أنه للإرشاد إلى الأخف إذ السلام
____________________
(1/361)
من كل ركعتين أخف على المصلي من أربع فما فوقها لما فيه من الراحة غالبا وقضاء ما يعرض من أمر مهم ولو كان الوصل لبيان الجواز فقط لم يواظب عليه ومن ادعى اختصاصه به فعليه البيان وقد صح عنه الفصل كما صح عنه الوصل فعند أبي داود ومحمد بن نصر بإسناد على شرط الشيخين عن عائشة كان يصلي ما بين أن يفرغ من العشاء إلى الفجر إحدى عشرة ركعة يسلم من كل ركعتين واحتج بمفهومه على أن الأفضل في صلاة النهار أن تكون أربعا وهو عن الحنفية وإسحاق وتعقب بأنه مفهوم لقب وليس بحجة على الراجح وعلى تقدير الأخذ به فليس بمنحصر في الأربع وبأنه خرج جوابا للسؤال عن صلاة الليل فقيد الجواب بذلك مطابقة للسؤال وبأنه قد تبين من رواية أخرى أن حكم المسكوت عنه حكم المنطوق به ففي السنن وصححه ابن خزيمة وغيره من طريق علي الأزدي عن ابن عمر مرفوعا صلاة الليل والنهار مثنى مثنى لكن تعقب هذا الأخير بأن أكثر أئمة الحديث أعلوا زيادة والنهار بأن الحفاظ من أصحاب ابن عمر لم يذكروها وحكم النسائي على راويها بأنه أخطأ فيها وقال يحيى بن معين من علي الأزدي حتى أقبل منه وادع يحيى بن سعيد الأنصاري عن نافع أن ابن عمر كان يتطوع بالنهار أربعا لا يفصل بينهن وكان حديث الأزدي صحيحا لما خالفه ابن عمر يعني مع شدة اتباعه رواه عنه مضر بن محمد في سؤالاته لكن روى ابن وهب بإسناد قوي عن ابن عمر قال صلاة الليل والنهار مثنى مثنى موقوف أخرجه ابن عبد البر من طريقه فلعل الأزدي اختلط عليه الموقوف بالمرفوع فلا تكون زيادته صحيحة على رأي من يشترط في الصحيح أن لا يكون شاذا
وروى ابن أبي شيبة من وجه آخر عن ابن عمر أنه كان يصلي بالنهار أربعا أربعا وهذا موافق لنقل ابن معين
( فإذا خشي أحدكم الصبح ) أي فوات صلاته ( صلى ركعة واحدة ) وللشافعي وابن وهب ومكي بن إبراهيم ثلاثتهم عن مالك فليصل ركعة أخرجه الدارقطني في الموطآت هكذا بصيغة الأمر وكذا في الصحيحين من وجه آخر عن ابن عمر مرفوعا صلاة الليل مثنى مثنى فإذا أردت أن تنصرف فاركع ركعة وفيه أن الوتر واحدة وأن فصله أولى من وصله ورد بأنه ليس صريحا لاحتمال أن معنى ركعة واحدة مضافة إلى ركعتين مما مضى وبعده لا يخفى ( توتر له ما قد صلى ) من النفل ففيه أن الركعة الأخيرة هي الوتر وأن كل ما تقدمها شفع وسبق الشفع شرط في الكمال لا في صحة الوتر وهو المعتمد عند المالكية خلافا لقول بعضهم شرط صحة وقد صح عن جمع من الصحابة أنهم أوتروا بواحدة دون تقدم نفل قبلها
وقد روى محمد بن نصر وغيره أن عثمان قرأ القرآن ليلة في ركعة لم يصل غيرها
وفي البخاري أن سعدا أوتر بركعة وأن معاوية أوتر بركعة وصوبه ابن عباس وقال إنه فقيه وفي كل هذا رد لقول ابن التين لم يأخذ الفقهاء بعمل معاوية واعتذار الحافظ عنه بقوله لعله أراد فقهاء المالكية لا يصح لأن المعتمد عندهم صحته بركعة واحتج بعض الحنفية لما ذهبوا إليه من
____________________
(1/362)
تعين الوصل والاقتصار على ثلاث بأن الصحابة أجمعوا على أن الوتر بثلاث موصولة حسن جائز واختلفوا فيما عداه فأخذنا بما أجمعوا عليه وتركنا ما اختلفوا فيه وتعقبه محمد بن نصر بما رواه عن أبي هريرة مرفوعا وموقوفا لا توتروا بثلاث تشبهوا بصلاة المغرب وقد صححه الحاكم وأخرج هو وابن حبان والحاكم وصححه من وجه آخر عن أبي هريرة مرفوعا نحوه وإسناده على شرط الشيخين
وأخرج هو والنسائي عن ابن عباس وعائشة كراهة الوتر بثلاث
وعن سليمان بن يسار أنه كره ذلك وقال لا يشبه التطوع الفريضة فهذا كله يقدح في الإجماع الذي زعمه
وقال ابن نصر ولم نجد عن النبي خبرا صحيحا ثابتا أنه أوتر بثلاث موصولة نعم ثبت أنه أوتر بثلاث لكن لم يبين الراوي هل هي موصولة أو مفصولة ويرد عليه ما رواه الحاكم عن عائشة أنه كان يوتر بثلاث لا يقعد إلا في آخرهن وروى النسائي عن أبي بن كعب كان يوتر بسبح اسم ربك الأعلى وقل يا أيها الكافرون وقل هو الله أحد ولا يسلم إلا في آخرهن
وبين في عدة طرق أن السور الثلاث لثلاث ركعات إلا أن يقال يحتمل أنهما لم يثبتا عند ابن نصر وعلى الثبوت ففعل ذلك لبيان الجواز فإذن النزاع إنما هو في تعين الثلاث موصولة والأخبار الصحيحة تأباه واستدل بحديث الباب على أنه لا صلاة بعد الوتر
وفي مسلم عن عائشة كان يصلي ركعتين بعد الوتر وهو جالس وإليه ذهب بعض العلماء وجعلوا الأمر في قوله اجعلوا آخر صلاتكم بالليل وترا مختصا بمن أوتر آخر الليل
وأجاب من لم يقل بذلك بأن الركعتين المذكورتين هما ركعتا الفجر وحمله النووي على أنه فعله لبيان جواز التنفل بعد الوتر وجواز التنفل جالسا وقد ذهب الأكثر إلى أن يصلي شفعا ما أراد ولا ينقض وتره لقوله لا وتران في ليلة رواه النسائي وابن خزيمة وغيرهما بإسناد حسن عن طلق بن علي
وأخرج حديث الباب البخاري عن عبد الله بن يوسف ومسلم عن يحيى كلاهما عن مالك به
( مالك عن يحيى بن سعيد ) الأنصاري ( عن محمد بن يحيى بن حبان ) بفتح المهملة والموحدة الثقيلة ابن منقذ الأنصاري المدني ثقة فقيه روى له الجماعات مات سنة إحدى وعشرين ومائة وهو ابن أربع وسبعين سنة
( عن ) عبد الله ( بن محيريز ) بميم ومهملة وراء وآخره زاي منقوطة مصغر ابن جنادة بن وهب الجمحي بضم الجيم وفتح الميم فمهملة المكي كان يتيما في حجر أبي محذورة بمكة ثم نزل بيت المقدس عابد ثقة روى له الستة ومات سنة تسع وتسعين وقيل قبلها ( أن رجلا من بني كنانة يدعى المخدجي ) بميم مضمومة ومعجمة ساكنة وفتح الدال المهملة وكسرها بعدها جيم فتحتية آخره منسوب إلى مخدج بن الحارث كذا في الترتيب
وقال ابن عبد البر لقب وليس بنسب في شيء من قبائل العرب قال وهو مجهول لا يعرف بغير هذا الحديث وقيل
____________________
(1/363)
اسمه رفيع ( سمع رجلا بالشام يكنى أبا محمد ) الأنصاري صحابي قال في الإصابة قيل اسمه مسعود بن أوس بن زيد بن أصرم وقيل مسعود بن زيد بن سبع وقيل اسمه قيس بن عامر بن الحارث الخولاني حليف بني حارثة من الأوس وقيل مسعود بن يزيد عداده في الشاميين وسكن داريا وقيل اسمه سعد بن أوس وقيل قيس بن عباية قال ابن يونس شهد فتح مصر وقال ابن سعد مات في خلافة عمر وزعم ابن الكلبي أنه شهد بدرا ثم شهد مع علي صفين وفي كتاب قيام الليل لمحمد بن نصر من طريق عبد الله بن محيريز عن رفيع قال تذاكرنا الوتر فقال رجل من الأنصار يكنى أبا محمد من الصحابة ( يقول إن الوتر واجب ) وبه قال ابن المسيب وأبو عبيدة بن عبد الله بن مسعود والضحاك رواه ابن أبي شيبة عنهم وأخرج عن مجاهد الوتر واجب ولم يكتب ونقله ابن العربي عن أصبغ وسحنون وكأنهما أخذاه من قول مالك من تركه أدب وكان جرحة في شهادته كذا في الفتح
وقال ابن زرقون قال سحنون يجرح تارك الوتر
وقال أصبغ يؤدب تاركه فجعلاه واجبا
وقال ابن عبد البر القول بأن الوتر سنة وليس بواجب يكاد يكون إجماعا لشذوذ الخلاف فيه
( فقال المخدجي فرحت إلى عبادة بن الصامت ) بن قيس الأنصاري الخزرجي المدني أحد النقباء البدري مات بالرملة سنة أربع وثلاثين وله ثنتان وسبعون سنة وقيل عاش إلى خلافة معاوية قال سعيد بن عفير كان طوله عشرة أشبار
( فاعترضت ) أي تصديت ( له ) وتطلبته ( وهو رائح إلى المسجد فأخبرته بالذي قال أبو محمد ) أن الوتر واجب ( فقال عبادة كذب أبو محمد ) قال الباجي أي وهم وغلط والكذب ثلاثة أوجه أحدها على وجه السهو فيما خفي عليه ولا إثم فيه
ثانيها أن يعمده فيما لا يحل فيه الصدق كأن يسأل عن رجل يراد قتله ظلما فيجب الكذب ولا يخبر بموضعه
والثالث يأثم فيه صاحبه وهو قصد الكذب فيما يحرم فيه قصده
( سمعت رسول الله يقول خمس صلوات كتبهن ) أي فرضهن
وفي رواية لأبي داود وغيره عن عبادة افترضهن ( الله عز وجل على العباد ) فأفاد أنه لم يكتب غيرهن ومنه الوتر ( فمن جاء بهن لم يضيع منهن شيئا استخفافا بحقهن ) قال الباجي احترازا من السهو والنسيان الذي لا يمكن أحد الاحتراز منه إلا من خصه الله بالعصمة
وقال ابن عبد البر ذهبت طائفة إلى أن التضييع للصلاة المشار إليه هنا أن لا يقيم حدودها من مراعاة وقت وطهارة وإتمام ركوع وسجود ونحو ذلك وهو مع ذلك يصليها انتهى
ويؤيده رواية الترمذي وأبي داود من وجه آخر عن عبادة عنه صلى الله عليه وسلم خمس صلوات افترضهن
____________________
(1/364)
الله من أحسن وضوءهن وصلاهن لوقتهن وأتم ركوعهن وسجودهن وخشوعهن ( كان له عند الله عهد أن (1) *
( ومن لم يأت بهن ) على الوجه المطلوب شرعا ( فليس له عند الله عهد إن شاء عذبه ) عدلا ( وإن شاء أدخله الجنة ) برحمته فضلا وفيه أن تارك الصلاة لا يكفر ولا يتحتم عذابه بل هو تحت المشيئة بنص الحديث وقد أخرجه أحمد وأبو داود والنسائي وابن ماجه من طريق مالك وصححه ابن حبان والحاكم وابن عبد البر وجاء من وجه آخر عن عبادة بنحوه في أبي داود والترمذي والنسائي والبيهقي وله شاهد عند محمد بن نصر من حديث عبد الله بن عمرو بن العاصي
( مالك عن أبي بكر بن عمر ) بضم العين عند جميع رواة الموطأ ومنهم يحيى على الصواب وفتح العين وزيادة واو وهم قاله ابن عبد البر وقال هو أبو بكر بن عمر بن عبد الرحمن بن عبد الله بن عمر بن الخطاب لم يوقف له على اسم القرشي العدوي المدني من الثقات ليس له في الموطأ ولا في الصحيحين سوى هذا الحديث الواحد ( عن سعيد ) بفتح السين وكسر العين ( بن يسار ) بتحتية مخفف السين التابعي الثقة المدني اختلف في ولائه لمن هو وقيل هو سعيد بن مرجانة ولا يصح مات سنة سبع عشرة ومائة وقيل قبلها بسنة روى له الجماعة ( أنه قال كنت أسير مع عبد الله بن عمر ) بن الخطاب ( بطريق مكة قال سعيد فلما خشيت الصبح نزلت ) عن مركوبي ( فأوترت ) على الأرض ( ثم أدركته فقال لي عبد الله بن عمر أين كنت فقلت له خشيت الصبح ) أي خفت طلوع الفجر بفوات الوتر وآخر وقته المختار الفجر كصلاة الليل وآخر وقتهما الضروري ما لم يصل الصبح ( فنزلت فأوترت فقال عبد الله أليس لك في رسول الله أسوة ) بكسر الهمزة وضمها قدوة وفيه إرشاد العالم لرفيقه ما قد يخفى عليه من السنن
____________________
1* يدخله الجنة ) مع السابقين أو من غير تقدم عذاب ووجه استدلال عبادة بهذا على أن الوتر ليس بواجب جعله العهد لمن جاء بهن فيفيد دخولها وإن لم يجيء بغيرهن ومنه الوتر ولأبي داود والترمذي والنسائي من الوجه الآخر عن عبادة كان له على الله عهد أن يغفر له والجملة في هذا وقوله في حديث الباب أن يدخله خبر مبتدأ مقدر أي هو أن الخ أو صفة عهد أو بدل من عهد وهو الأمان والميثاق وعهد الله واقع لا محالة لن يخلف الله عهده
(1/365)
( فقلت بلى والله ) فيه الحلف على الأمر الذي يراد تأكيده ( فقال إن رسول الله كان يوتر على البعير ) ففيه دلالة على أن الوتر ليس بواجب لثبوت أحكام النافلة فيه وهو فعله على البعير وإن كان الأفضل فعله على الأرض لتأكد أمره فمن صلى على راحلته في الليل استحب له أن ينزل للوتر قاله الباجي
وقال أبو عمر أجمعوا على أنه لا يصلي الفرض على الدواب إلا في شدة الخوف خاصة أو غلبة مطر بأن كان الماء فوقه وتحته ففيه خلاف فلما أوتر على البعير علم أنه سنة انتهى
لكن استشكل بأن من خصائصه وجوب الوتر عليه فكيف صلاه راكبا وأجيب بأن محل الوجوب بالحضر بدليل إيتاره راكبا في السفر هذا مذهب مالك ومن وافقه والقائل بوجوبه عليه مطلقا قال يحتمل خصوصية ثانية له أو أنه تشريع للأمة بما يليق بالسنة في حقهم فصلاه على البعير لذلك وهو في نفسه واجب عليه فاحتمل الركوب فيه لمصلحة التشريع وبعده لا يخفى والأولى فيه أن الخصائص لا تثبت بالاحتمال وهذا الحديث رواه البخاري عن إسماعيل ومسلم عن يحيى كلاهما عن مالك به
( مالك عن يحيى بن سعيد عن سعيد بن المسيب ) بكسر الياء وفتحها ( أنه قال كان أبو بكر ) عبد الله بن عثمان ( الصديق إذا أراد أن يأتي فراشه أوتر ) قبل أن ينام ( وكان عمر بن الخطاب يوتر آخر الليل ) بعد تهجده ففي فعليهما إباحة تقديم الوتر وتأخيره وهو أمر مجمع عليه لأن الوتر من صلاة الليل ولا وقت لها محدود فالليل كله وقت له وأجمعوا على أن مبدأه مغيب الشفق بعد صلاة العشاء
وفي الصحيحين عن عائشة كل الليل أوتر وانتهى وتره إلى السحر ولأبي داود والترمذي عنها أوتر أول الليل وأوسطه وآخره ولكن انتهى وتره حين مات إلى السحر فيحتمل أن إيتاره أوله وأوسطه لبيان الجواز ويحتمل أن ذلك لاختلاف الأحوال فحيث أوتر أوله لعله كان وجعا وفي وسطه مسافرا اه
وكان غالب أحواله وتر آخر الليل لما عرف من مواظبته على الصلاة في أكثر الليل
( قال سعيد بن المسيب فأما أنا فإذا جئت فراشي أوترت ) كفعل أبي بكر أخذ بالحزم وغلبة النوم
وأوصى أبا الدرداء وأبا ذر وأبا هريرة أن لا ينام أحدهم إلا على وتر
وروي أنه ذكر له فعل العمرين فقال حذر هذا وقوي هذا يعني عمر ولم يفضل فعل واحد منهما ولكل وجه قاله ابن عبد البر وجاء أنه قال لأبي بكر أخذت بالحزم ولعمر أخذت بالقوة ولا معارضة بين وصيته لهؤلاء
____________________
(1/366)
وبين قول عائشة وانتهى وتره إلى السحر لأن الأول لإرادة الاحتياط والآخر لمن علم من نفسه قوة ووثق بالانتباه كما ورد عن عمر وعلي وابن مسعود وغيرهم أنه أفضل وإليه ذهب مالك والجمهور لما في مسلم عن جابر عن النبي من طمع منكم أن يقوم آخر الليل فليوتر من آخره فإن صلاة آخر الليل مشهودة وذلك أفضل ومن خاف منكم أن لا يقوم من آخر الليل فليوتر من أوله
( مالك أنه بلغه أن رجلا سأل عبد الله بن عمر عن الوتر أواجب هو فقال عبد الله بن عمر قد أوتر رسول الله وأوتر المسلمون فجعل الرجل يردد عليه ) يكرر السؤال ( وعبد الله بن عمر يقول أوتر رسول الله وأوتر المسلمون ) فأخبره أنه سنة معمول بها ولو كان واجبا عنده لأفصح له بوجوبه
وقال ابن عبد الملك خشي ابن عمر إن قال واجب يظن السائل وجوب الفرائض وإن قال غير واجب يتهاون به ويتركه
وروى أحمد عن معاذ مرفوعا زادني ربي صلاة وهي الوتر وقتها من العشاء إلى طلوع الفجر وفي إسناده ضعف
وكذا في حديث خارجة بن حذافة في السنن واحتج به من قال بوجوب الوتر وليس صريحا في الوجوب قال ابن عبد البر لأن الزيادة ليست بموجبة للفرض كحديث إن الله جعل لكم ثلث أموالكم زيادة في أعمالكم ومعلوم أن ما هو لنا خلاف لما افترض علينا ويصححه قوله تعالى { حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى } سورة البقرة الآية 238 ولو كانت ستا لم يكن فيها وسط
وقول الأعرابي يا رسول الله هل علي غيرها قال لا إلا أن تطوع والآثار بمثل هذا كثيرة جدا انتهى
وأما حديث بريدة رفعه الوتر حق فمن لم يوتر فليس منا وأعاد ذلك ثلاثا ففي سنده ضعف وعلى تقدير قبوله فيحتاج من احتج به إلى أن يثبت أن لفظ حق بمعنى واجب في عرف الشارع وأن لفظ واجب بمعنى ما ثبت من طريق الآحاد
( مالك أنه بلغه أن عائشة زوج النبي كانت تقول من خشي أن ينام حتى يصبح ) أي يدخل في الصباح بطلوع الفجر الثاني ( فليوتر قبل أن ينام ) حتى لا يفوته الوقت الاختياري للوتر
( ومن رجا ) بأن غلب على ظنه بعادته ( أن يستيقظ آخر الليل فليؤخر وتره ) لأن ذلك أفضل كما تقدم عنه في مسلم عن جابر وقال اجعلوا آخر لاتكم بالليل وترا رواه البخاري وغيره واحتج به بعض من
____________________
(1/367)
قال بوجوبه ورد بأن صلاة الليل ليست بواجبة فكذا آخره وبأن الأصل عدم الوجوب حتى يقوم دليله
( مالك عن نافع أنه قال كنت مع عبد الله بن عمر بمكة والسماء مغيمة ) محيط بها السحاب ( فخشي عبد الله الصبح فأوتر بواحدة ثم انكشف الغيم فرأى أن عليه ليلا فشفع بواحدة ) قال الباجي يحتمل أنه لم يسلم من الواحدة فشفعها بأخرى على رأي من قال لا يحتاج في نية أول الصلاة إلى اعتبار عدد الركعات ولا اعتبار وتر ولا شفع ويحتمل أنه سلم ( ثم صلى بعد ذلك ركعتين ركعتين فلما خشي الصبح أوتر بواحدة ) روي مثله عن علي وعثمان وابن مسعود وأسامة وعروة ومكحول وعمرو بن ميمون واختلف فيه عن ابن عباس وسعد بن أبي وقاص وهذه مسألة يعرفها أهل العلم بمسألة نقض الوتر وخالف في ذلك جماعة منهم أبو بكر كان يوتر قبل أن ينام ثم إن قام صلى ولم يعد الوتر
وروي مثله عن عمار وعائشة وكانت تقول أوتران في ليلة إنكارا لذلك وهو قول مالك والأوزاعي والشافعي وأحمد وأبي ثور ومن التابعين علقمة وأبي مجلز وطاوس والنخعي
وحجتهم قوله لا وتران في ليلة فإن قالوا إن شفعها بركعة لم يوتر وترين
قيل لهم محال أن يشفع ركعة قد سلم منها وقام مصليا وترا على أثرها هذا ما لا يصح في قياس ولا نظر قاله ابن عبد البر
وفي فتح الباري ذهب الأكثر إلا أن من أوتر ثم أراد أن يتنفل له أن يصلي شفعا ما أراد ولا ينقض وتره عملا بقوله لا وتران في ليلة وهو حديث حسن أخرجه النسائي وابن خزيمة وغيرهما عن طلق بن علي وإنما يصح نقض الوتر عند من قال بمشروعية التنفل بركعة واحدة غير الوتر
وروى محمد بن نصر عن سعيد بن الحارث أنه سأل ابن عمر عن ذلك فقال إذا كنت لا تخاف الصبح ولا النوم فاشفع ثم صل ما بدا لك ثم أوتر وإلا فصل على وترك الذي كنت أوترت
وفي رواية فقال ابن عمر أما أنا فأصلي مثنى مثنى فإذا انصرفت ركعت واحدة فقيل أرأيت إن أوترت قبل أن أنام ثم قمت من الليل فشفعت حتى أصبح قال ليس بذلك ناس
( مالك عن نافع أن عبد الله بن عمر كان يسلم بين الركعتين والركعة في الوتر حتى يأمر ببعض حاجته ) ظاهره أنه كان يصلي الوتر موصولا فإن عرضت له حاجة فصل ثم بنى على ما مضى وهذا
____________________
(1/368)
دفع لقول من قال لا يصح الوتر إلا مفصولا
وأصرح من ذلك ما رواه سعيد بن منصور بإسناد صحيح عن بكر بن عبد الله المزني قال صلى ابن عمر ركعتين ثم قال يا غلام ارحل لنا ثم قام فأوتر بركعة
وروى الطحاوي عن سالم عن أبيه أنه كان يفصل بين شفعه ووتره بتسليمة وأخبر أن النبي كان يفعله وإسناده قوي ولم يعتذر الطحاوي عنه إلا باحتمال أن المراد بقوله تسليمة أي التسليم في التشهد ولا يخفى بعد هذا التأويل كذا في فتح الباري وفي دعواه أن ظاهره وصله وأن رواية سعيد أصرح في ذلك وقفه بل ظاهر رواية مالك أنه كان عادته فصله لإتيانه بكان وحرف المضارعة وحتى الغائية نعم لو عبر بحين بدل حتى لكان ذلك ظاهرا وأما رواية سعيد فمحتملة
( مالك عن ابن شهاب أن سعد بن أبي وقاص ) مالك الزهري أحد العشرة ( كان يوتر بعد العتمة ) أي بعد صلاة العشاء ( بواحدة ) وكذا صح عن عثمان ومعاوية وصوبه ابن عباس كما مر
( قال مالك وليس على هذا العمل عندنا ) بالمدينة ( ولكن أدنى ) أي أقل ( الوتر ثلاث ) بركعتي الشفع المفصولتين منه فالمعنى يكره الاقتصار على الواحدة التي هي الوتر دون أن يصلي قبلها الشفع هذا على المذهب وإن كان خلاف ظاهر الموطأ وقد روى أبو داود والنسائي وصححه ابن حبان والحاكم عن أبي أيوب مرفوعا الوتر حق فمن شاء أوتر بخمس ومن شاء بثلاث ومن شاء بواحدة
( مالك عن عبد الله بن دينار أن عبد الله بن عمر كان يقول صلاة المغرب وتر صلاة النهار ) أضيفت إليه لوقوعها عقبه فهي نهارية حكما وإن كانت ليلية حقيقة
قال ابن المنير سميت المغرب لأنه اسم يشعر بمسماها وبابتداء وقتها ولا يكره تسميتها العشاء الأولى كما يقال العشاء الآخرة وهذا رواه ابن أبي شيبة مرفوعا عن ابن عمر أن النبي قال صلاة المغرب وتر النهار فأوتروا صلاة الليل ولأحمد عن ابن عمر أن النبي قال صلاة المغرب أوترت النهار فأوتروا صلاة الليل قال الحافظ العراقي والحديث سنده صحيح انتهى
ورواه الدارقطني عن ابن مسعود مرفوعا أيضا لكن سنده ضعيف وقال البيهقي الصحيح وقفه على ابن مسعود ( قال مالك من أوتر أول الليل ثم نام ثم قام فبدا له أن يصلي فليصل مثنى مثنى فهو أحب ما سمعت إلي ) ولا يعيد الوتر لحديث لا وتران في ليلة ولأن إعادته تصير الصلاة كلها شفعا فيبطل المقصود منه
____________________
(1/369)
66 الوتر بعد الفجر ( مالك عن عبد الكريم بن أبي المخارق ) بضم الميم وبالخاء المعجمة أبي أمية المعلم ( البصري ) نزيل مكة وبها لقبه مالك واسم أبيه قيس وقيل طارق قال في التمهيد ضعيف باتفاق أهل الحديث وكان مؤدب كتاب حسن السمت غر مالكا منه سمته ولم يكن من أهل بلده فيعرفه كما غر الشافعي من إبراهيم بن أبي يحيى حذقه ونباهته فروى عنه وهو مجمع على ضعفه مات عبد الكريم سنة ست أو سبع وعشرين ومائة اه
وروى البخاري من رواية سفيان عن عبد الكريم هذا في الذكر عند القيام من الليل وروى له مسلم في مقدمة صحيحه وأخرج له أصحاب السنن إلا النسائي إنما روى له قليلا
( عن سعيد بن جبير أن عبد الله بن عباس رقد ثم استيقظ فقال لخادمه ) لم يسم ( انظر ما صنع الناس وهو يومئذ قد ذهب بصره فذهب الخادم ثم رجع فقال قد انصرف الناس من الصبح ) أي صلاته ( فقام عبد الله بن عباس فأوتر ثم صلى الصبح ) ففي هذا أن الوتر يصلى بعد طلوع الفجر ما لم يصل الصبح
( مالك أنه بلغه أن عبد الله بن عباس وعبادة بن الصامت والقاسم بن محمد وعبد الله بن عامر بن ربيعة ) العدوي مولاهم العنزي له رواية وأبوه عامر صحابي مشهور
( قد أوتروا بعد الفجر ) أجملهم في هذا البلاغ ثم أسند الرواية عن كل إلا ابن عباس لأنه قدمه فوقه
( مالك عن هشام بن عروة عن أبيه أن عبد الله بن مسعود قال ما أبالي لو أقيمت صلاة الصبح وأنا أوتر ) لأنه وقت له ضروري
____________________
(1/370)
( مالك عن يحيى بن سعيد أنه قال كان عبادة بن الصامت يؤم قوما فخرج يوما إلى الصبح فأقام المؤذن صلاة الصبح فأسكته عبادة حتى أوتر ثم صلى بهم الصبح ) أتى بهذا بيانا لإسناد ما أورده قبله بلاغا عنه
( مالك عن عبد الرحمن بن القاسم ) بن محمد بن الصديق ( أنه قال سمعت عبد الله بن عامر بن ربيعة يقول إني لأوتر وأنا أسمع الإقامة ) للصبح ( أو بعد الفجر يشك عبد الرحمن أي ذلك قال ) وإن اتحد المعنى ( مالك عن عبد الرحمن بن القاسم أنه سمع أباه القاسم بن محمد يقول إني لأوتر بعد الفجر ) وكذا قاله أبو الدرداء وحذيفة وعائشة وبه قال مالك وأحمد والشافعي في القديم لأنه وقت ضروري له خلافا لمكحول وجماعة من التابعين والثوري وأبي يوسف ومحمد أنه لا يصلي بعد الفجر قال ابن عبد البر ولا أعلم لمن قال بصلاته بعد الفجر مخالفا من الصحابة فدل إجماعهم على أن معنى حديث ألا لا وتر بعد طلوع الفجر وفيه أبو هارون العنبري لا يحتج به ما لم تصل الصبح ويحتمل أن يكون ذلك لمن قصده وأما من قام حين انفجر الصبح وأمكنه أن يصليه مع الصبح قبل طلوع الشمس فليس ممن أريد بالحديث كما ( قال مالك وإنما يوتر بعد الفجر ) بلا كراهة ( من نام عن الوتر ولا ينبغي لأحد أن يتعمد ذلك حتى يضع وتره بعد الفجر ) أي يكره له ذلك وفي صحيح ابن خزيمة عن أبي سعيد مرفوعا من أدرك الصبح ولم يوتر فلا وتر له وهذا محمول على المتعمد أي لا وتر له كامل لتفويته وقته الاختياري حتى أوقعه في الضروري لما رواه أبو داود عن أبي سعيد مرفوعا من نسي الوتر أو نام عنه فليصله إذا ذكره أي ما لم يصل الصبح وشذت طائفة منهم طاوس فقالوا يقضي بعد طلوع الشمس وقال عطاء والأوزاعي يقضي ولو طلعت الشمس إلى الغروب
وعن سعيد بن جبير يقضي من القابلة وقيل يقضي مطلقا وقال
____________________
(1/371)
الأكثرون ومنهم مالك لا يقضي بعد صلاة الصبح
قال محمد بن نصر لم نجد عن النبي صلى الله عليه وسلم في شيء من الأخبار أنه قضى الوتر ولا أمر بقضائه ومن زعم أنه صلى الله عليه وسلم في ليلة نومهم عن الصبح في الوادي قضى الوتر فلم يصب
67 ما جاء في ركعتي الفجر رح 28( مالك عن نافع عن عبد الله بن عمر أن ) أخته ( حفصة زوج النبي صلى الله عليه وسلم ) تزوجها سنة ثلاث وماتت سنة خمس وأربعين ( أخبرته ) فيه رواية صحابي عن مثله والأخ عن أخته ( أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا سكت المؤذن عن الأذان لصلاة الصبح ) زاد يحيى النيسابوري عن مالك وبدا الصبح بموحدة بلا همز ظهر والجملة حالية وجواب إذا قوله ( صلى ركعتين خفيفتين ) ليبادر إلى صلاة الصبح أول الوقت كما جزم به القرطبي في حكمة تخفيفها وليدخل في الفرض بنشاط تام كما قال غيره ( قبل أن تقام الصلاة ) بضم الفوقية أي قبل قيام فرض صلاة الصبح وفيه بيان أن وقت هاتين الركعتين طلوع الفجر وتقديمهما أول الوقت وتخفيفهما واستدل به الكوفيون على أنه لا يؤذن للصبح قبل طلوع الفجر ولا حجة فيه لاحتمال أن يراد به الأذان الثاني وحديث إن بلالا ينادي بليل وعمل أهل المدينة يرفع الإشكال ولذا لما دخل أبو يوسف المدينة رجع عن مذهب أصحابه في ذلك وأخرجه مسلم عن يحيى عن مالك به وتابعه الليث وعبيد الله وأيوب كلهم عن نافع كما قال مالك كما في مسلم أيضا
3 رح 28( مالك عن يحيى بن سعيد أن عائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم ) كذا لجميع رواة الموطأ وفيه سقط راويين من الإسناد وقد أخرجه البخاري من طريق زهير بن معاوية ومسلم من طريق عبد الوهاب الثقفي والنسائي من طريق جرير ثلاثتهم عن يحيى بن سعيد عن محمد بن عبد الرحمن عن عمرة عن عائشة أنها ( قالت إن كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ليخفف ركعتي الفجر ) اللتين قبل صلاة الصبح قراءة وأفعالا ( حتى ) ابتدائية ( إني ) بكسر الهمزة ( لأقول ) بلام التأكيد ( أقرأ بأم القرآن أم لا ) قال القرطبي ليس معناه أنها شكت في قراءة الفاتحة وإنما معناه أنه كان يطيل القراءة في
____________________
(1/372)
النوافل فلما خفف قراءة الفجر صار كما لم يقرأ بالنسبة إلى غيرها من الصلوات انتهى
فلا متمسك فيه لمن زعم أنه لا قراءة في ركعتي الفجر أصلا بل قول عائشة ذلك دليل على أن قراءتها كان أمرا مقررا عندهم وفيه أنه لا يزيد في ركعتي الفجر عن الفاتحة وهو قول مالك وطائفة وقال الجمهور يستحب قراءة { قل يا أيها الكافرون } و { قل هو الله أحد } لما في مسلم عن أبي هريرة أنه صلى الله عليه وسلم قرأ في ركعتي الفجر بهما
وللترمذي والنسائي عن ابن عمر رمقت النبي صلى الله عليه وسلم شهرا فكان يقرأ بهما
وللترمذي عن ابن مسعود مثله بلا قيد وكذا البزار عن أنس ولابن حبان عن عائشة كان صلى الله عليه وسلم يصلي ركعتين قبل الفجر وكان يقول نعم السورتان يقرأ بهما في ركعتي الفجر { قل يا أيها الكافرون } و { قل هو الله أحد }
وفي مسلم عن ابن عباس أنه صلى الله عليه وسلم كان يقرأ في ركعتي الفجر { قولوا آمنا بالله } في البقرة
وفي الأخرى التي في آل عمران وبه وبما قبله استدل على الجهر بالقراءة في الفجر ولا حجة فيه لاحتمال أن يكون عرف بقراءة بعض السورة
وقد روى ابن أبي شيبة عن عائشة كان صلى الله عليه وسلم يسر فيهما القراءة صححه ابن عبد البر
وذهب بعضهم أن إطالة القراءة فيهما وهو قول النخعي وأكثر الحنفية وفيه حديث مرسل عن البيهقي وسنده واه وخصه بعضهم بمن فاته شيء من قراءته في صلاة الليل فيستدركها في ركعتي الفجر ونقل ذلك عن أبي حنيفة والحسن البصري
3 رح 28( مالك عن شريك بن عبد الله بن أبي نمر ) بفتح النون وكسر الميم المدني قال في التمهيد صالح الحديث وهو في عداد الشيوخ روى عنه جماعة من الأئمة ومات سنة أربع وأربعين ومائة لمالك عنه حديثان انتهى
وقد وثقه ابن مسعود وأبو داود وقال ابن معين والنسائي لا بأس به
وقال النسائي أيضا وابن الجارود ليس بالقوي وكان يحيى القطان لا يحدث عنه
وقال الباجي كان يرمى بالقدر
وقال ابن عدي إذا روى عنه ثقة فلا بأس برواياته وقد احتج به الأئمة الستة إلا أن في روايته لحديث الإسراء مواضع شاذة
( عن أبي سلمة بن عبد الرحمن أنه قال سمع قوم ) من الصحابة ( الإقامة فقاموا يصلون ) قال ابن عبد البر لم تختلف رواة مالك في إرساله إلا الوليد بن مسلم فرواه مالك عن شريك عن أنس ورواه الدراوردي عن شريك عن أبي سلمة عن عائشة ثم أخرجه من الطريقين وقال قد روى نحو هذا المعنى عن النبي صلى الله عليه وسلم عبد الله بن سرجس وابن بحينة وأبو هريرة ثم أخرجه من روايات الثلاثة ( فخرج عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال أصلاتان معا ) لأن الإقامة من الصلاة ( أصلاتان معا ) قال الباجي إنكار وتوبيخ
وقال ابن عبد البر قوله ذلك في هذا الحديث وقوله في حديث ابن بحينة أتصليهما أربعا وفي حديث ابن سرجس أيتهما صلاتك كل هذا إنكار منه لذلك الفعل فلا يجوز
____________________
(1/373)
لأحد أن يصلي في المسجد شيئا من النوافل إذا قامت المكتوبة
( وذلك في صلاة الصبح في الركعتين اللتين قبل الصبح ) ولكن لا يختص الحكم بهما لما أخرجه مسلم وأصحاب السنن وابن خزيمة وابن حبان عن أبي هريرة أنه صلى الله عليه وسلم قال إذا أقيمت الصلاة فلا صلاة إلا المكتوبة زاد في رواية ابن عدي بإسناد حسن قيل يا رسول الله ولا ركعتي الفجر قال ولا ركعتي الفجر ولذا قال مالك من دخل المسجد وأقيمت الصلاة فلا يركعهما وإن لم يدخل المسجد فإن لم يخف فوت ركعة ركعهما خارجه لا في أفنيته التي تصلى فيها الجمعة وإن خاف فوات الركعة الأولى دخل وصلى معه ثم يصليهما بعد الشمس
3 رح 284 ( مالك أنه بلغه أن عبد الله بن عمر فاتته ركعتا الفجر فقضاهما بعد أن طلعت الشمس ) وحلت النافلة
( مالك عن عبد الرحمن بن القاسم عن ) أبيه ( القاسم بن محمد ) أنه صنع ( مثل الذي صنع ابن عمر ) من قضائهما بعد الشمس قال ابن عبد البر فيه دليل على أنهما من مؤكدات السنن وأجاز الشافعي وعطاء وعمر بن دينار قضاءهما بعد سلام الإمام من الصبح وأبى ذلك مالك وأكثر العلماء للنهي عن الصلاة بعد الصبح حتى تطلع الشمس واحتج الشافعي بحديث عمرو بن قيس رأى النبي صلى الله عليه وسلم رجلا يصلي بعد صلاة الصبح ركعتين فقال صلى الله عليه وسلم صلاة الصبح ركعتان فقال الرجل إني لم أكن صليت الركعتين قبلهما فصليتهما الآن فسكت صلى الله عليه وسلم
68 فضل صلاة الجماعة على صلاة الفذ بضاد معجمة أي زيادة والفذ بالمعجمة المنفرد يقال فذ رجل من أصحابه إذا بقي وحده
رح 286 ( مالك عن نافع عن عبد الله بن عمر أن رسول الله قال صلاة الجماعة تفضل ) بفتح أوله وسكون الفاء وضم الضاد ( صلاة الفذ ) بفتح الفاء وشد المعجمة أي المنفرد ولمسلم من رواية عبيد الله بضم العين عن نافع عن ابن عمر صلاة الرجل في الجماعة تزيد على صلاته وحده ( بسبع وعشرين درجة ) قال الترمذي عامة من رواه قالوا خمسا وعشرين إلا ابن عمر فقال سبعا وعشرين
____________________
(1/374)
قال الحافظ لم يختلف عليه في ذلك إلا ما رواه عبد الرزاق عن عبد الله بفتح العين العمري فقال خمس وعشرون لكن العمري ضعيف ولأبي عوانة عن أبي أسامة عن عبيد الله بضم العين ابن عمر عن نافع فقال بخمس وعشرين وهي شاذة مخالفة لرواية الحفاظ من أصحاب عبيد الله وأصحاب نافع وإن كان راويهما ثقة وأما ما في مسلم من رواية الضحاك بن عثمان عن نافع بلفظ بضع وعشرين فلا تغاير رواية الحفاظ لصدق البضع بالسبع وأما غير ابن عمر فصح عن أبي سعيد في البخاري وأبي هريرة وعن ابن مسعود عند أحمد وابن خزيمة وعن أبي بن كعب عند ابن ماجه والحاكم وعن عائشة وأنس عند السراج وجاء أيضا من طرق ضعيفة عن معاذ وصهيب وعبد الله بن زيد وزيد بن ثابت وكلها عن الطبراني واتفق الجميع على خمس وعشرين سوى رواية أبي فقال أربع أو خمس بالشك وسوى رواية لأبي هريرة عند أحمد فقال بسبع وعشرين وفي إسنادها شريك القاضي وفي حفظه ضعف وفي رواية لأبي عوانة بضعا وعشرين وليست مغايرة لصدق البضع على خمس فرجعت الروايات كلها إلى الخمس والسبع إذ لا أثر للشك واختلف في أيها أرجح فقيل الخمس لكثرة رواتها وقيل السبع لأن فيها زيادة من عدل حافظ واختلف في مميز العدد ففي الروايات كلها التعبير بدرجة أو حذف المميز إلا طرق حديث أبي هريرة ففي بعضها ضعفا وفي بعضها جزءا وفي بعضها درجة وفي بعضها صلاة وهذا الأخير في بعض طرق حديث أنس والظاهر أن ذلك من تصرف الرواة ويحتمل أنه من التفنن في العبارة
وأما قول ابن الأثير إنما قال درجة ولم يقل جزءا ولا نصيبا ولا حظا ولا نحو ذلك لأنه أراد الثواب من جهة العلو والارتفاع فإن تلك فوق هذه بكذا وكذا درجة لأن الدرجات إلى جهة فوق فكأنه بناه على أن الأصل لفظ درجة وما عداها من تصرف الرواة لكن نفيه ورود الجزء مردود فإنه ثابت وكذا الضعف وقد جمع بين روايتي الخمس والسبع بأن ذكر القليل لا ينفي الكثير وهذا قول من لا يعتبر مفهوم العدد لكن قد قال به جماعة وحكى عن الشافعي وبأنه لعله أخبر بالخمس ثم أعلمه الله بزيادة الفضل فأخبر بسبع ورد بأنه يحتاج إلى تاريخ وبأن دخول النسخ في الفضائل مختلف فيه لكن إذا فرعنا على الدخول تعين تقدم الخمس على السبع لأن الفضل من الله يقبل الزيادة لا النقص وجمع أيضا بأن اختلاف العددين باختلاف مميزهما وعليه فقيل الدرجة أصغر من الجزء ورد بأن الذي روى عنه الجزء روى عنه الدرجة وقيل الجزء في الدنيا والدرجة في الآخرة وهو مبني على التغاير وبالفرق بين قرب المسجد وبعده وبالفرق بحال المصلي كأن يكون أعلم أو أخشع وبإيقاعها في المسجد أو في غيره وبالفرق بين المنتظر للصلاة وغيره وبالفرق بين إدراكها كلها أو بعضها وبكثرة الجماعة وقلتهم وبأن السبع مختصة بالفجر والعشاء أو الفجر والعصر والخمس بما عدا ذلك وبأن السبع مختصة بالجهرية والخمس بالسرية وهذا الوجه عندي أوجهها لطلب الإنصات عند قراءة الإمام والاستماع لها ولتأمينه إذا سمعه ليوافق تأمين الملائكة ثم الحكمة في هذا العدد الخاص غير محققة المعنى
____________________
(1/375)
ونقل الطيبي عن التوربشتي ما حاصله أن ذلك لا يدرك بالرأي بل مرجعه إلى علم النبوة التي قصرت علوم الألباء عن إدراك حقيقتها كلها انتهى
وقال ابن عبد البر الفضائل لا تدرك بقياس ولا مدخل فيها للنظر وإنما هي بالتوقيف قال وقد روي مرفوعا بإسناد لا أحفظه الآن صلاة الجماعة تفضل صلاة أحدكم بأربعين درجة وقال الباجي هذا الحديث يقتضي أن صلاة المأموم تعدل ثمانية وعشرين من صلاة الفذ لأنها تساويها وتزيد عليها سبعا وعشرين وهذا الحديث أخرجه البخاري عن عبد الله بن يوسف ومسلم عن يحيى كلاهما عن مالك به
( مالك عن ابن شهاب عن سعيد بن المسيب ) هكذا لجميع رواة الموطأ ورواه عبد الملك بن زياد النصيبي ويحيى بن محمد بن عباد عن مالك عن الزهري عن أبي سلمة ورواه الشافعي وروح بن عبادة وعمار بن مطر عن مالك عن أبي الزناد عن الأعرج ( عن أبي هريرة أن رسول الله قال صلاة الجماعة أفضل من صلاة أحدكم وحده بخمسة ) بالتاء وفي رواية بحذفها ( وعشرين جزءا ) ولا بد من تقدير أي صلاة أحدكم في جماعة وإلا فظاهره أن صلاة كل الجماعة أفضل من صلاة الواحد وليس بمراد ويدل على التقدير رواية صلاة الرجل وفي رواية جويرية بن أسماء عن مالك بهذا الإسناد فضل صلاة الجماعة على صلاة أحدكم خمس وعشرون صلاة ومعنى الدرجة أو الجزء حصول مقدار صلاة المنفرد بالعدد المذكور للجميع لما في مسلم في بعض طرقه بلفظ صلاة الجماعة تعدل خمسا وعشرين من صلاة الفذ
وفي أخرى صلاة مع الإمام أفضل من خمس وعشرين صلاة يصليها وحده
ولأحمد بسند حسن عن ابن مسعود نحوه وقال في آخره كلها مثل صلاته وهو مقتضى لفظ أبي هريرة في البخاري ومسلم حيث قال لا تضعف لأن الضعف كما قال الأزهري المثل أي ما زاد وليس بمقصور على المثلين يقال هذا ضعف الشيء أي مثله أو مثلاه فصاعدا لكن لا يزاد على العشرة وظاهر قوله تضعف وقوله في رواية أخرى تزيد أن صلاة الجماعة تساوي صلاة المنفرد وتزيد عليها العدد المذكور فيكون لمصلي الجماعة ثواب ست أو ثمان وعشرين صلاة من صلاة المنفرد
قال ابن عبد البر يحتمل لفظ الحديث صلاة النافلة والمتخلف عن الفريضة لعذر والمتخلف عنها بلا عذر لكن لما قال صلاة المرء في بيته أفضل من صلاته في مسجدي هذا إلا المكتوبة علم أنه لم يرد النافلة ولما قال من غلبه على صلاته نوم كتب له أجرها
وقال إذا كان للعبد عمل يعمله فمنعه منه مرض أمر الله كاتبيه أن يكتبا ما كان يعمل في صحته
وما في معنى ذلك من الأحاديث علم أن المتخلف لعذر لم يقصد تفضيل غيره عليه فإذا بطل هذان الوجهان صح أن المراد من تخلف بلا
____________________
(1/376)
عذر وأنه لم يفاضل بينهما إلا وهما جائزان غير أن أحدهما أفضل من الآخر انتهى
ومر الجمع بين هذا وما قبله باثني عشر وجها وأن ذلك لا يدرك بقياس قال التوربشتي ولعل الفائدة هي اجتماع المسلمين مصطفين كصفوف الملائكة والاقتداء بالإمام وإظهار شعائر الإسلام وغير ذلك وتعقب بأن هذا لا يفيد المطلوب لكن أشار الكرماني إلى احتمال أن أصله كون المكتوبات خمسا فأريد المبالغة في تكثيرها فضربت في مثلها فصارت خمسا وعشرين ثم ذكر للسبع مناسبة أيضا من جهة ركعات عدد الفرائض وروايتها وقال غيره الحسنة بعشر للمصلي منفردا فإذا انضم إليه آخر بلغت عشرين ثم زيد بقدر عدد الصلوات الخمس أو بعدد أيام الأسبوع قال الحافظ ولا يخفى فساد هذا وقيل الأعداد عشرات ومئين وألوف وخير الأمور الوسط فاعتبرت المائة والعدد المذكور ربعها وهذا أشد فسادا مما قبله
وقال السراج البلقيني ظهر لي في هذين العددين شيء لم أسبق إليه لأن لفظ ابن عمر صلاة الجماعة أفضل من صلاة الفذ ومعناه الصلاة في الجماعة كما في حديث أبي هريرة صلاة الرجل في الجماعة يعني في بعض طرقه في البخاري وغيره قال وعلى هذا فكل واحد من المحكوم له بذلك صلى في جماعة وأدنى الأعداد التي يتحقق فيها ذلك ثلاثة حتى يكون كل واحد صلى في جماعة وكل واحد منهم أتى بحسنة وهي بعشرة فتحصل من مجموعه ثلاثون فاقتصر في الحديث على الفضل الزائد وهي سبعة وعشرون دون الثلاثة التي هي أصل ذلك انتهى
قال الحافظ وظهر لي في الجمع بين العددين أن أقل الجماعة إمام ومأموم فلولا الإمام ما سمي المأموم مأموما وكذا عكسه فإذا تفضل الله تعالى على من صلى جماعة بزيادة خمس وعشرين درجة حمل الخبر الوارد بفضلها على الفضل الزائد والخبر الوارد بلفظ سبع وعشرين على الأصل والفضل وقد خاض قوم في تعيين الأسباب المقتضية للدرجات المذكورة وما جاؤوا بطائل قاله ابن الجوزي
لكن في حديث أبي هريرة إشارة إلى بعضها يعني قوله وذلك أنه إذا توضأ فأحسن الوضوء ثم خرج إلى المسجد لا يخرجه إلا الصلاة لم يخط خطوة إلا رفعت له بها درجة وحط عنه بها خطيئة فإذا صلى لم تزل الملائكة تصلي عليه ما دام في مصلاه اللهم صل عليه اللهم ارحمه ولا يزال أحدكم في صلاة ما انتظر الصلاة رواه الشيخان ويضاف إليه أمور أخرى وردت في ذلك وقد نقحتها وحذفت ما لا يختص بصلاة الجماعة فأولها إجابة المؤذن بنية الصلاة جماعة والتكبير إليها في أول الوقت والمشي إلى المسجد بالسكينة ودخول المسجد داعيا وصلاة التحية عند دخوله كل ذلك بنية الصلاة في جماعة وانتظار الجماعة وصلاة الملائكة عليه وشهادتهم له وإجابة الإقامة والسلامة من الشيطان إذا انفرد عند الإقامة
حادي عشرها الوقوف منتظرا إحرام الإمام أو الدخول معه في أي هيئة وجده عليها
ثاني عشرها إدراك تكبيرة الإحرام لذلك
ثالث عشرها تسوية الصفوف وسد فرجها
رابع عشرها
____________________
(1/377)
جواب الإمام عند قوله سمع الله لمن حمده
خامس عشرها الأمن من السهو غالبا وتنبيه الإمام إذا سها بالتسبيح أو الفتح عليه
سادس عشرها حصول الخشوع والسلامة مما يلهي غالبا
سابع عشرها تحسين الهيئة غالبا
ثامن عشرها احتفاف الملائكة به
تاسع عشرها التدرب على تجويد القراءة وتعلم الأركان والأبعاض
العشرون إظهار شعار الإسلام
الحادي والعشرون إرغام الشيطان بالاجتماع على العبادة والتعاون على الطاعة ونشاط المتكاسل
الثاني والعشرون السلامة من صفة النفاق ومن إساءة غيره الظن بأنه تارك الصلاة رأسا
الثالث والعشرون نية رد السلام على الإمام
الرابع والعشرون الانتفاع باجتماعهم على الدعاء والذكر وعود بركة الكامل على الناقص
الخامس والعشرون قيام نظام الألفة بين الجيران وحصول تعاهدهم في أوقات الصلوات
فهذه خمس وعشرون خصلة ورد في كل منها أمر أو ترغيب يخصه وبقي منها أمران يختصان بالجهرية وهما الإنصات عند قراءة الإمام والاستماع لها والتأمين عند تأمينه ليوافق تأمينه تأمين الملائكة وبهذا يترجح أن السبع تختص بالجهرية ولا يرد على الخصال المذكورة أن بعضها يختص ببعض من صلى جماعة دون بعض كالتكبير في أول الوقت وانتظار الجماعة وانتظار إحرام الإمام ونحو ذلك لأن أجر ذلك يحصل لقاصده بمجرد النية ولو لم يقع ومقتضى الخصال المذكورة اختصاص التضعيف بالمسجد وهو الراجح في نظري وعلى تقدير أن لا يختص بالمسجد فإنما يسقط مما ذكرته ثلاثة المشي والدخول والتحية فيمكن أن تعوض من بعض ما ذكر مما يشتمل على خصلتين متقاربتين أقيمتا مقام خصلة واحدة كالأخيرتين لأن منفعة الاجتماع على الدعاء والذكر غير منفعة عود بركة الكامل على الناقص وكذا فائدة قيام نظام الألفة غير فائدة حصول التعهد وكذا فائدة أمن المأمومين من السهو غالبا غير فائدة تنبيه الإمام إذا سها فهذه ثلاثة تعوض بها الثلاثة المذكورة فيحصل المطلوب قال ودل حديث الباب على تساوي الجماعات في الفضل سواء كثرت أو قلت لأنه ذكر فضيلة الجماعة على المنفرد بغير واسطة فيدخل فيه كل جماعة قاله بعض المالكية يعني ابن عبد البر وقواه بما رواه ابن أبي شيبة بإسناد صحيح عن إبراهيم النخعي قال إذا صلى الرجل مع الرجل فهما جماعة لهما التضعيف وهو مسلم في أصل الحصول لكنه لا ينفي مزيد الفضل لما كان أكثر لا سيما مع وجود النص المصرح به وهو ما رواه أحمد وأصحاب السنن وصححه ابن خزيمة وغيره عن أبي بن كعب مرفوعا صلاة الرجل مع الرجل أزكى من صلاته وحده وصلاته مع الرجلين أزكى من صلاته مع الرجل وما كثر فهو أحب إلى الله وله شاهد قوي في الطبراني من حديث قباث بن أشيم وهو بفتح القاف والموحدة بعد الألف مثلثة وأبوه بمعجمة بعدها تحتانية بوزن أحمر وروى ابن أبي شيبة عن ابن عباس قال فضل صلاة الجماعة على صلاة المنفرد خمس وعشرون درجة فإن كانوا أكثر فعلى عدد من في المسجد فقال رجل وإن كانوا عشرة آلاف قال نعم وهذا موقوف له حكم الرفع لأنه لا يقال بالرأي لكنه غير ثابت انتهى
____________________
(1/378)
وهذا الحديث أخرجه مسلم عن يحيى عن مالك به ورواه الشيخان من رواية شعيب عن الزهري عن ابن المسيب وأبي سلمة عن أبي هريرة به بزيادة علمت
( مالك عن أبي الزناد ) عبد الله بن ذكوان ( عن الأعرج ) عبد الرحمن بن هرمز ( عن أبي هريرة أن رسول الله قال والذي نفسي بيده ) قسم كان يقسم به كثيرا والمعنى أن نفوس العباد بيد الله أي بتقديره وتدبيره وفيه جواز القسم على الأمر الذي لا شك فيه تنبيها على عظم شأنه والرد على من كره الحلف بالله مطلقا
( لقد هممت ) اللام جواب القسم والهم العزم وقيل دونه وزاد مسلم في أوله أنه فقد ناسا في بعض الصلوات فقال لقد هممت فأفاد سبب الحديث ( أن آمر بحطب فيحطب ) بالفاء والنصب عطفا على المنصوب وكذا الأفعال الواقعة بعده قال الحافظ أي يكسر ليسهل اشتعال النار به ويحتمل أنه أطلق عليه ذلك قبل أن يتصف به تجوزا بمعنى أنه سيتصف به وتعقب بأنه لم يقل أحد من أهل اللغة أن معنى يخطب يكسر بل المعنى يجمع
( ثم آمر ) بالمد وضم الميم ( بالصلاة فيؤذن لها ثم آمر رجلا فيؤم الناس ثم أخالف إلى رجال ) أي آتيهم من خلفهم
وقال الجوهري خالف إلى فلان أي أتاه إذا غاب عنه والمعنى أخالف الفعل الذي أظهرت من إقامة الصلاة فأتركه وأسير إليهم أو أخالف ظنهم في أني مشغول بالصلاة عن قصدي إليهم أو معنى أخالف أتخلف عن الصلاة إلى قصد المذكورين والتقييد برجال مخرج للنساء والصبيان
( فأحرق عليهم بيوتهم ) بالنار عقوبة وأحرق بشد الراء للتكثير والمبالغة في التحريق وفيه إشعار بأن العقوبة ليست قاصرة على المال بل المراد تحريق المقصودين والبيوت تبع للقاطنين بها ولمسلم من طريق أبي صالح عن أبي هريرة فأحرق بيوتا على من فيها ( والذي نفسي بيده ) أعاد اليمين مبالغة في التأكيد ( لو يعلم أحدهم أنه يجد عظما سمينا ) وللتنيسي عرقا سمينا بفتح العين المهملة وسكون الراء بعدها قاف قال الخليل العرق العظم بلا لحم فإن كان عليه لحم فهو عراق وفي المحكم عن الأصمعي العرق بسكون الراء قطعة لحم
وقال الأزهري واحد العراق وهي العظام التي يؤخذ منها هبر اللحم ويبقى عليها لحم رقيق فيكسر ويطبخ ويؤكل ما على العظام من لحم رقيق ويتمشمش العظام وقول الأصمعي هو اللائق هنا
( أو مرماتين ) بكسر الميم وقد تفتح تثنية مرماة قال الخليل هي ما بين ظلفي الشاة من اللحم حكاه أو عبيد وقال لا أدري ما وجهه
ونقل المستملي عن الفربري عن البخاري المرماة بكسر الميم مثل منساة وميضاة ما بين ظلفتي الشاة من اللحم
قال عياض فالميم على هذا أصلية
وقال الأخفش المرماة لعبة
____________________
(1/379)
كانوا يلعبونها بنصاب محدد يرمونها في كوم من تراب فأيهم أثبتها في الكوم غلب ويبعد أن هذا مراد الحديث لأجل التثنية
وحكى الحربي عن الأصمعي أن المرماة سهم الهدف قال ويؤيده ما حدثني ثم ساق حديث أبي هريرة بلفظ لو أن أحدهم إذا شهد الصلاة معي كان له عظم من شاة سمينة أو سهمان لفعل وقيل المرماة سهم يتعلم به الرمي وهو سهم رقيق مستو غير محدد قال ابن المنير ويدل على ذلك التثنية فإنها مشعرة بتكرار الرمي بخلاف السهام المحددة الحربية فإنها لا يتكرر منها
وقال الزمخشري تفسير المرماة بالسهم ليس بوجيه ويدفعه ذكر العراق معه ووجهه ابن الأثير بأنه لما ذكر العظم السمين وكان مما يؤكل أتبعه بالسهمين لأنهما مما يتلهى به انتهى
ووصف العظم بالسمن والمرماتين بقوله ( حسنتين ) أي مليحتين ليكون ثم باعث نفساني على تحصيلهما وفيه إشارة إلى ذم المتخلفين عن الصلاة بوصفهم بالحرص على الشيء الحقير من مطعوم أو ملعوب به مع التفريط فيما يحصل رفيع الدرجات ومنازل الكرامة
( لشهد العشاء ) أي صلاتها فالمضاف محذوف وفيه إشارة إلى أنه يسعى إلى الشيء الحقير في ظلمة الليل فكيف يرغب عن الصلاة وفيه إيماء إلى أن الصلاة التي وقع التهديد بسببها هي العشاء
ولمسلم رواية يعني العشاء وفي رواية لأحمد التصريح بتعيين العشاء وفي الصحيحين من رواية أبي صالح عن أبي هريرة الإيماء إلى أنها العشاء والفجر وللسراج من هذا الوجه أخر العشاء ليلة فخرج فوجد الناس قليلا فغضب فذكر الحديث
ولابن حبان يعني العشاء والغداة وسائر الروايات عن أبي هريرة بالإبهام وما لعبد الرزاق عن أبي هريرة أنها الجمعة فضعيف لشذوذه ويدل على وهم راويها رواية أبي داود والطبراني أنه قيل ليزيد بن الأصم الجمعة عنى أو غيرها قال صمت أذناي إن لم أكن سمعت أبا هريرة يأثره عن رسول الله ما ذكر جمعة ولا غيرها فظهر أن الراجح في حديث أبي هريرة أنها لا تختص بالجمعة نعم في مسلم عن ابن مسعود الجزم بالجمعة وهو حديث مستقل لأن مخرجه مغاير لحديث أبي هريرة ولا يقدح أحدهما في الآخر لحمله على أنهما واقعتان كما أشار إليه النووي والمحب الطبري وقد وافق ابن أم مكتوم أبا هريرة على ذكر العشاء أخرج أحمد وابن خزيمة والحاكم عنه أنه استقبل الناس في صلاة العشاء فقال لقد هممت أن آتي هؤلاء الذين يتخلفون عن الصلاة فأحرق عليهم بيوتهم فقال ابن أم مكتوم يا رسول الله لقد علمت ما بي وليس لي قائد زاد أحمد وإن بيني وبين المسجد شجرا ونخلا ولا أقدر على قائد كل ساعة قال أتسمع الإقامة قال نعم قال فاحضرها ولم يرخص له
ولابن حبان عن جابر قال أتسمع الأذان قال نعم قال فأتها ولو حبوا وحمله العلماء على أنه كان لا يشق عليه المشي وحده ككثير من العميان واحتج بهذا وبحديث الباب على أن الجماعة فرض عين إذ لو كانت سنة لم يهدد تاركها بالتحريق أو فرض كفاية لكانت قائمة بالرسول ومن معه وإليه ذهب الأوزاعي وعطاء وأحمد أبو ثور وابن خزيمة وابن المنذر وابن حبان وبالغ داود وأتباعه فجعلوها شرطا في صحة الصلاة ورد بأن
____________________
(1/380)
الوجوب قد ينفك عن الشرطية ولذا قال أحمد وغيره إنها واجبة غير شرط
وذهب الشافعي إلى أنها فرض كفاية وعليه جمهور متقدمي أصحابه وكثير من الحنفية والمالكية والمشهور عند الباقين أنها سنة مؤكدة وأجابوا عن ظاهر حديث الباب بأنه دال على عدم الوجوب لأنه هم ولم يفعل فلو كانت فرض عين لما عفا عنهم وتركهم قاله عياض والنووي وضعفه ابن دقيق العيد لأنه إنما يهم بما يجوز فعله لو فعله والترك لا يدل على عدم الوجوب لاحتمال أنهم انزجروا بذلك وتركوا التخلف الذي ذمهم بسببه على أنه بين سبب الترك فيما رواه أحمد من طريق سعيد المقبري عن أبي هريرة بلفظ لولا ما في البيوت من النساء والذرية لأقمت صلاة العشاء وأمرت فتياني يحرقون الحديث
وأجيب أيضا بأن الحديث دال على أن لا وجوب لأنه هم بالتوجه إلى المتخلفين فلو كانت فرض عين لما هم بتركها إذا توجه وضعفه ابن بزيزة بأن الواجب يجوز تركه لما هو أوجب منه وبأنه لو فعل ذلك قد يتداركها في جماعة آخرين وأجاب ابن بطال وغيره بأنها لو كانت فرضا لقال لما توعد عليها بالإحراق من تخلف عن الصلاة لم تجزه صلاته لأنه وقت البيان ورده ابن دقيق العيد بأن البيان قد يكون بالنص وقد يكون الدلالة فلما قال لقد هممت الخ دل على وجوب الحضور وهو كاف في البيان
وقال الباجي وغيره الحديث ورد مورد الزجر وحقيقته ليست مرادة وإنما المراد المبالغة ويرشد إلى ذلك وعيدهم بعقوبة الكفار والإجماع على منع عقوبة المسلمين به ورد بأن المنع وقع بعد نسخ التعذيب بالنار وكان قبل ذلك جائزا كما دل عليه حديث أبي هريرة عند البخاري وغيره فلا يمتنع حمل التهديد على حقيقته فهذه أجوبة أربعة
خامسها أن المراد بالتهديد قوم تركوا الصلاة رأسا لا مجرد الجماعة ورد بأن في رواية لمسلم لا يشهدون الصلاة أي لا يحضرون ولأحمد لا يشهدون العشاء في الجمع أي الجماعة وفي ابن ماجه عن أسامة مرفوعا لينتهين رجال عن تركهم الجماعات أو لأحرقن بيوتهم سادسها أنه ورد في الحث على خلاف فعل المنافقين والتحذير من التشبه بفعلهم لا لخصوص ترك الجماعة أشار إليه الزين بن المنير وهو قريب من جواب الباجي المتقدم
سابعها أنه ورد في المنافقين فليس التهديد لترك الجماعة بخصوصه فلا يتم الدليل ورد باستبعاد الاعتناء بتأديب المنافقين على ترك الجماعة مع العلم بأنه لا صلاة لهم وبأنه كان معرضا عنهم وعن عقوبتهم مع علمه بطويتهم وقد قال لا يتحدث الناس أن محمدا يقتل أصحابه ومنع ابن دقيق العيد هذا الرد بأنه إنما يتم إذا كان ترك عقاب المنافقين واجبا عليه فإذا ثبت أنه مخير فليس في إعراضه عنهم دليل على وجوب ترك عقوبتهم
ثامنها أن فريضة الجماعة كانت أولا لسد باب التخلف عن الصلاة على المنافقين ثم نسخ حكاه عياض ويقويه نسخ الوعيد المذكور وهو التحريق بالنار وكذا نسخ ما تضمنه التحريق وهو
____________________
(1/381)
جواز العقوبة بالمال ويدل على النسخ أحاديث فضل صلاة الجماعة على صلاة الفذ لأن الأفضلية تقتضي الاشتراك في أصل الفضل ومن لازمه الجواز
تاسعها أن المراد بالصلاة الجمعة لا باقي الصلوات ونصره القرطبي وتعقب بالأحاديث المصرحة بالعشاء وبحث فيه ابن دقيق العيد باختلاف الأحاديث في الصلاة التي هدد بسببها هل الجمعة أو العشاء أو الصبح والعشاء معا فإن لم تكن أحاديث مختلفة ولم يكن بعضها أرجح من بعض وإلا وقف الاستدلال وتقدم ما فيه
عاشرها أن التهديد المذكور يمكن أن يقع في حق تارك فرض الكفاية كمشروعية مقاتلة تاركه وتعقب بأن التحريق الذي قد يفضي إلى القتل أخص من المقاتلة وبأن المقاتلة إنما تشرع إذا تمالأ الجميع على الترك قال الحافظ فالذي يظهر لي أن الحديث ورد في المنافقين لحديث الصحيحين ليس صلاة أثقل على المنافقين من صلاة العشاء والفجر ولقوله لو يعلم أحدهم الخ لأن هذا الوصف لائق بالمنافقين لا بالمؤمن الكامل لكن المراد به نفاق المعصية لا نفاق الكفر لرواية أحمد لا يشهدون العشاء في الجمع
وفي حديث أسامة لا يشهدون الجماعة
وأصرح منه رواية أبي داود عن أبي هريرة ثم آتي قوما يصلون في بيوتهم ليست بهم علة
فهذا يدل على أن نفاقهم نفاق معصية لا كفر لأن الكافر لا يصلي في بيته إنما يصلي في المسجد رياء وسمعة فإذا خلا في بيته كان كما وصفه الله من الكفر والاستهزاء نبه عليه القرطبي
وأيضا فقوله في رواية المقبري لولا ما في البيوت من النساء والذرية يدل على أنهم لم يكونوا كفارا لأن تحريق بيت الكافر إذا تعين طريقا إلى الغلبة عليه لم يمنع ذلك وجود النساء والذرية في بيته وعلى تقدير أن المراد نفاق الكفر فلا يدل على عدم الوجوب لتضمنه أن ترك الجماعة من صفات المنافق وقد نهينا عن التشبيه بهم وسياق الحديث يدل على الوجوب من جهة المبالغة في ذم من تخلف عنها
قال الطيبي خروج المؤمن من هذا الوعيد ليس من جهة أن التخلف ليس من شأنهم بل هو من صفات المنافقين ويدل عليه قول ابن مسعود لقد رأيتنا وما يتخلف عن الجماعة إلا منافق رواه مسلم انتهى
وروى ابن أبي شيبة وسعيد بن منصور بإسناد صحيح عن عمير بن أنس قال حدثني عمومتي من الأنصار قالوا قال ما يشهدهما منافق يعني العشاء والفجر وهذا يقوي ما ظهر لي أن المراد بالنفاق نفاق المعصية لا نفاق الكفر فعلى هذا الذي خرج هو المؤمن الكامل لا العاصي الذي يجوز إطلاق النفاق عليه مجازا لما دل عليه مجموع الأحاديث انتهى
والحديث أخرجه البخاري عن عبد الله بن يوسف عن مالك به وتابعه سفيان بن عيينة عن أبي الزناد عند مسلم
____________________
(1/382)
( مالك عن أبي النضر ) سالم بن أبي أمية تابعي صغير ثقة ثبت
( مولى عمر بن عبيد الله ) بضم العين بن معمر التيمي القرشي
( عن بسر ) بضم الموحدة وإسكان المهملة ( ابن سعيد ) بكسر العين المدني العابد ثقة حافظ
( أن زيد بن ثابت ) بن الضحاك الأنصاري النجاري أحد كتاب الوحي من الراسخين في العلم
( قال أفضل الصلاة صلاتكم في بيوتكم ) لبعدها عن الرياء ولتحصل البركة في البيوت فتنزل فيها الرحمة ويخرج منها الشيطان وعليه فيمكن أن يخرج بقوله في بيوتكم بيت غيره ولو أمن الرياء كذا في الفتح
( إلا صلاة المكتوبة ) أي المفروضة فليست في البيوت أفضل بل في المسجد أفضل لأن الجماعة تشرع لها فمحلها أولى وظاهره يشمل كل نفل لكنه محول على ما لا يشرع له التجميع كالتراويح والعيدين وما تشرع له الجماعة أو ما يفوت إذا رجع المصلي إلى بيته ولم يفعله وما لا يخص المسجد كالتحية
قال الحافظ ويحتمل أنه أراد بالصلاة ما يشرع في البيت وفي المسجد معا فلا تدخله التحية أو أنه لم يرد بالمكتوبة المفروضة بل ما تشرع له الجماعة وفيما وجب لعارض كمنذورة احتمال
قال ابن عبد البر هذا الحديث موقوف في جميع الموطآت على زيد وهو مرفوع عنه من وجوه صحاح ويستحيل أن يكون رأيا لأن الفضائل لا مدخل للرأي فيها انتهى
وأخرجه البخاري ومسلم وأبو داود والترمذي من طرق عن أبي النضر عن بسر بن سعيد عن زيد بن ثابت مرفوعا به وفيه قصة هي سبب الحديث
وروى الخطيب من طريق إسماعيل بن أبان حدثنا عبد الأعلى بن مسهر حدثنا مالك عن أنس عن أبي النضر عن بسر بن سعيد عن زيد بن ثابت قال قال خير صلاتكم صلاتكم في بيوتكم إلا صلاة الفريضة قال ابن حوصا لم يتابع أحد إسماعيل بن أبان على رفع هذا الحديث أي عن مالك لكن لم يذكر إسماعيل بجرح لا في اللسان ولا في الميزان
قال ابن عبد البر وفي هذا الحديث دليل على أن لا جماعة إلا في الفريضة وأن أعمال البر في السر أفضل
وقال بعض الحكماء إخفاء العلم هلكة وإخفاء العمل نجاة
وقال تعالى في الصدقات { وإن تخفوها وتؤتوها الفقراء فهو خير لكم } سورة البقرة الآية 271
69 ما جاء في العتمة والصبح ( مالك عن عبد الرحمن بن حرملة ) بن عمرو بن سنة بفتح المهملة وتثقيل النون ( الأسلمي )
____________________
(1/383)
المدني صدوق ربما أخطأ وفي التمهيد صالح الحديث ليس به بأس روى عنه مالك وابن عيينة وغيرهما من الأئمة ولم يكن بالحافظ وكان يحيى القطان يغمزه ثم روى بسنده عنه قال كنت سيىء الحفظ فرخص لي سعيد بن المسيب في الكتابة ولحرملة والده صحبة ورواية ومات عبد الرحمن في خلافة السفاح وقيل سنة خمس وأربعين ومائة ولمالك عنه في الموطأ خمس أحاديث واحتج له مسلم وأصحاب السنن
( عن سعيد بن المسيب أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال بيننا وبين المنافقين ) آية وعلامة ( شهود العشاء والصبح ) قال ابن عبد البر كذا ليحيى وقال جمهور رواة الموطأ صلاة العتمة والصبح على طبق الترجمة وفيه جواز تسمية العشاء عتمة ويعارضه حديث لا تغلبنكم الأعراب على اسم صلاتكم هذه إنما هي العشاء وإنما يسمونها العتمة لأنهم يعتمون بالإبل ويشهد لهذا الحديث أحاديث فيها تسمية العشاء بالعتمة فجائز أن تسمى بالاسمين جميعا ولا خلاف بين الفقهاء اليوم في ذلك
قال وقوله ( لا يستطيعونهما أو نحو هذا ) شك من المحدث انتهى
وقال الباجي شك من الراوي أو توق في العبارة
وقال الرافعي إنهم لا يشهدونهما امتثالا للأمر ولا احتسابا للأجر ويثقل عليهم الحضور في وقتهما فيتخلفون
وقال في التمهيد هذا الحديث مرسل في الموطأ لا يحفظ عن النبي صلى الله عليه وسلم مسندا ومعناه محفوظ من وجوه ثابتة
وفي الاستذكار وهو مرسل في الموطأ وهو مسند من طريق وفي معناه قوله صلى الله عليه وسلم في صلاة الصبح والعشاء ما يشهدهما منافق
وقال ابن عمر كنا إذا فقدنا الرجل في هاتين الصلاتين أسأنا به الظن العشاء والصبح
وقال شداد بن أوس من أحب أن يجعله الله من الذين يدفع الله بهم العذاب عن أهل الأرض فليحافظ على صلاة العشاء وصلاة الصبح في جماعة ومعناه عندي أن من شهدهما في جماعة أحرى أن يواظب على غيرهما وفي ذلك تأكيد على شهود الجماعة وأن من علامات أهل الفسق والنفاق المواظبة على التخلف عنها بلا عذر
( مالك عن سمي ) بضم السين المهملة وفتح الميم ( مولى أبي بكر ) بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام بن المغيرة القرشي المدني ( عن أبي صالح ) ذكوان السمان عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال ( بينما ) بالميم وأصله بين فأشبعت فتحة النون فصارت ألفا وزيدت الميم ظرف زمان مضاف إلى جملة من فعل وفاعل ومبتدأ وخبر وهو هنا ( رجل ) النكرة المخصصة بالصفة وهي ( يمشي بطريق ) أي
____________________
(1/384)
فيها ( إذ وجد غصن شوك على الطريق فأخره ) نحاه عن الطريق ( فشكر الله له ) قال الحافظ أي رضي فعله وقبل منه ( فغفر له ) وقال الباجي يحتمل أن يريد جازاه على ذلك بالمغفرة أو أثنى عليه ثناء اقتضى المغفرة له أو أمر المؤمنين بشكره والثناء عليه بجميل فعله قال ومعنى تعلق نزع الشوك من الطريق بالترجمة أنه غفر له مع نزارة هذا الفعل فكيف بإتيان العشاء والصبح وتعسفه لا يخفى وعلى تقدير تمشيته في هذا فكيف يصنع بالحديث بعده وتبعه ابن المنير في هذا التوجيه واعترف بعدم مناسبة الثاني فإنما أدى الإمام هذه الأحاديث على الوجه الذي سمعه وليس غرضه منه إلا الحديث الأخير وهو لو يعلمون ما في العتمة والصبح لأتوهما ولو حبوا قال ابن العربي ترى الجهال يعبثون في تأويلها ولا تعلق للأول والثاني منها بالباب أصلا
وقال ابن عبد البر وفي الحديث أن ذلك من أعمال البر وأنها توجب الغفران فلا ينبغي للمؤمن العاقل أن يحتقر شيئا من أعمال البر فربما غفر له بأقلها وقد قال صلى الله عليه وسلم الإيمان بضع وسبعون شعبة أعلاها لا إله إلا الله وأدناها إماطة الأذى عن الطريق والحياء شعبة من الإيمان وقال تعالى { فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره } سورة الزلزلة الآية 7 وقال الشاعر ومتى تفعل الكثير من الخير إذا كنت تاركا لأقله ( وقال ) صلى الله عليه وسلم بالإسناد المذكور ( الشهداء خمسة ) بينها بقوله ( المطعون ) الميت بالطاعون وهو غدة كغدة البعير يخرج في الآباط والمراق
( والمبطون ) الميت بمرض البطن أو الاستسقاء أو الإسهال
( والغرق ) بفتح المعجمة وكسر الراء وقاف الميت بالغرق
( وصاحب الهدم ) بفتح فسكون الميت تحته
( والشهيد ) الذي قتل ( في سبيل الله ) فكأنه قال المقتول فعبر عنه بالشهيد
ويؤيده قوله في رواية جابر بن عتيك عند المصنف فيما يأتي الشهداء سبعة سوى القتل في سبيل الله فلا يلزم منه حمل الشيء على نفسه فكأنه قيل الشهيد هو الشهيد لأن قوله خمسة خبر للمبتدأ والمعدود بعده بيان له
وأجيب أيضا بأنه من باب قوله أنا أبو النجم وشعري شعري وبأن الشهيد مكرر في كل واحد منها فيكون من التفصيل بعد الإجمال وتقديره الشهيد المطعون والشهيد كذا إلى آخره ثم الذي يظهر أنه صلى الله عليه وسلم أعلم بالأقل ثم أعلم بزيادة على ذلك فذكرها في وقت آخر ولم يقصد الحصر في شيء من ذلك فلا تنافي بين سبعة وخمسة ولا بين ما ورد من نحو عشرين خصلة شهادة بطرق جيدة وتبلغ بطرق فيها ضعف أزيد من ثلاثين وسيكون لنا إن شاء الله تعالى عودة لذكرها في الجنائز
( وقال ) أيضا صلى الله عليه وسلم ( لو يعلم الناس ما في النداء ) أي الأذان وهي رواية بشر بن عمر عن مالك
____________________
(1/385)
عند السراج ( والصف الأول ) من الخير والبركة كما لأبي الشيخ من رواية الأعرج عن أبي هريرة ( ثم لم يجدوا ) شيئا من وجوه الأولوية بأن يقع التساوي ( إلا أن يستهموا ) أي يقترعوا ( عليه لاستهموا ) أي اقترعوا وفي رواية عبد الرزاق عن مالك لاستهموا عليهما فضمير عليه في هذه الرواية عائد على ما ذكر من الأذان والصف
( ولو يعلمون ما في التهجير ) البدار إلى الصلاة أول وقتها وقبله وانتظارها ( لاستبقوا إليه ) استباقا معنويا لا حسيا لاقتضائه سرعة المشي وهو ممنوع
( ولو يعلمون ما في العتمة ) أي العشاء ( والصبح ) أي ثواب صلاتهما في جماعة ( لأتوهما ولو حبوا ) على المرافق والركب كما في حديث أبي الدرداء عند ابن أبي شيبة
قال ابن عبد البر هذه ثلاثة أحاديث في واحد أحدها نزع الغصن والثاني الشهداء والثالث لو يعلم الناس إلى آخر الحديث هكذا يرويها جماعة رواة الموطأ لا يختلفون في ذلك عن مالك وكذلك هي محفوظة عن أبي هريرة وكذا رواه ابن وضاح عن يحيى وسقط الثالث من رواية ابنه عبد الله عنه هنا وهو ثابت عنده في باب النداء انتهى والصواب إثبات الثالث هنا حتى يكون في الأحاديث واحد مطابق للترجمة فساقها الإمام كما سمعها وإن كان غرضه منها واحدا وهو الأخير واللذان قبله ليسا بمقصودين وكأن ابن يحيى لما رأى الثالث تقدم ظن أن ذكره تكرار محض فأسقطه وما درى عدم مطابقة ما ذكره للترجمة ولا شك في تقديم رواية ابن وضاح لأنه حافظ ووافقه جميع رواة مالك عليه فإن لم يكن بالحافظ وقد أخرجه البخاري عن قتيبة بن سعيد عن مالك به بتمامه
( مالك عن ابن شهاب عن أبي بكر بن سليمان بن أبي حثمة ) بفتح المهملة وإسكان المثلثة ثقة عارف بالنسب لا يعرف اسمه كما مر ( أن عمر بن الخطاب فقد ) أباه ( سليمان بن أبي حثمة ) بن غانم بن عامر بن عبد الله بن عويج بن عدي بن كعب بن لؤي القرشي العدوي قال ابن حبان له صحبة وقال ابن منده ذكر في الصحابة ولا يصح
وقال ابن عمر رحل مع أمه إلى المدينة وكان من فضلاء المسلمين وصالحيهم واستعمله عمر على السوق وجمع الناس عليه في قيام رمضان
وذكره ابن سعد فيمن رأى النبي صلى الله عليه وسلم ولم يحفظ عنه وذكره أباه في مسلمة الفتح ( في صلاة الصبح وأن عمر بن الخطاب غدا إلى السوق ومسكن سليمان بين السوق والمسجد النبوي ) ولذلك استعمله عليه لقربه ( فمر ) عمر ( على الشفاء ) بكسر الشين المعجمة وبالفاء الخفيفة كما ضبطه ابن نقطة قال ابن الأثير
____________________
(1/386)
والمد وقال غيره والقصر بنت عبد الله بن عبد شمس بن خلف القرشية العدوية ( أم سليمان ) المذكورة قيل اسمها ليلى والشفاء لقب أسلمت قبل الهجرة وبايعت وهي من المهاجرات الأول وكانت من عقلاء النساء وفضلائهن وكان صلى الله عليه وسلم يزورها في بيتها ويقيل عندها واتخذت له فراشا وإزارا ينام فيه فلم يزل ذلك عند ولدها حتى أخذه منهم مروان بن الحكم
وقال لها صلى الله عليه وسلم علمي حفصة رقية النملة وأعطاها دارا عند الحكاكين بالمدينة فنزلتها مع ابنها سليمان وكان عمر يقدمها في الرأي ويرعاها ويفضلها وربما ولاها شيئا من أمر السوق
روى عنها ابنها سليمان وابناه أبو بكر وعثمان وحفصة أم المؤمنين وغيرهم ( فقال لها لم أر سليمان في الصبح ) فيه تفقد الإمام رعيته في شهود الخير ولا سيما قرابته ( فقالت إنه بات يصلي فغلبته عيناه فقال عمر لأن أشهد صلاة الصبح في الجماعة أحب إلي من أن أقوم ليلة ) لما في ذلك من الفضل الكبير وروى عبد الرزاق عن معمر عن الزهري عن سليمان بن أبي حثمة عن أمه الشفاء قالت دخل علي عمر وعندي رجلان نائمان تعني زوجها أبا حثمة وابنها سليمان فقال أما صليا الصبح قلت لم يزالا يصليان حتى أصبحا فصليا الصبح وناما فقال لأن أشهد الصبح في جماعة أحب إلي من قيام ليلة قال أبو عمر خالف معمر مالكا في إسناده والقول قول مالك اه
أي لأنه قال عن الزهري عن أبي بكر بن سليمان أن عمر ومعمرا قال عن الزهري عن سليمان عن أمه فهي مخالفة ظاهرة وسياق متنه فيه خلف أيضا إلا أن يقال إن كان محفوظا احتمل أن هذه مرة أخرى مع أبيه فهما قصتان فلا خلف
( مالك عن يحيى بن سعيد ) الأنصاري ( عن محمد بن إبراهيم ) بن الحارث التيمي ( عن عبد الرحمن بن أبي عمرة ) واسمه بشير وقيل بشر وقيل ثعلبة ( الأنصاري ) الخزرجي ولد في عهد النبي صلى الله عليه وسلم وأبوه صحابي شهير وأمه هند بنت المقوم بن عبد المطلب صحابية بنت عم النبي صلى الله عليه وسلم وذكره مطين وابن السكن في الصحابة وقال أبو حاتم لا صحبة له قال ابن سعد ثقة كثير الحديث ( أنه قال جاء عثمان بن عفان إلى صلاة العشاء فرأى أهل المسجد قليلا فاضطجع في مؤخر المسجد ينتظر الناس أن يكثروا ) قال الباجي لأن من أدب الأئمة ورفقهم بالناس انتظارهم بالصلاة
____________________
(1/387)
إذا تأخروا وتعجيلها إذا اجتمعوا وقد فعله صلى الله عليه وسلم في صلاة العشاء ( فأتاه ابن أبي عمرة ) فيه التفات ( فجلس إليه فسأله من هو ) والأصل فأتيته فجلست وهكذا ( فأخبره فقال ما معك من القرآن فأخبره ) بما معه ( فقال له عثمان من شهد ) أي صلى ( العشاء ) في جماعة ( فكأنما قام نصف ليلة ومن شهد الصبح ) أي صلاها في جماعة ( فكأنما قام ليلة ) قال القرطبي معناه أنه قام نصف ليلة أو ليلة لم يصل فيها العشاء والصبح في جماعة إذ لو صلى ذلك في جماعة لحصل له فضلها وفضل القيام
وقال البيضاوي نزل صلاة كل من طرفي الليل منزلة نوافل نصفه ولا يلزم منه أن يبلغ ثوابه من قام الليل كله لأن هذا تشبيه مطلق مقدار الثواب ولا يلزم من تشبيه الشيء بالشيء أخذه بجميع أحكامه ولو كان قدر الثواب سواء لم يكن لمصلي العشاء والصبح جماعة منفعة في قيام الليل غير التعب وهذا الحديث وإن كان موقوفا فله حكم الرفع لأنه لا يقال بالرأي وقد صح مرفوعا
أخرج مسلم وأبو داود والترمذي من طريق سفيان الثوري عن عثمان بن حكيم عن عبد الرحمن بن أبي عمرة قال دخل عثمان المسجد فقعد وحده فقعدت إليه فقال يا ابن أخي سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول من صلى العشاء في جماعة كان كقيام نصف ليلة ومن صلى الصبح في جماعة كان كقيام ليلة وأخرج أحمد ومسلم من طريق عبد الواحد بن زياد عن عثمان بن حكيم عن عبد الرحمن بن أبي عمرة قال دخل عثمان بن عفان المسجد بعد صلاة المغرب فقعد وحده فقعدت إليه فقال يا ابن أخي سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول من صلى العشاء في جماعة فكأنما قام نصف الليل ومن صلى الصبح في جماعة فكأنما صلى الليل كله
70 إعادة الصلاة مع الإمام رح 294 ( مالك عن زيد بن أسلم ) العدوي مولاهم المدني ( عن رجل من بني الديل ) بكسر الدال وسكون الياء عند الكسائي وأبي عبيد ومحمد بن حبيب وغيرهم وقال الأصمعي وسيبويه والأخفش وأبو حاتم وغيرهم الدئل بضم الدال وكسر الهمزة وهو ابن بكر بن عبد مناف بن كنانة ( يقال له بسر ) بضم الموحدة وسكون المهملة في رواية الجمهور عن مالك وأكثر الرواة عن زيد بن أسلم وللثوري
____________________
(1/388)
عن زيد بكسر الموحدة ومعجمة قال أبو نعيم والصواب ما قال مالك ( ابن محجن ) بكسر الميم وسكون المهملة وفتح الجيم ونون تابعي صدوق ( عن أبيه محجن ) بن أبي محجن الديلي صحابي قليل الحديث قال أبو عمر معدود في أهل المدينة روى عنه ابنه بسر ويقال إنه كان في سرية زيد بن حارثة إلى حسمي في جمادى الأولى سنة ست وبذلك جزم ابن الحذاء في رجال الموطأ ( أنه كان في مجلس مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فأذن بالصلاة فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم فصلى ثم رجع ومحجن في مجلسه لم يصل معه فقال له رسول صلى الله عليه وسلم ما منعك أن تصلي مع الناس ) الذين صلوا معي ( ألست برجل مسلم ) قال الباجي يحتمل الاستفهام ويحتمل التوبيخ وهو الأظهر ولا يقتضي أن من لم يصل مع الناس ليس بمسلم إذ هذا لا يقوله أحد وإنما هذا كما تقول للقرشي مالك لا تكون كريما ألست بقرشي لا تريد نفيه من قريش إنما توبخه على ترك أخلاقهم ( قال بلى يا رسول الله ولكني قد صليت في أهلي ) ولعله كان سمع لا صلاتين في يوم ولم يعلم بالإعادة لفضل الجماعة ( فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا جئت فصل مع الناس وإن كنت قد صليت ) فيه أن من قال صليت يوكل إلى قوله لقبوله صلى الله عليه وسلم منه قوله صليت قاله ابن عبد البر وهذا الحديث أخرجه البخاري في الأدب المفرد والنسائي وابن خزيمة والحاكم كلهم من رواية مالك عن زيد به وأخرج الطبراني عن عبد الله بن سرجس مرفوعا إذا صلى أحدكم في بيته ثم دخل المسجد والقوم يصلون فليصل معهم وتكون له نافلة
( مالك عن نافع أن رجلا سأل عبد الله بن عمر فقال إني أصلي في بيتي ثم أدرك الصلاة مع الإمام أفأصلي معه فقال له عبد الله بن عمر نعم ) صل معه ( فقال الرجل أيتهما أجعل صلاتي فقال له ابن عمر أوذلك إليك إنما ذلك إلى الله يجعل أيتهما شاء ) قال ابن حبيب معناه أن الله يعلم التي يتقبلها فأما على وجه الاعتداد بها فهي الأولى ومقتضاه أن يصلي الصلاتين بنية الفرض ولو صلى إحداهما بنية النفل لم يشك في أن الأخرى فرض قاله الباجي
وقال ابن الماجشون وغيره معنى ذلك إلى الله في القبول لأنه قد يقبل النافلة دون الفريضة ويقبل الفريضة دون النافلة على حسب النية والإخلاص
قال ابن عبد البر وعلى هذا لا يتدافع قول من قال الفريضة هي الأولى مع قوله ذلك إلى الله
____________________
(1/389)
قال وروى ابن أبي ذئب عن نافع أن ابن عمر قال إن صلاته هي الأولى وظاهره مخالف لرواية مالك فيحتمل أن يكون شك في رواية مالك ثم بان له أن الأولى صلاته فرجع من شكه إلى يقين عمله ومحال أن يرجع إلى شك
( مالك عن يحيى بن سعيد أن رجلا سأل سعيد بن المسيب فقال إني أصلي في بيتي ثم آتي ) بمد الهمزة ( المسجد فأجد الإمام يصلي أفأصلي معه فقال سعيد نعم فقال الرجل فأيهما صلاتي فقال سعيد أو أنت تجعلهما إنما ذلك إلى الله ) فأجاب سعيد سائله بمثل جواب ابن عمر لسائله
وقد روى ذلك عن مالك وروى عنه أيضا أن الأولى فرض والثانية نفل قال الباجي وهما مبنيان على صحة رفض الصلاة بعد تمامها فإن قلنا لا ترتفض فالأولى فرضه وإن قلنا ترتفض جاز أن يقال بالقول الأول وقال ابن عبد البر أجمع مالك وأصحابه أن من صلى وحده لا يؤم في تلك الصلاة وهذا يوضح أن الأولى فرضه وعليه جماعة أهل العلم واختارت طائفة من أصحاب مالك أن تكون الثانية فرضه وتأولوا قوله صلى الله عليه وسلم وتكون له نافلة أي فضيلة كقوله تعالى { نافلة لك } سورة الإسراء الآية 79 أي زائدة في فرائضه وإنما لم يؤم فيها لأنه لم يدري أيهما صلاته حقيقة فاحتيط أن لا يؤم أحدا
رح 297 ( مالك عن عفيف ) بن عمرو بفتح العين ( السهمي ) مقبول في الرواية ( عن رجل من بني أسد أنه سأل أبا أيوب ) خالد بن زيد بن كليب ( الأنصاري ) البدري من كبار الصحابة مات غازيا بالروم سنة خمسين وقيل بعدها ( فقال إني أصل في بيتي ثم آتي المسجد فأجد الإمام يصلي أفأصلي معه فقال أبو أيوب نعم فصل معه فإن من صنع ذلك فإن له سهم جمع ) قال ابن وهب أي يضعف له الأجر فيكون له سهمان منه
وقال غيره جمع هنا أي جيش قال تعالى { سيهزم الجمع } سورة القمر الآية 45 { وقال { فلما تراءى الجمعان } سورة الشعراء الآية 61 قال ابن عبد البر أي له أجر الغازي في سبيل الله والأول أشبه وأصوب
وأوصى المنذرين الزبير لفلان كذا ولفلان كذا ولفلان سهم جمع قال مصعب الزبيري فسألت عبد الله بن الزبير ما معنى سهم جمع قال نصيب رجلين وهذا هو المعروف عن فصحاء العرب
( أو مثل سهم جمع ) شك من الراوي وقال الباجي يحتمل عندي أن ثوابه مثل سهم الجماعة
____________________
(1/390)
من الأجر ويحتمل مثل سهم من يبيت بمزدلفة في الحج لأن جمعا اسم مزدلفة حكاه سحنون عن مطرف ولم يعجبه ويحتمل أن له سهم الجمع بين الصلاتين صلاة الفذ وصلاة الجماعة ويكون في ذلك إخبار له بأنه لا يضيع له أجر الصلاتين
وقال الداودي يروى فإن له سهما جمعا بالتنوين أي يضاعف له الأجر مرتين
قال الباجي والصحيح من الرواية والمعنى ما قدمنا اه
وهذا الحديث موقوف له حكم الرفع إذ لا يقال بالرأي وقد صرح برفعه بكير أنه سمع عفيف بن عمرو يقول حدثني رجل من بني أسد أنه سأل أبا أيوب الأنصاري قال يصلي أحدنا في منزله الصلاة ثم يأتي المسجد فتقام الصلاة فأصلي معهم فأجد في نفسي من ذلك شيئا فقال أبو أيوب سألنا عن ذلك النبي صلى الله عليه وسلم فقال فذلك له سهم جمع رواه أبو داود
( مالك عن نافع أن عبد الله بن عمر كان يقول من صلى المغرب أو الصبح ثم أدركهما مع الإمام فلا يعد لهما ) للنهي عن الصلاة بعد الصبح ولأن النافلة لا تكون وترا وإلى هذا ذهب الأوزاعي والحسن والثوري ولا يرد النهي عن الصلاة بعد العصر لأن ابن عمر كان يحمله على أنه بعد الاصفرار وذهب أبو موسى والنعمان بن مقرن وطائفة إلى ما ( قال مالك ولا أرى بأسا أن يصلي مع الإمام من كان قد صلى في بيته ) أو خلوة أو مدرسة أو حانوت فالمراد صلى منفردا جميع الصلوات ( إلا صلاة المغرب ) لا يعيدها ( فإنه إذا أعادها كانت شفعا ) فينافي ما مر أنها وتر صلاة النهار وزاد أصحابه العشاء بعد الوتر وعلل محمد بن الحسن عدم إعادة المغرب بأن الإعادة نافلة ولا تكون النافلة وترا قال أبو عمر هذه العلة أحسن من تعليل مالك وقال الشافعي والمغيرة تعاد الصلوات كلها لعموم حديث محجن إذ لم يخص صلاة من غيرها ولحديث أبي داود وغيره عن يزيد بن الأسود شهدت مع النبي صلى الله عليه وسلم حجته فصليت معه الصبح فلما قضى صلاته إذا برجلين لم يصليا معه قال ما منعكما أن تصليا معنا قالا صلينا في رحالنا قال فلا تفعلا إذا صليتما في رحالكما ثم أتيتما مسجدا فصليا معهم فإنها لكما نافلة
وقال أبو حنيفة لا يعيد الصبح ولا العصر ولا المغرب قال محمد بن الحسن لأن النافلة بعد الصبح والعصر لا تجوز ولا تكون النافلة وترا وأجابوا عن حديث أبي داود بمعارضته بخبر النهي والمانع مقدم وبحمله على ما قبل النهي جمعا بين الأدلة
____________________
(1/391)
71 العمل في صلاة الجماعة ( مالك عن أبي الزناد ) بكسر الزاي وخفة النون عبد الله بن ذكوان ( عن الأعرج ) عبد الرحمن بن هرمز ( عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال إذا صلى أحدكم بالناس ) إماما ( فليخفف ) مع التمام قال ابن دقيق العيد التطويل والتخفيف من الأمور الإضافية فقد يكون الشيء خفيفا بالنسبة إلى عادة قوم طويلا بالنسبة إلى عادة آخرين قال وقول الفقهاء لا يزيد الإمام في الركوع والسجود على ثلاث تسبيحات لا يخالف ما ورد عنه صلى الله عليه وسلم أنه كان يزيد على ذلك لأن رغبة الصحابة في الخير تقتضي أن لا يكون ذلك تطويلا قال الحافظ وأولى ما أخذ به حد التخفيف حديث أبي داود والنسائي عن عثمان بن أبي العاصي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له أنت إمام قومك وأقدر القوم بأضعفهم إسناده حسن وأصله في مسلم ( فإن فيهم الضعيف ) خلقة ( والسقيم ) من مرض ( والكبير ) سنا قال ابن عبد البر أكثر رواة الموطأ لا يقولون والكبير وقاله جماعة منهم يحيى وقتيبة وفي مسلم من وجه آخر عن أبي الزناد والصغير والكبير وزاد الطبراني من حديث عثمان بن أبي العاصي والحامل والمرضع وله من حديث عدي بن حاتم والعابر السبيل وفي البخاري ومسلم عن أبي مسعود الأنصاري إن منكم منفرين فأيكم ما صلى بالناس فليتجوز فإن فيهم الضعيف والكبير وذا الحاجة وهي أشمل الأوصاف المذكورات ثم الجميع تعليل للأمر بالتخفيف ومقتضاه أنه متى لم يكن فيهم متصف بصفة من المذكورات لم يضر التطويل لكن قال ابن عبد البر ينبغي لكل إمام أن يخفف جهده لأمره صلى الله عليه وسلم بالتخفيف وإن علم الإمام قوة من خلفه فإنه لا يدري ما يحدث عليهم من حادث وشغل وعارض حاجة وحدث بول وغيره
وقال اليعمري الأحكام إنما تناط بالغالب لا بالصورة النادرة فينبغي للأئمة التخفيف مطلقا قال وهذا كما شرع القصر في السفر وعلل بالمشقة وهي مع ذلك تشرع ولو لم يشق عملا بالغالب لأنه لا يدري ما يطرأ عليه وهنا كذلك ( وإذا صلى أحدكم لنفسه فليطول ما شاء ) ولمسلم فليصل كيف شاء أي مخففا أو مطولا واستدل به على جواز إطالة القراءة ولو خرج الوقت وصححه بعض الشافعية وفيه نظر لأنه يعارضه عموم حديث أبي قتادة في مسلم وإنما التفريط بأن يؤخر الصلاة حتى يدخل وقت الأخرى وإذا تعارضت مصلحة المبالغة في الكمال بالتطويل ومفسدة إيقاع الصلاة في غير وقتها كانت مراعاة تلك المفسدة أولى
____________________
(1/392)
وهذا الحديث رواه البخاري عن عبد الله بن يوسف وأبو داود عن القعنبي كليهما عن مالك به
( مالك عن نافع أنه قال قمت وراء عبد الله بن عمر في صلاة من الصلوات وليس معه أحد غيري فخالف عبد الله بيده فجعلني حذاءه ) بكسر المهملة ومعجمة ممدود أي محاذيا له عن يمينه لأنه موقف المأموم الواحد كما فعل صلى الله عليه وسلم مع ابن عباس
( مالك عن يحيى بن سعيد أن رجلا كان يؤم الناس بالعقيق ) موضع معروف بالمدينة ( فأرسل إليه عمر بن عبد العزيز فنهاه ) عن الإمامة ( قال مالك وإنما نهاه لأنه كان لا يعرف أبوه ) فيكره أن يتخذ إماما راتبا وعلته عند مالك أنه يصير معرضا لكلام الناس فيه فيأثمون بسببه وقيل لأنه ليس له غالبا من يفقهه في الدين فيغلب عليه الجهل
وقال الباجي لأن موضع الإمامة موضع رفعة وتقدم في أهم أمر الدين وهي مما يلزم الخلفاء ويقوم به الأمراء فيكره أن يتقدم لها من فيه نقص
وقال ابن عبد البر هذه كناية كالتصريح أنه ولد زنى فكره أن ينصب إماما لخلقه من نطفة خبيثة كما يعاب من حملت به أمه حائضا أو من سكران ولا ذنب عليه هو في ذلك قال وليس في شيء من الآثار ما يدل على مراعاة نسب في الإمامة وإنما فيها الدلالة على الفقه والقراءة والصلاح في الدين
72 صلاة الإمام وهو جالس ( مالك عن ابن شهاب عن أنس بن مالك ) قال أبو عمر لم تختلف رواة الموطأ في سنده ورواه سويد بن سعيد عن مالك عن الزهري عن الأعرج عن أبي هريرة وهو خطأ لم يتابعه أحد عليه
( أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ركب فرسا ) في ذي الحجة سنة خمس من الهجرة أفاده ابن حبان ( فصرع ) بضم الصاد وكسر الراء أي سقط عن الفرس وللتنيسي ومعن فصرع عنه وفي أبي داود وابن خزيمة بسند صحيح عن جابر وركب صلى الله عليه وسلم فرسا بالمدينة فصرعه على جذع نخلة ( فجحش ) بضم الجيم وكسر الحاء
____________________
(1/393)
المهملة أي خدش وقيل الجحش فوق الخدش وحسبك أنه لم يقدر أن يصلي قائما قاله ابن عبد البر والخدش قشر الجلد ( شقه الأيمن ) بأن قشر جلده ولعبد الرزاق عن ابن جريج عن الزهري ساقه الأيمن وليست مصحفة كما زعم بعضهم لموافقة رواية حميد لها وإنما هي مفسرة لمحل الخدش من الشق الأيمن لأن الخدش لم يستوعبه ( فصلى صلاة من الصلوات ) قال القرطبي اللام للعهد ظاهرا والمراد الفرض لأنها التي عرف من عادتهم أنهم يجتمعون لها بخلاف النافلة وحكى عياض عن ابن القاسم أنها كانت نفلا وتعقب بأن في أبي داود وابن خزيمة عن جابر الجزم بأنها فرض قال الحافظ لكن لم أقف على تعيينها إلا أن في حديث أنس فصلى بنا يومئذ فكأنها نهارية الظهر أو العصر ( وهو قاعد ) قال عياض يحتمل أنه أصابه من السقطة رض في الأعضاء منعه من القيام قال الحافظ وليس كذلك وإنما كانت قدمه منفكة كما في رواية بشر بن المفضل عن حميد عن أنس عند الإسماعيلي وكذا لأبي داود وابن خزيمة عن جابر فصرعه على جذع نخلة فانفكت قدمه لا ينافيه جحش شقه لاحتمال وقوع الأمرين ( وصلينا وراءه قعودا ) ظاهره يخالف حديث عائشة بعده والجمع بينهما أن في رواية أنس اختصارا وكأنه اقتصر على ما آل إليه الحال بعد أمره لهم بالجلوس
وفي الصحيحين عن حميد عن أنس فصلى بهم جالسا وهم قيام وفيها أيضا اختصار لأنه لم يذكر قوله لهم اجلسوا والجمع بينهما أنهم ابتدؤوا الصلاة قياما فأومأ إليهم أن يقعدوا فقعدوا فنقل كل من الزهري وحميد أحد الأمرين وجمعتهما عائشة وكذا جابر في مسلم وجمع القرطبي باحتمال أن بعضهم قعد من أول الحال وهو ما حكاه أنس وبعضهم قام حتى أشار إليه بالجلوس وهو ما حكته عائشة وتعقب باستبعاد قعود بعضهم بغير إذنه صلى الله عليه وسلم لاستلزامه النسخ بالاجتهاد لأن فرض القادر في الأصل القيام وجمع آخرون باحتمال تعدد الواقعة وفيه بعد لأن حديث أنس إن كان سابقا لزم النسخ بالاجتهاد وإن كان متأخرا لم يحتج إلى إعادة إنما جعل الإمام الخ لأنهم امتثلوا أمره السابق وصلوا قعودا لقعوده
وفي حديث جابر عند أبي داود أنهم دخلوا يعودونه مرتين فصلى بهم فيهما لكن بين أن الأولى كانت نافلة وأقرهم على القيام وهو جالس والثانية كانت فريضة وابتدؤوا قياما فأشار إليهم بالجلوس ونحوه في رواية بشر عن حميد عن أنس عند الإسماعيلي
( فلما انصرف ) من الصلاة ( قال إنما جعل الإمام ) إماما ( ليؤتم ) ليتقدى ( به ) ويتبع ومن شأن التابع أن لا يسبق متبوعه ولا يساويه ولا يتقدم عليه في موقفه بل يراقب أحواله ويأتي على أثره بنحو فعله ومقتضى ذلك أن لا يخالفه في شيء من الأحوال قاله البيضاوي وغيره قال في الاستذكار زاد معن في الموطأ عن مالك فلا تختلفوا عليه ففيه حجة لقول مالك والثوري وأبي حنيفة وأكثر التابعين بالمدينة والكوفة أن من خالفت نيته نية إمامه بطلت صلاة المأموم إذ لا اختلاف أشد من اختلاف النيات التي عليها مدار الأعمال انتهى
وفي التمهيد روى الزيادة ابن وهب ويحيى بن مالك وأبو علي الحنفي عن مالك عن الزهري
____________________
(1/394)
عن أنس وليست في الموطأ إلا بلاغات مالك وقد رواها معن وأبو قرة عن مالك عن أبي الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة مرفوعا انتهى
وثبتت زيادة معن هذه في رواية همام عن أبي هريرة في الصحيحين وأفادت أن الأمر بالاتباع يعم جميع المؤمنين ولا يكفي اتباع بعض دون بعض
( فإذا صلى قائما فصلوا قياما وإذا ركع فاركعوا وإذا رفع فارفعوا وإذا قال سمع الله ) أي أجاب الدعاء ( لمن حمده فقولوا ربنا ولك الحمد ) بالواو لجميع الرواة في حديث أنس هذا إلا في رواية شعيب عن الزهري رواه البخاري بدونها ورجح إثباتها باتفاق رواة حديث عائشة وأبي هريرة على ذلك أيضا وبأن فيها معنى زائدا لأنها عاطفة على محذوف تقديره ربنا استجب أو ربنا أطعناك ولك الحمد فتشتمل على الدعاء والثناء معا ورجح قوم حذفها لأن الأصل عدم التقدير فتصير عاطفة على كلام غير تام قال ابن دقيق العيد والأول أوجه
وقال النووي ثبتت الرواية بإثبات الواو وحذفها والوجهان جائزان بغير ترجيح وزاد في بعض طرق حديث عائشة عند البخاري وغيره وإذا سجد فاسجدوا ( فإذا صلى جالسا فصلوا جلوسا ) ظاهره صحة إمامة الجالس المعذور بمثله وجلوس مأمومه القادر معه لكن الثاني منسوخ قاله الشافعي وغيره
وقال الباجي مقتضى سياق الحديث أن معناه إذا صلى جالسا في موضع الجلوس أن يقتدى به في جلوسه في التشهد وبين السجدتين لأنه وصف أفعال الصلاة من أولها فصلا فصلا وانتقل إلى الائتمام به في حال الجلوس وهو موضع التشهد فأمر أن يقتدى به فيها وأيد بأنه ذكر ذلك عقب الرفع من الركوع فيحمل على أنه لما جلس للتشهد قاموا تعظيما له فأمرهم بالجلوس تواضعا وقد نبه على ذلك بقوله في حديث جابر إن كدتم آنفا تفعلون فعل فارس والروم يقومون على ملوكهم وهم قعود فلا تفعلوا رواه أبو داود وابن خزيمة بإسناد صحيح واستبعد ذلك ابن دقيق العيد بأن سياق طرق الحديث تأباه وبأنه لو كان الأمر بالجلوس في الركن لقال وإذا جلس فاجلسوا ليناسب قوله وإذا سجد فاسجدوا فلما عدل إلى قوله وإذا صلى جالسا كان كقوله وإذا صلى قائما والمراد بذلك جميع الصلاة ويؤيده قول أنس وصلينا وراءه قعودا ( أجمعون ) بالواو في جميع طرق حديث أنس تأكيدا لضمير الفاعل في قوله فصلوا وأخطأ من ضعفه فإن المعنى عليه واختلفوا في رواية همام عن أبي هريرة فقال بعضهم أجمعين بالياء نصب على الحال أي جلوسا مجتمعين أو على التأكيد لضمير مقدر منصوب كأنه قيل أعنيكم أجمعين وفيه مشروعية ركوب الخيل والتدرب على أخلاقها والتأسي لمن يحصل له منها سقوط ونحوه بما اتفق له صلى الله عليه وسلم في هذه الواقعة وبه الأسوة الحسنة وفيه أنه
____________________
(1/395)
يجوز عليه ما يجوز على البشر من الأسقام ونحوها من غير نقص في مقداره لذلك بل ليزداد قدره رفعة ومنصبه جلالة وأخرجه البخاري عن عبد الله بن يوسف ومسلم من طريق معن كلاهما عن مالك به
3 رح 30( مالك عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم أنها قالت صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو شاك ) بخفة الكاف بوزن قاض من الشكاية وهي المرض وسببه ما في حديث أنس قبله أنه سقط عن فرس وحاصل القصة أن عائشة أبهمت الشكوى وبين أنس وجابر سببها وهو السقوط عن الفرس وعين جابر كأنس في بعض طرق حديثه عند الإسماعيلي العلة في الصلاة قاعدا وهي انفكاك القدم ( فصلى ) حال كونه ( جالسا وصلى وراءه قوم ) حال كونهم ( قياما ) ولمسلم من رواية عبدة عن هشام فدخل عليه ناس من أصحابه يعودونه الحديث وسمى منهم أنس كما مر في حديثه وأبو بكر وجابر عند مسلم وغيره وعمر كما لعبد الرزاق من مرسل الحسن ( فأشار إليهم أن اجلسوا ) بلفظ إلى من الإشارة لجميع رواة الموطأ وتابعه يحيى القطان عن هشام عند البخاري في الطب وهو ما لأكثر رواة البخاري في الصلاة من طريق الموطأ ولبعضهم عليهم بلفظ على من المشورة والأول أصح فقد رواه أيوب عن هشام بلفظ فأومأ إليهم وعبد الرزاق عن معمر عن هشام بلفظ فأخلف بيده يومي بها إليهم وفي مرسل الحسن ولم يبلغ بها الغاية زاد في رواية عبدة عن هشام عند مسلم فجلسوا ( فلما انصرف ) من الصلاة ( قال إنما جعل ) أي نصب أو اتخذ ( الإمام ) أو التقدير إماما ( ليؤتم به ) ليقتدى به ( فإذا ركع فاركعوا ) قال ابن المنير مقتضاه أن ركوع المأموم يكون بعد ركوع الإمام إما بعد تمام انحنائه وإما بأن يسبقه الإمام بأوله فيشرع فيه بعد أن يشرع
( وإذا رفع فارفعوا ) زاد في رواية عبدة عن هشام وإذا سجد فاسجدوا رواه البخاري والرفع يتناول الرفع من الركوع ومن السجود وجيمع السجدات
قال ابن المنير وحديث أنس أتم من حديث عائشة لأنه زاد المتابعة في الأقوال أيضا
قال الحافظ ووقعت الزيادة المذكورة وهي وإذا قال سمع الله لمن حمده في حديث عائشة أيضا يعني ما في رواية أيضا أبي ذر وابن عساكر للبخاري من طريق مالك هذه عقب قوله فارفعوا وإذا قال سمع الله لمن حمده فقولوا ربنا ولك الحمد لكنها ليست في الموطأ ولا في رواية غير هذين للبخاري
____________________
(1/396)
نعم وردت في حديث أنس وجابر وأبي هريرة في الصحيحين
( وإذا صلى جالسا فصلوا جلوسا ) ولو قادرين على القيام لكنه منسوخ وأخرجه البخاري في مواضع عن عبد الله بن يوسف وقتيبة بن سعيد وإسماعيل وأبو داود عن القعنبي أربعتهم عن مالك به
3 رح 304 ( مالك عن هشام بن عروة عن أبيه ) لم تختلف رواة مالك في إرساله وقد أسنده الشافعي في الأم من طريق حماد بن سلمة والبخاري ومسلم وابن ماجه من طريق عبد الله بن نمير كلاهما عن هشام عن أبيه عن عائشة
( أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج في مرضه ) الذي توفي فيه ( فأتى ) زاد في بعض النسخ المسجد وفي رواية عبيد الله بن عبد الله بن عتبة عن عائشة في الصحيحين أنه صلى الله عليه وسلم وجد من نفسه خفة فخرج بين رجلين أحدهما العباس لصلاة الظهر ( فوجد أبا بكر وهو قائم يصلي بالناس ) كما أمر صلى الله عليه وسلم بذلك قال الحافظ فصرح في الرواية المذكورة بالظهر وزعم بعضهم أنها الصبح لرواية ابن ماجه بسند حسن عن ابن عباس وأخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم القراءة من حيث بلغ أبو بكر وفيه نظر لاحتمال أنه صلى الله عليه وسلم سمع لما قرب من أبي بكر الآية التي كان انتهى إليها خاصة وقد كان عليه السلام يسمع الآية أحيانا في الصلاة السرية كما في البخاري وصرح الشافعي بأنه صلى الله عليه وسلم لم يصل بالناس في مرض موته بالمسجد إلا مرة واحدة وهي هذه التي صلى فيها قاعدا وكان أبو بكر فيها إماما ثم صار مأموما كما قال
( فاستأخر ) أي تأخر ( أبو بكر فأشار إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم أن كما أنت ) أي كالذي أنت عليه أو فيه من الإمامة وأنت مبتدأ حذف خبره والكاف للتشبيه أي ليكن حالك في المستقبل مشابها لحالك في الماضي أو زائدة أي الذي أنت عليه وهو الإمامة
( فجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى جنب أبي بكر ) لا خلفه ولا قدامه وفي رواية الصحيحين حذاء أبي بكر والأصل في الإمام أن يتقدم على المأموم إلا لضيق المكان وكذا لو كانوا عراة وما عدا ذلك يجوز ويجزى ولكن يفوت الفضيلة
( فكان أبو بكر يصلي ) قائما ( بصلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو جالس وكان الناس يصلون بصلاة أبي بكر ) أي بتبليغه لهم أي يتعرفون به ما كان صلى الله عليه وسلم يفعله لضعف صوته عن أن يسمع الناس تكبير الانتقال فكان الصديق يسمعهم ذلك وفي رواية الصحيحين عن عبيد الله عنها فجعل أبو بكر يصلي وهو قائم بصلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو قاعد واستدل به على صحة إمامة القاعد المعذور للقائم الصحيح وإليه ذهب الشافعي ومالك في
____________________
(1/397)
رواية الوليد بن مسلم وأبو حنيفة وأبو يوسف والأوزاعي وجعلوا ذلك ناسخا لقوله وإذا صلى جالسا فصلوا جلوسا لأنه صلى الله عليه وسلم أقر الصحابة على القيام خلفه وهو قاعد والرواية مشهورة عن مالك عدم صحة الائتمام وقاله محمد بن الحسن وقال ذلك خاص بالنبي صلى الله عليه وسلم لحديث جابر الجعفي عن الشعبي مرفوعا لا يؤمن أحد بعدي جالسا وتعقب بأن جابرا ضعيف مع إرساله
وقال ابن بزيزة لو صح لم يكن فيه حجة لاحتمال أن المراد منع الصلاة بالجالس أي بإعراب جالسا مفعولا لا حالا وقال غيره لو صح احتاج إلى تاريخ لكن قواه عياض بأن الخلفاء الراشدين لم يفعله أحد منهم والنسخ لا يثبت بعده صلى الله عليه وسلم لكن مواظبتهم على ترك ذلك تشهد لصحة الحديث واحتج عياض أيضا على أنه خصوصية له صلى الله عليه وسلم بأنه لا يصح التقدم بين يديه لنهي الله تعالى عن ذلك ولأن الأئمة شفعاء ولا يكون أحد شافعا له ولا يشكل عليه بصلاته خلف عبد الرحمن بن عوف وأبي بكر كما قدمته سابقا لأن محل المنع إذا أمه هو أما إذا أم غيره وجاء وأبقاه فلا منع بدليل قصتي عبد الرحمن وأبي بكر إذ كل منهما أم غيره لغيبته فجاء وأبقاه والحق له وقد نقل ابن العربي عن بعض الأشياخ أن الحال أحد وجوه التخصيص وحال النبي صلى الله عليه وسلم والتبرك به وعدم العروض عنه يقتضي الصلاة معه على أي حال كان عليها وليس ذلك لغيره ولا يرد عليه قوله صلوا كما رأيتموني أصلي لأنه عام وأنكر أحمد وإسحاق وغيرهما دعوى النسخ وقالوا إن صلى الإمام جالسا صلى المأموم كذلك ولو قدر على القيام قال أحمد وفعله أربعة من الصحابة بعد النبي صلى الله عليه وسلم جابر وأبو هريرة وأسيد بن حضير وقيس بن قهد بفتح القاف وسكون الهاء الأنصاري
73 فضل صلاة القائم على صلاة القاعد رح 305 بضاد معجمة أي زيادتها ( مالك عن إسماعيل بن محمد بن سعد بن أبي وقاص ) مالك الزهري المدني ثقة حجة روى له الخمسة مات سنة أربع وثلاثين ومائة ( عن مولى لعمرو بن العاصي أو لعبد الله بن عمرو بن العاصي ) شك الراوي ( عند عبد الله بن عمرو بن العاصي ) قال ابن عبد البر كذا اتفق الرواة كلهم عن مالك ورواه ابن عيينة عن إسماعيل المذكور فقال عن أنس والقول عندهم قول مالك والحديث محفوظ لابن عمرو اه
ورواه ابن ماجه من طريق الأعمش عن حبيب بن أبي ثابت عن عبد الله بن باباه بموحدتين بينهما ألف المكي عن عبد الله بن عمرو والنسائي من طريق سفيان الثوري عن حبيب عن أبي موسى الحذاء عن عبد الله بن عمرو
وأخرج مسلم عن عبد الله بن عمرو بن العاص قال حدثت
____________________
(1/398)
أنه صلى الله عليه وسلم قال صلاة الرجل قاعدا نصف صلاة القائم فأتيته فوجدته يصلي جالسا فوضعت يدي على رأسه فقال ما لك فأخبرته فقال أجل ولكني لست كأحدكم وهذا ينبني على أن المتكلم داخل في عموم خطابه وهو الصحيح وعد عياض وغيره هذا في خصائصه صلى الله عليه وسلم ( أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال صلاة أحدكم وهو قاعد مثل نصف صلاته وهو قائم ) قال ابن عبد البر لما في القيام من المشقة أو لما شاء الله أن يتفضل به وقد سئل صلى الله عليه وسلم عن أفضل الصلاة فقال طول القنوت والمراد صلاة النافلة لأن الفرض إن أطلق القيام فقعد صلاته باطلة عند الجميع عليه إعادتها فكيف يكون له نصف فضل صلاة بل هو عاص وإن عجز عنه ففرضه الجلوس اتفاقا لأن الله لا يكلف نفسا إلا وسعها فليس القائم بأفضل منه لأن كلا أدى وجهه
وقال الباجي يريد أجر الصلاة لا تتبعض وهذا وإن كان عاما لكن المراد ببعض الصلوات لأن القيام ركن باتفاق فهو فيمن صلى الفريضة غير مستطيع للقيام أو نافلة مطلقا
وعن ابن الماجشون أنه في المريض يستطيع القيام لكن القعود أرفق به فأما من أقعده المرض في فريضة أو نافلة فثوابه مثل صلاة القائم والأول أظهر
وقال إسماعيل القاضي الحديث ورد في النوافل ويحتاج إلى دليل انتهى وتعقبه الحافظ بأن إن أراد أنه لا يستطيع القيام إلا بمشقة فذاك وإلا فقد أبى ذلك أكثر العلماء
وحكى ابن التين وغيره عن أبي عبيد وابن الماجشون وإسماعيل القاضي وابن شعبان والإسماعيلي والداودي وغيرهم أنهم حملوا الحديث على المتنفل وكذا نقله الترمذي عن سفيان الثوري قال وأما المعذور إذا صلى جالسا فله مثل أجر القائم وفي الحديث ما يشهد له يشير إلى ما أخرجه البخاري عن أبي موسى رفعه إذا مرض العبد أو سافر كتب الله له صالح ما كان يعمل وهو صحيح مقيم وشواهده كثيرة ويؤيده قاعدة تغليب فضل الله تعالى وقبول عذر من له عذر والله أعلم
( مالك عن ابن شهاب عن عبد الله بن عمرو بن العاصي ) هو منقطع كما قال ابن عبد البر وغيره لأن الزهري ولد سنة ثمان وخمسين وابن عمرومات بعد الستين فلم يلقه
( أنه قال لما قدمنا المدينة نالنا وباء ) بالمد سرعة الموت وكثرته في الناس ( من وعكها ) بفتح الواو وسكون العين قال أهل اللغة الوعك لا يكون إلا من الحمى دون سائر الأمراض قاله ابن عبد البر ( شديد ) بالرفع صفة وباء ( فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم على الناس وهم يصلون في سبحتهم قعودا ) يعني نافلتهم قال صلى الله عليه وسلم في
____________________
(1/399)
الأمراء الذين يؤخرون الصلاة صلوا الصلاة لوقتها واجعلوا صلاتكم معهم سبحة أي نافلة ففيه دليل على أن الحديث قبله في النافلة قاله ابن عبد البر
( فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاة القاعد مثل ) أجر ( نصف صلاة القائم ) لأن الصلاة لا تتبعض ولا نصفها دون سائرها وقد علم أن هذا محمول عند الأكثر على النافلة ولا يلزم منه أن لا تزاد صورة ذكرها الخطابي وهي أن يحمل الحديث على مريض مفترض يمكنه القيام بمشقة فجعل أجر القاعد على النصف ترغيبا له في القيام مع جواز قعوده ويشهد له ما رواه أحمد من طريق ابن جريج عن ابن شهاب عن أنس قال قدم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة وهي محمة فحم الناس فدخل صلى الله عليه وسلم المسجد والناس يصلون من قعود فقال صلى الله عليه وسلم صلاة القاعد نصف صلاة القائم رجاله ثقات وله متابع في النسائي من وجه آخر وهو وارد في المعذور فيحمل على من تكلف القيام مع مشقته عليه ولم يبين في الأحاديث صفة القعود فيؤخذ من إطلاقه جوازه على أي صفة شاء المصلي واختلف في الأفضل فعن الأئمة الثلاثة يصلي متربعا وقيل يجلس مفترشا وهو موافق لقول الشافعي في مختصر المزني وصححه الرافعي ومن تبعه وقيل متوركا وفي كل منها أحاديث
74 ما جاء في صلاة القاعد في النافلة رح 307 ( مالك عن ابن شهاب عن السائب بن يزيد ) بتحتية فزاي ابن سعيد الكندي آخر من مات بالمدينة من الصحابة سنة إحدى وتسعين أو قبلها ( عن المطلب بن أبي وداعة ) بفتح الواو والدال الحارث بن صبرة بمهملة ثم موحدة ابن سعيد بالتصغير ( السهمي ) أبي عبد الله صحابي أسلم يوم الفتح ونزل المدينة ومات بها وأمه أروى بنت الحارث بن عبد المطلب بنت عم النبي صلى الله عليه وسلم صحابية هاشمية ذكرها ابن سعد وغيره
( عن حفصة زوج النبي صلى الله عليه وسلم ) فيه من لطائف الأسانيد ثلاثة صحابة يروي بعضهم عن بعض ( أنها قالت ما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى في سبحة ) بضم السين وسكون الموحدة سميت النافلة بذلك لاشتمالها على التسبيح من تسمية الكل باسم بعضه وخصت به دون الفريضة قال ابن الأثير لأن التسبيحات في الفرائض نفل وفي النوافل يلزم أنها نوافل في مثلها
( قاعدا قط ) بل قام حتى تورمت قدماه ( حتى كان قبل وفاته بعام فكان يصلي في سبحته قاعدا ) إبقاء على نفسه ليستديم الصلاة ( ويقرأ بالسورة فيرتلها ) يقرأها بتمهل وترسل ليقع مع ذلك التدبر كما أمره تعالى { ورتل القرآن ترتيلا }
____________________
(1/400)
( سورة المزمل الآية 4 ) ولذا كانت قراءته صلى الله عليه وسلم حرفا حرفا كما قالت أم سلمة وغيرها
( حتى تكون أطول من أطول منها ) إذا قرئت بلا ترتيل وهذا الحديث رواه مسلم عن يحيى والترمذي من طريق معن عن مالك به وتابعه يونس ومعمر عن الزهري بهذا الإسناد غير أنهما قالا بعام واحد أو اثنين كما في مسلم أي بالشك ولا ريب أن الجازم مقدم على الشاك لا سيما ومالك أثبت ومقدم خصوصا في ابن شهاب على غيره وقد جزم عنه بعام
( مالك عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم أنها أخبرته أنها لم تر رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي صلاة الليل ) حال كونه ( قاعدا قط حتى أسن ) أي دخل في السن وفي رواية للبخاري حتى كبر وبينت حفصة أن ذلك قبل موته بعام قال ابن التين قيدت بصلاة الليل ليخرج الفريضة وبحتى أسن ليعلم أنه إنما فعل ذلك إبقاء على نفسه ليستديم الصلاة وأنه كان لا يجلس عما يطيقه من ذلك
( فكان يقرأ ) في صلاته ( قاعدا حتى إذا أراد أن يركع قام فقرأ نحوا من ثلاثين أو أربعين ) آية قائما ( ثم ركع ) وفي الطريق الثالثة أنه كان يفعل في الركعة الثانية مثل ذلك وأو تحتمل الشك من الراوي أيهما قالت عائشة وأنها قالتهما معا بحسب وقوع ذلك منه مرة كذا ومرة كذا أو بحسب طول الآيات وقصرها والحديث رواه البخاري عن عبد الله بن يوسف عن مالك به وتابعه حماد بن زيد ومهدي بن ميمون ووكيع وعبد الله بن نمير ويحيى القطان كلهم عن هشام عند مسلم
( مالك عن عبد الله بن زيد ) من الزيادة المخزومي الأعور ( المدني وعن أبي النضر ) بفتح النون وسكون الضاد المعجمة سالم بن أبي أمية القرشي المدني مولى عمر بن عبيد الله التيمي قال في التمهيد ولا خلاف بين رواة الموطأ أن الحديث لمالك عنهما جميعا ولا إشكال فيه وسقطت الواو من عبيد الله بن يحيى عن أبيه وهو وهم واضح لا يعرج عليه ولا يلتفت إليه ولا إلى مثله
( عن أبي سلمة بن عبد الرحمن ) بن عوف ( عن عائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان ) بعد أن أسن ( يصلي ) النافلة ( جالسا ) قبل موته بعام ( فيقرأ وهو جالس فإذا بقي من قراءته قدر ما يكون
____________________
(1/401)
ثلاثين أو أربعين آية قام فقرأ وهو قائم ثم ركع وسجد ثم صنع في الركعة الثانية مثل ذلك ) المذكور من قراءة ما بقي قائما وغيره وفيه جواز القعود في أثناء صلاة النافلة لمن افتتحها قائما كما يباح له أن يفتتحها قاعدا ثم يقوم إذ لا فرق بين الحالتين ولا سيما مع وقوع ذلك منه صلى الله عليه وسلم في الركعة الثانية ففيه رد على من اشترط على من افتتح النافلة قاعدا أن يركع قاعدا أو قائما أن يركع قائما
وحكى عن أشهب وبعض الحنفية لما في مسلم وغيره من رواية عبد الله بن شقيق عن عائشة في سؤالها عن صلاة النبي صلى الله عليه وسلم وفيه إذا قرأ قائما ركع قائما وإذا قرأ قاعدا ركع قاعدا وهذا صحيح لكن لا يلزم منه منع ما رواه عروة وأبو سلمة عنها فيجمع بأنه كان يفعل كلا من ذلك بحسب النشاط وعدمه وقد أنكر هشام بن عروة على عبد الله بن شقيق هذه الرواية واحتج بما رواه عن أبيه أخرج ذلك ابن خزيمة ثم قال لا مخالفة عندي بين الخبرين لأن رواية ابن شقيق محمولة على ما إذا قرأ القراءة قاعدا أو قائما ورواية هشام بن عروة محمولة على أنه قرأ بعضها جالسا وبعضها قائما وهذا الحديث رواه البخاري عن عبد الله بن يوسف عن مالك به بزيادة فإذا قضى صلاته نظر فإن كنت يقظى تحدث معي وإن كنت نائمة اضطجع ورواه مسلم عن يحيى وأبو داود عن القعنبي والترمذي من طريق معن كلهم عن مالك به
( مالك أنه بلغه أن عروة بن الزبير وسعيد بن المسيب كانا يصليان النافلة وهما محتبيان ) قال الباجي يريد في حال القيام والأصل أن الجلوس في الصلاة موضع القيام ليس له صورة مخصوصة لا تجزىء إلا عليها بل تجزى على صفات الجلوس من احتباء وتربع وتورك وغيرها
قال القاضي عبد الوهاب وأفضلها التربع لأنه أوقر ولعل عروة وسعيدا كانا يحتبيان عند السآمة للتربع اه
وقد روى الدارقطني عن عائشة كان صلى الله عليه وسلم يصلي متربعا
75 الصلاة الوسطى تأنيث الأوسط وهو الأعدل من كل شيء قال أعرابي يمدح النبي صلى الله عليه وسلم يا أوسط الناس طرا في مفاخرهم وأكرم الناس أما برة وأبا وليس المراد التوسط بين شيئين لأن معنى فعلى التفضيل ولا يبنى منه إلا ما يقبل الزيادة والنقص والوسط بمعنى الخيار والعدل يقبلهما بخلاف المتوسط فلا يقبلهما فلا يبنى عليه أفعل تفضيل
____________________
(1/402)
( مالك عن زيد بن أسلم عن القعقاع بن حكيم ) الكناني المدني تابع ثقة روى له مسلم والأربعة ( عن أبي يونس مولى عائشة أم المؤمنين ) من ثقات التابعين لا يعرف اسمه ( أنه قال أمرتني عائشة أن أكتب لها مصحفا ) مثلث الميم والأشهر الضم ( ثم قالت إذا بلغت هذه الآية فآذني ) بالمد وذال مكسورة ونون ثقيلة أعلمني ( حافظوا على الصلوات ) الخمس بأدائها في أوقاتها ( والصلاة الوسطى ) أفردها بالذكر لفضلها ( وقوموا لله قانتين ) قيل معناه مطيعين لقوله صلى الله عليه وسلم كل قنوت في القراءة فهو طاعة رواه أحمد وغيره وقيل ساكتين لحديث زيد بن أرقم كنا نتكلم في الصلاة حتى نزلت فأمرنا بالسكوت ونهينا عن الكلام رواه الشيخان ( فلما بلغتها آذنتها فأملت علي حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى وصلاة العصر وقوموا لله قانتين ) قال ابن عبد البر فقوله وصلاة العصر بالواو الفاصلة التي لم يختلف في ثبوتها في حديث عائشة هذا بخلاف حديث حفصة بعده قال وثبوتها يدل على أنها ليست الوسطى قال الباجي لأن الشيء لا يعطف على نفسه قال وهذا يقتضي أن يكون بعد جمع القرآن في مصحف وقبل أن تجمع المصاحف على المصاحف التي كتبها عثمان وأنفذها إلى الأمصار لأنه لم يكتب بعد ذلك في المصاحف إلا ما أجمع عليه وثبت بالتواتر أنه قرآن
( قالت سمعتها من رسول الله صلى الله عليه وسلم ) قال الباجي يحتمل أنها سمعتها على أنها قرآن ثم نسخت كما في حديث البراء فلعل عائشة لم تعلم بنسخها أو اعتقدت أنها مما نسخ حكمه وبقي رسمه ويحتمل أنه ذكرها صلى الله عليه وسلم على أنها من غير القرآن لتأكيد فضيلتها فظنتها قرآنا فأرادت إثباتها في المصحف لذلك أو أنها اعتقدت جواز إثبات غير القرآن معه على ما روي عن أبي وغيره من الصحابة أنهم جوزوا إثبات القنوت وبعض التفسير في المصحف وإن لم يعتقدوه قرآنا اه
واحتماله الثاني ليس بظاهر وقال أبو عمر النسخ في القرآن ثلاثة أوجه نسخ رسم فلا يقرأ به إلا أنه ربما جاءت منه أشياء لا يقطع بأنها قرآن
والثاني نسخ خطه وبقاء حكمه كقوله وصلاة العصر عند من ذهب إليه
والثالث أن ينسخ حكمه ويبقى خطه كقوله { والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجا وصية لأزواجهم } سورة البقرة الآية 240 نسخها { يتربصن بأنفسهن أربعة أشهر وعشرا } سورة البقرة الآية 234 اه باختصار
وحديث عائشة هذا رواه مسلم عن يحيى وأبو داود عن القعنبي والترمذي عن قتيبة الثلاثة عن مالك به
وروى مسلم عن عقبة عن شقيق بن عقبة عن البراء بن عازب قال نزلت هذه الآية حافظوا على الصلوات وصلاة العصر فقرأناها ما شاء الله ثم نسخها الله فنزلت { حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى } سورة البقرة الآية
____________________
(1/403)
238 ) فقال رجل كان جالسا عند شقيق له هي إذا صلاة العصر فقال البراء قد أخبرتك كيف نزلت وكيف نسخها الله فالله أعلم
قال القرطبي وهذا أقوى حجة لمن قال إنها غير العصر لأنه يشعر بأنها أبهمت بعدما عينت قال الحافظ وفي إشعاره بذلك نظر بل الذي فيه أنها عينت ثم وصفت ولذا قال الرجل فهي إذا العصر ولم ينكر عليه البراء نعم جواب البراء يشعر بالتوقف لما يطرقه من الاحتمال اه
وعبارة المفهم يظهر منه التردد لكن فيماذا هل نسخ تعيينها فقط وبقيت هي الوسطى أو نسخ كونها الوسطى فيه تردد وإلا فقد أخبر بوقوع النسخ
وقال الأبي لا يعترض على أنها العصر بقول البراء قد أخبرتك الخ لاحتمال أن المنسوخ النطق بلفظ العصر وقد أشار البراء إلى الاحتمال بقوله فالله أعلم
( مالك عن زيد بن أسلم عن عمرو ) بفتح العين ( ابن رافع ) العدوي مولاهم المدني مقبول ( أنه قال كنت أكتب مصحفا لحفصة أم المؤمنين فقالت إذا بلغت هذه الآية فآذني ) أعلمني ( حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى وقوموا لله قانتين فلما بلغتها آذنتها فأملت ) بفتح الهمزة وسكون الميم وفتح اللام الخفيفة من أملى وبفتح الميم واللام مشددة من أملل يملل أي ألقت ( علي ) يقال أمللت الكتاب على الكاتب إملالا ألقيته عليه وأمليته عليه إملاء فالأولى لغة الحجاز وبني أسد والثانية لغة بني تميم وقيس وما جاء الكتاب العزيز بهما { وليملل الذي عليه الحق } سورة البقرة الآية 282 فهي تملي عليه ( حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى وصلاة العصر ) بالواو ( وقوموا لله قانتين ) وروى بحذف الواو وزعم بعضهم أن إثبات الواو وسقوطها سواء كقوله أنا الملك القرم وابن الهما م وليث الكتيبة في المزدحم أراد القرم ابن الهمام وقوله { من كان عدوا لله وملائكته ورسله وجبريل وميكال } سورة البقرة الآية 98 يريد وملائكته جبريل وميكائيل { فيهما فاكهة ونخل ورمان } سورة الرحمن الآية 68 أي فاكهة نخل ورمان وخولف هذا القائل في ذلك ومالك روى حديث حفصة موقوفا ورواه هشام بن سعد عن زيد بن أسلم عن عمر فذكره وزاد عن حفصة هكذا سمعت من رسول الله صلى الله عليه وسلم أخرجه ابن عبد البر
وروى إسماعيل بن إسحاق وابن المنذر من طريق عبيد الله عن نافع أن حفصة أمرت مولى لها
____________________
(1/404)
أن يكتب لها مصحفا فذكر مثله وزاد أنها قالت سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقولها قال نافع فقرأت ذلك المصحف فوجدت فيه الواو قال أبو عمر إسناده صحيح قال الحافظ وحديث عائشة وحفصة من حجج من قال إنها غير العصر لأن العطف يقتضي المغايرة فتكون العصر غير الوسطى وأجيب باحتمال زيادة الواو ويؤيده ما رواه أبو عبيد بإسناد صحيح عن أبي بن كعب أنه كان يقرؤها حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى صلاة العصر بغير واو وباحتمال أنها عاطفة لكن عطف صفة لا عطف ذات بدليل رواية ابن جرير عن عروة كان في مصحف عائشة والصلاة الوسطى وهي صلاة العصر
وقال الحافظ صلاح الدين العلائي حاصل أدلة من قال إن الوسطى غير العصر يرجع إلى ثلاثة أنواع أحدها تنصيص بعض الصحابة وهو معارض بمثله ممن قال منهم إنها العصر وترجح بالنص المرفوع وإذا اختلف الصحابة لم يكن قول بعضهم حجة على غيره فتبقى حجة المرفوع قائمة
ثانيها معارضة المرفوع بالتأكيد على فعل غيرها كالحث على المواظبة على الصبح والعشاء كما تقدم وهو معارض بما هو أقوى منه وهو الوعيد الشديد الوارد في ترك العصر وتقدم أيضا
ثالثها ما جاء عن حفصة وعائشة من قراءة وصلاة العصر فإن العطف يقتضي المغايرة وهذا يرد عليه إثبات القرآن بخبر الآحاد وهو ممتنع وكونه يتنزل منزلة خبر الواحد مختلف فيه سلمنا لكن لا يصلح معارضا للنص الصريح فليس العطف صريحا في اقتضاء المغايرة لوروده في نفس الصفات كقوله تعالى { الأول والآخر والظاهر والباطن } سورة الحديد الآية 3 كذا قال ويرد الأول بأن ما قال إنه النص محتمل كما يأتي عن الباجي والثاني بأنه وإن صح الذي تفوته العصر كأنما وتر أهله وماله لكن لم يرد وصف تارك الجماعة فيها بالنفاق كما في الصبح والعشاء
والثالث بأنه لم يثبت القرآن بخبر الآحاد إنما هو بمنزلة الحديث فيحتج به إذا صرح القارىء به برفعه كما هنا على الأصح وحمله على زيادة الواو أو جعله من عطف الصفات خلاف الأصل والظاهر وقد علم أن ما قال إنه نص صريح لم يسلم
( مالك عن داود بن الحصين ) بمهملتين مصغر ( عن ابن يربوع المخزومي ) هو عبد الرحمن بن سعيد بن يربوع نسب إلى جده تابعي ثقة وقيل يربوع أبوه والصواب أنه جده قاله الدارقطني
( أنه قال سمعت زيد بن ثابت يقول الصلاة الوسطى صلاة الظهر ) وجزم زيد بذلك لقوله كان النبي صلى الله عليه وسلم يصلي الظهر بالهاجرة ولم تكن صلاة أشد على أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم منها فنزلت { حافظوا على الصلوات } الآية رواه عنه أبو داود
وروى الطيالسي عن زهرة بن معبد قال كنا عند زيد بن ثابت فأرسلوا يسألونه عن الصلاة الوسطى فقال هي الظهر
ورواه من وجه آخر وزاد كان صلى الله عليه وسلم يصلي الظهر بالهجير فلا يكون وراءه إلا الصف أو الصفان والناس في قائلتهم وفي تجارتهم فنزلت
وكذا جاء عن أبي سعيد وعائشة أنها
____________________
(1/405)
الظهر أخرجه ابن المنذر وغيره وبه قال أبو حنيفة في رواية فقول إسماعيل القاضي من قال إنها الظهر ذهب إلى أنها وسط النهار أو لعل بعضهم روى في ذلك أثرا فتبعه تقصير شديد لأن زيد بن ثابت اعتمد على نزول الآية في الظهر
( مالك أنه بلغه أن علي بن أبي طالب وعبد الله بن عباس كانا يقولان الصلاة الوسطى صلاة الصبح ) روى ابن جرير من طريق عوف الأعرابي عن أبي رجاء العطاردي قال صليت خلف ابن عباس الصبح فقنت فيها ورفع يديه ثم قال هذه الصلاة الوسطى التي أمرنا أن نقوم فيها قانتين وأخرجه أيضا من وجه آخر عن ابن عمر
وأما علي فالمعروف عنه أنها العصر رواه مسلم من طريق ابن سيرين ومن طريق عبيدة السلماني عنه والترمذي والنسائي من طريق زر بن حبيش قال قلنا لعبيدة سل عليا عن الصلاة الوسطى فسأله فقال كنا نرى أنها الصبح حتى سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول يوم الأحزاب شغلونا عن الصلاة الوسطى صلاة العصر كذا في الفتح وسبقه في التمهيد إلى ذلك وزاد وقد قال قوم إن ما في الموطأ هنا عن علي أخذه من حديث حسين بن عبد الله بن ضميرة عن أبيه عن جده عن علي أنه قال الصلاة الوسطى صلاة الصبح لأنه لا يوجد إلا من حديث حسين وهو متروك كذا قال وفيه نظر لما علم أن بلاغ مالك صحيح وحسين ممن كذبه مالك ومحال أن يعتمد على من كذبه
( قال مالك وقول علي وابن عباس ) أنها الصبح ( أحب ما سمعت إلي في ذلك ) وقال به أبي بن كعب وأنس وجابر وأبو العالية وعبيد بن عمير وعطاء وعكرمة ومجاهد وغيرهم نقله ابن أبي حاتم عنهم
وروى ابن جرير عن أبي العالية صليت خلف عبد الله بن قيس بالبصرة في زمن عمر صلاة الغداة فقلت لهم ما الصلاة الوسطى قالوا هي هذه الصلاة وهو قول مالك كما رأيت وهو الذي نص عليه الشافعي في الأم واحتجوا بأن فيها القنوت وقد قال تعالى { وقوموا لله قانتين } سورة البقرة الآية 238 وقال تعالى { وسبح بحمد ربك قبل طلوع الشمس وقبل الغروب } سورة ق الآية 39 وبأنها لا تقصر في السفر وبأنها بين صلاتي جهر وصلاتي سر
قال ابن عباس تصلي في سواد من الليل وبياض من النهار وهي أكثر الصلوات تفوت الناس رواه إسماعيل القاضي قال ويدل على ذلك قوله تعالى { وقرآن الفجر إن قرآن الفجر كان مشهودا } سورة الإسراء الآية 78 فخصت بهذا النص مع أنها مختصة بوقتها لا يشاركها غيرها فيه
وأوضحه الباجي فقال ووقتها أولى بأن يوصف بالتوسط لأنها لا تشارك فلو جعلناها العصر لكنا فصلناها من مشاركتها الظهر وأضفنا إلى الظهر ما لا يشاركها وهي الصبح
وأما قوله صلى الله عليه وسلم يوم الخندق شغلونا عن الصلاة الوسطى صلاة العصر فيحتمل أن يريد به
____________________
(1/406)
الوسطى من الصلوات التي شغل عنها وهي الظهر والعصر والمغرب لأنها وسطى هذه الثلاث لتأكد فضلها عن الصلاتين اللتين معها ولا يدل ذلك على أنها أفضل من صلاة الصبح وإنما الخلاف عند الإطلاق اه
وذهب أكثر علماء الصحابة كما قال الترمذي وجمهور التابعين كما قال الماوردي وأكثر علماء الأثر كما قال ابن عبد البر إلى أنها العصر وقال به من المالكية ابن حبيب وابن العربي وابن عطية وهو الصحيح عند الحنفية والحنابلة وذهب إليه أكثر الشافعية مخالفين نص إمامهم لصحة الحديث فيه وقد قال إذا صح الحديث فهو مذهبي
قال ابن كثير لكن صمم جماعة من الشافعية أنها الصبح قولا واحدا اه
أي لأنه نص الشافعي وقد علم أن كون الحديث مذهبه محله إذا علم أنه لم يطلع عليه أما إذا احتمل اطلاعه عليه وأنه حمله على محمل فلا يكون مذهبه وهذا يحتمل أن يكون حمله على نحو ما قال الباجي وقيل المغرب رواه ابن أبي حاتم بإسناد حسن عن ابن عباس وابن جرير عن قتيبة بن ذؤيب وحجتهم أنها معتدلة في عدد الركعات وأنها لا تقصر في الأسفار وأن العمل مضى على المبادرة إليها والتعجيل بها في أول ما تغرب الشمس ولأن قبلها صلاتا سر وبعدها صلاتا جهر وقيل العشاء نقله ابن التين والقرطبي واحتج له بأنها بين صلاتين لا تقصران ولأنها تقع عند النوم فلذا أمرنا بالمحافظة عليها واختاره الواحدي وقال الباجي وصف الصلاة بالوسطى يحتمل أنها بمعنى فاضلة نحو { وكذلك جعلناكم أمة وسطا } سورة البقرة الآية 143 أي فاضلة قال أوسطهم وأن وقتها يتوسط أوقات الصلوات وأن توصف بذلك للتخصيص وإن كان كل صلاة وسطى وعلى هذه الوجوه الثلاثة فكل صلاة يصح أن توصف بأنها وسطى لكن من جهة الفضيلة الصبح أحقها بذلك لتأكد فضيلتها إذ ليس في الصلوات أشق منها لأنها في ألذ أوقات النوم ويترك لها كالاضطجاع والدفء ويقوم في شدة البرد ويتناول الماء البارد ووقتها أولى بأن توصف بالتوسط لأنها لا تشارك اه
وقيل الصبح والعصر معا لقوة الأدلة فظاهر القرآن الصبح وظاهر السنة العصر
قال ابن عبد البر الاختلاف القوي في الصلاة الوسطى إنما هو في هاتين الصلاتين وغير ذلك ضعيف وقيل جميع الصلوات الخمس قاله معاذ بن جبل وأخرجه ابن أبي حاتم بإسناد حسن عن ابن عمر والحجة له أن قوله { حافظوا على الصلوات } سورة البقرة الآية 238 يتناول الفرائض والنوافل فعطف عليه الوسطى وأريد بها كل الفرائض تأكيدا لها واختاره ابن عبد البر وقيل الجمعة ذكره ابن حبيب واحتج بما اختصت به من الاجتماع والخطبة وقيل الظهر في الأيام والجمعة يوم الجمعة وقيل الصبح والعشاء معا لحديث الصحيح أنهما أثقل الصلاة على المنافقين واختاره الأبهري من المالكية وقيل الصبح أو العصر على الترديد وهو غير المتقدم الجازم بأن كلا منهما يقال لها الوسطى وصلاة الجماعة أو الخوف أو الوتر أو صلاة عيد الأضحى أو صلاة عيد
____________________
(1/407)
الفطر أو صلاة الضحى أو واحدة من الخمس غير معينة أو التوقف فقد روى ابن جرير بإسناد صحيح عن سعيد بن المسيب قال كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم مختلفين في الصلاة الوسطى هكذا وشبك بين أصابعه أو صلاة الليل فهذه عشرون قولا وزاد بعض المتأخرين أنها الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم
قال القرطبي وصار إلى أنها أبهمت جماعة من العلماء المتأخرين وهو الصحيح لتعارض الأدلة وعسر الترجيح اه
فإن أراد بهمت في الخمس فهو القول المحكي وإن أراد أبهمت فيما هو أعم من الخمس فيكون زائدا وقد ضعف القرطبي القول بأنها الصلوات كلها لأنه يؤدي إلى خلاف عادة الفصحاء لأنهم لا يذكرون شيئا مفصلا مبينا ثم يذكرونه مجملا بل يذكرون الشيء مجملا أو كليا ثم يفصلونه وأيضا لا يطلقون لفظ الجمع ويعطفون عليه أحد أفراده ويريدون بذلك الفرد ذلك الجمع إذ ذاك غاية في الإلباس وأيضا فلو أريد ذلك كان كأنه قيل حافظوا على الصلوات والصلاة ويريد بالثاني الأول وهذا ليس فصيحا في لفظه ولا صحيحا في معناه إذ لا يحصل بالثاني تأكيد الأول لأنه معطوف عليه ولا يفيد معنى آخر فيكون حشوا فحمل كلام الله تعالى على شيء من هذه الثلاثة غير سائغ ولا جائز كذا قال وهو مبني على فهمه أن المراد بالصلوات خصوص الخمس وليس كذلك بل يتناول الفرائض والنوافل فعطف الوسطى مرادا بها الفرائض للتأكيد والتشريف كما قدمنا وهذا سائغ جائز وبعد وروده عن صحابي قال فيه المصطفى إنه أعلم بالحلال والحرام لا يليق التشغيب عليه بمثل هذه الأمور العقلية
76 الرخصة في الصلاة في الثوب الواحد كان الخلاف في منع الصلاة فيه قديما روى ابن أبي شيبة عن ابن مسعود قال لا يصلين في ثوب واحد وإن كان أوسع ما بين السماء والأرض ونسب ابن بطال ذلك لابن عمر ثم قال لم يتابع عليه ثم استقر الإجماع على الجواز
رح 315 ( مالك عن هشام بن عروة عن أبيه ) وفي رواية يحيى القطان عن هشام حدثني أبي ( عن عمر بن أبي سلمة ) عبد الله بن عبد الأسد المخزومي صحابي صغير ربيب النبي صلى الله عليه وسلم أمه هند أم سلمة أم المؤمنين وولد في الحبشة في السنة الثانية وأمره علي بن أبي طالب على البحرين ومات سنة ثلاث وثمانين على الصحيح بالمدينة ووهم من قال قتل يوم الجمل نعم شهدها
وفي رواية أبي أسامة عن هشام عن أبيه أن عمر بن أبي سلمة أخبره ( أنه رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم
____________________
(1/408)
يصلي في ثوب واحد ) حال كونه ( مشتملا به في بيت أم سلمة ) ظرف ليصلي أو مشتملا أولهما حال كونه ( واضعا طرفيه ) بالتثنية أي الثوب ( على عاتقيه ) صلوات الله وسلامه عليه
قال الباجي يريد أنه أخذ طرف ثوبه تحت يده اليمنى ووضعه على كتفه اليسرى وأخذ الطرف الآخر تحت يده اليسرى فوضعه على كتفه اليمنى وهذا نوع من الاشتمال يسمى التوشيح ويسمى الاضطباع وهو مباح في الصلاة وغيرها لأنه يمكنه إخراج يده للسجود وغيره دون كشف عورته وهذا الحديث رواه النسائي عن قتيبة عن مالك به وتابعه عبيد الله بن موسى ويحيى القطان عند البخاري وأبو أسامة عنده وعند مسلم وحماد بن زيد ووكيع عند مسلم خمستهم عن هشام
ورواه مسلم أيضا من طريق الليث عن يحيى بن سعيد عن أبي أمامة بن سهل بن حنيف عن عمر بن أبي سلمة
( مالك عن ابن شهاب عن سعيد بن المسيب عن أبي هريرة أن سائلا ) قال الحافظ لم أقف على اسمه لكن ذكر شمس الأئمة السرخسي الحنفي في كتابه المبسوط أن السائل ثوبان ( سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الصلاة في ثوب واحد ) وفي رواية في الثوب الواحد ( فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم أو لكلكم ثوبان ) استفهام إنكاري إبطالي قال الخطابي لفظه استخبار ومعناه الإخبار عما هم عليه من قلة الثياب ووقع في ضمنه الفتوى من طريق الفحوى كأنه يقول إذا علمتم أن ستر العورة فرض الصلاة والصلاة لازمة وليس لكل واحد منكم ثوبان فكيف لم تعلموا أن الصلاة في الثوب الواحد جائزة أي مع مراعاة ستر العورة به
وقال الطحاوي معناه لو كانت الصلاة مكروهة في الثوب الواحد لكرهته لمن لا يجد إلا ثوبا واحدا اه
وهذه الملازمة ممنوعة للفرق بين القادر وغيره والسؤال إنما هو عن الجواز وعدمه لا عن الكراهة اه
وقال الباجي في الجواب مع السؤال إشارة إلى أن عدم أكثر من الثوب الواحد أمر شائع والضرورة إذا كانت شائعة كانت الرخصة بها عامة ألا ترى أن غالب حال السفر المشقة فعمت رخصته من لا تلحقه مشقة فيه ولما ندرت في الحضر لم تدرك الرخصة فيه من تدركه المشقة ولما كان عدم الثوب الواحد نادرا لم تجز الصلاة دونه مع التمكن منه والثوبان أفضل لمن وسع الله عليه اه
وهذا الحديث رواه البخاري عن عبد الله بن يوسف ومسلم عن يحيى والنسائي عن قتيبة الثلاثة عن مالك به
ورواه ابن حبان من طريق الأوزاعي عن ابن شهاب لكن قال في الجواب ليتوشح به ثم ليصلي فيه
قال الحافظ فيحتمل أن يكونا حديثين أو حديثا واحدا فرقه الرواة وهو الأظهر
____________________
(1/409)
( مالك عن ابن شهاب عن سعيد بن المسيب أنه قال سئل أبو هريرة هل يصلي الرجل في ثوب واحد فقال نعم فقيل له هل تفعل أنت ذلك فقال نعم إني لأصلي في ثوب واحد وإن ثيابي لعلى المشجب ) بكسر الميم وسكون المعجمة وفتح الجيم فموحدة عيدان تضم رؤوسها ويفرج بين قوائمها توضع عليها الثياب وغيرها
وقال ابن سيده المشجب والشجاب خشبات ثلاث يعلق عليها الراعي دلوه وسقاءه ويقال في المثل فلان كالمشجب من حيث قصدته وجدته
قال الباجي اقتصر على الجائز دون الأفضل ليبين جوازه فيقتدى به في قبول رخصة الله تعالى ولعل السائل ممن لا يجد ثوبين فأراد تطييب نفسه وإعلامه بصحة ذلك وأنه يفعله مع القدرة على ثوبين فكيف بمن لا يقدر أو أخبره بفعله النادر أو بفعله في منزله دون المساجد
قال مالك في المبسوط ليس من أمر الناس أن يلبس الرجل الثوب الواحد في الجماعة فكيف بالمسجد
وقال تعالى { خذوا زينتكم عند كل مسجد } سورة الأعراف الآية 31 قال السدي هي ما يواري العورة والأظهر أنه الرداء أو ما يتجمل به من الثياب
( مالك أنه بلغه أن جابر بن عبد الله كان يصلي في الثوب الواحد ) قال محمد بن المنكدر رأيت جابر بن عبد الله يصلي في ثوب واحد وقال رأيت النبي صلى الله عليه وسلم يصلي في ثوب رواه البخاري
وعنده من وجه آخر عن ابن المنكدر قال صلى جابر في إزار قد عقده من قبل قفاه وثيابه على المشجب فقال له قائل أتصلي في إزار واحد فقال إنما صنعت ذلك ليراني أحمق مثلك وأيضا كان له ثوبان على عهد النبي صلى الله عليه وسلم
وفي مسلم أن القائل عبادة بن الوليد بن عبادة بن الصامت
وفي رواية أن سعيد بن الحارث سأله ولعلهما جميعا سألاه
والمراد بالأحمق الجاهل لقوله في رواية أخرى أحببت أن تراني الجهال مثلكم رأيت النبي صلى الله عليه وسلم يصلي كذا والحمق وضع الشيء في غير موضعه مع العلم بقبحه كما في النهاية والغرض بيان جواز الصلاة في ثوب واحد ولو كانت الصلاة في ثوبين أفضل فكأنه قال صنعته عمدا لبيان الجواز إما ليقتدي بي الجاهل ابتداء أو ينكر علي فأعلمه بجوازه وإنما أغلظ لهم في الخطاب زجرا عن الإنكار على العلماء وحثا لهم على البحث في الأمور الشرعية
____________________
(1/410)
( مالك عن ربيعة بن أبي عبد الرحمن أن محمد بن عمرو بن حزم كان يصلي في القميص الواحد ) مراده من سياق نحو هذا أن العمل استمر على ذلك
( مالك أنه بلغه عن جابر بن عبد الله ) وهذا حديث محفوظ عنه من رواية أهل المدينة أخرجه البخاري من طريق فليح بن سليمان عن سعيد بن الحارث عن جابر ومسلم من طريق حاتم بن إسماعيل عن أبي جزرة عن عبادة بن الوليد عن جابر ( أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال من لم يجد ثوبين فليصلي ) بإثبات الياء للإشباع كقوله تعالى { أفمن يتقي } في ثوب واحد قال الباجي يحتمل من قال بدليل الخطاب أن يمنع من الصلاة بثوب واحد من وجد ثوبين ويحتمل أن يكون على معنى الأفضل فيتعلق المنع المفهوم من دليل الخطاب بالتفضيل دون التحريم
( ملتحفا به ) قال الزهري الملتحف المتوشح وهو المخالف بين طرفيه على عاتقيه وهو الاشتمال على منكبيه نقله البخاري قال الباجي فجعل الالتحاف هو التوشح والمشهور لغة أن الالتحاف هو الالتفاف في الثوب على أي وجه كان فيدخل تحته التوشح والاشتمال وقد خص منه اشتمال الصماء وفي الفتح الذي يظهر أن قوله وهو المخالف الخ من كلام البخاري
( فإن كان الثوب قصيرا فليتزر به ) لأن القصد الأصلي ستر العورة وهو يحصل بالاتزار ولا يحتاج إلى الانحناء عليه المخالف للاعتدال المأمور به هكذا الرواية بإدغام الهمزة المدغومة في التاء وهو يرد على الصرفيين حيث جعلوه خطأ وأن صوابه فليأتزر به بالهمز
( قال مالك أحب إلي أن يجعل الذي يصلي في القميص الواحد على عاتقيه ثوبا أو عمامة ) لقوله صلى الله عليه وسلم لا يصلي أحدكم في الثوب الواحد ليس على عاتقه شيء رواه البخاري حدثنا أبو عاصم عن مالك عن أبي الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة
77 الرخصة في صلاة المرأة في الدرع والخمار قال أبو عمر ترجم بذلك لرد قول مجاهد لا تصلي المرأة في أقل من أربعة أثواب درع وخمار وملحفة وإزار ولم يقله غيره فيما علمت اه
____________________
(1/411)
وقال ابن المنذر بعد أن حكى عن الجمهور أن الواجب على المرأة أن تصلي في درع وخمار المراد بذلك تغطية بدنها ورأسها فلو كان الثوب واسعا فغطت رأسها بفضله جاز قال وما رويناه عن عطاء أنه قال تصلي في درع وخمار وإزار وعن ابن سيرين مثله وراد وملحفة فأظنه محمولا على الاستحباب
( مالك أنه بلغه أن عائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم كانت تصلي في الدرع ) بدال مهملة القميص مذكر بخلاف درع الحديد فمؤنث على الأكثر فيهما وحكى ابن سيده تأنيث درع المرأة وتذكير درع الحديد
( والخمار ) بمعجمة بزنة كتاب ثوب تغطي به المرأة رأسها وجمعه خمر ككتب
( مالك عن محمد بن زيد بن قنفذ ) بضم القاف والفاء بينهما نون ساكنة التيمي المدني ثقة روى له مسلم والأربعة ( عن أمه ) أم حرام بمهملة وراء قال في التقريب يقال اسمها آمنة
( أنها سألت أم سلمة زوج النبي صلى الله عليه وسلم ماذا تصلي فيه المرأة من الثياب فقالت تصلي في الخمار والدرع ) القميص ( السابغ ) الساتر ( إذا غيب ) ستر ( ظهور قدميها ) كذا هو في الموطأ موقوف ورفعه عبد الرحمن بن عبد الله بن دينار عن محمد بن زيد عن أمه عن أم سلمة أنها سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم أتصلي المرأة في درع وخمار ليس عليها إزار قال إذا كان الدرع سابغا يغطي ظهور قدميها رواه أبو داود وأخرجه أيضا عن القعنبي عن مالك موقوفا وقال تابعه على وقفه بكر بن مضر وحفص بن غياث وإسماعيل بن جعفر وابن أبي ذئب وابن إسحاق يعني فرواية عبد الرحمن شاذة وهو وإن كان صدوقا لكنه يخطىء فلعله أخطأ في رفعه
( مالك عن الثقة عنده ) هو الليث بن سعد ذكره الدارقطني وقال منصور بن سلمة هذا مما رواه مالك عن الليث ذكره ابن عبد البر وقال أكثر ما في كتب مالك عن بكير يقول أصحابه ابن وهب وغيره أنه أخذه من كتب بكير كان أخذها من مخرمة ابنه فنظر فيها اه
لكن هذا لا يأتي هنا لقوله عن الثقة ( عن بكير ) بضم الموحدة مصغر ( ابن عبد الله بن الأشج ) مولى بني مخزوم المدني نزيل مصر ثقة روى له الستة مات سنة عشرين ومائة وقيل بعدها
( عن بسر ) بضم الموحدة وإسكان المهملة ( ابن سعيد ) المدني العابد ثقة حافظ من رجال الجميع ( عن عبيد الله ) بضم العين ابن الأسود ويقال ابن
____________________
(1/412)
الأسد ربيب ميمونة ( الخولاني ) ثقة روى له الشيخان
( وكان في حجر ميمونة زوج النبي صلى الله عليه وسلم أن ميمونة كانت تصلي في الدرع والخمار ليس عليها إزار ) لأن ذلك جائز وإن كان الأفضل أن يكون تحت الثوب مئزر قاله ابن حبيب
( مالك عن هشام بن عروة عن أبيه أن امرأة استفتته فقالت إن المنطق ) بكسر الميم وسكون النون وفتح الطاء وقاف ما يشد به الوسط قال أبو عمر المنطق والحقو والإزار والسراويل بمعنى واحد
( يشق علي أفأصلي في درع وخمار فقال نعم إذا كان الدرع سابغا ) ساترا لظهور قدميها وعن أبي حنيفة ليس عليها سترهما
78 الجمع بين الصلاتين في الحضر والسفر رح 325 ( مالك عن داود بن الحصين ) بمهملتين مصغر المدني ثقة لم تثبت عنه بدعة ( عن الأعرج ) عبد الرحمن بن هرمز ثقة من خيار التابعين مات سنة سبع عشرة ومائة بالإسكندرية
( عن أبي هريرة ) هكذا روي عن يحيى مسندا وروي عنه مرسلا كجمهور رواة الموطأ قاله ابن عبد البر في التقصي وقال في تمهيده رواه أصحاب مالك مرسلا إلا أبا مصعب في غير الموطأ ومحمد بن المبارك الصوري ومحمد بن خالد وإسماعيل بن داود فقالوا عن أبي هريرة وذكره أحمد بن خالد عن يحيى مسندا وإنما وجدناه عند شيوخنا مرسلا في نسخة يحيى وروايته ويمكن أن ابن وضاح طرح أبا هريرة من روايته عن يحيى لأنه رأى ابن القاسم وغيره ممن انتهت إليه روايته للموطأ قد أرسل الحديث فظن أن رواية يحيى غلط لم يتابع عليه فرمى أبا هريرة وأرسل الحديث إن صح قول ابن خالد وإلا فهو وهم منه
( أن رسول الله كان يجمع بين الظهر والعصر في سفره إلى تبوك ) جمع تقديم إن ارتحل بعد زوال الشمس وجمع تأخير إن ارتحل قبل الزوال على ما روى أبو داود وغيره عن معاذ ولم يذكر المغرب والعشاء وهو محفوظ من حديث معاذ وغيره كما في الحديث التالي
( مالك عن أبي الزبير ) محمد بن مسلم بن تدرس بفتح الفوقية وسكون المهملة وضم الراء
____________________
(1/413)
الأسدي مولاهم ( المكي ) صدوق روى له الجميع وله في الموطأ ثمانية أحاديث ومات سنة ست أو ثمان وعشرين ومائة
( عن أبي الطفيل ) بضم الطاء المهملة وفتح الفاء ( عامر بن واثلة ) بمثلثة ابن عبد الله بن عمرو الليثي وربما سمي عمر ولد عام إحدى عشر ورأى النبي وروى عن أبي بكر فمن بعده وعمر إلى أن مات سنة عشر ومائة على الصحيح وهو آخر من مات من الصحابة قاله مسلم وغيره
( أن معاذ بن جبل ) بن عمرو بن أوس الأنصاري الخزرجي مشهور من أعيان الصحابة شهد بدرا وما بعدها وكان إليه المنتهى في العلم بالأحكام والقرآن مات بالشام سنة ثماني عشرة
( أخبره أنهم ) أي الصحابة ( خرجوا مع رسول الله عام تبوك ) بمنع الصرف لوزن الفعل كتقول ( فكان رسول الله يجمع بين الظهر والعصر والمغرب والعشاء ) أي جمع تأخير كذا حمله الباجي
وروى أبو داود والترمذي وأحمد وابن حبان من طريق الليث عن يزيد بن أبي حبيب عن أبي الطفيل عن معاذ أن النبي كان في غزوة تبوك إذا ارتحل قبل أن تزيغ الشمس أخر الظهر حتى يجمعها إلى العصر فيصليهما جميعا وإذا ارتحل بعد زيغ الشمس صلى الظهر والعصر جميعا لكن أعله جماعة من أئمة الحديث بتفرد قتيبة به عن الليث بل ذكر البخاري أن بعض الضعفاء أدخله على قتيبة حكاه الحاكم في علوم الحديث وله طريق أخرى عن أبي داود من رواية هشام بن سعد عن أبي الزبير عن أبي الطفيل عن معاذ وهشام مختلف فيه وقد خالفه الحفاظ من أصحاب الزبير كمالك وسفيان والثوري وقرة بن خالد وغيرهم فلم يذكروا في روايتهم جمع التقديم وبه احتج من أبى جمع التقديم وجاء فيه حديث آخر عند أحمد عن ابن عباس أن النبي كان إذا زاغت الشمس في منزله جمع بين الظهر والعصر قبل أن يركب وإذا لم تزغ في منزله ركب حتى إذا كان العصر نزل فجمع بين الظهر والعصر وفيه راو ضعيف لكن له شاهد عند ابن عباس لا أعلمه إلا مرفوعا نحوه رواه البيهقي برجال ثقات إلا أنه مشكوك في رفعه والمحفوظ وقفه ورواه البيهقي أيضا من وجه بالجزم بأنه موقوف على ابن عباس وقد قال أبو داود ليس في تقديم الوقت حديث قائم
( قال فأخر الصلاة يوما ثم خرج فصلى الظهر والعصر جميعا ) جمع تأخير وحمله بعضهم على الجمع الصوري بأن صلى الظهر في آخر وقتها والعصر في أوله وتعقبه الخطابي وابن عبد البر وغيرهما بأن الجمع رخصة فلو كان صوريا لكان أعظم ضيقا من الإتيان بكل صلاة في وقتها لأن أوائل الأوقات وأواخرها مما لا يدركه أكثر الخاصة فضلا عن العامة ومن الدليل على أن الجمع رخصة قول ابن عباس أراد أن لا يحرج على أمته رواه مسلم
وأيضا فصريح الأخبار أن الجمع في وقت إحدى الصلاتين وهو المتبادر إلى الفهم من لفظ الجمع
____________________
(1/414)
( ثم دخل ثم خرج فصلى المغرب والعشاء جميعا ) قال الباجي مقتضاه أنه مقيم غير سائر لأنه إنما يستعمل في الدخول إلى الخباء والخروج منه وهو الغالب إلا أن يريد دخل إلى الطريق مسافرا ثم خرج عن الطريق للصلاة ثم دخله للسير وفيه بعد وكذا نقله عياض واستبعده وقال ابن عبد البر هذا أوضح دليل على رد من قال لا يجمع إلا من جد به السير وهو قاطع للالتباس اه
ففيه أن المسافر له أن يجمع نازلا وسائرا وكأنه فعله لبيان الجواز وكان أكثر عادته ما دل عليه حديث أنس في الصحيحين وغيرهما قال كان النبي إذا ارتحل قبل أن تزيغ الشمس أخر الظهر إلى وقت العصر ثم يجمع بينهما وإذا زاغت قبل أن يرتحل صلى الظهر ثم ركب وعند الإسماعيلي وإذا زالت صلى الظهر والعصر جميعا ثم ارتحل وقال الشافعية والمالكية ترك الجمع للمسافر أفضل
وعن مالك رواية بكراهته
وفي هذه الأحاديث تخصيص حديث الأوقات التي بينها جبريل للنبي وبينها النبي للأعرابي بقوله في آخرها الوقت ما بين هذين ( ثم قال إنكم ستأتون غدا إن شاء الله ) تبركا وامتثالا للآية ( عين تبوك ) التي بها ففيه دليل على عدم تسميتها بذلك لوقوع هذا القول قبل إتيانها بيوم
( وإنكم لن تأتوها حتى يضحى النهار ) يرتفع قويا ( فمن جاءها ) أي قبلي بدليل قوله ( فلا يمس من مائها شيئا حتى آتي ) بالمد أجيء قال الباجي وفيه أن للإمام المنع من الأمور العامة كالماء والكلأ للمصلحة ( فجئناها وقد سبقنا إليها رجلان والعين تبض ) بضاد مهملة رواه يحيى وجماعة أي تبرق ورواه ابن القاسم والقعنبي بمعجمة أي تقطر وتسيل يقال بص الماء وصب على القلب بمعنى والوجهان معا صحيحان
( بشيء من ماء ) يشير إلى تقليله اه
وقال أبو عمر الرواية الصحيحة المشهورة في الموطأ تبض بالضاد المنقوطة وعليها الناس
( فسألهما رسول الله هل مسستما ) بكسر السين الأولى على الأفصح وتفتح ( من مائها شيئا فقالا نعم ) قال الباجي لأنهما لم يعلما نهيه أو حملاه على الكراهة أو نسياه إن كانا مؤمنين
وروى أبو بشر الدولاني أنهما كانا من المنافقين ( فسبهما رسول الله وقال لهما ما شاء الله أن يقول ) لنفاقهما أو عمل النهي على الكراهة فإن كانا لم يعلما أو نسيا فكأنه سبهما إذ كانا سببا لفوات ما أراده من إظهار المعجزة كما يسب الساهي والناسي ويلامان إذا كانا سببا لفوات محروس عليه اه
( ثم غرفوا بأيديهم من العين قليلا قليلا ) بالتكرار دليلا على نهاية القلة ( حتى اجتمع ) الماء
____________________
(1/415)
الذي غرفوه ( في شيء ) من الأواني التي كانت معهم ولا قلب فيه وأن أصله غرفوا في شيء حتى اجتمع ماء كثير كما توهم ( ثم غسل رسول الله فيه ) أي الشيء أي الإناء ( وجهه ويديه ) للبركة والأظهر أن فيه ضمير فيه للماء أي به وعبر بفي لمشاكلة قوله ( ثم أعاده فيها فجرت العين بماء كثير ) وفي مسلم بماء منهمر أو قال غزير شك أبو علي أي راويه عن مالك
( فاستقى الناس ) شربوا وسقوا دوابهم فهو إخبار عن كثرة الماء وهم جيش كثير عددهم
( ثم قال رسول الله يوشك ) يقرب ويسرع من غير بطء ( يا معاذ إن طالت بك حياة ) أي إن أطال الله عمرك ورأيت هذا المكان ( أن ترى ) بعينك فاعل يوشك وأن بالفتح مصدرية ( ما ) موصول أي الذي ( ههنا ) إشارة للمكان ( قد ملىء ) بالبناء للمفعول ونائبه الضمير أي هو ( جنانا ) نصب على التمييز بكسر الجيم جمع جنة بفتحها أي يكثر ماؤه ويخصب أرضه فيكون بساتين ذات أشجار كثيرة وثمار قال الباجي وهذا إخبار بغيب قد وقع وخص معاذا بذلك لأنه استوطن الشام وبها مات فعلم بالوحي أنه سيرى ذلك الموضع كما ذكر وأنه يمتلىء جنانا ببركته ولو لم يكن له معجزة غير هذه لتبين صدقه وظهرت حجته
وقال ابن عبد البر قال ابن وضاح أنا رأيت ذلك الموضع كله حوالي تلك العين جنانا خضرة نضرة ولعله يتمادى إلى قيام الساعة وهكذا النبوة وأما الشجر فلا يبقى بعد مفارقة صاحبه اه
وهذا الحديث أخرجه مسلم في فضائل النبي حدثنا عبد الله بن عبد الرحمن الدارمي قال حدثنا أبو علي الحنفي قال حدثنا مالك به سوى الشك الذي ذكرته
( مالك عن نافع أن عبد الله بن عمر قال كان رسول الله إذا عجل ) بفتح العين وكسر الجيم أسرع وحضر ( به السير ) ونسبة الفعل إلى السير مجاز وتوسع ( يجمع بين المغرب والعشاء ) جمع تأخير ففي الصحيح من رواية الزهري عن سالم عن أبيه رأيت النبي إذا أعجله السير في السفر يؤخر المغرب حتى يجمع بينها وبين العشاء وتعلق به من اشترط في الجمع الجد في السير ورده ابن عبد البر بأنه إنما حكى الحال التي رأى ولم يقل لا يجمع إلا أن يجد به فلا يعارض حديث معاذ قبله ولم يعين غاية التأخير وبينه مسلم من طريق عبيد الله بن عمر عن نافع عن ابن عمر بأنه بعد أن يغيب الشفق ولعبد الرزاق عن معمر عن أيوب وموسى بن عقبة عن نافع فأخر المغرب بعد ذهاب الشفق حتى ذهب هوي من الليل وللبخاري في الجهاد من طريق أسلم عن ابن عمر حتى كان بعد
____________________
(1/416)
غروب الشفق نزل فصلى المغرب والعشاء جمع بينهما ولأبي داود من رواية ربيعة عن عبد الله بن دينار عن ابن عمر في هذه القصة فسار حتى غاب الشفق وتصوبت النجوم نزل فصلى الصلاتين جميعا
وجاءت رواية أخرى عن ابن عمر أنه صلى المغرب في آخر الشفق ثم أقام الصلاة وقد توارى الشفق فصلى العشاء أخرجه أبو داود من طريق عبد الرحمن بن يزيد بن جابر عن نافع ولا تعارض بينه وبين ما سبق لأنه كان في واقعة أخرى وهذا الحديث رواه مسلم عن يحيى عن مالك به وتابعه عبيد الله عن نافع بنحوه في مسلم وهو في الصحيحين من طريق الزهري عن سالم عن أبيه بنحوه
( مالك عن أبي الزبير ) محمد بن مسلم ( المكي عن سعيد بن جبير ) بضم الجيم مصغر ( عن عبد الله بن عباس أنه قال صلى رسول الله الظهر والعصر جميعا والمغرب والعشاء جميعا في غير خوف ولا سفر قال مالك أرى ) بضم الهمزة أي أظن ( ذلك كان في مطر ) ووافقه على ما ظنه جماعة من أهل المدينة وغيرها منهم الشافعي قاله ابن عبد البر لكن روى الحديث مسلم وأصحاب السنن من طريق حبيب بن أبي ثابت عن سعيد بن جبير عن ابن عباس بلفظ من غير خوف ولا مطر وأجاب البيهقي بأن الأولى رواية الجمهور فهي أولى قال وقد روينا عن ابن عباس وابن عمر الجمع بالمطر وهو يؤيد التأويل وأجاب غيره بأن المراد ولا مطر كثير أو ولا مطر مستدام فلعله انقطع في أثناء الثانية وقيل الجمع المذكور للمرض وقواه النووي قال الحافظ وفيه نظر لأنه لو جمع له لما صلى معه إلا من به المرض والظاهر أنه جمع بأصحابه وبه صرح ابن عباس في رواية وقيل كان في غيم فصلى الظهر ثم انكشف الغيم فبان أن وقت العصر دخل فصلاها وأبطله النووي لأنه وإن كان فيه أدنى احتمال في الظهرين فلا احتمال فيه في العشاءين وكأن نفيه الاحتمال مبني على أنه ليس للمغرب إلا وقت واحد والمختار عنده خلافه وهو أن وقتها يمتد إلى العشاء فالاحتمال قائم وقيل الجمع صوري بأن يوقع الظهر آخر وقتها والعصر في أول وقتها قال النووي وهو ضعيف أو باطل لأنه مخالف للظاهر مخالفة لا يحتمل لكن هذا الذي ضعفه استحسنه القرطبي ورجحه قبله إمام الحرمين ومن القدماء ابن الماجشون والطحاوي وقواه ابن سيد الناس بأن أبا الشعثاء راوي الحديث عن ابن عباس قد قال به وذلك فيما أخرجه الشيخان من طريق ابن عيينة عن عمرو بن دينار فذكر هذا الحديث وزاد قلت يا أبا الشعثاء أظنه أخر الظهر وعجل العصر وأخر المغرب وعجل العشاء قال وأنا أظنه وراوي الحديث أدرى بالمراد من غيره
____________________
(1/417)
قلت لكن لم يجزم بذلك ولم يستمر عليه بل جوز أن يكون الجمع بعذر المطر كما في الصحيح لكن يقوي الجمع الصوري أن طرق الحديث كلها ليس فيها صفة الجمع فإما أن تحمل على مطلقها فيستلزم إخراج الصلاة عن وقتها المحدود بلا عذر وإما أن تحمل على صفة مخصوصة ولا يستلزم الإخراج ويجمع بها بين مفترق الأحاديث والجمع الصوري أولى
وذهب جماعة من الأئمة إلى الأخذ بظاهر الحديث فجوزوا الجمع في الحضر للحاجة مطلقا لكن بشرط أن لا يتخذ ذلك عادة وممن قال به ابن سيرين وربيعة وأشهب وابن المنذر والقفال الكبير وجماعة من أصحاب الحديث واستدل لهم بما في مسلم في هذا الحديث عن سعيد بن جبير فقلت لابن عباس لم فعل ذلك قال أراد أن لا يحرج أحد من أمته
وللنسائي من طريق عمرو بن هرم عن أبي الشعثاء أن ابن عباس صلى بالبصرة الأولى والعصر ليس بينهما شيء والمغرب والعشاء ليس بينهما شيء فعل ذلك من شغل وفيه رفعه إلى النبي
ولمسلم عن عبد الله بن شقيق أن شغل ابن عباس كان بالخطبة وأنه خطب بعد العصر إلى أن بدت النجوم ثم جمع بين المغرب والعشاء وفيه تصديق أبي هريرة لابن عباس في رفعه وما ذكره ابن عباس من التعليل بنفي الحرج ظاهر في مطلق الجمع وجاء مثله عن ابن مسعود قال جمع النبي بين الظهر والعصر وبين المغرب والعشاء فقيل له في ذلك
فقال صنعت هذا لئلا تحرج أمتي رواه الطبراني وإرادة نفي الحرج تقدح في حمله على الجمع الصوري لأن القصد إليه لا يخلو عن حرج انتهى
والحديث رواه مسلم عن يحيى عن مالك به وله طرق في الصحيحين
( مالك عن نافع أن عبد الله بن عمر كان إذا جمع الأمراء ) جمع أمير ( بين المغرب والعشاء في المطر جمع معهم ) لأنه مستحب لإدراك فضيلة الجماعة
( مالك عن ابن شهاب أنه سأل سالم بن عبد الله هل يجمع بين الظهر والعصر في السفر فقال نعم لا بأس بذلك ) أي يجوز بلا كراهة وإن كان الأفضل تركه
( ألم تر إلى صلاة الناس بعرفة ) بالجمع بين الظهرين جمع تقديم فقاس سالم المختلف فيه على المتفق عليه بجامع أن العلة السفر
وفي مسلم عن جابر أنه جمع بين الظهر والعصر بعرفة في وقت الظهر ولو لم يرد من فعله إلا هذا لكان أدل دليل على جواز جمع التقديم في السفر وإلى جواز الجمع في السفر وإن لم يجد به
____________________
(1/418)
السير ذهب كثير من الصحابة والتابعين والثوري ومالك في رواية مشهورة والشافعي وأحمد وإسحاق وأشهب وقال الليث ومالك في المدونة يختص بمن جد به السير وقيل يختص بالسائر دون النازل وهو قول ابن حبيب وقيل بمن له عذر وقيل يجوز التأخير لا التقديم
وروي عن مالك وأحمد واختاره ابن حزم وقال قوم لا يجوز الجمع مطلقا إلا بعرفة ومزدلفة وهو قول الحسن والنخعي وأبي حنيفة وصاحبيه وقول النووي أنهما خالفاه رده عليه السروجي في شرح الهداية وهو أعرف بمذهبه وأجابوا عن الأحاديث بأنه جمع صوري وتقدم رده قال إمام الحرمين ثبت في الجمع أحاديث نصوص لا يتطرق إليها تأويل ودليله من حيث المعنى الاستنباط من الجمع بعرفة ومزدلفة فإن سببه احتياج الحاج إليه لاشتغالهم بمناسكهم وهذا المعنى موجود في كل الأسفار ولم تتقيد الرخص كالقصر والفطر بالنسك إلى أن قال ولا يخفى على منصف أن الجمع أرفق من القصر فإن القائم إلى الصلاة لا يشق عليه ركعتان يضمهما إلى ركعتيه ورفق الجمع بمن جد به السير
( مالك أنه بلغه عن علي ) زين العابدين ( بن حسين ) بن علي بن أبي طالب ( أنه كان يقول كان رسول الله إذا أراد أن يسير يومه جمع بين الظهر والعصر ) جمع تقديم إن سار بعد الزوال وتأخير إن سار قبله
( وإذا أراد أن يسير ليله جمع بين المغرب والعشاء ) قال ابن عبد البر هذا حديث يتصل من رواية مالك من حديث معاذ بن جبل وابن عمر معناه وهو عند جماعة من أصحابه مسند
79 قصر الصلاة في السفر بفتح القاف مصدر يقال قصرت الصلاة بفتحتين مخففا قصرا وقصرتها بالتشديد تقصيرا وأقصرتها إقصارا والأول أشهر في الاستعمال والمراد به تخفيف الرباعية إلى ركعتين ولا قصر في الصبح ولا المغرب إجماعا وعقبه بما قبله لأن الجمع قصر بالنسبة للزمان ويجمعها الرخصة للعذر
( مالك عن ابن شهاب عن رجل من آل خالد بن أسيد ) وهو أمية بن عبد الله بن خالد بن أسيد بفتح الهمزة وكسر السين على الأفصح وقيل بضمها وفتح السين ابن أبي العيص بكسر العين المهملة المكي ثقة روى له النسائي وابن ماجه قال ابن عبد البر لم يقم مالك إسناد هذا الحديث لإبهام الرجل ولأنه أسقط منه رجلا فقد رواه معمر والليث بن سعد ويونس بن يزيد عن ابن شهاب عن
____________________
(1/419)
عبد الله بن أبي بكر بن عبد الرحمن عن أمية بن عبد الله بن خالد انتهى
ومن طريق الليث أخرجه النسائي وابن ماجه ( أنه سأل عبد الله بن عمر فقال يا أبا عبد الرحمن ) كنيته ( إنا نجد صلاة الخوف وصلاة الحضر في القرآن ولا نجد صلاة السفر ) أي قصر الصلاة في سفر الأمن لأن الله تعالى قال { وإذا ضربتم في الأرض فليس عليكم جناح أن تقصروا من الصلاة إن خفتم أن يفتنكم الذين كفروا } ثم قال { فإذا اطمأننتم فأقيموا الصلاة } سورة النساء الآية 101 103 أي أتموها
( فقال ابن عمر يا ابن أخي إن الله عز وجل بعث إلينا محمدا صلى الله عليه وسلم ولا نعلم شيئا فإنما نفعل كما رأيناه يفعل ) فبين له أن القصر في سفر الأمن ثابت بالسنة لا بالقرآن
وفي رواية فقال ابن عمر سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وفي مسلم عن يعلى بن أمية قلت لعمر إنما قال الله تعالى { إن خفتم } وقد أمن الناس فقال عجبت مما عجبت منه فسألت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال صدقة تصدق الله بها عليكم فاقبلوا صدقته فأفاد صلى الله عليه وسلم أن الشرط في الآية لبيان الواقع وقت النزول فلا مفهوم له
وقال ابن عباس صلينا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بين مكة والمدينة ونحن آمنون لا نخاف شيئا ركعتين ركعتين قال الباجي فتأول عمر وابنه والسائل لهما أن الآية تدل على القصر الذي هو رد الرباعية إلى ركعتين
وقال ابن حبيب وغير واحد معنى التقصر في الآية في الخوف الترتيب وتخفيف الركوع والسجود والقراءة والأول أظهر في عرف اللغة
( مالك عن صالح بن كيسان ) بفتح الكاف وسكون التحتية المدني مؤدب ولد عمر بن عبد العزيز ثقة ثبت فقيه مات بعد سنة ثلاثين أو بعد أربعين ومائة له في الموطأ حديثان مسندان وذكر الحاكم أنه عاش مائة ونيفا وستين سنة ولقي جماعة من الصحابة ثم بعد ذلك تلمذ للزهري وتلقن عنه العلم وهو ابن تسعين سنة قال الحافظ في تهذيب التهذيب وهذه مجازفة قبيحة مقتضاها أن يكون صالح ولد قبل بعث النبي صلى الله عليه وسلم وما أدري من أين وقع ذلك للحاكم ولو كان طلب العلم كما حدد الحاكم لكان قد أخذ عن سعد بن أبي وقاص وعائشة وقد قال ابن المديني أنه لم يلحق عقبة بن عامر انتهى
( عن عروة بن الزبير عن عائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم أنها قالت فرضت الصلاة ) وللتنيسي فرض الله الصلاة حين فرضها ( ركعتين ركعتين ) بالتكرير لإفادة عموم التثنية لكل صلاة ( في الحضر
____________________
(1/420)
والسفر ) زاد ابن إسحاق قال حدثني صالح بن كيسان المدني بهذا الإسناد إلا المغرب فإنها كانت ثلاثا أخرجه أحمد من طريقه
( فأقرت صلاة السفر ) ركعتين ركعتين ( وزيد في صلاة الحضر ) بعد الهجرة
ففي البخاري من رواية الزهري عن عروة عن عائشة فرضت الصلاة ركعتين ثم هاجر النبي صلى الله عليه وسلم ففرضت أربعا وروى ابن خزيمة وابن حبان والبيهقي من طريق الشعبي عن مسروق عن عائشة قالت فرضت صلاة الحضر والسفر ركعتين ركعتين فلما قدم صلى الله عليه وسلم المدينة واطمأن زيد في صلاة الحضر ركعتان ركعتان وتركت صلاة الفجر لطول القراءة وصلاة المغرب لأنها وتر النهار واحتج بظاهر هذا الحنفية وموافقوهم على أن القصر في السفر عزيمة لا رخصة واستدل مخالفوهم بقوله تعالى { فليس عليكم جناح أن تقصروا من الصلاة } سورة النساء الآية 101 لأن نفي الجناح لا يدل على العزيمة والقصر إنما يكون من شيء أطول منه وبقوله صلى الله عليه وسلم صدقة تصدق الله بها عليكم فالمفروض الأربع إلا أنه رخص بأداء ركعتين وأجابوا عن حديث عائشة بأنه غير مرفوع وبأنها لم تشهد زمان فرض الصلاة
قال الخطابي وغيره قال الحافظ وفيه نظر لأنه مما لا مجال للرأي فيه فله حكم الرفع وعلى تسليم أنها لم تدرك القصة يكون مرسل صحابي وهو حجة لأنه يحمل على أنها أخذته عن النبي صلى الله عليه وسلم أو عن صحابي أدرك ذلك وقول إمام الحرمين لو ثبت لنقل متواترا فيه نظر أيضا لأن المتواتر في مثل هذا لا يلزم والذي يظهر وبه تجتمع الأدلة أن الصلاة فرضت ليلة الإسراء ركعتين ركعتين إلا المغرب ثم زيدت بعد الهجرة إلا الصبح ثم بعد أن استقر فرض الرباعية خفف منها في السفر عند نزول { فليس عليكم جناح أن تقصروا من الصلاة } ويؤيد ذلك ما ذكره ابن الأثير في شرح المسند أن قصر الصلاة كان في السنة الرابعة من الهجرة وهو مأخوذ من قول غيره أن نزول آية الخوف كان فيها
وذكر الدولابي أن القصر كان في ربيع الآخر من السنة الثانية
وذكره السهيلي بلفظ بعد الهجرة بعام أو نحوه وقيل بعد الهجرة بأربعين يوما فعلى هذا المراد بقول عائشة فأقرت صلاة السفر أي باعتبار ما آل إليه الأمر من التخفيف لأنها استمرت منذ فرضت فلا يلزم من ذلك أن القصر عزيمة كما يقوله الحنفية وقد ألزموا على قاعدتهم إذا عارض رأي الصحابي روايته فالعبرة عندهم برأيه لا بمرويه وخالفوا ذلك هنا فقد ثبت أن عائشة كانت تتم في السفر والجواب عنهم أن عروة الراوي عنها قال لما سأله الزهري عن إتمامها في السفر إنها تأولت كما تأول عثمان فروايتها صحيحة ورأيها مبني على ما تأولت فلا تعارض بينهما وقد اختلف فيما تأولا فقيل رأيا أنه صلى الله عليه وسلم إنما قصر أخذا بالأيسر من ذلك على أمته فأخذا لأنفسهما بالشدة صححه ابن بطال وجماعة آخرهم القرطبي
وروى ابن خزيمة أن عائشة كانت تتم فإذا احتجوا عليها تقول إن النبي صلى الله عليه وسلم كان في حرب وكان يخاف فهل تخافون أنتم
____________________
(1/421)
وروى البيهقي بسند صحيح عن عروة أن عائشة كانت تصلي في السفر أربعا فقلت لها لو صليت ركعتين فقالت يا ابن أختي إنه لا يشق علي وهذا يدل على أنها تأولت أن القصر رخصة وأن الإتمام لمن لا يشق عليه أفضل
وقال النووي الصحيح الذي عليه المحققون أن عثمان وعائشة رأيا القصر جائزا والإتمام جائزا فأخذا بأحد الجائزين وهو الإتمام انتهى
وروى الطبراني وأبو يعلى بإسناد جيد عن أبي هريرة أنه سافر مع النبي صلى الله عليه وسلم ومع أبي بكر وعمر وكلهم كان يصلي ركعتين من حين يخرج من المدينة إلى مكة حتى يرجع إلى المدينة في السير وفي المقام بمكة وحديث الباب رواه البخاري عن عبد الله بن يوسف ومسلم عن يحيى كلاهما عن مالك به
( مالك عن يحيى بن سعيد ) الأنصاري ( أنه قال لسالم بن عبد الله ما أشد ما رأيت أباك ) ابن عمر ( أخر المغرب في السفر ) قال الباجي أراد أن يعرف آخر وقتها المختار
( فقال سالم غربت الشمس ونحن بذات الجيش فصلى المغرب بالعقيق ) وبينهما اثنا عشر ميلا
وقال ابن وضاح سبعة أميال
وقال ابن وهب ستة
وقال القعنبي ذات الجيش على بريدين من المدينة ووقع هذا الأثر هنا وهو من معنى الباب قبله قاله في الاستذكار وفي المنتقى وحمل ذلك على المعروف من سير من جد
وقال البوني في رواية يحيى وبينهما ميلان أو أكثر قليلا
وفي رواية ابن القاسم عشرة أميال
وفي شرحي الموطأ لابن سحنون وابن حبيب عن ابن القاسم وشرحه لابن المواز عن ابن وهب إنما أخر ابن عمر المغرب لالتماس الماء وهذا يدل على أن ابن عمر لا يتيمم في أول الوقت إذا رجا الماء وما مر عنه أنه تيمم للعصر أول الوقت فلأنه قدر أنه لا يدخل المدينة إلا بعد الاصفرار وكان على وضوء وكان يستحب الوضوء لكل صلاة فلما عدم الماء تيمم على ما ذكر سحنون أو أنه يرى جواز التقديم والتأخير للراجي
80 ما يجب فيه قصر الصلاة أي يسن مؤكدا يقرب من الواجب إذ المعروف من قول مالك أنه سنة
( مالك عن نافع أن عبد الله بن عمر كان إذا خرج حاجا أو معتمرا قصر الصلاة بذي الحليفة )
____________________
(1/422)
قال الباجي خص سفره بهما لأنهما مما لا خلاف في القصر فيه
وقال أبو عمر كان ابن عمر يتبرك بالمواضع التي كان صلى الله عليه وسلم ينزلها ويمتثل فعله بكل ما يمكنه ولما علم أنه صلى الله عليه وسلم قصر العصر بذي الحليفة حين خرج في حجة الوداع فعل مثله وأما سفر ابن عمر في غير الحج والعمرة فكان يقصر إذا خرج من بيوت المدينة ويقصر إذا رجع حتى يدخل بيوتها كما رواه عنه نافع أيضا
( مالك عن ابن شهاب عن سالم بن عبد الله عن أبيه أنه ركب إلى ريم ) بكسر الراء وإسكان التحتية وميم ( فقصر الصلاة في مسيره ذلك قال مالك وذلك نحو من أربعة برد ) من المدينة ولعبد الرزاق عن مالك ثلاثون ميلا من المدينة قال ابن عبد البر وأراها وهما بخلاف ما في الموطأ ورواه عقيل عن ابن شهاب وقال هي ثلاثون فيحتمل أن ريم موضع متسع كالإقليم فيكون تقدير مالك عند آخره وعقيل عند أوله وقال بعض شعراء المدينة فكم من حرة بين المنقى إلى أحد إلى جنبات ريم فقال جنبات وربما كانت بعيدة الأقطار
( مالك عن نافع عن سالم بن عبد الله أن عبد الله بن عمر ركب إلى ذات النصب ) بضم النون موضع قرب المدينة ( فقصر الصلاة في مسيره ذلك قال مالك وبين ذات النصب والمدينة أربعة برد ) وكذا رواه الشافعي عن مالك ورواه عبد الرزاق عن مالك فقال بينهما ثمانية عشر ميلا
( مالك عن نافع عن ابن عمر أنه كان يسافر إلى خيبر فيقصر الصلاة ) بضم الصاد وبين خيبر والمدينة ستة وتسعون ميلا
وروى عبد الرزاق عن ابن جريج عن نافع أن ابن عمر كان أدنى ما يقصر الصلاة فيه مال له بخيبر قال ابن عبد البر ومالك أثبت في نافع من ابن جريج فالمقدمون في حفظ حديث نافع مالك وعبيد الله بن عمر وأيوب وأما ابن جريج فبعد هؤلاء
( مالك عن ابن شهاب عن سالم بن عبد الله أن عبد الله بن عمر كان يقصر الصلاة في مسير اليوم
____________________
(1/423)
التام ) وتقدير ذلك بالسير الحثيث نحو أربعة برد قاله ابن عبد البر
وقال ابن المواز معناه في الصيف وجد السير
( مالك عن نافع أنه كان يسافر مع ابن عمر البريد فلا يقصر الصلاة ) قال الباجي سمى الخروج إلى البريد ونحوه سفرا مجازا واتساعا ولا يطلق عليه اسم السفر حقيقة في كلام العرب ولا يفهم من قولهم سافر فلان الخروج إلى الميلين والثلاثة مع أن هذا لفظ نافع وليس من العرب وروي أنه كان في نطقه لكنة
وبينهما ثلاثة مراحل أو اثنان ( وفي مثل ما بين مكة وعسفان ) وبينهما ثلاثة مراحل ونونه زائدة ويذكر ويؤنث
( وفي مثل ما بين مكة وجدة ) بضم الجيم ساحل البحر بمكة قال الباجي أكثر مالك من ذكر أفعال الصحابة لما لم يصح عنده في ذلك توقيف عن النبي صلى الله عليه وسلم انتهى
( قال مالك وذلك ) المذكور من هذه الأماكن ( أربعة برد ) قال الحافظ روي عن ابن عباس مرفوعا أخرجه الدارقطني وابن أبي شيبة من طريق عبد الوهاب عن مجاهد عن أبيه وعطاء عن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال يا أهل مكة لا تقصروا الصلاة في أدنى من أربعة برد من مكة إلى عسفان وإسناده ضعيف من أجل عبد الوهاب
وروى عبد الرزاق عن ابن جريج عن عطاء عن ابن عباس قال لا تقصر الصلاة إلا في اليوم ولا تقصر فيما دون اليوم ولابن أبي شيبة من وجه آخر صحيح عنه قال تقصر الصلاة في مسير يوم وليلة ويمكن الجمع بين هذه الروايات بأن مسافة برد يمكن سيرها في يوم واحد
( وذلك أحب ما تقصر إلي فيه الصلاة ) من الأقوال المنتشرة إلى نحو عشرين قولا فأحب عائد لاختياره يعني أنه لا يقصر في أقل منها وهي ستة عشر فرسخا ثمانية وأربعون ميلا وإلى هذا ذهب الشافعي وأحمد وجماعة وعن مالك مسيرة يوم وليلة قال ابن القاسم رجع عنه قال عبد الوهاب وهو وفاق فإنما رجع عن التحديد بيوم وليلة إلى لفظ أبين منه
وقال أبو حنيفة لا تقصر في أقل من ثلاثة أيام لحديث الصحيحين لا تسافر المرأة ثلاثة أيام إلا مع ذي محرم وأجيب بأنه لم يسق لبيان مسافة القصر بل لنهي المرأة عن الخروج وحدها ولذا اختلفت ألفاظه فروي يوما وليلة ومسيرة يومين وبريدا وأيد بأن الحكم في نهي المرأة عن السفر وحدها متعلق
____________________
(1/424)
بالزمان فلو قطعت مسيرة ساعة واحدة في يوم لتعلق بها النهي بخلاف المسافر لو قطع مسيرة نصف يوم في يومين مثلا لم يقصر فافترقا على أن تمسك الحنفية بالحديث مخالف لقاعدتهم أن الاعتبار برأي الصحابي لا بما روي فلو كان الحديث عنه لبيان أقل مسافة القصر لما خالفه وقصر في مسير اليوم التام
وقالت طائفة من أهل الظاهر يقصر في كل سفر ولو ثلاثة أميال لظاهر قوله تعالى { وإذا ضربتم في الأرض } سورة النساء الآية 101 ولم يحد المسافة
وروى مسلم وأبو داود عن أنس كان صلى الله عليه وسلم إذا خرج مسيرة ثلاثة أميال أو ثلاثة فراسخ قصر الصلاة وهو أصح ما ورد في بيان ذلك وأصرحه وقد حمله من خالفه على أن المراد به المسافة التي يبتدأ منها القصر لا غاية السفر
قال الحافظ ولا يخفى بعد هذا الحمل مع أن البيهقي روى أن يحيى بن يزيد قال سألت أنسا عن قصر الصلاة وكنت أخرج إلى الكوفة يعني من البصرة فأصلي ركعتين ركعتين حتى أرجع فقال أنس فذكر الحديث فظهر أنه سأله عن جواز القصر في السفر لا عن الموضع الذي يبتدأ منه القصر ثم الصحيح أنه لا يتقيد بمسافة بل بمجاوزة البلد الذي يخرج منه ورده القرطبي بأنه مشكوك فيه فلا يحتج به فإن أراد لا يحتج به في التحديد بثلاثة أميال فمسلم لكن لا يمتنع أن يحتج به في التحديد بثلاثة فراسخ فإن الثلاثة أميال مندرجة فيها فيؤخذ بالأكثر احتياطا
( قال مالك لا يقصر الذي يريد السفر الصلاة حتى يخرج من بيوت القرية ) كلها وهذا مجمع عليه واختلف فيما قبل الخروج من البيوت فعن بعض السلف إذا أراد السفر قصر ولو في بيته
ورده ابن المنذر بأنه لا يعلم أن النبي صلى الله عليه وسلم قصر في شيء من أسفاره إلا بعد خروجه عن المدينة وحديث الصحيحين عن أنس صليت مع النبي صلى الله عليه وسلم الظهر بالمدينة أربعا والعصر بذي الحليفة ركعتين دليل على ذلك ولا دلالة فيه على القصر في السفر القصير لأن بين ذي الحليفة والمدينة ستة أميال لأنها لم تكن منتهى سفره بل كان ذلك لخروجه لحجة الوداع فنزل بها فقصر العصر واستمر يقصر حتى رجع
( ولا يتم حتى يدخل أول بيوت القرية أو يقارب ذلك ) وكذا رواه ابن القاسم في المدونة
وروى علي في المجموعة عن مالك حتى يدخل منزله
وروى مطرف وابن الماجشون يقصر إلى الموضع الذي يقصر منه عند خروجه
81 صلاة المسافر ما لم يجمع مكثا بضم الياء وسكون الجيم من أجمع على الأمر عزم وصمم يتعدى بنفسه كقوله مكثا وبعلى
وقوله تعالى { فأجمعوا أمركم وشركاءكم } سورة يونس الآية 71 أي وادعوا
____________________
(1/425)
شركاءكم لأنه يقال اجمعوا شركاءكم والمعنى أجمعوا مع شركائكم على أمركم قاله المجد الشيرازي ( مالك عن ابن شهاب عن سالم بن عبد الله أن عبد الله بن عمر كان يقول أصلي صلاة المسافر ما لم أجمع مكثا ) إقامة ( وإن حبسني ) منعني ( ذلك اثنتي عشرة ليلة ) لأن حكم السفر لم ينقطع
( مالك عن نافع أن ابن عمر أقام بمكة عشر ليال يقصر الصلاة ) لأنه لم ينو إقامة ( إلا أن يصليها مع الإمام فيصليها ) تامة ( بصلاته ) أي الإمام
82 صلاة الإمام إذا أجمع مكثا هذه الترجمة مفهوم التي قبلها
( مالك عن عطاء ) بن أبي مسلم ميسرة وقيل عبد الله ( الخراساني ) أبي عثمان مولى المهلب بن أبي صفرة على الأشهر وقيل مولى لهذيل أصله من مدينة بلخ من خراسان وسكن الشام وولد سنة خمسين وكان فاضلا عالما بالقرآن عاملا وثقه ابن معين وروى عنه مالك ومعمر والأوزاعي وسعيد بن عبد العزيز وغيرهم ومات سنة خمس وثلاثين ومائة وأدخله البخاري في الضعفاء لنقل القاسم بن عاصم عن ابن المسيب أنه كذبه ورده ابن عبد البر بأن مثل القاسم لا يجرح بروايته مثل عطاء أحد العلماء الفضلاء وقد قال يحيى بن معين روى مالك عن عطاء الخراساني وعطاء ثقة سمع ابن عمر ( أنه سمع سعيد بن المسيب قال من أجمع ) عزم ونوى ( إقامة أربع ليال وهو مسافر أتم الصلاة ) لقطع ذلك حكم السفر ( قال مالك وذلك أحب ما سمعت إلي ) من الخلاف في ذلك وبه قال الشافعي وأبو ثور وداود وجماعة وحجتهم حديث العلاء بن الحضرمي رفعه يمكث المهاجر بعد قضاء نسكه بمكة ثلاثا ومعلوم أن مكة لا يجوز لمهاجري أن يتخذها دار إقامة فأبان صلى الله عليه وسلم أن من نوى إقامة ثلاث ليال ليس بمقيم وما زاد عليها له حكم المقيم
وقال الثوري وأبو حنيفة إذا نوى إقامة خمسة عشر يوما أتم ودونها قصر وروى مثله عن ابن عمر وابن عباس قال الطحاوي ولا مخالف لهما من الصحابة وقيل غير ذلك
____________________
(1/426)
( وسئل مالك عن صلاة الأسير فقال مثل صلاة المقيم ) فيتم ( إلا أن يكون مسافرا ) فيقصر
83 صلاة المسافر إذا كان إماما أو كان وراء إمام رح 345 ( مالك عن ابن شهاب عن سالم بن عبد الله عن أبيه أن ) أباه ( عمر بن الخطاب كان إذا قدم مكة صلى بهم ) إماما لأنه الخليفة ولا يؤم الرجل في سلطانه ( ركعتين ثم يقول يا أهل مكة أتموا صلاتكم فإنا قوم سفر ) بفتح فسكون جمع سافر كراكب وركب قال أبو عمر امتثل عمر فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم
قال عمران بن حصين شهدت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم الفتح فأقام بمكة ثمان عشرة ليلة لا يصلي إلا ركعتين ثم يقول لأهل البلد صلوا أربعا فإنا سفر انتهى
وهذا رواه الترمذي وفي إسناده ضعف
( مالك عن زيد بن أسلم عن أبيه عن عمر بن الخطاب مثل ذلك ) فله طريقان عن عمر كل منهما صحيح وذكر الإمام لفظ هذه الطريق في الحج قال الباجي كان عمر لا يستوطن مكة لأن المهاجري ممنوع من استيطانها لأنه قد هجرها لله تعالى وكان عمر أمير المؤمنين والمستحق للإمامة ومحل كون الأفضل تقديم غير المسافر في الإمامة في غير موضع الأمراء والإمام الراتب
( مالك عن نافع أن عبد الله بن عمر كان يصلي وراء الإمام بمنى أربعا ) لوجوب متابعة الإمام وترك الخلاف له وإن اعتقد المأموم أن القصر أفضل لكن فضيلة الجماعة آكد للاتفاق عليها والاختلاف في القصر
( فإذا صلى لنفسه صلى ركعتين ) على سنته لأنه مسافر
( مالك عن ابن شهاب عن صفوان ) بن عبد الله بن صفوان بن أمية القرشي التابعي ( أنه قال جاء عبد الله بن عمر يعود عبد الله بن صفوان ) بن أمية بن خلف الجمحي المالكي ولد على عهد
____________________
(1/427)
النبي صلى الله عليه وسلم وأبوه صحابي مشهور وقتل عبد الله مع ابن الزبير وهو متعلق بأستار الكعبة سنة ثلاث وسبعين ذكره ابن سعد في الطبقة الأولى من التابعين
( فصلى ) ابن عمر ( لنا ) أي بنا إماما ( ركعتين ) لأنه مسافر ( ثم انصرف ) سلم من الصلاة ( فقمنا فأتممنا ) لأنهم مقيمون ولا كراهة في إمامة المسافر للمقيم لأن صلاته لم تتغير بخلاف عكسه كذا قاله الباجي والمذهب كراهة الصورتين غايته أن عكسه أقوى فلعله أراد لا كراهة أكيدة وإنما أم ابن عمر الحضريين لأنه أعلمهم وأفضلهم
84 صلاة النافلة في السفر بالنهار زاد في رواية ابن وضاح والليل والصلاة على الدابة
( مالك عن نافع عن عبد الله بن عمر أنه لم يكن يصلي مع صلاة الفريضة في السفر شيئا قبلها ولا بعدها ) لأن السفر مشقة فشرع فيه قصر الفريضة للتخفيف فأولى النافلة
وفي مسلم عن حفص بن عاصم صحبت ابن عمر في طريق مكة فصلى لنا الظهر ركعتين ثم أقبل وأقبلنا معه حتى جاء رحله وجلسنا معه فحانت منه التفاتة فرأى ناسا قياما فقال ما يصنع هؤلاء قلت يسبحون قال لو كنت مسبحا لأتممت صحبت رسول الله صلى الله عليه وسلم فكان لا يزيد في السفر على ركعتين وصحبت أبا بكر وعمر وعثمان كذلك أي فلم يزيد كل على ركعتين ركعتين ثم قرأ { لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة } سورة الأحزاب الآية 21 وأخرج البخاري منه المرفوع فقط
وجاءت آثار عنه صلى الله عليه وسلم أنه كان ربما تنفل في السفر
قال البراء سافرت مع رسول الله ثمان عشرة سفرة فما رأيته يترك الركعتين قبل الظهر رواه أبو داود والترمذي والمشهور عن جميع السلف جوازه وبه قال الأئمة الأربعة
قال النووي وأجابوا عن قول ابن عمر هذا بأن الفريضة محتمة فلو شرعت تامة لتحتم إتمامها وأما النافلة فإلى خيرة المصلي فالرفق به أن تكون مشروعة ويخير فيها انتهى
وتعقب بأن مراد ابن عمر بقوله لو كنت مسبحا لأتممت أنه لو كان مخيرا بين الإتمام وصلاة الراتبة لكان الإتمام أحب إليه لكنه فهم من القصر التخفيف فلذا كان لا يصلي الراتبة ولا يتم ( إلا من جوب الليل فإنه كان يصلي على الأرض وعلى راحلته حيث توجهت ) به إلى مقصده للقبلة أو غيرها فصوب الطريق بدل من القبلة قال الباجي لا خلاف بين الأمة في جواز التنفل للمسافر بالليل قال عامر بن ربيعة رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي على راحلته حيث توجهت رواه الشيخان
____________________
(1/428)
( مالك أنه بلغه أن القاسم بن محمد ) بن الصديق ( وعروة بن الزبير ) بن العوام ( وأبا بكر بن عبد الرحمن ) بن الحارث بن هشام بن المغيرة المخزومي والثلاثة من الفقهاء ( كانوا يتنفلون في السفر ) ظاهره ليلا ونهارا ( قال يحيى وسئل مالك عن النافلة في السفر فقال لا بأس بذلك بالليل والنهار وقد بلغني أن بعض أهل العلم كان يفعل ذلك ) أي التنفل بالليل والنهار
( مالك قال بلغني ) زاد ابن وضاح عن نافع ( أن عبد الله بن عمر كان يرى ابنه عبيد الله ) بضم العين ( ابن عبد الله ) شقيق سالم ثقة ثبت فقيه ( يتنفل في السفر فلا ينكر عليه ) قال الباجي يحتمل أن يراه يتنفل بالليل فلا ينكره لأنه مذهبه ويحتمل بالنهار فلا ينكره لكثرة من خالفه فيه وهذا أشبه
( مالك عن عمرو ) بفتح العين ( ابن يحيى المازني ) الأنصاري مدني ثقة ( عن أبي الحباب ) بضم المهملة وموحدتين ( سعيد ) بفتح السين ( بن يسار ) المدني ثقة متقن مات سنة سبع عشرة ومائة وقيل قبلها بسنة
( عن عبد الله بن عمر أنه قال رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي وهو على حمار ) لم يتابع عليه عمرو بن يحيى وإنما يقولون على راحلته قاله النسائي أي في حديث ابن عمر فالمعروف المحفوظ فيه على راحلته وبين الصلاة على الدابة والصلاة على الراحلة فرق في التمكن لا يجهل وأما غير ابن عمر فروى جابر كان صلى الله عليه وسلم يصلي أينما كان وجهه على الدابة وقال الحسن كان الصحابة يصلون في أسفارهم على دوابهم أينما كانت وجوههم قاله في التمهيد لكن لرواية عمرو شاهد عن يحيى بن سعيد عن أنس أنه رأى النبي صلى الله عليه وسلم يصلي على حمار وهو ذاهب إلى خيبر رواه السراج بإسناد حسن
( وهو متوجه إلى خيبر ) بمعجمة أوله وراء آخره زاد الحنيني عن مالك خارج الموطأ ويومي إيماء أي للركوع والسجود أخفض منه تمييزا بينهما وليكون البدل على وفق الأصل وهذا الحديث أخرجه مسلم عن يحيى عن مالك به
( مالك عن عبد الله بن دينار عن عبد الله بن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يصلي على راحلته ) ناقته
____________________
(1/429)
التي تصلح لأن ترتحل ( في السفر حيث توجهت به ) مفهومه أنه يجلس عليها على هيئته التي يركبها عليها ويستقبل بوجهه ما استقبلته الراحلة فتقديره إلى حيث توجهت فقوله توجهت متعلق بيصلي ويحتمل تعلقه بقوله على راحلته لكن يؤيد الأول رواية للبخاري بلفظ وهو على الراحلة يسبح قبل أي وجه توجهت قاله ابن التين وزاد في رواية للبخاري يومي برأسه قال عبد الله بن دينار ( وكان عبد الله بن عمر يفعل ذلك ) عقب المرفوع بالموقوف مع أن الحجة قائمة بالمرفوع لبيان أن العمل استمر على ذلك ولم يتطرق إليه نسخ ولا معارض راجح وقد جمع ابن بطال بين هذا وبين ما سبق أن ابن عمر كان لا يصلي الرواتب ويقول كان صلى الله عليه وسلم لا يزيد في السفر على ركعتين بأن ابن عمر كان يمنع التنفل على الأرض ويقول به على الدابة
وقال النووي تبعا لغيره لعل النبي صلى الله عليه وسلم كان يصلي الرواتب في رحله ولا يراه ابن عمر أو لعله تركها في بعض الأوقات لبيان الجواز وهذا الحديث رواه مسلم عن يحيى عن مالك به وتابعه عبد العزيز بن مسلم عن ابن دينار عند البخاري وأخرجه أيضا من رواية جويرية بن أسماء عن نافع ومن رواية ابن شهاب عن سالم الثلاثة عن ابن عمر نحوه
( مالك عن يحيى بن سعيد ) الأنصاري ( قال رأيت أنس بن مالك في السفر وهو يصلي ) التطوع ( على حمار وهو متوجه إلى غير القبلة يركع ويسجد إيماء ) لكل منهما والسجود أخفض ( من غير أن يضع وجهه على شيء ) بردعة أو غيرها زاد البخاري ومسلم عن ابن سيرين عن أنس أنه قال لولا أني رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فعله لم أفعله قال المهلب هذه الأحاديث تخص قوله تعالى { وحيث ما كنتم فولوا وجوهكم شطره } سورة البقرة الآية 1 وتبين أن قوله تعالى { فأينما تولوا فثم وجه الله } سورة البقرة الآية 115 في النافلة
وقد أخذ بمضمونها فقهاء الأمصار إلا أن أحمد وأبا ثور استحبا أن يستقبل القبلة بالتكبير حال ابتداء الصلاة لما رواه أبو داود وأحمد والدارقطني عن أنس كان صلى الله عليه وسلم إذا أراد أن يتطوع في السفر استقبل بناقته القبلة ثم صلى حيث توجهت ركابه واختلف في السفر الذي لا تقصر فيه الصلاة فأجازه الجمهور في كل سفر وخصه مالك في المشهور عنه بسفر القصر وحجته أن هذه الأحاديث إنما وردت في أسفاره صلى الله عليه وسلم ولم ينقل عنه أنه سافر سفرا قصيرا فصنع ذلك والله أعلم
____________________
(1/430)
85 صلاة الضحى ( مالك عن موسى بن ميسرة ) الديلي بكسر الدال وسكون التحتية مولاهم أبي عروة المدني ثقة كان مالك يثني عليه ويصفه بالفضل مات سنة ثلاث وثلاثين ومائة
( عن أبي مرة ) اسمه يزيد بتحتية وزاي وقيل عبد الرحمن المدني الثقة من رجال الجميع ( مولى عقيل ) بفتح العين ( ابن أبي طالب ) الصحابي الشهير ويقال مولى أخته أم هانىء والصحيح الأول قاله في التمهيد
وقال الحافظ هو مولى أم هانىء حقيقة ونسب إلى ولاء عقيل مجازا بأدنى ملابسة لأنه أخوها أو لأنه كان يكثر ملازمة عقيل
( أن أم هانىء ) بكسر النون فهمزة ( بنت أبي طالب ) الهاشمية اسمها فاختة على الأشهر وقيل فاطمة وقيل هند صحابية لها أحاديث ماتت في خلافة معاوية
( أخبرته أن رسول الله صلى عام الفتح ) بمكة ( ثماني ركعات ) بكسر النون وفتح الياء مفعول صلى ( ملتحفا في ثوب واحد ) وذلك ضحى كما في الحديث بعده
( مالك عن أبي النضر ) بفتح النون وسكون المعجمة سالم بن أبي أمية ( مولى عمر بن عبيد الله ) بضم العين ( أن أبا مرة ) بضم الميم وشد الراء ( مولى عقيل بن أبي طالب ) حقيقة أو مجازا وللأويسي والقعنبي والتنيسي مولى أم هانىء
( أخبره أنه سمع أم هانىء بنت أبي طالب تقول ذهبت إلى رسول الله عام الفتح ) لمكة في رمضان سنة ثمان ( فوجدته يغتسل وفاطمة ابنته تستره بثوب ) جملتان حاليتان وفيه ستر المحارم عند الاغتسال وذلك مباح حسن وفي الصحيح عن عبد الرحمن بن أبي دليل عن أم هانىء أن النبي دخل بيتها يوم فتح مكة واغتسل وصلى ثماني ركعات فلم أر صلاة قط أخف منها غير أنه يتم الركوع والسجود فظاهر هذا أن الاغتسال وقع في بيتها قال الحافظ ويجمع بينهما بأن ذلك تكرر منه ويؤيده ما رواه ابن خزيمة من طريق مجاهد عن أم هانىء أن أبا ذر ستره لما اغتسل وفي هذه الرواية أن فاطمة سترته ويحتمل أنه نزل في بيتها بأعلى مكة وكانت هي في بيت آخر بمكة فجاءت إليه فوجدته يغتسل فيصح القولان وأما الستر فيحتمل أن أحدهما ستره في ابتداء الغسل والآخر في أثنائه
____________________
(1/431)
( قالت فسلمت عليه فقال ) بعد رد السلام ولم تذكره للعلم به قال أبو عمر فيه جواز السلام على من يغتسل ورده عليه ( من هذه ) يدل على أن الستر كان كثيفا وعلم أنها امرأة لأن ذلك الموضع لا يدخل عليه فيه الرجال واحتج به من رد شهادة الأعمى لأنه لم يميز صوت أم هانىء مع علمه بها قال الباجي ولا حجة له فيه لأن من يجيز ذلك لا يقول أن كل من يسمع يميز صوته
( فقلت أم هانىء بنت أبي طالب ) فيه إيضاح الجواب غاية التوضيح كما في ذكر الكنية والنسب هنا ( فقال مرحبا بأم هانىء ) بباء الجر وفي رواية يا أم هانىء بياء الندا والأولى رواية الأكثر كما في المشارق أي لقيت رحبا وسعة وفيه كرم الأخلاق وتأنيس الأهل
( فلما فرغ من غسله ) بضم الغين ( قام فصلى ثماني ركعات ) بكسر النون وفتح الياء مفعول فصلى حال كونه ( ملتحفا )
أي ملتفا ( في ثوب واحد ) زاد كريب عن أم هانىء يسلم من كل ركعتين أخرجه ابن خزيمة وفيه رد على من تمسك به لصلاتها موصولة سواء صلى ثمانية أو أقل وللطبراني عن ابن أبي أوفى أنه صلى ركعتين فسألته امرأته فقال إن النبي صلى يوم الفتح ركعتين ورأت أم هانىء بقية الثمان وهذا يقوي أنه صلاها مفصولة ( ثم انصرف ) من صلاته ( فقلت يا رسول الله زعم ) أي قال أو ادعى ( ابن أمي علي ) وهي شقيقته أمهما فاطمة بنت أسد بن هاشم لكن خصت الأم لأنها آكد في القرابة ولأنها بصدد الشكاية في إخفار ذمتها فذكرت ما بعثها على الشكوى حيث أصيبت من محل يقتضي أن لا تصاب منه لما جرت العادة أن الأخوة من جهة الأم أشد في الحنان والرعاية من غيرها قال ابن عبد البر كانوا يسمون كل شقيق بابن أم دون الأب ليدلوا على قرب المحل من النفس إذ جمعهم بطن واحد قال هارون { يا ابن أم لا تأخذ بلحيتي ولا برأسي } سورة طه الآية 94 و يا ابن أم إن القوم استضعفوني سورة الأعراف الآية 1 وهما شقيقان
( أنه قاتل رجلا أجرته ) بالراء أي أمنته وفيه إطلاق اسم الفاعل على من عزم على التلبس بالفعل وفي تأخيرها سؤال حاجتها حتى قضى صلاته جميل أدب وحسن تناول
( فلان ) بالنصب يدل من رجلا أو من الضمير المنصوب وبالرفع بتقدير هو فلان ( ابن هبيرة ) بضم الهاء وفتح الموحدة ابن أبي وهب بن عمر المخزومي زوج أم هانىء ولدت منه أولادا منهم هانىء الذي كنيت به قال الحافظ وعند أحمد والطبراني من طريق أخرى عن أبي مرة عن أم هانىء أني قد أجرت حموين لي قال أبو العباس ابن شريح وغيره هما جعدة بن هبيرة ورجل آخر من مخزوم كانا فيمن قاتل خالد بن الوليد ولم يقبلا الأمان فأجارتهما أم هانىء فكانا من أحمائها
وقال ابن الجوزي إن كان ابن هبيرة منها فهو جعدة كذا قال وجعدة فيمن له روية ولم يصح له صحبة وذكره من حيث الرواية في التابعين البخاري وابن حبان وغيرهما فكيف يتهيأ لمن هذا سبيله في صغر السن أن يكون عام الفتح مقاتلا حتى يحتاج إلى الأمان ثم لو كان ابن أم هانىء لم يهم علي
____________________
(1/432)
بقتله لأنها كانت قد أسلمت وهرب زوجها وترك ولدها عندها وجوز ابن عبد البر أن يكون ابنا لهبيرة من غيرها مع نقله أن أهل النسب لم يذكروا لهبيرة ولدا من غير أم هانىء وجزم ابن هشام في تهذيب السيرة بأن اللذين أجارتهما أم هانىء هما الحارث بن هشام وزهير بن أبي أمية المخزوميان وروى الأزرقي بسند فيه الواقدي في حديث أم هانىء هذا أنهما الحارث بن هشام وعبد الله بن أبي ربيعة وحكى بعضهم أنهما الحارث وهبيرة بن أبي وهب وليس بشيء لأن هبيرة هرب عند فتح مكة إلى نجران فلم يزل بها مشركا حتى مات كما جزم به ابن إسحاق وغيره فلا يصح ذكره فيمن أجارته أم هانىء
والذي يظهر لي أن في رواية الباب حذفا كأنه كان فيه فلان ابن عم هبيرة فسقط لفظ عم أو كان فيه فلان قريب هبيرة فتغير لفظ قريب بلفظ ابن وكل من الحارث بن هشام وزهير بن أبي أمية وعبد الله بن أبي ربيعة يصح وصفه بأنه ابن عم هبيرة وقريبه لكون الجميع من بني مخزوم
( فقال رسول الله قد أجرنا من أجرت ) أي أمنا من أمنت ( يا أم هانىء ) قال ابن عبد البر فيه جواز أمان المرأة وإن لم تكن تقاتل وبه قال الجمهور منهم الأئمة الأربعة وقال ابن الماجشون إن أجازه الإمام جاز وإلا رد لقوله أجرنا من أجرت
وأجاب الجمهور بأنه إنما قال ذلك تطييبا لنفسها بإسعافها وإن كانت صادفت حكم الله في ذلك وقد خرج قاسم بن أصبغ هذا الحديث بلفظ أتاني يوم الفتح حموان فأجرتهما فأتى علي يريد قتلهما فأتيت رسول الله وهو بالأبطح بأعلى مكة فقلت يا رسول الله إني أمنت حموين لي وإن ابن أمي عليا يريد قتلهما فقال ما كان له ذلك وفي رواية ليس له ذلك قد أجرنا من أجرت ففي قوله ليس له ذلك دليل على صحة هذا القول ويدل عليه الحديث الآخر المسلمون تتكافأ دماؤهم ويسعى بذمتهم أدناهم ويرد عليهم أقضاهم وهم يد على من سواهم إذ معنى يسعى بذمتهم يجوز تأمين المسلم ولو كان ذميا أو امرأة أو عبدا اه
وحكى ابن المنذر الإجماع على جواز تأمين المرأة إلا ابن الماجشون وحكاه غيره عن سحنون أيضا
( قال أم هانىء وذلك ضحى ) أي صلاة ضحى ففيه إثبات استحباب الضحى وقال قوم إنه لا دلالة فيه على ذلك
قال عياض لأنها إنما أخبرت عن وقت صلاته قالوا وإنما هي سنة الفتح وقد صلاها خالد بن الوليد في بعض فتوحه كذلك وقال السهيلي هذه الصلاة تعرف عند العلماء بصلاة الفتح وكان الأمراء يصلونها إذا فتحوا بلدا قال ابن جرير صلاها سعد بن أبي وقاص حين افتتح المداين في إيوان كسرى قال وهي ثمان ركعات لا يفصل بينها ولاتصلى بإمام
قال السهيلي ومن سننها أيضا أن لا يجهر فيها بالقراءة والأصل فيها صلاته يوم الفتح وقيل إنها كانت قضاء عما شغل عنه تلك الليلة من حزبه وتعقب ذلك النووي بأن الصواب صحة الاستدلال به لما رواه أبو داود وغيره من طريق كريب عن أم هانىء أن النبي صلى يوم الفتح سبحة الضحى
____________________
(1/433)
ثمان ركعات يسلم من كل ركعتين ولمسلم في كتاب الطهارة من طريق أبي مرة عنها ثم صلى ثمان ركعات لسبحة الضحى وروى ابن عبد البر في التمهيد من طريق عكرمة بن خالد عن أم هانىء قالت قدم رسول الله في فتح مكة فنزل بأعلى مكة فصلى ثمان ركعات فقلت ما هذه الصلاة قال هذه صلاة الضحى واستدل به على أن أكثر الضحى ثمان ركعات واستبعده السبكي ولكن وجه بأن الأصل في العبادة التوقيف وهذا أكثر ما ورد من فعله وورد أنه صلى الضحى ركعتين كما في الصحيح من حديث عتبان والطبراني وابن عدي عن ابن أبي أوفى
وفي مسلم عن عائشة كان يصلي الضحى أربعا وفي الطبراني عن جابر أنه صلى الضحى ست ركعات وورد من قوله زيادة على ذلك كحديث أنس مرفوعا من صلى الضحى ثنتي عشرة ركعة بنى الله له قصرا في الجنة أخرجه الترمذ واستغربه وضعفه النووي في شرح المهذب قال الحافظ وليس في إسناده من أطلق عليه الضعف وللطبراني عن أبي الدرداء مرفوعا من صلى الضحى ركعتين لم يكتب من الغافلين ومن صلى أربعا كتب من القانتين ومن صلى ستا كفى ذلك اليوم ومن صلى ثمانيا كتب من العابدين ومن صلى ثنتي عشرة ركعة بنى الله له بيتا في الجنة وفي إسناده ضعف أيضا
وله شاهد عن أبي ذر عند البزار وفي إسناده ضعف أيضا لكن إذا ضما إلى حديث أنس قوي وصلح للاحتجاج به ونقل الترمذي عن أحمد أن أصح شيء ورد في الباب حديث أم هانىء وهو كما قال وقد أخرجه البخاري في مواضع عن عبد الله بن مسلمة وعن إسماعيل بن أبي أويس وعن عبد الله بن يوسف ومسلم عن يحيى أربعتهم عن مالك به وله طرق
وفي مسلم عن عبد الله بن الحارث الهاشمي سألت وحرصت على أن أحدا من الناس يخبرني أن النبي سبح سبحة الضحى فلم أجد غير أم هانىء حدثتني فذكر الحديث
وعبد الله بن الحارث هو ابن نوفل بن الحارث بن عبد المطلب ذكر في الصحابة لأنه ولد على عهده وبين في رواية ابن ماجه وقت سؤاله فقال سألت في زمن عثمان والناس متوافرون
( مالك عن ابن شهاب ) الزهري ( عن عروة بن الزبير ) بن العوام ( عن عائشة زوج النبي أنها قالت ما رأيت رسول الله يصلي سبحة الضحى قط ) بضم السين أي نافلته وأصلها التسبيح وخصت النافلة بذلك لأن التسبيح الذي في الفريضة نافلة فقيل لصلاة النافلة سبحة لأنها كالتسبيح في الفريضة قال في التمهيد كان الزهري يفتي بحديث عائشة هذا ويقول إنه لم يصل الضحى قط
____________________
(1/434)
وإنما كان أصحابه يصلونها بالهواجر ولم يكن عبد الرحمن بن عوف وعبد الله بن مسعود وابن عمر يصلونها ولا يعرفونها
( وإني لأستحبها ) بفتح الهمزة والفوقية وكسر الحاء المهملة وبالموحدة المشددة من الاستحباب
قال الباجي كذا رواية يحيى
ورواه غيره لأسبحها أي بضم الهمزة وكسر الموحدة الثقيلة أي أتنفل بها قال الحافظ ولكل وجه لكن الثانية تقتضي الفعل بخلاف الأولى فلا تستلزمه وجاء عن عائشة في ذلك أشياء مختلفة رواها مسلم فله من طريق عبد الله بن شقيق قلت لعائشة أكان النبي يصلي الضحى قالت لا إلا أن يجيء من مغيبه وعنده من طريق معاذة عنها كان يصلي الضحى أربعا ويزيد ما شاء الله ففي الأول نفي رؤيتها لذلك مطلقا وفي الثاني تقييد النفي بغير المجيء من مغيبه وفي الثالث الإثبات مطلقا واختلف العلماء في ذلك فذهب ابن عبد البر وجماعة إلى ترجيح ما اتفق عليه الشيخان عنها يعني حديث مالك هذا دون ما انفرد به مسلم وقالوا إن عدم رؤيتها لذلك لا يستلزم عدم الوقوع فيقدم من روى عنه من الصحابة الإثبات انتهى وبه يعلم أن قول ابن عبد البر حديث معاذة عن عائشة منكر غير صحيح مردود بحديث الباب معناه كصحة ما اتفق عليه الشيخان وليس مراده تضعيفه الحقيقي فسقط تعجب السيوطي منه وإنه لا سبيل إلى عدم صحة ما في مسلم وذهب آخرون إلى الجمع قال البيهقي عندي أن المراد بقولها ما رأيته يسبحها أي يداوم عليها وقولها وإني لأسبحها أي أداوم عليها وكذا قولها وما أحدث الناس شيئا يعني المداومة عليها قال وفي بقية الحديث إشارة إلى ذلك قال ( وإن ) بكسر فسكون مخففة من الثقيلة أي وإنه ( كان رسول الله ليدع ) بفتح اللام أي يترك ( العمل وهو يحب أن يعمله خشية ) بالنصب أي لأجل خشية ( أن يعمل به الناس فيفرض عليهم ) بالنصب عطف على يعمل وليس مرادها تركه أصلا وقد فرض عليه أو ندبه بل ترك أمرهم أن يعملوه معه لما مر أنهم لما اجتمعوا في رمضان للتهجد معه لم يخرج إليهم في الليلة الرابعة ولا ريب أنه خربه تلك الليلة وجمع ابن حبان بين قولها ما كان يصلي إلا أن يجيء من مغيبه وقولها كا يصلي أربعا ويزيد ما شاء الله بأن الأولى محمولة على صلاته إياها في المسجد والثاني على البيت ويعكر عليه حديث الباب ويجاب عنه بأن المنفي صفة مخصوصة
وقال عياض وغيره قولها ما صلاها معناه ما رأيته يصليها والجمع بينه وبين قولها كان يصليها أنها أخبرت في الإنكار عن مشاهدتها وفي الإثبات عن غيرها
____________________
(1/435)
وجمع أيضا باحتمال أنها نفت صلاة الضحى المعهودة حينئذ من هيئة مخصوصة بعدد مخصوص في وقت مخصوص وأنه إنما كان يصليها إذا قدم من سفر لا بعدد مخصوص كما قالت كان يصلي أربعا ويزيد ما شاء الله هذا وحديث عائشة يدل على ضعف ما روي عن النبي أن صلاة الضحى كانت واجبة عليه وعدها جماعة من خصائصه لذلك ولم يثبت ذلك في خبر صحيح
وقول الماوردي أنه واظب عليها بعد يوم الفتح إلى أن مات يعكر عليه ما في مسلم في حديث أم هانىء أنه لم يصلها قبل ولا بعد ولا يقال إن نفي أم هانىء يلزم منه العدم
لأنا نقول يحتاج من أثبته إلى دليل ولو وجد لم يكن حجة لأن عائشة ذكرت أنه كان إذا عمل عملا أثبته فلا تستلزم المواظبة على هذا الوجوب انتهى
وحديث الباب رواه البخاري عن عبد الله بن يوسف ومسلم عن يحيى كلاهما عن مالك وتابعه ابن أبي ذئب عن ابن شهب في البخاري وغيره
( مالك عن زيد بن أسلم عن عائشة أنها كانت تصلي الضحى ثماني ) بياء مفتوحة ( ركعات ثم تقول لو نشر ) بضم النون أحي ( لي أبواي ) أبو بكر وأم رومان ( ماتركتهن ) أي الثمان ركعات قال الباجي يحتمل أنها كانت تفعل ذلك بخبر منقول عن النبي كخبر أم هانىء ولذا اقتصرت على هذا العدد ويحتمل أن هذا القدر هو الذي كان يمكنها المداومة عليه قال وليست صلاة الضحى من الصلوات المحصورة بالعدد فلا يزاد عليها ولا ينقص منها ولكنها من الرغايب التي يفعل الإنسان منها ما أمكنه انتهى
والمذهب عندنا أن أكثرها ثمان لأن ذلك أكثر ما ورد من فعله وما ذكره الباجي من أنه لا حد لأكثرها اختيار له وإليه ذهب قوم منهم ابن جرير ومن الشافعية الحليمي والروياني وصوبه السيوطي قائلا فلم يرد في شيء من الأحاديث ما يدل على حصرها في عدد مخصوص
وروى سعيد بن منصور عن إبراهيم النخعي قال سأل رجل الأسود بن يزيد كم أصلي الضحى قال كم شئت
وأخرج عن الحسن أنه سئل هل كان أصحاب رسول الله يصلون الضحى قال نعم كان منهم من يصلي ركعتين ومنهم من يصلي أربعا ومنهم من يمد إلى نصف النهار
وأخرج أحمد في الزهد عن الحسن أن أبا سعيد الخدري قال من أشد الصحابة توخيا للعبادة وكان يصلي عامة الضحى
وأخرج أبو نعيم في الحلية عن عبد الله بن غالب أنه كان يصلي الضحى مائة ركعة
وقد قال
____________________
(1/436)
الحافظ زين الدين العراقي في شرح الترمذي لم أر عن أحد من الصحابة والتابعين أنه حصرها في اثنتي عشرة ركعة ولا عن أحد من أئمة المذاهب كالشافعي وأحمد وإنما ذلك الروياني فقط فتبعه الرافعي ثم النووي انتهى
وفي فتح الباري قال في الروضة أفضلها ثمان وأكثرها عشرة ركعة ففرق بين الأكثر والأفضل ولا يتصور ذلك إلا فيمن صلى الاثنتي عشرة ركعة بتسليمة واحدة فأما من فصل فيكون ما زاد على ثمان نفلا مطلقا فيكون الاثني عشر أفضل في حقه من ثمان لأنه أتى بالأفضل وزاد ثم قال وذهب آخرون إلى أن أفضلها أربع ركعات لكثرة الأحاديث الواردة في ذلك كحديث أبي الدرداء وأبي ذر عند الترمذي مرفوعا عن الله تعالى ابن آدم اركع لي أربع ركعات من أول النهار أكفك آخره
وورد بنحوه عن ست من الصحابة
ومر حديث عائشة عند مسلم وللطبراني في الأوسط عن أبي موسى رفعه من صلى الضحى أربعا بنى الله له بيتا في الجنة
وللحاكم عند أبي أمامة مرفوعا أتدرون قوله وإبراهيم الذي وفى قال وفى عمل يومه بأربع ركعات الضحى وروى الحاكم عن عقبة بن عامر قال أمرنا رسول الله أن نصلي الضحى بسور منها والشمس وضحاها والضحى ومناسبة ذلك ظاهرة جدا انتهى
86 جامع سبحة الضحى ( مالك عن إسحاق بن عبد الله بن أبي طلحة ) زيد بن سهل الأنصاري ( عن أنس بن مالك ) الصحابي الشهير ( أن جدته مليكة ) بضم الميم وفتح اللام على الصواب وقول الجمهور عن الأصيلي بفتح الميم وكسر اللام وهذا غريب مردود قاله النووي قال الحافظ ضمير جدته يعود على إسحاق جزم به ابن عبد البر وعبد الحق وعياض وصححه النووي وجزم ابن سعد وابن منده وابن الحصار بأنها جدة أنس وهو مقتضى كلام إمام الحرمين في النهاية ومن تبعه وكلام عبد الغني في العمدة وهو ظاهر السياق ويؤيده ما رويناه في فوائد العراقيين لأبي الشيخ من طريق القاسم بن يحيى المقدمي عن عبيد الله بن عمر عن إسحاق بن أبي طلحة عن أنس قال أرسلتني جدتي إلى النبي صلى الله عليه وسلم واسمها مليكة فجاءنا فحضرت الصلاة الحديث
وقال ابن سعد في الطبقات أم سليم بنت ملحان فساق نسبهما إلى عدي بن النجار قال وهي الغميصا ويقال الرميصا ويقال اسمها سهلة ويقال أنيفة أي بنون وفاء مصغرة ويقال رميثة وأمها مليكة بنت مالك بن عدي فساق نسبها إلى مالك بن النجار ثم قال تزوج أم سليم مالك بن النضر فولدت له أنسا والبراء ثم خلف عليها أبو طلحة فولدت له عبد الله وأبا عمير انتهى
____________________
(1/437)
وعبد الله هو والد إسحاق راوي هذا الحديث عن عمه أخي أبيه لأمه أنس بن مالك ومقتضى كلام من أعاد ضمير جدته إلى إسحاق أن يكون اسم أم سليم مليكة ومستندهم ما رواه ابن عيينة عن إسحاق بن أبي طلحة عن أنس قال صففت أنا ويتيم في بيتنا خلف النبي صلى الله عليه وسلم وأمي أم سليم خلفنا هكذا أخرجه البخاري والقصة واحدة طولها مالك واختصرها سفيان ويحتمل تعددها فلا يخالف ما تقدم وكون مليكة جدة أنس لا ينفي كونها جدة إسحاق لما بيناه لكن رواية الدارقطني في غرائب مالك بلفظ صنعت مليكة لرسول الله صلى الله عليه وسلم طعاما فأكل منه وأنا معه ظاهرة في أن مليكة اسم أم سليم نفسها
وقال في الإصابة قوى ابن الأثير قول من أعاد ضمير جدته إلى إسحاق بأن أنسا لم يكن في جداته من قبل أبيه ولا أمه من تسمى مليكة قلت وهذا نفي مردود فقد ذكر العدوي في نسب الأنصار أن اسم والدة أم سليم مليكة فظهر بذلك أن ضمير جدته لأنس وهي أم أمه وبطل قول من جعل الضمير لإسحاق وبنى عليه أن اسم أم سليم مليكة انتهى
( دعت رسول الله صلى الله عليه وسلم لطعام ) أي لأجله زاد التنيسي صنعته ( فأكل منه ) قال ابن عبد البر زاد فيه إبراهيم بن طهمان وعبد الله بن عون وموسى بن أعين عن مالك وأكلت معه ثم دعا بوضوء فتوضأ ثم قال قم فتوضأ ومر العجوز فلتتوضأ ومر هذا اليتيم فليتوضأ انتهى
يعني فلا دليل على ترك الوضوء مما مست النار ( ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم قوموا فلأصلي ) بكسر اللام وضم الهمزة وفتح الياء وسكونها قال ابن مالك وجهه أن اللام عند فتح الياء لام كي والفعل بعدها منصوب بأن مضمرة واللام ومصحوبها خبر مبتدأ محذوف والتقدير فقيامكم لأصلي ويجوز على مذهب الأخفش أن الفاء زائدة واللام متعلقة بقوموا وعلى رواية سكون الياء يحتمل أنها لام كي أيضا وسكنت الياء تخفيفا أو لام الأمر وثبتت الياء في الجزم إجراء للمعتل مجرى الصحيح كقراءة قنبل { من يتق ويصبر } وروي بحذف الياء فاللام لام الأمر وأمر المتكلم نفسه بفعل مقرون باللام فصيح قليل في الاستعمال ومنه قوله تعالى { ولنحمل خطاياكم } سورة العنكبوت الآية 12 وحكى ابن قرقول عن بعض الروايات فلنصل بالنون وكسر اللام والجزم واللام على هذا لام الأمر وكسرها لغة معروفة وقيل إن في رواية فأصل بحذف اللام وأخرى فلأصلي بفتح اللام مع سكون الياء على أنها لام ابتداء للتأكيد أو لام أمر فتحت على لغة بني سليم وثبتت الياء في الجزم إجراء للمعتل مجرى الصحيح أو جواب قسم محذوف والفاء جواب شرط أي إن قمتم فوالله لأصلي لكم قال ابن السيد وهو غلط لأنه لا وجه للقسم إذ لو أريد القسم لقال لأصلين بالنون وأنكر الحافظ ورود الرواية بهذا وبما قبله
( لكم ) أي لأجلكم قال السهيلي الأمر هنا بمعنى الخبر وهو كقوله تعالى { فليمدد له الرحمن مدا } سورة مريم الآية 75 ويحتمل أنه أمر لهم بالائتمام لكنه
____________________
(1/438)
أضافه إلى نفسه لارتباط فعله بفعلهم انتهى
وبدأ صلى الله عليه وسلم في هذه القصة بالطعام قبل الصلاة وفي قصة عتبان بالصلاة قبل الطعام لأنه بدأ في كل منهما بأصل ما دعي لأجله ( قال أنس فقمت إلى حصير لنا قد اسود من طول ما لبس ) بضم اللام وكسر الموحدة أي استعمل ولبس كل شيء بحسبه ففيه أن الافتراش يسمى لبسا واستدل به على منع افتراش الحرير لعموم النهي عن لبسه ولا يرد أن من حلف لا يلبس حريرا لا يحنث بافتراشه لأن الأيمان مبناها العرف
وقال ابن عبد البر فيه إن من حلف لا يلبس ثوبا ولا نية له ولا بساط فإنه يحنث بافتراشه لأنه يسمى لبسا
( فنضحته بماء ) ليلين لا لنجاسة قاله إسماعيل القاضي وقال غيره النضح طهور لما شك فيه لتطيب النفس كما قال اغسل ما رأيت وانضح ما لم تر قال أبو عمر ثوب المسلم محمول على الطهارة حتى تتيقن النجاسة فالنضح الذي هو الرش لقطع الوسوسة فيما شك فيه
وقال الباجي الظاهر أنه إنما نضحه لما خاف أن يناله من النجاسة لأنهم كانوا يلبسونه ومعهم صبي فطيم
وقال الحافظ يحتمل أن النضح لتليين الحصير أو لتطهيره ولا يصح الجزم بالأخير بل المتبادر غيره لأن الأصل الطهارة
( فقام عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم ) ففيه جواز الصلاة على الحصير وما رواه ابن أبي شيبة وغيره عن شريح بن هانىء أنه سأل عائشة أكان النبي صلى الله عليه وسلم يصلي على الحصير والله تعالى يقول { وجعلنا جهنم للكافرين حصيرا } سورة مريم الآية 75 فقالت لم يكن ليصلي على الحصير ففيه يزيد بن المقدام ضعيف وهذا الخبر شاذ مردود لمعارضته لما هو أقوى منه كحديث الباب ولما في البخاري عن عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم كان له حصير يبسطه ويصلي عليه وفي مسلم عن أبي سعيد أنه رأى النبي صلى الله عليه وسلم يصلي على حصير
( وصففت أنا واليتيم ) بالرفع عطفا على الضمير المرفوع وبالنصب مفعول معه أي مع اليتيم ( وراءه ) أي خلفه وهو ضميرة بن أبي ضميرة مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم كذا سماه عبد الملك بن حبيب وجزم البخاري بأن اسم أبي ضميرة سعد الحميري ويقال سعيد ونسبه ابن حبان ليثيا وقيل اسمه روح ووهم من قال اسم اليتيم روح كأنه انتقل ذهنه من الخلاف في اسم أبيه إليه وكذا وهم من قال اسمه سليم كما بينه في الفتح
( والعجوز من ورائنا ) هي مليكة المذكورة أولا جزم به الحافظ وقال النووي هي أم أنس أم سليم انتهى والمتبادر الأول
( لطيفة ) روى السلفي في الطيوريات بسنده أن أبا طلحة زوج أم أنس قام إليها مرة يضربها فقام أنس ليخلصها وقال له خل عن العجوز فقالت له أتقول العجوز عجز الله ركبك
____________________
(1/439)
( فصلى لنا ركعتين ثم انصرف ) أي إلى بيته أو من الصلاة واعترض إدخال هذا الحديث في سبحة الضحى وليس فيه ما يدل على ذلك وقد قال أنس إنه لم ير النبي صلى الله عليه وسلم يصلي الضحى إلا مرة واحدة في دار الأنصاري الضخم الذي دعاه ليصلي في بيته ليتخذ مكانه مصلى رواه البخاري
وأجاب الباجي بأن مالكا لعله بلغه أن حديث مليكة كان ضحى واعتقد أنس أن المقصود منها التسليم لا الوقت فلم يعتقدها صلاة ضحى
وأجاب ابن العربي في القبس بأن مالكا نظر إلى كون الوقت الذي وقعت فيه تلك الصلاة هو وقت صلاة الضحى فحمله عليه وأن أنسا لم يطلع على أنه صلى الله عليه وسلم نوى بتلك الصلاة صلاة الضحى انتهى
والجوابان متقاربان لكن ملحظهما مختلف
وفي هذا الحديث إجابة الدعوة وإن لم يكن عرسا ولو كان الداعي امرأة لكن حيث تؤمن الفتنة والأكل من طعام الدعوة وصلاة النافلة جماعة في البيوت وكأنه صلى الله عليه وسلم أراد تعليمهم أفعال الصلاة بالمشاهدة لأجل المرأة لأنه قد يخفى عليها بعض التفاصيل لبعد موقفها وفيه تنظيف مكان المصلي وقيام الرجل مع الصبي صفا وتأخير النساء عن صفوف الرجال وقيام المرأة صفا وحدها إذا لم يكن معها امرأة غيرها وجواز صلاة المنفرد خلف الصف ولا حجة فيه لأن سنة المرأة أن تقوم خلف الرجال وليس لها القيام معهم في الصف وفي الاقتصار في نافلة النهار على ركعتين خلافا لمن اشترط أربعا وصحة صلاة الصبي المميز وأن محل الفضل الوارد في صلاة النافلة منفردا حيث لا يكون هناك مصلحة بل يمكن أن يقال هو إذ ذاك أفضل ولا سيما في حقه صلى الله عليه وسلم ورواه البخاري عن عبد الله بن يوسف ومسلم عن يحيى كلاهما عن مالك به
( مالك عن ابن شهاب عن عبيد الله ) بضم العين ( ابن عبد الله ) بفتحها ( ابن عتبة ) بضمها عن أبيه عبد الله بن عتبة بن مسعود الهذلي ابن أخي عبد الله بن مسعود ولد في عهد النبي صلى الله عليه وسلم ووثقه جماعة وهو من كبار التابعين مات بعد السبعين
( أنه قال دخلت على عمر بن الخطاب ) في موضع لا يستأذن فيه أو أنه استأذن ولم يذكره لعلم السامع ( بالهاجرة ) وقت الحر ( فوجدته يسبح فقمت وراءه فقربني حتى جعلني حذاءه ) بكسر الحاء وفتح الذال والمد أي بمقابلته صادرا ( عن يمينه ) لأنه مقام الواحد ( فلما جاء يرفأ ) بفتح التحتية وسكون الراء وفتح الفاء وهمز وإبداله حاجب عمر أدرك الجاهلية وحج مع عمر في خلافة أبي بكر وله ذكر في الصحيحين في قصة منازعة العباس وعلي في صدقة رسول الله صلى الله عليه وسلم
( تأخرت فصففنا ) أي فوقفنا ( وراءه ) أي خلف عمر
____________________
(1/440)
قال الباجي رأى مالك حكم الهاجرة حكم صلاة الضحى والهاجرة وقت الحر وقد رأى زيد بن أرقم قوما يصلون من الضحى فقال أما لقد علموا أن الصلاة في غير هذا الوقت أفضل إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال صلاة الأوابين حين ترمض الفصال وفيه جواز الإمامة في النافلة
قال مالك وابن حبيب لا بأس أن تفعل في الخاصة والنفر القليل نحو الرجلين والثلاثة من غير أن يكون كثيرا مشهورا بالليل والنهار في غير نافلة رمضان
قال ابن عبد البر فيه أن عمر كان يصلي الضحى وكان ابنه ينكرها ويقول للضحى صلاة وكذا كان لا يقنت ولا يعرف القنوت وروى القنوت عن أبيه عمر من وجوه وكان ابن عمر يصلي بعد العصر ما لم تصفر الشمس وتدنو للغروب وكان عمر يضرب الناس عليها بالدرة ومثل هذا كثير من اختلافهما
87 التشديد في أن يمر أحد بين يدي المصلي رح 36( مالك عن زيد بن أسلم ) العدوي ( عن عبد الرحمن بن أبي سعيد الخدري ) سعد بن مالك الأنصاري الخزرجي ثقة روى له مسلم والأربعة مات سنة اثنتي عشرة ومائة وله سبع وسبعون سنة
( عن أبيه ) الصحابي ابن الصحابي وعنه ابن وهب عن مالك عن زيد عن عطاء بن يسار عن أبي سعيد ( أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال إذا كان أحدكم يصلي ) زاد الشيخان من رواية أبي صالح عن أبي سعيد إلى شيء يستره ( فلا يدع ) يترك ( أحدا يمر بين يديه ) ولابن أبي شيبة عن ابن مسعود أن المرور بين يدي المصلي يقطع نصف صلاته
( وليدرأه ) وللبخاري يدفعه ولمسلم ليدفع في نحره ( ما استطاع ) قال القرطبي أي بالإشارة ولطيف المنع
( فإن أبى فليقاتله ) بكسر اللام الجازمة وسكونها قال القرطبي أي يزيد في دفعه الثاني أشد من الأول وأجمعوا على أنه لا يلزمه أن يقاتله بالسلاح لمخالفة ذلك لقاعدة الإقبال على الصلاة والاشتغال بها والخشوع فيها وقال أبو عمر أحسبه خرج على التغليظ فإن دافعه مدافعة لا يقصد بها قتله فمات فالدية في ماله وقيل على عاقلته وقيل هدر ولا قود لأن أصله مباح اه
وأطلق جماعة من الشافعية أن له قتاله حقيقة واستبعده في القبس وقال المراد بالمقاتلة المدافعة وقال الباجي يحتمل أن يريد فليلعنه كما قال { قتل الخراصون } سورة الذريات الآية 10 وقال تعالى { قاتلهم الله أنى يؤفكون } سورة التوبة الآية 30 قيل معناه لعنهم ويحتمل أن يريد يؤاخذه على ذلك بعد تمام صلاته ويؤنبه وقيل معناه فليدفعه دفعا أشد من الدرء وسمى ذلك مقاتلة مبالغة
____________________
(1/441)
للإجماع على أنه لا يجوز أن يقاتله مقاتلة تفسد صلاته وتعقب بأن اللعن يستلزم التكلم في الصلاة وهو مبطل بخلاف الفعل اليسير ويمكن أنه أراد أنه يلعنه داعيا لا مخاطبا لكن فعل الصحابي يخالفه وهو أدرى بالمراد ففي الصحيح عن أبي صالح رأيت أبا سعيد الخدري في يوم الجمعة يصلي إلى شيء يستره فأراد شاب أن يجتاز بين يديه فدفع أبو سعيد في صدره فنظر الشاب فلم يجد مساغا إلا بين يديه فعاد ليجتاز فدفعه أبو سعيد أشد من الأولى وقد رواه الإسماعيلي بلفظ فإن أبي فليجعل يده في صدره وليدفعه وهو صريح في الدفع باليد
ونقل ابن بطال وغيره الاتفاق على أنه لا يجوز له المشي من مكانه ليدفعه ولا العمل الكثير في مدافعته لأنه أشد في الصلاة من المرور وذهب الجمهور إلى أنه إذا مر ولم يدفعه فلا يرده لأن فيه إعادة للمرور
قال النووي لا أعلم أحدا من الفقهاء قال بوجوب هذا الدفع بل صرح أصحابنا بأنه مندوب وصرح أهل الظاهر بوجوبه وكأن النووي لم يراجع كلامهم أو لم يعتد بخلافهم
( فإنما هو شيطان ) أي فعله فعل الشيطان لأنه أبى إلا التشويش على المصلي أو المراد شيطان من الإنس وإطلاق الشيطان على المار من الإنس شائع كقوله تعالى { شياطين الإنس والجن } سورة الأنعام الآية 112 وقال ابن بطال فيه إطلاق لفظ شيطان على من يفتن في الدين وأن الحكم للمعاني دون الأسماء لاستحالة أن يصير المار شيطانا بمجرد مروره قال الحافظ وهو مبني على أن لفظ شيطان يطلق حقيقة على الجني ومجازا على الإنسي وفيه بحث ويحتمل أن المعنى فإنما الحامل له على ذلك شيطان وفي رواية الإسماعيلي فإن معه الشيطان ولمسلم من حديث ابن عمر فإن معه القرين واستنبط ابن أبي جمرة من قوله فإنما هو شيطان أن المراد بقوله فليقاتله المدافعة لا حقيقة القتال لأن مقاتلة الشيطان إنما هي بالاستعاذة والتسمية ونحوهما وإنما جاز الفعل اليسير في الصلاة للضرورة فلو قاتله حقيقة المقاتلة لكان أشد على صلاته من المار قال وهل المقاتلة لخلل يقع في صلاة المصلي من المرور أو لدفع الإثم عن المار الظاهر الثاني وقال غيره بل الأول أظهر لأن إقبال المصلي على صلاته أولى له من اشتغاله بدفع الإثم من غيره
وقد روى ابن أبي شيبة عن ابن مسعود أن المرور بين يدي المصلي يقطع نصف صلاته
وروى أبو نعيم عن عمر لو يعلم المصلي ما ينقص من صلاته بالمرور بين يديه ما صلى إلا إلى شيء يستره من الناس
فمقتضى هذين الأمرين أن الدفع لخلل يتعلق بصلاة المصلي لا بالمار وهما وإن كانا موقوفين لفظا فلهما حكم الرفع لأن مثلهما لا يقال بالرأي اه
وهذا الحديث رواه مسلم عن يحيى عن مالك به وأخرجه البخاري من وجه آخر عن أبي سعيد وفيه قصة
( مالك عن أبي النضر ) بضاد معجمة سالم بن أبي أمية ( مولى عمر بن عبيد الله ) بضم العينين
____________________
(1/442)
( عن بسر ) بضم الموحدة وسكون المهملة ( ابن سعيد ) بكسر العين ( أن زيد بن خالد الجهني ) بضم الجيم وفتح الهاء الأنصاري الصحابي ( أرسله ) أي بسر ( إلى أبي جهيم ) بالتصغير ابن الحارث بن الصمة بكسر المهملة وشد الميم ابن عمرو الأنصاري قيل اسمه عبد الله وقد ينسب إلى جده وقيل هو عبد الله بن جهيم بن الحارث بن الصمة وقيل هو آخر غيره صحابي معروف وهو ابن أخت أبي بن كعب بقي إلى خلافة معاوية
( يسأله ماذا سمع من رسول الله صلى الله عليه وسلم في المار بين يدي المصلي ) أي أمامه بالقرب منه قال الحافظ هكذا روى مالك هذا الحديث في الموطأ لم يختلف عليه فيه أن المرسل هو زيد وأن المرسل إليه هو أبو جهيم وتابعه سفيان الثوري عن أبي النضرة عند مسلم وابن ماجه وغيرهما وخالفهما ابن عيينة عن أبي النضر فقال عن بسر أرسلني أبو جهيم إلى زيد بن خالد أسأله فذكر الحديث قال ابن عبد البر هكذا رواه ابن عيينة مقلوبا أخرجه ابن أبي خيثمة عن أبيه عن ابن عيينة ثم قال ابن أبي خيثمة سئل عنه يحيى بن معين فقال هو خطأ إنما هو أرسلني زيد إلى أبي جهيم كما قال مالك وتعقب ذلك ابن القطان فقال ليس خطأ ابن عيينة فيه بمتعين لاحتمال أن يكون أبو جهيم بعث بسر إلى زيد وبعثه زيد إلى أبي جهيم يستثبت كل واحد منهما ما عند الآخر قتل تعليل الأئمة للأحاديث مبني على غلبة الظن فإذا قالوا أخطأ فلان في كذا لم يتعين خطاؤه في نفس الأمر بل وهو راجح الاحتمال فيعتمد ولولا ذلك لما اشترطوا انتفاء الشاذ وهو ما يخالف الثقة فيه من هو أرجح منه في حد الصحيح
( فقال أبو جهيم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لو يعلم المار بين يدي المصلي ) أي أمامه بالقرب منه وعبر باليدين لكون أكثر الشغل بهما وفي تحديد ذلك بما إذا مر بينه وبين مقدار سجوده أو ثلاثة أذرع أو قدر رمية بحجر أقوال ولأبي العباس السراج من طريق الضحاك بن عثمان عن أبي النضر لو يعلم المار بين يدي المصلي والمصلى فحمله بعضهم على ما إذا قصر المصلي في دفع المار أو صلى في الشارع ويحتمل أن قوله والمصلى بفتح اللام أي بين يدي المصلي من داخل سترته وهذا أظهر ( ماذا عليه ) زاد الكشميهني من رواية البخاري من الإثم قال الحافظ وليست هذه الزيادة في شيء من الروايات غيره والحديث في الموطأ بدونها
وقال ابن عبد البر لم يختلف على مالك في شيء منه وكذا رواه باقي الستة وأصحاب المسانيد والمستخرجات بدونها ولم أرها في شيء من الروايات مطلقا لكن في مصنف ابن أبي شيبة يعني من الإثم فيحتمل أن تكون ذكرت حاشية فظنها الكشميهني أصلا لأنه لم يكن من أهل العلم ولا من
____________________
(1/443)
الحفاظ وقد عزاها المحب الطبري في الأحكام للبخاري وأطلق فعيب ذلك عليه وعلى صاحب العمدة في إيهامه أنها في الصحيحين انتهى
وجملة ماذا عليه في محل نصب سادة مسد مفعولي يعلم وجواب لو قوله ( لكان أن يقف ) أي وقوفه ( أربعين خيرا ) بالنصب خبر كان وفي رواية بالرفع على أنه اسمها وسوغ الابتداء بالنكرة كونها موصوفة قال ابن العربي ويحتمل أن اسمها ضمير الشأن والجملة خبرها ( له من أن يمر بين يديه ) حتى لا يلحقه ذلك الإثم
وقال الكرماني جواب لو ليس هو المذكور بل التقدير لو يعلم ما عليه لوقف أربعين ولو وقف أربعين لكان خيرا له وأبهم المعدود تفخيما للأمر وتعظيما قال الحافظ ظاهر السياق أنه عين المعدود لكن شك الراوي فيه ثم أبدى الكرماني لتخصيص الأربعين بالذكر حكمتين إحداهما كون الأربعة أصل جميع الأعداد فلما أريد التكثير ضربت في عشرة
ثانيهما كون كمال أطوار الإنسان بأربعين كالنطفة والعلقة والمضغة وكذا بلوغ الأشد ويحتمل غير ذلك انتهى
وفي ابن ماجه وابن حبان من حديث أبي هريرة لكان أن يقف مائة عام خيرا له من الخطوة التي خطاها وهذا مشعر بأن إطلاق الأربعين للمبالغة في تعظيم الأمر لا لخصوص عدد معين وجنح الطحاوي إلى أن التقييد بالمائة وقع بعد التقييد بالأربعين زيادة في تعظيم الأمر على المار لأنهما لم يقعا معا إذ المائة أكثر من الأربعين والمقام مقام زجر وتخويف فلا يناسب أن يتقدم ذكر المائة على الأربعين بل المناسب أن يتأخر ومميز الأربعين إن كان هو السنة ثبت المدعى عليه أو ما دونها فمن باب أولى
( قال أبو النضر لا أدري أقال ) بهمزة الاستفهام بسر بن سعيد ( أربعين يوما أو شهرا أو سنة ) وللبزار من طريق أحمد بن عبدة الضبي عن ابن عيينة عن أبي النضر لكان أن يقف أربعين خريفا
وجعل ابن القطان الجزم في طريق ابن عيينة والشك في طريق غيره دالا على التعدد
قال الحافظ لكن رواه أحمد وابن أبي شيبة وسعيد بن منصور وغيرهم من الحفاظ عن ابن عيينة عن أبي النضر بالشك أيضا ويبعد أن الجزم والشك وقعا من راو واحد في حالة واحدة إلا أن يقال لعله تذكر في الحال فجزم وفيه ما فيه وفي الحديث دليل على تحرير المرور فإن معناه النهي الأكيد والوعيد الشديد على ذلك ومقتضاه أن يعد في الكبائر وفيه أخذ القرين عن قرينه ما فات أو استثباته فيما سمع معه والاعتماد على خبر الواحد لأن زيدا اقتصر على النزول مع القدرة على العلو اكتفاء برسوله المذكور واحتمال أنه أرسله ليعلم هل عنده علم فيلقاه فيأخذه عنه رده الباجي بأنه أرسله يسأله ماذا اسمع ولم يرسله يسأله
____________________
(1/444)
هل سمع وفيه استعمال لو في الوعيد ولا يدخل ذلك في النهي لأن محله أن يشعر بما يعاند المقدور واستنبط ابن بطال من قوله لو يعلم أن الإثم يختص بمن يعلم بالنهي وارتكبه قال الحافظ وأخذه من ذلك فيه بعد لكن هو معروف من أدلة أخرى وظاهر الحديث أن الوعيد يختص بمن مر لا بمن وقف عامدا مثلا بين يدي المصلي أو قعد أو رقد لكن إن كانت العلة فيه التشويش على المصلي فهو في معنى المار وظاهره عموم النهي في كل مصل وخصه بعض المالكية يعني ابن عبد البر بالإمام والمنفرد لأن المأموم لا يضره من مر بين يديه لأن سترة إمامه سترة له أو إمامه سترة له والتعليل المذكور لا يطابق المدعي لأن السترة تفيد رفع الحرج عن المصلي لا عن المار والحديث رواه البخاري عن عبد الله بن يوسف ومسلم عن يحيى كلاهما عن مالك به
( مالك عن زيد بن أسلم عن عطاء بن يسار ) بتحتية وخفة مهملة ( أن كعب الأحبار قال لو يعلم المار بين يدي المصلي ماذا عليه لكان أن يخسف به خيرا له من أن يمر بين يديه ) لأن عذاب الدنيا بالخسف أسهل من عذاب الإثم وهذا يحتمل أن يكون من الكتب السابقة لأن كعبا حبرها وظاهر هذا كالحديث قبله يدل على منع المرور مطلقا ولو لم يجد مسلكا بل يقف حتى يفرغ المصلي من صلاته ويؤيده قصة أبي سعيد فإن فيها فنظر لشاب فلم يجد مساغا وقسم المالكية أحوال المار والمصلي في الإثم وعدمه أربعة أقسام يأثم المار دون المصلي وعكسه يأثمان جميعا وعكسه
فالأولى إذا صلى إلى سترة وللمار مندوحة فيأثم دون المصلي
الثانية إذا صلى في مشرع مسلوك بلا سترة أو متباعدا عنها ولا يجد المار مندوحة فيأثم المصلي لا المار الثالثة مثل الثانية لكن يجد المار مندوحة فيأثمان جميعا
الرابعة مثل الأولى لكن لا يجد المار مندوحة فلا يأثمان
( مالك أنه بلغه أن عبد الله بن عمر كان يكره أن يمر بين أيدي النساء وهن يصلين ) قال الباجي خص النساء لأنهن في آخر الصفوف وكره المرور بين أيديهن وإن كن في طريقه لدخوله المسجد وخروجه منه
وقال أبو عمر فيه كراهة المرور بين يدي المصلي وإن لم يكن بحيث تناله يده لأن صفوف النساء كان بينها وبين صفوف الرجال شيء من البعد
____________________
(1/445)
( مالك عن نافع أن عبد الله بن عمر كان لا يمر بين يدي أحد ) يصلي ( ولا يدع أحدا يمر بين يديه ) وهو يصلي
قال الباجي يتعلق المنع من المرور بالمار لحديث أبي جهيم وبالمرور بين يديه لحديث أبي سعيد في أمره بمنعه ومن المرور بين يديه مناولة الشيء بين يديه لأنه مما يقطع الإقبال على صلاته وإنما منع المرور لهذا المعنى
وروى ابن القاسم عن مالك أنه كره أن يكلم من عن يمين المصلي من على يساره
88 الرخصة في المرور بين يدي المصلي رح 366 قال الباجي الرخصة في الشرع الإباحة للضرورة وقد تستعمل في إباحة نوع من جنس ممنوع فالرخصة هنا تناولت بعض أحوال المصلين وهو أن يكون مأموما
( مالك عن ابن شهاب ) الزهري ( عن عبيد الله ) بضم العين ( ابن عبد الله ) بفتحها ( ابن عتبة ) بضم وفوقية ساكنة ( ابن مسعود ) أحد الفقهاء السبعة قال ابن عبد البر لم يكن بعد الصحابة إلى يومنا هذا فيما علمت فقيه أشعر منه ( عن عبد الله بن عباس أنه قال أقبلت راكبا على أتان ) بفتح الهمزة الأنثى من الحمير ( وأنا يومئذ قد ناهزت ) أي قاربت ( الاحتلام ) المراد به البلوغ الشرعي ( ورسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي للناس بمنى ) بالصرف أجود من عدمه سميت بذلك لما يمنى أي يراق بها من الدماء والأجود كتابتها بالألف قال الحافظ كذا قال مالك وأكثر أصحاب الزهري ولمسلم من رواية ابن عيينة بعرفة قال النووي يحمل ذلك على أنهما قضيتان وتعقب بأن الأصل عدم التعدد ولا سيما مع اتحاد مخرج الحديث فالحق أن قوله بعرفة شاذ ولمسلم أيضا من رواية معمر عن الزهري وذلك في حجة الوداع أو الفتح وهذا الشك من معمر لا يعول عليه والحق أن ذلك كان في حجة الوداع
وزاد البخاري من رواية إسماعيل عن مالك إلى غير جدار أي إلى غير سترة أصلا قاله الشافعي وسياق الكلام يدل عليه لأن ابن عباس أورده في معرض الاستدلال على أن المرور بين يدي المصلي لا يقطع صلاته ويؤيده رواية البزار والنبي صلى الله عليه وسلم يصلي المكتوبة ليس شيء يستره انتهى
( فمررت بين يدي بعض الصف ) أي قدام فالتعبير باليد مجاز إذ الصف لا يدله قال الكرماني يحتمل أن يراد به صف من الصفوف أو بعض من أحد الصفوف انتهى
____________________
(1/446)
وللبخاري من رواية ابن أخي الزهري حتى سرت بين يدي الصف الأول
( فنزلت فأرسلت الأتان ترتع ) بفوقيتين وضم العين أي تأكل ما تشاء وقيل تسرع في المشي وجاء أيضا بكسر العين بوزن تفتعل من الرعي وأصله ترتعي لكن حذف الياء تخفيفا والأول أصوب لرواية البخاري في الحج نزلت عنها فرتعت
( ودخلت في الصف فلم ينكر ذلك علي أحد ) قال ابن دقيق العيد استدل ابن عباس بترك الإنكار على الجواز ولم يستدل بترك إعادتهم للصلاة لأن ترك الإنكار أكثر فائدة قال الحافظ وجهه إن ترك الإعادة يدل على صحتها فقط لا على جواز المرور وترك الإنكار يدل على جواز المرور وصحة الصلاة معا ويستفاد منه أن ترك الإنكار حجة على الجواز بشرطه وهو انتفاء الموانع من الإنكار وثبوت العلم بالاطلاع على الفعل ولا يقال لا يلزم مما ذكر اطلاع النبي صلى الله عليه وسلم على ذلك لاحتمال أن يكون الصف حائلا دون رؤية النبي صلى الله عليه وسلم لأنا نقول أنه صلى الله عليه وسلم كان يرى في الصلاة من ورائه كما يرى من أمامه
وللبخاري في الحج أنه مر بين يدي بعض الصف الأول فلم يكن هناك حائل دون الروية ولو لم يرد شيء من ذلك لكان توفر دواعيهم على سؤاله صلى الله عليه وسلم عما يحدث لهم كافيا في الدلالة على اطلاعه على ذلك واستدل به على أن مرور الحمار لا يقطع الصلاة فهو ناسخ لحديث أبي ذر في مسلم أن مرور الحمار يقطع الصلاة وكذا المرأة والكلب الأسود وتعقب بأن مرور الحمار محقق في حال مرور ابن عباس وهو راكبه وذلك لا يضر لأن سترة الإمام سترة لمن خلفه وأما مروره بعد أن نزل عنه فيحتاج إلى نقل
وقال ابن عبد البر حديث ابن عباس هذا يخص حديث أبي سعيد إذا كان أحدكم يصلي فلا يدع أحدا يمر بين يديه فإن ذلك مخصوص بالإمام والمنفرد فأما المأموم فلا يضره من مر بين يديه لحديث ابن عباس هذا قال وهذا كله لا خلاف فيه بين العلماء وكذا نقل عياض الاتفاق على أن المأمومين يصلون إلى سترة لكن اختلف هل سترتهم سترة الإمام أو سترتهم الإمام نفسه لكن يعكر على الاتفاق ما رواه عبد الرزاق عن الحكم بن عمر الغفاري الصحابي أنه صلى بأصحابه في سفر وبين يديه سترة فمر حمير بين يدي أصحابه فأعاد بهم الصلاة
وفي رواية أنه قال لهم إنها لم تقطع صلاتي ولكن قطعت صلاتكم
وحديث سترة الإمام سترة لمن خلفه رواه الطبراني في الأوسط من طريق سويد بن عبد العزيز عن عاصم عن أنس مرفوعا وقال تفرد به سويد عن عاصم اه
وسويد ضعيف عندهم
ووردت أيضا في حديث موقوف على ابن عمر أخرجه عبد الرزاق ويظهر أن ثمرة الخلاف الذي نقله عياض فيما لو مر بين يدي الإمام أحد فعلى قول من يقول سترة الإمام سترة لمن خلفه يضر صلاته وصلاتهم وعلى قول من يقول الإمام نفسه سترة لمن خلفه يضر صلاته ولا يضر صلاتهم اه
____________________
(1/447)
وحديث ابن عباس رواه البخاري عن شيخه إسماعيل وعبد الله بن يوسف ومسلم عن يحيى بن يحيى ثلاثتهم عن مالك به
( مالك أنه بلغه أن سعد بن أبي وقاص ) مالك أحد العشرة ( كان يمر بين يدي ) أي قدام ( بعض الصفوف والصلاة قائمة ) فدل على جواز ذلك والعمل به
( قال مالك وأنا أرى ذلك واسعا ) أي جائزا ( إذا أقيمت الصلاة وبعد أن يحرم الإمام ولم يجد المرء مدخلا إلى المسجد إلى بين الصفوف ) قال أبو عمر هذا مع الترجمة يقتضي أن الرخصة عنده لمن لم يجد من ذلك بدا وغيره لا يرى بذلك بأسا لحديث ابن عباس وللآثار الدالة على أن سترة الإمام سترة لمن خلفه وهو الظاهر
( مالك أنه بلغه أن علي بن أبي طالب قال لا يقطع الصلاة شيء مما يمر بين يدي المصلي ) وهذا البلاغ رواه سعيد بن منصور بإسناد صحيح عن علي وعثمان موقوفا
( مالك عن ابن شهاب عن سالم بن عبد الله أن عبد الله بن عمر كان يقول لا يقطع الصلاة شيء مما يمر بين يدي المصلي ) رواه مالك موقوفا وأخرجه الدارقطني من وجه آخر عن سالم عن أبيه مرفوعا لكن إسناده ضعيف وجاء أيضا مرفوعا عند أبي سعيد عن أبي داود وعن أنس وأبي إمامة عند الدارقطني عن جابر عند الطبراني في الأوسط وفي إسناد كل منهما ضعف
وقال قوم يقطعها المرأة والحمار والكلب الأسود لحديث أبي ذر مرفوعا إذا قام أحدكم يصلي فإنه يستره إذا كان بين يديه مثل أخرة الرحل فإنه يقطع صلاته الحمار والمرأة والكلب الأسود قال عبد الله بن الصامت يا أبا ذر ما بال الكلب الأسود من الكلب الأحمر والكلب الأصفر قال يابن أخي سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عما سألتني فقال الكلب الأسود شيطان رواه مسلم
وله أيضا عن أبي هريرة مرفوعا تقطع الصلاة المرأة والحمار والكلب وبقي ذلك مثل مؤخرة الرحل ورواه الطبراني عن الحكم بن عمرو وابن ماجه عن عبد الله بن مغفل نحوه من غير تقييد بالأسود
ولأبي داود عن ابن عباس مثله لكن قيد المرأة بالحائض
____________________
(1/448)
واختلف العلماء في العمل بهذه الأحاديث فمال الطحاوي وغيره إلى أن حديث أبي ذر وما وافقه منسوخ بحديث عائشة في الصحيحين أنه ذكر عندها ما يقطع الصلاة الكلب والحمار والمرأة فقالت شبهتمونا بالحمر والكلاب والله لقد رأيت النبي صلى الله عليه وسلم يصلي وإني على السرير بينه وبين القبلة مضطجعة وقالت ميمونة كان النبي صلى الله عليه وسلم يصلي وأنا نائمة إلى جنبة فإذا سجد أصابني ثوبه وأنا حائض وتعقب بأن النسخ إنما صار إليه إذا علم التاريخ وتعذر الجمع والتاريخ هنا لم يتحقق والجمع لم يتعذر ومال الشافعي وغيره إلى تأويل القطع في حديث أبي ذر بنقص الخشوع لا الخروج من الصلاة ويؤيده أنه سأل عن حكمة التقييد باالأسود فأجيب بأنه شيطان وقد علم أن الشيطان لو مر بين يدي المصلي لم يفسد صلاته كما سبق حديث إذا ثوب بالصلاة أدبر الشيطان فإذا قضى التثويب أقبل حتى يخطر بين المرء ونفسه وفي الصحيح أن الشيطان عرض لي فشد علي الحديث
وللنسائي فأخذته فصرعته ولا يرد أنه قال في هذا الحديث أنه جاء ليقطع صلاته لأنه بين في رواية مسلم سبب القطع وهو أنه أتى بشهاب من نار ليجعله في وجهه وأما مجرد المرور فقد حصل ولم تفسد به الصلاة وقال أحمد يقطع الصلاة الكلب الأسود وفي النفس من الحمار والمرأة شيء ووجهه ابن دقيق العيد بأنه لم يجد في الكلب الأسود ما يعارضه ووجد في الحمار حديث ابن عباس وفي المرأة حديث عائشة ونازع بعضهم في الاستدلال به من وجوه أحدها أن العلة في قطع الصلاة بها ما يحصل من التشويش وقد قالت البيوت يومئذ لم يكن فيها مصابيح فانتفى المعلول بانتفاء علته
ثانيها أن المرأة في حديث أبي ذر مطلقة وفي حديث عائشة مقيدة بكونها زوجة فقد يحمل المطلق على المقيد ويقال بتقييد القطع بالأجنبية لخشية الفتنة بها بخلاف الزوجة فإنها حاصلة عنده
ثالثها أن حديث عائشة واقعة حال يتطرق إليها الاحتمال بخلاف حديث أبي ذر فإنه مسوق مساق التشريع وقد أشار ابن بطال إلى أن ذلك من خصائصه صلى الله عليه وسلم لأنه كان يقدر من ملك أربه على ما لا يقدر عليه غيره
وقال بعض الحنابلة يعارض حديث أبي ذر وما وافقه أحاديث صحيحة غير صريحة وصريحة غير صحيحة فلا يترك العمل بحديث أبي ذر الصحيح الصريح بالمحتمل يعني حديث عائشة وما وافقه والفرق بين المار وبين النائم في القبلة أن المرور حرام بخلاف الاستقرار نائما كان أم غيره فهكذا المرأة يقطع مرورها دون لبثها
89 سترة المصلي في السفر ( مالك أنه بلغه أن عبد الله بن عمر كان يستتر براحلته إذا صلى ) خيفة أن يمر بين يديه أحد
____________________
(1/449)
ويحتمل أنه استحسان
وفي الصحيحين من رواية عبيد الله عن نافع عن ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يعرض راحلته فيصلي إليها قلت أفرأيت إذا هبت الركاب قال كان يأخذ الرحل فيعدله فيصلي إلى أخرته أو قال في مؤخره وكان ابن عمر يفعله ويعرض بشد الراء يجعله عرضا ويعدله بفتح الياء وسكون العين وكسر الدال يقيمه تلقاء وجهه وأخرته بفتحات بلا مد ويجوز المد والراحلة
قال الجوهري النافلة التي تصلح لأن يوضع عليها الرحل
وقال الأزهري الراحلة المركب النجيب ذكرا كان أو أنثى والهاء للمبالغة
قال القرطبي في هذا الحديث دليل على جواز الستر بما يستقر من الحيوان ولا يعارضه النهي عن الصلاة في معاطن الإبل لأن المعاطن مواضع إقامتها عند الماء وكراهة الصلاة حينئذ عندها إما لشدة نتنها وإما لأنهم كانوا يتخلون بينها مستترين بها
وقال غيره علة النهي عن ذلك كونها خلقت من الشياطين فتحمل صلاته إليها في السفر على حالة الضرورة
( مالك عن هشام بن عروة أن أباه كان يصلي في الصحراء إلى غير سترة ) لأنه لا يخشى مرور أحد بين يديه
وفي الصحيح عن أبي جحيفة خرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم بالهاجرة فأتى بوضوء فتوضأ به وصلى لنا الظهر والعصر وبين يديه عنزة والمرأة والحمار يمرون من ورائها
90 مسح الحصباء في الصلاة ( مالك عن أبي جعفر القارىء ) بالهمز المدني المخزومي مولاهم اسمه يزيد بن القعقاع وقيل جندب بن فيروز وقيل فيروز ثقة مات سنة سبع وعشرين ومائة وقيل سنة ثلاثين
( أنه قال رأيت عبد الله بن عمر إذا أهوى ليسجد مسح الحصباء لموضع جبهته مسحا خفيفا ) ليزيل شغله عن الصلاة بما يتأذى به وبما يحصل على جبهته من التراب وإن كان الاختيار تركه للتواضع وحكى النووي اتفاق العلماء على كراهة مسح الحصباء وغيرها في الصلاة وفيه نظر لحكاية الخطابي عن مالك أنه لم ير به بأسا وكان يفعله فكأنه لم يبلغه الخبر كذا في الفتح والأولى إن صح ذلك عن مالك أنه كان يفعله مرة واحدة مسحا خفيفا كفعل ابن عمر وترجى أنه لم يبلغه الخبر بعيد جدا أو ممنوع مع ذكره حديث أبي ذر وإن كان موقوفا بقوله
____________________
(1/450)
( مالك عن يحيى بن سعيد أنه بلغه أن أبا ذر كان يقول مسح الحصباء ) أي تسوية الموضع الذي يسجد عليه إنما يجوز ( مسحة واحدة ) في الصلاة ( وتركها ) والإقبال على الصلاة ( خير من حمر النعم ) بتسكين الميم لا غير هي الحمر من الإبل وهي أحسن ألوانها أي أعظم أجرا مما لو كانت له فتصدق بها أو حمل عليها في سبيل الله قاله سحنون ومن قبله الأوزاعي وقيل معناه أن الثواب الذي يناله بترك الحصباء يجب أن يكون أشد سرورا منه بحمر النعم لو كانت له ملكا دائما مقتنى وهذا ورد مرفوعا أخرج أحمد وأبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجه من طريق سفيان عن الزهري عن أبي الأحوص أنه سمع أبا ذر يرويه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال إذا قام أحدكم إلى الصلاة فإن الرحمة تواجهه فلا يمسح الحصباء وروى عبد الرزاق عن الثوري عن ابن أبي ليلى عن أبي ذر قال سألت النبي صلى الله عليه وسلم عن كل شيء حتى سألته عن مسح الحصباء قال واحدة أودع وأخرج أحمد عن جابر سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن مسح الحصباء فقال واحدة ولأن تمسك عنها خير من مائة ناقة كلها سود الحدق وقال ابن جريج قلت لعطاء كانوا يشددون في المسح على الحصباء لموضع الجبين ما لا يشددون في مسح الوجه من التراب قال أجل
قال الحافظ الزين العراقي وتقييد المسح بالحصباء غالبي لكونه كان فراش مساجدهم وأيضا هو مفهوم لقب فلا يدل تعليق الحكم به على نفيه من غيره من كل ما يصلى عليه من نحو رمل وتراب وطين وقدم التعليل في قوله فإن الرحمة تواجهه زيادة في تأكيد النهي وتنبيها على عظم ثواب ترك العبث في الصلاة وإعلاما للمصلي بعظم ما يواجهه فيها فكأنه يقول لا ينبغي لعاقل يلقى تلك النعمة الخطيرة بهذه الفعلة الحقيرة انتهى
والمراد بقوله إذا قام الدخول في الصلاة فلا ينهى عن المسح قبل الدخول فيها بل الأولى أن يفعل ذلك حتى لا يشتغل باله وهو في الصلاة
وقد روى الشيخان وأصحاب السنن عن معيقيب أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في الرجل يسوي التراب حيث يسجد قال إن كنت فاعلا فواحدة وفي رواية الترمذي فمرة واحدة
91 ما جاء في تسوية الصفوف وهو اعتدال القامة بها على سمت واحد ويراد بها أيضا سد الخلل الذي في الصف
وقد ورد في أحاديث كثيرة أجمعها حديث ابن عمر أنه صلى الله عليه وسلم قال أقيموا الصفوف وحاذوا بين المناكب وسدوا
____________________
(1/451)
الخلل ولا تذروا فرجات للشيطان ومن وصل صفا وصله الله ومن قطع صفا قطعه الله رواه أبو داود وصححه ابن خزيمة والحاكم
( مالك عن نافع أن عمر بن الخطاب كان يأمر بتسوية الصفوف فإذا جاؤوه فأخبروه أن قد استوت كبر ) قال الباجي مقتضاه أنه وكل من يسوي الناس في الصفوف وهو مندوب
روى البخاري وغيره عن أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال سووا صفوفكم فإن تسوية الصفوف من إقامة الصلاة ولمسلم وأبي داود وغيرهما من تمام الصلاة حتى توعد عليها فقال صلى الله عليه وسلم لتسون صفوفكم أو ليخالفن الله بين وجوهكم رواه البخاري وغيره
وأخرج أحمد وأبو داود والنسائي وصححه ابن خزيمة وابن حبان عن أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال أتموا الصف الأول ثم الذي يليه فإن كان نقص فليكن في الصف المؤخر واختلف في أن الوعيد المذكور على حقيقته فيشوه الوجه بتحويل خلقه عن وضعه بجعله موضع القفا ونحو ذلك فهو نظير الوعيد لمن رفع رأسه قبل الإمام أن يجعل الله رأسه رأس حمار وفيه من اللطائف وقوع الوعيد من جنس الجناية وهي المخالفة ويؤيده حديث أبي أمامة لتسون الصفوف أو لتطمسن الوجوه أخرجه أحمد بإسناد فيه ضعيف أو مجاز ومعناه يوقع بينكم العداوة والبغضاء واختلاف القلوب لأن مخالفتهم في الصفوف مخالفة في ظواهرهم واختلاف الظواهر سبب لاختلاف البواطن ويؤيده رواية بين قلوبكم
روى أبو داود وصححه ابن خزيمة عن النعمان بن بشير قال أقبل صلى الله عليه وسلم على الناس بوجهه فقال أقيموا صفوفكم ثلاثا والله لتقيمن صفوفكم أو ليخالفن الله بين قلوبكم قال فلقد رأيت الرجل منا يلزق منكبه بمنكب صاحبه وكعبه بكعبه وقال القرطبي معناه يفترقون فيأخذ كل واحد وجها غير الذي أخذ صاحبه لأن تقدم الشخص على غيره مظنة الكبر المفسد للقلب الداعي إلى القطيعة
( مالك عن عمه أبي سهيل ) بضم السين واسمه نافع ( ابن مالك عن أبيه ) مالك بن أبي عامر الأصبحي سمع من عمر وهو من كبار التابعين ثقة روى له الجميع مات سنة أربع وسبعين على الصحيح
( أنه قال كنت مع عثمان بن عفان فقامت الصلاة وأنا أكلمه في أن يفرض ) بفتح أوله وكسر الراء ( لي ) في العطاء من بيت المال ( فلم أزل أكلمه وهو يسوي الحصباء بنعليه ) لسجود أو غيره قاله الباجي
( حتى جاءه رجال قد كان وكلهم ) بخفة الكاف وشدها ( بتسوية الصفوف فأخبروه أن الصفوف قد استوت فقال لي استو في الصف ثم كبر ) بكسر الباء أمر وفتحها خبر أي عثمان ولذا
____________________
(1/452)
روى ابن حبيب عن مالك أنه يلزم الإمام أن يتربص بعد الإقامة يسيرا حتى تعتدل الصفوف وفيه جواز الكلام بعد الإقامة وقبل الإحرام وبه قال فقهاء الأمصار غير أهل الكوفة فمنعوه وحجة الجماعة حديث أنس أقيمت الصلاة والنبي صلى الله عليه وسلم يناجي رجلا في جانب المسجد فما قام إلى الصلاة حتى قام القوم قال أبو عمر الآثار في تسوية الصفوف متواترة صحاح
92 وضع اليدين إحداهما على الأخرى في الصلاة أي اليمنى على اليسرى وإحدى بدل من اليدين
( مالك عن عبد الكريم بن أبي المخارق ) بضم الميم وبالخاء المعجمة أبي أمية المعلم ( البصري ) نزيل مكة واسم أبيه قيس وقيل طارق قال في التمهيد ضعيف متروك باتفاق أهل الحديث لقيه مالك بمكة وكان مؤدب كتاب حسن السمت فغره منه سمته ولم يكن من أهل بلده فيعرفه فروى عنه من المرفوع في الموطأ هذا الحديث الواحد فيه ثلاثة أحاديث مرسلة يتصل من غير روايته من وجوه صحاح ولم يرو عنه حكما إنما روى عنه ترغيبا وفضلا وكذلك غر الشافعي من إبراهيم بن أبي يحيى حذقه ونباهته فروى عنه وهو مجمع على ضعفه لكنه أيضا لم يحتج به في حكم أفرده به انتهى باختصار
وقد روى البخاري لعبد الكريم هذا في قيام الليل ومسلم في مقدمة صحيحه وأصحاب السنن إلا أن النسائي ما روى له إلا قليلا مات سنة ست وعشرين ومائة
( أنه قال من كلام النبوة ) أي مما اتفق عليه شرائع الأنبياء لأنه جاء في أولاها ثم تتابعت بقيتها عليه ولم ينسخ فيما نسخ من شرائعهم لأنه أمر أطبقت عليه العقول ( إذا لم تستحي فافعل ما شئت ) قال ابن عبد البر لفظه أمر ومعناه الخبر بأن من لم يكن له حياء يحجزه عن محارم الله فسواء عليه فعل الصغائر والكبائر ومنه حديث المغيرة مرفوعا من باع الخمر فليستفض الخنازير وقال أبو دلف إذا لم تصن عرضا ولم تخش خالقا وتستحي مخلوقا فما شئت فاصنع وفيه معنى التحذير والوعيد على قلة الحياء
ومنه أخذ القائل إذا لم تخش عاقبة الليالي ولم تستحي فاصنع ما تشاء فلا والله ما في العيش خير ولا الدنيا إذا ذهب الحياء وقيل معناه إذا كان الفعل مما لا يستحي منه شرعا فافعله ولا عليك من الناس
قال وهذا تأويل ضعيف والأول هو المعروف عند العلماء والمشهور مخرجه عند العرب والفصحاء وهذا الحديث أخرجه البخاري وأبو داود وابن ماجه من طريق منصور عن ربعي بن حراش عن
____________________
(1/453)
أبي مسعود عقبة بن عمرو الأنصاري البدري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال إن مما أدرك الناس من كلام النبوة الأولى إذا لم تستحي فاصنع ما شئت ورواه بلفظ فافعل ابن أبي شيبة
وليس في رواية البخاري الأولى
قال في فتح الباري الناس بالرفع في جمع الطرق ويجوز النصب أي مما بلغ الناس قال وهو أمر بمعنى الخبر أو هو للتهديد أي فإن الله يجزيك أو معناه أنظر إلى ما تريد فعله فإن كان مما لا يستحي منه فافعله وإلا فدعه أو المعنى أنك إذا لم تستح من الله من شيء يجب أن لا تستحي منه من أمر الدين فافعله ولا تبال بالخلق أو المراد الحث على الحياء والتنويه بفضله أي لما لم يجز صنع جميع ما شئت لم يجز ترك الاستحياء
( ووضع اليدين أحدهما على الأخرى في الصلاة ) وقوله ( يضع اليمنى على اليسرى ) من قول مالك ليس من الحديث وهو أمر مجمع عليه في هيئة وضع اليدين إحداهما على الأخرى
قاله أبو عمر في التقصي قال ابن حبيب ليس لذلك موضع معروف
وقال عبد الوهاب المذهب وضعهما تحت الصدر وفوق السرة
وقال أبو حنيفة السنة وضعهما تحت السرة ويقبض يمناه على الكوع وبعض المعصم من اليسرى ولا يعتمد عليها
قال العلماء الحكمة في هذه الهيئة أنه صفة السائل الذليل وهو أمنع من العبث وأقرب إلى الخشوع
ومن اللطائف قول بعضهم القلب موضع النية والعادة أن من احترز على حفظ شيء جعل يديه عليه
وروى أشهب عن مالك لا بأس به في النافلة والفريضة وكذا قال أصحاب مالك المدنيون
وروى مطرف وابن الماجشون أن مالكا استحسنه
قال ابن عبد البر لم يأت عن النبي صلى الله عليه وسلم فيه خلاف وهو قول جمهور الصحابة والتابعين وهو الذي ذكره مالك في الموطأ ولم يحك ابن المنذر وغيره عن مالك غيره
وروى ابن القاسم عن مالك الإرسال وصار إليه أكثر أصحابه وروي أيضا عنه إباحته في النافلة لطول القيام وكرهه في الفريضة ونقل ابن الحاجب أن ذلك حيث تمسك معتمدا لقصد الراحة
( وتعجيل الفطر والاستيناء بالسحور ) أخرج الطبراني في الكبير بسند صحيح عن ابن عباس سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول إنا معاشر الأنبياء أمرنا بتعجيل فطرنا وتأخير سحورنا وأن نضع أيماننا على شمائلنا في الصلاة وروى الطبراني عن أبي الدرداء وابن عبد البر عن أبي هريرة رفعاه ثلاث من أخلاق النبوة تعجيل الإفطار وتأخير السحور ووضع اليمنى على اليسرى في الصلاة ورواه سعيد بن منصور عن عائشة وللطبراني عن يعلي بن مرة رفعه ثلاث يحبها الله عز وجل تعجيل الإفطار وتأخير السحور وضرب اليدين إحداهما بالأخرى في الصلاة
( مالك عن أبي حازم ) بمهملة وزاي سلمة ( بن دينار ) المدني الثقة ( عن سهل بن سعد )
____________________
(1/454)
بسكون الهاء والعين ابن مالك بن خالد الأنصاري الخزرجي الساعدي الصحابي ابن الصحابي مات سنة ثمان وثمانين وقيل بعدها وقد جاوز المائة
( أنه قال كان الناس يؤمرون ) قال الحافظ هذا حكمه الرفع لأنه محمول على أن الآمر لهم النبي صلى الله عليه وسلم ( أن يضع الرجل اليد اليمنى على ذراعه اليسرى في الصلاة ) أبهم موضعه من الذراع
وفي حديث وائل عند أبي داود والنسائي ثم وضع صلى الله عليه وسلم يده اليمنى على ظهر كفه اليسرى والرسغ من الساعد وصححه ابن خزيمة وغيره وأصله في مسلم والرسغ بضم الراء وسكون المهملة ومعجمة هو المفصل بين الساعد والكف ولم يذكر أيضا محلهما من الجسد
ولابن خزيمة عن وائل أنه صلى الله عليه وسلم وضعهما على صدره وللبزار عند صدره وفي زيادات المسند من حديث علي أنه وضعهما تحت السرة وإسناده ضعيف
( قال أبو حازم لا أعلم إلا أنه ) أي سهلا ( ينمي ذلك ) بفتح أوله وسكون النون وكسر الميم أي يرفعه إلى النبي صلى الله عليه وسلم
وحكي في المطالع أن القعنبي رواه بضم أوله من أنمى قال وهو غلط ورد بأن الزجاج وابن دريد وغيرهما حكوا نميت الحديث وأنميته ومع ذلك فالذي ضبطناه في البخاري عن القعنبي بفتح أوله من الثلاثي فلعل الضم رواية القعنبي في الموطأ
قال أهل اللغة يقال نميت الحديث رفعته وأسندته
وصرح معن بن عيسى وعبد الله بن يوسف وابن وهب ثلاثتهم عن مالك عند الدارقطني بلفظ يرفع ذلك
ومن اصطلاح أهل الحديث إذا قال الراوي ينمي فمراده يرفع ذلك إلى النبي صلى الله عليه وسلم ولو لم يقيد
واعترض الداني في أطراف الموطأ فقال هذا معلول لأنه ظن من أبي حازم ورد بأن أبا حازم لو لم يقل لا أعلم الخ لكان في حكم المرفوع لأن قول الصحابي كنا نؤمر بكذا يصرف بظاهره إلى من له الأمر وهو النبي صلى الله عليه وسلم لأن الصحابي في مقام تعريف الشرع فيحمل على من صدر عنه الشرع ومثله قول عائشة كنا نؤمر بقضاء الصوم فإنه محمول على أن الآمر بذلك هو النبي صلى الله عليه وسلم
وأطلق البيهقي أنه لا خلاف في ذلك بين أهل النقل قيل لو كان مرفوعا ما احتاج أبو حازم إلى قوله لا أعلم الخ
وجوابه أنه أراد الانتقال إلى التصريح فالأول لا يقال له مرفوع وإنما يقال له حكم الرفع وقد ورد ما يستأنس به على تعيين الآمر والمأمور ففي سنن أبي داود والنسائي وصحيح ابن السكن بإسناد حسن عن ابن مسعود قال رآني النبي صلى الله عليه وسلم واضعا يدي اليسرى على اليمنى فنزعها ووضع اليمنى على اليسرى انتهى
وقال ابن عبد البر رواه عمار بن مطرف عن مالك عن أبي حازم عن سهل قال أمرنا أن نضع اليمنى على الذراع اليسرى في الصلاة انتهى
____________________
(1/455)
وحديث الباب رواه البخاري عن القعنبي عن مالك به ثم قال وقال إسماعيل ينمى ذلك ولم يقل ينمى أي قاله إسماعيل بن أويس بضم أوله وفتح الميم بلفظ المجهول فعليه الهاء ضمير الشأن فيكون مرسلا لأن أبا حازم لم يعين من نماه له وعلى رواية غيره بفتح أوله وكسر الميم يكون متصلا لأن الضمير لسهل شيخه كما تقدم
93 القنوت في الصبح أي لا في غيرها من الصلوات والمراد به هنا الدعاء في الصلاة في محل مخصوص من القيام
وذكر ابن العربي أنه يطلق على عشرة معان نظمها الحافظ زين الدين العراقي فقال ولفظ القنوت أعدد معانيه تجد مزيدا على عشر معاني مرضيه دعاء خشوع والعبادة طاعة إقامتها إقراره بالعبودية سكوت صلاة والقيام وطوله كذاك دوام الطاعة الرابح القنيه ( مالك عن نافع أن عبد الله بن عمر كان لا يقنت في شيء من الصلاة ) بل روي عنه أنه بدعة
قال الباجي لم يدخل في الترجمة مافيه قنوت على معتقده من القنوت في الصبح بل أدخل فعل ابن عمر مخالفا لمعتقده
وقال ابن عبد البر لم يذكر في رواية يحيى غير ذلك وفي أكثر الموطآت بعد حديث ابن عمر مالك عن هشام بن عروة أن أباه كان لا يقنت في شيء من الصلاة ولا في الوتر إلا أنه كان يقنت في صلاة الفجر قبل أن يركع الركعة الأخيرة إذا قضى قراءته انتهى
وقد صح أنه صلى الله عليه وسلم لم يزل يقنت في الصبح حتى فارق الدنيا رواه عبد الرزاق والدارقطني وصححه الحاكم
وثبت عن أبي هريرة أنه كان يقنت في الصبح في حياة النبي صلى الله عليه وسلم وبعده
وحكى الحافظ العراقي أن ممن قال بذلك الخلفاء الأربعة وأبو موسى وابن عباس والبراء
ومن التابعين الحسن البصري وحميد الطويل والربيع بن خيثم وسعيد بن المسيب وطاوس وغيرهم
ومن الأئمة مالك والشافعي وابن مهدي والأوزاعي ولا يرد أنه روى عن الخلفاء الأربع وغيرهم أنهم لم يكونوا يقنتون لأنه إذا تعارض إثبات ونفي قدم الإثبات على النفي
وفي الصحيحين سئل أنس أقنت النبي صلى الله عليه وسلم في الصبح قال نعم قيل أقنت قبل الركوع قال بعد الركوع يسيرا وفيهما أيضا عن عاصم بن سليمان الأحول قال سألت أنس بن مالك عن القنوت فقال قد كان القنوت قلت قبل الركوع أو بعده قال قبله قلت فإن فلانا أخبرني عنك أنك قلت بعد الركوع فقال كذب إنما قنت صلى الله عليه وسلم بعد الركوع شهرا أراه كان بعث قوما يقال لهم القراء زهاء سبعين رجلا إلى قوم من المشركين وكان بينهم وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم عهد فغدروهم وقتلوهم فقنت صلى الله عليه وسلم شهرا يدعو عليهم
وفي ابن ماجه بإسناد قوي عن أنس أنه سئل عن القنوت فقال قبل الركوع وبعده
____________________
(1/456)
وروى ابن المنذر عن أنس أن بعض أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم قنتوا في صلاة الفجر قبل الركوع وبعضهم بعده
وروى محمد بن نصر عن أنس أن أول من جعل القنوت قبل الركوع أي دائما عثمان لكي يدرك الناس الركعة
قال الحافظ ومجموع ما جاء عن أنس من ذلك أن القنوت للحاجة بعد الركوع لا خلاف عنه في ذلك وأما لغير الحاجة فالصحيح عنه أنه قبل الركوع
وقد اختلف عمل الصحابة في ذلك والظاهر أنه من الاختلاف المباح قال وفي صحيح ابن خزيمة عن أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم كان لا يقنت إلا إذا دعا لقوم أو دعا على قوم وكأنه محمول على ما بعد الركوع بناء على أن المراد بالحصر في قوله إنما قنت شهرا أي متواليا
وفي الصحيحين عن أنس قال كان القنوت في الفجر والمغرب
ولمسلم عن البراء نحوه
وتمسك به الطحاوي في ترك القنوت في الصبح قال لأنهم أجمعوا على نسخه في المغرب فيكون الصبح كذلك انتهى
ولا يخفى ما فيه وعارضه بعضهم فقال أجمعوا على أنه صلى الله عليه وسلم قنت في الصبح ثم اختلفوا هل ترك فنتمسك بما أجمعوا عليه حتى يثبت ما اختلفوا فيه
94 النهي عن الصلاة والإنسان يريد حاجته ( مالك عن هشام بن عروة عن أبيه أن عبد الله بن الأرقم ) بن عبد يغوث بن وهب بن عبد مناف بن زهرة القرشي الزهري صحابي معروف ولاه عمر بيت المال ومات في خلافة عثمان
قال ابن عبد البر لم يختلف على مالك في هذا الإسناد
وتابعه زهير بن معاوية وسفيان بن عيينة وحفص بن غياث ومحمد بن إسحاق وشجاع بن الوليد وحماد بن زيد ووكيع وأبو معاوية والمفضل بن فضالة ومحمد بن كنانة كلهم رووه عن هشام كما رواه مالك
ورواه وهيب بن خالد وأنس بن عياض وشعيب بن إسحاق عن هشام عن أبيه عن رجل حدثه عن عبد الله بن الأرقم فأدخلوا بين عروة وبين عبد الله بن الأرقم رجلا ذكره أبو داود ورواه عبد الرزاق عن ابن جريج عن أيوب بن موسى عن هشام عن عروة قال خرجنا في حج أو عمره مع عبد الله بن الأرقم الزهري فأقام الصلاة ثم قال صلوا وذهب لحاجته فلما رجع قال إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال إذا أقيمت الصلاة وأراد أحدكم الغائط فليبدأ بالغائط فهذا الإسناد يشهد بأن رواية مالك ومن تابعه متصلة لتصريحه بأن عروة سمعه من عبد الله بن الأرقم وابن جريج وأيوب ثقتان حافظان
( كان يؤم أصحابه ) وفي رواية ابن عبد البر من طريق حماد بن زيد عن هشام عن أبيه عن عبد الله بن الأرقم أنه كان يسافر فكان يؤذن لأصحابه ويؤمهم ( فحضرت الصلاة يوما ) وفي رواية حماد فثوب بالصلاة يوما فقال ليؤمكم أحدكم ( فذهب لحاجته ثم رجع فقال إني سمعت
____________________
(1/457)
رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول إذا أراد أحدكم ) الخطاب وإن كان بحسب اللفظ للحاضرين لكن الحكم عام لأن حكمه على الواحد حكم على الجماعة إلا بدليل منفصل وكذا حكم تناوله للنساء
( الغائط فليبدأ به قبل الصلاة ) ليفرغ نفسه لأنه إذا صلى قبل ذلك تشوش خشوعه واختل حضور قلبه ففيه أنه لا يصلي أحد وهو حاقن فإن فعل فقال ابن القاسم عن مالك أحب أن يعيد في الوقت وبعده
وقال أبو حنيفة والشافعي لا إعادة إن لم يترك شيئا من فرائضها
قال الطحاوي لا خلاف أنه لو شغل قلبه شيء من الدنيا لم تستحب الإعادة فكذا البول
قال أبو عمر أحسن شيء في هذا الباب حديث عبد الله بن الأرقم هذا وحديث عائشة سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول لا يصلي أحد بحضرة الطعام ولا وهو يدافعه الأخبثان رواه أبو داود وأجمعوا على أنه لو صلى بحضرة الطعام فأكمل الصلاة أنها تجزئه فكذلك الحاقن وإن كان يكره للحاقن صلاته كذلك فإن فعل وسلمت صلاته أحزأه وبئس ما صنع
وما روي مرفوعا لا يحل لمؤمن أن يصلي وهو حاقن جدا لا حجة فيه لضعف إسناده ولو صح فمعناه أنه حاقن لم يتهيأ له إكمال صلاته على وجهها انتهى
والحديث رواه النسائي عن قتيبة بن سعد عن مالك به
( مالك عن زين بن أسلم أن عمر بن الخطاب قال لا يصلين أحدكم وهو ضام بين وركيه ) من شدة الحقن ورخص في ذلك جماعة
95 انتظار الصلاة والمشي إليها ( مالك عن أبي الزناد ) بكسر الزاي ونون عبد الله بن ذكوان ( عن الأعرج ) عبد الرحمن بن هرمز ( عن أبي هريرة أن رسول الله قال الملائكة ) الحفظة أو السيارة أو أعم من ذلك كل محتمل قاله الحافظ العراقي وتبعه تلميذه في فتح الباري وقال غيرهما الجمع المحلى بأل يفيد الاستغراق ( تصلي على أحدكم ) أي تستغفر له قيل عبر بتصلي ليتناسب الجزاء والعمل ( ما دام في مصلاه الذي صلى فيه ) صلاة تامة لأنه قال للمسيء صلاته ارجع فصل فإنك لم تصل قال ابن أبي جمرة زاد في رواية للبخاري ينتظر الصلاة ومفهومه أنه إذا انصرف من مصلاه انقضى ذلك لكن مقتضى
____________________
(1/458)
الحديث بعده أن للمنتظر حكم المصلي سواء بقي في مجلسه ذلك من المسجد أم تحول إلى غيره فيمكن حمل قوله في مصلاه على المكان المعد للصلاة لا الموضع الخاص الذي صلى فيه أولا فلا تخالف بين الحديثين قاله في الفتح
وقال في موضع آخر ومصلاه المكان الذي أوقع فيه الصلاة من المسجد وكأنه خرج مخرج الغالب وإلا فلو قام إلى بقعة أخرى من المسجد مستمرا على نية انتظار الصلاة كان كذلك انتهى
بل في الاستذكار مصلاه المسجد وهذا هو الأغلب في معنى انتظار الصلاة ولو قعدت امرأة في مصلى بيتها تنتظر وقت صلاة أخرى لم يبعد أن تدخل في معنى الحديث لأنها حبست نفسها عن التصرف رغبة في الصلاة ومن هذا قيل انتظار الصلاة رباط لأن المرابط حبس نفسه عن المكاسب والتصرف إرصادا للعدو
وقال الباجي عن المبسوط سأل مالك عن رجل صلى في غير جماعة ثم قعد بموضعه ينتظر صلاة أخرى أتراه في صلاة بمنزلة من كان في المسجد كما جاء في الحديث قال نعم إن شاء الله أرجو أن يكون كذلك ما لم يحدث فيبطل ذلك ولو استمر جالسا
وفيه أن الحدث في المسجد أشد من النخامة لأن لها كفارة وهي دفنها ولم يذكر هنا كفارة بل عومل صاحبه بحرمان استغفار الملائكة
( اللهم اغفر له ) على إضمار قائلين أو تقول وهو بيان لقوله تصلي قال أبو عمر بين في سياق الحديث أن صلاة الملائكة الدعاء ( اللهم ارحمه ) زاد ابن ماجه اللهم تب عليه وهو مطابق لقوله تعالى { والملائكة يسبحون بحمد ربهم ويستغفرون لمن في الأرض } سورة الشورى الآية 5 وقيل السر فيه أنهم يطلعون على أحوال بني آدم وما فيها من المعصية والخلل في الطاعة فيقتصرون على الاستغفار لهم من ذلك لأن دفع المفسدة مقدم على جلب المصلحة ولو فرض أن فيهم من يحفظ من ذلك فإنه يعوض من المغفرة بما يقابلها من الثواب واستدل بالحديث على أفضلية الصلاة على غيرها من الأعمال لصلاة الملائكة عليه ودعائهم له بالمغفرة والرحمة والتوبة وعلى تفضيل صالحي الناس على الملائكة لأنهم في تحصيل الدرجات بعبادتهم والملائكة مشغولون بالاستغفار والدعاء لهم ( قال مالك لا أرى قوله ما لم يحدث إلا الإحداث الذي ينقض الوضوء ) لأن القاعد في المسجد على غير وضوء لا يكون منتظرا للصلاة وقيل معناه هنا الكلام القبيح وهذا ضعيف لأن الكلام القبيح لا يخرجه من أن يكون منتظرا للصلاة قاله ابن عبد البر
قال الباجي وقد روى أبو هريرة مثل قول مالك وقال الحدث فساء أو ضراط
وفي فتح الباري المراد الحدث حدث الفرج لكن يؤخذ منه أن اجتناب حديث اللسان واليد من باب أولى لأن الأذى منهما يكون أشد أشار إلى ذلك ابن بطال
ويؤخذ من قوله ( في مصلاه الذي صلى فيه ) أن ذلك
____________________
(1/459)
مقيد بمن صلى ثم انتظر صلاة أخرى وتتقيد الصلاة الأولى بكونها مجزية أما لو كان فيها نقص فإنها تجبر بالنافلة كما ثبت في الخبر الآخر انتهى
وهذا الحديث رواه البخاري حدثنا عبد الله بن يوسف قال أخبرنا مالك به ورواه مسلم وغيره
( مالك عن أبي الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة أن رسول الله قال لا يزال أحدكم في صلاة ) أي في ثوابها لا في حكمها لأنه يحل له الكلام وغيره مما منع في الصلاة ( ما كانت ) وفي رواية ما دامت ( الصلاة تحبسه ) أي مدة دوام حبس الصلاة له قال الباجي سواء انتظر وقتها أو إقامتها في الجماعة ( لا يمنعه أن ينقلب ) يرجع ( إلى أهله إلا الصلاة ) لا غيرها وهذا يقتضي أنه إذا صرف نيته عن ذلك صارف آخر انقطع عنه الثواب وكذلك إذا شارك نية الانتظار أمر آخر وهل يحصل ذلك لمن نيته إيقاع الصلاة في المسجد ولو لم يكن فيه الظاهر خلافه لأنه رتب الثواب المذكور على المجموع من النية وشغل البقعة بالعبادة لكن للمذكور ثواب يخصه ولعل هذا سر إيراد البخاري عقب هذا الحديث حديث سبعة يظلهم الله وفيه ورجل قلبه متعلق بالمساجد ذكره الحافظ
وقال غيره يحتمل الحديث العموم في كل صلاة سواء اشتركا في الوقت كانتظار العصر بعد الظهر والعشاء بعد المغرب أو لم يشتركا كالباقي خلافا للباجي حيث خصه بالمشتركتين انتهى ويأتي له مزيد قريبا وهذا الحديث والذي قبله رواه البخاري حدثنا عبد الله بن مسلمة عن مالك به فجعلهما حديثا واحدا والموطأ كما ترى جعلهما حديثين وإن اتحد إسنادهما قال الحافظ ولا حجر في ذلك
وأخرج مسلم هذا الثاني عن يحيى بن يحيى عن مالك به
( مالك عن سمي ) بضم السين وفتح الميم ( مولى أبي بكر أن ) مولاه ( أبا بكر بن عبد الرحمن ) بن الحارث بن هشام أحد الفقهاء ( كان يقول من غدا ) ذهب وقت الغدوة أول النهار ( أو راح ) من الزوال ( إلى المسجد لا يريد غيره ليتعلم خيرا ) من غيره ( أو ليعلمه ) بشد اللام هو لغيره ( ثم رجع إلى بيته كان كالمجاهد في سبيل الله رجع غانما ) قال ابن عبد البر معلوم أن هذا لا يدرك بالرأي والاجتهاد لأنه قطع على غيب من حكم الله وأمره في ثوابه انتهى
وقد ورد مرفوعا عن سهل بن سعد عن النبي قال من دخل مسجدي هذا ليتعلم خيرا أو ليعلمه كان كالمجاهد في سبيل الله وعن أبي أمامة عن النبي قال من غدا إلى المسجد لا
____________________
(1/460)
يريد إلا أن يتعلم خيرا أو يعلمه كان كأجر حاج تاما حجه أخرجهما الطبراني وإسناد كل منهما حسن كذا قال السيوطي
وإنما يوافق الحديث الأول رواية الموطأ بقياس بقية المساجد على المسجد النبوي
وأما الثاني فحديث آخر جعل ثوابه كالحج لا كالجهاد
( مالك عن نعيم ) بضم النون ( ابن عبد الله المجمر ) بضم الميم وسكون الجيم وكسر الميم الثانية صفة لنعيم ولأبيه أيضا كما تقدم ( أنه سمع أبا هريرة يقول إذا صلى أحدكم ) فرضا أو نفلا لأن حذف المفعول يؤذن بالعموم وقد استظهر ذلك ابن أبي جمرة ( ثم جلس في مصلاه لم تزل الملائكة تصلي عليه ) تدعو له قائلين ( اللهم اغفر له اللهم ارحمه فإن قام من مصلاه فجلس في المسجد ينتظر الصلاة لم يزل في صلاة ) حكما من الثواب ( حتى يصلي ) قال ابن عبد البر هذا مثل حديثه المرفوع قبل إلا أن في هذا أن من قام من مجلسه لا يخرج من ثواب المصلي إذا كان منتظرا للصلاة إلا أنه لا يقال إن الملائكة تصلي عليه كما تصلي على الذي في مصلاه قال وهو في الموطأ موقوف وقد رفعه عن مالك بهذا الإسناد ابن وهب عند ابن الجارود وعثمان بن عمرو والوليد بن مسلم عند النسائي وأخرجه ابن عبد البر من رواية إسماعيل بن جعفر عن مالك عن نعيم عن أبي سلمة عن أبي هريرة مرفوعا انتهى
وقد صرح نعيم بسماعه أبا هريرة فكأنه سمع منه الموقوف ومن أبي سلمة عنه المرفوع
( مالك عن العلاء بن عبد الرحمن بن يعقوب ) المدني صدوق مات سنة بضع وثلاثين ومائة ( عن أبيه ) عبد الرحمن الجهني المدني ثقة ( عن أبي هريرة أن رسول الله قال ألا ) بفتح الهمزة والتخفيف حرف تنبيه يفيد تحقيق ما بعده لتركبها من الهمزة ولا النافية وهمزة الاستفهام إذا دخلت على النفي أفادت التحقيق ( أخبركم بما يمحو الله به الخطايا ) قال الباجي كناية عن غفرانها والعفو عنها وقد يكون محوها من كتاب الحفظة دليلا على عفوه تعالى عمن كتبت عليه ( ويرفع به الدرجات ) أي المنازل في الجنة ويحتمل أن يريد رفع درجته في الدنيا بالذكر الجميل وفي الآخرة بالثواب الجزيل
وقال أبو عمر هذا الحديث من أحسن ما يروى في فضائل الأعمال وفيه طرح المسألة على المتعلم
زاد في رواية لمسلم قالوا بلى يا رسول الله قال الأبي جوابهم ببلى يدل على أن لا في ألا نافية دخلت عليها ألف الاستفهام ويحتمل أنها للاستفتاح ( إسباغ الوضوء ) أي إكماله وإتمامه واستيعاب أعضائه بالماء قال تعالى { وأسبغ عليكم نعمه }
____________________
(1/461)
( سورة لقمان الآية 20 ) أي أتمها وأكملها ( عند المكاره ) جمع مكرهة بمعنى الكره والمشقة قال أبو عمر هي شدة البرد وكل حال يكره المرء فيها نفسه على الوضوء قال عبيد بن عمير من صدق الإيمان وبره إسباغ الوضوء على المكاره ومن صدق الإيمان أن يخلو الرجل بالمرأة الجميلة فيدعها لا يدعها إلا لله
وقال الباجي ومن المكاره شدة برد وعلة جسم وقلة ماء وحاجة إلى النوم وعجلة إلى أمر مهم وغير ذلك
( وكثرة الخطا ) بالضم جمع خطوة بالفتح المرة والضم ما بين القدمين ( إلى المساجد ) وهو يكون ببعد الدار عن المسجد ويكون بكثرة التكرر عليه قال اليعمري وفيه أن بعد الدار عن المسجد أفضل وقد صرح به في قوله لبني سلمة وقد أرادوا أن يتحولوا قريبا من المسجد يا بني سلمة دياركم تكتب آثاركم
وقال الأبي عن العز بن عبد السلام لا يمر إلى المسجد من أبعد طريقيه ليكثر الخطا لأن الغرض الحصول في المسجد وهو يحصل بالقريبة قال والحديث إنما هو تنشيط لمن بعدت داره أن لا يكسل ومن نحو ما ذكر أن لا يؤثر أبعد المسجدين منه بالصلاة فيه مع ما جاء لا صلاة لجار المسجد إلا في المسجد وقالت عائشة يا رسول الله إن لي جارين فإلى أيهما أهدي قال إلى أقربهما دارا وإمام المسجد لا يمنعه أخذ المرتب من ثواب تكرره إليه انتهى
( وانتظار الصلاة بعد الصلاة ) قال المظهري أي إذا صلى بالجماعة ينتظر صلاة أخرى يتعلق ذكره لها أما بأن يجلس في المسجد ينتظرها أو يكون في بيته أو يشتغل بكسبه وقلبه متعلق بها ينتظر حضورها فكل ذلك داخل في هذا الحكم ويؤيده حديث ورجل قلبه معلق بالمسجد إذا خرج منه حتى يعود إليه انتهى
وقال الباجي هذا إنما يكون في صلاتين العصر بعد الظهر والعشاء بعد المغرب وأما انتظار الصبح بعد العشاء فلم يكن من عمل الناس وكذا انتظار الظهر بعد الصبح وأما انتظار المغرب بعد العصر فلا أذكر فيه نصا وحكمه عندي كالصبح بعد العشاء والظهر بعد الصبح لأن الذي ينتظر صلاة ليس بينها وبين التي صلى اشتراك في وقت قال وفي ظني أني رأيته رواية لابن وهب عن مالك ولا أذكر موضعها الآن وتعقبه الأبي بأنه ليس في الحديث ما يدل على المشتركتين لولا ما ذكره أنه ليس من عمل الناس وهو بناء على أنه يعني بالانتظار الجلوس بالمسجد
قال ابن العربي ويحتمل أن يريد به تعلق القلب بالصلاة فيعم الخمس قال الشيخ يعني ابن عرفة جلوس الإمام في المسجد ينتظر الصلاة يدفع بذلك مشقة الرجوع لبعد أو مطر لا يمنع من نيل الثواب وفي المذكور وفي انتظار الإمام ذلك بالدويرة التي بالجامع نظر انتهى
( فذلكم ) المذكور من الثلاثة عند الطيبي وابن عرفة أو الإشارة لانتظار الصلاة كما عليه ابن عبد البر وقال الأبي إنه الأظهر ( الرباط ) المرغب فيه لأنه ربط نفسه على هذا العمل وحبسها عليه
____________________
(1/462)
ويحتمل أن يريد تفضيل هذا الرباط على غيره من الرباط في الثغور ولذا قال ( فذلكم الرباط ) أي أنه أفضل أنواعه كما يقال جهاد النفس هو الجهاد أي أنه أفضله ويحتمل أن يريد الرباط الممكن المتيسر وقد قال الشيخ أبو إسحاق الشيرازي إن ذلك من ألفاظ الحصر
( فذلكم الرباط ) ذكره ثلاثا على معنى التعظيم لشأنه أو الإبهام أو غير ذلك قاله الباجي وقيل أراد أن ثوابه كثواب الرباط
وقال ابن العربي يعني به تفسير قوله تعالى { اصبروا وصابروا ورابطوا } سورة آل عمران الآية 200 وقال أبو عمر الرباط هنا ملازمة المسجد لانتظار الصلاة قال صاحب العين الرباط ملازمة الثغور والرباط مواظبة الصلاة
وقال أبو سلمة بن عبد الرحمن في قوله تعالى { اصبروا وصابروا ورابطوا } لم يكن الرباط على عهده ولكن نزلت في انتظار الصلاة
وقال محمد بن كعب القرظي اصبروا على دينكم وصابروا الوعد الذي وعدتكم ورابطوا عدوي وعدوكم انتهى
وقال الطيبي في قوله فذلكم الرباط معنى حديث رجعنا من الجهاد الأصغر إلى الجهاد الأكبر لإتيانه باسم الإشارة الدال على بعد منزلة المشار إليه في مقام التعظيم وإيقاع الرباط المحلى بلام الجنس خبرا لاسم الإشارة كما في قوله { الم ذلك الكتاب } سورة البقرة الآية 1 إذ التعريف في الخبر للجنس ولما أريد تقرير ذلك مزيد تقرير واهتمام بشأنه كرره ثلاثا وتخصيصها بالثلاث لأن الأعمال المذكورة في الحديث ثلاث وأتى باسم الإشارة إشارة إلى تعظيمه بالبعد وهذا الحديث رواه مسلم من طريق معن عن مالك به وتابعه إسماعيل وشعبة كلاهما عن العلاء إلا أنه ليس في حديث شعبة ذكر الرباط وفي رواية إسماعيل فذلكم الرباط مرة وفي حديث مالك مرتين كذا قال مسلم بناء على رواية معن عنده وإلا فأكثر الموطآت ثلاثا وكذا أخرجه الشافعي وأحمد والترمذي والنسائي كلهم من طريق مالك ثلاثا
( مالك أنه بلغه أن سعيد بن المسيب قال يقال لا يخرج أحد من المسجد بعد النداء ) لأنه دعاء إلى صلاة الجماعة فمن خرج حينئذ فقصد خلافهم وتفريق جماعتهم وهذا ممنوع باتفاق
( إلا أحد يريد الرجوع إليه ) وقد نزلت به ضرورة حديث أو غيره فإن كانت ظاهرة كرعاف منعت سوء الظن به وإن كانت باطنة قبض على أنفه كالراعف
( إلا منافق ) يريد أن ذلك من أفعال المنافقين وهذا ما لم يكن صلى تلك الصلاة جماعة وإلا خرج عند النداء والإقامة فإن كان صلاها فذا فقال ابن الماجشون له أن يخرج ما لم تقم الصلاة فيلزمه إعادتها جماعة قاله كله الباجي
قال ابن عبد البر هذا لا يقال مثله من جهة الرأي ولا يكون إلا توقيفا انتهى وقد صح مرفوعا
أخرج الطبراني برجال الصحيح عن أبي هريرة قال قال رسول الله لا يسمع النداء في مسجدي هذا ثم يخرج منه إلا لحاجة ثم لا يرجع إليه إلا منافق وفي مسلم وأبي داود وأحمد عن أبي الشعثاء قال كنا قعودا في المسجد مع أبي هريرة فأذن
____________________
(1/463)
المؤذن فقام رجل من المسجد يمشي فأتبعه أبو هريرة بصره حتى خرج من المسجد فقال أبو هريرة أما هذا فقد عصى أبا القاسم زاد في رواية أحمد ثم قال أبو هريرة أمرنا رسول الله إذا كنتم في المسجد فنودي بالصلاة فلا يخرج أحدكم حتى يصلي قال ابن عبد البر قال مالك دخل أعرابي المسجد وأذن المؤذن فقام يحل عقال ناقته ليخرج فنهاه سعيد بن المسيب فلم ينته فما سارت به غير يسير حتى وقعت به فأصيب في جسده فقال سعيد قد بلغنا أن من خرج بين الأذان والإقامة لغير الوضوء أنه يصاب
( مالك عن عامر بن عبد الله بن الزبير ) بن العوام الأسدي أبي الحارث المدني ثقة عابد مات سنة إحدى وعشرين ومائة
( عن عمرو ) بفتح العين ( ابن سليم ) بضم السين ابن خلدة بسكون اللام الأنصاري ( الزرقي ) بضم الزاي وفتح الراء بعدها قاف ثقة من كبار التابعين مات سنة أربع ومائة ويقال له روية
( عن أبي قتادة الأنصاري ) اسمه الحارث ويقال عمرو أو النعمان بن ربعي بكسر الراء وسكون الموحدة بعدها مهملة السلمي بفتحتين المدني شهد أحدا وما بعدها ولم يصح شهوده بدرا ومات سنة أربع وخمسين وقيل سنة ثمان وثلاثين والأول أصح وأشهر
( أن رسول الله قال إذا دخل أحدكم المسجد ) وهو متوضىء ( فليركع ) أي فليصل من إطلاق الجزء وإرادة الكل ( ركعتين ) هذا العدد لا مفهوم لأكثره باتفاق واختلف في أقله والصحيح اعتباره فلا يتأدى هذا المستحب بأقل من ركعتين ( قبل أن يجلس ) فإن خالف وجلس لم يشرع له التدارك كذا قال جماعة وفيه نظر لما رواه ابن حبان عن أبي ذر أنه دخل المسجد فقال له النبي أركعت ركعتين قال لا قال قم فاركعهما ترجم عليه ابن حبان في صحيحه تحية المسجد لا تفوت بالجلوس ومثله في قصة سليك
وقال المحب الطبري يحتمل أن يقال وقتهما قبل الجلوس وقت فضيلة وبعده وقت جواز ويقال وقتهما قبله أداء وبعده قضاء
ويحتمل أن يحمل مشروعيتهما بعد الجلوس على ما لم يطل الفصل واتفق أئمة الفتوى على أن الأمر للندب وقال الظاهرية للوجوب ومن أدلة عدمه قوله الذي رآه يتخطى اجلس فقد آذيت ولم يأمره بصلاة كذا استدل به الطحاوي وغيره
قال الحافظ وفيه نظر
وقال الطحاوي أيضا الأوقات التي نهي عن الصلاة فيها ليس هذا الأمر بداخل فيها قلت هما عمومان تعارضا الأمر بالصلاة لكل داخل من غير تفصيل والنهي عن الصلاة في أوقات مخصوصة فلا بد من تخصيص أحد العمومين فذهب جمع إلى تخصيص النهي وتعميم الأمر
____________________
(1/464)
وهو الأصح عند الشافعية وذهب جمع إلى عكسه وهو مذهب المالكية والحنفية انتهى
وخص منه أيضا إذا دخل والإمام يصلي الفرض أو شرع في الإقامة أو قربها لحديث إذا أقيمت الصلاة فلا صلاة إلا المكتوبة وإن دخل المسجد ليمر فيه فقال مالك ليس عليه تحية لقوله قبل أن يجلس وهذا لم يرد الجلوس وهذا فيما عدا المسجد الحرام فتحيته الطواف وتندرج التحية تحت ركعتي الطواف والحديث أخرجه البخاري عن عبد الله بن يوسف عن يحيى كلاهما عن مالك به وقد ورد على سبب وهو أن أبا قتادة دخل المسجد فوجد النبي جالسا بين أصحابه فجلس معهم فقال له ما منعك أن تركع قال رأيتك جالسا والناس جلوس قال فإذا دخل أحدكم المسجد فلا يجلس حتى يركع ركعتين أخرجه مسلم
( مالك عن أبي النضر ) سالم بن أبي أمية ( مولى عمر بن عبيد الله ) بضم العين فيهما ( عن أبي سلمة بن عبد الرحمن ) بن عوف ( أنه قال له ) أي لأبي النضر ( ألم أر صاحبك ) أي عمر بن عبيد الله بن معمر التيمي تيم قريش ( إذا دخل المسجد يجلس قبل أن يركع قال أبو النضر يعني بذلك عمر بن عبيد الله ) الذي هو مولاه سماه صاحبه ( ويعيب ذلك عليه أن يجلس إذا دخل المسجد قبل أن يركع ) التحية بدل من الإشارة قال ابن عبد البر إنما عاب عليه تقصيره عن حفظ نفسه في استعمال السنة مع قدرته عليها لا أن ذلك كان واجبا عنده ولذا ( قال مالك وذلك حسن ) أي مستحب ( وليس بواجب ) وعلى هذا جماعة الفقهاء وأوجب أهل الظاهر على كل من دخل المسجد طاهرا في حين تجوز فيه النافلة أن يركع وأوجب بعضهم ذلك في كل وقت وقالوا فعل الخير لا يمنع منه إلا بدليل معارض له ولم يقولوا بالمجمل ودليل مالك والجماعة أنه أمر رجلا دخل المسجد وهو يخطب يوم الجمعة أن يركع وأمر الذي رآه يتخطى رقاب الناس بالجلوس ولم يقل له اركع واستعمال الأحاديث لا يكون إلا على ما قال مالك وقال زيد بن أسلم كان الصحابة يدخلون المسجد ثم يخرجون ولا يصلون قال ورأيت ابن عمر يفعله وكذا سالم ابنه وكان القاسم بن محمد يدخل المسجد فيجلس ولا يصلي وفي قوله للأعرابي الذي قال في الصلوات الخمس هل علي غيرها قال لا إلا أن تطوع ما يرد قول أهل الظاهر انتهى
____________________
(1/465)
وكذا نقل ابن بطال عن أهل الظاهر الوجوب وتوقف الحافظ فيه بأن ابن حزم صرح بعدمه
ولا توقف لأنه وإن كان ظاهريا لا يمتنع أن يخالفهم في مسائل ككثير من مقلدي الأئمة
وضع اليدين على ما يوضع عليه الوجه في السجود
مالك عن نافع أن عبدالله بن عمر كان إذا سجد وضع كفيه على الذي يضع عليه جبهته لأنه السنة ولأن اليدين مما يرفع ويوضع في السجود كالوجه بخلاف سائر الأعضاء ويستحب أن يباشر بجبهته الأرض قال الباجي قال نافع ولقد رأيته في يوم شديد البرد وإنه ليخرج كفيه من تحت برنس له حتى يضعهما على الحصباء تحصيلا للأفضل حتى روي أنه كان يخرجهما وأنهما ليقطران دما وكان سالم وقتادة وغيرهما يباشرون بأكفهم الأرض وأمر بذلك عمر وكان جماعة من التابعين يسجدون وأيديهم في ثيابهم وحديث صلى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم في مسجد بني عبد الأشهل فرأيته واضعا يديه في ثوبه إذا سجد ضعيف لأن رواية اسماعيل بن أبي حبيبة لا يحتج به إذا انفرد لضعفه قاله أبو عمر
مالك عن نافع أن عبد الله بن عمر كان يقول من وضع جبهته بالأرض فاليضع كفيه على الذي يضع عليه جبهته لأن ذلك مأمور به مرغوب فيه ثم إذا رفع فليرفعهما لأن رفعهما فرض عند الجميع إذ لا يعتدل من لم يرفعهما والاعتدال في الركوع والسجود والرفع منهما فرض لأمره صلى الله عليه وسلم بذلك وفعله له وقوله صلوا كما رأيتمون يأصلي وقوله صلى الله علي وسلم لا ينظر الله عز وجل إلى من لا يقيم صلبه في ركوعه وسجوده ولا خلاف في ذلك إنما الخلاف في الطمأنينة بعد الاعتدال ولم نعد قوله أبي حنيفة وبعض أصحابنا خلافا لأنهم محجوجون بالآثار وبما عليه الجمهور كذا قال ابن عبد البر
فإن اليدين تسجدان كما يسجد الوجه تعليل للأمر بوضعهما على الأرض وفي الصحيحين عن ابن عباس أمر النبي صلى الله عليه وسلم أن نسجد على سبعة أعضاء و لا نكف شعرا ولا ثوبا الجبهة واليدين ولمسلم والكفين والركبيتن والرجلين وفي الصحيح أيضا عن ابن عباس قال قال النبي صلى الله عيل وسلم أمرت أن أسجد لى سبعة أعظم على الجبة وأشار بيده على أنفه واليدين والركبتين وأطراف القدمين ولا نكفت الثياب والشعر
____________________
(1/466)
97 الالتفات والتصفيق عند الحاجة في الصلاة ( مالك عن أبي حازم ) بمهملة وزاي سلمة ( ابن دينار عن سهل بن سعد الساعدي ) الخزرجي الصحابي ابن الصحابي ( أن رسول الله ذهب إلى بني عمرو بن عوف ) بن مالك بن الأوس أحد قبيلتي الأنصار وهما الأوس والخزرج وبنو عمرو وبطن كبير من الأوس فيه عدة أحياء كانت منازلهم بقبا ( ليصلح بينهم ) لأن رجلين منهم تشاجرا كما في رواية المسعودي عن أبي حازم
وللنسائي من طريق سفيان عن أبي حازم عن سهل قال وقع بين حيين من الأنصار كلام
وللبخاري من رواية محمد بن جعفر عن أبي حازم عن سهل أن أهل قبا اقتتلوا حتى تراموا بالحجارة فأخبر رسول الله بذلك فقال اذهبوا بنا نصلح بينهم وله من رواية أبي غسان عن أبي حازم فخرج في أناس من أصحابه وسمى الطبراني منهم من طريق موسى بن محمد عن أبي حازم أبي بن كعب وسهل بن بيضاء وله من رواية عمر بن علي عن أبي حازم أن الخبر جاء بذلك وقد أذن بلال بصلاة الظهر
وللبخاري من طريق حماد بن زيد عن أبي حازم أنه ذهب إليهم بعد أن صلى الظهر قال الباجي فيه جواز إصلاح الإمام والحاكم بين الناس وأن يذهبا بأنفسهما فيما احتاجا إلى مشاهدته من القضايا
وقال غيره فيه فضل الإصلاح بين الناس وجمع كلمة القبيلة وحسم مادة القطيعة وتوجه الإمام بنفسه إلى بعض رعيته لذلك وتقديم مثل ذلك على مصلحة الإمام بنفسه واستنبط منه توجه الحاكم لسماع دعوى بعض الخصوم إذا رجح ذلك على استحضارهم
( وحانت الصلاة ) أي صلاة العصر كما في البخاري من رواية حماد عن أبي حازم ( فجاء المؤذن ) بلال ( إلى أبي بكر الصديق ) ولأحمد وأبي داود وابن حبان من طريق حماد فقال لبلال إن حضرت العصر ولم آتيك فمر أبا بكر فليصل بالناس فلما حضرت العصر أذن بلال ثم أقام ثم أمر أبا بكر فتقدم ونحوه للطبراني من رواية موسى بن محمد عن أبي حازم ولا يخالف قوله
( فقال أتصلي للناس ) لأنه استفهمه هل يبادر أول الوقت أو ينتظر قليلا ليأتي النبي ورجح عبد أبي بكر المبادرة لأنها فضيلة متحققة فلا تترك لفضيلة متوهمة ذكره الحافظ
( فأقيم ) بالنصب جواب الاستفهام ويجوز الرفع خبر محذوف هو فأنا أقيم
( قال نعم ) زاد البخاري من رواية عبد العزيز بن أبي حازم عن أبيه إن شئت وإنما فوض له ذلك لاحتمال أن عنده زيادة علم من النبي
( فصلى أبو بكر ) أي دخل في الصلاة
وللبخاري من رواية عبد العزيز وتقدم أبو بكر فكبر
وللطبراني من رواية المسعودي عن أبي حازم فاستفتح أبو بكر الصلاة
( فجاء رسول الله والناس في الصلاة ) جملة حالية
____________________
(1/467)
قال الحافظ وبهذا يجاب عن الفرق بين المقامين حيث امتنع أبو بكر هنا أن يستمر إماما واستمر في مرض موته حين صلى خلفه الركعة الثانية من الصبح كما صرح به موسى بن عقبة في المغازي فكأنه لما أن مضى معظم الصلاة حسن الاستمرار ولما لم يمض منها إلا اليسير لم يستمر وكذا وقع لعبد الرحمن بن عوف حيث صلى النبي خلفه الركعة الثانية من الصبح فاستمر في صلاته إماما لهذا المعنى فتخلص
( حتى وقف في الصف ) الأول فأل للعهد قاله الباجي
وللبخاري من رواية عبد العزيز فجاء النبي يمشي في الصفوف يشقها شقا حتى قام في الصف الأول ولمسلم فخرق الصفوف حتى قام عند الصف المقدم وفيه جواز شق الصفوف والمشي بين المصلين لقصد الوصول إلى الصف الأول لكنه مقصور على من يليق ذلك به كالإمام أو من كان بصدد أن يحتاج الإمام إلى استخلافه أو من أراد سد فرجة في الصف الأول أو ما يليه مع ترك من يليه سدها ولا يعد ذلك من الأذى قال المهلب ولا تعارض بين هذا وبين النهي عن التخطي لأن النبي ليس كغيره في أمر الصلاة ولا غيرها لأن له أن يتقدم بسبب ما ينزل عليه من الأحكام وأطال في تقرير ذلك وتعقب بأن هذا ليس في الخصائص وقد أشار هو إلى المعتمد في ذلك فقال ليس في ذلك شيء من الأذى والجفاء الذي يقع في التخطي وليس كمن شق الصفوف والناس جلوس لما فيه من تخطي رقابهم
وقال الباجي هذا أصل في من رأى فرجة في الصف المقدم أن يشق الصفوف إليها
روى ابن القاسم عن مالك لا بأس أن يخرق صفا إلى فرجة يراها في صف آخر
وقال أبو عمر في تخلل الصفوف ودفع الناس والتخلص بينه للرجل الذي يليق به الصلاة في الصف الأول حتى يصل إليه ومن شأنه أن يكون فيه أهل الفضل والعلم بحدود الصلاة لقوله ليليني منكم أولو الأحلام والنهي يريد ليحفظوا عنه ما يكون منه في صلاته وكذا ينبغي أن يكون من فيه يصلح للاستخلاف إن ناب الإمام شيء ممن يعرف إصلاحها
( فصفق الناس ) وفي رواية عبد العزيز فأخذ الناس في التصفيح قال سهل أتدرون ما التصفيح هو التصفيق وهذا يدل على ترادفهما عنده فلا يلتفت إلى ما يخالف ذلك
( وكان أبو بكر لا يلتفت في صلاته ) لعلمه بالنهي عن ذلك وقد صح أنه اختلاس يختلسه الشيطان من صلاة العبد
( فلما أكثر الناس من التصفيق ) قال الباجي يريد صفق منهم العدد الكثير لا أن كل واحد منهم أكثر التصفيق
وفي رواية حماد بن زيد فلما رأى التصفيح لا يمسك عنه التفت أبو بكر فيه أنه لا يبطل الصلاة ولا خلاف فيه ويكره لغير سبب قاله الباجي قال أبو عمر لأنه لو أفسدها لأمره بالإعادة فحكم ما أقر عليه حكم ما أباحه قولا وعملا
____________________
(1/468)
( فرأى رسول الله فأشار إليه رسول الله ) فيه أن الإشارة باليد والعين وغيرهما جائزة في الصلاة
وقد روى عبد الرزاق عن أنس وابن عمر أن النبي كان يشير في الصلاة ( أن امكث مكانك ) وفي رواية عبد العزيز فأشار إليه يأمره أن يصلي
وفي رواية عمر بن علي فدفع في صدره ليتقدم فأبى ( فرفع أبو بكر يديه فحمد الله على ما أمره به رسول الله من ذلك ) أي الوجاهة في الدين وظاهره أنه تلفظ بالحمد لكن في رواية الحميدي عن سفيان فرفع أبو بكر رأسه إلى السماء شكرا لله ورجع القهقري
وادعى ابن الجوزي أنه أشار بالشكر والحمد بيده ولم يتكلم وليس في رواية الحميدي ما يمنع أنه تلفظ
ويقويه رواية أحمد من طريق عبد العزيز الماجشون عن أبي حازم يا أبا بكر لم رفعت يديك وما منعك أن تثبت حين أشرت إليك قال رفعت يدي لأني حمدت الله على ما رأيت منك وفيه رفع الأيدي في الصلاة عند الدعاء والثناء والحمد لمن تجددت له نعمة في الصلاة والالتفات للحاجة وأن مخاطبة المصلي بالإشارة أولى من العبارة
( ثم استأخر ) أبو بكر أي تأخر من غير استدبار للقبلة ولا انحراف عنها ( حتى استوى ) في الصف الذي يليه ففيه أن العمل القليل في الصلاة جائز
( وتقدم رسول الله فصلى ) بالناس ففيه جواز صلاة واحدة بإمامين أحدهما بعد الآخر وأن الإمام الراتب إذا غاب يستخلف غيره فإذا حضر بعد أن دخل نائبه في الصلاة خير بين أن يأتم به أو يؤم هو ويصير النائب مأموما من غير أن يقطع الصلاة ولا تبطل بذلك صلاة أحد من المأمومين
وادعى ابن عبد البر أن ذلك من خصائصه وادعى الإجماع على عدم جواز ذلك لغيره ونوقض بأن الخلاف ثابت والصحيح المشهور عند الشافعية الجواز
وعن ابن القاسم في الإمام يحدث فيستخلف ثم يرجع فيخرج المستخلف ويتم الأول أن الصلاة صحيحة كذا في فتح الباري وهو تحامل فإن ابن عبد البر لم يدع ذلك ولم يطلق الإجماع إنما قال هذا موضع خصوص عند جمهور العلماء لا أعلم بينهم خلافا أن المأمومين في صلاة واحدة من غير عذر حدث يقطع صلاة الإمام ويوجب استخلافه لا يجوز وفي إجماعهم على هذا دليل على خصوص هذا الموضع لفضله ولأنه لا نظير له في ذلك ولأن الله أمر أن لا يتقدموا بين يدي الله ولا رسوله وهذا على عمومه في الصلاة والفتوى والأمور كلها ألا ترى إلى قول أبي بكر ما كان لابن أبي قحافة الخ
وفضيلة الصلاة خلفه لا يجهلها مسلم ولا يلحقها أحد وأما سائر الناس فلا ضرورة بهم إلى ذلك لأن الأول والثاني سواء ما لم يكن عذر وموضع الخصوص من هذا الحديث استئخار الإمام لغيره من غير حدث يقطع الصلاة ثم ذكر ما نقل عن ابن القاسم من رواية عيسى عنه فأنت تراه قيد الخصوصة بقوله عند جمهور العلماء
____________________
(1/469)
فهو نقل لا دعوى فقوله وفي إجماعهم يعني إجماع الجمهور لا مطلقا كما فهم المعترض وممن سبقه إلى عد ذلك خصوصية يحيى بن عمر رادا به على قول ابن القاسم وقال الباجي إنه الأظهر
( ثم انصرف ) من الصلاة ( فقال يا أبا بكر ما منعك أن تثبت ) على إمامتك ( إذ ) حين ( أمرتك ) بالإشارة ففيه أنها تقوم مقام النطق لمعاتبته على مخالفة إشارته وفيه أنه لو صلى بهم جاز لأن محل النهي عن التقدم بين يديه إلا بأمره كما قاله ابن عبد البر وفيه إكرام الكبير بمخاطبته بالكنية
( فقال أبو بكر ما كان ) ينبغي ( لابن أبي قحافة ) بضم القاف وخفة الحاء المهملة عثمان بن عامر أسلم في الفتح وتوفي سنة أربع عشرة في خلافة عمر وعبر بذلك دون أن يقول ما كان لي أو لأبي بكر تحقيرا لنفسه واستصغارا لمرتبته ( أن يصلي بين يدي رسول الله ) وفي رواية حماد وابن الماجشون أن يؤم النبي ( ) ففيه أن من أكرم بكرامة يخير بين القبول والترك إذا فهم أن الأمر ليس على اللزوم وكان القرينة التي بينت لأبي بكر ذلك أنه شق الصفوف حتى انتهى إليه ففهم أن مراده أن يؤم الناس وأن أمره إياه بالاستمرار في الإمامة للإكرام والتنويه بقدره فسلك هو طريق الأدب ولذا لم يرد اعتذاره وفيه جواز إمامة المفضول للفاضل وسؤال الرئيس عن سبب مخالفة أمره
( فقال ما لي رأيتكم أكثرتم من التصفيح ) بالحاء المهملة أي التصفيق كما قاله سهل راوي الحديث فهما بمعنى واحد وبه جزم الخطابي وأبو علي القالي والجوهري وغيرهم وادعى ابن حزم نفي الخلاف في ذلك وتعقب بما حكاه عياض في الإكمال أنه بالحاء ضرب ظاهر إحدى اليدين على الأخرى وبالقاف باطنها على باطن الأخرى وقيل بالحاء الضرب بأصبعين للإنذار والتنبيه وبالقاف لجميعها للهو واللعب
وأغرب الداودي فزعم أن الصحابة ضربوا بأكفهم على أفخاذهم قال عياض كأنه أخذه من حديث معاوية بن الحكم عند مسلم ففيه فجعلوا يضربون بأيديهم على أفخاذهم ( من نابه ) أي أصابه ( شيء في صلاته فليسبح ) أي فليقل سبحان الله كما للبخاري عن يعقوب بن عبد الرحمن عن أبي حازم وفيه جواز التسبيح في الصلاة لأنه من ذكر الله ولو كان مراد المسبح إعلام غيره بما وقع له خلافا لمن قال بالبطلان واستنبط منه ابن عبد البر جواز الفتح على الإمام لأن التسبيح إذا جاز جازت التلاوة من باب أولى
( فإنه إذا سبح التفت إليه ) بضم الفوقية مبني للمجهول وفي رواية يعقوب المذكورة فإنه لا يسمعه أحد حين يقول سبحان الله إلا التفت
( وإنما التصفيح للنساء ) أي هو من شأنهن في غير الصلاة قاله على جهة الذم له فلا ينبغي في الصلاة فعله لرجل ولا امرأة بل التسبيح للرجال والنساء جميعا
____________________
(1/470)
لعموم قوله من نابه شيء ولم يخص رجالا من نساء هكذا تأوله مالك وأصحابه ومن وافقهم على كراهة التصفيق للنساء وتعقبه ابن عبد البر بزيادة أبي داود وغيره عن حماد بن زيد عن أبي حازم عن سهل في آخر الحديث إذا نابكم شيء في الصلاة فليسبح الرجال وليصفق النساء قال فهذا قاطع في موضع الخلاف يرفع الإشكال لأنه فرق بين حكم الرجال والنساء
وقال القرطبي القول بمشروعية التصفيق للنساء هو الصحيح خبرا ونظرا لأنها مأمورة بخفض صوتها في الصلاة مطلقا لما يخشى من الافتتان ومنع الرجال من التصفيق لأنه من شأن النساء وهذا الحديث أخرجه البخاري عن عبد الله بن يوسف ومسلم عن يحيى بن يحيى كلاهما عن مالك به
( مالك عن نافع أن ابن عمر لم يكن يلتفت في صلاته ) لأنه كان شديد الاتباع للمصطفى وقد أخرج ابن عبد البر عن نافع قال سئل ابن عمر أكان النبي يلتفت في الصلاة قال لا ولا في غير الصلاة وهو مكروه بإجماع والجمهور على أنها للتنزيه وقال أهل الظاهر يحرم إلا لضرورة
وفي البخاري عن عائشة سألت رسول الله عن الالتفات في الصلاة فقال هو اختلاس يختلسه الشيطان من صلاة العبد وروى أحمد وابن خزيمة وأبو داود والنسائي عن أبي ذر رفعه لا يزال الله مقبلا على العبد في صلاته ما لم يلتفت فإذا صرف وجهه عنه انصرف وجمهور الفقهاء أنه إذا قل لا يفسد الصلاة
( مالك عن أبي جعفر القارىء ) بالهمز تقدم الخلاف في اسمه وهو أحد القراء المشهورين ( أنه قال كنت أصلي وعبد الله بن عمر ورائي ولا أشعر به فالتفت ) زاد في رواية مصعب فوضع يده في قفاي ( فغمزني ) فبين أنه غمزه في قفاه إشارة إلى نهيه عنه وسبب كراهة الالتفات يحتمل لنقص الخشوع أو لترك استقبال القبلة ببعض البدن والمراد به ما لم يستدبر القبلة بصدره أو بعنقه عند قوم
98 ما يفعل من جاء والإمام راكع رح 394 ( مالك عن ابن شهاب عن أبي أمامة ) بضم الهمزة اسمه أسعد وقيل سعد ( بن سهل ) بفتح فسكون ( ابن حنيف ) بضم المهملة وفتح النون الأنصاري معروف بكنيته معدود في الصحابة لأن له رؤية ولم يسمع من النبي صلى الله عليه وسلم مات سنة مائة وله اثنان وتسعون سنة وأبوه صحابي شهير من أهل بدر
____________________
(1/471)
( أنه قال دخل زيد بن ثابت المسجد فوجد الناس ركوعا فركع ثم دب حتى وصل الصف ) راكعا
( مالك أنه بلغه أن عبد الله بن مسعود كان يدب راكعا ) قال أبو عمر لا أعلم لهما مخالفا من الصحابة إلا أبا هريرة فقال لا تركع حتى تأخذ مقامك من الصف
قال وقاله رسول الله صلى الله عليه وسلم واستحبه الشافعي قال فإن فعل فلا شيء عليه وأجاز مالك والليث للرجل وحده أن يركع ويمشي إلى الصف إذا كان قريبا قدر ما يلحق راكعا وقاله إسماعيل القاضي ورواه ابن القاسم وكرهه أبو حنيفة والثوري للواحد وأجازه للجماعة
قال الباجي قال ابن القاسم عن مالك والقرب في ذلك نحو صفين أو ثلاثة
99 ما جاء في الصلاة على النبي الصلاة لغة الدعاء قال تعالى { وصل عليهم } سورة التوبة الآية 103 أي ادع لهم والدعاء نوعان دعاء عبادة ودعاء مسألة فالعابد داع كالسائل وبهما فسر قوله تعالى { ادعوني أستجب لكم } سورة غافر الآية 60 أي أطيعوني أثبكم أو سلوني أعطكم وترد بمعنى الاستغفار كقوله إني بعثت إلى أهل البقيع لأصلي عليهم فسر في رواية أمرت أن أستغفر لهم وبمعنى القراءة ولا تجهر بصلاتك فيختلف حال الصلاة بحسب حال المصلي والمصلى له والمصلى عليه
ونقل البخاري وأخرجه ابن أبي حاتم عن أبي العالية أحد كبار التابعين صلاة الله على نبيه ثناؤه عليه عند ملائكته وصلاة الملائكة الدعاء
ورجح الشهاب القرافي أنها من الله المغفرة
وقال الرازي والآمدي الرحمة وتعقب بأنه غاير بينهما في قوله { أولئك عليهم صلوات من ربهم ورحمة } سورة البقرة الآية 157 وقال ابن الأعرابي الصلاة من الله الرحمة ومن الآدميين وغيرهم من الملائكة والجن الركوع والسجود والدعاء والتسبيح ومن الطير والهوام التسبيح قال تعالى { كل قد علم صلاته وتسبيحه } سورة النور الآية 41
رح 396 ( مالك عن عبد الله بن أبي بكر بن حزم ) بفتح المهملة وإسكان الزاي نسبة لجده
وفي رواية ابن وضاح وغيره أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم على الأصل ( عن أبيه ) أبي بكر اسمه وكنيته واحد وقيل يكنى أبا محمد ( عن عمرو ) بفتح العين ( ابن سليم ) بضم السين ( الزرقي ) بضم الزاي وفتح الراء وكسر القاف ( أنه قال أخبرني ) بالإفراد ( أبو حميد ) بضم الحاء ( الساعدي ) الصحابي الشهير
____________________
(1/472)
اسمه المنذر بن سعد بن المنذر أو ابن مالك وقيل اسمه عبد الرحمن وقيل عمرو شهد أحدا وما بعدها وعاش إلى أول سنة ستين ( أنهم ) أي الصحابة ( قالوا يا رسول الله ) قال الحافظ وقفت من تعيين من باشر السؤال على جماعة أبي بن كعب في الطبراني وبشير بن سعد عند مالك ومسلم وزيد بن خارجة الأنصاري عند النسائي وطلحة بن عبيد الله عند الطبراني وأبي هريرة عند الشافعي وعبد الرحمن بن بشير عند إسماعيل القاضي في كتاب فضل الصلاة وكعب بن عجرة عند ابن مردويه قال فإن ثبت تعدد السائل فواضح وإن ثبت أنه واحد فالتعبير بصيغة الجمع إشارة إلى أن السؤال لا يختص به بل يريد نفسه ومن وافقه على ذلك وليس هو من التعبير عن البعض بالكل بل حمله على ظاهره من الجمع هو المعتمد لما ذكر
( كيف نصلي عليك ) أي كيف اللفظ الذي يليق أن نصلي به عليك كما علمتنا السلام لأنا لا نعلم اللفظ اللائق بك ولذا عبر بكيف التي يسأل بها عن الصفة
قال الباجي إنما سألوه صفة الصلاة عليه ولم يسألوا عن جنسها لأنهم لم يؤمروا بالرحمة وإنما أمروا بالدعاء
وقال ابن عبد البر فيه أن من ورد عليه خبر محتمل لا يقطع فيه بشيء حتى يقف على المراد به إن وجد إليه سبيلا فسألوه لما احتمل لفظ الصلاة من المعاني
وفي الترمذي وغيره عن كعب بن عجرة لما نزلت { إن الله وملائكته } سورة الأحزاب الآية 56 الآية قلنا يا رسول الله قد علمنا السلام فكيف الصلاة ( فقال قولوا اللهم صل على محمد ) صلاة تليق به ( وأزواجه وذريته ) من كان للنبي ولادة عليه من ولده وولد ولده قاله الباجي ( كما صليت على آل إبراهيم ) قال ابن عبد البر يدخل فيه إبراهيم وآل محمد يدخل فيه محمد ومن هنا جاءت الآثار مرة بإبراهيم ومرة بآل إبراهيم وربما جاء ذلك في حديث واحد ومعلوم أن قوله تعالى { أدخلوا آل فرعون أشد العذاب } سورة غافر الآية 46 أن فرعون داخل معهم
( وبارك على محمد وأزواجه وذريته ) قال العلماء معنى البركة هنا الزيادة من الخير والكرامة وقيل هي بمعنى التطهير والتزكية أي طهرهم وقد قال تعالى { ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيرا } سورة الأحزاب الآية 33 وقيل تكثير الثواب فالبركة لغة التكثير قاله الباجي وقيل المراد ثبات ذلك ودوامه من قولهم بركت الإبل أي ثبتت على الأرض وبه جزم أبو اليمن بن عساكر فقال وبارك أي اثبت لهم وأدم لهم ما أعطيتهم من الشرف والكرامة
قال السخاوي ولم يصرح أحد بوجوب قوله وبارك على محمد فيما عثرنا عليه غير أن ابن حزم ذكر ما يفهم منه وجوبها في الجملة فقال على المرء أن يبارك عليه ولو مرة في العمر وظاهر كلام صاحب المغني من الحنابلة وجوبها في الصلاة قال المجد الشيرازي والظاهر أن أحدا من الفقهاء لا يوافق على ذلك
( كما باركت على آل إبراهيم إنك حميد ) فعيل من الحمد بمعنى مفعول وهو من تحمد ذاته
____________________
(1/473)
وصفاته أو المستحق لذلك أو بمعنى حامد أي يحمد أفعال عباده حول للمبالغة وذلك مناسب لزيادة الإفضال وإعطاء المراد من الأمور العظام ( مجيد ) بمعنى ماجد من المجد وهو الشرف واستشكل بأن المشبه دون المشبه به والواقع هنا عكسه لأن محمدا وحده أفضل من إبراهيم وآله وقضية ذلك أن الصلاة المطلوبة له أفضل من كل صلاة حصلت أو تحصل لغيره
وأجيب بأنه قال ذلك قبل علمه أنه أفضل من إبراهيم
وفي مسلم عن أنس أن رجلا قال للنبي يا خير البرية قال ذاك إبراهيم وتعقب بأنه لو كان كذلك لغير صفة الصلاة عليه بعد علمه أنه أفضل ورد بأنه لا تلازم بين علمه بأنه أفضل وبين التغيير لأن بقاء ذلك لا يستلزم نقصا فيه بل التغيير قد يوهم نقصا لإبراهيم أو قال ذلك تواضعا وشرعا لأمته ليكتسبوا به الفضيلة أو التشبيه إنما هو لأصل الصلاة بأصل الصلاة لا للقدر بالقدر كقوله { إنا أوحينا إليك كما أوحينا إلى نوح } سورة النساء الآية 163 ومنه { وأحسن كما أحسن الله إليك } سورة القصص الآية 77 ورجحه في المفهم
وقوله اللهم صل على محمد مقطوع عن التشبيه فهو متعلق بقوله وعلى آل محمد وتعقب بأنه مخالف لقاعدة الأصول في رجوع المتعلقات إلى جميع الجمل وبأن التشبيه قد جاء في بعض الروايات من غير ذكر الآل وبأن غير الأنبياء لا يمكن أن يساووا الأنبياء فكيف يطلب لهم صلاة مثل الصلاة التي وقعت لإبراهيم والأنبياء من آله ورد هذا بأن المطلوب الثواب الحاصل لهم لا جميع الصفات التي كانت سببا للثواب أو أن كون المشبه به أرفع من المشبه لا يطرد بل قد يكون بالمثل بل بالدون كقوله تعالى { مثل نوره كمشكاة فيها مصباح } سورة النور الآية 35 وأين يقع نور طاقة فيها مصباح من نور العليم الفتاح لكن لما كان المراد من المشبه به أن يكون شيئا ظاهرا واضحا للسامع حسن تشبيه النور بالمشكاة وكذا هنا لما كان تعظيم إبراهيم وآل إبراهيم بالصلاة عليهم مشهورا واضحا عند جميع الطوائف حسن أن يطلب لمحمد وآله بالصلاة عليهم مثل ما حصل لإبراهيم وآله ويؤيده ختم الطلب المذكور بقوله في العالمين ولذا لم يقع في العالمين إلا في ذكر إبراهيم دون ذكر آل محمد على ما في الحديث التالي
وقال عياض أظهر الأقوال أنه سأل ذلك لنفسه ولأهل بيته ليتم النعمة عليهم كما أتمها على إبراهيم وآله وقيل بل سأل ذلك لأمته وقيل بل ليبقى له ذلك دائما إلى يوم القيامة ويجعل له به لسان صدق في الآخرين كإبراهيم وقيل سأل صلاة يتخذه بها خليلا كما اتخذ إبراهيم وقيل هو على ظاهره والمراد اجعل لمحمد وآله صلاة بمقدار الصلاة التي لإبراهيم وآله والمسؤول مقابلة الجملة بالجملة فإن المختار في الآل أنهم جميع الأتباع ويدخل في آل إبراهيم خلائق لا يحصون من الأنبياء ولا يدخل في آل محمد نبي فطلب إلحاق هذه الجملة التي فيها نبي واحد بتلك الجملة التي فيها خلائق من الأنبياء
قال النووي وهذا وكون المشاركة في أصل الصلاة لا قدرها وكون المسؤول له مثل إبراهيم وآله هم آل محمد لا نفسه هي الأقوال الثلاثة المختارة
وقال ابن القيم الأحسن أن يقال هو من آل إبراهيم وقد ثبت ذلك عن ابن عباس في تفسير قوله تعالى { إن الله اصطفى آدم ونوحا وآل إبراهيم }
____________________
(1/474)
( سورة آل عمران الآية 33 ) قال محمد من آل إبراهيم فكأنه أمرنا أن نصلي على محمد وعلى آل محمد خصوصا بقدر ما صلينا عليه مع إبراهيم وآل إبراهيم عموما فيحصل لآله ما يليق بهم ويبقى الباقي كله له وذلك القدر أزيد مما لغيره من آل إبراهيم وتظهر فائدة التشبيه وأن المطلوب له بهذا اللفظ أفضل من المطلوب بغيره من الألفاظ
وقال الحليمي سبب هذا التشبيه أن الملائكة قالت في بيت إبراهيم رحمة الله وبركاته عليكم أهل البيت إنه حميد مجيد وقد علم أن محمدا وآل محمد من أهل بيت إبراهيم فكأنه قال أجب دعاء الملائكة الذين قالوا ذلك في محمد وآل محمد كما أجبتها عندما قالوها في آل إبراهيم الموجودين حينئذ ولذا ختم بما ختم به هذه الآية وهو قوله إنك حميد مجيد
وهذا الحديث رواه البخاري في أحاديث الأنبياء عن عبد الله بن يوسف وفي الدعوات عن عبد الله بن مسلمة ومسلم في الصلاة من طريق روح وعبد الله بن نافع والنسائي من طريق ابن القاسم خمستهم عن مالك به
( مالك عن نعيم ) بضم النون ( ابن عبد الله ) المدني مولى آل عمر ( المجمر ) بضم الميم الأولى وكسر الثانية بينهما جيم ساكنة صفة له ولأبيه كما تقدم ثقة من أواسط التابعين ( عن محمد بن عبد الله بن زيد ) بن عبد ربه الأنصاري المدني التابعي وأبوه صحابي في رواية مسلم وهو الذي كان أرى الأذان ( أنه أخبره عن أبي مسلم ) عقبة بن عمرو بن ثعلبة الأنصاري البدري صحابي جليل مات قبل الأربعين وقيل بعدها ( أنه قال أتانا رسول الله في مجلس سعد بن عبادة ) سيد الخزرج قال الباجي فيه أن الإمام يخص رؤساء الناس بزيارتهم في مجالسهم تأنيسا لهم ( فقال له بشير ) بفتح الموحدة وكسر المعجمة ( ابن سعد ) بسكون العين ابن ثعلبة الأنصاري الخزرجي صحابي جليل بدري والد النعمان استشهد بعين التمر ( أمرنا الله أن نصلي عليك يا رسول الله ) بقوله { يا أيها الذين آمنوا صلوا عليه } سورة الأحزاب الآية 56 فكيف نصلي عليك أي فعلمنا كيف اللفظ اللائق بالصلاة عليك زاد الدارقطني وابن حبان والحاكم والبيهقي إذا نحن صلينا عليك في صلاتنا ( قال فسكت رسول الله ) يحتمل أن يكون سكوته حياء وتواضعا إذ في ذلك الرفعة له فأحب أن لو قالوا هم ذلك ويحتمل أن ينتظر ما يأمره الله به من الكلام الذي ذكره لأنه أكثر مما في القرآن قاله البوني ( حتى تمنينا ) وددنا ( أنه لم يسأله ) مخافة أن يكون كرهه وشق عليه
____________________
(1/475)
( ثم قال قولوا ) الأمر للوجوب اتفاقا فقيل في العمر مرة واحدة وقيل في كل تشهد يعقبه سلام وقيل كلما ذكر ( اللهم صل على محمد ) قال الحازمي أي عظمه في الدنيا بإعلاء ذكره وإظهار دينه وإبقاء شريعته وفي الآخرة بإجزال مثوبته وتشفيعه في أمته وأيد فضيلته بالمقام المحمود ولما كان البشر عاجزا عن أن يبلغ قدر الواجب له من ذلك شرع لنا أن نحيل أمر ذلك على الله تعالى نقول اللهم صل على محمد أي لأنك أنت العالم بما يليق به من ذلك ( وعلى آل محمد ) أتباعه قاله مالك لقوله ادخلوا آل فرعون أو ذريته
الباجي الأظهر عندي أنهم الأتباع من الرهط والعشيرة
ابن عبد البر لفظ آل محتمل وقيل يفسر بقوله في الحديث قبله أزواجه وذريته فما أجمله مرة فسره أخرى ( كما صليت على إبراهيم وبارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على آل إبراهيم ) وفي رواية بدون لفظ آل في الموضعين فقيل هي مقحمة في الحديث الأول فيهما ورده الحافظ بأن ذكر محمد وإبراهيم وذكر آل محمد وآل إبراهيم ثابتة في أصل الخبر وإنما حفظ بعض الرواة ما لم يحفظ الآخر ( في العالمين إنك حميد مجيد ) محمود ماجد وصرفا لبناء المبالغة قال الطيبي هذا تذييل للكلام السابق وتقرير له على سبيل العموم أي إنك حميد فاعل ما تستوجب به الحمد من النعم المتكاثرة والآلاء المتعاقبة المتوالية مجيد كريم كثير الإحسان إلى جميع عبادك الصالحين ومن محامدك وإحسانك أن توجه صلواتك وبركاتك على حبيبك نبي الرحمة وآله ( والسلام كما قد علمتم ) في التشهد وهو السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته روي بفتح العين وكسر اللام مخففة وبضم العين وشد اللام أي علمتموه من العلم والتعليم قال البرقي والأولى أصح وقال النووي كلاهما صحيح ولم يقل كما صليت على موسى لأنه كان التجلي له بالجلال { وخر موسى صعقا } سورة الأعراف الآية 143 والخليل كان التجلي له بالجمال لأن المحبة والخلة من آثار التجلي بالجمال فأمرهم أن يسألوا له التجلي بالجمال وهذا لا يقتضي التسوية بينه وبين الخليل لأنه إنما أمرهم أن يسألوا له التجلي بالوصف الذي تجلى به للخليل فالذي تقتضيه المشاركة في الوصف لا التسوية بين المقامين فالحق سبحانه وتعالى يتجلى له بالجمال لشخصين بحسب مقاميهما وإن اشتركا في وصف التجلي فتجلى للخليل بحسب مقامه وللمصطفى بحسب مقامه أفاده العارف المرجاني وهذا الحديث رواه مسلم عن يحيى والنسائي من طريق أبي القاسم كلاهما عن مالك به
قال ابن عبد البر رويت الصلاة على النبي من طرق متواترة بألفاظ متقاربة وليس في شيء منها وارحم محمدا فلا أحب لأحد أن يقوله لأن الصلاة إن كانت من الله الرحمة فإن النبي صلى الله عليه وسلم قد خص بهذا اللفظ وذلك والله أعلم لقوله تعالى { لا تجعلوا دعاء الرسول بينكم كدعاء بعضكم بعضا } (1) *
____________________
1* سورة النور الآية 63 ولذا أنكر العلماء
(1/476)
على يحيى ومن تابعه في الرواية
( عن مالك عن عبد الله بن دينار قال رأيت عبد الله بن عمر يقف على قبر النبي فيصلي على النبي وعلى أبي بكر وعمر ) قالوا وإنما رواه القعنبي وابن بكير وسائر رواة الموطأ فيصلي على النبي ويدعو لأبي بكر وعمر ففرقوا بين يصلي وبين ويدعو وإن كانت الصلاة قد تكون دعاء لما خص به من لفظ الصلاة عليه ثم ذكر الخلاف في الصلاة على غير النبي ولعل إنكار العلماء رواية يحيى ومن تابعه من حيث اللفظ الذي خالفه فيه الجمهور فتكون روايته شاذة وإلا فالصلاة على غير النبي تجوز تبعا كما هنا وإنما الخلاف فيها استقلالا هل تمنع أو تكره أو تجوز كما حكاه في الشفا قال الأبي والأصح الكراهة
100 العمل في جامع الصلاة رح 399 ( مالك عن نافع عن ابن عمر أن رسول الله كان يصلي قبل الظهر ركعتين ) وفي حديث عائشة كان لا يدع أربعا قبل الظهر رواه البخاري وغيره
وقال الداودي هو محمول على أن كل واحد وصف ما رأى ويحتمل أن ينسى ابن عمر ركعتين من الأربع قال الحافظ هذا الاحتمال بعيد والأولى أن يحمل على حالين فتارة كان يصلي ثنتين وتارة يصلي أربعا وقيل يحمل على أنه كان في المسجد يقتصر على ركعتين وفي بيته أربعا أو يصلي في بيته ركعتين ثم يخرج إلى المسجد فيصلي ركعتين فرأى ابن عمر ما في المسجد دون ما في بيته واطلعت عائشة على الأمرين ويقوي الأول ما رواه أحمد وأبو داود في حديث عائشة كان يصلي في بيته قبل الظهر أربعا ثم يخرج قال ابن جرير الأربع كانت في كثير من أحواله والركعتان في قليلها ( وبعدها ركعتين ) وللترمذي وصححه مرفوعا من حافظ على أربع ركعات قبل الظهر وأربع بعدها حرمه الله على النار ولم يذكر الصلاة قبل العصر
وللترمذي والنسائي عن علي كان يصلي قبل العصر أربعا ولأحمد وأبي داود والترمذي وصححه ابن حبان عن أبي هريرة رفعه رحم الله امرأ صلى قبل العصر أربعا ( وبعد المغرب ركعتين ) وقوله ( في بيته ) لم يقله يحيى والقعنبي سوى هنا ففيه أن نوافل الليل
____________________
(1/477)
في البيت أفضل من المسجد بخلاف رواتب النهار وحكي ذلك عن مالك والثوري وفي الاستدلال به نظر والظاهر أنه لم يقع عن عمد وإنما كان يتشاغل بالناس في النهار غالبا وبالليل يكون في بيته كذا في الفتح
( وبعد صلاة العشاء ركعتين ) زاد ابن وهب وجماعة في بيته ( وكان لا يصلي بعد الجمعة حتى ينصرف ) من المسجد إلى بيته ( فيركع ركعتين ) زاد ابن بكير في بيته ولم يذكر ابن وهب وجماعة انصرافه من الجمعة قاله أبو عمر
قال الحافظ وحكمة ذلك أنه كان يبادر إلى الجمعة ثم ينصرف إلى القائلة بخلاف الظهر كان يبرد بها فكان يقيل قبلها
وقال ابن بطال إنما ذكر ابن عمر الجمعة بعد الظهر لأنه كان يصلي سنة الجمعة في بيته بخلاف الظهر قال والحكمة فيه أن الجمعة لما كانت بدل الظهر واقتصر فيها على ركعتين ترك التنفل بعدها في المسجد خشية أن يظن أنها التي حذفت انتهى
وعلى هذا فلا يتنفل قبلها ركعتين متصلتين بها في المسجد لهذا المعنى
ولأبي داود وابن حبان من رواية أيوب عن نافع قال كان ابن عمر يطيل الصلاة قبل الجمعة ويصلي بعدها ركعتين في بيته ويحدث أن النبي كان يفعل ذلك واحتج به النووي في الخلاصة على إثبات سنة الجمعة التي قبلها وتعقب بأن قوله كان يفعل ذلك عائد على قوله ويصلي بعدها لرواية الليث عن نافع كان عبد الله إذا صلى الجمعة انصرف فسجد سجدتين في بيته ثم قال كان يصنع ذلك أخرجه مسلم
وأما قوله كان يطيل الصلاة قبل الجمعة فإن كان المراد بعد دخول الوقت فلا يصح أن يكون مرفوعا لأنه كان يخرج إذا زالت الشمس ليشتغل بالخطبة ثم بصلاة الجمعة فإن كان المراد قبل دخول الوقت فذلك مطلق نافلة لا صلاة راتبة فلا حجة فيه لسنة الجمعة قبلها بل هو تنفل مطلق ورد الترغيب فيه كما تقدم في حديث سليمان وغيره حيث قال فيه ثم صلى ما كتب له
وورد في سنة الجمعة التي قبلها أحاديث ضعيفة كحديث أبي هريرة كان يصلي قبل الجمعة ركعتين وبعدها أربعا رواه البزار وفي إسناده ضعف
وعن علي عند الأثرم والطبراني في الأوسط كان يصلي قبل الجمعة أربعا وبعدها أربعا وفيه محمد بن عبد الرحمن السهمي ضعفه البخاري وغيره وقال الأثرم إنه حديث واه
وروى ابن ماجه بإسناد واه عن ابن عباس مثله وزاد ولا يفصل في شيء منهن قال النووي في الخلاصة حديث باطل وعن ابن مسعود مثله عند الطبراني وفيه ضعف وانقطاع
ورواه عبد الرزاق عنه موقوفا وهو الصواب انتهى ببعض اختصار
والحديث رواه البخاري عن عبد الله بن يوسف عن مالك به ورواه مسلم وغيره
____________________
(1/478)
( مالك عن أبي الزناد ) عبد الله بن ذكوان ( عن الأعرج ) عبد الرحمن بن هرمز ( عن أبي هريرة أن رسول الله قال أترون ) بفتح التاء والاستفهام إنكاري أي أتظنون ( قبلتي ) أي مقابلتي ومواجهتي ( ههنا ) فقط لأن من استقبل شيئا استدبر ما وراءه فبين أن رؤيته لا تختص بجهة واحدة ( فوالله ما يخفى علي خشوعكم ) أي في جميع الأركان ويحتمل أن يريد به السجود لأن فيه غاية الخشوع وصرح بالسجود في رواية لمسلم قاله الحافظ وغيره وعلى الأول فقوله ( ولا ركوعكم ) من الأخص بعد الأعم إما لأن التقصير فيه كان أكثر أو لأنه أعظم الأركان من حيث إن المسبوق يدرك الركعة بتمامها بإدراك الركوع ( إني لأراكم ) بفتح الهمزة بدل من جواب القسم وهو ما يخفى أو بيان له ( من وراء ظهري ) رؤية حقيقية اختص بها عليكم وهو تنبيه لهم على الخشوع في الصلاة لأنه قال لهم لما رآهم يلتفتون وهو مناف لكمال الصلاة فيكون مستحبا لا واجبا لأنه لم يأمرهم بالإعادة
وحكى النووي الإجماع على عدم وجوبه وتعقب بأن في الزهد لابن المبارك عن عمار بن ياسر لا يكتب للرجل من صلاته ما سها عنه
وفي كلام غير واحد ما يقتضي وجوبه ثم الخشوع تارة يكون من فعل القلب كالخشية وتارة من فعل البدن كالسكون وقيل لا بد من اعتبارهما حكاه الرازي في تفسيره وقال غيره هو معنى يقوم بالنفس يظهر عنه سكون في الأطراف يلائم مقصود العبادة ويدل على أنه من عمل القلب حديث علي الخشوع في القلب أخرجه الحاكم
وأما حديث لو خشع قلب هذا خشعت جوارحه فأشار إلى أن الظاهر عنوان الباطن قال الحافظ اختلف في معنى الرؤية فقيل المراد بها العلم إما بأن يوحى إليه كيفية فعلهم وإما بأن يلهم وفيه نظر لأنه لو أريد العلم لم يقيده بقوله من وراء ظهري وقيل المراد أنه يرى من عن يمينه ومن عن يساره ممن تدركه عينه مع التفات يسير نادر أو يوصف من هناك بأنه وراء ظهره وهذا ظاهر التكلف وفيه عدول عن الظاهر بلا دليل والصواب المختار أنه محمول على ظاهره وأن هذا الإبصار إدراك حقيقي خاص به انخرقت له فيه العادة وعلى هذا حمل البخاري فأخرج الحديث في علامات النبوة وكذا نقل عن الإمام أحمد وغيره ثم ذلك الإدراك يجوز أن يكون برؤية عين انخرقت له العادة فيه فكان يرى من غير مقابلة لأن الحق عند أهل السنة أن الرؤية لا يشترط لها عقلا عضو مخصوص ولا مقابلة ولا قرب وإنما تلك أمور عادية يجوز حصول الإدراك مع عدمها عقلا ولذلك حكموا بجواز رؤية الله تعالى في الدار الآخرة خلافا لأهل البدع لوقوفهم مع العادة وقيل كانت له عين خلف ظهره يرى بها من وراءه دائما وقيل كان بين كتفيه عينان مثل سم الخياط يبصر بهما لا
____________________
(1/479)
يحجبهما ثوب ولا غيره وقيل بل كانت صورهم تنطبع في حائط قبلته كما تنطبع في المرآة فترى أمثلتهم فيها فيشاهد أفعالهم وظاهر الحديث أن ذلك يختص بحالة الصلاة ويحتمل أن يكون ذلك واقعا في جميع أحواله وقد نقل ذلك عن مجاهد وحكى بقي بن مخلد أنه كان يبصر في الظلمة كما يبصر في الضوء انتهى
وتعقب تخصيصه بالصلاة بأن جمعا من المتقدمين صرح بالعموم وعللوه بأنه كان يبصر من خلفه لأنه كان يرى من كل جهة
وقال ابن عبد البر دفعت طائفة من أهل الزيغ هذا قالوا كيف يقبل مع قوله أيكم الذي ركع دون الصف فقال أبو بكرة أنا فقال زادك الله حرصا ولا تعد وسمع الذي انتهى إلى الصف فقال الحمد لله حمدا كثيرا مباركا فيه فقال من المتكلم الحديث إذ لو كان يرى ما سأل
والجواب أن فضائله كانت تزيد في كل وقت ألا ترى أنه قال كنت عبدا قبل أن أكون نبيا وكنت نبيا قبل أن أكون رسولا وقال لا يقولن أحدكم إني خير من يونس
وقيل له يا خير البرية قال ذاك إبراهيم حتى نزل { ليغفر لك الله ما تقدم من ذنبك وما تأخر } سورة الفتح الآية 2 ولم يغفر لأحد قبله ما تأخر من ذنبه قال أنا سيد ولد آدم ولا فخر
وفي أبي داود عن معاوية ما يدل على أن ذلك كان في آخر عمره
والحديث رواه البخاري عن عبد الله بن يوسف ومسلم عن قتيبة بن سعيد كليهما عن مالك به إلا أن لفظ مسلم فوالله ما يخفى علي ركوعكم ولا سجودكم
( مالك عن نافع ) كذا ليحيى والقعنبي وابن وهب وإسحاق الطباع وقال جل الرواة عن عبد الله بن دينار
وقال ابن عبد البر الحديث صحيح لمالك عنهما ( عن عبد الله بن عمر أن رسول الله كان يأتي قباء ) بضم القاف وموحدة ممدود عند أكثر اللغويين قال الشاعر ألا ليت شعري هل تغير بعدنا قباء وهل زال العقيق وحاضره وأنكر بعضهم قصره لكن حكاه صاحب العين قال البكري من العرب من يذكره فيصرفه ومنهم من يؤنثه فلا يصرفه وفي المطالع على ثلاثة أميال من المدينة وقال ياقوت على ميلين على يسار قاصد مكة وهو من عوالي المدينة سمي باسم بئر هناك قال أبو عمر اختلف في سبب إتيانه فقيل لزيارة الأنصار وقيل للتفرج في حيطانها وقيل للصلاة في مسجدها وهو الأشبه وفي مسلم من رواية ابن عيينة والبخاري من رواية عبد العزيز بن مسلم عن عبد الله بن دينار عن ابن عمر كان النبي يأتي مسجد قباء كل سبت ( راكبا ) تارة ( وماشيا ) أخرى بحسب ما تيسر والواو بمعنى أو زاد مسلم من رواية عبيد الله عن نافع فيصلي فيه ركعتين وزاد الشيخان في الطريق
____________________
(1/480)
المذكورة وكان عبد الله بن عمر يفعله وخص السبت لأجل مواصلته لأهل قباء وتفقده لحال من تأخر منهم عن حضور الجمعة معه في مسجده بالمدينة قال أبو عمر لا يعارضه حديث لا تعمل المطي إلا لثلاثة مساجد لأن معناه عند العلماء في النذر إذا نذر أحد الثلاثة لزمه إتيانه أما إتيان مسجد قباء وغيره تطوعا بلا نذر فيجوز وإعمال المطي معناه الكلفة والمعونة والمشقة
وقال الباجي ليس إتيان قباء من المدينة من إعمال المطي لأنه من صفات الأسفار البعيدة ولا يقال لمن خرج من داره إلى المسجد راكبا أنه أعمل المطي ولا خلاف في جواز ركوبه إلى المسجد قريب منه في جمعة أو غيرها ولو أتى أحد إلى قباء من بلد بعيد لارتكب النهي
قال الحافظ وفي الحديث فضل قباء ومسجدها وفضل الصلاة فيه لكن لم يثبت في ذلك تضعيف بخلاف المساجد الثلاثة
وروى عمر بن شيبة في أخبار المدينة بإسناد صحيح عن سعد بن أبي وقاص قال لأن أصلي في مسجد قباء ركعتين أحب إلي من أن آتي بيت المقدس مرتين لو يعلمون ما في قبا لضربوا إليه أكباد الإبل انتهى
روى النسائي وقاسم بن أصبغ عن سهل بن حنيف مرفوعا من توضأ فأحسن وضوءه ثم خرج حتى يأتي مسجد قباء فيصلي فيه كان له عدل عمرة وفي رواية عند قاسم ثم خرج عامدا إلى مسجد قباء لا يخرجه إلا الصلاة فيه كان له بمنزلة عمرة وللترمذي عن أسيد بن ظهير رفعه الصلاة في مسجد قباء كعمرة والجمهور أنه المراد بقوله تعالى { لمسجد أسس على التقوى } سورة التوبة الآية 108 وذهب قوم منهم ابن عمر وأبو سعيد وزيد بن ثابت إلى أنه مسجد المدينة وحجته قوية فقد صح مرفوعا نصا أخرج مسلم عن أبي سعيد سألت رسول الله عن المسجد الذي أسس على التقوى فقال هو مسجدكم هذا ولأحمد والترمذي عن أبي سعيد اختلف رجلان في المسجد الذي أسس على التقوى فقال أحدهما هو مسجد رسول الله وقال الآخر هو مسجد قباء فأتيا رسول الله فسألاه عن ذلك فقال هو هذا وفي ذلك خير كثير وأخرج أحمد عن سهل بن سعد نحوه ومن وجه آخر عن سهل عن أبي بن كعب مرفوعا
ولهذه الأحاديث وصحتها جزم مالك في العتبية بأنه مسجد المدينة
وقال ابن رشد في شرحها إنه الصحيح قال الحافظ والحق أن كلا منهما أسس على التقوى
وقوله تعالى في بقية الآية { فيه رجال يحبون أن يتطهروا } سورة التوبة الآية 108 يؤيد أن المراد مسجد قباء
ولأبي داود بإسناد صحيح عن أبي هريرة مرفوعا نزلت { رجال يحبون أن يتطهروا } في أهل قباء
وعلى هذا فالسر في جوابه بأنه مسجده رفع توهم أن ذلك خاص بمسجد قباء
قال الداودي وغيره ليس هذا اختلافا لأن كلا منهما أسس على التقوى وكذا قال السهيلي وزاد لكن قوله { من أول يوم } سورة التوبة الآية 108 يقتضي مسجد قباء لأن تأسيسه في أول يوم حل النبي بدار الهجرة انتهى
____________________
(1/481)
والحديث رواه مسلم عن يحيى عن مالك عن ابن دينار به وتابعه عبد العزيز بن مسلم في البخاري وإسماعيل بن جعفر وسفيان بن عيينة في مسلم ثلاثتهم عن ابن دينار وتابعه في روايته عن نافع أيوب السختياني في الصحيحين وعبيد الله بن عمر وابن عجلان كلاهما في مسلم
( مالك عن يحيى بن سعيد ) الأنصاري ( عن النعمان بن مرة ) الأنصاري الزرقي المدني ثقة من كبار التابعين ووهم من عده في الصحابة قال العسكري لا صحبة له
وذكره البخاري في التابعين
وقال أبو حاتم حديثه مرسل
وقال أبو عمر لم تختلف رواة مالك في إرسال هذا الحديث عن النعمان
وروى النعمان عن علي وجرير وأنس وعنه أيضا محمد بن علي الباقر وليس للنعمان عند مالك غير هذا الحديث ( أن رسول الله قال ما ترون في الشارب ) للخمر ( والسارق والزاني وذلك قبل أن ينزل فيهم ) قال أبو عبد الملك إنما يرجع إلى السارق والزاني لأن الشارب لم ينزل فيه شيء
وقال الباجي فيه إخبار بمسائل العلم على حسب ما يختبر به العالم أصحابه يحتمل أن يريد تقريب التعليم عليهم فقصد أن يعلمهم على أن الإخلال بإتمام الركوع والسجود كبيرة وهو أسوأ مما تقرر عندهم وسؤاله عن ذلك قبل أن ينزل فيهم صريح في جواز الحكم بالرأي لأنهم إنما سألهم ليقولوا فيه ( قالوا الله ورسوله أعلم ) فيه حسن أدب الصحابة رضي الله عنهم حيث لم يبدوا رأيا عنده بل ردوا العلم إلى الله ورسوله ( قال هن فواحش ) ما فحش من الذنوب كما يقال خطأ فاحش أي شديد وقد حرم الله الفواحش ما ظهر منها وما بطن
( وفيهن عقوبة ) وروي ما تعدون الكبائر فيكم قالوا الشرك والزنى والسرقة وشرب الخمر قال هن كبائر وفيهن عقوبات ( وأسوأ السرقة ) رواية الموطأ بكسر الراء أي سرقة الذي كما قال تعالى { ولكن البر من آمن بالله } سورة البقرة الآية 177 أي بر من آمن وروي بفتح الراء جمع سارق كفاسق وفسقة قاله ابن عبد البر فأسوأ مبتدأ خبره ( الذي ) على حذف مضاف أي سرقة الذي ( يسرق صلاته قالوا وكيف يسرق صلاته يا رسول الله قال لا يتم ركوعها ولا سجودها ) أعاد لا دفعا لتوهم الاكتفاء بالطمأنينة في أحدهما قال الباجي خصهما لأن الإخلال غالبا إنما يقع بهما وسماه سرقة على معنى أنه خيانة فيما اؤتمن على أدائه
قال الطيبي جعل جنس السرقة نوعين متعارف وغير متعارف وهو ما ينقص من الطمأنينة والخشوع ثم جعل غير المتعارف أسوأ من المتعارف ووجه كونه أسوأ أن السارق إذا وجد مال الغير قد ينتفع به في الدنيا أو يستحل صاحبه أو
____________________
(1/482)
يحد فينجو من عذاب الآخرة بخلاف هذا فإنه سرق حق نفسه من الثواب وأبدل منه العقاب في العقبى وهذا الحديث وإن رواه مالك مرسلا فهو صحيح مسند من وجوه من حديث أبي هريرة وأبي سعيد قاله ابن عبد البر
روى أحمد والطيالسي وأبو يعلى بإسناد صحيح عن أبي سعيد الخدري مرفوعا أسوأ الناس سرقة الذي يسرق صلاته قالوا يا رسول الله وكيف يسرقها قال لا يتم ركوعها ولا سجودها ولا خشوعها وروى الطبراني مثله من حديث أبي هريرة وعبد الله بن مغفل وأحمد والحاكم وصححه عن أبي قتادة والبخاري في الأدب المفرد من حديث عمران بن حصين
( مالك عن هشام بن عروة عن أبيه أن رسول الله ) مرسل عند جميع الرواة وقد أخرجه البخاري ومسلم وأبو داود من طريق يحيى بن سعيد القطان عن عبيد الله بن عمر عن نافع عن ابن عمر أنه ( قال اجعلوا من صلاتكم في بيوتكم ) لتنزل الرحمة فيه والبعد عن الرياء قال أبو عمر قيل النافلة وقيل المكتوبة لتعليم الأهل حدود الصلاة معاينة وهو أثبت أحيانا من التعليم بالقول ومن على الأول زائدة وعلى الثاني تبعيضية قاله في التمهيد
وقال في الاستذكار قيل النافلة وقيل الفريضة ليقتدي بكم أهلوكم ومن لا يخرج إلى المسجد ومن يلزمكم تعليمهم كما قال تعالى { قوا أنفسكم وأهليكم نارا } سورة التحريم الآية 6 أي علموهم والصلاة إذا أطلقت إنما يراد بها المكتوبة فلا يخرج عن حقيقة معناها إلا بدليل لا يحتمل التأويل
وقال صلاة الجماعة تفضل صلاة الفذ بخمس وعشرين درجة ولم يخص جماعة من الجماعة
وقال عليه السلام أكرموا بيوتكم ببعض صلاتكم انتهى
فأومأ إلى ترجيح أن المراد الفريضة
وقال الباجي الصحيح النافلة كما ذكره ابن مزين عن عيسى بن دينار وابن نافع إذ لا خلاف أنه أنكر التخلف عن الجماعة في المساجد والنساء يخرجن إليها في ذلك الزمان فيتعلمن وأيضا فقد يعلم أهله بالقول
وقال القرطبي من للتبعيض والمراد النوافل لما رواه مسلم عن جابر مرفوعا إذا قضى أحدكم الصلاة في مسجده فليجعل لبيته نصيبا من صلاته قال الحافظ وليس فيه ما ينفي الاحتمال
وقد حكى عياض عن بعضهم أن معناه اجعلوا بعض فرائضكم في بيوتكم ليقتدي بكم من لا يخرج إلى المسجد من نسوة وغيرهن وهذا وإن كان محتملا لكن الأول هو الراجح
وبالغ النووي فقال لا يجوز حمله على الفريضة انتهى
وكأنه لحديث الصحيحين أيها الناس صلوا في بيوتكم فإن أفضل صلاة المرء في بيته إلا المكتوبة
____________________
(1/483)
( مالك عن نافع أن عبد الله بن عمر كان يقول إذا لم يستطع المريض السجود أومأ برأسه إيماء ) إلى الأرض ( ولم يرفع إلى جبهته شيئا ) يسجد عليه فيكره عند أكثر العلماء وأجازه ابن عباس وعروة
وعن أم سلمة أنها سجدت على مرفقة لرمد كان بها قاله أبو عمر
( مالك عن ربيعة بن أبي عبد الرحمن أن عبد الله بن عمر كان إذا جاء المسجد وقد صلى الناس بدأ بصلاة المكتوبة ولم يصل قبلها شيئا ) لأنه رأى البدء بالفرض أولى قال الباجي إن ضاق الوقت عن الفريضة ونافلة قبلها بدأ بالفريضة ولم يجز النفل قبلها وإن اتسع فهو بالخيار
( مالك عن نافع أن عبد الله بن عمر مر على رجل وهو يصلي فسلم عليه فرد الرجل كلاما فرجع إليه عبد الله بن عمر فقال له إذا سلم ) بضم السين ( على أحدكم وهو يصلي فلا يتكلم ) برد السلام لأنه مفسد للصلاة عند جمهور العلماء كالأئمة الأربعة ( وليشر بيده ) وقال قتادة والحسن وطائفة من التابعين يجوز رده كلاما
أبو عمر أجمعوا على أنه ليس عليه أن يسلم على المصلي واختلفوا في جوازه فمنعه بعضهم لأنه في شغل عن رده وإنما السلام على من يمكنه الرد ولحديث إن في الصلاة شغلا وأجازه بعضهم لحديث كان الأنصار يدخلون ورسول الله يصلي ويسلمون فيرد عليهم إشارة بيده وتؤول أنه كان يشير عليهم أن لا يفعلوا فيه بعد
( مالك عن نافع أن عبد الله بن عمر كان يقول من نسي صلاة فلم يذكرها إلا وهو مع الإمام ) فلا يقطع لأنه من مساجين الإمام فحذف جواب الشرط لعلمه من قوله ( فإذا سلم الإمام فليصل الصلاة التي نسي ) باتفاق ( ثم ليصل بعدها الأخرى ) التي صلاها مع الإمام وبهذا قال الأئمة الثلاثة
وقال الشافعي يعتد بصلاته مع الإمام ويقضي التي ذكر
____________________
(1/484)
( مالك عن يحيى بن سعيد ) الأنصاري ( عن محمد بن يحيى بن حبان ) بفتح المهملة وشد الموحدة ابن منقذ الأنصاري المدني التابعي ثقة فقيه مات سنة إحدى وعشرين ومائة وهو ابن أربع وسبعين سنة
( عن عمه واسع بن حبان ) بن منقذ بن عمرو الأنصاري المازني المدني صحابي ابن صحابي وقيل بل من كبار التابعين الثقات
( أنه قال كنت أصلي وعبد الله بن عمر مسند ظهره إلى جدار القبلة ) فيه جواز الاستناد إليها لكن لا ينبغي لأحد أن يصلي مواجها غيره وأبصر عمر رجلا يصلي وآخر مستقبله فضربهما جميعا
( فلما قضيت ) أتممت ( صلاتي انصرفت إليه من قبل ) بكسر ففتح جهة ( شقي الأيسر فقال عبد الله بن عمر ما منعك أن تنصرف عن يمينك قال فقلت رأيتك فانصرفت إليك قال عبد الله فإنك قد أصبت أن قائلا يقول انصرف عن يمينك فإذا كنت تصلي فانصرف حيث شئت إن شئت عن يمينك وإن شئت عن يسارك ) والأفضل عند الأكثر الانصراف عن اليمين لحديث أنس كان ينصرف عن يمينه ولا دلالة فيه على أنه لا ينصرف إلا عن يمينه وقد قال ابن مسعود أكثر ما رأيت رسول الله ينصرف عن شماله
وأما حديث كان يحب التيمن في أمره كله في طهوره وانتعاله فقد حصر ما استحب ذلك فيه ولم يذكر الانصراف وقد كان ينصرف عن يمينه وشماله قاله أبو عمر
( مالك عن هشام بن عروة عن أبيه عن رجل من المهاجرين لم ير به بأسا أنه سأل عبد الله بن عمرو بن العاصي ) الصحابي ابن الصحابي ( أأصلي في عطن الإبل ) بروكها عند الماء خاصة ولها شربتان فعطنها بروكها بينهما وقيل ماؤها مطلقا ( فقال عبد الله لا ) تصل فيها ( ولكن صل في مراح الغنم ) بضم الميم مجتمعها آخر النهار موضع مبيتها
قال ابن عبد البر مثل هذا من الفرق بينهما لا يدرك بالرأي
وروى هذا الحديث يونس بن بكير عن هشام عن أبيه عن عبد الله بن عمرو مرفوعا صلوا في مراح الغنم ولا تصلوا في معاطن
____________________
(1/485)
الإبل ويونس لا يحتج به عن هشام فيما خالفه فيه مالك إذ لا يقاس به وليس بالحافظ والصحيح في إسناد هشام رواية مالك نعم جاء من حديث أبي هريرة والبراء وجابر بن سمرة وعبد الله بن مغفل وكلها بأسانيد حسان وأكثرها تواترا وأحسنها حديث البراء وحديث عبد الله بن مغفل رواه خمسة عشر رجلا عن الحسن وسماعه من ابن مغفل صحيح وفيه دليل على أن ما يخرج من مخرجي الحيوان المأكول لحمه ليس بنجس وأصح ما قيل في الفرق أن الإبل لا تكاد تهدأ ولا تقر في العطن بل تثور فربما قطعت على المصلي صلاته
وفي الحديث بأنها خلقت من جن فبين علة ذلك والقول بأنه كان يستتر بها عند الخلاء لا يعرف في الأحاديث المسندة بل فيها غيره
روى أبو داود عن البراء سئل رسول الله عن الصلاة في مبارك الإبل فقال لا تصلوا في مبارك الإبل فإنها من الشياطين وسئل عن الصلاة في مراح الغنم فقال صلوا فيها فإنها بركة وللنسائي وغيره عن عبد الله بن مغفل مرفوعا صلوا في مرابض الغنم ولا تصلوا في أعطان الإبل فإنها خلقت من الشياطين وفي بعض الآثار فإنها خلقت من جن انتهى
وحديث جابر بن سمرة في مسلم وأبي هريرة في الترمذي وجاء أيضا من حديث سبرة بن معبد عن ابن ماجه وفيها كلها التعبير بمعاطن الإبل قال في الفتح وفرق بعضهم بين الواحد منها فيجوز وبين كونها مجتمعة لما طبعت عليه من النفار المفضي إلى تشويش قلب المصلي بخلاف الصلاة على المركوب منها لما ثبت أنه كان يصلي النافلة وهو على بعيره أو إلى جهة واحدة وهو معقول
رح 410 ( مالك عن ابن شهاب ) محمد بن مسلم الزهري ( عن سعيد بن المسيب ) بكسر الياء وفتحها ( أنه قال ما صلاة يجلس ) بالبناء للمفعول ( في كل ركعة منها ) فيه طرح العالم على جلسائه ويجيبهم عما وقفوا عنه ( ثم قال سعيد هي المغرب إذا فاتتك ركعة منها ) لا خلاف عند العلماء في ذلك وكذا إذا أدركت منها ركعة إلا أن جندب بن عبد الله الصحابي أدرك هو ومسروق ركعة من المغرب فأما مسروق فقعد فيهن كلهن وأما جندب فلم يقعد بعد الإمام إلا في آخرهن فذكرا ذلك لابن مسعود فقال كلاكما محسن ولو كنت صانعا لصنعت كما صنع مسروق وقول سعيد ( وكذلك سنة الصلاة كلها ) يريد إذا فات المأموم منها ركعة أن يقعد إذا قضاها لأنها آخر صلاته قاله كله ابن عبد البر
قال الباجي وإنما تصير الرباعية كلها جلوسا إذا فاتته منها ركعة ثم أدرك الثانية ثم فاتته بقية الصلاة برعاف أو غيره أو أدرك مقيم من صلاة مسافر ركعة
____________________
(1/486)
101 جامع الصلاة كأن مغايرة هذه الترجمة للتي قبلها العمل في جامع الصلاة اعتبارية وهي أن الأحاديث التي أوردها في تلك تتعلق بذات الصلاة ومنه ندب إيقاعها بمسجد قباء وهذه تتعلق بما ليس من ذاتها كحمل الصبية وتعاقب الملائكة وتقديم الأفضل للإمامة وغير ذلك
( مالك عن عامر بن عبد الله بن الزبير ) ابن العوام القرشي الأسدي أبي الحارث المدني التابعي ثقة عابد مات سنة إحدى وعشرين ومائة
( عن عمرو ) بفتح العين ( ابن سليم ) بضم السين ( الزرقي ) بضم الزاي وفتح الراء وقاف الأنصاري ( عن أبي قتادة ) الحارث ويقال عمرو أو النعمان بن ربعي بكسر الراء وسكون الموحدة فمهملة ( الأنصاري ) صحابي شهير ( أن رسول الله كان يصلي وهو حامل أمامة ) بضم الهمزة وتخفيف الميمين كانت صغيرة في عهده وتزوجها علي بعد فاطمة بوصية منها ولم تعقب والمشهور في الروايات تنوين حامل ونصب أمامة وروي بالإضافة كما قرىء قوله تعالى { إن الله بالغ أمره } سورة الطلاق الآية 3 بالوجهين ويظهر أثرهما في قوله ( بنت زينب ) فتفتح وتكسر بالاعتبارين ( بنت رسول الله ) أكبر بناته والإضافة بمعنى اللام فأظهر في المعطوف وهو قوله ( ولأبي العاصي ) ما هو مقدر في المعطوف عليه قاله الكرماني وأشار ابن العطار إلى أن حكمة ذلك كون والد أمامة كان إذ ذاك مشركا فنسبت إلى أمها تنبيها على أن الولد ينسب إلى أشرف أبويه دينا ونسبا ثم بين أنها بنت أبي العاصي تبيينا لحقيقة نسبها
قال الحافظ وهذا السياق لمالك وحده
وقد رواه غيره عن عامر بن عبد الله فنسبوها إلى أبيها ثم بينوا أنها بنت زينب كما في مسلم وغيره
ولأحمد من طريق المقبري عن عمرو بن سليم يحمل أمامة بنت أبي العاصي وأمها زينب بنت رسول الله على عاتقه وكذا رواه عبد الرزاق عن مالك بإسناده فزاد على عاتقه وكذا لمسلم وغيره من طرق أخرى ولأحمد من طريق ابن جريج على رقبته
( ابن ربيعة ) كذا ليحيى وجمهور الرواة
ورواه يحيى بن بكير ومعن بن عيسى وأبو مصعب وغيرهم ابن الربيع وهو الصواب وادعى الأصيلي أنه ابن الربيع بن ربيعة فنسب إلى جده ورده عياض والقرطبي وغيرهما لإطباق النسابين على خلافه نعم نسبه إلى جده في قوله ( ابن عبد شمس ) وإنما هو ابن عبد العزى بن عبد شمس بإطباق النسابين أيضا واسم أبي العاصي لقيط وقيل مقسم وقيل القاسم وقيل مهشم وقيل هشيم وقيل ياسر أسلم قبل الفتح وهاجر ورد عليه النبي زينب وماتت معه وأثنى عليه في مصاهرته وتوفي في خلافة الصديق
____________________
(1/487)
( فإذا سجد وضعها ) كذا لمالك أيضا
ولمسلم من طريق عثمان بن أبي سليمان ومحمد بن عجلان والنسائي من طريق الزبيدي وأحمد من طريق ابن جريج وابن حبان من طريق أبي العميس كلهم عن عامر شيخ مالك إذا ركع وضعها ( وإذا قام حملها ) ولمسلم فإذا قام أعادها ولأحمد من طريق ابن جريج وإذا قام حملها فوضعها على رقبته ولأبي داود من طريق المقبري عن عمرو بن سليم حتى إذا أراد أن يركع أخذها فوضعها ثم ركع وسجد حتى إذا فرغ من سجوده وقام أخذها فردها مكانها وهذا صريح في أن فعل الحمل والوضع كان منه لا منها بخلاف ما أوله الخطابي وابن دقيق العيد بأن الفعل الصادر منه هو الوضع لا الرافع لتعلقها به إذا سجد فينهض فتبقى محمولة حتى يركع فيضعها فيقل العمل
واختلف العلماء في تأويل هذا الحديث لأنه عمل كثير فروى ابن القاسم عن مالك أنه كان في النافلة واستبعده المازري وعياض والقرطبي لما في مسلم رأيت النبي يؤم الناس وأمامة على عاتقه قال المازري إمامته بالناس في النافلة ليست بمعهودة
ولأبي داود بينا نحن ننتظر رسول الله في الظهر أو العصر قد دعاه بلال إلى الصلاة إذ خرج إلينا وأمامة على عاتقه فقام في مصلاه فقمنا خلفه فكبر وكبرنا وهي في مكانها انتهى
لكن أعل ذلك ابن عبد البر بأن أبا داود رواه من طريق ابن إسحاق عن المقبري وقد رواه الليث عن المقبري فلم يقل في الظهر أو العصر فلا دلالة فيه على أنه في فريضة انتهى
ورواية الليث أخرجه البخاري في الأدب والاستبعاد لا يمنع الوقوع وقد أم في النفل في قصتي مليكة وعتبان وغيرهما وعند الزبير بن بكار وتبعه السهيلي الصبح ووهم من عزاه للصحيحين
قال القرطبي وروى أشهب وعبد الله بن نافع عن مالك أن ذلك لضرورة حيث لم يجد من يكفيه أمرها
وقال بعض أصحابه لأنه لو تركها لبكت وشغلت سره في صلاته أكثر من شغله بحملها
وقال الباجي إن وجد من يكفيه أمرها جاز في النافلة دون الفريضة وإن لم يجد جاز فيهما
قال القرطبي وروى عبد الله بن يوسف عن مالك أن الحديث منسوخ قال الحافظ روى ذلك الإسماعيلي لكنه غير صحيح ولفظه قال التنيسي قال مالك من حديث النبي ناسخ ومنسوخ وليس العمل على هذا
وقال ابن عبد البر لعله نسخ بتحريم العمل في الصلاة وتعقب بأن النسخ لا يثبت بالاحتمال وبأن هذه القصة كانت بعد قوله أن في الصلاة لشغلا لأنه كان قبل الهجرة بمدة مديدة
وذكر عياض عن بعضهم أنه من خصائصه لعصمته من أن تبول وهو حاملها ورد بأن الأصل عدم الاختصاص وبأنه لا يلزم من ثبوته في أمر ثبوته في غيره بلا دليل ولا دخل للقياس في مثله وحمله أكثر العلماء على أنه عمل غير متوال لوجود الطمأنينة في أركان صلاته
وقال النووي ادعى بعض المالكية أنه منسوخ وبعضهم من الخصائص وبعضهم أنه لضرورة وكله دعاوى باطلة مردودة لا دليل عليها وليس في الحديث ما يخالف قواعد الشرع لأن الآدمي طاهر وما في جوفه معفو عنه وثياب
____________________
(1/488)
الأطفال وأجسادهم محمولة على الطهارة حتى تتبين النجاسة والأعمال في الصلاة لا تبطلها إذا قلت وتفرقت ودلائل الشرع متظاهرة على ذلك وإنما فعله لبيان الجواز وقال الفاكهاني كأن السر فيه دفع ما ألفته العرب من كراهة البنات وحملهن فخالفهم حتى في الصلاة للمبالغة في ردعهم والبيان بالفعل قد يكون أقوى من القول وفيه ترجيح العمل بالأصل على الغالب
ورده ابن دقيق العيد بأن حكايات الأحوال لا عموم لها أي لاحتمال أن أمامة كانت حينئذ قد غسلت وجواز إدخال الصبيان المساجد وصحة صلاة من حمل آدميا وتواضعه وشفقته على الأطفال وإكرامه لهم جبرا لهم ولوالديهم انتهى
وفي التمهيد حمله العلماء على أن أمامة كانت عليها ثياب طاهرة وأنه أمن منها ما يحدث من الصبيان من البول والحديث رواه البخاري في الصلاة عن عبد الله بن يوسف ومسلم عن عبد الله بن مسلمة وقتيبة ويحيى التميمي أربعتهم عن مالك به وتابعه عثمان بن سليمان وابن عجلان عن عامر به عند مسلم
( مالك عن أبي الزناد ) بكسر الزاي وخفة النون عبد الله بن ذكوان ( عن الأعرج ) عبد الرحمن بن هرمز ( عن أبي هريرة أن رسول الله قال يتعاقبون فيكم ) أي تأتي طائفة عقب طائفة ثم تعود الأولى عقب الثانية قال ابن عبد البر وإنما يكون التعاقب بين طائفتين أو رجلين يأتي هذا مرة ويعقبه هذا ومنه تعقيب الجيوش وتوارد جماعة من الشراح ووافقهم ابن مالك على أن الواو علامة الفاعل المذكر المجموع على لغة بني الحارث القائلين أكلوني البراغيث وهي فاشية حمل عليها الأخفش { وأسروا النجوى الذين ظلموا } سورة الأنبياء الآية 3 قال القرطبي وتعسف بعض النحاة وردها للبدل وهو تكلف مستغنى عنه لاشتهار تلك اللغة ولها وجه من القياس واضح وقال غيره في تأويل الآية وأسروا عائد إلى الناس أولا والذين ظلموا بدل من الضمير وقيل تقديره لما قيل { وأسروا النجوى } قيل من هم قال { الذين ظلموا } وحكاه النووي والأول أقرب ولم يختلف على مالك في لفظ يتعاقبون فيكم ملائكة وتابعه عبد الرحمن بن أبي الزناد عن أبيه أخرجه سعيد بن منصور عنه وللبخاري في بدء الخلق من طريق شعيب بن أبي جمرة عن أبي الزناد بلفظ الملائكة يتعاقبون فيكم ملائكة بالليل وملائكة بالنهار
والنسائي من طريق موسى بن عقبة عن أبي الزناد بلفظ إن الملائكة يتعاقبون فيكم فاختلف فيه على أبي الزناد فالظاهر أنه كان تارة يذكره هكذا وتارة هكذا فيقوي قول أبي حيان هذه الطريقة اختصرها الراوي ويؤيده أن غير الأعرج من أصحاب أبي هريرة رواه تاما فأخرجه أحمد ومسلم من طريق همام بن منبه عن أبي هريرة مثل رواية موسى بن عقبة لكن
____________________
(1/489)
بحذف إن من أوله ولابن خزيمة والسراج والبزار عن أبي صالح عن أبي هريرة بلفظ إن لله ملائكة يتعاقبون ولذا شرح أبو حيان في العزو للبزار بأن العزو للطريق المتحدة مع الطريق التي وقع القول فيها أولى من طريق مغايرة لها فليعز إلى البخاري والنسائي قاله الحافظ ملخصا
( ملائكة بالليل وملائكة بالنهار ) بتنكيرهما لإفادة أن الثانية غير الأولى كما قيل في قوله تعالى { فإن مع العسر يسرا إن مع العسر يسرا } سورة الشرح الآية 5 6 إنه استئناف وعده تعالى بأن العسر مشفوع بيسر آخر ولذا قال لن يغلب عسر يسرين فالعسر معرف لا يتعدد سواء كان للعهد أو للجنس واليسر منكر فيراد بالثاني فرد يغاير ما أريد بالأول
ونقل عياض وغيره عن الجمهور أنهم الحفظة وتردد فيه ابن بزيزة
وقال القرطبي الأظهر عندي أنهم غيرهم وقواه الحافظ بأنه لم ينقل أن الحفظة يفارقون العبد ولا أن حفظة الليل غير حفظة النهار وبأنه لو كانوا هم الحفظة لم يقع الاكتفاء في السؤال منهم عن حالة الترك دون غيرها في قوله كيف تركتم عبادي وتعقبه السيوطي بقوله بل نقل ذلك أخرج ابن أبي زمنين في كتاب السنة بسنده عن الحسن قال الحفظة أربعة يعتقبونه ملكان بالليل وملكان بالنهار تجتمع هذه الأملاك الأربعة عند صلاة الفجر وهو قوله { إن قرآن الفجر كان مشهودا } سورة الإسراء الآية 78 وأخرج أبو الشيخ في كتاب العظمة عن ابن المبارك قال وكل به خمسة أملاك
ملكان بالليل وملكان بالنهار يجيئان ويذهبان وملك خامس لا يفارقه ليلا ولا نهارا
وأخرج أبو نعيم في كتاب الصلاة عن الأسود بن يزيد النخعي قال يلتقي الحارسان عند صلاة الصبح فيسلم بعضهم على بعض فتصعد ملائكة الليل وتلبث ملائكة النهار وفيه نظر فالحافظ ذكر أثر الأسود بعد ذلك وحمله على أن المراد بالحارسين ملائكة الليل والنهار ويأتي كلامه ومثله يحمل أثر الحسن لقوله يعتقبونه فهما بمعنى حديث الباب المختلف في المراد بالملائكة فيه وكذا هو الظاهر من أثر ابن المبارك لقوله يجيئان ويذهبان على أن الظاهر أن مراد الحافظ لم ينقل في المرفوع بل نقل فيه خلافه وأن الحفظة إنما تفارق الإنسان حين قضاء الحاجة وإفضائه إلى أهله
( ويجتمعون في صلاة العصر وصلاة الفجر ) أي الصبح قال الزين بن المنير التعاقب مغاير للاجتماع لكن ذلك منزل على حالين قال الحافظ وهو ظاهر
وقال ابن عبد البر الأظهر أنهم يشهدون معهم الصلاة في الجماعة واللفظ محتمل للجماعة وغيرها كما يحتمل أن التعاقب يقع بين طائفتين دون غيرهم وأن يقع التعاقب بينهم في النوع لا في الشخص
قال عياض وحكمة اجتماعهم في هاتين الصلاتين من لطف الله تعالى بعباده وإكرامه لهم بأن جعل اجتماع ملائكته في حال طاعة عباده لتكون شهادتهم لهم بأحسن الشهادة وفيه شيء لأنه رجح أنهم الحفظة ولا شك أن الصاعدين كانوا مقيمين عندهم مشاهدين لأعمالهم في جميع الأوقات فالأولى أن يقال حكمة كونه تعالى لا يسألهم إلا عن الحالة التي تركوهم عليها ما ذكر
ويحتمل أن يقال الله تعالى يستر عنهم ما يعملونه فيما بين الوقتين لكنه بناء على أنهم غير الحفظة وفيه إشارة إلى
____________________
(1/490)
الحديث الآخر الصلاة إلى الصلاة كفارة لما بينهما فلذا وقع السؤال من كل طائفة عن آخر شيء فارقوهم عليه
( ثم يعرج الذين باتوا فيكم ) أي المصلون ( فيسألهم ) ربهم ( وهو أعلم بهم ) أي بالمصلين من الملائكة فحذف صلة أفعل التفضيل قال الحافظ اختلف في سؤال الذين باتوا دون الذين ظلموا فقيل من الاكتفاء بذكر أحد المثلين عن الآخر كقوله تعالى { فذكر إن نفعت الذكرى } سورة الأعلى الآية 9 أي وإن لم تنفع { سرابيل تقيكم الحر } سورة النحل الآية 81 أي والبرد أشار إليه ابن التين وغيره
ثم قيل حكمة الاقتصار على ذلك أن حكم طرفي النهار يعلم من حكم طرفي الليل فلو ذكره كان تكرارا وحكمة الاقتصار على هذا الشق دون الآخر أن الليل مظنة المعصية فلما لم يقع فيه مع إمكان دواعي الفعل من الإخفاء ونحوه واشتغلوا بالطاعة كان النهار أولى بذلك فالسؤال عن الليل أبلغ من النهار لأنه محل الاشتهار وقيل لأن ملائكة الليل إذا صلوا الفجر عرجوا في الحال وملائكة النهار إذا صلوا العصر لبثوا إلى آخر النهار لضبط بقية عمل النهار وهذا ضعيف لأنه يقتضي أن ملائكة النهار لا يسألون عن وقت العصر وهو خلاف ظاهر الحديث ثم هو مبني على أنهم الحفظة وفيه نظر وقيل بناء أيضا على أنهم الحفظة أنهم ملائكة النهار فقط وهم لا يبرحون عن ملازمة بني آدم وملائكة الليل هم الذين يعرجون ويتعاقبون ويؤيده ما رواه أبو نعيم في كتاب الصلاة عن الأسود بن يزيد النخعي قال يلتقي الحارسان أي ملائكة الليل وملائكة النهار عند صلاة الصبح فيسلم بعضهم على بعض فتصعد ملائكة الليل وتلبث ملائكة النهار
وقيل يحتمل أن العروج إنما يقع عند صلاة الفجر خاصة وأما النزول فيقع في الصلاتين معا وفيه التعاقب وصورته أن تنزل طائفة عند العصر وتبيت ثم تنزل طائفة عند الفجر فتجتمع الطائفتان في صلاة الفجر ثم يعرج الذين باتوا فقط ويستمر الذين نزلوا وقت الفجر إلى العصر فتنزل الطائفة الأخرى فيحصل اجتماعهم عند العصر أيضا ولا يصعد منهم أحد بل تبيت الطائفتان أيضا ثم يعرج إحدى الطائفتين ويستمر ذلك فتصح صورة التعاقب مع اختصاص النزول بالعصر والعروج بالفجر فلذا خص السؤال بالذين باتوا
وقيل قوله ويجتمعون في صلاة العصر وصلاة الفجر وهم لأنه ثبت في طرق كثيرة أن الاجتماع في صلاة الفجر من غير ذكر صلاة العصر كما في الصحيحين عن سعيد بن المسيب عن أبي هريرة في أثناء حديث قال فيه يجتمع ملائكة الليل وملائكة النهار في صلاة الفجر قال أبو هريرة واقرؤوا إن شئتم { إن قرآن الفجر كان مشهودا } سورة الإسراء الآية 78 وللترمذي والنسائي من وجه آخر بإسناد صحيح عن أبي هريرة في قوله تعالى { إن قرآن الفجر كان مشهودا } قال تشهده ملائكة الليل والنهار
وروى ابن مردويه عن أبي الدرداء مرفوعا نحوه
قال ابن عبد البر ليس في هذا دفع للرواية التي فيها ذكر العصر فلا يلزم من عدم ذكر العصر في
____________________
(1/491)
الآية والحديث الآخر عدم اجتماعهم في العصر لأن المسكوت عنه قد يكون في حكم المذكور بدليل آخر
قال ويحتمل أن الاقتصار وقع في الفجر لأنها جهرية وبحثه الأول متجه لأنه لا سبيل إلى دعوى توهيم الراوي الثقة مع إمكان التوفيق بين الروايات ولا سيما والزيادة من العدل الضابط مقبولة ولم لا يقال رواية من لم يذكر سؤال الذين أقاموا في النهار تقصير من بعض الرواة أو يحمل قوله ثم يعرج الذين باتوا على أعم من المبيت بالليل والإقامة بالنهار فلا يخلص ذلك بليل دون نهار ولا عكسه بل كل طائفة منهم إذا صعدت سئلت غايته أنه استعمل لفظ بات في أقام مجازا ويكون قوله فيسألهم أي كلا من الطائفتين في الوقت الذي تصعد فيه ويدل على هذا العمل رواية موسى بن عقبة عن أبي الزناد عند النسائي ولفظه ثم يعرج الذين كانوا فعلى هذا لم يقع في المتن اختصار ولا اقتصار وهذا أقرب الأجوبة وقد وقع لنا هذا الحديث من طريق أخرى واضحا وفيه التصريح بسؤال كل من الطائفتين وذلك فيما رواه ابن خزيمة والسراج عن الأعمش عن أبي صالح عن أبي هريرة قال قال تجتمع ملائكة الليل وملائكة النهار في صلاة الفجر وصلاة العصر فتصعد ملائكة النهار وتبيت ملائكة الليل فيسألهم ربهم كيف تركتم عبادي الحديث
وهذه الرواية تزيل الإشكال وتغني عن كثير من الاحتمالات المتقدمة فهي المعتمدة ويحمل ما نقص منها على تقصير من بعض الرواة انتهى
فما أكثر فوائده
( كيف تركتم عبادي ) المذكورين في قوله تعالى { إن عبادي ليس لك عليهم سلطان } سورة الحجر الآية 42 ووقع السؤال عن آخر الأعمال لأن الأعمال بخواتيمها قاله ابن أبي جمرة
قال عياض هذا السؤال على سبيل التعبد للملائكة كما أمروا أن يكتبوا أعمال بني آدم وهو سبحانه أعلم بالجميع من الجميع
وقال غيره الحكمة فيه استدعاء شهادتهم لبني آدم بالخير واستعطافهم بما يقتضي التعطف عليهم وذلك لإظهار الحكمة في خلق نوع الإنسان في مقابلة من قال من الملائكة { أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك قال إني أعلم ما لا تعلمون } سورة البقرة الآية 30 أي قد وجدتم فيهم من يسبح ويقدس مثلكم بشهادتكم ( فيقولون تركناهم وهم يصلون ) الواو للحال ولا يلزم منه أنهم فارقوهم قبل انقضاء الصلاة فلم يشهدوها معهم والخبر ناطق بأنهم يشهدونها لأنه محمول على أنهم شهدوا الصلاة مع من صلاها أول وقتها وشهدوا من دخل فيها بعد ذلك ومن شرع في أسباب ذلك قاله ابن التين
وقال غيره ظاهره أنهم فارقوهم عند شروعهم في الصلاة سواء تمت أو منع مانع من تمامها وسواء شرع الجميع فيها أم لا لأن المنتظر في حكم المصلي ويحتمل أن المراد بقوله وهم يصلون أي ينتظرون صلاة المغرب وبدؤوا بالترك قبل الإتيان مطابقة للسؤال فلم يراعوا الترتيب الوجودي لأن المخبر به صلاة العباد والأعمال بخواتيمها فناسب إخبارهم عن آخر عملهم قبل أوله ثم زادوا في الجواب لإظهار فضيلة المصلين والحرص على ذكر ما يوجب مغفرة ذنوبهم
____________________
(1/492)
فقالوا ( وأتيناهم وهم يصلون ) زاد ابن خزيمة فاغفر لهم يوم الدين
قال ابن أبي جمرة أجابت الملائكة بأكثر مما سئلوا عنه لعلمهم أنه سؤال يستدعي التعطف فزادوا في موجب ذلك قال وفيه أن الصلاة أعلى العبادات لأن عليها وقع السؤال والجواب وإشارة إلى عظم هاتين الصلاتين لاجتماع الطائفتين فيهما وفي غيرهما طائفة واحدة وإلى شرف الوقتين المذكورين وقد ورد أن الرزق يقسم بعد صلاة الصبح وأن الأعمال ترفع آخر النهار فمن كان في طاعة بورك في رزقه وفي عمله ويترتب عليه حكمة الأمر بالمحافظة عليهما والاهتمام بهما وفيه تشريف هذه الأمة على غيرها ويستلزم تشريف نبيها على غيره والإخبار بالغيوب ويترتب عليه زيادة الإيمان والإخبار بما نحن فيه من ضبط أحوالنا حتى نتيقظ ونتحفظ في الأوامر والنواهي ونفرح في هذه الأوقات بقدوم رسل ربنا وسؤال ربنا عنا وفيه إعلامنا بحب الملائكة لنا لنزداد فيهم حبا ونتقرب إلى الله بذلك وكلام الله مع ملائكته وفيه غير ذلك
وأخرجه البخاري عن عبد الله بن يوسف وفي التوحيد عن إسماعيل ومسلم عن يحيى بن يحيى الثلاثة عن مالك به
رح 41( مالك عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة زوج النبي ) هكذا رواه جماعة عن مالك موصولا وهو في أكثر نسخ الموطأ مرسل ليس فيه عائشة
( أن رسول الله قال ) في مرضه الذي مات فيه لما اشتد مرضه كما في الصحيح من وجه آخر عن عائشة ( مروا ) بضمتين بوزن كلوا من غير همز تخفيفا ( أبا بكر ) الصديق ( فليصل ) بسكون اللام الأولى ويروى بكسرها مع زيادة ياء مفتوحة بعد الثانية ( للناس ) باللام وفي رواية بالباء وفيه أن الأمر بالأمر بالشيء يكون أمرا به وهي مسألة معروفة في الأصول وأجاب المانعون بأن المعنى بلغوا أبا بكر أني أمرته وفصل النزاع أن الثاني إن أراد أنه ليس أمرا حقيقة فمسلم إذ ليس فيه صيغة أمر للثاني وإن أراد أنه لا يستلزم فمردود
( فقالت عائشة إن أبا بكر يا رسول الله ) زاد الأسود عن عائشة رجل أسيف كما في الصحيحين فعيل بمعنى فاعل من الأسف شدة الحزن والمراد رقيق القلب وفي رواية ابن عمر وأبي موسى في الصحيح فقالت عائشة إنه رجل رقيق إذا قرأ غلبه البكاء ( إذا قام في مقامك ) وفي رواية بحذف في ( لم يسمع الناس من البكاء ) لرقة قلبه ( فمر عمر ) بن الخطاب ( فليصلي ) بكسر اللام الأولى وكسر الثانية بعدها ياء مفتوحة وفي رواية بلا ياء وإسكان اللام الأولى ( للناس ) باللام والباء ( قال مروا أبا بكر فليصل للناس ) بلام وموحدة بدلها ( قالت عائشة فقلت لحفصة ) بنت عمر ( قولي له ) ( إن أبا بكر إذا قام في مقامك لم يسمع الناس من البكاء ) قراءته ( فمر عمر فليصل ) بالجزم ( بالناس ) بموحدة أو
____________________
(1/493)
لام ( ففعلت حفصة ) ذلك ( فقال رسول الله ) زاد البخاري من هذه الطريق مه اسم فعل مبني على السكون زجر بمعنى اكففي ( إنكن لأنتن صواحب يوسف ) جمع صاحبة والمراد أنهن مثلهن في إظهار خلاف ما في الباطن والخطاب وإن كان بلفظ الجمع فالمراد به عائشة فقط كما أن صواحب جمع والمراد زليخا فقط ووجه المشابهة أن زليخا استدعت النسوة وأظهرت لهن الإكرام بالضيافة ومرادها زيادة على ذلك وهو أن ينظرن إلى حسن يوسف ويعذرنها في محبته وأن عائشة أظهرت أن سبب إرادتها صرف الإمامة عن أبيها كونه لا يسمع المأمومين القراءة لبكائه ومرادها هي زيادة على ذلك وهو أن لا يتشاءم الناس به وصرحت هي بعد ذلك به فقالت لقد راجعته وما حملني على كثرة مراجعته إلا أنه لم يقع في قلبي أن يحب الناس بعده رجلا قام مقامه أبدا كما في الصحيحين
وبهذا التقرير يندفع إشكال من قال لم يقع من صواحب يوسف إظهار ما يخالف ما في الباطن
وفي أمالي ابن عبد السلام أنهن أتين امرأة العزيز يظهرن تعنيفها ومقصودهن في الباطن أن يدعون يوسف إلى أنفسهن وليس في سياق الآية ما يساعد ما قال ذكره الحافظ وقال الباجي أراد أنهن قد دعون إلى غير صواب كما دعين فهن من جنسهن وأنكر مراجعتهن بأمر تكرر سماعه ولم يره فذكرهما بفساد رأي من تقدم من جنسهن وفيه جواز القول بالرأي ولذا أقرهما على اعترافهما بالرأي بعد نصه على الحكم
وقال أبو عمر أراد جنس النساء وأنهن يسعين إلى صرف الحق
وقد روي في غير هذا الحديث أنتن صواحب يوسف وداود وجريج وفي الحديث أنهن مائلات مميلات وفيه ما تركت بعدي فتنة أضر على الرجال من النساء وخرج كلامه على جهة الغضب على أزواجه وهن فاضلات وأراد غيرهن من جنس النساء
( مروا أبا بكر فليصل للناس فقالت حفصة لعائشة ما كنت لأصيب منك خيرا ) لأن كلاهما صادف المرة الثالثة من المعاودة وكان لا يراجع بعد ثلاث فلما أشار إلى الإنكار عليها بما ذكر وجدت حفصة في نفسها لأن عائشة هي التي أمرتها بذلك ولعلها تذكرت ما وقع لها أيضا معها في قصة المغافير قاله الحافظ
وقال أبو عمر فيه أن المكترب ربما قال قولا يحمله الحرج لأنه معلوم أن حفصة لم تعدم من عائشة خيرا وإذا كان هذا في السلف الصالح فأحرى من دونهم وزاد الدورقي في مسنده من وجه آخر أن أبا بكر هو الذي أمر عائشة أن تشير على النبي بأن يأمر عمر بالصلاة وكذا في مرسل الحسن عند ابن أبي خيثمة
زاد الأسود عن عائشة في الصحيحين فخرج أبو بكر فصلى
ولها أيضا من وجه آخر فأتاه الرسول أي بلال فقال إن رسول الله يأمرك أن تصلي بالناس فقال أبو بكر وكان رجلا رقيقا يا عمر صل بالناس فقال له عمر أنت أحق بذلك
قال الحافظ ولم يرد أبو
____________________
(1/494)
بكر بهذا ما أرادته عائشة
قال النووي تأوله بعضهم على أنه قاله تواضعا وليس كذلك بل قاله للعذر المذكور وهو أنه رقيق القلب كثير البكاء فخشي أن لا يسمع الناس انتهى
ويحتمل أنه فهم من الإمامة الصغرى الإمامة العظمى وعلم ما في تحملها من الخطر وعلم قوة عمر على ذلك فاختاره ويؤيده أنه عند البيعة أشار عليهم أن يبايعوا عمر أو أبا عبيدة والظاهر أنه لم يطلع على المراجعة المتقدمة وفهم من الأمر له بذلك تفويض الأمر له بذلك سواء باشر بنفسه أو استخلف
قال القرطبي يستفاد منه أن للمستخلف في الصلاة أن يستخلف ولا يتوقف على إذن خاص له بذلك انتهى
قال أبو عمر استدل الصحابة بذلك على أنه أولى بالخلافة فرضوا لدنياهم من رضيه لدينهم وما منعه أن يصرح بخلافته إلا أنه كان لا ينطق في دين الله بهواه بل بما يوحى إليه ولم يوح إليه في الخلافة بشيء وكان لا يتقدم بين يدي ربه إلا أنه كان يحب أن يكون أبو بكر الخليفة فأراهم بتقديمه للصلاة موضع اختياره فخار الله ذلك للمسلمين فقاتل أهل الردة وقام بأمر الله
وقال عمر للأنصار يوم السقيفة أنشدكم الله هل تعلمون أنه أمر أبو بكر أن يصلي بالناس قالوا نعم قال أيكم تطيب نفسه أن يزيله عن مقام أقامه فيه قالوا كلنا لا تطيب نفسه بذلك
قال ابن مسعود فكان رجوع الأنصار لكلام عمر انتهى
وأخرجه البخاري في الصلاة عن عبد الله بن يوسف وفي الاعتصام عن إسماعيل كلاهما عن مالك به
( مالك عن ابن شهاب عن عطاء بن يزيد الليثي ) المدني نزيل الشام ثقة من رجال الجميع مات سنة خمس أو سبع ومائة وقد جاوز الثمانين ( عن عبيد الله ) بضم العين ( ابن عدي بن الخيار ) بكسر المعجمة وخفة التحتية ابن عدي بن نوفل بن عبد مناف القرشي النوفلي المدني قتل أبوه ببدر وكان هو في الفتح مميزا فعد في الصحابة لذلك وعده العجلي وغيره في ثقات كبار التابعين من حيث الرواية ومات في آخر خلافة الوليد بن عبد الملك وخرج له الشيخان وأبو داود والنسائي ( أنه قال ) أرسله جميع رواة الموطأ إلا روح بن عبادة فرواه عن مالك موصولا فقال عن رجل من الأنصار ورواه الليث وابن أخي الزهري عن الزهري مثل رواية روح عن مالك سواء ورواه صالح بن كيسان وأبو أويس عن الزهري عن عطاء عن عبيد الله عن عبد الله بن عدي الأنصاري فسمي الرجل المبهم ذكره ابن عبد البر وأسند هذه الطرق كلها قال ( بينما رسول الله جالس بين ظهراني الناس إذ جاءه رجل ) هو عتبان بن مالك ( فساره فلم يدر ) بالبناء للمجهول ( ما ساره به حتى جهر رسول الله فإذا هو يستأذنه في قتل رجل من المنافقين ) هو مالك بن الدخشم كذا ذكر الباجي
____________________
(1/495)
وابن عبد البر ثم ساق حديث عتبان بن مالك المروي في الصحيحين وفي آخره فحبسناه على خزيرة صنعناها له فاجتمع رجال فقال قائل أين مالك فقال بعضهم ذلك منافق لا يحب الله ورسوله فقال لا تقل ذلك الحديث قال الحافظ وليس فيه دليل على ما ادعاه من أن الذي سار هو عتبان وأغرب بعض المتأخرين فنقل عن ابن عبد البر أن القائل في هذا الحديث ذلك منافق هو عتبان وليس فيه تصريح بذلك وقال ابن عبد البر لم يختلف في شهود مالك بدرا وهو الذي أسر سهيل بن عمرو ثم ساق بإسناد حسن عن أبي هريرة أن النبي قال لمن تكلم فيه أليس قد شهد بدرا وفي مغازي ابن إسحاق أنه قال لمن تكلم فيه أليس قد شهد بدرا وفي مغازي ابن إسحاق أنه بعث مالكا هذا ومعن بن عدي فحرقا مسجد الضرار فدل على أنه بريء مما اتهم به من النفاق أو كان قد أقلع عن ذلك أو النفاق الذي اتهم به ليس بنفاق الكفر وإنما أنكر الصحابة عليه تودده للمنافقين ولعل له عذرا في ذلك كما وقع لحاطب
( فقال رسول الله حين جهر أليس يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله ) وفي البخاري ألا تراه قد قال لا إله إلا الله وكأن الرجل فهم من الاستفهام أن لا جزم بذلك ( فقال الرجل بلى ولا شهادة له ) لأنها بالظاهر فقط وفي البخاري قال الله ورسوله أعلم فإنا نرى وجهه ونصيحته إلى المنافقين فإنما استدلوا على نفاقه بميله ونصحه للمنافقين فلم ير المصطفى ذلك يبيح دمه
( فقال ) ( أليس يصلي قال بلى ولا صلاة له ) حقيقة ( فقال أولئك الذين نهاني الله عنهم ) لئلا يقول الناس إنه يقتل أصحابه كما في حديث آخر أي فتنفر قلوب الناس عن الإسلام
قال الباجي يعني نهاه عن قتلهم لمعنى الإيمان وإن جاز أن يلزمهم القتل بعد ذلك بما يلزم سائر المسلمين من القصاص والحدود
( مالك عن زيد بن أسلم عن عطاء بن يسار أن رسول الله قال اللهم لا تجعل قبري وثنا يعبد ) قال الباجي دعاؤه بذلك التزام للعبودية
وروى أشهب عن مالك أنه لذلك كره أن يدفن في المسجد
قال ابن عبد البر لا خلاف عن مالك في إرسال هذا الحديث وأسنده البزار عن عمر بن محمد عن زيد عن عطاء عن أبي سعيد الخدري عن النبي
وقوله ( اشتد غضب الله على قوم اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد ) محفوظ من طرق كثيرة صحاح وعمر بن محمد بن عبد الله بن عمر بن الخطاب من ثقات أشراف أهل المدينة روى عنه مالك
____________________
(1/496)
والثوري وسليمان بن بلال فالحديث صحيح عند من يحتج بمراسيل الثقات وعند من قال بالمسند لإسناد عمر بن محمد له بلفظ الموطأ سواء وهو ممن تقبل زيادته وله شاهد عند العقيلي من طريق سفيان عن حمزة بن المغيرة عن سهيل بن أبي صالح عن أبيه عن أبي هريرة رفعه اللهم لا تجعل قبري وثنا لعن الله قوما اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد قيل معناه النهي عن السجود على قبور الأنبياء وقيل النهي عن اتخاذها قبلة يصلى إليها وإذا منع ذلك في قبره فسائر آثاره أحرى بذلك وقد كره مالك وغيره طلب موضع شجرة بيعة الرضوان مخالفة لليهود والنصارى
( مالك عن ابن شهاب عن محمود بن الربيع ) بن سراقة بن عمرو ( الأنصاري ) الخزرجي أبي محمد المدني صحابي صغير وجل روايته عن الصحابة أبو عمر قال يحيى محمود بن لبيد غلط بين لم يروه أحد من أصحاب مالك ولا من أصحاب ابن شهاب إلا عن محمود بن الربيع ( أن عتبان ) بكسر المهملة ويجوز ضمها وسكون الفوقية ( ابن مالك ) بن عمرو بن العجلان الأنصاري السالمي صحابي شهير مات في خلافة معاوية ( كان يؤم قومه وهو أعمى ) أي حين لقيه محمود وسمع منه الحديث لا حين سؤاله للنبي
ويبينه قوله في رواية يعقوب فجئت إلى عتبان وهو شيخ أعمى يؤم قومه فلا يخالف رواية إبراهيم بن سعد ومعمر والليث عند البخاري ويونس في مسلم والزبيدي والأوزاعي في الطبراني كلهم عن الزهري أنه قال للنبي قد أنكرت بصري وللطبراني من رواية أبي أويس لما ساء بصري
وللإسماعيلي من طريق عبد الرحمن بن نمر جعل بصري يكل وكل ذلك ظاهر في أنه لم يكن بلغ العمى إذ ذاك ويؤيد هذا الحمل رواية ابن ماجه من طريق إبراهيم بن سعد لما أنكرت بصري
وقوله في مسلم من طريق سليم بن المغيرة عن ثابت عن أنس عن عتبان أصابني في بصري بعض الشيء فإنه ظاهر في أنه لم يكمل عماه لكن لمسلم من طريق حماد بن سلمة عن ثابت بلفظ أنه عمي فأرسل وجمع ابن خزيمة بين رواية مالك وغيره من أصحاب ابن شهاب فقال قوله قد أنكرت بصري هذا اللفظ يطلق على من في بصره سوء وإن كان يبصر بصرا ما وعلى من صار أعمى لا يبصر شيئا انتهى والأولى أن يقال أطلق عليه العمى لقربه منه ومشارفته له في فوات ما كان يعهده في حال الصحة وبهذا تأتلف الروايات
( وأنه قال لرسول الله ) ظاهره مشافهة وهو أيضا ظاهر رواية الليث أنه أتى رسول الله
ولمسلم في رواية ثابت عن أنس عن عتبان أنه بعث إلى النبي فيحتمل أنه نسب إتيان رسوله إلى نفسه مجازا لكن في الطبراني عن أبي أويس عن ابن شهاب بسنده أنه قال للنبي يوم جمعة لو أتيتني
____________________
(1/497)
يا رسول الله وفيه أنه أتاه يوم السبت فظاهره أن مخاطبة عتبان بذلك حقيقة لا مجازا فيحمل على أنه أتاه مرة وبعث إليه أخرى إما متقاضيا وإما مذكرا
( إنها تكون الظلمة والمطر والسيل ) سيل الماء وفي رواية الليث وأنا أصلي لقومي فإذا كانت الأمطار سال في الوادي الذي بيني وبينهم لم أستطع أن آتي مسجدهم فأصلي بهم
( وأنا رجل ضرير البصر ) أي أصابني منه ضر فهو كقوله أنكرت بصري قال أبو عمر أي ناقصه فإذا عمى أطلق عليه ضرير من غير تقييد بالبصر وذكر هذه الأربعة وإن كفى كل واحد منها في عذر ترك الجماعة ليبين كثرة موانعه وإنه حريص على الجماعة
( فصل يا رسول الله في بيتي مكانا ) بالنصب على الظرفية وإن كان محدودا لتوغله في الإبهام فأشبه خلف ونحوها أو على نزع الخافض أي في مكان ( أتخذه ) بالجزم في جواب الأمر أي إن تصل أتخذه وبالرفع والجملة في محل نصب صفة مكانا أو مستأنفة لا محل لها ( مصلى ) بالميم موضعا للصلاة ( فجاءه رسول الله ) وفي رواية الليث فغدا علي رسول الله وأبو بكر زاد الإسماعيلي بالغد ولم يذكره جمهور الرواة عن ابن شهاب غيره حتى أن في رواية الأوزاعي فاستأذنا فأذنت لهما لكن في رواية أبي أويس ومعه أبو بكر وعمر ولمسلم عن أنس عن عتبان فأتاني ومن شاء الله من أصحابه
وللطبراني في نفر من أصحابه قال الحافظ فيحتمل الجمع بأن أبا بكر صحبه وحده في ابتداء التوجه ثم عند الدخول أو قبله اجتمع عمر وغيره فدخلوا معه ( فقال أين تحب أن أصلي ) من بيتك ( فأشار ) عتبان ( له ) ( إلى مكان من البيت ) معين ( فصلى فيه رسول الله ) وفي رواية الليث فلم يجلس حين دخل البيت ثم قال أين تحب أن أصلي من بيتك فأشرت له إلى ناحية من البيت فقام فكبر فقمنا فصففنا فصلى ركعتين ثم سلم
وفي رواية يعقوب عند البخاري والطيالسي فلما دخل لم يجلس حتى قال أين تحب وهي أبين في المراد لأن جلوسه إنما وقع بعد صلاته بخلاف ما وقع منه في بيت مليكة جلس فأكل ثم صلى لأنه هناك دعي إلى طعام فبدأ به وهنا دعي إلى الصلاة فبدأ بها وفيه إمامة الأعمى وإخبار المرء بعاهة نفسه ولا يكون من الشكوى والتخلف عن الجماعة لعذر واتخاذ موضع معين للصلاة والنهي عن إيطان موضع من المسجد معين عند أبي داود محمول على ما إذا استلزم رياء ونحوه وفيه غير ذلك
وأخرجه البخاري عن إسماعيل بن أبي أويس
حدثني مالك به ورواه مسلم وغيره وله طرق كثيرة بزيادات على ما هنا في الصحيحين وغيرهما
( مالك عن ابن شهاب عن عباد ) بفتح العين وشد الموحدة ( ابن تميم ) بن غزية الأنصاري
____________________
(1/498)
المازني المدني تابعي ثقة وقيل له روية ( عن عمه ) هو عبد الله بن زيد بن عاصم المازني أخي أبيه لأمه ( أنه رأى ) أبصر ( رسول الله ) حال كونه ( مستلقيا ) على ظهره ( في المسجد ) النبوي حال كونه ( واضعا إحدى رجليه على الأخرى ) قال الحافظ الظاهر أنه فعل ذلك لبيان الجواز وكان ذلك في وقت الاستراحة لا عند مجتمع الناس لما عرف من عادته من الجلوس بينهم بالوقار التام فلا معارضة بينه وبين حديث جابر في الصحيحين نهى أن يضع الرجل إحدى رجليه على الأخرى وهو مستلق على ظهره وجمع البيهقي والبغوي وغيرهما بأن النهي حيث يخشى بدو العورة والجواز حيث يؤمن ذلك وهو أولى من جزم ابن بطال ومن تبعه بأنه منسوخ ومن تجويز المازري اختصاصه لأن الخصائص لا تثبت بالاحتمال انتهى
وكذا جوزه الباجي قال لكن فعل عمر وعثمان يدل على العموم قال الخطابي وفيه جواز الاتكاء في المسجد والاضطجاع وأنواع الاستراحة
وقال الداودي في أن الأجر الوارد للابث في المسجد لا يختص بالجالس بل يحصل للمستلقي أيضا
وأخرجه البخاري وأبو داود عن عبد الله بن مسلمة ومسلم في اللباس عن يحيى كليهما عن مالك به وتابعه ابن عيينة ويونس ومعمر كلهم عن الزهري مثله كما في مسلم
( مالك عن ابن شهاب عن سعيد بن المسيب أن عمر بن الخطاب وعثمان بن عفان رضي الله عنهما يفعلان ذلك ) قال أبو عمر أردف المرفوع بفعلهما كأنه ذهب إلى أن نهيه منسوخ فاستدل على نسخه بعملهما وأقل أحوال الأحاديث المتعارضة أن تسقط ويرجع إلى الأصل والأصل الإباحة حتى يرد منع بدليل لا معارض له انتهى
ولا يتعين ما قال بل يجوز أنه إشارة إلى أن نهيه للتنزيه أو حيث خشي ظهور العورة وإنه لو كان للتحريم أو مطلقا لم يفعله الخليفتان وزاد الحميدي عن ابن مسعود أبا بكر الصديق
( مالك عن يحيى بن سعيد أن عبد الله بن مسعود قال لإنسان ) لم يسم ( إنك في زمان كثير ) بالجر صفة جرت على غير من هي له والرفع خبر لقوله ( فقهاؤه ) المستنبطون للأحكام من القرآن كما هو المعلوم من حال الصحابة ( قليل ) بالرفع والخفض كسابقه ( قراؤه ) الخالون من معرفة معانيه والفقه
____________________
(1/499)
فيه فلم يرد أن قراء القرآن قليل في زمانه بل مدح زمانه بكثرة الفقهاء وجل فقههم إنما هو من القرآن والاستنباط منه وأن من يقرأه بلا فقه قليل ومحال أن يستنبط منه من لا يحفظه وأن يوصف بالفقه من لا يقرؤه وأن يقصد ابن مسعود مع فضله ومحله من تلاوة القرآن أن يمدح زمان الصحابة بقلة القراء فيه وهم كانوا ألهج الناس به لما رأوا من تفضيل النبي من تعلمه وعلمه وتقديمه في اللحد من كان أكثر أخذا للقرآن وندائه أصحابه يوم حنين أين أصحاب سورة البقرة أي التي يجل عن الفرار صاحبها وإنما يدعو بمثل ذلك العدد الكثير إذ لا ينتفع في مواطن الشدائد بالواحد والاثنين ولا يكاد يكون من أصحاب سورة البقرة إلى من قرأ القرآن أو أكثره فثبت أن تلاوة القرآن وحفظه من أفضل المناقب ولا يجوز أن يعاب به فيجب تأويل قول ابن مسعود بما قلنا ( تحفظ فيه حدود القرآن ) بإقامتها والوقوف عندها وإظهار الحق وأحكام القرآن على ما يقتضيه وذلك عام بين راغب فيه ومحمول عليه من منافق أو مسرف على نفسه ممن لم يدرك المصطفى وأن هذا الصنف لا يقرؤونه وإن التزموا أحكامه خوفا من الصحابة والفضلاء وهذا مراده بقوله ( وتضيع حروفه ) فلا يجوز حمله على ظاهره لأن ترك الحروف لا يخلو أن يزيد من نحو ألف ولام أو يزيد لغاته وفي تضييع أحد الأمرين منع من حفظه ولم يرد أن فضلاء الصحابة يضيعون حروفه إذ لو ضيعوها لم يصل أحد إلى معرفة حدوده إذ لا يعرف ما تضمن من الأحكام إلا من قرأ الحروف وعرف معانيها قاله كله الباجي
وقال السيوطي أي المحافظون على حدوده أكثر من المحافظين على التوسع في معرفة أنواع القراءات
وقال البوني فيه إن تعلم حدوده واجب وحفظ حروفه أي القراءات السبع مستحب ( قليل من يسأل ) المال لكثرة المتعففين ( كثير من يعطي ) لكثرة المتصدقين
وقيل أراد من يسأل العلم لأن الناس حينئذ كانوا كلهم فقهاء ( يطيلون فيه الصلاة ) أفذاذا أو جماعة بشرطه ( ويقصرون ) بضم أوله وكسر الصاد من أقصر وبفتحه وضمها من قصر ( الخطبة ) أي يعملون بالسنة
قال أبو عمر كان يأمر بذلك ويفعله وكان يخطب بكلمات قليلة طيبة وكره التشدق والموعوظ إنما يعتبر ما حفظ وذلك لا يكون إلا مع القلة
وقال ابن مسعود كان يتخولنا أي يتعهدنا بالموعظة مخافة السآمة
قال الباجي وفيه معنى آخر أن الخطبة وعظ والصلاة عمل يريد أن عملهم كثير ووعظهم قليل ( يبدون ) بضم الياء وفتح الباء يقدمون ( أعمالهم قبل أهوائهم ) قال الباجي أي إذا عرض لهم عمل بر وهوى بدؤوا بعمل البر وقدموه على ما يهوون
وقال أبو عبد الملك هو مثل قوله تعالى { رجال لا تلهيهم تجارة } سورة النور الآية 37 الآية فإذا كانوا في أشغالهم وسمعوا نداء الصلاة قاموا إليها وتركوا أشغالهم
وقال أبو عمر مدح ابن مسعود بذلك زمانه وقرنه خير القرون الممدوح على لسان النبي وفيه أن تضييع حروف القرآن ليس به بأس ( وسيأتي على الناس زمان قليل فقهاؤه ) لاشتغالهم بحظوظ أنفسهم عن طلب العلم ( كثير قراؤه
____________________
(1/500)
يحفظ فيه حروف القرآن وتضيع حدوده ) عاب آخر الزمان بأن قراءه لا يفقهون ولا يعملون به وإنما غايتهم منه تلاوته وفيه أن كثرة القراء دليل على تغير الزمان وقد روي مرفوعا أكثر منافقي أمتي قراؤها وقال مالك قد يقرأ القرآن من لا خير فيه والعيان في أهل هذا الزمان على صحة معنى هذا الحديث كالبرهان قاله أبو عمر ( كثير من يسأل ) لقلة الصبر والتعفف ( قليل من يعطي ) لكثرة شح الأغنياء ومنعهم ( يطيلون فيه الخطبة ويقصرون الصلاة ) مخالفة للسنة أو وعظهم كثير وعملهم قليل ( يبدون فيه أهواءهم قبل أعمالهم ) حبا لاتباع الهوى
( مالك عن يحيى بن سعيد ) الأنصاري ( أنه قال بلغني أن ما ينظر فيه من عمل العبد ) أي الإنسان حرا كان أو رقيقا ذكرا أو أنثى يوم القيامة ( الصلاة ) المفروضة وهي الخمس لأنها أول ما فرض بعد الإيمان وهي علمه وراية الإسلام
( فإن قبلت منه نظر فيما بقي من عمله ) لأنها أم العبادات ( وإن لم تقبل منه لم ينظر في شيء من عمله ) وهذا لا يكون رأيا بل توفيقا وقد روي معناه مرفوعا من وجوه قاله أبو عمر وأقربها إلى لفظه ما أخرجه الطبراني في الأوسط وصححه الضياء عن أنس رفعه أول ما يحاسب به العبد يوم القيامة الصلاة فإن صلحت صلح له سائر عمله وإن فسدت فسد سائر عمله وأخرج أبو داود وابن ماجه والترمذي واللفظ له عن أبي هريرة مرفوعا إن أول ما يحاسب به يوم القيامة من عمله صلاته فإن صلحت فقد أفلح وأنجح وإن فسدت فقد خاب وخسر وإن انتقص من فريضته شيء قال الرب تبارك وتعالى انظروا هل لعبدي من تطوع فيكمل بها ما انتقص من الفريضة ثم يكون سائر عمله مثل ذلك وروى الحاكم في الكنى عن ابن عمر مرفوعا أول ما افترض الله تعالى على أمتي الصلوات الخمس وأول ما يرفع من أعمالهم الصلوات الخمس وأول ما يسألون عن الصلوات الخمس فمن كان ضيع شيئا يقوله الله انظروا هل تجدون لعبدي نافلة من صلاة تتمون بها ما نقص من الفريضة وانظروا في صيام عبدي شهر رمضان فإن كان ضيع شيئا منه فانظروا هل تجدون لعبدي نافلة من صيام تتمون بها ما نقص من الصيام وانظروا في زكاة عبدي فإن كان ضيع شيئا منها فانظروا هل تجدون نافلة من صدقة تتمون بها ما نقص من الزكاة فيؤخذ ذلك على فرائض الله وذلك برحمة الله وعدله
____________________
(1/501)
فإذا وجد فضلا وضع في ميزانه وقيل له ادخل الجنة مسرورا وإن لم يوجد له شيء أمرت به الزبانية فأخذوا بيديه ورجليه ثم قذف في النار قال ابن عبد البر ومعنى ذلك عندي فيمن سها عن فريضة أو نسيها أما تركها عمدا فلا يكمل له من تطوع لأنه من الكبائر لا يكفرها إلا الإتيان بها وهي توبته
( مالك عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة زوج النبي أنها قالت كان أحب العمل إلى رسول الله ) يروى برفع أحب اسم كان ونصبه خبر والاسم قوله ( الذي يدوم ) يواظب ( عليه صاحبه ) وإن قل كما في الصحيحين من طريق أبي سلمة عن عائشة لأنه يكون منه أكثر من الكثير الذي يفعل مرة أو مرتين ثم يترك ويترك العزم عليه والعزم على العمل الصالح مما يثاب عليه قاله الباجي وقال النووي بدوام القليل تستمر الطاعة بالذكر والمراقبة والإخلاص والإقبال على الله بخلاف الكثير الشاق حتى ينمو القليل الدائم بحيث يزيد على الكثير المنقطع أضعافا كثيرة
قال ابن الجوزي إنما أحب الدائم لمعنيين أحدهما أن التارك للعمل بعد الدخول فيه كالمعرض بعد الوصل وهو متعرض للذم ولذا ورد الوعيد في حق من حفظ آية ثم نسيها وإن كان قبل حفظها لا يتعين عليه
ثانيهما أن مداوم الخير ملازم للخدمة وليس من لازم الباب في كل يوم وقتا ما كمن لازم يوما كاملا ثم انقطع وهذا الحديث يوضح أن حديث عليكم من الأعمال ما تطيقون فوالله لا يمل الله حتى تملوا وكان أحب الدين إليه ما دام عليه صاحبه ضمير إليه للنبي
وفي رواية للشيخين أيضا وكان أحب الدين إلى الله ولا خلف بينهما فما كان أحب إلى الله كان أحب إلى رسوله وأخرجه البخاري حدثنا قتيبة عن مالك به
( مالك أنه بلغه عن عامر بن سعد بن أبي وقاص عن أبيه أنه قال كان رجلان أخوان فهلك ) أي مات وهي لفظة ليست مستنكرة في كلام العرب والزمن القديم قال تعالى { حتى إذا هلك } سورة غافر الآية 34 فأما الآن فاستعملوها فيمن مات كافرا أو ظاهرا فجوره فلا يجوز استعمالها الآن في المسلم الميت
( أحدهما قبل صاحبه بأربعين ليلة فذكرت فضيلة الأول عند رسول الله ) فيه جواز الثناء على الميت والإخبار بفضله ومنه الحديث أنتم شهداء الله في الأرض وإنما يجوز الثناء بفعله ولا يخبر بما يصير إليه لأنه أمر مغيب عنا وأما الحي فإن خيف فتنته بذكر محاسنه منع لقوله صلى الله عليه وسلم إذ سمع
____________________
(1/502)
رجلا يثني على رجل ويطريه في المدح أهلكتم أو قطعتم ظهر الرجل وإن لم يخف جاز لقوله إيه (1) *
فقال ( ألم يكن الآخر ) بكسر الخاء المتأخر في الوفاة وفتحها أي الأخ الذي تأخرت وفاته عن أخيه ( مسلما قالوا بلى يا رسول الله وكان لا بأس به ) قال الباجي هذه اللفظة تستعمل في التخاطب فيما يقرب معناه ولا يراد المبالغة بتفضيله ( فقال رسول الله وما يدريكم ما بلغت به صلاته في الأربعين ليلة التي عاشها بعد أخيه ( إنما مثل الصلاة كمثل نهر غمر ) بفتح المعجمة وسكون الميم أي كثير الماء ( عذب بباب أحدكم يقتحم فيه كل يوم خمس مرات فما ترون ذلك يبقي ) بالباء لا بالنون قاله أبو عمر ( من درنه ) أي وسخه ( فإنكم لا تدرون ما بلغت به صلاته ) أعاده زيادة تأكيد في البعد عن التفضيل بلا علم
قال ابن عبد البر فيه دلالة على أن الماء العذب أنقى للدرن كما أن الكثير أشد إنقاء من اليسير
قال أبو زرعة الرازي خطر ببالي تقصيري في الأعمال فكبر علي فرأيت في منامي آتيا أتاني فضرب بين كتفي وقال قد أكثرت في العبادة أي عبادة أفضل من الصلوات الخمس في جماعة
قال أعني ابن عبد البر لا تحفظ قصة الأخوين من حديث سعد إلا في بلاغ مالك هذا وقد أنكره البزار وقطع بأنه لا يوجد من حديث سعد البتة وما كان ينبغي له ذلك لأن مراسيل مالك أصولها صحاح وجائز أن يرووا هذا الحديث سعد وغيره وقد رواه ابن وهب عن مخرمة بن بكير عن أبيه عن عامر بن سعد عن أبيه مثل حديث مالك سواء وأظن مالكا أخذه من كتب بكير أو أخبره به عنه مخرمة ابنه فإن ابن وهب انفرد به لم يروه أحد غيره فيما قال جماعة من أهل الحديث وتحفظ قصة الأخوين من حديث طلحة بن عبيد الله وأبي هريرة وعبيد بن خالد انتهى
رح 42( مالك أنه بلغه أن عطاء بن يسار كان إذا مر عليه بعض من يبيع في المسجد دعاه فسأله ما معك وما تريد فإن أخبره أنه يريد أن يبيعه قال عليك بسوق الدنيا فإنما هذا سوق الآخرة ) أخذا من قوله تعالى { يرجون تجارة لن تبور } سورة فاطر الآية 29 والصلاة أفضلها وكذلك انتظارها
قال صلى الله عليه وسلم إذا رأيتم الرجل يبيع ويشتري في المسجد فقولوا لا أربح الله تجارتك وإذا رأيتم الرجل ينشد الضالة في المسجد فقولوا + * لا ردها الله عليك + *
وقال تعالى { في بيوت أذن الله أن ترفع } سورة النور الآية 36 الآية
____________________
1* يا ابن الخطاب فوالذي نفسي بيده ما لقيك الشيطان سالكا فجا إلا سلك فجا غير فجك قاله الباجي
(1/503)