الأمر الأول : أن يكون مرادها أن النبي صلى الله عليه وسلم يقضي حاجته أي يجامع أهله وقد جاء هذا مصرحاً به في قول أم المؤمنين -رضي الله عنها وأرضاها- في الرواية الثانية" ثم إن كانت له حاجة بأهله ألمَّ بهم "فيكون مرادها بقوله "الحاجة" أرادت الجماع .
الأمر الثاني : وقد يكون مرادها بالحاجة حاجة الإنسان وذلك بالبول والغائط وذلك أنه يسمى البول والغائط حاجة للإنسان ففي الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : (( إذا قعد أحدكم لحاجته )) أي إذا قعد للبول أو الغائط أو هما معاً فالمقصود أن هذه الجملة ترددت بين هذين المعنيين ، ولذلك حملها أبو إسحاق على الجماع أي أن قول أم المؤمنين : " ثم إن كانت له حاجة قضى حاجته" أي جامع أهله فيكون قولها من بعد ذلك " ثم ينام ولا يمس ماء " ، وعلى هذا اختصر الحديث فجاء لفظ الترمذي مختصراً من هذا الوجه وغلطَّ العلماء رحمهم الله أبا إسحاق في هذا الاختصار حتى إن أبا داود رحمه الله قال في سننه"هذا الحديث وهن " ، وكذلك خطأه الإمام أحمد وقال " ليس بصحيح "وخطأه غير واحد من الأئمة والحفاظ -رحم الله الجميع برحمته الواسعة -وذهب جمع من العلماء والحفاظ إلى أن أبا إسحاق رحمه الله ثقة وأنه قد صرح بالسماع من الأسود وأن أم المؤمنين-رضي الله عنها-حكت هدي النبي صلى الله عليه وسلم علىصور متعدده وأن حديث أبي إسحاق هذا حديث صحيح وممن مال إلى هذا الإمام الدارقطني والإمام البيهقي ورجحه غير واحد جمعاً كابن قتيبة وأشار الحافظ رحمه الله في شرحه على الصحيح إلى هذا القول وهو قول من القوة بمكان أن الحديث فقد ورد على أوجه مختلفة وأن النبي صلى الله عليه وسلم "تارة ينام ولا يمس الماء" "وتارة ينام و يتوضأ وعليه الجنابة "في كلتا الحالتين ، وهذا هو الأقوى والأرجح -إن شاء الله تعالى-.
وفي هذا الحديث فوائد :(53/4)
ومن أهمها ما قصده المصنف رحمه الله من إيراد الحديث وهو أن الجنب ينام ولا يمس الماء وقد جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم عدد من الأحاديث بعضها تدل على أن السنة لمن أصابته الجنابة قبل النوم أن يتوضأ ثم ينام ، وفي بعضها أنه ينام ولا يتوضأ على سبيل الحكاية لا على سبيل التصريح بالقول.
وحديثنا الذي معنا يحتمل قولها "و لا يمس ماء " أي لا يغتسل غسل الجنابة وحينئذ لا يكون النفي للوضوء ويحتمل أن يكون المراد " أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يجامع و يجنب ثم ينام ولا يتوضأ ولا يستنجي"وهذا يخالف ماثبت في الأحاديث الصحيحة ومنها حديث عبد الله بن عمر عن أبيه عمر بن الخطاب رضي الله عن الجميع أنه سأل النبي صلى الله عليه وسلم وقال : " يارسول الله أينام أحدنا وهو جنب ؟ فقال صلى الله عليه وسلم : (( نعم إذا توضأ )) وفي رواية : (( توضأ واغسل ذكرك ثم نم )) -وسيأتي إن شاء الله بيان ذلك الحديث-.
وهذا الحديث حجة لمن قال إن الوضوء قبل النوم ليس بواجب على الجنب وقد مال إلى ذلك جماهير العلماء رحمهم الله وهو مذهب الحنفية والمالكية والشافعية والحنابلة-رحم الله الجميع- أنه لا يجب على الجنب إذا أجنب وأراد أن ينام أن يتوضأ وقد أجمع العلماء رحمهم الله على أن الجنب إذا نام ولم يغتسل أنه يجزيه ذلك ولا حرج عليه ، وشدَّد البعض فقال لايجوز للجنب أن ينام وعليه الجنابة وهو قول غير محقق ويعتبر من الشذّوذ الذي لا يلتفت إليه ؛ لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم صحَّت عنه الأحاديث أنه كان ينام وعليه الجنابة وحكى غير واحد من العلماء إجماع أهل العلم على أنه يجوز لمن أصابته الجنابة أن ينام ولا يغتسل .
وأما الوضوء فاختلف العلماء رحمهم الله فيه على قولين :(53/5)
القول الأول : أنه يستحب الوضوء للجنب إذا أراد أن ينام فمن جامع أهله وأصابته الجنابة فإنه يتوضأ ويغسل ذكره ثم ينام ؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال : (( توضأ واغسل ذكرك ثم نم )) وقالوا إن هذا الأمر للاستحباب لا للحتم والإيجاب وأكدوا ذلك بدليل قوله سبحانه وتعالى : { يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاَةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ }(1) فأمرنا الله عز وجل بالوضوء للصلاة ، والنوم-أعني نوم الجنب- ليس بصلاة ولا في حكم الصلاة فلا يجب الوضوء على الجنب إذا أراد أن ينام وقد جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : (( إنما أمرت بالوضوء عند القيام للصلاة )) فدل على أنه لا يجب الوضوء على الجنب إذا أراد أن ينام وعليه الجنابة .
القول الثاني : وذهب داود الظاهري-رحمه الله تعالى-إلى القول بالوجوب وأن الجنب لا يجوز له أن ينام حتى يتوضأ وضوء الصلاة كاملة واحتج بالحديث الذي ثبت في الصحيحين عن عمر ، وقد تقدمت الإشارة إليه قال رحمه الله .
وقوله : (( توضأ و اغسل ذكرك ثم نم )) : يعتبر أمراً والأمر للوجوب وعلى ذلك يجب على الجنب أن يتوضأ قبل أن ينام والصحيح ماذهب إليه جمهور العلماء رحمهم الله :
أولاً: لصحة دلالة الكتاب بخصوص الأمر بالوضوء عند القيام للصلاة وهو الأصل والنوم ليس بصلاة ولا في حكم الصلاة .
أما الأمر الثاني: فإن النبي صلى الله عليه وسلم نام ولم يمس الماء كما جاء في حديث أم المؤمنين عائشة الذي معنا وقد مال الدارقطني والبيهقي وغيرهما من الأئمة إلى القول بالتصحيح ولا وجه لتغليط هذا الإمام الثقه والقول بالاختصار لا يخلو من نظر ؛ لأن الأحاديث صحيحة عن أم المؤمنين مختصرة وعلى هذا كما قبلنا المختصر من غير هذا الحديث يجب قبول هذا المختصر وعليه فإن هذا الحديث يعتبر دليلاً قوياً على صرف الأمر من ظاهره المقتضي للوجوب إلى الندب والاستحباب .(53/6)
وقولها -رضي الله عنها- " و لا يمس ماء " : فيه دليل على أنه لا يغسل العضو ولا يتوضأ وأنه ينام مباشرة ،ونوم الإنسان وعليه جنابة الأفضل فيه الوضوء -كما سيأتي مع غسل الفرج-.
قال المصنف رحمه الله : بَاب مَا جَاءَ فِي الْوُضُوءِ لِلْجُنُبِ إِذَا أَرَادَ أَنْ يَنَامَ
حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ عَنْ نَافِعٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ عَنْ عُمَرَ : " أَنَّهُ سَأَلَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم أَيَنَامُ أَحَدُنَا وَهُوَ جُنُبٌ؟؟ قَالَ : (( نَعَمْ إِذَا تَوَضَّأَ )) .
قَالَ وَفِي الْبَاب عَنْ عَمَّارٍ وَعَائِشَةَ وَجَابِرٍ وَأَبِي سَعِيدٍ وَأُمِّ سَلَمَةَ .
قَالَ أَبو عِيسَى رحمه الله : حَدِيثُ عُمَرَ أَحْسَنُ شَيْءٍ فِي هَذَا الْبَابِ وَأَصَحُّ وَهُوَ قَوْلُ غَيْرِ وَاحِدٍ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَالتَّابِعِينَ وَبِهِ يَقُولُ سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ وَابْنُ الْمُبَارَكِ وَالشَّافِعِيُّ وَأَحْمَدُ وَإِسْحَقُ قَالُوا إِذَا أَرَادَ الْجُنُبُ أَنْ يَنَامَ تَوَضَّأَ قَبْلَ أَنْ يَنَامَ .
الشرح :
أورد الإمام المصنف رحمه الله هذا الحديث وترجم له بما اشتمل عليه من هدي النبي صلى الله عليه وسلم بالوضوء قبل النوم إذا كان الإنسان جنباً وقد جاءت الأحاديث الصحيحة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم تؤكد هذه السنة-أعني الوضوء قبل النوم- من الجنب وهذا الحديث أصله في الصحيحين عن عمر بن الخطاب-- رضي الله عنه - وأضاره- .
قال " يارسول الله أينام أحدنا وهو جنب ؟ " : سأل عمر بن الخطاب رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه المسألة التي تعم بها البلوى فنعم السائل ونعم المسئول "أينام أحدنا وهو جنب؟ " أي والحال أنه جنب .
وقوله رضي الله عنه وأرضاه " أينام أحدنا وهو جنب" يشمل حالتين :(53/7)
الحالة الأولى : أن يكون مجامعاً لأهله ثم ينام .
الحالة الثانية : أن يقع منه احتلام ثم يستيقظ ثم يريد أن ينام مرة ثانية فوقع السؤال منه رضي الله عنه وأرضاه مطلقاً فشمل الجنابة بأسبابها المتعددة .
وقوله رضي الله عنه وأرضاه " أينام أحدنا وهو جنب " : الحديث يختص بالجنب .
والسؤال هل الحائض والنفساء يدخلان في هذا الحديث من جهة كون كل منهما متلبسة بالحدث الأكبر-سيأتي بيان العلل - ..؟؟
وأننا إذا قلنا بأن الوضوء تعبدي لا يستقيم إدخال غير الجنب مع الجنب ، وكذلك إذا قلنا إن هذا الحديث المراد به شطر الطهارة فإنه لا يشمل الحائض والنفساء لأنهما لا يتطهران إلاَّ بعد انقطاع الدم .
وقوله رضي الله عنه وأرضاه " أينام أحدنا وهو جنب " : فيه دليل على أنه يشرع للإنسان أن يسأل عن المسائل ولو كانت محرجة وقد بينَّا غير مرة أن الحياء لا يمنع من السؤال عن الأمور الشرعية .
وقوله عليه الصلاة والسلام : (( نعم )) : كما في هذه الرواية والقاعدة : " أن السؤال معاد في الجواب" أي يجوز للجنب أن ينام وقد جاء البيان والجواب في رواية الصحيحين أوضح وذلك أن رواية الترمذي التي معنا جاءت بصيغة الشرط : (( نعم إذا توضأ )) أي ينام وهو جنب بشرط أن يتوضأ وجاءت الرواية في الصحيحين بصيغة الأمر وذلك في قوله عليه الصلاة والسلام : (( توضأ واغسل ذكرك ثم نم)) واشتملت على الثلاثة الأمور :
الأمر الأول: أمره عليه الصلاة والسلام بالوضوء .
والثاني الأمر: بغسل العضو.
والثالث: الإذن بالنوم بعد حصول كل منهما ،وهذا على الترتيب -أعني أن يقع الأمران قبل نوم الإنسان-.
وقوله عليه الصلاة والسلام : (( توضأ)) : فيه دليل على وجوب الوضوء على ظاهر الأمر وقد بينا أن هذا الأمر مصروف عن ظاهره المقتضي للوجوب إلى الندب والاستحباب لقيام الدليل من الكتاب والسنة على الصرف.(53/8)
وكذلك قوله عليه الصلاة والسلام :(( واغسل ذكرك توضأ)) : اختلف العلماء رحمهم الله في قوله : (( توضأ)) : فقال بعض العلماء : الوضوء هنا هو الوضوء الشرعي ، وقال بعض العلماء : الوضوء هنا هو الوضوء اللغُوي فأما من قال إنه الوضوء الشرعي فقد استدل بما روت أم المؤمنين في الرواية الصحيحة من هدي النبي صلى الله عليه وسلم قالت " وتوضأ وضوءه للصلاة "ومن قال إنه الوضوء اللغُوي فمراده أن يغسل اليدين لأن الإنسان إذا جامع لا يخلو من إصابة الأذي بيده ومن هنا قالوا توضأ أي اغسل يدك وهذا من باب صرف الأمر عن ظاهره إلى غير الظاهر ؛ لأن القاعدة في الأصول : " أن الحقائق إذا ترددت بين الشرعي واللغوي والعرفي فإنها تنصرف إلى الشرعي" وفي باب الأيمان والنذور قد تنصرف إلى اللغُوي وقد تنصرف إلى العرفي على تفصيل عند العلماء رحمهم الله .
توضيح ذلك : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ثبت عنه من هديه أنه توضأ وضوء الصلاة وثبت عنه أنه غسل يديه واكتفى كما في رواية النسائي وغيره ، وعلى هذا قالوا إن الوضوء تردد بين المعنيين ، كقوله عليه الصلاة والسلام :(( توضأ )) متردد بين المعنيين وأصحهما أن الوضوء هنا هو الوضوء الشرعي فيشمل غسل الوجه واليدين والرجلين ومسح الرأس واختلف الذين قالوا بالوضوء الشرعي فقال بعضهم : يتوضأ وضوءاً كاملاً ، وقال بعض العلماء : لا يتوضأ الوضوء الكامل ؛ وإنما يترك غسل الرجلين فقط.
والذين قالوا يتوضأ وضوءاً كاملاً :(53/9)
استدلوا بحديث أم المؤمنين عائشة-رضي الله عنها وأرضاها- "توضأ وضوءه للصلاة" والذين قالوا أنه يتوضأ ولا يغسل رجليه قالوا ؛ لأن عن ابن عمر-رضى الله عنهما-رواي الحديث كان إذا نام وهو جنب توضأ وضوءه للصلاة وترك غسل الرجلين قالوا ويقوي هذا حديث أم المؤمنين حفصة-رضي الله عنها- وعن أبيها أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا اغتسل من الجنابة توضأ وضوءه للصلاة وأخَّر غسل رجليه بعد الغسل من الجنابة قالوا فهذا يحُمل على أنه وضوء سبق الغسل وهدي النبي صلى الله عليه وسلم بالوضوء السابق للغسل أنه يؤخَّر غسل الرجلين والأول أصح وإن قلنا بأنه خلاف تنوع فهو حسن وذلك بأن يقال بأن الإنسان مخَّير بين الأمرين إن شاء توضأ وضوءاً كاملاً فهو أكمل وأفضل ، وإن شاء توضأ وأخَّر غسل رجليه فلا بأس ولا حرج .
وقوله عليه الصلاة والسلام : (( توضأ )) : يدل على سنية الطهارة الصغرى قبل الطهارة الكبرى عند إرادة النوم من الجنب .
واختلف العلماء هل أمره عليه الصلاة والسلام بالوضوء وإيقاع الوضوء قبل نوم الجنب هل هو تعبدي أم هو معلل ..؟؟(53/10)
فقال بعض العلماء : إنه تعبدي أي أمر تعبدنا الله به لا نعلم علته بحيث لم يثبت النص عندهم بتعليل معين صريح ، وذهب جمع من العلماء رحمهم الله إلى أن هذا الأمر بالوضوء له علة واختلفوا في التعليل ، فقال بعض العلماء : إن المسلم إذا توضأ قبل نومه وهو جنب فإن هذا يشَّجعه على الغسل فينام على طهارة كاملة وهذا القول وجيه أي أن الإنسان إذا توضأ وأصاب الماء أطرافه قويت نفسه وعزيمته على غسل جميع بدنه فيكون هذا من باب الاستدراج للخير ودعوة الإنسان لما هو أكمل وأفضل إذ لا خلاف بين العلماء رحمهم الله أن الأفضل والأكمل للمسلم أن يغتسل قبل أن ينام وذلك لما فيه من تمكنه من تلاوة القرآن وقراءة الأذكار على الوجه المعتبر وإن كان يرخص له بالنوم على الجنابة كما ثبت بذلك السنة عنه عليه الصلاة والسلام .(53/11)
وقال بعض العلماء : العلة في هذا الوضوء أن المسلم إذا أجنب فإنه يتطهر والوضوء نصف الطهارة الكبرى فالمسلم مطالب بأن يتطهر لقوله سبحانه وتعالى :{وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُواْ}(1) فأمرنا الله عز وجل بالطهارة إذا كانت علينا الجنابة قالوا والوضوء نصف الطهارة لحديث شداد بن أوس رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في وضوء الجنب قبل نومه قال : (( إنه شطر الغسل)) أي نصف الغسل من الجنابة ، وقال بعض العلماء : العلة في هذا الوضوء أن الشياطين تقترب من الأوساخ والقذر ؛ ولكنها تجتنب الطهارة والنظافة والنقاء والأشياء المطيبة قالوا والملائكة على الضد فإنه إذا نام وعليه الجنابة فإن الشياطين تألفه لمكان القذر الذي لا يخلو منه قالوا فلذلك أُمر بالوضوء وأُمر بإزالة القذر عنه حتى لا تتمكن الشياطين من أذيته ؛ والسبب في ذلك أن الشياطين تحُب النجاسة والقذر فإذا أجنب الإنسان فإنه يتلطخ بالمذي وكذلك برطوبة الفرج النجسة فلا يأمن من أذية الشياطين له والشياطين تحب أذية الإنسان كما أشار الله عز وجل إلى ذلك بقوله-سبحانه- : {إِنَّمَا النَّجْوَى مِنْ الشَّيْطَانِ لِيَحْزُنَ الَّذِينَ آمَنُواْ}(2)فأخبر سبحانه وتعالى عن قصد الشياطين لحزن المسلم وأذيتهم للمؤمن فُطلب من المسلم أن يحفظ نفسه عن النجاسة ويتوقى منها وهذا الأمر مجرب فقد حكى الحكماء أن التلطخ بالنجاسات لا يأمن الإنسان معها من الضرر فالأماكن النجسة والأجساد النجسة فإن الشياطين تألفها وترتاح إليها وترتادها كما قال صلى الله عليه وسلم في حديث السنن : (( إن هذه الحشوش محتظرة)) والمراد بقوله : (( الحشوش )) أي أماكن قضاء النجاسة وقضاء الحاجة لأنها نجسة قذرة.(53/12)
وقوله : (( محتظرة )) : أي تحضرها الشياطين ، ولذلك كان من هديه صلوات الله وسلامه عليه إذا دخل الخلاء قال : (( اللهم إني أعوذ بك من الخبث والخبائث )) فاستغاذ بالله عز وجل من الشياطين ؛ لأن المكان الذي يدخله تألفه الشياطين وترتاده وتؤي إليه قالوا فُأمر بغسل فرجه وبغسل عضوه حتى يكون ذلك أطيب وأنقى له وأسلم .
وأمره عليه الصلاة والسلام : (( بالوضوء )) : فيه دليل على أن الأمر قد يصرف عن ظاهره فيه دليل على أن أمر النبي صلى الله عليه وسلم قد يكون على ظاهره المقتضي للوجوب وقد يكون على غير الظاهر ، وكذلك أوامر الكتاب ؛ ولكنَّ الأصل فيها أن تحُمل على الوجوب .
وقوله في رواية الصحيح في تتمة الحديث : (( واغسل ذكرك)) أمره عليه الصلاة والسلام بغسل الجنب لذكره قبل النوم فيه فوائد :
الفائدة الأولى : أن الجنب إذا وقعت منه الجنابة عن جماع فإن غسل العضو مبني على نجاسة الرطوبة ، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم حينما كان الأمر بالغسل مختصاً بوجود الإنزال قال : (( ليغسل ما أصابه منها)) فاعتبر رطوبة فرج المرأة نجسة فدل على أنها غير طاهرة ، ولذلك لما أمر عليه الصلاة والسلام الجنب أن يغسل ذكره فإن هذا فيه إشارة إلى نجاسة رطوبة فرج المرأة -وقد تقدم بيان هذه المسألة وبيان ما ينبغي على المرأة في طهارتها من هذه الرطوبة -.
وقوله عليه الصلاة والسلام : (( واغسل ذكرك )) : قال بعض العلماء : يختص الرجال دون النساء وذلك لاختلاف الحالين .
المسألة الثالثة: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : (( توضأ واغسل ذكرك ثم نم )) تقدم الوضوء ثم اتبعه غسل الذكر فاستشكل العلماء رحمهم الله هذا الحديث على القول بالترتيب إذا توضأ المسلم وضوءاً كاملاً فإنه إذا مس الذكر ينتقض وضوءه فهل الوضوء حال الجنابة يخالف الأصل..؟؟(53/13)
فذهب طائفة من العلماء إلى أن الجنب إذا توضأ فإنه وضوءه لا ينتقض بالغائط ولا بالبول ولا بالمس ، ولذلك قالوا إن النبي صلى الله عليه وسلم لم يعتبر مس الفرج ناقضاً على ورود الأمر بالترتيب ومن هنا يستفاد أن وضوء الجنب لا ينتقض بالأحداث الصغرى .
وهنا مسألة : قالوا فلو جامع امرأته مرة ثانية فإنه ينتقض الوضوء الأول وحينئذ يتوضأ مرة ثانية ، وأما إذا بال أو تغَّوط بعد الوضوء فإن وضوءه يبقى ، ولذلك يُلغز العلماء رحمهم الله في هذه المسألة ويقولون متوضيء لا ينتقض وضوءه بمس الذكر عند من يقول بأن مسه ناقض فيجاب بأنه وضوء الجنب ، وإلى ذلك أشار بعض الفضلاء رحمهم الله نظما وذلك بقوله :
قل للفقيه وللمفيد … ولكل ذي باع مديدِ
ماقلت في متوضئ قد جاء بالأمر السديدِ
لا ينقضون وضوءه مهما تغوط أو يزيدِ
أي أن وضوءه لا ينتقض بالأحداث الموجبة لانتقاض الطهارة الصغرى.
وقوله عليه الصلاة والسلام : (( توضأ واغسل ذكرك )) فيه فائدة :
وهي أن الإنسان إذا بال أوتغوط وهو طاهر فإنه ينتقض وضوءه كما ذكرنا .
ثم لو أراد أن يتوضأ فتوضأ قبل أن يغسل عضوه ثم غسل العضو دون أن يمسه بيده فهل يصح ذلك أو لا يصح؟؟
والجواب : أن من توضأ ثم غسل عضوه فإنه يصح وضوؤه ويجزيه بشرط ألا يمسه ويباشر المسح فإذا فعل ذلك صح الوضوء ولا يؤثر في الوضوء تأخر الاستنجاء عنه ، ولذلك قال جمع من العلماء : من توضأ ثم استنجى ومن توضأ ثم استجمر فإن وضوءه صحيح وفرَّق بعض العلماء بين الاستنجاء والاستجمار قالوا لأن الاستجمار لا يخلو من إيلاج يمتزع بعض الشيء من الحلقة .
والصحيح أن لا فرق وذلك لأنه انتزاع من الموضع لا يكون بإيلاج ولا في حكم الإيلاج كما لا يخفى .
قال المصنف رحمه الله : بَاب مَا جَاءَ فِي مُصَافَحَةِ الْجُنُبِ(53/14)
حَدَّثَنَا إِسْحَقُ بْنُ مَنْصُورٍ حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ الْقَطَّانُ حَدَّثَنَا حُمَيْدٌ الطَّوِيلُ عَنْ بَكْرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الْمُزَنِيِّ عَنْ أَبِي رَافِعٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم لَقِيَهُ وَهُوَ جُنُبٌ قَالَ : " فانبجست أَيْ فانخنست فَاغْتَسَلْتُ ثُمَّ جِئْتُ فَقَالَ : (( أَيْنَ كُنْتَ أَوْ أَيْنَ ذَهَبْتَ )) قُلْتُ : " إِنِّي كُنْتُ جُنُباً " قَالَ : (( إِنَّ الْمُسْلِمَ لاَ يَنْجُسُ)) .
قَالَ رحمه الله : وَفِي الْبَاب عَنْ حُذَيْفَةَ وَابْنِ عَبَّاسٍ .
قَالَ أَبو عِيسَى رحمه الله : وَحَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ أنه لقي النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم وهو جنب حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ .
قال رحمه الله :وَقَدْ رَخَّصَ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ فِي مُصَافَحَةِ الْجُنُبِ وَلَمْ يَرَوْا بِعَرَقِ الْجُنُبِ وَالْحَائِضِ بَأْسًا، وَمَعْنَى قَوْلِهِ" فانخنست" يَعْنِي تَنَحَّيْتُ عَنْهُ .
الشرح:
هذا الحديث يشتمل على جملة من الأحكام المتعلقة بالجنب والباب منعقد لمسائل الجنب ، ولذلك اعتنى المصنف رحمه الله بإيراده في أبواب الجنابة ، وقد ترجم العلماء لهذا الحديث في مواضع متعددة من كتب الحديث فذكر المحدثون فوائد مختلفة منتزعة من هذا الحديث الذي اتفق الشيخان على إخراجه في صحيحهما وهو حديث أبي هريرة رضي الله عنه وأرضاه وقد ترجم المصنف له "بمصافحة الجنب" وترجم غيره "بعرق الجنب" ، وترجم غيره "بخروج الجنب إلى السوق" وكما صنع الإمام البخاري رحمه الله في صحيحه.
فالحديث اشتمل على جملة من الأحكام المتعلقة بالجنابة بمن أصابته الجنابة من حيث طهارته ومن حيث أحكام ملابسته للأشياء بل أخذ بعض العلماء منه فوائد تتعلق بمجالسة العلماء وما ينبغي على المسلم إذا جلس في مجالس العلماء أو أراد أن يجالسهم من رعاية الحال الأكمل والأفضل.(53/15)
قال رضي الله عنه وأرضاه -وجعل أعالي الفردوس مسكنه ومثواه-" أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لقيه في بعض سكك المدينة " وفي بعض الروايات "في بعض طرق المدينة " اللقيا المراد بها أن يرى الإنسان غيره ويستوي في ذلك أن يكون قريباً أويكون عن بعد ولقيا أبي هريرة للنبي صلى الله عليه وسلم وأبو هريرة جنب يدل دلالةً واضحةً على أن أبا هريرة أخَّر غسل الجنابة وقد أقره رسول الله صلى الله عليه وسلم على هذا الفعل وحينئذ يمكننا القول من ناحية أصولية أن الأمر في قوله سبحانه وتعالى :{وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُباً فَاطَّهَّرُواْ} أنه لا يقتضي الفور وأنه على التراخي فهذا من أمثلة الأوامر المحمولة على التراخي .
والأصل عند الأصوليين على أرجح القولين : " أن الأوامر محمولة على الفور مالم يدل الدليل على التراخي" فلما أمرنا الله بالاغتسال بعد الجنابة والطهارة فإن هذا الأمر ؛ إنما يكون على الفور إذا حضرت الصلاة لأن الأمر بالشيء أمر بلازمه والقاعدة في الأصول : " أن مالا يتم الواجب إلا به فهو واجب" فأخَّر أبو هريرة رضي الله عنه غسل الجنابة فدل على أن الأمر ليس على الفور .
وقوله رضي الله عنه " فانخنست " : فيه روايات قوله" فانخنست" يقال أنخنس الشيء إذا اختفى وتوارى ومنه قوله سبحانه وتعالى : {فَلاَ أُقْسِمُ بِالْخُنَّسِ - الْجَوَارِي الْكُنَّسِ}(1) وهي النجوم تنخنس عند طلوع الشمس فيذهب ضوؤها ضوء النجوم فلذلك وصفت بكونها خنس ، وقال بعض السلف: أن الجواري الخنس المراد به بقر الوحش وذلك أن بقر الوحش إذا رأت الإنسان خافت منه وتوارت وانخنست ومنه قوله سبحانه وتعالى :{مِنْ شَرِّ الْوَسْوَاسِ الْخَنَّاسِ}(2) وذلك أنها وسوسة من خفي متواري.(53/16)
وقوله رضي الله عنه في الرواية الثانية " فانبجست " : يقال اخنست مأخوذ من قوله انبجس الشيء إذا اندفع بشدة ومنه قوله سبحانه وتعالى :{فانبجست مِنْهُ اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْناً}(1) أي اندفع الماء منها بقوة وشدة ، والمراد بذلك أن أبا هريرة بمجرد أن رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم فَّر عنه وتوارى بقوة حتى لا يحرج بندائه صلوات الله وسلامه عليه.
الرواية الثالثة " فانحبست " : يقال انحبس الشيء إذا امتنع وأصل الحبس المنع ، والمراد بذلك أنه توارى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وامتنع من لقي رسول الله صلى الله عليه وسلم .
الرواية الرابعة " فانتجست " : والمراد بقوله أنتجست أي اعتبرت نفسي نجساً لمكان الجنابة وهذه الرواية أرى فهمها رسول الله صلى الله عليه وسلم ويقَّويها قوله عليه الصلاة والسلام : (( سبحان الله إن المؤمن لا ينجس)) .
وأما الرواية الخامسة " فانبخست " : والمراد بقوله "انبجست" يقال بخس الشيء إذا انتقص منه ومنه بخس الميزان إذا أنتقص من العدل والقوام فيه ، والمراد أن أبا هريرة اعتقد النقص في نفسه كونه جنباً ، فقوله : " انبخست " أي اعتدت نفسي عن مجالسة النبي صلى الله عليه وسلم ولقياه" .
والرواية السادسة " فانتجشت " : والنجش المراد به الإسراع والإغراء وأصله انتجش الشيء أصل النجش التحريك والإثارة ومنه سمُي بيع النجش بيع نجش ؛ لأنه إذا زاد الإنسان في سلعة الغير وهو لا يريد شراءها فإنه يثير غيره ويحركه لشرائها ويدفعه إلى ذلك بقوة فأنت إذا رأيت السلعة يكثُر الناس الزيادة فيها رغبت فيها واندفعت بلا شعور رغبة فيها قالوا فقولهم " انتجشت " أي اندفعت بقوة .
وأما الرواية السابعة فهي قوله :" فانسللت ".(53/17)
والرواية الثامنة "فانسل " وهذا كله المراد بذلك أنه اختفى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم والتسلل هو الذهاب والتواري بخفية ، ومنه قوله سبحانه وتعالى :{قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الَّذِينَ يَتَسَلَّلُونَ مِنْكُمْ لِوَاذاً}(1) فالمراد بذلك أنهم ينسلون عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وذلك على سبيل الهرب والفرار من لقاء العدو فهذه هي الروايات في قوله رضي الله عنه وأرضاه "فانبخست وانتجشت وأنحست وانبخست"كلها تشتمل على معاني التواري والذهاب عن رسول الله صلى الله عليه وسلم .
قال رضي الله عنه وأرضاه قال" فاغتسلت" : في الرواية الأخرى "أنه ذهب إلى البئر واغتسل ثم أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم " وفي ذهابه وشروده عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وهروبه على هذا الوجه .
فيه دليل على عنايته رضي الله عنه وأرضاه ورعايته لكمال الأدب في جلوسه مع النبي صلى الله عليه وسلم وقد كان أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم و-رضي الله عنهم أجمعين- على أكمل الحالات وأشرف الهيئات في مجلسهم مع النبي صلى الله عليه وسلم ، ولذلك استحب العلماء رحمهم الله أن يكون المسلم حال جلوسه مع العلماء وأهل الفضل أن يُراعى حالات الكمال كما كان هدياً لأصحاب النبي صلى الله عليه وسلم قال بعض العلماء : إن الله رزق أصحاب نبيه صلوات الله وسلامه عليهو-رضي الله عنهم أجمعين-من الأدب أشرفه وأكمله فكانوا خير جليس لخير من يجالس بأبي وأمي صلوات الله وسلامه عليه.(53/18)
فقال- عليه الصلاة والسلام -:(( أين كنت؟ )) : سؤال واستفهام من رسول الله صلى الله عليه وسلم وقوله :(( أين كنت؟ )) فيه دليل على مشروعية السؤال عند الريب والشك أو وجود الشيء المخالف للمعهود والمألوف ، فالمعهود والمألوف من الإنسان إذا لقي صاحبه أن يُقبل عليه ولا يفر عنه والفرار عنه لابد من وجود سبب يقتضيه ، ولذلك استفهم النبي صلى الله عليه وسلم واستعلم أبا هريرة عن الشأن والحال فقال رضي الله عنه وأرضاه "إني كنت جنباً فكرهت أن أجالسك" فقوله "إني كنت جنباً" أي كانت عليَّ الجنابة فكرهت أن أجالسك أي وأنا جنب .
فقال صلى الله عليه وسلم : (( إن المؤمن لا ينجس)) في هذه الجملة فوائد :
الفائدة الأولى : تصحيح الخطأ وبيان الصواب في الأمور وأنه ينبغي للأعلم أن يبين لمن هو دونه وجه الصواب إذا كان الإنسان مخطئاً فيما ذهب إليه ، وقد فعل ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم مع الصحابة وشرَّعه للأمة لبيان الحق وإبطال الباطل .
الفائدة الثانية : أن قوله : (( إن المؤمن لا ينجس)) فيه دليل أن المسلم الأصل فيه الطهارة فأخذ العلماء من هذا دليلاً على طهارة الدموع ، وعلى طهارة العرق ، وعلى طهارة اللعاب ، وعلى طهارة المخاط ، وعلى طهارة ما يخرج من الإذن من صمغها ، وعلى طهارة فضلات البدن الأخر إلا ماقام الدليل على نجاسته ؛ وذلك لأنها مستحلبة من طاهر والمستحلب من الطاهر طاهر حتى يدل الدليل على نجاسته كالبول والغائط والدم ، وبناءً على ذلك قالوا الأصل فيما أفضله الإنسان أنه طاهر حتى يدل الدليل على نجاسته ، ومن هنا قال بعض العلماء : القيح والصديد كل منهما طاهر ؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال : (( إن المؤمن لا ينجس)) فإذا كان الجسد طاهراً ففضلته طاهرة.(53/19)
والصحيح أن القيح والصديد كل منهما نجس ؛ لأن القيح يتولد من الدم والدم نجس -وقد بسطنا مسائل الخلاف في الفضلات وبينا كلام العلماء رحمهم الله فيها في أبواب النجاسات والفضلات-.
وقوله عليه الصلاة والسلام : (( إن المؤمن )) : المراد به معنى الإيمان المطلق الذي يشمل المسلم والمؤمن ففيه دليل على أنه طاهر وأخذ العلماء من هذا دليلاً على أن ميتة المسلم طاهرة وأن جيفة المسلم تعتبرطاهرة ولا يحكم بنجاستها ؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال :(( إن المؤمن لا ينجس)) ولم يفرق بين حال كونه حياً أو ميتا فدل على طهارته حياً وطهارته ميتاً ، وقال بعض العلماء إنه إذا مات المسلم حَكم بنجاسته وهو قول ضعيف .
الفائدة الثالثة : مفهوم هذا الحديث أن الكافر يعتبر نجساً ؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال : (( إن المؤمن )) ولم يقل إن الآدمي فخَّص المؤمن فدل تخصيصه المؤمن على أن الكافر لا يشاركه وقد قال الله في كتابه :{ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ }(1) فحكم بنجاستهم قالوا : فهذا يدل على نجاسة الكافر وقد أجيب عن هذه النصوص بأن هناك نصوصاً هي أقوى من هذا المفهوم وهي من المنطوق والقاعدة في الأصول : " أنه إذا تعارض المنطوق والمفهوم فإن المنطوق مقَّدم على المفهوم " .(53/20)
المسألة الاخيرة : احتج بهذه الجملة طائفة من العلماء على أن الجنب يجوز له أن يدخل المسجد ؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال : (( إن المؤمن لا ينجس)) قالوا فقوله : (( لا يمس القرآن إلاَّ طاهر)) فإن المؤمن طاهر ؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم نفى كونه نجساً وهذا الاستدلال ضعيف ؛ لأن هناك فرقاً بين قولنا "لا ينجس" وبين قولنا "إنه غير طاهر" فيجوز أن تقول أنا متطهر ويجوز أن تقول أنا على غير طهارة ؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال "إني كنت على غير طهارة " فهناك فرق بين نفي الطهارة وبين الوصف بالنجاسة فأنت إذا قلت أن الجنب أنه غير طاهر يستقيم أن تقول بعدم جواز مسه للمصحف وبعدم جواز دخوله للمسجد-وقد بسطنا هذه المسائل -وبينا أن الصحيح أن الجنب لا يعتبر نجساً ؛ ولكن لا يجوز له دخول المسجد ولامس المصحف لقيام أدلة السنة على ذلك.
- ? - ? - ? - ? - الأسئلة - ? - ? - ? - ? -
السؤال الأول :
ما هو الراجح في وضوء الجنب قبل النوم هل هو أمر تعبدي أم لعلة وماعلاقة ذلك بوضوء الحائض والنفساء؟؟ وماصحة حديث :(( إن الملائكة لاتدخل بيتاً فيه جنب ))...؟؟
الجواب :
بسم الله والحمدلله والصلاة والسلام الأتمان الأكملان على خيرخلق الله وعلى آله وصحبه ومن والاه ومن سار على نهجه واهتدى بهداه أما بعد :(53/21)
فأما بالنسبة لمسألة هل الحديث معلل أو غير هذا ؟؟ هذا يتبع مسالك التعليل الذين قالوا إنه شطر الطهارة يستدلون بالحديث الذي جاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم : (( أنه شطر الطهارة)) : وبناءً عليه قالوا إنه إذا كان شطر الطهارة فهذه علة منصوص عليها ، وهذا القول على القول بصحة الحديث هو الأقوى ؛ ولكن الحديث فيه كلام ، وكذلك أيضاً إذا قلنا إنه تعبدي يقويه ما روي عن أم المؤمنين عائشة رواه البيهقي بسند حسن كما أشار إليه الحافظ ابن حجر في الفتح أن النبي صلى الله عليه وسلم : " كان إذا أراد أن ينام وهو جنب فإما أن يتوضأ أو يتيمم " فلما تيمم عليه الصلاة والسلام فهمنا أن علة النظافة ليست هي العلة ؛ لأنه لو كانت العلة النظافة فإن التيمم طهارة ترابية ، ولذلك قال العلماء إن المعلل بالنظافة لا يستقيم به التيمم ومن أشهر ذلك أنهم لماّ أمر النبي صلى الله عليه وسلم الحائض وأمر النفساء أن تغتسل عند الميقات كما في حديث أسماء بنت عميس -رضى الله عنها- في الصحيحين لما نُفست بمحمد بن أبي بكر الصديق بالبيداء قال : (( مرَّها فلتغتسل)) فأمرها بالغسل قالوا فلو كان هذا الغسل للنظافة لا يشرع لها أن تتيمم إذا لم تستطع أن تغتسل لشدة برد أو مرض فالمقصود أن كونه عليه الصلاة والسلام يتميم عند فقد الوضوء يقوى جانب التعبد ثم نقول هو تعبدي وهذا يميل إليه غير واحد من العلماء وهو الذي تطمئن إليه النفس نقول هو تعبدي له حِكم وفوائد :
ومن حِكمه وفوائده الطهارة والنقاء ، ومن حِكمه وفوائده أنه شطر الطهارة ، وحينئذٍ يستقيم أن نقول إنه تعبدي في الأصل من حيث إن المسلم أنه مطالب به ومطالب ببدله وهو التيمم وكذلك أيضاً له فوائد منها :
طهارة الإنسان ونقاؤه فيكون أبعد عن الشياطين ومنها تشجيعه على الغسل ، ومنها كذلك كونه شطر الغسل.
أماصحة حديث : (( إن الملائكة لا تدخل بيتاً في جنب )) :(53/22)
هذا الحديث فيه ابن الحضرمي واختلف في توثيقه وتضعيفه فبعض العلماء يضعف روايته ووثقه بعض أهل العلم وصَّحح هذا الحديث ابن حبان وابن خزيمة والكلام فيه مشهور ؛ ولكنه في الأصل أصله في الصحيح :(( لا تدخل الملائكة بيتاً فيه كلب ولا صورة تمثال )) هذه رواية الصحيح ، أما إضافة الجنب فهو من رواية ابن الحضرمي وهو متكلم في روايته رحمه الله والقول الأقوى ضعفه أنه ضعيف قال العلماء : على القول بتحسينه وأنه ثابت قالوا إنه يحُمل على الذي يعتاد-والعياذ بالله- أن ينام على الجنابة يعني لا يحرص على السنة ودائماً ينام وهو على الجنابة ، وقالوا أن هذا لا يحمد ويكون من باب العقوبة له بتركه للأكمل والأفضل أن الملائكة لا تدخل ؛ لأن الملائكة للكمال ولا شك أن قرب الملائكة من الإنسان فيه حفظ من الله وحرز والشياطين تفر من الملائكة وتخاف من الملائكة ، ولذلك قال سبحانه وتعالى : { لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ }(1) أي بسبب أمر الله فمن سببيه كقوله -تعالى- : {مِمَّا خَطِيئَاتِهِمْ }(2) أي بسبب خطيئتاهم ، والله تعالى أعلم .
السؤال الثاني :
إذا صلى الإنسان وهو جنب فماذا عليه هل يعيد الصلاة أو أن صلاته تجزئه ..؟؟
الجواب :
بسم الله والحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن ولاه أما بعد :(53/23)
فمن صلى وهو جنب فإنه يلزمه أن يعيد الصلاة ولو كانت أكثر من صلاة ؛ لأن الله عز وجل قال : {وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُباً فَاطَّهَّرُواْ} : (( ولا يقبل الله صلاة عبدٍ إذا أحدث حتى يتوضأ )) فإذا كان هذا في الحدث الأصغر فمن باب أولى الحدث الأكبر فقد ثبت عن عمر بن الخطاب أنه صلى بالناس الفجر ثم انطلق إلى مزرعته بالجرف من ضواحي المدينة فلما جلس على الساقية رأى المني على فخذه رضي الله عنه فقال وذلك في الصباح فقال" ما أراني إلا احتلمت وصليت وما اغتسلت" ثم اغتسل وأعاد الصلاة ، ولذلك أجمع العلماء رحمهم الله على وجوب الإعادة على من صلى وهو يظن أنه طاهر ثم تبين أنه جنب وهذا مندرج تحت القاعدة الشرعية التي تقول : " لا عبرة بالظن البين خطؤه" أي لا عبرة بالظن الذي بان خطؤه ، والله تعالى أعلم.
السؤال الثالث :
من يغتسل للتبرد وأراد الصلاة بعد ذلك فهل يتوضأ بعد الاغتسال أم يكفي الاغتسال عن الوضوء ..؟؟
الجواب :
بالنسبة للمغتسل يترك شرط الترتيب وذلك أنه لو اغتسل فإن وضوءه يندرج تحت الغسل لكنه لا يرتب الوضوء ؛ لأن أعضاء الوضوء تقع دفعة واحدة وقد يسبق بعضها البعض ولكنه لواغتسل للتبرد ونوى بعد غسل التبرد أن يكون غسله مندرج تحته الوضوء وتوضأ وضوءه قبل الغسل وهو وضوء الجنابة كما يفعل رسول الله صلى الله عليه وسلم في غسله من الجنابة فإن ذلك يجزيه وحينئذٍ تقع أفعال الوضوء مرتبة ، أما لو أنه انغمس في بركة أو انغمس في نهر فقال بعض العلماء : لتحقيق شرط الموالاة أنه ينغمس أربع غمسات فينغمس الغمسة الأولى ناوياً بها غسل وجهه ، وينغمس الغمسة الثانية ناوياً بها غسل يديه وينغمس الغمسة الثالثة لرأسه وينغمس الغمسة الرابعة لغسل لقدميه مراعاة للترتيب ، ولذلك قالوا أنه لو انغمس على هذا الوضع فإنه قد توضأ كما أمره الله وأن أعضاءه وقعت مرتبة كما أمر الله ، والله تعالى أعلم .
السؤال الرابع :(53/24)
إذا باشر الرجل المرأة وعليها العذر الشرعي وباشرها في غير الفرج فأنزلت فهل يجب عليها الغسل أم أنها تغتسل بعد أن تطهر..؟؟
الجواب :
يقول جمع من العلماء : إن الجنابة تندرج تحت الحيض ، وعلى هذا فإن الحائض لا تغتسل للجنابة ؛ وإنما تنتظر حتى تطهر ثم بعد ذلك تغتسل غسلاً واحداً ، والله تعالى أعلم .
السؤال الخامس :
إذا أصاب المني الثوب ثم أفضت على الثوب الماء وبعد أن جف الثوب بقي أثر للمني فهل يجب غسل الثوب مرة أخرى..؟؟
الجواب :
لا يجب غسل الثوب من المني ؛ وإنما قلنا على هذا من الأفضل والأكمل ، وذلك لأن المني طاهر فالأفضل والأكمل أن تغسل وإذا بقي بقع الماء أو أثر الماء فإن ذلك لا يضر ، والله تعالى أعلم .
السؤال السادس :
إذا كان الإنسان جنباً وتوضأ وأراد النوم فهل يقول أذكار النوم ويستبيح بذلك قراءة بعض الآيات..؟؟
الجواب :
إذا كان الإنسان عليه جنابة فإنه لا يقرأ القرآن ؛ لأن الجنب لا يقرأ القرآن ، وكذلك الحائض والنفساء ، ولذلك يقتصر على الأذكار المشتملة على الذكر المطلق الذي هو ليس من القرآن فلا يقرأ آية الكرسي ؛ ولكنه إذا قرأها قبل أن يجنب وقبل أن يأتي أهله فهذا حسن ، وكذلك المعوذات فإنه لا يقرؤها ولا يتفل بعد جنابته لأن هذا هو الأصل أن الجنب لا يقرأ القرآن كما صححنا وبينا أنه أصح قولي العلماء فيما تقدم ، والله تعالى أعلم.
السؤال السابع :
هل يجوز في جمع الصلاتين أن يصلي المسلم الصلاة الأولى في أول الوقت ثم يصلي الأخرى في آخر الوقت..؟؟
الجواب :(53/25)
هذا ليس بجمع يشترط في الجمع هناك قاعدة عند العلماء حتى تكون الصورة واضحة عندهم شيء يسمى الأصل وشيء يسمى المستثنى وينبغي على المسلم أن يتنبه لهذه المسألة ويعرف بها مسالك العلماء في التخصيص والاستثناء فالأصل أن كل صلاة تفعل في وقتها ؛ لأن الله عز وجل قال : {إِنَّ الصَّلاَةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَاباً مَوْقُوتًاً }(1) هذا الأصل فلماجاءت السنة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بالجمع هذا استنثناء وهذا رخصة ولذلك لا يجوز إلا للمسافر ولا يجوز إلا في أحوال مخصوصة قالوا فحينئذٍ إذا كان رخصة ينبغي أن ننظر في حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم وهديه ونخص الصورة المستثناة بما ورد فالذي ورد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه جمع الصلاتين معاً حتى قال بعض العلماء لا يفصل بينهما إلاَّ بقدر حطّ الرحل ، ومنع بعض العلماء حتى قال بعض العلماء لو تغذى بين الظهر والعصر أو أكل العشاء بين المغرب والعشاء لم يصح جمعه ؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم ما فصل بفاصل مؤثر ، ولذلك قالوا إنه إذا جمع يختص بصورة الجمع الواردة عن رسول الأمة صلى الله عليه وسلم .(53/26)
أما إذا أراد أن يجمع بهذه الصورة وبهذه الكيفية فإنه يصلي الظهر ثم إذا دخل وقت العصر في أول وقتها يصليها فحينئذ يكون قد صلى كل صلاة في أول وقتها أو يؤخر الظهر إلى آخر وقتها إذا لم يكن مطالباً بالجماعة ثم يصلي الظهر بحيث إذا انتهى منها دخل وقت العصر فيجمع فيصلي العصر فكأنه جمع في الصورة ، وهذا هو المراد بحديث ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم " جمع من غير سفر ولامطر " قالوا إن المراد به الجمع الصوري وهذا في الأحوال الخاصة ؛ لأن ابن عباس كان يخطب في مسجد الكوفة كما في صحيح مسلم وقام له رجل أعرابي فقال" الصلاة فأعرض عنه ابن عباس في خطبته وهو يعلم الناس ويبين لهم السنة فقال له الصلاة فكرر عليه" فقال له "أتعلمنا بالصلاة ! لا أم لك" وهذا من باب الإنكار على الجهلاء إذا تطاولوا على العلماء خاصة وأن الأصل في أهل العلم أنهم في أمور العبادة والأمور العظيمة لا يفعلون أمراً إلا ولهم مسار ولهم أصل يستندون إليه فقال " أتعلمنا بالصلاة لا أم لك" كما في صحيح مسلم ثم قال " جمع رسول الله صلى الله عليه وسلم بين الصلاتين في غير سفر ولا مطر" فمراده جمع أي أنني سيؤخر الظهر إلى آخر وقتها وهذا يقع في بعض الأحوال النادرة كأن يكون هناك أمر مهم يحتاجه الجماعة مجتمعون لأمر مهم فيه حرج عليهم لو قاموا من هذا الاجتماع أو قاموا عن هذا الأمر المهم كالأطباء يحتاجون لمداواة المرضى ويحتاجون إلى علاج الناس وتأتيهم أمور طارئة فيؤخرون صلاة الظهر إلى آخر وقتها فيصلون الظهر بحيث ينتهون من الصلاة في أخر وقتها بحيث ينتهي من صلاة الظهر يدخل وقت العصر فيقيمون مباشرة ويصلون العصر ، فهذا تخفيف من الله وتوسيع على الأمة ومراعاة للأحوال الخاصة ، وقد قرّر هذا شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله وتكلم عليه كلاماً نفسياً خصوصاً أن هذا الجمع هو الجمع الصوري ، وذلك أن الأصل الذي دلت عليها أدلة الكتاب والسنة المتضافرة(53/27)
الكثيرة أنه لا يصح الجمع إلا من عذر ، ولذلك لو قلنا يجوز الجمع بدون مطر ولا سفر وأن الإنسان بدون عذر يجمع أصبحت الصلاة لها ثلاثة أوقات فنصلي الظهر والعصر معاً ونصلي المغرب والعشاء معاً ونصلى الفجر لوحدها فأصبحت الأوقات ثلاثة مع أن نصوص الكتاب والسنة والأحاديث الكثيرة في مواقيت الصلاة كلها تدل على أن الفرائض خمس وأن الأوقات خمسة.
وَآخِرُ دَعْوَانَا أَنِ الحمَْدُ لِلَّهِ رَبِّ العَالَميْنَ وصلَّى اللَّهُ وسلَّم وبارك على عبده ونبيَّه محمد وعلى آله وصحبه أجمعين .(53/28)
بسم الله الرحمن الرحيم
فقال المصنف رحمه الله : بَاب مَا جَاءَ فِي الْمَرْأَةِ تَرَى فِي الْمَنَامِ مِثْلَ مَا يَرَى الرَّجُلُ?
حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي عُمَرَ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ زَيْنَبَ بِنْتِ أَبِي سَلَمَةَ عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ قَالَتْ : " جَاءَتْ أُمُّ سُلَيْمٍ بِنْتُ مِلْحَانَ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَتْ : " يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لاَ يَسْتَحْيِي مِنَ الْحَقِّ فَهَلْ عَلَى الْمَرْأَةِ تَعْنِي غُسْلاً إِذَا هِيَ رَأَتْ فِي الْمَنَامِ مِثْلَ مَا يَرَى الرَّجُلُ؟ قَالَ : (( نَعَمْ إِذَا هِيَ رَأَتِ الْمَاءَ فَلْتَغْتَسِلْ )) قَالَتْ أُمُّ سَلَمَةَ قُلْتُ لَهَا فَضَحْتِ النِّسَاءَ يَا أُمَّ سُلَيْمٍ ".
قَالَ أَبو عِيسَى رحمه الله : هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ وَهُوَ قَوْلُ عَامَّةِ الْفُقَهَاءِ أَنَّ الْمَرْأَةَ إِذَا رَأَتْ فِي الْمَنَامِ مِثْلَ مَا يَرَى الرَّجُلُ فَأَنْزَلَتْ أَنَّ عَلَيْهَا الْغُسْلَ وَبِهِ يَقُولُ سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ وَالشَّافِعِيُّ.
قَالَ رحمه الله : وَفِي الْبَاب عَنْ أُمِّ سُلَيْمٍ وَخَوْلَةَ وَعَائِشَةَ وَأَنَسٍ .
الشرح:
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين أمابعد :(54/1)
فقد ذكر المصنف-رحمه الله تعالى- حديث أم سليم -رضي الله عنها وأرضاها- وهي إحدى النساء الفاضلات من الصحابيات-رضي الله عنهن وأرضاهن-كانت -رضي الله عنها-على الكفر فأنعم الله عليها بالإسلام فلما عرض عليها اسلمت واستسلمت ورضيت بالله رباً والإسلام ديناً وبمحمد صلى الله عليه وسلم نبياً ورسولاً ، وكان زوجها مالك بن النضر الأنصاري والد لأنس بن مالك رضي الله عنه عن أنس كان على الكفر والشرك فلما اسلمت أم سليم -رضي الله عنها- عرضت الإسلام على زوجها فأبى زوجها ذلك وأعرض عن دين الله فأعرضت عنه ثم إنه خرج إلى الشام غضبان فأدركته منيته فمات على الكفر -والعياذ بالله- ثم إن أم سليم -رضي الله عنها- أصبحت خلواً من الرجال فعرض عليها أبو طلحة زيد بن خالد الأنصاري أن يتزوج منها وكان أبو طلحة رضي الله عنه على الكفر فأبت -رضي الله عنها- أن تتزوجه مع أنه كان كريماً سيداً في قومه له فضله ومكانته فأبت عليه حتى يسلم فأسلم رضي الله عنه وأرضاه ، ولذلك كان يقال أنها أول امرأة كان مهرها في الإسلام الإسلام فما طلبت منه غير أن يُسلم لله -جل وعلا- فأسلم ثم تزوجت وولدت منه غلاماً اختلف العلماء -رحمهم الله تعالى- هل هو أبو عمير صاحب النغير أو غيره ؟!وكان أبو طلحة رضي الله عنه يحب هذا الولد حباً عظيماً ثم شاء الله أن يبتليه في حبه وولده فمرض الولد فاهتم أبو طلحة بأمره فلما اشتدت عليه علته ووافته منيته لم يكن أبو طلحة على علم بذلك فأخفت أم سليم عنه الخبر فجاء في العشي يسأل عنه؟ فقالت : له إنه بخير وورَّت-رضي الله عنها- بهذه الجملة وهو المعني بقوله عليه الصلاة والسلام :(( إن في التورية لمندوحة عن الكذب )) فقولها"إنه بخير" أي أنه ارتاح من عناء الدنيا ومافيهامن البلاء وشدة ما يعاني من السقم والمرض ثم إنها تجملت وتزينت فأصابها رضي الله عنه وأرضاه ثم قالت يا أبا طلحة لو أن بني فلان(54/2)
أعاروا عارية ثم سألوها هل أجحفوا ؟ فامتنع عليهم من استعار فقال رضي الله عنه وأرضاه ما أنصفوا قالت له- رضي الله عنها وأرضاها-:" إن ولدك عارية من الله وإن الله قد قبض ولدك فاحتسب" فاحتسبه رضي الله عنه وأرضاه ولماّ أصبح ذكر للنبي صلى الله عليه وسلم الخبر فقالصلوات الله وسلامه عليه : (( لعل الله أن يبارك لكما في ليلتكما )) وعجبصلوات الله وسلامه عليهمن صنيعها وكان ما كان فبارك الله لهما في ليلتهما فحملت-رضي الله عنها- بعبد الله بن أبي طلحة ثم ولد لعبد الله عشرة من الولد كلهم كان من حفاظ كتاب الله وحملة العلم-رحمهم الله برحمته الواسعة- ، وكانت أم سليم من أحب النساء الفاضلات إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وعرفت بالعقل والرزانة وكانت-رضي الله عنهاوأرضاها- تجل رسول الله صلى الله عليه وسلم وتحبه حباً عظيماً وجاءت بفلذة كبدها أنس بن مالك رضي الله عنه وأرضاه ، وقالت له : " خوديمك أنس ادعو الله له" فدعى له ودعى لها ، وفي طبقات ابن سعد رحمه الله أن أم سليم قالت : " لقد دعا لي رسول الله صلى الله عليه وسلم وزاد حتى إنه دعى لها دعاءً كثيراً " فأصابت من خيري الدنيا والآخرة وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يرحمها فهي خالة رسول الله صلى الله عليه وسلم من الرضاعة ، وكذلك أم حرام بنت ملحان فإنها خالة للنبي صلى الله عليه وسلم من الرضاعة لذلك كان النبي صلى الله عليه وسلم يأتي إلى قباء ويزور أم حرام بنت ملحان ويزور كذلك أم سليم وكان ربما يطعم عندهما واستقى صلوات الله وسلامه عليهوفي الصحيحين أنه قال : إنه زار أم حرام بنت ملحان وكان عندها أنس ابن مالك رضي الله عنه وأرضاه قال فقال لنا : (( قوموا فلأصل لكم )) قال : " فقمت إلى حصير قد أسود من طول ما لبس فصففت أنا واليتيم وراءه والعجوز من خلفنا "-يعني أم حرام بنت ملحان- ،(54/3)
وكانت أم سليم يقال لها الغميصاء والرميصاء واختلف في اسمها فقيل إن اسمها سهلة وقيل مُليكة وقيل مَليكة وقيل غير ذلك ، وكانت -رضي الله عنها وأرضاها- ممن حفظ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم الكثير الطيب من هديه صلوات الله وسلامه عليهورى عنها الشيخان بأسانيدهما وكذلك غيرهما -رحمهم الله برحمته الواسعة-ولم يؤرخ لوفاتها ، وقد عاشت بعد النبي صلى الله عليه وسلم ولكنَّ أهل السير والتاريخ لم يبينوا سنة وفاتها ، وكذلك لم يُعلم في أي سنة كانت وفاتها-رضي الله عنها وأرضاها- ، وقال بعض العلماء : إنها من المبشرات بالجنة بشرَّها رسول الله صلى الله عليه وسلم بالجنة -رضي الله عنها وأرضاها وجعل أعالي الفردوس مسكنها ومثواها- جاءت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فطابت وطاب ممشاها وسألت النبي صلى الله عليه وسلم هذه المسألة فلم تأته لدنيا تريدها أوتجارة تطلبها ؛ وإنما جاءت لخير دينها واستقامت أمرها فسألت عن هذا الأمر الذي عمَّت به البلوي وكثرت منه الشكوى .
فقالت يارسول الله "هل على المرأة تعني غسلاً إذا هي رأت في المنام مثل ما يرى الرجل" ، وفي الرواية في الصحيح يارسول الله "إن الله لا يستحي من الحق " : وهذه الجملة تدل على فضلها وكمال عقلها حيث إنها استفتحت سؤالها بالتمهيد والتقديم له ؛ لأنه يشتمل على أمر محرج ، وهذا الأمر يستحي منه النساء ويستحي منه الناس بالفطرة والطبيعة حيث إن المرأة تستحي من ذكر المسائل التي تتعلق بهذه الأمور فمهدت-رضي الله عنها وأرضاها-ووقعت هذه الجملة بمثابة الاعتذار من رسول الله صلى الله عليه وسلم .(54/4)
وفي هذا دليل على أنه ينبغي للمسلم أن يحسن الخطاب للناس خاصة إذا كانوا من الفضلاء والعلماء وأنه لا ينبغي مخاطبة خاصة الناس بما يخاطب به العامة ، ولذلك كان من هدي الصحابة-رضوان الله عليهم- وهدي السلف الصالح على ذلك أنهم كانوا ينزلون الناس منازلهم ويقدرون الكبير في الخطاب وحسن الجواب ، وهذا من كمال الأدب الذي يدل على كمال عقل صاحبه وكمال مروءته وحيائه إذ لا يليق للمسلم أن يكون صفيق الوجه بذيئ اللسان لا يحسن مخاطبة الناس وفي الصحيحين من حديث أبي شريح خويلد بن عمرو الخزاعي رضي الله عنه وأرضاه أنه قال لعمر بن سعيد الاشدق وهو يبعث البعوث إلى مكة " إئذن لي أيها الأمير أن أحدثك حديثاً سمعته أذناي وأبصرت عيناي ووعاه قلبي إذ حدث به رسول الله صلى الله عليه وسلم " فكان هدي السلف الصالح على انزال الناس منازلهم فإهانة الكرماء ومخاطبة الفضلاء والعلماء بما لايليق وعدم التأدب معهم أمر لا يليق بالمسلم وما جعل الله العقل لصاحبه إلا لكي يعقله عما لا يليق وهذا مما لا يليق .
قالت -رضي الله عنها-"يارسول الله إن الله لا يستحي من الحق " : الحياء خلق محمود يحمل صاحبه علىمكارم الأخلاق ويكفه عن رذائلها ، ولذلك قالوا إنه من كمال المروءه :
يَعيشُ المرءُ ما اسْتَحْيَا يِخَيرٍ ويَبْقَى العودُ ماَبِقيَ اللحاءُ
وفي الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : (( إن الحياءَ كله خيرٌ)) وفي الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه بين فضل هذا الخلق المحمود وأنه إذا نُزع من صاحبه لم يتورع ولم ينكف ، ولذلك قال صلوات الله وسلامه عليه : (( إن مما أدرك الناس من كلام النبوة الأولى إذا لم تستحي فاصنع ماشئت )) وفي الصحيح عنه عليه الصلاة والسلام من شمائله وأخلاقه : " أنه كان أشد حياءً من العذراء في خدرها " -صلوت الله وسلامه عليه-.(54/5)
وقولها " لايستحىَ من الحق " : هذه الصفة ثبتت لله عز وجل ولا ينبغبي تأويلها ولا تعطيلها ولا تأويلها ولا تشبيه الله بخلقه ولا كذلك تعطيل هذه الصفة عن دلالتها وحقيقتها ، وفي الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : (( إن الله حيي كريم يستحي من عبده إذا رفع يديه أن يردهما صفراً )) وصفة الحياء ثابتة لله عز وجل وحياء الله ليس كحياء الخلق فالحياء لله صفة تليق بجلاله وكماله ولا تصرف الصفات التي ثبتت بها الأخبار والآثارعن النبي صلى الله عليه وسلم عن ظواهرها ولا تأول فلا يقال في صفة اليد لله-جل وعلا- علىأنها القوة ولا يقال إنها بلا حقيقة ؛ ولكن يقال كما أثبت الله في كتابه وعلى لسان رسولهصلوات الله وسلامه عليهلله يد تليق بجلاله وكماله وعظمته ويثبتها المسلم على الحقيقة دون تأويل ولا تعطيل ولا تمثيل ولا تشبيه ، فالله أعلم بما وصف وسمَّى به نفسه وكذلك رسوله صلوات الله وسلامه عليهحيث أطلعه على هذا الغيب من صفاته وأسمائه سبحانه وتعالى .
قولها -رضي الله عنها- " إن الله لا يستحي من الحق هل على المرأة تعني غسلاً " : أي هل يجب على المرأة أن تغتسل غسل الجنابة إذا هي رأت ما يرى الرجل ؟
قولها " رأت ما يرى الرجل " : المراد هنا أنها ترى في النوم والمقصود بهذا الحديث أن يقع في حال النوم وهو الذي يسمى بالاحتلام ، وللعلماء في الاحتلام قولان :
فقال بعض العلماء : إن الاحتلام يختص بالمنام ، وقال بعض العلماء : الاحتلام هو الجنابة سواء وقعت في حال النوم أو وقعت في حال اليقظة فإنه يوصف الإنسان بكونه محتلماً على ما اختاره الإمام النووي وغيره من العلماء رحمهم الله والأول هو المراد هنا أن مرادها -رضي الله عنها- أن ترى المرأة في المنام مايرى الرجل أي ما يحركه شهوتها حتى تنزل وتقع حتى تنزل ويكون منها الحدث الأكبر .(54/6)
وقد ابتلى الله الآدميين بتسلط الشيطان عليهم بقدرة الله سبحانه وتعالى وإذنه فإذا نام الإنسان فإنه يتسلط الشيطان عليه في أحاسيسه ومشاعره حتى إنه ربما حَّرك يده وجالت يده فوقعت في مواقع قد لا يوقعها لوكان مستيقظاً ، ولذلك جعل الله هذا الأمر ابتلاءً منه للآدمي فهو من أذية الشيطان له لكنه إذا استعصم بالله عصمه ، وإذا التجأ إلى الله حماه ، وإذا استعاذ بالله كفاه ووقاه ، ولذلك ثبتت الأحاديث عن النبي صلى الله عليه وسلم بأذكار النوم لكي تكون حرزاً للمسلم من تسلط الشيطان عليه وأمر الاحتلام أمر لايستطيع الإنسان أن يفسره ؛ لأنه لم ترد نصوص في كتاب الله وسنة النبي صلى الله عليه وسلم تفسر لنا حقيقة الاحتلام وكيفية تسلط الشيطان على روح الإنسان وكيف أن الإنسان يرى إبنه أو يرى أخاه وهو في أقصى المشرق أو أقصى المغرب ويرى الرؤى العجيبة والأحلام الغريبة ، ولذلك قال العلماء إن الاحتلام ومسائله من الامور المتعلقة بعالم الأرواح والله-تعالى- يقول في كتابه عن أمره :{ وَيَسْأَلُونَكَ عَنْ الرُّوحِ قُلْ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُمْ مِنْ الْعِلْمِ إِلاَّ قَلِيلاً}(1) فأخرس الله الاطباء وحارت عقول الحكماء لكي يقولوا بلسان الحال والمقال لا إله الا الله فالله سبحانه وتعالى يعجز العباد بقدرته حتى يسلموا لأمره وحكمته .(54/7)
وقولها-رضي الله عنها وأرضاها- "إذا هي رأت مايرى الرجل" : المراد من ذلك أنها ترى ما يثير شهوتها ويحرك غريزتها حتى يقع الاحتلام قال صلى الله عليه وسلم : (( نعم )) قوله صلوات الله وسلامه عليه : (( نعم )) فيه دليل على القاعدة المشهورة "السؤال معاد في الجواب "، والمراد بذلك أن قوله : (( نعم )) أن معناه يلزمها الغسل وعليها أن تغتسل إذا رأت ما يرى الرجل ، وقولنا في هذه القاعدة : " إن السؤال معاد في الجواب" يستفاد منه فوائد ومسائل شرعية ومن ذلك لو قالت المرأة لزوجها هل طلقتني ؟؟ فقال نعم فإنه يقع الطلاق ، فقوله : (( نعم )) يلزمه بما يكون في السؤال ، وهكذا لو سأل رجل رجلاً فقال له-والعياذ بالله- هل أنت كافر بالله؟ فأجاب بنعم فإنه يحكم بكفره -والعياذ بالله- فهذا هو معنى قولهم : " السؤال معاد في الجواب" فإذا أجيب بنعم بسؤال متقدم عن سؤال قد تقدم هذا الجواب فإنه ملزم بمضمون ذلك السؤال.
قال صلى الله عليه وسلم : (( نعم )) : إذا هي رأت الماء جملة شرطية أي يجب عليها أن تغتسل إذا هي أنزلت والمراد بالإنزال أن يقع خروج المني والمرأة لا يخرج منها المني كما لا يخفى ، واختلف العلماء رحمهم الله في هذه المسألة وهي كيفية شعورالمرأة بالماء ؟؟
وهذا أمر معروف بالجبلة والخلقة فمرده إلى النساء ولا حاجة إلى الخوض في مثل هذه المسألة فالنبي صلى الله عليه وسلم أعطى الجواب واضحاً لسؤال بينٍ واضح ، وذلك يدل دلالةً واضحةً على أن المرأة تعرف حالها وتعلم أمرها وشأنها وأن هذا الحال والشأن ليس مما يخفى ؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يعتن بتفصيله وبيانه ففهمنا أن هناك أمارات وعلامات يعرفها النساء بالطبيعة والجبلة والخلقه ، وأن المرأة إذا رأت مايرى الرجل إذا رأت الماء أنه يلزمها أن تغتسل .
هل قوله : (( إذا رأت الماء)) المراد به رؤية البصر أو رؤية القلب ؟؟(54/8)
وهو الذي يسمى برؤية العقل وللعلماء وجهان مشهوران مبنيان على ماذكرنا من الخلاف .
وفي هذا الحديث دليل على أن المرأة يجب عليها أن تغتسل كما يجب على الرجل أن يغتسل بالاحتلام ،وأنه لا فرق بينهما كما تقدم بيان ذلك وبسطه عند شرحنا لحديث أنس بن مالك-- رضي الله عنه - وأرضاه-.
قال المصنف رحمه الله : بَاب مَا جَاءَ فِي الرَّجُلِ يَسْتَدْفِئُ بِالْمَرْأَةِ بَعْدَ الْغُسْلِ
حَدَّثَنَا هَنَّادٌ حَدَّثَنَا وَكِيعٌ عَنْ حُرَيْثٍ عَنِ الشَّعْبِيِّ عَنْ مَسْرُوقٍ عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ : " رُبَّمَا اغْتَسَلَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم مِنَ الْجَنَابَةِ ثُمَّ جَاءَ فَاسْتَدْفَأَ بِي فَضَمَمْتُهُ إِلَيَّ وَلَمْ أَغْتَسِلْ ".
قَالَ أَبو عِيسَى رحمه الله : هَذَا حَدِيثٌ لَيْسَ بِإِسْنَادِهِ بَأْسٌ وَهُوَ قَوْلُ غَيْرِ وَاحِدٍ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ وَالتَّابِعِينَ أَنَّ الرَّجُلَ إِذَا اغْتَسَلَ فَلَا بَأْسَ بِأَنْ يَسْتَدْفِئَ بِامْرَأَتِهِ وَيَنَامَ مَعَهَا قَبْلَ أَنْ تَغْتَسِلَ الْمَرْأَةُ وَبِهِ يَقُولُ سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ وَالشَّافِعِيُّ وَأَحْمَدُ وَإِسْحَقُ .
الشرح:
ترجم المصنف رحمه الله بهذه الترجمة لهذا الحديث الذي ذكره .
وقوله " يستدفئ " : المراد بالاستدفاء طلب الدفء والسين والتاء للطلب ؛ والسبب في ذلك أن الرجل إذا اغتسل بالماء فإنه من طبيعة ذلك أن يبرد وخاصة في الشتاء فإنه يعظم وقع الغسل عليه فيحتاج إلى أن يستدفئ والاستدفاء بالمرأة أبلغ وهومن باب الإلف والمعاشرة لما فيه من إدخال السرور ، وكذلك قوة الرحمة بين الزوجين .(54/9)
وقوله رحمه الله " باب ماجاء أن الرجل يستدفئ بالمرأة " : قصد المصنف رحمه الله من هذه الجملة أن يبين أن الجنابة لا توجب وصف المرأة بكونها نجسة -كما تقدم معنا في الحديث الذي سبق حديث الباب المتقدم حيث ذكرنا حديث أبي هريرة الثابت في الصحيحين- ، وعلى هذا فتكون مناسبة هذا الباب بما تقدم أن وقوع المرأة في الجنابة لا يوجب وصفها بالنجاسة وهذا أمر مستفاد من عموم قوله عليه الصلاة والسلام : (( سبحان الله!! إن المؤمن لا ينجس)) فبين صلوات الله وسلامه عليه أن المؤمن لا ينجس ، وفي هذا دليل على أن مخالطة الجنب لا توجب الحكم بالنجاسة لمن خالط ولا توجب الحكم بسريان الجنابة إلى من خالط ، وعلى هذا اعتنى المصنف رحمه الله بإيراد هذه الأبواب تلو بعضها .
وهذا الحديث الذي ذكره فيه حريث بن أبي مطر الفزاري الكوفي وقد تكلم العلماء عليه ، وهو حريث بن أبي مطر واسم أبيه عمرو وقد طعن فيه غير واحد من العلماء والعمل عند طائفة من المحققين من العلماء من أئمة الشأن أن الحديث ضعيف وأنه لا يصح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وقد ضعَّف الإمام البخاري رحمه الله حريث هذا ، وأما ما اشتمل عليه هذا الحديث من الدلالة على جواز استدفاء الرجل بزوجته فإنه أمر جائز ولاحرج فيه فلا بأس للرجل إذا اغتسل من الجنابة أن يستدفئ بزوجه وقد قال الله عز وجل : {هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَهُنَّ}(1) واللباس هو التعبير باللباس يدل على المخالطة والمداخلة وهذا مطلق في كتاب الله عز وجل فالمرأة لا بأس أن يستدفئ بها الرجل ولوكانت عليها الجنابة ، وقد كان اليهود لايعاشرون المرأة ولايضاجعونها ولا يؤاكلونها ولا يشاربونها إذا كانت حائضا ورفع الله عن عباده هذا العنت فأجاز للمسلم أن يستدفئ بزوجه ولا بأس بذلك ولا حرج.(54/10)
قال المصنف رحمه الله : بَاب مَا جَاءَ فِي التَّيَمُّمِ لِلْجُنُبِ إِذَا لَمْ يَجِدِ الْمَاءَ
حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ وَمَحْمُودُ بْنُ غَيْلاَنَ قَالاَ حَدَّثَنَا أَبُو أَحْمَدَ الزُّبَيْرِيُّ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنْ خَالِدٍ الْحَذَّاءِ عَنْ أَبِي قِلَابَةَ عَنْ عَمْرِو بْنِ بُجْدَانَ عَنْ أَبِي ذَرٍّ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ : (( إِنَّ الصَّعِيدَ الطَّيِّبَ طَهُورُ الْمُسْلِمِ وَإِنْ لَمْ يَجِدِ الْمَاءَ عَشْرَ سِنِينَ فَإِذَا وَجَدَ الْمَاءَ فَلْيُمِسَّهُ بَشَرَتَهُ فَإِنَّ ذَلِكَ خَيْرٌ )) .وقَالَ مَحْمُودٌ فِي حَدِيثِهِ : (( إِنَّ الصَّعِيدَ الطَّيِّبَ وَضُوءُ الْمُسْلِمِ )) .
قَالَ رحمه الله : وَفِي الْبَاب عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو وَعِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ .
قَالَ أَبو عِيسَى رحمه الله : وَهَكَذَا رَوَى غَيْرُ وَاحِدٍ عَنْ خَالِدٍ الْحَذَّاءِ عَنْ أَبِي قِلَابَةَ عَنْ عَمْرِو بْنِ بُجْدَانَ عَنْ أَبِي ذَرٍّ وَقَدْ رَوَى هَذَا الْحَدِيثَ أَيُّوبُ عَنْ أَبِي قِلاَبَةَ عَنْ رَجُلٍ مِنْ بَنِي عَامِرٍ عَنْ أَبِي ذَرٍّ وَلَمْ يُسَمِّهِ .
قَالَ رحمه الله : وَهَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ وَهُوَ قَوْلُ عَامَّةِ الْفُقَهَاءِ أَنَّ الْجُنُبَ وَالْحَائِضَ إِذَا لَمْ يَجِدَا الْمَاءَ تَيَمَّمَا وَصَلَّيَا وَيُرْوَى عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ أَنَّهُ كَانَ لاَ يَرَى التَّيَمُّمَ لِلْجُنُبِ وَإِنْ لَمْ يَجِدِ الْمَاءَ وَيُرْوَى عَنْهُ أَنَّهُ رَجَعَ عَنْ قَوْلِهِ فَقَالَ يَتَيَمَّمُ إِذَا لَمْ يَجِدِ الْمَاءَ وَبِهِ يَقُولُ سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ وَمَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ وَأَحْمَدُ وَإِسْحَقُ.
الشرح:(54/11)
هذا الحديث أخرجه الإمام أحمد في مسنده والنسائي وأبو داود والبيهقي والحاكم وقد صححه غير واحد من العلماء ومال بعض العلماء إلى أنه حديث حسن ، ولهذا الحديث عن أبي ذر رضي الله عنه وأرضاه قصة ذكرها الإمام أحمد وكذلك جاءت في الروايات الأخر مبسوطة وحاصلها أن أبا ذر-- رضي الله عنه - وأرضاه-كان يعزب بإبله مع أهله ، وقد كان رضي الله عنه وأرضاه يعزب مع أهله خارج المدينة فأمر له النبي صلى الله عليه وسلم بذود من الإبل فكان إذا حضر إلى إبله خارج المدينة مع زوجه ، وأصاب الزوجة لا يجد الماء فتصيبه الجنابة فاحتار رضي الله عنه وأرضاه في هذا الأمر فما هو إلا أن ركب دابته وأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم في المدينة وهو جالس بظل مسجدهصلوات الله وسلامه عليهمع أصحابه فلما أخبره الخبر ضحك صلوات الله وسلامه عليهوأمر له بماء فاغتسل رضي الله عنه وأرضاه ثم جاء إلي النبي صلى الله عليه وسلم فقال له عليه الصلاة والسلام : (( إن الصعيد الطيب طهور المسلم ولو لم يجدالماء عشر سنين فإذا وجد الماء فليمسه بشرته )) وفي رواية : (( فليتق الله وليمسه بشرته )) وقد دل هذا الحديث على مسائل عديدة وذكر المصنف-رحمه الله تعالى- هذه الترجمة بالتيمم للجنب ؛ ولكننا إذا نظرنا إلى حقيقة الأمر فإننا نجد الإمام الحافظ الترمذي-رحمه لله برحمته الواسعة- قد اعتنى بذكر أبواب التيمم وذلك بعد ذكره لأبواب الاستحاضة والحيض فذكر أبواب التيمم وماجاء من الأحاديث والسنن والآثار عن النبي صلى الله عليه وسلم .
ومن هنا يرد الإشكال : كيف ترجم بهذه الترجمة المتعلقة بالتيمم في باب الجنابة ولكن هذا ليس بإشكال قوي ؛ لأن الإمام الترمذي رحمه الله حينما وضع هذه الترجمة في هذا الموضع فإنها تدل دلالةً واضحةً على فقهه وعلمه وبعد نظره في تأصيل الأبواب وترتيبها ، وهو كذلك -رحمه الله برحمته الواسعة-.(54/12)
وتوضيح ذلك : أن الجنابة تقع بسبب الاحتلام وتقع بسبب الجماع ويرد السؤال بالنسبة للوقوع في سبب الجنابة مع كون الإنسان لا يملك طهارة الماء هل من حقه أن يتعاطى أسباب الوقوع في الجنابة مع علمه بأنه لا يمكنه استعمال الماء لتعذر الاستعمال الماء أو للفقد وعدم الوجدان ؟؟
ومثال ذلك : لو أن إنساناً اشتهى زوجه وأراد أن يصيبها ؛ ولكنه يعلم أنه ليس ثَمَ ماء أو لا يستطيع أن يغتسل غسل الجنابة فهل من حقه أن يقع في الجنابة ويتعاطى السبب مع علمه بأنه لا يتمكن من طهارة الماء ..؟؟
فمن هنا ناسب أن يعتني المصنف بإيراد الحديث بباب الجنابة ؛ لأنه يتعلق بمسألة خفية دقيقة لو ذكره في باب التيمم لم ينتبه لهذه المسألة ، ولذلك كان من المناسب أن يعتني بذكر هذه الجزئية في باب الجنابة مع اتصالها بباب التيمم وللعلماء طرق في ذكر الحديث وللعلماء مناهج متعددة في تفريق الأحاديث أو ذكرها و تكرار الذكر أوذكرها مرة واحدة على حسب مايترجح لهم من قوة الدلالة وخفاء المسائل وشدة الحاجة للعلم بأحكامها ، وهذا الحديث أجاب فيه النبي صلى الله عليه وسلم بهذا الجواب : (( إن في الصعيد الطيب)) إن حرف توكيد ونصب ، والتوكيد يُحتاج إليه في مسائل الشك ، وكذلك المسائل العظيمة ، وكذلك إذا كان السامع ، والمخاطب يتردد في الأمر فإن المناسب أن يؤكد له الخبر وما يذكر له .
وقوله عليه الصلاة والسلام : (( أن الصعيد )) : والصعيد كل ما صعد على وجه الأرض يقال صعد الشيء يصعد صعوداً إذا علا وارتفع ، والمراد بقوله : (( الصعيد)) كل ما علاوجه الأرض من التراب والغبار ، وكذلك الأحجار على تفصيل عند العلماء رحمهم الله .
فمذهب الإمام أبي حنيفة ومالك -رحم الله الجميع -من حيث الجملة أنه يجوز أن يتيمم بكل ما علا وجه الأرض ولا بأس أن يتيمم بالتراب سواء كان له غبار أو لم يكن له غبار.(54/13)
ومذهب الشافعية والحنابلة والظاهرية ، وقال به عبد الله بن المبارك أن التيمم لايكون إلا بالتراب واختلفوا على مذهبين :
فقال بعضهم : لا يصح إلا بتراب له غبار .
وقال بعضهم : يصح بالتراب مطلقاً سواء كان له غبار أو لم يكن له غبار.
واحتج فقهاء الحنفية والمالكية على جواز التيمم بكل ما صعد على وجه الأرض بقول الحق سبحانه وتعالى :{فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّباً }(1) قالوا إن الله- - عز وجل -- أمرنا أن نتيمم بالصعيد الطيب ولم يُفرَّق سبحانه وتعالى بين أجزاء الأرض وظواهرها فجاز أن يُتيمم بكل ما صعد على وجه الأرض ، واعترض على هذا الاستدلال بأن قوله : (( طيباً)) يدل على أن المراد به الغبار قالوا إن الله- - عز وجل --قال :{فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ}(1) وهو يدل على التبعيض المفيد للجزء فقالوا إنه يكون مخصوصاً بالتراب ، واحتجوا كذلك في اعتراضهم بقول النبي صلى الله عليه وسلم : (( جعلت لي الأرض مسجداً وتربتها لنا طهوراً )) قالوا فخص التراب بالطهارة فدل على أنه هو المراد بقوله سبحانه وتعالى : {فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً}(1) فحملوا مطلق القرآن على مقيد السنة .(54/14)
وأجاب الأولون بأن دلالة القرآن عامة ظاهرة ، وأن قوله عليه الصلاة والسلام : (( وتربتها لنا طهوراً)) الاستدلال به من باب الاستدلال بمفهوم اللقب ومفهوم اللقب دلالته ضعيفة ، ومن هنا قال جمع من علماء الأصول : إنه ليس بحجة وأجابوا بأن النبي صلى الله عليه وسلم ذكر التراب والقرآن عمم والقاعدة : " أن ذكر الفرد من ألفاظ العام لايقتضي تخصيص الحكم به " ، ومن هنا قالوا إن قوله عليه الصلاة والسلام في هذا الحديث : (( إن الصعيد الطيب)) عام ، وهذا هو أقوى المذهبين وأرجح القولين والعلم عند الله أن الأقوى مادل عليه ظاهر كتاب الله وسنة النبي صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث الصحيح ، وكذلك فيما ثبت في الصحيحين من حديث عمران بن حصين رضي الله عنه وأرضاه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : (( عليك بالصعيد فإنه يكفيك )) فقال : (( عليك بالصعيد)) ، وأما قوله : (( إن الصعيد الطيب)) في هذا الحديث فالمراد به الطاهر وفي هذه الكلمة دليل على أنه لا يجوز أن يتيمم بالتراب النجس وهكذا إذا كان الحجر نجساً فإنه لا يُتيمم به ؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم وصفه بالطيب ، والمراد بالطيب الطهارة يقال هذا طيب إذا كان نقياً من الدنس والقذر .
وقوله عليه الصلاة والسلام : (( إن الصعيد الطيب طهور المسلم )) : يقال طَهَر الشيء يُطهر طهارةً فهو طاهر إذا كان نقياً من الدنس .
وقوله : (( طَّهور)) : بالفتح هو الذي يتطهر به والطُّهور بالضم فعل الطهارة كما تقدم معنا(1) كالوَضوء والوُضوء ، فالوضوء هو ما يتوضأ به ، والوُضوء بالضم هو فعل الوضوء ، وقوله عليه الصلاة والسلام : (( طهور المسلم ولو لم يجد الماء عشر سنين )) .(54/15)
قوله : (( ولو لم يجد الماء )) : فيه دليل علىمشروعية التطهر بالتيمم مشروعية طهارة التيمم إذا فقد الإنسان الماء ، وقوله : (( إذا لم يجد)) بمعنى أنه فقد الماء ويفقد الإنسان الماء سواء كان في الحضر أو كان في السفر وفي الحضر يشترط أن لا يوجد بمكان قريب ، أما إذا كان موجوداً بمكان قريب فإنه حينئذ يلزمه أن يتطهر بالماء ولا يجوز له أن يتيمم ، وأما إذا كان في السفر فإنه إذا غلب على ظنه أنه لايجد الماء فإنه يجوز له أن يعدل إلى طهارة التيمم وهكذا إذا كان الماء بعيداً عنه أو كان بموضع يخاف أنه لو ذهب إليه أنه يهلك كأن يكون هناك بئر وفي البئر حية أو حوله سبع أو حوله أناس أعداء له لوذهب لقتلوه وهكذا إذا كان عنده عِرض أو عنده مال يخاف عليه -وسيأتي بسط هذه المسائل وبيانها إن شاء الله تعالى في أبواب التيمم-.
وقوله عليه الصلاة والسلام : (( ولو لم يجد الماء عشر سنين )) : ليس المراد به تقييد الحكم بعشر سنوات ؛ إنما ذكر منه عليه الصلاة والسلام على سبيل المبالغة فهذا يدل على أن فاقد الماء يجوز له أن يتيمم مدة فقده للماء أو عجزه عن استعماله .
وقوله عليه الصلاة والسلام : (( فإذا وجد الماء فليمسه بشرته )) : فيه دليل على أن طهارة التيمم ؛ إنما هي مبيحة وليست برافعة ؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال : (( إذا وجد الماء فليتق الله وليمسه بشرته )) فدل على أنه لا يزال جنباً وأن كونه يتيمم ؛ إنما هوشيء مؤقت فإذا وجد الماء رجع إلى الأصل .(54/16)
وهذا هو أصح القولين أن التيمم يعتبر مبيحاً وليس برافع للحدث بنص رسول الله صلى الله عليه وسلم على بقاء الجنابة على الإنسان إذ لا معنى لأمره بالغسل إلا كونه متلبساً بالحدث وكأن الشرع رخَّص له أن يفعل العباده من باب ارتكاب أخف الضررين ، وعلى هذا فإن طهارة التراب لا تعتبر أصلاً ؛ وإنما هي بدل وهذا البدل مؤقت لا يوجب ارتفاع الحدث ، ومن هنا صح قول من قال إن التيمم مبيح وليس برافع-وسيأتي إن شاء الله تعالى بسط هذه المسائل وبيانها في أبواب التيمم-.
-نسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يبلغنا ذلك بفضله ومنَّه وكرمه وهو أرحم الراحمين -.
- ? - ? - ? - ? - الأسئلة - ? - ? - ? - ? -
السؤال الأول :
إذا احتلم الرجل في مكان شديد البرودة ولايوجد عنده الماء فهل يعدل إلى التيمم أو يلزمه أن يقوم بتسخين الماء..؟؟
الجواب :
بسم الله والحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن ولاه أما بعد:
فإذا حصلت الجنابة وعند الإنسان في شدة برد ويمكنه أن يسخن هذا الماء وأن يغتسل به فإنه لا يجوز له أن يعدل إلى التيمم فإن تيمم والحال ما ذكر فإنه لايصحح تيممه ويلزمه أن يعيد الصلوات ، وأما الأمر بكونه يسخن الماء وأما أمره بتسخين الماء فإن هذا مبني على : " أن مالا يتم الواجب إلاَّ به فهو واجب "والله أمره أن يغتسل ولا يمكنه أن يقوم على هذا الغسل على وجه إلا بتسخين الماء فيلزمه أن يسخن الماء حتى يمتثل أمر الله ، والله تعالى أعلم.
السؤال الثاني :
ما الأدلة التي تدل على أن الجنب لايدخل مسجداً ولا يمس مصحفاً مع أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : (( إن المؤمن لا ينجس)) ..؟؟
الجواب :(54/17)
هناك أمران اشتمل عليهما هذا السؤال أما الأمر الأول باحتجاجه بقوله : (( إن المؤمن لا ينجس)) هناك فرق بين قولنا إن الإنسان غير طاهر ، وبين قولنا إنه نجس يصح أن تقول إن الجنب غير طاهر ؛ لأن الله سبحانه وتعالى يقول :{ وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُواْ}(1) فدل على أنهم غير طاهرين ، وقال عليه الصلاة والسلام : (( إنما يكفيك أن تحثي على رأسك ثلاث حثيات ثم تفيضين الماء على جسدك فإذا أنت قد طهرت)) فوصفها بالطهارة وكأنها كانت مسلوبة الطهارة فقولنا إن المسلم غير طاهر لايعارض قوله : (( إن المسلم لا ينجس)) ، ومن هنا قال عليه الصلاة والسلام في الحديث الصحيح : (( إني كنت على غير طهارة )) فقولنا إن الجنب على غير طهارة ليس بمسلتزم للنجاسة ، وعلى هذا فقوله عليه الصلاة والسلام : (( إن المؤمن لا ينجس)) لا يبيح للمسلم أن يفعل المحظورات التي على الجنب ألا ترى أن الجنب لا يطوف !!وكذلك أيضاً لا يصلي ولا يفعل موانع الجنابة لماذا ؟؟ لأنه وإن كان مسلماً فهو غير متطهر ، والأصل في منع الجنب من دخول المسجد ماثبت في الحديث الصحيح عن أم المؤمنين عائشة -رضي الله عنها وأرضاها-أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لها وهو معتكف وهو في مسجده : (( ناوليني الخمرة)) قالت يا رسول الله : " إني حائض"فقال : (( إن حيضتك ليست في يديك)) هذا الحديث وهو ثابت في الصحيحين يدل على أن المرأة الحائض لا تدخل المسجد ؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم لما سأل أم المؤمنين أن تناوله الخمرة فقالت : "إني حائض" فدل على أنه كان معروفا ومعهوداً عند الصحابة ومما جرت به السنة في عهده عليه الصلاة والسلام أن الحائض لا تدخل المسجد فقالت : "إني حائض" ، وهذا بمثابة الاعتذار عن الدخول فقال : (( إن حيضتك ليست في يديك)) أي أن دخول اليد ليس كدخول الكل لأنني قلت لك ناولني والمناولة باليد وليست بمسلتزمه للدخول ، ومن المعلوم أن(54/18)
الحائض ليس فيها منعاً يمنع من دخولها المسجد إلا الوصف الشرعي بكونها غير طاهر فكونها يخرج منها الدم ليس بوصف مؤثر ؛ لأنه يمكنها أن تتلجم ويمكنها أن تضع ما يمنع خروج الدم ؛ ولكن العلة هوكونها على غير طهارة فكما أنها منُعت من أصل الدخول للمسجد ومن أصل فعل الطهارة مُنعت من الدخول إلى موضع الصلاة والعبادة كما أنها منعت من الصلاة منعت من الدخول لمواضع الصلاة ، وهذا يعتمده جمهور العلماء رحمهم الله أما كون الجنب لا يمس المصحف فإن حديث عمر بن حزم الذي قال عنه شيخ الإسلام ابن تيمية والإمام ابن القيم وغيره من العلماء" أنه تلقته الأمة بالقبول حتى أغنى ذلك عن طلب سنده "وتكلف البحث فيه أن هذا الحديث فيه قوله عليه الصلاة والسلام : (( أن لا يمس المصحف إلا طاهر)) فقوله : (( أن لايمس القرآن إلا طاهر)) يدل على أن الجنب لا يمس القرآن ؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال في الحدث الأصغر : (( إني كنت على غير طهارة )) فدل على أن من أحدث حدثاً أكبر أنه على غير طهارة فاشترط صلى الله عليه وسلم لمس المصحف أن يكون المسلم على طهارة وأياً ما كان فإن هذه النصوص تدل على ماذكرناه ودلالتها واضحة ، وإذا كان الإنسان يريد البقاء على الأصل ويستمسك بالأصل فإنه لا بأس أن يقول بذلك القول إذا ترجح عنده دليله ؛ ولكن الذي يظهر من أدلة الشرع المجتمعة أن الجنب لا يدخل المسجد ولا يمس المصحف ، والله تعالى أعلم .
السؤال الثالث :
المرأة إذا ولدت ولم تر دماً فهل يجب عليها الغسل ،وكذلك الحال إذا ما ألقت المضغة والعلقة فهل يجب عليها الغسل..؟؟
الجواب :(54/19)
أما بالنسبة لإلقاء المرأة بالمضغة والعلقة فلا يجب على المرأة أن تحكم على نفسها بكونها نفساء إلا إذا أخرجت الولد أوما فيه صورة الولد ، فالدم الذي يكون بعد إلقاء قطعة اللحم قبل التخلق هو دم فساد وعلة وهو دم استحاضة لايوجب غسلاً ولا يوجب الحكم بكونها نفساء ، وعلى هذا يفرَّق العلماء رحمهم الله بين نفاس المرأة بما فيه صورة الخلقة وما ليس فيه صورة الخلقة فإذا القت اللحمة والمضغة ونحو ذلك مما ليس فيه صورة التخلق فإنه لا يجب عليها أن تغتسل غسل النفاس وليس بنفساء والدم الذي يجري معها دم استحاضة لا يمنعها مما يمنع منه دم النفاس ، والله تعالى أعلم .
السؤال الرابع :
يقول نحن مجموعة من الشباب نخرج للنزهة ونسمع النداء للصلاة فنصلي في مكاننا فهل هذا الفعل صحيح أم لا ..؟؟
الجواب :
بسم الله والحمد لله والصلاة والسلام الأتمان الأكملان علىخيرخلق الله وعلى آله وصحبه ومن ولاه أما بعد :
فإذا كان الموضع الذي فيه هؤلاء الرفقه بعيداً عن المسجد بُعداً بحيث لا يُسمع النداء بدون جهاز فإنه في هذه الحالة يجوز لهم أن يجتمعوا في موضعهم ويصلون جماعة في مكانهم يؤذنون ثم يقيمون ويصلون في مكانهم ولا بأس عليهم في ذلك ، وأما سماع الآذان بمكبرات الصوت الموجودة الآن فإنه يبعد عن المكان الذي تجب إجابة النداء فيه وقد حددّ بعض العلماء من مشائخنا رحمة الله عليهم إنه ما يقرب من كيلوين فما دون فإذا كان بهذا البعد فإنه يجيب النداء ما أمكن ، وما كان فوق ذلك فإنه يجوز له أن يجَّمع ويصلي ولا بأس عليه في هذا سواءً كان في نزهة أو كان في غير ذلك فلابأس عليهم أن يأذنوا ويصلوا في موضعهم ، والله تعالى أعلم .
السؤال الخامس :
ما حكم الطهارة بالاستجمار مع توفر الماء..؟؟
الجواب :(54/20)
طهارة الاستجمار بالحجارة وغيرها من الطاهرات تجوز للمسلم سواء وجد الماء أو لم يجده فلا يشترط في طهارة الحجارة أن يفقد الماء وإنما هي من الطهارة الجامدة التي تجزيء مع الماء ، والله تعالى أعلم .
السؤال السابع :
بدأت الإجازة والنفوس تشتاق إلى استغلالها بما يُرضي الله عز وجل فما هي وصيتكم في ذلك ..؟؟
الجواب :
خير مايوصى به المسلم تقوى الله عز وجل ، ومن اتقى الله فإن الله يعصمه ويوفقه ويسدده وإذا أحب الله العبد بارك الله في وقته وبارك الله في عمره والمسلم يخاف من امتداد الأجل ، وطول العمر قد يكون لأمر لا يسر ولا تحمد عقباه ، ومن هنا كان من السنة أن يستعيذ العبد من فتنة المحيا وفتنة الممات فكم من إنسان أمل الحياة والبقاء إلى زمان لا خير فيه بكت فيه عيناه وتقَّرح فيه قلبه ورأى فيه من شدائد الفتن والمحن ما الله به عليم .
أقبلت العطلة والله أعلم بما غيَّبت من الأقدار والأخبار الله أعلم !!كم فيها من رحمة تنتظر السعداء !!وكم فيها من بلية ومصيبة تنتظر المبتلين والأشقياء !!-نسأل الله العظيم رب العرش العظيم بمنه وكرمه وهوأرحم الراحمين أن يجعل ماوهب لنا من زيادة العمر زيادة لنا في كل خير وأن يعصمنا فيها من كل بلاء وشر-.(54/21)
خير ما تنفد فيه الأعمار ويمضي عليه الليل والنهار طاعة الله سبحانه وتعالى ومحبته والسعي فيما يرضيه ،وهذا هو المقصود من وجود الخلق :{ وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ - مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِي}(1) خير ما تنفق فيه الأعمار وأحب ما يمضي فيه الليل والنهار طلب العلم ؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال : (( من سلك طريقاً يلتمس فيه علماً سهَّل الله له به طريقاً إلى الجنة )) فأنت طالب علم ما جلست في مجالس العلماء وذاكرت طلاب العلم والفضلاء ، وأنت طالب علم ما فتحت كتاباً تستفيد منه حكمةً أو تقرأ فيه أية أو يُشرح لك فيه حديث من سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم أنت طالب علم ما أمضيت ليلك ونهارك في تقليب الصفحات ، ومعرفة ما دلت عليه الآيات البينات وكنت تخوض في هذه الرحمات ، فخير ما أنُفق فيه الليل والنهار وانقضت فيه الأعمار طلب العلم ، وطلب العلم رحمة من الله سبحانه وتعالى ومنَّه وفضيلة إذا اصطفى الله عز وجل لها العبد فقد اختاره لخير الدنيا والآخرة قال صلى الله عليه وسلم : (( خيركم من تعلم القرآن وعلمه)) ، وقال صلى الله عليه وسلم : (( من يرد الله به خيراً يفقهه في الدين)) فإذا رأيت العبد يحب العلماء ويحب مجالس العلماء ويحب أن يغشى حلق الذكر ويحب أن يستمع آية تدله على خير أو تنهاه عن شر ويحب أن يعرف ما الذي أمر الله به فيفعله وما الذي نهى الله عنه فيجتنبه فاعلم أن الله يحبه وأن الله يريد له الخير ، وليس للإنسان قدر عند الله عز وجل إلا بهذا الدين وأعلى الناس قدراً في هذا الدين بعد الأنبياء هم العلماء العاملون الأئمة المهديون -جعلنا الله وإياكم منهم بمنه وكرمه هو أرحم الراحمين- .(54/22)
وكذلك أيضاً خير ما ينفق فيه عمر الإنسان طاعة الله عز وجل التي من أجَّلها وأحبها كثرة الصلوات ، فالإنسان خلال الدراسة وأوقات الشغل قد لا يتيسرله أن يعبد الله وأن يستكثر من الطاعة والنوافل فحبذا لو تكون العطلة وسيلة للتعود على قيام الليل وصيام النهار وكثرة تلاوة القرآن فإن المسلم ينبغي له أن يغتنم فراغه قبل شغله ، وإذا لم يتمكن في مثل هذه الأوقات الفارغة من استغلالها في طاعة الله فمتى يستنفذ عمره في طاعة الله ويستنفذ أجله في مرضاة الله سبحانه وتعالى فيحرص طالب العلم الموفق وكذلك الإنسان السعيد على أن يهيئ من هذه العطلة مدرسة لطاعة الله-جل علا- أعرف من طلاب العلم من كان إذا جاءته العطلة لا يمكن أن تمر عليه ثلاث ليال إلا وهو خاتم لكتاب الله عز وجل ، ومنهم من يأخذ علىنفسه ألا تمر عليه هذه العطلة وقد فاته صيام الإثنين والخميس أو فاته صيام الأيام البيض ؛ لأنه قد يكون مشغولاً أيام الدراسة عن فعل ذلك بسبب ما يكون من الارهاق والتعب فينبغي علىالإنسان في مثل هذه المواسم أن يعودَّ نفسه على الطاعة والبر حتى إذا جاءت مواسم الشغل وعدم الفراغ ألف الخير وأحبه ، والله عز وجل إذا شرح العبد للخيرات والباقيات الصالحات أحبه وأدناه ويسر له الطاعة حتى في أوقات الشغل فمن بذل لله أوقات الفراغ في طاعته ومحبته ومرضاته ربما ثبَّت الله قلبه على الخير فجاءت مواسم الشغل وأيام الشغل وهو ثابت على الطاعة لا يمكن أن يتركها ويدعها .(54/23)
كذلك أيضاً من أحب ما أنفقت فيها الأيام والليالي بر الوالدين فإن المسلم يحرص في هذه العطلة على السفر للوالدين وزيارة الوالدين وإدخال السرور على الوالدين قال : " يارسول الله أقبلت من اليمن أبايعك على الهجرة والجهاد" قال : (( أحية أمك ؟!قال : نعم .قال : أتريد الجنة قال : نعم.قال : الزم رجلها فإنَّ الجنة ثَمَ)) يسافر الإنسان إلى والديه ويدخل السرور إليهما ويقضي حوائجهما ويستغل هذه الفترة من الفراغ في القرب من الوالدين وإذا كان الوالدان في مدينة الإنسان نفسها فإنه يحرص أثناء العطلة على أنه لا يعلم حاجة لوالديه إلا فقضاها ، ولايعلم شيئاً يدخل السرور على والديه إلا فعله وتقدم بر الوالدين بعد أوامر الله وما أمرك الله من الواجبات والفرائض لا تقدم على بر الوالدين شيئاً وتحرص على القرب منهما ولو فاتك الأصحاب والأحباب ولو فاتتك الزيارات والسفرات تحرص على إرضاء الآباء والأمهات فذلك خير لك في الدين والدنيا ، وفي الممات فما بر عبد والديه إلا أسعده الله ببره .
كذلك أيضاً خير ما تنفق فيه هذه العطلة زيارة القرابات من الأعمام والعمات والأخوال والخالات تخرج إلى قرابتك يُنسأ لك في أثرك ويبسط لك في رزقك ويزاد لك في عمرك ، وتنال مرضاة الله هي الرحم من وصلها وصله الله ومن قطعها قطعه الله ويا لها من سفرة طيبة كريمة حينما تخرج من بيتك وأنت تريد أن تصل ذا الرحم تصله لله وفي الله معك أبناؤك وبناتك إلى عمة أو خالة تُدخل السرور عليها وتعلم أن عندها حاجة فتقضيها أو تصلها بمال أو دنيا حتى يبارك الله لك في عمرك ويبارك الله لك فيما يكون من رزقك وما يحصل لك من عيشك .(54/24)
كذلك أيضاً خير ما تنفق فيه هذه العطل الجلوس مع الصالحين وزيارة الأخيار المتقين خرج رجل من قرية إلي أخ له في الله يزوره فأرسل الله له ملكاً على مدرجته وطريقه فسأله إلى أين ذاهب فقال إلى هذه القرية قال : (( ومالك فيها؟؟ قال: إن لي فيها أخاً في الله قال : هل لك عليه من نعمة تردها عليه قال لا إلا أنه أخي في الله فقال : إني رسول الله إليك أن الله قد غفر لك بممشاك إليه )) فمن خير ماتنفق فيه هذه العطلة زيارة الصالحين وزيارة العلماء ومجالستهم مع رعاية حرمتهم ومناسبة الأوقات لزيارتهم ونحو ذلك مما يشتمل فيه خير الدين من سؤالهم عن الأمور التي يحتاجها الإنسان في صلاح دينه ودنياه وأخراه فإن الله يجل من عبده أن يخرج من بيته لزيارة عالم يستفيد من علمه أو ورع يستفيد من ورعه وتقواه فذلك خير ينال الإنسان بركته وفضله في دينه ودنياه وآخرته .
كذلك السفر في الطاعات كالسفر للعمرة خاصة مع اصطحاب الأبناء والبنات ونحوهم من القرابات كالإخوان والأخوات ومما يوصى به المسلم في هذه العطلة التوسعة على الأهل والتوسعة على الأبناء والبنات وإدخال السرور عليهم في حدود المباح فالإسلام دين فيه خير للعباد في دينهم ودنياهم وآخرتهم فالناس في مثل هذه العطل يحتاجون إلى شيء من إدخال السرور عليهم فإذا كان الإنسان في بيت مع أهله وولده يحرص على إدخال السرور عليهم وزيارة الأماكن التي لا يقع فيها في فتنة أو يأخذهم إلى عمره أو يأخذهم إلى شيء يعود عليهم بخير الدين والدنيا والآخرة -اللهم إنا نسألك من العيش ما يرضيك عنا نسألك اللهم أن تجعل الحياة زيادة لنا في كل خير والموت راحة لنا من كل شر اللهم منَّ بالعافية غدونا وآصالنا واختم بالصالحات اجالنا واغفر لنا ولآبائنا وأمهاتنا- .
وَآخِرُ دَعْوَانَا أَنِ الحمَْدُ لِلَّهِ رَبِّ العَالَميْنَ وصلَّى اللَّهُ وسلَّم وبارك على عبده ونبيَّه محمد وعلى آله وصحبه أجمعين .(54/25)
بسم الله الرحمن الرحيم
قال المصنف رحمه الله : بَاب مَا جَاءَ فِي الْمُسْتَحَاضَةِ
حَدَّثَنَا هَنَّادٌ حَدَّثَنَا وَكِيعٌ وَعَبْدَةُ وَأَبُو مُعَاوِيَةَ عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ:" جَاءَتْ فَاطِمَةُ بِنْتُ أَبِي حُبَيْشٍ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَتْ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنِّي امْرَأَةٌ أُسْتَحَاضُ فَلاَ أَطْهُرُ أَفَأَدَعُ الصَّلاَةَ؟قَالَ : (( لاَ إِنَّمَا ذَلِكَ عِرْقٌ وَلَيْسَتْ بِالْحَيْضَةِ فَإِذَا أَقْبَلَتِ الْحَيْضَةُ فَدَعِي الصَّلاَةَ وَإِذَا أَدْبَرَتْ فَاغْسِلِي عَنْكِ الدَّمَ وَصَلِّي)) .
قَالَ أَبُو مُعَاوِيَةَ فِي حَدِيثِهِ وَقَالَ : (( تَوَضَّئِي لِكُلِّ صَلاةٍ حَتَّى يَجِيءَ ذَلِكَ الْوَقْتُ )) .
قَالَ رحمه الله : وَفِي الْبَاب عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ .
قَالَ أَبو عِيسَى رحمه الله : حَدِيثُ عَائِشَةَ حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ وَهُوَ قَوْلُ غَيْرِ وَاحِدٍ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَالتَّابِعِينَ وَبِهِ يَقُولُ سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ وَمَالِكٌ وَابْنُ الْمُبَارَكِ وَالشَّافِعِيُّ أَنَّ الْمُسْتَحَاضَةَ إِذَا جَاوَزَتْ أَيَّامَ أَقْرَائِهَا اغْتَسَلَتْ وَتَوَضَّأَتْ لِكُلِّ صَلاَةٍ .
الشرح :
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين أمابعد :(55/1)
فيقول المصنف رحمه الله باب ما جاء في المستحاضة هذا الباب يعتبر من أهم الأبواب المتعلقة بكتاب الطهارة ؛ والسبب في ذلك أنه يشتمل على أحكام المستحاضة والحيض والنفاس ، وقد اعتنى العلماء رحمهم الله من المحدثين والفقهاء بذكر ما جاء من هدي النبي صلى الله عليه وسلم في هذه المسائل-أعني مسائل الحيض والنفاس والاستحاضة- وهذا الباب يعتبر من أهم الأبواب لاشتماله على جملة من الأحكام الدقيقة والمسائل العويصة التي حيرت جمعاً من العلماء رحمهم الله ، ومن أهل العلم من يقول : كتاب الحيض ، ومنهم من يقول : باب الحيض ، ومنهم من يقول : باب ما جاء في الاستحاضة والتعبير بالحيض هو الأصل لأن الأصل أن تبحث مسائل الحيض ثم يفرّع على ذلك ما جاء من أحكام الاستحاضة وعلى ذلك درجّ العلماء والأئمة من الفقهاء والمحدثين-رحم الله الجميع-واختار المصنف رحمه الله أن يذكر الاستحاضة ؛ والسبب في ذلك أن اختلال الحيض والنفاس إنما تنتقل به المرأة إلى حكم الاستحاضة ، ولذلك تعتبر مسائل الدخول في الاستحاضة هي المهمة لأن الحيض في ذاته لا إشكال فيه وإنما الإشكال متى يحكم بانتقال المرأة من الحيض إلى الاستحاضة وهذا هو الذي حيَّر العلماء رحمهم الله في جملة من المسائل المتعلقة بمسائل الحيض وهي المرأة المتحيرة ويُسميها العلماء بالمتحيرة والمحيرة أما كونها متحيرة فلأنها لا تعلم هل هي طاهر أوهي حائض ؟؟ ولذلك تحيرت في أمرها والتبس عليها حالها ، ومن ثم قالوا إنها متحيرة ، ومن أهل العلم من يقول مسائل المحيرة لأنها حيرت العلماء ولذلك اختلفوا هل يحكم بكونها حائض أو يحكم بكونها مستحاضة ؟؟(55/2)
وباب الحيض باب مهم ولذلك قال الإمام أحمد رحمه الله : " مكثت في الحيض تسع سنين حتى أتقنت مسائله وأحكامه" وهو باب مهم لأن النساء يفتقرن إلى معرفة الحكم الشرعي فالمرأة إذا أصابها الدم تتساءل هل هو دم حيض يمنعها من صلاتها وصيامها أو هو دم استحاضة لا يترتب عليه ذلك الحكم فتبقى متحيرة حتى تسأل الفقيه والعالم ، وكذلك تتعلق به جملة من مسائل الحج والعمرة فالمرأة لا يحكم بصحة طوافها إلا حال طهرها فإذا التبس عليها دمها ولم يستبن لها حالها هل هي حائض أو هي مستحاضة فإنها لاتستطيع القيام بذلك على الوجه المطلوب ، كما أن الحيض تتعلق به جملة من المسائل الأخر فالرجل لا يجوز له أن يطلق امرأته وهي حائض قال الله سبحانه وتعالى :{يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمْ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ..} ، وفي الصحيح عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه استفتى رسول الله صلى الله عليه وسلم في ابنه عبدالله حينما طَّلق امرأته وهي حائض فغضب النبي صلى الله عليه وسلم وقال : (( مرَّه فليراجعها ثم ليمسكها حتى تطهر ثم تحيض ثم تطهر ثم إن شاء طلقَّ وإن شاء أمسك فتلك العدة التي أمر الله أن تطَّلق لها النساء)) فحرم الله عز وجل الطلاق في الحيض ، فالمرأة لايمكن أن يقدم الرجل على طَّلاقها على الوجه المعتبر الشرعي إلا إذا استبين هل هي طاهر أو هي حائض ؟؟ ثم هل هذا الطهر جامعها فيه أم لم يجامعها فيه حتى يصيب طلاق السنة كذلك تترتب على الحيض مسائل شرعية أخُر ، فالمرأة لايحكم بخروجها من عدتها إذا طلقت لايحكم بخروجها من الحداد إذا نفست إلا إذا عرفت أحكام الحيض وما ترتب عليه من المسائل .(55/3)
ونظراً لأهمية هذا الباب اعتنى العلماء رحمهم الله ببيان مسائله وأحكامه والواجب على طلاب العلم والعلماء أن يتقنوا هذا الباب وأن يلموا بمسائله وأحكامه ، ولاشك أن المسائل إذا عظمت بها البلوى وكثرت منها الشكوى عظم به الجزاء من الله-- جل جلاله --لمن أتقنها وأعان غيره على البر والتقوى ، ومن هنا فإن باب الحيض باب مهم يحتاجه الإنسان لخاصة أهله كزوجته وبنته وأخته وأمه ، ويحتاجه لعموم المؤمنات إذا نزلت بهن مسائل الحيض ولايحقر من هذا الباب إلا الحقير ولا ينتقص علماءه ومن أتقنه إلا من لا فقه له في دين الله وشرعه ، ولذلك قال بعض العلماء إن الاستهزاء بجملة المسائل المتعلقة بالدين وانتقاص علمائها لايؤمن على صاحبه الكفر-والعياذ بالله-كأن يقول هو عالم الحيض والنفاس ونحو ذلك من الكلمات التي يقصد منها التحقير والانتقاص لهذا الباب المهم من أبواب العبادات والمعاملات فواجب على طالب العلم أن يحفظ شعائر الله ويحفظ حرمات الله وأن يحفظ للعلماء حقهم وقدرهم وهذا الباب تشعبت مسائله حتى ألفَّ العلماء الأجلاء من المحدثين والفقهاء ألفوا فيه التآليف المفيدة والتصانيف العظمية ومن جملة ذلك أنهم أفردوه بالكتب المستقلة في الحديث والفقه وعلى طالب العلم أن يرجع إلى هذه الكتب التي حرر فيها العلماء مسائل الحيض ، وإتقان مسائل الحيض أمر مهم ولكنه يفتقر إلى حفظ الضوابط فإن الدماء التي تخرج من رحم المرأة تنقسم إلى ثلاثة أقسام :
القسم الأول : دم الحيض . والقسم الثاني : دم النفاس . والقسم الثالث : دم الاستحاضة .(55/4)
فأما دم الحيض فإن حقيقة الحيض في اللغة السيلان يقال حاض الوادي إذا سال ماؤه وكثر ، كذلك تقول العرب حاضت السمرة إذا سال الصمغ على ساقها فأصل الحيض السيلان والعرب تسمي هذا الدم بأسماء منها : اسم الحيض وهو أشهرها ، ومنها اسم النفاس فيسمون دم الحيض بالنفاس ومنه ما ثبت في الصحيحين من حديث أم المؤمنين عائشة أنها لما حاضت في حجة الوداع وهي مع النبي صلى الله عليه وسلم قال لها حينما انسلت من الفراش : (( مالكِ أنفست ذاك شئ كتبه الله على بنات آدم اصنعي ما يصنع الحاج غير ألا تطوفي بالبيت )) فسمى الحيض نفاساً ، ويسمى الحيض بالضحك ومنه قوله-تعالى- : {وَامْرَأَتُهُ قَائِمَةٌ فَضَحِكَتْ فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَاقَ وَمِنْ وَرَاءِ إِسْحَاقَ يَعْقُوبَ } قال بعض المفسرين في قوله-سبحانه- : {فَضَحِكَتْ} أي حاضت بشارة لها بالولد وقيل إن الصحيح إن المراد بالضحك الحقيقة أي أنها ضحكت تعجباً من ما سمعت من الخبر وذلك أن إبراهيم كان فزعاً ثم أصابه السرور بما أخبره به ملائكة الله ورسله .
وكذلك يسمى الحيض بالإعصار ويسمى بالإكبار ويسمى الطمث ويسمى الطمس ويسمى كذلك الفراك والعراك وهذه تسعة أسماء له في لغة العرب .
وأما حقيقة دم الحيض : فهو دم يرخيه رحم المرأة لغير فساد ولا نفاس فقول العلماء دم يرخيه رحم المرأة يعتبر بمثابة القيد في التعريف وذلك أن المرأة تخرج الدماء من مواضع مختلفة من الجسد ، ولذلك خصوا هذا الدم بالموضع الذي يخرج منه فقالوا دم يرخيه رحم المرأة وبعض العلماء يقول : دم يخرج من قعر رحم المرأة احترازاً من دم الاستحاضة .
وقولهم بغير فساد المراد بذلك إخراج دم الاستحاضة لأنه دم فساد وعلة ولكن دم الحيض يعتبر من الدماء المعتادة التي لا توصف بالفساد ولا بالعلة .
وأما قولهم لغير نفاس فهذا بمثابة القيد الذي قصد منه إخراج دم النفاس والولادة فهذه هي حقيقة دم الحيض.(55/5)
وهذا الدم يتميز عن دم الا ستحاضة بأوصاف:
أولها : أن دم الحيض دم حارق مؤلم وأما دم الاستحاضة فإنه دون ذلك .
وأما الصفة الثانية : فهي أن دم الحيض ثخين ودم الاستحاضة رقيق.
والصفة الثالثه : أن دم الحيض أثخن في اللون من دم الاستحاضة فيكون دم الحيض أسود ويكون دم الاستحاضة أحمر ، ويكون دم الحيض أحمر ويكون دم الاستحاضة أصفر أرق من الحيض ، وكذلك يكون دم الحيض ثخيناً ويكون دم الاستحاضة رقيقاً فهذه جملة المميزات التي ينفصل بها دم الحيض عن دم الاستحاضة وهي مهمة للحكم بالتمييز ؛ والسبب في ذلك أن النساء ينقسمن إلى أقسام :
القسم الأول : فمنهن نساء قد حفظن عادتهن وأصبحت العادة في دم الحيض غير مضطربة عندهن.
مثال ذلك : أن يجري دم الحيض مع المرأة على أمدٍ لا يختلف كأن يجري معها سبعة أيام وينقطع فحينئذٍ لا إشكال فالسبع هي حيضها إذا اعتادت على ذلك ، وإذا اختلت واضطرب دمها فإنها تعتد بالسبع والعلماء يسمي هذا النوع من النساء بالمعتادة .
وأما القسم الثاني : من النساء فهي المرأة المميزة والمراد بها المرأة التي عرفت دم حيضها من دم استحاضتها بناءً على معرفة الأوصاف التي يتميز بها دم الحيض عن دم الاستحاضة وهي الأوصاف التي سبقت الإشارة إليها وقد جمعها بعض العلماء رحمهم الله بقوله :
باللون والريح وبالتألمي ……وكثرة وقلة ميزدم
وبعض العلماء يقول :
باللون والريح وبالتألمي … وغلظ ورقة ميزدم
فهذا النوع من النساء يعرف حيضه من استحاضتها بالرجوع إلى ألوان الدماء وصفاتها وأحوالها والمرأة في غالب الأمر تضبط عادتها إما بالأمد والزمان ، وإما بالصفة والأحوال كما ذكرنا وهذا النوع الأصل فيه قول النبي صلى الله عليه وسلم : (( إن دم الحيض دم أسود يعرف )) أي له عرف ورائحة .(55/6)
وأما القسم الثالث: من النساء فهي المرأة المبتدأة والمراد بالمرأة المبتدأة هي التي ابتدأها الحيض ولم يسبق لها حيض فهي المرأة التي تحيض لأول مرة وذلك إنما يكون بعد بلوغها لتسع سنين ، والأصل في ذلك ما روى البيهقي وغيره عن أم المؤمنين عائشة -رضي الله عنها وأرضاها- أنها قالت : " إذا بلغت الجارية تسع سنين فهي امرأة " أي تأهلت للحيض فإذا جرى معها الدم وهي بنت تسع سنين فإنه يحكم بكونه دم حيض مالم يجاوز أكثر الحيض على تفصيل معروف عند العلماء رحمهم الله ، وأما إذا جرى دم الحيض مع المرأة دون تسع سنين فإنه لا يحكم بكونه حيضاً وإنما يقال هو دم استحاضة فإذا بلغت تسع سنين ورأت الدم فإنه يحكم ببلوغها ويجب عليها ما يجب على المرأة البالغ وهذا النوع من النساء -أعني المبتدأة-لها ضوابط وتفصيلات ذكرها العلماء رحمهم الله في كتب الفروع من الفقه ، وحاصل ما ذكروا أن بعض العلماء يقول : ترجع هذه المرأة إلى التمييز إذا جرى معها دمها فلا يخلو من حالتين :
الحالة الأولى : أن ينقطع دون أكثر الحيض ، كأن يجري معها الدم سبعة أيام أو ثمانية أيام ثم ينقطع وترى علامة الطهر فحينئذ لا إشكال في أن السبعة حيض ، وبعض العلماء يردها إلى أقل الحيض وهو اليوم والليلة .
والصحيح أن السبع حيض .
الحالة الثانية : أن يجاوز أكثر الحيض فإذا جاوز أكثر الحيض فقال جمع من العلماء تُرد إلى الست أو السبع لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم : (( تحيضي في علم الله ستاً أو سبعاً )) قالوا وعلى هذا فترد إلى الست أو السبع لأنه الغالب في الحيض ، والقاعدة في الفقه الإسلامي : " أن الحكم للغالب " فلما كان غالب الحيض على هذا فإنها تحكم بكونها حائض سبعة أيام ، وتعتبر ما زاد على ذلك استحاضة تصوم فيه وتصلي.(55/7)
وقال بعض العلماء : إن المرأة التي ابتدأها الحيض ولم ينقطع دون أكثر الحيض فإنه يجب عليها أن ترجع إلى عادت لداتها ، والمراد باللدات الأتراب والترائب نظائرها في السن في بيئتها ومكانها فإذا كان غالب النساء في بيئتها وقريتها يحضن سبعة أيام فإن حيضها سبعة أيام ، وقال بعض العلماء : إنها ترجع إلى حيض نسائها فتنظر إلى عادة أمها وخالتها وأخواتها وقرابتها وتعتد بالغالب من الأمد الذي يجري فيه الدم عند هؤلاء النسوة الآتي هنَّ من القرابة ، والصحيح ما ذكرناه من ردها إلى ست أوسبع وقد صحّح الإمام البخاري رحمه الله وغيره من أئمة الحديث حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم : (( تحيضي في علم الله ستاً أوسبعاً )) .
ومما يعين على ضبط مسائل الحيض أن يلم بأقل الحيض وأكثر الحيض علىتفصيل عند العلماء رحمهم الله في كلتا المسألتين :
فقال بعض العلماء : إن لأقل الحيض حداً ، وقال جمع من العلماء : إنه لاحد لأقل الحيض فالدفعة من الدم تعتبر حيضاً ؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم علق الحيض علىالرؤية فإذا رأت المرأة الحيض في زمان إمكان الحيض فهي حائض وليس هناك دليل من كتاب الله ولاسنة النبي صلى الله عليه وسلم يحدد أقل الحيض بالزمان ، ولذلك وجب الرجوع إلى الأصل من كونها حائض حتى يدل الدليل على طهرها مادام أن الزمان زمان إمكان الحيض وهذا القول يقول به فقهاء الظاهرية والمالكية واختاره شيخ الإسلام رحمه الله وجمع من المحققين-رحم الله الجميع-وهو الأقوى من حيث الدليل .
وأما أكثر الحيض فللعلماء فيه قولان مشهوران :
قال بعض العلماء : أكثره عشر . وقال الجمهور: أكثره خمسة عشر فإذا جاوز الدم خمسة عشر يوماً فإن المرأة يحكم باستحاضتها فيما زاد وهذا هو الصحيح ولذلك يبنى على شطر الشهر وهو خمسة عشر يوماً فإذا بلغت ذلك وجاوزته حكمنا بكون الدم دم استحاضة .(55/8)
ومما اختلف العلماء رحمهم الله فيه من مسائل الحيض متى ينقطع الحيض عن المرأة وما هو السن الذي إذا بلغته المرأة حكم بيأسها من الحيض وللعلماء في هذه المسألة قولان يتفرع عنهما أقوال :
فأما القول الأول : فمنهم من يقول لاحد ولا أمد من الزمان لسن اليأس ؛ لأن الكتاب والسنة لم يبين فيهما أمد معين .
أما القول الثاني : قال به جمهور العلماء بالتحديد.
والصحيح ما ذهب إليه الأولون أنه لا حد لسن اليأس وأنه ينبغي الرجوع إلى الإطلاق الذي أطلقه الشرع فإذا جرى الدم مع المرأة في إمكان الزمان فهي حائض وانقطاع الدم عنها هو الذي ينبني عليه الحكم باليأس وعلى هذا فإن للحيض مسائل مهمة وتفصيلات متشعبة وإتقان هذا الباب فيه أجر كبير لطلاب العلم والعلماء لعظيم البلوى به .
وأما القسم الثاني فهو دم النفاس: فالنفاس: مأخوذ من النفس والمراد به الدم ، وسمي النفاس نفاساً لأن المرأة إذا ولدت جرى معها الدم غالباً والدم يسمى نفساً فيقال نفس ويراد به الدم ومنه قول العلماء : ما لا نفس له سائلة أي ليس له دم سائل .
ودم النفاس هو الدم الذي يرخيه الرحم بعد الولادة ،وهل يسبق الولادة أولا يسبقها..؟؟
مثال ذلك : لو كانت المرأة حاملاً ثم جرى معها الدم إبان الحمل قبل وضعها بأيام قليلة هل يحكم بكونه دم نفاس أو لا يحكم ؟؟
فجمهور العلماء على أن دم النفاس هو الدم الذي يكو ن عقب الولادة لا قبل الولادة .
وقال فقهاء الحنابلة : إن الدم إذا سبق الولادة بثلاثة أيام فأقل فإنه يحكم بكونه دم نفاس لا تصوم المرأة معه ولا تصلي.(55/9)
ومذهب الجمهور أقوى من حيث الأصل وهذا النوع من الدماء هو النوع الثاني وحكم النفاس كحكم الحيض في كثير من المسائل والأحكام ، فدم النفاس يمنع ما يمنع منه دم الحيض فالمرأة النفساء لا تصلي ولا تصوم ولاتقرأ القرآن ولا تلمسه ولاتدخل المسجد ولاتطوف بالبيت ، وكذلك لايجوز الجماع أثناء دم النفاس كما لايجوز الجماع أثناء دم الحيض وللعلماء وجهان في الطلاق حال دم النفاس .
وأما القسم الثالث من الدماء فهو دم الاستحاضة : وهو المتعلق بقوله رحمه الله " باب ما جاء في المستحاضة " والمستحاضة هي المرأة التي جرى معها الدم في غير الحيض والنفاس ، فالدم إذا سبق أمد الحيض أوسبق أمد النفاس ولم يكن على صفة الحيض فهو دم استحاضة ، وهذا النوع من الدماء يعتبر دم فساد وعلة ؛ لأنه ينشأ عن المرض والاعتلال وقد اختلف في أصل هذا الدم : فقد جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه ناشئ عن العرق الذي يكون في أعلى الرحم وهو الذي يسمى بالعاند والعاذر ويسمى بالعاذل ، وهذه التسميات وردت بها نصوص عن النبي صلى الله عليه وسلم وسمي العاند من العناد ، وكذلك يسمى بالعاذر ؛ لأنه عذر المرأة ، ويسمى بالعاذل لأنه يوجب العذل للمرأة.(55/10)
وقوله رحمه الله "باب ما جاء في المستحاضة " : أي في هذا الموضع سأذكر لك ما ورد من هدي النبي صلى الله عليه وسلم وسنته في حكم الدم الذي يجري مع المرأة المستحاضة ثم ذكر رحمه الله حديث عائشة-رضي الله عنها وأرضاها-أن بنت أبي حبيش جاءت إلى النبي صلى الله عليه وسلم واستفتتهصلوات الله وسلامه عليه فقالت : " إني امرأة أستحاض فلا أطهر أفادع الصلاة؟ " قال : (( لا إنما ذلك عرق وليست بالحيضة))وقال بعض العلماء إنها بالفتح : (( فإذا أقبلت الحيضة فدعي الصلاة ثم إذا أدبرت فاغتسلي وصلي)) هذا الحديث مما اتفق عليه الشيخان وهو حديث صحيح وقد صحّح الإمام الترمذي رحمه الله إسناده بروايته ، وهو عمدة عند العلماء في كثير مسائل الاستحاضة.
قولها-رضي الله عنها- " جاءت فاطمة " : فيه دليل على مشروعية الاستفتاء عند النوزال ، وأن الواجب على المسلم إذا التبس عليه الأمر من دينه أن يرجع إلى العلماء ، وأن يسألهم ويذاكرهم فيما يكون من شأنه .
وفيه دليل على مشروعية خروج المرأة للاستفتاء ونحو ذلك من المصالح الدينية فإن النبي صلى الله عليه وسلم لم ينكر عليها مجيئها إليه، فالأصل في المرأة أنه يجب عليها أن تقر قرارها وأن تلزم بيتها لقول ربها :{وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلاَ تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الأُولَى} فأمر الله النساء المؤمنات أن يلزمن القرار لما فيه من الخير لهن وللمؤمنين فخير للمرأة أن لا ترى الرجال ولايراها الرجال ، فإذا تعلقت المصلحة بخروجها جاز لها الخروج وهذا الخروج إنما يتقيد بالضوابط الشرعية ، ومن ثم أخذ العلماء رحمهم الله من إقراره صلوات الله وسلامه عليه لهذه المرأة أن تأتيه وتسأله دليلاً على مشروعية خروجها للسؤال ، والمسائل إذا نزلت بالمكلف تنقسم إلى قسمين :
القسم الأول : ما لا يمكن فيه التوكيل . والقسم الثاني : ما يمكن فيه التوكيل .(55/11)
فأما القسم الأول : ما أمكن فيه التوكيل فلا إشكال فيه فإن المرأة تستعين بزوجها وبابنها وبأخيها ونحو ذلك من قرابتها وهذا أفضل وأكمل .
وأما القسم الثاني : ما لا يمكن فيه التوكيل كمسائل الحيض التي تحتاج إلى استفصال من المرأة وسؤال فإنها تباشر سؤال العالم لأن الأمر يحتاج إلى شئ من التفصيل والاستبيان ، ومن هنا أخذ العلماء رحمهم الله مشروعية استفتاء المرأة للرجال والأفضل والأكمل أن يلي النساء مسائل الحيض فإن تفقه طالبات العلم في مسائل الحيض فيه خير كثير للنساء ؛ لأن معرفتهن بتلك الأمور أقوى ومن هنا كان أمهات المؤمنين المرجع لأصحاب النبي صلى الله عليه وسلم فيما يكون من الأمور الخاصة للنساء ، وفي صحيح البخاري عن أم المؤمنين عائشة-رضي الله عنها وأرضاها- : " أن النساء كنّ يبعثنّ إليها بالدرجة فيها الكرسف فيه الصفرة والكدرة من دم الحيض" فتقول-رضي الله عنها وأرضاها -: " انتظرن لا تعجلن حتى ترين القصة البيضاء" وقولها "الدرجة" أي الخرقة ، "فيها الكرسف" أي القطن "فيه الصفرة والكدرة من دم الحيض" أي كانت المرأة تضع القطنة في فرجها لكي تري أم المؤمنين ذلك الدم فتحكم بكونه دم حيض أو دم استحاضة ، فالشاهد أن النساء من الصحابيات كن يرجعن إلى أمهات المؤمنين ، فإتقان النساء لهذا الباب أمر مهم وهو أدعى لكفاية الرجال مسائل الفتوى للنساء .(55/12)
وفي سؤال فاطمة-رضي الله عنها وأرضاها- لرسول الله صلى الله عليه وسلم دليل على مشروعية سماع صوت المرأة من الرجل، فالأصل للمرأة أن تحفظ صوتها وأن تغض منه ؛ لأن صوتها يحرك الشهوة والله جبل الرجال على الميل للنساء فصوت المرأة يفتن غالباً والدليل على أن الأصل للمرأة أن لا تتكلم بحضور الرجال إلا من حاجة ما ثبت في الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : (( إنما التصفيق للنساء والتسبيح للرجال )) فجعل التصفيق للنساء ومنعهن من الكلام بالتسبيح ، مع أن التسبيح ذكر لله عز وجل ، ومع وجود الحاجة من الفتح على الإمام وتنبيه الإمام فردهن إلى الفعل الذي يحفظ معه صوت المرأة فأخذ من هذا جمهور العلماء رحمهم الله أن الأصل في صوت المرأة أنه عورة ، وقد دل على ذلك دليل الطبع كما دل عليه دليل الشرع فالغالب أن صوت المرأة يفتن به من سمعه من الرجال خاصة إذا كان في قلبه مرض ، ولذلك نهى الله أمهات المؤمنين والنهي لسائر المؤمنات أن يخضعن بالقول فيطمع الذي في قلبه مرض ، فلا ينبغي أن يسمع صوت المرأة من الرجال الإ من ضرورة وحاجة كأن تستفتي الشيخ فتستفتيه فيما بينه وبينها مع حشمة وحفظ وحياء ومروءة.
وقولها-رضي الله عنها وأرضاها-فقالت يارسول إني امرأة أستحاض" قولها" يارسول الله" فيه دليل على فائدتين:(55/13)
الفائدة الأولى : أدب أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم مع النبي صلى الله عليه وسلم حيث كانوا يخاطبونه بالنبوة والرسالة فيقولون يانبي الله ويا رسول الله ؛ لأن الله نهاهم أن يجعلوا دعاء النبي صلى الله عليه وسلم بينهم كدعاء بعضهم لبعض فلا يقال يا محمد وإنما كان يقول ذلك الأعراب لجهلهم بالوحي ، وأما أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم فكانوا ينادونه بالنبوة والرسالة وهو الذي كان القرآن يناديه به : {يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ} ، {يَاأَيُّهَا الرَّسُولُ} كل ذلك إجلالاً لهصلوات الله وسلامه عليه وإكراماً ، ومن هنا تأدب أئمة السلف رحمهم الله والخلف ، فكانوا إذا ذكروا الأحاديث قالوا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم وقاله نبي اللهصلوات الله وسلامه عليهولا يقولون قاله محمد أو فعله محمد بالاسم المجرد ؛ وإنما يذكرونه بوصف الرسالة والنبوة تأدباً معهصلوات الله وسلامه عليه.
الفائدة الثانية : فيه دليل على مشروعية الأدب مع العلماء عند الاستفتاء فكما أن الصحابة -رضي الله عنهم- تأدبوا مع النبي صلى الله عليه وسلم فنادوه بأفضل الخطاب عند السؤال والاستبيان فحقيق بعامة الناس أن يتأدبوا مع العلماء وأن لا ينادى العالم باسمه المجرد ؛ وإنما ينادي بالشيخ ونحو ذلك مما يقصد به تعظيم شعائر الله وليس في ذلك تعظيم لذات الإنسان نفسه ؛ وإنما المراد أن تعظم شعائر الله-جل وعلا- فحملة كتاب الله وسنة النبي صلى الله عليه وسلم خليق بهم أن يجلوا ويكرموا .(55/14)
وقولها -رضي الله عنها وأرضاها- " إني أستحاض فلا أطهر أفأدع الصلاة " : قولها استحاض أي يجري معي دم الحيض ويسترسل حتى لا ينقطع فظنت أن الحيض يبقى حكمه سارياً ولذلك سألته بأبي وأمي صلوات الله وسلامه عليهوقالت له : " أفأدع الصلاة؟ " قولها : أفأدع الصلاة أي أفأترك الصلاة؟ فالودع هو الترك ، ومنه قوله سبحانه وتعالى :{مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى} ومنه قولهصلوات الله وسلامه عليه : (( لينتهينَّ أقوام عن ودعهم الجمعات )) أي عن تركهم الجمعات : (( أو ليختمنَّ الله على قلوبهم ثم ليكوننَّ من الغافلين )) وقولها" أفأدع الصلاة " فيه دليل على أن المرأة الحائض لا تصلي ، وهذا بإجماع العلماء أن الحيض يمنع من الصلاة مطلقاً سواء كانت صلاة مفروضة أوكانت صلاة نافلة فلا يجوز للمرأة الحائض أن تصلي ولا تجب عليها الصلاة في أصح قولي العلماء رحمهم الله ، وإذا طهرت من حيضها فإنه لا يجب عليها قضاء الصلوات لحديث أم المؤمنين عائشة -رضي الله عنها - : " كنَّا نحيض على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فنؤمر بقضاء الصوم ولانؤمر بقضاء الصلاة " وهذا من تخفيف الله -جل وعلا- على عباده .
وقولها -رضي الله عنها وأرضاها-" أفادع الصلاة " : فيه دليل على أن المرأة تدع الصلاة إلى غير بدل ، وقال بعض العلماء : إنها تتشبه بالمرأة المصلية فإذا حضرت الصلاة فإنها تجلس في مسجدها وتستغفر الله وتذكره وهذا القول لا أصل له من كتاب الله ولا سنة النبي صلى الله عليه وسلم ولم يكن أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم يأمرون به نساء المؤمنين ، ولذلك نص جمع من العلماء على أن هذا القول باطل ، وأنه لا أصل للجلوس أثناء الصلاة بل قال بعض العلماء : إنه بدعة وحدث لأنه إحداث لذكر مخصوص في وقت مخصوص وتكليف بما لم يرد الشرع بالتكليف به وهذا هو الصحيح أنها لاتجلس أثناء صلاتها ولا تصلي على ظاهر النصوص.(55/15)
قال صلى الله عليه وسلم : (( لا )) : أي لا تدعي الصلاة وفي هذا دليل على أن للحيض زمان معين وأن دم الحيض له أمد مخصوص وإذا جرى الدم مع المرأة فإنه لا يحكم بكونها حائضاً مطلقاً وإنما يتقيد الحكم بزمان الحيض أو بصفاته على الضوابط التي سبقت الإشارة إليها.
وقوله عليه الصلاة والسلام : (( لا )) : القاعدة في الفقه : " أن السؤال معاد في الجواب" ومعنى قوله : (( لا)) أي لا تدعي الصلاة إذا كان الأمر علىما ذكر ، وبناءً عليه فإن المرأة المستحاضة تجب عليها الصلاة كالمرأة الطاهر ؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يسقط الصلاة عنها فدل على أنها مخاطبة بالصلاة كالمرأة الطاهر سواء بسواء .
وقوله عليه الصلاة والسلام : (( إنما ذلك عرق )) قوله : (( إنما ذلك عرق)) : أي الذي أصابك من جريان الدم إنما هو نزيف من العرق ، والعرق واحد والعروق ، وهي معروفة في الجسد ، وقال العلماء : إن هذا العرق يسمى بالعاند على ما تقدم والعاذر والعاذل وهذه الأسماء جاءت في السنن كما في مسند الإمام أحمد وفي السنن أن النبي صلى الله عليه وسلم سماها ببعض هذه الأسماء .
وقوله - عليه الصلاة والسلام - : (( إنما ذلك عرق)) فيه فوائد :
الفائدة الأولى : أن دم الاستحاضة لايأخذ حكم دم الحيض ؛ لأنه منفجر من عرق وهو نزيف وليست بحيض.
الفائدة الثانية : وتفرعت على ذلك المسألة الثانية وهي:(55/16)
أن الدماء الخارجة من الجسد تعتبر نجسة ؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم نص على غسل المستحاضة لفرجها، وأجمع العلماء رحمهم الله على أن دم المستحاضة نجس وقد بينصلوات الله وسلامه عليه أن دم الاستحاضة ينشأ عن العرق ، وإذا كان ناشئاً من العروق فإن الدماء في الأصل إنما تجري في البدن من العروق ولذلك يعتبر الدم نجساً على الأصل ، ومن هنا قال العلماء كما دل دليل الكتاب على نجاسة الدم دل دليل السنة هذا على النجاسة فإن قوله سبحانه وتعالى :{أَوْ دَماً مَسْفُوحاً أَوْ لَحْمَ خِنزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ } فإن قوله دماً مسفوحاً هو الدم الذي يخرج قبل الذكاة من الجسد وقد وصفه الله بكونه نجساً فدل على نجاسة الدماء المسفوحة والمراد بالمسفوحة المراقة من الجسد سواء كان ذلك بجرح أو غيره .
وقوله -صلوات الله وسلامه عليه - : (( إنما ذلك عرق وليست بالحيضة )) : فيه دليل على أن نزّيف الفرج بالاستحاضة لا يأخذ حكم دم الحيض وهذا بإجماع العلماء رحمهم الله .
ولكن الإشكال كيف يحكم بانقطاع الحيض والدخول في دم الاستحاضة..؟؟
والجواب : أن المرأة تحكم بانتقالها من دم الحيض إلى دم الاستحاضة بناءً على أمور:
أولها : أن ترى علامة الطهر .
وعلامة الطهر تنقسم إلى قسمين :
القسم الأول : مجمع عليه وهي القصة البيضاء .القسم الثاني : مختلف فيه وهي الجفوف .(55/17)
فأما القصة البيضاء فهي الماء الأبيض كالجير يخرج من فرج المرأة معروف ، فهذا النوع من الطهر أو من علامة الطهر أجمع العلماء على كونه موجباً لانقطاع الحكم بالحيض ؛ وذلك لأن أم المؤمنين-رضي الله عنها- كانت تقول " انتظرنَّ لاتعجلن حتى ترين القصة البيضاء" وقولها-رضي الله عنها وأرضاها- : " القصة البيضاء" المراد بها علامة الطهر وهي التي ذكرنا ماء أبيض كالجير يخرج من الرحم على وجه يعرفه النساء ، فهذا النوع من العلامات هو أقوى العلامات وإذا جرى دم الحيض مع المرأة ثم رأت هذه العلامة حكمت بطهرها مالم يعاودها قبل تمام عادتها.
أما العلامة الثانية : فهي الجفوف والمراد بالجفوف أن تدخل القطنة في الموضع ثم تخرج القطنة نقية لا أثر للدم فيها، فإن هذا استبراء ظاهر وعلامة دلت العادة على قوتها ، وجمهور العلماء : على أن الجفوف يعتبر من علامة الطهر وأن المرأة إذا جف رحمها حكمت بطهرها على أصح القولين وأرجح ما عند العلماء رحمهم الله لأن الحكم يتعلق بوجود الدم على ظاهر نص الكتاب والسنة فإذا انقطع الدم وانقطع الأثر فإنه يحكم بطهر المرأة رجوعاً إلى الأصل .
وأما بالنسبة للأمر الثالث : الذي يحكم به بانتقال المرأة من الحيض إلى الاستحاضة فهو تمام العادة التي اعتادتها من الزمان فإذا اعتادت المرأة أن تحيض سبعة أيام ثم اختلت العادة وجرى معها الدم عشرة أيام فإنها تحكم بكونها حائض سبعة أيام وأما الثلاثة الزائدة فإنها تعتبر دم استحاضة ثم تنتظر إلى الشهر الثاني والثالث فإذا جرى معها الدم عشرة أيام في الشهر الثاني والثالث حكمنا بانتقال عادتها من سبعة أيام إلى عشرة أيام ولزمها قضاء الستة الأيام التي مضت لأنه تبين خطأ ظنها ، والقاعدة : " لاعبرة بالظن البين خطؤه " أي لاعبرة بالظن الذي استبان للمكلف خطؤه وعدم صحته .(55/18)
وأما الأمرالرابع : فهو تمييز المرأة لدمها فالدم إذا جرى مع المرأة ولم يقف ولم تكن لها عادة معينة من الزمان فإنها تنظر إلى لون الدم ، فإذا جرى معها خمسة أيام وهو أحمر ثم صار أصفر في خمسة أيام أخر فإننا نحكم بكونها حائضاً في الخمسة الأول ومستحاضة في الخمسة الأخر، وإذا جرى معها في الخمسة الأيام الأول أصفر وفي الخمسة الأيام الأخر أكدر حكمنا بكونها حائضاً في الخمسة الأيام دون الأخر فنعتبر الحيض والدماء ، وكذلك إذا جرى معها عشرة أيام بلون واحد ولكنه في الخمسة الأول محرق ومؤلم ، وفي الخمسة الأخر دون ذلك حكمنا الحيض في الأول دون الآخر ، وهكذا إذا جرى معها في الخمسة الأول وله رائحة كريهة وفي الخمسة الأخر وله رائحة دون ذلك أو لارائحة له حكمنا بكونها حائضاً في الخمسة الأول دون الأخر ويقاس على ذلك بقية المسائل.
وقوله - عليه الصلاة والسلام - : (( فإذا أقبلت الحيضة فدعى الصلاة )) : فيه دليل على أن للحيضة علامات وأمارات-وبقية جمل الحديث فيها مسائل يطول بيانها وسنرجئ الكلام عليها إلى المجلس القادم إن شاء الله- .
- ? - ? - ? - ? - الأسئلة - ? - ? - ? - ? -
السؤال الأول :
ماهي حجة الجمهور في أن أكثر الحيض خمسة عشر يوماً..؟؟
الجواب :
بسم الله والحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه أمابعد:(55/19)
فمسائل الحيض فيها جوانب تُركت للعادة والعرف وهذا بسبب اختلاف النساء واضطراب العادات ، ولذلك لم يرد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم نص معين يحُدد أكثر الحيض ولا إشكال أن المرأة حيضها محدد لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال : (( إذا أقبلت الحيضة فاتركي الصلاة )) وقال : (( لتنظر الأيام اللتي كانت تحيضهن قبل أن يصيبها الذي أصابها ثم إذا هي خلفَّت ذلك فلتغتسل ثم لتصلي )) فجعل للحيض أمداً معيناً وهذا يدل على أن ليس كل الدم حيض وهذا صريح في حديث الصحيحين الذي معنا : (( إنها ليست بالحيضة )) وعلى هذا قالوا لابد من وضع حد للأكثر وتتبعوا الأحاديث فوجدوا حديثاً تكلم في سنده وهو قوله عليه الصلاة والسلام : (( تمكث إحداكن شطر عمرها لاتصلي)) فقوله شطر عمرها يدل على أن الشهر ينقسم إلى قسمين : طهر وحيض ، فقالوا أكثر الحيض خمسة عشر يوماً وهذا اعتبره جمهور العلماء رحمهم الله خاصةً وأن العادة تقوي ذلك قد وُجد أن المرأة قد يسترسل معها الدم على صفته بهذا الأمد إلى أربعة عشر إلى خمسة عشر يوماً ولذلك حكموا به ، وعليه جرت الفتوى في قول جماهير العلماء رحمهم الله ومن هنا يقولون حديث ضعف سنده وجرى العمل بمتنه وهو حديث : (( تمكث إحداكن شطر عمرها لاتصلي )) ، والله تعالى أعلم.
السؤال الثاني :
إنني امرأة أستحاض لمدة سبعة أيام وفي يوم طهرت قبل صلاة الظهر فاغتسلت ثم صليت الظهر ثم ذهبت وصليت العصر والمغرب بوضوء واحد ثم ذهبت بعد صلاة المغرب فوجدت الدم أي دم الحيض فاجتهدت فقلت إنني قد طهرت فتركته ثم توضأت وصليت فماذا يجب عليَّ..؟؟
الجواب :(55/20)
هذا السؤال جوابه أن المرأة إذا كانت لها عادة ترجع إلى عادتها والعادة أن يعاودها الدم ثلاثة أشهر بعدد معين فالمرأة إذا مضى عليها ثلاثة أشهر والدم يجري معها ستة أيام فمعنى ذلك أن حيضها ستة أيام فإذا جاءها تبقى على الست ونحكم بكونها حائضاً ستة أيام ، مضت السنة الأولى تحيض ستة ثم السنة الثانية ثم السنة الثالثة اضطرب عليها الأمر أو كانت تحيض ستاً حتى حملت ولما وضعت اضطربت عليها عادتها وصارت تحيض خمسة عشرعشرين يوماً ثلاثين يوماً الشهر كله ولربما يمر عليها الثلاثة الأشهر والدم مسترسل معها ، ولذلك أثر عن بعض الصحابيات أنها استحيضت خمس سنوات فالدم يجري معها وهذا يقع ، وبناءً على ذلك إذا كان لها عادة تمضي عليها ثلاثة أشهر بعدد معين نحكم بكونها معتادة فإذا اختلت عادتها رددناها إلى العدد الذي انضبط قبل الاختلال فنقول حيضك ستة أيام ، والدليل على ذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح لما استفته المرأة : (( لتنظر الأيام التي كانت تحيضهن قبل أن يصيبها الذي أصابها )) فردهاصلوات الله وسلامه عليهإلى عادتها فدل على أن المرأة التي لها عادة ولها أمد معين تحيض فيه ينبغي ردها إليه ، فهذه المرأة عادتها سبعة أيام وبناءً عليه نقول أنتِ ملزمة بهذا العدد مالم تنتقل عادتكِ إلى الأقل أو إلى الأكثر فتنتقل إلى الأقل كأن يجري معها عند اختلال العادة جرى معها خمسة أيام فتنقطع ثم الشهر الثاني خمسة أيام ثم الشهر الثالث خمسة أيام فينقطع فيقال انتقل حيضها من الأكثر إلى الأقل حيضها خمسة أيام بدلاً أن كان سبعة أيام ، والعكس فلو أنه جرى معها سبعة أيام وثبتت عادتها ثم بعد ذلك اضطرب فجرى معها ثمانية ثم الشهر الثاني ثمانية ثم الشهر الثالث ثمانية فإننا نحكم بالشهر الثالث بانتقالها إلى عادتها وأنها انتقلت إلى الأكثر وقس على هذا المسائل ، وبناءً عليه فإن هذه المرأة عادتها سبعة أيام فإذا اختل عندها الأمر(55/21)
وانقطع عنها الدم قبل السبعة الأيام كما ورد في السؤال فإننا نقول إن انقطاع الدم عنكِ في اليوم السادس إذا كان بعلامة الطهر ورأت علامة الطهر فحاضت ستة أيام ثم في اليوم السابع بكامله رأت علامة الطهر وبقيت طاهرة لم يجري معها الدم فإننا نحكم بأن هذا اليوم يوم طهر ونقاء ، فلو جاء اليوم الثامن وجرى معها الدم لفقنا وهذا مذهب يسمى مذهب التلفيق فتضيف اليوم الثامن إلى العدد الماضي وهو الست وتقول هذا يوم حيض فحيضها سبعة أيام فطهرت في اليوم الثامن ، وأما اليوم السابع الذي هو بين الحيض وتخلل بين الحيض لما رأت فيه الطهر يوماً كاملاً فليس من الحيض ، وعليه فإنه يصح صومها فيه وتصح صلاتها ؛ لكن المرأة لم يستتم يومها وإنما رأت انقطاع الدم في النهار أو في أول اليوم وفي آخر اليوم قطرت القطرة وتساهلت فيها وحكمت بكونها استحاضة وعليه فإن هذا اليوم يعتبر يوم حيض ويلزمها أن تعيد صيامه إن وافق رمضان وصامته على أنها طاهر بشرط أن يكون ذلك قبل استمام اليوم ، وأما إذا استتم اليوم ورأت الدم بعد يوم أو يومين أو ثلاثة أيام من طهرها الأول فإنها تلفق أي تضيف العدد .
مثال ذلك : لو كان حيضها سبعة أيام فجرى معها أربعة أيام متواصلة ثم اليوم الخامس رأت علامة الطهر ولم ترى الدم في اليوم الخامس كله واليوم السادس والسابع فهذه ثلاثة أيام متتابعة لم تر فيها الدم ثم في اليوم الثامن أو التاسع رأت الدم فتضيف هذا اليوم إلى العدد الذي هو الخمسة الأول ثم اليوم التاسع والعاشر حتى تتم لها سبعة أيام من عادتها وتحكم بطهرها بعد تمام العدد هذا هو الذي يسميه العلماء بمذهب التلفيق ؛ لكن لو فرضنا أنه كان حيضها سبعة أيام وجرى معها خمسة أيام ثم بقيت طاهراً إلى حيضتها الثانية فإن الحيض خمس والباقي كله طهر ولا يحكم بكونها حائضاً ، والله تعالى أعلم .
السؤال الثالث :(55/22)
هل المستحاضة تستظهر بالإمساك عن الصلاة والصوم والجماع ثلاثة أيام بعد عادتها..؟؟
الجواب :
بسم الله الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه أمابعد :
الاستظهار المراد به أن المرأة إذا جرى معها الدم فوق عادتها كأن تكون عادتها ستة أيام ويجري معها ثمانية أو تسعة أو عشرة بعض العلماء يقول أجعل لها ثلاثة أيام وهذا يسمى بالاستظهار هذا القول يقول به فقهاء المالكية رحمهم الله وانتزعوه من قوله-تعالى- : { تَمتَّعُوا فِي دَارِكُمْ ثَلاَثَةَ أَيَّامٍ ذَلِكَ وَعْدٌ غَيْرُ مَكْذُوبٍ} فجعلوا الأمد أو الاستظهارالشرعي ثلاثة أيام بناءً على أنها المهلة من الله عز وجل كما ورد في نص الآية ، فالمقصود هذا الاستظهار بني على إمهال صالح -عليه السلام-لقومه وهو قول ضعيف والصحيح ماذهب إليه جمهور العلماء أن الاستظهار لا أصل له وليس له دليل في باب الحيض ، وأن الأصل في المرأة أن تبقى عادتها لأن النبي صلى الله عليه وسلم لما سألته المرأة عن استحاضتها ردها إلى العادة ولم يأمرها أن تستظهر والقاعدة : " أنه لايجوز تأخير البيان عن وقت الحاجة " وقد وقع السؤال وبينته المرأة أنها تزيد عن عادتها وأن الدم لاينقطع وردها إلى عادتها.
فكل امرأة تسألك في الحيض عن مسألة الحيض أول ماتقول لها هل لكِ عادة أو لا؟؟
فإذا كان لها عادة ردها إلى عادتها وإذا لم تكن لها عادة سلها عن صفات الدم فإن كان الدم له أحوال:
فجاءها مدة قوياً ، وجاءها بعد ذلك ضعيفاً سواءً قوياً في اللون كأن يأتيها معها الأيام الأولوا أسود ثم أحمر أو يأتي في الأيام الأولى أحمر ثم أصفر أو أصفر ثم أكدر فتنظر إلى القوة في اللون فإن قالت لك : لونه واحداً ، قل لها :هل كان يأتيك بألم هل تجدين ألماً أيام دون أيام؟؟ قالت : نعم الأيام الأول الست فيه ألم والباقية لا ألم تردها .(55/23)
أما الاستظهار ليس له دليل ، والدليل إما العادة ، وإما التمييز وإذا تعذرت العادة والتمييز رددناها إلى قول النبي صلى الله عليه وسلم : (( تحيضي في علم الله ستاً أو سبعاً )) فنردها إلى غالب الحيض ستة أيام أو سبعة وحينئذٍ تستبين مسائل الحيض على هذا الأصل ، والله تعالى أعلم .
السؤال الرابع :
إذا كانت المرأة حائضاً ثم طهرت قبل صلاة المغرب فهل تصلي العصر والظهر أم ماذا تصنع..؟؟
الجواب :
إذا طهرت المرأة قبل غروب الشمس بقدر خمس ركعات إذا كانت مقيمة أو قدر ثلاث ركعات إذا كانت مسافرة لزمها قضاء الصلاتين ، فهذه المسألة فرعها جمهور العلماء رحمهم الله على السنة لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال : (( من أدرك ركعة قبل أن تطلع الشمس فقد أدرك الصبح ، ومن أدرك ركعة قبل أن تغرب الشمس فقد أدرك العصر)) فدل هذا الحديث على أن القدر الذي تدرك به الصلاة من وقتها إنما هو الركعة الواحدة ، إذا ثبت هذا فإن صلاة الظهر في حكم الشرع بالنسبة لأهل الأعذار بمثابة الصلاة الواحدة فإن المسافر إذا سافر أجاز له أن يجمع بين الظهر والعصر وجعلهما بمثابة الصلاة الواحدة ، وعليه قالوا فإن المرأة الحائض تعتبر من ذوات الأعذار ، ولذلك يقولون إنها إذا أدركت قدر خمس ركعات قبل غروب الشمس : أربعاً تدرك بها صلاة العصر، ثم الركعة الخامسة تدرك بها صلاة الظهر ، فلو فرضنا أن الركعة تفعل في حدود دقيقتين فإننا نقول إذا طهرت أو انقطع عنها الدم قبل غروب الشمس بدقيقتين لزمها أن تقضي صلاة العصر ، فإذا طهرت قبل غروب الشمس بأربع دقائق لزمها أن تقضي صلاة العصر وحدها ، ثم ست دقائق ننظر : إن كانت مسافرة فإن المسافرة تصلي ركعتين للعصر فتكون الركعة الثالثة التي أدركتها مدركة بها صلاة الظهر ثم قالوا إذا كانت حاضرة فإن الثمانية دقائق لاتدرك بها إلا صلاة العصر وحدها ، فإذا جازوت إلى عشر فقد أدركت الظهر والعصر ، ويقاس على ذلك بقية مسائل(55/24)
الإدراك ، والله تعالى أعلم.
السؤال الخامس :
ألا يقوي مذهب الحنابلة القاعدة المشهورة : " أن ماقارب الشئ أخذ حكمه"في خروج الدم قبل النفاس بثلاثة أيام فأقل ، وأحياناً يخرج الدم قبل الولادة بساعات فماذا يحكم بهذا الدم..؟؟
الجواب :
أما بالنسبة للقاعدة : " أن ماقارب الشئ أخذ حكمه " فهي صحيحة ؛ ولكن في غير ماقيده الشرع بالضوابط فإن دم الولادة دم بسبب الولادة فإذا انفجر مع الولادة أو بعد الولادة فهو دم ولادة ، وأما إذا سبقها بيوم أو سبقها بيومين أو سبقها بثلاثة فليس من الولادة في شئ وهذا يذكره بعض الأطباء فيما يكون النزف الذي يسبق الولادة ، يكون عند الإنسان نزيف وهذا النزيف يسبق الولادة ، ولذلك لايكون من الولادة في شئ حتى ذكر بعض العلماء رحمهم الله وممن أشار إلى ذلك الإمام القرافي " في الذخيرة " أن الدم يكون مع المرأة ينقسم إلى أقسام فمنه الدم الذي يرخيه الدم الفساد الذي يكون بعد الولادة ، ثم أجود الدم وأحسنه ينقلب بقدرة الله إلى لبن لأن أصله من دم وقد وصف الله اللبن بكونه خارجاً : {مِنْ بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ لَبَنًا خَالِصاً سَائِغاً لِلشَّارِبِينَ } .
فقالوا إن هذا الدم ينقسم إلى هذه الأقسام :
فأفضله ينقلب إلى حليب وطعام للولد ، ثم ينفجر بعد الولادة أو مصاحباً للولادة ماكان من دم متعلق بالولادة نفسها ، أما ماسبق الولادة فإنه يعتبر دم فساد وعلة على القول الأصل .
ولذلك يقولون تستعمل القواعد والضوابط بشرط ألا تخالف الأصوال وهنا خالفت الأصل ، والأصل كونها طاهرة والأصل وجوب الصلوات عليها فكونك تقول إنها نفساء تسقط عنها الصلاة وتسقط الفريضة بنص الكتاب والسنة ، ولذلك جمهور العلماء احتاطوا هنا لحق الله عز وجل لقوة دلالة الظاهر فإنه إذا سبق اليوم أو اليومين والثلاثة ليس بمحدد هذا التحديد من الشرع وبقي على الأصل من كونه دم فساد وعلة وليس بدم نفاس .(55/25)
وَآخِرُ دَعْوَانَا أَنِ الحمَْدُ لِلَّهِ رَبِّ العَالَميْنَ وصلَّى اللَّهُ وسلَّم وبارك على عبده ونبيَّه محمد وعلى آله وصحبه أجمعين .(55/26)
بسم الله الرحمن الرحيم
قال المصنف - رحمه الله -: بَاب مَا جَاءَ فِي الْمُسْتَحَاضَةِ
حَدَّثَنَا هَنَّادٌ حَدَّثَنَا وَكِيعٌ وَعَبْدَةُ وَأَبُو مُعَاوِيَةَ عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ:" جَاءَتْ فَاطِمَةُ بِنْتُ أَبِي حُبَيْشٍ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَتْ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنِّي امْرَأَةٌ أُسْتَحَاضُ فَلاَ أَطْهُرُ أَفَأَدَعُ الصَّلاَةَ ؟ قَالَ : (( لاَ إِنَّمَا ذَلِكَ عِرْقٌ وَلَيْسَتْ بِالْحَيْضَةِ فَإِذَا أَقْبَلَتِ الْحَيْضَةُ فَدَعِي الصَّلاَةَ وَإِذَا أَدْبَرَتْ فَاغْسِلِي عَنْكِ الدَّمَ وَصَلِّي)) ، قَالَ أَبُو مُعَاوِيَةَ فِي حَدِيثِهِ وَقَالَ : (( تَوَضَّئِي لِكُلِّ صَلاةٍ حَتَّى يَجِيءَ ذَلِكَ الْوَقْتُ)).
قَالَ رحمه الله : وَفِي الْبَاب عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ .
قَالَ أَبو عِيسَى رحمه الله : حَدِيثُ عَائِشَةَ حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ وَهُوَ قَوْلُ غَيْرِ وَاحِدٍ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَالتَّابِعِينَ وَبِهِ يَقُولُ سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ وَمَالِكٌ وَابْنُ الْمُبَارَكِ وَالشَّافِعِيُّ أَنَّ الْمُسْتَحَاضَةَ إِذَا جَاوَزَتْ أَيَّامَ أَقْرَائِهَا اغْتَسَلَتْ وَتَوَضَّأَتْ لِكُلِّ صَلاَةٍ .
الشرح :
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام الأتمان الأكملان على خير خلق الله أجمعين وعلى آله وصحبه ومن سار على نهجه واهتدى بهديه إلى يوم الدين ثم أما بعد :(56/1)
فقد تقدم في المجلس الماضي الحديث عن أهمية كتاب الحيض وعن جملة من المسائل المتعلقة بهذا الحديث وباب الحيض باب مهم ولذلك سأل بعض طلاب العلم وطلبوا أن يعتنى ببيان مسائله وجملة أحكامه ؛ نظراً لشدة الحاجة إليه ، ولذلك نخص هذا الدرس بجملة من التنبيهات التي يقصد منها ضبط مسائل الحيض ؛ والسبب في هذا شدة الحاجة إلى معرفة هذه المسائل وعموم بلوى الناس بها الأمر الذي يحتاج إلى شيء من التكرار ، وشيء من الإعادة حتى يتمكن طلاب العلم من تصور جملة من المسائل التي نخص بها هذا المجلس المبارك .
تقدم أن ذكرنا حقيقة الحيض وأقل الحيض وأكثر الحيض وبينا بعض المسائل التي اشتمل عليها حديث فاطمة -رضي الله عنها-في سؤالها واستفسارها لكننا نحب أن نبين بعض الأمور التي تتضح بها جملة تلك المسائل فبعض من طلاب العلم مرت عليه هذه المسائل وشكى أنه لم يضبط ولم يفهم المراد منها ، ولذلك نقول حتى تتصور أو يضبط طلاب العلم مسائل الحيض أكثر هناك جملة من التنبيهات حاصلها ما يلي:
أولاً : أن الدماء التي تخرج من رحم المرأة لا تخلو من حالتين :
الحالة الأولى : أن تكون بسبب خاص ، وهذا يتعلق بدم الولادة .
والحالة الثانية : أن تكون بأسباب غير الولادة.
ولذلك يقول بعض العلماء إما أن تخرج بسبب الولادة أو بسبب آخر غير الولادة فما كان خارجاً بسبب الولادة فالمراد منه أن تلد المرأة فيخرج الدم عقب الولادة أو مع الولادة أو قبل الولادة ... فأما ما كان خارجاً على هذا الوجه فالعلماء رحمهم الله قسموه إلى قسمين :
القسم الأول : ما كان خارجاً من المرأة بسبب الولادة يقسمونه إلى قسمين :
القسم الأول: إما أن يكون خارجاً مع الولادة . القسم الثاني: أن يكون خارجاً بعد الولادة .(56/2)
فإذا خرج الجنين خرج الدم بعده أو خرج أثناء خروجه فهذا النوع من الدماء بالإجماع يعتبر دم نفاس واصطلح العلماء على تسميته بدم النفاس إلا أن بعض العلماء يقول : وهذا أيضاً فيه شبه إجماع : أنه لو خرج قبل الولادة بزمن يسير بساعة أو ساعتين ثم تبعته الولادة فإنه دم ولادة .
فائدة قولنا أنه لو خرج قبل الولادة باليسير أننا نعطيه حكم دم النفاس أن المرأة لو صامت في رمضان وفرض أنها حامل وصامت ثم قبل غروب الشمس بساعة خرج معها الدم ولما غربت الشمس ولدت فإن هذا الدم الذي سبق الولادة في حكم دم الولادة ويعتبر موجباً لفساد صومها وعليها قضاء ذلك اليوم فإذاً لا يفرق في دم الحيض بين الدم المصاحب والدم المصاحب الذي يكون قبل الولادة بساعة وساعتين وبين الدم الذي يكون بعد الولادة.
أما الدم الذي يكون قبل الولادة فإن جمهور أهل العلم يقولون إذا سبق الدم بيوم أو يومين أو ثلاثة فليس بدم نفاس وإنما هو دم فساد وعلة يعني دم مرض ، فلو صامت في هذه الأيام صومها صحيح ، ولو صلت صلاتها صحيحة ولا نرى دم نفاس إلا إذا كان مصاحباً بالصورة التي تقدمت فيما مضى أو كان بعد الولادة هذا بالنسبة للجمهور وهو القول الأول .
هناك قول ثاني وهو للحنابلة يقولون : إذا سبق باليوم أو اليومين أو الثلاثة فهو دم نفاس إن زاد على ثلاثة كأن يسبق بأربعة أيام أو خمسة أيام ثم تلد فإننا لا نعتبره دم نفاس ؛ وإنما يعتبر دم فساد وعلة وعندهم خلاف في هذه المسألة هل كله أو بعضه .
الذي يعنينا الآن الخلاصة : نحن ابتدأنا بدم النفاس لأننا لا نستطيع أن نميز دم الحيض وأحكام دم الحيض حتى نعرف جملة ما يخرج من رحم المرأة وأحكامه فنقول في دم الولادة إن سبق الصور كالتالي :
الصورة الأولى : إما أن يسبق الولادة بيوم أو يومين أو ثلاثة فحينئذ الجمهور على أنه ليس بدم نفاس وغيرهم على أنه دم نفاس .
والصحيح أنه ليس بدم نفاس ؛ وإنما هو دم استحاضة.(56/3)
والصورة الثانية : إن سبق باليسير من ساعة أو ساعتين ثم انفجر وولدت المرأة بعده فإنه دم نفاس وهكذا إذا تبعه الولادة .
طيب عرفنا الآن جملة ما يقال في دم النفاس:
هب أن المرأة أسقطت جنينها قبل أمد الولادة المعتبر ثم خرج معها الدم؟؟
مثال : لو أن امرأة حامل أسقطت جنينها قبل الأمد المعتبر واستتمام خلقته بشهر واستتمام مدة الحمل بشهر أو شهرين أو ثلاثة فهذا السقط إذا أسقتطه سيجري معها دم فما حكم هذا الدم ؟؟ هل قول العلماء بدم النفاس بالصور المتقدمة يشمل ما يخرج ما مع تسقطه المرأة بغض النظر عن كونه تام الولادة أو ناقصة أم أن الأمر فيه تفصيل ؟؟؟
والجواب: فيه تفصيل إذا سألتك المرأة التي أسقطت جنينها قبل أمده فالجواب أن هذا السقط لا يخلو من حالتين:
الحالة الأولى : إما أن تكون فيه صورة الخلقة . والحالة الثانية : ألا تكون فيه صورة الخلقة .
فإن أسقطت ما فيه صورة الخلقة متخلق ولو لم يكن كاملاً ؛ لكن فيه صورة الخلقة فإن جميع ما يجري معها بعد إسقاطها يأخذ حكم الولادة ويجري عليه ما يجري على الولادة على أصح قولي العلماء ، وإن كان الذي أسقتطه ليس فيه صورة خلقة قطعة لحم ، أسقطت قطعة لحم فإننا نقول إن هذا الدم يعتبر دم فساد وعلة وهو الذي يسمى دم الاستحاضة ، - وهو الذي سيأتي الكلام عليه- .
إذاً الخلاصة في السقط إما أن تسقط ما فيه صورة الخلقة فالدم الخارج يأخذ حكم دم النفاس على التفصيل في دم النفاس ، وإما أن تسقط مالا خلقة فيه فهو دم فساد وعلة وهي طاهر وحكمها حكم المستحاضة هذا كله في دم النفاس .
لو سألك سائل : وقال عرفت أن المرأة إذا خرج معها الدم قبل وأثناء الولادة وبعد وعرفت إذا أسقطت سواء بخلقة أو بدون خلقة لكن لو فرضنا أن المرأة ولدت ولم يخرج معها دم فهل نحكم بأنه لا يصح صومها ، ولا تصح صلاتها أم لابد من وجود الدم ؟؟(56/4)
والجواب : أنه لابد من وجود الدم فهذه الأحكام كلها مترتبة على وجود الدم ؛ لأن الله منع المرأة في حال حيضها بسبب وجود الدم وإذا طهرت وانقطع دمها رجعت إلى الأصل من كونها طاهرة .
طيب الآن عرفنا الأحوال بالنسبة للدم الذي يخرج مع النفساء قبل وبعد وأثناء ، وعرفنا السقط وعرفنا إذا ولدت بدون دم :
هب أنها نفست وأخرجت ما في بطنها ثم جرى معها الدم واستمر فهل لدم النفاس أمدَّ معين ..؟؟
والجواب : أن النفاس يتحدد بأربعين يوماً على أصح أقوال العلماء رحمهم الله تمكث النفساء أربعين يوماً لا تصوم فيها ولا تصلى إذا كان الدم يجري معها بصورته المعتادة هذا الأمد وهو الأربعون طبعاً ورد فيه حديث أم عطية كانت النفساء تمكث على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم أربعين يوماً .
يرد السؤال : لو أن هذا المرأة النفساء عرفنا أنها تمكث أربعين يوماً لكن الأربعين هذه لو تقطعت فهل حكمها حكم المتصل هذه صورة من صور مكوث النفساء لأمد النفاس ومجاوزته ؟؟ هب أنها مضت معها عشرة أيام ، أو عشرون أو ثلاثون وانقطع الدم ورأت علامة الانقطاع الطهر ثم بقيت ثلاثة أيام لا ترى شيئاً ، فإذاً عندها ثلاثون يوماً مكثت ثلاثين يوماً نفساء ثم مضت عليها ثلاثة أيام ولم تر شيئاً وهي طاهر وبعد الثلاثة الأيام عاودها الدم فرضنا عشرة أيام فما الحكم ؟؟
والجواب : أن النفساء إذا رأت علامة الطهر أثناء المدة وهي الأربعين رأت القصة البيضاء مثلاً وطهرت يوماً كاملاً صامت وصلت فيه تصوم وتصلى فيه ، فلو جاء اليوم الثاني أيضاً وهي طاهر فحكمها حكم الطاهر اليوم الثالث كذلك ؛ لكن لو فرضنا أنها بعد أربعة أيام عاودها الدم فهي إذا عاودها الدم لا تخلو من حالتين :
الحالة الأولى : إما أن يعاودها الدم وتميزه بحيث تحس أنه دم حيض فحينئذ نقول انتهى النفاس الثلاثين اليوم الأولى وطهرت ودخلت في حكم دم جديد وهو دم الحيض .(56/5)
الحالة الثانية : وإما أن يعاودها بنفس الصفة التي كان عليها الدم من قبل فهي نفساء وانقطع دمها هذا الأمد فنلغي الثلاثة الأيام ونضم ما بقي من الأيام إلى العدد المطلوب .
فسألتك المرأة وقالت مضى عليَّ ثلاثون يوماً ودم النفاس لا ينقطع ثم انقطع بعد الثلاثين ورأيت علامة الطهر . طبعاً أول ما تسألها عن علامة الطهر فإذا رأت علامة الطهر وطهرت فلا إشكال فقالت طهرت يوماً ، ويومين وثلاثة هذه ثلاثة أيام طاهر لم تر فيها شيئاً ثم عاودها الدم بعد ذلك عشرة أيام تقول كالآتي :
إن كان هذا الدم الذي عاودكِ على صفة دم الحيض وميزتيه بصفة دم الحيض ، وهو مختلف عن الدم الأول فإنه حيض خاصة إذا وافق ماكانت تعتاده من أول شهرها أو منتصف شهرها على حسب عادتها.
وإن كان الذي عاودكِ ليس على صفة دم الحيض فالأصل أنك في النفاس واليقين أنك في النفاس فتضيفين عشرة أيام إلى الثلاثين الأول وتحكمي بطهارتك بعد اليوم الثالث والأربعين ، تعتبر طاهراً بعد اليوم الثالث والأربعين وتحكم بخروجها من النفاس في اليوم الثالث والأربعين ، كذلك لو أنها نفست عشرة أيام ثم طهرت يوماً وعاودها الدم يوماً ثم طهرت يوماً وعاودها يوماً ثم طهرت يوماً وعاودها يوماً فحينئذ تلفق الأيام وهذا يسميه العلماء مذهب التلفيق يعني تجمع المدة التي جاء فيها الدم دم النفاس متتابعة وتضيف الأيام المتقطعة حتى تتم لها أمد النفاس المعتبر هذا بالنسبة لما يتعلق بدم النفاس من حيث الإجمال .
بالنسبة لما يسمى بالولادة القيصرية :(56/6)
لو أن امرأة شق بطنها وأخرج الجنين من بطنها ولم يخرج معها دم ولم تنزف أو نزفت بعد ذلك فإذا أجريت هذه العملية ولم يخرج معها دم فلا إشكال كما لو ولدت بدون دم ، ولذلك قلنا إنها لو ولدت بدون دم فإنها طاهر .. والأصل طهارتها لكن لو أنها شق بطنها ثم نزفت فإنها تحكم بأنها فى حكم دم النفاس وغاية ما فيه أنه استتبع الولد فبدل أن يتبعه مع خروجه تبعه بدون خروج وأخرج بصفته الخاصة التي هي الولادة القيصرية هذا مجمل باختصار ما يتعلق بدم النفاس .
النوع الثاني من الدماء والذي يخرج مع المرأة : هو الذي ينصب عليه كلام العلماء ومرادنا وهو دم الحيض قلنا إن دم الحيض : دم يرخيه رحم المرأة ، فلما عرف العلماء دم الحيض بكونه خارجاً من رحم المرأة كأنه احتراز عن دم الرعاف .. الرعاف يخرج من الأنف ، واحتراز عن الدم المسفوح الذي يخرج من سائر البدن فلا يسمى حيضاً ، فهو دم يخرج من رحم المرأة ويخرج في أمد معتبر ألا وهو أيام عادتها كما قال صلى الله عليه وسلم : (( لتنظر الأيام التي كانت تحيضهن قبل أن يصيبها الذي أصابها )) ، وقال عليه الصلاة والسلام : (( امكثي قدر حيضتك)) فهو دم له زمان معتبر هذا الدم وهو دم الحيض قال بعض العلماء : إن الله أرسله على النساء منذ أن خلقهن فهو موجود في النساء منذ الخلقة.(56/7)
واستدلوا على هذا بقوله عليه الصلاة والسلام كما في الصحيح من حديث أم المؤمنين عائشة : " أنها كانت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع وكانت عائشة-رضي الله عنها-قد نوت العمرة بمعنى أنها كانت متمتعة ومعنى ذلك أنه لابد وأن تطوف وتسعى قبل حجها حتى تؤدي العمرة ففوجئت قبل أداء عمرتها وهي نائمة مع النبي صلى الله عليه وسلم أن الحيض قد أصابها فانفجعت وانسلت من الفراش فقال- عليه الصلاة والسلام - كما في الصحيحين :(( مالك أنفست)) يعني هل جاءك دم الحيض لأن دم الحيض يسمى نفاساً (( ما لك أنفست؟! ذاك شيء كتبه الله على بنات آدم اصنعى ما يصنع الحاج غير ألا تطوفي بالبيت)) قال بعض العلماء قوله :" ذاك يعني الدم الذي معك شيء كتبه الله على بنات آدم" قالوا يدل على أن النساء منذ أن خلقن وهن يبتلين بهذا الدم ، وقال جمع من العلماء : إن الله أرسله على نساء بني إسرائيل لما وقع الفساد منهن في العبادة حينما كن يجتمعن مع الرجال وهذا القول فيه أحاديث تكلم في إسنادها وضعف غير واحد من أهل العلم ثبوتها عن رسول الله صلى الله عليه وسلم هذا الدم وهو دم الحيض إذا جرى مع المرأة وكان على الأمد المعتاد فلا إشكال عندنا فيه لكن المشكلة إذا اختل فزاد عن العادة التي اعتادتها وزاد عن أكثر الحيض.
فحينئذ يرد السؤال : هل كل هذا الدم حيض فيمنع من الصوم أو الصلاة أم أن للحيض أمارات وعلامات ، وأمد معين نحكم بكون المرأة طاهراً بعده ، بعض النساء يبتدؤها الحيض فتمكث الشهر بكامله والدم يجري معها وتمكث الشهرين والثلاثة وقد تمكث السنة بكاملها تنزف ، واستحيض بعض النساء كما ثبتت في الأخبار على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم خمس سنوات وهي تنزف في كل يوم وهي تنزف .
فحينئذ يرد السؤال : هل هي حائض مدة عمرها ؟؟ هل تعتبر حائضاً ؟؟ وأن كل ما يخرج من رحم المرأة على هذا الوجه في غير الولادة نعتبره حيضاً ؟؟(56/8)
هذا هو الذي دعا العلماء أن يتكلموا على مسائل الحيض وأن يضبطوا مسائل الحيض حتى تستطيع المرأة أن تعرف متى هي طاهر ومتي هي حائض ، وتستطيع بعد ذلك أن ترتب الأحكام الشرعية المعتبرة لحيضها والمعتبرة لطهرها .
فإذاً لابد من وضع مسائل والكلام عليها وبيانها حتى يستطيع طالب العلم يستطيع إمام المسجد يستطيع الخطيب يستطيع المفتي يستطيع القاضي ؛ لأن القاضي يحتاج إلى مسائل الحيض في الطلقات والعدد وتعزير من يطلق أثناء الحيض ؛ لأن الذي يطلق أثناء الحيض يعزر ، يحتاج أن يعرف هل هي محكوم بطهرها أو غير محكوم بطهرها ، ثم يحكم ببلوغ المرأة وخروجها من اليتم كونها يتيمة إلى كونها بالغة ، إلى غير ذلك من المسائل المفتي نفسه تأتية المرأة وهي حائض حائر تريد أن تعرف حكم الله عز وجل هل هي في طهرها أم في حيضها فهذه المسائل قد تكون معقدة بعض الشيء ؛ لكن سلوان من يجلس في مجالس العلم ويستمع إلى هذه المسائل سلوانه أن الله يسمعه ويراه فيكتب أجره ويثيبه ، والعلم ثقيل قد يمل طالب العلم وقد يقول ما هذه المسائل ؛ لكن سيأتي يوم وتحس بقيمة هذه المسائل وتشعر بأن لهذه المسائل منزلة فوالله كنا نجلس في مجالس العلماء ونسمع بعض المسائل نستغرب من ذكرها ومر ببعضها مرت علينا في بعض الأيام أننا احتجنا إلى هذه المسائل أشد الحاجة وأذكر مسألة من المسائل أنني مررت عليها في بداية طلب العلم حدثت بسببها مشكلة كادت أن تفضي إلى فتنة ؛ ولكنّ الله سلم بكلمتين أو ثلاث في هذه المسألة ، فطالب العلم لا يستقل العلم ولا يسأم من العلم فكم من أناس هم في علوم الدنيا ؟؟يصبرون ويكافحون ويسهرون الليالي ؟؟ ولكن طالب العلم أحق بالصبر والضبّط والتحمل ثم هذا من الدين قد تسألك عنه البنت ، قد تسألك عنه الأخت ، وقد تسألك عنه الزوجة ، وقد تسأل عنه الأم وقد تسأل عنه الجارة ، وتسأل عنه القريبة فما أعظم أجرك وثوابك عند الله سبحانه وتعالى إن بينت لها(56/9)
المرأة تأتيك حائرة ، ولذلك هناك صنف من النساء يسمى المتحيرة ويسمى بالمحيرة لأنها حيرت العلماء وتحيرت في نفسها فهذه المسائل كما ذكرنا تحتاج إلى شيء من الصبر وعلى طالب العلم أن يصبر ولكن لضبطها لذة وسيجد طالب العلم عند إلمامه وفهمه لها أن لها منزلة وأن لها مكانة ولها شأن ولا يستقل طالب العلم من العلم شيئاً .
نحتاج أولاً إلى بعض المسائل التي نمهد بها : من المعلوم أن المرأة وهي في الصغر ، وهي صغيرة لا تحيض الحيض إنما يكون علامة على البلوغ ولذلك أجمع العلماء على أن المرأة إذا خرج معها دم الحيض يحكم ببلوغها ، قال الناظم :
وكل تكليف بشرط العقل مع البلوغ بدم أو حمل
فقوله"مع البلوغ بدم" : هو دم الحيض فلو أن جارية رأت الدم فإننا نحكم ببلوغها بشرط ونحكم بكون الدم حيض بشرط أن تصل إلى السن المعتبر للحيض وهذا هو الذي يسميه العلماء بمسألة ما هو أقل سن تحيض فيه المرأة .. فإذاً حتى ندخل بالتدرج إلى المسائل.
نحتاج أن نعرف متى تحيض المرأة ؟؟ ومتى يحكم بكون الدم الذي معها دم حيض حتى نبحث في المسائل الفروع المترتبة على ذلك؟؟
فلو سئلت عن جارية عمرها ست سنوات جرى معها الدم تقول هذا دم استحاضة وليس بدم حيض لأنها دون سن المحيض ، ولو سئلت عن جارية عمرها سبع سنوات ، أو ثمان سنوات جرى معها دم الحيض الدم؟؟
فتقول هذا ليس بحيض وإنما هو استحاضة لا يحكم بكونها بالغة بهذا الدم إذاً أقل سن تحيض فيه المرأة تسع سنين فتبحث في مسائل الحيض بالنسبة للنساء إذا بلغت تسع سنين فما بعد ما قبل التسع محكوم بكونه دم استحاضة لا يترتب عليه ما يترتب على دم الحيض .(56/10)
قالت أم المؤمنين عائشة وهذا الأثر عمل به جماهير العلماء رحمهم الله ، قالت أم المؤمنين عائشة : " إذا بلغت الصبية تسع سنين فهي امرأة"يعني تأهلت للحيض ولو رأت الدم معها في هذه السن فإنه محكوم بكونه دم حيض كذلك المرأة في التسع سنين تتأهل فقد ثبت في الصحيح : " أن النبي صلى الله عليه وسلم أنه عقد على عائشة وهي بنت ست سنوات ودخل بها وهي بنت تسع سنين" ، وهذا ثابت بالصحيح فقوي أثر أم المؤمنين عائشة مع فعل النبي صلى الله عليه وسلم ، وقال الإمام الشافعي رحمه الله وهو من أئمة السلف وفي العصور التي شهد بفضلها بلسان رسول الله صلى الله عليه وسلم قال -رحمه الله برحمته الواسعة- : " أعجل من رأيت - أعجل يعني لايسبقه شئ - أعجل من رأيت في الحيض نساء تهامة " يعني الحجاز وجدت جدة ابنة احدي وعشرين سنة بنت إحدى وعشرين سنة وهي جدة لأنه دخل بها زوجها وهي بنت تسع سنوات ففي السنة فولدت حملت ، وولدت فهي في العاشرة ثم هذا الذي حملت البنت الصغيرة أضف إليها تسع سنوات بعد العشر أصبح عمر أمها تسعة عشرة سنة فتزوجت ثم حملت ثم استتمت بدخولها في الإحدى والعشرين صارت أمها جدة وهذا يتركب من تسع سنين فقال : " أعجل ".(56/11)
ومعنى ذلك : أنه ليس قبل تسع سنوات حيض ، وإنما قال : " نساء الحجاز" وخصهن لمكان الحرارة فالنساء في المناطق الحارة أعجل بالحيض من المناطق الباردة ، الشاهد أنه دل الأثر والطبع والشرع على قوة هذا القول ، ومن هنا قالوا ما قبل التسع محكوم بكونه دم فساد وعلة ، بعد أن عرفنا أن أقل سن تحيض فيه المرأة هو تسع سنين إذا بلغت الجارية تسع سنين ورأت الدم فإنها يحكم ببلوغها إذا خرج معها الدم ، كما يحكم ببلوغ الرجل إذا أنزل المني فإذا رأت الدم وهي بنت تسع سنين وانقطع دون أكثر الحيض يعني مضى معها الدم عشرة أيام وانقطع مكث معها الدم تسعة أيام وانقطع .. ثمانية أيام سبعة أيام ستة أيام وانقطع فإنها حائض مدة هذا الدم ، وبمجرد خروج الدم منها تحكم ببلوغها مكلفة فلو قتلت تقتل ، ولوحصل منها ما يحصل من البالغ من التكاليف بعد خروج الدم معها حكم ببلوغها وأخذت حكم البالغ .
فهذا فائدة ما ذكرناه من كون العلماء :
يبحثون مسألة ما هو أقل الحيض حتى يرتبوا ويبنوا على ذلك أن ما عجل وما سبق هذا الأمد لا يحكم فيه بكونه دم حيض ، ولا يأخذ حكم دم الحيض إذا مكث معها الدم كما قلنا ستة أيام أو سبعة أيام أو ثمانية أيام أو عشرة أيام وانقطع فلا إشكال .
لكن المشكلة الآن عندنا لو أنه خرج معها الدم وهي بنت تسع سنين دفعة واحدة : يعني حاضت وخرج معها الدم دفعة واحدة خلال ثلاث دقائق ثم انقطع ، أو خرج معها الدم نصف يوم وانقطع ، أو خرج معها الدم أربعة وعشرين ساعة أوخرج يوماً وليلة وانقطع ، أو خرج معها يومين وانقطع ، أو خرج معها ثلاثة أيام وانقطع .
يرد السؤال : ما هو أقل الحيض .. ؟؟
هل لدم الحيض هي بالغة الآن تحكم بكونها بالغة بشرط أن تجاوز أقل الحيض يعني هل للحيض حد أقلي أم أن كل دم تراه وهي بنت تسع سنين يحكم بكونه حيضاً ؟(56/12)
المسألة كما ذكر العلماء رحمهم الله وهي مسألة ما هو أقل الحيض ؟؟ هل للحيض حد أقلي أو ليس له حد أقلي وإذا كان له حد أقلي فما هو ؟؟
فائدة ذلك : أنها إذا بلغت سن الحيض ورأت الدم إن كنت تشترط أمداً معيناً فتقول لا أحكم بكونها حائضاً ولا بالغاً إلا إذا جاوزت هذا الحد الأقلي .. مثال بعض العلماء يقول : أقل الحيض يوم وليلة وهو مذهب الشافعية والحنابلة يقولون أنه ما قل عن اليوم والليلة فليس بحيض البتة ولو جاء حتى في زمن الحيض فليس بحيض فإذا بلغت تسع سنين عند هؤلاء لا يحكم ببلوغها بمجرد رؤية الدم وإنما ينتظرون حتى تتم أربعاً وعشرين ساعة والدم يجري معها فإذا أتمت هذا الحد الذي هو اليوم والليلة والدم يجري معها حكم ببلوغها بمجاوزة الدم للأربع وعشرين ساعة ، وتكون بالغة بمجرد خروج الدم منها ؛لكن ينتظرون الحكم إلى استتمام أقل أمد الحيض وإلا فهي بالغة منذ انفجار الدم منها .
قال بعض العلماء في هذه المسألة : ليس للحيض حد أقلي فإذا بلغت تسع سنين ورأت الدم وهو زمن الحيض فإنها حائض وليس عندي حد أقلي لأقل الحيض ، هذا مذهب المالكية وطائفة من السلف ، واختاره شيخ الإسلام ابن تيمية والظاهرية أيضاً يقولون بهذا القول أنه ليس لأقل الحيض حد معتبر .
وقال بعض العلماء : لأقل الحيض حد معتبر وهو اليوم والليلة هذا القول الثاني للشافعية والحنابلة ، ويقولون ما قل عن اليوم والليلة فليس بحيض .
والحنفية يقولون : أقل الحيض ثلاثة أيام فلو أن المرأة حاضت يوماً أو يومين فليست بحائض ، لو أن المرأة جرى معها الدم ليوم أو يومين فليست بحائض لابد عندهم ثلاثة أيام متتابعة يجري معها الدم.(56/13)
والصحيح أنه ليس لأقل الحيض حد معتبر إذًلم يثبت لا في الكتاب ولا في السنة حديث يدل على أن أقل الحيض محدد بحد معين ، وهذه المسألة تعم بها البلوى ولا يخفى أنه لو كان لأقل الحيض أمد لحده الله في كتابه أو على لسان رسوله محمد صلى الله عليه وسلم ، ولذلك بين شيخ الإسلام رحمه الله أن المرأة إذا بلغت سن الحيض وجرى معها الدم ولو دفعة واحدة أنها حائض على هذا عرفنا أنه ليس لأقل الحيض حد معين فنحكم ببلوغ المرأة بمجرد خروج الدم منها بشرط أن تبلغ سن الحيض إذا بلغت سن الحيض حكمنا ببلوغها إذا جرى معها الدم وألغينا الاعتداد بالأشهر .
يعني لو أن المرأة عقد عليها رجل وهي ابنة ست سنين خمس سنوات أربع سنوات أو حتى وهي صغيرة في مهدها جاء لوالدها وقال زوجني بنتك فلانه .. قال زوجتك فلانه بعشرة آلاف ريال واتفقوا وذكر ماهو وتم العقد ، فالعقد صحيح وهي زوجة ولو كانت في مهدها ، ثم لما بلغت تسع سنوات إلا شهراً طلقها هذه المرأة لو فرض أنها طلقت وبلغت مثلاً سبع سنوات وخلى بها وجلس معها وعاشرها وجلس معها سواء أصابها أو لم يصبها كما لو كان صغير السن خلى بها حتى تأخذ حكم المدخول بها فلما خلى بها في التاسعة رأت الدم طلقها قبل استتمام تسع سنين بشهر فإذا طلقت قبل استتمامها تسع سنين بشهر وقد دخل بها وخلى بها وهو في سنها وهو في سبع سنوات ثمان سنوات أو رجلاً خلا بها فالشاهد أنها تعتد بالأشهر وتكون عدتها بالأشهر لكنها برؤيتها للدم تلغي الشهر الأول وتعتد بدم الحيض ففائدة الحيض في أمرين :
أولاً : البلوغ وإلغاء الاعتداد بالأشهر ؛ لأن الله جعل عدة الأشهر للآئي لم يحضن فالنساء اللاتي لم يحضن هن اللاتي تكون عدتهن بالأشهر مثل الصغيرة مثل المرأة التي انقطع عنها الدم ، واليائسة التي يأست من المحيض أو انقطع عنها لعذر قبل بلوغ سن اليأس .(56/14)
عرفنا الآن هذه المسائل المتعلقة بدخول المرأة في الحيض وهي صغيرة ، طيب افرض أن هذه المرأة إذا مكثت ثمانية أيام تسعة أيام حكمنا بكونه حيضاً ولا إشكال عندنا لكن لو أن الدم استرسل مع هذه المرأة حتى جاوز أكثر الحيض وبقي الدم معها شهراً .. وشهرين وثلاثة وأربعة فهل هي حائض .
يرد السؤال : ما هو أقصى الحيض ؟؟ ما هو أقصى أمد الحيض وأكثر الحيض ؟؟
وذكرنا هذه المسألة وذكرنا أن مذهب الجمهور : أن أقصى أمد الحيض هو خمسة عشرة يوماً .
ويخالفهم الحنفية في المسألتين .. فالحنفية عندهم أن أقل الحيض ثلاثة أيام وأكثر الحيض عشرة أيام ، ويستدلون بحديث ضعيف وتكلم عليه الحافظ ابن حجر رحمه الله ، وكذلك أيضاً ذكر الزيلعي وبين ضعفه الإمام ابن الجوزي في العلل المتناهية والموضوعات أن أقل الحيض ثلاثة أيام وأكثره عشرة أيام وهو حديث ضعيف .
لكن إذا قلت أكثر الحيض خمسة عشرة يوماً هذه امرأة سألتك وقالت عمرها تسع سنوات وجرى معها الدم شهراً كاملاً فما حكمها..؟؟
قالت لك إلى الآن والدم يجري معي وقد تم لي شهر أو شهران أو ثلاثة تقول إذا جرى معك الدم وقد بلغت التسع سنين حكمنا ببلوغك بجريان الدم هذه الفائدة الأولى .
الفائدة الثانية : ما هو أكثر الحيض الذي إذا جاوزتيه يحكم بكونك مستحاضة خمسة عشر يوماً بعد الخمسة عشرة يوماً أنت طاهرة بلا إشكال لكن يبقى النظر في الخمسة عشر يوماً هذه هل نحكم بكونها حائضاً في كل الخمسة عشرة يوماً أو في بعضها دون البعض ؟؟
بعد الخمسة عشر يوماً بالإجماع طاهر يعني بعد الخمسة عشر يوماً إذا جاءتك في اليوم الخامس عشر تقول لها الآن تصومين وتصلين بالإجماع ؛ لكن الإشكال هل ما دون الخمسة عشرة يوم كله حيض ؟؟
أم أن بعضه حيض دون البعض هذا النوع من النساء جواب هذا السؤال يحتاج إلى بيان أمور :(56/15)
أولها : أن هذا النوع من النساء يسميه العلماء بالمبتدئة ، والمرأة المبتدئة هي التي ابتدأها الحيض يعني أنها حاضت لأول مرة فالمبتدئة إذا رأت ثلاثة أيام أربعة أيام عشرة أيام ما عندنا إشكال لكن الإشكال إذا جاوزت أكثر الحيض فبعض من العلماء يقول إذا جاوزت أكثر الحيض فهي إما أن تميز الدم وإما أن لا تميزه.
كيف تميز الدم الخمسة عشر يوماً هذه التي مضت معها..؟؟
إن رأت علامة تعرف بها دم الحيض وتميزه حكمت بكونها حائضاً مدة الدم المميز دون باقيه : مثال جرى معها هي الآن لأول مرة يجري معها دم الحيض جرى معها ستة أيام والدم أحمر شديد الحمرة مؤلم حارق من صفات دم الحيض ، وبعد اليوم السادس خفت حمرته وذهب الألم أو ذهب الحرق الذي يكون معها مع دم الحيض من علاماته فلم تر ألماً في بقية الأيام كلها فنفهم أن الله جعل لها هذه العلامة وهي اختلاف اللون ، فاللون الشديد حيض واليوم الخفيف استحاضة .
الأيام التي فيها ألم حيض والأيام التي لا ألم فيها استحاضة ، فهي حائض في مدة الدم الأحمر شديد الحمرة ، ومستحاضة في الأيام الباقية طاهر تصوم وتصلي فلو سألتك تقول لها كالآتي :
إن كان عندك تمييز - يعني خلال خمسة عشرة يوماً- وجاءك الدم على صفات مختلفة تستطيعين أن تجعلي مثلاً الخمسة الأيام الأول كان الدم فيها شديد الحمرة أو الدم فيها أصفر ثم جاءها أكدر فإن الخمسة الأول حيض والباقي استحاضة فتحكم بكونها حائضاً في الأول دون الآخر هذا ما يسمى بالتمييز .(56/16)
دليله قوله عليه الصلاة والسلام : " لما سألته المستحاضة قال عليه الصلاة والسلام : (( إن دم الحيض دم أُسود يُعرف)) وقوله : (( يُعرف)) يعني يميز ، وقال بعض العلماء : يُعرف له عرف ورائحة ففي الخمسة الأيام الأول كانت رائحته كريهة كرائحة دم الحيض ، وباقي الأيام لا رائحة له هذه العلامات إذا وجدت ما عندنا إشكال نحكم بكونها يلزمها الرجوع إليها فالمرأة لما تسألك لأول مرة وتقول هي مستحاضة وجرى معها الدم الشهر والشهرين تقول ما دمت جاوزت أكثر الحيض فلست بحائض بعده وإنما ننظر فيما قبل في الخمسة عشرة يوماً إن كان عندك تمييز باللون أو الألم أو الرائحة أو الكثرة أو الغلظ و الرقة التي هي علامات التمييز :
باللون والريح وبالتألم …وكثرة وقلة ميز دم
"باللون والريح وبالتألم وكثرة وقلة ميز دم " : لما قالوا باللون يعني لون الدم أحمر ثم أصفر ، أحمر ثم أكدر ، أصفر ثم أكدر إلى الخضرة تقريباً كالماء العكر ، فتقول أيام شدة لونه حيض ، أيام خفة لونه استحاضة باللون.
"والريح " : دم الحيض له ريحة كريهة يعرفها النساء ستة أيام رائحته كريهة والباقي دون ، تقول هو حيض في أمد الرائحة الكريهة دون ما بعدها باللون والريح.
"وبالتألم " : ستة أيام بألم الباقي لا ألم فيه ، تقول أيام الألم أيام حيض والباقي استحاضة .
"وكثرة وقلة ميز دم" وبعضهم يقول : "وغلظ ورقة ميز دم " : غلظ الدم ثخانتة ورقته خفته فستة أيام وهو غليظ والباقي رقيق ، أو ستة أيام وهو فيه ثقل ثم بعد ذلك خف ، تقول هي حائض في أمد الثقل دونما بعدها هذه قاعدة التمييز.
إذن نخرج بخلاصة : وهي أن المرأة إذا بلغت سن الحيض وجاوز حيضها أكثر الحيض الخمسة عشرة يوماً إن كان عندها تمييز ورأت أشياء من العلامات التي ذكرناها وميزت بها دم الحيض قلنا الحكم أن ترجع إلى تمييزها أن ترجع إلى التمييز .(56/17)
لكن لو جرى معها الدم بلون واحد أو جرى معها بصفة واحدة فحينئذ يرد الإشكال عند العلماء هل نقول إنها حائض مدة خمسة عشرة يوماً فلا تصوم ولا تصلى ويلزمها قضاء الأيام الخمسة عشر من رمضان هذه التي أفطرت فيها أم أننا نردها إلى أقل الحيض ..؟؟
هذه فائدة أقل الحيض : فالذين يقولون إن أقل الحيض يوم وليلة يقولون: ما دام أن دمها جاوز أكثر الحيض فإننا قد استيقنا أنه استحاضة فنردها إلى يقين الحيض عندنا وهو اليوم والليلة والباقي كله استحاضة ، وحينئذ يقولون أنها حائض في اليوم والليلة وتأخذ حكم الحائض في اليوم والليلة وما بعده استحاضة .
والصحيح أنها ترد إلى غالب الحيض .
هذه المسألة تشعبت فيها أقوال العلماء بعض العلماء : يقول أردها إلى عادة أمهاتها وأخواتها وقريباتها ، وقال بعض العلماء : نردها إلى عادة لداتها وأترابها اللدة والترب هي التي في سن المرأة في نفس الوسط والمجتمع الذي تعيش فيه .
فلو كانت عادة أمهاتها تنظر إلى قرابتها فالغالب في قراباتها من أخواتها أنهن يحضن خمسة أيام فيقول أحكم بكونها حائضاً والزائد استحاضة ؛ لأن الدم والعرق والأصل واحد فالغالب أنه لايختلف ، فأردها إلى غالب حيض نسائها هذا معنى أنه ترد إلى عادة نسائها.
وبعض العلماء يقول: أردها إلى لداتها وأترابها يعني شبيهاتها في السن في نفس الوسط والمجتمع الذي تعيش فيه.
والسبب في هذا الاختلاف أنه لا يوجد نص عن النبي صلى الله عليه وسلم في مسألة هذا النوع بعينه .(56/18)
لكن الصحيح أن النص موجود وهو حديث الحسن-الذي سيأتي إن شاء الله في الباب الذي يلي هذا الباب-وهو حديث حسنه الإمام البخاري وصححه غير واحد من العلماء ، وفيه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : (( تحيضي في علم الله ستاً أو سبعاً)) أو : قيل بأنها بمعنى الواو أي تحيضي سبعة أيام ؛ لأن المرأة في الغالب أن تحيض ستة أيام أو سبعة أيام ، وعلى هذا نقول إن الحديث قاعدة وعلى ذلك ترد إلى الست أو السبع الذي هو غالب حيض النساء ، والثمانية أيام الباقية من الخمسة عشر يوماً كلها استحاضة.
إذن خلصنا أو خرجنا بمسألة في المبتدئة : إذا جاوز حيضها أكثر الحيض قلنا أنها مستحاضة بعد الخمسة عشرة يوماً بإجماع العلماء ، وأما دون الخمسة عشرة يوماً منهم من يردها لليوم والليلة ومنهم من يردها إلى الثلاثة الأيام كالحنفية أقل الحيض ، ومنهم من يردها إلى عادة أمثالها ، ومنهم من يردها إلى عادة نسائها .
والصحيح أنها ترد إلى ست و سبع على ظاهر الحديث والخبر .
الآن عرفنا بالنسبة للمبتدئة في الشهر الأول ننتقل إلى النوع الثاني هذا إذا ميزت ننتقل إلى النوع الثاني وهو المعتادة المرأة حاضت وهي بنت تسع سنين الشهر الأول ستة أيام الشهر الثاني ستة أيام الشهر الثالث ستة أيام فنقول إنها لما مر عليها الحيض ثلاثة أشهر متتابعة بمعنى واحد فإن معنى ذلك أن الأيام المذكورة هي حيضها وحينئذ في الشهر الثالث نحكم بكونها معتادة هذا النوع الثالث من النساء .
عرفنا المبتدئة وحكمها وعرفنا المميزة .
وكيف تميز ننتقل إلى النوع الثالث وهي المعتادة :
المعتادة : هي المرأة التي عاودها دم الحيض ثلاثة أشهر متتابعة بعدد معين لم يختلف لا نقصاً ولا زيادة فتحكم بكونها معتادة في الشهر الثالث وتجعل هذا قاعدة لها مالم تتغير عادتها .(56/19)
مثال : لو أن امرأة حاضت وهي بنت تسع سنين سبعة أيام في الشهر الأول ثم سبعة أيام في الشهر الثاني ثم سبعة أيام في الشهر الثالث ، ثم بعد ذلك في الشهر الثالث سألتك تقول عادتك سبعة أيام فلو أنها في الشهر الرابع جرى معها الدم شهراً كاملاً أو نزفت أو أصبح الدم مسترسلاً تقول حيضك سبعة أيام هذا فائدة المعتادة .
أنه إذا عاودها الدم يشترط :
أولاً : أن يعاودها بعدد معين .
ثانياً : أن يستمر ثلاثة أشهر ثابتاً .
ثالثاً : الدليل على أن المعتادة ترجع إلى عادتها قوله عليه الصلاة والسلام : (( امكثي قدر حيضتك)) ما معني هذا الحديث المرأة لما جاءت تشتكي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم الدم ، قالت : " يا رسول الله إني أستحاض فلا أطهر أفأدع الصلاة ؟ كما في حديث فاطمة-رضي الله عنها-: تقول الدم يجري معي تقول هل أنا حائض طيلة جريان الدم قال : (( لا ! إنما ذلك عرق وليس بالحيضة فامكثي قدر حيضتك)) وفي رواية : (( قدر ما كانت تحبسك حيضتك)) فدل على أنه إذا مضى الحيض على أمد معين أو عدد معين ثلاثة أشهر حكمنا بكونها معتادة مدة الثلاثة أشهر ، ثم بعد ذلك اذا استمرت سبعة أيام سبعة أيام ما تسألك المرأة إذا استمر الدم على وتيرة واحدة لا تسألك لكن تسأل إذا اختلت عادتها فزادت على السبعة أيام أو نقصت عن السبعة الأيام تقول كالتالي :(56/20)
إن زادت على السبعة أيام وجاوزت أكثر الحيض فحيضها سبعة أيام ولا إشكال وإن جاوزت السبعة الأيام ومرت ثلاثة أشهر بعدد معين كأن تكون زادت يومين فأصبحت تسعة أيام الشهر الأول ثم الشهر الثاني تسعة أيام ثم الشهر الثالث تسعة أيام ماذا تقول ؟ تقول انتقلت من السبع إلى التسع وحيضها تسعة أيام ، فلو أنها حملت ثم بعد الحمل وضعت وارتبكت عادتها فأصبح الدم بعد النفاس يعني بعد أن انتهت من نفاسها وطهرت وجاءت تحيض اختل حيضها فأصبحت تنزف تقول ارجعي إلى عادتك قبل الحمل فحينئذ إذا اختل حيضها تردها إلى أيام عادتها هذا إذا زادت والزيادة ثابتة.
لكن إذا نقصت لو أن حيضها سبعة أيام ثم فوجئت في شهر جاءها خمسة أيام فإن جاءها خمسة أيام وانقطع وجاوزت أقل الطهر فقد دخلت في حيضة ثانية إذا جاءها بعد ذلك ثم تنتظر الشهر الثاني إن جاء خمسة أيام والشهر الثالث إن جاءها خمسة أيام نقول إنها انتقلت من السبع إلى الخمس كما تحكم بالانتقال في الزيادة تحكم بالانتقال في النقص لكن بشرط أن تمضي أقل الطهر وأقل الطهر ثلاثة عشرة يوماً .
كيف أقل الطهر..؟؟
يعني لو أنها مضى معها خمسة أيام ثم انقطع وبعد ثلاثة أيام عاودها الدم تضيف إلى العدد الأول ؛ لأنها لم تجاوز أقل الطهر بين الحيضتين حتى تحكم بكونها دخلت في حيضة ثانية فتلفق هذا الدم وتضيفه إلى الحيضة الأولى وهذا فائدة ما يذكره العلماء من مسألة أقل الحيض مرة ثانية إذا كانت قد نقصت من أيام عادتها.(56/21)
عندنا مشكلة فقط في مسألة ما هو أقل الطهر فتحتاج لأنه إذا انقطع دون خمسة أيام تلفق الأيام وتضيفها لو عاودها انقطع لخمسة أيام في اليوم السادس رأت الطهر السابع طهر الثامن طهر التاسع حيض فقال عليه الصلاة والسلام : (( إنما اقضي لكم على نحو مما أسمع)) هذا يدل على أن قضاء القاضي لا يحل حلالاً ولا يحرم حراماً ، إذا كان الأصل يخالفه على هذا في حقوق العباد يلزمه وحق الله ، (( ودين الله أحق أن يقضى)) كما ثبت في خالصحيح فيفرع جمهور العلماء على أننا ظننا في الأول أن هذين اليومين استحاضة لكن لما تتابعت ثلاثة أشهر وهي بعدد معين تحققنا أنها حيض وحينئذ يلزمها فصومها في تلك الأيام واقع على غير صفة شرعية فلا يحكم بصحته فتلزم بالقضاء .
وهذا مذهب طائفة من العلماء وهو أصح أقوال أهل العلم رحمهم الله أن المعتادة إذا انتقلت بالزيادة أنه تلزم بقضاء ما صامت من أيام حينما كانت تحكم بطهرها بعد تمام عادتها ، والله تعالى أعلم .
ملاحظة : نعتذر عن عدم الكتابة بسبب أنه يوجد نقص في الشريط في الإسئلة .
- ? - ? - ? - ? - الأسئلة - ? - ? - ? - ? -
يقول : يقول الله- جل وعلا- : {وَمَا أُمِرُوا إِلاَّ لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ }(1).
فضيلة الشيخ : الإخلاص بالنسبة للأعمال كالروح بالنسبة للجسد والمسلم محتاج إلى الإخلاص دائماً فهل من نصيحة تحثنا بها على الإخلاص لله عز وجل وأهميته ؟؟
الجواب :(56/22)
هذا سئم من الحيض ومسائل الحيض وهو سؤال طيب ولطيف في هذا الوقت نختم به هذا المجلس .. أحب الأعمال إلى الله وأزكاها وأعظمها أجراً عند الله سبحانه وتعالى ما أخلص فيه العبد لوجهه وأراد به ما عند الله ، وما طابت الأقوال و الأعمال إلا بإرادة وجه الله الكريم ومن عرف الله بأسمائه وصفاته أحبه ومن أحب الله هابه ، وكل شيء إذا تقربت منه ربما أنه تقل حرمته وتذهب هيبته إلا الله سبحانه وتعالى فكلما ازددت من حبه وعبادته وإرادة وجهه كلما ازددت من هيبته والخوف منه لذلك قال سبحانه وتعالى :{ إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ}(1) لما عرفوه بأسمائه وصفاته وحكمه وأحكامه عرفوا قدره سبحانه وتعالى وقدروه حق قدره فخافوا منه فأصابتهم الخشية لله سبحانه وتعالى ولا قيمة للقول ولا للعمل إلا إذا عرف العامل والقائل ربه فأراد ما عند الله والدار الآخرة :{ تِلْكَ الدَّارُ الآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لاَ يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الأَرْضِ وَلاَ فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ}(2) شهد الله أن من أراد وجهه أن العاقبة له وأن من أراد ما عند الله ربحت تجارته وعظمت غنيمته ، وهل أفلح السلف الصالح-رحمهم الله برحمته الواسعة- فبقيت علومهم وأقوالهم ونصائحهم ومواعظهم كأنها كتبت بالأمس القريب بل كأنها كتبت في هذه الساعة ، تضيء للسائلين وتهدي باذن الله الحائرين إلى مرضاة رب العالمين ، وفي ذلك من الأجر ما الله به عليم ، كل ذلك بفضل الله ثم بالإخلاص .
المتكلمون كثير والوعاظ كثير ومن ينصح كثير ولكن من يريد وجه الله قليل ، وقليل من عبادي الشكور قليل من يخلص وقليل من يريد وجه الله وقليل من إذا أراد أن يتكلم أو يعمل العمل نظر في قلبه هل يريد وجه الله فيقدم أو يريد غير الله فيحجب .(56/23)
كان بعض السلف إذا قيل له حدثنا يمتنع ويقول : "حتى تأتى النية" أي حتى أعلم ما الذي أريده من هذا الحديث ، وتأذن الله -جل وعلا-لمن أراد وجهه بطيب هذا العلم وبركته فأزكى الناس وأعظم الناس فلاحاً في هذا العلم من أراد وجه الله عز وجل ولم يرد به رياءً ولا سمعة ولا ثناء ، وإنما أراد به وثواب الله والدار الآخرة ولذلك قال بعض العلماء : كم من عمل قليل كثّرته النية ، فالأعمال تطييب بالإخلاص والله سبحانه وتعالى إذا نظر إلى عبده وهو أمام الناس وفي خلوته لا يختلف حاله لا يريد إلا ما عند الله ولا يريد إلا وجه الله زكى الله قوله وعمله وأصبح كلامه يخرج من لسانه إلى قلوب الناس ، وأصبحت مواعظه ونصائحه وتوجيهاته تلامس شغاف القلوب فيحي الله بها سبحانه وتعالى الموات ويهدي بها المؤمنين والمؤمنات ويعظم بها الأجور والحسنات إنا لا نضيع أجر من أحسن عملاً الله أكبر إذا أردت وجه الله سبحانه وتعالى فكنت لا تقدم ولا تؤخر إلا وأنت تريد ما عند الله فتلقت الملائكة أقوالك وأفعالك وخطتها في الصحائف ، خطها ملائكة حافظون لا يغشون ولا يكذبون ولا يزورون ولا يفترون أمناء حافظون يعلمون ما تفعلون ، خطت لك في صحائف الأعمال وكتبت لك في صحائف الأقوال ورأيتها أمام عينيك لا تفقد منها حرفاً ولا قيل :{ يَوْمَ لاَ يَنْفَعُ مَالٌ وَلاَ بَنُونَ - إِلاَّ مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ}(1) فقلت : " يا رب أريد وجهك" وسألك الله ماذا تريد بهذا العلم الذي تطلبه وبهذه المجالس التي حضرتها وهذه الكلمات التي سمعتها فقلت : " يا الله أريد وجهك وأريد ما عندك" فقال الله : صدقت ، وقالت الملائكة صدقت -نسأل الله العظيم رب العرش الكريم بأسمائه الحسنى وصفاته العلا أن يجعلنا ذلك الرجل-.(56/24)
كل منا يتفقد ما في قلبه هل يريد وجه الله أو يريد غير الله ، وكل يوم يمر عليك وأنت في طلب العلم تنطق في قلبك وما الذي يعتبه العبد على ربه فالله أحياك وأنت ميت لولا أن الله أحياك ، والله أغناك وأنت فقير : (( يا عبادي كلكم ضال إلا من هديته فاستهدوني أهدكم .. يا عبادي كلكم جائع إلا من أطعمته فاستطعموني أطعمكم .. يا عبادي كلكم عار إلا من كسوته فاستكسوني أكسكم )) اللهم إنا نستهديك ونستكسيك ونسألك اللهم من القول والعمل ما يرضيك .. العبد في أكمل الحاجة وأشد الحاجة إلى الله سبحانه وتعالى ولن يستطيع أن يجد على الله أي تقصير منه سبحانه وتعالى ، نعم تغدق عليه في الصباح والمساء فكيف يريد غير وجه الله ، وما الذي وجدوا عند غير الله حتى يريد غير وجه الله ويترك الله-- جل جلاله -- إلى غير الله ؟هل وجد غير الله أغنى من الله ؟ هل وجد غير الله ينفعه من دون الله ؟ ما الذي يجده الإنسان إذا مدحه المادحون وأثنى عليه المثنون وليست له كرامة عند الله -- جل جلاله -- ؟ ما الذي يجزي الإنسان إذا لم تكن له عند الله - - عز وجل -- منزلة سقطت منزلته لما نظر الله إلى قلبه وفيه إرادة غير وجهه فيه الدنيا وحب الرياء وحب السمعة والمراد قضاء الأوقات وإلهاء الأوقات ولا يريد وجه الله -- جل جلاله -- - اللهم إن نسألك العافية- .
وينبغي على طالب العلم :
أن يوطن نفسه وأن يحاول قدر استطاعته على أنه لا يتكلم في هذا العلم ولا يعمل ولا يكتب ولا يسمع إلا وهو يريد ما عند الله - اللهم إنا نسألك علماً نافعاً وقلباً خاشعاً اللهم أؤمن بالعافية وغدوناً وأصالنا واختم بالسعادة آجالنا إنك ولي ذلك والقادر عليه- .
وَآخِرُ دَعْوَانَا أَنِ الحمَْدُ لِلَّهِ رَبِّ العَالَميْنَ وصلَّى اللَّهُ وسلَّم وبارك على عبده ونبيَّه محمد وعلى آله وصحبه أجمعين(56/25)
بسم الله الرحمن الرحيم
قال المصنف - رحمه الله -: بَاب مَا جَاءَ فِي الْمُسْتَحَاضَةِ
حَدَّثَنَا هَنَّادٌ حَدَّثَنَا وَكِيعٌ وَعَبْدَةُ وَأَبُو مُعَاوِيَةَ عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ:" جَاءَتْ فَاطِمَةُ بِنْتُ أَبِي حُبَيْشٍ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَتْ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنِّي امْرَأَةٌ أُسْتَحَاضُ فَلاَ أَطْهُرُ أَفَأَدَعُ الصَّلاَةَ ؟ قَالَ:(( لاَ إِنَّمَا ذَلِكَ عِرْقٌ وَلَيْسَتْ بِالْحَيْضَةِ فَإِذَا أَقْبَلَتِ الْحَيْضَةُ فَدَعِي الصَّلاَةَ وَإِذَا أَدْبَرَتْ فَاغْسِلِي عَنْكِ الدَّمَ وَصَلِّي)).
الشرح:
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين وصلى الله وسلم وبارك على خير خلق الله أجمعين وعلى آله الطيبين الطاهرين ومن سار على نهجهم واهتدى بهديهم إلى يوم الدين أما بعد :
فلا زال الحديث موصولاً بأحكام الحيض وقد ذكرنا في المجلس الماضي جملة من الأحكام والمسائل المتعلقة بهذا الباب المهم وبقيت بعض الأمور التي ينبغي التنبيه عليها حتى يتمكن طلاب العلم من معرفة الأحكام المتعلقة بباب الحيض كان حديثنا في المجلس الماضي عن دم الحيض وعن دم النفاس ذكرنا ضوابط كل من الحيض والنفاس وقلنا إن الدماء التي تخرج من النساء ، إما أن تكون دم نفاس أو دم حيض أو دم استحاضه ذكرنا أن دم النفاس له أحوال وأنه يكون بعد الولد وما سبق الولد فليس بنفاس وما كان بعد الولد حددنا أكثره وكيفية الحكم بانقطاعه ثم تكلمنا على مسألة الجنين إذا وُلد بدون دم وقلنا إنه يحكم للمرأة بالطهارة ، وانتقلنا بعد ذلك إلى الحيض وذكرنا أن النساء ينقسمن إلى معتادة ومميزة ومتحيرة .(57/1)
فأما بالنسبة للمعتادة : فقلنا إن المرأة إذا عاودها الدم ثلاث مرات بعددٍ واحد فإنه يحكم بكونه عادة لها وأنه ينبغي عليها إذا اختل الدم معها أن ترجع إلى هذا العدد الذي ألفته وعرفته قبل أن يختل الدم عليها وذكرنا أمثلة لذلك .
ثم انتقلنا بعد هذا إلى النوع الثاني وهي المرأة المميزة : وقلنا أن النساء يعرفن دم الحيض بأوصافٍ جعلها الله -تبارك وتعالى- دلائل عليه وذكرنا صفة اللون والرائحة والألم والغلظ والكثرة بعد أن عرفنا المعتادة والمميزة وأن المعتادة ترجع إلى عادتها ، وأن المميزة ترجع إلى التمييز .
يرد السؤال: ما هي الأدلة التي دلت على أن كلاً من المعتادة والمميزة ينبغي عليها أن ترجع إلى العادة والتمييز؟
نبدأ بالمعتادة :
المرأة المعتادة يجب عليها إذا اختل حيضها أن ترجع إلى عادتها لثبوت السنة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه لما استفتته المرأة وهي مستحاضة قد اختل دمها أمرها أن ترجع إلى عادتها وردَّها إلى ماكانت تألفه قبل اضطراب الدم معها.
أما الدليل الأول : فحديثنا حديث فاطمة بنت أبى حبيش -رضى الله عنها-وفيه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : كما في رواية الصحيح:(( دعي الصلاة قدر ما كانت تحبسك حيضتك)) ، وفي رواية:((دعي الصلاة قدر الأيام التي كنت تحيضين)) فيها هذا النص يدل على أنها ترجع إلى عدد من الأيام .
هناك نص ثان : أيضاً وهو ثابت في صحيح مسلم من حديث أم حبيبة بنت جحش -رضي الله عنها وأرضاها- وهي إحدى النساء المستحاضات اللاتي كنَّ على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم واشتكين من دم الاستحاضة قال عليه الصلاة والسلام :(( امكثي قدر ما كانت تحبسك حيضتك )) هذا الحديث يدل على أن أيام العادة التي كانت تحبس المرأة أنه ينبغي الرجوع إليها عند اضطراب الدم .(57/2)
الدليل الثالث : حديث أم سلمة -رضي الله عنها وأرضاها- في السنن أن امرأة كانت تُهراق الدماء -يعني يجري معها دم الحيض- ويستمر معها الدم ولا ينقطع فاستفتت لها رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال عليه الصلاة والسلام والرواية صحيحة حتى إن بعض أهل العلم يقولون إنها على شرط الشيخين قال عليه الصلاة والسلام :(( لتنظر الأيام والليالى التي كانت تحيضهنَّ قبل أن يصيبها الذي أصابها)) إذاً هذه ثلاثة نصوص صحيحة عن النبي صلى الله عليه وسلم كلها تدل على أن المرأة إذا اشتكت من اختلال الدم معها أنه ينبغي ردها أولاً إلى عادتها وإلى الشيء الذي كانت تألفه من الأيام والليالى فتعتد هذا القدر وتعمل به .
إذا ثبت عندنا أن عدد الأيام إذا ثبت ثلاثة أشهر متتابعة بمعنى واحد وأصبحت المرأة معتادة أنها تلزم بالرجوع إلى هذه العادة قلنا إذا استقرت العادة لا إشكال كانت تحيض سبعة أيام وبقي الدم معها سبعة أيام دون اختلال هذا لا إشكال فيه.
إن أضطربت ، إما أن تضطرب بالزيادة ، وإما أن تضطرب بالنقص تضطرب بالزيادة كانت عادتها سبعة أيام ففوجئت في شهر من الشهور وإذا بالدم يجري معها ثمانية أيام وينقطع ثم جاء الشهر الثاني ثمانية أيام وانقطع ثم جاء الشهر الثالث ثمانية أيام وانقطع فعلمنا أن حيضها أنتقل من السبعه الأيام إلى الثمانية الأيام هذا تغير بالزيادة ، تغير بالنقص كانت عادتها كما ذكرنا سبعة أيام ففوجئت في شهر من الشهور وإذا بها تحيض خمسة أيام أو تحيض ستة أيام فانتقص العدد ثم الشهر الثاني خمسة أيام كذلك والشهر الثالث خمسة أيام إذاً نقول قد انتقصت عادتها وأصبحت منتقلة من السبعة أو الثمانية إلى الخمس أو إلى العدد الجديد الذي نقصت إليه العادة.
عندنا سؤال آخر :وهو العادة نأمر المرأة بالرجوع إليها مطلقاً أم أن هناك ضابط معين عند اختلال الأيام..؟؟(57/3)
في بعض الأحوال يأتي الدم للمرأة يوماً ثم ينقطع وترى يوماً كاملاً طهراً ثم يأتي اليوم الثالث الدم ثم ينقطع في اليوم الرابع ثم يأتي في اليوم الخامس وينقطع في السادس .
السؤال: هل نقول للمرأة المعتادة إنها تعتد بالأيام بحسابها ونُدخل الأيام التي لادم فيها مع الأيام التي فيها الدم..؟؟
مثال ذلك : سألتك امرأة كانت عادتها ستة أيام فقالت لك إنه جاءها الدم اليوم الأول وانقطع في اليوم الثاني وعاودها في الثالث وانقطع في الرابع وعاودها في الخامس وانقطع في السادس وعاودها في السابع واستمرت يوماً دم ويوماً طهر .. يوماً دم ويوماً طهر .. فما الحكم ؟؟
بعض العلماء يقول تسألها أولاً وتقول: كم عادتك؟ قالت: ستة أيام فبعض العلماء يقول: ترجع إلى الستة الأيام وتحسب أيام النقاء من الحيض فيصبح على هذا القول الأول يرى أنها تلزم بالعادة حتى في اليوم الذي لا دم فيه يحسب من الحيض فيكون خروجها من الحيض بعد استكمال اليوم السادس هذا على القول الأول.
القول الثاني: يقول لا ، يوم الدم محسوب ويوم النقاء طهر ، فتلفَّق الأيام حتى تبلغ عدد عادتها فاليوم الأول يوم حيض لا تصومه ولا تصلي ، واليوم الكامل الذي رأت فيه الطهر هذا تعتبر فيه طاهرة تصوم وتصلي وتفعل ما تفعله الطاهرة وتلزمها العبادات ، واليوم الثالث إذا عاودها الدم في هذه الحالة نفس الحكم هي حائض حتى تخرج في اليوم الثاني عشر على هذا القول الثاني ؛ لأنه يلفَّق الأيام وهذا القول هو الأقوى لأن الشرع علق الحكم على وجود الدم : (( فإذا أقبلت الحيضة)) كما قال صلى الله عليه وسلم :(( فدعي الصلاة)) فحينئذ إذا وجد الدم فالحكم ثابت بالحيض وأنها في حكم الحائض وإذا لم يوجد الدم حكمنا بطهرها .(57/4)
في بعض الأحيان ترى الدم اليوم الأول ، واليوم الثاني والثالث لا ترى دماً ثم اليوم الرابع ترى الدم واليوم الخامس والسادس لا ترى والسابع ترى فتنتقل في الطهر من اليوم إلى اليومين فتقول نفس الحكم سواء وقع التخلل بيوم طهراً أو بيومين أو بثلاثة فحينئذٍ نحكم بكونها حائضاً في وجود الدم ، وليست بحائض وهي طاهرة إذا لم يوجد الدم هذا بالنسبة للمعتادة أحببنا أن ننبه أن النص دل على الرجوع إلى العدد بوجود الدم .
هناك مسألة ثانية : أيضاً بالنسبة للمعتادة عرفنا أن هناك معتادة يأتيها الدم ولا ينقطع سبعة أيام على عادتها ستة أيام على عادتها ولا إشكال ، وأن هناك معتادة يأتيها الدم يوماً وينقطع يوماً أو يومين أو ثلاثة.(57/5)
هناك نوع ثالث من المعتادة: وهي التي تكون عادتها بالأشهر مضطربة يأتيها الشهر الأول ستة أيام والشهر الثاني سبعة أيام ثم يأتيها الشهر الثالث ستة أيام والشهر الرابع سبعة أيام الشهر الخامس ستة أيام ، الشهر السادس سبعة أيام هذا نوع آخر من المعتادة وتكون عادتها بالشهرين اعتادت أنها في شهر ستة ، وفي شهر سبعة في شهر ستة ، وفي شهر سبعة وتستمر على ذلك ستة أشهر حتى يثبت تجَّزء عادتها بهذا الشكل فتقول هذه معتادة ويلزمها أن ترجع للعدد بحسابه ، فحينئذ تصبح في الشهر الأول ستة أيام والشهر الثاني سبعة أيام فإذا جاءها الشهر الثالث والرابع بنفس الشيء وجاء الخامس والسادس بنفس الشيء حكمنا بكونها معتادة بعد الشهر السادس يعني ثبت عندنا أن لها عادة تضطرب بهذا الشكل كما أن العادة تتجزأ بالأيام كذلك بالأشهر ، أيضاً قد تكون بالثلاثة الأشهر الشهر الأول خمسة الشهر الثاني ستة الشهر الثالث سبعة ، الشهر الأول خمسة والثاني ستة والثالث سبعة ، يصبح في هذا تعطيها ثلاثة أشهر ففي الشهر التاسع يثبت لها عادتها إذا تجزأت بهذا الشكل ثم تدخل في مسائل متفرعة وبحور من العلم على حسب القواعد التي أثبتتها السنة يعنى هناك مسائل لا نستطيع أن ندخل فيها ؛ لكن يكفي عندنا هذا القدر أن الضابط عندنا أن يأتي الدم بوتيرة واحدة وبضابط واحد سواء اتصل بمعنى واحد كما يقول العلماء ، أو دخلته أيام الطهر والنقاء فيوم الدم حيض ويوم الطهر طهر ، سواء كان هذا اليوم الذي تخلل يوماً واحداً أو أكثر من يوم ما لم يبلغ أقل الطهر ، كذلك أيضاً تكون عادتها بالأشهر ثم هذه الأشهر تتجزأ فقد تكون شهراً ستة وشهراً سبعة ثم بعد ذلك يكون شهره الأول على الست والشهر الثاني على السبع إذا ثبت أن عادتها بالشهرين وقد يثبت بالثلاثة الأشهر وعليه نكون قد انتهينا إجمالاً من مسائل المعتادة ننتقل بعد ذلك إلى المميزة .(57/6)
المميزة قلنا هي المرأة التي تعرف حيضها من استحاضتها بألوان الدم أو برائحته أو بالألم أو بغلظه فهذه أمارات وعلامات تدل على دم الحيض وتميزة من الاستحاضة ، فلو جاءتك امرأة وقالت لك : إن دم الحيض يجري معي ستة أيام بألم ثم ينقطع عني الألم و الدم مسترسل بلون واحد وهذا الألم أعرفه في الحيض وليس لها عادة فتقول أيام الألم حيض وأيام فواته استحاضة هذا بالنسبة للمميزة .
يرد السؤال : بنفس الضوابط التي ذكرناها في المميزة يرد السؤال ماهو الدليل على أن المرأة ترجع إلى التمييز وعلامات الدم وأماراته ..؟؟
والجواب : أنه ثبت في الحديث عنه عليه الصلاة والسلام وصححه غير واحد من العلماء أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في المستحاضة :(( إن دم الحيض دم أسود يُعرف فإذا كان ذلك فأمسكي عن الصلاة)) فدل على أن دم الحيض له لون وله رائحة ؛ لأن في رواية :(( يَعرُفُ)) أي له عرف ورائحة فأخذ العلماء من هذا أن المرأة ترجع إلى حيضها وتحكم بكونها حائضاً إذا عرفت وميزت الدم وألوان الدماء ذكرنا منها الأسود والأحمر ، وأيضاً الأصفر ، والأكدر ؛ لأن الصفرة والكدرة على الصحيح أنها تعتبر حيضاً لحديث أم عطية-رضي الله عنها وأرضاها-:"كنا لا نُعد الصفرة والكدرة بعد الطهر شيئاً على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم " ولأثر أم المؤمنين عائشة في صحيح البخاري:" أنه كان النساء يبعثن إليها بالدرجة فيها الكرسف فيه الصفرة والكدرة من دم الحيض" فيه الصفرة من دم الحيض فتقول :" انتظرن لاتعجلن حتى ترين القصة البيضاء" من النساء من حيضها باللون الأحمر ، ومنهن من حيضها باللون الأسود ، ومنهن من حيضها باللون الأصفر والأكدر وهو مثل الماء الكَدَر ، وكذلك أيضاً الأخضر ، وكذلك التربي على خلاف فيه الأكدر ، ولكن التربي هو اللون الأخيرفهذه ستة ألوان ذكرها العلماء في لون دم الحيض .(57/7)
إذا عرفنا الآن المرأة النفساء والمرأة الحائض سواء كانت معتادة أو كانت مميزة ، وقلنا إذا كانت المرأة الحائض معتادة أو مميزة لا إشكال نردها إلى عادتها أو نردها إلى تمييزها ، ولكن المشكلة لو أن أمرأة كانت لها عادة ثم أغمي عليها أو مثلاً حملت ثم وضعت وارتبكت عندها عادتها فجاءت تسأل وقالت : إني أستحاض يعني أن دم الحيض يجري معي ولا أعرف هل طهرت أو لم أطهر فما الحكم ؟؟
تقول لها ما هي عادتك قالت نعم كانت لي عادة ولكني نسيتها ، إذا نسيت المرأة العادة نحن الآن أثبتنا أن العادة لها حكم .
فيرد السؤال : لو أن هذه المرأة نسيت عادتها ..؟؟
في بعض الأحيان العادة فيها أمران لابد من التنبه لهما العادة لها عدد ، ولها وقت المرأة تكون لها عادة ستة أيام إذا كان لها عادة ستة أيام تقول عادتها من حيث العدد ستة ؛ لكن أيضاً لها عادة من جهة وقت الحيض فالستة هذه دائماً تأتيها في أول الشهر أو دائماً تأتيها في النصف الأخير من أول الشهر أو دائماً تأتيها في النصف الأول من أوسط الشهر الثاني أو دائماً تأتيها من آخر الشهر ، فإذاً تكون العادة بالعدد وتكون بالمكان فالمرأة الناسية لحيضها وعادتها إما أن تنسى العدد فلا تدري كم عدد عادتها ؟ وإما أن تنسى مكان العدد؟ فإذا كانت ناسية للعدد لها حكم ، وإذا كانت ناسية لمكان العدد لها حكم.
والقسمة العقلية تقتضي الآتي :
أولاً : أن تكون ذاكرةً لعددها ومكانها وهذه لا إشكال فيها. ثانياً : أن تكون ناسيه لعددها ومكانها يعني ناسية بالكلية. ثالثاً: أن تكون ناسية للعدد ذاكرة للمكان. رابعاً : أن تكون ذاكرة للعدد ناسية للمكان .
فالقسمة العقلية تقتضي هذه الأربعة الأمور:
إما أن تكون ذاكرة لعدد العادة ومكان العادة تقول عادتي ستة أيام في بداية كل شهر فالحكم لا إشكال أنها ترجع إلى عادتها وتُلزم بالستة وحيضها الستة من بداية كل شهر .(57/8)
الحالة الثانية : أن تكون ناسية لعدد عادتها ومكانها ، يعني لا تدري هل هي في أول الشهر أو في آخر الشهر حيضها ثم لاتدري أيضاً كم عدد عادتها ، إذا أصبحت ناسية بالكلية وتحيَّرت يسمونها المتحَّيرة أو المَحَيرة فهذه أصح أقوال العلماء أنها ترد إلى غالب حيض النساء ستة أيام أو سبعة أيام .
والدليل على ذلك -سيأتينا إن شاء الله-في الحديث عنه عليه الصلاة والسلام وصحح غير واحد من العلماء إسناده ، وممن قال بصحته وثبوته الإمام البخاري رحمه الله حيث سئل عنه فقال:" إنه حديث حسن" وفيه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال للمرأة المستحاضة لماّ اشتكت له:(( تحيضي في علم الله ستاً أو سبعاً )) : ((تحيضي في علم الله ستاً أو سبعا)) أي أنت حائض إما ستة أيام أو سبعة أيام إذا استطاعت أن تفرق في الدم ولو تفريقاً يسيراً بحيث تجزم أنها من ذوات الست أو من ذوات السبع أو ترجع إلى قريباتها أمهاتها أخواتها أو أمثالها في السن فإما ست ، وإما سبع الذي هو غالب حيضهن ، إذا ثبت هذا تصبح الناسية والمتحيرة التي لا تذكر عدد عادتها ولا مكانها تقول لها تحيضي ستاً أو سبعاً لما قُلت تحيضي ستاً أو سبعاً قد جئتَ بالعدد ولم تأت بالمكان طيب ستة أيام من بداية الشهر ، أم ستة من منتصف الثاني ، من منتصفة الأول أم ست من منتصف الثاني ، وهل هي في أوله أو آخره لأن تعرفون أن الشهر ثلاثون يوماً على الأصل يكون ثلاثين يوماً ، ويكون تسعة وعشرين .
الثلاثين تنقسم إلى قسمين:(57/9)
نصف الشهر خمسة عشر يوماً الخمسة عشر يوماً في غالب حيض النساء تنقسم إلى قسمين فأصبح نصف الشهر الأول إما أن تتحيض ستاً في أوله أو ستاً في آخره فإذا قلت ستاً في أوله أو سبعاً في أوله فمن أول الشهر إلى اليوم السابع ..وسبعاً من أوسط الشهر الأول يصبح من اليوم الثامن إلى اليوم الخامس عشر وهكذا بالنسبة للنصف الثاني إما أن تبتدىء من خمسة عشر وتحسب سبعة أيام ، وإما أن تبتدىء من ثلاثة وعشرين وتحسب سبعة أيام أو اثنين وعشرين وتحسب سبعه أيام طيب .
السؤال الآن : الحديث يقول :((تحيضي في علم الله ستاً أو سبعاً)) المرأة التي عندها المشكلة نسيت العدد ونسيت المكان فهل الست و السبع تكون من أول الشهر أو تكون من آخره ..؟؟
أصح الأقوال في هذه المسألة أنها تتّحيض ستة أيام أو سبعة أيام من أول الشهر ؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال لها : ((تحيضي ستاً أو سبعاً ثم صلي)) فأمرها بالصلاة بعد الحيض فدل على أنها في حكم الشهر تكون من أوله ؛ لأنه هو الأصل وعلى هذا تحكم بحيضها في أوله ثم الباقي تصليه وتحكم بطهارتها هذه هي المرأة التي نسيت عدد العادة ونسيت مكانها.
ننتقل إلى النوع الثالث : طبعاً هذه المرأة التي نسيت عدد العادة ومكانها نحن قلنا أصح الأقوال فيها لثبوت السنة ؛ لكن هناك تفصيلات للعلماء وخلاف يطول يبنى على الاجتهاد منهم من يردها إلى عادة أمثالها ، ومنهم من يردها إلى عادة أمهاتها وأخواتها وقريباتها ، ومنهم من يردها إلى عادة من في سنها في نفس البلد إلى غالب عادتهن المهم أن أصح الأقوال هذا حتى لا يلتبس على طالب العلم إذا سمع أقوالاً أُخر.(57/10)
ننتقل إلى النوع الثالث : وهي التي نسيت عدد عادتها وعرفت المكان العدد نسيته ؛ ولكن المكان تذكره فتقول عادتي نسيت كم هي ولكنني أذكر أنني كنت أحيض من بداية كل شهر أو أذكر أن حيضي كان يبتدأ معي من منتصف الشهر فحينئذ إذا كانت تذكر مكان العادة هناك صورتان -يعني الله يعينكم على التفصيل-:
الحقيقة هناك صورتان:
الصورة الأولى: إذا قالت لك أنا ناسية للعدد ولكنني أذكر المكان إذا قالت لك أذكر المكان قد تجزم وتقول لك من بداية الشهر فحينئذ لا إشكال تجعل الستة والسبعة ؛ لأنها نسيت العدد فتردها إلى غالب حيض النساء وهو الست والسبع لثبوت السنة فتستعين بعد الله بالعدد الذي وردت فيه السنة تعويضاً عن العدد الذي نسيته فالست والسبع تأمرها أن تبتدتها من بداية الشهر ؛ لأنها ذكرت المكان هذا إذا ذكرت المكان قالت لك من بداية الشهر من منتصف الشهر لا إشكال .
الصورة الثانية: لكن هناك نوع ثاني تقول لك أنا أذكر أنها في بداية الشهر لا في النصف الأول من الشهر لكن لا أدري هل هي في نصف نصفه الأول أو في نصف نصفه الثاني ؟! تعرفون الخمسة عشر يوماً الأولى تقول هي في الخمسة عشر يوماً الأولى لكن لا أدري هل هي في السبع الأول أو في السبع الثاني فحينئذ يعني هي متأكدة أنها في النصف الأول ولكنها تشك هل هي في أوله أو في آخره؟؟
فتقول في هذه الحالة تُرجع إلى ماذا ؟؟ إلى الأصل وهو الأول،فإن انقلبت إلى آخر الشهر وقالت لك أنا متأكدة أنها في النصف الثاني من الشهر ولكن لا أدري أهي في السبع الأول منه أم في السبع الأخر ؟؟
تقول تحيضي السبع الأول من النصف الثاني ؛ لأن كما ذكرنا من السنة جعلت الحيض أولاً ثم جعلت بعده الطهر والنقاء هذا بالنسبة للتي نسيت العدد وعرفت المكان.(57/11)
هناك نوع أخير وهو الرابع : وهي التي عرفت العدد ولم تعرف مكانها هل هو في أول الشهر أو آخره طبعاً هذا النوع من النساء الدم يجري معها يعني مستمر معها ما تستطيع يعني يمضي معها الدم قد يستمر مع المرأة الدم يمكن تستحاض ثلاث سنوات ، أو أربع سنوات والدم يجري معها بهذه الطريقة وقد يستمر معها ثلاثة أشهر أربعة أشهر، فنحن نتكلم في امرأة يستمر معها الدم ولا ينقطع ؛لأنه إذا انقطع لدون أكثر الحيض ليس هناك إشكال وقد ذكرنا هذه المسألة ، هذا النوع الرابع تقول أنا ذاكرة للعدد ولكنني ناسية لمكانه أنا أعلم أن حيضي ستة أيام ولكنني لا أدري هل هي في أول الشهر أو آخر الشهر فما الحكم ؟؟
الدم يجري معها طيلة الشهر تقول تحيضي بالست التي هي من عادتكِ في أول الشهر ، وهذا هو حيضك إذا علمت العدد وجهلت مكانه ألزمت بأول الشهر وذلك على ظاهر الحديث الذي ذكرناه معنا وبهذا نكون قد انتهينا من مسائل الحيض في المرأة المعتادة والمرأة المميزة والمرأة الناسية والمتحيرة ، وهذا كله بالإجمال وإلا فمسائل يعني تحار فيها العقول تفريعات والمسائل هناك تفصيلات طويلة ولا نحب أن نشوش بها لأن محلها كتب الفروع ؛ لكن هذه أشبه بالضوابط وبالأصول التي غالباً ما تقع عليها المسائل .
يبقى السؤال عندنا في النوع الثالث والأخير عرفنا دم النفاس ، وعرفنا دم الحيض وبقى عندنا دم الاستحاضة هذه ثلاثة دماء التي ذكرناها النفاس والحيض والاستحاضة.(57/12)
بالنسبة للاستحاضة : ضابطها الدم الذي يجري في غير أوانه الأوان هو الزمان والميقات ، عندنا المعتاد في النساء إذا خرج معها يخرج معها دم النفاس إذا ولدت ويخرج معها دم الحيض إذا كانت حامل ، إذا كانت حاملاً فدمها الذي يكون بعد وضعها لولدها وإذا كانت حائلاً فدمها دم الحيض هناك نوع ثالث هو دم الاستحاضة .. والذي نريد أن نتكلم عليه الآن هذا النوع من الدماء وهو دم الاستحاضة يخالف النفاس والحيض فكل دمٍ من غير نفاسٍ ولا حيضٍ هو استحاضة .. فكل دم من غير نفاس ولا حيض فهو استحاضة ، بناءً على هذا إذا قلنا المرأة الحامل لا تحيض فأي دم ترخيه وهي حامل تقول استحاضة تصوم وتصلي وتأخذ حكم الطاهرة سواءً بسواء يعني من حيث وجوب الصلاة عليها ، وجوب الصيام والأحكام المعروفة هذا إذا قلنا إن الحامل لا تحيض ؛ لأنه لم يبق فيها إلا دم الاستحاضة والنفاس دم النفاس لا يأتيها إلا بعد الوضع فأصبح الدم الذي يسبق الوضع هو دم استحاضة .
في الحيض يكون دم الاستحاضة في الحيض : إما قبل العادة ، وإما بعد العادة دم الاستحاضة المرأة الحائض التي لها عادة إما أن يسبقها وإما أن يتأخر عنها ، فمثلاً المرأة عادتها سبعة أيام من بداية كل شهر سواءً بالعادة أو بالتمييز له أوصاف معينة فجاءها قبل بداية الشهر وقبل أيامها التي اعتادت أن يأتيها الحيض سبقها فنزف معها الرحم هذا النزيف ليس فيه صفات دم الحيض وليس في وقت الحيض فحينئذ نحكم بكونه استحاضة .
كذلك أيضاً يأتي بعد العادة عادتها ستة أيام فمضت ستة أيام تنتظر علامة الطهر إمارة انقطع بها الحيض ليس هناك أي علامة ثم استرسل الدم إلى اليوم الثامن والتاسع والعاشر والحادي عشر إلى آخر الشهر ماذا نقول ؟؟(57/13)
نقول الست حيض والباقي استحاضة ، إذاً دم الاستحاضة لماّ عَّرفه العلماء وقالوا رحمهم الله :هو جريان الدم في غير أوانه ، أي أنه إما أن يسبق العادة وإما أن يتأخر عنها ، وإما أن يسبق الولادة ، كأن تنزف المرأة وهي حامل على القول بأن الحامل لا تحيض ، وإما أن يكون بعد تمام أمد الولادة دم النفاس أربعون يوماً مضي عليها أربعون يوماً ثم استمر الدم فوق الأربعين ولم تر علامة الحيض نقول ماذا ؟؟ هي طاهر بتمام الأربعين والزائد على ذلك استحاضة إذاً دم الاستحاضة يمكننا أن نقول إنه دم فساد وعلة كما يقول بعض العلماء دم الإستحاضة دم فساد وعلة،ولذلك قال صلى الله عليه وسلم في الحديث عنه لماّ ذكر الاستحاضة :(( إنما ذلك عرق انقطع )) فقوله ((انقطع)) قيل هذا في حال النزيف أو داء عرض لها أو داء أي مرض .. أي ناشئ عن مرض أو علة في المرأة سار معها هذا النزيف ولذلك يكون النزيف في أعلى الرحم فلا تشعر بالألم بخلاف الحيض يكون الألم من قعر الرحم فتشعر بالدم وهذا الذي جعل بعض العلماء يجعل الألم علامة من علامات الحيض أن دم الاستحاضة من أعلى الرحم ، ولذلك قال :((إنما ذلك عرق انقطع)) وكذلك قال :(( أو داء عرض لها أو ركضة من الشيطان )) ، أو ركضة من الشيطان -وسيأتي إن شاء الله بيان معاني هذه الجمل- ، الشاهد أن دم الاستحاضة بهذه الصفات عليه إذا رأت المرأة الطهر علامة الطهر ثم جاءها الدم بعد ذلك وقد تمت لها عادتها نقول هذا دم استحاضة إذا سبق العادة دم استحاضة، إذا ميزت ورأت دم الحيض بأوصافه ثم اختلت الأوصاف فالأوصاف المختلة تعتبر دم استحاضة -بالنسبة لمباحث الاستحاضة ومسائلها سيكون إن شاء الله الحديث عنها من خلال حديثنا الذي معنا- وهو حديث فاطمة بنت أبي حبيش -رضي الله عنها وأرضاها- تقول أم المؤمنين عائشة -رضي الله عنها -جاءت فاطمة بنت أبي حبيش إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم هذا الحديث يعتبره العلماء -رحمهم(57/14)
الله- أحد الأحاديث المهمة التي انبنت عليها مسائل الحيض ، ولذلك يقولون للحيض أحاديث هي قواعد له يعني أصول انبنت عليها مسائل الحيض ولذلك تفرَّع على هذا الحديث مسائل في الحيض ومسائل في موانع الحيض.
فقولها -رضي الله عنها -"جاءت فاطمة بنت أبي حبيش": فاطمة إحدى النساء اللاتي كن مبتليات بالاستحاضة على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ":وقد عدَّهن بعض العلماء وهن بنات جحش وهن ثلاث نسوة بنات جحش ، وفاطمة هذه التي معنا ، وزينب بنت أبي سلمة وهي الربيبة التي كانت في حَجَر النبي صلى الله عليه وسلم ؛ لأنه تزوج أمها أم سلمة بعد وفاة زوجها أبي سلمة ، وأسماء بنت عميس زوجة أبي بكر الصديق رضي الله عن الجميع وكذلك سهلة بنت سهيل العَامرية ، وكذلك أيضاً بادية بنت غيلان الثقفية، وآخر هن زينب ، التي ذكرهن تسعة ثلاث من بنات جحش وفاطمة بنت أبي حبيش ، وسودة بنت زمعة أم المؤمنين -رضي الله عنها وأرضاها- ، وكذلك أيضاً زينب ربيبة رسول الله صلى الله عليه وسلم وأسماء بنت عميس ، وسهلة بنت سهل العَامرية ، وبادية بنت غيلان الثقفية هذه تسع نسوة :
………بنات جحش سودة وفاطمة
هؤلاء كم خمس بنات جحش ثلاث وسودة الرابعة والخامسة فاطمة بنت أبي حبيش التي معنا .
زينب وأسماء سهلة وبادية
وزينب التي هي ربيبة رسول الله صلى الله عليه وسلم أسماء وهي أسماء بنت عميس سهلة والبادية بنت غيلان الثقفية فنظمها ، بعض العلماء بهذا النظم:
بنات جحش سودة وفاطمة
زينب وأسماء سهلة وبادية
وهؤلاء النسوة هن اللاتي اشتهرن بالاستحاضة على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم .(57/15)
قولها -رضي الله عنها -"جاءت فاطمة بنت أبي حبيش إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ": قلنا فيه دليل على مشروعية خروج المرأة طلباً للفتوى والسؤال وخروجها للحاجة ، وقد كان خروجها هنا لحاجة دينية فيجوز لها أيضاً خروجها لحاجة دنيوية كما في أمره عليه الصلاة والسلام للمرأة المحتدة أن تخرج من بيتها لتجَّد نخلها لأيتامها وتكتسب رزقها وطعامها ، يشترط في ذلك أمنها من الفتنة.
والأصل يقتضي عدم جواز خروج المرأة إلا من حاجة لقوله-تعالى-:{ وَقَرْنَ فيِ بُيُوتِكُنَّ ولاَ تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ اْلجْاَهِلِيَّةِ اْلأُولىَ }(1) قال العلماء رحمهم الله إن الله سبحانه وتعالى جمع للمرأة في حكم هذه المسألة بين صيغتين بين صيغة الأمر بالشيء والنهي عن ضده فقال-سبحانه-:{وَقَرْنَ} ثم قال نهياً عن ضده : {ولاَ تَبَرَّجْنَ } فأنت إذا قلت للشخص اقعد فإنه يمتثل أمرك بالقعود لكن تقول له ولا تقم فإنك أكدت عليه أن يجلس وأن يقعد وهذا أبلغ ما يكون في الإلزام له قالت -رضي الله عنها وأرضاها- جاءت فاطمة بنت أبي حبيش إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ":والسبب في مجيئها أن مسائل الحيض غالباً ما تحتاج المرأة بنفسها أن تسأل خاصة إذا التبس عليها الأمر فيصعب أن تسأل بواسطة فأحبت أن تباشر السؤال بنفسها ، وهنا يقول العلماء لا يسمع غير صوتها عند الاستيفتاء إلا من حاجة إذا وجدت الحاجة فإنه لا بأس بسماع صوتها ؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم منع المرأة من الكلام والفتح على الإمام إلا أن يكون فتحها بالتصفيق الأمر الذي يدل على أن الأصل في صوت المرأة ألا يسمعه الرجل ؛ لأن الله جبل الرجال على الميل إلى النساء والفتنة بأصوات النساء ، وقد يكون الرجل من حيث طبيعته وجبلته يتأثر بصوت المرأة ولذلك حُفظ النساء عن إيقاع غيرهن وأذية غيرهن من هذا الوجه .(57/16)
قالت -رضي الله عنها -وأرضاها- فقالت :"يا رسول الله": كما قلنا قولها "يا رسول الله " يدل على الأدب أثناء السؤال وأثناء الفتوى وأن المنبغي للمسلم إذا سأل العالم أو سأل من يستفتيه أن يتأدب عند السؤال بندائه بما يليق به تعظيماً لشعائر الله عز وجل ؛ لأن من حمل كتاب الله وسنة النبي صلى الله عليه وسلم وعُرف بعلمه له حق على عامة المسلمين وخاصتهم فيتأدب في سؤاله ، وقد راعت-رضي الله عنها وأرضاها-الأدب مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في خطابه فلم تقل يا محمد ، وإنما قالت:" يا رسول الله " ، وقد قال الله عز وجل :{لا تَجْعَلوُا دُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضًا}(1)فنهى أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم أن يجعلوا خطاب رسوله – عليه الصلاة والسلام -كخطاب سائر الناس ولذلك نجد أئمة الإسلام وأهل الحديث-عليهم رحمة الله ورضوانه أجمعين-حينما يذكرون في الكتب يقولون قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا يقولون قال محمد بن عبد الله وهو كذلك محمد بن عبد الله ؛ ولكن يذكر بالرسالة ويذكر بالنبوة ؛ لأن الله ناداه بذلك فقال :{ يا أيها الرسول} ، وقال :{ يا أيها النبي } فهذا يدل على أنه ينبغي رعاية الحرمة والتأدب معه ، وقد جُبلت الناس بطبائعها وفطرها السليمة أنه إذا نودي من له فضل وله مكانة وله منزلة إذا نودي باسمه أن هذا يعتبر من التحقير له وأن هذا فيه غض من مكانته وانتقاصاً لقدره ، ولذلك كان الصحابة -رضوان الله عليهم- يراعون هذا حتى قال أبو شُريح خويلد بن عمرو الخزاعي رضي الله عنه وأرضاه الصحابي الجليل يخاطب عمرو بن سعيد وهو يفعل فعلته العظيمة المنكرة التي لا تُرضي الله ورسوله حينما بعث البعوث إلى مكة فقال له رضي الله عنه :" ائذن لي أيها الأمير" فلم يخاطبه كما خاطب الناس ،وهذا يدل على أنه ينبغي للإنسان أن يراعي ما عليه الفطرة المستقيمة من إنزال(57/17)
الناس منازلهم وحسن الأدب معهم إذا خاطبهم .
وقولها -رضي الله عنها -" يا رسول الله إني امرأة أستحاض فلا أطهر": هذه الكلمة أستحاض هناك السين والتاء ومادة حيضة والعرب تزيد السين والتاء للتأكيد والزيادة في المعنى ؛ ولأن القاعدة تقول : " الزيادة في المبنى تدل على الزيادة في المعنى" فأنت إذا قلت استقر الشئ فإنك قد أكدت قراراً ، ولذلك يقولون إن قولها "أستحاض "معناه أن الحيض له عدد وأمد معين كما ذكرنا فقالت" استحاض"أي أن حيضي يستمر معي فكأنها ظنت وتوهمت -رضي الله عنها -أنه مادام الدم يجري معها فلا تصلي .
فقالت "يا رسول الله إني أستحاض فلا أطهر": وقولها "فلا أطهر" الطهر هو النقاء يقال طهر الشئ إذا نظف كان نقياً ؛ لكن لما قالت "فلا أطهر "هذا له سبب وهو أن المرأة تخرج من حيضها بأمارة وعلامة تعرف بعلامة الطهر ، وعلامة الطهر هي القصة البيضاء والقصة البيضاء ماء أبيض كالجير ؛ لكن يقول له شبه بالفضة ويأتي عند آخر الحيض أو انقطاع الحيض وتعرف به المرأة انقطاع حيضها .(57/18)
أما الدليل:على اعتبار هذه العلامة أو علامة الطهر فقول أم المؤمنين -رضي الله عنها-في صحيح البخاري كان النساء يبعثن إليها- أم المؤمنين عائشة-رضي الله عنها وأرضاها- الفقيهة الصديقة بنت الصديق-رضي الله عنها وعن أبيها- "كان نساء الصحابة يبعثنَّ إليها بالدرجة" تقول رواية البخاري "كنَّ يبعثن إليها بالدرجة فيها الكرسف فيه الصفرة من دم الحيض "ما معنى هذه الجملة "كنَّ يبعثن إليها بالدرجة" الدرجة هي الخرقة "فيها الكرسف " الكرسف هو القطن "فيه الصفرة "يعني كانت المرأة كانت تريد أن تستفتي عائشة -رضي الله عنها - هل الدم الذي معها دم حيض أم دم استحاضة فماذا تفعل تبعث إليها بالقطن تضعه في الفرج ويعلق به ما في الفرج من دم حتى ترى أم المؤمنين لونه وهذا يدل على أن الصحابة كانوا يعرفون الحيض بالتمييز إذ لم يكن العدد والعادة واحدة ؛ وإنما كان هناك أيضاً التمييز "فكن يبعثنا إليها بالدرجة" أي بالخرقة ، "فيها الكرسف" يعني القطن "فيه الصفرة من دم الحيض" فكانت-رضي الله عنها- تقول :" انتظرنّ - أي ما زلتن على الحيض-"انتظرنّ لا تعجلن حتى ترين القصة البيضاء "لا تعجلن حتى ترين القصة البيضاء فيه دليل على أن المرأة إذا رأت علامة الطهر وهي القصة البيضاء حَكَمت بطهرها وهذا على التفصيل عند العلماء رحمهم الله ، إذاً كونها يخرج معها هذا الماء الذي هو كالجير هذا علامة طهر بدون إشكال .
لكن عندنا سؤال : عن علامة ثانية اعتبرها العلماء هل هناك علامة بديلة عن القصة البيضاء..؟؟
الجواب : نعم هناك علامة وهي الجفوف والمراد بالجفوف نقاء الموضع بحيث لو أدخلت القطنة في الموضع لا ترى شيئاً .
ولذلك يعتبر طالب العلم في فتواه بطهر المرأة بإحدى علامتين :
العلامة الأولى : القصة البيضاء . والعلامة الثانية : الجفوف .(57/19)
فالقصة البيضاء ما ذكرناه والجفوف هو أن تدخل القطنة في الموضع فتخرج نقية بدون أثر لدم الحيض أو الدم الذي معها هاتان علامتان .
في الحقيقة فائدة هذه العلامة : لو أنها مثلاً في نفاسها جاءتك امرأة نفساء وقالت نفست خمساً وعشرين يوماً ثم رأيت علامة الطهر فما الحكم ..؟؟
الحيض أكثره أربعون يوماً فإذا رأت هذه العلامة وهي القصة البيضاء قبل تمام الأربعين هي طاهر تعتبر طاهراً وتأخذ حكم الطاهر فإن عاودها الدم بعد ذلك إن كان على صفات الحيض مذهب بعض العلماء أنها انتقلت من النفاس إلى الحيض ، وبعض العلماء يقول أبداً كل دم عاودها قبل تمام الأربعين فهو من النفاس .
الشاهد : أن علامة الطهر هذه تستفيدها المرأة في الحكم بخروجها من الحيض .
قالت -رضي الله عنها -"إني أستحاض فلا أطهر" ما معنى فلا أطهر أي فلا أرى علامة الطهر وهي القصة البيضاء.(57/20)
"أفأدع الصلاة؟": هنا السؤال " أفأدع الصلاة" سؤال يقال ودع الشيء أفأدع أصله من ودع كأحد من وحد وقولها الودع أصله الترك يقال ودع الشيء إذا تركه ومنه قوله- تعالى- : {وَاْلضُّحَى - وَاْللَّيْلِ إِذَا سَجَى - مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى}(1) ؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم انقطع عنه الوحي فجاءت الشقية وقالت له ما أرى صاحبك إلا قد قلاك وهجرك فأنزل الله عز وجل مقسماً بهذه الآيات :{وَاْلضُّحَى - وَاْللَّيْلِ إِذَا سَجَى - مَا وَدَّعَكَ} يعنى ما تركك .. ولا هجرك {وَمَا قَلَى} ، ولذلك يقولون الشخص إذا ترك غيره إما أن يتركه يعني عن رغبة عنه لا يريد أن يجلس معه ، وإما أن يتركه عداوة له فقال الله عز وجل :{ مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى} التي هي كلا الاحتمالين اللذان يدلان على الزهد في الشيء ، فقال ودَّع بمعنى ترك فالشاهد "أفأدع الصلاة" بمعنى أفأترك الصلاة ، ومنه قوله عليه الصلاة والسلام في الحديث الصحيح في مسلم :(( لينتهين أقوام عن ودعهم الجمعات)) يعني عن تركهم لها .
"أفأدع الصلاة": فيه دليل على أن المرأة الحائض لا تصلي ، وهذا بإجماع العلماء أن المرأة الحائض تسقط عنها الصلاة وأن الأصل فيها أنها لا تصلى وإذا شكَّت هل هي حائض أو طاهر فهذا يرجع إلى الأصل فيها فإن كان الأصل أنها طاهر حكمنا بوجوب الصلاة عليها استصحاباً للأصل والعكس بالعكس .(57/21)
قالت -رضي الله عنها -"أفأدع الصلاة": قال -عليه الصلاةوالسلام-(( لا)) لماّ قالت "أفأدع الصلاة "لم تذكر بقية الموانع ما قالت أفأدع الصلاة والصوم وقراءة القرآن ودخول المسجد والطواف بالبيت ما ذكرت البقية وهذا من باب التنبية بالشيء على مثله ؛ لأنها إذا أُمرت بترك الصلاة من باب أولى أن تترك بقية الأمور ؛ لأن الصلاة هي أعظم شعائر الإسلام بعد الشهادتين فقالت -رضي الله عنها -"أفادع الصلاة"تنبيه على بقية الموانع ؛ لأن الحيض يمنع من الصلاة ويمنع وجوبها ، ويمنع الصوم ويمنع فعل الصوم ، ويمنع كذلك الطواف بالبيت ، ومس المصحف وقراءته ، والدخول إلى المسجد ، والوطء والاعتداد بالأشهر ؛ لأنها أنها ما تعتد بالأشهر ما دامت حائضاً هذه كلها موانع للحيض -وسنتكلم عليها إن شاء الله في بعض الأبواب ونذكر أدلة كل مانع منها-.(57/22)
فقالت -رضي الله عنها -"أفادع الصلاة؟" ، قال عليه الصلاة والسلام :(( لا)) قوله عليه الصلاة والسلام :(( لا)) يعتبر جواباً من رسول الله صلى الله عليه وسلم والقاعدة عند أهل العلم :"أن السؤال معاد في الجواب" فلما قال لها : (( لا)) ما معناها معنى ذلك لا تدعي الصلاة ، وبناءً على ذلك قالوا إن الحكم يترتب على الجواب إذا وقع السؤال عنه فلو أن امرأة قالت لزوجها هل طلقتني؟ قال: نعم فإنها تطلق ، ولو قالت هل خالعتني؟ قال: نعم فإنه يثبت الخلع ، وقسّ على ذلك فإنه إذا سأله هل لي عليك ألف؟ فقال: نعم ثبت ، أي كأنه يقول نعم لك علي ألف فالقاضي يعمل بها والمفتي يعمل بها فتترتب عليها المسائل في الفتوى والأحكام ؛ لكن لو ورد السؤال على سبيل الختل قد يرد السؤال على سيبل الختل ويكون الجواب غير معاد في السؤال ، تمهيد للمسألة التي نذكرها ؛ لأنها تتصل بالقاعدة التي في الحديث : "السؤال معاد للجواب" إذا قلت لرجل بعتك: سيارتي ، وقال: قبلت ، ثبت البيع ولا خيار له ويلزم، قال: بعتك سيارتي بعشرة آلاف ، قال: قبلت ، ثبت البيع ولا خيار ويلزم بالبيع هذا مذهب الحنفية والمالكية رحمهم الله فعلى هذا المذهب لو قال رجل لرجل بكم تبيع سيارتك قال بعشرة آلاف قال قبلت هل يعتبر هذا في الإيجاب؟ قال بعض العلماء لما قال له: بكم تبيع سيارتك لا يستلزم أنه يريد أن يبيعها عليه ؛ لأنه يحتمل أن تسألني عن داري وبيتي وأقول أبيعها لو أردت البيع وأنا لا أريد البيع ففي هذه الحالة يقول بعض العلماء : يثبت البيع إذا قال له بكم تبيع سيارتك فقال له:بعشرة يقولون في هذه الحالة وقال قبلت يلزمه البيع ، والصحيح أن هذا السؤال ختل والجواب فيه وجه احتيال واحتمال فلا يقوى على الخروج عن الأصل الموجب لثبوت الملكية لصاحبها .(57/23)
يقول عليه الصلاة والسلام :(( لا إنما ذلك عرق)) : أي هذا الذي تشتكين منه عرق وقد جاء عنه عليه الصلاة والسلام (( أنه عرق انقطع أو ركضة من الشيطان )) ، وهذا العرق قد جاء عنه عليه الصلاة والسلام في حديث أحمد :(( أنه العاند)) ؛ والسبب في ذلك أنه من العنيد الشيء العنيد هو الذي خرج وجار عن الأصل وقالوا عاند ؛ لأن الدم استمر مع المرأة ولم ينقطع في أمدّ الحيض المعتبر .
قوله عليه الصلاة والسلام :(( إنما ذلك عرق)) : فيه دليل على أن من معه نزيف دم أنه يصح منه أن يصلي ويجوز له أن يصلي على حالته ولو غلبه الدم ؛ السبب في هذا أن المرأة هذه أمرها النبي صلى الله عليه وسلم بالصلاة ولم يسقط عنها الصلاة مع أن الدم يجري معها ومع أن النزيف يجري معها فدل على أن النزيف لا يوجب المنع من الصلاة وعليه حُملت صلاة عمر بن الخطاب رضي الله عنه وأرضاه حينما طُعن في صلاة الفجر فصلى الفجر وجرحه يثعب وحُمل عليه حديث عباد بن بشر في السهم العائر حينما ضُرب بالسهم وأصابه النزيف فاستمر في صلاته ؛ لأن هذا النزيف لا يمكنه أن يوقفه فعلى هذا قالوا أن من أصابه الرعاف أثناء الصلاة وكان الرعاف شديداً بحيث غلب على ظنه أنه لا ينقطع أو صلى في آخر الوقت بحيث لو خرج عن صلاته أو ذهب يغسله يذهب وقت الصلاة أنه يصلي ولو نزف بذلك الدم وهكذا لو جُرح أو أصابه شيء من القروح التي -والعياذ بالله- تسيل فهذا كله يصح منه أن يصلي ؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قالت له" أفادع الصلاة" قال : (( لا)) فدل على أن من به نزّيف أنه يصلي ولا يقطع الصلاة -وهناك بقية من المسائل سنتمها إن شاء الله في مجلسنا القادم-،والله تعالى أعلم .
- ? - ? - ? - ? - الأسئلة - ? - ? - ? - ? -
السؤال الأول:(57/24)
امرأة كانت تحيض وتميَّز حيضها باللون والرائحة فبعد ولادتها أصبحت لا تميزَّ فجرى منها دم شديد الاحمرار يختلف عن لون حيضها القديم ولكن هذا الدم يجري بغزارة مع ألمّ وتعب وهي محتارة فهل هذا الدم حيض أم استحاضه..؟؟
الجواب:
بسم الله الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه أما بعد:
بمناسبة هذا السؤال يعني من الأمور التي تربك عادة المرأة وحيض المرأة إذا ولدت ؛ لأنه بعد الولادة خاصة إذا كانت بكراً غالباً ما يحصل عندها هذا الارتباك سواء في عدد العادة أو صفات الدم ، كذلك أيضاً من الأمور التي تربك العادة في عصرنا الحاضر استعمال الحبوب هذه التي تمنع الحيض تربك العادة إذا تركتها المرأة تحدث عندها إرباكاً لعادتها ، كذلك ما يسمى باللولب وهو محرم وذكرنا وجه تحريمه غير مرة في المسائل والفتاوى وضعه يربك عادة المرأة ، وكذلك يصبح عندها اضطراب حتى إن لون الدم يختلف عليها ، وكذلك أمد الدم ومكان الحيض أيضاً قد يختل عليها.
هذه المرأة ورد في سؤالها أنها كانت من ذوات التمييز فأصبحت لا تميز دم حيضها وحينئذ ليس عندها عادة ليس عندها عدد معين تعمل به والحكم في مثل هذه المرأة أنه إذا فقدت عادتها وتمييزها أنها ترجع إلى غالب حيض النساء وهو ست أو سبع على التفصيل الذي ذكرناه فإن كان ألمها يستمر معها في الست ويخف في السابع فحيضها إلى ست وإذا كانت قوة الدم في الست ثم يخف قليلاً في السابع فحيضها إلى ست أيضاً والعكس بالعكس ، والله تعالى أعلم.
السؤال الثاني :
أشكل عليَّ في المرأة المعتادة مسألة التَّلفيق إذا كانت تحيض يوماً وتطهر يوماً فهل يجب عليها الغسل عند كل طهر ..؟؟
الجواب:
بسم الله الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه أما بعد:(57/25)
فإنه إذا انقطع عنها الدم يوماً كاملاً فإنها تأخذ حُكم الطاهر وتغتسل وتصوم وتصلي ويأتيها زوجها وتأخذ حكم الطاهر سواءً بسواءٍ وكذلك في اليوم الثالث لإنها تتطهر بنفس الطهارة وتأخذ حكم الطاهر في عبادتها وصيامها على الصورة التي ذكرنا ، والله تعالى أعلم .
السؤال الثالث:
هل يجوز للرجل أن يجامع الرجل زوجته وهي مستحاضة ويجري معها الدم ولا يقف..؟؟
الجواب:
هذه المسألة اختلف العلماء رحمهم الله هل إذا أصاب المرأة دم الاستحاضة هل يمنع من وطئها أو لا يمنع؟؟
ذهب جمهور العلماء وبه قال عمر بن الخطاب ، وعلى بن أبي طالب وهو مذهب عبد الله بن عباس وعطاء وعكرمة بن عبد الله ، وكذلك أيضاً قال به المالكية والشافعية ، والحنفية وطائفة من أهل الحديث أن المرأة يجوز أن يجامعها زوجها وهي مستحاضة واستدلوا بدليل الكتاب ودليل السنة.
أما دليل الكتاب فإن الله سبحانه وتعالى يقول:{وَ يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْمحَيِضِ قُلْ هُوَ أَذيً فَاْعْتَزِلُواْ اْلِنّسَآءَ فيِ الْمَحِيضِ وَلاَ تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ فَإذَا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللهُ }(1) فأخبر سبحانه وتعالى أن الحيض ودم الحيض أذى وأنه إذا انقطع هذا الدم أنه يجوز للرجل أن يأتي امرأته ولم يفرق بين كونه ينقطع بدون نزيف وبين أنه ينقطع بنزيف الاستحاضة ، وإنما حرَّم على الرجل أن يأتي زوجته في المحيض وهو مكان الحيض كالمقيل مكان القيلولة فإذا ثبت هذا فالحكم يتقيد بمورده ؛ ولأن نصوص الكتاب والسنة دالة على أن الأصل حل المرأة لزوجها إلا ما استثناه الشرع وقد استثنى الشرع حال الحيض فبقي حال الاستحاضة على الأصل .(57/26)
الدليل الثاني : قوله عليه الصلاة والسلام في الصحيحين لحديث فاطمة -رضي الله عنها -:(( إنما ذلك عرق وليس بالحيضة )) فأخبر أنه ليس بحيضة ولا يأخذ حكم الحيضة وإذا لم يكن حيضة فإنه لا يمنع مما يمنع منه الحيضة فدل على أنه لا يوجب منع الزوج من وطء زوجته .
وذهبت أم المؤمنين عائشة-رضي الله عنها وأرضاها-وهو القول الثاني وهو قول النخعي وقول الحكم أنه يحرم على الرجل أن يجامع زوجته إذا كانت مستحاضة ، وهذا القول قالوا لوجود الدم وعللوا ذلك بوجود الدم وهو قول ضعيف ؛ لأن الله عز وجل إنما حرَّم في دم مخصوص ، والقاعدة : " أن التحريم الخارج عن الأصل يتقيد بما ورد به دليل التحريم" فالتحريم من الوطء أثناء الحيض خارج عن الأصل وهو حل الوطء فيتقيد بما ورد به التحريم وهو دم الحيض ويبقى دم الاستحاضة كما ذكرنا على الأصل موجب لحل الوطء.
القول الثالث في المسألة : يفصَّل وهو رواية عن الإمام أحمد اختارها جمع من أصحابه حتى قيل أنها مذهب الإمام أحمد يقول فيها إذا كان الرجل يخاف على نفسه الوقوع في الزنا جاز له أن يطأ زوجته وهي مستحاضة وإلا فلا وكأن هذا القول مفَّرع عن القول الذي قبله لأنه يرى أن الأصل عدم جواز الوطء إلا في حال الضرورة ودليله نفس الدليل الذي ذكرنا أولاً ، والصحيح ما ذكرنا أنه يجوز للرجل أن يطأ امرأته وهي مستحاضة لقوة دليل الكتاب والسنة وإعمالاً للأصل ،والله تعالى أعلم .
السؤال الرابع :
لي فترة لا أستطيع الذهاب لصلاة الفجر بسبب التعب والإرهاق الشديد بسبب الأعمال الخاصة الاضطرارية وعدم كفاية النوم فأستيقظ في وقت الصلاة وأضطر للصلاة في البيت بسبب التعب والإحساس بآلام في الرأس فما حكم هذا العمل..؟؟
الجواب :(57/27)
الصلاة مع الجماعة يجوز التخلف عنها لعذر ومن الأعذار المرض فإذا كان الذي تشتكيه مرض يعيقك عن الخروج في أثناء صلاة الفجر وتجد به الضرر لو نزلت أو زيادة الضرر ؛ لأنه اختار جمع من المحققين منهم شيخ الإسلام رحمه الله أن الخوف من زيادة المرض كالمرض ، ومثل لذلك شدة البرد كما في صلاة الفجر في شدة البرد إذا كان به بداية الزكام أو نحوه فغلب على ظنه أنه إذا خرج يحُم أو تصيبه الحمى أو يزداد عليه ضرر الزكام جاز له أن يتخلف عن صلاة الجماعة لوجود العذر ، وأما إذا لم يوجد العذر فإن الأصل يوجب عليه الخروج مع الجماعة .
وصلى الله وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين .(57/28)
(
قال المصنف - رحمه الله -: بَاب مَا جَاءَ فِي الْمُسْتَحَاضَةِ
حَدَّثَنَا هَنَّادٌ حَدَّثَنَا وَكِيعٌ وَعَبْدَةُ وَأَبُو مُعَاوِيَةَ عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ:" جَاءَتْ فَاطِمَةُ بِنْتُ أَبِي حُبَيْشٍ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَتْ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنِّي امْرَأَةٌ أُسْتَحَاضُ فَلاَ أَطْهُرُ أَفَأَدَعُ الصَّلاَةَ؟قَالَ:(( لاَ إِنَّمَا ذَلِكَ عِرْقٌ وَلَيْسَتْ بِالْحَيْضَةِ فَإِذَا أَقْبَلَتِ الْحَيْضَةُ فَدَعِي الصَّلاَةَ وَإِذَا أَدْبَرَتْ فَاغْسِلِي عَنْكِ الدَّمَ وَصَلِّي)).
قَالَ أَبُو مُعَاوِيَةَ فِي حَدِيثِهِ وَقَالَ:(( تَوَضَّئِي لِكُلِّ صَلاةٍ حَتَّى يَجِيءَ ذَلِكَ الْوَقْتُ)).
الشرح:
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام الأتمان الأكملان على خير خلق الله أجمعين وعلى آله وصحبه ومن سار على نهجه إلى يوم الدين أمابعد:
فقد تقدم الحديث عن هذه الرواية التي ذكرها المصنف رحمه الله واليوم إن شاء الله سنختم الحديث عن هذه الرواية ببيان جملة من الأحكام والمسائل التي ختم بها رسول الله فتواه لفاطمة-رضي الله عنها وأرضاها-وقفنا عند قوله عليه الصلاة والسلام :(( إنما ذلك عرق وليس بالحيضة فإذا أقبلت الحيضة فدعي الصلاة وإذا أدبرت فاغسلي عنك الدم وصلي)) كان الحديث في المجلس الماضي عن الحيض والنفاس وبينا أن الاستحاضة تتركب من فهم الحيض والنفاس وأن المرأة إذا انقضت عادتها أو رأت علامة طهرها من حيضها أو نفاسها أنه يحكم بكونها مستحاضة إذا رأت الدم بعد ذلك .(58/1)
ومن هنا يرد السؤال إذا انقطع الحيض أو طهرت المرأة فما الذي يترتب على هذا من الأحكام الشرعية سواء طهرت بالعلامة المتميزة كأن ترى القصة البيضاء أو ترى الجفوف وانقطع الدم ولم يسترسل ، أو طهرت بالحكم كأن ينتهي أمد العادة وكانت عادتها سبعة أيام مثلاً ومضت السبعة الأيام والدم متصل ففي كلتا الحالتين إذا انقطع الدم أو اتصل وحكمنا بكونها مستحاضة فما الذي يترتب على حكمنا بخروجها من الحيض ودخولها في الاستحاضة:
أولاً : إذا طهرت المرأة من الحيض أو حكمنا بانتهاء الحيض فالواجب عليها أن تغسل الفرج ثم بعد غسلها لفرجها تقوم بالطهارة وهي الطهارة الكبرى-أعني الغسل من الحيض-.
فهناك مراحل :
المرحلة الأولى : انقطاع الدم أو انتهاء الحيض .
المرحلة الثانية : غسل الفرج وتطهيره .
المرحلة الثالثة : الطهارة بالغسل من الحيض .
هذه ثلاث مراحل:
فأما المرحلة الأولى: وهي إذا انقطع عنها الدم ورأت علامة الطهر أو تمت لها أيام عادتها وحكمت بكونها طاهراً فإنه حينئذٍ يباح لها من ممنوعات الحيض شيئان :
فأما الأمر الأول : فهو فعل الصوم .وأما الأمر الثاني : فهو جواز الطلاق .
فهناك ممنوعات للحيض ذكرنا منها الصلاة ووجوبها وفعل الصوم وكذلك الدخول للمسجد والطواف بالبيت وقراءة القرآن ومس المصحف والطلاق كل هذه الأمور قلنا إنها ممنوعه وأنه لا يجوز للحائض فعلها ولا لغيره كالزوج من ناحية التطليق فإن انقطع عنها الدم أو حكمت بكونها قد طهرت من حيضها جاز أمران:
أولهما : فعل الصوم ، والثاني : جواز الطلاق.(58/2)
فأما فعل الصوم : فلو أن امرأة سألتك وقالت إنها حاضت ستة أيام من أول رمضان وعادتها ستة أيام ورأت علامة الطهر قبل فجر اليوم السابع فما الحكم ؟ تقول حينئذٍ يلزمها صوم اليوم السابع وكذلك لو صامت صومها صحيح فإذا رأت علامة طهرها قبل دخول الفجر جاز لها أن تصوم وإن تأخرت عنها ولم ينقطع الدم ولم تر علامة الطهر إلا بعد دخول الفجر فذلك اليوم يلزمها قضاؤه وذلك لأنها لا يصح صومها لاتصال الحيض بزمان الصوم هذا بالنسبة للأمر الأول أنه يجوز لها أن تفعل الصوم .
فلو سألك سائل : هل يشترط للمرأة إذا كانت حائضاً لكي تصوم أن تغتسل..؟؟
تقول: لا العبرة في الصوم بانقطاع الدم فإذا ا انقطع الدم جاز لها أن تصوم ،وأما بالنسبة للغسل فهذا يشترط لأمور أخر هذا بالنسبة للأمر الأول .(58/3)
أما الأمر الثاني فإن الله حرم على الزوج أن يطلق زوجته أثناء حيضها ؛ وذلك لأنه يطَّول عدتها ، ولذلك أجمع العلماء على أن الإنسان إذا طلق امرأته حال حيضها أنه طلاق بدعي وأنه يأثم بهذا الطلاق لما ثبت في الصحيحين من حديث عبد الله بن عمر أنه طلق زوجته وهي حائض فجاء أبوه عمر رضي الله عنه وأرضاه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فاستفتاه فلما سأله غضب رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال:(( مره فليراجعها ثم ليمسكها حتى تطهر ثم تحيض ثم تطهر ثم إن شاء طلق وإن شاء أمسك فتلك العدة التي أمر الله أن تطلق لها النساء)) فدل هذا الحديث على ما تضمنه القرآن لقوله-سبحانه-:{يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمْ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ}(1) والمراد بقوله:{ فَطَلِّقُوهُنَّ } لعدتهن أي قبل عدتهن ، و إقبال العدة إنما يكون بطهر المرأة ، ولأنه في هذه الحالة إن طلقها في حال الحيض يأثم فيجب عليه أن ينتظر حتى تطهر من حيضها فإن طهرت إن شاء طلق وإن شاء أمسك فتلك هي السنة أن يطلق في طهر لم يجامعها فيه بناءً على هذا فهذان الممنوعان وهما الصوم الذي لا يجوز للحائض أن تفعله حال حيضها والطلاق بالنسبة للرجل لا يجوز له أن يطلق أثناء حيضها يرتفعان بمجرد انتهاء عادة الحيض أو ظهور علامة الطهر.
المرحلة الثانية : وهي طهارة المرأة المستحاضة .
المرأة المستحاضة لها طهارتان :
الطهارة الأولى : تسمى طهارة الخبث . والطهارة الثانية : تسمى طهارة الحدث.
فهناك طهارة للخبث وهناك طهارة للحدث وكلتا الطهارتين طهارتها من الحدث وطهارتها من الخبث مما أوجب الله على المرأة وأوجبه على الرجل لفعل الصلاة فلا تصح الصلاة إلا بطهارة من الخبث ومن الحدث فإذاً لا بد وأن يبحث في المرأة المستحاضة طهارتها من الخبث وطهارتها من الحدث .
طهارة الخبث: تشمل ثلاثة أشياء :(58/4)
الشئ الأول : طهارة البدن .والشئ الثاني : طهارة الثوب.والشئ الثالث : طهارة المكان .
هذا في الصلاة وفي المرأة الحائض يبحث العلماء عن طهارتها في الخبث من جهة كونها إذا استرسل معها الدم وهي مستحاضة فإن هذا الدم نجس وحينئذٍ متلبس بالبدن فلم يطهر بدنها ومتلبس بالثوب في بعض الأحيان فلم تطهر ثيابها وقد يهراق على السجادة التي تصلي عليها فيكون متلبساً بالمكان الذي تصلي عليه ولابد في صحة الصلاة لحكمنا بها أن يكون المصلي طاهر البدن والثوب والمكان.
فحينئذٍ يرد السؤال : كيف تطهر المرأة في حال استحاضتها من الخبث ومن الحدث..؟؟
فأول الطهارتين طهارة الخبث والمراد بها أن تغسل فرجها وذلك لأن الدم الذي يخرج مع المرأة المستحاضة ودم الحيض ودم النفاس كلها دماء نجسة ؛ وذلك لقوله صلى الله عليه وسلم : (( اغسلي عنك الدم)) فقوله للمرأة المستحاضة اغسلي عنك الدم يدل على أن الدم الذي يخرج من فرج المرأة في حال استحاضتها وحال حيضها أنه دم نجس ولذلك قالوا إن نظرنا إلى الفضل فهو استحاضة وإن نظرنا إلى الأصل فهو حيض يعني قوله عليه الصلاة والسلام :(( اغسلي عنك الدم )) إن نظرت إلى الفضل لأنه جاء بعد انتهاء الحيض فمعنى ذلك الغالب أن المرأة إذا حاضت وانقطع حيضها وطهرت أن تبقى آثار للدم فهذا يسمى فضل والفضلة من الشيء زيادته وما بقى منه فلما قال عليه الصلاة والسلام :(( اغسلي عنك الدم)) شمل الاثنين الفضل وهو بقية الحيض والأصل الموجود وهو دم الاستحاضة فدل على نجاستهما-أعني دم الحيض ودم الاستخاضة-.(58/5)
أجمع العلماء على أن دم الحيض ودم الاستحاضةكلاً منهما نجس ؛ لكن المشكلة أن المرأة لا تستطيع أن تتحكم في هذا الدم وقد يبلغ بالمرأة المستحاضة أن تنزف نزيفاً قوياً بحيث يمضي وقت الصلاة والصلاتين والثلاث بل ولربما اليوم بكامله والنزف معها شديد ولايرقأ وينقطع ، والله أمرها أن تطهر في بدنها وأن تطهر في ثيابها وأن تطهر في المكان الذي تصلي فيه ، فحينئذٍ ينظر في هذا النوع من النساء لوجود الحاجة ، عندنا دليل شرعي يأمر بالطهارة وعندنا امرأة مغلوب على أمرها ومن هنا جاء التخفيف وجاءت الرخصة من الله عز وجل في هذا النوع من النساء أو في هذا النوع من المكلفين بالتيسير عليه في طهارته .
تبدأ المرأة بعد انتهاء الحيض أولاً : بغسل الفرج وذلك بغسل موضع الأذى لأن الله سمى الحيض أذىً وموضع الأذى يطهر بالغسل وقد قال عليه الصلاة والسلام :(( اغسلي عنك الدم)) ثم بعد تطهير الموضع وتنقيته لا يخلو حال المرأة مما يلي :
أولاً : أن تكون من الصنف الأول وهن الحيَّض اللاتي إذا حضن وبلغن أمدهن انقطع الحيض ورأت علامة طهرها فلا إشكال بمجرد ما انتهت عادتها رأت علامة طهرها ثم نظف الموضع وأصبح نقياً فهذه تغسل فرجها ولا إشكال عندها ؛ لأن الدم لا يعود هذا بالنسبة للنوع الأول وليس فيه إشكال ولا يأخذ حكم المستحاضة لأنها حائض على أصلها ولا يتتبعها دم الاستحاضة.
لكن النوع الثاني: اللاتي يسترسل معهن الدم فيستمر نزيف الدم من الفرج ؛ هذا النزيف ينقسم إلى قسمين :(58/6)
القسم الأول : أن تكون مستحاضة ينزف دمها وينقطع بمعنى يمشي الدم ويجري نصف ساعة ثم ينقطع بقية اليوم ثم اليوم الثاني يجري معها نصف ساعة وينقطع ، أو يجري معها اليوم الأول ساعة وينقطع ، واليوم الثاني ساعة وينقطع هذا الدم الذي يجري معها ليس بمستصحب ولا بمسترسل فإذا كان دمها يأتيها دفعة وينقطع ولا يسترسل فهذه تغسل فرجها بعد انتهاء النزيف ، إذا انتهى نزيفها تغسل الفرج وتطهر للصلاة ؛ لكن لو كان هذا النزيف في وقت الصلاة بحيث تستغرق وقت الصلاة كله ولا تستطيع أن تجد فسحة من ذلك الوقت لكي تصلي على نقاء فهذه -سيأتي حكمها في من نزف معها الدم واتصل-.
لكن كل كلامنا في من ينقطع دمها ويمشي معها دفعة ويستمر النصف ساعة ، الربع ساعة ، الثلث ساعة ؛ يأتيها كل يوم بهذا الشكل تقول تنتظر حتى ينقطع دمها ثم تغسل ثم تصلي ، وتكون مثل الشخص الذي معه بول - أكرمكم الله- والحدث في الرجل ، الرجل يبول الساعة ثم بعد ساعتين يبول أو ثلاث لا إشكال أنا هذا الحدث يوجب ما يوجبه حدث ، والمرأة ليست بمضطرة إلى نوع خاص من الرخص ما دام أنه لا يستغرق وقت الصلاة كاملاً.
على هذا تقول إذا سألتك المرأة وقالت إنني أستحاض فكيف أتطهر..؟؟
تقول إذا كانت استحاضتك تأتي دفعات بحيث يمكنكِ أن تصلي وأن تؤدي الصلاة على نقاء تام فإنكِ تنتظرين إلى انقطاع الدم ثم بعد ذلك تطهرين كما يتطهر من به بول أو به غائط ثم بعد ذلك تصلين .
الحالة الثانية : بالنسبة للمرأة المستحاضة والتي يستمر معها النزيف أو ترتبك عليها استحاضتها فلا تدري هل ينقطع أو لا ينقطع فهذه وردت فيها نصوص عن النبي صلى الله عليه وسلم والحكم فيها أنه رخص الشرع في طهارتها فتنبني الأحكام على ما يلي :
أولاً : إذا كان الدم الذي مع المرأة المستحاضة بهذا الشكل يمكن إيقافه أو حفظه عن الاسترسال وجب على المرأة أن تفعل ذلك .(58/7)
ثانياً : إذا كان لا يمكنها فحينئذٍ تصلي على حالتها-على تفصيل سيأتي- .
أما الصورة الأولى وهي أن يمكن إيقاف هذا الدم حتى تصلي المرأة على نقاء مثال ذلك أن يجري معها الدم فيمكنها أن تحبس القطنة في الفرج فلا يقوى الدم على الخروج فحينئذٍ يلزمها أن تضع هذه القطنة وأن تحبس الدم عن الخروج لقوله عليه الصلاة والسلام :(( أنعت لك الكرسف))قوله عليه الصلاة والسلام :(( أنعت)) يعني أصف "والكرسف" هو القطن فقال:(( أنعت لك الكرسف فإنه يحبس الدم)) لما قال : ((فإنه يحبس الدم)) كأنها جملة تعليلية أي ضعي القطن حتى يمنع الدم فدل هذا على أن الصورة الأولى من الحالة الثانية وهي استمرار النريف أن يكون النزيف ضعيفاً بحيث يستمسك مع الحائل من قطن أو خرقة أو نحو ذلك فليزمها حينئذ :
أولاً: أن تغسل الفرج لتطهيره ثم تضع القطنة بعد ذلك ، إذاً في الصورة الأولى من الحالة الثانية وهي استرسال الدم فيلزمها أمران: غسل الفرج ووضع القطنة ، وضع القطنة كما صحَّ أثراً صحَّ نظراً.
وتوضيح ذلك : أن الله عز وجل إذا أمرنا بشيء واحتاج المكلف لتحقيقه والقيام به إلى وجود شيء دل على وجوبه "ولذلك الأمر بالشيء أمراً بلازمه" "وما لا يتم الواجب إلا به فإنه واجب" فالمرأة يجب عليها أن تطهر لصلاتها وعبادتها ولا يمكنها ذلك إلا بحبس دمها عن الخروج حتى لا ينتقض وضوؤها وطهارتها وحتى لا تتنجس ثيابها ويتنجس بدنها فحينئذ يلزمها أن تتعاطى السبب من وضع القطنة فإذاً وضع هذه القطنة واجب ووجوبه مبني على الأثر ومبني على النظر .
الصورة الثانية من الحالة الثانية : وهي أن يكون دمها شديداً ؛إذا كان الدم شديداً بحيث تنزف بقوة فهذا ورد فيه حديث أم حبيبة -رضي الله عنها-لما استفتت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال عليه الصلاة والسلام :(( أنعت لك الكرسف)) .قالت:"يا رسول الله هو أشد من ذلك؟" فقال عليه الصلاة والسلام :(( تلجمي )) فعندنا فائدتان :(58/8)
الفائدة الأولى: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لها:(( أنعت لك الكرسف)) .
والفائدة الثانية : قوله:(( تلجمي)) فتستنبط من الفائدة الأولى:(( أنعت لك الكرسف)) أنه إذا كان الدم ينحبس بوضع القطنة يجب عليها وضع القطنة.
وأما إذا كان لا ينحبس بوضع القطنة تنتقل إلى ما هو أشد لأن الأشد يناسبه ما هو أشد فقد جعل الله لكل شيء قدرا فكما أنها عند ضعف دمها مأمورةٍ بوضع الحائل الحاجز اليسير من القطن كذلك أيضاً عند شدة الدم تتعاطى أسباباً قوية لمنع دمها فكأن مقصود الشرع أنها تصلي ولا يخرج منها شيء .
فتفهم شيئاً ثالثاً على النص كما قال:(( أنعتِ لك الكرسف ثم قال تلجمي)) أن مقصود الشرع أن هذه المرأة تصلى ولا يخرج منها شيء ، وتفهم منه أنه إذا خرج الشيء نقض الطهارة فتفهم تفريعات العلماء على مثل هذه النصوص ولماذا يقولون أنه ينبغي عليها أن تحفظ الفرج ، تجد بعد ذلك تفصيلات الفقهاء فإن وجد الدم خارج الفرج بعد حبسه وكان ذلك لزوال القطنة أو تحولها من موضعها أو ضعف اللجام وجب عليها أن تعيد يقول بعضهم هذا اجتهاد ومن أين جاء به ؟ جاء به من النص ؛ لأن النص لما أمرها بالتلجم تفهم ذلك وهذا معنى قوله :(( يفقه في الدين)) تفهم منه أن مقصود الشرع ألا يخرج شيء.
ما معنى قوله : ((تلجمي)) :أي احبسي عنك الدم ففهمنا أن الدم يؤثر ولما كان سياق الأمر وسياق النص في الطهارة فهمنا أن مقصود الشرع الحفظ على الطهارة فتفهم من هذا أنها إذا تعاطت أسباب التقصير في طهارتها أنها تلزم بعاقبة تقصيرها .
نخلص من هذا: أنه إذا كان الدم شديداً وهي الصورة الثانية من الحالة الثانية تضع اللجام - واللجام سيأتي شرحه إن شاء الله وبيانه- وهو مثل لجام الفرس وهو يكبح الفرج أويمنع خروج الدم منه.
ولكن عندنا مسألة وهي أفرض أن هذه المرأة لو وضعت اللجام كان نزيفها قوياً بحيث تتضرر وتتألم وتنزعج ويحصل لها أذى فما الحكم في هذه الحالة..؟؟(58/9)
تكون هناك حالة مستثناة وهي أنه لا يلزمها أن تتلجم وذلك ؛ لأن: "المشقة تجلب التيسير" : "والأمر إذا ضاق اتسع" ، ولذلك نص العلماء بل بعض السلف على أنها إذا احترقت بدمها وكان دم استحاضتها حارق لها مؤلم لها ولم يتميز عن دم الحيض بذلك فإنها في هذه الحالة يرخص لها في ترك الدم يخرج وتصلي ولو خرج منها الدم كما ثبت في الصحيح أن بعض نساء النبي صلى الله عليه وسلم اعتكفن والدم يخرج منهن فدل هذا على أنه إذا غلبها الدم أنها تصلي على حالتها:{ لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلا وُسْعَهَا}(1) ومن هنا صلى عمر رضي الله عنه وأرضاه وجرحه يثعب بطعنة أبي لؤلؤة المجوسي- عليه لعنة الله- ومع ذلك لم يعتبر خروج هذا الدم مؤثراً في طهارة الخبث فدل هذا على ما يلي:
أن أحوال المرأة المستحاضة :
الحالة الأولى : إما أن يكون دمها ضعيفاً بحيث ينحبس بالقطنة فحينئذً يلزمها غسل الفرج ووضع القطنة لحبس ذلك الدم.
الحالة الثانية : أن يكون قوياً أو أكثر من ذلك فإن كان أكثر من ذلك فحينئذً تضع اللجام تضع القطنة ثم تشد أو تضع اللجام بدون قطنة وتشد الفرج وتعصبه ويسميه العلماء العصب ويسمى اللجام فتشد الفرج بعد غسله وتنظيفه وتطهيره ثم بعد ذلك تصلى على نقاء وطهارة ، فإن كانت مستثناة بالا ضطرار ووجود العجز عن كبح الدم وأصبح الدم يخرج معها حتى ولو تلجمت أو أنها إذا تلجمت تضررت فحينئذً يجوز لها أن تصلي ويسقط عنها الأمران وضع القطن واللجام وتصلي على حالتها:{ لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلا وُسْعَهَا} هذا بالنسبة لمسألة طهارة الخبث .(58/10)
الآن نحن نبحث طهارة الخبث بالنسبة للمرأة من ناحية فقهية ينبغي أن تنتقل إلى أمر ثانٍ في طهارة الخبث وهو ثيابها هذه الثياب تتصل بالدم الذي يخرج منها ونحن قررنا أن إجماع العلماء رحمهم الله على نجاسة دم الحيض ودم الاستحاضة إذا كان هذا الدم نجساً فإن هذا الدم إذا غسلته من بدنها وطهرت البدن ووضعت اللجام أووضعت القطنة انقطع ؛ بالنسبة للثياب التي ينزل عليها الدم أو يتقاطر عليها الدم فما حكمها ؟؟
هذه الثياب إذا كانت المرأة من الصنف الأول الذي ينحبس دمها فإنها لا تصلي إلا بثياب نقية من الدم لأنه لا حرج عليها في الطهارة والله أمرها بطهارة الثوب فقال-سبحانه-:{وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ}(1) فدل على أنه ينبغي أن يكون الملبوس طاهراً وعليه فإن المرأة إذا نزل دم حيضها أو دم استحاضتها على شيء من ثيابها التي تصلي بها يلزمها غسلها قبل صلاتها .
لكن إذا كانت من الصنف الثاني وهن اللاتي يغلبهن الدم ويصعب عليهن فحينئذً يلزمها أن تغسل عند دخول وقت كل صلاة تغسل الفرج وتغسل ثيابها وتعصب الفرج على الصورة التي ذكرناها عند دخول وقت كل صلاة -كما سنبين إن شاء الله في حديث الباب الذي يلي هذا الباب- .
أما بالنسبة لطهارة المكان : فهي أيسر لأن طهارة المكان تقع في بعض الصور وهي شدة النزيف ؛ أنها تنزف حتى يصبح المكان الذي تصلي عليه الفراش أو السجادة عليها دم ففي هذه الحالة إذا كان نزيفاً قاهراً تصلي ولا يضر ، وأما إذا كان نزيفاً يمكن رقيه حبسه فإنه يلزمها أن تغسل ذلك المكان أو تتحول عنه .
بقيت الطهارة المتعلقة بطهارة الحدث قلنا إذا انقطع عنها الدم جاز لها أن تصوم وجاز لزوجها أن يطلقها .(58/11)
بعد ذلك تنتقل إلى طهارة الفرج تغسل الفرج وتعصبه إن كان يحتاج إلى عصب وإلا وضعت القطنة ومنعت الدم ؛ بعد هذا يبقى النظر في الطهارة الكبرى قال بعض العلماء : إنها في هذه الحالة بعد انقطاع الدم عنها وقبل تطهرها الطهارة الكبرى يجوز لزوجها أن يجامعها ، وأصحاب هذا القول يقولون يمنع جماع المرأة الحائض أثناء وجود دم الحيض فإذا انقطع عنها دم الحيض جاز لزوجها أن يأتيها ؛ لأن الله سبحانه وتعالى قال في كتابه:{ وَيَسْأَلُونَكَ عَنْ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذًى فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ وَلا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ}(1) قالو إن الله سبحانه وتعالى حرم وطء المرأة لوجود دم الحيض والمحرم لوجود شيء يزول بزواله فإذا زال الدم الموجب لمنع الجماع جاز له أن يجامعها وهذ هو مذهب الإمام أبي حنيفه –رحمه الله-.
وذهب جمهور العلماء إلى أن المرأة لا يجوز لزوجها أن يجامعها في هذه المرحلة وأنها تنتظر وينتظر إلى أن تغتسل من الحيض وهذا هو الصحيح لقوله-تعالى-:{وَلا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ فَإِذَا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ}فهناك أمران الأمر الأول عبرَّ الله عز وجل عنه بقوله:{حَتَّى يَطْهُرْنَ}ويطهرن شئ لا تملكه المرأة وهو انتهاء الحيض عنها والشئ الذي تملكه:{فَإِذَا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمْ اللَّهُ} فجاء الإذن بالوطء بعد الحظر مرتباً على أمرين :
الأمر الأول : انقطاع الدم .
والأمر الثاني : اغتسال المرأة .(58/12)
وذلك في قوله{فَإِذَا تَطَهَّرْنَ} فلما قال:{ حَتَّى يَطْهُرْنَ فَإِذَا تَطَهَّرْنَ} دل على اشتراط الشرطين كما قال- تعالى-:{وَابْتَلُوا الْيَتَامَى حَتَّى إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ}(1) هذا الشرط الأول:{فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ} اليتيم حينما يكون دون البلوغ وهو سفيه لا يحسن التصرف في ماله فإن الله منعنا أن نعطيه المال فقال -تعالى- :{ وَلاَ تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمْ }(2) فاليتيم لا يحسن النظر لا لنفسه ولا الاعطاء لغيره يبيع الغالي برخيص ويشتري الرخيص بالغالي فلذا حُجر عليه أن يتصرف في ماله فقال الله عز وجل :{وَابْتَلُوا الْيَتَامَى}أي اختبروهم :{ حَتَّى إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ}الذي هو البلوغ فلا يعطى ماله حتى يبلغ ولم يقف النص عند قوله-تعالى-:{ وَابْتَلُوا الْيَتَامَى حَتَّى إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ}وإنما قال:{ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْداً}فقد يبلغ وهو سفيه وقد يبلغ وهو لا يحسن النظر لغيره وقد يبلغ مجنوناً ليس عنده عقل فقال الله عز وجل :{فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ}فدل على اشتراط الأمرين وأن الشرع قد يرتب زوال الحظر على سببين لا بد من وجودهما فاشترط شرطين وهنا اشترط الشرع شرطين:
الشرط الأول: انقطاع الدم لقوله-تعالى-:{حَتَّى يَطْهُرْنَ }.
والشرط الثاني : في قوله-تعالى-:{فَإِذَا تَطَهَّرْنَ} فلما قال -تعالى-:{ يَطْهُرْنَ} { وتطهرن} وغاير في الصيغة بين شيء تملكه وشيء لا تملكه علمناً أن هناك أمران مختلفان:(58/13)
أولهما: انقطاع الدم .والثاني : طهارة المرأة ، وعلى هذا فإن هذه المرحلة وهي كون المرأة منقطعاً عنها الحيض لا يوجب حل استمتاع الزوج بها بالجماع حتى تغتسل ثم تنتقل بعد ذلك في المستحاضة إلى الأمر الثاني وهو طهارة الحدث وطهارة الحدث المراد بها طهارة الوضوء وطهارة الغسل .
فأولاً : يجب على المرأة بعد انتهاء حيضها أن تغتسل وهذا بإجماع العلماء على أن الحيض يوجب الغسل أجمع العلماء على أن المرأة إذا أصابها دم الحيض يجب عليها أن تغتسل إذا انقطع عنها دم الحيض ، فإذاً من أسباب ومن موجبات الغسل الحيض فإذا انقطع الحيض ورأت طهرها ومضت عادتها وحكمنا بطهرها يجب عليها أن تغتسل فإذا ا أغتسلت المرأة فحينئذ تكون الطهارة وهي طهارة الحدث الأصغر والأكبر، فإذاً اندرج طبعاً وضوؤها تحت غسلها ونوت الطهارتين فلا إشكال وهذا بإجماع العلماء -رحمهم لله- على أن من اغتسل من حدث ونوى اندراج الأصغر تحته أنه يطهر الطهارة الصغرى والكبرى.
لكن المشكلة : إذا كانت المرأة مستحاضة واغتسلت وكان يجري معها الدم ويسترسل معها الدم فتبين أن هذا الدم الذي يخرج منها هل ينقض الطهارة الصغرى أو الطهارة الكبرى ، أو لا ينقضهما معاً لا الكبرى ولا الصغرى؟؟
والجواب: أن المرأة المستحاضة إذا كانت من جنس النساء اللاتي يأتيهن الدم متقطعاً ويمكن معه تحقيق الطهارة فهذا النوع ينقض دم الاستحاضة طهارته الصغرى المرأة المستحاضة إذا اغتسلت من حيضها ثم بعد ذلك أرادت الصلاة وتوضأت ثم رأت الد م دفعة ودفعتين خلال يومها ولم يكن ذلك مستغرقاً لوقت الصلاة فإن هذا ينقض طهارتها الصغرى كالبول وكالغائط سواء بسواء لكن إذا استرسل معها الدم وأصبحت من النوع الذي لا يرقى دمها أو أصبحت من النوع اللاتي يحتجن إلى تلجم وحبس .
هناك صنفان :
الصنف الأول : اللاتي يحتجن إلى وضع اللجام وحبس الدم ووضع القطنة .(58/14)
والصنف الثاني : اللاتي لا ينقطع دمهن أو يسترسل معهن الدم ولا ينفع فيه لجام ولا قطن.
ففي كلتا الحالتين لها حكم خاص في طهارتها -سنتكلم عليه إن شاء الله في وضوء المستحاضة لكل صلاة وهذا الباب سيذكره المصنف رحمه الله بعد هذا الباب- .
إذا علمنا هذا يرد عندنا أمر مهم وهو متفرع على مسائل الاستحاضة التي معنا فالنبي صلى الله عليه وسلم لما أمر المستحاضة أن تغسل الدم فهم العلماء من هذا أن دم الاستحاضة نجس ؛ لكنه لما أمر بغسل هذ النوع من الدم صاحب فتواه وصفاً مهماً .
لقوله صلى الله عليه وسلم :((إنما ذلك عرق)) وفي روية :(( انقطع)) فلما قال عليه الصلاة والسلام :((إنما ذلك عرق)) .
نحتاج أن نبحث مسألة الدم وهل الدم نجس أم طاهر ؛ لأن العلماء –رحمهم الله- تكلموا على هذه المسألة ومن مضانها مسألة الاستحاضة؟؟
فالدم جماهير العلماء على أنه نجس سواء خرج من القبل أو خرج من الدبر كالبواسير والنواسير أو خرج من الأعلى كالرعاف الذي يخرج من الأنف أوخرج قيئاً كأن يستقئ الدم أو خرج جرحاً كأن طعن أو شجاً فخرج الدم منه فإنه نجس لقول الله سبحانه وتعالى :{قُلْ لا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَسْفُوحًا أَوْ لَحْمَ خِنزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ }(1) فلما قال الله عز وجل :{فَإِنَّهُ رِجْسٌ } مرتباً على ما سبق ومنه الدم المسفوح دل على نجاسته ولذلك قال جماهير العلماء أن الدم المسفوح نجس والدم المسفوح حكى الإمام ابن حزم -رحمه لله- في مراتب الإجماع إجماع العلماء على أنه نجس .
والدم المسفوح من حيث هو يكون على صورتين :(58/15)
الصورة الأولى: وهي التي أجمع عليها العلماء هو الدم الذي يخرج من الشاة أثناء ذبحها أو يخرج من البعير أثناء نحره أو يخرج من البقرة أثناء ذبحها فإذا جئت تذبح الشاة وخرج الدم الذي ينهر أثناء الذبح هذا نجس بإجماع العلماء وهو من أخبث أنواع الدماء ، حتى يقال إن المواطن التي تكون منها من أسوأ المواطن حتى في تلبَّس الشياطين-والعياذ بالله- وهي من أخبث وأنجس ما يكون وهو الدم الذي يهراق عند الذبح ، وكان بعض العلماء يقول : إن من حكمة الله أنه فرض التذكية عند الذبح تطهيراً للبهيمة من هذا الخبث ، ولذلك أجمع العلماء على أن هذا الدم المسفوح الخارج نجس والقول الذي كان يقول بطهارته كان قول أفراد في الصدر الأول .
يقول جمهور العلماء : إن الشاة إذا ذبحت أثناء ذبحها الدم نجس بإجماع العلماء والدم الذي يخرج أثناء التذكية نجس ، لكن لو أنك سلختها ووقع عليك الدم أثناء سلخها أو جئت للجزار تشتري منه لحماً فضرب كتف الشاة فتطاير عليك الدم فإنه طاهر الدم الذي يكون بعد التذكية من غير الدم المسفوح في الذكاة طاهر إذا كانت مذكاة وعلى هذا الحديث الثابت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه نحر جزوراً ثم سلخه عليه الصلاة والسلام فتلطخت يده بالدماء صلى وفيه الأثر وهذا مبني على أنه طاهر لأنك تأكل هذا اللحم وتشرب مرقته وفيها دماء البهيمة ودماء ما ذكيت ونحرت .
فإذاً ينبغي أن يفرق بين الدم الذي يكون أثناء السفح وأثناء التذكية ، وبين الدم الذي يكون بعد التذكية: الإجماع إلاَّ أن هناك خلافات شاذة-سنتكلم عليها في كتاب الذبائح إذا جئنا إن شاء الله إليه- ؛ لكن فيه شبه إجماع على طهارة الدم الموجود في البهيمة بعد تذكيتها .
فقه المسألة أنك إذا كنت تقول الشاة إذا ذبحت أثناء ذبحها وهي ترفس الدم الذي يخرج منها نجس لكن إذا استقرت وماتت الدم طاهر مامعنى هذا ..؟؟
معناها فرّع جمهور العلماء أن الدم الخارج أثناء الحياة نجس .(58/16)
ومعنى ذلك : أنه لو جرحت البهيمة أثناء حياتها فإن هذا الجرح الذي خرج منه الدم يعتبر نجساً لقول جماهير العلماء رحمهم الله أنه دم مسفوح فقه المسائل مبني على السفح الذي هو وصف القرآن والنبي صلى الله عليه وسلم أكد هذا المعنى في قوله : (( إنما ذلك عرق)) الذين قالوا بنجاسة الدم يقولون أن النبي صلى الله عليه وسلم وصف دم الاستحاضة الذي حكم بنجاسته لكونه خارجاً من العرق ، الدماء من حيث هي في الأصل إنما هي جاريه في العروق ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم (( إن الشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم)) فدل ذلك على أنه يجري في الإنسان ولا يجري في جسم الإنسان إلا دم العرق ولو في الأوعية الدموية أو نحو ذلك فذلك منشؤه بعد العرق فلما قال عليه الصلاة والسلام : (( إنما ذلك عرق)) دل على أن العبرة بالدماء من حيث هي خارجة من العروق ، وعليه قالوا إن كل دم من الإنسان خرج من الأعلى كالرعاف والمستقيء دماً أو الشجة أو خرج من الأسفل أو غيره أنه يحكم بنجاسة .
أكدوا هذا أيضاً بالسنة في حديث أبي هريرة رضي الله عنه وأرضاه في الرجل إذا أحدث أثناء الصلاة كما في الصحيح ماذا يفعل..؟؟
قالوا يضع يده في أنفه ويخرج الرعاف لا ينقض الوضوء لأنه ليس بمحل ولكن الخروج من أجل نجاسة الخارج حتى يغسله لأن الصلاة لا تصح مع نجس ، ولهذا قالوا إن الدم يعتبر نجساً لعموم هذه الأدلة وقوتها فنحكم بكونه نجساً ؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال:(( إنما ذلك عرق )) .(58/17)
قال بعض العلماء إنه طاهر وقوله صلى الله عليه وسلم :(( إنما ذلك عرق)) :لأنه خرج من الفرج ، فكان نجساً لخروجه من الفرج هنا نناقش من ناحية أصولية تقول : لو كان الفرج موجباً لنجاسة الدم وهو طاهر لكان المني نجساً للخروج من الفرج ؛ لأننا نحكم بطهارته وقد خرج من الفرج وهو طاهر ، فدل على أن ما أصله طاهر إذا خرج من الفرج لا يحكم بمجرد الخروج بنجاسته ، وأن في دم الاستحاضة معنى زائد على الخروج من الفرج وهو كونه نجس العين ، ومن هنا يقوى مذهب الجمهور أن الدم من حيث هو نجس .
تفرَّع على هذه المسائل المبنية على الاستحاضة : هناك من يصيبه الرعاف ولا يرقأ رعافه وهناك من شج أو جرح فأصابه النزيف في شجته وجراحه وأراد أن يصلي والدم يجري معه فحينئذٍ تتفرع هذه المسائل في الدماء على مسألة الاستحاضة هذا النوع الأول من المسائل المفرعة على الأصل الذي معنا .
هناك نوع ثانٍ مفرَّع على مسائل الباب التي معنا : وهي أن النبي صلى الله عليه وسلم بينَّ أن في حديث المستحاضة الذي معنا ما يوجبه دم الاستحاضة من التأثير في الطهارة وهذا الدم خارج نجس من الفرج ؛ فنحتاج إلى بحث الخارج النجس من الفرج إذا استرسل كالبول والغائط والبواسير والنواسير إذا خرجت من الفرج وكانت من قعر الفرج هل تؤثر في الطهارة أو لا تؤثر..؟؟
فعندنا نوعان من المسائل :(58/18)
النوع الأول : إذا نظرت إلى دم الاستحاضةكيف يفرع العلماء وكيف يكون الفقه في المسائل الفقهيه والتفصيلات التي تأتي من العلماء كيف تنبني على النصوص ترى أن النص الذي معنا قال:(( إنما ذلك عرق)) ففيه الدم وفيه نجاسة الدم وفيه التأثير على الطهارة ، فحينئذٍ إذا نظرت إلى الدم تبحث في الدماء الخارجة من البدن وإذا نظرت إليه خارجاً من الفرج تبحث في النجاسات الخارجة من الفرج ، فتتفرع المسائل فتقول : الاستحاضة نجاسة خارجة من الفرج خفف في طهارتها إذا غلبت فكل نجاسة غلبت صاحبها يخفف فيها قياساً على المستحاضة.
فأنت إذا سألك من به رعاف وأصبح رعافه يأتيه أثناء الصلاة ماذا تقول له؟ سألك وقال : إن الرعاف يصيبني ويخرج- الرعاف لاينقض الوضوء ولكن الدم الذي يخرج من الرعاف نجس ، ولا يمكن أن يصلي وهو متلبس بالنجاسة- فيقول كيف أصلي وأنا أرعف..؟؟
تقول فيه تفصيل: إن كان رعافك يرقأ وينقطع فحينئذً يلزمك غسل الرعاف وتتم صلاتك ، ولو أن إنساناً أصابه الرعاف وبجواره ماء أو صنبور من الماء فأثناء الصلاة لما شعر بالرعاف أمسك بأنفه ثم اغترف الماء وغسل صحت صلاته بالإجماع ولا يؤثر عليه ذلك ؛ لأنه تحرك حركة لمصلحة الصلاة بدليل أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خلع النعلين أثناء الصلاة فلما أخبره جبريل أنهما ليستا بطاهرتين نزع هذا النزع إزالة للنجاسة فالذي يغسل الرعاف أثناء الصلاة مزيل لنجاسة الرعاف.(58/19)
وإن كان الرعاف لا يمكن حبسه ولا يمكن إيقافه إلا بسبب ، تقول : يجب عليه أن يتعاطى السبب فتقول يا أخي ضع قطنة إذا كان الرعاف ينحبس ، أنفه الأيمن يرعف فقل له ضع قطنة في أنفك الأيمن وصل فحينئذ يكون من باب : " مالايتم الواجب إلا به فهو واجب" قال لك: من أين جئت لنا بهذا ؟ تقول : لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم احتاط لصلاة المكلف بأمره المستحاضة أن تتلجم فكان أصلاً شرعياً في كل من كانت به نجاسة أن يتخذ الأسباب لحفظ طهارته.
إن كان الرعاف يغلبه ولا يمكنه أن يرقأ تقول له تصلى على حالتك على تفصيل سنذكره في المستحاضة إذا غلبت.
كذلك أيضاً من به بواسير البواسير لها حالتان :
هناك بواسير داخل الشرج ومن داخل البدن : وغالباً تكون من النواسير الشرجية ، وهناك ما هو خارج الحلقة حلقة الدبر فيفرق بين الداخل والخارج ؛ وذلك لأن المستحاضة دمها من الداخل فنقض الوضوء وأمرها الرسول صلى الله عليه وسلم أن تتوضأ لكل صلاة فدل على أن خروج الدم من الفرج يوجب نقض الوضوء ؛ لأنه أمرها بالوضوء عند كل صلاة فدم البواسير تقول لا يخلو من حالتين إن كانت من داخل الفرج ولو بعد حلقة الدبر بيسير فحكمها حكم العرق الذي انفجر في رحم المرأة سواء بسواء لأنه انفجر من داخل البدن لا من خارجه.
وهنا ننّبه على أن الشرع يفرق بين الشيء بالفرق اليسير ، فأنت ترى أن المرأة الآن إذا خرج منها الدم من رحمها كان استحاضة ، وإن خرج من تلغى خارج من الرحم أو نزيف مثل ما يقع في بعض الأمراض كالزهري -والعياذ بالله -والسيلان من خارج الرحم لم يأخذ حكم دم الاستحاضة في نقض الوضوء لكنه يأخذ حكم طهارة الخبث ولا علاقة له بطهارة الحدث فكذلك البواسير إذا كانت من الداخل كانت في حكم دم الاستحاضة من الوجهين طهارة الحدث وطهارة الخبث .(58/20)
وإن كانت البواسير من خارج الدبر فحينئذٍ حكمها كحكم سائر الجروح والدماء من سائر البدن فإن كانت البواسير من خارج البدن وكانت تسترسل ولا يمكن إيقافها لا بقطن ولا بشد عليها فحينئذٍ يصلي على حالته كما سيأتي ، لكن إذا كانت البواسير يمكن حبسها بوضع قطنة أو حبسها بالرباط عليها فحينئذٍ يلزمه أن يضع القطنة وأن يحبسها ويتعاطى أسباب منع الدم من الخروج كما أمر صلى الله عليه وسلم المستحاضة بتعاطي السبب بمنع الخارج من الخروج .
بقيت مسألة أخيرة : وهى المستثناة من الدماء النجسة وهو اليسير ، والسبب في استثناء العلماء رحمهم الله لليسير من الدم قوله-تعالى-:{أَوْ دَماً مَسْفُوحاً} والمسفوح هو الكثير والسفح هو الدم الكثير ومفهوم الصفه في قوله:{ أَوْ دَماً مَسْفُوحاً} أن اليسير لا يؤثر ؛ لأن مفهوم الصفات مؤثر ومعتبر ، ولذلك لما قال عليه الصلاة والسلام في الزكاة السائمة فهمنا أن غير السائمة لا زكاة فيها فلما قال:{ أَوْ دَماً مَسْفُوحاً} دل على أن غير المسفوح وهو اليسير لا يؤثر وأكد هذا طبعاً جماهير أهل العلم –رحمهم لله- ويحكى الإجماع على أن اليسير لايؤثر وهو الصحيح لأن الذي يرى طهارة الدم لا إشكال عنده في اليسير والذين يرون نجاسة الدم يستثنون اليسير فأصبح الإجماع على أن اليسير لا يؤثر مما يؤكد هذا فعل الصحابة أُثر عن ابن عمر أنه كان يعصر البثرة وهو في الصلاة والبثرة الحبوب التي تقع في الجسم فإن مثل هذا لا يؤثر فهذه البثرات اليسيرة إذا خرج منها الدم لاتؤثر ؛ لكن إذا كان الدم كثيراً فإنه يؤثر وتكون الطهارة الموجبة لها طهارة لخبث .
لكن السؤال: ما هو الفرق بين اليسير وبين الكثير..؟؟
هناك مسلكان للعلماء بعض العلماء يقول يسير الدم هو الذي يكون دون الدرهم البغلي وهذا مذهب الجمهور ومنهم من يقول يسير الدم هو الذي لا يتفاحش في النفس وهنا ضابطان:(58/21)
الضابط الأول : يقول يسير الدم ما كان دون الدرهم البغلي والدرهم البغلي نوع من الدراهم كان قبل الدراهم الإسلامية وكان موجوداً إلى زمان عبدالملك بن مروان بني أمية ويشبه في زماننا به الهللة القديمة الصفراء دون القرش الموجود في زماننا بيسير.
فالدم الذي يخرج في حدوده لا يؤثر ويجوز لك أن تصلي وأنت ترى الجرح في يدك وقد خرج منه يسير كهذا ولا حرج عليك ، ولو رأيت في ثوبك بقعة دم ولكنها لا تصل قدر الإزار الصدف المعروف ولا تصل إليه أو تقاربه فهذه لا تؤثر لكن إذا زادت أثرت ، ثم هذا الذي قدرناه قدر الدرهم البغلي أو فوق إزار الصدف بيسير أو قدر الهللة الموجودة في زماننا .
والسؤال : لو أن الدم كان مفرقاً في الجسد بحيث بقعة على يده وبقعة على رجله لكنها بمجموعها تعادل هذ القدر المستثنى فما الحكم ..؟؟
الجواب : لاتؤثر وعليه تقول الدرهم البغلي مفرقاً ومجتمعاً مفرقاً في البدن أو مجتمعاً ، كذلك أيضاً مما يستثنى الدماء التي في باطن الجرح لو أن إنساناً جرح جرحاً كبيراً أو كانت به قرحة-والعياذ بالله- خارجية على يده أو رجله وهذه القرحة واسعة والدم موجود فيها فالدم لا يؤثر ما دام في موضعه إنما يؤثر إذا جاوز الموضع يعني مثل مايقولون فإذا دمع الجرح أثر أما إذا لم يدمع فلا يؤثر .
ما معنى يدمع.. ؟؟
قالوا لأن النبي صلى الله عليه وسلم ثبتت عنه السنة بالاستجمار والاستجمار كما هو معلوم أن يأخذ الحجر وينقي الدبر أو القبل فإذا أخذ الإنسان الحجر وأنقى الدبر من النجاسة الخارجة هل يتنظف الموضع وإلا يبقى به أثر..؟؟(58/22)
يبقى به الأثر وبإجماع العلماء هذا مستثنى ، ومن هنا قالوا يغتفر موضع النجاسة ؛ لأن الجرح مهما فعلت فيه فلن تستطيع إيقاف دمه الموجود فيه والشرع لا يكلف بالمستحيل ولا يكلف بما لا يطاق ، ومن هنا اغتفر الدم الذي في باطن الجرح واعتبر في الجروح دمعها وخروج الدم منها ، وعليه تتفرع المسألة التي يسأل عنها في الدماء الموجودة في الإسنان فإنها إن كانت في خلل الأسنان أو كانت في اللثة وكانت منحبسة لا تنتقل فإنها لا تؤثر لا في طهارة الخبث ولا يجب على المكلف أن يزيلها ولا أن يتطهر منها ، والله تعالى أعلم .
- ? - ? - ? - ? - الأسئلة - ? - ? - ? - ? -
السؤال الأول :
إذا طّهرت المرأة ولم تجد ماء تغسل به فرجها فماذا تفعل..؟؟
الجواب :
بسم الله الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه أما بعد :
فطهارة البدن مذهب طائفة من العلماء أنها تنزل منزلة طهارة الأصل حتى في مسائل الاستحاضة والحيض والنفاس ، ومن هنا قال بعض العلماء ونصوا عليه أن المرأة إذا انقطع دم الحيض عنها وطهرت ثم أراد زوجها أن يجامعها وليس عندها ماء تغتسل به جاز لها أن تتيمم وأن يجامعها زوجها بعد التيمم ؛ لأن التيمم طهارة والله -تعالى-يقول:{حَتَّى يَطْهُرْنَ} وعليه فإنها إذا فعلت التيمم تطهر فنزلوا طهارة البدن منزلة طهارة الأصل وهو أصح القولين عند العلماء رحمهم الله أنه إذا عجز عن استعمال الماء أوفقد الماء نزلت الطهارة البدلية منزلة الطهارة الأصلية لأنها تفعل في أعظم شئ وهو الصلاة فمن باب أولى ما دون ذلك ، والله تعالى أعلم .
السؤال الثاني :
هل وضوء المستحاضة يرفع الحدث ويبيح الصلاة أم هو مبيح فقط..؟؟
الجواب :(58/23)
هذه المسألة اختلف العلماء رحمهم الله فيها فبعض العلماء يرى أن وضوء المستحاضة يرفع الحدث وأنها إذا توضأت على حالتها التي ذكرناها تطهرت وتوضأت أن حدثها يرتفع ، ومنهم من يقول بل إن تطهرها على هذا الوجه مبيح وليس برافع ما الفرق بين القولين..؟؟
طيب هي غسلت الفرج ثم توضأت وصلت سواء قلنا مبيح أو رافع ما الفرق بين القولين..؟؟
الجواب: يظهر الفرق أنه على القول بأنه مبيح وليس برافع إذا كانت من الصنف أو من الحالة الثانية وهي التي يسترّسل معها الدم : غسلت فرجها ثم توضأت لكي تصلي والدم معها وعصبته ، أو جرى معها وغلبها ثم انقطع عنها الدم أثناء الصلاة فعلى القول بأنه مبيح فإنه حينئذ زال العذر وهو استرسال الدم- عذر لها أن تتطهر على هذه الصفة-فيلزمها أن ترجع ثانية وتغسل فرجها ؛ لأن الفرج لاتزال فيه نجاسة، وحينئذٍ خفف عنها لوجود النزيف ، وماجاز لعذر بطل بزواله ، وهذا من ناحية الأصل صحيح ومن ناحية النظر واعتبار الأصول التي نص عليها صحيح ؛ لأنها هي بعد طهارتها سيجري معها الدم فلو قلت طهارة المستحاضة رافعة فمعنى ذلك : أنها لما غسلت فرجها وخرج معها الدم واسترسل أنها لاتزال طاهرة ، مع أن الشرع لم يعطها هذه الطهارة إلا لعذر وهو وجود الدم فإذا انقطع عنها الدم بعد ذلك لزمها أن ترجع إلى الأصل من الطهارة.(58/24)
وأنا أميل إلى هذا المذهب الذي فيه احتياط وإعمال للأصل أن المرأة المستحاضة يعتبر طهرها مبيح لها ؛ لأن قواعد الشريعة دالة على هذا أن ما جاز بعذر بطل بزواله ، فإذا كان الدم يسترسل معها وتطهرت في أول الوقت مثلا تريد أن تصلي صلاة الفجر فلما أذَّن عليها الفجر غلب على ظنها-الدم معها مسترسل- غلب على ظنها أنه إلى نهاية الوقت سيسترسل ، فشاء الله عز وجل أنها توضأت وغسلت فرجها فلما غسلت فرجها توضأت فخرج منها الدم فالأصل يقتضي أنها ترجع مرة ثانية وتتوضأ ؛ لكن لوجود العذر خفف عنها فلما جاءت تصلي إذا به قد انقطع عنها الدم تماماً فما الحكم ..؟؟
إذا جئت تقول لها: صلي ، فإن الله لم يجز لها أن تصلي وقد خرج منها الخارج بعد وضوئها ، وهذه قد خرج منها الخارج بعد وضوئها ، إن قلت: خارجاً لعذر ، قلنا : إن العذر ليس موجوداً أثناء فعل العبادة ، ولا بد أن يكون العذر مؤثراً حتى تستثني من الأصل ، وإن قلت لها : لايلزمها بأن تغسل فرجها فقد أمرتها بما أمر الله أن تغسل فرجها لنجاسته وأن تعيد وضوءها لأن وضؤها لم يقع على الصفة الشرعية وقد قال صلى الله عليه وسلم :(( لايقبل الله صلاة أحدكم إذا أحدث حتى يتوضأ)) فلما قال عليه الصلاة والسلام :((توضئ لكل صلاة)) دل على أن هذا الدم إذا خرج أنه ينقض وأنه مؤثر بدليل أمرها بإعادة الوضوء ، فدل على أن الوضوء لايرفع وإنما هو مبيح لها لفعل الصلاة فإذا زال العذر بطلت الرخصة ؛ لأنه أصل شرعي مستصحب ، والله تعالى أعلم.
السؤال الثالث:(58/25)
هذه سائلة تقول: إني امرأة كنت معتادة يأتيني الحيض لمدة سبعة أيام في الشهر ثم اضطربت بعد الولادة الثالثة فيبدأ الحيض في اليوم الأول صباحاً مثلاً مائلاً إلى اللون البني ، ثم بعد ذلك ينقطع عني بقية اليوم والليلة واليوم الثاني والثالث وأحياناً الرابع يكون بكمية قليلة جداً، ثم في اليوم الخامس ينزل بكميته المعتادة ويستمر لمدة خمسة أو ستة أيام حتى أطهر فما الحكم في الثلاثة أو الأربعة الأيام الأولى هل عليَّ من صلاة وصيام في هذه الفترة عندما يكون متقطعاً..؟؟
الجواب:
فهذه المسألة اضطربت فيها عادة المرأة بعد حملها ووضعها وهذا كثيراً ما يقع مع النساء إذا كن قد اعتدن الحيض بأمد معين ثم حصلت لهن الولادة أو حصل منهن حمل أو حصل إسقاط فإنه قد ترتبك عندهن العادة ، فمنهن من يبقى أصل العادة معها وينتقل من الموضع مثل ما ورد في السؤال تكون عادتها خمسه أيام فيصبح يبقى الدم ثلاثة أيام متقطعاً فإذا كان قد سبقها على وجه ميزته من دم الحيض وأن الخمس على عادتها وما ألفته فحينئذٍ تلغى الثلاث وهي سبق عادة من الاستحاضة لأن الاستحاضة تنقسم إلى قسمين :
القسم الأول : ما يكون سابقاً للحيض . والقسم الثاني : ما يكون بعد الحيض .
وعلى هذا فإنها تعتبر مستحاضة في الأيام الأول ثم تحكم بحيضها فيما تبقى ، لكن لو أن الدم جاء على صفته الذي تميزه دم حيض من أول يوم من الثلاث ثم استمر اليوم الثاني والثالث ثم جاء الخمسة الأيام التي اعتادت ثم الشهر الثاني نفس الشئ والثالث والرابع فإنه لا يبعد كما يقول بعض العلماء أنها انتقلت إلى عدد جديد حيث زادت عادتها من الخمس إلى الثمان إذا ميزت ووجدت الأمارة التي تدل على رجحان كونه حيضاً ، والله تعالى أعلم .
السؤال الرابع :(58/26)
هناك شخص بعد أن بلغ من العمر 33 عاماً تأكد له أنه قد رضع مع فتاة وذلك عن طريق والدة هذه الفتاة إذ قالت إن ابنتي رضعت من أمك مرات عديدة فهل يجب على الشخص أن يصل هذه الفتاة رغم مرور هذه السنين..؟؟
الجواب:
الرضاعة توجب المحرمية وما يعتقده البعض من أن الرضاعة توجب المحرمية إذا نشأ وهو صغار وألفوا ذلك وأنه إذا كبروا تبعد المرأة عن الرجل خوف الفتنة ، فهذا باطل مصادم لنصوص الشرع .
فإن الله-تعالى- أثبت الإرضاع فقال :{ وَأُمَّهَاتُكُمْ اللاتِي أَرْضَعْنَكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ مِنْ الرَّضَاعَةِ}(1) وقال عليه الصلاة والسلام :(( ائذني له فإنه عمك من الرضاعة)) وقال عليه الصلاة والسلام :((يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب)) فأثبت للرضاع ما أثبت للنسب فدل على أنه لايجوز لمسلم ولا لمؤمن يؤمن بالله واليوم الأخر أن يحرم ما أذن الله به ، وبلغ ببعض الآباء أن يمنع الأخ من الرضاعة من أخته من الرضاع وهذا خطير ، حتى إن بعض العلماء يقول: إذا منع الوالد أو منع ولي المرأة كزوجها أحداً من قرابتها من الرضاع ، وهو يعلم أنه أخوها من الرضاع وموقناً بذلك ، ويعلم أن الله أثبت للأخ من الرضاع المحرمية فحرمها عليه معتقداً أن مثله لايدخل عليها فقد كفر-والعياذ بالله- ؛ لأنه حرم ما أحل الله ومن حرم ما أحل الله وأحل ما حرَّم الله معتقداً ذلك فقد كفر ؛ لأنه يكذب الله ورسوله، فهذا أمر خطير تنشأ به بعض العادات والتقاليد أنه إذا لم ينشأ الأخ من المرضعة مع الأم المرضعة أو يكون دخل عليها وهو صغير فإنه لا يكون لها أخاً من الرضاعة في الكبر فهذا باطل وتحريم لما أحل الله ومصادمة لدين الله وشرع الله ، وعلى المسلم أن يتقي الله عز وجل المهم أن تتأكد أن هناك رضاعة ثم إذا وجدت الرضاعة فإنها توصل ولكن صلة الرضاعة ليست بصلة النسب ليس لها مثل ماللنسب من الصلة ولكنه يعتبر له حق نسبي ، والله تعالى أعلم .
السؤال الخامس :(58/27)
المصاب بدم الرعاف إذا مسح الدم بمنديل ووضعه في جيبه فما الحكم في ذلك فهل يعتبر حاملاً للنجاسة وما حكم صلاته ؟
الجواب:
نعم يعتبر حاملاً للنجاسة والحامل للنجاسة : إما أن يكون متصلاً و إما أن يكون في حكم المتصل، فحمل النجاسة المتصلة مثل الثوب يحمله على عاتقه ومثل العمامة على رأسه فهذا حمل متصل بالبدن.
وفي حكم المتصل في حكم الحالة الأولى: أن يضع في جيبيه نجاسة .
وأما بالنسبة للنوع الثاني : والذي في حكم المتصل فهو أن يحمل من به نجاسة كطفلة إذا كانت بها نجاسة فحمله يعتبر حملاً منفصلاً وليس بحمل متصل، يقول بعض العلماء : إنه في حكم المتصل مذهب طائفة من العلماء أن النجاسة إذا حملها الإنسان بحيث تكون معه إذا قام كانت معه وإذا قعد كانت معه واتصلت به اتصالا في حكم المتصل بالبدن أنها تؤثر ، وعلى هذا قالوا : إنها تؤثر في صلاته ولاتصح له الصلاة وهو عالم بذلك المنديل النجس ، أما إذا كان ناسياً له وصلى ولم يذكر فإن صلاته صحيحة ، والله تعالى أعلم .
السؤال السادس:
حضر بعض الأشخاص إلى المسجد بعد انقضاء الصلاة ووجدوا رجلاً يصلي وهوجالس لعدم قدرته على القيام فهل يصلون خلفه قائمون أم جالسون...؟؟
الجواب :
هذه المسألة مسألة إمامة القاعد والعاجز عن بعض الأركان فيها خلاف:
بعض العلماء يقولون إذا صلى الإمام قاعداً يصلي من وراءه قياماً ولايجوز لهم أن يجلسوا؛ لأن الله أمرنا بالقيام في الصلاة هو ركن الصلاة قال- تعالى-:{وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ }(1) وقال-تعالى-:{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إلى الصَّلاَةِ}(2) وقال:{ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ}(3) فأمر بالركوع والسجود وفعل الأركان فإذا كان جالساً لايستطيع أن يفعل هذه الأركان على صورتها المعتبرة فقالوا إذا صلى الإمام جالساً فعذره له ، وأما المأمومون فليسوا بمعذورين .(58/28)
وأكدوا هذا بما ثبت في السنة الصحيحة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه لما مرض مرض الوفاة وجاء محمولاً يهادى بين علي والعباس-رضي الله عنهما-حتى أقيم إلى جوار أبي بكر فصلى جالساً والناس من ورائه قياماً فقالوا إن هذا هو آخر العهد من رسول الله وقد صلى قاعداً وصلوا وراءه قياماً فيعتبر ناسخاً لما تقدم من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه في الصحيحين :(( وإذا صلى جالساً فصلوا جلوساً )) فقالوا هذا منسوخ.
وقال بعض العلماء : يصلي من وراء الجالس جالساً ويلزمه أن يجلس وذلك لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال:(( إنما جعل الإمام ليؤتم به)) وسبب هذا الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم كما في الصحيح من حديث أنس سقط من على الفرس فجحش شقه الأيمن قال أنس رضي الله عنه فصلى بصلاته قوم أو صلينا وراءه فصلى جالساً وصلينا وراءه قياماً فقال:(( لقد كدتم تفعلوا فعل الأعاجم بملوكها)) قال:((إنما جعل الإمام ليؤتم به فإذا كبر فكبروا)) إلى أن قال: (( إذا صلى جالساً فصلوا جلوساً أجمعين)) فقالوا يصلي وراءه جالساً هذان مسلكان للعلماء.
هناك مسلك ثالث واختاره بعض السلف ومنهم الإمام أحمد رحمه الله قال أجمع بين النصين إن كان الإمام إماماً راتباً للمسجد وابتدأ الصلاة من أولها جالساً فيصلون وراءه جلوساً ؛ لأن أنس والصحابة-رضوان الله عليهم- استفتحوا الصلاة وراء النبي صلى الله عليه وسلم جلوساً فلزمتهم جلوساً ، وأما إذا استفتحوا الصلاة قياماً كحديث أبي بكر في مرض الوفاة طرأ الجلوس ؛ لأن الإمام الذي صلى بهم وهو أبو بكر كان قائماً فلزمتهم الصلاة قياماً فالعبرة بها فحينئذٍ يصلون قياماً وإن طرء جلوس الإمام بعد ذلك فإنهم يتمونها قياماً ، والله تعالى أعلم .
وصلى الله على بينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.(58/29)
(
قال المصنف رحمه الله : بَاب مَا جَاءَ فِي الْمُسْتَحَاضَةِ
حَدَّثَنَا هَنَّادٌ حَدَّثَنَا وَكِيعٌ وَعَبْدَةُ وَأَبُو مُعَاوِيَةَ عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ:" جَاءَتْ فَاطِمَةُ بِنْتُ أَبِي حُبَيْشٍ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَتْ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنِّي امْرَأَةٌ أُسْتَحَاضُ فَلا أَطْهُرُ أَفَأَدَعُ الصَّلاَةَ ؟قَالَ:(( لاَ إِنَّمَا ذَلِكَ عِرْقٌ وَلَيْسَتْ بِالْحَيْضَةِ فَإِذَا أَقْبَلَتِ الْحَيْضَةُ فَدَعِي الصَّلاَةَ وَإِذَا أَدْبَرَتْ فَاغْسِلِي عَنْكِ الدَّمَ وَصَلِّي)).
قَالَ أَبُو مُعَاوِيَةَ فِي حَدِيثِهِ وَقَالَ:(( تَوَضَّئِي لِكُلِّ صَلاَةٍ حَتَّى يَجِيءَ ذَلِكَ الْوَقْتُ)).
قَالَ رحمه الله : وَفِي الْبَاب عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ ، وقَالَ أَبو عِيسَى حَدِيثُ عَائِشَةَ حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ وَهُوَ قَوْلُ غَيْرِ وَاحِدٍ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَالتَّابِعِينَ وَبِهِ يَقُولُ سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ وَمَالِكٌ وَابْنُ الْمُبَارَكِ وَالشَّافِعِيُّ أَنَّ الْمُسْتَحَاضَةَ إِذَا جَاوَزَتْ أَيَّامَ أَقْرَائِهَا اغْتَسَلَتْ وَتَوَضَّأَتْ لِكُلِّ صَلاَةٍ .
الشرح:
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام الأتمان الأكملان على خير خلق الله أجمعين وعلى آله وصحبه ومن سار على نهجه واهتدى بهديه إلى يوم الدين أما بعد :(59/1)
فقد تقدم الحديث عما تضمنه حديث أم المؤمنين عائشة -رضي الله عنها- هذا ، وقد ذكر الإمام الترمذي رحمه الله الجملة الاخيرة : ((وتوضئي لكل صلاة )) هذه الجملة اشتملت على حكم طهارة الحدث بالنسبة للمرأة المستحاضة ، وقد ذكرنا مسائل المستحاضة من جهة طهارة الخبث فبقي السؤال كيف تتطهر لكي تؤدي صلاتها بعد الحكم بكونها مستحاضة ؟ فإذا تطهرت المرأة المستحاضة وغسلت الدم من الفرج وعصبته واغتسلت ثم أرادت أن تؤدي الصلاة فإن العلماء –رحمهم الله- اختلفوا في حكمها :(59/2)
فذهب طائفة من السلف وهو مذهب الإمام الشافعي وأحمد وقال به جمع من أصحاب الإمام أبي حنيفة رحمه الله أنه يجب عليها أن تتوضأ لدخول وقت كل صلاة ، فهي بعد طهارتها من الخبث واغتسالها من حيضها تبقى ملزمة بالصلاة عند دخول وقت كل صلاة فإذا أذَّن الظهر فإنها تفعل طهارة الخبث التي سبق بيانها في المجلس الماضي ، ثم تتوضأ بعد دخول وقت الظهر فتصلي الظهر وتصلي جميع النوافل المتعلقة بالظهر القبلية والبعدية وتصلي سائر النوافل المطلقة حتى يدخل وقت العصر، فإذا دخل وقت العصر فإنها تتطهر من خبثها بالصفة التي بيناها ثم بعد ذلك تتوضأ مرة ثانية وتصلي العصر وهكذا بقية الصلوات ، هذا كله في المستحاضة على الصفة التي ذكرناها وهي أرجح قولي العلماء رحمهم الله ، هناك تفصيل عند أهل العلم سنتعرض له في حديث حمنة -رضي الله عنها وأرضاها- حينما أمرها رسول الله صلى الله عليه وسلم أن تؤخر الظهر إلى وقت العصر فإذا بقي من وقت الظهر على قدر صلاتها للظهر توضأت وصلت الظهر ثم يدخل وقت العصر فتقيم للعصر وتصليه ، وهذا في نوع من المستحاضات وهي التي يستمسك معها الدم لفترة يمكنها أن تجمع فيها الجمع الصوري -وسنبين حكمها إن شاء الله- ؛ لكن الذي يعنينا هنا أن قوله : ((وتوضئي لكل صلاة)) قال به جمهور العلماء رحمهم الله وهم ممن سمينا من الشافعية والحنابلة وجل أصحاب الإمام أبي حنيفة حتى إن بعض أهل العلم يقول : إنه هو مذهب الإمام أبي حنيفة-رحم الله الجميع - ، وعلى هذا القول تتطهر بالوضوء عند دخول وقت كل صلاة .
لكن هناك خلاف بين الجمهور :
بعضهم يرى أن الوضوء للفريضة ، وبعضهم يرى أن الوضوء لوقت الفريضة .(59/3)
وهناك فرق بين قولنا إن الوضوء للفريضة وبين قولنا إن الوضوء لوقت الفريضة ، فعلى مذهب الحنفية والحنابلة من الجمهور يرون أن الوضوء لوقت الفريضة وليس للفريضة فإذا دخل الظهر عليها جاز لها أن تصلي صلاة الظهر الحاضرة وجاز لها أن تصلي الفرائض المقضية ولا حرج عليها في ذلك ، فأصبح الوضوء عندهم لدخول الوقت كالتيمم .
لكن الإمام الشافعي رحمه الله يرى أن الوضوء للفريضة نفسها ،وعلى هذا فلو كانت قد فاتتها صلاة الفجر ولم تستيقظ إلا بدخول وقت الظهر فإنها تتوضأ للفجر وضوء اً مستقلاً وتتوضأ للظهر وضوءاً آخر ؛ لأنه يرى أن الوضوء للفريضة فيرى أن للمقضية وضوء اً وللحاضرة المؤداة وضوءاً آخر هذا الفرق بين القولين ، والصحيح أن الوضوء لدخول الفريضة .
وقوله:(( حتى يجيئ ذلك الوقت)) : المراد به وقت الصلاة كما تقول للرجل آتيك في وقت صلاة الظهر فإن مرادك الوقت نفسه الذي تكون فيه الصلاة ، فأمره عليه الصلاة والسلام بالوضوء : ((حتى يجيء ذلك الوقت)) معناه أنها تتوضأ لوقت الصلاة الأولى حتى يدخل وقت الصلاة الثانية .
تبقى مسألة هل يجب عليها أن تغتسل لدخول وقت كل صلاة أو تغتسل في اليوم مرتين أو تغتسل في اليوم مرة واحدة ؟ هذا كله أفرد له المصنف رحمه الله أحاديث خاصة- سنتكلم عليها إن شاء الله تعالى في المجالس القادمة-، قد رغب بعض الأخوان أن تكون هناك مجموعة من الأسئلة في هذا المجلس على ما تقدم من مسائل الحيض والنفاس لأننا تعرضنا في المجلس الماضي والذي قبله والذي قبله لمسائل الحيض والنفاس ، فهناك بعض الأمور المشكلة التي لم يتيسر عرضها في المجالس الماضية جمعت ثم فرزت ورتبت وأحب أن يكون هناك أسئلة عنها فنسأل الله عز وجل أن يلهمنا الصواب وأن يوفقنا لما فيه رضاه في الدنيا والمآب ، والله تعالى أعلم .
مجموعة من أسئلة الحيض والنفاس والاستحاضة المتعلقة بالدروس الماضية :
السؤال الأول :(59/4)
كما لا يخفاكم أن كتاب الحيض يعتبر من أهم الكتب التي اعتني العلماء رحمهم الله بمسائلها ولكن يلاحظ أن مسائله تحتاج إلى شيء من المنهجية والعناية فهلا تفضلتم ببيان بعض الأمور المهمة التي تساعد طلاب العلم على ضبطه وإتقانه..؟؟
الجواب:
بسم الله الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه أما بعد :
فلا حول ولا قوة إلا بالله الأمر كله بتوفيق الله عز وجل ، وإذا ألهم الله عبده الصواب سهل له طريقه وثبته عليه -ونسأل الله العظيم أن يجعلنا وإياكم ذلك الرجل- وما توفيقنا إلا بالله ولا حول ولا قوة إلا بالله ،لكن هناك أمور إذا تيسرت لطالب العلم خاصةً في الأبواب الصعبة تكون معينة له على الضبط والتحصيل وباب الحيض كما ذُكر باب مهم ، الإمام أحمد رحمه الله وهو في جلالة علمه وقدره-رحمه الله برحمته الواسعة- " يقول مكثتُ في الحيض تسع سنين حتى علمته "، وهذا يدل على عظم هذا الباب وخاصة أن مسائله تتعلق بالعبادات وبالمعاملات والناس يقعون فيه في حرج عظيم ويُشكل على طلاب العلم ضبطه وذلك لأسباب خاصة عند تشعب المسائل وتعددها ، وكان بعض المشائخ رحمه الله يلاطف إذا قيل له إن باب الحيض باب مهم أو باب مزعج أو باب يحتاج إلى ضبط يقول هذا الباب صعب عليَّ أن أفهمكموه وصعب أن تفهموه لأنني لا أحيض ولا تحيضون ، فالإشكال في باب الحيض أن الرجل يتعامل مع شئ على سبيل التصور لا على سبيل التطبيق فهو شيء ينقل للإنسان دون أن يعلم حقيقته في الغالب ، وإن كان لا يخلو الإنسان مع وجود الأهل والزوج قد يطلع على بعض الأمور وقد يدرك بعض الأمور لكن من صعوبة هذا الباب وجود قضية التصور ، ولذلك قد يقع بعض طلاب العلم في شيء من اللبس المبني على فرضية سؤال لا حقيقة له لأنه لم يعلم الحيض ما هو ولذلك يفرض أشياء في ذهنه فإذا لم يكن هناك منهج في دراسة أبواب الحيض ومسائل الحيض ربما أن طالب العلم يصل إلى شيء من التشويش(59/5)
في مسائله وعدم ضبطه ، ولكن هناك أمور :
أولها : باب الحيض يحتاج إلى قضية التصور ، وقبل أن يدخل طالب العلم لأي مسألة وهذه قاعدة ومنهجية متبعة في مسائل الخلاف الفقهي ، أي مسألة خلافية بين العلماء لا تدخل فيها ولا تحاول أن تبحثها حتى تتصورها التصور الكامل وهذا التصور يحتاج منك إلى الرجوع إلى الحقائق الشرعية التي يسمونها مثلاً التعريفات اللغوية الموجودة في كتب اللغة ، قالوا مثلاً الصفرة الكدرة قبل أن تبحث موقف العلماء من الصفرة والكدرة تسأل ماهى حقيقة الصفرة وماهي حقيقة الكدرة ؟ وتستعين بعد الله عز وجل بسؤال أهل الخبرة من العلماء أو من الناس أو تبحث في كتب اللغة التي تصور هذه الحقائق هذه الحقيقة اللغوية .
ثانياً : الحقيقة الشرعية للمصطلح الذي تريد أن تبحث عن موقف العلماء رحمهم الله منه ، بعد الإلمام بجزئية التصور ينتقل طالب العلم إلى جزئية الأحكام ، فإذا كان الحكم مجمعاً عليه فلا إشكال وإن كان مختلفاً فيه كما ذكرنا في المسائل الخلافية تنتقل للأقوال وتراعي فهم كل قول ومراده ، يعني شخص يقول الصفرة والكدرة بعد الطهر ليست بشيء والصفرة والكدرة في امكان الحيض حيض تحتاج أن تعرف ما معنى قوله بعد الطهر ، وما معنى قوله في امكان الحيض كل قول يرد في المسألة تحاول أن تتصوره كذلك .
بعد ما تنتهي من جزئيات الأقوال تنتقل إلى تحديد محل الخلاف بين الأقوال التي وردت في المسألة ، إن كان الأول يقول هي حيض والثاني يقول ليست بحيض تعرف الذي أين ينحصر محل الخلاف فالصفرة والكدرة تحدد محل الخلاف في الصفرة والكدرة ، في التمييز تحدد محل الخلاف في التمييز ، وهكذا تحديد محل الخلاف بعد الأقوال .(59/6)
بعد أن تنتهي من تحديد محل الخلاف تبحث في الأدلة والردود والمناقشات ثم تتوصل إلى القول الراجح في المسألة ، طبعاً هذا يحتاج إلى الرجوع إلى العلماء ومن قرأ باب الحيض يفضل أن يقرأه أولاً بقول واحد بالدليل -يعني لا يقرؤه بالخلافات- ، إنما يقرؤه بقول واحد بالدليل بعد أن يتقن هذا القول يلقى الله سبحانه وتعالى بقول له دليل -يعني لا مانع أن تقرأ متناً فقهياً في كتاب الحيض-؛لكن بشرط أن يكون مدللاً له دليله وتفهم هذا الاستدلال ، بعد أن تضبط هذا القول تنتقل إلى من خالفك وما دليله وما حجته وهل الحق فيما قرأته أو عند من خالفك ، هذا بالنسبة لمسألة الضبط الأولى للمسائل ، بعد هذا تبقى مسألة ترتيب الأفكار لا تدخل لخلاف أو لجزئيات في الحيض حتى ترتب هذه الجزئيات على ما قبلها فلا يستطيع طالب العلم أن يدخل في مسائل الطهر قبل أن يعرف أقل الحيض وأكثر الحيض ، فأولاً يضبط أقل الحيض ويضبط أكثر الحيض ثم بعد ذلك يبني على ما اختل أو مسائل المستحاضة التي يحتاج فيها إلى معرفة الطهر وعلامة الطهر ونقاء المرأة والحكم بطهرها ، لابد من ترتيب الأفكار تبدأ بأقل الحيض قبل أن تبحث أكثر الحيض تبدأ بأقل سن تحيض فيه المرأة قبل أن تبحث ما هو آخر سن وهو سن اليأس إلى غير ذلك من الأمور التي ينبغي أن يراعيها الإنسان في ترتيب الأفكار .
كان العلماء رحمهم الله يبتدنون أولاً بذكر أقل سن تحيض فيه المرأة ، وبعد ذلك يبدؤون بمسألة المبتدئة وهي المرأة التي وقع معها الحيض لأول مرة، ثم يذكرون تمييزها ثم يذكرون العادة ثم يتوسعون بعد ذلك في مباحث الاستحاضة ومسائلها.(59/7)
بعد ترتيب الأفكار وهي الجزئية الثالثة بعد أن يرتب طالب العلم الأفكار وينتقل لباب الحيض بأفكاره يحرص على كثرة المراجعة ؛ لأن باب الحيض إذا لم يراجع ويستديم طالب العلم مراجعته فإنه سرعان ما ينساه يحتاج إلى كثرة مراجعة ومذاكرة ، ولذلك يستحب لطالب العلم أن يحضر مجالس العلم معه طالب أو طالبين أو ثلاثة يراجع معهم في الأسبوع مرة أو مرتين وهذا مما ينبغي وهو الرفقة في طلب العلم هذا أيضاً مما يعين ، تبقى أمور مساعدة وهي أن باب الحيض قد يحصل فيه الملل والسآمة ؛ ولكن علمك أن الله يأجرك ، وعلمك أن الله يثيبك وأن الله لا يضيع سعيك ، وأنك على ثغر من ثغور الإسلام بضبطك لهذا الباب وضبطك لهذه المسائل ، وأن الله يفرج بك كربة السائل وأن الله عز وجل يجعل لك من دعاء المسلمين وصالح رجائهم مما تفرجه عنهم من الكربات إذا سألوك ، أو أنزلوا بك المسائل يهون عليك هذه الصعاب بإذن الله عز وجل ، طالب العلم كلما أصابته السآمة والملل في طلب العلم يتعزى بعظيم الأجر من الله ، ولابد في العلم من السآمة والملل ولكن حاجتان تنتبه لهما :(59/8)
إياك أن تتكلم عن هذه السآمة تقول مللت وسئمت لا ينبغي هذا ، فإن الله يغفر لك ما في نفسك من السآمة من العلم ما لم تتكلم أو تتحدث ، فبعض طلاب العلم يقول هذا باب مزعج هذا باب ممل هكذا لا يجوز للإنسان أن يتكلم بشيء فيه حط أو نقص لهذا العلم ، العلم يجل ويكرم ولا يهان ، ويعز ولا يذل ، ويحفظ ولا يضيع إن قدرت على ضبطه فاحمد الله الذي وفقك والفضل كله لله ، وإن لم تقدر على ضبطه وتحصيله فرد ذلك إلى ذنوبك ، كان شيخ الإسلام رحمه الله يقول : إنه ليستغلق عليَّ في المسألة فأستغفر الله وأكثر من الاستغفار حتى يفتح الله علي وهو خير الفاتحين ، فقد يحرم الله طالب العلم الفهم بسبب الذنوب فإذا وجدت سوء الفهم لاترده إلى الباب ولا إلى المسائل ؛ لأن الله وصف العلم بأنه ثقيل:{ إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلاً ثَقِيلاً}(1) ولكن رد ذلك إلى ذنوبك وإلى تقصيرك وأنك لم تعط العلم كليتك ، ولذلك كانوا يقولون أعط العلم كلك يعطك بعضه ، فكيف بمن أعطى العلم بعضه؟؟ فعلى العموم لابد من دفع هذه السآمة في الكتب التي قد يظن أنها مملة أو قد يشعر الإنسان بها .(59/9)
الشيء الثاني : لا تعرض عن مجالس العلم ولووجدت شيئاً من السآمة والملل فقل هذا علم ومادام أنه يؤخذ من كتاب الله وسنة النبي صلى الله عليه وسلم ويذكرها أئمة عرفوا بأمانتهم وإخلاصهم من أئمة السلف رحمهم الله ومن اهتدى بهديهم من الخلف فقل إنني على خير ورحمة ما دمت في هذا المجلس الذي يذكر فيه الله عز وجل وأرجو من الله أن يعظم لي الأجر ، فقد يكون أجر الإنسان في مجالس العلم التي تكون عزيزة وثقيلة قد يكون أعظم من المجالس التي يأنس فيها ويرتاح بمعرفة بعض الأمور ، على العموم على طالب العلم أن يضبط هذه المسائل ويفضّل أن يكون هناك شيئاً من التركيز ثم يأخذ الإنسان الشريط للدرس ثم يراجعه وينقله ويمليه ، ثم يحاول أن يكرره ثم يذاكر وبإذن الله عز وجل إذا خلصت النية وصحت العزيمة فما بعد ذلك إلا التوفيق من الله- نسأل الله العظيم أن يوفقنا إلى ما يحبه ويرضاه- ، والله تعالى أعلم .
السؤال الثاني :
تعرضتم لمسائل دم النفاس عند بيانكم لمسائل الحيض وابتدأتم ببيانها وذكرتم أحوال دم الولادة قبل وبعد النفاس والسؤال لو وقعت الولادة بدون دم فخرج الولد بدون دم فهل تعتبر المرأة طاهرة وهل يجب عليها أن تغتسل في هذه الحالة ..؟؟
الجواب:
أما بالنسبة لكون المرأة تضع الولد بدون دم فللعلماء قولان مشهوران في هذه المسألة :
الجمهور على أنه يجب عليها أن تغتسل .
وقال بعض العلماء وهو رواية عن الإمام أحمد رحمه الله وقول أهل الرأي: لا يجب عليها أن تغتسل.(59/10)
والجمهور يعللون الغسل ليس لدم النفاس وإنما يعللوه بمسألة أخرى وهى أن خروج المني يوجب الغسل وهذا بالإجماع والنصوص دالة على هذا ، فهم يقولون الولد منعقد من المني من مني المرأة ومن مني الرجل والمرأة إذا أنزلت منيها وأخرجته وقذفته فإنه بالإجماع أنه يجب عليها أن تغتسل ؛ لكن أولئك ردوا بأنه قد استحال وباستحالته خرج عن حكم الأصل فوجب أن يعطى البراءة الأصلية ؛ لأن :" الأصل براءة الذمة حتى يدل الدليل على شغلها "، ولكن الأحوط أن تغتسل الأحوط أنها تغتسل وهو الذي تطمئن إليه النفس ، والله تعالى أعلم.
السؤال الثالث:
في المسألة السابقة لو قلنا بعدم وجوب الغسل عليها فهل يجب عليها أن تتوضأ ، ولماذا..؟؟
الجواب :
تبقى مسألة الوضوء هل تتوضأ إذا خرج منها الولد بدون دم ؟ الجواب جمهور العلماء على أنها تتوضأ ؛ والسبب في هذا أن الولد لا يخلو من رطوبة ولا يخلو من خروج علق معه وهذه الرطوبة نجسة ؛ لأن الحديث الصريح في قوله عليه الصلاة والسلام :(( ليغسل ما أصابه منها)) والولد إذا خرج يصيبه شيء مما ثمَّ في الفرج ، ومن هنا يجب عليها أن تتوضأ بلا إشكال ؛ ولكن الخلاف في الغسل على الصورة التي ذكرنا ، والله تعالى أعلم.
السؤال الرابع :
لو وقعت الولادة بدون دم في نهار رمضان وكانت المرأة صائمة فهل تؤثر في الصيام ؟ولماذا ؟ وهل قول بعض العلماء رحمهم الله بإيجاب الغسل في حال الولادة بدون دم يتفرع عليه القول بفساد الصوم التفاتاً لانعقاد المني..؟؟
الجواب:(59/11)
إذا كانت صائمة وولدت ولداً بدون دم فهذه المسألة جمهور العلماء على أن صومها يلزمها أن تعيده ؛ والسبب في هذا أنهم يقولون الجمهور الذين قالوا بوجوب الغسل يقولون : أنه يلزمها أن تعيد هذا الصوم ؛ وذلك لأن خروج المني يوجب فساد الصوم لكن هناك قول وهو الذي يعني تطمئن إليه النفس أن صومها صحيح ؛ والسبب في هذا وهو يختاره جمع من أصحاب الإمام الشافعي ، وكذلك هو قول الحنفية وقول الحنابلة أنه لا يجب عليها أن تعيد هذا الصوم ؛ والسبب في ذلك أننا لو قلنا إن هذا الولد أصله مني فإنه مني خرج بغير اختيار كما لو احتلمت وهي نائمة فإنه لا يؤثر في صومها ، وبناءً على ذلك يقوى القول بأن صومها صحيح ولا يلزمها أن تعيده ؛ لأنه ليس ثم دم يوجب فساد صومها ، والله تعالى أعلم .
السؤال الخامس:
في الولادة القيصرية إذا أُخرج الجنين من البطن ولم يخرج الدم من الرحم فهل تكون المرأة طاهرة..؟؟
الجواب:
في الولادة القيصرية إذا خرج الولد من البطن بدون دم فإنه يحكم بطهر المرأة ، وليست هي بنفساء ؛ وذلك لأن الله رتب النفاس على وجود الدم ولا دم ، والله تعالى أعلم .
السؤال السادس:
إذا ولدت المرأة وخرج معها يسير من الدم ثم طهرت تماماً فهل يجب عليها الصوم والصلاة وتعتبر طاهرة أو لابد من تمام الأربعين يوماً..؟؟
الجواب:
المرأة النفساء إذا انقطع عنها الدم قبل تمام الأربعين مثل ما ورد في السؤال جرى معها الدم مدة ثم انقطع وأرادت أن تصوم وتصلي فإنه يلزمها أن تصوم وتصلي ، أما الصوم فإنها إن طهرت أو انقطع عنها دم النفاس ورأت علامة طهرها قبل دخول الفجر نوت الصوم وصامت وصومها صحيح ، وكذلك بالنسبة للصلاة فإنها لازمة لها لأنها طاهرة والحكم مرتب على وجود الدم ولا دم ، والله تعالى أعلم .
السؤال السابع :
قال بعض العلماء رحمهم الله إن أقل دم الحيض يوم وليلة فهل لدم النفاس حد أقلي على هذا القول وغيره من الأقوال المحددة لأقل الحيض..؟؟(59/12)
الجواب:
الخلاف بين العلماء في أقل الحيض ، وأما بالنسبة للنفاس فإنه لا حد لأقله ؛ بل ذكرنا أنها حتى لو ولدت بدون دم فهذا لا إشكال أنها لا تعتبر نفساء بمعنى أنها لا تأخذ النفاس من كل وجه ، وأما بالنسبة لدفعة الدم التي تكون بعد الولادة لو جرى معها الدم نصف ساعة أو ساعة فهي نفساء بقدر نصف ساعة أو ساعة ، فلو أنها خلال الساعة هذه استغرقت وقتاً للصلاة ثم طهرت بدخول الوقت الثاني لزمها أن تصلي الصلاة الثانية دون الأولى ؛ لأنها نفساء في الساعة الأولى دون الثانية ، والله تعالى أعلم.
السؤال الثامن :
إذا أسقطت المرأة جنينها في حالة فزع أو نحوها فخرج معها دم بعد سقوطه فهل يعتبر هذا الدم دم نفاس أو لا يعتبر..؟؟
الجواب:
الإسقاط إذا أسقطت المرأة جنينها أو أُسقطت بفزع أو خوف أو حملت شيئاً ثقيلاً فأسقطت فلا يخلو الذي تسقطه من حالتين:
الحالة الأولى : أن يكون فيه صورة الخلقة : إما أن يكون تام الخلقة ، أو يكون ناقص الخلقة المهم أن فيه شيئاً من التخلق ، فالدم الذي يجري معها في حكم دم النفاس .
والحالة الثانية : أن تسقط وليس فيه شيء من الخلقة كالعلقة والمضغة ونحو ذلك ، فإنه يعتبر دم استحاضة ولا يوجب ما يوجبه دم النفاس على أصح قولي العلماء ،والله تعالى أعلم .
السؤال التاسع :
إذا ولدت المرأة ورأت الدم عشرين يوماً ثم طهرت خمسة أيام ثم عاودها الدم عشرين يوماً أخرى فما الحكم..؟؟
الجواب:
هذه المسألة تعرف بمسألة التلفيق في دم النفاس ، فالمرأة النفساء نفاسها أمده الأربعون فهي تجلس إلى الأربعين إذا استمر معها الدم فإذا انقطع الدم دون الأربعين وطهرت ثم عاودها فإنه يعتبر من دم النفاس ، فلو أنه جرى معها عشرين يوماً نفاساً ثم انقطع خمسة أيام أو ستة أيام ثم عاودها ؛ فإنها تضيف هذه الأيام إلى أيام نفاسها حتى تحتسب أمد النفاس المعتبر ، والله تعالى أعلم .
السؤال العاشر :(59/13)
ما الحكم إذا جاوز دم الولادة أربعين يوماً ولم تر علامة الطهر..؟؟
الجواب:
هذه المسألة أكثر النفاس ، المرأة النفساء إذا جاوزت الأربعين يوماً فإنه يحكم بكونها مستحاضة كما في الحديث الصحيح "كانت النفساء تجلس على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم أربعين يوماً"، فهذا يدل على أن أمد النفاس هو الأربعون وأن ما جاوز الأربعين يعتبر استحاضة إلا في بعض المسائل الخاصة المستثناة ، والله تعالى أعلم.
السؤال الحادي عشر :
امرأة ولدت وجرى معها دم النفاس عشرين يوماً ثم طهرت بعد ذلك فهل يجوز لزوجها أن يأتيها..؟؟
الجواب:
مسألة جماع الرجل لامرأته قبل تمام أمد النفاس ، هذه المسألة جمهور العلماء على أنه يجوز له أن يأتيها ؛ ولكن الإمام أحمد كان يكره إتيانه لها قبل تمام الأربعين ، وهذا أمر سألت بعض الأطباء وذكر حتى بعض العلماء رحمهم الله أنه أمر طبي أكثر من أنه شرعي من ناحية الشرع لا بأس ويجوز له لكنه لا يحمد قبل الأربعين أن يأتي المرأة ، ولعل في جلوس المرأة إلى الأربعين حكمة بعد الولادة ، ولذلك لا يحمد إتيانها قبل الأربعين أما لو أتاها فإنه لا حرج عليه ، وجماهير العلماء على جواز ذلك ، والله تعالى أعلم .
السؤال الثاني عشر:
هل الحامل تحيض وعلى القول بعدم حيضها إذا جرى معها الدم وهي في حالة الحمل فما حكمه..؟؟
الجواب:(59/14)
الحامل لا تحيض على أصح قولي العلماء رحمهم الله ، وكانوا يستدلون بقوله سبحانه وتعالى :{ وَامْرَأَتُهُ قَائِمَةٌ فَضَحِكَتْ فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَاقَ وَمِنْ وَرَاءِ إِسْحَاقَ يَعْقُوبَ}(1) قالوا جعل الله عز وجل حيضها لحملها ، ولذلك قالوا إنها إذا وطئت وانعقد جنينها أنها لا تحيض ، ويؤكد هذا بعض الأطباء ويقولون : إن المرأة الحامل لا تحيض في الغالب ، وعلى هذا أصح الأقوال أن المرأة الحامل لا تحيض ، وبناءً عليه فالدم الذي تراه أثناء حملها يعتبر دم استحاضه لا دم حيض إلا إذا سبق الولادة بيوم أو يومين إلى ثلاثة أيام ففيه الخلاف الذي سبق ذكره وإن كان الصحيح أنه يعتبر استحاضة ، والله تعالى أعلم .
السؤال الثالث عشر:
وهل يأخذ هذا الدم حكم الحيض في تحريم الطلاق ..؟؟
الجواب:(59/15)
أما بالنسبة للحامل فيجوز أن يطلقها الرجل وهي حامل ؛ حتى إن بعض العلماء –رحمهم الله-استدلوا بقوله عليه الصلاة والسلام : (( ليطلقها وهي حائل أوحامل )) فلما ذكر في حديث ابن عمر أجاز له أن يطلقها وهي حامل دل على أن الحامل لا تحيض ؛ لأن الطلاق أثناء الحيض لا يجوز وقد دل على ذلك دليل القرآن ودليل السنة وهذا مما يؤكد رجحان مذهب من يقول إن الحامل لاتحيض ، ومن هنا فالطلاق أثناء الحمل جائز وحكى غير واحد الإجماع عليه أثناء الحمل إذا كان أثناء الحمل ولم تستبن علىالقول بأنها تحيض لم تستبنه حيضاً أنه يجوز ، وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : (( ليطلقهاحائلاً أو حاملاً)) حائلاً يعني : ليست بذات حمل " طاهراً أو حاملاً" طاهراً :أي بعد نقائها من الحيض أو حاملاً أثناء حملها للولد ، فدل على أنها ليست بحائض وأن الحامل يجوز طلاقها والإجماع محكي على هذا إلاَّ على القول بأنها أي الحامل تحيض إذا وافق حيضها ؛ ولكن على هذا القول عند المالكية رحمهم الله الذين يقولون بهذا القول يقولون إن علة الحيض نفسها غير موجودة لأنه إذا كانت حاملاً فإن أمدها وأجلها هو وضع الحمل ؛ والسبب في منع الرجل أن يطلق المرأة أثناء الحيض هو إطالة العدة على المرأة ، وخوفاً من أن يتبين أنها حامل في حال تطليقه لها في الطهر الذي مسها فيه، فقالوا : إن هذا لا يتأتى في الحمل فيجوز له أن يطلقها ولكن مع الكراهة ، وإن كان الصحيح كما ذكرنا أنه يجوز أن يطلقها وهو مذهب القائلين بأن الحامل لا تحيض ، وهو أصح الأقوال خاصةً وأن السنة دالة على جواز تطليق المرأة حال الحمل ، والله تعالى أعلم .
السؤال الرابع عشر :
هل يجوز للمرأة أن تستخدم حبوب منع الحمل وكذلك حبوب منع العادة الشهرية وإذا فرضنا أنها استعملت حبوب منع العادة فلم يجر معها الدم فهل تعتبر طاهرة وما حكم صلاتها وصومها وطوافها في هذه الحالة ..؟؟
الجواب :(59/16)
أما حبوب منع الحمل فإنه لا يجوز للمرأة أن تستعملها لما فيها من الضرر ، ومخالفة سنة الله التي شرع الله من أجلها النكاح قال صلى الله عليه وسلم :(( تناكحوا تكاثروا فإني مفاخر بكم الأمم يوم القيامة )) فجعل علة النكاح أن تكون وسيلة لكثرة الأمة وتعظيم سوداها ، وهذا هو مقصود الشرع من النكاح فإذا أصبحت تأخذ حبوب منع الحمل فإنها تخالف المقصود من النكاح ، ولذلك لايجوز لها إلا في حالات الضرورة وهي :
أن يكون حملها مؤدياً إلى هلاك الولد أو هلاكها أوهلاكهما معاً وهذه مثل حالات الحمل المنتبذ أو الحمل القنوي أو الحمل المهاجر هذه أحوال اضطرارية ؛ لأن الجنين ليس بغالب على الظن أنه ينجو فحينئذٍ يكون حملها معرضاً للخطر دون ضمان لسلامته ، أما إذا كانت قادرة على الحمل وكانت ستلد فلا يجوز لها ، فإن كان ذلك لخوف العيلة وخوف النفقة فالأمر أعظم والأمر أشد ، والإجماع منعقد على تحريم تعاطي الأسباب الموجبة لمنع الحمل خوفاً من الضيعة وخوفاً من الفقر ؛ فإن الله سبحانه وتعالى تكفل بأرزاق العباد ، وما على المسلم إلا أن يفوض أمره إلى الله سبحانه وتعالى في هذه الأمور وكم من ولد جعله الله قرة عين لوالده ، فكان مجيئه سبباً في خير على والده وخير على والديه ، وهذا أمر دلت العادة والتجربة عليه فإن الله سبحانه وتعالى يبارك في الولد ويجعل بعض الولد مباركاً قال الله سبحانه وتعالى :{وَجَعَلَنِي مُبَارَكاً أَيْنَ مَا كُنتُ} (1) فالله سبحانه وتعالى قد يبارك ، وبعض البنات قد يأتين للوالدين فيكن سبباً في الخير على الوالدين وهذا من حسن الظن بالله عز وجل وقوة الرجاء في الله سبحانه وتعالى ، وكم من فقير كان في ضيعة وفقر والله سبحانه وتعالى أغناه وزاده من الخير بعد كثرة الولد ، كان في فقر وشدة حينما كان وحيداً ومع أهله وزوجه فلما تزوج وكثر ولده عظم يقينه بالله ففتح الله له أبواب(59/17)
الرزق وأبواب الخير والبركة ،كذلك أيضاً على المرأة ألا تضعف فالمرأة إذا ضعفت بل إن الإنسان من حيث هو إذا سلمَّ أمره لله وفوض أمره إلى الله وأحسن الظن بالله -سبحانه- فإن الله يعطيه فوق ما يرجو وفوق ما يأمل ، فأي أمر من أمور الدنيا تقبلته بالنفس المطمئنة والصدر المنشرح وفي نفسك حسن الظن بالله فإن الله لا يخيبك ، فقد جاء في الحديث:(( أنا عند حسن ظن عبدي بي)) فإذا كانت المرأة مومنة بالله مؤقنة بالله سبحانه وتعالى فإن الله لا يضيعها ، كان الناس في فقر وكانوا في شدة وكانت المرأة ترعى الغنم في البادية ولا تجد إلا القليل من الطعام تقوم بولادتها بنفسها وتأتي بولدها حاملة له وقد وضعته في شعب أو في واد ؛لأنها كانت قوية اليقين بالله عز وجل ، وكان النساء على الفطرة وكانوا على الإيمان بالله سبحانه وتعالى وحسن الظن بالله وكم من نساء تجد لو تأمل الإنسان ونظر في عماته وخالاته والنساء الأول وجد المرأة تضع العشرة والعشرين والخمسة عشر بل حتى إلى الثلاثين من الولد ، والله يبارك في عمرها ويبارك في صحتها وكانوا في فقر وكانوا في شدة لكن كان عندهم الإيمان بالله والثقة بالله سبحانه وتعالى .(59/18)
لكن لما أصبحت المرأة تسيء الظن بالله عز وجل وأصبحت المخاوف ، وكل يوم يأتي شيء جديد أنه يقع كذا ويحدث كذا وأصبحت المرأة كل شهر تفحص وكل أسبوع تفحص وكل ثلاثة أيام ولو كان بيدها كل يوم وكل ساعة تفحص ؛ وكل ذلك من ضعف اليقين والإيمان بالله ليس معنى هذا أن نترك الطب وفوائد الطب ؛ ولكن المراد أن لا نغلوا وأن لا نتوسع في هذه الأمور وأن لا نعظم الأسباب حتى يحس الإنسان أن الأمور مقيدة بالأسباب ، وأنه إذا كان عنده عشرة من الولد و بعد خمس سنوات أو ستة سنوات يكون عنده خمسة أو ستة من الولد من الذي سيصرف على دراستهم وطعامهم ولباسهم وشرابهم هذا التفكير وهذا الإغراق في مثل هذه الأمور لا ينبغي لمسلم ، ينبغي عليه أن يحسن الظن بالله وأن يعلم أن الله تكفل بأمره وتكفل برزقه وأن عليه أن يفكر في شيء واحد وهو الإيمان بالله والثقة بالله سبحانه وتعالى :{ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ}(1) :{ اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ}(2) ليس بيد الناس أن يرزقوا ولكن اللقمة لا تستطيع أن ترفعها إلى فمك ولا إلى فيك ولا أن تطعم نفسك إلا أن يطعمك الله :((يا عبادي كلكم جائع إلا من أطعمته فاستطعموني أطعمكم)) الغني الثري الذي عنده الملايين ومئات الألوف تجدها معه وتمد له السفرة فيها عشرات الألوان من الطعام وهو يجلس على صحن واحد منها منعه الأطباء من كلها ؛ لأن الله لم يطعمه ما كتب الله له طعماً والفقير تجده في آخر عمره في السبعين والثمانين يأكل ما لذ وطاب من الطعام كل الطعام يأكله ولا يمنع من شيء من قوة وعافية ، فالأرزاق بيد الله والطعام من الله والشراب من الله .(59/19)
الإغراق في الأسباب حتى إن المرأة تخاف من الحمل والله- تعالى-يقول:{ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهاً وَوَضَعَتْهُ كُرْهًا}(1) وما الذي جعل بر الوالدة آكد من بر الوالد لما تحملت وعانت ، المرأة تريد حملاً بدون تعب وتريد ولادة بدون عناء !! كيف ترتفع درجات النساء ؟ وكيف يساوين فضل الرجال ؟ في كثير من الأمور التي خص الله بها الرجال من الجهاد والجماعة وغير ذلك من الأمور التي تكون للرجال دون النساء ، مثل هذه الكربات ومثل هذا الألم والضيق والهم والغم هو الذي يرفع الله به درجتها ويعظم به أجرها ويصلح به حالها ، فالإغراق في التفكر في هذه الأمور إلى درجة قطع النسل يعني هذا قطع للنسل بالتدريج ، فتجد من كفر بالله وألحد في دين الله وضل عن سبيل الله يتكاثرون ؛ ولكن أولياء الله وأهل طاعته يفكرون كيف يحدون من هذا التكاثر ؟!! ما يجوز لا يجوز للمسلم أن يفكر مثل هذا التفكير ولا يجوز للمسلمة أن تقطع عن نفسها نعمة الله عز وجل ، الله أعلم كم من عقيم يتفطر قلبه الصباح والمساء يريد الولد ويريد الذرية ، والله ينعم عليكِ وينعم على زوجك ويقر عينك بالزوج الذي ينجب وأنت تنجبي فتكفر نعمة الله !! ويرد فضل الله !! -نسأل الله السلامة- تتعاطى المرأة بيدها منع فضل الله عليها هذا لا ينبغي ولا يجوز للمرأة أن تتعاطى مثل هذه الأسباب ، والأدهى والأمر أن تتعاطى أموراً تكون محل الشبهة القوية حتى على القول بجوازها ، كوضع اللولب فإن وضع اللولب من المجرب:(59/20)
أولاً : يحتاج إلى إيلاج في الفرج ومس للفرج ونظر إلى الفرج ، وهذه لو قامت به امرأة فإن العلماء يختلفون في كثير من مسائله فكيف إذا كان في الغالب لا يقوم بها إلا رجل مع أنها تربك العادات وتجعل المرأة في حيرة من صلاتها وصيامها ، أين نحن من الإيمان بالله وتقوية الصلة بالله سبحانه وتعالى أمرنا الله أن نأخذ بالأسباب ؛ لكن الأسباب ليست بشيء إذا لم يرد الله أن تتسبب وأن يكون منها ما يكون ، فإن إبراهيم ألقي في النار وهي سبب في الإحراق والهلاك والدمار والله- تعالى- يقول:{ فَأَصَابَهَا إِعْصَارٌ فِيهِ نَارٌ فَاحْتَرَقَتْ}(1) فإن في الشجرة من الخضرة وقوة الجلد ما ليس في الآدمي الذي إذا اصطلى جسمه بالنار احترق بسرعة أكثر من الشجر ففي الشجر من الماء ومكافحة الحرارة أكثر من الآدمي ، ومع ذلك يقول الله-تعالى- لما رمي إبراهيم :{ قُلْنَا يَانَارُ كُونِي بَرْداً وَسَلاَماً عَلَى إِبْرَاهِيمَ}(2) قلنا يانار كوني برداً وسلاماً على إبراهيم فجعلها الله برداً له وسلاماً باليقين بالله وحسن الظن في الله حينما نظر إلى السبب فتوكل على الله الحي القيوم الذي لا تأخذه سنة ولا نوم ، فعلى الأمة أن تتقي الله في نفسها ، وعلى المؤمنات أن يتناصحن وأن يخوفن بعضهن بالله-- جل جلاله -- ، ننتظر الذرية الصالحة ننتظر الذرية الطيبة خاصة من الشاب الصالح والشابة الصالحة المؤمنة ننتظر من يترعرع في بيت يؤمن الله بالله عز وجل يمقت الخَلقَ وينظر إليهم نظر المقت إلا لمن آمن به سبحانه وتعالى ذكروا أن رجلاً من الأطباء جاءه رجل مسلم في بلاد الهند جاءه يريد منه أن يوقف أو يستأصل رحم زوجته فلما سأله هذا بكى الطبيب فاستعجبّ المسلم من ذلك واستغرب ما يكون من بكائه ، فسأله عن سبب البكاء فقال: إن وزجته أنجبت أربعة من الولد- هذا الطبيب يحكي للرجل الذي يريد أن يوقف النسل بالطريقة التي ذكرناها- ، فقال هذا الطبيب : إنه(59/21)
هو وزوجته أنجبت له أربعة من الأولاد فلما أنجبت الأربعة قالت له: ما دام هذا الأمر هكذا فأرادت أن تستأصل هذا الشيء ولا تحمل فاتفقت معه على ذلك ، فأعطاها إبرة كانت سبباً في عقمها وانقطاع نسلها ، ويشاء الله أن يترعرع الأربعة ثم يذهبون في حادث واحد الأربعة من الولد !! ولا يبقى إلا هو وزوجته فكلما جاءهم إنسان وهو يريد منه أن يتعاطى هذا السبب يبكي ؛ لأنه يتذكر مع أنه كافر بالله عز وجل ومع هذا يتذكر ما كان منه فعلى المؤمن أن يحمد نعمة الله عز وجل ويشكر الله على فضله ، وما يدريك أن هذا الولد الأخير هو الذي فيه الخير والبركة.(59/22)
وحدثني الوالد رحمه الله عن رجل من أصدقائه بلغ تسعين سنة وهو من حملة كتاب الله عز وجل أن أمه حملت تسعة من الولد كلهم إناث كلهن بنات فلما حملت به وهو العاشر شاء الله عز وجل أنها يئست وعقدت العزم على أنها تسقط هذا الجنين ، وذهبت إلى العطار هذا في القديم وهذا الكلام في أوائل القرن الماضي ورأيت هذا الرجل وهو من أهل الفضل وعُمر وكان من أصدقاء الوالد رحمه الله ، هذا الرجل الصالح يقول : إنها حملت به فلما أعطيت هذا الدواء قيل لها تشربيه على الريق في السحر قبل الفجر قبل أن تطعمي شيئاً أول ما تستيقظين تشربين هذا الدواء ليكون سبباً في الاسقاط ، فلما استيقظت في الفجر وكان الناس فيهم خير فسمعت صائحاً يصيح وهو يدعو الله ويقول : يا أرحم الراحمين ، فاقشعر بدنها لما سمعت كلمة يا أرحم الراحمين مادام أن الله سبحانه وتعالى موجود لماذا لا أتوكل على الله وأفوض أمري إلى الله ؟ والله يقولها للوالد يحكيها عن والدته وهي امرأة كان فيها خير وصلاح يقول : فأسقطت الدواء وعقدت العزم على أنها لا تمس هذا الحمل بسوء ، و يشاء الله أن يكون ذكراً وأن يكون من أصلح أبنائها وبناتها، فهذا كله بالثقة بالله ، توكل على الله فالإنسان إذا أحسن الظن بالله عز وجل ليس لنا قيمة في هذه الحياة إلا بالإيمان ، ومهما فكرت في أمورك وشئونك وبيتك وزوجتك أن تقودها بغير الإيمان بالله فلن توفق ولن تعان ضع أمرك كله لله وأي شيء يتنافى مع عقيدتك وإيمانك بالله وحسن ظنك بالله فارمه جانباً وتوكل على الله فإن الله يأتي بالفرج لعبده من حيث لا يحتسب ، ومتى ظنت أم إسماعيل أن فَرَجها ومخرجها يأتي من تحت قدم ولدها بالإيمان بالله:{ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ} .(59/23)
فعلى العموم أوصي المؤمنات وأوصي المؤمنين أن يتقوا الله في أنفسهم وأن يحمدوا الله على فضله وأن يشكروه وأن يحسنوا الظن بالله وأن لايتعاطو هذه المواد .
بقية المسألة الثانية : لو تعاطت أسباب منع الحيض مثلاً منع العادة أو منع الحمل قلنا لا يجوز ؛ لكن لو أنها شربت ما يقطع حيضها أو يمنع حيضها ثم جاء الشهر كاملاً وصامت وصلت وطافت وأدت عمرتها فما حكم عبادتها ؟؟
الصحيح أنها إذا لم تر الدم أنها تعتبر طاهرة وصومها صحيح وصلاتها صحيحة وطوافها بالبيت صحيح ، وذلك لأن الله رتب الحكم على وجود الدم والدم ليس بموجود وهذا هو أصح قولي العلماء رحمهم الله ، والله تعالى أعلم .
السؤال الخامس عشر :
ذكرتم في أثناء حديثكم عن أقل الحيض أن العلماء رحمهم الله اختلفوا في هذه المسألة وذكرتم القول الراجح حبذا لو بينتم لنا أقوالهم لنا في هذه المسألة المهمة مع ذكر الأدلة وما هو القول الراجح ..؟؟
الجواب:
هذه المسألة من مشهورات مسائل الحيض ما هو أقل الحيض ؟ للعلماء قولان :
جمهور العلماء على أن للحيض حداً أقلياً من حيث الجملة ، هذا مذهب الحنفية والشافعية والحنابلة على أن للحيض حداً أقلياً إذا لم يبلغ هذا الحد فليس بحيض .
القول الثاني : أنه ليس للحيض حد أقلي ، وبهذا القول يقول فقهاء المالكية والظاهرية واختاره شيخ الإسلام ابن تيمية وطائفة من المحققين-رحم الله الجميع-.
الذين قالوا للحيض حد أقلي اختلفوا على قولين :
القول الأول : أقل الحيض يكون يوماً وليلة .
والقول الثاني : يقول أقل الحيض ثلاثة أيام .
القول الأول للشافعية والحنابلة ، والقول الثاني للحنفية -رحم الله الجميع-.(59/24)
بالنسبة لأدلة هؤلاء الذين يقولون باليوم والليلة أو بالثلاثة أيام ، القسم الأول الذي يقول باليوم واليلة يحتج بالعادة والعرف ، ولذلك ذكر الإمام ابن قدامة رحمه الله في المغني أنهم استدلوا بما ورد عن السلف أنهم وجدوا امرأة تتحيض يوماً وليلة هذا أقل ما وجد هذا الذي بلغهم من العلم وهو أقل ما وجد ، فقالوا نستند إلى العرف لأنه ليس ثّمَ نص ، والذين قالوا ثلاثة أيام الذين هم الحنفية فاحتجوا بحديث ضعيف ، وقد أجمع العلماء على ضعفه أقل الحيض ثلاثة أيام ولكنه حديث ضعيف ولم يصح إسناده .
أما الذين قالوا ليس له حد أقلي هذه المسألة تكلم عليها العلماء رحمهم الله وبينوا أنه ليس في الكتاب ولا في السنة ما يدل على أن للحيض حداً أقلياً بحيث إذا نقص عنه فهو ليس بحيض ، وقالوا إن الأصل أن المرأة إذا بلغت سن الحيض ورأت الدم فهي على العادة الغالبة المطردة أنها تحيض فنحكم بكونها حائضاً ما لم تجاوز أكثر الحيض فنحكم بأن الزائد استحاضة ثم عندهم تفصيل فيما ترد إليه ، على العموم أصح الأقوال أنه ليس للحيض حد أقلي ، هناك دليل يتمسك به الذين يقولون الحنفية يقولون النبي صلى الله عليه وسلم قال :(( دع الصلاة أيام أقرائك)) فقال أيام والأيام جمع والجمع أقل ما يصدق ثلاثة فلا أقل من ثلاثة أيام ؛ ولكن أجيب على هذا الاستدلال بأنه خرج مخرج الغالب والقاعدة في الأصول :" أن النص إذا خرج مخرج الغالب لم يعتبر مفهومه" هذا بالنسبة لمسألة أقل الحيض فعلى هذا الصحيح أن الحيض ولو دفعة واحدة يعتبر حيضاً مادام أنه في مكانه وزمانه ، والله تعالى أعلم .
السؤال السادس عشر :
على المسألة السابقة ما هي ثمرة الخلاف وما هي فائدته..؟؟
الجواب:(59/25)
هذا الخلاف محقق وله فائدة وثمرة حاصلها : أننا إذا قلنا ليس للحيض حد أقلي فلو كان عمر المرأة تسع سنين ورأت الدم بعد التسع سنين رأته ساعتين ، ثلاث ساعات ، أربع ساعات ، عشر ساعات فهو حيض عند من يقول إنه ليس له حد أقلي ؛ لأنه يرى قليل الدم وكثيره حيضاً على هذا الوجه .
على القول بأنه لابد من يوم وليلة يقولون : كل امرأة بلغت تسع سنين ولم تحض من قبل ، لا بد لحكمنا بكونها حائضاً أن يأتيها الدم ويستمر يوماً وليلة فإن انقطع قبل اليوم والليلة فليست ببالغة وليست بحائض ، وهذا الدم ليس له معنى وليس له تأثير هذا بالنسبة للتحديد باليوم والليلة .
بالنسبة للثلاثة نفس الحكم يرون أنه لا يحكم بحيضها إلا إذا جاوزت إلى ثلاث فإذا كانت يوماً أو يومين فليست بحائض ولا يحكم ببلوغها ، وهكذا بالنسبة لبقية المسائل .
هناك من فوائد الخلاف : أنه لو جرى مع المرأة الدم ولم تكن لها عادة ولا تمييز وجاوز أكثر الحيض الذي هو خمسة عشر يوماً فعند أصحاب قول اليوم والليلة يردونها يقولون : تتحيض يوماً وليلة فتحسب من الخمسة عشر يوماً التي مضت يوماً وليلة حيض والباقي استحاضة ، ويلزمها أن تقضي الصلوات التي تركتها أثناء هذه المدة والصحيح ماذكرناه ، والله تعالى أعلم .
السؤال السابع عشر :
بالنسبة للعادة في الحيض ذكرتم أن المرأة تصبح ذات عادة إذا حاضت ثلاثة أشهر متتابعة بعدد واحد دون اختلاف والسؤال لو فرضنا أن المرأة لأول مرة جاءها الحيض ومكث معها الدم خمسة أيام أو ستة فما حكمها..؟؟
الجواب:(59/26)
إذا كانت المرأة لأول مرة تحيض وجرى معها الدم خمسة أيام لأول حيضة لها فإنها تعتبر الخمس حيضاً ، ولذلك يقول المبتدئة عادتها أول مرة يعني ما انقطع من دون أكثر الحيض يعتبر كله حيضاً فلو انقطع لستة أيام أو سبعة أيام أو ثمانية أو عشرة مادام أنه لأقل الحيض فإنه حيض ؛ ولكن عند من يقول اليوم والليلة يردها إلى اليوم واليلة حتى تستمر ثلاثة أشهر بمعنى واحد ، هذه من فوائد الحيض بيوم وليلة أن عند من يقول أنه لاحد لأقله يقول : إن المرأة إذا جاءها الحيض لأول مرة خمسة أيام فهي حائض خمسة أيام فإذا جاء الشهر الثاني خمسة أيام فهي حائض خمسة أيام والشهر الثالث خمسة أيام فكأنه يرى أن عادتها بالمرة الأولى.
وأما بالنسبة لمن يرى أن اليوم والليلة هي أقل الحيض يقول : إنها ترد إلى الأصل في الحيضة الأولى والحيضة الثانية وتحكم بكونها معتادة من الحيضة الثالثة وتمكث الخمس من الحيضة الثالثة وتقضي بقية الأيام لأنه تبين أنها حائض فيها والصحيح ما ذكرناه أنه ليس لحده أقل ، وبناءً على ذلك فإنها تمكث الخمسة أيام حاكمة على نفسها بكونها حائضاً ، والله تعالى أعلم .
السؤال الثامن عشر:
ما هو الحكم إذا اختلفت العادة والتمييز فهل الأقوى العادة أم التمييز مع ذكر الدليل..؟؟
الجواب:(59/27)
هذه مسألة خلافية إذا كانت المرأة لها أيام معينة تحيضها وميزت دمها فمثلاً لها خمسة أيام تحيضها من كل شهر وتعرف لون حيضها أنه أحمر غامض فجاءها الشهر بعد ماثبت لها العادة وثبت لها التمييز فوجئت بشهر من الشهور يأتيها ستة أيام بلون واحد ثم انقطع بعد السادس فهل نردها إلى عادتها أو نردها إلى تمييزها ؟ عندها عادة وعندها تمييز ، فبعض العلماء يقول : العادة أقوى من التمييز فنقول تحيضي خمسة أيام حتى يأتيك في الحيض الثاني وتنتقلين إليه بانقطاع الدم وعلامة الطهر ، وأما إذا لم ينقطع واستحاضت حتى بلغت أكثر الحيض فترد إلى عادتها ويستدلون بحديث فاطمة -رضي الله عنها- وحديث أم حبيبة-رضي الله عنها-:(( لتنظر الأيام التي كانت تحيضهن قبل أن يصيبها الذي أصابها)) فإذا خلفت قدرها فلتغتسل فردها إلى العادة ، وهذا يدل على أنها أقوى من التمييز ، ثم إن التمييز حديثه فيه كلام ؛ ولكن العادة أحاديثها في الصحيحين ومجمع على ثبوتها ، ولذلك يقوى القول بتقديم العادة على التمييز وتكون المرأة في هذه الحالة عاملة بعادتها ، والله تعالى أعلم .
السؤال التاسع عشر :
إذا جرى الدم مع المرأة بعد الولادة أربعين يوماً ثم تغير بصفات دم الحيض فهل نحكم بكونها حائضاً أو مستحاضة..؟؟
الجواب:
بسم الله الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه أما بعد:
فإذا جرى مع المرأة دم النفاس ثم انقطع ثم عاودها الدم بصفات دم الحيض وميزته وتأكدت أنه حيض فإنها تنتقل من كونها نفساء إلى كونها حائضاً ولا تحكم بكونها مستحاضة ؛ لأن التمييز في هذا معتبر ، والله تعالى أعلم .
السؤال العشرون :
من أفضل ما يستغل به المسلم وقته هو العمل الصالح الذي يذهب معه في قبره وحشره فما هي أفضل الأعمال التي يقضي بها المسلم وقته وجهونا في ذلك..؟؟
الجواب:(59/28)
أحب الأعمال إلى الله عز وجل توحيده والإيمان به وحسن الظن به سبحانه وتعالى وصدق اللجأ إليه ، ولذلك عظم الله في كتابه أعمال القلوب من خشيته -سبحانه- والخوف منه وحبه -سبحانه- والتوكل عليه ، وكذلك ما يصحب ذلك من أعمال الجوارح التي تزيد الإيمان بالله سبحانه وتعالى وإذا وقر الإيمان في القلب صدقه العمل ، ولا صلاح للقلوب إلا بالإيمان بالله والتوكل على الله وكمال اليقين في الله سبحانه وتعالى ، وإذا صلح القلب بالإيمان صلحت الجوارح قال صلى الله عليه وسلم (( ألا إن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله وإذا فسدت فسد الجسد كله ألا وهي القلب)) ولا يمكن للقلب أن يصلح إلا بالإيمان بالله قال الله- تعالى-:{وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ}(1) فإذا آمن العبد بربه وأصبح وأمسى وليس في قلبه إلا الله ولا يرجوا إلا رحمة الله ، ولا يخاف إلا من الله إن أصابته ضراء صبر فكان خيراً له وإن أصابته سراء شكر فكان خيراً له ، إذا كمل إيمانه بالله وعظم يقينه في الله فإنه ينال السعادة الأبدية في الدنيا والآخرة ، فأول ما ينبغي على من يريد أن يلقى الله سبحانه وتعالى بأحب الأعمال وأفضل الأعمال أن يصلح ما بينه وبين الله ومن أصلح ما بينه وبين الله أصلح الله ما بينه وبين الناس : {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمْ الرَّحْمَانُ وُدًّا}(2) فيجعله الله محل الحب ومحل الإجلال ويصلح له ما يكون بينه وبين أهله وزوجه ، قال الله عن نبيه زكريا :{ وَأَصْلَحْنَا لَهُ زَوْجَهُ}(3) فالله يصلح لك جميع الشئون ويتولى لك جميع الأمور متى ما أمسيت وأصبحت مؤمناً به ، متوكلاً عليه مفوضاً أمورك كلها إلى الله ، ووالله إن الإنسان يعلم الله الذي لا إله غيره ولا رب سواه أننا لانأسف في هذه الدنيا على ذهاب الأموال ، ولا على ذهاب الأولاد ، ولا على غيرها من ما فيها من(59/29)
لذات الدنيا وشرورها ؛ ولكن والله نأسف أننا نخرج وما قدرنا الله حق قدره ، الإنسان إذا أمسى وأصبح في نعمة عبدٍ ، تحدث بنعمة العبد صباحاً ومساءً وحفظ معروفه وذكره بين الناس ، ولكن قل أن يذكر فضل الله وإحسانه ، وهو في كل طرفة عين وفي كل لمحة بال يغدق الله عليه من النعم ويدفع الله عنه من الشرور والنقم ما لا يعلمه إلا هو سبحانه وتعالى ، فالواجب على الإنسان إذا فكر أن يعمر وقته : أن يعلم أن الله لا يبارك له في هذا الوقت وأن الله لا يصلح له وقته ولا يضع له فيه الخير والبر إلا إذا أصلح ما بينه وبين الله بصلاح قلبه ، ويملأ قلبه من إجلال الله وتوحيده وتعظيم الله سبحانه وتعالى فإذا فعل ذلك آثر ما عند الله على ماعنده وآثر الآخرة على الدنيا وبذلك يشمر عن ساعد الجد في طاعة الله ومرضاة الله ولا تكل له عزيمة ولا تفنى له نفس في طلب ما عند الله سبحانه وتعالى من رضوانه العظيم ومحبته الكريمة –ونسأل الله العظيم أن يجعلنا وإياكم ذلك الرجل- فإذا أراد المسلم أن يصلح الله له وقته وأن يصلح له عمره حرص على فضائل الأعمال التي تثبت الإيمان في القلب وتزيد الإنسان تمسكاً بطاعة الله وأحبها إلى الله وأزكاها عند الله كثرة الصلوات وكثرة النوافل قال صلى الله عليه وسلم :(( استقيموا ولن تحصوا واعلموا أن خير أعمالكم الصلاة )) فيستكثر المؤمن من النوافل ويحرص على أنه يمسي ويصبح وله في صحيفة عمله من النوافل خاصة في قيام الليل ، فنوافل الصلوات لها سر عظيم في حفظ الإنسان والله- تعالى- جعل الصلاة من أعظم القربات التي يحفظ بها العبد ، يحفظ بها من الفتن ومن الشهوات ، وكان بعض العلماء والأئمة إذا اشتكي إليهم من الفتن أمر بالصلاة ، وذكر صاحبها بالصلاة وقال له لن تفتن ما دمت محافظاً على الصلاة فإن الله يقيم للعبد أمر الدنيا والآخرة بالصلاة ، ولذلك جعل الجنة مقرونة بإقام الصلاة وثبت في الحديث عن النبي--(59/30)
صلى الله عليه وسلم --: (( أن من حفظ للصلاة طهارتها وركوعها وسجودها ووقتها وأداها على وجهها صعدت إلى السماء وعليها نور ففتحت لها أبواب السماء حتى تنتهي إلى ماشاء الله وتقول حفظك الله كما حفظتني )) ولن تجد شاباً ملتزماً على طاعة الله -لأن أكثر ما يتعرض للفتن الشباب- ولن تجد شاباً يحرص على أنه لا يؤذن للصلاة إلا وهو في المسجد ولا تقام الصلاة إلا وهو في المسجد ولا يخرج من المسجد إلا بعد إتمام أذكار الصلوات إلا وجدته أشرح الناس صدراً وأقواهم قلباً وجناناً ؛ ولكن بمجرد ما يفرط في هذه الأمور فتجده يقول إنه ملتزم ومهتد بالله عز وجل فلا يأتي الصلاة إلا في آخرها وإذا انتهى من صلاته شوش فكره بما يكون من أمور الدنيا ويريد بعد ذلك ثبات القلب وصلاح الحال ، لابد للإنسان من التضحية لابد للإنسان إذا راد أن يبارك الله له وأن يكون من أهل الفضائل ومن الأعمال الصالحة أن يقدم ، وما يقدم لنفسه من الخير يجده عند الله سبحانه وتعالى ، فهذا الالتزام وهذه الهداية تحتاج إلى اغتنام العمر في مرضات الله حتى يكون إنساناً صادقاً في التزامه ، فإذا كان المسلم محافظاً على الصلاة فإنها من أحب الأعمال إلى الله .(59/31)
وأعظمها أجراً عند الله ، كذلك أيضاً من أحب الأعمال إلى الله عز وجل بعد إقامة حقه بر الوالدين فإذا أمسى الإنسان وأصبح فلينعم عينه ولتقر عينه ببر والده وبر والدته وليهنأ بساعةٍ تمر عليه وقد بر فيها والده ووالدته ، وإذا كانا أمواتاً تمر عليه الساعة وقد ترحم على أبٍ ميتة أو على أم ميته فسأل الله أن يغفر لها وأن يرحمها وأن يفسح لها في قبرها ، كلٌ منا يسأل نفسه خاصة إذا كان الوالدان أمواتاً ماالذي قدمه للوالدين ؟ ومتى يذكر الوالدين في صالح دعائه ؟ ومتى يبتهل إلى الله ؟ وكان الواجب عليه أن لايفتر عن ذكر جميلهم وفضلهم ، والله لو سبقهم الإنسان لما فترت ألسنتهما إلا في القليل عن ذكرك والدعاء لك والترحم عليك فينبغي للإنسان أن يحفظ هذا العمل الصالح الذي هو بر الوالدين .
كذلك أيضاً من فضائل الأعمال التي يحبها الله ويثبت بها قلب العبد على الهداية صلة الرحم من زيارة الأعمام والعمات والأخوال والخالات ، أهله كلهم والقرابات والرحم من أقارب الزوجة امتثالاً لقول الله عز وجل :{وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَتَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ}(1) صلتهم بصلة الله والإحسان إليهم .
كذلك أيضاً من فضائل الأعمال تفقد الجيران والإحسان إليهم والوصاية بهم خيراً وتفريج كرباتهم إذا احتاجوا إلى مساعدة الإنسان أو الوقوف معهم ، وبذلك وصى رسول الله صلى الله عليه وسلم من الصحابة ما وصاه :(( إذا طبخ المرق أن يكثر منه حتى يتعهد منه الجيران )) فالإحسان إلى الناس خاصة من كان قريباً من الإنسان كجيرانه يحسن إليهم ولا يسيء ويكرمهم ولا يهين ولا يرون منه إلا الخير ولا يذكرهم إلا بخير ، إن رأى منه سراء شكر لله عز وجل أن وفقه للجار الصالح وإن رأى ضراء صبر واحتسب الأجر عند الله .(59/32)
كذلك أيضاً من الأعمال الصالحة التي يحبها الله عز وجل السعي في تفريج كربات المسلمين خاصة الأرامل ، فإذا رأيت أرملة أو ضعيفة في شارع وهي تسأل سترت عورتها وفرجت كربتها وأعطيتها ما تجود به نفسك فإن النبي صلى الله عليه وسلم يقول :(( الساعي على الأرملة واليتيم كالصائم الذي لا يفطر والقائم الذي لا يفتر)) فيجعل الإنسان له بيتاً فيه أرملة تعول أيتاماً يتعهدها في الأسبوع يتعهدها في الشهر ، إن استطاع يتعهدها في اليوم فلعل الله أن يجعل لها دعوة في الغيب تكون سبباً في سعادتك في الدنيا والآخرة ، هذه الأمور كلها تعين الصالح على صلاحه وتعين طالب العلم على طلبه وتعين المهتدي على هدايته لابد للمسلم أن يسعى في مرضاة الله وأن يستجيب لأمر الله :{ فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ}(1) -نسأل الله العظيم رب العرش الكريم بأسمائه الحسنى وصفاته العلى أن يمن بالعافية غدونا وآصالنا وأن يختم بالسعادة آجالنا -إنه ولي ذلك والقادر عليه .
وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصبحه أجمعين .(59/33)
بسم الله الرحمن الرحيم
قال المصنف رحمه الله : بَاب مَا جَاءَ أَنَّ الْمُسْتَحَاضَةَ تَتَوَضَّأُ لِكُلِّ صَلاَةٍ
حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ حَدَّثَنَا شَرِيكٌ عَنْ أَبِي اليقْظَانِ عَنْ عَدِيِّ بْنِ ثَابِتٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ:(( فِي الْمُسْتَحَاضَةِ تَدَعُ الصَّلاَةَ أَيَّامَ أَقْرَائِهَا الَّتِي كَانَتْ تَحِيضُ فِيهَا ثُمَّ تَغْتَسِلُ وَتَتَوَضَّأُ عِنْدَ كُلِّ صَلاةٍ وَتَصُومُ وَتُصَلِّي)).
قال رحمه الله : حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ حُجْرٍ أَخْبَرَنَا شُرَيْكٌ نَحْوَهُ بِمَعْنَاهُ .
قَالَ أَبو عِيسَى رحمه الله : هَذَا حَدِيثٌ قَدْ تَفَرَّدَ بِهِ شَرِيكٌ عَنْ أَبِي اليقْظَانِ قَالَ وَسَأَلْتُ مُحَمَّدًا عَنْ هَذَا الْحَدِيثِ فَقُلْتُ : عَدِيُّ بْنُ ثَابِتٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ جَدُّ عَدِيٍّ مَا اسْمُهُ ؟ فَلَمْ يَعْرِفْ مُحَمَّدٌ اسْمَهُ وَذَكَرْتُ لِمُحَمَّدٍ قَوْلَ يَحْيَى بْنِ مَعِينٍ أَنَّ اسْمَهُ دِينَارٌ فَلَمْ يَعْبَأْ بِهِ.
الشرح:
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين سيدنا ونبياً محمد وعلى آله وصحبه أجمعين أما بعد :
فهذا الحديث والحديثان اللذان يليانه تعتبر هذه الأحاديث خاتمة الأحاديث المتعلقة بالمستحاضة ، وقد بينا أحكام النفاس والحيض وختم المصنف رحمه الله بهذه الباب والذي يليه لكي يشرع بعد ذلك في موانع الحيض .(60/1)
هذا الحديث ضعفه غير واحد من أهل العلم رحمهم الله وذلك لأن راوية شريك متكلم فيها وقد تقدمت ترجمته وكلام الأئمة رحمهم الله فيه من قبل الحفظ ، وكذلك أيضاً في روايه أبي اليقظان وقد تكلم العلماء رحمهم الله فيها وهو عثمان بن عمير بن قيس الكوفي ويقال له أعشى ثقيف وكذلك يقال له عثمان بن أبي حميد وعثمان بن أبي زرعة وهو ضعيف في قول جماهير المحدثين رحمهم الله والعمل عند طائفة من أهل العلم على عدم ثبوت هذا الحديث وضعفه ، وحسّن بعض العلماء سند هذا الحديث لكن فيه جمل تعتبر صالحة للاحتجاج حيث ثبتت بها الأحاديث عن النبي صلى الله عليه وسلم .
قوله" قال في المستحاضة ":أي قال رسول صلى الله عليه وسلم في بيان حكم المرأة التي تستحاض وهي المرأة التي مر معها الدم وجاوز أمده المعتاد .
قوله" قال في المستحاضة": إما أن يكون جواباً عن سؤال وقع له عليه الصلاة والسلام أو قال ذلك ابتداءً والأول أظهر حيث كان نساء الصحابة -رضوان الله عليهم أجمعين-يأتين إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ويستشكلن مسائل الاستحاضة ويسألن رسول الله صلى الله عليه وسلم هل هذا الدم الذي يستمر مع المرأة يأخذ حكم دم الحيض من كل وجه فقال عليه الصلاة والسلام في الجواب :(( تدع الصلاة أيام أقرائها)).
قوله عليه الصلاة والسلام :(( تدع الصلاة أيام)) :أي تترك الصلاة وهذا يدل على أن الحائض لايجوز لها أن تصلي أثناء حيضها ، وقد أجمع العلماء رحمهم الله على أنه يحرم على المرأة الحائض أن تصلي ، وذهب بعض العلماء إلى أنها إذا صلت عامدةً مستخفة أنه يعتبر من الاستهزاء الموجب للكفر -والعياذ بالله-وهذا أصل عند بعض الفقهاء أن من صلى على غيرطهارة فقد استهزأ بالصلاة ، والاستهزاء بالدين موجب للكفر .(60/2)
والصحيح أن المرأة لاتكفر بهذه الحالة إلا إذا قصدت الاستهزاء ، وأما إذا كان منها على غير استهزاء فإنها تأثم ولايحكم بكفرها -كما بيناه غير مرة-.
قوله عليه الصلاة والسلام :(( تدع الصلاة أيام أقرائها)) : ينقسم الدم الذي يجري مع المرأة إلى قسمين :
القسم الأول: دم الحيض . القسم الثاني : دم الاستحاضة .
فابتدأ ببيان حكم دم الحيض فقال عليه الصلاة والسلام :(( تدع الصلاة أيام )) أي يجب عليها أن تترك الصلاة أيام أقرائها ، وقال الصلاة ولم يفرق بين الفريضة والنافلة فدل على أنه لا يجوز لها أن تصلي لافرضاً ولانفلاً .
وقوله :(( أيام أقرائها)) : الأيام جمع يوم أخذ منه فقهاء الحنفية أن أقل الحيض ثلاثة أيام لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم وصف الحيض بكونه يستمر أياماً فقال:(( أيام أقرائها)) وقد أجبنا عن هذه الجملة بأنها قد خرجت مخرج الغالب .
وقوله عليه الصلاة والسلام :(( أقرائها)) :جمع قرء والقرء يطلق بمعنيين : إما أن يطلق ويراد به الحيض ، وإما أن يطلق ويراد به الطهر من الحيض فالمرأة يأتيها الحيض ثم إذا انقطع عنها ورأت علامة الانقطاع وانتهاء الحيض وهي علامة الطهر فحينئذٍ قد دخلت في الطهر ، وعلى هذا هناك حيض وهناك طهر .
فالقرء يطلق بمعنى الحيض ويطلق بمعنى الطهر ، ولذلك اختلف العلماء في المرأة المطلقة في قوله سبحانه وتعالى :{وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ ثَلاَثَةَ قُرُوءٍ}(1) قال بعض العلماء :إذا طلقت المرأة عدتها ثلاث حيضات لأن قوله :{ ثَلاَثَةَ قُرُوءٍ} أي ثلاث حيضات ، وقال بعض العلماء : تتربص ثلاثة أطهار ؛ لأن قوله : { ثَلاَثَةَ قُرُوءٍ} المراد بالقرء الطهر .
__________
(1) / البقرة ، آية : 228 .(60/3)
والصحيح أنها تتربص ثلاثة أطهار-كما سيأتي إن شاء الله بيانه في الحيض- لكن الشاهد أن القرء في لسان الشرع يطلق بمعنى الحيض ويطلق بمعنى الطهر والمراد هنا الحيض ، فقوله عليه الصلاة والسلام :(( أيام أقرائها)) أي أيام حيضها ولذلك يتمسك بهذا الحديث من يقول إن قوله –تعالى-:{يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ ثَلاَثَةَ قُرُوءٍ}أن المراد به الحيض لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم أطلق القرء بمعنى الحيض فحينئذٍ ماورد في القرآن من متردد نحمله على هذا المعنى ، وقد أجيب بأنه لانزاع في إطلاق القرء على الحيض كما أنه لانزاع في إطلاقه على الطهر ، وفي الآية قرينة تدل على أن المراد به الطهر لأن العرب تقول ثلاثة أطهار ولاتقول ثلاثة حيضات .
وقوله عليه الصلاة والسلام :(( ثم تغتسل وتتوضأ عند كل صلاة )) : أمرها بالغسل وأمرها بالوضوء وجعل الغسل والوضوء عند كل صلاة فأخذ من هذه الجملة طائفة من السلف دليلاً على أن المرأة المستحاضة التي يجري معها الدم ويستمر معها الدم يجب عليها أن تغتسل عند كل صلاة ، وهذا القول مروي عن عبدالله بن عمر وكذلك عبدالله بن الزبير وعطاء بن أبي رباح .
وخالفهم جمهور العلماء وجمهور السلف والخلف فقد أثر عن علي بن أبي طالب وعبدالله بن مسعود وعبدالله بن عباس وكذلك أيضاً عن بعض التابعين كأبي سلمة بن عبدالرحمن بن عوف وعروة بن الزبير-رحمة الله على الجميع-وهو مذهب الحنفية والمالكية والشافعية والحنابلة أن المستحاضة لا يجب عليها أن تغتسل إلا مرة واحدة وذلك عند انقضاء حيضها أو عند حكمها بانقضاء الحيض إما التفاتاً إلى عادة أو تمييز أو إذا تحيضت ستاً أو سبعاً ولايجب عليها أن تكرر الغسل عند كل صلاة ؛ وذلك لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم ثبت عنه الأحاديث الصحيحة التي تأمر بغسل واحد ولم يأمرها بأكثر من الغسل .(60/4)
وقوله عليه الصلاة والسلام :(( وتتوضأعند كل صلاة )) : الوضوء الشرعي معروف وهو الغسل والمسح لأعضاء مخصوصة وهي الأربعة التي سماها الله في كتابه ، وهذا الوضوء فيه تفصيل فالمرأة المستحاضة إذا كان دمها يجري معها ولاينقطع ويستمر وتتلجم من أجله فهذا بيان أنه يجب عليها أن تتوضأ عند دخول كل وقت صلاة وأنها تتلجم -وسيأتي إن شاء الله تفصيل حكمها في الحديث الذي يلي هذا الحديث-.
ولكن إذا كانت المستحاضة ينقطع عنها الدم بحيث تتمكن من غسل فرجها والوضوء ، وأداء الصلاة بطهارة فحينئذٍ لا إشكال حكمها حكم من يأتيه البول والغائط ونحوه من نواقض الوضوء فيكون دم الاستحاضة كالبول سواء بسواء إذا لم يستمر ، أما إذا استمر فيكون قوله :(( تتوضأ عند كل صلاة )) محمولاً على هذا الوجه أنه إذا دخل عليها وقت كل صلاة جددت وضوءها بشرط أن يخرج شيء وهذا إنما يكون في الدم الذي لاينقطع -وسيأتي إن شاء الله تفصيل ذلك وبيانه أكثرفي الحديث الذي يلي هذا الحديث-.
وقوله عليه الصلاة والسلام :(( وتصوم )) : المرأة المستحاضة إذا حكمت بأنه انتهى حيضها تأمرها بالصيام ويجب عليها أن تصوم فلو كانت المرأة تحيض ستة أيام ثم دخل عليها شهر رمضان فتحيضت الستة الأيام الأولى من شهر رمضان فبعد أن أتمت الستة ودخلت في اليوم السابع رأت علامة الطهر في منتصف الليل من الليلة السابعة فحيئنذٍ تحكم بأنها تصبح صائمةً ويلزمها صيام اليوم السابع ، لكن لو وقع طهرها ورأت علامة الطهر بعد طلوع الفجر وبعد دخول وقت الصوم فحيئنذٍ تمسك بقية النهار ويلزمها قضاء ذلك اليوم ، هذا بالنسبة لمسائل قوله عليه الصلاة والسلام :(( وتصوم )) .
وفيه دليل على أن المرأة أثناء الحيض لاتصوم وهذا بالإجماع .(60/5)
قالت أم المؤمنين عائشة -رضي الله عنهاوأرضاها-"كنا نحيض على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فنؤمر بقضاء الصوم ولانؤمر بقضاء الصلاة " وفرق الله بين الصوم والصلاة :{ يَحْكُمُ لاَ مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ}(1) { يَقُصُّ الْحَقَّ وَهُوَ خَيْرُ الْفَاصِلِينَ}(2) فالله-تعالى- أمرها بقضاء الصوم وخفف عنها في الصلاة ، وهذا من رحمته سبحانه وتعالى فالصوم لايصح أثناء الحيض ولذلك قال:(( وتصوم وتصلي )) فشرك بين الصوم والصلاة ولأنها لاتصوم ولاتصلي قبل ذلك ولكنها تصوم وتصلي بعد أن ترى علامة الطهر.
قال المصنف رحمه الله : وقَالَ أَحْمَدُ وَإسحاق فِي الْمُسْتَحَاضَةِ إِنِ اغْتَسَلَتْ لِكُلِّ صَلاةٍ هُوَ أَحْوَطُ لَهَا ، وَإِنْ
تَوَضَّأَتْ لِكُلِّ صَلاةٍ أَجْزَأَهَا وَإِنْ جَمَعَتْ بَيْنَ الصَّلاتَيْنِ بِغُسْلٍ وَاحِدٍ أَجْزَأَهَا .
الشرح :
المرأة المستحاضة لها أحوال ففي بعض الأحوال نحن بيَّنا من هي المستحاضة وذكرنا ضوابط الاستحاضة سواء وقعت قبل الحيض أو وقعت بعد الحيض أو وقعت بعد النفاس-المرأة المستحاضة تأتي على أحوال:
فذكرنا أن هناك طهارتين تتعلق بالمرأة التي يستمر معها دم الحيض ويجاوز أمد عادتها بحيث نحكم بكونها مستحاضة الأولى : طهارة الحدث : وهذا يتعلق بغسلها لفرجها وتنظيفها واستنقائها كما أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وهذا أصل أنه لايجوز للمسلمة أن تصلي إلا وهي طاهرة البدن طاهرة الثوب طاهرة المكان .
__________
(1) / الرعد ، آية : 41 .
(2) / الأنعام ، آية : 57 .(60/6)
أما النوع الثاني من الطهارة : فهو طهارة البدن التي تتعلق بطهارة الحدث وهي طهارة الوضوء أو الغسل على تفصيل في المستحاضة ، في المشكلة في المرأة المستحاضة أنه إذا خرج معها الدم خرج من فرجها وهو نجس فكان خروجه كالبول سواء بسواء ، فإذاً معنى ذلك أنها في حكم الشرع ينتقض وضوؤها بخروج الدم معها نحن لانحكم بوجوب الغسل عليها ؛ لأن الغسل يجب على الحائض إذا طهرت من حيضها .
أما هذه المستحاضة فقد طهرت فإذا طهرت .
يرد السؤال : هذا الدم النجس الخارج من الموضع المعتبر إذا خرج معها نقض وضوءها..؟؟
فإذا كان النقض للوضوء لاحرج فيه امرأة تستحاض مثلاً لها ستة أيام من الحيض ثم يأتيها في اليوم السابع قطرة قطرتين وتنقطع اليوم الثامن قطرة قطرتين وتنقطع هذه ليست فيها مشكلة تغسل مثل لوجاءها البول فإنها تقضي حاجتها ثم تغسل الموضع وتصلي لاإشكال فيها ، لكن الإشكال إذا صار معها النزيف وأصبح ملتبستاً في عبادتها لأنه إذا صار معها النزيف صارت كصاحب البول الذي معه السلس فلا يستمسك بوله وصارت كصاحب الريح الذي يخرج معه الريح ولايستمسك وصارت كمن به إسهال مستطلق البطن فخروج البول خروج الريح خروج الغائط خروج الدم الذي هو دم الاستحاضة من الموضع كلها نواقض للوضوء ، والعلماء من حيث الأصل متفقون على أن البول والغائط والريح والمذي والودي ودم الاستحاضة أنها كلها من نواقض الطهارة الصغرى .(60/7)
فالعلماء رحمهم الله قعدوا قواعد في المستحاضة إن كان دمها يأتيها يسيراً وينقطع فحيئنذٍ حكمها حكم من به البول ولا إشكال عندنا ، لكن إذا كان الدم يستمر معها فهذه تحتاج أن تحتاط أو نحتاط نحن في حكمها فإذا احتاطت تغسل الفرج وتعمل بعض الأمور التي بيَّنها رسول الله صلى الله عليه وسلم في حديث حمنة بنت جحش -رضي الله عنها وأرضاها-وهذا الحديث سنفصل ونبين ماتضمنه من الأحكام في الباب الذي يلي هذا الباب ، هذا بالنسبة لمسألة إذا نزفت وأصبح النزيف معها لايرقأ ، أما إذا كان النزيف يرقأ والاستحاضة تتوقف فحينئذٍ لا إشكال إذا أمكنها أن تصلي على نقاء وطهر ؛ لأن الله فرض عليها أن تتطهر للصلاة وفرض عليها أن تؤدي الصلاة بطهارة فإذا أمكنها أن تؤدي هذه الطهارة فحينئذٍ نلزمها به ؛ لكن إذا وصل بها الأمر إلى الحرج فالدم لايتوقف أو معها النزيف فهذا يحتاج إلى شيء من الرخصة وشيء من التوسعة .(60/8)
فهو يقول عن الإمام أحمد وإسحاق بن راهويه وهم من أئمة السلف رحمهم الله إسحاق بن راهويه وهو أحد أئمة أصحاب الحديث كان على جلالة علم وقدر وفضل علم وفقه-رحمه الله برحمته الواسعة-فقال الإمام أحمد وإسحاق إن توضأت لكل صلاة هذا الأصل أنها إذا كان الدم يجرى معها تتوضأ لكل صلاة ، لأن النبي صلى الله عليه وسلم :أمر فاطمة-رضي الله عنها وأرضاها-بنت أبي حبيش أمرها أن تتوضأ عند كل صلاة فحينئذٍ نأمرها بالوضوء لماذا ؟ لأن الدم مسترسل معها فنأمرها بالوضوء عند كل صلاة وتصلي خلال وقت الصلاة الأولى الفرائض والنوافل المتعلقة بذلك الوقت ؛ لأنك لو قلت لها ابقي على الأصل من أنكِ لاتصلي إلا على الطهارة كلفتها مافيه مشقة ، ولو أنها كلما أرادت أن تصلي تتوضأ من جديد وتغسل الفرج من جديد فهذا فيه مشقة خاصة في زمان البرد والشدة ثم فيه مشقة إذا كان ماء عزيزاً على المرأة فلذلك خفف الشرع فيها فينبغي أن تعلم أن لكل حالة ولكل هيئة حكمها ، فحينئذٍ نقول هذا الكلام الذي ذكره رحمه الله عن الإمام أحمد أنها إن توضأت لكل صلاة فهذا حسن وهو الأصل وإن اغتسلت لكل صلاة فهو أحوط لأن المرأة المستحاضة فيها جانبان :(60/9)
الجانب الأول : كونها تتطهر لفعل الصلاة فإذا انقطع عنها حيضها و عرفت حيضها وكانت مستحاضة فحيئنذٍ لاإشكال أنها طاهرة ولايلزمها الغسل لكن في بعض الأحيان تدخل الاستحاضة والحيض ولايمكن معها التمييز فحيئنذٍ إذا استمر معها النزيف وحيضتها ستة أيام أو سبعة أيام كما سيأتي في حديث حمنة-رضي الله عنها وأرضارها-: فنأمرها بالغسل عند كل صلاة من باب الاحتياط وهذا هو الذي عناه الإمام أحمد بقوله :"وإن اغتسلت لكل صلاةٍ فالغسل أحوط" أي أبرأ للذمة ، والمسلم كلما أخذ ماهو أحوط وأبرأ للذمة فهو أفضل ؛ ولذلك كانت أم حبيبة-رضي الله عنها وأرضاها-زوج عبدالرحمن بن عوف رضي الله عنه وأرضاه كانت تغتسل لكل صلاة كما ثبت في الرواية الصحيحة عنها ولم يأمرها النبي صلى الله عليه وسلم أن تغتسل لكل صلاة وإنما كانت تفعل ذلك من عند نفسها وهذا رخص فيه العلماء رحمهم الله وله أصل من فعل السلف وهو الذي أشار إليه المصنف رحمه الله من توسعة العلماء أن تغتسل عند كل صلاة على سبيل الاستحباب والندب لاعلى سبيل الحتم والإيجاب ، والله تعالى أعلم.
قال المصنف رحمه الله : بَاب مَا جَاءَ فِي الْمُسْتَحَاضَةِ أَنَّهَا تَجْمَعُ بَيْنَ الصَّلاتَيْنِ بِغُسْلٍ وَاحِدٍ(60/10)
حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ حَدَّثَنَا أَبُو عَامَرٍ الْعَقَدِيُّ حَدَّثَنَا زُهَيْرُ بْنُ مُحَمَّدٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ ابْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَقِيلٍ عَنْ إِبْرَاهِيمَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ طَلْحَةَ عَنْ عَمِّهِ عِمْرَانَ بْنِ طَلْحَةَ عَنْ أُمِّهِ حَمْنَةَ بِنْتِ جَحْشٍ قَالَتْ:" كُنْتُ أُسْتَحَاضُ حَيْضَةً كَثِيرَةً شَدِيدَةً فَأَتَيْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم أَسْتَفْتِيهِ وَأُخْبِرُهُ فَوَجَدْتُهُ فِي بَيْتِ أُخْتِي زَيْنَبَ بِنْتِ جَحْشٍ فَقُلْتُ:" يَارَسُولَ اللَّهِ إِنِّي أُسْتَحَاضُ حَيْضَةً كَثِيرَةً شَدِيدَةً فَمَا تَأْمُرُنِي فِيهَا قَدْ مَنَعَتْنِي الصِّيَامَ وَالصَّلاةَ؟" قَالَ:(( أَنْعَتُ لَكِ الْكُرْسُفَ فَإِنَّهُ يُذْهِبُ الدَّمَ ، قَالَتْ:" هُوَ أَكْثَرُ مِنْ ذَلِكَ"قَالَ:فَتَلَجَّمِي ، قَالَتْ: هُوَ أَكْثَرُ مِنْ ذَلِكَ ، قَالَ:فَاتَّخِذِي ثَوْبًا ، قَالَتْ: هُوَ أَكْثَرُ مِنْ ذَلِكَ إِنَّمَا أَثُجُّ ثَجًّا ، فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم سَآمُرُكِ بِأَمْرَيْنِ أَيَّهُمَا صَنَعْتِ أجْزَأَ عَنْكِ فَإِنْ قَوِيتِ عَلَيْهِمَا فَأَنْتِ أَعْلَمُ فَقَالَ: إِنَّمَا هِيَ رَكْضَةٌ مِنَ الشَّيْطَانِ فَتَحَيَّضِي سِتَّةَ أَيَّامٍ أَوْ سَبْعَةَ أَيَّامٍ فِي عِلْمِ اللَّهِ ثُمَّ اغْتَسِلِي فَإِذَا رَأَيْتِ أَنَّكِ قَدْ طَهُرْتِ وَاسْتَنْقَأْتِ فَصَلِّي أَرْبَعًا وَعِشْرِينَ لَيْلَةً أَو ثَلاثاً وَعِشْرِينَ لَيْلَةً وَأَيَّامَهَا وَصُومِي وَصَلِّي فَإِنَّ ذَلِكِ يُجْزِئُكِ وَكَذَلِكِ فَافْعَلِي كَمَا تَحِيضُ النِّسَاءُ وَكَمَا يَطْهُرْنَ لِمِيقَاتِ حَيْضِهِنَّ وَطُهْرِهِنَّ فَإِنْ قَوِيتِ عَلَى أَنْ تُؤَخِّرِي الظُّهْرَ وَتُعَجِّلِي الْعَصْرَ ثُمَّ تَغْتَسِلِينَ حِينَ تَطْهُرِينَ وَتُصَلِّينَ الظُّهْرَ وَالْعَصْرَ جَمِيعًا ثُمَّ تُؤَخِّرِينَ(60/11)
الْمَغْرِبَ وَتُعَجِّلِينَ الْعِشَاءَ ثُمَّ تَغْتَسِلِينَ وَتَجْمَعِينَ بَيْنَ الصَّلاتَيْنِ فَافْعَلِي وَتَغْتَسِلِينَ مَعَ الصُّبْحِ وَتُصَلِّينَ وَكَذَلِكِ فَافْعَلِي وَصُومِي إِنْ قَوِيتِ عَلَى ذَلِكَ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم :(( وَهُوَ أَعْجَبُ الأَمْرَيْنِ إلي )).
الشرح:
حديث حمنة بنت جحش أخت زينب بنت جحش أم المؤمنين -رضي الله عن الجميع وأرضاهن-حديث عظيم اشتمل على جملة من المسائل وجملة من الأحكام المتعلقة بالمستحاضة ، وقاس العلماء عليها جملة من المسائل والأحكام كما قاسوا مسائل من به سلس البول وسلس الريح ، وكذلك أيضاً سلس المذي ، وقاسوا عليه من كان منشغلاً عن الصلاة لأمر يحتاج فيه إلى أخذ من وقت الصلاة بحيث يجمع جمعاً صورياً فيؤخر الظهر إلى آخر وقتها ويقدم العصر فيصلي الظهر في آخر الوقت ويدخل عليه وقت العصر فيصلي ، كما يحدث في حالات الحاجة والاضطرار كما يقع للأطباء ونحوهم ممن يتوقف عليهم إنقاذ الأنفس أو يكون الإنسان مشغولاً بأمر عظيم فهذا مايسميه العلماء بالجمع الصوري ، اشتمل الحديث على هذه الجمل من الأحكام التي تتعلق بالطهارة وتتعلق أيضاً بكيفية أداء الصلاة على وجه يحتاط فيه المسلم ويستبرئ لدينه وعرضه .
قالت:"يارسول إني كُنْتُ أُسْتَحَاضُ حَيْضَةً كَثِيرَةً شَدِيدَةً : هذا يدل على أنها كانت مبتلاة بالاستحاضة وليست بمبتدأة وأن هذا تكرر معها ، ولذلك ذهب طائفة من العلماء إلى أن حمنة -رضي الله عنها وأرضاها- لم تكن صغيرة السن ولم يقع هذا الشيء لها لأول مرة ، وقد ذهب بعض العلماء إلى أن هذا الحكم الذي ذكره رسول الله صلى الله عليه وسلم لحمنة-رضي الله عنها وأرضاها- إنما هو مختصة بالمرأة المبتدأة وهو قول ضعيف وقد بينا من هي المرأة المبتدأة وهي المرأة التي جاءها الحيض لأول مرة فيستمر معها على هذا الوجه حتى يلتبس عليها أمر صلاتها وصيامها وعبادتها .(60/12)
والصحيح أنها ليست بمبتدأة ومما يقوي هذا أن حمنة كانت كبيرة في السنَّ وذكر ذلك الإمام أحمد رحمه الله ومال إليه وله أصل في مسنده ، وعلى هذا فلايصح حمل حديثها على أنها مبتدأة وكانت تستحاض حيضةً كثيرةً شديدة وقيل إنها هي المرأة التي كانت تُهرق الدماء على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم واستفتت لها أم سلمة رسول الله صلى الله عليه وسلم وقيل إنها أم حبيبة -رضي الله عن الجميع وأرضاهم-.
قولها:"حيضة كثيرةً شديدةً" : يدل على أن الدم يستمر معها وهذا نوع من النساء وهو من أشد ما يكون من الاستحاضة فالمرأة يجري معها الدم بحيث لاينقطع إلا في فترات مخصوصة وأوقات مخصوصة وقد يستمر إلى يوم كامل يجري معها الدم حتى بعد حيضها ، وجاء في بعض الأخبار أنها استحيضت خمس سنوات والدم يجري معها ولاينقطع وهذا من أغرب ما يكون وأغرب مايقع للنساء وهي حالة كما يذكر الأطباء من الحالات الشاذة ؛ لكن الله سبحانه وتعالى أوجد ذلك في زمان رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى يكتمل التشريع ويكون التشريع للجميع للمرأة التي عادتها دون اضطراب وللمرأة التي اضطربت عادتها وللمرأة التي اضطربت عادتها على وجه مسترسل فيكون الحكم أو يكون حكم الشرع بياناً للجميع .
قالت -رضي الله عنها -:"كُنْتُ أُسْتَحَاضُ حَيْضَةً كَثِيرَةً شَدِيدَةً فَأَتَيْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم أَسْتَفْتِيهِ وَأُخْبِرُهُ فَوَجَدْتُهُ":"فأتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم أستفتيه" أي أساله الفتوى وأطلب منه أن يفتيني ، وفيه دليل على مشروعية خروج المرأة للسؤال والفتوى بشرط أن تأمن من الفتنة .
وفيه دليل على جواز مخاطبة المرأة للرجل فيما بينها وبينه خاصةً في الأمور الخاصة وأنها تسأله ولابأس أن تسأله بحضرة بعض النساء إذا كان الأمر لاحرج فيه عليها أو عليهن .
قولها :" أَسْتَفْتِيهِ " : يعني أساله كما ذكرنا فالاستفتاء طلب الفتوى .(60/13)
" فَوَجَدْتُهُ فِي بَيْتِ أُخْتِي زَيْنَبَ بِنْتِ جَحْشٍ ": وهي أم المؤمنين -رضي الله عنها وأرضاها-"وجدته" أي وجدت رسول الله صلى الله عليه وسلم في بيت أختي زينب وكان عليه الصلاة والسلام قد قسم بين نسائه فوافق مجيئها عندها أي عند زينب -رضي الله عنها وأرضاها- وفيه دليل على جواز خلوة العالم بالمرأة مع حضور المحَرم ويجوز أن يختلي بها إذا أمنت الفتنة وأُمن المحضور إذا لم يتيسر ولم يتأت أن تعرف حكم الشرع فيما يكون لها إلا بالخلوة وهذا كله عند وجود الحاجة والضروة .
" فَقُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنِّي أُسْتَحَاضُ حَيْضَةً كَثِيرَةً شَدِيدَةً فَمَا تَأْمُرُنِي فِيهَا": قلت يارسول الله إني أستحاض حيضةً كثيرةً شديدةً فما تأمرني فيها ":هذا هو السؤال وهي النازلة التي أنزلتها وبينتها للرسول صلى الله عليه وسلم حتى يعطيها الحكم فيها ، ليست كسائر النساء أو كغالب النساء يكون حيضها منتظماً ؛ ولكن حيضها مختل ، فقالت : أستحاض حيضة شديدة أي إنها كثيرة ، وأخذ بعض العلماء من هذه الجملة أنه لم يكن لها عادة إذ لوكان لها عادة أو كان لها تمييز لبينت لرسول الله صلى الله عليه وسلم ومن هنا قال العلماء : إن هذه الفتوى وهذا السؤال الذي يقع لرسول الله صلى الله عليه وسلم من حمنة المراد به نوع خاص من النساء وهي المرأة التي نسيت عادتها ونسيت تمييزها ، أو لاعادة لها ولاتمييز فقالت: إني أستحاض حيضةً كثيرةً شديدةً فما تأمرني فيها ":أي ماالذي يأمرني به الشرع لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم مبلغ عن الله .(60/14)
"فما تأمرني فيها قَدْ مَنَعَتْنِي الصِّيَامَ وَالصَّلاَةَ " :فيه دليل على أن الحيض يمنع الصوم والصلاة وهذا بإجماع العلماء رحمهم الله ، لكن المرأة إذا دخل عليها وقت الظهر ثم جاءها الحيض بعد أن أذن عليها وقت الظهر ثم ابتدأها الحيض بعد دخول الوقت فإنها تمسك عن الصلاة ويلزمها قضاء هذه الصلاة بعد الطهر ، يعني منعتنني الصوم والصلاة هذا إذا استنفذت الوقت وهي حائض ، أما لو طهرت وقد بقي من الوقت مقدار ما تصلي فيه ركعة فأكثر ، أو جاءها الحيض وهي قد دخل عليها وقت الظهر أو دخل عليها وقت العصر وتأخرت قليلاً ثم جاءها الحيض فحينئذ يلزمها أن تقضي بعد طهرها وهكذا بالنسبة لبقية جميع الصلوات إذا دخل عليها الوقت وهي حائض فإنها تمسك للعذر ، لأنه قد شغلت ذمتها وتوجه عليها خطاب الشرع بفعل الصلاة فحينئذ لاتصلي أثناء حيضها وتكون معذورة وتؤخر حتى تستبرئ وتتطهر فتبدأ بقضاء الفائتة ثم بعد ذلك تصلي ماحضر من الصلوات الواجبة عليها .
وقولها: مَنَعَتْنِي الصومَ وَالصَّلاَةَ ":كانت حمنة -رضي الله عنها وأرضاها- على الأصل أنه إذا جرى معها الدم أنها لاتصوم ولاتصلي فلما استمر معها الدم بشدة كانت تظن أنها لاتصوم ولاتصلي وكانت تظن أن هذا الدم كله دم حيض فقالت أستحاض والسين والتاء للاسترسال أي يسترسل معي الحيض يسترسل معي دم الحيض على هذا الوجه المذكور في الخبر .
قال:(( قَالَ أَنْعَتُ لَكِ الْكُرْسُفَ)) : قال عليه الصلاة والسلام :(( أنعت)) :أصف يقال نعت الشيء إذا وصفه (( قَالَ أَنْعَتُ لَكِ الْكُرْسُفَ)) والكرسف هو القطن وقوله((فَإِنَّهُ يُذْهِبُ الدَّمَ)) تعليل للأمر بالكرسف أي أمرتكِ أو دللتكِ على الكرسف ووصفته لك لأن من شأنه أن يحبس الدم ، هذا يدل على أن المرأة المستحاضة ينبغي عليها أن تتعاطى الأسباب لكف الدم لأن الأصل الشرعي يقتضي أن تصلي وهي طاهرة من دمها فحينئذ .(60/15)
قال عليه الصلاة والسلام :((قَالَ أَنعَتُ لَكِ الْكُرْسُفَ)) لأنها هي قالت أستحاض حيضةً كثيرةً شديدةً فيحتاج إلى شيء يحبس هذا الدم عنها .
ففيه دليل على أن من به جرح وهذا الجرح يسيل عليه سيَّال كما يسمى بالجرح الذي به نزيف أنه يبتدئ بوضع القطن ، وأن عليه أن يحبس هذا الدم أثناء الصلاة كما أن المستحاضة تحبس الدم هذا من طهارة الحدث مع الخبث وهو المستحاضة هذه لطهارة حدثها مع خبثها وهي مستحاضة وهذا لطهارة خبثه إذا كان متعلقاً باليد وخارجاً من غير الفرجين .
((فَإِنَّهُ يُذْهِبُ الدَّمَ )) : قوله عليه الصلاة والسلام :(( فَإِنَّهُ يُذْهِبُ الدَّمَ )) جملة تعليلية دللتكِ على القطن حتى تضعيه فيذهب عنكِ الدم يعني الذي يحبسه ، فيه دليل على أن للعالم أن ينصح ويدل على الأسباب التي جعلها الله عز وجل في صلاح البدن خاصةً إذا ارتبط ذلك بحكم شرعي .
وفيه دليل أيضاً على تدبير الجروح ومشروعية الجراحه التي تسمى في عصرنا الحاضر بالجراحة العامة وهي تدبير الجروح كما يقع في الحوادث ويقع في الأخطار التي تتعرض بها أعضاء الإنسان للإصابة فيجرح وينزف فإنه يشرع له أن يتعالج وتدبير الجرح ، ولذلك النبي صلى الله عليه وسلم أمرها أن تضع الكرسف والقطن ، ففيه دليل على مشروعية ربط الدم في الصحيح من حديث فاطمة-رضي الله عنها-أن رسول الله صلى الله عليه وسلم شَج يوم أحد وكسرت رباعيته فجعل الدم يسيل على وجهه الشريفصلوات الله وسلامه عليهويقول :((كيف يفلح قوم وقد شجوا نبيهم)) فكانت فاطمة-رضي الله عنها- تغرف بالدرقة الماء ثم تصبه على دم رسول الله صلى الله عليه وسلم لكي يرقأ حتى استمر الدم ولم يرقأ فأحرقت الحصير ثم حشت الموضع به فدل أيضاً على تدبير الجرح وهو من سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وأمر المستحاضة أن تضع القطن يدل على هذا .(60/16)
"قَالَتْ هُوَ أَكْثَرُ مِنْ ذَلِكَ":قولها -رضي الله عنها -:"هُوَ أَكْثَرُ مِنْ ذَلِكَ" أي أنني لووضعت القطن لأخرج الدم وهذه حالة شاذة وهذا يدل على قوة الدم وكثرة النزيف .
قال:(( قَالَ فَتَلَجَّمِي)): تلجمي اللجام هو الذي يوضع على فم الدابة ، وكذلك أيضاً يقصد منه هنا أن يوضع على الفرج ، واللجام طريقة تختص بالنساء في هذه الحالة الخاصة وهي أن تأخذ الخرقة وتربطها على وسطها كالحزام ثم تأخذ الخرقة مشقوقة الطرفين ثم تشدّ أعلاها بالخرقة من جهة السرة وتشدّ الطرف الثاني من ظهرها مما يحاذي ذلك من موضع الحزام الذي تحزمت به وتجعله مشدوداً محكماً لعصب طرفي الفرج فلا يخرج الدم وهذا أيضاً من باب تعاطي الأسباب لكف الدم ، وفيه دليل على مشروعية ربط الجروح وربط الأماكن التي بها نزف ؛ لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمرها أن تأخذ هذا السبب والأمر لهذا السبب لأمرين :
أولهما: مايتعلق بصلاح عبادتها ويتعلق بالدين . والثاني : مايتعلق بصلاح بدنها لأن خروج الدم يضعف المرأة وله أثر على صحتها فيكون جامعاً بين صلاح دينها ودنياها .
قَالَتْ:" هُوَ أَكْثَرُ مِنْ ذَلِكَ قَالَ:(( فَاتَّخِذِي ثَوْبًا)): قالت هو أكثر من ذلك أي أنه لاينحبس باللجام وهذا كما ذكرنا من أغرب مايكون فقال:(( اتخذي ثوباً)) وهذا كله كما ذكرنا من باب تعاطي الأسباب التي يراد منها حفظ الصلاة في وقت حفظ المكلف لطهارة البدن أثناء أدائه للصلاة .(60/17)
قَالَتْ هُوَ أَكْثَرُ مِنْ ذَلِكَ إِنَّمَا أَثُجُّ ثَجًّا ":"إنما أثج ثجاً "الثج هو الشيء الكثير ومنه قوله سبحانه وتعالى :{وَأَنزَلْنَا مِنْ الْمُعْصِرَاتِ مَاءً ثَجَّاجاً}(1) وهو المطر الغزير الكثير وقولها" أثج ثجاً" أي أنني أنزف بشدة وهذا يدل على أنها كانت بحالة تختص بحكم خاص ، وهذه الحالة كما أنها تقع للمرأة في استحاضتها كذلك تقع في الرجال في حال الجروح والطعن قد يطعن الإنسان يخرج منه نزيف لو أنه وضع القطن لايتماسك ولو أنه ربط الجرح قد لايتماسك مثل ما حدث لعمر بن الخطاب رضي الله عنه حينما طعن طعنه أبو لؤلؤة المجوسي عليه لعنة الله وهو يصلي بالناس الفجر فإن عمر رضي الله عنه سالت دماؤه ونزف جرحه ولم يرقأ وتوفي وهو في جرحه-- رضي الله عنه -وأرضاه-فكان يصلي وجرحه يثعب ، ومنه حديث عباد بن بشر في قصة حراسة الشعب حينما جاءه السهم العائد وذلك أنه نزف وهو في الصلاة ، وتعرفون السهم يقطع ويكون نزيفه قوياً ؛ لأن السهام كان لها نصب وهذا الزج الذي يكون في رأس السهم المثلث وذكر غير واحد من العلماء خاصةً كتب الأدب "كنهاية الأرب" و"صبح الأعشى" للقشقندي ذكروا في باب الصيد مسألة الرماح أن هذا الزج من فوائده حينما يوضع الحديدة المثلثة أنه إذا طُعن به ثم سُحب أنه يقطع العروق ، فهو من ناحية مسار السهم يحدد مسار السهم فإذا نفذ في الجسم ونزع منه قطع العروق فلماّ قال أصابه السهم دل على أنه نزيف لأن غالب إصابة السهام نزيف ، ولذلك لما احتج بهذا الحديث على طهارة الدم رد عليهم بأنها حالة نزيف يصلي الإنسان مع خروج النزيف فهي خارجة عن موضع النزاع كما ذكرنا ؛ لأن مثل هذه الجروح إذا نزع السهم فإنه يقطع العروق ولايرقأ بسرعة وليس من السهولة بمكان كف دمه ، خاصةً إذا كان في وجه المطعون فإنه قلّ أن يتماسك كما أن عمر رضي الله عنه صلى وجرحه يثعب فكل هذه الصور ماوقع لعمر
__________
(1) / النبأ ، آية : 14 .(60/18)
رضي الله عنه من طعنه ، وماوقع في حديث عباد بن بشر ، وما وقع لهذه المرأة كله من حالات النزف وخروج النجاسة على وجه لا يمكن حبسها به ، ولذلك تأخذ حكماً خاصاً ، ومن هنا قال العلماء : من كان معه جرح نزيف لايرقأ ومن كان مذيه لايستمسك وكان بوله لايستمسك ولايمكنه أن يحبسه لابالشد ولابوضع القطن فإنه يصلي على حالته لايكلف الله نفساً إلا وسعها ؛ لأن التكليف شرطه الإمكان والله عز وجل قال في كتابه:{ لاَ يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا}(1) فهذا ليس بوسعه أن يتعامل مع هذه النجاسة بطريقة يعمل بها بالأصل ، ولذلك خفف الله عز وجل عنه ويخفف عنه في الحكم من هذا الوجه ، فخصَّها رسول الله صلى الله عليه وسلم بهذا التخفيف وذلك التفاتاً إلى قوة مابها ، ومن هنا لا يمكن أن نجعل حديث حمنَّة -رضي الله عنها وأرضاها-في كل امرأة مستحاضة ؛ وإنما نجعله في أحوال مخصوصة ويقاس على حديث حمنة -رضي الله عنها- مايقع للرجل من حالات النزيف بالطريقة التي ذكرناها حتى الرعاف الذي يقع للأنف لو أنه وضع العلاج فلم يستمسك ووضع القطن فلم يستمسك حاول أن يشّد أن يضع على أنفه لم يستمسك يصلي على حالته ولو كان يرعف على ثيابه ، هذا كله من باب التخفيف ومن لطف الله عز وجل وتيسيره على عباده لأنه -سبحانه-يقول:{ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ}(2) فمن الحرج أن يكلف مثل هذا بإمسك دمه ولايستطيع أن يتماسك معه الدم على وجه يمكنه أن يتعاطى أسبابه .
__________
(1) / البقرة ، آية : 286.
(2) / الحج ، آية : 78.(60/19)
فقال النبي صلى الله عليه وسلم :((سآمرك بأمرين أيهما صنعت أجزأ عنك فإن قويت عليهما فأنت أعلم )) :(( أمرك بأمرين أيهما فعلت أجزأ عنك )) هذا يدل على مسألة أصولية وهي مسألة الواجب المخير وذلك أن الله عز وجل يوجب عليك شيء من بين أشياء :{ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ}(1)خيرك بين أن تفتدي بين صيام ثلاثة أيام وبين أن تطعم ستة مساكين لكل مسكين نصف صاع وبين أن تذبح شاةً هذا إذا فعل المحظور في الحج أو العمرة إذا فعل المحظور من حلق أو طيب أو تقليم أظفار ففدية من صيام أو صدقةٍ أو نسك ، فأصل التقدير عليه فدية أي يجب عليه أن يفتدي ، وقد اختلف العلماء في الواجب المخير .
والصحيح أنه يقع لأن الله عز وجل يوجب على العبد خصلة من خصال قال-تعالى-:{فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً} فجعل الخيار للإمام أن يمّن على الأسرى أو يفاديهم ، فالمقصود أن الواجب يقع بالتخيير وأصح قولي علماء الأصول أن الواجب المخير ثابت ؛ لأن الأدلة دلت عليه فقال : (( آمرك بأمرين )) وجعل لها الخيار إن شاءت فعلت هذا فلابأس وإن فعلت هذا وتركت هذا فلابأس وإن فعلته على سبيل التحوط فالأمر إليها ، وعليه فإنك تستفيد من قوله(( أيهما فعلت)) أي:للتخيير فدل على أنه لايجب كلا الأمرين وإنما الواجب واحد منهما .
__________
(1) / البقرة ، آية : 196.(60/20)
(( فإن قويت عليهما فأنت أعلم)) فقال :(( إنما هي ركضة من الشيطان )) : قوله عليه الصلاة والسلام :(( إنما هي ركضة من الشيطان )) : هذا الذي معكِ من جريان الدم على هذا الوجه حتى أصبحتي تتركين الصلاة وتتركين الصيام ماهو إلا ركضة من الشيطان إما أن تكون ركضة حقيقة يركض الفرج وينقطع العرق كما ثبت في قوله عليه الصلاة والسلام :(( إنما ذلكِ عرق)) وجاء في رواية المسند :((عرقٌ انقطع)) فينقطع العرق على وجع لانعلمه والعلم عند الله سبحانه وتعالى ، فإذا كان على هذا الوجه تكون الركضة حقيقة ؛ لكن كيفيتها ؟كيف كيفيتها؟ كيف الكيفية التي يتم بها ذلك الركض ؟؟ أصل الركض الضرب بالرجل قال-تعالى-:{ارْكُضْ بِرِجْلِكَ هَذَا مُغْتَسَلٌ بَارِدٌ وَشَرَابٌ} فهي ركضة من الشيطان كيفيتها فهذا من علم الغيب الذي لايعلمه إلا علام الغيوب سبحانه وتعالى وهو من مسائل الروح التي يكف عن الخوض فيها ؛ لأنه ليس ثَّم نص يفسر حقيقتها ويبنيها .
أو تكون ركضة من الشيطان أي أن الشيطان قصد أن يلبس عليها دينها وأن يجعلها تترك الصلاة ، إنما هي ركضة من الشيطان أي كونكِ تاركةً للصوم والصلاة بهذا الدم الذي ليس بدم حيض لعبٌ من الشيطان بك وهذا اللعب فيه أذية لكِ كأذية الركض والضرب فحينئذ يكون نوعاً من التلبيس قصد أن يلبس عليها أمور عبادتها فخلط لها فسار معها الدم ، والشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم كما ثبت في الخبر عنه عليه الصلاة والسلام ، وعلى هذا قالوا إنه يلبس عليها أمر دينها فأصبحت ركضة من الشيطان ؛ لأن الشيطان يبحث في أذيته عن إفساد دين الإنسان بأي صورة كان فقد يدخل عليها هذا الأمر فيجعلها تظن أنها حائض وأنه لايجب عليها أن تصوم ولاتصلي والواجب عليها أن تصوم وتصلي فتركت الصلاة وهي غير معذورة وكان تركها ركضة من الشيطان وعبثاً من الشيطان بها.(60/21)
((فتحيضي ستة أيام أو سبعة أيام في علم الله ثم اغتسلي)): قوله عليه الصلاة والسلام :((تحيضي ستة أيام أو سبعة أيام في علم الله)) إن كانت هذه المرأة ناسية لعادتها غير ذاكرة لها متحيرة أو غير مميزة ولا معتادة ولم يتميز دم حيضها من دم استحاضتها فحينئذ يكون قوله عليه الصلاة والسلام :((تحيضي ستة أيام أو سبعة أيام في علم الله)) راجعاً إلى الغالب .
وفيه دليل أنه عند اللبس ينبغي أعتبار الغالب وذلك أن غالب حيض النساء أن تحيض مابين ستة أيام إلى سبعة أيام ولذلك قال عليه الصلاة والسلام ((كما يتحيض النساء أو كما تحيض النساء)) فهذا هو الغالب أنها مابين ستة إلى سبعة .
واختلف العلماء رحمهم الله في قوله ((ستة أيام أو سبعة )) ..؟؟
فبعضهم يقول : ستةً أو سبعة تخييراً لها إن شاءت حسبت الست وهي اليقين والسبع شك فيكون زيادة من باب الاحتياط ؛ ولكن هذا القول ضعفه غير واحد من العلماء لأنه يؤدي إلى أنها في اليوم السابع تكون حائضاً غير حائض ، ويكون نوعاً من الخلط واللبس على وجهٍ أشبه بالتضاد والشرع لاتضاد فيه لأن التضاد ضرب من الخطأ الذي ينزه عنه الشرع .
والصحيح أنها ستْ إلى سبع فإذا جاءت إلى الدم واستطاعت أن تعطيه حكم الست أعطته حكم الست وإن استطاعت أن تعطيه حكم السبع ولم تستطع أن تميزه في السادس ؛ لم تستطع أن تجد غلبة ظن بأنقطع دمها في السادس فإنها تبني على السابع وهذا هو أقوى قولي العلماء رحمهم الله أنها من ست إلى سبع ، (( تحيضي ستة أيام أو سبعة أيام في علم الله)) أي بليالهن ونهارهن فإنها تصبح حائضاً في هذه الست ، وحينئذ إن كانت عادتها نسيتها من حيث العدد ولكنها تعرف مكان العادة تقول أنا كل شهر أحيض في أوله ولكن لا أدري كم العدد؟؟(60/22)
تقول لها تحيضي ستاً أوسبعاً من أول الشهر ، وإن قالت كنت أحيض في آخر الشهر ونسيت كم أحيض ، أو كنت أحيض آخر الشهر وكنت أميز دم الحيض من دم الاستحاضة فأصبحت لا أميز تقول لها: تحيضي ستاً أو سبعاً من آخره ، فإن قالت في أوسط الشهر فحينئذ تعملها من أوسط الشهر على التفصيل الذي تقدم معنا في من نسيت عادتها.
((تحيضي ستة أيام أو سبعة في علم الله )) : هذا يدل على اعتبار الغالب ، ومن هنا أخذ العلماء القاعدة التي تقول" الحكم للغالب والنادر لاحكم له"فإذا قضى القاضي أو أفتى المفتي في شيء يبنى على الغالب فإذا كانت هناك صور نادرة فإنه لا يلتفت لها ، ولذلك الحكم في الشرع على غالب الأمور لا على الندرة ومايقل حدوثه.
((ثم اغتسلي)):هذا الغسل بإلاجماع واجب وهو غسل الحيض الذي يكون بعد الحكم بطهر المرأة ((ثم اغتسلي )) أي غسلكِ من الحيض فتنوي بهذا الغسل غسل الحيض .
((فَإِذَا رَأَيْتِ أَنَّكِ قَدْ طَهُرْتِ وَاسْتَنْقَأْتِ فَصَلِّي أَرْبَعاً وَعِشْرِينَ لَيْلَةً أَوْ ثَلاَثاً وَعِشْرِينَ لَيْلَةً وَأَيَّامَهَا وَصُومِي وَصَلِّي)) ((فَإِذَا رَأَيْتِ أَنَّكِ قَدْ طَهُرْتِ وَاسْتَنْقَأْتِ)) هذا هو الذي يقوي قول من قال إنها تستطيع أن تعرف ستة أو سبعة حتى قال بعض العلماء : تنظر إلى أخواتها وأمهاتها كأمها وجدتها وخالتها وعمتها تنظر إلى محيطها من القرابة ، وقال بعض العلماء : بل تنظر إلى لداتها واللدات والأتراب هنَّ اللاتي في سن المرأة فإذا كنَّ اللاتي في سنها في نفس البلدة ونفس القرية يحضن سبعة أيام فحيضها سبعة ، وإن كن اللاتي في سنها يحضن ستة أيام فحيضها ستة أيام ، ولذلك قال ((إذا رأيت أنكِ قد طهرت واستنقأت)) فردها إلى شيء في النفس وردها إلى أمارة تحسها في نفسها وهذا يدل على اعتبار الشرع للاجتهاد وأنه يقع الاجتهاد على وجه يحتاط الإنسان به لدينه ويكون الاجتهاد على غالب ظن المرأة وتحريها .(60/23)
((فَصَلِّي أَرْبَعاً وَعِشْرِينَ لَيْلَةً أَوْ ثَلاَثاً وَعِشْرِينَ لَيْلَةً وَأَيَّامَهَا)) : هذا الحكم اختلف باختلاف حيضها إن كان حيضها ستاً فإنها تصلي أربعاً وعشرين ، وإن كان حيضها سبعاً فإنها تصلي ثلاثاً وعشرين ، ثم هذا ينبني على شهر الحيض هذا إذاكان حيضها شهراً .
والمرأة يكون حيضها شهراً ويكون حيضها دون الشهر ويكون حيضها فوق الشهر على حسب طهرها الذي تعتاده بين الحيضتين ، ولذلك نقول هناك مسائل في الحيض لم نتعرض لها كمسألة شهر المرأة وهذه كلها فيها شيء من الإشكال صعب ، يعني ما أحببنا ذكرها حتى لا يشوش على طلاب العلم ومحله المطولات ، يعني يحتاج شيء من الضبط إذا كان حيضها شهراً تصير تتحيض ستة أيام وتصلي أربعاً وعشرين ، تتحيض سبعة أيام وتصلي ثلاثاً وعشرين ، وإذا كان دون الشهر فإنها تبني على غالب الحيض في الست والسبع ثم بعد ذلك تبني على غالب الطهر.
((وَصُومِي وَصَلِّي)): أي في الأربعة والعشرين يوماً والثلاثة والعشرين يوماً تصوم وتصلي لأنها طاهرة والله فرض على كل امرأة طاهرة إذا توفرت فيها شروط التكليف أن تصوم كما أمرها الله وأن تصلي .
((فَإِنَّ ذَلِكِ يُجْزِئُكِ)):لأن المكلف مرتبطة ذمته ومرتهنة بفعل العبادة فإذا فعلها على الوجه المعتبر فإنه يجزئه ، وأما إذا لم يفعلها على الوجه المعتبر فإنه لم تبرأ ذمته ولم يجزئه ذلك فقال:((فإن ذلك يجزئك)) إذا فعلتيهِ يجزئك لأنه هو الغالب والحكم في الشرع للغالب .(60/24)
(( وَكَذَلِكِ فَافْعَلِي كَمَا يَحِيضُ النِّسَاءُ وَكَمَا يَطْهُرْنَ لِمِيقَاتِ حَيْضِهِنَّ وَطُهْرِهِنَّ فَإِنْ قَوِيتِ عَلَى أَنْ تُؤَخِّرِي الظُّهْرَ وَتُعَجِّلِي الْعَصْرَ ثُمَّ تَغْتَسِلِينَ حِينَ تَطْهُرِينَ وَتُصَلِّينَ الظُّهْرَ وَالْعَصْرَ جَمِيعًا ثُمَّ تُؤَخِّرِينَ الْمَغْرِبَ وَتُعَجِّلِينَ الْعِشَاءَ ثُمَّ تَغْتَسِلِينَ وَتَجْمَعِينَ بَيْنَ الصَّلاتَيْنِ فَافْعَلِي وَتَغْتَسِلِينَ مَعَ الصُّبْحِ وَتُصَلِّينَ وَكَذَلِكِ فَافْعَلِي وَصُومِي إِنْ قَوِيتِ عَلَى ذَلِكَ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم :(( وَهُوَ أَعْجَبُ الأَمْرَيْنِ إلى )) :
أولاً يقول((سآمرك بأمرين أيهما فعلت أجزأ عنكِ)) اختلف العلماء ماهما الأمران اللذان أمر بهما رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه المرأة ؟؟
بعض أهل العلم يقول :- وهو قول طائفة من السلف واختاره الإمام الشافعي ودرج عليه أكثر الشّراح- أنه خيرها بين أمرين :
الأمر الأول : إما أنها تتحيض الست والسبع وتغتسل وتتوضأ عند دخول وقت كل صلاة على الأصل الذي أمر به سائر النساء بالنسبة للمستحاضة وهذا هو الأصل .
الأمر الثاني : أو أنها تجمع بين الصلاتين بغسل واحد فالأمر الأول سبق شرحه وبيانه وهي قضية تتوضأ لكل صلاة لكن مسألة أن تجمع بين الصلاتين وتغتسل لهذا الجمع.
الجمع بين الصلاتين :
أولاً: ماهي الصلوات التي يقع فيها الجمع للمعذور؟؟
وثانياً: ماهي أنواع الجمع ؟؟
وثالثاً: ماهي صفة الجمع؟؟(60/25)
أما بالنسبة للأوقات التي يقع فيها الجمع فالجمع يقع لأربع صلوات :تجمع كل صلاتين على حدة سواء كنت مسافراً أوكنت معذوراً من أعذار الجمع الجمع بين الظهر والعصر ، والجمع بين المغرب والعشاء ، فلأول جمع نهاري والثاني جمع ليلي ، والصلاة الخامسة وهي الفجر لاتجمع إجماعاً ، الفجر لايجمع لامع فرض قبله وهو العشاء ومع فرض بعدها وهو الظهر ، صلاة مستقلة وهي الفجر .
أما بالنسبة للجمع من حيث هو فهناك جمع حقيقي وهناك جمع صوري .
الحقيقي ينقسم إلى قسمين :
الجمع الحقيقي ضابطه أن تصلي الصلاتين في وقت إحداهما هذا جمعٌ حقيقي ؛ لأنك فعلاً قد أضفت صلاة إلى صلاة أخرى في غير وقت الصلاة المجموعة معها هذا جمع حقيقي .
والجمع الحقيقي إما أن يكون جمع تقديم إن أوقعت الثانية في وقت الأولى ، وإما أن يكون جمع تأخير إن أوقعت الأولى في وقت الثانية .
قلنا نجمع بين الظهر والعصر ونجمع بين المغرب والعشاء فإن جمعت جمعاً حقيقياً إما أن تقدم العصر في وقت الظهر فتصلي الظهر ثم تقيم وتصلي العصر ، وهذا من أمثلته جمع النسك في يوم عرفة حيث يصلي الإمام بالناس صلاة الظهر ثم يقدم العصر لأجل أن يتفرغ الناس لدعاء عرفة في عشية عرفة فهذا جمع تقديم .
ويقع الجمع جمع تأخير أن تؤخر الظهر إلى وقت العصر فتصلي الظهر أولاً ثم تقيم للعصر وتصلي العصر فهذا أيضاً يسمى جمع تأخير إذا أخرت الظهر إلى آخر وقت العصر ثم تصلي الظهر ثم تقيم وتصلي العصر أو تؤخر المغرب آخر العشاء فتصلي المغرب ثم تقيم وتصلي العشاء ، إذاً عندنا جمع تقديم وجمع تأخير ، هذا إذاكان الجمع حقيقياً .
أما النوع الثاني من الجمع هو الجمع الصوري :(60/26)
الجمع الصوري توقع كل صلاة من الصلاتين في وقتها ، فأنت في الشكل جمعت لكن في الحقيقة أديت كل صلاة في وقتها ، بالنسبة للظهر مع العصر تؤخر الظهر إلى آخر وقته بحيث مثلاً لو كان أذن للصلاة الساعة الثالثة وأربعين دقيقة حينئذ تصلي مثلاً في الثالثة وثلاثين دقيقة وتجعل عشر دقائق بين الصلاتين أو تصلي في الثالثة وخمس وثلاثين دقيقة ماتسلم من صلاة الظهر إلا وقد أذن لصلاة العصر فتقيم وتصلي العصر فأنت في الشكل جمعت ، وفي الحقيقة ليس بجمع وكل صلاة مودئها فيها ، من حيث الأصل ياإخوان أنه لايجوز للمسلم أن يوقع الصلاة إلا في وقتها ، والجمع الحقيقي الذي هو تقديم الصلاة أو تأخير الصلاة تقديم الأخيرة أو تأخير الأولى لايكون إلا بعذر شرعي ؛ لأن النصوص دالة على أنه يجب على المسلم أن يصلي الظهر في وقتها ويصلي العصر في وقتها ويصلي المغرب في وقتها والعشاء في وقتها ، فلو قلنا بالجمع من دون عذر لأصبحت الصلوات ثلاثة أوقات ، كأن يصلي الظهر مع العصر ويصلي المغرب مع العشاء ويصلي الفجر لوحدها ، فإذاً الجمع لايكون إلا لعذر ووجود حاجة ، ومن هنا ماورد في حديث ابن عباس :"جمع رسول الله صلى الله عليه وسلم بين الصلاتين من غير مرضٍ وفي غيرسفرٍ ولامطر"هذا محمول على الجمع الصوري ؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم أمر المستحاضة أن تؤخر الظهر إلى وقت العصر وسماه جمعاً ، وابن عباس كان يخطب في الكوفة فقام له رجل وقال :" الصلاة ، قال:"أتعملنا بالصلاة لا أم لك جمع رسول الله بين الصلاتين…" فأخر الظهر إلى آخر وقتها لا أنه جمع بين الصلاتين حقيقة وقصد ابن عباس لأنها السنة تفسر السنة ولو جئنا نقول جمع من غير عذر ومن غير سفر ومن غير مرض ومن غير مطر فمعنى ذلك أنه يجوز للإنسان أن يصلي صلاتين في وقت واحد ، ومن هنا قال العلماء : إن هذه المستحاضة نبهت على أن على الشرع يخفف على العباد في حالات الضرورة في حالات الحاجة إما احتياطاً(60/27)
للدين مثل حال المستحاضة تحتاط من أجل وضو ئها وطهارتها ، وإما احتياطاً للأنفس كإنسان عنده مريض يوشك على الموت أراد أن يسعفه فنقله من بيته إلى المستشفى في أول وقت الظهر فذهب يبحث يذهب عن الطبيب وذهب يبحث عن العلاج والدواء يريد أن ينقذ النفس فاسترسل حتى يبقى من وقت الظهر قدر الصلاة فتوضأ وصلى ثم يحتاج للعصر أن يشرف على هذا المريض فيقيم ويصلي العصر وحينئذ خفّف عنه وذهب عنه الحرج لأن مثل هذا لو قلت صل مع الناس لكان فيه حرج ، ومن هنا قال ابن عباس :"أراد ألا يحرج أمته "ابن عباس كان يخطب في أمرٍ عظيم فكل من كان في أمرٍ عظيم وشأن عظيم كأن يكون الأطباء تأتيهم حالات طارئة حالات إسعافات تحتاج إلى إسعاف أولي ، وقد يكون الإنسان بين الحياة والموت يحتاج إلى خمس دقائق عشر دقائق فمثل هذه الحالات التي يضيق عليهم فيها ويحتاجون لإنقاذ الأنفس يؤخرن الصلاة بحيث يؤخرون صلاة الظهر حتى لايبقى إلا قدر مايصلي به الظهر لطهارتها وأدائها فيصلي الظهر ثم يقيم ويصلي العصر ويتفرغ لمافيه حفظ الأنفس ؛ لأن الله أوجب عليه حفظ هذه الأنفس .
إذاً الجمع الذي يسمى بالجمع الصوري حقيقته أن كل صلاة أديت في وقتها ، ومن هنا تنظر إلى حكمة الشرع أوجب الصلاة عليك في وقتها متى ماوسعك ذلك فإن أدى ذلك إلى تلف النفس أوحصول الضرورة أوحصول ضرر فحينئذ يوسع الشرع عليك وقد جعل الله لكل شيء قدراً ، أما لوقلنا إنه يجمع بغض النظر عن وجود العذر أو عدمه فهذا كما ذكرنا أنه يؤدي إلى أن الصلوات تصبح ثلاث صلوات ، ثلاثة مواقيت للصلوات الظهر مع العصر والمغرب مع العشاء والفجر وحدها ، وقول جماهير العلماء رحمهم الله على هذا التفصيل لأن السنة فسرت ذلك وسمت تأخير الأولى إلى قبل دخول الثانية وفعل الثانية قبل وقتها جمعاً .(60/28)
وقال:((وتجمعين ))فنص عليه الصلاة والسلام على أنه جمع مع أنها قد صلت الظهر في وقتها وصلت العصر في وقتها وصلت المغرب في وقتها والعشاء في وقتها .
في هذا دليل على الأمر الثاني وهو الخيار الثاني : أنها تغتسل عند وقت الظهر تغتسل لصلاة الظهر مع العصر وتغتسل لصلاة المغرب مع العشاء وتغتسل لصلاة الفجر ، وهذا في نوع خاص كما ذكر العلماء وهي التي دخل حيضها في استخاضتها ، فإنه يحتمل أن تكون حائضاً ويحتمل أن تكون مستحاضة فحينئذ تغتسل دفعاً للشك لوجود الحيض لأنها طهّرت وأمكنها أن تصلي ، فكأن طهرها طهر مستثنى فكأنها تصلي في وقت يتردد بين كونها حائضاً وبين كونها مستحاضة فيما قبل فإن انقطع عنها الدم فتلجمت كانت في حكم الطاهر وإن لم تكن طاهرة حقيقةً.
فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم :((وَهُوَ أَعْجَبُ الأَمْرَيْنِ إلي )):((وَهُوَ أَعْجَبُ الأَمْرَيْنِ إلي)) :قيل إنها لفظة من حمنّة وليست مرفوعة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ولذلك جاء في بعض الروايات قالت حمنّة:"وهو أعجب إلي "يعني الأمر الأخير من كونها تجمع بين الصلاتين ؛ لأنه هناك طهارة حدث وطهارة خبث فكونها تتطهر مرة واحدة لفرضين وكونها تصلي الفرضين وكأنهما في وقت واحد هو أعجب إلي وهو أنقى لها وأريح لها وأخف لها ، وهو أعجب إلي بالنسبة إلى الأمر الأخير لا للأمر الأول كما ذكرنا.(60/29)
قَالَ أَبو عِيسَى رحمه الله : هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ وَرَوَاهُ عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ عَمْرٍو الرَّقِّيُّ وَابْنُ جُرَيْجٍ وَشَرِيكٌ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَقِيلٍ عَنْ إِبْرَاهِيمَ بْنِ مُحَمَّدِ ابْنِ طَلْحَةَ عَنْ عَمِّهِ عِمْرَانَ عَنْ أُمِّهِ حَمْنَةَ إِلاَّ أَنَّ ابْنَ جُرَيجٍ يَقُولُ عُمَرُ بْنُ طَلْحَةَ وَالصَّحِيحُ عِمْرَانُ بْنُ طَلْحَةَ قَالَ وَسَأَلْتُ مُحَمَّدًا عَنْ هَذَا الْحَدِيثِ فَقَالَ هُوَ حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ وَهَكَذَا قَالَ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ هُوَ حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ وقَالَ أَحْمَدُ وَإِسْحَقُ فِي الْمُسْتَحَاضَةِ إِذَا كَانَتْ تَعْرِفُ حَيْضَهَا بِإِقْبَالِ الدَّمِ وَإِدْبَارِهِ وَإِقْبَالُهُ أَنْ يَكُونَ أَسْوَدَ وَإِدْبَارُهُ أَنْ يَتَغَيَّرَ إِلَى الصُّفْرَةِ فَالْحُكْمُ لَهَا عَلَى حَدِيثِ فَاطِمَةَ بِنْتِ أَبِي حُبَيْشٍ وَإِنْ كَانَتِ الْمُسْتَحَاضَةُ لَهَا أَيَّامٌ مَعْرُوفَةٌ قَبْلَ أَنْ تُسْتَحَاضَ فَإِنَّهَا تَدَعُ الصَّلاَةَ أَيَّامَ أَقْرَائِهَا ثُمَّ تَغْتَسِلُ وَتَتَوَضَّأُ لِكُلِّ صَلاَةٍ وَتُصَلِّي وَإِذَا اسْتَمَرَّ بِهَا الدَّمُ وَلَمْ يَكُنْ لَهَا أَيَّامٌ مَعْرُوفَةٌ وَلَمْ تَعْرِفِ الْحَيْضَ بِإِقْبَالِ الدَّمِ وَإِدْبَارِهِ فَالْحُكْمُ لَهَا عَلَى حَدِيثِ حَمْنَةَ بِنْتِ جَحْشٍ وَكَذَلِكَ قَالَ أَبُو عُبَيْدٍ .(60/30)
وقَالَ الشَّافِعِيُّ الْمُسْتَحَاضَةُ إِذَا إِذَا اسْتَمَرَّ بِهَا الدَّمُ فِي أَوَّلِ مَا رَأَتْ فَدَامَتْ عَلَى ذَلِكَ فَإِنَّهَا تَدَعُ الصَّلاَةَ مَا بَيْنَهَا وَبَيْنَ خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْماً فَإِذَا طَهُرَتْ فِي خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْماً أَوْ قَبْلَ ذَلِكَ فَإِنَّهَا أَيَّامُ حَيْضٍ فَإِذَا رَأَتِ الدَّمَ أَكْثَرَ مِنْ خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْماً فَإِنَّهَا تَقْضِي صَلاَةَ أَرْبَعَةَ عَشَرَ يَوْمًا ثُمَّ تَدَعُ الصَّلاَةَ بَعْدَ ذَلِكَ أَقَلَّ مَا تَحِيضُ النِّسَاءُ وَهُوَ يَوْمٌ وَلَيْلَةٌ .
قَالَ أَبو عِيسَى رحمه الله : وَاخْتَلَفَ أَهْلُ الْعِلْمِ فِي أَقَلِّ الْحَيْضِ وَأَكْثَرِهِ فَقَالَ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ أَقَلُّ الْحَيْضِ ثَلاَثَةٌ وَأَكْثَرُهُ عَشَرَةٌ وَهُوَ قَوْلُ سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ وَأَهْلِ الْكُوفَةِ وَبِهِ يَأْخُذُ ابْنُ الْمُبَارَكِ وَرُوِيَ عَنْهُ خِلاَفُ هَذَا وقَالَ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ مِنْهُمْ عَطَاءُ بْنُ أَبِي رَبَاحٍ أَقَلُّ الْحَيْضِ يَوْمٌ وَلَيْلَةٌ وَأَكْثَرُهُ خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْماً وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ وَالأَوْزَاعِيِّ وَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَدَ وَإِسْحَقَ وَأَبِي عُبَيْدٍ .
الشرح:
فهذه المسائل كلها تقدم الكلام عليها ذكرنا ماهو أقل الحيض ، وماهو أكثر الحيض وماهي الفائدة المترتبة على قولنا بأقل الحيض وبقولنا بأكثر الحيض ، وذكرنا تفصيلات العلماء وضوابطهم في هذا المسائل كلها ممايغني عن التكرار والإعادة ،والله تعالى أعلم.
- ? - ? - ? - ? - الأسئلة - ? - ? - ? - ? -
السؤال الأول :
لماذا ردّ النبي صلى الله عليه وسلم حمنة بنت جحش إلى غالب عادة النساء في حيضهنّ وطهرهنّ ولم يسألها عن عادتها في حيضها وطهرها ويردها إليها ..؟؟
الجواب:
بسم الله الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه أمابعد :(60/31)
فهذا سؤال جيد وقد أجاب العلماء رحمهم الله بأن سياق الحديث في سؤالها نبّه رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أنها لم تكنّ من ذوات العادة ؛ لأنها قالت:" إني أستحاض حيضةً كثيرةً شديدةً منعتني الصوم والصلاة" فكانت لاتميز بين الحيض والاستحاضة ، فإذاً ليست بذات عادةً وليست بذات تمييز ، فقال بعض العلماء : إن هذا لا يقوى الاستدال به على إسقاط العادة والتميز ؛ والسبب في هذا أن هذا الحديث من حيث الصحة والثبوت دون الأحاديث التي دلت على العادة كما في الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم لماّ أمر فاطمة -رضي الله عنها -في الحديث المتقدم معنا قال لها عليه الصلاة والسلام :((دعي عنك الصلاة قدر الأيام التي كنت تحيضين فيها)) وقال أيضاً في حديث أم سلمة في الصحيح :(( لتنظر الأيام التي كانت تحيضهنّ قبل أن يصيبها الذي أصابها)) هذا كله يدل على أن العادة ثابتة فلانستطيع إلغاء ما نص عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم وأثبته بالصريح بشيء محتمل مع أن هذا الحديث حسن يعني غاية مافيه أنه حسن والحسن لايعارض ماهو أصح منه بل ماهو ثابت في الصحيحين فالحسن حجة مالم يتعارض مع ماهو أصح منه ، ولذلك قال الناظم في الحسن :
وَهْوَ فْيِ الحُجَّةِ كَاْلصَّحِيْحِ ……وَدُوْنَهُ إنْ صِيْرَ للْتَرِجِيْحِ
أي أنه إذا صار التعارض بينه وبين الصحيح لا يلتفت إلى الحديث الحسن ، وعلى هذا فإن هذا الحديث لايمكن إسقاط العادة والتمييز به كما ورد في السؤال ، والله تعالى أعلم.
السؤال الثاني :
أجد في نفسي راحة وطمأنينة في مجالس الذكر فبم تنصحني للمحافظة عليهاوترك مجالس السوء..؟؟
الجواب:(60/32)
الحمدلله إذا كان الإنسان أثناء جلوسه في مجالس الذكر أو عند سماعه للموعظة يتأثر أو إذا رأى الصالحين الأخيار أو أهل الخير والعلماء والأئمة أحبهم ووجد الراحة لهم فهذا يدل على أن فيه خيراً ، وكلما كثر هذا الحب لمجالس الذكر ولكلام الله سبحانه وتعالى كلما كان الإنسان أقرب إلى مرضاة الله عز وجل فإن الله -تعالى-شهد بأن مجالس الصالحين قوم لايشقى بهم جليس ، وأن الإنسان إذا غشي حلق الذكر تنزلت السكينة ونزلت الملائكة وحفت أهل ذلك المجلس ، وكل ذلك بفضل الله سبحانه وتعالى لأنه ليس بيننا وبين الله حسب وليس بيننا وبين الله نسب ، والله لاينظر إلى صورنا ولاينظر إلى ألواننا ولا إلى أموالنا ؛ ولكن ينظر إلى قلوبنا وإلى أعمالنا وإذا خرج العبد إلى مجالس الذكر وإلى كل شيء فيه طاعة لله ورسوله صلى الله عليه وسلم وأحب ذلك وارتاح إليه وتعلق قلبه به فإن هذا من السعادة ، ووالله إن السعادة لاتكون في الأموال ولاتكون في الدنيا ولو جمع الإنسان أموال الدنيا قد يجعله الله أشقى الناس بماله ، ولذلك تجد الغني الثري يعطيه الله عز وجل من المال مالا يحصى كثرة ويشتت الله همّه ويمزق قلبه فيوم قلب في آخر الدنيا مع تجارته ، ويوم مع مال كسب أو تجارة تلفت حتى يشقى بماله الذي ظن أن السعادة فيه ؛ ولكن من أوى إلى مجالس الذكر وأحب ذكر الله وأحب كل شيء يقربه إلى الله سبحانه وتعالى هذه المحبة وهذه المودة لاتكون إلا لعبد أراد الله به خيراً ، قال رسول الله الرجل يحب القوم ولما يحلق بهم قال:(( أنت مع من أحببت )) الرجل يحب القوم يرى العلماء ويرى الصالحين ويرى مجالس الذكر أو يقرأ سيرة السلف الصالح ويقرأ سيرة الأئمة والعلماء والأتقياء فتدمع عينه ويخشع قلبه ويشهد الله من فوق سبع سموات أنه يحبهم فيطلع على قلبه أنه يحبهم وفي قلبه حب لهم وود فالله-جل وعلا-يبلغه بهذا الحب أن يحشرمعهم ، فهذا خير كثير قال بعض(60/33)
العلماء في قوله:(( أنت مع من أحببت)) :أي مادام فيك هذا الحب سيأتي يوم من الأيام وتكون مثلهم ، ولذلك لماذا يقول صلى الله عليه وسلم :(( من تشبه بقوم فهو منهم)) من تشبه بأهل الضلال والمعاصي فأحبهم وأحب مجالسهم وأحب الفجور والخنى ومعصية الله سيأتي يوم من الأيام وهو غارق-والعياذ بالله-من أخمص قدمه إلى شعر رأسه في ذلك الفساد والضياع ؛ لأن الله يبتليه فيسترسل في هذا الغي فالحب يقود إلى المتابعة:{ قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمْ اللَّهُ} فإذا وجدت في قلبك أنك تحب مجالس الذكر وأنك تطمئن في مجالس الذكر وأن الله ينزل عليك السكينة وأن قلبك يرتاح قل الحمد لله والشكر لله وقل هذا من فضل ربي وحقيق بكل مسلم ولو مرت عليه لحظة واحدة وهو جالس في مجالس الذكر ووجد قلبه مرتاحاً في ذلك المجلس أن يحمد الله مقلب القلوب والأبصار ، فلو شاء الله عز وجل أن يسلبك هذه الراحة والطمأنينة لشاء وهو على كل شيء قدير ، فالقلوب بين أصبعين من أصابع الرحمن يقلبها كيف يشاء فإن أراد الرحمة قلب القلب في الرحمة ، وإن أراد العذاب لعبده قلب قلبه بالعذاب وجعل شقاءه من حيث يظن أنها سعادته-نسأل الله السلامة والعافية-فإذا وجد الإنسان مثل هذا فليحمد الله قال صلى الله عليه وسلم :((سبعة يظلهم الله في ظله يوم لاظل إلا ظله ومنهم شاب معلق قلبه بالمسجد)) إذا خرج منه يتعلق قلبه محب للمسجد سبحان الله هذا وهو يحب المسجد فكيف بمن أحب ذكر الله ؟؟ وكيف بمن أحب مجالس الأخيار ؟؟ وكيف بمن أصبح همه وغمه أن يجلس مجالس الذكر وأن يسمع كلمة تدله على الله تقربه إلى مرضاة الله أو تهديه إلى صراط الله ؟ هذا خيرٌ كثير احمد الله عز وجل والواجب على كل مسلم أن لا يستحقر من الخير شيئاً فإن الله عز وجل قد يُدخل العبد الجنة بحسنةٍ واحدة ، وقد يحجبه عن النَّار بحسنةٍ واحدة ، وقد يكبكبه في النَّار على(60/34)
وجهه بسيئةٍ واحدة ثقلت بها موازين السيئات على الحسنات ، فالواجب على الإنسان أن يعظّم الخير وإذا وجد من نفسه حباً للخير وحباً لذكر لله وحباً لمجالس الخير أن يحمد الله-- جل جلاله -- وأن يسأل الله المزيد وأن يعلم أن القلب يمرض وأن القلب يسقم وأنه لايسلم القلب إلا إذا سلمه الله فإذا كملت سلامة القلب كملت محبته لله -- جل جلاله --إذا كملت سلامة القلب وصحته من السَّقم كملت محبته لله-- جل جلاله --فأصبح لايرتاح ولايطمئن إلا بشيء يهديه إلى الله أو يقربه إلى الله إن ركب في سيارة استمع إلى الذكر استمع إلى القرآن ، إن جّلس في المسجد لا يمكن أن يرى حلقة ذكر إلا جلس فيها ، ولاسمع لواعظ إلا أنصت له ، وإذا جلس أصغى وتقرب إلى الله عز وجل وتحبب إليه وهو يفتح سمعه ويُقبل بقلبه وقالبه على الله -- جل جلاله -- يحب ويحسّ أنه يعمل لله سبحانه وتعالى لا رياءً ولا نفاقاً ولا سمعة ولكن لله وفي الله وابتغاء رحمة الله ومن تقرب إلى الله شبراً تقرب الله منه ذراعاً ومن تقرب إلى الله ذراعاً تقرب الله منه باعاً فيالها من رحمة !!فياله من خير!! وياله من ملك كريم ورب رحيم !! حب مجالس الذكر والأنس بمجالس الذكر هذا لا يعطاه كل أحد ، الله يعطي الدنيا من أحب ومن كره وقد قال صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح يخبر فيه عن أمر غيبي : (( لوكانت الدنيا تزن عند الله جناح بعوضة ما سقى الكافر شربة ماء )) الدنيا بأسرها وماطلعت عليه الشمس وغابت لايزن عند الله جناح بعوضة فالله يعطيها لمن أحب ومن كره ولكن لايعطي الدين إلا لمن أحب ، ففي هذا الدين سعادة وفي هذا الدين رحمتك وعزتك ؛ لأن الله أرسل نبيه صلى الله عليه وسلم رحمة للعالمين وجعل كتابه والوحي الذي أنزله له رحمة للعالمين فمن أحب هذا الخير وأحب مجالس الذكر وأحب الصالحين فإن الله يرحمه .(60/35)
فمما يعينك على بقاء هذا الحب وبقاء هذا الودّ وبقاء هذه الرحمة في قلبك إذا خرجت من مجالس الذكر أن تستديم طاعة الله -- جل جلاله --فإذا خرج الإنسان من مجلس الذكر حرص على أن يعمل بماعلم فإن العبد إذا علم ثم عمل بارك الله له في علمه ، وهذا هو الذي سأله النبي صلى الله عليه وسلم بسؤال النفي والاستعاذة فقال :(( أعوذ بك من علم لاينفع )) فإذا أراد الله بعبده خيراً وأراد أن يثبته بعد مجلس الذكر على الخير علق قلبه بما سمع وأحس من قرارة قلبه أن كل كلمة وكل جملة وكل حكم أن الله سائله ومحاسبه عنه بين يديه وأنه مادام أذنه أصغت وقلبه قد وعى فقد قامت عليه حجة الله عز وجل فإما أن يعمل وإما أن يهلك بما عليه فعليه إذا أراد هذا الخير وحلاوة هذا الذكر أن يعمل بما علم .(60/36)
أما الأمر الثاني : أن ينقل هذا الخير أن ينقل هذه الرحمة إلى الغير فيعلم من لاعلم عنده ، ولذلك قال الله-تعالى-:{وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَرًا مِنْ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ فَلَمَّا حَضَرُوهُ قَالُوا أَنْصِتُوا فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّوْا إِلَى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ} فهذا يدل على أن الإنسان المنتفع بما يسمع ينطلق إلى قومه إلى أبنائه إلى بناته ، سبحان الله تجد الرجل يخرج من بيته فيرى أمراً غريباً في سوقه أو تجارته أو يسمع بخبرِ غريب فيأتي إلى بيته فأول مايتكلم به خبر الدنيا وقد يخبر من يركب معه ومن يجالسه ولو للحظة يقول سمعت بكذا وكذا وهو يسمع قوارع التنزيل وكلام الله العظيم الجليل ولايحمله إلا ماندر :{ وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ} والله إن القلوب تتفطر كلما أحسسنا بالفجوة ببينا وبين هذا الوحي وبيننا وبين هذا الدين نحن لاراحة لنا ولاطمأنيته إلا بهذا الذكر ولاسعادة لنا إلا بهذا الكتاب الذي جعل فيه عز الدينا وعز الآخرة ، فكلما كنت وعاءً من أوعية هذا الخير ولو بكلمة فإن الله ينفع بك ولتعلم أن الله سبحانه وتعالى يبارك لأهلك فيك حينما تنتقل إليهم بعد مجالس الذكر بهذا الخير نحن لانستطيع أن نجد اللذة التي كن فيها في مجالس الذكر لأننا نجلس في مجالس الذكر ثم ننطلق إلى أهل الدنيا فنشاركهم ونحن معهم سواء بسواء دون أن نحس بما أوجب الله علينا من نقل الخير وبث الخير إذا أردنا أن نستمر على ذكر الله فلنقل ماسمعنا ونبلغ ماعملنا حتى يضع الله البركة في علمنا وماكان منا.
-نسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يجعلنا هداة مهتدين غير ضالين ولامضلين-.
وآخر دعوانا أن الحمدلله رب العالمين وصلى الله وسلم وبارك على نبيه.(60/37)
بسم الله الرحمن الرحيم
قال المصنف رحمه الله : بَاب مَا جَاءَ فِي التَّمَنْدُلِ بَعْدَ الْوُضُوءِ
حَدَّثَنَا سُفْيَانُ بْنُ وَكِيعِ بْنِ الْجَرَّاحِ حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ وَهْبٍ عَنْ زَيْدِ بْنِ حُبَابٍ عَنْ أَبِي مُعَاذٍ عَنِ الزُّهْرِيِّ عَنْ عُرْوَةَ عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ : " كَانَ لِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم خِرْقَةٌ يُنَشِّفُ بِهَا بَعْدَ الْوُضُوءِ " .
قَالَ أَبو عِيسَى رحمه الله : حَدِيثُ عَائِشَةَ لَيْسَ بِالْقَائِمِ وَلاَ يَصِحُّ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِي هَذَا الْبَابِ شَيْءٌ وَأَبُو مُعَاذٍ يَقُولُونَ هُوَ سُلَيْمَانُ بْنُ أَرْقَمَ وَهُوَ ضَعِيفٌ عِنْدَ أَهْلِ الْحَدِيثِ قَالَ وَفِي الْبَاب عَنْ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ .
قال المصنف رحمه الله : حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ حَدَّثَنَا رِشْدِينُ بْنُ سَعْدٍ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ زِيَادِ بْنِ أَنْعُمٍ عَنْ عُتْبَةَ بْنِ حُمَيْدٍ عَنْ عُبَادَةَ بْنِ نُسَيٍّ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ غَنْمٍ عَنْ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ قَالَ :"رَأَيْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم إِذَا تَوَضَّأَ مَسَحَ وَجْهَهُ بِطَرَفِ ثَوْبِهِ ".(61/1)
قَالَ أَبو عِيسَى رحمه الله : هَذَا حَدِيثٌ غَرِيبٌ وَإِسْنَادُهُ ضَعِيفٌ وَرِشْدِينُ بْنُ سَعْدٍ وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ زِيَادِ بْنِ أَنْعُمٍ الأَفْرِيقِيُّ يُضَعَّفَانِ فِي الْحَدِيثِ ، وَقَدْ رَخَّصَ قَوْمٌ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَمَنْ بَعْدَهُمْ فِي التَّمَنْدُلِ بَعْدَ الْوُضُوءِ وَمَنْ كَرِهَهُ إِنَّمَا كَرِهَهُ مِنْ قِبَلِ أَنَّهُ قِيلَ إِنَّ الْوُضُوءَ يُوزَنُ وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ وَالزُّهْرِيِّ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ حُمَيْدٍ الرَّازِيُّ حَدَّثَنَا جَرِيرٌ قَالَ حَدَّثَنِيهِ عَلِيُّ بْنُ مُجَاهِدٍ عَنِّي وَهُوَ عِنْدِي ثِقَةٌ عَنْ ثَعْلَبَة عَنِ الزُّهْرِيِّ قَالَ إِنَّمَا كُرِهَ الْمِنْدِيلُ بَعْدَ الْوُضُوءِ لأَنَّ الْوُضُوءَ يُوزَنُ .
الشرح:
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين أما بعد :
فقد ذكر المصنف-رحمه الله -هذا الباب وهو باب ما جاء في المنديل بعد الوضوء ، وقد اعتنى المصنّف رحمه الله ببيان سنة النبي صلى الله عليه وسلم والأحاديث التي وردت في هديه في الوضوء ، وبعد الفراغ من وصفه لوضوء النبي صلى الله عليه وسلم ، وبيانه للأبواب المتعلقة بأحكام الوضوء ، شرع في بيان بعض الأمور التي وردت فيها الأحاديث عن النبي صلى الله عليه وسلم بعد الفراغ من الوضوء ومن ذلك مسألة المنديل .(61/2)
والمنديل ما يتمسح به سواء كان من خرقة أو غيرها كالمناديل في زماننا ، وهذه المسألة وردت فيها أحاديث عن النبي-- صلى الله عليه وسلم - -منها حديث أم المؤمنين عائشة-رضي الله عنها وأرضاها- والذي اعتنى المصنف رحمه الله بذكره في هذا الباب ، وهو حديث ضعيف ؛ وذلك لأنه من رواية أبي معاذ "سليمان بن أرقم" وهو ضعيف الرواية لا يقبل حديثه .
وقد ورد عن النبي -- صلى الله عليه وسلم - - بعض الأحاديث التي تدل على مسألة المنديل منها : حديث سلمان الفارسي وقد رواه ابن ماجة في السنن بسند ضعيف وفيه أن النبي صلى الله عليه وسلم توضأ فأحسن الوضوء ثم قلب جبته ومسح وجههصلوات الله وسلامه عليه بباطن الجبة .
ومنها حديث أبي بكر رواه البيهقي في سننه بسند ضعيف وهو قريب من حديث أم المؤمنين الذي معنا .
ومنها حديث أنس بن مالك رضي الله عنه ورواه البيهقي في السنن وهو معلول .
وهناك حديث عن ابن أبي مريم ، وهو حديث يروى عن رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ولم يسم هذا الصحابي وتسمية الصحابي لا تضر إذا جهلت ، وقد ذكر الإمام العيني إن سنده صحيح وخرّجه النسائي في الكنى ، هذه هي جملة الأحاديث التي وردت عن النبي صلى الله عليه وسلم .
ولذلك قال بعض العلماء : لا يصح في هذا الباب شيء وقد وردت أحاديث في الصحيح تدل على صحة مسالة التنشف بعد الطهارة ، ومن ذلك حديث ميمونة-رضي الله عنها وأرضاها -أنها أتت النبي صلى الله عليه وسلم بالمنديل فلم يُرِدْه أتته بخرقة بعد الغسل لكي يتمندل ويتمسح بها -صلوات الله وسلامه- عليه فلم يُرِدْه قالت -رضي الله عنها- وجعل ينفض الماء بيديه وهذا الحديث أصله في الصحيحين ، ولذلك قال العلماء : يدل على أنهم كانوا عارفين لمسألة المنديل بعد الطهارة ، وهذا أمر معلوم بداهة ، والسبب في ذلك أن الإنسان قد يغتسل في شدة البرد وإذا لم يتنشف فإنه مظنة الضرر في جسده .(61/3)
ومن هنا قال طائفة من العلماء : باستحباب التنشف بعد الوضوء ؛ وذلك لأن عرض أم المؤمنين على النبي صلى الله عليه وسلم المنديل بعد الوضوء يدل على أنها عهدت من النبي صلى الله عليه وسلم ذلك ، وكره بعض السلف رحمة الله عليهم المنديل بعد الوضوء والسبب في الكراهة أن الذنوب تذهب مع قطرات الماء وقد ثبت بذلك الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم فقال : (( خرجت خطاياه مع الماء أو مع آخر قطر الماء فإذا غسل وجهه خرجت الذنوب من تحت أشفار عينيه ، وإذا غسل يديه خرجت الذنوب من تحت أظفار يديه )) وبقية الأعضاء ذكرت كما ورد في الحديث الذي ذكره الترمذي وهو حديث صحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم ؛ ومن هنا قالوا يكره أن يتنشف بعد الوضوء لأنه إذا ترك الماء يتقاطر فإن معنى ذلك أن تكون المغفرة أشمل وأكثر ، وهذا المعنى على ظاهر الحديث صحيح مقبول ، ومن هنا كان الأفضل أن لا يتنشف بعد الوضوء وذلك لطلب الفضيلة التي ذكرنا ، قال بعض العلماء : إنه إذا كان في الزمان شديد البرد وكان يخشى من بقاء الماء على أعضاء الوضوء وأراد أن يتنشف فإنه يتنشف والله يكتب له الأجر والمثوبة ؛ والسبب في ذلك أن هذه تعتبر حالة نادرة يخشى معها الضرر ، والله يعلم أنه لولا شدة البرد لكان تاركاً للماء يتقاطر ؛ فلذلك قالوا لمكان العذر فإنه يكتب له الأجر كاملاً ، وقد ثبتت النصوص عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه من حيل بينه وبين الفضل بسبب يعذر فيه أن الله يكتب له الفضل كما ثبت في الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : (( إذا مرض العبد أو سافر كتب له عمله )) ، فإذا كانت السنة تدل على أن المعذور يكتب له الأجر والفضل فمعنى ذلك أنه إذا وجد العذر هنا من شدة البرد فإنه ينال الفضيلة ، ولا حرج عليه حينئذ أن يترك التمسح .(61/4)
وقال بعض العلماء : بل إنه يترك التمسح ولو كان في شدة البرد لأن الأجر يكون أكثر وأكدوا ذلك بقوله عليه الصلاة والسلام : (( إسباغ الوضوء على المكاره )) فإذا كان إسباغ الوضوء على المكاره مطلوباً ، وذلك لفضيلة الثواب والأجر وغفران الذنوب والخطيئة فكذلك التمسح بعد الوضوء ، وقد جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم مايؤكد أن له فضل التقاطر فيترك الحديث على ظاهره ، فمن هنا استحبوا أن لايتمسح ولو كان في شدة البرد طلباً لهذا الفضل العظيم .
وأما قوله رحمه الله "وقد كره قوم التمسح بعد الوضوء ؛ لأن الوضوء يوزن كما روى ذلك عن الزهري": وهذه المسالة تعرف بمسألة الوزن ، فقال بعض العلماء : إن الأعمال هي التي توزن فإذا فعل الإنسان أمراً فإن الله عز وجل يزن مايكون منه من الخير ، سواء كان من الأقوال أو كان من الأفعال .
وقال بعض العلماء : إن الذي يوزن هو العبد نفسه ، وأن الله عز وجل يثقّل الإنسان على حسب مافيه من الخير والطاعة والبر .
واستدل الذين قالوا إن الأعمال هي التي توزن بما ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:(( الحمد لله تملأ الميزان ، وسبحان الله والحمدلله تملآن أو تملأ مابين السماء والأرض)) ، واستدلوا بما ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال :(( كلمتان خفيفتان على اللسان ثقيلتان في الميزان حبيبتان إلى الرحمن سبحان الله وبحمده سبحان الله العظيم )) قالوا وقد دل هذان الحديثان الصحيحان على أن الأعمال هي التي توزن .(61/5)
وأكدوا ذلك بحديث البطاقة وقد ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم ، وهو حديث صححه غير واحد من أهل العلم وحاصله :(( أن عبداً ينشر له يوم القيامة تسعة وتسعون سجلاً كل سجلٍ منها مد البصر وكلها خطايا وذنوب فإذا نظر إليها قال الله عز وجل عبدي هل ظلمتك ملائكتي ؟ قال: " لا يارب . قال هل تنكر منها شئياً؟ قال: لا يارب. قال : إنك لن تظلم من عملك اليوم شيئاً. ثم يؤتى ببطاقة فيقول : يارب ما تفعل هذه البطاقة مع هذه السجلات ؟ فقال الله عز وجل إنك لن تظلم من عملك اليوم شيئاً. قال فتوضع البطاقة فترجح كفتها على كفة السجلات وإذا فيها لاإله إلا الله " قال صلى الله عليه وسلم : (( ولايثقل مع اسم الله شيء)) .
قال أصحاب هذا القول : فدلت هذا الاحاديث على أن الأعمال هي التي توزن ، أما كيف يكون للأعمال وزن؟؟ فهذا أمر مرده إلى الله سبحانه وتعالى فهو على كل شيء قدير ، ولا يسأل عما يفعل ، يحكم ولا معقب لحكمه وهو سريع الحساب .
وقال طائفة من العلماء : إن العبد هو الذي يوزن ؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال في ابن مسعود لما عبثت الريح بالشجرة وهو عليها فضحك الصحابة من دقة ساقيه فقال صلى الله عليه وسلم :(( أتضحكون من دقة ساقيه فوالذي نفسي بيده لهما أثقل في الميزان من جبل أحد)) فهذا يدل على أن العبد يوزن ، قالوا ومن هنا فإن النصوص تدل على أن الوزن يكون للعباد لقوله سبحانه وتعالى :{فَلاَ نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْنًا}(1) .(61/6)
والذي يترجّح والعلم عند الله أن عرصات يوم القيامة مختلفة فهناك عرصة يوزن فيها الناس ، وهناك عرصة توزن فيها أعمال الناس ؛ ولذلك لما وردت النصوص متنوعة مختلفة حملت على هذا الوجه، وحملها على هذا الوجه هو مذهب حبر الأمة وترجمان القرآن عبدالله بن عباس ، فإنه لما سئل عن آيات القرآن المتعارضة في العرصات حمل ذلك على اختلافها ، فدل على أن مواقف القيامة متعددة مختلفة ، فتارة يعرض الله الخلائق ويجعل الوزن لأجسادهم على حسب ماهم فيه من الخير والشر ، وتارة يعرض أعمال العباد فيزنها خيراً وشراً كما قال سبحانه وتعالى :{وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلاَ تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ}(1) -ونسأل الله العظيم رب العرش الكريم بمنه وكرمه أن يرحم في موقف العرض عليه ذل مقامنا وأن لا يفضحنا بسوء أفعالنا-.
قال المصنف-رحمه الله -:بَاب فِيمَا يُقَالُ بَعْدَ الْوُضُوءِ
حَدَّثَنَا جَعْفَرُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عِمْرَانَ الثَّعْلَبِيُّ الْكُوفِيُّ حَدَّثَنَا زَيْدُ بْنُ حُبَابٍ عَنْ مُعَاوِيَةَ بْنِ صَالِحٍ عَنْ رَبِيعَةَ بْنِ يَزِيدَ الدِّمَشْقِيِّ عَنْ أَبِي إِدْرِيسَ الْخَوْلاَنِيِّ وَأَبِي عُثْمَانَ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم :(( مَنْ تَوَضَّأَ فَأَحْسَنَ الْوُضُوءَ ثُمَّ قَالَ أَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ اللَّهُمَّ اجْعَلْنِي مِنَ التَّوَّابِينَ وَاجْعَلْنِي مِنَ الْمُتَطَهِّرِينَ فُتِحَتْ لَهُ ثَمَانِيَةُ أَبْوَابِ الْجَنَّةِ يَدْخُلُ مِنْ أَيِّهَا شَاءَ )) .
قَالَ أَبو عِيسَى رحمه الله : وَفِي الْبَاب عَنْ أَنَسٍ وَعُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ .(61/7)
قَالَ أَبو عِيسَى رحمه الله : حَدِيثُ عُمَرَ قَدْ خُولِفَ زَيْدُ بْنُ حُبَابٍ فِي هَذَا الْحَدِيثِ قَالَ وَرَوَى عَبْدُ اللَّهِ بْنُ صَالِحٍ وَغَيْرُهُ عَنْ مُعَاوِيَةَ بْنِ صَالِحٍ عَنْ رَبِيعَةَ بْنِ يَزِيدَ عَنْ أَبِي إِدْرِيسَ عَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ عَنْ عُمَرَ وَعَنْ رَبِيعَةَ عَنْ أَبِي عُثْمَانَ عَنْ جُبَيْرِ بْنِ نُفَيْرٍ عَنْ عُمَرَ وَهَذَا حَدِيثٌ فِي إِسْنَادِهِ اضْطِرَابٌ وَلاَ يَصِحُّ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِي هَذَا الْبَابِ كَبِيرُ شَيْءٍ قَالَ مُحَمَّدٌ وَأَبُو إِدْرِيسَ لَمْ يَسْمَعْ مِنْ عُمَرَ شَيْئاً .
الشرح :
اعتنى المصنّف رحمه الله ببيان ماورد عن النبي صلى الله عليه وسلم بعد الفراغ من الوضوء ، وسنن الوضوء وآدابه التي وردت عن النبي صلى الله عليه وسلم تنقسم إلى ثلاثة أقسام :
منها ما يكون قبل الوضوء ، ومنها ما يكون أثناء الوضوء ، ومنها ما يكون بعد الفراغ من الوضوء ، وهذا الباب يتعلق بالسنن التي وردت بعد الفراغ من الوضوء.
وحديث الباب أصله في حديث صحيح مسلم عن النبي صلى الله عليه وسلم ما عدا قوله : (( اللهم اجعلني من التوابين واجعلني من المتطهرين)) فهذه الزيادة لم ترد في صحيح مسلم وقد صحح بعض العلماء ورودها كما سيأتي.(61/8)
وحديثنا قد رواه عمر بن الخطاب : أبو حفص عمر بن الخطاب بن نفيل ينتهي نسبه إلى عدي بن كعب بن لؤي ، فيلتقي مع النبي صلى الله عليه وسلم في جده ، كان رضي الله عنه وأرضاه من سادات قريش وأعيانها ، وكانت قريش تجله وتعظمه في الجاهلية حتى كان أمر السفارة إليه ، فكان لايفاخرهم مفاخر ولاينافرهم منافر إلا رضوا بعمر رضي الله عنه وأرضاه ، ولمّا بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم كان عمر رضي الله عنه شديداً على الإسلام والمسلمين ، ثم إن الله شرح صدره للإسلام في قصته المشهورة مع أخته وزوجها ، فلما أسلم أعزه الله بالإسلام وأعز الإسلام به، وصحب النبي صلى الله عليه وسلم فأحسن الصحبة ، ولذلك قال عبدالله بن مسعود رضي الله عنه وأرضاه :"رحم الله عمر لقد كان إسلامه نصراً وهجرته فتحاً وخلافته رحمة بالمسلمين" ، وكان محدثاً ملهماً فكم نزل القرآن بلسانه رضي الله عنه وأرضاه وفي الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : (( إنه كان فيمن كان قبلكم محدثون إن يكن في أمتي فعمر)) فكان رضي الله عنه صادق الفراسة صادق البيان ؛ ولذلك قال له النبي صلى الله عليه وسلم : (( والذي نفسي بيده لا يراك الشيطان تسلك فجاً إلا سلك غيره )) ، وكان رضي الله عنه شديداً في الحق لا تأخذه في الله لومة لائم ، هاجر مع النبي صلى الله عليه وسلم وشهد المشاهد كلها ، وتوفي رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو عنه راض، وهو أحد العشرة المبشرين بالجنة وعهد إليه بالخلافة أبو بكر الصديق رضي الله عنه وأرضاه فسار في الرعية ، وقسم بالسوية ، ومصّر الأمصار ، وجنّد الأجناد ، وفتح الفتوح ، وحصل من خلافته الخير العظيم للإسلام والمسلمين، توفي رضي الله عنه مقتولاً شهيداً في المحراب وذلك لثلاث بقين من شهر ذي الحجة سنة ثلاث وعشرين من الهجرة ، طعنه أبو لؤلؤة المجوسي وهو(61/9)
قائم بين يدي الله يصلي في صلاة الفجر ، ثم طعن معه سبعة من الصحابة ، ثم طعن نفسه لكي ينال عذاب الدنيا قبل عذاب الآخرة - عليه من الله اللعنات ، وسوء الجحيم والدركات- .
يقول أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه :قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :(( من توضأ فأحسن الوضوء)):إحسان الوضوء إتمام غسل الأعضاء التي أمر بغسلها ، وإتمام مسح الأعضاء التي أمر بمسحها على الوجه الذي ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم ، وأكمل مايكون الإحسان إذا ثلّث أعضاء الوضوء المغسولة دون مسح الرأس ؛ لأنه الإسباغ المحمود شرعاً ؛ ولأنه إذا غسل ثلاث مرات فإن المشقة أكثر ، والتقرب إلى الله-جل وعلا- أعظم ، ومن هنا حملوا إحسان الوضوء على الإسباغ الذي يكون بالثلاث ، وقال بعض العلماء : أحسن الوضوء أي فعله على الوجه الذي ورد في الشرع ، والذي يظهر أن أحسن صيغة أفعل وهي تدل على وجود حسن وأحسن ، وإذا كان الأمر كذلك فإن الحسن أن يأتي بالوضوء على الصفة التي تجزي ، والأحسن أن ياتي به على الصفة الكاملة وهي التثليث ، ولذلك يحمل قوله أحسن على إتمام الوضوء ثلاثاً ماعدا مسح الرأس كما ذكرنا .
قوله عليه الصلاة والسلام :(( ثم قال أشهد أن لاإله إلا الله وحد لا شريك له )) : أشهد بمعنى أعلم وتطلق الشهادة بمعنى الحضور ، ومنه قوله سبحانه وتعالى :{وَمَا كُنتَ مِنْ الشَّاهِدِينَ}(1) أي من الحاضرين ، وسمي الشهيد شهيداً لأن الملائكة تشهده أي تحضره كما ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه لما قتل عبدالله بن حرام والد جابر بن حرام جعل جابر رضي الله عنه يكشف الثوب عن وجه أبيه ويبكي فقال صلى الله عليه وسلم :(( ابكيه أو لا تبكيه ما زالت الملائكة تظله حتى رفعته إلى السماء)) قالوا فسمي الشهيد شهيداً من هذا الوجه ، وقيل لشهوده الخير من الله سبحانه وتعالى .(61/10)
وقوله :(( أشهد )) : بمعنى أعلم أي أعلم علماً يقينياً لا شك فيه ولا مرية أن لا إله إلا الله أي لامعبود بحق ، فإله بمعنى معبود ، وأله تأتي بمعنى عَبَدَ ، ومنه قوله سبحانه وتعالى :{وَهُوَ الَّذِي فِي السَّمَاءِ إِلَهٌ وَفِي الأَرْضِ إِلَهٌ }(1) أي مألوه ومعبود .
وقوله : (( إلا الله )) : نفي وإثبات ، وهذه هي شهادة التوحيد التي لا ينظر الله في عمل عامل أياً كان حتى يحققها ويأتي بها على وجهها ويسلم مما يضادها ويخالفها ، وقد قامت على النفي والإثبات ، فينفي الإنسان الألوهية لغير الله- - سبحانه وتعالى -- ، ويثبتها لله عز وجل وحده لاشريك له ، وهذا هو معنى قوله -- سبحانه وتعالى - -:{وَلَقَدْ بَعثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنْ اُعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} (2) فقوله- - سبحانه وتعالى --:{ اُعْبُدُوا اللَّهَ} إثبات ، وقوله سبحانه وتعالى :{اجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} نفي ، ولذلك كان أول أمر في كتاب الله و أول نهي كان متضمناً لشهادة التوحيد فأول أمر في كتاب الله عز وجل قوله-سبحانه- :{يَاأَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمْ} (3) فهذا إثبات العبادة لله سبحانه وتعالى ، ثم قال بعدها :{فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَندَادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ}(4) فهذا هو النفي ، ولو أن إنساناً شهد بالألوهية لله سبحانه وتعالى ولم ينفها عن غيره فإن الشهادة لاتنفعه ، ولذلك لابد للإنسان من أن يقيم هذين الأمرين ، ومن هنا قال العلماء : يحرم الوقوف على قوله "لاإله" لأنه إذا قال "لاإله" وسكت واعتقد هذا المعنى فإنه يكفر -والعياذ بالله- ، وهو قول الملاحدة الذي يسندون الحياة إلى الطبيعة ، ويقولون إنها وجدت بالصدفة ولاإله ولا معبود ، تعالى الله عما يقول الظالمون علواً كبيراً .(61/11)
وقوله : (( وحده لاشريك له)) : وحده تأكيد لمعنى الوحدانية في الاستثناء في قوله : (( إلا الله )) أي حال كونه وحده لاشريك له ، والله سبحانه وتعالى له الوحدانية المطلقة الوحدانية في الألوهية والوحدانية في الربوبية والأسماء والصفات ، فهو الواحد في ألوهيته فلا يستغاث ، ولا يستجار ، ولا يتوكل ، ولا يرجى أحد سواه سبحانه وتعالى سواء كان ملكاً مقرباً ، أو نبياً مرسلاً فلا يجوز صرف هذه المعاني لغيره-- سبحانه وتعالى - - ، وفي معنى ذلك الذبح وكذلك الصلاة والطواف وغيرها من معاني العبادة فإن الله -سبحانه- هو الواحد المستحق لها ، وكذلك هو واحد في ربوبيته ، فهو الذي خلق الخلق فأحصاهم عدداً ، وقسّم أرزاقهم فلم ينس منهم فرداً ، وهو رب العالمين مقدر الأمور ومصرفها كيف يشاء- - سبحانه وتعالى - - ، وهو الواحد في أسمائه وصفاته كما قال-تعالى- :{ هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا}(1) فلا يساميه ولايماثله شيء ، كما قال-سبحانه- :{لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ}(2) .
وقوله : (( لا شريك له )) : الشريك مأخوذ من الشركة يقال شِركة وشَركة وشُركة وهو مثلث الشين ، وأصلها الاختلاط وضم الشيء إلى الشيء فالله لاشريك له كما قال سبحانه وتعالى :{قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ}(3) .
وقوله : (( وأشهد أن محمداً عبده ورسوله )) : أشهد بمعنى أعلم أن محمداً عبده ، العبد مأخوذ من قولهم طريق معبّداً أي مذلل ، وأصل العبادة الذلة وذلك لأن الإنسان إذا تعبّد لله سبحانه وتعالى تذلل له سواء وقع ذلك التذلل بالأقوال أو بالأفعال .(61/12)
وقوله : (( ورسوله)) : مأخوذ من الرسالة وهي السفارة ، وسمي الرسول رسولاً لأنه يحمل رسالة الله سبحانه وتعالى إلى عباده كما قال-سبحانه-: { الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَالاَتِ اللَّهِ وَيخْشَوْنَهُ }(1) وقال-سبحانه-:{ يَاأَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنْ النَّاسِ}(2) ورسالة الله إلى العباد تتلخص في أمرين : البشارة والنذارة ، كما أشار الله- تعالى- إلى ذلك بقوله :{ رُسُلاً مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ}(3) بشارة لمن آمن ووحّد الله عز وجل بخيري الدنيا والآخرة ، ونذارة لمن كفر وعصى وطغي وبغى بعذاب الله سبحانه وتعالى وغضبه في الدنيا والآخرة .(61/13)
وقوله :(( عبده ورسوله )) : هذه هي الوسطية التي خرجت بها الأمة المحمدية من غلو النصارى وإجحاف اليهود ؛ والسبب في ذلك أن اليهود احتقروا أنبياء الله حتى عابوهم ، وانتقصوهم ، ونسبوا إليهم الفحشاء والمنكر-صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين - ، بل حتى قتلوهم ، وسفكوا دماءهم كما أخبر الله في كتابه وهو أصدق القائلين وخير الشاهدين ، وكذلك النصارى غلت في رسلها وأنبيائها فأطرت عيسى بن مريم حتى اتخذته إلهاً مع الله ، وقالوا ثالث ثلاثة ، وقالوا هو ابن الله-تعالى- الله عما يقول الظالمون علواً كبيراً ، فلما قال المسلمون في نبيهم صلى الله عليه وسلم (عبد الله) خرجوا من إطراء النصارى ، وأعطوه وصف العبودية وهو وصف تشريف وكمال ؛ ولذلك من أشرف الصفات أن تصف الإنسان بأنه عبد لله عز وجل ولما أراد الله أن يثني على الصالحين قال-سبحانه-:{وَعِبَادُ الرَّحْمَانِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الأَرْضِ هَوْناً وَإِذَا خَاطَبَهُمْ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلاَماً}(1) فوصفهم بالعبادة له سبحانه وتعالى وقال في نبيه{سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً}(2) فوصفه بالعبادة تشريفاً له وتكريماً ، ولمّا قالوا (رسوله) خرجوا من إجحاف اليهود ، ولذلك ينبغي للمسلم أن يكون وسطاً في شهادته للرسل ، فلا يبالغ في إطرائهم ومدحهم ويعطيهم من الأمور ما لا يليق بهم فإن ذلك لايرضي الله عز وجل ، وما بعث الله رسله ولا أرسلهم إلاّ لكي يبينوا حقه وحق عباده فيقوم الناس بحقه على وجهه ، أما أن يبالغ في إطرائهم ومدحهم وإضفاء الصفات التي لاتليق إلا بالله عليهم فهذا أمر يغضب الله سبحانه وتعالى ، ويخرج الإنسان عن متابعة النبي صلى الله عليه وسلم بالكلية ، ولذلك نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن الغلو وقال :(( إنما أهلك من كان قبلكم الغلو)) فلا يجوز الغلو والإطراء في أنبياء الله- صلوات الله وسلامه(61/14)
عليهم- ، وخاصة النبي صلى الله عليه وسلم فإنه لايجوز إطراؤه ، ومدحه ، وإضفاء الصفات عليه ، على وجه لايليق إلا بالله سبحانه وتعالى فهذا هو الذي نهى الله عنه ونهى عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ولذلك ورد عنه في الحديث قوله :(( لاتطروني كما أطرت النصارى عيسى بن مريم)) فنهانا عن الغلو والإطراء ، فواجب على المسلم أن يكون على صراط الله المستقيم ، بعيداً عن الغلو وعن الإجحاف ، والمسلم في أشرف مقاماته ومناجاته لربه وهي الصلاة حينما يكون واقفاً بين يدي الله عز وجل يسأله السلامة من فعل اليهود والنصارى كما قال :{ اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ - صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلاَ الضَّالِّينَ }(1) أي أخرجنا من غلو النصارى وإجحاف اليهود ، فالمنبغى على المسلم أن يحقق هذا الأصل العظيم الذي دعا إليه الرسول الكريم عليه من الله أفضل الصلاة وأزكى التسليم .
وليعلم أن صدق المحبة وصدق الإجلال لرسول الله صلى الله عليه وسلم يتمثل في طاعته فيما أخبر واجتناب مانهى عنهصلوات الله وسلامه عليه وزجر ، فالشيء الذي أمر به النبي صلى الله عليه وسلم يأتمر به العبد ، والشيء الذي نهى عنه ينكف عنه ، فإذا فعل ذلك فقد أحب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وهذا هو الدليل الصادق على حبه وإجلاله صلوات الله وسلامه عليه ، ولذلك ينبغي للمسلم أن يحقق هذا المعنى من شهادة التوحيد .
وقوله عليه الصلاة والسلام : (( اللهم اجعلني من التوابين واجعلني من المتطهرين)) : قوله (( اللهم )) أصلها يا الله ، حذفت الياء وعوّض عنها بالميم ولذلك لايقال يااللهم ؛ لأنه جمع بين البدل والمبدل وهو لايجوز ، واستثنوا من ذلك قريض الشعر ، وقد أشار ابن مالك إلى ذلك بقوله رحمه الله في الألفية :
والأكثر اللهم بالتعويض……وشذ يااللهم في قريضِ(61/15)
ومن ذلك قول الشاعر:
إني إذا ماحدث ألمّا … ناديت يااللهم يااللهما
وأصله اللهم .
وقوله عليه الصلاة والسلام :(( اجعلني)) : سأل الله عز وجل أن يجعله من أهل التوبة ومن أهل الطهارة ، قال بعض العلماء : سأل الله أن يجعله من التائبين ؛ لأن الوضوء فيه طهارة الحس ، ومغفرة الله عز وجل فيها طهارة المعنى ، فجمع بين طهارة الحس والمعنى ، وإن كان الوضوء يشتمل على التطهير ، والطهارة مأخوذة من طهر الشيء يطهر طهارة إذا كان نقياً من الدنس والقذر ، وسميت الطهارات بهذا الاسم لأن الله يطهر المكلفين بها حساً ومعنى ، فمن توضأ تطهر من ذنوبه وكذلك تطهر من أدرانه التي عليه ، وهذا الحديث يدل على عظيم رحمة الله عز وجل بعباده ؛ لأن المسلم إذا سأل الله عز وجل بعد الطاعة فإنه مظنة أن يقبل الله عز وجل منه دعاءه وسؤاله ويحقق له رجاءه.
وقوله : (( فتحت له أبواب الجنة )) : فيه دليل على مسائل:(61/16)
المسألة الأولى : أن للجنة أبواباً ، وهذا هو ظاهر كتاب الله عز وجل ، كما قال سبحانه وتعالى :{وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ زُمَرًا حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا وَفُتِحَتْ أَبْوَابُهَا}(1) ، وقال سبحانه وتعالى :{وَالْمَلاَئِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بَابٍ - سَلاَمٌ عَلَيْكُمْ بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ}(2) فأخبر سبحانه وتعالى أن للجنة أبواباً ، وقوله :(( فتحت له أبواب الجنة)) جمع يدل على أنها أكثر من باب ، ثمّ بيّن النبي صلى الله عليه وسلم عدد الأبواب وهي الثمانية ، وقد تأكد ذلك بقوله سبحانه وتعالى :{ حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا وَفُتِحَتْ أَبْوَابُهَا} (3) فزاد الواو في فتح أبواب الجنة الثمانية إشارة لهذا المعنى، والعرب تزيد الواو في العدد الثامن ، ومنه قوله سبحانه وتعالى :{ وَيَقُولُونَ سَبْعَةٌ وَثَامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ}(4) وقوله سبحانه وتعالى :{ الآمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّاهُونَ عَنْ الْمُنكَرِ}(5) ولذلك يعدون العدد فيقولون محمد ، علي ، عبدالله ، عبدالرحمن ، عبدالعزيز ، صالح ، قاسم وعلي فيضيفون الواو للثامن ، وهذا الحديث يؤكد أن أبواب الجنة ثمانية وهذه الأبواب وردت النصوص عن النبي صلى الله عليه وسلم أنها بحسب الطاعات ، كما ثبت في الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : (( من أنفق زوجين في سبيل الله نودي يوم القيامة ياعبد الله هذا خير ، فمن كان من أهل الصلاة دعي من باب الصلاة ، ومن كان من أهل الصدقة دعي من باب الصدقة ، ومن كان من أهل الصيام دعي من باب الريان)) وهذا يدل على تفاوت أبواب الجنة بحسب الطاعات ، " قال أبو بكر- - رضي الله عنه - -يارسول الله : " وماعلى رجل أن يدعى من أبوابها كلها من ضرورة ؟؟" قال :(( نعم وأرجو أن تكون منهم )) وذلك لعظيم(61/17)
صلاحه ، وماكان منه من الخير في طاعة ربه ، وهذا الحديث يدل على فضل الطهارة وهذا الدعاء بعدها -أعني طهارة الوضوء - .
واستشكل العلماء هذا الحديث مع ما ورد من شفاعة النبي صلى الله عليه وسلم بدخول الجنة ، والسبب في ذلك أن الناس إذا انصرفوا من عرصات يوم القيامة ، وفرّق بين أهل الجنة وأهل النار فراقاً لالقاء بعده أبداً ، صار أهل الجنة إلى الجنان حتى إذا وقفوا عليها فإنه لاتفتح لهم إلا بشفاعة النبي صلى الله عليه وسلم ، فيشفع عند ربه فيؤذن لهم بدخول الجنة ، وقد أجيب بأن الشفاعة لمطلق الدخول ، وأما النداء فهو لخصوص الدخول ، فيشفع في الدخول من النبي صلى الله عليه وسلم ، ثم يأذن الله بدخول العباد ، فإذا أذن سبحانه وتعالى بدخولهم تفاضل الناس في ذلك الدخول بحسب الطاعات ، قال العلماء : أبواب الجنة مختلفة بحسب الطاعات وكل من أكثر من طاعة دعي من بابها فمن كان يكثر من النوافل وقيام الليل ونحوها من نوافل الطاعات فإن الله عز وجل يجعل نداءه ودعاءه من باب الصلاة ، وإذا كان من أهل الصدقات ، وتفريج الكربات عن المسلمين جعل الله نداءه من باب الصدقة ، وإذا كان كثير الصيام جعل الله نداءه من باب الريان ، وهذا يدل على تفاضل الطاعات ، حتى قال بعض العلماء : أفضل هذه الأبواب هو باب الصلاة ؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال : (( استقيموا ولن تحصوا واعلموا أن خير أعمالكم الصلاة)) فهي أفضل الطاعات وأشرفها وأعظمها ثواباً بالنسبة لمطلق النوافل ، ومن هنا ورد الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم عن الله-تعالى- أنه يقول : (( ماتقرب إلي عبدي بشيء أحب إلي مما افترضته عليه ولا يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به وبصره الذي يبصر به ورجله التي يمشي عليها ويده التي يبطش بها ولئن سألني لأعطينه ولئن استعاذني لأعيذنه)) فدل على فضل الصلاة ، ومما يدل(61/18)
على فضلها أن الوضوء إذا أحسنه العبد مع أنه وسيلة إلى الصلاة دعي من أبواب الجنة كلها- نسأل الله العظيم رب العرش الكريم بأسمائه الحسنى وصفاته العلى أن يجعلنا من أهل هذا الفضل العظيم وأن يمن علينا بالمغفرة والجود إنه الجواد الكريم-، والله تعالى أعلم .
- ? - ? - ? - ? - الأسئلة - ? - ? - ? - ? -
السؤال الأول:
هل كل ماكان تحت الأظافر من الأوساخ يجب التخلص منه أم أنه يعفى عن شيء منه لصحة الوضوء..؟؟
الجواب :
بسم الله الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه أما بعد :
فإن السنة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم التي عدها رسول الله صلى الله عليه وسلم من خصال الفطرة تقليم الأظافر ، وقد علل العلماء رحمهم الله ذلك بما يكون في التقليم من إزالة القذر وهذه الأظافر تتبطن النجاسة ، كما هو الحال لو استنجى الإنسان فإنه لايأمن من علوق القذر وبقائه تحت ظفره ، ومن هنا كان من السنة تقليم الأظافر ، ولا ينبغي للمسلم أن يترك أظفاره طويلة ، وقد حدد النبي صلى الله عليه وسلم ووقت لأصحابه الأربعين يوماً في حلق العانة والاستحداد ، وغير ذلك من خصال الفطرة في قول طائفة من العلماء ، وقال بعض أهل العلم : إن الأظافر تتأقت بحسب طولها فإن طالت وجب تقليمها ولو لم تبلغ أربعين يوماً وهذا هو الصحيح ، وأما بالنسبة لطولها المعتاد لو دخلت تحته نجاسة فإنه مما يعفى عنه كما عفي عن محل الاستجمار ؛ لأنه من اليسير المغتفر ؛ ولأن الإنسان إذا جرح فإن الدم نجس وقد يبقى مكان الجرح فيه الدم ولايؤمر بإزالة الدم من نفس الجرح وإنما يؤمر بإزالته من حوله ، والله تعالى أعلم.
السؤال الثاني :
هل يعتبر الوقوف أمام الأجهزة الكهربائية مثل المراوح وجهاز التكييف هل يعتبر هذا من وسائل التنشيف..؟؟
الجواب :(61/19)
هذا يعتبر من التنشيف ، إذا وقف الإنسان أمام الريح أو أمام مايحرك له الريح يعتبر من التنشيف ، لكنه لايفوت الفضل ؛ لأن التنشيف بالمنديل أشد من التنشيف بالهواء ، ولذلك قال بعض العلماء : هل إذا كان الإنسان في بيت أو توضأ في بيت ثم أراد أن يخرج للهواء بعد وضوئه مباشرة فهل الأفضل أن يبقى حتى تتقاطر منه الذنوب أو يخرج مباشرة ؟ استحب بعض العلماء بقاءه حتى يطول منه التقاطر ، وتخرج منه الذنوب على وجه أكثر ، وهذا له معنى صحيح من الحديث الذي أشرنا إليه وهو حديث الصنابحي والذي تقدم شرحه في السنن ، والله تعالى أعلم.
السؤال الثالث :
هل صحيح أن من توضأ على وضوء له عشر حسنات..؟؟
الجواب :
أما بالنسبة للوضوء على الوضوء فإنه ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم الإذن به ، ووردت أحاديث في فضله منها ماذكر ومنها قوله- عليه الصلاة والسلام - :(( الوضوء على الوضوء نور على نور)) وهو حديث ضعيف واستحب العلماء رحمهم الله تجديد الوضوء مالم يكن الإنسان قد توضأ ثلاث مرات في الأولى ، فإنه لايجدد ؛ خوفاً من أن تكون غسلة رابعة ، وأما حديث العشر حسنات فقد حسن بعض العلماء إسناده ، والله تعالى أعلم .
السؤال الرابع :
ما الحكم في حديث أبي سعيد الخدري الذي فيه زيادة : (( سبحانك اللهم وبحمدك أستغفرك وأتوب إليك )) بعد الذكر المشروع بعد الوضوء والحكم فيمن يرفع أصبعه أثناء الشهادة وكذلك النظر في السماء..؟؟
الجواب :(61/20)
أما بالنسبة لرفع الأصبع والنظر إلى السماء فإنه لم يرد في ذلك حديث صحيح بعد الوضوء ، أما رفع الأصبع عن النبي صلى الله عليه وسلم فقد ثبت عنه : عند التوحيد ، وعند الشهادة ، أنه أشار ؛ ولذلك لما رفع عمرو بن سعيد الأشدق يديه في الدعاء في المنبر يوم الجمعة قال الصحابي : تباً لها من يدين قصيرتين ماكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يزيد على أن يشير بأصبعه ، اللهم اغفر لنا اللهم ارحمنا. ونحو ذلك ، ولذلك في الدعاء في التشهد فإنه شرع أن يشير بأصبعه قال : يدعو بها كما ثبت الخبر عن النبي صلى الله عليه وسلم ، وفي الصحيح في خطبة حجة الوداع أنه قال :((هل بلغت؟ )) قالوا :(( نعم )) قال : (( اللهم فاشهد ، فجعل يرفع أصبعه إلى السماء ثم ينكتها عليهم)) قالوا فهذا أصل في مشروعية إذا ذكر الله وحده أن يشير الإنسان بالتوحيد ؛ لأن له أصلاً ، أما في المواضع المخصوصة التي تكون أشبه بالعبادة كأن يكون داخل الصلاة فلا يحرك ولا يشير إلا بما ورد به النص .
وأما بالنسبة لزيادة :((سبحانك اللهم وبحمدك)) فقد حسنها بعض العلماء وقالوا : لا حرج في ذكرها ، والله تعالى أعلم.
السؤال الخامس :
ما رأيكم فيمن يقول إن من تعظيم رسول الله صلى الله عليه وسلم التبرك بالأماكن التي أتاها أو مكث فيها كغار حراء وغيره..؟؟
الجواب :(61/21)
التبرك بالنبي صلى الله عليه وسلم أعظم ما يكون وأشرف ما يكون وأكمل ما يكون باتباع هديه ، والالتزام بسنته التبرك إذا جاءتك السنة عن النبي صلى الله عليه وسلم أن تفعل تقول : سمعت وأطعت غفرانك ربي وإليك المصير ، والتبرك إذا جاءك النهي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم تنكف وتنزجر عن شيء هو حبيب متعلق به قلبك ، حبيب إلى نفسك تعلق به قلبك ، تؤثر محبته عليه الصلاة والسلام واتباعه على نفسك وأهلك ومالك وولدك ، فإذا دعيت إلى أمر من الأمور وتعارض مع شهوة نفسك قدمت ذلك الأمر الذي سار عليه النبي صلى الله عليه وسلم ودعا إليه وحبب فيه ، قدمته على هواك وقدمته على نفسك ووالديك وأهلك تأسياً واقتداءً به- صلوات الله وسلامه عليه-ولذلك كان ابن عمر يقف على الحجر ويقبله حتى يرعف ؛ تأسياً بالنبي صلى الله عليه وسلم ولما قيل له في ذلك قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقبله فأنا أقبله ، ما كان يستطيع أن يتركه مع أنه ليس بواجب ولكنه رأى النبي صلى الله عليه وسلم يفعله فلم يتركه ، وهذا أنس بن مالك رضي الله عنه يقول : " رأيت النبي صلى الله عليه وسلم يتتبع الدباء في القصعة فما زلت أحبها منذ أن رأيت النبي صلى الله عليه وسلم يتتبعها " أي أنهم اتبعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم في كل شيء حتى في أموره الجبلية العادية تأسياً بهصلوات الله وسلامه عليهواقتداءً له ، وهذا هو الحب الصادق ، وهذا هو الحب المبارك ، وهذا هو التبرك الحقيقي الذي منه البركة ومنه الخير ومنه زيادة الأجر ومنه الطاعة والبر ، ما بعث الله رسوله صلى الله عليه وسلم إلا هادياً للخير ، فمن اهتدى بخيره وانكف عما نهى عنه عليه الصلاة والسلام من الشر والسوء والفحشاء والمنكر فقد تبرك به - عليه الصلاة والسلام -على أكمل مايكون التبرك .(61/22)
أما وقوف الإنسان عند المشاهد والمبالغة في ذلك والحرص على زيارتها مع أنك إذا نظرت إلى وجهه وجدته مخالفاً لسنة النبي صلى الله عليه وسلم ، وإذا سمعت إلى قوله وجدته يخالف هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وإذا نظرت إلى مايتبطن في قلبه من الحسد والبغضاء والشحناء مخالفاً لرسول الله صلى الله عليه وسلم في قلبه ، مخالفاً له في قالبه ، ثم يزعم أن محبته في الإتيان لهذه الأماكن ، وأن هذا هو الحب الصادق ، وأن من منعه من ذلك غير محب لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، أو كاره لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، ولا شك أن ذلك من الظلم أن ينسب من منع من هذه الأشياء خوفاً أو سداً لذريعة الغلو فيه عليه الصلاة والسلام أن ينسب لبغضه حاشا وكلا بل هو المحب الصادق لرسول الله صلى الله عليه وسلم .(61/23)
لو كان رسول الله صلى الله عليه وسلم حياً فرأى هذا الغلو وهذه المبالغة لنهى عنها عليه الصلاة والسلام ؛ لأنه يخاف على أمته يخاف على أمته ماوقعت فيه النصارى من قبل من الغلو ، ولذلك واجب على المسلم أن يبحث ماذا كان يفعل رسول الله صلى الله عليه وسلم فيفعله ، وماكان يتركه فيجتنبه وينكف عنه ولو كان من هواه ومما يحبه ، فالواجب على الإنسان أن يبحث عن السنة الحقيقية ، كيف يكون الإنسان محباً لرسول الله صلى الله عليه وسلم وإذا أمرته بأمر من أوامره تكلف الرد في ذلك الأمر ؟ فإذا أمرته بإعفاء لحيته قال إنها سنة وليست بواجبه ، ولربما استهزأ من الملتحي مع علمه أن سنة النبي صلى الله عليه وسلم إطلاق اللحية ، فبقي بعض الناس في محبة رسول الله صلى الله عليه وسلم على هذه الأمور ، تاركين الحب الحقيقي والتأسي الحقيقي برسول الله صلى الله عليه وسلم الذي لا نجاة للإنسان إلا به ، مابعث الله نبيه عليه الصلاة والسلام إلا ليتبع ، ما بعث عليه الصلاة والسلام إلا ليطاع فيما أمر ويصدق فيما أخبر ويجتنب مانهى عنهصلوات الله وسلامه عليه وزجر ، ويصبح الإنسان في عبادته لايقدم ولا يؤخر إلا بسنة وهدي ؛ ولذلك قال بعض السلف : إن استطعت أن لاتحك رأسك إلا بسنة وأثر فافعل ذلك ، فلا يزال الإنسان حريصاً على التأسي بسنة النبي صلى الله عليه وسلم وتطبيقها والتزامها والعمل بها حتى يعرف بها ، -نسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يرزقنا التمسك بالسنة عند فساد الأمة إنه ولي ذلك والقادر عليه- .
السؤال السادس :
هل الاقتداء بسنن النبي صلى الله عليه وسلم الجبلية هل هي بدعة كما يقول بعض الناس..؟؟
الجواب:
بسم الله الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه أما بعد :
فما ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم ينقسم إلى قسمين :(61/24)
القسم الأول: ما تبين أنه تشريع للأمة كصفة صلاته عليه الصلاة والسلام ، وصفة حجه ونحو ذلك من الأمور التي وردت عنه عليه الصلاة والسلام من العبادات ، وصفة العبادات ، وبياناً لما أجمله كتاب الله عز وجل أو زيادة عليه.
القسم الثاني : ما يكون جبلة منه - عليه الصلاة والسلام -كصفة أكله ، وصفة شربه -صلوات الله وسلامه عليه -وهو ينقسم إلى قسمين أيضاً : قسم منه ترجح الائتساء به والاقتداء-صلوات الله وسلامه عليه - في صفته كذهابه للعيد من طريق ورجوعه من طريق ، واضطجاعه بعد الفجر لمن قام الليل أن يضطجع بعد الفجر، لأن هذه وإن كانت جبلية لكن فيها معنى التشريع ؛ والسبب في ذلك أنه إذا كان قائماً في الليل واستمر قيامه إلى قرب السحر كما ورد عنه عليه الصلاة والسلام فإنه سيضعف عن صلاة الفجر ، ومن هنا إذا اضطجع قوي على الفريضة ، ولا يمكن أن يكون بعد قيامه بالنوافل قوياً جلداً مستطيعاً أن يصلي الفجر باستجمام كما لو اضطجع ، فترجح مع كونها جبلية أن يكون فيها معنى التشريع فهذا يؤتسى به عليه الصلاة والسلام ويقتدى ، وكأكله عليه الصلاة والسلام باليمين وإن كان ورد عنه عليه الصلاة والسلام ما يدل على التزام ذلك بالقول ، وذهابه للعيد من طريق ورجوعه من طريق فإن هذا الذهاب والرجوع فيه معنى العبادة فهو جبلي من وجه تعبدي من وجه ، جبلي من جهة كونه أرفق له- عليه الصلاة والسلام - ، وتعبدي من جهة تحصيل كثرة الثواب والأجر ، ولأجل أن يمر على مساكين أكثر فيحسن إليهم ونحو ذلك ، وكدخوله لعرفة من طريق ضب وخروجه إلى المزدلفة من طريق المأزمين ، فإن هذا يؤتسى فيه- عليه الصلاة والسلام - ، ويترجح أن يكون من السنن التي يقتدى به - عليه الصلاة والسلام -فيها .(61/25)
وأما بالنسبة للسنن الجبلية في الهيئة نفسها كلبسه - عليه الصلاة والسلام - للعمامة ، ونحو ذلك من السنن التي وردت في جبلته عليه الصلاة والسلام فإن من فعلها يقصد التأسي برسول الله صلى الله عليه وسلم فهو على سنة وخير ، ولا يبدع ولايقال إنه على غير السنة ، بل إن له وجهاً من هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم ؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم لبس العمامة ، وكانت موجودة في زمانه وإلى عهد قريب بل إلى يومنا هذا وهي تلبس وموجودة في بلاد المسلمين ، فلا يقال للذي لبسها إنه مبتدع ، أعوذ بالله من ذلك ، لايقال هذا القول لمن فعله وهو يقصد التأسي برسول الله صلى الله عليه وسلم ، وإن ترجح عندك أنها سنة جبلية فلا يجوز أن تأمر غيرك بما تعتقده مادام أن الغير له اعتقاد في تأول سنة النبي صلى الله عليه وسلم ، ولذلك كان من شعار الصحابة لبسها كما قال حسان بن ثابت في قصيدته العينية المشهورة :
إن الذوائب من فهر وإخوتهم… قد بينوا سننا للناس تتبع
يرضى بها كل من كانت سريرته … تقوى الإله وبالأمر الذي شرعوا(61/26)
فوصفهم بأنهم "أصحاب ذوائب " : والذوائب جمع ذؤابة وهي طرف العمامة ، ومن سنن الشرع المسح على العمامة ، فإذا قلت إن العمامة اليوم بدعة معنى ذلك أنه لايمسح عليها ولا يستباح بها الرخص ، ولا قائل يقول بهذا ، ولذلك من لبسها لاينكر عليه بل هو على سنة إذا اعتقد التأسي برسول الله صلى الله عليه وسلم وعلى خير ، فإن اعتقدت أنها ليست بسنة فلا تلزم الغير بما أنت تعتقده ، ولا تشنع على الغير بما أنت تعتقده ، فلو قبض إنسان بعد الركوع وأنت لاترى القبض ليس من حقك أن تقول هذا مبتدع ؛ لأنه يتأول سنة النبي صلى الله عليه وسلم ويعتقد أن ذلك من السنة ، وهكذا لو حرك إصبعيه بين السجدة الأولى والثانية يتأول سنة النبي صلى الله عليه وسلم في تحريكه في الدعاء لايقال مبتدع ؛ لأن هذا اعتقاده ، وهذا ما أدى إليه اتباعه لعلماء وأجلاء وفضلاء وأخيار وله أصل من سنة النبي صلى الله عليه وسلم ، فلا يبدع مثل هذا إنما يبدع من ضل السبيل ولم يكن له معلم ولا دليل ، وأخذ السنة بالأهواء وابتعد عنها بشعب الآراء ، فهذا هو الذي ابتدع في دين الله مالم يأذن به الله ، أما من بلغته سنة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم صحيحة ثابتة كوضح النهار في فعل شيء أو ترك شيء ففعله أو تركه وله مساغ في الفعل والترك فلا يقال إنه مبتدع .
وهذا بإجماع العلماء في مسألة الخلاف أنه لاينكر فيها ولايبدع صاحبها بل له أجره ، وكون الإنسان يعجز عن تطبيق بعض السنن فلا يدعوه ذلك إلى أن يكون حجرة عثر في إحياء هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم نسال الله العظيم أن يرزقنا حب سنته ، وأن لايخالف بنا عن طريقته ، وأن لايحشرنا في غير زمرته ، والله تعالى أعلم .
السؤال السابع :
قال الإمام أبو عيسى الترمذي -رحمه الله تعالى - : حديث عائشة - رضي الله عنها - ليس بالقائم فهل هذا اللفظ يعتبر من ألفاظ التضعيف صراحة ..؟؟
الجواب :(61/27)
نعم .. هذا يتضمن التضعيف ، وبعض العلماء : يقول إن الإسناد ليس بقائم على الوجه الذي ذكره ، ولا يمنع أن يكون هناك روايات أخر أو شواهد أخر تعضد الحديث وتدعو بقبوله ، ولذلك يقولون : لا يتضمن التضعيف للرواية لكنه قدح وجرح في السند .
وَآخِرُ دَعْوَانَا أَنِ الحمَْدُ لِلَّهِ رَبِّ العَالَميْنَ وصلَّى اللَّهُ وسلَّم وبارك على عبده ونبيَّه محمد
وعلى آله وصحبه أجمعين .(61/28)
بسم الله الرحمن الرحيم
يقول المصنف رحمه الله بَاب مَا جَاءَ فِي الْجُنُبِ وَالْحَائِضِ أَنَّهُمَا لاَ يَقْرَأَنِ الْقُرْآنَ
الشرح:
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام الأتمان الأكملان على خير أنبياء الله أجمعين وعلى آله وصحبه ومن سار على نهجه واهتدى بهديه إلى يوم الدين أما بعد:
فقد شرع المصنف في هذا الباب في بيان المانع الثالث من موانع الحيض ، وذلك أن الله سبحانه وتعالى جعل دم الحيض موجباً لمنع المرأة من جملة من العبادات ، وقد ذكرنا أن هذه الممنوعات منها ما اتفق العلماء رحمهم الله على اعتباره مانعاً حيث دلت أدلة الكتاب والسنة على هذا الحكم ومنها ما اختلف العلماء رحمهم الله في اعتباره مانعاً ، والمصنف رحمه الله يذكر الأحاديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم التي توجب منع الحائض من الأمور المسماة ، وعلى هذا اختار المانع الثالث وهو قراءة القرآن فتمنع المرأة الحائض والمرأة النفساء من قراءة القرآن وأضاف المصنف رحمه الله الجنب ، وضابط هذه المسألة الحدث الأكبر فمن كان متلبساً بالحدث الأكبر فإنه يحذر عليه قراءة القرآن ، ومن هنا يجعل العلماء من الفوارق بين الحديث القدسي وبين القرآن أن القرآن لا تجوز قراءته للجنب ، وكذلك الحائض والنفساء كما قال بعض العلماء :
ومنعه تلاوتة للجنب … في كل حرف منه عشر أوجب(62/1)
وقوله رحمه الله " باب ما جاء أن الحائض والجنب لا يقرآن القرآن": هذه الترجمة مختلف فيها مختلف في حكمها ، فذهب جمهور العلماء رحمهم الله إلى أن المرأة الحائض والرجل الجنب لا يجوز لأي واحد منهم أن يقرأ القرآن وكذلك النفساء ، وبهذا القول قال أمير المؤمنين عمر بن الخطاب-- رضي الله عنه -وأرضاه- ، وجابر بن عبد الله -رضي الله عنهما - ، ويحكى عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قالوا إنه لا يجوز للجنب ولا للحائض ولا للنفساء أن يقرأ الواحد منهم شيئاً من كتاب الله ، وهو مذهب الأئمة الأربعة ومذهب الحنفية والمالكية والشافعية والحنابلة من حيث الجملة .(62/2)
إلا أن هؤلاء العلماء -أعني جمهور أهل العلم-منهم من يقول أمنع المرأة الحائض مطلقاً تلاوة كتاب الله عز وجل ، ومنهم من يستثني بعض الأحوال والظروف ، والذين قالوا بالاستثناء منهم من يقول أستثني ما دون الآية الكريمة فلو قرأت جزءاً من الآية ولم تكمل الآية فلا بأس ؛ لأن المعجزة في القرآن إنما تتم بالآية الكاملة وهذا يختاره أصحاب الإمام أبي حنيفة رحمه الله في إحدى الروايات عنه وقالوا لا بأس أن تقرأ جزءاً من آية لا كل آية ، وقال بعض العلماء : يجوز للمرأة الحائض والمرأة النفساء أن تقرأ القرآن إذا وجدت الضرورة ومن ذلك أن تقرأ أذكار الصباح وأذكار المساء من الآيات على سبيل التعوذ كأن تقرأ المعوذات خوفاً من السحر وخوفاً من العين وخوفاً من الضرر ، قالوا لا بأس أن تقرأ هذه الآيات أو كانت في أرض تخشى منها الهوام فتقرأ المعوذات خوفاً من الضرر قالوا لا بأس ويجوز لها ذلك ، واستثنى أيضاً بعض الفقهاء وهذا قول المالكية رحمهم الله واستثنى الشافعية أيضاً أن تكون المرأةُ الحائض و النفساء معلمةً للقرآن قالوا إن انحباسها عن التعليم فيه ضرر عليها إذا لم يكن لها كسب غيره وفيه ضرر على من يتلقى العلم على يديها خاصة إذا لم يوجد البديل ، فقالوا نظراً لذلك يرخَّص لها ؛ لأنها تقرأ القرآن لا على سبيل القراءة وإنما على سبيل التعليم فرخصوا لها في هذا لوجود الحاجة .
وذهب طائفة من العلماء وهو القول الثاني: إلى أن المرأة الحائض والنفساء والجنب يجوز لهم أن يقرؤوا القرآن وبهذا القول قال فقهاء الظاهرية وهو قول طائفة من أئمة السلف رحمهم الله وبعض أصحاب المذاهب فقال به بعض الشافعية كابن المنذر والطبري وقال به الإمام البخاري رحمه الله ، وهذا القول يعتبر من الأقوال المستندة على الأصل كأن الأصل أنه يجوز للمسلم أن يقرأ كتاب الله عز وجل .(62/3)
ولذلك استدلوا بدليل البراءة الأصلية قالوا إن الله عز وجل لم يحرم على المرأة الحائض ولا النفساء ولا الرجل الجنب ولا المرأة الجنب أن يقرأ الواحد منهم شيئاً من كتاب الله عز وجل ؛ لأنه لا نص عندهم في الكتاب ولا في السنة على تحريم القراءة ثم قالوا إن الله عز وجل لماَّ أراد أن يحَّرم على المرأة الحائض قال:{ وَيَسْأَلُونَكَ عَنْ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذًى فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ }(1) فبين حرمة وطء الحائض وأنه لا يجوز لها الجماع قالوا فلو كان محرماً لوردت النصوص في الكتاب والسنة ببيان التحريم .
واستدلوا أيضاً بحديث عائشة -رضي الله عنها وأرضاها- في صحيح مسلم "أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يذكر الله على كل أحيانه" قالوا هذا الحديث يدل على أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يذكر الله على كل أحيانه ، والذكر يشمل القرآن فلا فرق بين القرآن وبين سائر الأذكار ؛ والسبب في هذا أن العلماء كلهم متفقون على أن المرأة الحائض والجنب والنفساء يجوز لكل واحد منهم أن يذكر بمطلق الذكر ، فيجوز لهم أن يسبَّحوا وأن يحمدوا وأن يكبروا وأن يهللوا ، فقالوا إن أم المؤمنين عائشة -رضي الله عنها- قالت "كان النبي صلى الله عليه وسلم يذكر الله على كل أحيانه" فيشمل الذكر القرآن وغير القرآن.
واستدل الجمهور الذين قالوا بالقول الأول: أنه لا يجوز للمرأة الحائض ولا للجنب ولا للنفساء أن يقرأ الواحد منهم أي شيء من كتاب الله على التفصيل الذي ذكرناه.
__________
(1) / البقرة ، آية : 222 .(62/4)
استدلوا بأدلة أولها حديث علي رضي الله عنه الذي أخرجه الترمذي ، وكذلك أيضاً ابن حبان وابن خزيمة والحاكم وهذا الحديث فيه عن على رضي الله عنه قال : " كان النبي صلى الله عليه وسلم يقضي حاجته ثم يخرج فيقرأ شيئاً من القرآن ثم يخرج فيقرأ القرآن ويأكل معنا اللحم وكان لا يحجزه شيء عن القرآن ليس الجنابة " قالوا هذا الحديث يدل دلالة واضحة على أن الجنب لا يجوز له أن يقرأ القرآن وذلك لوجود الحدث الأكبر ، وهذا الحديث رده الأولون بأنه متكلم في سنده ؛ ولكن الحقيقةَ والواقعَ أنه حديث ثابت ، ولذلك صححه جمع من العلماء وممن جزم بتصحيحه الحافظ عبد الحق الأشبيلي ، وكذلك أيضاً صححه الإمام البغوي في شرح السنة قال الإمام الحافظ ابن حجر رحمه الله في التلخيص بعد أن ذكر هذا الحديث وما فيه من الكلام والحق أنه حسن ويصلح للحجة وممن صححه ابن خزيمة و ابن حبان وغيرهم فهذا الحديث قالوا نص فيه علي رضي الله عنه "على أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن يحجزه شيء عن كتاب الله إلا الجنابة ".
كذلك أيضاً استدلوا: بحديث ابن عمر الذي معنا والذي سيذكره المصنف رحمه الله أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:(( لا تقرأ الحائض ولا الجنب شيئاً من القرآن)) ولكنه حديث ضعيف -وسنبين وجه ضعفه إن شاء الله تعالى -.
كذلك استدلوا :بحديث ثالث عن علي رضي الله عنه وهذا الحديث يرويه أبو يعلى في مسنده عن على رضي الله عنه "أن النبي صلى الله عليه وسلم خرج فقرأ شيئاً من القرآن ثم قال:(( هكذا لمن لم يكن جنباً، أما الجنب فلا ولا آية)) قالوا فقوله عليه الصلاة والسلام :(( أما الجنب فلا ولا آية)) يدل على أنه لا يجوز للجنب أن يقرأ شيئاً من القرآن ولو كان آية وهذا الحديث قال عنه الحافظ الهيثمي رحمه الله قال :" إن رجاله موثقون ".(62/5)
كذلك أيضاً استدلوا بحديث أم المؤمنين عائشة-رضي الله عنها- الثابت في الصحيحين تقول-رضي الله عنها-" كان النبي صلى الله عليه وسلم يتكئ في حِجري حَجري وكلاهما صحيح فيقرأ القرآن وأنا حائض" قالوا إن أم المؤمنين عائشة أرادت بهذا أن تنبه على أن الحائض لا تقرأ القرآن لأنه لو كانت بنفسها تقرأ القرآن لم يكن لقولها أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يتكئ عليها فيقرأ في حجرها القرآن وهذه يعتبرها العلماء دلالة أصوليةً صحيحة وهي دلالة التنبيه .
وكذلك أيضاً قالوا إن حديث النسائي الثابت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه أتى حائط قوم فبال عنده فمرَّ رجل وسلمَّ على رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم يرد عليه النبي صلى الله عليه وسلم السلام حتى أتى الحائط وضرب بيديه فتيميم ثم رد -عليه السلام- وقال:(( إني كنت على غير طهارة فكرهت أن أذكر الله)) قالوا : إذا كان في الحدث الأصغر وهو قضاء الحاجة وكان في رد السلام كره عليه الصلاة والسلام أن يرد السلام فإنه إذا كان الحدث أكبر ، والجنابة ، والحيض والنفاس ، والمقروء كتاب الله عز وجل فإن المناسب من جهة الدليل أن يقتضي التحريم والمنع،ومن مجموع هذه الأدلة قال:جمهور العلماء بمنع المرأة الحائض والنفساء والرجل الجنب وكذلك المرأة إذا كانت جنباً من تلاوة كتاب الله عز وجل والذي يترجح في نظري والعلم عند الله هو القول بالمنع وذلك لما يلي:
أولاً : لصحة ما ذكروه .
ثانياً : أما الاستدلال بالبراءة الأصلية ، وهي عدم ورود الدليل فمنتقض بورود الحديث الحسن الذي مال الحافظ ابن حجر وغيره إلى ثبوته واعتباره والقاعدة:" أنه لا يصلح الاحتجاج بالبراءة متى ما ورد الناقل وهو الذي ينقل عن البراءة الأصلية" .(62/6)
ثالثاً: كذلك أيضاً استدلالهم بحديث أم المؤمنين عائشة : " أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يذكر الله سبحانه وتعالى على كل أحيانه" هذا الدليل كما يقول العلماء رحمهم الله أعم من موضع النزاع ، فإن الذكر يطلق بمعنى القرآن ، ويطلق بمعنى الذكر المطلق ، ولما قالت يذكر الله على كل أحيانه للعلماء في هذا الحديث وجهان :
قال بعض العلماء مرادها : أنه يذكر الله عند اختلاف الحال بدليل قولها "على كل أحيانه" ، ولم تقل على كل حين فلما قالت على كل أحيانه وجمعت مرادها أنه كان إذا خرج من بيته ذكر الله بذكر الخروج وكان إذا أصبح ذكر الله بذكر الصباح وإذا أمسى ذكر الله بذكر المساء فكأنها تريد الإشارة إلى الأذكار عند المناسبات والأحيان المختلفة ، فإذا دخل الخلاء ذكر ذكراً مخصوصاً ، وإذا خرج من الخلاء ذكر ذكراً مخصوصاً قالوا فهذا هو مراد أم المؤمنين عائشة-رضي الله عنها- ، ولو سلمنا أنه على العموم فإنه أعم من موضع النزاع ، والقاعدة في الأصول :"أنه إذا تعارض ما هو أعم من موضع النزاع ، وما هو نص في موضع النزاع قدم ما هو نص في موضع النزاع على ما هو أعم منه" فإن قول علي رضي الله عنه لم يكن يمنعه شيء عن القرآن ليس الجنابة " نص في المنع ومنع الجنب من تلاوة القرآن ؛ ولكن حديث عائشة-رضي الله عنها-من جهة العموم لا يقوى في الدلالة إلى هذه الدرجة .(62/7)
رابعاً: كذلك أيضاً من المرجحات أن القاعدة :"في الأصول أنه إذا تعارض الحاظر والمبيح قدم الحاظر على المبيح" فإن حديث أم المؤمنين عائشة لو سلمت دلالته فإنه يقتضي الجواز وهو حكاية الفعل وحديثنا وأدلتنا التي استدل بها الجمهور إنما هي موجبة للحظر والمنع ، والقاعدة :"أنه إذا تعارض الحاضر و المبيح قدم الحاظر على المبيح" ثم إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:(( إذا نهيتكم فانتهوا)) ومن هنا في قوله" ليس الجنابة" أما الجنب فلا ولا آية كله يقوَّي القول بالمنع ، ولا شك أنه أبرأ وأحوط للإنسان يقول العلماء : إذا كان الإنسان يحب تلاوة القرآن أو كانت المرأة من عادتها أنها تقرأ القرآن ، وجاء الحيض أو جاء النفاس ، كانت من عادتها أن تقرأ القرآن في يومها في أول النهار ، وفي آخر النهار أو في أوقات فراغها فإنه إذا جاءها العذر ومنعها كتب لها الأجر كاملاً لأنها منعت بما اعتقدت أنه مانع فلا يغض ولا ينقص من أجرها وجود العذرالمتلبس بها.
وترجم المصنف رحمه الله بالحائض والجنب: وإن كان الباب مختصاً بالحيض لكنه من فقه الإمام الترمذي رحمه الله أنه ربما يذكر الأشياء المتجانسة في ترجمة واحدة ، الكتاب وإن كان مختصاً بالحيض إلا أن الجنب والحائض يشتركان في مسألة أو وصف الحدث الأكبر فناسب أن يذكر رحمه الله هذا المانع لتعلقه بهما على حد سواء ، الحكم هنا يشمل النفساء كما يشمل الحائض إلا أن العلماء رحمهم الله يقولون الحائض والنفساء أعظم أمراً من الجنب ؛ والسبب في هذا أن الجنب بإمكانه أن يرفع الحدث وذلك باغتساله ولكن الحائض والنفساء ليس بإمكانهما أن ترفع الواحدة منهما الحدث الذي تلبست به .(62/8)
يقول المصنف رحمه الله حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ حُجْرٍ وَالْحَسَنُ بْنُ عَرَفَةَ قَالاَ حَدَّثَنَا إِسْمَعِيلُ بْنُ عَيَّاشٍ عَنْ مُوسَى ابْنِ عُقْبَةَ عَنْ نَافِعٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ:(( لاَ تَقْرَأِ الْحَائِضُ وَلاَ الْجُنُبُ شَيْئاً مِنَ الْقُرْآنِ )) .
قَالَ رحمه الله : وَفِي الْبَاب عَنْ عَلِيٍّ .قَالَ أَبو عِيسَى رحمه الله : حَدِيثُ ابْنِ عُمَرَ حَدِيثٌ لاَ نَعْرِفُهُ إِلاَّ مِنْ حَدِيثِ إِسْمَعِيلَ بْنِ عَيَّاشٍ عَنْ مُوسَى بْنِ عُقْبَةَ عَنْ نَافِعٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ:(( لاَ تَقْرَأِ الْجُنُبُ وَلاَ الْحَائِضُ )) وَهُوَ قَوْلُ أَكْثَرِ أَهْلِ الْعِلْمِ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَالتَّابِعِينَ وَمَنْ بَعْدَهُمْ مِثْلِ سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ وَابْنِ الْمُبَارَكِ وَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَدَ وَإِسْحَقَ قَالُوا لاَ تَقْرَأِ الْحَائِضُ وَلاَ الْجُنُبُ مِنَ الْقُرْآنِ شَيْئاً إِلاَّ طَرَفَ الآيَةِ وَالْحَرْفَ وَنَحْوَ ذَلِكَ وَرَخَّصُوا لِلْجُنُبِ وَالْحَائِضِ فِي التَّسْبِيحِ وَالتَّهْلِيلِ .
قَالَ رحمه الله : و سَمِعْت مُحَمَّدَ بْنَ إِسْمَعِيلَ يَقُولُ إِنَّ إِسْمَعِيلَ بْنَ عَيَّاشٍ يَرْوِي عَنْ أَهْلِ الْحِجَازِ وَأَهْلِ الْعِرَاقِ أَحَادِيثَ مَنَاكِيرَ كَأَنَّهُ ضَعَّفَ رِوَايَتَهُ عَنْهُمْ فِيمَا يَنْفَرِدُ بِهِ وَقَالَ إِنَّمَا حَدِيثُ إِسْمَعِيلَ بْنَ عَيَّاشٍ عَنْ أَهْلِ الشَّأْمِ و قَالَ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ إِسْمَعِيلُ بْنُ عَيَّاشٍ أَصْلَحُ مِنْ بَقِيَّةَ وَلِبَقِيَّةَ أَحَادِيثُ مَنَاكِيرُ عَنِ الثِّقَاتِ .
قَالَ أَبو عِيسَى رحمه الله : حَدَّثَنِي أَحْمَدُ بْنُ الْحَسَنِ قَال سَمِعْتُ أَحْمَدَ بْنَ حَنْبَلٍ يَقُولُ ذَلِكَ .
الشرح:(62/9)
هذا الحديث العمل عند العلماء رحمهم الله على ضعفه ؛ وذلك لأنه من رواية إسماعيل بن عياش وهو كما ذكر الحافظ ابن حجر صدوق في روايته عن أهل الشام وضعيف في روايته عن أهل الحجاز أو عن غير أهل بلده ، حتى إنهم قالوا إنه يخلط في الأحاديث ، والعمل عند العلماء رحمهم الله على ضعف هذا الحديث ، فإن كان حسنه بعض أهل العلم لوجود المتابعة والشاهد من حديث علي رضي الله عنه لكن هذه المتابعة لم تخل من ضعف أيضاً بحيث لا تقوى على تحسين الحديث كما ذكر ؛ لأن المتابعة الموجودة عن عبد الملك بن مسلمة عن الدار قطني تكلم العلماء في رواية عبد الملك في نفس عبد الملك وفي من روى عنه ، والذي تطمئن إليه النفس القول بضعف هذا الحديث ؛ لكن يغني عنه حديث علي رضي الله عنه الذي أشار إليه الترمذي بقوله وفي الباب عن علي وعلى هذا فإن الحجة في حديث علي رضي الله عنه بالمنع لا في حديث ابن عمر الذي معنا .
وقوله "لبقية أحاديث مناكير" قال بعض العلماء : لبقية أحاديث ليست نقية فكن منها على تقية ؛ والسبب في هذا وجود الخلط في أحاديثه ، وأما ما ذكره عن كثير من الصحابة يعتبر العلماء رحمهم الله مذهب الجمهور من الصحابة والتابعين ومن بعدهم على القول بالمنع من تلاوة القرآن للجنب وكذلك للحائض وللمرأة النفساء على التفصيل الذي تقدمت الإشارة إليه .
يقول رحمه الله بَاب مَا جَاءَ فِي مُبَاشَرَةِ الْحَائِضِ
الشرح:(62/10)
يقول رحمه الله "باب ما جاء في مباشرة الحائض": المباشرة مفاعلة من البشرة ، والبشرة هي ظاهر الإنسان ما يكون من ظاهر الإنسان والمفاعلة تستلزم وجود شخصين فأكثر ، والمراد هنا مباشرة الرجل لامرأته والحال أنها حائض أي وهي حائض ، الأصل في الشرع أنه لا يجوز للرجل أن يجامع امرأته حال الحيض فأجمع العلماء رحمهم الله إلا ما ذكر عن عبيدة السلماني أنه كان يقول بجواز الجماع لكنه قول باطل وجماهير العلماء رحمهم الله على المنع واحتجوا بظاهر قوله -تعالى-:{ وَيَسْأَلُونَكَ عَنْ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذًى فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ وَلاَ تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ فَإِذَا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمْ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ}(1) فإن هذه الآية الكريمة نص الله عز وجل فيها على أنه لا يجوز للرجل أن يأتي امرأته وهي حائض ، وقوله:{وَيَسْأَلُونَكَ عَنْ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذًى فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ} فقال فاعتزلوا النساء في المحيض فخصص الاعتزال والمنع بالمكان ، فالمحيض اسم مكان كالمقيل .
قوله "المحيض": اسم مكان للحيض أي مكان الحيض ، ومكان الحيض إنما هو قُبل المرأة ، ومن هنا أجمع العلماء رحمهم الله على عدم جواز وطء المرأة وهي حائض بل نص العلماء لو قال رجل إن وطء الحائض يجوز أنه -والعياذ بالله-كافر ، وذلك لأنه استحل ما نص القرآن على تحريمه فكأنه يكذب الله عز وجل في تحريمه -والعياذ بالله- ، ومن هنا قالوا مما يوجب الردة أن يكذَّب الله أو رسوله صلى الله عليه وسلم فإذا علم أن الله حرَّم وطء الحائض واطلع على نهيه سبحانه وتعالى عن وطء الحائض فخالف ذلك فإنه -والعياذ بالله- يعتبر كافراً بإجماع العلماء رحمهم الله .
__________
(1) / البقرة ، آية : 222 .(62/11)
وقوله:{قُلْ هُوَ أَذًى فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ} علل الله عز وجل هذا الاعتزال بقوله :{ قُلْ هُوَ أَذًى فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ} وهذا الأذى أثبته الأطباء اليوم فإنهم يقولون إنه توجد أضرار لا تختص بالمرأة وإنما تشمل الرجل مع المرأة ، حتى ذكروا أنها تسبب-والعياذ بالله- العقم بالنسبة للمرأة وقد يسبب العقم أيضاً للرجل وذلك لوجود الأضرار في دم الحيض وفي مكان الحيض وجود الميكروبات التي تنتقل أثناء جماع الرجل لامرأته وهذا من لطف الله عز وجل ورحمته بعباده ، ويدل على عظمة هذا الدين وأنه كما جاء بطب الأرواح وشفائها من أدران الشرك والعبودية لغير الله وأدران الفساد الأخلاقي وغيره من الشرور والآثام جاء أيضاً بطب الأجساد وما فيه صلاحها واستقامتها وبقاء نفعها ؛ لأن الله لا يحب الفساد ولا يأذن بأسباب الفساد ، ومن هنا نص العلماء رحمهم الله على أن من مقاصد الشريعة أن تحفظ على الناس أرواحهم وأجسادهم ، ومن هنا قالوا إن المنع من وطء الحائض إنما هو لوجود الأذى والضرر الذي يترتب على جماع الرجل لامرأته .(62/12)
فقال المصنف رحمه الله " باب ما جاء في مباشرة الحائض": هذا الباب في الأصل مستثنى أو بمثابة الاستثناء وكأنه ينبه على الحدود التي أُذن للرجل أن يستمتع بها من المرأة ، والحيض في الأصل مانع فينبغي أن يحدد أو يبين موضع المنع ، والمباشرة تشمل التقبيل وتشمل كذلك الجس واللمس ، وكذلك أيضاً الاستمتاع من سائر البدن مما هو مأذون به شرعاً ما عدا الوطء في الدبر فما عدا هذا فالأصل جوازه لقوله -تعالى-:{ أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَهُنَّ }(1) فأذن الله سبحانه وتعالى بالاستمتاع بالنساء وأخبر أن المرأة لباس للرجل ، والرجل لباس لها وهذا كما قال العلماء المقصود منه أن تُعف المرأة زوجها وأن يعف الرجل امرأته ، ومن هنا فالأصل يقتضي أنه يحل للرجل أن يستمتع من المرأة حتى يرد الدليل على منع ذلك الاستمتاع ، وأنه في باب المنهيات والمحظورات الشرعية فجاء الدليل بتحريم الوطء فبقي ما عداه محلاً للإذن ، لكن عند العلماء رحمهم الله فيما عدا الوطء تفصيل وخلاف ، فالذي أجمع العلماء رحمهم الله على عدم جواز الاستمتاع بالدبر لا في حيض ولا في غيره وهذا بالإجماع إلا حكايات شاذة عن ابن عمر -رضى الله عنهما- قيل بعدم ثبوتها عنه وأنه لم يقصد الوطء في الدبر -وسنتكلم في هذه المسألة إن شاء الله في باب النكاح- ونبين الغلط في نسبته والغلط كذلك في احتجاج من يحتج بجواز وطء المرأة من الدبر ، وأنه لا يصح ولا يثبت لا من جهة الشرع ولا من جهة العلماء وأئمة السلف -رحمهم الله برحمته الواسعة- كما قال -تعالى-:{نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ}(2) والحرث إنما يكون في القبل ولا يكون في الدبر.
__________
(1) / البقرة ، آية : 187.
(2) / البقرة ، آية : 223.(62/13)
وأما بالنسبة للموضع الثاني فهو ما بين السرة والركبة فالذي بين السرة والركبة مما عدا الفرج اختلف العلماء رحمهم الله هل يجوز للرجل أن يستمتع به من امرأته الحائض ؟؟
هذه المسألة وقع الخلاف فيها من عهد السلف الصالح رحمهم الله فمن بعدهم فقال بعض العلماء : إنه لا يجوز للرجل أن يستمتع بما بين السرة والركبة إذا لم يكن هناك حائل كالإزار ونحوه وبهذا القول قال جمع من السلف فهو مروي عن سعيد بن المسيب الإمام المشهور من أئمة التابعين كذلك قال به عطاء بن أبي رباح وطاووس بن كيسان وقتادة بن دعامة السدوسي وكلهم من تلامذة ابن عباس رضي الله عنه و -رحمهم الله جميعاً- ، وقال به أيضاً سليمان بن يسار وشريح القاضي المشهور وهو مذهب الحنفية والمالكية ، وقال به بعض أصحاب الإمام الشافعي-رحم الله الجميع برحمته الواسعة- يقولون لا يجوز للرجل أن يستمتع بما بين السرة والركبة وقالوا أمَّا وجه المنع فإنَّ الله عز وجل حرَّم الوطء في الفرج :"وما قارب الشيء أخذ حكمه" ، وقد قال عليه الصلاة والسلام :(( اتقوا الشبهات)) فقال عليه الصلاة والسلام :(( فمن اتقى الشبهات فقد استبرأ لدينه وعرضه ، ومن وقع في الشبهات وقع في الحرام كالراعي يرعى حول الحمى يوشك أن يرتع فيه ألا وإنَّ لكل ملك حمى ألا وإنَّ حمى الله محارمه)) .
قالوا إنَّ الرجل إذا استمتع فيما بين السرة والركبة فإنه لا يأمن أن يقع في الحرام وأن يقع في المحذور فينبغي المنع من ذلك حتى لا يكون وسيلة إلى مخالفة النهي الشرعي .(62/14)
قال جمع من العلماء : بجواز استمتاع الرجل فيما بين السرة والركبة وهذا القول قال به أيضاً جمع من أهل العلم رحمهم الله وهو مذهب الحنابلة وكذلك الظاهرية ، وطائفة من أهل الحديث ، وقال به الإمام الأوزاعي من أئمة الشام ويقول به بعض أصحاب الإمام أبي حنيفة كمحمد بن الحسن وكذلك يقول به بعض أصحاب الإمام مالك كأصبغ بن الفرج -رحم الله الجميع- قالوا يجوز للرجل أن يستمتع بامرأته فيما بين السرة والركبة إذا كانت حائضاً لكن هؤلاء منهم من يقول إذا غلب على ظنه أنه لا يملك نفسه ، وأنه يقع في الحرام فإنه لا يجوز له ؛ لأنَّ الغالب كالمحقق والقاعدة في الشريعة : "أن الحكم للغالب والنادر لا حكم له" واستدل هؤلاء بأدلة أولها أن الله سبحانه وتعالى قال:{ فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ} والمحيض اسم مكان كالمقيل فحرم الله عز وجل على الرجل أن يطأ في الفرج فدل على أن ما عداه يجوز للرجل أن يستمتع به .
استدلوا كذلك بالسنة في قولها-أعني- أم المؤمنين عائشة-رضي الله عنها- كما في الصحيح :"كان النبي صلى الله عليه وسلم يأمر إحدانا "، وفي رواية" يأمرني فأتزر فيباشرني وأنا حائض" قالوا إن هذه الأوزر كانت للفرج .(62/15)
وأكدوا هذا أيضاً بقوله إن عليه الصلاة والسلام الثابت والصحيح:(( اصنعوا كل شيء إلا النكاح)) قالوا فلما قال عليه الصلاة والسلام (( اصنعوا كل شيء إلا النكاح)) دل على أن المراد أن لا يطأ في الفرج وأن قوله :(( اصنعوا كل شيء)) يدل بعمومه على جواز الاستمتاع وأن المحظور هو الوطء بخصوصه ، وهذا القول لا شك أنه أسعد القولين بالرجحان وأولاهما بالصواب –إن شاء الله تعالى- خاصة وأن رسول الله صلى الله عليه وسلم خاطب الأمة وقال((اصنعوا كل شيء إلا النكاح)) والنكاح المراد به الجماع ، وهذا بإجماع العلماء رحمهم الله وعلى هذا فإنَّ دلالة الكتاب والسنة قوية في تخصيص الحكم بمكان الوطء ويبقى من لا يملك نفسه محلاً للمنع ، وعدم الإذن هناك استثناءات ذكرها بعض العلماء رحمهم الله كما اُستثني من قال بالجواز ، من لا يأمن نفسه من الوقوع قالوا أيضاً إذا كانت المرأة حائضاً وكان الرجل شديد الشهوة وبه شبق وليس عنده بديل ولا يستطيع أن يتزوج غيرها ، لا يستطيع أن يملك كما كان في القديم تملك الأمة فتوطأ بملك اليمين ولا ينفع الصيام في كبح شهوته ويغلب على ظنه أنه إذا لم يحصَّن أنه يقع في الحرام قالوا يجوز له في هذه الحالة أن يطأ امرأته وهي حائض ، واختلفوا هل يكفر أولا يكفر - وسنبين إن شاء الله مسألة التكفير في باب كفارة من أتى امرأته وهي حائض إن شاء الله تعالى- .
يقول المصنف رحمه الله : حَدَّثَنَا بُنْدَارٌ حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مَهْدِيٍّ عَنْ سُفْيَانَ عَنْ مِنْصُورٍ عَنْ إِبْرَاهِيمَ عَنِ الأَسْوَدِ عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ :"كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إِذَا حِضْتُ يَأْمُرُنِي أَنْ أَتَّزِرَ ثُمَّ يُبَاشِرُنِي ".
قَالَ رحمه الله : وَفِي الْبَاب عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ وَمَيْمُونَةَ .(62/16)
قَالَ أَبو عِيسَى رحمه الله : حَدِيثُ عَائِشَةَ حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ وَهُوَ قَوْلُ غَيْرِ وَاحِدٍ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَالتَّابِعِينَ وَبِهِ يَقُولُ الشَّافِعِيُّ وَأَحْمَدُ وَإِسْحَقُ .
الشرح:
قولها -رضي الله عنها-"كان النبي صلى الله عليه وسلم يأمرني إذا حضت فأتزر فيباشرني وأناحائض": كانت اليهود إذا حاضت المرأة لم يجالسوها ولم يؤاكلوها ولم يعاشروها ولم يخالطوها ، وجاء الإسلام بالسماحة واليسر فأذن الله لعباده المؤمنين بمخالطة المرأة الحائض حتى ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنَّه خالطها حتى في أكله وشربه ، فكان يأمر عائشة-رضي الله عنها- وهي حائض أن تشرب من الوعاء فيضع فمه عليه الصلاة والسلام حيث وضعت فمها ويشرب ، كل ذلك مخالفةً لأهل الكتاب وتيسيراً من الله عز وجل ووضعاً للإصر الذي كان على من قبلنا.(62/17)
وقولها" كان يأمرني فأتزر": الوزرة تشمل ماكان عذرة للفرج وكان غطاءً له سواء كانت إلى أنصاف الفخذين أو كانت إلى الركبة أوكانت إلى ما أسفل الركبة وكل ذلك يسمى إزاراً ووزراً ، ومنه قوله عليه الصلاة والسلام :(( أزرة المؤمن إلى أنصاف ساقيه)) وهذا مثل ما يسمى في زمننا بالفوط ونحوها فهذه هي التي تتزر بها ، ويغطى بها أسفل البدن فالإزار في الأصل لأسفل البدن ، وإنما قال:(( أزرة المؤمن إلى أنصاف ساقيه)) ؛ لأن هذا النوع من الملبوسات وهو الإزار لا يستطيع أن يمشي الإنسان به مشية يتمكن بها من نفسه ويأمن منها السقوط إلا إذا رفعه وشمره ، وهذا يعرفه الإنسان إذا لبس هذا النوع من الملبوسات ومن هنا أمر النبي صلى الله عليه وسلم الصحابي أن يرفع حتى قارب إلى الركبة بثلاثة أصابع ؛ لأنه كلما رفع تمكن من المشي أكثر بخلاف بقية الملبوسات المفصلة كالسراويل والثياب الموجودة في زماننا فإنه يتمكن الإنسان من المشي والقفز ، قالوا لأنه إذا لم يرفع فكان بالإزار ربما جاءه شيء فجأة فلا يستطيع أن يقفز إلا إذا تكفأ أو سقط ، ومن هنا ثبت عنه عليه الصلاة والسلام في نهيه عن اشتمال الصماء لأنه إذا اشتمل بالصماء -هو الثوب الواحد- ربما دهمه الحية أو العقرب أو دهمه العدو فلا يستطيع أن يتمكن من سلاحه ؛ لأنه مشتمل بالثوب إلا على وجه تكشف به عورته فقالوا مثل هذا كان وجهاً في منعه – عليه الصلاة والسلام - في مثل هذه الملبوسات ، أمره برفعها فالإزار في الأصل يشمل ما يكون للرجل وما يكون للمرأة وهو غطاء لأسفل البدن ويسمى ماكان غطاء لأعلى البدن بالرداء فتقول رداء وإزار فالرداء لما يكون على الكتفين ، ثم في الإحرام ما وضعته على الكتفين فهو رداء وما وضعته أسفل البدن فهو إزار .(62/18)
وفي قولها" يأمرني ":فيه أصل شرعي وهو طاعة المرأة لزوجها فإنه ينبغي للمرأة أن تطيع زوجها خاصة في أمور العشرة الزوجية ، ويعظم عصيانها وتمردها على زوجها إذا خالفته في مثل هذه الأمور ، قال العلماء يعتبر من كبائر الذنوب إذا أمر الرجل امرأته ودعاها للفراش فامتنعت بدون عذر شرعي ، فإذا امتنعت فهي-والعياذ بالله-ملعونة كما ثبت في الحديث كما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم :(( أيما امرأةٍ دعاها زوجها فأبت عليه باتت الملائكة تلعنها حتى تصبح)) وهذا وعيد شديد يقول العلماء رحمهم الله إنه من كبائر الذنوب عصيان المرأة لزوجها في فراشه ؛ والسبب في هذا أن الرجل إذا لم تحافظ الزوجة على إعفافه وإحصانه عن الحرام ما يؤمن منه أن يقع في الحرام ، ومن هنا عظم الشرع عصيانها وتمردها في مثل هذه الأمور ولأن المقصود من الزوجية أن تبذل المرأة كل الأسباب وكل ما في وسعها لإعفاف زوجها عن الحرام ، حتى قال بعض العلماء : كما أن المرأة نهيت عن عصيان زوجها إذا دعاها إلى الفراش فإنَّها إذا تعاطت بعض الأسباب التي تنفر الزوج منها كأَن لا تعتني بجمالها و لا تعتني بنظافة نفسها ، ولا تعتني بتهيئة نفسها لزوجها فإنَّها لا تخلو من الإثم ، خاصة إذا قصدت ذلك وعنته فلما أمر عليه الصلاة والسلام المرأة لأن الأصل أن المرأة تطيع زوجها وهذا هو حال الصالحات القانتات وما زال حال المسلمات من لدن عصر النبي صلى الله عليه وسلم على السمع والطاعة والشعور بالقوامة للرجل حتى حصل التمرد فيمن خلف بعدهم ممن اتبع الشهوات ، وعصى فاطر الأرض والسموات وتنكر للفطرة وخرج عن المنهج السوي وشابه من لا خلاق له من أعداء الإسلام ، فأصبحت المرأة تسول لها نفسها بعصيان الزوج وتسول لها نفسها أنَّها متى استسلمت لبعلها فإنها ذليلة وأنَّه لا كيان لها ولا قيمة لها ، وكل ذلك مما لبس به أعداء الله ورسوله صلى الله عليه وسلم على المسلمات ، والله-- عز(62/19)
وجل -- أمر المؤمنة بطاعتها لزوجها ولابد للمرأة أن تشعر بذلك وأن تحس أنَّ صلاح بيتها واستقامته موقوف على كمال استقامتها ، وهذا الكمال من الأنوثة يقتضي منها أن تعلم أن الفطرة أن تتهيأ لزوجها ، وأن تهيئ له الأسباب التي تحفظه بها عن الحرام خاصة في الأزمنة التي تكثر بها الفتن وتعظم فيها الفتن ، وتتعاطى الأسباب التي تعف زوجها كذلك عن نظر الحرام وتعف زوجها عن الوقوع في الحرام فإنَّها إن فعلت ذلك صلحت وأصلحت غيرها وكان ذلك سبباً في رضوان الله عليها قال صلى الله عليه وسلم :(( أيما امرأة صلت خمسها وصامت شهرها وماتت وزوجها عنها راض قيل لها ادخلي الجنة من أي أبوابها شئت )) كيف يكون راضياً عنها يكون راضياً عنها بالأمور الشرعية في استقامتها في أمور دينها ، وراض عنها في أمورها الجبلية الفطرية التي فطرها الله عز وجل أنَّه يأمرها فتأتمر وينهاها فتنكف وتنزجر ، فكانت أمهات المؤمنين يأمرهن عليه الصلاة والسلام فيأتمرن ، وينهاهن فينزجرن ، وكنَّ على السمع والطاعة لرسول الله صلى الله عليه وسلم ولذلك عظم الله سبحانه وتعالى منهن ذلك وجعلهن أمهات للمؤمنين إعلاءً لشأنهن وإعلاءً لقدرهن-رضي الله عنهن وأرضاهن-.
قالت-رضي الله عنها-" كان النبي صلى الله عليه وسلم يأمرني فأتزر": فيه دليل على أنه يستحب للزوج أن يأمر زوجته بما فيه حفظ لنفسه ، وكذلك بما يكون معيناً على امتثال أوامر الله عز وجل واجتناب نهيه .(62/20)
وقولها"فيأمرني فأتزر ": يستدل به بعض العلماء على أنه لا يجوز الاستمتاع فيما بين السرة والركبة لأنَّ المراد بهذه الوزرة أنه لا يقع رسول الله صلى الله عليه وسلم في المحظور ولكن هذا مردود بقوله عليه الصلاة والسلام :(( اصنعوا كل شيء إلا النكاح )) ومنه هنا قال بعض العلماء : إن كانت هذه الوزرة لما بين السرة والركبة فإنها يكون الأمر فيها للندب والاستحباب لا للحتم والإيجاب ، والله تعالى أعلم .
- ? - ? - ? - ? - الأسئلة - ? - ? - ? - ? -
السؤال الأول :
هل نهي الحائض عن قراءة القرآن مطلق أم مستثنى من ذلك أحوال كأن تكون الحائض معلمه أو أن تخشى من نسيان القرآن ..؟؟
الجواب:
بسم الله الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه أما بعد :
فقد ذكرنا هذه المسألة وبينا أن بعض العلماء استثنى وجود الحاجة فقال إذا كانت المرأة معلمة فإنه يجوز لها أن تقرأ لكن لا تنوي القراءة لا تنوي قراءة القرآن تعبداً ؛ لأنها منهية عن ذلك وإنما تنوي التعليم فتقرأ الآيات على سبيل التعليم للغير لا على سبيل التلاوة والتعبد ، والله تعالى أعلم.
السؤال الثاني:
هل يستوي الجنب مع الحائض في قول الشافعية رحمهم الله في جواز قراءة القرآن إن كان معلماً له..؟؟
الجواب:
بالنسبة للجنب ليس كالحائض لأنَّ الجنب بيده أن يرفع الجنابة وبإمكانه أن يغتسل وليس كالحائض التي تأخذ الأيام ذوات العدد وكذلك النفساء التي تأخذ الأيام الأكثر والأطول ومن هنا يفرق بينهما بهذا التفريق.(62/21)
أما بالنسبة عند الشافعية : هنا أمر مهم جداً وهو مسألة السؤال عن المذهب ، يعني الشافعية عند المالكية الحنفية الحنابلة هذا يحتاج إلى مجتهد في نفس المذهب ، فالذي نص عليه واختاره الإمام النووي رحمه الله من أئمة الشافعية استثناء المرأة الحائض إن كانت معلمة حتى لا ينقطع تعليمها ونفعها ؛ ولوجود تعلق حاجة الغير بها لكن مسألة المعلم الرجل في مذهب الشافعية لا أحفظ له نصاً في هذه المسألة ؛ لكن بالنسبة للاستثناء يتوجه أن يقال بالفرق لأن إلحاق الشيء بالشيء يقتضي التسوية ، وهناك فرق بين المرأة الحائض وبين الرجل الجنب وحتى المرأة الجنب ، فإن كلاً من الجنب سواء كان رجلاً أو امرأة يمكنه أن يرفع الحدث بخلاف المرأة الحائض كما ذكرنا ،والله تعالى أعلم .
السؤال الثالث:
أشكل عليَّ تأخير المصنف رحمه الله حديث ابن عمر في نهيه عليه الصلاة والسلام الجنب والحائض عن قراءة القرآن ولم يذكره في باب الغسل من الجنابة ..؟؟
الجواب:
الأمر يسير في هذا لأن العلماء رحمهم الله يذكرون الأحاديث بالمناسبات ففي بعض الأحيان يغلَّظ البعض الحيض فيجعله في موانع الحيض ، وبعضهم يغلَّظ في باب الجنابة فيجعله في باب الجنابة ، وقد يراعي المصنف رحمه الله مناسبة في باب الحيض أكثر من الجنابة ، وهذا يرجع إلى ذوقه في ترتيب الأبواب وذوقه في تناول الأحاديث أو تناسب الأبواب بعضها مع بعض ، فقد يكون في باب الجنابة لم يذكر الموانع ، وفي باب الحيض ذكر الموانع فناسب أن يذكر الموانع في باب الجنابة ، ولذلك حتى دخول المسجد ذكر حديثه في باب الحيض لأنه في باب الجنابة لم يذكر الموانع يعني لم يذكر أبواباً للموانع فيكون هنا الأنسب من جهة الموانع أنه شرك بين الحيض والجنابة لأن أبواب الموانع اعتنى بها في الحيض ، فالسنة فيها أكثر والأحاديث فيها أشهر بخلاف الجنابة فإن حديث الموانع فيها ليست كالحيض ، والله تعالى أعلم.
السؤال الرابع:(62/22)
صليت إماماً بالناس ثم إني حين الرفع من الركوع لفظت بالتكبيرة ولكن لم أتمها فتذكرت فقلت سمع الله لمن حمده فما حكم صلاتي وصلاة من خلفي علماً أنني لم أسجد للسهو ..؟؟
الجواب:
من رفع رأسه من الركوع إماماً أو منفرداً يجب عليه أن يقول سمع الله لمن حمده ، وذلك لأن النبي عليه الصلاة والسلام قال .. قال هذه الكلمة وكذلك أيضاً اعتبرها ذكراً قولياً في الانتقال من الركن إلى الركن كالتكبير وعلى هذا قال جمهور العلماء بوجوب بالتسميع ووجوب التحميد ، فإذا ثبت أنه من واجبات الصلاة فإن الحكم عند العلماء الذين يقولون بوجوب التسميع أنه إذا غلط فقال الله أكبر .. بدل سمع الله لمن حمده ، فإنه يلزمه سجود السهو سواء تلافى أثناء الكلمة كأن يقول الله أكب ولم يكملها فرجع وقال سمع الله لمن حمده ، أو قال الله ولم يقل أكبر ثم رجع وقال سمع الله لمن حمده ، فإنه إذا استممت الكلمة كقوله الله بدل سمع فإنه قد زاد ذكراً من جنس أذكار الصلاة ، والقاعدة في باب سجود السهو في الزيادة أن من زاد قولاً أو فعلاً من جنس الصلاة فخرج القول والفعل الخارج عن الصلاة فإنَّه لا يسجد للسهو إذا قال كلاماً خارجاً عن الصلاة إنما يسجد للسهو إذا قال شيئاً من جنس ما يقال في الصلاة ، فلما أخطأ وقال التكبير وهو من جنس ما يقال في الصلاة فإنه يلزمه أن يسجد للسهو سجوداً بعدياً لأنه تلافى النقص لكن لو أتم قوله الله أكبر يكون السجود قبلياً فهناك فرق بين الحالتين :
الحالة الأولى : أن يقول الله أكبر كاملة ..ثم يقول سمع الله لمن حمده بعدها فحينئذ يكون الذكر لقوله الله أكبر ويكون الذكر لقوله سمع الله لمن حمده فيلزمه سجود السهو إذا قلنا أنه لم يتلافى يلزمه سجود السهو قبلياً لأن التسميع وقع بعد انتهاء الذكر وكأنه جعل ذكراً بدل ذكر فيلغى قوله سمع الله لمن حمده لأن التكبير الأول حل محل الذكر المأمور به شرعاً فلا يعتبر من التلافي المؤثر .(62/23)
الحالة الثانية : إذا قال الله أو قال الله أكب وأراد أن يقول أكبر ولكن قطعها فحينئذ لم يحل الذكر تاماً محل الذكر التام ، وأصبح قوله بعد ذلك سمع الله لمن حمده مجزءاً عن الواجب لأنه حل في مكانه فصارت زيادة في قوله الله هذه الزيادة يسجد لها سجوداً بعدياً فيفرق بين الحالتين ، وبعض العلماء رحمهم الله يقول إنه إذا تلافى وقال سمع الله لمن حمده قبل أن يستتم قائماً فإنه يجزيه ذلك ويكون السجود كله بعدياً لا قبلياً لمكان الزيادة والأول أظهر وأصح وهو التفصيل ، والله تعالى أعلم .
السؤال الخامس:
أصلى في بعض المساجد عند بعض الأئمة الذين عندما يقرؤون الفاتحة لا يجعلون فرصة للمأموم أن يقرأ الفاتحة فما العمل ..؟؟
الجواب:(62/24)
الأمر واسع يعني إذا كان الإمام يرى ألاَّ يسكت الإمام بعد الفاتحة إنمَّا يسكت قليلاً بقدر ما يتراد به نفسه حتى يشرع في السورة فهذا وجه وله أصل من السنة ، وإذا كان الإمام يسكت أيضاً فله وجه وله أصل من السنة في حديث السكتات ، وقال به جمع من العلماء وفي رواية سعيد بن المسيب رحمه الله يعتبرها العلماء من الرواية المرسلة ما يشير أن فعل السلف كان عليه ، وإذا كان الإمام يستعجل فإنه يلزمك أن تقرأ الفاتحة ولو استعجلت والسبب في هذا أن الفاتحة بالنسبة لك ركن سواء كنت إماماً أو مأموماً أو منفردا لقوله عليه الصلاة والسلام :(( لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب)) فلم يفرق النبي صلى الله عليه وسلم بين مصلٍ وآخر ولم يفرق بين النافلة والفرض ، ولم يفرق بين الجهرية والسرية وإنما قال:(( لا صلاة )) وهي نكرة في سياق النفي والقاعدة :" أن النكرة في سياق النفي تفيد العموم "وكذلك أكد هذا الحديث الصحيح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم :" أنه صلى الفجر فإذا برجل يقرأ وراءه فقال عليه الصلاة والسلام :(( مالي أُنازع القرآن إنكم تقرؤون وراء إمامكم؟ قالوا : نعم ، قال: لا تفعلوا إلا بفاتحة الكتاب)) فهذا في صلاة جهرية وهو نص صريح صحيح .
وقال بعض العلماء : تستثنى الجهرية لقوله عليه الصلاة والسلام :(( من كان له إمام فقراءة الإمام له قراءة)) وبعضهم يرى أن هذا الحديث ناسخ للحديث الذي قبله ولكن القول بالنسخ ضعيف ؛ لأنه لا يثبت النسخ بالاحتمال لأنه ليس عندنا دليل أن هذا المتأخر وهذا المتقدم ولا يمكن أن نثبت النسخ بالاحتمال.(62/25)
ثانياً أن قولهم :"من كان له إمام فقراءة الإمام له قراءة " هناك الفاتحة وهناك قراءة ما بعد الفاتحة فقوله قراءة الإمام له قراءة ، هذا الحديث متردد بين الفاتحة وبين غير الفاتحة فلما جاء حديث صلاة الفجر فسره ووضحه وبينه فقال:(( لا تفعلوا)) فقال:(( إنكم لتقرؤون أمام أئمتكم))،((لا تفعلوا إلا بفاتحة الكتاب)) فبين الإجمال في هذا الحديث.
ثالثاً : أن جمهور المحدثين على ضعفه ، ولكن على القول بتحسينه فإنه لا يرقى إلى معارضة الصحيح الصريح الذي يدل على لزوم الفاتحة ، خاصة وأن رسول الله صلى الله عليه وسلم نص على ذلك في الجهرية ، ومن هنا نقول أنه يلزمك أن تقرأ الفاتحة ، ولما سئل أبو هريرة رضي الله عنه وأرضاه ، وقال له الراوي -كما قال البيهقي بسند صحيح عن أبي هريرة رضي الله عنه في جزء القراءة خلف الإمام -قال له: إني لا أستطيع يعني إن الإمام يبادرني ويقرأ ، قال له : إقرأها ولو في نفسك ، قال له : إنَّ الإمام يقرأ ، قال : اقرأها ولو قرأ ، اقرأها مع قراءته ، وهذا فقه صحيح وذلك أن الركن المتصل مقدم على الواجب المنفصل وذلك أن الواجبات منها ما يتصل بالمكلف ومنها ما يكون مشتركاً بينه وبين غيره فلما كان الواجب والركن متصلاً بالمكلف لصحة صلاته :(( لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب)) :(( أيما صلاة لا يقرأ فيها بفاتحة الكتاب فهي خداج)) فقد تعلق الحكم بالنسبة لك في عين الفاتحة فأصبحت ركناً بالنسبة للمأموم وحينئذ تكون القراءة منفصلة عنه ، والاستماع ليس بواجب عليه اشتغاله بما هو آكد وأوجب وهو قراءته للفاتحة التي هي ركن الصلاة ، ومن هنا تقرأ ولو قرأ الإمام فإن أعطاك وقتاً للقراءة فالحمد لله وإن لم يعطك فلا حرج عليك أن تقرأ ، وذكر الإمام ابن القيم رحمه الله :" أن من هدي النبي صلى الله عليه وسلم في إمامته أنه كان يسكت بعد الفاتحة حتى يمكن المأموم من قراءة الفاتحة " وهذا هو الهدي الذي(62/26)
تطمئن إليه النفس ، والله تعالى أعلم .
السؤال السادس:
ما حكم الشراء من المحلات التي تحدد الأسعار كقولهم كل شيء بعشرة ونحو ذلك ..؟؟
الجواب:
بسم الله الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه أما بعد:
فإذا عرضت السلع بقيمة واحدة فقيل كل شيء تشتريه من هذا المحل فبعشرة أو بريال أو بريالين فإنه لا بأس بذلك ولا حرج فيه ، وذلك أنه يبيع شيئاً معيناً بقيمة معينة ولا جهالة ولا غرر ، فيستوي أن تأخذ القليل أو الكثير ما دام أنه حدد السعر وحدد الشيء الذي تريد أن تأخذه منه ، فإنَّه يعتبر البيع صحيحاً ولا بأس في ذلك ولا حرج منه ، والله تعالى أعلم .
السؤال السابع:
ما الفرق بين الواجب والفرض ..؟؟
الجواب:
الواجب والفرض لا فرق بينهما في مذهب جمهور العلماء يقول هذا واجب وهذا فرض ، ولكنهم في بعض الأحيان قد يجعل بعض العلماء الفرض للأركان ونحوها ، ويجعل الواجب دون ذلك كما في الصلوات يجعلون الفروض والأركان الأركان بمعنى الفروض ، والفروض بمعنى الأركان ، ويقولون هذا من فروض الصلاة أعني الركوع والسجود وتبطل الصلاة بتركه ، ويجعلون الواجب لما دون ذلك ، لكن مذهب الجمهور على عدم التفريق بين الفرض والواجب .(62/27)
وأما بالنسبة للحنفية رحمهم الله فيفرقون بين الفروض والواجبات فيجعلون الفرض ما ثبت بدليل قطعي ، والواجب ما ثبت بدليل ظني فيجعلون ما جاء من الواجبات في الأدلة القطعية في الكتاب والسنة يعنى ما بلغ مبلغ التواتر ، وكانت دلالته غير محتملة ، وهو النص الصريح فإنه يعتبرونه فرضاً ،وأما ما دون ذلك يعتبرونه واجباً ، الوتر يقولون هو واجب ولكن صلاة الصبح يعتبرونها فرضاً لأنها ثابتة بدليل شرعي ، ولكن الصحيح مذهب الجمهور ، أنه لا فرق بين الفرض والواجب ، وقد جاء في حديث أبي بكر-- رضي الله عنه -وأرضاه- في كتاب الصدقات للنبي صلى الله عليه وسلم كتاب الصدقة الواجبة فسمى رسول الله صلى الله عليه وسلم الزكاة وهي فريضة سماها صدقة واجبة ، فدل هذا على إطلاق الواجب على الفرض وأنه لا بأس بإطلاقها ، والخلاف بين العلماء خلاف لفظي فيعتبرون أن الكل متفقون على النتيجة ومن هنا يقولون إن النتيجة واحدة ؛ ولكن الخلاف خلاف لفظي وليس عليه كبير فائدة من ناحية الاختلاف بين الجمهور والحنفية رحمهم الله ،والله أعلم .
السؤال الثامن :
هل من كلمة توجيهية لمهمة التدريس وكيفية أداء هذه الرسالة لمعلم تم تعيينه قريباً ..؟؟
الجواب:(62/28)
التعليم أمانة ومسئولية فلا شك أنه رحمة من الله عز وجل فإن الله عز وجل قد يجعل تعليم الإنسان للناس سبباً في دخوله الجنة ، ولا شك في ذلك أن من أخلص لله عز وجل في تعليمه وأراد ما عند الله عز وجل في قوله وفعله وهديه وسمته ودله ، وهو يرشد أبناء المسلمين ويدلهم على ما فيه صلاح دينهم ودنياهم وآخرتهم فلا شك أن هذا ينتهي به إلى الجنة ؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال في الحديث الصحيح:(( من سلك طريقاً يلتمس فيه علماً سهل الله له به طريقاً إلى الجنة)) فكيف إذا كان هو المعلم ، وكان هو الدال على الخير ، وقد أكد النبي صلى الله عليه وسلم فضل العلم وأنه ينتهي بصاحبه إلى الجنة في قوله في الحديث الصحيح:(( العلماء ورثة الأنبياء)) ومن ورث الخير كان من أهله وقال جمع من العلماء في قوله-تعالى-:{فَأُوْلَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ}(1) قالوا الصديقون هم العلماء العاملون ، فكل من تقلد العلم وكان من أهله وتحقق فيه شرط التعليم وعين من أجل أن يعلم أبناء المسلمين واتقى الله فيهم فعلمهم العلم النافع ودلهم على ما فيه صلاح دينهم ودنياهم وآخرتهم ، وكان هدفه وجه الله عز وجل ومرضاة الله سبحانه وتعالى فإنه حري بكل خير وحري بكل رحمة حتى أن الله سبحانه وتعالى يعجل له في الدنيا حب الناس ودعائهم والذكر الجميل والثناء عليه فهذا من عاجل ما يجعله الله لمن أخلص في تعليمه ، وإذا كان الإنسان قد ابتلي بوظيفة التعليم وعين معلماً سواء كان معلماً لعلوم دينية أو معلماً لعلوم دنيوية فعليه أولاً أن يريد وجه الله عز وجل خاصة في العلوم الدينية وأن يقصد ما عند الله -سبحانه- قال-تعالى-:{ قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَمَا أَنَا مِنْ الْمُتَكَلِّفِينَ}(2) فالإنسان إذا
__________
(1) / النساء ، آية : 69.
(2) / ص ، آية :86 .(62/29)
أراد وجه الله عز وجل بتعليمه فإن الله عز وجل يتولى أجره ، ومن كان أجره على الله عظم له الأجر وعظمت له المثوبة وأوصي بأمور :
أولها : أن يهيئ المعلم نفسه لرسالة التعليم فإذا كان في علم أو فن معين عليه أن يكب على كتبه وأن يرجع إلى أهله الذين عرفوا بالتمكن فيه والتبحر فيه فينهل من علومهم ويأخذ من معارفهم ويستفيد مما هم عليه من الضبط والإتقان ، فإن ضبط الأمور وإتقانها والقيام بحقوقها من المعالي التي تسمو إليها النفوس الأبية الصالحة الموفقة ، فإذا قلد الإنسان مهمة التعليم وكلف بالتعليم فعليه أن يتقن رسالة العلم وأن يأخذ هذا العلم من أهله وممن عرف بضبطه وإتقانه والتبرز فيه وألا يرضى بمن دون ، فإذا سمعت أن هناك من هو أضبط وأحفظ انتقلت إليه وحرصت على أخذ العلم على يديه ، وألا يغتر المعلم بمعلوماته القديمة ، بل عليه أن يجددها وأن يراجع ما كان عليه أيام دراسته ، ويرجع إلى ما دونته يداه وكتبته يداه فإن هذا أدعى للضبط وأن الشيء إذا كتب أدعى أن يحفظ إذا رجع إليه الإنسان أولاً الإتقان ولا يجوز للمعلم أن يعلم الناس وهو على جهل لأن من كان على ذلك ضل وأضل قال صلى الله عليه وسلم :((حتى إذا لم يبق عالم اتخذ الناس رؤوساً جهالاً فسئلوا فأفتوا بغير علم فضلوا وأضلوا)) .
فإذا ضبط الإنسان العلم عليه بعد ذلك أن يحتقر نفسه وأن لا يأخذه الغرور ، فإن الإنسان إذا رزق ضبط العلم يخُشى عليه الغرور ولذلك قال-تعالى-:{ فَرِحُوا بِمَا عِنْدَهُمْ مِنْ الْعِلْمِ وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُون}(1) ففرحوا بما عندهم من العلم ، وقال الله عن قارون:{ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِندِي}(2) فخسف الله به الأرض فهو يتزلزل فيها إلى يوم القيامة فالذي يغتر بعلمه فإن الله عز وجل يشقيه يرديه.
__________
(1) / غافر ، آية : 82 .
(2) / القصص ، آية : 78 .(62/30)
وأما الأمر الثالث : عليه أن يعلم أن الطلاب كما هم محتاجون إلى ضبط العلم محتاجون إلى أدب العالم ووقار العالم وسمت العالم وصمته ودله الذي يذكر ويعلم الناس الخير- صلوات الله وسلامه عليه- ، فإن العلم رحمة والرحمة إذا سكنت في القلب سكنت في الجوارح وتأثرت جوارح الإنسان بها ، فمن كان من أهل العلم أو من طلاب العلم عليه أن يظهر من سمته ودله وهديه وحالة ما يدل على شرف ما يحمله ، فيبتعد عن أحوال أهل الضياع ومجون أهل المجون وسقط أهل البطالة ، يترفع عن ذلك كله إلى معالي الأمور في مشيه وفي كلامه وفي حديثه وفي مجلسه ، وعلى المدرسين والمعلمين أن يعوا أن طلابهم يرمقونهم بالعين ويلاحظون أقوالهم وأفعالهم ويتأثرون بجميع ذلك ، ولذلك قال ابن عباس-رضي الله عنهما-:"خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الصلاة خاشعاً متخشعاً متذللاً متبذلاً " وهذا يدل على أنه ينبغي للإنسان أن يجعل بين أفعاله مناسبة لما يقول فكما أنه يقول الخير يجب أن تكون أفعاله داله على الخير الذي يحمله ، إنه من الرزية أن يكون المعلم بين طلابه أو أمام المعلمين أو في مدرسته أو في حيه ساقطاً من أنظار الناس في كلامه وفي طريقة تعامله مع الناس لا يفرق بينه وبين العوام يخالطهم في الأمور التي لا ينبغي لأهل العلم ولا لطلاب العلم ولا لمن يحمل رسالة العلم أن يتلبس بها ، فينبغي على الإنسان أن يترفع عن هذه الأمور وأن يجعل من سمته ما يحبب في علمه والأخذ عنه ، وقالت أم مالك -رحمها الله- لمالك لما بعثته يطلب العلم :" يا بني اذهب إلى ربيعة- وكان ربيعة إماماً في العلم في ذلك الزمان وشيخ المدينة الذي لا يفتى وهو فيها- قالت له اذهب إلى ربيعة يا بني اذهب إلى ربيعه وخذ من سنته وهديه وأدبه ودله قبل أن تأخذ من علمه" خذ من الوقار وخذ من الأدب وخذ من الحلم والتواضع وتوطئة الكنف الخلق الحميد قبل أن تأخذ من علمه ، وسبق أعداء الإسلام كثيراً من المسلمين(62/31)
بالأخلاق والتواضع ونحوها من الأمور المحمودة التي جبلت الفطرة على حبها فأهل الإسلام أحق ، وأهل العلم أحق وعليهم مسئولية أعظم ، فعلى المعلم أن يتقى الله في سمته ودله .
وكذلك أيضاً مما ينبغي على المعلم أن يتقي الله في أبناء المسلمين فإذا جلس أمام أبناء المسلمين يحرص على نفعهم ودلالتهم على الخير ويستلزم هذا ان يبذل كل الأسباب لتعليمهم وإرشادهم وتوضيح الأمور وتبسيطها ، وأن لا يشق عليهم في تعليمه ولا في أسلوبه ولا في طريقته في تعامله معهم ، وعليه أن لا يكون قاسياً فإن رسول الأمة صلى الله عليه وسلم ملأ حب الصحابة بحبه لدينه ، فإن معاوية بن الحكم رضي الله عنه لمّا تكلم في الصلاة ورمقه الصحابة فقال:" وثكل أماه فلما سلم قال رضي الله عنه وأرضاه كما في الصحيح "فبأبي وأمي ما رأيت معلماً كرسول الله صلى الله عليه وسلم فبأبي وأمي ما رأيت معلماً كرسول الله صلى الله عليه وسلم والله ما كهرني ولا شتمني "ولكن قال:(( من الذي قال كذا وكذا .. آنفاً؟؟ فقالت:أنا. قال: إن هذه الصلاة لا يصلح فيها شيء من كلام الناس ..)) الحديث فوصى رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمحبة وباللين وبالتلطف ، هناك مواضع يستلزم فيها الأمر الشدة يشد الإنسان ولكن بقدر وهناك مواضع يشملهم فيها بعطفه وحنانه ورحمته وحلمه فإن القلوب مجبولة على حب الإنسان ، والطلاب إذا رأوا من المعلمين التواضع والمحبة والألف فإن هذا يزيد من حب العلم والإقبال عليه ، وإذا كانت القسوة تأتي بالشيء الواحد فإن اللين يأتي بأشياء وإذا كانت القسوة تصلح في جانب فإن اللين يصلح في جوانب ، ولذلك جبل الله نبيه صلى الله عليه وسلم على الرفق .. فما خيّر بين أمرين إلا اختار أيسرهما -صلوات الله وسلامه عليه إلى يوم الدين - .(62/32)
وعلى المعلم كذلك أن يحرص على أمانة العلم في الحفظ على وقت الدرس فلا يضيع وقت الدرس في الأمور التافهة والأمور الخارجة عن التعليم ؛ لأن التعليم أمانة خاصة إذا كانت هناك أجرة وله فرض بائتمان المسلمين فإنه يجب عليه أن يستغل جميع الوقت في الفائدة وفيما خصص له هذا الوقت من التعليم والتربية والتوجيه والإرشاد -نسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يجعلنا هداةً مهتدين غير ضالين ولا مضلين-.
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين .(62/33)
بسم الله الرحمن الرحيم
قال المصنف رحمه الله : بَاب مَا جَاءَ فِي مُوَاكَلَةِ الْحَائِضِ وَسُؤْرِهَا
حَدَّثَنَا عَبَّاسٌ الْعَنْبَرِيُّ وَمُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الأَعْلَى قَالاَ حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مَهْدِيٍّ حَدَّثَنَا مُعَاوِيَةُ بْنُ صَالِحٍ عَنِ الْعَلاَءِ بْنِ الْحَارِثِ عَنْ حَرَامِ بْنِ مُعَاوِيَةَ عَنْ عَمِّهِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَعْدٍ قَالَ سَأَلْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم عَنْ مُوَاكَلَةِ الْحَائِضِ فَقَالَ:(( وَاكِلْهَا )).
قَالَ رحمه الله : وَفِي الْبَاب عَنْ عَائِشَةَ وَأَنَسٍ .
قَالَ أَبو عِيسَى رحمه الله : حَدِيثُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَعْدٍ حَدِيثٌ حَسَنٌ غَرِيبٌ وَهُوَ قَوْلُ عَامَّةِ أَهْلِ الْعِلْمِ لَمْ يَرَوْا بِمُوَاكَلَةِ الْحَائِضِ بَأْسًا وَاخْتَلَفُوا فِي فَضْلِ وَضُوئِهَا فَرَخَّصَ فِي ذَلِكَ بَعْضُهُمْ وَكَرِهَ بَعْضُهُمْ فَضْلَ طَهُورِهَا .
الشرح :
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين أمابعد:(63/1)
فقد ذكر المصنف رحمه الله حديث عبدالله بن سعد الأنصاري-- رضي الله عنه - وأرضاه-وفيه أنه سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن مؤاكلة الحائض فقال:(( آكلها )) هذا الحديث فيه دليل على مشروعية مؤاكلة الحائض ، وكذلك يدل على مشروعية أن يشرب معها وقد جاء حديث أم المؤمنين عائشة -رضي الله عنها وأرضاها- في الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يفعل ذلك فقد ثبت عنها أنه كان يؤتى إليها بالشراب فتشرب فيأخذه النبي صلى الله عليه وسلم فيضع فمه حيث وضعت فمها ويشرب ثم تأخذ العرق من اللحم فتنهشه فيأخذه صلى الله عليه وسلم ويضع فمه حيث وضعت فمها ، وهذا يدل دلالة واضحة على اجتماع السنة القولية والفعلية على جواز مؤاكلة الحائض وكذلك الشرب معها ، وإنما ترجم المصنف رحمه الله بهذه الترجمة لأنه كان من عادة أهل الكتاب واليهود خاصة أنه إذا حاضت المرأة لم يؤاكلوها ولم يجالسوها ولم يجتمعوا معها ، ولذلك خالف النبي صلى الله عليه وسلم ماكانوا عليه فآكلها صلى الله عليه وسلم وشرب من فضلتها وسؤرها ، الأمر الذي يدل على سماحة هذا الدين وأن الله سبحانه وتعالى وضع به عن العباد آصار الجاهلية ، وقدكان الناس في جاهليتهم الجهلاء وضلالتهم العمياء يحتقرون أمر النساء فكانوا يرون المرأة كأنها من سقط المتاع ولا يلتفتون إليها بقدر ، ولذلك جاء الإسلام فرفع من شأنها وحفظ لها قدرها ولكن بمنهج الوسطية الذي ابتعد به عن غلو الغالين وإجحاف المنتقصين جاء الإسلام بالسماحة والوسطية في أمر المرأة وأمر النساء فلم يبالغ بها إلى حد العبودية كما يفعله أهل الإباحية ، وكذلك لم يحطّ من قدرها ولم ينقصها حقها كما يفعل أهل الجاهلية ديناً قِيَماً لا إفراط فيه ولاتفريط ، فالحيض عذر ليس بيد المرأة وأمر لاتملكه المرأة ولاينبغي أن ينظر إليه كذنب تنتقص بسببه وتزدرى بوجوده وهذا يدل على أن الأصل فيها أنها كسائر النساء وتعامل(63/2)
كما تعامل المرأة سواء بسواء ، وإنما هو ابتلاء ابتلى الله به بنات آدم قال صلى الله عليه وسلم كما في الصحيح لما حاضت أم المؤمنين عائشة -رضي الله عنها وأرضاها-معه في حجة الوادع فانسلت من الفراش قال صلى الله عليه وسلم :(( مالكِ أنفستي ؟ ذاك شيء كتبه الله على بنات آدم اصنعي مايصنع الحاج غير ألا تطوفي بالبيت)) فهون عليها الأمر وبين لها أنه شيء كتبه الله وأنه شيء ليس بيدها ، ومن هنا نظر إليها أنها كالمرأة التي لم تحض سواء بسواء ، إلا في الأمور التعبدية التي اختصت بمنع الحائض من فعل عبادة معينة أو التلبس بها كالطواف بالبيت وقراءة القرآن ونحو ذلك من العبادات التي لاتتلبس بها المرأة في حال حيضها.
وفي قوله عليه الصلاة والسلام :(( آكلها)) :دليل علىمشروعية مؤاكلتها وهو أمر والأمر هنا مصروف عن ظاهره المقتضي للوجوب ، فليس مراده عليه الصلاة والسلام أن يأمر أمر إلزام وإيجاب وإنما مراده أن يبين الإباحة وأنه لاحرج ولاحرمة في مؤاكلة الحائض وكذلك الشرب من فضلتها .(63/3)
وذكر الإمام الترمذي رحمه الله أن من أهل العلم قال:"إنه قول عامة الفقهاء أوعامة أهل العلم" وهذه الكلمة أعني قوله "وهو قول عامة أهل العلم" يطلقها العلماء بأحوال مختلفة فإذا قالوا وهو قول عامة أهل العلم يحكى هذا اللفظ ويراد به الإجماع ، وحينئذ يكون حجة شرعية ومستنداً في المسائل الخلافية ، فإذا قيل هو قول عامة العلماء وقول عامة أهل العلم فإنه قويٌ في الدلالة على الإجماع ؛ لأنه إذا اجتمع أهل العلم على قول وحكم في مسألة فإنه لايجوز مخالفتهم ؛ لأن هذا من اتباع غير سبيل المؤمنين ، وقد توعد الله عز وجل من خرج على سبيل المؤمنين أن يوله ماتولى وأن يصله جهنم وساءت مصيراً ، ومن هنا قال العلماء إنه إذا كانت الكلمة لعامة مجتهدي الأمة في عصر من العصور أو زمان من الأزمنة فأطبقوا على تحريم أو وجوب أو إباحة أو نبذ أو كراهة فالقول قولهم ولايجوز الشذوذ والخروج عنهم .
وقد يطلق العلماء هذه الكلمة ويريدون بها الفقهاء المشهورين كقولهم وهو قول عامة الفقهاء أو العلماء ويذكر المشهورون منهم ويراد من ذلك قول مشاهير أهل العلم ، وحينئذٍ يكون كما يعبر البعض بقول الجماهير ولايستلزم أنه إجماع من كل وجه وإنما هو قريب من الإجماع ، ولذلك يقول العلماء قول الجماهير قريب من الإجماع وليس بإجماع ، فإذا قيل هذا القول قال به جماهير العلماء ليس كقولنا قال به جمهور العلماء فإن قولهم جماهير قد يقصدون بهم الأئمة الأربعة وغيرهم ويكون الخلاف للقلة القليلة ، ولكن إذا قالوا الجمهور يكون الخلاف داخل الأربعة فيكون الثلاثة على قول ويكون واحداً من الأربعة قد انفرد عن سائرهم فكان القول للجمهور في مقابل هذا القول الذي انفرد به قائله.(63/4)
وقوله"بكراهة الوضوء من فضلة المرأة": تقدمت هذه المسألة معنا وبينا حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم في نهيه عن الاغتسال بفضل ما اغتسلت به المرأة وبينا كلام العلماء وأقوالهم في هذه المسألة والراجح من تلك الأقوال.
قال المصنف رحمه الله : بَاب مَا جَاءَ فِي الحَائِضِ تَتَنَاوَلُ الشَّيْءَ مِنَ الْمَسْجِدِ .
حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ حَدَّثَنَا عَبِيدَةُ بْنُ حُمَيْدٍ عَنِ الأَعْمَشِ عَنْ ثابِتِ بْنِ عُبَيْدٍ عَنِ الْقَاسِمِ بْنِ مُحَمَّدٍ قَالَ قَالَتْ لِي عَائِشَةُ قَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم :" نَاوِلِينِي الْخُمْرَةَ مِنَ الْمَسْجِدِ" قَالَتْ قُلْتُ إِنِّي حَائِضٌ قَالَ:(( إِنَّ حَيْضَتَكِ لَيْسَتْ فِي يَدِكِ )) .
قَالَ رحمه الله : وَفِي الْبَاب عَنْ ابْنِ عُمَرَ وَأَبِي هُرَيْرَةَ .
قَالَ أَبو عِيسَى رحمه الله : حَدِيثُ عَائِشَةَ حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ وَهُوَ قَوْلُ عَامَّةِ أَهْلِ الْعِلْمِ لاَ نَعْلَمُ بَيْنَهُمُ اخْتِلاَفاً فِي ذَلِكَ بِأَنْ لاَ بَأْسَ أَنْ تَتَنَاوَلَ الْحَائِضُ شَيْئًا مِنَ الْمَسْجِدِ *
الشرح:
هذه الترجمة "باب ماجاء في الحائض تتناول الشيء من المسجد " قصد المصنف رحمه الله أن يبين بها جواز إدخال الحائض ليدها ورجلها دون كلها ، وذلك أن هذا الحديث الصحيح دل على أن الأصل في الحائض أنها لاتدخل المسجد وفيه جملة من المسائل والأحكام .
قوله عليه الصلاة والسلام : (( ناوليني الخمرة من المسجد)): الخمرة مأخوذ من مادة الخمر ، ومادة خمر أصلها للستر والتغطية يقال خمّر الإناء إذا ستره وغطاه ومنه قوله عليه الصلاة والسلام :((خمروا آنيتكم -أي استروها- فإن في السنة ليلة فيها ريح لاتدع إناء مكشوفاً إلا أصابته )).(63/5)
فقوله ((خمروا)) : أي غطوا ومنه سمي الخمار خماراً لأنه يغطي المرأة أو يغطي وجه المرأة ، وكذلك أيضاً سميت الخمرة خمرة لأنها تغطي العقل وتستره-والعياذبالله-وقوله:(( ناوليني الخمرة)) قيل هي القطعة من القماش وكانت تجعل للسجود عليها وهذا غالب مايكون إذا آذى حصى المسجد الساجد من طول سجوده ، أو أضر به فإنه قد يلتجئ لوضع الحائل كسجادة أو نحوها بينه وبين الأرض ، فيصلي على حصير أو يصلي على مفرشة أو نحو ذلك ، وفيه دليل على مشروعية الصلاة على الفراش في المسجد وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه صلى على الحائل بينه وبين الأرض ففي الصحيحين من حديث أنس بن مالك- - رضي الله عنه - وأرضاه - أن النبي صلى الله عليه وسلم أتى أم حرام بنت ملحان ثم قال :(( قوموا فلأ صل لكم )) قال أنس رضي الله عنه "فقمت إلى حصير قد اسود من طول مالبس فنضحته بماء "فقام عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم الحديث .(63/6)
وقوله (( ناوليني الخمرة)) : فيه دليل على مشروعية خدمة المرأة لزوجها وهذا من المعاشرة بالمعروف ، فإن الله سبحانه وتعالى جبل النساء على أمور يقمن بها خدمة لأزواجهن وجبل الرجال على أمور يقومون بها خدمة لأزواجهم ، ولايمكن أن تستقيم الحياة الزوجية إلا إذا أحسنت المرأة التبعل لزوجها وشعرت بكونه راعيا لبيتها وقائماً على أمرها وأنه له عليها حقوقا ينبغي عليها أن تؤديها على أتم وجوهها وأكملها ، ولذلك خدمت أمهات المؤمنين رسول الأمة صلى الله عليه وسلم وهن قدوة لسائر نساء المؤمنين فهن أمهات المؤمنين ، ولذلك خليق بالمؤمنة أن تأتسي بهن وأن لاتشعر بالغضاضة ولابالنقص لخدمة الزوج والعشير ، وكونهن يخدمن رسول الله صلى الله عليه وسلم يدل على مشروعية خدمة الزوجة لزوجها ، وقد ثبتت بذلك النصوص العديدة ولكن الأمر عند العلماء رحمهم الله مرده إلى العرف فالعرف إذا جرى لخدمة المرأة وقيامها برعاية بيتها وتنظيفه ونحو ذلك ورعاية أولادها وتنظيفهم وغير ذلك من الأمور التي يحتاج إليها لصلاح البيت ، بيت الزوجية فإنها تقوم بذلك قال الله عز وجل :{وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ}(1) فإن من حكمة محبة الله سبحانه وتعالى أنه ما من بيت ترى فيه المرأة قائمة بخدمته ورعايته وأحسنت التبعل فيه لزوجها وأولادها وأطفالها إلا وجدت السعادة والسكينة والراحة .(63/7)
ثم إن الله سبحانه وتعالى يضع البركة في المرأة الصالحة التي تشعر بحق زوجها عليها وتتواضع وتتذل فالتذلل في الحدود الشرعية من قيام بالإحسان إليه وتشعر أن تنظيف هذا البيت قربة وأن قيامها بإدخال السرور على أولادها وزوجها بحسن النظافة وحسن الرعاية وغير ذلك من الأمور التي تكون فيها في شأن الخدمة فإن الله- - سبحانه وتعالى -- يعظم لها الأجر ويعظم لها المثوبة ، ولذلك تشعر بالسعادة والطمأنينة ولا تغيب عليها شمس ذلك اليوم إلا شعرت أنها قامت بمسئولياتها وقامت برعايتها ، وإذا فعلت ذلك شعرت بالإحسان وشعرت بعظيم المثوبة وأن الله لم يضيع لها أجرها ولن يضيع لها سعيها ، والعكس بالعكس فإذا وجدت المرأة نافرة عن بيت الزوجية مترفعة عن بعلها مسترجلة على زوجها ، تظن وتشعر أن القيام بحقوق البيت وأن القيام بتنظيف البيت نقصاً من كرامتها وإذلالاً لأنوثتها ونحو ذلك من الأمور التي تتمرد بها المرأة على زوجها ، وجدت الضيق ووجدت الهم والغم يلازمها ولايفارقها فمهما اغدقت عليها من نعم الدنيا فإنها تشعر بالضيق وتشعر بالألم وتشعر بالحسرة ؛ لأن الله سبحانه وتعالى محق لها البركة من ذلك البيت الذي تمردت فيه على الفطرة وخرجت فيه على المنهج السوي ، ومن نظر ذلك وجده جلياً فقل أن يخرج الإنسان إلى البيئة التي يجدها على فطرتها ويجد المرأة فيها على منهجها السوي الذي جبلت فيه على حب الزوج والإحسان إلى الزوج وحسن التبعل والخدمة إلاوجدت الأمور ووجدت السعادة ووجدت الطمأنينة ووجدت الراحة ، وقل أن تسمع بمشكلة أو ببلية في ذلك البيت لأن الله يرفع بالإحسان عن أهله والعكس بالعكس ، فعلى المرأة المسلمه أن تشعر أن خدمة بيت الزوجية وأن الرعاية لحقوق الزوج وحقوق الأولاد لاينقص من كرامتها وأن الله يأجرها ، فكما تؤجر على ركوعها وسجودها وذكرها لربها تؤجر على إدخال السرور على بعلها ، وتؤجر على قيامها على أولادها وأطفالها وأنها(63/8)
إذا فعلت ذلك أن الله سبحانه وتعالى لايضيع لها أجرها .
يقول صلى الله عليه وسلم ((ناوليني الخمره)) : وقد كان بالإمكان أن يقوم بنفسه ولكنه أمرهاصلوات الله وسلامه عليهومن هنا قامت أم المؤمنين-رضي الله عنها- بالاعتذار عن القيام بهذا فقالت لرسول الله صلى الله عليه وسلم "إني حائض" أي كيف أناولك الخمرة فأدخل المسجد أو أتناولها بيدي من المسجد و أعطيكها فقال صلى الله عليه وسلم :(( إن حيضتك ليست في يدك)) قولها "إني حائض " فيه دليل على أن الأصل في المرأة الحائض أنها لاتدخل المسجد ؛ لأنه لم يكن ذلك معهوداً ومعروفاً على زمان النبي صلى الله عليه وسلم لما اعتذرت-رضي الله عنها وأرضاها- بهذا العذر ، ولذلك قالت "إني حائض " لعلمها أنه لايجوز للمرأة الحائض أن تدخل المسجد وقد جاء هذا صريحاً في حديث الصحيحين أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لأم المؤمنين عائشة : (( إصنعي مايصنع الحاج غير ألا تطوفي بالبيت )) فأجاز لها السعي ؛ لأن المسعى كان خارج البيت ومنعها من الطواف فاشتمل منعه إياها من الطواف على المسألتين :
المسألة الأولى : منع الحائض من الدخول لها من المسجد لأنها مظنة أن تلوثه وتنجسه بدم الحيض .
والمسألة الثانية : منعها كذلك من الطواف بالبيت .(63/9)
فلو تلجمت أو تحفظت فيبقى المعنى التعبدي فإن منعها من دخول المسجد فيه معنى تعبدي بدليل أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لو كان التحفظ والعلة هي خوف تنجيس المسجد لقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم تلجمي وادخلي ، أو قال إذا كان الدم ليس معك فادخلي أو احفظي المسجد من دمك وغير ذلك من الأسباب التي تتحفظ بها ثم ، إنها -رضي الله عنها- في مناولتها للخمرة لاتلبث إلا يسيراً وهذا يؤكد أنها لاتمر حتى بالمسجد ، لأن الدخول لأخذ الخمرة أمر يسير ولايأخذ من الوقت الشئ الكثير فدل على منع الحائض من المرور والمكث في المسجد ، استثنى بعض العلماء رحمهم الله في مسألة المنع من دخول المسجد في الحدث الأكبر الجنب عند العبور -وسيأتي إن شاء الله بيان هذه المسألة عند مناسبتها-.
فالشاهد أن أم المؤمنين-رضي الله عنها- اعتذرت ثم جاء اعتذارها بقولها" إني حائض" ، وفي هذه الجملة دليل على أنه ينبغي لمن يعتذر لعظيم الحق أن يحسن في لفظه ، فإن أم المؤمنين -رضي الله عنها- اعتذرت بوجود الحيض بها فذكرت العذر مباشرة وقد كان بالإمكان أن تقول لا أستطيع ، وبالإمكان أن تقول لا أناولك ثم تذكر العذر ؛ ولكن ذكرت-رضي الله عنها-عذرها مباشرة تأدباً مع رسول الله صلى الله عليه وسلم .(63/10)
ومن هنا كان بعض العلماء –رحمهم الله- عند شرحه لهذا الحديث يقول إن المرأة قد يسألها زوجها الحاجة وعندها العذر فتجيبه بطريقة تقصد الإساءة ، وكذلك الاعتراض عليه فإنها قد تقول له إذا سألها الحاجة وعندها عذر تقول لا أفعل فإذا قالت لا أفعل فإن امتناعها من الفعل يحتمل أمرين : ألا تفعل لعذر أو ألاتفعل لتمرد عليه وعندئذ إذٍ يغضب ويثور فإذا رأته قد غضب وثار أرادت أن تشعره بأنه مخطىء فقالت له:" إني حائض" أو إن عندي عذر كذا وكذا ، وهذا كما يقول هذا العالم رحمه الله يقول هذا من سوء العشرة ومن أسوأ مايكون من المرأة أن تتحيل الأساليب أو الكلمات التي تجرح فيها زوجها أو أن تنتقصه في بعولته ، وكذلك قيامه عليها فهي لاتعتذر عذراً واضحاً وإنما تنتظر من زوجها أن يخطىء حتى تجعل من عذرها وسيلة لأذلاه وانتقاصه منها ، وقوله عليه الصلاة والسلام في جوابها-رضي الله عنها-:(( إن حيضتك ليست في يدك)) :أي إذا ناولتيني فإن الذي يدخل إنما هو اليد لأن المناولة تكون بالأيدي .
وقوله : (( ليست في يدك)) : فيه دليل على مسائل :
المسألة الأولى : أن دخول جزء الحائض ليس كدخول كلها ومن هنا يجوز لها أن تدخل رجلها أو تدخل يدها ، فدخول الجزء ليس كدخول الكل فكأن الحظر للكل وليس للأجزاء .
المسألة الثانية : خص بعض العلماء هذا الجزء بغير الموضع الذي فيه الحيض .(63/11)
المسألة الثالثة : تفرع على هذا الحديث القاعدة :" أن الجزء لايأخذ حكم الكل "وهذه القاعدة يقصد منها العلماء أن الأفعال إذا ترتبت على الأجزاء لا يحكم على الكل بها ومن هنا قالوا: لوحلف وقال والله لاأدخل الدار فأدخل رجله أو أدخل يده لم يحنث ، وكذلك لو كان معتكفاً في المسجد فأخرج يده من المسجد أو أخرج رأسه أو أخرج رجله فإنه لايبطل اعتكافه ، وقد فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك حينما كان يدلي برأسه إلى أم المؤمنين-رضي الله عنها وأرضاها-فترجله وهو معتكف بالمسجد صلى الله عليه وسلم ، في مسألة الجزء لايأخذ حكم الكل يرد الاعتراض بأنه قد ينزل الجزء منزلة الكل ويسري الحكم الشرعي على الكل ليس من باب أن الجزء يأخذ حكم الكل ، ولكن من باب آخر فاعترض على هذه القاعدة بقول الرجل لامرأته يدك طالق أو رجلك طالق أو رأسك طالق فإنه حينئذ تطلق المرأة كلها ، مع أن الطلاق إنما تعلق باليد وتعلق بالرجل وهذا تعلق بالجزء وليس بتعلق للكل ، وأجيب عن هذا الاعتراض بأن سريان الطلاق لكل الجسم يعني هذه المسألة وهي مسألة إذا قال لامرأته يدك طالق أو رجلك طالق ذكر جزءاً من أجزائها تنقسم إلى قسمين :
القسم الأول : أن يذكر جزءاً متصلاً وهو الذي فيه حياة الروح كاليد والرجل والرأس والبطن والظهر والصدر والفرج ونحو ذلك من الأجزاء التي تأخذها الحياة فهذا هو محل الخلاف .
والقسم الثاني : أن يذكر أجزاء لاتحلها الحياة كأن يقول شعرك طالق ظفرك طالق فإن الشعر والظفر يعتبر في حكم المنفصل ؛ لأن الحياة في الشعر والحياة في العظم الذي هو الظفر كما بينا أكثر من مرة حياة نمو وليست يحياة روح ، فإذا قال لها شعرك طالق فإن الشعر قد يحلق وقد يقص وقد يزال فتعلق الطلاق به ليس بتعلق بالبدن كله ، فجمهور العلماء على أنه إذا قال شعرك طالق أو قال ظفرك طالق أنها لاتطلق .(63/12)
ولكن إذا قال يدك أو رجلك أو ذكر جزءاً من أجزائها التي تحل فيها الحياة فجمهور العلماء على أن الطلاق يسري لجميعها وحينئذ تطلق ، فقالوا إذا طلقناها بناءً على قوله يدك أو رجلك خالفنا هذه القاعدة التي معنا فنحن نقول إن الجزء لايأخذ حكم الكل ولما حكمتم بالطلاق جعلتم تطليق الجزء كتطليق الكل ، أجيب عن هذا الاعتراض بأن إلزام المطلق بالطلاق لجميع البدن لأن الطلاق نفسه لايتجزأ فهو من باب الطلاق لا من باب المحل ، فإذا قال لها يدك طالق فإن الطلاق لايتجزأ حيث يبقى في اليد وحدها وإنما ينتشر لأنه قد حكم بتطليق هذا العضو منها ولا يمكنها أن تكون زوجة إلا يدها ولا يمكنها أن تكون زوجة إلا رجلها ولا يمكنها أن تكون زوجة إلا رأسها ونحو ذلك ، فهو بهذا قد جزأه ما لايقبل التجزء وهو الطلاق ، ومن هنا لو قال لها أنت طالق نصف طلقة طلقت طلقة كاملة ، ولو قال لها أنت طالق طلقة ونصف فإنها تطلق طلقتين ، ولو قال لها أنت طالق طلقتين ونصف فإنها تطلق ثلاثاً على القو ل بأن الثلاث مجتمعة ثلاث كما هو قول الجماهير .
الشاهد أن تجزئة الطلاق أو أن الطلاق لايقبل التجزئة وقال بعض العلماء إن الله عز وجل حكم بأن الجزء يأخذ حكم الكل في مواضع والشرع حكم بأن الجزء لايأخذ حكم الكل في مواضع فنحن نجعل المواضع مختلفة بحسب اختلاف النصوص فلما قال الله عز وجل :{تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ}(1) وجعل التباب على جزء البدن والمقصود به كل البدن علمنا أنه في باب العقوبة يترتب الحكم على الكل ، والطلاق فيه عقوبة ومؤاخذة فإذا قال يدك طالق طلقت كلها ومن هنا قالوا إنه يعتبر مطلقاً لسائر البدن .(63/13)
وقوله عليه الصلاة والسلام :(( إن حيضتك ليست في يدك)) قال بعض العلماء قوله :(( إن حيضتك ليست في يدك)) المراد به إن الحيض ليس بيدك أن ترفعيه أو تزيليه فهو عذر وليس بيدك أن ترفعيه فادخلي المسجد وأتيني بالخمرة ، وهذا قول من يذهب إلى جواز دخول الحائض المسجد فيقولون إن المرأة الحائض الحيض ليس في يدها ، والنبي صلى الله عليه وسلم قصد من قوله إن حيضتك ليست في يدك أي ليس في يدك أن ترفعيها وهذا كما هو واضح يعتبر خلاف الظاهر لأن الألفاظ تأتي على حالتين :
الحالة الأولى : أن يكون لها الظاهر . والحالة الثانية : أن تأتي على غير الظاهر وهو المعنى المرجوح .
فأنت إذا قلت إن النبي صلى الله عليه وسلم قصد يدها حقيقة:(( إن حيضتك ليست في يدك)) فهذا هو حقيقة اللفظ وهو الظاهر فينبغي صرف الدليل إليه وينبغي جريان الدليل عليه ؛ لأن السياق والسباق محكم ، فهو قال ناوليني الخمرة والمناولة تكون باليد فلما قال: (( إن حيضتك ليسست في يدك)) قوي أن المراد بها اليد الحقيقة .
أما إذا قيل ليست في يدك بمعنى المجاز أي ليس في يدك أن ترفعيها أو أن تزيليها فهو عذر لاتتمكنين من إزالته فإنه تجوز وخلاف الظاهر ، والأصل حمل الألفاظ على حقائقها حتى يدل الدليل على صرفها عن ذلك الظاهر المعتبر .
????????? الأسئلة ?????????
السؤال الأول:
ما الفرق بين المسجد والمصلى وهل يجوز للحائض دخول المصلى ؟وهل المسعى في الوقت الحالي حكمه حكم المسجد..؟؟
الجواب:(63/14)
فالمصلى يختلف بحسب اختلاف الأحوال ، المصلى يختلف عن المسجد بأن المسجد غالباً مايكون محجراً ومحدداً وموقوفاً من أجل الصلاة فيه ، ولكن المصلى تكون الصلاة فيه عارضة إذ يمكن أن تأتي إلى أي موضع وتصلي فيه إلا المواضع التي نهي عن الصلاة فيها ، فالمصلى كأن تتخذ غرفة في البيت يصلي فيها الإنسان يسمى مصلى سواء صلى فيها كل يوم أوحتى لو صلى فيها في العام المرة والمرتين ، ولذلك سمي مصلى رسول الله صلى الله عليه وسلم للعيدين بالمصلى وكان يصلي فيه العيدين ، وكذلك يصلي فيه – عليه الصلاة والسلام -الاستسقاء ، فالمصلى تكون فيه الصلاة في بعض الأحوال ؛ لكن المسجد يحجر ويحدد و يوقف سواء صليت فيه الفروض كلها أو صلي فيها أكثر الفروض فلوكان في المكان في شركة أو مؤسسة بني مسجد والعمال والموظفون لايصلون إلا فرضين أو فرضاً واحداً فهو مسجد ويأخذ حكم المسجد ، ولذلك المساجد تأخذ حكم المساجد مع أنه لايصلى فيها بعض الصلوات فتجد المساجد التي لايصلى فيها الجمعة يفوتها فرض الجمعة في كل أسبوع ومع ذلك لاتخالف حكم المسجد ولايرتفع عنها حكم المسجد ، فالمسجد أقوى حالاً من المصلى ولذلك يجوز في المصلى أن تبني وأن تبيع وأن تتصرف فيه ؛ لأن اليد لاتخلو باتخاذه مصلى إلا إذا أوقف من أجل أن يصلي فيه ، فحيئنذ يكون مسجداً فيكون آخذاً حكم المسجد لايجوز بيعه ولايجوز أن يفعل به مالا يجوز فعله في المساجد ، وعلى هذا هل يجوز للحائض أن تدخل المصلى ؟
قال بعض العلماء : المصلى لاتدخله الحيَّض لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال في حديث العيد:(( أمرنا أن نخرج العواتق وذوات الخدور والحيض ، وقال أما الحيّض فليعتزلن المصلى وليشهدن الخير ودعوة المسلمين)) وقال:(( يعتزلن المصلى)) .(63/15)
وقال بعض العلماء : يجوز لهن دخول المصلى وإنما يحظر عليهن دخولهن المسجد ، وهذا أقوى وهو الذي تميل إليه النفس أخيراً ، وأما قوله:(( ليعتزلن المصلى)) فالرواية الصحيحة : (( ليعتزلن الصلاة)) وهي أقوى ومن هنا قوي القول بأن المصلى لايأخذ حكم المسجد من كل وجه ، وإن كان الأفضل والأروع لاعلى سبيل الإلزام أن المرأة تتقي الجلوس في المصلى وإذا جلست فإنها لاتأثم ولكنه من باب التورع والأتقى ، والله تعالى أعلم .
وهل يجوز دخول المسعى ..؟؟
المسعى نص رسول الله صلى الله عليه وسلم على منع عائشة -رضي الله عنها- حال حيضها من الطواف بالبيت ونص على جواز فعلها لسائر ما يكون في الحج ، ومن هنا أخذ الجماهير أنه يجوز للمرأة الحائض أن تسعى وعليه فإن المسعى من المسجد وفي الوقت الحاضر اتصل بناء المسعى بالمسجد ؛ لكن بقي الفاصل ولايدخل من المسعى إلى المسجد إلا من خلال فتحات مخصوصة والذي تطمئن إليه النفس أن المسعى لايعتبر من المسجد لايعتبر آخذاً حكم المسجد بمعنى أنه لاتمنع منه المرأة الحائض في زماننا في ماظهر ، والله تعالى أعلم .
السؤال الثاني :
لماذا يقرأ المحدث حدثاً أصغر القرآن ولايقرأه المحدث حدثاً أكبر مع أنهم جميعاً قد انتفت عنهم الطهارة ..؟؟
الجواب:
هناك فرق بين الحدث الأصغر والحدث الأكبر ، ولذلك الحدث الأصغر أصغر من الأكبر وكونه أصغر يقتضي اختلاف الأحكام واختلاف الموانع ، ولذلك تجد الجنب يمنع ممالا يمنع منه المحدث حدثاً أصغر ، وهذا السؤال راجع إلى الشرع فإن الشرع هو الذي فرق وإذا فرق الشرع فإنه لايسأل ولايستفسر عن وجه التفريق إن ظهرت علة أو فائدة أوحكمة نبه عليها ولكن لايظهر هنا الفرق ؛ لأن الأمر تعبدي وعلى الله الأمر وعلى رسوله صلى الله عليه وسلم البلاغ وعلينا الرضى والتسليم ، والله تعالى أعلم .
السؤال الثالث :
هل يتحمل الإمام في الواجبات كل الواجبات عن المأموم ولذلك لايسجد السهو ..؟؟(63/16)
الجواب :
إذا صلى المأموم مع الإمام فإن الإمام يحمل عنه الواجبات دون الأركان ، ويحمل عنه الواجبات بشرط أن يترك المأموم الواجب سهوا لاقصدا وعمداً ، فإذا صليت وراء الإمام وقال الإمام سمع الله لمن حمده فإنه يجب عليك كمأموم أن تقول ربنا ولك الحمد أو ربنا لك الحمد أو اللهم ربنا ولك الحمد ، تحمد فإذا نسيت أن تحمد ولم تشعر إلا وقد كبر فكبرت معه فتذكرت أنك لم تقل ربنا ولك الحمد فحينئذ يحمل الإمام عنك هذا الواجب لقوله عليه الصلاة والسلام في حديث أبي هريرة عند أبي داود وأحمد في المسند بسند صحيح: (( الإمام ضامن)) فإنه دل على أن الإمام يضمن والضمين هو المتحمل ، والكفيل فتقول أنا ضمين بكذا أي متحمل به وزعيم به ومتكفل به ، وقوله:(( الإمام ضامن )) أي ضمين فنبه- عليه الصلاة والسلام - على أن الإمام يحمل ، وهكذا لو سجدت السجدة الثانية من الركعة الثانية فرفع الإمام للتشهد الأول وجلس يتشهد فانشغلت وسهوت وأنت في التسبيح ولم تنتبه لتكبيره ولم تشعر إلا وقد كبر مرتفعاً إلى الركعة الثالثة فحينئذ يسقط عنك الجلوس بين السجدتين وهو واجب ويحمله الإمام عنك ، أما في الأركان لو أنك تركت ركوعاً أو تركت سجوداً أو تركت قراءة الفاتحة فإنه يلزمك أن تقضي الركعة ولايحمل الإمام عنك ذلك ، والله تعالى أعلم .
السؤال الرابع :
دخلت مع الإمام في الركوع وقد شاهدت الإمام وهو يريد أن يرفع ولكنه لم يكبر فما حكم هذه الركعة..؟؟
الجواب :(63/17)
هذا سؤال غريب لأنه يقول شاهدت الإمام وهو يرفع ولم يكبر ولم يسمع لأنه إذا رفع من الركوع مايقول الله أكبر يقول سمع الله لمن حمده ، قوله أنه لم يكبر الحمد لله أنه لم يكبر ، على العموم إذا رأيت الإمام وأنت داخل من أجل أن تكبر للركوع فإنك تعتبر مدركاً للركعة بشرط ألا يبدأ بالسين الذي هو التسميع قبل نهاتيك من التكبير فلو رأيته أنه فعلا بدأ يركع بسرعة وركعت وانحنيت قبل أن يبدأ بالسين ولو رأيت رأسه ارتفع أو جذع ظهره ارتفع فإنه لايؤثر لأن العبرة بحصول التسميع نفسه ، والله تعالى أعلم .
السؤال الخامس :
إذا نسي الإمام السجدة الثانية من الركعة الأخيرة ولما سلم من صلاته أخبر بالنقص فماذ يصنع الإمام وماذا يصنع المسبوق بصورة خاصة نرجو التفصيل في ذلك ..؟؟
الجواب :
السجدة الأخيرة ركن من أركان الصلاة وإذا قرأ الإمام التشهد وسلم من صلاته ولم يسجد هذه السجدة فإنه ينتظر المسبوق ولايجوز له أن يقوم حتى ينبه الإمام على خطئه ، فإذا قرأ الإمام التحيات لاتخلو هذه المسألة من صور:
الصورة الأولى : أن يقرأ التحيات وقبل أن يسلم أثناء قراءته أو بعد قراءته وقبل السلام نبه فانتبه فسجد فإن هذا السجود يعتبر صحيحاً مجزئا ثم يعود ويقرأ التحيات ويسلم ويسجد بعد السلام سجود زيادة ؛ والسبب في هذا أنه لما قعد يتشهد بين السجدتين فإن هذا التشهد لاغي لأنه واقع في غير موقعه ، وجوده وعدمه على حد سواء ومن هنا لازالت ذمته مشغولة بأن يسجد السجدة الثانية كما أمر الله ، فإن سجد السجدة الثانية برئت ذمته وصحت له سجدة وألغي الفاصل بينهما لوجود العذر من السهو ، ثم يتشهد ثانية تحصيلا للركن ثم يسلم ويسجد بعد السلام للزيادة هذا إذا تنبه قبل أن يسلم وحينئذٍ المأموم لايشكل عليه شئ لأن كل الإشكال إذا سلم الإمام والإمام لم يسلم .
الصورة الثانية : أن ينبه الإمام بعد السلام فإذا نبه بعد السلام لايخلو من حالتين :(63/18)
الحالة الأولى : أن ينبه بعد السلام قبل أن يخرج من المسجد .
والحالة الثانية : أن ينبه بعد السلام بعد خروجه من المسجد .
فأما الحالة الأولى أن ينبه بعد السلام وقبل خروجه من المسجد فصورتها أن يتشهد و يسلم ويبقى في مصلاه أو قبل أن ينفتل للمصلين قالوا له إنك لم تسجد السجدة الثانية فينتبه وهو مستقبل القبلة ، أو ينفتل إلى المصلين فيحرف ظهره وينصرف عن القبلة ويقولون له إنك لم تسجد السجدة الثانية ، وإما أن يقوم من المصلى كلية وينبه وهو داخل المسجد بشرط ألا يخرج من المسجد ، في هذه الثلاث الأحوال إذا نبه بعد سلامه مستقبل القبلة ، أو نبه بعد سلامه منحرفاً عن القبلة وفي مصلاه ، أو نبه بعد سلامه خارجاً عن مصلاه قبل خروجه عن المسجد فإنه يجوز له ويجب عليه مباشرة أن يرجع إلى مكانه ويكبر ويسجد ثم يرفع من السجود ويتم التشهد ويسلم ويسجد بعد السلام ، والدليل على ذلك حديث ذي اليدين فإن النبي صلى الله عليه وسلم لما صلى إحدى صلاتي العشي كما في الرواية إما الظهر أو العصر صلى ركعتين فسلم منهما فبعد أن سلم صلى الله عليه وسلم قام إلى جذع الذي هو الجذع الذي كان يستند عليه في خطبته وشبك بين أصابعه كالغضبان لأنه كان عنده أمر ألمَّ به صلى الله عليه وسلم فلما رآه الصحابه على صفة الغضب هابوا أن يكلموه وفيهم أبو بكر وعمر-رضي الله عن الجميع وأرضاهم-فقال له رجل يقال له ذو اليدين وهو الخربال رضي الله عنه وأرضاه فقيل له ذلك لطول في يديه فقال:" يارسول الله أقصرت الصلاة أم نسيت؟؟" يعني إما أن الصلاة أصبحت ركعتين بعد الأربع هذا معنى قوله أقصرت ، وإما أنها أربع ولكنك نسيت الركعتين الأخريين فقال صلى الله عليه وسلم :(( ماكان شئ من ذلك )) يعني لاقصرت ولانسيت ، أي إنني سلمت وأنا أظن أنني على الكمال فقال:" بل يارسول الله قد كان شئ من ذلك" فلما قال ذلك قال صلى الله عليه وسلم للصحابة أصدق ذو(63/19)
اليدين؟ قالوا : نعم ، فرجع إلى مصلاه فأتم الركعتين وسجد ، وفي الرواية في الصحيح وأنبئت أن عمران قال ثم سجد سجدتين بعدما سلم ، في هذا الحديث يلاحظ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ترك من الصلاة الركعتين بأركانها ، ثم الأمر الثاني أنه تحول من مصلاه وانتقل من المصلى كلية لكنه داخل المسجد ؛ لأنه قام إلى الجذع وانفتل عن القبلة ، ومن هنا قال جمهور العلماء : الإمام إذا نسي الركعة أو نسي أكثر من ركعة أو نسي جزء الركعة الذي هو الأركان وتذكرها وهوداخل المسجد لم يخرج فحكمه حكم رسول الله صلى الله عليه وسلم حينما عاد إلى مصلاه وقضى.
وعلى هذا فإذا نبه الإمام وهو داخل المسجد وقبل أن يخرج فإنه يرجع ويسجد السجدة الثانية ثم بعد ذلك يرفع منها ويتشهد ويسلم ويسجد سجدتين للزيادة ، ووجه هذه الزيادة أنه زاد التشهد وزاد السلام بين السجدتين فتكون زيادة من جنس الصلاة والزيادة من جنس الصلاة تلغى بالسجود .
الحالة الأخيرة : أن ينبه الإمام بعد خروجه عن المسجد ، فإذا نبه بعد خروجه عن المسجد فإنه يرجع ويعيد الصلاة ويعيد من وراءه الصلاة .
لكن لو أنك وراء الإمام وقام الإمام وخرج ، أو وأصر على رأيه أنه قد سجد السجدة الثانية فما الحكم ؟ يكون على المأموم حينئذ أن يسجد السجدة الثانية يقطع نيته بمتابعة الإمام ويكون تابع الإمام للعذر والإمام إذا كان معذورا ، وتابعته للعذر سقط عنك لأن الصحابة تابعوا النبي صلى الله عليه وسلم لعذر مع علمهم أن الصلاة ناقصة ، فمن هنا اغتفر العلماء رحمهم الله المتابعة عند العذر فإذا سلم لاتسلم إذا علمت أنه عن نقص لاتسلم فإذ أصر على رأيه تسجد السجدة الثانية ثم ترفع وتكمل صلاتك وتسجد لنفسك فحينئذٍ يكون من الأحوال التي يشرع فيها مفارقة المأموم للإمام عند وجود العذر .(63/20)
في هذه الحالة يبقى السؤال للمأموم المسبوق ، المأموم المسبوق إذا حصل من إمامه الخطأ وغلب على ظنه أن الإمام سيسجد إما أن يكون الخطأ فواتاً لواجب وتعلم أن الإمام قد سهى في واجب وأنه سهى في زيادة مثلا لأنه في الواجب يسجد قبل السلام وليس هناك اشكال ، لكن الإشكال إذا كان علمك بأن الإمام قد زاد في الصلاة وسيسجد بعد السلام فحينئذٍ ما الفعل ؟
تنتظر بعد سلامه ولاترفع يعني لاتقدم إلى الركعة التي فاتتك أو لقضاء مافاتك وإنما تنتظر في مصلاك حتى يكبر لسجوده ، وقد سلمَّوا فلاتقوم إنما تنتظر تكبيره للسجود ، فتكبر من بعده وتسجد معه تداركاً لفعل الإمام فإذا سلمَّ من سجوده قمت وأتمت مافاتك من الصلاة .
هناك وجه ثانٍ لبعض العلماء يقول يجوز للمأموم أن يقوم مباشرة لأن النبي صلى الله عليه وسلم أمره بإتمام صلاته ، ثم بعد سلامه يقضي سجود السهو بعد السلام يكون قضاءً ولايلزمه أن يفعله مع الإمام حتى يكون السجود في موضعه وكلا القولين له وجه يعني لو أنه سجد مع الإمام له وجه فانتظر حتى يسجد مع الإمام له وجه ، ولو أنه انتظر حتى أتم صلاته وأكملها ثم سجد قضاءً لما فاته فإن له وجهاً .
هناك من يفرق بين كونه أدرك السهو أو لم يدركه ، فإذا أدركه ألزمه بالتفصيل الذي ذكرناه وإذا لم يدركه فإنه لايلزمه بشئ ، والله تعالى أعلم.
السؤال السادس:
المريض الذي يبقى تحت تأثير البنج أياماً هل يقضي هذه الصلاة ..؟؟
الجواب :(63/21)
من زال عقله بمزيل من مخدر أو خمر بحلال أو حرام فإنه يلزمه أن يقضي الصلوات ، والمخدر لايعتبر الإنسان فيه في حكم المجنون إلا في أحوال مستثناة إذا خدر لعملية جراحية يكون في حكم المجنون إذا تلفظ بالطلاق أو تلفظ بالردة أو تلفظ بالأمور ؛ لأنه ليس معه عقله وغياب عقله بسبب يعذر فيه شرعاً فتسقط عنه التكاليف ، وحكى الإمام ابن قدامة رحمه الله الإجماع على هذا أن من زال عقله بالخمر على وجه يعذر فيه شرعاً ، مثلاً-والعياذ بالله- لوجاء إلى رجل وأعطاه عصيراً ، وقال له : هذا عصير ، وإذا به خمر فشرب العصير على أنه عصير فإذا به خمر فزال عقله وطلق نساءه أو أقر أو تلفظ بأشياء فيها مؤاخذة فإنه لا يؤاخذ بشئ من ذلك ؛ لأنه في حكم المجنون ، أما بالنسبة للحقوق والتكاليف التي عليه الشرعية فإنه إذا تسبب في إزالة العقل عن طرق العمد المعذور أو العمد غير المعذور ، العمد المعذور مثل التخدير في العميلات الجراحية فهو متعمد لأن يزيل عقله لكنه على وجه يعذر فيه شرعاً ، وحينئذٍ إذا زال عقله أو أصبح تأثير المخدر أياماً أو ليالى فإنه يلزمه أن يقضي الصلوات التي فاتته في هذه الأيام والليالي ، والله تعالى أعلم .
السؤال الثامن :
إذا كانت زكاة الإنسان في شهر رمضان فهل يجب إخراجها في بداية الشهر أم له أن يفرقها خلال الشهر.؟؟
الجواب :
إذا كانت الزكاة في شهر رمضان فإن الواجب على المزكي أن يراعي يوم الحول ، فإذا ملك النصاب في أول يوم من رمضان فعليه أن يتقي الله وأن يخرج زكاته في اليوم الأول من رمضان وألا يؤخر تأخيرها وأنه ما من ليلة يبيتها ولم يخرج فيها الزكاة من ذمته إلا وسيحاسبه الله عن ذلك ، ومن هنا ينبغي على من وجبت عليه الزكاة ألا يتأخر في إخراجها ، وإذا كان عاجزا عن معرفة الفقراء فلينظر إلى من يثق بدينه وأمانته فيعطيه الزكاة وكان بعض العلماء يشدد ويقول لاينبغي أن يمضي ذلك اليوم إلا وقد وصل المال إلى مستحقيه .(63/22)
ومن هنا من الخطأ الذي يقع فيه بعض الإخوان-أصلحهم الله- أنهم يتقبلون الزكاة من الأغنياء ، ثم يضعونها عندهم ، ويوزعونها إلى أيام ولربما إلى أسابيع ولربما إلى شهور ويتأخرون في إخراجها ، والله سائلهم عن ذلك كله ومحاسبهم عليه ، ولذلك لايجوز أن تؤخر الزكاة ، وإنه ينبغي على المسلم قدر استطاعته الا يمضي يوم الحول إلا وقد وصل الحق لصاحبه فإن الله سائلك عن المسكين والمرحروم والفقير وكل محتاج أخرت عنه حقه ، وإذا كنت لاتعلم فليس هذا بعذر لأنك إذا كنت لاتعلم فهناك من يعلم وعلى طلاب العلم وأئمة المساجد الذين وفقهم الله للسعي في المساعي الخيرية والمعونة التي تكون من الزكوات عليهم أن يتقوا الله في ذلك ، فيكتبوا أسماء المحتاجين وأسماء الفقراء فإذا جاؤا يريدون أخذ المعونات يأخذونها من يد ويعطونها بيد دون تأخير ولا مماطلة ، فإن الفقير يتضرر وإذا كان هذا اليوم لايساوي عندك شيئاً فإنه يساوي عند الفقير أشياء والله جعل للمديون والمعسر الذي قد يسجن بسبب هذا الدين ويمضي في ذل السجن وهوانه بعيدا عن أهله وأولاده الله سائلك عن حبسه وتأخيره وأنت قادر على فكاكه ، فالذي لايعلم يذهب إلى السجون وينظر إلى المعسرين والمديونين فيفك أسرهم ، كم من عائلة تتعطش إلى عائلها وأنبه على أن مثل هؤلاء أحق الناس بالزكاة .(63/23)
وبمناسبة هذا الأمر فإن بعض الإخوة الذين يتولون صرف الزكاة قد يتأخرون في صرفها من جهة ، وقد أيضاً يصرفونها إلى وجوه قد تكون هناك وجوه أحق منها ، فقد نذهب ونطبع بها بعض الرسائل وبعض الكتب وهو عمل خير ولكنه فيه خلاف هل يجوز صرف الزكاة في طبع الرسائل والكتب لكن أن تصرف لمديون ومعسر لاخلاف في ذلك وبإلاجماع على أنه من المستحقين ؛ لأن الله قال:{ وَالْغَارِمِينَ}(1) فإذا أخذنا العشرة آلاف أو العشرين ألفاً وطبعنا بها رسائل هذا خير ، لكن قد يكون الأخير والأعظم هذا فيه خلاف إن الأخير والأعظم أن تصرف لهؤلاء الأكباد الجائعة والأحشاء الظامئة ، والأسر تتشتت إذا ذهب عائلها الأسر تضيع ولربما يقع أطفالها ونساؤها في أمور قد تتعرض لأمورتمس أعراضهم بسبب الفقر وذل الحاجة ، فهؤلاء أحوج ، ثم نحن لانقلل من شأن الدعوة والرسائل لكن كون البعض يحرص على إحراج بعض الأغنياء والأثرياء لطبع الرسائل ، سل وليسأل كل طالب نفسه كم عنده في مكتبته من الكتب وأنت طالب علم بالله كم قرأت فيها من كتاب ؟ كم من كتاب خير جاءك هدية ، فاسأل نفسك سؤالاً منصفاً هل قرأت الرسالة بكاملها ؟ كم من رسائل تجمع عندنا بالكم الكثير ولكن توضع على الأرفف وقل من ينظر فيها فضلا عن من قرأها ؟ هذا هو الواقع وهذا هو الشئ الذي نعيشه .(63/24)
ينبغي أن نشعر أن هذه حقوق وواجبات ومسئوليات وأمانات وأن الذي يريد أن يتولى الزكاة وصرفها ينبغي أن يفقه وأن يعلم الحدود الشرعية والأمور التي أو جبها الله عليه يقول العلماء من تولى أمر الزكاة فرض عليه أن يعرف من الذي تصرف عليه الزكاة وما هي الشروط الواجبات التي ينبغي أن يقوم بها ، فإذا كنت تتولى صرف هذه الزكاة لمستحق ينبغي أن تسأل ما هي حدود الاستحقاق وحلية المستحق وصفة المستحق ووجه الاستحقاق وكيفية الصرف ، فإذا وضعت الأمر في موضعه حمدت وأجرت وأثبت وأصبت والله لايضيع أجر من أحسن عملا ، أما أن تؤخذ عشرات الألوف كتب لي بعض الإخوة جزاهم الله خيرا وأكثر من مرة أنه يطلب مني أن أطلب من بعض المحسنين أن يصرفوا ولو شيئاً من الزكاة لطبع رسالة قد تكون هذه الرسالة فيها أحكام الصلاة قد يكون في هذه الرسالة أحكام الزكاة وهو طويلب علم ما انقص من قدر الناس لكن هذا هو الواقع الذي نعيشه طالب علم ، حكى لي بعضهم أنه أخذ ثمانين ألفاً لطبع بعض الرسائل من الزكاة ، ثمانين ألفاً قد تغني ثمانين بيتاً من بيوت المسلمين وقد تسد عنهم من العورات والثلمات ما الله به عليم ، هذا أحق وأحوج ثم إنه شئ لاخلاف فيه بين العلماء ، والمرأة إذا احتاجت ورأت أولادها في ذل الجوع والعري ربما تعرضت بعرضها للحرام وهذا شئ مدرك ومعلوم .(63/25)
فينبغي للإنسان إذا أراد أن يتولى الزكوات أن يعرف من هم المستحقون ؟ وما هي الجهات التي ينبغي صرفها إليها ؟ وألا نذهب إلى ما هو مهم ونترك ما هو أهم ، والأمور التي لاخلاف فيها نقدم عليها الأمور التي فيها خلاف هذا أمر ينبغي أن يوضع في الحسبان فإن بعض العلماء رحمهم الله قال لو صرفت الزكاة أوكنت أقول بصرف الزكاة في سبل الخير وطلاب العلم ينبغي أن تقيد بقدر بالحاجة والضرورة فلا تطبع إلا رسالة يحتاج إليها ، وفي علم وفي مسألة لايوجد من سد فيها ، أو توجد هناك ثلمة بحيث تسد أما إذا كان علماؤنا وأجلاؤنا وكبار علمائنا لهم رسائل مفيدة قيمة وسدوا هذا الباب بتاليف مفيدة نافعة جامعة ويأتي طلاب العلم يزاحمونهم برسائل في نفس الرسائل ويرجعون إلى نفس كلامهم فهذا أمر يحتاج إلى إعادة نظر ، حتى ولو كان بعض العلماء يرى أنه يجوز صرف الزكاة في الأمور الدعوية فهذا أمر خلافي .
وجمهور العلماء على أن الزكاة لاتصرف إلا للأصناف الثمانية وأن قوله- سبحانه-: {وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ}(1) خاص بالجهاد في سبيل الله ، وأنه لايشمل عموم أوجه الخير ولو كان يشمل عموم أوجه الخير لما جاءت الآية بالحصر والقصر: {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ}(1) وهذا أسلوب حصر وقصر كما تقول إنما الشجاع فلان أي لاشجاع إلا فلان فأنت لما تقول إنما الصدقات للفقراء فالله من فوق سبع سموات يخصها ويقسمها ويحدد أهلها والمستحقين لها ، ورسول الأمة صلى الله عليه وسلم لايجامل أصحابه ولايحابيهم ويقول لقبيصة حينما ذكر المسألة قال:((وما سوى ذلك ياقبيصة سحت يأكله صاحبه سحتا)) فهذا يدل على عظم أمرصرف الحقوق والواجبات على غير المستحقين ومن هنا ينبغي التنبه إلى ميقات الزكاة والحرص على إيصالها إلى المستحقين في أقرب وقت وحين ، -نسأل الله العظيم أن يعصمنا من الزلل وأن يوفقنا في القول والعمل هو المرجو والأمل- ، والله تعالى أعلم .
السؤال التاسع :(63/26)
إذا تزوج الرجل بأخرى فأعطاها مهراً أكثر من الأولى هل يلزمه دفع الفرق للأولى ..؟؟
الجواب :
فإن المهر لاتشترط فيه التسوية عند التعدد وله أن يأخذ هذه بأضعاف أضعاف ما أخذ به تلك ولاتشترط المساواة ، ورسول الأمة صلى الله عليه وسلم لم يأمر بذلك ولم يوجبه ولم يلزم به الصحابة-رضوان الله عليهم-، ولذلك قال العلماء في مسائل المهر لايدخل القسم التسوية وتنتزع البركة من المرأة إذا عظم مهرها ، وخير النساء وأبرك النساء أيسرهن مؤنة ومن البركة للزوجة الأولى خفة المؤونة لها ، وقد يضطر الرجل إلى مضاعفة المهر لاختلاف الزمان فقد يتزوج هذه بعشرة الآف في زمان تكون فيه العشرة الآف تعادل مئة ألف في الزمان الآخر أو تعادل العشرين والثلاثين ولذلك لاينضبط الأمر باختلاف الأزمنة والأمكنة ، ثم يختلف النساء أنفسهن فإن المرأة التي تكون لها مكانة أو تكون من بيئة غالية والمال عندهم كثير ليست كالمرأة التي تكون من بيئة يسيرة وحال العيش عندهم متوسط وكذلك ليست المرأة التي يكون حال العيش عندهم ضعيف وعلى هذا فإنه لاتشترط المساواة ولايشترط أن يعدل الزوج في مهور زوجاته إذا عدد ، والله تعالى أعلم .
السؤال العاشر :
أنا شاب على بداية الاستقامة والحمدلله فبماذا تنصحني بارك الله فيكم ..؟؟
الجواب :
أولا الحمدلله .. الحمدلله الذي هدانا وهداك وهدى عباده المؤمنين ، والله إنها لمن أعظم النعم بل هي أعظم نعمة ينعم الله بها عز وجل على عباده إخراجهم من الظلمات إلى النور ، وشرحه سبحانه للصدور هذه الرحمة التي لايعطيها الله إلا لمن أحب أعطى الدنيا لمن أحب ومن كره ولم يعط الهداية إلا لمن أحب .(63/27)
وأول ما أوصيك به أخي في الله : أن تشعر بقيمة هذا الدين وبعظمة هذه النعمة التي أسداها الله إليك وأنعم بها عليك ، فإذا شعرت بقيمة ذلك أو أحسست أن الله تفضل عليك بالفضل العظيم وأن الله- - عز وجل -- أجزل لك العطاء الكريم ، حمدته وشكرته وأثنيت عليه -سبحانه- بالذي هو أهل ، والله يحب من عباده أن يشكروه ويحب من عباده أن يحمدوه وتأذن بالمزيد لمن شكر وتأذن بالخير لمن ذكر ، فينبغي عليك أول ما ينبغي أن تحمد الله الذي لا إله إلا هو ولارب سواه ولافضل في هداتيك لأحد سواه .
أما الأمر الثاني فأوصيك أخي في الله : أن تكثر الاستغفار والتوبة والرجوع إلى الله -- جل جلاله --من الذنوب والمعاصي التي سلفت وكانت ، وأن تدمع دمعة الندم وأن يتقرح قلبك من الشجى والحزن والألم على ما سلف وكان من الذنوب والعصيان :
وَقُلْ يَحِقُّ لِيْ يَاْعَينُ أَنْ بَكَيْتُ ………أَبْكْيِ لِعِلْمْيِ بِالْذِيْ أَتَيْتُ
أَنَاْ المُسِئُ المُذْنِبُ الخَطَاءُ ………فِيْ تَوَبِتيْ عَنْ حَوْبِتيْ أبطاءُ
فتسأل الله أن يغفر لك ما سلف وكان وتجمع بين الخوف والرجاء ، فإن ذكرت الذنوب خفت من الله- - جل جلاله -- أن يؤاخذك عليها وأن يحاسبك عليها وأن يجعلها أمام عينينك في قبرك أو في لحدك أو في حشرك أو في طريقك إلى جنتك ، تسأل الله -- جل جلاله --أن يغفرها وأن يسترها وأن يتولى بالجميل والصفح ما كان منك من الإساءة والتقصير في جنبه سبحانه وتعالى ، والمؤمن بين طائر الخوف والرجاء وإذا أحسست بالرجاء أنه سيغلب غلبت جانب الخوف ، وإذا أحسست أن الخوف سيغلب غلبت جانب الرجاء حتى يستويا فتطير بهما جناح السلامة إلى اللهل- - جل جلاله -- .(63/28)
كذلك أيضاً ينبغي أن تنظر أمامك لحسن الظن بالله -- جل جلاله -- فمن أحسن الظن بالله فإن الله يعطيه على حسن ظنه ، بل إن الله قد يعطيه فوق ما يحسن من الظن وفي الحديث أن الله-تعالى- يقول:(( من ظن بي خيرا كان له ومن ظن بي شراً كان له)) فمن ظن بالله الخير فإن الله يعطيه الخير ، وقد يعطيه الله سبحانه خيراً أكثر مما ظن به، فالله كريم والله عظيم أسدى إليك الهداية وقد تكون ماسألته يوما أن يهديك فكيف إذا سألته واستغفرته فإذا سألت الله-جل وعلا – ذلك فاسأله بقلب صادق وهو أن يثبتك على طاعته وأن يثبت قلبك على مرضاته فإن القلوب تزيغ فكم من إنسان كان على طاعة فزلت قدمه بعد ثبوتها -نسأل الله السلامة والعافية -:{رَبَّنَا لاَ تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا}(1) فما نحن إلا تحت رحمة الله-- جل جلاله -- وكم من إنسان أمسى مؤمنا ديناً صالحاً تقياً وأصبح كافراً -والعياذ بالله- مرتدا ؟ وكم من إنسان ذاق حلاوة الإيمان وارتقى في مراقي المحبة والإحسان ثم زلت قدمه وزاع قلبه فشقي في الدينا والآخرة -نسأل الله السلامة والعافية- .
والخوف ينبغي أن تستديم من الله-- جل جلاله --ومن خاف سلم ومن خاف أدلج وجد واجتهد في مرضات الله سبحانه وتعالى من يملك منا أن يبقى على طاعته ومن منا يعلم كيف تكون نهاتيه ، فالأنسان ينبغي عليه إذا أعطاه الله الهداية أن يسأل الله الثبات وأن يعوذ بالله من الفتن ففي الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:(( تعوذوا بالله من الفتن ماظهر منها ومابطن)) فقد تكون الفتنة يسيرة في نظر الإنسان تزل بها قدمه إلى لقاء الله- - جل جلاله -- إياكم ومحقرات الذنوب.(63/29)
ومما يوصى به من التزم بدين الله -- جل جلاله -- أن يعرف ما هو الالتزام ؟ وما هي الهداية ؟ وما هي الطاعة ؟ وكيف يكون من الملتزمين والمطيعين والمهتدين ولاطريق إلى ذلك إلا بكتاب الله وسنة النبي صلى الله عليه وسلم والله جل جلاله تكفل لمن جعل القرآن العظيم ضياء له ونوراً وهداية وسبيلاً أن يسعده فلا يشقى وأن يعطيه العزة في الآخرة والأولى ، تكفل الله بالسعادة لأهل الكتاب والسنة فإذا أردت أن تهتدي فاعلم أن الهداية من خلال الكتاب والسنة ، وأن عليك أن تحب كتاب الله وسنة النبي صلى الله عليه وسلم أما حبك لكتا ب الله فكثرة تلاوته وكثرة سماعه لاتمل من قراءة كتاب الله قائماً ولاقاعداً ولاجالساً تكثر من تلاوة القرآن ، فأكثر الناس خيراً في الهداية من أكثر من تلاوة القرآن وكم من مهتدٍ قد حفظ من القرآن القليل لكنه استدان تلاوته فبلغه الله بركة ما عنده من القرآن ، وكم من شاب تجده حافظاً لكتاب الله محق الله منه البركة فقل أن يتلوا الحرف من كتاب الله ، فالهداية أن تكثر من تلاوة كتاب الله وأن تكثر من سماعه تسمعه في سيارتك وفي مكتبك وفي مجلسك وفي بيتك تسمعه خالياً وفي الجماعة تحب كلام الله -- جل جلاله -- فإذا أكثرت من تلاوة كتاب الله ومن سماع كلام الله أتبعت ذلك بالعمل والتطبيق وشعرت أن الله يأمر ك فتأتمر وينهاك فتنكف وتنزجر طلباً لرحمته ورجاء لمغفرته فإن أهل القرآن في رحمة:{وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ}(1) قرن الله الرحمة في الكتاب ووصف كتابه بأنه رحمة فإذا أراد الله أن يبارك في العبد في هدايته قرنه بكتابه فأصبح القرآن ربيع قلبه ونور صدره وجلاء حزنه وذهاب همه وغمه ، كلما ضاقت عليه الدنيا فتنها وبهمومها أو أحزانها تلا كتاب الله-- جل جلاله -- تبددت أحزانه وذهبت أشجانه كلما جاءت فتنة بين الناس عامة أو خاصة سأل ماذا يقول ربي وماذا(63/30)
يأمرني ربي ؟ كان الصحابة والأنصار-رضوان الله عليهم- إذا نزلت بهم النازلة قالوا يارسول الله ما تأمرنا ؟ كانوا مع كتاب الله ومن كان مع كتاب الله أسعده الله في الدنيا والآخرة ، ولذلك تجد المهتدي الذي يكثر من تلاوة القرآن وسماع القرآن وحب القرآن وملازمة القرآن تجده في انشراح عظيم ومن حوله يشتكي الهم ولا يشتكيه ، ويشتكي الضيق ولايشتكيه أي ضيق ، لأن الله -- جل جلاله --قرن الطمأنينة في كتابه وبكلامه ، فالله في كتاب الله أكثر من تلاوة كتاب الله ولا أوصي شاباً اهتدى بشئ بعد أن يشعر بقيمة الهداية من أن يكون مصاحباً لكتاب الله-- جل جلاله -- ، ولن تجد ملتزماً كثير التلاوة لكتاب الله كثير السماع له كثير العمل له إلا وجدته في خير وسعادة على قدر ما أخذ من كتاب الله -- جل جلاله -- ، وما تغير حال الملتزمين ولاضعفت الهداية في القلوب إلا بسبب الجفوة التي بيننا وبين كتاب الله عز وجل أُدركت من العلماء من لاتمر عليه ثلاثة أيام إلا وهو خاتم لكتاب الله -- جل جلاله -- ، وكان يستعيب على طالب العلم وعلى الملتزم بدين الله عز وجل إذا ختم بعد ثلاثة أيام ؛ لأنهم يرون من التقصير إذا ختم بعد ثلاثة أيام تعرض فيها قولك وفعلك على كلام الله-- جل جلاله -- ، ثلاثة أيام تعرف ما يكون فيها منك من الخير والشر على كتاب الله-- جل جلاله -- فإن وجدت خيراً حمدت الله وقلت الفضل كله لله وإن وجدت غير ذلك قلت أستغفر الله وأتوب إلى الله وأسأل الله من فضله.(63/31)
-ونسأل الله العظيم رب العرش الكريم بأسمائه الحسنى وصفاته العلى أن يجعل القرآن العظيم ربيع قلوبنا ونور صدورنا وجلاء أحزاننا وذهاب وهمومنا وغمومنا وسائقنا وقائدنا إلى رضوانه وجناته جنات النعيم ، اللهم ذكرنا منه ما نسينا وعلمنا منه ما جهلنا وارزقنا تلاوته وحلاوته والعمل به آناء الليل وأطراف النهار على الوجه الذي يرضيك عنا ، اللهم إنا نشكوا إليك تقصيرنا في كتابك اللهم إنا نشكو إليك تقصيرنا في كلامك نشكوا إليك نفساً أمارة بالسوء نشكو إليك وساوس مرضية وخطرات مهلكة نسألك اللهم أن تنجينا منها برحمتك ، اللهم حبب إلى قلوبنا القرآن اللهم حبب إلى قلوبنا القرآن واجعلنا من أهله وأمتنا ونحن من أهله واحشرنا في زمرته برحمتك يارحم الراحمين-.
وآخر دعوانا أن الحمدلله رب العالمين وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين .(63/32)
بسم الله الرحمن الرحيم
يقول المصنف رحمه الله : بَاب مَا جَاءَ فِي كَرَاهِيَةِ إِتْيَانِ الْحَائِضِ
الشرح:
بسم الله الرحمن الرحيم الحمدلله رب العالمين والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين أمابعد:
الكلام في هذه الترجمة في موضعين الموضع الأول في بيان معناها ،والموضع الثاني في بيان مناسبتها لأبواب الحيض .
فأما قوله رحمه الله "باب ما جاء في كراهية ": المكروه ضد المحظور يقال كره الشيء إذا نفر منه والمكروه في الشرع هو الذي نهى عنه الشرع نهياً غير جازم ، وحكمه أنه يثاب تاركه ولا يعاقب فاعله ؛ والسبب في ذلك أن الله عز وجل إذا نهى عن شيء في كتابه أو على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم إما أن ينهى عنه نهياً جازماً وإما أن ينهى عنه نهياً دون ذلك ، وقسَّم العلماء –رحمهم الله-هذا النهي إلى هذين الوجهين فقالوا : النهي الجازم حرام ويقتضي التحريم، والنهي غير الجازم يقتضي الكراهة ، ولكنَّ السلف الصالح –رحمهم الله- كان عندهم ورع فربما قالوا هو مكروه ويقصدون به الحرام كما أُثر عن الإمام أحمد رحمه الله في مسائل عديدة أنه يقول في الشيء أكرهه ومراده بذلك أنه حرام ، والإمام الحافظ الترمذي قال" باب ما جاء في كراهية" ومن هنا نلمس فقه هذا الإمام العظيم ودقة فهمه واستنباطه فإنه قال كراهية : "وزيادة المبنى تدل على زيادة المعنى" وذلك لأن إتيان المرأة في المحيض يعتبر حراماً بإجماع العلماء رحمهم الله فهو مكروه كراهة تحريم ، ولذلك يكون قوله "باب ما جاء في كراهية": أي ما جاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من الأحاديث التي تدل على حرمة جماع المرأة الحائض .(64/1)
وقوله رحمه الله "في كراهية إتيان الحائض": لم يقل الحائضة لأن الحيض مما يختص به النساء والأصل أن التذكير والتأنيث إنما يصار إليه في الأمر المشترك بين الرجال والنساء ، فإذا كان خاصاً بالنساء قالوا حائض ولا يحتاجون إلى علامة التأنيث للفصل لأنه إشتراك كما يقول امرأة طالق لأن الطلاق إنما يقع على النساء دون الرجال .
وقوله رحمه الله "باب ما جاء في إتيان الحائض": كأنه يقول في هذا الموضع سأذكر لك ما ورد عن سول الله صلى الله عليه وسلم من الأحاديث التي تدل على حرمة جماع المرأة الحائض .
وأما مناسبة هذا الباب :فإن هذا الباب اشتمل على مانع من موانع الحيض وهذا المانع هو جماع المرأة الحائض والحيض يمنع من الجماع فلاشتماله على هذه المسألة المتعلقة بأبواب الحيض ناسب أن يعتني المصنف رحمه الله بذكره في هذا الموضع .
قال المصنف رحمه الله : حَدَّثَنَا بُنْدَارٌ حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مَهْدِيٍّ وَبَهْزُ بْنُ أَسَدٍ قَالُوا حَدَّثَنَا حَمَادُ بْنُ سَلَمَةِ عَنْ حَكِيمٍ الأَثْرَمِ عَنْ أَبِي تَمِيمَةَ الهُجَيْمِيِّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ:(( مَنْ أَتَى حَائِضاً أَوِ امْرَأَةً فِي دُبُرِهَا أَوْ كَاهِنًا فَقَدْ كَفَرَ بِمَا أُنْزِلَ عَلَى مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم )).(64/2)
قَالَ أَبو عِيسَى رحمه الله : لاَ نَعْرِفُ هَذَا الْحَدِيثَ إِلاَّ مِنْ حَدِيثِ حَكِيمٍ الأَثْرَمِ عَنْ أَبِي تَمِيمَةَ الْهُجَيْمِيِّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ وَإِنَّمَا مَعْنَى هَذَا عِنْدَ أَهْلِ الْعِلْمِ عَلَى التَّغْلِيظِ وَقَدْ رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ:(( مَنْ أَتَى حَائِضاً فَلْيَتَصَدَّقْ بِدِينَارٍ فَلَوْ كَانَ إِتْيَانُ الْحَائِضِ كُفْراً لَمْ يُؤْمَرْ فِيهِ بِالْكَفَّارَةِ )) وَضَعَّفَ مُحَمَّدٌ هَذَا الْحَدِيثَ مِنْ قِبَلِ إِسْنَادِهِ وَأَبُو تَمِيمَةَ الْهُجَيْمِيِّ اسْمُهُ طَرِيفُ بْنُ مُجَالِدٍ.
الشرح:
هذا الحديث أخرجه أبو داود والنسائي وابن ماجة وكذلك الإمام أحمد في مسنده والدارمي والطحاوي وصححه غير واحد من العلماء قال الحافظ العراقي حديث صحيح ، وكذلك صحَّحه الحاكم ووافقه الذهبي وقال غير واحد من المتأخرين هذا التصحيح والحكم بثبوت الحديث فقد اشتمل على حكم إتيان المرأة الحائض ، وعلى حكم إتيان المرأة في الدبر ، وعلى حكم إتيان الكهَّان -والعياذ بالله -.(64/3)
فأما إتيان المرأة الحائض فإن نصوص الكتاب والسنة تدل دلالة واضحة على حرمة وطء المرأة الحائض قال الله عز وجل في كتابه:{ وَيَسْأَلُونَكَ عَنْ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذًى فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ وَلاَ تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ فَإِذَا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمْ اللَّهُ}(1) فدلت هذه الآية الكريمة على حرمة وطء المرأة الحائض ؛ لأن قوله :{ فَاعْتَزِلُوا} أمر بالاعتزال والاعتزال هو الاجتناب للشيء فدل على حرمة الوطء ، لأن من سمة التحريم أن يأتي بلفظ النهي عن الشيء بتركه أو التنفير منه ، ولذلك اشتملت هذه الآية الكريمة على الأمرين اشتملت على الأمر باعتزال النساء واشتملت على التحذير من وطئهن في الحيض وذلك في قوله -تعالى-:{قُلْ هُوَ أَذًى فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ} وهذا الاعتزال خصه الله عز وجل بقوله:{ فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ} بمعنى لا تقربوهن في مكان الحيض وعلى هذا فإنه يحرم وطء المرأة الحائض وهو ما صرَّحت به الأدلة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ففي الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال في المرأة الحائض:(( اصنعوا كل شيء إلا النكاح)) وفي رواية :((إلا الجماع)) ومن هنا أجمع العلماء رحمهم الله على أنه لا يجوز وطء المرأة في مكان الحيض ، وهذا الإجماع يدل دلالة واضحة على قوة الأدلة الواردة في كتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم عن تحريم جماع المرأة الحائض .(64/4)
وأما بالنسبة لإتيان المرأة في الدبر فإن إتيان المرأة في الدبر محرم وهو كبيرة من كبائر الذنوب ونص جماهير السلف والخلف رحمهم الله على حرمة ذلك ؛ والسبب في هذا أن الله عز وجل أباح للرجل أن يطأ مرأته في مكان الحرث وليس ذلك الموضع المنهي عنه مكاناً للحرث كما قال –تعالى-:{نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى}(1) والحرث إنما يكون في مكان الوطء الذي يكون منه الولد .
وأمَّا بالنسبة للدبر فليس بموضع للوطء وليس بموضع لمكان الولد ولذلك عبر القرآن بالحرث إشارة إلى أنه مكان الإتيان ، وشدَّد السلف رحمهم الله في ذلك حتى إن عبد الله بن عمر لما سأله أبو حباب عن التحييض للجواري فقال - رضي الله عنه -- سأله عن ذلك ماذا يقصد بالتحييض؟! فقال:" له وطء الدبر" فقال رضي الله عنه :" أو يفعل ذلك أحد من المسلمين" أي هل يفعل هذا من هو مسلم ومؤمن بالله عز وجل ، -وسنذكر إن شاء الله هذه المسألة وسنبينها بالتفصيل- ؛ لأن المصنف رحمه الله اعتنى بذكر الحديث الوارد في سبب نزول آية الحرث وذلك في كتاب التفسير وسنتعرض لذلك في موضعه بالتفصيل والبيان .(64/5)
وأمَّا بالنسبة للمسألة الثالثة إتيان الكهان: فالكاهن هو الذي يدَّعي العلم بالأمور الغيبية ويُخبر عما يقع في المستقبل حتى ولو قال لك بعد يوم بل لو قال بعد ساعة بل لو قال بعد لحظة سيقع كذا وكذا من أمور الغيب فإنه يُعتبر كاهناً -والعياذ بالله-والكهانة ادعاءً لعلم الغيب ، والله عز وجل استأثر بهذا العلم فقال سبحانه وتعالى :{وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لاَ يَعْلَمُهَا إِلاَّ هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلاَّ يَعْلَمُهَا وَلاَ حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الأَرْضِ وَلاَ رَطْبٍ وَلاَ يَابِسٍ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ}(1) قال ابن عباس -رضي الله عنهما-:"واللهِ ما من ورقة في شجرة إلا عليها ملك يكتب حياتها وخضرتها ويبسها وذبولها ومتى سقطت وكيف سقطت وأين حملتها الرياح" ، والله سبحانه وتعالى يعلم ما يكون وما يقع من أمور الغيب ، وأخبر -سبحانه- في كتابه أنه استأثر بهذا العلم فقال:{ وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لاَ يَعْلَمُهَا إِلاَّ هُوَ} هو الذي يعلم ما سيكون وما سيكون من الصغير والكبير والجليل والحقير ولا ينبئك مثل خبير وقال سبحانه وتعالى في كتابه :{ قُلْ لاَ يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ الْغَيْبَ إِلاَّ اللَّهُ }(2) فالله وحده هو الذي يعلم الغيب ، ومن هنا أجمع العلماء على أن من ادَّعى علم الغيب أنه كافر مرتد ، وهذا لتكذيبه للنصوص القطعية في كتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يعلم الغيب أحد إلا الله -- جل جلاله -- حتى إن الأنبياء والرسل لا يعلمون الغيب إلا إذا أطلعهم الله عز وجل على شيء منه فهو وحده-سبحانه -الذي استأثر بهذا العلم ، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح أنه لماّ حج حجة الوداع قرنّ حجه بعمرته وقال:(( لبيك عمرة وحجة )) ثم لما قرب من مكة أمر من لم يسق(64/6)
الهدي من أصحابه-رضي الله عنهم- أن يتحلل وأن يجعلها عمرة ورجع صلى الله عليه وسلم في ذلك فقال حينما تلكأ بعض أصحابه قال:(( لو استقبلت من أمري ما استدبرت لما سُقت الهدي ولا لجعلتها عمرة)) فهذا رسول الأمة صلى الله عليه وسلم أكرم الخلق على الله وأعظمهم منزلة عند الله -- جل جلاله --لا يعلم الغيب:{ قُلْ لاَ أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعاً وَلاَ ضَرًّا إِلاَّ مَا شَاءَ اللَّهُ وَلَوْ كُنتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لاَسْتَكْثَرْتُ مِنْ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِي السُّوءُ}(1) كسرت رباعيته وشج وجهه وسالت دماؤه صلى الله عليه وسلم في يوم أحد ولو كان يعلم الغيب لاتقى ما نتقى ؛ ولكن الله سبحانه وتعالى جعل ذلك إعلاناً للأمة أنه خير الخلق وأفضل الخلق لا يعلم ما يكون وما سيكون إلا إذا أطلعه الله عز وجل على ما يطلعه عليه من أمور الغيب ، وإذا أطلع الله أنبياءه -صلوات الله وسلامه عليهم- فإنما يطلعهم بالمعجزة حتى يكون في إخبارهم عن المغيبات ووقوعها وفق ما أخبروا يكون في ذلك دليل وشاهد على صدق نبوتهم فجعل الله عز وجل إطلاعهم على الغيب بل على بعض الغيب دليلاً على صدق نبوتهم-صلوات الله وسلامه عليهم- لأنه لايستطيع أحد أن يعلم هذه المغيبات ، والكهان يتقربون إلى الشياطين ويوالونهم فإذا تقربوا لهم أخبرهم الشياطين بما يسترقون من السمع ، فإنهم يسترقون السمع فمنهم من يدركه الشهاب قبل أن يلفظ بما سمع ومنهم من يخطفه الكلمة أو الكلمتين فيلقيها إلى من دونه ثم يزيد من دونه فيها وهكذا من دونه حتى تبلغ الكاهن تبلغ إلى الكاهن ومعها الكذب الكثير فيصيب ويخطئ والله عز وجل يبتلي عباده وهو الحكيم العليم فيخبر الكاهن بأمر ما أنه سيقع فيوقع الله ما قاله وفق ما قاله الكاهن اختباراً لعباده وابتلاءً لخلقه حتى يهلك من هلك على بينة ويحيا من حيا على بينة .(64/7)
ولذلك ينبغي للمسلم : أن يعتقد اعتقاداً جازماً أن أمور الغيب مما يستأثر الله بها وأنه لا يجوز أن يعتقد أن أحداً كائناً من كان يعلم من الغيب شيئاً إلا من أطلعه الله من رسله-صلوات الله وسلامه عليهم- من أمور الغيب ، وعلى هذا قرَّر العلماء أن ادعاءهم للغيب يعتبر كفراً ونص على كفر الكهان وأن إخبارهم عن الأمور المغيبة حتى ولو كانت يسيرة ولو كانت حقيرة من الأمور الغيبية أنه يعتبر كفراً -والعياذ بالله- ، ومن هنا يدخل في حكم الكهانة إذا ادعى أحدٌ علم الغيب بالطرق غير المعروفة في الكهانة وذلك كأن يدعي عن طريق الخطوط أو عن طريق قراءة الفنجان أو عن طريق قراءة الكف فكل ذلك في حكم الكهانة ، ويعتبر ادعاءً لعلم الغيب ، فمن اطلع على كف أحد وزعم أنه يكون له خير أو يكوذن له شر حتى ولو أخبر عن شيء واحد من الأمور التي يدعي أنها تقع له في مستقبله فهو كاهن مدعٍ لعلم الغيب ، ومن صدقه فقد كفر بما أُنزل على محمد -والعياذ بالله- قارئ الكف كافر وذلك لادعائه لعلم الغيب وقارئ الفنجان كافر ؛ لأنه يدعي علم الغيب وهو ينظر إلى خطوط اليد ويظن أن هذه الخطوط تدل على مستقبل الإنسان أو ما يقع له مما يقبل عليه من حياته من خير وشر ونفع وضر وفرح وترح وسرور وحزن إلى غير ذلك فكل ذلك من ادعاء علم الغيب ومن فعل ذلك كما ذكرنا يعتبر كافراً ؛ والسبب في تكفيره أنَّ الله سبحانه وتعالى قال في كتابه :{ قُلْ لاَ يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ الْغَيْبَ إِلاَّ اللَّهُ} أي لا يعلم أحد في السماوات ولا في الأرض الغيب وهذا شامل لكل الغيب إلا الله ، فإذا جاء هذا قارئ الكف أو القارئ للفنجان يقول سأطلعك عما يكون فمعنى ذلك أنه يقول إنه يعلم الغيب فهو يكذب على الله ، ومن هنا قال العلماء من ادعى علم الغيب فقد كذب الله سواءً كان ذلك بالصراحة أو كان بالظن كأن يقول للإنسان لك مستقبل أو سيكون لك كذا وكذا ويخبر بما يقع وقد(64/8)
يخبر بعض الكهان عما يقع في الأسابيع أو يقع في الشهور أو يقع في السنوات وهم أجهل الناس بما يقع لأنفسهم فضلاً عما يخبرون به عن الناس .
ذكر عن بعض أهل العلم رحمهم الله أنه دخل على أحد الخلفاء أمراء المؤمنين في عهد بني العباس فوجده مهموماً مغموماً فقال : ما شأنك يا أمير المؤمنين ؟ فقال : زعم فلان بن فلان-أي الكاهن- أنني أموت بعد عام .فقال : يا أمير المؤمنين هل لك أن تأتيني بهذا الكاهن ؟ فأمر به فأتي به ، فلما جاء الكاهن قال له ذلك العالم الموقر : أأنت الذي تزعم أن أمير المؤمنين يموت بعد كذا وكذا !! فقال: نعم . قال : أخبرني كم بقي من عمرك؟؟ وهذا من أعجز ما يكون أن يحرج في السؤال عن نفسه فقال له أخبرني عما بقي من عمرك فذكر أنه بقيت له سنوات ، فقال ذلك العالم الموفق إن يا أمير المؤمنين أن أردت أن يظهر لك كذبه فاقتله الساعة ، فقتله الساعة فظهر كذبه على نفسه فضلاً عن كذبه على الناس.(64/9)
فهذا هو شأنهم أنهم يخبرون عما يكون وهم أعجز الناس عن أنفسهم يصيبهم الضر ويصيبهم الحزن ويصيبهم الهم والغّم والنكّد ؛ لأن الله تكفَّل لمن ألحد بالضيق والنكد في الدنيا والآخرة-نسأل الله السلامة والعافية- فهم في هم وغم وكرب وحزن يمرضون ويسقمون ولا يعلمون ما بهم ، ولا يمكن لأحدهم أن يتوقع مايكون لنفسه فضلاً عما يخبر به عن الناس ، والله-- جل جلاله --أرحم بعباده وألطف بخلقه فدلهم على ما هو خير وأفضل وأكمل وأسلم وهو التوكل على الله وتفويض الأمور إلى الله وحسن الظن بالله -- جل جلاله -- ومن أحسن الظن بالله كان الله له بكل خير قال صلى الله عليه وسلم في الحديث القدسي قال الله-تعالى-:(( أنا عند حسن ظن عبدي بي ))،وفي رواية في المسند:(( فمن ظن بي خيراً كان له ومن ظن بي شراً كان له )) فالله عز وجل عوض عباده بحسن الظن به وصدق اللجوء إليه ، ولذلك إذا توكل المؤمن على ربه والتجأ إلى الله وأخذ بالأسباب من قراءة الأذكار ونحوها من الدعوات المباركات الطبيات التي ثبتت بها النصوص في كتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم فإن الله يرحمه ويجعله في سعة من أمره محفوظاً في نفسه محفوظاً في أهله محفوظاً في ولده ، والعكس بالعكس فإنك تجد من يلتجئ إلى الكهان ومن يصدق العرافين لا يقر له قرار ولا تهنأ له نفس ولا يرتاح له بال ، منكد العيش في نفسه منغص الحياة في نفسه وأهله وولده أينما يمن وحيثما ذهب جعل الله له الشؤم حيثما ولى وذهب ؛ لأنه أعرض عن الله ومن أعرض عن الله لم يبال الله به في أي أودية الدنيا هلك ، فمن أعظم الشقاء ومن أعظم البلاء-نسأل الله السلامة والعافية-أن ينزع الله من قلب عبده توكله عليه وتفويضه للأمور إليه ، ومن أعظم السعادة وأكملها وأفضلها أن يملأ الله قلب عبده بالإيمان وحسن اليقين والظن بالرحمن ، وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم :(( أن من أتى الكاهن فإنه كفر بما أنزل(64/10)
على محمد)) ؛ لأن الذي أنزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه لا يعلم الغيب إلا الله وبذهابه للكاهن يدل هذا على أنه يعتقد أنه يعلم الغيب وبهذا كفر بما أنزل على محمد -والعياذ بالله-وفي رواية:(( فقد برئ مما أنزل على محمد))وهذا أمر عظيم وخطر جسيم .
ولذلك يجب على العلماء وعلى الأئمة والخطباء وعلى الوعاظ وعلى طلاب العلم:أن يذكروا عباد الله بالله وأن يملؤوا قلوبهم ثقة بالله سبحانه وتعالى خاصةً في هذا الزمان الذي كثرت فيه الكهانة وكثر فيه العرافون والمنجمون والمرجمون، فينبغي عليهم أن يبينوا للناس كذب هؤلاء على الله وافتراءهم على عباد الله ، وأن يبينوِا لهم أنه لا يمكن للإنسان أن يكون مسلماً ولا مؤمناً إلا إذا أعرض عن هؤلاء ، أن الواجب على الناس أن يحسنوا الظن بالله سبحانه وتعالى وأن يصدقوا في لجوئهم إليه فإنه نعم المولى ونعم النصير ، في هذا الحديث تحذيراً من رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أمته وتنبيه لها وردع لها عن الوقوع في هذه المحرمات ، وما ترك رسول الله صلى الله عليه وسلم باب خير إلا دلنا عليه ولا ترك باب شر إلا حذرنا منه والمسلم الموفق من استكفى بحلال الله عن حرامه واستغنى بفضل الله عن من سواه- نسأل الله العظيم أن يكفينا بحلاله عن حرامه وأن يغنينا بفضله عن من سواه- .
قال رحمه الله : بَاب مَا جَاءَ فِي الْكَفَّارَةِ فِي ذَلِكَ
الشرح:(64/11)
يقول المصنف رحمه الله بَاب مَا جَاءَ فِي الْكَفَّارَةِ فِي ذَلِكَ : هذا الباب قصد المصنف منه أن يبين ما ورد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من الأحاديث التي اشتملت على بيان كفارة من وطئ امرأته وهي حائض وما ذكره من حديث ابن عباس رضي الله عنهما دل دلالةً واضحةً على أن الحديث الذي تقدم معنا من كُفر:((من أتى امرأته في دبرها أو أتى امرأته وهي حائض)) أن المراد به من استحل ذلك وأن مجرد وطء المرأة في حيضها ومجرد وطء المرأة من دبرها لا يقتضي الحكم بالتكفير ، وعلى هذا قالوا إنه لا يكفر إلا إذا اعتقد حل ذلك وكذب النصوص التي ثبتت في تحريم كلا الأمرين .
وقوله "الكفارة": أصل الكفر في لغة العرب هي الستر والتغطية تقول كفرت الشيء إذا غطيته ، ومنه قول الشاعر:
… في ليلة كفر النجوم غمامها ...........
أي ستر النجوم الغمام ، وسمُي المزارع كافراً لأنه يكفر البذر بمعنى أنه يستره ويغيبه في الأرض ، وسمُي الكافر كافراً؛ لأنه ستر نعمة الله عليه وكفر بها فهو لا يُقر ولا يعترف بتلك النعمة فهو كافر من هذا الوجه بمعنى أنه يستر نعمة الله عليه ، وسُمَّيت الكفارات بهذا الاسم لأنها تكفر الذنوب وتسترها كما يقال غفر الله ذنبه ؛ لأن أصل الغفر الستر فالمراد بالكفارة أنها تُكَّفر الذنب بمعنى أنها تستره ، وإذا سترت عن العبد بمعنى أنه يذهب عنه أثرها ولا يعاقب على ما وقع وبدر منه.
وقوله"الكفارة ": هذه الكفارة هي كفارة وطء المرأة في حيضها وقد اختلف العلماء في من وطئ امرأته وهي حائض سواء وطئها في أول الدم أو وطئها في منتصف حيضها أو طئها في آخر حيضها هل يجب عليه شيء غير الاستغفار..؟؟
للعلماء في هذه المسألة قولان :(64/12)
القول الأول : فقال جمهور العلماء رحمهم الله من وطئ امرأته وهي حائض فإنه لا يجب عليه إلا الندم والاستغفار وليست عليه كفارة سوى ذلك ، وهذا هو مذهب الحنفية والمالكية والشافعية وهو رواية عن الإمام أحمد غير المشهورة عنه وهي غير مشهورة عنه .
وأما القول الثاني : فإنهم يقولون من جامع امرأته وهي حائض فإنه يجب عليه مع الاستغفار أن يكفر ، وهذه الكفارة اختلف فيها أصحاب هذا القول فقال : بعض السلف يجب عليه أن يعتق رقبه ، وبهذا القول قال به الحسن البصري وقال به سعيد جبير من طلاب عبدالله بن عباس -رضي الله عنهما ورحم الله الجميع- قالوا إنه يجب عليه أن يُعتق رقبة .
والقول الثاني : قالوا يجب عليه أن يتصدق بدينار أو نصف دينار على تفصيلٍ عندهم في الفرق بين الدينار ونصف الدينار ومن أقوى هذه الأقوال في الفرق أنه يكفر بالدينار إذا كان وطؤه في فوران الدم وذلك في حالة قوة الدم وأول الحيض ، ويُكفَّر بنصف الدينار إذا كان عند انكساره ؛ لأن السنة بينت ذلك وقال:(( إذا كان الدم أحمر فعليه دينار وإذا كان أصفر فنصف دينار)) ومن هنا قالوا يكفر بالدينار في أول الحيض وبنصف دينار عند انكسار الحيض ووقوع الوطء في آخره ، وهذا القول هو قول الإمام أحمد في الرواية الثانية وهو المشهور عنه وعليه المذهب ، وقال به طائفة من السلف وهو مذهب عبد الرحمن الأوزاعي فقيه الشام ، وقال به إسحاق بن راهويه وطائفة من أئمة الحديث -رحم الله الجميع- .
أما الجمهور فإنهم قالوا إنه لا يجب عليه شيء إلا الاستغفار ؛ لأن الأصل براءة الذمة حتى يدل الدليل على شغلها وليس ثم دليل يدل على وجوب الكفارة لأنهم لا يرون ثبوت الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في وجوب الكفارة.(64/13)
والذين قالوا أنه يجب عليه أن يتصدق بالدينار ونصفه : احتجوا بحديث الباب وهو حديث عبد الله بن عباس رضي الله عنهما صحَّحه غير واحد صحَّحه ابن القطان وأسهب في تصحيحه ، وذكر أنما اعترض عليه بالاضطراب مرفوع بأنه ليس من الاضطراب المؤثر ، وأن الاختلاف في الرفع والوقف لا يؤثر في صحة الحديث وثبوته ؛ لأن ابن عباس –رضي الله عنهما- أفتى به فكان موقوفاً عليه ورفعه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فكان حديثاً متصلاً وهذا يقع من الصحابة-رضوان الله عليهم- فإنهم يذكرون الفتوى بنص حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا يرفعون ذلك إليه وإذا أسندوا الحديث رفعوه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان الخلاف على هذا الوجه مما لا يضر ولا يؤثر ، وكذلك صحح هذا الحديث الحاكم ووافقه عليه الذهبي واختار جمع من المتأخرين من أئمة الحديث أن الحديث ثابت وصحيح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلى هذا فإنه يترجح القول بوجوب الكفارة على من وطئ امرأته وهي حائض أن عليه ديناراً إذا كان الوطء في أول الحيض وعليه نصف دينار إذا كان الوطء آخر الحيض ، وذلك لأن ما استدل به الجمهور من براءة الأصلية والاستصحاب مجاب عنه بورود المستثنى وأن ببراءة الذمة لا يحكم بها إذا وجد ما يشغلها وقد وجد ما يشغلها من هذا الحديث المرفوع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم .
قال المصنف رحمه الله :حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ حُجْرٍ أَخْبَرَناَ شَرِيكٌ عَنْ خُصَيْفٍ عَنْ مِقْسَمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِي الرَّجُلِ يَقَعُ عَلَى امْرَأَتِهِ وَهِيَ حَائِضٌ ؟ قَالَ:(( يَتَصَدَّقُ بِنِصْفِ دِينَارٍ )) .(64/14)
حَدَّثَنَا الْحُسَيْنُ بْنُ حُرَيْثٍ أَخْبَرَناَ الْفَضْلُ بْنُ مُوسَى عَنْ أَبِي حَمْزَةَ السُّكَّرِيِّ عَنْ عَبْدِ الْكَرِيمِ عَنْ مِقْسَمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ:(( إِذَا كَانَ دَمًا أَحْمَرَ فَدِينَارٌ وَإِذَا كَانَ دَمًا أَصْفَرَ فَنِصْفُ دِينَارٍ )) .
قَالَ أَبو عِيسَى رحمه الله : حَدِيثُ الْكَفَّارَةِ فِي إِتْيَانِ الحَائِضِ قَدْ رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ مَوْقُوفاً وَمَرْفُوعاً وَهُوَ قَوْلُ بَعْضِ أَهْلِ الْعِلْمِ وَبِهِ يَقُولُ أَحْمَدُ وَإِسْحَقُ قَالَ ابْنُ الْمُبَارَكِ يَسْتَغْفِرُ رَبَّهُ وَلاَ كَفَّارَةَ عَلَيْهِ وَقَدْ رُوِيَ نَحْوُ قَوْلِ ابْنِ الْمُبَارَكِ عَنْ بَعْضِ التَّابِعِينَ مِنْهُمْ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ وَإِبْرَاهِيمُ النَّخَعِيُّ وَهُوَ قَوْلُ عَامَّةِ عُلَمَاءِ الأَمْصَارِ .
الشرح:
هذا الحديث اشتمل على وجوب الكفارة على من وطئ امرأته وهي حائض وقلنا الكفارة دينار في أول الحيض ونصف دينار في آخره .
ولكن السؤال: هل الكفارة تختص بالرجل أو تشمل المرأة مع الرجل ؟؟ وهل تجب الكفارة إذا وطئ امرأته وهو ناس أنها حائض فهل يجب عليه أن يكفر أو لا يجب عليه..؟؟
فأما بالنسبة لوجوب الكفارة فإنها تجب على الرجل.
وأما المرأة ففيها تفصيل:(64/15)
فإن طاوعت ورضيت فعيلها الكفارة كالرجل ، وإن لم ترض ودافعت وغلبت فإنها تختص الكفارة بالرجل دونها وهذا أصل أن الرجال والنساء في الحكم سواء ، وأما إذا اسُتكرهت فإنها مغلوبة على أمرها وبالإكراه يسقط حكم التكليف ، وقد أسقط الله بالإكراه حكم الردة وهي أعظم ما يكون من الذنوب فمن باب أولى أن يسقط ما دونها وعلى هذا فإن المرأة إذا استكرهت على الوطء وغلبها الرجل فإنه لا كفارة عليها ، وأما إذا رضيت وطاوعت أو أغرت ولم تدافع فإنه يجب عليها أن تكفر كما يجب على الرجل قال صلى الله عليه وسلم : (( إنما هنَّ شقائق الرجال)) وقد نص العلماء على تسوية النساء بالرجال في الحكم ، وهنا الرجل قد اقترف الحرمة بإتيان الوطء المحرم والمرأة اقترفت معه الحرمة نفسها ورضيت بها وقد تكون هي المغرية والداعية إلى ذلك ، وبناءً على ذلك فإنه لا وجه لتخصيص الحكم في حال المطاوعة بالرجل دون المرأة بل إن الحكم يشملهما معاً وعليها أن تكفر كما أن عليه الكفارة .
المسألة الثانية : لو أن رجلاً وطئَ امرأته وهي حائض وهو لا يدري أو وطئها وهي حائض ناسياً أنها حائض ؟؟
ففي هذه المسألة وجهان:
الوجه الأول : قال بعض العلماء : الحكم بوجوب الكفارة هنا من باب الحكم التكليفي وبناءً على ذلك فإنه يجب عليه أن يُكَّفر إذا كان ذاكراً عالماً ، أما إذا كان ناسياً أو غير عالم فإنه لا يجب عليه أن يُكفر ؛ لأن الكفارة شرعت جبراً للنقص الذي وقع منه وتلافياً للخطأ بمجاوزته للحدود الشرعية وهذا لم يقصد الخطأ ولم يرد ولم يطلبه ولم يكن على علم به فحينئذٍ لا تجب عليه الكفارة ؛ لأنه ليس في قلبه المعنى الموجب للمؤاخذة.(64/16)
والوجه الثاني : قال بعض العلماء : عليه أن يكفر ؛ لأن الكفارة هنا وجبت من باب الحكم الوضعي وليس من باب الحكم التكليفي لأن الضمان للحقوق عند الإخلال يستوي فيه الناسي والمتعمد ، وجه ذلك أن الخطأ والنسيان هنا لا يوجب إسقاط الضمان وهذا أصل ، ولذلك من قتل خطأً وجبت عليه الكفارة يعتق رقبة ، فإذا لم يجدها فيصوم شهرين متتابعين مع أنه مخطئ ولم يقصد الخطأ وليس في نيته أن يقتل ، قالوا فهذه الكفارة شرعت من باب الحكم الوضعي كذلك هنا يستوي أن يكون متعمداً أو يكون ناسياً ؛ لأنها من باب الحكم الوضعي وليس من باب الحكم التكليفي الذي يُشترط فيه العلم والقصد ، والله تعالى أعلم .
- ? - ? - ? - ? - الأسئلة - ? - ? - ? - ? -
السؤال الأول :
إذا فاخذ الرجل امرأته الحائض وأنزل فهل عليها غسل أم عليه فقط..؟؟
الجواب :
بسم الله الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه أما بعد:
فإنه إذا فاخذ الرجل امرأته يجب عليه الغسل ولا يجب على امرأته ؛ وذلك لأن المرأة لا يجب عليها الغسل إلا إذا أنزلت أو وقع الإيلاج ، وقد بينا هذه المسألة وذكرنا الأدلة على وجوب الغسل بالإيلاج وعلى هذا فإنه إذا فاخذها ولم تنزل وفاخذها ولم يقع إنزال فإنه لا يجب عليها أن تغتسل ؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال:(( إنما الماء من الماء)) ، وقال:(( إذا مس الختان الختان)) فهنا لم يقع إنزال فلم يجب عليها الغسل وقد قال صلى الله عليه وسلم :(( إنما الماء من الماء))وكذلك لم يقع إيلاج فلا يجب عليها الغسل لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال:(( إذا مس الختان الختان)) وهنا لم يمس الختان الختان ، والله تعالى أعلم .
السؤال الثاني:
أشكل علي كيف يؤمر بالأقل والأكثر في كفارة واحدة..؟؟
الجواب:(64/17)
يؤمر بالأقل والأكثر لاختلاف الأحوال وهذا ليس فيه إشكال إن الله -تعالى- يقول:{ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْراً}(1) وينبه بعض العلماء لحكمة لطيفة يقول : "إنه إذا كانت المرأة في بداية الحيض فالرجل حديث العهد بوطئها فالأمر فيه أشد ، ولكنه إذا كان الوطء في آخر الحيض فإنه مع مضي مدة من الحيض قد يُلجأ إلى هذا الشيء خاصة إذا كان شديد الشهوة فالأمر فيه أخف ، ومن هنا اختلف الحالان ، وقد جعل الله عز وجل في العقوبات لكل شيء حده وقدره ، ومن هنا أوجب على البكر بالبكر جلد مائة وتغريب عام وأوجب على المحصن بالمحصن إذا زنى جلد مائة والرجم وهذا كله من باب الاختلاف في الحكم لاختلاف الجريمة وقدرها ، والله تعالى أعلم .
السؤال الثالث:
إذا ماتت المرأة وهي حائض فهل يصلى عليها في المسجد ..؟؟
الجواب:
إذا ماتت المرأة وهي حائض انقطع التكليف ومن هنا تغسل ويصلى عليها وينقطع التكليف بمجرد موتها ولا يعتبر حيضها مانعاً من دخولها للمسجد ، والله تعالى أعلم .
السؤال الرابع:
كم يساوي نصف دينار في عصرنا بالريالات..؟؟
الجواب:(64/18)
الحقيقة هذه المسألة ترجع إلى مسألة الدينار الاسلامي كان على عهد النبي صلى الله عليه وسلم الدينار ثم في عهد عبد الملك بن مروان رحمه الله ضُرب الدينار الاسلامي كانت الدنانير والدراهم من بلاد الروم وكان المسلمون يتعاملون بها حتى صارت حاضرة الاسلام وعظم أمر المسلمين وجاءت خلافة عبد الملك رحمه الله فأمر بضرب السُكة فضرب الدينار الإسلامي ، والدينار الإسلامي حُرر في العصر الحاضر بأنه يعادل المثقالين إلا ربعاً كما جاء في فتاوى سماحة الشيخ محمد بن إبراهيم آل الشيخ -رحمه الله برحمته الواسعة- هذا الإمام العالم الورع الذي كان عالم زمانه وشيخ أوانه الشيخ محمد بن إبراهيم آل الشيخ كان نص على أن الدينار يعادل مثقالين إلا ربعاً ، وعلى هذا الجنيه السعودي الموجود الآن يعادل مثقالاً إلا ثمناً تقريباً ؛ لأن الثمن هذا يعتبر نقصاً في الجنيه الموجود فلو كانت قيمة الجنيه مائة ريال فهو دون الدينار ولا يحتاج إلى عملية حسابية في جبر الكسر ، لكن لك طريقة حسابية وهي أخصر وهي أخذ النصاب وقسمه على عشرين ، والنصاب فيه وجهان : بعض العلماء يرى أنه يعادل ثمانين غراماً وإذا كان يعادل ثمانين غراماً فمعنى ذلك أنك إذا قسمتها على عشرين فيكون الناتج في هذه الحالة أربع غرامات للدينار الواحد تعادل أربع غرامات ، فتنظر قيمة الغرام من الذهب وتضربها في أربعة هذه الطريقة أسلم وأبعد عن الكسر الموجود في قضية الجنيه السعودي ؛ لأن الجنيه السعودي يعادل مثقالاً إلا ثمناً والدينار الإسلامي يعادل مثقالين إلا ربعاً وبهذا يقولون إن جبر الكسر وهو الثمن الأفضل منه أن يعدل إلى النصاب فإن كان قلنا ثمانين غراماً فتقسمها على عشرين ويكون الناتج أربع غرامات للدينار الواحد ، الأربع غرامات تنظر قيمتها في يوم الجماع فإذا كانت قيمة الغرام في الجماع من الذهب أربعين ريالاً فمعنى ذلك أنك تضرب 4 × 40 = 160 ريالاً تكون قيمة للدينار ولهذا(64/19)
الحساب وهو أخصر وأفضل ، وكذلك إذا قلنا إن النصاب يعادل 90 غراماً يقُسم على 20 ويكون هناك كسر فوق الأربعة وكسر فجبر هذا الكسر بحسابه ثم يضرب بنفس الطريقة الأولى حتى يتحصل على الدينار .
فإذا كان الوطء في آخر الحيض أو بعد فوران دم الحيض هي الحالة الثانية فيخرج نصف العدل الذي ذكرناه وهو ما يعادل غرامين على ما ذكرنا ، والله تعالى أعلم .
السؤال الخامس :
ما حكم جماع الزوجة بعد أن تطهر من الحيض ولكن قبل أن تغتسل وإذا كان جائزاً فأي نية تجعل للغسل هل الطهر من الحيض أم الجنابة..؟؟
الجواب:
إذا انقطع الدم ولم تغتسل المرأة فجمهور العلماء على أنه لا يجوز الوطء ، وخالف الإمام أبو حنيفة النعمان -عليه من الله الرحمة والرضوان- فقال" إنه يجوز أن يطأ المرأة بعد انقطاع دمها وقبل الغسل" ؛ والسبب في هذا أنه نظر إلى أن التحريم نص بوجود الدم فإذا طهرت ورأت علامة الطهر جاز وطؤها وقد ذكرنا هذه المسألة وبينا الأدلة ؛ ولكن أن الراجح هو مذهب الجمهور ؛ لأن الله سبحانه وتعالى يقول: {وَلاَ تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ}(1) هذا الشرط الأول فإذا تطهرنا فأسند الطهر إليهن وهذا يقتضي أنهن يغتسلن من الحيض .
فأصبح عندنا شرطان:
الشرط الأول: انقطاع الدم وطهر المرأة من حيضها.والشرط الثاني: أن تغتسل من الحيض والشرع قد يُرتب الحكم على شرط واحد وقد يرتبه على شرطين كما قال -تعالى-:{حَتَّى إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْداً فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ}(2) فأمر الله عز وجل في اليتامى أن يبلغوا وهذا الشرط الأول ، وثانياً : أن يكونوا راشدين فلا يكفي أن يكونوا بالغين بل لابد من الرشد مع البلوغ وعلى هذا فإنه يُعتبر الحكم بجواز الوطء مرتباً على الشرطين:
أولهما: انقطاع الدم وطهر المرأة من حيضها .والثاني : أن تغتسل بعد ذلك الطهر .(64/20)
أما لو وقع جماع فمذهب طائفة من العلماء أنه لا يجب عليه أن يكفر لو جامعها بعد طهرها من الحيض وقبل أن تغتسل ، فالكفارة ليست في هذا الموضع يعني ما ذكرناه من الكفارة لا تجب إذا وقع الجماع قبل الغسل ، وإنما يأثم وعليه الندم والاستغفار ، وأما مسألة لو جامعها بعد طهرها وقبل أن تغتسل من الحيض فهل تنوي غسل الجنابة وغسل الحيض ؟
ذهب طائفة من العلماء أنه يقع الاندراج في هذا ، ومنهم من يرى أنها تغتسل غسلين غسل لحيضها وغسل لجنابتها كما لو أجنبت قبل أن تحيض ثم حاضت فقالوا بالتداخل على الوجه الأول ، وقالوا بالاشتراك على الوجه الثاني والثاني أحوط وأسلم ، والله تعالى أعلم .
السؤال السادس:
كيف نوفق بين من يخبر عن علم الغيب وبين حديث اتق فراسة المؤمن..؟؟
الجواب:(64/21)
مسألة الفراسة ثابت بها النصوص عن النبي صلى الله عليه وسلم فقد قال صلى الله عليه وسلم :(( لقد كان في من كان قبلكم محدثون وإن يكن في أمتي فعمر)) وكان عمر رضي الله عنه محدثاً ملهماً ، ولذلك نزل الوحي بلسانه رضي الله عنه وأرضاه وذكر ابن كثير رحمه الله وأهل السير أنه عُرضت عليه الجيوش في الفتح التي كانت في فتوحات الشام عرضت عليه رضي الله عنه فمّرت عليه طائفة فأعرض رضي الله عنه بوجهه فلما أعرض بوجهه تعجب الصحابة من أمره ، فلما مضى الناس قالوا له : يا أمير المؤمنين عُرض عليك بنو فلان فأعرضت عنهم فقال رضي الله عنه "ما خلق الله وجوهاً أبغض إلي من هذه الوجوه "ويشاء الله أن يكون هؤلاء الذين اشتركوا في قتل عثمان رضي الله عنه يوم الدار فكانت له فراسة عجيبة عمر رضي الله عنه ، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم :((والذي نفسي بيده لو رآك الشيطان تسلك فجاً لسلك غيره)) ؛ لكن هذا ثبت به النص وثبت به الدليل في عمر ولا نستطيع أن نزكي غير عمر كعمر ، وفتح الباب في هذا قد يُفضي إلى أمور خطيرة جداً حتى إنه يُعتقد في الأشخاص ، وربما أنهم يُظن أنهم الأولياء فيتحدثون بأمور غيبية ويسمون هذا بالكشف كما يقع عند المتصوفة وغيرهم وهذا لا شك أنه ، كفر الإنسان يقول أنه كشف له الحجاب ورأى ما سيكون وما سيقع هذا كفر ولا فرق بينه وبين الكاهن إلا أن الكاهن أرحم من هذا فالكاهن يقول إنه يتعاطى مع الشياطين .(64/22)
أما هذا -والعياذ بالله- يدعي أن الله فتح له الغيب وأن الله كشف له الغيب -والعياذ بالله-فيكذب على خلق الله ويدجل على العباد ويضلهم ويغويهم فتجد فتنته أشر من فتنة الكهان ، ولذلك وقع كثير من الجهال في مثل هذه المصائب وضلوا وأضلوا -نسأل الله السلامة والعافية -وهذا أمر خطير لأنه يتعلق بأعظم شيء وأقدس شيء وهو الإيمان بالله عز وجل والعقيدة ، فالإنسان إذا أصبح يعتقد في غير الله-- جل جلاله -- يعتقد أنه يعلم الغيب ويعتقد أنه يكاشف ويعتقد أن عنده سراً يطلع به على الأمور الغيبية فهذا كله -والعياذ بالله- كفراً بالله عز وجل ، ولا يجوز أن يعتقد في أحد ، عمر رضي الله عنه ثبت به النص وجاء به النص من الذي يصل إلى ما وصل إليه عمر-- رضي الله عنه - وأرضاه-ومن الذي سيكون مثل عمر -- رضي الله عنه - وأرضاه-!!وإنما يختص هذا الأمر بمن ورد فيه النص .(64/23)
وأما كون الإنسان يتفرس في الأشياء بمقدماتها ويظن فهذا ظن لا يجوز له أن يقطع فإذا رأى إنساناً ورأى عليه أمارات تدل على الريبة والشك فوقع في قلبه أنه مرتاب فهذا يستدل به بالعلامات الظاهرة ، كما يقال في هذه الدار أنها ستقع بعد سنة حينما يأتي المهندس والخبير ينظر إلى الدار وينظر إلى ما فيها ويقدر كم عمرها فيقول هذه الدار إذا بنيت بالطريقة الفلانية تعيش خمسين سنة أو تعيش ثلاثين سنة وهذا كله ينبني على التجربة ، ولا يُعتبر هذا من رجم الغيب أو من ادعاء علم الغيب وهو استدلال الأشياء المحسوسة بدلائله المحسوسة التي جعلها الله دالة عليها أو يكون هذا مستنداً إلى التجربة والخبرة ، كأن يقال مثلاً في رجل أصابه المرض يقال هذا المرض لا يعيش معه سنتين أو لا يعيش إلا إلى ثلاث سنوات أو أربع سنوات ، الأطباء حينما يقولون هذا الكلام يقولونه من خلال التجربة يعني في عرف الأطباء وتجربتهم أنه يعيش إلى ثلاث سنوات ، كأن هذا المرض علامة على أن الجسم لا يتحمل إلا في حدود السنة أو السنتين أو الثلاث سنوات ؛ لكنهم ما جاءوا بهذا الشيء من عند أنفسهم جاءت الحالة الأولى في هذا المرض فمات المريض خلال ثلاث سنوات وجاءت حالة ثانية وثالثة ولماذا تجد الأطباء يكتبون شكوى المريض ؟؟ لأن هذا الطب كما يقول العلماء وهذا ذكره علماء الشرع وعلماء الطب أن الطب اعتمد على شيئين إثنين :(64/24)
أحدهما:التجربة وهذه التجربة مبينة على شكوى الناس ، يأتي المرض فيشتكي من جنبه الأيسر وهذه الشكوى تكتب وتدون وكانت طريقة أول من اقتبسها واعتنى بها عناية فائقة أطباء المسلمين ، كان لهم طريقة كتابة شكوى المريض حتى يستدلوا بها على الأمراض وعلامات الأمراض والأعراض ، ولذلك نقول إن الطبيب حينما يقول إن هذا المرض سيستمر السنة أو السنتين و الثلاث سنوات مبني على حوادث سابقة ، وأن من كان في سن الخمسين ويصيبه هذا المرض فعندههم ستين حالة أو سبعين حالة عدد معين يعتبرونه بالحكم بالظاهرة ، فإذا بلغت ستين حالة أو سبعين حالة ممن بلغ خمسين سنة أنه إذا أصيب بالمرض الفلاني يعيش في حدود سنة ولا يجاوز السنة يجعلونها كنظرية عندهم أن هذا المرض إذا أصاب مَنْ عمره في الخمسين يكون عيشه إلى سنة كذا وكذا أو خلال سنة ويموت هذا كله من باب التجربة ولا يعتبر من باب الغيب ، وينبغي على الطبيب أن يقول هذا من خلال معرفتنا الطبية أنه في حدود سنة يموت لكن ما يقطع ولا يشعر أهل المريض بأن الأمر مجزوم به أم مقطوع به ، فإن الله على كل شيء قدير فكم من طبيب داوى المريض فعاش المريض ومات الطبيب ، والله عز وجل عل كل شيء قدير والله لا يعجزه شيء فمثل هذه الأمور يعني قد يقطع الطبيب بشيء يعني يغلب على ظنه شيء من باب الأمارات ؛ ولكن الله على كل شيء قدير وعلى هذا فإن الاستدلال بالأشياء والظواهر الموجودة المحسوسة التي يستند فيها أهل الخبرة إلى العلامات والأمارات الظاهرة لا يعتبر من رجم الغيب ولا يعتبر من المحظور شرعاً ،والله تعالى أعلم .
السؤال السابع:
هل يجزئ في كفارة اليمين دفع القيمة مع القدرة على الإطعام..؟؟
الجواب:
بسم الله الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه أما بعد :
إخراج القيمة في كفارة اليمين وإخراج القيمة في كفارة اللغو من رمضان فيه خلاف بين العلماء رحمهم الله :(64/25)
الجمهور على أن الله عز وجل إذا خص الكفارة بالطعام فإنه يجب إخراج الطعام ، ولا يجوز إخراج البدل من القيمة ، وعلى هذا فإنه إذا أخرج القيمة بدلاً عن الصاع في رمضان فإنه لا يجزيه وعليه أن يعيد الكفارة في وقتها .
وذهب الإمام أبو حنيفة رحمه الله إلى جواز إخراج القيمة والبدل ، واستدل بحديث معاذ رضي الله عنه وأرضاه أنه قال لأهل اليمن أتوني بخميص أو لبيس فإنه أرفق بأصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ولكن هذا الحديث إنما هو في الجزية وليس في الزكاة المفروضة ، ولذلك يجب الاقتصار على الطعام ولا يجوز إخراج البدل من القيمة ثم إن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمرنا بالإطعام وإخراج الطعام ونزل الوحي على رسول الله صلى الله عليه وسلم بإخراج الكفارة بالطعام والكسوة باليمين مع أن المال كان موجوداً على عهده صلى الله عليه وسلم فما أمر بإخراج البدل وكان موجوداً على عهد الخلفاء الراشدين -رضي الله عنهم وأرضاهم- وما أفتوا وما عملوا بإخراج البدل ، ولذلك الصحيح أنه يجب إخراج الطعام عيناً فيما سمُي فيه الطعام فيه عيناً ، وقال بعض العلماء إن في إخراج الطعام حكمة وذلك أن الطعام لا يأخذه إلا المستحق ، وأما المال والنقد يأخذه المستحق وغير المستحق ، والله تعالى أعلم .
السؤال الثامن:
ما حكم الدعاء بأمر من أمور الدنيا في السجود..؟؟
الجواب:
الدعاء بأمور الدنيا في الصلاة فيه خلاف بين العلماء رحمهم الله :
فمنع أهل العلم من أن يسأل الإنسان شيئاً في صلاته ، وقالوا إن الدنيا من كلام الناس وقد قال صلى الله عليه وسلم :(( إن هذه الصلاة لا يصلح فيها شيء من كلام الناس)) وعلى هذا قالوا لا يجوز أن يسأل شيئاً من الدنيا .(64/26)
وذهب طائفة من العلماء إلى جواز الدعاء ولو بأمور الدنيا فيقول اللهم إني أسألك زوجة ، اللهم إني أسألك مالاً أسدد به ديني ، اللهم إني أسالك من أمور الدنيا التي يريد بها قضاء مصالح الدنيا ومعاشها ولا بأس بذلك ، فإن النبي صلى الله عليه وسلم استعاذ بالله من المغرم والمأثم في صلاته ، وكذلك ثبت عنه عليه الصلاة والسلام في الحديث الصحيح أنه قال بعد التشهد ثم ليتخير من المسألة ما شاء فلما قال صلى الله عليه وسلم ثم ليتخير من المسألة ما شاء دل على العموم وأنه يجوز له أن يسأل من خيري الدنيا والآخرة ، وفي الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:(( إن في الجمعة ساعة لا يوافقها عبد مسلم وهو قائم يصلي يسأل الله شيئاً من خيري الدنيا والآخرة)) وذكر خيري الدنيا وخيرالآخرة فدل هذا على جواز الدعاء في الصلاة بأمور الدنيا وأنه لا بأس بذلك لكن ينبغي للمسلم أن يجعل الآخرة أكبر همه ومبلغ علمه وغاية رغبته وسؤله ، فإن الدنيا فانية ومن كانت الآخرة أكبر همه ومبلغ علمه وغاية رغبته وسؤله ملأ الله قلبه بالرضا ، ووضع الله له البركة في ماله وأهله وولده فأصبح قليله كثيراً ويسيره عظيماً ؛ لأن الله سبحانه وتعالى يملأ قلبه بالرضا فإذا شغل الإنسان بالآخرة انصرف قلبه إلى الآخرة وانصرفت شعب ذلك القلب إلى الله وأصبحت أشجانه وأحزانه مع الله -- جل جلاله --وعندها يطيب عيشه ويبارك له رزقه ، فهذا هو المنبغي من المسلم أن يجعل الآخرة أكبر همه ومبلغ علمه ، فلو أنه أصاب من متاع الدنيا وزينتها وأصاب لذتها وزهرتها فإن مصيرها إلى الفناء وإلى الزوال ؛ ولكن الآخرة باقية خالدة تالدة تقر بها العيون ويأنس بها المؤمنون -نسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يجعل الآخرة أكبر همنا ومبلغ علمنا وغاية رغبتنا وسؤلنا- ،والله تعالى أعلم .
السؤال العاشر:(64/27)
ما حكم صلاة النافلة لسائق السيارة وهل يقاس على صلاة النبي صلى الله عليه وسلم على دابته وكذلك ما حكم سجود التلاوة له..؟؟
الجواب:
أما بالنسبة لصلاة النافلة فإنها تجوز على السيارة إذا كان في السفر سواء كان راكباً أو كان قائداً ؛ لكنه إذا كان قائداً للسيارة ينبغي عليه أن يتحفظ فإذا أراد أن يسجد فيجوز له أن يكون مبصراً أمامه ؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم أو ما على بعيره وكان سجوده أخفض من ركوعه كما في الصحيحين من حديث ابن عمر ، لكن عند تكبيرة الاحرام يصرفها إلى القبلة ويكبر ثم بعد ذلك يسير في طريقه ولو انحرف عن القبلة ولو غير اتجاهه عن جهة القبلة فإنه يجوز له ذلك لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يصلى على دابته في السفر إلا المكتوبة .
وأما بالنسبة لسجود التلاوة فإذا كان الراكب في السيارة أو الراكب على الدابة هو الذي يقرأ القرآن فإنه يسجد سجود التلاوة ويؤمئ إيماءً ، وإذا كان مكان السيارة يمكنه من السجود يسجد كأن يكون راكب مثلاً في موضع منبسط كمؤخرة السيارة أو فيها مكان يصلح لسجوده يكبر ويسجد ، وأما إذا كان على مقعد السيارة ولا يستطيع أن يسجد عليه فحينئذ يسجد بالإيماء ويجزيه ذلك في السفر .(64/28)
وأما في الحضر فإنه لا يصلى على الدبة ولا يسجد عليها وإنما يختص الحكم بالسفر إعمالاً للنصوص في مواردها ، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم ما صلى على دابته في حضر وإنما اقتصرت صلاته على الدابة في السفر وحده ، وفي السفر معنى يقتضي الترخيص ، ولذلك يقول العلماء : إذا جاء النص بموجب للرخصة وفي النص ما يشعر بالتقييد من حصر الحكم به وجب تخصيص الحكم بذلك أو بتلك الحالة ، فلما كان السفر فيه مشقة وفيه عناء خُفف عن المسافر فجاز له أن يصلي نافلة على دابته ، أما إذا كان يسمع القرآن في السيارة فإنه لا يسجد مطلقاً ؛ لأن من شرط السجود عند سماع القرآن أن يتحد القارئ والمستمع ، وأما إذا كان غير ذلك أو كان يسمع القرآن سواء كان في صلاة أو كان يسمعه والقارئ يقرأ في صلاة أو يقرأ منفرداً فإنه في جميع ذلك لا يسجد .
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين وصلى الله وسلم على نبينا وعلى آله وصحبه أجمعين .(64/29)
بسم الله الرحمن الرحيم
يقول المصنف-رحمه الله -: بَاب مَا جَاءَ فِي غَسْلِ دَمِ الْحَيْضِ مِنَ الثَّوْبِ
الشرح:
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين أمابعد :
فقد ترجم المصنف رحمه الله بهذه الترجمة التي تدل على نجاسة دم الحيض ، وقد نص غير واحد من العلماء على أن دم الحيض نجس ، وإذا كان نجساً فإن الله أمر بالطهارة لأداء العبادة فقد تكون المرأة حائضاً ثم تطهر بعد ساعات فتخاطب بالصلاة وفي ثيابها دم الحيض أو يكون في بدنها دم الحيض أو يكون على الموضع الذي تصلي عليه دم الحيض .
فيرد السؤال : هل هذا الدم يعتبر طاهراً فلا يؤثر في عبادة الله أو هو نجس ينبغي غسله وإزالته ..؟؟
وترجم رحمه الله بهذه الترجمة التي تدل على نجاسة دم الحيض وذلك لثبوت الأحايث الصحيحة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم والتي أمرت بغسل دم الحيض وقد أجمع العلماء رحمهم الله على حكم هذه المسألة كأن المصنف رحمه الله بهذه الترجمة يقول في هذا الموضع سأذكر لك ما ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم من الأحاديث التي تدل على نجاسة دم الحيض ولزوم غسله.
والنجاسة تنقسم إلى قسمين :
القسم الأول : إما أن تكون نجاسة من المائعات كالدم والبول والمذي ونحو ذلك .
القسم الثاني : وإما أن تكون النجاسة من الجامدات كالغائط ونحوه من اليابسات والجامدات .
ثم إن المائع ينقسم إلى قسمين أيضاً :
الأول : فتارة إذا يبس لا يبقي إلا ذاته في خلل الشيء كالثوب ونحوه .(65/1)
الثاني : تارة ييبس فتبقى قطعه ويبقى متجلطاً ظاهراً على الثوب أو على البدن وهذا كمثل الدم ، فإن الدم مائع ولكنه إذا يبس كان له جرم وهذا الجرم يغطي طبقات الشيء أو سطح الأشياء فحينئذٍ يكون نجاسته أغلب ويكون مثل إزالة هذه النجاسة تحتاج إلى كلفة زائدة عن إزالة النجاسة التي هي دون ذلك ، وقد ورد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمره بتطهير النجاسات وجاء الأمر بصور مختلفة فتارة تطهر النجاسة بصب الماء عليها حتى يكون ذلك مزيلا لأثرها .
ومن أمثلة ذلك : البول إذا وقع على الأرض فإن تطهير الأرض يكون بصب الماء أكثر من البول ؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال في حديث الأعرابي حينما بال في المسجد :(( أريقوا عليه سجلاً من ماء)) فجعل طهارة هذه النجاسة بكثرة الماء الطهور الذي يغلبها ، ولذلك يسمي العلماء هذا النوع بالتطهير بالمكاثرة بمعنى أن تجعل الماء أكثر من النجاسة حتى يغلب على ظنك أن النجاسة قد تحللت وزال أثرها بذلك الماء الكثير وهذا يرجع إلى غالب ظنك ، وقد يرجع إلى أمارات وعلامات ظاهرة تراها على الثوب ، أو على السجاد أو على القماش فتحكم حينئذ أن كثرة الماء قد أزالت عين النجاسة وأثرها ، فهذا نوع من أنواع التطهير .
والنوع الثاني من التطهير : أن يغسل الشيء ثم يقرص ثم يزال الماء الذي صب على النجاسة مع النجاسة وذلك يقع في الأقمشة والأثواب ونحوها ، فإنك إذا أردت تطهير الثوب تصب الماء ثم تعصر ذلك الموضع الذي أصابته النجاسة فتخرج النجاسة مع الماء ثم تعيد ذلك مرتين وثلاثة حتى يذهب عين النجاسة وتذهب النجاسة عينا وأثراً .(65/2)
فهذا النوع الثاني من التطهير وهو الذي يسمى عند العلماء بالغسل ، وقد تزيل النجاسة بالحك دون عصر كما لو وقعت النجاسة على يدك فإنك تحكها دون أن تحتاج إلى عصر ، الشاهد من هذا كله أن نجاسة دم الحيض هي من النوع الأغلظ ، فنجاسة دم الحيض وإن كانت من المائعات لكنها من أغلظ أنواع المائعات ؛ والسبب في هذا أن الدم يتجلط ويبقى له أثر وتبقى له عين ويصعب إزالة هذا الأثر دون وجود كلفة خاصة إذا يبس .
وسيعتني المصنف رحمه الله بذكر ما جاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من السنة في نجاسة دم الحيض .
أما المسألة الأخيرة : وهى مناسبة هذا الباب لباب الحيض فواضحة ، لأن الكلام على مسائل الحيض يستلزم منا بيان حكم دم الحيض وهل هو طاهر أو هو نجس ، فناسب أن يعتني المصنف بإيراد ما جاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم نجاسته في هذا الموضع وأن يجعل باب إزالة نجاسة دم الحيض ضمن أبواب الحيض لوجود هذه العلاقة الظاهرة .
قال رحمه الله : حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي عُمَرَ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ عَنْ فَاطِمَةَ بِنْتِ الْمُنْذِرِ عَنْ أَسْمَاءَ بِنْتِ أَبِي بَكْرٍ أَنَّ امْرَأَةً سَأَلَتِ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم عَنِ الثَّوْبِ يُصِيبُهُ الدَّمُ مِنَ الْحَيْضَةِ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم : (( حُتِّيهِ ثُمَّ اقْرُصِيهِ بِالْمَاءِ ثُمَّ رُشِّيهِ وَصَلِّي فِيهِ )) .
قَالَ رحمه الله : وَفِي الْبَاب عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ وَأُمِّ قَيْسِ بْنتِ مِحْصَنٍ .(65/3)
قَالَ أَبو عِيسَى رحمه الله : حَدِيثُ أَسْمَاءَ فِي غَسْلِ الدَّمِ حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ وَقَدِ اخْتَلَفَ أَهْلُ الْعِلْمِ فِي الدَّمِ يَكُونُ عَلَى الثَّوْبِ فَيُصَلِّي فِيهِ قَبْلَ أَنْ يَغْسِلَهُ قَالَ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ مِنَ التَّابِعِينَ إِذَا كَانَ الدَّمُ مِقْدَارَ الدِّرْهَمِ فَلَمْ يَغْسِلْهُ وَصَلَّى فِيهِ أَعَادَ الصَّلاَةَ ، وقَالَ بَعْضُهُمْ إِذَا كَانَ الدَّمُ أَكْثَرَ مِنْ قَدْرِ الدِّرْهَمِ أَعَادَ الصَّلاَةَ وَهُوَ قَوْلُ سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ وَابْنِ الْمُبَارَكِ وَلَمْ يُوجِبْ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ مِنَ التَّابِعِينَ وَغَيْرِهِمْ عَلَيْهِ الإِعَادَةَ وَإِنْ كَانَ أَكْثَرَ مِنْ قَدْرِ الدِّرْهَمِ وَبِهِ يَقُولُ أَحْمَدُ وَإِسْحَقُ و قَالَ الشَّافِعِيُّ يَجِبُ عَلَيْهِ الْغَسْلُ وَإِنْ كَانَ أَقَلَّ مِنْ قَدْرِ الدِّرْهَمِ وَشَدَّدَ فِي ذَلِكَ .
الشرح:
هذا الحديث حديث أسماء -رضي الله عنها وأرضاها- والذي ذكره المصنف رحمه الله في هذا الموضع جعله أصلاً في نجاسة الدم ، وهذا مسلك جمهور العلماء من السلف والخلف- رحمة الله على الجميع- .
والكلام على هذا الحديث يستلزم بيان مسائل:
المسألة الأولى : هل الدم نجس أو طاهر ..؟؟
والمسألة الثانية : إذا قلنا بنجاسته فكيف تزال هذه النجاسة ..؟؟
المسألة الثالثة : وإذا قلنا بنجاسته أيضا فهل هناك قدر معفو عنه أو لا ..؟؟
اشتمل هذا الحديث على هذا الأصل لهذه المسائل وهو نجاسة الدم .
وفي هذا الحديث أيضاً طريقة إزالة نجاسة الدم وذلك بصب الماء ثم الحت والقرص بالماء ثم رشه ، فيحتاج المكلف إلى أن يصب الماء أولاً ، ثم يحك الدم ثم يقرصه ثم يرشه بعد ذلك أي يرش الموضع ، وهذا يتعلق بطريقة إزالة النجاسة وقد تقدمت الإشارة إليها .(65/4)
أما المسألة الأولى: وهي نجاسة الدم ، فالدم من حيث الأصل نجس في قول جماهير السلف والخلف رحمهم الله ، وهو مذهب الحنفية والمالكية والشافعية والحنابلة ، وطائفة من أهل الظاهر ، وأهل الحديث ، -رحمة الله على الجميع- ، أن الدم يعتبر نجساً من حيث الأصل وهو القول الأول .
وأما بالنسبة للقول الثاني فإنهم يقولون إن الدم طاهر إلا دم الحيض فإنه يعتبر نجساً .
واستدل جمهور العلماء على أن الدم نجس بقول الله سبحانه وتعالى :{قُلْ لاَ أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلاَّ أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَسْفُوحاً أَوْ لَحْمَ خِنزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ }(1) وقول الحق سبحانه وتعالى :{ فَإِنَّهُ رِجْسٌ } عائد إلى ما تقدم ، ومنه الدم ، حيث ذكر الميتة والدم المسفوح ولحم الخنزير ، فإن الميتة ولحم الخنزير بالإجماع كل منهما نجس وقد قرن بهم الدم وأعاد الضمير إلى الجميع فقال -سبحانه-:{فَإِنَّهُ رِجْسٌ} وهذا يدل على نجاسة الكل .
والدليل الثاني : أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر من وجد ما ينقض وضوءه من الريح أن يخرج من المسجد وأن يضع يده على أنفه كأنه أصابه الرعاف ، وهذا فيه إشارة إلى أن الرعاف نجس ؛ لأنه لا يخرج المكلف بعد الأذان من المسجد إلا من حاجة ، فإذا أشار إلى أنه رعف وإن كان في الحقيقة محدثاً كأن الناس ترى في الظاهر أنه قد تلبس بحدث أو تلبس بخبث ، فإذا وضع يده في أنفه ستر نفسه عن الحدث وأشار إلى الظاهر من الخبث ، وبناءً على هذا كأنه يشير إلى أنه ينبغي غسل دم الرعاف ، وإذا كان ينبغي غسل دم الرعاف فإن معنى ذلك أنه نجس .
واستدل أصحاب القول الثاني بأدلة :
أولها : أن الأصل في الأشياء الطهارة حتى يدل الدليل على نجاستها ولا يرون دليلاً صحيحاً يدل على نجاسةالدم.
__________
(1) / الأنعام ، آية : 145 .(65/5)
ثانياً : أن النبي صلى الله عليه وسلم حينما أمر بحراسة الشعب وقام الصحابي يصلي فجاءه السهم الغائر فنزف وهو في الصلاة فإنه لم يقطع صلاته ، وكذلك لم يغسل الدم عنه ، فدل على أن الدم طاهر وأن خروجه من البدن لا يوجب نقض الطهارة .
وأما الدليل الثالث : فهو الأثر وإجماع الصحابة ، قالوا إن عمر بن الخطاب رضي الله عنه طعن ، ولما طعنه أبو لؤلؤة المجوسي -عليه لعنة الله- نزفت جراحه ، نزف جرحه رضي الله عنه وأرضاه فمازال ينزف فصلى وجرحه ينزف الدم فدل هذا على طهارة الدم وأنه لا يؤثر لا في طهارة الحدث ولا في طهارة الخبث ، والذي يترجح ، والعلم عند الله ، القول بنجاسة الدم ولظاهر قوله-سبحانه -:{أَوْ دَمًا مَسْفُوحًا فَإِنَّهُ رِجْسٌ } ، ولذلك ظاهر قوله صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح:(( اغسلي عنك الدم)) ولقوة ما ذكره الجمهور من أدلة.
ثانياً : أن استدلال أصحاب القول الثاني بأن الأصل طهارة الدم حتى يدل الدليل فإن هذا استدلال بالبراءة الأصلية ، والقاعدة في الأصول : " أنه لا يحتج بالبراءة متى جاء الناقل عن الأصل" وقد جاءت الأدلة بقوله-سبحانه-:{ أَوْ دَمًا مَسْفُوحًا فَإِنَّهُ رِجْسٌ } ، وكذلك أمره عليه الصلاة والسلام بغسل الدم كلها دالة على نجاسة الدم .(65/6)
أما الأمر الثالث : وهو استدلالهم بحديث الشعب ، فإن حديث الشعب وأثر عمر بن الخطاب رضي الله عنه كلاهما في النزيف ، ومن المعلوم أن النزيف يغلب الإنسان ولا يمكنه أن يحبس الدم إذا كان النزيف قوياً وإذا كان غالبا له فإنه يصلي على حالته كما أذن صلى الله عليه وسلم للمرأة المستحاضة أن تصلي على حالتها والدم يجرى معها ؛ لأن القاعدة "أن التكليف شرطه الإمكان" فلما كان النزيف القوي ليس بإمكان المكلف أن يوقفه فإنه يصلي ولو خرج معه الدم ، حتى أن الجمهور الذين يرون نجاسة الدم يقولون من نزف جرحه أو نزفت معه البواسير أو استرسل معه الرعاف يصلي على حالته إذا غلبه ، فهذه أحوال مستثناة خارجة عن الأصل لا تقدح في الدليل الدال على نجاسة الدم كما ذكرنا وعلى هذا فإن الدم نجس ، وقوله سبحانه وتعالى :{أَوْ دَمًا مَسْفُوحاً} أشار إلى قيد في الدم النجس وهو كونه مسفوحاً أي كثيراً ، وسنذكر أنه يستثنى القليل وسنبين وجه الاستثناء من الآية الكريمة .(65/7)
إذا ثبت أن الدم نجس فإن طهارة الدم تكون بإزالة عينه وأثره فهناك عين الدم وهناك الأثر الباقي بعد الدم وهي الصفرة التي تكون بعد نزع الحمرة التي تعلو الدم ، فإنه إذا غسل واستهلك الماء الدم فإنه تبقى الصفرة التي هي أثر الدم ، فيزال العين ويزال الأثر ، لأنه لا يصدق عليه أنه طهَّر الثوب كما أمره الله عز وجل ولا يوصف الثوب بكونه نظيفاً طاهراً إلا إذا أزال العين والأثر ، ومن هنا أكد رسول الله صلى الله عليه وسلم بهذه الجمل فأمرها أن تحك الدم بماء وأن تقرصه وأن ترشه أمرها أن تحكه ثم تقرصه ثم تحكه بالماء ثم ترشه بعد ذلك ، وبناءً على ذلك فإن الدم إذا كان يابساً يحكه من الدم أولاً لأنه أخف في طهارته ، لأنك إذا حككته تفسخ من ظاهر الثوب أكثره أو ظاهره تفَّسخ من الثوب ظاهره أو أكثره ثم بقي ما في خلُل الثوب فيكون ضعيفاً أمام الماء فأمر بالحك ثم بعد ذلك تصب الماء فيمتزج الدم بالماء ، فيحتاج إلى قرص .
وقال عليه الصلاة والسلام :(( أقرصيه )): وهو الذي يسمى بالعصر فتقرصه ولو كان بقوة فهو أبلغ في التنظيف فإذا قرصت الدم تصب بعد ذلك الماء ، وهو الذي عناه عليه الصلاة والسلام بقوله:((ثم رشيه)) فالرش إنما يكون بعد القرص ؛ لأنه إذا قرص وعصر زالت آثار الدم ومادة الدم وحينئذٍ إذا رش بالماء فإنه ينظف المحل بمجرد إصابة الماء له ، وعلى هذا تكون طهارة الدم بهذه الصورة التي ذكرناها ؛ لكن الأصل في النجاسات أنها تغسل ثلاث مرات ، وهذا فيه خلاف بين العلماء رحمهم الله ؛ لكن الصحيح أن إزالة النجاسة تكون ثلاث مرات إلا في موضعين :
الموضع الأول : النجاسة التي على الأرض فإنها تذهب بصبة واحدة أكثر من النجاسة الموجودة ويشترط في هذه الصبة الواحدة أن تذهب بعين النجاسة ، ولذلك قال العلماء : يشترط في التطهير الثلاث إلا إذا كانت النجاسة على الأرض فصبة واحدة تذهب بعينها .(65/8)
الوضع الثاني : التي تستثنى من التثليث ، وهى التسبيع في نجاسة الكلب وهذا في نجاسة الكلب خاصة وقد سبق الكلام على ذلك في حديث الولوغ (1) ، وعلى هذا فإن الدم يغسل ثلاث مرات فإن حكت المرأة الدم ثم قرصته ورشته بالماء مرة واحدة ثم بعد ذلك مرتين ، فإنه ولو ذهب عين الدم ذهب العين والأثر ، فإنه يصب الصبة الثالثة استبراء وإنقاء .
أما الدليل على اشتراط غسل النجاسات ثلاثاً : فحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال :(( إذا استيقظ أحدكم من نومه فليغسل يديه قبل أن يدخلهما في الإناء ثلاثاً ، فإنه لا يدري أين باتت يده )) ووجه الدلالة من هذا الحديث أن الأمر بغسل اليد قبل إدخالها في الإناء إنما هو لخوف النجاسة ومع ذلك أمر بتكرار هذا الغسل ثلاث مرات ، ثم إن رسول الله صلى الله عليه وسلم أكد هذا فإنه حينما ذهب إلى الخلاء أمر عبد الله بن مسعود أن يأتيه بثلاثة أحجار ، فلما أمره بالثلاثة الأحجار دل على أن التثليث أصل في إزالة النجاسة ، وذلك أن الأحجار كل حجر منها قائم مقام غسلة مستقلة ولذلك قال العلماء إن هذا الحديث يقوي ما ذكر من أن التثليث بغسل النجاسات معتبر .
يبقى السؤال : لو أنه غسل النجاسة ثلاث مرات ثم لم يذهب أثر النجاسة ..؟؟
الجواب: فإنه يجب عليه أن يزيد ، وقول العلماء أنها تغسل ثلاث مرات سواء كانت دماً أو بولاً أو ودياً أو مذياً أو غيرها من النجاسات ، إنما هو إذا حصلت الطهارة وحصل النقاء .
أما إذا حصلت الطهارة ولم يحصل النقاء فإنه يجب عليه أن يزيد حتى ينظف المحل ويطهر على الصورة المعتبرة شرعاً.
يبقى السؤال : بالنسبة لإزالة النجاسة لو وقعت على الأرض فيما هو موجود الآن من الفرش التي يصعب قلعها وإزالتها من مواضعها ..؟؟
__________
(1) / راجع درس رقم : 42 .(65/9)
الجواب: إذا كانت النجاسة على فراش يصعب قلعه كما لو بال صبيٌ على فراش ولم يمكننا أن نزيل هذا الفراش وهو محتاج إلى الصلاة عليه فإنه حينئذٍ يصب الماء على الفراش ويكون الماء المصبوب أكثر من البول الذي أوقعه الصبي على البساط ، وإن استطاع أن يصب الماء ويغسله ثلاث مرات كأن يصب الماء ثم يشفطه بالأسفنج أو نحو ذلك فإنه يفعل ذلك ثلاث مرات قياساً على العصر ثلاثا فيصب المرة الأولى ثم يضع القماش أو القطن أو الأسفنج حتى يمتص الماء مع النجاسة ، ثم يصب الثانية ثم يصب الثالثة على وجه ينظف به المحل ، فإن تعذر عليه هذا -أعني الغسل على هذا الوجه - فإنه يصب صبة يكاثر بها النجاسة حتى يكون الماء المصبوب أكثر من النجاسة ؛ لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر بذلك في بول الأعرابي وهو أصل عند العلماء رحمهم الله في هذه المسألة .
المسألة الثالثة : ما هو الذي يستثنى من الدم النجس ..؟؟
يستثنى من الدم من حيث الأصل دماء حكم الشرع بطهارتها :
أولها : دم الذبيحة المذكاة والذبيحة التي تذبح لا تخلو من حالتين الدم الموجود فيها يكون في موضعين :
الموضع الأول : هو موضع الذكاة فلو أنك أضجعت الشاة ثم ذبحتها فإن الموضع الذي تنهر فيه الدم ، وهو موضع الذكاة من الرقبة ، هذا الموضع الدم الخارج منه أثناء التذكية يعتبر نجساً وهو الدم الذي أجمع العلماء كلهم حتى من يقول بطهارة الدم يقول إن هذا النوع من الدماء نجس ، وعلى هذا فإن هذا الموضع لا إشكال في نجاسته ، ومما يخطئ فيه بعض الناس أنهم إذا ذكوا الشاة أو الدجاج أو الطائر الحمام أو نحوه لا يغسلون الرقبة ولا يغسلون موضع الذكاة وهذا الدم الذي يتجلط أو يكون في موضع الذكاة نجس وهو محل إجماع بين العلماء رحمهم الله فينبغي التنبه لهذا أنه وينبغي تطهير موضع الذكاة وتنظيفه إذا أراد الإنسان أن يأكل منه .(65/10)
أما بالنسبة للموضع الثاني : من الشاة المذكاة أو البهيمة المذكاة فهو الذي يكون في داخل البدن ، فالذي في داخل البدن ، يجوز للمسلم إذا ذكى الشاة أن يشرب من دمها الذي في داخل بدنها ، ويجوز أن يطبخ هذا الدم ويشربه في مرقة الذبيحة وهذا محل إجماع بين العلماء رحمهم الله ؛ لأن الذكاة تطهر الذبيحة وتبيح أكل ما فيها وليس هناك دليل باستثناء الدماء ، وما من عضو من الشاة يأكله الإنسان إلا وفيه دم ، ولذلك قالوا الدماء التي تكون داخل البهمية بعد التذكية تعتبر طاهرة ، وكأن التذكية تطهير لهذه البهيمة ، ومن هنا إذا ماتت البهيمة حتف نفسها وصارت ميتة صارت كلها نجسة وهذا يدل على أن التذكية فيها سبب أو فيها موجب للحكم بالتطهير ؛لكن بعض العلماء استثنى الدم المنحبس في قلب البهيمة وهذا راجع إلى قول بعض الأطباء بأنه لا خير فيه وأنه لا يحمد طبياً ، ولذلك يحتاطون عند تذكية البهائم بشق القلب وإخراج الدم المنحبس ؛ لأنه لا يحمد طبياً ويستحسن أن لا يكون في الطعام أو يكون في البهيمة ؛ ولكن هل يحكم بالنجاسة أو لا ؟؟
الجماهير على أنه طاهر وذلك لأن الذكاة تطهر البهيمة كما ذكرنا .
ثانيها: الذي يستثنى من الدم فهو الدم الذي يكون دون الدرهم ، أي ليس بكثير ؛ والسبب في استثناء هذا أن الله عز وجل حينما حكم بنجاسة الدم قال –سبحانه-:{أَوْ دَمًا مَسْفُوحًا فَإِنَّهُ رِجْسٌ } والمسفوح في لغة العرب هو الكثير فلما خص الله عز وجل الدم المحكوم بنجاسته بكونه مسفوحا فإن منطوق النص يدل على نجاسة المسفوح ، ومفهوم النص يدل على طهارة غير المسفوح وهو الذي دون الكثير .(65/11)
واختلف العلماء رحمهم الله في الدم الذي هو دون المسفوح الذي يحكم بكونه كثيراً ، فمنهم من يقول ما كان دون الدرهم أي لم يبلغ قدر الدرهم البغلي ، والدرهم البغلي نوع من الدراهم التي كانت موجودة على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم والخلفاء حتى جاء الدرهم الإسلامي ، ويقدر بقدر الهللة التي كانت موجودة إلى عهد قريب أو دون القرش الموجود في زماننا أقل منه بيسير هذا القدر الذي هو قدر الدرهم يعتبر من العفو ، وقال بعض العلماء : إن الأصل في هذا أي التقدير بالدرهم البغلي من حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه استثنى من الدم قدر الدرهم ؛ ولكن هذا الحديث ضعيف بل لا أصل له كما قال غير واحد من العلماء رحمهم الله إلا أن الإجماع قائم على أن قدر الدرهم من العفو .
هناك قول ثان : أن اليسير من الدم قدر شبر في شبر فما كان قدر الشبر في شبر فإنه يسير، وهذا من أضعف الأقوال في المسألة .
وهناك قول ثالث : أن اليسير هو الذي لا يفحش في نفس المكلف فإذا نظرت إليه قلت يسير ولا تراه كثيراً في نظرك وفى نفسك لا تستبشعه ، هذا هو مذهب الحنابلة رحمهم الله .
والصحيح أن اليسير قدر الدرهم وذلك لأن قدر الدرهم وصف منضبط ، وأما ما يتفاحش في النفس فإنه يختلف من شخص إلى آخر ، فالموسوس وضعيف النفس قد يعد القطرة الواحدة من اليسير ، وأما غيره من المتساهل فإنه قد يعد الكثير يسيراً ، فينضبط بقدر الدرهم ، فهو الذي إذا وصل إليه حكم بالنجاسة ووجوب الغسل، وما كان دون ذلك فإنه من العفو يستوي في ذلك أن تكون القطرة من الدم على الثوب في موضع واحد أو في مواضع متعددة ، فلو كان ما دون الدرهم في ثلاثة مواضيع قطرة على يده اليمني وقطرة على يده اليسرى وقطرة في أسفل الثوب لو جمعت لم تبلغ قدر الدرهم فإنها من العفو ولا يضرها هذا الدم ، وأما إذا جمعت وكانت بقدر الدرهم فأكثر ، فإنه يجب عليه غسل الجميع ولا يعتبر من العفو .(65/12)
قال بعض العلماء : مما يستثنى في نجاسة الدم ، الدم الموجود في موضع الجرح ، وذلك لأن موضع النجاسة مغتفر فلو أنه جرح في أسنانه أو أصابه الرعاف فغسل وبقى موضع الرعاف أو موضع الجرح أو موضع الطعنة أو موضع النزيف فيه دم فإنه لا يؤثر ؛ لكن السؤال إذا قلنا إن الذي في موضع الدم معفو عنه ..؟؟
فالذي في موضع الدم له حالتان :
الحالة الأولى : أن يكون الموضع خلوا ولكن الأثر على ظاهر الموضع وهذه في حالة نشاف الموضع وبقاء الدم على ظاهر الجروح .
والحالة الثانية : أن يكون الدم طافحاً بحيث يكون الجرح أشبه بالحفرة أو بالموضع المحفور في البدن ويكون هذا الموضع ممتلئاً بالدم ، فهل العفو الذي ذكره العلماء يختص بما كان الدم منحبساً فيه على باطن الجرح أم أنه يشمل ما إذا غطي ظاهر الجرح ..؟؟
الصحيح أنه يستوي أن يكون على ظاهره أو يكون طافحاً ، المهم أنه لا يسيل على الأطراف ، ومن هنا قال بعض العلماء : لا يؤثر الدم في موضعه إلا إذا دمع الجرح ودمع الجرح أنه يسيل خارج الموضع- شبهه بالدموع التي تسير من المقلة- فقالوا إذا كان منتفخاً أي الدم وكثيراً في الموضع ولكنه لم يسل على الأطراف فإنه لا يؤثر سواء كان يابساً أو كان مائعاً .
في هذا الحديث توجيه من رسول الله صلى الله عليه وسلم للمرأة وبيان لما تبتلى به من دم الحيض أنه نجس ، وهذا يدل على أنه ينبغي للمرأة أن تسأل عن الأحكام التي تعم بها بلواها سواء تعلقت بطهارتها أو صلاتها وسائر عباداتها ومعاملتها .
قال رحمه الله : بَاب مَا جَاءَ فِي كَمْ تَمْكُثُ النُّفَسَاءُ ؟
الشرح:(65/13)
يقول رحمه الله "باب ما جاء أي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ":في أي في الزمان المعتبر لمكوث النفساء ، والمراد بذلك تحديد أكثر النفاس ، ودم النفاس هو الدم الذي يخرج عقب الولادة ، ويختص بدم الولادة وذلك أن الله من حكمته جعل دم المرأة منحبسا فيها أثناء الحمل ثم بعد ذلك ينفجر بعد ولادتها ، وقال بعض العلماء : إنه يتحول غذاء للطفل إذا كان في بطن أمه ثم ينفجر بعد ذلك في النفاس وينقسم إلى نوعين :
النوع الأول : فأخلصه وأطيبه يصير لبنا .
النوع الثاني : وأخبثه وأرداه ينفجر مع الموضع ، وهذا لا إشكال فيه لأن اللبن أصله دم كما قال-تعالى-:{مِنْ بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ لَبَنًا خَالِصًا سَائِغًا لِلشَّارِبِينَ}(1) فمن حكمة الله عز وجل أنه إذا ولدت المرأة جرى معها هذا الدم قد يجرى كثيراً وقد يجرى قليلاً فتحتاج المرأة إلى معرفة الأحكام المتعلقة بهذا النوع من الدماء ، وقد بسطنا القول في مسائل النفاس فيما تقدم ، وسنشير هنا إلى مسألة أكثر النفاس .
أما أقل النفاس : فليس لأقل النفاس حد بل إن المرأة لو وضعت الجنين الذي في بطنها ولم يخرج معها دم ، فإنه يحكم بطهرها وطهارتها بمجرد وضعها لذلك الجنين فليس لأقل النفاس حد ، كما قالوا ربما وضعت ولدها وجنينها بدون دم ، إنما الخلاف في أكثر النفاس والسبب في خلاف العلماء في أكثر النفاس أن المرأة في حال نفاسها ممنوعة مما تمنع منه المرأة الحائض ، وهناك حقوق لله عز وجل كالصلوات والصيام والطواف بالبيت ، وهناك حقوق للمكلفين كالوطء ، فتمنع من هذه الأمور وينبغي عليها أن تلتزم بهذا المانع مدة وجود دم الحيض .
فيرد السؤال : هل تبقى ممنوعة مدة جريان الدم..؟؟
__________
(1) / النحل ، آية : 66 .(65/14)
لأنه ربما جرى معها دم النفاس واسترسل فانقلب من النفاس إلى الاستحاضة وبعض من النساء ربما ولدت ، وبعد الولادة تمكث شهرين والدم يجري معها ، وقد تمكث ثلاثة أشهر فتنتقل من النفاس إلى الاستحاضة ، فيحتاج العلماء والفقهاء في بيان الأحكام الشرعية إلى وضع حد لأكثر النفاس كما وضع الحد لأكثر الحيض فإذا بلغت هذا الحد الذي هو غالب نفاس النساء ، فإننا نقول تطهر بعد ذلك ، أو يحكم بطهرها بعد ذلك إلا إذا رأت علامات حيضها فإنها تكون قد انتقلت من دم النفاس إلى دم الحيض .
وقوله" كم تمكث": أي ما هي المدة التي هي أكثر مدة النفاس ..؟؟
وهذه المسألة اختلف فيها العلماء –رحمهم الله- على أقوال :
القول الأول : أن أكثر مدة النفاس هو أربعون يوماً فإذا جرى الدم مع المرأة أكثر من أربعين يوماً فإنها نفساء في الأربعين طاهرة بعد الأربعين مالم تر علامات الحيض ، وهذا القول قال به جمهور العلماء ، قال به أمير المؤمنين عمر بن الخطاب ، وعلي بن أبي طالب ، وهو قول أم سلمة وطائفة من التابعين ، وهو مذهب الحنابلة والحنفية والظاهرية ، بعض أصحاب داود الظاهري وقال به طائفة من أهل الحديث وبعض أصحاب الإمام مالك -رحمة الله على الجميع-.
القول الثاني : أن أكثر النفاس هو ستون يوماً ، وبه يقول الإمام الشافعي والإمام مالك وقيل إنه رجع عن هذا القول ، ولكن جملة من أصحابه على القول بأن النفاس هو ستون يوماً ، وقال به بعض فقهاء التابعين كالليث بن سعد من أتباع التابعين ، وكذلك أيضاً قال به بعض أصحاب الإمام أحمد-رحمة الله على الجميع-.(65/15)
القول الثالث: إن النفاس يختلف بالنسبة للرجال والنساء ، فإذا وضعت ذكراً فإنها تمكث عشرين يوماً ، وإذا وضعت أنثى فإنه يكون نفاسها أربعون ، ومنهم من يذكر عددا غير هذا العدد ، وهذا هو مذهب التفصيل . القول الرابع والأخير: هو القول بأن أكثر النفاس هو سبعون يوماً وقال به بعض السلف حيث قال به إسماعيل بن جعفر وأشهر هذه الأقوال القولان الأولان أن أكثر النفاس أربعون يوما أو ستون يوما وهذان القولان أحدهما يعتمد على دليل النقل والثاني يعتمد على دليل الحس والتجربة .
وأما الذين قالوا إن أكثر النفاس هو أربعون يوماً ، احتجوا بحديثنا الذي معنا "كانت النفساء تمكث على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم أربعين يوماً" ، حيث دل هذا الحديث على أن أكثر نفاس المرأة هو أربعون يوماً قالوا وقد أسند هذا إلى عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فدل على أن المرأة النفساء بعد الأربعين يحكم بطهرها ، وأكدوا هذا بدليل عقلي أو نظري قالوا إن المراة إذا حملت الجنين فإنه لا ينفخ فيه الروح قبل أربعة أشهر وهي المائة والعشرين يوماً ، والأربعة الأشهر ردت في كل شهر منه عشراً وينحبس فيها الدم بمجرد حملها ونفخ الروح فيها فإذا انحبس الدم قالوا إنه يكون نفاسها إلى الأربعين فيتأكد بقدر الأربعين بوجود صورة الحال التي تؤكد هذا المعنى .
أما الذين قالوا إنه ستون يوماً فهؤلاء استندوا إلى التجربة قالوا إننا وجدنا أن المرأة تمكث في نفاسها إلى ستين يوماً وهذا أكثر ما وجدناه ، وليس هناك دليل يحدد فنرجع إلى التحديد بالتجربة لأن الشرع ترك الأمر مطلقاً.(65/16)
والصحيح ما ذهب إليه الجمهور من أن النفاس يتقيد بالأربعين لثبوت السنة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ووقوع هذا في عهده -صلوات الله سلامه عليه- ، وهو الغالب في نفاس النساء كما ذكر غير واحد من العلماء أن الغالب في المرأة أن تمكث إلى الأربعين ، ولماّ سئل بعض الأطباء عن ذلك قال إن دم النفاس فيما يظهر من الناحية الطبية لا يجاوز الأربعين في الغالب وهذا كله يقوي قول من قال بأنه إلى الأربعين ، وعلى هذا فلو أن المرأة النفساء انقطع دمها دون الأربعين فإنه يحكم بطهارتها بتفصيل ، فإن انقطع دون الأربعين ورأت إحدى علامتي الطهر التي سبق بيانهما:
العلامة الأولى : القصة البيضاء . والعلامة الثانية : الجفوف فإنها تصلى وتصوم .
مثال ذلك : لو أنها ولدت ولدا ثم بعد عشرين يوما انقطع عنها الدم ورأت القصة البيضاء ، ففي اليوم الواحد والعشرين يجوز لها أن تصوم ويجب عليها أن تصلي ، فإذا انقطع الدم بالكلية ولم يعد قبل الأربعين ، فإنه حينئذ لا إشكال وتنتظر حيضها ، أما لو عاودها قبل استمام الأربعين فإن فائدة التأقيت بالأربعين نحكم بكونها نفساء من جديد ، فلو أنه جرى معها دم النفاس عشرين يوماً ، ثم رأت علامة الطهر خمسة أيام ، ثم عاودها بعد ذلك الدم خمسة أيام ، فإننا نضيف هذه الخمس إلى العشرين الأولى وتصبح قد أمضت خمسة وعشرين يوما من نفاسها ، ثم إن رأت طهرا بعد ذلك نحكم بطهرها فإن عاودها الدم قبل استكمال الأربعين فإننا نحكم بالتأقيت الذي سبقت الإشارة إليه وهو أنها نفساء حتى تتم عدد الأربعين ما دام أنه قد عاودها في هذه المدة . أما لو أنها طهرت قبل الأربعين كما ذكرنا في العشرين ورأت علامة الطهر وحكمنا بكونها طاهراً ، فإنها تصوم وتصلي وتؤدي العبادات.
لكن هل يجامعها زوجها وهل يحل لزوجها أن يطأها قبل الأربعين التي أقتناها لأكثر الحيض ..؟؟(65/17)
قال بعض العلماء : يجامعها ويجوز له جماعها إذا رأت علامة الطهر ولو يوماً واحداً فإنه يجوز له أن يجامعها في هذا اليوم ، وقالت طائفة من العلماء : يجوز ولكنه يكره من الناحية الطبية فإنه لا يحمده الأطباء أي لا يحمد له إتيان الزوجة قبل الأربعين لحكمة وضعها الله عز وجل يعرفها الأطباء ولا داعي إلى ذكرها في هذا الموضع .
قال رحمه الله : حَدَّثَنَا نَصْرُ بْنُ عَلِيٍّ الْجَهْضَمِيُّ حَدَّثَنَا شُجَاعُ بْنُ الْوَلِيدِ أَبُو بَدْرٍ عَنْ عَلِيِّ بْنِ عَبْدِ الأَعْلَى عَنْ أَبِي سَهْلٍ عَنْ مُسَّةَ الْأَزْدِيَّةِ عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ قَالَتْ :" كَانَتِ النُّفَسَاءُ تَجْلِسُ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَرْبَعِينَ يَوْماً فَكُنَّا نَطْلِي وُجُوهَنَا بِالْوَرْسِ مِنَ الْكَلَفِ " .(65/18)
قَالَ أَبو عِيسَى رحمه الله : هَذَا حَدِيثٌ غَرِيبٌ لاَ نَعْرِفُهُ إِلاَّ مِنْ حَدِيثِ أَبِي سَهْلٍ عَنْ مُسَّةَ الأَزْدِيَّةِ عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ وَاسْمُ أَبِي سَهْلٍ كَثِيرُ بْنُ زِيَادٍ قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْمَعِيلَ عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ الأَعْلَى ثِقَةٌ وَأَبُو سَهْلٍ ثِقَةٌ وَلَمْ يَعْرِفْ مُحَمَّدٌ هَذَا الْحَدِيثَ إِلاَّ مِنْ حَدِيثِ أَبِي سَهْلٍ وَقَدْ أَجْمَعَ أَهْلُ الْعِلْمِ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَالتَّابِعِينَ وَمَنْ بَعْدَهُمْ عَلَى أَنَّ النُّفَسَاءَ تَدَعُ الصَّلاَةَ أَرْبَعِينَ يَوْماً إِلاَّ أَنْ تَرَى الطُّهْرَ قَبْلَ ذَلِكَ فَإِنَّهَا تَغْتَسِلُ وَتُصَلِّي فَإِذَا رَأَتِ الدَّمَ بَعْدَ الأَرْبَعِينَ فَإِنَّ أَكْثَرَ أَهْلِ الْعِلْمِ قَالُوا لاَ تَدَعُ الصَّلاَةَ بَعْدَ الأَرْبَعِينَ وَهُوَ قَوْلُ أَكْثَرِ الْفُقَهَاءِ وَبِهِ يَقُولُ سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ وَابْنُ الْمُبَارَكِ وَالشَّافِعِيُّ وَأَحْمَدُ وَإِسْحَقُ وَيُرْوَى عَنِ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ أَنَّهُ قَالَ إِنَّهَا تَدَعُ الصَّلاَةَ خَمْسِينَ يَوْماً إِذَا لَمْ تَرَ الطُّهْرَ وَيُرْوَى عَنْ عَطَاءِ بْنِ أَبِي رَبَاحٍ وَالشَّعْبِيِّ سِتِّينَ يَوْماً .
الشرح:(65/19)
هذا الحديث كما ذكرنا حجة الجمهور ، وإن كان المصنف جعل الجمهور في القول الذي يقول بالستين والواقع أن الجمهور بالنسبة للمذاهب الأربعة على الأربعين فإذا نظر إلى طائفة من أصحاب الإمام مالك والشافعي الذين اختاروا قول الحنفية والحنابلة بالقول بأنه يتأقت بالأربعين ؛ لكن الذي اشتمل طبعا الحديث على قوله" على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم كانت النفساء تمكث على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ": عبرت بهذه الصيغة وهي إسناد الفعل والحدوث إلى زمان النبي صلى الله عليه وسلم ومذهب جمهور علماء الأصول على أن الصحابي إذا أسند الفعل إلى عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه حجة ؛ لأن هذا الإسنادلم يخلُ من قصد شرعي وهو قصد الاحتجاج ، فلم تذكر-رضي الله عنها وأرضاها- هذا الفعل مسندا إلى زمان النبي صلى الله عليه وسلم إلا وهي منبهة على كونه حجة ومعمولاً به ، وعلى هذا فإنه يعتبر قولها "كانت النفساء تمكث على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم "دليلاً على أن السنة ماضية على التأقيت بالأربعين .
وقولها "الورس" : الورس نبت بأرض اليمن أصفر وله رائحة طيبة .
"من الكلف" وهذا نوع من التغير الذي يعتري وجه المرأة بين الحمرة والسواد أشبه بحبة السمسم أو نحوها ، وهذا يقولون لطول العهد .
وقولها" تمكث أربعين يوماً": يدل على أن ما جاوز الأربعين ليس من النفاس .
والمصنف جاء بعبارتين :
العبارة الأولى : يقول أجمع حكى فيها الإجماع على أن النفساء لا تصلي أربعين يوماً ثم ذكر ما جاوز الأربعين أو زاد عن الأربعين .
وهي العبارة الثانية : فقال أكثر أهل العلم يقولون إنها نفساء وهو مذهب الستين .
فهل حكايته للإجماع تعارض قوله بأنها تمكث ستين ، كيف نوفق بين قوله أجمعوا أنها لا تصلي أربعين يوماً ؟(65/20)
هذا الإجماع مبني على النظر إلى الحد الأقلي في الأقوال فنحن إذا نظرنا إلى خلاف العلماء –رحمهم الله- وخاصة السلف المتقدمين وجدنا قولاً يقول بالأربعين وقولا يقول بالستين وقولا يقول بالخمسين فمعنى ذلك أن كلهم متفقون على أن الأربعين نفاس؛ لكن الخلاف فيما زاد عن الأربعين فهذا هو وجه حكايته رحمه الله للإجماع في أول المسألة أنها تمكث أربعين ، وهذا يقوي مذهب من قال إنها تتأقت بالأربعين ؛ لأن إسقاط الصوم وإسقاط الصلاة وإسقاط الفعل أثناء النفاس يحتاج إلى دليل ، فلما كانت الأربعين مجمعا عليها فإننا نسقط الصلاة التي هي ركناً من أركان الإسلام ونمنعها من فعل الصوم بحجة ويقين ولكن ما زاد عن الأربعين فمحل شك فالذين قالوا إن العبرة بالخمسين والذين قالوا إن العبرة بالستين إنما هم مستندون إلى التجربة ، وهذا لا شك أن الاستناد إلى النص مع وجوده أقوى من استناده إلى التجربة فإن اعتبار الأربعين يكون مرجحاً من هذا الوجه .
وحكاية المصنف رحمه الله "لقول الحسن البصري وقول من قال بالخمسين ": هذا المذهب اندثر والموجود قول الأربعين وقول الستين هذان القولان هما أشهر الأقوال التي بقيت وبقي العمل بها في أكثر العصور المتأخرة ، والله تعالى أعلم .
- ? - ? - ? - ? - الأسئلة - ? - ? - ? - ? -
السؤال الأول :
ما حكم إزالة النجاسة هل هي واجبة وجوباً شرطياً أم حكمياً وهل هي على الفور أم على التراخي..؟؟
الجواب:
بسم الله والحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه أما بعد :(65/21)
فإزالة النجاسة واجبة وجوباً شرطياً ، فلا تصح الصلاة والمكلف يعلم أن في بدنه أو ثوبه أو المكان الذي يصلى عليه نجاسة إلا إذا كانت النجاسة من العفو ، فمن علم أن في ثوبه نجاسة كمنديل فيه دم وهذا الدم تجاوز الحد الأقلي ، أو يعلم أن ثوبه فيه نجاسة زائدة عن حد الرخصة أو يعلم أن على فخذه أو يده أو على رأسه أو على أي عضو من أعضائه نجاسة فإنه يُلزم بإزالتها فلا تصح صلاته مع وجود هذه النجاسة مع العلم والقدرة ، ولذلك الوجوب الشرطي هنا يتقيد بأمرين :
الأمر الأول: العلم . والأمر الثاني :القدرة .
فلو صلى بنجاسة غير عالم بها أو علم بها ونسيها أثناء الصلاة فإن صلاته صحيحة ؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم صلي في نعليه فنزل عليه جبريل فأمره بخلعهما فلما سلم رأى الصحابة قد خلعوا نعالهم فقال صلى الله عليه وسلم :(( مالكم ؟)) فقالوا :" يا رسول الله رأيناك خلعت فخلعنا" ، فقال:(( أتاني جبريل فأخبرني أنهما ليستا بطاهرتين )) كون النبي صلى الله عليه وسلم صلى في نعلين وفيهما النجاسة وقد كبر تكبيرة الإحرام ، ويحتمل أن يكون فعل بعض الأركان كقراءة الفاتحة ؛ لأنه جاءه أثناء الصلاة ، ومع ذلك أمره أن يخلع النعلين فقط ، فخلع النعلين ولم يستأنف الصلاة من جديد فدل على أن من نسي النجاسة فإنه يسقط عنه أو لا يجب عليه أن يعيد الصلاة إذا نسيها وأن يتم صلاته ، أما لو تذكر أثناء الصلاة أن على عمامته نجاسة أو على ثوبه نجاسة وأمكنه أن يزيل هذه العمامة ويرميها أو يخلع الثوب ، يخلعه أثناء الصلاة ويبقى بملابسه الداخلية كما لو كان في بيته أو غرفته ، فخلع ثوبه أو خلع العمامة التي على رأسه فإن صلاته صحيحة .(65/22)
أما كونه يفعل الفعل هو خلع الثوب فهذا تصحيحاً لشرط الطهارة كما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم التحف بالثوب أثناء الصلاة ، وهذا مما يصحح شرط الستر ، ولذلك قالوا إن تصحيح الشرط على هذا الوجه معتبر ، والله تعالى أعلم .
السؤال الثاني:
هل دماء الأسماك طاهرة أم نجسة..؟؟
الجواب:
بالنسبة للسمك ، فإن السمك إذا خرج منه الدم ، قال بعض العلماء : إنه يعتبر طاهراً لأن ما قطع من الحي أو خرج من الحي يأخذ حكم ميتته ، لقوله عليه الصلاة والسلام :(( ما أبين من حي فهو كميتته )) وقال طائفة من العلماء دم السمك نجس ؛ لأنه باق على الأصل الدال على النجاسة على العموم والأول أقوى ، والله تعالى أعلم .
السؤال الثالث:
هل غسل الملابس بالطريقة المعروفة في الغسالات يكفي لإزالة النجاسات دون تكرار ذلك ثلاث مرات ؟؟
الجواب:
أما بالنسبة للمسألة الأولى مما يدل أو مما استدل به من قال بنجاسته ومما يقوي به المذهب الأول قوله عليه الصلاة والسلام :(( أحلت لنا ميتتان ودمان فذكر الكبد والطحال )) ، ثم لم يذكر دم الحوت في هذا ، ولذلك يقولون إن هذا يدل على أنه باق على الأصل وهكذا بالنسبة لدم السمك ونحوه ، فالمقصود أن استثناء هذا النوع من الدماء يحتاج إلى دليل والأصل نجاسة الدم .(65/23)
وبالنسبة للمسألة الثانية وهي مسألة تكرار الغسل ، لا شك أن الغسالات الموجودة الآن يمكن تحقيق الطهارة عن طريقها ، لأنك إذا نظرت إلى الماء المسكوب خاصةً إذا كان وعاء الغسالة كبيراً وتكون النجاسة قليلة ؛ لأن الثياب في الغالب لاقت النجاسة في كل الثياب ، ولذلك إذا نظرت إلى قطرة الماء المسكوب والموجود على هذه الثياب خاصةً أن مثله يؤثر ومثله يقوى اعتبار إزالة النجاسة لكن ينبغي أولاً أن يكون التطهير بالماء الطهور فيصب الماء الخلو الطهور الذي لم يمتزج بطاهر يغير لونه أو رائحته أو طعمه ، ثم بعد أن تغسل بهذا الماء الطهور ثم بعد ذلك يكون الشأن في المنظفات حتى لا يؤثر ذلك في طهورية الماء ، والله تعالى أعلم .
السؤال الرابع :
ما صحة الرواية التي عند النسائي وغيره في قوله عليه الصلاة والسلام عن الدم الذي يصيب الثوب : ((حكيه بضلع واغسليه بماء وسدر))..؟؟
الجواب:
بسم الله والحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه وبعد :(65/24)
فإن هذه الراوية الأقوى أنها ضعيفة واستدل بها بعض العلماء على أن مخالطة الطاهر بالطهور لا تؤثر ، حيث ذكر صلى الله عليه وسلم السدر مع الماء ، ولكن بالنسبة لوجود السدر نبّه بعض العلماء أن في السدر خاصية للبدن وأجزاء البدن ولذلك أمر بتغسيل الميت بالسدر ، وكونه صلى الله عليه وسلم يأمر بتغسيل الميت بالسدر لا يدل على جواز الممازجة بالماء الطهور ؛ وذلك لأن غسل الميت كما ذكر العلماء ليس للنجاسة إنما هو لمعنى تعبدي وهذا يوجب تقيد الحكم به ، أياً ما كان في السدر خاصية ولذلك قالوا إنه ينفع للميت إذا غسل به بدنه ويرطب البشرة ويبقيها أكثر ، ومن هنا أمر بغسل الميت بالسدر قال صلى الله عليه وسلم في الحديث في الصحيحين من حديث ابن عباس في الرجل الذي وقصته دابته : (( اغسلوه بماء وسدر وكفنوه في ثوبين ولا تغطوا رأسه فإنه يبعث يوم القيامة ملبياً)) ، والله تعالى أعلم .
السؤال الخامس:
هل القيح الذي يخرج بعد الدم يعتبر نجسا أم طاهراً ..؟؟
الجواب:
هناك القيح وهناك الصديد والفرق بين القيح والصديد ، أن القيح يكون ناشئا من الدم وهي كرات الدم التي جعلها الله حرزا للإنسان تدفع عنه ضرر ما يكون في الأوساخ والجراثيم التي تدخل إلى البدن ، فإنها إذا استنفذت قواها وذهبت وتلفت استحالت إلى القيح كما ذكر الأطباء فالقيح أصله من الدم وهذا ذكره حتى العلماء المتقدمون ذكروا هذا .
وأما بالنسبة للصديد فإنه يكون من وسخ الجروح إذا تعفنت فإنه يكون الماء الكدر أو المائل إلى الخضرة أو إلى الزرقة التي تكون في البدن ، وهي عفونة الجروح ، فهناك فرق بين القيح والصديد من حيث الحقيقة ، أما من حيث الحكم بالنجاسة فإن الصديد أهون من القيح ، فالقيح متولد من نجس ، والقاعدة : " أن الفرع تابع لأصله" فيحكم في القيح ما يحكم في الدم من كونه نجساً وإن كان يسيراً عفي عنه .(65/25)
أما بالنسبة للصديد فإن الصديد لا يحكم بنجاسته من حيث الأصل لأنه عفونة الجرح وليس من أصل مادته دماً ؛ لأنه ربما يصيب الصديد الجرح إذا أصابه الماء فالماء يدخل إلى الجرح فيصيب هذا الصديد ولربما أيضا ينزف به ، فهو ليس من أصل نجس ، والأصل الطهارة حتى يدل الدليل على النجاسة ، إلاَّ أن بعض العلماء يقول في بعض الأحيان يمتزج الصديد مع القيح وفي بعض الأحيان يتعفن الجرح ويكون هناك امتزاج ولا يستطيع الإنسان أن يميز بين القيح والصديد فيعتبر حكم الأصل، فإن الأصل أن يكون قيحا لأنه متولد من الجرح والمتولد من الجرح متولد من الدم فيعطى حكم أصله ، فيكون غسله من هذا الوجه أحوط وأبرأ للذمة ، والله تعالى أعلم .
السؤال السادس:
ينتابنا شيء من الفتور في طلب العلم ، هل من توجيه ونحن في بداية العام الدراسي..؟؟
الجواب:
أسأل الله العظيم رب العرش العظيم أن يرزقنا الإخلاص لوجهه الكريم ، فمن أخلص لله عز وجل وأراد ما عند الله -سبحانه- فإن الله يوفقه ويسدده ؛ لأن الإخلاص من تقوى الله ، ومن اتقى الله علمه ، ومن اتقى الله جعل له فرقانا يفرق به بين الحق والباطل والهدى والضلال ، وبقدر إخلاص العبد لله عز وجل ، بقدر ما تقوى عزيمته على كل خير فإن من عرف الله أحبه وهابه ومن أحب الله وهابه عمل للقائه ، راجياً رحمته وخائفاً من عذابه ، وخير ما يوصى به طالب العلم لدفع السآمة والملل والفتور أن يخلص لوجه الله عز وجل والله لن يكون الإنسان في فتور في هدايته والتزامه وعلمه وعمله وطاعته وكل خير يكون منه ، لا يمكن أن يكون منه الفتور إلا بسبب ، فإن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم .(65/26)
ومن أعظم الأسباب التي ذكرها العلماء التي تحول بين العبد والخير وتثبط نية الإنسان وعزيمته عن الخير أن يصرف قلبه عن الله عز وجل ، طالب العلم في بداية طلبه للعلم قد يخلص لوجه الله ويريد ما عند الله ، فإذا رأى أنه قد علم ، أو رأى أنظار الناس قد اتجهت إليه ، أو جلس في مجلس فسئل عن مسألة فأجاب ، أو سئل عن نازلة فأحسن الكلام والخطاب ربما دخله الغرور ، فإذا دخله الغرور نزعت البركة من علمه وصرف إلى ذكائه وحوله وقوته وفهمه وضبطه فوكله الله إلى نفسه ، ومن وكله الله إلى نفسه ، زلت قدمه وعظمت خيبته ، العبد في كل خير وفى كل رحمة ما كان مع الله-- جل جلاله -- فإن رأى خيراً حمد الله وقال:{ وَمَا تَوْفِيقِي إِلاَّ بِاللَّهِ}(1) ، وإن رأى غير ذلك قال أنا المقصر وأنا المذنب وأنا المسئ ، فأخذ يلوم نفسه حتى يكمل الله ما كان من نقصه ، أهم شىء يوصى به طالب العلم لدفع السآمة والملل ، الإخلاص لوجه الله ، ولن تستطيع أن ترى طالب علم مخلص على أتم الوجوه إلا إذا جعل الآخرة نصب عينيه ، ومن جعل الآخرة نصب عينيه والله لا يسام ، ولا يكل من طاعة الله -- جل جلاله -- هذا هو الذي جعل السلف الصالح تسهر عيونهم وتنتصب في جوف الليل أقدامهم وتباع في سبيل الله رخيصة أرواحهم كل هذا بسبب ذكر الأخرة ، لأن المخلص دائم يذكر الآخرة ، المخلص دائم الإخلاص يجعل الآخرة نصب عينيه . فلا يمكن أن تدخل عليه السآمة والملل ، تراه إن كان طالب علم يسهر ليله ويكدح نهاره لعلمه أن الله يرضى عن سهره ، وأن الله يرضى عن كدحه ، وأن هذا السهر وهذا التعب يخط في صحائف عمله ، يخطها ملائك لا يغشون ولا يكذبون ، لكي يراها بين عينيه: في يوم لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم طالب العلم دائماً يجعل الآخرة نصب عينيه ومن جعل الآخرة نصب عينيه لا يكل ولا يسأم ولايمل من كلمة تقرب إلى الله-- جل جلاله -- ، وعندهم شعور أن
__________
(1) / هود ، آية :88 .(65/27)
كل شىء يرضي الله ينبغي أن يحرص عليه فإذا جلس في مجالس العلم بالساعات تلذذ ، وتمنى أنها تطول وتمنى أنها لا تنقطع ، لعلمه أن الله يسمعه ، وأن الله يراه ، وأنه في هذه الحالة التي يسمعه الله فيها ويراه أنها حالة رضى من الله-- جل جلاله -- ودائما يعتقد في خير ما دام أنه في طاعة الله ، الإخلاص هو الذي يدفع السآمة ويدفع الملل عن كل عبد يريد الله والدار الآخرة .
ولذلك كان بعض علماء السلف والأمة حينما تقرأ تراجمهم تتعجب من ذلك الصبر والجلد والقوة والتحمل ؛ ولكن تعلم أن هذه القلوب أرادت ما عند الله والدار الآخرة ، كان بعض علماء الحديث ذكروا عن بعضهم أنهم أمضوا يوماً كاملاً لم يستطيعوا أن يصيبوا الطعام فيه ، كلما أرادوا أن يجلسوا لأجل أن يعدوا طعامهم ، جاءهم الصارخ والقائل مسجد فلان جلس فيه الشيخ فلان يلقي الحديث ، كانت الأحاديث منتشرة في قلوب الناس وفى صدور الرجال ليست كزماننا والحمد لله ميسرة وموجودة كانت قلوب الناس أوعية للحديث .
نعم …كانت أوعية للحديث مملوءة بذكر الله والدار الآخرة ، فكانوا يحفظون حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم فكان الرجل من حبه لله وحبه لرسول الله صلى الله عليه وسلم وسنته ما إن يسمع بعالم يلقي حديثاً إلا يطير فرحاً للقائه ، وكان الإمام مالك رحمه الله سقطت عمامته ثلاث مرات على باب الزهري يزاحم الناس على العلم عنه .(65/28)
كان العلماء رحمهم الله يمضي عليهم اليوم كاملاً لا يطعمون فيه الطعام كلما أراد أن يطعم أو يهيئ الطعام ، سمع أن مجلس علم عقد ، أو مجلس رواية لحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم عقد ، وكانت لا تستقر بهم الأحوال كلما جلسوا في مكان أو انتقلوا إلى مصر أو إلى مدينة وعلموا أن هناك من هو أعلم وأحفظ لحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم وأروى للحديث ، وسألوا شيخ ذلك المدينة عن الشيخ الذى تلقوا عنه ارتحلوا إلى ذلك الشيخ فتغربوا عن الأوطان ، وفارقوا الأهل والخلان ، كل ذلك لرحمة الله ورجاء ما عند الله-- جل جلاله -- من الروح والريحان والنعيم في الجنان .
طالب العلم إذا ملئ قلبه بالآخرة هانت عليه أمور الدنيا وانصرفت همته إلى الله-- جل جلاله -- ، فسهرت عينه وتعب جسده ، في مرضات الله ، وهكذا الالتزام ، والطاعة والهداية فإنه مما يدفع السآمة والملل عن العبد المطيع لله -- جل جلاله --، ذكره لله والدار الآخرة ، وخير ما نتواصى به والإنسان يستفتح العام الدراسي الجديد أو يستفتح مجالس العلم ، عليه دائما أن يتذكر الإخلاص وأن يفتش ما في قلبه من إرادة الله والدار الآخرة ، إنه إن فعل ذلك كان له خير الدين والدنيا والآخرة ، فإن الله -سبحانه- مطلع على السرائر عليم بما في الضمائر .
-نسأل الله العظيم رب العرش العظيم أن يرزقنا الإخلاص لوجهه الكريم ، وأن يجعلنا أئمة مهتدين غير ضالين ولا مضلين -.
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين ، وصلى الله وسلم وبارك على نبيه وآله وصحبه .(65/29)
بسم الله الرحمن الرحيم
يقول المصنف رحمه الله : بَاب مَا جَاءَ فِي الرَّجُلِ يَطُوفُ عَلَى نِسَائِهِ بِغُسْلٍ وَاحِدٍ
حَدَّثَنَا بُنْدَارٌ مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ حَدَّثَنَا أَبُو أَحْمَدَ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنْ مَعْمَرٍ عَنْ قَتَادَةَ عَنْ أَنَسٍ :" أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَطُوفُ عَلَى نِسَائِهِ فِي غُسْلٍ وَاحِدٍ ".
قَالَ رحمه الله : وَفِي الْبَاب عَنْ أَبِي رَافِعٍ .
قَالَ أَبو عِيسَى رحمه الله :حَدِيثُ أَنَسٍ حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَطُوفُ عَلَى نِسَائِهِ بِغُسْلٍ وَاحِدٍ وَهُوَ قَوْلُ غَيْرِ وَاحِدٍ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ مِنْهُمُ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ أَنْ لاَ بَأْسَ أَنْ يَعُودَ قَبْلَ أَنْ يَتَوَضَّأَ وَقَدْ رَوَى مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ هَذَا عَنْ سُفْيَانَ فَقَالَ عَنْ أَبِي عُرْوَةَ عَنْ أَبِي الْخَطَّابِ عَنْ أَنَسٍ وَأَبُو عُرْوَةَ هُوَ مَعْمَرُ بْنُ رَاشِدٍ وَأَبُو الْخَطَّابِ قَتَادَةُ بْنُ دِعَامَةَ .
قَالَ أَبو عِيسَى رحمه الله : وَرَوَاهُ بَعْضُهُمْ عَنْ مُحَمَّدِ ابْنِ يُوسُفَ عَنْ سُفْيَانَ عَنِ ابْنِ أَبِي عُرْوَةَ عَنْ أَبِي الْخَطَّابِ وَهُوَ خَطَأٌ وَالصَّحِيحُ عَنْ أَبِي عُرْوَةَ .
الشرح:
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام الأتمان الأكملان على خير خلق الله أجمعين وعلى آله وصحبه ومن سار على نهجه واهتدى بهديه ثم أما بعد:(66/1)
فقد ذكر المصنف رحمه الله حديث أنس بن مالك- - رضي الله عنه -وأرضاه-خادم رسول الله صلى الله عليه وسلم الطيب المبارك حفظ هذه السنة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وحدث بها فكانت من هديه لأمتهصلوات الله وسلامه عليه ترجم المصنف رحمه الله لهذا الحديث بقوله" باب ما جاء في الرجل يطوف على نسائه بغسل واحد" هذه الترجمة المقصود منها الإشارة إلى جواز وطء الرجل للمرأة وهو جنب وهو الوطء دون أن يحدث بين الوطئين غسلاً وعلى هذا يستفاد من هذا الحديث أن الغسل لا يجب في كل جماع ، وأن من كرَّر الجماع واغتسل بعد تكرار الجماع غسلاً واحداً أن ذلك يجزيه.
ثم إن المصنف رحمه الله قال باب ما جاء في الرجل ولم يقل ما جاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم والعلماء تارة يعبرون في كتب الحديث باب ما جاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وتارةً يعبرون بالرجل إن كان الحكم عاماً ، ويعبرون أيضاً بالمرأة إن كان الحكم خاصاً وتعبير المصنف رحمه الله بالرجل في هذا الموضع ليس المراد به تخصيص الحكم بالرجال بل المرأة كذلك فإنه إذا وقع منها ما يوجب الغسل وهو الجماع وتكرر ذلك منها فإنه لا يجب عليها إلا غسل واحد فليس لقوله الرجل مفهوم معتبر .
وأما بالنسبة لتعبير المصنف بقوله الرجل ففيه مناسبة لطيفة ذلك أنه في بعض الأبواب يقول باب ما جاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وكأنه يريد أن يبين أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ثبت عنه هذا الفعل فيحتمل أن يكون خاصاً برسول الله صلى الله عليه وسلم ويحتمل أن يكون عاماً للأمة كلها ، فلما عبر بالرجل هنا بين أن الحكم للأمة كلها فالتعبير بالرسول صلى الله عليه وسلم وورود الهدي عنه قد يكون في حال الالتباس ، وإن كان العلماء لا يلتزمون بذلك كما هو مفهوم من بعض التراجم .(66/2)
وقوله" يطوف على نسائه": الطواف هنا المقصود به الجماع كنى به عن الجماع تأدباً ومن عادة العرب أنهم يختارون للأمور المستبشعة والتي يستحي من ذكرها ألفاظاً تناسب المقام عند بيانها ، فيقولون طاف على نسائه وأتى نساءه ونحو ذلك من الألفاظ يقصدون بها الأدب عن ذكر الشيء المستبشع القبيح بإسمه المجرد المعروف .
وفي هذه المسألة هدي لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقد ثبت عنه عليه الصلاة والسلام "أنه كان يأتي نساءه بغسل واحد" وثبت عنه عليه الصلاة والسلام "أنه أتى كل امرأة واغتسل بعد إتيانها كرر الغسل بين الجماع والجماع" ، وعلى هذا إذا أراد الإنسان أن يغتسل بين الجماعين فلا بأس وإذا أراد أن يؤخر الغسل إلى آخر ما يكون من شأنه فلا بأس ؛ لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم ورد عنه الأمران .
وللعلماء رحمهم الله في حديث أنس بن مالك هذا الذي معنا والذي أصله في صحيح البخاري وحديث أبي رافع إشكال معروف فحديث أبي رافع رضي الله عنه وأرضاه "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أتى نساءه فاغتسل عند هذه وهذه وهذه فقيل له :لم فعلت هذا يا رسول الله ؟ قال:(( هذا أزكى وأطيب)) فقال بعض العلماء : إن حديث أنس أصح من حديث أبي رافع وهذا المسلك سلكه الإمام الحافظ أبو داو د في سننه فقال بعد ذكره لحديث أبي رافع "حديث أنس أصح منه" .(66/3)
وقال بعض العلماء : إن رسول الله صلى الله عليه وسلم فعل الأمرين ولا تعارض بينهما بحمد الله فإن قوله في حديث أبي رافع :(( أن هذا أزكى وأطيب)) بصيغة أفعل أي أنه أزكى للنفس ؛ لأن الإنسان إذا اغتسل فإنه مطيع لله ، وتطلق الزكاة بمعنى الطاعة كما قال-سبحانه-:{وَحَنَانًا مِنْ لَدُنَّا وَزَكَاةً}(1) أي طاعة لله عز وجل وكذلك يوصف الإنسان بكونه زكياً إذا كان مطيعاً كما قال-تعالى-:{قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا}(2) أي حملها على الطاعة والخير ، فالمقصود أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:((إن هذا أزكى وأطيب)) وقال:(( أطيب)) قيل : إن العلة هنا لمصلحة البدن فإنه إذا جامع الرجل وأنزل فإنه يستنفد قوة البدن وحينئذ إذا اغتسل فإن الغسل والماء ينشطه ويقويه ، ولذلك لما أمر صلى الله عليه وسلم بالوضوء قال:(( إنه أنشط للعود)) فدل على أن إصابة الماء للبدن تنشطه وتقويه بعد انكساره بحدة الشهوة وقوتها ، فشهوة الجماع تستنفد قوة البدن ولذلك وصفت بكونها اللذة الكبرى فإن جميع أحاسيس الإنسان وقوته ومشاعره تكون مستنفدة ، فإذا حصل الإنزال أو حصل الجماع فإن هذا مظنة انكسار البدن وانكسار قوته فكان من هديهصلوات الله وسلامه عليه أن أدخل الطهارة أدخلها بصورتين:
الصورة الأولى : أدخلها بصورة الكمال بالغسل . الصورة الثانية : أدخلها بصورة أقل وهو الوضوء .
وفي قوله" كان يطوف على نسائه": هذا الحديث فيه إشكالات:(66/4)
أولها: أن أنس بن مالك رضي الله عنه بين أن رسول الله صلى الله عليه وسلم طاف على نسائه في غسل واحد وهذا بلا شك أنه يكون في يوم واحد ، بل لا يتأتى أبداً إلا في اليوم الواحد لأننا لا نستطيع أن نقول في غسل واحد أي بغسل واحد وعلى هذا فإنه لم يغتسل بين الجماعين وحينئذٍ لا تستطيع أن تقول إنه في يوم تلو يوم لأنه لابد وأن يغتسل أثناء اليوم ، وإذا ثبت أنه سوف يكون في ساعة أو سويعات من اليوم فيرد الإشكال إن رسول الله صلى الله عليه وسلم له أكثر من امرأة ، ومن عدد النساء وجب عليه العدل ولذلك كان له -عليه الصلاة السلام -تسع من النسوة صلوات الله وسلامه عليه على ما كان بعد هجرته صلوات الله وسلامه عليه عدة نسائه إحدى عشرة امرأة ، واللاتي كن معه بعد هجرتهصلوات الله وسلامه عليه والباقيات تسع لأن خديجة-رضي الله عنها وأرضاها- توفيت وجويرية وزينب بنت خزيمة لم يمكث معها إلا أشهر قيل شهرين وقيل شهر ، المقصود أن هؤلاء التسع كيف تأتى منه عليه الصلاة والسلام أنه طاف على التسع فلابد وأن يكون طوافه في يوم واحدة منهن وهو مأمور بالعدل فكيف يأتي الثانية في يوم الأولى ، وكيف يأتي بقية النساء الأخر في يوم المستحقة ليومها ..؟؟
للعلماء في هذا الإشكال عدة أجوبة :
الجواب الأول: قال بعض العلماء : إن هذا وقع من رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل وجوب القسم عليه ، أي قبل أن يفرض الله عليه العدل وقسمة الليالي بين نسائه طاف عليهن -رضي الله عنهن أجمعين- وحينئذ يكون الطواف على هذا الوجه في يوم من الأيام أو في ساعة من الساعات ولا يؤثر لأن الوجوب ليس بمتوفر فكان وقوعه من رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل وجوب القسم عليه .(66/5)
الجواب الثاني : أنه لا يجب على رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يعدل بين نسائه وأن الله سبحانه وتعالى أعطى رسوله أن يصيب من يشاء منهن وأن يترك من شاء منهن ولا يجب عليه قسم .
والصحيح وهذا قول بعض الشافعية أن رسول الله صلى الله عليه وسلم يجب عليه القسم لعدة أدلة صحيحة منها .. أنه كان إذا أراد السفر قرع بين نسائه ، وهذا لا يتأتى إلا خروجاً من الواجب على وجه تبرأ به الذمة ، ولذلك كان تشريعاً للأمة وكل من عنده أكثر من امرأة وكذلك أيضاً ثبت عنه عليه الصلاة والسلام أن سودة -رضي الله عنها- وهبت ليلتها لعائشة فدل على أنها مستحقة إذ لو كان القسم ليس واجباً عليه عليه الصلاة والسلام لما كان للهبة من وجه إنما تسقط حقها وتسكت لتترك لرسول الله صلى الله عليه وسلم فعل ما شاء ، ولذلك جمهور العلماء على أن رسول الله صلى الله عليه وسلم يجب عليه أن يقسم بين نسائه وعلى هذا القول الثاني أنه لا يجب عليه القسم ارتفع الإشكال إلا أنه قول ضعيف .
الجواب الثالث: أن النبي صلى الله عليه وسلم كانت له ساعة في اليوم يطوف فيها على جميع النساء وهذه الساعة مستثناة من الوجوب أي وجوب العدل ، وجاء في صحيح مسلم من حديث ابن عباس رضي الله عنه أنها كانت بعد العصر وهي الساعة التي كان النساء يجتمعن مع رسول الله فيها في بيت التي لها النوبة فكانت هذه الساعة يسقط عنه فيها وجوب القسم وحينئذ لو أصاب فيها فإنه لا تعارض بين الأصل وبين فعله .(66/6)
هناك قول رابع : في الجمع بين وجوب العدل والإصابة في يوم واحد أن هذا وقع من رسول الله صلى الله عليه وسلم عند خروجه للسفر أورجوعه منه ، وهذا يختاره الحافظ ابن عبد البر رحمه الله وغيره وقالوا أن النبي صلى الله عليه وسلم إذا خرج إلى السفر فإنه يقرع بين النساء ومعنى ذلك أن ذلك اليوم لا تستحق فيه القسمة فيصيب النساء وهذا القول هو الذي تطمئن إليه النفس وذلك أن عائشة -رضي الله عنها- ذكرت طوافه عليه الصلاة والسلام على نسائه في حجة الوداع وأصبح ينضخ طيباً صلوات الله وسلامه عليه ، وقد كن معه في حجة الوداع -رضي الله عنهن وأرضاهن- فوقعت الإصابة بذي الحليفة ومن هنا اختار هؤلاء العلماء أن الإصابة تكررت مرتين أنه طاف على نسائه الجميع في مثل هذه الحالة عند خروجه عليه الصلاة والسلام في الليلة التي أحرم فيها صلوات الله وسلامه عليه لحجته وعند تحلله من الإحرام .
وكذلك أيضاً قال بعض العلماء وهو الوجه الخامس في دفع هذا الإشكال أن النبي صلى الله عليه وسلم فعل هذا لرضا صاحبة النوبة أي أن المرأة التي كان حظها وكان قسمها أذنت لرسول الله صلى الله عليه وسلم أن يصيب غيرها ، ومن هنا قال العلماء إذا تنازلت المرأة عن حظها من ليلتها إلى ضرتها أو إلى بقية الضرائر فإنه لا بأس ولا حرج وقد تنازلت سودة -رضي الله عنها- وأرضاها لعائشة لما علمت موقع ذلك من رسول الله صلى الله عليه وسلم .(66/7)
الأمر الثاني : طوافه عليه الصلاة والسلام على جميع نسائه فيه معجزة من معجزاته عليه الصلاة والسلام فقد كان له هذا العدد من النسوة ولا شك ان الطواف عليهن في ساعة متقاربة يحتاج إلى جهد وقوة ؛ وذلك لأن الطبيعة تستنفذ والقوة بمثل هذا طبيعةً ؛ ولكن الله عز وجل أعطى لنبيه صلى الله عليه وسلم من القوة ما لم يعطه لغيره ولما ذكر انس رضي الله عنه وأرضاه طوافه على تسع من النسوة من نسائه عليه الصلاة والسلام كنَّ في هذه الحادثه تسع من النسوة قال رضي الله عنه كما في صحيح البخاري "كنا نحدث أنه أعطي قوة ثلاثين رجلاً" وجاء في رواية أبي نعيم في الحلية" أنه أعطى قوة أربعين من الرجال" ، وجاء في حديث ابن عمر-رضي الله عنهما-" أنها قوة الأربعين في الجماع وفي القتال" فكان صلى الله عليه وسلم إذا قاتل قوياً شديد البأس صلى الله عليه وسلم ، ومواقفه وشجاعته وقوة بأسه معروفة حتى كان علي رضي الله عنه وهو من أشجع الناس وأقواهم وأجلدهم -- رضي الله عنه -وأضاه- كان يقول" كنَّا إذا اشتد علينا البأس أي في المعركة وحين حمي الوطيس نلتجيء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم " والمراد بالالتجاء هنا الالتجاء الظاهر ، كما تقول التجأت إلى الجبل التجأت إلى الحائط بمعنى أنك انجزت إليه وليس المراد به الالتجاء بالباطل ؛ لأن الالجاء خاص لله عز وجل فالمقصود منه عليه الصلاة والسلام كان من قوته أعطي هذه القوة في جماعة وأعطي هذه القوة في بأسه وحربهصلوات الله وسلامه عليه ، ولذلك فر عنه من فر في غزوة حنين وعلت عليهم السهام ومعه أصحابه رضي الله عنه وأرضاه قرابة العشرة آلاف ، فلما دخلوا إلى المضيق في بطن الوادي انهالت عليهم هوازن وكان الرجل من هوازن إذا رمى لم تخطئه الرمية فانهالت عليهم السهام من كل حدب وصوب ، فرجع الصحابة فلما فروا عنه انكشفوا عنه صلى الله عليه وسلم (66/8)
إذا به على بغلته الشهباء وهو يصول ويجول ويقول بأبي وأميصلوات الله وسلامه عليه :(( أنا النبي لا كذب أنا ابن عبد المطلب)) ففي مثل هذا الموقف تطيش العقول وترجف القلوب ، ولكنه صلى الله عليه وسلم كان ثابت القلب قوي البأس صلى الله عليه وسلم ؛ والسبب في هذا أن الله ملأ قلبه بالإيمان ، ومن ملئ قلبه بالإيمان فإنه تنصرف شعب ذلك القلب إلى الخوف من الله وحده لا ممن سواه مهما كان ، وكان صلى الله عليه وسلم على هذه القوة في جماعه وكذلك أيضاً في بأسه صلوات الله وسلامه عليه قال بعض العلماء : إن الله عز وجل جعل هذا له لكي يكون دليلاً على نبوته ؛ لأن طبيعة البشر لا تتحمل مثل هذا والغالب في الانسان أنه لا يطيق مثل هذا الذي ورد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ولكن الله اختصه بهذه الخصائص حتى تكون دليلاً ظاهراً على أنه مرسل من الله- - عز وجل -- ومكنه منه سبحانه وتعالى .(66/9)
في هذا الحديث دليل على جواز الجماع دون الوضوء ودون الغسل مكرراً من المكلف وأنه لا بأس على الرجل ولا بأس على المرأة ، ولكن الأفضل والأكمل أن يغتسل والأفضل والأكمل أن يتوضأ إن لم يستطع الغسل أو كان الزمان برداً شديداً أو كان الماء عنده قليلاً وأحب أن يتوضأ فإن ذلك أقرب لسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم أقرب لهديه ، وفي وضوئه عليه الصلاة والسلام بين الجماعين وغسله في بعض الأحاديث دليل على سماحة هذه الشريعة وأنها جاءت بطب الأجساد كما جاءت بطب الأرواح ، فكما أن في الشريعة خير الدين كذلك جعل الله فيه خير الدنيا ، فإن هذه الحكم اللطيفة والمعاني الكريمة نبه عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم أمته لكي يثبت للخلق أجمعين أنه ما ترك باب خير إلا دل عليه ، ولا ترك باب شر إلا حذر منه صلى الله عليه وسلم ، فإذا كان هذا في أمور الدنيا فكيف بأمور الدين صلى الله عليه وسلم وجزاه عنا خير ما جازى نبياً عن أمته وصاحب رسالة عن رسالته .
قال المصنف رحمه الله : بَاب مَا جَاءَ فِي الْجُنُبِ إِذَا أَرَادَ أَنْ يَعُودَ تَوَضَّأَ
حَدَّثَنَا هَنَّادٌ حَدَّثَنَا حَفْصُ بْنُ غِيَاثٍ عَنْ عَاصِمٍ الأَحْوَلِ عَنْ أَبِي الْمُتَوَكِّلِ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ:(( إِذَا أَتَى أَحَدُكُمْ أَهْلَهُ ثُمَّ أَرَادَ أَنْ يَعُودَ فَلْيَتَوَضَّأْ بَيْنَهُمَا وُضُوءاً )) .
قَالَ رحمه الله : وَفِي الْبَاب عَنْ عُمَرَ .(66/10)
قَالَ أَبو عِيسَى رحمه الله : حَدِيثُ أَبِي سَعِيدٍ حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ وَهُوَ قَوْلُ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ وقَالَ بِهِ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ قَالُوا إِذَا جَامَعَ الرَّجُلُ امْرَأَتَهُ ثُمَّ أَرَادَ أَنْ يَعُودَ فَلْيَتَوَضَّأْ قَبْلَ أَنْ يَعُودَ وَأَبُو الْمُتَوَكِّلِ اسْمُهُ عَلِيُّ بْنُ دَاوُدَ وَأَبُو سَعِيدٍ الْخُدْرِيُّ اسْمُهُ سَعْدُ بْنُ مَالِكِ بْنِ سِنَانٍ .
الشرح:
هذه الترجمة قصد المصنف رحمه الله أن يبين بها مشروعية الوضوء بين الجماعين وهنا بابان الباب السابق كان في ترك الغسل بين الجماعين وهنا ذكر الوضوء بين الجماع الأو ل والجماع الثاني .
ويبقى الإشكال : لماذا ذكر المصنف الباب السابق عقب أبواب الحيض والنفاس ثم أتبع بهذا الباب ..؟؟
فكان بعض مشائخنا رحمة الله عليهم يربطون بين هذه الترجمة المتأخرة ، وبين أبواب الحيض أن الحيض يأتي للمرأة أكثر من مرة فينفجر معها الدم في اليوم من عادتها ويتقطع ثم ينفجر في اليوم الثاني ويتقطع ثم ينفجر في اليوم الثالث حتى يستتم أيام عادتها فإذا طهرت اغتسلت له غسلاً واحداً ، ثم أتبع المصنف رحمه الله من فقهه وعلمه باب الاغتسال وذلك بطوافه– عليه الصلاة والسلام -على نسائه فتكرر الموجب للغسل واغتسل غسلاً واحداً ، فكأنه من الناحية الفقهية نلمس دقة المصنف وفقهه أنه راعى الموجبات التي توجب الغسل فلو أن رجلاً استيقظ من نومه محتلماً ثم جامع أهله فإننا نقول له لا يجب عليك إلا غسل واحد ، وذلك استناداً إلى هذه السنة وكان موجب الغسل من الماء والجماع إذا تكرر يوجب غسلاً واحداً كما أن موجب الغسل من الحيض والنفاس إذا تكرر فإنه يوجب غسلاً واحداً وتطهر المرأة بعد ذلك والرجل يطهر بعد ذلك أيضاً .(66/11)
ثم بعد أن ذكر باب الغسل بأنه يجتزئ فيه بغسل واحد ورد السؤال وقد ورد لنا أنه يجتزئ بغسل واحد فناسب أن يدخل وراء هذا الباب ما جاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من الوضوء بين الجماعين فيكون الباب السابق مرتبطاً بالأبواب المتقدمة ويكون الباب الذي معنا ارتبط بفقه المسألة المتعلقة بالجماع المكرر ، وعلى هذا ذكر المصنف رحمه الله أمره عليه الصلاة والسلام لمن أراد أن يعاود إتيان أهله أنه يتوضأ وقد بين النبي صلى الله عليه وسلم العلة لذلك بأنه:(( أنشط للعود)) وهذا كما ذكر العلماء رحمهم الله المراد به أنه إذا جامع تنطفئ قوة الإنسان فإذا غسل أعضاء الوضوء فإن هذا يقوي نفسه فيستجم ويكون فيه استجمام للروح أكثر .
وقد اختلف العلماء رحمهم الله في أمره صلى الله عليه وسلم بالوضوء:
قال بعض العلماء : الأمر بالوضوء المراد به هنا غسل الفرج وليس المراد به الوضوء الكامل .
وقال بعض العلماء : المراد به الوضوء الكامل وهو وضوء الصلاة وهذا هو الصحيح لأنه ورد مصرحاً به في الأحاديث الأخر فليتوضأ وضوءه للصلاة وعلى هذا فإن الراجح أن يتوضأ وضوءاً كاملاً .
قال بعض العلماء : إن هذا الوضوء يحتمل أمرين:
إما أن يقصد به العبادة وحينئذٍ يؤجر الإنسان فيجمع بين خير الدنيا وخير الآخرة ، فيكون عبادة فيثاب عليها ولكن يكون ثوابه دون ثواب الوضوء الشرعي الذي هو للصلاة ، ويكون خير دنيا من ناحية أنه أقوى وأنشط للعود فاستفاد خير الدين وخير الدنيا ولا شك أنه يثاب على الائتساء والاقتداء برسول الله صلى الله عليه وسلم .
وفي أمره عليه الصلاة والسلام بالوضوء للعلماء قولان:(66/12)
القول الأول : قال بعض العلماء يجب على من أراد أن يجامع أهله مرة ثانية بعد جماعه الأو ل أن يتوضأ والأمر من رسول الله صلى الله عليه وسلم في حديثنا محمول على الوجوب واللزوم ، فإذا توضأ أثيب وإذا ترك الوضوء من غير عذر فإنه يأثم وبهذا قال فقهاء الظاهرية .
القول الثاني : وقد خالفهم الجمهور فقالوا لا يجب على من عاود الجماع أن يتوضأ مرة ثانية ؛ وذلك لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال في الحديث فإنه : (( أنشط للعود)) فعلل الأمر بكونه نشاطاً وبكونه يقوي الإنسان أكثر وهذا راجع إلى الشئ الجبلي لا إلى الشئ التعبدي ، وعليه قالوا إنه أمر تعليمي وإرشاد ودلالة على صلاح البدن وليس المراد به أمر اللزوم والوجوب .
وأكدوا هذا أيضاً بقوله عليه الصلاة والسلام في حديث السنن :(( نني أمرت بالوضوء عند القيام إلى الصلاة)) قالوا إنما يجب الوضوء الشرعي إذا كان للعبادة الشرعية على الوجه المعتبر ، والأصل براءة الذمة وعدم إيجاب الوضوء على الناس إلا بدليل ، وحينئذ نقول من توضأ فقد أحسن ومن ترك الوضوء فلا بأس ويؤكد هذا القول وهو قول الجمهور حديث أنس الذي تقدم فإنه ذكر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم : " أنه طاف على نسائه بغسل واحد ولم يذكر أنه توضأ بين إصاباته هذه للنسائه عليه الصلاة والسلام لنسائه فدل على أنه لا يغتسل ولا يتوضأ على سبيل اللزوم وإنما هو على سبيل الندب والاستحباب وهذا القول هو أولى القولين بالصواب والعلم عند الله سبحانه وتعالى .
- ? - ? - ? - ? - الأسئلة - ? - ? - ? - ? -
السؤال الأو ل:
في ترجمة المصنف -رحمة الله-وقوله" ما جاء في الرجل " ألا يمكننا أيضاً أن نقول إنه من باب التأدب والحياء فلم يقل ما جاء النبي صلى الله عليه وسلم يطوف عل نسائه فهل هذا الاستنباط صحيح ..؟؟
الجواب:
بسم الله الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وأصحابه ومن والاه أما بعد:(66/13)
هذا صحيح يمكن أن يقال هذا ، ولأنه شيء محتمل يحتمل أن يكون من باب العدد ويحتمل أن يكون من ناحية فقهية ، والذي ذكرناه من ناحية أصولية أقوى ؛ لأن الإمام الحافظ الترمذي رحمه الله كان فقيهاً وله عمق في الفهم والاستنباط كان مجتهداً يستنبط الأحكام وله ذوق في التراجم كالإمام البخاري ، ولذلك كانوا يقولون فقه البخاري في تراجمه هذه التراجم حينما ينسبها إلى علة فقهية أقوى لأن الكتاب كتاب فقهي يصرح بالنبي صلى الله عليه وسلم ؛ لكن أياً ما كان هذا شيء محتمل والأدب مع رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يستغرب من السلف ؛ ولكن هذا لا يحط من قدر النبي صلى الله عليه وسلم ولا ينقص منه بل لو قال ما جاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه طاف على نسائه بغسل واحد لكان أبلغ في بيان السنة وبيان أن ذلك ثابت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، والله تعالى أعلم .
السؤال الثاني:
أعتدت أن أتوضأ بنية رفع الحدث ولكني أنسى أحياناً أن أنوي أحياناً أن انوي رفع الحدث فأنسى استصحاب النية فيشكل علي ذلك هل أعيد الوضوء أم تعتبر العادة محكمة ..؟؟
الجواب:(66/14)
أما بالنسبة للنيه في الوضوء فإنها شرط في صحة الوضوء في قول جمهور العلماء لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال :(( إنما الأعمال بالنيات)) والوضوء عمل ، ولأن الوضوء هو شطر الصلاة ولذلك قال صلى الله عليه وسلم :(( الطهور شطر الإيمان ))والمراد بالطهور الوضوء والغسل وشطر الإيمان شطر الصلاة لأن الصلاة تسمى بالإيمان لقوله-تعالى-:{وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ}(1) أي صلاتكم إلي بيت المقدس ، فإذا كان الطهور شطراً للصلاة فإن الصلاة تشترط لها النية فإن الوضوء كذلك تشترط له النية ، وهذا يدل على صحة مذهب الجمهور الذين يقولون أنه عبادة مقصودة غير معقولة المعنى إذا ثبت أن النية شرط في صحة الوضوء فإن هذه النية تكون عند ابتداء الوضوء ولا بأس أن تسبق الوضوء باليسير المغتفر ، وعليه فإنه إذا استحضر عند وضوئه أن يرفع الحدث فذلك كافٍ ، وأما الاستصحاب لكل عذر منفرد وهذا قول مرجوح وهو مبني على أن الطهارة تتجزأ وأن لكل عذر طهارته فحينئذ يجزئ الطهارة لكل عذر ، وفي هذا تفصيل أن العبادة إن تركبت وانفصلت كان لكل منفصل حكمه كما في الحج الطواف له وقته والسعي له وقته ، والوقوف بعرفة له وقته والسعي له وقته وهكذا المبيت له وقته ، والرمي له وقته فهذه تتجزأ فيها النية على حسب الأحوال على خلاف ، ولكن على القول الذي يقول باستصحاب النية وتجزئها في المواضع .(66/15)
أما إذا كانت عبادة متصلة فإنه يجزيه أن ينوي نية واحدة ولا ينوي رفع الحدث عن يده ولا عن وجهه وقال بعض العلماء : إنه يتجزأ ولذلك قال عليه الصلاة والسلام في الرجلين: ((دعهما فإني أدخلتهما طاهرتين)) ، ما قال أدخلتهما وأنا على وضوء أو أنا متوضئ قالوا فجزأ الحكم ولكن هذا لا يدل على ولقد سبق الكلام على هذه المسألة في مسألة المسح على الخفين واشتراط الطهارة ، وأياً ما كان فإن الصحيح أنه لا يلزمك عند كل عذر يجب أن تجدد النية ولأن هذا يفضي للمشقة والحرج وقد يدخل على الإنسان الوسوسة ، ومن هنا يقوى قول الذي يقول لا يشترط تجزئة النية وأنه إذا نوى عند ابتداء وضوئه أنه تكفيه نية واحدة .
وأما قولك أن : "العادة محكمة" القاعدة لا علاقة لها فيما ظهر لي بهذا السؤال وأحب أن تعاد الجملة الأخيرة حتى أتصور ما هو المقصود من هذه الجملة .
قال فيشكل علي ذلك فأعيد الوضوء ... أم تعتبر العادة محكمة ؟؟
يعني أهم إذا كانت العادة محكمة يعني أنهم إذا كنت تفهم معنى القاعدة فما أظن أنها ليس لها موضع ما ظهر لي لأن" العادة محكمة " المراد بها إحدى القواعد الخمس المشهورة التي سبق الكلام عليها أكثر من مرة وهي "العمل بالنية" .. وبعضهم يقول" الأمور بمقاصدها"،" واليقين لا يزال بالشك"، "والمشقة تجلب التيسير" ،" والضرر يزال "والعادة محكمة " .(66/16)
قولهم : "العادة محكمة": العادة العرف والشيء الذي إعتاده الناس .. والعادة محكمة كثيراً ما تقع في أمور المعاملات لا في أمور العبادات العادة محكمة .. قاعدة تنطبق في أمور المعاملات المالية والشخصية ونحوها كالأقضية والخصومات والدعاوى أكثر من تعلقها بباب العبادات ، العادة محكمة ترجع إلى العرف الذي فيه الناس وتحتكم إليه ، وليس المراد بالعادة محكمة الشيء إذا كان الإنسان يعتاده دائماً يحتكم إليه هذه قاعدة جديدة ومعنى جديد وفقه جديد ، العادة محكمة المراد بها أنك اعتدت أن تنوي واعتدت أن تنتقل النية معك في الأعضاء ثم تكرر وتقول ما دام هذا شيء اعتدتة فإني أحتكم إليه إذا فقدته ! لا ، هذا ما قال به أحد الذي يظهر والله أعلم أن القاعدة ليس لها علاقة فيما ظهر لي إذا كنت تقصد هذا المعنى الذي ذكرناه فهذا المعني ليس له أي علاقة بمسأله غسل الأعضاء وتجزئة النية في الوضوء أو في الغسل عند غسلها وإنما المراد بها أنه يحتكم إلى العادة .(66/17)
مثلاً : لو أن رجلاً اختصم مع المرأة في الصداق وليس هناك دليل ولا بينة لا عند هذا ولا عند هذا ، قالت صداقي مائة ألف ، وقال صداقك خمسون ألفاً فحينئذ القاضي يرجع إلى مهر مثلها ونحتكم إلى العادة جرت العادة ننظر كم سنها ؟ وما هي البيئة التي هي منها ؟ هل هي من متوسط الناس ؟ من أغنياء الناس ؟ من الفقراء؟ ومثل هذه في بيئتها إذا نكحت من مثل هذا في بيئته كم يكون ؟ قالوا : يكون مثلها خمسة وسبعين فحينئذٍ نقول خمسة وسبعون مثلاً أو يقولون مثلها ثلاثون ألفاً نقول ثلاثون ألفاً هذا مهرك فلها مهر المثل ، لكن أين نستنبط مهر المثل نحتكم إلى العادة والعرف ، هذا معنى قولهم العادة محكمة أي يحتكم إلى العادة عند فقد النص ويشترط في العادة ألا تعارض النصوص الشرعية ، فالعرف والعادة لا تثبت إلا إذا تكررت وانضبطت ولم تكن معارضة للشرع ، فإذا كانت معارضة للشرع مثل لو جرى العرف بفعل منكر أو محرم لا نقول أنه جائز لأنه عادة ، وقد ذكر العلماء لهذا أمثلة قالوا في باب الشهادات لو كان هناك أمر محرم جرى فعله من الناس من غيبة أو نميمة فيقول يجوز هذا لأنه معتاد عليه إنما المراد بالعادة شيء لا يعارض الشرع وحينئذٍ يحتكم إليه ، هذا هو الذي قصده العلماء بقولهم :"العادة محكمة "، والله تعالى أعلم .
السؤال الثالث:
من احتلم وأراد أن يؤخر الغسل إلى الليل هل عليه أن يتوضأ قبل أن يعود إلى النوم ، قياساً على من جامع أهله..؟؟
الجواب:(66/18)
مسألة الوضوء عند النوم بينا أن حديث عمر بن الخطاب رضي الله عنه الثابت في الصحيح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :(( توضأ واغسل ذكرك)) فأمره بالوضوء إذا أراد أن ينام ، لأنه قال يا رسول الله أينام أحدنا وهو جنب ؟قال :(( توضأ واغسل ذكرك)) فقال بعض العلماء : إن قوله توضأ يدل على وجوب الوضوء ، وقال بعض العلماء : بل هو مندوب ؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم أمر به أمر استحباب لا أمر حتم وإيجاب ، وذكروا النصوص التي ذكرناها في صرف الأوامر عن ظاهرها في هذا ، وعليه فإنه يجوز للإنسان أن ينام وهو على جنابة وقد ذكرنا هذه المسألة والأدلة والأقوال وأن الراجح أنه يجوز له ذلك لقوله عليه الصلاة والسلام :(( إنما أمرت بالوضوء عند القيام إلى الصلاة)) ولا بأس أن ينام وهو جنب لكنه لا يحمد وليس بطيب .. لا يحمد للإنسان خاصة إذا كان في مواضع ليست بطيبة لا يحمدون أن ينام وهو جنب ؛ لأنه إذا نام وهو على طهارة أو تطهر فإن هذا أحفظ له خاصة عند قراءته للأذكار التي فيها آيات ونحوها، والله تعالى أعلم .
السؤال الرابع:
أشكل علي في حديث أبي رافع رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يغتسل عند هذه وعند هذه ، وفي حديث أنس اغتسل غسلاً واحداً فكيف الجمع ..؟؟
الجواب:
ذكرنا أن الجمع بين الحديثين أن حديث أبي رافع حالة من الحالات وحديث أنس أيضاً حالة من الحالات : والقاعدة :" لا يحكم بالتعارض إلا إذا تصادم النصان فيما دل عليه واتحد موردهما وتعارضت دلالاتهما" فحينئذٍ يحكم بالتعارض ، أما حديث أبي رافع "فقد طاف عليه الصلاة والسلام على نسائه واغتسل عند كل واحدة" وهو أقدر على ذلك صلى الله عليه وسلم وطاف كما في حديث أنس ولم يغتسل عند واحدة منهن فعل هذا وفعل هذا تشريعاً لأمته صلوات الله وسلامه عليه ، والله تعالى أعلم .
السؤال الخامس:(66/19)
سائلة جاءتها الدورة بعد ستة أشهر من نفاسها .. وأخذت الدورة يومين ثم انقطعت لمدة أسبوع ، ثم عادت لمدة يومين ثم انقطعت ، وأحياناً تأتي يوماً وتذهب آخر مع أنها متأكدة من أن هذا الدم دم حيض فماذا تفعل..؟؟
الجواب:
هذه المرأة تعتبر مميزة ، والمرأة المميزة إذا انقطع عنها الدم لعذر من نفاس أو نحو ذلك حمل أو نفاس وطهرت مدة طويلة ثم عاودها الدم مقطعاً فإنها تلفق ما دام أنه لم يكن بين الدم الأو ل والدم الثاني أقل الطهر وحينئذ تعتبر اليومين الأولين من الحيض ، ثم تصلي وتصوم في أيام النقاء ، ثم تعتبر نفسها حائضاً في اليومين اللذين يأتيان بعد الأسبوع الأول ، وهكذا بالنسبة لليومين في الأسبوع الثالث فإنها تعتبر هذه ستة أيام ، فإن كانت عادتها ستة أيام تكون قد طهرت في اليومين اللذين يقعان في الأسبوع الثالث وتحكم بطهرها بانتهاء اليوم السادس منها تلفيقاً على أصح أقوال العلماء لأن التمييز معتبر،والله تعالى أعلم .
السؤال السادس:
من كانت له أكثر من زوجة هل يجوز له أن يذهب للأخرى في نهار أو ليلة الأولى للزيارة خاصة إذا كان هناك أبناء يحتاج إلى رعايتهم .. وما الحكم ما لو حصل جماع في هذه الزيارة ..؟؟
الجواب:
لا إذا كان فيه جماع :
إن السلامة من سلمى وجارتها ألا تمر بواد حول واديها(66/20)
إن هذا من الظلم إصابة الثانية في يوم الأخرى ظلم ، فإذا كان لا يأمن نفسه لا .. لا يعرض نفسه للحرام لأن هذا من الظلم ، إن الله أو جب عليه أن يعدل بين نسائه حتى منعه من زواج الثانية إذا غلب على ظنه ألا يعدل حتى قال العلماء : إن النكاح يكون حراماً على المسلم إذا أراد أن يعدد وأمن الحرام وغلب على ظنه أنه إذا عدد ظلم ؛ لأن الله سبحانه وتعالى يقول:{ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ ذَلِكَ أَدْنَى أَلاَّ تَعُولُوا}(1) فأمر بلزوم الواحدة ، ومنعه من الثانية خوفاً من الظلم فلا يجوز للرجل أن يصيب الثانية في ليلة أختها وضرتها لأن الله أوجب عليه العدل فإذا ظلم ورد الوعيد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم :(( أنه يأتي يوم القيامة وشقه مائل)) -والعياذ بالله- ما من رجل تكون له امرأتان فيميل لإحداهما دون الأخرى إلا جاء يوم القيامة وشقه مائل ، قال العلماء أي مشلول-والعياذ بالله- ، وقال بعض أهل العلم : بل إنه يأتي وشقه مائل كأن ميزانه ليس على العدل فالسبب في هذا أنه لما ظلم هذه وأعطى الأخرى حق الأولى فإنه لا يأتي ميزانه سوياً يوم القيامة ، فقالوا : إن قوله شقه مائلاً المراد به الميزان ، والصحيح أن المراد بالشق شق الإنسان نفسه ولذلك قالت أم المؤمنين عائشة "ثم أفاض على شقه الأيمن ثم أفاض على شقة الأيسر" فدلوا على أنهم كانوا يطلقون الشق على جزء الإنسان فيحمل على هذه الحقيقة .(66/21)
وعلى هذا فإنه لا يجوز للإنسان أن يظلم نساءه وعليه أن يتقي الله ، وعلى من عدد أن يسأل عن أحكام العدل في القسمة ، والعدل في المباسطة وإدخال السرور والملاطفة حتى يأتي يوم القيامة وقد أرضى الله -جل وعلا- ، وأثر عن معاذ رضي الله عنه وأرضاه أنه إذا كانت الليلة لواحدة لا يشرب ولا يطعم في بيت الأخرى حتى لو مر وهو يريد أن يتوضأ قالوا لا يتوضأ في بيت الثانية خوفاً ، وهذا على سبيل الأكمل والأفضل، وكان بعض العلماء ممن أدركناهم يحكى عنهم شيئاً من ذلك ، وكانت لهم قصص عجيبة في العدل بين زوجاتهم والله -تعالى- وفقهم بفضله -سبحانه- إلى المحبة والرضا والقبول من الزوجات ، والذي تجده ظالماً تجد بيته-والعياذ بالله- مليئاً من المشاكل ، مليئاً من النفرة حتى لو أرضى إحداهن فإنها تشك فيه في الثانية لأنه رأته خائناً ظالماً ، فلا تأمن أن تخونها كما خان غيرها ، ولا تأمن أن يظلمها كما ظلم غيرها ، فلو قرت عينها يوماً فإنها لا تقر عينها أياماً ، ولو ارتاحت ساعة فإنها تبقى عليه تبقى شؤماً عليه وبلاءً دهراً طويلاً .
فعلى المسلم أن يتقي الله فإن الخير كل الخير في طاعة الله عز وجل ومن يتقي الله يجعل له من أمره يسرا ، فعلى المسلم إذا كانت عنده أكثر من واحدة أن يتقي الله ولا يصيب الثانية في ليلة الأولى لكن لو كان للثانية أولاد فإنه يهيئ من نفسه وظرفه طريقاً يؤدي بها حق ولده دون أن يقع في أمر مما ذكر ، فإنه لو حرص على أن أولاده يكونون في مكان ما ويأتي ويتفقدهم أمام أولاده لا يستطيع أن تتحرك نفسه إلى نزعه أو إلى إصابة ثم ينصرف لأن ما أبيح للحاجة يقدر بقدرها ، وعلى هذا فإنه لا يجوز الظلم وإذا أصابها فإنه يكون ظالماً لضرتها وعليه أن يتقي الله في هذا ، والله تعالى أعلم .
السؤال السابع :
هل يمكننا أن نقول إن المخدر النائم يقضي ما فاته إذا استيقظ ،والمغمى عليه كالمجنون فلا قضاء عليه ..؟؟
الجواب:(66/22)
إن المخدر كالنائم هذا قياس وينبني عليه قضاء الصلاة كما ذكرت لكن هذا القياس .. شرط صحة القياس أن لا يوجد الفارق المؤثر .
وتوضيح ذلك : أن النائم إذا استيقظه استيقظ ؛ ولكن من كان مخدراً لا يستيقظ إلا بعد انتهاء الجرعة التي تناولها بعد مخدرة ، فحينئذ لو خدر الإنسان في عملية جراحية ونام تحت تأثير المخدر فإنه في هذه الحالة لا نستطيع أن نقيسه على النائم عند من يرى أنه كالمجنون فإن العلماء رحمهم الله اختلفوا فيمن تعاطى المزيل للعقل وزال عقله كمخدر أو شرب الخمر وهو لا يدري أنها خمر كأن يظنها ماءً أو عصيراً فشربها ثم زال عقله ومضت عليه صلاة هل يقضي أو لا يقضي ؟؟
فبعض العلماء يقول في هذه المسألة ونحوها المغمى عليه يقولون إنه أشبه بالمجنون والمجنون لا يقضي الصلاة وقال بعضهم إنه أشبه بالنائم فالنائم يقضي الصلاة وكان بعض السلف كما أثر عن عمار بن ياسر-رضي الله عنهما وأرضاهما- كان يقضي الصلوات لثلاثة أيام وهو مأثور عن أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم فبعض العلماء يقول : المغمي عليه كالمجنون إلا في اليسير من الأيام كاليوم واليومين والثلاثة لورود ذلك عن بعض السلف وهذا القول في الحقيقة أقوى وأشبه بالأصل ، والله تعالى أعلم.
السؤال الثامن:
ما حكم أذان الجنب ..؟؟
الجواب:
أذان الجنب صحيح ، ولكنه يكره لغير المتطهر أن يؤذن ؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ((إني كنت على غير طهارة فكرهت أن أذكر الله)) قالوا فعلى هذا فلا يؤذن الجنب لأنه على غير طهارة ، فإن كان هذا في الحدث الأصغر يقول النبي صلى الله عليه وسلم :((إني كنت على غير طهارة فكرهت أن أذكر الله )) فإنه في الحدث الأكبر من باب أولى وأحرى وكنا نميل إلى القول بالمنع ولكن ظهر أخيراً أن القول بالكراهة أولى وأحرى ،والله تعالى أعلم .
السؤال التاسع:
ما حكم بيع الدم سواء كان مسفوحأ أو غير مسفوح .. ؟؟
الجواب :(66/23)
الدم لا يجوز بيعه لأن النبي صلى الله عليه وسلم ثبت عنه في الحديث الصحيح أنه "نهى عن ثمن الدم وحلوان الكاهن ومهر البغي" فهذا يدل على حرمة المال مقابل الدم ، سواء كان الإنسان متبرعاً كأن يقول له شخص تبرع لمريضي هذا بلتر من الدم وأعطيك كذا فإنه سحت وحرام ، ولا يجوز له أن يأخذ هذا المال ؛ لأن الدم لا يجوز بيعه وقد حرم رسول الله صلى الله عليه وسلم أكل ثمنه ، بل إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كره الكسب من الدماء كما في حديث أبي رافع في الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم قال :(( ثمن الحجام خبيث كسب الحجام خبيث )) ووصفه بالخبث وهذا على سبيل الكراهة ؛ لوجود الصارف من حديث ابن عباس في الصحيح وكانوا يؤجرون مواليهم من أجل أن يحجموا الناس ويأخذون المال منهم فأمر النبي صلى الله عليه وسلم أبا رافع أن يطعمه ناضحه وقال:(( اعلفه ناضحك ))، وفي رواية :(( وكسر محاجمه )) أي أبو رافع رضي الله عنه وأرضاه ، وعلى هذا فإنه لا يجوز التكسب بالدم كما ذكرنا كأن يتبرع و يقول له تبرع لي بلتر وأعطيك كذا ، أو تبرع للمريض وأعطيك عن كل لتر كذا أو يكون من الدماء التي يحتاجها لأشياء أخر لا يجوز .
لكن لو كان الدم دم مذكاة أي دم سحب من بهيمة بعد تذكيتها فإنه يعتبر حلالاً وطاهراً هل يجوز بيعه ..؟؟(66/24)
يجوز بيعه ؛ لأنه في هذه الحالة طاهر وليس من الدم الخبيث المحرم ، الشاة تبيعها بدمائها وبما فيها من الدماء بعد الذكاة ، وكان بعض مشائخنا- رحمة الله عليهم- يقول لا بل لو سحب من البهيمة بعد ذبحها وتذكيتها فلا يباع لأن النبي-- صلى الله عليه وسلم - - عمم المنع فقال" نهى عن ثمن الدم " وكونه طاهراً جاء هنا تبعاً ولكنه يجوز أن يباع تبعاً للبهيمة ولكن لا يجوز أن يباع مستقلاً والقاعدة :" أنه يجوز في التابع ما لا يجوز مستقلاً" ألا ترى البهيمة لو كانت البهيمة حاملاً كناقة في بطنها جنين فلو جئت وتقول له اشتر ما في بطن هذه الناقة فهذا لا يجوز بالإجماع لأنه مجهول ، وبيع المجهول لا يجوز في الصحيحين من حديث ابن عمر" نهى عن حبل الحبلة" يعني بيع الولد في بطن أمه ، لكن لو بعت الناقة وهي حامل بكاملها صح البيع ؛ لأن الولد هنا جاء تبعاً فلم يأت أصلاً لم تقصده بالبيع إنما جاء تبعاً ، ولذلك يقولون يجوز في البيع والثمن تبعاً ما لا يجوز أصلاً فهنا في مسألة الدم يقولون دفع المال للشاة بعد دفع تذكيتها إنما جاء تبعاً ، أي جاءت قيمة الدم تبعاً ولم تأت أصلاً ولا بمنفردة عن البيع ففرقوا من هذا الوجه ، والله تعالى أعلم .
السؤال العاشر:
هل من السنة في السفر سقوط قيام الليل عن المسافر ..؟؟
الجواب:(66/25)
الثابت عن رسول الله -- صلى الله عليه وسلم - -أنه لم يقم الليل في السفر وكان عليه الصلاة والسلام يتطوع ، ولكن لم يحفظ عنه أنه قام الليل في السفر ، ولذلك قالوا : إن المسلم إذا سافر وكان من عادته ما اعتاده في حضره أنه يصلي ويقوم الليل فإن الله يكتب له أجر ذلك كله .. قال صلى الله عليه وسلم :(( إذا مرض العبد أو سافر كتب له عمله)) قالوا فعمله مكتوب ولأن الله عز وجل أسقط عن المسافر نصف الفريضة إذا كانت رباعية ، فمن باب أو لى النوافل ، ومن هنا فإن السنة أن يترك النوافل ، لكن لو أنه أحب أن يقوم الليل فإنه لا ينكر عليه ولا بأس بذلك بمعنى أنه لا يقال إنه محرم عليه ، ولا بممنوع منه والشيء قد يكون النبي-- صلى الله عليه وسلم - -، يتركه ولا يفعله ، والأصل العام دال على مشروعيته فيقولون يجوز من ناحية العموم ولكن الأفضل والأكمل ألا يتهجد تأسياً برسول الله صلى الله عليه وسلم فإن أحب أن يتلو كتاب الله وقال بدلاً من أن أتلوه وأنا قاعد أتلوه وأنا في الصلاة من باب القضائل فلا بأس وكان على قوة وأراد أن يقوم الليل فلا بأس ، وأكدوا هذا بحديث الرفقة في السفر لما ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم فضل الرجل يكون مع الرفقة في السفر فيسقطون من عناء السفر ويقوم ويصلي وحده قالوا هذا دليل وأصل على مشروعية أن يصلي ، لكن الهدي الأفضل والأكمل ما ذكرناه أنه يترك القيام في السفر فإن فعله فلا بأس بذلك كما ذكرنا،والله تعالى أعلم .
السؤال الحادي عشر:
ما المقصود بقولكم : ومذهب العلماء المحققين كذا وكذا فمن يقصد بذلك وعلى من تطلب ..؟؟
الجواب:(66/26)
أما بالنسبة نسبة القول إلى المحققين .. فهذا له سبب حينما ترى المسألة مبسوطة مستوفاة من عالم جليل خاصة من المتأخرين كشيخ الإسلام ابن تيمية يعني عن القرون المفضلة كشيخ الإسلام ابن تيمية والإمام بن القيم رحمهم الله ونحوها من علماء الإسلام الذين حرروا المسائل وعرضوها على الأدلة والنصوص بتجرد ، مثل هذا التحرير الذي في بعض الأحيان قد يستغرق الصفحات ويسهب فيه العالم ويجيد ويفيد فمثل هذا يقال حقق المسألة أي أنه تحرى وجه الحق فيها ، وبذل وسعاً قل أن يبذله غيره فيها فحينئذ غالباً أن نعبر في مثل هذه المسائل بالمحققين يشمل هذا المحققين من العلماء في القرون المتوسطة كالخامس والسادس حتى ولو تأخر ، الإمام الشوكاني رحمه الله في بعض المسائل أسهب فيها وأجاد وأفاد ، وجاء بُدرر في"نيل الأو طار" أسهب فيها وبين وجه الحق ، فقد ينسب القول إلى المحقق من مثل هؤلاء العلماء- نسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يجعلهم في أعالي الجنات وأن يجزيهم عن الإسلام والمسلمين خير ما جزى العلماء العاملين الأئمة المهديين- فإن من نظر إلى صدقهم ، وحبهم للحق ، وتجردهم للسنة ، وحبهم أن يعلم الناس ماهو هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم وشفقتهم على تلك السنة ، وعرض الأقوال والآراء على كتاب الله وسنة النبي صلى الله عليه وسلم يحبهم ، ويحس أنهم بذلوا من الخير شيئاً عظيماً ، ويحس أن هذا من توفيق الله لهم فإن الإنسان إذا تحمل مشقة الهداية إلى الخير ، واستغرق في ذلك الجهد والوسع ، ورأيت دلائل الفتح من الله عليه فيدور مع السنة حيث دارت ويبحث عن الحكمة أنىَّ كانت ، فإن هذا يدل على رحمة الله سبحانه وتعالى لذلك العبد وحبه لهذا العالم .(66/27)
وكانوا يعرفون فضل العلماء بالتجرد للسنة حبهم لها وحرصهم عليها وتقصيهم لها والدقة في بيان دلالتها ومعانيها ورد الشبهات والآراء والاعتراضات والمناقشات التي يعترض بها عليها ، فإذا رأيت عالماً موصوفاً بمثل هذه الدقة قرت عينك لرؤيته ، رؤية ما يخرجه من الكنوز والعلم والفائدة ، فعندها تحس أن الله-تبارك وتعالى- بارك لهذه الأمة في علمائها فإن الله تعالى فتح على الأولين وفتح على من بعدهم ، وذلك يقول بن المنير يقول قولته المشهورة :" وفضل الله واسع فمن ظن أنه محصور في بعض العصور فقد حجر واسعاً وكم ترك الأو ل للآخر والليالي حبالى يلدنا كل غريب وكم ترك الأول للآخر ".
فالله سبحانه وتعالى جعل الخير للعلماء الأولين وجعل الخير باقياً في علماء الأمة إذا ساروا على نهج الأولين فكم أنجح الأوائل بحبهم للكتاب والسنة ، وتجردهم للهدى وحرصهم على النصيحة للمسلمين ودقتهم في ضبط المسائل وتحريرها وتقعيد الأصول وبيانها ، فكذلك يبارك الله للمتأخرين ومن سار على نهجهم ومن ساروا على نفس النهج ، وعلى نفس السبيل لأن فضل الله عظيم والله-سبحانه- يعطي الحكمة من يشاء ، وإذا فتح الله لعبده من أبواب فضله فلن يستطيع الخلق أن يغلقوا أبواب رحمته ، إذا فتح الله سبحانه وتعالى في فهمه وعلمه فلن يستطيع أحد أن يقفل الباب الذي فتحه الله عليه من فضله ، وذلك ما تطمع إليه النفوس وتشرئب إليه الأعناق-نسأل الله العظيم أن يفتح علينا وعليكم من فواتحه العظيمة ، وأن يرزقنا وإياكم حب السنة ، والعلم بها والعمل بها ، والدعوة إليها والتمسك بها إلى الموت ، وأن يحشرنا في زمرة أهلها-،والله تعالى أعلم .
السؤال الثاني عشر :
فاتني في صلاة الخسوف ركوع في الركعة الأو لى فكيف اقضي هذا الركوع ..؟؟
الحواب :
بسم الله الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه أما بعد :
فللعلماء في صلاة الكسوف والخسوف وجهان :(66/28)
قال بعض العلماء صلاة الكسوف والخسوف ركعتان وفي كل ركعة ركوعان ، فإذا أدرك الركوع الثاني فإنه يجزيه ، وحينئذٍ فوات الركوع الأو ل كفوات الركن أعني الفاتحة لمن لم يدرك الفاتحة فيكون إدراكه للركعة الركوع الثاني من الركعة الأو لى موجباً لإدراكه للركعة الأو لى وقال بعض العلماء : بل هي أربع ركعات أسقط منها السجود واغتفر ، وعلى هذا الوجه قالوا : إنه يقضي ركعة تامة إن فاته الركوع الأو ل والأول أوجه وأقوى ، والله تعالى أعلم .
السؤال الثالث عشر:
ما المقصود بقول النبي صلى الله عليه وسلم (( أعني على نفسك بكثرة السجود)) عندما قال له الصحابي .. أسألك مرافقتك في الجنة " هل المقصود كثرة الصلاة النافلة أم في غير الصلاة .. أي مطلق السجود ..؟؟
الجواب:(66/29)
هذا الحديث حديث عظيم خدم فيه هذا الصحابي رسول الأمة صلى الله عليه وسلم فوضع للنبي صلى الله عليه وسلم وضوءه وكان صلى الله عليه وسلم خيراً من الأب لأبنائه وولده ، فلما وضع له الوضوء قال :(( سلني حاجتك)) ، وهذا من كمال خلقه صلى الله عليه وسلم وأدبه فالكريم إذا قمت بأداء حق له من احترام وتقدير أحس كأن لك عنده حقاً فهو يقول سلني حاجتك لكي يكافئه على ما فعل معه ، ولم يجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم فعله هذا من باب القيام بالواجب وهذا شأن الكرام أنهم يكافئون على أشياء ولو كانت مستوجبة على الغير ، فقال له :((سلني حاجتك)) وانظر إلى ذلك الصحابي الموفق المسدد وانظر إلى أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم كيف كانت الآخرة أكبر همهم ومبلغ علمهم وغايتة رغبتهم وسؤلهم -رضي الله عنهم وأرضاهم- ما قال أسألك الدنيا ، ولا قال أسألك التجارة ، اسألك المال الذهب الفضة النساء الشهوات أبداً ، إنما رمي ببصره إلى الدار الباقية الخالدة التالدة التي فيها رضوان من الله أكبر ، فيها الروح والريحان والنعيم والجنان والفوز بنعيم الرضوان الذي هو أعظم شيء أعطاه أهل الجنة قال الله-تعالى- في الحديث القدسي (( ألا أزيدكم قالوا إلاهنا أعطيتنا .. أعطيتنا وأعطيتنا قال أزيدكم فأحل عليكم رضائي فلا أسخط عليكم أبدا)) -أسأل الله العظيم أن يحل علينا رضوانه ، وأن يجعلنا من أهل الرضا فإن من حل عليه رضوان الله عز وجل فهو أسعد عباد الله بذلك الرضا ، فجعل الله نعيم الرضوان أعظم من نعيم الجنة كما قال الله- تعالى-:{وَرِضْوَانٌ مِنْ اللَّهِ أَكْبَرُ}(1)فالشاهد أن هذا الصحابي المبارك الموفق التفت فنظر في أعز شيء ، وأعظم أمنية عنده فنظر إلى الآخرة وعلم أن خير الناس منازل في الجنة هم الأنبياء ، فقال : يا رسول الله أسألك مرافقتك في الجنة ، أي أسألك أن أكون رفيقاً لك في الجنة ، وفي هذا دليل على أن(66/30)
بعض الأمة الذين يكونون على خير واستقامة فإنهم رفقاء لرسول الله صلى الله عليه وسلم في الجنة مع مال الصحابة من الفضل والسبق فقال رضي الله عنه أسألك مرافقتك في الجنة فقال صلى الله عليه وسلم : (( أعني على نفسك بكثرة السجود)) قوله : (( أعني على نفسك)) فيه دليل على أن الإنسان لايستطيع أن ينال فضل الآخرة إلا بالجهد والكبت لنفسه عن فضول الشهوات والمنهيات ، قال:(( أعني على نفسك)) وفي هذا دليل على أن نفسك تحول بينك وبين الرضوان العظيم والله-تعالى- يقول :{ وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنْ الْهَوَى}(1) فقال :(( أعني على نفسك)) فمعناه أنك لا تستطيع أن تنال الجنة ولا أن تنال أعظم درجاتها ، وأعلى منازلها إلا إذا كنت مالكاً لنفسك لا تملكك نفسك الأمارة بالسوء ولهذا قال:(( أعني على نفسك بكثرة السجود)) والمراد بكثرة السجود :كثرة النوافل وأشرف ما في الصلاة كما يقول بعض العلماء السجود .. أخذوا من هذا الحديث أن أفضل ما في الصلاة السجود ؛ لأنه قال:(( أعني على نفسك بكثرة السجود)) فخص السجود من الصلاة في مقام الفضل ومقام علو الدرجة فدل على أن الأفضل كثرة السجود وقوله :((كثرة السجود)) فيه دليل على فضل السجود فقالوا إنه أفضل ما يكون في الصلاة .
ومن هنا قالوا الأفضل لو تعارض طول القيام أو كثرة السجود فالأفضل أن يكثر من السجود ، كرجل قام من الليل وأحب أن يكثر من النوافل فهل الأفضل أن يكثر من القراءة حتى يبلغ السحر ثم يوتر أو الأفضل أن يطول في الركوع والسجود .(66/31)
مذهبان مشهوران للعلماء والصحيح طول القيام في الصلاة لحديث جابر في الصحيح أنه لما سئل عن القيام في الصلاة أي الصلاة أفضل؟؟ قال:(( طول القنوت)) ؛ والسبب في هذا أن إذا قام ووقف تلا كتاب الله عز وجل وهو أفضل الذكر ، وأحبه إلى الله وفضل كلام الله على سائر الكلام كفضل الله على سائر الخلق ، فمن هنا قالوا إن الأفضل أن يطيل القيام لا أن يكثر من السجود وهذا هو أصح أقوال العلماء والسبب في هذا أنه لما سئل عليه الصلاة والسلام أي الصلاة أفضل ؟؟ قال:((طول القنوت)) فإن المسألة واردة عن أفضل شيء في الصلاة ، ولما قال له:(( أعني على نفسك بكثرة السجود))جاء في مطلق الفضيلة للسجود ، وفرق بين مطلق الفضيلة وخصوص الفضيلة فإنه لما سئل أي الصلاة أفضل فهذا خصوص الفضيلة حينما اختلف هل الأفضل أن يطيل القيام أو يطيل السجود فهذا خصوص فضيلة جاء النص به بعينه فقال أي الصلاة أفضل؟؟ قال:(( طول القنوت)) ، وأما بالنسبة لإكثار السجود فجاء فيه مطلق الفضيلة فيقدم ما ورد فيه النص بخصوص الفضيلة مما هو محل للنزاع على ما ورد فيه الفضل عامة ، وقوله عليه الصلاة والسلام :(( بكثرة السجود)) هذا يتأتى على وجهين هل يكثر من السجود أو يطيل السجود؟؟
هناك وجه إذا أطال السجود فإنه يقل العدد ، وإذا أكثر العدد قل طول السجود فقالوا لما قال:(( بكثرة السجود)) رجع الأمر إلى العدد ، ولذلك ثبت في الحديث:(( أن ابن آدم إذا سجد تولى الشيطان يحثو على أنفه التراب ويقول يا ويله أمر ابن آدم بالسجود فله الجنة وأمر هو بالسجود فعصى وله النار)) ، فهذا يدل على فضل السجود وقوله عليه الصلاة والسلام بكثرة السجود شامل لقيام الليل وصلاة النهار ، والله تعالى أعلم .
السؤال الثالث عشر:(66/32)
امرأة يأمرها زوجها أن تدخل على أخيه ، يهددها بالطلاق إن لم تفعل ذلك ، وإذا أخبرته بحديث:(( الحمو الموت)) قال إنما ذلك إذا خلا بها فهل هذا الحديث محمول على الخلوة . وما هي نصيحتكم لها ..؟؟
الجواب:
أولاً : على الزوج أن يتقي الله عز وجل وعلى كل مؤمن يؤمن بالله واليوم الآخر ويعلم أن الله سائله ومحاسبه عليه أن يعلم أن المرأة أمانة في عنقه ، وأنها إذا كانت صالحة بينه تخاف ربها وترجو لقاء الله فتتقي محارم الله عليه أن يثبتها وأن يقوي عزيمتها وأن يحببها في ذلك الخير الذي قذفه الله في قلبها ، وأن يكون وجه خير وبركة عليها حينما يثبتها على ذلك الخير .
أما أن يكون -والعياذ بالله- مخذلاً عن طاعة الله يخذلها عن الخير إذا طلبته أو يخذلها عن ترك الشر وإن فرت منه وكرهته فإنه بئس والله الزوج ، امرأة تتقي الله وتخاف الله-- جل جلاله -- وتمتثل هدي رسول الله-- صلى الله عليه وسلم - -في اتقاء الفتننة وأنت تحفزها وتكرهها على ذلك الأمر ، يا هذا احمد الله عز وجل على فضله وعظيم إحسانه ونواله أن أعطاك الله امرأة اتقت الله في عرضك ، واتقت الله في نفسها ، عليك أن تثبتها على طاعة الله ، وعلى كل زوج أن يحمد الله عز وجل إذا رأى امرأة صالحة عنده فرأى منها خيراً حتى ولو كان بينه وبينها خلاف .(66/33)
والمسألة فيها خلاف بين العلماء فرأى أن قولها أحوط ثبتها وقال جزاك خيراً من امرأة وجزاك الله خيراً من زوجة إننا نعاني وإن القلوب تتقرح وكم من امرأة صالحة حتى مع بعض الملتزمين بالخير نحسبهم ولا نزكيهم على الله في بعض المواطن وبعض المواقف تحتاج المرأة الصالحة من يثبتها على الخير من النصيحة للمرأة ، والرسول- - صلى الله عليه وسلم - -يقول :(( الدين النصيحة)) وجعل النصيحة لعامة المسلمين ، ومن أحق العامة عامة المسلمين عليك خاصتك وقرابتك فالمرأة إذا رأيتها تتقي الله في أمر ، وتريد أن تتورع وأخذت بقول فيه احتياط وفيه حفظ لدينها ومروءتها وخشيتها لربها ثبتها على ذلك ، وقل جزاك الله خيراً ونعم المرأة وثبتها على هذا الخير لأن المرأة التي تفر عن محارم الله وحدود الله ففي قلبها نور من تقوى الله-- جل جلاله -- فلا تطفئ النور في قلبها ، لا تكن عوناً للشيطان عليها ، ولا تكن عوناً للنفس الأمارة بالسوء عليها واتقي الله وارجي -رحمة الله- أسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يوفقنا لمحبته ومرضاته وأن يبلغنا الفوز بأعالي جناته.
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين وصلى الله وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.(66/34)
بسم الله الرحمن الرحيم
قول المصنف رحمه الله : بَاب مَا جَاءَ إِذَا أُقِيمَتِ الصَّلاَةُ وَوَجَدَ أَحَدُكُمُ الْخَلاَءَ فَلْيَبْدَأْ بِالْخَلاَءِ
حَدَّثَنَا هَنَّادُ بْنُ السَّرِيِّ حَدَّثَنَا أَبُو مُعَاوِيَةَ عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ ابْنِ الأَرْقَمِ قَالَ أُقِيمَتِ الصَّلاَةُ فَأَخَذَ بِيَدِ رَجُلٍ فَقَدَّمَهُ وَكَانَ إِمَامَ قَوْمِهِ وَقَالَ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ:(( إِذَا أُقِيمَتِ الصَّلاَةُ وَوَجَدَ أَحَدُكُمُ الْخَلاَءَ فَلْيَبْدَأْ بِالْخَلاَءِ )) .
قَالَ رحمه الله : وَفِي الْبَاب عَنْ عَائِشَةَ وَأَبِي هُرَيْرَةَ وَثَوْبَانَ وَأَبِي أُمَامَةَ .
قَالَ أَبو عِيسَى رحمه الله : حَدِيثُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الأَرْقَمِ حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ هَكَذَا رَوَى مَالِكُ بْنُ أَنَسٍ وَيَحْيَى ابْنُ سَعِيدٍ الْقَطَّانُ وَغَيْرُ وَاحِدٍ مِنَ الْحُفَّاظِ عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ ابْنِ الأَرْقَمِ وَرَوَى وُهَيْبٌ وَغَيْرُهُ عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ رَجُلٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ ابْنِ الأَرْقَمِ وَهُوَ قَوْلُ غَيْرِ وَاحِدٍ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَالتَّابِعِينَ وَبِهِ يَقُولُ أَحْمَدُ وَإِسْحَقُ قَالاَ لاَ يَقُومُ إِلَى الصَّلاَةِ وَهُوَ يَجِدُ شَيْئًا مِنَ الْغَائِطِ وَالْبَوْلِ وَقَالاَ إِنْ دَخَلَ فِي الصَّلاَةِ فَوَجَدَ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ فَلاَ يَنْصَرِفْ مَا لَمْ يَشْغَلْهُ وقَالَ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ لاَ بَأْسَ أَنْ يُصَلِّيَ وَبِهِ غَائِطٌ أَوْ بَوْلٌ مَا لَمْ يَشْغَلْهُ ذَلِكَ عَنِ الصَّلاَةِ .
الشرح:(67/1)
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين وعلى آله وصحبه ومن سار على نهجه إلى يوم الدين أما بعد :
فقد ذكر المصنف رحمه الله هذه الترجمة" باب ما جاء إذا أقيمت الصلاة ووجد أحدكم الخلاء فليبدأ بالخلاء" ترجم المصنف رحمه الله بهذه الترجمة التي توافق لفظ حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم وهذا من باب الأدب مع السنة ، ولا شك أنه من فقه الإمام الترمذي ويعد من فضائل علماء الحديث رحمهم الله أنهم كانوا إذا ترجموا في الأبواب تأدبوا مع حديث النبي صلى الله عليه وسلم وذكروا الترجمة على وفق قوله عليه الصلاة والسلام ، وهذا والله هو العلم وهو الفقه في الدين أن يكون العالم متبعاً لسنة النبي صلى الله عليه وسلم ، وبعض من العلماء يذكر فقه الحديث في الترجمة فيذكر ما اشتمل عليه الحديث من عموم فربما ترك لفظ الحديث للتنبيه على العموم لوجود الحاجة إليه.
"باب ما جاء ": عن رسول الأمة صلى الله عليه وسلم وهاديها ومعلمها الخير -صلوات ربي وسلامه عليه إلى يوم الدين-.
قوله" إذا أقيمت الصلاة ": الإقامة مأخوذة من قول المؤذن "قد قامت الصلاة" ؛ ووصفت بذلك لأنها الأذان الثاني الذي يؤذن المأمومين بالصلاة وبها أو بعدها مباشرة ، إما في أثنائها على قول وإما عند ختمها يكبر الإمام شارعاً في صلاته .(67/2)
وقوله رحمه الله :"إذا أقيمت الصلاة ووجد أحدكم الخلاء": أي وجد في نفسه أنه يريد الخلاء ، والمراد بالخلاء أنه حاقن إما ببول أو يريد أن يتغوط ففي هذه الحالة يكون مدافعاً للأخبثين ، كما ثبت في الصحيحين عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال في حديث أم المؤمنين عائشة -رضي الله عنها-قال صلى الله عليه وسلم :(( لا صلاة بحضرة طعام ولا وهو يدافعه الأخبثان )) فقوله عليه الصلاة والسلام :(( فوجد أحدكم الخلاء )) : أي وجد أنه محتاج إلى الخلاء وهذا من باب أدبه صلى الله عليه وسلم حيث كنَّى عن حاجة الانسان بالخلاء ، والعلماء رحمهم الله يطلقون ألفاظاً في هذا الباب ، فمنهم من يقول الخلاء ، ومنهم من يقول البراز ، ومنهم من يقول الحاجة وكل ذلك تأدباً في اللفظ ، فإذا قالوا الخلاء فالسبب في هذا أن قضاء الحاجة غالباً ما يقع في البراز والخلاء- أعني الصحراء- ؛ لأن الانسان إذا أراد أن يقضي حاجته خاصة في زمان النبي صلى الله عليه وسلم حيث كان الكنيف والحمام الذي يسمى في عصرنا اليوم بالحمام لا يضعونه في البيوت وذلك استبشاعاً للرائحة ، فكانوا يقضون حوائجهم في البساتين أو خارج المدينة ، وكانت المناصع المشهورة التي كانت شمالي البقيع الموجودة الآن كانت برازاً لأمهات المؤمنين ونساء المؤمنين ، ولذلك لما آذى عدو الله كعب بن الأشرف اليهودي آذى أمهات المؤمنين وكان يخرج لنساء المؤمنين يؤذيهن إذا خرجن إلى البراز في هذا الموضع وهو المناصع ، ومن هنا استباح النبي صلى الله عليه وسلم دمه وأهدره وأمر محمد بن مسلمة ومن معه أن ينفذوا إليه ويقتلوه ، فالشاهد أن هذا الموضع كان خارجاً عن المدينة وكانوا يستبشعون قضاء الحوائج في البيوت فمن هنا سمو حاجة الإنسان بالخلاء ؛ لأنه المكان الذي تقضى فيه الحاجة ومنه كذلك قوله-سبحانه-:{أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنْ الْغَائِطِ}(1)
__________
(1) / المائدة ، آية: 6.(67/3)
فالمراد من الغائط المطمئن من الأرض ، ولكن لما كان الغالب أنهم يقضون حوائجهم في المكان المطمئن كالحفر ونحوها كني به عن حاجة الإنسان من هذا الوجه ، وفي بعض الأحيان يعبر بالحاجة كما في قوله عليه الصلاة والسلام :(( إذا قعد أحدكم لحاجته )) فالشاهد أنه إذا وردت السنة عن النبي صلى الله عليه وسلم بلفظ الخلاء أو بلفظ الحاجة فالمراد بها خروج الغائط أو البول أو قضاء كل منهما.
وقوله عليه الصلاة والسلام :(( وجد أحدكم الخلاء)) : يشمل من يزعجه ذلك ومن لا يزعجه .
وتوضيح ذلك : أنه إذا أقيمت الصلاة وحصل للإنسان حقن في البول أو أراد أن يقضي البراز فإنه تارةً يكون عليه شديداً بحيث لو صلى تشوش فكره ، ولم يستطع أن يصلي حاضر القلب ويعي صلاته فهذه هي أشد الحالات وهي الحالة الأولى .
والحالة الثانية : أن يكون دون ذلك .
وقوله-عليه الصلاةوالسلام-:(( وجد أحدكم الخلاء)): يشمل الحالتين حيث لم يفرق صلى الله عليه وسلم بين كونه شديداً أو دون ذلك ، فلما قال عليه الصلاة والسلام في حديث أم المؤمنين عائشة :(( لا صلاة بحضرة طعام ولا وهو يدافعه الأخبثان)) دل على أن الحالة شديدة ؛ لأن المدافعة غالباً إنما تكون في حال الحزم والحقن والحصر .
وقوله عليه الصلاة والسلام :(( فليبدأ بالخلاء)) : أي يبدأ بقضاء حاجته هذه هي الترجمة أي ليذهب ويقضي حاجته ثم يصلي بعد ذلك ، سكت عليه الصلاة والسلام عن فعل الصلاة بعدقضاء الحاجة ؛لأنه معلوم بداهة فقال:(( فليبدأ بالخلاء)) أي بعد أن ينتهي من خلائه شأنه والصلاة .
وقول المصنف عن هشام بن عروة عن أبيه عن عبد الله بن الأرقم قال:" أقيمت الصلاة فأخذ بيد رجل فقدمه وكان إمام القوم ": "أقيمت الصلاة فأخذ" أي عبد الله بن الأرقم الصحابي -- رضي الله عنه - وأرضاه-،" أخذ بيد رجل فقدمه": أي قدمه إماماً بدلاً عنه وهذا يسميه العلماء بالاستخلاف.(67/4)
والاستخلاف من الإمام لأحد المأمومين يقع على صورتين :
الصورة الأولى : أن يستخلفه قبل الصلاة وقبل الدخول فيها .
والصورة الثانية : أن يستخلفه بعد الدخول في الصلاة أي أثناء الصلاة قبل أن يسلم .
فأما بالنسبة لاستخلاف الأئمة قبل الصلاة فإن الأصل يقتضي أن الإمام يقوم بالإمامة ويعطيها حقها من المحافظة والمداومة عليها ، سواء كان إماماً راتباً ويأخذ رزقاً من بيت مال المسلمين أو كان إماماً متطوعاً محتسباً فالأصل أنه إذا فرَّغ نفسه للإمامة أو ارتبط بها أنه ينبغي عليه أن يحافظ على هذه الوظيفة العظيمة والمنزلة الشريفة الكريمة ، وأن يعطيها حقها من المحافظة والمداومة وعدم التقصير والإخلال بحقوقها.
أما إذا كان متعاقداً على الإمامة ويأخذ الرزق من بيت مال المسلمين فالأمر فيه أشد وأعظم إذ يجب عليه إذا كلف بالإمامة وتعاقد مع الجهة المتعلقة بذلك على أن يقوم بالإمامة فإنه يجب عليه الوفاء ، امتثالاً لقول الله سبحانه وتعالى :{ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ}(1) فإذا كُلَّف بالإمامة وتعهد بها وارتبط بها فإنه يجب عليه أن يوفي كما وفىَّ له غيره ، وحينئذ لا يقيم غيره مقامه إلا بإذن ممن أقامه ؛ لأن هذا هو شأن العقود فإذا أراد أن يستنيب أحداً أو يقيم أحداً مقامه فعليه أن يستأذن ممن وضعه وكلَّفه بهذا ، وعلى هذا فلو أقام شخصاً مكانه فينبغي عليه أن يراعي فيه صفات الإمامة التي يجب توفرها في الأئمة –وسنتكلم على هذه الشروط والأمور التي ينبغي أن تكون في الأئمة في باب الإمامة وصلاة الجماعة إن شاء الله تعالى- .
__________
(1) / المائدة ، آية : 1.(67/5)
فإذا قصر الإمام واستخلف غيره بدون وجود عذر أو لم يستخلف غيره وترك الناس كلما حضرتهم الصلاة التفتوا يمنة ويسرة فقدموا الأهل وغير الأهل فإنه يأثم من هذا الوجه ، وذلك لأنه ضيع حق الله الذي أوجبه عليه وفرط في العقد الذي التزم به ، وليس ذلك من شأن المسلم فالمسلم مأمور بالوفاء بالعقود ومأمور كذلك أن يحمد نعمة الله عز وجل وفضله حيث شرفه بهذا المقام المنيف ، وكذلك المنصب الشريف فيكون من شكره لنعمة الله أن لا يأذن لغيره إلا إذا كان مستحقاً أو له الحق في أن ينيبه ويقيمه مقامه هذا إذا كان يأخذ الرزق من بيت المال وتعهد بالإمامة .(67/6)
أما لو كان محتسباً وتطوع بالإمامة فإن عليه أن يقيم هذه الإمامة على وجهها وهذا ما يسميه العلماء في القديم بالإمام الراتب ؛ لأن الأئمة في القديم كانوا لا يأخذون على إمامتهم شيئاً وكانوا يتطوعون بالإمامة احتساباً للأجر والثواب عند الله سبحانه وتعالى ، فإذا كان إماماً غير ملزم وليس بمكلف تكليفاً واجباً فإنه لا ينبغي أن يستخلف أحداً مكانه إلا من حاجة ؛ لأن الله سبحانه وتعالى وهبه هذا الثغر الذي فيه الأجر والمثوبة فلا ينبغي له أن يؤثر به غيره ولا ينبغي له أن يفرَّط في هذه الإمامة ، حتى حُكي عن السلف رحمهم الله وبعض الأئمة من أهل الفضل من الخلف حكيت عنهم حكايات عجيبة فلربما مرَّ على الرجل ثلاثين سنة لم يتخلف عن إمامته إلا من عذر ، ومنهم من تمر عليه السنوات المتتابعة لا يمكن أن يفرَّط حتى ولو كان مريضاً وهذا لا شك أنه من كمال الإيمان ؛ لأن الإمام إذا أدرك ما له عند الله من المثوبة وأنه يتاجر مع الله-سبحانه- حرص على وقت الإمامة ، وحرص كذلك على أدائها والقيام بحقوقها ، ولا يمكن أن يؤثر غيره كائناً من كان على أن يتقدم ويصلي بالناس مكانه ، هذا هو شأن الفضلاء والذين عرفوا نعمة الله- - سبحانه وتعالى -- فوفَّوا لله كما وفى الله لهم فالواجب على الأئمة أن يحفظوا فضل الله عز وجل عليهم ، كان بعض العلماء يقول : من أراد أن ينظر إلى فضل الإمامة فلينظر إلى الأمة يوم الجمعة وهي تنصت لخطيب واحد أخرس الله المتكلمين لكلامه وأمر الأسماع أن تصغي لبيانه ومواعظه ، وهذا يدل على فضل الإمامة إذا كان لها هذا الفضل فلا ينبغي للمسلم أن يؤثر غيره به ولا أن يقدمه بدلاً عنه ؛ لأنه لا إيثار في القرب ، وكان بعض العلماء من مشائخنا رحمة الله عليهم يقول :"أخشى على من فضَّله الله بالإمامة فتساهل في ذلك وقدَّم غيره من دون حاجة أن يسلبه الله هذه النعمة" فعلى الإنسان أن يحمد نعمة الله عز وجل وعلى(67/7)
الأئمة أن لا يستخلفوا إلا من وجود حاجة تدعوهم إلى هذا الاستخلاف سواء كانوا راتبين أو كانوا محتسبين .
وقوله "فأخذ بيد رجل": هذا من الاستخلاف قبل الإمامة كما ذكرنا وهو من الاستخلاف لعذر والاستخلاف لعذر أن لا يتمكن الإمام من الصلاة بالناس وقد أقيمت الصلاة وهذه الحالة تنقسم إلى ضربين:
الضرب الأول : أن يكون في وسع الإمام أن يذهب ويتوضأ أو يقضي حاجته يتوضأ ثم يعود ويصلي بالناس ويكون الوقت قصيراً بحيث لا يشق على الناس وليس على الناس حرج إذا فعل ذلك .
الضرب الثاني : أن يكون بيته بعيداً أو يكون معه ألم لا يغلب على ظنه أن يفرغ منه في مدة وجيزة أو يغلب على ظنه أن الناس يتضررون ويشق عليهم الانتظار ففي هذه الحالة يقدم بدلاً عنه .
فأما بالنسبة للضرب الأول وهو أن يكون بيته قريباً أو تكون دورة المياه قريبة المهم أنه يمكنه أن يذهب ويقضي حاجته ويتوضأ ويعود ويصلي بالناس ، فالسنة له أن لا يوكل أحداً والسنة له أن يذهب وعلى المأمومين أن ينتظروا ولو أقيمت الصلاة لما ثبت في الحديث الصحيح عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل في صلاة الفجر وقد أقام بلال الصلاة فلما استتم الناس في الصفوف وقام صلى الله عليه وسلم حتى كاد أن يكبر تذكر شيئاً أي تذكر أنه جنب ولم يغتسل قال:(( فأشار إلى الناس أن مكانكم)) أي الزموا الحالة التي أنتم عليها فخرج صلى الله عليه وسلم ودخل إلى بيته واغتسل ثم رجع وصلى بالناس .(67/8)
هذا الحديث يدل على فوائد منها : أن الإمام إذا كان عنده عذر من قضائه لحاجته وأمكنه أن يقضي الحاجة أو تذكر أن عليه جنابة أو تذكر أنه لم يتوضأ وقد وأمكنه أن يذهب إلى مكان قضاء الحاجة أو مكان الوضوء ويتوضأ ويدرك الصلاة بالناس فعليه أن يفعل ذلك ، ولكن بشرط أن لا يضر بالناس فإذا أضر بهم أو كان الوقت ضيقاً فحينئذ يكون الحكم ما فعله عبد الله بن الأرقم رضي الله عنه وأرضاه حيث استخلف غيره لكي يصلي بالناس ، قال عروة - رحمه الله-:" فأخذ بيد رجل فقدمه وكان إمام القوم" أي أخذ عبد الله بن الأر قم رضي الله عنه بيد رجل وقدمه لكي يصلي بالناس وكان أي عبد الله إمام القوم ، وعلى هذا ففي تقديمه رضي الله عنه للرجل فوائد :(67/9)
الفائدة الاولى : فيها دليل على أنه من السنة إذا خاف الإمام على المأمومين أو خشي عليهم الضرر أن يقدم غيره ؛ لأن اعتبار حالة المأمومين في الإمامة من اليسر الذي أمر الله به وندب عباده إليه كما في الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم في صلاة العشاء وقد روى جابر-رضي الله عنهما-أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا رأى الصحابة في العشاء قد اجتمعوا عجَّل بالعشاء ، وإذا رآهم أبطأوا أخرها فانظر إلى هديه عليه الصلاة والسلام كيف كان ينظر إلى المأمومين فإنهم إذا اجتمعوا وأخرَّ بهم العشاء شق عليهم ، ولذلك قال في حديث أنس بن مالك رضي الله عنه في الصحيح :(( لولا أن أشق على أمتي لأمرتهم بهذه الصلاة هذه الساعة)) فدل على أن السنة أن يلتفت الأئمة إلى حال المأمومين ، وقد ثبت في الصحيح عنه عليه الصلاة والسلام في صلاة الفجر أنه لما دخل وهو يطوَّل في الصلاة وكان يقرأ فيها من الستين إلى المائة آية كما في الصحيح فلما سمع بكاء الصبي قرأ :{ إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ}(1) فلما فرغ قال صلى الله عليه وسلم :(( إني سمعت بكاء صبي فأشفقت على أمه)) فهذا يدل على رعاية حال المأمومين وأنه ينبغي على الأئمة أن ينظروا إلى حال المأمومين ، فإذا غلب على ظن الإمام أن وضوءه أو اغتساله من الجنابة يشق على المأمومين عليه حينئذ أن ينوب غيره ليقوم مقامه .
__________
(1) / الكوثر ، آية : 1.(67/10)
الفائدة الثانية : فيه ما دلَّ على الأصل الشرعي أنه لا يجوز للمسلم أن يصلي وهو على غير طهارة ؛ وذلك أن قوله :((وجد أحدكم في نفسه الخلاء)) : يشمل من باب أولى ما إذا كان محدثاً وهذا من باب التنبيه بالأدنى إلى الأعلى ، فإنه إذا صرف من أجل قضاء الحاجة فمن باب أولى أن يُصرف إذا لم يكن متوضئاً ؛لأنه لا يجوز للمسلم أن يقف بين يدي الله في الصلاة إلا إذا كان على طهارة قال صلى الله عليه وسلم :((لا يقبل الله صلاة أحدكم إذا أحدث حتى يتوضأ)) وإذا ثبت هذا فإنه ينبني عليه أن لا تصح إمامة المحدث ، وأن الواجب على الإمام إذا كان محدثاً أن ينصرف ؛ لأنه إذا انصرف من أجل أن يحدث فمن باب أولى أن ينصرف إذا كان محدثاً ، وهذا أمر ألزم ما يكون للإمام والمأمومون إذا علموا أن إمامهم على غير طهارة فإنه لا تصح صلاتهم ويأثمون بمتابعة الإمام إذا علموا حدثه سواء أحدث قبل الصلاة أو أحدث أثناء الصلاة ، فإذا أحدث الإمام أثناء الصلاة فإنهم يفارقونه في النية ، فلو اطلع المأموم على إمامه أنه أحدث واستخلف الإمام تبع خليفته ، أما إذا لم يستخلف وأصر على الصلاة أو مضى على الصلاة لجهل منه أو عمد منه فحينئذٍ تنوي مفارقته ، أي تنوي أنك منفرد وتقطع الأئتمامك به ؛ لأن الله لا يجيز لك أن تأتم بإمام تعلم أنه محدث ، فإذا صلى وأتمَّ الصلاة تنفصل عنه فتتم ما بقي لك من الأركان وتسلم وحدك وهذا هو الواجب لأنه لا يصح الائتمام بمن كان محدثاً .
قال رضي الله عنه وأرضاه "سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم حينما أخذ بيد الرجل فقدمه": الأخذ بيد الرجل لتقديمه فيه دليل على الاستخلاف كما ذكرنا فإن كان داخل الصلاة هذا مما يتعلق بالاستخلاف قبل الصلاة .(67/11)
أما الاستخلاف داخل الصلاة فإنه يشرع إذا طرأ الحدث على الإمام فأحدث أثناء الصلاة أو تذكر أنه محدث أو تذكر أن عليه نجاسة فإنه يسحب رجلاً من ورائه ولذلك كان من هديه أن أمر الصحابة أن يليه أولوا الأحلام ؛ والسبب في ذلك أن أولي الأحلام إذا ولوا الإمام أو كانوا وراء الإمام فإنهم يسدون مكانه إذا طرأ عليه العذر من الحدث فيقدم أصلح القوم وراءه إذا كان قريباً منه يأخذه بيده ثم يجره إلى مكان الإمامة ، أو يشير إليه بيده أو يكلمه ؛ لأنه إذا أحدث بطلت صلاته فيقول يافلان أتم بالناس صلاتهم ، يافلان صلى بالقوم فإذا قال ذلك وجب على المأمومين أن يأتموا بهذا الذي استخلفه وينتقلون إليه ، وهذا من باب الحقوق في الإمامة ولذلك ثبت في الحديث الصحيح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه لما مرض مرض الوفاة قام أبو بكر فصلى بالناس حينما أمر عليه الصلاة والسلام أمره أن يصلي فقال:(( مرو أبا بكر فليصل بالناس)) فلما صلى رضي الله عنه وأرضاه خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم أثناء الصلاة وهو يَهَادى بين العباس وعلي رضي الله عن الجميع قال:(( فأشار إلى أبا بكر أن مكانك)) لأن أبا بكر كان يريد أن يتأخر فأشار إليه أن مكانك ، فجاء النبي صلى الله عليه وسلم ووقف إلى جوار أبي بكر ودخل في الصلاة فكان أبو بكر يأتم بالنبي صلى الله عليه وسلم والصحابة يأتمون بأبي بكر ، ووجه الدلالة من هذا الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم في الأصل هو الإمام فلما وجد العذر واستخلف أبا بكر وطرأت إمامة النبي صلى الله عليه وسلم رجع الأمر إلى أصله وهذا هو الذي جعل بعض العلماء : يقول لو أن الإمام تأخر ثم جاء وقد قدم الناس رجلاً كان من حقه أن يأتي مكانه وأن يتأخر الرجل إلا إذا كان يغلب على ظنه أن ذلك يشوش على الناس في صلاتهم أو يلبس عليهم فعليه أن يحتاط لصلوات الناس ، فالشاهد أنه طرأت إمامة الإمام الأصلي على(67/12)
الإمام الفرعي فرجع إلى إمامة الأصل والإمام الفرعي أقيم مقام الأصل عند غيبته فهذا يدل على مشروعية الاستخلاف وهي صورة العكس كما يقول العلماء رحمهم الله ، فصحت إمامة أبي بكر لفقد النبي صلى الله عليه وسلم ولأمره بالاستخلاف ، ثم تأخر أبو بكر وتأخر بإمامته لوجود الأصل فإذا زال الأصل واستخلف غيره حل محل ذلك الأصل ووجبت متابعته تصحيحاً لصلوات الناس ، وجماهير السلف والخلف على مشروعية الاستخلاف وأنه يجوز أن يقيم غيره مقامه وأن المأموم يصير إماماً في هذه الحالة .
وقوله رضي الله عنه وأرضاه لما قدم الرجل سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول :(( إذا اقيمت الصلاة ووجد أحدكم الخلاء))": قوله" سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول" هذه الجملة قصد بها عبد الله رضي الله عنه وأرضاه أن يبين الدليل والحجة على المسألة وهذا من فقهه -- رضي الله عنه - أرضاه- ، وفيه دليل على أنه يستحب للعالم ومن يبين المسائل إذا ذكر الحكم أن يذكر الدليل حتى تطمئن النفوس بالحق وترتاح إليه وتعتمد الحجة فيه ، وعلى هذا كان الصحابة -رضوان الله عليهم- إذا فعلوا أو قالوا أسندوا ذلك إلى هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ولما قال محمد بن سيرين لأنس بن مالك رضي الله عنه وأرضاه :"إنا رأيناك تصلي ووجهك من هذا الجانب" أي تصلي على راحلتك لغير القبلة قال أنس رضي الله عنه وأرضاه :" لولا أني رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يفعله ما فعلته" فهذا يدل على أنه ينبغي الاستناد إلى الدليل والحجة حتى يكون ذلك أبلغ في قبول الحق والعلم به والعمل به ، فإنه إذا كان الحكم مدَّعماً بالدليل فإنه يوجب الطمأنينة وهي البينة التي قال الله عز وجل عنها :{ قُلْ إِنِّي عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي}(1) .
__________
(1) / الأنعام ، آية : 57 .(67/13)
قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:(( إذا أقيمت الصلاة ووجد أحدكم الخلاء فليبدأ بالخلاء)) هذا عام يشمل الإمام ويشمل المأموم أنه إذا أقيمت عليه الصلاة أنه يبدأ بالخلاء قبل الصلاة وفي هذا فوائد:
الفائدة الأولى: فيه دليل على أنه ينبغي على المصلي أن يدفع عنه كل ما يشوش عليه فكره ويقطعه عن حضور القلب في صلاته ، وذلك أنه إذا حضره الخلاء فإنه لا يستطيع أن يكون حاضر القلب بحيث يعي صلاته ويقيمها على وجهها الذي أمر الله عز وجل أن تقام عليه ، فأمر الشرع أن ينصرف إلى الخلاء حتى يكون حاضر القلب في صلاته وموقفه بين يدي ربه ، ويقاس على الخلاء كل ما يشوش الفكر ، ومن هنا قال صلى الله عليه وسلم :(( إذا حَضَر العَشَاء والعَّشَاء فابدأوا بالعَشَاء قبل العِشَاء)) ، وقال :((لا صلاة بحضرة طعام ولا وهو يدافعه الاخبثان)) كل هذا ؛ لأن الفكر يتشوش وينشغل بهذا الشيء الذي تعلق القلب به .
الفائدة الثانية : أنه إذا تعارضت فضيلة متعلقة بالصلاة و فضيلة متعلقة بزمان الصلاة أو مكان الصلاة قدمت الفضيلة المتعلقة بذات الصلاة على الفضيلة المتعلقة بالزمان والمكان .(67/14)
وتوضيح ذلك : أنك إذا ابتدأت بالعَشَاء قبل العِشَاء أو ابتدأ الإنسان بقضاء الحاجة قبل الصلاة فمعنى ذلك أنه ستفوته فضيلة أول الوقت وحينئذ فضيلة أول الوقت تابعة للزمان أي زمان الصلاة ، ولوصلى وهوحاقن أو صلى وهو يريد العَشَاء فإنه يتشوش فكره فتذهب فضيلة الخشوع المتعلقة بذات الصلاة ، فقدم الشرع الفضيلة المتصلة بذات الصلاة على الفضيلة المتعلقة بزمانها فيقاس على ذلك فضائل المكان وغيره ، ومن هنا قال بعض العلماء : إذا علمت أنك لو خرجت من بيتك تمشي على قدميك أنه تفوتك تكبيرة الإحرام أو تفوتك الركعة الأولى من الصلاة أو يفوتك أكثر الصلاة فإنك تركب الدابة تحصيلاً لفضيلة متعلقة بذات الصلاة وهي إدراك المكان الذي هو الصف الاول ، وإدراك تكبيرة الإحرام المتعلقة بذات الصلاة ، وإدراك أجزاء الصلاة المتعلقة بأدائها والقيام بها ، ومن هنا قدموا الفضائل المتصلة بالعبادة عن الفضائل المنفصلة .
إلا أن هناك مسائل قد تشكل منها مسألة التورك لو قلنا أنه تقدم السنن والفضائل المتعلقة بذات الصلاة على فضائل الزمان والمكان قالوا : لو علم أنه لو صلى في الصف الأول لم يستطع أن يتورك إذا كان في رباعية ولم يستطع أن يجافي بين ضبعيه فهل الأفضل أن يتأخر إلى الصف الثاني والثالث ويطبق السنن مع أن المجافاة والتورك فضيلة متعلقة بذات الصلاة أم أنه يصلي في الصف الأول .؟؟
قال بعض العلماء : يصلي في الصف الأول ولو فاتته فضيلة التورك ؛ لأنه يكتب له أجر التورك بالعذر ، وكأن هذا الموضع ليس محلاً للتورك لوجود العذر والضرر الذي يتصل بالغير لا من جهة التفضيل ، وعلى هذا قالوا يستثنى فتقدم الفضيلة المتعلقة بالصف الأول لما فيها من تحقيق مقصود الشرع ، وبعض العلماء يعتبر أن إتمام الصف واجب وأن التورك ليس بواجب ، فقدم إتمام الصفوف الأول على ما هو سنة من باب تقديم ما هو واجب على مادونه في الفضيلة .(67/15)
ومن هنا كذلك لو سأل سائل يوم الجمعة أن فضيلة يوم الجمعة أن يمشي ولا يركب لكنه إذا مشى بقدميه قد تفوته صلاة الجمعة أو تفوته خطبة الجمعة أو تفوته أجزاء من الخطبة فهل الافضل أن يركب دآبته ويدرك الخطبة كاملة ؟؟ أم الافضل أن يمشي حتى يدرك فضيلة المغفرة في الأسبوع ؟؟
قال جمع من العلماء : الأفضل أن يركب لكي يحقق الفضائل المتصلة بذات الصلاة والتي هي مقصودة في هذا اليوم على الفضائل التي هي دون ذلك.
قوله عليه الصلاة والسلام :((إذا أقيمت الصلاة ووجد أحدكم الخلاء فليبدأ بالخلاء)) : فيه دليل أيضاً على مشروعية ترك الصلاة مع الجماعة لوجود العذر فقوله:(( فليبدأ بالخلاء)) يعتبر عذراً من أعذار ترك الجماعة فالغالب أن المصلي أن يصلي مع الجماعة ، وهذا هو الذي أمرالله به ورسوله صلى الله عليه وسلم حيث قال عليه الصلاة والسلام للأعمى:(( أتسمع النداء ؟. قال: نعم. أتسمع النداء؟. قال: نعم. قال: أجب فإني لا أجد لك رخصة )) فأمره صلى الله عليه وسلم أن يصلي مع الجماعة وأن يشهد مع الجماعة ، فإذا وجد في نفسه حقناً لبولٍ أو غائطٍ فإنه ينصرف عن الجماعة ويكون حينئذ عذراً من أعذار ترك الجماعة .(67/16)
وأعذار ترك الجماعة منها ما يتعلق بالإنسان ومنها ما يتعلق بغيره : فأما الذي يتعلق بالإنسان كضرر يتعلق بنفسه أو جسده ، ومن أمثلة ذلك أن يكون به مرض لا يستطيع معه الخروج إلى المسجد كما في حالة ما إذا كان مشلولاً ، أو كان معه مرض من الحمى أو نحو ذلك مما يعجزه عن شهود الجماعة ، أو يكون معه ضرر في نفسه لو شهد الجماعة لحصل له الحرج و أوجب له المشقة الفادحة فيجوز له أن يتخلف عن الجماعة ؛ لأن الله يقول:{ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ}(1) ولو أمرناه بشهود الجماعة لوقع في الحرج والله لا يأمر بالحرج ، ومن هنا فرع بعض العلماء واختار بعض المحققين أنه إذا كان مزكوماً وغلب على ظنه أنه إن شهد الجماعة زاد من زكامه وضرره أبيح له أن يتخلف عن الجماعة وجاز له ذلك ، واختار هذا شيخ الإسلام رحمه الله في الفتاوى وبين أنه إذا كان على هذا الوجه فإنه يتعلق به حرج ومشقة ، والله عز وجل قد وسعَّ على عباده فيما يوجب الحرج والمشقة .
__________
(1) / الحج ، آية : 78 .(67/17)
كذلك قد يتخلف عن الصلاة مع الجماعة لعذر يتعلق بالغير ، وهذا الغير إما أن يكون في المسجد أو يكون خارج المسجد ، فأما عذره الذي يتعلق بالغير من داخل المسجد كأن يكون أكل الثوم والبصل فإنه إذا أكل الثوم والبصل أضر بالمصلين وشَّوش عليهم في صلاتهم ، وحينئذ أمر أن يصلي في بيته قال صلى الله عليه وسلم :(( من أكل الثوم والبصل فلا يقربن مصلانا)) فأذن له صلى الله عليه وسلم بالتخلف عن الجماعة وذلك لتعلق الضرر بالغير ، ومن هنا يقول العلماء في هذا الحديث وفي هذا العذر دليل على أنه يدفع الضرر العام بالضرر الخاص وذلك أن الضرر هنا متعلق بالمصلين ، والمصلي إذا ترك الجماعة تعلق الضرر به وحده ، فدفع الضرر عن الجماعة ودفع الضرر الأعظم بارتكاب الضرر الأخف والأقل كما في قوله-سبحانه-:{أَمَّا السَّفِينَةُ فَكَانَتْ لِمَسَاكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ}(1) فكسر موسى عليه الصلاة والسلام مع الخضر لوحاً من السفينة لاستبقاء كل السفينة ، فقالوا هذا فيه دليل على ارتكاب الضرر الأخف دفعاً لما هو أعظم ، فيمنع من شهود الجماعة دفعاً لما هو أعظم من الضرر وهو أذية المصلين وقد قال صلى الله عليه وسلم :(( إن الملائكة تتأذى مما يتأذى منه بنو آدم)) .
__________
(1) / الكهف ، آية : 79 .(67/18)
وقد يكون الغير خارجاً عن المسجد وذلك في المرضى فلو كان الإنسان ممرضاً لغيره ، وأذن المؤذن لصلاة الجماعة ، وكان الغير محتاجاً إليه لإنقاذ نفسه أو دفع الضرر عن أعضائه جاز له أن يتخلف لحفظه ، ومن هنا لما سمع عبد الله بن عمر الصارخ على ابن عمه وهو خارج إلى صلاة الجمعة وقد صرخوا عليه ؛ لأنه كان في سكرات الموت فرجع عبد الله بن عمر وترك الجمعة وشهد ابن عمه في حال احتضاره ، فهذا أصل عند العلماء أنه إذا خشي من فوات النفس ، أو فوات الأعضاء ، أو كان عنده طفل صغير وحيث غلب على ظنه أنه لو خرج إلى الجماعة أنه يهلك أو يصيبه ضرر أو كان المريض يحتاج إلى تفقد وعناية خاصة بحيث لو غاب عنه ربما مات أو أصابته مشقة فادحة فيجوز له في هذه الأحوال وأمثلتها أن يتخلف عن الجماعة كما جاز لمن أذن له النبي صلى الله عليه وسلم أن يتخلف عنها دفعاً عن الضرر في حالة أكل الثوم والبصل ، وكذلك أيضاً يجوز له أن يتخلف عن الجماعة لضرر العرض كما لو كانت معه زوجته وأذن المؤذن وهو في الطريق وغلب على ظنه أنه لو وقف وشهد الجماعة أنه لا يأمن ممن يعتدي على عرضه فحينئذ يجوز له أن يؤخر جماعته ، وأن ينصرف إلى المكان الذي يحفظ فيه عرضه أو يأمن فيه على عرضه ، كذلك إذا غلب على ظنه فوات المال المحترم كأن تكون عنده حقوق للناس كما لو كان أميناً أو خادماً على مال وغلب على ظنه أنه لو شهد الجماعة أنه يُسرق هذا المال ويضيع ، فإنه يجوز له في قول جمهور العلماء أن يتخلف عن الجماعة ويكون هذا عذراً له في التخلف عن شهود الجماعة .
هذا الحديث كما قلنا دليل على مشروعية التخلف عن الجماعة لوجود العذر سواء كان عذراً شرعياً كما في حالة الخلاء التي معنا ، أو كان عذراً دنيوياً كالخوف على الأموال والخوف على الأعراض والأنفس ونحو ذلك من الأعذار التي سبقت الإشارة إليها .(67/19)
وقوله عليه الصلاة والسلام : ((فليبدأ بالخلاء)) :لازم هذا أن يخرج من المسجد والخروج بعد الإقامة محرم شرعاً إلا من عذر ، بل والخروج بعد الأذان محرم شرعاً إلا من عذر والعذر أن يخرج لقضاء حاجته ، وحينئذ يكون هذا الحديث مخصصاً لما ثبت في الصحيح أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم نهى من أذن عليه المؤذن وهو في المسجد أن يخرج من المسجد فإذا احتاج للخروج للخلاء فإنه يضع كفه على أنفه دفعاً للشبهة ودفعاً لسوء الظن به خاصةً إذا كان من المأمومين فإنه يضع كفه على أنفه ؛ لكي ينبه أنه معذور وهذه من الأمور التي يجوز فيها كذب الظاهر دون اللفظ ، فإن هذا الفعل ليس بقول ولا يعد كذباً حقيقة ، ولكنه صورة الكذب وصورة الكذب أخف من نطق الكذب أو قول الكذب ولما وضع يده على أنفه كأنه موهمٍ ، وعلى هذا يقولون إن هذا يغتفر دفعاً لمفسدة أعظم ، يقول العلماء : إنه إذا وضع كفه كأنه يوهم وهذه مفسدة فإن إيهام المسلم وخدع المسلم بالشيء لا يجوز أن يفعل الإنسان شيئاً يظن به خلافه ، ولكن قالوا : لو أنه خرج بنفسه دون أن يضع هذه العلامة لساءت الظنون به وحينئذ تكون التهمة أشد والمفسدة أعظم ، فأجاز له الشرع أن يضع يده أو كفه على أنفه حتى يدفع ما هو أعظم ويكون هذا من باب ارتكاب أخف الضررين وأهون الشرين كما يقول العلماء في القواعد المعروفة .
في هذا الحديث دليل على سماحة الشرع ويسر الشريعة فإن الإنسان إذا صلى وهو حاقن تشوش فكره ولم يستطع أن يستشعر موقفه بين يدي الله عز وجل ، وهو يدل على حكمة الشرع ووضعه للمسائل والأحكام الشرعية في موضعها ، فالصلاة أمرها عظيم وشهود الجماعة أمرها عظيم وفيها خير الإنسان في الدنيا والآخرة ؛ ولكن الله-سبحانه- أعطى لكل شيئاً قدره فمن كان معذوراً عذر بعذر الله ورسوله صلى الله عليه وسلم ، والله تعالى أعلم .
- ? - ? - ? - ? - الأسئلة - ? - ? - ? - ? -
السؤال الأول :(67/20)
ما الحكم لو أحدث الإمام في خطبة الجمعة ..؟؟
الجواب:
بسم الله الحمد لله والصلاة والسلام على خير خلق الله وعلى آله وصحبه ومن والاه أما بعد :
فإذا أحدث الإمام في خطبة الجمعة فله أحوال:
الحالة الأولى : أن يحدث أثناء الخطبة سواء كانت الأولى أو الثانية .
والحالة الثانية : أن يحدث بعد تمام الخطبة وقبل الشروع في الصلاة .
والحالة الثالثة : أن يحدث أثناء الصلاة .
فأما إذا أحدث أثناء الخطبة الأولى فلا إشكال ؛ لأنه إذا نزل واستخلف غيره فإن غيره يقوم ويخطب ويكون كأنه ينشئ الخطبة من أولها ، لكن إذا أحدث في أثناء الخطبة الثانية فللعلماء وجهان :(67/21)
قال بعض أهل العلم : يلزم هذا الثاني أن يبتدئ من أول الخطبة وتلغى الخطبة الأولى ويلزمه حينئذ أن يبتدئ الخطبة من أولها ويخطب ، وقال بعض العلماء إنه يتم الخطبة الثانية ؛ لأن كلتا الخطبتين قائمة مقام الركعتين الأوليين من الظهر والركعتين الباقيتين هما تمام الصلاة ولذلك نهي المأمومون أثناء خطبة الإمام من الكلام ؛ لأن الخطبة في حكم الصلاة فقالوا إنه يبتدئ من حيث انتهى الإمام فهذان وجهان العلماء رحمهم الله منهم من يرى الاستئناف ومنهم من يرى الابتداء ، ولاشك أنه لو تحوط لأمر الناس في مثل هذه الحالة إذا كان الإمام قد خطب الخطبة الأولى وأحدث أثناء الخطبة الثانية فالأفضل للمأموم إذا قام أن يعيد الخطبتين ويخفف في الخطبة الأولى حتى ولو قال كلمتين يسيرتين من الأمر بطاعة الله وتقواه ثم جلس ثم قام للثانية أجزاه ؛ لأن المقصود في الخطبة الأولى البشارة والنذارة وهكذا في الخطبة الثانية ، فالأفضل أن يحتاط بصلوات الناس فيستأنف الخطبة وهذا أفضل فإن ابتدأ من حيث انتهى الإمام كأن يكون الإمام انتهى إلى الدعاء فيصعد ويتم الدعاء ثم ينزل ويتم فالذي يظهر صحة هذا الاستخلاف ؛ لأنه إذا وقع أثناء الأركان يجتزأ بها ويكتفى فمن باب أولى أثناء خطبته للجمعة ، لكن الأفضل والأكمل كما قلنا أن يتورع .
أما إذا أتم الخطبتين وأحدث بعد تمامها فالتفصيل مثل ما ذكر : عند من يقول أنه يستأنف يلزمه أن يعيد الخطبة من جديد ويلغي خطبة الأول ، وحينئذ يحتاج الناس إلى إعادة الخطبة من أساسها وإذا أعادها يخفف في هذه الحالة ويراعي حال الناس ؛ لأن السنة تخفيف الخطبة ما أمكن ، فإذا صلى واجتزأ بالخطبتين الأوليين فقلنا أن الصحيح هو هذا القول أنه يبدأ من حيث انتهى الإمام ، ولكن الاحتياط بصلوات الناس يعتبر من فقه الإمامة ، والأخذ بالأحوط أكمل نصيحة للعامة وأبرأ للذمة ، والله تعالى أعلم .
السؤال الثاني:(67/22)
هل الريح تأخذ حكم الأخبثين في المدافعة ..؟؟
الجواب:
بالنسبة للريح تعتبر آخذة حكم البول والغائط وهذا من باب التنبيه بالشيء على ما يساويه ، ولكن عُبَّر بالبول والغائط للغلبة ، أما الريح إذا غلب على ظنه أنها تستنفذ الوقت وأنه في جميع الوقت سيبقى ، وألف هذا من نفسه فإنه في هذه الحالة يجزيه الوضوء في أول الصلاة ، ويكون حكمه حكم من به السلس إذا كانت الريح مستطلقة معه وتغلبه ، فإنه في هذه الحالة يكون في حكم من به سلس ، أما لو أنه دافعه الريح فدافع الريح ومنع الريح ثم أتم صلاته ولم يخرج منه شيئ فصلاته صحيحة ، ولكن يفوته الأكمل من الخشوع كما ذكرنا في التفصيل الذي ذكره طائفة من العلماء ، والله تعالى أعلم .
السؤال الثالث:
علمنا أنه يقاس على من وجد الخلاء من كان بحضرة طعام لأن ذلك كله يصرف عن الصلاة فهل يقاس عليها أيضاً من نزل به أمر أهمه وأخذ فكره فيجوز له أن يؤخر الصلاة حتى يصفى ذهنه ويستجمع قلبه للصلاة ..؟؟
الجواب:(67/23)
هذا فيه تفصيل بالنسبة لمن نزل به الأمر وألم به الأمر بحيث لا يستطيع أن يصلي فبعض العلماء يقول : إن النبي صلى الله عليه وسلم كما في حديث ابن عباس -رضي الله عنهما -لمّا خطب بالناس بالكوفة وأخر صلاة الظهر إلى آخر وقتها وقام له الرجل وقال له :"الصلاة فسكت عنه ابن عباس ، فقام المرة الثانية وقال الصلاة فسكت عنه ، فلما قام في المرة الثالثة قال له ابن عباس: أتعلمنا بالصلاة لا أم لك "وهذا ثابت في صحيح مسلم وقد عنف الرجل ووبخه ؛ لأن الأصل أن الأئمة والعلماء أنه لا ينكر عليهم أمام الناس ؛ لأنه لما أنكر المرة الأولى نبهه فلما لم يأخذ ابن عباس بقوله دل على أن عنده حجة ، وكان المنبغي له مادام جاهلاً أن يسكت ، فالظن بالعلماء وأهل الفضل أنهم إذا نبههم أحد ولم يلتفتوا للتنبيه أن تكون عندهم شبهة أوتكون عندهم سنة أودليل ، وكذلك كان الحال لابن عباس فقال له:" أتعلمنا بالصلاة لا أم لك جمع رسول الله صلى الله عليه وسلم من غير سفر ولا مطر "هذا الحديث يقولون إذا نزل الأمر يهم الناس فيجتمعون من أجل تقرير هذا الأمر حتى يكون آخر وقت صلاة الظهر فيقيمونها ثم يقيمون للعصر ويصلونه وهذا ما يسمونه بالجمع الصوري ، فشيخ الإسلام رحمه الله يقول يقاس على هذا جميع الأمور التي فيها مصالح عامة الناس ، فإذا نزل بالإنسان أمر مثل ما يحدث الآن مثلاً ما يكون الإنسان في إدارته وعنده أمر عظيم نزل به قد تتوقف عليه أنفس الناس أو أرواحهم أو أعراضهم فلو تفرغ للصلاة لا يستطيع أن يصليها حاضر القلب ، ويحتاج لضبط هذا الأمر إلى وقت قد يذهب به أول وقت الصلاة فيجوز له حينئذ أن يتفرغ لهذا الأمر وأن يقوم بهذا الأمر حتى يتمه ، ثم بعد ذلك يصلي وهذا قرره شيخ الإسلام رحمه الله في الفتاوى واختاره غيره أيضاً أن حديث ابن عباس محمول على هذا الوجه ، فابن عباس رضي الله عنه كان يخطب في الكوفة أبان فتنة علي رضي الله عنه مع(67/24)
الخوارج وقضيته مع معاوية رضي الله عنه كان يخطب في أمر عظيم ، فمثل هذه الأحوال التي تتعلق فيها مصالح الجماعة أو تتعلق بها نفس كأطباء يجتمعون لتقرير حياة مريض هل يقدم على عملية ؟ أو يقدم على شيء ؟ فيحتاجون إلى وقت كالنصف ساعة كالساعة ويصادف ذلك وقت الصلاة ، فحينئذ لا يستطيعون أن يصلوا وأفكارهم مشوشة بهذا الأمر الذي دهمهم ولا يستطيعون أن يستفرغوا الفكر مالم يقضوا منه ، و ينتهوا منه فقالوا في هذه الحالة يجوز لهم أن يؤخروا الصلاة عن أول وقتها وأن يصلوها شريطة أن لا يؤدي ذلك إلى الخروج عن الوقت وهذا كما ذكرنا من باب دفع أهون الشرين وارتكاب أخف الضررين .
أما لو كان الإنسان وحده فالأصل أنه يصلي مع الجماعة ، فإن نزل به شيء يشوش فكره فإن هناك أسباباً يتعاطاها من ذكر الله عز وجل واستشعار عظمة الله سبحانه وتعالى وهيبة الموقف بين يديه ونحو ذلك ، لكن الذي نتكلم عنه تعلق الأمر بمصالح المسلمين كما ذكرنا في الصور التي استثنيناها ، أما بالنسبة للشخص نفسه فإن عليه أن يأخذ بالعلاج الشرعي من ذكر الله عز وجل وتعظيم الله سبحانه وتعالى فإذا استشعر المسلم عظمة الله-- جل جلاله --وكان عنده قوة إيمان بحيث علم أن الله سبحانه وتعالى سيكفيه هذا الأمر ، وأنه إن فرَّغ نفسه لله-- جل جلاله --في مثل هذه اللحظة الحرجة والساعة الحاسمة العصيبة أن الله يكفيه ما أهمه من دنياه وآخرته فإنه إذا فعل ذلك كان الله معه ؛ لأن الله إذا صدقه العبد صدقه قال صلى الله عليه وسلم :(( إن يصدق الله يصدقه)) ومن المجرب والمشاهد وذكر بعض العلماء ذلك أن الإنسان تأتيه أمور فيقدم ما عند الله سبحانه وتعالى فيكفيه الله ذلك الأمر .(67/25)
وعجبت من أحد مشائخنا -رحمه الله عليه- كنا نحضر عنده في مادة الفقه فذكر أنه كان في بلد ما وكان هذا البلد معروفاً من البلاد الإسلامية كانت فيه حروب وكانت فيه فتن فكان يدرس في الجامعة وهذه القصة وقعت في التسعينات الهجرية يقول رحمه الله إنه لما كان الضحى وكانت عنده محاضرة أراد أن يخرج إلى محاضرته بالجامعة ، وكان من عادته أنه لا يخرج إلا متطهراً ومتوضئاً ويصلي ما تيسر له ثم يمضي ، فيقول بعظمة لسانه والله شهيد على ما يقول وقد سمعته بأذني يقول رحمه الله : فلما نظرت فإذا بالوقت ضيق جداً بحيث لا يكفي إلا بقدر ما يصل إلى الجامعة ، لكني تذكرت هذا الفضل العظيم من الصلاة وسؤال الله المعونة والتوفيق يقول فانصرفت تارةً أقول أذهب وتارةً أقول أصلي ، يقول : حتى شرح الله قلبي أن أتوضأ فوالله الذي لا إله إلا هو هذا ما ذكره وما قص يقول ذهبت إلى دورة المياه -أكرمكم الله- فقضيت حاجتي ، فلما توضأت إذا بهجوم يقع على المنطقة والحي الذي هو فيه وإذا بالثياب كانت معلقة على الشماعة ، يقول الغرفة التي تلي الواجهة رشت وجاءها الطلق الناري حتى رشت يقول فلما جئت لثيابي بعد ما انتهت الحادثة وجدتها ممزقة يعني الثوب الذي كان يريد أن يلبسه في تلك الساعة لو لبسه لكان ميتاً في مكانه ، يقول فإذا به ممزق من الرصاص أي أن الطلق أصاب الغرفة التي في واجهة العمارة فأصابت الثياب وأصابت المكان الذي فيه الثياب يقول لو أنني آثرت الذهاب لكانت الساعة نفسها التي يلبس فيها ثيابه ويكون عند الشماعة معنى ذلك أنه سيقضى عليه ، يقول فكدت أن أجن مما رأيت فخررت ساجداً لله-- جل جلاله -- ووجدت بركة الطاعة وفضل الوضوء وفضل الصلاة كيف أن الله حقن دمي وأراني بعيني لطفه سبحانه وتعالى .(67/26)
العبد إذا توكل على الله سبحانه وتعالى وفوض أمره لله جاءه الفرج من حيث لا يحتسب قل من بيده ملكوت كل شيء سبحان من بيده ملكوت كل شيء ومن ألذ ما يكون للمؤمن وأحلى ما يكون من مراتب الإيمان حينما يؤثر ما عند الله على الهوى ، فإن النفس تهوى شيئاً وتميل إليه إما بدافع فطري أو رغبة في شهوة دنيوية فإذا انصرف عنها لله عز وجل وجد حلاوة الإيمان ، الإنسان تأتيه مثل هذه المشاغل وتأتيه هذه الدنيا لكي تصرفه عن أن يصلي مع الجماعة ؛ لكنه إذا تذكر في تلك الساعة أن الله يحب أن يراه في المسجد وتذكر أن الله يحب أن يراه في الصفوف الأول ، وتذكر أن الله سبحانه وتعالى يحب أن يراه بين الراكعين والساجدين لوجدته ربما في بعض الأحيان قبل الاذان لكي يصل إلى هذا الخير ؛ لأنه يشتري رحمة الله ومرضاة الله بأعز ما يملك حتى نفسه التي بين جنبيه ، هذا إذا كان القلب حياً وكان المؤمن كامل الإيمان ، لكن بقدر ما ينصرف من شعب القلب إلى الدنيا تكون التضحية يسيرة حتى إن الرجل-والعياذ بالله- تجده يستخصر الدقائق يصلي فيها بين يدي لله عز وجل ربما يستخصرها وهو يصلي في مكتبه تاركاً الصلاة مع الجماعة-نسأل الله السلامة والعافية- لماذا ..؟؟ لأن الإيمان إذا ضعف في القلب آثر الدنيا على الآخرة {بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا - وَالآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى}(1) فما عند الله خير أي أخير للعبد وما عند الله أبقى ، فعلى هذا ينبغي للمسلم إذا جاءت مثل هذه الشواغل يستشعر أن قلبه بيد الله -- جل جلاله -- ، وأن القلوب بين أصبعين من أصابع الرحمن يقلبها كيف يشاء فيقول يارب ويقبل على الله سبحانه وتعالى صادقاً بعزيمة أن الله يحضر له قلبه ، وسيجد ذلك سيجد من معونة الله وتوفيق الله سبحانه وتعالى ما يربط به قلبه ويصرف به عنه الهم والغم –نسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يجعلنا
__________
(1) / الأعلى ، آية : 16 - 17 .(67/27)
ذلك الرجل - ، وخاصةً في أمور الصلوات فإنه إذا حزم بك الأمر فإنك لن تجد غير الله -- جل جلاله -- ولياً ولا نصيراً وكفى بالله ولي وكفى بالله نصيراً .
حدَّث بعض الفضلاء يقول ذات يوم أصابني هم عظيم ومرض عندي بعض الأهل حتى رأيت أنهم كادوا يشفقوا على الموت فذهب هذا يحضر الطبيب فتذكرت رجلاً كان من أبرع الناس في علاج هذا المرض ، والرجل من المدينة يقول شاء الله عز وجل وأنا خارج فلما ركبت سيارتي سمعت قول الله عز وجل يقول فتحت المسجل فإذا به يقول:{ وَكَفَى بِاللَّهِ وَلِيًّا وَكَفَى بِاللَّهِ نَصِيراً}(1) وهذا من الفأل فعظم الله في قلبه ويقول سبحان الله أذهب إلى مخلوق والله كفى به ولياً وكفى به نصيراً فذهب من ساعته إلى الحرم ، قال فدخلت فصليت ركعتين وسألت الله أن يدفع عن والدتي وأن يشفيها وأن يعافيها ، يقول والله دخلت المسجد وأنا في هم وغم وكرب لا يعلمه إلى الله ووالله ما انفتلت من ركعتي وقمت من مصلاي إلا وأنا مجبور القلب مجبور الكسر مطمئن النفس مرتاحاً واثقاً بالله - - سبحانه وتعالى -- ، قال فلما رجعت البيت وإذا بالوالدة من أحسن ما يكون والله لم أحضر لها طبيب ولا جاءها مسعف وإنما شيء من الله ، ما الذي جرى ؟ قال الله أعلم كانت مريضة وتعبت وجاءها الحالة التي تأتيها وحتى كادوا يخافون عليها أنها تموت ؛ ولكن الله- - سبحانه وتعالى -- تدراكها بلطفه ما الذي جرى قالوا لاندري .
__________
(1) / النساء ، آية : 45 .(67/28)
من يصدق مع الله يصدق الله معه ، وليس معنى هذا أن نترك الأسباب ، ولكن نأخذ بالأسباب ولكن لا نجعلها أكبر همنا ولا مبلغ علمنا ومن توكل على الله كان الله ، له فالواجب على المسلم إذا جاءته المشاغل والشواغل أن يتوكل على الله سبحانه وتعالى ونحن نذكر هذه القصص والعبر ؛ لأن الله سبحانه وتعالى جعلها أمثلة تزيد من إيمان العبد حتى ولو كان الإنسان في شواغل الدنيا هذا مريض انظروا كيف يفرج الله عنه ، وهذا رجل مستعجل بجامعته ودراسته فإذا بالله سبحانه وتعالى ينقذه من الموت فلو أنه في مكانه ما أدرك جامعته ولا أدرك دراسته ، لكن الله سبحانه وتعالى يهيئ أسبابه يولي العبد فيها بركة الطاعة وحسن عاقبته ، حتى ولو جاءتك المشاغل من الدنيا .(67/29)
ومن عجيب ما ذكره بعض المشائخ يقول ذات مرة دعيت إلى رجل في قضية شبهة في المال ، وكان رجلاً ثرياً غنياً -يعني من أكثر الناس مالاً- قال فحضرت قبل صلاة العصر وكان الرجل يشتبه في بعض معاونيه أنه اختلس من ماله ، قال فجلسنا نتابع حساباته وكشوفاته والأمر خطير ودقيق فيه أموال كثيرة فيحتاج إلى شيء من الضبط والتحري والإتقان ، قال فجلست معه من بعد صلاة العصر حتى أذن المغرب فلما أذن المغرب وإذا به رجل ثري وفي نعمة وفي عز من حال الدنيا قال فقلت له الصلاة ، قال أي صلاة -نسأل الله السلامة والعافية-هذا أهم قال له يا أخي اتق الله الصلاة التي هي ركن دينك اتق الله- - عز وجل -- ، قال يا أخي اعذرني أنا في هم وغم وذكر له المشكلة التي يعيشها ، قال له بإذن الله إذا صليت فالله- - عز وجل -- يفرج عنك ما أنت فيه ، قال فشاء الله عز وجل أن يشرح صدره والله الذي لا إله إلا هو يقول قام معي إلى مكان الوضوء لا يعرف كيف يتوضأ وإذا به رجل غني ثري لا يعرف كيف يتوضأ للصلاة -نسأل الله السلامة والعافية-قال فعلمته الوضوء -نسأل الله العظيم أن لا يبتلينا ولايبتلي ذراياتنا- أعطاه الله الدنيا فصرف عنه الدين حينما كان على هذه الحالة وبئس الحال ، قال فتوضأ قلت له ماتعرف كيف تتوضأ ؟؟ قال نعم قال له يا أخي أنت اغتسلت من الجنابة ضحك وقال نعم اغتسلت لكن وضوء ما أعرف ، قال فأمرته أن يتوضأ وبعد أن توضأ دخل معه المسجد فلما صلى المغرب صلينا المغرب وجلسنا نذكر الله- - عز وجل -- ، قال قلت له الآن نمضي قال لا قال الآن نريد نمضي قال انتظر قليلاً يقول انتظرت قليلاً ثم بعد قليل قلت بسم الله قال لا انتظر قليلاً يقول مازال يقول انتظر قليلاً كأني وجدت الرجل وإذا بوجه غير الوجه الذي دخل به وحاله غير الحال الذي كان به دخل به أي والله الذي لا إله إلا هو ، وهو شيخ من مشائخ ، أحد أئمة المساجد ومن طلاب العلم الفضلاء ، يقول وإذا بالرجل(67/30)
انقلب على حالة غير الحالة التي كان عليها فقلت له ما بك ، قال يا شيخ أجد حلاوة ولذة ما وجدتها في عمري كله هذه الطمأنينة التي وجدها بعد الصلاة يقول ما وجدها في حياته كلها ، الرجل غني ثري في نعمة من الدنيا لكنه لم يجد ما يملأ قلبه من الإيمان بالله-- جل جلاله --وطاعته وعبادته ، قال فلما رأيته في هذه الحالة والله ما خرج من المسجد حتى أذن العشاء فصلى العشاء ولمّا صلى العشاء مكث حتى لما جاء الرجل يريد أن يطفئ المسجد استحيا منه من هيبته ومكانته ، قال فانصرف الرجل فلما انصرف الرجل قال اتركني ، قال أردت أن أتم الحساب قال اتركني قال ففوجئت في اليوم الثاني في الصباح وإذا بزوجته تتصل علي ، قالت ياشيخ أنتم فعلتم بزوجي شيئاً -يعني ذهب ظنها بعيداً- قال ما به ، قالت من الأمس وهو يصلي ويبكي ويذكر الله عز وجل تغير الرجل تماماً ، وإذا بي أقول سبحان الله العظيم ولما جئته في الضحى في اليوم التالي ما أخذنا إلا نصف ساعة وانتهى كل شيء وإذا بتلك الأخطاء التي يريدها تنكشف وينحل الموضوع ، وإذا بالرجل في سعادة يقول أنا لا يهمني هذه الملايين التي اكتشفتها والخطأ لا يهمني الذي يهمني أنني وجدت الشيء الذي كنت أفقده وجدت السعادة التي كنت أبحث عنها ، والله سبحانه وتعالى إذا تكفل المنبغي للإنسان أن يعلم أن الله عز وجل خلقه لطاعته وذكره وشكره وحسن عبادته فإذا كانت الآخرة أكبر همة ومبلغ علمه وغاية رغبته وسؤله صرف الله قلبه عن الدنيا ومما جاءه من مشاغلها وشواغلها فإن الله يكفيه همه- نسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يجعل الآخرة أكبر همنا ومبلغ علمنا وغاية رغبتنا وسؤلنا- ، والله تعالى أعلم .
السؤال الرابع :
هل طلب العلم من الأعذار التي تبيح للإمام الراتب أن يتخلف عن الإمامة ..؟؟
الجواب:
بسم الله الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه أما بعد :(67/31)
فعلى الإمام أن يتعلم المسائل الشرعية وأن يتفقه في دينه وأن يعلم ماذا فرض الله عليه من أمور العقيدة وأمور الأحكام العملية في العبادات والمعاملات ؛ لأن الإمامة تفتقر إلى العلم بمثل هذه المسائل والناس يحتاجون إلى من يوجههم في مثل هذه الأمور ، فلما كان فرضاً عليه أن يتعلم هذه المسائل وجب عليه أن يأخذ بأسبابها من حضور حلق العلم ومجالس الذكر ، ولكن يكون بالجمع بين الحسنيين بين طلبه للعلم وبين كذلك قيامه بحق الإمامة فإن كان شيئاً يسيراً كالمجلس والمجلسين في اليوم أو المجلس أوالمجلسين في الأسبوع ولا يضر ذلك بالناس ويوكل من يقيم للناس صلاتهم فالخطب يسير إن شاء الله ؛ لأن هذه من قيامه بحق الإمامة ، أما إذا كان يترك الناس ويذهب لطلب العلم على وجه تضيع به صلوات الناس ويضطرون إلى تقديم غيره وقد يكون لا يحسن الفاتحة فيبطل صلوات الناس ويعرضها للخطأ والخلل فإنه لا يجوز له ذلك ، يتفرغ لطلب العلم أو يتفرغ لإمامته ، والله تعالى أعلم .
السؤال الخامس :
ما علاج الوسوسة في الوضوء والخلاء فإنني أشتكي من ذلك منذ فترة طويلة إذ أنني أحس أنه يبقى بعض القطرات في الموضع فأتحرج من ذلك وأفكر في ذلك في الصلاة ..؟؟
الجواب:
اشتكي إلى الله فمن أصابه بلاء في دينه أو دنياه فوض أمره إلى الله ، المنبغي عليه أن يجعل شكواه إلى الله سبحانه وتعالى فإلى الله المشتكى وهو حسبنا وكفى ، منتهى كل شكوى وسامع كل نجوى وكاشف كل ضر وبلوى فاشتكي إلى الله سبحانه وتعالى .(67/32)
أما الأمر الثاني : عليك بالعلاج الشرعي الذي هو ذكر الله-- جل جلاله --:{ وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنْ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ}(1) شهد الله عز وجل أنه يسمع أمور عباده وأنه عليم بهم فعلى العبد أن يكثر من ذكر الله عز وجل وأن يستعيذ بالله سبحانه وتعالى من الشيطان الرجيم .
الأمر الثالث : مما يوصى به من كانت به وسوسة وأهم ما يوصى به بعد الأمور المتقدمة أن لا يفتي نفسه ، فإن كثيراً من الوسوسة يسترسل فيها الإنسان حينما يفتي نفسه فإذا أفتى نفسه ، وقال هذا لا يجوز ركب منه بطلان الوضوء وركب من بطلان الوضوء بطلان الصلاة وركب من بطلان الصلاة أنه لايصلي وركب من كونه لا يصلي أنه -والعياذ بالله- كافر بالله عز وجل وهذا يقع وقد شاهدنا-نسأل الله أن يلطف بنا وبعباده- من وقع في ذلك ؛ والسبب أنه يفتي نفسه والمنبغي على الموسوس أن لا يفتي نفسه ، فإذا تقيد بالعلماء قفل على نفسه أبواب الشبهة وقفل على نفسه الامور المترتبة على إساءة الظن بحاله ، فإذا ذهب إلى العالم وذكر له ربما أعطاه رخصة شرعية رخص الله عز وجل في هذا الأمر ، وربما وسع على نفسه والله- - عز وجل --وسع على عباده في الدين {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ}(2) فالواجب على الانسان أن ينظر إلى مثل هذه الأمور وهو الرجوع إلى العلماء وسؤالهم والعمل بما يقولون .
__________
(1) / فصلت ، آية : 36 .
(2) / الحج ، آية : 78 .(67/33)
الأمر الثاني بعد أن تسأل العالم : تكون عندك قناعة فلا تنظر إلى أن قول العالم اجتهادي ويحتمل الصواب والخطأ ، بل تنظر إلى أن الله عز وجل ألزمك بفتوى من استفتيته ما دمت تجهل وما دام قد أفتاك واستند في فتواه إلى دليل الشرع فإنك تعمل به ، فإن حصلت الثقة بأقوال العلماء انقفل سبيل الشيطان قال العلماء لأن الوسوسة تكون من كلام الشيطان فإذا صار هم الإنسان وقلب الإنسان مع فتوى العلماء وقول أهل العلم إنصرف عنه جميع ما يجده من تلك الوساوس .
والأمر الرابع : الذي ينبغي للإنسان أن يتنبه له أن ينظر في نفسه ؛ فإن الله عز وجل لا يبتلي العبد بمثل هذه البلايا إلا بسبب ذنب بينه وبين الله ، أو بسبب ذنب بينه وبين العباد فربما يبتلى الإنسان بالوسوسة بسبب أذيته لوالديه وربما يبتليه الله عز وجل بالوسوسة بسبب قطيعة الرحم ، أو مظلوم أكل ماله أو محروم حرمه من حقه فدعا عليه فأصابه دعوة مظلوم استجاب الله عز وجل دعائه فعلى الإنسان أن يتفقد نفسه ؛ لأن الله سبحانه وتعالى لا يغير ما بالعبد حتى يغير مابنفسه فإذا وفق الله الإنسان في التفقد في حاله والبعد عن المظالم والتحلل منها وسؤال الله عز وجل المغفرة والعفو فإن الله يرحمه ، ولذلك جعل الله التوبة والبعد عن المظالم والذنوب سبباً في الرحمة فقال سبحانه وتعالى واستغفروه لعلكم ترحمون -نسأل الله العظيم رب العرش العظيم أن يقطع عنا الوساوس المردية والخطرات الردية إنه ولي ذلك والقادر عليه- ، والله تعالى أعلم .
السؤال السادس :
أشعر بفتور في العبادة وأخشى من الإنتكاسة فما الحل لمن هذا حاله ..؟؟
الجواب:(67/34)
المؤمن الكامل في إيمانه يخاف من الله عز وجل دائماً ومن أخوف ما يخاف أن يسلب الإيمان ، ولذلك قال بعض التابعين : أدركت سبعين من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم كلهم كان يخشى النفاق على نفسه ، أي يخشى أن يكون منافقاً ، وكذلك قال ابن عباس رضي الله عنه عنهما لمّا نزلت التوبة نزل مازال ينزل قوله ومنهم ومنهم حتى خفنا على أنفسنا ، المؤمن الصالح يخاف دائماً أن يُسلب الإيمان أو يصاب بفتنة فيحرم بها طاعة الله عز وجل لأنه لا حول ولا قوة للعبد إلابالله-- جل جلاله -- وخير ما يوصى به الإنسان في علاج الفتور أمور:
أولها: الدعاء ولذلك كان العلماء والأئمة يوصون من اشتكى من ضعف الإيمان أن يسأل الله عز وجل أن يثبت قلبه على الطاعة وكان من دعائه صلى الله عليه وسلم أن يقول:(( اللهم اهدني)) وعلم الحسن رضي الله عنه أن يقول في وتره ودعائه في القنوت:(( قل اللهم اهدني في من هديت )) فاسأل الله الهداية وإذا كنت على طاعة واستقامة فاسأل الله أن يزيدك من فضله ، فإن من وجد حلاوة الإيمان ولذة الطاعة للرحمن وحلاوة الذكر والقرآن سأل الله المزيد فهو منهوم لا يشبع ، فاسأل الله عز وجل أن يزيدك من الإيمان وأن يزيدك من الهداية والتوفيق ك، ثرة الدعاء والله-- جل جلاله -- كريم يبسط يده بالليل ويده سحاءة بالخير والنعمة والرحمة يبسطها بالليل ليتوب مسيء النهار ويبسطها بالنهار ليتوب مسيء الليل من سعة رحمته -سبحانه- بعباده فإذا سألت الله وأكثرت الدعاء ثبت الله قبلك بالدعاء على طاعته.(67/35)
أما الأمر الثاني : الذي يزيد من الإيمان ويثبت القلوب على الطاعة فكثرة تلاوة كتاب الله-- جل جلاله -- وأكثر الناس حظاً من القرآن أكثرهم ثباتاً في الدين ، وأكثرهم تمسكاً بالطاعة ، وأكثرهم حباً لله ولرسوله صلى الله عليه وسلم فلن تجد إنساناً قوي الإيمان قوي الشكيمة في الطاعة إلا وجدته أقرب الناس لكتاب الله-- جل جلاله -- :{ إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ}(1) وكل من أراد أن يعرف قدره في الهداية والالتزام فلينظر ما بينه وبين كتاب الله فإن وجد أنه يمر نفسه على كتاب الله ويعرض قلبه على حلال القرآن وحرامه وشرعه ونظامه ، ويسأل كيف حاله فإن كان في نقص سأل الله المزيد وتعاطى أسباب الزيادة ، والعكس بالعكس فإنه على ثبات وخير ، كثرة تلاوة القرآن ؛ لأن الله جعله هدى للمتقين ورحمة للخلق أجمعين فالذي يستكثر من تلاوته وتدبره وحبه والعمل به فهو أكثر الناس هداية وولاية لله عز وجل .
أما الأمر الثالث : عليه أن يأخذ بالأسباب التي تثبت قلبه على الطاعة من حب العلماء ، وغشيان حلق الذكر والتأثر بالمواعظ خاصة في يوم الجمعة يتأثر بخطبة الجمعة ويتأثر من المحاضرة ويتأثر من النصيحة والتوجيه ويكثر سماع الذكر فإن الله يغسل بالذكر رام القلوب ، والقلوب تصدأ جلىصداها ذكر الله-- جل جلاله -- فالذكرى تنفع المؤمنين وتثبت قلوب المطيعين على الطاعة وتتأذن لهم بالفضل والزيادة.
__________
(1) / الإسراء ، آية : 9 .(67/36)
أما الأمر الرابع : فعليه أن يبحث عن القرناء الصالحين الذين إذا نسي الله ذكروه ، وإذا ذكر الله أعانوه فهذه من الأمور التي تثبت القلب على طاعة الله-- جل جلاله -- وتزيده من الخير والبر -نسأل الله العظيم رب العرش العظيم بأسمائه الحسنى وصفاته العلى أن يثبت قلوبنا على طاعته ، اللهم مقلب القلوب ثبت قلوبنا على طاعتك ، اللهم لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا وهب لنا من لدنك رحمة إنك أنت الوهاب ، اللهم إنا نسألك الفضل والمزيد اللهم إنا نسألك الفضل والمزيد والأمن من سطوة يوم الوعيد إنك على كل شيء شهيد- .
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين وصلى الله وسلم وبارك على نبينا .(67/37)
بسم الله الرحمن الرحيم
يقول المصنف رحمه الله : بَاب مَا جَاءَ فِي الْوُضُوءِ مِنَ الْمَوْطَأَ
حَدَّثَنَا أَبُو رَجَاءٍ قُتَيْبَةُ حَدَّثَنَا مَالِكُ بْنُ أَنَسٍ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عُمَارَةَ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ عَنْ أُمِّ وَلَدٍ لِعَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ قَالَتْ:" قُلْتُ لأُمِّ سَلَمَةَ إِنِّي امْرَأَةٌ أُطِيلُ ذَيْلِي وَأَمْشِي فِي الْمَكَانِ الْقَذِرِ" فَقَالَتْ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم :(( يُطَهِّرُهُ مَا بَعْدَهُ )) .
قَالَ رحمه الله : وَفِي الْبَاب عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ قَالَ كُنَّا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لاَ نَتَوَضَّأُ مِنَ الْمَوْطَإِ .
قَالَ أَبو عِيسَى رحمه الله : وَهُوَ قَوْلُ غَيْرِ وَاحِدٍ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ قَالُوا إِذَا وَطِيءَ الرَّجُلُ عَلَى الْمَكَانِ الْقَذِرِ أَنَّهُ لاَ يَجِبُ عَلَيْهِ غَسْلُ الْقَدَمِ إِلاَّ أَنْ يَكُونَ رَطْباً فَيَغْسِلَ مَا أَصَابَهُ .
قَالَ أَبو عِيسَى رحمه الله :وَرَوَى عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْمُبَارَكِ هَذَا الْحَدِيثَ عَنْ مَالِكِ بْنِ أَنَسٍ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عُمَارَةَ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ عَنْ أُمِّ وَلَدٍ لِهُودِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ وَهُوَ وَهَمٌ وَلَيْسَ لِعَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ ابْنٌ يُقَالَ لَهُ هُودٌ وَإِنَّمَا هُوَ عَنْ أُمِّ وَلَدٍ لإِبْرَاهِيمَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ وَهَذَا الصَّحِيحُ
الشرح:
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين أما بعد :(68/1)
فقد ذكر المصنف- رحمه الله- هذه الترجمة والتي اشتملت على حكم وطء الثوب للنجاسة والقذر حيث بين بهذه الترجمه أنه سيذكر ما ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم في حكم الثوب إذا وطئ النجاسة ، وفي حكم الثياب بقية الأشياء كالنعلين ، فقد جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم من الأحاديث ما يدل على نفس الحكم الذي ترجم له المصنف رحمه الله في هذا الموضع .
وقوله" ما جاء في الوضوء " الوضوء يطلق بمعنيين :
المعنى الأول : هو الوضوء الشرعي والمعروف ، والقاعدة عند العلماء رحمهم الله :" أنه إذا أطلق الوضوء في كتاب الله وسنة الرسول صلى الله عليه وسلم فإنه يحمل على الوضوء الشرعي" والمراد به الغسل والمسح للأعضاء المخصوصة الواردة في كتاب الله عز وجل وهي الوجه واليدان والرأس وكذلك الرجلان فهذه الأعضاء غسلها ومسحها على الصفة الواردة في آية المائدة بها يتحقق الوضوء الشرعي ، وإذا أطلق النبي صلى الله عليه وسلم الوضوء فإن القاعدة عند العلماء رحمهم الله أن يُصرف إلى هذا المعنى .
وأما المعنى الثاني : للوضوء فهو الذي يسمى بالوضوء اللغوي ، والمراد بالوضوء اللغوي صب الماء على الشيء يقال توضأ أي غسل يديه أو توضأ إذا صب الماء على عضو من الأعضاء أصابه القذر أو أصابته النجاسة ، وهذا المعنى هو الذي يسميه العلماء رحمهم الله بالوضوء اللغوي ، ومراد المصنف- رحمه الله- بقوله" باب ما جاء في الوضوء" أي ما جاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من الغسل فالمراد بالوضوء هنا الوضوء اللغوي .
وقوله" من الموطأ أو الموطئ ": كل ذلك المراد الذي به المكان الذي يطؤه الإنسان بقدمه أو يطؤه بثوبه ، وقد اختلف العلماء -رحمهم الله تعالى- إذا مر الإنسان على النجاسة فأصابت ثوبه أو أصابت طرف الثياب أو النعل هل يجب عليه أن يغسل الثوب أو لا يجب عليه ذلك ويعتبر مروره على الطاهر من الأرض اليابسة مطهراً للثوب.؟؟(68/2)
قال بعض العلماء : النجاسة إذا أصابت الثوب أو أصابت النعل فالواجب على المسلم أن يغسل موضعها ؛ لأن النصوص الواردة عن النبي صلى الله عليه وسلم كلها صريحة في الدلالة على وجوب إزالة النجاسة ، وعلى هذا فإنه يستوي أن تصيب النجاسة المائعة أو النجاسة اليابسة فهو مأمور بغسل الموضع ، فلو وطئ النجاسة بالنعلين أو وطئها بخفه أو وطئها بطرف الثوب أو الذيل من المرأة فإنه يجب عليه على هذا القول أن يغسل الموضع ويجب عليه غسل النجاسة ثلاثة مرات على أصح أقوال العلماء -رحمهم الله تعالى- ؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم راعى التثليث في إزالة النجاسة وقد ذكرنا الأدلة على هذا القول في حديث غسل اليدين قبل إدخالهما الإناء حيث أمر النبي صلى الله عليه وسلم بالغسل ثلاثاً لمظنة النجاسة ؛ ولأن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بثلاثة أحجار لإزالة النجاسة من الموضع فدلت هذه النصوص على التثليث في إزالة النجاسة ، وعلى هذا القول فإنه إذا أصابت النجاسة اليابسة أو المائعة طرف الثوب سواء كان من الرجل أو كان من المرأة أو أصابت النجاسة الخفين أو النعلين فالواجب على المسلم في جميع ذلك أن يغسله وهذا هو مذهب جمهور العلماء -رحمهم الله تعالى- من حيث الجملة .
وقد ذهب بعض الجمهور رحمهم الله إلى التفصيل فقالوا إن النجاسة إذا أصابت طرف الثوب لم تخل من حالتين:
الحالة الأولى : أن تكون مائعة أو رطبة فإذا كانت مائعة أو رطبة فإنها تتخلل الثياب والنعل وحينئذ يجب عليه أن يغسلها .
الحالة الثانية : وأما إذا كانت النجاسة يابسة فإنه لا يجب عليه الغسل ويُعتبر مرور الثوب على الأرض بعد النجاسة موجباً للحكم بالتطهير .(68/3)
وهناك قول ثالث في المسألة أن النبي صلى الله عليه وسلم نص في هذا الحديث وكذلك حديث النعلين على أن الأرض تطهر النعل والثوب ، قالوا فإذا أصابت النجاسة الثوب أو أصابت النعل إذا وطئها بقدمه أو مرت المرأة عليها بثيابها فإنه يطهرها التراب الطهور إذا مرت عليه بعد النجاسة ، وهذا القول هو الصحيح وذلك لأن السنة دالة دلالةً واضحةً على أن النجاسة تطهر لقوله عليه الصلاة والسلام في حديثنا : (( يطهره ما بعده )) ، وعلى هذا فإن أصح هذه الأقوال في هذه المسألة أن الخفاف والنعال ، وكذلك الثياب-أعني طرف ذيل المرأة- إذا مر على النجاسة سواءً كانت مائعة أو رطبة ثم مرَّ بعد مروره على النجاسة بشيء من التراب فإن هذا الاحتكاك يوجب الحكم بالطهارة ؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال في هذا الحديث :(( يطهره ما بعده)) فقوله عليه الصلاة والسلام :(( يطَّهره مابعده)) يشتمل على حكمين :(68/4)
أما الحكم الأول : فقد نبّه بقوله:(( يطهره)) على أن الذي أصاب الثوب هو النجاسة ؛ لأن الجمهور تأولوا هذا الحديث بأن سؤال أم سلمة-رضي الله عنها- لرسول الله صلى الله عليه وسلم إنما هو في القذر والقذر ليس بمستلزم للنجاسة ؛ لأن القاذورات تكون من النجاسات وتكون من الطاهرات ، وعلى هذا فإن الحديث لا يدل على طهارة النجاسة بالمرور على التراب فخصصوا حديثنا خصصوه بالقاذورات التي ليست بنجسة لما قال- عليه الصلاة والسلام - يطهره فإن الطهارة في عُرف الشرع تكون مستعملة بالمعنى الذي هو ضد النجاسة ، وعليه يكون جوابه- عليه الصلاة والسلام - فيه حكم بطهارة الثوب ؛ ولأن الصحابية إنما سألت عن النجاسة لأن القذر لا يؤثر في الصلاة كما لا يخفى فالذي يظهر في هذه الجملة أن جواب النبي صلى الله عليه وسلم قصد منه الحكم بطهارة الثوب ، وبناءً على ذلك نقول إن النبي صلى الله عليه وسلم أجاب بهذا الجواب دون استفصال فلم يسأل المرأة هل القذر أو النجاسة التي أصابت مائعة أو جامدة فلم يفصل النبي صلى الله عليه وسلم في الحكم وسؤال المرأة ورد مطلقاً والقاعدة : "أن الإطلاق في الجواب إذا بنى على السؤال فإنه يأخذ حكمه" بمعنى أن جواب النبي صلى الله عليه وسلم بالطهارة مطلقاً مبني على سؤال المرأة دون أن يستفصل أو يفصلصلوات الله وسلامه عليه.(68/5)
أما الحكم الثاني : فإن قوله:(( يطهره)) يدل على أن الطهارة تقع بالتراب كما تقع بالماء ، ومن هنا قال العلماء : إن الأصل وجوب الغسل ، ولكن التراب في هذا الحديث إنما هو رخصة وتيسير من الله سبحانه وتعالى وبناءً على هذا فإن الحكم بطهارة الثوب بمروره على التراب ليس بأمر غريب ؛ لأننا عهدنا من الشرع أنه نزَّل التراب منزلة الماء في الطهارة فأنت ترى في طهارة الحدث حكم النبي صلى الله عليه وسلم بكون الصعيد الطيب كونه طهوراً للمسلم فهذا تنزيل للتراب منزلة الماء ، وكذلك في طهارة الخبث فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم نزل الطاهر في الاستجمار منزلة الماء وبناءً على ذلك فإننا نقول في طهارة الثياب ونحوها مما يجر ويجعل في القدم ويطأ صاحبه به النجاسة أنه مخفف في طهارته.
يبقى السؤال : لو أصابت النجاسة بقية الثوب هل يجب غسلها أو لا ..؟؟
جماهير العلماء رحمهم الله على أنه يجب على المسلم إذا أصابت النجاسة أي موضع من ثوبه عدا النعلين وأثر الثياب بالنسبة للمرأة فإنه يجب عليه الغسل ؛ لأن الأصل في شرع الله عز وجل الأصل في إزالة النجاسة أنه يكون بالماء والقاعدة في الرخص :"أنه لا يتجاوز بها محلها"وعلى هذا فإنه يختص الحكم بأسفل ثوب المرأة ، ولا يشمل حكمنا هنا ثياب الرجال ؛ لأن الرجل لا يجوز له أن يجر ثوبه لما ثبت في الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:(( ما أسفل الكعبين ففي النار)) فدل هذا الحديث على أنه لا يجوز للرجل أن يرخي ثوبه عن الكعبين فلو قلنا إنه يلتحق بالمرأة لكان قياساً على الرخصة والرخص لا تستباح بالمعاصي لأنه عاص بجر ثوبه ، وبناءً على ذلك لا وجه لإعطائه الرخصة لأن الشرع لم يرخص له الإسبال .(68/6)
وفي قول الراوي "عن أم ولد لعبد الرحمن بن عوف": أم الولد هي الجارية أو الأمة إذا وطئها سيدها بملك اليمين ثم أنجبت له ولداً فإنها تعتبر أم ولد وتنتظر إلى موت سيدها فإذا مات سيدها عتقت عليه .
وقوله" أم ولد لعبد الرحمن ":هي أم ولد لابنه إبراهيم وليست بأم ولد لعبد الرحمن نفسه كما لا يخفى واسمها حميدة وقيل حميدة وهي من التابعيات مقبولة الرواية ، ولذلك نص جمع من العلماء على تحسين الحديث وثبوته وقد رواه الإمام مالك رحمه الله في موطئه وروايته توثيقاً لمن روي عنه كما هو معلوم عند العلماء-رحمهم الله تعالى-.
وقولها "إني امرأة أجر ذيل ثوب": فيه دليل على ما كان عليه نساء السلف الصالح رحمهم الله من رعاية الحشمة والتستر في حال الخروج وهذا هو الذي ينبغي على المرأة المسلمة فإذا كان هذا في الرجلين فما بالك بالوجه واليدين ، فإذا كانت المرأة تجر ذيل ثوبها فإن هذا يؤكد أنه جرى العرف عندهم بعدم كشف الوجه واليدين لأن اليدين أهون من القدمين والوجه في الفتنة كما لا يخفى.
وقولها- رحمها الله-"إني أجر ذيل ثوبي": الذيل هو مؤخرة الشيء كما يقال الدبر وكل ذلك يقصد به آخر الشيء وعلى هذا فالحكم يختص بالنساء دون الرجال ؛ لأن الرجل لا يجر ثوبه إلا على وجه المعصية كما قدمناه .
قال المصنف رحمه الله : بَاب مَا جَاءَ فِي التَّيَمُّمِ
الشرح:
يقول رحمه الله " باب ما جاء في التيمم": يقال يم الشيء ويمم وجهه إلى الشئ إذا قصده وأصل التيمم القصد إلى الشيء ، يقال تيمم وتأمم إذا قصد الشيء ومنه قول الشاعر :
تيممتها من أذرعات وأهلها بيثرب أدنى دارها نظر عالي
وما أدري إذا يممت أرضاً أريد الخير أيهما يليني
أأخير الذي أنا مبتغيه أم الشر الذي هو يبتغيني
فكل ذلك بمعنى القصد .
ومنه قوله سبحانه وتعالى :{وَلاَ آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ}(1) أي القاصدين إلى بيت الله الحرام .(68/7)
وقوله" التيمم ": التيمم في عُرف الشرع القصد إلى الصعيد الطيب لمسح الوجه واليدين بنية استباحة الصلاة فهو قصد مخصوص إلى شيء مخصوص بنية مخصوصة ، وقد دل دليل الكتاب والسنة وإجماع علماء الأمة-رحمهم الله تعالى- على مشروعية التيمم .
أما دليل الكتاب فقوله سبحانه وتعالى :{وَإِنْ كُنتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنْ الْغَائِطِ أَوْ لاَمَسْتُمْ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَفُوًّا غَفُورًا}(1) ، وفي آية المائدة :{ فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ}(2) فهذا يدل دلالةً واضحةً على هذه الرخصة وأن الله سبحانه وتعالى أذن لعباده أن يتيمموا بالصعيد الطيب أي الطاهر وذلك في حال فقد الماء أو العجز عن استعماله كما سيأتي ودل دليل السنة الصحيحة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم على مشروعية التيمم وجوازه ففي الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم :" أنه قال للرجل لما رآه لم يصل في الفجر واعتذر بأنه جنب ولاماء قال له عليه الصلاة والسلام :(( عليك بالصعيد الطيب فإنه يكفيك)) وفي الحديث الصحيح عنه عليه الصلاة والسلام :(( أعطيت خمساً لم يعطهن أحد قبلي وذكر منها وجعلت لي الأرض مسجداً وطهوراً ))وفي الحديث الصحيح عنه عليه الصلاة والسلام -:(( الصعيد الطيب طهور المسلم ولو لم يجد الماء عشر سنين)) كل هذا يدل على مشرعية التيمم وأجمع العلماء على أن التيمم مشروع وذلك إذا تحقق شرطه كما سيأتي .(68/8)
وهذه الرخصة التي رخصها الله لعباده شرعت في غزوة المريسيع حيث خرج صلى الله عليه وسلم إليها فلما كان بذات الجيش فقدت عائشة-رضي الله عنها- عقداً لأسماء فجعل الصحابة يبحثون عن العقد حتى إن طائفة منهم أبعدت في الطلب والبحث فحضرتهم الصلاة ولا ماء عندهم فنزلت آيه المائدة وكون التيمم مشروعاً محل إجماع ؛ لكن العلماء اختلفوا فيه على ثلاثة أقوال :
القول الأول : من هم من يقول إنه رخصة .
والقول الثاني : منهم من يقول إنه عزيمة .
والقول الثالث : منهم من يقول بالتفصيل فيري أنه رخصة في حال وجود الماء والعجز عن استعماله ، ويرى أنه عزيمة في حال فقد الماء كما في الأكثر أحوال السفر، وهذا هو الصحيح أي القول الثالث .
وفائدة الخلاف : أنه إذا قلنا بقولنا رخصة وسافر المسافر سفر معصية فإنه لا يستبيح الرخص على القاعدة التي ذكرنا من أن الرخص لا تستباح بالمعاصي .
والتيمم لا يجوز إلا إذا تحققت الشروط المعتبرة للحكم بجوازه فيشرع للمسلم أن يتيمم إذا فقد الماء في السفر أو فقده في الحضر .
فأما في السفر فإنه إذا لم يكن معه الماء يجب عليه النظر فإن كانت الأرض التي هو بها يتيسر له أن يطلب الماء فيها فإنه يجب عليه أن يطلب الماء ويبحث عنه ، فإذا كان بإمكانه أن يجده عن طريق البحث لم يخل من حالتين :(68/9)
الحالة الأولى : أن يجدْ الماء قبل خروج وقت الصلاة فحينئذ لاإشكال في أنه يلزمه الطلب شريطة أن لا يصل ذلك به إلى الحرج والمشقة ، واختلف العلماء في المشقة الموجبة للحرج والمشقة على تفصيل محله المطولات ؛ لكن القاعدة :"أنه إذا وجب على المسلم أن يفعل الشيء ولم يتحقق وصوله إلى ذلك الفعل إلا بواسطة وجب عليه أن يفعل تلك الواسطة " للقاعدة الشرعية "مالا يتم الواجب إلا به فهو واجب" فلما كان واجباً وجب عليه أن يغتسل ويتوضأ بالماء وكان وصوله إلى الماء يفتقر إلى البحث صار البحث واجباً عليه ما دام أنه يتمكن من الماء قبل خروج الوقت.
الحالة الثانية : أما إذا كان الماء بعيداً بحيث لو خرج يطلبه خرج عليه وقت الصلاة فإنه حينئذٍ يتيمم ولا يجب عليه الذهاب والطلب ، وإذا كان الماء في الموضع الذي هو فيه فلا يخلو من حالتين :
الحالة الأولى : أن يتيسر له الوصول إلى الماء دون أن تكون هناك مشقة أو حرج فإذا كان الأمر كذلك وجب عليه أن يطلبه كما تقدم .
والحالة الثانية : أن يتعرض للضرر في نفسه أو يتعرض للضرر في عرضه أو يتعرض للضرر في مال محترم .
فإنه في هذه الأحوال كلها يسقط عليه طلب الماء ويجوز له أن يتيمم .
فأما خوفه على نفسه : فمثال ذلك أن يكون الماء في بئر ويغلب في البئر حية أو سبع فإذا اقترب من البئر غلب على ظنه أنه يهلك ، أو إذا مشى بينه وبين البئر أرض مسبعة فإنه يجوز له أن يتيمم ولا يجب عليه أن يذهب طلباً للماء .(68/10)
وأما خوفه على العرض : كأَن يكون معه أهله أو زوجه ونحو ذلك من النساء فيخشي عليهن الأذية والضرر فيجوز له حينئذ أن يتيمم ولا يجب عليه أن يذهب ويطلب الماء ، وكذلك إذا كان عنده مال محترم فإذا خاف عليه السرقة أو خاف أن يتضرر في ذلك الماء ضرراً موجباً للحرج يجوز له حينئذ أن يتيمم ، وهذه الأحوال يقول العلماء عنها : "إن الماء موجود حقيقةً مفقود حكماً " فيستوي عندهم أن يكون الماء مفقوداً أو يكون الماء موجوداً أو أنه في حكم المفقود ، واختلف العلماء رحمهم الله لو أن إنساناً حضرته الصلاة وليس عنده ماء وعنده بئر يأخذ منه الماء ووجد على البئر زحام و نحو ذلك وغلب على ظنه أنه إذا وقف في الزحام لا يأخذ الماء إلا بعد خروج الوقت فهل يجوز له أن يقف حتى تأتيه نوبته وينتظر حتى ولو خرج وقت الصلاة ؟ أم أنه يجوز له أن يتيمم مع وجود الماء على هذا الوجه ؟؟
وأصح القولين والعلم عند الله أنه يعدل إلى التيمم وذلك تحصيلاً لشرط الوقت وهو أمكن وأقوى ، وإن احتاط بكونه يتيمم ويصلي في الوقت ثم يعيد بعد ذلك بالطهارة الأصلية دفعاً للشك لقوله عليه الصلاة والسلام :(( دع ما يريبك إلى مالا يريبك )) فهذا يدل على أنه ينبغي للمسلم أن يحتاط في أمور الدين خاصة في الصلاة التي هي من أعظم أركان الإسلام وشعائره ، ومما يوجب التيمم أن يكون الإنسان عاجزاً عن استعمال الماء والعجز عن استعمال الماء يتأتى بصورتين مشهورتين تلتحق بهما بقية الصور:(68/11)
الصورة الأولى : أن يكون مريضاً وقد نصت عليها آية المائدة وآية النساء التي قدمنا ، فإذا كان مريضاً جاز له أن يتيمم بشرط أن يغلب على ظنه الهلاك إذا هو اغتسل بالماء ، ويقوى في ذلك أن يكون المرض ظاهراً أو باطناً فأما المرض الظاهر فمثاله أن يكون به الجدري أو نحوه من الأمراض التي يصعب أو يتعذر معها غسل ظاهر البدن ، وفي حكم ذلك الجروح وفي حكم ذلك الحروق وهكذا إذا كانت الجروح مغطية لأكثر البدن بحيث لا يستطيع أن يصب الماء ؛ لأنه إذا صب الماء على هذا الوجه ربما هلك أو تضرر بنفط الجروح وتقرحها وتقيحها فيحوز له في هذه الحالة أن يعدل إلى التيمم ، وهكذا إذا كان المرض داخل البدن وغلب على ظنه إما في نفسه أو بقول الأطباء أنه إذا اغتسل تضرر بالغسل ومن أمثلة ذلك الزكام فإنه إذا مُنع من الاغتسال بالماء حال إصابته بالزكام فإنه يجوز له أن يعدل إلى التيمم ؛ لأن الله سبحانه وتعالى رخص للمرضى بالتيمم والعبرة في المرض أن يوجب الحرج أو يوجب المشقة لأن المرض ينقسم إلى ثلاثة أقسام :
القسم الأول : مرض يوجب الهلاك فصاحبه في حكم المضطر .
القسم الثاني : مرض لا يوجب الهلاك ولا يوجب الحرج ولكن صاحبه لا يجد مشقة يسيرة فهذا لا يوجب الرخصة .
القسم الثالث : مرض هو وسط بين المرتبتين وهو الذي يصل به الإنسان إلى الحرج والمشقة فهذا النوع من المراتب يسميه العلماء بمرتبة الحاجة والقاعدة عند العلماء : "أن الحاجة تنزل منزلة الضرورة" فقالوا إذا كان المرض يصل بالإنسان إلى الحرج والمشقة جاز له أن يعدل إلى التيمم ؛ لأن الله سبحانه وتعالى يقول في كتابه : { وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ}(1) فلو أننا أمرناه أن يغتسل على هذا الوجه فقد أمرناه بالحرج الذي هو ليس من دين الله عز وجل .(68/12)
أما الصورة الثانية الموجبة للرخصة فهي : شدة البرد فلا يستطيع الإنسان أن يستعمل الماء مع شدة البرد فإذا كان على هذا الوجه جاز له أن يعدل إلى التيمم ؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم أقر عمرو بن العاص وكذلك عمار بن ياسر رضي الله عن الجميع وهذا كله مبني على وجود المشقة لأنه خاف أنه لو اغتسل يهلك فتمعك كما تمعك الدابة فقال له النبي صلى الله عليه وسلم :(( إنما كان يكفيك أن تقول بيديك هكذا )) فأقرهصلوات الله وسلامه عليه على خوفه الهلاك وجعل ذلك موجباً للرخصة ، ومن هنا قال العلماء : إذا اشتد البرد وغلب على ظن الإنسان أنه لو اغتسل يموت أو يصيبه الضرر الشديد فحينئذٍ يجوز له أن يعدل إلى التيمم ؛ لأن الله سبحانه وتعالى قال :{ وَلاَ تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ}(1) فكونه يغتسل على هذا الوجه يلقي بنفسه في الهلاك وقد نهى الله سبحانه وتعالى أن يلقي المسلم بنفسه في الهلاك فجاز له أن يستبيح الرخصة – وللتيمم مسائل سيأتي شرحها إن شاء الله تعالى عند حديث الباب -.
????????? الأسئلة ?????????
السؤال الأول :
ألا يمكننا أن نقول إن النجاسة الجامدة تزال بالحك بدليل أمره عليه الصلاة والسلام (( من وجد نعلاً عليه نجاسةً أن يحكها)) ..؟؟
الجواب :
بسم الله الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبة ومن والاه أما بعد:(68/13)
فإن الحك لاشك أنه يزيل النجاسة الجامدة ، وأيضاً يؤثر في النجاسة الرطبة والمائعة وعلى هذا فإننا لا نستطيع أن نخصص الحكم لا بنجاسة مائعة ولا بنجاسة جامدة نبقي الحديث على ظاهرة والقاعدة في الأصول: "أن ترك الاستفصال في مقام الاحتمال ينزل منزلة العموم في المقال" ترك الاستفصال المرأة سألت أم سلمة وأم سلمة حكت لها الفتوى على نفس السؤال فلما كان الجواب بأنها يطهرها المشى على الطاهر من بعد النجس القذر دون أن يسأل هل النجس رطب أو هو يابس ؟ لأن ذيل المرأة كما لا يخفى يمر على النجاسة الرطبة ويمر على النجاسة الجامدة فكون أم سلمة لم تستفصل وتجيب بجواب النبي صلى الله عليه وسلم المطلق الذي يفيد الحكم لجميع الأحكام تدل دلالةً واضحةً على أن التفصيل ليس بالقوي في مثل هذا .
وأما مسألة كيف أنها مائعة وتطهر ؟
فإن الثوب كما لا يخفى إذا مر على الماء ثم مر على الأرض فإن غبار الأرض يتخلل الثوب وفي التراب خاصية للتطهير كما في الماء ، ولذلك قال بعض العلماء : عجبت كيف أن الله سبحانه وتعالى جعل الطهارة بالماء وجعل التيمم تراباً يطهر وكلاهما خلق منه الإنسان ، فهذا يدل على شرف الإنسان لأن الإنسان خلق من طين لازب والطين اللازب هو الطين المخلوط بالماء وهذا يدل على شرف الإنسان حتى في أصله إن الله جعل أصل خلقته حتى تطهيراً له كما قال الله- تعالى-:{وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ}(1) فالمفروض أنه لا يستعجب من كون التراب يطهر ونحن عهدنا حتى في مسألة البول ثم وضع الحجر وهو جامد طاهر أنه يطهر أنه يحكم بطهارة الإنسان وأنه تطهر من بوله ، مع أن البول مائع وعلى العموم فإن التفصيل ليس له دليل لو ثبت الدليل في كتاب الله وسنة النبي صلى الله عليه وسلم الفرق بين النجاسة المائعة والنجاسة الرطبة لفرقنا وعلى هذا يظهر القول بالإطلاق ، والله تعالى أعلم .
السؤال الثاني :(68/14)
من خرج من الخلاء ووطئ على الفراش بحذائه هل نحكم بنجاسة الفراش ..؟؟
الجواب:
من خرج إلى الخلاء أولاً هذه مسألة هي عند العلماء أولا شيء "يسمى الظاهر" أن تستند إلى دليل بالمشاهدة وتعطيه حكم الغالب فعندهم شيء يسمى الغالب .. وهناك شيء يسمى الظاهر وهناك شيء "يسمى الأصل" فإذا قلت الأصل معناه اليقين الذي يحكم به ، فلو سألك هل هذا الفراش نحكم بطهارته أم القاعدة تقول أن الطهارة الأصل حتى يدل الدليل على نجاسته هذا يسمى بالأصل .
هناك شيء يسمى الظاهر .. والظاهر أن تستند إلى دلالة ظاهرة ما تقول الأصل حتى تستند إلى دلالة ظاهرة ، مثلاً الآن لو أن اثنين اختصما في دابة أحدهما في المقدمة والثاني في المؤخرة ، الذي في المقدمة يقول الدابة لي والذي في المؤخرة يقول الدابة لي ، فإن القاضي يحكم بأن الدابة للذي في المقدمة لأن الظاهر من الحال أنه لا يركب في مقدمة الدابة إلا صاحبها ، وهكذا في عرفنا اليوم لو أن اثنين رجلين اختصما في سيارة أحدهما في مكان قيادتها والثاني راكب لقلنا إن الذي يملكها الذي في قيادتها حينما تنظر إليه تحكم بالظاهر هذا يسمى الظاهر .
ففي مسألة الطهارة هنا عندنا الماء الموجود في بيوت الخلاء ودورات المياه لا يخلو من حالتين :(68/15)
الحالة الأولى : أن يكون قريباً من موضع النجاسة مثل الذي يوجد -أكرمكم الله-في الحفر التي يقضي فيها الحاجة سواء كانت من الحمامات العالية أو الحمامات الواطية فمكان قضاء النجاسة إلقاء النجاسة نقول ظاهره النجاسة ، فلو وقع في أي شيء نحكم بنجاسته لأن الظاهر أنه مكان معد للنجاسة ، فإذا جئنا ووجدنا شيئاً احتك به أو وقع فيه ثوب أو وقع فيه أي شيء حكمنا بكونه تنجس ؛ لأن الظاهر من حاله أنه موضع نجاسة ، يبقى النظر في الموضع الخارج عن هذا الموضع فإن قاربه بحيث يصيبه طشاش البول-أكرمكم الله- أو نحو ذلك حكمنا بأن ما قارب الشيء أخذ حكمه ونقول نجاسته ظاهرة لكنه من باب القرب لا من باب الأصل .
الحالة الثانية : يبقي النظر في الموضع الثالث وهو الذي يكون موضع الوضوء ، أو نفس الحمام أو دورة المياه يكون موضعاً قريباً من الخلاء ، وموضعاً معداً للاغتسال أو معداً للوضوء ، فهذا الموضع المعد للوضوء إذا وجدنا ماءً حوله حكمنا بطهارته لأن هذا الموضع الغالب أنه لا يصيب إلا طشاش طاهر ، فنعمل دلالة الظاهر ونقول الظاهر في موضعه الطهارة ، هنا نقول الظاهر الطهارة وهنا نقول الظاهر النجاسة ، ومن هنا نجد العلماء رحمهم الله يحكمون في مسائل يغلبون فيها الأصل ويحكمون في مسائل يغلبون فيها الظاهر ويحكمون في مسائل يغلبون فيها الغالب كل هذا مبني على ما ذكرناه من التقعيد .(68/16)
ففي مسألة إذا وطئ بحذائه في الخلاء : الحذاء كما لا يخفي يكون في دورات المياه إما أن يصيب مواضع النجاسة كأن تكون مواضع الدورة طفح ماؤها أو طفحت النجاسة الموجودة فيها ، فإن وطئ بحذائه على حمامات طفحت أو خرجت منها النجاسة ، أو على مواضع تطفح فيها النجاسة ووطئها بحذائه ، أو أزقة انفجرت فيها دورات مياه أوخزانات النجاسات انفجرت فيها فتلوث ترابها بذلك حكم بكونه متنجساً ، ثم يفصل : إن كان على وجه يشق التحرز منه مثل ما يقع الآن في انفجار مجاري المياه إذا انفجرت المجاري التي تحمل النجاسات ولوثت جميع أزقة الحي وأصبح من الصعوبة بمكان أن تطأ بمكان طاهر ، في هذه الحالة يخفف في النجاسة ولو جاء ووطئ بحذائه ثم صلى في حذائه خفف عنه ؛ لأنه مما يشق التحرز عنه ، والأمر إذا ضاق اتسع والمشقة تجلب التيسير ، ولذلك ذكروا عن بعض السلف رحمهم الله أنه لما سافر إلى خراسان وكانت بعض أحيائها في بعض القرى مشهورة بالأرواث التي تكون منها وكان يرى نجاسة الأرواث فلما نزل المطر وتلوثت الأزقة بهذه الأرواث سأله أصحابه وقالوا له كنت تفتي بحاضرة بغداد أنها نجسة ، قال : نعم لا زلت أفتي أنها نجسة : "ولكن الأمر إذا ضاق اتسع" فأنتم هنا في ضرورة وأنتم هنا في حاجة ، لو أني أفتيتكم بأنها نجسة لأصبح كل إنسان يشك في ثوبه ويشك في نعله ، وأصبح كل ما جاء يصلي يبحث عن ثوبه ويتفقد الثوب فيصل إلى حرج ومشقة يصعب معها أن يؤدي الإنسان عبادته على وجه يوافق أصل الشرع من انتفاء الحرج والمشقة ، وعلى هذا فإن طفحت دورات المياه على وجه لا يمكن السلام منه خفف فيها.(68/17)
وأما إذا كان وطؤه للماء الموجود عند أماكن الوضوء أو أماكن الغسل فالظاهر فيه الطهارة ، ولو وطئ نجاسةً ثم وطئ بنعله مكاناً طاهراً أو أرضاً مغبرة فإنه يحكم بطهارة الحذاء والنعل ويجوز له أن يصلي في خفه وأن يصلى في نعله على ما ذكرناه في حديث أم سلمة-رضي الله عنها - ، والله تعالى أعلم .
السؤال الثالث :
هل يجزي للمرأة أن تجعل ثوبها إلى الكعبين أو أسفل منه بقليل بحيث لا يمس الأرض وتغطي قدميها بالشراب الساتر أم أن كمال الحجاب لا يحصل إلا بإرخاء الذيل ..؟؟
الجواب:
كمال الحجاب بإرخاء الذيل وهذا لا إشكال فيه ، ولذلك مضت السنة ، وأفتى العلماء على أن الأكمل للمرأة أن تجره من شبر إلى ذراع وهذه من العادات الحميدة والأخلاق الكريمة من النساء ، وللأسف أنها فقدت-إلا من رحم الله- حتى أصبحت المسلمة تستحي تلبسها وتجر ثوبها حتى لا تعير بذلك ، والله إنه لكمال وإنه لشرف ومن جرت ثوبها على هذا الوجه أشعرت كل من ينظر إليها أنها تخاف الله-- جل جلاله -- وأنها تتقي الله في نفسها تتقي الله في إخوانها المسلمين .
قالت فاطمة-رضي الله عنها- :"خيرٌ للمرأة أن لا ترى الرجال ولا يراها الرجال" ، فلا شك أن الأكمل والأفضل أن تجر المرأة ذيلها ، وأما لبسها للشراب فإنه يستر ولكن الشراب لا يمنع من رؤية الجلد ، فالستر ينقسم إلى قسمين : إما ستر كامل لا يمكن أن تستفصل به من جلد المرأة هذا هو الأكمل الأفضل فحينئذ تكون عباءتها على رأسها ، هذا الستر كامل أن تكون العباءة على رأسها ثم ترخي وراءها شبراً أو ذراعاً إذا لم يكن هناك ضرر عليها من المشي أن تنكفئ أو يدعس عليها أو نحو ذلك هذا الأكمل .(68/18)
ثم بعد ذلك الستر الناقص .. والستر الناقص يقع بكونها تستر البدن لكن يظهر جرم البدن ، مثل الذي يقع ويسمى بالكابوت أن تلبسه المرأة فتفصل اليد على حدة ويكون لرأسها غطاء منفصل فإنك إذا رأيت المرأة رأيت جرم المرأة وأمكن تفصيل جسم المرأة ، وهذا هو الذي جاء في حديث القطيفة التي أهديت للنبي صلى الله عليه وسلم وأمر الرجل أن يجعل من تحتها ثوباً لما ألبسها امرأته حتى لا تبرز عظامها وتبرز عظامها يعني لا يتحدد جرم المرأة ، فالمرأة قد تكون كاسية لكن عارية كما قال صلى الله عليه وسلم :(( كاسيات عاريات على رؤوسهن كأسنمة البخت)) فإنها إذا رفعت على رأسها كومة الشعر فإنها حددت الجلد ووصفها بأنها كاسية لكنها في الحقيقة عارية-نسأل الله السلامة والعافية- فالمرأة التي تلبس هذا النوع من اللباس الذي يفصل اليد ، وهكذا لو لبست عباءة ولكن جعلتها على الكتف فإنها إذا جعلتها على الكتف برز الرأس وتحدد جرم الرأس ومن الناس من ينظر إلى جرم المرأة فيفتن به ولذلك الأكمل والأفضل للمرأة أن يكون سترها كاملاً من رأسها إلى أسفلها وأن تجر ثوبها فإن ذلك أتقى لربها وأعظم لأجرها ، والله تعالى أعلم .
السؤال الرابع :
هل نستطيع أن نقول شروط جواز التيمم مع وجود الماء ثلاثة : أولاً إذا خاف على نفسه الهلاك أو ماله أو عرضه . ثانياً: إذا خاف خروج وقت الصلاة . ثالثاً : لشدة الحاجة ..؟؟
الجواب:
الشرط الأول إذا خاف على نفسه الهلاك . الشرط الثاني : أو ماله أو عرضه . الشرط الثالث: لشدة الحاجة .
إذا خاف على نفسه ولشدة الحاجة معناه واحد ، هذا تكرار لأن إذا خاف على نفسه فهو محتاج يعنى مضطر إلى استعمال الماء ، على العموم بالنسبة للتيمم ذكر العلماء رحمهم الله أنه يعتبر فيه فقد الماء أو العجز عن استعماله سواء كان فقداً حقيقياً أو فقداً حكمياً ، أو عجزاً حقيقياً أو عجزاً حكمياً .(68/19)
ثم إن هناك شروطاً تتعلق بالمكلف نفسه منها الإسلام فلا يصح التيمم من كافر لأنه مخاطب بأصل الشرع ثم مخاطب بعد ذلك بالفروع ، ومنها العقل فلا يصح التيمم من مجنون فلو تيمم حال جنونه ثم أفاق لم يصح تيممه ، ومنها دخول الوقت فقالوا لا يتيمم لفريضة قبل دخول وقتها ولا يتيمم لنافلة في وقت النهي ، هذه هي الشروط التي ذكروها فيمن يتيمم .
أما الشيء الذي يتيمم به فيشترط فيه الطهارة ، واختلف في اشتراط كونه تراباً من بقية الصعيد على القول بتخصيص التيمم بالتراب ، أم أنه يشمل جميع ما على وجه الأرض-وهذا كله سنذكره إن شاء الله سوف نقوله عند شرح الحديث-نسأل الله المعونة والتيسير-، والله تعالى أعلم .
السؤال الخامس:
بالنسبة للاغتسال من الجنابة في البرد ولم يوجد ماء إلا ما يكفي الوضوء هل يجوز له أن يتوضأ أويتيمم..؟؟
الجواب:
إذا كان الماء قليلاً وعليه جنابة بحيث لا يمكنه أن يعم جميع البدن جاز له أن يعدل إلى التيمم ، وللعلماء قولان :
قال بعض العلماء : يستعمل الماء في الأعضاء بقدر ما هو ممكن ، فمثلاً لو أمكن أن يغسل نصف البدن قالوا يجب عليه أولاً أن يستعمل الماء أولاً في نصف البدن ثم يتيمم للباقي .
وقال بعضهم : يعدل إلى التيمم مباشرة وهو في الصحيح لأن هذا الماء لم يستوعب جميع البدن فكان وجوده وعدمه على حد سواء ، ولذلك الأصح أنه يتيمم مباشرة ولا يشترط أن يغسل أجزاء البدن إذا كان الماء لا يكفي لتعميم البدن كله بالماء ، وأما بالنسبة للوضوء فالحكم نفس الحكم إذا كان عنده ماء يمكنه أن يغسل به وجهه ويديه ولا يستطيع أن يمسح به رأسه و يغسل به رجليه فحينئذ يعدل إلى التيمم مباشرة ولا يلزم باستعمال الموجود من الماء ،والله تعالى أعلم.
السؤال السادس :
ماذا يصنع من أصاب موضع الفرض منه جروحُ تتأثر بوصول الماء إليها .. هل يمسح عليها أو يجمع بين الوضوء والتيمم ..؟؟
الجواب:(68/20)
إذا كان في اليد جرح أو في الرجل جرح وأمكن المكلف أن يمر يده مبلولة على الجرح فإنه يجزيه ؛ وذلك لأن إصابة الماء إما غسلاً أو في حكم الغسل بالإمرار إذا كانت مبتلة ، وأما إذا كان لا يمكنه ذلك أو نهاه الأطباء عن غسل الجرح ومسحه فحينئذ قال بعض العلماء : إنه يغسل ما يستطيع غسله ويسقط عنه الموضع المجروح ، وقال بعض العلماء : يغسل ويترك الموضع المجروح ويتيمم له وهذه هي المسألة التي يلغز فيها بعض العلماء بالجمع بين البدل والمبدل حيث جمع بين الوضوء والتيمم ، ولا يجمع بين البدل والمبدل من حيث الأصل ؛ لأن الأصل أنه إذا وجد الأصل بطل فرعه وما بني عليه ، فالأصل أن المبدل منه إذا وجد ألغي البدل ، وعليه قالوا إنه يجمع بين طهارة الماء والتراب لوجود الحاجة على هذا الوجه، والله تعالى أعلم .
الذين يقولون إنه يغسل ولا يمسح على الجرح ولا يتيمم للجرح يقولون إن هذا الموضع إذا تعذَّر إصابة الماء له كان كأنه غير موجود ، كما لو كانت يده مقطوعة فإنه يغسل بقية الأعضاء ويصح وضوؤه فإذا كان الشخص لا يستطيع البتة أن يصيب الماء جرحه فإنه حينئذ يغسل ما يستطيع غسله ، والباقي يسقط عنه ؛ لأن الله لا يكلف نفساً إلا وسعها ، ولا يجب عليه أن يتيمم لأنه لا يجمع بين البدل والمبدل منه فلو أنه جمع بين التيمم والوضوء خروجاً من الخلاف فله وجه ، والله تعالى أعلم .
السؤال السابع :
إذا غطى الثلج الأرض فهل يجوز له أن يضرب على الثلج ويتيمم لعدم وجود التراب ..؟؟
الجواب :(68/21)
الثلج ليس بمحل التيمم وإنما يكون التيمم بماهو من جنس الأرض التراب والصخر والطين وهكذا بما يوجد في باطن الأرض مما هو منها ، واختلف في كالجس ونحوه مما يشتق من الأرض يقولون إذا لم تدخله الصنعة ، فإذا دخلته الصنعة لم يجز أن يتيمم به ، كالأسمنت الموجود في زماننا فإنه دخلته الصنعة وحينئذ لا يجزئ أن يتيمم به فإذا تيمم بتراب أو رمل أو حجر على أصح قولي العلماء فإنه يجزيه ، وأما الثلج فليس بمحل للتيمم ، والله تعالى أعلم .
السؤال الثامن :
هل خروج الدم أثناء التبرع بالدم ناقض للوضوء علماً أنه لا يخرج منه على البدن والثياب شيء وهل إدخال الدم في المريض ينقض وضوءه.. ؟؟
الجواب:
أما بالنسبة لخروج الدم من الإنسان فللعلماء فيه قولان :
جمهور العلماء على أن خروج الدم من الإنسان لا يوجب انتقاض الوضوء ؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال في حديث أبي هريرة في الصحيح :(( لا يقبل صلاة أحدكم إذا أحدث حتى يتوضأ)) فجعل الموجب لانتقاض الوضوء هو الحدث ، وخروج الدم ليس بحدث ولا في حكم الحدث لأنه ليس من المحل المعتبر ولا في حكم المحل الموجب لانتقاض الطهارة .
وقال الحنابلة رحمهم الله على المشهور : إن خروج النجاسة من سائر البدن يوجب انتقاض الوضوء وهذا القول مبني على حديث المستحاضة لأن المستحاضة لما خرج منها الدم وهو دم الاستحاضة قال النبي صلى الله عليه وسلم :(( إنما ذلك عرق)) قالوا فلما خرج من العرق وأوجب انتقاض الوضوء والإجماع قائم على أن المستحاضة يجب عليها أن تتوضأ قالوا كل دم خرج من البدن يوجب انتقاض الوضوء .(68/22)
والصحيح مذهب الجمهور لظاهر الحديث ، وأما حديث المستحاضة فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال:(( إنما ذلك عرق)) ولكن انتقاض الوضوء بخروج دم الاستحاضة إنما هو لكونه خارجاً من الفرج فاجتمع فيه وصفان المحل والمادة ، المحل الذي هو الفرج فهو خارج من الفرج ، والمادة كونه نجساً وهذا أبلغ ما يكون في انتقاض الطهارة أن يجتمع الوصفان المحل ونجاسة الخارج ، فإذا كان الخارج من القبل أو الدبر وكان نجساً هذا بالإجماع ينقض ، وأما إذا كان طاهراً ففيه الخلاف المشهور .. هل خروج الطاهر يوجب الانتقاض وقد تقدم معنا في باب نواقض الوضوء وعلى هذا فإن حديث المستحاضة ليس بقوي ؛ لأن حديث المستحاضة فيه الوصفان الفرج الذي هو المحل ، والمادة ، ونقض الوضوء لخروجه من الفرج ، بدليل أن الطاهر إذا خرج من الفرج أوجب الانتقاض فإن المني إذا خرج أوجب الحدث الأكبر ، وعليه قالوا إن نفس الفرج والمحل هو المؤثر في الانتقاض بدليل أن الطاهر لو خرج نقض ، وعليه فإنه خروج النجاسة من سائر البدن لا يوجب الانتقاض ، وهكذا لو رعف أو مثلاً طعن أو أصابه وخز أو عسر البثره فخرج منها الدم كل ذلك لا يوجب الانتقاض وقد جاء عن عبد الله بن عمر-رضي الله عنهما-أنه كان يعصر البثره في الصلاة و يصلي ولا يعيد الوضوء ، وهكذا أثر عن بعض التابعين رحمهم الله أنهم كانوا يرعفون في الصلاة ويغسلون مكان الرعاف ، ومنهم من يرى أنه لا يوجب الغسل خاصة ولو كان كثيراً ويصلي ولا يعيد الوضوء فمذهب الجمهور أن خروج الدم لا ينقض الوضوء هو الصحيح خاصة وأن حديث أبي هريرة :(( لا يقبل الله صلاة أحدكم إذا أحدث)) يدل دلالة واضحة على أنه لا ينتقض إلا بالحدث ، وهذا هو الأصل ، والله تعالى أعلم .
السؤال التاسع:
رجل به مرض يمنعه من الانحناء بغسل قدميه هل يجوز له أن يصب الماء عليهما دون فركهما وإدخال الماء بين أصابع قدميه ..؟؟
الجواب:(68/23)
بسم الله الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبة ومن والاه أما بعد:
فإن تيسر وجود أحد يدلك حتى يصل الماء إلى القدمين هذا أفضل وأكمل وفي حديث المستورد بن شداد رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال :(( أسبغ الوضوء وخلل بين الأصابع)) فالتخليل يمكن الماء من الأصابع خاصة إذا غلب على ظنه أن الماء لا يصل إلا بالتخليل ، ومالا يتم الواجب إلا به فهو واجب ، وأما إذا غلب على ظنه أنه إذا صب الماء يصل الماء إلى البشرة أو ظاهر البشرة فهذا يكفيه ، ويستحب بعض العلماء رحمهم الله في هذه المسألة أن يضع الماء في طشت أو ماعون أو نحوه ثم يدخل رجله فيه فإن مثل هذا غالباً ما يصل الماء فيه ويدلك أحدى الرجلين على بعضها يجعل إحدى الرجلين على بعضها كأنه يجلس على كرسي أو نحوه ثم يصب ويدلك إحدى الرجلين على الأخرى فإن هذا يمكن من إصابة الماء لظاهر البشرة ، والله تعالى أعلم .
السؤال العاشر:
هل تصح صلاة المسبل ، وهل هي مفرعة على المسألة الخلافية هل النهي يقتضي فساد المنهي عنه ..؟؟
الجواب:(68/24)
المسبل صلاته صحيحة وحكى غير واحد من العلماء الإجماع على أن المسبل صلاته صحيحة ولا يلزم بإعادة الصلاة وأما حديث:(( لا يقبل الله صلاة المسبل)) فهو حديث متكلم في سنده ، ولكن على فرض صحته فإن القبول غير الصحة فهناك شيء يسمي الصحة بمعنى أنه لا يطالب بالإعادة مرة ثانية ، فإن وقعت على صفتها المعتبرة وصورتها المجزئة حكم بالصحة ولا يلزم بالإعادة ، وأما القبول فهو مرتبة فوق الصحة فكل صلاة مقبولة صحيحة وليست كل صلاة صحيحة مقبولة فقد يصلي الإنسان صلاة كاملة الأركان كاملة الشروط ، ولا يتقبل الله صلاته-نسأل الله السلامة والعافية- لذنب بينه وبين الله ، وقد تكون طعمة من الحرام فيحال بينه وبين قبول عبادته ، فالقبول مرتبة فوق مرتبة الصحة وكون الإنسان مسبلاً في ثوبه فإن هذا عليه إثمه وعليه وزره ، وإلا إذا كان يتأول من يقول إنه يختص الحكم في جر الثوب بالخيلاء فإنه وتأويله وإن كان الصحيح أن الحكم يشمل من جر خيلاء ومن لم يجر خيلاء لا يجوز لأحد أن يرخي ثوبه دون الكعبين لظاهر قوله:(( ما أسفل الكعبين ففي النار)) وأما حديث:(( لا ينظر الله إلى من جر ثوبه)) فالوعيد بنفي النظر غير الحديث الذي معنا فإن نفي النظر عقوبة زائدة وهي عقوبة شديدة وهي من أغلب العقوبات وهي نفي النظر في عرصات يوم القيامة-نسأل الله السلامة والعافية- فإن الله لا ينظر إلى من جر ثوبة خيلاء ، وكبراً فإذا كان جره خيلاء فإن الوعيد بعدم النظر- نسأل الله السلامة والعافية- أما إذا أسبل وجر ثوبه بدون خيلاء ولم يقصد خيلاء فقد قال صلى الله عليه وسلم :(( ما أسفل الكعبين ففي النار)) ، فهذا يعذب في الموضع الذي عصى الله به وهو أسفل الكعبين فيصلى بنار جهنم-نسأل الله السلامة والعافية- ؛ لأن من عصى الله في عضو عذبه الله بسبب ذلك العضو ، ولذلك قال الله –تعالى-:{إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْماً إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي(68/25)
بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا}(1) .
فجعل هذا المال الذي أُكل بالحرام وتمتع صاحبه بشهوة الأكل جعله يصلى-والعياذ بالله-النار كأنه يقذف في جوفه نار جهنم-نسأل الله السلامة والعافية- ، ومنه الأثر الذي يشرب في آنية الذهب إنما يجرجر في بطنه نار جهنم ، وهذا من باب العقوبة بالمعصية في العضو ، ومنه قوله عليه الصلاة والسلام :(( ويلٌ للأعقاب من النار)) فإنهم لما عصوا الله وتركوا الواجب عليهم من غسل الأعقاب عذبوا بهذا العذاب ، فكونه ما أسفل الكعبين من هذا القدر اليسير الذي عُصي الله عز وجل وأرخى إزاره أو رداءه تحت الكعبين هذا يُصلى-والعياذ بالله- بالنار وقد ثبت في الحديث عنه عليه الصلاة والسلام :(( أن أهون أهل النار عذاباً رجل يوضع في ضحاحٍ من النار ))، وفي رواية ((يكون له نعلين من نار كما في أبي طالب يغلي بهما دماغه)) -نسأل الله السلامة والعافية- أنه يغلي دماغه من نار جهنم ، لو أنه فقط أعطي النعلين من النار-نسأل الله السلامة والعافية- فلا يستهين الإنسان بهذا ولا يظن أن هذا القدر اليسير إذا صُلى بنار جهنم أنه يسير بل هو شديد وعسير وعظيم ، وأما الاستدلال بحديث أبي بكر :(( إنك لست ممن يجره خيلاء)) فحديث أبي بكر يجب ان يفهمه الإنسان باللسان الذي ورد به حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم فإنه يقول :" يا رسول الله إن أحد شقي إزاري يسقط إلا أن أتعاهد " فأولاً قال أحد الشقين ولم يقل كل الإزار وهذا كما تعلمون في الفوط ونحوها والأزر التي تكون في الحج والعمرة ، لأنهم كانوا في القديم يلبسونها فأحد شقي الإزار هذا الذي يسمى الإزار تعرفون أن الإنسان يربط هذا الإزار فربما أثناء الحديث أو أثناء الجلوس ربما سها عنه فسقط فليس هناك قصد ، ولم يرخ أبو بكر قصداً رضي الله عنه وأرضاه الحديث ليس له أي علاقة بإرخاء الثوب مع العلم به والقصد بذلك-نسأل الله السلامة والعافية- أبو بكر(68/26)
أرفع وأبعد من أن يعصي رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو أتقى الأمة بعد نبيها صلوات الله وسلامه عليه كما شهد الله عز وجل له من فوق سبع سموات وزكاه وفضله رضي الله عنه وأرضاه فأحد شقيه يعني أنه ربما سقط بسبب الجلوس ، كانوا يركبون على الدواب وكانوا ينزلون فهذا الركوب والنزول واختلاف الحالات يوجب تفلتاً كما تلاحظون في حال الحج والعمرة ، فالإنسان مع المشي يتفلت معه الإزار ويسقط أحد الشقين.
فقال إن أحد شقي يسقط إلا أن أتعهد هذا الأمر الثاني أنه قال أتعاهد معناه أنه متى علم به رفعه والذي يسبل ثوبه عالم به ولا يرفعه ، ثم إن أبو بكر لا يستديم وهذا يستديم ، فأين هذا الحديث من هذا الوضع فليس هناك مناسبة للاستدلال بالحديث الحديث في شئ وأفعال الناس في شيء آخر يأتي إلى ثوبه أو يأتي إلى سرواله أو يأتيه إلى إزاره ويرخيه عامداً متعمداً قاصداً لذلك ، ويقول له من يفصل له الثوب تريده هنا أو هنا عمداً متعمداً قاصداً ، ولا شك أن هذه مخالفة صريحة للسنة ما أسفل الكعبين ففي النار ، فمن أنزل إزاره أو رداءه أسفل من الكعبين من الرجال فإنه موعود بهذا الوعيد الذي ثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بهذا الحديث الصحيح ، وعلى المسلم أن يتقي الله ولذلك قال عمر رضي الله عنه :"ارفع إزارك فإنه اتقى لربك وأنقى لثوبك " أتقى لربك ؛ لأن الله أمرنا بذلك ونهانا عن عكسه واطهر لثوبك لأنه يصونه عن القذر ، ويصونه عن الأوساخ ،والله تعالى أعلم .
السؤال الحادي عشر:
سائلة تقول هل يجوز الانصراف من صلاة الفريضة إذا سمعت بكاء طفلي...؟؟
الجواب:(68/27)
إذا بكى الطفل في الصلاة والمرأة في صلاتها يجوز لها أن تقطع الصلاة إذا خافت عليه الضرر ، أما إذا لم تخش عليه الضرر فإنها لا تقطع صلاتها ، والصلاة أعظم وأجل إلا إذا تشوش فكرها وعزب عنها عقلها وإدراكها فبعض العلماء ينزلها منزلة الحاقن فيقول في هذه الحالة يجوز لها أن تنصرف لأن النبي صلى الله عليه وسلم أمر من حضر العشاء والعشاء أن يقطع للعشاء لأنه يتشوش فكره ويعزب عنه رشده ، فيجوز لها أن تنصرف إلى طفلها في هذه الحالة ، مثال الحالة الأولى لو أن طفلاً خرج من الغرفة التي تصلي فيها المرأة إلى غرفة ثانية ، والغرفة الثانية فيها ضرر ، والغالب أن الطفل لا يبكي إلا من هذا الضرر وقد يكون هذا الضرر يخشى عليه هلاك الطفل وسمعته يصيح فالغالب أنه ضرر وحينئذ تقطع صلاتها وتذهب إليه لأن الغالب كالمحقق ، أما لو أنه أمامها ويبكي ويصيح فإن البكاء قد يكون عافية للطفل يقولون عن بعض الحكماء أنه دخل عند عبد الملك بن مروان ووجد عنده صبياً يبكي في حجره وهو يسكته فقال يا أمير المؤمنين اتركه فإنه أصح فيه خاصة إذا صاح من نفسه دون أن يصيح من ضرر ، وإذا صاح من نفسه قال أنه أصح لأن هذا انفع لصوته وأقوى لصدره لأنه يعين على قوة النفس بالنسبة للصبي فهذا نعمة من الله عز وجل ، فالأفضل أنها تتركه في هذه الحالة ولا يعتبر موجباً للترخيص المعتبر بالانصراف عن الصلاة .
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين وصلى الله وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين(68/28)
بسم الله الرحمن الرحيم
قال المصنف رحمه الله : بَاب مَا جَاءَ فِي التَّيَمُّمِ
حَدَّثَنَا أَبُو حَفْصٍ عَمْرُو بْنُ عَلِيٍّ الْفَلاَّسُ حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ زُرَيْعٍ حَدَّثَنَا سَعِيدٌ عَنْ قَتَادَةَ عَنْ عَزْرَةَ عَنْ سَعِيدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبْزَى عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَمَّارِ بْنِ يَاسِرٍ:" أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم أَمَرَهُ بِالتَّيَمُّمِ لِلْوَجْهِ وَالْكَفَّيْنِ "، قَالَ وَفِي الْبَاب عَنْ عَائِشَةَ وَابْنِ عَبَّاسٍ .(69/1)
قَالَ أَبو عِيسَى رحمه الله : حَدِيثُ عَمَّارٍ حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ وَقَدْ رُوِيَ عَنْ عَمَّارٍ مِنْ غَيْرِ وَجْهٍ وَهُوَ قَوْلُ غَيْرِ وَاحِدٍ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم مِنْهُمْ عَلِيٌّ وَعَمَّارٌ وَابْنُ عَبَّاسٍ وَغَيْرِ وَاحِدٍ مِنَ التَّابِعِينَ مِنْهُمُ الشَّعْبِيُّ وَعَطَاءٌ وَمَكْحُولٌ قَالُوا التَّيَمُّمُ ضَرْبَةٌ لِلْوَجْهِ وَالْكَفَّيْنِ وَبِهِ يَقُولُ أَحْمَدُ وَإِسْحَقُ ، وقَالَ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ مِنْهُمُ ابْنُ عُمَرَ وَجَابِرٌ وَإِبْرَاهِيمُ وَالْحَسَنُ قَالُوا التَّيَمُّمُ ضَرْبَةٌ لِلْوَجْهِ وَضَرْبَةٌ لِلْيَدَيْنِ إِلَى الْمِرْفَقَيْنِ وَبِهِ يَقُولُ سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ وَمَالِكٌ وَابْنُ الْمُبَارَكِ وَالشَّافِعِيُّ وَقَدْ رُوِيَ هَذَا الْحَدِيثُ عَنْ عَمَّارٍ فِي التَّيَمُّمِ أَنَّهُ قَالَ لِلْوَجْهِ وَالْكَفَّيْنِ مِنْ غَيْرِ وَجْهٍ وَقَدْ رُوِيَ عَنْ عَمَّارٍ أَنَّهُ قَالَ:" تَيَمَّمْنَا مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم إِلَى الْمَنَاكِبِ وَالآبَاطِ" فَضَعَّفَ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ حَدِيثَ عَمَّارٍ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِي التَّيَمُّمِ لِلْوَجْهِ وَالْكَفَّيْنِ لَمَّا رُوِيَ عَنْهُ حَدِيثُ الْمَنَاكِبِ وَالآبَاطِ قَالَ إِسْحَقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ بْنِ مَخْلَدٍ الْحَنْظَلِيُّ حَدِيثُ عَمَّارٍ فِي التَّيَمُّمِ لِلْوَجْهِ وَالْكَفَّيْنِ هُوَ حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ وَحَدِيثُ عَمَّارٍ تَيَمَّمْنَا مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم إِلَى الْمَنَاكِبِ وَالآبَاطِ لَيْسَ هُوَ بِمُخَالِفٍ لِحَدِيثِ الْوَجْهِ وَالْكَفَّيْنِ لأَنَّ عَمَّارًا لَمْ يَذْكُرْ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم أَمَرَهُمْ بِذَلِكَ وَإِنَّمَا قَالَ فَعَلْنَا كَذَا وَكَذَا فَلَمَّا سَأَلَ(69/2)
النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم أَمَرَهُ بِالْوَجْهِ وَالْكَفَّيْنِ فَانْتَهَى إِلَى مَا عَلَّمَهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم الْوَجْهِ وَالْكَفَّيْنِ وَالدَّلِيلُ عَلَى ذَلِكَ مَا أَفْتَى بِهِ عَمَّارٌ بَعْدَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِي التَّيَمُّمِ أَنَّهُ قَالَ الْوَجْهِ وَالْكَفَّيْنِ فَفِي هَذَا دَلاَلَةٌ أَنَّهُ انْتَهَى إِلَى مَا عَلَّمَهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فَعَلَّمَهُ إِلَى الْوَجْهِ وَالْكَفَّيْنِ .
قَالَ و سَمِعْت أَبَا زُرْعَةَ عُبَيْدَ اللَّهِ بْنَ عَبْدِ الْكَرِيمِ يَقُولُ لَمْ أَرَ بِالْبَصْرَةِ أَحْفَظَ مِنْ هَؤُلاَءِ الثَّلاَثَةِ عَلِيِّ بْنِ الْمَدِينِيِّ وَابْنِ الشَّاذَكُونِيِّ وَعَمْرِو بْنِ عَلِيٍّ الْفَلاَّسِ قَالَ أَبُو زُرْعَةَ وَرَوَى عَفَّانُ بْنُ مُسْلِمٍ عَنْ عَمْرِو بْنِ عَلِيٍّ حَدِيثاً .
الشرح:
بسم الله الرحمن الرحيم الحمدلله رب العالمين والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين وعلى آله وصحبه أجمعين أمابعد :
فقد ذكر المصنف رحمه الله حديث أبي اليقضان عمار بن ياسر-- رضي الله عنه - وعن أبيه-في صفة التيمم التي علمه النبي صلى الله عليه وسلم إياها ، وهذا الحديث لما اشتمل على صفة التيمم وهي متعلقة بباب التيمم ناسب أن يعتني المصنف رحمه الله بإيراده في هذا الموضع .(69/3)
وهذا الحديث حديث مهم وقد اعتنى المحدثون رحمهم الله بإيراده في كتبهم ، فأصله في الصحيحين عن عمار بن ياسر-- رضي الله عنه - وعن أبيه-وقد تقدم شرح هذا الحديث في كتاب عمدة الأحكام وبينا خلاف العلماء رحمهم الله في صفة التيمم وحاصل ماذُكر أن السلف والخلف رحمهم الله اختلفوا ما الذي يجب على المتيمم إذا مسح يديه هل يجب عليه أن يقتصر على الكفين ؟ أم أن الواجب عليه أن يمسح على كفيه وذارعيه إلى المرافقين كالوضوء ؟ أو الواجب عليه أن يمسح من أطراف الأصابع إلى مفصل الكتف وهو التيمم إلى الآبابط والمناكب ؟
فهذه محصل أقوال العلماء رحمهم الله سلفاً وخلفاً في هذه المسألة المشهورة :
وقد ذهب فقهاء الحنابلة والمالكية-رحمة الله على الجميع-إلى أن الواجب على المتيمم أن يسمح وجهه وكفيه ولا يجب عليه أن يمسح مابعد الكف إلى المرفق .
واختلفوا فمنهم من يقول : يجوز له ذلك .(69/4)
ومنهم من يقول : لايشرع له ذلك ، وقد قال بالقول الثاني طائفة من أهل الحديث-رحمة الله على الجميع-واحتج أصحاب هذا القول الصحيح بقوله سبحانه وتعالى :{فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ }(1) ووجه ذلك أن الله سبحانه وتعالى أمرنا أن نمسح على اليدين وأطلق هاتين اليدين والقاعدة"أن إطلاق اليد في كتاب الله ينصرف إلى الكفين " بدليل قوله سبحانه وتعالى في عقوبة السرقة :{ وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا كَسَبَا نَكَالاً مِنْ اللَّهِ}(2) فهذه الآية الكريمة أجمع العلماء رحمهم الله على أن المراد بها الكفان ، وعلى ذلك نفهم منها أن القرآن إذا أطلق اليدين فالمراد بهما الكفان وعليه ترجم عبدالله بن عباس رضي الله عنهما قال في الرواية عنه "إنما هو الوجه والكفان " ، واحتج بإطلاق الله سبحانه وتعالى لليد في عقوبة السرقة ، إضافة إلى ذلك ثبت الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:(( إنما كان يكفيك أن تقول بيديك هكذا وضرب بيديه على الأرض)) صلوات الله وسلامه عليه ثم مسح به كفيه فهذا الحديث الصحيح يدل دلالةً واضحةً على أن الواجب على المسلم في تيممه أن يمسح على الكفين فقط ، وأن مابعد الكفين ليس بواجب ومن أجل هذا قال الحنابلة والمالكية-رحمة الله على الجميع- إن الواجب على المسلم أن يقتصر على هذا الموضع من جهة الفرض ، أما بالنسبة لما زاد على ذلك يجوز على سبيل السنة لا على سبيل الوجوب واللزوم.(69/5)
وخالف الحنفية والشافعية وطائفة من السلف-رحمة الله على الجميع- فقالوا الواجب على المسلم أن يمسح يديه إلى المرفقين وذلك لأن النبي صلى الله عليه وسلم جاء عنه في حديث ابن عمر الذي رواه الدارقطني وغيره أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:(( التيمم ضربتان ضربة للوجه وضربة لليدين إلى المرفقين )) وهناك أحاديث ضعيفة كحديث جابر رضي الله عنه في ذكر الضربتين فاستدلوا بهذا الحديث وماوافقه من الأحاديث الأخرى التي لم تصح سندا وحديث ابن عمر هذا اختلف في رفعه ووقفه ، فمنهم من قال إن الصحيح أنه موقوف على عبدالله بن عمر ، إضافة إلى الكلام في بعض رواته ؛ لكن على فرض صحة حديث عبدالله بن عمر فيحمل على الكمال والفضل والاستحباب لا على سبيل الفرض والإيجاب جمعاً بينه وبين ما هو أصح منه وأثبت .
وعلى هذا فإن أصح القولين والعلم عند الله أن الواجب في التيمم أن يقتصر على الكفين فإذا أراد أن يزيد إلى المرفقين فضلاً لا فرضاً فلا حرج عليه في ذلك .
وفي هذا الحديث وهو حديث عمار قصة وحاصلها أن عمار رضي الله عنه أجنب وكان قد بعثه النبي صلى الله عليه وسلم إلى حاجة فتمرغ كما تتمرغ الدابة ثم أتى إلى النبي صلى الله عليه وسلم وقص له الخبر فقال له النبي صلى الله عليه وسلم :((إنما كان يكفيك أن تقول بيديك هكذا ثم ضرب بيديه على الأرض ومسح بهما وجهه وظاهر كفيه )) فهذا الحديث اختصره الإمام الترمذي رحمه الله في هذه الرواية على هذا الوجه .
وفيه دليل على أن الواجب ضربة واحدة تكون للوجه وللكفين وقد اختلف العلماء رحمهم الله في هذه المسألة أيضاً ..؟؟
فقال المالكية والحنابلة وطائفة من السلف : الواجب على المسلم أن يضرب ضربة واحدة ولا يجب عليه أن يكرر ضربات التيمم .(69/6)
واستدلوا بقوله عليه الصلاة والسلام :(( إنما كان يكفيك أن تقول بيديك هكذا )) ففي الصحيح :(( ثم ضرب يديه على الأرض ضربة واحدة )) فقوله:((ضربة واحدة)) دليل صحيح صريح يدل على أن الواجب أن يضرب ضربة واحدة .
واستدل الذين قالوا بأنه ضربتان بحديث ابن عمر المتقدم وفيه مافيه وهذا هو مذهب الحنفية والشافعية-رحمة الله على الجميع-وهو قول من أشار إليه الإمام الترمذي رحمه الله من السلف والخلف.
والصحيح قول من قال بوجوب الضربة الواحدة ويحمل تكرر الضربة الواحدة على الفضل والاستحباب كما ذكرنا في الزيادة على الكفين ، وعلى هذا فالواجب في التيمم ضربة واحدة والواجب في التيمم الكفان ومازاد على ذلك فضل وليس بفرض .
قال المصنف رحمه الله : حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ مُوسَى حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ سُلَيْمَانَ حَدَّثَنَا هُشَيْمٌ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ خَالِدٍ الْقُرَشِيِّ عَنْ دَاودَ بْنِ حُصَيْنٍ عَنْ عِكْرِمَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ سُئِلَ عَنِ التَّيَمُّمِ فَقَالَ : "إِنَّ اللَّهَ قَالَ فِي كِتَابِهِ حِينَ ذَكَرَ الْوُضُوءَ :{ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ } وَقَالَ فِي التَّيَمُّمِ :{فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ } وَقَالَ:{ وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا } فَكَانَتِ السُّنَّةُ فِي الْقَطْعِ الْكَفَّيْنِ إِنَّمَا هُوَ الْوَجْهُ وَالْكَفَّانِ يَعْنِي التَّيَمُّمَ .
قَالَ أَبو عِيسَى رحمه الله : هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ غريبٌ صَحِيحٌ .
الشرح:
هذا الأثر عن حبر الأمة وترجمان القرآن عبدالله بن عباس رضي الله عنهما فيه دليل على مسألتين مهمتين :
المسألة الأولى : تتعلق بمنهج الاستدلال .
والمسألة الثانية : تتعلق بالأحكام .(69/7)
فأما منهج الاستدلال : فإن حبر الأمة وترجمان القرآن عبدالله رضي الله عنه استدل بحمل المطلق على المألوف المعهود من دلالة الكتاب ، وهذا يدل على أن القرآن يفسر بعضه بعضاً ، وقد أطبق جماهير السلف والخلف على تفسير كتاب الله بكتاب الله ، ولذلك قرر العلماء رحمهم الله أن الأصل في تفسير القرآن أن يكون بالقرآن لأن القرآن يشبه بعضه بعضاً ويفسر بعضه بعضاً وإذا فسر القرآن بالقرآن فإنه على أحوال :
الحالة الأولى : أن يأتي التفسير بعد الآية مباشرة كقوله سبحانه وتعالى :{وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْحُطَمَةُ - نَارُ اللَّهِ الْمُوقَدَةُ}(1) ، وكقوله سبحانه وتعالى :{وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْقَارِعَةُ - يَوْمَ يَكُونُ النَّاسُ كَالْفَرَاشِ الْمَبْثُوثِ}(2) بعد أن كرر السؤال عنها أجاب سبحانه وتعالى .(69/8)
الحالة الثانية : أن يرد تفسير القرآن في موضع آخر غير الموضع الذي وردت فيه الآية الكريمة كأن تأتي الآية في موضع ويكون فيها إجمال ثم تأتي في موضع آخر وتبين كقوله سبحانه وتعالى :{فَإِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ}(1) فالتقوى هنا مجمله ثم إن الله سبحانه وتعالى فسر من هم المتقون فقال سبحانه وتعالى :{ ذَلِكَ الْكِتَابُ لاَ رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ - الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاَةَ}(2) مبينا حقيقة التقوى مع أنه قررها مجملة في كتابه في أكثر من موضع ، وعلى هذا قال العلماء رحمهم الله : إن أول مايفسر به كتاب الله عز وجل أن يكون تفسيره بالآيات نفسها وقد راعى عبدالله رضي الله عنه وأرضاه هذا المنهج فقد جعل آية المائدة والنساء والتي تضمت الأمر بالتيمم وبيان مشروعيته فسرها رضي الله عنه وأرضاه بآية السرقة ووجه ذلك أن الله سبحانه وتعالى في آية السرقة أطلق اليد ، وقال سبحانه وتعالى :{فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا} ولما أراد ماهو زائد على الكف سبحانه وتعالى :{فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ } فلو كانت اليد تشمل إلى المرفقين لم يقل في آية الوضوء إلى المرافق بل سكت على قوله:{ وَأَيْدِيَكُمْ } فلما نص وذكر المرافق دلَّ على أن الأصل في اليد إذا أطلقت أن تكون محمولة على الكف فما زاد على ذلك يحتاج إلى دليل وهذا من الفهم الذي فهم الله حبر الأمة وهو محقق لدعوة النبي صلى الله عليه وسلم :(( اللهم فقه في الدين وعلمه التأويل )) ففتح الله عليه وهو خير الفاتحين فبين -- رضي الله عنه - وأرضاه-أن هذا الإطلاق محمول على ماذكر .(69/9)
وأما الفائدة الثانية : فإن حبر الأمة وترجمان القرآن رضي الله عنه وأرضاه قال :"فكانت السنة في القطع الكفين "مراده بذلك أن السنة في زمان النبي صلى الله عليه وسلم أن السارقة والسارق إذا وقعا في الجريمة أن تقطع منهما الكف فهذا هو المراد بقوله :"فكانت السنة الكفين" .
ومن هنا يكون من الخطأ أن يفهم قوله" فكانت السنة القطع إلى الكفين " محمول على الكفين في التيمم ليس مراد ابن عباس ذلك رضي الله عنه وأرضاه إنما مراده بقوله :"فكانت السنة" أي في حكم القطع ولم يتعرض للسنة في الكفين وإنما بناها على الإطلاق ، ومن هنا كان من الخطأ ماوقع فيه بعض العلماء رحمهم الله من أن هذا الأثر يعتبر دليلاً على تحديد التيمم بالكفين مرفوعاً إلى النبي صلى الله عليه وسلم لقول ابن عباس "فكانت السنة في القطع إلى الكفين" وهذا كما ذكرنا ضعيف ، والصحيح أن ابن عباس-رضي الله عنهما-قصد القطع ثم إذا كانت السنة في القطع إلى الكفين فمعنى ذلك أن إطلاق آية المائدة في السرقة محمول على الكفين فيتركب منه أن إطلاق آية التيمم محمول على الكفين أيضاً وليس المراد به أن التيمم السنة فيه الكفان وإن كان ذلك ثابتاً بدليل آخر وإنما مرادنا هنا بيان الحكم فليس مراد ابن عباس رضي الله عنهما رفع الكفين في التيمم إلى النبي صلى الله عليه وسلم .
وقوله-- رضي الله عنه - وأرضاه – "فكانت السنة ": هذه الجملة يستخدمها أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم في الآثار والأخبار المحفوظة عنهم واختلف علماء الأصول رحمهم الله في قول الصحابي من السنة والسنة كذا وكذا هل هو مرفوع إلى النبي صلى الله عليه وسلم أو هو موقوف ..؟؟
على وجهين مشهورين :(69/10)
فقال جمهور علماء الأصول رحمهم الله : إنه مرفوع لأن الصحابة لا يريدون إلا سنة النبي صلى الله عليه وسلم ولأنهم في زمانهم-رضي الله عنهم- لم تكن سنة يحتج بها في عهدهصلوات الله وسلامه عليه ولا من بعد عهده قبل استقرار سنن الخلفاء إلا سنة النبي صلى الله عليه وسلم .
وخالف الظاهريه رحمهم الله فقالوا : إن الصحابي إذا قال من السنة كذا لا يعتبر مرفوعاً لاحتمال أن يظن الصحابي ما ليس بسنة سنة وهذا القول مرجوح.
والصحيح القول الأول لأن الصحابة-رضوان الله عليهم أجمعين- أعلم بمواطن التنزيل ودلالة الكلام والقيل فهم أعلم بالكلام ولحنه وما فيه من الدلائل خاصةً وأن هذه العبارة يستخدمها فحول الصحابة وأئمتهم وأهل الفتوى غالباً ، أضف إلى ذلك أنهم يذكرونها في مقام الاحتجاج والقاعدة : " أن الاحتجاج إنما يكون بسنة النبي صلى الله عليه وسلم بعد كتاب الله عز وجل " ، وعلى هذا فإنها جملة مقررة لهدي النبي صلى الله عليه وسلم .
وفي قوله" فكانت السنة في القطع إلى الكفين أو الكفين": فيها دليل على أن السارق إذا سرق وتوفرت الشروط المعتبرة للحكم بالجريمة للجناية فإنه يجب قطع كفه ولا يزاد على ذلك -وسيأتي إن شاء الله بيان هذه المسألة في كتاب الجنايات نسأل الله العظيم أن ييسر ذلك بمنه وكرمه- .
قال المصنف رحمه الله : بَاب مَا جَاءَ فِي الرَّجُلِ يَقْرَأُ الْقُرْآنَ عَلَى كُلِّ حَالٍ مَا لَمْ يَكُنْ جُنُباً
حَدَّثَنَا أَبُو سَعِيدٍ عَبْدُ اللَّهِ بْنِ سَعِيدٍ الأَشَجُّ حَدَّثَنَا حَفْصُ بْنُ غِيَاثٍ وَعُقْبَةُ بْنُ خَالِدٍ قَالاَ حَدَّثَنَا الأَعْمَشُ وَابْنُ أَبِي لَيْلَى عَنْ عَمْرِو بْنِ مُرَّةَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَلِمَةَ عَنْ عَلِيٍّ قَالَ :"كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يُقْرِئُنَا الْقُرْآنَ عَلَى كُلِّ حَالٍ مَا لَمْ يَكُنْ جُنُباً .(69/11)
قَالَ أَبو عِيسَى رحمه الله : حَدِيثُ عَلِيٍّ هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ وَبِهِ قَالَ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَالتَّابِعِينَ قَالُوا يَقْرَأُ الرَّجُلُ الْقُرْآنَ عَلَى غَيْرِ وُضُوءٍ وَلاَ يَقْرَأُ فِي الْمُصْحَفِ إِلاَّ وَهُوَ طَاهِرٌ وَبِهِ يَقُولُ سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ وَالشَّافِعِيُّ وَأَحْمَدُ وَإِسْحَقُ .
الشرح:
هذا الحديث رواه الإمام الأحمد في مسنده وأبو داود والنسائي وابن ماجة-رحمة الله على الجميع- وقد تقدم الكلام على ما فيه من الحكم وبيان مسألة قراءة الجنب لكتاب الله عز وجل في أبواب الحيض وقد ذكرنا هناك أن الحاكم والبغوي وابن السكن وابن دقيق العيد وغيرهم رحمهم الله يرون ثبوت هذا الحديث وفيه عبد الله بن سلمة الكوفي وكان قد اختلط في آخر عمره والرواية هنا عنه بعد الاختلاط وحاصل الحديث ما ذكرناه من أن الجنب لا يقرأ شيئاً من كتاب الله .
وأما قوله رحمه الله :" أنه إذا لم يكن متوضئاً يقرأ القرآن ": لأن الرواية عن علي رضي الله عنه وأرضاه في هذا الحديث الذي ذكره الترمذي فيها اختصار وقد جاءت في رواية السنن عنه -- رضي الله عنه - أرضاه- أنه قال كان النبي صلى الله عليه وسلم يقضي حاجته أي يبول أو يتغوط ثم يخرج فيقرئنا القرآن .(69/12)
وفي هذا دليل على الحدث الأصغر دون الأكبر ، وعلى هذا قال جماهير العلماء رحمهم الله يجوز للإنسان إذا لم يكن متوضئاً أن يقرأ القرآن ولا يمس المصحف وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم قرأ القرآن وعليه الحدث الأصغر ، وفي الصحيحين من حديث عبد الله بن عباس رضي الله عنه أنه لما بات عند خالته ميمونة -رضي الله عنها- قال فنام النبي صلى الله عليه وسلم حتى نفخ فلما كان الهوي من الليل قام فمسح النوم عن عينيه ثم قرأ الآيات من آخر سورة آل عمران :{ إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلاَفِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لآيَاتٍ لأُولِي الألباب}(1) فقرأهاصلوات الله وسلامه عليهحتى أتمها إلى آخر السورة ثم قال بأبي وأميصلوات الله وسلامه عليه:((ويل لمن قرأهن ولم يتعظ بهن)) ثم قام إلى شن فأفرغ على يديه فتوضأ فأسبغ الوضوء- صلوات الله وسلامه عليه- فكونه صلى الله عليه وسلم يوقع القراءة قبل الوضوء وذلك بعد استيقاظه من نومه يدل دلالةً واضحةً على أن المحدث حدثاً أصغر يجوز له أن يقرأ القرآن ، وهذا من رحمة الله عز وجل بعباده ؛ لأنه لو كان القرآن لا يقرؤه المحدث حدثاً أصغر لفات على الناس خير كثير ولكن الله سبحانه وتعالى وسع على عباده .(69/13)
وأما نسبة الإمام الترمذي إلى بعض أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم القول بأن مس المصحف لا يكون لغير المتوضئ فذلك مبني على كتاب النبي صلى الله عليه وسلم لعمرو بن حزم وفيه :(( أن لا يمس القرآن إلا طاهر)) وهذا الكتاب كما قرر جمع من الأئمة كالحافظ ابن عبدالبر وشيخ الإسلام ابن تيمية والإمام ابن القيم -رحمة الله على الجميع-كتاب تلقته الأمة بالقبول فهو صحيح المتن ، وكونه يقول :(( لا يمس القرآن إلا طاهر)) المراد به المتوضئ لأن النبي صلى الله عليه وسلم لما أحدث الحدث الأصغر نفى الطهارة عن نفسه كما في الحديث الصحيح :" أن النبي صلى الله عليه وسلم أتى من نحو بئر جمل ثم سلم عليه رجل فلم يرد عليه السلام حتى أقبل على الحائط وضرب بيديه وتيمم ثم رد السلام وقال :(( إني كنت على غير طهارة فكرهت أن أذكر الله )) فدل هذا على أن المحدث حدثاً أصغر يوصف بكونه غير متطهر ، وقوله عليه الصلاة والسلام :(( إن المؤمن لا ينجس)) لا يعارض قوله :(( لا يمس القرآن إلاطاهر)) لأنه يجوز أن تقول للإنسان المسلم والمؤمن هو على غير طهارة فإذا تطهر تقول إنه متطهر ، فنفي الطهارة لا يستلزم النجاسة كما لا يخفى ولذلك بين النبي صلى الله عليه وسلم انتفاء الطهارة في الحدث الأكبر فقال صلى الله عليه وسلم لأم سلمة حينما سألته فقالت :" إني امرأة أشد ظفر شعر رأسي أفأنقضه إذا اغتسلت من الجنابة؟" قال:(( لا إنما يكفيك أن تحثى على رأسك ثلاث حثيات ثم تفيضين الماء على جسدك فإذا أنت قد طهرت)) فدل قوله :(( فإذا أنت قد طهرت)) أي الطهارة الكبرى فدل على أن المسلم يوصف بكونه غير متطهر إذا كان متلبساً بالحدث الأصغر أو الأكبر ، وعليه فقوله :(( أن لا يمس القرآن إلا طاهر)) لا يعارض قوله :(( إن المؤمن لا ينجس )) للفرق بينهما كما ذكرنا ، وقد جاء عن أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ما يدل دلالةً واضحةً على اشتراط(69/14)
الطهارة لمس المصحف ، وقد روى مالك في موطئه عن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه وأرضاه أنه جلس بين يديه أحد أبنائه يقرأ القرآن عليه من المصحف قال: فتحككت فقال : أي بني لعلك لمستْ ؟ قلت: نعم ، قال: قم فتوضأ. فأمره أن يتوضأ لأنه إذا أحدث بمس الذكر فإن وضوءه يعتبر فاسداً وعليه أن يعيد الوضوء ، ومن هنا قال جمهور العلماء باشتراك الطهارة لمس القرآن .
وقوله في الرواية المفصلة:" كان يقرئنا القرآن ": هذا يدل على حرص النبي صلى الله عليه وسلم على تعليم الصحابة وتوجيههم وأنهم تلقوا كتاب الله عز وجل من فمهصلوات الله وسلامه عليه وهذا هو المحفوظ الذي تلقته الأمة كافة عن كافة فهذا الكتاب الذي بين أيدينا حفظه أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم من رسول الأمةصلوات الله وسلامه عليه وحفظهصلوات الله وسلامه عليهمن جبريل وتلقاه عنه :{ نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الأَمِينُ - عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنْ الْمُنذِرِينَ - بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ}(1) ، ولذلك قال العلماء رحمهم الله القراءة سنة متبعة لا تؤخذ إلا من أفواه الرجال فكان صلى الله عليه وسلم يقرئ الصحابة كتاب الله ، وهذه القراءة لها حقوقها وواجباتها لأنها باللسان العربي المبين فينبغي أن يحفظ المسلم هذا الوجه ، وقد حفظه علماء الأمة وراعوا ضبط كتاب الله في العلم المخصوص الذي يعرف بعلم التجويد فهذا العلم تلقاه أئمة القراءة بعضهم عن بعض ، وكثير منهم له سنده المتصل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأهل القرآن من القراء هم من خيار أمة محمد صلى الله عليه وسلم لأنهم حفظوا كتاب الله بالرواية الصحيحة المحفوظة المنضبطة ، على خلاف قراءة الإنسان من القرآن مباشرة لأنها قراءة إجادة وفي القرآن ضوابط معينة ينبغي للمسلم أن يحفظ بها حقوق التلاوة ، ولذلك لا يمكن للمسلم أن يقرأ القراءة الصحيحة إلا بالرواية ، وكونه يقرأ من القرآن(69/15)
مباشرة دون أن يصحح لسانه في الحروف وكيفية مخارجها فإنه لا يأمن من الخطأ والزلل ، ولذلك جاء في التجويد أحكام معينة مخصوصة فالتنوين زيادة للنون والإخفاء إخفاء له ، ومع ذلك هذه الضوابط لايمكن للإنسان أن يستقيم بها لسانه إلا إذا ضبطها عن الأئمة ، وقد عرف المسلمون ذلك في الأزمنة الماضية فكانوا يأخذون كتاب الله بالرواية ومن قرأ تراجم العلماء والأئمة وجدهم يحفظون القرآن بالتلقي والمشافهة لأن في القرآن مواطن مخصوصة ينبغي للمسلم أن يحسن ضبطها وإخراج الحروف فيها ، وهناك روايات مختلفة لحروف المصاحف وكل هذا منضبط محفوظ ، وكون بعض الناشئة من الجهال -أصلحهم الله- يطعنون في أئمة القراءة ويحقرون من علم التجويد الذي يضبط به كتاب الله عز وجل فإنه جهل عظيم ومن جهل شيئاً عاداه فإن هذا الأمر كان معروفاً في اللسان بالتلقي ، ولذلك قد يحذف الحرف من القرآن أتباعاً للرواية كما في قوله سبحانه وتعالى قال:{ يَابُنَيَّ ارْكَبْ مَعَنَا}(1) فإنه يقول اركب معنا ولا يظهر الباء ويقول اركب منها في رواية حفص عن عاصم كما هو معلوم ، ولو قرأ القرآن على ظاهره فإنه قد يقرأ الحروف المقطعة على غير وجه صحيح ، ولذلك إذا نطق بها تارة تنطق كأنها موصولاً كقوله سبحانه وتعالى :{يس}(2) وتارة تفصل فيقال:{ الم}(3) وكل ذلك إنما ضبطته الأمة بالرواية ، وأما مبالغة القراء ومبالغة بعض من يتقن التجويد في التجويد والتنطع في علم التجويد إلى درجة يبالغ الإنسان فيها في صفات الحروف ويصبح يقرأ القرآن لا هم له إلا أن يفخم هذا ويرقق هذا على وجه فيه التنطع والتكلف فإنه مذموم أيضاً ؛ لأنه من التنطع الذي عابه النبي صلى الله عليه وسلم والوسط هو العدل أن تنطق حروف كتاب الله عز وجل عربية بلسان فصيح يبين الحروف ويعطيها حقها من صفة لها ومستحقها بعيداً عن التكلف ، وكذلك بعيداً عن الإجحاف ، وإنها لنعمة من الله -- عز(69/16)
وجل -- أن يحفظ المسلم كتاب ربه على من اتصل سنده إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فيلقى الله عز وجل بالرواية الصحيحة لكتابه وهي نعمة من الله عز وجل أنعم بها على أهل القرآن ، وهذا يدل في قوله" يقرئنا القرآن " والقراءة من رسول الله صلى الله عليه وسلم لأصحابه كانت على وجوه فكان يقرئهم القرآن ليكي يعلموا بنزول الآيات سواء حفظوها أو لم يحفظوها فكان بعضهم يحفظ وبعضهم يترك وهذا مبني على تبليغ الرسالة وأداء الأمانة .
وتوضيح ذلك : أن الله يوحي إلى نبيه القرآن مفصلاً ونزل عليه صلوات الله وسلامه عليه منجماً فكان يقرأ الآية والآيتين والسورة كاملة وجزء السورة والجزء من أول السورة والجزء من آخر ها والجزء من أوسطها كل ذلك على حسب المناسبات والوقائع والحوادث ، فكان يقرئهم ذلك فتارة يقرئه على سبيل التحفيظ فيحفظ الصحابي ويتلقى القرآن من فمهصلوات الله وسلامه عليه غضاً طرياً كما نزل ، وكان من أشهر أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك أبي بن كعب وكان له فضل السبق ولذلك لما ارتج عليه صلى الله عليه وسلم قال:(( أفي الناس أبي بن كعب؟)).
وكذلك ثبت عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال لابن مسعود :(( اقرأ علي القرآن )) قال يارسول الله: أأقرؤه عليك وعليك أنزل ؟ قال :(( إني أحب أن أسمعه من غيري )) فسمعه من فم عبد الله بن مسعود تشريفاً له وتكريماً ، ولذلك لما مر عليه وهو قائم يصلي في جوف الليل في المسجد وسمعه يتلو القرآن وأعجبته التلاوة قال-صلوات الله سلامه عليه- :(( من أراد أن يقرأ القرآن غضاً طرياً كما نزل فليقرأه بقراءه ابن أم عبد )) فهذا يدل على تفاوت الصحابة-رضوان الله عليهم- في حفظ القرآن وضبطه .(69/17)
وأما بالنسبة للحالة الثانية في القراءة فكان صلى الله عليه وسلم إذا بين الآيات بين حلالها وحرامها ومحكمها ومنسوخها وكان يأمر بوضع الآيات في مواضعها فيقول ضعوا هذه الآية بعد آية كذا وكذا وقبل آية كذا وكذا ، فكان يقرئهم ببيان الأحكام مع الدلالة على مواضع الآيات من السور ، وهذا هو الذي كان يحفظ به الصحابة القرآن كما قال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه وأرضاه كنا لا نتجاوز عشر آيات حتى نعلمهن ونعلم حلالهن وحرامهن أي يتعلم ما فيها من الأحكام وكان يستوقف رسول الله صلى الله عليه وسلم ويسأله عن الآيات وكان يقول:" لوكنت أعلم أن رجلاً أعلم مني أي بشئ من القرآن تضرب له أكباد الإبل لخرجت إليه " وهذا يدل على فضله وعلمه بكتاب الله-رضي الله عنهم وأرضاهم وجعل أعالي الفردوس مسكنهم ومثواهم -.
-ونسأل الله العظيم رب العرش الكريم بأسمائه الحسنى وصفاته العلى أن يجعلنا من أهل القرآن الذين أحلوا حلاله وحرموا حرامه واتبعوا شرعه ونظامه نسأله أن يجعله ربيع قلوبنا ونور صدورنا وجلاء أحزاننا وذهاب همومنا وغمومنا وسائقنا وقائدنا إلى رضوانه وجناته جنات النعيم اللهم ذكرنا منه ما نسينا وعلمنا منهم ما جهلنا وارزقنا حلاوته وتلاوته وشفاعته برحمتك يا أرحم الراحمين -.
- ? - ? - ? - ? - الأسئلة - ? - ? - ? - ? -
السؤال الأول :
هل يشترط مراعاة الترتيب في التيمم وكذلك الموالاة ..؟؟
الجواب:
بسم الله الحمد لله والصلاة والسلام الأتمان الأكملان على خير خلق الله وعلى آله وصحبه ومن اهتدى بهداه أمابعد:
فاختلف العلماء رحمهم الله هل يجب على من تيمم أن يرتب بين الوجه واليدين أو لا يجب عليه ذلك ؟(69/18)
فقال الحنابلة والشافعية : بالوجوب وذلك لأن الله سبحانه وتعالى قال:{ فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ}(1) فذكر اليد بعد الوجه وقد قال في آية الوضوء :{ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ }(1) فدل هذا على وجوب الترتيب ولأن النبي صلى الله عليه وسلم قال إنما كان يكفيك أن تقول بيديك هكذا وقدم الوجه على اليدين فدل هذا على وجوب الترتيب بين الوجه واليدين وعليه فلا يصح أن يقدم اليدين على الوجه ، والله تعالى أعلم .
السؤال الثاني :
هل من السنة أن يسمي من أراد التيمم ..؟؟
الجواب:
نص طائفة من الفقهاء رحمهم الله على مشروعية التسمية عند بداية التيمم ولم يحفظ في ذلك دليل ، لكنهم يقولون إن التيمم بدل عن الوضوء والنبي صلى الله عليه وسلم قال:(( لا وضوء لمن لم يذكر اسم الله عليه )) فكونه يكون في الوضوء على صفة الكمال ، أو يكون فرضاً كما هو قول بعض العلماء -أعني التسمية- كونها فرضاً في الوضوء أو فضلاً كما يقول الجمهور خلافاً للحنابلة فإن هذا يدل على مشروعية التسمية في الوضوء على كلا الوجهين والتيمم بدل عن الوضوء ، والقاعدة :" أن البدل يأخذ حكم مبدله " ولأنها طهارة واسم الله عز وجل مبارك على مبارك وفيه خير فقالوا يشرع له أن يسمي ونص على ذلك طائفة في مذاهب الأربعة على أنه تسن التسمية ولا تجب ، والله تعالى أعلم .
السؤال الثالث :
هلا تفضلتم بذكر مسألة فاقد الطهورين ..؟؟
الجواب :
مسألة فاقد الطهورين أولاً ما هي صورتها ؟ و ما هو القول الراجح فيها ودليله ؟
مسألة فاقد الطهورين صورتها تأتي على أضرب :(69/19)
الضرب الأول : أن يكون بموضع ليس فيه ماء ولا تراب وهذا مثل الرجل الذي يكون في مكان لا يتيسر له وجود الماء ولا يتيسر له فيه وجود التراب ، ففي هذه الحالة يكون فاقداً للماء لعدم وجوده وفاقداً للتراب لأن الموضع الذي عليه أو ليس بالتراب بل حتى على ماصعد على وجه الأرض كأن يكون في مكان مسجون فيه ويكون مثلاً من الخشب كبيت من الخشب فإن أرضه من الخشب ولا يستطيع الخروج منه فليس عنده ماء وليس عنده تراب أو صعيد طيب مما صعد على وجه الأرض ففي هذه الحالة يكون في حكم فاقد الطهورين .
كذلك أيضاً في حكم فاقد الطهورين من ربطت يداه وكانت خلف ظهره أو كتف من أمامه وليس تحته تراب ولا يمكنه أن يتقلب إلى جهة التراب كأن يربط وهو قاعد فلا يستطيع أن ينحني ويقترب من الأرض وعليه فلا يتمكن من الماء ولا يتمكن من التراب أو من الصعيد الطيب فيكون في حكم فاقد الطهورين .
كذلك أيضاً من صور هذه المسألة ذكرها بعض العلماء أن يكون الإنسان فاراً من عدو ولا يستطيع أن ينزل لا يتوضأ ولا يستطيع أن يتيمم فحينئذ يكون في حكم من فقد الماء والتراب .
كذلك من صور هذه المسألة إذا ركب السفينة وكان في بحر ولا يستطيع أن يغترف الماء ولا يجد في داخل السفينة تراباً أو صعيداً ففي جميع هذه الأحوال تكون مسألة فاقد الطهورين واختلف العلماء رحمهم الله فيها على أقوال:
القول الأول : لا يصلي من فقد الطهورين لا يصلي وعليه القضاء فيرون أنه ينتظر إلى أن يجد الماء أو يجد الصعيد ويتيمم ويصلي .
والقول الثاني : عكس هذا القول أنه يصلي ولا يعيد .
والقول الثالث : أنه يجمع بين الصلاة وبين الإعادة .
والقول الرابع : لا يصلي ولا يعيد هذه أربعة أقوال للعلماء .(69/20)
القول الأول : مثلاً نقول من جمع بينهما يقول يصلي لأنه مأمور بفعل الصلاة والصلاة لا تصح بدون الوضوء ولا بدون التيمم فعليه الفعل لأنه يمكنه ويسقط عنه التيمم والوضوء ، فإذا فعل الفعل لم يصح فعله لأنه على غير وضوء وطهارة فيلزم بالإعادة إذا وجد الماء أو الصعيد هذا القول الأول يصلي ويعيد ، وعلى هذا ألزموه بالفعل لأنه قادر على الفعل وألزموه بالإعادة لأن الطهارة شرط في صحة الصلاة.
والقول الثاني : أنه لا يصلي ولا يعيد قالوا لا يصلي لأن الله لايقبل صلاة أحدكم إذا أحدث حتى يتوضأ كما نص على ذلك النبي صلى الله عليه وسلم ، ولا تلزمه الإعادة لأنه خرج عليه الوقت ولم يطالب بالصلاة لأنه ليس عنده طهارة الصلاة حتى يكون مخاطب بها وملزم بها فإذا خرج الوقت لم يتيسر له ذلك فلا إعادة عليه.
والقول الثالث : أنه يصلي على حالته ولا تلزمه الإعادة وهذا هو أصح الأقوال أن من فقد الماء والصعيد يصلي على حالته ولا تلزمه الإعادة لما ثبت في السنن عن النبي صلى الله عليه وسلم في قصة عائشة-رضي الله عنها-أنه خرج- عليه الصلاة والسلام - إلى الغزو ولما كان بذات الجيش وهو المنبسط الذي بعد ميقات ذي الحليفة الموجود الآن الذي يسمى بأبيار علي بعده يأتي منبسط في طريق الذاهب إلى مكة وهو منبسط فسيح هذا المنبسط يسمى بذات الجيش أناخ صلى الله عليه وسلم في هذا المكان فسقط عقد عائشة-رضي الله عنها- فبرك البعير عليه ثم لما افتقد هذا العقد أرسل النبي صلى الله عليه وسلم في طلبه الصحابة ، وكان التيمم لم تنزل آيته بعد فطلبوا العقد فحضرتهم الصلاة وليس عندهم ماء فصلوا على حالتهم بدون ماء وبدون تيمم فلما رجعوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يأمرهم بالإعادة فدل هذا على أن من فقد الماء والصعيد أنه يصلي على حالته ولا تلزمه الإعادة .(69/21)
وأما من قال يعيد ولا يصلي هو لا يصلي في الوقت لأنه ليس بمتطهر وتلزمه الإعادة لقوله عليه الصلاة والسلام :(( فإذا وجد الماء فليتق الله وليمسه بشرته )) فيلزم بإعادة الصلاة وأصح الأقوال أنه يصلي ولا تلزمه الإعادة ، والله تعالى أعلم .
السؤال الرابع :
عند إمرار اليد على اليد في التيمم هل تكون أصابع اليدين على صفة المنفرجة أم مجتمعة ..؟؟
الجواب :
بسم الله الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن الاه أمابعد :
فإن النبي صلى الله عليه وسلم مسح على ظاهر كفيه ، وعلى هذا فإن المسح يستغرق ظاهر الكفين على ظاهر الحديث الوارد عن النبي صلى الله عليه وسلم ، وأما تفريق الأصابع فإنه حفظ عنه- عليه الصلاة والسلام - في الرواية وذلك في مسحه على الخفين وفرق بين مسح الخفين ومسح اليدين كما لا يخفى وذلك أن مسح الخفين على بدل في الموضع ومسح التيمم أصل في الموضع ، والله تعالى أعلم .
السؤال الخامس :
هلا تفضلتم بشحذ الهمم إلى التبكير بصلاة الجمعة ..؟؟
الجوب:
يوم الجمعة يوم مبارك فيه خلق آدم وفيه أدخل الجنة وفيه أهبط منها وفيه تاب الله عليه وهو خير أيام الأسبوع وخير أيام الأسبوع يوم الجمعة كما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم في الصحيح ، هذا اليوم فيه تقوم الساعة وما من دابة تصبح يوم الجمعة إلا وهي مصيخة أي ملقية بسمعها إلا الجن والإنس ، والله-تعالى-شرف هذه الأمة وفضلها ورفع قدرها وعظم ثوابها حينما دلها على هذا اليوم الذي أضل عنه من قبلها فاليهود من بعدنا في يوم السبت والنصارى من بعدهم في يوم الأحد أضل الله من قبلنا وهدانا بفضله ورحمته بنا فالحمد لله الذي هدانا لهذا وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله ، اللهم لك الحمد على فضلك ولك الشكر على منك وكرمك .(69/22)
هذا اليوم المبارك ينبغي للمسلم أن يجد ويجتهد فيه بفعل ما أوجب الله عليه من التبكير بالصلوات وأدائها على الوجه الذي يرضي الله سبحانه وتعالى فإنك لا تدري كم جمعة تعيش والمؤمن إذا أصبح في يوم الجمعة فليحمدالله أن الله بلغه يوماً إما حجة له أو حجة عليه ، أعظم الناس أجراً في الجمعة من بكرَّ وابتكر ومشى ولم يركب ولم يفرق بين اثنين ودنا وأنصت وحضر قلبه بذكر الله وتأثر بالمواعظ التي تدله على الله فخشع قلبه وبكت من خشية الله عيناه وأحس أنه المقصر المذنب المفرط ، وجعل يقلب نفسه يقلب النظر في نفسه ما الذي فعلت وما الذي أتيت يسأل الله عفوه وعافيته حتى ختم صلاته وهو يرجو رحمة الله ويخشى من عذاب الله ثم ينقلب إلى أهله منشرح الصدر بذكر ربه يريد أن يغير من حياته فيزداد في الخيرات والباقيات الصالحات مع سؤال وتلهف أن يحسن الله له الخاتمة عند الممات .(69/23)
أسعد الناس في يوم الجمعة من بكر إلى هذا الصلاة المباركة لله وفي الله لا رياء ولا سمعة يتمنى أنه قد صلاها ولم ترمقه عين ولم تسمع به أذن يريد ما عند الله سبحانه وتعالى فتبكر إلى الجمعة تحرص على الدنو من الإمام وكل كلمة تسمعها وتوقرها في قلبه فإن أعظم الناس مكانة عند الله سبحانه وتعالى من عمل بهذا الدين ، وليس بيننا وبين الله واسطة ما بيننا وبين الله إلا كتابه وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم وكتاب الله وسنة النبي صلى الله عليه وسلم جعله الله عز وجل كالآيات البينات في صدور الذين أوتوا العلم يبينون بها المحجة ويقيمون بها على العباد الحجة فاحرص رحمك الله على التبكير مجيباً لداعي الله قال صلى الله عليه وسلم :(( من راح في الساعة الأولى فكأنما قرب بدنة )) من نظر إلى الإبل وهي تنحر وجرب أن يرى بأم عينيه إذا نحر الجزور وفرق لحمه ووزع ذات اليمين والشمال كم يكون فيه من الأجر والثواب حرص على هذا الفضل ، أجر عظيم وخير كثير وما يدريك فلعل هذه الساعة التي تبكر به إليها تصيب رحمة الله فلا تشقى بعدها أبداً ، العبد قد تكون حسنة واحدة تدخله الجنة والله-تعالى- ذو فضل عظيم خاصةً إذا كثرت المشاغل وعظمت الشواغل وأصبح الإنسان ينهش من هاهنا وهاهنا من دنيا فاتنة وامرأة ملهية أو عيال أو مال أو غير ذلك من شئون الحياة حتى يصرف عن ذي العزة والجلال خاصة من كيد الشيطان .(69/24)
على المسلم أن يحرص يوم الجمعة أن يكون أسبق الناس إلى التبكير اللهم إلا أن يكون معذوراً لمرض فيه أو طهارة يريد أن يحقق شرطها على الصفة التي أمر الله عز وجل بها فهذا كما قال النبي صلى الله عليه وسلم مكتوب له أجره وحبسه العذر فإنه سبحانه وتعالى لا يضيع ثواب من غيب في قلبه حسن النية في العمل ، فليحرص المسلم على التبكير إلى يوم الجمعة وخاصةً أهل العلم وطلاب العلم فإنهم قدوة للناس فإذا بكروا إلى يوم الجمعة فإنهم يصيبون رحمة الله عز وجل ، والله إن القلوب لتتقرح وتتألم حينما تأتي مبكراً إلى المساجد في يوم الجمعة فلا ترى إلا الضعفاء أو الفقراء وكان ينبغي أن يكون أسعد الناس وأحرص الناس على يوم الجمعة الأغنياء والأثرياء فتقول سبحان الله العظيم تجد الفقير والضعيف الذي قد لا يجد رزق يوم ومع ذلك يذهب ويمضي إلى الجمعة وقد ملأ الله قلبه بالانشراح والطمأنينة وتجد غنياً أشراً بطراً قد لا يأتي إلا في الركعة الثانية من الجمعة ، المحروم من حرم وعليك أن تعلم أن مكانتك عند الله عز وجل في الفرائض والنواهي فإن كنت في الفرائض تسبق إليها وكنت أول الناس إتياناً لها فأعلم أن الله يحبك ، وكان العلماء رحمهم الله إذا سئلوا عن مكانة الإنسان عند الله عز وجل يقولون فلينظر إلى الصلوات الخمس ولينظر إلى الجمعة والجماعات وكيف حرصه عليها وكيف يوفقه الله لتبكير لها فإذا وجدت الله سبحانه وتعالى يشرح صدره في مثل هذه الأعمال فاعلم أنه يريد بك خيراً فأحمده واشكره واسأله المزيد سبحانه وتعالى .(69/25)
فالمقصود على المسلم أن يبكر للجمعة وأن يحرص أن يكون أسبق الناس إليها إن الله يحب منك أن يراك في مكان لا يحب أن يفقدك فيه ويحب منك أن لا يراك في مكان يحب أن يفقدك فيه فهذا هو دليل التقوى أن لا يراك الله حيث يحب أن يفقدك ولا يفقدك حيث يحب أن يراك ، فالله يحب يوم الجمعة أن يراك مبكراً لأنك إذا بكرت إلى صلاة الجمعة كان هذا من دلائل إيمانك بالله سبحانه وتعالى وهو خير لك ، ولذلك يقول الله-تعالى-:{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِي لِلصَّلاَةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ}(1) لا تسعوا إلى تجارة ولا إلى بيع ولا إلى شراء ولا إلى زواج ولا إلى متاع ولا إلى أولاد ولا إلى أحفاد ولكن إلى ذكر الله ومن ذكر الله ذكره ومن ذكر الله كان الله له فإن الله يحب من ذكره{فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ}(2){ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ ذَلِكُمْ }(2) يقول بعض العلماء : إن الله قال :{ ذَلِكُمْ } ولم يقل ذلك فإن ذلك اسم إشارة للبعيد قالوا لعلو مرتبته وعظيم أجره ومنزلته قال:{ ذَلِكُمْ } ثم قال ذلكم بصيغة الجمع :{ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ } ولم يقل ذلكم الخير إنما جاء بصيغة النكرة التي تدل على أنه مستغرق في الخير فقال :{ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ}(3) ومن الذي يعلم ما أعد الله من الحسنات والدرجات والمغفرات.
- نسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يوفقنا لما يحب ويرضى وأن يجعلنا إلى طاعته من السابقين وأن لا يحرمنا فضله وهو أرحم الراحمين-.
وآخر دعوانا أن الحمد لله ربّ العالمين وصلّى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله وعلى آله وصحبه أجمعين .(69/26)
(
قال المصنف رحمه الله : " بَاب مَا جَاءَ فِي الْبَوْلِ يُصِيبُ الأَرْضَ "
حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي عُمَرَ وَسَعِيدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْمَخْزُومِيُّ قَالاَ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ عَنِ الزُّهْرِيِّ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ دَخَلَ أَعْرَابِيٌّ الْمَسْجِدَ وَالنَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم جَالِسٌ فَصَلَّى فَلَمَّا فَرَغَ قَالَ اللَّهُمَّ ارْحَمْنِي وَمُحَمَّدًا وَلاَ تَرْحَمْ مَعَنَا أَحَدًا فَالْتَفَتَ إِلَيْهِ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ:(( لَقَدْ تَحَجَّرْتَ وَاسِعاً)) فَلَمْ يَلْبَثْ أَنْ بَالَ فِي الْمَسْجِدِ فَأَسْرَعَ إِلَيْهِ النَّاسُ فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم :(( أَهْرِيقُوا عَلَيْهِ سَجْلاً مِنْ مَاءٍ أَوْ دَلْوًا مِنْ مَاءٍ)) ثُمَّ قَالَ:(( إِنَّمَا بُعِثْتُمْ مُيَسِّرِينَ وَلَمْ تُبْعَثُوا مُعَسِّرِينَ)).
قَالَ سَعِيدٌ قَالَ سُفْيَانُ وَحَدَّثَنِي يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ نَحْوَ هَذَا ، قَالَ وَفِي الْبَاب عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ وَابْنِ عَبَّاسٍ وَوَاثِلَةَ بْنِ الأَسْقَعِ .
قَالَ أَبو عِيسَى رحمه الله وَهَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ وَالْعَمَلُ عَلَى هَذَا عِنْدَ بَعْضِ أَهْلِ الْعِلْمِ وَهُوَ قَوْلُ أَحْمَدَ وَإِسْحَقَ وَقَدْ رَوَى يُونُسُ هَذَا الْحَدِيثَ عَنِ الزُّهْرِيِّ عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ .
آخر كتاب الوضوء.
الشرح:
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين أمابعد :(70/1)
فقد ترجم الإمام الحافظ أبوعيسى الترمذي - رحمه الله- بهذه الترجمة وهي متعلقة بكتاب الطهارة لأنها اشتملت على نوع من أنواع من الطهارة وهو طهارة الخبث ، وذلك أن المسلم مأمور إذا صلى أن تكون الأرض التي يصلي عليها طاهرة من النجاسة ؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم لماّ صلى في النعلين وأخبره جبريل-عليه السلام- بنجاستهما خلع صلوات الله وسلامه عليه النعلين ، ولذلك اتفق العلماء رحمهم الله على وجوب طهارة المكان وأنه لايجوز للمسلم أن يصلى على مكان يرى أنه نجس إلاَّ إذا كان ذلك على سبيل الضرورة ويستوي في ذلك أن يكون المكان نجساً بذاته كأن يبال على الموضع الذي يصلي عليه المسلم أو تكون النجاسة متعلقة بالفراش الذي يحول بين المصلي وبين الأرض فلا يجوزله أن يصلي على فراش نجس ، وهكذا الحكم بالنسبة للنعلين والخفين فلابد من طهارة الكل واتفقوا على إثمه إذا صلى على النجاسة وجمهور العلماء أن الصلاة لايحكم بصحتها إلا بطهارة المكان ؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم خلع النعلين وتكلف الإزالة وكل ذلك خوفاً من بطلان الصلاة وفسادها .
ثم ذكر رحمه الله حديث أنس بن مالك رضي الله عنه وأرضاه في قصة هذا الأعرابي .
قال رضي الله عنه :"دخل أعرابي المسجد " : هذا الأعرابي اختلف العلماء رحمهم الله في شخصه ..؟؟
فقال بعض العلماء : إنه ذو الخويصرة اليماني وكان أحد المبشرين بالجنة وذلك على رواية الدارقطني " أنه دخل ذو الخويصرة اليماني فصلى ركعتين .." الحديث ، وفيه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال للصحابة لماّ هموا به قال:(( دعوه عسى أن يكون من أهل الجنة )) ، ولذلك قالوا إن حديث الدارقطني هذا الشخص الذي فيه هو في حديث أنس بن مالك رضي الله عنه وقد تكلم العلماء علىحديث الدارقطني لأن فيه المعلا المالكي فقال بعض العلماء إنه مجهول .(70/2)
وقال بعض أهل العلم : إن هذا الرجل ذو الخويصرة التميمي وهذا الرجل-أعني ذا الخويصرة التميمي- ، هذا الرجل رأس من رؤوس الخوارج وهو الذي اعترض على النبي صلى الله عليه وسلم يوم حنين وكان من أسوأ الناس أدباً مع النبي صلى الله عليه وسلم وهو الذي قال حينما قسمت الغنائم وفضل رسول الله صلى الله عليه وسلم الناس قال"ماهذه قسمة أريد بها وجه الله " ، وقيل هو الذي قال للنبي صلى الله عليه وسلم "يامحمد اعدل " قال :(( ويحك من يعدل إذا لم أعدل)) فهم به عمر أن يقتله فقال له النبي صلى الله عليه وسلم :(( دعه فإنه سيخرج من ضِئْضِئِ هذا أقوام يقرؤون القرآن لا يجاوز حناجرهم يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية)) وهذا من معجزات النبي صلى الله عليه وسلم وقد كان ما أخبر به فكان رأساً من رؤوس الخوارج .
وقال بعض العلماء : إن هذا الرجل هو عيينة بن حصن بن الفازلي وقيل الأقرع بن حابس وكلا القولين ضعيف ، فالشاهد أن هذا الأعرابي دخل والنبي صلى الله عليه وسلم في المسجد .
وفي قوله في الرواية هنا"دخل أعرابي المسجد":لم يبين أنس-- رضي الله عنه - وأرضاه-المسجد وإطلاقه فقال :"دخل المسجد"وإذا أطلق المسجد في نصوص السنة فالمراد به مسجد النبي صلى الله عليه وسلم لأنه هو الذي كانت فيه الحوادث وكان مجلس النبي صلى الله عليه وسلم فيه فكانصلوات الله وسلامه عليه يجلس في المسجد أحياناً حتى لربما أتكأ فيه صلوات الله وسلامه عليه.(70/3)
فقوله رضي الله عنه "فصلى ركعتين":وهما ركعتا التحية لأن النبي صلى الله عليه وسلم أمر الداخل إلى المسجد أن يصلي ركعتين قال صلى الله عليه وسلم :(( إذا دخل أحدكم المسجد فليركع ركعتين)) وفي رواية : (( فلا يجلس حتى يصلي ركعتين )) وفي الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يخطب فرأى رجلاً فجلس فقال له النبي صلى الله عليه وسلم :(( قم فاركع ركعتين )) فكل هذه النصوص تدل دلالةً واضحةً على تأكد ركعتين للمسجد- أعني ركعتي التحية- ، وهاتان الركعتان مما فضل الله به المساجد و رفع قدرها ومنزلتها حيث لم يسو بينها وبين بقية المنازل فأمر بتحية المسجد تشريفاً للمساجد كما قال سبحانه وتعالى :{فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ}(1) فالله-- جل جلاله --قصد رفعة المسجد .
وأما بالنسبة للمصلى فإنه لايأخذ حكم المسجد من كل وجه إلا إذا كانت فيه بعض الصلوات المفروضة ، وقال بعض العلماء يصلى في المصلى إذا دخله المسلم يصلي ركعتين كالمسجد ؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم أعطى المصلى حكم المسجد فقالصلوات الله وسلامه عليه في حديث أم عطية مرفوعاً قالت :"أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نخرج العواتق وذوات الخدور والحيَّض "قال :(( أما الحيض فليعتزلن الصلاة)) وفي رواية :(( فليعتزلن المصلى)) قالوا فأعطى المصلى حكم المسجد فدل على أنه يصلى له تعظيماً لحرمته كالمسجد ، وقد أجيب بأن الرواية الأخرى وهي التي صرح في الصلاة تدل على أن المراد بذلك المنع من الصلاة لا من مكان المصلى .
وقوله رضي الله عنه "فلما فرغ": يحتمل وجهين :
الوجه الأول : يحتمل أن يكون مراده لماّ فرغ من التشهد دعا فوقع هذا الدعاء بعد الفراغ من التشهد وقبل السلام وحينئذ لايكون الحديث إلا برفع الصوت أي أنه دعا ورفع صوته فسمعه النبي صلى الله عليه وسلم يدعو بهذه الدعوة .(70/4)
والوجه الثاني : أن يكون المراد أنه لماّ فرغ من الركعتين فسلم وقضى صلاته دعا بهذه الدعوة وهذا هو الأقوى ، وبناءً على هذا الوجه الثاني يكون في الحديث دليل على أن من دعا بعد الفراغ من النافلة أنه لا ينكر عليه ؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم ينكر على هذا الصحابي دعاءه بعد أن فرغ من الركعتين ، وأجيب بأن هذا خلاف الأولى وأن الأفضل أن يدعو قبل السلام لأن الله عز وجل شرع للمصلي إذا انتهى من التشهد أن يدعو قال صلى الله عليه وسلم بعد الفراغ من التشهد:(( ثم ليتخير من المسألة ماشاء )) فدل على أن الأفضل أن يدعوا بعد التشهد وقبل السلام ، وذلك أن الدعاء داخل الصلاة أكمل وأفضل في حرمات الصلاة وهو واقفاً بين يدي الله-- جل جلاله --وذلك أرجى أن تجاب دعوته وأن تقبل مسألته ، ولذلك استحب العلماء –رحمهم الله-أن يدعو في هذا الموضع وألا يؤخر الدعاء إلى مابعد السلام .(70/5)
وقوله -- رضي الله عنه - وأرضاه-قال:"اللهم ارحمني ومحمداً ولا ترحم معنا أحداً ": الرحمة ضد العذاب وتطلق الرحمة بمعنى الهداية وتقول :اللهم ارحمني أي اهدني لأن أعظم الرحمة الرحمة التي يرحم الله بها عبده أن يهديه للإسلام وأن يطهر قلبه من عبادة الشرك والأوثان ، فتلك أعظم نعمة ينعم الله عز وجل بها على عبده وهي أعظم رحمة يرحم الله بها عباده في الدنيا والآخرة ، ومن هنا فسر بعض العلماء قوله سبحانه وتعالى :{وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ}(1) أي هداية لهمصلوات الله وسلامه عليه ، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم :(( أنا رحمة مهداة )) وتطلق الرحمة بمعنى الرفق أن يرفق الإنسان بغيره فيقال رحمه إذا ترفق به فأحسن إليه وأصلح حاله بعد السوء والشدة ، والله عز وجل وصف نفسه بأنه الرحيم وأن رحمته وسعت كل شئ كما قال سبحانه وتعالى :{وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ}(2) وهو أرحم الراحمين وخير الغافرين ، ولذلك قال هذا الصحابي "اللهم ارحمني "لعلمه بأن الرحمة من الله سبحانه وتعالى فإذا رحم العبد لن يستطع أحد أن يعذبه وإذا لطف الله بعبده لم يستطع أحد أن يصل إليه فلذلك قال: " اللهم ارحمني "سؤال من العبد للخالق سبحانه وتعالى وهذه الرحمة مطلقة .
قال :" اللهم ارحمني ومحمداً " : التقدير وارحم معي محمداً وهو النبي صلى الله عليه وسلم .(70/6)
وقوله : " ولاترحم معنا أحد " : هذا الدعاء وقع على سبيل الجهل من الصحابي فلم يكن على علم بعدم مشروعية هذا النوع من الدعاء ، ولذلك أنكره النبي صلى الله عليه وسلم وقال:(( لقد تحجرت واسعاً)) وقوله : (( تحجرت)) التحجير تفعيل من الحجر ، وأصل الحجر في لغة العرب المنع يقال حجره إذا منعه وحجر عليه إذا منعه من التصرف ومنه سمي الحُجر حجراً لأنه يمنع من طاف بالبيت أن يصل إلى ما بداخله ، وسمي العقل حَجراً كما قال سبحانه وتعالى :{هَلْ فِي ذَلِكَ قَسَمٌ لِذِي حِجْرٍ}(1) أي لذي عقل يمنعه من الأمور التي لا تليق ، فسموا العقل حجراً لأنه يحجر الإنسان ويعقله عما لا يحمد من الأمور فوصف بهذا المعنى فقيل له حَجر وقيل له عقل وقيل له نُهيه لأنه ينهى صاحبه كماقال سبحانه وتعالى :{إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لأُوْلِي النُّهَى }(2) أي لأولي العقول السليمة والبصائر المستنيرة.
وقولهصلوات الله وسلامه عليه: (( واسعاً )) : فيه دليل على سعة رحمة الله عز وجل وأنها لا تختص بمخلوق دون آخر ورحمة الله للعباد تنقسم إلى قسمين:
القسم الأول : وصفه العلماء بالرحمة العامة . والقسم الثاني : الرحمة الخاصة .
فأما ما كان من الرحمة لله عموم فإنه يشمل الخليقة جميعاً فلا يختص بمسلم دون كافر ، ولذلك رحم الله الخلق أجمعين فسخرلهم مافي السموات ومافي الأرض جميعاً منه وسخر لهم الشمس والقمر دائبين وسخر لهم الليل والنهار وآتاهم من النعم والخيرات وبسط لهم من الأرزاق التي وضعها في هذا الكون وقدر المقادير ويسر الأمور فجعل ذلك التيسير نقمة على الكافرين واستدراجاً للظالمين ، وجعله رحمة للمؤمنين وخيراً لأوليائه المتقين ليهلك من هلك عن بينة والله سبحانه وتعالى يرحم بالرحمة العامة جميع خلقه حتى تشمل البهائم وغيرها .(70/7)
وأما الرحمة الخاصة : فهي الهداية للإسلام والإنعام على العبد بصلاح قوله وعمله حتى يكون من السعداء وترفع منزلته يوم القيامة مع الصالحين الأتقياء ، فهذه رحمة خاصة أعطاها الله لمن يشاء :{ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ}(1) {يَحْكُمُ لاَ مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ وَهُوَ سَرِيعُ الْحِسَابِ }(2) فالمقصود أن النبي صلى الله عليه وسلم أنكر على هذا الرجل تخصيصه للرحمة به وبالنبي صلى الله عليه وسلم وهذا يدل على عمومها.
قال:(( فمالبث أن بال في المسجد)) وفي الرواية الأخرى:(( فذهب إلى طائفةٍ من المسجد )) :والطائفة هي الناحية فرفع ثوبه ليبول فصاح به الصحابة-رضوان الله عليهم- وفي بول هذا الصحابي بعد أن صلى مباشرة فيه دليل على أنه كان حاقناً للبول ، ومن هنا أخذ العلماء دليلاً على أن صلاة الحاقن صحيحة وأنه إذا لم يبلغ به الحقن غايته والكمال حتى يشوش عليه في الصلاة فلا يعقلها أن صلاته صحيحه ، وعليه حمل قولهصلوات الله وسلامه عليه:(( لاصلاة بحضرة طعام ، ولا وهو يدافعه الأخبثان)) أن المراد بقوله:(( لاصلاة )) أي كاملة كقولهصلوات الله وسلامه عليه:(( لا إيمان لمن لا أمانة له )) فكونه يبول بعد الصلاة مباشرة ينّبه على أنه كان حاقناً لأنه لايستعجل على هذا الوجه ولايقضي الحاجة قربياً من النبي صلى الله عليه وسلم والصحابة إلا إذا كان على هذا الوجه .
وقولهصلوات الله وسلامه عليه:(( لا تزرموه)) : في إنكار الصحابة على الرجل وهمهم به بعد أن رفع ثوبه ليبول فيه دليل على مشروعية إنكار المنكر بحضور الأفضل وفي هذه المسألة تفصيل :(70/8)
فإذا كان في المجلس من هو أعلم وأفضل فإنه يخول الأمر إليه رعاية للأدب والحرمة ، وإذا أنكر المسلم مع حضور من هو أفضل منه وكان الذي أنكر عليه لاشبهة فيه فإنه حينئذ لابأس ، ويخرجه بعض العلماء على القاعدة المعروفة " لا إيثار في القرب" فإنك إذا أنكرت كان الأجر لك وإذا أنكر غيرك كان الأجر له ، ومن هنا قالوا يبادر المسلم تحصيلاً للفضيلة ؛ ولكن بشرط ألا يكون للتأويل مساغ فيه فإن كان للتأويل فيه مساغ ترك الأمر للأفضل فيزجره على مايعتقده أو يتركه إن كان يعتقد الترك.
وقولهصلوات الله وسلامه عليه:(( لاتزرموه)) : فيه دليل على فائدة :
وهي أنه إذا تعارضت المفسدتان روعي أعظمهما ضرراً بارتكاب أخفهما .
وتوضيح هذه القاعدة من الحديث : أن هذا الصحابي لو منعه الصحابة وقطعوا عليه البول فإنه سيتضرر في بدنه وهذا الضرر قد لا يمكن إزالته إلا بصعوبة وقد تتعذر الإزالة لصعوبة العلاج وعدم ضمان الشفاء ونجاح الدواء ، وأما إذا بال في المسجد فإنها مفسدة وأمر محرم ويمكننا إزالة ذلك الضرر بصب الماء فصار البول أخف ضرراً من الإزرام فقدم النبي صلى الله عليه وسلم دفع الضرر على مضرة المسجد وذلك رعاية لحرمة المسلم وتعظيماً لأمره ، وقد عظم النبي صلى الله عليه وسلم دم المسلم على الكعبة كما في حديث ابن عباس-رضي الله عنهما وأرضاهما- ، ومن هنا قالوا قدم النبي صلى الله عليه وسلم الضرار بالإزرام على تضرر المسجد بالبول فيه ، وأخذ العلماء منه هذه القاعدة : " أنه يدفع الضرر الأعظم بارتكاب الضرر الأخف " وفرعوا على ذلك مسائل ومن أشهرها :(70/9)
أن مال اليتيم والأوقاف إذا خُشي فسادها ولم يمكن إزالة ذلك الفساد إلا بذهاب بعض المال فإنه يجوز إتلاف بعض المال إبقاء للعين والرقبة ، ومن هنا كسر الخضر وموسى-عليهما السلام- السفينة لأن ذلك يشتمل على إبقاء السفنية وسلامتها مع أن كسر اللوح مفسدة ولكنها صغيرةٍ يسيرةً في مقابل زوال الكل .
ومن هنا قدم النبي صلى الله عليه وسلم الإزرام على البول في المسجد فنهى أصحابه-رضوان الله عليهم-عن التشويش عليه حتى يقضي حاجته ، وفيه دليل على أنه لا يجوز البول في المسجد لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم ينكر على الصحابة الإنكار ؛ وإنما أمرهم أن يترفقوا به فدل على أن البول في المسجد حرام وقد أجمع العلماء رحمهم الله على عدم جواز البول في المسجد .
ولكن اختلفوا لو بال في إناء ثم أخرج البول خارج المسجد ..؟؟
فقال بعض العلماء : يجوز وهذا محله وجود الحاجة ، ومن هنا تتخرج المسألة المشهورة في زماننا من حمل الأكياس التي فيها البول إذا كان الإنسان قد احتاج إليها لعمليةٍ جراحية ونحو ذلك فإنه يستوجب عليه الأمر أن تكون معه في سائر أوقاته فإذا حضر الصلاة ربما حملها وربما كان معه السلس فيتقاطر منه البول وتصح صلاته فهل يجوز له دخول المسجد على هذا الوجه؟
فإذا قلنا بجواز البول في الوعاء جاز دخوله على هذا الوجه ، وأما إذا قيل بالمنع وعدم الجواز فإنه لا يجوز له الدخول ويتفرع على هذه المسألة مسألة المستحاضة :
فإن المرأة المستحاضة يجري معها الدم وهو ناقض للوضوء ونجس كالبول سواء بسواء فإذا كانت المرأة مستحاضة يجري معها الدم واحتاجت لدخول المسجد أو أرادت دخول المسجد من أجل الصلاة مع الجماعة وتوضأت في أول الوقت ثم دخلت واسترسل معها الدم في حفاظتها ونحو ذلك فهل يجوز لها ذلك أو لا..؟؟(70/10)
فإذا قيل إن المسجد محفوظ مصان عن الأذى فيجوز لها أن تصيب العبادة والخير والمسجد لايتضرر من هذا الوجه وهذا القول قوي وصحيح فلو قيل بالجواز فإنه وجيه من خلال ما ذكرناه أن مسفدة البول هي إتلاف المسجد وذلك بتنجيسه خاصةً إذا كان مكان البول لايظهر.
وفي كون النبي صلى الله عليه وسلم يمنع الصحابة من إزرام الصحابي فيه حكمة ثانية : وهي أن الأعرابي لو أزعجه الصحابة لخرج فتقاطر البول فنجس مواضع أخرى ولا يمكن حينئذ أن يستقصى المكان ويتحرى فيه إلا بصعوبة فأذن النبي صلى الله عليه وسلم أن يترك حتى يقضي بوله دفعاً للمشقة الأعظم .
قال رضي الله عنه وأرضاه فقال النبي صلى الله عليه وسلم :(( اهريقوا على بوله سجلاً من ماء)) : قولهصلوات الله وسلامه عليه :(( اهريقوا)) اهرق وأرق بمعنى والمراد بذلك صب الماء ؛ لكن التهراق والإهراق أبلغ فإنه يدل على الكثرة بخلاف الإراقة فإنها لا تلستزم الكثرة ؛ لأن" زيادة المبنى تقتضي زيادة المعنى" ومنه الحديث المشهور عن أم سلمة-رضي الله عنها وأرضاها-قالت كانت امرأة تُهراق الدماء على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم أي كانت مستحاضة يجري معها دم الاستحاضة بكثرة متفاحشه.
وقوله :(( اهريقوا على بوله سجلاً من ماء)) : السجل هو الدلو وقيل هو الدلو الكبير ، وفي هذا الأمر من رسول الله صلى الله عليه وسلم فوائد :
الفائدة الأولى : دلت هذه الجملة على أن الأرض تطهر بالصب- أعني صب الماء- وأن نشاف النجاسة وكونها أرضاً مشمسة يتبخر البول منها لايقتضي ذلك الطهارة وهذا هو مذهب جمهور العلماء رحمهم الله أن البول على الأرض لايطهرها إلا الماء .(70/11)
وقال الإمام أبوحنيفة والإمام محمد بن الحسن -رحمة الله على الجميع-قالا إن الأرض تتطهر إذا يبست فإذا باّل الرجل على المكان ثم نشف البول ويبس فإنه يحكم بطهارته واحتجوا بقوله عليه الصلاة والسلام :(( زكاة الأرض يبسها)) وهذا الحديث حديث ضعيف بل قال بعض العلماء : لا أصل له والعمل على هذا الحديث الصحيح أنه إذا وقع البول بمكان أن طهارته أن يصب على ذلك البول ماءً أكثر من البول .
الفائدة الثانية : فيه دليل على أن صب الماء على الأرض يطهرها من النجاسة سواءً كانت رطبة أوكانت يابسةً وسواء كانت رخوةً أو كانت صلبة والجمهور على أن مجرد الصب يكفي ، وقال بعض العلماء : لابد من الحفر وهو مذهب مرجوح لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يأمر الصحابة بحفر الأرض فدل على أن مجرد صب الماء يعتبر كافياً بالحكم بالطهارة.
الفائدة الثالثة : فيه دليل على أن النجاسة تطهر بمكاثرة الماء ؛ والسبب في ذلك أن قدر البول أقل من قدر الدلو فأمر النبي صلى الله عليه وسلم بصب الدلو لأن الدلو أكثر ، ومن هنا قالوا إذا صب الماء الكثير على النجاسة حتى ذهب بعينها فإنها تتطهر ، وقال بعض العلماء : إذا وقعت في الماء نجاسة ثم صببت على ذلك الماء ماءً طهوراً أكثر حتى غلب النجاسة وغلب الماء فإنه يحكم بطهورية الماء وهو مذهب صحيح مراعاة لهذا الحديث الذي معنا.
وفي هذا الحديث دليل على مسألة من مسائل الدعوة :(70/12)
وذلك في قولهصلوات الله وسلامه عليه:(( إنما بعثتم ميسرين ولم تبعثوا معسرين )) حيث بين النبي صلى الله عليه وسلم أن الأمة موصوفة بالبعث وإنما بعث الله الرسل مبشرين ومنذرين لئلا يكون للناس حجة على الله بعد الرسل ، والناس تبع لأنبيائهم-صلوات الله وسلامه عليهم-الأصل أن المسلم مأمور بحمل الرسالة والأمانة وتبليغ أمر الله وأمر رسوله -صلوات الله وسلامه على العباد-لتقام الحجة على الخليقة ، فكل فردٍ من هذه الأمة مأمور أن يحمل هموم الدعوة إلى الله وتبليغ رسالة الله وأداء أمانته إلى العباد وإذا فعل المسلم ذلك بأحد فقد أقام حجة الله على خلقه إلا أن هذا البعث وصف به النبي صلى الله عليه وسلم أمته وهو وصف نسبي ، فالبعث من الله مباشرة إنما يكون للرسل ثم بعد الرسل يقوم العلماء ثم من بعدهم طلاب العلم ثم من بعدهم عامة المسلمين فكل يجب عليه أن يؤدي أمر الله عز وجل وأن يقوم بحق الله بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وتحبيب عباد الله في دين الله وهدايتهم بإذن الله لكنه أمر نسبي كما ذكرنا فالمسؤولية الكاملة تقع على الرسل كما قال سبحانه وتعالى :{يَاأَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنْ النَّاسِ}(1) فأمر الله رسولهصلوات الله وسلامه عليهبالبلاغ ولما توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم حمل الصحابة-رضوان الله عليهم- هذه الأَمانة ثم بلغوها إلى من بعدهم وكان العلماء ولازالوا ورثة للأنبياء مأمورين ببيان الحق ودلالة الخلق وهدايتهم إلى الله بإذن الله سبحانه وتعالى .(70/13)
وأما العوام : فإنهم يدعون إلى دين الله على قدر علمهم فهناك أمور واضحة لاتفتقر إلى العلماء فالشرك بالله إذا وقع أمام المسلم فإنه ينكره سواءً كان عالماً أو جاهلاً ؛ لأنه أمر معلوم من الدين بالضرورة حرمته ولا يخفى على أحد فإذا وجد المسلم عابداً للوثن نصحه وذكره بالله عز وجل وبين له شركه وضلالته فإن لم يفعل فهو خصم له بين يدي الله عز وجل إن مرَّ عليه ولم ينكر ، وهكذا بالنسبة للأمور الأخرى كبر الوالدين وصلة الأرحام فإنه يعظ بها كل مسلم فلو رأى المسلم ابناً يعق أباه نصحه وذكره وحرج عليه أن يظلم أباه بالعقوق ، ولا يحتاج الأمر أن يقول هناك من هو أعلم منيَّ فهذه أمور واضحة ، كذلك شرب الخمر والزنا ونحو ذلك من المحرمات المعلومة فهذه ينكرها العلماء وغير العلماء أي ينصحون الغير ويذكرونه بالله عز وجل لأن حرمتها واضحة ؛ لكن ينبغي التنبيه على أن العامي إذاوعظ الناس في مثل هذا عليه أن يمسك لسانه بالخوض في أمور لا يعلمها كأن يضرب أمثاله ونحو ذلك من الأمور التي شاعت وذاعت عند بعض الجهال في زماننا حيث يقوم الرجل في المسجد وليس عنده العلم ويتكلم بالكلام كما شاء ويقول أتكلم بما فتح الله عليَّ فإذا فعل ذلك هلك وأهلك وضل وأضل قال صلى الله عليه وسلم :((حتى إذا لم يبق عالم اتخذ الناس رؤوساً جهالاً فسئلوا فأفتوا بغير علم فضلوا وأضلوا)) فليس معنى قولنا إن العوام يبينون الحق أن يقوم الرجل في الأماكن العامة ونحو ذلك لكي يخطب ويلقي الموعظة فمثل ذلك لايكون إلا لمن نَّور الله بصيرته وتسلح بسلاح العلم ؛ لأن مواجهة الناس والكلام أمام الناس صعب ولايستطيع كل أحد إلا من يسر الله له ذلك فإذا قام الجاهل أمام الناس لم يأمن من الزلل وأن يقع في الخطر ، ولذلك عليه أن ينكر في حدود علمه بكلام مختصر.(70/14)
وأما بالنسبة للعلماء وطلاب العلم : فالأمر في حقهم أعظم والمسؤولية على عواتقهم أكبر-نسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يسلمنا منها وأن يتجاوز عنا ويتوب علينا-فإنه من تأمل هذه الأمانة العظيمة والمسؤولية الجليلة الكريمة أشفق على نفسه ، ومن هنا يجب على المسلم دائماً أن يسأل الله المعونة في البلاغ وأن يسأل الله الهداية في حسن دلالة الناس على الخير فلا هادي إلا من هدى الله وهدى به ، وكون العلماء مأمورين بالبلاغ عليهم كذلك عليهم أن يتوخوا ما أشار النبي صلى الله عليه وسلم بقوله :(( إنما بعثتم ميسرين )) وهذا يدل على أن الشريعة شريعة يسر وليست بشريعة عسر ، ولذلك قالصلوات الله وسلامه عليهلمعاذ وأبي موسى رضي الله عن الجميع :((يسرا ولاتعسرا وبشراً ولاتنفراً )) فدل على أن الشريعة شريعة يسر وقد أراد الله بأمة محمدصلوات الله وسلامه عليهأراد الله بها اليسر كما قال سبحانه وتعالى :{يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمْ الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمْ الْعُسْرَ}(1) واليسر يكون في الأقوال وفي الأفعال وفي فكر الإنسان ومنهجه فالشريعة كاملة اليسر فهي يسر في الاعتقاد ويسر في الأقوال ويسر في الأفعال ، فما أمر الله فيها بأمر إلا وفيه يسر بالعباد ورحمة ، ومانهى الله عن نهي إلا وكان متضمناً لليسر للعباد في الدين والدينا والآخرة فالحمد الله الذي هدانا لهذا وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله .
-ونسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يعصمنا من الزلل وأن يوفقنا لصواب القول والعمل ، وأن يجعل ما وهبنا من نعمة العلم حجة لنا في الدنيا والآخرة ، ونعوذ بوجهه الكريم أن يكون حجة علينا في الدنيا أو في الآخرة - ، والله تعالى أعلم .
????????? الأسئلة ?????????
السؤال الأول :
ماهو الضابط بالنسبة للمسجد والمصلى وأحكام كلٍ منهما..؟؟ وهل الغرف الداخلة في بناء المسجد تأخذ حكمه..؟؟
الجواب:(70/15)
بسم الله الحمدلله والصلاة والسلام الأتمان الأكملان على خير خلق الله وعلى آله وصحبه ومن والاه أمابعد :
أما المسجد فإنه يحكم به إذا أوقفه الإنسان وبنى مكانه وحدده للصلاة فيه ، أو جعل عليه حداً وأذن للناس أن يصلوا فيه ، ولذلك يعتبر العلماء الوقفية تكون بالأقوال وتكون بالأفعال .
فأما الوقفية بالقول أن يقول أوقفت داري هذه صدقة للفقراء ، والوقفية بالفعل أن يفتح أبواب المسجد وأن يأذن للناس بالصلاة فيه وهكذا لو أخرج صنبور الماء من البيت وجعل الماء البارد فيه وجعل الكأس والكيزان دل هذا دلالة الفعل على الإذن بالصدقة .
فإذا بنى المسلم المسجد وهيأه للصلاة فيه أوفتح أبوابه لكي يصلي فيه الناس فقد خرج عن ملكه وليس من حقه أن يقول هذا مسجدي ؛ لأن المسجد إذا أوقف كان لله عز وجل فبحكم المسجد أنه إذا فتحه الإنسان وأشرعه للناس خرج عن ملكيته بالكلية ؛ لكن له أن يشرف عليه له أن يتولى النظارة عليه إذا كان يريد أن يقوم على مصالح المسجد ، وعلى هذا فكل بناء حدد أو أرض كانت للإنسان فقال هي مسجد أووقفتها مسجداً فإنه تعتبر آخذة لحكم المسجد إذا حددت ومييزت بالبناء .
أما بالنسبة للمصلى فهو المكان الذي يهيئ للصلاة فيه وقد يكون في الصحراء ولا يكون عليه بناء ، والأرض في الأصل مسجد وطهور ؛ ولكنها تكون مصلى كأن يصلى فيها المرة في السنة أو المرتين كصلاة العيدين أو صلاة الاستسقاء أو نحو ذلك من الصلوات التي تصلى في المناسبات فهذا يوصف بكونه مصلى على خلاف المسجد الذي تصلى فيه الفروض .(70/16)
لكن يبقى السؤال لو أن المسجد تصلى فيه بعض الفروض دون بعضها وذلك كأن يصلى فيه مثلاً الظهر والعصر والمغرب والعشاء وهي أوقات دوام الناس كما هو الحال في مساجد الشركات والمؤسسات فهذه المواضع إذا بنيت وكان الباني لها قاصداً أنها وقف وقصد أنها تسبل إلى الأبد فإنها تأخذ حكم المسجد سواء صليت فيها الفروض كلها أو صلي فيها بعضها لأنه مامن مسجد من المساجد التي يصلى فيها غير الجمعة إلا وتترك فيها الصلاة في بعض الأحيان فيوم الجمعة تترك الصلاة في سائر المساجد إلا مساجد الجوامع ، وهذا لا يخرج المساجد التي تترك صلاة الجمعة فيها عن كونها مسجداً فترك الصلاة في بعض الأوقات في المسجد لايقتضي زوال الوقفية وزوال كونه مسجداً آخذ حكم الذي ذكرناه ، ولذلك لو تخلف -والعياذ بالله- أهل المسجد عن صلاة الفجر مثلاً ولم يصل فيه إلا الرجل أو الرجلان لا يخرجه عن كونه مسجداً فالتخلف عن بعض الفروض لايقتضي زوال الوقفية ولايقتضي رفع الوصف بكونه مسجداً.
أما المصلى فكما ذكرنا أنه يكون المصلى في الصحراء ويكون المصلى في الغرفة ويكون المصلى في البيت قال عتبان ابن مالك رضي الله عنه يارسول الله :"إني أحب أن تأتي إلى بيتي فتصلي فيه في مكانٍ أتخذه مصلى " فهذا يدل على أن المصلى هو المكان الذي يصلي فيه الإنسان وأن هذا لايوجب الحكم بكونه مسجداً فيلزم بتحية .(70/17)
أما مسألة الغرفة الأصل إذا بني المسجد وأوقف رجلاً مسجداً وأُريد بناء هذا المسجد أو تجديده فإنه لا يجوز التصرف في جميع أرض المسجد وينبغي بناء جميع الأرض ؛ لأنها مسبلة وموقوفة على المسجد ولا يجوز اقتطاع جزء منها لغرف أو غيرها وإنما تبقى وقفيتها كاملة للمسجد إلا إذا كان المسجد واسعاً وأفتى المفتي أو قضى القاضي بجواز إدخال بعض الغرف لمصلحة المسجد كأن تكون مخازن للفراش يخشى أن تسرق أو مخازن للأمتعة حتى يكون ذلك أرفق بالمسجد فهذا أمر مستثنى ويحتاج إلى إذن من القاضي أو المفتي على الأصل المقرر في الأوقاف ، أما من حيث الأصل فإن إحداث هذا الأرض والأرض مسبلة للصلاة فإذا سبلت للصلاة فإنها موقوفة على المسجد فلو أن إنساناً أراد أن يني مسجداً من جديد أو يحدث مسجداً واقتطع جزءاً من المسجد لبناء سكن للإمام أو سكن للمؤذن أو نحو ذلك فإن هذه القطعة تكون منفصلة عن المسجد ، أما لو بنى المسجد ثم بنى فوق سطح المسجد بناءً للسكن فهذا أمر لا يخلو من نظر ؛ والسبب في ذلك أن سقف المسجد آخذ حكم الأرض ، ولذلك أجازوا الطواف والسعي في الدور الثاني لأنه آخذ حكم الأرض ونص العلماء على هذا الحكم-أعني أن سقف المسجد آخذ حكم أسفله- أن المعتكف لوصعد إلى سطح المسجد لم يبطل اعتكافه لأنه دخل المسجد والدليل على هذا قوله عليه الصلاة والسلام :(( من ظلم قيد شبر من الأرض طوقه يوم القيامة من سبع أرضين)) فجعل أسفل الأرض كأعلاها وجعل الاغتصاب للأعلى اغتصاب للأسفل : (( وطوق من سبع أرضين)) وذلك على سبيل العقوبة فكان اكتساباً لليد لأنه ينتفع بالأعلى والأسفل معاً ، ومن هنا من ملك أرضاً وجاء أحد يؤذيه في سمائها حق له أن يعترض عليه لأنه يملك الأرض وسماءها وعليه قالوا إن سطح المسجد لايجعل من هذا الوجه محلاً للتجارة وهكذا أرضها السفلى لا يجوز أن تستحدث فيها الدكاكين لأنها أماكن لغط وأماكن بيع وشراء ، ورخص بعض العلماء في هذا ولكن(70/18)
الصحيح ماذكرناه أن أسفل المسجد وأعلاه آخذ حكمه وأنه لا يجوز إحداث هذه الأشياء في أسفل المسجد وفي أعلاه تعظيماً لحرمات المساجد .
أما من حيث الدخول للغرف الملحقة في المسجد أو المكتبة المبنية في جوار المسجد ولها باب يطل على المسجد فهذه لا يجب فيها تحية المسجد ولا يصلى فيها تحية المسجد وإنما يصلى في داخل المصلى أو داخل بناء المسجد ، وأما هذه الغرفة التي أعدت للمكتبة أو أعدت لحفظ الأثاث والفراش ونحو ذلك من مصالح المسجد فهذه لا تأخذ حكم المسجد ، والله تعالى أعلم .
السؤال الثاني :
إذا وضع غير الماء على النجاسات مثل المطهرات الصناعية فهل يكون المكان طاهراً ..؟؟
الجواب:(70/19)
الماء إذا خالطه الطاهر من المطهرات كالصابون والأشنان والتايد ونحو ذلك من المطهرات وأثر في لونه وطعمه ورائحته سلبه الطهورية وصار ماءً طاهراً لا طهوراً في قول جمهور العلماء رحمهم الله ، وعلى هذا فإنه لابد في تطهير البدن بالوضوء و الغسل أو تطهير المكان أن يطهر بالماء الطهور وهو الماء الطاهر في نفسه المطهر لغيره ، والماء الطهور هو الماء الباقي على أصل خلقته ويشمل ذلك مياه الآبار ومياه السيول ومياه الأنهار ومياه البحار ومياه العيون ، أما الدليل على أن الماء الباقي على أصل خلقته طهور فقوله سبحانه وتعالى :{وَأَنزَلْنَا مِنْ السَّمَاءِ مَاءً طَهُورًا}(1) فوصف الله عز وجل الماء الذي نزل من السماء بأنه طهور ، ثم وصف هذا الماء الذي نزل من السماء بهذا الوصف تنبيهاً على أنه طاهر في نفسه مطهر لغيره ، فهو إذا جرى على وجه الأرض باقٍ على أصل خلقته وتغير السيل بالطين لا يؤثر ؛ لأنه تغير بالمكان ، وتغير الماء بقراره لا يؤثر كرائحة القرب ورائحة المواصير والصنابير ونحوها هذه لاتؤثر لأنه يشق التحرز عنها ، وكذلك قلنا مياه الآبار والعيون ماء طهور والدليل على ذلك قوله سبحانه وتعالى في الماء الذي وصفه بالطهورية وهو ماء من السماء :{ فَأَسْكَنَّاهُ فِي الأَرْضِ وَإِنَّا عَلَى ذَهَابٍ بِهِ لَقَادِرُونَ}(2) فوصف الماء الطهور والنازل من السماء بأن الله وصفه-سبحانه-بأنه أسكنه في الأرض فدل على أن مياه العيون ومياه الأنهار ومياه الآبار التي تنبع من الأرض أو تنبع من الجبال أنها طهور وقوله-سبحانه-:{وَأَنزَلْنَا مِنْ السَّمَاءِ مَاءً طَهُورًا} لم يقل طاهراً ، وإنما قال طهور وطهور فعول في لغة العرب "وزيادة المبنى تدل على زيادة المعنى"والدليل على أن هناك فرقاً بين الماء الطهور والطاهر أن الصحابة كما في حديث أبي هريرة سألوا النبي صلى الله عليه وسلم عن ماء البحر ؟؟ فدل على أنهم كانوا(70/20)
لايتقبلون كل ماء ولو كان معروفاً في زمانهم أن كل ماء يتطهر به وكل ماء يتوضأ به لما سألوه هذا السؤال وإنما سألوه لمخالفة ماء البحر بتغير رائحته وتغير طعمه فدل على أن الماء إذا سلب الطهورية بتغير الماء باللون أو الطعم أنه يؤثر فأجابه النبي صلى الله عليه وسلم بقوله : (( هو الطهور ماؤه)) أي أن هذا التغير تغير بالقرار وهذا من جهة الرائحة ، وتغير بأصل خلقته وهذا من جهة الطعم من الملوحة ، وعلى هذا قال:(( هو الطهور ماؤه الحل ميتة )) فجعله باقياً على الأصل ، وعلى هذا فإنه ينبغي إذا طهر بماء أن يكون الماء طهوراً طاهراً في نفسه مطهراً لغيره لم يخالطه شئ من الطاهرات أو النجاسات التي تسلبه الطهورية ، والله تعالى أعلم.
السؤال الثالث :
هل يجوز لي الدعاء قبل السلام وبعد التشهد بأمرٍ من أمور الدنيا..؟؟
الجواب:
هذه المسألة اختلف العلماء رحمهم الله فيها وهي إذا صليت هل يجوز أن تسأل الله من أمور الدنيا ؟؟
كأن يسأل بيتاً أو قضاء الدين أو يسأل تيسر وظيفة أو عمل ، قال جمهور العلماء : يجوز ذلك لأن الله-تعالى- أذن على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم بالدعاء مطلقاً فقال صلى الله عليه وسلم :((ثم ليتخير من المسألة ماشاء)) فقال:(( ليتخير من المسألة)) أي الدعاء ماشاء هذا مطلق يشمل أي دعوة لم يقل إلا دعاء الدنيا .(70/21)
وقال بعض العلماء : وهو مذهب الحنابلة لايدعو بشئ دنيوي ؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال:(( إن هذه الصلاة لايصلح فيها شئ من كلام الناس)) ودعاء الدنيا من كلام الناس لأن دعاء الدين الذي هو من طاعة الله ومرضاة الله دعاء الدين، أما دعاء الدنيا فليس من دعاء الصلاة ولا من شأنها والصحيح مذهب الجمهور ؛ لأن قول النبي صلى الله عليه وسلم :(( إن هذه الصلاة لايصلح فيها شئ من كلام الناس )) المراد به الكلام الخارج عن معنى الصلاة ، وأما كونك تدعو بمسألة من الدنيا فهذا من الصلاة لأنك إذا دعوت فهي عبادة ومن دعا الله عز وجل بخير دين أو دنيا فقد عبد الله لأن الدعاء عبادة ، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم :((الدعاء هو العبادة)) ثم تلا قوله-تعالى-:{وَقَالَ رَبُّكُمْ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ}(1) فوصف الدعاء بكونه عبادة فأنت إذا دعوت بأمر دين أو أمر دنيا فقد عبدت الله والمقصود من الصلاة العبادة ، وعلى هذا يجوز لك أن تدعو بخير الدنيا فتسأل الله زوجة أو تسأل الله مالاً تعف به نفسك وتحفظ به ماء وجهك عن الناس وتسأل الله قضاء الدين وتسأل صلاح أمرك وعملك وتسأل الله عز وجل أي شئ من خير الدنيا والآخرة والله-جل وعلا-كريم وقد قال :{ وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِي}(2) ولم يفرق بين داع وآخر ؛ لكن المنبغي على المسلم أن يجعل الآخرة أكبر همه ومبلغ علمه وغاية رغبته وسؤله ، فلعل هذه اللحظة أو هذه الدقيقة التي تدعو فيها في آخر صلاتك توافق فيها باباً في السماء مفتوحاً فإذا انصرف همك إلى الآخرة وسألت الله عز وجل حسن الخاتمه وسألت الله أن يلطف بك في قبرك سألت الله عز وجل أن يلطف بك وأنت في حشرك سألت الله أن يثبتك على الصراط سألت الله أن(70/22)
يدخلك الجنة سألت الله لك ولوالديك من خير الآخرة فعندها طبت وطاب ما قلت ، وأصبت سعادة الدين والدنيا والآخرة ، فمن جعل الآخرة أكبر همه ومبلغ علمه وغاية رغبته وسؤله جعل الله الدنيا ذليلة بين يديه وجاءته صاغرة صغيرة حقيرة شاء الناس أو أبوا ، ولذلك تجد من كان كثير المسألة للآخرة ومتوجهاً إلى الله عز وجل أن يكفيه هم الآخرة تجده مكفياً هم الدنيا ، والله لوكان فقيراً مرقع الثياب فإنك تجد قلبه مليئاً بالغنى بالله سبحانه وتعالى ولو سألته وهو لايطعم إلا الكسرة اليابسة كيف حالك ؟ لقال لك : في نعمة عظيمة ، وإذا به يحس أن هذه الكسرة اليابسة التي يأكلها بالماء البارد إنها نعمة لايستطيع شكرها ، وهذا مما ملأ الله قلبه من القناعة ومما ملأ الله قلبه من هم الآخرة فالعبد الصالح يسأل الله الآخرة .(70/23)
ذكروا عن سليمان-عليه السلام-مرَّ على رجلٍ فقير فقال للفقير ماذا ترى ما أنا فيه - هذا من القصص الإسرائيلي الذي يحكى للعظة والعبرة كما قال صلى الله عليه وسلم :((حدثوا عن بني إسرائيل ولاحرج)) - فقال له ماذا ترى أي الذي أنا فيه ؟؟فقال يانبي الله: إن الدنيا بين يديك ولكنك تأكل وآكل وتشرب وأشرب إلا أنك تسأل ولا أسأل عن هذه النعم والخيرات التي أنت فيها .تسأل عنها وتحاسب بين يدي الله وأنا لا أسأل فأصبح كأنه في غنى عظيم ، العبد إذا جعل الآخرة أكبر همه ومبلغ علمه ملأ الله قلبه بالقناعة ، ومن هنا كان العلماء رحمهم الله يوصون بكثرة ذكر الآخرة ؛ لأن من أكثر من ذكر الآخرة هانت عليه الدينا وقل أن يسأل الله الدنيا ، ذكروا عن عطاء بن أبي رباح الإمام العظيم الذي كان علماً من أعلام المسلمين وديواناً من دواوين الفقه والدين صاحب ابن عباس رضي الله عنهما دخل سليمان بن عبدالملك البيت وطاف وسعى وكان معه عطاء وكان عطاء أيامها المرجع في العلم والفتوى يقول ابن خلكان "في وفيات الأعيان" حينما ذكر ترجمة عطاء رحمه الله وأثنى على علمه قال:"كان يصيح الصائح في الحج لايفتي الناس إلا عطاء " والناس في ذلك الزمان زمان التابعين فيهم الأئمة والعلماء ومع ذلك كان يصيح الصائح لايفتي الناس إلا عطاء فكان على علم وصلاح ، فقال له سليمان : يا عطاء سلني حاجتك وهو داخل المسجد الحرام ؟؟ فقال يا أمير المؤمنين : إني لأستحي أن أسأل أحداً في بيت الله عز وجل أستحي أن أسأل أحداً وأنا في بيت الله ، فلما خرج قال : ياعطاء ها قد خرجنا فسلني حاجتك ؟؟ قال : يا أمير المؤمنين حاجتي الآخرة !! فقال له : إني لا أملكها سلني عما أملك يعني الشئ الذي في يدي وهذا من فضل سليمان ولا شك أنه من فضله رحمه الله أن يسأل هذا العالم ، وكان العلماء يتحملون الديون ويتحملون الهموم لكثرة مشاكل الناس وشكواهم إليهم يتحملون أموراً عظيمة فكانوا يقضون(70/24)
دين العالم ويقومون على العلماء ويحسنون إليهم ، فقال له : سلني حاجتك قال من الآخرة قال: إني لا أملكها ، قال من الدنيا ؟ قال: سلني حاجتك من الدنيا ، قال: يا أمير المؤمنين إني لم أسألها ممن يملكها فأسألها ممن لا يملكها !! أي أنني ما دعوت الله أن يعطيني الدنيا ولاتضرعت إلى الله سبحانه وتعالى خوفاً من فتنة الدنيا فأسألها ممن يملكها ؟؟ وهذا يدل على أن العبد إذا ملأ الله قلبه قناعة بالآخرة وغنى بالله سبحانه وتعالى فوالله هو أغنى الناس قال صلى الله عليه وسلم :(( ليس الغنى عن كثرة العرض ألا إن الغنى غنى النفس )) فالشاهد إذا كان الإنسان في صلاته في سجوده بعد تشهده وهو بين يدي الله يستشعر أنه قد قضى فريضة الله سبحانه وتعالى وأنه في طاعة الله وفي مرضاة الله ويريد أن يسأل فليسأل الآخرة كما قال الله عز وجل :{وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا وَمَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنْ خَلاَقٍ}(1) أي ماله في الآخرة من نصيب ، يقول بعض العلماء : من جعل الآخرة غاية مبلغه تصبح جميع حوائجه الآخرة ودائماً لايسأل الله إلا الآخرة ، ومن كانت الدينا أكبر همه انصرف بكليته إلى الدنيا فيصبح لايسأل إلا الدنيا ولا يخاف إلا من ذهاب الدنيا حتى لا يبالي الله في أي أودية الدنيا هلك .
-نسأل الله السلامة والعافية ونسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يجعل الآخرة أكبر همنا ومبلغ علمنا وغاية رغبتنا وسؤلنا وألا يجعل إلى النار مصيرنا -، والله تعالىأعلم.
السؤال الرابع:
فضيلة الشيخ أحسن الله إليكم : هذا سائل يسأل مستشكلاً في سؤاله : في قول النبي صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث:((إنما بعثتم ميسرين)) فقد تعامل النبي صلى الله عليه وسلم مع الأعرابي بلين ورفق وتارةً يأتيه السائل وأنه طلق امرأته في حال حيضها فيغضب ويتغير وجهه .(70/25)
فالسؤال : متى يغلب المفتي جانب اللين ومتى يتفاعل مع السؤال ويبدي علامة الأسف والغضب مع أن كلا الأمرين نشأ عن معصية أو خطأ وهل هذه المسألة من مسائل شخصيات النبي صلى الله عليه وسلم أثابكم الله.. ؟؟
الجواب:
بسم الله الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه أمابعد :
أما بالنسبة لحديث ابن عمر أنه طلق امرأته وهي حائض فقد نزل القرآن وبين حكم الطلاق في الحيض قال:{ يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمْ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ}(1) وابن عمر-رضي الله عنهما-فصيح ويعرف دلالة المعاني وهو في مكان نزول الوحي في المدينة قد استقر له العلم ، بخلاف هذا الأعرابي الذي قدم إلى النبي صلى الله عليه وسلم فجميع من ذكر ذا الخويصرة اليماني ، ذو الخويصرة التميمي حرقوص بن زهير ، وكذلك أيضاً الأقرع بن حابس وعيينه كلهم ليسوا في المدينة وكلهم وافد على رسول الله صلى الله عليه وسلم ومثل هؤلاء تخفى عليهم الأحكام ، ولذلك يفرق بين الشخص الذي يكون على إلمام بالحكم ومعرفة بالحكم أو كان قريباً من ذلك أو يمكنه أن يأتي للعالم ويسأله ويقع في خطأ ويريد العالم أن يوبخه ويزجره أنه ماكان ينبغي أن يقدم على هذا الأمر حتى يسأله ويرجع إليه أو أنه لايعذر بجهله لمكان دلالة الآية وضوحاً على الحكم ، فكل هذا يقوى أن تظهر من المفتي أو من المجيب علامات التوبيخ وعلامات الزجر ، وقد يكون من المفتي في بعض الأحيان شدة وغلظة على السائل بل قد يكون السائل من أحب الناس إلى المفتي ومن أقرب الناس إلى المفتي ولكنه يفعل ذلك حكمةً وخوفاً عليه في رأيه أو خوفاً عليه في تصرفه ، ولذلك كنا نرى بعض العلماء رحمهم الله يزجرون أقرب الناس منهم وقد يزجروهم أمام الناس ولماّ يسألون عن ذلك يقولون لانقصد هذا ؛ وإنما نقصد زجر غيره فهو على ثقة على أن هذا الذي زجره أمام الناس أنه يتقبل زجر العالم ولايشك(70/26)
في محبة العالم له ولكن العوام والناس الآخرين الذين يرون تصرفه تصرفاً خاطئاً وهو أقرب الناس للعالم إذا رأوه تصرف بهذا يفعلون نفس التصرف ، فإذا زجر العالم أقرب الناس منه عند الإساءة أمام الناس هابت الناس العالم وهابت أهل العلم وانكفت وانجزرت عن الأمور التي لاتليق بحضرتهم سواء كانت بصيغة السؤال أو مضمون السؤال فهذا من حكمة العالم وهو أمر يرجع إلى الاجتهاد والتقدير والعلماء يقولون : أهل العلم ينقسمون إلى أقسام :(70/27)
فمن الناس من أعطاه الله علماً ولم يعطيه عقلاً ، ومنهم من أعطاه الله عقلاً ولم يعطه علماً ، ومنهم من أعطاه الله علماً أكثر من عقله ، ومنهم من أعطاه الله عقلاً أكثر من علمه ، ومنهم من جمع الله له بين الحسنيين ، فالعالم إذا جمع الله له بين نور العلم ونور العقل وأحسن التصرف فلم يكن عنيفاً شديداً منفراً ولم يكن ليناً يركبه الناس وتذهب هيبة العلم وحرمة العلم بسبب لينه وتساهله بسبب ضعفه ، هذا من الأمور المحمودة أن يكون وسطاً بين الإفراط والتفريط فقد كان صلى الله عليه وسلم يهابه أصحابه ويعرفون الأمر في وجهه ، وأمور الدين من حيث الأصل ينبغي أن تؤخذ بالحزم من حيث الأصل قال الله-تعالى-:{ إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلاً ثَقِيلاً}(1) ولذلك ماتبسم النبي صلى الله عليه وسلم ولاضحك بعد قوله سبحانه وتعالى :{وَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ}(2) مارؤى متبسماً إلا قليلاً صلوات الله وسلامه عليهالعالم إذا ملأ الله قلبه بالآخرة وشغله بالطاعة وفقه العلم الذي في صدره وأثر في قوله وعمله قلَّ أن تراه ضحكاً أو متبسماً إلا عند الموجب كأن يتألف الناس أو يتقرب إليهم وإلا في الأصل فأمور العلم على الحزم وعلى التوقير والإجلال ، ولذلك ماكان صلى الله عليه وسلم مغلباً لجانب الرحمة ولا مغلباً لجانب العنف وإنما وسطاً بينهمصلوات الله وسلامه عليهوغلضه وشده صلوات الله وسلامه عليهفي مسألة الطلاق تتضمن الأمرين:
تتضمن أولاً :كون الطلاق مكروها لأن الطلاق مكروه لما فيه من هدم البيوت وهدم الأسر ولايصار إليه إلا عند الحاجة.(70/28)
ثانياً: ثم إن هذا الطلاق خالف شرع الله عز وجل لأنه وقع في حال الحيض ، فهذه كلها أمور تقتضي المجيب أن يتفاعل مع السؤال ، ولذلك لو أن رجلاً جاء يسأل العالم أنه جامع امرأته في نهار رمضان ورأى العالم من السائل شيئاً من الانبساط وشيئاً من الارتياح وأنه لايستشعر ما الذي فعل ماذا يفعل العالم ؟؟ يفعل معه فعلاً يقرعه فيه ويوبخه فيه حتى يشعر بمقدار ما أساء ، أذكر ذات مرة قصة عجيبة للوالد-رحمة الله عليه -، -ذكرتها الآن في قضية التفاعل مع السائل - أذكر ذات مرة أنه جاءه رجل هو ابن صديق عزيز على الوالد فقام له الوالد وكان قد قدم من السفر فحياه وأجلسه وهذا في نهار رمضان فجلس مع الوالد فباسطه وكان الرجل شاباً فاقترب من الوالد رحمه الله وألقى في سمعه سؤالاً سراً بينه وبين الوالد رحمه الله فما كان من الوالد إلا وقد تغير وجهه وتمعر واشتد فقال:" بقوة من الذي فعل هذا ؟؟"فقال الرجل : أنا ، ما كان منه إلا أن قال له كلمة معروفة قال له : قم واقلب وجهك عني .كلمة ثقيلة جداً أمام الناس والآن قريب العهد قدومه من السفر ، والآن محي له ومكرماً له ، كانت لا تأخذه في الله لومة لائم والكل يجل في دين الله فلما قال هذه الكلمة قام الرجل وهو لا يدري أين يضع رجله كان هذا في الظهيرة بعد الظهر أمامي حتى رأيته يدعس على بعض النائمين في المسجد ؛ لأنهم كانوا ينامون في المسجد النبوي ورأيته بحالة سيئة جداً بعد صلاة المغرب لما أفطر الوالد وخرجنا من المسجد وهذه فائدة قلت له: ياشيخ قبل أن نصل إلى السيارة ونحن ذاهبون إليها قلت ياشيخ جاءك فلان وفعلت معه كذا وكذا كانت يده في يدي-رحمة الله عليه-وضغط على يدي وقال : يا بنُي لا تتبع عورات المسلمين هذا أمر لا يخُصك هذا شئ قاله في أذني سر وأجبته ، ومضت الأيام وذهبت فشاء الله بعد وفاة الوالد-رحمة الله عليه-أن اجتمع مع هذا الرجل في مجلس من المجالس فلما ذكر الوالد ترحم عليه وقال(70/29)
لقد حدثت لي مع الوالد حادثة ولا يدري أني كنت حاضراً فقال : حدث لي مع الوالد حادثة وهي أني يقول أنه أتى لامرأته وأصاب منها دون الجماع في نهار رمضان أولج فيها غير العضو فهذه المسألة مافيها بالنسبة للعلماء ليس فيها من كفارة لأن الكفارة على الجماع فالوالد-رحمة الله عليه- لو قال له ما فيها شئ ، الرجل شاب حديث العهد بالعرس وفيه نوع من الطيش يعني شاب فيه طيش قال : فلما قلتها للشيخ-رحمة الله عليه- قال لي كذا وكذا قال : فأظلمت عليَّ الدنيا حتى كرهت هذا الشئ وكرهت أن آتي زوجتي في رمضان أو أقترب منها يقول جاءتني صدمة شديدة يقول والله حتى عفت امرأتي ، قال : فأحسست أن الأمر عظيم جداً وأن الخطب كبير ، فلما رجعت إلى البيت اتصلت بأحد العلماء وأكثر من عالم قال أبداً ما فيها شئ فصرت لا أطمئن أسأل شيخاً وراء شيخ حتى استكثرت ، بعد فترة جئت في العيد أعايده وإذا بالأمر يسير تماماً إذا بالشيخ يحيينى وكذا ففهمت ما الذي يريد الشيخ-رحمة الله عليه-وهو أنه يريد زجره يعني لو كان قال له ما فيها شئ وهو قادم من سفر فحال انبساط وضحك أصبح الأمر يسيراً فاليوم قد يقع في هذا الشئ اليسير وغداً قد يقع في الحرمة .
العالم لابد له من حكمة والحكمة أن يضع الأمور في موضعها أن بتسم لوجه الله وابتغاء مرضاة الله وتألف الناس وكان موطأ الكنف فهي رحمة من الله يقذفها في قلوب عباده وإن كان أخذ الأمور بالحزم دون إفراط ولا غلو ولا شدة ولا تنفير فإن هذا يؤجر عليه لأن مراده أن يصان الشرع وأن يصان الدين .
-نسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يرزقنا السداد في القول والعمل-.
وآخر دعوانا أن الحمدلله رب العالمين وصلى الله وسلم على نبيه وآله وصحبه أجمعين.(70/30)