على ربها مع وجود هذه الفتن والمحن ، وقد تجدها لاتنظر إلى حرام ولا تسمع الآثام فتجل منها ذلك وتكبره ، فتقبل عليها بقلب يجلها ويحترمها ويقدرها ، وإذا احترمت الشيء وقدرته أحسنت المعاملة له ، انظر إلى أي إنسان في الدنيا تحترمه وتجله وتقدره أحسنت المعاملة معه ، لكن إذا جئت تنظر وأنك تنتظر كأمهات المؤمنين وأنت تنتظرها وكأنها صحابية وكأنها كاملة مكملة أحسست كل غلطة أنها وإن كانت صغيرة فهي كبيرة ؛ لأنها ملتزمة ؛ ولأنها دينة ، فتكون النظرات عكسية ، والأخطاء مكتوبة ومسجلة ومحفوظة ، ولكن الصدر إذا اتسع بالإحساس بأنها أمة من إماء الله ، وأن هذه الأمة ضعيفة تحتاج إلى عطفك إلى حنانك ، وقد أشار النبي صلى الله عليه وسلم إلى هذا المعنى : (( خيركم خيركم لأهله )) معناه أننا نحتاج إلى بذل الخير للأهل ، نحتاج إلى بذل الإحسان للزوجات ، فإذا دخلت إلى بيت الزوجية أول ما تبدأ بالحنان والعطف ، والرجل ينبغي أن يشعر المرأة بأنه يحبها ، ولو كانت نفسك جاءت من تعب ونصب تأتي إليها بما يدل على الحنان حتى ولو كان بتقبيلها فإن القبلة قربة عند الله عز وجل ؛ لأنها قبلة من حلال ، وتقصد بها إعفافها عن الحرام ، ثم تجبر خاطرها وتحسن إليها فقد تكون قد انتهت من عنائها وتعبها وقيامها بواجبها فتتلقاها بصدر منشرح ، والله يعلم أنك قدمت مهموماً مغموماً من هم العمل وتعبه ، ولكن ماتريد أن تضيق عليها ، ولا تريد أن تقتر عليها ، كان صلى الله عليه وسلم بأبي وأمي يدخل وقد حمل هموم الأمة يدخل إلى بيت الزوجية فيشعرهم بالحنان والمودة والإحسان والعطف-صلوات ربي وسلامه عليه- مع أنه قد حمل هموم الأمة ، فكيف بك وأنت تحمل بعض الهم ، فإذا دخلت إلى البيت تحس كأنك في عالم جديد غير العالم الذي كنت فيه ، ثم لا تدخل بهمومك ولا بمشاكلك فقد تكون هذه المرأة الضعيفة في هم بيتها وتعبها ونصبها أحوج ماتكون منك إلى العطف إلى الحنان(26/31)
إلى كلمة طيبة ، ثم إذا وجدت خيراً ذكرته وشكرته ، وإذا وجدت غير ذلك صبرت فما من زوج يقابل أذية المرأة وضيقها والإساءة إليها بالصبر إلا خلفه الله عز وجل في صبره ، وأحسن له العقابة في أجره فلذلك الوصية الجامعة أن تقرأ سيرة النبي صلى الله عليه وسلم ، وأن تتأمل كيف كان هذا النبي صلى الله عليه وسلم يأخذ أزواجه بالحنان والعطف ، الزوج هو كل شيء بعد الله عز وجل ، المرأة ضعيفة يكون منها النقص ويكون منها الخلل ، لكن الزوج هو كل شيء بعد الله عز وجل إن تلقي الأمور بالصبر صبره الله ، قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه :"وجدنا ألذ عيشنا بالصبر" ، والأئمة والعلماء والصلحاء أوذوا من زوجاتهم ، وأوذوا من أقرب الناس إليهم فصبروا فعوض الله صبرهم خيراً ، فلا ينبغي للملتزم والشاب المستقيم إذا وجد امرأة صالحة أن يعاملها بالضيق ، ينبغي أن تشعر ما هي فيه من الاستقامة ، والله إذا علم من قلبك أنك توسع عليها لما فيها من الخير وسع عليك ، وإذا كنت تحبها لما ترى فيها من الصلاح أصلح الله أمرك وأصلح شأنك ، فإن الله - - عز وجل - - أثنى على الصالحات فقال-سبحانه-:{فَالصَّالِحَاتُ قَانِتَاتٌ حَافِظَاتٌ لِلْغَيْبِ بِمَا حَفِظَ اللَّهُ}(1) أثنى عليهم من فوق سبع سموات ، والصالحة كما يقول العلماء : تختلف باختلاف الأزمنة ، فنحن لاننتظر مثل الصحابيات ، ولكن انظر إلى أخواتها ، وانظر إلى بيئتها ، وانظر إلى حالها وكيف خرجت من هذه البيئة ، وكيف خرجت من هذا المجتمع ، وكيف صبرت على طاعة ربها ، وحافظت على صلواتها ، وابتعدت عن الحرام وانظر إلى غيرها خراجة ولاجة وهي صابرة قابعة في بيتها.(26/32)
الوصية الأخيرة : إدخال السرور على الأهل مهما كان في البيت من مشاكل ومن هموم ومن غموم ، تحس كأن هناك أجنبياً يريد أن يفسد عليك أهلك وهو الشيطان الرجيم ، يريد أن يدخل بينك وبين زوجتك ، فإذا رأيت منها سوءاً أوشراً غضضت الطرف ، خرجت من بيتك ، ثم رجعت بعد ساعة أو ساعتين ولو كنت أنت الغلطان ، الشيطان يقول لك لا تعتذر إنك إن اعتذرت إلى المرأة أفسدتك ، وفسدت عليك ، وكما يقول العامة تركبك ، ووالله إنها زوجتي ولأن تركبني زوجتي خير من أن يركبني الشيطان الرجيم ، نعم لأن هذه زوجتي وعرضي وأم لأولادي ، وكم بذلت من أجلي ، فالإنسان يصبر ، ولا يكون ضيق العطن ، ولا ينظر نظرات العامة الضيقة ، ولكن ينظر إلى أن الله يبتليه ، وأعلم أن كل ماتجده من خلق زوجتك ماهو إلا لأمر بينك وبين الله ، فإن كنت صالحاً متقياً تتقي الله ، تحافظ على فرائض الله أورث الله الهيبة في قلوب الناس لك ، وأول ماتجد ذلك في زوجتك ، وإن كان هناك بينك وبين الله ذنوب فاستغفر الله وتب إليه ، فإن وجدت زوجتك تسيئك وتهينك فاعلم أن بينك وبين الله ذنباً ، فاستغفر الله وتب إليه ، واجعل مثل هذه الأمور سبباً في رحمة الله لك.
-نسأل الله العظيم أن يمن علينا بصلاح الأحوال وأن يحسن لنا العاقبة والمآل-.
وَآخِرُ دَعْوَانَا أَنِ الحمَْدُ لِلَّهِ رَبِّ العَالَميْنَ وصلَّى اللَّهُ وسلَّم وبارك على عبده ونبيَّه محمد وعلى آله وصحبه أجمعين .(26/33)
بسم الله الرحمن الرحيم
قال المصنف رحمه الله : بَاب مَا جَاءَ فِي الْوُضُوءِ لِكُلِّ صَلاَةٍ
حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ حُمَيْدٍ الرَّازِيُّ حَدَّثَنَا سَلَمَةُ بْنُ الْفَضْلِ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَقَ عَنْ حُمَيْدٍ عَنْ أَنَسٍ :" أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَتَوَضَّأُ لِكُلِّ صَلاَةٍ طَاهِرًا أَوْ غَيْرَ طَاهِرٍ " ، قَالَ قُلْتُ لأَنَسٍ : " فَكَيْفَ كُنْتُمْ تَصْنَعُونَ أَنْتُمْ ؟ " قَالَ :" كُنَّا نَتَوَضَّأُ وُضُوءاً وَاحِداً " .
قَالَ أَبو عِيسَى رحمه الله : وَحَدِيثُ حُمَيْدٍ عَنْ أَنَسٍ حَدِيثٌ حَسَنٌ غَرِيبٌ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ وَالْمَشْهُورُ عَنْدَ أَهْلِ الْحَدِيثِ حَدِيثُ عَمْرِو بْنِ عَامِرٍ الأَنْصَارِيِّ عَنْ أَنَسٍ وَقَدْ كَانَ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ يَرَى الْوُضُوءَ لِكُلِّ صَلاَةٍ اسْتِحْبَاباً لاَ عَلَى الْوُجُوبِ .
الشرح :
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين أما بعد :?(27/1)
فقد ترجم المصنّف-رحمه الله - لهذه المسألة بباب الوضوء لكل صلاة ، وقد كان الحكم في أول الإسلام أن المسلم يجب عليه أن يتوضأ عند دخول وقت كل صلاة ، فكانوا يتوضئون عند زوال الشمس لصلاة الظهر ، فإذا انتهى وقت صلاة الظهر فدخل وقت العصر يتوضئون لصلاة العصر وإن كانوا على طهارة كأن انتهاء الوقت بمثابة الحدث ، وقد أشار الله- - سبحانه وتعالى -- إلى هذا الوجوب بقوله في آية المائدة :{ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاَةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ..}الآية(1) ، وذلك أن الله سبحانه وتعالى أوجب علينا الوضوء عند القيام إلى الصلاة ، ولم يفرّق بين صلاة وأخرى ؛ ولكن الحكم مختص بالصلاة المفروضة كما هو إجماع العلماء رحمهم الله ، ومن هنا قال العلماء : إن هذا الحكم منسوخ ، فقد كانوا مطالبين بالوضوء عند دخول وقت كل صلاة مفروضة ، ثم إن الله خفف عن عباده في الحكم .
واختلف العلماء متى نسخ هذا الحكم ..؟؟
وقد جاء في بعض الأحاديث ما يدل على نسخه في غزوة خيبر ، وذلك حينما صلى بهم النبي صلى الله عليه وسلم بالصهباء وهي بين المدينة وخيبر ، صلى بهمصلوات الله وسلامه عليه العصر ، ثم جلس مع أصحابه يأكل السويق والطعام حتى غربت الشمس فتمضمض عليه الصلاة والسلام ثم صلى المغرب ولم يتوضأ ، قال العلماء : فدل هذا الحديث على النسخ ، وهذا الحكم من الشرع تخفيف من الله- - سبحانه وتعالى - - .
وقد اختلف العلماء رحمهم الله هل الوضوء لكل صلاة واجب أو ليس بواجب..؟؟(27/2)
فذهب جماهير السلف والخلف إلى أن الوضوء ليس بواجب لكل صلاة ، وأن المسلم إذا كان على الوضوء جاز له أن يصلي الصلوات جميعها ولو لم يتوضأ عند دخول وقت كل صلاة ، وهذا القول هو مذهب الأئمة الأربعة ، ولكنهم يقولون إن الأفضل والأكمل أن يتوضأ الإنسان عند دخول وقت كل صلاة ، وهذا الوضوء يعتبر تجديداً للوضوء ، إلا أنه قد جاء في حديث علي رضي الله عنه وأرضاه أنه إذا توضأ الإنسان عند دخول وقت الصلاة وهو متوضئ في الأصل أنه يمسح أعضاء الوضوء ، ولا يغسلها لأن علياً رضي الله عنه مسح الأعضاء ولم يغسلها ، وقالوا هذا هو الوضوء الذي يشرع عند دخول وقت الصلاة إذا كان الإنسان متوضئاً .(27/3)
وقد استدلوا بأحاديث صحيحة عن النبي صلى الله عليه وسلم تدل دلالة واضحة على أنه لا يجب تجديد الوضوء عند دخول وقت الصلوات ، ومن ذلك ما ثبت من حديث بُريدة بن الْحَصِيْبِ رضي الله عنه وأرضاه في قصة خيبر حينما صلّى النبي عليه الصلاة والسلام صلاة العصر والمغرب بوضوء واحد ، وفي الصحيح من حديث سويد بن غفلة رضي الله عنه وأرضاه :" أن النبي صلى الله عليه وسلم صلّى الصلاة يوم الفتح بوضوء واحد وسأله عمر رضي الله عنه عن ذلك فقال : عمداً فعلته " فقالوا : هذه الأحاديث تدل على أنه لا يجب تجديد الوضوء عند دخول وقت الصلاة ، وأنه إذا كان الإنسان متوضئاً لا حرج عليه أن يصلي الصلوات كلها ولو استمر جميع اليوم يصلي جميع صلواته بوضوء واحد ، وأكدوا ذلك بما ثبت في الصحيحين من حديث عبد الله بن عمر وجابر ابن عبد الله -رضي الله عن الجميع - حينما وصفوا صلوات النبي- - صلى الله عليه وسلم - -في حجة الوداع حيث صلى الظهر والعصر بوضوء واحد ، وكذلك المغرب والعشاء ليلة جمع بوضوء واحد ، فكونه عليه الصلاة والسلام لا يجدد الوضوء للصلاة الثانية يدل على أن آخر الأمرين هو جواز الصلوات بوضوء واحد ، وأنه لا يجب على المسلم أن يجدد لدخول الوقت .
وذهب طائفة من السلف رحمهم الله إلى القول بتجديد الوضوء لدخول وقت كل صلاة ، واختلفوا على قولين :
فقالت طائفة من العلماء : يجب ذلك في الحضر ولا يجب في السفر ، وهو مذهب الظاهرية -رحمة الله عليهم -.
وقالت طائفة : يجب ذلك في الحضر والسفر ، وهو مروي عن عبد الله بن عمر ، وقال به أبو موسى الأشعري ، وكذلك محكي عن محمد بن سيرين والحسن البصري -رحم الله الجميع - ، قالوا إنه يجب على الإنسان أن يجدد الوضوء عند دخول وقت كل صلاة .(27/4)
وقد استدلوا بدليل الكتاب والسنة : أما دليل الكتاب فإن الله سبحانه وتعالى أوجب الوضوء عند إرادة القيام إلى الصلاة ، قالوا فهذه الآية تدل دلالةً واضحةً على وجوب الوضوء عند دخول وقت الصلاة ، وإرادة أدائها ، وكذلك استدلوا بما ثبت في الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال :(( إنما أٌمرت بالوضوء عند القيام إلى الصلاة )) قالوا : فحديث ابن عباس هذا يدل على أن كل من قام إلى الصلاة المفروضة يجب عليه أن يتوضأ ، ولم يفرّق النبي صلى الله عليه وسلم بين من كان متطهراً أو كان غير متطهر .
والصحيح ما ذهب إليه جماهير السلف والخلف : أن الوضوء لا يجب تجديده عند دخول وقت الصلاة ؛ لأن النبي -- صلى الله عليه وسلم - - صلّى يوم الفتح ، وكذلك في غزوة خيبر ، وكذلك في حجة الوداع صلّى أكثر من صلاة بوضوء واحد فدل على النسخ ، والقاعدة : " أن العمل بالمتأخر من هديهصلوات الله وسلامه عليهوهو ناسخ للمتقدم من هديه عليه الصلاة والسلام " ، وكونه عليه الصلاة والسلام يتوضأ لكل صلاة إنما كان ذلك منه على سبيل الندب والاستحباب لا على سبيل الحتم والإيجاب .(27/5)
وفي هذا الحديث-أعني تجديد الوضوء- عند دخول وقت كل صلاة فيه دليل لمن قال من العلماء إنه يجوز تجديد الوضوء ولو كان الإنسان قد ثلّث غسل الأعضاء ، لأننا لو سلمنا أن وضوءه كان مرّة واحدة في أول الوضوء فإن الصلاة الثانية والثالثة إذا جدد الإنسان لها كان ذلك بمثابة التجديد للرابعة والخامسة ، والأول أظهر لما ذكرناه في حديث الإساءة والنهي عن الإسراف والمبالغة في الوضوء ، وفي كون الصحابة -رضوان الله عليهم - يخالفون النبي صلى الله عليه وسلم فيصلون الصلوات كلها بوضوء واحد ، يدل على أن أصحاب النبي- - صلى الله عليه وسلم - -كانوا ينظرون في هديه وفعله -صلوات الله وسلامه عليه - ، فما كان من هديه وفعله يشعر بالخصوصية خصّوه بذلك ، وما كان من هديه يدل على العموم تابعوه واقتدوا به -صلوات الله وسلامه عليه إلى يوم الدين - .
وهذا الحديث يرويه محمد بن إسحاق صاحب السير والمغازي ، وقد تقدم الكلام فيه ، وبيان ما ذكره أهل العلم من أئمة الجرح والتعديل في هذا الإمام ، وذكرنا أن ملخص ما ذكروه أنه ثقة ما لم يعنعن ، وقد عنعن هذا الحديث ، ولذلك ضعفه العلماء رحمهم الله من هذا الوجه ، ولكن متنه ثابت في الصحيح من الطريق الأخرى عن أنس بن مالك رضي الله عنه ، حيث رواه عمرو بن عامر الأنصاري عن أنس بن مالك كما هو ثابت في الصحيح ، فهو وإن تُكلم في سنده من هذا الطريق لكنه ثابت من الطريق الأخرى.
قال المصنف-رحمه الله - : وَقَدْ رُوِيَ فِي حَدِيثٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ:(( مَنْ تَوَضَّأَ عَلَى طُهْرٍ كَتَبَ اللَّهُ لَهُ بِهِ عَشْرَ حَسَنَاتٍ )) .(27/6)
قَالَ رحمه الله : وَرَوَى هَذَا الْحَدِيثَ الأَفْرِيقِيُّ عَنْ أَبِي غُطَيْفٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم حَدَّثَنَا بِذَلِكَ الْحُسَيْنُ بْنُ حُرَيْثٍ الْمَرْوَزِيُّ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يَزِيدَ الْوَاسِطِيُّ عَنِ الأَفْرِيقِيِّ وَهُوَ إِسْنَادٌ ضَعِيفٌ قَالَ عَلِيُّ بْنُ الْمَدِينِيِّ قَالَ يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ الْقَطَّانُ ذَكَرَ لِهِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ هَذَا الْحَدِيثُ فَقَالَ هَذَا إِسْنَادٌ مَشْرِقِيٌ قَالَ سَمِعْت أَحْمَدَ بْنَ الْحَسَنِ يَقُولُ سَمِعْتُ أَحْمَدَ بْنَ حَنْبَلٍ يَقُولُ مَا رَأَيْتُ بِعَيْنِي مِثْلَ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ الْقَطَّانِ .
الشرح :
هذا الحديث الذي رواه الإفريقي وهو عبد الرحمن بن زياد بن أنعم الإفريقي ، وقد تكلم العلماء فيه وضعّفوا روايته ، وكذلك من روى عنه في هذا السند ، وقد ذهب العلماء رحمهم الله إلى تضعيف هذا الحديث ، والقول بتحسينه ضعيف أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:(( أن من توضأعلى الوضوء كتب الله له عشر حسنات)) وهو حديث ضعيف ، وقد جاء في الوضوء على الوضوء حديث آخر وهو قوله :(( الوضوء على الوضوء نور على نور)) وهذا الحديث لايعرف له أصل ، ولذلك قال بعض العلماء : لعلّه من كلام بعض السلف ، ومثل هذا الأمر توقيفي ، ولذلك لايجوز أن يُحكم في مثل هذه العبادات إلا بالنص ، وأما الرأي والاجتهاد فلامجال له ، فالحكم بكون الوضوء على الوضوء نوراً على نور لم يثبت به نص في الكتاب والسنة ؛ ولذلك لايُحكم بذلك إلا بالنص الصحيح ، وعلى هذا فلا معوّل على هذا الحديث الضعيف .(27/7)
ولاشك أن الله- - سبحانه وتعالى -- قد جعل في الوضوء فضائل كثيرة ، والوضوء فيه النور من جهة ماثبت به الخبر يوم القيامة كما في الحديث الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم قال :(( إن أمتي يُدعون يوم القيامة غراً محجلين من آثار الوضوء )) فدل هذا على وجود النور وذلك في قوله (( غراً محجلين )) ، ولكنه على وجه مخصوص حيث بين النبي صلى الله عليه وسلم أن الوضوء كله نور ، وبناءً على ذلك ورد التخصيص في هذا الحديث بأعضاء الوضوء ، فهذا يعتقده المسلم كما ثبت في الخبر يوم القيامة كما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم ، وأما بالنسبة لإيراد المصنف لهذا الحديث إنما أورده مع ضعفه للتنبيه على عدم ثبوته عن النبي صلى الله عليه وسلم .
قال المصنف -رحمه الله - : حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ هُوَ ابْنُ مَهْدِيٍّ قَالاَ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ بْنُ سَعِيدٍ عَنْ عَمْرِو بْنِ عَامِرٍ الأنْصَارِيِّ قَال سَمِعْتُ أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ يَقُولُ : " كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَتَوَضَّأُ عِنْدَ كُلِّ صَلاَةٍ" ، قُلْتُ : " فَأَنْتُمْ مَا كُنْتُمْ تَصْنَعُونَ ؟ " قَالَ : " كُنَّا نُصَلِّي الصَّلَوَاتِ كُلَّهَا بِوُضُوءٍ وَاحِدٍ مَا لَمْ نُحْدِثْ".
قَالَ أَبو عِيسَى رحمه الله : هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ وَحَدِيثُ حُمَيْدٍ عَنْ أَنَسٍ حَدِيثٌ جَيِّدٌ غَرِيبٌ حَسَنٌ .
الشرح :
هذا الحديث هو الثابت في الصحيح عن النبي - - صلى الله عليه وسلم - -من رواية أنس أنه كان عليه الصلاة والسلام يتوضأ لكل صلاة ، وهذا منه عليه الصلاة والسلام على سبيل الندب والاستحباب ، وللعلماء في هذا الحديث وجهان :
الوجه الأول : أن يُحمل على أن أنس لم ير النبي صلى الله عليه وسلم يصلي أكثر من صلاة بوضوء واحد ومن حفظ من الصحابة حجّة على من لم يحفظ .(27/8)
والوجه الثاني : أن أنساً رضي الله عنه حكى ماكان منه - عليه الصلاة والسلام - على سبيل الغالب ، ولايمنع أن يقع منه عليه الصلاة والسلام في بعض الأحيان الجمع بين الصلوات بوضوء واحد.
قال المصنف رحمه الله : بَاب مَا جَاءَ أَنَّهُ يُصَلِّي الصَّلَوَاتِ بِوُضُوءٍ وَاحِدٍ
حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مَهْدِيٍّ عَنْ سُفْيَانَ عَنْ عَلْقَمَةَ بْنِ مَرْثَدٍ عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ بُرَيْدَةَ عَنْ أَبِيهِ قَالَ:" كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَتَوَضَّأُ لِكُلِّ صَلاَةٍ فَلَمَّا كَانَ عَامُ الْفَتْحِ صَلَّى الصَّلَوَاتِ كُلَّهَا بِوُضُوءٍ وَاحِدٍ وَمَسَحَ عَلَى خُفَّيْهِ " فَقَالَ عُمَرُ :" إِنَّكَ فَعَلْتَ شَيْئًا لَمْ تَكُنْ فَعَلْتَهُ " قَالَ : " عَمْدًا فَعَلْتُهُ ".(27/9)
قَالَ أَبو عِيسَى رحمه الله : هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ وَرَوَى هَذَا الْحَدِيثَ عَلِيُّ بْنُ قَادِمٍ عَنْ سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ وَزَادَ فِيهِ تَوَضَّأَ مَرَّةً مَرَّةً قَالَ وَرَوَى سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ هَذَا الْحَدِيثَ أَيْضًا عَنْ مُحَارِبِ بْنِ دِثَارٍ عَنْ سُلَيْمَانَ ابْنِ بُرَيْدَةَ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَتَوَضَّأُ لِكُلِّ صَلاَةٍ وَرَوَاهُ وَكِيعٌ عَنْ سُفْيَانَ عَنْ مُحَارِبٍ عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ بُرَيْدَةَ عَنْ أَبِيهِ قَالَ وَرَوَاهُ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مَهْدِيٍّ وَغَيْرُهُ عَنْ سُفْيَانَ عَنْ مُحَارِبِ بْنِ دِثَارٍ عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ بُرَيْدَةَ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم مُرْسَلاً وَهَذَا أَصَحُّ مِنْ حَدِيثِ وَكِيعٍ وَالْعَمَلُ عَلَى هَذَا عِنْدَ أَهْلِ الْعِلْمِ أَنَّهُ يُصَلِّي الصَّلَوَاتِ بِوُضُوءٍ وَاحِدٍ مَا لَمْ يُحْدِثْ وَكَانَ بَعْضُهُمْ يَتَوَضَّأُ لِكُلِّ صَلاَةٍ اسْتِحْبَاباً وَإِرَادَةَ الْفَضْلِ وَيُرْوَى عَنِ الأَفْرِيقِيِّ عَنْ أَبِي غُطَيْفٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ:(( مَنْ تَوَضَّأَ عَلَى طُهْرٍ كَتَبَ اللَّهُ لَهُ بِهِ عشرَ حَسَنَات)) وَهَذَا إِسْنَادٌ ضَعِيفٌ .
وقال رحمه الله : وفِي الْبَاب عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم صَلَّى" الظُّهْرَ وَالْعَصْرَ بِوُضُوءٍ وَاحِدٍ ".
الشرح:(27/10)
هذا الحديث يدل على صحة مذهب الجمهور رحمهم الله أنه لايجب تجديد الوضوء عند دخول وقت الصلوات ؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم فعل هذا في عام الفتح ، وقال له عمر : رأيتك تفعل شيئاً لم أرك تفعله من قبل يارسول الله ؟ فدل على أنه - عليه الصلاة والسلام - كان يجدد عند دخول أوقات الصلوات في أول الأمر ، ثم نسخ ذلك في عام خيبر لأنها قبل الفتح ، ووقعت هذه القصة-وأصلها في صحيح مسلم- وقعت من النبي صلى الله عليه وسلم يوم الفتح ، وقد سأل عمر النبي صلى الله عليه وسلم لما رأى منه ذلك الفعل لكي يفهم هل ذلك منه - عليه الصلاة والسلام - قصداً أو بغير قصد ؟ فأخبره عليه الصلاة والسلام أنه قصد ذلك وأراده ، ومن هنا أخذ الجمهور أن الوضوء لكل صلاة يعتبرمنسوخاً ، وأنه لايجب تجديد الوضوء عند دخول وقت الصلوات .
ولكن يستثنى من ذلك مسائل ذكرها العلماء رحمهم الله :
وتنحصر في المرأة المستحاضة إذا غلبها الدم وأصبح مسترسلاً معها ، وكذلك الرجل إذا أصابه سلس البول ، أو أصابه سلس الريح ، والمرأة في حكمه ، وكذالك الرجل إذا طُعن ، أو أصابه النزيف ، أو الرعاف واسترسل معه فهولاء كلهم .
الأصل في المرأة المستحاضة أنه إذا خرج منها الدم أن وضوءها ينتقض بخروج الدم كما ينتقض بخروج البول ، وهذا بإجماع العلماء رحمهم الله ، فخروج دم الاستحاضة يعتبر بمثابة خروج البول ينقض الوضوء ، ويجب على المرأة أن تتوضأ إذا أرادت الصلاة .
ومن هنا يرد السؤال : إذا غلبها الدم ..؟؟(27/11)
فإذا غلبها الدم ، وأصبح مسترسلاً معها في وقت الصلاة كله ، فالحكم حينئذٍ أنه إذا دخل وقت الصلاة كأن يؤذن لصلاة الظهر مثلاً فإنها تغسل موضع الفرج ، ثم تعصبه إذا كان الدم شديداً ، وإذا كان الدم خفيفاً اكتفت بوضع القطن أو نحو ذلك تسد به الموضع ، ثم تتوضأ لصلاة الظهر وتصلي صلاة الظهر ، وتصلي رواتبها القبلية والبعدية ، وبعد ذلك تنتفل ماشاء الله أن تنتفل ولو خرج معها الدم ، فلو خرج معها الدم مرات وكرات فإن وضوءها لايزال سارياً حتى يدخل وقت العصر ، فإذا دخل وقت العصر فإنها تعيد غسل الفرج ثم تعصبه أو تضع فيه قطنة على الصفة الأولى ثم تتوضأ وبعد ذلك تصلي العصر ، وهكذا في صلاة المغرب ، والعشاء ، والفجر تتوضأ لدخول وقت كل صلاة ، وتعصب فرجها إذا كان الدم شديداً ، وإلا اكتفت بوضع القطن ؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال للمرأة المستحاضة : (( أنعت لك الكُرْسُف )) والمراد بالكرسف القطن ، فقالت : يارسول الله هو أشد من ذلك ، فقال عليه الصلاة والسلام : (( تلجمي )) ، فأمرها عليه الصلاة والسلام أن تشد الموضع فدل على وجوب أخذها بذلك .
وأما بالنسبة لمن كان به سلس البول فإنه لا يخلو من أحوال :
الحالة الأولى : أن يكون البول متقطعاً ، فإن كان بوله متقطعاً على وجه يمكن أن يصلي الصلاة فإنه يجب عليه أن يتطهر ، ثم يصلي الصلاة حال النقاء .
وأما الحالة الثانية : وهي أن يسترسل معه على وجه لايمكنه أن يصلي الصلاة إلا وقد خرج معه الخارج ، سواء قبلها أو أثناءها ، فإذا كان البول متقاطراً معه على وجه لايستمسك لأداء الصلاة ، فإنه إذا دخل عليه وقت الصلاة قام فغسل الفرج ، ثم توضأ ، فإن أمكنه أن يضع قطنة أو نحو ذلك من اليسير الذي يسد الإحليل- وهو مجرى البول من العضو- فإنه يفعل ذلك .(27/12)
وكذلك المرأة تفعل بالفرج ، فإذا وضع ذلك قام وصلى ثم صلى النوافل حتى يدخل وقت العصر ، فإذا دخل وقت العصر فإنه يغسل الفرج ، ويغسل مواضع البول التي تصيب الثياب والبدن لأنه يُعفى عنها حال وقت الصلاة ، فإذا خرج وقت الصلاة رجعت إلى الأصل ، وخوطب بالطهارة عند دخول وقت كل صلاة ، وهذا هو الأصل في المستحاضة ، وألحق بها من به سلس البول ، وسلس الريح ، وهكذا إذا كان يتقاطر معه المذي على وجه يغلبه ولايمكنه أن يستمسك لفعل الصلاة .
ومن أصابه سلس البول وأمكنه أن يصلي الصلاة فهو على حالتين :?
الحالة الأولى : أن يصلي الصلاة مع الجماعة ، كأن يكون من عادته إذا توضأ أن يستمسك بوله في حدود نصف ساعة ، والصلاة مع الجماعة يمكنه أداؤها معهم في حدود ثلث ساعة ، فحينئذٍ يلزمه أن يتطهر ، وأن يمضي إلى المسجد ، ويصلي مع الجماعة.(27/13)
والحالة الثانية : أن يكون تقاطر البول على وجه لايمكنه أن يصلي مع الجماعة ، فحينئذٍ يصلي الصلاة لوحده إذا كان ذلك أمكن في طهارته ، كأن يكون استمساك البول في حدود خمس دقائق يمكنه أن يصلي الظهر في بيته ، ولايمكنه أن ينزل إلى المسجد فيصلي مع الجماعة ، فحينئذٍ يعتبر عذراً في سقوط الجماعة ويلزمه أن يتطهر ويصلي لوحده على هذا الوجه ، فهذا هو حاصل مايذكر في تجديد الوضوء عند دخول وقت الصلاة ، فاستثنى العلماء رحمهم الله هذه المسائل ، وقد خفف الله عز وجل عن هؤلاء لأنهم في حالة من الشدة والضيق والعسر ، والشريعة مبنية على اليسر كما قال سبحانه وتعالى : { يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ وَخُلِقَ الإِنسَانُ ضَعِيفاً}(1) ، وقال سبحانه وتعالى :{وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ}(2) ، وقال-- سبحانه وتعالى - -:{وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ} (3) ، فلو كلفنا هؤلاء أن يكونوا على طهارة لم يكن في وسعهم ذلك ، والتكليف شرطه الإمكان والوسع ؛ لقوله سبحانه وتعالى :{لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا}(4) فليس في وسع هؤلاء أن يصلوا إلا على هذا الوجه .(27/14)
وبناءً على ذلك فإنه إذا كان الإنسان في حج أو عمرة وكان معه سلس البول أو سلس الريح فإنه إذا دخل وقت صلاة الفريضة توضأ ، فلو دخل المسجد الحرام على أذان الظهر فإنه يتوضأ عند دخول وقت الظهر ، ثم يصلي الظهر ، ثم يطوف الطواف ولو كان فرضاً وركناً ، ولو تقاطر معه البول فإنه يطوف حتى إذا انتهى من طوافه صلى ، ولو تقاطر معه البول لأنه معذور في حدود الوقت ، فإذا خرج وقت الصلاة فإنه حينئذٍ يطالب بإعادة الطهارة من الحدث والخبث ، وكل ذلك تيسير من الله عز وجل ، وقد قرر العلماء رحمهم الله هذا الأصل ، - وسيأتي إن شاء الله بيان الأدلة وكلام العلماء وخلافهم في هذه المسائل في باب الاستحاضة إن شاء الله تعالى- .
قال المصنف - رحمه الله- : بَاب مَا جَاءَ فِي وُضُوءِ الرَّجُلِ وَالْمَرْأَةِ مِنْ إِنَاءٍ وَاحِدٍ
حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي عُمَرَ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ عَنْ أَبِي الشَّعْثَاءِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ حَدَّثَتْنِي مَيْمُونَةُ قَالَتْ :" كُنْتُ أَغْتَسِلُ أَنَا وَرَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مِنْ إِنَاءٍ وَاحِدٍ مِنَ الْجَنَابَةِ " .
قَالَ أَبو عِيسَى رحمه الله : هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ وَهُوَ قَوْلُ عَامَّةِ الْفُقَهَاءِ أَنْ لاَ بَأْسَ أَنْ يَغْتَسِلَ الرَّجُلُ وَالْمَرْأَةُ مِنْ إِنَاءٍ وَاحِدٍ .
قَالَ رحمه الله : وَفِي الْبَاب عَنْ عَلِيٍّ وَعَائِشَةَ وَأَنَسٍ وَأُمِّ هَانِئٍ وَأُمِّ صُبَيَّةَ الْجُهَنِيَّةِ وَأُمِّ سَلَمَةَ وَابْنِ عُمَرَ .
قَالَ أَبو عِيسَى رحمه الله : وَأَبُو الشَّعْثَاءِ اسْمُهُ جَابِرُ بْنُ زَيْدٍ .
الشرح :(27/15)
وضوء الرجال مع النساء من إناء واحد ثبتت به النصوص عن النبي صلى الله عليه وسلم ، كما في الصحيح من حديث ميمونة ، وهذا الحديث الذي ذكره المصنف أنها كانت تغتسل مع النبي صلى الله عليه وسلم من إناء واحد ، وقد وقع هذا الغسل من الجنابة ، وقد ثبت عنه عليه الصلاة والسلام أنه اغتسل مع أم المؤمنين عائشة-رضي الله عنها وأرضاها- وكانت تقول دع لي ، وكان يقول دعي لي ، وهذا يدل مسائل :?
المسألة الأولى: مشروعية اغتسال الرجل مع زوجه من إناء واحد ، وأن هذا لايعتبر داخلاً في نهي النبي صلى الله عليه وسلم عن الاغتسال بفضل المرأة ، واغتسال المرأة بفضل الرجل ، وقد خالف في هذه المسألة أبو هريرة عبد الرحمن بن صخر رضي الله عنه وأرضاه فكان يمنع من وضوء الرجال مع النساء من إناء واحد ، فيمنع الرجل أن يتوضأ أو يغتسل مع زوجته من إناء واحد .
والصحيح جواز ذلك لثبوت السنة عن النبي صلى الله عليه وسلم بهذا الفعل ، وقد حكى الطحاوي والقرطبي والنووي-رحم الله الجميع - حكوا الإجماع على هذا ، وأنه لاحرج فيه ؛ لثبوت السنة عن النبي صلى الله عليه وسلم بذلك ، وأما نهيه عن الوضوء بفضل المرأة أو الاغتسال بفضل المرأة فسيأتي بيانه أنه في حالة مخصوصة ، وهو أن تغتسل المرأة من إناء ويكون ذلك على سبيل الخلوة لاعلى سبيل الاجتماع.
المسألة الثانية : ترجم المصنف رحمه الله لهذا الحديث بالوضوء ، مع أن الحديث الذي ذكره في الغسل من الجنابة ، فكيف يترجم بالخصوص من معنى عام ؟؟(27/16)
والجواب : أن هذا من فقه الإمام الترمذي ، وحسن فهمه ، ونظره في النصوص-رحمه الله برحمته الواسعة - ، وذلك أن هذا الحديث قد اشتمل على اغتساله عليه الصلاة والسلام من الجنابة ، وقد ثبت النص الصحيح عنه عليه الصلاة والسلام من حديث أم المؤمنين عائشة : " أنه كان إذا اغتسل من الجنابة صلى ولم يتوضأ " ، فكأن اغتساله من الجنابة فيه وضوء ، ولذلك كان يدرج الوضوء تحته ، وكان يتوضأ مع غسلهصلوات الله وسلامه عليه ، وبناءً على ذلك يكون الحديث من جهة كون الغسل مشتملاً على الوضوء متضمناً للدلالة التي ذكرها -رحمه الله - .
والوجه الثاني أن يُقال : إنه استدل بهذا الحديث على مشروعية اغتسال الرجل مع المرأة في الطهارة من الحدث الأكبر ، فلأن يجوز ذلك في الطهارة من الحدث الأصغر من باب أولى وأحرى ، وحينئذٍ يكون من باب قياس الأولى وهو لا إشكال فيه ، وقد جاء حديث عبد الله بن عمر الصحيح ينص على وضوء الرجال مع النساء من إناء واحد مجتمعين ، وذلك أن يجتمع الرجل مع زوجه فيتوضآن من إناء واحد ، فقد ثبت في الحديث الصحيح عنه أنه قال رضي الله عنه وأرضاه : " كان الرجال والنساء يتوضؤون جميعاً على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم " ، ومراده بذلك أن الرجل مع زوجه ومع أخته ومحارمه يتوضأ معهن من إناء واحد ، وليس المراد أن يختلط الرجال الأجانب بالنساء الأجانب في مكان واحد على وجه فيه محظور ، وإنما المراد ما يحصل في البيوتات على عهد النبي صلى الله عليه وسلم ، فيتوضأ الرجل مع زوجه ويتوضأ مع أخته ومع بنته ونحو ذلك ، هذا هو المراد ، وحيث ثبتت الرواية الصحيحة بالوضوء فلا إشكال في صحته ترجمة الإمام المصنف-رحمه الله -بهذا اللفظ . أو يقال إنه قصد العموم.(27/17)
المسألة الثالثة : اغتسل النبي صلى الله عليه وسلم مع ميمونة من إناء واحد ، وهذا يدل على ضيق ما كان عليه النبي صلى الله عليه وسلم من العيش ، حيث كان -صلوات الله وسلامه عليه - يعيش هذه العيشة اليسيرة ، حتى كان الماء عزيزاً فيغتسل مع زوجه صلوات الله وسلامه عليه من إناء واحد ، وقد اختار الله له هذه العيشة الطيبة التي زوى فيها الدنيا عن رسوله وحبيبه -صلوات الله وسلامه عليه - ، وإذا أحب الله عبداً من عباده زوى عنه الدنيا ، وجعل الآخرة أكبر همّه ، ومبلغ علمه ، وغاية رغبته وسؤله .
وفي هذا الحديث دليل على مسألة مهمة : وهي مسألة العورة بين الرجل والمرأة وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم اغتسل مع ميمونة من إناء واحد ، فأخذ العلماء من هذا دليلاً على مشروعية نظر الرجل إلى فرج زوجته ، وكذلك نظر المرأة إلى فرج زوجها ؛ لأن الاجتماع في مكان واحد لا يمنع من النظر ؛ ولذلك قالوا لا حرج في تجردهما ، ولادليل يدل على تحريم ذلك بل إن هذه السنة الصحيحة عن النبي -- صلى الله عليه وسلم - -تدل على مشروعية النظر ، والأصل أن الرجل يستمتع بامرأته على كل حال حتى يدل الدليل على الاستثناء والتحريم ، ولذلك وصف الله المرأة بكونها لباساً للرجل ، وكون الرجل لباساً لها ، وهذا يدل على دخول كل منهما في الآخركالشيء الواحد ، ومن هنا قال العلماء : الأصل جواز الاستمتاع بالمرأة على كل وجه مالم يدل الدليل علىالتحريم ، فإذا دل الدليل على التحريم والمنع خُصص من هذا العموم ، والقول بمنع النظر إلى عورة الرجل والمرأة ضعيف ، وفيه حديث ضعيف أن أم المؤمنين عائشة -رضي الله عنها -حكت : " أنها مارأت ذلك من النبي صلى الله عليه وسلم ولا رآه منها" ، وفيه حديث ضعيف " أن النظر إلى الفرج يورث العمى " وكل ذلك لايقوى على معارضة هذه النصوص الصحيحة .(27/18)
قال العلماء : الناس في الشهوة متفاوتون ، ولذلك جعل الله المرأة لباساً للرجل ، وجعل الرجل لباساً للمرأة حتى تحصل العفة عن الحرام ، والبعد عن الآثام ، فإذا أعفّت المرأة زوجها بجميع الوجوه مالم يكن على وجه محرم فإنه ينكف حينئذٍ الإنسان عن محارم الله ، ويبتعد عن حدود الله ، ولذلك قالوا بجواز الاستمتاع على أي وجه ، ولو كان بالنظر إلى العورة ؛ لأن الشرع لم يحرم شيئاً من ذلك ، والأصل الجواز حتى يدل الدليل على التحريم ، ومن هنا قالوا إنه إذا قام الدليل على التحريم يعتبر تخصيصياً لهذا الأصل العام ، على عكس مايفهمه البعض أن الأصل هو التحريم حتى يدل الدليل على الجواز ، وذلك أن الله -- عز وجل - - وصف المرأة بكونها سكناً للرجل ، والمراد بهذا السكن أن يسكن إليها عن الحرام والآثام ، وإذا سكن إليها كان ذلك أدعى لانطفاء شهوته ، وكذلك أغض لبصره ، وأبعد عن حدود ربه ، ولذلك قالوا : لادليل على تحريم الاستمتاع بأي وجه ، إلا ماجاء النص بتحريمه كالإيلاج في الدبر ، ونحو ذلك مما دلت النصوص على تحريمه ، وأما ماعدا ذلك فإنه باقٍ على الأصل من الجواز .
وفي هذا الحديث دليل على سماحة النبي- - صلى الله عليه وسلم - - وكرم خلقه باغتساله مع زوجهصلوات الله وسلامه عليه .
وقولها"من الجنابة" : الجنابة قال العلماء : مأخوذة إما من الجنب لأنها تقع بالمجامعة ، وإما مأخوذة من المجانبة وهي المباعدة لأن صاحبها يمتنع من فعل الصلاة ونحوها من الأمور التي تمنعها الجنابة.
-نسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يرزقنا الفقه في الدين ، واتباع سنة سيد الأنبياء والمرسلين صلوات الله وسلامه عليه إلى يوم الدين-.??
- ? - ? - ? - ? - الأسئلة - ? - ? - ? - ? -
السؤال الأول:
لو أكل الإنسان طعاماً وهو على طهارة فهل يجب عليه أن يتمضمض..؟؟?
الجواب :
بسم الله الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه أما بعد :(27/19)
فإن السنة عن النبي -- صلى الله عليه وسلم - - أنه غسل فمه ، وتمضمض صلوات الله وسلامه عليه بعد إصابة الطعام ، قال العلماء:خاصة إذا كانت له زهومة كاللبن ، والسويق ، ونحو ذلك ، فإنه يتمضمض ويغسل فمه ، وذلك لأن رائحة الطعام تشوش عليه في الصلاة ، ومن العلماء من قال : إنه لايأمن من ابتلاع الريق مع اختلاطه بفضلة الطعام ويكون ذلك أشبه بالشرب أثناء الصلاة ، ولكن السنة دالة على أنه يتمضمض ، ولايصل ذلك إلى مرتبة الوجوب ؛ لأن النص لم يدل على الوجوب ، ولم يأمر النبي صلى الله عليه وسلم بذلك ، ودلالة الفعل لاتدل على الوجوب كما هو مقرر في علم الأصول ، والله تعالى أعلم .
السؤال الثاني:
كيف نوفق بين عدم تجديد الوضوء ومخافة الوقوع في الزيادة مع استحباب الوضوء لكل صلاة..؟؟?
الجواب :
ظاهر ماذكره العلماء رحمة الله عليهم أن هذا الحديث يدل على مشروعية التجديد لدخول وقت كل صلاة ، لأنه كان يتوضأ لدخول وقت كل صلاة ، وعلى هذا قالوا : إنه يجوز أن يتوضأ ولو كان في المرة الأولى قد توضأ ثلاثاً ، ولكن نظراً لتردد الأمر بين الحظر والإباحة ، وقول بعض العلماء بتخصيص النبي صلى الله عليه وسلم بأفضلية التكرار فإنه يقوى حينئذٍ أنه إذا توضأ ثلاثاً لايجدد احتياطاً وأجره مكتوب ، والله تعالى أعلم .
السؤال الثالث:
أشكل علي الاستدلال بآية المائدة على الوضوء لكل صلاة ؛ لكون المائدة آخر مانزل في الأحكام كما يقول المفسرون ، فكيف يرد فيها ماهو منسوخ ؟ وما ناسخه ؟ اللهم إلا إذا كان في السورة نفسها..؟؟
الجواب :?(27/20)
سورة المائدة من آخر مانزل ، ولاشك في هذا ، ولذلك قال العلماء : أحلوا حلالها ، وحرموا حرامها ، لما اشتملت عليه من أحكام كان جلها محكم غير منسوخ ، بل إن فيها أحكاماً نسخت ماقبلها ، وأما بالنسبة للوضوء فإن الوضوء قد أمر به من فرضية الصلاة ، ولكن كونه سبحانه وتعالى أمر به عند القيام إلى الصلاة وعند إرادة القيام إلى الصلاة قالوا لايمنع أن تكون آية الوضوء متقدمة في النزول ، ويكون الأمر عند دخول وقت كل صلاة هو الأصل ، ثم ورد النسخ في قصة خيبر وهي متأخرة ، لأنها كانت في أواخر السنة السادسة وأوائل السنة السابعة ، وحينئذٍ لايكون هناك تعارض بين الآية وبين ماثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم من النسخ ، إنما يكون التعارض أن لو ثبت أن نزول المائدة كان بعد خيبر ، وكان فعل النبي صلى الله عليه وسلم بخيبر فحينئذٍ لايقوى أن يقال بالنسخ ؛ لأن الناسخ لايتقدم على المنسوخ كما هو معلوم ، والله تعالى أعلم .?
السؤال الرابع:
إذا توضأ الرجل في بداية الغسل ثم خرج منه بول في أثناء الغسل فهل يلزمه إعادة الوضوء مرة أخرى..؟؟
الجواب :
وضوؤه عليه الصلاة والسلام قبل الغسل للعلماء فيه وجهان :(27/21)
قال بعض العلماء : هو وضوء لرفع الحدث ، وقال بعضهم : هو وضوء فضيلة قدم أعضاء الوضوء لشرفها وفضلها ، وهذا هو الصحيح أنه وضوء فضيلة ، وليس المراد أنه وضوء لرفع الحدث ، أما الدليل على كونه توضأ للفضيلة فقد ثبت في الصحيح عنه عليه الصلاة والسلام أنه لما أمر بتغسيل بنته قال عليه الصلاة والسلام في تغسيلها غسل الموت : (( ابدأن بميامينها وبأعضاء الوضوء منها )) فدل على أنه في الغسل يشرع تقديم أعضاء الوضوء ؛ لشرفها وفضلها ، وحينئذٍ قال العلماء إن هذا الوضوء وضوء فضيلة ، وعليه فإنه لو خرج منه الخارج لاينتقض ، ووضوء الفضيلة الذي يكون قبل الغسل من الجنابة لاينتقض إلا بالجماع ، وهي المسألة التي يلغز فيها بعض العلماء يقولون : رجل توضأ لاينتقض وضوؤه ببول ولاغائط ولاريح ؟ يقولون في الجواب : هو وضوء الجنب ، وقد أشار بعض الفضلاء رحمهم الله إلى هذه المسألة بقوله :
قل للفقيه وللمفيد ولكل ذي باع مديد?
ماقلت في متوضئٍ قد جاء بالأمر السديد
لاينقضون وضوءه مهما تغوط أو يزيد(27/22)
فيقال في جواب هذه المسألة هو الجنب إذا توضأ ، فإن الجنب إذا توضأ لاينتقض وضوؤه إلا بإيلاج ، وبجماع جديد ، واستدلوا على هذا بحديث عمر الثابت في الصحيح أن النبي -- صلى الله عليه وسلم - -لما سأله عمر : " أينام أحدنا وهو جنب؟" فقال عليه الصلاة والسلام : (( توضأ واغسل ذكرك ثم نم )) فقال توضأ ، ثم قال اغسل ذكرك ، قالوا : إن وقوع غسل الذكر بعد الوضوء يدل على أن الوضوء لاينتقض بمس الذكر ولاينتقض بالخارج ، وهذا هو أحد الوجهين عند العلماء رحمة الله عليهم ، وعليه فلو توضأ في غسل الجنابة فإن وضوءه وضوء فضيلة ، ثم إذا اغتسل من الجنابة الغسل المعتبر الوارد عن النبي صلى الله عليه وسلم حل له أن يصلي بعد ذلك ولو لم يتوضأ ؛ لأن عائشة-رضي الله عنها - ذكرت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه ماكان يتوضأ بعد غسله من الجنابة ، والله تعالى أعلم .
السؤال الخامس :
من العلماء من يقول إن نسخ وجوب الوضوء لكل صلاة كان عام الفتح لحديث بريدة ، ومنهم من يقول كان عام خيبرلحديث سويد بن النعمان ، ومنهم من يقول كان يوم الخندق فما الصحيح في من الأقوال..؟؟?
الجواب :(27/23)
هو أقوى ما يقال في هذه المسألة ماجاء في حديث خيبر ، كونه -عليه الصلاة السلام - نزل بالصهباء فصلى بالناس العصر ، ثم أكل السويق ثم تمضمض وصلى بالناس المغرب ولم يتوضأ ، فهذا من أقوى ماقيل في صلاته - عليه الصلاة والسلام - بوضوء واحد ، أما بالنسبة للخندق ففيه إشكال دقيق ، هو صحيح عنه عليه الصلاة والسلام أنه في الخندق صلى صلاتين بوضوء واحد ، لكن الإشكال في الخندق أنه صلى العصر قضاء ، والمغرب أداءً ، وحينئذٍ دخلت العصر في وقت المغرب ، وهذا على سبيل التبعية لاعلى سبيل الأصل فلا يقوى على المعارضة ؛ ولذلك القول بأن النسخ بحديث الصهباء بخيبر ، أقوى من القول بالنسخ في عام الفتح ، أو بالنسخ في يوم الخندق ، وهذا هو الذي تطمئن إليه النفس ، والله تعالى أعلم.
السؤال السادس:
ما هو حد عورة المرأة مع المحارم ..؟؟
الجواب :(27/24)
أما بالنسبة للمرأة مع محارمها فكان السلف - رحمة الله عليهم - يتورعون في هذا الأمر ، فالإجماع قائم على أن ذات المحرم إذا وجدت فيها فتنة ، أو كان فيها جمال أنه ينبغي عليها أن تتحفظ ، وأن تأخذ بجميع الأسباب التي تحفظ محرمها عن الفتنة ، وبناءً على ذلك فإن الإمام أحمد رحمه الله لما سأل عن كشف المرأة عن ساقها وصدرها لأخيها قال:" لا. إني أخاف عليه الفتنة ، لا. إني أخاف عليه الفتنة " ، ولذلك المنبغي والأفضل للمرأة أنها مع محرمها أنها تتحفظ ، ولاشك أن الحياء والحشمة شيء محمود ، وإذا كانت المرأة على الحياء والحشمة حفظ الله ماء وجهها وصانها وحفظ لها كمالها ، والمرأة إذا أصبحت تتحفظ حتى مع محارمها فإنها أدعى أن تتحفظ مع الأجنبي ، لأنها إذا حفظت نفسها مع أقرب الناس منها فمن باب أولى أن تتحفظ عن من هو أبعد ، ولذلك قالوا : إن المرأة إذا كانت مع محارمها تحفظ سيقانها ، وكذلك صدرها ، حتى كان بعضهم يكره أن ترضع صبيها أمام محرمها ، فتتحفظ من ذلك ما أمكنها ، كل ذلك على سبيل الكمال وعلى سبيل الورع ، وإذا كانت المرأة على ورع فإنه أدعى أن تُحفظ عن حدود الله ، وتكون بعيدة عن حرمات الله عز وجل لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال : (( فمن اتقى الشبهات فقد استبرأ لدينه وعرضه ومن وقع في الشبهات وقع في الحرام )) ، فإن ذا المحرم إذا نظر إلى صدر أخته ، أو نظر إلى ساقها وإن كان في الغالب أنه لايفتن ، قد يسترسل عليه الشيطان فيتذكر غيرها ممن ليست محرماً له ، وقد تحدثه نفسه بمحظور ، فيحفظه الله من ذات المحرم ، ولايستطيع أن يحفظ نفسه من غير ذات المحرم ، ولذلك ينبغي التحفظ في ذلك ما أمكن ، والله تعالى أعلم.
السؤال السابع :
إذا علقت بقايا الطعام بين الأسنان أو الأضراس فهل هناك حرج في الصلاة والحال ماذكر..؟؟?
الجواب:
هذه المسألة وهي مسألة بقايا الطعام بين الأسنان للعلماء فيها وجهان :(27/25)
منهم من قال : بقايا الطعام بين الأسنان مغتفرة ، كالريق للصائم مغتفر ؛ لأنها لما كانت في الفم وصعب على الإنسان أن يتحفظ منها ويتحرز منها ، كانت محل عفو ويستسمح فيها .
وقال بعض العلماء : إنه ينبغي على الإنسان أن يتعاطى أسباب التحفظ ، ثم مابقي بعد ذلك فإنه لايلام عليه وهو الأولى ، وفيه حديث ضعيف " أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن القضم " وهو أكل الفضلة التي بين الأسنان كاللحم ، ونحو ذلك ، وهذا حديث ضعيف ، وقال بعض العلماء : إنه حديث موضوع ، وقد أشار إليه الإمام الماوردي في كتابه النفيس : " الحاوي في الفقه" .
المقصود أن هذه الفضلة من اللحم أو الخبز التي تكون بين الأسنان من العلماء من اغتفرها ، ومن العلماء من قال أغتفرها إذا تعاطى أسباب التحفظ منها ، وهذا هو الأقوى أن الإنسان بعد انتهائه من الطعام يستاك ، وإذا أراد أن يقوم إلى الصلاة وكان حديث عهد بطعام يستاك ؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يشوص فاه بالسواك عند الصلاة فهذا يدل على تعاطيه لأسباب التحفظ ، والله تعالى أعلم.?
السؤال الثامن :
إذا توضأ الشخص داخل الحمام فهل يذكر اسم الله عز وجل في هذه الحالة أم أنها تسقط عنه ..؟؟
الجواب:
إذا كان في الحمام فإنه يقول بسم الله في نفسه ، وهذا أخذه العلماء من قوله عليه الصلاة والسلام في الحديث القدسي يقول الله-تعالى-: (( فإن ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي )) ، فهو يقول بسم الله في نفسه ويجزيه ذلك ، والله تعالى أعلم .
السؤال التاسع :
ما الفرق في قولكم هذا قول فلان ، أو مذهب فلان ، وهو مروي عن فلان ، أو محكي عن فلان ؟ وكيف يمكن لطالب العلم تمييز القول أو المذهب أو المروي أو المحكي..؟؟
الجواب :?(27/26)
القول عن الإمام لايستلزم أن يكون مذهبا له ، فإذا قلنا وبه قال الإمام أحمد تكون عن الإمام أحمد مثلاً ثلاث روايات ، رواية بالجواز ورواية بالتحريم ورواية بالكراهة ، فإذا جئنا نحكي قوله بالجواز نقول وهذا جائز عند الإمام أحمد على قول ، وإن كانوا يقولون في المصطلح على رواية ، أو نقول وبه قال الإمام أحمد وهو قول عند الإمام أحمد ، كل ذلك لايستلزم أن يكون مذهبا له ، لكن إذا قلنا وهو مذهب الإمام أحمد فإن هذا يدل على أن مذهبه الذي يُفتى به والمشهور الذي عليه العمل والفتوى هو هذا القول ، وهكذا إذا قلنا والمالكية على المشهور ، فإذا قيل المالكية على المشهور أو قال به علماء الأصول على المشهور أي على القول الراجح ، وقال بعض العلماء : المشهور هو الأقوى دليلاً وإن لم يُرَجَّح ، والأقوى ماذكرناه من كون المشهور الذي عليه العمل والفتوى .
وإذا قلنا على وجه فالوجه يفرقون بينه وبين الرواية والقول : أن القول يكون عن الإمام ، والرواية تكون عن الإمام ، وأما الوجه فإنه اجتهاد أصحاب الإمام في تخريج المسألة على قواعد الإمام ، فتقول وعند الشافعية وجهان ، أي أن الإمام الشافعي ليس له نص في هذه المسألة وإنما اجتهد أصحابه في تخريج هذه المسألة على أصوله وذلك على الوجهين ، وهكذا بالنسبة للحنابلة ، والقول كثير عند المصطلح أكثر مايستعمله الشافعية رحمة الله عليهم وهكذا المالكية .
أما بالنسبة للرواية فكثيراً مايستعمله الحنابلة والحنفية - رحمة الله على الجميع - .
وبالنسبة لي هو محكي وهو مروي : هذا يكون في خلاف السلف ، وهم الصحابة والتابعون الأوائل ، السلف الصالح ، وهو مذهب الصحابة والتابعين ، إذا حكي مذهب الصحابي أو التابعي يأتي على طرق :(27/27)
الطريق الأولى : أن يكون مسنداً بالرواية ، ومن أشهر الكتب التي تعتني بذلك المصنف لابن أبي شيبة ، والمصنف لعبدالرزاق هذه تعتني بالرواية ، وكذلك كتب الإمام ابن جرير الطبري -عليه رحمة الله -حيث يعتني بسياق السند ككتابه النفيس :" تهذيب الآثار" فإنه إذا حكى القول عن ابن عباس أسنده بالرواية وهكذا في التفسير يسند بالرواية ، فإذا جئت ووجدت القول عن ابن عباس رواية تقول وهو مروى عن ابن عباس ، أو تجده مروياً عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه تقول وهذا القول مروي عن عمر ، لكن إذا قلت وهو مروي يحتمل أنه صحيح ويحتمل أنه غير صحيح ، فإذا قلت مروي أثبت أنه مروي لكن كونه صحيحا أو غير صحيح هذا أمر يحتاج إلى بحث ، ولذلك يقول بعضهم : صح عن عمر ، وصح عن ابن عمر ، هذا بلا إشكال تفهم منه أنه مروي ، وأن الرواية صحيحة ، لكن إذا قيل وهو محكي عن ابن عمر فإن الحكاية ليست كالرواية ، الحكاية تكون في كتب الفقهاء كالمغني ، وكذلك كتب الخلافات ككتاب : "بدائع الصنائع" للإمام الكاساني ، وكذلك كتاب"فتح القدير" للكمال بن الهمام ، وكذلك "المجموع" للإمام النووي - رحمة الله على الجميع - ، وهذه الكتب لاتعتني بالرواية وإنما تذكر القول عن الصحابة سرداً ، فيقول الإمام ابن قدامة مثلا : ولا يجوز ذلك وقال به عمر وعثمان وعلي ، فلما قال : قال به عمر وعثمان وعلي تفهم أن هذا حكاية ؛ لأنه لم يذكره مسنداً ، ولم يصحح الرواية به فتقول هذا حكاية ، فهو من خلاف الحكاية ، وخلاف الحكاية لايثبت إلا اذا كان في الكتب المعتمدة ، وفي المطولات التي اعتمد أهلها تحرير النسبة ، ولكن الرواية هي التي يثبت فيها القول عن الصحابة والتابعين والأئمة المتقدمين-رحمة الله عليهم أجمعين- ، والله تعالى أعلم.
السؤال العاشر:
هل نية الغسل واجبة في جميع أنواع الغسل أم أنها واجبة في الغسل الواجب ومسنونة في الغسل المسنون..؟؟
الجواب :(27/28)
بسم الله الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبة ومن والاه أما بعد :
فإن النية في الغسل واجبة في قول جمهور العلماء رحمة الله عليهم ، وهي واجبة في الغسل الواجب وشرط في صحته ، فلو أن إنسانا كانت عليه جنابة فدخل في بركة ، واغتسل فيها ، ولم يتذكر أنه جنب ، ولم ينو أن يرفع الجنابة ، ثم خرج من البركة فتذكر أنه جنب وأراد أن يجعل هذا الغسل مكان غسله من الجنابة لم يجزه ؛ لأن النية لاتصح إلا إذا كانت قبل الفعل ، وعلى هذا فإنه لابد وأن يرجع ثانية ويغتسل .
وأما بالنسبة للاغتسالات المندوبة فإن فضيلتها لاتتحقق إلا بنيتها لأن قصد التقرب والتعبد لله عز وجل موقوف على ذلك ، والله تعالى أعلم.
السؤال الحادي عشر:
هلا تفضلتم بإيضاح مسألة قياس الأولى مع ضرب الأمثلة على ذلك..؟؟?
الجواب :
قياس الأولى أن يكون الفرع أولى بالحكم من الأصل ، ومن أشهر أمثلته تحريم ضرب الوالدين من باب أولى وأحرى قياساً على نهيه - - سبحانه وتعالى - - عن التأفف ، لأنه لما نهى عن قول الإنسان لوالديه أف ، وحرم ذلك ، فلأن يحرم ضربه لوالديه من باب أولى وأحرى ، فإن الإيذاء بالضرب أعظم من الإيذاء بأف ، فلما كانت علة التحريم من التأفف هي الأذية ، والعلة موجودة في الفرع أكثر من وجودها في الأصل قالوا هذا قياس أولى ، أي أن الفرع أولى بالحكم من الأصل ، وكأن الشرع حينما حرم التأفف نبهنا على ماهو أكثر منه وأبلغ منه .
بالنسبة لمسألة القياس ، القياس يأتي على ثلاثة صور :
الأولى يقولون : قياس مساوي ، والثانية يقولون : قياس الأدنى ، والثالثة : قياس الأعلى .
وقياس المساوي : أن تكون العلة في الفرع مساوية للأصل ، مثل قياس النبيذ على الخمر إذا أسكر ، بجامع وجود الإسكار في كلٍ ، ومثل قياس الأرز على البر في تحريم الربا بجامع كون كل واحد منهما مطعوماً موزوناً ، وهذه العلة فيها مساوية ، ويسمون القياس فيها قياساً مساوياً .(27/29)
أما قياس الأعلى: أن يكون العلة في الفرع أولى منها في الأصل أن العلة في الفرع أقوى منها في الأصل .
وأما قياس الأدنى : فالعكس ، وقد اختلف في قياس الأدنى ومذهب طائفة أنه ليس بحجة ، والله تعالى أعلم .
السؤال الثاني عشر : ?
بالنسبة للوقف الذي في المساجد مثل المكيفات والمراوح واللمبات وغيرها من الأدوات القديمة في المسجد إذا استبدلت بغيرها من الأدوات الجديدة فماذا يصنع بالقديم هل يعطى لمن هو محتاج من أهل ذلك المسجد ؟ أم يباع ؟ أم يترك كما هو إلى أن يتلف..؟؟
الجواب :
وأما بالنسبة للوقف ، الأدوات الموجودة في المساجد لايجوز للناس أن يتصرفوا فيها وإنما يترك الأمر للأوقاف ، فما دام أن هناك إدارة مخصصة وجهه مخصصة تقوم على المساجد ، وهي معنية بالمساجد ومفوضة بالقيام عليها فإنه لايجوز للناس أن يتدخلوا في هذه الأمور ، وإنما يتركونها لمن هو ملزم بها شرعاً ، ولايجوز لهم أن يدخلوا المكيفات أو يخرجوها أو يستبدلوها إلا بإذن من هذه الجهات ، هذا من ناحية شرعية ؛ لأن الولايات كما ذكر العلماء تتخصص ، فكما أن القاضي يقوم بولايته ، كذلك الجهات إذا خصصت في المساجد بالقيام على مصالحها وعينت لها فلا يجوز لأحد أن يتدخل في هذه الأمور ، ولايغير في فرش المسجد ولايدخل شيئاً ولايخرج شيئاً إلا بإذن من هذه الجهات ؛ لأنها هي المسئولة ، ولذلك إذا أراد أن يدخل شيئاً أو يخرج شيئاً ينبغي الرجوع إلى مثل هؤلاء ، لأنهم ملزمون بها شرعاً .(27/30)
أما إذا كان المسجد مسجداً خاصاً بالإنسان ، وكان قد أوقف هذا المسجد ، فإنه إذا أوقف المسجد خرج عن ملكيته ، ولذلك من الخطأ مايفعله بعض الناس أنه إذا أوقف مسجداً تحكم في المسجد ، فأصبح يدخل من شاء من الأئمة ، ويخرج من شاء من الأئمة ؛ لأنه يملك المسجد ، والواقع أنه إذا أوقف المسجد فإن هذا المسجد يعتبر ملكاً لله عز وجل ، والناس يقدمون من رضوه إماماً ، فلو أراد أن يدخل عليهم إماماً لايرضاه الناس لم يجز له ذلك ، ويعتبر آثماً شرعاً ومتصرفاً فيما ليس له ؛ لأنه بالوقفية خرج عن ملكيته ، وأما كونه يختار الأفضل والأولى هذا أمر لابأس به للمصلحة ، وإذا كان المسجد خاصاً بالشخص أو في مكان وأراد أن يغير في أثاثه وفرشه فإن هذا الأثاث وقف ، ولا يجوز له أن يستبدل شيئاً منه ، ولا أن يخرج شيئاً منه ، ولا أن يغيره إلا بحكم من القاضي ، هذا هو الأصل الذي نص عليه العلماء رحمة الله عليهم والفقهاء : أن الأوقاف لايجوز التصرف فيها وبيعها إلا بإذن من القضاء ؛ لأنها خرجت من ملكية أصحابها بالوقفية ، ولاتزول هذه الوقفية إلا بحكم من القضاء ، ولذلك ينظر القاضي فإذا جمع الإثاث مثلاً كان هذا الأثاث قديماً يتقدم للقاضي ، ثم إن القاضي يحكم له ببيع هذا الأثاث واستبداله بما هو أصلح وأنفع ، وهكذا لو تهدم المسجد وأراد أن يسقط على المصلين وتضرروا ، فإن القاضي إما أن يقضي بهدمه ، أو بتغيير سقفه ، ولذلك تجد العلماء يتورعون ، حتى أن مسجداً من المساجد اختلف فيه علماء رحمة الله عليهم في مكان مشهور وقضيته مشهورة ، اختلفوا في تجديد سقفه فضلاً عن هدمه وبنائه .(27/31)
ولذلك الإقدام على هدم المساجد مع وجود قوتها واعتدال بنائها لتجديدها بالأفضل لايجوز ؛ لأنه قد أوقفت وأصبحت هذه الأموال موقوفة شرعاً ، ولايجوز التدخل فيها إلا للضرورة والحاجة ، ومن هنا لايجوز هدمها ، ولاتغييرها ، ولاتبديلها إلا في حدود ضيقة ؛ لأنه لايملكها أحد ، فبالوقفية خرجت عن ملكية الأفراد وأصبحت ملكاً لله عز وجل ، ولذلك هو يوقفها لله عز وجل ، ومن هنا خلت اليد عن الملكية ، والتصرف شرطه الملكية والإذن ، فلا يصح للإنسان أن يتصرف في شيءٍ لايملكه أو لم يؤذن له بالتصرف فيه ، حتى ألف بعض العلماء رسالة ومن أشهر ذلك " النص الوارد في تجديد المساجد " للشيخ السقاف من فقهاء الشافعية ، كانوا قد اختلفوا في مسجد هل يغيرون سقفه أو لا ..؟؟(27/32)
فقال بعضهم : لايغير ، وكانوا ينظرون هل توجد حاجة أو لا ، فكانوا في المسجد الواحد ربما يختلف الثلاثة الفقهاء هل يجدد سقفه أو لا يجدد ، فضلاً عن أن يهدم ، فضلاً عن أن يبنى من جديد ، فهذا أمر توسع فيه الناس أكثر من اللازم ، فتجد أهل الحي إذا وجدوا مسجدهم قد تغير فيه بعض الشيء ، أو أن أهل حي آخر قد بنوا مسجدهم وجددوه سعوا هم في تجديد هذا المسجد ، وذهبوا إلى الأغنياء والأثرياء ، وسألوهم أن يهدموا مسجدهم وأن يبنوا مسجداً جديداً ، وهذا لا يجوز إلا في حدود ضيقة معينة ، وبدل أن تصرف هذه الأمور في هدم المساجد القائمة المبنية التي لاتزال مصالحها ومرافقها صحيحة الأولى أن تصرف في إطعام الجائع ، وكسي العاري ، ونحو ذلك مما هو أشد حاجة ، وأعظم حاجة ، حتى قال بعض العلماء : إطعام الجائع أفضل من بناء المسجد ؛ لأن الإنسان إذا جاع لم يؤمن أن يكفر بالله - - عز وجل -- ، لأن الفقر قد يدعوه إلى الكفر- نسأل الله السلامة والعافية - ، فلو قال له شخص ارتد عن دينك وخذ هذا المال لربما ارتد عن دينه وأخذ المال ، ولذلك يعظم العلماء إطعام المسغبة ، ويرون كفاية الناس في حاجتهم وفقرهم أعظم من بناء المسجد في بعض الأحوال-نسأل الله العظيم أن يهدينا إلى سواء السبيل إنه المرجو ونعم الوكيل-.
وَآخِرُ دَعْوَانَا أَنِ الحمَْدُ لِلَّهِ رَبِّ العَالَميْنَ وصلَّى اللَّهُ وسلَّم وبارك على عبده ونبيَّه محمد وعلى آله وصحبه أجمعين .(27/33)
(
قَالَ المصنف رحمه الله : بَاب مَا جَاءَ فِي كَرَاهِيَةِ فَضْلِ طَهُورِ الْمَرْأَةِ
حَدَّثَنَا مَحْمُودُ بْنُ غَيْلاَنَ حَدَّثَنَا وَكِيعٌ عَنْ سُفْيَانَ عَنْ سُلَيْمَانَ التَّيْمِيِّ عَنْ أَبِي حَاجِبٍ عَنْ رَجُلٍ مِنْ بَنِي غِفَارٍ قَالَ : "نَهَى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَنْ فَضْلِ طَهُورِ الْمَرْأَةِ " .
قَالَ-رحمه الله - وَفِي الْبَاب عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَرْجِسَ .
قَالَ أَبو عِيسَى-رحمه الله -: وَكَرِهَ بَعْضُ الْفُقَهَاءِ الْوُضُوءَ بِفَضْلِ طَهُورِ الْمَرْأَةِ وَهُوَ قَوْلُ أَحْمَدَ وَإِسْحَقَ كَرِهَا فَضْلَ طَهُورِهَا وَلَمْ يَرَيَا بِفَضْلِ سُؤْرِهَا بَأْساً .
الشرح:
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين أما بعد :
فقد ذكر المصنف رحمه الله هذا الباب من أبواب الطهارة ، وقد اعتنى بإيراده لتعلقه بالماء الذي يتطهر به الإنسان ، وهذا الحديث الذي رواه المصنف رحمه الله عن رجل من بني غفار : هو الحكم ابن عمرو الغفاري رضي الله عنه وأرضاه ، قال الحافظ ابن حجر : إنه الحكم بن عمرو الغفاري .
وقد رواه الترمذي من طريقين :
طريق فيها إبهام ، والطريق الأخرى صرّح فيها بالحَكَمِ كما سيأتي في الحديث الذي بعد هذا ، وقد اشتمل هذا الحديث على نهي النبي صلى الله عليه وسلم عن الطهارة بفضل المرأة ، وهذا النهي قد جاء في حديث عبد الله بن سرجس ، كما رواه النسائي وغيره ، وقد صحح العلماء رحمهم الله نهي النبي صلى الله عليه وسلم عن الوضوء والاغتسال بفضل الماء الذي توضأت منه المرأة أو اغتسلت .
وقد اختلف العلماء - رحمهم الله - في سبب نهي النبي صلى الله عليه وسلم عن الطهارة بفضل طهور المرأة..؟؟(28/1)
فقال بعض العلماء : لأنها إذا اغتسلت أو توضأت تقاطر الماء من بشرتها ، وحينئذ يحصل للإنسان الوسواس بسبب ذلك الماء .
وقال بعض العلماء : إن الشريعة قصدت دفع الوسواس مطلقاً بغض النظر عن كونه يتقاطر أو لايتقاطر.
وقوله في الحديث" نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم " للعلماء في هذا النهي قولان :
القول الأول: إن هذا النهي للتحريم ، وبهذا القول قال عبد الله بن سرجس ، وعبد الله بن عمر ، وأبو هريرة -رضي الله عن الجميع - ، وهو رواية عن الإمام أحمد ، وقال به إسحاق بن راهويه -رحمة الله على الجميع - ، يقول أصحاب هذا القول : إن النبي صلى الله عليه وسلم قصد بهذا النهي التحريم ، فلا يجوز للمسلم أن يتوضأ أو يغتسل من فضل طهور المرأة ، وهذا على ظاهر النهي ؛ لأن القاعدة في الأصول : " أن النهي محمول على التحريم حتى يدل الدليل على خلاف ذلك " قالوا : ولا دليل يصرف هذا الحديث عن ظاهره ، ولذلك يأثم من توضأ بفضل طهور المرأة ، وهل يصح وضوؤه أو لا يصح ؟؟
وجهان ، وظاهر هذا النهي في هذا الحديث الإطلاق ، وقيّده بعض السلف رحمهم الله بكون المرأة خلت بذلك الماء ، أما لو اغتسلت أو توضأت أمام الإنسان ولم تختل به فإنه لا يكون النهي للتحريم .(28/2)
والقول الثاني : إن هذا النهي للتنزيه وليس للتحريم ، وبهذا القول قال جمهور العلماء من الحنفية ، والمالكية ، والشافعية ، وهو الرواية الثانية عن الإمام أحمد اختارها بعض أصحابه-رحمة الله على الجميع- يقولون : إن النبي صلى الله عليه وسلم لم يقصد تحريم الوضوء والإغتسال بفضل المرأة ، وإنما هو من باب الكمال ومن باب الاحتياط لا من باب الوجوب والإلزام ، قالوا : لأن النبي صلى الله عليه وسلم قد جاءت عنه الأحاديث تدل دلالة واضحة على أن الماء طهور لا ينجسه شيء ، والمرأة كالرجل سواء بسواء ، فكونها تغتسل من هذا الماء أو تتوضأ منه فإن الباقي يعتبر على الأصل واليقين من كونه ماءً صالحاً للوضوء والطهارة .
ولا شك أن أصح القولين هو القول الأول ؛ لأنه على ظاهر السنة الواردة عن النبي صلى الله عليه وسلم ، والقاعدة في الأصول : " أن النهي محمول على التحريم حتى يدل الدليل على الكراهة " ، ولا دليل بيّن هنا يدل على ما دون ذلك ، ومن هنا يكون القول بحمل هذا النهي على ظاهره أقوى وأرجح.
وأما بالنسبة للعلة فالذي يظهر أن الحكم هنا تعبدي ، وأنه ليس راجعاً لمسألة الطهارة والنجاسة ، والوسوسة ، والشك كما يقول العلماء ، وإنما هو تعبدي من الله سبحانه وتعالى ، والله عز وجل يحكم ولا معقب لحكمه ، ولا شك أن شرعه مبني على الحكمة البالغة ، ولذلك إن أدرك الإنسان ذلك المعنى فبها ونعمت ، وإن لم يدرك ذلك فما عليه إلا التسليم والقبول .
وقوله رضي الله عنه وأرضاه : " نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن فضل طهور المرأة " : الفضل في اللغة : هو الزيادة ، يقال فضل الماء إذا زاد ، ويقال رجل صاحب فضل أي صاحب زيادة خير وبر ، فإذا زادت طاعة الإنسان وازدادت قربته وصف بكونه من أهل الفضل ؛ لأنه ازداد من الخير والبر .(28/3)
وقوله" فضل طهور المرأة " : أي فضل الماء الذي تطهرت به المرأة ، وظاهر هذا أن الحكم يختص بما توضأت به المرأة أو اغتسلت ، ولكن لو شربت المرأة من إناء وأردت أن تتوضأ به فإنه يجوز لك أن تتوضأ بفضل ما شربت ، ولا يضر كونها أفضلت الماء بعد شربها ؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم شرب سؤر أم المؤمنين عائشة-رضي الله عنها وأرضاها- ففي الحديث الصحيح عنها أنها قالت : " إن كان يُدنى الشراب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فيقسم علي فأشرب ، ثم يأخذ الإناء فيضع فمه حيث وضعت فمي فيشرب"صلوات الله وسلامه عليه ، فدل هذا الحديث على أن سؤر المرأة يعتبر طاهراً ، وأنه يجوز للإنسان أن يتوضأ ويغتسل من الماء الذي شربت منه المرأة ، ولذلك يقوى الحكم هنا بكون المسألة تعبدية ، وعلى المرء السمع والطاعة والبعد عن التكلف والتنطع في الدين ، فبعض من الناس لا يسلم الأحكام إلا إذا تعقّل العلة ، وسأل عن العلة والسبب في ذلك ، ولا شك أن الأصل في المسلم أنه يسلّم بحكم الله ورسولهصلوات الله وسلامه عليه ، والله سبحانه وتعالى يبتلي عباده بما شاء ، ولا يجوز للإنسان أن يتكلف في بحث العلة والحكمة من هذا النهي ، وإنما عليه أن يرضى ويسلّم على الأصل في المسلم ، قال-تعالى-:{فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً}(1).
وقوله" نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن فضل طهور المرأة " : الطَّهور بالفتح : هو الماء الذي يتطهر به ، وأما بالضم فهو فعل الطهارة سواءً كانت اغتسالاً أوكانت وضوءاً ، وظاهر قوله : (( فضل الطهور)) التخصيص كما ذكرنا ، وعلى هذا فلا يشمل لو كانت المرأة اغترفت من الإناء لغسل رجل أو يد ، ولم تقصد بذلك أن تتطهر من الماء ، وهذه كله يقوي جوانب التعبد التي ذكرناها.(28/4)
قَالَ المصنف - رحمه الله-: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ وَمَحْمُودُ بْنُ غَيْلاَنَ قَالاَ حَدَّثَنَا أَبُو دَاوُدَ عَنْ شُعْبَةَ عَنْ عَاصِمٍ قَال سَمِعْتُ أَبَا حَاجِبٍ يُحَدِّثُ عَنِ الْحَكَمِ بْنِ عَمْرٍو الْغِفَارِيِّ : " أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم نَهَى أَنْ يَتَوَضَّأَ الرَّجُلُ بِفَضْلِ طَهُورِ الْمَرْأَةِ أَوْ قَالَ بِسُؤْرِهَا ".
قَالَ أَبو عِيسَى -رحمه الله -: هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ وَأَبُو حَاجِبٍ اسْمُهُ سَوَادَةُ بْنُ عَاصِمٍ وقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ فِي حَدِيثِهِ " نَهَى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَنْ يَتَوَضَّأَ الرَّجُلُ بِفَضْلِ طَهُورِ الْمَرْأَةِ "وَلَمْ يَشُكَّ فِيهِ مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ .
الشرح:(28/5)
فائدة هذه الراوية أنها صرحت باسم من روى الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وأما الحديث الأول فإنه جاء مبهماً ، حيث لم يبين من هو الصحابي الذي روى عن النبي صلى الله عليه وسلم هذا النهي ، وقال عن رجل من بني غفار ، وغفار قبيلة من قبائل العرب كان منزلها على حذاء الساحل ، وكانت بجهة وَدَّان ، وهذه القبيلة هي قبيلة الصحابي المشهور أبي ذر الغفاري جندب بن جنادة رضي الله عنه وأرضاه ، وقد كانت من القبائل التي ناصرت رسول الله صلى الله عليه وسلم وآزرته ، ولذلك ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : (( أسلم سالمها الله ، وغفار غفر الله لها ، وجهينة ومزينة موالي الله ورسوله )) ، فكانت من القبائل التي ناصرت رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ودعا لها النبي صلى الله عليه وسلم بالمغفرة ، ولذلك ترجم العلماء- رحمهم الله - وأئمة الحديث بفضل هذه القبيلة ؛ لدعاء النبي صلى الله عليه وسلم لها ، وفي هذه الرواية التي ذكرها المصنف التصريح بالنهي عن الوضوء ، وهي رواية خاصة ، بخلاف الرواية الأولى فإن فيها معنى العموم ، ولكن قوله : (( أن يتوضأ الرجل )) يدل على فائدتين:
الفائدة الأولى : أنه نهى عن الوضوء ، وهل الغسل آخذ حكم الوضوء أو غير آخذ ؟ فيرد السؤال على هذا الوجه . فيمكن أن يجاب بأنه صرح بالوضوء من باب التنبيه بالأدنى على الأعلى ؛ لأنه إذا حرم الوضوء فمن باب أولى أن يحرم الغسل.
وأما الفائدة الثانية : فهو قوله"نهى أن يتوضأ الرجل" ، وأما الرواية الأولى فإنها تدل على التحريم ، أي لا يجوز للرجل والمرأة أن يتوضآ أو يغتسلا بفضل طهور المرأة ، وأما الرواية الثانية فتخصص الحكم بالرجال دون النساء ، فكأن النهي أن يتوضأ الرجل دون المرأة ، فيجوز للمرأة أن تتوضأ بفضل المرأة كما لا يخفى من دلالة المفهوم .(28/6)
قَالَ المصنف رحمه الله : بَاب مَا جَاءَ فِي الرُّخْصَةِ فِي ذَلِكَ
حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ حَدَّثَنَا أَبُو الأَحْوَصِ عَنْ سِمَاكِ بْنِ حَرْبٍ عَنْ عِكْرِمَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ:اغْتَسَلَ بَعْضُ أَزْوَاجِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِي جَفْنَةٍ فَأَرَادَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَنْ يَتَوَضَّأَ مِنْهُ فَقَالَتْ :" يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنِّي كُنْتُ جُنُبًاً ؟ " فَقَالَ صلى الله عليه وسلم : (( إِنَّ الْمَاءَ لاَ يُجْنِبُ )).
قَالَ أَبو عِيسَى-رحمه الله -: هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ وَهُوَ قَوْلُ سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ وَمَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ .
الشرح :
ذكر المصنف-رحمه الله - هذا الباب من باب التنبيه على ما عارض الحديث الأول ، وذلك أن حديث ابن عباس رضي الله عنهما في اغتسال ميمونة من هذه الجفنة يدل على جواز أن يتوضأ ويغتسل الرجل بفضل طهور المرأة ، وقد أجاب العلماء بالكلام في سند هذا الحديث ؛ لأنه من رواية سماك بن حرب وقد تقدم الكلام على سماك عند بياننا لرجال الحديث ، وآثرنا الاختصار والاقتصار على حكم بعض العلماء على سند الحديث دون الإسهاب ؛ خوف الإطالة والسآمة والملل ، وقد أجاب العلماء رحمهم الله بأن شعبة قد رواه عن سماك ، وسماك وإن كان يقبل التلقين إلا أن رواية شعبة تقوي ثبوت هذا الحديث ، وقد ردّ العلماء الذين يقولون بالنهي الأول : بأن هذا الحديث أصله كما في الرواية الصحيحة أنها اغتسلت مع النبي صلى الله عليه وسلم من إناء واحد ؛ ولذلك قوى العلماء جانب النهي من وجهين :(28/7)
لأن روايته أقوى من روايتنا التي معنا ، ولأن القاعدة في الأصول : " أن الحظر والإباحة إذا تعارضا فإنه يقدم الحظر على الإباحة" ، وذلك من باب الاحتياط وإعمالاً لقوله- عليه الصلاة والسلام - :(( دع ما يريبك إلى ما لا يريبك )) ، فدل على أنه ينبغي تقديم الحظر على الإباحة والجواز ، ومن هنا ترجّح قول الحظر .
وقوله -- رضي الله عنه - وأرضاه-:"اغتسل بعض نساء النبي صلى الله عليه وسلم " : المراد بها ميمونة-رضي الله عنها وأرضاها-.
وقولها : "إني كنت جنباً": اختلف العلماء في الجنب :
فقال بعض العلماء : إن الجنب مأخوذ من الجنب ؛ لأن الجنابة تحصل بسبب الجماع ، وهو يقوم على إلزاق الجنب بالجنب ، وقيل لأنها مأخوذة من المجانبة بمعنى المباعدة ، ومنه سمي الأجنبي أجنبياً لأنه بعيد في النسب ، ولا يمت إليك بصلة من القرابة ، ولذلك يعتبر لفظ الجنب من الأضداد ، يحتمل أن يراد به البعد ويحتمل أن يراد به القرب ، أي أنني اغتسلت من هذا الماء ، وتطهرت به من الجنابة .
وقال بعض العلماء في الجواب عن هذا الحديث : بأن أم المؤمنين-رضي الله عنها وأرضاها - لم تنفرد باغتسالها ، ولم تخل عن نظر النبي صلى الله عليه وسلم ، والنهي إنما هو في حال انفراد المرأة بالماء ، لا في حال عدم انفرادها فإذا لم تنفرد بالماء كان ذلك في حكم الاجتماع والاغتسال معاً ، وهذا كله يقوي القول الأول القائل بالمنع والحظر .(28/8)
وقولها :"إني كنت جنباً": فيه دليل على أنه ينبغي للمسلم إذا رأى من أخيه شيئاً أن ينبهه على ذلك الشيء ، خاصة إذا كان تنبيهه يتضمن حكماً شرعياً ، وهذا التنبيه من أم المؤمنين يقوي القول القائل بالتحريم والمنع ، ووجه ذلك أنها لو لم يكن التحريم معروفاً عند أمهات المؤمنين لما نبهت رسول الله صلى الله عليه وسلم وهذا يدل على أن المنع من فضل طهور المرأة كان معروفاً عند أمهات المؤمنين ، ومن هنا قالت لرسول الله صلى الله عليه وسلم : " إني كنت جنباً".
وقوله عليه الصلاة والسلام :(( إن ا لماء لا يجنب)) : فيه دليل على أن الأصل في الماء أنه طهور ، وأنه يجوز للإنسان أن يتوضأ ويغتسل بالماء حتى يتحقق من نجاسته ، وخروجه عن هذا الأصل ، أما إذا كان باقياً على الأصل فإنه يستبيح به الطهارة بنوعيها ، سواء كانت طهارة حدث أو طهارة خبث ؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال : (( إن الماء لا يجنب)) .(28/9)
وفيه دليل على أنه إذا توضأ الإنسان أو اغتسل بماء ، ثم جمع هذا الماء كأن يغتسل في طشت ونحو ذلك ، ثم جاء غيره يريد أن يتوضأ أو يغتسل بهذا الماء فلا حرج ؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم وصف الماء بكونه لا يجنب ، فدل على أنه إذا استعمله الإنسان في رفع الجنابة وجاء الغير يريد أن يستعمله في الطهارة أنه يجوز له ذلك ؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم نفى كون الماء متأثراً بالجنابة ، ففيه ردّ على فقهاء الحنفية والحنابلة -رحمة الله على الجميع- الذين يقولون : إن الماء إذا استعمل في الطهارة الصغرى أو الطهارة الكبرى لا يجوز للإنسان أن يتطهر به ، وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه " عصر الماء الذي على شعره على المكان الذي لم يصبه الماء في الغسل" ، ومن المعلوم أن الماء الذي كان في شعره صلوات الله وسلامه عليه بعد الغسل يعتبر ماءً مستعملاً في رفع الحدث ، فكونه يكمل به الغسل يدل دلالةً واضحةً على أن الماء لا يتأثر بالطهارة .
وفي هذه الجملة دليل على القاعدة الشرعية المشهورة وهي قولهم : " اليقين لايزال بالشك " ، وقد تفرع عن هذه القاعدة قولهم : " الأصل بقاء ما كان على ماكان " وهذه القاعدة هي إحدى القواعد الخمس المشهورة ، وهي التي قام عليها الفقه الإسلامي :
أولها : " الأمور بمقاصدها ". وثانيها : " اليقين لا يزال بالشك ". وثالثها : " الضرر يزال " .
ورابعها : " المشقة تجلب التيسير" . وخامسها : " العادة محكمة " .
فقولهم :" الأصل بقاء ما كان على ماكان" يقويه قول النبي صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث :(( إن الماء لا يُجْنِب)) ، أي الأصل في هذا الماء أنه ماء صالح للطهارة ، فلا يتأثر بكونك اغتسلت منه أو توضأت منه ، فلا يحكم عليه بما يحكم على المكلف ، فكأنه أبقى الأصل من كونه طهوراً طاهراً في نفسه مطهراً لغيره .
ومن هنا قالوا : إذا شك الإنسان هل أصابت النجاسة الماء أو لم تصبه ..؟؟(28/10)
فإنه يقول إن الأصل في هذا الماء أنه طهور ، ولا يعدل عن هذا الأصل إلا بيقين مثله برؤية نجاسة ، أو شمها ، أو وجود طعمها أو لونها ، وإلابقي على الأصل الذي يدل على كون الماء طهوراً.
قَالَ المصنف رحمه الله : بَاب مَا جَاءَ أَنَّ الْمَاءَ لاَ يُنَجِّسُهُ شَيْءٌ
حَدَّثَنَا هَنَّادٌ وَالْحَسَنُ بْنُ عَلِيٍّ الْخَلاَّلُ وَغَيْرُ وَاحِدٍ قَالُوا حَدَّثَنَا أَبُو أُسَامَةَ عَنِ الْوَلِيدِ بْنِ كَثِيرٍ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ كَعْبٍ عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ رَافِعِ بْنِ خَدِيجٍ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ قَالَ قِيلَ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَنَتَوَضَّأُ مِنْ بِئْرِ بُضَاعَةَ وَهِيَ بِئْرٌ يُلْقَى فِيهَا الْحِيَضُ وَلُحُومُ الْكِلابِ وَالنَّتْنُ؟؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم :(( إِنَّ الْمَاءَ طَهُورٌ لا يُنَجِّسُهُ شَيْءٌ )).
قَالَ أَبو عِيسَى- رحمه الله -: هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ وَقَدْ جَوَّدَ أَبُو أُسَامَةَ هَذَا الْحَدِيثَ فَلَمْ يَرْوِ أَحَدٌ حَدِيثَ أَبِي سَعِيدٍ فِي بِئْرِ بُضَاعَةَ أَحْسَنَ مِمَّا رَوَى أَبُو أُسَامَةَ ، وَقَدْ رُوِيَ هَذَا الْحَدِيثُ مِنْ غَيْرِ وَجْهٍ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ .
قال رحمه الله : وَفِي الْبَاب عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ وَعَائِشَةَ .
الشرح :(28/11)
هذا الحديث الشريف يعتبر من أهم أحاديث باب المياه ، وقد اعتنى المحدثون رحمهم الله بإيراد هذا الحديث في كتاب الطهارة ؛ لاشتماله على أصل عظيم من أصول المياه ، وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم قرر فيه أن الأصل في الماء أنه طهور حتى يتأكد ويتحقق الإنسان من كونه خارجاً عن هذا الأصل بطاهر أو نجس ، فإذا تغير بالطاهر حكمنا بكونه طاهراً في نفسه غير مطهر لغيره ، وإذا تغير بالنجس حكمنا بكونه نجساً لا يجوز للمسلم أن يستعمله في طهارة سواءً كانت طهارة حدث أو طهارة خبث ، وقد اعتنى العلماء رحمهم الله بهذا الحديث الذي يسمونه حديث بئر بضاعة ، وبئر بضاعة بئر كان موجوداً في المدينة إلى عهد قريب ، وقد كان في بستان يقع شمالي المدينة إلى غربها ، وهو إلى الغرب أقرب منه إلى الشمال ، وكان هذا البئر يبعد عن مسجد النبي صلى الله عليه وسلم بما يقرب من ألف متر ، كان الناس على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم يرتفقون بالماء الموجود في هذا البئر ، ولذلك لما وقعت هذه البلوى من وقوع الحيض فيه والنتن ووقوع القاذورات في هذا البئر شكوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم الأمر .
وقد استشكل العلماء رحمهم الله كيف يضع الناس النجاسة والقاذورات في هذا البئر ، مع أن زمان النبي صلى الله عليه وسلم كان الصحابة فيه محافظين على الأصل من عدم الأذية بالنجاسة والقذر بإلقائها في موارد المياه ، وقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن البول في موارد الناس ، فكيف يلقون هذه القاذورات في هذا البئر..؟؟
وقد أجاب العلماء رحمهم الله بجوابين :
الجواب الأول: أنه يحتمل أن الذي كان يلقي النجاسة والقذر اليهود أو المنافقون ، فكانوا يؤذون أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم بذلك .(28/12)
الجواب الثاني : وهو أقوى الجوابين ، أن الرياح تتحرك فتلقي في البئر هذه القاذورات ، وهذا هو أقوى الوجهين والجوابين ؛ لأن البئر لا تخلو من وجود أصحاب لها يقومون عليها ، ولذلك يقوى أن يقال بأن تحرك الرياح يوجب سقوط هذه القاذورات في البئر ، كما هو أمر معروف معهود .
ومن هنا اشتكى أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم من هذا الماء هل يجوز لهم أن يتوضئوا ويغتسلوا به أم أنهم يتركوه لشبهة النجاسة الواقعة فيه ، فقررصلوات الله وسلامه عليه الأصل الشرعي أن الماء طهور حتى يتغير أحد أوصافه ، فبين عليه الصلاة والسلام : (( أن الماء طهور لا ينجسه شيء)) .
وقد استدل بهذه الجملة فقهاء المالكية والظاهرية-رحمة الله على الجميع- أننا لا نحكم بنجاسة ماء ولا بخروجه عن الأصل إلا إذا تحققنا من كونه نجساً ، أو كونه طاهراً متغيراً بطاهرٍ كزعفران وورد ونحو ذلك ، أما إذا وقعت النجاسة في الماء ولم تغير أحد أوصاف الماء فإنه طهور .
وخالف في ذلك فقهاء الحنفية والشافعية والحنابلة-رحمة الله على الجميع - فقالوا إن الماء يفرق فيه بين القليل والكثير ، فما كان من الماء قليلاً ووقعت فيه ولو قطرة من البول والنجاسة فإننا نحكم بنجاسته ، حتى ولو لم يتغير أحد أوصافه ، واختلفوا في ضابط القليل والكثير ،-وسيأتي بسط هذه المسألة في حديث القلتين إن شاء الله تعالى-.
وقد ترجّح مذهب المالكية والظاهرية وطائفة من أهل الحديث ، وهو اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية والإمام ابن القيم-رحمة الله على الجميع - أن العبرة في الماء بالتغير ، فإن تغير أحد أوصافه حكمنا بكونه منتقلاً إلى حكم ما غيّره فإن تغير بشيء طاهرٍ قلنا إنه طاهر ، كأن يلقى فيه الورد والزعفران فيصبح لون الورد والزعفران أو طعمه أو ريحه في الماء ، فحينئذ نقول إنه ماء طاهر وليس بماء طهور ؛ لأنه خرج عن كونه طهوراً بالإضافة والقيد .(28/13)
وأما إذا تغير بالنجاسة ووجدنا طعمها أو لونها أو رائحتها فإننا نحكم بكونه نجساً ، وقس على ذلك من المسائل والفروع ، وهذه هو أصح الأقوال -كما سيأتي إن شاء الله بسطه وبيانه-.
وبناءً على هذا الحديث فينبغي للمسلم أن يعلم أن الماء ينقسم إلى ثلاثة أقسام :
القسم الأول: ماء طهور …. والقسم الثاني: ماء طاهر. والقسم الثالث: ماء نجس .
فأما القسم الأول الماء الطهور : فإنه كل ماء باق على أصل خلقته ، فيشمل ذلك ماء المطر وماء السيل إذا لم يتغير وماء البئر وكذلك ماء العين وماء النهر وماء البحر ، فهذه المياه كلها نقول إنها مياه طهور ، يجوز للإنسان أن يستعملها في الطهارة والدليل على ذلك قوله-- سبحانه وتعالى - -:{وَأَنزَلْنَا مِنْ السَّمَاءِ مَاءً طَهُورًا}(1) فوصف الماء الذي هو باق على أصل خلقته بكونه طهوراً ، ثم وصف هذا الماء بأنه أسكنه-سبحانه- في الأرض فقال:{فَأَسْكَنَّاهُ فِي الأَرْضِ وَإِنَّا عَلَى ذَهَابٍ بِهِ لَقَادِرُونَ}(2) ، فأخبر أن هذا الماء الذي نزل من السماء أسكنه في الأرض ، وبناء على ذلك نقول مادام أن ماء السماء بشهادة الله طهور ، فإنه طهور وهو يجري على الأرض سيلاً ونهراً وعيناً ، وهو طهور وهو مستقر في الأرض سواء كان استقراره في بئر أو كان في عين ونحو ذلك ، كله نقول فيه إنه ماء طهور طاهر في نفسه مطهر لغيره .
وأما ماء السيل فإنه يتغير بلون التراب إذا جرى على الأرض ، وهذا التغير لا يضر ؛ لأنه مما يشق التحرز عنه ، فإذا كان الماء الطهور يشق تحرزه مما يخالطه من الطاهرات حكمنا بكونه باقياً على الأصل .(28/14)
ومن أمثلة ذلك : لو أن إنساناً جاء إلى غدير أو جاء إلى بحيرة ماء فإنه يجد فيها الأعشاب المائية والطحالب ونحو ذلك ، فهذه الطحالب يجد طعمها في الماء ولكنها لا تسلب الماء حكم الطهورية ، بل نقول إنه ماء طهور طاهر في نفسه مطهر لغيره ، وهذا العشب والطحلب لا يسلب الماء الطهورية ؛ لكونه يشق التحرز عنه ، وفي حكم ذلك لو وضعت الماء في زير فوجدت طعم الزير في الماء ، وأردت أن تتوضأ به فهذا الطعم لا يضر ، وهكذا بالنسبة للقرب والأشنان ، فإن القربة إذا وضعت الماء فيها تغيرت رائحة الماء ، ووجدت رائحة الأديم في الماء ، فهذه الرائحة لا تضر ، وقس على ذلك المياه الموجودة الآن ، فصنابير المياه والخزانات التي تكون من النحاس والحديد ونحو ذلك ، إذا تغيرت رائحة الماء بأسبابها كشدة حر ونحو ذلك لم يضر .
ولذلك قال العلماء : يفرق بين التغير الاختياري والتغير الاضطراري ، ومن هنا قال بعض أهل العلم - رحمة الله عليهم - لو نبتت على فم البئر شجرة ، وتقاطر منها الورق ، فأصبح الماء متغيراً برائحة الورق ، فإنه لا يضر ؛ لأنه يشق تحرز الماء أو التحرز من هذا السقوط ، وكذلك لو نبتت في أصل البئر شجرة أو في أطراف البئر شجرة وتساقط أوراقها فغيرت طعم الماء أو لونه أو رائحته لايضر ؛ لأنه تغير اضطراري ، ولا يستطيع الإنسان أن يتحرز منه ، وهكذا لو أسقطت الدلو في البئر ثم أخذت من ذلك الماء ، فلما خرج الماء خرج وفيه رائحة الدلو فكل ذلك مما لا يضر ولا يؤثر .(28/15)
وهذه المياه كلها يحكم بكونها طاهرة في نفسها مطهرة لغيرها ، سواء كانت مالحة أو عذبة ، فالماء المالح يعتبر صالحاً للوضوء والغسل ؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم سأله الصحابة كما في حديث أبي هريرة فقالوا : يارسول الله : إنا نركب البحر ومعنا القليل من الماء إن توضأنا به عطشنا ، أفنتوضأ بماء البحر؟ فقال صلى الله عليه وسلم :((هو الطهور ماؤه الحل ميتته)) ، فأخبرصلوات الله وسلامه عليه بكون الماء -أعني ماء البحر بكونه طهوراً- ، ولذلك قالوا إن تغير المياه في طعمها بحالها وبطبيعتها لا يضر ، فلو كان بجوار الماء معدن وهذا المعدن له رائحة تضرر الماء بسببها فإنه يجوز لك أن تتوضأ وتغتسل بهذا الماء مع كونه متغيراً .
وأما القسم الثاني أن يكون الماء طاهراً : والماء طاهر هو الذي خرج عن الطهورية بطاهر ، كأن يتغير أحد أوصافه بشيء طاهر .
فمثلاً: لو أخذ إنسان سطلاً من الماء ووقع في هذا السطل ورد أو زعفران ونحو ذلك من الطاهرات فإننا نحكم بكون الماء متغيراً بهذا الطاهر إذا وجدنا رائحة الورد ، أو لونه ، أو طعمه ، فإذا وجد اللون أو الطعم أو الرائحة حكمنا بالتغير ، وقلنا إنه ماء طاهر لا يجوز للمسلم أن يتطهر به ، ولكن يجوز أن يستعمله في الأشياء التي يريدها ، وذلك لأن الله عز وجل وصف الماء الباقي على أصل خلقته بالطهورية تنبيهاً على المعنى الزائد ، ولذلك قال العلماء : "زيادة المبنى تدل على زيادة المعنى " ومما يدل على أن الصحابة-رضوان الله عليهم-كانوا يفرقون بين الطاهر والطهور : أنهم لما نظروا إلى ماء البحر قد تغير لونه وطعمه ورائحته سألوا النبي صلى الله عليه وسلم مع كونه متغيراً بطاهر ، فدل على أن هناك فرقاً بين الطهور والطاهر ، وعلى هذا فإن الماء إذا تغير بطاهر نحكم بكونه طاهراً في نفسه غير مطهر لغيره.(28/16)
القسم الثالث الثالث أن يكون الماء نجساً : والماء النجس هو الذي وقعت فيه نجاسة فغيرت لونه أو طعمه أو رائحته ، فلو أن إنساناً أخذ دلواً من البئر ، ثم وقعت في هذا الدلو نجاسة كعذرة وبول ونحو ذلك ، وأصبح لون العذرة أو طعمها أو رائحتها موجوداً في هذا الدلو فإننا نقول بأن الماء نجس ؛ لأنه تغير بنجس.
وبناءً على ذلك يتلخص الحكم في قولنا إن الماء له حالتان :
الحالة الأولى : أن يكون باقياً على أصل خلقته فماء طهور .
والحالة الثانية : أن يكون متغيراً عن هذا الأصل : فإن تغير بطاهر فطاهر ، وإن تغير بنجس فإنه نجس ، لا يجوز للمسلم أن يستعمله في طهارة ولا في غيرها ؛ لأن الشرع إنما أذن لنا بالطهارة بالماء الطهور ، وأما الماء النجس فإنه ليس بطاهر في نفسه ولا يزيد المكلف إلا نجاسة وقذراً .
- ? - ? - ? - ? - الأسئلة - ? - ? - ? - ? -
السؤال الأول :
إلى أي القسمين يلحق الخنثى خاصة إذا كان مُشْكِلاً فهل يتوضأ بفضل طهور المرأة ..؟؟
الجواب :
بسم الله الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه أما بعد :
فإن الخنثى فيه شبه بالرجال ، وشبه بالنساء ، ويقع على صورتين :
الصورة الأولى : أن يكون بيناً ، وهو الخنثى الذي تبين حاله ، قال العلماء : ويتبين حاله بالبول من أحد العضوين ، أو تكون فيه صفات الأنوثة وأحوال الإناث فيلحق بالإناث ، أو صفات الرجال من طلوع لحية ونحو ذلك فيلتحق بالرجال.
والصورة الثانية : أن لا يوجد فيه الصفات التي ترجح كونه رجلاً ، أو كونه امرأة فهذا يسميه العلماء بالخنثى المشكل ، ويقولون مشكل لأنه أشكل حاله ، ففيه شَكَل من الرجال ، وفيه شكل من النساء ، ولذلك يقولون خنثى مشكل ، فهذا النوع العلماء - رحمة الله عليهم - يقولون إنه يأخذ حكم النساء ، حتى يدل الدليل على كونه رجلاً ، وهذا مفرع على القاعدة : " أن اليقين لا يزال بالشك " .(28/17)
وتوضيح ذلك : أن بين الرجل والمرأة درجة ، وقد نص الله -- عز وجل - - على ذلك في قوله -- سبحانه وتعالى - -:{وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالأُنْثَى}(1) ففرق-- سبحانه وتعالى - - بين الرجال والنساء ، وجعل للرجال ما ليس للنساء ، فحينئذ يقولون إن الخنثى إذا كان فيه شكل وفيه شبه فإننا على يقين من كونه أنثى ، حتى نستيقن أو يغلب على ظننا انتقاله إلى كونه ذكراً ، ومن هنا قالوا إن الخناث ينزلون منزلة الإناث حتى يقوى الدليل على كونهم رجالاً ، فيلتحق بالمرأة ، ويأخذ حكمها سواء بسواء ، وقد فرع العلماء هذه الأحكام في مسائل الميراث ، وكذلك أيضاً في مسائل الصلاة على الجنائز والدفن وغيرها من الأحكام المتعلقة بالخناث ، والله تعالى أعلم.
السؤال الثاني :
هل نفهم من قوله " أن يتوضأ الرجل بفضل طهور المرأة " أن المرأة تتوضأ بفضل طهور المرأة ..؟؟
الجواب :
مفهوم قوله أن الرجل يدل على أنه يجوز للمرأة أن تتوضأ بفضل المرأة ، وحكى بعض العلماء القول هذا عن جماهير أهل العلم رحمة الله عليهم ، واعتبروا الإطلاق في رواية المصنف - رحمه الله-"نهى أن يتطهر بفضل" المرأة مقيداً بقوله : " أن يتوضأ الرجل" ، وهذا من باب حمل المطلق على المقيد كما هو معلوم في الأصول ، والله تعالى أعلم.
السؤال الثالث :
هل فضل طهور المرأة له ضابط أي هل هو ما اغترفت منه مباشرة أوصبت على يدها ولم تغترف أم أن الأمر واحد ..؟؟
الجواب :
فضل الطهورهو ما فضل من طهارتها ، سواء كان باغترافها بيدها ، أو باغترافها بالماعون ، فالفضل هو الزائد فضلة الماء مازاد ، فما دام أنه زائد من طهارتها فإنه آخذ هذا الحكم ، سواء اغترفت بيدها أو بإناء ، والله تعالى أعلم.
السؤال الرابع :
هل هناك فرق بين الماء القليل والكثير بالنسبة لفضل طهور المرأة ..؟؟
الجواب :(28/18)
هذا الحكم إنما يتعلق بالآنية والأوعية ، لأنها صورة الحال على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ولذلك يقولون التخصيص بالحس معتبر في الأصول ، ولذلك يقولون إذا كان في إناء ووعاء ونحو ذلك فإنه يأخذ هذا الحكم ، لكنها لو جاءت وتوضأت من نهر ، أو اغتسلت من نهر واغترفت منه فإننا لا نقول إن هذا فضلة ؛ لأنه في أصل خلقته موجود ، ولا يحكم بكونه فضلة طهور المرأة لما ذكرناه ، والله تعالى أعلم.
السؤال الخامس :
أشكل علي إدراج النبي صلى الله عليه وسلم تحت الغسل من الجنابة الوضوء ، مع ما ذكرناه في فرائض الوضوء أنه يجب الترتيب..؟؟
الجواب :
هذا أجاب العلماء بالقاعدة المشهورة التي دلت عليها النصوص : " أنه يجوز الشيء تبعاً ، ولا يجوز أصلاً " يجوز الشيء إذا كان تبعاً ، ولا يجوز إذا كان أصلاً وقصداً ، ولهذا نظائر فإن صلاة الحي عن الميت لا تجوز ، لو أن إنسانا مات ولم يصل لا يجوز لأحد أن يصلي عنه ، بل حتى لو أراد إنسان أن يتنفل عن أبيه الميت لم يجز له ذلك لأنها عبادة بدنية ، والإجماع على أنه لا يجوز أن يتنفل الحي أو يصلي الحي عن الميت ، لكن لو أن هذا الميت مات ولم يحج أو يعتمر جاز لك أن تحج عنه بالإجماع ، فإذا حججت عنه طفت وصليت خلف المقام ركعتين مع أن هذه الصلاة تعتبر تابعة ولكنها ليست بقصد ولا بأصل ، فجاز الشيء تبعاً ولم يجز أصلا .(28/19)
ومن أمثلة ذلك : ما ثبت في الصحيحن من حديث ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم :" نهى عن بيع الثمرة قبل بدو صلاحها نهى البائع والمبتا ع" ، كذلك أيضاً ثبت في الصحيحين من حديث أنس رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم : " نهى عن بيع الثمرة حتى تزهي ، قالوا : وما تزهي يارسول الله ؟ قال : (( تحمار أو تصفار)) فمعنى ذلك أن الثمرة إذا كانت قبل بدو صلاحها لا يجوز بيعها ، وقد قال- عليه الصلاة والسلام - في الصحيحين من حديث ابن عمر : (( من باع نخلاً قد أبرت فثمرتها للبائع إلا أن يشترطها المبتاع )) ، فأنت لو اشتريت بستاناً لم يبد الصلاح في ثمره ، وقد وقع شراؤك له بعد التأبير وقبل بدو الصلاح فإن الثمرة إذا اشترطتها كانت لك ، مع أنها استحقت بالبيع ، وقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن بيع الثمرة قبل بدو صلاحها ، قالوا لأنها فرع تابع لأصل .
ومن أمثلة ذلك : بيع الأجنة في البطون ، لا يجوز أن يقول لك الرجل بعتك ما في بطن هذه الشاة ، أو بعتك ما في بطن هذه الناقة ، أو بعتك ما في بطن هذه البقرة ؛ لأنه مجهول هل هو حي أو ميت ؟ وإذا كان حياً أو ميتاً لا نضمن هل يخرج حياً أو يخرج ميتاً ؟ ثم إذا خرج حياً لا ندري أ يخرج كامل الخلقة أو ناقص الخلقة؟؟ فنظراً لذلك كان من بيع الغرر فنهى النبي صلى الله عليه وسلم عن بيعه ، كما في الصحيحين من حديث ابن عمر : " نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بيع حبل الحبلة " ، وهو الجنين الذي في بطن أمه على أحد التفسيرات الأربعة المشهورة في هذا الحديث ، إذا ثبت أنه لا يجوز لك أن تبيع الجنين في بطن أمه فلو قلت له أبيعك هذه الشاة بألف والشاة حامل وفي بطنها جنين جاز ؛ لأن الجنين وقع تبعاً ولم يقع أصلاً ، وهكذا لو قلت له أبيعك هذه الناقة بألف ، والناقة حامل وإنما رفعت سعرها إلى ألف لكونها حاملا وعندها ولد جاز ذلك ، لأنه تبع وليس بأصل .(28/20)
فالوضوء في الأصل لا يجوز لك أن تتوضأ إلا مرتباً ؛ لأن الله عز وجل رتب هذه الأعضاء ، فأمرنا بغسل الوجه ، ثم اليدين ، ثم أمرنا بمسح الرأس ، ثم غسل الرجلين ، ومما يدل على اشتراط الترتيب للصحة أن الله أدخل ممسوحاً بين مغسولين ، فأمرنا أن نمسح برؤوسنا بعد غسل أيدينا وقبل غسل الرجل ، ولو كان الترتيب ليس شرطاً لابتدأ بالممسوح أولاً ثم المغسولات ، أو ابتدأ بالمغسولات أولاً ثم الممسوحات ، فكونه يبدأ بالمغسول ثم يدخل الممسوح بين مغسولين-كما يقول الأئمة والعلماء- يدل دلالة واضحة على أن هذا مقصوداً ، وأن الترتيب معتبر ، ولأن النبي صلى الله عليه وسلم ما توضأ منكساً .(28/21)
وليس هناك دليل يدل على عدم اشتراط الترتيب إلا حديث المضمضة ، وهو " أن النبي صلى الله عليه وسلم غسل وجهه ثم تمضمض " ، وهذا الحديث الجواب عنه : بأن الترتيب شرط في صحة الوضوء في الفرائض ، أما بين السنة والفرض فليس بواجب وليس بلازم ، والمضمضة ليست من فرائض الوضوء ، وإنما هي من السنن كما قررناه وبينا وجهه عند كلامنا على حكم المضمضة ، إذا ثبت هذا وهو أن الترتيب شرط لصحة الوضوء فإننا نقول نطالبك بالترتيب أصلاً ، فإن وقع الوضوء تبعاً للغسل جاز لك أن تدرج الوضوء تحته ، وحيئذ تغسل جميع البدن ويغتفر الترتيب ؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يرتب في غسله- عليه الصلاة والسلام -من الجنابة ، يشكل على هذا أن النبي صلى الله عليه وسلم توضأ قبل غسله ثم اغتسل ، فيقولون إن الترتيب قد وقع في وضوئه ، وقد أجيب بأن ابتداءه بالوضوء إنما هو لشرف أعضاء الوضوء لا لقصد رفع الحدث ؛ بدليل قوله- عليه الصلاة والسلام -في تغسيل بنته زينب : (( ابدأن بميامنها وبأعضاء الوضوء منها )) ، فدل على أن الشرع يقصد في الغسل تقديم أعضاء الوضوء تشريفاً وتكريماً ، لا من باب الإلزام والوجوب ، وعلى هذا فإنه لا إشكال في هذا الأمر ؛ لأن الترتيب سقط هنا للتبعية ولم يسقط للأصل ، والله تعالى أعلم .
السؤال السادس :
إذا اختلطت مياه العين بجزء من مياه التصريف النجسة فكيف يكون حكم الماء..؟؟
الجواب :
إذا اختلطت المياه بعضها ببعض ، ماء نجس بالماء الطهور ، ننظر في تغير الماء الطهور فإن وجدنا رائحة النجس فيه ، أو طعمه ، أو لونه حكمنا بكونه متنجساً ، أما إذا كان الماء الطهور باقياً على أصله ولم يحصل هناك تأثر فإننا نقول بأنه يجوز الوضوء والاغتسال به .(28/22)
مثال ذلك : لو كان مثلاً خزان الماء الطهور بجوار الماء النجس أو التصريف ، فتخلل شيء من التصريف على الماء الطهور أو على الخزان الذي فيه الماء الطهور ، ننظر إن وجدنا رائحة النجاسة ، أو طعمها ، أو لونها في هذا الماء الطهور حكمنا بكونه متنجساً ، وحينئذ لا يجوز أن يستعمل في طهارة ، والله تعالى أعلم.
السؤال السابع :
هل يمكن أن نقسم الماء إلى طهور ونجس فقط..؟؟
الجواب :
تقسمه كما ذكرنا طهور وطاهر ونجس ، لو قلت طهور ونجس فهذا مشكل ، الآن لو جاءك ماء ورد أو ماء زعفران تقول إنه ماء طهور وتتوضأ بماء الورد وماء الزعفران ؟ ماء اللحم لو أخذت لحماً ووضعته في الماء أو طبخته وصار مرقاً فتقول إن هذا أصله ماء طهور وتغير بطاهر فيجوز أن أتوضأ به؟؟ هذا قول ضعيف ، ولذلك الحنفية يجيزون الوضوء بنبيذ التمر ، واحتجوا بحديث ابن مسعود رضي الله عنه أنه ليلة الجن قال له النبي صلى الله عليه وسلم :(( أمعك ماء ؟ قال : معي نبيذ ، قال تمرة طيبة ، وماء طهور فتوضأ به )) ولكنه حديث ضعيف ، والصحيح أنه لا يجوز أن يتطهربالماء الذي تغير بالطاهر ، فإذا تغير لونه أو طعمه أو ريحه لا يجوز ، ودليلنا على ذلك أن الله-تعالى- قال :{فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً}(1) فلما قال- سبحانه-:{فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً} هذا اللفظ العربي ماءً يقول العلماء : لفظ مطلق ، أي لا يتقيد ، لكن إذا وقع في الماء ورد تقول ماء ورد ، ولو وقع فيه زعفران تقول ماء زعفران ، أو ماء باقلاء ، أو وضع فيه طعام كأرز ونحوه تقول ماء أرز ماء بأرز ، فهذا يسمونه القيد ، لكن الشرع قال : {فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً} أي ماءً مطلقاً باقياً على أصل خلقته بحيث يسمى ماء مجرداً عن القيد ، أما لو وجد فيه القيد بمعنى خالطه الكادي أو الورد فتقول ماء ورد بالإضافة ، أو ماء كادي ، أو ماء باقلاء ، أو ماء باذنجان ، أو بندورة ، أو نحو ذلك فإنك تحكم بكونه خارجاً عن هذا الأصل ، فلا يجوز(28/23)
أن يستخدم في طهارة صغرى ولا كبرى ، حتى الصحابة-رضوان الله عليهم- يدل على أنهم كانوا يفهمون هذا الحكم ، لأن ماء البحر طعمه مختلف عن الأصل ، مع أن ما في البحر من النتن فيه النتن الذي لا يخفى ، فلذلك قالوا : أنتوضأ بماء البحر ؟ لأنهم يفهمون أن الماء الذي يتوضأ به ينبغي أن يكون على أصل خلقته ، فأخبرهم النبي صلى الله عليه وسلم لما جاء إلى ماء البحر ماقال هو الطاهر ماؤه لا ؛ إنما قال :(( هو الطهور)) ، قال العلماء : قال هو الطهور ، والله- - عز وجل -- يقول في الماء الباقي على أصل خلقته :{وَأَنزَلْنَا مِنْ السَّمَاءِ مَاءً طَهُورًا} يقول جمهور العلماء : إن القاعدة : " أن زيادة المبنى تدل على زيادة المعنى" ، فلما كان هناك فرق بين الماء الذي لم يتغير بطاهر والماء الذي تغير بطاهر قيل بالماء الباقي على أصل خلقته بأنه ماء طهور ، ولم يقل إنه ماء طاهر ؛ لأن زيادة المبنى تدل على زيادة المعنى ، ففعول ليست كفاعل ، وعلى هذا فإنه لا يجوز أن يتوضأ بالماء الذي تغير بطاهر ، ولا يحكم بكون الماء الطاهر طهوراً ، والله تعالى أعلم .
السؤال الثامن :
نرجو توضيح القاعدة : " زيادة المبنى تدل على زيادة المعنى" ..؟؟
الجواب :
"زيادة المبنى تدل على زيادة المعنى" يعني حينما تقول هذا ماء طاهر ، وهذا ماء طهور ، فإن صيغة فعول من صيغ المبالغة فعول وفعّال ومفعال ، هذه كلها من صيغ المبالغة ، فلما تقول ماء طهور أي أنه بلغ الحد الأقصى من الطهارة ، وبلغ رتبة زائدة وفاضلة في الطهارة ، وبناءً على ذلك قالوا إنه يفضل لأن اسمه فَضُلَ في مبناه ، وعلى ذلك يكون كأن هذه الزيادة قصد الشرع منها معنىً لا يخفى ، أي أنه طاهر في نفسه مطهر لغيره ، لكن حينما تقول ماء طاهر ( باسم الفاعل ) فإن هذا أقل دلالة من قولك ماء طهور ، فيه الطهارة هو طاهر فتقول هو طاهر في نفسه لكن لا يصلح لأن يتطهر به الغير ، والله تعالى أعلم.
السؤال التاسع :(28/24)
إذا اشتبه ماء طهور بماء طاهر فكيف يكون العمل..؟؟
الجواب :
بسم الله الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه أما بعد :
فهذه المسألة لا تقع إلا على مذهب الشافعية والحنابلة الذين يرون أن مادون القلتين ينجس بملاقاة النجاسة ، سواء تغير أو لم يتغير ، أما على مذهب المالكية والظاهرية واختيار من ذكرنا من العلماء المحققين فإنه إذا اشتبه الطهور والطاهر يمكنك التمييز بالتغير ، لأن الطاهر متغير عن أصله من كونه طهوراً بالصفة ، إما في لون ، أو في طعم ، أو رائحة ، ويمكنك أن تميز ، لكن على المذهب الذي ذكرناه لا يمكن إلا في حالة واحدة فإن المالكية يرون أن العبرة بالتغيير فيقولون مثلاً إذا كان الماء الطهور مالحاً ، كأن تأخذ ماء بحر ، ثم تأخذ ماء طهورا على أصل خلقته وتضع الملح فيه ، قالوا إن الماء إذا وضع الملح فيه انتقل من كونه طهوراً إلى كونه طاهراً بالتغير ، لأن طعمه سيتغير بالملح ، فإذا صار مالحاً كماء البحر لا يمكنك أن تميز بين هذا وهذا ، وإن كانت الملوحة في بعض الأحيان يمكن التمييز فيها ، لكن هذه يمكن أن تكون من الصور الفريدة التي يمكن أن يقع فيها الاشتباه على هذا المذهب ، أما بالنسبة لبقية التغيرات فمن الصعوبة بمكان ، فهم يفرقون بين إلقائك الملح في الماء ، وبين كون قرار الماء فيه ملح ، كأن يكون مثلاً جاء على أرض سبخة ، مستنقعات التي في الأرض السبخة ما تؤثر ، لكن لو وضع الملح في داخل الماء تغير وحكم بكونه طاهراً ، بناءً على ذلك إذا اشتبه الماء الطهور بالماء الطاهر توضأ بالطهور وتوضأ بالطاهر توضأ بكل منهما ، ثم صلى صلاة واحدة ، وإذا اشتبه الماء الطهور بالماء النجس ، ولا يستطيع أن يميز خاصة على مذهب من ذكرنا فإنه في هذه الحالة يترك الإثنين ، إذا اشتبه الطهور بالنجس ولا يمكنك أن تميز ، لأن بعض طلاب العلم يظن أن قول العلماء إذا اشتبه يقول يتحرى ، خطأ أن تقول في(28/25)
الاشتباه التحري ، الاشتباه معناه أنه اشتبه بحيث كل منهما يشبه الآخر ولا يمكن التمييز ، أما إذا أمكن التحري لا إشكال كأن ترى لون النجاسة ، أو تعرف أن الإناء الذي فيه نجاسة له عروة كالسطل ، والآخر قِدْرٌ ، ونحو ذلك هذا لا إشكال فيه ، لكن كلامنا إذا لم يمكن التمييز إذا اشتبه الطهور بالنجس نقول يتركهما ، فإن لم يجد غيرهما تركهما ، وتيمم ، وصلى صلاة واحدة لماذا ؟
لأنه لو توضأ نحن بالخيار إذا كان هناك نجس وطهور نحن بالخيار في الأحكام بين ما يلي:
أولاً : أن نقول يختار واحدا منهما ويتوضأ به .
ثانياً : نقول يتوضأ بكل واحد منهما ويصلي .
ثالثاً: أو يقول يتوضأ بهما معاً ويصلي صلاة واحدة.
فهذه ثلاثة أحكام ، أو نقول يتركهما ويتيمم ويصلي.
فإن قلنا يتوضأ بواحد منهما فإنه سيتوضأ على وجه لا يستيقن به أنه قد أدى فريضة الله على وجهها ؛ لأنه إذا توضأ بواحد لابد وأن نفسه تراوده أنه يحتمل أن يكون نجساً ، وبناء على ذلك لا يغلب على ظنه ولا يتحقق أنه قد توضأ بماء أمر الله بالوضوء به ، فكأنه لم يتوضأ .
ثانياً: أما لو قلنا إنه يتوضأ بهما ثم يصلي ، فلا يخلو :
إما أن يقع وضوؤه بالنجس أولاً ثم يكون الطهور بعده ، فيكون الطهور رافعاً للنجاسة التي على الأعضاء ، وهي نجاسة الخبث ، ولا يرفع الحدث ، لأن هناك حدث وهناك خبث ، فلو تطهر بالنجس أولاً فمعنى ذلك أنه تنجس ، وإذا تنجس فإن الماء الذي يأتي من طهوره ثانياً يعتبر مزيلاً للنجاسة ولا يعتبر رافعاً للحدث ، لأنه اشتغل بطهارة ظاهرة غير الطهارة المقصودة ؛ لو حصل العكس فالأمر أشد وأدهى ، لو وقع بالطهور أولاً ثم وقع النجس بعده فإن النجس يهدم مافي الطهور من معنى ، لأنه سيصلي وعليه نجاسة ، ويتحقق من ذلك وتحققنا من ذلك بوقوع النجس ثانياً ، والله عز وجل أمرنا أن نطهر البدن والثوب والمكان ، وعلى هذا فلا تصح صلاته.(28/26)
ثالثاً: ولو قلنا يتطهر بهما معاً ويصلي صلاة واحدة فالحكم مثل ماذكرناه في الصور المفردة ، وعلى هذا قال العلماء : إن اشتبه طهور بنجس تركهما وتيمم وصلى ، تيمم إذا لم يجد غيرهما ، وصلى حتى تكون صلاته بطهارة معتبرة .
أما في الثياب فالأمر يختلف لو أن إنسانا اشتبه ، مثلاً عنده ثوب يتحقق ، هنا ثياب في دولاب أو شنطة أو نحو ذلك ، أمامك هذه الثياب أنت متأكد أن أحد هذه الثياب متنجس ، طبعاً مشتبه لا تستطيع أن تميز أيها .
فحينئذ نقول لك : كم عدد الثياب التي تشتبه في نجاستها ؟؟
تقول : ثوب واحد ، نقول : تصلي بعدد النجس وتزيد صلاة ، فلو كان الثوب الذي تشتبه فيه واحداً تصلي في ثوبين ، لأنك إذا صليت في الثوب الثاني تحققت من أن صلاتك قد وقعت في ثوب طاهر .
لكن لو صليت صلاة واحدة اشتبه أن تكون صلاتك في الثوب النجس ، وعلى هذا يقولون يصلي بعدد النجس ويزيد واحدة ، لو كانت الثياب النجسة ثوبين وعنده عشرة أثواب يصلي ثلاث صلوات ، يعني في ثلاثة ثياب فإذا صلى في الثوب الثالث تحقق أن صلاته وقعت بثوب طاهر ، لكن لو صلى بعدد النجس واكتفى ، أو صلى صلاة واحدة واكتفى فإنه يشك في قيامه بحق الله- - عز وجل --، وأدائه لفريضة الله على وجهها ، ولذلك يقولون : "وإن اشتبهت ثياب طاهرة بثياب نجسة صلى بعدد النجس وزاد صلاة واحدة " وهذه هي المسألة التي يجوز فيها تكرار الصلاة لوجود العذر الشرعي ؛ صيانة لحق الله عز وجل ؛ لأن حق الله أن تؤدي الصلاة على وجه تستبرئ به من أنك قد أديتها في ثوب طاهر وبدن طاهر على مكان طاهر ، والله تعالى أعلم.
السؤال العاشر :
أشكل علينا حديث أم هانيء - رضي الله عنها - من وضوء النبي صلى الله عليه وسلم من قصعة فيها أثر العجين فما الجواب على هذا الحديث..؟؟
الجواب :(28/27)
هذا الحديث أجاب العلماء - رحمة الله عليهم - بالتغير بالمكان ، فإذا كان تغير الشيء بالقرار مثل القرب تكون رائحة القربة موجودة فيها ، ومثل القصعة في زمان النبي صلى الله عليه وسلم مما يشق ويعظم الماء كان قليلاً ، ولذلك دعا النبي صلى الله عليه وسلم بالمغفرة والجنة لمن اشترى بئر حاء صلوات الله وسلامه عليه لقلة الماء ، ولذلك قالوا إن فيها أثر العجين لا يدل على تغير الماء بالعجين ؛ لأنه لو كان الماء متغيراً بالعجين لقالت من ماء فيه أثر العجين ، لكن قصعة فيها أثر العجين لا يستلزم أن الماء بنفسه قد تغير ، لأن هذا القرار ، وتعرفون أن العجين ينشف ، الآن لو عصد الإنسان أو عجن فإن هذا الإناء ينشف فيه العجين فإذا جئت تتوضأ وصببت الماء فإن التغير يكون يسيراً ، ويكون تغير قرار ، وتغير القرار لا يؤثر ، بخلاف ما إذا تغيرت الأوصاف لوناً وطعماً ورائحة تغيراً مؤثراً ، وذلك مثل أن يضع الورد ، أو يضع الزعفران ، أو يضع حتى الدقيق و الدقيق نفسه يضعه ، لكن أن يكون العجين نفس العجين مادة العجين التي لا تتحلل إلا بزمن أن تأتي إلى قصعة فيها أثر العجين وتدنيها وتغرف بها الماء ثم تتوضأ مباشرة فالتغير يسير كما لا يخفى ، وبناءً على ذلك قالوا إن هذا التغير يكون من تغير القرار كرائحة القرب والآبار ونحو ذلك .
وَآخِرُ دَعْوَانَا أَنِ الحمَْدُ لِلَّهِ رَبِّ العَالَميْنَ وصلَّى اللَّهُ وسلَّم وبارك على عبده ونبيَّه محمد وعلى آله وصحبه أجمعين .(28/28)
بسم الله الرحمن الرحيم
قال المصنف رحمه الله : بَاب مِنْهُ آخَرُ
حَدَّثَنَا هَنَّادٌ حَدَّثَنَا عَبْدَةُ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَقَ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ جَعْفَرِ بْنِ الزُّبَيْرِ عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ : "سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَهُوَ يُسْأَلُ عَنِ الْمَاءِ يَكُونُ فِي الْفَلاَةِ مِنَ الأَرْضِ وَمَا يَنُوبُهُ مِنَ السِّبَاعِ وَالدَّوَابِّ" قَالَ : فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم : (( إِذَا كَانَ الْمَاءُ قُلَّتَيْنِ لَمْ يَحْمِلِ الْخَبَثَ )) .
قَالَ عَبْدَةُ قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَقَ الْقُلَّةُ هِيَ الْجِرَارُ وَالْقُلَّةُ الَّتِي يُسْتَقَى فِيهَا.
قَالَ أَبو عِيسَى رحمه الله : وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَدَ وَإِسْحَقَ قَالُوا إِذَا كَانَ الْمَاءُ قُلَّتَيْنِ لَمْ يُنَجِّسْهُ شَيْءٌ مَا لَمْ يَتَغَيَّرْ رِيحُهُ أَوْ طَعْمُهُ وَقَالُوا يَكُونُ نَحْوًا مِنْ خَمْسِ قِرَبٍ .
الشرح:
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين أما بعد :
فقد ذكر المصنف رحمه الله حديث عبدالله بن عمر -- رضي الله عنه - وعن أبيه-أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم وهو يسأل عن الماء يكون في الفلاة وماينوبه من السباع والدواب فقال صلى الله عليه وسلم :((إذا كان الماء قلتين لم يحمل الخبث)) .(29/1)
هذا الحديث يسميه العلماء رحمهم الله بحديث القلتين وهو من أهم الأحاديث التي تكلم العلماء رحمهم الله عليها وبينوها سنداً ومتناً وقد اشتمل هذا الحديث على جملة من الأحكام والمسائل المتعلقة بالمياه ومن هنا ناسب أن يعتني المصنف-رحمه الله -بذكره في كتاب الطهارة ؛ والسبب في ذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم بين فيه أن السباع والدواب إذا شربت من الماء أنما فضل وغبر أنه لايحكم بنجاسته إذا كان الماء كثيراً ، ولذلك حد النبي صلى الله عليه وسلم الفرق بين الكثيروالقليل بقوله:(( إذا كان الماء قلتين لم يحمل الخبث)) ومفهوم ذلك أنه إذا كان دون القلتين أنه يحمل الخبث وهو النجاسة ومن هنا قال العلماء إن هذا الحديث يدل على الفرق بين الماء القليل والماء الكثير .
وهذه المسألة يسميها العلماء رحمهم الله بمسألة السؤر : والسؤر : هو فضلة الشيء يقال أسأر إذا ترك بعد شربه من الماء شيئاً وهذا الشيء يسمى سؤراً ، وكما أن الإنسان إذا شرب من الإناء أو نحو ذلك يسمى فضلته بالسؤر كذلك الحيوان إذا شرب من السطل ونحو ذلك تسمى فضلته بالسؤر ومن هنا تكلم العلماء رحمهم الله على فضلة الآدمي والحيوان هل تعتبر نجسة فلا يجوز للمسلم أن يتوضأ ويغتسل منها أو تعتبر طاهرة يجوز له أن يرفع بها الحدث الأصغر والأكبر وهذه المسألة تعتبر بمسألة الآسار؟؟
والسؤر ينقسم إلى قسمين:
القسم الأول : أن يكون من سؤر الآدمي. والقسم الثاني : أن يكون من سؤر الحيوانات .
فأما سؤر الآدمي فصورته أن يشرب الانسان من إناء ويترك فضلة بعد شربه ثم تحتاج هذه الفضلة لطهارة من غسل أو وضوء أو نحو ذلك وقد اختلف العلماء رحمهم الله في سؤر الآدمي .
وتوضيح ذلك الخلاف أن سؤر الآدمي لايخلو من حالتين :
الحالة الأولى: أن يكون سؤر إنسان مسلم . والحالة الثانية : أن يكون سؤر كافر.(29/2)
فأما إذا كان سؤر المسلم فإنه بالإجماع طاهر سواء كان محدثاً أو كان متطهراً فلو أن رجلاً شرب من إناء وفضل بعد شربه ماء وتطهرت به فهو ماء طهور يرفع الحدث ويزيل الخبث هذا إذا كان مسلماً لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال:(( إن المؤمن لاينجس)) ويستوي في ذلك أن يكون هذا الإنسان طاهراً أو يكون جنباً فلو أن امرأة كان عليها الحيض أو كانت نفساء وشربت من إناء أو سطل أو نحو ذلك وأردت أن تتوضأ بفضل ما كان منها فإنه ماء طهور يجوز لك أن تتوضأ به والدليل على ذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم ثبت عن في الصحيح من حديث أم المؤمنين عائشة-رضي الله عنها وأرضاها- :" أنها كانت تشرب من الإناء ثم يأخذ النبي صلى الله عليه وسلم ذلك الإناء ويضع فمه حيث وضعت فمها ويشرب منه قالت وأنا حائض " وقد كان اليهود إذا شربت الحائض أو أكلت لايجالسوها ولايؤاكلوها وخالف الإسلام اليهود في ذلك ، فدل هذا الحديث الصحيح على أن سؤر المرأة يعتبر طاهراً سواء كانت محدثة أو غير محدثة ، ومن هنا قال العلماء : إن سؤر المسلم يعتبر طهوراً يجوز للإنسان أن يرفع به الحدث ويزيل به الخبث.
وأما بالنسبة لسؤر الكافر: فللعلماء فيه قولان : لو أن كافراً شرب من إناء وأردت أن تتوضأ من الباقي الذي أفضله بعد شربه فالجواب أن هذه الفضلة اختلف العلماء فيها على قولين :
القول الأول: أن سؤر الكافر يعتبر طهوراً حتى يتغير ، وهذا هو مذهب جمهور العلماء رحمهم الله من الحنفية والمالكية والشافعية والحنابلة -رحمة الله على الجميع - .
القول الثاني : وذهب بعض أصحاب داود الظاهري إلى أن الكافر يعتبر نجساً لأن الله-تعالى- يقول في كتابه-:{إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ}(1) قالوا فالكافر يعتبر نجساً وفضلته وسؤره لايحكم بطهوريتها لأنها ليست النجس .(29/3)
والصحيح ماذهب إليه جمهور العلماء لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال في الحديث الذي تقدم معنا :(( إن الماء طهور لاينجسه شيء )) ولأن النبي صلى الله عليه وسلم توضأ من مزادة مشركة مع أنهم لا يخلون من الشرب منها وثبت في الحديث الصحيح عنه عليه الصلاة والسلام :" أنه استضافته يهودية فأكل من طعامها وكان فيه السم" فلو كان المشرك نجس العين أو كان الكافر نجس العين لما أكل صلوات الله وسلامه عليه ولما شرب من آنيتهم وأوعيتهم فدلت هذه النصوص الصحيحة الصريحة على أن الأصل في الماء أنه طهور وأن كون المشرك شرب منه لايقتضي رفع هذا الوصف الثابت بيقين وعلى ذلك يجوز لك أن تتوضأ من الماء الذي أبقاه المشرك ، وقال بعض العلماء : تستثنى من ذلك مسألة معروفة وهي أن ترى النجاسة على فم المشرك كأن يكون شارباً لخمر-والعياذ بالله- ثم يدني فمه إلى الماء ويشرب منه ويبقى أثر الخمر في الماء لوناً أو طعماً أو رائحة فإن الماء قد سلب الطهورية لمكان التغير فهذه المسألة تعتبر مستثناة وهكذا لو شرب المسلم أو الكافر من إناء وكان في فمه شيء نجس فسرت النجاسة إلى ذلك الماء فتغير لوناً أو طعماً أو رائحة فإننا نحكم بزوال الطهورية وذلك لأن الإجماع على أن الماء يكون طهورًا إلا إذا تغير أحد أوصافه إما اللون وإما الطعم وإما الرائحة وهذا الحديث يتعلق بالقسم الثاني من الآسار وهي آسار الحيوانات .
وبناءً على ذلك تلخص : أن الآدمي سؤره طاهر سواء كان مسلماً أو كان كافراً .
وأما بالنسبة لسؤر الدواب والحيوانات ، فالحيوانات تنقسم إلى قسمين :
القسم الأول : أن تكون مما لايؤكل لحمه . والقسم الثاني : أن تكون مما يؤكل لحمه .(29/4)
فأما ما كان مما لايؤكل لحمه فمثاله السباع ومثاله الطيور الجارحة العادية لأن الله عز وجل حرم كل ذي ناب من السباع وكل ذي مخلب من الطير وإنما حرم الذي له مخلب من الطير لمكان كونه يغتذي بالجيف والميتات ومن هنا حكم بنجاسته كما حكم الشرع بنجاسة الجلاّلة فإذا كان الحيوان محرم الأكل فإن سؤره للعلماء في سؤره قولان :
القول الأول : أن سؤره طاهر لأن الشرع حكم بطهورية الماء حتى يتغير فنحن نحكم بكون سؤر الحيوان الذي لايؤكل لحمه طاهراً حتى يدل الدليل على نجاسته وكونه يكون محرم الأكل لايقتضي ذلك تنجيس الماء لأن الآدمي محرم الأكل ومع ذلك لم ينجس الماء إذا أفضل بعد شربه.
القول الثاني : قال بعض العلماء أن الحيوان إذا كان محرم الأكل فإن سؤره يعتبر نجساً ونص على ذلك فقهاء الحنفية والحنابلة -رحمة الله على الجميع- على تفصيلٍ عندهم في المذهب فالحنفية رحمة الله عليهم يقسمون الدواب إلى أقسام فمنها مايكون سؤره محرماً كنجس العين ومنها ما يكون مكروهاً وهو المختلف في نجاسته ومختلف في أكل لحمه كالخيل والبغل ونحو ذلك ومنها ماهو طاهر- كما سيأتي بيانه في مأكول اللحم- .
وبناءً على ذلك تلخص : أن للعلماء في سؤر السباع العادية ونحوها من الطيور الجارحة قولان :
القول الأول : يقول بطهارة ما أفضلت . والقول الثاني : يقول بنجاسته إذا كان قليلاً أو تغير ذلك الماء وقد أجمعوا على أن الحيوان الذي لايؤكل لحمه كالأسد إذا شرب من إناء وتغير الإناء بشيء نجس في فمه فإنه يحكم بنجاسته قولاً واحداً وأما إذا لم يتغير وكان الماء قليلاً فهو محل الخلاف هنا.(29/5)
والصحيح أن سؤر السباع العادية يعتبرطاهراً إلا إذا تغير لونه أو طعمه أو رائحته ؛لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال :(( إن الماء طهور لاينجسه شيء)) فأوجب لنا أن نبقى على الأصل من كون الماء طهوراً حتى يتغير عن ذلك الأصل إما بلون أو طعم أو رائحة أو بالجميع ، وأما من قال بأنه يعتبراً نجساً فإن قوله لادليل عليه إلا مفهوم الحديث الذي معنا-ومفهوم هذا الحديث سيأتي بيانه وبيان ضعف- الاستدلال به وأنه لايقوى على معارضة الصريح في قوله عليه الصلاة والسلام :(( إن الماء طهور لاينجسه شيء)) وقد فرق فقهاء الحنفية - رحمة الله عليهم - في الحيوان الذي لايؤكل لحمه فقالوا لا يخلو من حالتين :
الحالة الأولى : أن يكون من الطيور . والحالة الثانية : أن يكون من الدواب ،- فإن كان من الدواب فقد تقدم الكلام فيه-.
وأما إذا كان من الطيور الجارحة كالباز والشاهين والنسرو العقاب ونحو ذلك من الطيور الجارحة فهذه الطيور الجارحة مع كونهم يحكمون بنجاستها إلا أنهم يقولون إن سؤرها لايحكم بنجاسته وعللوا ذلك بعلل:
العلة الأولى : أن هذه الطيور تشرب بمنقارها والمنقار عظم ، والعظم لاتحله الحياة- كما سيأتي بسطه وبيانه في باب الذكاة- ولذلك قالوا إن عظام الميتة لا يحكم بنجاستها لأنها لاتحلها حياة الروح وإنما فيها حياة النمو وحياة النمو لاتدل على النجاسة.(29/6)
والعلة الثانيه : أننا لو حكمنا أنها آخذة حكم الحيوان تبعاً ، فإنهم قالوا لايعتبر سؤرها نجسا ، لأنها مما يشق التحرز والتوقي منه ؛ والسبب في ذلك أن السباع التي تمشي على الأرض تخالف الجوارح العادية من السماء كالباز ونحو ذلك ، لأن السباع العادية على الأرض يمكن أن يتوقى الإنسان منها ويحفظ الإناء عنها ، وأما بالنسة للطيور الجارحة فإنها تنقض من السماء على وجه لايمكن للإنسان أن يدفعه في الغالب ، ومن قواعد الشريعة الإسلامية : "أن المشقة تجلب التيسير" ، "وأن الأمر إذا ضاق اتسع" قالوا فلو قلنا إن سؤر هذه الطيور يعتبر نجساً ، فمعنى ذلك أن نشق على الناس خاصة أهل البادية ، فإنه يصعب عليهم أن يتوقوا أمثال هذه الطيور الجارحة .(29/7)
وأما بالنسبة للقسم الثاني : من الحيوانات وهو القسم الذي أباح الله أكله ويشمل ذلك الإبل والبقر والغنم ، وهي الحيوانات التي يصفها العلماء بوصف المستأنس ، وكذلك الحيوانات المتوحشة التي أباح الله لحمها كالوعول والضباء والريم وتيس الجبل ونحو ذلك ، كلها تعتبر طاهرة السؤر فلو شربت الناقة من إناء وأفضلت فإن فضلتها تعتبر طاهرة ، ولايحكم بنجاستها ولكن تستثنى حالة واحدة وهي أن يكون على فم البعير قذر أو يكون على فم البعير شيء طاهر ثم يدخل فمه في ا لإناء ويتغيرالماء بذلك الطاهر لوناً أو طعماً أو رائحة فإنه ينتقل إلى الذي تغير له نجساً كان أو طاهراً ، وقد ثبت في الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم " أنه خطب الناس في حجة الوداع بمنى وكان لعاب الناقة يسيل على صاحبه رضي الله عنه وهو تحت البعير" فلم ينكر النبي صلى الله عليه وسلم ذلك ولم يأمره بغسل لباسه من لعاب البعير" فدل على طهارته ، وثبت في الحديث الصحيح عن أنس بن مالك رضي الله عنه أنه لما اختلف الصحابة هل كان النبي صلى الله عليه وسلم في حجته هل كان مفرداً أو متمتعاً أو قارناً ؟؟ قال رضي الله عنه : " ماتعدوننا إلا صبياناً لقد كنت تحت ناقة النبي صلى الله عليه وسلم يمسني لعابها أسمعه يقول لبيك عمرة وحجة" فقوله يمسني لعابها يدل دلالة واضحة على أن لعاب البعير طاهر، قال العلماء : وإذا كان اللعاب طاهراً فإن السؤر لايحكم بنجاسته لأن أصل مسألة السؤر مبنية على أنه إذا كان الحيوان محرم الأكل وكان نجس العين ، فإن لعابه إذا سال في الماء تنجس الماء بذلك كما لايخفى ، والحيوانات المأكولة اللحم يعتبر لعابها وروثها وبولها طاهراً ، ولذلك قالوا سؤرها يعتبر طاهراً ولايحكم بنجاسته إلا إذا تغير بالنجس .(29/8)
واستثتى بعض العلماء رحمهم الله من هذا القسم أن يكون جلاّلة فإن كانت جلاّلة فإنه يكون سؤرها آخذا حكم سؤر الحيوان الذي لايؤكل لحمه .
والصحيح من جميع ماتقدم أننا نحكم بكون المياه طاهرة إلا إذا تغير أحد أوصافها لوناً أو طعماً أو رائحة ، فإذا تغير أحد الأوصاف باللعاب أو بشيء نجس في اللعاب كما مثل العلماء للآدمي بشرب الخمر أو يكون مجروح الفم ويسيل الدم من فمه على الماء ويتغير الماء بذلك الدم.
ومثاله في الحيوان : كما ذكروا ، أن يفترس الأسد فريسة وهي ميتة ، ثم يأتي ويشرب من الماء وفمه ملوث بدمائها ، فذلك الدم نجس فإن وقع في الماء تنجس الماء إذا تغير لوناً أو طعماً أو رائحة أما إذا لم يتغير فإنه يعتبر باقياً على الأصل .
يقول عبدالله بن عمر رضي الله عنه "سمعت النبي صلى الله عليه وسلم وهو يسأل" : قوله وهو "يسأل" جملة حالية وهويسأل عن الماء يكون في الفلاة من الأرض ، وما ينوبه من السباع يقال نابه إذا جاءه النوبة بعد النوبة أي جاءه حيناً بعد حين ، والنوبة : الحين من الزمان يقال ينتابه الشيء إذا جاء متقطعاً فترة بعد فترة ، وقوله وماينوبه من السباع أي مايتردد عليه من السباع ؛ والسباع جمع سبع ويشمل ذلك السباع العادية ، كالأسد والنمر ونحو ذلك.
فقال صلى الله عليه وسلم :(( إذا بلغ الماء)) : يقال بلغ الشيء إذا وصل إليه والبلوغ أن يصل الإنسان إلى سن يعقل فيه الأمور وهو الذي يسمى في الشرع بطول الحلم وقد أشار إليه النبي صلى الله عليه وسلم بقوله : (( وعن الصبي حتى يحتلم)) وسمي البلوغ بلوغاً لأن صاحبه يبلغ الدرجة التي يكلف فيها ويكون في عداد الرجال .(29/9)
وقوله عليه الصلاة والسلام :(( إذا بلغ الماء قلتين)) : القلتان مثنى قلة وسميت القلة قلة لأنها تقل باليد والمراد بها الجرة ، وقد كانت العرب في القديم تستقي بالجرار فيحمل الرجال والنساء الجرار من الماء ، ويملؤنها من الآبار والعيون ، وكانت معروفة مشهورة في زمانه عليه الصلاة والسلام ومن بعد ، بل إلى يومنا هذا .
وقوله :(( إذا بلغ الماء قلتين لم يحمل الخبث)) : القلتان وسميت بهذا الاسم لأنها تقل بمعنى تحمل ومن قوله سبحانه وتعالى :{حَتَّى إِذَا أَقَلَّتْ سَحَاباً ثِقَالاً}(1) أي حملت الريح السحاب الثقيل بالماء .
وقوله :(( قلتان)) : اختلف العلماء رحمهم الله في هذه القلال ، وقد وردت ألفاظ في الحديث فجاءت مطلقة وجاءت مقيدة ، وقيدت بقلال هجر ، وهجر قرية بمشرق الجزيرة معروفة ، وقالوا إن هذه القلال كما ذكر الإمام الترمذي تبلغ خمس قرب وقد حدّ بعض العلماء رحمهم الله ذلك بالرطل ، فقال أن تبلغ مئة وثمانية أرطال بالدمشقي ، وضبط ذلك بعض المعاصرين بمتر في متر أي أنه متر مكعب فإذا كان حوض الماء أو كان وعاء الماء يبلغ المتر المكعب طولاً وعرضاً وارتفاعاً فهذا هو حد القلتين التقريببي ، وليس هو بتحديد معين وإنما هو حد تقرييبي.
قوله عليه الصلاة والسلام :(( إذا بلغ الماء قلتين لم يحمل الخبث)) :لم يحمل الخبث. الخبث: مأخوذ من قولهم خبث الشيء إذا انتفى عنه وصف النظافة والخبث في الشرع يطلق بمعان ومنها النجاسة وهذا هو المراد هنا أي قوله لم يحمل النجاسة أي لم يحكم بكونه منتقلاً عن الأصل وهوالطهورية. وبناء على ذلك قال العلماء إن قوله عليه الصلاة والسلام :(( إذا بلغ الماء قلتين لم يحمل الخبث)) يعتبر أصلاً عندنا في الفرق بين الماء القليل والماء الكثير.
وتوضيح ذلك : أن العلماء اختلفوا في هذا الحديث على قولين :
القول الأول : يرده سنداً ومتناً . والقول الثاني : يصححه سنداَ ومتناً .(29/10)
فأما الذين قالوا بتضعيفه سنداً ومتناً فقد ضعف هذا الحديث سنداً الإمام علي بن المديني شيخ الإمام البخاري ، وكذلك ضعفه الحافظ أبوعمر يوسف بن عبد البر وحكى تضعيفه عن جماعة من العلماء ، وضعفه الإمام أبو بكر بن العربي ، وكذلك الحافظ ابن دقيق وشيخ الإسلام ابن تيمية والامام ابن القيم -رحمة الله على الجميع - ورجح بعض هؤلاء كونه موقوفاً ولم يحكموا برفعه إلى النبي صلى الله عليه وسلم وأما ضعفه متناً ؛ فالسبب في ذلك أن هذه القلال لاُتعرف، قالوا ولو كانت تشريعاً لبين النبي صلى الله عليه وسلم قدرها أما الوجه الثاني من تضعيف المتن فقالوا إن هذا الحديث يعتبر فيه وجهان :
الوجه الأول يتعلق بمنطوقه . والوجه الثاني : يتعلق بمفهومه.
والاستدلال بمنطوقه مسلم عند الجميع فبالاجماع يعتبر منطوقه ، وأما مفهومه وهو مفهوم العدد فقالوا إن مفهوم العدد ضعيف عند الأصوليين وهو أحد أنواع المفاهيم العشرة وقد ضعفه بعض علماء الأصول رحمهم الله قالوا والاستدلال بهذا الحديث مبني على مفهوم العدد وبناء على ذلك نقدم منطوق قوله عليه الصلاة والسلام :(( إن الماء طهور لاينجسه شيء)) على هذا المفهوم الضعيف هنا ؛لأن القاعدة في الأصول : " أنه إذا تعارض المنطوق والمفهوم قدم المنطوق على المفهوم".
وتوضيح ذلك : أن نقول إن النبي صلى الله عليه وسلم بين في هذا الحديث أن الماء إذا بلغ قلتين أنه لايحمل الخبث وسكت عما دون القلتين فهذا المسكوت عنه بدل أن ندخله في مفهوم هذا الحديث الذي معنا نصرفه إلى منطوق قوله : (( إن الماء طهور لاينجسه شيء)) وهذا هو أصح القولين وأولاهما بالصواب إن شاء الله تعالى ، وبناء على ذلك فجميع المياه ننظر إلى حقيقتها فإن تغيرت أوصافها حكمنا بكونها منتقلة من الطهورية إلى ماتغيرت به ، إن كان نجساً فهي نجسة وإن كان طاهراً فهي طاهرة .(29/11)
وأما بالنسبة لأصحاب القول الثاني فقد صححوا الحديث سنداً ومتناً وبهذا القول يقول فقهاء الشافعية والحنابلة -رحمة الله على الجميع- ويوافقهم فقهاء الحنفية في أصل المسألة ، حيث قالوا إن الماء يفرق فيه بين القليل والكثير والضابط عندهم في الفرق بينهما فيه عشرة أقوال مشهورة في مذهب الحنفية رحمة الله عليهم وقد صحح جمع منهم أن الضابط أن لايتحرك طرف الماء إذا حركت طرفه، فإذا كان المد لايبلغ الطرف ولايتحرك الطرف الثاني بتحريكك لما يقابله فإنه ماء كثير لايتنجس بمجرد إلقاء النجاسة فيه والعكس بالعكس ، وأصحاب هذا القول الذين يقولون باعتبار حديث القلتين سند اً ومتناً قالوا إن الحديث صحيح السند وصححه الإمام الشافعي وأحمد وإسحاق بن راهويه وأبو عبيد القاسم بن سلام وكذلك ابن حبان وابن خزيمة وابن مندة والحاكم وهؤلاء كلهم يرون ثبوت الحديث وتوسط ابن معين وقال إنه حسن وذلك باعتبار الشواهد، وهذا القول هو أقوى الأقوال وذلك لاعتبار الشواهد التي وردت في الحديث قالوا وهو صحيح المتن لأن النبي صلى الله عليه وسلم ذكر الُقُلة والقُلة معروفة مشهورة ، ولذلك قالوا لاغرابة في المتن وأما كونه يرد بقلال هجر ويرد مطلقاً بدون قيد فذلك لايؤثر وإنما قُيد بقلال هجر لكونها مشهورة في ذلك الزمان والتقييد بالمشهور لايقتضي الحكم بضعف الحديث إذا أصبح غير مشهور في زمان غير زمانه ولذلك قال صلى الله عليه وسلم :(( المدينة حرم من عير إلى ثور)) فقال إلى ثور وجبل ثور اختلف العلماء رحمهم الله فيه مع أنه كان مشهوراً معروفاً ولذلك حد به النبي صلى الله عليه وسلم المدينة قالوا فكون الشيء يكون مشهوراً في زمانه عليه الصلاة والسلام وغير مشهور في زمان غيره لايقتضي ذلك الاستغراب والتضعيف ، وبهذا القول قالوا ومتن لحديث صحيح لأن قوله إذا بلغ الماء قلتين يدل على أن مادون القلتين يخالف مابلغ القلتين وهذا مبني على أنه لو لم(29/12)
تكن هناك فائدة من ذكر القلتين لما ذكرهما عليه الصلاة والسلام وجزم بهذا القول فقهاء الشافعية والحنابلة ، وبناء على هذا المذهب فإنه إذا كان عندك ماء فإن بلغ القلتين ووقعت فيه نجاسة ولم تغيره فإنه يعتبر طهوراً .
وأما إذا كان دون القلتين كأن يكون عندك سطل ماء أو أبريق من ماء فبمجرد أن تقع فيه النجاسة فإنهم يحكمون بكونه نجساً حتى ولو لم يتغير ، والسبب في ذلك أنهم يقولون إنه يسير والقاعدة في اليسير أنه ينجس بملاقاة النجاسة استدلالاً بحديثنا هذا ولاشك أن في مذهبهم من الشدة والحرج ما الله به عليم ، ولذلك تجد الإنسان يوسوس في البرك ونحوها هل بلغت القلتين أولم تبلغهما ، وكذلك بالنسبة للماء اليسير في الماعون ونحو ذلك ، فإنه لو أدخل يده وكانت فيها نجاسة فإنهم يحكمون بكون الماء نجساً حتى ولولم يتغير .
والصحيح المذهب الأول أن الماء ننظر إلى صفاته إن تغيرت حكمنا بكونه متغيراً وقلنا إنه نجس إن كان الذي غيره نجساً والعكس بالعكس ، وبناءً على هذا القول فإنه يزول الحرج عن الناس وينتفعون بالماء ويعملون الأصل وعلى هذا فلو كان عندك ماء وشككت هل وقعت فيه نجاسة أو لم تقع أو وقعت فيه نجاسة وشككت هل غيرته أو لم تغير فإنك تنظر إلى صفات الماء فإن تغيرت صفات الماء حكمت بكونه متغيراً وأما إذا لم تتغير فإنك تحكم بكونه ماء طهوراً وذلك استدلالاً بقوله- عليه الصلاة والسلام -:(( إن الماء طهور لاينجسه شيء)) في هذا الحديث دليل على سماحة الإسلام ويسره ولاشك أن القول الذي يقول إن العبرة بالتغير يزيل على الناس كثيراً من الحرج ويجعل الأمر راجعاً إلى اليقين وغلبة الظن فما حصل به اليقين حكم به الإنسان سواء كان مشتملاً على التغير أو لم يشتمل عليه.…
- ? - ? - ? - ? - الأسئلة - ? - ? - ? - ? -
السؤال الأول :(29/13)
لماذا لم يذكر المصنف - رحمه الله تعالى - قوله في الحكم على حديثنا -أعني حديث القلتين- كما هو صنيعه في جميع الأحاديث ..؟؟
الجواب :
بسم الله الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه أما بعد :
فقال بعض العلماء : إن سكوت الإمام الترمذي - رحمة الله عليه- عن الحكم عن هذا الحديث مع حكايته للقول الذي يعمل به يدل على اعتباره لهذا القول وقد مال إلى هذا القول بعض الشراح إضافة إلى أن الإمام الترمذي -رحمة الله عليه- ذكر حديث بضاعة أولاً ثم اتبعه بحديث القلتين حتى يبين تخصيص الحديث المتقدم بهذا الحديث المتأخر ، وكل ذلك يدل على تقويته له واعتباره لهذا الحديث وإن كان مجرد السكوت لايدل على الرضا كما هو أصل مقرر ، والله تعالى أعلم .
السؤال الثاني :
هل الماء الذي يتغير بالصدأ الذي يكون في بعض الخزانات والمواصير يعتبر طاهراً أم نجساً ؟ أم أن الحكم يبقى على أصله ..؟؟
الجواب :
الصدأ له حالتان :
الحالة الأولى : أن يكون مما يشق التحرز والتوقي منه فحينئذٍ لايؤثر والماء طهور يتوضأبه الإنسان ويغتسل.
والحالة الثانية : أن يكون مما يمكن التوقي و الإحتراز منه.
ومثال ذلك : أن يكون في أول الماء أو تكون المواصير جديدة أو الخزانات جديدة حديثة العهد جديدة فإنه ينتظر حتى تنظف ثم بعد ذلك يتوضأ ، لأن الرخصة محلها وجود المشقة فإذا شق التحرز كانت الرخصة وأما إذا لم يشق التحرز كأن تنتظر حتى ينتهي الماء الكدر الذي فيه الكدر سواء كان من الصدأ أو غيره فيجب عليك أن تنتظر حتى يذهب هذا الصدأ كما يحدث في الأحوال التي ينقطع فيها الماء ثم يأتي فجأة، فهذه الأحوال لايتوضأ الإنسان مباشرة وإنما يترك الصنبور حتى يخرج ماعنده من فضلة ماء أكدر ثم بعد ذلك يتوضأ بما غبر ، والله تعالى أعلم .
السؤال الثالث :(29/14)
أشكل عليّ الماء المختلط بمساحيق الغسيل هل هو طاهر أم طهور وإن كان طاهراً، فماحكم الغسل به وهل هو مزيل للنجاسة ..؟؟
الجواب :
الماء إذا كان معه الصابون والأشنان ونحو ذلك فهو ماء طاهر لكنه ليس بطهور وبناء على ذلك من أراد أن يغتسل من الجنابة فلابد أن يصيب بدنه جميعه بماء طهور .
وتوضيح ذلك : أن يبدأ أولاً بصب الماء على جميع جسده ويكون الماء نقياً ليس فيه مخالط لاطاهر ولانجس فإذا فرغ من تعميم بدنه بالماء وأراد بعد ذلك أن يضع الصابون والأشنان والمنظفات ونحوها فلاحرج فيضعها في بدنه ويكون صب الماء الذي يلي ذلك صبة زائدة عن الأصل الواجب ، وهذا لايضر أما كونه يأخذ الصابون ويضع رغوته في الماء كأن يستحم في بركة فيها رغوة الصابون أو يستحم في وعاء فيه رغوة صابون أو مستنقع صغير فيه رغوة صابون أو نحو ذلك من الطاهرات فإنه ماء طاهر في نفسه غير مطهر ولايوجب رفع الحدث ،والله تعالى أعلم.
السؤال الرابع :
في القول الثاني الذي ذكرتموه في الدرس إذا كان أقل من قلتين ينجس فإذا زيد في الماء حتى يبلغ القلتين ، هل تذهب النجاسة ..؟؟
الجواب :
الماء إذا زيد عليه ماء ثاني فعند من يقول بالتحديد بالقلتين يقول إذا بلغ إلى القلتين وأزال الماء الطهور المصبوب وصف ذلك التغير فإنه يعتبر ماء طهوراً وقد أشار إلى هذه المسألة الإمام ابن قدامة -رحمة الله عليه- في الجزء الأول من المغني في مباحث المياه وقد تكلم كلاماً نفيساً في مسألة التغير فبين-رحمة الله عليه - أنه لو أضيف إلى هذا الماء ماء كثيراً بحيث وصل به إلى حد القلتين ثم لم يتغير بمعنى أن التغير زال حكمنا بكونه ماء طهوراً عند من يقول بالتحديد ، والله تعالى أعلم .
السؤال الخامس :
بعض الأشجار تسقى من مياة المجاري ويكون لهذه الأشجار ثمر يؤكل فما حكم الأكل من هذه الثمار التي تسقى من مياة المجاري النجسة ..؟؟
الجواب :
الزروعات تنقسم إلى قسمين :(29/15)
القسم الأول : ما كان منها يلي الأرض بحيث يتأثر بالنجاسة تأثراً بيناً ، كالكراث ونحوه من البقول التي تكون ملامسة للأرض أو تكون في باطن الأرض كالبطاطس ونحو ذلك مما ينشأ في باطن الأرض والجزر الذي يكون في باطنها فهذه النجاسة فيها قوية مؤثرة ، ولذلك يوجد طعم النجاسة ويوجد التغير فيها بشكل بين واضح لايخفى.
القسم الثاني : أن يكون بعيداً عن الأرض كثمار النخيل والعنب فهذه أخف من التي من قبل وقد اختلف العلماء رحمهم الله في المسقي بالنجاسة وذلك على قولين : فمنهم من يقول المسقي بالنجاسة ليس بنجس لأنه لما دخل إلى الأرض استحال مادة جديدة وأخذ الجذع له وامتصاصه له يغيره عن الأصل الذي كان عليه كما أن النجاسة تكون في بدن الإنسان طاهرة ثم إذا خرجت منه تأخذ حكم النجاسة ، كذلك إذا امتصها النبات ونحو ذلك خرجت عن كونها نجسة إلى كونها طعاماً ولذلك قالوا يجوز أكلها وهي طاهرة ، والقول الثاني إنها تعتبر متنجسة واستدلوا بما ثبت في الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم : " أنه نهى عن أكل الجلاّلة" والجلاّلة هي الحيوان الذي يغتذي بالنجاسات والقاذورات كالذي يأكل من المزابل ونحوها من الفضلات النجسة ويوجد طعم النجاسة في لبنه أو في لحمه فهذا يدل على أن النبي صلى الله عليه وسلم اعتبر الاغتذاء موجب للحكم بالتنجيس قالوا فإذا كان هذا في الحيوان فمن باب أولى النبات وهذا القول أقرب إلى السنة ، والله تعالى أعلم .
السؤال السادس :
ما رأيكم لو قال قائل بأن مفهوم المخالفة المأخوذ من حديث القلتين لايسلم وذلك لأنه قد وجد مانع من موانع مفهوم المخالفة وهو وقوعه جواباً للسؤال ، فهل يوافق في هذا الجواب ..؟؟
الجواب :
هذا أمر يذكره بعض العلماء -رحمة الله عليهم - قيوداً لمسائل الأصول .(29/16)
وتوضيح ذلك : أن بعضهم يستقرئ النصوص الواردة في المفهومات ويقول من شرطها بعد أن يطلع على حديث القلتين مثلاً وأمثاله من الأحاديث الأخر التي فيها سؤالاً وجواب ضعف فيها المفهوم يقول الضابط عندي ألايكون المفهوم جواباً لسؤال كحديث القلتين ، ولاشك أن هذا يعتبر من باب رد المختلف فيه إلى المختلف فيه لأن البعض يرى حجية مفهوم العدد بغض النظر عن كونه واقعاً في جواب السؤال أو غير واقع في جواب السؤال .
إن مفهوم العدد قد يكون العدد لا مفهوم له من ناحية الحصر حتى ولو لم يكن واقعاً جواباً لسؤال قال صلى الله عليه وسلم :(( سبعة يظلهم الله في ظله يوم لاظل إلا ظله ، قال شاب نشأ في طاعة الله )) لانقول إنه رجل واحد ، ولذلك يقولون هذا لامفهوم له العدد هنا لامفهوم له ، وبناءً على ذلك فالعدد قد لايكون مفهوماً سواء كان في جواب السؤال أو غيره ، ومن أهل العلم من لايرى حجيته مطلقاً لضعف الاستدلال به ، والله تعالى أعلم .
السؤال السابع :
إذا وجد ماء في إناء وسكبت امرأة جزء منه في إناء آخر لطهارتها دون أن تأخذ منه بيدها مباشرة أو بوعاء ، هل يعتبر الماء المتبقي في الإناء الأول فضل طهور المرأة ؟ وهل يدخل في النهي ..؟؟
الجواب :
لايعتبر فضل طهور إلا إذا كان السكب تطهيراً وليس المراد بحديث النهي عن فضل طهورالمرأة إلا إذا كان متبقياً من الفعل وهو الانتزاع كما لا يخفى أما لو أخذت من إناء فصبت في إناء آخر ثم كان الاغتسال بالإناء الثاني فالحكم للماء الثاني لاللماء الأول والفضلة للوعاء الثاني لاللوعاء الأول ، والله تعالى أعلم .
السؤال الثامن :
لقد نمت عن صلاة الوتر ثم نسيت أن أقضيها في الضحى ولم أتذكر إلا في صلاة العصر فماذا أفعل ..؟؟
الجواب :(29/17)
إذا فاتت الطاعة الإنسان فليعزِ نفسه وليسأل الله عز وجل أن يغفر له ذنباً حال بينه وبينها فإن الإنسان يحرم كثيراً من الخير بسبب المعصية ولذلك كان العلماء -رحمة الله عليهم - يوصون بالاستغفار إذا فاتت الفضائل فإذا كان الإنسان يوفقه الله دائماً للصلاة في الصف الأول ، أو يوفقه الله دائماً لصلة الرحم فيأتيه حابس أو مانع ولو كان عذراً فإنه يستغفر الله ويقول استغفر الله من ذنب حال بيني وبين هذا الخير فلايزال يندم حتى يبلغه الله بهذا الندم أجر العاملين ، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم :(( إن بالمدينة رجالاً ماسلكتم وادياً ولاقطعتم شعباً إلا كانوا معكم إلاشركوكم الأجر ، قالوا يارسول الله كيف وهم في المدينة ؟ قال حبسهم العذر)) فالإنسان إذا حصل عنده الندم قالوا لأن المعذورين الذين تخلفوا عن الغزو مع رسول الله صلى الله عليه وسلم كانوا نادمين وكان الرجل منهم إذا تولى من عند رسول الله صلى الله عليه وسلم تولى وعينه تفيض من الدمع حزناً ألا يجد ماينفق أو يركب مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ليجاهد فبلغهم الله بالندم مبلغ العاملين وينبغي للإنسان دائماً أن يلاحظ نفسه في طاعة الله فقدره عند الله على قدر التوفيق للطاعة فإذا فاته الوتر الذي يحبه الله عز وجل ويحب أهله فقال : (( إن الله وتر يحب الوتر)) قال العلماء : ومحبة العمل محبة للعامل إذا كان الله يحب الوتر فهو يحب أهل الوتر المحافظين عليه ولذلك قال بعض السلف لايترك الوتر إلا رجل سوء ، فالوتر نعمة من الله عز وجل يختم الإنسان بها صلاته وقد يوافق فيها باباً مفتوحاً في السماء فتستجاب دعوته وتفرج كربته وترفع درجته وتضاعف حسنته ويكون له من الخير ما الله به عليم ، وكم من سعيد أسعده الله بدعوة في وتره خاصة أوتار الأسحار فإنها توافق ساعة تفتح فيها أبواب السماء وساعة يعرض الله فيها عز وجل كرمه وفضله ورحمته(29/18)
وإحسانه على عباده وهو أرحم الراحمين فالمقصود أن الإنسان إذا فاته الوتر أول ماينبغي عليه أن يستشعر الندم وأن يستغفر الله وأن يتوب إليه وبعد ذلك يبقى الحكم الشرعي في الوتر فالثابت في السنة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه من فاته الوتر بالليل فإنه يقضيه مابين طلوع الشمس إلى الزوال ؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال : (( من نام عن حزبه من الليل أو نسيه فصلاه بين طلوع الشمس إلى زوالها كتب له كأنما قرأه من ساعته )) فدل هذا على رحمة الله عز وجل بهذه الأمة وتيسيره لهم في النوافل أن يقضوها حتى يدركوا خيرها وفضلها وبرها فيقضيه الإنسان مابين طلوع الشمس إلى الزوال ، وأما مابعد الزوال فمسكوت عنه ولذلك قال العلماء إنه لايُقضى الوتر بعد الزوال وأنا أميل إلى هذا القول لأنه قد فات وقته والأصل أنه صلاة ليل وورد التخصيص في النهار بما بين طلوع الشمس إلى الزوال ، فلو كان الأمر ينسحب إلى صلاة العصر لسحبه النبي صلى الله عليه وسلم ولبين بقاءه لما في ذلك من الخير للأمة ، لكنه كونه يحد إلى الغاية وهو قوله حتى تزول الشمس يدل على أن بعد زوال الشمس لاقضاء فيه والقاعدة في الأصول تقول أن مابعد الغاية مخالف لماقبلها في الحكم فلما قال عليه الصلاة والسلام :(( فقرأه مابين طلوع الشمس حتى تزول)) يدل على أن مابعد الزوال لايشرع فيه القضاء ، والله تعالى أعلم .
السؤال التاسع :
تعلمون حفظكم الله أن من السنة الضرب بالدف في الزواج لكن في عصرنا أشكل على بعض الصالحات من مصاحبة الدف للغناء والرقص والتبرج والسهر إلى ساعات متأخرة من الليل ، وأيضاً الضرب بالدف في غير الزواج كالعقيقة وأيضاً سماعهم من الأشرطة بعد تسجيله باستمرار ، نرجو من فضيلتكم التوجيه والإرشاد والله يحفظكم ..؟؟
الجواب :(29/19)
الدف ثبت فيه الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه أجاز ضربه في الأفراح وفي الأعراس فقال عليه الصلاة والسلام :(( أعلنوا النكاح واضربوا عليه بالدف))وفي رواية : (( بالغربال)) وهذا يدل على مشروعية إعلان النكاح وأن المقصود من ضرب الدف إشهار النكاح والفرق بين النكاح والسفاح وهو الزنا أن الزنا يكون سراً والنكاح يكون علانية ولذلك قال العلماء لو تزوج رجل امرأة وقال لوليها لاتخبر أحداً وقال للشهود لاتخبروا أحداً فإنه يعتبر نكاح سر ، يعزر الولي ويعزر الشاهدان ويعزر الزوج وقد فعل ذلك عمر-- رضي الله عنه - وأرضاه - ولذلك فسخ بعض العلماء مثل هذا العقد إذا كان نكاح سر فالفرق بين الحلال والحرام كونه مباحاً وأما الضرب بالدف في غير النكاح فبعض العلماء - رحمة الله عليهم - يقولون إنه لايشرع الدف في غير النكاح وذلك لأنه لهو وكل لهو باطل فقالوا إنه لايشرع في غير النكاح بل لايجوز نص بعضهم على أنه لايجوز وإنما يقتصر جوازه على النكاح وقال بعض العلماء أن النبي صلى الله عليه وسلم نذرت الجاريتان أن تضرب على رأسه بالدف إذا قدم من غزوته فأقرهم النبي صلى الله عليه وسلم على ذلك قالوا فلما أقرهما الأصل في النذر أنه لا يجوز بمحرم فلو كان ضرب الدف الأصل فيه كون حراما لم يأذن النبي صلى الله عليه وسلم لها أن تضرباً على رأسه، رد الأولون وقالوا إن النبي صلى الله عليه وسلم لم ينكر قول عمر رضي الله عنه :" أمزمار شيطان في بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم " قالوا فوصفه بكونه مزمار شيطان وقد أجاب الأولون بأن وصفه بكونه مزمار شيطان المراد به الوصف بخلاف الأولى ولو كان وصف تحريم لما كان عمر أتقى لله من النبي صلى الله عليه وسلم ولاشك أن القول الأول من جهة كون التحريم يحتاج إلى دليل يقتضي أن الأصل التحريم هو المرجوح ، والقول بكون الأصل الحل حتى يدل الدليل على(29/20)
التحريم هو الأقوى والأرجح ولكن التوسع في ذلك والإفراط فيه والمبالغة فيه فإنه يعتبر خارماً من خوارم المروءة فالشخص إذا أدمن سماع الدفوف وسماع الرقص وألف الرقص وألف ضرب الدفوف وسماعها ساقط العدالة ساقط المروءة كما نص العلماء رحمهم الله على ذلك، ولاينبغي إشغال الصالحين والصالحات بمثل هذا ولكن في الأعراس ونحوها إذا تبرع الصالحات أن يضربن بالدف فهذا شيء محمود وهن مأجورات على ذلك جزاهن الله خيراً خاصة وأنهن يصرفن الناس مما حرم الله إلى ما أباح الله وخاصة إذا صحب ذلك أن الأموال تصرف لجماعة خيرية أو نحو ذلك من إسهامات البر ونحوها فأمثال هؤلاء يُعانون وتكون المعونة لهم معونة على البر والتقوى وهن مأجورات غير مأزورات .(29/21)
وأما بالنسبة للعقيقة وغيرها فمن ضرب الدف يتأول قول القائل بالجواز فإنه له وجه ولاينكر عليه لأن له الأصل الذي يقتضي الإباحة حتى يدل الدليل على التحريم ، ولو صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه حرم الدف بنص واحد صحيح صريح لكان محرماً ويعتبر جوازه في النكاح خاصة ، لكن لما كان الأصل الحل ويعتبر قول اللهو في الأصل خلاف الأولى ولايرتقي إلى التحريم إلا بنص بين قالوا إنه يكون على الحل ومن فعل ذلك في عقيقة أوغيرها يتأول قول القائل بالحل فلا حرج عليه لأن النبي صلى الله عليه وسلم لما رقص الحبشة في مسجده في يوم العيد إنما كان لعبهم بالحراب والرقص بالحراب إنما كان من باب الفرح ، قالوا فكل فرح مأذون به شرعاً إذا لم يصحب بمحرم أنه لاحرج فيه ، والذي تميل إليه نفسي أن الإنسان يحتاط ويترك هذه الأمور وينبغي عدم شغل الصالحين والصالحات بمثل هذه الأمور ، والأولى أن يشغلن بكتاب الله وبسنة النبي صلى الله عليه وسلم وبما فيه الخير بدل ضرب الدفوف والرقص ولاشك أن الرقص فيه شيء من الخلل في مرؤة الإنسان والمرأة إذا ألفت الرقص فإنه يذهب ماء الحياء من وجهها والإنسان خيره في حيائه ولذلك قال صلى الله عليه وسلم : (( إن مما أدرك الناس من كلام النبوة الأولى إذا لم تستحي فاصنع ماشئت)) ولقد توسع بعض الناس-أصلحهم الله- وبعض الشباب في هذا الزمان وبعض الشابات أصلحهن الله في سماع الدفوف فالرجل يسمع الدف قائماً وقاعداً حتى أصبح أكثر من سماعه لكتاب الله ومثل هذه الأمور لاشك أنها تؤثر على نفسية الإنسان والشاب الذي ينشأ على الدفوف وسماعها وسماع النشيد فإنه ينشأ ضعيفاً ضعيف الالتزام ضعيف الإيمان ولكن إذا نشأ على كتاب الله عز وجل وسماع تلاوته والتأثر بتلاوته والخشوع عندها والبكاء منها فإن إيمانه يزداد وقوة إيمانه تكون في ارتفاع ويكون أصلح حالاً من غيره ولذلك قال العلماء : إن الإنسان إذا اهتدى(29/22)
على الأمور التي فيها تسلية وفيها مرح وفيها لهو فإنه يكون قريباً إلى الفتنة ، إن وجد اللهو تمسك بالإسلام والهداية ، وإن وجد العزيمة وأمر بشدائد الإسلام وعزائمه نكص على عقبيه-نسأل الله السلامة والعافية- كما قال الله سبحانه وتعالى :{ وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالآخِرَةَ ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ}(1) فاالشاب إذا نشأ على سماع الدفوف وسماع النشيد والإدمان علىسماع هذه الأمور إذا جئت وقلت له هلم نجلس إلى مجلس ذكر أو القرآن تجده ضعيفاً ، وإذا ألف الهداية بالضحك والمزاح واللهو من لعب وسباحة ونحو ذلك تجده يألف الصالحين إذا وجد هذه الأمور ، وأما إذا لم يجدها فإنه يضيق قلبه وتضعف نفسه وتجده أبعد مايكون عن الاستجابة أو أقل استجابة من غيره فالمنبغي تربية شباب الأمة على التمسك بحبل الله المتين والاعتصام بهذا الكتاب المبين ففيه سعادة الدنيا والدين -نسأل الله تعالى أن يجعلنا وإياكم ذلك الرجل ، إنه المعين على ذلك وهو أرحم الراحمين- ، والله تعالى أعلم .
السؤال العاشر :
نرجو من فضيلتكم إعادة القواعد الإسلامية الخمس مع شرحها..؟؟
الجواب :
بسم الله الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه أما بعد :
فالقواعد الخمس هي :
القاعدة الأولى :"الأمور بمقاصدها ، وبعضهم يقول "الأعمال بالنيات". القاعدة الثانية: "اليقين لايزال بالشك". القاعدة الثالثة : "المشقة تجلب التيسير ". القاعدة الرابعة :"الضرر يزال ". القاعدة الخامسة :"العادة محكمة.(29/23)
وهذه القواعد الخمس يقولون إنها أمهات مسائل الفقه وقل أن تخرج عنها مسألة فقهية وقد تفرعت عنها قواعد كثيرة وقد يندرج تحت القاعدة مالا يقل عن مائة مسألة أو مائتين بل قد تصل إلى ألف مسألة كما في قاعدة الأمور بمقاصدها قد ذكر بعض العلماء إنه يندرج تحتها مالا يقل عن ألف مسألة من مسائل العبادات ومن مسائل المعاملات ، وأما شرح هذه القواعد فلو جلسنا في كل قاعدة يشرحها في دروس ما أوفيناها ولكن باختصار.
" الأمور بمقاصدها " : دليلها قوله - عليه الصلاة والسلام -:(( إنما الأعمال بالنيات)) والمراد بذلك أن المكلف فيه جانبان : الجانب الأول : باطن . والجانب الثاني : ظاهر .(29/24)
فأما باطنه فهو نيته في العمل ، وأما ظاهره فهو صورة العمل ، فالشخص يدخل إلى المسجد ويصلي فإذا صلى نظر الشرع إلى أمرين الأمر الأول ظاهره من كون هذه الصلاة أديت بشرائط صحتها وأركانها وواجباتها فإذا قام وركع وسجد وقرأ وسبح وذكر الأذكار الواجبة فالعمل يقولون صحيح فيشترط في العمل أن يكون موافقاً للشرع هذا الظاهر ، فلايصح العمل إلا إذا وافق الشرع إذا صلى لابد أن تقع صلاته على الصفة المعتبرة شرعاً ، وإذا صام لابد أن يقع صيامه على الصفة المعتبرة شرعاً وإذا حج وإذا فعل أي أمر من الأمور التي يتقرب بها إلى الله سبحانه وتعالى فلابد وأن يكون هذا الظاهر موافق لما بينه الشرع في الكتاب والسنة ، ثانياً الباطن قد تكون الصلاة صحيحة في الظاهر أقام أركانها وشرائط صحتها وواجباتها ولكنه قصد من هذه الصلاة الرياء-والعياذ بالله- فإن هذه الصلاة وإن كانت صواباً أي فعلاً موافقاً للشرع لكن باطنها والحامل عليها يعتبر باطناً شرعاً وغير معتبر شرعاً :{ وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلاةِ قَامُوا كُسَالَى يُرَاءُونَ النَّاسَ وَلا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلاَّ قَلِيلاً}(1) فلذلك لايقبل هذا العمل لأنه وإن وافق في الظاهر لم يوافق في الباطن فإذاً قالوا لابد من موافقة الباطن ومن هنا قالت القاعدة الشرعية الأمور بمقاصدها يعني أن الأعمال ننظر فيها إلى نية أصحابها فإن كانت نيتهم موافقة بقصد وجه الله عز وجل فهي أعمال موافقه وإن كانت نيتهم مخالفة فهي أعمال مخالفة.(29/25)
لكن هناك جانباً ثانياً أيضًا وهو جانب صورة العمل كأن هناك مثلاً أربع ركعات يحتمل أن تكون عشاء ويحتمل أن تكون ظهراً ويحتمل أن تكون عصراً لكنها بالنية تتميز فإذا صلى أربع ركعات مثلاً سرية فهي إما الظهر أو العصر فإن نوى الظهر فظهر وإن نوى العصر فعصر ولذلك لو سألك سائل وقال صليت أربع ركعات ولم يكن بخلدي أن أستحضر نيتي للظهر فهل تجزئ عني للظهر ؟ تقول لا لأنك لم تنو الظهر ، والقاعدة : " أن الأمور بمقاصدها" فمن نوى الظهر فقد صلى الظهر ومن لم ينوي الظهر فإنه لم يصل الظهر ولو سألك السائل وقال صليت أربع ركعات وأنا ناوٍ العصر ثم تبين أنني لم أصل الظهر ، فهل تنقلب هذه الأربع ظهراً ؟ فتقول لاتنقلب ظهراً لأنك نويت بها العصر ولاتجزئ عن الظهر فريضة الله لأنك لم تنوها والقاعدة أن الأمور بمقاصدها فلما قصدت بها العصر فهي عصر ولما كان العصر يتوقف على سبق صلاة الظهر بطلت عصراً وانصرفت نافلة ولزمك أن تعيد الظهر والعصر وقس على هذا المسائل .
فلو أن إنساناً أعطى رجلاً ألف ريال ولما أعطاه -هذا في العبادات الحكم واضح- .(29/26)
-لكن في المعاملات-: لو أن إنساناً أعطى رجلاً الف ريال فإذا جاء يعطيه هذه الألف ريال وفي نيته أن يحابيه أو يكسبه لمصلحة دنيويه تقول إن هذا العمل ليس قربة لله وإنما هو من أمور الدنيا فإن قصد بها من أمور الدنيا المباحة فهو مباح كالتجارات ونحو ذلك ، فإن قصد مصلحة لتجارته فهذا مباح وجائز لا إثم ولاوزر ، وإن قصد به أمراً حراماً أو يتوصل بها إلى أمر حرام فهي حرام وإن قصد بها أمراً مستحباً مندوباً كأن يقصد إلفة وقصد بذلك الرفق به كأخ في الإسلام فهي قربة وطاعة لأن القاعدة أن الأمور بمقاصدها ، فإن نوى القربة فقربة وإن نوى العادة فعادة وإن نوى التجارة فلا أجر ولاوزر ، هذا بالنسبة للمعاملات الأمور بمقاصدها فتتفرع على هذه القاعدة مالايحصى كثرة من المسائل يستثنى من هذه القاعدة مسائل الطلاق والنكاح والعتاق والنذور ففي مسائل منها لاتعتبر فيها النية فلو أن رجلا قال لامرأته أنت طالق فقيل له هل تقصد الطلاق قال والله لا أنوي الطلاق وإنما أنوي المزح فنقول طلقت عليك ولولم تنوي الطلاق ؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم :(( ثلاث جدهن جد وهزلهن جد)) فألغى الشرع في باب الطلاق النية قالوا باب الطلاق وفسخه النية فطلق على الهازل وكذلك قالوا لو أن رجلاً قال لرجل زوجتك بنتي قال قبلت قال أمزح فقد مضى النكاح على الرجل المزوِّج والمزوَّج ولزمهما ولذلك لاخيار لهما لأن الهزل في هذه الأمور جد ، كذلك لو قال لعبده أنت حر ثم قال أنا أمزح قالوا يلزمه العتق لأنه جده جد وهزله جد، فيستثنى من هذه القاعدة هذه المسألة .(29/27)
أما قولهم "اليقين لايزال بالشك " : تفرع عنها قاعدة " الأصل بقاء ماكان على ماكان" ، وهذه القاعدة من رحمة الله بالعباد ولو فتح الله على عباده أبواب الوسوسة لما استطاع إنسان أن يصلي أو يقوم بعبادة بل ولايستطيع أن يقوم بمعاملة من كثرة دخول الشيطان عليه وتوارد الخواطر والوسواوس عليه ولكن الله عز وجل لطف بعباده ورحم خلقه حينما ردهم إلى اليقين ولوفُتح باب الشك لكانت للتهم مجالاً ولاستضر الناس في أنفسهم وفي معاشهم وفي أولادهم وفي أهليهم فبمجرد أن يشك الإنسان في زوجته قد تحرم عليه لكن الشرع ألغى هذا كله وأوجب علينا البقاء على اليقين قالوا القاعدة "الأصل بقاء ماكان على ماكان " من هذا في العبادات وفي المعاملات ، ففي العبادات لو شككت هل صليت الظهر أو لم تصل ؟ فاليقين أنك لم تصل واليقين أن ذمتك كمكلف يجب عليك أن تصلي الظهر لأنه دخل عليك وقتها فإذا شككت هل صليت أولم تصل فاليقين أنك مطالب بالصلاة فلابد وأن تستيقن أو يغلب على ظنك أنك أبرأت ذمتك هكذا لو شك هل أدى الزكاة أو لم يؤدها ؟ تقول اليقين لايزول بالشك فالأصل أنه ملك النصاب وحال عليه الحول واستوفى شروط الزكاة فيجب عليه أن يزكي وقد شغلت ذمته بالزكاة وشككنا في براءتها فرجعنا إلى الأصل من كونه مطالباً بها ، وهكذا في الصوم لو استيقظ في الليل ولم يدر هل طلع الفجر فيمسك عن الطعام والشراب أو لم يطلع ؟ فاليقين أنه في الليل فيأكل ويشرب ويجامع ولاحرج حتى يستيقن أن الفجر قد طلع فإذا أمسك و صام ثم شك هل غابت الشمس أو لم تغب نقول أبقَ على اليقين من كونك في النهار حتى تستيقن غروب الشمس هذا بالنسبة للعبادات ولوشك في الطواف فقال هل طفت ثلاثة أشواط أو أربعة أشواط؟ يبني على ثلاث ، هل طفت شوطاً أو شوطين ؟ يبني على شوط؟ هل صليت ركعتي الطوا ف أولم أصل؟ اليقين انه لم يصل، وقس على ذلك ممالا يحصى كثره مما في العبادات .(29/28)
في المعاملات اليقين لايزال بالشك ، لو أن رجلاً استدان من رجل عشرة الآف ريال ثم جاء و قال له اعطني عشرة الآف قال: أعطيتك أو أشك أني أعطيتك كأني أعطيتك قا ل: ما أعطيتني قال : والله أشك لست بمتأكد أني أعطيتك أو أنني لم أعطك ، فنقول اليقين أنك مطالب بعشرة الآف وقد استيقنا أن في ذمتك عشرة الآف فإذا ارتفع إلى القاضي سأله القاضي هل أخذت العشرة الآف قال نعم استدنت منه عشرة الآف ، قال لخصمه هل أدى العشرة الآف إليك قال : لم يؤدها وقال للمدعي هل أعطيته العشرة الآف قال أشك نقول اليقين أنك مطالب بالعشرة الآف حتى تستيقن سداد دينك لو أن رجلاً اتهم رجلا بالزنا أو بحرام نقول اليقين أنه برئ والأصل أنه برئ حتى يقيم الدليل إما اعتراف المتهم وإما قيام شهود وبينة معدلة مقبولة الشهادة تشهد بكونه مصيباً لهذا الحد فنقيم عليه الحد ، وكذلك بالنسبة لمسائل المعاملات الأخرى قس على هذه المسائل ما لايحصى كثرة فاليقين لايزال بالشك قاعدة عظيمة ، أما الدليل فحديث عبدالله بن زيد رضي الله عنه " شكي إلى النبي صلى الله عليه وسلم الرجل يخيل إليه أنه يجد الشيء في الصلاة ؟ قال : (( لاينصرف حتى يسمع صوتاً أو يجد ريحاً)) فرده إلى اليقين من كونه متوضئاً ، ومن أدلة هذه القاعدة قوله عليه الصلاة والسلام :((إذا صلى أحدكم فلم يدر واحدة صلى أو اثنتين فليبن على واحدة ، فإن لم يتيقن اثنتين صلى أم ثلاث فليبن على اثنتين فإن لم يدر أثلاثاً صلى أو أربعاً فليبن على ثلاث)) فرد إلى اليقين في العبادات طهارة وصلاة ، وأما في المعاملات فردنا إلى اليقين فقال : (( لو يعطى الناس بدعواهم لادّعى أناس دماء أناس وأموالهم ولكن اليمين على من أنكر)) فردنا إلى اليقين ، والله-تعالى- يقول :{ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ}(1) فدل على أن الدعوى لاتقبل مجردة من دليلها ، وعلى هذا قالوا الشرع ألزمنا بالبقاء على الأصل(29/29)
من البراءة حتى يدل الدليل على شغل الذمة بعبادة أو معاملة.
أما قاعدة المشقة تجلب التيسير: فدليلها قوله سبحانه وتعالى :{ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ}(1) وقوله-سبحانه-:{ يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمْ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمْ }(2) وتخفيفات الشرع الكثيرة منها أن الله أسقط عن المسافر ركعتين في السفر ومنها أن الله أجاز له أن يجمع بين الصلاتين ، ومنها أن الله سبحانه وتعالى أجاز لنا أن نتيمم عند فقد الماء ، وقسّ على ذلك من المسائل مالا يحصى كثرة من رخص الشرع وتيسيراته ، فهذه الرخص مبنية على أصل الشرع من سماحته كما قال سبحانه وتعالى :{لاَ يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا}(3) فقاعدة المشقة تجلب التيسير تدل على أنه إذا وجدت المشقة أن الله لايكلف ، لأن المشقة تنقسم إلى قسمين :
القسم الأول : مشقة مقدور عليها. والقسم الثاني : ومشقة غير مقدور عليها .
فالمشقة غير المقدور عليها لايكلف بها إجماعاً كرجل أصابه الضمأ وهو صائم حتى كاد أن يهلك فنقول له يجب عليك أن تفطر ، ورجل أصابته المخمصة والمجاعة حتى كاد أن يهلك ولم يجد إلا ميتة نقول يجب عليه أن يأكل منها إذا غلب على ظنه أن يهلك أو استيقنا هلاكه ، لماذا ؟ لأن الله لايكلف بهلاك الأرواح وبفوات الأنفس فلو قلنا له ابق صائما أو امتنع من أكل الميتة لهلك والله لايأمر بهلاكه ولذلك قال-تعالى-:{إِلاَّ مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ}(4) فهذا النوع من المشقات غير مقدور عليها ولايكلف به .
وأما النوع الثاني وهو المشقة المقدور عليها فتقسم إلى قسمين :(29/30)
مشقة مقدور عليها بحرج ، كالشخص في السفر يصوم لكن الصوم فيه حرج ومشقة لكن لايموت لأن الإنسان يمكنه أن يصبر على الطعام والشراب ثلاثة أيام فإذا صبر يوماً لايهلك لكن المشقة توجب الحرج فنقول له يخير بين الفعل والترك فإن وصلت المشقة إلى العناء والحرج فنقول له أنت بالخيار بين الفعل والترك كما في الصائم في السفر يخير بين إتمام صومه وبين الفطر ، وأما إذا كانت المشقة مقدوراً عليها فإنه يكلف بها إجماعاً ولذلك أنت تخرج من بيتك في صلاة الفجر وأنت في نوم ودعة وسرور هذه مشقة تقوم من فراشك ثم تتوضأ مشقة ثم تخرج إلى المسجد مشقة ثم تصلي مشقة لكنها مقدور عليها فيكلف الله بها وهذه هي المكاره التي حفت بالجنة كما قال صلى الله عليه وسلم :((حفت الجنة بالمكاره وحفت النار بالشهوات)) فهذه المكاره هي التي يرفع الله بها الدرجة ويكفر بها الخطيئة ويضاعف بها الحسنة .(29/31)
وأما القاعدة الرابعة :" الضرر يزال": والضرر يزال قاعدة انبنت على قوله عليه الصلاة والسلام :(( لاضرر ولاضرار)) وهو حديث مختلف في اسناده أجمع العلماء على صحة متنه لأن الشرع لايأمر بإضرار المسلمين ولابجلب الضرر لهم ، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم :(( لايبع بعضكم على بيع بعض))وقال : ((لاتناجشوا)) وقال :(( من غش فليس منا)) ونهى المسلم أن يخطب على خطبة أخيه كل ذلك دفع للضرر العام والخاص ونهى عن تلقي الركبان وعن بيع الحاضر للباد لأن هذا يرفع السعر في الأسواق ويضر بالجماعة فهذا كله من دفع الضرر ، والضرر يزال قاعدة نفيسة وقد تكلم العلماء عليها ومن أنفس من تكلم عليها الإمام الشاطبي رحمه الله في كتابه النفيس" الموافقات" فبين أحوال الضرر وقواعد الضرر ومتى يكون نادراً ومتى يكون غالباً ومتى يكون كثيراً ومتى يكون مستيقناً أو يكون غالباً على الظن وقوعه أو يكون متوهماً ومتى يكون ضرراً بالجماعة وضرراً بالفرد فهذه القاعدة عمل بها العلماء ، ولذلك نهى النبي صلى الله عليه وسلم من أكل الثوم والبصل أن يدخل المسجد لأنه إذا دخل المسجد أضر بالمصلين وشوش عليهم في صلاتهم فقالوا الضرر يزال ، كذلك أيضاً الحاقن هذا الضرر المنفصل بالغير ، والضرر المتصل بالإنسان الحاقن ومن هو بحضرة طعام فإنه يستضر بذلك فالحاقن يستضر بحقن البول ولذلك نهي عن الصلاة وهو حاقن ونهي وهو بحضرة الطعام كل ذلك من دفع الضرر .(29/32)
وأما القاعدة الخامسة والأخيرة وهي" العادة محمكة": والأصل فيها قوله- تعالى-:{وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ}(1) يعني بالعرف ومنه قوله سبحانه وتعالى :{لاَ يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا} وقال :{وَمَتِّعُوهُنَّ عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ }(2) فرد الأمر إلى العرف فعشرة الزوج لزوجته والزوجة لزوجها مردها إلى العرف ولذلك قالوا إذا كانت المرأة في العرف تقوم بخدمة زوجها وخدمة بيت الزوجية والقيا م على الأولاد يجب عليها أن تخضع لذلك لأنه عرف وكأنها تزوجت للقيام بهذا والله أوجب عليها ذلك بالمعروف فيجب عليها أن تخدم زوجها وأن تقوم بذلك ولذلك ثبت في الصحيح من حديث فاطمة-رضي الله عنها - أنها اشتكت إلى النبي صلى الله عليه وسلم أنها طحنت حتى نجلت يداها فلم يقل لعلي لماذا تتعبها ولماذا تشق عليها ولم ينكر عليها خدمتها لزوجها بل أقرها وسألته الخادم فردها أن تخدم بنفسها لكي يعظم أجرها ولكي تحفظ بيوت المسلمين ويحفظ أولاد المسلمين وبناتهم وتصان أعراضهم من الدخل كل ذلك استناداً إلى العرف والعادة محكمة من أمثلتها لو أن اثنين اختصما في إجارة أو في بيع ففي الإجارة مثلاً لو أنه استأجر بيتاً سنة كاملة ثم قال اجرتني البيت بعشرة الآف قل بل أجرتك باثني عشرة ألفاً ، هذا يقول عشرة وهذا يقول اثني عشر من المدعي ومن المدعى عليه قال بعض العلماء ننظر : إلى العرف فإن كان العرف أن مثل هذا البيت يؤجر بعشرة الآف نطالب الذي قال باثني عشر بالبينة وإن كان العرف على أنه باثني عشر ألف نطالب الذي يقول بعشرة الآف بالبينة العادة محكمة لو أن اثنين اختصما في دابة فكان أحدهما يركب أمام والثاني يركب في الخلف فقال أحدهما دابتي وقال الثاني دابتي وليس عندهم بينة ولادليل فإننا نقول الدابة لمن كان في المقدمة لأن العرف جرى بأن صاحب الدابة يركب في المقدمة(29/33)
والراكب يركب في الخلف فلذلك نطالب الذي ركب في الخلف بالبينة ، كذلك لو اختصم اثنان في بيت وأحدهما ساكن في البيت والثاني خارج قال الذي في الخارج البيت بيتي وقال الذي في الداخل البيت بيتي وليس عندهما بينة نقول الذي بالداخل هو المالك والذي في الخارج مدعي يطالب بالبينة فهذا كله مرده إلى العرف ويعتبر الرجوع إلى العرف أصلاً شرعياً تنضبط به كثيراً من المسائل ،- نسأل الله العظيم أن يرزقنا الفقه في الدين-.
وَآخِرُ دَعْوَانَا أَنِ الحمَْدُ لِلَّهِ رَبِّ العَالَميْنَ وصلَّى اللَّهُ وسلَّم وبارك على عبده ونبيَّه محمد وعلى آله وصحبه أجمعين .(29/34)
بسم الله الرحمن الرحيم
قال المصنف -رحمه الله - : بَاب مَا جَاءَ فِي كَرَاهِيَةِ الْبَوْلِ فِي الْمَاءِ الرَّاكِدِ
الشرح :
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين أما بعد :
فقد ترجم المصنف رحمه الله بهذه الترجمة ومراده منه أن يبين أمرين:
الأمر الأول : يتعلق بأدب من آداب الإسلام وذلك أن الله عز وجل نهى عباده المؤمنين أن يتسببوا في أذية إخوانهم والإضرار بهم والبول في الماء الراكد يفسد ذلك الماء على الناس ويجعله قذراً لايستطيع أحد أن ينتفع بذلك الماء ولربما تضرر ذلك الماء فأصبح محلاً للقاذورات والنجاسات وفي ذلك من الضرر مالا يخفى ومن هنا قرر شيخ الإسلام رحمه الله في المجموع أن نهي النبي صلى الله عليه وسلم عن البول في الماء الدائم المقصود منه سد ذريعة الضرر ، وذلك أن اعتياد الناس على البول في المياه الراكدة يوجب تضررهم بذلك ، ومن هنا نص العلماء - رحمهم الله - على المنع من هذا الفعل .
وأما الأمر الثاني :فقد قصد المصنف بهذه الترجمة أن يذكر الأحاديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم والتي تدل على تأثر الماء بالبول فيه ، وهي مسألة تتعلق بالمياه، ومن هنا ناسب أن يعتني بإيراد هذه الأحاديث في باب الطهارة والسبب في هذا أن الطهارة تقوم على الماء ولايمكن للمسلم أن يتطهر إلا بماء طهور والماء الطهور باق على أصل خلقته لم يتغير ، والبول فيه يؤدي إلى تغيره بالنجاسة فناسب أن بعتني بإيراد ماورد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم .(30/1)
وقوله "كراهية البول" : المكروه هو الشيء المذموم ضد الشيء المستحب والمكروه تعافه النفوس ، والبول في الماء الراكد جبلت النفوس المستقيمة والطباع السوية على كراهيته وذمه وذم من يفعله خاصة إذا كان في البرك والمستنقعات فإن حاجة الناس إلى البرك والمياه الموجودة فيها شديدة ، وكذلك حاجتهم إلى المستنقعات لأن الإنسان ربما كان في سفر واحتاج إلى مياة المستنقعات لشرب أو طهارة أو غير ذلك ، فحينئذٍ يكون الضرر أشد .
يقول رحمه الله "باب ماجاء من كراهية البول في الماء الراكد": أي في هذا الموضع سأذكر لك ماورد عن النبي صلى الله عليه وسلم من الأحاديث التي تدل على كراهية البول في الماء الراكد .
والكراهة تنقسم إلى قسمين :
القسم الأول : كراهة التحريم : وهي التي يثاب تاركها ويعاقب فاعلها أي أنها ترد بالشيء الذي نهى الشرع عنه نهياً جازماً .
وأما القسم الثاني : وهو كراهة التنزيه: يثاب تاركها ولايعاقب فاعلها ولذلك يقول بعض العلماء هنا المكروه ضد المستحب .
قال المصنف رحمه الله :حَدَّثَنَا مَحْمُودُ بْنُ غَيْلاَنَ حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ عَنْ مَعْمَرٍ عَنْ هَمَّامِ بْنِ مُنَبِّهٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ :(( لاَ يَبُولَنَّ أَحَدُكُمْ فِي الْمَاءِ الدَّائِمِ ثُمَّ يَتَوَضَّأُ مِنْهُ )) .
قَالَ أَبو عِيسَى رحمه الله : هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ وَفِي الْبَاب عَنْ جَابِرٍ .
الشرح :(30/2)
يقول أبو هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال :(( لايبولن أحدكم في الماء الدائم ثم يتوضأ منه)) قوله - عليه الصلاة والسلام -:(( لايبولن )) يعتبر نهياً والنهي محمول على التحريم والأصل النهي في الكتاب والسنة أنه محمول على التحريم حتى يدل الدليل على غير ذلك وقد اختلف العلماء في قوله عليه الصلاة والسلام :(( لايبولن )) ، فقال جمهور العلماء رحمهم الله بالتفصيل فإن كان الماء قليلاً فالنهي للتحريم ، وأما إذا كان الماء كثيراً مستبحراً فالنهي للكراهة لا للتحريم وهذا هو مذهب الحنفية والمالكية والشافعية والحنابلة - رحمة الله على الجميع - وذهب داود الظاهري وأصحابه وطائفة من أهل الحديث إلى أن البول في الماء الدائم يعتبر حراماً سواء كان الماء الدائم كثيراً أو قليلاً وحملوا النهي على ظاهره لأنه الأصل .
والصحيح ماذهب إليه جمهور العلماء من النهي في هذا الحديث فيه تفصيل فإن كان الماء قليلاً فإنه على التحريم ، وأما إذا كان كثيراً يحتمل الخبث منه محمول على الكراهة والدليل على ذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم خص النهي بالماء الدائم الذي لايجري ، وهذا يدل على أن الماء الذي يجري يجوز البول فيه لأن النبي صلى الله عليه وسلم فرق بين الذي يجري والذي لايجري كما ثبتت بذلك الأحاديث والروايات في الصحيحين وغيرهما ، وإذا كان حكم الشريعة بالتفريق بين الجاري وغير الجاري فإننا نفهم من ذلك أن هناك علة اقتضت تفريق الحكم ومن هنا قالوا إن الجاري يحمل الخبث ويدفع التغير بخلاف الدائم الذي لايجري فإنه ضعيف ، وهذا يدل على أن علة التحريم إنما هي خوف إفساد الماء وإذا كان الأمر كذلك فرقنا بين القليل والكثير ولكن مع ذلك ينبغي للمسلم أن يحتاط وأن يبتعد عن هذا الفعل المشين من أذية إخوانه المسلمين ، ولو فتح الباب للبول في الماء الراكد فإنه مظنة التغير حتى ولو كان كثيراً كما لايخفى.(30/3)
قوله - عليه الصلاة والسلام -:(( لايبولن )) :يدل على المنع من البول سواء بال الإنسان مباشرة أو بال بواسطة وتوضيح ذلك أن البول يلقى في الماء على حالتين :
الحالة الأولى: أن يبول مباشرة في الماء فهذه الحالة متفق على المنع منها إما على سبيل الكراهة التحريمية أو الكراهة التنزيهية كما تقدم .
وأما الحالة الثانية : فهو أن يصب البول في إناء ثم يأتي إلى الماء الدائم ويلقي البول فيه فقال جمهور العلماء : يستوي الحكم سواء بال مباشرة أو وضع البول في إناء ثم صبه في المستنقع ، وذهب ابن حزم الظاهري إلى التفريق بين أن يبول مباشرة وبين أن يبول في الإناء ثم يلقي بوله في الماء قال لأنه لم يبل في الماء وإنما بال في الإناء وهذا لاشك أنه اقتصار على الظاهر وإهدار للعلة الشرعية المفهومة من النصوص والشرع يقصد المعاني كما يقصد الألفاظ ، ولذلك يقوى مذهب الجمهور أنه لافرق بين أن يبول مباشرة أو يبول في الإناء .
قوله عليه الصلاة والسلام : (( في الماء الدائم)) : الماء له حالتان :
الحالة الأولى: أن يكون جارياً على وجه الأرض .
ومن أمثلة ذلك : السيول والأنهار وهكذا العيون إذا جرت على وجه الأرض وفي حكم الماء الجاري الماء الذي يجري في قناطر المياه كاالسقي في الزراعة فذلك كله يعتبر ماء جارياً ، وفي حكم الماء الجاري ماهو موجود الآن في الصنابير ونحوها فإنها تعتبر في حكم الجارية فهذا النوع من الماء هو أقوى أنواع المياه ؛ والسبب في ذلك أنه حال جريانه يدفع الخبث ويقوى على دفعه أكثر من الماء الذي هو في المستنقع مستقر ، ولذلك نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن الذي لايجري كما جاء في الرواية الثانية الذي لايجري هي رواية ثابتة في الصحيح ، والسبب في ذلك أن الجريان يجعل في الماء قوة وهذا النوع من المياه يعني المياه الجارية تكون على حالتين أيضاً :
الحالة الأولى : أن تكون مستبحرة فقد اتفق العلماء على أن البول فيها لايضر .(30/4)
والحالة الثانية : أن تكون قليلة ومن أمثلة ذلك أن تجري العيون ونحوها من الشلالات ويكون قليلاً بحيث تكون نسبة الماء الجاري يسيرة ، فقال بعض العلماء : إذا كان الماء جارياً يسيراً حرم البول فيه لأنه في معنى الماء الراكد.
وأما بالنسة للقسم الثاني من المياه: فهي المياه التي لاتجري وهذه تكون على حالتين :
…الحالة الأولى : أن تكون مستقرة في الأرض وليس لها نبع يغذيها ومن أمثلة ذلك البحيرات ومستنقعات المياه فالبحيرات ليس لها نبع يغذيها وهكذا الحال بالنسبة لمستنقعات المياه التي تكون عقب السيول فإذا سال السيل ونزل في مكان مطمئن من الأرض ثم بعد ذلك انقطعت روافده فإنه يستقر في هذا الماء المطمئن من الأرض وهو الذي يسمى بمستنقعات المياه ، وفي هذه الحالة يسمى الماء راكداً .(30/5)
أما الحالة الثانية : وهي أن يكون مستقراً في مكان مخصوص ولكن له نبع يغذي وله مثال وهو البئر ، وذلك أن آبار المياه يكون الماء فيها مستقراً راكداً ولها نبع يغذيها ولذلك تملأ جمة البئر ويكون الروافد إما من عين جارية في أصل البئر أو يكون ماء البئر مغتذياً بالروافد التي تكون في حواف البئر وجوانبه فهذا النوع من المياه-أعني مياه الآبار ومثلها مياه العيون- لأن العين إذا نبعت فإن نبعها يغذيها والعيون إما أن تجري وإما أن تستقر ، فإن استقرت فإنها مياه دائمة فهذا النوع من المياه هو المقصود بقوله - عليه الصلاة والسلام -:(( لايبولن أحدكم في الماء الدائم)) فوصفه بالدوام لأن مياه العيون والآبار تدوم غالباً ، بمعنى أن نبعها يغذيها ولاتنقطع وأما المستنقعات فإنها إذا أخذ منها الماء نضبت ثم يبست وأصبحت بدون ماء بخلاف مياه العيون والآبار فهي تسمى مياه دائمة لأن النبع يغذيها إذا نقصت فهي المرادة بقوله عليه الصلاة والسلام : (( الماء الدائم)) ، ولذلك جاء في بعض الروايات :(( الدائم الذي لايجري)) لأن المياه الدائمه منها مايجري كالعيون الجارية ومنها ماهو مستقر غير جاري كالآبار ونحو ذلك قال صلى الله عليه وسلم : (( لايبولن أحدكم في الماء الدائم ثم يتوضأ منه)) ثم يتوضأ منه : أي يتوضأ من ذلك الماء قال العلماء : النهي عن مجموع الأمرين أن يبول ثم يتوضأ من الماء وقال بعض العلماء : النهي عن كل واحد منهما فالنبي صلى الله عليه وسلم قصد تحريم البول سواء وقع بانفراد أو وقع مع الوضوء وأكدوا ذلك أنه إذا كان النهي عن واحد منهما-أعني البول منفرداً- أما كونه يتوضأ من الماء الدائم فلا حرج في ذلك ، وإنما منع من الوضوء إذا كان داخل الماء كما نهي عن الاغتسال في الماء الراكد الذي لايجري .(30/6)
وقوله عليه الصلاة والسلام :(( لايبولن أحدكم في الماء الدائم ثم يتوضأ منه)) : هذا النهي الذي ورد في هذا الحديث جاء بصيغة التأكيد ولذلك قوي مذهب الظاهرية من جهة ظاهر اللفظ ، وقوي مذهب جمهور العلماء رحمهم الله من جهة العلة .
في هذا الحديث دليل على رعاية الإسلام لمشاعر الناس وحفظه للمسلم عن أذية إخوانه المسلمين ، وذلك كما قلنا أن البول في هذه المياه يفسدها على الناس والدواب ولربما تسبب في انتشار الأمراض كما هو مكشوف ومعروف في زماننا ولذلك كان نهي الشريعة عن هذا الفعل يعتبر من آداب التخلي وقضاء الحاجة قال بعض العلماء : وفي حكم البول في المياه الدائمة أن يلقي القاذورات ونحوها ، ولذلك قال أبو هريرة رضي الله عنه "لعل أخاك أن يتوضأ أو يشرب منه" أي هل ترضى لأخيك المسلم أن يأتي بعد أن تبول فيتوضأ من ذلك المكان الذي بلت فيه أو يشرب من ذلك المكان الذي بلت فيه ، فالمسلم كما لايرضى ذلك لنفسه لايرضاه لإخوانه المسلمين ، قال بعض العلماء : إن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن البول في الماء الدائم والبول ربما زال بسبب كثرة الماء فلأن ينهى عن أذية المسلمين في مواطن المياه من باب أولى وأحرى ، ولذلك قالوا بتحريم بناء البيوت ، وكذلك إحداث المزارع في مجاري السيول لأنه إذا نهي عن البول في مجرى الماء فمن باب أولى أن ينهى عن البناء فيه لوجود الاضرار بالناس في كلا الأمرين .(30/7)
وقوله :(( لايبولن )) : لايخص الحكم بالبول بل يلتحق بذلك سائر النجاسات كما ذكرنا قالوا إنما خص البول لأنه يسري في الماء بسرعة بخلاف الغائط فإنه أقل سرياناً والحكم في الجميع واحد أنه لايجوز للمسلم أن يبول ولايتغوط في الماء الراكد والتغوط قال العلماء : إنه لم يذكر ولكنه في زماننا قد يأتي بصورة بوضع الغائط في حفاظة ونحو ذلك وإلقائه في الماء فجميع هذه الأمورتشتمل على أذية المسلمين والإضرار بهم والمسلم ينبغي عليه أن يكف أذيته عن المسلمين ، قيل يارسول الله ما المسلم ؟ قال :(( المسلم من سلم المسلمون من يده ولسانه )) .
قال المصنف رحمه الله بَاب مَا جَاءَ فِي مَاءِ الْبَحْرِ أَنَّهُ طَهُورٌ
الشرح:
يقول المصنف رحمه الله : " باب ماجاء في ماء البحر أنه طهور": أي في هذا الموضع سأذكر لك ماورد عن النبي صلى الله عليه وسلم من الحكم على ماء البحر أنه طهور أي طاهر في نفسه مطهر لغيره فيجوز لك أن تتطهر به بالوضوء أو بالغسل من جنابة وغيرها ، ويجوز أن تزيل به النجاسة عن البدن والثوب والمكان .(30/8)
وقوله "ماجاء في ماء البحر أنه طهور " : ماء البحر ماء معروف ، وقوله" في ماء البحر": سبب ذلك أن بعض السلف رحمهم الله كانوا يكرهون الوضوء بماء البحر وشدووا في ذلك وقد ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم مايدل على الرخصة والجواز فاعتنى المصنف رحمه الله بإيراد هذه الأحاديث ومنها حديث أبي هريرة رضي الله عنه وأرضاه وقد اعتنى العلماء - رحمهم الله - بهذا الحديث وأوردوه في باب الطهارة لاشتماله على الحكم على نوع مخصوص من المياه وهو ماء البحر والحكم لايختص بماء البحر بعينه ، بل يلتحق بمياه البحر المياه المالحة كمياه الآبار غير العذبة فإنه يحكم بطهوريتها وجواز الوضوء والاغتسال منها ، لأن منشأ السؤال عن ماء البحر كونه مختلف الطعم ولذلك ذكر العلماء - رحمهم الله - أن النبي صلى الله عليه وسلم إنما حكم بجواز الطهارة به لأن الصحابة - رضوان الله عليهم - ظنوا أن اختلاف ماء البحر عن أصل خلقة الماء أنه يوجب عدم جواز التطهر به كما سيأتي .
قال المصنف رحمه الله حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ عَنْ مَالِكٍ ( ح ) وحَدَّثَنَا الأَنْصَارِيُّ إِسْحَقُ بْنُ مُوسَى حَدَّثَنَا مَعْنٌ حَدَّثَنَا مَالِكٌ عَنْ صَفْوَانَ بْنِ سُلَيْمٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ سَلَمَةَ مِنْ آلِ ابْنِ الأَزْرَقِ أَنَّ الْمُغِيرَةَ بْنَ أَبِي بُرْدَةَ وَهُوَ مِنْ بَنِي عَبْدِ الدَّارِ أَخْبَرَهُ أَنَّهُ سَمِعَ أَبَا هُرَيْرَةَ يَقُولُ : " سَأَلَ رَجُلٌ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّا نَرْكَبُ الْبَحْرَ وَنَحْمِلُ مَعَنَا الْقَلِيلَ مِنَ الْمَاءِ فَإِنْ تَوَضَّأْنَا بِهِ عَطِشْنَا أَفَنَتَوَضَّأُ مِنْ مَاءِ الْبَحْرِ؟ " فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم :(( هُوَ الطَّهُورُ مَاؤُهُ الْحِلُّ مَيْتَتُهُ )) .(30/9)
قَالَ رحمه الله : وَفِي الْبَاب عَنْ جَابِرٍ وَالْفِرَاسِيِّ .
قَالَ أَبو عِيسَى رحمه الله : هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ وَهُوَ قَوْلُ أَكْثَرِ الْفُقَهَاءِ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم مِنْهُمْ أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ وَابْنُ عَبَّاسٍ لَمْ يَرَوْا بَأْسًا بِمَاءِ الْبَحْرِ وَقَدْ كَرِهَ بَعْضُ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم الْوُضُوءَ بِمَاءِ الْبَحْرِ مِنْهُمُ ابْنُ عُمَرَ وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَمْرٍو وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَمْرٍو هُوَ نَارٌ .
الشرح :
هذا الحديث يعتبر من أهم الأحاديث التي وردت في المياه ، ولذلك قال الإمام الحافظ ابن الملقن رحمه الله إنه أصل من أصول الإسلام ، وقال بعض العلماء : هذا الحديث نصف كتاب الطهارة ؛ والسبب في ذلك اشتماله على مسائل مهمة تتعلق بالماء الذي يتطهر به وقد صحح هذا الحديث الأئمة والأجلاء والحفاظ من المحدثين رحمة الله عليهم فقد صححه الإمام البخارى كما نقله عنه الإمام الترمذي وصححه الحاكم وابن حبان وابن خزيمة والدار قطني والبيهقي-رحمة الله على الجميع- والعمل عند أهل العلم على هذا الحديث سئل النبي صلى الله عليه وسلم وهذا السؤال وقع من رجل من بنى مدلج وقد ذكر الحا فظ ابن حجر رحمه الله فيه أقوال فقيل إن اسمه عبدالله وقيل عبيد وقيل عبد وقال الزرقاني رحمه الله في شرحه على الموطأ إن اسمه حميد ابن صخر كان من بنى مدلج وسأل النبي صلى الله عليه وسلم هذا السؤال فقال : " يارسول الله إنا نركب البحر ومعنا القليل من الماء " أي إنا نركب البحر ولم يبين سبب الركوب .(30/10)
وفيه دليل على مشروعية ركوب البحر وفي ركوب البحر كلام للسلف رحمهم الله فكان بعض السلف يحرم ركوب البحار ؛ والسبب في ذلك خوف الموت والغرق وقال إن ركوبها يعتبر تغريراً بالأنفس وجماهير السلف والعلماء على جواز ركوب البحار وأنه لاحرج على المسلم أن يركبها لسفر مباح أو واجب أو غير ذلك ، والسبب في ذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يستفصل من هذا الصحابي ولم يبين له حرمة ركوب البحر ولكن تستثنى من ذلك حالة واحدة وهي أن يركب البحر في حال الهيجان فقد شدد العلماء - رحمهم الله - في ركوب البحار في حال هيجانها واشداد أمواجها ، والسبب في ذلك أن الغالب أن الإنسان يهلك والغالب له حكمه والنادر لاحكم له يعني وجود السلامة فلما كان الغالب في حال اشداد البحر وهيحانه أنه يغرق ، حرم العلماء رحمهم الله ركوب البحار على هذا الوجه ، أما إذا كان الغالب السلامة فلاحرج ، ومن هنا قال العلماء لو أنه استأجر رجلاً لكي يحمل تجارته في البحر وكان الزمان زمان هيحان للبحر وقال له احفظ لي المال وانقله إلى بلد كذا وكذا فخاطر صاحب السفينة وركب البحر حال هيجانه فإنه يضمن مافي السفينة من تجارة لأنه تسبب في الاضرار وركوب البحر فيه هذا التفصيل أنه إذا غلب على الظن أنه يسلم الإنسان فلا حرج.
وأما إذا كان غالب الظن أن يهلك فحرام ، لما فيه من الالقاء بالنفس إلى التهلكة ، وقد حرم الله عز وجل على الإنسان أن يقتل نفسه ، بمعنى أن يتسبب في هلاكها ودخول الضرر عليها ، قال : " يارسول الله إنا نركب البحر ومعنا القليل من الماء إن توضأنا به عطشنا أفنتوضأ بماء البحر".(30/11)
فيه دليل على مسألة مهمة وذلك أن جمهور العلماء انتزعوا من هذا الحديث دليلاً على أن الصحابة-رضوان الله عليهم- كانوا يفرقون في الطهور بين الماء الطهور والطاهر ؛ والسبب في ذلك أن ماء البحر طاهر ولكنه اختلف طعمه الماء فنقلوه عن وصف الطهورية- أعني بقاءه على الخلقة- ودل ذلك على أنهم ماكانوا يتوضؤون بكل ماء وأن تقسيم الجمهور للماء إلى ثلاث أقسام أنه تقسيم صحيح معروف معهود على زمان أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم إذ لو كان شائعاً ومعروفاً عندهم الوضوء بكل ماء لما احتاجوا إلى هذا السؤال ولكن لما كان معروفاً ومعهوداً عندهم أنه ليس كل ماء يتوضأ به سألوا هذا السؤال لأن ماء البحر قد اختلف طعمه قال العلماء : فإذا اختلف طعم الماء فقد انتقل من أصل الطهورية إلى ما اختلف إليه فإن كان طاهراً فطاهر ، وإن كان نجساً فنجس على التفصيل الذي سبق بيانه عند الكلام على مسألة التقسيم .
قال-- رضي الله عنه - وأرضاه-" فإن توضأنا به عطشنا أفنتوضأ بماء البحر" : السؤال وقع على الوضوء ولكنه شامل للوضوء وللغسل ولسائر ما يكون من الطهارات .
قال- عليه الصلاة والسلام -:(( هو الطهور ماؤه الحل ميتته )) :الضمير في قوله هو عائد إلى ماء البحر .
وقوله (( هو الطهور)) : يدل على أن النبي صلى الله عليه وسلم جعل للماء الباقي على أصل خلقته وصفاً زائداً من الطهارة في قوله هو الطهور ، ولذلك لم يقل هو الطاهر فأكد هذا ماتقدم من الفرق بين الطهور والطاهر .(30/12)
وقوله - عليه الصلاة والسلام -:(( هو الطهور ماؤه)) : يعتبر جواباً عاماً والسبب في ذلك أن السؤال وقع عن كونه يتوضأ أو لايتوضأ فأجابه النبي صلى الله عليه وسلم بما يفيد العموم فقال له هو الطهور ماؤه لأنه لو قال له توضأ لظن الناس إن ذلك أنما جاز لمكان الضرورة وقلة الماء ؛ والسبب في ذلك أن السائل لما سأل النبي صلى الله عليه وسلم ذكر حالة من حالات الاضطرار فقال" معنا القليل من الماء " وهذه حالة وقت الضرورة فلو قال له النبي صلى الله عليه وسلم توضأ وأجابه بالجواب الخاص لفهم من ذلك أن الوضوء بماء البحر لايجوز إلا إذا كان عند الإنسان ماء قليل أما إذا كان الماء كثيراً فلا يجوز أن يتوضأ به فعدل عليه الصلاة والسلام عن هذا الجواب الخاص إلى جواب عام وذلك بقوله : (( هو الطهور ماؤه)) وهذا هو موضع الشاهد من هذا الحديث أن مياه البحر تعتبر طهوراً يجوز للإنسان أن يتطهر بها فيزيل بها الخبث وكذلك يتوضأ ويغتسل بها من جنابة وغيرها .
وقوله عليه الصلاة والسلام :(( الحل ميتته )) : الميتته هو الحيوان الذي مات حتف نفسه والحيوان له حالتان :
الحالة الأولى : أن تذكيه ذكاة شرعية كماهو الحال في الإبل والبقر إذا ذكيت ذكاة بالنحر أو الذبح فهذا النوع من الحيوان يعتبر حيواناً مذكى وينقسم إلى قسمين :
القسم الأول : أن يكون حيواناً مستأنساً . والقسم الثاني : أن يكون حيواناً متوحشاً .
فأما الحيوانات المستأنسة فإن ذكاتها إما بالذبح أو النحر فالإبل تنحر وأما بالنسبة للغنم فإنها تذبح ، فهذا النوع من المستأنس يذكى ذكاة الذبح أو النحر .(30/13)
وأما الحالة الثانية : من الحيوان وهو الحيوان المتوحش الذي أحل الله أكله كالوعول والظباء ونحوها كتيس الجبل وحمار الوحش فهذه الحيوانات المتوحشة أباح الله لنا أن نصيدها فيضربها الإنسان بالسلاح في أي موضع من جسدها فإذا فعل ذلك وعقرها وماتت فإنه ذكاة لها لقوله - عليه الصلاة والسلام -:(( ما أنهر الدم وذكرت اسم الله عليه فكل)) فقال عليه الصلاة والسلام :(( ما أنهر الدم وذكرت اسم الله عليه فكل)) فدل هذا على مشروعية الذكاة بالصيد وقد أجمع العلماء رحمهم الله على أن العقر بالصيد يعتبر ذكاة فهذا النوع من الحيوانات يعتبر من الحيوانات المباحة الأكل وهو حيوان البر ، وأما حيوان البحر فقد أباح الله لنا أن نأكله كما قال سبحانه وتعالى :{ أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعَامُهُ مَتَاعًا لَكُمْ وَلِلسَّيَّارَةِ }(1) وقال سبحانه وتعالى :{ وَمِنْ كُلٍّ تَأْكُلُونَ لَحْماً طَرِيّاً}(2) فدل على جواز أكل مافي البحر ولكن الذي في البحر ينقسم إلى قسمين :
القسم الأول : أن يكون من السمك والحوت .
والقسم الثاني : أن يكون من غيرهما .
فأما بالنسبة للسمك والحوت فإنه يجوز للإنسان أن يأكله وأن إخراجه من الماء يعتبر ذكاة له فإذا مات حتف نفسه وطفح على البحر فقد اختلف العلماء رحمهم الله فيه على قولين :(30/14)
فجمهور العلماء على أن السمك والحوت إذا مات حتف نفسه والقاه البحر أو أخرجه الإنسان من البحر ميتاً فإنه يجوز أكله لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال في هذا الحديث:(( الحل ميتته )) ولم يفرق صلوات الله وسلامه عليه في ذلك بين أن يموت بنفسه وبين أن يموت بالصيد وقال الإمام أبو حنيفة النعمان-عليه من الله الرحمة والرضوان- أنه لايجوز أكل السمك إذا طفا على وجه البحر ؛ لأنه ميتة ومراد النبي صلى الله عليه وسلم :(( بالحل)) أن يصيد الإنسان وانتفاء الذكاة المعروفة في صيد البر وليس مراد ذلك أن يموت حتف نفسه .
والصحيح ماذهب إليه جمهور العلماء أن جميع مافي البحر سواء صاده الإنسان أو طفا على البحر أنه يجوز أكله وقد ثبت في الصحيحين أن أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم في سرية أبي عبيدة رضي الله عنه إلى سيف البحر أنه ألقى لهم البحر بالحوت فأكلوه وأذن لهم النبي صلى الله عليه وسلم بذلك ولم ينكر عليهم فدل على أن ما جزر عنه البحر وأن ما مات حتف نفسه كله سواء ، يجوز للإنسان أن يأكله .
وأما بالنسبة لغير السمك والحوت فللعلماء فيه تفصيل :
فذهب الحنفية رحمهم الله : إلى أن غير السمك والحوت لايجوز أكله .
وذهب جمهور العلماء : إلى جواز الأكل وعلى تفصيل في مذاهبهم .(30/15)
فقال بعض العلماء : كل مافي البحر يجوز أكله إلا إذا كان فيه ضرر أو كان ساماً أو فيه ضرر إذا أكله الإنسان فيكون تحريمه حينئذٍ لمكان الضرر وقد حرم الله الخبيث ومن الخبائث السم ونحو ذلك فهذا النوع من الحيوانات الموجودة في البحار لا يجوز أكلها ، وزاد بعض العلماء أن يكون له شبيه في البر محرم فحرموا كلب البحر وحرموا خنزير الماء وغير ذلك من الحيوانات التي لها أشباه في البر فقالوا لا يجوز أكلها ، وقال بعض العلماء : بالجواز مطلقاً هذا هو ظاهر حديثنا أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يفرق بين السمك وغيره ولذلك يبقى الحكم عاماً إلا إذا وجد الضرر فإن وجد الضرر فإن الله حرم على المسلم أن يضر بنفسه.
وأما بالنسبة للنوع الثالث من الحيوانات : وهو الحيوان البرمائي الذي يعيش في البر والماء وهو على حالتين :
الحالة الأولى : أن يكون غالب عيشه في البر كالسلحفاة ونحو ذلك ، فهذا لا يجوز أكله لا يجوز أكله إذا كان ميتة ولا يحل أكله لأنه يأخذ حكم مافي البحر .
والحالة الثانية : أن يكون برمائياً تكاثره وغالب عيشه في الماء فإنه يجوز أكله ويأخذ حكم ميتة البحر إذا مات لأن الحكم للغالب والنادر لاحكم له كما هو معروف في الأصول .
في هذا الحديث دليل على سعة رحمة الله بعباده المؤمنين حيث خفف عنهم في حكم البحار وذلك أنه أحل لهم أن يتطهروا من مياهها وأحل لهم أن يأكلوا مما فيها مما جعل الحيوانات وسخرها طعمة سائغة لهم ولاشك أنه لو حرم الله علينا صيد البحر لوجد الناس في ذلك من المشقة والضرر ما الله به عليم ، وذلك أنهم كانوا يسافرون في البحار ولربما مكثوا فيها الشهور العديدة فلو كان صيد البحر حراماً وميتته حراماً على المسلم لحصل في ذلك من الضرر الشئ الكثير فالحمدلله الذي رحمنا برحمته وجعلنا من أتباع هذا الشريعة الكريمة الميسرة .(30/16)
-ونسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يرزقنا الفقه في الدين واتباع سنة سيد المرسلين إنه ولي ذلك والقادر عليه وهو أرحم الراحمين -.
- ? - ? - ? - ? - الأسئلة - ? - ? - ? - ? -
السؤال الأول :
من أراد أن يغتسل للتبرد أو التنظف في ماء دائم لا تبدو عليه علامات التنجس ، فهل يجوز ذلك ..؟؟
الجواب:
بسم الله الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه أما بعد :
فالمياه الدائمة كالبرك والمستنقعات والبحيرات لاتخلو من حالتين :
الحالة الأولى : أن تكون مهيئة للاغتسال كالبرك ونحوها وليس الاغتسال فيها يتضمن الإضرار بالناس فيجوز للإنسان أن يغتسل فيها لأن العلة قد زالت أما الحالة الثانية وهي أن تكون مهيئة للشرب والاستعمال والارتفاق فلايجوز للإنسان أن يغتسل فيها لأن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن الاغتسال فيها ، كما ثبت في الحد يث في الصحيحين أنه قال :(( لايغتسل أحدكم في الماء الدائم الذي لايجري)) فدل على حرمة الاغتسال في الماء الدائم الذي لايجري إذا كان الناس يحتاجونه للشرب سواء لأنفسهم أو لدوابهم وهذا يقذر الماء -أعني الاغتسال فيه- ويفسده على الناس كما ذكرنا .
أما إذا كانت مهيئة للاغتسال كالبرك التي أدت للاستحمام وهكذا بالنسبة للمستنقعات التي مهيئة للناس أن يستحموا فيها والعيون الجارية التي يستحم فيها الناس خاصة إذا كانت لعلاج ودواء فلاحرج في جميع ذلك أن يغتسل منه الإنسان ، والله تعالى أعلم.
السؤال الثاني :
أحياناً يكون عند الشاطئ مصب للنجاسات وتكون رائحة النجاسة ظاهرة جداً فهل هذا الجزء من البحر أعني مكان المصب هل هو طهور أم لا ..؟؟
الجواب :(30/17)
إذا صبت النجاسة في موضع من الماء وكان مستبحراً فقال بعض العلماء إن الماء الجاري كل جرية منه تعتبر مستقلة وهذه مسألة مشكلة عند العلماء ذكرها ابن رجب في كتابه النفيس القواعد الفقهية يقول رحمه الله الماء الجاري هل هو كالراكد أو كل جرية تعتبر مستقلة ؟
فائدة هذا التفصيل أنك لوقلت إن الماء الجاري كل جرية تعتبر مستقلة فمعنى ذلك أنه إذا صُبت النجاسة في ماء جاري كنهر و نحو ذلك فكل جرية تنظر فيها فإ ن كان الموضع الذي أدخلت فيه الإناء أو أردت أن تغتسل منه فيه أثر النجاسة فهذه جرية نجسة ولايجوز أن يتطهر منها ، وأما إذا كان كالراكد فإننا ننظر لمجموع الماء ولاننظر إلى أجزائه فقالوا يعتبر بمجموعه طهوراً ولايؤثر كون بعض أجزائه بالجريان تتنجس ، ومن فوائد هذه القاعدة أننا لو قلنا إن الماء الجاري كل جرية تعتبر مستقلة قال رحمه الله لو أدخل إناء ولغ في الكلب فجرت عليه سبع جريات فكلها سبع غسلات وحينئذ يتطهر بها ، وأما إذا قلنا إنه كالراكد وجرت عليه السبع الجريات فهي جرية واحدة وأخذة حكم الغسل مرة واحدة ، وهكذا بالنسبة لمسائل التعدد في إزالة النجاسة ، ومن أحب بسط هذه المسالة فليرجع إلى هذه القاعدة التي ذكرها الإمام ابن رجب الفقيه الحنبلي المشهور - رحمة الله عليه - في كتابه القواعد في أول الكتاب حينما تكلم على مسائل المياه ، والله تعالى أعلم .
السؤال الثالث :
لو تجمعت أسماك ميتة وطفت على سطح البحر وانتشرت دماهها في بقعة كبيرة ، فهل نتحاشى المياه المحمرة ؟ أم لاتضر في مياه البحر ..؟؟
الجواب :
بالنسبة للمسألة الأولى يترجح أن أجزاء الماء تأخذ حكم ماغيرها ، فإن تغيرت الأجزاء التي تكون قريبة من مصب الماء لوناً وطعماً ورائحة فإنها تأخذ حكم ماغيرها طاهراً كان أو نجساً وعلى هذا فلايغتسل من هذا الموضع الذي فيه أثر النجاسة ويتقيه الإنسان ويبحث عن المكان السالم من أثر النجاسة .(30/18)
وأما بالنسبة لمسألة طفو السمك على الماء ، فنحن قلنا إن السمك إذا مات وطفا على الماء ، أو جزر البحر عنه كأن يكون مثلاً في المد والجزر فإنه إذا مد ثم جزر فإنه يموت شيئاً من السمك على الشاطئ فمثل هذا كله يعتبر طاهراً ويعتبر مباح الأكل ، وعلى ذلك فما نشأ عن الطاهر فطاهر ، فدم السمك وماتولد منه من الآثار كل ماتولد من أجزائه طاهر لكن بعض العلماء وهم الجمهور الذين يقولون بجواز أكل السمك إذا طفا على الماء قالوا بشرط ألايتفسخ فإن تفسخ السمك ونتن بحيث يكون أكله ضرراً على الإنسان قالوا لايجوز أكله لا لكونه نجساً ولكن لوجود الضرر وانتقاله إلى وصف القذارة والخبث كما قال-سبحانه-:{وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمْ الْخبَائِثَ}(1) فقالوا يصير خبيثاً بالوصف والحال فإذا تفسخ ونتن وتغير عن حاله قالوا يعتبر كالجيفة فلايأكله ولايحل له أكله ، والله تعالى أعلم .
السؤال الرابع :
ثبت طبياً أن بعض الأمراض تنتشر في المستنقعات التي تلقى فيها النجاسات ألايعتبر ذلك من العلل التي تقوي حديث النهي عن البول في الماء الدائم ، ويكون ذلك من معجزات النبي صلى الله عليه وسلم ..؟؟
الجواب:(30/19)
نعم هذا من معجزاته ولذلك ذكروا أن مرض البلهارسيا يكون في المستنقعات وينتشر عن طريق البول في المستنقعات بل ربما إذا بال كما ذكر لي بعض الأطباء أنه ربما لو بال في الماء أنه تسري الجرثومة عن طريق البول فتتصل بالماء وتصعد عن طريق البول أثناء البول طريقة لايعلمها إلا الله سبحانه وتعالى والله على كل شيء قدير ، لكن ينبغي أن ننبه على أمر مهم وهو مسألة تفسير النصوص بالأعجزات العلمية نحن نقول إن هذا إعجازاً ولكن نثبت طبياً فوائد أو أسرار أو حكم نقول هذا من الفوائد ، لكننا لانقول نهي من أجل كذا وإنما نقول من الفوائد والحكم ومثل هذه الأشياء مندرجة تحت قوله -سبحانه -: {سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ }(1) بلى إنه على كل شيء شهيد ، فهذ أدلة وشواهد جعلها الله عز وجل شاهدة بصدق نبوته عليه الصلاة والسلام وصدق بعثته من الله سبحانه وتعالى جعل لكل زمان ولكل عصر وأوان حججاً تتناسب مع ذلك العصر مهما تقدم ومهما تأخر فإنه يجد من الدلائل والشواهد ماتحار به العقول ويثبت بدون شك ولاريب صدق نبوته عليه الصلاة والسلام وأنه مبعوث من الله عز وجل فهذه أمور نقول إنها حكم وأسرار وننبه على مسألة الإفراط في تفسير النصوص إلى درجة قد يكون فيها تكلف فكل نظرية طبية أو نظرية عصرية نأتي بنصوص الكتاب والسنة ونحاول أن نطوعها لهذه النظريات ، هذا أمر فيه تكلف والتكلف مذموم في الشريعة.(30/20)
وقد رد العلماء الأجلاء المتأخرون هذا المسلك وعدوه معيباً لأننا لانأمن إذا جئنا إلى النظريات أن تكون محتملة فلربما بالغنا وقلنا إن الآية محمولة على هذه النظرية ثم يثبت خطؤها فحينئذ ينظر الناس لكتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم نظرة لاتليق ويحمل الخطأ لهذه النصوص فالمنبغي عدم الاستعجال في تفسير النصوص ولكن نقول لعل هذا من الحكم ولعل هذا من الفوائد ولعل هذا من الأسرار ، أما أن نقول إن هذا هو المعجز وأن النص ورد لهذا الأمر ونتكلف في لي النصوص ولي الآيات والأحاديث لكي تطاوع النظريات فهذا أمر خاطئ ومسلك لايؤمن منه الضرر خاصة وأنه ينشأ منه تخطئة كتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم سمعت رجلاً مشهوراً يتكلف في هذا المسائل حتى وجدته يقول :{ فَلاَ أُقْسِمُ بِالشَّفَقِ - وَاللَّيْلِ وَمَا وَسَقَ - وَالْقَمَرِ إِذَا اتَّسَقَ - لَتَرْكَبُنَّ طَبَقاً عَنْ طَبَقٍ}(1) فقال إن هذا في الصعود إلى القمر وهذا لاينبغي لتركبن طبقاً عن طبق وقال عندي نظر من جهة الأطباق الطائرة الموجودة الآن وخذ من الأراء التي يكون فيها إخراج للنصوص عن دلالتها فالله عز وجل يقول :{ فَلاَ أُقْسِمُ بِالشَّفَقِ - وَاللَّيْلِ وَمَا وَسَقَ - وَالْقَمَرِ إِذَا اتَّسَقَ} فأقسم ببداية الأمور ونهايتها فلا أقسم بالشفق لأنه يكون عند أول الليل والليل وماوسق والقمر إذا اتسق أي اكتمل فالمراد بداية الليل ودخوله واكتمال الليل فكما أن الله سبحانه وتعالى ردها الله سبحانه وتعالى وأعادها إلى حالتها كرة بعد كرة :{لَتَرْكَبُنَّ طَبَقاً عَنْ طَبَقٍ} أي ليعيدنكم الله في قبوركم وليعيدنكم الله طبقاً في الآخرة فكما أعاد الليل إلى أطوار مختلفة بهذه الآيات والدلائل يكون الإنسان في ضياء النهار لايستطيع أن يرفع بصره من شدة صوء الشمس ووهيجها ولهيبها فإذا به بعد سويعات في ظلمة لو أخرج كفه لم يكد يراها فهذه(30/21)
الأطباق وهذه الأطوار كما أنها في الزمان والله قلبها ودبرها بقدرته زماناً كذلك هو قادر في الشخص والحال قادر أن ينقله من حال إلى حال ومن طور إلى طور ، فإن هذا من مسألته التي يريد ليّ النص إليها وتحوير كتاب الله عنها ثم هناك أمر ينبغي التنبه له وهو أننا إذا جئنا نفسر الأيات والأحاديث بالمعجزات الموجودة الآن ونبالغ في ذلك كأن القران لم يفسر إلا اليوم وكأن القران على سلفنا الصالح قد أصبح خفياً وإن ما مضى من التفسيرات تعتبر عافية قد مضى عنها الزمان بل لقد سمعت وقرأت في بعض الكتابات من يقول وقد أخطأ المفسرون وقد أخطأ المتقدمون أفٍ أفٍ لهم ولما يدعون وما يزعمون بلغ بهم أن يخطئوا الأئمة والعلماء نحن نقول إن هذا أمر محتمل ولانبالغ فيه ولانحمل النصوص عليه ولانتكلف في لي النصوص عليه ولكن نقول إن وجدت أسرار طبية أو أسرار كونية نعتبر ذلك معجزة ونعتبره من الدلائل والشواهد ولكن لانجزم بأن النص محمول على هذا أو أنه ورد من أجل هذا ونقول ثبت بالحس والتجربة هذا الأمر فإن كان المراد به هذا الأمر فهو أمر عظيم وإن كان المراد به هذا الأمر ومافسره به المتقدمون فهو أمر أعظم لأنه يجمع بين الحسنين فكما أن العقول فيما تقدمت استفادت من كتاب الله بتفسير الأوائل ، وكذلك في عصرنا يستفيد الأواخر على قدر علمهم وما بلغهم الله عز وجل من فضله ، والله تعالى أعلم .
السؤال الخامس :
ما حكم التبول في مكان المغتسل ، هل ورد نهي في ذلك ..؟؟
الجواب:(30/22)
البول في المغتسل يؤدي إلى الوسوسة ، والسبب في ذلك أن المكان الذي يبول فيه الإنسان إذا اغتسل وإذا توضأ فيه أو فيه تطاير عليه البول فشك في النجاسة في أسفل بدنه ، وشك أيضاً في إصابة النجاسة ساقيه وفخذيه أو ثوبه إذا كان يتوضأ فيدخل عليه الوسواس وقد تقدم معنا الحديث في النهي عن البول في المستحم وبينا أنه حديث ضعيف السند ولكنه صحيح المتن والعمل عند العلماء والأجلاء والأئمة على المنع من الوضوء في المكان الذي يبول فيه الإنسان لأنه لايأمن من طشاش البول قال بعض العلماء لما اغتسل - عليه الصلاة والسلام - مع أم المؤمنين ميمونة -رضي الله عنها وأرضاها - قالت :" توضأ وضوؤه للصلاة وأخر غسل رجليه " ؛ والسبب في ذلك يقول العلماء أنه لو غسل رجليه أول الغسل ثم صب الماء على بدنه تعلمون أن الأرض إذا كانت من التراب ووقع الماء عليها تطايرت ذرات التراب والطين على أسافل البدن فيحتاج ثانية إلى الغسل قالوا كذلك لو أنه بال في مستحمه ثم صب الماء على بدنه تطاير مافي المستحم من البول وإذا كان المستحم من التراب فإنه يمتزج الطين بالنجاسة ويصبح متنجساً فإذا صب الماء على بدنه فإنه يتطاير هذا الطين المتنجس على بدنه فيدخله الوسواس ، والله تعالى أعلم .
السؤال السادس :
ما الفرق بين كراهة التحريم والحرام ..؟؟
الجواب :(30/23)
بعض العلماء يقول أنهما بمعنى واحد ولكنهم يقولون إن الحرام بمعنى الكراهة ولذلك قالوا لو اختلف العلماء في شيء هل هو مكروه أو محرم تقول بالإجماع مكروه لأن الذي يقول إنه حرام يتفق مع الذي يقول على إنه مكروه على أنه مكروه ، ولكنه يقول فيه صفة زائدة ، والفرق بين الحرام والمكروه أن المكروه لايعاقب فاعله والحرام يعاقب فاعله فهم يختلفون في العقوبة في الفعل ولكنهم يتفقون على أن الترك فيه ثواب ، ومن هنا تكون الكراهة نسبة مشتركة بين المكروه والحرام ، فالكراهة التحريمية والكراهة التنزيهية يجتمع كل منهما في وصف الكراهة ، ولذلك فرقوا فيها بين أن تصل إلى درجة الحرام أو تكون دون ذلك- أعني كونها تنزيهية - ، والله تعالى أعلم .
السؤال السابع :
إذا توضأ الإنسان بنية الاستباحة لصلاة الظهر مثلاً فهل يصلي بالوضوء صلاة العصر إذا لم يحدث ..؟؟
الجواب :
هذه المسألة تعتبر من مسائل النية في الوضوء والنية في الوضوء لها حالتان :
الحالة الأولى : أن تكون نية خاصة ، والحالة الثانية : أن تكون نية عامة .
فالنية الخاصة أن ينوي أن يصلي صلاة نافلة كانت أو فريضة ، أو ينوي استباحة لمانع عرض كأن ينوي مس المصحف يتوضأ لمس مصحف أو يتوضأ للطواف بالبيت وقس على ذلك من المسائل الخاصة فهذه تعتبر نية خاصة ، وأما الحالة الثانية فهي أن ينوي رفع الحدث وهذا يشمل جميع الأحداث ويرتفع بهذه النية الحدث كله فيجوز له أن يصلي الصلاة مفروضةكانت أو نافلة ، وكذلك يستبيح المحذورات على اختلاف مراتبها .(30/24)
أما في الحالة الأولى : فقال جمع من العلماء من نوى الوضوء للأدنى لايستبيح الأعلى ، فمن نوى الوضوء من أجل صلاة النافلة لايصلي فريضة ، ومن نوى الوضوء لفريضة لايصلي به أخرى إلا إذا كانت فائتة ودليلهم في ذلك قوله عليه الصلاة والسلام : (( وإنما لكل امرئ ما نوى)) قالوا هذا محدث وقد نوى أن يرفع من حدثه ما كان متعلقاً بالنافلة فبقي على وصف الحدث إلا في استباحة النافلة قالوا فلا يستبيح الفرض وهو أعلى وأما إذا نوى النية العامة وهي رفع الحدث فيجوز له أن يصلي ما شاء وأن يستبيح من الموانع ماشاء وقد جمع بعض الفضلاء هذه الأحوال في النية في قوله :
ولينوِ رفع حدث أو مفترض أو استباحة لممنوع عرض
"ولينوِ رفع حدث" هذه نية عامة " أو مفترض" أي نية لصلاة الفريضة " أو استباحة لممنوع عرض" كأن يصلي نافلة أو يطوف بالبيت أو يمس المصحف فهو ممنوع من ذلك حال حدثه فيتوضأ لإزالة هذا المانع ولذلك فالأفضل للإنسان والأكمل أنه إذا توضأ أنه ينوي رفع الحدث حتى يستبيح بوضوئه مايشاء من الموانع ، والله تعالى أعلم .
السؤال الثامن :
ما حكم سجود التلاوة في الصلاة وخارجها ، وهل يشترط لسجدة التلاوة خارج الصلاة الوضوء واستقبال القبلة ..؟؟
الجواب :(30/25)
أما بالنسبة لسجود التلاوة فليس بعزيمة وليس بواجب لافي الصلاة ولافي غيرها ولذلك خطب عمر بن الخطاب رضي الله عنه كما روى مالك في الموطأ وقرأ السجدة آية فيها سجدة ثم نزل وسجد في أصل المنبر فسجد الناس معه هذا أثناء خطبته للجمعة لكي يبين للناس الحكم وقد كان رضي الله عنه محدثاً ملهماً حريصاً على تعليم الناس وإفادتهم ثم لما كانت الجمعة الثانية قرأ أيضاً آية ثانية فيها سجدة فتهيأ الناس للسجود فقال رضي الله عنه : "على رسلكم إنها ليست بعزيمة " أي أنما أردت أن أعلمكم أن سجود التلاوة ليس بعزيمة ولذلك قالوا من قرأ السجدة في الصلاة ولم يسجد فإنه لاحرج عليه في ذلك لكن ينبغي للأئمة أن يتنبهوا لمثل هذا المواطن وألا يشوش على المأمومين بمثل هذه الأحوال إذا كان لايريد السجود ربما أن المأموم ينحني يظن أنه كبر للسجود فتختلج صلوات الناس ، ولذلك من فقه الإمامة وآداب الإمامة أن يبعد عن الناس مثل هذه الأحوال التي قد تلبس عليهم وتدعوهم لزيادة الأفعال في صلاتهم ، وأما بالنسبة لسجود التلاوة فإنه لابد من استقبال القبلة ، والسجود لغير القبلة ليس بسجود لأن السجود المعهود في شريعتنا والذي دلت عليه النصوص وثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه ماسجد إلا لقبلة وأما من سجد لغير القبلة فإنه غير ساجد ولذلك قال عليه الصلاة والسلام في الحديث : (( قبلتكم أحياء وأمواتاً )) فهذا النص يقول العلماء فيه عموم أي قبلتكم إذا استقبلتم العبادة : (( قبلتكم أحياء وأمواتاً )) ، ولذلك إذا دفن المسلم في قبره فإنه يوضع على شقه الأيمن مستقبل القبلة وعلى هذا فإنه إذا سجد لغير القبلة لم يسجد ولايعد ساجداً والدليل الثاني أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يثبت في حديث صحيح أنه سجد لغير القبلة ، وأما كونه - عليه الصلاة والسلام - يقاس بسجود التلاوة على صلاة النافلة في السفر على البعير والدابة فالقاعدة : " أن(30/26)
القياس على الرخص لايصح " وإنما جاز للإنسان أن يصلي على دابة على سبيل الرخصة وهي حالة مخصوصة فبقي ماعداها على هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم وسنته المعروفة المعهودة ، ولذلك لايستقبل غير القبلة ولايصح منه سجود لغير القبلة على أصح قولي العلماء وأما هل تشترط الطهارة أو لاتشترط فالصحيح أنها لاتشترط لعدم ثبوت النص بالإلزام بها ولكن الأكمل والأفضل أن يكون سجوده على طهارة ، والله تعالى أعلم .
السؤال التاسع :
من صلى رغيبة الفجر بعد الإشراق فهل يخفف فيها أم هو خاص لمن صلاها قبل الفجر..؟؟
الجواب :
سنة النبي صلى الله عليه وسلم المحفوظة عنه أنه خفف في ركعتي الفجر حتى قالت أم المؤمنين لا أدري أقرأ فيهما بفاتحة الكتاب أولم يقرأ حتى قال بعض العلماء لاتجب قراءة الفاتحة في رغيبة الفجر وهو مذهب ضعيف يقول به بعض أصحاب الظاهر لقول أم المؤمنين لا أدري هل قرأ بفاتحة الكتاب أم لم يقرأ فنقول هذا نص محتمل والنص العام :(( لاصلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب)) يدل على أن التخفيف لايستلزم ترك الفاتحة وعلى هذا فالسنة أن يخفف في ركعتي الفجر ويتجوز فيها تأسياً بالنبي صلى الله عليه وسلم ثم إذا صلاها قضاء أو أداء فإنه يصليها على حالته ، والسبب في ذلك أنه ثبت عنه - عليه الصلاة والسلام - في الصحيح من حديث حذيفة رضي الله عنه أنه لما فاتته سنة الفجر في سفره عليه الصلاة والسلام بغزوة تبوك صلاها ولم يحك الصحابة خلافاً بين حاله في القضاء عن حاله في الأداء والقاعدة في الشرع تقول القضاء يحكي الأداء وعلى هذا فإنه يسن له أن يخففها كما هو الحال في أدائها .
وَآخِرُ دَعْوَانَا أَنِ الحمَْدُ لِلَّهِ رَبِّ العَالَميْنَ وصلَّى اللَّهُ وسلَّم وبارك على عبده ونبيَّه محمد وعلى آله وصحبه أجمعين .(30/27)
بسم الله الرحمن الرحيم
قال المصنف رحمه الله : بَاب مَا جَاءَ فِي التَّشْدِيدِ فِي الْبَوْلِ
الشرح:
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين أما بعد :
فقد ذكر المصنف-عليه رحمة الله- هذه الترجمة بقوله "باب ما جاء في التشديد في البول" والمقصود من هذا الباب أن يبين الأحاديث التي وردت عن النبي صلى الله عليه وسلم والتي تدل على نجاسة البول كما أنها تدل على حرمة التساهل في البول وهذا الباب قد سبقه بابان وكلاهما يتعلقان بمسألة المياه ، وأما هذا الباب والذي يليه فإنهما يتعلقان بمسألة تسمى عند العلماء رحمهم الله بمسألة الفضلات وذلك أنه يسألك الإنسان عن حكم فضلة الآدمي وفضلة الحيوان ، فيسألك عن فضلة الآدمي هل هي نجسة أوهي طاهرة ؟ فيسألك عن البول وعن الغائط والعرق ودم الاستحاضة والحيض ونحو ذلك من فضلات الآدمي هل حكمها الطهارة أو حكمها النجاسة ؟ وكذلك يسألك عن فضلة الحيوان هل هي طاهرة أو نجسة ؟
فاعتنى العلماء رحمهم الله من المحدثين والفقهاء ببيان حكم فضلة الآدمي .
وفضلة الحيوان وفي هذا الباب سنتكلم عن المسألة الأولى وهي مسألة فضلة الآدمي وذلك أن البول يعتبر فضلة من فضلات الآدمي وهو أحد الخوارج من السبيلين .
وفضلات الآدمي تنقسم إلى قسمين :
القسم الأول : ما كان خارجاً من السبيلين . والقسم الثاني : ما كان خارجاً من غير السبيلين .
فأما الذي يخرج من السبيلين فلا يخلو عن حالتين :
الحالة الأولى : أن يكون خارجاً من القبل . والحالة الثانية : أن يكون خارجاً من الدبر .(31/1)
فأما الخارج من القبل فإنه يشمل ثمانية أنواع : الأول : البول ، والثاني: الودي ، والثالث : المذي ، والرابع المني ، والخامس: دم الحيض ، والسادس : دم النفاس ، والسابع : دم الاستحاضة ، والثامن : رطوبة فرج المرأة .هذه الأربعة الأخيرة تعتبر خاصة بالنساء .
وبناءً على ذلك فهناك ثمانية فضلات يسأل الناس عن حكمها هل هي طاهرة أو نجسة ..؟؟
فأما النوع الأول وهو البول : فقد أجمع العلماء رحمهم الله على أنه فضلة نجسة وقد دلت على ذلك النصوص الصحيحة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ففي الصحيحين من حديث الأعرابي لما بال في المسجد قال عليه الصلاة والسلام :(( أريقوا على بوله سجلاً من الماء)) فدل على أن بول الآدمي نجس وبول الآدمي له حالتان :
الحالة الأولى : أن يكون من الصغير الذي لم يطعم الطعام من الذكور . والحالة الثانية : أن يكون من غيره .
فأما الصبي الذي لم يطعم الطعام فقد اختلف العلماء في بوله على قولين :
القول الأول : إن بوله نجس ولكن الشريعة خففت في طهارته فأمرتنا بنضحه ولم تأمرنا بغسل بول الغلام الذي لم يأكل الطعام وهذا هو مذهب الجمهور من الحنفية والمالكية والشافعية والحنابلة وطائفة من أهل الحديث أن بول الغلام الذي لم يأكل الطعام يعتبر نجساً ولكن الشريعة خففت في طهارته وأمرت بنضحه ولم تأمر بغسله .
والقول الثاني : وقد ذهب داود الظاهري وأصحابه -رحمة الله على الجميع - إلى القول بأن بول الغلام الذي لم يطعم الطعام يعتبر طاهراً .(31/2)
وقد استدل جمهور العلماء بما ثبت في الصحيح من حديث فاطمة بنت قيس أن النبي صلى الله عليه وسلم أوتي بصبي لم يطعم فأجلسه في حجره فبال على النبي صلى الله عليه وسلم قالت فأمر فنضحه ولم يغسله فدل هذا الحديث على أن البول نجس ولكن الشريعة خففت فيه لعموم البلوى به ، ولذلك نضح النبي صلى الله عليه وسلم بوله ولم يغسل واستدل الظاهرية على طهارته بنفس الحديث وهو استدلال ضعيف لأن النضح لا يمنع الوصف بالنجاسة وهي الأصل .
وأما بول الآدمي من غير الغلام فإن العلماء أجمعوا على أنه نجس سواء كان من الرجال أو كان من النساء فإذا أصاب بول الرجل أو بول المرأة الثوب فإنه لا يجوز أن يصلي به حتى يغسله لأن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بتطهير أرض المسجد من بول الأعرابي فأخذ جماهير السلف والخلف من هذا دليلاً على أن بول الآدمي نجس .
النوع الثاني الودي : والودي قطرات يسيرة تخرج عقب البول ، وهو ماء أكدر ، وقد قال جماهير العلماء بنجاسته ، حتى ذكر بعض العلماء أن الودي يعتبر فضلة من البول ، وفضلة الشيء آخذة حكم ذلك الشيء ، وبناءً على ذلك نصوا على أن الودي يعتبر نجساً .
وأما النوع الثالث فهو المذي : والمذي قطرات لزجة تخرج عند بداية الشهوة ، والفرق بين الودي والمذي أن المذي يكون عند الشهوة والودي يكون في آخر البول قطرات فيها صديد ، أو فيها كدرة ، وأما بالنسبة للمذي فإنه يكون لزجاً ، وهذا المذي نص جماهير السلف والخلف على نجاسته لأن النبي صلى الله عليه وسلم أمر علياً أن ينضح فرجه وأن يتوضأ منه ، فدل هذا الحديث الصحيح على أن المذي آخذ حكم البول ؛ ولذلك قالوا بنجاسته ، واختلفوا في كيفية إزالة النجاسة على قولين -سيأتي بيانهما إن شاء الله تعالى -.(31/3)
أما النوع الرابع فهو المني : والمني هو الماء الأبيض الثخين الذي يخرج دفقاً من الرجال ، والأصفر الرقيق بالنسبة للنساء ، ويوصف بالدفق فالفرق بينه وبين المذي أن كلاً منهما يشترك في كونه منبعثاً بسبب الشهوة ؛ ولكن المني يخرج دفقاً والمذي يخرج قطرات ، وقد ثبت في نص الكتاب ما يدل على وصف المني بذلك في قوله سبحانه وتعالى :{خُلِقَ مِنْ مَاءٍ دَافِقٍ - يَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرَائِبِ}(1) فدل هذا على كون المني يخرج كثيراً ودفقاً بشهوة ، وقد قال عليه الصلاة والسلام :(( إذا فضخت الماء فاغتسل)) فدل على هذا الوصف المؤثر ؛ ولذلك قال بعض العلماء إذا خرج المني قطرات قليلة لا يوجب الغسل ، -وسيأتي بيان هذه المسألة إن شاء الله في أبواب الغسل - .
وقد اختلف العلماء في هذه الفضلة من الآدمي هل مني الآدمي يعتبر نجساً أو يعتبر طاهراً ؟ على قولين :
القول الأول : فذهب فقهاء الحنفية والمالكية-رحمة الله على الجميع- إلى القول بأن المني نجس .
القول الثاني : وذهب فقهاء الشافعية والحنابلة-رحمة الله على الجميع- إلى القول بأن المني طاهر .
وقد اختلف العلماء في هذا المسألة-وسيأتي بيانها إن شاء الله في أبواب الغسل-.
وأصح القولين والعلم عند الله أن المني طاهر ؛ لأن أم المؤمنين كما ثبت في الصحيح كانت تفركه من ثوب رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان يخرج وإن أثر المني في ثوبه ، ولو كان المني نجساً لم يصل فيه النبي صلى الله عليه وسلم .
وأما فضلات النساء من القبل :
__________
(1) / الطارق ، آية : 6-7 .(31/4)
فأولها دم الحيض : وقد أجمع العلماء - رحمهم الله - على أن دم الحيض نجس ، ودم الحيض هو دم يرخيه رحم المرأة على سبيل الصحة ، لا على سبيل المرض والولادة ، فخرج بقولهم على سبيل الصحة لا على سبيل المرض دم الاستحاضة لأنه يخرج بانفجار العرق ، ولذلك سماه النبي صلى الله عليه وسلم بقوله : (( إنما ذلكِ عرق )) وهو العاذل أو العاذر أو العاند ثلاثة أسماء وردت في النصوص عن النبي صلى الله عليه وسلم ، ودم الحيض نجس ؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال : (( لتنظر الأيام التي كانت تحيضهن قبل أن يصيبها الذي أصابها فإذا هي خلفت ذلك فلتغسل الدم ولتصل)) فدل على أنه نجس ، وفي الصحيح من قوله- عليه الصلاة والسلام - : (( اغسلي عنك الدم وصلي)) فدل هذا على أن دم الحيض نجس ، والإجماع منعقد على نجاسته كما حكاه الإمام النووي وغيره-رحمة الله على الجميع- .
وأما بالنسبة لدم النفاس : فحكمه حكم دم الحيض بإجماع العلماء رحمهم الله ، ولذلك وصف النبي صلى الله عليه وسلم الحيض بكونه نفاساً ففي الصحيحين من حديث أم المؤمنين -رضي الله عنها- في حجة الوداع أنها كانت مع النبي صلى الله عليه وسلم نائمة قالت فانسللت فقال عليه الصلاة والسلام :(( مالك أنفست ؟)) أي هل حضت فدل على أن الحيض والنفاس واحد ؛ ولذلك أجمع العلماء على أن دم النفاس يعتبر نجساً ، وأما دم الاستحاضة فإنه انفجار لعرق كما ذكرنا ، وهو نجس لأن النبي صلى الله عليه وسلم أمر أن المستحاضة تعصب فرجها وأن تغسله للصلاة فدل على أنه كالبول سواء بسواء ، -وسيأتي إن شاء الله بسط مسائل الاستحاضة في أبوابها-.
وأما النوع الرابع من فضلات قبل المرأة : فهو رطوبة فرج المرأة : وهو السائل المعروف الذي أوجده الله عز وجل لحكمة في ذلك الموضع تمنع جفافه ، وله في ذلك الحكمة البالغة كما ذكر العلماء - رحمهم الله - ، وهذه الرطوبة للعلماء فيها قولان :(31/5)
فذهب جمهور العلماء إلى أن رطوبة فرج المرأة تعتبر نجسة ، واستدلوا على ذلك بما ثبت في الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال - في الرجل إذا جامع امرأته ولم ينزل- قال : (( ليغسل ما أصابه منها)) قال جمهور العلماء فقوله : (( ليغسل ما أصابه منها )) حديث صحيح يدل على أن العضو قد تنجس بذلك الماء اللزج ، وهو الذي يوصف بكونه رطوبة لفرج المرأة ، ومن هنا قالوا بنجاسته لثبوت هذه السنة الصحيحة عن النبي صلى الله عليه وسلم ، ولكن إذا كانت الرطوبة كثيرة تزعج المرأة وتستمر معها كالاستحاضة فإنها تأخذ حكم المرأة المستحاضة سواء بسواء ، ولذلك تغسل الفرج وتعصبه لدخول وقت كل صلاة ثم تصلي حتى يخرج الوقت ، ولو خرجت معها هذه الرطوبة.
وأما بالنسبة لفضلات الدبر ، ففضلات الدبر من الآدمي تشتمل على أنواع :
النوع الأول الغائط : وهو نجس بإجماع العلماء سواء كان جامداً أو كان مائعاً ، وقد أجمع العلماء رحمهم الله على أن الغائط نجس ، ولذلك استنجى منه النبي صلى الله عليه وسلم وأمر بتطهير الدبر منه ، فدل على نجاسته والإجماع منعقد على ذلك .
أما النوع الثاني فهو البواسير : والبواسير لها حالتان :
الحالة الأولى : أن تكون داخل الدبر . والحالة الثانية : أن تكون خارج الدبر على حلقته .
فأما ما كان من البواسير الداخلية فإنه ينقض الوضوء ، وما كان من البواسير من خارج فإنه لا ينقض الوضوء ، وأما نجاستهما فإنه نجس فدم البواسير يعتبر نجساً سواء كان من داخل أو من خارج ، وسنبين وجه النجاسة في مسألة الدم ، ولذلك تعتبر البواسير كدم الاستحاضة لأنه خارج نجس أفضلته العروق كدم الاستحاضة من قبل المرأة ، وقد وردت النصوص عن النبي صلى الله عليه وسلم وفي كتاب الله عز وجل تدل دلالةً واضحةً على نجاسة الدم ، فهذان الخارجان من الدبر يعتبران نجسين .(31/6)
وأما بالنسبة للخارج الطاهر كالحصى والدود فإن الحصى والدود إذا خرج من الدبر له حالتان :
الحالة الأولى : أن يخرج الحصى وتخرج الدود وقد تشربت بالنجاسة إما مائعاً وإما جامداً ، فإذا خرج الدود ومعه بِلَّة أو معه أثر البراز فإنه يعتبر نجساً في قول جماهير العلماء - رحمهم الله - .
وأما إذا خرج الحصى بدون أن يكون هناك أثر للنجس الذي في الدبر : فمن العلماء من حكم بانتقاض الوضوء وبكونه نجساً ؛ لأن الحكم للغالب والغالب أنه متشرب بالنجاسة ، ومنهم من يقول بالطهارة وعدم نقض الوضوء إذا خرج الحصى والدود غير رطب ، والأول أوجه ، - وسيأتي إن شاء الله الكلام على هذه المسألة في أحكام النواقض -.
وأما بالنسبة لفضلة الآدمي من غير السبيلين :
ففضلة الرأس تنقسم إلى أجزاء :
فهناك فضلة من العين ، وفضلة من الأنف ، وفضلة من الفم ، وفضلة من الأذن .(31/7)
فأما فضلة العين : فهي الدموع وما يكون من الصمغ في المحاجر ، فهذا بإجماع العلماء رحمهم الله يعتبر طاهراً ؛ ولذلك لم يغسل النبي صلى الله عليه وسلم عينيه من الدمع ، ففي الصحيح من حديث عبدالله بن مسعود رضي الله عنه وأرضاه "أن النبي صلى الله عليه وسلم أمره أن يقرأ عليه القرآن فقرأ عليه سورة النساء حتى بلغ قوله-- سبحانه وتعالى - -:{فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلاَءِ شَهِيداً}(1) فقال :(( حسبك )) فنظرت فإذا عيناه تذرفان " فلم يغسل النبي صلى الله عليه وسلم الدمع ، وأجمع العلماء على أن المصلي إذا بكى من خشية الله أنه لا يلزمه غسل دمعه ، وفي الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه صلى بالناس صلاة الظهر ثم قرأ سورة الأنبياء حتى بلغ قوله سبحانه وتعالى :{وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلاَ تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ} (2) فخشع صلوات الله وسلامه عليه وبكى ، فدل هذا كله على طهارة الدموع وهو إجماع .
النوع الثاني : فضلة الأنف : وفضلة الأنف تنقسم إلى قسمين :
فضلته من المخاط وما في حكمه والإجماع على طهارته ، فقد ثبت في الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه نهى المصلي أن يتنخم قبل وجهه ، وأخبر أن الرحمة تستقبله ؛ ولذلك نهي أن يتنخم قبل وجهه وأن يتنخم عن يمينه قال ولكن عن شماله تحت قدمه ، فإذا لم يتمكن من ذلك أمره النبي صلى الله عليه وسلم أن يتنخم في ثوبه عن يساره ثم يدلكها ، فدل هذا على طهارة النخامة وهي تكون من الأنف ، ولذلك قالوا إن نخامة الآدمي تعتبر طاهرة وهو إجماع .
__________
(1) / النساء ، آية : 41 .
(2) / الأنبياء ، آية : 47 .(31/8)
وأما النوع الثاني من فضلات الأنف : وهوالرُّعاف دم يلقيه الأنف ، فالرعاف نجس في قول جماهير العلماء ؛ لأن الدم نجس ، والدليل على نجاسته ظاهر الكتاب في قوله سبحانه وتعالى :{أَوْ دَماً مَسْفُوحاً.. فَإِنَّهُ رِجْسٌ} (1) وقوله :{ أَوْ دَمًا مَسْفُوحاً} الدم المسفوح هو الذي يخرج في غير الذكاة ، فإذا خرج قبل الذكاة الشرعية أو أثناء الذكاة الشرعية فإنه مسفوح ، وقد نص دليل الكتاب على أن المسفوح نجس في قوله :{ فَإِنَّهُ رِجْسٌ} والرجس نجس ، ولذلك أجمع العلماء رحمهم الله على أن موضع الذكاة يعتبر نجساً ، قال جمهور العلماء من السلف والخلف : إن الدم نجس ؛ لأن القرآن أشار بهذه الآية على أن الدم إذا خرج قبل الذكاة الشرعية وسُفِح أنه يعتبر نجساً ، ولذلك فرقوا بين الدم القليل والدم الكثير ، وهذا الدم-أعني دم الرعاف- يعتبر نجساً ، ولذلك كان أئمة السلف رحمهم الله يحكمون بنجاسته كما هو قول جمهور العلماء .
وأما ما ورد من الأحاديث كحديث الشِّعب أنه ضرب بالسهم العائر فأصابه ثم نزف ، قالوا ولو كان الدم نجساً لكان موجباً لقطع الصلاة وبطلانها ، وهذا الحديث يتعلق بالدم الذي هو دم النزيف وجمهور العلماء يستثنون دم النزيف لأنه غالب ، والغالب لا يرقأ ، وشرط نجاسة الدم أن يكون مما يرقأ ولذلك صلى عمر بن الخطاب رضي الله عنه وجرحه يثعب ؛ وذلك لأن التكليف شرطه الإمكان ، والإنسان إذا أصابه الجرح ونزف فإنه لا يستطيع أن يرقأ الدم إلا بصعوبة بالغة فرخص في هذا النوع من الدماء ، ولذلك أجاب جمهور العلماء عن هذا الحديث بأنه حديث نزيف والنزيف بالإحماع مستثنى ، ومن هنا خرج عن موضع النزاع .
__________
(1) / الأنعام ، آية : 145 .(31/9)
وأما ما ورد من نحره عليه الصلاة والسلام للجزور وتلطخ يده بدماء الجزور من السلخ ، فإن دم الجزور بعد الذكاة إذا سلخ يعتبر طاهراً ؛ ولذلك تأكل اللحم وفيه دم ، فالدم الذي يكون في الجزور بعد نحره يعتبر طاهراً بإجماع العلماء ، فالاستدلال بهذا الحديث فيه قصور في النظر ؛ لأنه خارج عن موضع النزاع ، وموضع النزاع في الدم المسفوح الذي هو قبل الذكاة لا بعد الذكاة .
وأما بالنسبة لفضلة الفم : فإن فضلة الفم لاتخلو : إما أن تكون بصاقاً ، أو تكون لعاباً ، أوتكون قيئاً ، أو تكون قلساً ، فهي أربعة أنواع من الفضلات .
فأما لعاب الفم فجماهير العلماء - رحمهم الله - على أنه طاهر ؛ ولذلك قالوا إنه يخرج من الفم وفم الآدمي يعتبر طاهراً ، وقد أكد الأطباء ذلك بوجود غدة للعاب ، ومن هنا حكم بكونه طاهراً لأنه من الفم ، ولو كان اللعاب نجساً لأُمر بغسل الفم بعد القبلة ، وذلك لأن اللعاب يسير عند تحرك الشهوة ، ولم ينص أحد من العلماء رحمهم الله على ذلك .
وأما فضلة الفم من البصاق فالإجماع على أنه طاهر ، ولذلك أُمر المصلي أن يبصق في ثوبه ، فلو كان البصاق نجساً لم يجز له أن يحمل النجاسة على هذا الوجه .(31/10)
وأما فضلة الفم من القيء والقلس ، فالقلس يكون قبل المعدة والقيء يكون من المعدة ، والقلْس أو القلَس بالتحريك يكون بسبب الشبع ، وذلك أن الإنسان إذا أكل وامتلأ جوفه من الطعام فإنه يلقي فضلات ذلك الطعام من فمه بسبب الري والشبع ، فيخرج شيئاً من الماء أكدراً ، أو يخرج ومعه صفرة ، أو يخرج ومعه قطع من الطعام ، فإذا كان على هذه الصفة فإنه طاهر ، وهكذا الصبي الرضيع فإن أمه تحمله خاصة بعد الرضاع والشبع ، فتفاجأ بخروج اللبن من فمه فإذا خرج اللبن على صفاته أبيض غير متغير برائحة فإنه يعتبر طاهراً في قول جماهير السلف والخلف رحمهم الله ، ويجوز لها أن تصلي وعلى ثيابها ذلك القلس ؛ لأنه طاهر ، وأما القيء فالفرق بينه وبين القلس أن القيء يكون من المعدة والقلس يكون قبل وصول الماء والطعام إلى المعدة ، فإن كانت الفضلة من القيء ، فالقيء له حالتان :
الحالة الأولى : أن يخرج الطعام وقد تغيرت أوصافه لوناً وطعماً ورائحة ، خاصة إذا وجدت فيه رائحة نتنة كرائحة الخارج من الدبر فحينئذٍ يكون القيء نجساً ؛ لأنه استحالت مادته إلى النجاسة فاستوى أن يخرج من أسفل أو يخرج من الأعلى ، ولذلك أمر من قاء بالوضوء فدل على نجاسة القيء .
وأما إذا كان الذي قاء قاء طعاماً على صفاته لم يتغير فإنه يعتبر الطعام طاهراً ، وهكذا إذا قاء الماء والماء لم يتغير فإنه يعتبر طاهراً على الأصل ، ولذلك لا يجب عليه أن يغسل فمه وإنما يكون ذلك من باب الندب والاستحباب لا من باب الحتم والإيجاب .
وأما بالنسبة للفضلات من سائر البدن فإنها تنقسم إلى أنواع :
النوع الأول : أن يكون عرقاً . والنوع الثاني : الدم . والنوع الثالث : القيح . والنوع الرابع : الصديد .(31/11)
فيخرج الإنسان من سائر البدن العرق وهو رشح الجسم ، وعرق الآدمي طاهر ، وفي الحديث الصحيح عن النبي- - صلى الله عليه وسلم - - أنه كان يأتي أم حرام بنت ملحان-رضي الله عنها وأرضاها- وكان ينام عندها وربما أخذت شيئاً من عرقه صلوات الله وسلامه عليه فدل هذا على طهارة العرق ، والإجماع على أن عرق المسلم يعتبر طاهراً ، واختلف في عرق الكافر :
فقال بعض العلماء : عرق الكافر نجس ؛ لأن الله-تعالى- قال:{ إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ }(1) فقالوا كل ما تولد من الكافر فإنه أفضله الكافر يعتبر نجساً .
والصحيح ما ذهب إليه الجماهير من طهارة عرق الآدمي سواء كان كافراً أو كان مسلماً ، وذلك لعدم ثبوت النص الصريح بنجاسة الكافر ، وقوله-سبحانه- :{ إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ} المراد بذلك الكفر والشرك ؛ لقوله -تعالى-:{فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنْ الأَوْثَانِ}(2) فالمراد بذلك خبثه - عليه لعنة الله- بكفره وشركه بالله - - عز وجل - - .
وأما فضلة الدم : فقد تقدم أنها نجسة لظاهر الكتاب ، وكذلك ظاهر السنة في قوله - عليه الصلاة والسلام - : (( اغسلي عنك الدم)) ومما يدل على أن الدم نجس أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر المرأة المستحاضة أن تغسل دم الاستحاضة ، وبين أن دم الاستحاضة عرق فدل على أن الدم الخارج من العرق نجس ، فاستوى في ذلك أن يكون خارجاً من السبيلين أوخارجاً من غير السبيلين ؛ لأن الدماء واحدة وأصلها واحد واستحلابها في البدن من مكان واحد ، وبناءً على ذلك فإن الدم نجس .
وأما القيح : فإنه يأخذ حكم الدم ؛ لأنه يتولد من الدم فهو الماء الأصفر الذي يكون مستحيلاً من الدماء ؛ بسبب مقاومة الجسم للأمراض وتعفن الجروح ، فتستحيل الدماء قيحاً كما هو معلوم ، والفرع آخذ حكم الأصل.
__________
(1) / التوبة ، آية : 28 .
(2) / الحج ، آية : 30 .(31/12)
وأما الصديد : فهو ماء أكدر ، والفرق بين القيح والصديد أن القيح يكون متولداً من الدم ، وأما الصديد فإنه عفونة الجروح والقروح ، ولذلك قال سبحانه وتعالى :{ وَيُسْقَى مِنْ مَاءٍ صَدِيدٍ - يَتَجَرَّعُهُ وَلاَ يَكَادُ يُسِيغُهُ وَيَأْتِيهِ الْمَوْتُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ وَمَا هُوَ بِمَيِّتٍ }(1) فقوله :{مَاءٍ صَدِيدٍ} فالصديد هو عصارة القروح والجروح وهو نجس في قول جماهير العلماء رحمهم الله ، هذه هي محصل فضلات الآدمي وقد قرر العلماء - رحمهم الله - هذه المسألة في كتاب الطهارة ، ومن فقه الإمام الترمذي-رحمه الله برحمته الواسعة- أنه ذكر حديث ابن عباس لكي ينبه على فضلة من فضلات الآدمي ، ثم أتبعه بحديث أبوال الإبل فانظر إلى دقة فهمه ، وبعده في النظر ، حيث ذكر حديث الآدمي أولاً ثم حديث فضلة الحيوان ثانياً ، وهذا يدل على جمعه بين فقه النظر والأثر ، وهو يدل على ما كان عليه سلفنا الصالح رحمة الله عليهم من تأمل نصوص السنة الواردة عن النبي صلى الله عليه وسلم .
يقول -رحمه الله -" باب ما جاء في التشديد في البول " : أي في هذا الموضع سأذكر لك ما ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم من الأحاديث التي تشدد في أمر البول ، ووصف ذلك بكونه تشديداً لورود الوعيد عن النبي صلى الله عليه وسلم بالعذاب في من تساهل في بوله ولم يستنزه ولم يستبرئ منه .
وقوله رحمه الله " في التشديد" : فالشرع فيه تشديد وفيه تخفيف ، فالتخفيف يوصف بكونه رخصة والتشديد عزيمة ، وغسل الأبوال يعتبر عزيمة .
والبول يطهر بطريقتين :
الطريقة الأولى : أن يكون تطهيره بالماء وهذه هي الأصل ، فالأصل أن البول يجب غسله لأن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بصب ذنوب من ماء على بول الأعرابي ، قالوا فهذا يدل على أن نجاسة البول تطهر بالماء .
__________
(1) / إبراهيم ، آية : 16-17 .(31/13)
وأما الطريقة الثانية لتطهير البول : فذلك بالاستجمار بالحجارة ونحوها من الطاهرات ، كالمناديل والأخشاب والأحجار ونحوها ، فهذه الطريقة تعتبر طريقة خاصة وتختص بموضع معين وهو القبل أو الدبر .
واختلف العلماء : لو أن إنساناً فتحت له فتحة ، وهذه الفتحة عوض عن القبل ، أو فتحت له فتحة عوضاًعن الدبر هل يجوز له أن يستجمر بالحجارة كما أنه يجوز له أن يستجمر في القبل والدبر الأصلي..؟؟
وتوضيح ذلك : أن الله سبحانه وتعالى قد يخلق الإنسان مسدود الدبر ، ثم يعالج الأطباء ذلك السد بفتحة بديل إذا تعذر فتحها في المكان المعتاد ، وقد يكون الإنسان مصاباً بأمراض في السبيلين تحوج الأطباء إلى فتحة بديل ، فهذه الفتحة لها حالتان عند العلماء رحمهم الله :
الحالة الأولى : أن تكون أسفل من السرة ، وفي هذه الحالة تنزل منزلة القبل والدبر سواء بسواء ، فالخارح منها آخذ حكم الخارح من السبيلين .
والحالة الثانية : أن تكون فوق السرة ، فلا يخلو الخارج من حالتين :
الحالة الأولى : إما أن يكون متغيراً كالغائط فإنه يأخذ حكم الخارج من الدبر ، أو يكون على صفات البول فيأخذ حكم الخارج من القبل .
والحالة الثانية : أن يخرج من هذه الفتحة الطعام لم يتغير ، وحكمها أنها لا تأخذ حكم القبل والدبر ؛ والسبب في ذلك أن الفتحة فوق المعدة تأخذ حكم المعدة تارة ، وتأخذ حكم الدبر تارة ، فإن تغير الخارج أخذت حكم الدبر ، وأما إذا لم يتغير الخارج كانت في حكم القيء الذي لم يتغير ؛ ولذلك فرق جمهور العلماء - رحمهم الله - بهذا التفريق .
وقوله - رحمه الله- " باب ما جاء في التشديد في البول" : أي في حكم البول سواء من جهة قطع البول ، أو من جهة التحفظ من تطاير فضلات ماء البول .(31/14)
حَدَّثَنَا هَنَّادٌ وَقُتَيْبَةُ وَأَبُو كُرَيْبٍ قَالُوا حَدَّثَنَا وَكِيعٌ عَنِ الأَعْمَشِ قَال سَمِعْتُ مُجَاهِداً يُحَدِّثُ عَنْ طَاوُسٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم مَرَّ عَلَى قَبْرَيْنِ فَقَالَ :(( إِنَّهُمَا يُعَذَّبَانِ وَمَا يُعَذَّبَانِ فِي كَبِيرٍ أَمَّا هَذَا فَكَانَ لاَ يَسْتَتِرُ مِنْ بَوْلِهِ ، وَأَمَّا هَذَا فَكَانَ يَمْشِي بِالنَّمِيمَةِ )) .
قَالَ أَبو عِيسَى رحمه الله : وَفِي الْبَاب عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ وَأَبِي مُوسَى وَعَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ حَسَنَةَ وَزَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ وَأَبِي بَكْرَةَ .
قَالَ أَبو عِيسَى رحمه الله : هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ وَرَوَى مَنْصُورٌ هَذَا الْحَدِيثَ عَنْ مُجَاهِدٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَلَمْ يَذْكُرْ فِيهِ عَنْ طَاوُسٍ وَرِوَايَةُ الأَعْمَشِ أَصَحُّ قَالَ وسَمِعْت أَبَا بَكْرٍ مُحَمَّدَ بْنَ أَبَانَ الْبَلْخِيَّ مُسْتَمْلِي وَكِيعٍ يَقُولُ سَمِعْتُ وَكِيعًا يَقُولُ الأَعْمَشُ أَحْفَظُ لإِسْنَادِ إِبْرَاهِيمَ مِنْ مَنْصُورٍ .
الشرح :
هذا الحديث حديث عظيم اعتنى العلماء رحمهم الله بذكره في أبواب الطهارة ، كما هو صنيع الشيخين الإمام محمد بن إسماعيل البخاري ، والإمام أبي الحسين مسلم بن الحجاج القشيري النيسابوري رحمة الله عليهما ، وقد اعتنى أئمة السنن بذكر هذا الحديث ، والتنبيه على الوعيد الذي ذكره النبي صلى الله عليه وسلم فيه ؛ والسبب في ذلك النصيحة للمسلمين ، بتحذيرهم من التساهل في أمر البول ؛ لأن الله سبحانه وتعالى أوجب على المسلم أن يتحفظ من بوله ، وأن يستبرئ عند قضائه لحاجته ، ومن هنا حرم عليه أن يتساهل في هذا الأمر الذي حذر الله عز وجل من التساهل فيه ، كما هو ظاهر من هذا الحديث الصحيح .(31/15)
وقد اعتنى العلماء رحمهم الله ببيان مسائل هذا الحديث ، يرويه حبر الأمة وترجمان القرآن عبدالله ابن عباس أبو العباس عبدالله بن عباس بن عبد المطلب الهاشمي ، هذا الحديث رواه أبو العباس عبد الله بن العباس ابن عم النبي صلى الله عليه وسلم الذي دعا له بالفقه في الدين ، وعلم التأويل ، وفي الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قضى حاجته فخرج ابن عباس وأعد له الوضوء ، فلما خرج عليه الصلاة والسلام من الحمام نظر فإذا هو بالوضوء قد أعد له ، فقال صلى الله عليه وسلم : من صنع هذا ؟ قالوا : عبدالله بن عباس ، فقال صلى الله عليه وسلم : (( اللهم فقهه في الدين)) فأصابته دعوة النبي صلى الله عليه وسلم ، فكان إماماً من أئمة المسلمين ، وديواناً من دوواين العلم والدين ، فكان إماماً من أئمة الفتوى ، وحافظاً من كبار حفاظ الأحاديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم روى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أكثر من ألف وخمسمائة حديث رضي الله عنه وأرضاه ، وجعل أعالي الفردوس مسكنه ومثواه - .(31/16)
يقول "سمعت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مر بقبرين" : القبران مثنى قبر ، والقبر هو منزل من منازل الآخرة وهو أول منازل الآخرة ، ولذلك قد جعله الله رحمة بالآدميين ، والسبب في ذلك أن الإنسان إذا مات فإنه يوارى جثمانه في القبر ، فمن رحمة الله عز وجل أن ألهم الآدمي ذلك ، ولو أن الناس لا تدفن أجسادهم لتضرروا ولحصل في ذلك من البلاء والأدواء ما الله به عليم ، ولذلك لما قتل ابن آدم أخاه بعث الله غراباً يبحث في الأرض ليريه كيف يواري سوءة أخيه قال ياويلتى أعجزت أن أكون مثل هذا الغراب فأواري سوءة أخي فأصبح من النادمين ، فألهم الله الآدمي أن يواري جسد أخيه ؛ ولذلك كانت سنة في بني آدم ، وقد جعل الله هذه الحفرة إما روضة من رياض الجنة ، وإما حفرة من حفر النار ، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم :(( تعوذوا بالله من عذاب القبر)) ، وفي الحديث الصحيح عن البراء بن عازب رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال :(( أعوذ بالله من عذاب القبر أعوذ بالله من عذاب القبر)) فهو أول منازل الآخرة فإما روضة من رياض الجنة وإما حفرة من حفر النار .
وقوله "مر بقبرين ": هذان القبران للعلماء فيهما وجهان :
فقال بعض العلماء : إنهما كانا بمكة ، وأن صاحبي القبرين كانا من المشركين .(31/17)
وقال جمع من العلماء : إنهما كانا بالمدينة ، وقد أيدت ذلك بعض الروايات أنهما كانا بالمدينة حيث مرَّصلوات الله وسلامه عليه ببعض حيطان المدينة ، وجاء في بعض الروايات أنهما من الأنصار من بني النجار ، فمرصلوات الله وسلامه عليه بالقبرين أي بجوار القبرين ، فأنزل الله عليه الوحي ، وأطلعه على أمر لم يكن يعلمهصلوات الله وسلامه عليه ، وذلك أن الله - - سبحانه وتعالى -- أطلعه على عذابهما ، فسمعصلوات الله وسلامه عليه عذابهما ، أو أن الله كشف له ذلك بالخبر لا بالسماع ، وأحوال الموتى في القبور من جهة العذاب لا يكشفها الله للآدمي ولا للجن ، وإنما يسمع صراخ المعذبين وعذابهم تسمعه جميع الدواب و جميع من خلق الله إلا الجن والإنس ، ولوسمع الناس عذاب أهل القبور لتنغص عيشهم ، وتنكدت حياتهم ؛ ولذلك لطف الله بهم فلم يسمعهم عذاب القبور ، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم : (( لولا أني أخاف ألا تدافنوا لسألت الله أن يسمعكم عذاب القبر)) لأن الناس لوسمعوا عذاب القبر لفزعوا للآخرة ولتركوا الدنيا وزهدوا فيها كما قال صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح : (( والله لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلاً ، ولبكيتم كثيراً ، ولخرجتم إلى الصعدات تجأرون إلى الله بالبكاء )) أي لو تعلمون أحوال الناس في القبور وأحوالهم إذا صاروا إلى البعث والنشور لبكيتم كثيراً من خشية الله-- سبحانه وتعالى - - ، وقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم وهو الصادق المصدوق بأبي وأمي أنهما يعذبان ، ولم يكشف الله له حقيقة ذلك العذاب ولاصورته ، فكيف يعذبان ؟ وماهي طريقة العذاب وأسلوبه ؟ أمرٌ لا يعلمه إلا الله علام الغيوب سبحانه وتعالى ، ولذلك يقف المسلم عند هذا الحد ، فما على الله إلا الأمر ، وما على الرسول إلا البلاغ ، وما علينا إلا الرضا والتسليم .(31/18)
وكيف يعذب وقد قطعت أعضاؤه ، وانتشرت أشلاؤه ، وصار رماداً ؟ فإن الآدمي ربما انفجر وربما سحق فمات حتى يصير رماداً ، والله قادر على أن يجمعه ويبعثه ويعذبه وينعمه : { قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ - الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ مِنْ الشَّجَرِ الأَخْضَرِ نَارًا فَإِذَا أَنْتُمْ مِنْهُ تُوقِدُونَ - أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ بَلَى وَهُوَ الْخَلاَّقُ الْعَلِيمُ - إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ - فَسُبْحَانَ الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ}(1)وفي الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم :(( أن رجلا قال لأولاده لما حضرته الوفاة : إذا أنا مت فأحرقوني ، ثم اسحقوني حتى أصير رماداً ، ثم ذروا نصفي في البر ونصفي في البحر ؛ فوالله لو قدر الله عليّ ليعذبني عذاباً لا يعذبه أحداً من العالمين ، قال صلى الله عليه وسلم : فلما مات صنعوا به ما أمر ، قال : فأوحى الله إلى البحر أن اجمع ما فيك ، وإلى البر أن اجمع ما فيك فإذا هو قائم بين يدي الله )) فالله على كل شئ قدير لا يعجزه شئ -- سبحانه وتعالى - - ، فأمور القبر ينبغي تسليمها لله سبحانه وتعالى ، وقد أخبرنا صلوات الله وسلامه عليه أن الناس يعذبون فيها وينعمون .
__________
(1) / يس ، آية : 79- آخر السورة .(31/19)
ومذهب أهل السنة والجماعة أن عذاب القبر ثابت ، وأنكره طوائف من أهل الضلال ممن لا يعد خلافه ، فقالوا : لا يعذب الإنسان في القبر ولا ينعم ، كبرت كلمة تخرج من أفواههم إن يقولون إلا كذباً ، والله-- سبحانه وتعالى - - أخبر عن آل فرعون أنهم يعرضون على النار غدواً وعشياً ، ولذلك كان ابن عمر رضي الله عنهما إذا أمسى المساء صاح ، وإذا أصبح الصباح صاح وقال : جاء الليل وأدبر النهار ، وعرض آل فرعون على النار ، وإذا أمسى قال جاء الليل وأدبر النهار وعرض آل فرعون على النار ، فهذا النص من كتاب الله يثبت عذاب القبر ، وقال -سبحانه-:{وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنْ الْعَذَابِ الأَدْنَى دُونَ الْعَذَابِ الأَكْبَرِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ } (1) فالعذاب الأدنى عذاب القبر ، والعذاب الأكبر عذاب الآخرة ؛ ولذلك إذا أدخل الإنسان قبره وكان من السعداء أراه الله مقعده من الجنة ومقعده من النار ، فإن كان صالحاً قال : رب أقم الساعة رب أقم الساعة يشتاق إلى أهله وٍإلى رحمة ربه ، وأما إذا كان كافراً وأراه الله مقعده من النار ، قال : رب لا تقم الساعة رب لا تقم الساعة ، ولذلك أخبرت هذه النصوص بثبوت عذا ب القبر ونعيمه ، وحديثنا يدل دلالةً واضحةً على ثبوت عذاب القبر ، والقبر منزل غير ثابت ، بمعنى: أن الإنسان لا يثبت فيه ، خلافاً لأهل الجاهلية الذين يقولون : {أَئِذَا كُنَّا عِظَاماً نَخِرَةً - قَالُوا تِلْكَ إِذًا كَرَّةٌ خَاسِرَةٌ} (2) فكانوا يستبعدون أنهم يبعثون ، فَأُفٍ لهم ولما يفترون ، فكانوا يقولون إنه لا يعاد الإنسان ، وأن من مات ودفن في القبر فإنه مثواه الأخير .
__________
(1) / السجدة ، آية : 21.
(2) / النازعات ، آية : 11-12 .(31/20)
ولذلك من الأخطاء الشائعة عند بعض المسلمين-أصلحهم الله- قول بعضهم : صار إلى مثواه الأخير ، فهذا خطأ واضح وقد انتشر بين الناس ، وينبغي التنبيه عليه ؛ لأن القبر ليس بالمثوى الأخير ، وأما المثوى الأخير فهو القرار الذي أخبر الله عنه الجنة أو النار كما ثبت في الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم :(( أنه يؤتى بالموت على صورة كبش فيقال : يا أهل النار فيطلعون ، ويا أهل الجنة فيطلعون ، ويذبح الموت بينهما ، ويقال : يا أهل النار خلود فلا موت ، ويا أهل الجنة خلود فلا موت)) ، فهذا هو المثوى الأخير :{ فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ}(1) ، فهذا هو الذي يوصف بكونه مثوى أخيراً للإنسان ، وأما القبر فإنه ليس بالمثوى الأخير ؛ ولذلك عبر القرآن عن هذا المعنى في قوله - - سبحانه وتعالى - - :{ أَلْهَاكُمْ التَّكَاثُرُ - حَتَّى زُرْتُمْ الْمَقَابِرَ }(2) فقال حتى زرتم المقابر ، ولم يقل حتى صرتم إلى المقابر ، فجعلها محطة زيارة ، ولذلك سمع أعرابي هذه الآية فبكى وقال : زاروها والله سيرتحلون عنها ، لأن الزائر لا يبقى في المكان فعبر القرآن بقوله :{ زُرْتُمْ} فدل على أنه ليس بالمثوى الأخير .
وقوله : (( إنهما ليعذبان وما يعذبان في كبير)) : أي ما يعذبان في أمركبير يمكن للإنسان أن يتحفظ عنه ، وذلك أن النميمة والتحفظ من البول يمكن للإنسان أن يقوم به دون عناء ولا مشقة فيحفظ المسلم لسانه عن أعراض المسلمين ، ويصونه عن أذية المؤمنين ، وذلك لا يكلفه شيئاً ، وكذلك تحفظه من البول واستنزاهه منه ، وفي الرواية الثانية : (( بلى إنه لكبير)) أي كبير الشأن وكبير الأمر عند الله عز وجل ، ولذلك لأن البول يوجب بطلان الصلاة ، والنميمة فيها شر عظيم وبلاء جسيم .
__________
(1) / الشورى ، آية : 7 .
(2) / التكاثر ، آية : 1-2 .(31/21)
قال صلى الله عليه وسلم :(( بلى إنه لكبير)) : أي لأن الإنسان إذا لم يتحفظ من البول بطلت طهارته وإذا بطلت طهارته بطلت صلاته، وأول ما ينظر فيه من عمله إنما هو الصلاة ، فأول ما يحاسب عليه العبد الصلاة فإن صلحت نُظر في سائر عمله ، وإن فسدت وضاعت فهو لما سواها أضيع .
وأما النميمة فإنها كبيرة ، ووصفها النبي صلى الله عليه وسلم بكونها كبيرة ؛ لأن النميمة تقطع الأرحام ، وتذهب أواصر الأخوة بين أهل الإسلام ، ولذلك قال بعض السلف-رحمه الله - : " النمام يفسد في ساعة ما لا يفسده الساحر في سنة " فالنمام بكلمة واحدة يدمر بيوت المسلمين ، ويقطع أواصر المتحابين ولو كانوا من العشيرة والأقربين ؛ فلذلك وصف النبي صلى الله عليه وسلم فعله بكونه كبيراً ، ولذلك قال جماهير العلماء : النميمة كبيرة من كبائر الذنوب ، والنميمة شعلة نار تحرق بيوت المسلمين والمسلمات ولربما فرقت وبددت شمل الأزواج والزوجات ، وفرقت بين الأبناء والبنات ، ولذلك عظم الله شأنها وحقّر أهلها في الدنيا والآخرة فقال سبحانه وتعالى :{وَلاَ تُطِعْ كُلَّ حَلاَّفٍ مَهِينٍ - هَمَّازٍ مَشَّاءٍ بِنَميِمٍ - مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ}(1) فالنمام مناع للخير لأنه لا يحب الناس أن يجتمعوا ، وإنما يريدهم أن يتفرقوا فهو من شياطين الإنس الذي جعله الله شؤماً على من كان من أصحابه وخلانه ، قال العلماء : النمام مهان عندالله سبحانه وتعالى لقوله : {وَلاَ تُطِعْ كُلَّ حَلاَّفٍ مَهِينٍ - هَمَّازٍ مَشَّاءٍ بِنَمِيمٍ} فوصفه بكونه مهيناً حقيراً ، لأنه يطعن أخاه المسلم من وراء ظهره وهو مهين في القبر ؛ ولذلك عذبه الله عز وجل بهذا العذاب كما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم ، وهو مهان عندالله الله في الآخرة ولذلك ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال :(( لا يدخل الجنة نمام)) ،
__________
(1) / القلم ، آية : 10- 12 .(31/22)
قال العلماء : ويمشي بالنميمة أحد و لا يحافظ على النميمة أحد إلا ساءت خاتمته-والعياذ بالله - ، فختم له بخاتمة السوء حتى لا يدخل الجنة لأن الحديث صحيح صريح في أن النمام لا يدخل الجنة وذلك يكون بسوء الخاتمة -نسأل الله السلامة والعافية- ، والغالب في النمام أن يكون في قلبه حقد وحسد فيرى الزوجين قد صلح حالهما ونعم بالهما فلا يصلح حاله ولا ينعم باله حتى يفرق بينهما ، فقد يكون النمام أقرب إنسان إليك ، فالزوجة قد تكون نمامة حينما تفسد زوجها على والديه ، فتنقل له كلمة عن والده أو والدته بقصد أن تفرق بينهما أو بدون قصد ، وكذلك يكون النمام من الأبناء والبنات بقصد أن يفسد قلب الأب على إخوانه ؛ لمكان الحسد بين الإخوة ، كما وقع ذلك في أخوة يوسف حيث نزغ الشيطان بينهم ولذلك يكون النمام أقرب شئ إلى الإنسان وهو لايشعر، قال بعض العلماء : إذا أبلغك الرجل حديثاً عن أخيك فاعلم أنك أمام عدولله ورسوله ، ولذلك كان بعض السلف رحمهم الله إذا جاءه النمام وقال : فلان يقول فيك ، قال له : تباً لك أما وجد الشيطان رسولاً غيرك ؟ وكان بعض الحكماء إذا أبلغه النمام الخبر، قال له : فلان لايقول وكذبه وأهانه ، وجاء رجل إلى عمر بن عبد العزيز فنم إليه بالنميمة ، فقال له : -رحمه الله برحمته الواسعة- ماأنت إلا واحد من رجلين ، إما أن تكون صادقاً والله -تعالى- يقول : {وَلاَ تُطِعْ كُلَّ حَلاَّفٍ مَهِينٍ - هَمَّازٍ مَشَّاءٍ بِنَمِيمٍ} أي إذا كنت صادقاً في الكلام الذي نقلته فأنت نمام ، وإما أن تكون كاذباً فأنت من أصحاب هذه الآية :{ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا}(1) فما أنت إلاواحد من هذين الرجلين وإن شئت عفونا عنك ، فقال : العفو يا أمير المؤمنين ، فكان السلف رحمهم الله لايقبلون النميمة ، ومامن أحد يبلغك كلام الناس فيك إلا كان محتقراً لك ؛ لأنه لو
__________
(1) / الحجرات ، آية : 6 .(31/23)
كان يهابك ويحبك لما نقل إليك ما يسوؤك ؛ لأن الذي ينقل إليك مايسوؤك ، لايحفظ مشاعرك ، ولايحفظ كرامتك ، ولذلك كان بعض العلماء ربما يطرد من طلابه من يشي إليه ويبلغه القالة من طلابه الأخر ، كل ذلك حفظاً للمسلمين من هذا البلاء العظيم الذي إذا سرى في المجتمع أفسده كسري النار في الهشيم ، ولذلك ينبغي ردع هؤلاء وزجرهم وعدم قبول أخبارهم سواء كانوا من الرجال أو كانوا من النساء ، والمسلم إذا بلغه من أخيه المسلم مايسوء فينبغي أن يتسع صدره ، وأن يبدي حلمه ، وأن يصفح ، ويغفر ، ويعفو ، فمن عفا وأصلح فأجره على الله وأما الإصغاء بالآذان إلى أمثال هؤلاء الحقراء فإنه شر عظيم وبلاء عميم ، وقال بعض العلماء : أشد ماتكون النميمة إذا وقعت بين العلماء ، فقد ينقل بعض طلاب العلم الأخبار ، وينقلون الفتاوى بين العلماء بقصد التشويش ، وبقصد إفساد قلوبهم على بعض فأمثال هؤلاء نمامون موعودون بهذا العذاب والنكال في الدنيا والآخرة ، ولاشك أنه من أعظم المصائب أن يفرق بين العلماء أوبين الصالحين الأتقياء ،- نسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يجمع شملنا ، وأن يكبت عدونا -.
قال صلى الله عليه وسلم :(( أما هذا فكان يمشي بالنميمة وأما هذا فكان لايستتر من بوله )) : هناك ألفاظ ثلاثة : (( لايستتر ، ولايستنزه ، ولايستبرئ)) ، والمراد بالاستنزاه والاستتار والاستبراء نقاء الموضع .(31/24)
وفي رواية :(( لايستتر)) : أخذ بعض العلماء : منها دليلاً على أن كشف العورات والتساهل في السوءات يوجب عذاب القبر-نسأل الله السلامة والعافية- ، فالواجب على الإنسان إذا قضى حاجته أن يستتر لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يستتر بالحش ونحو ذلك من الشواخص حفظاً لعورته صلوات الله وسلامه عليه ، وتشريعاً لأمته أن يحفظوا العورة من النظر ، ولذلك قالوا إن التساهل في العورة يعتبر من كبائر الذنوب لهذا الحديث ، هذا الحديث يدل على عظم شأن البول وفيه الخبر عن النبي صلى الله عليه وسلم أن أكثر عذاب القبر من البول .
- نسأل الله العظيم رب العرش الكريم بأسمائه الحسنى وصفاته العلى أن يعيذنا من عذاب القبر ، اللهم إنا نعوذ بك من عذاب القبر ، اللهم إنا نعوذ بك من عذاب القبر ، اللهم آنس في القبر وحشتنا ، ونور ما فيه من ظلمتنا واغفر لنا ماكان من سيئاتنا واستر لنا عوراتنا وأمن لنا روعاتنا برحمتك يا أرحم الراحمين- .
- ? - ? - ? - ? - الأسئلة - ? - ? - ? - ? -
السؤال الأول :
في بعض روايات هذا الحديث أن الرسول عليه الصلاة والسلام أخذ جريدة رطبة ووضعها على القبر وقال لعلها تخفف عنهما ما لم تيبسا ، فهل هذا خاص بالنبي صلى الله عليه وسلم ..؟؟
الجواب :
بسم الله الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه أما بعد :(31/25)
ففي روايات الصحيح ما يدل على هذا ، ولم تأت في رواية الترمذي ، وهذه الرواية التي فيها شق الجريدة نصفين ، قال بعض العلماء : فيها فائدة عظيمة تدل على خطر هذين الذنبين ؛ والسبب في ذلك أن النبي -- صلى الله عليه وسلم - - كان من أرحم الناس بأمتهصلوات الله وسلامه عليه كان رحيماً بأمته في الدنيا وفي الآخرة ، ففي الحديث الصحيح عنه عليه الصلاة والسلام :(( أنه ماخير بين أمرين إلا اختار أيسرهما مالم يكن إثماً )) فكان أبعد الناس من ذلك ، ورحيماً بأمته في الآخرة ولذلك ثبت في الحديث الصحيح أن الأنبياء والناس يوم القيامة دعواهم اللهم سلم سلم نفسي نفسي لاأملك اليوم إلا نفسي ، وهو عليه الصلاة والسلام يقول : (( أمتي أمتي)) -صلوات الله وسلامه عليه -كان رحيماً بأمته صلوات الله وسلامه عليه كما شهد الله له من فوق سبع سموات ، وكان قلبه يتفطر على هذه الأمة مع هذه الشفقة ومع هذه الرحمة لما مر بهما وهما يعذبان شفع صلوات الله وسلامه عليه فقبل الله شفاعته أن يخفف العذاب ، أما أن يزال العذاب عنهما فلا ؛ ولذلك عظم العلماء - رحمة الله عليهم - هذين الذنبين مع أنه كان عليه الصلاة والسلام عظيم الشفقة ، وكان إذا شفع يشفع على الكمال أن يزال العذاب عنهما وأن الله يشفعه فيهما ومع ذلك قال :(( لعله أن يخفف عنهما ما لم تيبسا)) ، وهذا يدل على عظم هذا الأمر ، ولذلك خفف العذاب فإذا يبست الجريدتان عاد العذاب عليهما .(31/26)
الفائدة الثانية : أن العذاب يستمر ، ولذلك تبقى الجريدة رطبة فترة من الزمن وردحاً من الزمن ما شاء الله ثم تيبس فدل على أنه لا ينقطع ، ولذلك قال : (( لعله أن يخفف عنهما ما لم تيبسا)) ، فمع مضي مدة رطوبة الجريدتين يعود العذاب كما كان عليهما ؛ ذلك لأن النميمة أمرها عظيم كون الإنسان يأتي إلى أخيه المسلم ويذكر له عن أخيه الآخر أنه قال فيه أو فعل ، النميمة تدمر بها البيوت ، تشتت بها الشمل ، تفرق بها الجماعات ، توغر بها الصدور ، فبدل أن القلوب تجتمع ، والله من فوق سبع سماوات يأمرنا أن نكون إخواناً ، وأن نكون في دينه أحباباً وخلاناً ، وأن تجتمع القلوب على كتابه وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم ويأتي هذا النمام يفرق بين المسلمين ، فهو يحارب الله ورسوله ، قالوا : لأن الحق للمخلوق ولذلك حقوق المخلوق خفف العذاب لكن أن يزول العذاب فلا ، وأن يبقى هذا العذاب على الإنسان إلى أن يبعثه الله-- جل جلاله - - بقدرته ، فهذا يدل على خطر النميمة .
وأما مسألة الاستتار من بوله فلتعلقه بالصلاة .
شق عليه الصلاة والسلام الجريدة نصفين فغرز على هذا نصفاً وغرز على هذا نصفاً ، ولذلك وقت تخفيف العذاب بمدة كونهما رطبتين ، وهذا من خصوصياته عليه الصلاة والسلام ، وأما قول بعض العلماء : إن الجريد يسبح ؛ ولكونه يسبح يخفف العذاب عنهما فهذا من قبيل الرأي ، والله-تعالى- يقول : {وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ}(1) فالجريدة مسبحة سواء كانت رطبة أو كانت يابسة ، بل حتى لو يبس الجريد فإنه سيسبح ، ولذلك سبح الحصى ، وسبحت الجبال ، وسبحت الأشجار ، والأنهار لله-- جل جلاله -- ، فالتسبيح ليس هو العلة ولكن العلة أن الله أذن ، ولذلك لا يجوز لأحد أن يفعل هذا الفعل لأمرين :
__________
(1) / الإسراء ، آية : 44 .(31/27)
أحدهما أنه يتهم المقبور أنه صاحب عذاب ، وثانياً أن هذا من خصوصياته عليه الصلاة والسلام ، وليس لأحد الحق أن يخفف العذاب عن أحد إلا بإذن الله-- جل جلاله -- ، بل إن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يستطع أن يخفف هذا العذاب إلا بأمر الله-سبحانه- ، فلا يستطيع أن يخفف العذاب عن أحد ، ولا يستطيع أن يزيل العذاب عن أحد إلا بأمر الله -- جل جلاله -- ، وهو حبيب الله ، والشفيع الذي لا ترد شفاعتهصلوات الله وسلامه عليه كريم على ربه ، ولذلك في الحديث القدسي يقول الله :(( يا محمد ارفع رأسك ، وسل تعط ، واشفع تشفع)) صلوات الله وسلامه عليه ، ومع ذلك يقول لا يأتي أحدكم يوم القيامة وهو يحمل على ظهره شاة تيعر أو بعيراً له رغاء فيقول يا محمد -يعني أنقذني واشفع لي- فأقول لا أملك لك من الله شيئاً ، ما أحد يستطيع أن يفلت عبداً من عذاب الله إذا أراده الله بعذاب ، ما على الإنسان إلا أن يلتزم بأوامر الله عز وجل ، وأن يتقي نواهيه حتى يلقى الله سبحانه وتعالى مستقيماً على دينه ، وحينئذ يحفظ والله لا يظلم عبده شيئاً ، فيجد ما فعل من الخير خيراً ، وما فعل من السوء إن رحمه الله فغفر فلا يسأل عما يفعل ، فمحض كرمه وفضله-سبحانه- ، وإن أخذه الله-- جل جلاله -- فمحض عدله الذي لا يستطيع أهل السموات والأرض ومن فيهن أن يكفوا عنه مثقال خردلة من عذاب الله-- جل جلاله -- ، ولذلك ينبغي للإنسان أن يتقي هذا الفعل وأن ينزع مثل هذه الأمور ، حتى بلغ ببعضهم أنه يزرع على القبر الأشجار ، ويقولون إنها كالجريدة الرطبة ، وكل ذلك من الاجتهاد الذي هو مصادم للنصوص ، ولا يجوز لأحد أن يفعل هذا الفعل لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يفعله على أصحابه ، ولم يفعله أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ببعضهم ، -نسأل الله العظيم أن يرزقنا التمسك بالسنة وأن يعيذنا بالدخل في هذه المله - ، والله تعالى أعلم .
السؤال الثاني :(31/28)
ما حكم الماء النازل من المرأة والذي يسبق الولادة بوقت يسير ؟ وما الحكم لو استمر نزول الدم ما يقارب الشهر مع احتمال الولادة في أي لحظة ؟ وهل يمنع الحامل من الصلاة خلال هذه الفترة ..؟؟
الجواب :
هذا الماء في حكم الرطوبة ؛ ولذلك يعتبرآخذاً حكم النجس .
أما إذا وجد الدم وهو الشطر الثاني من السؤال قبل الولادة فلا يخلو من حالتين :
الدم قبل الولادة يعتبر استحاضة ، إلا إذا سبق الولادة بيوم أو يومين أو ثلاثة على قول عند طائفة من العلماء كما هو مذهب الحنابلة رحمة الله عليهم أنه إذا سبق الولادة بثلاثة أيام فأقل أنه يعتبر دم نفاس ، ويأخذ حكم دم النفاس سبق وقته ؛ لأن "ما قارب الشيء أخذ حكمه" ، فهذا قالوا : إنه ياخذ حكم دم النفاس سواء بسواء ، ولكن الأصل يقتضي أن الحامل لا تحيض ، وأن جميع ماتراه من الدماء يعتبر دم استحاضة لا يمنع صوماً ولا صلاةً ، وإنما تغسله فإذا غلبها غسلت وعصبت الفرج ، أو وضعت القطنة وصلت بدخول وقت كل صلاة ، كما سيأتي تفصيله في باب الاستحاضة ، والله تعالى أعلم .
السؤال الثالث :
هل الدم الذي يخرج من الأنف ينقض الوضوء ؟ وإذا استمر هل يأخذ حكم سلس البول ..؟؟
الجواب :
الدم إذا خرج من سائر البدن ما عدا السبيلين فللعلماء فيه قولان :
جمهور العلماء على أن الدم إذا خرج من غير السبيلين لا ينقض الوضوء .
وذهب الحنابلة إلى أنه ينقض الوضوء قياساً على دم الاستحاضة ، وهذا قياس مع الفارق ؛ لأن دم الاستحاضة خرج من الفرج فكان في حكم البول لأنه خارج نجس ، وأما خروجه من سائر البدن فلا ينقض الوضوء على الصحيح ، وبناءً على ذلك فإن الدم من رعاف أو نزيف أو نحو ذلك لا ينقض الوضوء وإنما يغسله الإنسان ، فإذا غلب الإنسان فإنه يعتبر معذوراً كما ذكرنا في حالة النزيف ، والله تعالى أعلم .
السؤال الرابع :(31/29)
ورد في حديث أم سلمة - رضي الله عنها - أنها قالت للنبي صلى الله عليه وسلم : " أعلى المرأة غسل ؟ قال :(( نعم إذا هي رأت الماء)) هل هذا الماء هي الرطوبة التي ذكرتموها ..؟؟
الجواب :
هذا الماء هو المني وليس المراد به الرطوبة ، وبناءً على ذلك فإن الغسل لا يجب إلا من المني ؛ لقوله عليه الصلاة والسلام في حديث صحيح : (( إنما الماء من الماء)) إنما الماء وهو غسل الجنابة ، من أي بسبب ؛ لأن العرب تقول من كذا أي بسبب كذا ، تضرب الصبي فيقول لماذا ضربتني ؟ فتقول من ذنبك أي بسبب ذنبك ، ومنه قوله -تعالى- :{مِمَّا خَطِيئَاتِهِمْ}(1) أي بسبب خطيئاتهم ، فقوله إنما الماء أي الغسل من الماء أي بسبب الماء وهو المني سواء من الرجل أو المرأة ، فلما سألت النبي صلى الله عليه وسلم أم سليم عن المرأة ترى ما يرى الرجل هل عليها غسل ؟ قال :(( نعم إذا رأت الماء)) أي إذا احتلمت وخرج منها المني ، والله تعالى أعلم .
السؤال الخامس :
إذا أحس الإنسان بوجود بعض القطرات من المذي أو الودي في داخل العضو فهل يؤثر ذلك في الوضوء ؟ أم العبرة بالخروج ..؟؟
الجواب :
من أحس بحركة العضو سواء بولاً ، أو ودياً ، أو مذياً ، أو منياً فلا يؤثر إلا إذا خرج من رأس الذكر ، أما لو أحس بالمني حتى لو ألقى المني فأمسك العضو وهو يتشهد في الصلاة كما ذكر العلماء ، ثم سلم ، ثم خرج المني بعد السلام فصلاته صحيحة ، فالعبرة بالخروج ؛ ولذلك قال- عليه الصلاة والسلام - :(( إذا فضخت الماء فاغتسل)) فالعبرة بمجاوزته لأعلى العضو .
وَآخِرُ دَعْوَانَا أَنِ الحمَْدُ لِلَّهِ رَبِّ العَالَميْنَ وصلَّى اللَّهُ وسلَّم وبارك على عبده ونبيَّه محمد وعلى آله وصحبه أجمعين .
__________
(1) / نوح ، آية : 25 .(31/30)
بسم الله الرحمن الرحيم
قال المصنف رحمه الله : بَاب مَا جَاءَ فِي نَضْحِ بَوْلِ الغُلاَمِ قَبْلَ أَنْ يُطْعَمَ
الشرح:
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين أما بعد :
فقد أشار المصنف رحمه الله بهذه الترجمة إلى نوع من أنواع إزالة النجاسة وذلك بقوله"باب ما جاء من النضح في بول الغلام" ، وهذا الباب يعتبره العلماء - رحمهم الله - باب رخصة من الشرع ، وذلك أن الأصل في البول يجب غسله على المكلف سواء كان بول ذكر أو كان بول أنثى ؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بغسل البول ، وفي الصحيحين من حديث أنس بن مالك - - رضي الله عنه - وأرضاه- أنه لما بال الأعرابي في مسجد النبي صلى الله عليه وسلم أمر أن يصب على بوله بذنوب من ماء ، فدل هذا على أن الأصل في البول أنه يغسل ، وقد خفف الله عز وجل في نوع خاص من الأبوال وهو بول الغلام الذي لم يطعم الطعام بمعنى أنه رضيع ولم يستغن عن الرضاعة بالطعام .
ومن فقه الإمام الترمذي رحمه الله أنه قدم حديث التشديد في البول وهو حديث عبد الله بن عباس -رضي الله عنهما - ، والقاعدة : " أن العزائم تقدم على الرخص" ، فيبين الفقيه الأصل في الشرع من وجوب غسل البول ، ثم ينبه بعد ذلك على ما استثناه الشرع وخفف في حكمه ، كأن المصنف رحمه الله يريد أن يبين لنا هدي النبي صلى الله عليه وسلم وما ورد عنه من الأحاديث والأخبار باستثناء بول الغلام ، وأنه يطهر بالرش والنضح .(32/1)
والنضح والنضخ يطلق على الماء ، فيقال نضحه بالماء ونضخ الماء ، ولكن النضخ أشد من قولهم نضح ؛ ولذلك قالوا إن النضخ يكون إذا كان الماء شديداً كالعين التي يجري الماء منها بشدة ، كما في التنزيل من قوله-- سبحانه وتعالى - -:{فِيهِمَا عَيْنَانِ نَضَّاخَتَانِ } (1) أي كثيرة الماء ينفجر الماء منهما بشدة ، ولا ينقطع ذلك الماء أبداً ، فعبر بالنضخ بدل النضح ، ولكن النضح يكون بالرش وهو أخف من النضخ ، ومن هنا قالوا إن النبي صلى الله عليه وسلم لما نضح بول الغلام إنما أخذ كف الماء ورشه على ذلك البول ، وعلى ذلك يكون النضح أخف من الغسل ؛ لأن الله عز وجل خفف في هذا النوع من النجاسات ، وقد ترجم المصنف -رحمه الله - بالنضح ، ومسألة النضح تعتبر من مسائل إزالة النجاسات ، وقد تقدم معنا في المجلس الماضي بيان النجاسات وفضلات الآدمي ، والنجاسات إذا وقعت على الثياب أو وقعت على الأشياء الطاهرة فإنها تزول بصور وردت النصوص عن النبي صلى الله عليه وسلم بها ، فتارة تكون بالعزائم بالغسل ، وتارة تكون بأخف من ذلك ، وبناءً على ذلك فإنه من المناسب أن نبين كيف تتم إزالة النجاسات من البول وغيره ؛ لأن هذا الباب قد اشتملت ترجمته على بيان نوع من أنواع إزالة النجاسات ، والجواب أن الحديث عن إزالة النجاسة يستلزم أمرين :
الأمر الأول : بيان الشيء الذي تزول به النجاسة ، والصفة التي تتحقق بها الإزالة .
والأمر الثاني : بيان محل الإزالة ، وتوضيح ذلك أن الأشياء النجسة تنقسم إلى قسمين :
القسم الأول : ما لا يقبل التطهير ، ولا يمكن أن يطهر بحال ، والقسم الثاني : ما يقبل التطهير .
__________
(1) / الرحمن ، آية : 66 .(32/2)
فأما القسم الذي لا يقبل التطهير بحال فهو الميتة ، وقد ضبطه العلماء بقولهم العين النجسة ، أي التي حكم الشرع بنجاستها بذاتها ، ويشمل ذلك الميتات وهكذا الخنزير فإنه نجس العين ، فالميتة والخنزير كل منهما نجس العين ، فلو غسلت الميتة مئات المرات فإن غسلها لا يطهرها ، وكذلك الحال في الخنزير فلو غسل مئات المرات فإنه لا يطهر ، وليس بمحل لأن يطهر ، ومثل هذا لا يبحث في إزالة نجاسته ، واستثنى العلماء رحمهم الله من الميتة جلدها ، فإن جلد الميتة يمكن تطهيره بالدبغ ؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم مر على شاة ميتة فقال : (( هلا انتفعتم بإهابها )) ، فقالوا : يا رسول الله إنها ميتة ؟ فقال- عليه الصلاة والسلام - : (( إذا دبغ الإهاب فقد طهر)) وفي رواية :(( أيما إهاب دبغ فقد طهر)) فاستثنى النبي صلى الله عليه وسلم من الميتة جلدها ، فهذا الجلد وإن كان ناشئاً عن ذات نجسة العين فإنه مستثنى من الشرع إذا دبغه الإنسان فإنه يحكم بطهارته ، فيجوز أن يصلي عليه ، وأن يضع الماء فيه كالحال في القرب ونحوها.(32/3)
وأما القسم الثاني : وهو الذي يقبل التطهير ويسميه العلماء بالمتنجس أصله طاهر ، ولكن وقعت عليه النجاسة أو وقعت فيه النجاسة فحكم بكونه متنجساً لا نجساً ، أي أن عينه في الأصل طاهرة ولكنها تنجست بوقوع النجاسة فيها أو عليها ، فثوبك مثلاً في الأصل هو طاهر ولكن إذا وقعت عليه قطرة البول أو قطرة الدم النجس فإننا نقول إنه متنجس ، وهكذا الحال بالنسبة للبساط والفراش فإنه في الأصل طاهر ولكن إذا وقعت عليه النجاسة كالبول والدم ونحو ذلك فإننا نقول تنجس ، فهذا النوع الثاني هو الذي يبحث العلماء رحمهم الله فيه كيفية إزالة النجاسة ؛ والسبب في ذلك أن الله أوجب علينا طهارة المكان والبدن والثوب ، فلا يصلي المصلي إلا إذا كان طاهر البدن طاهر الثوب طاهر المكان ، وحينئذ إذا كان مكانه متنجساً أو كان ثوبه متنجساً أو كان بدنه متنجساً.
يسألك كيف أزيل هذه النجاسة ..؟؟
والجواب: أن إزالة النجاسة يكون بصور :(32/4)
الصورة الأولى : الغسل وهي أعلى درجات الإزالة وقد وردت النصوص باعتبارها وكونها موجبة للتطهير ، والأصل فيه أن يكون الغسل بالماء ؛ لأن الله سبحانه وتعالى جعله أقوى المطهرات كما في قوله-سبحانه -:{وَأَنزَلْنَا مِنْ السَّمَاءِ مَاءً طَهُورًا}(1) فأخبر سبحانه وتعالى عن طهارته في نفسه وتطهيره لغيره ، فالماء هو أقوى المزيلات وقد دلت السنة الصحيحة عن النبي صلى الله عليه وسلم على اعتبار الغسل موجباً لإزالة النجاسة إذا تحقق بشروطه المعتبرة ففي الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه أمر بصب ذنوب الماء على بول الأعرابي ، وفي الحديث الصحيح عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال :(( ليغسل ما أصابه منها)) وفي الحديث الصحيح عنه عليه الصلاة والسلام أنه أمر بغسل الدم فقال : (( اغسلي عنك الدم وصلي)) ، فهذا كله يدل على أن الغسل يعتبر مزيلاً للنجاسة ، وشرط الغسل أن يذهب عين النجاسة وأثرها ، فإذا ذهبت عين النجاسة وزال الأثر فقد تطهر الشيء بذلك .
__________
(1) / الفرقان ، آية : 48 .(32/5)
مثاله : لو أن إنساناً أصاب ثوبه قطرات من البول فإن البول كما هو غالبه يكون أصفر اللون فإذا صب الماء على ذلك البول وزال عين البول وزالة صورته وزال أثره من الثوب فذهبت صفرته وذهبت رائحته فقد طهر الثوب ، وهكذا الحال بالنسبة لبقية النجاسات ، فإذا قلع عين النجاسة وأزال أثرها فإنه يطهر الثوب ، وأما بالنسبة لبقاء الأثر فإن بقاء الأثر يضر لأن الأصل أن المكلف مخاطب بإزالة العين والأثر ، والأثر دال على بقاء شيء من مادة النجاسة ، وأخف آثار النجاسة الرائحة ، فقال بعض العلماء : إذا غسلت الثوب وأزلت عين النجاسة ولونها وبقيت رائحة البول في الثوب فإن ذلك لا يضر ؛ وذلك لصعوبة القلع غالباً ؛ لأن رائحة البول والبراز في الغالب إنما تزول بمزيل من الروائح الطيبة ، ولذلك أمر النبي صلى الله عليه وسلم المرأة المحتدة أن تنتبذ بقسط من أظفار كما مر معنا ، فهذا يدل على قوة الأثر في الرائحة وتخفيف الشرع فيه كما ذكر العلماء .
النوع الثاني من المزيلات : أن تكون إزالة النجاسة بالنضح والرش ، وقد ورد ذلك في أنواع من المتنجسات :
أولها : بول الغلام الذي لم يطعم الطعام وذلك في حديثنا الذي معنا ، حيث دل هذا الحديث الثابت في الصحيحين على تخفيف الشرع في بول الغلام الذي لم يأكل الطعام ، وأنه إذا بال على الثوب أو المكان فيجزي أن تأخذ كف الماء وترشه ، ولا يجب عليك غسل الثوب ، وهذا النوع الثاني من المزيلات قد ثبتت به النصوص .(32/6)
في نوع آخر : وهي النجاسة المشكوك فيها ، فالرش يستعمل في طهارة المكان المشكوك في نجاسته ، فلو كان عند الإنسان غرفة فيها بساط ونحوه ثم شك هل بال عليها أحد من الصبية أو لم يبل ؟ فشك في ذلك فإنه يأخذ الماء ويرش به البساط ؛ لما ثبت في الصحيحين من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه قال : "فقمت إلى حصير قد اسود من طول ما لبس فنضحته بماء " فقال فنضحته بماء ، قال العلماء : في هذا دليل على أن الأشياء المشكوك في نجاستها أنه يجزئ الإنسان أن يأخذ كف الماء ويرشها به ، وفي حكم ذلك إذا شك الإنسان هل خرج منه مذي فتنجست ثيابه التي تلي الفرج أو لم يخرج منه مذي ؟ كأن يكون رأى صورة ، أو سمع شيئاً ، أو تذكر شيئاً أثار شهوته ، ولكنه لم يتحقق من خروج المذي وعنده شك هل خرج أو لم يخرج ، فالأصل أنه لم يخرج ولكنه يستحب له أن يأخذ الكف من الماء وينضح به ثوبه ؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم أقر أنس بن مالك رضي الله عنه على نضحه ، فدل هذا - كما ذكر العلماء - على أن الشيء المشكوك في نجاسته أنه يجزئ أن يرشه الإنسان بالماء .(32/7)
النوع الثالث من التطهير : أن يكون التطهير بالمكاثرة وصب الماء ، ويأتي ذلك في أحوال مخصوصة وهي الأحوال التي يتعذر فيها غسل الشيء ، مثال ذلك الأرض فإنه إذا بال أحد على الأرض فإنك لا تستطيع أن تصب الماء على التراب وتعصر التراب حتى تخرج منه النجاسة ؛ فلذلك خفف فيه فأمر بصب الماء ، فتقدر قدر البول ثم تصب ذنوب الماء ونحوه على ذلك البول ، فإذا صببت الماء وكاثرته على النجاسة بشكل يغلب على ظنك أنه قد أزالها فإنه يجزيك ذلك ويعتبر مطهراً لذلك المكان ، سواء كان من الأرض اليابسة أو كان من الأرض الندية التي تشرب البول ، وفي حكم الأرض أن يكون البساط يصعب قلعه وهكذا بالنسبة للبلاط ونحوه في زماننا ، فمثل ذلك يصب إنسان الماء عليه ويكاثر حتى يغلب على ظنه أنه قد استهلكت مادة البول وزال الشيء النجس ، وفي حكم ذلك تطهير الوعاء المتنجس ، قال العلماء : لو أن الإنسان كان عنده سطل ماء وهذا السطل وقعت فيه نجاسة فغيرته ، قالوا فلو صب عليه أضعافه من الماء الطهور فإنه يصير ذلك الماء طهوراً ؛ والسبب في ذلك أن كثرة الماء توجب استحالة مادة النجاسة وغلبتها ، والحكم متعلق بالنجاسة فإذا زالت زال حكمها ، وبناء على ذلك قالوا إن المكاثرة تعتبر من أنواع إزالة النجاسة .
النوع الرابع من إزالة النجاسة : أن يكون ذلك باستحالة مادة النجاسة ، وصورة ذلك في الخمر فإن الخمر إذا تخللت فإنها تصير طاهرة ويجوز أكلها ؛ لما ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : (( نعم الإدام الخل)) والخل بإجماع العلماء إنما أصله من الخمر ، فإذا تخللت الخمر وصارت إلى الخل بنفسها فإنها تعتبر طاهرة ، ويصير الخل خمراً بصورتين :
الصورة الأولى : أن يخللها الإنسان . والصورة الثانية : أن تتخلل بنفسها .
فإذا خللها الإنسان فإنها تبقى نجسة على أصلها ، ولا يجوز تخليل الخمور .(32/8)
وأما الصورة الثانية وهي أن تتخلل بنفسها ، فإنه حينئذ يحكم بطهارتها ؛ لاستحالة مادة النجاسة ،- وسيأتي بيان هذه المسألة إن شاء الله في باب الأشربة -، وذكر ما ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم من الأحاديث فيها .
أما النوع الخامس من إزالة النجاسة : فهو يكون بالحك ، ويكون المزيل بشيء جامد ، ومن أمثلة ذلك إذا أصابت النجاسة النعلين فإن طهارة النعلين من النجاسة تكون بالحك في الأرض ، لما ثبت في الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه لما أمر بالصلاة في النعال مخالفة لأهل الكتاب قال : (( فإذا وجد فيهما أذى فليدلكهما في الأرض وليصل فيهما)) فدل هذا على أن النعل يطهر بالحك ، فمن مشى بنعله على البول ، أو أصاب نعله شيء من البراز والغائط فإنه يحكه بالأرض فإذا حككت النعل بالأرض حتى غلب على ظنك أن عين النجاسة أزيلت مع التراب فإنه يطهر الحذاء بذلك ، وحينئذ يكون الحك من هذا الوجه مطهراً ، وعند من يقول بنجاسة المني يستدل بحك أم المؤمنين-رضي الله عنها- لمنيه صلوات الله وسلامه عليه حيث دل ذلك على نوع من التطهير ، ومن أمثلة هذا النوع المزيل ما ثبت في الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم في ثوب المرأة أنه لما أمر أن تجر بذيلها على الأرض سئل صلوات الله وسلامه عليه عما يصيب العباءة والثوب من النجاسة ، لأن المرأة إذا كانت عباءتها سابلة فإنها لا تأمن أن تمر على موضع نجس ، فقال صلى الله عليه وسلم :(( يطهره ما بعده)) قال العلماء : إن الثوب لما تنجس بالأرض الرطبة فإن مروره على الأرض اليابسة بعد ذلك كأنه يحك عليها ، فالمرأة تجر عباءتها وتجر ثوبها وبهذا الجر يطهر الثوب وتطهر العباءة ، وفي حكم ذلك لو جر الإنسان إزاراً فإنه يطهر بالحك من هذا الوجه ، وقال بعض العلماء بتخصيص هذا الحكم بثوب المرأة دون ثوب الرجل ؛ لأن ثوب المرأة مأذون به ، وأما ثوب الرجل فلم يؤذن له أن يجر(32/9)
ثوبه لما ثبت في الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : (( لا ينظر الله إلى من جر ثوبه خيلاء)) قالوا : فلما نهي عن الجر لم يستبح الرخصة بالمحرم ، وقد رخص بعض العلماء في مشيه بالثوب مسبلاً إذا كان ذلك على سبيل الإغاضة للعدو في الحرب ، قالوا فلا حرج في ذلك كما ذكره بعض الفقهاء - رحمهم الله - ، ومن هنا تأتي الصورة في الحالة المستثناة المباحة من الأصل .
وأما النوع السادس من المزيلات التي تزال بها النجاسة : فهو تبخر النجاسة وزوالها ، ويتأتى ذلك في الماء إذا تبخرت منه النجاسة فلم يبق لونها ولاطعمها ولا ريحها ، فقال بعض العلماء : إنها تطهر ويحكم بطهارة الماء ، مثال ذلك لو كان عند الإنسان سطل من الماء ووقعت فيه نجاسة ثم إن هذه النجاسة تبخرت وتلاشت فحينئذ يقال بطهارتها من هذا الوجه .
ومن أمثلة ذلك : ما ذكره بعض العلماء في الزيت قالوا : إن الزيت إذا تنجس فإنه يطهر بالتسخين ، حيث إذا سخن وعلى فإن النجاسة تتبخر ويبقى الزيت ، وهذا هو أحد الوجهين في مذهب الإمام مالك والشافعي-رحمة الله على الجميع- ، حيث قالوا إن الزيت يطهر بالطبخ والنار ؛ لأن النجاسة تتبخر والزيت يبقى .
فهذه هي صور إزالة النجاسة المشهورة والتي وردت عن النبي صلى الله عليه وسلم ، كأن المصنف رحمه الله بهذه الترجمة يريد أن يبين لنا تخفيف الشرع في نوع من أنواع البول .
ومناسبة هذا الباب للباب المتقدم : أن الباب المتقدم دل على التشديد في البول مطلقاً ، سواء كان بول الصبيان أو كان بول الكبار ، وسواء كان بول إناث أو كان بول الذكور ، ولكن المصنف رحمه الله ذكر هذا النوع الخاص الذي يعتبر مستثنى من الباب المتقدم .(32/10)
قال المصنف رحمه الله : حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ وَأَحْمَدُ بْنُ مَنِيعٍ قَالاَ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ عَنِ الزُّهْرِيِّ عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُتْبَةَ عَنْ أُمِّ قَيْسٍ بِنْتِ مِحْصَنٍ قَالَتْ :"دَخَلْتُ بِابْنٍ لِي عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم لَمْ يَأْكُلِ الطَّعَامَ فَبَالَ عَلَيْهِ فَدَعَا بِمَاءٍ فَرَشَّهُ عَلَيْهِ ".
قَالَ رحمه الله : وَفِي الْبَاب عَنْ عَلِيٍّ وَعَائِشَةَ وَزَيْنَبَ وَلُبَابَةَ بِنْتِ الْحَارِثِ وَهِيَ أُمُّ الْفَضْلِ بْنِ عَبَّاسِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ وَأَبِي السَّمْحِ وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو وَأَبِي لَيْلَى وَابْنِ عَبَّاسٍ .
قَالَ أَبو عِيسَى رحمه الله : وَهُوَ قَوْلُ غَيْرِ وَاحِدٍ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَالتَّابِعِينَ وَمَنْ بَعْدَهُمْ مِثْلِ أَحْمَدَ وَإِسْحَقَ قَالُوا يُنْضَحُ بَوْلُ الْغُلاَمِ وَيُغْسَلُ بَوْلُ الْجَارِيَةِ وَهَذَا مَا لَمْ يَطْعَمَا فَإِذَا طَعِمَا غُسِلاَ جَمِيعاً .
الشرح :(32/11)
ذكر المصنف رحمه الله حديث أم قيس بنت محصن-رضي الله عنها وأرضاها- وهي صحابية اشتهرت بكنيتها ، وذكر الحافظ ابن الملقن رحمه الله أن اسمها آمنة ، وقال بعض العلماء : إنه لا يعرف لها اسم وخطأ الإمام الحافظ ابن الملقن هذا القول ، وقال : إن المشهور عند العلماء أنها اشتهرت بكنيتها ، وهذا لا يمنع أن يكون لها اسم ، وهي أخت عكّاشة أو عكَاشة بن محصن الصحابي الجليل ، الذي روى حديث سبعين ألف ، وكانت -رضي الله عنها وأرضاها- من النساء الفاضلات ، والصحابيات المباركات ، حدثت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بالكثير الطيب ، وقد جاء في بعض السير أن النبي صلى الله عليه وسلم دعا لها بطول العمر ؛ وذلك أنه لما توفي لها ابنها جزعت على ذلك الابن ، ثم قالت للغاسل لا تغسله بماء حار فتضره ، فلما ذكر عكّاشة ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم تبسمصلوات الله وسلامه عليه من قولها ودعا لها - رضي الله عنها وأرضاها - .(32/12)
" أتت بابنها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم " : وفي هذا دليل على كرم خلقه - صلوات الله وسلامه عليه- ، وكرمه في معاشرة أصحابه - - رضي الله عنهم - وأرضاهم - حيث كان لا يألو الجهد في إدخال السرور عليهم ، وهذا هو هديه - صلوات الله وسلامه عليه- ؛ والسبب في ذلك أن النفوس جبلت على محبة من يحسن إليها ، ولاشك أن الإحسان للأولاد يدل ويتضمن على الإكرام للوالدين ، فكانصلوات الله وسلامه عليه يؤتى بأولاد الصحابة-- رضي الله عنهم - أجمعين- فيدعو لهم صلوات الله وسلامه عليه بالبركة والخير ، وربما حنكهمصلوات الله وسلامه عليه إذا كانوا صغاراً ، فأتي بهذا الإبن فأجلسه في حِجره وحَجره ، لغتان في الحجر ، يقال حِجره ، ويقال حَجره ، وأصل الحجر المنع يقال حجره إذا منعه ومنه سمي الحجر المعروف في المعاملات حجراً ، قال الله في التنزيل :{ وَيَقُولُونَ حِجْرًا مَحْجُورًا}(1) أي يمتنعون عن سماع الذكر وكأنهم يضعون بينهم وبين كتاب الله ودعوة النبي صلى الله عليه وسلم الموانع ، وسمي الحجر حجراً لأنه يمنع الطائف من الدخول للموضع المعروف ، وسمي العقل حِجراً ونُهيةً وعقلاً لأنه يمنع صاحبه وينهاه ويعقله ، وسمي الحِجر حجراً لأنه إذا جلس فيه الصبي أو وضع فيه الشيء حفظ كأنه كالوعاء يمنع من التجاوز ، وأجلسه صلوات الله وسلامه عليه في حجره وهذا يدل على كرم خلقه-صلوات الله وسلامه عليه إلى يوم الدين - ، فلم يكن عليه الصلاة والسلام يتكبر عن حمل الصبيان أو وضعهم في حجرهم ، وقد ثبت في الحديث الصحيح أنه صلى بأصحابه - - رضي الله عنهم - - فلما صلى جاء الحسن أو الحسين وامتطى ظهرهصلوات الله وسلامه عليه فما زال ساجداً حتى أطال السجود ثم رفع ، وقال : - بعد أن فرغ من الصلاة- : (( إن ابني امتطى ظهري آنفاً فكرهت أن أزعجه)) قال العلماء : لما كان الحسن أو الحسين معتاداً لركوب ظهر النبي--
__________
(1) / الفرقان ، آية : 22.(32/13)
صلى الله عليه وسلم -- فعل ذلك أمام الناس ، ولو كان النبي صلى الله عليه وسلم لا يمكنه من ذلك في الخلوة لما اجترأ على فعله أمام الملأ ، وهذا يدل على كرم خلقه-صلوات الله وسلامه عليه - .
" أجلسه في حجره فبال على النبي صلى الله عليه وسلم " : أي بال الغلام على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، البول معروف ، والبول على صورتين :
الصورة الأولى : أن يكون مرادها أن الصبي بال في ثيابه ثم سرت النجاسة من ثوبه إلى ثوب رسول الله صلى الله عليه وسلم وحجره ، وهذه الصورة هي الظاهرة وهي القوية .
والصورة الثانية : أن يكون الصبي مجرداً عن الثياب التي تستر عورته ، فيكون بوله على ثوب النبي صلى الله عليه وسلم مباشراً .
والفرق بين الصورتين : أن الصورة الأولى يكون البول فيها إنما هو عن طريق التسرب والرطوبة التي هي أخف من الصورة الثانية ، ومن هنا استنبط العلماء رحمهم الله من الصورة الأولى أن رطوبة النجاسة نجسة ، وصورة ذلك لو وضعت يدك على شيء فيه نجاسة وكان ذلك الشيء المتنجس رطباً فوجدت أثر الرطوبة في الكف أو الثوب فإنه يحكم بنجاسة الكف والثوب ، لأن النبي صلى الله عليه وسلم حكم بتنجس ثيابه عن طريق رطوبة النجاسة ، فدل هذا على أن رطوبة النجاسة تأخذ حكم وقوع النجاسة بعينها ، ويتفرع على ذلك مسائل :
منها المسألة المشهورة لو كان أحد الموضعين طاهراً ، والموضع الآخر متنجساً ، والمتنجس رطب ، والطاهر يابس ، فلامس الرطب اليابس فإننا نحكم بنجاسة ذلك اليابس الطاهر بسبب وجود الرطوبة النجسة ، ويشترط في ذلك أن ترى أثر الرطوبة على الثوب ، فلو أجلست الصبي في حجرك ثم وجدت الثوب قد تغير بوجود النداوة والرطوبة فإنه متنجس ، وهكذا لو وجدت عين البول بالقطرات فلا إشكال لوجود عين النجاسة .
قالت " فبال عليه ": أي على رسول الله صلى الله عليه وسلم .(32/14)
قالت" فدعا بماء ": قولها" فدعا بماء " يدل على فضله عليه الصلاة والسلام وحلمه ورحمته ؛ والسبب في ذلك أن هذه الصحابية لم تذكر غضب النبي صلى الله عليه وسلم ، ولازجره للغلام وإنما ذكرت مباشرة تطهيره للثوب فدل على أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يظهر تضجراً ولا سآمة ، وهذا هو دأبه عليه الصلاة والسلام من الرفق بالأولاد والصغار على خلاف ما يعتاده البعض من القسوة عليهم وضربهم وأذيتهم ، فبعض النساء-أصلحهن الله- إذا رأت صبيها قد بال في ثوبه أو بال على فراشه ضربته وسبته وشتمته ولربما لعنته-والعياذ بالله- ، وهذا كله يخالف هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فالصبي والغلام لا عقل عنده ؛ ولذلك لا ينبغي أن يعامل معاملة العقلاء ، وإنما يعامل معاملة من هو خليق بالرفق والرحمة والحنان والتعليم ، وقد ثبت في الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه لما جاء الأعرابي إلى مسجده وكشف ثوبه يريد أن يبول صاح الصحابة به فقال- عليه الصلاة والسلام -:(( لا تزرموه)) فرفق بالرجل حتى قضى بوله ثم أمر بذنوب من الماء فصبه على البول ، ثم دعا الأعرابي وعلمه وذكره ووعظه ، فانطلق الأعرابي يقول :"اللهم ارحمني وارحم محمداً ولا ترحم معنا أحداً " من كريم ما رأى من حلمهصلوات الله وسلامه عليه ورحمته ، مع أن هذا الأعرابي رجل وعنده العقل الذي يدرك معه أن فعله لا ينبغي ، ومع ذلك أخذه بالسماحة والتعليم والتوجيه ، وهذا هو دأبه صلوات الله وسلامه عليه كما في الصحيح من حديث معاوية رضي الله عنه أنه لما شمّت العاطس في الصلاة قال : " واثكل أماه " حينما رمقه الصحابة بأبصارهم ، قال فلما قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاته ، قال :(( من منكم قال كذا وكذا آنفاً ؟ )) قال : قلت أنا يا رسول الله ، قال : فبأبي وأمي ما رأيت معلماً كرسول الله صلى الله عليه وسلم والله ما كهرني ولا شتمني ولكن قال(32/15)
لي : إن هذه الصلاة لا يصلح فيها شيء من كلام الناس ، إنما هو التسبيح والتحميد وقراءة القرآن ، أو وذكر الله ، أو كما قالصلوات الله وسلامه عليه ، فالمنبغي العطف على الأولاد ، والشفقة عليهم ، والإحسان إليهم ، وترك الأذية والإضرار بهم خاصة في مثل هذه المواقف ، والصبي إذا أزعج بالضرب والإهانة تشتت فكره ، وعزب عنه رشده ، وصار إلى الأذية والإجرام أقرب منه إلى الإحسان والسلام ، فالمنبغي على الوالدين أن يتأسيا برسول الرحمة صلوات الله وسلامه عليه .
قالت-رضي الله عنها- "فدعا بماء فنضحه وفي رواية ولم يغسله" : قولها"فنضحه" يدل على أن بول الغلام يرش ولا يغسل ؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم نضحه ، والنضح أن تأخذ الكف من الماء وترش به الشيء ، فيسمى حينئذ نضحاً ، وفي بعض الروايات " فصب الماء عليه " وفيها تجوز من جهة النظر إلى المعنى ، ولاتخالف هذه الرواية .
وفي هذا الحديث مسائل :
المسألة الأولى : هل بول الغلام طاهر أو نجس ..؟؟
المسألة الثانية : وإذا قلنا إن بول الغلام نجس فهل طهارته تكون بالغسل أو تكون بالنضح..؟؟
المسألة الثالثة : هل هذا الحكم خاص بالغلام الذي لم يأكل الطعام أو يشمل الأنثى التي لم تأكل الطعام..؟؟
المسألة الرابعة : ما حكم بوله إذا كان خنثى مشكلاً هل يجب غسله أم يكفي فيه النضح قياساً على بول الغلام الذي لم يأكل الطعام ..؟؟
المسألة الخامسة : ما هو وجه التفريق بين بول الغلام وبول الجارية ..؟؟
المسألة السادسة : هل ينسحب الحكم على الذكور حتى بعد الفطام ..؟؟
أما بالنسبة للمسألة الأولى : لبول الغلام الذي لم يأكل الطعام هل هو نجس أو طاهر ..؟؟
قولان للعلماء رحمهم الله :
القول الأول : جماهير السلف والخلف على أن بول الغلام نجس ، وحكى بعض الأئمة الإجماع على ذلك .(32/16)
والقول الثاني : إن بول الغلام الذي لم يأكل الطعام يعتبر طاهراً ولا يعتبر نجساً ، وهذا هو مذهب الظاهرية -رحمة الله على الجميع - .
أما الذين قالوا إن بول الغلام الذي لم يأكل الطعام نجس فقد استدلوا بهذا الحديث الصحيح ، وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم رش بوله ، ولو كان بوله طاهراً لما رشه ولما تكلف صب الماء عليه ، فدل على أنه نجس وليس بطاهر ، وهذا هو المفهوم من كونه عليه الصلاة والسلام يرش البول ولا يكتفي بتركه .
أما الذين قالوا بطهارته فقالوا إنه لو كان نجساً لغسلهصلوات الله وسلامه عليه ، وكونه ينضحه يدل على أنه طاهر وليس بنجس .
والصحيح ما ذهب إليه جمهور العلماء رحمهم الله من أن بوله يعتبر نجساً ؛ وذلك لأنه لو كان طاهراً لما تكلف عليه الصلاة والسلام صب الماء عليه ، وهذا هو أسعد القولين بالدليل ، ولأن الأصل في الرش والغسل أن يكون لمعنى النجاسة أو تخفيفها ، ولذلك رش أنس رضي الله عنه الحصير لشك النجاسة في الحصير ، فدل هذا على رجحان قول الجمهور بالنجاسة .
المسألة الثانية : وإذا قلنا إن بول الغلام الذي لم يأكل الطعام يعتبر نجساً فهل يغسل أو يرش ..؟؟
للعلماء قولان :
القول الأول : ذهب الإمام أحمد والشافعي-رحمة الله عليهما- وهو قول إسحاق بن راهويه وطائفة من أهل الحديث إلى أن بول الغلام يرش ، وأنه يكفي فيه النضح ولا يجب غسله .
والقول الثاني : هو مذهب الإمام مالك وأبي حنيفة وقول عند الشافعية-رحمة الله على الجميع- أن لابد من غسل بول الغلام .
واستدل الذين قالوا بأنه يرش بظاهر هذا الحديث الذي معنا وبحديث أبي السمح مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد رواه أبوداود والإمام أحمد في مسنده والحاكم وصححه ، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال :(( يرش من بول الغلام)) فدل على أن الرش يكفي ولا يجب صب الماء والغسل وهذا كله يؤكد مذهب المسامحة وأن ذلك على سبيل الرخصة .(32/17)
أما الذين قالوا بوجوب الغسل فقالوا إن النبي صلى الله عليه وسلم نضح الماء وجاء في رواية صب الماء فنأخذ بالأصل من وجوب غسل البول ، ولانقول بالنضح لأن رواية النضح محمولة على الغسل بدليل أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر في المذي أن ينضح الفرج منه فدل على أن المراد بالنضح الغسل .
والصحيح ما ذهب إليه أصحاب القول الأول بأن الرواية في الصحيحين عن أم المؤمنين عائشة وفي بعض ألفاظها " فنضحه بماء ولم يغسله " وهكذا في الرواية التي معنا فدل على عدم وجوب الغسل وأن بول الغلام مخفف فيه .
المسألة الثالثة : هل الحكم يختص بالغلام ؟؟ أو يشمل الغلام والجارية ..؟؟
للعلماء قولان : الذين قالوا بإن البول يرش ، اختلفوا في ذلك على قولين :
القول الأول : فمنهم أنه يختص بالذكر دون الأنثى وهذا هو مذهب الحنابلة وإسحاق بن راهوية .
القول الثاني : وقال طائفة من السلف بإلحاق الإناث بالذكور ، وأن الأولاد إذا لم يفطموا أنه يجزئ في بولهم رشه ولايجب على المكلف غسله وبهذا القول قال الإمام النخعي ويحكى عن غير واحد من أئمة السلف وحكي عن الإمام الشافعي-رحمة الله على الجميع - .
والصحيح ما ذهب إليه أصحاب القول الأول لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال : يغسل من بول الجارية وينضح من بول الغلام وفي رواية ويرش من بول الغلام وهو حديث صحيح يدل على التفريق بين الذكر والأنثى .
المسألة الرابعة : ما حكم البول إذا كان من الخنثى ..؟؟
الخنثى له حالتان :
الحالة الأولى : أن يتبين كونه ذكراً أو كونه أنثى كأن يبول من أحد الموضعين أو توجد فيه علامة الإناث أو علامة الذكور غالباً فحينئذٍ يعطى حكم تلك العلامة على حسبها .(32/18)
أما الحالة الثانية : وهي أن يكون مشكلاً : فالخنثى المشكل الصحيح أن حكمه حكم المرأة والأنثى لأنه اليقين ولايحكم بارتقائه إلى درجة الذكور لإرتفاعها على القاعدة الشرعية المشهورة : " اليقين لايزال بالشك" فاليقين أنه في حكم الإناث وشككنا في ارتفاعه إلى درجة الذكور فنص العلماء رحمهم الله على بقائه في حكم الأنثى وأنه لايرتقي إلى حكم الذكور وبناء على ذلك فيجب غسل بول الخنثى كما يجب غسل بول الجارية .
المسألة الخامسة : ذكر العلماء رحمهم الله عللاً في الفرق بين بول الذكر والأنثى .
فقال طائفة من العلماء : يرش من بول الغلام لأن الذكور تتعلق بهم النفوس أكثر ويحملهم الناس في المجامع فنظراً لوجود التعلق في الذكور أكثر من الأنثى خفف في حكمه أكثر من الإناث لعموم البلوى وبناءً على ذلك يكون ذلك من باب دفع المشقة والحرج .
وأما القول الثاني : فقالوا إن بول الإناث أشد حرقة وأشد مادة وأنتن ، على خلاف بول الذكر فخفف في الثاني وشدد في الأول .
وأما القول الثالث : فقالوا إن بول الأنثى ينتشر وبول الذكر لا ينتشر وهذه العلل كلها لاتخلو من النظر.
والصحيح أن الله فرق بينهما وأن الحكم أقرب إلى التعبد رفقاً من الله سبحانه وتعالى بعباده ولاحاجة لتكلف في البحث عن العلل على الله الأمر وعلى رسولنا صلوات الله وسلامه عليه البلاغ وعلينا الرضا والتسليم ، ولايسع المؤمن إلا أن يسلم بما جاء به الشرع امتحاناً من الله سبحانه وتعالى لعباده ، والله تعالى أعلم .
- ? - ? - ? - ? - الأسئلة - ? - ? - ? - ? -
السؤال الأول :
ذكرتم من فضلات الرأس فضلة الأذن ولم تتعرضوا لها أثناء الدرس فنرجوا توضيح ذلك ..؟؟
الجواب :
الحمدلله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه أما بعد :(32/19)
فهذا سؤال جيد يستحسن لطالب العلم أن يكون منتبهاً لما يذكر فإن الإنسان عرضة للخطأ والنسيان فلربما ذكرنا أقساماً وأغفلنا التقسيم في بعضها فلذلك ينبغي للإنسان إذا فاته شئ أن يتداركه بالسؤال .
نحن ذكرنا أن للرأس فضلات منها ما يتعلق بالعين كالدموع ونحوها ومنها ما يتعلق بالأنف كالمخاط والرعاف ومنها ما يتعلق بالفم كالقيء والقلس واللعاب ومنها ما يتعلق بالأذن وذكرنا أحكام الثلاث الأول ولم نذكر فضلة الأذن وهي التي تكون في مجرى الأذن من الفضلات التي جعلها الله-تعالى- لحكمة منه حتى أن بعض الأطباء يذكر أن الدواب قل أن تستطيع الدخول لهذا المكان لخروج رائحة مخصوصة من فضلة الأذن تمنعها من الدخول وهذا لطف من الله سبحانه وتعالى الذي أعطى كل شيء خلقه ثم هدى والله قدر الأشياء ووضع الأمور على أحسن وأتم ما يكون وتبارك الله أحسن الخالقين ، هذا خلق الله فأروني ماذا خلق الذين من دونه فمن حكمة الله سبحانه وتعالى أن الأذن تخرج هذه الفضلة وهذه الفضلة سواء كانت رطبة أوجامدة فإنها تعتبر طاهرة ويلتحق بهذا لو تقيحت الأذن وأخرجت قيحاً فلا يخلو من حالتين :
الحالة الأولى : إما أن يكون تعفناً في الأذن من نفس الفضلة وأصل الفضلة فهذه ذكر بعض العلماء أنها تأخذ حكم أصلها ولايحكم بنجاسته .
والحالة الثانية : أن يكون القيح بجروح داخل الأذن ، فإذا كان القيح والصديد الخارج من الأذن في الحالة الأولى مثل ما إذا سبح الإنسان وبعد السباحة تقيحت أذنه وأخرجت الفضلة فهي طاهرة لأن أصل مادتها طاهرة والسماخ الموجود في الأذن طاهر ، وأما إذا كان القيح ناشئاً عن جروح وقروح داخل الأذن فهو متولد من الدم لأن فضلة مقاومة الجسم كما ذكرنا في حكم القيح وبناءً على ذلك يعتبر القيح في حالة الجروح التي تكون داخل الأذن يعتبر نجساً وآخذاً حكم النجاسة ، والله تعالى أعلم .
السؤال الثاني :(32/20)
بعد اغتسال المرأة من الجنابة يخرج منها بقايا من ماء الرجل ، فما حكم ذلك ..؟؟
الجواب :
خروج ماء الرجل بعد الغسل لايوجب انتقاض الغسل من المرأة وغسلها صحيح ولكن نص جمع من العلماء رحمة الله عليهم على وجوب إعادة الوضوء ، وبناءً على ذلك فإنه يلزمها إعادة الوضوء كما لو خرج منها دم الاستحاضة لأنها فضلة بدن وعلى ذلك فإنهم قالوا إن استدخال الشئ ثم اخراجه يوجب انتقاض الوضوء من الفرج لخروجه من السبيل فيستوي في ذلك أن يكون من الطاهرات كالمني أو يكون من النجاسات كدم الاستحاضة والرطوبة فكل ذلك يوجب عليها انتقاض وضوئها وإعادتها للصلاة ، والله تعالى أعلم.
السؤال الثالث :
إذا توضأت ثم باشرت نجاسة بيدي هل أعيد الوضوء أم أغسل العضو..؟؟
الجواب :
هذه مسألة تشكل على كثير من الإخوة وهي مسألة لمس النجاسة ، ولمس النجاسة لا يوجب انتقاض الوضوء ، فمن لمس دماً أو لمس بولاً أو وقعت يده على براز ونحو ذلك فهذا كله لا يوجب انتقاض الوضوء ، والدليل على ذلك ما ثبت في الصحيحين من حديث أبي هريرة - - رضي الله عنه - وأرضاه- أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول : (( لا يقبل الله صلاة أحدكم إذا أحدث )) قال العلماء : إن هذا يدل على أن الوضوء لا ينتقض إلا بحدث أو ما في حكم الحدث ، وليس لمس النجاسة ولا حملها بحدث ولا في حكم الحدث ، ولذلك بالإجماع لا يلزم الإنسان إذا وقعت النجاسة على يده أو لمس النجاسة بيده أن يعيد وضوءه بل يجب عليه أن يغسل يده ، وحينئذ يصلي بعد ذلك بوضوئه الأول ، والله تعالى أعلم .
السؤال الرابع :
هل لمس عورة الطفل ينقض الوضوء ..؟؟
الجواب :(32/21)
عورة الطفل لمسها يوجب نقض الوضوء ، ولذلك قوله عليه الصلاة والسلام :(( من مس ذكره فليتوضأ )) خرج مخرج الغالب ، والقاعدة في الأصول : " أن النص إذا خرج مخرج الغالب لم يعتبر مفهومه " ، وإنما نص النبي صلى الله عليه وسلم على مس الإنسان لذكره لأنه الغالب ، وأما كونه نادراً كمسه لذكر الغير كالطبيب يعالج المريض فيحتاج إلى لمس عضوه فهذا يوجب انتقاض وضوئه والمعنى واحد في لمسه لذكره وذكر الغير ، وعلى ذلك فإن المرأة يلزمها أن تعيد الوضوء ولو تكرر ذلك من صبيها فهو ناقض لوضوئها ، والله تعالى أعلم .
السؤال الخامس :
ذكرتم من مسائل الحديث المسألة السادسة وهي هل يعمل بالحكم بعد الإطعام وقبل البلوغ أم لا فما هو الراجح ..؟؟
الجواب :
بسم الله الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه أما بعد :
فمسألة هل يلتحق بذلك الكبير أو لا يلتحق ؟ فجماهير السلف والخلف على أن الحكم خاص بالصبي الذي لم يطعم ، والمراد بقولهم لم يطعم وكما ورد في بعض الأخبار أنه لا زال يرضع ، وأنه لم يفطم بمعنى أنه لم يجتزئ بالغذاء والطعام لوحده ، فإذا اجتزأ بالغذاء والطعام وحده فإنه حينئذ ينتقل الحكم إلى الأصل من وجوب غسل بوله ، أما لو كان في الرضاعة ويأكل بعض الأطعمة تبعاً للرضاعة ، أو يعطى بعض المواد التي هي مستخلصة من الأطعمة كما هو موجود في زماننا فإنه يعتبر باق على هذا الحكم ؛ لأنه لا يزال رضيعاً ولم يغتذ بهذا الطعام الذي أعطيه استقلالاً ، وبناءً على ذلك فإنه يبقى الحكم على ما هو عليه من كونه يرش من بوله ولا يغسل .(32/22)
أما مسألة هل يسري الحكم إذا كبر فجماهير السلف والخلف على أن الحكم خاص بمرحلة الرضاعة ، إذا كان الصبي لم يطعم بمعنى أنه لم يكتف بالطعام ، بحيث يستقل به استقلالاً ويغتذي به ويكون كافياً له ، وأما إذا كان لا زال بحاجة إلى الرضاعة ويعطى الطعام مساعدة أو إذا قطع عن الرضاعة وأصبح يطعم فالصحيح مذهب الجماهير ، وخالف بعض أهل الظاهر ومخالفتهم ضعيفة ؛ لأنها على خلاف الأصل الذي دلت عليه النصوص الواردة عن النبي صلى الله عليه وسلم ، والله تعالى أعلم .
السؤال السادس :
تعرضتم لمسألة حمله عليه الصلاة والسلام للصبيان ورفقه بهم ، فهل من كلمة حول الرفق بالأولاد وهديه صلى الله عليه وسلم في الإحسان إليهم ..؟؟
الجواب :(32/23)
الأولاد نعمة من نعم الله-سبحانه- ، ومنة من أجل مننه ، إذا أراد الله-- سبحانه وتعالى - - أن ينعم عين عبده رزقه الذرية الصالحة ، ولذلك كان من دعاء الأخيار :{ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ }(1) فوصف الله الذرية الصالحة بأنها تقر بها الأعين ، وأخبر عن نبيه أنه تمنى هذه الذرية فقال :{رَبِّ هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعَاءِ}(2) ، وشكر سبحانه على هذه النعمة شكره عليها الأنبياء ، وشكره عليها الأتقياء فقال سبحانه وتعالى عن الخليل عليه الصلاة والسلام :{ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي وَهَبَ لِي عَلَى الْكِبَرِ إِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِنَّ رَبِّي لَسَمِيعُ الدُّعَاءِ}(3) فهذا يدل على أن هذه النعمة عظيمة عند الله-سبحانه- ، عظيمة عند عباده الأخيار الصفوة الأبرار ، وأن العبد إذا أنعم الله عينيه برؤية الذرية والنسل لا يملك إلا أن يلهج بالثناء والشكر والحمد لله سبحانه وتعالى ، فإذا رأيت ابنك أو رأيت ابنتك فقل الحمد لله الذي لم يقطع نسلي ، فكم من إنسان تقطع قلبه حرقة على الذرية ، فإذا رأيت هذه الذرية فاحمد الله واشكره واسأله خيرها واستعذ به من شرها ، فكم من ذرية كانت سبباً في سعادة الوالدين ، وكم من ذرية كانت سبباً في شقاء الوالدين-نسأل الله السلامة والعافية- ، فاسأل الله لها الصلاح والرضا والفلاح ، وخذ بأسباب ذلك عند الكبر .
__________
(1) / الفرقان ، آية : 74 .
(2) / آل عمران ، آية : 38 .
(3) / إبراهيم ، آية : 39.(32/24)
أما هديهصلوات الله وسلامه عليه في تربية الأولاد والرفق بهم والإحسان إليهم فكان هديه بأبي وأميصلوات الله وسلامه عليه أكمل الهدي وأحسنه وأجمله وأفضله ، كان صلى الله عليه وسلم يدعو إلى الرحمة ، واللطف بالأولاد ، وإلى إحسان تربيتهم وتوجيههم وتعليمهم ، حتى قال صلى الله عليه وسلم : (( من ابتلي بشيء من هذه البنات فرباهن فأحسن تربيتهن ، وأدبهن فأحسن تأديبهن إلا كن له ستراً من النار )) ، وفي الحديث الصحيح : (( من عال جاريتين فأدبهن فأحسن تأديبهن ، وعلمهن فأحسن تعليمهن حتى تبلغا حرمه الله على النار )) فهذا يدل على فضل تربية الأولاد والقيام عليهم والإحسان إليهم ، كان صلى الله عليه وسلم يرفق بالأولاد ويعطف عليهم ففي الحديث الصحيح عنه- عليه الصلاة والسلام - أنه لما ركب الحسن أو الحسين ظهره قال : (( إن ابني هذا امتطى ظهري آنفا فكرهت أن أزعجه)) كرهت أن أزعجه هو قائم بين يدي الله عز وجل ساجداً والصحابة ينتظرون رفعه مع ذلك خشي أن يزعج ابنه صلوات الله وسلامه عليه ، وفي الحديث الصحيح عنه عليه الصلاة والسلام أنه كان يقرأ في الفجر كما في الصحيحين من حديث جابر أنه لما سئل عن صفة صلاته- عليه الصلاة والسلام - قال : " وكان يقرأ بالستين إلى المائة آية في صلاة الفجر " ففي الصحيح أنه صلى صلاة الفجر فسمع بكاء صبي فقرأ :{ إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ}(1) فلما سلم عليه الصلاة والسلام قال بأبي وأمي : (( إني سمعت بكاء صبي فأشفقت على أمه )) كان صلى الله عليه وسلم حليماً رحيماً براً كريماً بالأولاد كثير العطف عليهم ، وإذا كان الإنسان رحيماً رحمه الله ، فالراحمون يرحمهم الله ، وأحق الناس برحمتك وأحق الناس بعطفك وإحسانك وبرك أولادك ، أحق الناس بإحسانك وبرك وعطفك وإدخال السرور عليهم أولادك ، خاصة البنت فالبنت أحوج إلى العطف وأحوج إلى الحنان وأحوج إلى
__________
(1) / الكوثر ، آية : 1 .(32/25)
الرعاية من الذكر ، ولذلك لما ثبت في الحديث الصحيح عنه- عليه الصلاة والسلام - أنه لما بلغه الخبر عن علي أنه يريد أن يتزوج على فاطمة من ابنة أبي جهل ، وأن هذا الزواج مبني على المضارة صعدصلوات الله وسلامه عليه المنبر وقال : (( والله لا آذن والله لا آذن إنما فاطمة بضعة مني يريبني ما رابها ويؤذيني ما آذاها )) صلوات الله وسلامه عليه بضعة مني كأنها اقتطعت منهصلوات الله وسلامه عليه ، كثير العطف على البنات فالبنت في قرارة البيت ، أما الابن لو ضربته لربما ضربك ورد عليك الضرب ، ولربما خرج إلى الأطفال فعبث معهم وتسلى معهم فنسي ما به من حزن وكدر ، ولكن البنت تنطوي على آلامها ، وعلى أشجانها وأحزانها ، ولذلك أمر بالعطف على النساء والشفقة عليهن كما ثبت في الصحيح عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال : (( إني أحرج حق الضعيفين المرأة واليتيم )) لأن المرأة ليس لها من أحد إلا الله ثم زوجها إذا كانت ذات زوج ، وليس لها إلا الله ثم أبوها إذا كانت في صغرها ، وليس لها إلا الله ثم أخوها إذا كانت يتيمة ، فالبنت تحتاج إلى عطف تحتاج إلى حنان تحتاج إلى إحسان أكثر من الولد ؛ لغلبة الضعف فيهن ولغلبة العاطفة ، فالبنت إذا ضربتها بكت واشتكت وجاءت نادمة وسرعان ما تندم وسرعان ما تجد مشاعرها حساسة ، ولكن الولد إذا ضربته يذهب ويغرب عن وجهك ولربما يحقد عليك ، وينتظر الكبر حتى يصب ما في قلبه من الغيظ والحنق عليك ، ولكن البنت على خلاف ذلك إذا ضربتها بكت واشتكت واطرحت بين يديك تعتذر مما بدر منها، فهن أعطف وهن أكثر حساسية ، ويحتاج الإنسان إلى العطف على النساء وعلى البنات والإحسان إليهن وإدخال السرور عليهن ، فمن قسا على أبنائه فإن الله عز وجل قد نزع الرحمة من قلبه ، قال : يا رسول الله إن لي عشرة من الولد ما قبلت واحداً منهم ، فقال : (( أوَ أملك أن نزع الله الرحمة من قلبك )) بعض الناس يظن أن الرجولة أن يضرب(32/26)
أولاده وأن الرجولة أن يعودهم على الخشونة وهذا خطأ ، فإن النار لا تطفأ بالنار ، والصبي جاهل لم يدرك الأمور ، ولذلك ليس أفضل من العطف والإحسان ، وإذا كانت الشدة تأتي بخير واحد فإن العطف والإحسان يأتي بالخير الذي لا يحصى كثرة ، فما أحسن البر وما أجمله وما أفضله ، ولقد ثبت في الحديث الصحيح عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال :(( وإن البر يهدي إلى الجنة )) ، فالإحسان إلى الأولاد وإدخال السرور عليهم واللطف بهم من رحمة الله بالعبد ، فإذا أسكن الله الرحمة في قلبك ظهرت أول ما تظهر على أقرب الناس منك زوجتك وأولادك ، فإذا كنت رحيماً أو أردت أن ترى مقدار ما وضع الله في قلبك من الرحمة فانظر إلى معاملتك لأولادك ، بعض الناس قد يكون شديد الرحمة في قلبه رحمة وعطف ولكنه لا يترجم ذلك بالفعل ، لا يترجم ذلك بالكلام وبإبداء ما في قلبه من المشاعر ، فالناس درجات في هذه الرحمة فمنهم من أسكن الله الرحمة في قلبه أظهرها على لسانه وجوارحه وأركانه ، فوجدت لسانه لا يجرح أحداً ، وكم من أب من هذا الصنف ومن هذا النوع تجده يعيش مع أولاده العشرين والثلاثين والأربعين سنة والله ما ضرب واحداً منهم يوماً من الأيام ، ومنهم من يعيش أربعين سنة وخمسين سنة ما رأى ابنه منه زلة أو خطيئة عليه ، هكذا يكون الرحماء ، وهكذا يكون الأوفياء ، وهكذا يكون الصالحون الأتقياء الذين يرجون رحمة الله بإدخال السرور على أهليهم ، ومن هنا قال صلى الله عليه وسلم : (( خيركم خيركم لأهله )) أي خيركم خيركم لأهله لأن أول ما يظهر الخير على أقرب الناس منك ، فالله الله في الأولاد ، والأولاد قلوبهم ضعيفة فإن الابن إذا أخذ بالشدة والقسوة نفر من الوالدين ونفر من تعليمه وتوجيهه ، وكره ما في البيت من خير وكره والده ، ولربما تسلط على البيت بالأذية وبالإساءة ، فالشر لا يأتي إلا بالشر ، ولذلك ينبغي على المسلم أن يتقي الله في ذريته ، وأن يتقي الله في(32/27)
أهله وأولاده ، ومن اليوم إن كنت محسناً فاحمد الله على إحسانك ، واتهم نفسك دائماً أنك مقصر فإن الله يكملك ، فإذا دخلت البيت فادخل وأنت الحليم الرحيم الشفوق الكريم ، كان صلى الله عليه وسلم يقود الجيوش ويوجه الناس ويحبر الخطب ويبين السنن والآثار ، فإذا دخل إلى بيته دخل بالسماحة والرحمة والعطف ، فوسع أهله بعطفه وحلمه ورحمته صلوات الله وسلامه عليه ، فأولى الناس بالنبي صلى الله عليه وسلم من كان على سنته ، ومن كان على هديه ، فالله الله في الأولاد ، والقسوة على الأولاد توجب نفرتهم ، كان الناس إلى عهد قريب يعطفون على الأولاد ، اليوم كثير من الناس يشتكي من سوء أدب الأولاد ، ومن نفرتهم ومن أذيتهم وكثرة ما يكون منهم من الأذية ، والسؤال قبل أن نقول الأولاد ما الذي قدمنا لهم ما الذي قدمنا لهم من العطف والإحسان والشفقة حتى نكسر أعينهم ونكسر قلوبهم لنا فيتأدبوا معنا ولو كانوا أشر الخلق ، وما الذي قدمناه لهم من النصيحة والتوجيه والدلالة على الخير ، ركب ابن عباس-رضي الله عنهما-وهو غلام مع النبي صلى الله عليه وسلم وهذا الركوب شرف الله به ابن عباس وفضله وأكرمه بصحبة النبي صلى الله عليه وسلم وكونه رديفاً له على الدابة فقال : (( يا غلام ألا أعلمك كلمات ينفعك الله بهن )) انظر إلى الرحمة حتى الأسلوب ما قال له النبي صلى الله عليه وسلم مباشرة : (( احفظ الله يحفظك يا غلام)) عليك واجبات عليك التزامات لا ، يا غلام حتى في بعض الروايات ألا أعلمك ألا كأنه يستأذنه وكأنه يستعطفه وكأنه يجذب قلبه كان صلى الله عليه وسلم يراعي مشاعرهم حتى في الأسلوب حتى في الخطاب فينبغي علينا أن نأتسي برسول الله صلى الله عليه وسلم في التربية والتعليم والتوجيه ، ولا يقتصر هذا الأمر على أولادك بل واجب علينا أن ننظر إلى أبناء المسلمين ، كان الناس إلى عهد قريب ترى الأولاد عندهم أدب وحياء وخجل(32/28)
من الكبير ؛ لأن ذلك الزمان كان الكبار يعطفون على الصغار ، فقد أدركنا وإن كان الذي هو أكبر منا سناً قد أدرك ما هو أفضل مما أدركناه وأكمل مما أدركناه ، كان الرجل الكبير إذا رأى الغلام والصغير مسح برأسه ، ودعا له بالخير وتمنى له الخير ، لا زلت إلى يومي هذا أتذكر كبار السن من أهل العلم وغيرهم من أهل الفضل من عوام الناس من كان يدنيني ويمسح برأسي والله ما ذكرته الآن وهو ميت إلا ترحمت عليه ودعوت له ؛ لأن هذا المسح له معنى ويدل على أننا أمة واحدة ، وعلى أن ابن هذا ابن لهذا ، وعلى أننا كالجسد الواحد وأنه لا فرق بين الواحد والآخر من شدة التعاطف والتراحم ، قال صلى الله عليه وسلم :(( مثل المسلمين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم كمثل الجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى سائر الجسد بالسهر والحمى )) فكان الرجل يدنيني ويمسح برأسي فيسألني عن اسمي ولربما سأل عن والدي فإذا علم دعا وقال كن مثل أبيك فدعا لي خير ، فتجده ولو كان عامياً لا يستطيع أن يعلم ويوجه إذا به يقول كن كأبيك ، كن مثل فلان هذه دعوة وهذا وهذا إصلاح وشحذ للهمة إلى الخير ، فالإنسان لا يبخل على أولاده ولا يبخل على أولاد المسلمين ، كفى من العناية بالأولاد في مظاهرهم وفي دنياهم ولم تعتن لهم في دينهم وتوجيههم وتعليمهم وإرشادهم :{ قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَاراً}(1) الأبناء والأولاد أول ما يحتاجون إلى أخلاقك وإلى معاملتك الحسنة ، وثق ثقة تامة أن للأبناء من النظر والبصيرة ما قد لا تستطيع في بعض الأحيان إدراك عمقه ، فإن الصبي إذ جئت تدله عل خير أول ما ينظر إلى أفعالك معه فإن كان وجدك إنساناً يستقيم قولك مع فعلك أحبك وأكرمك وعمل بما تقول ورد عليك الرد الحسن ، ولكن إذا كان الوالد من أفظع الناس ومن أخشن الناس ومن أسوئهم خلقاً مع زوجته ولربما يضرب الزوجة أمام أولادها ولربما يشتمها أو يعيبها أو يذكر مثالبها
__________
(1) / التحريم ، آية : 6 .(32/29)
أمام أولادها ويهينها كيف يتربى الأولاد ؟ وكيف تنتظر من الأولاد أن يكونوا على خير وبر ؟ ما الذي نرى الآن من بعض الأولاد ؛ أفعالاً من الإجرام والأذية قد تكون بسبب هذه العواطف التي فقدوها في بيوتهم وفقدوها مع أهليهم ووالديهم ، فهذه تؤثر على نفسية الأطفال .
أجمع الحكماء والأطباء والعقلاء على أن الصبي يتأثر بمشاكل والديه ، ويتأثر بقسوة والده على والدته ، ويتأثر بقسوة والدته على والده ، وأن إظهار المشاكل الزوجية وأذية الأولاد بها والتضييق عليهم هذا من القسوة على الأبناء وهو يدل على عدم رحمة الوالد بولده ولو كان الوالدان فيهما رحمة بالأولاد لما أظهروا هذه المشاكل أمام الأطفال والصغار ، حتى تتقرح قلوبهم وتدمع عيونهم وكم من ابن لا زالت أمام عينيه صوراً من الإهانة والإذلال لوالدته لم ينسها مدى عمره ، فلذلك الله الله في الأولاد من رحمة الأولاد الأخلاق الطيبة إدخال السرور عليهم إذا دخلت إلى بيتك ولو كنت قادماً من العمل ولو من وظيفة ولو كنت مهموماً مغموماً محزوناً فادخل بقلب غير القلب الذي دخلت به ، تدخل إلى بيئة جديدة وتحس في قلبك أنك ترحمهم فإن الله إذا نظر إلى قلبك وأنك تريد الإحسان إليهم وإدخال السرور عليهم رحمك كما رحمتهم ، وإذا وجدتهم في هم أو غم فلا يخلو أسبوع ولا يخلو شهر من إدخال السرور عليهم إخراجهم إلى مكان أو إخراجهم عن بيتهم إلى نزهة أو نحو ذلك مما يدخل السرور عليهم ، فمن سرهم سره الله ، ومن أدخل الخير عليهم والسرور عليهم أدخل الله عليه السرور في يوم المساءة .
-نسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يجعلنا هداة مهتدين غير ضالين ولا مضلين- .
وَآخِرُ دَعْوَانَا أَنِ الحمَْدُ لِلَّهِ رَبِّ العَالَميْنَ وصلَّى اللَّهُ وسلَّم وبارك على عبده ونبيَّه محمد وعلى آله وصحبه أجمعين .(32/30)
بسم الله الرحمن الرحيم
قال المصنف رحمه الله بَاب مَا جَاءَ فِي بَوْلِ مَا يُؤْكَلُ لَحْمُهُ
الشرح:
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين أما بعد :
فقد ترجم الإمام الترمذي رحمه الله بهذه الترجمة ، ومناسبة هذا الباب للباب الذي سبقه واضحة ، وذلك أنه ذكر أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم والتي تدل على أن بول الآدمي يعتبر نجساً ، وبعد أن بين هذه الأحاديث ورد السؤال عن بول الحيوان هل يعتبر بول الحيوان نجساً أو يعتبر طاهراً ؟
فترجم رحمه الله بقوله " باب ما جاء في بول ما يؤكل لحمه " : أي في هذا الموضع سأذكر لك جملة من الأحاديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم والتي تبين حكم بول مأكول اللحم من الحيوانات ؛ والسبب في ذلك أن الحيوان ينقسم إلى قسمين :
القسم الأول : أحل الله عز وجل أكل لحمه . والقسم الثاني : حرم الله لحمه .
فأما الذي أحل الله أكل لحمه فإنه لا يخلو من ضربين :
الضرب الأول : أن يكون من المستأنس . والضرب الثاني : أن يكون من المتوحش .
وتوضيح ذلك : أن الحيوانات منها ما يأنس إليه الإنسان ، ويكون داجناً مستقراً في بيوت الناس ، ويكون معهم في مصالحهم ، وهناك نوع ثان يفر من الإنسان وهو المتوحش الذي لا يستطيع الإنسان أن يصل إليه إلا بالصيد والغلبة والقهر ، فلذلك قسم العلماء رحمهم الله الحيوانات التي أباح الله لحمها إلى هذين القسمين ، واصطلحوا على تسمية الأول بالمستأنس ، واصطلحوا على تسمية الثاني بالمتوحش .
فأما الحيوان المستأنس : فمنه ما يكون برياً ، ومنه ما يكون من الطيور ، فأما الحيوانات البرية المستأنسة فمثالها الإبل والبقر والغنم ونحوها من الدواب التي تكون مع الناس ، وتأنس بالإنسان ولا تفر منه .(33/1)
وأما بالنسبة للطيور فمن أمثلتها الحمام إذا رباه الإنسان في بيته ، وكذلك الدجاج ونحوها من الطيور التي تألف الإنسان وتكون عنده في البيوت ، فهذا النوع يسمى بالمستأنسات .
وأما النوع الثاني وهو الحيوان المتوحش الذي أباح الله لحمه فإنه ينقسم أيضاً إلى قسمين :
فمنه ما يكون برياً ويشمل ذلك الظباء والوعول والغزلان ونحوها كالريم وتيس الجبل وبقر الوحش وحمار الوحش ونحو ذلك من الصيود التي أباح الله صيدها ، وأما بالنسبة للطيور فإن الطيور التي أحل الله لحمها تعتبر من المتوحشات كالعصافير ونحوها مما يفر من الإنسان ، ولا يتوصل إليه إلا بالغلبة والقهر ، فهذا هو حاصل ما يكون من الحيوانات التي أباح الله لحمها .
وأما بالنسبة لحيوانات البحر فيشمل ذلك السمك والحوت ونحوها من الدواب التي جعلها الله عز وجل في البحار والأنهار والآبار والعيون .
والسؤال : ما حكم بول هذه الحيوانات التي أباح الله لحمها ..؟؟
وقد ترجم المصنف-رحمه الله تعالى- لهذه المسألة بهذا القول ؛ والسبب في ذلك شدة حاجة الناس إلى معرفة حكم بول هذه الدواب ، فقد يسألك الإنسان عن بول البعير أو يسألك عن ما يكون من روث الدواب كالغنم ونحوها ، وقد يسألك عن العصافير إذا خرج منها الذرق فأصاب الإنسان وهو في المسجد ، هل يعتبر ثوبه متنجساً أو لا يعتبر؟ فاعتنى المحدثون والفقهاء ببيان النصوص الشرعية ، والأحكام المتعلقة بهذه المسألة .
يقول المصنف رحمه الله " باب ما جاء في بول ما يؤكل لحمه" : أي في هذا الموضع سأذكر لك ما ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم في حكم بول الحيوان الذي أباح الله لحمه ؟(33/2)
يقول المصنف-رحمه الله -: حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ مُحَمَّدٍ الزَّعْفَرَانِيُّ حَدَّثَنَا عَفَّانُ بْنُ مُسْلِمٍ حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ حَدَّثَنَا حُمَيْدٌ وَقَتَادَةُ وَثَابِتٌ عَنْ أَنَسٍ :" أَنَّ نَاساً مِنْ عُرَيْنَةَ قَدِمُوا الْمَدِينَةَ فَاجْتَوَوْهَا فَبَعَثَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي إِبِلِ الصَّدَقَةِ وَقَالَ :(( اشْرَبُوا مِنْ أَلْبَانِهَا وَأَبْوَالِهَا )) فَقَتَلُوا رَاعِيَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَاسْتَاقُوا الإِبِلَ وَارْتَدُّوا عَنِ الإِسْلاَمِ فَأُتِيَ بِهِمُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فَقَطَعَ أَيْدِيَهُمْ وَأَرْجُلَهُمْ مِنْ خِلافٍ وَسَمَرَ أَعْيُنَهُمْ وَأَلْقَاهُمْ بِالْحَرَّةِ " .
قَالَ أَنَسٌ : " فَكُنْتُ أَرَى أَحَدَهُمْ يَكُدُّ الأَرْضَ بِفِيهِ حَتَّى مَاتُوا " وَرُبَّمَا قَالَ حَمَّادٌ يَكْدُمُ الأَرْضَ بِفِيهِ حَتَّى مَاتُوا .
قَالَ أَبو عِيسَى رحمه الله : هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ وَقَدْ رُوِيَ مِنْ غَيْرِ وَجْهٍ عَنْ أَنَسٍ وَهُوَ قَوْلُ أَكْثَرِ أَهْلِ الْعِلْمِ قَالُوا لاَ بَأْسَ بِبَوْلِ مَا يُؤْكَلُ لَحْمُهُ .
الشرح :
هذا الحديث يعتبر من الأحاديث المهمة في باب الطهارة ، وهو حديث اتفق الشيخان على إخراجه صحيح ثابت عن النبي صلى الله عليه وسلم ، وقد اختلفت روايات وألفاظ هذا الحديث ، وقد اعتنى المصنف رحمه الله بذكره في كتاب الطهارة ، وبعض العلماء لا يذكره في أبواب الطهارة وإنما يؤخره إلى أبواب الحرابة ؛ والسبب في ذلك أن في هذا الحديث ثلاث مسائل :
المسألة الأولى : تتعلق بحكم بول ما يؤكل لحمه . والمسألة الثانية : تتعلق بالتداوي بالنجاسات .
والمسألة الثالثة : تتعلق بالحرابة وقطع الطريق .(33/3)
فلذلك يختلف العلماء رحمهم الله في مواضع هذا الحديث ، فمنهم من يعتني بإيراده في باب الطهارة كصنيع الإمام الترمذي ، ومنهم يعتني بذكره في باب القصاص والجنايات كما هو صنيع الإمام الحافظ عبد الغني بن سرور المقدسي-عليه رحمة الله- ، فالمقصود أن العلماء رحمهم الله ربما ذكروا هذا الحديث في أبواب الطهارة ، وهذا له وجه وله ما يبرره من جهة كونهم شربوا أبوال الإبل فحُكم بسبب ذلك بطهارة ما يؤكل لحمه .
وقول المصنف رحمه الله في الترجمة التي ذكرناها "باب ما جاء في بول ما يؤكل لحمه" يعتبر عموماً ؛ والسبب في ذلك أن حديثنا يتعلق ببول الإبل ، وهذا النوع من البول خاص ، ولكن المصنف رحمه الله عمم الحكم ، وهذا هو مذهب جمهور العلماء رحمهم الله أن هذا الحديث وإن كان قد ورد في بول الإبل ، ولكنه أصل شرعي يدل على أن بول مأكول اللحم يعتبر طاهراً ؛ والسبب في ذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم أحل لهم شرب البول ، ولا وجه لذلك إلا كون هذا البول فضلة طاهرة من هذا الحيوان ، وقد دلت الأدلة على ذلك كما سيأتي .
ومسألة فضلة ما يؤكل لحمه من الحيوانات اختلف العلماء رحمهم الله فيها على قولين :
القول الأول : فذهب طائفة من السلف إلى أن بول ما يؤكل لحمه وروثه يعتبر كلٌ منهما طاهراً ، وهذا القول قال به الإمام مالك ، والإمام أحمد ، وكذلك سفيان الثوري في طائفة من السلف ، واختاره جمع من الأئمة من فقهاء الحنفية والشافعية فهو قول الإمام محمد بن الحسن صاحب الإمام أبي حنيفة النعمان - عليهم جمعياً من ربهم الرحمة والرضوان- .
وأما بالنسبة للقول الثاني : أن بول ما يؤكل لحمه يعتبر نجساً ، وبهذا القول قال الإمام الشافعي ، وهو قول الإمام أبي حنيفة ، ووافقه على ذلك صاحبه أبو يوسف ، وأفتى به الإمام أبو ثور إبراهيم بن خالد بن يزيد الكلبي الفقيه المشهور ، فتلخص أن للعلماء رحمهم الله في هذه المسألة قولين :(33/4)
فأما الذين قالوا إن بول ما يؤكل لحمه يعتبر طاهراً فقد استدلوا بهذا الحديث الصحيح ، قالوا إن هؤلاء الأعراب قد شربوا بول الإبل ، ولو كان بول الإبل نجساً لما أمرهم النبي صلى الله عليه وسلم بشربه تداواياً ؛ لأن التداوي بالنجس محرم ، وقد جاء عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال :(( إن الله لم يجعل شفاءكم فيما حرم عليكم )) قالوا : وإنما أمرهم بشرب البول ؛ لأن البول واللبن كل منهما يعتبر فضلة طاهرة من هذا الحيوان ، وأكدوا ذلك بالأدلة القوية ، فمن ذلك ما ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم : " أنه طاف على بعيره في حجة الوداع طواف الإفاضة " كما في منسك جابر رضي الله عنه ، ومن المعلوم أن الطواف يعتبر في حكم الصلاة ، ولابد أن تكون الدابة طاهرة حتى يصح الطواف عليها ، ومن المعلوم أنه لو كان بول الإبل نجساً لما طاف على بعيره صلوات الله وسلامه عليه ؛ لأن البعير إذا بال فإن طشاش البول سيصيب أرجل البعير ، وكذلك الحال بالنسبة لما يكون من رجيع البعير ، فنظراً لكونه يطوف على البعير دل ذلك على طهارة فضلته من البول والروث والبعر .(33/5)
وأكدوا ذلك بما ثبت في الصحيحين من حديث ابن عمر وحديث أنس بن مالك-رضي الله عن الجميع - أن النبي صلى الله عليه وسلم " كان يصلي على بعيره في السفر " ومن المعلوم أن الإجماع قائم على أنه لا يجوز للمصلي أن يصلي على موضع نجس ، وقد خلع النبي صلى الله عليه وسلم نعليه لما أخبر بنجاستهما ، فلو كان بول البعير نجساً لما صلى- عليه الصلاة والسلام - على البعير ، قالوا فدل هذا على أن بول البعير طاهر ، ومن الأدلة ما ثبت في الحديث الصحيح عنه عليه الصلاة والسلام : " أنه سئل عن الصلاة في مرابض الغنم فأجازهاصلوات الله وسلامه عليه" ، ومن المعلوم أن مرابض الغنم لا تخلو من وجود أبوالها وكذلك أرواثها ، فدل هذا على طهارة بول ما يؤكل لحمه وكذلك روثه ، وبناءً على هذه النصوص الصحيحة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال الأئمة : إن كل حيوان مأكول اللحم تعتبر فضلته طاهرة ؛ لأن الشرع ينبه بالشيء على نظيره ، فلما بين لنا حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم الصحيح أن بول البعير طاهر فلا وجه لتخصيص الحكم بالبعير ، وإنما المراد كونه مباح اللحم فهذا هو وجه من قال بأن بول ما يؤكل لحمه يعتبر طاهراً .
أما الذين قالوا بالنجاسة ، فقالوا إن بول ما يؤكل لحمه يعتبر فضلة ، وإذا كان فضلة فإنه يأخذ حكم الأصل من كونه نجساً كما هو الحال في بول الآدمي ، وأكدوا ذلك بحديث الروثة وقد تقدم معنا في الاستجمار ، وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم ذهب إلى الخلاء وأمر عبد الله بن مسعود رضي الله عنه أن يأتيه بثلاثة أحجار فجاءه بحجرين وروثة ، فأخذ الحجرين وألقى الروثة وقال : (( إنها ركس)) وقوله:((ركس)) ، المراد به رجس لأنها لغة معروفة يبدلون الجيم كافاً ، وهي لغة أهل اليمن ، فاستخدمها- عليه الصلاة والسلام - وعبر بها عن نجاسة فضلة الحيوان ، قالوا فهذا يدل على أن فضلة الحيوان تعتبر نجسة .(33/6)
والصحيح ما ذهب إليه أصحاب القول الأول أن فضلة الحيوان المأكول اللحم تعتبر طاهرة ، وبناءً على ذلك فإنه إذا أصاب بول البعير ، أو بول الغنم ، أو بول البقر ، ونحوها من الحيوانات المأكولة اللحم ، وهكذا العصافير والطيور والحمام إذا ذرقت على المصلين في المساجد ، فكل ذلك يعتبر طاهراً إذا كان من حيوان مأكول اللحم .
هذا الحديث اشتمل على قصة وقعت في زمان النبي صلى الله عليه وسلم حاصلها : أن نفراً قدموا على النبي صلى الله عليه وسلم وقد جاءت رواية المصنف رحمه الله هنا بدون بيان عدد الأشخاص الذين قدموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وقد جاء في بعض الروايات أنهم كانوا ثمانية ، قدم هؤلاء النفر ففي رواية المصنف كانوا من عُرَيْنَة ، وفي رواية أخرى من عُكَل ، وقيل بالشك في رواية من عرينة أو عكل ، وقد حقق العلماء - رحمهم الله - هذه المسألة فقالوا إنهم كانوا من عكل وعرينة ، أي من كلا الحيين من أحياء العرب ، وعرينة من بجيلة من قحطان ، وعكل حي من مضر أي من بني عدنان ، قدم هؤلاء الثمانية على رسول الله صلى الله عليه وسلم طائعين فلما جلسوا في المدينة ومكثوا فيها أياماً أصابهم الجواء ؛ ولذلك جاء في الرواية الثانية استوخموها ؛ والسبب في ذلك أن البادية يكون هواؤها طلقاً ، وكذلك طعامها نقياً نظيفاً ، فلذلك إذا قدم أهلها على المدن فإن المدن تكون مكتظة بالسكان ، ويكون هواؤها ملوثاً ، وهكذا بيوتها ومساكنها ، فغالباً ما يصيبهم الضرر ؛ لأن الأجساد إذا ألفت على شئ وزال ذلك الشيء تضررت بزواله ، خاصة إذا كان أحسن وأفضل ، فلما استوخموها ، وجاء في رواية الصحيح : (( أصابهم الجواء)) ، والجواء مرض يصيب البطن .(33/7)
وأما قوله :(( استوخموها)) : فهذا راجع إلى الهواء ، قال فأمرهم النبي صلى الله عليه وسلم أن يلحقوا بإبل الصدقة ، هذه الجملة تدل على طب نبوي ، وقد قرر الإمام ابن القيم -رحمه الله - في كتابه الهدي ، وكذلك في كتابه البدائع أن النفوس إذا خرجت عن مألوفها استضرت ، وأن من الدواء والعلاج أن ترد المريض إلى حالته الأولى التي ألفها ، فأمرهم النبي صلى الله عليه وسلم أن يخرجوا إلى إبل الصدقة حيث الهواء النقي ، وكذلك يشربوا من الأبوال والألبان ، قال بعض العلماء : إن أبوال الإبل وألبانها تعتبر شفاء لأمراض الجوف ، ولذلك قالوا إنها إذا كانت ترعى يكون لبنها وبولها قوي التأثير ، ولذلك قالوا إن النبي صلى الله عليه وسلم أمرهم بشرب البول لقوة تأثيره على الجوف والبطن ، وقد قال بعض أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم كما أثر عن ابن عباس رضي الله عنهما وغيره أن في أبوال الإبل شفاء من ذربة البطن ، أي مما يكون في البطن من الاختلاف والاعتلال ، وقالوا إن أفضل ما يكون بول الإبل ولبنها مؤثراً إذا كانت ترعى الشيح والقيصوم ، وكلاهما من مرعى الإبل وهو من أفضل وأجود ما يكون من المراعي ، أما إذا كانت الإبل معلوفة فإنها أضعف في التأثير ؛ لأن مرعاها له قوة وتأثير على اللبن والبول ، فأمرهم النبي صلى الله عليه وسلم أن يلحقوا بإبل الصدقة ، اختلفت الروايات في هذا الموضع :(33/8)
فتارة تُنسب الإبل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وتارة تنسب الإبل إلى إبل الصدقة ، وقد جمع بعض العلماء رحمهم الله بأن النبي صلى الله عليه وسلم كانت له إبل أصابها من الغنيمة ، ثم إنه عليه الصلاة والسلام أخرجها إلى الرعي ؛ والسبب في ذلك أن الإبل غالباً ما تكون في مراعيها ؛ لأنها إذا كانت كثيرة العدد لايمكن أن تحبس في المدينة ؛ لأنها تحتاج إلى العلف والطعام ، ومن المعلوم أن المرعى لا يقوى عليها إذا كثرت ، فكان من سنتهصلوات الله وسلامه عليه الْحِمَى ، والمراد بالحمى أنه كان عليه الصلاة والسلام يخص مواضع للرعي ، ويأمر بإخراج إبل الصدقة إليها فترعى في هذا الحمى ، ولايجوز لأحد أن يدخل إبله ولادوابه إلى هذا الحمى ، فخرج هؤلاء إلى حمى النبي صلى الله عليه وسلم بالقاحة ، وذلك بظاهر المدينة ، خرجوا لكي يتعالجوا من الداء الذي أصابهم ، فلما أصابوا العافية كفروا نعمة الله عز وجل ، وقتلوا راعي النبي صلى الله عليه وسلم ، أصابتهم العافية التي انتهت بهم إلى شقاء الدنيا والآخرة-نسأل الله السلامة والعافية- ، ومن عادة الإنسان إنه إذا أصاب النعمة كفر إلا أن يرحمه الله برحمته ، كما قال سبحانه وتعالى : {إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعاً - وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعاً}(1) فإذا مسه الخير كفر نعمة الله ومنع الخير عن الناس ، وإذا أصابه الشر استكان لربه كما قال سبحانه وتعالى :{كَلاَّ إِنَّ الإِنسَانَ لَيَطْغَى - أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى}(2) أي إذا أصابه الغنى فإنه يبطر ويكفر ، لمكان الجهل والظلم الذي فيه كما قال سبحانه وتعالى :{وَحَمَلَهَا الإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولاً }(3) ، فمن جهلهم أن أقدموا على قتل راعي النبي صلى الله عليه وسلم .(33/9)
وهذا الراعي قال بعض العلماء : إنه يسار مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وقال بعض العلماء : إنه ابن من أبناء أبي ذر الغفاري رضي الله عنهما ، فقتلوا راعي النبي صلى الله عليه وسلم أي القائم على الإبل ، وبهذا القتل جمعوا بين الذنوب أشنعها وأفظعها : محاربة الله ورسولهصلوات الله وسلامه عليه ، وذلك بإشهار السلاح وإزهاق النفس المحرمة ، وأما الفظيعة الثانية كون هذا الراعي لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، فلم يراعوا حرمة النبي صلى الله عليه وسلم ، وأما الفظيعة الثالثة فسفكهم للدم الحرام وذلك بقتل هذا البريء ، بل بقتل من له فضل عليهم ، وإحسان إليهم ، فقتل النفس المحرمة من كبائر الذنوب ، وأشدها ؛ ولذلك بين الله تعالى أنها كبيرة تنتهي بغضبه ، ولعنته :{ وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِداً فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَاباً عَظِيماً}(1) ،فهذا يدل على شدة هذه الجريمة التي كانت منهم ، إلا أن هذا القتل يعتبر أحد صور القتل العمد ، وهي الصورة التي يسميها العلماء بقتل الجماعة للواحد.
وتوضيح ذلك : أن القتل العمد إما أن يكون قتل واحد لواحد سواء كان ذكراً أو أنثى فحينئذ لا إشكال .(33/10)
والصورة الثانية : أن يقتل الواحد الجماعة وحينئذٍ لا إشكال ؛ لأنه في كلتا الصورتين يقتل القاتل وجهاً واحداً عند العلماء - رحمهم الله - ؛ لأنه في الصورة الأولى نفس في مقابل نفس ، وأما في الصورة الثانية فنفس لقاء أنفس ، وذلك أن النفس استحقت القتل بنفس واحدة من الأنفس التي أزهقتها ، ولكن الإشكال في الصورة الثالثة أن يجتمع جماعة ويقتلون بريئاً بدون حق ، ويكون قتلهم مستوفياً لشروط العمد العدوان فهذه الصورة يسميها العلماء قتل الجماعة للواحد ، ويقع ذلك في العصابات ونحوها ، أن يتمالأ جماعة على نفس محرمة من الذكور أو الإناث ، فيقدمون على إزهاقها على صورة العمد .
وقد اختلف العلماء رحمهم الله هل يقتص من الجماعة أو لا ..؟؟
فمذهب جمهور العلماء رحمهم الله أن الجماعة إذا قتلوا الواحد أنهم يقتلون ، وهذا هو قضاء أمير المؤمنين وثاني الخلفاء الراشدين عمر بن الخطاب-رضي الله عنهم أجمعين - فقد وقع في زمانه أن جماعة قتلوا واحداً ، ووقع ذلك باليمن ، ورفعت القضية إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنه إبان خلافته في المدينة فأمر رضي الله عنه بقتلهم أجمعين ، وقال كلمته المشهورة : " والله لو تمالأ عليه أهل صنعاء لقتلتهم به " فدل هذا على أن الجماعة يقتلون بالواحد ، وهذا هو المذهب الصحيح ؛ وذلك أن أصول الشريعة دالة على أن من قتل يقتل ، وأن النفس تقتص بالنفس ، وهؤلاء الجماعة كل واحد منهم يعتبر قاتلاً ؛ لأن فعله يفضي إلى القتل فاستوى أن يكون الإزهاق بواحد منهم أو بجميعهم .
وإذا وقع قتل الجماعة للواحد فلا يخلو من صور :
الصورة الأولى : أن يتفق الجماعة على طعن المقتول ، أو ضربه ضربة تفضي به إلى القتل ، مثال ذلك أن يتفق اثنان أو ثلاثة على قتل معصوم ، فيطعنه أحدهم من وجهه ، ويطعنه الثاني من وراء ظهره ، ويطعنه الثالث من جنبه ، فهذه الطعنات الثلاث كلها قاتله ، وحينئذٍ لا إشكال في القصاص منهم أجمعين .(33/11)
والصورة الثانية : أن يفعل بعضهم القتل ويكون الآخر معيناً على الوصول إلى الإزهاق ، مثال ذلك أن يمسكه أحدهم ؛ لكي يتمكن الثاني من طعنه في بطنه مثلاً ، أو يربطه لكي يتمكن من قتله ، كل ذلك يعتبر قتلاً ، وفي كلتا الصورتين يقتص من الجميع .
وفي الصورة الثالثة : وهي أن يكون هناك اختلاف بينهم ، فبعضهم يفعل فعلاً يفضي إلى القتل وبعضهم لا يفعل ، وإنما يشارك بالرأي ، ويكون رأيه مؤثراً ، وقد يكون هو العقل المدبر للجريمة ، فحينئذٍ يقتل هذا العقل كما فعل عمر بن الخطاب رضي الله عنه في المرأة التي قتلت مع الجماعة ؛ والسبب في ذلك أنها دبرت الجريمة ، وزينتها ، وهيأت أسبابها فقتلها رضي الله عنه وأرضاه ، وبناءً عليه فإنه تقتل الجماعة بالواحد في جميع هذه الصور .
ولاشك أن قتل الجماعة بالواحد دلت عليه السنة كما فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم بهؤلاء ، فهؤلاء جماعة يبلغون ثمانية من النفر قتلهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بالراعي ، ومن تأمل أصول الشريعة الإسلامية فإنه يخرج إلى القول بجواز قتل الجماعة بالواحد ؛ لأننا لو قلنا إن الجماعة لايقتلون بالواحد فمعنى ذلك أننا نقفل باب العدل ، ونقفل باب القصاص ؛ والسبب في ذلك أنه إذا أراد إنسان أن يقتل غيره عمداً و عدواناً ، وعلم أنه لو تفرد بقتله يقتص منه ، ذهب واشترك مع غيره وقتل ، فحينئذٍ يسترسل الناس في الدماء المحرمة ، وبناءً عليه فإن الصحيح من أقوال العلماء أن الجماعة يقتلون بالواحد .
ولكن السؤال : لو أن جماعة اشتركوا في القتل وكانوا ثلاثة مثلاً ، وبعضهم يستوفي شروط القصاص وبعضهم لا يستوفيها ، فهل سقوط القصاص عن البعض يوجب سقوط القصاص عن الآخر الذي يستحقه ..؟؟(33/12)
مثال ذلك : لو أن رجلاً بالغاً عاقلاً أقدم على قتل رجل عمداً وعدواناً ، وسأل اثنين من غيره من الصبيان الذين لايعقلون ، فاشتركوا معه في القتل فإنه لا يقتل الصبي ، ولكن يقتل البالغ ، وسقوط القصاص عن الصبي لا يوجب سقوط القصاص عن باقي الجماعة ، وهكذا لو اشترك الوالد في قتل ابنه ، فسقوط القصاص عن الوالد لا يوجب سقوط القصاص عن الباقي ، وهكذا لو شارك المجنون فكان في الجماعة مجنون وأقدم هؤلاء على القتل فسقوط القصاص عن المجنون لا يوجب سقوطه عن الباقين .
يقول رضي الله عنه " فقتلوا راعي النبي صلى الله عليه وسلم " : قد جاء في بعض الروايات أنهم قتلوه وسمَّروا عينه ، وتسمير العين أن تحمر المسامير على النار ثم تكوى بها العين ، فجمعوا بين جريمة القتل وجريمة التمثيل ، فالتسمير يسميه العلماء تمثيلاً ، وذلك أن القاتل له حالتان إذا قتل :
الحالة الأولى : أن يزهق الروح ويترك الجسد دون أن يضر به .
والحالة الثانية : أن يقدم على تشويه الجثة ، أو يقتله شر قتلة متضمنة للمثلة .
ففي هذه الصورة الثانية يكون القتل مشتملاً على أمر زائد وهو التمثيل بجثة القتيل ، سواء صحب ذلك الاستخفاف والاستهزاء ، أو قصد منه إذهاب معالم الجريمة ، كأن يحرقه ويدفنه ، ونحو ذلك من الصور التي يقصد منها إخفاء معالم الجريمة ، فالمقصود أنه في جميع هذه الصور يعتبر قاتلاً وممثلاً ، فالقتل بإزهاقه للروح ، والتمثيل بتشويهه للجثة ؛ ومن هنا سمر النبي صلى الله عليه وسلم أعين هؤلاء الجناة ، وفعل ذلك قصاصاً منهم كما فعلوا براعيه-صلوات الله وسلامه عليه - .(33/13)
وبقتلهم لهذا الراعي تحققت الحرابة ، والحرابة كما يسميها العلماء جريمة من الجرائم ، تتضمن حداً من الحدود الشرعية ، قال بعض العلماء : إنها مأخوذة من الحرب ضد السلم ، وقال بعضهم : إنها مأخوذة من الحَرَب والمراد بذلك السلَب ، يقال فلان محروب إذا سلب ماله ، وكلا الوجهين صحيح .
فالحرابة تتضمن المحاربة ، وحقيقة المحاربة لها صورتان :
الصورة الأولى : أن تكون في البراري خارج المدن .
والصورة الثانية : أن تكون داخل المدن والقرى .
فأما الحرابة خارج المدن فمثالها هذا الحديث ، وذلك أن الراعي كان خارج المدينة ، ووقع الاعتداء عليه خارج العمران ، فإذا وقعت الحرابة خارج المدن فبالإجماع أنها حرابة إذا استوفت بقية الشروط .
وأما إذا وقعت داخل المدن فللعلماء فيها قولان مشهوران :
منهم من يقول : إن الحرابة لا تقع إلا خارج المدن وأما داخل المدن فلا .
ومنهم من يقول : إن الحرابة تقع داخل المدن كما تقع خارج المدن ، وصورة ذلك بالأفراد والجماعات ، فأما بالنسبة لصورة الجماعات مثل ما يوجد في زماننا من العصابات ونحوها ، فالجريمة المنظمة من خلال العصابة تعتبر حرابة إذا دخل أصحابها إلى المدن ، وأشهروا السلاح ، وأخافوا الناس ، وأدخلوا الرعب ، وهكذا إذا انتهكوا الأعراض ، أو سفكوا الدماء ، ولذلك قال بعض السلف : لو أشهر أحدهم السلاح على رجل في زقاق ونحوه ، وهدده على ماله ، أو عرضه ، أو نفسه فهو محارب ، وحكمه حكم المحارب سواء بسواء ، وهذا القول هو الصحيح أن الحرابة تقع داخل المدن كما تقع خارج المدن ، وبناءً على ذلك فإنه إذا نظمت جريمتها ، وأشهر السلاح فيها ، استوى أن تقع داخل المدن ، أو خارجها ، كأنها حرابة بمجرد حمل السلاح ؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال :(( من حمل علينا السلاح فليس منا)) ، فهؤلاء المحاربون الذين وقع منهم قتل راعي النبي صلى الله عليه وسلم وقعت حرابتهم خارج المدن .(33/14)
ولكن الصحيح أن الحكم لا يختص بخارج المدن .
ويشترط في المحاربين أن يكونوا متسلحين للعدوان والجناية ، واختلف العلماء في ضابط السلاح فإذا كان سلاحهم يجرح كالسكاكين والسيوف في القديم ، وهكذا بالنسبة للأعيرة النارية في زماننا فإنها حرابة بإجماع العلماء ، وأما إذا كان السلاح أبيض كما يُسمى من العصي ونحوها ولم يكن من السكاكين والجوارح فللعلماء قولان مشهوران :
قال جمع من العلماء : إن العصي وما في حكمها يعتبر حرابة .
وقال بعضهم : لا حرابة إلا بالسلاح الذي له مور وجرح .
والصحيح القول الأول أنهم إذا حملوا العصي ، وأخافوا السبل ، وأرعبوا الناس فإنها حرابة ، وتأخذ حكم الحرابة سواء بسواء .
وأما بالنسبة لما يطلبه المحاربون : فتارة يطلبون الأنفس ، فيزهقونها ويسفكونها ، وتارة يطلبون الأعراض - نسأل الله السلامة والعافية - ، سواء كان ذلك من الإناث أو من الذكور ، لكنهم بطلبهم للذكور أشد وأعظم جريمة وأقبح وأشنع ، وتارة يطلبون الأموال ، فإذا رفعوا السلاح وأزهقوا الأنفس ، وقصدوا إزهاق الأرواح فإنهم يقتلون وجهاً واحداً عند العلماء رحمهم الله ، فإذا وقعت منهم المقاتلة وإزهاق النفوس البريئة فإنهم يقتلون ، وإذا قتلوا فإنهم يصلبون ، وحقيقة الصلب أن يعلقوا ، واختلف العلماء في صلبهم إذا قتلوا :
فقال جمهور العلماء : يقتلون أولاً ثم يعلقون ويصلبون .
وقال فقهاء الحنفية رحمة الله عليهم : يصلبون ، ويعلقون ، حتى إذا شد الوثاق طعنوا وبقرت بطونهم ، أو أطلق عليهم ما يوجب قتلهم كالحراب القديمة .
والصحيح مذهب الجمهور أنه تضرب رقابهم ، ثم يعلقون أمام الناس ؛ حتى يكون ذلك نكالاً وأبلغ عبرة وعظة لغيرهم إذا سولت له نفسه أن تسلك سبيلهم .
وهذا الصلب للعلماء فيه قولان :
قال بعض العلماء : مرده إلى الوالي ، فلا يتقيد بزمان .
وقال بعض العلماء : حده ثلاثة أيام ، ولا يزاد على الثلاثة .(33/15)
وقال بعضهم : تراعى جيفته ، فإن كان ينتن ويؤذي الناس فإنه لا يصلب مدة يصل فيها إلى ذلك ، وإنما يصلب زماناً لا يصل إلى النتن ؛ لأنه إذا علق ولو ساعة من النهار حصل المقصود من زجر الناس وتخويفهم ، وهذا هو الذي فعله النبي صلى الله عليه وسلم بتركه لهؤلاء النفر يستسقون فلا يسقون حتى أدركهم الموت وهم في شراج الحرة .
والحالة الثانية : أن يقدموا على الأعراض .
وفي حكم الحالة الأولى وهي إزهاق النفوس أن يهددوا بقتل الأبرياء ، وفي حكم ذلك في زماننا الاختطاف ، فاختطاف وسائل النقل التي تكون بين المدن ينطبق عليها حكم الحرابة التي ذكرها الأئمة من السلف ، وذلك أنها تقع خارج العمران ، وهكذا إذا وقعت داخل العمران وأُخرجوا إلى خارجه ، ومن هنا قال العلماء : من أخذ بريئاً من المدن ، وهدده بالسلاح حتى أخرجه وأصاب منه ما يريد من ماله أو عرضه ، فإنه محارب وحكمه حكم المحارب ، وبناءً عليه قالوا إذا اختطفت المرأة وأخرجت عن حدود العمران ، وهددت ، وأكرهت على الزنى فإنه يأخذ حكم المحارب ، وبناءً عليه يكون هذا الاختطاف آخذاً حكم الحرابة ، يستوي في ذلك أن يكون لطلب الأموال ، أوطلب العرض ، أو سفك الدماء كل ذلك يعتبر من الحرابة .
وأما بالنسبة لإقدامهم على الأعراض فهي الصورة الثانية بعد القتل : أن يكون المقصود من الحرابة الاعتداء على الأعراض ، ويقع ذلك من أهل الطيش والاستخفاف ، فإن أهل المجون والفساد ربما سولت لهم أنفسهم الإقدام على دواب الناس التي فيها أعراضهم ؛ بقصد الوصول إلى الحرام ، فإذا كان ذلك في البر وبعيداً عن العمران ولو باليسير ، فإنه حرابة ويأخذ حكم الحرابة سواء بسواء ، وأما إذا وقع داخل المدينة ففيه الخلاف المشهور فإن أشهروا السلاح وأخافوا السبل ووصلوا إلى هذه الأغراض الدنيئة .(33/16)
فالصحيح من أقوال العلماء أنها حرابة ، ومن هنا قال بعض السلف : إذا أكرهت المرأة في زقاق ونحو ذلك على عرضها بالسلاح واستجابت تحت وطأة السلاح فهي حرابة .
وأما بالنسبة للصورة الثالثة : أن يكون مقصودهم المال ، فيقدمون على قطع الطريق وإخافة السبل بقصد الحصول على الأموال ، فهي حرابة وحكمها حكم الحرابة سواء بسواء ، وذلك أن الشرع نزل الأموال والأعراض منزلة الدماء كما في الصحيح من حديث جابر رضي الله عنه وأرضاه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في خطبة حجة الوداع : (( إن دماءكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حرام ، كحرمة يومكم هذا في بلدكم هذا في شهركم هذا ألا هل بلغت)) فالمقصود أنه جعل حرمة الدماء ، والأموال ، والأعراض للمسلمين واحدة ، وبناءً عليه يستوي أن تكون مطالب المحاربين الدماء أو الأعراض أو الأموال أو أغراضاً شخصية أخرى ، أو تغيير الأوضاع ونحو ذلك من الأمور التي جدت وطرأت ، فكل ذلك يعتبر من الحرابة .(33/17)
قال-- رضي الله عنه - وأرضاه-"فقتلوا راعي النبي صلى الله عليه وسلم واستاقوا الإبل" : أي وقعت منهم سرقة الإبل ، فجموا بين إزهاق الأنفس وسرقة الأموال ، فكانت منهم هاتان الجريمتان ، وقال العلماء : إن المحاربين إذا طلبوا الأموال فإنهم لا يقتلون وإنما تقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف ، فتقطع اليد اليمنى مع الرجل اليسرى ، أو تقطع اليد اليسرى مع الرجل اليمنى ؛ لأن الله-تعالى-قال :{ أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلاَفٍ}(1) وهذه هي العقوبة الثانية بعد القتل والصلب ، فإنه تقطع اليد والرجل من خلاف ، فإن قطعت يده اليسرى قطعت في مقابلها الرجل اليمنى ، وإن قطعت يده اليمنى فإنها تقطع رجله اليسرى ، قال بعض العلماء : وهذا من الرفق ؛ لأن المقصود معاقبة هذا السارق وزجر غيره ، فلو قطعت اليد اليسرى مع الرجل اليسرى تعطلت مصالحه ، ولو قطعت يده اليمنى مع رجله اليمنى تعطلت مصالحه ، فتقطع يده ورجله من خلاف ، حكم الله من فوق سبع سموات ، لا معقب لحكمه وهو سريع الحساب ، لا يسأل عما يفعل وهم يسألون ، فإذا سرقوا الأموال واعتدوا عليها فعقوبتهم أن تقطع أيديهم ، وأرجلهم من خلاف ، والأصل في السارق أن تقطع يده ، ولكن لكون هؤلاء جمعوا بين جريمة السرقة ، وإشهار السلاح والعبث بأمن الناس ، وأمن المسلمين على أموالهم استحقوا هذه العقوبة المغلظة ، وهذا من حكمة الله سبحانه وتعالى وعلمه بخلقه .(33/18)
قال رضي الله عنه "واستاقوا الإبل " : أي سرقوها وفروا ، فجاء الصارخ إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمدينة ، وقد وقع ذلك الصراخ في أول النهار كما في بعض الروايات ، فأرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم في طلبهم فأتي بهم صلوات الله وسلامه عليه فأمر أن تقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف ، وسمرت أعينهم كما سمروا عين راعي رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وتركوا في الحرة ، والحرة هي الموضع الذي فيه الجبال السوداء وهي دون الجبل وفي المدينة حرتان : حرة في مشرقها ، وحرة في مغربها ، فأما الحرة الشرقية فتسمى بحرة واقم ، وأما الحرة الغربية فتسمى بحرة الوبرة ، وكلتا الحرتين أشار إليهما النبي صلى الله عليه وسلم بقوله في الحديث الصحيح : (( إني أحرِّم ما بين لابيتها)) فلابتا المدينة المراد بهما الحرة الشرقية والحرة الغربية ، ولم يبين الراوي أين موضعهم من الحرتين ، والذي يظهر والعلم عند الله أنها الحرة الشرقية ، والسبب في ذلك أن الحرة الشرقية أقرب إلى مسجد النبي صلى الله عليه وسلم ، وأقرب إلى حجراته ومسجده من الحرة الغربية ، فهي بعيدة جداً يبعد وصولهم إليها ولذلك يقوى أنها حرة واقم ، وهي الحرة التي وقعت فيها الوقعة المشهورة في زمان يزيد بن معاوية .
وأشار إليها قيس الرقيات بقوله :
فإن تقتلونا يوم حرة واقم فإنا على الإسلام أول من قُتلْ(33/19)
وتُركوا بالحرة يستسقون فلا يسقون ، قال بعض العلماء : كان صلى الله عليه وسلم ينتظر حليب إبله يبعث في طلبه صلوات الله وسلامه عليه فلما سرقوا الإبل عطَّشوا آل النبي صلى الله عليه وسلم ففعل بهمصلوات الله وسلامه عليه مثل ما فعلوا ، وهذا من باب القصاص وتركوا بالحرة يستسقون أي يسألون الناس أن يسقوا فلا يسقيهم أحد ، وهذا من أبلغ ما يكون من العقوبة حتى ماتوا ، وهذا هو عاجل ما يكون لهم من عقوبة الدنيا ، وأما في الآخرة الخزي والعذاب العظيم .
- نسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يجيرنا من خزي الدنيا وعذاب الآخرة ، ونسأله سبحانه وتعالى أن لا يسلبنا عافيته ، وأن يعيذنا من كفر نعمه ، وحلول نقمه إنه ولي ذلك والقادر عليه وصلى الله وسلم على نبينا محمد .
- ? - ? - ? - ? - الأسئلة - ? - ? - ? - ? -
السؤال الأول :
أشكل علي طهارة بول وروث ما يؤكل لحمه وقول النبي صلى الله عليه وسلم : (( صلوا في مرابض الغنم ولاتصلوا في أعطان الإبل)) ..؟؟
الجواب :
بسم الله الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه أما بعد :(33/20)
فكونه عليه الصلاة والسلام يمنع من الصلاة في أعطان الإبل ليس لكونها نجسة ، ولكنها مواضع تحضرها الشياطين ؛ ولذلك نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن الصلاة فيها ، ومما يدل على هذا أن المواضع التي تحضرها الشياطين لايصلى فيها وقد ثبت في الصحيحين من حديث حذيفة رضي الله عنه وأرضاه أن النبي صلى الله عليه وسلم لما نام عن صلاة الفجر وفاتته صلاة الفجر وهو في الوادي مع أصحابه ، واستيقظ بعد طلوع الشمس قال لأصحابه : (( ارتحلوا فإنه موضع حضرنا فيه الشيطان )) فامتنع من الصلاة في الوادي ؛ لكونه حضره فيه الشيطان ومعاطن الإبل تحضرها الشياطين ، ولذلك شُدد في الإبل ما لم يشدد في غيرها ، وكان لحمها موجباً لانتقاض الوضوء ، فخصت بخصائص ، فالشاهد أن النهي عن الصلاة في أعطان الإبل لايدل على نجاسة بعر الإبل وإنما هو لمعنى خارج عما ذكر ، والله تعالى أعلم .
السؤال الثاني :
إذا كان الحيوان نجساً ومما لا يجوز أكل لحمه ولكن يستدوى بحليبه كالأتان مثلاً ، فهل يجوز استخدامه ؟
الجواب :
لبن الأتان استثناه بعض العلماء رحمة الله عليهم عند الضرورة ، ويستشفى بلبن الأتان من أمراض السعال وأمراض الصدر وقد أشار بعض العلماء رحمهم الله إلى هذه المسألة بقوله :
وجاز الانتفاع بالأنجاس في مسائل المضموب عدها يفي
إلى أن قال رحمه الله :
ولبن الأتن للسعال والجلد للرئمان فيه جالي
أي يجوز أن يُشرب لبن الأتان بقصد التداوي من السعال الذي يصيب الإنسان ، وهكذا بالنسبة لأمراض الصدر ونحوها قالوا يجوز أن يتداوى بلبن الأتان ، والشرط عندهم :
أولاً : ألا يوجد طاهر يمكن التداوي والعلاج به ، بحيث يصبح مضطراً إلى اللبن ، فإن وجد الطاهر الذي هو بديل عن هذا النجس فإنه لايشرب اللبن ، ولا يجوز له أن يتداوى به .(33/21)
وأما الشرط الثاني : أن يقول طبيب عدل مسلم إن فيه شفاء ، وقال بعضهم هكذا لو أخبر به طبيب كافر إذا كان ممن يوثق بقوله ؛ لأن الطبيب الكافر إذا كان مأموناً فإنه يعمل بقوله ، إلا في ترك الصلاة والصوم ، فكان بعض العلماء يتهمه في ذلك ، ولايقبل شهادته ، كما هو صنيع الإمام أحمد-رحمة الله عليه- كان يتداوى عند الكافر ويعمل بوصفه ، ولكنه لايقبل رخصه ؛ والسبب في ذلك التهمة أنه إذا شهد الطبيب العدل أنه لابد من لبن الأتان ، وأنه علاج ، وفيه دواء لعلته فإنه يتداوى به ، والله تعالى أعلم .
السؤال الثالث :
ما حكم دم ما يؤكل لحمه متى يكون نجساً ومتى لايكون ..؟؟
الجواب :
بسم الله الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله ، وعلى آله وصحبه ومن والاه أما بعد :
فإن دم مأكول اللحم يعتبر نجساً إذا سفح ، بأن كان قبل أن يذكى ، قال-تعالى-:{ أَوْ دَمًا مَسْفُوحاً... فَإِنَّهُ رِجْسٌ }(1) والرجس النجس ، وبناءً على ذلك فلو خرج من البعير ، أو من البقرة أومن الشاة دم في حال حياتها فإنه نجس ، وهكذا لو ذبحت فخرج الدم أثناء الذبح فإن هذا الدم مراق أثناء الحياة ويأخذ حكم الدم المسفوح بالإجماع ويعتبر نجساً ، وأما إذا ذكيت ذكاة شرعية سواء بالذبح أو بالنحر وهي ذكاة المستأنس ، أو بالعقر وهي ذكاة المتوحش ، وماتت وخمدت الفريسة فإنه حينئذٍ يعتبر الدم الموجود داخل البهيمة حلالاً ، وطاهراً ، يجوز أكله وشربه ، وهو طاهر .(33/22)
توضيح ذلك : لو أن إنساناً نحر بعيراً فطعنه في وهدته فالدم الذي يخرج من الوهدة إلى سقوط البعير واستتمام موته وسكونه نجس ، ويعتبر دماً مسفوحاً ، لو أضجع الشاة وأراد ذبحها فأنهر دمها ، وخرج الدم أثناء الذبح هذا الدم الخارج أثناء الذبح نجس ، إذا أصاب الثوب أو البدن أو المكان وجب غسله ، فإذا سكنت الدابة وماتت وانتهت وخمدت فحيتئذٍ ما يكون فيها من الدماء بعد الذكاة طاهر ، واختلف في الدم الموجود في القلب على قولين مشهورين ، وإن كان الأقوى أن الدم يعتبر طاهراً ، وكان بعض الحكماء يكره هذا الدم الموجود في القلب ؛ لأنه لايؤمن من الضرر، وكان الأطباء القدماء يكرهونه ، ويخافون من ضرره ؛ لأنه ينكتم في القلب أثناء ذبح الفريسة .
وأما بالنسبة لذكاة الصيد : فمن أرسل السهم ، أو أطلق العيار على طائر ، أو على ظبي ، أو على غزال أو على ريم مثلاً فجرحه وعقره ، ومات الظبي ، أوسقط الطائر فالدم الذي يخرج أثناء رفسه ووجود الحركة فيه يعتبر نجساً ، فلو اقترب منه فتطاير عليه الدم أثناء عبث الفريسة ، وتحركها مغالِبَةً للموت فهذا الدم يعتبر نجساً ، حتى إذا سكنت ، سواء كانت صيداً أو كانت مستأنسة ، وسكنت وأراد سلخها فأزال جلدها ، ثم قطَّع أعضاءها فتطاير الدم عليه ، فالدم طاهر إلا الدم الذي يكون في الرقبة ؛ ولذلك تغسل ويزال هذا الدم الذي يكون في الرقبة ؛ لأنه دم مسفوح ، وأما بالنسبة لما يكون في الكتف أو في الرجل أو في الفخذ من الدماء كله طاهر ؛ ولذلك تطبخ ويشرب من مرقها ، ولو شرب هذا الدم بعد ذكاتها فإنه طاهر ، ولا يعتبر دماً مسفوحاً نجساً ، وبناءً عليه أثر عنه عليه الصلاة والسلام في نحره للجزور لما تلطخ ثم صلى كما في حديث عبدالله بن مسعود رضي الله عنه ، فهذا لطهارة دمه بعد الذكاة ، وإنما الكلام إذا كان الدم قبل الذكاة أو حال الذكاة فإنه يعتبر نجساً كما قررناه ، والله تعالى أعلم.
السؤال الرابع :(33/23)
إذا كان المقتول هو يسار رضي الله عنه مولى النبي صلى الله عليه وسلم هل يؤخذ منه أن الحر يقتل بالعبد ..؟؟
الجواب :
المولى له حالتان :
الحالة الأولى : أن يعتق ويبقى الولاء فيقال مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، أي مولى بالعتق .
الحالة الثانية : أن يكون مولى في حال رقه أي ضرب عليه الرق ولم يعتق بعد ، فيقال فلان مولى أثناء رقه أو بعد عتقه ؛ لأنه يوصف بكونه مولى حتى بعد العتق ولذلك قال صلى الله عليه وسلم : (( الولاء لحمة كلحمة النسب )) ، وبناء عليه فإن وصفه بكونه مولى لا يضر ، ثم إن هذا الحديث الذي معنا لم يتمحض قتل النبي صلى الله عليه وسلم لهؤلاء من جهة كونهم قتلوا الراعي فقط ، بل هناك وجه أنه قتلهم من أجل الردة ، ولذلك صرح في هذا الحديث قال وارتدوا عن الإسلام ، وقال بعض العلماء : تصريح الراوي بردتهم عن الإسلام إنما هو استناد إلى فعلهم لا أنهم ارتدوا بعقيدتهم ، وهذا كله يحتاج إلى بحث ونظر فلا يخلو قول الطائفتين من نظر.
ولكن مسألة قتل الحر بالعبد الصحيح أنه لا يقتل الحر بالعبد ؛ والسبب في ذلك أن النصوص الشرعية دلت على تنزيل العبد منزلة الأموال ؛ والسبب في هذا أن العبد لا يضرب الرق عليه إلا إذا كان كافراً ، وضرب الرق عليه لمكان الكفر ، فأذل بكفره فيبقى الرق عليه ، ولو أسلم بعد رقه لم يرتفع الرق عنه ، فإذا كان كذلك يباع ويشترى ويملك بحكم الله عز وجل ، وعليه قالوا إذا قتل العبد فإنه أتلف مالاً .
وهذه المسألة تعرف عند العلماء بمسألة قياس الشبه ، وقياس الشبه أن يتردد الفرع بين أصلين مختلفين في الحكم ، فبعض العلماء يقول العبيد في حكم الأموال ؛ لأنهم يباعون ويشترون والشرع دال على ذلك فلا يقتل الحر بالعبد .(33/24)
وبعضهم يقول : إنه في حكم الآدمي لأنها نفس محرمة ، وعلى ذلك فإزاهاقها من جهة كونه اعتدى وأزهق النفس المحرمة يقتل ؛ لقوله-تعالى- :{ أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ}(1) ، والصحيح أن الحر لايقتل بالعبد لأن في هذا العبد شبهة قوية ، وهذه الشبهة مستندة إلى دليل شرعي ، والإجماع منعقد على أن الحدود تدرأ بالشبهات ، وفيه رواية أنه لايقتل حر بعبد عن النبي صلى الله عليه وسلم .
ومن الأدلة التي تدل على أن الحر لا يقتل بالعبد قوله-تعالى- :{كُتِبَ عَلَيْكُمْ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى الْحُرُّ بِالْحُرِّ}(2) قالوا كونه يقول-سبحانه- :{الْحُرُّ بِالْحُرِّ} هذا يسمى أسلوب الحصر ، وأسلوب الحصر له مفهوم ، فكأنه لما قال الحر بالحر فهمنا من ذلك أن الحر لايقتل بالعبد ؛ لأنه لو كان الحر يقتل بالعبد لكان عمم وقال النفس بالنفس كما في الآية الثانية ، ولكن الذين يقولون إن الحر يقتل بالعبد استدلوا بقوله-تعالى- :{وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ } ، وهذا الاستدلال ضعيف لأن الآية في شريعة اليهود وشرع من قبلنا شرع لنا ما لم يرد في شرعنا خلافه وقوله-تعالى- :{كُتِبَ عَلَيْكُمْ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى الْحُرُّ بِالْحُرِّ} صدر بقوله :{ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا} وهذا شرع طارئ ، وبناءً على ذلك ينسخ الشرع الماضي ومن الأدلة على أن الحر لا يقتل بالعبد أن الله صدر الآية بقوله :{كُتِبَ عَلَيْكُمْ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى} والقصاص من قص الأثر ، يقصد منه العدل ، والحر أرفع منزلة من العبد بنص الشرع ، ولذلك لايقتل الأعلى بالأدنى ؛ لما في ذلك من مخالفة لأصل الشرع الذي قصد القصاص ، والعدل ، وبناءً عليه فإن أصح قولي العلماء مذهب الجمهور أن الحر لا يقتل بالعبد ، وإنما يقتل الحر بالحر ويقتل العبد بالحر ، والله تعالى أعلم .
السؤال الخامس :(33/25)
في آية حد الحرابة يقول الله-تعالى-:{أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلاَفٍ أَوْ يُنفَوْا مِنْ الأَرْضِ}(1) فهل أو هنا للتخيير أي أن القاضي يختار عقوبة واحدة إما القتل أو الصلب أم ما هو المفهوم الصحيح..؟؟
الجواب:
هذه المسألة الصحيح فيها أن المراد بها التخيير ، كما قال عبدالله بن عباس ما في القرآن ( أو ) فهو للتخيير وبناءً على ذلك يخير على هذا القول يخير الإمام في أمرهم : فإن رأى المصلحة أن يقتلهم قتلهم ، وإن رأى المصلحة أن يقتلهم ويصلبهم قتلهم وصلبهم ، وإن رأى المصلحة في قطع أيديهم وأرجلهم من خلاف مالم يقتلوا كان ذلك ، لكن إذا قتلوا فإنهم يقتلون من جهة القصاص ، وبناءً على ذلك فإن أو للتخيير على الأصل ، ولكن في حالة إقدامهم على القتل إذا قتلوا نفساً محرمة حينئذٍ يقتص منهم ، والفرق في المسألتين أنهم لو أقدموا على الحرابة بدون قتل كأن سرقوا الأموال فإنه على التخيير يبقى الأمر للإمام .
وقال بعض العلماء : بل الأمر مرتب فيقتلوا ويصلبوا إذا قتلوا ، وتقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف إذا سرقوا ، وينفوا من الأرض إذا أخافوا السبل والمراد بالنفي أن الإمام لايتركهم يستقرون في موضع ، ويشرد بهم ، فلا يجعلهم يستقرون في مكان إلا بعث في طلبهم حتى يصبحوا في خوف كما أخافوا المسلمين فيصبح العقوبة مرتبة على جرائمهم ، فلما قتلوا الأنفس قتلوا وصلبوا ، قتلوا كنفس بنفس وصلبوا لمكان الأذية ، وإن أقدموا على الأموال قطعت أيديهم وأرجلهم من خلاف ، وإن أخافوا فقط خُوفوا ورُدعوا ونُفوا من الأرض ، فلا يتركهم يستقرون في موضع إلا شر دهم منه ، حتى يعيشوا حياة القلق والخوف والاضطراب فلا يستقر لهم حال كما فعلوا ذلك بالمسلمين ، والله تعالى أعلم.
السؤال السادس :(33/26)
قال الله-تعالى-:{ إِلاَّ الَّذِينَ تَابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ}(1) فكيف نتحقق من توبة المحارب ..؟؟
الجواب :
توبته أن يلقي السلاح ، وأن يرجع إلى المدن ، وأن يعلن توبته ، وإذا كان لا سلاح عنده يأتي إلى الإمام ويعلن أنه تائب مما فعل فيسلم نفسه ، وكذلك في حكم التوبة أن يظهر عليه الصلاح فيدخل المدينة وقد تغير حاله فيحافظ على الصلوات ، ويبقى هادئاً ساكناً ويتبرأ مما كان فيه من الأفعال ، فيستوي أن تكون توبته عند الإمام ، أو توبته فيما بينه وبين الله فيما ظهر .
وَآخِرُ دَعْوَانَا أَنِ الحمَْدُ لِلَّهِ رَبِّ العَالَميْنَ وصلَّى اللَّهُ وسلَّم وبارك على عبده ونبيَّه محمد وعلى آله وصحبه أجمعين .(33/27)
بسم الله الرحمن الرحيم
قال المصنف رحمه الله : حَدَّثَنَا الْفَضْلُ بْنُ سَهْلٍ الأَعْرَجُ الْبَغْدَادِيُّ حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ غَيْلاَنَ قَالَ حَدَّثَنَا يَزِيدُ ابْنُ زُرَيْعٍ حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ الْتَّيْمِيُّ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ : " إِنَّمَا سَمَلَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم أَعْيُنَهُمْ لأَنَّهُمْ سَمَلُوا أَعْيُنَ الرُّعَاةِ".
قَالَ أَبو عِيسَى رحمه الله : هَذَا حَدِيثٌ غَرِيبٌ لاَ نَعْلَمُ أَحَدًا ذَكَرَهُ غَيْرَ هَذَا الشَّيْخِ عَنْ يَزِيدَ بْنِ زُرَيْعٍ وَهُوَ مَعْنَى قَوْلِهِ :{ وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ } وَقَدْ رُوِيَ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سِيرِينَ قَالَ إِنَّمَا فَعَلَ بِهِمُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم هَذَا قَبْلَ أَنْ تَنْزِلَ الْحُدُودُ .
الشرح :
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين أما بعد :
فقد ذكر المصنف رحمه الله حديث أنس بن مالك رضي الله عنه وأرضاه والذي اشتمل على قصة المحاربين لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، وهذه الجملة التي رواها المصنف عن أنس بن مالك رضي الله عنه وأرضاه تبين السبب الذي جعل النبي صلى الله عليه وسلم يقدم على التمثيل بهؤلاء المحاربين ؛ والسبب في ذلك أنهم سملوا أعين الرعاة ، ومن هنا قال العلماء رحمهم الله : إن التمثيل بهؤلاء إنما كان من باب القصاص ، وليس من باب زيادة العقوبة من النبي صلى الله عليه وسلم ، ولا شك في أن سمل العيون يعتبر نوعا من أنواع التمثيل ، والمراد بالتمثيل أن تُشوهَ صورة الجثة بعد القتل ، وقد اختلف العلماء رحمهم الله في التمثيل بالقتلة إذا قُتلوا :(34/1)
فقال بعض العلماء : إنه يحوز التمثيل بالكفار بعد قتلهم إذا كان التمثيل بهم يكسر شوكة الكفار ، ويوجب الرعب في قلوبهم ، كما فعل النبي صلى الله عليه وسلم بأموالهم حينما أحرق النخل وقطعهصلوات الله وسلامه عليه بالبويرة بالمدينة ، وفعل ذلك بيهود بني النضير لكي يكسر شأفتهم ، ويبالغ في عقوبتهمصلوات الله وسلامه عليه، فلما كان مقصود الإسلام أن يكسر شوكة من عاداه ، وأن يغيظ من وقف في وجه هذا الدين شرع فعل مثل هذه الأمور من باب تحقيق المصالح الشرعية ، وإذا كانت للكفار شوكة وأذية بالمسلمين ولا تنكسر هذه الشوكة إلا بالتمثيل شرع التمثيل ؛ لأنه يحقق مقصود الشرع ، ومن هنا قال هؤلاء الأئمة : إنه لا حرج في التمثيل في هذه الحالة ، وكذلك إذا فعل الكفار بجثث المسلمين ، فإذا مثل الكفار بالمسلمين شرع للمسلمين أن يمثلوا بجثثهم وقتلاهم ؛ لأن الله عز وجل يقول :{ فَمَنْ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ}(1) ، فمن هنا قالوا يشرع في هذه الحالة أن يمثل بالكفار بعد قتلهم ، بل قال بعض العلماء : يشرع التمثيل بهم في حال حياتهم إذا قُصد كسر شوكتهم ، خاصة إذا عظمت أذيتهم للمسلمين ، وإضرارهم بالمؤمنين .
فالمقصود أن هذه الرواية تبين ما فعل النبي صلى الله عليه وسلم من سمل عيون هؤلاء العرنيين والعكليين ؛ لأنهم فعلوا براعي النبي صلى الله عليه وسلم مثل ذلك .
__________
(1) / البقرة ، آية : 194 .(34/2)
وقد ذهب جمع من السلف رحمهم الله إلى تحريم التمثيل بالجثث ، وتحريم التمثيل بالأحياء ، واستندوا إلى نهي النبي صلى الله عليه وسلم الثابت الصحيح ، فقد ثبت في الحديث عنه عليه الصلاة والسلام أنه نهى عن المثلة ، وفي الحديث الصحيح عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال : (( إن الله كتب الإحسان على كل شيء فإذا قتلتم فأحسنوا القتلة وإذا ذبحتم فأحسنوا الذبحة وليحد أحدكم شفرته وليرح ذبيحته )) ، قالوا فيشرع حينئذ أن يكون القتل على الوجه الحسن ، وألا يشتمل على التمثيل .
والصحيح المذهب الأول من جوازه عند وجود القصاص ، أو عند وجود قصد كسر شوكة العدو ؛ لما في ذلك من تحقيقٍ لمصالح الإسلام .
وقوله سبحانه وتعالى :{وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ } : أي كتبنا عليكم وفرضنا عليكم أن تقتصوا في الجروح ، وذلك أن الجنايات بين الناس لا تخلو من حالتين :
الحالة الأولى : أن تكون جناية على النفس وذلك بالإزهاق والقتل ، فحينئذ يكون القصاص بالقتل ؛ لقوله سبحانه وتعالى :{ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمْ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى}(1) .
وأما إذا كانت الجناية دون النفس فتأتي على الأطراف ، فإذا أتت على الأطراف فإنه يشرع القصاص ؛ لما ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم من قوله : (( كتاب الله القصاص )) فيشرع القصاص ولكن بشرط أن يؤمن الحيف ، فإذا أمن الحيف فإنه يشرع القصاص عند وجود المساواة بين الجاني والمجني عليه ، وعند وجود قصد العمد العدوان في الجناية كما هو مقرر في الفقه-وسيأتي إن شاء الله بسط هذه الأحكام وبيان مسائلها في أبواب الجنايات-.
قال المصنف رحمه الله : بَاب مَا جَاءَ فِي الْوُضُوءِ مِنَ الرِّيحِ
الشرح:
__________
(1) / البقرة ، آية : 178 .(34/3)
يقول المصنف رحمه الله " باب ما جاء في الوضوء من الريح " : أي في هذا الموضع سأذكر لك ما ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم من الأحاديث التي تدل على وجوب الوضوء بسبب خروج الريح ، وهذا الباب وما يليه من الأبواب الثمانية كلها تبين أحكام نقض الوضوء ، فقد اعتنى المصنف رحمه الله بذكر نواقض الوضوء فذكر هذا الباب ، وباب النقض بالنوم ، وباب النقض بمس الذكر ، ويليه أبواب أخر تبين نواقض الوضوء ، وباب نواقض الوضوء يعتبر من أهم الأبواب المتعلقة بكتاب الطهارة ، وهو يتصل بالطهارة الصغرى-أعني طهارة الوضوء- ، فبعد أن بين لنا رحمه الله صفة وضوء النبي صلى الله عليه وسلم وهديه شرع في بيان ما ينقض الوضوء ويؤثر فيه ، وهذا من باب ترتيب الأفكار؛لأن نقض الوضوء إنما يكون بعد وقوعه ووجوده ، ومن هنا قال العلماء : إن النقض لا يكون إلا لما بني ووجد ، فلما بين لنا رحمه الله أحكام الوضوء وصفته وهدي رسول الله صلى الله عليه وسلم فيه شرع في بيان ما ينقض الوضوء ويوجب فساده .
ونواقض الوضوء تنقسم إلى أقسام : فهناك نواقض تتعلق بالسبيلين ، وهناك نواقض تتعلق بغير السبيلين ، وهناك أشياء لا تعتبر بذاتها ناقضة ولكنها مظنة النقض .
فأما الناقض الأول : فهو الخارج من السبيلين ، وهذا الخارج يشمل ما كان من القبل وما كان من الدبر ، فهناك أشياء إذا خرجت من قبل الإنسان أوجبت الحكم بانتقاض وضوئه ، وهناك أشياء إذا خرجت من دبره أوجبت انتقاض وضوئه وفساده .
فأما الذي يتعلق بالقبل فأولها : خروج البول ، فقد أجمع العلماء رحمهم الله على أن البول ناقض للوضوء ، وقد ثبتت بذلك السنة الصحيحة عن النبي صلى الله عليه وسلم .(34/4)
وخروج البول العبرة فيه بمجاوزة رأس الذكر بالنسبة للرجل ، وبالنسبة للمرأة مجاوزة الموضع الأعلى من فرجها ، فإذا خرج البول وتحقق من خروجه سواء كان قليلاً أو كان كثيراً فإنه يحكم بانتقاض الوضوء ، أما لو شعر بالبول في مجرى الذكر ولكنه لم يخرج حقيقة إلا بعد زمان فإنه لا يوجب انتقاض الوضوء ، ولو كان الإنسان في الصلاة فشعر بحركة البول في الذكر ؛ ولكن البول لم يتقاطر إلا بعد السلام فصلاته صحيحة ؛ لأن العبرة بالخروج والخروج لا يتحقق إلا بمجاوزة مجرى الذكر من الإحليل ، وذلك إنما يكون بمجاوزة رأس العضو ، فإذا حصل ذلك حكم بانتقاض الوضوء بإجماع العلماء رحمهم الله ، وهذا الخارج أعني كون البول ناقضاً للوضوء محل إجماع بين العلماء رحمهم الله ، ويشمل ذلك الذكور والإناث ، إلا أن البول إذا غلب الإنسان وأصبح مبتلى بسلس البول ، بحيث لا يمكنه أن يصلي وقد استتم امتناع خروج البول فيه ، فإنه حينئذ يتوضأ لدخول وقت كل صلاة ويصلي ، ولا يعتبر خروج البول على هذا الوجه موجباً لانتقاض وضوئه ، وذلك لأنه أمر يشق عليه أن يتحرز ويتوقى منه ، ولو قلنا إنه مطالب بإعادة الوضوء لحصل له من المشقة ما الله به عليم ، وليس في وسعه أن يتحمل هذه المشقة الموجبة للحرج والعنت ؛ ولذلك أجمع العلماء رحمهم الله على أن من تقاطر معه البول بحيث لا يمكنه أن يصلي صلاة دون أن يخرج منه شيء فإنه يصلي على حالته ولو خرج منه بول :{ لاَ يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا}(1) .
الناقض الثاني : الوديّ ، والوديّ قطرات كدرة تخرج عَقَب البول ، فهذه موجبة لانتقاض الوضوء ، فلو أن إنساناً بال ثم لما بال قام وتوضأ وبعد الوضوء شعر بخروج القطرات فنظر فإذا الوديّ ، فإن هذا الودي يوجب انتقاض الوضوء ، والرجوع ثانية لكي يغسل الذكر ثم يغسل ما أصاب الثياب من قطراته ويعيد الوضوء .
__________
(1) / البقرة ، آية : 286 .(34/5)
الناقض الثالث : المذي ، والمذي قطرات لزجّة تخرج عند بداية الشهوة واللذة ، فهذه القطرات تعتبر نجسة لأن النبي صلى الله عليه وسلم أمر علياً رضي الله عنه وأرضاه أن يغسل الذكر منها ، وأمره بالوضوء كما في الصحيح عنه رضي الله عنه أنه قال :" كنت رجلاً مذاء فأمرت المقداد أن يسأل النبي صلى الله عليه وسلم فسأله " فقال :(( فيه الوضوء)) وفي رواية : (( توضأ وانضح فرجك )) فدل هذا على أن المذي يأخذ حكم البول سواء بسواء ، فهو نجس كالبول ، ثم يجب عليه أن يعيد الوضوء كما لو خرج منه البول ، ويستوي في ذلك أن يخرج منه المذي قليلاً أو كثيراً ، فالقطرة اليسيرة من المذي موجبة لانتقاض الوضوء .
وأما الخارج الرابع من القبل : فهو دم الاستحاضة ، ودم الاستحاضة دم فساد ومرض يخرج من رحم المرأة بسبب العِرق كما ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه عِرق يقال له العاند أو العاذر أو العاذل ، وهي أسماء وردت بها الأحاديث عن النبي صلى الله عليه وسلم فهو عاند : لعناده بعدم انقطاع الدم على الصورة المعتادة المعروفة ، وهو عاذل : لأنه يوجب العذل ، وهو عاذر : لأنه يوجب عذر المرأة لمكان المشقة والحرج فيه .(34/6)
فدم الاستحاضة يعتبر دم مرض ، وأما دم الحيض فإنه دم معتاد ، وبناءً على ذلك فإذا استمر الحيض وجاوز أيام العادة حكمنا بكونه استحاضة ، وهو الذي عناه النبي صلى الله عليه وسلم بقوله : (( إنما ذلك عرق )) فدم الاستحاضة كالبول سواء بسواء ، فهو خارج نجس من الموضع المعتبر ، وحينئذ يحكم بانتقاض الوضوء بخروجه ، ولكن المرأة إذا شق عليها الأمر فإنها تغسل فرجها عند دخول وقت الصلاة ، فإذا نظفت الفرج فإنها تضع قطنة أو تضع شيئاً تشد به فرجها ؛ لكي يستحكم ، وحينئذ تتوضأ ثم تصلي ما شاء الله ، فإذا غلبها الدم وأزعجها حتى خرج فإنها معذورة وتصلي ولو تقاطر الدم منها :{ لاَ يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا } ، وهي معذورة بهذا الوجه .
الخارج الخامس من القبل : الريح ، ويختص بالنساء دون الذكور ، والريح يخرج من الذكر ويخرج من الأنثى ، ولكنه من الذكر أهدره العلماء - رحمهم الله - ؛ لأن صورته ليست كصورته من قبل المرأة ، أما بالنسبة لخروجه من قبل المرأة فللعلماء فيه قولان مشهوران :
قال بعض العلماء : خروج الريح من القبل يوجب انتقاض الوضوء كخروجه من الدبر ، ويستوي في ذلك الخروج من الموضعين ، فكما أوجب الله عز وجل الوضوء من خروجه من الدبر كذلك نوجبه من خروجه من القبل ، واحتجوا بعموم قوله عليه الصلاة والسلام في الحديث الصحيح : (( لا وضوء إلا من صوت أو ريح )) قالوا : إن النبي صلى الله عليه وسلم أوجب الوضوء بالصوت والريح ، والمرأة إذا خرج الريح من قبلها دخلت في عموم هذا الحديث الشريف فيجب عليها أن تتوضأ .
وخالف بعض أصحاب الإمام أبي حنيفة - رحمة الله عليهم - فقالوا : خروج الريح من المرأة من قبلها لا يوجب انتقاض الوضوء .
والصحيح الأول لعموم السنة كما ذكرنا .
أما بالنسبة للقسم الثاني من النواقض : فهي النواقض التي تخرج من الدبر ، والنواقض التي تخرج من الدبر لا تخلو من صور :(34/7)
الصورة الأولى : أن يكون الخارج غائطاً ، فقد أجمع العلماء رحمهم الله على أن البراز والغائط يوجب انتقاض الوضوء ، وقد قال الله في كتابه المبين :{أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنْ الْغَائِطِ أَوْ لاَمَسْتُمْ النِّسَاءَ}(1) فاعتبر ذلك من موجبات الوضوء ، قالوا : فإذا تبرز فالإجماع منعقد على أن خروج الغائط يوجب انتقاض الوضوء ، ولا خلاف في هذا .
وأما بالنسبة للصورة الثانية : فهي خروج الريح ، والإجماع منعقد على أن خروج الريح يوجب انتقاض الوضوء ؛ لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح : (( لا يقبل الله صلاة أحدكم إذا أحدث حتى يتوضأ )) فقد سئل أبو هريرة رضي الله عنه وأرضاه عن الحدث ففسره بخروج الريح ؛ ولذلك قالوا : إن هذا الحديث من أقوى الأدلة في اعتبار خروج الريح ناقضاً للوضوء ، وقد خالف في ذلك من لا يعتد بخلافه من أهل الأهواء ، ولكن يشترط في خروج الريح أن يتحقق من الخروج ،- كما سيأتي إن شاء الله بيانه عند ذكر حديث بابنا -.
أما بالنسبة للصورة الثالثة : أن يكون الخارج له جرم ويكون من غير البراز : كخروج الدود والحصى، فخروج الدود والحصى لا يخلو من حالتين إذا خرج من الدبر :
فأما الحالة الأولى : أن يخرجا وعليهما نداوة ورطوبة . وإما الحالة الثانية : أن يخرجا يبسين .
فإن خرج الدود والحصى وعليهما الرطوبة والنداوة انتقض الوضوء ؛ والسبب في ذلك أن هذه النداوة نجسة ، ويكون خروج الدود مصاحباً لها كخروج قطرات النجس ، وبناءً عليه ينتقض الوضوء كخروج نفس القطرات بنفسها سواء بسواء .
أما إذا خرج الحصى والدود سليمين من النداوة ومن الطرواة ومن وجود الفضلة الطعامية فإنه لا يوجب انتقاض الوضوء ؛ وذلك لأنه خارج غير معتاد وليس في حكم حدث حقيقي ، وليس في حكم الحدث ، وبناءً على ذلك لا يوجب انتقاض الوضوء .
__________
(1) / النساء ، آية : 43 ، و المائدة ، آية : 6 .(34/8)
وأما بالنسبة للصورة الرابعة للفضلات التي يفضلها الدبر : فهو أن يكون الخارج دماً ، ويقع ذلك في أشهر صوره بدم البواسير ، والبواسير إذا كانت من داخل الدبر لها حكم ، وإن كانت من خارج الدبر لها حكم :
فأما البواسير التي في داخل الدبر : فإن خروج الدم منها يوجب انتقاض الوضوء ، وهكذا النزيف الذي يقع في أعلى فتحة الشرج إذا كان من داخل لا من خارج ، فهذا كله يوجب انتقاض الوضوء .
ولكن دم البواسير فيه تفصيل :
فإن كان دم البواسير لا يرقأ ، وكلما غسله الإنسان تقاطر على وجه يصعب عليه أن يمنعه ، فحينئذ يكون حكمه حكم دم الاستحاضة سواء بسواء ، فهو كانفجار العرق من القبل من المرأة لا يوجب الوضوء إذا استرسل ، وإنما نقول لصاحبه إذا أذن المؤذن ودخل الوقت فإنه يجب عليك غسل الموضع وتنظيفه ، ثم يضع قطنة أو نحوها كما ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم في أمره للمرأة المستحاضة أن تتلجم وأن تعصب الفرج ، فيضع في فرجه قطنة أو نحو ذلك لسد هذا الدم ، فإن غلب الدم ونزل فإنه لا يوجب انتقاض الوضوء ، حتى إذا خرج وقت الصلاة فإنه يتوضأ ويكون في حكم من انتقض وضوؤه .
وأما إذا كانت البواسير من خارج : فإنها لا تنقض الوضوء وجهاً واحداً ، إلا على قول الحنابلة-رحمة الله عليهم - الذين يقولون إن خروج الخارج النجس من ظاهر البدن يوجب انتقاض الوضوء ، وهو وجه عند أصحاب الإمام أبي حنيفة - رحمة الله على الجميع - .
والصحيح أن دم البواسير إذا كان خارجاً من الظاهر لا يوجب انتقاض الوضوء .
وأما بالنسبة للقسم الثالث من النواقض : أن يكون الخارج من بديل عن السبيلين .(34/9)
وصورة ذلك : في الفتحة التي يفتحها الأطباء أو تكون فتحة خلقية موجودة في الرجل أو الأنثى ، وتكون في غير القبل والدبر، فهذه الفتحة تنزل منزلة فتحة الشرج ، أو تنزل منزلة القبل ، فإنها تأخذ حكم القبل والدبر سواء بسواء ، فإذا مرض الإنسان واستأصلت مقعدته ، وفتحت له فتحة بدلا عن فتحة الشرج فإن هذه الفتحة تأخذ حكم فتحة الشرج بالنسبة للخارج ، فكل ما خرج منها من الفضلات والأنجاس فإنه يوجب الحكم بانتقاض الوضوء ، كخروج الخارج من الفتحة الأصلية سواء بسواء ، ويستوي في ذلك أن تكون من جهة القبل أو من جهة الدبر ، ولكن شرط التأثير فيها أن تكون أسفل من المعدة وألا تكون فوق السرة لأنها حينئذ يكون فيها تفصيل ، ولا توجب انتقاض الوضوء إلا على تفصيل .
وأما بالنسبة للخارج الرابع : فهو أن يخرج من القبل والدبر ما يولج فيهما .(34/10)
مثال ذلك : أن يدخل في القبل أو الدبر شيء ويخرج هذا الشيء الذي أدخل ، فإذا خرج وعليه النداوة فإنه يحكم بانتقاض الوضوء ، ومن أمثلة ذلك المناظير الطبية الموجودة في زماننا ، فإن هذه المناظير الطبية توجب انتقاض الوضوء ؛ والسبب في ذلك أنه لا يمكن إدخالها إلا بعد إضافة السوائل عليها ، وهذه السوائل بمجرد دخول المنظار عن طريق فتحة الشرج مثلاً فإنه يمس ظاهر ذلك المنظار ما يكون على جدار المعدة من الفضلات النجسة ، والقاعدة : " أن الجرم الطاهر إذا لامس الجرم النجس وكان أحدهما ندياً أو رطباً فإنه يتنجس الطاهر بالمماسة " كما ذكرنا ذلك في حديث فاطمة بنت قيس-رضي الله عنها وأرضاها- حينما أتت بصبيها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وبال في حجره ، فهذه المناظير لا شك أنها إذا أدخلت فإنها تخرج بفضلات كانت موجودة على جدار الأمعاء ، وعلى الأقل أن يكون عليها شيء من الدهان الذي يعين على سلوكها ودخولها ، وحينئذ يماس الطاهر الرطب النجس الرطب ، ولا شك أن ذلك يوجب خروج شيء من الفضلات ، وإن كانت يسيرة في الظاهر لكنها بمجموعها تبلغ حد التأثير ، ومن هنا يعتبر زرق هذه المناظير موجباً لانتقاض الوضوء ، وفي حكم ذلك ما يولج عن طريق فتحة القبل ، فإنه يوجب انتقاض الوضوء كما ذكرنا .
وأما بالنسبة للنوع الخامس من الموجب لانتقاض الوضوء فهو : خروج الفضلة عن طريق الفم ، ويقع ذلك في صورة القيء خاصة ، فإذا قاء الإنسان الطعام فلا يخلو القيء من حالتين :(34/11)
الحالة الأولى : أن يخرج القيء وقد تغير الطعام وفيه رائحة الفضلة النجسة ، تغير لوناً أو طعماً أو رائحة فإننا نحكم بانتقاض الوضوء ؛ والسبب في ذلك أن الطعام قد استحال نجساً ، وذلك بظهور علامات النجاسة عليه بالتغير ، فاستوى خروج الطعام من أسفل البدن ومن أعلى ، وفي ذلك حديث ثوبان رضي الله عنه وأرضاه مرفوعاً إلى النبي صلى الله عليه وسلم " أنه قاء وتوضأ " ، وعليه فإن القيء إذا كان بطعام متغير سواء وجدت فيه رائحة النجاسة أو لونها أو طعمها فإنه يوجب انتقاض الوضوء .
والحالة الثانية : أن يخرج القيء ولم يتغير ، مثال ذلك : أن يكون الإنسان حديث العهد بالطعام ثم يقيء بسبب الشبع فإن هذا القيء في الغالب يخرج بطعام لا يتغير ، فهذا النوع من القيء لا يوجب انتقاض الوضوء ، والسبب في ذلك واضح حيث إن هذا الطعام لم يصل إلى المعدة ، وإذا وصل الطعام إلى المعدة واستحال كان خروجه من أعلى وأسفل سواء ، ولكن إذا لم يصل إلى المعدة أو وصل إلى المعدة ولم يستحل فإنه لا يوجب انتقاض الوضوء ؛ لأنه فضلة البدن من الأعلى ، وفي حكم الطاهر الخارج من الأعلى ، وهو آخذ حكم القلس من الصبيان ، ولا يوجب انتقاض الوضوء كما هو قول جماهير العلماء رحمهم الله .
هذه هي مجمل نواقض الوضوء بالنسبة للأحداث .
وهناك نوع ثان من النواقض وهو مظنة الحدث : والمراد به أنه ليس بحدث حقيقي ولكنه مظنة خروج الخارج ، ومن أشهر هذا القسم النوم ، فإن النوم يعتبر ناقضاً للوضوء ولكن بشرط أن يكون نوماً مؤثراً ، والنوم ينقسم إلى قسمين :
القسم الأول : أن يزول معه الشعور .
والقسم الثاني : ألا يزول معه الشعور .(34/12)
فإذا نام الإنسان وكان نومه قد زال معه شعوره فإنه يحكم بانتقاض وضوئه ؛ لقوله عليه الصلاة والسلام :(( العين وكاء السه فإذا نامت العينان استطلق الوكاء )) فهذا الحديث الثابت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم يدل على أن النوم ناقض للوضوء ، وفي حديث صفوان بن عسال المرادي رضي الله عنه وأرضاه قال : " أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم ألا ننزع خفافنا من بول أو نوم أو غائط " فجعل النوم مع البول والغائط فدل على أنه ناقض للوضوء ، وهذا النوع من النواقض يعتبره العلماء مظنة الحدث ، فالنوم ليس بحدث حقيقي ولكنه مظنة أن يخرج من الإنسان شيء وهو لا يشعر ؛ لأنه إذا نام زال عنه الشعور .
وهنا سؤال : ما هو الفرق بين النوم المؤثر والنوم غير المؤثر ..؟؟
والجواب : أن النوم المؤثر هو الذي زال معه الشعور ، وزوال الشعور يعرف بعلامات ذكرها العلماء رحمهم الله ، ومن هذه العلامات قالوا : أن ينام الإنسان وبجواره أناس يتحدثون فلا يستطيع أن يميز حديثهم ، فإذا وصل إلى درجة لا يميز الحديث الذي يسمعه فقد انتقض وضوؤه .
ومن أمثلة ذلك أيضاً : أن ينام وفي يده القلم فيسقط القلم وهو لا يشعر ، أو ينام وفي يده القلم فتعبث يده بالقلم وهو لا يشعر ، فهذا يدل على أنه قد وصل إلى الحد المؤثر ، أما إذا غفت عيناه وكان حاضر الشعور يدرك ما حوله فإنه لا يحكم بانتقاض وضوئه ، ولما حكم الشرع بانتقاض الوضوء بالنوم قال العلماء رحمهم الله : إن النبي صلى الله عليه وسلم نّبه بالنوم على مثله ، فقالوا : إن زوال العقل يوجب انتقاض الوضوء لأنه كما انتقض الوضوء بزوال الشعور والإدراك بالنوم كذلك ينتقض الوضوء بزوال العقل وفرعوا على ذلك مسائل :(34/13)
المسألة الأولى : من جُنّ فإنه يحكم بانتقاض وضوئه ، فلو أن إنساناً كان متوضئاً ثم أصابه اللمم والجنون أصابه ساعة أو ساعتين فإنه يحكم بانتقاض وضوئه ، فإذا أفاق يعيد الوضوء ؛ لأنه قد زال شعوره ولا يأمن في هذه الحالة أن يخرج منه الخارج ، فانطبق عليه قول النبي صلى الله عليه وسلم من جهة المعنى : (( العينان وكاء السه فإذا نامت العينان استطلق الوكاء )) فهذا المجنون لا شك أنه لو خرج منه شيء أثناء جنونه لم يشعر .
المسألة الثانية : إذا أغمي على الإنسان فإنه يحكم بانتقاض وضوئه ، ووجوب الإعادة عليه إذا أراد الصلاة .
المسألة الثالثة : وفي حكم المجنون والمغمى عليه السكران ، فمن شرب الخمر فإنه يحكم بانتقاض وضوئه لزوال شعوره ، لأنه إذا سكر هذى وزال إدراكه وشعوره ، ولذلك حرم الله الصلاة أثناء السكر ؛ لأنه لا يعرف ما يقول ، ولا يدري ما الذي ينطق به ، وبناءً عليه فإن السكر يوجب انتقاض الوضوء .
وفي حكم المسكرات المخدرات ، فإن المخدرات توجب انتقاض الوضوء كالمسكرات سواء بسواء ، فهذا كله يوجب انتقاض الوضوء .(34/14)
والنوع السادس من النواقض : الردة عن الإسلام-والعياذ بالله- ، فمن كفر بالله عز وجل فإنه يحكم بانتقاض وضوئه وبطلانه ، سواء أحدث أو لم يحدث ، فلو أن إنساناً -والعياذ بالله - توضأ ثم سب الدين فإنه بسبه للدين يكفر ، وحينئذ يعتبر مرتداً ، وإذا ارتد أحد عن الإسلام بطلت أعماله ، قال-تعالى-:{وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُوراً}(1) فحكم الله بضياع العمل بالكفر ، ومن هنا قال العلماء : إن الكفر يوجب إعادة الحج ، فلو أن إنساناً كان على الإسلام ، ثم حج حجة الإسلام ، ثم كفر وارتد ، ثم أسلم ثانية فإنه يطالب بإعادة الحج ؛ لأن الحج عمل والعمل يحبط بالكفر ، كما قال-تعالى-:{لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنْ الْخَاسِرِينَ}(2) فلا شك أن الكفر يوجب حبوط العمل ، وحينئذ يلزمه إذا رجع ثانية أن لا يصلي إلا بعد أن يتطهر.
النوع السابع من النواقض : أكل لحم الجزور ، وقد دل النبي صلى الله عليه وسلم إلى ذلك بقوله حينما سئل عن الوضوء من لحم الجزور فقال- عليه الصلاة والسلام -: (( نعم ، قيل له أنتوضأ من لحوم الإبل ؟ قال : نعم )) فدل هذا على وجوب الوضوء من أكل لحم الجزور ، سواء أكله الإنسان نياً أو أكله مطبوخاً ، ويستوي في ذلك لحم الجزور أن يكون من اللحم ، أو يكون مما في حكم اللحم كشرب المرق الذي يكون منفصلاً من اللحم ، وهكذا بالنسبة للأعضاء التي تكون في حكم اللحم كأكل كبد الجزور فإنها توجب انتقاض الوضوء كاللحم سواء بسواء .
هذه هي مجمل نواقض الوضوء ، وقد اعتنى العلماء من المحدثين والفقهاء رحمهم الله ببيان هذا الباب ؛ لأهميته ، وحاجة الناس إليه ، وكثرة سؤالهم عن الأحكام المتعلقة بهذا الباب ،- أعني باب نواقض الوضوء -، وهذا الباب وما يليه من ثمانية أبواب كلها تشتمل على بيان نواقض الوضوء .
__________
(1) / الفرقان ، آية : 23 .
(2) / الزمر ، آية : 65 .(34/15)
قال المصنف رحمه الله : حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ وَهَنَّادٌ قَالاَ حَدَّثَنَا وَكِيعٌ عَنْ شُعْبَةَ عَنْ سُهَيْلِ بْنِ أَبِي صَالِحٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ :(( لاَ وُضُوءَ إِلاَّ مِنْ صَوْتٍ أَوْ رِيحٍ )) .
قَالَ أَبو عِيسَى رحمه الله : هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ .
الشرح :
هذا الحديث الشريف يدل على أن خروج الريح يوجب انتقاض الوضوء ، وهو محل إجماع بين العلماء رحمهم الله ، ولكن خروج الريح يوجب الشك والوسوسة للناس ، ولذلك قل أن يتوضأ الإنسان إلا ويأتيه الشيطان يوسوس له أنه قد خرج منه الريح ، ولربما عبث بمقعدة الإنسان حتى يخيل له أنه قد خرج منه الريح ، فمن رحمة الله سبحانه وتعالى ولطفه بعباده جعل لهذا الخروج أمارات وعلامات لابد من وجودها ، وقطع الشك باليقين ، وأمر المسلم أن يرجع إلى هاتين العلامتين البينتين الواضحتين ، واللتين يزول معهما الشك :
العلامة الأولى : وجود الصوت ، فإذا سمع صوت الخارج فإنه يحكم بتحقق انتقاض وضوئه .
وأما العلامة الثانية : فهي أن يشم الرائحة ، وذلك أن الخارج يستدل له بهاتين العلامتين : إما وجود الريح ، وإما سماع الصوت ؛ ولذلك ثبت في الصحيحين من حديث عبد الله بن زيد رضي الله عنه وأرضاه قال : " شكي إلى النبي صلى الله عليه وسلم الرجل يخيل إليه أنه يجد الشيء في الصلاة- أي يخيل إليه أنه خرج منه الريح- فقال صلى الله عليه وسلم :(( لا ينصرف حتى يسمع صوتاً أو يجد ريحاً )) فهذا الحديث الصحيح الصريح يدل على أن المسلم إذا توضأ وأتم الوضوء أنه لا يحكم بانتقاض وضوئه إلا بوجود البينة والعلامة ، وذلك بوجود الصوت أو وجود الريح ، والصوت لا يخلو من حالتين :
الحالة الأولى : أن يتحقق الإنسان أنه خارج منه منبعث عنه ، فحينئذ لا إشكال في حكمه بانتقاض وضوئه .(34/16)
الحالة الثانية : أن يشك أن يكون خارجاً منه ، كأن يجلس اثنان ويُسمع الصوت منهما ، ولا يُدرى أهو خارج من هذا أو من ذاك ؟ فحينئذ لا يجب الوضوء لا على هذا ولا على هذا ؛ والسبب في ذلك أن كلاً منهما متيقن طهارة نفسه وشككنا في خروج الخارج منه ، فحينئذ لا يمكن أن ينتقل عن اليقين إلا بيقين مثله ، فيحكم كل منهما بكونه على الصواب حتى يستبرئ ويستيقن ، ويُعذر الذي خرجت منه الريح لوجود الشك واللبس .
وكذلك الحال بالنسبة لعلامة الريح فإذا شم الإنسان الرائحة وكان قد جلس وحده فإنه يحكم بانتقاض وضوئه بلا إشكال ، وأما إذا كان معه الغير وشك كل منهما في الآخر أنه هو الذي خرج منه الريح فإنه لا يحكم بانتقاض وضوئهما ، ولكن لا يجوز لأحدهما أن يصلي وراء الآخر ؛ لأنه يعتقد أنه محدث ، كما هو الحال لو شكا في جهة القبلة فقال أحدهما من هنا ، وقال الثاني من هنا ، فإنه لا يقتدي أحدهما بالآخر ؛ لأنه يعتقد أنه على خطأ ، كذلك في مسألتنا يعتقد أنه منتقض الوضوء ، ولا يجوز للمسلم أن يقتدي بإمام يعلم أنه محدث ، وإذا اقتدى بالإمام وهو يعلم أنه محدث فصلاته واقتداؤه باطل كما نص على ذلك جماهير العلماء - رحمهم الله - .
وفي هذا الحديث قاعدة من قواعد الإسلام ، اشتملت على جملة من المسائل والأحكام حيث فرع العلماء رحمهم الله على هذا الحديث الشريف القاعدة التي تقول : " اليقين لا يزال بالشك" وتوضيح ذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم أمرنا أن نبقى على اليقين ، وأما شك خروج الريح فقد ألغاه النبي صلى الله عليه وسلم ، فبنى العلماء على هذا الحديث هذه القاعدة التي تعتبر من أهم القواعد الخمس التي بُني عليها فقه الإسلام : " اليقين لا يزال بالشك" ، ومن فروع هذه القاعدة :" أن الأصل بقاء ما كان على ما كان" .(34/17)
ومن هنا قال فقهاء الحنفية والشافعية والحنابلة والظاهرية : إن الإنسان إذا توضأ وشك هل خرج منه شيء أو لم يخرج فإنه يبني على أنه متوضئ ، ويصلي ولا حرج عليه .
وخالف المالكية-رحمة الله عليهم - فقالوا : من شك في وضوئه فإنه يجب عليه أن يعيد الوضوء ؛ لأن الله أمرنا ألا نصلي إلا بطهارة متيقنة أو غالبة ، فإذا شك واستوى الاحتمالان فإنه يجب عليه أن يرجع إلى الأصل من كونه غير متطهر .
والصحيح ما ذهب إليه الجمهور أن من تيقن أنه كان على طهارة ، أو تذكر أنه توضأ وشك هل خرج منه شيء أو لم يخرج فإنه يبني على اليقين من كونه متوضئاً ؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال : (( لا ينصرف حتى يسمع صوتاً أو يجد ريحاً )) .
وهنا إشكال ذكره العلماء رحمهم الله حيث يقول لك الرجل علمنا أن من تيقن أنه توضأ وشك هل أحدث أو لم يحدث أنه يبني على أنه متوضئ ، فما الحكم لو أنه تيقن أنه توضأ وأنه أحدث ، ولكن لا يدري هل كان الوضوء أولاً ثم الحدث ؟ أو كان الحدث أولاً ثم الوضوء ..؟؟
مثال ذلك : أن تتذكر أنك توضأت ، وتتذكر أنك قد دخلت إلى دورة المياه وقضيت الحاجة وانتقض الوضوء ، ولكن لا تدري هل دخولك للخلاء كان هو السابق للوضوء ، ووضوؤك وقع بعد الدخول فأنت الآن متوضئ ، أو العكس أي وقع دخولك للخلاء بعد الوضوء فأنت محدث ؟ فحينئذ يسمي العلماء - رحمهم الله - هذه الحالة باجتماع اليقين في الأمرين ، فهو على يقين أنه توضأ ، وعلى يقين أنه أحدث ، ولكن لا يدري أيهما سبق.(34/18)
والصحيح في هذه المسألة أنه يؤمر الإنسان بالتذكر قبل الوضوء وقبل الحدث ، فنقول له : أنت الآن في العصر ، وتشك في سبق الوضوء والحدث الذي وقع بين الظهر والعصر ، نسألك ماذا كنت قبل الظهر ؟ فيقول : أتيقن أنني كنت محدثاً ، فإذا قال أتيقن أني كنت محدثاً قبل الشك في الأمرين فإنه يحكم له بالعكس ؛ لأننا تيقنا أنه توضأ في الظهر، وشككنا في تأثير الحدث الثاني ، فيحكم بكونه متوضئاً ، والعكس بالعكس ، فلو قال : قبل الظهر كنت متوضئاً ، فإننا نحكم بكونه الآن محدثاً ؛ لأننا تحققنا حدثاً في وقت الظهر ، وشككنا في الوضوء بعده ، فنبقى على اليقين من كونه محدثاً ، وعلى هذا قال العلماء تطّرد القاعدة في مسائل الأحداث ، وفي حكم خروج الريح خروج البول والغائط ، وكذلك مسائل السلس فكل ذلك ينبغي على المسلم أن يبقى فيه على الأصل .
ولا شك في أن هذه القاعدة التي تفرعت على هذا الحديث الشريف تشتمل على رحمة من الله سبحانه وتعالى بعباده ، فلو تصورنا حال الإنسان أنه بمجرد شكه في وضوئه أنه يذهب ويعيد ، كيف سيكون حال الإنسان لا شك أنه سيصل إلى درجة الحرج والمشقة ، فالحمد لله الذي شملنا برحمته ، وعمنا بتيسير أحكامه ، وصدق الله إذ يقول في كتابه :{ وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ}(1) فهذه رحمة من الله سبحانه وتعالى بعباده ، فـ{الحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلاَ أَنْ هَدَانَا اللَّهُ}(2) وصلى الله وسلم وبارك على نبيه وآله وصحبه .
- ? - ? - ? - ? - الأسئلة - ? - ? - ? - ? -
السؤال الأول :
كيف نجمع بين النهي عن التعذيب بالنار ، وكون النبي صلى الله عليه وسلم سمل أعين العرنيين بمسامير من نار ..؟؟
الجواب :
بسم الله الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه أما بعد :
__________
(1) / الأنبياء ، آية : 107 .
(2) / الأعراف ، آية : 43 .(34/19)
فقد أجاب العلماء - رحمهم الله - عن هذا بأنه من باب القصاص كما ذكرنا ، ونظراً لكونهم فعلوا ذلك براعي رسول الله صلى الله عليه وسلم فقد فعله النبي صلى الله عليه وسلم بهم ؛ لقوله- تعالى- :{وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ }(1) ، وقوله -سبحانه- :{فَمَنْ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ }(2) ، ومن هنا قال العلماء : إن هذا وقع من باب المماثلة .
وذهب بعض العلماء : إلى أن النهي نسخ هذا الحكم ، وأن هذه القضية كانت سابقة لنهيه - عليه الصلاة والسلام - ، ثم نهى عن ذلك .
وبعض العلماء : يرى أنه لاحرج في فعله على سبيل القصاص على الوجه الأول الذي ذكرناه ، والله تعالى أعلم.
السؤال الثاني :
علمنا جواز التمثيل إذا كان لكسر شأفة العدو ، ولكن أشكل عليّ أن الله نهى نبيه صلى الله عليه وسلم لما أراد أن يمثل بسبعين من الكفار لما قتل حمزة رضي الله عنه ..؟؟
الجواب :
__________
(1) / النحل ، آية : 126 .
(2) / البقرة ، آية : 194 .(34/20)
وقع منه عليه الصلاة والسلام ذلك على سبيل الانتقام ، ولم يكن منه عليه الصلاة والسلام من باب المماثلة ، وفرق بين القصاص إذا كان بين المسلمين وبين الكفار ، فإذا كان بين المسلم والمسلم ووقعت جناية كالمسلم على المسلم بما يوجب شيئاً من التمثيل ، كأن يقطع طرف أذنه أو يقطع أصابعه أو نحو ذلك ، فإن الشرع يوجب القصاص في هذا ، ويكون المكلف هو الذي أدخل على نفسه بالجناية على أخيه ، وأما بالنسبة للكفار فإن النبي صلى الله عليه وسلم عزم على أن يفعل بهم ذلك وقد وقع منه عليه الصلاة والسلام من باب الرد لقتل حمزة ، ولا شك أنه ليس هناك مقابلة من جهة العدد ، وعلى هذا قال :{وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ } ، وهذا أصل أراد الله عز وجل أن يجعل نبيه رحمة لعباده ، ولم يجعله نقمة عليهم ، وهو خارج عن موضوعنا ؛ لأن موضوعنا في أحوال مخصوصة ليست على سبيل التشفي والانتقام ، وفرق بين التشفي والانتقام وبين كسر الشأفة ، فكسر الشأفة لا يكون من باب التشفي والانتقام الذي يكون تبعاً للفعل كما وقع في قصة حمزة-- رضي الله عنه - وأرضاه-، وعليه فإنه إذا قصد منه النكاية بالكفار فأصول الشريعة وأدلتها دالة على مشروعية ذلك ، ويكون النهي إذا لم يوجد موجب كما هو الأصل المقرر في كثير من المسائل المشابهة لمسألتنا ، والله تعالى أعلم .
السؤال الثالث :
أشكل عليّ كون المذي نجساً بالرغم من أن المني غير نجس ، والمذي يسبق المني ..؟؟
الجواب :(34/21)
في الحقيقة أمور العبادة أمور مردها إلى الشرع ، فالله عز وجل من حكمته يفرق بين المتماثلين ، ويجمع بين المتناقضين ؛ حتى يعلم المكلف أنه مكلف ومأمور ، وما عليه إلا التسليم ، ولو كانت الأوامر والنواهي تأتي على سنن واحد لكان الناس لايقبلون إلا ما تعقّلوا عِلَلَه ، ولكن كونه يجمع بين الضدين ، ويكون الشيء مع الشيء خارجاً من موضع واحد أحدهما نجس والثاني طاهر فهذا بحكم الشرع ، والشرع يجمع بين المتضادين ، وكذلك أيضاً يفرق بين المتماثلين في الحكم ، وكل ذلك على سبيل التعبد ، وهناك وجه لبعض العلماء بأن هناك فرقاً بين أصل المني وأصل المذي ، وقالوا : إن المذي أشبه بالبول بخلاف المني فإنه ليس بشبيه بالبول ولا في حكم البول ، ولذلك مخرجه غير مخرج البول من جهة طباعه وخصائصه وعند قذف العضو له ، ففرقوا بينهما لوجود الفرق حتى في أصلهما ، إضافة إلى أن المني أصله غير أصل البول الذي يكون من فضلات الإنسان ، والمذي في حكم فضلة المني ، وفضلة الشيء قد تأخذ حكم النجاسة مع طهارة الأصل نفسه ، وهذا إذا اشتد قذر الشيء ، وقد يكون العكس تكون فضلة النجس طاهرة ، كما هو الحال في الخل والخمر ، فالخمر إذا تخللت صارت طاهرة ، والطاهر كالتمر والعنب إذا انتُبِذَ وتغير لونه وتغيرت رائحته فإنه يصير خمراً نجساً مع أن أصله طاهر ، فالشيء قد يكون أصله طاهراً ويصير إلى نجاسة كالعنب إذا تخمر ، ويكون طاهراً مع أن أصله نجس كما هو الحال في الخل فإن أصله من الخمر ، وقد قال صلى الله عليه وسلم :(( نعم الإدام الخل )) ، وحكم بطهارته ، وبالإجماع على أن الخمر إذا تخللت بنفسها فإنها طاهرة .
فالمقصود أن الشرع قد يجمع بين المتماثلين من باب التعبد ، وقد يفرق بين المتماثلين من باب التعبد حتى يعلم الإنسان أنه مأمور ، وأن هذا على سبيل الإلزام فيكون الأمر على التسليم أقرب منه إلىكونه معقول المعنى ، والله تعالى أعلم .
السؤال الرابع :(34/22)
هل ترفع نجاسة المذي بالاستجمار أم لا بد من الغسل بالماء كما أتت رواية الصحيح ..؟؟
الجواب :
للعلماء وجهان في هذه المسألة :
بعض العلماء يقول : المذي آخذ حكم البول ، ويمكن للإنسان أن يطهره بكل طاهر كمنديل وحجر وخشب ونحو ذلك .
ومنهم من يقول : إنه لا بد من الغسل ؛ لقوله عليه الصلاة والسلام : (( واغسل فرجك )) فأمره عليه الصلاة والسلام بالغسل ، قالوا : فأمره عليه الصلاة والسلام بالغسل يدل على تعين الغسل فيه ، وأكدوا هذا بأن طبيعة المذي أقوى من البول ، فأنت ترى أن المذي مادته قوية ، ولذلك ليست كالبول ، فاللزوجة الموجودة في المذي تجعله أولى بالحكم بالغسل من البول ، والله تعالى أعلم .
السؤال الخامس :
ما حكم خروج بقايا المني بدون شهوة بعد الجماع هل يوجب الغسل أم الوضوء ..؟؟
الجواب :
من جامع زوجته ثم اغتسل ثم خرجت قطرات بعد غسله فللعلماء فيها وجهان :
منهم من يقول : يجب عليه أن يعيد الغسل ؛ لعموم قوله عليه الصلاة والسلام : (( إنما الماء من الماء)) فأوجب الماء وهو الغسل بخروج الماء وهو المني ، قالوا : وهذا مني وقد خرج فيجب عليه أن يعيد الغسل .
ومنهم من قال : إن هذا لا يوجب غسلاً ، وإنما يتوضأ ، وقالوا : لأن المني له صفة معتبرة ، وأشار الله إليها بقوله : {خُلِقَ مِنْ مَاءٍ دَافِقٍ - يَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرَائِبِ}(1)، فإذا لم يخرج المني دفقاً ، خرج قطرات ، وأفضله خروجه الأول فقد اغتسل وأجزأه غسله الأول ، وعليه فإنه لا يطالب إلا بالوضوء وهذا المذهب هو أقوى المذهبين وأصحهما إن شاء الله تعالى ، والله تعال أعلم .
السؤال السادس :
من انتقض وضوؤه بعد التسليمة الأولى فما حكم صلاته ..؟؟
الجواب :
__________
(1) / الطارق ، آية : 6-7 .(34/23)
الصلاة يخرج المكلف منها بالتسليمة الأولى ، لحديث علي الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : (( تحريمها التكبير وتحليلها التسليم )) فمن سلم التسليمة الأولى وانتقض وضوؤه قبل أن يسلم التسليمة الثانية فصلاته صحيحة ، ومن سلم التسليمة الأولى فمرت بين يديه امرأة وقلنا إن مرور المرأة يقطع الصلاة فصلاته صحيحة ، وذلك لأنه قد سلم ، وقد بين النبي صلى الله عليه وسلم أن التسليم موجب للخروج ولذلك ثبت عنه عليه الصلاة والسلام في الأحاديث الصحيحة أنه سلم من الصلاة تسليمة واحدة ، وهي إحدى الصور المعروفة في تسليمه عليه الصلاة والسلام من الصلاة ، فدل هذا على أن العبرة بالتسليمة الأولى ، ومن هنا قال بعض العلماء : من صلى وراء الإمام وأراد أن يقضي كأن يأتي متأخراً فسلم الإمام التسليمة الأولى جاز له أن يقوم قبل أن يسلم الإمام التسليمة الثانية ، بل كان بعض فقهاء الشافعية رحمة الله عليهم يشدد في بقائه إلى انتهاء الإمام من التسليمة الثانية ، ويرى أن عليه أن يقوم بمجرد تسليم الإمام التسليمة الأولى ؛ لأنها هي الأصل في الخروج عن الصلاة ، والثانية سنة ، والله تعالى أعلم .
السؤال السابع :
إذا قاء الإنسان الدم فهل ينتقض وضوؤه سواء كان قليلاً أو كثيراً ..؟؟
الجواب :
قيء الدم إذا كان نزيفاً من الجوف فإنه يوجب انتقاض الوضوء ، وذلك أنه في حكم ما أفضله من معدة الإنسان ، كما هو الحال في حال نزيف القرحة وما شاكلها ، فهذا كله يوجب انتقاض الوضوء ؛ لأنه خارج نجس من المعدة أشبه فضلة الطعام ، وأما إذا قاء الدم من أعلى الأمعاء ، أو كان الدم من الحلق فقذفه ولفظه فذلك لا يوجب انتقاض وضوئه على أصح قولي العلماء رحمة الله عليهم في أن القيء ولو كان لنجس ما دام أنه لم يكن من داخل المعدة أنه لا يؤثر ، والله تعالى أعلم .
السؤال الثامن :
ما حكم إتيان المستحاضة خاصة إذا كان الدم يلازمها أغلب الأوقات ؟(34/24)
الجواب :
المستحاضة تعتبر مخاطبة بالصلاة ، ويلزمها أن تصلي ، فهي تشبه المرأة التي ليس عليها العذر من هذا الوجه ، وبناءً عليه قال العلماء : إنها تأخذ حكم المرأة التي لا دم عليها ، فيجوز لزوجها أن يجامعها ولو كان الدم يجري معها ، ولكن كره بعض السلف كما هي إحدى الروايات عن الإمام أحمد-رحمة الله عليه- جماع المستحاضة ، كان يكره ذلك ويقول : إنها تأخذ حكم الطاهرة فتصلي ، ولكن من جهة الجماع يتأخر وينتظر حتى ينقطع عنها الدم ؛ لوجود الأذى في الموضع ، ولكن من ناحية الأصل الشرعي لا يحرم عليه ذلك ، ولكن الأفضل والأولى أن يتقي ، وهناك رواية عن الإمام أحمد هي من أقوى وأعدل ما قيل في هذه المسألة حيث قال : " إذا خاف على نفسه الزنى -كأن يصبر الرجل عن امرأته ، ويخشى على نفسه إذا صبر عليها أن يقع في الحرام - ، فحينئذ قال لا حرج أن يجامعها ولو جرى معها الدم "، والله تعالى أعلم .
وَآخِرُ دَعْوَانَا أَنِ الحمَْدُ لِلَّهِ رَبِّ العَالَميْنَ وصلَّى اللَّهُ وسلَّم وبارك على عبده ونبيَّه محمد وعلى آله وصحبه أجمعين .(34/25)
بسم الله الرحمن الرحيم
قال المصنف رحمه الله : حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ مُحَمَّدٍ عَنْ سُهَيْلِ بْنِ أَبِي صَالِحٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ :(( إِذَا كَانَ أَحَدُكُمْ فِي الْمَسْجِدِ فَوَجَدَ رِيحاً بَيْنَ أَلْيَتَيْهِ فَلاَ يَخْرُجْ حَتَّى يَسْمَعَ صَوْتاً أَوْ يَجِدَ رِيحاً )) .
قَالَ وَفِي الْبَاب عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ زَيْدٍ وَعَلِيِّ بْنِ طَلْقٍ وَعَائِشَةَ وَابْنِ عَبَّاسٍ وَابْنِ مَسْعُودٍ وَأَبِي سَعِيدٍ .
قَالَ أَبو عِيسَى رحمه الله : هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ وَهُوَ قَوْلُ الْعُلَمَاءِ أَنْ لاَ يَجِبَ عَلَيْهِ الْوُضُوءُ إِلاَّ مِنْ حَدَثٍ يَسْمَعُ صَوْتاً أَوْ يَجِدُ رِيحاً وقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْمُبَارَكِ إِذَا شَكَّ فِي الْحَدَثِ فَإِنَّهُ لاَ يَجِبُ عَلَيْهِ الْوُضُوءُ حَتَّى يَسْتَيْقِنَ اسْتِيقَاناً يَقْدِرُ أَنْ يَحْلِفَ عَلَيْهِ وَقَالَ إِذَا خَرَجَ مِنْ قُبُلِ الْمَرْأَةِ الرِّيحُ وَجَبَ عَلَيْهَا الْوُضُوءُ وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ وَإِسْحَقَ .
الشرح :
بسم الله الرحمن الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين أمابعد :(35/1)
فقد ذكر المصنف رحمه الله حديث أبي هريرة رضي الله عنه وأرضاه ، وهذا الحديث في حكم الحديث الذي تقدم معنا ، وذلك أن الأصل في شريعة الإسلام الرجوع إلى اليقين ؛ والإنسان إذا شك هل خرج منه شيء أولم يخرج منه شيء؟ فإنه ينبغي عليه أن يبقى على الأصل ، ولذلك قرر العلماء القاعدة الشرعية المشهورة التي تقول "الأصل بقاء ماكان على ماكان" ، فمن توضأ واستيقن أنه متوضىء فإنه إذا شك هل خرج منه الريح أو لم يخرج فإنه ينبغي عليه أن يبقى على الأصل ، وبهذا تندفع الواسوس الشيطانية والخطرات الإنسانية التي تكون في نفس الإنسان ؛ حيث إن المسلم إذا توضأ فإن الشيطان لايتركه ، ولذلك يوسوس له في خروج الريح ، وقد رد النبي صلى الله عليه وسلم الأمة إلى اليقين ، وذلك بأمرين واضحين بينين على الحدث :
الأمرالأول : خروج الريح ووجودها . والأمرالثاني : سماع الصوت .
فمن لم يسمع الصوت ، ولم يشم الرائحة فإنه يحكم بأنه متوضىء ، ولوشككت في خروج الريح ثم صليت وأنت على يقين بأنك متوضىء فإن صلاتك صحيحة ، ولو كان الإنسان خرج منه الريح ثم لم يسمع الصوت ولم يجد الرائحة فصلى وهو منتقض الوضوء لكنه لم يسمع الصوت ولم يجد الريح فصلاته تعتبرصلاة شرعية معتبرة لايطالب بقضائها ، وهذا كله من رحمة الله سبحانه وتعالى وإحسانه إلى عباده ، ولو أننا تعبدنا بالوساوس والخطرات ، لكان في ذلك من المشقة والحرج ما الله به عليم ، فالحمد لله على رحمته وجميل إحسانه ولطفه بعباده .
وأما ماذكره المصنف رحمه الله من قول خروج الريح من القبل ، فخروج الريح من قبل المرأة يعتبر ناقضاً للوضوء ، كخروج الريح من دبرالرجل والمرأة ، فكما أن خروج الريح يوجب انتقاض الوضوء من الدبر ، كذلك يوجب انتقاض الوضوء من القبل من المرأة خاصة .(35/2)
وأما بالنسبة للرجل فإنه لا ينتقض وضوؤه لأنه ليس بمتمحض ، ومن هنا حكم العلماء بانتقاض وضوء المرأة دون الرجل ؛ لأن خروج الريح من قبل المرأة أبلغ في الدلالة على الحدث منه من الرجل ، وأما ما ذكره رحمه الله من كون الإنسان يرجع إلى اليقين إلى درجة الحلف كل ذلك المراد منه قطع الوسواس كما لا يخفى .
قال المصنف رحمه الله :حَدَّثَنَا مَحْمُودُ بْنُ غَيْلاَنَ حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ عَنْ هَمَّامِ بْنِ مُنَبِّهٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ :(( إِنَّ اللَّهَ لاَ يَقْبَلُ صَلاَةَ أَحَدِكُمْ إِذَا أَحْدَثَ حَتَّى يَتَوَضَّأَ )) .
قَالَ أَبو عِيسَى رحمه الله : هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ .
الشرح :
هذا الحديث اتفق الشيخان على إخراجه في الصحيحين ؛ ولذلك لا إشكال في ثبوته وصحته عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ولهذا الحديث ألفاظ ومنها هذا اللفظ المؤكَّد الذي يقول فيه النبي صلى الله عليه وسلم : (( إن الله لا يقبل صلاة أحدكم )) القبول المراد به ترتب الأثر على الشيء ؛ فالشيء المقبول هو الذي ترتبت الآثار عليه ؛ ولذلك يقول قبل عذره إذا ترتب الأثر على ذلك من عدم المؤاخذة على الفعل ، وقبول الله للأعمال المراد به صحة الأعمال وإجزائها ، وترتب الثواب عليها في الدنيا والآخرة ، وذلك أن أقوال العباد وأفعالهم واعتقاداتهم مردها إلى الله سبحانه وتعالى ، فإن وقعت صحيحة موافقة للشرع خالصة لوجه لله عز وجل تقبلها الله قبولاً حسناً ، ورفعها للعبد وكانت من الأعمال الصالحة ، وأما إذا أخل العبد فيها فأوقعها على غير الصورة المعتبرة شرعاً ، أو قصد بها غير وجه الله عز وجل ، فإنها مردودة غبرمقبولة ، فإن كان الأول وجب على المكلف أن يعيد الفعل إذا لم يقع صحيحاً ، وأما إذا كان الثاني فإنه يحرم الثواب إذا صار إلى المآل والمآب.(35/3)
وأما بالنسبة لقوله هنا - عليه الصلاة والسلام - : (( لا يقبل الله صلاة أحدكم )) : فالمراد بذلك عدم صحة الصلاة ، ومن هنا أخذ العلماء دليلاً على أن الصلاة لا تصح إلا بالطهارة المعتبرة ؛ لأن الله سبحانه وتعالى أمر بها في كتابه المبين عند القيام إلى الصلاة ، وأمر بها على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم ، فلا تصح الصلاة ولا تعتبر إلا إذا كان الإنسان متوضئا؛ والمراد بذلك إذا تيسر له الوضوء ، وأما إذا لم يتيسر له الوضوء وذلك بأن فقد الماء أو عجز عن استعمال الماء فإن التيمم يحل محل الوضوء .
وقوله عليه الصلاة والسلام : (( حتى يتوضأ )) : خرج مخرج الأصل ، وأما بالنسبة لما حل محل الأصل كتيمم فإنه يعتبر مجزئاً إذا تحققت الشروط المعتبرة لصحة التيمم وإجزائه .(35/4)
وقوله عليه الصلاة والسلام :(( لا يقبل الله صلاة )) : الصلاة هنا نكرة تشمل صلاة الفرض وصلاة النافلة ؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم عمم ، والقاعدة في الأصول : " أن العام يبقى على عمومه حتى يرد مايخصصه " ، ولذلك يجب على كل مصلٍ أن يتوضأ قبل صلاته لعموم هذا النص ، ومن هنا أخذ العلماء دليلا على أن الصلاة على الجنائز لا تصح إلا بالوضوء ، ومن هنا أخذ العلماء أيضاً دليلاً على أن الطواف بالبيت لابد له من الوضوء ؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال في حديث ابن عباس رضي الله عنهما : (( الطواف بالبيت صلاة )) فوصف الطواف بالبيت بكونه صلاةً ، وقال هنا : (( لا يقبل الله صلاة أحدكم إذا أحدث حتى يتوضأ )) فدل دلالةً واضحةً على أن الطواف لا يصح بدون وضوء ، وهذا هو مذهب جمهور العلماء رحمهم الله خلافا للإمام أبي حنيفة ، وقد أكدت السنة ذلك في حديث أم المؤمنين عائشة-رضي الله عنها- ، وذلك أنها حاضت وهي في حجة الو ادع مع النبي صلى الله عليه وسلم فقال لها - عليه الصلاة والسلام - : (( اصنعي ما يصنع الحاج غير ألا تطوفي بالبيت )) ، فدل هذا دلالةً واضحةً على أن الطهارة معتبرة للطواف بالبيت.(35/5)
وقوله عليه الصلاة والسلام (( إذا أحدث )) : الحدث مأخوذ من قولهم : حدَثَ الشيء إذا جد وطرأ ، ومنه قولهم الحديث للشيء الجديد الذي طرأ ، والمراد هنا أن يخرج من الإنسان الخارج سواء كان حدثاً من القبل أو كان حدثاً من الدبر ، وقد فسر راوي الحديث أبو هريرة رضي الله عنه وأرضاه الحدث بكونه ريحاً ، وهذا التفسير يسميه العلماء رحمهم الله تفسير العموم بالخصوص ، والأصل : " أن العام يبقى على عمومه" ، : "وإذا روى الصحابي الحديث وفسره بغير ظاهره فإن العبرة بعموم الحديث لا بتفسير الصحابي" ، وهذا هو أصح قولي علماء الأصول أنه إذا ورد الحديث عاما في لفظه ، وفسره الصحابي بغير الظاهر منه فإنه يؤخذ بعموم النص لا بتفسير الصحابي الخاص ، ومن أمثلة هذه المسألة ما ثبت في الحديث الصحيح عن ابن عباس -رضي الله عنهما - أنه روى عن النبي-- صلى الله عليه وسلم - -أنه قال : (( من بدل دينه فاقتلوه )) فدل هذا الحديث على أن المرتد يقتل ، سواءً كان رجلاً أوكان أمرأة ؛ لأن صيغة " مَنْ " تعتبر من صيغ العموم ، ومن هنا قالوا : إن المرأة إذا ارتدت فإنها تقتل ، وبذلك أخذ جمهور العلماء خلافاً للإمام أبي حنيفة-رحمة الله على الجميع - ، فالمقصود أن الصحابي لما فسّر اللفظ بالخصوص ، وحمل الحدث على الخارج من الدبر-أعني الريح- فإنه تفسير خاص ، والعبرة بعموم لفظهصلوات الله وسلامه عليهفيشمل قوله إذا أحدث وقوع الحدث عموماً ، سواء كان من القبل أو كان من الدبر ، فيدخل في ذلك الريح وقد استدل بهذا الحديث على أن النوم لا ينقض الوضوء ؛ والسبب في ذلك أن النوم لا يعتبر حدثاً ، وقد بين النبي صلى الله عليه وسلم أن الوضوء ينتقض بالحدث ، وقد أجيب بأن النبي صلى الله عليه وسلم حكم بكون النوم ناقضاً للوضوء لامن جهة كونه حدثا ، ولكنّه لكونه مضنة الحدث ؛ ولذلك قال عليه الصلاة والسلام في حديث علي رضي الله عنه وأرضاه :(35/6)
(( العينان وكاء السهِ فإذا نامت العينان استطلق الوكاء )) هذا الحديث المراد به أن النبي صلى الله عليه وسلم جعل الشعور والإدراك هو المعتبر ، فإذا ذهب شعور الإنسان وإدراكه بالنوم فإنه لا يأمن أن يخرج منه الخارج وهو لا يدري ، ولذلك قال :((العينان وكاء السهه)) ، والسه المراد به : الدبر فكأن الإنسان إذا كان مستيقظاً فإنه يعلم بحدثه ، وأما إذا كان نائماً غير مدرك فإنه لا يشعر بخروج الريح ، فاستوى حينئذٍ أن يكون حدثاً أو يكون في حكم الحدث ، و قد جاءت السنة عن النبي صلى الله عليه وسلم تضيف إلى حديثنا أمورا أُخَرَ تعتبر ناقضةً للوضوء .
فقوله هنا - عليه الصلاة والسلام - : (( إن الله لا يقبل صلاة أحدكم إذا أحدث حتى يتوضأ )) : المراد به الحدث ، ولكن يلتحق بالحدث ما بينه - عليه الصلاة والسلام - من النواقص الأخر :
فمس الذكر يعتبر ناقضاً للوضوء ، ولكنه ليس بحدث حقيقي إلا إذا تحركت شهوة الإنسان وأمذى ، قال العلماء : إن مس الذكر لا يعتبر حدثا حقيقياً ، ولكنه مضنة الحدث ، فإن الإنسان في الغالب إذا لمس الذكر أنه تتحرك شهوته ؛ لأن الله عز وجل جعل هذا الموضع ولَمْسه محركا لشهوة الإنسان في الغالب ، ومن هنا قالوا : إن الشرع حكم بانتقاض الوضوء التفاتاً إلى الغالب ، والنادر لاحكم له .(35/7)
ومن النواقض الأخر التي تضاف إلى هذا الحديث ما دلت السنة على كونه مؤثراً في الوضوء وهو أكل لحم الجزور ، فأكل لحم الجزور ليس بحدث ، ولا في حكم الحدث ، ولكن جاء الحكم من الشرع تعبدياً بكونه ناقضاً للوضوء ؛ لما ثبت في الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم : أنه سئل أنتوضأ من لحوم الغنم ؟ قال :(( إن شئت . قيل أنتوضأ من لحوم الإبل ؟ قال : نعم )) فدل هذا الحديث دلالةً واضحةً على أن لحم الجزور يعتبر ناقضاً للوضوء إذا أكله الإنسان ، ومن المعلوم أن لحم الجزور ليس بذاته حدثاً ؛ ولكنه أمر تعبدي ، وقال بعض العلماء : إن في لحم الجزور زهومة وقوة جعلته موجباً لانتقاض الوضوء ، ولكن هذا التعليل ضعيف .
والصحيح أنه أمر تعبدي كما -سيأتي إن شاء الله تعالى بيانه -.(35/8)
يقول عليه الصلاة والسلام : (( لا يقبل الله صلاة أحدكم إذا أحدث حتى يتوضأ )) : هذا الحديث تعلق بالقبول من جهة الصحة ، وأما القبول بمعنى ترتب الأثر على الشيء فهو غاية المتقين ، وأمنية عبادالله الصالحين المقربين ، وذلك أن المسلم مهما عمل من الطاعة ، وأصاب من الحسنات فإنه يأمل من الله-جل وعلا- أن يجعله من المقبولين ، فكم من عامل لا يقبل الله عمله ، وكم من قائل رد الله عليه قوله ؛ فالعبرة في الأقوال والأعمال على القبول ، والمعول في ذلك على تقبل الله سبحانه وتعالى للطاعه ، وما من إنسان يوفق للخير ، ويعينه الله على الإحسان والبر إلا وحمل هم القبول ، ولذلك جعل الله هذا الأمر غيبي فلا يمكن لأحد أن يجزم بأن الله تقبل طاعة ، وشكر سعيه وحسنته إلا إذا وقف بين يدي الله عز وجل في يوم يبعثر فيه ما في القبور ، ويحصل فيه ما في الصدور ليجزي الذين أحسنوا بالحسنى ، ولذلك يخاف المؤمن من أقواله وأعماله أن ترد ، وكان من دعاء الأنبياء والصالحين الأتقياء أن يمن الله عليهم بكرمه وجوده فيتقبل منهم ما كان من صالح القول والعمل ، كما قال الله عز وجل حكاية عن نبيه إبراهيم وإسماعيل :{وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنْ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ}(1) فكان همهم أن يتقبل الله طاعتهم ، وأن يشكر إحسانهم وسعيهم ، وقد دلت النصوص في كتاب الله وسنة النبي صلى الله عليه وسلم على الأمارات والعلامات التي يكون بها القبول ، ومن أعظمها وأجلها أن الله سبحانه وتعالى يوفق المطيع للطاعة بعد طاعته ، فإذا أصاب الإنسان طاعة من الطاعات ووجد في قلبه الانشراح للخير والبر فذلك عجل بشرى الله عز وجل له بالقبول ، كما قال سبحانه وتعالى :{فَأَمَّا مَنْ أَعْطىَ وَاتَّقَى - وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى -
__________
(1) / البقرة ، آية : 127.(35/9)
فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى}(1) ، فالعبد المقبول تجده موفقاً للطاعات والخير في أقواله وأعماله ، وكلما وجدت العبد صالحاً صادقاً في صلاحه رأيت آثار القبول على قوله وعمله ، فالإنسان إذا أطاع الله عز وجل وظهرت أمارات القبول عليه وفق للزيادة من الخير كما قال سبحانه وتعالى :{وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ تَقْواهُمْ}(2).
والقبول له أسباب تعين عليه ، ومن أعظمها وأجلها : بر الوالدين ، وقد قرر العلماء رحمهم الله أن بر الوالدين ، وصلة الأرحام ، والأمور العظيمة من الواجبات التي أكد الله عليها أن المحافظة عليها سبيل للقبول ،كما قال الله سبحانه وتعالى :{حَتَّى إِذَا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً قَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي إِنِّي تُبْتُ إِلَيْكَ وَإِنِّي مِنْ الْمُسْلِمِينَ - أُوْلَئِكَ الَّذِينَ نَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا}(3) ، فذكر أول ماكان من دعائهم أن سألوا الله شكر النعم ، ثم سألوه أن يحسن إلى الوالدين ، فاستفتحوا ذلك بشكر نعمة الله ، ثم شكر نعمة الوالدين ، فمن كان موافقاً لشكرنعمة الله عز وجل وكان شاكراً لوالديه فهو من أهل القبول ، ولا يوفق لشكر نعمة الله عز وجل وإعظامها إلا من أرد الله أن يزيده من فضله ، كما قال سبحانه وتعالى :{ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ }(4) فمن أسباب القبول شكر نعمة الله عز وجل ، والمنبغي على العبد الصالح الذي هداه الله للخير أن يكثر من شكر نعم الله عز وجل ، وإذا أردت أن يوفقك الله للقبول فأكثر من شكر النعم ، وتعظيم المنعم سبحانه
__________
(1) / الليل ، آية : 5-7 .
(2) / محمد ، آية : 17 .
(3) / الأحقاف ، آية : 15-16 .
(4) / إبراهيم ، آية : 7 .(35/10)
وتعالى ، ولو أن كل واحد منا لا يمسي ولا يصبح إلاوهو يتفكر في جميل نعمة الله عليه ، وجليل منته لديه ؛ لوجدته أشرح الناس صدراً للخير والبر ، ومن أحرصهم على طاعة الله وأحضهم بالقبول من الله سبحانه وتعالى .
ومن الأسباب التي تعين على القبول : أن الإنسان يحتقر عمله مهما كان عمله كثيراً من الخير ، فكلما احتقر الإنسان حسنته ، ورد الأمرلله عز وجل فيما يكون منه من الإحسان كلما كان أحض الناس بالقبول من الله عز وجل ، فهذه كلها أمارات وعلامات على القبول ، ولاشك أن المسلم يطمع في رحمة الله سبحانه وتعالى وإحسانه ، فلو كتب الله للعبد أن يكون مقبولاً فإنه لايصلي صلاة ، ولا يذكر ذكراً ، ولايقول ولايفعل عملاً يرضي الله إلا أره الله عاقبة أعماله الصالحة ، فإذا صلى الصلاة نهته الصلاة عن الفحشاء والمنكر ، وإذا أقام شعائرالدين وجد بها حلاوة الإيمان ، فالقبول أمرعظيم وغاية جليلة كريمة ؛ ولذلك لما حضرت الوفاة عبدالله بن عمر رضي الله عنهما بكى واشتد بكاؤه فجلس ابنه سالم رحمه الله يذكره بالحسنات ، وما كان منه من الخير والطاعات ، وهو يقول يا أبت اذكر كذا وكذا ، وقد ورد في بعض الأحاديث أن النبي صلى الله عليه وسلم بشره بالجنة ، فلما أكثرعليه ابنه بذلك قال : أجلسوني ، فلما أجلسوه قال : أي بني أتدري ممن يتقبل الله :{ إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنْ الْمُتَّقِينَ}(1) وهذا كله على شدة الخوف من الله سبحانه وتعالى فقد يحرم الله العبد القبول بسبب الغرور ، وقد يحرم الله العبد القبول بسبب العقوق ، وقد يحرمه القبول لرحم قطعها ، أو نحو ذلك من السيئات التي لايسلم منها إلامن سلمه الله برحمته ، فإذا استشعر الإنسان ما يكون منه من الخلل خاف ألا يتقبل الله منه العمل ، وأصابه الخوف والوجل :
قد آلم القلب أني جاهل مالي عند الإله أراض هو أم قالي
__________
(1) / المائدة ، آية : 27 .(35/11)
وأن ذلك مخبوءً إلى يوم اللقاء ومقفول عليه بأقفالي
فالناس يقولون ويفعلون ولايعلم أحد من هو المقبول عند الله سبحانه وتعالى ، ولكن ينبغي على المسلم أن يحسن الظن بالله عز وجل ، فإن الله عند حسن ظن عبده به ، وعليه أن يتعاطى أسباب القبول ، وأن يستعيذ بالله سبحانه وتعالى من شرورنفسه ، وسيئات أعماله ؛ حتى لاتحرمه القبول من ربه ، ولاشك أن الإنسان لو تصور أن الله غاضب عليه بسبب سيئة أو ذنب ورد عليه جميع ما يكون منه من الحسنات و الطاعات لكان الأمر عظيماً على الإنسان ، فلو تصور المسلم أن صلاته وطاعته وما يكون من تقربه لله عز وجل رد عليه كيف يكو ن حاله ؟ والله يحكم لامعقب لحكمه سبحانه وتعالى ، فلو جاء العبد في عرصات يوم القيامة بحسنات أمثال الجبال ، وكان الله ساخطا عليه وقربها إلى الله ، وقال : الله له لم أتقبل منها شيئاً كيف يكون حاله ؟ لايستطيع أن يرد على الله حكمه ، ولايستطيع أن يأمر الله بقبولها ، - فنسأل الله العظيم رب العرش الكريم بأسمائه الحسنى وصفاته العلى أن يجعلنا من المقبولين ، وألا يجعلنا من المحرومين وألا يحول بيننا وبين رحمته وهو أرحم الراحمين -.
قال المصنف رحمه الله : بَاب مَا جَاءَ فِي الْوُضُوءِ مِنَ النَّوْمِ
الشرح :
يقول المصنف رحمه الله " باب ماجاء في الوضوء من النوم : أي في هذا الموضع سأذكر لك ما ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم من الأحاديث التي تدل على وجوب الوضوء بسبب النوم .
فقوله " من النوم " : أي بسبب النوم ؛ لأن مِنْ تستعمل في الدلالة على السببية كقوله سبحانه وتعالى :{مِمَّا خَطِيئَاتِهِمْ أُغْرِقُوا}(1) أي بسبب خطيئاتهم أغرقوا ، وكقوله عليه الصلاة والسلام : (( إنما الماء من الماء)) أي إنما الغسل من الجنابة بسبب الماء وهو فضخ المني وخروجه .
__________
(1) / نوح ، آية : 25 .(35/12)
وقوله" من النوم " : الأصل في الإنسان إذا أرد أن ينام أن تسترخي أعضاؤه ، وتسكن حركاته ، وهذه هي مقدمة النوم ، فإذا سكن الإنسان واسترخى ، وعنده شعور بما يقال حوله فإنه يسمى ناعساً ، وبعد النعاس يذهب الشعور والإدراك فيوصف بكونه نائماً ، فهناك مرحلتان :
المرحلة الأولى : مقدمات النوم ، والمراد بها النعاس وما في حكمه .
والمرحلة الثانية : النوم وإذا نام الإنسان ذهب عنه الشعور .
وأما إذا نعس فإنه يكون عنده الشعور بحيث لو كان حوله أناس فإنه يشعر بكلامهم ، ولكن عينه مغلقة ، وجوارحه ساكنة ، وهذا لايقتضي وصفه بكونه نائماً ما لم يذهب عنه الشعور والإدراك .(35/13)
وإذا ثبت هذا فإن الإنسان إذا توضأ ثم نعس فإن النعاس لا يوجب انتقاض الوضوء في قول جماهير السلف والخلف ، ومنهم الأئمة الأربعة -رحمة الله عليهم أجمعين - ، أنه إذا نعس الإنسان فإن النعاس لا يوجب انتقاض الوضوء ، والدليل على ذلك ما ثبت في الصحيحين من حديث عبدالله بن عباس رضي الله عنهما " أنه لما بات مع النبي صلى الله عليه وسلم عند خالته ميمونة رضي الله عنها وأرضارها ، وقام صلوات الله وسلامه عليه في جوف الليل قام فمسح النوم عن عينيه ، ثم توضأ فأسبغ الوضوء ، ثم كبر وصلى قال ابن عباس : رضي الله عنهما فقمت فصنعت مثل ما صنع ، فقمت عن يساره ، فأدارني عن يمينه ، -كما في رواية مسلم رحمه الله في صحيحه- : قال رضي الله عنه وأرضاره فكنت إذا نعست أخذ بشحمة أذني صلوات الله وسلامه عليه" فدل هذا على أن النعاس لاينقض الوضوء ؛ لأنه لو كان ناقضاً للوضوء لدفعهصلوات الله وسلامه عليه ؛ لكي يعيد وضوءه ويصلي ، فدل هذا الحديث على صحة مذهب الجمهور : أن النعاس لايوجب انتقاض الوضوء ، فكل من توضأ ولم يذهب عنه الشعور وغفت عيناه ولكنه لم يذهب شعوره ولا إدراكه ولا إحساسه ، وكان في بداية مقدمات النوم فإن وضوءه صحيح ، أما إذا نام فللعلماء فيه أقوال مشهورة ، وقد اختلف العلماء رحمهم الله في من توضأ ، ثم نام بعد وضوئه هل ينتقض وضوؤه أو لاينتقض ؟ وذلك على ثمانية أقوال ، وأشهر هذه الأقوال ما يأتي:
القول الأول : أن النوم ينقض الوضوء ، وبهذا القول قال أبوهريرة-- رضي الله عنه - وأرضاه-، وحبر الأمة وترجمان القرآن عبد الله بن عباس رضي الله عن الجميع ، وهذا القول قال به بعض التابعين ، وهو قول إسحاق ابن راهويه ، وأبي عبيد القاسم بن سلام-رحمة الله على الجميع- ، يقولون : إن النوم ينقض الوضوء مطلقاً سواءً نام الإنسان قاعداً أو ساجداً أو جالساً أو متكئاً أو مضطجعاً ، فكل من نام يجب عليه الوضوء .(35/14)
واستدل أصحاب هذا القول بما ثبت في السنة عن النبي صلى الله عليه وسلم من الأحاديث التي تدل على أعتبار النوم ناقضاً للوضوء ، أولها حديث صفوان بن عسان المرادي قال رضي الله عنه وأرضاه : " أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم ألا ننزع خفافنا ثلاثة أيام بلياليهن للمسافر ، ويوماً وليلة للمقيم من بول أو نوم أو غائط " ، فقوله رضي الله عنه من بول أو نوم أو غائط يدل على أن النوم ناقض للوضوء ، ولذلك جعله مع البول والغائط ، قالوا : فلما جعل النوم مع البول والغائط دل على كونه ناقضاً للوضوء ، ثم إنه أطلق ولم يبين هل النوم ناقض للوضوء في حالة دون حالة ؛ ولذلك قالوا : لما أطلق دل دلالةً واضحةً على أن جميع النوم ينقض الوضوء .
الدليل الثاني : حديث علي رضي الله عنه وأرضاه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : (( العينان وكاء السه فإذا نامت العينان استطلق الوكاء )) ومراده بذلك صلوات الله وسلامه عليه أن الإنسان إذا كان مستيقظاً فإنه يتمكن من دبره ، ويشعر بما يخرج من الدبر ، أما إذا غفت عيناه ونام فإنه مضنة أن يخرج منه الخارج ولايشعر ، قالوا : وقد أطلق النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث فدل على أن النوم ناقض للوضوء مطلقاً ، قالوا : فهذه الأدلة تدل على أن من نام يجب عليه أن يعيد الوضوء ، وأكدوا ذلك بأن النبي صلى الله عليه وسلم أمر من استعجم عليه القرآن في قيام الليل أن ينصرف ، فدل على كون النوم ناقضاً للوضوء .
القول الثاني : أن النوم لاينقض الوضوء مطلقاً ، وهذا القول محكي عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه وأرضاه ، وقال به مكحول من التابعين ، وسعيد بن المسيب -رحمة الله على الجميع- ، يقولون : إن النوم لاينقض الوضوء ، سواء نام الإنسان مضطجعاً ، أونام متكئاً ، فكل من نام فإن وضوءه لاينتقض .(35/15)
واستدلوا: بحديث أبي هريرة الذي تقدم معنا حيث قال فيه النبي صلى الله عليه وسلم : (( لايقبل الله صلاة أحدكم إذا أحدث حتى يتوضأ )) قالوا : دل هذا الحديث على أن الوضوء ينتقض بالحدث ، والنوم ليس بحدث حقيقي فلذلك نحكم بكونه ليس ناقضا .
واستدلوا: بما ثبت في صحيح مسلم وغيره عن أنس بن مالك رضي الله عنه وأرضاه قال : " كان أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ينامون وهم ينتظرون صلاة العشاء حتى تخفق رؤوسهم ثم يصلون ولا يتوضئون " قالوا : فهذا الحديث يدل على أن النوم لاينقض الوضوء ؛ لأنه لو كان النوم ناقضاً للوضوء لأمرهم النبي صلى الله عليه وسلم أن يعيدوا الوضوء ، وأكدوا ذلك بحديث أنس في الصحيحين أن النبي صلى الله عليه وسلم أعتم بالعشاء ، حتى خرج عمر وهو يصيح ويقول : " الصلاة يارسول الله ، الصلاة يارسول الله ، رقد النساء والصبيان "، فقالوا : قال رقد النساء ، والنساء كانوا في المسجد ينتظرون الصلاة معه عليه الصلاة والسلام ومع ذلك لم يأمرهم بإعادة الوضوء ، فدل هذا على أن النوم لاينقض الوضوء .
القول الثالث : التفصيل : قالوا إذا نام الإنسان وذهب عنه الشعور فإنه يجب عليه أن يعيد الوضوء ، وأما إذا نام وعنده الشعور بمن حوله ، وإذا خرج منه شيء فإنه ينتبه له فوضوؤه صحيح في هذه الحالة ، وهذا هو مذهب المالكية والحنابلة -رحمة الله على الجميع-.(35/16)
واستدل أصحاب هذا القول : بحديث علي وفيه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : (( العينان وكاء السه )) قالوا : فهذا الحديث بين العلة في كون النوم ناقضاً للوضوء حيث بين أن العبرة بالشعور ؛ لقوله : (( فإذا نامت العنيان استطلق الوكاء )) فدل دلالةً واضحةً على أن المهم أن يشعر الإنسان ، فإذا شعر الإنسان بمن حوله لايحكم بانتقاض وضوئه ؛ لأنه لو خرج منه شيء لانتبه له فزالت العلة التي من أجلها حكم بانتقاض الوضوء ، وهذا القول يبني على العلة التي من أجلها حكم بكون النوم ناقضاً للوضوء ، قالوا : ونحن نجمع بين النصوص التي وردت عن النبي صلى الله عليه وسلم فعندنا أحاديث تدل على أن النوم ناقض للوضوء ، وعندنا أحاديث تدل على أنه ليس بناقض للوضوء ، فتأملنا الجميع ، وكلها أحاديث خرجت من مشكاة واحدة عن النبي صلى الله عليه وسلم ، وذلك هو شرع الله الذي لايتناقض ولايتعارض ، قالوا ففهمنا من ذلك أن العبرة بالشعور ، فماورد من الأحاديث يدل على عدم النقض لوجود الشعور ، وما جاء من الأحاديث يدل على النقض لزوال الشعور فالعبرة عندنا بالشعور .
القول الرابع : العبرة بحال النائم ، فإذا نام وهو جالس ممكنا مقعدته من الأرض فإنه لايحكم بانتقاض وضوئه ، وأما إذا اضطجع وزالت إليته عن الأرض فإنه يحكم بانتقاض وضوئه ، وهذا هو مذهب الشافعي .
واستدلالوا: بحديث أنس في انتظار الصحابة لرسول الله صلى الله عليه وسلم ؛ والسبب في ذلك أنهم كانوا ينتظرون الصلاة وهم جلوس ، بدليل قوله : "حتى تسقط رؤوسهم في حجورهم " ، فهذا يدل على كونهم جالسين فلما كانوا جالسين ممكنين مقاعدهم من الأرض لم ينتقض منهم الوضوء ، وعليه فرقّوا بين من كان جالساً ومن كان مضطجعاً .(35/17)
القول الخامس في المسألة : أنه إذا نام وهو قاعد ، أو نام وهو ساجد ، أو راكع لم ينتقض وضوؤه ؛ ولاينتقض وضوؤه إلا إذا اضطجع أو استلقى ، وهو مذهب الإمام أبي حنيفة النعمان رحمه الله ، قالوا : فالعبرة عندنا باضطجاع النائم .
واحتجوا : بحديث ضعيف ذكره المصنف -رحمه الله - وهو حديث أبي خالد يزيد بن عبدالرحمن الدالانى ، قالوا : هذا الحديث يدل على أن النائم لاينتقض وضوؤه إلا إذا كان مضطجعاً ؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم حصر النقض فيه ، واستدلوا بحديث الدارقطني والبيهقي وفيه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " إذا نام العبد في صلاته وهو ساجد باهى الله به ملائكته ، وقال : انظروا إلى عبدي ساجد بين يدي وروحه عندي" ، وهذا الحديث ضعيف لا يحتج بمثله ، وبناء على ذلك قالوا : هذان الحديثان يدلان على أن العبرة بالاضطجاع ، فمن نام وهو مضطجع انتقض وضوؤه ، ومن نام وهو راكع أو ساجد أو جالس لم يتقض وضوؤه .
هذه هي أشهر أقوال العلماء وحججهم في المسألة .(35/18)
والذي يترجح في نظري والعلم عند الله أن النوم يعتبر ناقضاً للوضوء إذا زال الشعور ، أما إذا كان عند الإنسان شعور فإن وضوءه صحيح ، ولايعتبرمنتقضاً بمجرد نومه ؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم فصل هذا المسألة بالدلالة على العلة ، وذلك في حديث علي رضي الله عنه وأرضاه وقوله عليه الصلاة والسلام :(( العينان وكاء السه )) فبينصلوات الله وسلامه عليه على أن العبرة بالشعور ، فإذا زال الشعور حكمنا بانتقاض الوضوء ، وأما إذا كان الإنسان شاعراً فإنه لايحكم بانتقاض وضوئه ، وبهذا يجمع بين النصوص التي وردت عن النبي صلى الله عليه وسلم فالأحاديث التي استدل بها على أن النوم لاينقض الوضوء إنما هي في الأحوال التي يغلب فيها حكم الشعور ، وبناءً على ذلك يبقى النص على عمومه أن النوم ناقض للوضوء ، إلا إذا كان عند الإنسان شعور ، ثم إن أصوال الشريعة تقوي هذا القول ؛ لأن الأصل في المتوضيء أنه متوضىء ، والنوم ليس بحدث حقيقي ؛ وإنما هو مضنة الحدث وخوف أن يخرج من الإنسان مالايدري عنه ، فيوجب انتقاض وضوئه ، فقوي القول بالشعور .
والسؤال : ما هو ضابط الشعور..؟؟
قال بعض العلماء : يضبط بالحركات وبالسمع ، فأما ضبطه بالحركات قالوا : لو كان في يده شيء لسقط منه وهو لايشعر .
مثال ذلك : لوكان يكتب بالقلم ، أو كان حاملاً القلم في يده ، ثم سقط القلم من يده وهو لايشعر فقد انتقض وضوؤه ، وهكذا بالنسبة للسمع قالوا : أن يكون بجواره قوم يتحدثون فإذا تحدثوا لم يميز حديثهم ، فإذا بلغ إلى هذه الحالة وهي عدم تمييز حديثهم حكمنا بانتقاض وضوئه ، وهذا هو أصح الأقوال في المسألة-إن شاء الله تعالى-.
والسؤال : لو أن إنسانا نعس ، أو أصابته غفوة وشك هل نام أو نعس ؟ أو هل الذي رآه رؤيا أو حديث نفس ..؟؟(35/19)
فإن الجواب: يكون باعتبار اليقين ، فكل من جلس ، أو اضطجع وشك هل ذهب شعوره أو لم يذهب ، فإنه يبني على اليقين من كونه متوضئا ولم يذهب شعوره ، حتى يتحقق بأن الشعور قد ذهب .
وهذا كله من رحمة الله عز وجل ولطفه بعباده ، وشريعتنا شريعة الرحمة والتيسير ، وليست بشريعة التضييق والتعسير ، - فالحمد لله الذي هدانا لهذا وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله-.
- ? - ? - ? - ? - الأسئلة - ? - ? - ? - ? -
السؤال الأول :
كيف نجيب على حديث طلق في قول النبي صلى الله عليه وسلم : (( إنما هو بضعة منك )) في مسألة مس الذكر..؟؟
الجواب:
بسم الله الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه أما بعد :
فحديث طلق بن علي الحنفي رضي الله عنه وأرضاه قدم على النبي صلى الله عليه وسلم وهو يبني المسجد ، وهذا في أول التشريع المدني ، وأما حديث بسرة بنت صفوان ، وحديث أبي هريرة فإنها متأخرة ، ولذلك دل حديث النقض على أنه ناقض ، وهو متأخر على حديث عدم النقض هذا وجه ، وهناك وجه ثان أن حديث بسرة في النقض المراد به أن يمس الذكر بدون حائل .
وأما حديث : (( إنما هو بضعة منك )) المراد به أن يمسه بحائل ، كأن يمسه من فوق الثوب ، أو من فوق الإزار ، فهذا كله لا يقتضي النقض ، وأما إذا مسه مباشرة فنحمل عليه حديث النقض ، وهذا هو الأقوى والأشبه ، والقاعدة في الأصوال أنه : " إذا تعارض مايوجب الاحتياط وما لا يوجبه فإنه يقدم ما هو أحوط" ، وغاية مافيه أنه لو تكافئت النصوص لكان المصير إلى النقض أحوط ؛ ولذلك ترجح قول من قال إنه ينقض الوضوء ، والله تعالى أعلم .
السؤال الثاني :
ما معنى قول الإمام الترمذي هذا حديث غريب حسن صحيح ؟ هل تجتمع الغرابة مع الحسن والصحة..؟؟
الجواب:(35/20)
لا يمنع أن يكون الحديث غريباً وهو صحيح ؛ لأنه ليس المراد الغرابة المطلقة ، وإنما الغريب ما انفرد به الراوي الواحد في أي طبقة من طبقات السند :
وما به انفرد راو مطلقا فذاك بالغريب قد تحققا
فالحديث إذا انفرد به راوٍ واحد ولو في أي طبقة من طبقات السند ، كأن يرويه صحابي واحد أو يرويه تابعي واحد ، أو يرويه من أتباع التابعين واحد ، فإنه يسمى بالحديث الغريب ، الغريب هوالذي انفرد به راو واحد :
........ وقل غريب ما روى راو فقط
فإذا انفرد به الرواي الواحد في أي طبقة من طبقات السند ولو روت عنه أمة ، فإنه يعتبر حديثا غريباً كحديث :(( إنما الأعمال بالنيات)) من رواية عمر بن الخطاب رضي الله عنه ، فإنه يوصف بكونه غريبا مع أنه قد اتفق الشيخان رحمهم الله على إخراجه ، والله تعالى أعلم.
السؤال الثالث :
ما حكم رطوبة فرج المرأة وما يكون من الإفرازات ..؟؟
الجواب :
رطوبة فرج المرأة تعتبر نجسة ؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال في الرجل إذا جامع امرأته : (( ليغسل ما أصابه منها )) وكان هذا قبل وجوب الغسل على من جامع ولم ينزل ، قال الجمهور : في هذا دليل على أن رطوبة فرج المرأة تعتبر نجسة ، ومما يقوي هذا أيضاً أن رطوبة فرج المرأة بمثابة المذي في الرجل ، فهذا السائل في المرأة كالمذي في الرجل ، وبناءً عليه فإنه يأخذ حكم المذي ، فإن لم يدل دليل الأثر فقد دل دليل النظر الصحيح على كونه نجساً ، وآخذ حكم النجس فيجب عليها أن تغسل الرطوبة ، فإذا غلبتها الرطوبة وأصبحت الإفرازت مستمرة معها على وجه تتضرر معه من كثرة الوضوء ، فإننا نقول لها إذا أذن الأذان فإنه تقوم بغسل الفرج ، ثم تعصبه فإذا عصبته وتوضأت تصلي ما شاءت في ذلك الوقت حتى يخرج وقت تلك الصلاة ، ثم بعد ذلك تجدد لدخول وقت كل صلاة ، كالمستحاضة سواء بسواء ، والله تعالى أعلم.
السؤال الرابع :(35/21)
كيف نجمع بين حديث (( الماء من الماء )) وبين قول النبي صلى الله عليه وسلم : (( إذا التقى الختاتان فقد وجب الغسل))..؟؟
الجواب:
حديث : (( إنما الماء من الماء )) يدل على أن العبرة في وجوب الغسل على المسلم أن يخرج منه المني ، فقوله : (( إنما الماء)) يعني الغسل ، (( من )) : بسب ، (( الماء)) : وهو خروج المني ، هذا الحديث يفهم منه أنه لو جامع الرجل زوجته أنه لا يجب عليه أن يغتسل إلا إذا أنزل ، وكان هذا الحكم في أول الإسلام ثم نسخ ذلك ، كما روى أبي رضي الله عنه وكذلك عائشة -رضي الله عنها - ، قال إنما كان قوله عليه الصلاة والسلام : (( إنما الماء من الماء )) رخصة في أول الإسلام ، ثم نسخ ذلك ، فمن جامع زوجته فإنه يجب عليه أن يغتسل ، سواء أنزال أو لم ينزل ؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم نسخ هذا الحكم بقوله : (( إذا التقى الختاتان فقد وجب الغسل ، أنزل أو لم ينزل )) ، وقال في حديث عائشة في الصحيح : (( إذا جلس بين شعبها الأربع ثم جهدها فقد وجب الغسل )) وقد اختلف الصحابة في أول الأمر ، ووقع بينهم نزاع بعد وفاة رسول صلى الله عليه وسلم ؛ لأن بعضهم كان يحفظ الرخصة ولم يحفظ النسخ فبقي على الرخصة ، فلما كثر نزاعهم أرسل عمر بن الخطاب رضي الله عنه وأرضاه إلى أم المؤمنين عائشة يستفتيها في هذا الأمر فلما استفتاها رضي الله عنه وأرضاه في هذا الأمر ذكرت له حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم : (( إذا التقى الختاتان فقد وجب الغسل)) قال عمر رضي الله عنه : "من خالف بعد اليوم جعلته نكالاً " ، أي أيها الناس انتهوا إلى هذا الحكم الذي أخبرت به أم المؤمنين عائشة-رضي الله عنها وأرضاها- ، ولذلك كان الخلفاء الراشدون وأصحاب النبي صلى الله عليه وسلم في مسائل الغسل ومسائل البيت والزوجية لا يمكن أن يعدلوا بما تخبر به أمهات المؤمنين قول أحد كائنا من كان ، فكان المرد في(35/22)
هذه الأمور إلى أمهات المؤمنين ؛ لأنهن أعرف بهدي رسول الله صلى الله عليه وسلم في هذه المسائل ، فلما ذكرت ذكرت له أم المؤمنين العزيمة وهي وجوب الغسل على الجماع بغض النظر عن وجود الإنزال أو عدمه ، دل على أن الحكم الأول منسوخ ، وهذا الحديث الذي ذكر يعتبر حديثا منسوخا بالنسبة للمجامع ، ولكنه محكم بالنسبة لبقية الصور ، فمن خرج منه المني بدون جماع كأن تتحرك شهوته فينزل تقول له عليك الغسل ؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال :(( إنما الماء من الماء )) ، ومن نام ثم استيقظ ولم يذكر احتلاماً فوجد في ثيابه أثر المني تقول له عليك الغسل ؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال :(( إنما الماء من الماء )) فهو منسوخ في مسألة واحدة ، وليس بمنسوخ من كل وجه ، والله تعالى أعلم .
السؤال الخامس :
رجل مصاب بمرض ودائماً تخرج منه غازات من جوفه فإذا صلى أحس بخروجها ، هل صلاته صحيحة أم لا.؟؟
الجواب :
إذا كان الإنسان مريضاً وتخرج منه الغازات فإن الغازات توجب انتقاض وضوئه إذا سمع الصوت ، أو شم الرائحة ، ولكن إذا استمرت معه هذه الغازات واسترسلت بحيث يضره ، ولايستطيع أن يستتم وضوءه للصلاة فإنه يرخص له إذا أذن المؤذن أن يتوضأ ويجدد وضوءه ، ثم بعد ذلك يصلي الصلاة المكتوبة والنوافل حتى يخرج الوقت ، فإذا خرج الوقت فإنه يجدد الوضوء ثانية كما هو الأصل في المستحاضة ، والله تعالى أعلم .
السؤال السادس :
في قول النبي صلى الله عليه وسلم في حديث المذي ((توضأ وانضح فرجك )) ،ويقول في الحديث الآخر (( توضأ واغسل ذكرك)) فكيف نجمع بين الحديثين ..؟؟
الجواب :
النضح يستعمل بمعنين :(35/23)
النضح بمعنى الرش ، وذلك بأخذ كف من الماء ورشه ، ومن ذلك ما ثبت في حديث الصبي الذي بال في حجر النبي صلى الله عليه وسلم حيث أخذ كفاً من ماء فنضحه ، هذا يسمى نضحاً ، ومن ذلك حديث أنس بن مالك رضي الله عنه في الصحيحين : " فقمت إلى حصير قد اُسود من طول ما لبس فنضحته بماء " يعني أخذت كف الماء ورششته به ، فهذا النضح بمعنى الرش .
وأما النوع الثاني : وهو النضح بمعنى الغسل ، فهو معنى فيه زيادة عن المعنى السابق ، فيقال نضح ثوبه إذا غسله ، وقد يقال نضخ ، قال النضخ أبلغ من النضح ، ويقال نَضْح ونَضْخ وغَسْل ، فالنضخ قالوا أبلغ ؛ ولذلك قالوا زيادة المبنى تدل على زيادة المعنى ، فالنضخ صب الماء بقوة أكثر من الرش الذي هو النضح ، ومن ذلك قوله سبحانه وتعالى :{فِيهِمَا عَيْنَانِ نَضَّاخَتَانِ}(1) أي أن الماء يخرج منهما بشدة وبكثرة ، فالمقصود أن النضح هنا بمعنى الغسل ، والمراد بذلك إراؤه بالماء ، وقال بعض العلماء : إن رواية توضأ وانضح فرجك إنما هي رواية بالمعنى ، وأن الرواية اغسل ذكرك ؛ لأنها رواية الأكثرين ، اغسل ذكرك ، وغسل مذاكيرك وليغسل ذكره ، هي الرواية الأقوى والأكثر ، والله تعالى أعلم .
السؤال السابع :
ما حكم إمامة من به سلس البول ..؟؟
الجواب :
من به سلس البول للعلماء فيه قولان :
بعض العلماء يقول : من به سلس البول لايصلي بالناس ؛ لأنه معذور في نفسه غير معذور لغيره ، وهذا مبني على القاعدة :" ما أبيح للحاجة يقدر بقدرها " ، وذلك أن الأصل ألا يصلي الإنسان إلا وهو متوضىء ، فلما أبيح له أن يصلي في خاصة نفسه لوجود عذر السلس لايباح له أن يصلي بغيره فبنيي الغير صلاته عليه .
__________
(1) / الرحمن ، آية : 66 .(35/24)
وقال بعض العلماء : من به سلس وكل معذور يجوز له أن يصلي بالناس ؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال لعمار :(( أصليت بأصحابك وأنت جنب ! )) وهذا إنما كان بتيممه ، ومعلوم أن التيمم رخصة ، ولم يكن رضي الله عنه وأرضاه بمغتسل ، قالوا فاستباح الرخصة وصلى بهم إماماً مع كونه متيمماً ، قالوا : فدل على أن كل مرخص له بالشرع يجوز أن يصلي بالغير ؛ ولأنه كما صحت صلاته لنفسه صحت صلاته لغيره ، وعلى هذا يجوز له أن يكون إماما ، ولكن من أهل العلم من رد هذا الدليل ، وقال : إن التيمم نزل منزلة الوضوء وحل محل الوضوء لقوله عليه الصلاة والسلام : (( الصعيد الطيب طهور المسلم )) فجعله عليه الصلاة والسلام طهوراً كالوضوء ، ولكن من به سلس لم يتطهر ؛ ولاشك أن القول بأنه لايصلي أحواط ، وينبغي على الإمام دائماً أن يحفظ صلاة الناس ، وأن يأخذ بالعزائم احتياطاً ما أمكنه ، والله تعالى أعلم .
السؤال الثامن :
ما حكم قراءة الجنب للقرآن دون مس المصحف ..؟؟
الجواب :
الجنب لايقرأ القرآن ؛ ولذلك ثبت في الحديث عنه عليه الصلاة والسلام أنه لماّ مرّ عليه الرجل وسلم لم يرد عليه السلام ، وقال : (( إني كنت على غير طهاره فكرهت أن أذكر الله )) وهذا في رد السلام ، فما بالك بقراءة القرآن التي هي أعظم من الذكر المطلق ، وعلى هذا فالذي يترجح قول جمهور العلماء أن الجنب لايقرأ القرآن ، ويشهد لذلك ما ذكره البخاري في صحيحه من قصة عبدالله بن روحه رضي الله عنه حينما أصاب سُرِّيَّته ، فقالت له زوجته : أصبتها ؟ فورّى رضي الله عنه وذكر الشعر فظنته قرآنا .(35/25)
فهذا يدل على أن الجنب لايقرأ القرآن ، وأكدوا ذلك بما ثبت في الصحيح من حديث أم المؤمنين عائشة-رضي الله عنها- قالت :" كان النبي صلى الله عليه وسلم يتكئ في حجري فيقرأ القرآن وأنا حائض " ، قالوا ولوكان من عليه الحدث الأكبر يقرأ القرآن لما عبرت أم المؤمنين -رضي الله عنها - بهذا المعنى .
وَآخِرُ دَعْوَانَا أَنِ الحمَْدُ لِلَّهِ رَبِّ العَالَميْنَ وصلَّى اللَّهُ وسلَّم وبارك على عبده ونبيَّه محمد وعلى آله وصحبه أجمعين .(35/26)
بسم الله الرحمن الرحيم
قال المصنف -رحمه الله - : حَدَّثَنَا إِسْمَعِيلُ بْنُ مُوسَى كُوفِيٌّ وَهَنَّادٌ وَمُحَمَّدُ بْنُ عُبَيْدٍ الْمُحَارِبِيُّ الْمَعْنَى وَاحِدٌ قَالُوا حَدَّثَنَا عَبْدُ السَّلاَمِ بْنُ حَرْبٍ الْمُلاَئِيُّ عَنْ أَبِي خَالِدٍ الدَّالاَنِيِّ عَنْ قَتَادَةَ عَنْ أَبِي الْعَالِيَةِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ رَأَى النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم نَامَ وَهُوَ سَاجِدٌ حَتَّى غَطَّ أَوْ نَفَخَ ثُمَّ قَامَ يُصَلِّي فَقُلْتُ : " يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّكَ قَدْ نِمْتَ؟" قَالَ :(( إِنَّ الْوُضُوءَ لاَ يَجِبُ إِلاَّ عَلَى مَنْ نَامَ مُضْطَجِعاً فَإِنَّهُ إِذَا اضْطَجَعَ اسْتَرْخَتْ مَفَاصِلُهُ )) .
قَالَ أَبو عِيسَى رحمه الله : وَأَبُو خَالِدٍ اسْمُهُ يَزِيدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ قَالَ وَفِي الْبَاب عَنْ عَائِشَةَ وَابْنِ مَسْعُودٍ وَأَبِي هُرَيْرَةَ .
الشرح:
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين أما بعد :(36/1)
فقد ذكر المصنف هذا الحديث عن ابن عباس - رضي الله عنهما - وهو من رواية الدالاني ، وهو حديث ضعفه العلماء رحمهم الله ، وقد اشتمل هذا الحديث على حجة القول القائل بأن من توضأ ثم نام أنه لا ينتقض وضوؤه بالنوم ، ولكن هذا القول يعتبر ضعيفاً ؛ لأنه مصادم للسنة الصحيحة عن النبي صلى الله عليه وسلم والتي دلت على النوم يعتبر ناقضاً من نواقض الوضوء ، وقد تقدم معنا في المجلس الماضي أن هذا الحديث يحتج به أصحاب الإمام أبي حنيفة رحمة الله عليهم على أن الوضوء لا يجب على من نام ساجداً أو راكعاً ، وقد جاء حديث آخر يدل على ما قالوا وذلك أنهم رووا عن النبي صلى الله عليه وسلم : " أن العبد إذا نام وهو ساجد يباهي الله عز وجل به ملائكته ويقول : انظروا إلى عبدي ساجد بين يدي وروحه عندي" ولكنه حديث موضوع ، وقد بين ضعفه الإمام ابن الجوزي رحمه الله في كتابه العلل حيث بين أنه لا يصح عن النبي صلى الله عليه وسلم ، وبناء على ذلك فإنه لا يشتغل بهذا الحديث ولا يلتفت إلى ما دل عليه ؛ لأنه مصادم لما هو أصح وأثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم .
وقد بينا في المجلس الماضي أن النوم يعتبر ناقضاً من نواقض الوضوء ؛ ولكن بشرط أن يذهب الشعور عن الإنسان ، وأن من نام وعنده الشعور أنه لا ينتقض وضوؤه وبهذا القول جمعنا بين السنن والآثار والأحاديث والأخبار الواردة عن المصطفى المختار صلى الله عليه وسلم .(36/2)
وعليه فإن خلاصة ما يقال في هذا الباب : أن من نام يسأل هل أدى نومك إلى ذهاب الشعور أو لم يؤد؟ فإن قال قد ذهب الشعور وزال فإنه يطالب بإعادة الوضوء ؛ لقوله عليه الصلاة والسلام : (( العينان وكاء السه فإذا نامت العينان فقد استطلق الوكاء )) ، وأما من كان عنده الشعور ضابطاً لنفسه فإننا نقول بعدم وجوب الوضوء عليه ؛ لحديث أنس رضي الله عنه في الصحيح حيث كان أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ينتظرونه عليه الصلاة والسلام في صلاة العشاء لكي يصلي بهم ، وكانوا تسقط رؤوسهم في حجورهم ومع ذلك لم يأمرهم بإعادة الوضوء وبهذا يجمع بين النصوص الواردة ، والقاعدة في الأصول : " أن الجمع بين النصوص أولى من العمل ببعضها وترك البعض".
يقول المصنف -رحمه الله - : حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ عَنْ شُعْبَةَ عَنْ قَتَادَةَ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ : " كَانَ أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَنَامُونَ ثُمَّ يَقُومُونَ فَيُصَلُّونَ وَلاَ يَتَوَضَّئُونَ ".
قَالَ أَبو عِيسَى رحمه الله : هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ قَالَ وسَمِعْت صَالِحَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ يَقُولُ سَأَلْتُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ الْمُبَارَكِ عَمَّنْ نَامَ قَاعِداً مُعْتَمِداً فَقَالَ لاَ وُضُوءَ عَلَيْهِ.(36/3)
قَالَ أبو عِيسَى رحمه الله : وَقَدْ رَوَى حَدِيثَ ابْنِ عَبَّاسٍ سَعِيدُ بْنُ أَبِي عَرُوبَةَ عَنْ قَتَادَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَوْلَهُ وَلَمْ يَذْكُرْ فِيهِ أَبَا الْعَالِيَةِ وَلَمْ يَرْفَعْهُ وَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي الْوُضُوءِ مِنَ النَّوْمِ فَرَأَى أَكْثَرُهُمْ أَنْ لاَ يَجِبَ عَلَيْهِ الْوُضُوءُ إِذَا نَامَ قَاعِداً أَوْ قَائِماً حَتَّى يَنَامَ مُضْطَجِعاً وَبِهِ يَقُولُ الثَّوْرِيُّ وَابْنُ الْمُبَارَكِ وَأَحْمَدُ قَالَ بَعْضُهُمْ إِذَا نَامَ حَتَّى غُلِبَ عَلَى عَقْلِهِ وَجَبَ عَلَيْهِ الْوُضُوءُ وَبِهِ يَقُولُ إِسْحَقُ وقَالَ الشَّافِعِيُّ مَنْ نَامَ قَاعِداً فَرَأَى رُؤْيَا أَوْ زَالَتْ مَقْعَدَتُهُ لِوَسَنِ النَّوْمِ فَعَلَيْهِ الْوُضُوءُ .
الشرح :(36/4)
هذا الحديث حديث أنس بن مالك رضي الله عنه في انتظار أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم لرسول الله صلى الله عليه وسلم في الصلاة قد أطلقت رواية الترمذي هنا ، وجاءت الرواية الصحيحة أنهم كانوا ينتظرون النبي صلى الله عليه وسلم في صلاة العشاء والسبب في ذلك أن الناس كانوا يشتغلون فإذا غابت عليهم الشمس وانتهى النهار فإنهم يكونون مجهدين قد أعياهم التعب والنصب فيصلون المغرب ثم ينتظرون صلاة العشاء وكانت صلاة العشاء من أشق الصلوات على أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ، ولذلك ورد في قوله-تعالى- :{تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنْ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفاً وَطَمَعاً وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ} قال بعض العلماء : نزلت فيهم حينما كانوا ينتظرون صلاة العشاء فلا ينامون مع شدة الإعياء والنصب لكي يصلوا مع النبي صلى الله عليه وسلم ونظر لمشقة هذه الصلاة فقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يُغلض في النوم في قبلها لأنه إذا نام بين المغرب والعشاء لم يأمن أن يسترسل معه النوم حتى يترك العشاء ، ولذلك ثبت في الصحيحين عنه- عليه الصلاة والسلام - من حديث أبي برزة رضي الله عنه قال : " وكان يستحب أن يؤخر من العشاء التي تدعونها العتمة وكان يكره النوم قبلها والحديث بعدها " ، وفي موطأ مالك عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه ذكر النوم قبل العشاء فقال رضي الله عنه : "ومن نام فلا نامت عيناه " قال بعض العلماء : إن كان هذا الذي ذكره عمر مرفوعاً إلى النبي صلى الله عليه وسلم فالأمر عظيم وإن كان دعوة منه رضي الله عنه فإنه كذلك أمر شديد ، لأنه إذا نام لم يأمن أن يسترسل به النوم حتى يترك العشاء ونظراً لذلك فكانوا إذا أذن المؤذن عليهم بالعشاء انتظروا إقامة النبي صلى الله عليه وسلم لها ، فكانوا ربما ناموا حتى سقطت رؤوسهم في حجورهم من شدة الإعياء(36/5)
والنصب ، وهذا كله يدل على امتحان الله عز وجل واختباره لعباده فكانوا ينتظرون العشاء وينامون على هذا الوجه ولم يكن النبي صلى الله عليه وسلم يأمرهم أن يعيدوا الوضوء فاستدل به فقهاء الشافعية ، وكذلك ربيعة الرأي على أن النوم لا ينقض الوضوء فمنهم من يعمم ومنهم من يخصص ، فأما الذين يعممون فيقولون إن الصحابة ناموا ولا ننظر إلى كيفيتهم وحالهم فكونهم قاعدين أو قائمين أو جالسين لا يؤثر عندنا ؛ إنما المؤثر أنهم ناموا والنبي صلى الله عليه وسلم لم يأمرهم بإعادة الوضوء هذا هو المهم عندنا وهذا القول هو الذي يقول بأن النوم لاينقض الوضوء مطلقاً سواءً كان الإنسان نائماً مضطجعاً أو قاعداً أو قائماُ أو راكعاً أو ساجداً أو ممكن إليته من الأرض كل ذلك لايهم عندهم إنما المهم أنه نام وهذا القول قول مرجوح ، لأنه يصادم السنة عن النبي صلى الله عليه وسلم والتي دلت دلالةً واضحةً على أن النوم يعتبر من مظنة النقض وذلك في حديث معاوية ، وكذلك حديث صفوان فحديث صفوان بن عسال المرادي رضي الله عنه وأرضاه قرن فيه النبي صلى الله عليه وسلم بالبول والغائط كل ذلك يقوي مذهب من قال بالنقض وأن هذا المذهب الذي لايفرق بين أحوال النائم يعتبر مذهباً صعيفاً .(36/6)
أما الشافعية رحمة الله عليهم فقالوا إن حديث أنس رضي الله عنه الذي معنا والذي أصله في الصحيح نعتبره خاصاً وذلك أن أحاديث النقض جاءت بلفظ العموم فنبقيها على عمومها وحديث أنس الذي دل على عدم انتقاض الوضوء بالنوم جاء في حالة خاصة وذلك أن هذه الحالة التي معنا في هذا الحديث إنما هي والصحابة قعود فقالوا من نام قاعداً فإنه لا ينتقض وضوؤه فمنهم من قال أنه إذا نام قاعداً ممكناً مقعدته من الأرض انتقض وضؤوه ، وأما إذا نام غير ممكن مقعدته من الأرض فإنه لا ينتقض وضؤوه وهذا القول لاشك أنه يلتفت إلى وجه معارضة حديث أنس للعموم وهو وجه صحيح من جهة الأصول ولكن الأحاديث التي صحت عن النبي صلى الله عليه وسلم أقوى وأولى .
يقول المصنف رحمه الله : بَاب مَا جَاءَ فِي الْوُضُوءِ مِمَّا غَيَّرَتِ النَّارُ
حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي عُمَرَ قَالَ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَمْرٍو عَنْ أَبِي سَلَمَةَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم :(( الْوُضُوءُ مِمَّا مَسَّتِ النَّارُ وَلَوْ مِنْ ثَوْرِ أَقِطٍ )) .قَالَ فَقَالَ لَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ :" يَا أَبَا هُرَيْرَةَ أَنَتَوَضَّأُ مِنَ الدُّهْنِ أَنَتَوَضَّأُ مِنَ الْحَمِيمِ ؟ "قَالَ فَقَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ : " يَا ابْنَ أَخِي إِذَا سَمِعْتَ حَدِيثًا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَلاَ تَضْرِبْ لَهُ مَثَلاً " .
قَالَ رحمه الله : وَفِي الْبَاب عَنْ أُمِّ حَبِيبَةَ وأُمِّ سَلَمَةَ وَزَيْدِ ابْنِ ثَابِتٍ وَأَبِي طَلْحَةَ وَأَبِي أَيُّوبَ وَأَبِي مُوسَى .(36/7)
قَالَ أَبو عِيسَى رحمه الله : وَقَدْ رَأَى بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ الْوُضُوءَ مِمَّا غَيَّرَتِ النَّارُ وَأَكْثَرُ أَهْلِ الْعِلْمِ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَالتَّابِعِينَ وَمَنْ بَعْدَهُمْ عَلَى تَرْكِ الْوُضُوءِ مِمَّا غَيَّرَتِ النَّارُ .
الشرح :
يقول المصنف" باب الوضوء من ما غيرت النار" : هذا الباب عقده المصنف-رحمه الله - لكي يبين ناقضاً من نواقض الوضوء وذلك أن السنة وردت عن النبي صلى الله عليه وسلم بالأمر بالوضوء من ما غيرت النار والمراد بالشيء الذي غيرته النار أي أصابته ثم غيرت صفاته كأن يحمس على النار كما هو الحال في السويق أو يطبخ على النار كما هو الحال في اللحم ومرق اللحم كل ذلك يعتبر مما غيرته النار ، وقد ثبتت السنة عن النبي صلى الله عليه وسلم بالأمر بالوضوء من هذا الشيء ولذلك ، ولذلك اعتنى المحدثون رحمهم الله بإيراد السنة الواردة عن النبي صلى الله عليه وسلم والتي توجب على المسلم إعادة الوضوء إذا كان قد أكل شيئاً مسته النار .
وهذه المسألة وقع الخلاف فيها بين أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم فكانت طائفة من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم تقول كل من أكل شئ مسته النار فإنه يجب عليه أن يعيد الوضوء سواء أحدث أم لم يحدث وبهذا القول قالت أم المؤمنين عائشة -رضي الله عنها- ووافقها على ذلك أبو موسى الأشعري وأبو هريرة وأبو طلحة -رضي الله عن الجميع - وهو قول عبدالله بن عمر وزيد بن ثابت فيما يحكى عنهما رضي الله عنهما قال بهذا القول جمع من التابعين فهو قول الحسن البصري الإمام المشهور ، وكذلك قال به أبي قلابة ، وكذلك الخليفة الراشد عمر بن عبدالعزيز-رحمة الله على الجميع- كلهم يقولون من أكل شيئاً مسته النار فإنه يجب عليه أن يعيد الوضوء مرة ثانية .(36/8)
وخالف هؤلاء الإجلاء من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم جمهور الصحابة -رضوان الله عنهم - فقال أبو بكر وعمر وعثمان وعلي - رضي الله عنهم - وكفى بهم المأمور باتباع سنتهم قالوا إنه لا يجب الوضوء من ماست النار ، وبهذا القول قال به جمهور الصحابة -رضوان الله عليهم - ورأو أن الأحاديث التي وردت عنه عليه الصلاة والسلام والتي تأمر بالوضوء من مست النار منسوخة وبهذا القول قال الأئمة الأربعة : الإمام أبو حنيفة ومالك والشافعي وأحمد ، وقال به داود الظاهري - رحم الله الجميع - إلا أن الإمام أحمد -رحمة الله عليه- يستثني لحم الجزور-كما سيأتي إن شاء الله بيانه في الباب الذي يلي باب النسخ- حيث اعتمدت سنة الواردة عن النبي صلى الله عليه وسلم بالأمر بالوضوء من لحم الجزور ورأى أنه يخصص عموم الناسخ -وسنبين هذه المسألة إن شاء الله في موضعها-.
وقد احتج الذين قالوا بأن الوضوء لا يجب من ماست النار بما ثبت في الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أن امرأة من الأنصار استضافته مع أصحابه-رضوان الله عليهم- فدخل عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم فذبحت له شاة فأكل منها ثم توضأ وصلى العصر ثم أعطته بقية الشاة فأكل منها ثم قام فتمضمض- صلوات الله وسلامه عليه- وصلى ولم يتوضأ فدل هذا الحديث على نسخ ما ورد من الأمر بالوضوء من ما مست النار ، وفي الحديث الصحيح عنه عليه الصلاة والسلام أنه لما قفل من الغزو وكان بالصهباء من أرض خيبر وهي التي تلي المدينة من جهة المدينة دعا - صلوات الله وسلامه عليه- بأزواد الجيش فأتي بالسويق فأكل منه- صلوات الله وسلامه عليه- ثم أقام بالصلاة فصلى ولم يتوضأ فكل ذلك يدل على أن آخر الأمرين منه - عليه الصلاة والسلام - هو ترك الوضوء من ما مست النار -وسيأتي إن شاء الله بيان ما يخصص العموم -.(36/9)
وهذا الباب الذي عقده المصنف رحمه الله يعتبر على مذهب الجمهور باباً منسوخاً ولذلك اعتنى الإمام الترمذي بأيراد الباب الذي بعده وذكر فيه الحديث الذي يدل على نسخ الأمر بالوضوء من مست النار .
وأما ما ورد في هذا الحديث من اعتراض حبر الأمة وترجمان القرآن عبدالله بن عباس رضي الله عنهما على صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم وحافظ الصحابة أبي هريرة فوجه ذلك أن عبدالله بن عباس استشكل عليه الوضوء من مست النار وقال : " كالمعترض كيف نتوضأ من الدهن ؟" وجاء في الرواية الأخرى" ءأكل شيء أحله الله لي ثم أتوضأ !" وهذا الاعتراض من ابن عباس رضي الله عنهما قد رده أبو هريرة رضي الله عنه بقوله : " يابن أخي إذا سمعت السنة عن النبي صلى الله عليه وسلم فلا تضرب لها مثلاً " هذا يدل دلالةً واضحةً على عدم محاباة أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم على بعضهم في الحق فابن عباس ذكر ما يختلج في نفسه وأبو هريرة رده إلى السنة .
وفي هذا دليل على أنه إذا صحت السنة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه لا ينبغي لأحد كائن من كان أن يعارضها بالرأي والهوى فكتاب الله وسنة النبي صلى الله عليه وسلم هما المعول في الدين وعليهما يدور الرحى فلا يجوز لأحد أن يعترض برأي على السنن والأثار ، ولا شك أن الاعتراض بالأراء والأهواء لا يأمن الإنسان معه الزلل :{ فَتَزِلَّ قَدَمٌ بَعْدَ ثُبُوتِهَا}(1) .
__________
(1) / النحل ، آية : 94.(36/10)
والواجب على المسلم أن يسلم للنصوص :{ فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً}(1) فالتسليم إسلام وإيمان وطاعة وأحسان وإذعان فالمسلم الكامل في إسلامه يسلم للنصوص وليس مراد ابن عباس أن يرد السنة حاشا وكلا ولكن ابن عباس -رضي الله عنهما - أراد من أبي هريرة أن يستثبت ؛ والسبب في ذلك لعل ابن عباس اطلع على ما ينسخ أو رأى أجلاء أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم كالخلفاء الراشدين يقولون بالنسخ فحينئذٍ اعترض بالقول الراجح لا رد على السنة ، وهذا هو الظن بابن عباس رضي الله عنهما وإلا فلا قول لأحد كائن من كان إذا ثبت النص في كتاب الله وسنة النبي صلى الله عليه وسلم وقد حذر أبو هريرة ابن عباس رضي الله عنهما أن يضرب المثل للسنة الثابتة عن النبي صلى الله عليه وسلم وهو تحذير لكل مسلم بلغته السنة أن يلتزم العمل بها وأن يطبقها على وجهها إداء لحقها وأنه لا ينبغي له أن يعمل الرأي أما إذا كان الرأي الذي يعمله يستند إلى نصوص أخر ، وهذا النصوص تشهد بصحة هذا الرأي وقوته واعتماده فإنه حينئذٍ يكون معارضاً للنص بالنص وليس بمعارض للرأي في مقابل النص .
والرأي رأيان :
رأي يستند إلى نصوص الشريعة في الكتاب والسنة فهذا الرأي ممدوح صاحبه ومأجور غير مأزور لما ثبت في الصحيحين من قوله عليه الصلاة والسلام : (( إذا أجتهد الحاكم فأصاب كان له أجران وإذا أجتهد وأخطأ كان له أجر واحد )) فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم المجتهد برأيه إذا أصاب له أجران وإذا أخطأ له أجر واحد ، الأمر الذي يدل على حمد الرأي المبني على النص .
__________
(1) / النساء ، آية : 65.(36/11)
أما إذا كان الرأي ينبني على الهوى ومصادمة نصوص الكتاب والسنة والعبث بها زيغ-والعياذ بالله-مطموس البصيرة ؛ لأن الله عز وجل تعبدنا بكتابه وسنة رسولهصلوات الله وسلامه عليهوما تفرع عن الكتاب والسنة ، ولم يتعبدنا بأقوال الرجال المجردة عن النصوص ، ولذلك ينبغي على المسلم أن يلتزم هذا المذهب الوسط فبعض من الناس يقبل الرأي مجرداً سواء شهدت به النصوص أم لم تشهد ، وبعضهم يرد الرأي مطلقاً والعدل الذي أمر الله عز وجل به وأسفرت به النصوص أن الرأي فيه تفصيل : فمكان منبياً على الشرع فرأي محمود ، وما كان منبنياً على الشرع فإنه مذموم مردود على صاحبه كما قال سبحانه وتعالى :{إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الأَنْفُسُ}(1) ولذلك إذا ثبت الرأي وكان مبنياً على قياس صحيح فإنه حجة ودليل مالم يصادم ماهو أقوى منه ، وقد دلت الأدلة في كتاب الله وسنة النبي -- صلى الله عليه وسلم - -على هذا فإن الله سبحانه وتعالى يقول : { وَدَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ - فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ وَكُلاَّ آتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْمًا}(2) .
__________
(1) / النجم ، آية : 23 .
(2) / الأنبياء ، آية : 78-79 .(36/12)
فأثنى الله عز وجل على داود وسليمان وهذا يدل على أن الرأي إذا كان مستنداً إلى الشرع فإنه محمود وكذلك السنة الصحيحة الثابتة في اجتهاد الحاكم ولو كان الاجتهاد مردوداً مطلقاً لما جاز للحكام أن يقضي في قضية حتى يدل الدليل صراحة عليها ، ولاشك أن النوازل والحوداث لاتنحصر والنصوص الواردة في الكتاب والسنة منحصرة باجماع العلماء فلا وجه للحكم على غير المنحصر بالمنحصر إلا بالحاق النظير بنظيره فإذا وجد نظير في الشرع دلت النصوص عليه في كتاب الله وسنة النبي -- صلى الله عليه وسلم - - وطرأ في عصرنا وجد في زماننا أمر يشببه فإننا نقيس الطارئ الجديد على القديم ونعتبره آخذاً حكمه لأن هذا هو الحق الذي تعبدنا الله عز وجل به وقد قاس عليه الصلاة والسلام لكي يشرع لأمته القياس إضافة إلى كونه اعتبر بقية الأدلة العقلية غير القياس فقد اعتبرصلوات الله وسلامه عليه دليل الاستصحاب ، ودليل الاستصحاب وقع في زمانه- عليه الصلاة والسلام -في قصة بني قريظة فإنه لما قفلصلوات الله وسلامه عليهمن غزوة الخندق ورجع إلى المدينة واستقر في بيته نزل عليه جبريل بالوحي من السماء أن يخرج إلى بني قريظة وأن جبيريل سابق له يزلزل ديارهم ويقذف الرعب في قلوبهم فاستجلصلوات الله وسلامه عليه الصحابة فخرجوا ورأه أرسالا ، وكان فيما قاله في استعجالهم : (( لاتصلوا العصر إلا في بني قريظة )) فخرج الصحابة أرسالا فأدركتهم صلاة العصر في الطريق ، فمنهم من قال باستصحاب الأصل فقال إن الأصل أن نصلي العصر في وقتها ورسول الله صلى الله عليه وسلم قصد التعجيل فبقوا على الأصل وصلوا العصر في وقتها ، وقالت طائفة نقدم قوله :(( لاتصلوا العصر إلا في بين قريظة )) فخصصوا عموم النصوص في الكتاب والسنة ، فنطلقوا جميعاً إلى النبي صلى الله عليه وسلم الطائفة التي أخذت بالخاص وقدمته على العام والطائفة التي أخذت بالاستصحاب وأعملت الأصول فلما(36/13)
بلغوا رسول الله صلى الله عليه وسلم أقر الطائفتين ولم يعنفهما على اجتهادهما ولكن جعل التي صلت في الوقت مصيبة للسنة فدل هذا على اعتبار الرأي المبني على الكتاب والسنة فلاحرج للفقيه إذا أجتهد ونظر إلى النصوص وكان أهلا للنظر أن يقول بما دلت عليه النصوص وفهمه على حسب رأيه واجتهاده لأن هذا الرأي والاجتهاد إنما هو معمول به بناء على كتاب الله وسنة النبي صلى الله عليه وسلم وهو رأي صحيح ، وقد مضى على ذلك سلف الأمة رحمة الله عليهم فكانت القضاة يقضون في الخصومات ، وكذلك العلماء يفتون في المسائل والمشكلات ومع ذلك ما كان أحد ينكر على أحد ولايثرب على أحد إلا إذا صادم النصوص بالرأي والهوى فدل هذا دلالةً واضحةً على أن الرأي يفصل فيه ، فما كان مصادماً لكتاب الله وسنة النبي صلى الله عليه وسلم فإننا نرده ، وما كان مبنياً على كتاب الله وسنة النبي صلى الله عليه وسلم فإننا نقبله ، نقبله لأنه مبنياً على كتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم .
يقول المصنف رحمه الله : بَاب مَا جَاءَ فِي تَرْكِ الْوُضُوءِ مِمَّا غَيَّرَتِ النَّارُ
حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي عُمَرَ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ قَالَ حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عَقِيلٍ سَمِعَ جَابِرًا قَالَ سُفْيَانُ وَحَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُنْكَدِرِ عَنْ جَابِرٍ قَالَ :" خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَأَنَا مَعَهُ فَدَخَلَ عَلَى امْرَأَةٍ مِنَ الأَنْصَارِ فَذَبَحَتْ لَهُ شَاةً فَأَكَلَ وَأَتَتْهُ بِقِنَاعٍ مِنْ رُطَبٍ فَأَكَلَ مِنْهُ ثُمَّ تَوَضَّأَ لِلظُّهْرِ وَصَلَّى ثُمَّ انْصَرَفَ فَأَتَتْهُ بِعُلاَلَةٍ مِنْ عُلاَلَةِ الشَّاةِ فَأَكَلَ ثُمَّ صَلَّى الْعَصْرَ وَلَمْ يَتَوَضَّأْ ".(36/14)
قَالَ رحمه الله : وَفِي الْبَاب عَنْ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ وَابْنِ عَبَّاسٍ وَأَبِي هُرَيرَةَ وَابْنِ مَسْعُودٍ وَأَبِي رَافِعٍ وَأُمِّ الْحَكَمِ وَعَمْرِو ابْنِ أُمَيَّةَ وَأُمِّ عَامِرٍ وَسُوَيْدِ بْنِ النُّعْمَانِ وَأُمِّ سَلَمَةَ .
قَالَ أَبو عِيسَى رحمه الله : وَلاَ يَصِحُّ حَدِيثُ أَبِي بَكْرٍ فِي هَذَا الْبَابِ مِنْ قِبَلِ إِسْنَادِهِ إِنَّمَا رَوَاهُ حُسَامُ بْنُ مِصَكٍّ عَنِ ابْنِ سِيرِينَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ عَنْ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَالصَّحِيحُ إِنَّمَا هُوَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم هَكَذَا رَوَاهُ الْحُفَّاظُ وَرُوِيَ مِنْ غَيْرِ وَجْهٍ عَنِ ابْنِ سِيرِينَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَرَوَاهُ عَطَاءُ بْنُ يَسَارٍ وَعِكْرِمَةُ وَمُحَمَّدُ بْنُ عَمْرِو بْنِ عَطَاءٍ وَعَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ وَغَيْرُ وَاحِدٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَلَمْ يَذْكُرُوا فِيهِ عَنْ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ وَهَذَا أَصَحُّ .
قَالَ أَبو عِيسَى رحمه الله : وَالْعَمَلُ عَلَى هَذَا عِنْدَ أَكْثَرِ أَهْلِ الْعِلْمِ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَالتَّابِعِينَ وَمَنْ بَعْدَهُمْ مِثْلِ سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ وَابْنِ الْمُبَارَكِ وَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَدَ وَإِسْحَقَ رَأَوْا تَرْكَ الْوُضُوءِ مِمَّا مَسَّتِ النَّارُ وَهَذَا آخِرُ الأَمْرَيْنِ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَكَأَنَّ هَذَا الْحَدِيثَ نَاسِخٌ لِلْحَدِيثِ الأَوَّلِ حَدِيثِ الْوُضُوءِ مِمَّا مَسَّتِ النَّارُ.
الشرح :(36/15)
ترجم المصنف رحمه الله بهذه الترجمة التي تدل على النسخ ؛ والسبب في ذلك أن العلماء رحمهم الله وقفوا أمام نصين متعارضين أحدهما يفهم منه أنه متأخر عن الآخر فقدموا المتأخر وعملوا به وهو حديث جابر-رضي الله عنهما-وذلك أنه ذكر وضوء النبي صلى الله عليه وسلم بعد الأكل من الشا ة ثم لما صلى العصرصلوات الله وسلامه عليه وأكل الفضلة البقية وهي التي عبر عنها جابر بعلالة ، فالعلالة هي البقية من الشئ فأكل بقية الشاة ثم تمضمض أي غسل فمه ولم يتوضأ فدل هذا على نسخ الوضوء من ما مست النار وهو مذهب جمهور أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وهو قول الخلفاء الراشدين أبي بكر وعمر وعثمان وعلي رضي الله عن الجميع ثم إن هذا القول يعارضه القول الآخر بسنة صحيحة قد تقدمت في الحديث الذي ذكرناه من أمره عليه الصلاة والسلام بالوضوء من ما مست النار قال العلماء ففي حديثنا إشارة إلى النسخ إضافة إلى أنهما سنتنان صحيحتان ثابتتان عن النبي صلى الله عليه وسلم والقاعدة في الأصول : " أنه إذا جاء خبران وورد الحديثان عن النبي صلى الله عليه وسلم وبينهما تعارض وكان أحد الخبر قد عمل به الخلفاء أو واحد منهم-رضي الله عنهم- فإن هذا العمل يعتبر مرجحاً له على الحديث الآخر " وحديثنا الذي معنا أعني حديث جابر بن عبدالله رضي الله عنهما قد عمل به الخلفاء الراشدون جميعهم ، ولذلك يعتبر أرجح من الحديث الذي فيه الأمر إضافة إلى أن حديث جابر جاء بصيغة أخرى كان آخر الأمرين من رسول الله صلى الله عليه وسلم ترك الوضوء من ما مست النار وهذا لا شك أنه قوي الدلالة على النسخ وقد كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يأخذون بالأحدث في الأحدث من حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم وهديه .(36/16)
وقوله -- رضي الله عنه - وأرضاه - " دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم على امرأة من الأنصار" : فيه دلالة على فضله وكرم خلقه صلوات الله وسلامه عليهحيث أجاب دعوة المرأة وكان صلى الله عليه وسلم لا يرد سائلاً سأله من كرم خلقهصلوات الله وسلامه عليهفلما دعته المرأة أجاب دعوتهاصلوات الله وسلامه عليه حتى دعته يهودية فما رد دعوتهاصلوات الله وسلامه عليه فلما دخل عليه الصلاة والسلام ذبحت له الشاة .
وفي هذا دليل على أن السنة أن يكرم الضيف ، وأن الذبح للضيف لا يلام صاحبه ولا يوبخ ولا يعنف بل إن التقصير في حق الضيف هو الخليق بالتوبيخ واللوم وأما الذبح للضيف فهو شيمة الكرماء وخلق الأوفياء ، وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم لم ينكر عليها ذبح الشاة ، وهذا يدل على جواز المبالغة في إكرام الضيف شريطة ألا يكون المقصود من ذلك الرياء والفخر ، وإنما يكون المقصود مرضاة الله عز وجل فإذا كان المقصود أن يرضي الله عز وجل ويستجيب لقوله عليه الصلاة والسلام :(( من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم ضيفه )) فإنه محمود مأجور غير مذموم ولا عليه وزر، وقد نشأت ناشئة في هذا الزمان يعيبون إكرام الضيف ولربما وبخوا الإنسان إذا بالغ في إكرام ضيفه ولاشك أن هذا القول يصادم كتاب الله وسنة النبي صلى الله عليه وسلم والفطر السوية المحمودة ، أما كتاب الله عز وجل فإن إبراهيم - عليه السلام - لما طرقه الضيف جاء بعجل حنيذ ولا شك أن العجل كبير الحجم بالنسبة للضيفين وقد قيل إنهم نفر ثلاث من الملائكة ومع ذلك ذبح لهم العجل فإين الشاة من العجل ، فهذا يدل على الكرم وعلى ما كان يمتاز به أنبياء الله -صلوات الله وسلامه عليهم- من القيام بحقوق الضيف حتى قال بعض العلماء في قوله سبحانه وتعالى :{وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلاً }(1) .
__________
(1) / النساء ، آية : 125.(36/17)
قالوا اتخذه الله خليلا بالكرم.
والصحيح أن الله اتخذه خليلاً بالتوحيد والإخلاص وهذا لا يمنع أن الله أصطفاه واجتباه وكرمه وفضله بالكرم فقد كان مأثوراً عنه عليه الصلاة والسلام وبقية هذه الشيمة في الناس الأخيار إلى زماننا بل لا تزال باقية إلى قيام الساعة إن الكريم كريم ولا يرضى لضيفه أن يخرج إلا وهو مكرم فلا حرج عليه إذا ذبح إكراما لضيفه ، وقد كانت العرب في جاهليتها الجهلاء وضلالتها العمياء تعد إكرم الضيف من المحامد ومن خصال الخير ، والإسلام أحق بذلك منهم فجاء وأقرهم إكرام الضيف فما يفعله بعض طلاب العلم في هذا الزمان -أصلحهم الله- إذا دخلوا على الرجل وقد ذبح لهم أو أكرمهم عنفوه ووبخوه وظهر في وجوههم الكراهة لذلك الكرم فهذا لا يليق بالمسلم بل ينبغي أن يشكر فضله وأن يحمد سعيه ؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال : (( من صنع إليكم معروفاً فكافئوه)) فأصبح الناس في هذا الزمان-إلا من رحم الله- على خلاف هذه الفطرة السوية بل بلغ ببعضهم أن يطرقه الضيف في شدة الهاجرة أو يطرقه في ظلمة الليل فيأتيه باليسير من الطعام ثم يزعم أنه لا يريد أن يتكلف وأنه يرد أن يسشعره أنه من أهل الدار ، وهذه هي شيمة البخلاء الذين يسيئون الظن في خلف الله عز وجل عليهم ، والكريم سمح النفس لا يرضى لضيفه إلا أن يكرم فقد كانت القصص العرب في ذلك مشهورة مأثروة تدل على فضل ما كانوا عليه ، ومن هذا الباب قال عليه الصلاة والسلام : (( تجدون الناس معادن كمعادن الذهب والفضة خيارهم في الجاهلية خيارهم في الإسلام إذا فقهوا )) فالمراد بخيارهم في الجاهلية الذين نشأؤ على الخصال المحمودة ومنها إكرام الضيف ، فكون هذه المرأة تذبح لرسول الله صلى الله عليه وسلم مع أنه ضيف حاضر ، يدل دلالةً واضحةً على فضل إكرام الضيف وأن النبي صلى الله عليه وسلم ما كان ليعنف من أكرمه وما كانصلوات الله وسلامه عليه لكي يثرب عليه وأن(36/18)
هذا التعنيف الذي يفعله بعض الناس اليوم خلاف سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وهديه ومن أكرم ضيفه أكرمه الله حتى أن السماحة والكرم تعرف في وجوه أصحابها فالكريم تجده طلق النفس سمح الوجه يكرم ضيفه بالبساطة وبالإطعام وبالإحسان وبالإجلال للضيف ، وأما البخيل فإنه على خلاف ذلك-نسأل الله السلامة والعافية- ، والكريم محمود في الدنيا محمود في الآخرة ، فمن أكرم ضيفه فإنه ينال حسن الثناء بين الناس ويشهد الناس على كرم نفسه وجوده وسخائه .
من جاد ساد وأحيا العالمون له بديع حمد بمدح الفعل متصل(36/19)
فالذي يجود يسود والذي يبخل فإنه لا يؤذن بالسدد من الله عز وجل وإنما ساد الكريم لما في كرمه من إحسان إلى الناس وإكرام لهم فكما أكرم عباد الله تولى الله إكرامه حتى أن كرماء العرب في الجاهلية مع أنهم ماتوا على الجاهلية والكفر ، فإن الناس لا تزال تتحدث بمكارمهم إلى يومنا لأن النفوس جبلت على حب الكرم وأهله والثناء عليهم واجلالهم وهذا عاجل ما يكون للمؤمن الموفق لهذه الخصلة الكريمة ، فالشاهد أن الإنكار على الناس في الكرم مردود خاصة إذا ذبح الإنسان للضيف وقصد بذلك وجه الله عز وجل أو كان للضيف حق عليه كالوالدين ونحوهم من القرابات الذين يجلوا كالأعمام والأخوال ونحوهم فإن إكرامهم ينال به صاحبه الحسنيين فهو إكرام من وجه وصلة رحم من وجه وبر للوالدين من وجه آخر فلا شك أن أمثال هؤلاء الذين لهم حق على الإنسان ينبغي إكرامهم وإجلالهم ، وكذلك من كان له حق على المسلمين فهؤلاء يكرمون ولا يهانون ويرفعون ولا يوضعون لأن إكرامهم من إكرام الإسلام وفي حكم ذلك إكرام العلماء وطلاب العلم والفضلاء لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان في المدينة وهو ضيف حاضر ولكنه إكرم لمكان النبوة صلوات الله وسلامه عليه فإذا حل العالم أو حل الإمام أو طالب العلم الفاضل على إنسان فإن من السنة أن يكرم وأن يجل وأن يرفع قدره ؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم ورث العلماء ما كان منه من النبوة فهم خليقون بأن يكرموا كما كان عليه الصلاة والسلام أهلاً لهذا الفضل فذبحت له الشاة -رضي الله عنها وأرضاها- ذبحت له الشاة فطعمهاصلوات الله وسلامه عليه ثم توضأ ثم صلى العصر ثم رجع صلوات الله وسلامه عليه فأتته بعلالة أي ببقية الشاة وهذا يدل على مبالغة المرأة في إكرامهصلوات الله وسلامه عليه.
وأما قوله" بقناع " : فالقناع الطبق من الرطب والتمر ونحو ذلك .(36/20)
وفي هذا دليل على مشروعية الإكثار من الأكل شريطة ألا يؤدي إلى امتهان النعمة وإذلالها ، فإذا طرق الإنسان الضيف فأكرمه وأكثر له من صنوف الطعام وقصد بذلك أنه إذا أنتهى الضيف تصدق بالزائد على الفقراء والضعفاء ونال بذلك إكرام ضيفه وثواب الله عز وجل بالتوسعة على جيرانه وضعفاء المسلمين وفقرائهم فلا حرج ، وهكذا الحال في المناسبات العامة كالزواج ونحوه ، فإن الإنسان إذا أراد أن يكون ضيوفه في زواجه من العدد الكثير نظراً لكثرة معارفه وأصحابه وقصد إكرامهم لوجه الله عز وجل والفرح بنعمة الله سبحانه وتعالى فبالغ في إكرامهم ثم لم يمتهن نعمة الله عز وجل وإنما قام عليها على وجهها فتصدق بالزائد على الضعفاء والفقراء فإنه محمود مأجور ينال خير الدنيا والآخرة .(36/21)
وقوله رضي الله عنه "ولم يتوضأ " : فيه دليل على أن الوضوء من ما مست النار منسوخ ، وقد قال جمع من العلماء رحمهم الله : إن حديث الأمر من مست النار عارضه حديثنا فيحمل حديث الأمر بالوضوء على المضمة دون الوضوء الشرعي وهو أحد الأمرين عند العلماء رحمهم الله في الجواب على الحديث الذي تقدم في الباب الذي سبق هذا الباب ، ووجه ذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم لما أكل من الشاة هنا لم يزد على المضمضة صلوات الله وسلامه عليه والوضوء يطلق بمعنى المضمضة ويطلق بمعنى الوضوء الذي هو الوضوء الشرعي للغسل للأعضاء المعروفة المعهودة والقاعدة في الأصول : " أنه ينبغي حمل النصوص في الوضوء على الحقيقة الشرعية من غسل الأعضاء المعروفة ولايصرف عن هذا الظاهر إلا بدليل " وقد صرف هؤلاء العلماء ظاهر الحديث المتقدم في الباب السابق إلى الوضوء اللغوي لمكان هذا الحديث الذي معنا وحملوا الوضوء على غسل الفم ثم قالوا إن السنة للإنسان إذا أكل أي طعام أن يغسل فمه قبل أن يصلي ، حتى ولوشرب اللبن فإنه يغسل فمه ولايتوضأ وضوء كاملاً لأن النبي صلى الله عليه وسلم كما ثبت في الحديث الصحيح "توضأ ثم شرب اللبن ثم مضمض وغسل فمه وصلى ولم يتوضأ ولما سئل عن ذلك" قال : (( إنه له دسما)) قال العلماء : إنه إذا أكل قبل الصلاة تبقى فضلة الطعام بين أسنانه وفي فمه وتبقى رائحة الطعام في الفم وهذا يشوش عليه في الخشوع وقد يمنعه من تدبر الآيات والخشوع لأن طعم لطعام يشغله بلذته ونحو ذلك ، فمن هنا قالوا إن الأمر بالوضوء من ما مست النار المراد به غسل الفم وليس المراد به الوضوء الكامل.(36/22)
والصحيح أن المراد به الوضوء الكامل ولكن الحديث منسوخ لما تقدم من دلالة الأدلة على نسخه هذا هو الذي تطمئن إليه النفس أن حديث الأمر بالوضوء من ما مست النار يعتبر حديثاً منسوخاً إلا في الوضوء من لحم الجزور والإبل -وسيأتي إن شاء الله تعالى بيان مسألته وذكر أقوال العلماء وأدلتهم والراجح فيها في الباب الذي يلي هذا الباب هذا الباب إن شاء الله تعالى- .
- ? - ? - ? - ? - الأسئلة - ? - ? - ? - ? -
السؤال الأول :
لماذا لم يحكم الإمام الترمذي-رحمه الله - على حديث ابن عباس - رضي الله عنهما - بصحة ولاضعف كعادته -رحمه الله -..؟؟
الجواب:
بسم الله الحمدلله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه أما بعد :
فقد ذكر رحمه الله حديث ابن عباس-رضي الله عنهما-والكلام في الدالاني معروف بين أهل العلم وكونه يحكم على الحديث أو لايحكم هذا أمر مرده إليه ، ولاشك أن من الورع التوقف في هذا الأمر حيث لم يظهر هل للترمذي رحمه الله قول خاص في هذا الراوي أوللترمذي نظر في متن الحديث هذا أمر غيبي لايستطيع الإنسان أن يجزم به وإنما يسأل عن الأمور الظاهرة التي يمكن أن يتبين بها منهج الإمام الترمذي في الحكم ، أما مسألة أنه لم يحكم وسكت فالله أعلم عن سبب السكوت هل توقفه في الراوي مع أنه ذكر اسمه ولم يبين فيه لاجرح ولاتعديل وقد يكون هذا أشبه بالتوقف والمتوقف لا يحكم على الشئ ومن أسند فقد أعذر مادام أنه قد ذكر السند وذكر من روى وإن كان من عادته أنه يبين صحة الحديث وضعفه ، والله تعالى أعلم .
السؤال الثاني :
جاء في حديث جابر رضي الله عنه دلالة الفعل التي نسخت الأمر بالوضوء وهو دلالة القول فهل تعتبر دلالة الفعل مقدمة على دلالة القول مطلقاً ..؟؟
الجواب :(36/23)
الأصل عند العلماء رحمة الله عليهم أن السنة ينبغي اتباعها قولاً وفعلاً بدون فرق بين القول والفعل في الأصل لكن إذا تعارض القول مع الفعل فبعض العلماء يقول إن النبي صلى الله عليه وسلم كانت له خصوصية وكان يخص بأشياء فإذا خاطب الأمة بجميعها فإن قوله تشريع للأمة ولكن فعله إذا خالف هذا القول احتمل أن يكون هذا من خاصه هذا صحيح وقد رجحناه وعملنا به في باب النهي عن استقبال القلبة ببول أو غائط وقدمنا حديث أبي أيوب رضي الله عنه الثابت في الصحيحين من نهيه عليه الصلاة والسلام عن استقبال القبلة واستدبارها ؛ ولكن الفقه في القواعد الأصولية والمناهج الأصولية ألا تتوقف عند القاعدة دون النظر إلى الباب نفسه ودون النظر إلى الحديث نفسه فهذا الحديث حديث فعل ولكن كان معه أصحابه-رضي الله عنهم- فأكلوا معه من الشاة وصلى بهم عليه الصلاة والسلام فإن قلت دلالة فعل فهي دلالة فعل مصاحبة للأئتساء والإقتداء فليست من دلالة الفعل المجردة وحينئذٍ قوي أن تكون سنة تشريعة بخلاف ما إذا كانت دلالة فعل منحصرة فيه عليه الصلاة والسلام كما في الحديث استقبال القبلة حينما قضى حاجته على لبنتين كما في حديث ابن عمر في الصحيحين فالمقصود أنه لاينبغي لطالب العلم ألا يقف عند القواعد دون التطبيق على أفراد النصوص ، وهذا هو الفقه أن تنظر إلى القواعد وتنظر إلى النصوص وسياقها وسباقها وما تضمنته النصوص ، و هل الباب العام يوافق القول بالحذر أو يوافق القول بالاباحة ؟ هذا هو الفقه أن تنظر إلى النصوص مجتمعة ؛ لأن الكل خرج من مشكاة واحدة إنما النظر فتعارض إلى الأشبه والأقوى ، والأشبه والأقوى لايتبين لك إلا بجمع الأطراف فلما نظرنا إلى هذا الحديث وما تضمنه من دلالة الحال المصاحبة للأتساء والاقتداء قوي القول بأنه ناسخ للحديث الذي تقدم وقوي معارضته من هذا الوجه ، والله تعالى أعلم .
السؤال الثالث :(36/24)
من أولج مع وجود حائل وكان هذا الحائل رقيقاً وشفافاً فهل يجب عليه الغسل إذا لم ينزل ..؟؟
الجواب :
هذه المسألة مسألة الحائل تقع في الغسل من الجنابة وتقع في الحدود وتقع في الاحصان فمن العلماء رحمة الله عليهم من قال من جامع ووجد الحائل أنه لا يجب عليه الغسل ولايحكم عليه بالحد لوجود الشبه ؛ والسبب في ذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم : (( إذا مس الختان الختان فقد وجب الغسل )) وإذا مس صريح بالمباشرة كما قال عليه الصلاة والسلام : (( من مس ذكره فليتوضأ )) فإن من مس الذكر بالحائل لايعتبر كمن مسه مباشرة وهكذا من أولج بالحائل لايعتبر كمن أولج بدون حائل وعلى هذا فإنه يقوى أن يقال بأنه لايجب الغسل لعدم وجود المس وظاهر قوله : (( من مس)) أنه يجب الغسل من وجود المباشرة لكن بعض العلماء يفرق بين الغسل وبين غيره فيكون في الغسل الأمر أشد لوجود الشهوة وانبعاث الشهوة فإن الشهوة بالإيلاج كالشهوة بمس الذكر ولذلك يقولون أقل ما فيه الوضوء ولا يوجبون الغسل من هذا الوجه ، والله تعالى أعلم .
السؤال الرابع :
هل العطور التي تحتوي على كحول هل هي نجسة تنقض الوضوء ..؟؟
الجواب :(36/25)
الخمر نجسة باتفاق الأئمة الأربعة وذلك لأن الله قال : { إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنصَابُ وَالأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ}(1) فذكر الخمر والميسر والأنصاب والأزلام الأصل في كلمة رجس في لغة العرب أنه رجس مستقذر والنجس في الشرع إذا أطلق المراد به النجاسة على أكمل صورها حسية ومعنوية حتى يدل الدليل على التخصيص فلما خرجت الأزلام والميسر عن النجاسة الحسية بقيت على النجاسة المعنوية فبقيت الخمر والأنصاب ، فالأنصاب نجسة لأنها كانت تنصب للعبادة ويذبح عليها ، والدم المسفوح الذي يذبح عليها نجس بالاجماع ؛ لأن الله قال :{ أَوْ دَمًا مَسْفُوحًا فَإِنَّهُ رِجْسٌ }(2) والخمر تعتبر باقية على الأصل لأن الأصل عندنا أن نبقي دلالة اللفظ على ظاهرها حتى يدل الدليل على ما دونها فلما خصصنا الميسر والأزلام بدلالة الحس وهذا مسلك أصولي صحيح وهو تخصيص العام بدلالة الحس كما في قوله-تعالى- : { تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّهَا}(3) فإنها لم تدمر كل شئ على وجه الأرض وإنما دمرت بدلالة الحس ما كان عليه هؤلاء القوم مما كان الدمار عليهم عقوبة وعذاباً من الله -سبحانه- فهذا المسلك الأصولي إنه يبقى العام على عمومه حتى يرد ما يخصصه ولو حساً فخصص الميسر والأزلام بالحس وبقي الخمر والأنصاب على الأصل من حمل الرجس على أقصى دلالة من نجاسة الحس والمعنى تأكد هذا أن النبي صلى الله عليه وسلم لما سأله أبو ثعلبة الخشني عن أواني أهل الكتاب " إنا بأرض قوم أهل كتاب " فسأله عن هذه الأواني أن يأكلوا ويشربوا فيها فقال : (( لا إلا ألا تجدوا غيرها فاغسلوها)) فأمر عليه الصلاة والسلام بغسلها قال العلماء غسلت لأنها إذا كانت لشراب فإنهم يشربون الخمر وإذا كانت لطعام فإنهم يأكلون الخنزير والخمر والخنزير كل منهما نجس ،
__________
(1) / المائدة ، آية :90 .
(2) / الأنعام ، آية : 145.
(3) / الأحقاف ، آية : 25.(36/26)
وأما كون الخمر طاهرة لحديث المزادتين أن الرجل كما في الصحيح الذي جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم في فتح الطائف وأهدى إليه مزادتي خمر فقال صلى الله عليه وسلم : (( أما علمت أن الله حرمها ؟)) قال : " لا " فقام رجل فساره فقال عليه الصلاة والسلام بما ساررته قال أمرته أن يبيعها فقال عليه الصلاة والسلام : (( إن الذي حرم شربها حرم أكل ثمنها )) هذا الحديث يقولون لم يأمره بغسل المزادتين لما سكبها وهذا الحدي كا يقول الجمهور سكت عن الغسل للعلم به بداهة ، وذلك أن أي إنسان أفرغ المزادة حتى لو أفرغها من لبن طاهر فإنه سيغسلها قطعاً فهو معلوم به بداهة لا يحتاج إلى تنبيه ولو قيل إن السكوت عن الأمر بالغسل يدل على طهارة الخمر لدل على جواز أن يضع اللبن بعد الخمر في المزادة وهذا لايقول به أحد لأنه قد يقول قائل إنه يجوز له أن يضع اللبن لو قال أحد إن هذا الحديث يدل على الطهارة فإننا نسأل لو صب اللبن في هذه المزادة بعد الخمر أيجوز ؟ يقول لك : لا حتى يغسلها لماذا ؟ لأن الخمر مأمور باجتنابه نقول كذلك لم يأمر بغلسها لأنه معلوم بداهة نقول كذلك في الطهارة سكت عن الأمر بغسلها لأن الأمر معلوم بالبداهة .(36/27)
ثانياُ: إن حديث الصلاة في النعال قالوا إن النبي صلى الله عليه وسلم لما نزل تحريم الخمر جرت بها سكك المدينة ، وهذه المسألة تكلم عليها الشيخ الأمين-رحمة الله عليه-"في أضواء البيان" كلاماً نفيساً في تفسير الآية ، آية المائدة وبين أن قول أنس فجرت بها سكك المدينة أسلوب عربي المراد به المبالغة بالكثرة لا أن كل السكك أمتلئت من الخمر وعلى تسليم أن السكك أمتلئت من الخمر وأنهم وطئوا بحذيانهم عليها وصلوا في الحذيان فقد مر وثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه أمر من جاء بنعليه إلى المسجد وفيها أذى أن يدلكهما قبل أن يدخل بهما إلى المسجد فلا يعتبر هذا دليلاً على طهارة الخمر ولذلك يقول شيخ الإسلام-رحمة الله عليه-كما في مجموع الفتاوى أكثر من موضع الخمر نجسة باتفاق الأئمة الأربعة ولم يذكر قولاً مخالفاً وإنما كان القول المخالف عن طاووس رحمه الله وهو من قول الأفراد أنه طاهرة أما جماهير أهل العلم ومنهم الأئمة الأربعة على أن الخمر نجسة على ظاهر آية المائدة وقد أشار إلى هذا الإمام القرطبي في تفسير الآية الكريمة فالمفسرون يذكرون في تفسير هذه الآية الكريمة :{ إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنصَابُ وَالأَزْلامُ رِجْسٌ}(1) يدل على أن الأصل في الرجس ، يحمل على أكمل دلالته ، رجس الحس والمعنى ، وبناء على ذلك فإنها نجسة وعلى هذا فجميع ما تكون فيه مادة الكحول قليلاً أو كثيراً مؤثراً فإنه يعتبر آخذاً حكم النجس ثم إذا وضعت في أي عطر وهي خمر فإن الله أمرك باجتنابه فلا يجوز بيعها ولاشرائها لأن النبي صلى الله عليه وسلم كما ثبت في الصححين في حديث جابر قال : (( إن الله ورسوله حرم بيع الميتة والخمر والخنزير والأصنام )) وهذا يدل على أنه لايجوز بيع الخمر ولاشرائها سواء كانت مركبة لطيب أو كانت مركبة لغيره فهي لاتزيد طيباً وإنما تزيد الإنسان نجساً وقذراً والله تعالى
__________
(1) / المائدة ، آية :90 .(36/28)
أمر من فوق سبع سموات باجتنايها فمن تطيب بها فإنه لم يجتنيها ولم يستجب أمر الله -- عز وجل - -باجتنابها حتى على القول بطهارة الخمر فإنه لايجوز وضعها في ثوب ولاغيره لأن الله أمر باجتنابها .
وَآخِرُ دَعْوَانَا أَنِ الحمَْدُ لِلَّهِ رَبِّ العَالَميْنَ وصلَّى اللَّهُ وسلَّم وبارك على عبده ونبيَّه محمد وعلى آله وصحبه أجمعين .(36/29)
بسم الله الرحمن الرحيم
قال المصنف رحمه الله : بَاب مَا جَاءَ فِي الْوُضُوءِ مِنْ لُحُومِ الإِبِلِ
الشرح:
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين أما بعد :
فقد ذكر المصنف-رحمه الله - هذا الباب المشتمل على حكم الوضوء من لحم الجزور ، وهذا الباب يعتبر من أهم الأبواب المتعلقة بنواقض الوضوء والسبب في ذلك أن السلف والخلف رحمهم الله اختلفوا في لحم الجزور ، هل ينقض أكله الوضوء أولا ينقض الوضوء ؟ فناسب أن يعتني المصنف رحمه الله بإيراد الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم والذي يشتمل على بيان السنة في حكم الوضوء من أكل لحم الجزور .
واختلف العلماء رحمهم الله في لحم الجزور على قولين :
القول الأول : إن أكل لحم الجزور يوجب انتقاض الوضوء وبهذا القول قال زيد بن ثابت من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وهو مذهب الإمام أحمد وقول إسحاق بن راهويه وأبي ثور إبراهيم بن خالد بن يزيد الكلبي وقال به طائفة من أصحاب الإمام الشافعي ؛ والسبب في ذلك أن الإمام الشافعي رحمه الله كان يقول إن صح الحديث بالأمر بالوضوء من لحم الجزور فأنا أقول به فلهذا اختار جمع من المحققين من أصحاب الإمام الشافعي القول بوجوب الوضوء من لحم الجزور .
القول الثاني : إن أكل لحم الجزور لا يوجب انتقاض الوضوء وهذا القول قال به أبو بكر وعمر وعثمان وعلي وطائفة من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وهو مذهب جمهور العلماء فهو مذهب المالكية والشافعية والحنفية-رحمة الله على الجميع - يقولون إن من أكل لحم الجزور لا يجب عليه أن يعيد الوضوء ولكن يستحب له أن يعيد الوضوء ، واستدل الذين قالوا إن أكل لحم الجزور يوجب انتقاض الوضوء بدليلين ثابتين عن النبي صلى الله عليه وسلم .(37/1)
فأما الدليل الأول : فحديث جابر بن سمرة رضي الله عنه وأرضاه وهو حديث ثابت في صحيح مسلم حيث : " سئل النبي صلى الله عليه وسلم عن الوضوء من لحم الغنم " قال : (( إن شئت )) ، فقال : " أتوضأ من لحم الإبل ؟ " قال : (( نعم )) والقاعدة : " أن السؤال معاد في الجواب" أي توضأ من لحم الإبل وهذا يدل دلالةً واضحةً على أن أكل لحم الإبل يوجب انتقاض الوضوء وأن من أكل لحم الإبل يجب عليه قبل أن يصلي أن يتوضأ .
وأما الدليل الثاني : فحديث البراء بن عازب -- رضي الله عنه - وأرضاه - وفيه أن النبي صلى الله عليه وسلم : " أمر بالوضوء من لحم الإبل "وهذا الحديث حديث صحيح حتى قال ابن خزيمة رحمه الله : " لا أعلم اختلافاً في ثبوت هذا الحديث" وقد رواه الإمام الترمذي رحمه الله وصححه .
والعمل عند العلماء رحمهم الله على ثبوته وصحة إسناده فهذا الحديث شاهد للحديث المتقدم يؤكد حكم المسألة أن من أكل لحم الجزور يجب عليه أن يعيد الوضوء .
واستدل جمهور العلماء رحمهم الله بحديثين ثابتين :
أما الحديث الأول : فحديث أبي هريرة -- رضي الله عنه - وأرضاه - وقد ثبت في الصحيحين من قوله عليه الصلاة والسلام :(( لا يقبل الله صلاة أحدكم إذا أحدث حتى يتوضأ)) ووجه الدلالة من هذا الحديث أن أكل لحم الجزور لا يعتبر حدثاً ولا في حكم الحدث ، فيبقى المتوضئ على الأصل من كونه متطهراً .
أما الدليل الثاني : فحديث جابر بن عبد الله-رضي الله عنهما-وفيه أنه قال : " كان آخر الأمرين من النبي صلى الله عليه وسلم ترك الوضوء من ما مست النار" يقول جمهور العلماء إن هذا الحديث يدل دلالةً واضحةً على أن أكل لحم الجزور إنما كان ناقضاً في أول الأمر ثم نسخ ذلك فأصبح أكل لحم الجزور وغيره لا يوجب انتقاض الوضوء .
والذي يترجح في نظري والعلم عند الله هو القول بأن أكل لحم الجزور يوجب انتقاض الوضوء وذلك لما يلي :(37/2)
أولاً : لصحة دلالة السنة الثابتة عن النبي صلى الله عليه وسلم على إيجاب الوضوء بأكل لحم الجزور .
وثانياً : أن استدلال أصحاب القول الثاني بحديث أبي هريرة رضي الله عنه يجاب عنه بأن أكل لحم الجزور ليس بحدث ولكن الشرع نزله منزلة الحدث فاستوى مع الحدث حكماً .
وأما استدلالهم بحديث جابر بن عبد الله-رضي الله عنهما-وفيه " أنه كان آخر الأمرين من رسول الله صلى الله عليه وسلم ترك الوضوء من ما مست النار" فهذا الحديث يجاب عنه من وجهين :
الوجه الأول: من جهة السند وذلك أن حديث جابر بن عبد الله-رضي الله عنهما-المحفوظ أنه حضر قصة لرسول الله صلى الله عليه وسلم مع الأنصارية والتي استضافته فأكل من الشاة ثم قام فصلى ولم يتوضأ وهذا الحديث تقدم معنا في الباب السابق وهذا الحديث-أعني قصة لحم الشاة-هو الذي عليه المعول عند المحققين ، وأن حديث جابر هذا لا يخلو من أمرين :
إما أن يكون شعيب الذي يروي الحديث عن محمد بن المنكدر قد وهم فيه كما قال أبو حاتم فقد سأله ابنه عن هذا الحديث فقال لعل شعيباً وهم فيه وذلك أن ثقات الرواة عن محمد بن المنكدر يروونه بقصة الشاة ولا يروونه بلفظ النسخ ولذلك تعتبر الرواية المفصلة مقدمة على الرواية المجملة .
وأما الجواب من جهة المتن فإن الحديث الذي دل على نسخ الوضوء من ماست النار يعتبر حديثاً عاماً ، وحديثنا الذي دل على وجوب الوضوء يعتبر خاصاً ، والقاعدة في الأصول : " أنه لا تعارض بين عامٍ وخاص" .(37/3)
وتوضيح ذلك : أن قوله" كان آخر الأمرين من رسول الله صلى الله عليه وسلم ترك الوضوء من ما مست النار " :فيه عموم ، وأما الأمر بالوضوء من لحم الجزور ففيه خصوص والذي يظهر أن تقديم الخاص هنا متعين خاصة وأن النبي صلى الله عليه وسلم رخص في الوضوء من لحم الغنم ولم يرخص من لحم الإبل وحديثنا يعتبر حديثاً خاصاً ووجه ذلك أن حديث جابر الذي دل على النسخ يعتبر حديثاً عاماً لأن المراد به ترك الوضوء من كل شئ مسته النار فيشمل لحم الجزور ولحم الإبل ولحم البقر ويشمل الخبز واللبن وغيره من ما مسته النار وأما حديثنا فإنه ورد في شئ خاص فيقدم هذا الحديث الخاص على العام والقاعدة : " أن الدليل إذا كان أعم من موضع النزاع فإنه لا يصلح لمعارضة الخاص".
وأما بالنسبة لهذا الحديث إجمالاً فإنه يجاب عنه من وجه ثالث وذلك بأن يقال إن حديث جابر بن عبد الله كان آخر الأمرين يعتبر من كلام جابر رضي الله عنه وأرضاه يحكي فيه هدي النبي صلى الله عليه وسلم وحديثنا الذي أمر بالوضوء من لحم الإبل هو من كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم والحديث الذي يحكيه الصحابي عن السنة ليس كالحديث الذي هو من لفظ رسول الله صلى الله عليه وسلم فلأجل هذه الوجوه يترجح قول من قال إنه يجب الوضوء من أكل لحم الجزور .
المسألة الثانية : إذا ثبت أن لحم الجزور يوجب انتقاض الوضوء .
فالسؤال: هل هو عام في جميع أنواع الإبل أو هو خاص بنوع دون آخر ..؟؟
وتوضيح ذلك : أن الإبل تنقسم إلى قسمين :
القسم الأول : إما أن تكون إبلاً عرابية . والقسم الثاني : أن تكون إبلاً بختية .(37/4)
والإبل العراب هي التي لها سنام واحد ، والبختية التي لها سنامان والحكم في حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم عام حيث يشمل كلا النوعين فيستوي في الإبل أن تكون من هذا النوع أو من هذا النوع كما يستوي في الإبل أن تكون من الذكور أو تكون من الإناث ، فمن أكل لحم الإبل أياً كان نوع هذا اللحم وأياً كان جنس المأكول سواء كان ذكراً أو أنثى فإن وضوءه في حكم المنتقض .
المسألة الثالثة : كلام العلماء رحمهم الله على لحم الجزور فهل يلتحق في اللحم ما في حكم اللحم كأكل الكبد وكأكل الأحشاء ونحو ذلك من أعضاء الإبل ..؟؟
والجواب : أن للعلماء في هذه المسألة وجهان :
الوجه الأول : أن الحكم يختص باللحم وأن من أكل من غير اللحم لا ينتقض وضوؤه إعمالاً للأصل .
والوجه الثاني : أن جميع أعضاء الإبل آخذة حكم اللحم وذلك لأننا عهدنا في الكتاب والسنة إطلاق الحكم على المشهور الغالب على وجه لا يستلزم التخصيص ووجه ذلك أن الله عز وجل لما حرم علينا الخنزير قال-سبحانه-:{وَلَحْمَ الْخِنزِيرِ}(1) وليس المراد بذلك تخصيص الحكم بلحم الخنزير كما لا يخفى ، فإنه بالإجماع لا يجوز أكل لحم الخنزير ولا سائر أعضائه ، فكذلك الحكم هنا لأن الحديث خرج مخرج الغالب والقاعدة في الأصول : " أن النص إذا خرج مخرج الغالب لم يعتبر مفهومه ".
المسألة الرابعة : هل يلتحق بلحم الإبل اللبن أو لا يلتحق فهل شرب ألبان الإبل يوجب انتقاض الوضوء كأكل لحومها أو لا يوجب ..؟؟
للعلماء في هذه المسألة قولان :
القول الأول : أن لبن الإبل يأخذ حكم اللحم واستدلوا بحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم وهو حديث عبيد الله بن عمرو بن العاص-- رضي الله عنه - وعن أبيه- وكذلك حديث سمرة بن جندب رضي الله عنه وفيه أن النبي صلى الله عليه وسلم " أمر بالوضوء من ألبان الإبل "وكلا الحديثين ضعيف الإسناد.
__________
(1) / البقرة ، آية : 173 .(37/5)
والقول الثاني : إنه لا يجب الوضوء من لبن الإبل واستدلوا بأن الأصل ألا ينتقض الوضوء إلا بما دل الدليل على أنه ناقض وقد جاء الدليل في اللحم وبقية الأعضاء في حكمه لأنها من جنس المأكول وبقي ما عدا اللحم من الإبل لا يأخذ حكم اللحم .
وهذا هو الصحيح أن اللبن لا يوجب انتقاض الوضوء ؛ لأن السنة دلت على عدم انتقاض الوضوء إلا بالحدث وما في حكمه مما نص الشرع على كونه ناقضاً وقد نص الشرع على لحم الإبل ولم ينص على اللبن وقد ألحقنا باللبن ما في حكم المأكول وبقي ماعدا ذلك على الأصل الذي يوجب عدم الانتقاض .
المسألة الخامسة : إذا قلنا إن أكل لحم الجزور يوجب انتقاض الوضوء فما هي العلة أو الحكمة في ذلك..؟؟
والجواب : أن الأصل في المسلم أن يسلم بحكم الشرع وأن لا يتكلف البحث عن الحكم والعلل فعلى الله الأمر وعلى رسولنا صلى الله عليه وسلم البلاغ وعلينا الرضا والتسليم ولكن أهل العلم رحمة الله عليهم لهم في هذه المسألة وجهان :
الوجه الأول : أن هذا الحكم تعبدي فالله سبحانه وتعالى أمرنا بالوضوء من أكل لحم الإبل لشيء لا ندرك علته ولا نعقلها امتحاناً وابتلاءً واختباراً لعباده والله يحكم ولا معقب لحكمه سبحانه وتعالى .(37/6)
الوجه الثاني : أن هذا الحكم معلل واختلفوا في التعليل فقالت طائفة من العلماء أن الله عز وجل أوجب علينا الوضوء من لحم الإبل لأن الإبل من الشياطين وقد تكلم الإمام ابن القيم رحمه الله كلاماً نفيساً في هذه الحكمة وبينها في كتابه الإعلام حيث بين أن الله عز وجل نهى عباده عن الصلاة في معاطن الإبل لحضور الشياطين لها وهناك وجه ثان في هذا التعليل فقال بعض العلماء : إننا أمِرنا بالوضوء من لحوم الإبل لأن فيها زهومة وقوة ولذلك أمِر بالوضوء منها لوجود القوة فيها أكثر من غيرها ولاشك أن في الإبل من الجلد ما ليس في غيرها من بهيمة الأنعام ولذلك أمر الله عباده أن ينظروا إليها وأن يتفكروا في عظيم خلقها وتسخير الله عز وجل لها كما قال سبحانه وتعالى :{أَفَلاَ يَنْظُرُونَ إِلَى الإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ }(1) فقالوا إن لهذه الزهومة والقوة لها تأثيراً على النفس والجسم ولذلك يتوضأ حتى تسكن ثائرة الجسم وبناءً على هذا التعليل ورد إشكال عند العلماء رحمهم الله فقالوا إذا أكل لحماً فيه زهومة كزهومة لحم الإبل أو أقوى من لحم الإبل فهل ينتقض وضوؤه أو لا ينتقض ؟
وتوضيح ذلك : بأكل لحوم السباع العادية مثال ذلك أن يكون الإنسان في سفر وتصيبه المخمصة والمجاعة فيجد لحم الأسد مثلاً فإذا أكل لحم الأسد عند الضرورة وهو متوضئ فهل ينتقض وضوؤه بناءً على هذا التعليل أو لا ينتقض ؟
والصحيح أنه لا ينتقض الوضوء وبناء على ذلك يختص الحكم بلحم الإبل وفي حكم لحم الإبل أكل سائر الأعضاء التي هي آخذة حكم اللحم كأحشاء الإبل وأكبادها ويستوي في ذلك أن تؤكل مطبوخة أو غير مطبوخة فالحكم في ذلك سواء وبناءً عليه فإن من أكل لحم الإبل يحكم بانتقاض وضوئه يستوي في ذلك أن يأكل اللحم القليل أو اللحم الكثير .
وهنا مسألة تتفرع على ما ذكرنا وهي شرب المرق:
__________
(1) / الغاشية ، آية : 17 .(37/7)
فلو أن لحم الجزور طبخ في مرق حتى اشتد ثم شرب ذلك المرق فهل ينتقض الوضوء أو لا ينتقض ..؟؟
للعلماء وجهان : أصحهما عند القائلين بالانتقاض أن الوضوء ينتقض ؛ والسبب في ذلك واضح حيث أن اللحم قد تحلل بالمرق والمرق آخذ حكم اللحم من جهة المعنى ، ولذلك ينقض الوضوء كما ينقضه اللحم سواء بسواء ولا يشكل على هذا أننا لا نوجب الوضوء من اللبن مع أن المرق يشرب واللبن يشرب والفرق بينهما واضح وذلك أن اللبن ليس بمتحلل من اللحم ولكن المرق متحلل من اللحم والقاعدة : " أن الفرع يتبع أصله" فالشرع حينما حكم بانتقاض الوضوء من اللحم فإن سائر ما يتفرع على ذلك الذي حكم بكونه ناقضاً يأخذ حكمه في الشرع ، وبناءً عليه فإنه إذا طبخ اللحم وغلى حتى اشتد وتحلل اللحم في الماء المطبوخ فإننا نحكم بانتقاض وضوء من شربه .
قال المصنف رحمه الله حَدَّثَنَا هَنَّادٌ حَدَّثَنَا أَبُو مُعَاوِيَةَ عَنِ الأَعْمَشِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الرَّازِيِّ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي لَيْلَى عَنِ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ قَالَ سُئِلَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَنِ الْوُضُوءِ مِنْ لُحُومِ الإِبِلِ فَقَالَ :(( تَوَضَّئُوا مِنْهَا )) وَسُئِلَ عَنِ الْوُضُوءِ مِنْ لُحُومِ الْغَنَمِ ؟ فَقَالَ : (( لاَ تَتَوَضَّئُوا مِنْهَا )) .
قَالَ رحمه الله : وَفِي الْبَاب عَنْ جَابِرِ بْنِ سَمُرَةَ وَأُسَيْدِ بْنِ حُضَيْرٍ .(37/8)
قَالَ أَبو عِيسَى رحمه الله : وَقَدْ رَوَى الْحَجَّاجُ بْنُ أَرْطَاةَ هَذَا الْحَدِيثَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي لَيْلَى عَنْ أُسَيْدِ بْنِ حُضَيْرٍ وَالصَّحِيحُ حَدِيثُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي لَيْلَى عَنِ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ وَهُوَ قَوْلُ أَحْمَدَ وَإِسْحَقَ وَرَوَى عُبَيْدَةُ الضَّبِّيُّ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ ابْنِ عَبْدِ اللَّهِ الرَّازِيِّ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي لَيْلَى عَنْ ذِي الْغُرَّةِ الْجُهَنِيِّ وَرَوَى حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ هَذَا الْحَدِيثَ عَنِ الْحَجَّاجِ بْنِ أَرْطَاةَ فَأَخْطَأَ فِيهِ وَقَالَ فِيهِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي لَيْلَى عَنْ أَبِيهِ عَنْ أُسَيْدِ بْنِ حُضَيْرٍ وَالصَّحِيحُ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الرَّازِيِّ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي لَيْلَى عَنِ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ .
قَالَ رحمه الله : إِسْحَقُ صَحَّ فِي هَذَا الْبَابِ حَدِيثَانِ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم حَدِيثُ الْبَرَاءِ وَحَدِيثُ جَابِرِ بْنِ سَمُرَةَ وَهُوَ قَوْلُ أَحْمَدَ وَإِسْحَقَ وَقَدْ رُوِيَ عَنْ بَعْضِ أَهْلِ الْعِلْمِ مِنَ التَّابِعِينَ وَغَيْرِهِمْ أَنَّهُمْ لَمْ يَرَوُا الْوُضُوءَ مِنْ لُحُومِ الإِبِلِ وَهُوَ قَوْلُ سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ وَأَهْلِ الْكُوفَةِ .
الشرح :
هذا الحديث حديث صحيح ثابت عن النبي صلى الله عليه وسلم وهو حديث البراء بن عازب يرويه الإمام أحمد في مسنده ، وكذلك أبو داود في سننه وابن ماجة والنسائي وهو حديث ثابت ويعتبر الحكم بانتقاض الوضوء من لحم الإبل قائماً على حديثين :
أما الحديث الأول : فهو حديث جابر بن سمرة رضي الله عنه وأرضاه وقد رواه الإمام مسلم في صحيحه.(37/9)
والحديث الثاني : فهو حديثنا وقد بينا أن الصحيح من أقوال العلماء رحمهم الله أن هذا الحديث غير منسوخ وأنه يدل دلالةً واضحةً على وجوب الوضوء من لحم الإبل.
وفي هذا الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل والسائل لم يبين من هو وهذا من جهالة السائل وجهالة السائل لا تضر في مثل هذا حيث لا يترتب على ذلك كبير فائدة .
وقوله " أن النبي صلى الله عليه وسلم قيل له أنتوضأ من لحوم الغنم": قد جاء هذا اللفظ بقوله"أنتوضأ "وللعلماء في هذا السؤال قولان:
القول الأول : أن مراد السائل الوضوء الشرعي أي هل نتوضأ وضوءاً كاملاً بالغسل والمسح للأعضاء المعهودة شرعاً في الوضوء ؟
والقول الثاني : أن المراد بقوله أنتوضأ : غسل الفم وغسل الكفين لإصابة الطعام لحرمة الوقوف بين يدي الله عز وجل ؛ والسبب في ذلك أن المصلي إذا صلى وفي فمه رائحة الطعام ولم يتمضمض فإن ذلك يشوش فكره ويصرف نفسه عن كمال الخشوع والحضور وهو واقف بين يدي الله عز وجل في الصلاة فحملوا الوضوء على هذا الوجه.
والصحيح المذهب الأول أن المراد بالوضوء : الوضوء الشرعي وهو الغسل والمسح للأعضاء المعروفة المعهودة في الطهارة الصغرى والدليل على ذلك أن القاعدة في الأصول : " إذا تعارضت الحقيقة الشرعية واللغوية فإن الواجب تقديم الحقيقة الشرعية على اللغوية ".
وتوضيح ذلك : أن لفظ الوضوء حقيقة تطلق بمعنى الشرع تطلق على معنى لغوي عام وتطلق على معنى شرعي خاص فإذا حاء لفظها في الكتاب والسنة فإن الواجب صرفها على المعهود شرعاً ؛ لأنه هو الظاهر والقوي في الاحتمالين ولذلك يكون قول من قال بالوضوء الشرعي أقوى وأولى وأحرى .(37/10)
وفي هذا الحديث مسألة مهمة تتعلق بتجديد الوضوء وتوضيحها أن النبي صلى الله عليه وسلم لما سئل في هذا الحديث وحديث جابر بن سمرة رضي الله عن الجميع سئل عن الوضوء من لحم الغنم قال : (( إن شئت)) فلما قال : (( إن شت)) دل على التخيير وعدم الوجوب ، ولذلك لما قال عليه الصلاة والسلام : (( إن شئت)) أي إذا شئت فتوضأ من لحوم الغنم وحينئذٍ يستفاد من هذا أنه يشرع للمسلم أن يتوضأ الوضوء على الوضوء لأنه قبل أكله للحم الغنم كان متوضئاً فلما سأل النبي صلى الله عليه وسلم هل يعيد الوضوء بعد أكل لحم الغنم أو لا يعيد ؟ خيره رسول الله صلى الله عليه وسلم بين الوضوء وبين ترك الوضوء فدل على جواز الوضوء على الوضوء لأنه إذا شاء أن يتوضأ فإنه قد أوقع الوضوء على الوضوء فدل على مشروعية التجديد وبهذا القول قال الأئمة الأربعة-رحمة الله على الجميع-.
واختلف العلماء فيمن جدد الوضوء هل يشرع له أن يجدد الوضوء مطلقاً أو فيه تفصيل..؟؟
فذهب فقهاء الحنفية -رحمة الله عليهم - إلى أن من توضأ وأراد أن يتوضأ مرة ثانية فإنه لا يتوضأ حتى يفصل بالفاصل والفاصل عندهم ينقسم إلى قسمين :
القسم الأول : أن يكون فاصلاً بالعبادة كالصلاة فإذا صلى ركعتي الوضوء مثلاً ثم أراد أن يتوضأ ثانية فإنه لا حرج وحينئذٍ ينال فضل التجديد .
والقسم الثاني : أن يكون فاصلاً بالأعمال فقالوا إذا توضأ الوضوء الأول ثم أكل أو شرب وأراد أن يتوضأ ثانية فلاحرج وحينئذٍ ينال فضل التجديد واستدلوا على مذهبهم بحديثنا لأن النبي صلى الله عليه وسلم أجاز الوضوء بعد أكل لحم الغنم وهذا هو الوضوء المجدد ولاشك أن أكل لحم الغنم وقع بين الوضوء الأول والوضوء الثاني فدل على أن الفضيلة في التجديد إنما تكون عند وجود الفاصل من عبادة أو عمل .(37/11)
وذهب المالكية والشافعية-رحمة الله على الجميع- إلى أنه ينال الفضل إذا فصل بالعبادة فقط ولم يروا الفاصل بالفعل موجباً للفضل بل قال بعضهم إنه لو توضأ الوضوء الأول ثم توضأ بعده وضوءاً ثانياً يعتقد الفضل فإنه مبتدع وذلك لأنه يفعله على وجه الفضل .
وذهب فقهاء الحنابلة رحمة الله عليهم إلى استحباب التجديد بدون تفصيل.
ولاشك أن الحديث الذي معنا يدل على مشروعية تجديد الوضوء .
ولكن هنا مسألة:وهي لو أنه توضأ في الوضوء الأول ثلاثاً ثلاثاً فهل إذا جدد وضوءه تعتبر غسلة رابعة أو لا؟؟
قال جمع من العلماء إنها غسلة رابعة ولذلك قالوا لا يجدد الوضوء إلا إذا كان الوضوء الأول دون الثلاث احترازاً من قوله عليه الصلاة والسلام لما توضأ وأسبغ الوضوء : (( هذا وضوئي ووضوء الأنبياء من قبلي فمن زاد فقد أساء وتعدى وظلم)) قالوا فالغسلة الرابعة إساءة وتعدٍ وظلم ، ولذلك لا يجدد إذا كان قد أسبغ تثليثاً ورأوا أنه يفعل ذلك إذا غسل الأعضاء مرة أو مرتين وكنا نميل إلى هذا القول ونرتاح إليه ولكن تبين أن السنة هنا مطلقة وأن هناك وجهاُ قوياً للقول بالجواز ولما تأملنا المسألة وجدنا أنه ولو توضأ مرة واحدة فإنه سيكون قد مسح برأسه مرة واحدة وتكرار المسح مكروه كما لايخفى .
وبناءً على ذلك يرد الإشكال في المرة الواحدة كالثالثة سواء بسواء ..؟؟
فالذي تطمئن إليه النفس أن التجديد مشروع على الإطلاق ومع وجود الفاصل يقوى بحديثنا وأنه لافرق بين من غسل ثلاثاً أو غسل مرة أو غسل مرتين ولكن لو احتاط الإنسان فإنه أفضل و أكمل .
قال المصنف رحمه الله : بَاب الْوُضُوءِ مِنْ مَسِّ الذَّكَرِ
الشرح :
يقول المصنف رحمه الله "باب الوضوء من مس الذكر " : أي في هذا الموضع سأذكر لك ما ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم من الأحاديث التي تدل على أن مس الذكر يوجب انتقاض الوضوء ومس الذكر لا يخلو من حالتين :(37/12)
الحالة الأولى : أن يكون مباشرة بدون وجود حائل . والحالة الثانية : أن يكون بوجود حائل .
فأما إذا كان مس الذكر بوجود الحائل فإنه لا ينقض الوضوء في قول جماهير السلف والخلف من أهل العلم-رحمة الله على الجميع- وذلك لأنهم حملوا حديث طلق بن علي الحنفي لما سأل النبي صلى الله عليه وسلم وهو يبني مسجدهصلوات الله وسلامه عليه عن مس ذكره فقال : (( وهل هو إلا بضعة منك؟)) قالوا والمراد بذلك أن يمسه مع وجود الحائل من فوق الثوب أو من فوق الإزار ونحو ذلك ، وأما إذا كان مس الذكر بدون وجود حائل كأن يفضي بالبشرة إلى البشرة فللعلماء في هذا المسألة قولان :
القول الأول : إن مس الذكر بدون حائل يوجب انتقاض الوضوء وهذا هو مذهب المالكية والشافعية والحنابلة والظاهرية وطائفة من أهل الحديث .
القول الثاني : إنه لا ينقض الوضوء وهو مذهب الإمام أبي حنيفة-رحمة الله على الجميع-.
استدل الجمهور بحديث بسرة بنت صفوان -رضي الله عنها وأرضاها - أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:(( من مس ذكره فليتوضأ)) وهذا الحديث صححه الأئمة كالإمام أحمد ، وكذلك قال الإمام البخاري رحمه الله إنه أصح شئ في هذا الباب ووجه الدلالة من هذا الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : (( من مس ذكره فليتوضأ )) فدل على أن مس الذكر يوجب انتقاض الوضوء .
وأكدوا ذلك بأن مس الذكر يحرك الشهوة ، ولذلك الغالب فيه أن يحرك شهوة الإنسان خاصة إذا لم يوجد الحائل فنزل السبب منزلة ما ينشأ عنه من الانتقاض ولذلك النوم ينزل منزلة الحدث حكماً فكذلك مس الذكر ينزل منزلة الخروج حكماً .(37/13)
أما الحنفية رحمة الله عليهم فقد استدلوا بحديث طلق بن علي رضي الله عنه وأرضاه : " أنه سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن مس الذكر فقالصلوات الله وسلامه عليه : (( وهل هو إلا بضعة منك )) ووجه الدلالة من هذا الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يأمره بالوضوء فدل على أن مس الذكر لا يوجب انتقاض الوضوء .
وأما سبب الخلاف في هذه المسألة فتعارض هذين الحديثين أحدهما يدل على أن المس ناقض والثاني يدل على أنه غير ناقض فمن رجح حديث بسرة بنت صفوان-رضي الله عنها- قال بالنقض ومن رجح حديث طلق بن علي الحنفي رضي الله عنه قال بعدم النقض والذين قالوا بعدم النقض يستدلون بالأصل فقالوا الأصل أنه متوضئ ولم يخرج منه شئ ومس الذكر ليس بناقض عيناً أي ليس بحدث بذاته ولكنه في حكم الحدث.
والذي يترجح في نظري والعلم عند الله هو القول باعتبار مس الذكر ناقضاً للوضوء لما يلي :
أولاً: لصحة دلالة السنة على ذلك في قوله عليه الصلاة والسلام : (( من مس ذكره فليتوضأ )).
وأما ثانياً : فلأن حديث طلق بن علي رضي الله عنه وأرضاه لايقوى على معارضة حديث بسرة بنت صفوان وذلك من وجوه :
الوجه الأول : أن المراد بحديث طلق ما كان بحائل وأما حديث بسرة فالمراد ما كان مباشرة .
الوجه الثاني : أن حديث طلق بن علي يعتبر متقدماً على حديث بسرة وأبي هريرة -رضي الله عن الجميع -.(37/14)
وتوضيح ذلك : أن حديث طلق بن علي قد جاء في الرواية الكاملة أنه قدم على النبي صلى الله عليه وسلم وهو يبني مسجده -صلوات الله وسلامه عليه - فسأله عن مسألة مس الذكر هل هو ناقض للوضوء أو غير ناقض ؟ وهذا يدل على أنه كان في أول الإسلام وحديث أبي هريرة وبسرة بنت صفوان متأخر لأن أبا هريرة رضي الله عنه تأخر إسلامه إلى عام خيبر فهو متأخر عن حديث طلق بما لا يقل عن خمس سنوات من بعد هجرتهصلوات الله وسلامه عليه فهذا يقوي القول بالنسخ فلا مانع أن يكون الأمر في أول الإسلام على الرخصة ثم نزلت العزيمة بعد ذلك أن من مس ذكره وعليه الوضوء .
وهذا هو أقوى الوجوه في الجواب عن حديث طلق بن علي ، ولذلك يقوى القول بأن حديث من مس ذكره أقوى في الدلالة على النقض ولأن حديث : (( من مس ذكره)) فيه احتياط وصيانة للصلاة التي هي أعظم أركان الإسلام بعد الشهادتين فالعمل به أحوط وأسلم ولأن حديث طلق بن علي ينفي الوضوء وحديث أبي هريرة وبسرة بنت صفوان يثبت الوضوء والقاعدة : " أن المثبت يقدم على النافي" وأدلة الإثبات أقوى من أدلة النفي لهذا كله يترجح القول بأن مس الذكر يعتبر ناقضاً للوضوء .
وإذا كان مس الذكر ناقضاً للوضوء ففيه مسائل :
المسألة الأولى : ينقض مس الذكر الوضوء إذا كان بشهوة أو بدون شهوة فمن مس ذكره فعليه أن يعيد الوضوء سواء وجد الشهوة أولم يجدها ؛ والسبب في ذلك أن الغالب وجود الشهوة والنادر أنه لا يجد والحكم في الشرع للغالب والنادر لاحكم له .
المسألة الثانية : في حكم الذكر الدبر ، فمن مس حلقة الدبر فإنه ينتقض وضوؤه للحديث الآخر : (( من مس فرجه فليتوضأ)) ، والفرج مأخوذ من الانفراج وهو يطلق على القبل والدبر معا ، على هذا فإنه إذا مست المرأة فرجها من القبل أو الدبر انتقض الوضوء فلا يختص الحكم بالذكور وإنما يشمل الذكور والإناث .(37/15)
المسألة الثالثة : يستوي أن يمس ذكره أو يمس ذكر الغير كما هو الحال في الطبيب إذا احتاج إلى لمس الذكر لوجود ضرورة العلاج ، فإنه إذا مس ذكر المريض بدون حائل فإنه ينتقض وضوؤه كمس ذكره وهذا هو مذهب جمهور العلماء رحمهم الله القائلين بوجوب الوضوء .
وخالف في ذلك بعض أصحاب الظاهر ؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم نص على حكم ذكر الإنسان لا ذكر غيره وقد أجيب بأن الشريعة تنص على الشئ تنبيهاً على المثل وأصل مسألتنا راجع إلى مسألة القياس وهي مسألة أصولية دلت الأدلة الشريعة على أنه حجة ، ولذلك يستوي أن يمس ذكره أو يمس ذكر الغير.
المسألة الرابعة : يستوي في ذلك الغيرُ الممسوسُ : أن يكون صغيراً أو كبيراً فالمرأة إذا غسلت لصبيها الصغير فإنه ينتقض وضوؤها ولو تكرر ذلك منها لأن النص وارد بالإطلاق وفي حكم ذلك مس الإنسان لذكره ولو تكرر ، وبناءً عليه فإنه ينتقض وضوؤها في جميع هذه الصور .
المسألة الخامسة : هل يلتحق بالذكر غير الذكر مما جاوره من الأعضاء ..؟؟
للعلماء في هذه المسألة قولان :
القول الأول : إن الانتقاض يختص بالذكر وأما الأنثيان وكذلك الرُفغان وأصل الفخذين كل ذلك لا يوجب انتقاض الوضوء وكذلك لو مس فخذه فإنه لا ينتقض وضوؤه .
والقول الثاني : قال بعض السلف : إن مس الرفغين إن مس رفغيه أو فخذيه وجب عليه أن يعيد الوضوء وهو مروي عن عروة بن الزبير-رحمه الله - .
والصحيح ما ذهب إليه جمهور العلماء من أن الحكم يختص بالعضو دون غيره ولكن في الأنثيين خلاف قوي عند بعض المتأخرين من أصحاب المذاهب وله وجهه على مسالة المذي المشهورة في قوله عليه الصلاة والسلام :(( ليغسل مذاكيره)) فلما قال عليه الصلاة والسلام :(( ليغسل مذاكيره)) دل على أن الأنثيين تكون في حكم الذكر ولذلك إذا بال الرجل فإنه يغسل الذكر والأنثيين وهذا يقوي قول هؤلاء المتأخرين في الأنثيين فقط ، وهو أقوى ما يكون لأن له وجهاً من السنة .(37/16)
وقوله عليه الصلاة والسلام :(( من مس ذكره )) : ظاهره أن يكون المس بباطن الكف واختلف العلماء لو وقع المس بظاهر الكف أو يقع المس بالساعد أو يقع المس بغير اليد من الأعضاء مثال ذلك ما يقع في حالة لبس الثياب التي تستر العورة فإن الإنسان إذا أراد أن يلبس الإزار أو يلبس السروال وما في حكمهما ربما لمس العضو بظاهر يده لا بباطن اليد .
وحينئذٍ يرد السؤال : هل ينتقض وضوؤه أو لا ..؟؟
فمذهب جمهور العلماء : أنه لاينتقض لأن المس إنما يكون بالإفضاء بباطن الكف وهو أشبه ما يكون بحالة الباطن بالباطن لا بالظاهر .
وقال بعض العلماء : ظاهر الكف وباطنه على حد سواء لأنه صدق عليه أنه مس.
ولكلا القولين وجهه والاحتياط أن يعيد الإنسان وضوءه إذا كان بظاهر الكف ، أما إذا كان بالساعد فإنه يضعف القول بأنه ينتقض وضوؤه ولذلك لا يحكم بانتقاض وضوئه إذا مس الذكر أطراف الفخذين ففي حكمهما الساعدان ، وعليه فإنه لاينتقض الوضوء إلا بأحد وجهين :
إما أن يمس بباطن الكف وإما أن يمس بظاهر الكف على الاحتياط لا على اللزوم .
واختلف العلماء رحمهم الله الذين يقولون إن مس الذكر يوجب انتقاض الوضوء هل يستوي في ذلك الحائل الخفيف والكثيف..؟؟
فقد اتفقوا على أن الحائل الكثيف لا يوجب انتقاض الوضوء ولكن إذا لبس القفاز وكان القفاز خفيفاً شفافاً ولمس الذكر فهل ينتقض وضوؤه أو لاينتقض ؟
الصحيح في مسألة الحوائل الخفيفة أنه لاينتقض الوضوء كما لو جامع بحائل خفيف فإن لا يجب عليه الغسل لظاهر قوله عليه الصلاة والسلام : (( ومس الختان الختان )) وقوله كما في الصحيحين من حديث عائشة-رضي الله عنها وأرضاها- : (( وألزق الختان بالختان )) فهذا يدل على عدم وجود الحائل مطلقاً سواء كان الحائل خفيفاً أو كان كثيفاً .
- ? - ? - ? - ? - الأسئلة - ? - ? - ? - ? -
السؤال الأول :(37/17)
من أكل لحم الإبل ثم صلى ولم يكن يدر أن ما أكله كان لحم إبل إلا بعد صلاته فهل يعيد الصلاة..؟؟
الجواب:
بسم الله الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه أما بعد :
فمن أكل لحم الجزور وصلى وهو لا يدري أنه أكله أو أكل لحم الجزور ثم نسي أنه أكله وصلى ففي كلتا الحالتين يطالب بإعادة الوضوء والصلاة ، وذلك لأن النبي صلى الله عليه وسلم عمم في الحكم ورتب النقض على وجود الأكل فيستوي في ذلك أن يشعر به أو لا يشعر ، والله تعالى أعلم.
السؤال الثاني :
بالنسبة لألبان الإبل ألا نقول أنها مستحلبة من الجسم وأنها فرع تأخذ حكم أصلها فتوجب الوضوء..؟؟
الجواب :
هذا ليس بفرع مستحلب وفرق بين الفرع الذي يستحلب من أصله وبين الفرع المصاحب لأصله أو الناشئ من أصله الذي لا يكون ناشئ من أصله فاللبن ليس بمستحلب من اللحم وليس هو بمتفرع من اللحم وليس بأصل اللبن من اللحم كما لا يخفى ، وأما بالنسبة للمرق فإنه مستحلب من اللحم بل إنك تجد فيه طعم اللحم ومادة اللحم ولذلك يعتبر من شرب اللبن لا يأخذ حكم من أكل اللحم ولاحكم من شرب المرق فلا ينتقض وضوؤه ، والله تعالى أعلم .
السؤال الثالث :
هل مس الذكر المبتور ينقض الوضوء أم الحكم خاص بالمتصل ..؟؟
الجواب :
تكلم بعض العلماء على هذه المسألة وقالوا إنه إذا قطع الذكر فإنه يوجب انتقاض الوضوء مسه وذلك لأن الشرع أطلق في قوله من مس ذكره ، فلو قطع الذكر من الإنسان ثم مسه لانتقض وضوؤه على ظاهر الحديث ، وقال بعض العلماء لا يأخذ المنفصل حكم المتصل ولذلك قالوا : إن مسه لا يوجب انتقاض الوضوء لأن الإسناد في قوله ذكره يقتضي الاتصال فلا يأخذ المنفصل حكم المتصل وهذا القول أقوى الأقوال وهو أرجح في نظري والعلم عند الله أنه إذا بتر ثم مس لا يوجب انتقاض الوضوء ، والله تعالى أعلم .
السؤال الرابع :(37/18)
ما صحة أن مناسبة أحاديث الوضوء من لحم الإبل أن الصحابة-رضوان الله عليهم- كانوا جلوساً عند النبي صلى الله عليه وسلم فحان وقت الصلاة فوجدوا ريحاً فأمر النبي صلى الله عليه وسلم بالوضوء لكي لا يحرج أحداً..؟؟
الجواب :
هذا جواب بعض أصحاب الإمام أبي حنيفة رحمة الله عليهم وهو جواب ضعيف لم يثبت به شيء صحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم ، والله تعالى أعلم .
السؤال الخامس :
هل ينتقض الوضوء بالنية قياساً على إبطال الصيام بالنية ..؟؟
الجواب :
إذا نوى الإنسان أن يحدث ولم يحدث فإنه لاينتقض وضوؤه كما ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم من حديث أبي هريرة أنه قال :(( إن الله عفا لأمتي عما حدثت به نفسها مالم تتكلم أو تعمل)) فلو حدث نفسه أنه يبول أو يتغوط فإنه لا يوجب انتقاض وضوئه وهذا هو الصحيح في مسائل النيات إنها لا توجب انتقاض الوضوء في الأعمال الظاهرة ومما يقوي هذا الوجه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال :(( لا يقبل الله صلاة أحدكم إذا أحدث حتى يتوضأ )) فكونه يحدث نفسه بالحدث ليس بمحدث حقيقة فلما قال عليه الصلاة والسلام :(( إذا أحدث)) أي : فعل الحدث فدل على أن من نوى أن يتبول أو يتغوط أن ذلك ليس بكاف في انتقاض الوضوء ، والله تعالى أعلم .
السؤال السادس :
هل مس المرأة ينقض الوضوء وما المقصود بالمساس الوارد في الآية هل هو محمول على الجماع..؟؟
الجواب:
للعلماء في هذه المسألة قولان :(37/19)
قال بعض العلماء إذا مس الرجل المرأة انتقض وضوؤه إلا إذا كانت محرماً منه كبنته وأخته وزوجه فإنه لاينتقض وضوؤه ومنهم من قال إنه لاينتقض وضوؤه إلا إذا مس المرأة إذا وجد بشهوة ومنهم من قال لاينتقض وضوؤه مطلقاً سواء وجد الشهوة أو لم يجدها أما الذين قالوا إن مس المرأة يوجب انتقاض الوضوء فقد احتجوا بقوله سبحانه وتعالى :{أَوْ لاَمَسْتُمْ النِّسَاءَ}(1) فدلت هذه الآية الكريمة على أن لمس النساء يوجب انتقاض الوضوء وذهب جمهور العلماء إلى أن هذه الآية الكريمة لا تدل على انتقاض الضوء بمس النساء وذلك لأن : { أَوْ لاَمَسْتُمْ } فيها زيادة مبنى تدل على زيادة معنى والمراد بها الجماع فالمراد بـ { أَوْ لاَمَسْتُمْ النِّسَاءَ} أي جامعتموهن كقوله سبحانه وتعالى :{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَكَحْتُمْ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا}(2) الآية فقال-سبحانه-:{مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ } وبالإجماع أن قوله : { مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ} ليس المراد مطلق المس وإنما المراد به الجماع وبناءً على ذلك فإنه يقوى القول بأن مس النساء في قوله لامستم النساء المراد به الجماع وأن المراد بهذه الآية الطهارة الكبرى لا الطهارة الصغرى وعليه فإن مس النساء لا يوجب انتقاض الوضوء وقد تأكد ذلك بما ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يحمل أمامة بنت أبي العاص .
__________
(1) / المائدة ، آية : 6.
(2) / الأحزاب ، آية : 49 .(37/20)
وكذلك أيضاً ثبت عنه كان يقبل بعض نسائه ثم يخرج إلى الصلاة وثبت عنه أنه كان يصلي بالليل فإذا أراد أن يسجد غمز أم المؤمنين عائشة فقبضت رجليها وثبت عنه عليه الصلاة والسلام أنه كان يناول رأسه لأم المؤمنين وهو معتكف في المسجد ترجل شعره وذلك لا يخلو من مس منه ولها فالذي يظهر والعلم عند الله أنه لاينتقض وضوء الرجل بمسه للمرأة وإن كان الشافعية يجيبون عن هذه الأدلة فيقولون هناك فرق بين مس المرأة للرجل ومس الرجل للمرأة فقالوا لا ينتقض الوضوء إلا إذا مس الرجل المرأة وهذه الأدلة التي تستدلون بها إنما هي في المحارم ونحن إنما نقول بالنقض في غير المحارم ولكن يرد عليهم بأنهم إنما قالوا بالنقض في غير المحرم إنما قالوا بالنقض في غير المحرم لمكان الشهوة ومعلوم أن الزوجة فيها شهوة بل إن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقبل إحدى نسائه ثم يخرج إلى الصلاة ولا يتوضأ وعلى هذا فإنه يترجح القول القائل بأن مس النساء لا يوجب انتقاض الوضوء إعمالاً للأصل حيث لم يدل دليل قوي على أن مس النساء يوجب انتقاض الوضوء ، والله تعالى أعلم .
السؤال السابع :
من كان يسافر إلى عمله ويرجع في نفس اليوم وكان سفره يبلغ مسافة القصر فهل له أن يصلي الظهر قصراً وهو مسافر ويجمع معها العصر علماً بأنه يرجع إلى بلده قبيل العصر فهو يريد الجمع لأنه يخشى أن لا يقوم إلى العصر وذلك من جراء السفر ..؟؟
الجواب:(37/21)
من كان عمله على مسافة القصر يبلغ 75 كم فأكثر ذهاباً فإنه يعتبر مسافراً فإذا خرج وجاوز آخر العمران من المدينة أخذ برخص السفر من قصر الصلاة والفطر ثم بعد ذلك إذا أراد أن يجمع بين الصلاتين ننظر فيه فإن كان يصل إلى بلده قبل دخول الصلاة الثانية وهي العصر فإنه لا يجوز له أن يجمع لأن شرط الجمع أن يكون العذر باقياً إلى دخول وقت الصلاة الثانية حتى يتوجه الخطاب في الشرع عليه بصلاة الركعتين أما لو كان دخوله إلى المدينة ورجوعه إلى أهله قبيل صلاة العصر فإنه يتوجه عليه الخطاب بأربع ركعات ولا يتوجه بركعتين وعلى ذلك فإنه لا يصح الجمع إذا كان أذان قبل صلاة العصر فإذا جمع وتأخر في دخوله ولو أوقف سيارته قبل أن يدخل المدينة إلى أن يدخل وقت صلاة الثانية فإنه حينئذ يصح جمعه ولا حرج عليه في هذه الحالة ، والله تعالى أعلم .
السؤال الثامن :
أشكل علي تعليل العلماء رحمهم الله بأن السبب في المنع من الصلاة في معاطن الإبل هي أنها مكان لحضور الشياطين وأن الإبل خلقت من الجن مع أن النبي -- صلى الله عليه وسلم - - صلى على الناقة ..؟؟
الجواب :
هذا أجاب عنه العلماء رحمة الله عليهم بأن أمور الصلاة تعتبر من الأمور التعبدية والأمور التعبدية قد يفرق فيها بين المتماثلين ويجمع فيه بين المتناقضين لأنها أمور على خلاف العقل ولا يستطيع الإنسان أن يدرك حقيقتها فالله -تعالى- ينهاك أن تصلي في معطن الإبل ويبيح لك أن تصلي على ظهر الإبل لكن إذا تأملت وجدت أن إجازة الصلاة على ظهر الإبل إنما ورد على سبيل الرخصة ولم يرد على سبيل الإطلاق .
وتوضيح ذلك : أن الصلاة على ظهر الإبل لا تصح إلا في السفر أما الصلاة على ظهر الإبل في الحضر فإن ذلك قول لبعض أصحاب الرأي وهو قول شاذ والصحيح أن الصلاة على ظهر الإبل لا تصح إلا في السفر فإذا نظرت أنها صورة خاصة أشبه بالرخصة حينئذ يزول الإشكال .(37/22)
وَآخِرُ دَعْوَانَا أَنِ الحمَْدُ لِلَّهِ رَبِّ العَالَميْنَ وصلَّى اللَّهُ وسلَّم وبارك على عبده ونبيَّه محمد وعلى آله وصحبه أجمعين .(37/23)
بسم الله الرحمن الرحيم
قال المصنف رحمه الله : حَدَّثَنَا إِسْحَقُ بْنُ مَنْصُورٍ قَالَ حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ الْقَطَّانُ عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ قَالَ أَخْبَرَنِي أَبِي عَنْ بُسْرَةَ بِنْتِ صَفْوَانَ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ:(( مَنْ مَسَّ ذَكَرَهُ فَلاَ يُصَلِّ حَتَّى يَتَوَضَّأَ )) .
قَالَ رحمه الله : وَفِي الْبَاب عَنْ أُمِّ حَبِيبَةَ وَأَبِي أَيُّوبَ وَأَبِي هُرَيْرَةَ وأَرْوَى ابْنَةِ أُنَيْسٍ وَعَائِشَةَ وَجَابِرٍ وَزَيْدِ بْنِ خَالِدٍ وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو .
قَالَ أَبو عِيسَى رحمه الله : هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ قَالَ هَكَذَا رَوَاهُ غَيْرُ وَاحِدٍ مِثْلَ هَذَا عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ بُسْرَةَ وَرَوَى أَبُو أُسَامَةَ وَغَيْرُ وَاحِدٍ هَذَا الْحَدِيثَ عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ مَرْوَانَ عَنْ بُسْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم نَحْوَهُ حَدَّثَنَا بِذَلِكَ إِسْحَقُ بْنُ مَنْصُورٍ حَدَّثَنَا أَبُو أُسَامَةَ بِهَذَا وَرَوَى هَذَا الْحَدِيثَ أَبُو الزِّنَادِ عَنْ عُرْوَةَ عَنْ بُسْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم حَدَّثَنَا بِذَلِكَ عَلِيُّ بْنُ حُجْرٍ .(38/1)
قَالَ رحمه الله : حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أَبِي الزِّنَادِ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عُرْوَةَ عَنْ بُسْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم نَحْوَهُ وَهُوَ قَوْلُ غَيْرِ وَاحِدٍ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَالتَّابِعِينَ وَبِهِ يَقُولُ الأَوْزَاعِيُّ وَالشَّافِعِيُّ وَأَحْمَدُ وَإِسحَقُ قَالَ مُحَمَّدٌ وَأَصَحُّ شَيْءٍ فِي هَذَا الْبَابِ حَدِيثُ بُسْرَةَ ، وقَالَ أَبُو زُرْعَةَ حَدِيثُ أُمِّ حَبِيبَةَ فِي هَذَا الْبَابِ صَحِيحٌ وَهُوَ حَدِيثُ الْعَلاَءِ بْنِ الْحَارِثِ عَنْ مَكْحُولٍ عَنْ عَنْبَسَةَ بْنِ أَبِي سُفْيَانَ عَنْ أُمِّ حَبِيبَةَ وقَالَ مُحَمَّدٌ لَمْ يَسْمَعْ مَكْحُولٌ مِنْ عَنْبَسَةَ بْنِ أَبِي سُفْيَانَ وَرَوَى مَكْحُولٌ عَنْ رَجُلٍ عَنْ عَنْبَسَةَ غَيْرَ هَذَا الْحَدِيثِ وَكَأَنَّهُ لَمْ يَرَ هَذَا الْحَدِيثَ صَحِيحاً
الشرح :
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين أما بعد :(38/2)
فقد ذكر المصنف رحمه الله حديث بسرة بنت صفوان-رضي الله عنها-أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : (( من مس ذكره فلا يصل حتى يتوضأ)) ، هذا الحديث تقدم الكلام عليه وأنه حديث ثابت عن النبي صلى الله عليه وسلم ، وأن العمل عند جمع من الحفاظ والأئمة على ثبوته عن النبي صلى الله عليه وسلم ، وقد ذكر الإمام الحافظ الترمذي رحمه الله أن الحديث يروى عن عروة بن الزبير عن بسرة بنت صفوان ، وهناك رواية عن عروة عن مروان عن بسرة بنت صفوان وقد عد بعض العلماء هذا اضطراباً ؛ ولكن أجيب بأنه لا مانع أن يكون عروة رحمه الله سمعه من مروان ثم إنه استثبت فرواه مباشرة عن بسرة بنت صفوان ومال إلى هذا جمع من العلماء رحمهم الله ، وهذا الحديث يدل على أن مس الذكر يعتبر ناقضاً من نواقض الوضوء ، وقد أمر النبي صلى الله عليه وسلم بإعادة الوضوء في هذا الحديث ؛ وذلك حينما نهى عن الصلاة قبل أن يتوضأ فدل على أن الوضوء قد انتقض ؛ ولذلك قال جمهور العلماء رحمهم الله إن مس الذكر يعتبر ناقضاً من نواقض الوضوء ، وقد خالف في هذه المسألة كما ذكرنا الإمام أبوحنيفة النعمان-عليه من الله الرحمة والرضوان- فقال إنه لا ينتقض الوضوء بمس الذكر .(38/3)
والصحيح ما ذهب إليه الجمهور ، وقال الجمهور إن مس الذكر مطلقاً يعتبر ناقضاً من نواقض الوضوء سواء مس ذكره بشهوة أو بدون شهوة ؛ ولكن استثنوا مس الذكر بالحائل فإذا وجد الحائل الذي لا تفضي به بشرة اليد إلى بشرة الذكر فإنه لا ينتقض الوضوء فمن مس ذكره من فوق ثوب أو حائل فإن وضوءه لا ينتقض حتى ولو كان الحائل خفيفاً رقيقاً ؛ والسبب في ذلك أن المس حقيقة لا يكون إلا بإفضاء البشرة إلى البشرة ، وأما مع وجود الحوائل فإنه يحمل عليه حديث طلق بن علي الحنفي حيث سأل رجل النبي صلى الله عليه وسلم عن مس الذكر فقال : (( ما هو إلا بضعة منك )) فأخبرصلوات الله وسلامه عليه أن مس الذكر يعتبر غير ناقض والجمع بينهما بأنه ناقض في حالة دون حالة فيكون المراد بذلك وجود الحوائل ، وعلى هذا فإن هذا الحديث وإن كان ظاهره الإطلاق إلا أنه يقيد بوجود الحوائل فما كان الحائل فيه موجوداً فلا يعتبر ناقضاً ، وأما بالنسبة لمس الذكر باليد فلا يخلو من حالتين:
الحالة الأولى : أن يكون بباطن الكف . وأما الحالة الثانية : فهي أن يكون مسه بظاهر الكف أو بالساعد فإنه لا ينتقض الوضوء على مذهب الجمهور ، وقال بعض العلماء : إنه ينتقض الوضوء بظاهر الكف وهي من مفردات المذهب الحنبلي وجمهور العلماء رحمهم الله على أنه لا ينتقض وقد ذكرنا المسائل المتعلقة بفروع المس وذكرنا حكم مس القبل والدبر وبينا حكم مس الذكر إذا كان مقطوعاً فيما مضى .
يقول المصنف رحمه الله : بَاب مَا جَاءَ فِي تَرْكِ الْوُضُوءِ مِنْ مَسِّ الذَّكَرِ
حَدَّثَنَا هَنَّادٌ حَدَّثَنَا مُلاَزِمُ بْنُ عَمْرٍو عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ بَدْرٍ عَنْ قَيْسِ بْنِ طَلْقِ بْنِ عَلِيٍّ هُوَ الْحَنَفِيُّ عَنْ أَبِيهِ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ:(( وَهَلْ هُوَ إِلاَّ مُضْغَةٌ مِنْهُ أَوْ بَضْعَةٌ مِنْهُ )) .
قَالَ رحمه الله : وَفِي الْبَاب عَنْ أَبِي أُمَامَةَ .(38/4)
قَالَ أَبو عِيسَى رحمه الله : وَقَدْ رُوِيَ عَنْ غَيْرِ وَاحِدٍ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَبَعْضِ التَّابِعِينَ أَنَّهُمْ لَمْ يَرَوُا الْوُضُوءَ مِنْ مَسِّ الذَّكَرِ وَهُوَ قَوْلُ أَهْلِ الْكُوفَةِ وَابْنِ الْمُبَارَكِ وَهَذَا الْحَدِيثُ أَحَسَنُ شَيْءٍ رُوِيَ فِي هَذَا الْبَابِ وَقَدْ رَوَى هَذَا الْحَدِيثَ أَيُّوبُ بْنُ عُتْبَةَ وَمُحَمَّدُ بْنُ جَابِرٍ عَنْ قَيْسِ بْنِ طَلْقٍ عَنْ أَبِيهِ وَقَدْ تَكَلَّمَ بَعْضُ أَهْلِ الْحَدِيثِ فِي مُحَمَّدِ بْنِ جَابِرٍ وَأَيُّوبَ بْنِ عُتْبَةَ وَحَدِيثُ مُلاَزِمِ بْنِ عَمْرٍو عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ بَدْرٍ أَصَحُّ وَأَحْسَنُ .
الشرح :
حديث طلق بن علي الحنفي رضي الله عنه وأرضاه تكلم العلماء رحمهم الله على سنده ، ولم يعمل الإمام الشافعي رحمه الله بهذا الحديث ؛ لأنه روى جهالة الراوي للحديث ؛ ولكن الصحيح أن حديث طلق بن علي يحتمل التحسين كما ذكره غيره واحد من العلماء رحمهم الله وقد بينا ماذكر في هذا الحديث في" شرحنا لبلوغ المرام "ومن عادتنا ومنهجنا في شرح الترمذي أنه إذا كان الحديث من أحاديث البلوغ ألا نعتني بذكر ما يقال في سند الحديث والكلام عليه ، وقد بسطنا القول في حديث طلق هذا والذي بعده من جهة السند.
هذا الحديث ذكره المصنف رحمه الله مختصراً وإلا فالرواية التامة أن طلق بن علي رضي الله عنه قدم على النبي صلى الله عليه وسلم وهو يبني مسجده وقد كان بنائه صلوات الله وسلامه عليه لمسجده في السنة الأولى بعد هجرته صلوات الله وسلامه عليه وقد جاء في بعض الروايات أن النبي صلى الله عليه وسلم أمره أن يقوم على طين المسجد ، وأن يقوم بخلطه رضي الله عنه وأرضاه ثم ذكر الحديث بتمامه ، وحاصله أن رجلاً من الأعراب سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن مس الذكر هل ينقض الوضوء أو لاينقض الوضوء ..؟؟(38/5)
وفي قوله " سأله عن مس الذكر" : دليل على مشروعية مس الإنسان لعضوه ، وقال بعض العلماء : لايمس إلا عند وجود الحاجة فإذا وجدت الحاجة فلا حرج أن يمس ، وأما في غير الحاجة فإنه يترك المس وذلك لكونه يثير الشهوة ولربما تعرض الإنسان بذلك إلى ما يحذر من الاستمناء ونحوه .
وقوله رضي الله عنه : قال عليه الصلاة والسلام :(( وهل هو إلا بضعة منك)) وفي اللفظ الثاني : (( ماهو إلا بضعة منك)) البضعة من الشيء هي القطعة وبضعة الشيء قطعة منه ، ومنه قوله عليه الصلاة والسلام في حديث فاطمة-رضي الله عنها- في الصحيح : (( والله لا آذن والله لا آذن إنما فاطمة بضعة مني يريبني ما أرابها ويؤذيني ما آذاها)) .
قوله : (( بضعة مني )) : إشارة إلى كونها منهصلوات الله وسلامه عليهلمحل الولادة 0
وقوله: (( بضعة )) : البضعة قدر ما يدخل الإنسان في فمه ويمضغ إشارة إلى قلة الشيء وكأن النبي صلى الله عليه وسلم قصد بهذا أن مس الذكر يعتبر كمس سائر أعضاء البدن فكما أن مس الإنسان ليده باليد الأخرى لا يوجب انتقاض الوضوء وكما أن مسه لرجله لا يوجب انتقاض الوضوء وكما أن مسه لساقه لا يوجب انتقاض الوضوء ؛ لأنها من الإنسان ،كذلك بالنسبة للذكر : (( فما هو إلا بضعة منك )) : أي أن الخطب يسير ولايوجب ذلك انتقاض الوضوء ولا الحرج وذلك لأن النبي صلى الله عليه وسلم فهم مراد السائل من كون مس الذكر هل هو ناقض للوضوء أو غير ناقض ..؟؟(38/6)
وبهذا الحديث استدل الإمام أبو حنيفة-رحمه الله عليه- فقال إن مس الذكر لايعتبر ناقضاً من نواقض الوضوء وهذا أصل عنده- رحمه الله- أن الوضوء لا ينتقض إلا بالخارج النجس ، ولذلك لا يحكم بانتقاض الوضوء بالنوم ولايحكم بانتقاض الوضوء بمس الذكر ولايحكم بانتقاض الوضوء من مس المرأة كل ذلك لكونها ليست من الخوارج النجسه من البدن وطرد هذا الأصل رحمه الله حتى قال : إنه لو خرج الدم من الجسد أوجب انتقاض الوضوء من أي عضو كان خروجه ، فلو جرح الإنسان في ظهره وسال الدم فإن خروج الدم من جسده يوجب انتقاض وضوئه-وسيأتي بيان هذه المسألة إن شاء الله تعالى في باب القيء والرعاف- ، فالمقصود أن الإمام أبا حنيفة-رحمه الله عليه- يتمسك بهذا الحديث في دلالته على أنه لاينتقض الوضوء من مس الذكر ، وقد أجاب العلماء عن هذا الحديث بما قدمنا :
أولاً: أنه منسوخ وهذا الجواب هو أقوى الوجوه ؛ وذلك لأن حديث طلق بن علي جاء برواية مفصلة مبينة اشتملت على ذكر بناء المسجد وقد كان ذلك عند قدومه على النبي صلى الله عليه وسلم في السنة الأولى من الهجرة وحينئذ يكون حديث طلق بن علي رضي الله عنه متقدماً وحديث النقض بحديث بسرة بنت صفوان وحديث أبي هريرة كلها أحاديث متأخرة ، والقاعدة : " أن المتأخر ينسخ المتقدم "وبناءً عليه يكون مس الذكر في أول الإسلام فيه تخفيف وتيسير ثم شدد في الأمر وأخذ الناس بالعزائم ابتلاء من الله سبحانه وتعالى .
وأما الوجه الثاني : فقالوا إن حديث طلق بن علي محمول على المس بالحائل وحديث بسرة محمول على المس بدون حائلٍ- أعني المباشرة-وعلى هذا فلا تعارض بين الحديثين ؛ لأن القاعدة في الأصول : " أنه لايحكم بتعارض النصين إلا إذا كان موردهما ومحلهما واحد " فقالوا مورد النصين هنا مختلف فنص نحمله على ما كان بحائل ونص نحمله على ما كان مباشرة بدون حائل .(38/7)
والوجه الثالث في ترجيح حديث بسرة : أن حديث بسرة بنت صفوان يشتمل على الزيادة وأثبات الوضوء ، وحديث طلق بن علي ليست فيه هذه الزيادة ، وبناءً عليه فإنه يقدم المثبت على النافي .
الوجه الرابع : أن حديث بسرة بنت صفوان اقتضى الحظر -أي يحظر على المصلي أن يصلي وقد مس الذكر حتى يتوضأ- ؛ لأن لفظ الحديث اشتمل على النهي عن الصلاة حتى يتوضأ ، وحديث طلق بن علي ليس فيه ذلك فقد اشتمل على الإباحة والإذن والقاعدة : " أنه إذا تعارض الحاظر والمبيح فإنه يقدم الحاظر على المبيح" .
أما الوجه الخامس : فهو شهادة الأصول بترجيح حديث الأمر بالوضوء على حديث عدم الأمر بالوضوء ؛ وذلك أن حديث بسرة بنت صفوان يدل على أن مس الذكر يعتبر ناقضاً وحديث طلق لا يدل على ذلك فنظرنا في مس الذكر فوجدنا أن الإنسان إذا مس ذكره تحركت شهوته وهذا يقوي جانب الحيطة وقد أقام الشرع السبب منزلة الوجود كما في النوم فإن الإنسان إذا نام فهو مضنة أن يخرج منه الخارج فيؤمر بإعادة الوضوء كذلك بالنسبة لمس الذكر فالغالب أن الإنسان إذا مس الذكر أنه يجد الشهوة واللذة ، وبناءً على ذلك ترجح من هذه الوجه مذهب جمهور العلماء أن من مس الذكر فعليه أن يعيد الوضوء.
يقول المصنف رحمه الله : بَاب مَا جَاءَ فِي تَرْكِ الْوُضُوءِ مِنَ الْقُبْلَةِ
الشرح :
يقول المصنف رحمه الله " باب ما جاء في ترك الوضوء من القبلة " : أي في هذا الموضع سأذكر لك ما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم من ترك الوضوء بسبب القبلة ، والقبلة معروفه وذلك أن العلماء رحمهم الله اختلفوا في التقبيل ! هل يوجب انتقاض الوضوء أو لايوجب انتقاض الوضوء ؟ واختلفوا في مس الرجل للأنثى هل إذا مس المتوضئ المرأة هل ينتقض وضوؤه أو لاينتقض ..؟؟
ففي القبلة مسألتان :
المسألة الأولى : من حيث تأثيرها في وضوء الذكر وعدم تأثيرها .(38/8)
المسألة الثانيه : من جهة كون لمس المرأة يوجب انتقاض الوضوء أو لايوجب الانتقاض.؟
ولذلك اعتنى الإمام الحافظ الترمذي بذكر ماورد عن النبي صلى الله عليه وسلم ، في تقبيله عليه الصلاة والسلام وتركه للوضوء بعد التقبيل .
يقول المصنف رحمه الله : حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ وَهَنَّادٌ وَأَبُو كُرَيْبٍ وَأَحْمَدُ بْنُ مَنِيعٍ وَمَحْمُودُ بْنُ غَيْلاَنَ وَأَبُو عَمَّارٍ الْحُسَيْنُ بْنُ حُرَيْثٍ قَالُوا حَدَّثَنَا وَكِيعٌ عَنِ الأَعْمَشِ عَنْ حَبِيبِ بْنِ أَبِي ثَابِتٍ عَنْ عُرْوَةَ عَنْ عَائِشَةَ :" أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَبَّلَ بَعْضَ نِسَائِهِ ثُمَّ خَرَجَ إِلَى الصَّلاَةِ وَلَمْ يَتَوَضَّأْ " قَالَ قُلْتُ :" مَنْ هِيَ إِلاَّ أَنْتِ ؟ قَالَ فَضَحِكَتْ" .(38/9)
قَالَ أَبو عِيسَى رحمه الله وَقَدْ رُوِيَ نَحْوُ هَذَا عَنْ غَيْرِ وَاحِدٍ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَالتَّابِعِينَ وَهُوَ قَوْلُ سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ وَأَهْلِ الْكُوفَةِ قَالُوا لَيْسَ فِي الْقُبْلَةِ وُضُوءٌ وقَالَ مَالِكُ بْنُ أَنَسٍ وَالأَوْزَاعِيُّ وَالشَّافِعِيُّ وَأَحْمَدُ وَإِسْحَقُ فِي الْقُبْلَةِ وُضُوءٌ وَهُوَ قَوْلُ غَيْرِ وَاحِدٍ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَالتَّابِعِينَ وَإِنَّمَا تَرَكَ أَصْحَابُنَا حَدِيثَ عَائِشَةَ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِي هَذَا لأَنَّهُ لاَ يَصِحُّ عِنْدَهُمْ لِحَالِ الإِسْنَادِ قَالَ و سَمِعْت أَبَا بَكْرٍ الْعَطَّارَ الْبَصْرِيَّ يَذْكُرُ عَنْ عَلِيِّ بْنِ الْمَدِينِيِّ قَالَ ضَعَّفَ يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ الْقَطَّانُ هَذَا الْحَدِيثَ جِدًّا وَقَالَ هُوَ شِبْهُ لاَ شَيْءَ قَالَ وسَمِعْت مُحَمَّدَ بْنَ إِسْمَعِيلَ يُضَعِّفُ هَذَا الْحَدِيثَ وقَالَ حَبِيبُ بْنُ أَبِي ثَابِتٍ لَمْ يَسْمَعْ مِنْ عُرْوَةَ وَقَدْ رُوِيَ عَنْ إِبْرَاهِيمَ التَّيْمِيِّ عَنْ عَائِشَةَ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَبَّلَهَا وَلَمْ يَتَوَضَّأْ وَهَذَا لاَ يَصِحُّ أَيْضاً وَلاَ نَعْرِفُ لإِبْرَاهِيمَ التَّيْمِيِّ سَمَاعًا مِنْ عَائِشَةَ وَلَيْسَ يَصِحُّ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِي هَذَا الْبَابِ شَيْءٌ .
الشرح :(38/10)
هذا الحديث حديث أم المؤمنين عائشة-رضي الله عنها وأرضاها-في تقبيل النبي صلى الله عليه وسلم لها وهو خارج إلى الصلاة ، ذكر الإمام الترمذي رحمه الله عن أئمة الحديث تضعيفهم كما بينه عن الإمام البخاري رحمه الله ، والسبب في ذلك أنه من رواية حبيب بن أبي ثابت عن عروة ولم يبين هل هو عروة بن الزبير أو عروة المزني ؟ فإن كان عروة بن الزبير فإنه لم يرو عنه كما ذكر الإمام البخاري وإن كان عروة المزني .
فحينئذ يرد الإشكال : بالإنقطاع بين عروة المزني وأم المؤمنين عائشة -رضي الله عنها- ..؟؟
-وقد بينا في شرح البلوغ أن هذا الحديث صحيح موصول- ؛ والسبب في ذلك أن عروة وإن جاء هنا مبهما فقد جاء في الرواية الأخر عند النسائي وابن ماجة وأحمد في المسند حيث صرح عن عروة بن الزبير عن عائشة فهذا يدل دلالةً واضحةً على أن المراد به عروة بن الزبير وسماع حبيب بن أبي ثابت عن عروة بن الزبير قد ذكره الإمام الترمذي نفسه في كتاب الدعوات ؛ وذلك في الحديث عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال : (( اللهم عافني في جسدي وعافني في بصري )) وهذا من رواية حبيب بن أبي ثابت عن عروة بن الزبير ؛ ولذلك مال الإمام الحافظ ابن عبد البر إلى القول بصحة الحديث وثبوته وكذلك قال غيره من الأئمة ، وقد بسط الروايات والكلام عليها الإمام الزيلعي في كتابه" نصب الراية " ، وكذلك الإمام الحافظ ابن حجر في كتابه" الدراية" ، وتقرر بهذا كله أن الحديث متصل وشرط الإمام البخاري في الاتصال معروف ؛ ولذلك العمل على ثبوت هذا الحديث وصحته كما يقول به جمع من المتقدمين والمتأخرين ، وفي تقبيله عليه الصلاة والسلام لأم المؤمنين قبل خروجه إلى الصلاة لا يخلو من حالتين:(38/11)
الحالة الاولى : أن يكون ذلك منه على سبيل العطف والشفقة والحنان ؛ وذلك هو دأبه عليه الصلاة والسلام في رحمته وحلمه فكيف بأقرب الناس إليه من زوجه وحبه وأهله صلوات الله وسلامه عليه وهذا يدل على كرم خلقه وعظيم ما كان عليه من الأخلاق الفاضلة والخصال الجليلة الجميلة الكاملة في عشرتهصلوات الله وسلامه عليهلأهله ، وهذا أيضاً يؤكده بعض العلماء مع أن النبي صلى الله عليه وسلم المعروف عنه أنه إذا نودي إلى الصلاة لايعرف أحداً ولايعرف ؛ بسبب اشتغاله بذكر الله عز وجل وتهيئه للصلاة كما قالت أم المؤمنين-رضي الله عنها وأرضاها- .(38/12)
وأما الحالة الثانية : فهي أن يكون تقبيله عليه الصلاة والسلام من باب إطفاء الشهوة ؛ وذلك أن النفس البشرية تضعف أحياناً أمام الشهوات فكأنه يشرع للأمة إطفاء الغرائز قبل الإقبال على العبادات ؛ لأن المسلم إذا أطفأ الغريزة قويت نفسه على الطاعة ، ولذلك قالوا ندب النبي صلى الله عليه وسلم يوم الجمعة إلى الاغتسال وتغسيل الغير من الرجل قال صلوات الله وسلامه عليه:(( من بكر وابتكر وغسل واغتسل)) قال بعض العلماء : قوله : (( غسل واغتسل)) غسل أي تسبب في غسل زوجه من الجنابة ؛ والسبب في ذلك أنه يصيب أهله قبل خروجه إلى الجمعة فإذا أصاب الأهل قبل خروجه للجمعة تفرغت نفسه لذكر لله أكثر وانطفأت نفس شهوته وحينئذ يكون أجمع لانتفاعه لذكر لله عز وجل وما يكون في يوم الجمعة من الخطبة ونحوها ، فالمقصود أن هذا الحديث على القول بأنه تقبيل للشهوة المراد به أن يكون أسوة للأمة في أن يطفىء الإنسان شهوته قبل خروجه إلى الصلاة ، ولكن فصل العلماء رحمهم الله في هذه الحالة : فقالوا إذا كان الإنسان قوياً على نفسه يأمن من الإمذاء والإنزال فإنه يقبل حينئذ ، وأما إذا كانت نفسه ضعيفة لايأمن أن يخرج منه شىء أو يتسلط عليه الشيطان بالوساوس فحينئذ يستبرئ لدينه ويمتنع عن فعل هذه الأشياء لأنها ليست بواجبة عليه وأنما هي من باب الكمالات ولايمكن أن نقول للإنسان أن يطلب هذه الكمالات على وجه يضيع به شروط الصحة والواجبات ؛ ولذلك يقال لمن كان ضعيفاً أمام شهوته إنه لايقبل ولايفعل هذا الفعل ، وقد كانصلوات الله وسلامه عليه أملك لأربه ، ومن هنا فرق بينه وبين من كان ضعيفاً على شهوته فإذا كان الإنسان يملك نفسه ويملك شهوته ويريد أن يطفىء الغريزة خاصةً إذا كان لايأمن عند خروجه إلى الصلاة من رؤيته النساء أو مروره بجوارهن فحينئذ يطفىء شهوته بمثل هذا .(38/13)
وقولها " قبل بعض نساءه " : فيه دليل على فطنة أم المؤمنين -رضي الله عنها وأرضاها- وكمال حيائها وخجلها ؛ وذلك أنها لم تصرح بأنها هي التي قُبلت والظاهر أنها هي التي صنع معها النبي صلى الله عليه وسلم ذلك ؛ وذلك لأمرين :
أما الأمر الأول : فهو ظاهر من آخر الحديث حيث أن عروة بن الزبير لما نبهها على أنها هي ضحكت -رضي الله عنها وأرضاها- فهذا يدل على أن التقبيل كان لها .
وأما الأمر الثاني : فالغالب خفاء أمره صلوات الله وسلامه عليهمع غيرها ؛ لأن الضرة في الغالب لاترى ما يكون مع ضرة في الغالب ، وقد كان صلوات الله وسلامه عليه أحفظ أن يوقع الغيرة بينهن على هذا الوجه.
وقوله -رضي الله عنها -" قبل بعض نسائه " : احتج به جمهور العلماء على الإمام الشافعي في مسألة لمس النساء ، فقالوا إن النبي صلى الله عليه وسلم " قبل أم المؤمنين " وهذا التقبيل لاشك أنه يصحبه اللمس ، لأن القبلة لا يمكن أن تقع إلا باللمس فدل على أن لمس الرجال للنساء لايوجب انتقاض الوضوء .
وذهب الإمام الشافعي رحمه الله إلى القول بأن لمس النساء يوجب انتقاض الوضوء ، واختلف هو وأصحابه في مسألة الملموس فقيل عنه إنه يرى وجوب الوضوء مطلقاً سواء كان الإنسان لامساً أو ملموساً فوجب الوضوء على الرجل وعلى المرأة سواء وقيل بواجب الوضوء على اللامس دون الملموس بتفصيل في الملموس والإطلاق في اللامس كل ذلك خلاف في مذهبه معروف ، ومسألة لمس النساء من المسائل التي انفرد بها مذهب الإمام الشافعي.
إلا أن جمهور العلماء رحمهم الله على أن لمس النساء إذا وقع بالشهوة وأنه إذا انتشر العضو أن ذلك يوجب انتقاض الوضوء على تفصيل في مذهب المالكية والحنفية رحمة الله عليهم فالمالكية والحنابلة من وجه إذا وجد الشهوة وتحركت شهوته انتقض وضوؤه ولو لم يخرج منه شىء .(38/14)
والحنفية على أن انتشار العضو يوجب انتقاض الوضوء ، وما ذهب إليه الإمام الشافعي رحمه الله من القول بأن لمس النساء يوجب انتقاض الوضوء اعتمد فيه على ظاهر قوله سبحانه وتعالى : { أَوْ لاَمَسْتُمْ النِّسَاءَ} فقال رحمه الله أن لمس النساء يوجب انتقاض الوضوء ، وهذا القول قد أجاب عنه الجمهور بأن الآية المراد بها الجماع وبذلك فسرها الإمام عبد الله بن عباس رضي الله عنهما ، والقول بأن المراد بقوله : { أَوْ لاَمَسْتُمْ النِّسَاءَ} الجماع هو قول الإمام محمد بن جرير الطبري إمام المفسرين بعد الصحابة-رحمة الله عليه- فإنه يختار القول بأن الملامسة المراد بها الجماع ، وقال حبر الأمة رضي الله عنه إن الله يكني أي أن قوله : {لاَمَسْتُمْ} المراد به الجماع كقوله سبحانه وتعالى :{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَكَحْتُمْ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ} فعبر بالجماع عن المس ؛ كذلك هنا عبر عن الجماع باللمس ، وقالوا : إن زيادة المبنى تدل على زيادة المعنى فالقرآن لم يرد قوله :{لاَمَسْتُمْ} ولكن ورد بقوله : {لاَمَسْتُمْ} وزيادة المبنى تدل على زيادة المعنى فصرف النص عن ظاهره إلى المعنى المرجوح بدليل من خارج النص ؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم ثبتت عنه الأحاديث الصحيحة إنه لمس النساء ولمسه النساء ولم يعد الوضوء بلمسهن فقد ثبت عنه عليه الصلاة والسلام في الصحيحين إنه حمل أمامة بنت أبي العاص ومع ذلك لم يعد الوضوء ووقع حملها في أشرف المواضع وأعظمها وهي الصلاة ، ومع ذلك لم يعدصلوات الله وسلامه عليهالوضوء ، وجاء في حديثنا أنه قبل ولم يعد الوضوء ، وكذلك ثبت في الحديث الصحيح-عنه عليه الصلاة والسلام - أنه كانت عائشة تنام بين يديه وهو قائم يصلي في الليل فكانت تمد رجليها كأنها معترضة بين يديه كاعتراض الجنازه قالت فإذا أراد أن يسجد غمزني فقبضت رجلي ثم(38/15)
إذا قام بسطتهما فهذا يدل على أن اللمس لاينقض الوضوء ، وأجيب بأن النبي صلى الله عليه وسلم غمزها والغمز لايستلزم عدم وجود الحوائل ، وقد ثبت في الحديث الصحيح عنها-رضي الله عنها- أنها قالت : افتقدت النبي صلى الله عليه وسلم ذات ليلة فجالت يدي فوقعت على قدمه ساجداً وهو يقول : (( اللهم يامقلب القلوب ثبت قلبي ..)) الحديث ، فهذا يدل على أن لمس المرأة للرجل ولمس الرجل للمرأة لايوجب انتقاض الوضوء .
وعلى هذا فإنه يترجح قول الجمهور أن لمس النساء لايوجب انتقاض الوضوء من حيث الجملة بل لو قال قائل إنه لو تحركت شهوة الإنسان أنه لاينتقض وضوؤه لكان قوله أقرب إلى السنة ؛ وذلك لأن التقبيل في الغالب مظنة أن يثير الشهوة وبناءً عليه يتقوى القول القائل بعدم انتقاض الوضوء .
قوله :(( ما هي إلا أنت )) : فيه دليل على أن راوي هذا الحديث هو عروة بن الزبير ؛ والسبب في ذلك إن هذه الجملة والكلمة لا يتجاسر على قولها أحد إلا إذا كان بمنزلة عروة لأنه ابن أخت عائشة-رضي الله عنها وأرضاها- ؛ ولذلك قوي أن يتجاسر عليها.
وحينئذٍ يرد الإشكال: كيف يتجاسر على هذه الكلمة ويحرك عائشة -رضي الله عنها - إلى أن تبين من الذي قبل مع أنه قد لاتكون هناك مصلحة في معرفته ..؟؟
ويجاب بإن العذر في ذلك تقوية الاتصال في السند وثبوت الفعل عن النبي صلى الله عليه وسلم متصلاً والسبب فيه أن الحديث لو أطلق لاحتمل أن تكون أم المؤمنين قد روته بواسطة ولكن ما سألها هذا السؤال وضحكت كأنها تجيبه بضحكها -رضي الله عنها-وتقر دل على أن الرواية متصلة وأن هذا الفعل وقع منها مع النبي صلى الله عليه وسلم وهو يؤكد ثبوت الخبر ونفي الواسطة بين عائشة-رضي الله عنها-وبين النبي صلى الله عليه وسلم في حكاية فعله في هذه الحادثة .(38/16)
وضحك أم المؤمنين-رضي الله عنها-يدل على سعة صدرها وحلمها وفضلها : وهكذا كن أمهات المؤمنين ، ولقد شهد الله من فوق سبع سموات أنهن الطيبات اللاتي اخترن للطيبين هن أطيب النساء اختارهن الله لأطيب خلقه رسولهصلوات الله وسلامه عليه إلى يوم الدين .
وفيه دليل على أنه ينبغي للإنسان إذا كان الكمال له أن يستحي أن يجيب السائل بما يدل على الجواب دون ذلك للقول وحينئذ يكون العدول عن القول من باب كمال الحياء وكمال الحياء محمود أما إذا كان العدول إلى الفعل يوجب وقوع السائل في الشك والشبهة والخطأ فحينئذ يجب على العالم والمسؤول أن يصرح بالحكم ويبينه ؛ ولذلك قالوا لاحرج على العلماء والفقيه والمفتي والقاضي أن يصرح بالأمور المستبشعة والتي ينبغي على الإنسان أن يستحي من ذكرها صراحة ويطلب من الغير التصريح عند وجود الحاجة لبيان الأحكام الشرعية صيانة للناس عن الخطأ واللبس .
- ? - ? - ? - ? - الأسئلة - ? - ? - ? - ? -
السؤال الأول :
في قول النبي صلى الله عليه وسلم : (( من مس ذكره فليتوضأ )) أليس فيه دليل على أن من مس ذكر غيره فلا يجب عليه الوضوء ، كالطبيب مع المريض ..؟؟ وهل ينتقض وضوء الماس والممسوس..؟؟
الجواب :
بسم الله الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه أما بعد:
فإذا ورد النص في الكتاب والسنة وجاء على ما عرف في بالغالب فإنه لايعتبر مفهوم هذا النص .(38/17)
كقوله سبحانه وتعالى :{وَرَبَائِبُكُمْ اللاَّتِي فِي حُجُورِكُمْ}( ) فإن هذا لا يقتضي تخصيص تحريم الربيبة إذا كانت في الحجر وحلها إذا كانت في غير الحجر بل نقول إن هذا خرج مخرج الغالب فالربيبة سواء كانت في الحجر أولم تكن فالحكم واحد وإنما ذكر الله الحجر من التشنيع في نكاحها ، وأما بالنسبة لمسألة من مس ذكره فإن الغالب في الإنسان أن يمس ذكره ، ومس الإنسان لذكر الغير في الحالات النادرة ولذلك يأتي النص على الغالب والقاعدة في الشرع : " أن النص إذا خرج مخرج الغالب لم يعتبر مفهومه " فهذا مما خرج فيه النص مخرج الغالب ، كقوله سبحانه وتعالى : {وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ لاَ بُرْهَانَ لَهُ بِهِ }( ) فإنه ليس معناه ومفهومه أن من له برهان أنه يدعوه إنما هو من باب كما قرر العلماء أن كل من دعا مع الله إلها آخر فإنه لابرهان له ، ولذلك جاء النص بهذه الصيغة ومن هنا يقولون : " إن النص إذا خرج مخرج الغالب لايعتبر مفهومه".
كقوله عليه الصلاة والسلام :(( إن أحدكم لايدري أين باتت يده)) فالمستيقظ من النوم باتت-هذا في الليل-لانقول إن الحكم مختص بنوم الليل دون النهار هذا جمود على الظاهر لكن الشريعة تعتبر المعاني ، ومن هنا نقول نوم الليل والنهار على حد سواء وقوله : (( أين باتت يده)) بغالب النوم ، وأن الغالب في النوم يقع في الليل ؛ لأن الله -تعالى-يقول :{ وَجَعَلَ اللَّيْلَ سَكَنًا} ، فلما جعل الله الليل سباتا للناس يسبتون فيه وينامون فيه ويسكنون فيه جاء النص بالتعبير على الغالب ولاينفي ذلك النادر ، ومن هنا يقولون لامفهوم للنص .
فقوله عليه الصلاة والسلام : (( من مس ذكره )) فإن الغالب في الإنسان أن يمس ذكره ولايمس ذكر الغير ، فإذا وجدت الحاجة لمس ذكر الغير فحينئذ الحكم في مس ذكر الإنسان لنفسه وذكر غيره في هذه الحالة على حد سواء ، والله تعالى أعلم.
السؤال الثالث :(38/18)
هل ينقض الوضوء مس ذكر الحيوان ..؟؟
الجواب :
لاينتقض الوضوء بمس ذكر الحيوان وإنما يختص الوضوء بمس ذكر الإنسان ؛ ولأن مس ذكر الإنسان الغالب فيه أن تتحرك فيه الشهوة ومس ذكر الحيوان الغالب ألا تتحرك فيه الشهوة لمخالفة الجنس وأنفة النفس البشرية عن وجود الشهوة في هذا ؛ ولذلك لايتعلق فيه حكم انتقاض الوضوء ، والله تعالى أعلم .
السؤال الرابع :
أشكل علي حمل حديث طلقٍ على الحائل لأنه لم ينص عليه في الحديث أفلا يكفينا أن نقول بنسخه خصوصاً أنه متقدم فنسخ بحديث بسرة ..؟؟
الجواب :
هناك مسألة ينبغي التنبه لها وهي إذا تعارض نصان وأورد العلماء أجوبة للجمع بين النصين، فعندك نص يقول بأن الذكر يعتبر بضعة من الإنسان ومفهوم ذلك أنه لاينقض ، وعندنا نص يدل على أن مس الذكر ينقض الوضوء وكل منهما قد خرج من مشكاة واحده والشرع لا يتناقض ، وبناءً على ذلك فإننا نقول ننظر في الحديثين فإننا عهدنا من الشرع أن يعطي حكمين مختلفين في الناسخ والمنسوخ فوجدنا حديث طلق متقدماً وحديث بسرة متأخراً فحكمنا بالنسخ فنقول هذا أقوى الأجوبة ، لكن قد يقال بأن هذا الجواب غير مسلم فبسرة قد تكون روت بواسطة وأبو هريرة روى بواسطة وتأخر إسلام الصحابيين لايقتضي أنه من روايتهما لأن الصحابي ربما أسقط الواسطة بينه وبين النبي صلى الله عليه وسلم مالم يصرح بالسماع وليس في حديث بسرة تصريح بالسماع فحينئذ .(38/19)
إذا ورد هذا الإشكال لابد وأن يكون عندك جواب ثان وهو جواب الجمع بين النصين ، بل إن القاعدة عند علماء الأصول : " أن الجمع يقدم على النسخ" وهذا إذا احتمل النسخ ، أما لو وجد الدليل على النسخ فالنسخ متقدم ، فالجمع مقدم على النسخ لأنه يعمل كلا النصين ، والجمع تعتبره قوياً إذا شهدت الأصول بقوته فأنت إذا نظرت إلى حديث طلق لما قال له : (( وهل هو إلا بضعة منك )) ، تفهم منه أنه في التخفيف ويشتمل على التخفيف ، ووجدت أن صور المس منها ما يكون بحائل ومنها ما يكون بدون حائل ، فلما جاء نص يشدد ونص يخفف فالأنسب أن تقول إن المس نفسه على صور ، فيكون حديث طلق محمول على مسألة التخفيف بحائل وحديث بسرة محمول على مسألة التشديد بدون حائل .
إضافة هناك مسألة أخرى تقوي حديث بسرة ، وذلك أن حديث بسرة الذي معنا قال فيه النبي صلى الله عليه وسلم : (( فلايصلي حتى يتوضأ )) فنهى عن الصلاة ، أما حديث : (( وهل هو إلا بضعة منك)) ليس فيه إني مسست ذكري فهل أعيد الوضوء ليس فيه ذكر للوضوء ولاذكر للصلاة فاحتمل أن يكون السؤال عن حكم المس أي هل يجوز للإنسان أن يمس ذكره مطلقاً أي من دون وجود حاجة الوضوء ولا الجامع أو نحوذلك ، فقال : (( أهو إلا بضعة منك)) أي ليس بمحرم عليك أن تمس فرجك فيكون أصلاً خارجا عن مسألتين ؛ ولذلك يرى العلماء أن حديث بسرة من ناحية المتن في الدلالة أقوى ، ومن ناحية الرواية في التأخر أقوى ، ومن ناحية المعنى في الاحتياط أقوى ومن هنا ترجح القول القائل بأن حديث طلق يحمل على الأوجه التي-ذكرناها-وهي أوجه لاتعارض القول بكون المس ناقضا ، والله تعالى أعلم.
السؤال السادس :
ما معنى قول النبي صلى الله عليه وسلم :(( العينان وكاء السه ))..؟؟
الجواب :(38/20)
قوله عليه الصلاة والسلام :(( العينان وكاء السه)) والسه هو حلقة الدبر والمراد بذلك أن الإنسان إذا كان نائماً أو غفت عينه ونام فإنه لاينتبه ولايشعر لما يخرج منه فكأنه في هذه الحالة يتعرض لما ينقض وضوءه وهو لايدري فأمر عليه الصلاة والسلام أو ضمن هذا الحديث الحكم بانتقاض وضوء النائم ، وبناءً عليه فإن الحديث يدل على أن النوم يعتبر ناقضاً إذا ذهب الشعور ؛ والسبب فيه قوله : ((وكاء السه)) والوكاء هو الرباط الذي تربط به القربة أو نحو ذلك حتى كيس المال يقال لها وكاء ، ومنه حديث اللقطة في الصحيحين : (( أعرف وكاءها وعفاصها)) أي أعرف الرباط الذي ربط به كيس النقود حتى إذا جاء صاحبها ووصفها تستطيع أن تعرف صدقه من خلال مطابقة الصفات لهذا الوكاء بصفة الوكاء .
فالمقصود أن قوله : ((وكاء)) أي الإنسان ينتبه لما يخرج منه وكأن شعوره بمثابة الوكاء لحلقة الدبر ، فإذا خرج شىء شعر به وهو يقظ ، أما إذا نام خرج منه وهو لايشعر ، وبناءً عليه فإن الحديث يدل على أن النوم ناقض وأن نقض الوضوء في النوم سببه زوال الشعور فيترجح مذهب من يقول العبرة في النوم بزوال الشعور فمن نام ولم يشعر بالخارج أو كان نومه قوياً بحيث يذهب الشعور عنه فإنه ينتقض وضوؤه ، وهكذا لو كان نومه يسيراً لكنه مستغرق وضبطوا ذلك بأن يكون في يده قلم فلا يشعر بالقلم وهو يتحرك وهو يكتب أو يكون في يده شىء فيسقط من يده كل ذلك من الدلائل على زوال الشعور إذا لم ينتبه ، أما في الأقوال فضابطه أن يكون بجواره قوم يتحدثون أو يتكلمون أو يكون في مجلس علم أو في مجلس يكون بجواره من يتحدث فلا يعي الكلام الذي يقال حوله فإذا وصل إلى هذه الدرجة لزمه أن يعيد وضوؤه على ظاهر هذا الحديث الصحيح ، والله تعالى أعلم .
السؤال السابع :
إذا توضأ الجنب قبل نومه فإنه لايستبيح بهذا الوضوء الصلاة ولكن هل له أن يقرأ القرآن وما يكون من أذكار النوم..؟؟
الجواب :(38/21)
بسم الله الحمدلله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه أمابعد :
فإن السنة الثابتة عن النبي صلى الله عليه وسلم أن الجنب أذا أراد أن ينام وعليه الجنابة فإنه يغسل ذكره ويتوضأ ثم يرقد كما في الصحيحين من حديث عمر رضي الله عنه وأرضاه وهذا الوضوء لايوجب ارتفاع الحدث عنه ، ولذلك لايستبيح به قراءة القرآن وقد ثبت في الحديث الصحيح عنه عليه الصلاة والسلام أنه لما أحدث ومر عليه الرجل فسلم بعد بوله قال : (( إني كنت على حالة كرهت أن أذكر الله عليها )) ، وهذا يقوي أن الجنب لايقرأ القرآن فإذا كان الحدث الأصغر يمنع من رده للسلام فكيف بالحدث الأكبر ومع القرآن ، ولذلك لايقرأ الجنب القرآن ويؤكد ذلك حديث أم المؤمنين في الصحيحين وذلك أنها-رضي الله عنها-قالت : " كان النبي صلى الله عليه وسلم يتكىء في حجري فيقرأ القرآن وأنا حائض" ، وهذا كما يقول العلماء من فقه أم المؤمنين ويعتبر من دلالة التنبيه حيث نبهت على أن الحائض لاتقرأ القرآن فلو كانت الحائض تقرأ القرآن لم يكن لقولها : " يتكىء في حجري فيقرأ القرآن " فائدة ؛ لأنها هي بنفسها تقرأ القرآن لكن لما كانت الحائض ممنوعة من قراءة القرآن ويتكىء في حجرها ويقرأ القرآن ناسب ذكر ذلك والعناية ببيانه .(38/22)
وفي قصة عبدالله بن رواحة التي أشار إليها الإمام البخاري في الصحيح تدل على أن الجنب لايقرأ القرآن حينما ذكرأبيات الشعر فأوهم زوجته أنه يقرأ القرآن وهذا كما يقول الجمهور يدل على أن الصحابة كان يعرفون أن الجنب لايقرأ القرآن والذين قالوا إن الجنب يقرأ القرآن وهو جنب وهم الظاهرية وهم لاحجة لهم إلا ماثبت عنه عليه الصلاة والسلام من إرسال الكتب إلى عظيم الروم وعظيم الفرس يدعوهم إلى الإسلام ، وفي هذه الكتب قوله لقيصر يدعوه إلى الإسلام بقوله : (( اسلم تسلم أسلم يؤتك الله أجرك مرتين فإن توليت فاعلم أن عليك إثم الأريسين)) :{ قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ}( ) ، وجه الدلالة قالوا إن هذه الآية ذكرها النبي صلى الله عليه وسلم وسيقرأ المترجم وهو كافر سيقرأ هذا الكتاب ، فلو كان الجنب ممنوعاً من قراءة القرآن لما ذكر النبي صلى الله عليه وسلم هذه الآية وأجيب من وجهين :
الوجه الأول : أن هذه الآية لم تذكر على سبيل التعبد بلفظها بمعنى أنها لفظ قرآني بدليل قوله :{ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ} ولم يأتي بها نصاً قل ياأهل الكتاب .
ثم إن هذه الآية لو سلمنا أنها آية ومذكورة من القرآن فإنها تكون على باب الاستشهاد ، وباب الاستشهاد لايشترط فيه ما يشترط في القراءة بدليل أنك لو استشهدت بالآية لا تقول أعوذ بالله من الشيطان الرجيم ، إذ يمكنك مباشرة أن تذكر الآية لكن إذا أردت القراءة وقصدتها فإن الله أمرك أن تستعيذ :{ فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنْ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ} ، ولذلك كان صلى الله عليه وسلم يستشهد بالآيات ولايستعيذ ولكن إذا ذكر الآية على سبيل التلاوة فالأصل في القرآن أن يستعيذ ، فهذا يقوي ويدل ويؤكد أن هذه الآية خرجت منه عليه الصلاة والسلام على مخرج الاستشهاد .(38/23)
وعليه هناك وجه ثالث في الجواب قالوا : إن جزء الآية ليس كذكر الآيات ومن هنا رخصوا للجنب ورخصوا للمرأة الحائض أن تتلو الآية والآيتين على سبيل التعوذ كآية الكرسي ونحو ذلك قالوا لاحرج أن تقرأها على سبيل التعوذ ، فالمقصود أن الصحيح ما ذهب إليه الجمهور ، وعليه فإن الجنب ولو توضأ فإنه لايقرأ القرآن ، والله تعالى أعلم.
السؤال الثامن:
الختان واجب على الذكور فهل هو واجب على الإناث كذلك ..؟؟
الجواب:
أما بالنسبة للختان فهو مكرمة للنساء ، والمسلمون من العصور القديمة ومن القرون المفضلة إلى يومنا وهم يختنون المرأة وختان المرأة ليست بمسألة محل رأى أو مناقشة بل هي مسألة دينية شرعية لاتنتظر من أهل الرأي ولا من غيرهم ممن هو جاهل بالشرع أن يدلي بدلوه فيها فهي مسألة لا تبسط لعوام الناس ولا تبسط للكتاب ولا لغيرهم حتى يبدوا فيها رأيهم ؛ لأنها ليست مسألة محل نقاش لأهل الأراء بل هي مسألة شرعية دينية ومذهب جماهير العلماء أنه مكرمة للنساء وسنة وأن ختان المرأة شرعي ، والمرأة تختن والسبب في ذلك أن المرأة إذا تركت على حالتها اغتلمت واشتدت شهوتها وإذا جزت الجلدة فإنها تذهب شهوتها فحينئذ تعدل ويسوى مزاجها وتخف حدة شهوتها بالختان ، وقد جاء حديث أم عطية-رضي الله عنها-:(( أشمي ولا تنهكي)) ، قالوا لأن الإ شمام أن يؤخذ من الأعلى ، وأما الإنهاك فهو أن يجزها وإذا جزها ذهبت شهوة المرأة ، وقد تكلم شيخ الإسلام رحمه الله كلاماً نفيساً في هذه المسألة وقال : " إنه للنساء يحفظ ماء وجهها ويحفظ عفتها ويمنعها من الاسترسال في الشهوة" ومن هنا قيل كان العرب إذا أرادوا أن يعيروا الرجل ويسبوه قالوا يابن القلفاء إشارة إلى وجود الزنا-والعياذ بالله- لأن المرأة التي لاتختن تكون أحرص على الشهوة أكثر من غيرها وكان هذا معروف ، ولذلك يقول يعرف في نساء المسلمين مالا يعرف في نساء الكفار من العفة والحياء والخجل ، ولذلك تجد المرأة التي(38/24)
تختن أكثر حياءً وخجلاً من المرأة التي تكون غير مختونة وهذا معروف وذكره الحكماء وتكلم عليه الأولون في كتب الأدب وذكروا فيه في طبائع النساء أن هذا معروف ومشهور ، فالمقصود أن مسألة الختان من حيث هي مسألة شرعية .
والخلاف بين العلماء هل هو واجب أو غير واجب ..؟؟
أما مسألة أن النساء لا يختنّ ، وذم المسلمين بالختان أو المنع من الختان أو تحريم الختان فليس لأحد غير الله ورسوله أن يحرم ما أحل الله ، وما أذن الله به وأما من يجهل هذه الحكم والأسرار ولايفهم ولايعي هذه الأمور فإنه لايلتفت إليه ولايعبأ بقوله ولا ينبغي للمسلمين أن يضعوا مثل هذه المسائل الشرعية محل رأي وجدل هذا أمر عام ، في كل مسألة دينية شرعية ينبغي أن يرد حكمها إلى العلماء ، وأن يكون فصل القول فيها للأئمة والعلماء ، أما أن يترك كل من هب ودب لكي يدلي برأيه ويقول بقوله فهذا أمر لاتؤمن عواقبه ولا تحسن نتائجه فالمنبغي أن يعتقد المسلم سنية ذلك وجوازه.
وأما بالنسبة لتحريمه فإنه لم يقل أحد من العلماء بتحريم الختان على النساء ليس في شريعة الإسلام القول بتحريم ختان النساء ، أما الخلاف هل واجب أوغير واجب؟ وأما الجميع على سنيته وهناك كلام نفيس في مسائل الختان ذكرها الإمام ابن القيم في كتابه المفيد "تحفة المودود في أحكام المولود" أشار إلى مسألة ختان المولود وكذلك أيضاً أشار إلى ماورد من الأحاديث التي تدل عليه ، والله تعالى أعلم.
السؤال التاسع :
الذي يترجح من كلام العلماء رحمهم الله أن المني طاهر ، ولكن هل يجب إزالته من الثوب كما هو ظاهر حديث عائشة -رضي الله عنها - أم لا حرج في الصلاة وهو على الثوب ..؟؟
الجواب :(38/25)
أما بالنسبة لحديث عائشة فهو لم يتضمن أمر النبي صلى الله عليه وسلم لها بالأزالة ، وأنما أزالته بفعلها والفعل لايدل على الوجوب إلا إذا كان بياناً لواجب ، هذا إذا وقع منه عليه الصلاة والسلام فكيف إذا وقع من أم المؤمنين فالمقصود أن فعلها لايقتضي الوجوب وجهاً واحداً عند العلماء رحمهم الله ، وإنما الخلاف في فعله عليه الصلاة والسلام ، وأما غسل المني فإنما هو من باب الحياء وكمال المروءة لأن الإنسان يستحي أن يخرج بذلك إلى الناس وإذا انتفى ذلك بأن يكون الإنسان مصلياً بثوبه في داخل بيته فإن الأفضل والأكمل أن يأخذ أفضل ثيابه وأن ينظف ثوبه ولوكان المني على القول بطهارته فالأفضل أن يغسله وأن يزيل المني لأن مافيه من أخذ الزينة والله -تعالى- يقول :{ يَابَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ}( ) وهذا هو المنبغي للمسلم أن يكون حاله ودله وسمته وثوبه وهو يقف بين يدي الله عز وجل على أكمل الحالات وأفضلها ، قالوا يارسول الله إن أحدنا يحب أن يكون ثوبه نظيفاً ونعله جميلاً فقال عليه الصلاة والسلام :(( إن الله جميل يحب الجمال)) فهذا يدل على أنه يستحب للإنسان أن يأخذ زينته وجماله للموقف بين يدي الله عز وجل .(38/26)
ومن هنا بهذه المناسبة ننبه على أمر اعتاده بعض الناس-أصلحهم الله-من الصلاة في ثياب النوم في داخل المساجد العامة بخروجهم من الصلوات الجامعة بثياب النوم ، وهذا أمر ينبغي التنبيه عليه ينبغي على أئمة المساجد والخطباء أن يبينوا للناس أن للمساجد حرمة وأنه ينبغي أن يشعر المسلم نفسه ويشعر من حوله أنه ماضٍ إلى أعظم أركان الإسلام بعد الشهادتين وأن يخرج بالثياب التي تليق به فيبقى الناس في بيوت الله عز وجل وهم على زينة وجمال وإجلال وتعظيم لهذه البيوت التي هي أحب البلاد إلى الله كما ثبت في الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم ، ولذلك قال الله-تعالى- :{ يَابَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ} فالسنة أن الإنسان يلبس أحسن ما يجد وأفضل ما يجد للوقوف بين يدي الله عز وجل وأن تكون شارته وهيئته ودله وسمته على أكمل ما يكون عليه حال الواقف بين يدي الله عز وجل وأما الاستهتار بالاجتماع مع الناس والخروج بهذه الحالات بالثياب الخاصة التي لا يخرج الإنسان بها لكريم يأتي عليه في بيتة فكيف بموقفه بين يدي الله ربه ، فهذا مما لايحسن ولايجمل ولايكمل بالمسلم وإذا صلى الإنسان وبجواره من يفعل ذلك فنصحه وذكره بالله عز وجل .
والعلماء رحمهم الله يقولون أن تعاطي الأمور المباحة يكون من خوارم المروءة إذا كانت تزري بالإنسان فخروج مثل هذا أمام الناس وفي المساجد الجامعة خاصة في يوم الجمعة وفي خطبة الجمعة وهو بثياب النوم لاشك أن هذا يعتبر موجباً لاخترام مروءته -نسأل الله العظيم أن يهدينا لمكارم الأخلاق إنه ولي ذلك والقادر عليه-.
وَآخِرُ دَعْوَانَا أَنِ الحمَْدُ لِلَّهِ رَبِّ العَالَميْنَ وصلَّى اللَّهُ وسلَّم وبارك على عبده ونبيَّه محمد وعلى آله وصحبه أجمعين .(38/27)
بسم الله الرحمن الرحيم
قال المصنف رحمه الله : بَاب مَا جَاءَ فِي الْوُضُوءِ مِنَ الْقَيْءِ وَالرُّعَافِ
الشرح :
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين أما بعد :
فقد ذكر المصنف رحمه الله هذه الترجمة التي تدل على مسألتين :
المسألة الأولى : تتعلق بالقيء الذي يخرج من باطن الإنسان . والمسألة الثانية : تتعلق بالرعاف .
وهذان الأمران اختلف العلماء رحمهم الله في كونهما ينقضان الوضوء فاعتنى المصنف رحمه الله بإيراد حديث ثوبان رضي الله عنه وأرضاه والذي هو عمدة عند العلماء رحمهم الله في الحكم بوجوب الوضوء من القي والرعاف.
والقي ينقسم إلى ثلاثة أقسام :
القسم الأول : أن يكون القي متغيراً بحيث توجد فيه رائحة النجاسة أو لونها ، وصورة ذلك أن يقي الإنسان فضلة من الطعام وتكون هذه الفضلة بلون البراز أو توجد فيها رائحة البراز فإذا كان القي متغيراً على وجه يشبه النجاسة يكون من هذا النوع .
القسم الثاني : أن يكون القي غير متغير ، وذلك بأن تكون صفاته الأصلية لم تتغير مثال ذلك أن يق الطعام وهو على حالته لم يتغير وهذا القسم أغلب ما يكون عند قرب الإنسان من الطعام كأن يأكل الطعام ثم يقي مباشرة .
القسم الثالث : أن يكون بعض القي متغيراً وبعضه باقياً على الأصل بمعنى أن يخرج من بطنه فضلة وتكون هذه الفضلة منقسمة إلى قسمين :(39/1)
قسم منها قد تغير بلون النجاسة أو رائحتها ، وقسم هو باق على صفات الطعام الأصلية ، فأما إذا كان القي متغيراً بحيث تجد رائحة النجاسة فيه أو تجد لون الطعام قد تغير بلون البراز ونحو ذلك ، فحينئذ جماهير العلماء رحمهم الله على أنه نجس وجمهور العلماء على أنه يوجب الوضوء ؛ والسبب في ذلك حديث ثوبان -- رضي الله عنه - وأرضاه-حيث جاء في هذا الحديث الذي اعتنى المصنف رحمه الله بإيراده هنا أن النبي صلى الله عليه وسلم قاء ثم توضأ ، ووجه ذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم حكم باعتبار القي موجباً لانتقاض الوضوء ، وقد قيل إن وضوءه إنما هو غسل لفمه أعني بالمضمضة ، وهو تأويل للنص وإخراج له عن ظاهره ، ولكن على هذا القول قالوا إنه يدل على النجاسة فقط .
والصحيح ما ذهب إليه الجمهور من أن الإنسان إذا قاء الطعام وقد تغيرت أوصاف الطعام بالنجاسة أن ذلك يوجب الحكم بنجاسة القيء ويوجب الحكم بانتقاض الوضوء ؛ وتعليل ذلك أن النص الذي ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم الظاهر فيه أنه دال على انتقاض الوضوء بالقيء ، وهذا هو الظاهر من قوله قاء فتوضأ ؛ لأن القاعدة عند علماء الأصول : " أنه إذ تعارضت الحقيقة الشرعية والحقيقة اللغوية فإنه يجب المصير إلى الحقيقة الشرعية " لأنها المعهودة في خطاب النص .
وتوضيح ذلك : أن من قال في قوله يتوضأ محمول على الحقيقة الشرعية يوجب الوضوء الشرعي ، ومن قال قاء فتوضأ بالحمل على الحقيقة اللغوية لا يوجب الوضوء ، ويحمل قوله فتوضأ أي غسل فمه من القيء .
والصحيح الأول ؛ لأنه ظاهر النص ، وهو أقوى التأويلين كما لا يخفى .(39/2)
ثم إن هناك دليلاً على يعتبر من أقوى الأدلة على الحكم بانتقاض الوضوء ونجاسة القيء وذلك أن معدة الإنسان ينصرف منها البراز إلى المخرج المعتبر ، فإذا كانت المعدة قد أفرغت ذلك الطعام ، وخرج من المخرج فحينئذ لا إشكال ، وإذا كانت المعدة قد غيرت الطعام وأفضلته حتى صار برائحة النجاسة أو لونها فحينئذ يكون نجساً ، ويستوي أن يخرج من أعلى البدن أو يخرج من أسفل البدن كما لا يخفى ؛ لأن العبرة بصفات النجاسة ، والجمهور على أنه لو فتح للإنسان فتحة بديلة عن فتحة الشرج ، وخرج من هذه الفتحة فضلته من الطعام أو الشراب فإنها تنزل منزلة الأصل -أعني أنه يحكم بانتقاض الوضوء- وكون الخارج نجساً ، فكذلك هنا فكما أن خروج الطعام من الفضلة البديل يوجب الحكم بانتقاض الوضوء ، وبالنجاسة .
كذلك خروج الفضلة من الفم فإنه توجب انتقاض الوضوء وتوجب الحكم بالنجاسة كما لا يخفى ، وأما إذا كان القيء لم يتغير كأن يكون الإنسان قريب العهد بالطعام فيأكل ، ويغلب على ظنه أن الطعام لم يصل إلى معدته ويخرج الطعام وقد كانت في أوصافه كما هي لم تتغير ، فإننا نحكم حينئذ بصحة وضوئه وعدم بطلانه وفساده ، وعدم انتقاضه لأن هذه الفضلة لم تتغير على صفة النجاسة ، ولا تأخذ حكم المتغير النجس ، والأصل في الإنسان إذا توضأ أنه متطهر حتى يدل الدليل على انتقاض وضوئه ، وحديثنا لا يدل على الانتقاض كما لا يخفى ؛ لأن القيء منصرف إلى القيء المعروف المعهود بأوصاف الكمال لا ما دونها .
وأما إذا كان القيء من القسم الثالث كأن يكون بعضه متغيراً وبعضه غير متغير فللعلماء فيه قولان :
القول الأول : جمهورالعلماء رحمهم الله على أنه نجس ؛ وذلك لأنه لما تغير البعض أخذ الباقي حكمه ونزل منزلته.
القول الثاني : وقال بعض فقهاء المالكية-رحمة الله على الجميع-: إنه لا يحكم بنجاسته لأنه حينئذ لم ينصرف عن الأصل .(39/3)
والصحيح ما ذهب إليه الجمهور رحمهم الله وحينئذ يكون ناقضاً للوضوء ؛ والسبب في ذلك أنه إذا تغير بعضه وبقي البعض لم يتغير فإننا نقول إن هذا الذي تغير يوجب انتقاض الوضوء ؛ والسبب فيه أنه لو قاء هذا القدر وحده لانتقض الوضوء ، فحينئذ لم يختلف الحكم بين كونه يقيء هذا القدر منفردا وبين أن يقيئه مع الغير مشتركا مجتمعا .
وبناءً على ذلك يتخلص في القيء ما يلي أنه لا يخلو من حالتين :
الحالة الأولى : أن يكون قد تغير كلية أو بعضه قد تغير ، فإذا تغير جميعه أو تغير بعضه فإننا نحكم بانتقاض الوضوء وبنجاسة القيء .
الحالة الثانية : إذا لم يكن متغيراً فإننا نحكم بطهارته إعمالا للأصل ، وهل يوجب انتقاض الوضوء أو لا يوجبه على الوجهين الذين ذكرنا .
فالذين يقولون بعدم إيجاب الوضوء فيه يقولون إنه في حكم الفضلة الطاهرة الخارجة من أعلى البدن كمخاط والبصاق ونحو ذلك والبلغم إذا أخرجه الإنسان من صدره لم ينتقض به وضوؤه ، وذلك لأنه كطاهر فكذلك الطعام إذا جرى في أمعائه ولم يصل إلى المعدة ولم يتغير فإنه يكون في حكم الفضلة التي في أعلى البدن ، وبناءً على ما سبق فإن القيء يعتبر نجساً إذا تغير كله أو طعمه .
ويتفرع على ذلك يجب غسل الثوب منه وذلك فإن الإنسان لو قاء فتطايرت أجزاء من القيء على الثوب أو تطايرت أجزاء من القيء على الفراش فإنه يجب عليه أن يغسل ثوبه إذا أراد الصلاة فيه ، وهكذا بالنسبة للفراش إذا أراد يصلي عليه فإنه يجب عليه أن يغسل ذلك الموضع الذي أصابه القيء واشترط جمع من العلماء رحمهم الله في كون القيء ناقضاً للوضوء أن يكون القيء قد ملأ الفم ، قالوا فإذا بلغ هذا القدر فإنه يعتبر ناقضا للوضوء ، هذا كله بالنسبة للقيء .(39/4)
وأما القلس : فإنه لا يوجب انتقاض الوضوء عند جماهير العلماء رحمهم الله وليس هو بنجس على أصح قولي العلماء رحمهم الله فالفرق بين القيء والقلس إن القيء يكون من داخل المعدة على الغالب كما ذكرنا ، وأما القلس فإنه في الغالب لا يصل إلى المعدة لأن القلس يكون بسبب الشبع ، فالإنسان إذا كان قريب العهد كما ذكرنا ، فالإنسان إذا كان قريب العهد بالطعام كأن يكون حديث الغداء أو العشاء فإنه يجد الطعام يصل إلى لهاته وأعالي الحلق ، وهذا بسبب الشبع فيخرج منه فضلة تسمى بالقلس وهكذا بالنسبة للصبيان والصغار خاصة إذا كان الصغير رضيعاً فإنه كثيراً ما يخرج منه القلس إذا حملته أمه أو ضمته إلى صدرها أثناء الحمل فإن القلس يعتبر طاهراً ولا يحكم بنجاسته ، وبناءً عليه فإنه أصاب الإنسان القلس فإنه يغسل فمه فقط وهذا الغسل ليس من باب كون القلس نجساً ولكنه من باب تنظيف الفم من الفضلة التي قد تشوش عليه في الصلاة وقد ثبت عنه- عليه الصلاة والسلام - أنه شرب اللبن وتمضمض صلوات الله وسلامه عليه ؛ والسبب في ذلك أن اللبن إذا تركه الإنسان في فمه وصلى شوش عليه وقد جاء في الحديث : (( إن له دسماً )) -وسيأتي إن شاء الله بيانه في الباب الذي يلي هذا الباب-.
وأما بالنسبة للرعاف : فإنه فضلة الدم التي يخرجها الأنف وغالباً ما يكون من أعلى الخياشيم أما بسبب الجراح أو تهتك الغشاء الخارجي فخذا الرعاف إذا خرج من الإنسان ففيه مسألتان مشهورتان :
المسألة الأولى: هل الدم نجس أو هو طاهر.
والمسألة الثانية : هل يوجب الرعاف انتقاض الوضوء أو لا يوجب انتقاض الوضوء ..؟؟ .(39/5)
فأما كون الرعاف نجساً فجمهور العلماء رحمهم الله على أن الدماء إذا خرجت من الإنسان من أي موضع من الجسد أنها تعتبر نجسة واستدلوا بظاهر قوله سبحانه وتعالى :{ أَوْ دَمًا مَسْفُوحاً ..فَإِنَّهُ رِجْسٌ}(1)وظاهر الدلالة من هذه الآية الكريمة أن الدم المسفوح هو الدم الذي يخرج بغير الذكاة الشرعية بإجماع العلماء رحمهم الله لأن الدم إذا خرج بعد الذكاة الشرعية طاهر بإجماع العلماء وإنما هو نجس في حال خروجه أثناء الذكاة ، فمن نحر البعير أو ذبح البقرة أو الشاة وكان موضع الذبح فإن موضع الذبح يخرج منه الدم فهذا الدم بإجماع العلماء يعتبر نجساً على ظاهر نص القرآن وجه ذلك أنه لما جرح الحيوان وخرج منه الدم قبل أن يذكى فدل هذا النص القرآني على أن الدماء إذا خرجت بغير ذكاة أنها تعتبر نجسة وكذلك إذا خرجت حال الذكاة كما لا يخفى ، ولذلك نص جماهير العلماء رحمهم الله على نجاسة الدماء من هذا الوجه وحكى الإمام ابن حزم الظاهري رحمه الله الإجماع على نجاسة الدم المسفوح لأنه ظاهر النص القرآني وإذا ثبت هذا فإن الدماء إذا خرجت من اليد أو من الرجل أو من أي موضع من البدن تكون في حكم الدم المسفوح ولذلك يحكم بنجاستها ، وقد أجمع العلماء رحمهم الله على نجاسة نوعين من الدماء خارجين من الفرج :
النوع الأول: دم الحيض . والنوع الثاني : دم النفاس .
وفي حكم دم الحيض دم الاستحاضة فدم الحيض يعتبر نجسا لما ثبت في الحديث الصحيح عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال : (( اغسلي عنك الدم)) فدل هذا على دم الحيض ودم النفاس يعتبر كلا منهما نجسا ولا يجوز للمسلم أن يصلي على موضع أصابه دم الحيض أو أصابه دم النفاس ، كما لا يجوز للمرأة أن تصلي في موضع أصابه دم حيض أو دم نفاس وذلك لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر بغسله فدل ذلك على نجاسته .
__________
(1) / الأنعام ، آية : 145.(39/6)
وأما بالنسبة للدم الخارج من سائر البدن فجماهير العلماء كما ذكرنا على أنه نجس .
وذهب بعض أهل الظاهر إلى أنه طاهر ولا يحكم بنجاسته ومال إليه جمع من المتأخرين يقولون إن الدماء طاهرة لأن الأصل الشرعي أنه طاهر حتى يدل الدليل على نجاسته .
واستدلوا بما ثبت في الحديث الصحيح عن جابر رضي الله عنه في قصة حراسة الشعب حيث أصاب السهم الحارس فمضى في صلاته ولم يقطعها لمكان الدم وجرحه يثعب بالدم فلم ينكر عليه النبي صلى الله عليه وسلم ذلك واستدلوا بما ثبت في صحيح البخاري وغيره عن عمر رضي الله عنه أنه لما طعنه أبو لؤلوة المجوسي-عليه لعنة الله- صلى رضي الله عنه الصلاة-أعني صلاة الفجر- وجرحه يثعب بالدم قالوا فدل هذا على كون الدم طاهراً وقد فعل ذلك عمر رضي الله عنه بمحضر من الصحابة واشتهرت قصته فلم ينكرها أحد منهم فدل هذا على شبه الإجماع منهم على طهارة الدم .
وقد أجاب الجمهور عن هذه الأدلة فأما كون الدم فإن الأصل في الدم أنه طاهر حتى يدل الدليل على النجاسة فقد أجيب بورود نص القرآن في قوله-سبحانه- :{ أَوْ دَماً مَسْفُوحاً} فإن قوله :{ أَوْ دَمًا مَسْفُوحاً} يدل على استثناء الدم وإعتباره نجساً لقوله-سبحانه- :{ فَإِنَّهُ رِجْسٌ} والرجس هو النجس وحينئذ يكون هذا النص موجباً للخروج على الأصل الذي يحكم به بطهارة الدماء فإن قالوا إن هذا النص المراد يه الدم الذي يخرج حال الذكاة فجوابه هو كما يقول الجمهور إن هذا الدم الذي يخرج أثناء الذكاة إنما هو طعن في الجسد وهذا الطعن أوجب بكون ما يخرج من الجرح نجساً وهذا يدل على أن خروج الدم قبل إزهاق الروح بالذكاة الشرعية يوجب الحكم بالنجاسة وهذا الذي نص عليه المفسرون رحمهم الله .(39/7)
وأما الاستدلال بقصة عمر بن الخطاب-- رضي الله عنه - وأرضاه-وقصة الرجل الذي كان يحرس الشعب وأصابه السهم ومع ذلك لم يغسلا موضع النجاسة ولم يحكم بانتقاض وضوئهما فيجاب عن ذلك بأنه جرح نزيف والدم ينقسم إلى قسمين :
القسم الأول: أن يكون من جرح يرقى. والقسم الثاني : أن يكون من جرح لا يرقى .
فأما إذا كان من جرح يرقى بمعنى أن الدم يمكن إسكاته وإسكانه فإنه هو محل الخلاف .
وأما إذا كان جرح الإنسان لا يرقى ومعه نزيف كالمرأة المستحاضة إذا خرج منها الدم ولم تستطع حبسه فإنه حينئذٍ يرخص فيه بإجماع العلماء وحينئذ يكون كلا الدليلين خارجاً عن موضع النزاع ؛ لأن موضع النزاع في الدم الذي يمكن إسكاته وإسكانه .
وأما الدماء التي لا يمكن إسكانها فإنه لا يحكم بكونها ناقضة للوضوء لأننا لو أمرنا صاحبها بالوضوء لشق عليه ذلك مشقة عظيمة لأنه كلما توضأ خرج الدم منه فعاد فتوضأ فعاد الدم بالخروج وحينئذ يصل إلى المشقة التي لا يكلف بها وحينئذ يكون النص على هذا المعنى خارج عن موضع النزاع .
ولا شك أن مذهب جمهور العلماء أولى وأحرى بالاعتبار خاصةً وأن النبي صلى الله عليه وسلم قال للمرأة :(( اغسلي عنك الدم)) فنحن نقول إن دم الحيض خارج من العرق وحينئذٍ يستوي كل دم في هذا الحكم الموجب للغسل وكون الدم نجساً لأن الدماء في الأصل إنما هي من العروق وتفضلها العروق في الأوعية كما لا يخفى .
وعليه فإنه يترجح مذهب الجمهور أن الدم يعتبر نجساً يجب على المسلم أن يغسله من ثوبه أو بدنه إذا أراد الصلاة وإذا تبين أن الدم نجس .
فالسؤال: هل كل الدماء يجب غسلها أم أن هناك رخصة في الدم ..؟؟(39/8)
والجواب : أن العلماء أجمعوا على أن الدم إذا كان قليلاً فإنه يرخص فيه ؛ والسبب في ذلك أن الله عز وجل قال في كتابه :{ أَوْ دَماً مَسْفُوحاً} والمسفوح الكثير من سفح الشيء وهذا يعبر به عن الكثرة كما لا يخفى ، وإذا كان الدم الذي نص القرآن على نجاسته كثيراً فمفهوم الصفة أن الدم اليسير لا يعتبر نجساً تحفيفاً من الشرع .
وحينئذٍ يرد السؤال : ما هو الدم اليسير وما هو ضابطه ..؟؟
وللعلماء في الجواب قولان مشهوران :
فجمهور العلماء على أن الدم إذا كان بقدر الدرهم البغلي أو دون ذلك إنه عفو .
وأما ما كان زائداً عليه فإنه يجب غسله فيحكم بنجاسته ورخصوا في اليسير ، ولذلك قد انعقد الإجماع على الدرهم البغلي وفيه حديث ضعيف وهذا الحديث يمثل به العلماء للحديث الذي ضعف سنده وصح متنه لأن الإجماع على هذا القدر يعتبر رخصة في الدماء لا يجب غسله والدرهم البغلي في زماننا يقارب القرش المعروف أو قدر الهللة القديمة التي يعرفها الناس فهذا القدر وما دونه يعتبر من العفو .(39/9)
وأما ما زاد عليه فإنه ليس بعفو وبناءً على ذلك فلو أن إنساناً كان في صلاته ثم خرج دم يسير من إصبعه أو من كفه مثلا فإنه ينظر في هذا الخارج فإن كان بالقدر اليسر وما دونه عفي عنه ويستمر في الصلاة ولا يضر ولا يؤثر ومن أمثلة ذلك الدماء اليسيرة التي تخرج من الأسنان ومن أمثلة ذلك الدماء التي تخرج من الحبوب والبثر ، فإن الحبة قد يعصرها الإنسان وهو في الصلاة دون شعور فيخرج منها اليسر من الدم فهذا اليسير يعتبر رخصة ، وذلك بالإجماع وهذا هو الذي أثر عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أنه كان في الصلاة ربما عصر البثرة ومع ذلك يمضي في الصلاة ولا يعيد صلاته رضي الله عنه فدل هذا على كون السلف الصالح رحمهم الله يقولون بهذه الرخصة وهذا متعارف عليه حتى بين أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم لأنه واضح الدلالة في كتاب الله عز وجل في الآية الكريمة التي ذكرنا .
والمسألة الأخيرة : في الدم هل إذا خرج الدم الإنسان هل يجب عليه أن يعيد الوضوء أو لا يجب عليه ..؟؟
وصورة المسألة ومثالها : لو أن إنساناً توضأ ثم أصابه الرعاف بعد الوضوء فذهب وغسل أنفه وأزال أثر الدم عنه فهل يحكم بانتقاض وضوئه ووجوب الإعادة عليه أم أننا نقول إنه متوضئ ولا يجب عليه أن يعيد ، اختلف العلماء رحمهم الله في هذه المسألة على قولين :
القول الأول : من خرج منه الدم من أي موضع من جسده فإنه يجب عليه أن يعيد الوضوء وهذا هو مذهب الحنفية والحنابلة-رحمة الله على الجميع - ، وبناءً على ذلك فإنه إذا أرعب الإنسان وجرح أي موضع من بدنه وخرج الدم فإنه يجب عليه أن يعيد الوضوء .(39/10)
القول الثاني : لا يجب عليه أن يعيد الوضوء وإنما يجب عليه أن يغسل الدم عنه إذا كان كثيراً ، إلا إذا كان الدم خارجا من الفرج -أعني فرج المرأة - وذلك بالاستحاضة فإنه ينتقض الوضوء بها ، وهذا القول هو مذهب الشافعية والظاهرية وطائفة من أهل الحديث -رحم الله الجميع- ، وبناءً على ذلك يكون محل الخلاف في غير دم الاستحاضة ، أما دم الاستحاضة فإنه يوجب الوضوء قولاً واحداً عند جماهير العلماء ومنهم الأئمة الأربعة-رحمة الله على الجميع-.
استدل الذين يقولون إن الدم تنقض الوضوء : من أي موضع من البدن استدلوا بالقياس على دم الاستحاضة قالوا إن الدم يعتبر نجساً كما ذكرنا ودم الاستحاضة أوجب انتقاض الضوء لكونه نجساً خرج من البدن فقالوا كل دم نجس يخرج من سائر البدن يوجب انتقاض الوضوء وهذا القياس يقول به أصحاب القول الأول يخصصون به عموم قوله عليه الصلاة والسلام :(( لا يقبل الله صلاة أحدكم إذا أحدث حتى يتوضأ )) قالوا إن خروج النجاسة من أي موضع من البدن يعتبر موجباً لانتقاض الوضوء كخروج النجاسة من القبل بدم الاستحاضة وكخروج النجاسة من الدبر بجامع كون كل منهما فضلة من البدن نجسة .
وذهب أصحاب القول الثاني إلى عدم انتقاض الوضوء بخروج الدم من سائر البدن واستدلوا : بقوله عليه الصلاة والسلام :(( لا يقبل الله صلاة أحدكم إذا أحدث حتى يتوضأ )) قالوا دل هذا الحديث الصحيح على أن من توضأ لا يحكم بانتقاض وضوئه إلا بالحدث وخروج الدماء من غير المخرجين ليست بحدث ولا في حكم الحدث.
والذي يترجح في نظري والعلم عند الله هو القول بعدم انتقاض الوضوء بخروج من سائر البدن وذلك لصحة دلالة السنة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أن المتوضأ لا يحكم بانتقاض وضوئه إلا بالحدث وخروج الدم من سائر البدن ليس بحدث ولا في حكم الحدث وكونه نجساً لا يوجب انتقاض الوضوء .(39/11)
وإذا تقرر أن الدم لا يوجب انتقاض الوضوء فإنه يكون في حكم الدم القيح وفي حكمه الصديد ، فإن القيح والصديد كلا منهما يعتبر نجساً أما كون القيح نجساً فلأنه يتفرع عن الدم وأما الصديد فإنه في حكم الدم في موضعه ، ولذلك يعتبر كلا منهما نجساً عند جمهور العلماء رحمهم الله ويقع الخلاف فيهما كما هو واقع في الدم سواء بسواء .
وقد عفا فقهاء الحنابلة والحنفية رحمهم الله عن يسير القيح والصديد وقالوا إن كلا منهما يعتبر مرخصاً فيه إذا أصاب الإنسان ومحل الخلاف بين العلماء في مسألة الدماء والقيح والصديد إذا خرج الدم من الموضع أما إذا كانت الدماء في نفس الجروح فإنها ليست بمحل للخلاف.
وتوضيح ذلك : لو أن إنساناً جرح وبقي الدم في موضع الجرح ولم يخرج فإنه لا يحكم بنجاسته ؛ والسبب في ذلك أن مواضع الجروح يشق غسلها وإذا غسلت فإنه تتعفن ويتضرر الإنسان ولذلك نص جماهير العلماء رحمهم الله على أن مواضع الجروح ليست محلا للخلاف كما أن الإنسان إذا خرج من دبره الخارج فيبقى في الموضع الخارج شئ من النجاسة فعفي عنه للمشقة ، كذلك الجروح وهكذا إذا تجلط الدم على الجرح وهي القشرة التي تكون على الجرح فلو قيل بنجاستها ووجوب إزالتها لحصلت للناس مشقة في هذا الأمر فجميع ذلك يعتبر من العفو ولا يجب على المسلم إذا أصابه جرح ولم يدمع الجرح والمراد بدموع الجرح أن يخرج الدم عن موضعه فإنه حينئذٍ فإنه يعتبر من الرخصة والعفو ولكن إذا أصاب الثوب ذلك الموضع فنقل الدم عنه فحينئذ يجب غسل الدم الذي أصاب الثوب والرخصة محلها إذا بقي الدم في نفس الجرح ، أما إذا بان عنه وانفصل فإنه يعتبر رخصة وبناء على ذلك تتضح مسائل الدماء على هذا التفصيل .
وبقيت في مسائل الدماء مسألة مشهورة عند العلماء رحمهم الله وهي مسألة دماء البواسير :
والبواسير تخلو من حالتين :
الحالة الأولى : أن تكون في داخل الفرج. والحالة الثانية : أن تكون في خارج الفرج .(39/12)
سواء كانت على حلقة الدبر أو بارزة عن حلقة الدبر ، فأما إذا كانت البواسير من خارج الفرج فإنها لا توجب انتقاض الوضوء في قول من ذكرنا من المالكية والشافعية والظاهرية ، وأما فقهاء الحنفية الحنابلة فإنهم يقولون هي ناقضة كالرعاف سواء بسواء ، والخلاف فيها كالخلاف الذي تقدم وقد بينا أن الصحيح لا ينتقض الوضوء .
وبناءً عليه فإن دماء البواسير إذا خرجت من ظاهر البدن وظاهر البدن ولا توجب انتقاض الوضوء على الصحيح ، وأما إذا كانت البواسير من ظاهر البدن أو كانت البواسير في داخل البدن وتتدلى أثناء البراز ثم يخرج منها الدم فإنها إذا تدلت وبقيت فإنها في حكم داخل البدن وإذا خرج منها الخارج تعتبر نجسة موجبة لانتقاض الوضوء ، والبواسير من الداخل كدم الاستحاضة فلما حكم الشرع بوجوب الوضوء من الاستحاضة فهمنا أن الدماء إذا خرجت من المخرج نقضت ولأن الدم نجس فإذا خرج من الدبر كان كخروج البراز النجس ، وعلى هذا فإن دماء البواسير والجروح التي تكون داخل الدبر تأخذ حكم الاستحاضة سواء بسواء ولكن المسلم إذا شق عليها أمرها وعسر عليه حالها فإنه يترخص في الأمر فإذا كانت البواسير تنزف عليه فإنه يغسل الموضع ثم يأخذ قطنة ويسدها ويسد الفرج بها فإذا غلبه الدم فإنه يصلي على حالته ولا يضر ، أما إذا كانت يسيرة كأن تخرج قطرات متباعدة متباينة فإنه يجب عليه غسلها وإعادة الوضوء منها لأن هذا الخروج على هذه الصفة لا يوجب المشقة والحرج للترخيص فبقي على الأصل الموجب لانتقاض الوضوء والحكم عليه بالنجاسة .(39/13)
قال المصنف-رحمه الله -: حَدَّثَنَا أَبُو عُبَيْدَةَ بْنُ أَبِي السَّفَرِ وَهُوَ أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْهَمْدَانِيُّ الْكُوفِيُّ وَإِسْحَقُ ابْنُ مَنْصُورٍ قَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ حَدَّثَنَا وَقَالَ إِسْحَقُ أَخْبَرَنَا عَبْدُ الصَّمَدِ بْنُ عَبْدِ الْوَارِثِ حَدَّثَنِي أَبِي عَنْ حُسَيْنٍ الْمُعَلِّمِ عَنْ يَحْيَى بْنِ أَبِي كَثِيرٍ قَالَ حَدَّثَنِي عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَمْرٍو الأَوْزَاعِيُّ عَنْ يَعِيشَ بْنِ الْوَلِيدِ الْمَخْزُومِيِّ عَنْ أَبِيهِ عَنْ مَعْدَانَ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ : " أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَاءَ فَأَفْطَرَ فَتَوَضَّأَ فَلَقِيتُ ثَوْبَانَ فِي مَسْجِدِ دِمَشْقَ فَذَكَرْتُ ذَلِكَ لَهُ " فَقَالَ:" صَدَقَ أَنَا صَبَبْتُ لَهُ وَضُوءَهُ " .
قَالَ أَبو عِيسَى رحمه الله : وقَالَ إِسْحَقُ بْنُ مَنْصُورٍ مَعْدَانُ بْنُ طَلْحَةَ .(39/14)
قَالَ أَبو عِيسَى رحمه الله : وَابْنُ أَبِي طَلْحَةَ أَصَحُّ قَالَ أَبو عِيسَى رحمه الله : وَقَدْ رَأَى غَيْرُ وَاحِدٍ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَغَيْرِهِمْ مِنَ التَّابِعِينَ الْوُضُوءَ مِنَ الْقَيْءِ وَالرُّعَافِ وَهُوَ قَوْلُ سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ وَابْنِ الْمُبَارَكِ وَأَحْمَدَ وَإِسْحَقَ وقَالَ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ لَيْسَ فِي الْقَيْءِ وَالرُّعَافِ وُضُوءٌ وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ وَقَدْ جَوَّدَ حُسَيْنٌ الْمُعَلِّمُ هَذَا الْحَدِيثَ وَحَدِيثُ حُسَيْنٍ أَصَحُّ شَيْءٍ فِي هَذَا الْبَابِ وَرَوَى مَعْمَرٌ هَذَا الْحَدِيثَ عَنْ يَحْيَى بْنِ أَبِي كَثِيرٍ فَأَخْطَأَ فِيهِ فَقَالَ عَنْ يَعِيشَ بْنِ الْوَلِيدِ عَنْ خَالِدِ بْنِ مَعْدَانَ عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ وَلَمْ يَذْكُرْ فِيهِ الأَوْزَاعِيَّ وَقَالَ عَنْ خَالِدِ بْنِ مَعْدَانَ وَإِنَّمَا هُوَ مَعْدَانُ بْنُ أَبِي طَلْحَةَ .
الشرح:
هذا الحديث حديث أبي الدرداء وحديث ثوبان رضي الله عنهما يعتبر حجة لجمهور العلماء رحمهم الله على مسألتين مشهورتين :
المسألة الأولى : يكون الإنسان مفطراً بالقيء . والمسألة الثانية : وجوب الوضوء من القئ .
فأما مسألة الفطر من القئ فإن الإنسان لا يخلو من حالتين :
الحالة الأولى : أن يستقيء بنفسه . والحالة الثانية : أن يغلبه القيء .
فأما إذا كان الإنسان مستقيئاً بنفسه فإنه يكون مفطراً وذلك على قوله على ظاهر السنة في قوله عليه الصلاة والسلام :(( من استقاء فقاء فقد أفطر ومن ذرعه القيء فلا شئ عليه)) -وسيأتي الكلام على هذا الحديث في باب الصيام وسنين إن شاء الله تعالى مسألة الفطر بالقيء -.
وأما إذا كانت الحالة الثانية وهي أن يذرعه القيء فإنه لا يخلو من ضربين :(39/15)
الضرب الأول : أن يقيئ ثم يغسل فمه ولا يزدرد شئ من القيء فجمهور العلماء على أنه لا يفطر.
وأما الضرب الثاني : فهو أن يأكل شئ من القيء وذلك برد ما قاءه سواء كله أو بعضه ولو جزءاً يسيراً سواء كان الجزء مما له جرم كالطعام أو كان شراباً فإن ذلك كله يوجب انتقاض صومه ووجوب القضاء عليه من فطره ، وهذا هو مذهب جماهير العلماء رحمهم الله وأما إذا أكل شيئا من القيء ورده فإنه يفطر بالإجماع-وسنبين هذه المسألة إن شاء الله في موضعها من كتاب الصيام-.
المسألة الثانية : فقد دل الحديث على أن القيء يوجب انتقاض الوضوء وقد تكلمنا على هذه المسألة .
ووجه الشاهد فيها قوله"وتوضأ" أي توضأ عليه الصلاة والسلام وضوؤه للصلاة وللعلماء في هذا الوضوء وجهان:
منهم من يقول : إنه توضأ من أجل القيء فيكون دليلاً على أن القيء ناقض للوضوء .
ومنهم من يقول : إن قوله "فتوضأ " أي أن النبي صلى الله عليه وسلم قاء فأفطر ثم توضأ للصلاة بعد القيء لا من أجل القيء ولكن من أجل الصلاة وحينئذ لا يكون الحديث دليلاً على أن القيء يوجب انتقاض الوضوء.
والصحيح هو الوجه الأول أن قوله " قاء فأفطر فتوضأ" أن المراد به توضأ وضوء الصلاة من أجل الانتقاض بالقيء ، وهذا هو الذي تدل عليه الرواية الأخرى" أن النبي صلى الله عليه وسلم قاء فتوضأ " .
ثم قاس الحنفية والحنابلة رحمهم الله على القيء قاسوا عليه الرعاف ، فقالوا كما أن القيء يوجب انتقاض الوضوء ، كذلك الرعاف يوجب انتقاض الوضوء ، بجامع كون كل منهما خارجاً نجساً من البدن ، فقالوا : حينئذ نحكم بانتقاض الوضوء بالرعاف ، كما نحكم بانتقاضه بالقيء ؛ لأن السبب في انتقاض الوضوء بالقيء خروج النجاسة من الفم ، وحينئذ نقول خروج النجاسة من سائر البدن يوجب انتقاض الوضوء ، وقد تكلمنا على هذه المسألة .
وللعلماء رحمهم الله في مسألة نواقض الوضوء مسالك :(39/16)
المسلك الأول : يقول لا أنقض الوضوء إلا بالخارج والمخرج ، وأصحاب هذا المسلك يقولون : إن الأصل في الوضوء أننا لا نحكم بانتقاضه إلا بأمرين :
الأمر الأول : أن يكون هناك خارج نجس . والأمر الثاني : أن يكون خارجاً من المخرج المعتبر ، والمخرج المعتبر هو القبل والدبر ، وأصحاب هذا المسلك يخصون انتقاض الوضوء بخروج الخارج النجس من القبل أو الدبر ، أما إذا خرج الخارج النجس من غير القبل أو الدبر فلا يوجب انتقاض الوضوء عندهم ، وهذا المسلك يميل إليه فقهاء الظاهرية وطائفة من أهل الحديث ، ويعتمده مالك في الأصل ، ويوافقه الشافعي - رحم الله الجميع - في كثير من المسائل ، فالحكم عند هؤلاء أنه لا ينتقض الوضوء إلا بأمرين :
الأمر الأول : أن يكون هناك خارج معتبر ، وهو الخارج النجس . والأمر الثاني : أن يكون خروجه من المخرج المعتبر ، فتفرع على هذا أنه لو خرج طاهر من القبل أو الدبر لم ينتقض الوضوء ، كأن يخرج الدود من الدبر ، أو يخرج الحصى من الدبر أو القبل ، فهؤلاء لا ينقضون الوضوء بالحصى والدود ؛ والسبب في ذلك أن الخارج ليس بنجس في الأصل ، وإنما هو خارج نادر ، والحكم عندهم بانتقاض الوضوء يشترط فيه أن يكون نجساً.
وأما المسلك الثاني : فإنهم يقولون العبرة بالخارج لا بالمخرج ، وهو مسلك فقهاء الحنفية والحنابلة-رحمة الله على الجميع - ، يقولون ننقض الوضوء ؛ والسبب في انتقاض الوضوء عندنا أن يخرج خارج نجس ، ولا نلتفت لمكان هذا الخارج ، فكل نجاسة خرجت من البدن من أي موضع كان فإنها توجب انتقاض الوضوء ، فإذا أرعف الإنسان أو احتجم أو قاء أو غير ذلك من الحالات التي يفضل الإنسان فيها النجاسة ، فإننا نحكم بانتقاض الوضوء ، وقد بينا وجه هذا المسلك ، وأنه يعتمد القياس على القيء ، ويوجب الحكم بانتقاض الوضوء لهذا .(39/17)
وأما المسلك الثالث : فإنه يقول باعتبار الخارج والمخرج ، ولكن في الخارج يفصل بعض تفصيل ، وهذا يميل إليه بعض أصحاب الشافعية-رحمة الله على الجميع- ، ومحل تفصيلهم في كتبهم ، إلا أن أصحاب المسلك الذين يقولون أعتبر الخارج وأعتبر المخرج يقولون في حكم القبل والدبر أن تفتح للإنسان فتحة ، وتكون هذه الفتحة بديلاً عن القبل أو بديلاً عن الدبر ، كأن يولد الصبي مسدود المقعدة فتفتح له فتحة بديل عن فتحة الشرج ، أو يعمل للإنسان عمل جراحي يوجب استئصال مقعدته وفتح فتحة في ظهره ، أو فتحة في أسفل من المعدة يخرج منها الخارج فإنه في هذه الحالة يحكم بانتقاض الوضوء عندهم ؛ لأن هذه الفتحة تعتبر فرعا عن الأصل ، والفرع آخذ حكم أصله ؛ ولكن طائفة من العلماء رحمهم الله فصلوا فقالوا : الفتحات تنقسم إلى قسمين :
القسم الأول : أن تكون أسفل من المعدة ، فحينئذ تنقض الوضوء وجها واحدا ؛ لأنها تكون بديل ويكون الطعام المنصرف إليها منصرفا بعد النضج وكمال الحكم بالنجاسة .
والقسم الثانية : أن تكون الفتحة فوق المعدة فيقولون حكمها حكم القيء فإن كان قد تغير الخارج فإنه ينتقض الوضوء ، وأما إذا لم يتغير فإنه لا ينتقض الوضوء بها ، وهذا مبني على أن الفتحة فوق المعدة تعتبر آخذة حكم القيء ؛ لأنها تفضل الخارج وتخرجه قبل كماله وتمامه في بعض الصور ، وقد جعلوا الفرق بين أعلى المعدة وأسفلها بالسرة ، فقالوا : ما كان من الفتحات أسفل من السرة أخذ حكم المخرجين ، وما كان فوق السرة فلا يأخذ حكم المخرجين .
ومثال ذلك : أن يفتح للإنسان فتحة وتكون هذه الفتحة لغير الخارج الأصلي ، أو تكون معينة على الخروج في أوقات مخصوصة لعمل جراحي كما يفعل في التدبير لبعض الجروح فإنه لا يحكم بالنجاسة على هذا التفصيل ، ومن صور هذه المسألة أن يطعن الإنسان فحينئذ إذا طعن في بطنه فرقوا بين أن تكون الطعنة أسفل من السرة أو فوق السرة على ذلك التفصيل الذي ذكرناه .(39/18)
قال :" فلقيت ثوبان ، فقال : صدق ، أنا صببت الوضوء له " : في هذه الجملة دليل على فضل أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ، وشهادتهم بالحق وتأكيدهم له ، وأنه ينبغي على العالم وعلى طالب العلم إذا بلغه الأمر عن إنسان يتضمن حكماً شرعياً ، وهذا الحكم صحيح معتبر أن يصدق ذلك وأن يقبله ، إذعانا للحق وتسليماً به ، وإذا كان يشهد بصحته وسئل عن ذلك فإنه يجب عليه أن يبين شهادة الحق ، وأن يذكر ما يدل على صحة هذا الأمر ، وهذا هو حال أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ، فكثيراً ما يرد في الأحاديث أن يصدق بعضهم بعضا ، وذلك إثباتا لنسبة الخبر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم .(39/19)
وقوله" صببت الوضوء له " : فيه دليل على مشروعية خدمة الأفاضل ، وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم كان الصحابة يخدمونه ويقومون على شئونه وأمره ، وقد ثبت في السير أن أم سليم-رضي الله عنها وأرضاها-جاءت إلى النبي صلى الله عليه وسلم وقالت : يا رسول الله خويدمك أنس ، ادع الله له ، فكانوا يخدمون رسول الله صلى الله عليه وسلم ؛ لمكان نبوته وعظيم حقه ، فقال العلماء : يدل هذا على مشروعية خدمة أهل الفضل كالعلماء ونحوهم كالصلحاء الأتقياء الذين تكون خدمتهم قرة وحسبة في طاعة الله عز وجل ويشترط في جواز ذلك أن لا يكون على وجه محضور ، كأن يعل الإنسان ذلك من أجل الرياء والسمعة -نسأل الله السلامة والعافية- ، فإنه حينئذ يكون فتنة للإنسان يحرم بسببها الأجر ، فخدمة العلماء والقيام على شأنهم إنما تكون قربة إذا قصد العبد بها وجه الله ، ونظر إلى هؤلاء الأجلاء الذين عظّم الله شأنهم ورفع قدرهم على العباد فجعلهم حكاما على الحق يظهرون الحق ويبينونه للناس ، أمناء على أحب الأشياء إلى الله وأعزها وأكرمها وهو دين الله عز وجل ، رفع الله شأنه وقدرهم بذلك ، فيخدمهم الإنسان تقربا إلى الله سبحانه وتعالى ، وينبغي على المخدوم أن يتقي الله عز وجل في خدمة الناس له ، فلا يحملهم ما لا يطيقون ، ولا يدعوهم إلى تضييع الحقوق وانتهاك المحرمات ، فبعض من الناس إذا خدم فإنه يبالغ في إهانة من خدمه ، ولربما يصل الأمر إلى أمور فيها غلو في التعظيم من لحس للأقدام ونحو ذلك من الأمور التي فيها غلو في التعظيم ، فذلك محظور شرعا وقد يفضي إلى الشرك-والعياذ بالله- فلا يجوز مثل هذا، وسد الذرائع قاعدة شرعية معتبرة ، فمحل خدمة الفضلاء والعلماء أن تقوم على السنن الشرعي ، وإذا أراد العالم الكمال والأفضل فالأفضل له أن يترفع عن خدمة الناس له ، حتى يكو ذلك أعظم لأجره عند الله سبحانه وتعالى :{قُلْ مَا(39/20)
أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَمَا أَنَا مِنْ الْمُتَكَلِّفِينَ}(1) ولذلك كان ابن عمر يمنع بعض أصحابه من الصيام في السفر ، ولما سئل عن ذلك قال رضي الله عنه : " أخشى أن يقول أصحابك أنزلوا الصائم ، افرشوا للصائم ، أعدوا للصائم فيذهب أجرك بذلك " ، وهذا كله من باب الورع ، وكلما كان العلماء والأئمة والفضلاء من طلاب العلم يحتسبون أجورهم عند الله عز وجل ولا ينتظرون من الناس خدمة ولا معروفاً كلما كان ذلك أغنى لهم بالله ، وأعظم أجراً لهم عند الله سبحانه وتعالى ، ومن استغنى بالله أغناه ، ومن افتقر إلى الله حماه وكفاه ووقاه ، فهذا هو الأفضل والأكمل للإنسان أن يخدم نفسه بنفسه ، ولكن إذا علم أن الذي يخدمه يريد وجه الله عز وجل والأجر فلا حرج أن يتأسى برسول الله صلى الله عليه وسلم ويرضى بهذه الخدمة لما فيها من عظيم الأجر لمن يخدمه-نسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يرزقنا حب العلماء ، وحفظ حقوقهم والقيام بها على الوجه الذي يرضيه إنه ولي ذلك والقادر عليه- .
- ? - ? - ? - ? - الأسئلة - ? - ? - ? - ? -
السؤال الأول :
إذا لم يكن القيء ناتجاً من الطعام وإنما هو من جراء المرض كمرض صفرة المعدة فهل إذا قاء يبطل وضوؤه..؟؟
الجواب :
بسم الله الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه أما بعد :
فإن قيء الصفرة يوجب انتقاض الوضوء كما هو الحال في قيء الطعام المتغير وبناء عليه فإنه لا فرق بين كونه يقيء الطعام متغيراً وبين كونه يقيء الطعام بصفرة ونحوها كما هو الحال في بعض الأمراض التي تصيب الإنسان ، والصفرة توجب الحكم بالنجاسة ، وتوجب الحكم بانتقاض الوضوء ؛ لأنها مما تفضله المعدة ، والله تعالى أعلم .
السؤال الثاني :
أشكل علي كون الدم نجساً وأن خروج اليسير منه لا ينقض الوضوء ، أليس بمجرد كونه نجساً ينقض الوضوء مباشرة..؟؟
الجواب :
__________
(1) / ص ، آية : 86 .(39/21)
أما بالنسبة لليسير فإنه يعتبر معفواً عنه ، وهذا بنص الشرع :{ أَوْ دَماً مَسْفُوحاً} ومفهوم الصفة معتبر كما قال عليه الصلاة والسلام : (( في السائمة الزكاة )) ففهمنا أن غير السائمة لا زكاة فيه ؛ لأنه لو لم يكن للصفة مفهوم فإنه حينئذ لا فائدة من ذكر الصفة ، فأنت حينما تقول يدخل علي الرجل الطويل ، أو يدخل علي الرجل العالم نفهم من ذلك أن لا يدخل رجل جاهل لأنك ما ذكرت صفة العلم إلا وأنت تريد أن تنفي الحكم عن ما خالفها من الصفات ، فلما قال : { أَوْ دَماً مَسْفُوحاً} أي دما موصوفاً بكونه مسفوحاً دل على أن الدم الذي ليس بمسفوح وهو الدم اليسير لا يوجب الحكم بنجاسته من باب العفو والرخصة ، وهذا لورود النص به لا يبحث عن تكلف العلة فيه ، والله تعالى أعلم .
السؤال الثالث :
هل يشترط في الحكم بنجاسة القيء وجود الشبه في اللون بينه وبين النجاسة ؟ أم لابد من وجود الرائحة..؟؟
الجواب :
إما أن توجد الرائحة ، أو توجد صفات البراز فيه ، إذا كان الإنسان لا يستطيع أن يميز بالرائحة كما ذكر العلماء في حالة كونه مزكوماً أو نحو ذلك ، فحينئذ يصير إلى التغير بصفاته الظاهرة اللون ، فإذا كان كفيف البصر يمكنه أن يميز بالرائحة التي يجدها في فمه ، فإن وجد الذي في فمه رائحته رائحة البراز فحينئذ يحكم بكونه آخذا حكم النجاسة ، والله تعالى أعلم .
السؤال الرابع :
عند المضمضة يخرج مع الماء دم من الحلق فما حكمه..؟؟
الجواب :(39/22)
أما بالنسبة للدم فإنه لا يوجب انتقاض الوضوء إذا خرج من الفم ، وقد بينا هذا ، وإذا خرج من الأسنان وكان يسيرا كما هو الحال أثناء السواك أو الدلك بفرشاة ونحو ذلك فإنه حينئذ يتفله الإنسان ، ولكن لا يجب عليه أن يغسل فمه إلا إذا كان كثيراً متفاحشاً ؛ والسبب في كونه يجب عليه طرحه وتفله أن الدم لا يحوز بلعه ، ولا يجوز للمسلم أن يمزجه بريقه ويبلعه ؛ لأن الله عز وجل حرم علينا الدم فقرنه بالميتة إلا أن يكون ميتة أو دماً مسفوحاً فالدم لا يجوز للمسلم أن يشربه ، كما في قوله سبحانه وتعالى :{ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ}(1) فدل على أن لا يجوز للمسلم أن يبلع الدم إذا كان في فمه أو نحو ذلك لأن الله سبحانه وتعالى قرنه بالميتة وأعطاه حكمها ، وعليه حينئذ يجب عليه أن يطرحه من فمه ، وأما مسألة كونه يؤثر بالنجاسة وعدمها فهذا راجع إلى كثرته وقلته ، والله تعالى أعلم .
السؤال الخامس :
إذا وصل القيء إلى الفم ثم أرجعه إلى بطنه هل يأخذ حكم الصائم إذا ازدرد قيئه ..؟؟
الجواب :
إذا أخرج القيء ثم رده إلى الباطن فلا يجوز له ذلك ؛ وذلك لأنه نجس ، وحينئذ لا يجوز له أكل النجاسة ، فإن النجاسة بإجماع العلماء يحرم أكلها ، إلا في المسائل التي تعتبر من الضرورة كالتداوي بالنجس ففيها الخلاف بين الشافعية والحنابلة ، والمالكية والحنفية ، فالحنابلة يمنعون التداوي بالنجاسات ويخفف فيه بعض العلماء كأصحاب الشافعي-رحم الله الجميع- كما تقدم معنا في شرح حديث العرنيين ، وعليه فإنه لا يجوز أن يزدرد النجاسة ، والقيء نجس إذا كان متغيرا فلا يجوز له أن يزدرده لأن هذا مما حرم الله عليه ، والله تعالى أعلم .
السؤال السادس :
إذا كان الدم يسيراً فإنه لا ينقض الوضوء ، ولكن هل تجب إزالته من الثوب ..؟؟
الجواب :
__________
(1) / البقرة ، آية : 173 .(39/23)
الدم اليسير إذا خرج من القبل أو خرج من الدبر فإنه يوجب انتقاض الوضوء ، فلو خرجت قطرة من دم الاستحاضة من قبل المرأة ، أو خرجت قطرة من دم البواسير الداخلية من دبر الإنسان فإنه يجب عليه أن يعيد الوضوء ، كالبول سواء بسواء ، فإذا خرج اليسر من الدم من القبل والدبر فإنه يوجب انتقاض الوضوء .
أما مسألة التخفيف في الطهارة فهي التي استثني في باب غسل الدم ، أما كونه ينقض الوضوء إذا خرج من القبل أو الدبر فيستوي فيه القليل والكثير ؛ والسبب في ذلك أن نقض الوضوء به من القبل والدبر بسبب غير السبب الذي حكمنا فيه بنجاسته .
فعندنا مسألتان : مسألة كونه نجسا يخفف في يسيره ، هذه دليله قوله-تعالى- :{ أَوْ دَماً مَسْفُوحاً} وهي لا علاقة لها بمسألة نقض الوضوء ، فلما جاء النص في هذه المسألة بالسفح والكثرة استثنينا القليل ، أما في نقض الوضوء بخروج الدم من القبل والدبر فيستوي أن يكون كثيراً أو قليلاً ، فينقض القليل منه والكثير كالبول ينقض قليله وكثيره ، فبالإجماع لو خرجت قطرة من قطرات البول فإنه تنقض الوضوء بإجماع العلماء ، كذلك قطرة الدم إذا خرجت من القبل والدبر فإنه توجب انتقاض الوضوء ، والله تعالى أعلم .
السؤال السابع :
إذا لم يتغير القيء فإنه لا ينقض الوضوء فهل معنى ذلك أن المصلي لا يقطع صلاته إذا حدث له ذلك ؟ وهل يلتحق بذلك القلس ..؟؟
الجواب :
إذا كان القيء لم يتغير وحكمنا بكونه طاهرا فإن المصلي على حالتين :(39/24)
إن كان بجواره ماء يمكنه أن يغسل فمه فإنه يغسل فمه ؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم غسل فمه من اللبن ؛ والسبب في ذلك أنه لو ترك فمه بهذه الحالة فإنه يتضرر ويتشوش فكره بفضلة الطعام ، وتغير الفم بالرائحة الكريهة ؛ ولأنه يناجي ربه ، ولذلك شرعت المضمضة للوضوء حتى يكون فم المصلي نقياً ، وشرع السواك قبل الوقوف بين يدي الله عز وجل في الصلاة حتى يكون فم الإنسان على أكمل الحالات وأفضلها ، فالسنة دالة على هذا يكون في هذه الحالة يغسل فمه إذا كان بجواره صنبور الماء ، أو بجوار بركة يغترف منها ، أو بجواره سطل يمكنه يمضمض كمسألة الرعاف والبناء في الصلاة ، أما إذا كان الماء عنه بعيداً ولا يمكنه أن ينظف فمه فإنه حينئذ إذا أمكنه أن يستعين بمنديل أو نحوه فيجمع فضالة القيء الذي في فمه ويبصقها في المنديل فإنه أقرب لطهارة الفم ، ويعتبر حينئذ كأنه يطهر فمه بأقرب الحالات إلى الكمال ، وأما إذا لم يمكنه ذلك فإنه يبقى على حالته ويصلي ، وصلاته صحيحة وضوؤه باق .
وَآخِرُ دَعْوَانَا أَنِ الحمَْدُ لِلَّهِ رَبِّ العَالَميْنَ وصلَّى اللَّهُ وسلَّم وبارك على عبده ونبيَّه محمد وعلى آله وصحبه أجمعين .(39/25)
بسم الله الرحمن الرحيم
قال المصنف رحمه الله : بَاب مَا جَاءَ فِي الْوُضُوءِ بِالنَّبِيذِ
حَدَّثَنَا هَنَّادٌ حَدَّثَنَا شَرِيكٌ عَنْ أَبِي فَزَارَةَ عَنْ أَبِي زَيْدٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ قَالَ :" سَأَلَنِي النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم مَا فِي إِدَاوَتِكَ ؟ فَقُلْتُ : " نَبِيذٌ " فَقَالَ:(( تَمْرَةٌ طَيِّبَةٌ وَمَاءٌ طَهُورٌ )) قَالَ : " فَتَوَضَّأَ مِنْهُ ".
قَالَ أَبو عِيسَى رحمه الله : وَإِنَّمَا رُوِيَ هَذَا الْحَدِيثُ عَنْ أَبِي زَيْدٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَأَبُو زَيْدٍ رَجُلٌ مَجْهُولٌ عِنْدَ أَهْلِ الْحَدِيثِ لاَ تُعْرَفُ لَهُ رِوَايَةٌ غَيْرُ هَذَا الْحَدِيثِ وَقَدْ رَأَى بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ الْوُضُوءَ بِالنَّبِيذِ مِنْهُمْ سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ وَغَيْرُهُ ، وقَالَ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ لاَ يُتَوَضَّأُ بِالنَّبِيذِ وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَدَ وَإِسْحَقَ وقَالَ إِسْحَقُ إِنِ ابْتُلِيَ رَجُلٌ بِهَذَا فَتَوَضَّأَ بِالنَّبِيذِ وَتَيَمَّمَ أَحَبُّ إِلَيَّ .
قَالَ أَبو عِيسَى رحمه الله : وَقَوْلُ مَنْ يَقُولُ لا يُتَوَضَّأُ بِالنَّبِيذِ أَقْرَبُ إِلَى الْكِتَابِ وَأَشْبَهُ لأَنَّ اللَّهَ-تَعَالَى-قَالَ :{ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً }(1).
الشرح :
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين أما بعد :
__________
(1) / النساء ، آية : 43 - المائدة ، آية : 6 .(40/1)
فقد ذكر المصنف رحمه الله حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه وأرضاه وهذا الحديث يعتبر من أشهر الأحاديث التي وردت في أحكام المياه ، وقد اتفق العلماء رحمهم الله إلا من ندر على القول بأنه حديث ضعيف ؛ ولكن المسألة -أعني مسألة الوضوء بنبيذ التمر- تعتبر مسألة مشهورة عند العلماء رحمهم الله .
والنبيذ مأخوذ من قولهم : نبذ الشيء ينبذه نبذاً إذا طرحه ، وقد كانت العرب في الجاهلية وكذلك في الإسلام يأخذون الماء ويطرحون فيه التمر والعنب ونحو ذلك من سائر الثمرات ، فإذا طرحوا التمر في الماء فإنه يترك فيه بقدر ، فإن شاءوا أن يكون خمراً وسُكْراً فإنهم يتركونه حتى يشتد ويقذف بالزبد ، وإن شاءوا أن يعالجوه قبل أن يصير خمراً زادوا الماء إذا اشتد ، أو أخذوه قبل الاشتداد ، ووصوله إلى درجة الخمر والنبيذ كان مشروعاً في أول الإسلام ، سواء كان مسكراً أو غير مسكر ، ثم إن الله عز وجل حرم الخمر وقد جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه حرم النبيذ مطلقاً ، ودل على ذلك الحديث الصحيح عنه عليه الصلاة والسلام ، ثم إن الله عز وجل خفف عن عباده في الحكم فأجاز لهم أن ينتبذوا ، ولكن بشرط أن لا يبلغ النبيذ درجة الإسكار ، وقد أشار النبي صلى الله عليه وسلم إلى ذلك بقوله في الحديث الصحيح : (( كنت قد نهيتكم عن الانتباذ فانتبذوا ، وكل مسكر حرام )) أي يا معشر المسلمين أحل لكم أن تنتبذوا ؛ ولكن بشرط أن لا يصل النبيذ إلى درجة الإسكار ، فإذا كان النبيذ نبيذاً ولم يصل إلى درجة الإسكار ففيه خلاف هل يجوز للمسلم أن يتوضأ به أو لا يجوز أن يتوضأ به ..؟؟
مثال ذلك : لو كان عند الإنسان ماء طُرح فيه الرطب ، أو التمر ، أو طرح فيه البسر، والبلح حتى تغير لون الماء وطعمه ، وريحه بالبسر والبلح فهل يجوز له أن يتوضأ بهذا النبيذ أو لا يجوز ..؟؟
للعلماء في هذه المسألة قولان مشهوران :(40/2)
القول الأول : جمهور العلماء رحمهم الله على أن المسلم لا يجوز له أن يتوضأ بالنبيذ ، سواء كان نبيذ تمر أو غيره ، وأنه إذا انتُبذ في الماء وتغير اللون ، أو الطعم ، أو الريح فقد خرج الماء عن الوصف المعتبر للطهارة .
القول الثاني : ذهب الحنفية رحمة الله عليهم إلى القول بجواز الوضوء بالنبيذ ، وعندهم في ذلك خلاف مشهور فعن الإمام أبي حنيفة-رحمة الله عليه- ثلاث روايات :
الرواية الأولى : يجوز للمسلم أن يتوضأ بنبيذ التمر ، وبهذه الرواية قال : القاضي أبو يوسف ، وعليها العمل عند جمع من أصحابه رحمهم الله ، ولكن قيد بعضهم ذلك بعدم وجود الماء ، فإذا لم يجد الماء ووجد النبيذ جاز له أن يتوضأ .
والرواية الثانية عنه -رحمة الله عليه- : أنه يتوضأ بنبيذ التمر ، ولكنه يضيف إلى الوضوء التيمم ، وبهذه الرواية قال صاحبه الإمام محمد بن الحسن ، وبه يقول الإمام إسحاق بن راهويه أحد أئمة الحديث يقولون : إنه يجمع بين النبيذ وبين التيمم ؛ والسبب في ذلك أنهم رأوا الاحتياط ، فهو يتوضأ بالنبيذ لاحتمال أن يكون منزلاً منزلة الماء ، ويتيمم لخوف أن يكون النبيذ غير موجب للطهارة الشرعية ، ولذلك يجمعون بينهما .
وقد قيل عن الإمام أبي حنيفة-رحمة الله عليه- إنه رجع عن القول بجواز الوضوء عن نبيذ التمر ، وهذه هي الرواية الثالثة عنه رحمه الله .
أما الجمهور فإنهم قالوا : لا يجوز أن يتوضأ الإنسان بنبيذ التمر ؛ لأن الله سبحانه وتعالى قال في كتابه :{ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً}(1) ، ووجه الدلالة من هذه الآية الكريمة أن الله سبحانه وتعالى أمرنا عند فقد الماء أن تتوجه إلى التيمم بالصعيد الطيب ، فإذا كان المسلم لا يجد الماء ولكن يجد النبيذ فالنبيذ ليس بماء ، وحينئذ يتوجه عليه أن يتيمم بهذا النص القرآني .
__________
(1) / المائدة ، آية : 6 .(40/3)
وقد أكدت السنة الصحيحة عن النبي صلى الله عليه وسلم هذا الأمر ففي الصحيحين من حديث عمران بن حصين - رضي الله عنهما- أن النبي صلى الله عليه وسلم قال للرجل حينما قال : أصابتني جنابة ولا ماء قال : (( عليك بالصعيد فإنه يكفيك )) ، وقال عليه الصلاة والسلام :(( الصعيد الطيب طهور المسلم ولو لم يجد الماء عشر سنين فإذا وجد الماء فليتق الله وليمسه بشرته )) ووجه الدلالة من هذا الحديث : أن النبي صلى الله عليه وسلم جعل الصعيد الطيب طهوراً للمسلم إذا لم يجد الماء ، وعلى هذا فإنه إذا فقد الماء ووجد النبيذ فإنه يتجه للتيمم ، ولا يتجه للنبيذ ، وهذه هي حجج العلماء رحمهم الله الذين يقولون بأنه يتيمم ولا يتوضأ بالنبيذ .
القول الثاني : احتج بهذا الحديث عن ابن مسعود-- رضي الله عنه - وأرضاه - أنه لما سأله النبي صلى الله عليه وسلم عن إداوته ما فيها ؟ قال : فيها نبيذ ، فقال : (( تمرة طيبة وماء طهور)) قالوا : فهذا يدل على أنه يجوز أن يتوضأ بنبيذ التمر ، وهذا الحديث ذهب جماهير العلماء إلى ضعفه وعدم ثبوته ، حتى من أصحاب الإمام أبي حنيفة رحمة الله عليهم من أنصف ، وقال : إنه حديث ضعيف لا تقوم به الحجة .
وبناءً على ذلك يترجح القول القائل بأنه لا يجوز الوضوء بنبيذ التمر ؛ لأن الله سبحانه وتعالى أمرنا أن نتطهر بالماء ، ونبيذ التمر ليس بماء وأمرنا عند فقد الماء أن نتيمم ، وحينئذ يلزمنا التيمم عند فقد النبيذ .(40/4)
والإداوة في الحديث هي : الوعاء من الجلد ، كانت العرب تتخذه لحمل الماء ، وقد كان عبد الله بن مسعود - - رضي الله عنه -وأرضاه- يخدم رسول الله صلى الله عليه وسلم ولذلك سمي بصاحب السوادين والنعلين ، أي أنه خادم لرسول الله صلى الله عليه وسلم إلى درجة يسمع فيها السر ، ونجوى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وهو المختص بحمل حذاء رسول الله صلى الله عليه وسلم فكان كما جاءت الأخبار كان إذا أراد أن يدخل بيت النبي صلى الله عليه وسلم دخل على رسول الله صلى الله عليه وسلم ولو كان في سر مع أصحابه بدون أن يستأذن ، ويسمع إلى سره صلوات الله وسلامه عليه حتى ينهاه ، كما في الحديث عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال : (( أذنت لك أن تسمع سوادي حتى أنهاك )) ، وكان إذا أراد أن يخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم تقدم فوضع نعلي النبي صلى الله عليه وسلم فإذا أقبل عليه الصلاة والسلام إلى المجلس وخلع حذاءه أخذ عبد الله بن مسعود رضي الله عنه الحذاء ووضعه تحت إبطه ، ثم جلس مع النبي صلى الله عليه وسلم .(40/5)
وقد كان مع النبي صلى الله عليه وسلم ليلة الجن ، وقد وقع في بعض روايات هذا الحديث أنه كان ذلك في ليلة الجن ، كما أشارت إليه الرواية ، قالوا : وليلة الجن هي الليلة التي اجتمع فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم بالجن ، وقد حصل ذلك مرات منه عليه الصلاة والسلام فوقع بمكة ، ووقع بالمدينة ، وبمكة دعاهم إلى شريعة الإسلام وعلمهم ما أمره الله بتبليغه من الأحكام ؛ لأن الله جعله رحمة للعالمين ، ولم يخص رسالته بالإنس دون الجن ، ولكن وقعت رسالته عامة وكافة للثقلين ، فاجتمع صلوات الله وسلامه عليه بالجن وهم جن نصيبين ، الوادي الذي بين مكة والطائف ، وحدثهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فآمنوا به ، وصدقوه ، وعزروه ، وآزروه ، ونصروه ، واتبعوا النور الذي جاء به من ربه صلوات الله وسلامه عليه .
وفي المدينة وقع ذلك بجوار البقيع ، حيث اجتمعصلوات الله وسلامه عليه بالجن ، وخط لأصحابه الذين معه الخط ونهاهم أن يتجاوزا الخط ، فأقبلوا عليه عليه الصلاة والسلام وحدثهم وعلمهم وفقههم في دين الله عز وجل ، وأحل لهم ما أحل من الطيبات ، وحرم عليهم ما حرم الله من الخبائث .
ولكن هذا الحديث الذي معنا يعتبر حديثاً ضعيفاً ؛ لأنه من رواية أبي زيد عن عبد الله بن مسعود-- رضي الله عنه - وأرضاه - وضعفه لا يمنع ما ذكر فيه من اجتماعه صلوات الله وسلامه عليه بالجن حيث أشار إلى ذلك بقوله في الرواية " في ليلة الجن " ، وهذا ثابت في الصحيح عنه عليه الصلاة والسلام أعني اجتماعه بالجن .
وقد جاء في الرواية عن عبد الله بن مسعود-- رضي الله عنه - وأرضاه - " أنه لما سئل عن ليلة الجن هل كان مع النبي صلى الله عليه وسلم منكم أحد ؟ قال : (( لا لقد وددت أن أكون معه )) وقد استشكل العلماء رحمهم الله ذلك مع ثبوت الروايات الصحيحة أنه كان في نفر من أصحابهصلوات الله وسلامه عليه .(40/6)
وأنسب الأجوبة في هذا أن ابن مسعود رضي الله عنه وأرضاه قصد الاجتماع مع النبي صلى الله عليه وسلم أثناء جلوسه مع الجن ، أما كونهم صحبوه إلى حد الخط الذي خطه صلوات الله وسلامه عليه فهذا غير منفي ، وحينئذ لا تعارض بين الخبرين ، فيحمل النفي على الجلوس معه أثناء تحديثه للجن ، ويحمل الإثبات على صحبتهم له إلى الحد الذي نهاهم عليه الصلاة والسلام أن يتخطوه .
هذا الحديث -أعني حديث نبيذ التمر- فيه حجة لمن يقول بجواز الوضوء بالماء إذا تغير بالطاهرات ، فقالوا إذا وضع في الماء شيء طاهر وتأثر بذلك الطاهر فإنه يبقى ماء ، فأجازوا للإنسان أن يتوضأ بالماء الطاهر وقد قدمنا أن المياه تنقسم إلى ثلاثة أقسام :
القسم الأول : ماء طهور : والمراد بذلك الماء الذي بقي على أصل خلقته كماء السيل ، وماء البحر ، وماء النهر ، وماء العين ، وماء البئر فهذه المياه كلها تعتبر ماءً طهوراً يجوز للمسلم أن يتوضأ ويغتسل به بإجماع العلماء ، قال-تعالى- :{وَأَنزَلْنَا مِنْ السَّمَاءِ مَاءً طَهُوراً}(1) ، وثبت في الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه لما سئل عن بئر بضاعة قال : (( إن الماء طهور )) فدل هذا على أن الماء الطهور يجوز للمسلم أن يتطهر به في الطهارة الصغرى والكبرى ، ويتطهر به فيغسل النجاسة من ثوبه وبدنه ومكانه .
وأما القسم الثاني : من المياه فهو الماء النجس : والإجماع على أنه لا يجوز أن يتوضأ ولا أن يغتسل به وهو الماء الذي تغير لونه أو طعمه أو ريحه بالنجاسة ، فهذا القسم الثاني من الماء بالإجماع لا يجوز أن يتوضأ أو يغتسل به المسلم .
وأما القسم الثالث : فهو محل خلاف بين العلماء ، وهو الماء الطاهر الذي وقع فيه شيء طاهر ، كالماء الذي يوضع فيه شيء من الورد ، أو شيء من الزعفران فيوجد فيه طعم الزعفران أو لونه أو ريحه ، فللعلماء فيه قولان مشهوران :
__________
(1) / الفرقان ، آية : 48 .(40/7)
جمهور العلماء على أن الماء إذا تغير بالطاهر لا يجوز أن يتطهر به .
وذهب الإمام أبو حنيفة -رحمة الله عليه - إلى القول بجواز الوضوء بالماء الطاهر ، وأكد أصله بهذا الحديث ، وقد بينا أن الصحيح في الماء الطاهر أنه لا يجوز أن يتطهر به ، وذكرنا في حديث الترمذي في قوله - عليه الصلاة والسلام - في البحر : (( هو الطهور ماؤه الحل ميتته )) بينا رجحان مذهب الجمهور وأن الصحيح أنه لا يجوز للمسلم أن يتطهر بالماء الطاهر .
قال المصنف - رحمه الله -: بَاب فِي الْمَضْمَضَةِ مِنَ اللَّبَنِ
حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ حَدَّثَنَا اللَّيْثُ عَنْ عُقَيْلٍ عَنِ الزُّهْرِيِّ عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ :" أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم شَرِبَ لَبَنًا فَدَعَا بِمَاءٍ فَمَضْمَضَ " وَقَالَ : (( إِنَّ لَهُ دَسَماً )) .
قَالَ رحمه الله : وَفِي الْبَاب عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ السَّاعِدِيِّ وَأُمِّ سَلَمَةَ .
قَالَ أَبو عِيسَى رحمه الله : وَهَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ وَقَدْ رَأَى بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ الْمَضْمَضَةَ مِنَ اللَّبَنِ وَهَذَا عِنْدَنَا عَلَى الاسْتِحْبَابِ وَلَمْ يَرَ بَعْضُهُمُ الْمَضْمَضَةَ مِنَ اللَّبَنِ .
الشرح :(40/8)
هذه الترجمة ذكرها الإمام الترمذي رحمه الله لأن المسلم إذا توضأ وأراد أن يصلي فإنه قد يقع بين وضوئه وبين صلاته أمور يرد سؤال الناس عن حكم المضمضة بعدها ومن ذلك أكل الطعام أو شرب الشراب ؛ لأن هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم في الوضوء أنه كان يتمضمض ، وهذه المضمضة لا إشكال في كونها تطهيراً للفم وتنظيفاً ، وإذا أكل الإنسان بعد الوضوء أو شرب فإن فمه يتغير برائحة الأكل ، وحينئذ لا يخلو إذا وقف بين يدي الله عز وجل في صلاته فإنه لا يأمن من تشوش فكره ، واشتغاله بطعم الطعام الذي في فمه ، أو برائحة الشراب الذي شربه ، وعلى هذا فهل يعيد المضمضة أو لا يعيدها ؟؟
فذكر المصنف رحمه الله هذا الحديث وأصله ثابت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم وترجم بمثل ذلك الإمام البخاري في صحيحه " باب من تمضمض من اللبن " .
وللعلماء رحمهم الله في هذا الحديث وجهان :
الوجه الأول : أن النبي صلى الله عليه وسلم تمضمض بعد شرب اللبن ، وهذه المضمضة من آداب الأكل والشرب لا من آداب الصلاة .
والوجه الثاني : أن مضمضته عليه الصلاة والسلام إنما كانت من أجل الصلاة .
فأما على الوجه الأول : فإنهم يرون أن المسلم إذا شرب اللبن ، أو شرب ما فيه دسم ، أو أكل شيئاً له دسم وزهومة فإنه يتمضمض حتى يقلع عن فمه الوضر ؛ ولذلك شرع للمسلم أن يستاك حتى يزيل بقايا الطعام من فمه وكذلك بقايا الشراب ، فكما أنه يستاك لإزالة الضرر الحسي كذلك يتمضمض حتى يجمع في الإزالة بين الحس والرائحة ، وعلى هذا قالوا : إنه يتمضمض الإنسان سواء أراد أن يصلي أو لم يرد الصلاة .
مثال ذلك : لو أن إنساناً توضأ وضوءه للصلاة ، ثم شرب اللبن وأراد أن ينام بعد وضوئه وشربه فعلى هذا القول فإنه يتمضمض تأسياً بالنبي صلى الله عليه وسلم .(40/9)
وأما على القول الثاني : فإن المضمضة إنما تكون من أجل الصلاة ، وتكون الحكمة في ذلك كونه يقف بين يدي الله- - عز وجل - - ، ووجود الزهومة والدسم في فمه لا يأمن معه أن يتشوش فكره بسبببه ، ولهذا يقولون يختص فعل المضمضة بما إذا كان مريداً للصلاة ، أما إذا لم يرد الصلاة فإنه بالخيار إن شاء فعل ، وإن شاء ترك ولا سنة في ذلك .
ولا شك أن الحديث يحتمل الوجهين ، فأما كونه من آداب الأكل والشرب فيقويه قوله عليه الصلاة والسلام :(( إذا شربتم اللبن فتمضمضوا )) وهو حديث حسنه بعض العلماء رحمهم الله ، قالوا فقوله : (( إذا شربتم اللبن فتمضمضوا )) عام ، يدل على أن المقصود إذهاب الزهومة ، فكونه يذهب الزهومة هو المقصود ، وعلى هذا فيستوي أن يكون الإنسان متوضئاً أو غير متوضئ ، وتكون السنة في المضمضة بعد شرب اللبن تكون سنة عامة ، سواء كان الإنسان متوضئاً أو غير متوضئ .
وأما على الوجه الثاني فإن السنة تختص بالمتوضئ ، فمن توضأ فإنه إذا شرب اللبن بعد الوضوء فإنه يتمضمض لإزالة هذا الأثر .
وفي هذا الحديث دليل على سمو هذه الشريعة الإسلامية ، وكمال في منهجها في دعوتها إلى طهارة الحس والمعنى ، فكما أن الإسلام دين يدعو إلى نظافة الإنسان ونقائه من الدنس المعنوي كالكفر والشرك وسائر العصيان كذلك هو يدعو إلى طهارة الأبدان ، وبقاء الإنسان على أكمل الهيئات ، وأحسن الشارات وأفضلها ، ولذلك حرصصلوات الله وسلامه عليه على إزالة أثر الدسم الناتج عن اللبن ، فنحمد الله عز وجل على منته ، ونشكره على جميل نعمته ، والحمد لله الذي هدانا لهذا وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله -.
قال المصنف رحمه الله : بَاب فِي كَرَاهَةِ رَدِّ السَّلاَمِ غَيْرَ مُتَوَضِّئٍ(40/10)
حَدَّثَنَا نَصْرُ بْنُ عَلِيٍّ وَمُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ قَالا حَدَّثَنَا أَبُو أَحْمَدَ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الزُّبَيْرِيُّ عَنْ سُفْيَانَ عَنِ الضَّحَّاكِ بْنِ عُثْمَانَ عَنْ نَافِعٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ :" أَنَّ رَجُلاً سَلَّمَ عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَهُوَ يَبُولُ فَلَمْ يَرُدَّ عَلَيْهِ ".
قَالَ أَبو عِيسَى رحمه الله : هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ وَإِنَّمَا يُكْرَهُ هَذَا عِنْدَنَا إِذَا كَانَ عَلَى الْغَائِطِ وَالْبَوْلِ وَقَدْ فَسَّرَ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ ذَلِكَ وَهَذَا أَحَسَنُ شَيْءٍ رُوِيَ فِي هَذَا الْبَابِ .
قَالَ أَبو عِيسَى رحمه الله : وَفِي الْبَاب عَنْ الْمُهَاجِرِ بْنِ قُنْفُذٍ وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ حَنْظَلَةَ وَعَلْقَمَةَ بْنِ الْفَغْوَاءِ وَجَابِرٍ وَالْبَرَاءِ .
الشرح :
السلام اسم من أسماء الله عز وجل ، وهو تحية أهل الإسلام ، وتحية أهل الجنة ، وقد ثبت النص في كتاب الله عز وجل وسنة النبي صلى الله عليه وسلم بجميع ذلك قال-تعالى- :{ هُوَ اللَّهُ الَّذِي لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلاَمُ الْمُؤْمِنُ.. }(1) ، وقال - عليه الصلاة والسلام - في الحديث الصحيح : (( اللهم أنت السلام ومنك السلام )) ، والسلام تحية أهل الإسلام ، يقول السلام عليكم : أي سلمكم الله من الآفات والشرور ، سواء كانت دينية أو دنيوية أو أخروية ؛ لأنه تسليم مطلق ، ولذلك كان من تحية أهل الجنة ، وهي تحية الملائكة لأهل الجنة :{وَالْمَلاَئِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بَابٍ - سَلاَمٌ عَلَيْكُمْ بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ}(2) .
__________
(1) / الحشر ، آية : 23 .
(2) / الرعد ، آية : 23-24 .(40/11)
وقوله" رد السلام" : رد السلام من الواجبات ، وهي تحية أهل الإسلام فضلاً على قول الجمهور ، وفرضاً على قول الظاهرية وطائفة من أهل الحديث ، -وسيأتي بيان هذه المسألة أعني حكم السلام على المسلم في كتاب الأدب من هذا الجامع المبارك إن شاء الله تعالى- .
وأما بالنسبة لرد السلام فإنه واجب ؛ لقوله سبحانه وتعالى :{وَإِذَا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا}(1) فخير الله عز وجل من ألقيت عليه التحية بخيارين :
الخيار الأول: أن يرد التحية بمثلها . والخيار الثاني : أن يردها بأفضل منها .
وقد جاءت الصيغة بصيغة الأمر :{فَحَيُّوا} ، ولذلك ذهب جمهور العلماء - رحمهم الله - إلى أن إلقاء السلام سنة ورده واجب ، فإذا سلم على المسلم وجب عليه أن يرد السلام ، وإذا كان المسلم مطالباً برد السلام وهو واجب عليه .
فحينئذ يرد السؤال : هل ترد السلام مطلقاً على جميع الحالات والهيئات أم الأمر فيه تفصيل ..؟؟
فذكر المصنف رحمه الله مسألة رد السلام وهو على غير طهارة ، وظاهر الحديث لا يوافق الترجمة التي ذكرها المصنف رحمه الله ، فأنت إذا تأملت ترجمة الباب وجدت الكراهة عامة ، سواء كان رد السلام أثناء البول أو بعد البول ، فعمم رحمه الله بقوله : " غير متوضئ " أي والحال أنه غير متوضئ وإذا تأملت الحديث الذي ذكره عن ابن عمر رضي الله عنه وأرضاه وجدته يخص الأمر بكونه على حالة البول ، ولا شك أن الترجمة التي ذكرها وهي عامة يدل عليها حديث صحيح ثابت عن النبي صلى الله عليه وسلم وقد رواه الإمام النسائي ، فقال عليه الصلاة والسلام (حينما سلم عليه الرجل ثم أقبل على الجدار فتيمم ورد السلام ) وقال : (( إني كنت على حالة كرهت أن أذكر اسم الله عليها )) فهذا الحديث يدل على ما ترجم له المصنف رحمه الله من كراهية رد السلام والإنسان غير متوضئ .
__________
(1) / النساء ، آية : 86 .(40/12)
وأما بالنسبة للحديث الذي ذكره فإن هذا الحديث يدل على أنه لا يرد السلام أثناء قضاء الحاجة ؛ والسبب في ذلك واضح حيث إن الإنسان أثناء قضائه لحاجته مشتغل بأمر من قضاء الحاجة ، وحينئذ لا يشغل بغيره من رد السلام ، وكذلك حالته التي هو عليها فإنها لا تناسب ذكر الله عز وجل ، ولذلك أخذ العلماء رحمهم الله من هذا الحديث دليلاً على أن من كان قاعداً على البول أو الغائط أنه لا يسلم عليه ، وأجمع العلماء رحمهم الله على كراهية إلقاء السلام على الرجل أو على من يقضي حاجته أثناء قضائه لحاجته .
ولكن السؤال : إذا سلم إنسان على من يقضي حاجته فهل ترد السلام عليه باللفظ ؟ أو تكتفي برد السلام في نفسك ؟ أو تنتظر حتى تقوم وتجاوز مكان قضاء الحاجة فترد السلام ..؟؟
ثلاثة أوجه أصحها وأقواها : أن تؤخر رد السلام حتى تقوم من مكانك وحينئذ ترد عليه السلام ، وأما إذا رددت السلام في نفسك فإنه ذكر .
وقاس العلماء - رحمهم الله - على هذه المسألة مسائل :
منها لو عطس العاطس فإنك لا تشمته إذا كنت في حال قضاء الحاجة ؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم إمتنع من رد السلام وهو واجب ، فدل على أنه يقاس عليه ما في حكمه من سائر الواجبات كتشميت العاطس ، وحينئذ لا يشمته من كان يقضي حاجته ، وينتظر حتى يقوم من مكانه فيرد عليه ويشمته .(40/13)
وأما بالنسبة لمن كان في قضاء الحاجة وسمع الأذان فهل يردد ألفاظ الأذان وهو في دورة المياه ونحو ذلك ؟ فللعلماء في ذلك وجهان : الوجه الأول أنه يردد ألفاظ الأذان في نفسه ، ولا يتلفظ بها ، ويقول الدعاء بعد انتهائه من ألفاظ الأذان في نفسه ، واحتجوا لذلك بقوله عليه الصلاة والسلام في الحديث القدسي : أن الله-تعالى- يقول : (( فإن ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي)) ، فجعل ذكر النفس والكلام في النفس ذكراً ، ولا شك أن ألفاظ الأذان يقصد بها الذكر ، فقالوا يشرع للمسلم أن يذكر الله عز وجل في هذه الحالة لأن لفظ الأذان مقيد ، وإذا تأخر إلى خروجه فإنه تفوت المتابعة للمؤذن .
واختار بعض العلماء - رحمهم الله - : أن يسكت أثناء قضائه للحاجة ، وينتظر حتى يخرج من المكان ثم يردد ألفاظ الأذان ، ويقول الدعاء لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال : (( إذا سمعتم المؤذن فقولوا مثلما يقول )) قالوا فإذا امتنع الإنسان من قول ذلك أثناء قضائه للحاجة فإنه امتناع لعذر شرعي ؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم امتنع من ذكر الله حال قضائه لحاجته ، فكان أصلاً في المنع من ذكر الله على حال قضاء الحاجة ، فإذا خرج من المكان وردد ألفاظ الأذان فإنه يدرك الفضيلة ؛ لأنه قال مثلما قال المؤذن .
ولكلا القولين وجهه ، ومن فعل هذا فلا حرج ، ومن فعل هذا فلا حرج .
وأما بالنسبة لامتناعه عليه الصلاة والسلام من رد السلام على من ألقى عليه السلام وهو على غير وضوء فهذه مسألة تعرف بالطهارة للذكر .
والذكر ينقسم إلى قسمين :
القسم الأول : ما يسمى بالذكر المطلق . والقسم الثاني : يسمى بالذكر المقيد .(40/14)
فأما الذكر المطلق : فهو الذي لم يتقيد بحالة ، ولا بزمان ، ولا بهيئة ، وهذا الذكر كتسبيح الله في سائر الأوقات وتحميده وتهليله وتكبيره ، وغير ذلك من الأذكار المشتملة على الثناء على الله سبحانه وتعالى ويدخل في هذا الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم ، كما يدخل فيه تلاوة القرآن .
وأما بالنسبة للقسم الثاني : وهو الذكر المقيد ، وهو الذكر الذي قيده الشرع بأحوال مخصوصة .
مثال ذلك : دعاء الدخول إلى الخلاء والخروج من الخلاء ، وأذكار الصباح وأذكار المساء ، وكفارة المجلس ونحو ذلك من الأذكار المقيدة ، فللعلماء في هذين النوعين من الأذكار خلاف فقد أجمع الكل على أن الأفضل والأكمل أن يذكر المسلم ربه وهو متوضئ ، ومن ذكر الله وهو على الطهارة أفضل ممن ذكر على غير طهارة ؛ لأنه في حالة أكمل لقوله عليه الصلاة والسلام : (( إني كنت على غير طهارة فكرهت أن أذكر الله عز وجل )) فدل هذا على أن من ذكر حال الطهارة أفضل ممن ذكر على حالة وهو غير متوضئ ولا متطهر ، فأما بالنسبة للأفضل فمحل إجماع ، وأما بالنسبة للوجوب فإنه لم يقل أحد بوجوب الوضوء لرد السلام ، ولم يقل أحد بوجوب الوضوء للأذكار المطلقة والمقيدة ؛ وإنما الخلاف في فعله عليه الصلاة والسلام على سبيل الكراهة هل يكره للإنسان أن يذكر الله وهو على غير طهارة أو لا ؟؟
فقال بعض العلماء : يكره للمسلم أن يذكر الله وهو على غير طهارة .
وقال جمهور العلماء : لا يكره للمسلم أن يذكر الله وهو على غير طهارة .(40/15)
واحتجوا بما ثبت في الصحيحين من حديث ابن عباس - - رضي الله عنه - وأرضاه- : أنه بات مع النبي صلى الله عليه وسلم عند خالته ميمونة قال : فاستيقظ النبي صلى الله عليه وسلم ومسح النوم من عينيه ثم تلا الآيات من آخر سورة آل عمران وقال : (( ويل لمن قرأهن ولم يتعظ بهن ، ويل لمن قرأهن ولم يتعظ بهن ، ويل لمن قرأهن ولم يتعظ بهن )) ثم قام وتوضأ - عليه الصلاة والسلام -" فوجه الدلالة من هذا الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم قرأ القرآن وهو غير متوضئ ولا شك أن أفضل الأذكار وأحبها إلى الله سبحانه وتعالى هو القرآن ، فكونه يقرأ القرآن وهو على غير طهارة يدل دلالة واضحة على جواز ذكر الله عز وجل على غير طهارة ، وأن هذا الفعل يدل على أنه لا يكره للمسلم أن يكون غير متطهر حال الذكر ، وعلى هذا فإن الكراهة منتفية ، ولكن الأفضل والأكمل أن يتوضأ الإنسان ، فإذا أردت قراءة القرآن ولم يتيسر لك أن تتوضأ ، أو كان محل الوضوء بعيداً منك فإن الأفضل أن تضرب بيديك على الصعيد الطيب وتتيمم ؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم فعل ذلك في رد السلام فكان أصلاً في مشروعية التيمم لإدراك فضيلة الذكر على الطهارة ، والله تعالى أعلم .
- ? - ? - ? - ? - الأسئلة - ? - ? - ? - ? -
السؤال الأول :
أشكل عليّ أن من قواعد الشرع "سد الذرائع" وقد جاء الجواز بالانتباذ وهو مظنة للإسكار إذا تجاوز مدة طويلة ..؟؟
الجواب :
بسم الله الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه أما بعد :
فالذريعة تنقسم إلى قسمين :(40/16)
ذريعة تتمحض في الوصول إلى الفساد ، أو يغلب على الظن أنها تفضي إلى الفساد وذلك ما يسمى بالكثير والغالب ، فهذه الذريعة تعتبر آخذة حكم مقصدها ، ومن أمثلتها الجلوس مع المرأة الأجنبية ، ومصافحة المرأة الأجنبية ، والنظر إلى المرأة الأجنبية ، فهذه كلها ذريعة إلى الوقوع في الحرام ؛ ولذلك حَرُم على المسلم أن يمس امرأة لا تحل له ؛ لأن ذلك ذريعة إلى أن يشتهيها ، إذ الغالب أنه يشتهي المرأة الأجنبية والغالب في الرجل أن يميل إلى الأنثى ، فكون النادر في بعض الناس أنه يتحفظ ويتوقى أُلغِي هذا النادر ، وأصبحت ذريعة كأنها متمحضة في الفساد فحَرُمت في الشرع ، وحَرَّم الشرع ذلك ، وهكذا في حكم المتمحض ما كان على غالب الظن فمن غلب على ظنه أنه لو دخل هذا المكان افتتن ، أو وقع في الحرام فدخوله ذريعة محرمة عليه ، هذا بالنسبة للغالب والمتمحض .
أما الذريعة إذا كانت نادرة الوقوع فإنه لا يلتفت إليها ولا يشتغل بها ، إذ لو قلنا بأن نادر الوقوع من الذرائع يعتبر محرماً وآخذاً حكم الذريعة المحضة إلى الحرام لفسدت مصالح العباد ، فأنت إذا تأملت ما يركبه الناس من المراكب والوسائل قد تكون هذه المراكب والوسائل سبباً في موتهم ، وقد تتسبب في حوادث وتزهق أرواحهم فهي ذريعة إلى القتل وفوات النفس ، لكنها في النادر ، فلما كان الغالب فيها السلامة جازت ، ولم تكن ذريعة إلى فوات الأنفس فتحرم ، وعلى هذا فإنه يفرق بين الوسائل المفضية إلى المفاسد تحقيقاً أو غالباً ، وبين الوسائل المفضية أو الذرائع المفضية إلى المفاسد نادراً وقليلاً ، فالنادر والقليل لا يلتفت إليه في حكم الشرع وللإمام العز بن عبد السلام كلام نفيس في مثل هذه المسائل ، قرره في كتابه الجليل" قواعد الأحكام ومصالح الأنام " ، والله تعالى أعلم .
السؤال الثاني :
الذين يقولون بجواز الوضوء بنبيذ التمر هل خصصوه بنبيذ التمر لمكان الحديث ، أم هو عام عندهم لأي نبيذ..؟؟(40/17)
الجواب :
في مذهب الحنفية - رحمة الله عليهم - من يقول بتخصيصه بنبيذ التمر ، والذي ذكره العلماء رحمهم الله في المسألة الخلافية إنما هو بنبيذ التمر ، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم :(( تمرة طيبة ، وماء طهور )) قالوا ووصفه بالطيب لأنها طاهرة قيل لأن التمر طاهر ، وهذا نبني إذا نظر إليه يقتضي أن كل تمرة تأخذ حكم التمر ، وأن النبيذ لا يختص بالتمر إذ يمكن أن يتوضأ بنبيذ العنب ؛ لكن يمكن أن يقال إن وجه التخصيص أن النبيذ خرج عن الأصل فاختص الحكم به ، ولذلك يكون بنبيذ التمر دون غيره على هذا الوجه ، والله تعالى أعلم .
السؤال الثالث :
في قول النبي صلى الله عليه وسلم : (( ما أسكر كثيره فقليله حرام )) فهل النبيذ إذا بدت عليه علامات مشابهة الخمر فهل يأخذ حكمها من حيث النجاسة ..؟؟
الجواب :(40/18)
المسائل الشرعية تحتاج إلى ضبط وتحرير ، فإذا قلت : نبيذ فأنت بين أمرين : إما أن تقول إنه نبيذ لا يسكر ، ولم يصل إلى درجة الخمر ، وإما أن تقول نبيذ مسكر ، أما فيه مشابهة للخمر فهذا ليس بواضح ويكون مشكلاً ، إنما يكون على إحدى صورتين : إما أنه نبيذ على أصله لا يزيل العقل ، ولا يؤثر في العقل فحينئذ لا إشكال في جوازه ؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال : (( كنت قد نهيتكم عن الانتباذ فانتبذوا ، وكل مسكر حرام )) فأذن لنا عليه الصلاة والسلام أن ننتبذ ، أما إذا كان النبيذ يؤثر في العقل ويزيل العقل فقد خرج عن كونه نبيذاً إلى كونه خمراً مسكراً، وحينئذ يأخذ حكم الخمر سواء بسواء ، وأما كونه يقال فيه شبه من الخمر فهذا ليس بمحقق ، إما أن تثبت أنه خمر ، وإما أن تبقيه على الأصل ، والتردد بينهما ليست بحالة ثابتة في الحس ، فليس في حس أو في الوجود نبيذ فيه شبه بالخمر ، يعني يسكر ولا يسكر ، يكون فيه شبه من الخمر وشبه من النبيذ الأصلي ، فهو إما نبيذ لا يسكر ، وإما نبيذ يسكر ، وعلى هذا كان كلام العلماء وتفصيلاتهم في كتب الفقه وفروعه على النبيذ الذي يسكر ، والنبيذ الذي لا يسكر ، وعلى هذا فإن النبيذ إذا أسكر كثيره فملء الكف منه حرام ، وحكمه حكم الخمر من حيث النجاسة ، والطهارة ، وكذلك من حيث الشرب وعدم الشرب ، ومن حيث البيع وعدم البيع ، فالحكم فيه كحكم الخمر سواء بسواء فإذا أسكر النبيذ ، وبلغ التمر الذي وضعه الإنسان أو الرطب الذي وضعه في الماء إلى درجة الإسكار فإنه يخرج من كونه نبيذاً إلى كونه خمرة مسكرة ، ولا يجوز بيعها ، ولا يجوز شراؤها ، وملعون حاملها والمحمولة إليه ، وآكل ثمنها ، وبائعها ، ومبتاعها ، كما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم لعن هؤلاء ، وعلى هذا فإنه لا يقال بالتردد بين الوصفين ، إما أن يقال نبيذ مسكر ، وإما أن يقال نبيذ غير مسكر ، فإن كان غير مسكر فهو طاهر ، وحكمه حكم(40/19)
الطاهرات يجوز بيعه ، ويجوز شراؤه ، ويجوز شربه ، ويجوز إهداؤه ، ويجوز أكل ثمنه ، وإما أن يكون آخذا حكم الخمر على الصورة التي ذكرنا ، والله تعالى أعلم .
السؤال الرابع :
هل الأمر برد التحية خاص إذا كانت من المسلم أم يشمل الكافر ..؟؟
الجواب :
ظاهر القرآن العموم : {وَإِذَا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا} قال بعض العلماء : إن هذا النص عام ، والأصل في العام : " أن يبقى على عمومه حتى يرد ما يخصصه" ، الذي ورد في السنة النهي عن إلقاء السلام على الكافر .
وأما بالنسبة لرد التحية من الكافر فإذا حيا الكافر ترد عليه تحيته ، قالوا والأصل في ذلك ما ثبت في الحديث الصحيح عنه عليه الصلاة والسلام : أنه لما دخل عليه اليهود وقالوا السام عليك قال :(( عليكم )) أي عليكم السام ، فقالوا : إن هذا يدل على أن الأصل الرد ؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يسكت .
وقد قال بعض العلماء : لا يرد على الكافر ، وإنما ترد التحية المطلقة ، ولا ترد التحية بالسلام والرحمة ، كأن يحيي الكافر بقوله : أنعم صباحاً ، أو أنعم مساء ، قالوا يُرَدُّ عليه بإنعام الصباح والمساء .
وكره بعض العلماء الرد مطلقاً ، قال : لا ينعم عليه ، ولا كرامة له ؛ لأن الله سبحانه وتعالى يقول في كتابه :{ وَمَنْ يُهِنْ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ مُكْرِمٍ}(1) .
__________
(1) / الحج ، آية : 18 .(40/20)
ولكن القائلين الذين يقولون : بأنه يرد على الكافر مذهبهم أقوى من حيث العموم ، ثم مذهبهم كما أنه قوي من جهة الأثر قوي من جهة النظر ؛ وذلك أن العلماء قالوا : إنما يرد السلام على الكافر وترد التحية على الكافر لأن الكافر إذا سلم على المسلم ولم يرد المسلم كان له مزية فضل على المسلم ، وكان علو كعب وشرف له ، وحينئذ لا ينبغي للمسلم أن يكون على هذه الحال ، وإنما ينبغي أن يعلو الإسلام ولا يعلى عليه ، فلذلك قالوا : لا حرج في الرد عليه ، خاصة إذا غلب على ظنه أنه يتألفه ، أو أنه يكون سبباً في حبه للإسلام ، أو نظره إلى الإسلام نظرة إجلال ، والله تعالى أعلم .
السؤال الخامس :
إذا رد فَرْدٌ السلام وهم مجموعة هل يكفي رده عنهم أم هو فرض عين على الجميع ..؟؟
الجواب :
بسم الله الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه أما بعد :
فإذا سلَّم المُسَلِّمُ على الجماعة ورد بعضهم قالوا : إنه يسقط الإثم عن الباقين ، فهو أشبه بفروض الكفاية ، فإذا رد الواحد من الجماعة أجزأ عن بقيتهم .
وقال بعض العلماء : لا بد من رد الجميع وهو أحوط وأولى ، لكن لا ينبغي للمسلم أن يفوته الخير برد السلام على أخيه المسلم ، ورد تحيته عليه ، وخروجه من هذه التبعة بيقين ، وذلك أولى وأحرى ، والله تعالى أعلم .
السؤال السادس :
كيف يكون رد التحية بأحسن منها خصوصاً إذا ألقى ألفاظ السلام كاملة فهل الحسن يكمن في إضافة تحايا أخر مع تحية السلام ..؟؟
الجواب :(40/21)
تكون التحية بالأفضل إذا سلم سلاماً كاملاً فقال : السلام عليكم ورحمة الله وبركاته أن تقول له : وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته مرحباً ، قال صلى الله عليه وسلم حينما أتته أم هانئ فسلمت عليه فرد بأبي وأمي صلوات الله وسلامه عليه ثم قال : (( مرحباً بأم هانئ )) ، فالرد بمرحباً ، أو حياكم الله ، أو أهلاً وسهلاً ونحو ذلك من الكلمات فإنها إذا طيبت الخواطر ، واشتملت على حسن الأدب مع الناس ، ورد الفضل عليهم تكون داخلة في هذا الحسن ، وهذا الكمال .
قال العلماء : إن الله أطلق فقال :{وَإِذَا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا} فأطلق الحسن ؛ والسبب في هذا أن أعراف الناس تختلف ، وأحوالهم تختلف ، وبيئاتهم تختلف ، فلم يحدنا الشرع بشيء معين ، فكل ما جرى في عرف الناس من التحايا ، ومما يدل على إكرام الضيف ، أو إكرام المسلم ، أو إكرام الداخل فإنه محمود ، وقال بعض العلماء : يدخل في هذا الهيئة والحال ، فإنه إذا دخل الرجل عليك ، ومد يده إليك فإن ظاهر الشرع يدل على أنك ترد تحيته بتحيته ، قالوا : فإذا سلم عليك قائماً تسلم عليه قائماً ، وإذا سلم عليك بتحية ترد عليه تحيته ، وأما أن يسلم عليك قائماً ويصافحك وهو قائم ، وأنت جالس قالوا : إن هذا لا يوافق مقصود الشرع من المكافأة في الإحسان ، فكما سلم عليك قائماً ترد عليه قائماً .(40/22)
وأما ما ورد عنه عليه الصلاة والسلام في الصحيح أنه كان يكره القيام ، وقال في الحديث الصحيح : (( من أحب أن يتمثل الناس له قياماً فليتبوأ مقعده من النار)) قالوا : يتمثل ، وهذا الحديث لفظه ظاهر واضح في التمثل ، والمراد بالتمثل أنه إذا دخل في المجلس وقفوا له ولم يسلموا له كالتماثيل ، وهذا في قوله : (( أن يتمثل)) ، ولم يقل أن يقف الناس له ليسلموا ؛ لأن الصحابة فعلوا ذلك بمحضر منه ، وقد رأى ذلك وأقره فقد قام أبو طلحة لكعب بن مالك يجر رداءه ، فحياه وهنأه بفضل الله عز وجل ، وتوبته عليه ، وثبت في الحديث الصحيح عنه أنه كان إذا دخل على فاطمة قامت له بأبي وأميصلوات الله وسلامه عليه ، وكانت إذا دخلت عليه قام لها كما في حديث عائشة في السنن .
فهذا كله يدل على أن التحية تقابل بالتحية ؛ ولذلك إذا حيا الرجل الرجل فصافحه وهو قائم ، وصافحه الآخر وهو جالس لم يعدل ، ولم يكافئه في إكرامه له ، فقالوا : حينئذ يقابله بالمقابلة في اللفظ وفي الفعل فيكافئه بذلك ؛ حتى يكون أدعى لإلف القلوب ، واجتماع النفوس ، وأبعد من حصول الضغينة وسوء الظنون ، خاصةً عند العوام الذين يحملون الأمر على غير ظاهر ، والله تعالى أعلم .
السؤال السابع :
هل يلقى السلام على المصلي ، وهل يجب عليه الرد ؟ وهل يلقى السلام على قارئ القرآن ؟ وهل رده واجب..؟؟
الجواب :
أما بالنسبة للمصلي فإذا ألقى عليه الإنسان السلام فلا تخلو صلاته من حالتين :
الحالة الأولى : أن تكون الصلاة نافلة ، فالسنة إذا سلم أحد عليك وأنت في نافلة أن تشير بكفك إلى الأرض ، أي ترد عليه بإشارة الكف إلى الأرض ، فهذا هو الوارد في السنة ، ونص عليه جماهير العلماء رحمة الله عليهم .(40/23)
وأما بالنسبة للفريضة فإنه لا يُرد فيها ، والدليل على ذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في الحديث الصحيح : (( إن في الصلاة لشغلاً )) قال العلماء : يدل دلالةً واضحةً على أن المصلي ينبغي أن يشتغل بالصلاة ، فلما جاء الحديث يستثني النافلة بقيت الفريضة على الأصل ، ويجوز في النافلة ما لا يجوز في الفرض ، فقد أوتر عليه الصلاة والسلام على بعيره ، وصلى على بعيره النافلة حيث توجهت ، ولكنه نزل وصلى الفريضة على الأرض ، فدل على اختلاف الفرض عن النفل ، والله تعالى أعلم .
السؤال الثامن :
في الأمر بوجوب رد التحية هل تدخل المرأة في ذلك أيضاً إذا ألقى عليها رجل السلام ..؟؟
الجواب :
ترد المرأة السلام إذا سلم عليها الرجل بالمعروف ، كما لو سألها عن زوجها ، أو سألها عن قريبها ، فإنها ترد بالمعروف كما قال-تعالى- :{وَقُلْنَ قَوْلاً مَعْرُوفاً}(1) ، فإذا جاز للمرأة أن تجيب الرجل في مصالح الدنيا ، ويسمع صوتها في مصالح الدنيا بالمعروف ، فإنه يجوز في رد السلام ، ومصالح الدين من باب أولى وأحرى ، فإذا سلم الرجل على المرأة تقول : وعليك السلام ، وإذا خفتت صوتها حتى يسمع صفير سلامها فذلك أفضل وأكمل ؛ حتى يشعر أنها ردت ، ولكن يكون الحياء غالباً عليها ، وذلك أكمل في النساء ، فلا تسمعه الصوت وإنما تسمعه صفير السلام إشعاراً برد التحية ، والله تعالى أعلم .
السؤال التاسع :
هل يجب على المرأة أن تروي شعرها بالماء عند الاغتسال ؟ وهل حديث أم سلمة - رضي الله عنها- محمول على من كانت تشد ضفر شعر رأسها فقط ..؟؟
الجواب :
__________
(1) / الأحزاب ، آية : 32 .(40/24)
حديث أم سلمة ثابت في الصحيحين قالت : يا رسول الله : إني امرأة أشد ضفر شعر رأسي أفأنقضه إذا اغتسلت من الجنابة ؟ قال : (( لا ، إنما يكفيك أن تحثي على رأسك ثلاث حثيات ، ثم تفيضين الماء على جسدك فإذا أنت قد طهرت )) هذا الحديث دل على أن المرأة إذا شدت ضفائرها أنها تصب الماء على رأسها حتى تروي أصول الشعر.
قال العلماء : في هذا دليل على أن الشعر في حكم المنفصل لا في حكم المتصل ، وتوضيح ذلك أن الواجب عليها أن تغسل البشرة الأصلية ، وهي جلدة الرأس ، وما حاذى جلدة الرأس من الشعر تبع ، فبقي المسترسل من الشعر لا يجب عليها غسله ؛ ولذلك لم تؤمر بنقض شعرها ، وعليه فرعوا القاعدة التي أشار إليها الإمام ابن رجب الحنبلي رحمه الله في كتابه النفيس " القواعد" قال : " شعر الإنسان والحيوان في حكم المنفصل ، لا في حكم المتصل " فعلى هذا الحديث يكون الشعر في حكم المنفصل ، فيكون الواجب على المرأة أن تروي أصول الشعر ، وأما ما استرسل يكون إذا شدت الضفر تغسل ظاهره ويكفيها ولا يلزمها نقض هذه الضفائر ، فتفرع على هذا الأصل أنه إذا كان الشعر في حكم المنفصل أنه لا تتصل به الأحكام في العبادات والمعاملات ، ومن أشهر ما يتفرع على ذلك نسبة الطلاق إلى الشعر وهي المسألة المشهورة عند العلماء أن يقول الرجل لامرأته : شعرك طالق ، وهي المسألة التي تسمى تجزئة الطلاق بأجزاء المرأة ؛ لأن الطلاق يتجزأ بذاته ، يقال أنت طالق نصف طلقة ، أو ربع طلقة ، فتطلق طلقة كاملة ؛ لأنه ليس في الشرع تجزئة للفظ الطلاق .(40/25)
وأما بالنسبة للتجزئة بأجزاء المرأة أن يقول لها : شعرك طالق فمذهب جمهور العلماء رحمة الله عليهم من الحنفية ، والمالكية ، والشافعية ، والحنابلة على أنها لا تطلق إذا قال لها شعرك طالق ؛ لأن الشعر ليس في حكم المتصل بالبدن ، ولكن إذا قال يدك طالق فإنها تطلق ؛ لأن الله - - عز وجل - -جعل اليد للكل ، فقال-سبحانه- :{تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ}(1) وأراد كل أبي لهب ، فإذا قال لها يدك طالق فقد سرى الطلاق إلى الجميع ، قالوا فيكون الشعر في حكم المنفصل لأن النبي صلى الله عليه وسلم أمرها بأن تجعل الماء لأصول الشعر ، فدل على أن الشعر تبع وليس بأصل ، وقووا أن الطلاق لا ينفذ أنه إذا طلق الشعر أسند الطلاق إلى شئ لا يثبت في البدن ، ولو قال لها شعرك طالق فإنها قد تقص الشعر ، وكذلك لو قال ظفرك طالق ، فالشعر والظفر حكمهما واحد في مذهب جمهور العلماء .
وَآخِرُ دَعْوَانَا أَنِ الحمَْدُ لِلَّهِ رَبِّ العَالَميْنَ وصلَّى اللَّهُ وسلَّم وبارك على عبده ونبيَّه محمد وعلى آله وصحبه أجمعين .
__________
(1) / المسد ، آية : 1 .(40/26)
بسم الله الرحمن الرحيم
قال المصنف- رحمه الله -: بَاب مَا جَاءَ فِي سُؤْرِ الْكَلْبِ
حَدَّثَنَا سَوَّارُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْعَنْبَرِيُّ حَدَّثَنَا الْمُعْتَمِرُ بْنُ سُلَيْمَانَ قَال سَمِعْتُ أَيُّوبَ يُحَدِّثُ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سِيرِينَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ : (( يُغْسَلُ الإِنَاءُ إِذَا وَلَغَ فِيهِ الْكَلْبُ سَبْعَ مَرَّاتٍ أُولاهُنَّ أَوْ أُخْرَاهُنَّ بِالتُّرَابِ وَإِذَا وَلَغَتْ فِيهِ الْهِرَّةُ غُسِلَ مَرَّةً )) .
قَالَ أَبو عِيسَى رحمه الله : هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَدَ وَإِسْحَقَ وَقَدْ رُوِيَ هَذَا الْحَدِيثُ مِنْ غَيْرِ وَجْهٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم نَحْوَ هَذَا وَلَمْ يُذْكَرْ فِيهِ إِذَا وَلَغَتْ فِيهِ الْهِرَّةُ غُسِلَ مَرَّةً وَفِي الْبَاب عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُغَفَّلٍ .
الشرح:
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين أما بعد :(41/1)
فقد ترجم الإمام الحافظ الترمذي رحمه الله بهذه الترجمة والتي قصد بها أن يبين ما ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم في حكم سؤر الكلب ، والسؤر في لغة العرب يطلق على فضلة الشارب ، يقال سؤر الرجل وسؤر المرأة إذا شرب الرجل أو المرأة من الإناء وأفضلا وبقي بعد الشرب شيء فإنه يقال له سؤر ، وسؤر الكلب المراد به ما أبقاه بعد شربه من الإناء ، وكأنه يقول رحمه الله في هذا الباب سأذكر لك ما ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم في حكم فضلة الكلب إذا شرب من الإناء ، وهذه المسألة تعتبر من المسائل التي تعم بها البلوى فالناس يسألون عن حكم فضلة الكلب إذا شرب من الإناء ؛ لأن الكلاب تقبل وتدبر على الأواني ، وهكذا بالنسبة للبرك والمستنقعات وما في حكمها فناسب أن يعتني المصنف رحمه الله في كتاب الطهارة ببيان ما يتعلق بفضلة شرب الكلب هل هي طاهرة أو نجسة ؟ وقد اعتنى الأئمة المحدثون رحمهم الله بهذا الباب وذكروا هذا الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم .
يقول فيه عليه الصلاة والسلام : (( يغسل الإناء )) : والغسل : هو صب الماء على الشئ وهل إذا صببت الماء على الإناء ولم تمر يدك على ذلك الماء هل يكفي في الغسل أم لا بد أن تمر يدك ..؟؟
للعلماء وجهان في هذه المسألة :
فقال جمهور العلماء : إذا صببت الماء على الإناء وأصاب الماء جميع الإناء فقد غسلته ولا يشترط أن تمر يدك لتدلك الإناء .
وقال بعض العلماء : لا بد من الدلك واحتج بما يقوله بعض أئمة اللغة أن الغسل لابد فيه من إمرار اليد .
والصحيح أن الغسل يكفي فيه أن يصب الماء على الشئ ولا يشترط فيه إمرار اليد ولذلك قال صلى الله عليه وسلم :(( واغسله بماء وثلج وبرد )) فدل على أن مجرد إصابة الماء للشيء أنه يعتبر أصلاً لذلك الشيء ولا شك أنك إذا أمررت يدك أثناء الغسل أن ذلك أكمل وأنه أفضل لأنه يحقق المقصود الشرعي من النظافة والنقاء .(41/2)
يقول عليه الصلاة والسلام :((يغسل)) : هذه الجملة خبرية بمعنى الإنشاء وتوضيح ذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم قال كالمخبر: (( يغسل)) والواقع أنه يأمر أمته -صلوات الله وسلامه عليه - بغسل الإناء ولذلك قال صلى الله عليه وسلم في الحديث الآخر : (( فليغسله سبعاً)) فدل على أن الغسل مأمور به .
وهل الأمر بالغسل المراد به الوجوب أو الندب والاستحباب..؟؟
وجهان:
الوجه الأول : فذهب جمهور العلماء رحمهم الله إلى وجوب غسل الإناء .
والوجه الثاني : وذهب فقهاء المالكية إلى الندب والاستحباب .
ولا شك أن مذهب الجمهور يعتمد ظاهر أمر النبي صلى الله عليه وسلم في قوله : (( فليغسل)) وقوله :{فَاغْسِلُوا}(1) إذ أن الأصل في الأمر أنه محمول على الوجوب حتى يدل الدليل على ما دون ذلك- أعني الندب- .
واحتج فقهاء المالكية بأنه الغسل تعبدي وأن الكلب أمر باتخاذه في حال وجود الحاجة من صيد وحرث وماشية ولذلك قالوا إننا لو حملنا الأمر على الوجوب لخالف مقتضى الرخصة والتيسير على الأمة.
والصحيح ما ذهب إليه جمهور العلماء من أن أمر النبي صلى الله عليه وسلم بغسل الإناء من ولوغ الكلب أنه للوجوب وليس للندب والاستحباب قال صلى الله عليه وسلم : (( يغسل )).
المسألة الثالثة : هل أمره - عليه الصلاة والسلام - بغسل الإناء كما هو صريح في الرواية الأخرى أو كونه هنا يقول : (( يغسل)) هل قوله : (( يغسل)) تعبدي ، أو لأجل النجاسة ..؟؟
قولان : فقال جمهور العلماء أمرنا النبي صلى الله عليه وسلم بغسل الإناء سبعاً لأن الكلب نجس .
وقال المالكية : أمرنا بغسله لأن الكلب طاهر وهذا الأمر ليس للنجاسة ؛ وإنما هو تعبدي .
__________
(1) / المائدة ، آية : 6 .(41/3)
واحتج الجمهور بأن النبي صلى الله عليه وسلم إذا أمر بالغسل أو ورد الغسل في الكتاب أنه محمول على تطهير الشئ وهذا يدل عليه صريح الرواية عند مسلم عن عبد الله بن مغفل رضي الله عنه وأرضاه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : (( طهور إناء أحدكم إذا ولغ فيه الكلب أن يغسله سبع مرات )) قالوا فلما قال عليه الصلاة والسلام : (( طهور)) دل دلالةً واضحةً على أن الإناء قد تنجس وإذا كان الإناء قد تنجس بإدخال الكلب لفمه في الإناء وولوغه فيه فإنه يدل على نجاسة عين الكلب ومن هنا قالوا إن الكلب نجس العين وهذا هو ظاهر السنة في قوله عليه الصلاة والسلام :(( طهور)) ولأننا وجدنا الشريعة إذا أمرت بالغسل فإن الأصل حمله على النجاسة خاصة في باب التطهير يدل على ذلك أن البول نجس وقد حكمنا بنجاسته بأمره عليه الصلاة والسلام بصب الماء على بول الأعرابي فدل صب الماء على كونه نجساً ، وكذلك أجمعنا على نجاسة دم الحيض لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال للمرأة : (( اغسلي عنك الدم ثم صلي)) فقالوا كما أننا حكمنا بالنجاسة لورود الأمر بالغسل فيلزمنا هنا أن نحكم بالنجاسة لورود الأمر بالغسل .
واعتبر فقهاء المالكية -رحمة الله عليهم - بأن الأمر هنا جاء بالسبع فلو كان للنجاسة لم يسبع فكونه يسبع يدل دلالةً واضحةً على أنه تعبدي وإذا كان تعبدياً فإن الكلب طاهر ، وأكدوا ذلك بأن الله أحل لنا صيد الكلب ولو كان الكلب نجساً كيف يحل لنا أكل صيده .
والصحيح ما ذهب إليه جمهور العلماء رحمهم الله من قولهم بأن الكلب نجس ؛والسبب في ذلك أن السنة حينما صرحت بالتطهير دل ذلك دلالةً واضحةً على أن الإناء قد تنجس ثم أن هذا هو الأصل في الأمر بالغسل أن يكون في باب التطهير من نجاسة لأنه أصل اعتمده المخالفون كما لا يخفى ، وأما اعتذارهم بالسبع فإننا نقول كونه نجس لا يمنع التسبيع بغسله كما سيأتي .(41/4)
يقول- عليه الصلاة والسلام -:(( يغسل الإناء)) : الإناء واحد الآنية والإناء هو الوعاء ويقال أنا الشئ إذا حضر ويقال أنا الشئ إذا نضج واستوى كقولهم أنا الطعام إذا نضج ، ومنه قوله سبحانه وتعالى :{إِلَى طَعَامٍ غَيْرَ نَاظِرِينَ إِنَاهُ}(1) أي غير منتظرين نضجه .
وقوله عليه الصلاة والسلام : (( الإناء )) : الإناء في الأصل يكون من الأوعية الصغيرة التي تحمل الماء ويكون في حكمها في زماننا القدر وكذلك السطل الصغير ونحو ذلك من الأواني والأوعية .
وقوله عليه الصلاة والسلام :(( يغسل الإناء )) : أخذ منه العلماء رحمهم الله دليلاً على أن البرك الصغيرة تأخذ حكم الآنية لأن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بغسل الآنية لسريان النجاسة والتأثير في الوعاء الصغير واستثنوا من ذلك البرك الكبيرة فقالوا إن البرك الكبيرة لا يجب غسلها ولا تسبيعها وكذلك المستنقعات إذا وردت الكلاب عليها ومن هنا قالوا إن الأصل في الماء أنه طهور ولكنه إذا كان في وعاء صغير وأدخل الكلب فيه فمه وولغ فيه فإن التأثير أقوى مما إذا كان كبيراً ومن هنا أجاب النبي صلى الله عليه وسلم حينما سئل عن الماء وما ينوبه من السباع قال :(( إذا بلغ الماء قلتين لم يحمل الخبث)) .
قوله - عليه الصلاة والسلام - : (( يغسل الإناء إذا ولغ )) : الكلب له ثلاث حالات :
الحالة الأولى : أن يدخل رأسه في الإناء ويكون في الإناء ماء فيدير لسانه في الماء ويحركه فحينئذ تقول العرب ولغ الكلب فيقولون ولغ الكلب إذا أدخل لسانه في الشراب والماء ونحو ذلك فيشمل اللبن ونحوه من المائعات فلا يقولون ولغ إلا في الشراب واختلف العلماء هل يحكم بولوغ الكلب بمجرد إدخاله للسانه أم لا بد من تحريكه للسان فقال بعض الأئمة إن الولوغ لا يطلق إلا إذا حرك لسانه في الماء وقال بعض الأئمة : إنه يحكم بكونه ولغ بمجرد إخراجه للسان .
__________
(1) / الأحزاب ، آية : 53 .(41/5)
ومن هنا تتفرع المسألة المشهورة : هل إذا أدخل الكلب رأسه في الإناء وأدخل لسانه ولم يحركه ..؟؟
فعلى القول الأول لا يعتبر ولوغاً ، وعلى القول الثاني يعتبر ولوغاً ، فلو أدخل الكلب رأسه في الإناء ومد لسانه ثم طرد ولم يشرب فعلى القول الذي يشترط التحريك لا يلزم الغسل وعلى القول الذي لا يشترط التحريك يلزم الغسل.
والصحيح أن مجرد إدخاله للسانه في الماء أن ذلك يعتبر كافياً في وجوب الغسل وقد أكد هذا الأطباء فإن العبرة بلعاب الكلب يستوي في ذلك أن يحرك لسانه أو لا يحرك اللسان .
الحالة الثانية : أن يكون في الإناء والوعاء طعام جامد فإذا أدخل الكلب رأسه وأكل من اللحم ونحوه من الطعام الجامد فإنه يقال لعق فإذا قضم بأسنانه يقال نهش أو نهس فإذا لعق الكلب الطعام .
فحينئذ يرد السؤال : هل نعطي اللعق حكم الولوغ أم أن الحكم خاص بالشراب وما هو شبهه ..؟؟
للعلماء وجهان والصحيح أن الطعام له حالتان :
الحالة الأولى : أن يأخذ الكلب منه ويؤمن سريان مادة لعابه إلى ما جاور فحينئذ يلقى مكان الكلب الذي أكل منه وما قارب .
الحالة الثانية : إذا قد كان سرى لعابه وسرت مادته وظهر التأثير فحينئذ لا إشكال .
والدليل على ذلك حديث الفأرة إذا وقعت في السمن فإنه إذا كان جامداً تلقى وما حولها من السمن الجامد فدل على أن النجس إذا وقع في الشيء الجامد أنه لا يحكم بنجاسة جميع الشيء ؛ وإنما يحكم بنجاسة ما مسه الكلب وعلى هذا فإننا لا نحكم بنجاسة الإناء لأن الولوغ لم يقع :
الحالة الثالثة : أن يدخل الكلب رأسه في الإناء ولا يكون في الإناء شيء كأن يدخل رأسه فحينئذ لا يخلو الكلب من صورتين :(41/6)
الصورة الأولى : أن يحرك لسانه ويلعق بأطراف الإناء فيقال لحس الإناء وفي هذه الحالة يجب غسل الإناء سبع مرات وتتريبه الثامنة وذلك لأنه إذا سال لعابه على أطراف الوعاء فقد تأثر الوعاء بلعاب الكلب وأصبح متنجساً لأن النبي صلى الله عليه وسلم أمرنا بغسل الإناء إذا كان الولوغ في الشراب فمن باب أولى إذا لامس اللعاب نفس الإناء ، فحينئذ يكون التنجيس أقوى فأنت إذا رأيت الكلب يدخل لسانه على طرف الإناء فإنك قد ترى اللعاب قد سرى على جسم الإناء وجرمه ولا شك أنه في هذه الحالة يكون التنجس أبلغ وحينئذ يكون الأمر بغسل الإناء على الصورة التي ذكرنا وجيهاً فهذه صورة .
والصورة الثانية :أن يدخل رأسه في الإناء ولا يخرج لسانه ولا يحرك لسانه فحينئذ لا نحكم بوجوب غسل الإناء ؛ لأن الكلب لم يفعل شيئاً بذلك الإناء والقاعدة : " أن الأصل في الطاهر أن بيقى على طهارته حتى يدل الدليل على النجاسة " والنجاسة لا يحكم بها إلا بالولوغ واللحس ، وأما إذا أدخل رأسه ولم يمس لعابه الإناء فإننا لا نحكم بالنجاسة لأن الوعاء طاهر .
يقول عليه الصلاة والسلام : (( يغسل الإناء إذا ولغ فيه الكلب )) : الكلب هو الحيوان المعروف ، وللعلماء فيه وجهان :
الوجه الأول : أن الكلب في الحديث عام يشمل الكلاب في الحضر والكلاب في البادية ويشمل الكلاب المأذون بها والكلاب غير المأذون بها فإن جميع الكلاب تدخل في هذا العموم ؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال :(( يغسل الإناء إذا ولغ فيه الكلب)) وعمم ولم يفرق بين كلب وآخر والقاعدة في الأصول : " أن الأصل في العام أن يبقى على عمومه حتى يرد ما يخصصه " قال جمهور العلماء فلما عمم النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث ولم يرد ما يخص كلباً دون آخر بقينا على هذا العموم فكل كلب ولغ في الإناء فإنه يجب غسل ذلك الإناء على الصورة التي وردت .(41/7)
وقال فقهاء المالكية -رحمة الله على الجميع - إن الكلب ينقسم إلى قسمين :
القسم الأول : كلب غير مأذون باتخاذه .
والقسم الثاني : كلب مأذون باتخاذه .
فأما الكلاب التي لم يؤذن باتخاذها فإنه يجب الغسل ينبغي غسل الإناء بسبب ولوغها فيه .
وأما إذا كانت من الكلاب المأذون بها فإنه لا يلزم غسلها على الصورة التي ذكرنا ؛ لأن الشرع حينما رخص فيها فإن الرخصة تقتضي التوسعة والتيسير على الناس وإذا قلنا بوجوب غسلها سبعاً فإن فيها مشقة على الناس ، وقال بعض فقهاء المالكية-رحمة الله على الجميع- : أنه إذا كان الكلب في البادية فإنه لا يجب غسل الإناء من ولوغه سواء كان مأذوناً به أو غير مأذون به قالوا ؛ لأن الناس في البادية يقل عندهم الماء ولو أمرناهم بغسل الإناء سبعاً لشققنا عليهم ولأنهم لا يستطيعون أن يتقوا الكلاب في آنيتهم بسبب كونهم في العراء والفضاء فلا يستطيعون حفظ الآنية من إقبال الكلاب وولوغها في تلك الآنية.
والصحيح ما ذهب إليه جمهور العلماء رحمهم الله من القول بالعموم ؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم عمم في الحكم وهو الذي رخص في كلب الصيد والحرث والماشية ولو كان هناك تخصيص في الحكم لبينه صلوات الله وسلامه عليه.
المسألة الثانية : إذا كان الحديث مختصاً بالكلب فالسؤال هل يقاس غير الكلب على الكلب أم أن الحكم يعتبر خاصاً بالكلاب وحدها..؟؟(41/8)
فقال جمهور العلماء رحمهم الله لا يجب غسل الإناء سبعاً وتعفيره بالتراب إلا من الكلب خاصة ، وقال فقهاء الحنابلة وطائفة من فقهاء الشافعية -رحمة الله على الجميع - يقاس على الكلب الخنزير فالخنزير إذا ولغ في الإناء فإنه يغسل سبعاً وذلك قياساً على الكلب ووجه هذا القياس أنهم قالوا إن الكلب يعتبر نجس العين والخنزير يعتبر نجس العين ، وإذا كان كل منهما نجس العين وأمر الشرع بغسل الإناء من ولوغ الكلب فإننا نأمر بغسله من ولوغ الخنزير فيه ، وعلى هذا قالوا لو بال الخنزير على الثوب فإنه يجب غسل الثوب كغسل الآنية سبعاً قياساً على نجاسة الكلب .
والصحيح ما ذهب إليه جمهور العلماء رحمهم الله وذلك لأن الخنزير كان موجوداً على زمان النبي صلى الله عليه وسلم فكونه- صلوات الله وسلامه- عليه يخص الحكم بالكلب يدل دلالةً واضحةً على أن غير الكلب لا يأخذ حكم الكلب ، وبناءً على ذلك فإننا نقول بتخصيص الحكم بالكلاب ، وأما الخنازير فإنه لا يحكم بغسلها سبعاً على صورة الكلب لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم ينص على هذا الحكم فيها .
قوله عليه الصلاة والسلام : (( سبعاً)) : فيه دليل لما ذهب إليه جمهور العلماء رحمهم الله من المالكية والشافعية والحنابلة والظاهرية وأهل الحديث أنه يغسل الإناء سبع مرات ، وخالف فقهاء الحنفية-رحمة الله على الجميع- فقالوا إذا ولغ الكلب في الإناء غسل الإناء ثلاث مرات .
واحتج جمهور العلماء على إثبات السبع بحديثنا الذي معنا ، وكذلك حديث عبد الله بن مغفل رضي الله عنه وأرضاه وفيه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : (( طهور إناء أحدكم إذا ولغ فيه الكلب أن يغسله سبع مرات )) فدلت هذه الأحاديث على أن السبع لا بد منها وأنه لا يجزئ ما قل عن السبع .(41/9)
واحتج فقهاء الحنفية رحمة الله عليهم بحديثي الدارقطني وابن عدي "أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بغسل الإناء من ولوغ الكلب ثلاث مرات ".
واحتجوا بما ورد عن أبي هريرة رضي الله عنه وأرضاه " أنه سئل عن الإناء إذا ولغ فيه الكلب فأمر بغسله ثلاث مرات" قالوا فدل الحديث ودل الأثر على أن الواجب أن يغسل ثلاث مرات لا سبع مرات ؛ ولأن الأصل في النجاسة التثليث ولذلك قال صلى الله عليه وسلم : (( إذا استيقظ أحدكم من نومه فليغسل يديه ثلاثاً قبل أن يدخلهما في الإناء)) قالوا فهذا هو الأصل في النجاسة أن تكون بالتثليث لا بالتسبيع وأكدوا هذا بأن أبا هريرة رضي الله عنه أفتى بالثلاث والقاعدة عند الحنفية رحمة الله عليهم : " أن الراوي إذا روى الحديث وأفتى بخلاف الحديث فالعبرة بما رأى لا بما روى" قالوا إذ لا يعقل أن أبا هريرة يترك هذا الحديث الذي صح عنه أنه نقله عن رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا وعنده أصل يخالفه يوجب أن يعدل عنه ، وإما كون هذا الحديث منسوخاً أو وجود عذر آخر فقالوا نقدم فتوى الصحابي على روايته وهي مسألة مشهورة بين الجمهور والحنفية .
والصحيح في هذه المسألة أن السبع لا بد منها وذلك لما يلي:
أولاً : لصحة السنة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بالتسبيع وذلك في حديث أبي هريرة وعبد الله بن مغفل-رضي الله عن الجميع -.
وثانياً : أن حديث أبي هريرة الذي احتج به فقهاء الحنفية حديث ضعيف فهو من رواية علي بن الحسين الكرابيسي وهو ضعيف الحديث وقد تفرد ابن علي في رواية الثانية لهذا الحديث عن أبي هريرة رضي الله عنه وما تفرد به ابن عدي فإنه يحكم عليه بالضعف بالاستقراء وإلى ذلك أشار بعض الفضلاء بقوله :
وما نمي لعد وعق وخط وكر ومسند الفردوس ضعفه شهر(41/10)
أي ما انفرد به ابن عدي والعقيلي في الضعفاء وابن عساكر في تاريخه ، وكذلك صاحب مسند الفردوس فإن هؤلاء إذا انفردوا بالرواية فإن الحديث يحكم عليه بالضعف وذلك بالاستقراء والتتبع :
كذا نوادر الأصول وزدِ ……التاريخ للحاكم ولتجتهدِ
فهذان الكتابان أيضاً وهما نوادر الأصول للحكيم الترمذي والتاريخ من رواية الحاكم في المستدرك كلها إذا انفردت برواية الحديث فإنه ضعيف ؛ وإنما اعتذر العلماء عن التاريخ للحاكم في المستدرك لأنه لم يعش لتصحيحه وتنقيحه حيث اخترمته المنية-رحمة الله عليه-قبل أن ينقحه والشاهد أن هذا الحديث من انفراد ابن عدي وما انفرد به ابن عدي في الكامل يعتبر ضعيفاً ، وعلى هذا فإنه لم يصح عن النبي صلى الله عليه وسلم الدليل بأن الإناء يغسل من ولوغ الكلب ثلاثاً وإنما صح عنه عليه الصلاة والسلام أمره بالسبع فيجب التسبيع ؛ لأنه الثابت الصحيح ، وأما ما ذكروه من أن أبا هريرة رضي الله عنه أفتى بالثلاث فمردود بأنه صح عنه عند الدارقطني عن محمد بن سيرين أنه سئل عن ولوغ الكلب في الإناء فأمر بغسله سبعاً فحينئذ تكون الرواية عنه متعارضة ولا شك أن إثبات السبع عنه يعتبر بالرواية الصحيحة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وعليه فإن قول الجمهور رحمهم الله بوجوب التسبيع هو القول المعول عليه في هذه المسألة.
وما اعتبر به فقهاء الحنفية -رحمة الله على الجميع- من أن الراوي إذا روى الحديث أنه إذا أفتى بخلاف روايته تقدم فتواه على الرواية هي مسألة أصولية مشهورة فيها قولان للعلماء :
فالجمهور : على أن العبرة بما روى لا بما رأى .(41/11)
وقال فقهاء الحنفية : العبرة بما رأى لا بما روى ولهذه المسألة نظائر منها حديث عبد الله بن عباس الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : (( من بدل دينه فاقتلوه)) فدل هذا الحديث الصحيح على أن المرأة والرجل إذا ارتدا -والعياذ بالله- عن الإسلام قتلا وجاءت الرواية عن ابن عباس -رضي الله عنهما - أنه كان يفتي بأن المرأة إذا ارتدت لا تقتل فأخذ فقهاء الحنفية بعدم قتل المرأة إذا ارتدت ، وأخذ جمهور العلماء بالرواية الصحيحة التي اشتملت على العموم.
والصحيح في هذه المسألة أن العبرة برواية الصحابي ؛ لأن الله تعبدنا بما جاء عن رسوله صلوات الله وسلامه عليه ويعتذر للصحابي باحتمال أن يكون له اجتهاد خصص به عموم النص أو يكون ناسياً لروايته أو يكون مفتياً قبل الرواية كأن يكون روى هذا الحديث بواسطة عن صحابي وحدث بحذف الواسطة إلى غير ذلك من الاحتمالات التي تضعف قول الحنفية بوجود الأصل الذي يوجب العدول عن الرواية والذي نخلص إليه هو القول بأنه يجب تسبيع غسل الإناء .
قوله عليه الصلاة والسلام : (( إحداهن أولاهن أو أخراهن بالتراب)) : هذه الجملة فيها روايات عن النبي صلى الله عليه وسلم الرواية الأولى : (( إحداهن)) وهي ثابتة في الصحيح الرواية الثانية : (( أولاهن)) وهي ثابتة في الصحيح والرواية الثالثة بالجمع بينهما الجمع بين الأولى والأخيرة وهي روايتنا : (( أولاهن أو أخراهن)) والرواية الرابعة فيها .(41/12)
قوله عليه الصلاة والسلام : ((وعفروه الثامنة بالتراب)) : فهذه أربع روايات عن النبي صلى الله عليه وسلم أصحها وأقواها رواية : (( إحداهن )) ورواية : (( أولاهن )) فإنها أثبت الروايات عن النبي صلى الله عليه وسلم ، وبناءً على ذلك قال العلماء : العبرة بوجود التراب أثناء السبع سواء وقع في الأولى أو الثانية أو الثالثة أو الرابعة أو الخامسة أو السادسة ولا يتأخر عن السادسة لأنه إذا تأخر عن السادسة ووقع بعد السابعة كان الإنسان محتاج إلى غسلة تاسعة وحينئذ يحتاج إلى إضافة الماء فيكون غسل الإناء بتسع لا بسبع كما أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وعليه فإن رواية : (( أولاهن)) هي الأفضل والأقوى لأنها رواية عينت وحددت وأما رواية : (( إحداهن)) فإنها رواية مبهمة وفيها تخيير فهي تدل على جواز أن تلقي التراب في الغسلة الثانية والثالثة إلى السادسة كما لا يخفى .
وحينئذ نقول الأفضل أن يكون التراب في أول الغسلات لورود النص بذلك :
فترمي التراب أولاً ثم تسكب الماء عليه بعد ذلك وتدير الماء بالتراب في جميع أجزاء الوعاء فحينئذ تكون الغسلة الأولى ويصدق عنها الحديث الصحيح عنه عليه الصلاة والسلام : (( أولاهن)) .
والحالة الثانية أن ترمي التراب بعد الغسلة الأولى أو في الثانية أو الثالثة أو الرابعة أو الخامسة أو السادسة فحينئذ يقوى ذلك على رواية : (( إحداهن )) وعلى ذلك فإنه لا يجوز تأخير التراب إلى ما بعد الغسلة السابعة وهذا هو مذهب جمهور العلماء رحمهم الله ، وخالف بعض السلف وهو محكي عن إبراهيم النخعي وغيره من أئمة السلف -رحمة الله على الجميع- فقالوا إن التراب يقع بعد السبع فترمي الثامنة وتكون كفاً من تراب ثم تصب الماء بعد ذلك فعلى قولهم لايكون التسبيع محدداً كما هو ظاهر حديثنا خلافاً لظاهر الحديث والروايات الصحيحة.(41/13)
والصحيح مذهب جمهور العلماء أن العبرة بوقوع التراب أن يقع في الأولى أو ما بعدها إلى السادسة حتى تكون الغسلة السابعة مزيلة للتراب ولا يحتاج إلى غسلة بعدها وهذه الرواية التي معنا وغيرها من الروايات الأخر نصت على وجود التراب في الغسل سبعاً .
وخالف فقهاء المالكية رحمة الله عليهم فقالوا يغسل الإناء سبع مرات ولا حاجة لوجود التراب فيها ؛ والسبب في ذلك أن الإمام مالك-رحمة الله عليه-لم يذكر رواية الترتيب ولذلك قالوا أنه يكفي أن يغسل الإناء سبع مرات ولا يلزم أن يترب.
والصحيح وجوب الترتيب لثبوت الروايات الصحيحة عن النبي صلى الله عليه وسلم ولا شك أن العمل بها متعين وعليه فإنه لابد من وجود غسلة التراب .
والسؤال : هل يقوم غير التراب مقام التراب ..؟؟
والجواب : أولاً أن التراب خص في حديثنا وكان تخصيص النبي صلى الله عليه وسلم بذكره فيه دليل على صدق نبوته بأبي وأمي صلوات الله وسلامه عليه حيث دل العلم الحديث على أن في لعاب الكلب من الجراثيم مالا يقوى على قلعه سائر المنظفات ؛ ولكنه بالتراب يزول فالدودة الموجودة في لعابه يبيدها التراب إبادة تامة على خلاف بقية المزيلات والمبيدات وهذا علم من أعلام نبوته -صلوات الله وسلامه عليه -وشاهد على أنه مرسل من الله عز وجل حيث أن هذا الأمر الخفي عرفه المسلمون قبل عشرة قرون وكانوا يفعلونه في أوعيتهم وأوانيهم ولم يدركوا علماء العصر إلا بعد جهد وأبحاث الأمر الذي يدل على كمال شريعتنا وصدق نبوة نبينا صلوات الله وسلامه عليه إلى يوم الدين فالأصل أنه يترب وأنه لابد من سكب التراب في الغسلات .
ولكن إذا كان الإنسان في موضع لا يتيسر فيه وجود التراب هل يقوم غير التراب مقام التراب ..؟؟(41/14)
قال بعض العلماء إذا فقد التراب فإنه يزيله ببقية المزيلات ويجعل في الغسلة التي هي للتراب غيرها من المزيلات لأن المقصود المبالغة في النظافة والنقاء وعلى هذا فإنه يقوم الصابون ونحوه من الأشنان مقام غسلة التراب تحقيقاً لأمره -صلوات الله وسلامه عليه - بتطهير الإناء .
وأمره - عليه الصلاة والسلام -بغسل الإناء من ولوغ الكلب فيه دليل على نجاسة عين الكلب كما ذكرنا ، وبناءً على ذلك فرع جمهور العلماء رحمهم الله بأن أي جزء من أجزاء الكلب إذا وقع على السائل والمائع ولامسه فإنه يأخذ حكم الولوغ فلو أدخل الكلب يده بدل أن يدخل لسانه وقلنا بنجاسة عينه وجب التسبيع وفرق بعض العلماء بين اللعاب وبين سائر جسده فقال إذا أدخل لسانه وجب التسبيع ، وأما إذا أدخل يده أو رجله في الوعاء فإنه يجب التثليث لأن يده نجسة وفي لعابه ما ليس في يده.
والقول بالتسبيع أحوط والقول بالتثليث أبلغ في لزوم الأصل ؛ لأن الأصل عدم الأمر بالزيادة عن الثلاث إلا إذا دل الدليل على ذلك وقد دل الدليل على الولوغ ولم يدل على ما سوى الولوغ فبقي الحكم على ظاهره من كونه مختصاً باللعاب واليد ليس فيها لعاب الكلب وهكذا بالنسبة لقدمه وبقية جسده .
والسؤال : لو أن لعاب الكلب سال على قماش ونحو ذلك فهل يأخذ حكم الولوغ ..؟؟
للعلماء وجهان :
قال بعض العلماء : يعتبر ذلك المكان متنجساً ولا يحكم بوجوب التسبيع إلا بالولوغ .
وقال بعضهم : إنه يجب التسبيع لأن النبي صلى الله عليه وسلم عبر بالطهور فإذا كان الطهور من ولوغ فمه فكذلك سائر لعابه كذلك سائر الحالات التي يصيب فيها اللعاب غير الإناء فقالوا إنه يجب التسبيع والتعفير بالتراب والقول بالتسبيع قياسه صحيح والقول بالتثليث ألزم للأصل ، وعلى هذا فإنه لو احتاط الإنسان بالتسبيع كان ذلك أولى وأحرى .(41/15)
وأما أمره عليه الصلاة والسلام في خاتمة هذا الحديث بغسل الإناء من ولوغ الهرة مرة واحدة -فسيأتي الكلام عليه إن شاء الله تعالى عند الكلام على الباب الذي يلي هذا الباب- والذي بين فيه المصنف هدي رسول صلى الله عليه وسلم وما ورد عنه في حكم سؤر الهرة وسيأتي بيان ذلك إن شاء الله في المجلس القادم وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد -.
- ? - ? - ? - ? - الأسئلة - ? - ? - ? - ? -
السؤال الأول :
على قول الجمهور بنجاسة الكلب نجاسة عينية ... هل لمس الكلب ينقض الوضوء ؟ وإن لم ينقض الوضوء فهل حكمه حكم النجاسة الواقعة على البدن من وجوب غسل العضو الذي لامسه ..؟؟
الجواب :
بسم الله الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه أما بعد :
فإن لمس الكلب ولمس سائر النجاسات لا يوجب الحكم بانتقاض الوضوء وهذا بإجماع العلماء رحمهم الله ، وعليه فإن لمس الكلب لا يقتضي انتقاض وضوء الإنسان لأن الأصل في المتوضئ فإنه متوضئ حتى يدل الدليل على الانتقاض وإنما ورد الدليل بغسل نجاسة الكلب ولم يرد أنه ينقض الوضوء وقد قال - عليه الصلاة والسلام -في الحديث الصحيح : (( لا يقبل الله صلاة أحدكم إذا أحدث حتى يتوضأ)) وجعل الوضوء منتقضاً بالحدث ولم يجعل لمس النجاسة موجباً لانتقاضه وعلى هذا فإنه يبقى الحكم بكون الإنسان متطهراً متوضئاً .
وأما إذا لمس الكلب فلا يخلو اللمس من أحوال :
الحالة الأولى : أن يكون الكلب رطباً ويكون اللامس أو الشئ الذي لامس الكلب من الإنسان رطباً كأن تكون يد الإنسان مبلولة ووقع على موضع مبلول من الكلب فحينئذ يحكم بالنجاسة بلا إشكال وذلك أن الرطوبة أوجبت الانتقال لنجاسة العين والرطوبة الموجودة في الكلب إذا قيل بنجاسة عينه فإنها منتجسة وتأخذ حكم النجاسة .(41/16)
الحالة الثانية : أن يكون الكلب رطباً واللامس غير رطب كأن يلمس بيده ويده جافة وليست برطبة فتقع على موضع الرطب من الكلب أو يكون الكلب خارجاً من موضع مبتل الجسد فيضع يده عليه فحينئذ يحكم بتنجسه بانتقال الرطوبة فإن لمس الرطوبة النجسة يوجب الحكم بنجاسة ما مسها لحديث الصبي الذي بال في حجر النبي صلى الله عليه وسلم وقد تقدم بيان هذه المسألة .
وأما الحالة الثالثة : وهي أن تكون يد الإنسان مبلولة أو رطبة ويكون الكلب جافاً أو وقعت يده المبلولة على موقع جاف من الكلب فحينئذ يحكم بالنجاسة أيضاً وذلك لأن رطوبة اللامس اقتضت انتقال النجاسة بالترطيب إليه بمماسة النجس ولذلك قالوا إذا وضع يده وهي مبلولة على عذرة جافة فإنه يحكم بالتنجس .
الحالة الرابعة : أن تكون يد الإنسان جافة ويكون الموضع الذي لمسه من الكلب جافاً فحينئذ لا يحكم بنجاسة الإنسان ، والله تعالى أعلم .
السؤال الثاني :
ما حكم عرق الكلب ..؟؟
الجواب :
بالنسبة لعرق الكلب وكذلك الخنزير وكل نجس العين إذا كان محكوماً على الشيء بكونه نجساً فإن جميع ما يتولد منه يحكم بنجاسته فاللعاب نجس لورود أمر النبي صلى الله عليه وسلم بغسل الإناء منه فلما أمر بغسل الإناء والوعاء من لعابه دل على أن فضلة بدنه كلها تعتبر نجسة فقالوا دمع الكلب ، وكذلك عروقه وجميع ما يتحلب منه يعتبر نجساً لظاهر هذا الحديث في دلالته من جهة المعنى ، والله تعالى أعلم .
السؤال الثالث :
أشكل علىّ نجاسة الدم في الباب السابق وأن النبي- عليه الصلاة والسلام - احتجم ولم يتوضأ بل غسل محاجمه فقط..؟؟
الجواب :(41/17)
أما بالنسبة لا حتجامه - عليه الصلاة والسلام - فلم يرد أنه لم يتوضأ وقام إلى الصلاة مباشرة فإن الإنسان قد يبول وبيقى ساعات ولا يتوضأ فليس هذا بدليل إنما يكون دليلاً بالنسبة لا حتجامه - عليه الصلاة والسلام -وخروج الدم منه لا يوجب انتقاض وضوئه ، احتجام الإنسان وخروج الدم منه لا يوجب انتقاض وضوئه في قول جمهور العلماء وقلنا إنه هو القول الصحيح وكون الإنسان يحتجم ولا يحكم بانتقاض وضوئه لا يستلزم أن الدم طاهر فالدم نجس وخروج الدم من الإنسان لا يستلزم أن ينتقض وضوؤه وعلى هذا فإن استشكالك كونه يحتجم أن هذا يدل على أنه ليس بنجس فهذا ليس بقوي والصحيح أن الدم نجس لظاهر القرآن في قوله-سبحانه- :{ أَوْ دَمًا مَسْفُوحًا.. فَإِنَّهُ رِجْسٌ}(1) حيث عمم-سبحانه- في كل دم يسفح والمراد بذلك أن يخرج من الحي سواء كان آدمياً أو غير آدمي فإنه إذا خرج منه في حال حياته فهو دم مسفوح ، وعلى هذا فإننا نقول بنجاسته وقد أمر صلى الله عليه وسلم المرأة فقال :(( اغسلي عنك الدم وصلي)) فأمرها بغسل الدم قبل الصلاة وكونه يخص بدم الحيض فإننا نقول دم الحيض وغيره على حد سواء وقد أمر المستحاضة أيضاً أن تغسل وليس بدمها دم حيض وإنما هو ناشيء عن عرق كما ثبت بذلك الخبر في الصحيح في قوله : (( إنما ذلك عرق)) فلما أمر المستحاضة أن تغسل دم الاستحاضة وقال إنما ذلك عرق فإن الدماء تخرج من العروق والأصل أنها تسري في الإنسان من عروقه ، وعلى هذا فإننا نقول أن أمره بغسل الدم يدل دلالةً واضحةً على نجاسته وهو المذهب الراجح ، والله تعالى أعلم .
السؤال الرابع :
على القول بنجاسة الكلب نجاسة عينية كيف نجيب على الحديث في البخاري أنها كانت تقبل وتدبر وتبول في المسجد في عهد النبي صلى الله عليه وسلم وكيف نوجه حديث عدي بن حاتم رضي الله عنه : (( فكل مما أمسكن عليك )) فدل على عدم نجاسته ..؟؟
الجواب :
__________
(1) / الأنعام ، آية : 145 .(41/18)
في السؤال إشكالان : الإشكال الأول : إقبال الكلاب وإدبارها هذا الحديث أشار العلماء إلى الجواب عنه وقالوا إن الرواية تقبل وتدبر أي في المسجد وأما البول فليس في المسجد وإنما وقع الإقبال والإدبار داخل المسجد وأما قضية البول فإنه لم يكن داخل المسجد ، وقد أشار الحافظ ابن حجر رحمه الله في شرحه لصحيح البخاري أعني الفتح إلى هذا الجواب أنه إنما وقع منها الإقبال والإدبار .
وأما مسألة البول فإنها ليست واقعة لكن لو قلنا إنها تقع على رواية تقبل وتدبر وتبول في المسجد فإننا نقول تبول في المسجد ، بولها في المسجد لا يخلو من حالتين :
أولاً : إما أن تبول على علم فحينئذ لا إشكال فيه أنه يقوى أن يقال بأنها ليست بنجسة إذا ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم والصحابة اطلعوا على بولها وصلوا على المكان الذي بال فيه الكلب وليس في الحديث ما يدل على ذلك .
ثانياً: أنه أجيب بأن هذا متقدم على أمره عليه الصلاة والسلام بغسل الإناء من ولوغ الكلب وهذا أقوى الأجوبة وتوضيحه أن مسجد النبي صلى الله عليه وسلم لم تكن له أبواب وقد جاء في رواية ابن عمر-رضي الله عنهما-وأشار إليها أيضاً الحافظ رحمه الله في الفتح إلى أنه قد اعتني بعد ذلك في المسجد وجعل له ما يحفظه ومنع من دخول الكلاب إليه وهذا يدل على أن آخر الأمرين من رسول الله صلى الله عليه وسلم عنايته فإذا كان آخر الأمرين ونظرت إلى أحاديث الأمر بغسل الإناء من ولوغ الكلب وجدتها من رواية أبي هريرة وعبد الله بن مغفل وكلاهما -رضي الله عنهما -متأخر الإسلام ، وحينئذ قالوا إن هذا الذي ورد في الحديث إنما هو في الشأن المتقدم وما جاء من الأمر بغسل الإناء من ولوغ الكلب إنما هو في الشأن المتأخر والأصل إنه يعمل بالمتأخر ويكون ناسخاً للمتقدم وحينئذ لا إشكال فيه هذا بالنسبة للإقبال والإدبار في المسجد .(41/19)
أما الإشكال الثاني : أما حديث عدي فإنه سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال : " يا رسول الله إني أصيد بكلبي المعلم وبكلبي غير المعلم فما يحل لي؟ " فقال عليه الصلاة والسلام :(( إذا أرسلت كلبك المعلم وذكرت اسم الله عليه فكل)) وجه الدلالة من الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم أحل لعدي أن يأكل من صيد كلبه المعلم ، فالإشكال يقول لو كان الكلب نجس العين ، فهو ينهش الفريسة وحينئذ تتنجس الفريسة بنهشه وهذا لا شك أنه إشكال في ظاهره متجه ولكن يجاب عنه بأن الكلب إذا نهش الفريسة فإن موضع النهش بالإجماع نجس ؛ لأنه موضع ذكاة فبالإجماع لو وضعت السكين على بهيمة وأدرتها فخرج الدم فإن الدم المسفوح أثناء الذكاة نجس بالإجماع على ظاهر الآية :{ أَوْ دَمًا مَسْفُوحًا}(1) فالكلب إذا نهش فإن نهشه هو موضع الذكاة وهذا كما يقول العلماء وينص عليه جمهور العلماء أن موضع النهش من الكلب يعتبر نجساً وهذا بالنسبة للطيور الجارحة كالصقر والباز والشواهين والباشق ونحوها إذا أُرسلت على الطيور ونهشت بمخالبها فإنه يعتبر موضع النهش نجساً والدم الذي يخرج أثناء الذكاة يعتبر نجساً ، ولذلك لا يؤكل من موضع الذكاة حتى يغسل ويزال الدم الذي فيه وعليه فإننا نقول أن الفريسة التي أمسكها الكلب إنما تنجس موضع إمساكه وهذا الموضع نقوم بغسله في الحيوان المستأنس فضلاً عن الحيوان المتوحش أعني الصيد فإنه يجب على الإنسان أن يغسله ، وهذا أمر يغفله بعض الناس خاصة الآن في الذبائح فبعض الذبائح خاصة منها ما يشوى يكون موضع الرقبة فيه بقية الدم الذي خرج أثناء الذكاة فإذا لم يغسل غسلاً يزيل هذا الدم فإنه يعتبر نجساً ولا يجوز أكله ولا يجوز الأكل منه لأن هذا الدم دم مسفوح وقد حرم الله عز وجل ذلك فقال-سبحانه-:{قُلْ لاَ أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلاَّ أَنْ يَكُونَ
__________
(1) / الأنعام ، آية : 145 .(41/20)
مَيْتَةً أَوْ دَماً مَسْفُوحاً أَوْ لَحْمَ خِنزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ }1 فهذا الدم الذي يخرج أثناء الذكاة وموضع الذكاة الذي ينهر منه الدم يعتبر نجساً ويجب غسله سواء كان من الكلب المعلم أو من الطير الجارح أو كان من الآلة نفسها وكون الآلة أو الكلب يكون متنجساً أو نجساً لا يقتضي تنجيس الصيد كما لا يخفى ، والله تعالى أعلم .
السؤال الخامس :
ما حكم اقتناء الكلاب دونما حاجة وهل صحيح أنه ينقص من أجره كل يوم قيراطان..؟؟
الجواب :
لا يجوز اتخاذ الكلب إلا في ثلاثة أحوال :
الحالة الأولى : أن يكون الإنسان محتاجاً له للصيد . والحالة الثانية : أن يتخذه لحراسة الزرع .
والحالة الثالثة : أن يتخذه لحراسة الماشية .
فغير هذه الثلاث حالات التي استثناها النبي صلى الله عليه وسلم ورد فيها الوعيد أن من اتخذه فيها ينقص من أجره كل يوم قيراط وهذا لا شك أنه وعيد حتى قال بعض العلماء إن ورود الحديث بهذا الوعيد يدل على أن هذا الفعل كبيرة من كبائر الذنوب فإن القيراط مثل جبل أحد من ناحية الأجر والفضل وكونه ينقص من الإنسان هذا الأجر العظيم يدل على إنه قد ارتكب أمراً محرماً ، وعلى ذلك فإنه لا يجوز اتخاذ الكلاب من دون حاجة ولا شك أن اتخاذها على هذا الوجه يعني بدون حاجة فإنه يكون تشبهاً بالكفار والتشبه بالكفار محرم وقد صح عنه عليه الصلاة والسلام :(( أن من تشبه بقوم فهو منهم )) ولا شك أن الإنسان إذا تشبه بهم لا يأمن أن يأخذ من عاداتهم وتقاليدهم ما يوجب حبه لهم ولا شك أنه إذا وصل إلى هذا فإنه لا يأمن-والعياذ بالله- أن يترك أوامر الله ويرتكب محارم الله بسبب حبه لهم وإعجابه بما هم عليه وعلى هذا فإنه لا يجوز اتخاذ الكلب من دون حاجة فإن وجدت الحاجة التي ذكرنا فإنه يجوز وأما غير هذه الحاجات الثلاث هل يقاس عليها أو لا يقاس؟(41/21)
فللعلماء وجهان : جمهور العلماء على عدم القياس ، وقال بعض أهل الرأي إذا كان الإنسان يخاف اللصوص على مال أو على عرض أو نحو ذلك واحتاج لوجود الكلب قالوا فإنه يرخص له قياساً على الحرث والماشية والصيد ، والله تعالى أعلم .
السؤال السادس :
هل هناك حد معتبر لكمية التراب التي تضع في الإناء للغسل أم لا ..؟؟
الجواب :
التراب الذي يوضع في الإناء يجزيء فيه أن يأخذ كفاً بيده فإذا أخذ الكف من يده ورماها في الإناء فإنه يمتزج التراب بالماء وحينئذ تدير هذا التراب بالماء في جميع الإناء ، وقال بعض العلماء : الأفضل أن تغسل بالماء في الأولى ثم ترمي كف التراب حتى يكون فيه شيئاً من اليبس فتديره في الإناء كله وكلا الوجهين صحيح ، فإن فعل هذا فلا بأس ، وإن فعل هذا فلا بأس والمهم أن يصيب التراب جميع أجزاء الإناء وحينئذ إذا أصاب التراب جميع أجزاء الإناء من الداخل فإنه يصدق على صاحبه أنه قد غسل الإناء بالتراب ، والله تعالى أعلم .
السؤال السابع :
امرأة مر على نفاسها خمسة وعشرون يوماً وقد انقطع عنها الدم ولكن يخرج ماء وعليه حمرة هل تصلي أم تنتظر تمام الأربعين..؟؟
الجواب :
المرأة النفساء تمكث أربعين يوماً فإن انقطع الدم قبل الأربعين فينقطع على إحدى صورتين :(41/22)
إما أن ترى القصة البيضاء قبل تمام الأربعين وتبقى يوماً فأكثر وهي طاهرة فحينئذ تصوم وتصلي وحكمها حكم الطاهرة في مدة النقاء وفي حكم القصة البيضاء الجفوف وهو أن تضع في الموضع قطنة أو نحو ذلك ثم تخرج هذه القطنة وليس عليها أثر فإذا رأت الجفوف أو القصة البيضاء قبل تمام الأربعين وانقطع الدم يوماً فأكثر فإن المدة التي ينقطع فيها الدم تعتبر فيها طاهرة أما لو انقطع أول النهار ثم عاود آخر النهار فإنه حينئذ لا إشكال في احتسابه من الأربعين فالعبرة بتمام اليوم كاملاً نقاءً فلو أنها مكثت عشرين يوماً وانقطع عنها الدم ورأت الجفوف أو القصة البيضاء ثم مكثت ثلاثة أيام ثم عاودها الدم بعد الثلاثة أيام فلا يخلو من حالتين:
إما أن يعاودها على صفة دم النفاس فحينئذ تلفق ومذهب التلفيق أنها تعتبر أيام النقاء نقاء وأيام الدم دماً فتضيف ما بعد الثلاثة أيام إلى العدد السابق حتى تتم أربعين يوماً .(41/23)
مثال ذلك : لو جرى معها عشرين يوماً دم ثم انقطع خمسة أيام ثم عاودها على صفة دم النفاس عشرة أيام فإن العشرين الأولى محسوبة من الأربعين وتلغى الخمس التي بينهما وتضيف العشرة الثانية فيصبح قد تم لها من نفاسها ثلاثون يوماً فتنظر حتى تتم الأربعين وهناك مذهب يقول أنها تضيف الخمس إلى العدد وتعتبر نفسها في الخمس كأنها نفساء وتضيف العشرة فيصبح كأنها في الخمس والثلاثين فيبقى لها من نفاسها خمسة أيام والصحيح أن أيام النقاء داخل دم النفاس تعتبر طهراً ويحكم بكونها طاهرة لأن الشرع علق الحكم على وجود الدم فإن وجد وجد حكم النفساء وإن فقد الدم حكم بطهارتها وعلى هذا فهذا الدم أو الماء الذي هو يشبه فيه حمرة يلحق بدم النفاس ويأخذ حكم دم النفاس في المدة مالم يكن ذلك لعارض في طرف رحم أو نحو ذلك من وجود نزف عارض أو نحوه ويقرر الأطباء أنه نزف أو فضلة نزف ليست تابعة لدم النفاس الأول فحينئذ لا إشكال يأخذ حكم البول ويعتبر فضلة نجسة لا يوجب الحكم بكونه من دم النفاس ، والله تعالى أعلم .
السؤال الثامن :
هل يجوز للمرأة الحائض دخول المسجد والجلوس لسماع الدرس فقط دون الصلاة ..؟؟
الجواب :(41/24)
هذه المسألة سبق بيانها غير مرة أن المرأة الحائض لا تدخل المسجد وقد ثبت عنه صلى الله عليه وسلم في الصحيحين أن أم المؤمنين عائشة -رضي الله عنها- لما حاضت في حجها عام حجة الوداع قال عليه الصلاة والسلام : (( اصنعي ما يصنع الحاج غير أن لا تطوفي بالبيت )) فمنعها من الدخول إلى البيت وتأكد هذا بما ثبت في الصحيحين من حديث أم المؤمنين عائشة-رضي الله عنها وأرضاها - قلت قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم : (( ناوليني الخمرة )) فقالت إني حائض فكان النبي صلى الله عليه وسلم في المسجد وطلب منها أن تناوله الخمرة وهي أشبه بالسجادة الصغيرة فقال ناوليني الخمرة فقالت إني حائض فقال : (( إن حيضتك ليست في يدك )) وجه الدلالة من هذا الحديث أنه لما سألها أن تعطيه الخمرة قالت إني حائض فدل على أنهم كانوا يعرفون أن الحائض لا تدخل المسجد وجوابها بكونها حائضاً يدل دلالةً واضحةً على أنها عهدت من الشرع أن الحائض لا تدخل المسجد ، ولذلك أجابها النبي صلى الله عليه وسلم بقوله : (( إن حيضتك ليست في يدك)) أي إنما طلبت منك أن تناوليني باليد ودخول اليد ليس كدخول الكل ؛ لأن الجزء لا يأخذ حكم الكل ، ولذلك قالوا لو أن معتكفاً أخرج يده من نافذة المسجد لم يبطل اعتكافه لأن خروج الجزء ليس كخروج الكل ودخول الجزء ليس كدخول الكل ، وبناءً على ذلك فإن النبي صلى الله عليه وسلم أقرها على قولها إني حائض فظهر وبان أن الحائض لا تدخل المسجد ولا تمكث فيه ، والله تعالى أعلم .
السؤال التاسع :
إذا وصل المسافر إلى بلده قبيل العصر ولم يصل الظهر فهل يصلي الظهر مباشرة لمجرد وصوله أم ينتظر إلى دخول وقت العصر فيصليها وهل يصليها قصراً أو كاملة ..؟؟
الجواب :(41/25)
إذا كان المسافر في طريق السفر يريد الوقت فإنه يجوز له أن يؤخر الصلاة أعني صلاة الظهر إلى آخر وقتها ولكن يفوته الأفضل والأكمل فإذا بلغ المدينة قبل خروج الوقت فإنه يصلي الظهر أربع ركعات لأنه بدخوله إلى المدينة توجه عليه الخطاب أن يصلي والعبرة بحال أدائه لا بحال دخول الوقت عليه لأن صفة السفر قد زالت عنه فتوجه عليه الخطاب بالأصل أعني أربع ركعات فيطالب بأربع ركعات كاملة وهي مسألة الواجب المضيق لأن الواجب قد صار ضيقاً في آخر وقته وإذا ضيق عليه على هذه الصفة فإنه بالإجماع يصلي الصلاة أربع ركعات وإنما يرخص له بالركعتين إذا كان على صفة السفر .
وَآخِرُ دَعْوَانَا أَنِ الحمَْدُ لِلَّهِ رَبِّ العَالَميْنَ وصلَّى اللَّهُ وسلَّم وبارك على عبده ونبيَّه محمد وعلى آله وصحبه أجمعين .(41/26)
(
قال المصنف رحمه الله : بَاب مَا جَاءَ فِي سُؤْرِ الْهِرَّةِ
الشرح :
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين أما بعد :
فيقول المصنف - رحمه الله-" باب ما جاء في سؤر الهرة " : الهرة هي القط الحيوان المعروف وقد اعتنى المصنف رحمه الله بإيراد هذا الباب في كتاب الطهارة لاشتماله على هدي النبي صلى الله عليه وسلم في سؤر الهرة ، وقد وردت عن النبي صلى الله عليه وسلم الأحاديث تبين أن سؤر الهرة طاهر ، ولذلك اعتنى العلماء من المحدثين والفقهاء بييان هذه المسألة ، وما ورد فيها من هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم ، والهرة تعم بها البلوى ؛ والسبب في ذلك أنها تخالط الإنسان في بيته ، وهكذا إذا كان في الخلاء والصحراء فإنها ربما كانت معه ، والمخالطة والمداخلة تقتضي منها أن تصيب الشراب والطعام ، وتجلس على المكان ولربما جلست على اللحاف والقماش .
فيرد السؤال : عن حكمها هل هي طاهرة أو غير طاهرة ؟ وإذاشربت من الماء هل يكون ما أفضلت طاهرا أم يكون نجساً ..؟؟
ولذلك اعتنى العلماء رحمهم الله ببيان هذه المسألة لورود السنة عن النبي صلى الله عليه وسلم في بيان حكمها .
والهرة تنقسم إلى قسمين :
القسم الاول : ما كان منها مستأنساً يعيش مع الإنسان في المدن والحواضر والقرى ونحو ذلك فهذا النوع هو القط المستأنس .(42/1)
وأما القسم الثاني : فإنه يسمى بالقط البري ، فهذا النوع وردت فيه السنة عن النبي صلى الله عليه وسلم بتسميته بالسنور ، فأما ماكان من القطط في البيوت ويستأنس بالإنسان ويستأنس به الإنسان فإن سؤره يعتبر طاهراً ؛ وذلك لثبوت السنة عن النبي صلى الله عليه وسلم ، وسيذكر المصنف رحمه الله حديث أبي قتادة رضي الله عنه وأرضاه ، و قد نص جماهير العلماء رحمهم الله على أن القطة إذا شربت من الإناء وأفضلت أن سؤرها وفضلتها تعتبر طاهرة على تفصيل سيأتي بيانه إن شاء الله .
وأما بالنسبة للقط المتوحش فإنه يؤذي الإنسان غالباً ، وقد يعتدي على الحيوانات الصغيرة ونحوها ؛ ولذلك يعتبر حكمه قريباً من حكم السباع ، وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم من حديث جابر بن عبد الله -- رضي الله عنه - وعن أبيه- أنه لما سئل عن الكلب والهرة قال ( عن الكلب والسنور) قال : " زجر النبي صلى الله عليه وسلم عنه " أي حرم النبي صلى الله عليه وسلم بيع الكلاب والقطط المتوحشة ، ولذلك وصفت بهذا الاسم وعليه فإنها تكون في حكم الكلاب في باب البيع ولذلك نص جماهير العلماء رحمهم الله على أن القط المتوحش لا يجوز بيعه ، ولا شراؤه ، وثمنه يعتبر سحتاً وحراماً ؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن ثمن الكلب ، والسنور ، والسنور هو القط المتوحش ، كما ذكرنا .
أما الهرة التي توجد في البيوت فإنها لا تخلو من حالتين :
الحالة الأولى : أن يكون فمها غير ملوث بشيء أي على الأصل.
فحكمها حينئذ أن سؤرها طاهر على أرجح أقوال العلماء رحمهم الله ؛ والسبب في ذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم ثبت عنه في حديث أبي قتادة أنه قال : (( إنها ليست بنجس إنها من الطوافين عليكم والطوافات )) .(42/2)
وذهب فقهاء الحنفية رحمهم الله : إلى أن سؤر الهرة يعتبر مكروهاً ، واختلفوا في الكراهة فأرجح القولين عندهم أن كراهته كراهة تنزيهية ، أي يجوز لك أن تتوضأ بالماء الذي أفضلته الهرة بعد شربها ، ولكن هذا الجواز يعتبر مقروناً بالكراهة أي أن الأفضل أن تستعمل غيره .
وذهب فقهاء الشافعية رحمة الله عليهم إلى أن الأصل في سؤرها وسؤر ما كان مثلها من الدواب والسباع أنه نجس ، ولكن وردت السنة باستثنائه لعموم البلوى ، -وسيأتي إن شاء الله تعالى بيان هذا القول وتوضيح مخرجه-.
وأما بالنسبة للحالة الثانية : لفم القط أن يكون متلبساً بطاهر ، أو نجس ، فإن كانت النجاسة على فم القط فإنه حينئذ يكون الفم متنجساً .
وتوضيح ذلك : لو اعتدى القط على حمام أو نحوه فافترس الحيوان وأكله فإن دماء هذه الحمامة مثلا تعتبر نجسة ؛ لأن ذكاة القط ليست ذكاة شرعية فتكون الحمامة ميتة ، ودمها يعتبر نجساً باتفاق العلماء رحمهم الله ، فإذا بقيت فضلة الدم على فم القط وشرب من الإناء فلا يخلو من حالتين :
الحالة الأولى : أن يتغير لون الماء ، أو طعمه ، أو ريحه بتلك النجاسة ، فحينئذ يكون الماء متنجساً لا يجوز أن يتطهر به .
وأما الحالة الثانية : فهي أن لا يتغير الإناء بما كان على فم القط من لوث النجاسة ، فحينئذ يختلف العلماء رحمهم الله في هذا الماء -على التفصيل الذي تقدم معنا في مسألة القلتين - ، فمن يقول إن الماء إذا كان دون القلتين حمل الخبث يقول إن القط إذا كانت على فمه النجاسة ، وكان الماء دون القلتين وجب تركه ، سواء تغير أولم يتغير وهو مسلك فقهاء الشافعية والحنابلة -رحمة الله على الجميع - .(42/3)
وأما من يقول إن العبرة بالتغير كفقهاء المالكية والظاهرية واختاره شيخ الإسلام -رحم الله الجميع - فإنهم يقولون إن الماء طهور ، وهو باق على أصله ؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (( إن الماء طهور لا ينجسه شيء )) وأكدوا ذلك بأن حديث القلتين لا يقوى على المعارضة ؛ لكونه مفهوماً ، وعليه فإن هذا الماء الذي شربت منه القطة ، وكانت النجاسة على فمها لا نحكم بنجاسته بمجرد الولوغ والشرب ، وأما إذا كان على فم القطة شيء طاهر كأن تكون شربت لبناً أو نحو ذلك من الشراب الذي يعتبر طاهراً ثم أدخلت فمها في الماء فلا يخلو الماء من حالتين أيضاً :
الحالة الأولى : أن يتغير بلون اللبن ، أو طعمه ، أو رائحته ، فإذا تغير فمذهب جماهير العلماء خلافا للحنفية أنه لا يتوضأ به ؛ لأن الماء إذا تغير أحد أوصافه بالطاهر حكمنا بكونه طاهراً لا طهوراً ، والله أباح لنا الطهارة بالطهور لا بالطاهر كما قدمنا .
الحالة الثانية : وأما إذا لم يتغير الماء باللبن والطاهر الموجود على فم القط فإننا نحكم بأن الماء طهوراً بإجماع العلماء رحمهم الله ، إلا على القول بأن ما كان طاهراً إذا وضع في الماء دون القلتين سلبه الطهورية ، وهو اختيار جمع من فقهاء الشافعية والحنابلة -رحمة الله على الجميع -.
والخلاصة حينئذ : أن نقول إن الهرة إذا شرب من الإناء فلا يخلو من حالتين :
الحالة الأولى : أن لا يكون فمه متلوثاً بشيء ، فحكمه حينئذ أن الماء طهور ؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم حكم بهذا الأصل للماء حينما سئل في بئر بضاعة .
الحالة الثانية : أن يكون فم القط ملوثاً بالنجاسة أو بالطاهر ، فإنه يحكم بنجاسته إذا تغير ، ولا يحكم بالنجاسة إذا لم يتغير ، وهكذا الحكم بالنسبة للطاهر .(42/4)
وأما بالنسبة للسنور فإن زجر النبي صلى الله عليه وسلم عن ثمنه يدل دلالةً واضحةً على أنه لا يجوز أكل الثمن ، واختلف العلماء في العلة على قولين : فمنهم من يقول إن العلة هنا النجاسة ، وعليه فإن القط البري يعتبر نجساً ، وسؤره على هذا القول يعتبر نجساً ، ولذلك قرن جمهور العلماء تحريم بيع السنور بتحريم بيع الميتة والخمر والخنزير ، قالوا : لأنها جميعها من الأنجاس ، فكأن الشرع حرم بيع النجس وهناك قول ثانٍ بطهارته إعمالاً للأصل .
يقول المصنف-رحمه الله - " باب ما جاء في سؤر الهر" : أي في هذا الموضع سأذكر لك ما ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم في حكم فضلة الهر إذا شرب من الإناء .
قال المصنف رحمه الله : حَدَّثَنَا إِسْحَقُ بْنُ مُوسَى الأَنْصَارِيُّ حَدَّثَنَا مَعْنٌ حَدَّثَنَا مَالِكُ بْنُ أَنَسٍ عَنْ إِسْحَقَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ عَنْ حُمَيْدَةَ بِنْتِ عُبَيْدِ بْنِ رِفَاعَةَ عَنْ كَبْشَةَ بِنْتِ كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ وَكَانَتْ عِنْدَ ابْنِ أَبِي قَتَادَةَ أَنَّ أَبَا قَتَادَةَ دَخَلَ عَلَيْهَا قَالَتْ : " فَسَكَبْتُ لَهُ وَضُوءاً ، قَالَتْ : فَجَاءَتْ هِرَّةٌ تَشْرَبُ فَأَصْغَى لَهَا الإِنَاءَ حَتَّى شَرِبَتْ قَالَتْ :كَبْشَةُ فَرَآنِي أَنْظُرُ إِلَيْهِ " فَقَالَ : " أَتَعْجَبِينَ يَا بِنْتَ أَخِي" فَقُلْتُ : " نَعَمْ قَالَ إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ:(( إِنَّهَا لَيْسَتْ بِنَجَسٍ إِنَّمَا هِيَ مِنَ الطَّوَّافِينَ عَلَيْكُمْ أَوِ الطَّوَّافَاتِ )) .
وَقَدْ رَوَى بَعْضُهُمْ عَنْ مَالِكٍ وَكَانَتْ عِنْدَ أَبِي قَتَادَةَ وَالصَّحِيحُ ابْنُ أَبِي قَتَادَةَ .
قَالَ رحمه الله : وَفِي الْبَاب عَنْ عَائِشَةَ وَأَبِي هُرَيْرَةَ .(42/5)
قَالَ أَبو عِيسَى رحمه الله : هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ وَهُوَ قَوْلُ أَكْثَرِ الْعُلَمَاءِ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَالتَّابِعِينَ وَمَنْ بَعْدَهُمْ مِثْلِ الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَدَ وَإِسْحَقَ لَمْ يَرَوْا بِسُؤْرِ الْهِرَّةِ بَأْساً وَهَذَا أَحَسَنُ شَيْءٍ رُوِيَ فِي هَذَا الْبَابِ وَقَدْ جَوَّدَ مَالِكٌ هَذَا الْحَدِيثَ عَنْ إِسْحَقَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ وَلَمْ يَأْتِ بِهِ أَحَدٌ أَتَمَّ مِنْ مَالِكٍ .
الشرح :
ذكر المصنف-رحمه الله - حديث أبي قتادة - - رضي الله عنه - وأرضاه – "أنه دخل على كبشة بنت كعب بن مالك " : وهي أنصارية أبوها كعب بن مالك الأنصاري ، قال بعض العلماء : إنه كعب بن مالك المشهور .
وقول حميدة "دخل أبو قتادة عليها ": أي دخل على كبشة زوجة ابنه عبد الله بن أبي قتادة وأبو قتادة هو الحارث بن ربعي بن بلدمة وقيل بن بلدهة الأنصاري فارس النبي صلى الله عليه وسلم وأحد أفاضل الصحابة ، وقد أثني عليه غير واحد من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم حتى خيره أبو موسى على نفسه-رضي الله عن الجميع -دخل أبو قتادة على زوج ابنته .(42/6)
وفي هذه الجملة دليل على كرم خلق أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم و-رضي الله عنهم أجمعين-حينما كانوا يصلون الأرحام ويحسنون إلى أبنائهم وبناتهم وذلك هو هدي النبي صلى الله عليه وسلم فقد دخل هذا الصحابي الجليل على زوج ابنه من باب الصلة للرحم وتعتبر هذه المرأة محرماً له لأن زوجة الابن تعتبر محرماً لأبي زوجها وتعتبر المرأة محرماً لأبي الزوج بمجرد عقد الابن عليها فإذا عقد الابن على امرأة فإنها تحل لأبيه بمجرد العقل فيجوز له أن يختلي بها وأن يسافر معها وأن يصافحها شأنها المحارم سواء بسواء دخل عليها رضي الله عنه وأرضاه من باب الصلة لابنه ، وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصل أولاده فيصل بناته في بيوتهن وذلك من أعظم الأسباب التي توجب حصول الالفة والمحبة بين المسلمين ولا شك أنها من أجل القربات والطاعات ؛ لأنها تدخل السرور على أحب الناس إليك وهو فلذة كبدك سواء كان ابناً أو كانت بنتاً بل إن البنت أحوج إلى الزيارة والصلة من أبيها أكثر من الابن ؛ والسبب في ذلك شدة حاجتها إلى أبيها فلربما كان بينها وبين زوجها بعض الشيء فيدخل عليها أبوها يسليها ويثبتها ويصبرها وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يفعل ذلك فكان يكرم بناته -صلوات الله وسلامه عليه - بزيارتهن وإدخال السرور عليهن فكان يدخل على فاطمة-رضي الله عنها وأرضاها-في بيتها يتفقد شأنها ويوصيها بالذي هو خير ، ولا شك أن هذا من تمام مسئولية الوالدين عن الولد وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يزور فاطمة ففي الحديث الصحيح عن فاطمة -رضى الله عنها وأرضاها- أن النبي صلى الله عليه وسلم : " كان يدخل على فاطمة في بيتها" وفي السنن أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل على فاطمة وعلي فوجدهما نائمين فقال : (( ألا تصليان )) فكانت زيارته صلوات الله وسلامه عليه تشريعاً للأمة ودعوة للآباء والامهات أن يحسنوا إلى(42/7)
الأبناء والبنات .
أما ما اعتاده كثير من الناس إلا من رحم الله في هذا الزمان في قطع أبنائهم وبناتهم وعدم السؤال عن أحوالهم وتفقد شؤونهم في بيوتهن فذلك من أعظم الأمور التي تسببت في هدم بيوت المسلمين فقطعت أواصر المحبة بين الأزواج والأرحام وحصل بسبب ذلك من المفاسد والشرور ما الله به عليم فالمنبغي على الأباء والامهات أن يتفقدو الأبناء والبنات بالزيارات ونحوها وتكون هذه الزيارات معينة على الخير لا على الشر فالمنبغي على الوالدين إذا كان منهما ذلك فوجد الابن أو البنت على الخير ثبتهما على الخير وإن وجد هما في ضر وبلا صبرهما ودعى لهما بالخير وأرشدهما لما فيه صلاح دينهما ودنياهم وآخرتهما .
قالت" فسكبت له وضوءاً " : سكب الشيء إذا صبه على الأرض وسكبه في الإناء أي صبه فيه وسكبت له وضوءاً في الإناء والوضوء بالفتحة هو الماء الذي يتوضأ به ، وأما بالضم فهو أفعال الوضوء فيطلق بالضم ويراد به الفعل ويطلق بالفتح ويراد به الماء الذي يتوضأ به سكبت كبشة -رحمها الله- لأبي زوجها الماء وقد قيل إنها صحابية كما ذكر ابن حبان وارتضاه المستغفري سكبت لأبي قتادة رضي الله عنه وأرضاه الوضوء .
وفي هذه الجملة دليل على ماكان عليه نساء السلف الصالح من احترام الوالدين وإجلالهما والقيام بشأنهما فهذا والد زوجها ومع ذلك قامت بخدمه وإكرامه وتفقد حاله وشأنه ، ولا شك أن هذا من أعظم الاسباب التي توجب الألفة والمحبة والقيام بالحقوق لذي الحق فكبار السن لهم حق على الإنسان مطلقاً سواء كانوا من القرابة أو من غير القرابة لكنهم إذا كانوا من القرابة والأرحام فحقهما آكد فاْنظر-رحمك الله- كيف قامت هذه المرأة بحق أبي زوجها وتفقدت شأنه ولم تستنكف عن خدمته والقيام على حاله مع أنه كان بالامكان أن يقوم بنفسه ويأخذ الوضوء لنفسه ولكنها أكرمته لمكانة الضيافة وأكرمته لمكان كونه والداً لزوجها .(42/8)
وفي هذا دليل على فضل نساء السلف الصالح -رحمهن الله - وفيه أسوة لنساء الامة أن يقتدين بهؤلاء الصالحات المباركات على خلاف ما نشأ عليه بعض النساء في هذا الزمان-أصلحهن الله- من الاستنكاف والاستكبار من والد الزوج فتجدها تهين والده لكبره وضعفه وقد تنتقصه لفقره وضعف ذات يده وكل ذلك مخالف للهدي الصالح لسلف الأمة رحمهم الله وليس من شأن الكرام وإنما هو من شأن اللئام فالمرأة اللئيمة هي التي لا تحفظ حق والدي زوجها وتستخف بهما وتحتقرهما وتتسبب في إدخال الضرر والسوء عليهما وما من زوجة صالحة تعين بعلها على إكرام والديه وتكون ساعية في ذلك إلا أقر الله عينها بذلك غداً إذا تزوج أبناؤها وتزوجت بناتها فرأت عاقبة ما كانت تصنع بوالدي بعلها وزوجها وما من زوجة تسيء إلى والدي الزوج إلا عجل الله لها عقوبة الدنيا قبل عقوبة الآخرة :{ وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَتَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً}(1) فالله مطلع على السرائر والضمائر ومطلع على الأقوال والأفعال فإذا اتقت المرأه ربها في حق والدي زوجها وسعت في القيام بإجلالهن وإجلالهما وإكرامهما وإدخال السرور عليهما رأت عاقبة ذلك لأنه إنفاذ لوصية الله لها وقد ذكر عن بعض النساء أنها أفسدت زوجها على والديه فمازال بهما حتى عقهما -والعياذ بالله- وكان من أبر الناس بوالديه فأمهلها الله عز وجل إلى المشيب والكبر فساء ما بينها وبين بعلها فطلقها في آخر عمرها فأخذت ترتمي على أبنائها وبناتها وإذا بأزواج بناتها وزوجات أبنائها يتسببن في إهانتها والإضرار بها حتى رأت سوء فعلها ولعذاب الآخرة أشد وأبقى فالإساءة إلى الناس لا خير فيها خاصة إذا كانوا من الأرحام والقرابات ففي الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم إن الله-تعالى-يقول : (( إنني أنا الرحمن خلقت الرحم واشتققت لها اسم من اسمي فأنا الرحمن وهي الرحم فمن وصلها(42/9)
وصلته ومن قطعها بتتة )) فكان نساء الصحابة والتابعين ونحوهم من سلف الأمة يقمن على حق الوالدين خير قيام وليس في هذه الأفعال الكريمة ما يغض من مكانة المرأة بل هو والله عز لها ودليل على شرفها وكرامتها وأصالتها والحر من حفظ وداد اللحظات وقابل الحسنات بالحسنات- ونسأل الله العظيم أن يعصمنا من منكرات الأخلاق والسيئات -.
قالت-رحمها الله -" فسكبت له وضوءه فجاءت هرة فأصغى لها الإناء " : أصغى يقال أصغى الرجل إذا أمال برأسه لمن يحدثه وقولها أصغى لها الإناء أي أمال الإناء للهرة حتى تشرب .
وفي هذا دليل على ما كان عليه أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم من الرحمة والعطف فقد أسكن الله قلوبهم الرحمة كما أسكنها من قبل في قلب نبيه وحبيبه صلوات الله وسلامه عليه فلما سكنت الرحمة في قلبه كان رحيماصلوات الله وسلامه عليه حتى بالدواب والحيوانات فكان من هديه أن يحسن إليهم ويوصي بالإحسان وكذلك كان يرهب من الإساءة إلى الحيوانات بإفسادها وإهلاكها دون وجه شرعي .
ففي الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال :(( بينما كانت بغي من بغايا بني إسرائيل إذ رأت كلباً يطوف بالركية أي بالبئر يلهث الثرى من العطش فنزلت فملأت موقها فسقته فشكر اللهَ لها فغفر ذنبها )) قال بعض العلماء : شكر اللهَ أي أن الكلب سأل الله أن يشكرها على إحسانها ورحمتها به لعجزه عن رد معروفها فكانت عاقبة ذلك أن غفر الله لها ذنوبها .
وفي رواية :(( فشكر اللهُ لها)) أي أن الله أعظم من هذه الحسنة مع كونها للحيوان فغفر لها ما كان من ذنبها وهذا يدل دلالةً واضحةً على فضل الإحسان إلى الحيوانات .
وفي الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه : " لما سأله الصحابة فقالوا إن لنا في البهائم لأجراً " قال صلوات الله وسلامه عليه :(( في كل كبد رطبة اجر)) .(42/10)
وفي الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : (( إن الله كتب الإحسان على كل شيء فإذا قتلتم فأحسنوا القتلة وإذا ذبحتم فأحسنوا الذبحة وليحد أحدكم شفرته وليرح ذبيحته )) .
فدل هذا على أن الرحمة تكون بالحيوان وأن هدي الشرع يرغب في الإحسان إلى الحيوانات وعدم الإساءة إليها وكما وردت الأحاديث عن النبي صلى الله عليه وسلم في الرفق بالحيوان والإحسان إليه كذلك وردت الأحاديث بالوعيد الشديد للإساءة إلى الحيوان وأذيته والاضرار به على سبيل الإفساد ففي الحديث الصحيح عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي قال : (( دخلت امرأة النار في هرة حبستها لا هي أطعمتها ولا هي تركتها تأكل من خشاش الارض )) فدل هذا على أن الإساءة إلى الحيوان بدون حق لا خير فيها وفي الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم :(( أن نبي من أنبياء بني إسرائيل نزل في ظل شجرة ليقيل وينام فبينما هو كذلك إذ جاءت نملة فقرصته فأمر بفراشه فنظر فإذا تحته قرية من النمل فأمر بإحراقها فأوحى الله إليه : أبنملة واحدة أهلكت أمة تسبح الله)) وجاء في الرواية الثانية:(( أن الله غضب على عمله )) فدل هذا على أن الإساءة إلى الحيوانات لا خير فيها إذا لم تكن على وجه شرعي ولذلك قال مجاهد رحمه الله في تفسير قوله-تعالى-:{وَلاَ تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاَحِهَا}(1) قال : " الإفساد في الأرض بعد إصلاحها بإهلاك الحرث وقتل الحيوانات" فعد ذلك من الإفساد الذي حرمه الله عز وجل ولا شك أن هدي الإسلام بالرفق بالحيوانات هدي فقد جاء الإسلام بالوسطية في الأمور فمذهب الإسلام وسط بين الإفراط والتفريط فإن تبجح الكفار اليوم بإشادتهم بحقوق الحيوانات فإن الإسلام لم يبالغ في حقوق الحيوان إلى درجة ينزل فيها بدرجة الإنسان بل أفضل من الإنسان فإن الذين ينادون بحقوق الحيوانات اليوم ربما بالغ الناس في إكرامهم حتى درجة أنه يوصي(42/11)
بأمواله إلى كلب أو نحو ذلك فيحرم أقرب الناس إليه من فلذات كبده ويصل ذلك إلى الحيوانات مبالغة وغلواً منهم في إكرام الحيوانات ، فالحيوان حيوان ولكن الإسلام أمرنا بالعدل والإحسان ونهانا عن الجور والبغي والعدوان فجاءت شريعتنا صالحة لكل زمان ومكان لأنها شريعة وسط ليس فيها إفراط ولا تفريط .
قالت" فأصغى لها الإناء فشربت ، قال فرآني أنظر إليه فقال أتعجبين يا ابنة أخي " : أي هل تعجبين مما صنعت من كوني أصغي الإناء الذي هو وضوء لي حتى تشرب منه الهرة ففهم من ذلك أنها تستعجب كيف يتوضئ من فضلة الإناء وهذا هو محل العجب وليس عجبها من إكرام الحيوان فذلك أمر يشكر ومعروف يذكر فيشكر وخير يعرف ولا ينكر ولكنها عجبت من كونه يعطي الوضوء إلى الهرة ثم بعد ذلك يتوضأ بفضلة الهرة فالمسألة مسألة فقهية وليست المسألة من جهة كونه يحسن إلى الحيوان لأنه لو كان تعجبها من الإحسان إلى الحيوان لكان خلاف ما عهد عن السلف الصالح رحمهم الله .
فقال : إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : (( إنها ليست بنجس )) : فابتدأ رضي الله عنه وأرضاه ببيان طهارة الهرة وهذا يؤكد أن العجب كان لمكان الخوف من نجاسة الهرة إنها أي الهرة ليست بنجس وهذا نص صحيح صريح يدل دلالةً واضحةً على أن الهر طاهر ولذلك قال جمهور العلماء رحمهم الله من الحنفية والمالكية والشافعية والحنابلة أنه يجوز بيع القط إذا كانت هناك مصلحة في بيعه ولا حرج في شرائه وبيعه واخذ ثمنه وأكله لأنه من الطاهرات المباحات المنتفع بها ويجوز بيع سائر الطاهرات ما لم يقم بالدليل على التحريم ولا دليل يدل على تحريم بيعها .(42/12)
قال- - رضي الله عنه - وأرضاه - يقول سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول :(( إنها ليست بنجس )) : فيه حجة لمن قال إن الهر طاهر خلافا لمن قال أنها نجسة وهو قول مصادم للحديث وهو حديث ثابت وصحيح ، وعليه فإن القول بنجاسة القط ضعيف والذين يقولون بنجاسة القط قالوا إنه يغتفر القط يغتفر القط إذا شرب من الإناء لعموم البلوى به ، ولذلك قالوا إذا كان الحيوان نجساً وكان موجوداً في البيت وشق التحرز منه فإنه تغتفر نجاسته في الماء إذا شرب منه ولا شك أن هذا القول ضعيف لأنه خلاف ظاهر الحديث الذي معنا قال صلى الله عليه وسلم : (( إنها أي القطة من الطوافين أو الطوافات )) يقال طاف بالشيء إذا دار عليه وسمي الطواف طوافاً لاشتماله بالطواف بالبيت لاشتماله على الدوران بالبيت فإذا دار الإنسان حول الشيء قالوا طاف به .(42/13)
وقوله : (( إنها من الطوافين )) : رحمة من الله- - سبحانه وتعالى -- ، ولطف حيث جعل هذا الحيوان يحرس الإنسان ويقوم عليه ففي القط خصائص وفوائد عظيمة فهو إذا وجد في البيوت اعتدى على الحشرات والهوام ولربما كانت هناك هامة تقتل الإنسان فإذا وجدها فإنه يبطش بها ولربما كان الإنسان نائماً أو غافلاً فتأتيه الحية من وراء ظهره فإذا شعر القط بها افترسها ونبهه عليها ، وكل ذلك من رحمة الله-- سبحانه وتعالى - -ولطفة ببني آدم بل وتفضيله سبحانه وتعالى للآدمي وصدق الله إذ يقول في كتابه وهو أصدق القائلين :{وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنْ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً}(1) فسخر الله للإنسان هذه الدواب تحرسه وتقوم على شأنه وتطوف عليه فلو تأملت -رحمك الله-لو كنت في مكان تخشى منه من عدو أن يقتلك أو يؤذيك فجاء إنسان وقال أنا أقوم عليك وأحرسك فجعل يقوم عليك ويطوف من حولك في كل لحظة وساعة كيف سيكون في نفسك وقع هذا الإحسان فاْنظر-رحمك الله- إلى هذه البهيمة التي سخرها الله عز وجل لخدمتك والقيام على شأنك من حيث لا تشعر بل إنها لا تقوم على حراسة الإنسان وحده بل تقوم على حراسة أهله وزوجه وكذلك ما يكون من طعامه وشرابه- فاللهم لك الحمد كالذي نقول ولك الحمد خيراً مما نقول لا نحصي ثناءً على الله- .
????????? الأسئلة ?????????
السؤال الأول :
هل يمكن القول بحرمة بيع السباع قياساً على حرمة بيع السنور..؟؟
الجواب:
بسم الله الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه أما بعد :(42/14)
فإن النبي صلى الله عليه وسلم حرم بيع الكلب وحرم بيع الميتة والخمر والخنزير ولذلك قال العلماء : إذا كان الحيوان نجس العين فإنه لا يجوز بيعه ولا يجوز شراؤه وثمنه يعتبر سحتاً ولذلك ثبت في الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه حرم ثمن الدم ، قال العلماء في هذا دليل على عدم جواز بيع الأنجاس فعلى القول بنجاسة السباع فإنه يعتبر بيعها محرماً ، وقد قال جمهور العلماء رحمهم الله : بنجاسة السبع مستدلين بما جاء عنه- عليه الصلاة والسلام -في حديث القلتين أنه سئل عن الماء وما ينوبه من السباع فقال عليه الصلاة والسلام :(( إذا بلغ الماء قلتين لم يحمل الخبث )) قال العلماء : سئل النبي صلى الله عليه وسلم عن الماء وما ينوبه من السباع فلو كانت السباع طاهرة لقال إن الماء لا يتأثر لكنه حينما قيد الماء قالوا دل على أن السباع نجسة ولكنه يختلف تأثير الماء على الصفة التي ذكرنا في شرحنا في هذا الحديث ، والله تعالى أعلم .
السؤال الثاني :
هل يجوز أكل لحم الهرة إذا ثبتت طهارتها..؟؟
الجواب :
سبحان الله ضاقت الدنيا كلها وما أحل الله وما وجدت إلا الهر على العموم هناك من يقول من العلماء : إنه يجوز أكلها وإنها طاهرة وإنه يجوز أكلها وهناك من يمنع لأنها في حكم السباع .
السؤال الثالث :
هل من السنة التقريرية تربية الهرة وهل يثاب من ربها واقتناها وأطعمها هل ورد شيء من ذلك قياساً على صنيع فعل أبي هريرة رضي الله عنه ..؟؟
الجواب :(42/15)
أما بالنسبة إلى الإحسان إلى الهر وكونه يكون في البيت ويكرمه الإنسان ويحسن إليه في الحدود الشرعية فهذا لا إشكال أنه داخل في الحسنات إذا احتسب أجره عند الله سبحانه وتعالى وذلك أن هذه الدواب والبهائم إذا قيم على طعامها وشرابها والإحسان إليها دون غلو فإن هذا من الرحمة والله إذا أسكن الرحمة في قلب عبده رحم العباد ورحم الدواب وجعله خيراً على الناس ، وكذلك لا يشك أنها إذا كانت في البيت وأحسن إليها دون غلو ودون مبالغة أن ذلك يعتبر جائزاً ولا حرج فيه ، والله تعالى أعلم .
السؤال الرابع :
هل كل ما حرم أكله حرم ثمنه هل هذا بمثابة القاعدة ..؟؟
الجواب :
ما حرم أكله لا يقتضي حرمة ثمنه ، لكن إذا بيع من أجل أن يؤكل فإن العلماء رحمهم الله يقولون يعتبر ثمنه حراماً إذا كان مثلاً الشيء محرم الأكل فبيع من أجل أكله فإن المنفعة محرمة ولا يجوز بيعه على هذا الوجه وهذا الذي جعل بعض العلماء يقول : إن الحشرات إذا وجدت فيها منفعة كما هو موجود في زماننا كأن تتخذ في المعامل أو نحوها أو يستصنع منها ما فيه نفع للناس قالوا يجوز بيعها فالمقصود أن الشيء قد يحرم أكله ؛ ولكن يجوز بيعه إذا وجدت فيه مصلحة وفيه إذن شرعي فقضية كونه يؤكل أو لا يؤكل في حل البيع وعدمه ليست بصحيحة وليست بقاعدة صحيحة لأن البيع لا يتوقف على الأكل فأنت تبيع أشياء لا تؤكل تبيع الفراش الدواب وتبيع السيارات وهي لا تؤكل أثناء بيعها فليس البيع مرتبطاً بوصف معين في الأكل بحيث تقول لا يجوز البيع إلا إذا كان مباح الأكل هذه ليست بقاعدة مضطردة ؛ ولكن تكلم العلماء رحمهم الله إذا حرم أكل الشيء فعلى القول بأنه إذا حرم أكل الشيء فإنه نجس يتفرع عليه حرمة البيع .(42/16)
وتوضيح ذلك : كالآتي ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم في حديث جابر بن عبد الله في الصحيحين :أنه خطب في ثاني أيام فتحه لمكة وقال : (( إن الله ورسوله حرم بيع الميتة والخنزير والخمر والأصنام )) هذه الأربعة التي نص على تحريم بيعها قال جمهور العلماء : نظرنا فيها فوجدنا العلة في الخمر والميتة والخنزير أنها نجسة ووجدنا الأصنام نجسة المعنى وإن لم تكن نجسة الحس بقوله-تعالى- :{فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنْ الأَوْثَانِ}(1) إذا ثبت أن تحريم البيع أن النبي صلى الله عليه وسلم حرم بيع هذه الاشياء من أجل نجاستها قالوا فكل نجس لا يجوز بيعه ، ومن هنا حرم بيع الزيت النجس والزيت المتنجس قالوا لأن النجس لا يحل أكل ثمنه ؛ ولأن النبي صلى الله عليه وسلم لما سأل عن شحوم الميتة يطلى بها السفن ويصطصفح بها قال عليه الصلاة والسلام :(( لعن الله اليهود حرمت عليهم الميتة فجمعوا شحومها فأذابوه ثم جملوه وأكلوا ثمنه)) قالوا فهذا يدل على أنه إذا كان الشيء نجساً لا يجوز بيعه ، بيقى السؤال كيف جعلتم محرم الأكل نجساً قالوا دليلنا على ذلك حديث الحمر الأهلية فإن الحمر الأهلية ثبت النصوص عن النبي صلى الله عليه وسلم الصحيحة أنه أباح أكل الحمر فلما كان عام خيبر غلت بها القدور فإذا بمنادى رسول الله صلى الله عليه وسلم ينادي إنها رجس وأمر بإكفاء القدور قالوا إن الحمر كانت بالأمس طاهرة وتؤكل وينتفع بها فأصبحت اليوم رجس بقوله : (( إنها رجس )) وهو حديث صحيح قالوا وصفها بكونها رجساً لما نزل تحريم أكلها فدل على أن محرم الأكل أنه نجس وعلى هذا أصبحت قاعدة عندهم أن ما حرم أكله أنه يعتبر نجساً على الأصل إلا إذا قام دليل أن تحريمه لأمر آخر غير قضية الطهارة والنجاسة إذا تقرر هذا استقام قولهم إن محرم الأكل يعتبر نجساً على الصورة التي ذكرنا ، والله تعالى أعلم .
السؤال الخامس :(42/17)
أشكل علي أن العلماء رحمهم الله اعتبروا الدود الخارج من البدن طاهر مع أنه يتغذى على النجاسات وهي بقايا الطعام المتجمع قبل خروجه ..؟؟
الجواب:
مسألة الدود لا يخلوا من حالتين :
الحالة الأولى : إما أن يخرج من الدبر .
الحالة الثانية : وأما أن يخرج من غير الدبر.
إذا خرج من الدبر فإنه لا يخلوا أيضاً من حالتين :
إما أن يخرج على صفة تدل على نجاسته كأن يخرج طرياً أو يخرج ندياً أو عيله فضلات النجاسة من جوانبه أو على شكله فحينئذ لا إشكال في كونه نجساً أو متنجساً ، أما لو خرج على صفته فهذا لا يتأتى إلا في دود بلعه الإنسان فإذا بلع الإنسان الدود وخرج من دبره وخرج دون أن تكون به بلة فيقولون الأصل طهارته كأن يأكل طعام فيه دود ثم يخرج هذا الدود كالسوس الذي يوجد التمر ويوجد في الدقيق ويخرج مع فضلته ويخرج هذا الدود على صفته قالوا إنه طاهر ؛ لأن الدود له حالتان :
الحالة الأولى : إما أن يكون متولد من نجس فنجس . الحالة الثانية : وأما أن يكون متولد من طاهر فطاهر .
الدود المتولد من طاهر كالدود الذي يوجد في التمر والدود الذي يوجد في الدقيق ونحوه فإنه يعتبر طاهر لأن هذا الدود ليس من ذوات الانفس وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : (( أحلت لنا ميتتان ودمان)) فقال عليه الصلاة والسلام :(( أما الميتتان فالجراد والحوت )) الجراد ليس من ذوات الدماء فليست له نفس سائلة قالوا هذا يدل على أن الدود إذا كان مما لا نفس له سائلة ومتولداً من طاهر فإنه يعتبر طاهراً في قول جماهير العلماء ، أما إذا تولد من النجس فإنه يعتبر نجساً لأن الفرع يتبع أصله ، والله تعالى أعلم .
السؤال السادس :
أشكل عليّ جواز اتخاذ الكلاب للصيد والحرث والماشية مع تحريم بيعها وشرائها فقد توجد المشقة في سبيل اقتنائها..؟؟
الجواب :(42/18)
على الله الأمر وعلى رسوله صلى الله عليه وسلم البلاغ وعلينا الرضا والتسليم النبي صلى الله عليه وسلم ثبت عنه في الصحيحين عن حديث أبي مسعود كذلك ثبت عنه من حديث جابر بن عبد الله وثبت عنه في سنن أبي داوود عن ابن عباس -رضي الله عنهم- أحاديث صحيحة كالشمس في رابعة النهار ليس فيها لبس ولا إشكال في ثبوتها أنه نهى عن ثمن الكلب ونهى عن بيع الكلب وقال في حديث ابن عباس-رضي الله عنهم- : (( إن جاءك يريد ثمنه فأملأ كفه تراباً )) فهذ نص صحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه لم يفرق بين كلباً وآخر سواء كان مأذوناً به أو غير مأذون به فإن الأصل في العام أن يبقى على عمومه حتى يرد على ما يخصصه ، وأما بالنسبة كونه كلب صيد أو حرس أو ماشية فإن هذا رخصة كما يقول العلماء وينصون عليه أن الرخص لا يتجاوز بها محالها فأذن الشرع بك أن تتخذه للحرث أو تتخذه للماشية أو تتخذه للصيد ولم يأذن بالانتفاع بثمنه وحينئذ يكون تعليم الكلاب على الطريقة التي يريدها الإنسان لكن استثنى بعض العلماء في كلب الصيد قالوا يمكن للإنسان أن يخرج من الضيق بأن يستأجر شخصاً لتعليم الكلب أو يكون أخذ الأجرة لقاء التعليم فإن الأجرة حينئذ لقاء التعليم والتعليم مباح والقاعدة في باب الايجارات : " أنه إذا قام بمنفعة مأذون بها شرعاً حل أخذ الثمن أن المنفعة إذا كانت مأذون بها شرعاً حل أخذ الثمن" ولذلك يقولون إن الاجارة تقوم على المنفعة مثال ذلك لو قلت لرجل أكنس لي الدار أو اطبخ لي الطعام أو احمل لي المتاع فإن كنس الدار وطبخ الطعام وحمل المتاع منافع مأذون بها شرعاً فإذا كانت منافع مأذون بها شرعاً فإنه يجوز أخذ المال لقائها فحينئذ إذا استأجرة لتعليم صيد ونحوه فإنه لا حرج فيه ، والله تعالى أعلم .
السؤال السابع :
ما الفرق بين كراهة التنزيه وكراهة التحريم..؟؟
الجواب :(42/19)
من جهة الإثم فإنهم يقولون التحريمية تقتضي التأثيم خلافاً للتنزيهية فإنها لا تقتضي التحريم .
السؤال الثامن :
إذا قال الإمام الترمذي رحمه الله عن الحديث أنه أحسن شيء روي في هذا الباب فهل هذا دليل على صحة الحديث..؟؟
الجواب:
ليس قوله إن هذا أحسن شيء في الباب أو أصح شيء في الباب يقتضي التحسين أو يقتضي التصحيح كما جزم به غير واحد من المحققين وإنما قالوا إن الإمام الترمذي رحمه الله إنما يعني تجويد الإسناد أو جودة المثل أو أموراً ترجع إلى علل توجد في الإسناد جاءت بروايات مختلفة تكون الرواية التي عنده أو الحديث الذي رواه أجودها وأحسنها وأصحها فيقدمه من هذا الوجه فيعبر بهذه الصيغة ، والله تعالى أعلم .
السؤال التاسع :
هل إلزاق الفرج على الفرج يأخذ حكم الإيلاج فيوجب الغسل..؟؟
الجواب:
لا يعتبر إلزاق الفرج بالفرج موجباً للغسل ولا يوجب الحد بل إن الحد والغسل إنما يجبان بالإيلاج ، ولذلك إذا أولج رأس الذكر وهي الحشفة فإنه يترتب عليها ما لا يقل عن ثمانين حكم شرعي كلها تترتب على هذا منها مسألة الحد ووجوب الغسل والإحصان والتحريم في الأنكحة إلى غير ذلك من المسائل ووجوب المهر كاملاً وإلى غير ذلك من المسائل الشرعية فإذا إلزق الفرج بالفرج ولم يحصل الإيلاج فإنه لا يأخذ حكم الجماع وحينئذ لا يجب الغسل ؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال :(( إذا التقى الختانان فقد وجب الغسل)) ولا يلتقي الختان بالختان إلا بإيلاج الحشفة كما نبّه على ذلك جماهير أهل العلم رحمهم الله في شرحهم لهذه السنة الصحيحة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فمجرد الالزاق لا يقتضي الحكم بوجوب الطهارة ولا الحكم بوجوب الحد كما ذكرنا ولكن في النساء فإذا حصل الزاق الفرج بالفرج فهو السحاق وهو محرم شرعاً ، وإذا ثبت عن المرأة فإنها تعزر-والعياذ بالله- أي أن القاضي يعزرها تعزيراً ويكون التعذير دون الحد ، والله تعالى أعلم .(42/20)
السؤال العاشر :
هل تبطل الصلاة إذا لم يتم السجود على الأعضاء السبعة بصورة صحيحة مثل أن يسجد على جبهته دون أنفه..؟؟
الجواب:
هذه المسألة فيها خلاف بين العلماء رحمة الله عليهم فإن الثابت في الصحيح من حديث ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال :(( أمرت بالسجود على سبعة أعظم )) فهذه السبعة الأعظم قالوا إذا سجد على أكثرها ولم يسجد سجد على جبهته ولم يسجد على أنفه فإن سجوده يعتبر صحيحاً لأن الركن قد تحقق ولكن يأثم بعد سجوده على أنفه وهذا اختيار جمع من السلف رحمهم الله ، والله تعالى أعلم .
السؤال الحادي عشر :
هل لو تكرر الحلف على شيء عدة مرات في أوقات مختلفة هل تعد يميناً واحداً أم عدة أيمان..؟؟
الجواب :
هذه المسألة فيها تفصيل فاليمين إذا تكررت من حيث وجوب الكفارة لا يخلوا :
أما أن يكرر اليمين على شيء واحد متحد ولا يكثر أثناء التكرار فإنها يمين واحدة وتلزم فيها كفارة واحدة فلو قال والله لا آكل ثم قال له كل قال والله لا آكل قال له كل قال والله لا آكل فكرر اليمين ثلاثاً أو أكثر فإنها يمين واحدة والواجب في التكفير أن يكفر عن يمين واحدة وأما إذا تكرر منه قال والله لا آكل ثم كفر عن يمين ثم حلف مرة ثانية وقال لا آكل ثم كفر عن يمينه فإنه يلزمه التكفير على حسب التكرار مادام أنه قد ارتفعت يمينه الأولى بالتكفير ، والله تعالى أعلم .
السؤال الثاني عشر :
هل تقسم الهبة بين الأبناء كما يقسم الإرث للذكر مثل حظ الانثيين أم يقسم بالتساوي بين الذكور والأناث ..؟؟
الجواب:
بسم الله الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه أما بعد :(42/21)
فقد ثبت في الصحيح من حديث النعمان بن بشير رضي الله عنه وأرضاه أنه أهدى ونحل بعض ولده فقالت أمه لا أرضى حتى تشهد رسول الله صلى الله عليه وسلم على ذلك فانطلق إلى رسول الله وأخبره فقال عليه الصلاة والسلام :(( أكل ولدك نحلته مثل هذا قال لا قال اذهب فإني لا أشهد على جور)) .
وفي رواية صحيحة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : (( اتقوا الله واعدلوا بين أولادكم )) وفي رواية : (( أتحب أن يكونوا لك في البر سواء )) فدل هذا على أن الواجب على الوالد وعلى الوالدة أن يكون العدل فيما يكون منهم لأبنائهم وبناتهم فيحسن إليهم جميعاً ولا يفضل بعضهم على بعض لأن الله أمره بالعدل فقال النبي صلى الله عليه وسلم : (( اتقوا الله واعدلوا بين أولادكم )) فدل على أنه مأمور بأن يساوي بين أولاده في العطيه قال بعض السلف رحمهم الله كانوا يعدلون بين أولادهم حتى في القبلة أي لو أنه لو أراد أن يقبل ابناً وبجواره البنت قبل البنت كما يقبل الابن ، ولو كان عند ه ابنان فقبل أحدهما مضى إلى الثاني وقبله حتى لا يشعر أحدهما بتفضيله على الآخر فهذه هي السنة الواردة عن النبي صلى الله عليه وسلم بالعدل واختلف العلماء رحمهم الله هل إذا أراد أن يعدل الأب أو الأم بين الأولاد هل يعدل بينهم بالمساواة بحيث يعطي عطاءاً متساوياً من حيث القدر والصفة كأن يكون مثلاً عنده مائة الف وعنده عشرة من الولد خمسة ذكور وخمسة إناث فالقول الأول أنه يعطي كل واحداً منهم ألفاً فحينئذ يتحقق العدل بالمساواة التامة عدداً وقدراً وصفةً من حيث الجودة وعدمها في العطية .(42/22)
القول الثاني : وهو مذهب الجمهور رحمهم الله أن العدل بين الأولاد أن يقسم بقسمة الله من فوق سبع سماوات ، فإذا أعطى الذكر يعطي الأنثى نصف ما يعطيه ؛ لأن الله عز وجل جعل عطية الأنثى نصف عطية الذكر كما قال -تعالى- :{وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالأُنْثَى}(1) وهذا مبني على حكم ؛ لأن الرجل عنده من المصالح والحقوق ما ليس عند المرأة ، ولذلك قالوا : يقسم بقسمة الله من فوق سبع سماوات فيجعل للذكر من أولاده ضعف ما يجعله للأنثى من بناته ، وهذا هو أقوى القولين وأولاهما بالصواب ، والله تعالى أعلم .
السؤال الثالث عشر :
إذا تذكر شخص صلاة سفر بعد إقامته هل يجوز له قصرها ؟ وإذا تذكر صلاة حضر في سفر هل يتمها أم يقصرها..؟؟
الجواب :
هذه المسألة فيها خلاف بين العلماء رحمة الله عليهم من أهل العلم من يقول : العبرة بالقضاء لا بالأداء ، أي العبرة بحال الشيء الذي تقضيه بوقتك حينما قضيت ، وليست العبرة بأصل الصلاة فإذا تذكرتها في الحضر أتممتها وهي سفرية ، وإذا تذكرتها في السفر قصرتها ولو كانت حضرية ، هذا القول الأول ، وهذا القول ينبني على أن الناسي يعتبر غير مكلف ، فكأن الخطاب توجه عليه حينما تذكر ، وقد تذكرها في الحضر فانتقلت رباعية ، وتذكرها في السفر فانتقلت ثنائية ؛ لأن الخطاب يخاطبه بحالته .
وأما القول الثاني فإنه يقول : إنه يقضيها أربعة تامة ، وهذا مبني على قاعدة : " أن الشك في الرخص يوجب الرجوع في الأصل " فإذا كانت الصلاة سفريه وتذكرتها في الحضر فإننا نشك هل تبقى على الرخصة أم تخاطب بخطاب مستأنف يقتضي الإتمام ، فحينئذ ترجع إلى الأصل ؛ لأن الأصل إتمامك ، وهذا القول هو أقوى وأولى وأحرى ، والله تعالى أعلم .
السؤال الرابع عشر :
هل يجوز دفع الزكاة إذا كانت مالاً كثيراً لفقير لكي يتاجر بها ويغني نفسه أم يعطى ما يسد حاجته..؟؟
الجواب :(42/23)
الفقير والمسكين يعطى كل منهم على قدر حاجته ، فتقدر نفقته وتقدر حاجته ، ولا يجوز إعطاؤه فوق حاجته ونفقته ، وأما لو أرادها لتجارة ، أو أراد كل الزكاة من أجل التجارة وكانت عشرة آلاف مثلاً ، وهو يحتاج لحاجته ثلاثة الآف ريال فإن السبعة الآف لا تعتبر زكاة ، ولا تأخذ حكم الزكاة ؛ لأنها أفضلت عن حاجته ، وقد اكتسب الغنى بأخذ سد حاجته ، والله تعالى أعلم .
السؤال الخامس عشر :
ما الحكم في إخراج الزكاة من إرث الأيتام الصغار..؟؟
الجواب:
مسألة زكاة مال اليتيم فيها خلاف معروف عند العلماء ، قد روى مالك رحمه الله في الموطأ عن عمر رضي الله عنه أنه قال : " أتْجِرُوا في أموال اليتامى لا تأكلها الصدقة " قالوا : الصدقة حق متعلق بالمال ، وإذا كانت حقاً متعلقاً بالمال فإنه لا ينظر إلى كونه بالغا أو غير بالغ ، فيطالب بزكاته ، فيكون الخطاب متوجها إلى الولي ، وليس بمتوجه إلى الذي عليه الزكاة ، أعني اليتيم ؛ لأن اليتيم ليس من أهل التكليف ، والله تعالى أعلم .
السؤال السادس عشر :
ما معنى قول العلماء - رحمهم الله - إن النسخ لا يثبت بالظن ..؟؟
الجواب :
قولهم إن النسخ لا يثبت بالظن ، وقول علماء الأصول إن لنسخ لا يثبت بالاحتمال كلام وجيه ، يقتضي أن إثبات النسخ يحتاج إلى دليل ، فلو قلنا إن كل نص يعتبر منسوخاً ، وكل ما احتج رجل على رجل أو على مستدل بدليل قال هذا منسوخ لا نهدمت شرائع الإسلام ، ولأمكن لكل إنسان أن يرد النصوص بهذا الاحتمال والظن ، إذ الأصل في النصوص أنها محكمة حتى يدل الدليل على نسخها .
ويعرف النسخ إما بشيء من الخطاب كقوله-تعالى- :{الآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنكُمْ }(1) فعلمنا أنه كان هناك حكم أثقل ، وأنه انتقل إلى حكم أخف ، وكذلك أيضاً :{ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا}(2) فدل على أنه سينتقل إلى حكم مستأنف .(42/24)
وقد يدل على النسخ تأخر الخطاب من النبي صلى الله عليه وسلم : (( كنت قد نهيتكم عن زيارة القبور ألا فزوروها )) ونحو ذلك من الدلائل المستفادة من النص .
وقد يعرف النص بتأخر الصحابي الراوي للدليل المعارض ، فلو كان هناك دليلان أحدهما من صحابي متقدم الإسلام ، وفد على النبي صلى الله عليه وسلم في أول الهجرة ، وصحابي تأخر إسلامه فإننا نحكم بأن رواية المتأخر تعتبر ناسخة لرواية المتقدم ، ولذلك قال جرير رضي الله عنه وأرضاه :"ما أسلمت إلا بعد نزول المائدة " فدل هذا على أن النسخ لا يثبت بالاحتمال .
وَآخِرُ دَعْوَانَا أَنِ الحمَْدُ لِلَّهِ رَبِّ العَالَميْنَ وصلَّى اللَّهُ وسلَّم وبارك على عبده ونبيَّه محمد وعلى آله وصحبه أجمعين .(42/25)
بسم الله الرحمن الرحيم
قال المصنف رحمه الله : بَاب فِي الْمَسْحِ عَلَى الْخُفَّيْنِ
الشرح:
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين أما بعد :
فيقول المصنف - رحمه الله -" باب في المسح على الخفين " : تقول العرب مسح على الشيء إذا أمر يده عليه ، سواء كانت يده مبلولة بالماء ، أو كانت غير مبلولة ، والمراد بقوله : المسح على الخفين أي إمرار اليد مبلولة على الخف ، والخفان مثنى خف ، وهو النعل الذي يكون من الجلد .
وقوله رحمه الله " باب في المسح على الخفين " : أي في هذا الموضع سأذكر لك جملة من أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم والتي بينت هديه في هذه الرخصة أعني المسح على الخفين ؛ والسبب في ذلك أن الله سبحانه وتعالى أوجب على عباده أن يغسلوا الرجل إلى الكعبين كما هو الحال في آية الوضوء ، ثم إن الله عز وجل خفف على عباده فرخص لهم إذا كانت الرجلان مستورتين في الخف أن يمسح على ظاهر الخفين بدل أن ينزعهما ويغسل الرجلين ، وهي رخصة من الله سبحانه وتعالى قصد بها التخفيف على العباد والتيسير ، وهذه الرخصة ثبتت عن النبي صلى الله عليه وسلم بالأحاديث المتواترة ؛ ولذلك ذكر الإمام أحمد والحافظ ابن عبد البر وغيرهما -رحمة الله على الجميع- أنه قد روى أحاديث المسح على الخفين أكثر من أربعين صحابياً ، وروى ابن المنذر ، عن الحسن البصري رحمه الله أنه قال :" حدثني سبعون من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم مسح على الخفين " ولا شك في أن هذا العدد يوجب التواتر ؛ ولذلك أشار بعض العلماء بقوله رحمه الله :
ثم من المشهور ما تواترا وهو ما يرويه جمع حُضِرا
كذبهم عرفاً كمسح الخف رفع اليدين عادمٌ للخُلْفِ
وقد روى حديثه من كتبا أكثر من ستين ممن صحبا(43/1)
فأكثر من ستين من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم كلهم روى عنه أنه مسح على الخفين ، وقد جاءت الأحاديث بصيغ مختلفة فهناك أحاديث تبين مسحهصلوات الله وسلامه عليه على خفيه كما في حديث المغيرة بن شعبة رضي الله عنه حينما كان مع النبي صلى الله عليه وسلم في عزوة تبوك ، فانطلق معه إلى الخلاء ، ثم إنه صب على رسول الله صلى الله عليه وسلم وضوءاً ، قال : فأهويت لأنزع خفيه ، فقال : (( دعهما فإني أدخلتهما طاهرتين )) فدل هذا الحديث على السنة الفعلية من هديه صلوات الله وسلامه عليه ، وجاءت أحاديث أخر بالسنة القولية في بيان الرخصة وتأقيتها كما في حديث علي -- رضي الله عنه - وأرضاه - أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : (( يمسح المقيم يوماً وليلة ، والمسافر ثلاثة أيام بلياليهن )) فاجتمعت السنة القولية والسنة الفعلية في بيان هديهصلوات الله وسلامه عليه.
ولذلك أجمع السلف الصالح رحمهم الله على مشروعية المسح على الخفين ، وكان في مسألة المسح على الخفين خلاف على عهد الصحابة -رضوان الله عليهم- وهو خلاف الصدر الأول ، ثم إن الصحابة لما سمعوا حديث جرير بن عبد الله البجلي رضي الله عنه وأرضاه اقتنعوا بتأخر مسألة المسح على آية المائدة ، وأنها رخصة باقية إلى الأبد ، ومن ثَم ذكر الإمام الحافظ ابن عبدالبر رحمه الله أنه ما من أحد من السلف روي عنه القول بإنكاره للمسح إلا ورد عنه القول بأنه يجيزه ، ولذلك عد من عقيدة أهل السنة والجماعة أنهم يرون المسح على الخفين ، ولم يخالف في المسح على الخفين إلا الخوارج ممن لايعتد بخلافه كما هو معلوم ، ولذلك قال بعض السلف رحمهم الله : " نفضل الشيخين ، ونحب الختنين ، ونرى المسح على الخفين " .
فقوله" نفضل الشيخين" : يعني أبا بكر وعمر .
وقوله " ونحب الختنين" : يعني عثمان وعلي .(43/2)
وقوله " ونرى المسح على الخفين" : أي نراه مشروعا وجائزاً ، والمسح على الخفين ليس بعزيمة واجبة كغسل الرجلين في الأصل ، ولكنه رخصة رخص الله عز وجل بها لعباده ، سواء كنت محتاجاً إلى لبس الخفين أو لم تكن محتاجاً ، فلو لبس الإنسان الخفين وكان في زمان حار فإنه يصح أن يمسح عليهما إذا استوفيت الشروط الشرعية ، ولا يقال بأن المسح على الخفين مؤقت بالحاجة كالحال في المسح على الجبيرة ونحوها .
والسؤال : هل الأفضل أن يغسل الرجلين ، أو الأفضل أن يمسح على الخفين ..؟؟
قال جمع من العلماء رحمهم الله : إن الأفضل أن يغسل رجليه ؛ لأن الله سبحانه وتعالى جعل ذلك الأصل ، فالأصل في الوضوء أن يكون بغسل الرجلين ، فكونه سبحانه وتعالى يأمر عباده بغسل الرجلين يدل على تفضيله على المسح ، ومن هنا قالوا : إن غسل الرجلين أفضل من المسح على الخفين ، قالوا : ولأن غسل الرجلين أصل ، والمسح على الخفين رخصة قائمة مقام الأصل على سبيل البدلية ، ولا شك أن الفرع لا يفضل الأصل ، قالوا : فيكون الغسل أفضل من المسح .
وقال جمع من العلماء : إن المسح على الخفين أفضل ؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال كما في الصحيح : (( عليكم برخص الله التي رخص لكم )) قالوا : فالأفضل أن أؤخذ برخصة الله سبحانه وتعالى ، وفي الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه صام في السفر حتى بلغ كراع الغميم ، ثم أفطر لشدة المشقة فأفطر معه الصحابة وذكر له أن أقواماً لازالوا صائمين ، فقال عليه الصلاة والسلام : (( أولئك العصاة ، أولئك العصاة )) ، قالوا : فإعراضهم عن الرخصة ورد مورد الذم ، فمن هنا قالوا : إن الأفضل أن يمسح على الخفين .(43/3)
والتحقيق كما هو مذهب جماعة من العلماء أن الأمر واسع ، فإذا كان الإنسان وجدت له حاجة للبس الخفين ، أو كان هناك من ينكر المسح على الخفين فالأفضل أن يلبس الخفين ويحيي السنة ؛ لأن لبسه للخفين فيه بيان لحكم شرعي ، ولذلك قال بعض العلماء : إذا كان الإنسان يقتدى به ، وجاء إلى قوم ينكرون المسح ، أو لا يفعلونه وأحب فإنه حينئذ يجب عليه أن يحيي السنة بفعل ذلك ، حتى يكون أبلغ في بيان هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم .
والمسح على الخفين يشترط أمور ينبغي توفرها لكي يحكم بجوازه ومشروعيته :
الشرط الأول : لا يمسح على الخفين إلا إذا كانا طاهرين ، فلا يمسح على الخف إذا كان من جلد نجس ، فلو اتخذ الخف من جلد ميتة لم يدبغ ، وإنما طهر بالقلع والتنظف دون الدباغ ، فإنه يحكم بعدم جواز المسح على الخفين ؛ والسبب في اشتراط هذا الشرط أن من لبس الخفين سيصلي فيهما يوماً كاملاً إذا كان مقيماً ، وثلاثة أيام بلياليهن إذا كان مسافراً ، ومن المعلوم أنه لا يصح من المصلي أن يصلي بنعلين نجسين ؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم لما أخبره جبريل وهو في الصلاة أن نعليه ليستا بطاهرتين خلعهماصلوات الله وسلامه عليه ، ولذلك أجمع العلماء رحمهم الله على أنه لا يجوز المسح على خف إذا كان نجس العين -أعني مادته نجسة- ، وكذلك الحال إذا كان نجس الظاهر فإنه يغسل ، ثم يلبس ، ويمسح عليه على الأصل الذي ذكرنا .(43/4)
أما الشرط الثاني : فإنه ينبغي أن يكون الخف ساتراً لموضع الفرض ، فلابد من أن يكون الخف ساتراً للقدمين مع الكعبين ، فإذا لم يكن ساتراً فإنه لا يصح المسح عليه ؛ لأن الله أوجب علينا غسل الرجلين ، والمسح على الخفين قائم مقام غسل الرجلين ، فلابد وأن يكون الخف ساتراً لموضع الفرض ؛ لأن خف النبي صلى الله عليه وسلم كان بهذه المثابة والصفة ، فإذا كان حذاؤه ونعله يستر نصف القدم أو ثلاثة أرباع القدم أو يستر غالب القدم ويكشف الكعبين فإنه لا يصح المسح عليه لهذا السبب الذي ذكرنا ، وأما إذا كان الخف ساتراً لموضع الفرض مجاوزاً له كالجراميق- والجراميق تجاوز الكعبين إلى أنصاف الساقين ولا زالت موجودة إلى زماننا - فهذا النوع من الحذاء يجوز أن يمسح عليه لأنه ساتر لمحل الفرض .
وأما الشرط الثالث : فإنه لا تستباح رخصة المسح على الخفين إلا إذا أدخل رجليه وقد تطهر طهارة كاملة ؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم ثبت عنه في الصحيح أنه لما أراد المغيرة أن ينزع خفيه قال : (( دعهما فإني أدخلتهما طاهرتين)) قال العلماء : وفي هذا دليل على أنه يشترط في المسح على الخفين أن يكون الإنسان قد لبسهما على طهارة كاملة ، فإذا كان الإنسان على غير طهارة ، ولبس الخفين فإنه لا يستبيح المسح عليهما ؛ لأنه غير متطهر ، ورسول الله صلى الله عليه وسلم إنما مسح عليهما وهو على طهارة كاملة ، ومحل المسح على الخفين إنما هو في طهارة الوضوء .(43/5)
وأما الطهارة الكبرى وهي الغسل من الجنابة ، والحيض ، والنفاس فإنه يجب على المكلف أن ينزع الخفين ؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم حدد المسح على الخفين بالطهارة الصغرى دون الكبرى ، ويدل على ذلك حديث صفوان بن عسال المرادي -- رضي الله عنه - وأرضاه - قال : " أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن لا ننزع خفافنا ثلاثة أيام بلياليهن للمسافر ، ويوماً وليلة للمقيم من بول ، أو نوم ، أو غائط ، لكن من جنابة " أي أن النبي صلى الله عليه وسلم أجاز لهم المسح ثلاثة أيام في السفر ، ويوماً وليلة في الإقامة إذا كان المسح في الطهارة الصغرى ، وقد أشار إليها بقوله :
من بول أو نوم أو غائط دون الطهارة الكبرى
بدليل قوله : " لكن من جنابة" ، فدل قوله : " لكن من جنابة" على أنه لو لبس الخفين ، ثم أحدث حدثاً أكبر بجنابة فإنه يجب عليه أن ينزع خفيه ، وينقطع تأقيت المسح على الخفين ، وهذه الرخصة من الله عز وجل لعباده فيعا رحمة بالمؤمنين ، وتيسير على المسلمين ، وذلك أن الإنسان ربما كان في شدة البرد حيث يشق عليه نزع الخفين ، ويشق عليه أن يغسل رجليه بالماء ، فإذا وجد الخفان فإنهما فيهما تيسيراً ورحمة من الله عز وجل به .
يقول المصنف رحمه الله : حَدَّثَنَا هَنَّادٌ حَدَّثَنَا وَكِيعٌ عَنِ الأَعْمَشِ عَنْ إِبْرَاهِيمَ عَنْ هَمَّامِ بْنِ الْحَارِثِ قَالَ :" بَالَ جَرِيرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ ثُمَّ تَوَضَّأَ وَمَسَحَ عَلَى خُفَّيْهِ فَقِيلَ لَهُ أَتَفْعَلُ هَذَا ! " قَالَ : " وَمَا يَمْنَعُنِي وَقَدْ رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَفْعَلُهُ " قَالَ إِبْرَاهِيمُ وَكَانَ يُعْجِبُهُمْ حَدِيثُ جَرِيرٍ لأَنَّ إِسْلامَهُ كَانَ بَعْدَ نُزُولِ الْمَائِدَةِ هَذَا قَوْلُ إِبْرَاهِيمَ يَعْنِي كَانَ يُعْجِبُهُمْ ".(43/6)
قَالَ رحمه الله : وَفِي الْبَاب عَنْ عُمَرَ وَعَلِيٍّ وَحُذَيْفَةَ وَالْمُغِيرَةِ وَبِلاَلٍ وَسَعْدٍ وَأَبِي أَيُّوبَ وَسَلْمَانَ وَبُرَيْدَةَ وَعَمْرِو بْنِ أُمَيَّةَ وَأَنَسٍ وَسَهْلِ بْنِ سَعْدٍ وَيَعْلَى بْنِ مُرَّةَ وَعُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ وَأُسَامَةَ بْنِ شَرِيكٍ وَأَبِي أُمَامَةِ وَجَابِرٍ وَأُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ وَابْنِ عُبَادَةَ وَيُقَالُ ابْنُ عِمَارَةَ وَأُبَيُّ بْنُ عِمَارَةَ .
قَالَ أَبو عِيسَى رحمه الله : وَحَدِيثُ جَرِيرٍ حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ .
وَيُرْوَى عَنْ شَهْرِ بْنِ حَوْشَبٍ قَالَ : " رَأَيْتُ جَرِيرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ تَوَضَّأَ وَمَسَحَ عَلَى خُفَّيْهِ فَقُلْتُ لَهُ فِي ذَلِكَ " فَقَالَ : " رَأَيْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم تَوَضَّأَ وَمَسَحَ عَلَى خُفَّيْهِ " فَقُلْتُ لَهُ : " أَقَبْلَ الْمَائِدَةِ أَمْ بَعْدَ الْمَائِدَةِ ؟ فَقَالَ : " مَا أَسْلَمْتُ إِلاَّ بَعْدَ الْمَائِدَةِ ؟".
حَدَّثَنَا بِذَلِكَ قُتَيْبَةُ حَدَّثَنَا خَالِدُ بْنُ زِيَادٍ التِّرْمِذِيُّ عَنْ مُقَاتِلِ بْنِ حَيَّانَ عَنْ شَهْرِ بْنِ حَوْشَبٍ عَنْ جَرِيرٍ قَالَ وَرَوَى بَقِيَّةُ عَنْ إِبْرَاهِيمَ بْنِ أَدْهَمَ عَنْ مُقَاتِلِ بْنِ حَيَّانَ عَنْ شَهْرِ بْنِ حَوْشَبٍ عَنْ جَرِيرٍ وَهَذَا حَدِيثٌ مُفَسَّرٌ لأَنَّ بَعْضَ مَنْ أَنْكَرَ الْمَسْحَ عَلَى الْخُفَّيْنِ تَأَوَّلَ أَنَّ مَسْحَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم عَلَى الْخُفَّيْنِ كَانَ قَبْلَ نُزُولِ الْمَائِدَةِ وَذَكَرَ جَرِيرٌ فِي حَدِيثِهِ أَنَّهُ رَأَى النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم مَسَحَ عَلَى الْخُفَّيْنِ بَعْدَ نُزُولِ الْمَائِدَةِ .
الشرح :(43/7)
هذا الحديث الذي ذكره المصنف رحمه الله حديث جرير بن عبد الله البجلي رضي الله عنه وأرضاه يعتبر من أقوى الأحاديث التي دلت على رخصة المسح على الخفين ؛ والسبب في ذلك أنه صرح بأن هذه السنة وقعت من النبي صلى الله عليه وسلم بعد نزول المائدة ، وسورة المائدة من آخر ما نزل ، ولذلك كانت أم المؤمنين عائشة-رضي الله عنها وأرضاها- تقول : " إنها من آخر ما نزل ، فما وجدتم فيها من حلال فأحلوه ، وما وجدتم فيها من حرام فحرموه " أي أن سورة المائدة من آخر السور نزولاً على رسول الله صلى الله عليه وسلم وهذه الجمل تدل على أن أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم كانوا يرون النسخ ، وذلك باعتبار الدليل المتأخر ، وإلغاء الدليل المتقدم إذا كان النسخ كليا ، وبناءً عليه فإن تأخر فعل النبي صلى الله عليه وسلم على نزول آية المائدة يدل على أن هذه الرخصة تعتبر باقية إلى قيام الساعة ، أي أنها محكمة وليست بمنسوخة .
وقوله " إن جريراً بال ثم توضأ ومسح على خفيه ، فقيل له : أتفعل هذا ؟ " : الاستفهام هنا للإنكار أي كيف تفعل هذا وقد أمرك الله بغسل الرجلين ؟
فقال : رضي الله عنه وأرضاه "وما يمنعني " : المانع هو الحائل بين الشيئين ، يقال للجدار إنه مانع لأنه يحول بين الجهتين من ورائه .
وقوله : ما يمنعني أي ما يحول بيني وبين هذه السنة وقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يفعله " : أي رأيت النبي صلى الله عليه وسلم يمسح على خفيه ، وفي هذه الجملة فوائد :
الفائدة الأولى : أن الصحابة -رضوان الله عليهم-كانوا لا يقولون ولا يفعلون في دين الله عز وجل إلا بالدليل والحجة ، ولذلك لما أنكر عليه رضي الله عنه وأرضاه رجع إلى الحجة من فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم .(43/8)
الفائدة الثانية : أنهم كانوا يرون فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم حجة على العموم ، حيث إنهم لم يلتفتوا إلى نص القرآن في مقابل نص السنة ، وإنما اعتبروا نص القرآن أصلاً والمسح على الخفين الثابت في السنة فرعاً ، أي أنه رخصة للمسلم أن يفعله .
والفائدة الثالثة : أن جريراً رضي الله عنه وأرضاه استند إلى فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم بالرؤية فنفى الواسطة بين رؤيته لفعل النبي صلى الله عليه وسلم ، وحينئذ يقوى أن فعلهصلوات الله وسلامه عليهللمسح وقع بعد نزول آية المائدة ، ولذلك أثبت المغيرة بن شعبة رضي الله عنه وأرضاه ذلك في قصته حينما كان مع النبي صلى الله عليه وسلم راجعاً في غزوة تبوك ، فالمقصود أن جريراً رضي الله عنه وأرضاه احتج بهذا الفعل ؛ لأنه لا يرى التعارض بين الكتاب والسنة .
وقوله : " وكان يعجبهم حديث جرير" : قال بعض العلماء : إن إبراهيم النخعي قصد بذلك أصحاب عبد الله بن مسعود رضي الله عنه وأرضاه ، وذلك أنهم كانوا يشتبهون في تأخر المسح ، وكانوا يظنون أن آية المائدة تعتبر ناسخة للمسح ، فإذا بهذا الحديث يرفع الإشكال ويزيل اللبس .
هذا الحديث الصحيح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم اعتنى المصنف رحمه الله بذكره في هذا الموضع لكونه يدل على مشروعية المسح على الخفين .
وللعلماء في المسح على الخفين من حيث الجواز وجهان :
الوجه الأول : أن المسح على الخفين جائز مطلقاً ، سواء كان في السفر أو كان في الحضر ، وبهذا القول قال جماهير الخلف والسلف رحمهم الله ، وبه يقول أبو بكر وعمر وعثمان وعلي وجمع من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم أن رخصة المسح على الخفين ليست بخاصة بالسفر ، وليست بخاصة بالحضر ، وإنما هي عامة .
الوجه الثاني : ذهب الإمام مالك رحمه الله في إحدى الروايات أن المسح على الخفين يعتبر رخصة في السفر دون الحضر .(43/9)
واحتج جمهور العلماء - رحمهم الله - بحديث حذيفة بن اليمان رضي الله عنه وأرضاه : " أن النبي صلى الله عليه وسلم أتى سباطة قوم فبال وهو قائم ، ثم تنحى فتوضأ ومسح على خفيه " قال الجمهور : وقد وقع هذا الفعل من رسول الله صلى الله عليه وسلم في الحضر ، فدل على أن الرخصة لا تختص بالسفر .
واستدلوا بما ثبت في حديث صفوان بن عسال ، وحديث علي بن أبي طالب - رضي الله عن الجميع - حيث أقت النبي -- صلى الله عليه وسلم - -للمسافر ثلاثة أيام ، وللمقيم يوما وليلة ، فدل على أن المسح يكون للمقيم كما يكون للمسافر ، وأنه لا يختص بالمسافرين دون المقيمين .
واحتج الإمام مالك رحمه الله في إحدى الروايات عنه بأن النبي صلى الله عليه وسلم إنما ثبت عنه المسح في حديث المغيرة بن شعبة رضي الله عنه وقد وقعت هذه الحادثة في غزوة تبوك حينما قفل-صلوات الله وسلامه عليه - راجعاً إلى المدينة ، قالوا : فإذا وردت الرخصة في السفر فإننا نخص الحكم به دون الحضر .
وأكدوا هذا من جهة النظر فقالوا : إن السفر مضنة المشقة والتعب والنصب ، فخفف عن المسافر في المسح على خفيه ، كما خفف عنه في الصلاة فسقط عنه شطر الرباعية ، كما هو معلوم .
والذي يترجح في نظري والعلم عند الله هو القول بأن المسح على الخفين لا يتأقت بالسفر ، وإنما هو عام شامل للحضر والسفر ؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم رخص لأصحابه مطلقاً ، وعلى هذا فإن الجواز المستفاد من حديث جرير بن عبد الله رضي الله عنه في هذه السنة الصحيحة يعتبر على سبيل العموم ، لا يختص بالمسافرين دون المقيمين ، بل إنه يسن للإنسان أن يمسح على خفيه سواء كان في السفر أو كان في الحضر .
قال المصنف رحمه الله : بَاب الْمَسْحِ عَلَى الْخُفَّيْنِ لِلْمُسَافِرِ وَالْمُقِيمِ
الشرح :(43/10)
يقول المصنف - رحمه الله -" باب المسح على الخفين للمسافر والمقيم ": أي في هذا الموضع سأذكر لك ما ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم من الأحاديث التي تدل على عموم هذه الرخصة .
وقوله - رحمه الله-" للمسافر " : يقال سافر يسافر سفراً فهو مسافر ، مأخوذ من أسفر الشيء إذا اتضح ، ومنه قول العرب : أسفر الصبح إذا بان ضوءه ، وأسفرت المرأة عن وجهها إذا كشفته ، فأصل مادة السفر الوضوح ؛ ولذلك قالوا : سمي السفر سفراً لأنه يكشف عن حقيقة الإنسان ، فالمسافر في السفر تتضح حقيقة أخلاقه ، وما يكون من شأنه وخلاله ، ولذلك جاء رجل إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنه وأرضاه يريد أن يشهد ، فقال له عمر رضي الله عنه : ياهذا إني لا أعرفك ، فأتني بمن يعرفك ، فذهب وجاء برجل يريد منه أن يزكيه ، فقال له عمر رضي الله عنه : أتعرفه ؟ قال : نعم أعرفه بالصلاح والأمانة ، قال له : هل أنت جاره الذي يطلع على مدخله ومخرجه ؟ قال : لا ، قال : هل عاملته بالدينار والدرهم الذي يعرف به صدق الرجل من كذبه ؟ قال : لا ، قال : هل سافرت معه ؟ قال : لا ، قال : اذهب فإنك لا تعرفه ، وقال للرجل : ائتني بمن يعرفك ، فدل هذا على أن المسافر إنما سمي بهذا الاسم لكون السفر يكشف حقيقة خلاله وأخلاقه ، ولذلك قالوا : السفر تختبر به الرجال ، أي يمتحن فيه الرجل ويعرف على حقيقته .
وقوله" المقيم " : من الإقامة ، وأقام الإنسان إذا حل بالبلد ونزل فيها وسكن .
وقوله" للمسافر والمقيم " : ترجم رحمه الله بهذه الترجمة ؛ لأن الحديث الذي تقدم معنا يدل على مشروعية المسح على الخفين مطلقاً ، سواء كان الإنسان مسافراً أو حاضراً ، وقد اختلف العلماء في ذلك كما ذكرنا فناسب أن يعتني رحمه الله بذكر هذا الباب حتى يؤكد العموم المستفاد من السنة السابقة .(43/11)
قال المصنف- رحمه الله - :حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ حَدَّثَنَا أَبُو عَوَانَةَ عَنْ سَعِيدِ بْنِ مَسْرُوقٍ عَنْ إِبْرَاهِيمَ التَّيْمِيِّ عَنْ عَمْرِو ابْنِ مَيْمُونٍ عَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ الْجَدَلِيِّ عَنْ خُزَيْمَةَ بْنِ ثَابِتٍ:" عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ سُئِلَ عَنِ الْمَسْحِ عَلَى الْخُفَّيْنِ؟ " فَقَالَ : (( لِلْمُسَافِرِ ثَلاَثَةٌ وَلِلْمُقِيمِ يَوْمٌ )) .
قال رحمه الله : وَذُكِرَ عَنْ يَحْيَى بْنِ مَعِينٍ أَنَّهُ صَحَّحَ حَدِيثَ خُزَيْمَةَ بْنِ ثَابِتٍ فِي الْمَسْحِ وَأَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْجَدَلِيُّ اسْمُهُ عَبْدُ بْنُ عَبْدٍ وَيُقَالُ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَبْدٍ .
قَالَ أَبو عِيسَى رحمه الله : هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ وَفِي الْبَاب عَنْ عَلِيٍّ وَأَبِي بَكْرَةَ وَأَبِي هُرَيْرَةَ وَصَفْوَانَ بْنِ عَسَّالٍ وَعَوْفِ بْنِ مَالِكٍ وَابْنِ عُمَرَ وَجَرِيرٍ .
الشرح :
هذه المسألة تعرف عند العلماء رحمهم الله بمسألة التأقيت للمسح ، والمراد بذلك أن المسح على الخفين له زمان ووقت محدد ، حدده الشارع في سنة النبي صلى الله عليه وسلم الصحيحة عنه .
وقد اختلف العلماء رحمهم الله في هذه المسألة على قولين :
القول الأول : أن المسح على الخفين يتأقت فللمسافر ثلاثة أيام وللمقيم يوم وليلة ، وهذا هو مذهب جمهور العلماء من الحنفية والشافعية والحنابلة والظاهرية وأهل الحديث-رحمة الله على الجميع- .
والقول الثاني : وذهب الإمام مالك : إلى أن المسح على الخفين لا يتأقت ، فأنت بالخيار تمسح على الخفين مسافراً ومقيماً ، بدون أن يتحدد المسح بزمان معين ، فإن شئت مسحت نصف يوم ، وإن شئت مسحت يوماً كاملاً ، وإن شئت مسحت يومين وثلاثة ، وأربعة ، وخمسة إلى آخره ، فلا حد عندهم للمسح لا للمسافر ولا للمقيم .(43/12)
واحتج جمهور العلماء رحمهم الله بحديث خزيمة بن ثابت رضي الله عنه الذي معنا .
واحتجوا بحديث صفوان بن عسال المرادي رضي الله عنه وفيه أن النبي صلى الله عليه وسلم أمرهم أن لا ينزعوا خفافهم ثلاثة أيام بلياليهن للمسافر ، ويوماً وليلة للمقيم .
واحتجوا بحديث علي بن أبي طالب رضي الله عنه وأرضاه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : (( يمسح المسافر ثلاثة أيام بلياليهن ، والمقيم يوما وليلة )) قالوا : فهذه الأحاديث الصحيحة تدل دلالةً واضحةً على التأقيت ، وأن المقيم لا يجوز له أن يمسح أكثر من يوم وليلة ، والمسافر لا يجوز له أن يمسح أكثر من ثلاثة أيام بلياليهن .
واحتج الإمام مالك رحمه الله : بحديث أبي بن عمارة أنه سئل عليه الصلاة والسلام عن المسح يوماً ؟ قال : ((نعم )) ، قيل : ويومين ؟ قال : (( نعم )) ، قيل : وثلاثة ؟ قال : (( نعم وما شئت)) قالوا : فدل هذا الحديث على أن المسح لا يتأقت ، وأنك بالخيار لو شئت مسحت يوماً أو يومين أو أكثر ، سواء كنت مسافراً أو كنت مقيماً .
والصحيح ماذهب إليه جمهور العلماء ؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم أقت المسح ، وحديث علي ، وحديثنا وإن كان قد ورد بصيغة الخبر فإن المقصود به الإنشاء ، فقد أثبت الحكم بالتأقيت ، فدل على أن المسح مؤقت.
وأما ما استدل به أصحاب القول الثاني فإنه حديث ضعيف ، ضعفه الإمام البخاري ، والإمام أحمد ، وغيرهما -رحمة الله عليهم - ، وهو حديث رجاله مجهولون ، بل شدد بعض العلماء وقال : إنه حديث موضوع ، والمقصود أنه لا يقوى على معارضة الأحاديث الصحيحة ، وعلى هذا فإن المسح على الخفين يتأقت .
والسؤال : كيف يكون التأقيت ..؟؟(43/13)
والجواب : أنه إذا توضأ الإنسان وضوءاً كاملاً ، وأتم غسل رجليه الاثنتين فإنه يجوز له أن يلبس الخفين، سواء لبسهما بعد الوضوء مباشرة ، أو بعد زمان بشرط أن لا ينتقض ذلك الوضوء ، فإذا لبست الخفين على هذه الحالة فإنك تنتظر إلى أول حدث يقع بعد لبسك للخفين ، فلو كان الإنسان لبس خفيه على طهارة في الساعة الواحدة نهاراً ، وأحدث في الساعة الثانية ، فإنه يحسب يوماً وليلة من الساعة الثانية ، فإذا جاء مثلها من اليوم القابل فإنه ينزع خفيه ، وحينئذ يتوضأ ، فإن شاء أن يلبسهما بعد الوضوء لبس ، واستأنف التأقيت من جديد على الصورة التي ذكرنا ، فاليوم والليلة العبرة فيهما من أول حدث بعد لبس الخفين على طهارة كاملة ، أما إذا كان مسافراً فإنه يستتم ثلاثة أيام بلياليهن ، فإذا كان حدثه في الساعة الثانية كما ذكرنا فإنه يستبيح المسح ثلاثة أيام إلى اليوم الثالث ، فإذا جاءت الساعة الثانية منه فإنه تبطل طهارته ، وينزع خفيه ويتوضأ من جديد ، فإذا انتهت المدة حينئذ بطلت الطهارة ، واستأنف الحكم .
والسؤال : إذا كان المسافر يمسح ثلاثة والمقيم يمسح يوماً وليلة ، فلو فرضنا أن إنساناً ابتدأ المسح وهو مقيم ثم سافر ، أو كان مسافراً ابتدأ المسح وهو مسافر ثم أقام قبل ثلاثة أيام ، أي رجع إلى مدينته قبل تمام الثلاث فهل يجب عليه أن يتم مسح المقيم أو مسح المسافر ..؟؟(43/14)
جمهور العلماء رحمهم الله على : أن من ابتدأ المسح وهو مقيم ، أو ابتدأ المسح وهو مسافر ثم اختلفت حالته إلى النقيض أنه يتم مسح مقيم في كلتا الصورتين ، وبذلك أفتى جمع من أئمة السلف رحمهم الله للقاعدة الشرعية : " أن الشك في الرخص يوجب الرجوع إلى الأصل" فلما شككنا فيه هل يزيد على الإقامة يومين ، إذا انتقل من الإقامة إلى السفر ، رجعنا إلى اليقين وهو يوم وليلة ، وكذلك العكس فإنه إذا كان مسافراً ثم أقام وقد مسح يوماً وليلة ، أو يومين ثم أقام ، فإننا نشك هل يرخص له بالمسح في اليوم الثالث فنرجع إلى الأصل ، وهذا هو المعتبر والذي عليه الفتوى لاشتماله على الاحتياط في الدين ، خاصة في الصلاة التي هي من أعظم شعائر الإسلام وأعظم أركانه.
- ? - ? - ? - ? - الأسئلة - ? - ? - ? - ? -
السؤال الأول :
إذا أصابت الخف نجاسة ونزعته لغسلها هل أستأنف أم أبني ..؟؟
الجواب :
بسم الله الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه أما بعد :
فإن السنة دلت على أن الخف يبقى في قدمك يوماً كاملاً إذا كنت مقيماً ، فإذا حصل النزع قبل هذا التأقيت الذي أقتته السنة فإن الطهارة لاغية ؛ لأن الشرع إنما رخص لك بالمسح بدل الغسل إذا كنت على السنة ، وعلى المسح المعتبر شرعاً ، فإذا نزعت قبل تمام المدة توجه عليك الخطاب بغسل رجليك ، وحينئذ يقع الفاصل الذي يفقد به شرط الموالاة ، فيحكم بانتقاض الوضوء ، كما هو مذهب الجمهور ، والله تعالى أعلم .
السؤال الثاني :
هل يمسح على الجورب إذا كان ممزقاً من أغلب الجهات ..؟؟
الجواب:(43/15)
الجوربان فيهما حديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، والفرق بينهما وبين الخفين : أنهما من القماش من صوف أو قطن أو نحو ذلك ، وأما بالنسبة للخف فإنه يكون من الجلد ، فيجوز المسح على الجوربين ؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم مسح عليهما ، ولكن بشرط أن يكونا صفيقين ، أي ثخينين ؛ لأنه ما عرف على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم الجورب الرقيق ، والقائل بجواز المسح على الجورب الرقيق يقيسه على الجورب الثخين ، وهو قياس مع الفارق ، فإن الجورب الثخين إذا نظرت إليه في حكم الخفين ، وتستطيع أن تمشي عليه ، وهذا هو الذي ورد فيه حديث التساخين أن الصحابة كانوا يلفون الخرق ، ثم يمسحون عليها ؛ لأنهم يواصلون المشي عليها .
وأما بالنسبة للرقيق فإنه يقال به قياساً على الثخين ، وفي النفس منه حرج ، وفي النفس منه شك ، ولذلك يبقى على الأصل ، إما خف من الجلد ، وإما جورب ثخين ، فإذا كان الجورب ثخيناً أو صفيقاً -كما يقول به جمهور من قال بجواز المسح على الجوربين- فإنه يجوز أن يمسح عليه ، فإذا وجدت شقوق يسيرة في الشراب ، أو في الجورب فإنه لا حرج ، وهكذا إذا كان في الخف ، فما كانت خفاف أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم لتسلم من الشقوق ، وما كان خفه صلوات الله وسلامه عليه ليسلم من التشقق ؛ لأنهم كانوا يمشون بالخفاف ، ويواصلون المشي عليها ، فالذي يظهر والله أعلم قول من قال بأنه لاحرج في وجود الثقوب اليسيرة ، والشقوق اليسيرة ما لم تكن متفاحشة ممزقة للخف ، فإنه حينئذ لا يمسح عليه ، والله تعالى أعلم .
السؤال الثالث:
ما حكم المسح على الخفين ومن ثم خلعهما والصلاة بالشراب فقط ..؟؟
الجواب:(43/16)
هذه المسألة تعرف بمسألة الخف فوق الخف ، فإذا لبس الشراب ، ولبس فوق الشراب خفاً ، فإنه حينئذ يكون قد جعل الخف الممسوح عليه فوق الخف الساتر لمحل الفرض ، يستوي أن يكونا من جنس واحد كجورب فوق جورب ، كأن يلبس شراباً فوق شراب ، أو خفاً فوق خف ، أو يكونا مختلفين أو كخف فوق الجورب فالحكم في هذه الصور واحد ، فمن أهل العلم من قال : لا يجوز أن يمسح على الجورب الأعلى ، وإنما يمسح على الجورب الذي يلي محل الفرض ؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم إنما مسح على هذه الصفة ، ولم يثبت عنه أنه مسح على خف فوق خف ، وهذا هو الذي تطمئن إليه النفس ، خاصةً وأننا إذا نظرنا إلى أن المسح رخصة فإنه حينئذ يقتصر فيها على الوارد ، وعلى الصفة التي جاءت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فيقال بالمسح على الأدنى دون الأعلى ، وحينئذ لا يرد السؤال على الصورة التي ذكرت .
السؤال الرابع :
بالنسبة للخلاف في مسألة المسح للمسافر والمقيم ألا يمكننا أن نقول إن حديث المغيرة بين مشروعية المسح في السفر ، وحديث جرير وحذيفة بين مشروعية المسح في الإقامة ونعتبر ذلك من الأمور المرجحة ..؟؟
الجواب:
بالنسبة لحديث المغيرة أن النبي صلى الله عليه وسلم مسح في السفر يستدل به المالكية على رواية ؛ لأن هناك طبعاً في المذهب قولان : قول يقول يمسح في السفر والحضر ، وهذا يفتي به جمع من فقهاء المالكية ، ويرون أن السنة قد ثبتت ، ويعملون به ، ويرجحه غير واحد من أئمتهم .(43/17)
وهناك قول ثان أنه يختص الحكم بالسفر فيستدلون بحديث المغيرة ، فأنسب الأجوبة بدل ما ذكر أن يقال : بأن حديث المغيرة وهو يوافق ما ذكره السائل أن يقال بعبارة أصولية إن حديث المغيرة قد دل على مشروعية المسح في السفر ، لكن ليس فيه دليل على نفي المسح في الحضر ؛ إنما يستقيم الاستدلال به أن لو جاء بصيغة تدل على منع المسح في الحضر لأن مذهبهم يقول يجوز المسح في السفر ولا يجوز في الحضر ، فنحن نتفق على جوازه في السفر ، ونختلف في جوازه في الحضر ، فالحديث جاء بأن النبي صلى الله عليه وسلم مسح في السفر ، فنقول هذا محل إجماع ، وهذه فائدة تحديد محل النزاع في المسائل الخلافية ، ففي هذه المسألة إذا جئت تحدد محل النزاع ومحل الخلاف تقول الآتي :(43/18)
الجمهور يمسح سفراً وحضراً ، مالك في رواية : يمسح سفراً لا حضراً ، تقول الجميع متفقون على المسح في السفر ، ومحل الخلاف في الحضر ، فإذا نازعك المخالف تقول له : لا تأتني بدليل يدل على مشروعية المسح في السفر ، لأن هذا محل اتفاق بيننا ، وإنما الخلاف في نفيك للمسح في الحضر ، فعندنا دليل وهو حديث المغيرة يدل على أنه يمسح في الحضر كما يمسح في السفر وهو حديث حذيفة ، وحديث المغيرة أثبت المسح في السفر ، فليس فيه دليل على مسألتك ، أي ليس فيه دليل على ما تقوله من نفي جواز المسح في الحضر ، لكن طبعاً المالكية لهم قول يقولون إن الأحاديث التي وردت حديث المغيرة ، فلعلهم لم يطلعوا على حديث التأقيت الذي ذكرناه ، وكذلك حديث الإثبات للمسح في الحضر كحديث حذيفة وهذا أنسب الوجوه ؛ ولذلك كان الإمام أحمد-رحمة الله عليه - : " لعل مالكاً لم يبلغه حديث رافع" ، وهذا هو أنسب الوجوه ، وقد بين الأئمة رحمة الله عليهم أنه إذا صح الحديث فهو مذهبهم ، فمن أنسب ما يعتذر به للإمام مالك أنه لم يطلع على أحاديث التأقيت ، بدليل أنه لا يرى التأقيت ، ولو كان يرى التأقيت ، لتبين له أن المسح يكون في الحضر ، فهذا يؤكد أنه لم يطلع على أحاديث المسح في الحضر فيعتذر له بهذا العذر ، ولكن الحجة لازمة لمن تبينت له السنة الواضحة ، والله تعالى أعلم .
السؤال الخامس :
إذا اراد أن يمر يده للمسح فهل يفرج بين أصابعه أم يجمعها..؟؟
الجواب:
السنة في المسح أنه يفرق بين الأصابع ، في قول طائفة من العلماء ، وفيه حديث وهو حديث الخطوط خط خطوطاً على خفه ، -وسيأتينا إن شاء الله وبإذن الله بيان هذه المسألة- ، فالسنة أن يكون مفرقاً .(43/19)
وقال بعض العلماء : إنه يعم ظاهر الخف بالمسح ؛ لأن المسح حل محل الأصل ، وهو غسل الرجلين فحينئذ يعم الظاهر بالمسح ، ولكن يجاب عن هذا بأن الظاهر هو الاكتفاء بالمسح لأغلب الخف ، بدليل أن الباطن لا يجب مسحه ، فدل على أنه على التخفيف أبلغ منه من التعميم ، والله تعالى أعلم .
السؤال السادس :
إذا انتهت المدة المقررة للمسح فهل إذا نزعهما وأرجعهما مباشرة فهل هناك حرج ؟ أم لابد أن يصلي ولو فرضا بدونهما..؟؟
الجواب:
هذه المسألة وهي اشتراط أن يكون هناك فرق ما بين فسخه للخف ولبسه ثانية ، لا دليل عليها ، بل إنه يجوز للإنسان إذا نزع خفيه أن يتوضأ بعد النزع ، ثم يلبس الخفين مباشرة ، ولا حرج عليه في ذلك ، وهذا الحقيقة يقوي قول من قال إن النزع يبطل الطهارة ، وأن مضي المدة يبطل الطهارة ، إذ لو قلنا إن مضي المدة لا يبطل الطهارة فمعنى ذلك أنه ينزع مباشرة ، ثم يرد ثانية ، فكان الأمر شكلياً ، فدل على أنه لما حدد باليوم الليلة أن هذا يؤثر في الطهارة ، وأنه بمضي المدة حينئذ تنتقض طهارته ، ويلزمه الرجوع إلى الأصل من الغسل ، والله تعالى أعلم .
السؤال السابع :
هل ما يوجد الآن من الجلود المصنوعة تدخل ضمن الجلود الطبيعية الطاهرة أم تعتبر نجسة..؟؟
الجواب:
الجلد ينقسم إلى قسمين :
القسم الأول : إما أن يكون من حيوان مأكول اللحم . والقسم الثاني : إما أن يكون من غيره يعني يكون من حيوان أباح الشرع لنا أكل لحمه ، وإما أن يكون من غيره .
فالقسم الأول وهو الحيوانات المأكولة اللحم ، سواء كانت من الإبل أو البقر أو الغنم وهي المستأنسة ، أو كانت من غيرها وهي الصيد المتوحش كالغزلان والظباء وتيس الجبل وحمار الوحش ، ونحو ذلك هذا النوع ينقسم أيضاً إلى قسمين :(43/20)
إما أن يؤخذ جلده بعد تذكيته ذكاة شرعية ، فجلده طاهر أنه إذا أخذ بعد الذكاة الشرعية ودبغ فهو طاهر بإجماع العلماء - رحمة الله عليهم - ، فإذا سلخت الشاة ، وأخذ جلدها ، ودبغ ثم صنع حذاءً أو شنطة أو نحو ذلك فإنه طاهر بإجماع العلماء - رحمة الله عليهم - .
وأما إذا كانت وهي الحالة الثانية أن تكون ميتة أي أن هذا الحيوان المأكول اللحم مستأنسا كان أو متوحشاً يوجد وهو ميتة ، كأن تأتي في الصحراء وترى حمار وحش ميت ، أو ترى بقر وحش ميت ، أو شاة ميتة ، فإذا كان هذا الحيوان لم يذك ومات حتف نفسه فجلده يطهر بالدبغ على أصح قولي العلماء ، خلافاً للحنابلة - رحمهم الله - في إحدى الروايات أنه لا يطهر جلد الميتته بالدبغ ، والصحيح مذهب الجمهور ؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم كما في الصحيح مر على شاة ميتة ، فقال عليه الصلاة والسلام : (( هلا انتفعتم بإهابها )) يعني بجلدها ، هي ميتة ، ولكن هلا انتفعتم بجلدها سلختموها وأخذتم الجلد وانتفعتم به ، قالوا يا رسول الله : إنها ميتة ، فقال عليه الصلاة والسلام : (( أيما إهاب دبغ فقد طهر )) وفي رواية : (( إذا دبغ الإهاب فقد طهر )) أي إذا دبغ الجلد فقد طهر ، قال العلماء : في هذا دليل على أن الميتة إذا دبغ جلدها أنها تكون طاهرة ، نخلص إلى أن الحيوان المأكول اللحم له حالتان :
الحالة الأولى : إما أن يكون مذكى ، ويدبغ ، فلا إشكال في طهارة جلده .(43/21)
والحالة الثانية : وإما أن يكون ميتة فيؤخذ جلده ويدبغ ، فحينئذ يطهر على أصح قولي العلماء خلافاً للحنابلة ، وإنما خالف الحنابلة رحمهم الله في هذه المسألة لحديث عبد الله بن عكيم عن أشياخ من جهينة : " أنه أتاهم كتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل أن يموت بشهر أو شهرين"ألا تنتفعوا من الميتتة بإهاب ولا عصب " قالوا : فقوله ألا تنتفعوا من الميتتة بإهاب ولا عصب يدل على أنه لا يؤثر الدباغ في طهارة الأديم والجلد ، وهذا حديث ضعيف ؛ لأنه مضطرب سنداً ومتناً ، ولذلك لا يقوى على معارضة ما في الصحيح أعني حديث أم المؤمنين-رضي الله عنها- في قوله عليه الصلاة والسلام : (( أيما إهاب دبغ فقد طهر )) بقي عندنا الحيوانات غير مأكولة اللحم ، فالحيوانات غير مأكولة اللحم هل إذا دبغ جلدها تطهر بالدباغ أو لا تطهر ؟
فللعلماء في هذه المسألة قولان :
منهم من يقول : إنها لا تطهر بالدباغ ، وبهذا قال الجمهور .
ومنهم من يقول : إنها تطهر بالدبغ ، فإذا أخذت جلد أي حيوان ، حتى ولو كان سبعاً ، ودبغ فإنه يحكم بطهارته ، وحينئذ يجوز أن يوضع في شنطة أو حذاء أو نحو ذلك ، وينتفع به ، قالوا : لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال : (( دباغ الأديم ذكاته )) قالوا : فكأن هذا الحيوان الذي لا يحل أكل لحمه إذا دبغ أديمه وهو جلده فإنه يكون كالتذكية له ، أي أنه حلال طاهر ، والصحيح أن قوله :(( دباغ الأديم ذكاته )) المراد به ما يذكى ، أي أنه إذا مات غير المذكى بدون ذكاة فإن دباغه يعتبر ذكاة له ، فيقوى تخصيص الحكم بالجلود التي أبيح الانتفاع بأصلها ، أي أن الحيوان مأكول اللحم ، وعلى هذا فلو دبغ جلد خنزير ، أو دبغ جلد أسد أو نمر أو غير ذلك فإنه لا يحكم بطهارته ، ولا يحل الانتفاع به .(43/22)
يستفاد من هذا أننا لو قلنا إنه يحكم بطهارته يصبح في هذه الحالة يجوز أن يتخذ خفاً ويلبس ، ويجوز أن يدبغ ويصلى عليه ، ويجوز أيضاً أن يباع ويشترى ؛ لأنه ليس بنجس العين ، أما لو قيل إن الدباغ لا يطهره فإنه لا يجوز بيعه ، ولا يجوز شراؤه ، ولو كان نظيفاً ومعقماً ومطهراً ومتخذاً للصنعة ؛ لأنه يعتبر نجساً ، والنجس لا يجوز بيعه كما بيناه في حديث جابر بن عبد الله-رضي الله عنهما-في الصحيحين في خطبته عليه الصلاة والسلام ثاني أيام فتحه لمكة ، والله تعالى أعلم .
السؤال الثامن :
هل يجب على من عليه جنابة ولم يجد الماء أي أنه يتيمم للصلاة فهل يجب عليه نزع الخفين ..؟؟
الجواب :
من أصابته الجنابة فإنه ينزع خفيه ، ويغسل القدمين ، ولو اغتسل والخفان على قدميه ولم يصل الماء إلى رجليه فإنه حينئذ يحكم بعدم صحة غسله ، ويلزمه أن يعيد بتعميمه حتى يعمم جميع بدنه ، والله تعالى أعلم.
السؤال التاسع :
إذا زاد على مدة المسح فما حكم صلاته ..؟؟
الجواب :
على القول الراجح من أن مضي المدة يوجب انتقاض الطهارة لما ذكرناه من ظاهر السنة فإنه حينئذ إذا صلى بعد مضي المدة لم تصح صلاته وتلزمه الإعادة ، والله تعالى أعلم .
السؤال العاشر :
مياه الأمطار المتجمعة في الطرقات ولا ندري أهي مختلطة بنجاسة ومياه نجسة فهل إذا أصابني شيء منها يجب علي غسله ..؟؟
الجواب :
بسم الله الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه أما بعد :
فإذا مر الإنسان على ماء فلا يخلو من أحوال :
الحالة الأولى : أن يتحقق أن أصل هذا المائع نجس ، كأن يمر على بيارة ونحو ذلك قد انفجرت ، فإنه يتحقق من أن هذا الماء نجس ، وحينئذ يكون حكم هذا الماء يكون حكمه حكم النجس .
الحالة الثانية : أن يكون متحققاً بأن الماء طاهر ، كماء مطر جرى في سكة أو طريق وتحققت من أنه لم يخالطه شيء من النجس ، فحينئذ لا إشكال وحكمه حكم الطاهر .(43/23)
وإما أن يلتبس الأمر فإذا التبس الأمر كأن يمر الإنسان في موضع ولا يدري هل هذا الماء الذي هو على الطريق طاهر أو نجس ، أو ينزل عليه ماء من مرزاب أو نحو ذلك فلا يدري أهو نجس أو طاهر ، أما بالنسبة لحال مروره في موضع وشك فيه فللعلماء في الحكم في هذه المسألة ضوابط :
قالوا : الأصل أن يحكم بطهارته حتى يرى دليل النجاسة ، إما أن يكون بلون ، أو رائحة في الماء ، أو يكون الموضع معداً للنجاسة ، كأمكنة التخلي وقضاء الحاجة إذا خرج منها ماء من المواضع التي تقضى فيها الحاجة ، فحينئذ إذا خرج منها ماء يقولون تعارض عندنا شيء يسمى بالأصل وشيء يسمى بالظاهر ، ما معنى قولهم الأصل وما معنى قولهم الظاهر ؟(43/24)
الأصل في الماء إذا نظرت إليه أنه طاهر هذا أصل ؛ لأن الماء في أصل وجوده يعتبر طاهراً قال-تعالى-:{وَأَنزَلْنَا مِنْ السَّمَاءِ مَاءً طَهُوراً}( ) فدل على أن الماء في الأصل طاهر ، لكن إذا جئت تنظر إلى أي شيء يجري من المياه تقول الأصل طهارته حتى يدل الدليل على نجاسته وخروجه عن هذا الأصل ، فإذا كان من موضع يشتبه في كونه نجساً ، أو أنه خرج مع النجس ، أو اختلط بالنجس فحينئذ هناك دليل آخر يسمى بالظاهر ، مثل ما يكون في دورات المياه الأماكن القريبة من الكرسي الذي يجلس عليه الإنسان ويقضي عليه حاجته ، أو نفس الماء الموجود في الكرسي نفسه هذا الظاهر فيه أنه نجس ، فهناك شيء يسمى الأصل ، وهناك شيء يسمى الظاهر ، في بعض الأحيان يقدم الشرع الأصل ويلغي الظاهر ، وبعض الأحيان يقدم الظاهر ويلغي الأصل ، وتعارض الظاهر مع الأصل مسألة دقيقة ، ولذلك تحتاج إلى نظر في جزئياتها وفروعها قبل أن يعمم الحكم فيها ، هل الأقوى أن تقول الأصل أو الأقوى أن تقول الظاهر ، لأنه في بعض الأحيان يكون الظاهر حجة فلو اختصم رجلان في سيارة مثلاً عند قاض ، أو قال أحدهما هذه سيارتي ، وهو الراكب فيها الذي يقودها وجالس مكان القيادة ، والثاني بجواره يقول بل سيارتي أعطيته إياها ، فإن الظاهر من حاله أن السيارة ملك للذي هو في مقعد قيادتها ؛ لأن العرف ويظهر للناس بما جرى به العرف أنه مالك لها .
ولو اختصم رجلان في بيت أحدهما ساكن فيه ، والثاني خارج عنه ، فإن الظاهر أن الذي هو ساكن فيه أن البيت بيته ، فالشرع يحكم بالظاهر ، ويحكم بالأصل كما هو معروف أن اليقين لا يزال بالشك كما هي قاعدة الشرع .(43/25)
فالإشكال الآن إذا جئت في طريق ونظرت إلى الماء ، وقد نزل من المطر فاجزم بأنه ماء طهور ، هذا هو الأصل أنه إذا نزل المطر في مدينة أو قرية أو على بلدة أو على موضع ورأيت الماء ندى ، أو جرى الماء في سكك المدينة أو شوارعها فتقول إنه ماء طهور ، حتى تتحقق ، أو تجد دليلاً يعارض هذا الأصل أقوى منه، فإذا تحققت بما يوجب عدولك عن هذا الظاهر ، فحينئذ لا إشكال ، أما بمجرد كوننا نجد في الأزقة أو في الشوارع الماء بعد المطر نقول هذا يحتمل أن يكون من المجاري مثلاً ، أو يكون من ماء نجس فإن هذا لا يكفي ، ولا يحكم بنجاسة هذا الماء ؛ لأن الظاهر والموجود من دلالة الحال مع اعتضاده بالأصل ، أنه طهور لكن لو أن هذا الموضع انفجرت فيه بيارة في أثناء نزول المطر ووجود الماء ، فحينئذ تعمل الدلائل فإن انتشرت رائحته ، وأصبحت الرائحة موجودة في هذا الشارع ، أو هذا الطريق فحينئذ نحكم بنجاسة هذا الماء ؛ لأن الدليل ظاهر .(43/26)
لكن الإشكال لو كان الزقاق بكامله أو انتشر في أزقة القرية نجاسة فحينئذ يخفف في حكمها ؛ لأن المشقة تجلب التيسير ، والأمر إذا ضاق اتسع ، فلو كنت ذاهباً إلى المسجد ، ولم يكن إلا طريق ، وهذا الطريق انفجرت فيه بيارة ، وأصبحت لا تستطيع أن تذهب إلا من هذا الطريق ، وتعين هذا الطريق لذهابك فإنك تتقي ما استطعت ، ثم يخفف عنك فيما وراء ذلك ، ولذلك لا يحكم بتأثير مثل هذا ، ولم ينكر النبي صلى الله عليه وسلم على الصحابة حينما أقوا الخمر في سكك المدينة ، وهي نجسة ، ومع ذلك قال العلماء : إذا عمت البلوى أنه يرخص للناس ولا حرج عليهم في ذلك ، وهي المسألة المشهورة التي أُثر عن بعض أصحاب الإمام أبي حنيفة ، وتحكى عن الإمام محمد بن الحسن رحمه الله أنه دخل إحدى مدن خراسان ، وكان معه بعض تلامذته ، فمر بأزقة المدينة وإذا بها متنجسة ، سئل عن هذا النجس الذي يوطأ فأفتى بأنه لا يؤثر ، فقيل له في ذلك ، قيل له : إنك ببغداد أفتيت بأنها تؤثر ، وكنت تمنع الناس وتزجرهم ، فما بالك اليوم أرجعت عما كنت تقوله ، قال : لا إن الناس هنا يستضرون ، "وأن الأمر إذا ضاق اتسع " ، أي أننا إذا قلنا لهم يتحفظون من هذه النجاسة ، وبهذه الصورة وبهذه الكيفية ، لشق الأمر ، كما هو الحال في المرضى ، ومن يداوي المرضى كالأطباء ونحوهم ، إذا كان في عملية جراحية ، والوقت ضيق عليه ، وتلطخ بالدماء وهي نجسة ، هذه الأمور من مرونة الشريعة الإسلامية أنها تقدر الأحوال الخاصة ، وتعطيها أحكاماً تخصها ، ولذلك يحكم في مثل هذا إذا انفجرت البيارة في الحي ، أو في المدينة وكان لا يمكن أن يتقى هذا الماء ، أو يتحفظ منه فإنه حينئذ يرخص على الناس ، ويكونوا مما وسع عليهم فيه ، ذكر شيخ الإسلام ابن تيمية وغيره من العلماء أن النبي صلى الله عليه وسلم رخص في الصلاة على الدابة ، وقد كان يركب الحمار -صلوات وسلامه عليه - ، ويصلي على دابته ومنها الحمار ،(43/27)
كان يصلي عليه في السفر إلا المكتوبة ، ومعلوم أن الحمار يخرج عرقه ، وهو كما ثبت في الحديث الصحيح في الحمر الأهلية أنه قال عليه الصلاة والسلام : (( إنها رجس )) والرجس هو النجس ، ومع ذلك قالوا : لمشقة الاحتراز من عرقها رخص في ذلك وخفف فيه ، وهذا أمر يفتي فيه العلماء يعني لا يختص الحكم بالحنفية ، ولا بالمالكية ، ولا بالشافعية ، ولا بالحنابلة ، الشافعية أنفسهم - رحمة الله عليهم - قالوا : إن ذرق الطيور الذي يكون من فضلتها إنه نجس ، لكن في المساجد قالوا إذا شق التحرز عنه ، وأصبح يأتي المصلين ويذرق عليهم قالوا يخفف ولا حرج عليهم ، قالوا : أيضا إن لمس المرأة ينقض الوضوء ، قالوا فإذا كان في طواف حج أوعمرة ، وكان في زحام ، والتصق الناس بعضهم ببعض ، وشق عليه أن يتحفظ لا يضر لا اللامس ولا الملموس ، فهذه مرونة في الشرع يعتبرها العلماء رحمة الله عليهم عند وجود ما يوجبها ، والله تعالى أعلم .
السؤال الحادي عشر :
امرأة بعد نفاسها بعشرة أيام انقطع الدم لمدة ستة أيام متواصلة ولم يرجع اليها فهل تتطهر وتصلي..؟؟
الجواب :
المرأة النفساء إذا رأت إحدى علامتي الطهر : القصة البيضاء ، أو الجفوف ، فإنها إذا طهرت بها يوماً كاملاً تصلي وتصوم ، وصومها صحيح ، فلو مضى عليها يوم ، أو يومان ، أو ثلاثة ، أو أربعة ولم تر الدم فحينئذ هي طاهرة ، فلو عاودها الدم فإنه إذا لم يكن عدد النفاس قد تم كأن يكون جاءها النفاس عشرين يوماً فانقطع خمسة أيام ، ثم عاودها بعد الخمسة ، فتلفق ، فتضيف العدد إلى العشرين حتى تتم أربعين يوماً ، وهو مذهب التلفيق ، أصح قولي العلماء رحمة الله عليهم في هذه المسألة .
وَآخِرُ دَعْوَانَا أَنِ الحمَْدُ لِلَّهِ رَبِّ العَالَميْنَ وصلَّى اللَّهُ وسلَّم وبارك على عبده ونبيَّه محمد وعلى آله وصحبه أجمعين .(43/28)
بسم الله الرحمن الرحيم
قال المصنف رحمه الله :حَدَّثَنَا هَنَّادٌ حَدَّثَنَا أَبُو الأَحْوَصِ عَنْ عَاصِمِ بْنِ أَبِي النَّجُودِ عَنْ زِرِّ بْنِ حُبَيْشٍ عَنْ صَفْوَانَ بْنِ عَسَّالٍ قَالَ : " كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَأْمُرُنَا إِذَا كُنَّا سَفَراً أَنْ لاَ نَنْزِعَ خِفَافَنَا ثَلاَثَةَ أَيَّامٍ وَلَيَالِيهِنَّ إِلاَّ مِنْ جَنَابَةٍ وَلَكِنْ مِنْ غَائِطٍ وَبَوْلٍ وَنَوْمٍ ".
قَالَ أَبو عِيسَى رحمه الله : هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ وَقَدْ رَوَى الْحَكَمُ بْنُ عُتَيْبَةَ وَحَمَّادٌ عَنْ إِبْرَاهِيمَ النَّخَعِيِّ عَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ الْجَدَلِيِّ عَنْ خُزَيْمَةَ بْنِ ثَابِتٍ وَلاَ يَصِحُّ قَالَ عَلِيُّ بْنُ الْمَدِينِيِّ قَالَ يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ قَالَ شُعْبَةُ لَمْ يَسْمَعْ إِبْرَاهِيمُ النَّخَعِيُّ مِنْ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ الْجَدَلِيِّ حَدِيثَ الْمَسْحِ وقَالَ زَائِدَةُ عَنْ مَنْصُورٍ كُنَّا فِي حُجْرَةِ إِبْرَاهِيمَ التَّيْمِيِّ وَمَعَنَا إِبْرَاهِيمُ النَّخَعِيُّ فَحَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ التَّيْمِيُّ عَنْ عَمْرِو بْنِ مَيْمُونٍ عَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ الْجَدَلِيِّ عَنْ خُزَيْمَةَ بْنِ ثَابِتٍ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِي الْمَسْحِ عَلَى الْخُفَّيْنِ قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْمَعِيلَ أَحْسَنُ شَيْءٍ فِي هَذَا الْبَابِ حَدِيثُ صَفْوَانَ بْنِ عَسَّالٍ الْمُرَادِيِّ .
قَالَ أَبو عِيسَى رحمه الله : وَهُوَ قَوْلُ أَكْثَرِ الْعُلَمَاءِ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَالتَّابِعِينَ وَمَنْ بَعْدَهُمْ مِنَ الْفُقَهَاءِ مِثْلِ سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ وَابْنِ الْمُبَارَكِ وَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَدَ وَإِسْحَقَ قَالُوا يَمْسَحُ الْمُقِيمُ يَوْماً وَلَيْلَةً وَالْمُسَافِرُ ثَلاَثَةَ أَيَّامٍ وَلَيَالِيهِنَّ .(44/1)
قَالَ أَبو عِيسَى رحمه الله : وَقَدْ رُوِيَ عَنْ بَعْضِ أَهْلِ الْعِلْمِ أَنَّهُمْ لَمْ يُوَقِّتُوا فِي الْمَسْحِ عَلَى الْخُفَّيْنِ وَهُوَ قَوْلُ مَالِكِ بْنِ أَنَسٍ .
قَالَ أَبو عِيسَى رحمه الله : وَالتَّوْقِيتُ أَصَحُّ وَقَدْ رُوِيَ هَذَا الْحَدِيثُ عَنْ صَفْوَانَ بْنِ عَسَّالٍ أَيْضًا مِنْ غَيْرِ حَدِيثِ عَاصِمٍ .
الشرح :
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين وعلى آله وصحبه أجمعين أما بعد :
فقد ذكر المصنف رحمه الله حديث صفوان بن عسال المرادي ، وفيه أن النبي صلى الله عليه وسلم أمرهم أن لا ينزعوا خفافهم ثلاثة أيام بلياليهن الحديث وهذا الحديث يعتبر من أهم الأحاديث التي اشتملت على أحكام المسح وذلك أنه نص على مسائل منها أنه أقت المسح بثلاثة أيام من مسافر وجاء في بعض الروايات يوم وليلة للمقيم ويؤكد ما سبقت الاشارة إليها أن المسح على الخفين يتوقت في زمان فيصير يوماً وليلة للمقيم وثلاثة أيام بلياليهن للمسافر ، وذكرنا أن هذا هو مذهب جمهور العلماء رحمهم الله من الحنفية والشافعية والحنابلة والظاهرية وأهل الحديث -رحمه الله الجميع- .
وخالف هذه المسألة المالكية رحمهم الله فقالوا : يجوز للإنسان أن يمسح على خفيه أكثر من اليوم والليلة إذا كان مقيماً ، وكذلك إذا كان مسافراً وليس في المسح على الخفين حد مؤقت بالزمان وقد بينا أن هذا القول مرجوح ؛ والسبب في ذلك أن السنة عن النبي صلى الله عليه وسلم في الأحاديث الصحيحة تدل دلالةً واضحةً على التأقيت وأن المسافر لا يمسح أكثر من ثلاثة أيام وكذلك المقيم لا يمسح أكثر من يوم وليلة .(44/2)
وقوله " أن لا ننزع خفافنا ثلاثة أيام " : فيه دليل على أن السنة لمن من مسح على خفيه أن يترك الخفين يوماً وليلة كاملاً وذلك هو هدي النبي صلى الله عليه وسلم ، وبناءاً على ذلك قال جمع من العلماء رحمهم الله : لو أنه نزع خفيه قبل اليوم والليلة بطل وضوءه ؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم أقت المسح فمن سار على السنة صح وضوؤه وصحت صلاته ، وأما من نزع قبل اليوم والليلة فإن نزعه يوجب بطلان طهارته ، لأنه إذا نزع الخفين من رجليه فحينئذ يتوجه عليه الخطاب بغسل الرجلين ، وبناءً عليه فإنه يفوت الزمان وذلك لمكان فوات شرط الموالاة فيبطل الوضوء وإذا طال الزمان بين المسح على الرأس وغسل الرجلين فإنه لا يمكن للمتوضئ أن يدرك غسل مسح غسله للرجلين لأنه يفوت شرط الموالاة كما تقدم في باب الوضوء .
وكذلك الحكم بالنسبة لمسح المسافر فإنه يمسح ثلاثة أيام بلياليهن ، ولكن يشترط أن تكون المدة -أعني مدة الثلاث- كلها قد استغرقها السفر فلو سافر يوماً ، ثم رجع فإنه لا يستديم المسح ثلاثة أيام ؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم وقت الثلاثة لمن كان مسافراً فلا بد من وجود صفة السفر في الثلاثة الأيام فإذا سافر يوماً ورجع إلى مدينته في اليوم الثاني فإنه يعتد بمسح المقيم لا بمسح المسافر ، وكذلك الحال لو كان الإنسان مقيماً ثم سافر فإنه يرجع إلى الأصل .
وقد بينا أن سبب ذلك راجع إلى القاعدة المعروفة : " أن الشك في الرخص يوجب الرجوع إلى الأصل" فنحن إذا شككنا هل يمسح مسح المسافر فيتم الثلاث ، أو يحكم بطريان السفر عليه فإننا نرجع إلى الأصل من كونه يمسح يوماً وليلة فاليقين أنه يمسح يوماً وليلة ، والشك هل يزيد فيلغى الشك ويعتد باليقين فيتم مسح مقيم كما ذكرنا.(44/3)
قوله رضي الله عنه " من بول أو نوم أو غائط " : هذه الثلاثة كلها تعتبر من نواقض الوضوء ، وهي التي يسميها العلماء الحدث الأصغر فالبول حدث أصغر وكذلك الغائط ، وأما بالنسبة للنوم فإنه ليس بحدث في ذاته ولكنه مظنة الحدث.
وبناءً على ذلك فإن هذه الجملة اشتملت على نوعين من الأحداث الصغرى :
النوع الأول : ما يكون حدثاً بذاته-أعني البول والغائط- . والنوع الثاني : ما هو مظنة الحدث-أعني النوم- وبناءً عليه فإن السنة قد جمعت أنواع الأحداث للطهارة الصغرى ثم من كمال هديه صلى الله عليه وسلم أن ذكر البول والغائط فنبه بالبول على الحدث الذي يخرج من القبل على الخارج من القبل الذي يوجب الحدث ، ونبه بالغائط على الخارج من الدبر الذي يوجب الحدث فشمل الأحداث من القبل ومن الدبر ثم مثل لمظنة الحدث بالنوم فيلتحق بالبول ما قاسه العلماء عليه من الأمور التي توجب انتقاض الطهارة من القبل وكذلك الحال بالنسبة للدبر .
وأما قوله" أو نوم " : فقد احتج به جماعة من العلماء رحمهم الله أن النوم يعتبر ناقضاً للوضوء ؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم ذكر النوم مع البول والغائط لكي ينبه أنه حدث كالبول والغائط أنه يوجب الحكم بالحدث كالبول والغائط ، وقد ذكرنا أن الصحيح من العلماء رحمهم الله أن النوم يعتبر ناقضاً للوضوء ولكن بشرط زوال الشعور ويعتبر الإطلاق في هذا الحديث مقيداً بما ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم في حديث معاوية رضي الله عنه وأرضاه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال :(( العينان وكاء السه فإذا نامت العينان استطلق الوكاء )) .(44/4)
فقوله هنا " أو نوم " : وإن كان مطلقاً فإنه يعتبر مقيداً بما ذكرنا وبناءً على ذلك فإننا نقول : إن النوم ليس حدثاً بذاته حتى نقول إنه يوجب النقض قليله وكثيره ولكنه يعتبر مظنة للحدث ؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم بين العلة وأخبر أن العينين إذا نامت استطلق الوكاء فدل على أن العلة هي زوال الشعور فمن نام وزال عنه الشعور بحيث إذا خرج منه الريح لا ينتبه بخروجه فإنه يحكم بانتقاض وضوئه ، أما إذا نام وهو متمكن من نفسه يشعر بما يخرج منه فإنه لا ينتقض وضوءه لما ذكرنا .
وقوله رضي الله عنه " ولكن من جنابه " : الجنابة مأخوذة من الجنب وإما أن تكون مأخوذة من الجنب بمعنى القرب ، يقال فلان بجنب فلان ومنه قوله سبحانه وتعالى :{وَالْجَارِ الْجُنُبِ}(1) أي الملاصق للدار القريب من الإنسان ؛ والسبب في ذلك أن الجنابة في الغالب تكون بسبب الجماع وهو يقتضي الملاصقة والقرب ، وقال بعض العلماء : إنها مأخوذة من المجانبة بمعنى البعد وهذا المعنى يعتبر ضداً للمعنى الأول ؛ والسبب في ذلك أن صاحب الجنابة أو من حكم بكونه جنباً فإنه يبتعد عن فعل العبادات التي تشترط لها الطهارة ، فلا يصلي وكذلك بالنسبة لطوافه بالبيت ونحوهما من العبادات التي تشترط لها الطهارة فقالوا وصفة الجنابة لذلك لأنها تقتضي المجانبة بمعنى البعد .
وقوله " لكن من جنابه " : فيه دليل على أن من لبس خفيه ومسح عليهما أنه إذا أصابته الجنابة وجب عليه أن ينزع الخفين وأن يغسل الرجلين وأنه لا يجوز له أن يمسح على خفيه في الطهارة الكبرى ، وهكذا المرأة إذا مسحت على خفيها فإنه يجب عليها أن تنزع خفيها لغسل الجنابة ؛ لأن النبي -- صلى الله عليه وسلم - -جعل المسح بالطهارة الصغرى ولم يجعله في الطهارة الكبرى .
قال المصنف رحمه الله : بَاب مَا جَاءَ فِي الْمَسْحِ عَلَى الْخُفَّيْنِ أَعْلاَهُ وَأَسْفَلِهِ
الشرح :
__________
(1) / النساء ، آية : 36 .(44/5)
قوله رحمه الله " باب ما جاء في المسح على الخفين أعلاه وأسفله " : هذا الباب قصد به المصنف أن يبين فيه ما ورد أن النبي- - صلى الله عليه وسلم - - في صفة المسح على الخفين ، وذلك أننا إذا بينا أن المسح على الخفين رخصة .
فإنه يرد السؤال : كيف يكون المسح ؟ هل نمسح ظاهر الخفين أو نمسح باطن الخفين أعني أسفل الخفين ؟ أم أنه يجب على المكلف أن يمسح الظاهر والباطن ..؟؟
ثلاثة أقوال للعلماء رحمهم الله :
القول الأول : فقال جمع من العلماء : إن الواجب أن يمسح الظاهر والباطن ، وبهذا القول قال جمع من أصحاب الإمام مالك-رحم الله الجميع- قالوا يجب على من توضأ وأراد أن يمسح على خفيه أن يكون مسحه لظاهر خفيه وباطنه ، والمراد بالباطن أسفل الخفين وهو المكان الذي يطأ الإنسان عليه إذا مشى وليس المراد بباطن الخفين الجوف كما لا يخفى.
القول الثاني : إنه يجب عليه أن يمسح الظاهر ويستحب له أن يمسح أسفل الخفين ، وبهذا القول قال المالكية والشافعية -رحمة الله على الجميع- يقولون إذا مسح فإنه يجب عليه أن يمسح ظاهر خفيه ، وأما بالنسبة لأسفل الخفين فيستحب ولا يجب عليه أن يمسح الأسفل ، وبناءً على هذا القول فإنه إذا مسح ظاهر خفيه ولم يمسح أسفل الخفين صح وضوؤه وأجزأه وفاته الأفضل ، وأما إذا مسح أسفل الخفين ولم يمسح الظاهر فإنه لا يصح وضوؤه ولا يعتد به .
القول الثالث : يجب مسح الظاهر ولا يستحب مسح الباطن-أعني الأسفل- ، وبهذا القول قال الحنفية والحنابلة وهو قول الثوري والأوزاعي وطائفة من التابعيين -رحم الله الجميع- يقولون إن السنة أن يمسح ظاهر خفيه ، وأما أسفل الخفين فإنه لا يمسح لا وجوباً ولا استحباباً .(44/6)
استدل الذين قالوا بوجوب مسح الظاهر والباطن بحديث المغيرة بن شعبة رضي الله عنه وأرضاه أنه رأى النبي- - صلى الله عليه وسلم - - يمسح أعلى الخف وأسفله وهذا الحديث حديث ضعيف وقد تكلمنا على سنده في شرح البلوغ وهذا الحديث حجة لأصحاب هذا القول قالوا أن النبي -- صلى الله عليه وسلم - -جمع في مسحه بين الظاهر والباطن فيجب على من مسح على خفيه أن يجمع بين أعلى الخف وأسفله .
واستدلوا بالعقل : فقالوا إن المسح على الخفين هو قائم مقام غسل الرجلين فكما أنه يجب في الأصل أن يغسل ظاهر رجله وأسفلها كذلك يجب عليه في مسح الخفين أن يمسح ظاهر القدمين وأسفلهما .
واستدل أصحاب القول الثاني بأن النبي صلى الله عليه وسلم ثبتت عنه الأحاديث الصحيحة أنه مسح ظاهر خفيه ولم يثبت عنه مسح باطنه ثبت عنه- عليه الصلاة والسلام - مسح الظاهر وما ورد من الأحاديث في مسح الباطن مع إعتضاده بالاصل يوجب الاستحباب ولا يوجب الحتم والالزام .…
وتوضيح ذلك : أنهم قالوا أن حديث المغيرة بن شعبة والذي فيه أن النبي صلى الله عليه وسلم مسح أعلى الخف وأسفله قد جاء ما يعارضه من مسحه صلوات الله وسلامه عليه لأعلى الخف فقالوا نجمع بين الحديثين فنحمل حديث المغيرة على الندب والاستحباب فيجوز للمسلم أن يمسح أسفل الخف ندباً واستحباباً لا حتماً ولا إيجاباً .(44/7)
واستدل الذين قالوا بأن المسح يكون للظاهر لا للباطن بأن السنة الصحيحة عن النبي صلى الله عليه وسلم قد دلت دلالةً واضحةً على أن الواجب أن يمسح أعلى الخف وفي الحديث في السنن عن علي- - رضي الله عنه - وأرضاه- أنه قال لو كان الدين بالرأي لكان باطن الخف أولى بالمسح من ظاهره ولكن إنني رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يمسح على ظاهر خفيه قالوا فدل هذا الحديث دلالةً واضحةً على أنه إنما يمسح على الظاهر لا على الباطن قالوا أن حديث المغيرة الذي جمع فيه بين المسح على الظاهر والباطن حديث ضعيف والعمل بما ثبت وصح عن رسول الله- - صلى الله عليه وسلم - - فلا نحكم بالندب والاستحباب لأن الاستحباب حكم شرعي ولا يثبت بالرأي لأن الرأي في مثل هذا ضعيف كما قال علي رضي الله عنه : " ولو كان الدين بالرأي لكان باطن الخف أولى من ظاهره " فقالوا يمسح ظاهر خفيه ولا يمسح باطن الخفين وهذا القول أعني القول الثالث وهو الراجح أن شاء الله تعالى أن السنة أن يمسح ظاهر الخفين ولا يستحب له أن يمسح الاسفل الخفين ؛ لأن المسح على الخفين عبادة شرعية يجب أن يتوقف فيها الإنسان في أن يتوقف المسلم في صفتها على ما ورد وصح عن النبي -- صلى الله عليه وسلم - - .(44/8)
والذي صح وثبت عنهصلوات الله وسلامه عليهإنما هو مسح الظاهر دون مسح الباطن ولو كان مسح الباطن مستحباً لفعله بأبي وأمي-صلوات الله وسلامه عليه -ولو مرة واحدة لأنه لا يترك التنبيه على الأفضل والأكمل فكونه لم تصح الرواية عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه مسح باطن خفيه يدل دلالة واحدة على أن الممسوح هو الظاهر ولذلك لما ورد الحديث وفيه مسح على الخفين نبه بهذا على ظاهر الخفين ، وبناءً على ذلك فإن حديث المغيرة الذي يدل على مسح الظاهر والباطن حديث ضعيف ، والحديث الضعيف لا يعارض به الحديث الصحيح ولا يوجب الجمع بينه وبين الحديث الصحيح لأنه إنما يجمع في التعارض بين الأحاديث الثابتة ، وأما إذا كان بعضها ضعيفاً وبعضها صحيحاً فإنه يجب المسير إلى الصحيح وترك الضعيف ، وبناءاً على ذلك فإن السنة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم على الإقتصار على المسح على ظاهر الخف ولا يقال بشرعية المسح على باطن الخفين .
قال المصنف رحمه الله : حَدَّثَنَا أَبُو الْوَلِيدِ الدِّمَشْقِيُّ حَدَّثَنَا الْوَلِيدُ بْنُ مُسْلِمٍ أَخْبَرَنِي ثَوْرُ بْنُ يَزِيدَ عَنْ رَجَاءِ ابْنِ حَيْوَةَ عَنْ كَاتِبِ الْمُغِيرَةِ عَنِ الْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ : " أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم مَسَحَ أَعْلَى الْخُفِّ وَأَسْفَلَهُ ".
قَالَ أَبو عِيسَى رحمه الله : وَهَذَا قَوْلُ غَيْرِ وَاحِدٍ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَالتَّابِعِينَ وَمَنْ بَعْدَهُمْ مِنَ الْفُقَهَاءِ وَبِهِ يَقُولُ مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ وَإِسْحَقُ وَهَذَا حَدِيثٌ مَعْلُولٌ لَمْ يُسْنِدْهُ عَنْ ثَوْرِ بْنِ يَزِيدَ غَيْرُ الْوَلِيدِ بْنِ مُسْلِمٍ .(44/9)
قَالَ أَبو عِيسَى رحمه الله : وَسَأَلْتُ أَبَا زُرْعَةَ وَمُحَمَّدَ بْنَ إِسْمَعِيلَ عَنْ هَذَا الْحَدِيثِ فَقَالا لَيْسَ بِصَحِيحٍ لأَنَّ ابْنَ الْمُبَارَكِ رَوَى هَذَا عَنْ ثَوْرٍ عَنْ رَجَاءِ بْنِ حَيْوَةَ قَالَ حُدِّثْتُ عَنْ كَاتِبِ الْمُغِيرَةِ مُرْسَلٌ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَلَمْ يُذْكَرْ فِيهِ الْمُغِيرَةُ .
الشرح :
هذا الحديث كما ذكرنا حديث ضعيف وقد بين الإمام الحافظ والترمذي -رحمة الله عليه -وجه الضعف فيه وذكرنا في شرح البلوغ رد العلماء لهذا الحديث لعدم ثبوت سنده عن النبي صلى الله عليه وسلم ويعتبر لمن قال عن المسح على ظاهر الخف وباطنه بأنه أحتمل ذلك في قوله مسح النبي صلى الله عليه وسلم على الخفين فظن الظان أن المسح على الخفين يقتضي أن يشمل جميع الخفين وهذا اللفظ في هذه الرواية وإن كان صحيحاً فإنه قد جاء ما يفسره في الروايات الأخر والقاعدة أنه : " يحمل المجمل على المضي للمفسر" وقد فسرت السنة الصحيحة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه إنما مسح على ظاهر خفيه .
والسؤال: هل يجب على المسلم أن يشمل الظاهر بالمسح ..؟؟
وقد جاء في السنة ما يفيد في الجواب من أنه مسح خطوطاً ، ولذلك قال العلماء : إنه يجعل كفه عند رؤوس أصابعه ثم يجرها إلى الكعب فإذا فعل ذلك فإنه يصدق عليه أنه قد أتم مسح ظاهره ، وقال الإمام أبى حنيفة النعمان -عليه من الله الرحمة والرضوان- : إنه يمسح قدر ثلاثة أصابع من رجله فإذا مسح هذا القدر من خفه فإنه يجزي وهذا القول مبني على القياس .(44/10)
وتوضيح ذلك : أنهم يقولون إن مسح الرأس يجزئ في قدر ثلاثة أصابع من أعلى الرأس لأن النبي صلى الله عليه وسلم مسح على ناصيته وعلى العمامة وقالوا فلما مسح صلوات الله وسلامه عليه على الناصية ، والناصية : هي مقدم الرأس تكون بقدر ثلاثة أصابع قالوا إنه يقول على أن هذا القدر من الممسوح يجزي ؛ لأن الله أوجب علينا مسح الرأس وكون النبي صلى الله عليه وسلم يقتصر في مسحه على رأسه على هذا القدر يدل على أن الممسوح الشرعي في هذا الوضوء يجزئ في قدر الثلاثة الأصابع .
والجواب على هذا القول بأن حديث المسح على الناصية فيه نظر وذلك من جهة كونه عليه الصلاة والسلام مسح على الناصية ، وعلى العمامة فإنما يستقيم استدلال الإمام أبي حنيفة-رحمة الله عليه- بهذا الحديث أن لو كان رسول الله صلى الله عليه وسلم مقتصراً على الناصية فلما مسح الناصية مع العمامة دل على أنه مسح جميع الرأس ؛ لأن مسحه على العمامة هو المعتبر ولو أنه اقتصر على الناصية لصح ما ذكروا بل إن هذا الحديث يقوي أن الواجب مسح جميع الرأس ؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم جمع بين الناصية والعمامة ، وبناءً على ذلك ينتقض الأصل الذي قاس عليه الإمام أبو حنيفة رحمه الله مسألة المسح على الخفين .
ويترجح القول القائل أنه يخط الخطوط على أعلى الخف وإن عمم أعلى الخف بالمسح فذلك كأكمل وأحوط كما لا يخفى .
قال المصنف رحمه الله : بَاب مَا جَاءَ فِي الْمَسْحِ عَلَى الْخُفَّيْنِ ظَاهِرِهِمَا
حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ حُجْرٍ قَالَ حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أَبِي الزِّنَادِ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ عَنِ الْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ قَالَ : " رَأَيْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم يَمْسَحُ عَلَى الْخُفَّيْنِ عَلَى ظَاهِرِهِمَا ".(44/11)
قَالَ أَبوعِيسَى رحمه الله : حَدِيثُ الْمُغِيرَةِ حَدِيثٌ حَسَنٌ وَهُوَ حَدِيثُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ ابْنِ أَبِي الزِّنَادِ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عُرْوَةَ عَنِ الْمُغِيرَةِ وَلاَ نَعْلَمُ أَحَداً يَذْكُرُ عَنْ عُرْوَةَ عَنِ الْمُغِيرَةِ عَلَى ظَاهِرِهِمَا غَيْرَهُ وَهُوَ قَوْلُ غَيْرِ وَاحِدٍ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ وَبِهِ يَقُولُ سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ وَأَحْمَدُ قَالَ مُحَمَّدٌ وَكَانَ مَالِكُ بْنُ أَنَسٍ يُشِيرُ بِعَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي الزِّنَادِ .
الشرح:
هذا الحديث هو الحجة أن الواجب في المسح على الخفين أن يمسح ظاهر الخفين ولا يجب عليه مسح الباطن وهو أقوى من الحديث الذي تقدم وكونه من رواية عبد الرحمن بن أبي الزناد وكلام الإمام مالك رحمه الله فيه مبني على كتابه عن الفقهاء السبعة الذين روى عنهم وقال : " أين كنا نحن من هذا " ؛ ولكن العمل عند العلماء رحمهم الله بمتن هذا الحديث وقد حسن الإمام الترمذي رحمه الله روايته مع أن هناك حديث آخر أصح وأقوى وهو حديث علي بن أبي طالب رضي الله عنه وأرضاه أنه قال : " لو كان الدين بالرأي لكان باطن الخف أولى من ظاهره ولكني رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يمسح على ظاهر الخفين " فإنه دليل قوي يدل دلالةً واضحةً على أن الواجب على أن يمسح ظاهر الخف .
وفي هذا دليل أيضا على مسألة مهمة وهي أن الشرع يفرق بين المتماثلين وذلك من حكم الله الذي يحكم ولا معقب لحكمه وهو سريع الحساب- - سبحانه وتعالى -- فلو نظرنا من جهة الرأي لعلي لقلنا إن باطن الخف أولى بالمسح من ظاهره ؛ والسبب في ذلك أن الإنسان إذا لبس الخفين وطأبهما الثرى ووطأ بهما الأرض فيتسخ باطن الخفين أكثر من الظاهرة وهذا يدل على أسفل الخف أولى بالمسح من ظاهره ولكن الشرع ورد بالظاهر دون الباطن ، وبناءً فإن السنة أن يمسح الظاهر ولا يمسح الباطن .(44/12)
وفيه دليل على أن العقل والرأي قد يكون معتد به إذا وافق الشرع وباطن مردود إذا خالف الشرع ، والرأي ينقسم إلى قسمين :
القسم الأول : رأي محمود ، دل الشرع على أعتباره والاعتداد به. والقسم الثاني : رأي مذموم واجتهاد فاسد دل الشرع على بطلانه ورده .
أما الدليل على تفريقنا بين الرأي المحمود والمذموم فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال كما في الصحيحين : (( إذا اجتهد الحاكم فأصاب كان له أجران وإذا اجتهد فأخطأ كان له أجر واحد )) فدل قوله : (( إذا اجتهد)) على الرأي وذلك أن النصوص من حيث هي ترد في محتملة ، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم : (( من يرد الله به خيراً يفقهه في الدين )) أي يزده فهماً في النصوص ودلالاتها وما تضمنته من المعاني ، وعلى هذا فإنه ما كان من الرأي محموداً موافقاً لشريعتنا فإنه لا يقال له أنه رأي مذموم بل يقال أنه رأي محمود فإذا كان هذا الرأي موافقاً لشرع الله أصاب صاحبه الحق فإنه حينئذ يؤجر ، وأما إذا كان خطأً فذلك يوجب أجره من جهة العناء والنصب ويكون للأول أجران ويكون للثاني أجر واحد .(44/13)
وأما بالنسبة للرأي المذموم فهي العلل والقياسات والاجتهاد الذي تصادم به النصوص الصريحة الصحيحة في كتاب الله وسنة النبي صلى الله عليه وسلم وهذا هو الذي ذمه الله- - عز وجل -- وذم أهله وأجمع السلف الصالح رحمهم الله على التنفير منه وعلى مقت صاحبه كائناً من كان وذلك أن يعرف عن الرجل أنه إذا جاءه النص حجة عليه تكلف في الرد عليه وتعصب لإمامه وشيخه لرد السنة بالهوى والرأي ولو كانت حجته ضعيفة واهية فإنه يجعلها برأيه وقياسه واجتهاده كالقوية يلبس الحق بالباطل والباطل بالحق-نسأل الله السلامة والعافية- ومن يفعل هذا الصنيع فيتعصب لشيخه وأمامه راداً كتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم فإنه مفتون ضال ؛ لأن الله توعد من خالف شرعه بالفتنة فقال - - سبحانه وتعالى --:{فَلْيَحْذَرْ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ}(1) فتوعد سبحانه وتعالى من خالف شرعه وهديه في كتابه و سنته سنة رسولهصلوات الله وسلامه عليه بالفتنة ، قال بعض العلماء : من تكلف رد النصوص بالهوى والرأي فإن الله يطمس بصيرته-نسأل الله السلامة والعافية- ويكون زائغ القلب كما قال سبحانه وتعالى :{ فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ}(2) فمن زاغ عن الحق أزاغ الله قلبه وقد يصاب بهذا الزيغ إلى يوم القيامة فلا يصيب الحق-والعياذ بالله- .
__________
(1) / النور ، آية : 63 .
(2) / الصف ، آية : 5 .(44/14)
فالمنبغي للمسلم إذا صح له الدليل وإستبانت له الحجة من كتاب الله وسنة النبي صلى الله عليه وسلم أن يذعن لها وأن يرضى بها وأن يتلقاها بالقبول مسلماً مستسلماً مستجيباً لأمر الله طائعاً : { فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً}(1) قال الإمام أبو عبد الله محمد بن إدريس الشافعي : " أجمع المسلمون على أنه من استبانت له سنة النبي صلى الله عليه وسلم أنه ليس له أن يدعها لقول أحد كائناً من كان" ، وبناءً على ذلك فلا يجوز للمسلم أن يتعصب وأن يرد حجج الكتاب والسنة وأن يتكلف في ردها والجواب عنها وإنما يكون على الهدي والسنن .
-نسأل الله العظيم رب العرش الكريم بأسمائه الحسنى وصفاته العلا أن يرزقنا حب السنة وإتباعها والموت عليها وأن لا يزيغ قلوبنا بفتنة تصرفنا عنها ونسأله أن يحشرنا في زمرة أهلها المتمسكين بها إنه ولي ذلك والقادر عليه- .
- ? - ? - ? - ? - الأسئلة - ? - ? - ? - ? -
السؤال الأول :
ما معنى قول العلماء رحمهم الله أن مسح الجبيرة عزيمة ومسح الخف رخصة ..؟؟
الجواب :
بسم الله الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه أما بعد :
__________
(1) / النساء ، آية : 65 .(44/15)
فإن الإنسان إذا كسرت يده أو كسرت رجله وجبر ذلك المكان فإننا بالخيار بين أمرين إما أن نقول له إنزع الجبيرة وإغسل هذا المكان في كل وضوء وهذا تكليف بما فيه حرج ومشقة والله عز وجل ليس في شرعه الحرج وليس في شرعه المشقة الموجبة للحرج فتعين النصير إلى القول بالمسح على الجبيرة وإذا صرنا إلى القول بالمسح على الجبيرة فإن هذا المسح ليس كالمسح على الخفين فإنه يعتبر كالأصل ويعتبر عزيمة على الإنسان فلا تقول أنه يتأقت في يوم وليلة ولا تقل في قول طائفة من العلماء أنه يتأقت بالوضوء فلابد أن يكون متوضأ قبل أن يلبس جبيرته وإن كان الأفضل والأكمل أن يتوضأ لأنه أمر طارئ وحينئذ ينتقل الحكم إلى الجبيرة كأنها هي اليد فلما صعب أن يغسل قماش الجبيرة ، وفي ذلك ضرر أن تتعفن وأن تحصل الجروح والقروح والضرر صار الحكم للمسح ؛ لأن الله أمر بإصابة الماء لهذا الموضع فلما تعذرت إصابته بالغسل انتقل إلى البدل والبدل لا يمكن أن يغسل فصير إلى مسحه ، ولذلك قالوا أن المسح على الجبيرة عزيمة والمسح على الخفين رخصة هذا له حكمه وهذا له حكمه ، والله تعالى أعلم .
السؤال لثاني :
أشكل علىّ بطلان الطهارة لمن مسح على الخف عند النزع وعند انتهاء المدة المقررة علماً أنهما ليس من النواقض المعروفة ..؟؟
الجواب :(44/16)
الأصل أن يغسل المسلم رجليه ، وعلى هذا إذا كان المسلم مطالباً بغسل رجليه فإنه يمسح على خفيه برخصة الشرع فأنت إذا مسحت برأسك توجه عليك الخطاب في الوضوء أن تغسل رجليك فتعدل عن هذا الغسل إلى المسح لكنك تعدل برخصة مؤقته فمعنى ذلك أنه لما نص الشرع على أنك تمسح يوماً وليلة دل على أنا لا تمسح فيما زاد عليه وحينئذ إذا انتهى اليوم والليلة توجه عليك خطاب الأصل وهو غسل الرجلين فتوجه وقد أصبح الفاصل بين مسحك لرأسك وغسلك لرجليك بحيث لا يمكنك أن تغسل رجليك حتى تتدارك ، وحينئذ يفوت شرط الموالاه وعليه فتخاطب بغسل الرجلين مع فوات شرط الموالاه فينتقض الوضوء من ثم وعليه قال العلماء رحمهم الله عند من يقول باشتراط الموالاه أنه يجب عليه أن يتوضأ عند انتهاء مدة المسح على الخفين ، والله تعالى أعلم .
السؤال الثالث :
إذا لبست الخفين وأنا على طهارة ثم حان وقت الفريضة فهل أمسح على الخفين وأنا لم أكن ناوياً سنية المسح لما لبستهما..؟؟
الجواب :
من لبس على خفيه ثم أراد أن يصلي فلا يخلوا من حالتين :
الحالة الأولى : أن يكون الوضوء الذي لبس عليه الخفين لم ينتقض فلا إشكال وحينئذ يكون وضوؤه وتكون صلاة بوضوء لا مسح فيه .(44/17)
والحالة الثانية : أن تكون صلاته هذه بوضوء بعد الوضوء الأول الذي لبس عليه الخفين وحينئذ يلزمه أن يمسح على خفيه حينئذ يصح منه أن يصلي الصلاة بمسحه على خفيه فيستبيح رخصة المسح ؛ لأن رخصة المسح تبدأ بأول حدث بعد لبسه ، وهذا وكما ذكرنا يصبح في هذه الحالة كأنك تصلي هذه الصلاة بالوضوء الذي قبل اللبس صورة ذلك لو أن الإنسان في الساعة الثالثة ظهراً توضأ ثم قال أريد أن ألبس الخفين فلبس خفيه وهو على طهارة على وضوءه في الساعة الثالثة وأذن العصر ونزل فصلى فإنه يعتبر مصلياً بوضوء لا مسح فيه لأن الوضوء الأول الذي لبس عليه الخفين لم ينتقض وحينئذٍ لا إشكال فيه جواز صلاتك بالخفين على هذه الصورة ، والله تعالى أعلم.
السؤال الرابع :
إذا نزع الخف لمكان الجنابة هل يستأنف بعدها أم يبني ..؟؟
الجواب:
إذا نزع الخف لمكان الجنابة فإنه حينئذ يستأنف مسحه على خفيه فإذا أجنب واغتسل غسل الجنابة وكان قد نوى الطهارة الصغرى تحت الطهارة الكبرى أجزأه أن يلبس خفيه ثم ينظر إلى أول حدث بعد لبسه الثاني فيعتد به سفراً وإقامة ، والله تعالى أعلم .
السؤال الخامس :
إذا أجنب المسافر وكان فاقداً للماء فهل يجب عليه عند التيمم أن ينزع خفيه ..؟؟
الجواب :
إذا أجنب وهو في سفر ولم يجد الماء فإنه حينئذ يتيمم وعليه الخفان ؛ لأن موضع الخفين ليس مأمور بتطهيرهما في الطهارة الكبرى إذا كانت بدلية أعني التيمم ، وعلى هذا فإنه يتيمم وهو لابس لخفيه وهو لابس لشرابه وهو لا بس لجزمته لأن هذا الموضع ليس بوضع يجب كشفه في الطهارة البدنية ولا يشكل على هذا أنه في الطهارة الأصلية وهي الغسل يجب عليه أن ينزع خفيه لأنه إذا تيمم لا يجب عليه أن ينزع ثيابه لأعالي بدنه وكذلك لا يجب عليه أن ينزع ملبوسه لأسفل بدنه ، والله تعالى أعلم .
السؤال السادس :
إذا لبس جورباً على جورباً آخر ممسوح عليه فهل يكتفي بالمسح على الأول أم يمسح من جديد على الاخر..؟؟
الجواب:(44/18)
من لبس جوربين أو خفين فالعبرة بالأسفل لا بالأعلى فيكون مسحك للأسفل ولا يمسح على الأعلى ؛ لأنه لم يثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم لبسه للجوربين ولا للنعلين فوق بعضهما ، وإنما ثبت عنه أنه مسح على خف واحد لليمنى واليسرى ، وعلى ذلك فإن المسح رخصة ويوقب فيها على الصورة الواردة وذلك احتياطاً لأصل الدين وهي الصلاة فهذا قول جمع من العلماء ، والله تعالى أعلم .
السؤال السابع :
هل خروج الريح من الإنسان يوجب الاستنجاء أم يكتفى بالوضوء ..؟؟
الجواب :
من خرج منه الريح فإنه يجزيه أن يتوضأ ولا يجب عليه أن يغسل الدبر وهذا مما خالف فيه الريح البول والغائط ، فإن البول والغائط يستجمروا أو يستنجي يستجمر أو يستنجي بالماء إذا خرجا-أعني بالقبل والدبر-.
وأما بالنسبة للريح فإنه يجزيه بعد الريح مباشرة أن يتوضأ إلا في حالة واحدة وهي التي أشار إليها بعض العلماء في بعض حالات الإسهال فإن الإنسان إذا أسهل ولم يأمن خروج رذاذ من ريحه فإنه حينئذ يكون غسله للموضع للرذاذ وليس من أجل الريح أما ذات الريح فإنه لا يجب الاستنجاء منه ، إلا قول شاذ عند قول أهل البدع ممن لا يعتد بخلافه ، وقد يقول به بعض الفقهاء ؛ ولكنه قول شاذ وجماهير السلف والخلف على أن الريح لا يجب منه الاستنجاء ، والله تعالى أعلم .
السؤال الثامن :
في قول الإمام ابن مبارك رحمه الله : " إن الرجل ليسألني عن المسح فأرتاب به أن يكون صاحب هوى هل يستفاد منه أن من تعقب نصوص الكتاب والسنة ورد منها ما لا يوافق هواه أنه يخشى عليه أن يكون من أهل الضلال والهوى بناءً على ما ذكره سلفنا الصالح "..؟؟
الجواب :(44/19)
الحجة في كتاب الله عز وجل فإن الإعراض عن كتاب الله وسنة النبي صلى الله عليه وسلم مهلكة :{ وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى - قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنتُ بَصِيراً - قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا}(1) نسيتها بمعنى تركتها لأن العرب تقول نسي الشيء إذا تركه فنسيتها نسيت العمل تركت العمل بها والاتباع لها :{ وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنسَى - وَكَذَلِكَ نَجْزِي مَنْ أَسْرَفَ وَلَمْ يُؤْمِنْ بِآيَاتِ رَبِّهِ}(2) هذا كله يدل على أنه يجب على المسلم أن يلتزم بكتاب الله وسنة النبي صلى الله عليه وسلم فإنه لا صلاح ولا فلاح ولا نجاح ولا نجاة في الدنيا ولا في الآخرة إلا بإتباع كتاب الله والالتزام بسنة النبي -- صلى الله عليه وسلم - -ومن وجدته محباً للوحي ملتزماً بكتاب الله وبسنة النبي صلى الله عليه وسلم اطمأن قلبه واستنارت بصيرته وكان من أهل الحق والهدى فإن القرآن يهدي للتي هي أقوم فتجده على صراط الله المستقيم الذي تعثرت الجباه بالسجود بين يدي الله أناء الليل وأطراف النهار أن يرزقها الله إتباع ذلك الصراط المستقيم فلا صراط إلا بكتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم تكفل الله بالهدى لمن اتبعه ذلك الكتاب لا ريب فيه هدى للمتقين فالله جعل الهدى وجعل النور والرحمة والموعظة الحسنة في كتابه وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم -وجعل ماعدا ذلك ظلاماً وهلاكاً وشقاءً في الدنيا والآخرة :{ وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلاَ تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ}(3) ولذلك خط النبي صلى الله عليه وسلم خطاً وخط عن
__________
(1) / طه ، آية : 124-126
(2) / طه ، آية : 126-127.
(3) / الأنعام ، آية : 153 .(44/20)
يمينة وعن يساره خطوطاً وبين أن هذا هو صراط الله المستقيم ، قال جمع من السلف في قوله- سبحانه-:{وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ } قالوا هو القرآن والسنة وما دل عليه من السنن والهدي فمن اتبع هذا السبيل نجا إذا تبين له الحق وإستبانت له السنة تمسك بها وعض عليها بناجده كما قال صلى الله عليه وسلم :(( عضوا عليها بالنواجذ )) وإذا وقع الشيء تحت ناجد الإنسان تمسك به فيجب على المسلم أن يعض بناجده على كتاب الله وسنة النبي صلى الله عليه وسلم لا يبتغي عنهما بديلاً ولا عن سبيلهما تحويلا حتى يحيى سعيداً ويموت قرير العين بطاعة الله ورضوان الله عز وجل فمن مات وهو متمسك بالسنة أحشره الله مع أهلها وكان من السعداء ولا طريق لنا إلى معرفة السنة وحبها وإلتزامها والتمسك بها إلا بغشيان حلق الذكر وسؤال العلماء وترك أصحاب الهوى وترك أصحاب البدع وعدم الإصغاء لكل زاعق وناعق.
ينبغي أخذ العلم عن أهله فإذا كان الإنسان يبحث في دينه و شرع الله عز وجل والمسائل التي تطرأ عليه في نفسه وأهله وولده يسأل عنها العلماء الأثبات الذين عرفوا بحب الكتاب والسنة والتمسك بهدي السلف الصالح للأمة فإنه يكون من أهل السنة ويحشر في زمرة أهلها في الاخرة فلذلك لا سبيل لنا للتمسك بكتاب الله وسنة النبي صلى الله عليه وسلم إلا بغشيان حلق الذكر والحرص على سماع علم العلماء الذين شهد لهم بإلتزام الكتاب والسنة وترك الهوى والتعصب فإذا وفق الإنسان لذلك أصاب السنة وكان من أهلها -نسأل الله العظيم رب العرش العظيم أن يجعلنا وإياكم ذلك الرجل وأن يعصمنا وإياكم من مضلات الفتن ما ظهر منها وما بطن - ، والله تعالى أعلم .
السؤال الثامن :
ما القول الراجح في ضجعتي الفجر..؟؟
الجواب :(44/21)
ضجعة الفجر سنة ثابتة عن النبي صلى الله عليه وسلم كان صلى الله عليه وسلم يقوم آخر الليل وانتهى قيامه في الليل للثلث الأخير من الليل فكان يتهجد بكتاب الله حتى تفطرت قدماهصلوات الله وسلامه عليه فكان إذا بلغ السحر صلى الوتر ثم إن كان أهله يقظين حدثهم وباسطهم إلى الفجر فإذا أذن المؤذن صلى ركعتين خفيفتين ثم اضطجع على شقه الأيمن حتى يأتيه المؤذن فيؤذنه بالصلاة فيقوم بأبي وأميصلوات الله وسلامه عليه فيصلي بالناس الفجر هذا السنة ظاهرها أن النبي صلى الله عليه وسلم فعلها بعد قيام الليل ولذلك يقول بعض أهل العلم أنه -عليه والصلاة والسلام-كبشر وكما يكون من البشر إذا قام آخر الليل أصابه التعب والنصب ابن مسعود- رضي الله عنهما- قال وماذا قال : " هممت أن اترك وأذهب من طول قيامه- صلوات الله عليه- " فكان يطول في قيام الليل وهذا فيه جهد للبدن ومشقة معناء :{ وَمِنْ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَكَ عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَاماً مَحْمُوداً}(1) فملأ الله قلبه بحب الاخرة والاشتغال لها فهان عليه أن يقف في هذه الساعة التي هدأت فيها العيون وسكنت فيها الجفون يناجي ربه سبحانه وتعالى ويناجيه فكان يطيل قيامه فيجد من الجهد والمشقة ما يجده فإذا أذن بالفجر اضطجع من المشقة والتعب قالوا لو إستمر على حالته من الاعياء والنصب لما استطاع أن يطيل في صلاة الفجر لأنه كان يصلي بالناس في الفجر من الستين إلى المائة آية كما في الصحيحين من حديث جابر رضي الله عنه فقالوا كأنها سنة تعليمية فإذا كان الإنسان إماماً يصلي بالناس وقام آخر الليل ثم أذن بالفجر فإن السنة له أن يضطجع على شقه الإيمن تأسياً برسول الله صلى الله عليه وسلم واقتداء به في بيته إحرص على فعل ذلك في بيتك لأن النبي صلى الله عليه وسلم فعل ذلك في بيته ولم يفعله في مسجده -صلوات الله
__________
(1) / الإسراء ، آية : 79 .(44/22)
وسلامه عليه- أما إذا كان الإنسان قد نام إلى آذان الفجر ثم قام بعد آذان الفجر ففإنه يقول بعض العلماء لا يتأتى فيه الاتساء والاقتداء لأن المعنى الذي من أجله فعل الرسول صلى الله عليه وسلم هذه الضجعة غير موجود فيه وعلى هذا يفرق بين من كان على تعب ونصب وبين من كان على راحة وإستجمام ، والله تعالى أعلم .
السؤال التاسع :
إذا أدرك شخص الركعة الثالثة من صلاة المغرب فكيف يكون قضاء الركعتين الباقية هل نأتي بها جميعاً بدون تشهد أم لا بد أن نأتي بالتشهد..؟؟
الجواب:
اختلف العلماء رحمهم الله إذا أدركت الإمام في صلاه هل صلاتك مع الإمام هي الأولى أم أن صلاتك مع الإمام هي الأخيرة ؟؟ وهذا ما يسمى بمذهبي القضاء والاتمام فالمذهب الأول يقول : صلاتك مع الإمام هي الأولى وبناءً على ذلك إذا قمت بعد سلام الإمام تحتسب الركعات كأنك أديتها في أول صلاتك فإذا أدركت في المغرب الركعتين الأخيرتين تقوم مباشرة وتأتي بركعة واحدة وتتشهد وتسلم هذا وتكون سرية وهذا مذهب البناء .
كذلك أيضا لو أدركت في صلاة العشاء ركعة واحدة فإنك تقوم وتأتي بركعة ثانية لأنك في الركعة الثانية من صلاتك فتحتسب صلاتك مع الإمام هي الأولى ثم تأتي بركعة ثانية تجهر فيها ثم تجلس للتشهد ثم تأتي بأخيرتين وتسر فيهما ولا تجهر وهذا مذهب البناء ، كما ذكرنا واحتج أصحابه بما ثبت في الصحيحين عن حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : (( فما أدركتم فصلوا وما فاتكم فأتموا )) قالوا فقوله : (( فأتموا )) يدل على أن صلاته مع الإمام هي الأولى وصلاته وحده إتمام لصلاته مع الإمام القول الثاني يقول العكس تعتبر صلاتك مع الإمام هي الأولى إذا كنت قد أدركت الركعة الأخيرة من المغرب تقوم وتأتي بركعتين تجهر فيهما بالقراءة وهذا مبني على مذهب القضاء يسميه العلماء مذهب القضاء فتقوم وتأتي بركعتين تجهر فيهما .(44/23)
وكذلك أيضا لو أدركت الركعتين الأخيرتين من العشاء فإنك أدركت آخر صلاتك فإنك تقوم وتأتي بركعتين جهريتين تجهر فيهما بالقراءة وهذا مذهب القضاء وهناك مذهب ثالث يسمى مذهب التلفيق جمع بين القضاء والاتمام يقول به جمع من السلف يختاره بعض أصحاب الإمام اختاره جمع من أصحاب مالك وقالوا إنه هو المذهب يقولون يبني في الأفعال ويقضي في الأقوال احتج الذين قالوا بالقضاء وهو المذهب الثاني بحديث أبي هريرة نفسه الذي ذكرناه وفيه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : (( وما فاتكم فاقضوا )) قالوا فقوله فاقضوا يدل على أن صلاتنا مع الإمام الأخيرة وأن ينبغي علينا أن نقضي ما فات .
والذين قالوا بالمذهب الثالث وهو مذهب التلفيق جمعوا بين رواية فاقضوا وأتموا وقالوا الأولى أن الجمع بين الروايات أولى من العمل ببعضها وترك البعض والذي يترجح في نظري والعلم عند الله هو القول الذي يقول إنه يبني ولا يقضي والسبب في ذلك أن روايات فأتموا أصح سنداً ومتناً أما سنداً فثقات الرواة عن الزهري يروونها فأتموا ورواية فاقضوا هي ممن هو أقل توثيقاً ممن روى الاتمام والقاعدة : " أن رواية الأوثق تقدم على رواية الثقة " ، ولذلك نقدم رواية الاتمام على رواية القضاء .(44/24)
الوجه الثاني : أننا لا نسلم أن رواية أتموا تعارض رواية فأقضوا لأن العرب تعبر بالقضاء بمعنى الاتمام يقولون قضى الأمر إذا أتمه ومنه قوله سبحانه وتعالى :{فَإِذَا قُضِيَتْ الصَّلاَةُ }(1) بمعنى أتممتموها وكذلك قوله سبحانه وتعالى : { ثُمَّ لِيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ} فعبر بالقضاء عن الاتمام فحينئذ أصبحت رواية القضاء لاتقوى على رواية الاتمام لإحتمال أن تكون رواية بالمعنى والقاعدة أنه : " لا يحكم بتعارض الروايات إذا دخل بعضها في بعض معنى " وعليه تترجح رواية الاتمام سنداً وتترجح متناً ويكون الحكم حينئذ أنك إذا أدركت إمامك تحتسب صلاتك مع الإمام الأولى فتعتد بالركعة التي هي مع الإمام وتعتبرها أول صلاتك ويقول الإمام ابن المنذر الإمام المجتهد الفقيه الذي ألف الكتب والتصانيف النافعة في فقه الخلاف يقول : " إن هذا المذهب أقوى " ؛ لأن الجميع متفقون على أنه إذا جاء مع الإمام وجئت تدخل وراءه انك تكبر تكبيرة الاحرام وهي الدخول في الصلاة وهي تكون لأول ركعة فدل على أن صلاتك مع الإمام الأولى ، وبناءً على ذلك تبني ولا تقضي على أصح أقوال العلماء ، والله تعالى أعلم
السؤال العاشر :
إذا صلى رغيبة الفجر في بيته ثم أتى المسجد قبل أن تقوم الصلاة فهل يصلي مرة أخرى أم يجلس الى ان تقام الصلاة ..؟؟
الجواب :
بسم الله الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه أما بعد :
__________
(1) / الجمعة ، آية : 10 .(44/25)
فقد اختلف العلماء رحمهم الله في التنفل بين الآذان والاقامة من صلاة الفجر فقال جمع من العلماء وهو مذهب الجمهور أنه يجوز التنفل بين الآذان والإقامة لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال في الحديث الصحيح :(( فصلي أي في الليل فإن الصلاة حاضرة مشهودة حتى تصلي الفجر فإذا صليت فأمسك عن الصلاة )) قالوا فجعل الصلاة حاضرة مشهودة حتى يصلي المسلم الفجر فدل على أنه لا حرج أن يتنفل بين الآذان والاقامة وقال بعض العلماء إنه لا يتنفل بين الآذان والاقامة وبه قال بعض السلف واحتجوا بقوله -علية الصلاة والسلام-:(( لا صلاة بعد الفجر حتى تطلع الشمس )) قوله : (( لا صلاة بعد الصبح حتى تطلع الشمس )) قالوا يدل على أنه لا يجوز له أن يتنفل وإنما يؤدي الفريضة التي فعلها رسول الله صلى الله عليه وسلم والرغيبة التي استثناها .
والذي يترجح والعلم عند الله أنه يجوز أن يتنفل بين الآذان والإقامة والأحوط أن يترك ذلك فإذا صلى بين الآذان والإقامة فلا حرج عليه ؛ ولكن الأفضل والأكمل أن يقتصر على هدي النبي صلى الله عليه وسلم من فعل رغيبة الفجر فقط ، أما إذا دخل المسجد فإن السنة أن يصلي الركعتين يعني تحية المسجد ؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بهما وحينئذ يكون فعله لها خارج عن موضع نزاعناً ، والله تعالى أعلم .
السؤال الحادي عشر :
عند التكبير والتلفظ به في الصلاة هل يكون رفع اليدين مصاحباً له أم قبله أم بعده..؟؟
الجواب :
قال بعض العلماء إن السنة أن يجمع بين القول والفعل واحتجوا بما ثبت في الصحيح عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال : (( لا تسبقوني إني قد بدنت )) هذا الحديث ، وفيه قوله - عليه الصلاة والسلام -: (( لا تسبقوني إني قد بدنته )) يدل على إنه كان يجمع بين القول والفعل .(44/26)
وتوضيح ذلك : أنه كبرت سنه صلوات الله وسلامه عليهوثقل كما في الصحيح عن أم المؤمنين عائشة أنه أخذه اللحن فلما ثقل في آخر حياتهصلوات الله وسلامه عليه كان يرفع رأسه من السجود مثلاً ويكبر فالصحابة من خفتهم يسبقونه فقال : (( لا تسبقوني إني قد بدنت )) فلو كان النبي صلى الله عليه وسلم يؤخر لفظ التكبير إلى قيامه واستتمامه لكان الحديث غير وارد لكن كونه -علية الصلاة والسلام- يقول : (( لا تسبقوني إني قد بدنت )) يدل على مصاحبة القول للفعل وهذا هو أوجه ما ذكره العلماء لأنهم قالوا من الناس من يسمع الصوت ولا يرى الشخص ومنهم من يرى الشخص ولا يسمع الصوت ومنهم من لا يرى الشخص ولا يسمع الصوت الصوت وإنما يقتدي بمن هو خارج المسجد كالإنسان الذي هو خارج المسجد أو من كان في أخريات المسجد لا يسمع صوت الإمام فالشاهد إن الذي يرى الشخص ولا يسمع الصوت كمن هو في أطراف الصفوف أو في آخر الصفوف يرى الإمام ولا يسمع صوته فإذا كان الإمام في التشهد مثلاً الأول وجاء قائماً للركعة الثالثة فإنه إذا كان يؤخر التكبير فإن هذا الذي يرى شخصه ولا يسمع صوته سيقوم مباشرة ، ولذلك أنه قالوا إنه يجمع بين القول والفعل ومن الناس من يسمع صوته ولا يرى شخصه كالأعمى فإنه يسمع الصوت ولا يرى الشخص فإذا كان الإمام يسبق فعله قوله تأخر الأعمى عنه وكذلك لو سبق قوله فعله تقدم الأعمى على فعله ولذلك قالوا يجمع بين القول والفعل فيكون تكبيره مقارنا للفعل حتى يؤدي الناس السنة على الكمال في الإقتداء والإئتمان بأئمتهم ، والله تعالى أعلم .
السؤال الثاني عشر:
إذا أحس الإمام وهو في الصلاة بناقض من نواقض الوضوء فهل يقطع الصلاة وكيف يتقدم من ينوب عنه..؟؟
الجواب :
في المسألة تفصيل هذه المسألة لها جانبان :
الجانب الأول : من جهة كونه ماذا يفعل إذا أحس بالناقض والجانب الثاني لو قطع صلاته هل يستخلف أو لا يستخلف وكيف يستخلف .(44/27)
أما بالنسبة للجانب الأول : إذا أحس كأنه يريد أن يخرج منه شيء فإن أمكن أن يحبس ويصبر دون أن يكون هناك إزعاج ولا ينشغل ذهنه ولا يتشوش فإنه يحبس ويتحكم في نفسه لأنه يتم للناس صلاتهم ويوقعها على الصورة المعتدة وأما قوله - عليه الصلاة والسلام -: (( وهو يدافع الأخبثان )) فالمراد بذلك مشوش الفكر وأخرج المصلي عن الشعور بصلاته أما إذا أمكنه أن يدفع دون وجود ضرر على نفسه ودون أن يوجد تشويش على فكره فإنه يفعل ذلك فإذا أمكنه ذلك فعله أما إذا لم يمكنه أو غلبه وخرج منه الخارج كالريح فإنه حينئذ يسحب من وراءه يسحب شخصاً من وراءه من ذوي الحاجة حتى يتم لناس صلاتهم وهذا الذي يليه يبتدئ من حيث انتهى إمامه ولذلك لما صلى أبو بكر رضي الله عنه وأرضاه كبر بالناس في الصلاة ثم أتى النبي صلى الله عليه وسلم في آخر حياته وهي آخر صلاة صلاها بأصحابه -رضي الله عنهم وأرضاهم -أتي محمول -صلوات الله وسلامه عليه -على العباس وعلي بن أبي طالب رضي الله عن الجميع يحملانه حتى أقاماه عن يسار أبي بكر وأبو بكر عن يمبنه فكبر عليه الصلاة والسلام فأبو بكر يأتم بالنبي صلى الله عليه وسلم والناس يأتمون بأبي بكر قالوا فطرأت إمامة النبي صلى الله عليه وسلم على إمامة أبي بكر وهي صورة العكس وذلك يقول العلماء : لو قدم الإمام أثناء الصلاة وقد تقد خليفة استخلفه رجل ليصلي وجاء الإمام الأصلي فإن من حقه أن يقف وأن يتأخر الأول ؛ لأن أبا بكر رضي الله عنه تأخر عن إمامته لرسول الله صلى الله عليه وسلم وهذا ينص عليه جمهور العلماء -رحمة الله عليهم -الشاهد أن هذا يدل على إنتقال الإمامة فكما إنتقلت من النبي صلى الله عليه وسلم لحضور الحق وهي أحقية الامامة إمامة النبي صلى الله عليه وسلم فكذلك حصول الحق بشرط الصلاة وهو الطهارة فإنه لما انتقض وضوء الإمام الأصلي صال الحق لمن يليه لأنه لا يستحق أن يتقدم فتقدم(44/28)
البدن عنه وبناءً على ذلك دلت أصول الشريعة على أنه يجوز الاستخلاف .
وَآخِرُ دَعْوَانَا أَنِ الحمَْدُ لِلَّهِ رَبِّ العَالَميْنَ وصلَّى اللَّهُ وسلَّم وبارك على عبده ونبيَّه محمد وعلى آله وصحبه أجمعين .(44/29)
بسم الله الرحمن الرحيم
قال المصنف رحمه الله : بَاب مَا جَاءَ فِي الْمَسْحِ عَلَى الْجَوْرَبَيْنِ وَالنَّعْلَيْنِ
حَدَّثَنَا هَنَّادٌ وَمَحْمُودُ بْنُ غَيْلَانَ قَالاَ حَدَّثَنَا وَكِيعٌ عَنْ سُفْيَانَ عَنْ أَبِي قَيْسٍ عَنْ هُزَيْلِ بْنِ شُرَحْبِيلَ عَنِ الْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ قَالَ:" تَوَضَّأَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم وَمَسَحَ عَلَى الْجَوْرَبَيْنِ وَالنَّعْلَيْنِ ".
قَالَ أَبو عِيسَى رحمه الله : هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ وَهُوَ قَوْلُ غَيْرِ وَاحِدٍ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ وَبِهِ يَقُولُ سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ وَابْنُ الْمُبَارَكِ وَالشَّافِعِيُّ وَأَحْمَدُ وَإِسْحَقُ قَالُوا يَمْسَحُ عَلَى الْجَوْرَبَيْنِ وَإِنْ لَمْ تَكُنْ نَعْلَيْنِ إِذَا كَانَا ثَخِينَيْنِ قَالَ وَفِي الْبَاب عَنْ أَبِي مُوسَى .
قَالَ أَبو عِيسَى رحمه الله : سَمِعْت صَالِحَ بْنَ مُحَمَّدٍ التِّرْمِذِيَّ قَال سَمِعْتُ أَبَا مُقَاتِلٍ السَّمَرْقَنْدِيَّ يَقُولُ دَخَلْتُ عَلَى أَبِي حَنِيفَةَ فِي مَرَضِهِ الَّذِي مَاتَ فِيهِ فَدَعَا بِمَاءٍ فَتَوَضَّأَ وَعَلَيْهِ جَوْرَبَانِ فَمَسْحَ عَلَيْهِمَا ثُمَّ قَالَ فَعَلْتُ الْيَوْمَ شَيْئاً لَمْ أَكُنْ أَفْعَلُهُ مَسَحْتُ عَلَى الْجَوْرَبَيْنِ وَهُمَا غَيْرُ مُنَعَّلَيْنِ .
الشرح :
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين سيدنا محمد وعلى أله وصحبه أجمعين أما بعد :
فيقول المصنف رحمه الله " باب ما جاء في المسح على الجوربين " : قصد المصنف رحمه الله بهذه الترجمة أن يبين ما ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم من الأحاديث التي تدل على جواز المسح على الجوربين ، ولما فرغ رحمه الله من باب الأحاديث الصحيحة والتي تدل على مشروعية المسح على الخفين شرع في بيان الأحاديث التي تدل على المسح على الجوربين.(45/1)
والجوربان مثنى جورب والفرق بين الجوربين والخفين أن الجورب يكون من غير الجلد كالصوف والكتان ونحوهما ، وأما بالنسبة للخفين فإنهما يكونان من الجلد ، ولذلك قال العلماء رحمهم الله : إن الجوربين لا يختصان بالنعل والقماش ، وفي عرفنا اليوم يسمى الجورب بالشراب في كلام العامة ولا يعرف له أصل من اللغة .
وقوله رحمه الله :" عن المغيرة بن شعبة أن النبي صلى الله عليه وسلم توضأ ومسح على الجوربين والنعلين" ؛ الجوربان لهما ثلاثة أحوال :
الحالة الأولى : أن يكونا مجلدين وهما ما كان أسفلهما من الجلد.
والحالة الثانية : أن يكونا ثخينين غير مجلدين .
والحالة الثالثة : أن يكونا رقيقين .
فأما إذا كان الجوربان مجلدين ، فصورة ذلك أن يكون أعلى الجورب من القماش وأسفله من جهة باطن القدم من الجلد وهذا النوع لا يزال يصنع إلى يومنا ؛ وقد كان موجوداً علىعهد النبي صلى الله عليه وسلم والعصور الأول كانوا يصنعون هذا النوع من الجوارب ؛ لأنه يمكن للإنسان أن يمشي به فكانوا إذا غطوا به القدم مشى به الإنسان ولم يحتج إلى النعل معه هذا النوع من الجوارب نص جماهير العلماء رحمهم الله على جواز المسح عليه وبذلك قال فقهاء الحنفية والمالكية والشافعية والحنابلة والظاهرية-رحمة الله على الجميع-.
وقد روي المسح على الجوربين عن على بن أبي طالب وعمار بن ياسر وعبد الله بن مسعود وعبد الله بن عمر وعن بلال والبراء ابن عازب وأبي العباس سهل بن سعد الساعدي رضي الله عن الجميع ، وقال به جمع من فقهاء التابعين كسعيد بن المسيب والحسن البصري وقتادة وغيرهم-رحمة الله على الجميع- .(45/2)
فالقول بمشروعية المسح على الجوربين إذا كان أسفلهما من الجلد قول جماهير العلماء رحمهم الله من السلف والخلف ، وعلى هذا حملت الأحاديث التي وردت عن النبي صلى الله عليه وسلم بمشروعية المسح على الجوربين ؛ لأن الجورب إذا كان أسفله من الجلد وكان ثخيناً من الظاهر من صوف وقطن ونحو ذلك فإنه أبلغ في الستر ولذلك يكون في حكم الخفين ، وعلى هذا فإن الجوارب المجلدة لا إشكال في جواز المسح عليها .
الحالة الثانية : أن يكون الجورب ثخيناً وهو الذي يعبر العلماء رحمهم الله عنه في كتب الفقهاء بقولهم " أن يكون صفيقا "والصفيق هو : الثخين وحده بعض العلماء بكونه لا ترى البشرة من تحته وهو قاصر .
والصحيح أن المراد به ما كان ثخيناً من حيث الجرم والحجم ، وعلى هذا فإنه إذا كان الجورب ثخيناً ولم يكن مجلدا فللعلماء رحمهم الله فيه قولين مشهورين :
القول الأول : يجوز المسح على الجورب إذا كان ثخيناً ولم يكن مجلداً ، وبهذا القول قال فقهاء الحنابلة وهو المذهب عندهم وبه قال الصاحبان -أعني الإمام محمد بن الحسن والإمام أبو يوسف-صاحبا الإمام أبي حنيفة-رحمة الله على الجميع-وبهذا القول قال إسحاق بن راهويه وداود الظاهري ؛ أنه يجوز المسح على الجوربين إذا كانا ثخينين .
القول الثاني : لا يجوز المسح على الجوربين إذا كانا ثخينين غير مجلدين ، وبهذا القول قال جمهور العلماء من الحنفية والمالكية والشافعية-رحمة الله على الجميع- .
استدل الذين قالوا بجواز المسح على الجوربين الثخينين بهذا الحديث الذي معنا حيث أثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم مسح على جوربين ؛ وقد جاء عن تسعة من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم أنهم مسحوا على الجوارب وبذلك قالوا بمشروعية المسح على الجوربين.(45/3)
وأكدوا ذلك بأن الجمهور يتفقون على أن الجوربين إذا كانا ثخينين مجلدين أنه يجوز المسح عليهما ، ومن المعلوم : أن المجلد أسفله من الجلد والأسفل ليس محلاً للمسح حتى يؤثر في الحكم ؛ وإنما الحكم للظاهر من حيث المسح فلما كان الظاهر ثخينا جاز المسح على غير المجلد كما جاز المسح على المجلد الثخين والقياس في هذا صحيح قوي .
واستدل الذين قالوا بالمنع بأن الله سبحانه وتعالى أوجب على عباده غسل الرجلين في كتابه العزيز ثم جاءت السنة الصحيحة عن النبي صلى الله عليه وسلم تستثني الخفين قالوا فقلنا باستثناء الخفين ثم استثنينا الجوربين المجلدين ؛ لأن فيهما شبها بالخفين ، وأما إذا كانا على غير ذلك فإنه باق على الأصل لأن الأصل يوجب علينا أن نغسل الرجلين ، وأما المسح فإنه رخصة لا يجوز العدول إليها إلا بدليل قوي وحملوا الدليل الذي ورد في المسح على الجوربين بأنهما كانا منعلين أي أن أسفلهما من الجلد.
والذي يترجح في نظري والعلم عند الله هو القول بمشروعية المسح على الجوربين الثخينين إذا لم يكونا مجلدين ، وذلك لصحة دلالة السنة على مشروعية ذلك .
وأما بالنسبة لحمل الحديث على المجلد فإنه تقييد بلا دليل ، ولذلك يقوى القول القائل بجواز المسح على الشراب الثخين ؛ لأنه في حكم الخفين من حيث سماكته وتغطيته لمحل الفرض والمؤثر سماكته حتى ينزل القماش منزلة الجلد في الستر والقوة .(45/4)
أما الحالة الثالثة فهو أن يكون الجورب خفيفاً : وهذا النوع من الجوارب يكون تارة شفافاً كما تسميه العامة بالشراب الخفيف ، فهذا النوع من الجوارب جماهير السلف والخلف على منع المسح عليه ؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم إنما مسح على الجوارب التي كانت معروفة في زمانه : " وما ورد مطلقاً في الأحاديث فإنه يقيد بالعرف النبوي" وهذا أصل عند العلماء رحمهم الله ؛ لأن إطلاقات السنة منصبة على ما هو معروف ومعهود في زمان التشريع والوحي ، ولذلك قالوا إن الحكم بجواز المسح على الجوربين نحمله على ماكان معروفاً في زمان النبي صلى الله عليه وسلم وهذه الجوارب الخفيفة الشفافة الرقيقة لم تكن معروفة ؛ وإنما كان الصحابة-رضوان الله عليهم- يضعون اللفائف والجوارب لكي يمشوا عليها فهي جوارب ثخينة وليست بخفيفة ، وعلى هذا فإنه لا يجوز المسح عليها وهو مذهب الحنفية والمالكية والشافعية وجمع من أصحاب الإمام أحمد ، وقال الظاهرية بجواز المسح مطلقاً وهذا القول قال الإمام محمد بن الحسن والقاضي أبو يوسف صاحبا الإمام أبي حنيفة-رحمة الله عن الجميع- وقالوا يجوز المسح على الرقيق قياساً على الثخين وهذا القياس محل نظر ؛ لأن من شرط صحة القياس أن لا يوجد الفارق المؤثر وهنا قد وجد الفارق وذلك أن الجورب الخفيف ليس كالجورب الثخين والجورب الثخين صح المسح عليه ؛ لأنه كالخف الذي هو من الجلد .(45/5)
وعلى هذا فإن الاحتياط في أمور الدين لا شك أن المسلم مطالب به في أعظم شعائر الإسلام بعد الشهادتين وهي الصلاة ولا يقبل الله صلاة العبد إلا إذا أدى الوضوء على الوجه المعتبر والشك في هذا النوع من الجوارب قوي مؤثر فالعمومات مخصصة بما عرف في عهد النبي صلى الله عليه وسلم وجرت به العادة في العصر الأول ، وعلى ذلك فإنه لا يمسح على هذا النوع من الجوارب الخفيفة وأنت إذا تأملت الجورب الخفيف وتأملت القول بجواز المسح عليه فإنه يتبادر للذهن أنه لو مسح رجله لكان أولى من أن يمسح على الجورب وذلك لخفة الجورب وشفافيته حتى إن بعضها ليصف القدم ويصف البشرة كما هو معروف وموجود في زماننا .
وعلى هذا فإن الجوارب تنقسم إلى ثلاثة أقسام :
قسمان منهما يجوز المسح عليه : وهما الجورب الثخين الذي أسفله من الجلد والجورب الثخين الذي ليس بمجلد .
وأما القسم الثالث : فهو الجورب الخفيف الرقيق فإنه لا يجوز المسح عليه في قول جماهير السلف والخلف-رحمة الله على الجميع-.(45/6)
وقوله رضي الله عنه "والنعلين": قال بعض العلماء رحمهم الله : إن المراد بعطف النعلين على الجوربين أن الجورب في الغالب أن يلبسه الإنسان وتحته نعل وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يلبس النعلين ويحتذي بهما وكان من سنته لبسهما ، ولذلك نهى أن يمشي الرجل وإحدى القدمين منتعل بها وذلك لكونه ظلما للرجل الأخرى وثبت عنه عليه الصلاة والسلام أنه مشى حافياً ، ولذلك كان هديهصلوات الله وسلامه عليه في الغالب النعال وقيل لعبد الله بن مسعود صاحب النعلين ؛ لأنه كان يحمل نعلي رسول الله صلى الله عليه وسلم وهنيئا له بذلك الفضل والشرف فكان إذا أراد النبي صلى الله عليه وسلم أن يجلس المجلس خلع نعليه فأخذهما عبدالله رضي الله عنه ووضعهما تحت إبطيه وإذا تقدم النبي صلى الله عليه وسلم خارجاً تقدم ابن مسعود ووضع له النعلين ، وكان من هديهصلوات الله وسلامه عليه أن يلبس السبتية وهي النعل التي لا شعر فيها ففي الصحيحين من حديث ابن عمر رضي الله عنهما أنه سئل عن لباس السبتية فقال رضي الله عنه : " رأيت النبي صلى الله عليه وسلم يلبسهما " أي يلبس السبتي من النعال وهي النعل التي لاشعر فيها ، قال بعض العلماء : مسحه على النعلين والجوربين ؛ لأنه يضع قدمه في النعل ولذلك لم يحتج أن يخلع النعل وهذا يقع إذا كان النعل لا يستر غالب القدم فيمسح حينئذ على ظاهر الخفين ويسري المسح على النعل تبعاً لا انفراداً وليس المراد أنه يمسح على النعل منفردا ؛ لأنه لو جاز المسح على النعل منفرداً لكان الواجب على المسلم أن يمسح قدميه لا أن يغسلهما.
قال المصنف رحمه الله : بَاب مَا جَاءَ فِي الْمَسْحِ عَلَى الْعِمَامَةِ
الشرح:(45/7)
يقول المصنف رحمه الله "باب ماجاء في المسح على العمامة " : العمامة هي غطاء الرأس من اللفائف ونحوها وصفت بذلك ؛ لأنها تعم الرأس بالتغطية وقد كان من هديهصلوات الله وسلامه عليه لبس العمامة.
والعمامة تنقسم إلى ثلاثة أقسام :
القسم الأول: العمامة المحنكة وهي العمامة التي لها طرف يتأتى منه أن يضعه الإنسان تحت حنكه كالمتقنع بها ، وهذا النوع من العمائم هو المشهور من عمائم المسلمين وكان عمر بن الخطاب رضي الله عنه إذا رأى على الرجل عمامة غير محنكة غضب عليه وعنفه حتى قال للرجل : " ما هذه الفاسقية " كما جاء عنه في الأثر فكان يكره أن لا تكون العمامة محنكة وكان هذا النوع من العمائم من شعار المسلمين فرقا بينهم وبين عمائم أهل الذمة-كما سيأتي-.
القسم الثاني: من العمائم ذات الذؤابة والعذبة والمراد بها أن يكون لها طرف قدر أربع أصابع فقد جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم فيما رواه الطبراني بسند حسن أنه لما بعث عبد الرحمن رضي الله عنه في سرية عممهصلوات الله وسلامه عليهوأرسل العذبة بين كتفيه وقال : (( هكذا فاعتم يابن عوف)) ، وهناك طريق ثان عن عائشة-رضي الله عنها-وهو ضعيف .
ولكن الطريق الأول أصح ، ولذلك قال العلماء إن هذا النوع من العمائم جائز ومشروع ويرسل الإنسان فيه طرف العمامة بين الكتفين سواء من جهة الصدر أو من جهة الظهر ، وهذا النوع من العمائم كان معروفاً في عهد النبي صلى الله عليه وسلم وقد أشار إلى ذلك حسان بن ثابت رضي الله عنه يمدح النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه-رضي الله عنهم أجمعين- فقال في قصيدته المشهورة :
إن الذوائب من فهر وإخوتهم قد بينوا سننا للناس تتبع
يرضى بها كل من كانت سريرته تقوى الإله وبالأمر الذي شرعوا(45/8)
فقوله رضي الله عنه " إن الذوائب" : أي أصحاب الذوائب من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ، وقوله "من فهر " : أراد بذلك المهاجرين ، وقوله "وإخوتهم " : أي الأنصار فالشاهد أنه وصف الصحابة من المهاجرين والأنصار بكونهم أصحاب الذوائب الأمر الذي يدل على كونه أمراً معروفاً معهوداً على عهد النبي صلى الله عليه وسلم ولا زالت هذه السنة محفوظة إلى زماننا فلبس العمامة من هدي النبي صلى الله عليه وسلم وهي باقية في المسلمين إلى يومنا ، ومن فعلها يقصد التأسي برسول الله صلى الله عليه وسلم فإنه مأجور غير مأزور ولا يعرف عن أحد أنه بدع من لبس العمامة ؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم ثبتت عنه الأحاديث الصحيحةصلوات الله وسلامه عليهبلبسها ، وكذلك أصحابه-رضوان الله عليهم- ، وإن جرى العرف بخلافها فإنه لا حرج على الإنسان أن يتركها ؛ لأنها ليست بسنة واجبة ولا لازمة ؛ وإنما الحرج أن يجترئ المسلم على أن يقول لمسلم يتأسى بالنبي صلى الله عليه وسلم ويلبس العمامة فيثرب عليه في ذلك أو يبدعه فهذا أمر صعب ولا شك أن الإنسان إذا بدع مثل هذا سيسأله الله عز وجل كيف رد السنة الثابتة عن النبي صلى الله عليه وسلم ؟ ولا حرج للإنسان ولا حرج على العالم وطالب العلم إذا ترجح عنده أنها من سنن الهيئات التي لا يقصد بها التشريع لا حرج أن يمتنع في نفسه عن لبسها أما أن يجترئ على الغير فيبدعه فلا ، فلكل حظه من النظر ومن لبسها له وجهه من الأثر فالمقصود أن لبسها من هديهصلوات الله وسلامه عليهوقد قال لابن عوف : (( هكذا فاعتم يابن عوف)) ، وهذان النوعان من العمائم اختلف العلماء رحمة الله عليهم في مشروعية المسح عليها في الوضوء..؟؟(45/9)
فذهب الإمام أحمد وإسحاق بن راهويه وجمع من الفقهاء رحمهم الله إلى القول بجواز المسح على العمامة وهذا القول مروي عن أبي بكر وعمر-رضي الله عنهما-وقال به سعيد بن المسيب وسعيد بن جبير والحسن البصري -رحمة الله على الجميع- أنه يشرع المسح على العمامة في الوضوء .
وذهب جمهور العلماء رحمة الله عليهم إلى عدم جواز المسح على العمامة وهو مذهب الحنفية والمالكية والشافعية-رحمة الله على الجميع-.
استدل الذين قالوا بجواز المسح على العمامة بما ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم من حديث عمرو بن أمية الضمري رضي الله عنه وأرضاه قال : " رأيت النبي صلى الله عليه وسلم يمسح على عمامته " وفي الصحيح من حديث المغيرة بن شعبة رضي الله عنه وأرضاه " أن النبي صلى الله عليه وسلم مسح على ناصيته وعلى العمامة" قالوا فثبتت بذلك السنة عن النبي صلى الله عليه وسلم فلا حرج على المسلم أن يمسح على عمامته في الوضوء .
واحتج الجمهور أن الأصل يوجب مسح الرأس لقوله-سبحانه-:{وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ}(1) قالوا فأمرنا الله بمسح الرأس ولم يأمرنا بالمسح على العمامة وما ورد من الأحاديث من مسحه صلوات الله وسلامه عليهعلى عمامته حيث لم يقتصر على مسح العمامة ؛ وإنما مسح الناصية مع العمامة وقد جاء ذلك صريحا في حديث المغيرة رضي الله عنه وأرضاه ، وبناءً على ذلك قالوا لما مسح على شعر الناصية أجزأه المسح وكان مسحه على العمامة فضلاً لا فرضاً .
__________
(1) / المائدة ، آية : 6 .(45/10)
والصحيح من القولين جواز المسح على العمامة لثبوت السنة عن النبي صلى الله عليه وسلم وحديث عمرو بن أمية رضي الله عنه وأرضاه قوي الدلالة ومثله حديث المغيرة رضي الله عن الجميع ، وعلى هذا فإن قوله سبحانه وتعالى :{وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ} لا يعارض السنة ؛ لأن الرأس من التراوس وهو أعلى الشيء ، ولذلك يمسح الإنسان على شعره مع أنه لم يمسح على جلدة رأسه فكما أنه إذا مسح على شعره أجزاه ، كذلك إذا مسح على العمامة يجزئه والشعر في حكم المنفصل لا حكم المتصل كما دلت على ذلك السنة في حديث أم سلمة-رضي الله عنها وأرضاها- في الغسل ، وبناءً على ذلك يشرع المسح على العمامة ؛ لأن السنة صحيحة عن النبي صلى الله عليه وسلم .
والسؤال : ما هي الشروط التي ينبغي توفرها للمسح على العمامة ..؟؟
والجواب : أنه يشترط للمسح على العمامة أن تكون ساترة لجميع الرأس إلا ما جرت العادة بكشفه فلو كشف ناصيته وهي مقدم الرأس فإنه لا بأس بذلك ؛ لأنه صنيع أهل الصلاح والفضل والخير وقد فعله الرسول صلى الله عليه وسلم وهكذا السوالف وآخر القفا من الرأس فإنه لا حرج كونه مكشوفاً ولا يجب ستره بالعمامة .
الشرط الثاني : أن تكون العمامة على صفة عمائم المسلمين بحيث لا تكون عمامة مقطوعة وهي العمامة التي كان يلبسها أهل الذمة .
الشرط الثالث : أن تكون العمامة طاهرة أما إذا كانت العمامة نجسة فإنه لا يجوز المسح عليها .
الشرط الرابع : أن يكون المسح على كور العمامة لا على الرأس أي لا على الطاقية ونحوها مما يكون من أعلى العمامة ؛ وإنما يباشر المسح على كور العمامة كظاهر الخف.
الشرط الخامس : عند جمع من العلماء القائلين بمشروعية المسح على العمامة أن يلبسها على طهارة كالخف فلا يمسح على العمامة إلا إذا كان لابساً لها على طهارة ، هذا كله في النوعين الأولين من العمامة وهما العمامة المحنكة وذات الذوائب.(45/11)
أما النوع الثالث من العمائم : فهي العمامة المقطوعة وصفت بذلك ؛ لأنها لا عذبة لها فكأنها قد قطع طرفها وهذا النوع من العمائم أشبه بالطاقية توضع على الرأس ثم تلف ولا يرخى لها ذيل فهذا النوع من العمائم كان يلبسه أهل الذمة لكي يفرق بينهم وبين المسلمين في الزي واللباس ولا يجوز المسح على هذا النوع من العمائم في قول من قال بمشروعية المسح على العمامة ، ولذلك قال العلماء : يشترط في المسح على العمامة أن تكون على صفة عمائم المسلمين لكي يخرجوا هذا النوع الذي هو من عمائم أهل الذمة وليس من عمائم المسلمين .
والقول بجواز المسح على العمامة في تيسير من الله على عباده ورحمة منه-سبحانه- ، قال العلماء : إن الإنسان في شدة البرد قد يحتاج إلى ستر رأسه بحيث لا يكشفه ، ولذلك شرع الله المسح على العمامة تخفيفاً على العباد وتيسيرا عليهم فأنت إذا تأملت الرجل في شدة البرد وقد وضع على رأسه العمامة يستدفئ رأسه بها ولربما عرق فإذا أراد أن يمسح رأسه وكشف رأسه وهو في العرق ربما لفحه الهواء خاصة في شدة البرد ففي ذلك دفع للحرج والمشقة عن العباد-فالحمد لله الذي هدانا لهذا وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله-.(45/12)
حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ الْقَطَّانُ عَنْ سُلَيْمَانَ التَّيْمِيِّ عَنْ بَكْرِ ابْنِ عَبْدِ اللَّهِ الْمُزَنِيِّ عَنِ الْحَسَنِ عَنِ ابْنِ الْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ عَنْ أَبِيهِ قَالَ : " تَوَضَّأَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم وَمَسَحَ عَلَى الْخُفَّيْنِ وَالْعِمَامَةِ " قَالَ بَكْرٌ وَقَدْ سَمِعْتُهُ مِنَ ابْنِ الْمُغِيرَةِ قَالَ وَذَكَرَ مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ فِي هَذَا الْحَدِيثِ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ :" أَنَّهُ مَسَحَ عَلَى نَاصِيَتِهِ وَعِمَامَتِهِ " وَقَدْ رُوِيَ هَذَا الْحَدِيثُ مِنْ غَيْرِ وَجْهٍ عَنِ الْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ ذَكَرَ بَعْضُهُمُ الْمَسْحَ عَلَى النَّاصِيَةِ وَالْعِمَامَةِ وَلَمْ يَذْكُرْ بَعْضُهُمُ النَّاصِيَةَ و سَمِعْت أَحْمَدَ بْنَ الْحَسَنِ يَقُولُ سَمِعْتُ أَحْمَدَ بْنَ حَنْبَلٍ يَقُولُ مَا رَأَيْتُ بِعَيْنِي مِثْلَ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ الْقَطَّانِ .
قَالَ رحمه الله : وَفِي الْبَاب عَنْ عَمْرِو بْنِ أُمَيَّةِ وَسَلْمَانَ وَثَوْبَانَ وَأَبِي أُمَامَةَ .
قَالَ أَبو عِيسَى رحمه الله : حَدِيثُ الْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ وَهُوَ قَوْلُ غَيْرِ وَاحِدٍ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم مِنْهُمْ أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ وَأنَسٌ وَبِهِ يَقُولُ الأَوْزَاعِيُّ وَأَحْمَدُ وَإِسْحَقُ قَالُوا يَمْسَحُ عَلَى الْعِمَامَةِ و قَالَ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَالتَّابِعِينَ لاَ يَمْسَحُ عَلَى الْعِمَامَةِ إِلاَّ بِرَأْسِهِ مَعَ الْعِمَامَةِ وَهُوَ قَوْلُ سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ وَمَالِكِ بْنِ أَنَسٍ وَابْنِ الْمُبَارَكِ وَالشَّافِعِيِّ .(45/13)
قَالَ أَبو عِيسَى رحمه الله : وسَمِعْت الْجَارُودَ بْنَ مُعَاذٍ يَقُولُ سَمِعْتُ وَكِيعَ بْنَ الْجَرَّاحِ يَقُولُ إِنْ مَسَحَ عَلَى الْعِمَامَةِ يُجْزِئُهُ لِلأَثَرِ .
حَدَّثَنَا هَنَّادٌ حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ مُسْهِرٍ عَنِ الأَعْمَشِ عَنِ الْحَكَمِ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي لَيْلَى عَنْ كَعْبِ بْنِ عُجْرَةَ عَنْ بِلالٍ :" أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم مَسَحَ عَلَى الْخُفَّيْنِ وَالْخِمَارِ" .
قال المصنف رحمه الله :حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ حَدَّثَنَا بِشْرُ بْنُ الْمُفَضَّلِ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ إِسْحَقَ هُوَ الْقُرَشِيُّ عَنْ أَبِي عُبَيْدَةَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَمَّارِ بْنِ يَاسِرٍ قَالَ : " سَأَلْتُ جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ عَنِ الْمَسْحِ عَلَى الْخُفَّيْنِ ؟" فَقَالَ :" السُّنَّةُ يَا ابْنَ أَخِي " قَالَ : " وَسَأَلْتُهُ عَنِ الْمَسْحِ عَلَى الْعِمَامَةِ ؟" فَقَالَ : " أَمِسَّ الشَّعَرَ الْمَاءَ" .
الشرح :
حديث بلال رضي الله عنه في مسح النبي صلى الله عليه وسلم على الخمار ثابت في الصحيح عنه عليه الصلاة والسلام وهذا الخمار مأخوذ من الخمر وهو التغطية والستر ومنه سمي الخمار خماراً وسمي الخمر خمراً ؛ لأنه يخامر العقل-والعياذ بالله- أي يغطيه ويستره ، والخمار حمل على العمامة ؛ لأن الرجل يختمر بها أي يغطي بها رأسه .(45/14)
وأما خمار المرأة فقد جاء عن أم سلمة-رضي الله عنها أرضاها-أنها كانت تمسح على الخمار وهو قول طائفة من العلماء رحمهم الله أنه يجوز للمرأة أن تمسح على خمارها إذا سترت به شعرها وقد قال بعض المحققين وهو اختيار شيخ الإسلام رحمه الله أن ذلك يكون عند وجود الحاجة للمرأة كأن تحتاج من شدة البرد إلى تغطية رأسها بالخمار فتمسح على الخمار حينئذ والمرأة لا عمامة لها لأن العمامة تختص بالرجال دون النساء وإذا لبست المرأة العمامة فإنها تكون متشبهة بالرجال وقد لعن الرسول صلى الله عليه وسلم المتشبهات من النساء بالرجال وهن المسترجلات كما جاء في حديث عبد الله بن عباس رضي الله عنهما : (( لعن الله المسترجلات )) فإذا لبست المرأة العمامة أو لبست لباس الرجل فوق رأسها فإنها مسترجلة وهي عاصية لله عز وجل بلبسها ذلك اللبس الخاص بالرجال ولا يقتصر الحكم على غطاء الرأس بل يشمل أسافل البدن كما في السراويل والبنطال ونحوه مما يختص بالرجال فإن لبسهن له تشبه بالرجال وتحديد للعورة إضافة للمفاسد الموجودة فيه.
فالمقصود أن المسح على العمامة يختص الرجال دون النساء ويجوز للمرأة أن تمسح على خمارها كما يجوز للرجل أن يمسح على عمامته سواءً بسواء .
- ? - ? - ? - ? - الأسئلة - ? - ? - ? - ? -
السؤال الأول :
آلا يأخذ المسح على العمامة حكم المسح على الجبيرة فيمسح على كلها لا على ظاهرها ..؟؟
الجواب :
بسم الله الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه أمابعد :
هذا يسمى قياس الشبه أن يتردد الفرع بين أصلين مختلفين في الحكم لكل منهما شبه أنت تقول بالمسح مثلاً على العمامة فيرد السؤال هل يعم جميع العمامة بالمسح أم أن يقتصر على بعض العمامة ..؟؟(45/15)
إذا جئت تنظر إلى المسح على الخفين تجد أنه يمسح على ظهر الخفين فتقول يمسح على ظاهر العمامة وإذا جئت تنظر إلى المسح على الجبائر وهي الكسور إذا لف عليها ونحوها من الجراح العميقة التي يحتاج إلى سترها تقول لا بد وأن يعم جميع الجبيرة بالستر فلا بد حينئذ أن يعم جميع العمامة بالمسح إذن تردد هذا الفرع بين أصلين ولا شك أن أحدهما أرجح من الآخر فأنت إذا نظرت الى الجبيرة في اليد فإنك تعلم أن اليد مأمور بغسلها ولم يرد رخصة بالمسح على شيء عليها كمثل القفاز ، القفاز موجود ستار لليد مع ذلك لم يثبت أنه يجوز المسح على القفاز .
وأما القدم فإنه مأمور بغسلها معدول عن الغسل إلى مسحها وأقتصر في المسح على البعض فتجد أن القدم عدل بها عن أصلها وخفف فيه فجاءت إلى صورة المسح ، فتنظر في مسح الرأس ؛ هل هو أشبه بالمسح على الخفين كرخصة بالعمامة أو أشبه بالمسح على الجبيرة .؟؟ لا شك أنه أشبه بالمسح على الخفين إذا نظرت إلى الشبه تجد أنه شبهه بالخف أقوى ؛ لأن الخف ورد النص بالمسح عليه والعمامة ورد النص بالمسح عليها فكأنه انتقل في الرجل من غسلها إلى مسحها وانتقل في مسح الرأس إلى مسحها مباشرة إلى مسح البدل القائم مقامه فهذا النوع من القياس قياس الشبه تجد أنه الأقوى فيه أن يقاس على الخفين فتقول يمسح ظاهر العمامة ولا يجب مسح جميع العمامة وأنما يقتصر على بعضها ؛ لأنه أقوى شبها بالخفين ولأن المسح على الجبيرة جاء على سبيل الضرورة فأنت تمسح على الجبيرة لأنك مضطر ولا يمكنك أن تكشف الجبيرة وتغسلها ولكن في المسح على العمامة والمسح على الخفين لست بمضطر فأنت تمسح على العمامة ، وإن كنت لست محتاج لغطاء الرأس وتمسح على الخفين وإن كنت لست محتاجا لغطاء القدم فأصبح الشبه في كونه يمسح ظاهر العمامة مقتصراً على بعضها أقوى من قولنا أنها تلحق بالجبائر ويجب تعميم العمامة كلها بالمسح ، والله تعالى أعلم .
السؤال الثاني :(45/16)
هل مدة المسح على العمامة هي نفس مدة المسح على الخفين ..؟؟
الجواب :
المسح على العمامة غير مؤقت ولذلك يبقى على إطلاقه ؛ لأن الشرع أطلقه ، والله تعالى أعلم .
السؤال الثالث :
كيف نوفق بين تخصيص الجورب بالصفيق دون الرقيق وبين القاعدة " ترك الاستفصال في مقام الاحتمال ينزل منزلة العموم في المقال" ..؟؟
الجواب :
بشرط أن تثبت أن هذه الشراريب الخفيفة كانت موجودة على عهد النبي صلى الله عليه وسلم حتى يصبح الشراب في زمانه متردداً بين هذا النوع الثخين وبين هذا النوع الرقيق ، الذي كان معهوداً في عهد النبي صلى الله عليه وسلم والصحابة من التساخيم التي وردت بها الروايات عن أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم إنما هو الغليظ ؛ لأنهم كان يريدون ستر القدم عند الوطء والمشي وسميت غزوة الرقاع بسبب هذا لأنهم يجدون المشقة في المشي وهم محتفون فلو كانوا يلبسون الشراريب الخفيفة لم يكن هنالك فائدة ولم تكن هناك حاجة لستر القدم ، وعلى هذا ترك الاستفصال أيضا هذه القاعدة ما ترد إلا في حال السؤال يعني لو أن رجلا سأل النبي صلى الله عليه وسلم وقال يا رسول الله أمسح على الجوربين..؟ وقال له النبي صلى الله عليه وسلم : امسح على جوربيك لصح تقول لم يستفصل منه لكنها جاءت حكاية فعل"مسح على جوربيه" ولم تجيء بصيغة القول حتى تقول أن قاعدة : " ترك الاستفصال في مقام الاحتمال ينزل منزلة العموم في المقال" هذه قاعدة ليست بواردة هنا وليس لها محل وينبغي في القواعد الأصولية أن توضع على حسب ما وضعه العلماء رحمهم الله في مناهجهم في أصول الفقه .
فمثلا في حديث الأعرابي لما لم يسأله النبي صلى الله عليه وسلم ولم يستفصل منه ممكن أن تقول في جملة من المسائل والأحكام التي قيل فيها بتعاميم الكفارة في هذه المسائل أن تقول أن هذا يستقيم فيه قوله : " ترك الاستفصال في مقام الاحتمال ينزل منزلة العموم في المقال" .(45/17)
مثلا جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال يا رسول الله إن امرأتي انطلقت حاجة وإني قد اكتتبت في غزوة كذا أفأحج معها ؟فقال النبي صلى الله عليه وسلم : (( انطلق فحج مع امرأتك)) إن امرأتي انطلقت حاجة وإني اكتتبت في غزوة كذا ؛ هنا يستقيم أن تقول ترك الاستفصال ؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم ما قال له هل الرفقة التي معها مأمونة ؟؟ هل معها نساء؟؟ هل معها رجال؟؟ : " ترك الاستفصال في مقام الاحتمال ينزل منزلة العموم في المقال" يعني حج مع امرأتك ولا تدعها تسافر بدون محرم مطلقاً سواء كانت في رفقة مأمونة أو غير مأمونة هنا يستقيم في الأسئلة والأجوبة أن تقول ترك الاستفصال ؛ لأن المقام مقام سؤال وجواب أما في حكايات الفعل والنصوص الواردة في حكايات الفعل هذه لا يستقيم فيها قوله بترك الاستفصال ينزل منزلة العموم في المقال .
وهنا أنبه بعض طلاب العلم : أنه ربما يقرأون عن بعض القواعد ولكن لا يحسنون تطبيقها أو يسمعون ببعض القواعد فيستدلون بها دون إحسان لتطبيقها فليس كل قاعدة تسمع تطبق وينبغي لطالب العلم إذا سمع القواعد وأراد تطبيقها أن يقرأها على علماء وأجلاء وأن يعرف قواعد التطبيق وأن لا تزل به القدم ؛ لأن هذه القواعد منضبطة ولها أصول إذا خرجت عن مسارها ربما أفتى الإنسان بحل الحرام وتحريم الحلال-والعياذ بالله-وهذا مجرب ، ولذلك كان بعض مشائخنا رحمة الله عليهم في القواعد الفقهية يحذر من الإغراق في القواعد الفقهية خشية أن طالب العلم يسترسل فيها فيحل ما حرم الله .(45/18)
مثلا لو قلنا "إن درء المفسدة مقدم على جلب المصلحة" قد يترك الإنسان فرائض الله عز وجل على هذا فتجده ربما يقول إن درء المفسدة مقدم على جلب المصلحة ، فيعتبر أي مفسدة ، فإذا نودي للصلاة يقول أخشى الرياء فإذاً ما أصلي مع الجماعة ؛ لأن القاعدة : " درء المفسدة مقدم على جلب المصلحة " فالإغراق في القواعد الأصولية والفقهية ربما يخرج الإنسان إلى تحريم ما أحل الله أو تحليل ما حرم الله أو ترك الواجب الذي فرض الله أو إيجاب مالم يوجبه الله ، ولذلك ينبغي على طالب العلم أن يتقيد في هذه الأمور وينبغي أن لا يستدل طلاب العلم خاصة أننا نسمع أن بعضهم يناقش بعضا فيستدل ببعض القواعد بطريقة عجيبة غريبة ، ولذلك ينبغي التقيد في مثل هذا وأن لا يتناول طالب العلم المواد الأصولية التي في أصول الفقه من قواعد وضوابط إلا وله علم وإلمام وإدراك وله دربه وخبرة على أيدي العلماء ، والله تعالى أعلم.
السؤال الرابع :
إذا لبس جوربين خفيفين أو أكثر هل تأخذ حكم الثخين..؟؟
الجواب :
لبس الجورب على الجورب كلبس الخف على الخف وقد بيناً أن السنة عن النبي صلى الله عليه وسلم إنما مسح على المباشر وقلنا بعدم جواز المسح على الخف إذا كان تحته خف ؛ وإنما يمسح على الصفة التي وردت عن النبي صلى الله عليه وسلم وثبتت بها السنة وهي الخف المباشر للمحل المأمور بغسله-أعني القدم- فأما إذا لبس خف على خف فإنه لا يمسح إلا على المباشر ، وبناءً على ذلك فالعبرة بالجورب الرقيق بما ولي القدم فلما كان الذي يلي القدم رقيقاً سرى عليه الحكم بالمنع واعتبر وصفه ، والله تعالى أعلم.
السؤال الخامس :
إذا تعدت العمامة محل الفرض وكانت طويلة فهل يمسح عليها كلها أم يكتفي بمحل الفرض ..؟؟
الجواب :(45/19)
سبحان الله!! هو متكتف بالعمامة يعني تعدت محل الفرض يعني متكتف به هو رأس ويستر الرأس كيف يعني؟ أما وضعها يعني على الرأس بمعنى أنه يغطي بها جبهته فهذا كرهوه وقالوا إنه صنيع أهل الكبر يعني أنه ينزل العمامة إلى حواجبه كانوا يكرهونه ؛ إنما يستحبون كشف النواصي ؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم ثبتت عليه السنة ولذلك قال الله عز وجل في الصحابة :{ سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ}(1) فدل على أنهم كان معهد عنهم لو لم يكن السمياء يظهر دل على أنه كان معهودا ومعروفابينهم ، أما إذا وضعها يعني أنه ستر هذا ممكن على هذا الوجه ممكن أن تكون مجاوزة لمحل الفرض لكنها مجاوزة يسيرة ليست بتلك المجاوزة ، أما بالنسبة لطرف العمامة وهي الذوائبه فإنه يكون فيها إسبال كما يكون في الثوب ولذلك ذكر النبي صلى الله عليه وسلم :(( الإسبال في القميص والعمامة )) قال العلماء : إن الإسبال في العمامة إذا قعد ارتخت على الأرض ؛ لأن إذا ارتخت على الأرض اتسخت وتغيرت كما أن الثوب إذا ارتخى على الأرض تغير ، وكذلك إذا طأطأ رأسه لركوع أو نحوه تدلت وأصابت الأرض فقالوا هذا من الإسبال وإنما يكون إذا كانت ذؤابتها أو عذبتها طويلة ، أما إذا كان الإنسان يريد السنة فالسنة قدر أربع أصابع هذا هو الوارد عن النبي صلى الله عليه وسلم وذكر العلماء أنه يكره المبالغة في إرسال طرف العمامة ، والله تعالى أعلم .
السؤال السادس :
في حديث خزيمة رضي الله عنه أنه سأله عن المسح على الخفين فقال صلى الله عليه وسلم :(( في المسافر ثلاثة وللمقيم يوم وليلة )) ذكرتم أنه ورد بصفة الخبر وهو المراد به الإنشاء فما هو المقصود بذلك ..؟؟
الجواب :
__________
(1) / الفتح ، آية : 29.(45/20)
العرب تتجوز في الأساليب فتارة يأتي النص عن النبي صلى الله عليه وسلم خبر والمراد به الإنشاء فلما قال في حديث علي بن أبي طالب وحديث خزيمة الذي ورد في السؤال وحديث علي ثابت وصحيح : (( يمسح المسافر ثلاثة أيام بلياليهن والمقيم يوم وليلة )) هذا خبر يمسح جملة خبرية ؛ ولكن المراد بها الإنشاء أي امسحوا إذا كنتم مسافرين ثلاثة أيام وامسحوا إذا كنتم مقيمين يوم وليلة ، وهذا من التجوز العرب تتجوز فمثلا تعبر بالجملة الماضية على شيء سيأتي فالخبر قد يستعمل بمعنى الإنشاء والإنشاء يستعمل بمعنى الخبر مثلا تعبر بصيغة الماضي بشيء تفيد تحقيقه كقوله سبحانه وتعالى :{أَتَى أَمْرُ اللَّهِ فَلاَ تَسْتَعْجِلُوهُ}(1) هو يقول فلا تستعجلوه معنى أن يوم القيامة وشدائدها وأهوالها وبعث الله العباد فيه سيأتي وأنه محقق كأنه قد جاء وهذا كما قلنا تحقيق للخبر وإثبات له، ومنه كذلك يحقق الخبر من باب حسن الطن بالله كقولك في الميت رحمه الله وقولك في الرجل-غفر الله له- هذه كلمة رحمه الله من باب الفأل وقصدك اللهم ارحمه كما قال سبحانه وتعالى :{ عَفَا اللَّهُ عَنْكَ}(2) أي أن الله قد عفا عنك ، وكذلك قولك للرجل-غفر الله لك- أسأل الله أن يغفر لك ، وكقولك للرجل-عفا الله عنك- أي أسأل الله أن يعفو عنك هذه كلها أساليب واضحة مشهورة ومعروفة في لغة العرب فيعبر بالخبر ويراد به الإنشاء ويعبر بالإنشاء ويراد به الخبر وقد يأتي حتى اللفظ بصيغة يراد بها غير ظاهرها كالتهديد ونحوها مثل قوله -تعالى- :{وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُوا}(3) هذا أمر والمراد به الإخبار بحل الصيد فهو أمر بمعنى الخبر ، وكقوله -تعالى- :{ اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ}(4) هذا تهديد وليس المراد اعملوا ما شئتم أي حل لكم أن تفعلوا ما شئتم وكقوله -سبحانه-:{ ذُقْ
__________
(1) / النحل ، آية : 1 .
(2) / التوبة ، آية : 43 .
(3) / المائدة ، آية : 2 .
(4) / فصلت ، آية : 40 .(45/21)
إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ}(1) إنما المراد به الإهانة والإذلال كل هذا معروف في أساليب العرب ، ولذلك كانت أعظم اللغات وأجلها وأوسعها لما اشتملت عليه من المعاني البديعة والأسرار الجليلة الكريمة حتى كانت بهذه المرتبة.
فالقول بأن الخبر بمعنى الإنشاء والإنشاء بمعنى الخبر أمر معروف ونّبه عليه العلماء وذكروه في أساليب الكتاب والسنة ، والله تعالى أعلم.
السؤال السابع :
هل يمسح على ما يعرف اليوم بالغتر والشمغ ..؟؟
الجواب :
لا . الغترة والعمامة والشماغ المعروفة في زماننا إذا كورها ولفها كالعمامة يمسح عليها ، أما إذا كانت مرسلة ومسدلة فلا حرج ولا يمسح عليها .
وأنبه على مسألة ذكرها بعض طلاب العلم :-أصلحهم الله-وهي مسألة حقيقة غريبة يقولون إنه إذا أرسل العمامة على هذه الصفة دون أن يرميها على طرف كتفه إن هذا من الإسدال المنهي عنه في الصلاة وهذا لا يعرف لأحد يقوله من أهل العلم ؛ لأن العمامة لا تدخل في الإسدال وهذه الشماغ والغترة ليس من الإسدال في شيء السدل المنهي عنه في الصلاة قيل المراد به سدل الرداء وذلك أنهم كانوا يلبسون مثل الإحرام يلبسون لأسفل البدن الإزار ولأعلى البدن الرداء ، فالرداء إذا صلى المصلي به وأرسله فإنه ينكشف صدره وهي هيئة لا تليق لمن يقف بين يدي الله عز وجل ، ولذلك قالوا إنه إذا صلى يرمي بطرف الرداء على كتفه الأيمن أو الأيسر ؛ لأنه أبلغ في الإجلال ، هذا المراد بالسدل لأنه على هذه الصفة ينكشف صدره وهذا معروف ومعهود .
__________
(1) / الدخان ، آية : 49 .(45/22)
وينبغي دائما في النصوص أن يرجع إلى كلام العرب والدلالات العربية المعروفة ولا يفسر كل إنسان نصا بما عنّ له وما ظهر ، فإن هذا لا يدخل في السدل وليس من السدل في شيء ما عرف في زماننا هذا بلبس الشماغ والغترة فهذا ليس من السدل في شيء إنما يجوز لبسه ؛ لأن الأصل الإباحة قال-تعالى-:{وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ جَمِيعاً مِنْهُ}(1) قال العلماء : في هذه الآية دليل على أن الملبوسات الأصل فيها وغيرها من المباحات أن ينتفع بها الإنسان حتى يدل الدليل على تحريم لبسها ، والله تعالى أعلم.
السؤال الثامن :
هل كل لباس لا يكون عليه عرف الناس يعتبر من لباس الشهرة أم هو الضابط في لباس الشهرة ..؟؟
الجواب :
لباس الشهرة ورد النهي عنه : (( وأن من لبس لباس الشهرة شهر الله به يوم القيامة )) ، والمراد بذلك التميز وقصد التميز ، وعلى هذا قال العلماء : إنما ورد فيه الوعيد لقصد التميز ، وأما مطلق اللباس إذا كان مختلفاً عن المعتاد والمعروف فلا يوصف بكونه شهرة ، ألا ترى الفقير إذا اشتد عليه الأمر وضاقت عليه الحاجة لبس اللباس الذي لا يبقى أحد إلا ونظر إليه من ضيق يده وفقره وحاجة ولربما لبس مالا يلبس فهذا لأنه غير قاصد للتميز.
__________
(1) / الجاثية ، آية : 13 .(45/23)
المراد بلباس الشهرة اللباس الذي يلبسه الإنسان بقصد التميز على الناس وهذا كما يقول بعض العلماء ويؤكده بعض الباحثين في التربية أنه منهج نبوي قصد به لزوم الجماعة ؛ لأن الشخص إذا شّذ عن الجماعة في لباسه لا يأمن أن يشذ في أفكاره وإذا كان عنده تميز وجرأة أن يأتي عن المجتمع ويتميز بلبا س متميز منفرد وكأن عنده جرأة على أن لا يبالي بالناس ، ولا شك أن الإنسان لا يبالي بالناس إذا أخطأوا ولا يكون معهم إمعة إن اخطأوا ؛ ولكن إن أصابوا كان معهم ووطن نفسه على لك فإذا وجد عندهم اللباس المعهود الذي فيه ستر لعورته ويحصل المقصود به فإنه يكون مع جماعة المسلمين ولا يتميز عنهم ، فكأنه علاج نبوي للشذوذ والتفرد عن الناس فإن الذي عنده شذوذ في ملبسه غالبا أنه يكون عنده هذه الجرأة وحب هذا الشيء حتى تجده يتميز عن الناس في أحواله وعاداته حتى لربما ترك الإسلام-والعياذ بالله- فينسلخ منه شيئا فشيئا فالجرأة على مفارقة الجماعة والشذوذ عنها منع منها الشرع حتى في الصلاة ولذلك أمر الرجل إذا دخل المسجد أن يدخل مع الإمام كيف ما وجده فإذا وجده راكعاً ركع معه وأن وجده ساجداً سجد معه بل حتى ولو وجده قبل السلام بلحظة قال جمهور العلماء يجب عليه أن يدخل ؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال : (( فما أدركتم فصلوا )) ، أي أي شيئ أدركتموه ولو قبل السلام بلحظة لقوله عليه الصلاة والسلام : (( إذا أتيتم المسجد فصليا)) فأمرهم بالصلاة حتى ولو كان الرجل قد صلى في بيته ، قال صلى الله عليه وسلم : (( إذا صليتما في رحالكما ثم أتيتما المسجد فصليا)) ثم قال لأبي ذر رضي الله عنه : (( صلي الصلاة في وقتها ثم صلي معهم )) كأنه شيء من التعويد ولذلك شرعت الجماعة ، فالمسلم خمس مرات في اليوم يخرج مع الجماعة ويدخل معهم ويصلي معهم ويركع معهم مع إمام واحد ينضبط بجماعة المسلمين ويكون عنده الشغور ، ولذلك تجد غالباً المحافظ على الإسلام(45/24)
والمحافظ على شعائره دائما تجده مع جماعة المسلمين لا يشّذ عنهم ولا ينفرد عنهم ويكره الشذوذ وينفر منه فهو شيء من التربية مع ما فيه من المقصود الشرعي من كون الشهرة يقصد الإنسان فيها شيء من الريا والتعالي على الناس -نسأل الله العظيم أن يعافينا بمعافاته التامة الدائمة-.
والعرف عند العلماء ينقسم إلى قسمين:
القسم الأول : يسميه العلماء العرف المعتبر وهو العرف الشرعي وهو الذي يعتمده العلماء وجرت عليه القاعدة الخامسة من قواعد الفقه الإسلامي :" العادة محكمة " هذا النوع من العرف حجة ويرجع إليه ويحتكم إليه في مسائل القضاء وفصل الخصومات ، وقد أشار الله إلى اعتبار هذا العرف في قوله -سبحانه-:{ وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ}(1) وقوله- سبحانه-:{وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ}(2) أي بما جرى به العرف من محاسن الأخلاق ومكارمها وما يكون فيه من الخير فهذا النوع من العرف بما جرى من محاسن العادات ومكارم الأخلاق ولم يتعارض مع الشرع حجة ويحتكم إليه ، وإذا وقعت بين الناس خصومة في الحقوق وفي الأقضية يرجع إلى عرف كل قوم بحسبه كما قرّر هذا العلماء فلو أختصم رجلان في بناء نرجع إلى من له إلمام بالبناء ، قال أحدهم هذا البناء خطأ ، وقال الثاني بنيته على الصواب والسند فأريد حقي فحينئذ يرجع القاضي إلى أهل الخبرة وما جرى عليه عرف البنائين ، وهكذا بالنسبة لبقية المسائل التي تكون في فصل الخصومات ، وهذا عرف محتكم إليه مقرر في الشرع وله قاعدة مشهورة : " العادة محكمه" هذا العرف يعتبر حجة ويرجع إليه بضوابط شرعية ذكره العلماء في كتب قواعد الفقه في شرح هذه القاعدة .
__________
(1) / البقرة ، آية : 228.
(2) / النساء ، آية : 19 .(45/25)
النوع الثاني من العرف : هو العرف المخالف للشرع وقد أشار إليه بعض العلماء إذا جرى العرف بالحرام ، يعني إذا انتشرت في بلدة فعل أمر محرم حتى أصبح عرف لهم سواء في ترك الواجبات أو فعل المحرمات فمثلا لو جرى العرف في بلدة أنهم لا يكرمون الضيف فإننا لا نقول إن هذا عرف ويحتكم إليه فإذا جاء الضيف نقول إنهم آثمون بتركه مع إنه عرفهم قد جرى بعدم إكرامه فنقول إن هذا عرف ساقط ولا يعتد به ولا يرجع إليه وهكذا لو جرى العرف بكشف العورات والسوءات أو كلمات محرمه كل ذلك لا يرجع إليه ولا معول عليه .
فالمقصود بأن قول العلماء إن رجوع العلماء إلي العرف هو الرجوع إلى العرف الذي لا يخالف الشرع ، أما لو أن الناس نسوا سنة أو ألفوا شيئاً خلاف السنة وجاء رجل يتأسى بالرسول صلى الله عليه وسلم في شيء من السنة فقلنا هذه شهرة فهذا محل نظر !! فأنت لو قلت بهذا للزم منه أنه لو جرى العرف بين الناس في بيئة أنه لا يعرفون الخف ولا يمسحون على الخف وجاء طالب علم يريد أن يعلمهم ولبس الخف لكان هذا لباس شهرة وللزم منه أن نقول إنه في هذه الحالة لبس لباس الشهرة نقول أن لباس الشهرة شرطه أن لا يكون له أصل شرعي أم لو كان له أصل شرعي وللإنسان مقصود حسن فإنه حينئذ مأجور غير مأزور ولا حرج عليه في ذلك ولا ملامة عليه ، والله تعالى أعلم.
السؤال التاسع :
لو كان الجوربان ثخينين ولكنهما مع كثرة الاستعمال بليا وأصبحا خفيفين فهل يجوز المسح عليهما..؟؟
الجواب :
إذا انتقل الجورب تشقق تقطع حتى صارت ترى من تحته البشرة وكان رقيقاً فحينئذ ينزل منزلة الجورب الرقيق ولا يمسح عليه ، والله تعالى أعلم .
السؤال العاشر :
ما حكم إزالة المرأة لشعر يدها وما نبت في وجهها وما أشبهه من الشعر الموجود في الأماكن المختلفة ..؟؟
الجواب :(45/26)
الشعر من خلقة الله ، ولذلك قال العلماء : لا يجوز إزالة الشعر إلا بما ورد الشرع بالإذن بإزالته أوكان وجوده فيه ضرر على الإنسان ، فأما إذا لم يكن هناك ضرر ولم يدل الدليل على جواز إزالته فإنه لا يزال ولا ينتف ولا يحلق وهذا هو الأصل الشرعي ؛ لأن تغيير الخلقة محرم ،فقد لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم : (( الواشرة والمستوشرة والواصلة والمستوصلة والمتفلجات بلحسن المغيرات لخلق الله )) فخلقة الله بوجود الشعر خلقه كثيفاً عند هذه ورقيقا عند هذه وخلق هذه بدون شعر فحينئذ ليس لأحد أن يغير هذه الخلقة كما أنه ليس لها أن تغير في صفات جسمها وحالها وقد عد النبي صلى الله عليه وسلم تغيير الشعر من تغيير الخلقة فقال صلى الله عليه وسلم : (( غيروا هذا الشيب وجنبوه السواد )) ، فوصف صبغة الشيب باللون أنه من التغيير وقد قال في الحديث الآخر : (( المغيرات خلق الله )) فدل على أن العبث في خلقة الشعر من جهة صفته ولونه ، وكذلك بإزالته وقصه أن ذلك من تغيير الخلقة ، وعلى هذا فإنها لا تزيل شعر القدمين ولا شعر اليدين وهي خلقة الله التي خلقها عليها ، وقال بعض العلماء : يجوز لها أن تزيل هذا الشعر من باب التزين لزوجها والتجمل له وهذا مبني على الاستحسان والأقوى الأول .
وأما بالنسبة لما يستثنى في إزالة الشعر بالنسبة للمرأة غير الإبطين والعانة فإنه يجوز لها أن تزيل الشارب وتزيل اللحية ؛ لأن هذا خلاف ما خلق الله عليه المرأة وحينئذ يجوز لها إزالة هذين النوعين في الوجه خاصة .(45/27)
أما حواجبها وما بين الحواجب وما على أعلى الوجنة فإنه لا يزال ؛ لأنه من النمص وقد لعن النبي صلى الله عليه وسلم :(( النامصة والمتنمصة )) وعلى هذا قالوا إنه لا يجوز إزالته ، قال بعض العلماء : لو لم نقل للنساء بجواز إزالتهن لشعر الرجلين واليدين لكان في ذلك حرج ومشقة ، وهذا اجتهاد مع النص فإنك لو تأملت شعر الحاجبين في بعض النساء فإنه يكون مزعجاً ويكون مشوها لها وإذا اتصل حاجباها فلربما أزعج ومع ذلك لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم المرأة لو أقدمت على إزالته او تخفيفه أو قصه أو العبث به ، وعلى هذا فان هذا الاجتهاد قد دل الشرع على عدم الاعتداد به والأولى والأحرى بالنسبة الى المسلمة أن ترضى بما كتب الله لها ولله الحكمة ذلك فإن المرأة ربما إذا شعرت بالنقص في جمالها لربما عصمها الله من فتن يكون خيرا لها أن تعصم منها ، ولربما نظرت الى نفسها نظرة النقص فأمنت على دينها ؛ ولكن لو أزالت وبالغت في الإزالة فنظرت إلى زوجها لا يحسن النظر إليها ولا يحسن منها ما يكون منها من تجمل لربما زلت القدم بعد ثبوتها فتندم حين لا ينفع الندم ، والله تعالى أعلم .
السؤال الحادي عشر :
امرأة مر على نفاسها أسبوع وهي في حيرة من أمرها حيث أن الدم ينقطع عنها ليوم أو يومين ثم يعاودها فهل تجب عليها الصلاة إذا انقطع عنها..؟؟
الجواب :
إذا انقطع الدم عن المرأة الحائض والنفساء يوماً كاملاً ورأت إحدى العلامتين : القصة أو رأت الجفوف وهي الغالب العلامة الثانية فإنها تعتبر نفسها طاهرة على أصح قولي العلماء وتحسب هذا اليوم يوم طهر فتغتسل وتتوضأ وتصلي فروض ذلك اليوم ، أما ما كان دون اليوم ونقص عن اليوم أو لم ترى الجفوف ولا القصة البيضاء فإنها تحتسبه من الحيض والنفاس حتى تتم عدد عدتها من الحيض وكذلك عدد النفاس المعتبرة ، والله تعالى أعلم .
السؤال الثاني عشر :(45/28)
ما حكم قراءة الفاتحة مرتين في الركعة الواحدة لمن ظن أنه لم يقرأ فقرأها مرة أخرى ..؟؟
الجواب :
من كرر قراءة الفاتحة لوسوسة أو ظن أنه لم يقرأها فأعاد القراءة فصلاته صحيحة قولاً واحداً عند العلماء وحينئذ لا يخلو من حالتين :
أما يتبين له أنه أخطأ وكرر فإذا تبين له أنه أخطأ وكرر يسجد سجود الزيادة ؛ لأنه زاد ركن القراءة ، وأما أنه لم يتبين له شيء فحينئذ يسجد قبل السلام سجود الشك .
وأما إذا كررها متعمدا فللعلماء قولان قال بعض العلماء : من كرر قراءة الفاتحة فإنها تبطل صلاته ؛ لأنه كرر الركن كما لو ركع مرتين وسجد ثلاث لأنه كما إن الركن يكون بالفعل يكون بالقول والفاتحة ركن قولي على ظاهر السنة فإذا كررها مرتين أو ثلاثاً كان كمن ركع مرتين في الركعة الواحدة وكمن سجد ثلاثاً في الركعة الواحدة ، وقال بعض العلماء : إنه لا تبطل صلاته وإنما يلزمه سجود الزيادة والأول أقوى ، والله تعالى أعلم .
وَآخِرُ دَعْوَانَا أَنِ الحمَْدُ لِلَّهِ رَبِّ العَالَميْنَ وصلَّى اللَّهُ وسلَّم وبارك على عبده ونبيَّه محمد وعلى آله وصحبه أجمعين .(45/29)
بسم الله الرحمن الرحيم
يقول المصنف رحمه الله : بَاب مَا جَاءَ فِي الْغُسْلِ مِنَ الْجَنَابَةِ
الشرح :
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين أما بعد :
فقد ترجم المصنف بهذه الترجمة للطهارة الكبرى وهذا هو النوع الثاني من أنواع الطهارات ، فالطهارة تنقسم إلى طهارة حدث وخبث ، وطهارة الحدث تنقسم إلى طهارة صغرى وطهارة كبرى ، فلما فرغ رحمه الله من بيان الأحكام المتعلقة بالطهارة الصغرى -أعني الوضوء-شرع في بيان هدي الرسول صلى الله عليه وسلم في الطهارة الكبرى وهي الغسل ، والغسل أوجبه الله عز وجل في كتابه المبين بقوله سبحانه وتعالى :{ وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا}(1) فأمر سبحانه وتعالى بطهارة البدن كاملاً ، وذلك إنما يكون بأسباب حددها الشرع ووردت بها نصوص الكتاب والسنة وإجماع علماء الأمة رحمهم الله على اعتبارها .
"والغسل " : أصله صب الماء على الشيء فلما كانت هذه الطهارة تستلزم من المسلم أن يصيب جميع بدنه بالماء وصفت بكونها غسلاً من هذه الناحية .
والغسل له أسباب وموجبات منها ما أجمع العلماء رحمهم الله عليها ومنها ما اختلفوا فيها.
فاتفق العلماء رحمهم الله أن الغسل من الجنابة يجب بخروج المني .
وخروج المني المراد : بالمني الماء الأبيض الثخين بالنسبة للرجال الذي يخرج دفقاً عند وجود الشهوة واللذة الكبرى ، وقد أشار الله عز وجل إلى هذا المعنى بقوله-سبحانه- :{خُلِقَ مِنْ مَاءٍ دَافِقٍ - يَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرَائِبِ}(2) فبين سبحانه وتعالى صفة المني أنه ماء وأن هذا الماء يخرج دفقاً ، وقد أجمع العلماء رحمهم الله على أن خروج المني من الرجل يوجب الغسل .
__________
(1) / المائدة ، آية : 6 .
(2) / الطارق ، آية : 7 .(46/1)
وأما بالنسبة للمرأة : فهو الماء الرقيق الأصفر الذي يخرج عند وجود الشهوة واللذة الكبرى وضابط المني عند العلماء من جهة الرائحة أن له رائحة كطلع النخل وهي كرائحة العجين وكل ذلك من باب التقريب عند الالتباس والاشتباه ، وذلك أن المكلف قد يستقيظ من نومه فيجد الماء ويشك هل هو مني أو مذي..؟ فضبطه العلماء بضابط الرائحة الذي ذكرنا ، وقد أجمع العلماء رحمهم الله على أن من خرج منه المني يجب عليه الغسل سواء وقع الخروج في حال اليقظة أو وقع في حال النوم .
فأما إذا خرج المني في اليقظة فإنه لايخلو من أحوال :
الحالة الأولى : أن يخرج المني بسبب الشهوة ويكون خروجه على الصفة المعتبرة المعتادة .
مثال ذلك : لو تهيج الرجل فقذف المني بصفته المعتبرة لوجود الموجب للشهوة من ملاعبة أو جماع أو نحو ذلك فإنه يجب بإجماع العلماء عليه أن يغتسل وهذه الحالة أجمع العلماء على وجوب الغسل فيها لعموم قول النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح :(( إنما الماء من الماء )) أي إنما الماء وهو الغسل بسبب الماء وهو خروج المني وجاء في الحديث الصحيح عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال : (( إذا فضخت الماء فاغتسل)) فدل هذا الحديث على وجوب الغسل بسبب خروج المني على الصفة المعتبرة.
وأما إذا خرج المني بسبب الخوف أو خرج المني بسبب الرعب أو رأى الإنسان شيئاً يفزعه ويقلقه فأخرج المني وكان خروج المني بشدة الطرب أو نحو ذلك ، أو بسبب شدة الفرح أو بخبر أوجب شدة الفرح فأخرج المني فللعلماء فيه قولان :
القول الأول : أن من أخرج المني بسبب شدة الفرح أو شدة الخوف يجب عليه الغسل لعموم قول النبي صلى الله عليه وسلم : (( إنما الماء من الماء )) قالوا ولم يفرق النبي صلى الله عليه وسلم بين خروج المني فأوجب على المكلف أن يغتسل بسبب خروج المني دون النظر إلى موجب ذلك الخروج.(46/2)
القول الثاني : وذهب بعض العلماء إلى أن من أصابه الخوف أو كان في شدة الفرح والطرب فأنزل أنه لا يجب عليه الغسل.
والصحيح القول الأول لظاهر السنة .
ومن صفات المني أن يخرج دفقاً واختلف العلماء إذا لم يخرج المني دفقاً وذلك على صورتين :
الصورة الأولى : أن يحبس المني عند هيجان الشهوة ويمسك العضو ثم يرسله بعد ذلك فيخرج قطرات فهذه الحالة الصحيح فيها وجوب الغسل لعموم الحديث الذي ذكرنا ، وقال بعض العلماء : إذا أمسك العضو وخرج المني قطرات لم يجب الغسل وهو قول ضعيف ؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم أوجب بمطلق الخروج وهذا قد خرج منه المني.
أما السبب الثاني الذي يوجب الغسل من الجنابة فهو الجماع : والمراد به إيلاج الفرج في الفرج وقد أشار النبي صلى الله عليه وسلم إلى هذا ؛ السبب بقوله كما في الصحيح : (( إذا مس الخُتان الختان فقد وجب الغسل)) وقوله في الرواية الثانية : (( إذا التقى الختانان فقد وجب الغسل)) وقوله عليه الصلاة والسلام في حديث أبي هريرة : (( إذا جلس بين شعبها الأربع وألزق الختان في الختان فقد وجب الغسل)) فجميع هذه الأحاديث تدل دلالةً واضحةً على أن الجماع وإيلاج الفرج في الفرج يوجب الغسل وقد ضبط العلماء رحمهم الله ذلك بإيلاج رأس الذكر فلا يجب الغسل إلا بإيلاج الحشفة ؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال : (( إذا التقى الختانان )) وقال عليه الصلاة والسلام : (( إذا مس الخُتان الختان )) وذلك لا يكون إلا إذا أولج رأس العضو ، أما إذا كان مقطوع العضو فإن المعتبر عند العلماء قدر ذلك القدر وهذا كله حده العلماء لظاهر السنة الواردة عن النبي صلى الله عليه وسلم وقد ذكر العلماء رحمهم الله أن إيلاج هذا القدر يترتب عليه ما لا يقل عن خمسة وسبعين حكماً شرعياً .(46/3)
وقد قّرر العلماء أن الإيلاج يوجب الغسل واختلفوا في الإيلاج ، فقال بعض العلماء : يشترط أن يكون من الحي في الحي ، أما إذا كان إيلاجاً من حي في ميت فلا يجب الغسل.
والصحيح وجوب الغسل سواء كان لحي أو ميت ؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال : (( إذا مس الختان الختان )) ولم يفرق بين الحي والميت ، ومن ذلك يستفاد أن إيلاج الفرج في الفرج يوجب الغسل سواءً كانا حيين أو كان أحدهما حياً والأخر ميتاً .
السبب الثالث الذي يوجب الغسل الموت : وذلك بمفارقة المكلف للحياة فيجب غسل الميت لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال : (( اغسلنها ثلاثاً أو خمساً أو سبعاً )) قال ذلك في بنته زينب-رضي الله عنها وأرضاها-لما توفيت ، وقال كما في الصحيح من حديث عبدالله ابن عباس في الرجل الذي وقصته دابته يوم حجة الوداع : (( اغسلوه بماء وسدر)) فكلا الحديثين اشتملا على الأمر والقاعدة : " أن الأمر محمول على الوجوب" فدل على أن غسل الميت واجب وأن الموت يعتبر من موجبات الغسل .
الموجب الرابع الحيض والنفاس : وذلك أن الله-تعالى- قال في كتابه : {فَإِذَا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمْ}(1) فأوجب على المرأة الحائض إذا طهرت أن تغتسل فدل على أن الغسل يكون من الحيض وفي الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : (( لتنظر الأيام التي كانت تحيضهن فإذا هي خلفت ذلك فلتغتسل)) فأمر صلوات الله وسلامه عليه بالغسل عند انقطاع أمد العادة فدل على أن الحيض يوجب الغسل وكذلك انقطاع دم النفاس ، ومن هنا أجمع العلماء رحمهم الله على أن الحيض والنفاس يوجب كل منهما الغسل من الجنابة .
__________
(1) / البقرة ، آية : 222.(46/4)
الموجب الخامس زوال العقل: سواء زال العقل بسبب الجنون أو بسبب الإغماء أو بسبب السطل أو المخدرات -نسأل الله السلامة والعافية- فهذه الأمور إذا زال معها العقل والإدراك فإن الإنسان لا يأمن أن ينزل منه المني ، ولذلك قرر جمهور العلماء رحمهم الله أن زوال العقل يوجب على المكلف الغسل .
الموجب السادس الإسلام : وقد اختلف العلماء رحمهم الله فيه ، فمن أسلم وجب عليه أن يغتسل وذلك ؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال : (( ألق عنك شعر الكفر واغتسل))واختلف في سند هذا الحديث وإن كان الأقوى القول بضعفه -كما سيأتي إن شاء الله تعالى- ، فهذه كلها موجبات للغسل من الجنابة .
وإذا أجنب الإنسان وخرج المني سواء كان رجلاً أو امراة فإنه يحكم ببلوغه ، ولذلك قال العلماء رحمهم الله إن الاحتلام يوجب البلوغ-أعني خروج المني-فإذا خرج المني من الصغيرحكمنا ببلوغه ؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال كما في حديث علي الصحيح : (( رفع القلم عن ثلاث وذكر منهم الصبي حتى يحتلم) ) فقوله :(( حتى يحتلم )) أي يخرج منه المني وخروج المني علامة على البلوغ بإجماع العلماء واختلف في غيرها من العلامات ما عدا الحيض ، فاختلف في إنبات الشعر واختلف في الحمل واختلف في السن هل يوجب كل منهم البلوغ كما يوجب الاحتلام ، والشاهد أن الاحتلام يوجب الحكم بالبلوغ .(46/5)
وقول المصنف رحمه الله في هذا الموضع "باب ما جاء في الغسل من الجنابة " : الجنابة مختلف في أصلها فقيل إنها مأخوذة من الجنب ؛ لأن الجنابة في الغالب تكون بسبب الجماع وهو بسبب إلزاق الجنب بالجنب في الغالب ، وقال بعض العلماء إن الجنابة مأخوذة من المجانبة بمعنى المباعدة ؛ والسبب في ذلك أن الجنب يجب عليه أن يبتعد عن أمور ذكرها العلماء رحمهم الله واستنبطوها من النصوص الشرعية ككونه ممنوعاً من الصلاة من دخول المسجد ومن الطواف بالبيت-كما سيأتي إن شاء الله تعالى بيانه-فنظراً لكون الجنابة توجب منع المكلف من هذه الأمور وصفت بذلك وكلا المعنيين صحيح .
وقوله رحمه الله "باب ما جاء في الغسل من الجنابة " أي في هذا الموضع سأذكر لك جملة من أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم والتي تدل على صفة الغسل من الجنابة .
والغسل من الجنابة له صفتان :
الصفة الأولى : يسميها العلماء صفة الكمال . والصفة الثانية : تسمى صفة الإجزاء .
فأما صفة الكمال فهي التي دل عليها حديث أم المومنين عائشة وميمونة رضي الله عن الجميع وحاصلها أن النبي صلى الله عليه وسلم : " أكفا بشماله على يمينه فغسل ثلاثاً ثم أدخل يده في الإناء فغسل فرجه ثم دلك بيده الأرض أو الحائط " ، الشك من الراوي-كما سيأتي ثم إنه عليه الصلاة والسلام : " توضأ فأسبغ الوضوء حتى مسح برأسه ثم أفاض على جسده الماء ثلاث مرات أفاض على شقه الأيمن ثم على شقه الأيسر ثم على سائر بدنهصلوات الله وسلامه عليه ثم تنحى فغسل رجليه" ، فهذه الصفة تسمى عند العلماء بصفة الكمال.(46/6)
فيبدأ المكلف أولا بالنية : -أعني نية الغسل- فإن كان الغسل بسبب الجنابة نوى رفعها ، وكذلك المرأة الحائض تنوي الطهارة من الحيض والمرأة النفساء تنوي الطهارة من النفاس ثم بعد ذلك يغسل كلتا يديه ثم بعد ذلك يغسل الفرج ومواضع الأذى ثم بعد ذلك يغسل يده إما بالدلك بالأرض أوغسلها بالأشنان والصابون ونحو ذلك من المطهرات ثم يتوضأ وضوءه للصلاة كاملاً وقيل يؤخر رجليه كما هو ظاهر حديث ميمونة-وسيأتي إن شاء الله بيان ذلك- ثم بعد ذلك يفيض الماء على سائر الجسد وقد جاء في حديث أم المومنين عائشة -رضي الله عنها وأرضاها- أن النبي صلى الله عليه وسلم : " أفاض الماء على رأسه بعد غسله لوجهه وروى أصول الشعر حتى إذا ظن أنه روى أصول شعره أفاض الماء على جسده "صلوات الله وسلامه عليه فهذه الصفة هي الصفة الكاملة ومن تحرى هذه الصفة وفعلها فإنه مأجور لمكان الائتساء والاقتداء بالنبي صلى الله عليه وسلم .
أما صفة الإجزاء : فهي الصفة التي يجب على المكلف أن يأتي بها على صورتها دون نقص منها فإذا انتقص منها شيء بطل غسله ولزمته الإعادة.(46/7)
وحاصلها أن المطلوب من المكلف إذا أراد أن يغتسل أن يبدأ بالنية ثم يعمم سائر البدن بالماء ثم يتمضمم ويستنشق ويكون ذلك على الموالاة-أعني تعميمه للبدن-فإذا حصل ذلك فإنه يحكم باعتبار الغسل وصحته ، أما إذا قصر في شيء من ذلك لم يحكم بصحة غسله وهذا كله ؛ إنما قصدوا العلماء رحمهم الله أن يبينوا به ما يجب على المكلف وما يستحب فالواجب ما ذكرنا من تعميم البدن مع المضمضة والاستنشاق والموالاة والنية ، وأما بالنسبة لغير الواجب فهو ما وراء ذلك من السنن والمستحبات ويكره لمن اغتسل من الجنابة أوغيرها أن يسرف في غسله وفي الماء وقد اعتاد بعض من الناس- أصلحهم الله- في هذا الزمان الإسراف في الغسل وقد كان هديهصلوات الله وسلامه عليه الاقتصار على ما يجزىء ولم يكن يبالغصلوات الله وسلامه عليهفي غسله ففي الصحيح من حديث أم المومنين عائشة-رضي الله عنها وأرضاها- : " أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يغتسل بالصاع" وهذا يدل علىشدة احتياطه وبعده عن الإسراف والمبالغة في استعمال الماء فمبالغة الناس اليوم في إرسال الماء على البدن حتى إنه يبالغ بالماء الكثير أثناء غسله يعتبر أمرا محرماً شرعاً ؛ لأنه يعتبر داخلاً في عموم نهيه -سبحانه- في قوله- جل من قائل-:{وَلاَ تُسْرِفُوا إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ}(1) فقد أجمع العلماء رحمهم الله على تحريم الإسراف سواء كان ذلك في العبادة أو غير العبادة ؛ لأن الله نهى عن الإسراف فدل على أنه لا يجوز للمكلف أن يسرف في ماء غسله وعليه أن يتحرى هدي النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك .
__________
(1) / الأعراف ، آية : 31 .(46/8)
قال المصنف رحمه الله : حَدَّثَنَا هَنَّادٌ حَدَّثَنَا وَكِيعٌ عَنِ الأَعْمَشِ عَنْ سَالِمِ بْنِ أَبِي الْجَعْدِ عَنْ كُرَيْبٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ عَنْ خَالَتِهِ مَيْمُونَةَ قَالَتْ : " وَضَعْتُ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم غُسْلاً فَاغْتَسَلَ مِنَ الْجَنَابَةِ فَأَكْفَأَ الإِنَاءَ بِشِمَالِهِ عَلَى يَمِينِهِ فَغَسَلَ كَفَّيْهِ ثُمَّ أَدْخَلَ يَدَهُ فِي الإِنَاءِ فَأَفَاضَ عَلَى فَرْجِهِ ثُمَّ دَلَكَ بِيَدِهِ الْحَائِطَ أَوِ الأَرْضَ ثُمَّ مَضْمَضَ وَاسْتَنْشَقَ وَغَسَلَ وَجْهَهُ وَذِرَاعَيْهِ ثُمَّ أَفَاضَ عَلَى رَأْسِهِ ثَلاَثاً ثُمَّ أَفَاضَ عَلَى سَائِرِ جَسَدِهِ ثُمَّ تَنَحَّى فَغَسَلَ رِجْلَيْهِ ".
قَالَ أَبو عِيسَى رحمه الله : هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ وَفِي الْبَاب عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ وَجَابِرٍ وَأَبِي سَعِيدٍ وَجُبَيْرِ بْنِ مُطْعِمٍ وَأَبِي هُرَيْرَةَ .
الشرح :
ذكر المصنف رحمه الله حديث ميمونة بنت الحارث الهلالية-رضي الله عنها وأرضاها -في صفة غسل النبي صلى الله عليه وسلم ، وهذا الحديث يعتبره العلماء من أصول باب الغسل وأصله في الصحيحين وقد اعتنى الشيخان أعني البخاري ومسلم-رحمة الله عليهما- بإيراد هذا الحديث في الصحيحين وقد حفظت أم المومنين ميمونة-رضي الله عنها وأرضاها- هذه الصفة وساق المصنف رحمه الله إسناده إلى أم المومنين وهو من رواية الصحابي عن الصحابية ؛ لأنه رواه عن طريق كريب مولى ابن عباس عن ميمونة-رضي الله عنها وأرضاها- وهي خالته حفظت غسل النبي صلى الله عليه وسلم من الجنابة ، وقد وقع هذا الغسل أمام عينيها-رضي الله عنها وأرضاها- .
واستدل العلماء بهذا الحديث على مسألتين :(46/9)
المسألة الأولى : جواز تجرد الزوجين ونظر كل منهما إلى عورة الآخر ؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم اغتسل مع ميمونة-رضي الله عنها وأرضاها- ، واغتسل مع أم المؤمنين عائشة-رضي الله عنها وأرضاها- فدل على جواز نظر كلا الزوجين إلى فرج الآخر وفي الحديث ما يشهد من قولها : " فأفاض على فرجه الماء".
وفيه دليل على مسألة ثانية : وهي كرم خلق النبي صلى الله عليه وسلم وحسن معاشرته لأهلهصلوات الله وسلامه عليه .
هذا الحديث بينت فيه أم المؤمنين-رضي الله عنها وأرضاها- فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم في الغسل .(46/10)
فقالت "وضعت لرسول الله صلى الله عليه وسلم غسلاً " : في هذه العبارة دليل على مشروعية خدمة المرأة لبعلها وزوجها وأن ذلك هو شأن أمهات المؤمنين مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو شأن الصالحات والمسلمات في سائر الأزمنة والعصور فخدمة المرأة لبعلها وقيامها على شأن زوجها مما يوجب المحبة والألفة وذلك كله مطلوب ومقصود شرعا من الحياة الزوجية وإذا أحسنت المرأة لبعلها وقامت على أداء حقوق زوجها ورعت مصالحه قام الزوج كذلك بمكافأتها وإسداء الجميل إليها فتحفظ بيوت المسلمين وتقوم على المحبة والمودة كما أخبر الله-رب العالمين- :{وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً}(1) فإذا حفظت المرأة حق بعلها وقامت برعايته وعنايته والاعتناء بشأنه كان ذلك من أعظم الأسباب التي توجب الألفة وفيه استجابة لأمر الله-جل وعلا-حيث يقول : {وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ}(2) وثبت في الصحيحين عن أم المؤمنين عائشة-رضي الله عنها وأرضاها- أنها قالت: " كنا نعد لرسول الله صلى الله عليه وسلم سواكه وطهوره فيبعثه الله من الليل ما شاء "وكان النساء الفاضلات من الصحابيات والتابعيات وتابعيهم بإحسان يرعين هذا الحق أيما رعاية وفي الحديث الصحيح عن بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم وهي فاطمة-رضي الله عنها وأرضاها- أنها طحنت النوى حتى تأثرت يداها وتقرحت من الطحن فجاءت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم تسأله أن يعطيها خادمة فقال لها صلى الله عليه وسلم : (( أولا أدلكما على خير لكما من الخادم فذكر لهما التسبيح والتحميد والتكبير عند النوم )) ولم يعتب عليها خدمتها لبعلها فإذا كانت هذه المرأة الصالحة وهي فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم تخدم زوجها وتقوم على حق بعلها فمن باب أولى من دونها من سائر
__________
(1) / الروم ، آية : 21 .
(2) / البقرة ، آية : 228 .(46/11)
نساء الأمة فهن أحق برعاية العشير والقيام على حقوق البعل والزوج ، ولمّا حفظ النساء ذلك الحق وقمن به قامت بيوت المسلمين على المحبة والوئام وأصلح الله شأن أهل الاسلام فالزوجة إذا رعت بيتها وقامت على حقوق بعلها استقرت الحياة الزوجية وانتظمت ولكن تنكب كثير من النساء -إلا من رحم الله- خاصة في هذه الأزمان فأصبحن يستنكفن عن خدمة الأزواج وأصبحت المرأة تعد نفسها ناقصة وتعتبر ذليلة ممتهنة إذا قامت بحق زوجها ورعت بعلها وأصبح النساء يشعرن بالنقيصة من هذا الأمر الذي هو كمال لهن بل هو :{ فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لاَ تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ}(1) ، فلما بدل النساء فطرة الله التي فطر الناس عليها وأصبحت المرأة خراجة ولاجة خارجة داخلة لا ترعى حقوق بيتها ولا تفكر في خدمة بعلها وإذا طلب منها ذلك استاءت واعتبرته إهانة لها فلما وقع ذلك أصبحت الحياة الزوجية مليئة بالمشاكل منغصة لا راحة فيها وكيف يرتاح الزوج وكيف يؤدي للمرأة حقوقها ويقوم على رعايتها وهو لا يراها إلا في القليل ولا يرى فيها خدمة ولا قياماً لبيته على الوجه المطلوب ، فنظراً لذلك اختلفت الأحوال وكثرت المشاكل بين الأزواج والزوجات فالواجب على المؤمنات أن يتقين الله عز وجل وأن يستجبن لأمرالله -جلاوعلا-بالقرار في البيوت :{ وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلاَ تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الأُولَى}(2) فكثرت الزيارات والخروج من البيوت ونسيان حقوق الأزواج من أعظم الأسباب التي تفسد على بيوت المسلمين المودة والرحمة ، والمرأة العاقلة تدرك ذلك وتراه جلياً فكلما حفظت لبعلها حقه وقامت على شأنه كلما قابلها الزوج بالإحسان في غالب الأحوال فإن قابلها بالإحسان -فالحمد لله وان أساء إليها فالأجر لا يضيع عند الله-.
__________
(1) / الروم ، آية : 30 .
(2) / الأحزاب ، آية : 33 .(46/12)
فالشاهد أن أم المؤمنين-رضي الله عنها وأرضاها- قالت : "وضعت لرسول الله صلى الله عليه وسلم غسلاً " أي ماء يغتسل به من الجنابة قال بعض العلماء : إن هذا الوضع لم يرد فيه أمر النبي صلى الله عليه وسلم لها بل كان أمهات المؤمنين بمجرد علمهن وشعورهن بحاجة رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الغسل بادرن بوضع الماء ولا ينتظرن الأمر والطلب إجلالاً منهن لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، ولذلك لم تقل أمرني رسول الله صلى الله عليه وسلم أن أفعل أو أضع له الغسل ولكنها قالت وضعت لرسول الله صلى الله عليه وسلم غسلاً.
قولها-رضي الله عنها-: " فأكفها بشماله على يمينه " : أكفأ الإناء إذا أماله وصب منه ، وأكفأ الإناء : المراد به أن يأخذ منه ما تيسر لغسل الكفين ، وفي هذا دليل على أن السنة أن يبتدئ بغسل كفيه قبل غسل الجنابة ؛ لأن الكفين يعتبران كالآلة في نقل الماء فينبغي أن تكون الآلة نقية طاهرة .
قالت-رضي الله عنها-:" ثم أدخل يده في الإناء" : أي أدخل يده اليسرى.
"فأفاض على فرجه " : أي صب على فرجه ، وفي رواية "ومواضع الأذى " : أي غسل رسول الله صلى الله عليه وسلم فرجه ومواضع الأذى أي التي تكون غالباً من الجماع والمني سواء كانت نجاسة كرطوبة فرج المرأة ونحو ذلك أو كانت طاهرة كالمني .
قالت-رضي الله عنها وأرضاها- "ثم دلك بيده الحائط أو الأرض " : دلكهصلوات الله وسلامه عليه يده بالأرض ؛ لأن التراب يعين على النقاء والنظافة ولذلك أمر به في غسل الإناء من لعق الكلب ، والأطباء يشهدون في العصر الحاضر بأنه يعين على النقاء والنظافة وأن فيه نسبة عالية من المطهرات .(46/13)
قالت-رضي الله عنها وأرضاها-"فدلك بيده الأرض": أي دلك يده اليسرى بالأرض وجاء في رواية في الصحيح : (( دلكا شديداً )) وفي حكم الدلك بالأرض أن يدلكها بالصابون والأشنان ونحو ذلك من المطهرات ؛لأن مقصود الشرع أن ينقي يده من الأذى.
قالت-رضي الله عنها وأرضاها-" ثم مضمض وغسل وجهه وذراعيه " : أي أنه عليه الصلاة والسلام :تمضمض أي يمضمض واستنشق كما يفعل في الوضوء ، وهذا يعتبر من التفسير لما قالته أم المومنين عائشة-رضي الله عنهاوأرضاها-في صفة الغسل في حديثها "ثم توضأ وضوءه للصلاة" والمضمضة والاستنشاق يعتبران من فرائض الوضوء ؛ لأن الفم والأنف يعتبر كل منهما خارج البدن والله أمربغسل ظاهر البدن.
قالت-رضي الله عنها وأرضاها-" ثم أفاض الماء على رأسه ثلاثاً " : فيه دليل على أن السنة أن يبتدئ بأعلى البدن قبل أسفله وهذا هو الهدي الكامل ، وفي عصرنا الحاضر قد يكون من الصعوبة إذا كان تحت صنبور الماء أن يغسل أعلى البدن أولاً ولذلك ينبغي له أن يتحرى السنة .
وقولها" فأفاض على سائر جسده ثلاثاً " : المراد بذلك أنه ابتدأ فغسل رأسه حتى روى أصول الشعر كما جاء ذلك في حديث أم المؤمنين عائشة-رضي الله عنها وأرضاها- وينبغي على من يغتسل أن يغلب على ظنه أن الماء أصاب بشرة الرأس ؛ لأن المراد أن يغسل بشرة الرأس لا شعر الرأس لأن شعر الرأس بدل وليس هو الأصل ، ولذلك لم يأمر النبي صلى الله عليه وسلم بنقض النساء لشعورهن فدل على أن العبرة بإرواء أصول الشعر فإذا غلب على الظن أن الماء أصاب قشرة الرأس فذلك هو المطلوب والواجب .(46/14)
وقولها " أفاض ثلاثا " : السنة أن يفيض على الشق الأيمن أولاً ثم الشق الأيسر ثانياً ثم يفيض إفاضة عامة على سائر بدنه هذا هو هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم وإن كان المكلف في زماننا تحت صنابير الماء العالية فإنه يدخل شقه الأيمن أولاً ثم يدخل شقه الأيسر ثانياً ثم يترك الصنبور يصب على سائر البدن .
وأما إذا كان يسبح في بركة ونحوها فقالوا إنه يدخل إلى البركة والأفضل أن يصب الماء على شقه الأيمن قبل أن يدخل البركة يبدأ بصب الماء فيغترف منها على شقه الأيمن ثم على شقه الأيسر ثم ينغمس بعد ذلك في النهر والبركة ونحوها ؛ والسبب في ذلك أنه لو دخل في النهر واستحم فيه فإن أول ما يدخل أسفل بدنه فاستحبوا له أن يفيض الماء على شقه الأيمن ثم على شقه الأيسر حتى يصيب السنة فيعظم أجره في غسله .
قالت-رضي الله عنها وأرضاها-" ثم أفاض الماء على رأسه ثم تنحى فغسل رجليه " : اختلف العلماء رحمهم الله في السبب الذي من أجله أخر النبي صلى الله عليه وسلم غسله لرجليه ، فقال بعض العلماء : أن السبب أن الأرض كانت في زمانه من الطين وإذا اغتسل في أثناء وضوئه فإنه يتطاير عليها رذاذ الطين وذلك بعد إفاضة الماء بعد الوضوء فيحتاج ثانية إلى غسلها ومنها أخر غسل رجليهصلوات الله وسلامه عليه، وبناءً على هذا القول فإن كان الإنسان يغتسل في محل نظيف كما هو موجود في زماننا كالرخام والبلاط ونحو ذلك فإنه يتوضأ وضوءاً كاملاً ، وأما إذا كان في مكان فيه طين وأذى فإنه يؤخر غسل رجليه على هذا القول ، وقال بعض العلماء : يتحرى السنة مطلقاً وهذا هو الأحرى والأولى.(46/15)
قال المصنف رحمه الله : حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي عُمَرَ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ : " كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إِذَا أَرَادَ أَنْ يَغْتَسِلَ مِنَ الْجَنَابَةِ بَدَأَ فَغَسَلَ يَدَيْهِ قَبْلَ أَنْ يُدْخِلَهُمَا الإِنَاءَ ثُمَّ غَسَلَ فَرْجَهُ وَيَتَوَضَّأُ وُضُوءَهُ لِلصَّلاَةِ ثُمَّ يُشَرِّبُ شَعْرَهُ الْمَاءَ ثُمَّ يَحْثِي عَلَى رَأْسِهِ ثَلاَثَ حَثَيَاتٍ " .
قَالَ أَبو عِيسَى رحمه الله : هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ وَهُوَ الَّذِي اخْتَارَهُ أَهْلُ الْعِلْمِ فِي الْغُسْلِ مِنَ الْجَنَابَةِ أَنَّهُ يَتَوَضَّأُ وُضُوءَهُ لِلصَّلاَةِ ثُمَّ يُفْرِغُ عَلَى رَأْسِهِ ثَلاَثَ مَرَّاتٍ ثُمَّ يُفِيضُ الْمَاءَ عَلَى سَائِرِ جَسَدِهِ ثُمَّ يَغْسِلُ قَدَمَيْهِ وَالْعَمَلُ عَلَى هَذَا عِنْدَ أَهْلِ الْعِلْمِ وَقَالُوا إِنِ انْغَمَسَ الْجُنُبُ فِي الْمَاءِ وَلَمْ يَتَوَضَّأْ أَجْزَأَهُ وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَدَ وَإِسْحَقَ.
الشرح :
الوضوء في أثناء الغسل للعلماء فيه قولان :
القول الأول: إن هذا الوضوء قصد منه رفع الحدث الأصغر.
والقول الثاني: إن هذا الوضوء إنما هو لشرف أعضاء الوضوء وفضلها .
أما أصحاب القول الأول فقالوا إن خروج المني من الإنسان يوجب انتقاض الطهارة الصغرى والكبرى فحينئذ يجب عليه أن يتوضأ ويغتسل ، وهذا القول يختاره جمع من العلماء منهم أصحاب الإمام الشافعي-رحمة الله على الجميع-.(46/16)
والصحيح القول الثاني أن الوضوء في الغسل سببه فضل أعضاء الوضوء والدليل على ذلك ما ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال لما غسلت بنته زينب : (( ابتدئن بميامنها وأعضاء الوضوء منها)) فلما أمر بالبدء بأعضاء الوضوء وقرن ذلك بالميامن دل على أن الوضوء في الغسل إنما هو لشرف أعضاء الوضوء ، والمرأة إذا ماتت لم تحتج إلى وضوئها لطهارة صغرى كما لا يخفى ، ولذلك ترجح قول جمهور العلماء رحمهم الله أن الوضوء في الغسل لشرف أعضاء الوضوء وليس مقصوداً للطهارة ، قال أصحاب الشافعي رحمهم الله إنه أخر رجليه حتى تقع الطهارة من الحدث الأصغر بعد الأكبر وفي هذا تكلف لا يخفى ، والصحيح ما ذكرناه أنه لشرف أعضاء الوضوء ومن اغتسل من الجنابة ولم يتوضأ فإن غسله يعتبر صحيحاً وإذا نوى بالغسل أن يصلي بعده لم يلزمه الوضوء ؛ لأن أعضاء الوضوء تندرج تحت الغسل وذلك إعمالاً للقاعدة المعروفة بالاستقراء : " وهي اندراج الأصغر تحت الأكبر" فالوضوء من حدث أصغر والغسل من حدث أكبر فيندرج الأصغرتحت الأكبر ؛ لأن الغسل من الجنابة يشمل أعضاء الوضوء وغيرها .
أما الترتيب في الأعضاء فإنه يغتفر فقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه ما كان يتوضأ بعد غسله صلوات الله وسلامه عليه ، وقد أجمع العلماء رحمهم الله على أن من اغتسل غسل الجنابة ونوى به رفع الحدث الأصغر والأكبر أن ذلك يجزئه عن الطهارتين ويجوز له أن يصلي مباشرة بعد الغسل ولو لم يتوضأ وضوءاً خاصاً بعد غسله .
وحديث أم المؤمنين عائشة-رضي الله عنها وأرضاها- الذي ذكره المصنف هنا هو بمثل حديث أم المؤمنين ميمونة رضي الله عن الجميع .
- ? - ? - ? - ? - الأسئلة - ? - ? - ? - ? -
السؤال الأول:
من شك فلم يستطع أن يتبين هل ما كان على ثيابه هو مني أم مذي فأيهما يرجح ..؟؟
الجواب :
بسم الله الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه أما بعد :(46/17)
فمن شك في الذي على ثوبه أو على سرواله إذا استيقظ من نومه هل مني فيغتسل أو مذي فلا يجب عليه الغسل؟ فإنه يبني على أنه مذي ولا يجب عليه الغسل حتى يتحقق أنه مني للقاعدة : " أن اليقين لا يزول بالشك " فلما كان اليقين أنه مذي وشككنا هل هو مني فإنه يحكم بالبقاء على الأصل أنه لم تنتقض طهارته الكبرى ، والله تعالى أعلم.
السؤال الثاني :
إذا تتابع خروج المني بعد الغسل فهل تجب عليه الإعادة ..؟؟
الجواب :
إذا أمنى الرجل ثم اغتسل من الجنابة ثم خرجت بعد ذلك قطرة أو قطرات فإنه يحكم بكونها تابعة للمني الأول ، ولذلك يجزئه الغسل الأول على أصح قولي العلماء وعند العلماء تفصيل في هذه المسألة فبعضهم يفرق بين خروجه لشهوة وخروجه لغير الشهوة وبعضهم يفرق بين قرب العهد وطول العهد ؛ ولكن إذا اغتسل وخرجت منه القطرة والقطرتان فإنهما تابعتان للمني الأول فيجب عليه أن يتوضأ ولا يجب عليه الغسل ، والله تعالى أعلم .
السؤال الثالث :
في قولها -رضي الله عنها -: " فأكفا الإناء بشماله على يمينه " ، هل يحمل ذلك على الوجوب ويأخذ حكم من استيقظ من نومه فلا يدخل المغتسل يديه في الإناء أم أن ذلك من صفات الكمال ..؟؟
الجواب :
إذا كان الإنسان مستيقظاً من النوم فالصحيح أنه يغسل يديه ثلاثاً سواء كان في غسل جنابة أوكان في وضوء ، أما إذا كان غير مستيقظ من النوم فاليد لا تخلو من ثلاثة أحوال :
إما أن يكون على يقين من طهارتها ، أو على يقين من نجاستها أو يكون شاكاً فيها .
يكون على يقين من طهارتها : كأن يجامع ثم يغسل يديه ثم يؤخر الغسل وبعد ساعة أو ساعتين يريد أن يغتسل فيده على اليقين طاهرة فحينئذ يستحب له الغسل ولا يجب .
الحالة الثانية أن يجامع : فيمس المذي أو نحوذلك من النجاسات فتتنجس يده فحينئذ يجب عليه وجهاً واحداً أن يغسل يديه قبل أن يدخلها في الإناء.(46/18)
وإما أن يشك : فالأصل طهارتها والشك لا يوجب زوال الأصل ولذلك قالوا إنه يستحب له الغسل ولا يجب ، والله تعالى أعلم.
السؤال الرابع :
ألا يشكل على وجوب الغسل بالإيلاج قوله عليه الصلاة والسلام :(( إذا افتضخ الماء فاغتسل))..؟؟
الجواب :
هذه المسألة مسألة إيجاب الغسل بالجماع بدون إنزال كان فيها خلاف بين الصحابة في أول الأمر كان في أول الإسلام إذا جامع الرجل امرأته لا يجب عليه الغسل حتى ينزل ، وهذا الحديث حاصله أن النبي صلى الله عليه وسلم استأذن على رجل من الأنصار وكان الرجل مع أهله وكان النبي يريده في حاجة ماسة فخرج الرجل عجلا فأدرك النبي صلى الله عليه وسلم لأمره فقال :(( لعلنا أعجلناك أو أقحطناك إذا عجلت أو قحطت فلا غسل عليك)) وفي رواية :(( إذا فضخت الماء فاغتسل)) فهذا كان في أول الاسلام أن الغسل لا يجب بمجرد الجماع ثم بعد ذلك نسخ الأمر وجاء حديث أم المؤمنين عائشة-رضي الله عنها وأرضاها- :(( إذا التقى الختانان فقد وجب الغسل)) وجاء الحديث الصحيح :(( إذا جلس بين شعبها الأربع ثم جهدها فقد وجب الغسل أنزل أو لم ينزل)) فلما كان الصحابة - رضي الله عنهم- بعضهم يظن أن الأمر باقّ وكان يفتي أن الغسل لا يجب بمجرد الجماع حتى يقع الإنزال فوقع الخلاف بينهم في عهد عمر وارتفع الأمر إلى عمر بن الخطاب-- رضي الله عنه -وأرضاه- فأرسل عمر رضي الله عنه إلى عائشة فسألها فأخبرته بالسنة الناسخة وهي قوله- عليه الصلاة والسلام - :(( إذا جلس بين شعبها الأربع ثم جهدها فقد وجب الغسل)) فقال عمر رضي الله عنه وأرضاه : "من خالف بعد اليوم جعلته نكالاً " أي أن هذا الأمر منسوخ ولا يعمل به ولذلك يعتبر هذا الحديث مما نسخ ، والله تعالى أعلم .
السؤال الخامس :
هل غسل الجمعة يكون على صفة الغسل من الجنابة أم أن المقصود منه عموم التنظف والتطهر..؟؟
الجواب :(46/19)
غسل الجمعة فيه كلا الأمرين يغتسل غسل الجنابة ؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال : (( من اغتسل غسل الجنابة )) .
وقال بعض العلماء أيضا بالمعنى الثاني وهو أن يبالغ في النظافة ؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال : (( من غسل واغتسل)) وهذه صيغة تدل على المبالغة ، وقال بعض العلماء : غسل يعني غسل رأسه واغتسل لسائر البدن فبالغ في إنقاء رأسه وشعره ومواضع الأذى ؛ لأن الجمعة توجب اختلاط الناس بعضهم مع بعض وهذا الاختلاط والاجتماع قد تخرج منه الرائحة بسبب الزحمة وخاصة في القديم ، قالت أم المؤمنين عائشة-رضي الله عنها وأرضاها- : " كان أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم عمال أنفسهم" فكانوا يقدمون من العالية وكانت الأرض أرض زرع فإذا دخلوا المسجد علت منهم زهومة أي أصبح العرق يتصبب منهم فتنتشر الزهومة في المسجد فيتأذى الناس بالرائحة فأمروا بالغسل أي أمرهم النبي صلى الله عليه وسلم أن يغتسلوا فهذا الغسل يراد منه أن يغتسل غسل الجنابة لورود الرواية الصحيحة : (( من اغتسل غسل الجنابة )) كذلك أيضا يبالغ في التنظيف والإنقاء ؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال : (( من غسل واغتسل)) فهذا كله فيه إحسان للبدن يقول بعض العلماء كأن الشرع يريد من المكلف أن لا يمضي عليه أسبوع إلا وقد أصاب الماء بدنه ، ولذلك هذه من حسنات الإسلام حتى أن الكفار كانوا لا يعرفون الغسل وكانت أوروبا في أزمنة متأخرة أو في عصور الظلام كان الرجل ربما يمر عليه نصف سنة وهو لا يغتسل حتى إذا مر كأنه يمر كالجيفة المنتنه ، ولماّ فتحت بلادهم وخالطوا المسلمين تعلموا الغسل منهم وهذ من حسنات الإسلام فالإسلام دين النظافة ودين النقاء فهو نظافة الحس والمعنى فلذلك نعم نقول في غسل الجمعة فيه الاغتسال على الصفة المعتبرة وفيه معنى مقصود وهو النقاء والنظافة فيبالغ الإنسان في إنقاء نفسه ، وكان صلى الله عليه وسلم يحب ألا يشم منه إلا(46/20)
ريحا طيبة حتى إنه كان إذا دخل على أهله يبدأ بالسواك حتى لا يشم منه بخر الفم ونتن الفم بسبب الصوم فهذا كله يدل على حرص الإسلام على النقاء والنظافة وأن لا يؤذي المسلم أخاه ، والله تعالى أعلم.
السؤال السادس :
اغتسلت غسل نظافة وتبرد ونويت تحته رفع الحدث والوضوء فهل يصح ذلك.. ؟؟
الجواب :
بسم الله الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه أما بعد :
فهذه لا تعتبر مسألة من مسائل الاندراج ؛ لأن التبرد والنظافة ليست بنية وإنما هي شيء جبلي عادي لا علاقة له بالتعبديات فيحكم بأن نيتك للجنابة معتبرة ، وهكذا بالنسبة للمرأة الحائض والنفساء إذا قصدت نقاء بدنها وقصدت الجنابة فإن النقاء فيه دنيوية بحتة لا علاقة لها بالتكليف والشرع فتلغى ؛ إنما يشكل أن لو نوى به أمر أدنى ونوى تحته الأكبر فهذا الذي يشكل عند العلماء رحمهم الله تعالى وعليه فإن الغسل معتبر ، والله تعالى أعلم .
السؤال السابع :
هل الجنب إذا سمع المؤذن يردد معه ألفاظ الأذان أم لابد من الوضوء أو الغسل..؟؟
الجواب :
يجوز للجنب أن يردد ألفاظ الأذان ولا حرج عليه في ذلك ؛ ولكن الأكمل والأفضل أن يردد المسلم وهو على طهارة كاملة فإن تيسر فبها ونعمت وإن لم يتيسر صح وأجزأه أن يردد ألفاظ الأذان وهوعلى جنابة ، وقد كان صلى الله عليه وسلم كما في الحديث الصحيح عنه كان يصبح وهو صائم جنب ومن المعلوم أنه ما كان يترك الترداد وراء المؤذن فدل هذا على أنه لا حرج بكون المكلف يردد وراء الأذان وهو جنب ، والله تعالى أعلم .
السؤال الثامن :
أشكل عليّ القول بوجوب المضمضة والاستنشاق في الغسل وسنيته في الوضوء..؟؟
الجواب :(46/21)
هذا الإشكال وارد أما في الوضوء فلأن الله- تعالى- قال :{ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ}(1) والوجه في لغة العرب ضابطه ما تتحقق به المواجهة ، والمواجهة تتحقق بظاهر البشرة كما لا يخفي فليس الإنسان إذا واجه الناس يفتح فمه أو يفتح أنفه حتى يرى ما بداخله ؛ وإنما يواجه بظاهر الوجه ففهمنا من قوله :{ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ} ما تتحقق به المواجهة فقال الجماهير بعدم وجوب المضمضة والاستنشاق ، ويكون الأمر أمر تعليم ويدل على ذلك أنه لو كان الوجه يستدل به على المضمضة والاستنشاق لما أمر النبي صلى الله عليه وسلم بالمضمضة والاستنشاق فلما أمر الأعرابي أن يأخذ بظاهر الآية وقال له :(( توضأ كما أمرك الله)) والله أمر بغسل الوجه ، والوجه ليس من باطن الأنف والفم مما تتحقق به المواجهة قلنا بعدم الوجوب ، أما في الغسل فإن الله أوجب طهارة ظاهر البدن وقال :{وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُباً فَاطَّهَّرُوا}(1) أي طهروا أبدانكم فتنظر في الفم والأنف هل الشرع جعلهما من داخل البدن أو من الخارج فوجدنا الشرع يحكم بكونهما من خارج البدن بدليل أنه لو تمضمض أو استنشق وهو صائم لم يفطر ، وبدليل أنه لو خرج القيء إلى فمه ثم أعاده أفطر فدل على أن الفم والأنف من خارج لا من داخل فوجب عليه في الغسل أن يغسل خارج بدنه وظاهره ، والله تعالى أعلم.
السؤال التاسع:
ورد الوعيد الشديد في إتيان المرأة في دبرها ولكن هل يجب الغسل أيضا بالإيلاج ..؟؟
الجواب :
__________
(1) / المائدة ، آية : 6 .(46/22)
هذه مسألة عظيمة إتيان المرأة في الدبر من كبائر الذنوب كما ذكر العلماء رحمة الله عليهم وليس في الأمر رخصة ولا يجوز للرجل ولا للمرأة أن يتساهلا في ذلك بل كان بعض العلماء والقضاة يفتي بالفراق بين المرأة والرجل إذا ثبت عنده أنه أتاها من الدبر ؛ لأنه أسوأ ما يكون وللإمام ابن القيم رحمه الله كلام نفيس ذكر رحمه الله "في بدائع الفوائد" وغيره من كتبه الآثار السيئة ويقول رحمه الله : " إن الغالب أن الرجل إذا فعل ذلك مع المرأة أن الله يفسدها عليه وأنه لا يجني من ذلك إلا شر الدنيا والآخرة " فالله-تعالى- أحل للإنسان ما أحل وقال :{ نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ }(1) وإنما يؤتى من الحرث ولا يؤتى من الدبر ؛ لأن الدبر ليس بموضع للحرث .
__________
(1) / البقرة ، آية : 223 .(46/23)
وكان بعض السلف يسميها اللوطية الصغرى-نسأل الله السلامة والعافية- فهي فساد وإجرام وفسق كما وصف الله عز وجل فعلها ولا يعتذر بذلك بالتساهل فإن بعض النساء ربما يتساهلن مع الأزواج في حال العادة وربما اشتكى بعضهم أنه في حال العادة ربما أن الرجل يحاول أن يستمتع بظهر المرأة فيولج وهذا لا يعذر فيه الرجل ولا تعذر فيه المرأة ولا يجوز للمرأة إذا غلب على ظنها أن زوجها لا يخاف الله عز وجل أن تمكنه من ذلك بل هي آثمة وشريكة له في الإثم فهذا أمر عظيم حتى ورد في حديث الترمذي : (( أنه من أتى كاهنا أو امراة في دبرها-نسأل الله السلامة والعافية-فقد كفر بما أنزل على محمد)) وهذا الحديث تكلم في سنده ؛ لكن حمله العلماء-والعياذ بالله-على من يستحل أي من يفعل ذلك يعتقد حله فهذا أمر عظيم جدا ولا يجوز للرجل ولا للمرأة أن يتساهلا فيه ، وإذا حصل الإيلاج وجب الغسل وذلك على ظاهر أصل قوله عليه الصلاة والسلام :(( ألزق الختان الختان )) فإنه نّبه بالغالب والقاعدة في الشرع المعروفة في الأصول : " أن النص إذا خرج مخرج الغالب لم يعتبر مفهومه" فنص على الخُتان مع الختان ؛ لأنه الغالب وأهدر ما عدا الغالب .
وَآخِرُ دَعْوَانَا أَنِ الحمَْدُ لِلَّهِ رَبِّ العَالَميْنَ وصلَّى اللَّهُ وسلَّم وبارك على عبده ونبيَّه محمد وعلى آله وصحبه أجمعين .(46/24)
بسم الله الرحمن الرحيم
يقول المصنف رحمه الله : بَاب هَلْ تَنْقُضُ الْمَرْأَةُ شَعْرَهَا عِنْدَ الْغُسْلِ
حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي عُمَرَ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنْ أَيُّوبَ بْنِ مُوسَى عَنْ سَعِيدٍ الْمَقْبُرِيِّ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ رَافِعٍ عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ قَالَتْ قُلْتُ:" يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنِّي امْرَأَةٌ أَشُدُّ ضَفْرَ رَأْسِي أَفَأَنْقُضُهُ لِغُسْلِ الْجَنَابَةِ ؟" قَالَ:(( لاَ إِنَّمَا يَكْفِيكِ أَنْ تَحْثِينَ عَلَى رَأْسِكِ ثَلاَثَ حَثَيَاتٍ مِنْ مَاءٍ ثُمَّ تُفِيضِينَ عَلَى سَائِرِ جَسَدِكِ الْمَاءَ فَتَطْهُرِينَ أَوْ قَالَ فَإِذَا أَنْتِ قَدْ تَطَهَّرْتِ )) .
قَالَ أَبو عِيسَى رحمه الله : هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ وَالْعَمَلُ عَلَى هَذَا عِنْدَ أَهْلِ الْعِلْمِ أَنَّ الْمَرْأَةَ إِذَا اغْتَسَلَتْ مِنَ الْجَنَابَةِ فَلَمْ تَنْقُضْ شَعْرَهَا أَنَّ ذَلِكَ يُجْزِئُهَا بَعْدَ أَنْ تُفِيضَ الْمَاءَ عَلَى رَأْسِهَا .
الشرح :
بسم الله الرحمن الرحيم الحمدلله رب العالمين والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين أما بعد :
فقد ذكر المصنف رحمه الله حديث أم سلمة-رضي الله عنها وأرضاها- ، وهذا الحديث اتفق الشيخان على إخراجه وهو حديث ثابت بالإجماع وقد اشتمل على سؤال أم سلمة للنبي صلى الله عليه وسلم عن نقضها لشعرها في غسل الجنابة فنظراً لاشتماله على هذه المسألة المتعلقة بالغسل من الجنابة ناسب أن يعتني المصنف رحمه الله بإيراده في كتاب الغسل ومسألة نقض المرأة لشعرها إذا أرادت أن تغتسل غسل الجنابة أو غيره فيه خلاف مشهور بين العلماء رحمهم الله وقد ترجم المصنف رحمه الله بصيغة الاستفهام وذلك بقوله هل.. ؟؟(47/1)
وهذه الصيغة : يستعملها في مواضع فمن ذلك إذا كان المؤلف لا يجزم بالحكم في المسألة فإنه يورد الترجمة بصيغة الاستفهام وذلك على سبيل التورع عن الجزم بالحكم خاصةً إذا تعارضت النصوص عن النبي صلى الله عليه وسلم أو تعارضت نصوص الشرع وهذا هو الذي يصنعه الإمام البخاري رحمه الله في مواضع من صحيحه فإذا كان الحكم مشكلاً عليه أو كان متوقفاً في المسألة فإنه يورد الترجمة بصيغة الاستفهام وبعض العلماء يذكر هذه الصيغة من باب التشويق للقارئ لمعرفة الحكم فإنك إذا قرأت الباب بصيغة الاستفهام تشوقت لمعرفة الجواب فيورد حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم والرجل والقارئ مشتاق إلى سماع ما فيه ، فيكون حينئذ من باب التشويق لمعرفة الحكم .
وقوله -رحمه الله -"هل تنقض " : النقض في لغة العرب تفكيك طاقات الشئ يقال نقض البناء إذا فكك طاقاته شيئا فشيئاً ويقال نقضت المرأة شعرها إذا فكت طاقات ذلك الظفر ، ومنه قوله سبحانه وتعالى :{تَكُونُوا كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ أَنكَاثاً}(1) فالنقض أصله تفكيك طاقات الشئ ويستعمل في لغة العرب في نقض المحسوسات والمعنويات فيقال نقض البناء للمحسوس ونقض الحجة للمعنى .
وقوله "هل تنقض المرأة شعرها " : خص الحكم بالنساء دون الرجال وذلك لأن ظفائر الشعر إنما تكون في النساء غالباً ، وقد يظفر الرجل شعره عند الحاجة كما لا يخفى ومن ذلك قال بعض العلماء في قوله سبحانه وتعالى :{وَيَسْأَلُونَكَ عَنْ ذِي الْقَرْنَيْنِ}(2) قالوا : لأنه كان كثير الشعر له قرنان أي عقد الشعر بقرنين .
وقوله" المرأة ": يفهم منه التخصيص ومسألة نقض ظفائر من الشعر اختلف العلماء رحمهم الله فيها في النساء وذهب بعض العلماء إلى تعميم الحكم بالرجال والنساء-كما سيأتي إن شاء الله الإشارة إليه- .
__________
(1) / النحل ، آية : 92.
(2) / الكهف ، آية : 83 .(47/2)
تقول-رضي الله عنها-يارسول الله " إني امرأة أشد ظفر شعر رأسي أفأنقضه لغسل الجنابة " : إني امرأة يدل هذا السؤال على تخصيص الجواب بالنساء دون الرجال ، ومذهب الإمام مالك رحمه الله أن الحكم يعم الرجال والنساء فلو ظفر الرجل شعر رأسه لمكان الحاجة وأراد أن يغتسل من الجنابة فإنه لايجب عليه أن ينقض ذلك الظفر.
وقولها-رضي الله عنها-" أشد ظفر رأسي" : أي أشد ظفائر شعر رأسي والظفيرة واحدة الظفائر وذلك لأنها تطوى ويكون بعضها على بعض .
وقولها -رضي الله عنها-" أفأنقضه لغسل الجنابة " : أي هل يجب عليّ إذا اغتسلت من الجنابة أن أنقض ظفائر رأسي حتى يصيب الماء ذلك الشعر أو لايجب علي ذلك؟
فقال عليه الصلاة والسلام :(( لا)) ، قوله : (( لا)) : القاعدة : " أن السؤال معاد في الجواب " ومعنى هذه القاعدة أن يقال ، قوله عليه الصلاة والسلام :(( لا)) ، أي لاتنقض ظفائر شعر رأسك إذا اغتسلت من الجنابة ، ولذلك قال العلماء يتفرع على هذا القاعدة : " أن السؤال معاد في الجواب"أنه لو سأل رجل رجلاً فقال له هل طلقت امرأتك ؟؟ أو هل امرأتك طالق منك؟؟ قال نعم فإنه حينئذ تطلق المرأة ولو لم يكن مطلقاً لها من قبل ؛ لأن قوله نعم بمثابة قوله نعم امرأتي طالق أو قد طلقت امرأتي ، ولذلك قالوا إن قوله عليه الصلاة والسلام :(( نعم)) كقوله عليه الصلاة والسلام :(( لا)) أي لاتنقض المرأة شعر رأسها إذا اغتسلت من الجنابة .(47/3)
قوله عليه الصلاة والسلام :(( لا)) : يدل دلالةً واضحةً على أن المرأة إذا أرادت أن تغتسل لا يجب عليها أن تنقض الشعر إذا كانت ظفائر الشعر معقودة سواء كانت الظفائر مرسلة أو كانت الظفائر مكورة على رأسها ، وهذا هو مذهب جمهور العلماء رحمهم الله وأن الواجب على المرأة أن يصيب الماء جلدة رأسها ، وأما الشعر فإنه يكفي أن يفيض الماء عليه سواء أصابه الماء أو لم يصبه ؛ لأن المهم أن يصل الماء إلى جلدة شعر الرأس ، فإذا وصل الماء إلى الجلدة فقد غسل ظاهر البدن والله أمر بغسل ظاهر البدن وهذا هو قول جمهور العلماء وهو مذهب الحنفية والمالكية والشافعية والحنابلة من حيث الجملة وعندهم خلاف في التفصيل ، ولذلك قالوا إن نقض الشعر لايجب على المرأة إذا كان في غسلها واختلف الذين قالوا بعدم وجوب النقض ، فمذهب جمهور العلماء إنه لا يجب النقض في الأغسال كلها سواء اغتسلت من الحيض أو اغتسلت من الجنابة أو اغتسلت من النفاس أو اغتسلت غسلاً مندوباً ومستحباً فإنه لايجب عليها أن تنقض شعر رأسها وأن الواجب عليها أن يصل الماء إلى جلدة الرأس.
واحتجوا بقوله عليه الصلاة والسلام :(( لا )) : أي لاتنقضي ظفائر الرأس إذا اغتسلت من الجنابة.
وذهب الإمام إبراهيم النخعي من فقهاء التابعين-رحمة الله عليهم أجمعين- إلى القول بوجوب نقض ظفائر الرأس سواء كانت مغتسلة لواجب أو مستحب.
واحتج إبراهيم النخعي رحمه الله بأن الأصل يوجب على المسلمة إذا اغتسلت أن تعم سائر بدنها بالماء وشعرها من بدنها فوجب عليها أن تعمه بالماء .
وقال جمهور العلماء رحمهم الله : إن هذا الأصل منتقض بحديثنا ؛ لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمرها أن تقتصر على إصابة الماء لجلدة الرأس ولم يوجب عليها نقضها لشعرها.
وهذا هو الصحيح أعني مذهب الجمهور رحمة الله عليهم .(47/4)
واختلف الجمهور حينما قالوا بعدم وجوب النقض هل يسقط ذلك عنها في جميع الأغسال أم أنه يختص ببعض الاغتسالات دون بعضها..؟؟
فذهب الجمهور من الحنفية والمالكية والشافعية رحمة الله عليهم إلى القول بأنها إذا اغتسلت أي غسل سواء كان واجباً أو غير واجب أنه لايجب عليها أن تنقض ظفائر رأسها .
وذهب الإمام أحمد -رحمة الله عليه- وهو قول محمد بن سيرين وطاووس بن كيسان-رحمة الله على الجميع- إلى القول بوجوب نقضها لشعرها إذا اغتسلت من الحيض أوالنفاس ، وأما إذا اغتسلت من الجنابة فلا يجب عليها أن تنقض شعر رأسها .
واحتج جمهور العلماء رحمهم الله بحديثنا ووجه الدلالة أن النبي صلى الله عليه وسلم منعها من نقضها لشعرها وبين أنها تطهر بمجرد إصابة الماء لجلدة الرأس وإذا كان الأمر كذلك فإنه لافرق بين غسل الجنابة وغسل الحيض ؛ لأن الجميع واجب فإذا تحقق الواجب من الظاهر بمجرد إفاضة الماء على جلدة الرأس فيستوي في ذلك أن تكون المرأة مغتسلة من الجنابة أو من غير الجنابة.
واحتجوا بالنظر الصحيح وذلك بالقياس فقالوا لا تنقض المرأة شعر رأسها إذا كانت في غسل حيض ونفاس كما لايجب عليها ذلك في غسل الجنابة بجامع وجوب الكل ، ووجه هذا القياس أنهم قالوا إن جميع هذه الأغسال يجب على المرأة أن تتطهر فيها ، فإذا كانت الطهارة تحصل في غسل الجنابة بدون نقض فإنها تحصل في غسل الحيض والنفاس بدون نقض ، وهو قياس صحيح واضح جلي .(47/5)
واستدل الحنابلة ومن وافقهم-رحمة الله على الجميع-بأن النبي صلى الله عليه وسلم أمر أم المؤمنين عائشة-رضي الله عنها-أن تنقض شعر رأسها إذا اغتسلت من حيضها كما في حديث حجة الوداع ، وأصل هذا الحديث في الصحيحين أنها كانت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في حجته قالت : " فحاضت فانسللت قال : (( مالَك أنفست؟؟ )) قالت : نعم . قال :(( ذاك شئ كتبه الله على بنات آدم اصنعي ما يصنع الحاج غير ألا تطوفي بالبيت)) وفي رواية عن ابن ماجة :(( فإذا طهرت فانكثي شعرك واغتسلي)) قالوا فأمرها بنكث شعرها والنكث والنقض بمعنى فكأنه يأمرها أن تعم جميع شعرها بالماء وقد أجاب العلماء - رحمهم الله - بأن حديث أم سلمة يدل على أن هذا الأمر للاستحباب ؛ لأن القاعدة في الأصول : " أن الأمر محمول على الوجوب حتى يدل الدليل على صرفه عن ذلك الظاهر" فلما كان حديثنا صرح فيه النبي صلى الله عليه وسلم بأن الطهارة تحصل بمجرد تعميم جلدة الرأس دل على أن المقصود هو غسل جلدة الرأس ، وأن الشعر تبع وليس بأصل وهذا هو الصحيح ولذلك يكون حديث عائشة -رضي الله عنها- محمولاً على الندب والاستحباب لا على الحتم والايجاب.
قوله عليه الصلاة والسلام :(( إنما يكفيك أن تحثين على رأسك ثلاث حثيات من ماء)):إنما يكفيك أي يجزيك وهذا يدل الغسل الذي هو واجب والعلماء قسموا صفة الغسل إلى قسمين سبقت الإشارة إليهما فأخذوا من قوله عليه الصلاة والسلام :(( إنما يكفيك)) دليلاً على الصفة التي يسمونها صفة الإجزاء وهو استنباط صحيح واضح .(47/6)
وقوله عليه الصلاة والسلام : (( إنما يكفيك )) : فيه دليل لما ذهب إليه جمهور العلماء رحمهم الله خلافاً للمالكية أن الواجب في الغسل أن يعم سائر البدن بالماء ولا يجب الدلك ؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم أمرها بإفاضة الماء ولم يقل تفيضين الماء بيدك على جسدك حتى يدل على وجوب الدلك فاحتج بهذا الجملة جمهور العلماء رحمهم الله على أنه لايجب الدلك في غسل الجنابة ولا غيره من الأغسال الواجبة .
وقوله عليه الصلاة والسلام :(( إنما يكفيك أن تحثي على رأسك ثلاث حثيات من ماء)) : هذه الجملة فيها دليل على أن الواجب أن يصيب الماء على جلدة الرأس وأن الشعر لا يجب تعميمه بالماء ، ولذلك لايجب تخليل شعر الرأس بالماء خلافاً للشافعية رحمهم الله ومن هنا استنتبط العلماء رحمهم الله القاعدة المشهورة : "شعر الإنسان في حكم المنفصل لا في حكم المتصل".
وتوضيح ذلك : أن شعر الإنسان يحتمل أمرين :
إما أن يقال حكمه حكم المتصل بالإنسان وحينئذ لا إشكال في وجوب غسله كما يغسل الإنسان يده .
وإما أن يقال إنه في حكم المنفصل وحينئذ لايجب على الإنسان أن يغسله ؛ لأنه تبع وليس بأصل ويجزئ أصله إذا روي بالماء عن إفاضة الماء عليه وهذه القاعدة تتفرع عليها مسائل وقد ذكرها الإمام ابن رجب الحنبلي رحمه الله في كتابه النفيس "في قواعد الفقه" فقال رحمه الله : " شعر الإنسان والحيوان في حكم المنفصل لا في حكم المتصل وكذلك الظفر على ظاهر المذهب".(47/7)
وفائدة هذه القاعدة : أنه لو أسند إلى الشعر شيئاً لم يكن الحكم متصلاً بالبدن وتفرعت على ذلك مسائل منها لو قال الرجل لامرأته شعرك طالق فإنها لاتطلق ؛ لأنه أسند الطلاق إلى منفصل لا متصل بخلاف ما لو قال لها يدك طالق أو رجلك طالق فإن اليد والرجل متصلان بالبدن وكل من اليد والرجل حياته حياة روح ، وأما إذا قال لها شعرك طالق فإنها لاتطلق لأن الشعر بدليل هذا الحديث منفصل لافي حكم المتصل ، ولذلك قالوا لايسند الطلاق ولاتطلق المرأة ولأن الشعر يتساقط ولو حلق لتجدد ولذلك لم يتصل بالبدن وحياة الشعر حياة نمو وليست بحياة روح وهناك فرق بين حياة الروح والنمو ، وعلى هذا لا يحكم بالطلاق .
ومن فوائد هذه القاعدة : لو قال لها شعرك كشعر أمي فإنه لا يعتبر ظهارا ؛ لأنه أسند الظهار إلى منفصل لا إلى متصل كحكم الطلاق ، وكذلك لو قال لعبده شعرك حر فإنه لايعتق العبد بخلاف ما إذا قال له أعتقت يدك أو أعتقت رجلك سرى العتق على سائر بدنه وذلك لأن الجزء كالكل ، ولذلك قال الله-تعالى-:{تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ}(1)فلما جعل التباب لليد تبابا للجميع دل على أنه لو قال لها يدك طالق أنه طلاق للكل وهذا هو الصحيح من قولي العلماء رحمهم الله في هذه المسألة أن إسناد الطلاق والعتاق وكذلك الظهار إلى الشعر لا يوجب الحكم بسريان الطلاق ونفوذه وكذلك الظهار والعتاق .
ومن فوائد هذه القاعدة : أننا لو قلنا أن لمس المرأة ينقض الوضوء فلمس شعرها فإنه لاينتقض وضوؤه ؛ لأنه لمس المنفصل لا المتصل وأكد ذلك العلماء بأنه إذا لمس الشعر فإن الشهوة لاتسري كلمس اليد التي فيها حياة الروح ، ومن هنا قالوا لوجود الفرق بين اليد والشعر حكم بانتقاض الوضوء في الأول دون الثاني .
__________
(1) / المسد ، آية : 1 .(47/8)
يقول عليه الصلاة والسلام : (( إنما يكفيك أن تحثين على رأسك ثلاث حثيات من ماء ثم تفضين على سائر جسدك الماء)) : الإفاضة أصلها الكثرة والمراد هنا أنها تعم الماء على سائر بدنها ومن استعمال الإفاضة بمعنى الكثرة قول العرب فاض الوادي إذا سال ماؤه وكثر .
وقوله : (( تفيضين الماء)) : أي تصبين الماء على وجه يعم البدن ، وفي هذا اللفظ إشارة إلى الكثرة وليس مراد النبي صلى الله عليه وسلم التحديد بالثلاث فالمهم كل المهم أن يكون الماء قد وصل سائر بشرة الإنسان فإذا وصل إلى البشرة كلها حكم بطهارته رجلا كان أو امرأة .
يقول عليه الصلاة والسلام : (( فإذا أنت قد تطهرت)) : وفي رواية في الصحيح :(( فإذا أنت قد طهرت)) أي أنك طهرت من الجنابة وهكذا الحكم بالحيض والنفاس .
هذا الحديث الشريف اشتمل على رحمة من الله عز وجل بعباده وذلك بتخفيف الحكم في الغسل من الجنابة ونحوه من الأغسال الواجبة حيث إن الله عز وجل لم يوجب على النساء نقضهن لظفائر شعر الرأس ، ولو أوجب ذلك عليهن لكانت فيه مشقة وحرج ، ولذلك قال العلماء : إن هذا الحديث من دلائل السماحة واليسر في شريعة الله عز وجل -فالحمدلله الذي هدانا لهذا وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله-.
يقول المصنف رحمه الله : بَاب مَا جَاءَ أَنَّ تَحْتَ كُلِّ شَعْرَةٍ جَنَابَةً
حَدَّثَنَا نَصْرُ بْنُ عَلِيٍّ حَدَّثَنَا الْحَارِثُ بْنُ وَجِيهٍ قَالَ حَدَّثَنَا مَالِكُ بْنُ دِينَارٍ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سِيرِينَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ : (( تَحْتَ كُلِّ شَعْرَةٍ جَنَابَةٌ فَاغْسِلُوا الشَّعْرَ وَأَنْقوُا الْبَشَرَ )) .
قال رحمه الله : وَفِي الْبَاب عَنْ عَلِيٍّ وَأَنَسٍ .(47/9)
قَالَ أَبو عِيسَى رحمه الله : حَدِيثُ الْحَارِثِ بْنِ وَجِيهٍ حَدِيثٌ غَرِيبٌ لاَ نَعْرِفُهُ إِلاَّ مِنْ حَدِيثِهِ وَهُوَ شَيْخٌ لَيْسَ بِذَاكَ وَقَدْ رَوَى عَنْهُ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنَ الأَئِمَّةِ وَقَدْ تَفَرَّدَ بِهَذَا الْحَدِيثِ عَنْ مَالِكِ بْنِ دِينَارٍ وَيُقَالُ الْحَارِثُ بْنُ وَجِيهٍ وَيُقَالُ ابْنُ وَجْبَةَ .
الشرح :
هذا الحديث رواه الحارث بن وجيه كما ذكر المصنف رحمه الله وهو حديث ضعيف ومداره على هذا الرجل ضعّفه الإمام البخاري وأبو داود ، وكذلك حكم بضعف الحديث الإمام البيهقي والإمام الحافظ ابن حجر قال رحمه الله "مداره على الحارث بن وجيه وهو ضعيف جداً " ، ولذلك لم يحكم العلماء رحمهم الله بثبوت هذا الخبر عن سيد البشرصلوات الله وسلامه عليهإلى يوم الدين .
وأما ماجاء في متن هذا الحديث من قوله : (( تحت كل شعرة جنابة )) فإنه صحيح أي أن جلدة شعر الرأس يجب على الإنسان أن يصيبها بالماء ، ولذلك قال علي رضي الله عنه وأرضاه ومن ثم عاديت شعر رأسي فكان علي رضي الله عنه يكثر الحلق لشعر الرأس كل ذلك خوفاً إذا اغتسل من الجنابة أن لا يصل الماء إلى الموضع المطلوب غسله.
وعلى هذا فإن هذا اللفظ أعني : (( تحت كل شعرة جنابة )) : الجنابة متعلقة بسائر البدن فإذا قيل تحت كل شعرة جنابة قول صحيح ؛ لأن الذي تحت الشعر إنما هو الجلد والجلد تعلق به حكم الجنابة فيجب على المكلف أن يصيبه بالماء .(47/10)
وقوله : (( فاغسلوا الشعر وأنقوا البشر)) : فيه دليل إلى ما ذهب إليه الإمام الشافعي وأصحابه أنه يجب غسل شعر الرأس من الرجال والنساء على حد سواء وقد عارض هذه الجملة ما جاء في حديث أم سلمة رضي الله عنه المتقدم حيث دل دلالةً واضحةً على أن المهم أن يصل الماء إلى جلدة شعر الرأس لا إلى الشعر نفسه ، وعلى هذا فإنه لايجب على المكلف أن يعم شعره بالماء وأنه إذا وصل الماء إلى جلدة الشعر أن ذلك هو المعتبر .
ولذلك قال العلماء : إن الأخذ بمتن هذا الحديث من جهة وجوب غسل الشعر ضعيف سواء كان المغتسل رجلا أو كان امرأة وكان بعض العلماء رحمهم الله يقول يجوز للمرأة أن تغسل جلدة الرأس ولا يجب عليها غسل ما استرسل من الشعر ، وأما بالنسبة للرجال فيجب ؛ لأن النساء يصعب عليهن فك ظفائر الشعر بخلاف الرجال فإن ذلك قليل فيهم والحكم للغالب أي أن الرخصة ارتبطت بالنساء لمكان الغلبة دون الرجال ولاشك أن النساء يظفرن الشعر وقد جاء ذلك في حديث أم سلمة مؤكدا وذلك في قولها"إني أشد" وهذا يدل على وجود المشقة بفك طاقات الشعر بعد ظفره كما لايخفى.
والصحيح ما ذهب إليه الجمهور وأن هذا الحديث ضعيف لايحكم بسببه بوجوب غسل جميع شعر الرأس وأن الواجب أن يغسل الجلد وماحاذى الجلد من الشعر وأما المسترسل من الشعر فإنه لايجب غسله .
- ? - ? - ? - ? - الأسئلة - ? - ? - ? - ? -
السؤال الأول :
هل حديث أم سلمة -رضي الله عنها-خاص لكل من كانت تشد ظفر رأسها دائما أم للمرأة أن تتظفر قبيل الغسل وذلك لتسلم من مشقة إروائه بالماء ؟
الجواب :
بسم الله الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه أما بعد :(47/11)
أما بالنسبة لما ورد في السؤال من كون الحديث هل هو مختص بالمرأة التي ظفرت شعر رأسها قبل الغسل بدون قصد أم أنه يشمل من قصدت ومن لم تقصد ، ظاهر الحديث أن كل امرأة ظفرت رأسها أنه لايجب عليها نقضه فإن قيل العلة المشقة فحينئذ يتقيد بوجود المشقة وإن قيل العلة وصول الماء إلى جلدة الرأس فيستوي أن تظفره قبل الغسل مباشرة أو يكون مظفوراً بأصله وهذا هو الأقوى ، والله تعالى أعلم .
السؤال الثاني :
كيف نوفق بين أن الجزء للكل وبين القاعدة : " أن الجزء لا يأخذ حكم الكل" كما في المسألة ومناولة عائشة -رضي الله عنها- للنبي صلى الله عليه وسلم الخمرة وهو في المسجد وهي حائض ؟
الجواب :
هذا الإشكال إشكال جيد فالقاعدة تقول : " الجزء لايأخذ حكم الكل" وفي بعض الأحيان : " ننزل الجزء منزلة الكل" فكيف يجمع بينهما..؟؟(47/12)
يقول العلماء : الأصل أن الجزء لايأخذ حكم الكل وبناء على ذلك يستثنى ما ورد فيه موجب يقتضي تخصيص الحكم به فأنت إذا تأملت في الطلاق أن الطلاق متعلق بالبدن ومتعلق بالمرأة نظرت إلى كونه إذا طلقها أن الأصل سريان الطلاق فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال :(( ثلاث جدهن جد وهزلهن جد)) فجعل الطلاق نافذ حتى ولم يقصده الإنسان فأصبح فقه باب الطلاق أنه لابد في الطلاق إذا تلفظ به الإنسان أنه يسري فلما جاء يعلقه بالمرأة علقه بعضو منها كيدها أو رجلها صار تعليقاً للكل لأنه من باب المؤاخذة ولذلك جاء في باب المؤاخذة تعليق الحكم بالكل كما قال-تعالى- :{ تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ}(1) {فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ}(2) فجعل المؤاخذة للجزء كالكل ففي الطلاق مؤاخذة فتجعل التعلق بالجزء سرياناً للكل لكن في الشعر لما كان هذا السريان حينما قال لها يدك طالق والأصل في الطلاق ألا يتجزأ فقد سرى الطلاق وتعلق باليد والمرأة لايطلق منها جزء دون جزء ، ولذلك لو قال لها نصفك طالق وربعك طالق وثلثك طالق وعشرك طالق طلقت كلها ؛ لأن الطلاق لايتجزأ والأصل في الطلاق والظهار أنه نافذ كان من الفقه أن يراعى مقصد الشرع فإذا علقه بالجزء تعلق بالكل لا من باب أن الجزء آخذ حكم الكل وإنما هو من باب آخر في الطلاق نفسه في المادة التي تلفظ بها المكلف قصد الشرع إلزامه بها على كل حال لما تعلق بالجزء والمادة لاتقبل التجزئة تعلقت بالكل وأصبح طلاقاً للكل لكن حينما قال لها يدك طالق أصبحت اليد طالقة ؛ لأن الحياة التي في اليد حياة في البدن كله لكن حينما يقول شعرك طالق الحياة الموجودة في الشعر غير الحياة الموجودة في اليد ولذلك إذا جرح اليد تألم الجسد لو أحرق طرف أصبعه تألم الجسد كله ولكن لو أحرق طرف الشعر لايتألم ولايحس بالألم لأن الحياة الموجودة في الشعر حياة نمو كحياة النبات ونحوه
__________
(1) / المسد ، آية : 1 .
(2) / الشورى ، آية :30.(47/13)
ولكن الحياة الموجودة في اليد حياة روح فاتصلت بالبدن والأول في حكم المنفصل عن البدن ، ولذلك قالوا لا يتعلق بالكل لأنه أسنده إلى جزء لايتصل بالبدن اتصالاً كاملاً فلم يسر على كل البدن وعلى هذا قالوا إن الشعر يتجدد ولو قال لها ظفرك طالق فالظفر على الصحيح إنه في حكم المتصل ، وقال بعض العلماء : إنه في حكم المنفصل لأن الشرع جعل الظفر بمثابة الكل قال- عليه الصلاة والسلام -:(( لا سبق إلا في نصل أو خف)) فجعل الخف للكل ؛ لكن هذا تعبير كما يقول العلماء إسنادي وتجوز فيه في العبارة بخلاف ما نحن فيه فإن المؤاخذات الأصل إنه لايؤاخذ بها إلا بحجة بينة ، والله تعالى أعلم .
السؤال الثالث :
لماذا لا يكون حديث عائشة ناسخاً لحديث أم سلمة حيث أن حديث عائشة -رضي الله عنها- أتى متأخراً ؟
الجواب :(47/14)
أولاً حديث عائشة ورد أثناء الحج والغسل من الحائض أثناء الحج مختلف فيه أصلا هل هو واجب أو غير واجب ولذلك لما قال لها : (( امتشطي)) في نفس الحديث وأمرها بالامتشاط قال العلماء : إن المراد به أن تزيل ما عليها من الشعث وأنه لاحرج عليها أن تزيل ذلك الشعث لتعلق الحيض بها ؛ لأن الحيض من حيث غسل الحيض والنفاس كما ذكر العلماء المراد به إزالة الشعث ، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم لما نفست أسماء بنت عميس لمحمد بن أبي بكر الصديق بالبيداء قال : (( مرها فلتغتسل ثم لتهل)) وذلك لأن الدم قذر سواء كان في نفاس أو حيض فكأن الأمر بالغسل جاء هنا لقذر الحيض وقذر النفاس ، ولذلك تعلق التنظيف بالبدن كله فقال : (( اغتسلي وامتشطي وانقضي شعرك)) فكأن المسألة كلها تدور حول الكمال ولاتدور حول الإجزاء ولابد للفقيه إذا نظر في النص أن ينظر إليه نظراً كاملاً ، ولذلك قوي هنا في حديثنا وهو حديث أم سلمة حينما قال لها : (( إنما يكفيك أن تحثين على رأسك)) دل على أن العبرة بالأصل وأن القضية لاتتعلق بالشعر لأنك أنت إذا قلت إن الشعر يجب غسله عارضك أن حديث أم سلمة علق فيه النبي صلى الله عليه وسلم العبرة بالجلدة جلدة شعر الرأس وأن المقصود أن يعمم شرع الرأس وليس المراد به أن الشعر معتبر به في الغسل وهذا هو الصحيح والذي تميل إليه النفس ولذلك قوي مذهب الجمهور أن الحكم في الحيض والنفاس والجنابة بالنسبة للمرأة واحد ، والله تعالى أعلم .
السؤال الرابع :
امرأة مصابة بالمرض وتأخذ بعض الأدوية وبعد أخذ الأدوية توقفت عنها الدورة ولكن يخرج منها قطرات من الدم على مدار الشهر والدم الذي يخرج فيه صفات دم الحيض فماذا عليها ؟
الجواب :(47/15)
إذا ميزت الدم وعرفته بعلاماته فهو حيض وأصح أقوال العلماء أن الحيض لايتأقت بزمان وأن الدفعة اليسيرة من الدم حيض ؛ لأن الله عز وجل لم يقيد الحيض في كتابه ولا على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم بزمان وهذا يختاره فقهاء المالكية والظاهرية ويختاره شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله ، وعلى هذا فإنها تكون حائضا ولو دفعت دفعة واحدة من الدم إذا عرفتها بصفتها لقوله- عليه الصلاة والسلام - : (( إن دم الحيض دم أسود يُعرف فإذا كان ذلك فأمسكي عن الصلاة )) فإذا ميزت المرأة فإنه يحكم بتمييزها ، والله تعالى أعلم .
السؤال الخامس :
إذا أذن المؤذن للفجر فهل للإنسان أن يكمل شرابه إذا كان الإناء في يده ؟
الجواب :
-يكمله ويقضي ، إذا أراد أن يقضي يكمل- هذه المسألة فيها حديث مختلف في إسناده أنه :(( إذا أذن المؤذن والإناء في يد أحدكم فليكمل نهمته منه)) وهذا الحديث تكلم العلماء على إسناده معارض بما هو أقوى وأصح منه فإننا رجعنا إلى كتاب الله عز وجل وهو صريح في قوله :{ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمْ الْخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنْ الْخَيْطِ الأَسْوَدِ مِنْ الْفَجْرِ}(1)
__________
(1) / البقرة ، آية : 187 .(47/16)
فنص-سبحانه- على أن الشرب يتوقف عند تبين الفجر الصادق من الفجر الكاذب ، وكذلك ثبتت السنة أيضاً عن النبي صلى الله عليه وسلم في قوله : (( إن بلالاً يؤذن بليل فكلوا واشربوا حتى يؤذن ابن أم مكتوم )) فأمر عليه الصلاة والسلام بالأكل والشرب إلى غاية والقاعدة في الأصول : " أن ما بعد الغاية يخالف ما قبلها في الحكم" ولذلك قال العلماء : إن العمل بهذا النص القطعي الثبوت الدلالة في كتاب الله وسنة النبي صلى الله عليه وسلم أحوط للمسلم وأبرأ للذمة فإنك لو تركت الإناء من باب تقوى الله عز وجل والتورع لايجب عليك أن تشرب ما بقي في الإناء فلما أصبح الحديث مختلفاً في إسناده وأنت تريد تقوى الله فإن الأورع لك والأسلم أن تلتزم بالأصل وتبين الإناء من فمك فتتقي الله عز وجل بالإمساك عند التبين إلا في حالة واحدة وهي أن تعلم أن الصبح لازال باقياً وأن المؤذن قد عجل كما لو كان الإنسان في صحراء يمكنه أن يعرف تبين الفجر ودخول وقته فحينئذ يعمل الإنسان بذلك ، والله تعالى أعلم .
السؤال السادس :
قال الله-تعالى- : {وَبِالأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ}(1) هل معنى هذه الآية أن من استيقظ في السحر فالأفصل أن يجلس للاستغفار أم يصلي..؟؟
الجواب :
__________
(1) / الذاريات ، آية : 18 .(47/17)
هذه مسألة اختلف فيها العلماء قال بعض العلماء : الأفضل في السحر الاستغفار ؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم انتهى وتره إلى السحر وكان عليه الصلاة والسلام بعد وتره هناك فاصل من الوقت ، ولذلك قالوا إن الأفضل أن يذكر الله في هذا الوقت ؛ لأن الله عز وجل أثنى على المستغفرين يقولون أن الأفضل أن يستغفر لأن النص ورد بذكر مخصوص في وقت مخصوص في سياق المدح والثناء فيقدم هذ الذكر المخصوص في الوقت المخصوص في سياق المدح والثناء فيخص بذلك ، وأكدت هذا السنة الصحيحة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في قوله : (( هل من مستغفر فأغفر له )) قالوا فإنه في هذه الحالة في آخر الليل وآخر جزء من الليل كأن الله سبحانه وتعالى يعرض فضله ورحمته ولطفه بعباده فالأنسب له أن يتعرض لرحمة الله بكثرة سؤال الله المغفرة والعفو لما علم به الإنسان من التقصير والإساءة والتفريط في جنب الله عز وجل ، وقال بعض العلماء : الأفضل أن يصلي ؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال لما سئل عن أفضل الأعمال قال : (( ركعتان يركعهما المؤمن في جوف الليل الآخر)) ، وقال : (( إن استطعت أن تكون ممن يذكر الله في تلك الساعة فكن))، وجمع بعض العلماء جمعاً لطيفاً حسناً فقال : يصلي ويستغفر يصلي ويكثر في صلاته من الاستغفار في السجود وبعد التشهد ؛ لأنه إذا أكثر الاستغفار فإنه مستغفر في السحر ، والله تعالى أعلم .
السؤال السابع :
ما هو الضابط في صوم الأبناء في رمضان لأن هذا الأمر أصبح بين إفراط وتفريط ، فما هو السن المعتبر في صيامهم ..؟؟
الجواب:
للعلماء وجهان في أمر الصبيان بالصوم :(47/18)
قال جمع من السلف : يشرع أمر الصبيان بالصوم وحثهم عليه وحضهم عليه ، وقال بعض السلف : لايؤمرون وهذا يختاره الإمام مالك ويرى أن الحديث ورد بالأمر بالصلاة ولو كان الصبيان يؤمرون بالصوم لمّا سكت عليه الصلاة والسلام عن أمرهم بذلك ولقال مروا أولادكم بالصلاة والصوم ، وعلى هذا قال لايؤمرون ولايكلفون به لما فيه من المشقة وتحميلهم ما لم يرد النص بتحميلهم إياه ؛ لأنه أعظم مشقة وأكثر عناء من الصلاة ولذلك قال إنه لايؤمر الصبي لماّ فيه من بالغ المشقة ، وجاء في الصحيح وغيره أنهم كانوا يعطون الأطفال الدمى لأجل أن يتسلوا بها وهم صوم كما جاء في حديث أنس وغيره فاستحب جمع من العلماء تعويد الصبي من الصغر على الصوم واختلفوا في ضابط ذلك فقال بعضهم عشر سنوات ، وقال بعضهم اثنتا عشرة سنة وقال بعضهم الأمر راجع للطاقة فيبدأ بالصغير إذا كان ابن ثمان سنوات تسع سنوات فيصومه نصف النهار أو يصومه ثلثي النهار أو يصومه على قدر ما يجد فيه من القوة والطاقة فإذا انتهى وأعطاه الطعام أثنى عليه ومدحه وحبب العبادة إلى نفسه حتى إذا بلغ قدراً يقوى فيه على إتمام اليوم أتمه قالوا فينشأ وهو محب لهذه العبادة مروض عليها وقد ألفها ولايستطيع أن يتركها ؛ لأنه إذا عود عليها من الصغر تصبح إلفاً له لايمكن أن يفرط فيها في الكبر وعلى هذا قالوا إنه يؤمر متى أطاق ، بمعنى إنه يحببه في ذلك ويعوده عليه لكن هل يأمره أمر إلزام كالصلاة بحيث يضربه إذا لم يصم أم لا؟؟ يترجح القول الأول أنه لايضرب أنه حتى ولو أطاق الصوم وهو صغير لايضرب وإن صام فالحمدلله وإن لم يصم فإنه لايوجب عليه لا يحكم بوجوب شيئاً لم يفرضه الله ولم يوجبه عليه ، والله تعالى أعلم .
السؤال الثامن :
إذا فاتتني صلاة الوتر قبل أذان الفجر فمتى أقضيها هل يصح ذلك ما بين أذان وإقامة صلاة الفجر أم أنه ينبغي أن يكون بعد شروق الشمس..؟؟
الجواب:(47/19)
هذه المسألة قال بعض أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وبعض السلف يشرع قضاء الوتر بين الأذان والإقامة وهو مروي عن جمع من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ، وقال بعض أهل العلم وهو مذهب الجمهور : أنه لايوتر بين أذان وإقامة الفجر للأدلة الصحيحة الصريحة من ذلك قوله عليه الصلاة والسلام :((صلاة الليل مثنى مثنى فإذا خشي أحدكم الفجر فليوتر بواحدة )) ، وقوله عليه الصلاة والسلام :(( أوتروا قبل أن تصبحوا )) فدل على أنه إذا أصبح لايوتر وقالوا السنة أن يقضي مابعد طلوع الشمس وهذا هو الصحيح ؛ لأن حديث عائشة-رضي الله عنها- الصحيح قالت : " كان النبي -- صلى الله عليه وسلم - -إذا فاته ورده من الليل من مرض أو حاجة صلى بالنهار ثنتي عشرة ركعة" فصلى عليه الصلاة والسلام اثنتي عشرة ركعة بعد طلوع الشمس وكان يوقع قضاءه لصلاة الليل والوتر ما بين طلوع الشمس والزوال وهذه هي السنة أنه يقضي الوتر ما بين طلوع الشمس إلى زوالها ،-ونسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يمن علينا بعفوه وعافيته وأن يتداركنا بعظيم لطفه ورحمته إنه ولي ذلك والقادر عليه-.
وَآخِرُ دَعْوَانَا أَنِ الحمَْدُ لِلَّهِ رَبِّ العَالَميْنَ وصلَّى اللَّهُ وسلَّم وبارك على عبده ونبيَّه محمد وعلى آله وصحبه أجمعين .(47/20)
بسم الله الرحمن الرحيم ?
مقدمة شرح سنن الإمام الترمذي رحمه الله
الشرح:
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين وعلى آله وصحبه أجمعين وعلى جميع من سار على نهجهم واهتدى بهديهم إلى يوم الدين أمَّا بعد :
فإن الله-تبارك وتعالى- شرَّف العِلْمَ وأهلَه ، وأكرمهم ورفع منزلتَه فالعلم أساس كل خير، ومنبع كل فضيلة يُصرَفُ الإنسان به عن الهوى والشرِّ والرذيلة ولذلك دعا-?- عباده المؤمنين أن يتفقهوا ويتعلموا أحكام الشريعة والدين ، فقال في كتابه المبين : { فَلَوْلاَ نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ ليَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ }. [ التوبة ، آية : 122] إن من رحمة الله-تبارك وتعالى- بالعبد ، وعظيم لطفه وإحسانه به-جلَّ وعلا- أن يُكرمه بعلم الحلال والحرام فالعلم رحمةٌ من الله-تبارك وتعالى- وعلم الأحكام والحلال والحرام يحتاجه الإنسان في نفسه لكى يكون على سدادٍ وهُدَىً في معاملته لربه ، وكذلك يحتاج إليه مع الناس في معاملاته معهم سواءً كانت ماليةً أو كانت غيرَ مالية فيعلم ما الذي له وما الذي عليه فما كان له أخذه وحُقَّ له أن يُطالِب به ، وما كان عليه أدَّاه على الوجه الذي يُرضى مولاه ، ولا شكَّ أنَّ علم الحلال والحرام يفتقر إلى العلم بالكتاب والسنة لكى يعلم الإنسان أمرَ الله-?- ونهيه الذي أوحاه إلى نبيه-?- والعلم بكتاب الله-?- ، والعلم بسُنَّة رسوله-?- هو النور والرحمة التى يهتدى بها الإنسان إلى صراط الله المستقيم الذي لا نجاة ولا صلاح ولا فلاح للعبد إلا به : { وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلاَ تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ}[ الأنعام ، آية : 153 ] ، ولذلك عظمَّ العلماءُ علومَ الكتاب(48/1)
والسُّنَّة ، وبيَّنوا عظيم شرفها وعظيم بلائها ، وأن إتقان علم الكتاب والسنة يكون الإنسانُ به من العلماء الذين ورثوا من رسول الله-?- الميراثَ الكريم الذي أثنى عليه رسول الله-?- وبيَّنه بقوله : (( من سلك طريقاً يلتمس فيه علماً سهَّل الله له به طريقاً إلى الجنة )) وعِلْمُ الحديثِ يُعتبر من هذه العلوم المباركة التى عظُم نفعها وجلَّ خيرُها .
وإتقانه لا شكَّ أنَّه إتقانٌ لأمرٍ عظيم يحتاجُه الأنسان لكى يعلم هَدْي رسول الله-?- بِعِلْمِ الحديث يعلم ما الذي قاله عليه الصلاة والسلام ، وما الذي فعله ، يعلم أوامره ونواهيه وآدابه وشمائله وأخلاقهصلوات الله وسلامه عليه وإذا علم ذلك اهتدى بها وطبَّقها وسار على نهجها حتى يكون من السعداء المفلحين .
عِلْمُ الحديثِ علمٌ شريفٌ كريمٌ ، فمن حفظ سُنَّة رسول الله-?- كما نطق بها عليه الصلاة والسلام ، وأدَّاها كما حفظها نضَّر اللهُ وجهه .
قال بعض العلماء : معنى قوله عليه الصلاة والسلام : (( نضَّر الله امرءاً سمع مقالتى فوعاها فحفظها وأدَّاها كما سمعها فرُبَّ مُبَلَّغ أوعى من سامِعٍ )) قالوا : قوله : (( نضَّر الله امرءاً )) أي أن وجهه يكون عليه النور في الحشر يوم القيامة ،وقال بعض العلماء : بل إنَّ الله يُنَوِّرُ وجهه في الدنيا والآخرة فأهل الحديث على وجوههم نورٌ كما أن أهل البدعة والضلالة والهوى تكون وجوههم مظلمة بالإعراض عن سُنَّةِ رسول الله-?- وهَدْيه ، ولقد حفظ الله هذا الدين بحِفْظِ سُنَّة سيِّد الأنبياء والمرسلينصلوات الله وسلامه عليه هذه السنة التى خصَّصت عموم كتاب الله-?- ، وقيَّدت مُطلقه ، وبيَّنت مُجمله ، وفسَّرت أموره فجاءت على أكمل ما يكون عليه الهدْىُ ، وأجمل ما يكون عليه السبيل ، ولذلك كلَّ من حفظ هذه السنة يكون على سدادٍ وبصيرةٍ في جميع أموره وشئونه متى ما عمل بها .(48/2)
قيَّض الله لهذه السنة من حفظها وحافظ عليها ووعاها قيَّض لها دواوين العلم من الرجال الأمناء والثقات الأكفاء الذين أحبوا سنة رسول الله-?- صدق المحبة ، أُمَّةٌ بذلت أوقاتَها وأعمارَها في خدمة هذه السُّنَّةِ الكريمة .!! الله أعلم كم تحمَّلوا من مشاق ومتاعب!! تغرَّبوا عن الأوطان وفارقوا الأهل والولدان حتى نحلت أجسادهم ، واصفرَّت ألوانهم ، ووجدوا من المشقة والعناء ، والضيقِ والبلاء ما لا يعلم قدره إلا اللهُ-?- وكان الواحدُ منهم يتعب وينصب من أجل أن يسمع حديثاً عن رسول الله-?- وإذا وجد رجلاً من أهل السُّنَّة عضَّ عليه بناجذه فسمع منه ، ولازمه ، وأحبَّه ، وأخذ عنه ، واهتدى بهديه فما زالت هذه الأمة التى حفظت حديث رسول الله-?- محفوظهً من الهوى والردى بما حفظت من هدْيِه الكريم-?- وكان لهم عظيم البلاء في الدين حتى إنهم حفظوا هذه السُّنة فبلَّغها كلُّ جيلٍ إلى مَنْ بعدَه ، وكل رعيلٍ إلى مَنْ بعدَه ، فحُفِظت سُنَّة رسول الله-?- على أكمل وأجمل ما يكون عليه الحفظ ولم يقتصر أمرهم عند ذلك بل إنهم حرصوا على معرفة الرواة الذين نقلوا حديث رسول الله-?- حفِظوا أسماءَهم ، وأنسابَهم وديارَهم ، وأحوالَهم ، وكذلك كانوا على أدقِّ ما يكون في تمييز من وقعت الشبهة في اسمه ونسبه حتى كان لهم في ذلك من البلاء ما الله به عليم ، وكلُّ مَنْ نظر في علم الرجال والجرح والتعديل أدرك عظيمَ بلائهم ، وَعَلِمَ جليل ما قدَّموا لهذه الأمة من صالح العمل مِمَّا نفع اللهُ به القرون من بعدِهم ، وكان علم الحديث علماً مميَّزاً لا يتقدم إليه كلُّ أحدٍ ، ولا يقومُ به كلُّ أحدٍ وإنمَّا يختصُّ به من عُرِف بالثقة والضبط والأمانة والعدالة والتحفظ فكانوا يُشدِّدون في النقل عن رسول الله-?- ولا يقبلون الرواية من كلِّ أحدٍ ، ولا يأخذونها من كُلِّ مُتكلِّمٍ وإنَّما اقتصروا على من عُرِف بالضبط والأمانة حتَّى عُرِفت الأحاديث وتميَّزت ،(48/3)
فكان صحيحُها وحسنُها وضعيفُها ثُمَّ قسَّموا الصحيحَ إلى مراتبه ، والحسن إلى مراتبه ، والضعيف إلى مراتبه فوضعوا بهذا الجهد وبهذا العمل العظيم كُلَّ شيءٍ في نصابه وضعوا الأمور في نصابها ، وعُرِف الصادقُ من الكاذِب ومن هو قوىُّ الضبط والحفظ ممَّن هَو دُون ذلك فكان لهم بذلك عظيمُ البلاء حتَّى اتضحت سُنَّةُ رسول الله-?- بكل وضوحٍ وجلاءٍ .
وعِلْمُ الحديث يكون فيه جانبان :
الجانب الأول : يعرفه العلماء أو يصفونه بجانب الرِّواية . والجانب الثاني : هو جانب الدِّراية .
فأمَّا علم الحديث روايةً فإنَّه يتطلب العلمَ بالرواة ، وأحوالهم ، ومَنْ هو مقبول الرواية ، ومَنْ هو مردود الرواية ، مَنْ أُجمِع على قبول روايته ، ومن اختُلِف في قبول روايته ، وكذلك من أُجِمع على ترك روايته ، ومن اختُلف في ذلك ، ثُمَّ بعد ذلك يُبحث في مُتونِ الأحاديث -وهوعلمُ الحديث دِرَاية - وما اشتملت عليه من الدِّلالات .
وهذا الكتاب الذي سندرسُه - إن شاء الله ونسأل الله بعزته وجلالِه ، وعظمتِه وكماله أن يجعله خالصاً لوجهه الكريم وأن يكتب لنا العون منه والتوفيق والسداد وأن يُلهمنا فيه الصوابَ والرَّشاد - .
هذا الكتاب ديوان من دواوين السُّنَّة وهو كتاب الإمام الحافظ أبى عيسى محمد بن عيسى بن موسى بن سَوْرة بن الضحَّاك الترمذي البُوْغىِّ ينتهي نسبُه إلى بنى سُلَيْم من قيس عَيْلان .
إمامٌ من أئمة السلف ، وديوان من دواوين السُّنَّة .
وُلد رحمه الله في أوائل القرن الثالث الهجرى ، وذكر الحافظ الذهبيُّ-رحمة الله عليه- أن مولده في حدود سنة عشرٍ ومائتين .
هذا الإمام العظيم أجمع العلماء على إمامتِه ، وعلمه وفضله وجلالتِه ، وأنه إمامٌ من أئمة هذا العلم المبارك- أعني علمَ الحديث- .(48/4)
وُلِدَ رحمه الله ولم تتحدَّث المصادر عن بيئته ونشأتِه-رحمةُ الله عليه- ، ولكن تحدَّثت عن ذلك مآثِرُه الكريمة، وأعماله الجليلة العظيمة التى خدم بها سُنَّة رسول الله-?- ، وخدم بها هذا الدين بهذا الكتاب المبارك وغيرِه من المؤلفات الجامعة النافعة ، ارتحل رحمه الله بعد أن طلب العلم في بلده- تِرْمِذ- إلى الحجاز وأخذ عن الأئمة والعلماء ، وكذلك إلى العراق ، وتنقَّل رحمه الله وأخذ عن الشيوخ ، وأجمع العلماء رحمهم الله على أنَّه يُعَدُّ من كبار الحُفَّاظِ الأئمةِ المتقنين للحديث ، ولذلك ما ترجم له أحدٌ من الأئمة إلا وصفه بالحافظ ، وكان من عادة العلماء رحمة الله عليهم أنَّهم لا يصفون بهذا اللقب في الغالب إلاَّ مَنْ حفظ ما لا يقلُّ عن مائة ألف حديثٍ عن رسول الله-?- فهذا اللقب لقبٌ عظيم وهو لقب الحفظ مع ما أُثِنىَ عليه من لقب الإمامة والفضل ، عاصر الأئمة والأجلاء ، ومن أشهر وأنبغ وأفضل من لَقِي الإمامُ العظِيمُ أبو عبدالله محمد بن إسماعيل البخارى صاحب الصحيح التقى به الترمذي وأخذ عنه واستفاد منه وفي ذلك يقول الإمام البخاريُّ رحمه الله يُبَيِّنُ لنا عظيم فضل هذا الإمام الجليل ، يقول : " ما استفدتُه منك أكثر ممَّا استفدتَه منِّي ..!!" ما استفدتُه منك وأخذتُه عنك من الفوائد أكثر ممَّا أخذته مِنِّي .. ! وهذا يدلُّ على عُلُّوِّ شأنه ، وعظيم فضله فإن الإمام البخاري رحمه الله كان لا يملأ عينه كلُّ أحدٍ كان إماماً عظيماً لا يُمكن أن يُلقى بسمعه ، ولا يمكن أن يجلس لأحدٍ ليستفيدَ منه إلا إذا كان ذاك الرجل في علمه وفضله وضبطه واتقانه ، يقول لهذا الإمام : " ما استفدتُه منك " وبعضهم يقول " ما أفدته منك " أكثر مما استفدتَ منِّي" وحدَّث بحديثين سمعهما من الإمام الترمذي ، وقال بعضُهم : ثلاثة أحاديث أخذها عن الإمام الترمذي ، وحدَّث عنه أيضاً الإمامُ الترمذي-رحمة الله عليه- .(48/5)
وأثنى عليه الأئمة ، وكان هذا الإمام -أعنى الإمام الترمذي- مشهوراً بالحفظ حتَّى إنه وقعت له حادثةٌ ذات مرَّة أنَّه كتب جُزأين من حديث شيخٍ من الشيوخ ، وأراد أن يأخذ بالسماع عن هذا الشيخ فشاء الله أنَّه في طريقه بين مكة والمدينة -أنه في طريقه إلى مكة- سمع بالشيخ أنَّه مرَّ به فذهب إليه لكي يعرض عليه هذين الجُزأين ، فلمَّا أقبل على هذا الشيخ ومعه الجُزآن وهِمَ الترمذي -وكان قد أخذ جُزأين يُشبهان الجزأين الَّلذَيْن كتبهما عن ذلك الشيخ- فجاء إلى هذا الشيخ وحدَّثه بما يرغب فيه منالسماع أعنى سماع الجُزأين -عليه فلمَّا شرع وجد أنه أخطأ في الجُزأين ، فنظر الشيخ فوجد البياض بين يدى الترمذي فقال للترمذي : أمَا تستحي .؟! أي حينما ذكر له أنه كتب الجُزأين فوجد أنه لم يصدُق -على ظاهر حالِه- وأنَّ الذي بين يديه ليست بالأجزاء التى هي له فقال الترمذي : "إني أحفظهما - يعني أحفظ الجزأين - وإن شئت أسمعتكهما فأمره أن يُسمعه الجزأين فحدَّث بالجزأين من حفظه -رحمة الله عليه- فانبهر الشيخ ، وعظُم في عينه ، وقال : ما رأيت مثَلك !! أي ما رأيتُ مثلك في الحفظ.
وهذه رحمة من الله-?- جعلها لحديث رسوله-?- ، لو نقرأ تراجم العلماء والأئمة والحُفَّاظ كأنَّك تنظر إلى شيىءٍ أشبه بالخيال .!! ولكن يعلم الله أن أخبارهم نُقلت بأمانة وحفظ ، وأنهم في هذه المنزلة ، وقد يكونوا في أكثر مِمَّا ذُكر عنهم من الحفظ والتحرِّى .
شىءٌ إلهي من الحفظ والإتقان ..!! شُعبةُ إمامٌ في الحديث يقال له : أمير المؤمنين في الحديث ، يقول عن نفسه: ما خططتُ سوداء في بيضاء ، ولا سألتُ رجلاً أن يُعيد علىَّ حديثه مرَّتين بمُجرَّد أن يتحدث الرجل يحفظ كلامه كاملاً ، ولا يمكن أن يخرم منه حرفاً واحداُ .(48/6)
القومُ كانوا أقرب ما يكونون إلى الصلاح ، وهُم أهل خير واستقامةٍ وفلاح ، غضيضهٌ عن الشرِّ أعينُهم ،ثقيلةٌ عن الباطل أرجُلهم أنضاءُ عبادةٍ وأطلاح سَهَر أئمة مُلِئت قلوبهم بحُبّ الله- ?- وحب رسول الله-?- فلا يمكن أن يُفرِّطوا في الحرف الواحد من كلام رسول الله-?- فلمَّا رأي جلالة الترمذي أثنى عليه بهذا الثناء العظيم ، وقال له : ما رأيتُ مثلك !! ثُمَّ أقبل عليه وحدَّثه بما شاء الله أن يُحدثه .
كان الإمام الترمذي في منزلةٍ عظيمةٍ من الفضل والنُّبْل والعبادة والصلاح ذكروا أنَّه وُلد بصيراً ولكنَّه فقد عينيه وكان سبب ذلك كثرةُ بكائه -رحمة الله عليه- فأُثنِى عليه في الزهد وأُثنِى عليه في العبادة والاستقامة وليس ذلك بغريب على من حفظ سُنَّة رسول الله-?- فإنَّ الغالب في الإنسان إذا حفظ كتاب الله وحفظ سُنَّة رسول الله-?- حِفْظ الواعى المتأمِّلِ المتبصِّرِ فإن الله-?- ينفعه بهذا الوحى ، ويكسر قلبه له-?- ولا يجعل الله هذا النور - في الغالب - في قلب أحدٍ إلا و يُريد به الخير، ويُريد به الرحمة والسداد .
ألَّف الإمامُ الترمذي هذا الكتاب العظيم والسِّفرَ المبارك ، فعرضه على أئمة الحديث ودواوين العلم في الحجاز،وكان الحجاز يومئذٍ- في القرن الثالث - لازال قريباً من عصور النبوة مليئاً بالعلماء والأئمة ودواوين العلم والفضل عرض كتابه عليهم فأثنوا عليه ، ثُمَّ عرضه على الأئمة في العراق فأثنوا عليه ، ثُمَّ على الأئمة في خُراسان فأثنوا عليه .
وكان يقول رحمه الله عن كتابه : ومن كان في بيته - أي هذا الكتاب - فكأنَّما في بيتهِ نبىٌّ يتكلَّم !!.
جمع اللهُ للترمذى -رحمة الله عليه- في كتابه هذا بين أمرين قلَّ أن يجتمعا في كتابٍ:
الأمر الأول : هو الرواية لحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم مع التمحيص والضبط وكشف ما بالأسانيد والآثار والأخبار من عِلَلٍ وأقوالٍ للعلماء رحمهم الله من جرْحٍ وتعديلٍ .(48/7)
وجمع له أيضاً -وهي المزية الثانية -: في كتاب الإمام الترمذي- الفقه والفهم وفقه الترمذي رحمه الله يظهر في مواضع من كتابه .
الموضع الأول : في تراجمه ، فيضع الأبواب ويُعَنْوِنُ للأحاديث فتجد عنوان الباب يطابق حديثَ رسول الله-?- مطابقةً تدلُّ على أمانته وحفظه وتحرِّيْه، وهذا العلم-علم التراجم- علمٌ دقيقٌ ، ويتضمَّن فقه الرجل وإذا كتب المحدِّث التراجم فإنَّه يقصد من ورائها أحكاماً شرعيةً ، والدلالة على رُجحان أقوالٍ في مسائل خلافية ، ولذلك قال الأئمة عن كتاب البخارى قالوا : فِقْهُ البُخاري في تراجِمِه .
فإذا قال المحدِّث : باب كذا ، فإنه يقصد من هذه الترجمة شيئاً معيناً إمَّا أن يقصد به حُكماً عامَّاً أو حُكماً خاصَّاً وقد يقصد به تقييد مُطلقٍ تقدَّم في الباب الذي قبله ، وقد يقصد به تخصيص عامٍّ ، وقد يقصد به أيضاً بيان نسخ منسوخٍ سبق ذكره أو كان في موضعٍ آخر من كُتب الحديث .(48/8)
كذلك أيضاً ظهر فقه الإمام الترمذي-رحمة الله عليه- في هذا الكتاب المبارك حينما سرد لنا مذاهب العلماء فتجده إذا انتهي من الحديث يُبيِّن من الذي يقول بهذا الحديث ، وقد يُبيِّنُ القائلين بهذا الحديث من الصحابة والتابعين وتابع التابعين ، وكذلك من الأئمة الأربعة-رحمة الله على الجميع- . لم يقف عند سرِد الأحاديث كما هو موجودٌ في بعض كتب الأحاديث ولكنه يُبين من الذي عَمِل بهذا الحديث ، وقد يُبيِّنُ من الذي ردَّه لوجودِ مُعارضٍ أرجح في نظره من هذا الحديث إمَّا دليلُ كتابٍ أو دليلُ سُنَّةٍ أو هما معاً ، فجمع رحمه الله بين علم الحديث روايةً وعلمه درايةً ، وإنك والله لتعجب إذا نظرت إلى فقه الترمذي سواءً في تراجمه ، أو إلى فقهه عند سرْده للمذاهب وسعةِ اطلاعه على أقوال الأئمة والفحول والجهابذة -رحمة الله عليهم أجمعين- فإنَّه يذكر رحمه الله في تراجمه أموراً دقيقة ، وسنُبِيِّنُ -إن شاء الله - عند ذكرنا لهذه الأبواب بعض هذه النكات اللطيفة التى تدل على عمق فهمه، فإنه في بعض التراجم لا يستطيع أن يُجاوز لفظ الحديث قليلاً ولا كثيراً.. يتقيَّدُ باللفظ الوارد عن رسول الله-?- في انتزاعه للحكم بخلاف ما يُبتلى به البعض من تعميم الحديث أكثر مما هو عليه، فقد يكون المعنى الذي دلَّ عليه الحديث مُتوقِّفاً عندحدٍّ يُجاوزه المترجِمُ بالتعميم وتوسعةِ المعنى المنتزَع من النص ولم يكن الترمذي-رحمة الله عليه- من أهل هذا بل إنه غلب عليه جانب الورع والأمانة والدقة والتحفظ .
وعند دراستنا لهذا الكتاب- إن شاء الله تعالى - سنتعرَّض لأمورٍ مهمة يحسُن التنبيه عليها ، وأكثرها وأهمُّها يتعلق بالأحكام الشرعية وهو باب الفقه .
والفقه مسائله تنقسم إلى قسمين :
القسم الأول : مسائل أجمع العلماء رحمة الله عليهم عليها .
والقسم الثانى: مسائل وقع الخلاف بينهم فيها .(48/9)
فأمَّا المسائل التى أجمعوا عليها فإنَّه لا إشكال فيها وبحثُ العلماء رحمة الله عليهم في هذه المسائل المُجَمع عليها يبحثون فقط في معنى هذه المسألة ، أو يبحثون في صورة المسألة وأمثلتها ، أو يبحثون في أدلَّتِها وكيف انتُزع حكمُها وما هو الدليل الذي دلَّ على حُكمها ، سواءً كان نقلياً أو عقلياً .
وأمَّا المسائلُ الخلافية فإنَّ الخلاف إذا تعرَّض العلماء رحمة الله عليهم يتعرَّضُون له بأوسع وأشمل ما يكون على الصورة التالية :
الصورة الأولى : تتعلَّق ببيان أقوال العلماء في المسألة فأي مسألة خلافية يحتاج من يريد أن يبحثها وأن يتكلَّم عليها أن يبحث أوَّل ما يبحث في أقوال العلماء رحمة الله عليهم في هذه المسألة .
وأقوال العلماء ينبغى أن يُرَكِّزَ عند بحثه فيها على دِقَّة النظر في فهم كلامهم ، ومُرادِ هم حينما يُبينون أقوالهم . هل يُريدون العموم أو يُريدون الخصوص ..؟ أو يُريدون الإطلاق أو التقييد..؟ حتى يستطيع أن يعرف أين محلُّ الخلاف ، ويحدد موضع النزاع بين القولين أو الأقوال المذكورة في المسألة ، أقوال العلماء تُؤخذ من الكتب المعتمدة فالخلاف تارةً يقع بين الصحابة ، وتارةً يقع بين مَنْ هُمْ منْ بعدِ الصحابة وينتشر بعد ذلك ، فإن كان الخلاف أو المسألة تكلَّم عليها الصحابة فأقوال الصحابة يمكنُك أخذُها من كتبِ تعتنى بهذه الأقوال .
وهذه الكتب تنقسم إلى قسمين :(48/10)
قسمٌ منها يعتنى ببيان أقوال الصحابة-رضوان الله عليهم- بالرواية والسَّنَد ، وهذا ما يُسمَّى بخلاف الرواية ، وهو أرفع وأدق نوعى الخلاف ، وهذه الكُتُب من أشهرها : " المُصَنَّف " لعبد الرزَّاق ، وكذلك لا بن أبى شيبة ، و" المُحَلَّى" للإمام ابن حزم الظاهريِّ-رحمة الله على الجميع- ، يذكرون أقوال الصحابة ويُسندون ، ومنها كذلك-من هذه الكتب المعتمدة- كُتُب الإمام العظيم أبوجعفر محمد بن جرير الطبرىِّ-رحمة الله عليه-فإنه يُسنِد ، خاصَّةً في كتابه :" تهذيب الآثار " .
يقول مثلاً : وهل يجوز هذا أو لا يجوز..؟ قال ابنُ عبَّاس بالجواز حدَّثني فلانٌ عن فلانٍ عن فلانٍ عن ابن عبَّاسٍ أنَّه قال كذا وكذا فهذا النوع من الخلاف عن الصحابة (الخلاف المُسنَد المروِى) هو أوثق ما يكون إن صحت الرواية به .
وأمَّا النوع الثانى من الكتب التى تعتنى بخلاف الصحابة ورُبمَّا تذكر أقوالهم فهي كتب الحكاية، تحكى أقوالهم دون ذكر للسند على سبيل الاختصار ككتاب " المجموع " للإمام النووىِّ ، وكتاب " المُغْنِيً " للإمام ابن قُدامةَ-رحمة الله على الجميع- .(48/11)
فهذه تسرد أقوال الصحابة، فيقولون : وقال قومٌ إنه يحرم ذلك ، وبه قال عُمَرُ و عُثمانُ وعلىٌّ وابن عبَّاسٍ وابن مَسْعُودٍ .. وهكذا ويذكرون الصحابة دون ذكرٍ للرواية ، وكذلك "المُغنى" للإمام ابن قُدامة فإنه يذكر أقوال الصحابة-رضوان الله عليهم- بدون رواية ، وهذا كما يقول العلماء : حكايةُ أقوال الصحابة فإذا جئت تبحث في المسألة الخلافية فإن وجدت أقوال الصحابة محكيَّة فالأفضل أن ترجع إلى المصادر التى تعتنى بالرواية عنهم حتَّى تتثبَّت من حكاية هذه الأقوال عن هؤلاء الصحابة ، ثُمَّ تُحكى الأقوال عن الأئمة الأربعة والظاهرية ولابُدَّ لطالب العلم أن يكون على إلمامٍ بالمصادر والمراجع التى تعتنى بأقوال الأئمة في المذاهب الأربعة ومذهب الظاهرية ففي كل مذهبٍ من مذاهب العلماء رحمة الله عليهم خاصةً الأربعة هناك كُتبٌ منها المختصر ومنها المُطوَّلُ ، وهذه الكتب المختصرة تعتنى ببيان أقوال الأئمة ومذاهبهم باختصار تارةً تكون بالنثر ، وتارةً تكون بالنظم والشِّعر وهي ما يُسمَّى بالمتون الفقهية .
ثُمَّ فوق المتون كتباً تسمى بالشروح تعتنى بفكِّ رموز هذه المتون ، وشرحِ غوامضها ، وبيان الأمور التى يُحتاج إلى التنبيه إليها .
ثُمَّ بعد الشروح مرتبة ثالثة أو كتبٌ تُسمَّى بالحواشى وهي تتتبَّع الشُّرَّاح فتبيِّنُ مفهموم كلامِهم وتزيل الإشكال إن كان ثَمَّ إشكال ، وكذلك أيضاً رُبَّما تَرُدُّ الاعتراض على صاحب المتن.
ثُمَّ هناك التقريرات فوق الحواشى .
هذه الكُتُب في المذاهب مُرَتَّبة على حسب الترتيب الزماني :(48/12)
في مذهب الحنفية رحمة الله عليهم : من أشهر كتبهم المعتمده كتاب : "المبسُوط " للإمام السَّرخسى وهو كتاب عظيم جمع فقه الإمام أبى حنيفة-رحمة الله عليه- ، واعتنى بالاستدلال وبيان وجه دلالة الأدلة الشرعية على مذهبه رحمه الله ، كذلك كتاب "بدائع الصنائع " للإمام الكاسانى رحمه الله فإنه يعتنى بذكر مذهب الإمام أبى حنيفة ، وبيان دليله من الكتاب والسُّنَّة وكذلك من العقل ، وكذلك هناك كتاب " فتح القدير" للإمام الكَمَال بن الهُمَام مع تكملته وكتاب "البحر الرائق في شرح كنز الدقائق " لابن نُجَيْمٍ ، مع حاشيته لابن عابدين " مِنحة الخالق ".
هذه الكتب تعتنى ببسط المذهبِ الحنفي تذكر ما الذي يذهب إليه هذا الإمام وأصحابُه ثُمَّ لماذا ذهب إلى هذا المذهب أو هذا القول ..؟ وما دليله من الكتاب والسُّنَّة ، وكذلك من العقل.؟ وقد تعتنى بمناقشة الأدلَّة والردود وإذا أراد طالب العلم أن ينظر إلى أدِلَّة الحنفية النقلية في الكتاب فليرجع إلى كتاب " أحكام القرآن " للإمام الجصَّاص ، وكذلك إذا أراد من السُّنَّة فليرجع إلى شروح الأحاديث والتى من أهمها كتاب " عُمْدة القارى " للإمام العينىِّ -رحمة الله على الجميع-.
أما مذهب الإمام مالكٍ : إمام دار الهجرة فإنَّه قد بيَّن مذهبه في كتابه " المُوَطَّأ " ثُمَّ جاءه ابن القاسم رحمه الله وأخذ عنه ، وأخذ عنه أصحابه ، ثُمَّ دوَّن ابن القاسم " المُدَوَّنة " نقلها عنه أسدُ بن الفرات ، وكذلك سُحنون وفُقِدت مُدوَّنة أسدٍ وبقيت مُدَوَّنةُ سحنون ، وفيها مسائل ذكر فيها ابن القاسم مذهب الإمام مالكٍ .
ثُمَّ انتشر مذهب الإمام مالكٍ إلى أن استقر في كتب المتأخرين التى من أهمِّها شروح مختصر خليل بن إسحاق المالكي .
من أهمِّ مراجع المالكية رحمة الله عليهم : التي تعتنى ببيان مذهبهم شروح المختصر ، ومنها " مواهب الجليل " للحطَّاب ، وكذلك " مِنَحُ الجليل " لمحمد بن عِلِّيْش .(48/13)
وهناك كتابٌ يعتبر من الكتب التى تعتنى بحسم الخلاف في مذهب المالكية وهو كتاب " حاشية محمد البُنَّانى" والتى تُوسم بقولهم : " حاشية البُنَّانى "، هذه الكتب تعتنى ببيان مذهب الإمام مالكٍ رحمه الله .
أمَّا أدِلَّتُه من الكتاب : فإنَّها تُوجد في تفسير القرطبيِّ ، وكذلك كتاب " أحكام القرآن " لابن العربىِّ المالكىِّ، وكذلك في شُروح الموطَّأ كـ "المنتقى " للباجى يعتنى بالأدِلَّة النقلية والعقلية وفي شرحىْ الإمام الحافظ ابن عبد البرِّ " التمهيد " و" الاستذكار " هذه الكتب تعتنى بأدلَّة الإمام مالكٍ ، وكذلك الردود والمناقشات في المسائل الخلافية .
وأمَّا مذهبُ الإمام الشافعىِّ رحمه الله : فإنه قد بيَّن مذهبه في كتابه " الأُمِّ " وأخذ عنه أصحابه كالبُويطى ، والمُزَنى مذهبه ودوَّنوه ، وكانت له أقوالٌ رجع عنها رحمه الله .
واستقرَّت كُتُب الشافعية عند المتأخرين :في كُتُبٍ مُهِمَّةٍ من أهمها شروح " المنهاج " للإمام النووى إذ يُعدُّ الإمام النووىُّ رحمه الله من أهمِّ علماء الشافعية وأبرزهم وأكثرهم إتقاناً وضبطاً وتحريراً لمذهبه-رحمة الله عليه- هذا الكتاب الذي هو" المنهاج " ألَّفه رحمه الله مَتناً في مذهب الإمام الشافعيِّ ، ولهذا المنهاج شروح من أوسعها وأهمِّها كتاب " نهاية المحتاج بشرح المنهاج " للإمام الرملىِّ الذي كان يُلقب بالشافعىِّ الصغير .
اعتنى ببسط مذهب الإمام الشافعىِّ ، وبيان أقوال أئمة المذهب ، والراجح من هذه الأقوال ، والخلافات ، وهو كتابٌ نفيسٌ ، وهناك كُتُبٌ أُخرى تعتني بمذهب الشافعىِّ ككتاب " روضة الطالبين " للإمام النووىِّ ، وغيره من الكتب كالشروح التى وُضعت على متن أبى شُجاع ، وكذلك كتاب " كفاية الأخيار" للحِصْنِى.. ونحوها من الكتب التى تعتني ببيان مذهب الإمام الشافعىِّ .(48/14)
أمَّا أدلته: فإنها إذا كانت من الكتاب فيُرجَع في مظانِّ الآيات إلى كتاب " أحكام القرآن " لإلِكْيَا الهرَّاسِ الطبرىِّ .
وأمَّا أدِلَّتُه من السُّنَّة فإنها توجد في شروح الأحاديث خاصَّةً لكُتُب أصحابه كالإمام الحافظ ابن حجر حيث شرح صحيح البخاري في شرحه الكريم العظيم " فتح البارى" فهذا الشرح يُعتبر من أهم شروح صحيح البخاري ، واعتنى ببيان وجه دِلالة أدلة الشافعية رحمهم الله من السُّنَّة والجواب عن الاعتراضات والإشكالات التى ترد على أدلتهم.
وأمَّا بالنسبة لمذهب الحنابلة رحمة الله عليهم : فإن كتب الحنابلة استقرت في كتبٍ مهمَّة منها كتبٌ تعتنى ببيان المذهب الذي استقرَّ عليه العمل والفتوى عند أصحابه وأنفسُها وأجمعها الكتاب العظيم الذي جمع روايات الإمام أحمد وحَسَمَ الخلاف فيها وهو كتاب "الإنصاف" للإمام المَرْدَاوِىِّ فإنَّ هذا الكتاب اختصره الإمام المرداوى من مائةٍ وخمسين كتاباً وهو كتابٌ عظيمٌ يُعتَبر من أهم المراجع في مذهب الحنابلة .
السبب في هذا أنَّ الإمام أحمد كان معروفاً بالورع والتحرِّى والضبط-رحمة الله عليه- ، وتأخَّر عن إخوانه من الأئمة فاطلع على السُّنن والأخبار والآثار ، واطلع على الأدلَّة ، فقد تجد له في المسألة ثلاثة أقوال ، وقد تجد له أربعة فتارةً يقول بالجواز ، ثُمَّ تظهر له سُنَّةٌ فيعدِل إلى الكراهة ، ثُمَّ تظهر له سُنَّةٌ فيعدل إلى التحريم فكان رحمه الله مشهوراً بالورع والدقة والتحفظ-رحمة الله عليه- ، فتتعدَّدُ عنه الروايات الأمرُالذي يصعُب معه تحديدُ مذهبه ، ولذلك قام هذا الإمام الجليل المرداوي رحمه الله بدراسة هذه الروايات وأوْجه الأصحاب وبيان الذي استقر عليه مذهبُ الإمام أبى عبدالله أحمد بن حنبل رحمه الله .(48/15)
وأمَّا الكتب التى تعتنى بالمذهب : فهناك كتبٌ مهمة منها المختصر ومنها الموسَّع فمن أهمهِّا كتاب " المُغْنِي " -وهو كاسمه - للإمام ابن قُدامة-رحمة الله عليه - ، وكذلك " الشرح الكبير" و " المُبْدِع " لابن مُفلِح ، وكتب شيخ الحنابلة وإمامهم في زمانهم الإمام منصور البُهُوتي-رحمه الله -" كشَّاف القناع عن مَتْنِ الإقناع " و " شرح مُنتهي الإيرادات " هذه الكتب تعتنى بمذهب الإمام أحمد رحمه الله .
أمَّا أدِلَّةُ الحنابلة : فإنها توجد مبسوطةً مع المناقشات والردود في كتب شيخ الإسلام ابن تيمية ، والإمامِ ابن القيِّم-رحمة الله عليهما- فإنَّهما اعتنيا ببيان الأدلَّةِ النقليةِ والعقليةِ على صحَّة قَول الإمام أحمد ، ومناقشة الأقوال المخالِفة بكل أمانةٍ وورعٍ وتحرٍّ رحمة الله عليهم على دأبهم وعادتِهم فهذه الكتب تعتنى ببيان أدَلَّتِه ، والمناقشة والردود بالنسبة للمخالفين .
وأمَّا بالنسبة للمذهب الظاهري : فإنَّ أجمعَ كتبه وأنفسها كتاب الإمام أبى محمد علىِّ بن حَزْم الظاهرى حيثُ اعتنى ببيان مذهب الظاهرية ، وبيان أدِلَّتهم ، وناقش أدلَّة المخالِفين ، وبينَّ رُجحان مذهبه ، فهذه الكتب تُعتبر من الكتب المهمة التى ينبغى لطالب العلم عند تحريره لمسألةٍخلافيةٍ أن يرجع إليها .(48/16)
ومن الأهمية بمكانٍ أن يُوصى طالب العلم إذا أراد أن يبحث مسألة خلافية أن يأخذ كل قولٍ من مصدره لا تأخذ الأقوال من الكتب المتأخرة متى ما أمكن الرجوع إلى كتبِ المتقدِّمين ، ولا تأخذ الأقوال من المراجع البديلة متى ما أمكن الرجوع إلى المصادر الأصيله ؛ ولذلك رُبَّما يكون هناك وهْمٌ عند المتأخرين في نقل الأقوال ، وعدمُ تحرٍّ ودقة في نقل هذه الأقوال وحكايتِها ولذلك ينبغى أخذ الأقوال من مصادرها ، ويُوصى طالبُ العلم أساساً دائماً في الفقه أنه ينبغى عليه الرجوع إلى كتب المتقدمين ، والتأصيل من فقه السلف رحمة الله عليهم والأئمة ما أمكن وإذا كان يُريد أن يقرأ مذهباً يعتني بدليله ولا يقتصر على أخذ الأقوال مُجرَّدةً عن أدِلَّتها ، خاصةً طالب العلم الذي لا يسوغ في حقِّ مثله أن يُقَلِّد ، إِنَّما عليه أن يرجع إلى الأقوال ويأخذها من الأئمة موثوقة بأدلتها ، ولذلك إذا وقف بين يدى الله -?- وسأله عن مُعتقَدِه في المسألة وقال إنه يعتقد الحلال أو الحرام ، وسأله الله عن حُجَّتِه ودليله كان على بينة بذكر الدليل من الكتاب والسُّنَّة أمَّا أن يأخذ الأقوال مُجرَّدة فإنَّ هذا مظنَّة العطب إذا لم يكون من أهل التقليد كعوامَّ الناس فطالب العلم ينبغى عليه أن يأخذ الأقوال بأدلَّتِها ، وأن يأخذ ما وافق منها الحقَّ، وما وافق كتابَ الله وسُنَّةَ رسولِه-?- ، قال الإمامُ أبو عبدالله محمدُ بنُ إدريسَ الشافعي : " أجمع الناسُ على أنَّه لا يحِلُّ لرجلٍ إذا استبانت له سُنَّةُ رسول الله-?- أن يدعها لقولِ أحدٍ كائناً من كان "إذا استابنت السُّنَّةُ واتضح الدليل فلا يجوز للإنسان أن يُقدِّم على قول الله وقول رسولهِ-?- بعد ذكر الأقوال في المسائل الخلافية ينتقل إلى الدليل ، ما هي أدِلَّةُ العلماء في هذه المسائل الخلافية ..؟
والأدلةُ تنقسم الى قسمين :(48/17)
إذا وقع الخلاف بين العلماء إمَّا أن يستدلُّوا بدليل نقلىٍّ ، أو يستدلُّوا بدليل عقلىٍّ .
فأمَّا الدليل النقلىُّ: فإنَّه يشملُ دليل الكتاب ، ودليل السُّنَّة ، ودليلَ الإجماع ، أمَّا كون دليل الكتاب والسُّنَّة نقلياً فلا إشكال ، وأمَّا كون الإجماع نقلياً فلأنه يُنقَل إلينا عمَّن هم قبلنا من الأئمة والعلماء رحمة الله عليهم ، فيأخذ دليل الكتاب ودليل السُّنَّة فإذا أخذ دليل الكتاب فإنه يعتنى بفهم وجه دِلالة النص فالدليل من الكتاب والسنة إذا دلَّ على المسألة إمَّا أن يدُلَّ بمنطوقه ، وإمَّا أن يدُلَّ بمفهومه ، فمنطوق النص دلالة ، ومفهومه دلالة ولكُلٍّ من المنطوق أنواع ومراتب في الدلالة وكذلك المفهوم له أنواع ومراتب ، ففي دلالة المنطوق ينظر هل هي دِلالة عامَّةٌ أو دِلالةٌ خاصَّةٌ إن كانت دِلالةً عامَّةً أبقى العامَّ على عمومه حتى يرد الدليل من الكتاب والسنة الذي يدلُّ على استثناء شىءٍ من هذا العامِّ ، وإن كانت مُطلقةً أبقاها على إطلاقها حتى يرد الدليل من الكتاب والسُّنَّة على تقييدها وعدم بقاء هذا الإطلاق على إطلاقه .
ثُمَّدِلالة المنطوق تنقسم إلى مراتب :
أعلاها وأقواها النصُّ : والنص عند العلماء : هو الذي لا يحتمل معنىً غيره كقوله-?- : {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ}[ الإخلاص ، آية : 1 ] فإنَّ قوله :{ قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} نصٌّ في الدلالة على وحدانية الله-?- لا يحتمل معنىً آخر فـ :{ أَحَدٌ} ليس لها معنىً ثانٍ ، فهي نصُّ في الدلالة على وحدانية الله-?- ؛ كذلك قوله -تعالى- : {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ }[ النور ، آية : 2] {مِائَةَ جَلْدَةٍ }نصٌّ وقوله :{ فَاجْلِدُوا} نصٌّ فإنه نصٌّ في الجلد وأن يكون مائة جلْدة فلا يحتمل معنىً ثانياً فيقول العلماء : هذه دِلالةٌ نصيَّةٌ .(48/18)
هناك نوعٌ ثان ٍ: من الدلالات أدنى من هذه الدلالة :وهي أن يتردَّد بين معنيين معنىً الذي هو ظاهر النصّ ويُسمِّيهِ العلماء الراجح ومعنىً مرجوح وهذا النوع من الدلالات يسمِّيه العلماءُ بالظاهر ، والظاهر ضبطه العلماءُ بقولهم : أن يتردَّد الدليلُ بين معنيين أحدُهما أقوى من الآخر فمثلاً : حينما يرد النصُّ في الكتاب والسُّنَّة محتملاً لمعنيين ؛ لكنَّ أحدهما أرجح من الآخر فإن الراحج يُسمَّى ظاهراً والظهور أصله الغلبة،كما قال-تعالى- : {فَأَصْبَحُوا ظَاهِرِينَ} [ الصف ، آية : 14 ] أي غالبين فالدليل من الكتاب والسنة إذا جاء بمعنىً ظاهر فإنه يجب عليك أن تعمل بالظاهر ، وأن تترك ضدَّه وهو المرجوح حتَّى يستبين رُجحانُ المرجوح والانصرافُ إليه بالتأويل .
النوع الثالث : من الدلالة التى تكون من منطوق النص : المُؤوَّل .
والتأويل هو صرف النص عن ظاهره الراجح إلى معناه المرجوح بدليلٍ من خارج النص بمعنى أن يتردَّد النص بين معنيينَ مثل ما ذكرنا في النوع الثانى أحدُهما راجحٌ والثانى مرجوحٌ فأنت تحمل النص على المرجوح بدليلٍ من الخارج .
مثلاً : (( لا وضوء لمن لم يذكر اسم الله عليه )) قوله عليه الصلاة والسلام : (( لا وضوء )) يحتمل معنيين : إمّا أن يكون لا وضوء صحيحاً لمن لم يذكر اسم الله عليه ، هذا معنى أو : لا وضوء كاملاً فيكون ذكراسم الله-?- عند الوضوء يجعل الوضوء في مرتبة الكمال فهو أحظُّ من الوضوء الذي لا يذكَرُ اسمُ الله عليه .(48/19)
فإن قُلتَ : إن قوله : (( لا وضوءَ لمن لم يذكر اسم الله عليه )) أنه يدلُّ على أنَّ الوضوء غير صحيح-وهذا هو الظاهر- فحينئذٍ يتعارض مع أدِلَّةٍ كدليل الكتاب :{ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاَةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ }[ المائدة ، آية : 6] ولم يأمر بالبسملة وقد أمر بالبسملة عند التذكية{ فَكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ ..} [ الأنعام ، آية : 118] { وَلاَ تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرْ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ} [ الأنعام ، آية : 121 ] { فَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا}[ الحج ، آية : 26] كلُّ هذا يدل على أن الوضوء لا يجب ذكر اسم الله عليه فدلَّ على أنَّ قوله : (( لا وضوء )) أنَّه لاوضوءَ كامل .
وكذلك حديث حُمْرَان مولى عثمان عن عثمان عن النبي-?- لمَّا توضَّأ وضوءَه ولم يذكر عثمانُ بسملة النبي-?- فدلَّ على أنَّ قوله : (( لا وضوء )) أي لا وضوءَ كامل ، فهذا النوع من الدلالة يُسميه العلماءُ بالتأويل فالتأويل ينقسم إلى قسمين :
القسم الأول : تأويلٌ محمودٌ .
القسم الثاني : تأويل مذمومٌ .
أمَّا التأويل المحمود فهو تفسيرُ النصِّ من الكتاب والسنة على غير ظاهره بدليلٍ يدلُّ على ذلك هذا تأويلٌ محمودٌ لأنَّ له دليلاً يدلُّ على كونه سائغاً مقبولاً .
وأمَّا التأويل المذموم فهو التلاعب بالنصوص في الكتاب والسنة وصرفها بالهوى عن دلالتها دون وجود دليلٍ يدلُّ على هذا الصرف وتفسيرُ القرآن والسنة بشىءٍ لا أصل له ، كقول بعضهم -عليه من الله ما يستحق من لعنته وعذابه- : { يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ}[ النساء ، آية : 51 ] قال : الجبت أبو بكر ، والطاغوت عمر فهذا من أسوأ أنواع التأويل التى ذكرها الأصوليون رحمهم الله يقولون : إن هذا التفسير من أسوأ وأبعد التفاسير عن كتاب الله وسُنَّة النبي-?- .(48/20)
فهذا التأويل يُسُمَّونه التأويل المذموم ، ومثل تأويل بعض المتعصبة حينما يستبين له دليلٌ ممَّن يخالفُه فيتكلَّف في الجواب عن هذا الدليل ، كقول بعضهم في حديث أبى هريرة-?- حينما في حديث المصرَّات : (( لا تُصِرُّوا الإبل ولا الغنم ..)) إلى آخر الحديث قال بعض الحنفية رحمهم الله قالوا : إن هذا الحديث مُعَارِضٌ للأصول ، فلا نعمل به ..!! فهذا تأويل الحديث وصرفه بدون نص وعدم العمل به بدون حُجَّة يُعتبر ضرباً-نسأل الله العافية من الزيغ-قال بعض العلماء : لا آمَنْ على عبدٍ يرُدُّ شيئاً من سُنَّةِ النبي-?- أن تُصيبه فتنةٌ ؛ لأن الله-?- يقول : { فَلْيَحْذَرْ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ }[ النور ، آية : 63 ] .
جاء رجلٌ إلى الإمام مالكٍ رحمه الله وقال :" يا أبا عبدالله إنى أُريدُ أن أُهلَّ بالنُّسُك يعنى بالحج أوالعمرة-من مسجد رسول الله-?- أريد أن أُهلَّ بالنسك من المسجد؟! والنبي-?- أهلَّ من الميقات ، فقال له الإمام مالكٌ: لا تفعل . فقال :ولِمَ !!-يرحمك الله-..؟! قال : "إنى أخاف عليك الفتنة إن الله-?-يقول : { فَلْيَحْذَرْ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ }(1)وقد أهلَّ رسول الله -?- من الميقات ما أنت بخيرٍ من رسول الله-?- .
فالرجل الذي يستبين له الدليل من الكتاب والسنة لا يجوز أنْ يتأوَّله ويصرفه ويتكلَّف في الطعن في هذا الدليل وردِّه بدون دليلٍ وحُجَّةٍ .
إذا تبيَّن هذا بعد نصوص الكتاب والسُّنَّة بالنسبة لأدلة السنة في المسائل الخلافية .
فينبغى على طالب العلم أن يتنبه إلى جانبين في الدليل :(48/21)
الجانب الأول : في السَّند، فالأحاديث يبحث في أسانيدها هل هي صحيحة أو ضعيفة...؟ وإذا كانت صحيحة هل هو متفقٌ على صحتها أو مُختلَف في تصحيحها..؟ وهكذا بالنسبة للضعيف يبحث فلرُبَّما يكون ضعيفاً يقوى بغيره من الشواهد كأن يكون قابلاً للاعتبار والشواهد فمثل هذا يتعين على طالب العلم الذي يُريد أن يصل إلى الحق في المسائل الخلافية ..يبحث عن السَّنَد ولا يحتج بالأحاديث دون نظرٍ في صحتها وضعفها ، فرُبَّما يكون الحديث ضعيفاً لا يصلح للاحتجاج ، ولا تصحُّ نسبته إلى رسول الله-?- فينبغى على طالب العلم عند بحثه للمسائل التى فيها أحاديث عن رسول الله -?- أن يتوخى الصحة والثبوت عن النبي-?- ، ولذلك قال عليه الصلاة والسلام : (( من حدَّث عنى حديثاً يرى أنه كذبٌ فهو أحد الكذَّابِيْنَ )) وفي رواية : (( الكاذبين )) فلهذا لا يجوز للإنسان أن يروى حديثاً عن رسول الله-?- وهو يعلم أنه ضعيف ما لم يُبيِّن ضعفه .
وكذلك لا ينبغى لمسلم أن يحكى حديثاً عن رسول الله-?- دون أن يتأكد من أنه حديثٌ قاله عليه الصلاة والسلام كما قال بعض الفضلاء :
وَلاَ يَقُوْلُ مُسْلِمٌ قَالَ النبي *******************بِلاَ رِوَايَةٍ لخَوْفِ الْكَذِبِ
فإن الإنسان الذي يحمل الأحاديث ويتلقاها من كل من هبَّ ودبَّ دون تحرٍّ ورجوع إلى العلماء لا يأمن أن يكون ممن ينقل الحديث المكذوب عن رسول الله-?- فيبوء بذلك الإثم .(48/22)
ينبغى عرض الأحاديث على العلماء والأجلاَّء ومعرفة هل هي صحيحة عن رسول الله-?- أو ليست بصحيحة ، وينبغى على العلماء والأئمة والمُفتين والخطباء والوعاظ والقصاصين والمُوَجِّهين والمُرَبِّين إذا أرادوا أن يُحدِّثُوا عن رسول الله-?- وأن يقفوا أمام الناس ليعظوهم ويحاضروهم أن يتوخوا الأمانةوالدقة والتحرى ، خاصةً في مجامع الناس، خاصةً إذا كان الإنسان يُوثق بعلمهِ ودينِه وأمانته فلا يُحدِّثْ عن رسول الله-?- إلا بتحرٍّ وضبط حتَّى لا يبوء بإثم نقل الأحاديث المكذوبة عن رسول الله-?- ، وقد كفانا العلماء رحمة الله عليهم كفونا المؤونة ، وهذه كتبهم زاخرة ببيان أحاديث رسول الله-?- إذا كُنتَ تُريد أحاديث الوعظ وجدَت أبوابها مُصَّنفة مُرَتَّبة إن جئتَ تبحث عن الحديث في أبواب المناسبة وجدت كتباً تعتنى بوضعه في الأبواب المُناسبة إن جئت تبحث بألفاظه وجدتها مُفهرسة بالألفاظ إن جئت تبحث في الرجال فيمن يُقال إنَّه روى الحديث من الصحابة وجدتَها مُفهرسةً بأسماء الرواة مسنده إليهم-فرحمة الله عليهم وجزاهم عنا وعن الإسلام والمسلمين خير ما جزى عالماً عن علمه- .
والله كُلَّما نظر الإنسان إلى فضل هؤلاء الأئمة -أئمة الحديث في الجرح والتعديل- لا تملك عينُه أن تذرِف من الخشوع من عظمة ما وهب الله هؤلاء القوم من الخير والتوفيق والسداد والذبِّ عن سُنَّة رسول الله-?- ، فلذلك ينبغى الرجوع إلى مثل هذه الكتب ودائماً إذا سمعت حديثاً تحرَّ عنه ولا تُحدثْ به إلا وأنت مُتَحرٍّ مالم يكن الذي تُحدث عنه شيخاً أو عالماً معروفاًبالضبط والثقة والأمانة والتحفظ ، فلا يُحدِّثُ بأحاديث مكذوبة عن رسول الله-?- فحينئذٍ لا إشكال .
أمّا بالنسبة للأدلَّة العقلية : فهناك أدلَّة عقلية يُستدلُّ بها من أشهرها وأهمِّها دليل القياس .(48/23)
أولاً مسلك العقل قد يرد عليه إشكالٌ وهو أن الشريعة كاملة ، والله-?- يقول :{ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمْ الإِسْلاَمَ دِيناً}[ المائدة ، آية : 3 ] فالشريعة كاملة.
ولذلك قد يقول قائلٌ: كيف يكون العقلُ دليلاً ..؟!
والجواب: عن هذا أن الرأي الذي ورد ذمُّه في كتاب الله-?- كقوله-سبحانه- : {إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الأَنْفُسُ }[ النجم ، آية : 23 ] ونحوها من الآيات التى تذمُّ الرأي .
والرأي من حيث هو ينقسم إلى قسمين :
القسم الأول : الرأي المنتزع من النصوص .
القسم الثاني : والرأي الذي لا يُنتزع من النصوص ويكون بمحض الهوى .
قد يقول قائل : ما دليلُك على أنَّ الرأي ينقسم إلى مُنتزع من النصوص ، وما ليس بمُنتزع منها ..؟
دليلنا حديث رسول الله-?- : (( إذا اجتهد الحاكم فأصاب كان له أجران. وإذا اجتهد فأخطأ كان له أجرٌ واحدٌ )) فدلَّ على أنَّ الرأي والاجتهاد تارةً يكون صواباً وتارةً يكون خطأً ، وأن الفقيه إذا بذل وُسعه وجُهدَه فإنه لا ملامة عليه يقول الإمام الحسن البصريُّ : " لولا آيةٌ في كتاب الله لأشفقتُ على المجتهدين" أي لقلتُ إن المجتهدين الذين يجتهدون بآرائهم في فهم النصوص بناءً على الرأي المبنى على النصوص الشرعية لهلكوا .
قيل : وما هي ..؟ قال : قولُه-تعالى- :{فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ وَكُلاَّ آتَيْنَا حُكْماً وَعِلْماً}[ الأنبياء ، آية : 79 ] .(48/24)
وجه الدلالة أن الله-?- قال : {فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ } ثُمَّ أثنى على كلا الفهمين على داود وعلى سليمان ، وذلك أنَّ أصل القصة التى ذُكرت فيها هذه الآية الكريمة أنَّ رجلاً كانت له غنم ، فنفشت في الليل رعت في الليل فنزلت على بُستان رجل فأتلفت هذا البُستان فاختصموا إلى نبىِّ الله داود فنظر داود فإذا بالزرع قيمته تساوى قيمة الغنم فقال لصاحب الزرع : دونك الغنم فخُذها .
هذا الحكم من داود لو تأمَّلْتَه لوجدته صحيحاً كأنَّه نظر إلى أن الغنم حينما رعَتْ في أرض هذا الرجل وأفسدتها صار صاحب الزرع يسأل صاحب الغنم بحقِّ مالىٍّ هو قدرُ هذا الزرع فإذا كان له عنده حقٌّ نظر إلى قيمة الغنم فإذا هي تساوى هذا الحق فقضى أن الغنم لصاحب الزرع هذا حُكْم داود .
فلمَّا خرجوا سألهم سليمان قال : لو كان الأمرُ إلىَّ لحكمتُ بغير هذا ثم بيَّن قال : أقضىأن على صاحب الغنم أن يأخذ الزرع فيُصلحَه ، وصاحب الزرع يأخذالغنم فينتفع بحليبها وصوفها وما يكون منها من خيرٍ حتى يعود إليه زرعه فترجع الغنم إلى صاحبها والزرع إلى صاحبه.
فأثنى اللهُ على هذا الحكم لماذا..؟ لأنه يُراعى الأصل فالأصل أنَّ الغنم مِلكها لصاحبها ولا تُنتزع إلا بالرضا ومن هُنا كانت دقة الفهم وهذا ما يُسمى بالرجوع إلى الأصل .(48/25)
فسُليمان-عليه السلام- رجع إلى الأصل ، وداودُ قضى بحكمٍ اجتهادىٍّ صحيحٍ ما ظلم أحدهما لا ظلم صاحب الأرض ولا ظلم صاحب الغنم ؛ ولكنَّ سليمان-عليه السلام- لمَّا نظر إلى الأصل من ثبوت اليد على الغنم وعلى الزرع أعطى كُلَّ ذى يدٍ حقه ، وردَّ المظلمة عن حالها ولذلك قال الله :{فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ} فأثنى على اجتهاد سليمان ، ولذلك الاجتهاد إذا كان مُنتزَعاً من الأدلَّة وفهماً أعطاه الله-?- ؛ لأنه لابُدَّ أن نفهم الأدلَّة ، والدليل على أننا نفهم قوله-تعالى-:{لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ } [ النساء ، آية : 83 ] فقال : يستنبطونه منهم لم يكتفِ بكون النص في الكتاب والسنة معناه أن نصوص الكتاب والسنة تحتاج إلى استنباط.. تحتاج إلى دقة في الفهم والتحرِّى والضبط ، حتى يستطيع الإنسان أن يفقه عن الله ورسوله .
أيضاً دلَّت السنة على اعتبار الرأي المستند إلى الشرع والفهم المبنىِّ على الشرع ، وذلك في قوله عليه الصلاة والسلام : (( من يُردِ اللهُ به خيراً يُفقهه في الدين )) والتفعيل في (( يفقهه )) "زيادة المبنى يدل على زيادة المعنى"أي يزيده فهماً للنصوص حتى يفهم ويعى ويعقل عن الله ورسوله-?- ، فالأدلة العقلية المعتبرة كالقياس مثلاً .
القياس : إلحاق المسكوت عنه بالمنطوق به ، فمثلاً لو قلنا لا نقيس ولا قياس ، فإن النوازل تتجدد والحوادث تطرأ ، والمسائل لا تنتهي .(48/26)
مثلاً الآن : المخدرات لم تكن موجودة على عهد رسول الله-?- فحينما نقول : المخدرات مُحرَّمة ، فالمخُدرُ كالخمر بجامع الإسكار في كُلٍّ منهما فإنك إذا جئت تنظر إلى أن الشرع حرَّم الخمر وعاقب شاربها ولعن بائعها ومشتريها وعاصرها ومُعتصرها وحاملها والمحمولة إليه وساقيها وشاربها.. هذا الوعيد كله من أجل إفساد العقول ، تنظر إلى المخدرات فتجد أن المعنى الذي من أجله نُهي عن الخمر وعُوقب عليها موجودٌ في المخدرات كما هو موجودٌ في المُسكِرات وكما يقول شيخ الإسلام رحمه الله : بل أشدُّ وأسوأ ، فإن في الحشيشة ما ليس في الخمر وهي أشد من الخمر كما يقول شيخ الإسلام رحمه الله من وجوهٍ ، والخمر أشدُّ منها من وُجوه .
فأنت إذا تأمَّلتَ المخدرات ليس فيها نصٌّ يبينُ حكمها بذاتها ، ولكن إذا نظرت إلى المعنى تقول : إن غيرَها آخذٌ حُكمَها .
والقياس والنظر لابُدَّ منه القياس المبنى على أصولٍ صحيحة ولا يكون في مقابل النص من الكتاب والسنة والإجماع فإنه قياسٌ معتبر ، ولذلك كتب عمر بن الخطاب-?-إلى أبى مُوسى الأشعرى كتابه العظيم الذي بيَّن له منهج الاستدلال وطريقه الاستدلال في القضاء فقال له : اعرفُ الأشباه ثُمَّ قِسْ الأمور بنظائرها .
والقياس حُجَّة .. هذا الدليل العقلي حُجَّة والكتاب يدل على اعتباره ، وكذلك السنة لكن دليلُ السنة أقوى فإن النبي-?- جاءته امرأة وقالت : يا رسول الله إنَّ أُمِّى ماتت وعليها صوم نذرٍ أفأقضيه عنها ..؟ فقال عليه الصلاة والسلام : (( أرأيتِ لو كان على أُمِّكِ دَيْنٌ أكُنتِ قاضيته ..؟ قالت : نعم ، قال : (( فدَيْن الله أحقُّ أن يُقضى )) إذا تأملت هذا الحديث وجدت رسول الله-?- يقيس حقَّ الله في صيام النذر على حق المخلوق الذي هو الدَّين فكأنه يقول : يجب قضاء صوم النذر عن الميت كما يجب قضاء دَيْنه بجامع انشغال ذِمَّته بالحق في كُلٍّ هذا هو عَيْنُ القياس .(48/27)
كذلكَ دلت السُّنَّة على اعتبار القياس حُجَّة قالوا :" يا رسول الله أيأتى أحدُنا شهوته ويكون له بها أجر ..؟!!" قال عليه الصلاة والسلام : (( أرأيتم لو وضعها في الحرام ، أكان عليه وزر..؟ )) هذا قياس وهو قياسُ العكسِ فكما أنَّه يُعاقب على فعل شهوته في الحرام ، كذلك يُثاب على وضعها في الحلال .
جاء رجلٌ إلى رسول الله-?- وذكر له أن امرأته ولدت غُلاماً على غير لونه فقال- عليه الصلاة والسلام - : (( هل لك من إبلٍ ..؟ قال : نعم . قال : ما لونها ..؟" فذكر ألوانها ، قال : هل فيها من أورق ..؟، قال : نعم . إن فيها لوُرْقاً . قال : مِنْ أين..؟ لونها ليس بأورق ، فقال : لعلها نزعها عِرْق فقال : وهذا لعلَّه نزعه عرقٌ )).
انظر.. هذا حكمٌ شرعىُّ في الأنكحة.فالأول أحكام في العبادات: الصوم ، والحجّ أيضاً في قصة الخثعمية . كذلك أيضاً بالنسبة للنكاح هُنا يدرأ النبي-?- الشُّبْهة عن المرأة وذلك باحتمال أن يكون نَزَعَ العِرْق بالنسبة لجدِّها أوجدِّ الرجل الذي هو الزوج ، كما أنه يقع في الدوابِّ كذلك يقع في الآدميين .
هذا نوعٌ من القياس والأدلة على حُجيَّة القياس بسطها الإمام ابن القيم رحمه الله في مبحثٍ جيدٍ ينبغى لطالب العلم أن يرجع إليه في كتابه النفيس : " أعلام المُوَقعين " ذكر فيه ما لا يقلَّ عن مائة صفحة في حُجِّية القياس والكلام على شرحه لأثر أبى موسى الأشعرى في كتاب عمر بن الخطاب له .
بعد بيان الأدلة النقلية والعقلية ينتقل طالب العلم إلى الترجيح والترجيح يحتاج من طالب العلم أن يعرف القول الذي هو أقوى دليلاً من جهة النقل ، وأقوى دليلاً من جهة العقل ثُمَّ بعد ذلك يُرجِّح بموازين فينظر إلى دِلالة الأدلة.(48/28)
فمثلاً إذا كان أمامه نصان : حديثٌ و حديثٌ ، فينظر إلى سند الحديثين فإن كان أحدهما صحيحاً والثانى ضعيف قدَّم الصحيح على الضعيف ، ورجَّح القول الذي يستند إلى حديثٍ صحيح وردَّ القول الذي يستند إلى الحديث الضعيف ، لو كان أحد القولين حديثه حديثٌ صحيح ، والثاني حديثه حسن فيُقدَّم مَنْ احتجاجه بالصحيح على من احتجاجه بالحسن .
لو كان أحد القولين حديثُه صحيح والآخر حديثه صحيحٌ ، ولكن الأول صحيحٌ لذاته والثاني صحيحٌ لغيره قدَّم الصحيح لذاته على الصحيح لغيره والحسن لذاته على الحسن لغيره .
ولذلك يقول العلماء رحمهم الله من أئمة الحديث يقولون : فائدة تقسيم الحديث إلى صحيح وحسن وضعيف ، وتقسيم الحديث الصحيح إلى صحيح لذاته وصحيحٍ لغيره ، والحسن إلى حسنٍ لذاته وحسنٍ لغيره إنَّما هو معرفة القوىِّ المعتبر عند التعارض يعنى هذا التقسيم من أجل تقديم الأقوى على ما دونه عند التعارض ثّمَّ تُرجِّح من جهة الدلالة فالمنطوق يُقدَّم على المفهوم ؛ كذلك أيضاً النصُّ يُقدَّم على الظاهر .. وقِسْ على هذا.
ثُمَّ لو وجدت دليل القول الأول عامَّاً ودليل القول الثانى خاصاً فإنك تُقدِّم القول الثاني على القول الأول لأنه لا تعاُرضَ بين عامٍ وخاصٍ ، ولو وجدت دليل القول الأول مُطلقاً ودليل القول الثاني مقيَّداً فإنك تُقدم القول الذي يستند على المقيَّد على القول الذي يستند على الإطلاق .. وقِسْ على هذا .
فالمقصود أنَّه إذا رجَّح طالبُ العلمِ فينبغى أن يُرجِّح بدليلٍ وبحُجَّةٍ حتَّى يَستبين له القول الذي هو أقعد وأقرب للصواب بإذن الله-?- .(48/29)
بالنسبة لهذا الكتاب فكتاب الترمذي في الحقيقة يشتمل على رُواةٍ ورجالٍ منهم من هو ثِقةٌ لا كلام فيه، ومنهم من هو دون ذلك في التوثيق ، ومنهم من هو ضعيف والضعيف منهم من اختُلِف في ضعفه فالكلام على الرجال سيأخذ وقتاً طويلاً ، ولذلك إذا كان الترمذي صحَّح أو أثبت الحديث وحكم باعتباره فإننا نعتبر تصحيحه وتحسينه نعتبر تصحيح الترمذي وتحسينه ؛ لأنَّه منهج الأئمة والعلماء والأجِلاء ، إلا في أحوال نادرة نبَّه العلماءُ عليها خاصَّةً إذا انفرد ، أمَّا هذا الإمام فالمحفوظ عند الأئمة والعلماء والأجِلاَّء والذي نعرفه من مناهج الأئمة رحمة الله عليهم في كتبهم من فقهاء ومُحدِّثِين أن الترمذي حُجَّةِ ، ولذلك اقرأ في كتب العلماء تجدهم-حتَّى إن كانوا من المحدِّثين- يذكرون الحديث ويقولون : وصحَّحه الترمذي .
هذا الإمام الحافظ ابن حجر إمامٌ وديوان في الجرح والتعديل يأتى في بلوغ المرام ويقول : رواه الترمذي وصحَّحه .. رواه الترمذي وحسَّنه .. رواه الترمذي وضعَّفه فكانوا يعتبرون تصحيحه وتحسينه وتضعيفه .
وليُعْلَمْ أن الترمذي إمامٌ مجتهدٌ في الجرح والتعديل ، وليس كأمثالنا وخاصةً في هذا العصر فإن كُلَّ من جاء في مثل هذه العصور يُعتبر مُقَلِّداً لأنه يأخذ عن كُتُب العلماء رحمهم الله كلامهم في الرُّواة ، وهذا لا شكَّ أنه تقليد ،ولكن كون الترمذي والإمام البخارىِّ وأبى داود وغيرهم رحمة الله عليهم من الأجلاء يعرفون ويستندون إلى الجرح إلى معرفتهم ، فهذا أشبه ما يكون بالاجتهاد ، ولذلك لا شكَّ أن الترمذي إمامٌ يُعتبر تصحيحُه وتحسينُه وتضعيفُه ؛ لكنْ في أحوالٍ نادرة-كما ذكرنا- إذا انفرد فيحتاج إلى بعض التمحيص .
أما ما نشأ عندبعض طلاب العلم المتأخرين من تحقير الترمذي ، والاستهانه به ، وعدم الاعتداد بتصحيحه فهذا أمرٌ ينبغى التنبيه عليه ، وتحذيرُ طُلاَّب العلم من المساس بحُرمةِ هذا العالم العظيم .(48/30)
ونُنبِّهُ على قاعدةٍ عامَّةٍ : وهي احترام العلماء والأئمة ودواوين العلم ، ومعرفة قدرهم ، وإنزالهم منازلهم .
انظر إلى شيخ الإسلام تجده يقول : وهذا الحديث صحَّحه أئمة الحديث كالترمذي وفلان وفلان .. ويذكرون الأئمة وتجد أئمة الفقه كالإمام ابن قُدامة رحمه الله وغيرهم من الأئمة يعتبرون تصحيحه ، والإمام النووىُّ ينقل في مجموعه ويقول : حسَّنه الترمذي وصحَّحه .
وانظر في شروح العلماء رحمة الله عليهم ودواوينِ العلم تجدهم يذكرون تصحيحاتِه-رحمة الله عليه- وتحسيناته، أمَّا الذي انفرد به من بعض التحسينات التى عُدَّ فيها مُتساهِلاً-رحمة الله عليه- ، -فهذه سنُنَبِّه عليها إن شاء الله في مواضعها - وهي لا تُنْزل من قدر الرجل ولا تغمطه حقَّه ، وينبغى على طُلاَّب العلم أن يتنبهوا لهذا الأمر ، لقد تقرحت القلوب وتألمَّت والله - حينما سمعتُ بعض طُلاَّب العلم يذكر هذا الإمام بشيءٍ من الاحتقار والاستهانة ، فيقول : مثله لا يُشتغل بتصحيحه وتحسينه .!! وبعضهم يقول: لا تغترَّ بتضعيفه..!!
وهذه آفةٌ موجودةٌ الآن ، فتجده يقول : أمَّا الدار قُطنى والإمام الترمذي وغيرهم من الأئمة والأجلاَّء فهؤلاء غير مُعدودٍ بهم ولا محسوبون !! وهذا تهوُّر-نسأل الله السلامة والعافية - وغمطٌ لهؤلاء الأئمةِ والأجلاَّء الذين أطبق العُلماء رحمة الله عليهم على فضلهم وعُلُوِّ شأنهم في هذا الَعِلم فينبغى التأدُّبُ معهم .
إذا كان الإمامُ البخاري رحمه الله يستفيدُ من هذا العالِم الجليل والإمام العظيم ، ويُثنى عليه ، ويُجلُّه ، ويُعظِّمُه فخليقٌ بأمثالنا أن نسير على هذا النهج الذي سار عليه الأئمَّة ولا نُريد من طُلاَّب العلم أن يحتقروا الأئمة ، واللهِ لو أنَّنا نقرأ الكتب ولا نخرج منها إلا بما فيها من أحكامٍ ثُمَّ باحترام السَّلفِ وتقدير الأئمة لكفى بذلك خيراً .(48/31)
الأدب مع العلماءِ والأجلاَّء وتوقيرُهم وتقديرهم أمرٌ مطلوب ، وينبغي على طلاب العلم فيما بينهم أن يُحْيُوا هذا في النفوس ، ولا يرضوا من أحدٍ أن يمسَّ كرامة العلماء رحمة الله عليهم مهما كان هذا الرُّجَل إذا جاء يُصحِّح أو يضعِّف ويمسُّ بحُرمةِ العلماء وينتقصهم ويثلبهم وكأنَّه يقول : لا تغتر بأحدٍ إلا بى ..!! فهذا أمرٌ ينبغى الحذرُ منه ، ينبغى علينا أن نُجِلَّ العلماء ونُقدِّرَهم ونحفظ كرامتَهم ما أخطأوا فيه نُبيِّنُه ونقول : إن هذا الحديث يُستدرَك عليه كذا .
انظُرْ إلى الحافظ ابن حجر في علمه-رحمةُ الله عليه- تجده يقول : وهذا الحديث صحَّحهُ فلانٌ، لكِنْ يُشْكِلُ عليه كذا وكذا .. ما قال : وهذا من تساهُلِه ..!! وهذا لا تغترَّ به فإنه يفعل ..!! هذا لا ينبغى هذا ليس من شأن الأئمة ، وما كان أئمة العلم يفعلون هذا ؛ إنَّما كانوا يُجلُّون العلماءَ ويُقدِّروُنهم واقرأ في كُتُب العلماء رحمة الله عليهم لا تجد من يقول لك:لا تغتر به.. ولا تُعوِّلْ عليه .. ولا ..!! إلا عند المتأخرين وهذه آفة موجودة عند بعض طُلاَّب العلم الذين لا يَقْدرُون العلماءَ قدْرَهم قُلتُ هذا حينما جاءنى طالبُ عِلمٍ .. طُويلبُ عِلمٍ في بداية طلبه للعلم جاءنى وقال - وهو على بداية هدايته والتزامه- يقول : دخل علىَّ طالبُ علمٍ فقال لى : فُلانٌ لا يُعتدُّ بجرحِه ولا تعديلِه .!!واللهِ إِنَّهُ إمام من أئمة الجرح والتعديل قُلْتُ : سُبْحانَ الله .!! هذا إنسانٌ شابٌ في بداية هدايته ما وجدنا من شىءٍ نُعلِّمُه ونفيده ونُتحفُه به إلا جرحَ الأئمة ؟!! وهَبْ أنَّ هذا العالِم يُخطىءُ في تصحيحه وتضعيفه فليس هذا موضعَ أن تذكُر أنَّه يُخطىءُ موضع ذلك عند الحديث الذي أخطأ فيه أو عند الحاجة كأن تُنَبِّه على منهجه.. نعم .(48/32)
أمَّا أن نتخذ ذلك أسلوباً لجرح الأئمة وثلبهم وانتقاصهم فهذا لا يليق هذا لا يليق : {لاَ يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنْ الْقَوْلِ إِلاَّ مَنْ ظُلِمَ}[ النساء ، آية : 148] هذا يليق عند الحاجة إذا احتجْنا إلى التنبيه على خطأ إمامٍ نُبيِّنُ ونوضِّحُ أنَّه أخطأ في هذا الأمر ، لا أن نمسَّ كرامتَه ونستنزِله خاصَّةً أئمة الحديث وأهل السنة ودواوين العلم ننزع الثقة من أمثال الأئمة كالإمام الدارقطنى وجهابذة العلم والمُحَرِّرين والمحقِّقين الذين خدموا هذا العلم ، الدارقطنى رحمه الله لو تنظر حينما يأتى إلى الرَّجُل لا يحكم على الرجُلٍٍ حتَّى يتتبع مروياتِه ليس كمثلِنا اليوم مثلاً نذهب إلى " تهذيب التهذيب " ونأخذ منه صفوة الأقوال .. لا الإمام الدارقطنى يطَّلِع على كلام العلماء في الرجل حتَّى لو قبل التحسين يذهب وينظر إلى مروياته ، ويتتَّبع مروياتِه فلعلَّ أن تكون فيها شواذُّ وأمورٌ غريبة فيُضرِب عن تحسينه وهذا أمرٌ ينبغى التنبه له .. نَعَمْ ..عند بعض الأئمة تساهُلٌ ، وعند بعضهم أخطاءٌ ينَبِّهُ عليها ، ويُنَبَّه عليها الأئمة والعلماء عند الحاجة أمَّا أن نتخِذَّ التشهير من الطعن في الترمذي ، والطعن في الحاكم ، والكلامِ في زيدٍ وعمرٍو ، والإمامِ المنُذرِيِّ ، وغيرهم من الأئمة رحمة الله عليهم نتخذ هذا دَيْدَناً ونتفكَّه بذلك في المجاِلس فهذا لا ينبغى لطُلاَّب العلم ، ينبغى أن نُحيى في المجالس حُبَّ أهل الحديث ، وحُبَّ أهل السُّنَّة واحترامهم وتقديرهم وإجلالهم ، ونذكر بلاءَهم في الدين ، وما قدَّموا للأمَّة حتى يُترحَّمَ عليهم وهذه من محاسن الموتى التى أُمرنا بذكرها ، - أسأل الله العظيم أن يعصمنا من الزلل ، في القول والعمل - .
وآخر دعوانا أن الحمدُ للَّهِ رَبِّ العالمين وصلَّى اللهُ وسلَّم وبارَك على نبيِّه وآله وصحبِه أجمعين.
????????? الأسئلة ?????????
السؤال الأول :(48/33)
هل من كلمة توجيهه في كتابة الأسئلة ؟
الجواب :
بسم الله الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله ، وعلى آله وصحبه ومن والاه أمَّا بعد :
في الحقيقة المجلس عامٌّ هُنَاك-ما شاء اللَّهُ لا قوةَ إلا بالله- من هُم من أهل العلم ، وهُناك من العَوامِّ ، وكلٌّ له حقٌّ ، فبالنسبة للأسئلة التى تتعلق بالحديث الذي سنذكره ينبغى أن تكون لها الأولوية. وإذا أشكل على طالب العلم أمرٌ في الحديث أو شرحِه فإنَّه يذكرُه .
ثانياً : إذا عُرِض عليك الحديثُ فالأفضل قبل أن تجلس في مجلس العلم أن تُهَيِّىءَ الأسئلة في ذهنك وتقرأ الحديث مرَّةً ومرَّتين وثلاثاً ، وتجعل عندك إشكالات تكون هذه الإشكالات مُرَتبةً في ذهنك وحبَّذا لو تكتب الأسئلة قبل حضورك للدرس وتكون جاهزة ، ثّمَّ إذا جلست فإن وجدت جوابها سحبت كل سؤالٍ أو أزلته من ذهنك إذا زال إشكالُه ، وأمَّا إذا بقى تكون محتفظاً بهذا السؤال حتَّى يمكن الإجابة عنه .
هذا بالنسبة للأسئلة التى تتعلَّق بالدرس يُرَكَّز على الأسئلة المفيدة التى تكون إشكالاتٍ في محلِّها ، وإيراداتٍ في موضعها ويُقدَّم الأهمُّ فالأهمّ .
كذلك أيضاً هُناك جوانب أُخرى التى هي تطبيقٌ للحديث فالأسئلة إمَّا أن تكون عن الحديث ، أو تطبيقٍ للحديث فهناك أمورٌ جديدةٌ تطرأ تُعتبر من تطبيقات الأحاديث ، والأسئلة عن مثل هذه الأمور طيِّبةٌ لأنَّه رُبَّما أثناء الشرح لم يُستوفَ هذا الجانب فيكون طالب علم عنده عقليةٌ ناضجةٌ ، وفِكرٌ فاهمٌ ثاقبٌ يستطيع من خلاله أن يستجمع بعضَ الصُّور المعاصرة ، ويسأل كيفية تطبيق حُكم الحديث عليها .(48/34)
مثلاً : أنت سمعتَ عن سُنَّةٍ مثلاً في الوضوء الوضوء في القديم قد يكون عن طريق الأباريق والأواني ؛ لكن الآن مثلاً الوضوء عن طريق الصنبور فكيف يكون فِعلُ بعض السُّنَنِ وتعاطيها ..؟ فهذه أمورٌ تكون تطبيقية خاصَّةً في أمور المعاملات كالبيوع ونحوها تحتاج إلى ذِكرِ النوازل والمسائل الجديدة التى جدَّت وطرأت .. كيف يُطبَّقُ الحديث عليها..؟ هذه من أفضل الأسئلة لأنَّها تُكمِّلُ النقص الموجود في الشرح وخاصةً إذا كان الذي يسألُ عنها يُحدِّد نقاط الإشكال بتركيزٍ هذا بالنسبة للأسئلة التى في موضوع الدرس .
والأسئلة الخارجة عن الدرس لها أهمية ولها مكانها وتُعتبرُ في بعض الأحيان قد تكون الأسئلة التى تتعلق بالدرس قبل الوقت ، بمعنى أن الإنسان يسأل ويستعجل في السؤال ، فبعض طُلاَّب العلم يكتب السؤال ولا ينتظر الانتهاء من الشرح فرُبَّما كان جواب سؤاله في آخر الدرس ولذلك لا ينبغى الاستعجال في كتابة السؤال وإنما يكون عنده مِرْسامٌ وتكون ورقة خارجية يُعلِّقَ عن سؤالٍ ما ، وينتظر إن جاء جوابه في الشرح فبها ونعمت وإن لم يرد فإنه يكتب هذا السؤال ويُقدمُه هذا من الأمور التى ينبغى التنبه لها عن قضية الأسئلة التى يَتبين عدم وجود حاجةٍ لذكرها في الدرس .
أمَّا بالنسبة للأسئلة العامَّة فالأسئلة العامَّة تكون على نوعين :(48/35)
منها ما تعمُّ به البلوى ويُحتاجُ إلى معرفة حُكم الله في هذه المسائل العامَّة ، فالسؤال عن الأمور المُهمَّة التى تعمُّ بها البلوى أفضل وأكمل ، ويحتسب السائل فإذا كتبتَ لشيخٍ سؤالاً عن مسألة تعمُّ بها البلوى تُريد أن تبين للناس حلالَها وحرامَها فإنَّك تُثاب وتؤجَرُ من الله-?- ويكون لك مثل أجر هذا العالِم ؛ لأنَّه بسبب سؤالِك كان هذا العلم وكان هذا الخير وهكذا ينبغى لطُلاَّب العلم ، وكان بعض العلماء يُوصى بعض طُلاَّبه إذا جلس في المجالس العامَّة أن يسألوا عن أُمورٍ يحتاج إليها العامَّة وهذه نعمة ومنحة يُعطيها اللهُ لبعض طُلاَّب العلم فبعض طُلاَّب العلم مُوَفَّقٌ والذين يصحبون العُلماء ويلازمونهم وهم تلامذة العُلماء والمشائخ بعضُهم مُبارَكٌ مُوَفَّقٌ مُسَدَّدٌ مُلهَمٌ فإذا جاء بين الناس أحسن أن يسأل الشيخ عن أُمور طيبة يستفيد منها أهل المجلس .
خاصَّةً بيان هَدْىِ رسول الله-?- ، وتنبيه الناس في كيفية هديه عليه الصلاة والسلام ودعوتهم إلى السُّنَّة ، وتجيبهم فيها فهذا أمرٌ يعظُم أجره ويعظُم خيرُه لأنه لا سعادة للمسلم إلا باتباع رسول الله-?- والسَّيْرِ على نهجه ، فمثل هذه الأسئلة ينبغى على طلاب العلم أن يضعوها في المجالس العامَّة ، ولذلك من الرزيَّة أن تجد العالِم يحضر في مجمعٍ يكون فيه الناس ولا يستفيد منه أحدٌ ، ورُبَّما تجد القوم سكوتاً لا يسألون ، وإذا سألوا سأل عامىُّ عن سُؤالٍ ربَّما يكون يسيراً أو ليس بذاك السؤالِ.(48/36)
والسبب في هذا تقصير طُلاَّب العلم فإنَّ طُلاَّب العلم وبعضُ مَنْ يصحب العُلماء والمشائخ في هذا الزمان يُفرِّط في حقِّ الصُّحْبة فمن حقِّ الصُّحبة أن تُعين العالم على أداء رسالته فتتخيَّر الأسئلة المناسبة والإشكالات الطيِّبة التى يستفيد منها الناس وإذا جلستَ مع العالِم وأعطاك العالِم حُبَّه ووُدَّه وأقربك منه وأدناك من مجلسِه فاشكر نعمة الله عليك ، وقدِّم له الأسئلة المفيدة لتنفع الأُمَّة وتكون خير جليسٍ لهذا العالِم أمَّا أن يجلس طالِبُ العلم هكذا ويغترَّ بصُحبةِ العلماء ومرافقتهم وقضاء حوائجهم الدنيوية بغضِّ النظر عن إعانتهم على مسئوليتهم أمام الله-?- بتبليغ هذه الشريعة وهذا الميراث النبوى فهذا أمر يفوت به الخيرُ الكثير .
الأمر الثالث في الأسئلة الأسئلة الخاصَّة والأسئلة الخاصَّة التى تشتمل على مشاكل تكون على نوعين :
إمَّا أن تكون مشاكل لا يحسُنُ ذِكرُها في مُجتمعات النَّاسِ ، ولا يحسُن بيانُها لأنَّها رُبَّما تنشُر فكرةً ليست بطيبةٍ لأنَّها حوادث قد تقع من بعض الأفراد ، فرُبَّما سمع إنسانٌ غريبٌ فيقول : سبحان الله ..!! الناس هُنا يفعلون كذا ! فيسوء ظنه بالناس ، وهذا يقع في بعض المحاضرات وبعض الندوات ينبغى أن يُنبَّه على بعض الأسئلة الخاصَّةٍ النادرة التي تُعطى فكرةً ليست بطيِّبة خاصَّةً عن بعض المُلتزمين .(48/37)
يأتى إنسانٌ حديثُ عهدٍ بالتزام ويقول إنه يفعل معصيةً ما فيقول : أنا شابٌ مطيع ملتزمٌ وأفعل كذا وكذا ..!! مثل هذا السؤال بهذا الأسلوب يُسىء الناس به الظن بالأخيار والصالحين ما ذنبُ الأخيار والصالحين مِنْ هذا الرَّجُل الذي لا يحسبُ مثلُه عليهم لأنَّه ليس بإنسانٍ ثابت القدم على هداية الله-?- ، وبعضهم يقول : أنا طالبُ علمٍ ويكونُ طالبَ علمٍ بالاسم حمل كتابَه وحضر الدرس دون أن يلتزم بحقوق طلب العلم ودون أن يلتزم بآداب طلب العلم فيأتى ويقول في السؤال : أنا طالبُ علمٍ أفعل كذا وكذا ..!! هذا لا يليق ..!! ينبغى التحفظ في مثل هذه الأمور ، والدقة والتحرِّى في الأسئلة لئلا يُساء الظَّنُّ-ونسأل الله العظيم أن يعصمنا من الزَّلل ، وأن يُوفِّقنا في القول والعمل- .
السؤال الثاني :
هذه الدروس وهذه المواد الشرعية تحتاج إلى جهدٍ وصبرٍ. وقد ضربت لنا أمثلةً في أثناء كلامك في بداية هذا الدرس على ما تلقَّاه العلماء وما تحمَّلُوه في سبيل جمع هذا العلم وحفظه، وبعد ذلك نشره ، وهذا المسلك وهذا الطريق هو هو للأولين وللمتأخرين لمن أراد أن يسلُك سبيلهم،وأن ينتفع بجُهْدِهم ، وأن ينتفع كما انتفعوا من قبل فهل من كلمةٍ توجيهيةٍ لنا ولإخواننا في هذا الموضوع تُذكِّرُنا فيها بما ينبغى في مثل هذه الدروس من الصبر والتحمُّل وسعة البال وسعة الصدر، وخاصَّةً في مواطن الخلاف ومواطن اختلاف العلماء-رحم الله الجميع-..؟؟
الجواب :
بسم الله الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه أمَّا بعدُ:(48/38)
فهذا السؤال- في الحقيقة- من الأهمية بمكانٍ خاصةً بالنسبة لبعض الإخوة الذين يُشَوِّشُ عليهم ذِكرُ الأقوالِ والأدِلَّةِ والرُّدود والمناقشات ، ولو كانوا من طُلاَّب العلم قد يكونون مُبتدئين ، ولذلك رُبَّما يكون من الصعوبة بمكان عند تعرُّضنا لخلافِ العلماءِ وأدلتِهم ، وأقوالهم ، والراجح منها ، وكيفية الترجيح قد يسأم طالبُ العلم ولذلك أُوصيكم ونفسى بعد تقوى الله-?- بالصبر .
هذا الكتاب(كتاب الترمذي) ابتدأ الوالدُ-رحمةُ الله عليه- به وكنتُ في الثانية عشرة تقريباً وجلستُ في مجلسه وهو يذكر أقوال العلماء والردودَ والمناقشات والأدِلَّة ، وكنتُ لا أفهم وكانت المجالس الأولى لم أستفِدْ منها إلاَّ القليلَ الواضح ؛ لأن كان درسه كان مُرَكَّزاً ويخاطِبُ به أكثرَ ما يُخاطِبُ طُلاَّب العلم ثّمَّ شاء الله-?- وما مكثتُ أسبوعين تقريباً أو ثلاثة إلاَّ وقد تعاملتُ مع هذه النصوص وفهمتُ وأدركتُ وهذه رحمةٌ من الله-?-يرحم بها عبادَه بمُجَرَّد ما تحضر دروسَ العلم التى فيها دَسامةُ مادَّةٍ ، وصعوبةٌ في الأقوال والأدِلَّة فقبل العشاء رُبَّما أنَّ البعض استغرب ، ورُبَّما جلس وقد لا يكون استفاد إلاَّ القليل ؛ لكِنْ إذا شاء اللهُ وصبرْتَ وتحمَّلتَ سيأتى يومٌ من الأيام وإذا بهذه العلوم كأنَّها طعامٌ لك وشراب ، ويُيسِّر لك من أمره-?-ما يكون سبباً في انتفاعِك ، وفي بعض الأحيان رُبَّما تجلس مَجْلِسَ عِلْمٍ وتفهم جميعَ ما يُقال ، ويغترُّ الإنسان بفهمه فيسلبُه الله بركةَ العمل بذلك العلم ، ولرُبَّما تجلس مجلساً لا تفهم منه إلاَّ القليل ويضع الله لك البركة فينتفع بهذا القليل منك أقوامٌ وفئامٌ .(48/39)
فأحسِنْ الظَّنَّ بالله ما دامت نيِّتُك صالحةً ، وما دام أنَّ النَّاس في الدُّنيا وأنت في الآخرةِ ، والناس يُقبِلون على تجارة الدُّنيا وأنت مُقْبِلٌ على تجارةِ الآخرة وتخرُج من بيتك وأنت تستشعر قول المصطفي عليه الصلاة والسلام : (( من سلك طريقاً يلتمس فيه عِلماً سهَّل اللَّهُ له به طريقاً إلى الجنَّة )) فلن يُخيِّبك الله وبإذن الله سيفتحُ اللهُ لك من رحمتِه .
كُنَّا والله نجلسُ ونشهدُ لله -?- كُنَّا نجلسُ وما نعلمُ ، وكُنَّا نجلس وما نفهمُ ولكنَّ الله علَّمنا وفهَّمنا ووهبنا من فضله وهو- سُبحانَه- ذو الفضل العظيم ، فنحمده-?- .(48/40)
أحسنْ الظَّنَّ بالله-?- ولو لم يكُنْ إلاَّ أنَّك تجلس في مجلسٍ تغشاه الرحمة وتنزل عليه السَّكِينة ويذكرُ اللهُ أهلَه لكفي ولو لم يكُن إلاَّ مجلساً يقول اللهُ-?- فيه في الحديث القُدُسىِّ : (( وجبتْ محبتى للمتجالسين في ، والمتزاورين في ، والمتحابِّين في )) فلو لم يكُن إلا أن تجلس في هذا المجلس الذي يقول الله-تعالى- في الحديث القُدُسىِّ : (( وَلَهُ قد غفرتُ هُمْ القومُ لا يشقى بهم جليسٌ )) فلنحمد الله-تباركَ وتعالى-هذا حديث رسول الله-?- وتتسِّع صدورنا، وينبغى للإنسان أن يُهيِّىءَ لنفسه موضعاً في كُلِّ مجلس علمٍ فإن كان في بداية الطلب أخذ خُلاصة الأقوال واكتفي بما يستطيع أن يكتفي به ، فلا يُكلِّفُ اللهُ نفساً إلا وُسعَها ولا يأخذ العُمْق إذا كُنْتَ في بداية الطلب لا تتعمَّقْ ، ولذلك قال-تعالى- : {وَلَكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ}[ آل عمران ، آية : 79 ] قالوا : إنَّ العالِم الرَّبانىَّ الذي تعلَّم صغار العِلْمِ قبل كِباره قال بعضُ السَّلفِ : أن يأخُذ صِغارَ العلم قبل الكبار فمثلُ هذا ينفع اللهُ به ويفتح اللهُ عليه من رحمته ، ومن الآن تُجنِّدُ نفسك أنَّ فضلَ اللهِ عظيمٌ ، وأنَّ الله-?- كما علَّمَ آدم وفهَّم سُليمان يُعلِّمُك ويُفَهِّمُك وقال الله يخاطب نبيَّه :{ وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْماً}[ طه ، آية : 114] العلم علمُه-?- ، والفهم من الله-?- فلذلك ينبغى عليك ألاَّ تسأم ولا تملَّ ؛ لكِنْ المنهجية.. إن كُنتَ في بداية الطلب والمسألة خلافية أوصيك بثلاث جُزئيَّات :
الجُزئية الأُولى : أن تفهم عن أي شىءٍ تتكلَّم هذه المسألة الذي هو التصوُّر. تحاول عند حكاية الأقوال وشرح الأقوال أن تفهم ما هي هذه المسألة عن أي شىءٍ تتحدَّث عن جواز الشىءِ وحُرْمتِه ..؟! أي تفهم .(48/41)
ثُمَّ بعد ذلك تترك الأقوال من الذي قال ؟وحجتُّه ، ودليلُه إلى أن تأتي إلى الرَّاجح فتنظر إلى القول الراجح وتأخذ دليله إذا كنت لا تستطيع أن تُدْرِكَ بعُمقٍ .
فهذا أمرٌ يسعُ الإنسانَ المُبتدىءَ اليوم تبدأ بهذه الطريقة وتستمرُّ عليها الأسبوع الأول .. والأسبوع الثاني تبدأ بكتابة ورقة .. رؤس أقلام تذكر فيها ثم ترجع وتسمع الشريط مرَّةً ثانيةً وثالثةُ .
الأسبوع الثانى تضبط ، الأسبوع الثالث وإذا بك أصبح الفهمُ لرؤس الأقلامِ عندك سجيَّةً وإلْفَاً ، فتصبح تفهم شيئاً زائداً عن الفهم ، وهذه فتوحُ اللَّهِ على طالب العلم .(48/42)
يبدأ أوَّل ما يبدأُ بالقليل فإذا علم اللَّهُ من قلبه الخير والإخلاصَ وإرادة وجهِه فتح له بالكثير ، حتَّى يُصبحَ يجلسُ المجلِسَ فيه المُطَوَّلات والمناقشات والأقوال والرُّدود فيخرج وقد جمع علماً كثيراً وخيراً كثيراً بل لرُبَّما يجلس في المجلس بعد أن اعتاد يستطيع إذا ذُكر الدليلُ أن يعرف كيف يستدلُّ صاحب القول قبل أن يُذكَرَ وجه دِلالته وهذا مُجَرَّبٌ ومُشَاهدٌ ؛ ولَكِنْ وطِّنْ نفَسك بالإخلاص ، وبقوة العزيمة ، ولا تسأمْ وأوصى طالِبَ العلم -خاصةً ونحن في بداية الكتاب أي شىءٍ تجدُه في قلبك من السآمة والملل وسوء الظَّنِّ.. وهذا شىءٌ صعب .. وهذا شيءٌ .. كلهُّ من الشيطان والنفسِ الأمَّارةِ بالسوء وأي شىءٍ وجدته سيفتح اللهُ يُيَسِّرُ اللهُ .. إن شاء الله يُعينُ الله .. أنا أبذلُ ما أستطيع .." يكون من لَمَّة المَلَك ، وإذا بالله-?- يكون عند حُسْنِ ظنِّك فإن ظننتَ به خيراً كان لك منه من الخير ما يكون فوق الحًسْبَان ولذلك يقول اللَّهُ-?- : {إِنْ يَعْلَمْ اللَّهُ فِي قُلُوبِكُمْ خَيْرًا يُؤْتِكُمْ خَيْراً}[ الأنفال ، آية : 70 ] ، فلذلك لا تَقُل : أنا عامِّى ، ولا تقُل: أنا ما أعرف .. لستُ من طُلاَّب العلم . لا ..!! أنت طالِبُ عِلْمٍ في كُلِّ شىءٍ تفهمه وأي حكمة تتعلَّمُها فأنت طالِبُ عِلْمٍ لأنك تحتاجها ، وطالبُ العِلمِ لا يختصُّ بإنسانٍ مُعيَّنٍ مُفَرَّغٍ تمام التفرُّغ لطلب العلم قد يكون الإنسانُ طالبَ عِلْمٍ وهو حدَّاد.. وهو نجَّار، وقد يفوق طُلاَّب العلم المُتفرِّغين لطلب العلم بإخلاصِه وجدِّه ومثابرته وصدق عزيمته .(48/43)
الشاشى القفَّال إِمامٌ من الأئمة وديوان من دواوين العلم قوىُّ الباع في الفقه كان آيةً في الفقه ؛ والسبب أنَّه كان يصنع الأقفال وجاء إلى الخليفة فأوقِفَ بالباب ومُنِع من الدخول ، ثُمَّ دخل رجلٌ فقال : من هذا..؟! قالوا : هذا عالِمٌ ثُمَّ دخل ثانٍ قالوا : هذا قاضٍ فسأل : ما هذا .؟ قالوا : هؤلاء أهل العلم فنظرَهم يدخلون بدون استئذان ، يُجَلَّون ويُكرمون ، فأحسَّ بقدر العلم فأقبل على العلم بعد الكِبَر ، وفتح اللهُ له من أبواب رحمته حتَّى أصبح من دواوين العلم ، وممَّنيُذكر في قوة الفقه وسعة الباع ، وله في علم الخلاف الفقهي كتبٌ نفع اللهُ بها كثيراً ، فلذلك لا تقف عند حدٍّ وذلك فضل الله يُؤتيه من يشاء ، وأعرفُ من كان طبيباً ومن كان مُمرضاً بعيداً عن العلم حتَّى سبحان الله ..!! فتح الله عليه وأفاض عليه من خيره حتَّى نفع الَّلهُ به وانتفع ، العلم لا يقف عند حدٍّ ذلك فضل الله يُؤتيه من يشاء - فنسأل اللهَ العظيم أن يُؤتينا وإيَّاكم من فضله ، وأن يرزُقَنا مِنْ واسع رحمته - ، والله تعالى أعلم .
السؤال الثالث :
النصيحة في الشرح المناسب الذي يَتْبَعُونه معكم في سُنَنِ الترمذي ؟
الجواب :(48/44)
سُنَنُ الترمذي لها شُرُوح منها المخطوط ومنها المطبوع والشرح الذي كمل وطبع وموجودٌ هو : عَارِضة الأحْوَذِى بشرح سُنَنِ الترمذي للإمامِ أبى بكر ابن العربىِّ-رحمةُ اللهِ عليه- الفقيه المشهورٍ هذه العارضة موجودة ومطبوعة وبالنسبة للمتقدمين ليس هناك شرحٌ للترمذىِّ إلاَّ هذا الكتاب وتوجد " تُحفة الأحوذِى " للمباركفوري رحمه الله أيضاً شرحٌ نفيسٌ وقد أجاد فيه وأفاد-رحمة الله عليه- وتجرَّد للنصوص والحق-رحمة الله عليه- ، وكذلك أيضاً شرح الإمام ابن العربي جاء فيه بنفائسَ في المعانى واللُّغات وكذلك في الأحكام ، أجاد وأفاد ، وهناك شروحٌ مخطوطةٌ للكتاب طبعاً مثل شرح ابن سيِّد النَّاس "المُنَقَّحِ الشَّذِى بشرح سُنَنِ الترمذي" ولكنَّه تُوفي ولم يُكمِله ، وأكمله الحافِظُ العراقيُّ رحمه الله ، وهناك شرحٌ للحافظ ابن حجر ، وشرحٌ للحافظ ابن رَجب وهذه كلُّها مخطوطاتٌ ، وبالنسبة للشرح الموجود إمَّا للشرح المتّقَدِّم لابن العربى ، أو الشرح المُتأخِّرُ المباركفورى وهذان الشرحان عظيمان أيُّهما أخذت فيه الخير والبركة ؛ ولَكِنْ يُفضَّل دائماً إذا وجدت شرحاً قديماً وشرحاً مُتأخِّراً أن تبدأ بالقديم وذلك لأنَّ عِلْمَ القُدماءِ فيه فوائدُ كثيرةٌ إنَّ عِلمَهم كان فيه اختصارٌ مع دِقَّةٍ ودَسامةٍ في المعنى ودِقَّةٍ في التعبير والألفاظ مع وُجودِ ورَعٍ وتحفَّظٍ .(48/45)
وكذلك أيضاً هذه الكُتب- التي هي كتب المتقدمين- أُلِّفت في أزمنة الأئمة ، واطَّلَع عليها العلماء وأقرُّوها ، بل رُبَّما عقَّبوا أو بيَّنوا أموراً فيها ، فتجد فيها ما لا تجده في غيرها مع ما للقوم من إخلاصٍ ظهر أثرُه في بقاء كُتُبهم وانتفاع المسلمين بها والكتابُ إذا عُرف صاحبه بالإخلاص فكثيرٌ نفعُه ، وكثيرٌ خيرُه وما يضع الله-?- فيه من النفع ، ولذلك بقدر ما تستطيع تحرص على كُتُب المتقدِّمين وأعرف من الزُّملاء في طلب العلم من كان حريصاً على كُتُبِ المتأخِّرين ، وكان الوالد-رحمة الله عليه- يقول لي : أوصيك - قدر المستطاع - ألا ترجع إلا لكتب المتقدِّمين ، فإن الله ينفع بعلمك ، وأيضاً يُعينُك على الفهم وتأخذ الشىءَ من معدنه وأصله ، ومن معينيه الصافي الذي لا كدَرَ فيه فتجدُ من يأخذُ من كتب المتأخرين عبارته ضعيفة ، وفهمه سقيم ؛ لأنَّه يحاول أن يأخذ الواضح فقط وهذه الآفة التى ابتُلى بها كثيرٌ-إلاَّ من رحم الله- في هذا الزمان ، يبحثون عن الكتب الواضحة، ويشتغلون بكتب المتأخرين عن كُتُب المتقدمِّين ؛ لكن كتبُ المتقدمين أبرك وأنفع ، فإنَّك إذا قرأت كتاباً عبارتُه دقيقةٌ ، وأصبحتَ أثناء القراءة تُحاول الفهم تفاعلت مع الشرح ، وأصبحت عندَك مَلَكَةٌ في الفهمِ ، فتقرأ شيئاً يجذبُك وشيئاً تحتاج إلى فكِّه والتفاعل معه ، فإذا فككت الرُّموز أحسستَ بلذَّةِ العلم ، ولذةِ الأثر والظفر فعندها تتقوَّى العزيمة ؛ لَكِنْ إذا جاءَك الشيءُ سهلاً مُيسَّراً فإنَّك تألفُ الشىءَ السهل المُيَسَّرَ ، فإذا وقفت أمام المُعضِلاتِ والمشكلاتِ لا تَحيرُلها جواباً ، ولا تحُسنُ فيها المخرج ولكنْ كتبُ المتقدمين على خلاف هذا ، فإنَّك تجدُها دقيقةً مُركَّزةً ، ولذلك تجد من يعتمدُ كتبَ المتقدِّمين في فتاويه يتأثر .. في عباراته يتأثَّر .. في شرحه يتأثر .. كلُّ شىءٍ تجده يقوله في العلم يتأثرُ بأسلوبه وبالشيخ الذي أخذ عنه(48/46)
قديماً أو حديثاً فلذلك يُوصى بالرجوع إلى كُتُب المتقدَّمين، وهذا حقُّهم علينا ، وهم الأصل وغيرهم فرعٌ ، ولذلك يُستَقَى من المعينِ الصَّافي ما أمكن وما استطاع الإنسانُ إلى ذلك سبيلاً حتىَّ يأمن من التحريف ، ويأمن مِنْ حمل الألفاظ على غير معانيها ونحو ذلك من الأخطاء التى قد يقع فيها بعضُ مَنْ ينقلُ كلام المتقدمِين ، والله تعالى أعلم .
السؤال الرابع :
هل يتحقَّقُ الإجماعُ في العصرِ الحاضر - مثل المجامع الفقهية - ، أم يُشترَط انقراض العصر ؟
الجواب :
هذه مسألتان :
المسألة الأولى : الإجماع حُجَّةٌ قال-تعالى- : {وَمَنْ يُشَاقِقْ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى }[ النساء ، آية : 115] فتوعدَ من خالف سبيل المؤمنين ، ولذلك قالوا : هذه الآية أصلٌ في حجيَّةِ الإجماعِ وقد قال-?- : (( وستفترقُ أُمَّتِى على ثلاثٍ وسبعين فِرقةٍ ، كُلَّها في النَّار إلاَّ واحدة ." قالوا : ومن هي ..؟ قال : (( هي التى تكون على مثل ما أنا عليه وأصحابى )) .
فمعنى ذلك أنَّه لو أجمعت الأُمَّة فإن الطائفة المنصورة ستكون داخل الإجماع فمعنى ذلك أنَّ الحقَّ موجودٌ في إجماع الأُمَّة ، على هذا فالإجماع حُجَّة وحُجِّتُه أن يتفق العلماء المجتهدون فالإجماع إجماع العلماء لا إجماع العوام والعبرة في الإجماع بإجماع العلماء المجتهدين .
وبالنسبة لهذا العصر نَعَمْ يُمكن أن يتحقَّق الإجماع إذا أمكن اشتهار المسألة واشتهار فتوى العلماءِ المجتهدين المعاصرين فيها بقولٍ واحدٍ هذا إجماع.. إذا قالوا قولاً واحداً في المسألة فإنَّه إجماعٌ .(48/47)
وأمَّا إذا كانت مثلاً المجامع الفقهية فإنَّها جيِّدة ، ولا شكَّ أن فتاواها تحمل ثقلاً عظيماً من الفقه ومادةً دقيقةً جداً ، خاصةً وأن المجامع الفقهية -كمجمع الَّرابطة- يعتنى بالرجوع إلى أهل الاختصاص ، وفي المسائل العصرية يطلبون الأطباء إن كانت المسألة طبية ، ويطلبون أهل الفلك إذا كانت مسألة فلكية فالحقيقةُ هذا منهجٌ جيدٌ ، وهو منهج السَّلَفِ والأئمةِ-رحمةُ اللهِ عليهم- في النَّوازل .
أنَّهم ينظرون إلى قول أهل الخبرة ، ثُمَّ يجتمع الأطباء والعلماء ويتناقشون مثلما حدث في مسألة موت الدَّماغ كانت بحوثٌ جيِّدة وآراء قيِّمة ، وتلاقى الأطباء والعلماء وتذاكروا وتناقشوا وكان خيرٌ كثيرٌ استفاد منه كثيرٌ من العلماء الأجِلاَّء وطّلاَّب العلم فهي ذخيرة عظيمة ، فإن كان جميعُ العلماء مِنْ غير مَنْ هم في المجمع وافق على فتوى المجمع فهو إجماعٌ .
وأمَّا إذا كان هُناك خلافٌ فإنَّها مسألة خِلافية شأنُها شأنُ الخلاف المعروف في الفقه .
المسألة الثانية : مسألة انقراض العصر هل يُشترط انقراض العصر لثبوت الإجماع؟ الإجماع للعصر فإن كان أئمته وعلماؤه قد اجتهدوا فإنَّه حينئذٍ يُحتجُّ بالإجماع ، ويبقى إجماعاً ، أمَّا لو نشأت ناشئة في عصر العلماء الذين اجتهدوا قبل أن يُفصل القول فإنهم إذا خالفوا اعتُدَّ بخلافهم وحينئذٍ لا تكون المسألة إجماعية ،والله تعالى أعلم.
السؤال الخامس :
قال بعض أهل العلم إنَّ القياس كالميتة لا نأخذ به إلاَّ عند الضرورة أرجو توجيه هذه العبارة ؟
الجواب:(48/48)
يُسْئَلُ عنها مَنْ قالها ..!! أمَّا القياس فإن قُلنا إنه حجةٌ شرعيةٌ فلا نقول : ميتة ، ولا نقول غيرها . إن قُلتَ إن القياس حُجةٌ بدليل الكتاب والسَّنَّة وما ثبت عن رسول الله-?- أنَّه حُجةٌ فليس القياسُ بحاجةٍ إلى مثلِ هذا التعليق الذي قد يُفهمُ منه انتقاص هذا الدليل الشرعيِّ ، وأمَّا إذا كان المُراد بذلك بمعنى أنك لا تدخلَ إلى القياس والرأي إلا بعد أن يتعذر عليك وجود النصَّ ، فالعبارةُ صحيحةٌ لا يحلُّ إلاَّ لمُضطرٍّ كالميتة.. نعم . بمعنى أنَّك لا تعدل إلى القياس إلاَّ بعد أن تُتعب نفسك وتُجهِدها في وُجودِ نصٍّ في المسألة ، فإذا لم تجد النصوص النقلية تنتقل إلى دليل العقل الذي منها القياس ، ولذلك حبذا لو يُقتصر على منهج العلماء والأئمة ، فالأدلةُ الشرعيةُ لها حُرمتها ولها مكانتُها إن كان الإنسان يقول به يقولُ به ، وإذا كان لا يقول به لا يقولُ به ، ويُتأدَّبُ ، وتكون العبارات مُهَذَّبةً ودقيقةً عِلميَّةً ؛ لأن الهدف بيانُ الحقِّ والوصول إلى الحق فإن القياس إذا كان جليَّاً واضحاً فإنَّه مبنٍ على أصل شرعىٍّ وهو حُجَّة ، وأمَّا إذا صادمَ نصوص الكتابِ والسُّنَّة فلا يُعتدُّ به ، ولذلك يقدحون في القياس من أربعة عشر وجهاً ، منها فسادُ الاعتبار وفساد الاعتبار : أن يكون القياس في مقابل النَّصِّ من الكتاب أو السُّنَّةِ أو الإجماعِ فيقولون : قياسٌ فاسدُ الاعتبار ثُمَّ انظر إلى دِقَّة العُلماء الذين يقولون بالقياس يقولون : فاسدُ الاعتبار ، أي لا يُقامُ له أي اعتبار مادام أنَّه قَابَل النَّصَّ من الكتابِ والسُّنَّةِ والإجماع ، والله تعالى أعلم .
السؤال السادس:
هل يجوزُ لى أن أعمل في محلٍّ عند رَجُلٍ أموالهُ ربويةٌ ؟
الجواب:
هذه المسألة تكلَّم عليها العُلماءُ في انفصال اليدِ والجِهةِ .(48/49)
توضيح ذلك أنهم قالوا : لو أنَّ الإنسان كان ماله حراماً ثُمَّ تعامل معه إنسانٌ في مُعَاملةٍ شرعيَّةٍ صحيحةٍ. قالوا : اختلفت اليدُ مثال ذلك : لو أن إنساناً ماله حرامٌ فطلب من إنسانٍ أن يبنى له بيتاً ، أو أن يبيعه سيارته ، فَبعته سيارتَك فحينئذٍ يقولون : السَّيارةُ مِلكٌ للبائع ، والمالُ حلال وكون هذا الرجل آثماً فإنَّ إثمه متعلِّقٌ به ، ولا يتعدَّى إثمُه إلى الآخذ ؛ ولكنْ استثنوا من ذلك أن يبيع الحرام بعينه فحينئذٍ يحرُم كأن يكون مُغتصِباً أرضاً وباعها عليك وأنت تعلم أنَّه مغتصبها فلا يحلُّ لك .
أمَّا لو كان تعامُلُك معه في عمل شرعيٍّ بذاته كالبيع والإجارة ونحو ذلك ، فحينئذٍ يقولون بانفكاك الجهةِ .
والأصل في ذلك حديثُ الصَّحيح عن النبي-?- أنه تُوفي ودِرُعه مرهونٌ عند يهودىٍٍّ في صاعين من شعيرٍ .
وتوضيح ذلك : أنَّ اليهود كانت أموالهم فيها الحرام ، وقد شهد الله لهم أنَّهم يأكلون الرِّبا ويتعاملون به ومع ذلك تعامَلَ النبي-?- ورَهنَ دِرعه ، وجعل لِمالِ اليهودىِّ حُرمةً حينما جعله دَيناً يحبُ الوفاء به ودلَّ على وجوب الوفاء به ولُزومِه بالَّرهن ، قال العلماء : إنما عدل النبي-?- عن الاستدانة من أبى بكرٍ وعمر ونحوهم من الصحابة ، خاصَّةً الأثرياء كعُثمان وعبدالرَّحمن بن عوفٍ فقد كانوا أثرياء ومع ذلك لم يستدن منهم ، وإنما استدان من اليهودىِّ ليُقرِّر هذه المسألة ، وهي اختلاف اليدِ ، وأنَّ كون ماله حراماً إذا كان التعامل بينك وبينه شرعياً فإنَّ ذلك لا يُوجب التحريم لا نفكاك الجهة ، والله تعالى أعلم.
السؤال السابع:
رجلٌ يسأل عن صحَّةِ حديث : (( الجنَّةٌ تحت أقدام الأُمهات )) ؟
الجواب:(48/50)
هذا الحديث بهذا اللفظ ضعيفٌ ، ولكن هُناك ما يدلُّ على صِحَّةِ متنه والحديث يضعُف سنداً ويصحُّ متناً فصحَّةُ متنه ما ثبت في حديث السنن عن النبي -?- أنَّ رَجلاً قال :" يا رسول الله أقبلتُ من اليمن أبايُعك على الهجرة والجهاد" قال : (( أحيَّةٌ أُمُّك ..؟" قال : نعم قال : (( الزم رِجلَها فإنَّ الجنَّةَ ثَمَّ )) هذا الحديث حسَّنه غيرُ واحدٍ من العُلماء رحمة الله عليهم .
وجه الدلالة في قوله : (( الزم رِجلها، فإنَّ الجَنَّةَ ثمّ )) قالوا : إنَّ هذا يدلَّ على المعنى وهو أنَّ طاعتها والتذلُّل لَها كما قال-تعالى- : {واخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ }[ الإسراء ، آية : 24 ] واختارَ الرِّجْلَ من باب التَّذَلُّلِ . أي الزم التذلُّلَ لها وقضاءَ حوائجها دون استكبارٍ عليها وتجبُّرٍ فإنك تكون من أهل الجنَّة بهذا الصنيعِ ، والله تعالى أعلم .
السؤال الثامن :
طالِبٌ يسأل ويقول إنَّه رأي مع زميله صوراً لذواتِ الأرواح، فجاء ينصحُه وأخبره أن النبي-?- قال : (( لا تدخلُ الملائكةُ بيتاً فيه كلبٌ أو صورةٌ )) فاحتجَّ عليه بوجود الصُّور في النُّقودِ والبطاقاتِ وغيرها . فبماذا ينصحُه ..؟ وكيف يُجيبه ؟
الجواب :
هذه المسألة من الذي كُنَّا فيه قبل صلاة العشاء ..!! ينبغي للإنسان أن يتهذَّبَ في السؤال ، وأن يختار المسائلِ المناسبة للسؤال ولذلك أقول: الإنسان عليه أن يُبيِّن للنَّاس الحُجَّة إذا كان الشخص جئْتَ تُبَّينُ له حُكمَ اللهِ ورسولِه عليه الصلاة والسلام تُبيِّنُ له فإذا جاء يناظرُ ويناقش فاتركه عنك إذا فهِمْتَ من الرَّجُلِ أنَّه يُمارِى ويُريد أن يُناقش فاتركُه عنك فإنَّه لا خير في الجدال في مِثل هذا ، وعليه ينطبق حديث رسول الله-?- : (( أنا زعيمٌ ببيتٍ في رَبَض الجنَّة لمن ترك المِراءَ وإن كان مُحِقَّاً )) ، والله تعالى أعلم .
السؤال التاسع :(48/51)
إنَّه قد سمع من أحدِ النَّاس أن الحكمة من عدم الكلام في بيتِ الخلاءِ هو أنَّ الملائكةَ قد تموتُ إذا دخلَتْ بيت الخلاء لتُسجِّل هذا الكلام ؟
الجواب :
لا حول ولا قوةَ إلا باللَّه ..!! هذا ليس له أصلٌ ، وهو باطِلُ . ويُعتبَرُ من الكذب الذي لا يجوزُ ولا يحلُّ نقلهُ ولا التعويلُ عليه ؛ إَنَّما مُنِع لأنَّ المكان غيرُ مُناسب وقد ثبت في الحديث عن النبي-?- في السُّنَنِ أنَّه قال : (( إِنَّ هذه الحُشُوشَ مُحْتضَرة )) قالوا : تحضرها الشياطين فالشياطين تحضرُ أماكن الخلاء ، فليست بأماكن ذكر ، ولذلك لما مرَّ الرَّجُلُ على النبي-?- وهو يقضى حاجته سلَّم عليه ، فلم يرُدَّ عليه السلام فقال عليه الصلاة والسلام : (( إني كُنتُ على حالةٍ كرِهْتُ أنْ أذكُرَ الله عليها )) فلذلك لا يُسلَّمُ على إنسانٍ يقضى حاجتَه وقد ثبت في الحديث عنه عليه الصلاة والسلام أنَّه قال : (( غُفْرَانك )) حينما خرج من الخلاء قالوا : إنَّه استغفر عليه الصلاة والسلام لأنَّ المكان لم يكُن مناسِباً لِذِكْرِ اللَّهِ ، فكأنَّ هذا الوقت ضاع دون أن يكون في ذِكْر للَّهِ-?- فاستغفر إجلالاً وتعظيماً لِلَّهِ-?- ، وهُنَا مسألة : وهي مسألة تعليل النصوص الواردة والأحكام الواردة في الكتاب والسُّنَّةِ والأمورُ الغيبية الواردة في الكتاب والسُّنَّة والتى لا يستطيع العقلُ أن يُدْرِك عِلَلَها ينبغى الوقوف عند حدِّ الشرع وعدم مُجاوزةِ هذا الحدِّ ، فينبغى عليك إذا بلغك الحكم عن الله ورسولِه-?- بلزوم أمر أن تلزمَه أمَّا التعليلُ بالعقل ومحاولةُ التكلُّفِ ومحاولةُ فهم بعضِ العِلَلِ عن طريق العقلِ والاستنباط- ولوكان يقول به بعض الأئمة- فهذا دَحْضُ مَزلَّة فإنَّ الإنسان إذا تكلَّم في مثل هذه الأُمورِ سيُحاسبُه الله ، وسيسألُه ولذلك لا يجوز للإنسان أن يتكلَّم في مثل هذه الأمورِ الغيبية إلا بنصٍّ من الكتاب أو السُّنَّةِ أو فهمٍ مبنٍ علىنصِّ(48/52)
الكتاب والسُّنَّة ، وأمَّا الرَّجْمُ في الأمُورِ بالغيبِ ، فهذا لا يجوزللإنسان أن يفعله لأنَّه من القول على الله بدون عِلمٍ كان بعض مشايخِنا-رحمةُ الله عليه- إذا كان الإنسان يتكلمَّ في مثل هذا يقول : { قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَمَا أَنَا مِنْ الْمُتَكَلِّفِينَ }[ ص ، آية : 86 ] هذا من التكلُّف والخروج عن الهَدْى والسَّنَنِ - ونسألُ الله أن يعصِمَنا من الزَّلل ، في القولِ والعمل - .
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين .(48/53)
بسم الله الرحمن الرحيم
يقول المصنف رحمه الله :"بَاب مَا جَاءَ أَنَّ الْمَاءَ مِنَ الْمَاءِ"
حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ مَنِيعٍ حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْمُبَارَكِ أَخْبَرَنَا يُونُسُ بْنُ يَزِيدَ عَنِ الزُّهْرِيِّ عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ عَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ قَالَ:" إِنَّمَا كَانَ الْمَاءُ مِنَ الْمَاءِ رُخْصَةً فِي أَوَّلِ الإِسْلامِ ثُمَّ نُهِيَ عَنْهَا "حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ مَنِيعٍ حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْمُبَارَكِ أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ عَنِ الزُّهْرِيِّ بِهَذَا الإِسْنَادِ مِثْلَهُ .
قَالَ أبوعِيسَى رحمه الله هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ وَإِنَّمَا كَانَ الْمَاءُ مِنَ الْمَاءِ فِي أَوَّلِ الإِسْلامِ ثُمَّ نُسِخَ بَعْدَ ذَلِكَ وَهَكَذَا رَوَى غَيْرُ وَاحِدٍ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم مِنْهُمْ أُبَيُّ بْنُ كَعْبٍ وَرَافِعُ بْنُ خَدِيجٍ وَالْعَمَلُ عَلَى هَذَا عِنْدَ أَكْثَرِ أَهْلِ الْعِلْمِ عَلَى أَنَّهُ إِذَا جَامَعَ الرَّجُلُ امْرَأَتَهُ فِي الْفَرْجِ وَجَبَ عَلَيْهِمَا الْغُسْلُ وَإِنْ لَمْ يُنْزِلاَ .
الشرح:
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين سيدنا ومحمد وعلى آله وصحبه أجمعين أما بعد :(49/1)
فقد ذكر المصنف رحمه الله أبواب الغسل من الجنابة عن النبي صلى الله عليه وسلم ، وهذه الطهارة الكبرى ألتزم المصنف رحمه الله أن يذكر صفتها من الأحاديث التي وردت عن النبي صلى الله عليه وسلم ، وقد استفتح الأبواب السابقة بيبان هدية صلوات الله وسلامه عليه في ذلك ، ثم أتبع المصنف رحمه الله بيان الأحاديث التي تدل على موجبات الغسل أي الأسباب التي يجب على المسلم أن يغتسل إذا توفر بعضها فيه ، ولذلك يعتبر العلماء رحمهم الله من موجبات الغسل الإنزال ، وهذا هو الذي ترجم له المصنف رحمه الله بهذا في قوله " إنما الماء من الماء " فقوله " إنما الماء ": أي الغسل من الجنابة ، "مِن " أي بسب فالعرب تستعمل هذا الحرف في الدلالة على السببية كقولهم مِن فعلك أي بسبب فعلك ، ومنه قوله سبحانه وتعالى :{ مِمَّا خَطِيئَاتِهِمْ أُغْرِقُوا فَأُدْخِلُوا نَاراً}(1) أي : بسبب خطيئاتهم وقع العذاب عليهم بالغرق ودخول النار .
وقوله:"مِن الماء": أي بسبب الماء وهو خروج المني ، وخروج المني فيه مسائل وأحكام عديدة ذكرها العلماء رحمهم الله وبسطها الفقهاء في كتبهم ، ولذلك يعتني المحدثون رحمهم الله بالدلالة على أن الإنزال يعتبر سبباً من أسباب الغسل من الجنابة.
وقوله رحمه الله " إنما الماء مِن الماء ": تأدب مع السنة الواردة عن النبي صلى الله عليه وسلم ، وقد كان أئمة الإسلام من المحدثين يتأدبون مع السنة الواردة عن النبي صلى الله عليه وسلم في تراجم كتبهم ومايتخلالها من أبواب كل ذلك رعاية للورع فأفضل ما تكون الترجمة إذا ألتزم العالم فيها هدي النبي صلى الله عليه وسلم وأقتصر فيها على دلالة النص لماّ في ذلك من مراعاة الورع .
__________
(1) / نوح ، آية : 25 .(49/2)
وقوله رحمه الله :"باب ما جاء أن الماء مِن الماء":أي في هذا الموضع سأذكر لك جملة من أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم ، وما ورد عنه أن الماء وهو الاغتسال يجب على المسلم بسبب الإنزال وهو المني في قوله :" الماء" ، ثم ذكر رحمه الله حديث أبي بن كعب رضي الله عنه وأرضاه ، وهذا الحديث يعتبر من رواية الصحابي عن الصحابي ؛ لأن سهل بن سعد الساعدي رضي الله عنه كان صحابياً هو وأبوه ، فهذا الحديث من رواية صغار الصحابة عن كبار الصحابة.
وقول أبي رضي الله عنه " إنما كان الماء مِن الماء كان رخصةً في أول الإسلام ": أي أن الحكم بأن من جامع أهله ولم يقع منه إنزال أثناء الجماع فإنه لا يجب عليه أن يغتسل وكان هذا الحكم في أول الإسلام تخفيفاً من الله عن عباده وقد ذكرنا ذلك في الباب الذي تقدم أن الشرع خفف في الجماع إذا لم يكن فيه إنزال ، ففي الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم : أنه ذهب إلى قباء هو وأبو سعيد رضي الله عنه وأرضاه وأستأذن على عتبان بن مالك-- رضي الله عنه -وأرضاه- فخرج عتبان وهو يجر ثوبه فقال صلى الله عليه وسلم :(( لعلنا أعجلنا الرجل)) ، وفي رواية أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له :(( إذا أعجلت أو قحطت فلا غسل عليك )) فإذا جامع الرجل امرأته ولم يقع الإنزال فإنه لا يجب عليهما الغسل ،ولذلك كان هذا الحكم تخفيفاً من الله عز وجل ثم نسخ فأراد أبي رضي الله عنه أن يبين أن هذا الحكم منسوخ.(49/3)
فقال رضي الله عنه :" إنما كان الماء من الماء رخصة ": والرخصة مأخوذة من قولهم رخص الشيء إذا نزل سعره وكان يسيراً والرخص الشرعية : إستباحة المحظور ، والمراد بذلك أن يكون هناك حكم وتكون في الحكم عزيمة ثم يأتي التخفيف من الشرع والتيسير فيقال : رخَّص الشرع في كذا وكذا أي بعد أن كان محظوراً ، وقد كان في أول الإسلام إذا جامع ولم ينزل لا يجب عليه الغسل وهذا تخفيف ثم نسخ بما هو أثقل ، ولذلك يعتبر علماء الأصول رحمهم الله هذا النوع من الرخصة يعتبرونه نوعاً من النسخ بالأثقل .
والنسخ يأتي على ثلاث صور:
الصورة الأولى : نسخ الحكم بما يساوي .
والصورة الثانية: نسخ الحكم بما هو أخف منه .
والصورة الثالثة:نسخ الحكم بما هو أثقل منه .
وهذا الحديث يدل على نسخ الحكم بما هو أثقل منه وهذا النوع من النسخ قليل الشواهد قليل الأمثلة ؛ ولكن مسألتنا تعتبر مثالاً عليه .
وتوضيح ذلك: أن التيسير أن لا يطلب المسلم بالغسل بعد الجماع إذا لم يقع فيه الإنزال ، فلما أُمر المسلم بالغسل سواء اً أنزل أو لم ينزل كانت عزيمة وكان ذلك أثقل من الحكم الأول .
وقوله رحمه الله " في أول الإسلام ": فيه دليل على ماكان عليه أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم من رعاية المتأخر والعمل بالمتأخر من النصوص وأعتباره ناسخاً لماّ تقدم مخالفاً له ، ولذلك قيل كان أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم يأخذون بالأحدث فالأحدث من هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم كما في الصحيح في قصة المسح على الخفين.
وقوله عليه الصلاة والسلام : (( إنما الماء من الماء)) فيه مسائل:
المسألة الأولى: دل الحديث على أن الغسل يجب بخروج المني ، والمني : هو الماء الثخين الأبيض بالنسبة للرجال ، الأصفر الرقيق بالنسبة للنساء ، ويتميز برائحةٍ وصفها العلماء بطلع النخل أو رائحة العجين .(49/4)
المسألة الثانية : أن قوله عليه الصلاة والسلام :(( إنما الماء من الماء )) : فيه دليل على أن من أخرج المني وجب عليه الغسل سواءً أخرجه على وجهٍ مباح أو محظور.
فلو خرج المني بالاستمناء المحرم فإنه يجب عليه الغسل كما لو خرج بالجماع المباح ، وكذلك يجب عليه الغسل بالجماع المحرم كما يجب عليه الغسل بالجماع المباح .
المسألة الثالثة : دل قوله : (( إنما الماء من الماء )) على وجوب الغسل إذا أستيقظ الإنسان ووجد المني سواءً ذكر الإحتلام أو لم يذكر الإحتلام ؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم جعل خروج المني موجباً للغسل ولم يفَّرق بين يقظة أو منام ولم يفَّرق في حال استقظه بعد المنام بين كونه ذاكراً أو غير ذاكر-وسيأتي بسط هذه المسائل أن شاء الله في باب الذي يلي هذا الباب -.
المسألة الرابعة : دل قوله : (( إنما الماء من الماء )) : على أنه لو خرج المني قطرات أنه يجب الغسل ، وقال جمع من العلماء :لا يجب الغسل إلا إذا دفق المني وخرج بكثرة ؛ والسبب في ذلك أن الله عز وجل وصف المني بقوله:{ خُلِقَ مِنْ مَاءٍ دَافِقٍ}(1) فوصف المني بكونه يخرج دفقاً ، قالوا : فإذا خرج المني قطرات لم يجب الغسل .
المسألة الخامسة: احتج بهذا اللفظ في قوله:(( إنما الماء من الماء )) على مواضع لم تنسخ حيث إن هذه الأحكام التي ذكرناها خارجة عن موضع النسخ-كما سيأتي عن حبر الأمة وترجمان القرآن عبدالله بن عباس-رضي الله عنهما-.
__________
(1) / الطارق ، آية : 6 .(49/5)
فكون هذا الحديث منسوخاً ؛ إنما هو في جوانب دون جوانب حيث إن النسخ فقط في حال مجامعة الرجل لأمرأته دون أن يقع إنزال ، أما كون الغسل يجب بخروج المني فإنه محكم باقٍ إلى قيام الساعة ، ولذلك نص جماهير العلماء رحمهم الله وأفتى أئمة الإسلام من الصحابة -- رضي الله عنهم -- والتابعين لهم بإحسان والأئمة الأربعة وغيرهم من علماء الإسلام كلهم أفتوا بإنه يجب الغسل بخروج المني على التفصيل الذي يختلف بإختلاف المسائل والأحوال ، وأعتبروا هذا أصلاً شرعياً متفقاً عليه بينهم من حيث الجملة ، وقوله عليه الصلاة والسلام كما جاء مصرحاً به في الحديث الآخر:(( إنما الماء من الماء )) أسلوب حصر وقصر يفيد إثبات الحكم للمذكور ونفيه عما عداه ؛ ولكنه ليس على ظاهره لورود ما يدل على وجوب الغسل بغيره.
قال المصنف رحمه الله :حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ حُجْرٍ أَخْبَرَنَا شَرِيكٌ عَنْ أَبِي الْجَحَّافِ عَنْ عِكْرِمَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ :" إِنَّمَا الْمَاءُ مِنَ الْمَاءِ فِي الإحتلام ".
قَالَ أَبو عِيسَى رحمه الله سَمِعْت الْجَارُودَ يَقُولُ سَمِعْتُ وَكِيعًا يَقُولُ:" لَمْ نَجِدْ هَذَا الْحَدِيثَ إِلاَّ عِنْدَ شَرِيكٍ "، قَالَ رحمه الله :وَأَبُو الْجَحَّافِ اسْمُهُ دَاوُدُ بْنُ أَبِي عَوْفٍ وَيُرْوَى عَنْ سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ قَالَ حَدَّثَنَا أَبُو الْجَحَّافِ وَكَانَ مَرْضِيًّا .
قَالَ أَبو عِيسَى رحمه الله وَفِي الْبَاب عَنْ عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ وَعَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ وَالزُّبَيْرِ وَطَلْحَةَ وَأَبِي أَيُّوبَ وَأَبِي سَعِيدٍ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ :((الْمَاءُ مِنَ الْمَاءِ)).
الشرح:(49/6)
هذا الأثر الذي ذكره عن حبر الأمة وترجمان القرآن عبدا لله بن عباس رضي الله عنه وأرضاه أن حديث (( إنما الماء من الماء في الإحتلام )) ، المراد بذلك أن هذا الحديث محكم في هذه المسألة -أعني الإحتلام- والإحتلام مأخوذ من قولهم إحتلم الرجل يحتلم إحتلاماً يطلق الإحتلام بمعني رؤية الشيء الذي يثير الشهوة في النوم حتى يخرج المني من الإنسان بدافع فطرته وجبلته ، وكذلك يطلق الإحتلام بمعنى كون الإنسان قد بلغ الحلم يقال إحتلم إذا بلغ الحلم ،كما هو نص القرآن في قوله -تعالى-:{وَالَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الحُلُمَ مِنْكُمْ}(1) وكما هو نص السنة في حديث علي بن أبي طالب وعائشة رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (( رفع القلم عن ثلاث وذكر منهم الصبي حتى يحتلم )) ، فالحلم هنا بمعنى العقل ويقال :حَلُمَ الرجل من الحٍلَمْ ، الذي هو ضد الغضب ، والحليم هو بطئ الغضب وواسع النفس والصدر الذي لا يستفز بسرعة .
وقوله -- رضي الله عنه - وأرضاه-" في الإحتلام ": مراد ابن عباس رضي الله عنه أن هذا الحديث يعتبر دليلاً على وجوب الغسل إذا أستيقظ الإنسان وجود المني سواءً ذكر الإحتلام أو لم يذكر الإحتلام .
__________
(1) / النور ، آية : 58 .(49/7)
وقوله " الإحتلام" :مأخوذ من الحلم كما ذكرنا والاحلام أمور يراها الإنسان أثناء نومه وهي من المسائل التي حار فيها الأطباء والحكماء على مرَّ العصور والدهور ، فأوقفهم الله-- جل جلاله --أمام هذا الأمر حائرين لايستطيعون حيلة ولايهتدون سبيلاً إلا أن يهديهم الله بهداه فإن مسائل الإحتلام وكون الإنسان يرى في نومه وهو نائم أمر من الأمور العجيبة الغريبة فبينما الإنسان نائماً إذا هو ينتقل إلى عالم غير عالمه ، فإذا كان في سرور ربما رأى الجحيم والنار والعذاب وهو في أحسن الأماكن وأبهجها وأسرها ، ولربما كان نائماً على أشد ما يكون من الشدة والتعب فيرى النعيم ويرى السرور وهي من المسائل العجيبة الغريبة ؛ لأنها تتعلق بعالم الأرواح والله-- جل جلاله -- أوقف العباد عند هذا الأمر ومنعهم من الخوض فيه وذلك حينما قال سبحانه وتعالى :{وَيَسْأَلُونَكَ عَنْ الرُّوحِ قُلْ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُمْ مِنْ الْعِلْمِ إِلاَّ قَلِيلاً}(1) ، فالناس مهما تفكروا وتدبروا في هذا الأمر فإنهم لايستطيعون أن يدركوا حقيقتة ؛ لأنه أمر غيبي أستأثر الله-- جل جلاله --به ، ولربما نام الإنسان فأرآه الله نعيم الجنة ولربما نام فأرآه جحيم النار ، وفي الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم : (( أري الجنة في منامه )) -صلوات الله وسلامه عليه - .
وثبتت الأحاديث الكثيرة عنه عليه الصلاة والسلام تبين مافي الجنة من النعيم في بعض الرؤى وبَشر بعض أصحابه -- رضي الله عنهم - وأرضاهم-حينما رأوا الرؤى ، فالمقصود أن هذه الأمور كلها من الغيب وأن عالم الحلم والرؤيا عالم عجيب غريب لاينبغي للإنسان أن يخوض في حقيقته ؛ لأنه يتصل بعالم الأرواح ولم تفصل النصوص في حقيقتة .
وقد قسم النبي صلى الله عليه وسلم مايراه الناس بالنوم على قسمين :
__________
(1) / الإسراء ، آية : 85 .(49/8)
القسم الأول : يكون من الملك وهي الرؤية الصالحة التي يراها الرجل الصالح أو المرأة الصالحة أو تُرى لكل منهما كما ثبت في الحديث الصحيح عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال :(( لم يبق من النبوة إلا المبشرات قالوا : يارسول الله وما المبشرات؟ قال : الرؤيا الصالحة يراها الرجل الصالح أو ترى له )).
وأما بالنسبة للقسم الثاني : فهو الحلم الذي يكون من الشيطان فلملك لمه وللشيطان لمه ، وإذا أراد الله أن يرى العبد الخير أراه ذلك وكان من عاجل البشرى وفي الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم :أن عبدالله بن عمر أُرى الرؤيا فقصها على حفصة زوج النبي صلى الله عليه وسلم وأخته فقصتها-رضي الله عنها- على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال صلى الله عليه وسلم : (( إن أخاك رجل صالح )) ، فدل هذا على أنها رؤيا صالحة ، ولذلك يقول العلماء : إنها من النبوة لأنها من الملك والله يجعلها من عاجل البشرى يجيرية للعبد ليثبت بها قلبه في هذه الدنيا وهي جزء من ست وأربعين جزء من النبوة ؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم أُوحي إليه ثلاثاً وعشرين سنة وهذه السنوات كان في نصف العام الأول منها وهو الستة الأشهر كان يأتيه الوحي على سبيل الرؤيا ، فكان لايرى الرؤيا إلا جاءت مثل فلق الصبح ثم بعد ذلك وقع له عليه الصلاة والسلام وحي على الصور المختلفة .
قال العلماء فهذا هو معنى قوله:(( جزء من ست وأربعين جزء من النبوة)) .
وقوله هنا :(( في الإحتلام )): الإحتلام هو أن يهيج الإنسان برؤية الشئ الذي يثير الشهوة فيحتلم وينزل ولايوصف بكونه محتلماً إلا إذا أنزل من جهة الحكم لكنه إذا رأى شيئاً وذكره من هذا القبيل فإنه يقول احتلمت بمعنى إنه رأى ما يثير الشهوة لا أنه آخذ حكم المحتلم .
قال المصنف رحمه الله : بَاب مَا جَاءَ فِيمَنْ يَسْتَيْقِظُ فَيَرَى بَلَلاً وَلاَ يَذْكُرُ احْتِلاَماً
الشرح :(49/9)
هذه المسألة تعتبرمن المسائل التي تعم بها البلوى أن يستيقظ الإنسان فيرى الماء ولا يذكر الإحتلام أو يذكر الإحتلام ولايرى الماء .
ولذلك يتساءل الناس عن حكم الشرع: لو أن إنساناً استيقظ ووجد أثر المني على ثوبه ولكنه لم يذكر أنه أحتلم فهل يجب عليه أن يغتسل أو لايجب عليه الغسل ..؟
والجواب:
إن هذه المسألة لها صور عديدة فهناك صور يجزم فيها بالشئ وهناك صور يشك فيها ولذلك قال العلماء : القسمة العقلية في الإنسان إذا نام لاتخلو من أربع حالات :
الحالة الأولى :أن يستيقظ ويرى المني ويذكر الإحتلام .
الحالة الثانية : عكسها أن يستيقظ ولايذكر احتلاما ولايرى منياً.
الحالة الثالثة : أن يستيقظ ويرى المني ولايذكر الإحتلام .
الحالة الرابعة : أن يستقيظ ويذكر الإحتلام ولايرى المني .
فهذه أربع حالات للإنسان :
أما الحالة الأولى : وهي إذا استيقظ الإنسان ورأى المني وذكر أنه احتلم فبإجماع العلماء أنه يجب عليه الغسل لأنه أجنب ، والله- جل وعلا- أمر الجنب أن يتطهر وذلك هو الأصل الذي دلت عليه نصوص الكتاب والسنة وأجمع عليه السلف والخلف من الأمة ؛ لأنه قد تحقق من ووجود الخارج الموجب للطهارة .
الحالة الثانية : أن يستيقظ ولا يرى المني ولا يذكر الإحتلام ، فبالإجماع لا يجب عليه الغسل ؛ لأن الأصل براءة الذمة ، ولا يطالب المكلف بالاغتسال إلا إذا أجنب أو وجد فيه موجب الغسل ، وهذا لم يجنب وليس فيه موجب يقتضي إيجاب الغسل عليه فلا يجب عليه أن يغتسل .(49/10)
الحالة الثالثة : أن يستيقظ ويرى الماء - أعني المني-ولا يذكر الإحتلام ، ففي هذه الحالة يجب عليه أن يغتسل في قول جماهير السلف والخلف ، وقد فعل ذلك أمير المؤمنين عمر بن الخطاب وعثمان بن عفان ، وبه أفتى حبر الأمة وترجمان القرآن عبد الله بن عباس ، وأُثر هذا القول عن سعيد بن جبير وعن عطاء بن أبي رباح ومجاهد بن جبر والحسن البصري وإبراهيم النخعي وقال به جماهير الأمة من الأئمة الأربعة - رحم الله الجميع - .
فقد جاء عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه وأرضاه أنه صلى بالناس صلاة الفجر في المدينة ثم خرج إلى مزرعته بالجرف غربي المدينة على بضعة أميال منها ، فلما جاء المزرعة ودخل فيها جلس على الساقية وقنطرة الماء ، فلما جلس نظر إلى فخذه فإذا هو بالمني ، فقال رضي الله عنه وأرضاه ما أُراني إلا احتلمت وصليت وما اغتسلت ، ثم قام فاغتسل - - رضي الله عنه - وأرضاه-وأعاد صلاة الفجر ، ولم يأمر الناس بإعادة الصلاة ، للمسألة المشهورة : أن الإمام إذا صلى بالناس ناسياً حدثه صحت صلاة من وراءه ولا يجب عليهم أن يعيدوا ،كما هي سنة هذا الخليفة الراشد ، وهو الأصل الذي دل عليه حديث أبي هريرة في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال في الأئمة (( يصلون لكم فإن أصابوا فلكم ولهم ، وإن أخطأوا فلكم وعليهم )) ، فالمقصود أن عمر رضي الله عنه وأرضاه لماّ رأى المني على ثوبه فإنه قام واغتسل ؛ ولذلك قال العلماء : من رأى المني ولم يذكر الإحتلام فإنه يجب عليه أن يغتسل سواء رأى المني في بدنه أو رآه على ثوبه ، أما إذا رآه في فراشه ففيه تفصيل-يأتي إن شاء الله تعالى- ؛ والسبب في هذا أن من استيقظ ووجد المني على ثوبه أو بدنه فقد تحقق من خروج الماء ، وإذا تحقق من خروج الماء فمعنى ذلك أن ذمته مشغولة بالغسل ، فقد توجه عليه الخطاب أن يتطهر من جنابته فوجب عليه أن يغتسل امتثالاً لهذا الأمر الشرعي .(49/11)
أما الحالة الرابعة : وهي أن يستيقظ الإنسان فيتذكر الإحتلام ولا يرى أثراً للاحتلام - أعني الماء - ففي هذه الحالة لا يجب عليه الغسل قضى بذلك جماهير السلف والخلف ، وقال بعض العلماء - رحمهم الله - من استيقظ من نومه وتذكر أنه احتلم في النوم بمعنى أنه رأى ما يثير شهوته واستيقظ ولم ير المني فإنه لا يجب عليه شيء ، وذلك لأن الشرع علق الحكم على وجود الماء ، فإذا رأى في النوم فلا أثر لما يراه حتى يُخرج وينزل ، فإذا فضخ الماء وأخرجه فإنه يجب عليه أن يغتسل وما سوى ذلك فأضغاث أحلام لا أثر له ، وهذا كما ذكرنا قول الجماهير من العلماء ويدل عليه الحديث المتقدم في قوله صلى الله عليه وسلم : (( إنما الماء من الماء)).
كل هذه الحالات الأربع محلها إذا كان الإنسان قد رأى المني ، ففي هذه الحالات الأربع حيث أوجبنا الغسل فمحل ذلك أن يتحقق من وجود الماء -أعني وجود المني - بصفته المعتبرة ، أما إذا شك في المني أو شك في موضع المني فإنه فيه تفصيل ذكره العلماء - رحمهم الله -.
وتوضيح ذلك : أن يستيقظ الإنسان من نومه ويشك فيرى الماء ويرى البلل على الثوب أو على البدن ويشك هل هذا الماء الماء مني فيجب عليه الغسل أو هو مذي أو هو ودي أو هو بول ؟؟ فلا يدري هل هو مما يوجب الغسل أو مما لا يوجبه فإذا شك على هذه الصورة فإنه لا يخلو من حالتين :
الحالة الأولى : أن يمكنه التمييز وذلك بالرجوع إلى العلامات والأمارات المعتبرة التي يتميز بها المني من غيره فإذا أمكنه ذلك أوجب عليه الرجوع إلى العلامات والأمارت فيرجع إلى لون المني ورائحته فإذا وجد العلامة المميزة حكم بها .(49/12)
الحالة الثانية : ألا يمكن التمييز فيرى على ثوبه البلل أو يراه يابساً بعد مدة أو بعد مضي ساعات ولا يمكنه أن يميز هل هو بمني أو ليس بمني ؟؟ فحينئذ لايجب عليه الغسل فيبني على أنه مذي حتى يتحقق أنه مني وذلك للقاعدة الشرعية " اليقين لايزال بالشك " ، فإذا شك بين الأصغر والأكبر حُمل الحكم على الأصغر حتى يتحقق من الأكبر فالأصل براءة ذمتي من الغسل ونحن على يقين من المذي وعلى شك من المني فنبقى على إيجاب الوضوء لا على إيجاب الغسل وهذا هو قول جمهور العلماء رحمهم الله .
وأما بالنسبة للشك في الموضع والثوب فهو أن ينام الإنسان في ثوب له ولغيره وهذا الثوب يلبسه الإنسان ويلبسه غبره ثم يستيقظ ويرى أثر المني يابساً ولايدري هل هذا المني منيه ؟؟ فيجب عليه الغسل أو مني غيره بأن يكون لبس الثوب والمني فيه دون أن ينتبه فلا يجب عليه الغسل ففي هذه الحالة إذا تذكر الإحتلام فإنه يجب عليه أن يغتسل .
فإذا نام الإنسان في ثوب غيره ثم استيقظ ووجد أثر المني يابساً وتذكر أنه رأى شئ يثير شهوته في نومه فحينئذ يجب عليه الغسل لقيام الدليل الظاهر على أنه محتلم .
أما إذا لم يتذكر شيئاً يثير الشهوة في منامه فإنه يبني على أنه ثوب غيره وأن هذا المني مني غيره ، ولذلك يقول العلماء : في هذه المسألة لا يجب الغسل على واحد منهما ؛ لأن كل منهما يشك في الآخر ولا يمكننا أن نفرض الغسل على واحد منهما إلا بيقين أو غلبة ظن وكل من اليقين وغلبة الظن لم تتوفر دلائله الموجبة للحكم به فلا نحكم على الناس بدون دليل ، وعلى هذا قالوا لايجوز أن يأتم أحدهما بالآخر لأن كل منهما يعتقد حدث الآخر كما في المسائل التي تشابه هذه المسألة من مسائل الشكوك ، وعلى هذا فإذا كان الثوب للإنسان ولغيره وكان الغير ممن يتأتى منه الإحتلام فإنه لايجب على الإنسان أن يغتسل حتى يتذكر أنه احتلم .(49/13)
وأما إذا كان الذي يلبس الثوب وهو الشخص الثاني لايتأتى منه الإحتلام كصغير السن أو من كان دون الحلم فإنه قد بان وظهر أن الإحتلام من الثاني لا من الأول فيجب على البالغ منهما أن يغتسل .
وأما بالنسبة لمسائل الشكوك في المواضع أن ينام الإنسان على فراشه له ولغيره ثم يستيقظ ويجد أثر المني فإذا تذكر الإحتلام وجب عليه أن يغتسل .
وأما إذا لم يتذكر الإحتلام وكان الغير الذي معه لايتأتى منه أن يحتلم فإنه يجب عليه أيضاً أن يغتسل لقيام غلبة الظن مقام اليقين .
وأما إذا كان الغير الذي ينام في هذا الموضع ممن يتأتى منه الإحتلام فحكم هذه المسألة يكون كحكم المسألة التي ذكرناها في الثوب فلا يجب الغسل على واحد منهما ؛ لأن الأصل براءة الذمة .
ولايصح أن نلزم الناس بالغسل إلا بدليل ولم يتحقق الدليل في تعيين أحدهما أنه المحتلم إلا أن الأحتياط والورع أن يغتسل كل منهما في المسألتين رفعاً للشك لقول النبي صلى الله عليه وسلم : (( دع مايريبك إلى مالايريبك )) والبر طمأنية والإثم ريبة .
قال المصنف رحمه الله :حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ مَنِيعٍ حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ خَالِدٍ الْخَيَّاطُ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ هُوَ الْعُمَرِيُّ عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ عَنِ الْقَاسِمِ بْنِ مُحَمَّدٍ عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ:" سُئِلَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَنِ الرَّجُلِ يَجِدُ الْبَلَلَ وَلاَ يَذْكُرُ احْتِلاَماً؟" قَالَ:(( يَغْتَسِلُ ))وَعَنِ الرَّجُلِ يَرَى أَنَّهُ قَدِ احْتَلَمَ وَلَمْ يَجِدْ بَلَلاً قَالَ:(( لاَ غُسْلَ عَلَيْهِ )) قَالَتْ أُمُّ سَلَمَةَ يَا رَسُولَ اللَّهِ هَلْ عَلَى الْمَرْأَةِ تَرَى ذَلِكَ غُسْلٌ؟ قَالَ:(( نَعَمْ إِنَّ النِّسَاءَ شَقَائِقُ الرِّجَالِ)) .(49/14)
قَالَ أَبو عِيسَى رحمه الله : وَإِنَّمَا رَوَى هَذَا الْحَدِيثَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ حَدِيثَ عَائِشَةَ فِي الرَّجُلِ يَجِدُ الْبَلَلَ وَلاَ يَذْكُرُ احْتِلاَماً وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ ضَعَّفَهُ يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ مِنْ قِبَلِ حِفْظِهِ فِي الْحَدِيثِ وَهُوَ قَوْلُ غَيْرِ وَاحِدٍ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَالتَّابِعِينَ إِذَا اسْتَيْقَظَ الرَّجُلُ فَرَأَى بِلَّةً أَنَّهُ يَغْتَسِلُ وَهُوَ قَوْلُ سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ وَأَحْمَدَ و قَالَ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ مِنَ التَّابِعِينَ إِنَّمَا يَجِبُ عَلَيْهِ الْغُسْلُ إِذَا كَانَتِ الْبِلَّةُ بِلَّةَ نُطْفَةٍ وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ وَإِسْحَقَ وَإِذَا رَأَى احْتِلاَمًا وَلَمْ يَرَ بِلَّةً فَلاَ غُسْلَ عَلَيْهِ عِنْدَ عَامَّةِ أَهْلِ الْعِلْمِ .
الشرح:(49/15)
هذا الحديث ضعفه العلماء رحمهم الله لعبدالله بن عمر بن حفص بن عاصم بن عمر بن الخطاب فجّد جّده عمر بن الخطاب-- رضي الله عنه -وأرضاه-والرجل عابداً صالحاً ألا أنه ضعف من جهة الحفظ والضبط ؛ ولكن أصل الحديث ثابت في الصحيح كما في حديث أم سليم-رضي الله عنها وأرضاها-أنها سَألت رسول الله صلى الله عليه وسلم وقالت يارسول الله:" أن الله لايستحي من الحق هل على المرأة من غسلاً إذا رأت مايرى الرجل "فقال صلى الله عليه وسلم :(( نعم إذا رات الماء )) فدل هذا الحديث على أن العبرة برؤية الماء وأصل هذه المسألة الفقهية من كون الإنسان يشك فيرى أثر الماء ولايذكر الإحتلام مبنية على تأثير الماء والإنزال في أجيب الغسل ، وقد دلّ حديث أم سليم-رضي الله عنها وأرضاها- الثابت في الصحيحين على أن الماء هو الذي يعول عليه ، وعلى هذا فإن ترجمة المصنف رحمه الله للمسألة صحيحة ولها أصوال تدل على أعتبرها وقد دلّ على ماذكرناه من كون الإنسان إذا استيقظ ورى أثر المني أنه يجب عليه الغسل سواء ذكر الإحتلام أو لم يذكر الإحتلام .
- ? - ? - ? - ? - الأسئلة - ? - ? - ? - ? -
السؤال الأول:
هل خروج المني بدون شهوة يوجب الغسل أم لا..؟؟
الجواب:
بسم الله الحمدلله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن وآلاه أمابعد:
فخروج المني بدون شهوة فيه خلاف مشهور بين أهل العلم رحمهم الله قال بعض أهل العلم إذا خرج المني بدون شهوة فله صور :
الصورة الأولى : أن يخرج على سبيل المرض ، وقول طائفة من العلماء لايجب الغسل وهو الصحيح .(49/16)
الصورة الثانية : أن يخرج بوجود فزعاً أو لدغةٍ عقرب أو لسعة حيةٍ أو نحو ذلك كشدة برد فقالوا إنه لايجب عليه الغسل إذا كان على سبيل الفجعة في حال الفزع وهذا أيضا صحيح ، أنه إذا فجع وأخرجه بدون طوعه كأنه مغلوباً عليه فلا يجب عليه الغسل ألا أن الحكم في المسألة الثانية دون المسألة الأولى في القوة ولذلك لو تورع واحتاط فهو أفضل من صور هذا المسألة أيضاً:
أن يخرج المني من الإنسان في قطرات كما هومشهوراً في زمننا في حال إستئصال الغدة التي تتحكم في خروج المني والبول فإنه إذا استأصلت غدة البروستات المشهوة ربما خرج المني مع البول وأصبح الإنسان لايتحكم ففي حكم هذه المسائل هذه المسألة ويَتخرج على القول الذي لايرى وجوب الغسل بخروج المني على سبيل المرض القول بعدم وجوبه في هذه الحالات ، وهذا هو القول الأقوى والأصح -إن شاء الله تعالى- ؛ ولكن الأفضل والأولى أن الإنسان يحتاط ويستبرأ لدينه ، والله تعالى أعلم.
السؤال الثاني:
إذا صلى الإنسان ثم تذكر أو رأى في اليوم الثاني أن على ملابسه أثر المني فهل يعيد الصلوات التي صلاها..؟؟
الجواب:
من استيقظ من نومه وكان قد احتلم وصلى بعد ذلك ولم يغتسل فإنه يعيد من أخر نومة نامها فلو جاء في صلاة العشاء ووجد أثر المني بعد صلاة العشاء وكان قد نام بعد الظهر ونام بالليل فيحتمل أن يكون المني من نوم الليل ويحتمل أن يكون المني من نوم النهار فيقول العلماء يعيد من أخر نومة نامها يعني يعيد صلاة العصر والمغرب والعشاء إذا كان نومه بالليلة الماضية وظهر يومه ، أما لوكانت نومة النهار قبل الظهر وهو القيلولة فنام قبل الظهر ثم استيقظ بعد ذلك ورآى أثر المني بعد العشاء فيعيد الظهر والعصر والمغرب والعشاء.(49/17)
فالواجب على من رأى أثر المني ولم يتذكر متى كان خروجه أن يبني على آخر نومة نامها ، أما لوكان قد احتلم في اليوم الأول ثم صلى صلوات اليوم الذي احتلم فيه ثم صلى صلوات اليوم الذي يليه ثم تذكر في اليوم الثاني فيعيد جميع الصلوا ت من بعد احتلامه الأول ولايعتد بالمنام ، والله تعالى أعلم .
السؤال الثالث:
ماهو الراجح في مسألة إذا أنزل الرجل قطرات فهل يجب عليه الغسل أم يأخذ بالقول الثاني أنه لايغتسل..؟؟
الجواب:
إذا أنزل المني قطرات بعض العلماء لايرى أنه يجب عليه الغسل ؛ لأن الله يقول:{ خُلِقَ مِنْ مَاءٍ دَافِقٍ} والقطرات ليست بدفق ، وعلى هذا قالوا إذا خرج المني قطرات لم يجب عليه الغسل والواقع أن مسألة قطرات المني تأتي على صور :
الصورة الأولى : أن يخرج المني قطرات من أول خروجه ويتتابع ويسترسل فهذه يجب فيها الغسل ؛ لأنهم قالوا يكون خروجه قطرات لعلة في غدة وذكر هذا الأطباء أن الغدة التي لا تدفق المني تكون معتله فهو قد أخرج ويعتبر في حكم من فضخ لكن هذا الاسترسال في القطرات إمارة على الدفق وإن لم يكن دفقاً كاملاً يجب عليه أن يغتسل ؛ لأنه في حكم الدفق الكامل .(49/18)
أما إذا كانت قطرة تلو القطرة أو قطرة وأنحبس المني فهذه يكون في بعض الأحيان المني تبعاً للمني الأول وذُكر لذكر صوراً منها أن يجامع الرجل المرأة ثم يكسل عن أخراج المني كاملاً فتبقى القطرات في المجرى في إذا اغتسل عن منيه الأول تأخرت قطرات ذلك المني الأول ولربما خرجت يكون إمناءه أول النهار فتبقى معه ولاتخرج إلا في آخر النهار ولربما خرجت منه وسط النهار على حسب قوته على الإخراج والدفع في هذه الحالة إذا جامع امرأته ثم اغتسل ثم خرج المني قطرات بعد الغسل فإنه منياً تابعاً للمني الأول وقد أفتى بذلك جمع من السلف وكان الإمام أحمد رحمه الله كما يقول الإمام بن قدامه وغيره-رحمهم الله أجمعين- تواترت عنه الروايات أن هذه المسألة يتوضأ فيها ولايغتسل لأن المني الثاني تابعاً للمني الأول ، فالقطرات التي خرج فيها المني على هذه الصورة إنما هي تابعة للدفق الأول .
وأما إذا كانت قطرات منفصلة فهذه فيها الخلاف الذي ذكرناه إذا كان لضعفٍ في غدته وكان خروج القطرات مسترسلاً أشبه بالدفق وجب الغسل ، وإما إذا كانت القطرة وينحبس المني فأصح أقوال العلماء أنه لا يجب فيه الغسل ، والله تعالى أعلم.
السؤال الرابع:
إذا جامع الرجل زوجته ولم ينزل ثم ذهب يصلي وذلك لجهالة بالحكم فهل صلاته صحيحة أم لابد أن يعيدها..؟؟
الجواب:(49/19)
إذا جامع الرجل أمرأته ولم يغتسل ثم صلى فإنه يجب عليه أن يعيد الصلاة ولو صلى عمره كله فإنه يجب عليه أن يغتسل ويعيد الصلوات وذلك لأنه مأمور بأن يسأل كيف الطهارة وماهي أسباب الطهارة لأنها أموراً يلزمه علمه ، ولذلك يقول العلماء : من أسلم وكان متزوجاً يجب عليه أن يعلم مسائل الغسل من الجنابة وما الذي يجب عليه في حال جمّاعه لأهله ومتى يجب عليه الغسل ومتى لا يجب حتى تبرأ ذمته ويكون ذلك موجباً لقيامه بواجب الله وفرضه عليه ، أما كونه يجامع أهله لا يغتسل ويبقى على ذلك دون أن يسأل العلماء ويرجع إلى العلماء ثم يقال أنه جاهل ويعذر بجهلة فهذا ليس مما يكون الجهلة فيه عذراً ، والله تعالى أعلم.
السؤال الخامس:
نرجوا تفصيل القول في حكم الإستمناء أو مايسمى بالعادة السرية وهل يوجب الغسل..؟؟
الجواب:
الإستمناء إستفعال من المني والمراد به طلب خروج المني يستوي أن يكون باليد أو يكون بالاحتكك بأي شيء على الأرض أو على جدر أو على غير ذلك فكله يوصف بكونه إستمناء ، هذا الإستمناء جماهير السلف والخلف رحمهم الله على حرمة ، ولذلك لما سئل بعض إئمة السلف عن حكم الإستمناء وكان يسمى بالجاهلية وصدر الإسلام يسمى جَلَدة عميرة وكان يقٌال :
إذا حلت بوادً لاأنيس به فجلد عميرة لاعيب ولاحرج(49/20)
فكانوا يفعلونه في الجاهلية فهو من قبائح الجاهلية التي كانوا يعتادونها ويئلفونها ، فلما سئل الإمام مالك عن ذلك أيجلد عميرة ؟ قال: لا هو حرام إن الله- - عز وجل --يقول:{ وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ - إِلاَّ عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ - فَمَنْ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الْعَادُونَ}(1) أي أنه اعتدى اعتدى حدود الله عز وجل وغشى محارمه حينما أنزل هذه النطفة بغير وجهها وفي غير محلها وعلى غير الصورة التي أذن الله له أن يخرجها بها ، وعلى هذا قالوا أنه محرم ولأن النبي صلى الله عليه وسلم لمّا ذكر الزواج قال:(( يامعشر الشباب من استطاع منكم الباءة فليتزوج فإنه أغض للبصر وأحصن للفرج ومن لم يستطع فعليه بالصوم فإنه له وجاء)) ومعلوماً أن الإستمناء يطفئ الشهوة ومع ذلك عدله إلى الصوم ولم يذكر الإستمناء فلو كان الإستمناء حلال لذكره رسول الله صلى الله عليه وسلم لأن الشاب الذي ليس عنده مؤنة النكاح أحوج ما يكون إلى مايكسر شهوتة والإستمناء يكسر الشهوة ويطفئه كما لايخفى ، وعلى هذا دلت السنة دلالةً واضحةً على أنه لايجوز أن تطفئ الشهوة بالإستمناء كونه عليه الصلاة والسلام يعدل إلى الصومٍ ويقول :((إنه له وجاء)) يدل على أنه لايجوز الإستمناء ، قال جمهور العلماء : أنه يعتبر من المحرمات ولأن فيه أفساداً للماء ولأن الأطباء قد قررو أن هذه العادة السرية تضّر بالرجل وتضّر بالمرأة فهي تؤثر على فرجه وتؤثر على بصره وتؤثر على عصبه ؛ لأن الإنسان فيه شهوة مركبة على وجه فطري إذا قضاها على غير هذا الوجه الفطري فإنه ينحرف بها عن صراطها السوي فتتأثر أجهزة الإنسان الحسية التي هي الجسدية وتتأثر أجهزته العصبية ، ولذلك غالباً مايكون الإنسان الذي يتعاطى مثل هذه العادة أن يضر ويصيبه الضرر في نفسه وكذلك
__________
(1) / الؤمنون ، آية : 5-7.(49/21)
أيضاً في جسده ، من الأمور التي ذكرها بعض العلماء لمن إبتلي بهذه العادة أن يتعاطى الإسباب في تركها :
وأول ماينبغي عليه : أن يلتجئ إلى الله عز وجل يسأل الله سبحانه وتعالى أن يصرف عنه الفتنة قال صلى الله عليه وسلم :((تعوذوا بالله من الفتن ماظهر منها ومابطن )) : (( تعوذوا بالله )) أي سلوا الله أن يُعيذكم من الفتن ماظهر منها ومابطن فإنه لاحول للعبد ولاقوة لكي ينزع عن حرام ويسلم من الآثمام إلا بتوفيق الله-- جل جلاله -- ، ولذلك قال الله-تعالى-:{كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ}(1) فالله هو الذي يلطف بعبده وهو الذي يصرف عنه الفتن فمن صدق مع الله صدق الله معه .
الأمر الثاني : أن يأخذ بالإسباب فيهئ من نفسه أن يطلب الحلال الذي أحل الله ومن أنصرف عبداً عن حلال الله إلى حرمه ألا ساءت عاقبة في الدينا والآخرة ألا أن يرحمه الله فيغفر ذنبه فعلى الإنسان أن يلتمس الحلال الذي أحل الله له .
الأمر الثالث: إذا لم يستطع الزواج ولم يتكمن من الزواج فقد ذكر بعض الحكماء وبعض الفضلاء أن من أعظم الأمور التي توجب الوقوع في هذه العادة المقيته الخلوة كون الإنسان يكون وحيداً ، ولذلك قالوا الأفضل أن الإنسان يعمر وقته ويشغله في لقاء الناس وبشهود مجالس الذكر ومايزيد من إيمانه ويقوي صلته بربه عز وجل ولايجلس خالياً ما استطاع إلى ذلك سبيل فإن كانت هذه الشهوة تأتيه عند نومه فيحرص على أن لا يأتي في وقت النوم ألا وهو منهك متعب حتى يسقط على فراشه وينام وإن كانت تأتيه في أثناء نهاره فإنه يحرص على الخروج من بيته وعلى لقاء الناس والجلوس معهم لعل الله عز وجل أن يجعل في ذلك فرجاً ومخرجاً ، ونسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يُعيذنا من الفتن ماظهر منها ومابطن ، والله تعالى أعلم .
السؤال السادس:
ماحكم فعل شيء من العبادات بناء على رؤى واحلام في المنام..؟؟
__________
(1) / يوسف ، آية : 24 .(49/22)
الجواب:
العبادات توقيفه والرؤى والمنامات ليست بشرع ولابدين ؛ إنما الشرع والدين كتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم والله-تعالى-قال في كتابه :{ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمْ الإِسْلاَمَ دِيناً}(1) فليس من دين الله التعبد بالرؤى والمنامات وقد تكلم الإمام الشاطبي رحمه الله كلاماً نفيساً في هذه المسألة في كتابه النفيس "الموافقات" وبين وقرر أن الرؤى والمنامات ومايفعله بعض أهل الفرق والأهواء والمتصوفه من اعتبار المنامات أشبه بالوحي-والعياذ بالله- يعملون بها في دين الله وشرع الله أن هذا كله ليس من دين الله في شيء ولا يجوز للمسلم أن يحل حرام ويحرم حلال أو يعتقد أمراً وينسبه إلى الشرع عن طريق رؤيا أو منام وإنما ذلك مختصاً بالأنبياء الذين تكون لهم الرؤيا من النبوة ، وأما قوله عليه الصلاة والسلام :(( الرؤيا الصالحه جزء من ست وأربعين جزء من النبوة ))فهذا في حقه عليه الصلاة والسلام وليس في حق أفراد الأمة لأن جزءً من ستاً وأربعين جزءمن النبوة ؛ لأن النبوة ثلاثاً وعشرون سنة استمرت ثلاثاً وعشرين سنة وإذا كانت الستة الأشهر منها كلها رؤيا صالحه قالت عائشة في الصحيح"كان لايرى رؤي ألا جاءت مثل فلق الصبح " هذا في الستة الأشهر الأولوا فهي نصف السنة فإذا كان المجموع ثلاثاً وعشرين فمعنى ذلك أن كل سنة تنقسم إلى قسمين فيكون المجموع ثلاثاً وعشرين في اثنين يكون المجموع ستاً واربعين جزء من النبوة فصارت الستة الأشهر الأولوا جزء من ستاً وأربعين جزء من النبوة ، وهذا هو الذي قرره العلماء رحمهم الله في معنى هذا الحديث ، وأما أن ينسب إلى دين الله وإلى شرع الله رؤى المشائخ مشائخ الطرق أو أهل الأهواء والبدع ويزد في دين الله ويحدث في شرع الله ماليس منه فهذا أمر لاشك أنه خارج عن الإسلام وليس من دين الله في شيء ، والله تعالى
__________
(1) / المائدة ، آية : 3 .(49/23)
أعلم.
السؤال السابع :
إذا أسقطت المرأة بعد شهرين أو ثلاثة من حملها فهل الدم الذي يخرج منها دم نفاساً أم أنها في حكم الطهارات..؟؟
الجواب:
الإسقاط إذا واقع لا يخلوا من حالتين:
الحالة الأولى : أن يكون الذي أسقطتة المرأة فيه صورة الخلقة .والحالة الثانية : أن يكون الذي أسقطته المرأة ليست فيه صورة الخلقة .
فأما إذا أسقطت المرأة مافيه صورة الخلقة كاملةً أو ناقصة فإن الدم الذي يليه يعتبر آخذاً حكم دم النفاس.
وأما إذا أسقطت ماليس فيه صورة الخلقة فإن الدم يعتبر في حكم دم الاستحاضة ، والله تعالى أعلم.
السؤال الثامن:
إذا جُرح الإنسان في موضعاً من مواضع الوضوء ولايستطيع غسله ولامسحه لأنه مكشوفاً فماذا يصنع عند الوضوء..؟؟
الجواب:
إذا كانت بالإنسان جراح ولا يمكن أن يصيبها الماء في عضواً من أعضاء الوضوء فإنه حينئذٍ يمسح على ذلك العضو بيده المبلولة فإذا قال الأطباء أن هذا المسح يضر وأمكنه أن يستر بجبيرة أو نحوها فإنه يمسح على الجبيرة ولايباشر الجراح بالمسح وإذا فعل ذلك أجزئه ، وذهب بعض العلماء إلى القول بأن أعضاء الوضوء إذا وجد في بعضها جراح ولا يمكن غسلها ولا مسحها فإنه يجمع بين الوضوء والتيمم فيغسل ما استطاع غسله من أعضاء الوضوء ويتيمم للعضو الذي لا يمكن أن يصيبه الماء جمعاً بين البدل والمبدل وهي من المسائل المسستثناه والتي يقال فيها بالجمع بين البدل والمبدل ؛ ولكن الأول أقوى وأصح ، والله تعالى أعلم .
السؤال التاسع:
هل من كلمة توجيهة لطلبة العلم بمناسبة استئناف هذا الدرس المبارك..؟؟
الجواب:
بسم الله والحمدلله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن وآلاه أما بعد :(49/24)
أحمد الله -تبارك وتعالى- أن جمعنا بفضله ومنه وكرمه وأسالة -جل وعلا- بأسمائه الحسنى وصفاته العلى أن يجعل اجتماعنا اجتماعا مرحوما وأن يجعل تفرقنا من بعده تفرقا معصوماً وأن يجعل هذه اللقاءات خالصة لوجهه الكريم موجبة لرضوانه العظيم وإن كان لي من كلمة فأحب ما مايكون من المسلم تجاه نعمة الله عز وجل خاصة العلم أن يثني على الله بما هو أهله وأن يسكن قلبه اجلالاً لنعم الله التي أنعم الله عليه .
إن طلب العلم والجلوس في مجالس العلم وحب مجالس العلم وحب رياض العلم أمر ليس باليسير فكم من أناس يتمنون مجلسا من مجالس الذكر حيل بينهم وبين مايشتهون ؟؟ بالمشاغل والأمراض والفتن ولكن الله-جل وعلا-يختارك فهذه نعمة تستوجب منك أن تعظم ما أسدى الله اليك ولذلك يقول الله-جل وعلا-: {وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنْ اللَّهِ}(1) قال العلماء أهم مايكون في شكر النعم تعظيم نعمة الله -- جل جلاله -- فإذا شعرت أن الله اختارك وأن الله أصطفاك لروضة من رياض الجنة تغشاك فيه السكينة وتنزل عليها الملائكة ويقوم صحابهم ربما بدلت سيئاته حسنات فهم القوم الذين لا يشقى بهم جليسهم قال صلى الله عليه وسلم :(( ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله ويتدارسونه بينهم إلا نزلت عليهم السكينة وغشيتهم الرحمة وذكرهم الله فيمن عنده )) فهذه نعمة عظيمة وكم من إنسان جاء إلى مجلس ذكر أصابته رحمة سعد بها في دينه وآخرته!! قال صلى الله عليه وسلم :(( من سلك طريقا يلتمس فيه علما سهل الله به طريقاً إلى الجنة )) فقد تخرج من بيتك إلى بيت من بيوت الله وأنت تريد أن تتنققه في دينك أوتتعلم حكم من أحكام الشرع :(( من سلك طريقا يلتمس فيه علما سهل الله له به طريقاً إلى الجنة )) قال بعض العلماء أي أن الله يوفقه ويسدده ويعينه ويعصمه من الفتن حتى ينتهي به علمه إلى الجنة- نسأل الله أن يجعلنا ذلك الرجل - ،
__________
(1) / النحل ، آية : 53 .(49/25)
ولذلك تجد أهل العلم وطلاب العلم في سعادة وفي رحمة وفي ثبات ومن أعظم الأمور التي يثبت الله بها القلوب على الخير ويجعل الصدور في انشراح وطمأنينة طلب العلم فنسأل الله العظيم أن يجعلنا ذلك الرجل .
الذي أوصي به بعد حمدالله وشكر الله واجلال نعمة الله-جل وعلا- أمور :
أولها : الاخلاص فإن الله-جل وعلا- طيباً لايقبل إلا طيباً ، وقد أختار الله منك قلبك فإذا رآك وأنت تخرج من بيتك إلى حلق الذكر وأنت تريد وجهه كتب الله خطواتك وأنفاسك ومجالسك وكتب عنائك فلا تنفق قليلاً ولا كثيراً ولا يذهب من وقتك ولاعنائك ولاجهدك إلا كان في ميزان حسناتك بالإخلاص فلا تخرج رياءاً ولا تخرج سمعة ولاتخرج لقضاء الفراغ ولا من أجل الأصحاب والأحباب ولكن لله وفي الله وتقرباً إلى الله تشتري رحمة الله بكل خطوة نخطوها وبكل كلمة تسمعها ويكون دافعك وحافزك ما عندالله سبحانه وتعالى .
الأمر الثاني : رعاية هذا العلم وحق هذا العلم أن يتأدب الإنسان بأدبه وأعظم الأدب الأدب مع العلماء فواجب علينا جميعاً أن نحب أهل العلم في الله وأن نعتقد فضلهم حينما جعلهم الله امناء على دينه وشرعه .
فالله نظر إلى الخلق فمقتهم وأختار نبيه صلى الله عليه وسلم من بين خلقه خاتماً للرسل فلا قيمة للخلق عند الله إلا بهذا الدين ولا منزلة للعباد عند رب العباد إلا بهذا الدين والعلماء هم أُمناء الله عز وجل على وحيه وهم المبلغون لشرعه حملة الكتاب والسنة هداة الشريعة والملة فهؤلاء لهم حق علينا عظيم أمواتهم وأحيائهم .(49/26)
فلن تستطيع أن تجلس في مجالس العلم وأن تقوم بحقها إلا إذا حفظت قدر العلماء أحياء وأمواتا وأصبحت تعتقد فضلهم وتشيد بفضلهم لله وفي الله لارياء ولا سمعة ؛ وإنما تلتمس بذلك مرضاة الله عز وجل يقول بعض العلماء في الحديث الصحيح أن الله-تعالى- يقول للملائكة في عبدٍ خطأ مذنب مر على مجلس ذكر وحضر حلقة الذكر قال الله :((وله قد غفرت هم القوم لايشقى بهم جليس )) غفر الله لهذا الرجل الذي جلس في مجلس الذكر لحظات قال:((هم القوم لايشقى بهم جليس)) يقول بعض العلماء :" إني لأعجب من هذا الحديث أن يكون في الرجل يمر على حلقة الذكر فيجلس وهو ليس من أهل الذكر ليس ممن يداوم على حلق الذكر ولكن مر فجلس فغفر الله له فكيف بحال العالم الذي قام عليه هذا المجلس؟ " ، يعني إذا كان الله أكرم هذا الرجل الذي مر فغفر ذنبه بجلوسه لهذه اللحظات فكيف بمن تقوم عليهم حلق الذكر ، فأهل العلم لهم علينا حق خاصة الأموات وسلف الأمه فإن الإنسان لن يستطيع أن يقرأ كتب العلم وأن يستفيد منها وأن يحضر مجالسها ألا إذا عرف قدر أصحابها من العلماء الماضين من أئمة السلف خاصة أئمة الحديث وأئمة الفقه الذين من دواوين الإسلام وأئمة الإعلام- نسأل الله العظيم أن يتغشاهم برحماته وأن يجعلهم في أعالي الدرجات من جناته- .(49/27)
الأمر الثالث : أن يعطي الإنسان حق مجالس العلم من الأدب والسكينة والوقار.. الإنصات للحديث والاستماع إليه وعدم السآمة والملل قد يجلس في مجالس الذكر وتطول الساعات فلا تسأم ولاتمل فإن الله لا يمل حتى تملوا فإذا جلست إلى مجالس الذكر فانظر للكلام الذي يقال ولا تنظر إلى طريقة القول و إلى أسلوب ولا تبحث عن عبرات معينة ولا أساليب منغمة ؛ وإنما تبحث عن قال الله قال رسوله صلى الله عليه وسلم فتَّجل العلم لأنه علم فاجلال العلم لاتسأم ولاتمل ، فإن الإنسان إذا عرف أنه في رحمة وأنه يتّخوض في فرحمة فعليه أن يستمسك بهذه الرحمة وألا يمل ولايسأم ولذلك كلما صبر طالب العلم وصابر كلما علت منزلته وعظم أجره وجل مكانه عند الله وعند خلقه .
الأمر الرابع : الذي يوصى به الإنسان في مجلس العلم ضبط العلم فتحاول في قدر الاستطاعة في أي مجلس إذا أمكنك ألا تفوتك شاردة ولاواردة إلا ضبطتها وقيدتها وحفظتها حتى تبلغها للأمة فنعم ما صنعت فإن الله يأجرك على ما تسمع ويأجرك على ماتحفظ ويأجرك على ماتكتب ويأجرك على تبلغ ويأجرك على ماتعمل به من هذا العلم فتحرص على أن تخرج من هذه الحلقة أو من حلق العلماء كأفضل رجل حضرها وكأفضل سامعاً أنصت إليها وأن لا ترضى بالقليل فإذا كان الإنسان لا يستطيع أن يبلغ هذه الدرجة العالية من الحفظ والأتقان والفهم فإن عليه أن يأخذ على قدر استطاعته ، فإذا رأيت المسائل تشعبت والأقوال كثرت خذ الزبدة والخلاصة وأحرص على التركيز وحبذا لو يكون معك طالب علم تذاكره وتجالسه فإذا كان الدرس أسبوعيا تجالسه لو مرة في الأسبوع تراجع معه وتضبط فهذه أمور يوصى بها طلاب العلم .(49/28)
الأمر الخامس : أوصي به طلاب العلم العمل بالعلم فأي مجلس ذكر حضرته واستمعت فيه إلى سنة حرصت على العلم بها "ومن عمل بما علم ورثه الله علم مالم يعلم" فمن كان عاملا بعلمه فتح الله له أبواب رحمته وهذا كما قال العلماء هو العلم النافع الذي استعاذ النبي صلى الله عليه وسلم من ضده فقال :(( اللهم إني أعوذ بك من علم لاينفع)) فتحرص -رحمك الله- على أنك لاتسمع سنة إلا عملت بها ولا تسمع سنة إلا طبقتها والتزمتها ثم بعد ذلك تنتنقل إلى المرحلة الثانية وهي الدعوة والتبليغ فإذا انطلقت إلى البيت وجلست مع أهلك وولدك واستفدت الفوائد فلا تبخل على أهلك ولا ولدك تذكر لهم المسألة وتذاكرهم في العلم الذي وجدته حتى يكون ذلك أعظم لأجرك وإن الله سبحانه وتعالى يجعل الإنسان رحمة على أهله بما يسدي لهم من الخير وبما يعلمهم من الطاعة والبر ، - نسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يجعلنا هداة مهتدين غير ضالين ولا مضلين-.
وآخر دعوانا أن الحمدلله رب العالمين وصلى الله على نبينا وعلىآله وصحبه أجمعين.(49/29)
بسم الله الرحمن الرحيم
قال المصنف رحمه الله : بَاب مَا جَاءَ فِي الْمَنِيِّ وَالْمَذْيِ
حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو السَّوَّاقُ الْبَلْخِيُّ حَدَّثَنَا هُشَيْمٌ عَنْ يَزِيدَ بْنِ أَبِي زِيَادٍ (ح )قَالَ وحَدَّثَنَا مَحْمُودُ بْنُ غَيْلاَنَ حَدَّثَنَا حُسَيْنٌ الْجُعْفِيُّ عَنْ زَائِدَةَ عَنْ يَزِيدَ بْنِ أَبِي زِيَادٍ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي لَيْلَى عَنْ عَلِيٍّ قَالَ : "سَأَلْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم عَنِ الْمَذْيِ؟ " فَقَالَ : (( مِنَ الْمَذْيِ الْوُضُوءُ وَمِنَ الْمَنِيِّ الْغُسْلُ )) .
الشرح :
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين أما بعد :
فقد ذكر المصنف رحمه الله حديث علي بن أبي طالب-- رضي الله عنه -وأرضاه- وقد اشتمل هذا الحديث الشريف على حكم المذي والمذي والمني كلاهما فضلة تخرج من الإنسان وقد اعتنى العلماء رحمهم الله بذكر حكم هاتين الفضلتين واختلفوا في المني هل هو طاهر أو نجس ..؟
وأما بالنسبة للمذي فقد أجمع العلماء رحمهم الله على أن المذي نجس فترجم المصنف رحمه الله بهذه الترجمة لكي يبين حكم هاتين الفضلتين واعتنى بإيراد حديث علي-- رضي الله عنه - وأرضاه-وهذا الحديث يبين الفرق بين المني والمذي.
فأما المني فقد اختلف العلماء رحمهم الله هل هو طاهر أو هو نجس : فذهب فقهاء الحنفية والمالكية -رحمة الله على الجميع- إلى أن المني يعتبر نجساً واختلفوا هل هو مخفف في طهارته أو لا ..؟؟(50/1)
أولاً : ففقهاء الحنفية يقولون إن المني نجس ؛ ولكن الشرع خفف في نجاسته فأوجب غسله إذا كان المني رطباً وأوجب حكه وإزالته من الثوب إذا كان يابساً ، وقال فقهاء المالكية إن المني نجس والواجب على المسلم إذا أصاب المني ثوبه وأراد أن يصلي فيه أن يغسل ذلك الثوب ولا يجوز له أن يصلي بثوب عليه مني.
واحتج هؤلاء بما ثبت في الصحيح من حديث أم المؤمنين عائشة -رضي الله عنها وأرضاها - " أنها كانت تغسل المني من ثوب رسول الله صلى الله عليه وسلم " ووجه الدلالة من هذا الحديث الصحيح أن غسلها للمني يدل على كونه نجساً ؛ لأن النجاسة هي التي تغسل .
واستدلوا بأدلة عقلية وهناك حديث ضعيف وهو حديث عمار بن ياسر-- رضي الله عنه - وعن أبيه-وحاصله أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : (( إنما يغسل الثوب من خمس وذكر البول والغائط والمني والمذي والقيء )).
وأما أدلتهم العقليه فقد قالوا إن المني يقاس على البول فكما أن البول يجب غسل الثوب منه ، كذلك المني يجب غسل الثوب منه والعلة الجامعة بينهما أنهما فضلة من البدن خارجة من العضو فكما يجب غسل البول كذلك يجب غسل المني ، كذلك قاسوا المني على المذي وقالوا يجب غسل الثوب من المني كما يجب غسل الثوب من المذي فإن كلا من المني والمذي خارج وكل منهما فضلة تكون عند الشهوة وكذلك قاسوا المني على الودي فقالوا يجب غسل المني كما يجب غسل الودي ، والمني نجس كالودي بجامع كون كل منهما فضلة من العضو هذه هي حاصل أدلة أصحاب القول الأول من النقل والعقل .
وأما أصحاب القول الثاني فقالوا إن المني طاهر وإذا أصاب الثوب جاز لك أن تصلي فيه ، وبهذا القول قال فقهاء الشافعية والحنابلة والظاهرية -رحمة الله على الجميع- فهم يرون أن المني طاهر وحكمه كحكم سائر الطاهرات واستدلوا على مذهبهم بأدلة نقلية وعقلية .(50/2)
فأما دليلهم النقلي فاحتجوا بما ثبت في الصحيح من حديث أم المؤمنين عائشة-رضي الله عنها وأرضاها- " أنها كانت تفرك المني من ثوب رسول الله صلى الله عليه وسلم فيصلي فيه" ، ووجه الدلالة من هذا الحديث الصحيح أن الفرك لا يستلزم إخراج المني ولا شك أنه لو فرك الثوب وزال المني وهو يابس فإنه يبقى أصله في خلل الثوب فقالوا كون النبي صلى الله عليه وسلم يصلي في الثوب مع أن المني لم يغسل يدل دلالةً واضحةً على أن المني طاهر ، واستدلوا كذلك بحديث ابن عباس-رضي الله عنهما-أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل عن المني ؟؟ فقالصلوات الله وسلامه عليه: (( إنما هو بمنزلة المخاط تميطه عنك بإذخرة أو بخرقة )) رواه الدارقطني والبيهقي واختلف العلماء في رفعه ووقفه فصحح جمع من الأئمة رحمهم الله رفع هذا الحديث الصحيح إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم واختاره غير واحد من الأئمة كابن الجوزي وغيره ، وقال بعض العلماء : إنه موقوف على حبر الأمة وترجمان القرآن عبدالله بن عباس -رضي الله عنهما-كما جزم به البيهقي وعلى هذا الحديث فإن النبي صلى الله عليه وسلم نزل المني منزلة المخاط ، والمخاط بإجماع العلماء طاهر فكأن رسول الله صلى الله عليه وسلم أراد أن يبين أن المني طاهر كسائر الطاهرات التي يفضلها البدن .
واستدلوا كذلك بالقياس : من وجوه قالوا المني طاهر كالدموع بجامع كون كل منهما فضلة من البدن وقالوا إن المني طاهر كالمخاط بجامع كون كل منهما فضلة من البدن .
والذي يترجح من القولين والعلم عند الله هو القول بطهارة المني وذلك لما يلي :
أولاً : لصحة دلالة النقل والعقل على هذا القول .(50/3)
ثانياً:أن غسل أم المؤمنين عائشة -رضي الله عنها- للمني من ثوب النبي صلى الله عليه وسلم ؛ إنما هو تنويع في الإزالة وإنما يستقيم الاستدلال به على نجاسة المني أن لو كانت أم المؤمنين-رضي الله عنها- اقتصرت على الغسل فقط ؛ لكن كونها تغسله وتفركه يدل على أن الغسل لم يتمحض في الدلالة على النجاسة ، وعلى هذا فإن أصح القولين القول بطهارة المني .
والسؤال : هل الحكم بطهارة المني الذي اختاره من اختاره من العلماء رحمهم الله هل هو خاص بالرجال أو شامل للنساء ..؟؟
هذه المسألة تحتاج إلى تفصيل حاصله أن مني المرأة ليس كمني الرجل في سائر الأحوال فتارة يكون حكمه كحكم مني الرجل من حيث الأصل فهو طاهر ؛ ولكنه إذا خالطت الرطوبة التي في فرج المرأة ومازجت مني المرأة حتى أثرت كانت نجسة ؛ وذلك لأن رطوبة فرج المرأة -كما سيأتي حكمها- أنها نجسة على ظاهر حديث عثمان رضي الله عنه وأرضاه في أمره صلوات الله وسلامه عليه بغسل العضو من رطوبة فرج المرأة وإذا ثبت أن رطوبة فرج المرأة تعتبر نجسة فإننا ننظر في المني إذا خالط الرطوبة حيث لا يخلو من حالتين :
الحالة الأولى : إما أن يخالط ويتأثر فحكمه حكم ما خالطه ومازجه -أعني كونه نجساً- .
الحالة الثانية : إذا خالطته الرطوبة ولم تؤثر فالمني -أعني مني المرأة- من حيث الأصل يعتبر طاهراً كمني الرجل.
والسؤال : إذا عرفنا أن مني الآدمي طاهر فما حكم مني الحيوانات ..؟؟
والجواب : أن الحيوان لا تخلو من حالتين:(50/4)
الحالة الأولى: أن تكون مأكول اللحم يشمل ذلك بهيمة الأنعام كالإبل والبقر والغنم وسائر ما أحل الله من الحيوانات المباحة الأكل كالطيور وغيرها من الحيوانات التي تصطاد فإذا كان الحيوان مأكول اللحم فإن منيه طاهر ، والدليل على طهارته أن رسول الله صلى الله عليه وسلم : " أمر العرنيين أن يشربوا من أبوال الإبل وألبانها " ، وكذلك ثبت عنه عليه الصلاة والسلام في الحديث الصحيح : " أنه أجاز الصلاة في مرابض الغنم " ، وثبت عنه عليه الصلاة والسلام في الحديث الصحيح : " أنه صلى على البعير " فهذه الأدلة كلها تدل دلالةً واضحةً علىأن الحيوان إذا كان مأكول اللحم أن فضلته تعتبر طاهرة ، وبناءً على ذلك يعتبر مني هذا النوع من الحيوانات طاهر.
الحالة الثانية : أن يكون غير مأكول اللحم ، فإن كان غير مأكول اللحم فلا يخلو من ضربين :
الضرب الأول : أن يكون نجس العين كالكلب والخنزير فكل منهما يعتبر منيه نجساً ؛ والسبب في ذلك أن الفرع تابع لأصله والفضلة تابعة للبدن فإذا كان الحيوان نجس العين ففضلته تعتبر نجسة العين فمني الكلب والخنزير يعتبر نجساً وذلك ؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم أمر أن يغسل الإناء من ولوغ الكلب سبعاً وقال كما في صحيح مسلم : (( طهور إناء أحدكم )) فلما قال عليه الصلاة والسلام : (( طهور إناء أحدكم )) فهمنا أن الإناء تنجس وذلك لمكان نجاسة عين الكلب -وقد قدمنا هذه المسألة وذكرنا الأدلة وأقوال العلماء رحمهم الله وأن الراجح في الكلب أنه نجس العين(1) .(50/5)
وإذا ثبت هذا فإن المني فضلة من نجس وفضلة نجس العين تعتبر نجسة ، وأما الخنزير فإن الله عز وجل يقول في كتابه الكريم : { قُلْ لاَ أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلاَّ أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَماً مَسْفُوحاً أَوْ لَحْمَ خِنزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ}(1) فقال سبحانه وتعالى : { أَوْ لَحْمَ خِنزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ } والرجس هو النجس ، ولذلك نص جماهير أهل العلم رحمهم الله على أن الخنزير نجس العين وإذا ثبت هذا فإن المني يعتبر فضلة من النجس وفضلة النجس تعتبر نجسة ، وعلى هذا فإن كلا من الكلب والخنزير يعتبر منيهما نجساً وذلك لنجاسة عينهما .
وأما بالنسبة لبقية الحيوانات التي حرم الله أكل لحمها كالسباع ونحوها فللعلماء فيها وجهان مشهوران :
قال بعض العلماء : ما حرم الله أكله من الحيوانات يعتبر نجساً واحتجوا بما ثبت في الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه لما أمر بإكفاء القدور من لحوم الحمر أمر صلوات الله وسلامه عليه أن ينادي المنادي أنها رجس قالوا وقد كانت لحوم الحمر الأهليه تؤكل وكانت طاهرة قبل تحريم أكلها فلما ورد النص بتحريم أكلها حكم بنجاستها فصار أصلا ودليلاً على أن محرم الأكل يعتبر نجساً كما يقول طائفة من أهل العلم ، وبناءً على هذا القول يتخرج القول بنجاسة المني كما هو منصوص عليه في كتب الفقهاء من الحنفية والمالكية ، وقال به بعض أصحاب الشافعي -رحمة الله على الجميع- هذا هو حاصل ما يقال في المني .(50/6)
وأما بالنسبة للمذي : فالمذي أصله ماء رقيق لزج يخرج قطرات عند وجود الشهوة وبدايتها كالملاعبة والتقبيل ونحو ذلك ، وهذا النوع من الفضلات ورد النص فيه بكونه نجساً وذلك في حديث علي رضي الله عنه وأرضاه ولم يخالف في نجاسة المذي إلامن شذ ممن لايعتد خلافه من أهل البدع والأهواء ، وأما جماهير السلف والخلف فعلى القول بنجاسة المذي ؛ لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر علياً أن يغسل ذكره من المذي فدل على أنه آخذ حكم البول سواءً بسواء0
والسؤال : هل المذي في المرأة كالمذي في الرجل ..؟؟
والمذي في المرأة يقول طائفة من العلماء إنه هو الرطوبه التي تكون في الفرج نزلت منزلة المذي لحكمةٍ من الله سبحانه وتعالى ، ولذلك يكثر هذا السائل عند وجود الملاعبة كالمذي سواء بسواء .
واختلف العلماء رحمهم الله في رطوبة فرج المرأة ففقهاء الحنفيه وقول عند الشافعيه ووجه عند الحنابلة على الطهارة وفقهاء المالكية وقول عند الشافعية ووجه عند الحنابلة على النجاسة .
واحتج الذين قالوا بطهارة رطوبة فرج المرأة بالأصل قالوا إن الأصل طهارة الرطوبة حتى يدل الدليل على النجاسة وليس ثَّم دليل يدل على نجاسة رطوبة فرج المرأة فحكمها كحكم سائر رطوبة البدن فكما أن رطوبه الإبط لا يحكم بنجاستها ورطوبة الرفغ التي تكون اسفل من الركبة لايحكم بنجاستها فكذلك بالنسبة لرطوبة الفرج .(50/7)
واحتج الذين قالوا بنجاسة رطوبة المرأة بما ثبت في الصحيح من حديث عثمان رضي الله عنه وأرضاه أن النبي صلى الله عليه وسلم أمرمن جامع أهله ولم ينزل أن يغسل ذكره وما أصابه منها ، وقد ثبت في هذا الحكم حديثان صحيحان عن النبي صلى الله عليه وسلم قالوا ، وبناءً على ذلك فإن أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم لغسل العضو بعد الجماع يدل دلالةً واضحةً على كون ذلك الشيء -أعني الرطوبة نجساً- ، وقالوا إن رطوبة المرأة حكمها كحكم مذي الرجل فتكون نجسةً بجامع كون كل منهما فضلةً تخرج عند الشهوة .
والذي يترجح في نظري والعلم عند الله هوالقول بنجاسة رطوبة المرأة على ظاهر السنة الصحيحة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ؛ ولكن إذا غلبت الرطوبة المرأة وعسر عليها أن تحترز من هذه الرطوبة فحكمها كحكم المستحاضه سواءً بسواء وقد فصل بعض العلماء رحمهم الله فيما يجب على المرأة إذا أصابتها الرطوبة وغلبتها كدم الاستحاضه فقالوا إنها تغسل الفرج فإذا كانت الرطوبة يمكن أن تنحبس بالقطن ونحوه فإنها تضع القطن كما أمر به رسول صلى الله عليه وسلم المستحاضة ، وأما إذا غلبتها الرطوبة وأمكنها أن تتلجم تلجمت فإن ثجت الرطوبة وغلبتها فإنها تتوضأ لدخول وقت كل صلاة كما تقدم معنا في المستحاضة سواء بسواءً .
وبناءً على هذا فإن خلاصة القول في رطوبة فرج المرأة أنها نجسة وذلك لظاهر دلالة السنة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنه يخفف على النساء في هذه الرطوبة إذا غلبتهن وأصبح من العسير أو مما يشق عليهن أن يمنعن هذه الرطوبة أو أن يتقينها لكثرتها وصعوبة التحرز منها .
قال المصنف رحمه الله : وَفِي الْبَاب عَنْ الْمِقْدَادِ بْنِ الأَسْوَدِ وَأُبَيِّ ابْنِ كَعْبٍ .(50/8)
قَالَ أَبو عِيسَى رحمه الله : هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ وَقَدْ رُوِيَ عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم مِنْ غَيْرِ وَجْهٍ : (( مِنَ الْمَذْيِ الْوُضُوءُ وَمِنَ الْمَنِيِّ الْغُسْلُ )) .
وَهُوَ قَوْلُ عَامَّةِ أَهْلِ الْعِلْمِ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَالتَّابِعِينَ وَمَنْ بَعْدَهُمْ وَبِهِ يَقُولُ سُفْيَانُ وَالشَّافِعِيُّ وَأَحْمَدُ وَإِسْحَقُ .
الشرح:
دل هذا الحديث على نوعين من النواقض :
النوع الأول : يتعلق بالطهارة الصغرى وهو المذي .
و النوع الثاني : يتعلق بالطهارة الكبرى وهو المني .
فخروج المني يوجب الغسل وخروج المذي يوجب الوضوء ، وبناءً على ذلك فإنه يعتبر المذي غير آخذ حكم المني وقد جاء عن علي رضي الله عنه وأرضاه أنه كان يظن أن المذي حكمه حكم المني وكان يغتسل من خروج المذي حتى تشقق ظهره من كثرة الغسل في الشتاء واشتكى من ذلك حتى أمر المقداد أو عمار رضي الله عن الجميع أن يسأل النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك فأمره عليه الصلاة والسلام بالوضوء ، وجاء في الحديث الذي معنا هنا أنه هو الذي سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ولذلك استشكل العلماء حديثنا مع الأحاديث الأخر الصحيحه هل الذي سأل النبي صلى الله عليه وسلم علي ؟ أو الذي سأله المقداد أو عمار وقد جاءت الرواية عند النسائي بالتفصيل والبيان ، وحاصلها أن عليا رضي الله عنه وأرضاه استحيا أن يسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن حكم المذي وذلك لمكان بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم منه فأمر المقداد أو عمار ، وقال بعض العلماء : أمرهما أن يسألا رسول الله صلى الله عليه وسلم فسألاه المسألة ، وللعلماء في هذا وجوه :(50/9)
فمنهم من يقول : إن عليا أمرهم بالسؤال ثم إنه لم يقتنع بجوابهما وأحب أن يتاكد بنفسه فوقع السؤال المباشر منه لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، وعلى هذا تخرجت رواية الترمذي -رحمة الله عليه- أن السائل علي وقالوا إنه أمر المقداد أو عمار ، وجزم بعض العلماء بأن السائل هو عمار .
وقال بعض العلماء : بل هو المقداد وحيث صح الخبر بسؤال كل منهما فلا مانع أن يكون كل منهما قد سأل وأما كون علي هو الذي سأل على ظاهر روايتنا فللعلماء في هذا الإسناد لعلي وجهان :
قال بعض العلماء : علي سأل حقيقة وهذا هو ظاهر الرواية التي معنا أنه تولى سؤال النبي صلى الله عليه وسلم بنفسه ، ومنهم من يقول إن علياً أمر بالسؤال والعرب تسند الفعل إلى من أمر به فيقولون بنى الأمير القصر ؛ لأنه هو الذي أمر ببنائه فيكون على هذا الوجه فيه تجوز .
والصحيح الأول إلا أن الوجه الثاني سببه حياء علي رضي الله عنه وأرضاه من سؤال رسول صلى الله عليه وسلم .
وقوله- عليه الصلاة والسلام - : (( في المذي الوضوء )) : فيه نوع من الاختصار وذلك أن المذي فيه أحكام :
الحكم الأول : أنه يجب غسل الفرج منه واختلف العلماء هل يجب غسل الذكر كاملاً ؟ أو يجزي غسل بعض الذكر..؟؟
فقال جمع من العلماء : الواجب غسل الجميع ؛ لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : (( اغسل مذاكيرك )) وقال كما في الروايه الصحيحه : (( ليغسل ذكره وأنثييه )) قالوا فهذا يدل دلالةً واضحةً على وجوب غسل العضو كاملاً ، وقالوا إنه يأخذ حكم البول فكما يجب غسل جميع العضو في البول ، كذلك يجب غسل جميعه من المذي إذ كلاً منهما يعتبر نجساً موجباً للطهارة -أعني طهارة الخبث- .
وقال بعض العلماء : الواجب غسل بعض العضو ، واختلفوا على وجهين :
فقال بعضهم : يجب غسل الذكر وحده دون الأنثيين .
وقال بعضهم : الواجب أن يغسل محل الخروج فقط.(50/10)
والصحيح أن الواجب غسل جميع الذكر فإن الروايه بإضافة الأنثيين رواية صحيحة : " ومن حفظ حجة على من لم يحفظ " إضافة إلى تصريحه عليه الصلاة والسلام بغسل العضو ، والأصل حمله على الجميع حتى يدل الدليل على البعض ، وعلى هذا فإن الحكم في طهارة العضو أن يغسل جميعه .
واختلف العلماء رحمهم الله إذا كان المذي يجب منه غسل العضو كاملاً فهل تجزي الطهارة الجامدة عن الطهارة المائعة ..؟؟
والمراد بهذا السؤال هل يجوز للمسلم أن يتطهر بالحجر ويستجمر من المذي كما يستجمر من البول سواء بسواء قال بعض العلماء : المذي يجب فيه الغسل ولا يجزيء فيه أن يستجمر كالبول ؛ والسبب في ذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر بالغسل فدل على أنه متعين وإذا تعين الغسل فإنه لا يقوم غيره مقامه -أعني الجامد- ، وقالوا أيضا إنه يجب الغسل وذلك لأمرين مهمين :
الأمر الأول : أنه إذا غسل العضو تقلصت العروق وذلك أبلغ في حبسه حتى لا يصاب بالسلس .
وأما الحكم الثاني : فإن الغسل بالماء للمذي لكونه فيه لزوجة وهذه اللزوجة لا يمكن تطهيرها بالجامد كالبول فهناك فرق بين المذي والبول فالبول إذا طُهر بالجامد كالحجر تشرب في الحجر وزال .
وأما بالنسبة للمذي فإن فيه لزوجة يخالف بها البول ويكون حكمه أشد من حكم البول من هذا الوجه وهذا القول فيه احتياط خاصةٍ وأن بين البول والمذي فرقاً لا يخفى على من نظر ، ولذلك فالأولى والأحرى أن يحتاط في المذي وأن يغسل العضو منه ولا يجتزئ فيه بالاستجمار .
وأما بالنسبة للحكم الثالث في المذي فهو وجوب الوضوء وهو الذي عناه النبي صلى الله عليه وسلم بقوله : (( من الذي الوضوء)) ومن بمعنى السبب أي بسبب المذي يكون الوضوء فدل على أن المذي يعتبر ناقضاً من نواقض الطهارة الصغرى .
- ? - ? - ? - ? - الأسئلة - ? - ? - ? - ? -
السؤال الأول :(50/11)
إذا اغتسل الانسان حسب السنة فهل بعد فراغه من غسله يتوضأ ؛ لأنه قد يكون قد لمس فرجه مثلاً وهو يلبس ملابسه ؟ أم يكتفى بغسله الأول ..؟؟
الجواب :
بسم الله الحمد لله والصلاة والسلام الأ تمان الأكملان على خير خلق الله وعلى آله وصحبه ومن والاه أما بعد :
فقد دلت السنة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أن من اغتسل أجزأه الغسل عن الوضوء وأنه يصلي بعد الغسل مباشرة ، وهذا إذا كان قد نوى الوضوء مع الطهارة الكبرى أو نوى أن يصلي بعد غسله ففي هذه الحالة يجوز له أن يصلي عقب الغسل ويجزيه الغسل عن الوضوء ؛ لأن أم المؤمنين عائشة -رضي الله عنها وأرضاها-ذكرت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه كان يصلي عقب غسله ولا يتوضأ .
وأما إذا وقع مسه للعضو بعد فراغه من الغسل فإنه يجب عليه أن يتوضأ ، وأما إذا وقع لمسه للعضو أثناء الغسل فلا يخلو من حالتين :
الحالة الأولى : أن يلمس أثناء الغسل ويعمم بدنه بعد اللمس فيجزيه غسله ويصح له ويكون طاهراً بلا إشكال ؛ لأنه عمّم بدنه بالغسل بعد اللمس فارتفع حدثه.
والحالة الثانية : أن يقع لمسه بعد استتمام الغسل ولا يقع تعميم بعد ذلك اللمس فحينئذ يجب عليه أن يعيد الوضوء ، والله تعالى أعلم .
السؤال الثاني :
أشكل علي القلس في حكمه فهل إذا أتى القلس في الصلاة فهل ينقض الوضوء ؟ وتقطع الصلاة به كالخارج من السبيلين أم لا ..؟؟
الجواب :(50/12)
القلس لا يعتبر نجساً سواء كان من الطفل أو كان من الرجل ، والقلس يكون عند الشبع وقد تحمل المرأة صبيها أو رضيعها ويكون حديث العهد بالرضاعة فإذا حملته وجاء بطنه على صدرها قلس فهذا القلس طاهر وإذا كان ما استفرغه الإنسان لم يتغير لونه ولا رائحته ولم توجد فيه صفات النجاسة فإن أصله الطهارة ويحكم بكونه طاهرا والقلس في قول جماهير السلف والخلف على أنه طاهر ؛ وإنما تكلم العلماء على ما يقيؤه الإنسان وهناك فرق بين القيء والقلس فالقلس لا تتغير فيه المادة والأصل طهارة المادة .
وأما بالنسبة للقيء فتارة يكون متغيراً وتارةً يكون غير متغير على حسب وقت القيء من قربه من الطعام أو بعد وقته عن الطعام وقد قدمنا حكم الفضلات فإن كان القيء قد تغير فيه الطعام فوجدت فيه رائحة النجاسة أو قاء طعاماً وشكل الطعام قد تغير واستنفذت مادته فإنه يحكم بنجاسته ويأخذ حكم النجاسة بلا إشكال ؛ لأنه لما استنفذ واستهلكت مادته وتغيرت استوى أن يخرج من أسفل البدن أو يخرج من أعلى البدن وحكمه حكم النجاسات سواء بسواء ، وأما إذا كان القيء الطعام فيه طعام غير متغير كما لو أن انساناً أفطر أو أصاب طعاماً ثم رأى شيئاً فقاء مباشرة فهذا القي ليس بنجس وحكمه حكم الطعام الطاهر ؛ لأنه لم تستهلك مادته وهذا هو أصح الوجهين عند العلماء رحمهم الله أنه يفصل في القيء على هذا التفصيل .
وأما بالنسبة للقلس فالقلس مادته طاهرة ولذلك يكون فضلة الامعاء ومادته طاهرة ولا يحكم بنجاستها سواء كان من الصغير أو من الكبير ، والله تعالى أعلم .
السؤال الثالث :
ذكرتم حفظكم الله طهارة المني ونجاسة المذي ولكن ما هو توجيهكم بالنسبة للغسل من المني وهو طاهر والوضوء من المذي وهو نجس..؟؟
الجواب :(50/13)
كما أنك تتوضأمن البول وهو نجس فليس هناك فرق فهوكالمذي فكون الطاهر يخرج ويوجب الغسل وكون النجس يخرج ويوجب الوضوء ليس بفارق مؤثر والشرع من حكمة الله عز وجل يقول العلماء : إن الشرع يفرق بين المتماثلين ويجمع بين المتضادين يعني المختلفين لأجل أن يكون هناك تعبد ويصبح الإنسان سامعاً مطيعاً مسلما لربه فما على الرسول الا البلاغ فعلى الله الأمر وعلى الرسول البلاغ وعلينا الرضا والتسليم فأنت إذا تأملت المذي تجد أن البلوى به أعظم من المني ولو أن الله أوجب من المذي الغسل لكانت فيه مشقة ويدل على هذا حديث علي رضي الله عنه " كنت رجلاً مذاءً " فكنت أغتسل من المذي فوجدت من الجهد والمشقة حتى تشقق ظهري ، فالمذي لو أمر الناس بالغسل من المذي لحصلت لهم مشقة عظيمة ولكن الله سبحانه وتعالى جعل الطهارة الكبرى للذة الكبرى وجعل الطهارة الصغرى للذة الصغرى فالتقابل هنا صحيح ؛ إنما يحصل أن لو كان في المني الوضوء وفي المذي الغسل ؛ لكن كون الشرع يقول في اللذة الصغرى أو في الشهوة الصغرى الطهارة الصغرى وفي الشهوة الكبرى الطهارة الكبرى لا إشكال فيه بحمد الله ، والله تعالى أعلم .
السؤال الرابع :
رجل حبس خروج المني فلم يخرج المني فهل يغتسل أم يتوضأ..؟؟
الجواب :
هذه المسأله تعرف عند العلماء رحمهم الله بمسألة مفارقة المني للصلب .
وتوضيح ذلك : أن المني له مرحلتان :
المرحلة الأولى : مفارقة الصلب. والمرحلة الثانية : قذفه خارج البدن من جهة العضو .
فأما إذا قذف العضو المني خارجاً فبالإجماع أنه يوجب الغسل ، وأما إذا انفصل من الصلب أو شعر بانفصاله كما يقال مسألة الصلب هذه يذكرها العلماء وهي مسألة مشهورة فبعض أهل العلم يقول : إذا أحس به وأنه تحرك داخل بدنه وأن العضو يريد أن يقذف فحبسه ثم خرج بعد ذلك فالعبرة بوقت الخروج الذي هو الثاني أعني قذف العضو له ، ولا يعتد بالخروج الأول .(50/14)
وفائدة هذا الخلاف أنه لو كان في صلاة فثارت شهوته وأمسك العضو كما ورد في السؤال وهو في تشهده أو في آخر الصلاة فأمسك العضو ثم سلم ثم قذف ، فعلى القول الأول بأن العبرة بالقذف خارج البدن صلاته صحيحه ، وعلى القول الثاني صلاته تكون فاسدة ويلزم بالإعادة ، والصحيح أن العبرة بخروجه من البدن ؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال : (( إذا فضخت الماء فاغتسل )) فجعل العبرة بالخروج من البدن ومجاوزته ، والله تعالى أعلم.
السؤال الخامس :
ما صحة الحديث أن الملائكة تلعن من نام وهو على جنابة ..؟؟
الجواب :
هذا حديث ضعيف لعن الملائكة للجنب حديث ضعيف ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان ينام ولا يغتسل وجعل في الأمر رخصة كما ثبت عن أمهات المؤمنين -رضي الله عنهن وأرضاهن- ، والأفضل والأكمل أن الإنسان لا ينام وهو جنب ويذكر بعض العلماء أن هذا أفضل خاصة من ناحية الحفظ فإنه إذا نأم على طهارة أمكنه أن يقرأ الأيات وأن يقرأ الاذكار ويكون الحفظ فيه أبلغ ، أما لو كان نام على جنابة قالوا أنه لا يستطيع أن يقرأ القرآن كآية الكرسي والمعوذات والأفضل له والأكمل أن ينام وهو على طهارة ؛ لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال كما في حديث البراء في الصحيح : (( فتوضأ وضوءك للصلاة ثم أضطجع على شقك الأيمن وقل اللهم إني أسلمت نفسي إليك)) الحديث فقال : (( توضأ وضوءك للصلاة)) ، ولذلك الأفضل والأكمل أن الإنسان يكون على طهارة حتى يستطيع أن يتلو القرآن ويذكر أذكار الحفظ والحرز ، وأما لو نام على جنابة فبالأمكان أن يقراء الاذكار التي لا تشرط لها الطهارة وهي مطلق الذكر يجوز له أن يسبح ويحمد ويكبر على حديث فاطمة -رضي الله عنها وأرضاها-ونحوه من الأذكار التي لا تشترط لها الطهارة ، والله تعالى أعلم .
السؤال السادس :
هل يجوز للإنسان أن يدعو في السجود لأشخاص معينين كالوالدين وغيرهم سواء في الفريضة وغيرها..؟؟
الجواب :(50/15)
نعمت عينيك إذا بررت والديك في سجودك إنها طاعة وقربة وإذا دعوت لأخيك المسلم خاصة إذا كان مكروباً أو منكوباً ، فدعوت له وأنت ساجد بين يدي الله فهذا لا شك أنه طاعة وقربة ؛ لأن دعاء المسلم لأخيه المسلم بظهر الغيب يؤمن عليه الملك يقول آمين ولك بمثل فإذا اختار المسلم لأخيه المسلم أشرف المواضع وأعظم المقامات في مقام العبد بين يدي ربه وهومقام السجود دل على صدق المحبة في الله ودل على كمال الإيمان بالله ؛ لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : (( لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه )) وكونه يحب لأخيه الخير ويحب لأخيه النفع فيدعو له في أشرف المواطن وأعظمها هذا خير كثير ، ولذلك قال الإمام أحمد رحمه الله لبعض أبناء مشايخه أبوك أحد الأربعة الذين أدعو لهم في صلاتي أي أنني أذكر فضل وعظيم ما كان لهم من الخير والإحسان إليّ فادعو لهم فاختار لهم أفضل الأوقات وأفضل المقامات للدعاء ، وهو الصلاة قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (( استقيموا ولن تحصوا واعلموا أن خير أعمالكم الصلاة )) أدركت رجلاً من الأخيار عُمر أكثر من مائة سنه وكان قوام الليل-رحمه الله برحمته الواسعة- فكان يقول رحمه الله ويخبرني بذلك ويقول : هذا بيني وبينك وأخبرك بأمر سري وكان من أهل ود الوالد وتوفي الوالد قبله فيقول : والله إني لأسمي من أحب من إخواني الذين ماتوا قبلي رجلاً رجلاً في دعاء الليل وهذا لا شك أنه خير كثير لا يفعله إلا مؤمن أنه يذكر إخوانه ويذكر من بينه وبينه الحب في الله والودّ في الله فهذه من ثمرات المحبة في الله أن الإنسان إذا أحب أخاه في الله وكانت الصلة بينه وبينه قوية وهي أوثق عرى الإيمان الحب في الله فأحبه في الله فإنه يكون مشغول القلب به فإن أصابته ضراء كأنه هو المصاب بل قد يكون الإنسان في محبته لأخيه يتألم أكثر من ألمه إذا أصيب وهذا لا شك الناس يتفاوتون فيه ، - ونسأل الله العظيم رب العرش(50/16)
الكريم أن يجعل لنا من الحب فيه أوفر حظ ونصيب - ، فإن الله عز وجل أعظم هذا وقال : (( وجبت محبتي للمتحابين في )) وأحب ربك هذه المحبة وأحب أهلها حتى اختار أن يظلهم في ظله يوم لا ظل إلا ظله ولا راحم سواه-- جل جلاله --وتقدست أسماؤه فهذا كله من الخير أن تدعو لإخوانك في السجود وتدعو كذلك لضعفة المسلمين ومنكوبيهم وعلمائهم وصالحيهم وأئمتهم تدعو لهم بالخير وتدعو لهم بأن يجعل الله فيهم منافع المسلمين وتدعو بدفع النكبات والفجائع عنهم كل ذلك من الإيمان بالله وكل ذلك من عظيم الإحسان الذي يقوم على الحب في الله والود في الله ، والله تعالى أعلم .
السؤال السابع :
ورد في الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : (( إن لله تسعة وتسعين اسماً من أحصاها دخل الجنة )) فما صحة هذا الحديث ؟ وما معنى كلمة أحصاها ؟ فهل معناها العدد والمعرفة بها ؟ أم الإيمان بها ؟ أم ماذا ..؟؟
الجواب :(50/17)
هذا الحديث صحيح ولا إشكال في ثبوته عن رسول الله صلى الله عليه وسلم واختلف العلماء في قوله عليه الصلاة والسلام : (( من أحصاها )) فإن الإحصاء يطلق بمعنى الجمع يقال أحصى المال إذا جمعه قال-تعالى- : { وَأَحْصَى كُلَّ شَيْءٍ عَدَداً}(1) ويطلق بمعنى الضبط للشيء والعلم بما فيه وهذا هو مدلول الأسماء أي أنه يؤمن بما في أسماء الله وصفاته التي ثبتت بها النصوص في كتاب الله وسنة النبي صلى الله عليه وسلم وهذا هو المعنى الثاني ، فالمعنى الثاني هو الأصح : أن المراد أنه إذا أحصى أسماء الله الحسنى ونظر إلى ما اشتملت عليه من دلالة فآمن بهذه الدلالة وصدق بها واعتقدها فإنه يكون من أهل الجنة ؛ لأن هذا من توحيد الله فمن توحيد الله توحيد الأسماء والصفات فإن الله عز وجل وصف نفسه وسمى نفسه وثبتت النصوص في كتابه وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم بهذه الأسماء ، ووصف سبحانه وتعالى هذه الأسماء التي سمى بها نفسه بأنها حسنى فقال -- جل جلاله -- : {وَلِلَّهِ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا}(2) ومن توحيده سبحانه وتعالى الإيمان بهذه الأسماء وهذه الصفات إذا ثبتت وصحت يؤمن بها المسلم ويؤمن بما تضمنته من معاني ودلائل دون أن يحرفها أو يعطلها أو يشبه الله بخلقه أو يمثله بعباده تعالى الله عما يقول الظالمون علوا كبيراً فإذا وصف نفسه بشيء وثبت به النص فما عليك إلا أن تثبت له ما أثبت لنفسه وتصفه -سبحانه- يصف نفسه باليد وتقول له يد وتثبت ذلك على الحقيقة دون أن تأولها بالنعمة .(50/18)
وكذلك يثبت لنفسه النزول أو المجيء فلا يقول جاء أمر ربك أو أنه تنزل رحمته فكل ذلك من التأويل وتحريف الدلالة عن ظاهرها ، فالمسلم يعتقد ما دل عليه دليل الكتاب والسنة على ظاهره فالله أعلم ورسوله صلى الله عليه وسلم بما وصف وسمى به نفسه سبحانه وتعالى ولا يجوز للمسلم أن يحرف هذه الصفات أو يأولها أو يعطلها أو يشبه الله بخلقه فأهل السنة والجماعة وسط بين الإفراط والتفريط فقوم غلو في الإثبات حتى قال بعضهم -والعياذ بالله- له يد كيدي وسمع كسمعي وبصر كبصري تعالى الله عما يقول الظالمون علواً كبيراً فإن الله-تعالى-يقول : { فَلاَ تَضْرِبُوا لِلَّهِ الأَمْثَالَ}(1) ، وقال سبحانه وتعالى : {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ}(2).
وكذلك أيضا هناك طائفة ثانية غلت في نفي الصفة فعطلته سبحانه وتعالى واختلفت هذه الأضرب:
فمنهم من ينفي الصفة بالكلية -والعياذ بالله- ، ومنهم من يأولها ويخرجها عن ظاهرها فيقول مثلا إن الله يتكلم ولا يقول إنه متكلم بحرف وصوت والله-- جل جلاله -- يقول : { وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيماً}(3) وأثبت الكلام حقيقة ، فلا يقال إن الله خلق الكلام في الشجرة ، وكذلك أيضاً أثبت لنفسه العين وأثبت لنفسه السمع وأثبت لنفسه البصر فكل هذا مما ثبت به الخبر وصحت به الأدلة في كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم فلا يسع المسلم إلا أن يؤمن بها وإذا لقي العبد ربه وقد أثبت له هذه الصفات وسأله الله-- جل جلاله -- لمَ أثبتها فقال يارب قلت في كتابك وقال نبيك صلى الله عليه وسلم فإنه يكون على المحجة ويهتدي إلى سواء الدليل والحجة -نسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يثبت قلوبنا على الحق وأن يعصمنا من الزلل- ، والله تعالى أعلم .
السؤال الثامن :(50/19)
إذا كان على الإنسان صيام عشرة أيام ووافق أحدها يوم عاشوراء فهل يجوز له أن يدرجه معه أم يفصله منه..؟؟
الجواب :
بسم الله الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه أما بعد :
فإن الأفضل والأكمل أن يفصل صيام يوم عاشوراء وذلك لما فيه من بالغ القربة والطاعة والاندراج في هذا لا يخلو من نظر ، ولذلك يُحصل فضيلة صيام عاشوراء بقصده وتخصيصه بالنية ، والله تعالى أعلم .
السؤال التاسع :
هل يصح صيام العاشر والحادي عشر إذا كان الرجل مسافراً وذلك لمن أراد صوم عاشوراء ..؟؟
الجواب :
بالنسية لصيام عاشوراء ذكر بعض العلماء كما يختاره الإمام ابن القيم وغيره أن فيه ثلاثة أوجه :
الوجه الأول : صيام التاسع والعاشر .
والوجه الثاني : صيام العاشر.
الوجه الثالث : صيام التاسع والعاشر والحادي عشر .
وأولى هذه الأوجه بالسنة وأقربها إلى هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو الذي دلت عليه النصوص أن يصوم التاسع والعاشر ؛ وذلك لأن فضيلة العاشر ثابتة بالنصوص التي لا إشكال فيها ، وأما التاسع فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : (( لئن عشت إلى قابل لأصومن التاسع )) وهذا يسميه بعض العلماء السكوت عن المعهود فلم يقل لأصومن التاسع والعاشر لأن العاشر ثابت معلوم لا إشكال فيه ولهذا اليوم خصوصية ومزية إذ لا يعقل أن يصوم التاسع وحده لأن هذا يفوت مقصود الشرع من شكر الله على النعمة في اليوم نفسه ، ولذلك قال : (( لأصومن التاسع)) وسكت عن العاشر للعلم به بداهة وعليه فإنهم قالوا أكمل ما يكون من الصيام صيام التاسع والعاشر وهذا هو السنة .(50/20)
وأما التاسع والعاشر والحادي عشر فهذا فيه حديث الحاكم وفيه ضعف ، والأولى والأفضل أن يقتصر على هذا -أعني التاسع والعاشر- قال بعض العلماء : إذا لم يتيسر له صيام التاسع يجوز له أن يصوم الحادي عشر ؛ لأن المقصود من صيام التاسع مع العاشر مخالفة اليهود فإنهم يخصون اليوم العاشر فقالوا حينئذٍ فإنه يصوم الحادي عشر معه إذا لم يتمكن من صيام التاسع طلباً للمخالفة.
وإن كان مسافراً ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه فصَّل في صيام السفر إن كان الشخص لا يعيقه الصيام في السفر وفيه قوة وجلد حديث الأسلمي قال : يا رسول الله إني أُطيق الصوم في السفر فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (( إن شئت فصم وإن شئت فأفطر)) فإذا كان الإنسان قوياً جلداً يتمكن من صيام النافلة في السفر فلا بأس ؛ ولكنه الأفضل والأكمل أن يفطر في السفر . فإن كان في السفر يوم فضيلة كيوم عاشوراء أو يريد أن يصوم الإثنين والخميس ونحو ذلك فإن بعض العلماء يقول : في صيام عاشوراء و عرفة يصام في السفر إذا أطاقه أما إذا لم يطيقه فإنه يحمل عليه قوله عليه الصلاة والسلام : (( ليس من البر الصيام في السفر )) .
وعلى هذا نقول من أراد أن يصوم النافلة في السفر فعلى صور :
الصورة الأولى: أن يكون الصيام مخصوصا قد وردت السنة بتخصيصه والدلالة على فضله بعينه وخصوصه كعاشوراء وعرفة وهو قادر على صيامه فيصوم .
الصورة الثانية أن يكون غير قادر على الصيام وتلحق به المشقة الفادحة والسفر لابد له منه فهذا يأخذ برخصة الله عز وجل والله يكتب له الأجر بالنية ، وقوله عليه الصلاة والسلام : (( عليكم برخص الله )) وقوله عليه الصلاة والسلام : (( إن الله عن تعذيب هذا لنفسه لغني )) ، وقوله عليه الصلاة والسلام لما أبى بعض الصحابة ولم يفطروا وقد بلغ بهم الجهد في السفر قال : (( أولئك العصاة أولئك العصاة )) هذا إذا أطاق أو لم يطق فيما ورد الفضل بخصوصه .(50/21)
أما الإثنين والخميس أو صيام يوم وإفطار يوم فإن كان الشخص في الحضر محافظا على صيام الإثنين والخميس محافظا على صيام يوم وإفطار يوم فالسنة أن يفطر في السفر ؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يصم الإثنين والخميس في السفر.
كذلك أيضاً ثبت عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال : (( إذا مرض العبد أو سافر كتب عمله )) فدل على أنه في هذه الحالة في نوافل الصوم في السفر المعهودة والتي يداوم عليها الإنسان أن السنة تركها ؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم ترك صيام الإثنين في السفر ، والله تعالى أعلم .
السؤال العاشر :
إذا وافق يوم عاشوراء يوم يكره إفراده بالصيام فهل يجوز إفراده أم يجب عليه أن يقرن معه يوماً آخر..؟؟
الجواب :
بالنسبة ليوم الكراهة ما ورد في الشرع تخصيصه بصوم مثلاً كيوم الجمعة يوم الجمعه أجاز النبي صلى الله عليه وسلم من صيامه لنذر أو واجب أن يصومه ، وأما إذا كان لنافلة يصوم يوما قبله أو يوماً بعده ، وعلى هذا لو وافق عاشوراء يوم الجمعة يصوم الإنسان يوماً قبله فيصيب سنة التاسع والعاشر أو يوماً بعده فيصيب سنة اليوم نفسه وهو يوم الجمعة ، والله تعالى أعلم .
السؤال الحادي عشر :
رجل زكاة ماله مائة ألف وحوله في ربيع الأول فأخرج منهاعشرون ألف ريال ثم أخرج في رمضان خمسون ألف ريال وأخرج الباقي في باقي السنة حتى جاء الحول الثاني فهل هذا من التاخير في الزكاة ..؟؟
الجواب :
من أخر الزكاة ليلة واحدة بدون عذر فإنه يكون آثماً شرعا والله -تعالى- سائله عن المحروم الذي جعل له الحق في ماله لا يجوز تأخير الزكوات إلا لعذر شرعي كأن لا يوجد المستحق فيتأخر الإنسان إلى وجوده أو ينتظر مجيء المستحق هذه هي الحالة التي يجوز فيها تأخير الزكاة .(50/22)
أما أن يبقى فقراء المسلمين تكتوي أكبادهم من الجوع وتتألم أحشاؤهم من الظمأ أن لا يجدوا حقهم الذي فرض الله عند الأغنياء وأن يبقى المدين يكتوي بذل الدين في ليله ونهاره ويبقى ضعفة المسلمين وأراملهم وأيتامهم على هذه الصورة يحبس الأغنياء زكاة أموالهم إلى رمضان بحجة انتظار الفضل ، فهذا غير جائز شرعاً ويتحمل من أخر الزكاة على هذا الوجه المسئولية أمام الله عز وجل ، لا يجوز تأخير الزكوات ، وقد قال عليه الصلاة والسلام حينما وجد الدينارين في بيته قال : (( ما ظن آل محمد بهذين الدينارين )) يعني لو أنه مات عليه الصلاة والسلام وهذان الديناران لم ينفقا وهو نبي الأمة صلى الله عليه وسلم الزكاة حق واجب وينبغي على الأغنياء والأثرياء أن يعملوا أحد أمرين :
إما أن يعهدوا إلى ثقات أن يكتبوا لهم المستحقين وأن يكتبوا لهم من هم من أهل الزكوات فإذا جاء الحول أعطوهم المبلغ من يد إلى أيديهم وهم أمناء حافظون للمال حتى تبلغ أصحابها فحينئذ لا إشكال.
وإما أن يقوموا بأنفسهم بصرف الأموال مباشرة إذا كان الإنسان لا يعرف الفقراء فليذهب إلى المسجونين المديونين الذين ينتظرهم أهلهم بفارغ الصبر فكم من أبناء شردوا ؟ وكم من أبناء ضاعت تربيتهم حينما فقدوا حنان الآباء !!! وتربية الآباء الذين منعوا وحبسوا بسبب الديون التي أرهقتهم وقد تكون هذه الديون شرعية كبناء بيت وبناء مسكن يسترعورته وعورة أولاده فهؤلاء المديونون لهم حق في الزكاة إذا كان دينهم شرعياً وكان دينهم دون إسراف ولابذخ .(50/23)
فبعض الأغننياء إذا قيل لهم أدَّ الزكاة يقول لاأعرف المستحقين إذا كنت لا تعرف المستحقين فكم من مستحق في دور الأيتام !! ألا تعرف دور الأيتام؟؟ إلا تعرف دور العجزة ؟؟ الا تعرف الأربطة ومساكن المحتاجين ؟؟ وكم من غني ثري لو سألته عن أماكن التجارات ومحلات التجارات لفصلها لك ولذكر لك شوارعها ومدنها !! ؛ ولكن حق الله لا يعرف منه شيئا ومن أوجب الله عليه أن يعرف له حقه لايعرف منه شيئاً وصدق الله : { وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ}(1) ولو قدر الله حق قدره ، وعلم أن الله سائله ، وأن الله أنعم عليه ، وأن الله تفضل عليه ، وأن الواجب عليه أن يستحي من الله في نعمة الله التي أسدى اليه . لاجتهد ولحصل ولعرف كيف ينفق المال ؛ ولكان أعرف الناس بالفقراء ولكن كلها أعذار يعتذر بها من يعتذر والله الموعد : { وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنقَلَبٍ يَنقَلِبُونَ}(2) هذامن الظلم.(50/24)
وهنا أنبه على مسألةٍ مهمة وهي أن بعض طلاب العلم- جزاهم الله خيراً - يتولون إنفاق الزكوات فيأتي إلى الغني فيأخذ الخمسين ألفاً والمائة ألف ويجلس يصرفها طيلة العام مع أن هناك فقراء وضعفاء ويمكنه أن يصرف هذه الخمسين ألفاً في يوم واحد وهذا مر ونعرف أنه من احتاط وتورع يمكنه أن يوصل الحقوق لأهلها في أقرب وقت ؛ ولكن الأمر فيه نوع من التساهل والتسيب من أراد أن يلي أموال الزكوات عليه أن يعرف المستحقين وأن يحدد أماكنهم وأن يحدد وجه الصرف لهم وإذا جاء للغني فإنه يأتيه ببيان واضح يأخذ من يد ويعطي بأخرى ولا يؤخر الزكاة عن أهلها ولا يؤخر الأموال عن مستحقيها وأن يتقي الله في ضعفة المسلمين وأيتام المسلمين وأرامل المسلمين ونحوهم من المحتاجين فإذا فعل ذلك فإن الله-تعالى- يعظم أجره ويجزل ثوابه ، وأما مسألة التأخير إلى رمضان فإنه لا يجوز تأخير الزكاة قبل رمضان بيوم واحد إلى دخول رمضان مادام أن الفقير موجود وأن المستحق موجود ولا فضل لصرف الزكاة في رمضان فهذا حق واجب إنما يكون الفضل أن لو أنفقت ممن مالك الذي لم يوجب الله عليك .
أما الزكاة المفروضة فإنها مفروضة عليك بزمانها وأوجب الله عليك إخراجها في حولها إلا في حالة واحدة وهي أن يقدم الزكاة عن موعدها في رمضان لكثرة المستحقين ومعرفة المستحقين فإنه إذا قدمها عن وقتها مأجور غير مأزور
وَآخِرُ دَعْوَانَا أَنِ الحمَْدُ لِلَّهِ رَبِّ العَالَميْنَ وصلَّى اللَّهُ وسلَّم وبارك على عبده ونبيَّه محمد وعلى آله وصحبه أجمعين .(50/25)
بسم الله الرحمن الرحيم
قال المصنف رحمه الله : بَاب مَا جَاءَ فِي الْمَذْيِ يُصِيبُ الثَّوْبَ
حَدَّثَنَا هَنَّادٌ حَدَّثَنَا عَبْدَةُ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَقَ عَنْ سَعِيدِ بْنِ عُبَيْدٍ هُوَ ابْنُ السَّبَّاقِ عَنْ أَبِيهِ عَنْ سَهْلِ بْنِ حُنَيْفٍ قَالَ : " كُنْتُ أَلْقَى مِنَ الْمَذْيِ شِدَّةً وَعَنَاءً فَكُنْتُ أُكْثِرُ مِنْهُ الْغُسْلَ فَذَكَرْتُ ذَلِكَ لِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَسَأَلْتُهُ عَنْهُ؟" فَقَالَ : (( إِنَّمَا يُجْزِئُكَ مِنْ ذَلِكَ الْوُضُوءُ )) فَقُلْتُ : يَا رَسُولَ اللَّهِ كَيْفَ بِمَا يُصِيبُ ثَوْبِي مِنْهُ؟ قَالَ : (( يَكْفِيكَ أَنْ تَأْخُذَ كَفًّا مِنْ مَاءٍ فَتَنْضَحَ بِهِ ثَوْبَكَ حَيْثُ تَرَى أَنَّهُ أَصَابَ مِنْهُ )).
قَالَ أَبو عِيسَى رحمه الله : هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ وَلا نَعْرِفُهُ إِلاَّ مِنْ حَدِيثِ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَقَ فِي الْمَذْيِ مِثْلَ هَذَا ، وَقَدِ اخْتَلَفَ أَهْلُ الْعِلْمِ فِي الْمَذْيِ يُصِيبُ الثَّوْبَ فَقَالَ بَعْضُهُمْ لا يُجْزِئُ إِلاَّ الْغَسْلُ وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ وَإِسْحَقَ ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ يُجْزِئُهُ النَّضْحُ وقَالَ أَحْمَدُ أَرْجُو أَنْ يُجْزِئَهُ النَّضْحُ بِالْمَاءِ
الشرح :
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين أما بعد :
فقد ترجم الإمام الحافظ أبو عيسى الترمذي -رحمه الله -لهذا الحديث بقوله" باب ما جاء في المذي يصيب الثوب" هذه المسألة تعتبر من المسائل المهمة لأنها مما تعم به البلوى فاعتنى رحمه الله ببيان ماورد عن النبي صلى الله عليه وسلم فيها .(51/1)
المذي معروف وقد تقدم أنه السائل اللّزج الذي يخرج عند بداية الشهوة ووجودها وهذا المذي قد بينا أن جماهير العلماء يقولون إنه نجس وإذا كان المذي نجساً فإنه يرد السؤال عن حكمه إذا أصاب الثياب أو أصاب البدن فلما بين رحمه الله وجوب الوضوء من المذي شرع في بيان الطهارة المتعلقة بالخبث ومن هنا يكون المصنف رحمه الله قد انتقل من بيان طهارة الحدث إلى بيان طهارة الخبث.
وقوله رحمه الله " يصيب الثوب " : المذي إذا أصاب الثوب له حالتان :
الحالة الأولى : أن تكون الإصابة من مادة المذي نفسها وذلك إذا أنزل الإنسان المذي فيتقاطر المذي على الثوب سواءً كان من داخله أو كان من خارجه فإذا تقاطر المذي على الثوب فإنه يرد السؤال : هل يجب غسل ذلك المكان ؟ أو لا يجب ؟
و أما الحالة الثانية : وهي أن تكون إصابة المذي للثوب على سبيل الرطوبة كأن يصيب الإنسان المذي فيتقاطر على فخذه ونحو ذلك ثم يترك حتى ييبس ثم يلبس الثوب وهو مبلولٌ ورطب فتسري النجاسة على سبيل الرطوبة لا العين .
وحينئذ يرد السؤال : هل يتنجس الثوب ؟؟ أو لا يتنجس ؟؟
وفي حكم هذه الحاله ماذكره بعض العلماء رحمهم الله : أن يلبس الإنسان ثوبين فيصيب المذي الثوب الداخلي الذي يلي الفرج ثم يصيب الثوب الخارجي وتكون الإصابة للثوب الخارجي بسريان الرطوبة وفي كلتا الحالتين يرد السؤال : هل يجب غسل الثوب؟؟ أو لا يجب ؟؟ من هنا اعتنى المصنف ببيان السنة الواردة عن النبي صلى الله عليه وسلم .(51/2)
فأما في الحالة الأولى : وهي أن يصيب المذي الثوب وتباشر الإصابة فإنه يجب على الإنسان أن يغسل الثوب ؛ ولكونه نجساً على ماهو مقررٌ في قول جماهير العلماء رحمهم الله ، والأصل في ذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم نزّل المذي منزلة البول فأوجب الغسل منه وأوجب الوضوء وفي حديثنا أوجبصلوات الله وسلامه عليه غسل الثوب فدلت هذه السنن الصحيحة عن النبي صلى الله عليه وسلم على نجاسة المذي وأنه يأخذ حكم البول سواء بسواء بل إن بعض العلماء رحمهم الله يرى أن نجاسة المذي تعتبر أشد من البول وذلك لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم عين فيها الغسل- وقد تقدم بيان هذه المسألة في المجلس الماضي- ، وأما إذا سرت نجاسة المذي على سبيل الرطوبة سواء كان الثوب مبلولاً ووقع على المذي اليابس أو وقع المذي على الثوب من داخل فسرى إلى الثوب من خارج فالحكم في هذه الحالة وجوب غسل الثوب من داخل وخارج فيجب أن يغسل الثوب الذي باشر الإنزال عليه ، وكذلك يغسل الثوب الظاهر الذي سرت إليه نجاسة المذي على سبيل الرطوبة ، أو سرت نفس مادة المذي إليه ؛ وذلك لأن النبي صلى الله عليه وسلم أوجب الغسل من المذي- أعني غسل العضو وما أصابه المذي- وهذا يدل على نجاسته ولم يفرّق الشرع بين كونه رطباً وبين كونه سائلاً فدل على استواء الحكم ، وكذلك البول لو أصاب الثوب سواء أصابه مباشرة أو أصابه رطوبة وقد تقدم معنا حديث بول الصبي في حجر النبي صلى الله عليه وسلم حيث إن طائفة من العلماء رحمهم الله يقولون إن الصبي لمّا أجلسه النبي صلى الله عليه وسلم كان عليه ثوب من ما يلي عورته وهذا هو الظاهر إذ لا يعقل أن يؤتى بالصبي مجرداً فلما أجلسه النبي صلى الله عليه وسلم وبال في الثوب المباشر سرى البول في الثوب الظاهر أعني ثوب النبي صلى الله عليه وسلم فنضحصلوات الله وسلامه عليهثوبه ، ونزّل الإصابة للظاهر منزلة إصابة(51/3)
الباطن فدل على أن المذي إذا أصاب الثوب الظاهر والباطن وجب غسلهما ومرادانا بالباطن ما انتّشر في زماننا من السروايل التي يلبسها الناس غالباً وتسري النجاسة إلى الثياب الظاهرة التي تكون عليها إذا غلب على ظن الإنسان أنها سرت أو رأى بعينه مادة المذي على الثوب بعد أن كانت على الثوب الذي يلي الفرج والخلاصة أنه في كلتا الحالتين يجب على المسلم أن يغسل الثوب .
وأما بالنسبة لإصابة المذي للثوب فقد فصل العلماء رحمهم الله فيها تفصيلاً آخر فقالوا : إذا أصاب المذي الثوب لا يخلو من حالتين :
الحالة الأولى : أن يعلم المكان الذي وقع فيه المذي فحينئذ لا إشكال يجب عليه أن يغسل ذلك المكان لأنه تنجس بوقوع المذي عليه ، على ظاهر هذه السنة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم .
وأما الحالة الثانية : فهي ألا يعلم مكان المذي وهذا كثيراً ما يقع في نجاسة المذي ؛ لأن الإنسان ربما لبس ثيابه وخرج وتذكر وهو جالس أو وهو سائر أموراً تثير الشهوة أو رأى بعينه وهو يمشي أمراً يثير شهوته فحينئذ يتقاطر المذي منه بخلاف البول فإن الغالب أن يتحكم فيه الإنسان فالمذي فيه بلية من هذا الوجه.
ومن هنا يقع الحرج فيه في كثير من الأحيان أكثر من وقوعه في البول .
ويرد السؤال : حينئذ إذا تحقق أنه قد خرج منه المذي ، ولكنه لا يعرف مكانه من الثوب فما الحكم ..؟؟
فقال بعض العلماء : لا يخلو في هذه الحالة من صور :
الصورة الأولى : أن يمكنه الاجتهاد والتحري والمراد بقولنا أن يجتهد ويتحرى أن ينظر إلى علامات المذي وإذا أمكنه أن يتحرى في ثوبه حتى يرى أو يعلم المكان الذي أصابه المذي فلا إشكال .(51/4)
وقد قال جمع من العلماء : رحمهم الله إن المكلف في هذه الحالة إذا أمكنه أن يتحرى ويعلم المكان الذي أصابه المذي فإنه يجب عليه أن يتحرى ؛ وذلك لأن القاعدة في الشريعة : " أن القدرة على اليقين تمنع من الشك" فما دام أنه يمكنه أن ينظر في الثوب ويتفقده ويتفحصه حتى يدرك المكان الذي أصابه المذي فحينئذٍ لا إشكال .
الصورة الثانيه : أن لا يمكنه التحري ولكن يغلب على ظنه مكان أو جهة ولا يستطيع أن يحدد موضع النجاسه منها .
وصورة ذلك : أن الثوب الذي يلي الفرج إذا نزل المذي من الفرج فلا يخلو من أحوال : فتارة ينزل المذي فيصيب أعلى الثياب ، وتارة ينزل المذي فيصيب أسفل الثوب فإذا استطاع أن يحدد الأسفل أو الأعلى فإنه يجمع مكاناً يغلب على ظنه من الأسفل أو الأعلى أنه قد وقعت فيه النجاسة ويغسله .
مثال ذلك : أن يتحقق أنه قد خرج منه المذي وغلب على ظنه أن المذي حينما تقاطر من العضو نزل إلى أسفل سرواله ونحو ذلك فحينئذٍ يجب عليه أن يجمع من أسفله الذي غلّب على ظنه وجود النجاسة فيه قدراً يعلم أن النجاسة لا يتجاوزه فإذا جمع ذلك القدر غسله بالماء .
وقال بعض السلف رحمهم الله : يجوز له في هذه الحالة أن يأخذ كفاً من الماء وينضح به الثوب ولا يجب عليه أن يستجمع أن يغسل الثوب على هذه الصور ، قالوا لأن النجاسة مشكوك في موضعها وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم في الصحيحين من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم أتى أم حرام بنت مَلحَان بقباء ثم قال لأنس واليتيم الذي معه : (( قوموا فلا أصل لكم )) قال أنس : " فقمت إلى حصير قد أسود من طول مالبس فنضحته بماء " قالوا فنضح أنس رضي الله عنه الحصير بالماء وهذا على سبيل دفع الشك والوسوسة .(51/5)
والصحيح المذهب الأول أنه يجب على الإنسان أن يجمع من ثوبه وسرواله ونحو ذلك مما يلي الفرج أن يجمع منه قدراً يغلب على ظنه أن النجاسة لا تجاوزه ، وأما حديث أنس فالجواب عنه أن النجاسة مشكوك فيها بخلاف مسألتنا فإن النجاسة مقطوع بها وفرق بين أن تكون النجاسة مشكوكاً في وجودها وبين أن يكون المكلف قد تحقق من وجودها في الثوب ، وعلى هذا فإن من أصاب المذي موضعاً من ثوبه لايستطيع تحديده فإننا نقول له إجمع من ذلك الثوب ماتعلم أنه قد أصابه المذي ولم يجاوزه ثم تغسله فإذا فعل ذلك فقد تحقق أو غلب على ظنه أنه يصلي في ثوب طاهر .
وأما في الحالة الثالثة : وهي ألا يتمكن من تحديد موضع النجاسة لا في أسفل الثوب ولا في أعلاه فحينئذٍ يجب عليه غسل الثوب كاملاً وذلك لأنه تحقق من كون الثوب نجساً وقد أُمر أن يصلي في ثوب طاهر كما قال-تعالى-:{وَثِيَابَكَ فَطَهّرِ}(1) .
فأمر صلى الله عليه وسلم بالطهارة-أعني طهارة ما يصلي فيه- وإذا ثبت هذا فإنه يجب عليه أن يغسل جميع الثوب ويغسل جميع السروال إذا لم يستطيع أن يحدد الجهة التي أصابها المذي ، وهكذا الحكم في سائر النجاسات ؛ والسبب في هذا أنه لايمكنه التحري والاجتهاد وإذا لم يتمكن من الاجتهاد والتحري فإنه لو اجتهد فإنه يجتهد بدون أمارة ودليل فحينئذ يكون اجتهاده باطلاً ؛ لأن الاجتهاد بدون دليل لا مقام له في الشرع ، وإذا صلى في الثوب وقد اجتهد وتحرى دون وجود العلامة احتمل أن يكون الموضع الذي غسله غير موضع النجاسة والحاصل أنه يجب عليه أن يغسل جميع الثوب .(51/6)
وأما بالنسبة لمن بلي بالمذي وأصبح المذي يتقاطر منه دائماً وهي المسألة التي تعرف بمسألة سلس المذي فقال بعض العلماء حكم من ابتلي بسلس المذي حكم المرأة المستحاضة ؛ لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم خفف عنها في الطهارة لمكان العذر ، فكذلك من به سلس المذي ، وعليه قالوا فإنه يضع شيئاً في الفرج حتى يمنع العضو من تقاطر المذي فإن غلبه المذي على هذا الوجه فإنه يغسل ذكره عند دخول وقت كل صلاة ثم يتوضأ ثم يصلي ولا يبالي ، سواء يتقاطر منه المذي أو لم يتقاطر .
وهنا مسألة أخيرة ذكرها العلماء رحمهم الله إذا تبين أن المذي إذا أصاب الثوب وجب أن يغسل موضع المذي من الثوب ، فهل جميع المذي يجب أن يغسل أو أن الحكم يختلف بحسب اختلاف المذي كثرة وقلة ..؟؟
جمهور العلماء رحمهم الله على أن كثير المذي وقليله سواء وأن من أصابته القطرة من المذي ولو كانت يسيرة حكمه حكم من أصابه المذي الكثير ؛ والسبب في ذلك أن النصوص التي وردت عن النبي صلى الله عليه وسلم مطلقة حيث لم تفرَّق بين قليل المذي والكثير ، والقاعدة : " أن المطلق يبقى على إطلاقه حتى يرد ما يقيده " ، وقال بعض أصحاب الإمام أحمد -رحمة الله على الجميع- : إن قليل المذي يخفف فيه واختلفوا في قليل المذي على قولين :
القول الأول : أن قليل المذي هو بقدر الدرهم البغلي .
والقول الثاني : إن قليل المذي يرجع فيه إلى نفس الإنسان فالذي لا يتفاحش في نفس الإنسان يعتبر قليلاً ويسيراً فلا يجب عليه أن يغسله فلو صلى وهذا اليسير في ثوبه صحت صلاته.(51/7)
وأما إذا كان في النفس متفاحشاً فإنه كثير ويجب عليه غسل الجميع ، ومن هنا فرقوا بين اليسير والقليل بتفاحش النفس فما يتفاحش في النفس فهو كثير وما لا يتفاحش فهو قليل ، وهذا الضابط محل نظر فقد قال جمع من العلماء : إن هذا الضابط لا يعتد به ؛ والسبب في ذلك أن تفاحش النفوس يختلف فلربما كان الإنسان متساهلاً فقال هذا يسير وهو كثير ، والعكس كذلك ربما أصابته الوسوسة فيرى أن اليسير جداً يعتبر من الكثير وأياً ما كان فإن الصحيح مذهب جمهور العلماء رحمهم الله أن قليل المذي وكثيره حكمه سواء يجب على المكلف أن يغسل قليل المذي كما يجب عليه أن يغسل كثير المذي .
والدليل على ذلك : أنه لو خرج من الإنسان قطرة واحدة لأوجب الجميع عليه الوضوء ومع ذلك فإن هذه القطرة قد تكون يسيرة على ضابط أصحاب القول الثاني ، فكما أنه لا فرق في طهارة الحدث كذلك لافرق في طهارة الخبث ، فكما أن القطرة تنقض طهارة الحدث ، كذلك هي توجب طهارة الخبث كالبول سواء بسواء ؛ ولأن النصوص التي وردت عن النبي صلى الله عليه وسلم لم تفرق بين القليل والكثير وعلى هذا فإنه يجب على الإنسان أن يتحفظ من المذي وإذا تحقق من إصابته للثوب وجب عليه أن يتطهر منه مطلقاً سواء كان قليلاً أوكثيراً .
قال العلماء : إن علياً رضي الله عنه وسهل بن حنيف كلاهما سأل عن حكم المذي ولم يفصل النبي صلى الله عليه وسلم في الحكم وعليه يبقى حكم المذي كحكم البول سواءً بسواء من جهة طهارة الحدث وطهارة الخبث .(51/8)
قال المصنف رحمه الله : حَدَّثَنَا هَنَّادٌ حَدَّثَنَا عَبْدَةُ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَقَ عَنْ سَعِيدِ بْنِ عُبَيْدٍ هُوَ ابْنُ السَّبَّاقِ عَنْ أَبِيهِ عَنْ سَهْلِ بْنِ حُنَيْفٍ قَالَ : " كُنْتُ أَلْقَى مِنَ الْمَذْيِ شِدَّةً وَعَنَاءً فَكُنْتُ أُكْثِرُ مِنْهُ الْغُسْلَ فَذَكَرْتُ ذَلِكَ لِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَسَأَلْتُهُ عَنْهُ ؟ " فَقَالَ : (( إِنَّمَا يُجْزِئُكَ مِنْ ذَلِكَ الْوُضُوءُ )) فَقُلْتُ : يَا رَسُولَ اللَّهِ كَيْفَ بِمَا يُصِيبُ ثَوْبِي مِنْهُ ؟ قَالَ : (( يَكْفِيكَ أَنْ تَأْخُذَ كَفًّا مِنْ مَاءٍ فَتَنْضَحَ بِهِ ثَوْبَكَ حَيْثُ تَرَى أَنَّهُ أَصَابَ مِنْهُ )) .
الشرح :
اشتمل هذا الحديث على مسائل:(51/9)
المسألة الأولى : دلّ هذا الحديث على أن أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم و-رضي الله عنهم أجمعين- كانوا يجتهدون على عهد النبي صلى الله عليه وسلم والدليل على ذلك أن سهل بن حنيف رضي الله عنه وأرضاه قال " كنت أغتسل منه " أي كنت أغتسل من المذي ظناً مني أنه يجب منه الغسل كالمني سواء بسواء ، وكذلك علي بن أبي طالب رضي الله عنه وأرضاه ومع ذلك فقد مرت الأيام على كل منهما وهو يجتهد بهذا الاجتهاد ولم يطلع رسول الأمة صلى الله عليه وسلم على حاليهما فدل على مسالة مهمة وهي : أنه ربما أخطأ الصحابي في الاجتهاد وخطؤه لايستلزم أن ينبهه رسول الله صلى الله عليه وسلم عليه مالم يطلعه الصحابي أو يطلعه الوحي ، ومن هنا يقوى مذهب الجمهور رحمهم الله في مسألة إمامة الصبي وذلك أن عمرو بن أبي سلمة -- رضي الله عنه - وأرضاه-كان يؤم بجماعته وعشيرته كما ثبت في الصحيح-أعني صحيح البخاري- أن قومه وفدوا على رسول الله بعد الفتح قال رضي الله عنه وأرضاه : كانت العرب تٌلوم بإسلامها فتح مكة فقدم قومه ومعهم أبوه رضي الله عن الجميع فقال لهم النبي صلى الله عليه وسلم : (( صلوا صلاة كذا في حين كذا وكذا : وصلوا صلاة كذا في حين كذا )) قال وقال لهم : (( وليؤمكم أكثركم قرآناً )) فلمارجعوا إلى قومهم وهم على عدة أيام من المدينه قال رضي الله عنه " فلما رجعوا نظروا " ، وقوله " نظروا " أي اجتهدوا ، ويحتمل أن يكون مراده نظروا أي بحثوا فوجدوني أكثرهم قرآناً فقدموني فكنت أصلي بهم ، قالوا : إن هذا يدل على جواز إمامة الصبي ورد جمهور العلماء هذا الاستدلال بما تقدم ، ولذلك كان الإمام أحمد إذا ذكر له هذا الحديث على أنه حجة لإمامة الصبي ينفض يديه ويقول : " أي شيء هذا دعه فإنه ليس بشيء بين" ؛ والسبب في احتياط هذا الإمام من أئمة السلف رحمهم الله ومن فقهه ومن دقة فهمه أن الحديث فيه أنه كان إذا سجد(51/10)
انكشفت عورته ولو وقع ذلك لأوجب بطلان الصلاة كما هو معلوم ، ولذلك قالوا : إن عمرو بن سلمة كان يؤمهم على هذا الوجه مع انكشاف عورته على خلاف ما كان يقع من الصحابة-رضوان الله عليهم-من باب العوز فهم متمكنون من ستر الإمام على خلاف ما كان يقع للصحابة مأمومين مع النبي صلى الله عليه وسلم ، مع أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : (( وليؤمكم)) والخطاب للبالغين وخاطب بذلك من كان حاضراً من المكلفين ولو أخذ على ظاهره من أنه يؤمهم أكثرهم قرآناً لجاز أن يقدم المجنون ؛ لأن المجنون إذا كان حافظاً صدق عليه هذا الوصف فقال الجمهور : لو أخذنا بإطلاق تقديم من كان أكثر قرآناً لقدم المجنون ورد بأن المجنون غيرمكلف فأجيب بأن الصبي غير مكلف ، وكما أن المجنون لا عقل له فكذلك الصبي ليس عنده عقل فهو دون الحلم بشهادة الله عز وجل في كتابه وشهادة رسوله صلى الله عليه وسلم ، ولذلك وصف الأطفال بكونهم لم يبلغوا الحلم ، ووصف النبي صلى الله عليه وسلم الصبي الذي لم يحتلم بكونه مرفوعاً عنه القلم ، فيقول الجمهور : هذا الحديث نطالب فيه باطلاع النبي صلى الله عليه وسلم وعلمه بإمامة هذا الصبي حتى يستقيم الاستدلال .
فأجاب الشافعية رحمهم الله بأن هذا وقع من الصحابة في زمان الوحي فلو كان باطلاً لنزل الوحي فسكوت الوحي يدل على كونه صواباً ، ورد بأمثال هذا الحديث فإن حديثنا وقع فيه الاجتهاد من علي وسهل رضي الله عنهما مع قربهما من رسول الله صلى الله عليه وسلم لم ينزل الوحي ببيان خطئهما في الاجتهاد ، ومن هنا قال الجمهور : لايستقيم الاستدلال بسكوت الوحي مع أن قبيلة عمرو بن أبي سلمة كانت بعيدة عن المدينة أياماً وقد بين النبي صلى الله عليه وسلم الحكم .
فالشاهد من هذا الحديث : أنه حجةٌ لهذه المسألة الأصولية أن سكوت الوحي عن اجتهاد الصحابي لا يستلزم الحجة من كل وجه .(51/11)
وقوله رضي الله عنه " كنت ألقى من المذي شدةً وعناءً " : قوله " من المذي " : أي بسبب المذي ، وقوله"شدةً وعناءً " : أي أنه مبتلىً بكثرة المذي وهذا كقول علي -- رضي الله عنه - وأرضاه-:" كنت رجلاً مذاءً " وهذا يكون في بعض الناس .
وقال بعض العلماء : يكون لشدة الفحولة والرجولة فيكون المذي منه يتقاطر كلما قويت شهوته أو تحركت .
وقال بعض العلماء : إنه يكون بسبب الضعف كما يذكر الأطباء وذلك لعدم التحكم في الغدة التي توجب خروج المذي .
و قوله رضي الله عنه " فكنت أغتسل ": يحتمل أن يكون قوله " شدةً وعناءً " أي بسبب الغسل الذي يكون من المذي ، ولذلك اغتسل علي رضي الله عنه من المذي حتى تشقق ظهره رضي الله عنه وأرضاه وهذا التشقق كما ذكره العلماء إنما يكون في زمان البرد ؛ لأن الاغتسال في البرد يكون شدةً وعناءً على الإنسان فإذا تكرر منه في اليوم أكثر من مرة فإنه يجهده وينهكه وربما تسبب في حصول الضرر له.
المسألة الثانية : أن النبي صلى الله عليه وسلم رد هذا الاجتهاد بقوله : (( يجزئك منه الوضوء)) أي يجزئك أن تتوضأ وضوؤك للصلاة وفي هذا دليل على مسألتين :
المسألة الأولى : أن المذي كالبول ينقض الطهارة الصغرى .(51/12)
المسألة الثانية : أنه يجب منه الوضوء أي إذا خرج المذي سواء خرج قليلاً أو كثيراً وهذا بإجماع العلماء القائلين بوجوب الوضوء منه ، وقوله عليه الصلاة والسلام : (( يجزئك منه الوضوء )) سماحة وكرم من النبي صلى الله عليه وسلم في الخلق حيث تأدبصلوات الله وسلامه عليهفي توجيه سهل بن حنيف رضي الله عنه بأبي وأمي - صلوات الله وسلامه عليه-ما قهره ولا نهره ولا ذمه ولا استهزأ من اجتهاده ؛ وإنما بين الواجب عليه وهذا يدل على أنه ينبغي للعالم والمفتي أن يكون واسع الصدر تجاه الناس خاصة إذا أتاه الجاهل بجهله ينبغي عليه أن يتلطف في تعليمه وتوجيهه وإسداء الخير إليه ، فبعض من الناس-أصلحهم الله- إذا اشتكى إليهم الجاهل أمراً يقع فيه وهو خطأ تهكموا منه واستهزأوا به ، وذلك لا يجوز إلا إذا فعله العالم مع طلابه على سبيل المحبة والمودة والألفة ، أما إذا قصد منه الاحتقار والذم والتقريع فذلك لا يجوز إلا إذا كان للعالم غرض شرعي كأن يكون الشخص الذي يفعل ذلك مسترسلاً في هذه الأمور ويجب أن يردعه ويقرعه ويوبخه فلا بأس ، فالواجب على العالم أن يكون واسع الصدر ، وفي حكم العلماء والأئمة ونحوهم من يقوم بتوجيه الناس كالمعلمين ونحوهم ينبغي عليهم أن يتلطفوا مع الجاهل وأن يبينوا له الحق ؛ لأن الناس إنما تقرع أبواب العلماء وأبواب أهل الفضل من المعلمين والموجهين والمربين مريدين الدلالة على الخير فإذا عُنفوا واستهزئ بهم ومست كرامتهم فإن ذلك يوجب نفرتهم من طلب الحق ، وإذا ابتلي العالم بذلك نفرت منه النفوس ومل منه الناس وأعرضوا عنه ، ولذلك أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أننا لا نسع الناس بأموالنا ولكن نسعهم بأخلاقنا ، فينبغي على العالم ومن في حكمه من الموجهين والمربين أن يتلطفوا بأبناء المسلمين وأن يحسنوا تعليمهم وتوجيههم بالأسلوب الذي يكون بعيداً عن الأمور المشينه قال الله في كتابه المبين يمتن على رسوله(51/13)
الأمين :{فَبِمَا رَحْمَةٍ مّنَ اْللهِ لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لاْ نفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ فَاْعْفُ عَنْهُمْ وَاْسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فيِ الأَمْرِ}(1) فأخبر الله سبحانه وتعالى أن القلوب تجتمع بالرحمة والإلفة ، وإذا كان العالم ومن في حكمه ودودا رحيماً حليماً رفيقاً بالناس كان ذلك موجباً لاجتماع القلوب على الحق وهذا هو المقصود من تنصيب العلماء والأئمة ونحوهم -نسأل الله العظيم أن يهدينا لمكارم الاخلاق وأن يصرف عنا شرها وسيئها-.
المسألة الثالثة : اشتمل الحديث على وجوب غسل الثوب من إصابة المذي له وقد بينا تفصيل هذه المسألة ووجه الشاهد في كونه عليه الصلاة والسلام أمراً سهلاً رضي الله عنه وأرضاه أن يأخذ الكف من الماء وينضح به المذي وفي هذا دليل على مسائل :
المسألة الأولى : نجاسة المذي ؛ لأنه أمر بغسله .
المسألة الثانية : أنه يجب غسله ولا يجزي غير الغسل بخلاف غيره من الفضلات ربما خفف فيها.
المسألة الثالثة : أن قوله عليه الصلاة والسلام : (( تأخذ كفاً من الماء)) فيه دليل على أن الماء إذا كان أكثر من النجاسة طهرها ، ولذلك أمر النبي صلى الله عليه وسلم بصب الدلو من الماء على نجاسة الأعرابي ؛ لأن الماء الذي في الدلو هو أكثر من البول المصبوب على الأرض فدل على أن الماء إذا كان أكثر من النجاسة طهرها .
وقوله عليه الصلاة والسلام : (( تَرَى)) ، وفي بعض النسخ : (( تُرى)) إذا كان الحديث : (( تَرَى )) فحينئذ يكون من الرؤية البصرية ، وأما إذا كان بالبناء للمجهول تُرى فالمراد بها رؤية الظن وهي راجعةٌ إلى غلبة الظن وعليه فهناك مسألتان :
المسألة الأولى : أن الواجب على من غسل النجاسة أن يراعي إزالة عينهاوأثرها ؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال :(( تَرَى)).(51/14)
والمسألة الثانية : على رواية : (( تُرى)) فيه دليل على أن العبره بغلبة الظن وأن غلبة الظن تُنزل منزلة اليقين ، ولذلك قرر العلماء رحمهم الله القاعدة المشهورة : " أن الغالب كالمحقق " فمن -رحمة الله سبحانه وتعالى أن أحكام الشريعة تُبنى على غالب الظن كما أنها تبنى على اليقين فإذا صببت الماء على النجاسة وغلب على ظنك أن الماء الذي صببته أذهب النجاسة فإن ذلك يُعتبر كافياً في الحكم بالطهارة ؛ لأن غلبة ظنك تنزل منزلة اليقين والقطع .
- ? - ? - ? - ? - الأسئلة - ? - ? - ? - ? -
السؤال الأول :
ما الفرق بين المذي والودي والمني من حيث الغسل واللون وغسل الثوب..؟؟
الجواب:
بسم الله الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه أمابعد :
المني ماء أبيض ثخين بالنسبة للرجل وأصفر رقيق بالنسبة للمرأة يخرج دفقاً عند وجود اللذة الكبرى ، وأما بالنسبة للمذي فهو الماء اللزج الذي يخرج قطرات عند بداية الشهوة وربما يخرج قطرات عَقَب الإمناء ، أما الوديَّ فسائل أكدر ويخرج عقب البول قطرات وقد يخرج المذي بعد البول ؛ لكنه في أحوال نادرة ، لكنهم ضبطوا المذي بخروجه عند وجود أو بداية الشهوة ، أما بالنسبة للودي فإنه غالباً ما يخرج عقب البول .
أما بالنسبة للأحكام :
فالمني طاهر و يجب منه الغسل ففي طهارة الخبث أمره أيسر من طهارة الحدث ففي طهارة الحدث يوجب الطهارة الكبرى ، وفي طهارة الخبث لايوجب غسلاً ويجوز أن يصلي الإنسان وفي ثوبه المني ، وأما بالنسبة للمذي والودي فكلاهما نجس ؛ لأن الودي رخص بعض العلماء في الاستجمار منه وأما المذي فإنه يجب غسل العضو منه ولا يجزئ فيه الاستجمار كما سبق في أمرهصلوات الله وسلامه عليهبغسل الفرج منه ، والله تعالى أعلم .
السؤال الثاني :
ما حكم نزول المذي في الصيام..؟؟
الجواب :
المذي لا يؤثر في الصوم وإذا خرج من الإنسان لا يخلو من أحوال :(51/15)
الحالة الأولى : أن يخرج لحدُث عهد بوطء أو جماع كأن يكون جامع قبل صلاة الفجر أو قبل أذان الفجر ونزع على الأذان أو بقيت قطرات المذي فتخرج بعد الأذان فهذا لايؤثر .
الحالة الثانية : أن يكون المذي قد خرج بتعاطي الشهوة وذلك بتقبيل المرأة أو مباشرتها أو النظر إليها ونحو ذلك فإذا تعاطى أسباب الإمذاء وغلب على ظنه أنه سيمذي فهذا ينقص أجر الصوم ولا يوجب فساده ؛ لأنه مأمور أن ينحبس عن الشهوة ومنها إخراج المذي ، وقال بعض العلماء : لا يؤثر لا في الصوم ولا في الأجر والثواب والأفضل أن يحتاط الإنسان ويخرج من الريب والشك ، ومن هنا قال بعض العلماء : إن الكفارة التي يخرجها المسلم في ختام شهر رمضان وهي صدقة الفطر طهرة للصائم من نحو هذا وأما إذا خرج منه المذي قهراً أو تذكر شيئاً فخرج منه المذي فلا شيء عليه ولا يوجب ذلك فساد صومه ولانقص أجره-إن شاء الله تعالى- مالم يسترّسل في الفكر ، والله تعالى أعلم .
السؤال الثالث :
المصاب بسلس المذي أو بسلس البول كيف يصنع ليصلي ؟؟ فهل يشّد على فرجه بشئ كالخرقة ثم هذا الذي يشد على فرجه هل يعتبر نجساً بعد انصرافه من الصلاة فيغسله أم يعتبر طاهراً بسبب المرض وهل له أن يصلي بعد الفريضة أي يتنفل حتى وإن طالت صلاة النافلة نرجوا التفصيل ..؟؟
الجواب :(51/16)
من به سلس المذي أو سلس البول يتعاطى أسباب حبس أو منع السلس وهذا مبني على أمره صلى الله عليه وسلم للمستحاضة أن تتلجم حيث قال لها : (( أنعتِ لك الكرسف)) (1) قالت : "يارسول هو أشد من ذلك" فقال عليه الصلاة والسلام : (( تلجمي)) وقوله : (( تلجمي)) أي ضعي الخرقة كاللجام تحبس الفرج عن إخراج دم الاستحاضة وقال العلماء في هذا دليل على أن من به سلس أنه يتعاطى أسباب منع السلس ؛ لكن بالنسبة لعصب العضو من الرجل قرر الأطباء أن هذا فيه ضرر على الإنسان وأنه لا يخلو من وجود أضرار ومضاعفات والذي يظهر أن هذا ليس بواجب ولا بلازم ويقوى الحكم إذا قرر الأطباء وثبت عند الأطباء أنه يضر فالذي يظهر أنه ليس من شرع الله في شئ فالله لم يأمر العباد ولم يكلفهم بما فيه ضرر حتى ذكر لي بعض الأطباء أنه يحصل له المضاعفات من وجود الميكروبات ونحوها تحت الخرقة هذا إذا عصب العضو نفسه ، أما وضع قطن في نفس المجرى فذكر أيضاً بعض الأطباء أنه لا يحمد وأنه يكون وسيلة للأضرار ؛ لكن أذكر من مشائخنا-رحمة الله عليه- أنه قال لا يلتفت إلى قول الأطباء في المجرى لأنهم لم يتفقوا على ذلك في شئ وقد أمر النبي صلى الله عليه وسلم المستحاضة أن تضع القطنة في الفرج ، ولذلك إذا تيسر له أن يضع القطنة في مجرى البول حابسة للخارج فإنه يفعل ، وعلى هذا فإنه إذا دخل عليه وقت الصلاة يغسل العضو وينقيه ويغسل ما أصاب من ثيابه المذي ثم يتوضأ بعد ذلك وضوءه للصلاة فيصلي في وقت الصلاة النافلة والفريضة فيجوز له أن يصلي الفريضة بهذا الحال ، ويجوز له أن يصلي نوافل الفريضة من راتبة قبلية وبعدية ويصلي النوافل مطلقاً ، وقال بعض العلماء : بل ويصلي فريضتين في وقت واحد إذا كان يجمع وهذا صحيح وهكذا إذا قضى صلاة في وقت أخرى فإنه يصلي الصلاتين بوضوء واحد وعليه فإنه يجب عليه ما يلي :(51/17)
أولاً : أن يتعاطى أسباب كف السلس وإذا لم يتيسر له ذلك يترك العضو على حاله .
ثانياً : يغسل الفرج عند دخول وقت كل صلاة لأمره عليه الصلاة والسلام بذلك .
ثالثاً : أنه يتوضأ وضوءه للصلاة عند دخول وقتها.
ورابعاً : أنه يطهر ثيابه عند دخول وقت الصلاة فتلزمه طهارة الحدث وطهارة الخبث معاً ثم بعد ذلك إن خرج منه مذي ولو استرسل ولوكان أثناء صلاته فإنه يصلي ولا يضره.
ما يلي العضو ويتقاطر عليه المذي فإنه نجس ولكن أثناء وقت الصلاه تصلي ولو علمت أن السروال قد أصابته النجاسة فلا تلزمك طهارة حدث ولا خبث وذلك لوجود المشقة والقاعدة في الشرع : " أن الأمر إذاضاق اتسع" لقوله- تعالى- :{ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فيِ الِدّينِ مِنْ حَرَجٍ}(1) فلو قلنا للإنسان أنه يغسل سرواله وثوبه الذي أصابه المذي فإن هذا فيه المشقة والحرج ، والله-تعالى-قد أخبر أنه ليس في دينه ما يوجب الحرج لعباده فهذه الخرقة يفصل فيها : فإذا أصابها شيء من المذي تنتظر حتى يخرج وقت الصلاه فإذا خرج وقت الصلاة استقبلت بها طهارة الخبث بالنسبة للفرض الثاني لابالنسبة للفرض الأول إذا عصبت وهي طاهرة ، والله تعالى أعلم .
السؤال الرابع :
قول الصحابي الجليل جابر رضي الله عنه في صحيح مسلم كنا نعزل والقرآن ينزل هل هو حجة في الاستدلال بسكوت الوحي ؟ وهذا أيضاً بنحوه يقول إن الشرع لا يترك الخطأ يتمادى إلى وفاة النبي صلى الله عليه وسلم فما هو جوابكم في ذلك ..؟؟
الجواب :
بسم الله الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه أما بعد :(51/18)
فقد قال بعض العلماء : ينبغي أن يفرق بين المسائل العامة التي تعّم بها البلوى وبين قضايا الأفراد وذلك أن قول جابر رضي الله عنه " كنا نعزل والقرآن ينزل " أي أن هذا مما تعم به البلوى ويقع وينتشر ، وأما وقوعه لأفراد دون أفراد كإمامة عمرو بن أبي سلمة رحمه الله ، وكذلك أيضاً ما يقع من المسائل الفردية كعلي رضي الله عنه في خاصته وسهل بن حنيف في خاصته فإن الإمذاء على هذا الوجه لا يقع على هذه الصورة-أعني الاغتسال منه- والاجتهاد منه إلاَّ لأفراد ولذلك فرّق بين عموم البلوى وبين خصوصها ، إضافة إلى أن قضية جابر رضي الله عنه قالوا إنها مع النبي صلى الله عليه وسلم وفي بيئة النبي صلى الله عليه وسلم بخلاف عمرو بن أبي سلمة بأنها وقعت بعيدة عن المدينة وبعيدة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم مع سبق التنبيه بورود النص من الوحي ، ولذلك يقول الجمهور رحمهم الله إن قوله : (( وليؤمكم أكثركم قرآناً )) خطاب خاطب به المكلفين والبالغين العاقلين وصرفه إلى غير البالغ لم يرد النص فكان الواجب أن يلتزموا بهذا الوحي هذا هو وجهه ، والله تعالى أعلم .
السؤال الخامس :
هل المصلى الذي لا تقام فيه جميع الصلوات يأخذ حكم المسجد من حيث تحية المسجد وباقي الأحكام..؟؟
الجواب :
المصلي ينقسم إلى قسمين :(51/19)
ما كان موقوفاً ومبنياً من أجل الصلاة وفي صورة المسجد كما يقع في بعض الدوائر أو بعض المؤسسات والشركات تبني المسجد وتهيؤه ولا تتيسر إقامة الصلوات فيه إلا أوقات الدوام والعمل وتنحصر الصلوات فيه لفرض واحد أو فرضين بالكثير فهذا كالمسجد سواء بسواء تعتبر أرضه وقفاً ، وكذلك أيضاً يأخذ حكم المسجد من جهة تحية المسجد عند الدخول ؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال : (( إذا دخل أحدكم المسجد فليركع ركعتين )) وهذا مسجد ، وأما إذا كان المصلى قد وضع مؤقتاً ولم يقصد منه أن يكون مسبلاً موقوفاً كما يقع في طرقات المباني أو يقع في غرف المباني تهيء غرفة من أجل إقامة الصلاة فيها فهذا لا تلزم في مثله التحية ولا يأخذ حكم المسجد ؛ وإنما هو مصلى فقط ، والله تعالى أعلم .
السؤال السادس :
إذا ضاق المصُلى فهل يُصلّى عن يسار الإمام..؟؟
الجواب :
إذا ضاق المصُلى فإنه يصلي عن يمينه فإذا لم يجد فقد اختلف العلماء رحمهم الله فقال بعض أهل العلم إن صلى عن يساره بطلت صلاته ؛ وذلك لأن النبي صلى الله عليه وسلم ثبت عنه في الصحيحين من حديث عبدالله بن عباس-رضي الله عنهما-أنه قام وصلى في جوف الليل فقام ابن عباس-رضي الله عنهما-وتوضأ ووقف عن يساره وقال رضي الله عنه : " فأخذني وأدارني عن يمينه " .(51/20)
وجه الدلالة من هذا الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم صرف عبدالله بن عباس وأداره عن يمينه فلو كان الموقف عن اليسار تجزئ فيه الصلاة لما تكلف عليه الصلاة والسلام هذا الفعل ، ورد الذين قالوا بصحة الصلاة بجواب قوي قالوا إن عبدالله بن عباس-رضي الله عنهما-كبر تكبيرة الإحرام عن يسار رسول الله صلى الله عليه وسلم وهي ركن الصلاة ومع ذلك انعقدت صلاته واعتبر النبي صلى الله عليه وسلم بناءه صحيحاً ؛ ولكن أجاب الأولون فقالوا هذا جهل في زمان الوحي وهو مغتفر أي أن ابن عباس كان يجهل الحكم فاغتفر له رسول الله صلى الله عليه وسلم هذا الجهل فصحت صلاته وأياً ما كان فالمسألة محتملة وإذا اضطر إلى ذلك فالقول بصحة الصلاة على هذا الوجه من القوة بمكان ، والله تعالى أعلم .
السؤال السابع :
الغسل من الجنابة هل يشترط فيه غسل جميع أعضاء الجسم دون شعر الرأس ؟ وهل يجوز الاغتسال بالماء فقط دون الصابون..؟؟
الجواب:
أما بالنسبة لغسل جميع البدن نعم ؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال : (( ثم تفيضين الماء على جسدك فإذا أنت قد طهرت)) فعلق جملة بقوله : (( فإذا أنت قد طهرت)) على قوله : (( تفيضين الماء على جسدك)) فدل على أنه لا بد من تعميم جميع البدن وهذا محل إجماع بين أهل العلم رحمهم الله ؛ لكن في شعر الرأس بعض العلماء يقول خفف عن المرأة الحائض وخفف عن المرأة النفساء ، وخفف عن المرأة إذا اغتسلت غسلها الواجب أن تنقض الضفائر إذا كان شعرها مضفوراً فقالوا إن هذا التخفيف لايستلزم إساقط غسل جميع شعر الرأس ، ومن أهل العلم من قال إن هذا التخفيف يؤمي إلى أمر مهم وهو أن الوجب غسل الرأس وما حاذاه وأما ما استرسل من الشعر فإنه لا يجب غسله وكلا القولين له وجه وقد تقدم بيان هذه المسألة والترجيح فيها ، بالنسبة للمسألة الأولى فيها جزيئة وهي هل يجب أن يغتسل بماء دون الصابون أم يجزيه أن يكون مع الماء صابون ؟؟(51/21)
إذا اغتسل الإنسان غسلاً واجباً فيجب عليه أن يعمم بدنه بماء طهور والماء الطهور هو الماء الباقي على أصل خلقته لأن الله وصف الباقي على أصل خلقته بهذا الوصف قال سبحانه وتعالى :{ وَأَنزَلْنَا مِنْ السَّمَاءِ مَاءً طَهُوراً}(1) وقال عن هذا الماء الذي أنزله من السماء قال :{ فَأَسْكَنَّاهُ فِي الأَرْضِ}(2) فقال العلماء : كل ماء مأخوذ من السماء كمياه الأمطار وكل ماء جرت به العيون أو تفجرت به العيون أو أخذت من الآبار فإنه يعتبر ماء طهوراً وقال صلى الله عليه وسلم في ماء البحر : (( هو الطهور ماؤه)) فدلت هذه النصوص على أنه ينبغي أن يتطهر بماء باق على أصل خلقته فإذا كان الماء فيه الصابون أو خلط به الصابون فإنه ليس بماء طهور فإنما هو ماء طاهر فاختلاطه بالصابون يوجب وصفه بالطهارة لا بالطهورية ويدل على ذلك أن الصحابة كانوا يفرقون بين الماء الباقي على أصل خلقته والماء المتغير حتى ظنوا أن ماء البحر الذي تغير بالملوحة أنه يعتبر ماء مشكوكاً فيه ولهذا سألوا عنه ، قال العلماء : ولو لم يكن هناك عندهم فرق بين الماء الباقي على أصل خلقته وغيره لما سأل الصحابي رسول الله صلى الله عليه وسلم عند ركوبه البحر" أنتوضأ بماء البحر؟ " فدل على أنه لا يتوضأ بمطلق كل ماء .
وعليه فإنه ينبغي أن يغتسل الإنسان بالماء الخالص فإذا أراد أن يغتسل بالصابون فهو بعد أن يعمم بدنه بالماء الخالص يضع الصابون على جسده أو يضعه في الماء فلا حرج عليه بعد ذلك وهو أدرى بشأن نفسه ، أما بالنسبة للشرع فإنه ألزمه بالتطهر بماء طهور ، والله تعالى أعلم.
السؤال الثامن :
ذكرتم - بارك الله فيكم- تلطف النبي صلى الله عليه وسلم لأصحابه وسعة صدره لهم فهل من كلمة توجيهية حول التعامل بين الإخوان وخاصة في هذا الزمان ..؟؟
الجواب :(51/22)
فإن الله-تعالى- وصف المؤمنين بالرحمة ولذلك كان أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم بينهم المودة والمحبة والصفاء والإخاء كأكمل ما أنت راء بين مسلم ومسلم إن الله عز وجل أدب عباده المؤمنين وهذب أخلاق المسلمين فجعلهم كالجسد الواحد يتواصلون ولا يتقاطعون ولا يتهاجرون ولا يتباغضون ولا يتحاسدون ؛ وإنما قال الله-تعالى- : {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ}(1) إذا أراد الله بالعبد خيراً سلم صدره لإخوانه المؤمنين ولن يستطيع المسلم أن يكون حسن الخلق مع إخوانه المسلمين إلا إذا نزع الله من قلبه ما فيه من الأمراض والأسقام التي يفسد الله بها أخلاقه مع إخوانه وأعظم ذلك أن يكون فيه الحسد أو يكون فيه البغض للمؤمنين أو يكون فيه نية السوء من سوء الظن بهم وحملهم على أسوء المحامل.
يا هذا أحب لإخوانك المؤمنين ما تحب لنفسك فكما أنك تحب من إخوانك أن يحبوك وأن يكرموك ويجلوك فأحبهم لله وفي الله ورجاء ما عند الله فإن الله إذا نظر إلى قلبك ووجدك قد أسكنت فيه محبة المؤمنين أحبك لأنها قربة والله يحب من عبده أن يحب لإخوانه المؤمنين ما يحب لنفسه فمن كمال الإيمان أن يحب المؤمن لإخوانه المؤمنين ما يحب لنفسه ، قال بعض العلماء : ولازم هذا الحديث أن يكره له ما يكره لنفسه يجب على المسلمين أن تنتشر بينهم الرحمة إذا علمت أن أخاك به بلوى أو به مصيبة أو عنده كرب أو خطب سعيت في تفريج كربه وتنفيس همه وغمه : (( فمن نفس عن مؤمن كربة نفس الله عنه كربة من كرب يوم القيامة ومن يسر على معسر يسر الله له في الدنيا والآخرة والله في عون العبد ما كان العبد في عون أخيه )) إذا أراد الله بالعبد الخير جعله مفتاحاً لكل خير وذلك إنما يكون بالإحسان للمسلمين وحب الخير لهم ، وإذا أراد الله بعبده شراً نزع من قلبه الرحمة لإخوانه المسلمين .(51/23)
إن التقاطع والتهاجر والتباغض وسوء الظن بالمسلمين بلية ومصيبة تتقطع بها أواصر المحبة وتنزع منها وشائج الإخوة حتى ربما وقع المسلم في عرض أخيه بدون حق فكم من قائم وكم من صائم يقوم الليل ويصوم النهار حسناته في ميزان أخيه وذلك ببهتانه وحمله على أسوء المحامل أو احتقاره للونه أو حسبه أو نسبه أو مركزه أو جاهه ، تحب الناس لله وفي الله فمن أوثق عرى الإيمان الحب في الله والبغض في الله .
-نسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يهدينا لأحسن الأخلاق والأقوال والأفعال لا يهدي لأحسنها إلا هو وأن يصرف عنا سيئها لايصرف عنا شرها وسيئها إلا هو-.
وَآخِرُ دَعْوَانَا أَنِ الحمَْدُ لِلَّهِ رَبِّ العَالَميْنَ وصلَّى اللَّهُ وسلَّم وبارك على عبده ونبيَّه محمد وعلى آله وصحبه أجمعين .(51/24)
بسم الله الرحمن الرحيم
قال المصنف رحمه الله : بَاب مَا جَاءَ فِي الْمَنِيِّ يُصِيبُ الثَّوْبَ
حَدَّثَنَا هَنَّادٌ حَدَّثَنَا أَبُو مُعَاوِيَةَ عَنِ الأَعْمَشِ عَنْ إِبْرَاهِيمَ عَنْ هَمَّامِ بْنِ الْحَارِثِ قَالَ : " ضَافَ عَائِشَةَ ضَيْفٌ فَأَمَرَتْ لَهُ بِمِلْحَفَةٍ صَفْرَاءَ فَنَامَ فِيهَا فَاحْتَلَمَ فَاسْتَحْيَا أَنْ يُرْسِلَ بِهَا وَبِهَا أَثَرُ الاُحْتِلاَمِ فَغَمَسَهَا فِي الْمَاءِ ثُمَّ أَرْسَلَ بِهَا"فَقَالَتْ عَائِشَةُ : " لِمَ أَفْسَدَ عَلَيْنَا ثَوْبَنَا؟ إِنَّمَا كَانَ يَكْفِيهِ أَنْ يَفْرُكَهُ بِأَصَابِعِهِ وَرُبَّمَا فَرَكْتُهُ مِنْ ثَوْبِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِأَصَابِعِي".
قَالَ أَبو عِيسَى رحمه الله : هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ وَهُوَ قَوْلُ غَيْرِ وَاحِدٍ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَالتَّابِعِينَ وَمَنْ بَعْدَهُمْ مِنَ الْفُقَهَاءِ مِثْلِ سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ وَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَدَ وَإِسْحَقَ قَالُوا فِي الْمَنِيِّ يُصِيبُ الثَّوْبَ يُجْزِئُهُ الْفَرْكُ وَإِنْ لَمْ يُغْسَلْ ، وَهَكَذَا رُوِيَ عَنْ مَنْصُورٍ عَنْ إِبْرَاهِيمَ عَنْ هَمَّامِ بْنِ الْحَارِثِ عَنْ عَائِشَةَ مِثْلَ رِوَايَةِ الأَعْمَشِ ، وَرَوَى أَبُو مَعْشَرٍ هَذَا الْحَدِيثَ عَنْ إِبْرَاهِيمَ عَنِ الأَسْوَدِ عَنْ عَائِشَةَ وَحَدِيثُ الأَعْمَشِ أَصَحُّ .
الشرح :
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين أما بعد :(52/1)
فقد ترجم المصنف رحمه الله " بقوله باب ما جاء في المني يصيب الثوب " : قصد المصنف من هذا الباب أن يبين هدي النبي صلى الله عليه وسلم في المني ، هل يحكم بنجاسته أو يحكم بطهارته ؟؟ وهذا الحديث الذي ذكره رحمه الله يعتبر حجة لمن قال إن المني يعتبر طاهراً ولا يجب على المسلم أن يغسل ثوبه أو بدنه من المني ، وهو قول من ذكرنا من الشافعية والحنابلة وأهل الحديث-رحمة الله على الجميع-وقال به جمع من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ثم ذكر رحمه الله قصة أم المؤمنين الصديقة بنت الصديق مع ضيفها-رضي الله عنها وأرضاها- ووجه مناسبة هذا الأثر مع كونها قصة بين أم المؤمنين صحابية وتابعي كون أم المؤمنين تسند فعلها إلى زمان النبي صلى الله عليه وسلم .
فلما كانت تفرك المني من ثوب رسول الله صلى الله عليه وسلم ويصلي فيه دل هذا دلالةً واضحةً على كون المني طاهراً إذ لو كان المني نجساً لغسله النبي صلى الله عليه وسلم كما كان يغسل سائر النجاسات وهذه القصة مع كون المصنف رحمه الله ذكرها في كتاب الطهارة إلا أنها اشتملت على جملة من المسائل والأحكام التي قد يحتاج إلى بيان خاصة في زماننا حيث اشتملت على جملة من الآداب الشرعية التي تبين هدي أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وما كانوا عليه من الأخلاق الجميلة والآداب الفاضلة الجليلة وبيان هذا الهدي يشحذ همم المؤمنين والمؤمنات إلى الإتساء بهؤلاء الصحابة والصحابيات -رضي الله عنهم أجمعين-وقد اعتنى العلماء رحمهم الله عند ذكرهم لأحاديث النبي صلى الله عليه وسلم وآثار أصحابه-رضي الله عنهم وأرضاهم- ببيان جملة من الآداب التي كانوا يتخلقون بها فاْنظر -رحمك الله- إلى هذا الأثر عن أم المؤمنين -رضي الله عنها-كيف اشتمل على الأدب والإحسان والفضل من أم المؤمنين -رضي الله عنها وأرضاها-.(52/2)
فقوله"ضَافَ أم المؤمنين ضَيْفٌ " : فيه دليل على كرم خلق أم المؤمنين عائشة -رضي الله عنها وأرضاها-والشيء من معدنه لا يستغرب فهي الصديقة بنت الصديق-رضي الله عنهم أجمعين-.
كان أبو بكر رضي الله عنه من أجود خلق الله وقد خرج من ماله لله-- جل جلاله -- فكان مع رسول الله صلى الله عليه وسلم يواسيه ويبذل له من المال ما شاء دون منَّ ولافضل وهذا إنما كان من سماحة نفسه-- رضي الله عنه -وأرضاه- ولذلك قال طائفة من العلماء : إنه هو المعني بقوله سبحانه وتعالى : {وَسَيُجَنَّبُهَا الأَتْقَى الَّذِي يُؤْتيِ مَالَهُ يَتَزَكَّى}(1) فكان أبو بكر-- رضي الله عنه -وأرضاه- أولى الأمة بهذا الثناء من الله كيف وهو أفضل الأمة بعد نبيهاصلوات الله وسلامه عليهفكانت أم المؤمنين كريمة المعشر وقد استضافت هذا الضيف ؛ لأن التابعين كانوا كثيراً ما يغشون أمهات المؤمنين يسألونهن عن هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم وكانت أم المؤمنين عائشة-رضي الله عنها وأرضاها- وعاء من أوعية العلم والعمل فضافت هذا الضيف واستضافة الضيف شيمة المؤمنين ، ولذلك حرص أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم على هذا الهدي وفيه أسوة للعلماء والفضلاء في إكرامهم لمن دونهم من أصحاب الحوائج فهذا الضيف سواء قيل إنه ابن مسلم الخولاني أو همام بن الحارث-رحمة الله عليهما- إنما كان يغشى أم المؤمنين-رضي الله عنها وأرضاها-لمكان العلم والفائدة وإذا كان طالب العلم قريباً من العالم كان انتفاعه من الخير أكثر ، ولذلك تجد الأرض الطيبة إذا تفجرت بعيونها وأنهارها تجد أطيب المرعى ما كان قريباً من العين والماء فأولى طلاب العلم بالعلم وأولاهم بالمعرفة والضبط عن العلماء من كان أقرب من غيره ، ولذلك نجد السلف الصالح رحمهم الله من الصحابة والتابعين ؛ إنما نبغ منهم من كان أشد ملازمة وأكثر صحبة ولا يشترط في الصحبة كون الإنسان يسافر ويجلس مع العالم(52/3)
؛ وإنما المراد بصحبة المجالس وعدم التفريط في مجالس العلم مهما كان السبب إيثاراً لما عند الله سبحانه وتعالى وإجلالاً للعلم وقد قرّر العلماء في آداب طالب العلم أنه إذا كان أقرب للعالم كان ذلك أدعى لضبطه وإلمامه فكان هؤلاء الأجَّلاء من التابعين يغشون أمهات المؤمنين .
وقولها "ضَافَ عَائِشَةَ ضَيْفٌ " : فيه دليلٌ على كرم خلقها -رضي الله عنها وأرضاها-وللضيف حق على المؤمن ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم : (( من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم ضيفه )) فأمر النبي صلى الله عليه وسلم بإكرام الضيف وأثنى الله -- جل جلاله --على عبده الخليلصلوات الله وسلامه عليهوذكر فضله في إكرام الضيف ولذلك قال العلماء : إن اعتناء القرآن الكريم بذكر كرم إبراهيم فيه تنبيه على ما ينبغي للمسلم من الإتساء والإقتداء به ؛ لأن الله جعل الخليل أسوة لمن بعده وخاطب نبيه صلى الله عليه وسلم والأمة من بعده فقال-سبحانه- : { أُوْلَئكَ الَّذِيَن هَدَى اللهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِةْ}(1) فأمره الله بالاقتداء بالخليلصلوات الله وسلامه عليه لأن الله فضَّله وشرفه وكرمه بأطيب الخصال وأحسن الخلال.
ومما كان من سماته البينة كرمهصلوات الله وسلامه عليه ، ولذلك قال الله عز وجل : {فَرَاغَ إِلىَ أَهْلِه فَجَآءَ بِعِجْلٍ سَمِينٍ}(2) فأخبر عن سرعة روغانه وذهابه إلى أهله شفقة على ضيفه وقال سبحانه وتعالى : {هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ المُكْرَمِينَ}(3) فوصفهم بكونهم مكرمين ؛ لأن إبراهيم كان كريما وضيف الكريم كريم فشهد الله له من فوق سبع سموات بالكرم والجود وكانت أم المؤمنين عائشة-رضي الله عنها وأرضاها-لها المكانة العالية والمنزلة السامية في الكرم والجود.(52/4)
كانت-رضي الله عنها وأرضاها-ربما مرَّ عليها اليوم وهي صائمة فيأتيها العطاء من أمير المؤمنين معاوية رضي الله عنه وأرضاه فأثر عنها أنه بعث لها بثلاثين ألف درهم فجاءها العطاء وهي صائمة -رضي الله عنها وأرضاها- فأخذت الدراهم وصرّتها في الصرر اشترت ما عند الله من الباقي وآثرته على مافي الدنيا من الفاني وأخذت تبعث ذات اليمين وذات الشمال للضعفاء والفقراء والمساكين حتى لم تبق من ذلك المال شيئاً فلما غربت الشمس احتاجت الإفطار فسألت جاريتها الطعام فقالت لها جاريتها والله ما عندنا من شئ فقالت لها هلاّ أمسكت شيئاً مما جاءك اليوم تعاتب أم المؤمنين قالت : " والله نسيت هلاّ ذكرَّتيني "-فرضي الله عنها وأرضاها-.
كانت الآخرة أكبر همها ومبلغ علمها وغاية رغبتها وسؤلها كيف وهي حبيبة رسول الله صلى الله عليه وسلم المطهرة المبرأة من فوق سبع سموات :
حصانٌ رَزانٌ ما تُزَنُّ بريبةٍ ……تُصبِح غَرثى من لحوم الغَوافِلِ(52/5)
فكانت-رضي الله عنها وأرضاها-كريمة سخية وعرفت بالجود كما عُرف به أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم واستضافتها لهذا الضيف فيه دليل على ما كان عليه أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم من حب طلاب العلم وإكرام طلاب العلم وكان أبو سعيد الخدري-- رضي الله عنه -وأرضاه- قد روى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم الحديث في وفود طلاب العلم ووصيتهصلوات الله وسلامه عليهبقوله : (( فإن جاؤكم فَقُولُوهم وعلموهم )) وفي رواية : (( فقرؤهم وعلمهم )) فكان أبو سعيد إذا قدم الرجل الغريب إلى المدينة من طلاب العلم بسط رداءه وقال : "مرحباً بوصايا رسول الله صلى الله عليه وسلم " ؛ لكن ينبغي على طالب العلم أن يتحرى الأدب إذا نزل على أهل الفضل والعلم وأن يراعي ما هم فيه من الاشتغال بمصالح المسلمين فالعلماء ونحوهم ممن ابُتلي بالمسؤلية عن فتوى الناس وإرشادهم لا شك أنهم يحتاجون إلى الوقت الكثير من الوقت لكي يتفرغوا لقضاء مصالح المسلمين ودلالتهم على الخير فإذا شعر طالب العلم أن نزوله على العالم يشغله عن ما هو أهم أولى وأحرى فإن عليه أن يراعي مصلحة المسلمين فلربما نزل الضيف على العالم قبل درسه وقبل علمه فأشغله عن نفع أمة وهي بحاجة أشد ما تكون من إضاعة الوقت وينبغي عليه كذلك إذا نزل على العالم أن ينزل نزول المستفيد المجل المكرم.
ولآداب طالب العلم في الضيافة حديث طويل يطول ذكره ؛ وإنما المراد هنا التنبيه على أنه ينبغي على الطرفين مراعاة كل واحد منهما حق الآخر ، والتنبه إلى أن المقصود من الضيافة والنزول إنما هو تحصيل المصالح المطلوبة.
وقوله رحمه الله "فبعثت إليه بِمِلْحَفَةٍ صَفْرَاءَ " : فيه دليل على ما ينبغي للضيف تجاه مضيفه وقد ذكر الحكماء والأدباء والفضلاء أن للضيف حقاً على مضيفه إذا نزل به.(52/6)
فأول هذه الحقوق ينبغي على المضيف أن يكون طليق الوجه محسناً في البشاشة والسرور لكي يشعر الضيف أنه قد نزل أهله وحل محلاً سهلاً فإذا تلقاه بالبشر والطلاقة كان ذلك أدعى للسرور والمحبة والسرور وهو المقصود من إكرام الضيف ؛ لأن إكرام الضيف المراد به جبر خاطره والإحسان إليه خاصة وأنه غريب والغريب في غربته يجد ألم الِفراق لأهله ، فأول ما ينبغي على المضيف أن يحسن اللقيا لضيفه ، ولذلك كان بعضهم يقول : " إذا تلقاني بالبشر والسرور فقد أكرمني فكيف إذا ضحك في وجهي" أي أن بشاشته وطلاقة وجهه إكرام منه فكيف إذا ضحك لي وزاد بالفرح والسرور و لا يفعل ذلك إلاَّ مؤمناً قال صلى الله عليه وسلم : (( لا تحقرن من المعروف شيئاً ولو أن تلق أخاك بوجه طليق )) وفي الصحيح من حديث جرير بن عبدالله-- رضي الله عنه -وأرضاه- أنه قال : "ما لقيني رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا تبسم في وجهي" ، وكان صلى الله عليه وسلم إذا تبسم كأن وجهه صفحة القمرصلوات الله وسلامه عليه ، وينبغي على المضيف أن يراعي راحة الضيف ويكون ذلك بإحسان المنزل له ، ولذلك تفقدت أم المؤمنين-رضي الله عنها- حاجة الضيف فبعثت إليه بالملحفة وهذا يدل على ما كان عليه أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم من الفضل فإن الكبير إذا تفقد شأن الصغير دل على المحبة والمودة وحسن القصد بالإكرام والإحسان فبعثت إليه بالملحفة-رضي الله عنها وأرضاها-لكي يكون ذلك أدعى في حسن نزله وإكرامه ، وقال بعض العلماء : من حق الضيف على مضيفه إذا نزل واستقر لكي يرتاح وينام أن يدله على جهة القبلة وأن يأمره بالحقوق الشرعية من إيقاضه للصلاة إذا حضر وقتها وإعلامه بها فكونها -رضي الله عنها- تتفقد حال الضيف وتبعث له بما يحتاج إليه يدل على أدب الضيافة منها -رضي الله عنها وأرضاها-.(52/7)
وقوله" فَاحْتَلَمَ " : أي احتلم ذلك الضيف في الملحفة وذلك يقتضي إصابة الماء لما عليه من الفراش ثم إن هذا الضيف قد راعى الأدب مع المضيف وهذا يدل على فضل التابعين وتأدبهم مع أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم نعم !! إننا لنقرأ فضل الصحابة وحسن إكرامهم للناس ولكننا نجد التابعين يقابلون ذلك الكرم بالكرم ويقابلون الفضل بالفضل فكانت نفوس كريمة تقابل النفوس الكريمة فلما أسدت إليه الخير قابل ذلك بكمال الأدب رحمه الله فاستحيا أن يبعث بها إليها والحياء هو الخجل والإنكسار يقال استحيا إذا أصابه الحياء وهو خلق محمود ومن الإيمان لقول النبي صلى الله عليه وسلم : (( الإيمان بضع وستون )) وفي رواية : (( بضع وسبعون شعبة أعلاها قول لا إله إلا الله وأدناها إماطة الأذى عن الطريق والحياء شعبة من الإيمان )) ، وفي الصحيح عنه- عليه الصلاة والسلام - أنه مرّ على رجل يعض أخاه في الحياء أي يقول له لم تستحي أو لا تستحي أو لا تكن خجولاً أو نحو ذلك من العبارات فقال صلى الله عليه وسلم :(( دعه فإن الحياء لا يأتي إلا بخير)) فالحياء يحمل على مكارم الأخلاق وهو نور في الوجه وبهاء للإنسان وجلال :
يَعِيْشُ المَرْءُ مَا اسْتَحْيَا بِخَيرٍ وَيَبقَى العُوْدُ مَا بَقِيَ الِّلحَاءُ
فهو نور الوجوه وإذا نزع من الوجوه-نسأل الله السلامة والعافية- هلك أصحابها فلا خير في الإنسان إذا كان صفيق الوجه قليل الحياء -نسأل الله السلامة والعافية- ، ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم : (( إن مما أدرك الناس من كلام النبوة الأولى إذا لم تستح فاصنع ما شئت )) فانظر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم كيف اختار للأمة من ميراث النبوة الأولى هذه الخصلة الكريمة والخلة الجليلة العظيمة وهي الحياء .(52/8)
وفي الصحيح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم : " كان أشد حياء من العذراء في خدرها "صلوات الله وسلامه عليه فقوله استحيا ؛ لأنها بعثت إليه الملحفة على صفة الكمال فاستحيا أن تتطلع على ما كان منه من خاصة الشأن وهذا يدل على أن الأكمل للإنسان أن يخفي أموره المتعلقة به وأن لا يحرص على إبداء الأمور التي هي من شأن نفسه فلا يحدَّث عن ما يقع له من نحو هذه الأمور التي يستحيا منها ولايظهر آثارها ما أمكن ، ولذلك كان بعض الفضلاء رحمهم الله يقول : بلغ بالحياء من بعضهم أنه كان إذا احتلم أخفى الاحتلام حتى عن زوجه وأهله كل ذلك حتى لا يكون فيه حديث نفس في قلبها وذلك إنما يكون في الأحوال الخفية التي لا تخفى على الكثير.
وقوله " فَغَمَسَهَا فِي الْمَاءِ" : فيه دليل على مسألتين :
المسألة الأولى : أنه ينبغي على الإنسان إذا أخذ من أخيه شيئاً يريد أن ينتفع به أن يضمن ذلك الشئ على أتم الوجوه وأكملها بمعنى أن يرد ذلك الشيء على صفته فكما استلمه كاملاً يرده كاملاً ، وعلى ذلك فإنه لايجوز للمسلم إذا استأجر من أخيه المسلم أو استعار من أخيه المسلم الشئ وحصل في ذلك الشئ إخلالاً ولو كان معذوراً في ذلك الإخلال فإنه يضمنه ويرده كاملاً.(52/9)
وتوضيح ذلك : أن هذه الملحفة بعثت إليه بصفة الكمال فلما وقع الاحتلام عليها فإنه يعتبر إخلالاً بها فراعى هذا التابعي غسلها وتنظيفها ، وقال بعض العلماء : بل غسلها حتى يخفى الأمر على أم المؤمنين ، وبناءً على الوجه الأول أنه قصد تطييب الملحفة مما أصابها من المني يكون فيه دليل على أن اليد تضمن وقد أجمع العلماء رحمهم الله على وجوب الضمان في الحقوق إذا أُخذت للمنافع من حيث الجملة لما ثبت في الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه استعار من صفوان رضي الله عنه أدرعه وعتاده يوم حنين فقال لصفوان : (( بل عارية مضمونة )) أي أنني أضمن لك هذا السلاح والآلات حتى أردها بصفتها التي أخذتها عليها ، وبناءً على ذلك فرع أن العارية تضمن وأن الأشياء التي تُؤخذ للمنافع كما في الملحفة التي وردت في أثرنا إذا أخذ الإنسان هذه الأمور بقصد الانتفاع وأخل بها أو أضر فإنه يردها كاملة كما أخذها كاملة .(52/10)
وهنا ننبه على أمر مهم وقع فيه كثير من الناس-إلامن رحم الله-وذلك في أمور الإجارة فقد اشتهر في زماننا أنه يستأجر المسلم من أخيه بيته أو مسكنه ثم ينتفع به السنة أو الشهر على حسب ما يتفقان عليه فإذا خرج من البيت و المسكن فإنه يخرج وقد أتلف كثيراً من المنافع وأضر بها فبناءً على القاعدة التي ذكرناها أن من أخذ الشئ من أخيه المسلم لكي ينتفع به سواء كان ذلك على سبيل الإجارة أو على سبيل البذل والإحسان كما في الخبر الذي معنا أنه يجب عليه ضمانه ورده كاملاً على الصفة التي أخذ عليها ذلك الشئ ويعتبر من الظلم إذا أخذ المسكن كاملاً ورده وقد عبث في مصالحه ومنافعه فيجب عليه شرعاً أن يعيد البيت بصفته التي أخذه عليها ولربما كانت تلك المساكن المؤجرة ربما كانت أوقافاً على أيتام أو أرامل أو نحو ذلك فإذا أضر بمنافعها فإنه يعتبر الإضرار ديناً عليه ويلقى الله-جل وعلا- وخصومه أصحاب الحقوق فيجب على المسلم أن يتنبه لهذا وأن ينبه له الناس خاصة في مسائل الإجارات وقد يأخذ الإنسان من أخيه سيارته أو دابته ثم يفسدها أو يتلفها فإنه ينبغي عليه ضمان ما أتلف ولو كان معذوراً بالإتلاف ، وقال بعض العلماء : إن العارية لا تضمن إلا إذا تعدى الإنسان فيها وهو قول مرجوح ؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال : (( على اليد ما أخذت حتى تؤديه )) وقال عليه الصلاة والسلام : (( بل عارية مضمونة )) فمن استأجر بيتاً ليسكنه فإن من حقه أن ينتفع بالسكن ، أما أن يتلف منافع ذلك السكن أو يغير في شكله وأحواله فإنه يضمن جميع ذلك ، ولذلك لما أضر هذا الضيف بالملحفة فإنه راعى غسلها وتنظيفها لكي ترجع إلى أم المؤمنين عائشة -رضي الله عنها وأرضاها-وهي أقرب إلى صفة الكمال .
وقوله " فبعث بها إليها " : أي إلى أم المؤمنين بعث إليها وهي مغسولة .(52/11)
فقالت -رضي الله عنها وأرضاها- " لِمَ أَفْسَدَ عَلَيْنَا ثَوْبَنَا؟ " : قولها " لِمَ أفسد؟ " استفهام إنكاري أنكرت عليه -رضي الله عنها وأرضاها- الغسل .
وفيه دليل على أن العالم يجوز له أن ينكر القول الغريب من المقلد ونحو ذلك ممن لم يطلع على الدليل فإذا كانت أم المؤمنين-رضي الله عنها- قد أنكرت على هذا التابعي الغسل فإنه يدل دلالةً واضحةً على جواز إنكار القول المخالف إذا خالف الدليل والحجة خاصة إذا كان صاحبه يفعله عن جهل ، أما إذا خالفك الغير بدليل وخالفك بحجة يقول بها فإنه يُعذر في مخالفته لمكان الدليل وحقه عليك أن تبين له وجه الدليل فإما أن يرجع إلى قولك وإما أن يبقى على دليله وقوله .
وقولها "كنت أفَرَكْهُ مِنْ ثَوْبِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم " : فيه دليل على مسائل :
المسألة الأولى : دلت هذه الجملة على طهارة المني إذا لو كان المني نجساً لغسلته ولم تقتصر على فركه .
المسألة الثانية : احتج به فقهاء الحنفية رحمهم الله على أن النجاسة إذا تغيرت وزالت من الموضع بغير الغسل كالحك ونحو ذلك أنه يطهر الثوب ويطهر ما أصابته النجاسة ومن ذلك مسألة الشمس فإن الموضع إذا أصابته النجاسة وكانت عليه الشمس حتى تبخر فإنه يحكم بطهارته .
وخالفهم الجمهور رحمهم الله في ذلك وذلك ؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم أُمر بصَّب الذنوب من الماء على بول الأعرابي قال العلماء .
وفيه دليل على أن النجاسة تطهر بالماء لا بكون الموضع معرضاً للشمس ؛ لأن مسجد النبي صلى الله عليه وسلم إنما كان السقف فيه في بعضه لا في كله وهو جانب أو ناحية من جوانب المسجد ونواحيه وقد مَّرت معنا هذه المسألة في حديث أنس رضي الله عنه في شرحنا لعمدة الأحكام وذكرنا احتجاج الجمهور رحمهم الله في هذه المسألة ورجحان قولهم.(52/12)
المسألة الثالثة : قال فقهاء الحنفية المني نجس ؛ ولكننا نجيب عن هذا الحديث بأنه خفّف في طهارته فإن كان مائعاً غسل وإن كان جامداً فإنه يحّك ويقرص ، وعلىهذا قالوا إذا حّك المني وقرص من الثوب فإنه يحكم بطهارته.
ولكن الشافعية والحنابلة رحمهم الله أجابوا على ذلك بقولهم : إن المني إذا وقع في الثوب فإنه يتخلل خلل الثوب وحينئذٍ إذا حكه الإنسان إنما تتساقط القطع الظاهرة من ظاهر الثوب وباطنه كما لا يخفى وتبقى مادة المني في أصل الثوب فكون النبي صلى الله عليه وسلم لم يأمر بغسله يدل دلالةً واضحةً على أنه طاهر وليس بنجس إذ لو كان نجساً وخفف في طهارته لما خفف على هذا الوجه الذي يبقى به الأصل في الموضع .
وأجاب فقهاء الحنفية رحمهم الله : بأن كون المني يبقى في خلل الثوب لا يصح الاعتراض به على مذهبهم ؛ لأن الأصل في النجاسة إذا كانت في موضعها ومحلها أنها تغتفر ، ولذلك قال جمهور العلماء : بنجاسة الدم ولكنهم قالوا إذا جرح الإنسان وسال الدم فإنه يجب عليه غسل الدم السائل ، وأما الدم الذي هو في أصل الجرح فلا يجب غسله كما هو الحال فيمن استجمر من النجاسة فإن من تغوط واستجمر بالحجر فإن الموضع يبقى نجساً ، ولذلك قالوا تغتفر نجاسة المني في خلل الثوب كما تغتفر النجاسة الموجودة في الدبر حال الاستجمار وكما تغتفر النجاسة الموجودة في الجروح إذا كانت في محلها وجوابهم قوي في سياق النظر والجدل ؛ ولكن الحجة على طهارة المني أقوى وقد بسطنا هذه المسألة وبينا كلام العلماء رحمهم الله فيها .
- ? - ? - ? - ? - الأسئلة - ? - ? - ? - ? -
السؤال الأول :
ذكرتم-حفظكم الله-في قوله " فَغَمَسَهَا فِي الْمَاءِ" فيه مسألتان فذكرت الأولى فما هي الثانية..؟؟
الجواب :
بسم الله الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه أما بعد :(52/13)
الغمس في الماء من هذا التابعي رحمه الله يدل على تعاطي الأسباب لتلافي الضرر الذي يلحق بالعين المنتفع بها وذلك أن وجود المني في الثوب وكونه يغمسه في الماء لا يخلو من حالتين :
إما أن يقصد به إصلاح الثوب حتى يعود كحالته ، وإما أن يقصد به تطهير الثوب مما أصابه من المني ظناً منه بالنجاسة .
وعلى كلا الوجهين فإنه يستقيم الاستدلال به على تعاطي الأسباب ، وعلى هذا فلو أن إنساناً أخذ سيارة واستعارها من أخيه ثم حصل بالسيارة ضرر وأتلف شيئاً منها فإنه إذا أصلحها وأعادها على الصورة التي كانت عليها فإنه تبرأ ذمته ولا يلزمه أن يأتي بسيارة بدلاً عن هذه السيارة ؛ لأن المقصود من هذه الجملة أنه يجب عليه ضمان الضرر بحدوده ، وعلى هذا اقتصر على غسل الموضع ولم يبدلها بملحفة أخرى فالمقصود أنه دل على الضمان وأن الضمان يكون في حدود الإتلاف فلا يلزم بإعادة العين والضمان من حيث الأصل له صور:
الصورة الأولى : أن تضمن بمثلي والمراد بالمثلي أن تأتي بشئ هو مثل الشئ الذي أخذته فإذا أخذ سيارة واتلف السيارة يأتي بمثلها في صفاتها وشكلها ومنافعها وإذا أخذ كتاباً وأتلف الكتاب فإنه يرد كتاباً مثله مثل هذا الكتاب وحينئذ يكون قد أعطى أخاه حقه كاملاً.(52/14)
أما الصورة الثانية من الضمان : فهي إزالة الضرر مع بقاء العين كمسألتنا فإن الضرر إصابة المني للثوب وحينئذ لم يأت بثوب مثيل أو بملحفة مثيله ؛ وإنما قام رحمه الله بغسل موضع الأذى بالماء فأزال الضرر وحينئذ يكون الأصل على أن الضمان يتقيد بموضع الضرر ؛ لكن إذا كان موضع الضرر هو الذي فيه المنفع وهو الذي تقوم عليه المنفعة ولايمكن تداراكه فحينئذ يلزمه أن يأتي بالبديل فلو أخذ ساعة من أخيه وهذه الساعة أتلف عقاربها فإن المقصود من الساعة معرفة الوقت وهذا الإتلاف الذي أضر بعقرب الساعة إذا ذهب عقرب الساعة فإنه حينئذ لامنفعة في الساعة فإذا لم يستطع تلافي هذا الضرر بأن تأني بعقرب ساعة مثلها وتركبها حتى تعود الساعة للحالة الطبيعة فإذا لم يتمكن من ذلك أُلزم بساعة أخرى مثل التي أتلف.
الصورة الثالثة : ألا يجد مثل الساعة فإذا لم يجد مثلها فإنه يضمن بالقيمة.
فالضمان إما برد العين نفسها إذا أمكن مع إصلاح الخلل الذي فيها وإما برد مثل العين إذا تلفت العين أو ذهبت منافعها أو برد قيمة العين إن تعذر رد العين ورد المثل فهذه ثلاث مراتب مقررة عند العلماء :
أولاً : ترد العين التي أخذتها وتراعي كمالها بالصفة التي أخذتها عليها فإذا لم يتيسر لك ذلك فإنك تنظر إلى مثل العين مثلها في الصفات والمنافع فتأتي بمثلها.
فإذا لم يتيسر وجود العين العين سرقت أو تلفت أو ذهبت بالكلية أو ذهبت مصالحها على وجه لا يمكن التدارك فيه ولم تستطع أن تأتي بمثلها حينئذ يقدر أو ينظر إلى قيمة هذه العين حينما حصل الإتلاف فلو أنك أخذت هذه السيارة قبل سنة ولكنها تلفت في نهاية السنة حينما أخذتها كانت القيمة سبعة آلاف وحينما حصل الإتلاف كانت القيمة خمسة آلاف ريال أي أن التقدير والقيمة تتقيد بالوقت الذي يحصل أو يلزم فيه الدفع لأن الضمان ثبت في ذلك الوقت ، والله تعالى أعلم.
السؤال الثاني :(52/15)
إذا احتلم الرجل فهل يجب أن يغير الثياب التي أصابها المني..؟؟
الجواب :
لا يجب على الإنسان أن يغير الثوب الذي أصابه المني ، ولذلك صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بثوبه الذي أصابه المني ، ولكن إذا وسع الله عليه وعنده ثياب بديلة فإنه يوسع على نفسه ولا يخرج بهذا الثوب ؛ لأنه مظنة أن ينظر ويلاحظ عليه خاصة إذا كان من أهل الفضل وممن له قدوة ؛ لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان على زهد في الدنيا ، ولذلك قال : (( أو لكلكم ثوبان )) فكان الناس في ضيق وشدة ، أما لو وسع الله على العبد وأمكنه أن يخرج بثوب بديل فإنه يخرج بالثوب البديل ، والله تعالى أعلم.
السؤال الثالث :
هل الفرك يكون على وجه الوجوب أم على الاستحباب..؟؟
الجواب :
هذا الفرك لإخفاء عين المني ، ولكن لو صلى والمني في الثوب لم يفركه فإن صلاته صحيحة ، لكن من باب الكمال كون النبي صلى الله عليه وسلم يخرج إلى الناس ويقابل الناس فالأكمل والأفضل أن الإنسان يخفي ذلك ، وكان العلماء رحمهم الله يقولون : إن النبي صلى الله عليه وسلم قال لعمر حينما سأله فقال : يا رسول الله أينام أحدنا وهو جنب؟ قال : (( توضأ واغسل ذكرك ثم نم )) فأمره بغسل العضو ؛ لأن العضو يتلطخ بوجود الأذى فالأفضل أن الإنسان يزيل هذا الأذى ، والمني ولو كان طاهراً فإن رائحته مستبشعة ، ولذلك يزيل هذا القذر والنتن ، ومن هنا قالوا : إنه أُمِر بوضوء الجنب حتى يزيل الأذى الذي حول الموضع ويكون ذلك أكمل في طهارته ، والملائكة تحب الرائحة الطيبة ، والشياطين على العكس تألف الرائحة الخبيثة وتحبها وتألف أصحابها ، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم : (( إن الملائكة تتأذى مما يتأذى منه المصلون )) ، والله تعالى أعلم .
السؤال الرابع :
ما حكم من صلى فسال الدم من أحد جروحه..؟؟
الجواب :
هذا على حالتين :(52/16)
الحالة الأولى : أن يكون الدم نزيفاً لا يمكنك إيقافه وهي مثل حالة الجروح السيالة كالمستحاضة يسيل دمها ولا يرقأ ومثل من أصابه جرح غائر لا يمكن أن يرقأ وعليه حمل حديث الصحابي لما أصابه سهم وهو يصلي ؛ لأن السهم إذا أصاب الجروح نزفت وتعرفون أن السهام مزججة ؛ وإنما وضع الزج في رأس السهام لحكمتين ذكرها العلماء(1) هذا في باب الصيد ففيه أن النبي صلى الله عليه وسلم منع من صيد المعراض إذا أصاب بعرضه قالوا لأن المعراض لا يكون فيه الزج وهذا الزج من المعلوم أنه لما أصابه السهم كما في الرواية : (( نزع فنزف)) فالسهم مثلث بالزج وهذا الزج إذا نزع يقّطع العروق بطرفيه فلذلك إذا نزع نزع بألم أشد مما إذا رميه به ، وعلى هذا هذا النزع يجعل النزف قوياً ، ومن هنا قال الجمهور لا يصلح حديث الصحابي الذي أصابه السهم حجة على طهارة الدم لأنه نزف والنزف لا يرقأ ولا يمكنه رقأ النزف ، ومنه كذلك طعن عمر-- رضي الله عنه -وأرضاه- لماّ صلى وجرحه يثعب ؛ لأن هذا كله من باب النزف فمن أصابه الدم السياّل أثناء الصلاة فإنه يصلي ؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم أذن للمستحاضة أن تصلي ودمها يسيل والتكليف شرطه الإمكان لقوله سبحانه وتعالى : { لاَ يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا}(2) فليس بوسعك إيقاف مالا يقف وكون الدم يرقأ هذا أمر من الصعوبة بمكان خاصة في أول الضربة أول الجرح .
الحالة الثانية: أن يكون الدم مما يرقأ فيمكن إيقافه كمن أصابه رعاف ثم انقطع فحينئذ إذا أصابك الدم النجس أو الرعاف أثناء الصلاة فأيضاً لا تخلو من صورتين :(52/17)
إما أن يمكنك غسل ذلك الدم وأنت في الصلاة دون أن تتحول عن القبلة ودون أن تعمل عملاً كثيراً مثل أن يكون بجوارك الحوض أو الحوض قربياً من غرفتك فيمكنك أن تسير الخطوتين والثلاث إلى أربعة تقطعها ثم تأخذ كف الماء تغسل ثم تتم صلاتك ثم تبني لاحرج في قول جماهير العلماء رحمهم الله أنه لابأس أن تفعل هذا بشرط ألا تنحرف عن القبلة ؛ والسبب أنه يغتفر لك المشي من مصلحة للصلاة ؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم مشى لمصلحة الصلاة وحرّك ابن عباس من يساره إلى يمينه لمصلحة الصلاة وهذه الحركة لمصلحة الصلاة ثم كونك تأخذ وقتاً لإزالة النجاسة هذا مغتفر ؛ لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما أخبره جبريل بأن النجاسة في نعليه أو أحد نعليه نزع عليه الصلاة والسلام النعل والنزع يستغرق وقتاً ما بين الإخبار والفعل فاغتفر ؛ لأن هذا الوقت هو من تمام أمر الشرع فأنت حينما تمشي من موضعك إلى الحوض أو من موضعك إلى البركة أو من موضعك إلى صنبور الماء فهذا من تمام أمر الشرع لأن : " مالا يتم الواجب إلا به فهو واجب " ومن هنا اغتفرت حركتك أثناء الصلاة لنزع الثوب فلو علمت أن الثوب أو الغترة والعمامة التي على رأسك نجسة فأزلتها فإنه يغتفر ؛ لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم التحف الثوب وهو في الصلاة فالمقصود أن من أصابه الدم أثناء الصلاة وأمكنه أن يزيله ننظر إن وجد الماء قربياً منه بحيث لا يتحرك حركات كثيرة ولا يستدبر القبلة فإنه يزيل النجاسة ويبني ، وأما إذا الماء بعيداً عنه أو لا يمكنه الوصول إلى الماء إلا باستدار القبلة فحينئذ فيسلم من صلاته ويذهب ويزيل النجاسة التي عليه ثم يستأنف الصلاة ولايبني فيها ، والله تعالى أعلم .
السؤال الخامس :
هل من الصواب قول القائل : " لاحياء في تعلم الدين أو القول لاحياء في الدين "..؟؟
الجواب :(52/18)
قوله" لاحياء في الدين" المراد من ذلك أنه لاحياء في السؤال عما يدين الإنسان ربه ويتعبد لله عز وجل به ، ولذلك قال العلماء الحياء ينقسم إلى قسمين :
حياء محمود وحياء مذموم ، فأما الحياء المحمود فهو الذي يحمل على مكارم الأخلاق ومحاسن العادات فهذا محموداً شرعاً.
وأما الحياء المذموم فهو الذي يضيع الحق ويوجب الوقوع في الباطل كسكوت الإنسان عن بيان الحق حياء من الخلق والله أحق أن يستحي منه فتجده يرى المنكر ويرى صاحب المنكر ولاينكر عليه سبحان الله!! إذا كان صاحب المنكر قد جاء في وجهك وأمام عينك وتعاطى فعله في وجهك ولم يستحي منك وهو على باطل أتستحس أن تهدي إليه الحق..!! الذي جعله الله عز وجل لك نوراً ويعظم به أجرك ويثقل به ميزانك ويرفع به عند الله ذكرك ، ولذكل يعجب الإنسان ربما ترى الإنسان يتعاطى المنكر في وجهك دون حياء منك وقد يكون الجالس معك عليه سمت الصالحين وشعار الصالحين وفي وجه أثر السنة ومع ذلك لايبالي به ولايتلفت إليه ويجُرى على فعل منكره في الوجه فأقل مايكون منك وليس بالقليل أنت تقول له" اتق الله" فإن هذا لا يجوز ولا تقول إستحي ولا يمنعك الحياء من بيان الحق فإن هذا حياء مذموم وقالوا إن صاحبه مأزور غير مأجور إذا قصد به مجاملة الناس ، أما إذا خاف أو كان عنده العذر الشرعي فهذا أمر آخر .(52/19)
وأما بالنسبة للحياء الذي يمنع من السؤال فإنه مذموماً شرعاً إذا كان الإنسان بحاجة إلى معرفة الحكم ومعرفة شرع الله عز وجل في مسألة ومنعه الحياء من سؤالها فإنه يأثم ؛ لأن الله أوجب على كل مسلم إذا نزلت به نازلة وألمت به مسألة أن يرجع إلى العلماء وأن يسألهم وأن يذكرهم وإذا امتنعا حياء فإنه يحرم العلم ، ولذلك قال العلماء رحمهم الله : " ضاع العلم بين الحياء والكبر" فالإنسان يحُرم العلم-نسأل الله السلامة والعافية- لهاتين المصيبتين إما أن يتكبر فيقول من هذا الذي أساله ومن يكون ولماذا أذل نفسي بسؤال وقد يكون له منزلة ويكون أمام الناس إذا سألت ظن الناس أني جاهل ووالله لقد أدركت أناساً هم من أرفع الناس قدراً ويجلسون في مجالسهم ويعلم الله أني أعرف بعضهم من أهل الفضل مما أدركناهم من كبار السن من الرعيل السابق-نسأل الله أن يسكنهم من فسيح جناته ورضوانه-مما رأينا من حب الدين وعدم الحياء والخجل والله لقد أدركت رجلاً عمره فوق السبعين وهو من جلس العلماء صديق للوالد رحمه الله بل كان يقرأ الدرس في بعض الأحيان ومع ذلك كان يلم بالمسائل ويعرف المسائل أذكر منه يوم جاء وهو في شدة المرض قد أخرج من المستشفى في آخر عمره-رحمه الله برحمته الواسعة- جاء في آخر عمره فإذا بمجلسه ملئياً من كبار الناس وأعيان الناس وهذه ولله أقولها شهادة لأهل الفضل بفضلهم جاء في هذه الحالة الشدية من المستشفى وجلس على كرسية لأنه لايستطيع الجلوس على الأرض وإذا بكبار لناس عن يمينه وعن يساره وكنت فيما يقرب من السابعة عشرة أو الثامنة عشرة وأنا أصغر الناس الموجودين ؛ لأن كثيراً منهم من الأعيان من حيث السن ومن حيث الوضع فإذا به ينادي ويقول يريد بكرسي وقال ضعوه عن يميني فوضع عن يمينه فقال يافلان تعال فنداني وقال ياشيخ فلان تعال مع أنني كنت مع الوالد في مقتبل العمر والله لا أقوله تزكية للنفس فإجلسني عن يمنيه وسألني عن أموراً من(52/20)
أبسط الأمور في الطهارة أشهد لله أنه كان يعرف حكمها ؛ ولكنه أراد أن يرفع قدر العلم على الناس وما منعه الحياء ومنعه الخجل ؛ ولكنه نظر إلى أن الله رفع قدره بالفضل فرد لأهل العلم قدرهم وأحب أن يظهر أهل العلم ويفضلهم على من في المجلس هكذا يكون أهل الفضل مامنعه أن يسأل عن مسائل والله وضحها في التيمم وجاء به من المستشفى فهو يسأل عن أمور من الطهارة في المستشفى وهو أكثر من ثلاثين سنة يصحبالوالد وعلماء المدنية ويأخذ عنهم ويقرأ على بعضهم ؛ ولكنه أراد أن يرفع قدر أهل العلم فإذا تكبر الإنسان واستحيا عن أهل العلم كأنه لايريد أن شكر نعمة الله عليه ؛ لأن الله رفع قدره فإذا رفع الله قدره ورفع قدر أهل العلم مما فضلهم الله به من العلم فقد أحسن صنعاً والله لايضيع أجر من أحسن عملاً ، فالمقصود أن الحياء والكبر كون الإنسان في منزلة وجاهة يترفع عن أن يتصل بأحد من العلماء فيسأله أو يترفع في المجلس أن يسأل عن أمر واضح من أمور دينه هذه من المصائب والمحروم من حرم-ونسأل الله العظيم أن يكمل نقصناً وأن يجبر كسرناً وأن يعيذنا من منكرات الأخلاق-.(52/21)
فقولهم " لاحياء في الدين " : أي لاحياء في سؤال الإنسان عن دينه ولاخجل على الإنسان ولامنقصه ولاعتبه ولاملامه ولاغضاضة أن يعرف ماالذي أمر الله به حتى يفعل وما الذي نهاه الله عنه حتى يترك ، وكان الرجل من أجلاء التابعين-رحمه الله برحمته الواسعة-يدخل على صاحب من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فيسأله عن الأمور البداهية يريد السنة دخل أبو المنهل سيار أبو سلامه رحمه الله يقول كما في الصحيحين دخلت أنا وأبي على برزة الأسلمي وذلك عند قدومه إلى البصرة دخل هذا الرجل مع ابنه الصغير دخلت أنا وأبي على أبي برزة الأسلمي فقال أبي : " كيف كان النبي صلى الله عليه وسلم يصلي المكتوبة "ما أستحي كيف كان يصلي المكتوبة وهو رجل كبير السن ويعرف وقتها ومواقتها ؛ ولكن يريد أن يشعر بأهل الفضل بفضلهم ويريد أن يعرف السنة فالسؤال لاحياء فيه ولاخجل فيه قيل لابن عباس كيف أصحبت عالماً قال : " إنه كان لي لسن سؤال وقلب عقول" فالعلم نصفه في السؤال بل كان يقول بعض العلماء ثلثا العلم في السؤال لأنك إذا سألت فإنك تتعلم وفتستفيد وتفيد بذلك السؤال غيرك ، والله تعالى أعلم.
السؤال السادس :
مؤذن ربما احتلم بالليل وقام على وقت الأذان فهل يؤذن أم يؤخره حتى يتطهر..؟؟
الجواب :(52/22)
هذا فيه تفصيل إن كان الأذان خارج المسجد فإنه رخص بعض العلماء في أن يؤذن الجنب ، وقالوا لاحرج في أذان الجنب ؛ لأن الطهارة الكبرى لا تشترط للأذان ، وقال بعض العلماء : أكره للجنب أن يؤذن وهو قول بعض السلف رحمهم الله وهو أحوط وأولى ، وأما إذا كان داخل المسجد فإنه لا يدخل المسجد إلا بعد أن يتطهر فإن الجنب لا يدخل المسجد وقد ذكرنا هذه المسألة في حديث أم المؤمنين عائشة-رضي الله عنها-في قوله عليه الصلاة والسلام : (( أما الحيض فليعتزلن المصلى)) وقوله لعائشة يا عائشة : (( ناوليني الخمرة)) قالت إني حائض فامتنعت من دخول المسجد لوجود الحدث الأكبر ، والله تعالى أعلم .
السؤال السابع :
من المعروف أن أزواج النبي صلى الله عليه وسلم أمهات للمؤمنين فهل هذا يدل على أنه محرم لكل من لحق بهن من الصحابة والتابعين أعني بذلك الأحكام الشرعية من الخلوة وغير ذلك..؟؟
الجواب :
بسم الله الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آهل وصحبه ومن والاه أمابعد :(52/23)
فإن نص القرآن بأن أزواج النبي صلى الله عليه وسلم أمهات للمؤمنين ليس المراد به كونه محرماً فإنها لاتأخذ حكم المحارمية فلا تصافح المؤمنين ولا تختلي بهم إذا كانوا أجانب عنهن فلا يصفحن ولايتختلين مع الصحابة الأجانب ، ولذلك قال الله عز وجل :{وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعاً فَاسْأَلُوهُنَّ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ}(1) ثم قال :{ ذَلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ}(1) وجعلهم في حكم الأجانب وأمرنا وأدنى الحجاب وهذا كله يؤكد على الأمومة هنا فيها معنى الفضل وعلو المقام كأنهن للناس وهذا علو مقام وعلو منزلة ، حتى قال بعض العلماء : إن هذا الأمومة التي شرف الله بها أمهات المؤمنين أعظم عند الله من أمومة النسب وهذا من جهة الحق وليس المراد به أنها أم من جهة النسب ومن جهة المحرمية فالحكم يختص في المحارم بالنسب كما هو منصوص عليه ، وكذلك بالرضاعة لثبوت الأدلة الشرعية على كل منهما ، والله تعالى أعلم .
السؤال الثامن :
أشكل علينا في حديث سهل بن حنين رضي الله عنه قوله عليه الصلاة والسلام : (( فتنضح به ثوبك )) فكيف يوفق بين هذا اللفظ وبين إيجاب الغسل للثوب الذي فيه مذي..؟؟
الجواب :
النضح يطلق بمعنى الرش ويقال نضح الشيء إذا رشه بالماء والرش فيه معنى الغسل ، ولذلك جاء في الحديث الآخر :(( اغسل ذكرك )) فأمره عليه الصلاة والسلام لعلي-- رضي الله عنه -وأرضاه- وجوابه للمقداد وجوابه لعمار بالأمر بالغسل من المذي يدل دلالةً واضحةً على أنه نجس وأن المراد بالنضح هنا ؛ إنما هو الغسل وليس المراد به الرش الذي يكون خفيفاً كما هو الحال في النجاسة المشككوك فيها ، والله تعالى أعلم.
السؤال التاسع :
هل من كلمة توجيهة حول زيارة طلاب العلم وغيرهم من الناس إذا أردوا زيارة العلماء..؟؟
الجواب :(52/24)
زيارة العلماء لاشك أنها من أجل القربات وأفضل الطاعات قد ثبت في الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم :(( إن الله أرسل لعبد خرج من قريته إلى قرية أخرى يزور له أخاً في الله أرسل الله له ملكاً على مدرجة الطريق فقال إلى أين أنت ذاهب قال : إلى هذه القرية قال : ومالك فيها قال : لي فيها أخ في الله قال هل لك عليه من نعمة تُربها عليه قال : لا إلا أنه أخي في الله فقال إني رسول الله إليك أن الله قد غفر لك بممشاك إليه )) أكبر الله من هذا العبد حبه في الله لأخيه المسلم وأكبر الله منه هذه الخُطوات وهذا الممشى الذي طاب وطاب صاحبه ، ولذلك كتب الله المغفرة له بزيارته لأخيه والعلماء رحمهم الله يقولون : "يشرف الشيء إذا شرفت غايته وشرف مقصده" فكما كانت زيارتك لله لمن هو أعظم منك حقاً وأعظم قدراً وكان ممشاك إلى من هو أعظم فضلاً فإن الأجر أعظم ، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم : (( من أحب منكم أن ينسى له في أثره وأن يبسط في رزقه وأن يزاد له في عمره فليصل رحمه )) فجعل صلة الرحم ومنها الزيارة جعلها موجبة لهذه العواقب الحميدة وثبت في الصحيح عن الطفيل بن عمرو بصحيح مسلم أن الطفيل بن عمرو كان له ابن عم هاجر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فالهجرة سفر وانتقال من بلد الكفر إلى بلد الإسلام إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فخرج هذا المخرج لله وفي الله وفضل الله خروجه لنبيه صلوات الله وسلامه عليهبالهجرة لعظيم مافيها من قصد وجه الله-تبارك وتعالى-فكل خروج يقصد به وجه الله فهو عظيم فلما هاجر الرجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم قاتل معه فجرح جراحات فمرض ثم استعجل الموت أحس بشدة المرض وعظيمه فقطع براجمه فشخذت براجمه فمات فرآه الطفيل في النوم فقال له : " ما فعل الله بك" والراوية لمسلم في صحيحه قال له : "مافعل الله بك قال : غفر لي وأدخلني الجنة بهجرتي إلى نبيه-- صلى الله عليه وسلم(52/25)
--"غفر لي وأدخلني الجنة بهجرتي نبيه صلى الله عليه وسلم فشرف الله الشيء بشرف من قُصد والعلماء ورثة الأنبياء فالإنسان إذا خرج من بيته لزيارة عالم وإرادة الجلوس معه لله وفي الله .
أولاً : هذه طاعة وقربة لله سبحانه وتعالى .
وثانياً : أن السبب الباعث عليها في الغالب هو الانتفاع ، وكذلك التقرب إلى الله عز وجل بقضاء الوقت فيما يحبه ويرضاه وأحب من قضيت معه الأوقات والساعات هم العلماء ؛ لأن الإنسان إذا جلس معهم استفاد بما يعينه على دينه ودنياه وآخرته ، ولذلك جعل الله مجالسهم مجالس الرحمة وثبت في الحديث الصحيح أن الله شهد من فوق سبع سموات أنهم : (( هم القوم لا يشقى بهم جليس )) فغفر الله لعبدٍ مذنبٍ كثير الخطأ والذنوب مرّ على مجلس ذكر فغفر الله لأهل ذلك المجلس وقالت الملائكة إن فيهم فلاناً عبداً خطاء كثير الذنوب مرّ فجلس معهم قال : (( وله قد غفرت هم القوم لا يشقى بهم جليس)) فمن قصد العلماء وجلس مجالسهم ، يقول بعض العلماء : إن الله عز وجل غفر لمن جلس هذا المجلس إذا كان ولم يقصد هذا المجلس فكيف بطالب العلم حينما يخرج من بيته من أجل أن يجلس هذا المجلس؟! قال بعض العلماء في قوله عليه الصلاة والسلام : (( من سلك طريقاً يلتمس به علماً سهل الله له به طريقاً إلى الجنة )) قالوا إنه لو خرج من بيته فإن خطواته تكتب وأنفاسه تكتب ، فزيارة العلماء من أجل الطاعات وأفضل القربات.
وأول ما وأصيك به : الأدب من الله عز وجل أن تخرج من بيتك لامن أجل أن يقال إنك جليس فلان أو إنك تغشى مجلس فلان ؛ لكن لله وفي الله وابتغاء الأجر من عند الله .(52/26)
ثانياً : أن تختار أنسب الأوقات وأفضلها لزيارة العالم فالعلماء شُغلت بهم الأمة وعلى ظهورهم أمانات ووراءهم أمم تنتفع بعلمهم وستضيء بعد الله بنوره فينبغي أن يهيء لهؤلاء من الوقت والراحة والاستجمام مايستعينون به على نفع الأمة ودلالتها على الخير فلا يأتي الإنسان في الأوقات المزعجة وإنما يسأل متى يُزار هذا العالم ومتى يغشى في بيته ؟! فإذا كان العالم ليس له وقت فإن الأفضل ألا يزار ؛ لأنك إذا جئت وأنت وحيد تشغله عن مصالح أمة وعن نفع أمة به ؛ لكن إذا حدد وقتاً للزيارة أوكان هناك وقت للزيارة خاصةً في هذا الزمان فإن الساعات لو نظرت إلى أبسط الناس ومنهم من عوام الناس تجد أن الوقت عندهم يضيق ولا يستطيع أن يتحكم في أوقاته لزيارة أقرب الناس إليه فكيف بالعالم !! لمن في حاجته إلى وقته حاجته لراحة نفسه في حاجته للوقت للتحضير لدروسه وفتاوى الناس وإرشاد الناس وحمل هذه الأمانات من أدلة كتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم لنفع الأمة فلا تأتي في أي وقت وكان بعض المشائخ رحمة الله عليهم يقول : " أخشى على من اختار وقتاً يزعج فيه العالم وعنده أمانة من تعليم ناس أو اختار خطيباً أو إماماً عنده خطبة أو ساعة يواجه فيها الناس يحتاجها لتحضير أو نفع أمة فجاء فشغله عن ذلك أخشى عليه الاثم " ، لأنه لماّ جاء بهذه الساعة شغله عن أمة وقد يستحي العالم ويكون خجولاً فيحابي ذلك الرجل ويجلس معه فتكون هذه المحاباة سبباً في إضاعة حقوق أعظم من التحضير لدروس وانتفاع بها هذا أمر ينبغي أن يوضع في الحسبان .(52/27)
الأمر الثالث : ينبغي أن نعلم خاصةً في هذا الزمن أن الوقت ضيق وينبغي أن نعلم أنه إذا هيأ العلماء مجالس في المساجد وهيأوا مجالس لنفع الناس وعندهم أوقات معينة للجلوس معهم فأنا أرى الأفضل والأكمل أن تكون ممن زارهم في مجالس الذكر وطاعة الله سبحانه وتعالى فذلك أجل وأسمى ليس معنى هذا أن نتهرب من لقاء الناس أو نمنع الناس من زيارة العلماء ؛ ولكن شكى لي كثير من العلماء فمن أعرفهم خاصة معنا في المدينة وغيرهم يشكون من إضاعة الأوقات بسبب الزيارات فما يخرج وفد أو ركب إلا وجاء من بعده ثم يأتي هذا تلو هذا ويخرج هذا ويدخل هذا هذا أمر من الصعوبة بمكان وإننا والله لنشفق شفقة على هؤلاء الفضلاء وشفقة على هؤلاء العلماء خاصةً الأجلاء منهم ممن تحمل المسؤولية والأمانة .(52/28)
الأمر الرابع : إذا أتيت ودخلت ينبغي أن تعلم أن للعالم حرمة فإذا قابلتة تقابلة مقابله من يجل ويكرم فلاتقابله مقابلة الباردة كأنك داخل على عامة الناس ؛ لأن هذا من إجلال دين الله عز وجل وإجلال شعائر الله ، فبعضٌ من الناس إذا قابل العالم في المجلس أمام الناس أجله خوفاً أن ينتقص في نظر الناس إليه فإذا زار في بيته زاره كما يزور الأخ أخاه وكأنه شيء عادي ، وبعضهم إذا ألف زيارة العلماء وألف الدخول على العالم فإنه يقابله كمايقابل عامة أصحابه وعامة أصدقائه ، ومن الناس من إذا أكرمه العالم وأدخله إلى خاصته ازداد إكراماً وإجلالاً له وما زاده ذلك الحب إلا توقيراً وهيبة وأصبح يشعر أنه ينبغي عليه أن يجلَّ أكثر وأن يكرم أكثر فتجد طيب معدنه يفوح بحسن شمائله وطيب خلاله كلما أكرمته وأفضلت عليه ؛ لكن بعضاً من طلاب العلم أو بعضاً من العامة-أصلحهم الله- قربهم من العلماء يزيدهم جرأة ، والله لقد رأيت من الأمور العجيبة في بعض المجالس ولا أقول أخص بها قوماً أو جماعة إنني أرى بعضاً من الذين يقتربون من العلماء يتأخذون من قربهم من العلماء وسيلة لإهانة العلماء من حيث لا يشعرون فبعضهم إذا جلس في مجلس العالم وأكثر من زيارة العالم يتحدث كيف شاء ويجيب كيف شاء ولربما جاء الضيف فأراد أن يباسط العالم فيحدثه الحديث من الدينا فإذا بهذا يتدخل بكلمة أو بجملة أو بعبارة وكأنه هو المعني وكأنه هو المراد لاينبغي ،ولهذا فإنه ينبغي على كل من أقترب من العالم في زيارة أو ضيافه أن يكون أكثر أجلالاً ؛ لأن الناس تجل العالم على حسب من حوله فإذا رأى من حوله يكرمه ويجله يزاد إكراماً وإجلالاً ، ولذلك إذا نظرنا إلى هدي الصحابة -رضوان الله عليهم-وجدنا أكثر إجلالاً قال سهل لما بعثته قريش قال : "والذي يحلف به سهل والله ما رأيت أكثر حباً من أصحاب محمد لمحمد" رأى من الصحابة إجلال العلم والنبوة وإكرام رسول الله-- صلى الله عليه وسلم(52/29)
-- ، أقول هذا والله شفقاً ونصحية ليس لي خاصة وإنما للعلماء نرى أموراً تتقرح منها القلوب ماكنَّا مع مشائخنا وعلمائنا بهذا فما زادنا القرب من العلماء إلا هيبة وإجلال وحب لا من أجل العلماء ؛ و لكن لله وفي الله ونحس أن إكرامهم لنا وإدخالهم لنا في بيوتهم شرف عظيم يُوجب علينا حقاً أعظم من الحق الذي يكون لعامة الناس فينبغي على من دخل على العالم أن يجله ويكرمه وأن يجعل من الدخول سبباً في المباسطة .
الأمر الأخير : الذي أحب أن أنبه عليه إضاعة وقت العالم فلقد مر بي ومر بغير من العلماء والمشائخ أنه ربما يأتيه الضيف بعد العشاء فتجده إذا دخل المجلس يجلس ساكتاً فلا يتكلم ولا يتحدث ولربما مرت الساعة والساعة والنصف وإذا به يسأل أسئلة واضحة تماماً فإذا ذهبت الساعة والساعتان والثلاث إذا به ينظر كأنما الوقت قد طال فيقول يا شيخ عندي مشكلة طيلة هذا الوقت الذي ذهب هدراً وكأن الإنسان يزور الإنسان عنده الوقت عبث هذه الأمور ينبغي أن يتنبه لها ، إذا دخلت لحاجة ينبغي أن تحس أن الوقت ثمين والله لانقولها شفقة على أنفسنا ؛ وإنما أقولها شفقة على علماء الأمة والأمر لا يختص بالعلماء حتى خطباء المساجد وأئمة المساجد والمؤذنين لهم فضل ولهم نفس الحق إذا كان في حيك إمامُ أو خطيب تزوره ينبغي أن تراعي مثل هذه الآداب ؛ لأن الله يكملك ويجملك وإنها لنعمة من الله عز وجل أن يكون عند الإنسان شعور وأن يترفق هذا من الرفق : (( والرفق ما كان في شيء إلا زانه ولانزع من شيء إلا شانه )).(52/30)
كذلك وصية أخيرة : ليس المراد أن أتأدب أنا في نفسي مع العالم ؛ ولكن ينبغي أن أعود من معي على حب العالم وإجلاله فإذا جلس في المجلس ورأيت من معك يضيع الوقت إذا غاب العالم في إحضار الطعام والوقت يضيع عليه تقول يا إخوان ترفقوا بالشيخ ترفقوا بالإمام ترفقوا بفلان حتى يكون ذلك من باب التواصي بالحق -أسال الله العظيم رب العرش الكريم أن يهدينا لمكارم الأخلاق لا يهديه لأحسنها إلا هو-لكن لا أقول هذا تهرباً من الزيارة يعلم الله عز وجل لكن هذه أمانة والمستشار مؤتمن ولما سئلت عن الآداب ينبغي أن أبوح فما أنا إلا كزائر مثلكم وأحب لكم ما أحب لنفسي والخير أردت والله من وراء القصد .
وَآخِرُ دَعْوَانَا أَنِ الحمَْدُ لِلَّهِ رَبِّ العَالَميْنَ وصلَّى اللَّهُ وسلَّم وبارك على عبده ونبيَّه محمد
وعلى آله وصحبه أجمعين .مراجعة قبل فضيلة الشيخ -حفظه ال - والأسئلة المتعلقة بالدرس وجزى الله فضيلة الشيخ خير الجزاء وسدد مسعاه والله من وراء القصد.(52/31)
بسم الله الرحمن الرحيم
قال المصنف رحمه الله : بَاب غَسْلِ الْمَنِيِّ مِنَ الثَّوْبِ
حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ مَنِيعٍ قَالَ حَدَّثَنَا أَبُو مُعَاوِيَةَ عَنْ عَمْرِو بْنِ مَيْمُونِ بْنِ مِهْرَانَ عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ يَسَارٍ عَنْ عَائِشَةَ :"أَنَّهَا غَسَلَتْ مَنِيًّا مِنْ ثَوْبِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم " .
قَالَ أَبو عِيسَى رحمه الله : هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ وَفِي الْبَاب عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ وَحَدِيثُ عَائِشَةَ أَنَّهَا غَسَلَتْ مَنِيًّا مِنْ ثَوْبِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لَيْسَ بِمُخَالِفٍ لِحَدِيثِ الْفَرْكِ لأَنَّهُ وَإنْ كَانَ الْفَرْكُ يُجْزِئُ فَقَدْ يُسْتَحَبُّ لِلرَّجُلِ أَنْ لاَ يُرَى عَلَى ثَوْبِهِ أَثَرُهُ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ الْمَنِيُّ بِمَنْزِلَةِ الْمُخَاطِ فَأَمِطْهُ عَنْكَ وَلَوْ بِإِذْخِرَةٍ .
الشرح :
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين أما بعد :
فقد ترجم الإمام الحافظ أبو عيسى الترمذي رحمه الله بغسل المني من الثوب وقد تقدم معنا أن مذهب طائفة من العلماء رحمهم الله أن المني نجس وقد ذكرنا خلاف أهل العلم رحمهم الله في هذه المسألة .
وأن الصحيح أن المني طاهر .(53/1)
وأما ترجمة الإمام الحافظ بغسل المني من الثوب فالمراد بيان هدي النبي صلى الله عليه وسلم في غسل المني من الثوب فكون أم المؤمنين-رضي الله عنها- تغسل المني من ثوب النبي صلى الله عليه وسلم لا يدل على كون المني نجساً ؛ لأنها كما غسلته فركته ولو كان نجساً لم يجزئ الفرك عن الغسل كما لا يخفى ، ولذلك اعتبر العلماء رحمهم الله هذا الحديث بمثابة الأفضل أي أن الأفضل والأكمل أن يغسل الإنسان ثوبه من المني كما أشار المصنف في أثر ابن عباس-رضي الله عنهما-أنه نزّل المني منزلة المخاط ؛ والسبب في ذلك أن النفوس تعاف رؤية مثل هذا الشئ ولا يليق بالإنسان أن يُرى عليه أثر المني ظاهراً فإذا غسله فإن ذلك أكمل وأفضل ، ومن هنا قال العلماء رحمهم الله الذين يقولون بطهارة المني إن غسل أم المؤمنين لمني رسول الله صلى الله عليه وسلم من باب الأفضلية لا من باب النجاسة ، وقد مال الإمام المصنف رحمه الله إلى هذا ، ولذلك استشهد بأثر عبدالله ابن عباس رضي الله عنهما " إنما هو بمنزلة المخاط فأمطه عنك ولو بإذخرة" والإذخر حشيش معروف ونبت طيب الرائحة فيجمع الإنسان بين ذهاب لون المني وأثره وذهاب رائحته .
وفيه دليل على أن الإنسان إذا أزال النجاسة أو أزال الأذى الظاهر وله رائحة كريهة فإن الأفضل أن لا يقتصر على الغسل ؛ ولكن يزيد بشيء يطَّيب رائحة المكان كما أمر النبي صلى الله عليه وسلم بذلك في الحيض.
قال المصنف رحمه الله : بَاب مَا جَاءَ فِي الْجُنُبِ يَنَامُ قَبْلَ أَنْ يَغْتَسِلَ
حَدَّثَنَا هَنَّادٌ حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ عَيَّاشٍ عَنِ الأَعْمَشِ عَنْ أَبِي إِسْحَقَ عَنِ الأَسْوَدِ عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ : " كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَنَامُ وَهُوَ جُنُبٌ وَلاَ يَمَسُّ مَاءً ". حَدَّثَنَا هَنَّادٌ حَدَّثَنَا وَكِيعٌ عَنْ سُفِيانَ عَنْ أَبِي إِسْحَقَ نَحْوَهُ .(53/2)
قَالَ أَبو عِيسَى رحمه الله : وَهَذَا قَوْلُ سَعِيدِ ابْنِ الْمُسَيِّبِ وَغَيْرِهِ وَقَدْ رَوَى غَيْرُ وَاحِدٍ عَنِ الأَسْوَدِ عَنْ عَائِشَةَ عَن النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ كَانَ يَتَوَضَّأُ قَبْلَ أَنْ يَنَامَ وَهَذَا أَصَحُّ مِنْ حَدِيثِ أَبِي إِسْحَقَ عَنِ الأَسْوَدِ وَقَدْ رَوَى عَنْ أَبِي إِسْحَقَ هَذَا الْحَدِيثَ شُعْبَةُ وَالثَّوْرِيُّ وَغَيْرُ وَاحِدٍ وَيَرَوْنَ أَنَّ هَذَا غَلَطٌ مِنْ أَبِي إِسْحَقَ.
الشرح:
هذا الحديث رواه أبو داود والإمام أحمد ، وكذلك ابن ماجه في السنن -رحمهم الله برحمته الواسعة- وقد رواه عن أبي إسحاق السبيعي عمر بن عبد الله المعروف-وقد تقدمت ترجمته معنا وأنه من الثقات وقد يدَّلس- وهذا الحديث كما ذكر الحافظ رحمه الله تَّكلم العلماء على سنده من جهةكون أبي إسحاق رواه بهذا اللفظ فخطّأوا أبا إسحاق السبيعي ونسبوه إلى الغلط وقد بين جمع من الأئمة والعلماء-رحمهم الله تعالى-وجه هذا الخطأ وذلك أن عائشة -رضي الله عنها وأرضاها-حكت هدي النبي صلى الله عليه وسلم في نومه بالليل وقيامه وقضائه لحاجته من أهله وغسله وتركه للغسل قبل النوم فهو حديث مختصر من حديث طويل وفيه عن أم المؤمنين عائشة -رضي الله عنها وأرضاها-قالت : "كان النبي صلى الله عليه وسلم ينام أول الليل ويُحيي آخره ثم إن كانت له حاجة قضى حاجته ولم ينم ثم ينام ولا يمس ماء ثم إذا كان النداء الأول وثب" وربما قالت" قام فأفاض الماء على جسده "ولم تقل اغتسل قالت-رضي الله عنها وأرضاها-" وكان إذا نام وهو جنب توضأ "فقالو إن أبا إسحاق رحمه الله اختصر هذا الحديث .
وذلك أن قولها في الجمل الأولى" ثم إن كانت له حاجة قضى حاجته" يحتمل أمرين :(53/3)