بسم الله الرحمن الرحيم
كلمة فضيلة الشيخ : علي بن عبدالرحيم الغامدي حفظه الله ووفقه الله
عضو مركز الدعوة والإرشاد بجدة
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين وبعد إخواني الكرام ، فالحمدلله..الحمدلله .. الحمدلله كما يحب ربنا ويرضى أن جمعنا وإياكم في هذا المجلس الطيب المبارك مرة أخرى وفي درس- إن شاء الله - مبارك ومفيد ونافع من دروس فضيلة شيخنا الشيخ محمد المختار الشنقيطي-حفظه الله وسدد مسعاه وجعل تعبه ونصبه وسعيه في سبيل الله رفع الله به درجته وأعلى منازله ونفعنا وإياكم والمسلمين بعلمه - .
إخواني الكرام... هذه من أجلَّ النعم التي يجب علينا أن نشكر الله عليها ، أن يسعى العالم ويكد وينصب من أجل أن يفيد الناس ..
قد كان قديماً كما تعلمون جميعاً وأنتم طلاب علم قد كان الطالب يسعى ويتنقل ويضرب الآفاق ويكد وينصب من أجل أن يحصل على العلم ، واليوم تكاد الأمور وفي مثل هذا الدرس تنعكس فأرجو الله عز وجل أن يكون لنا في هذا متعظ ومعتبر ؛ لأن نحرص على مثل هذا الدرس النافع وأن نقدر لشيخنا جهده وتعبه وأول من يلزمه ذلك المتكلم أسأل الله عز وجل أن يرزقني وإياكم الثبات لحضور هذا الدرس والانتفاع به ، وفضيلة شيخنا هو شيخكم الذي درستم على يديه عمدة الأحكام وانتفعتم ولله الحمد به وحصلتم ولله الحمد في ذلك علماً نافع ، نسأل الله أن يقرن بالعلم الصالح وأن يجعله في موازين حسناتنا جميعاً وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله وعلى آله وصحبه أجمعين .
ملاحظة :
رأي فضيلة الشيخ أن يكون هذا المجلس كمقدمة تمهيدية بين يدي شرح السنن وأن يكون توجيهات ونقاط تنفع -إن شاء الله- طلاب العلم وغيرهم ممن يحضر هذا الدرس فبارك الله في جهد الشيخ ونفعنا وإياكم بما يقول وسدد خطاه ورفع منازله وصلى الله وسلم وبارك على عبد ورسوله محمد وآله وصحبه .(1/1)
كلمة فضيلة الشيخ : محمد بن محمد المختار الشنقيطي حفظه الله
إنَّ الحمدلله نحمده ونستعينه ونستغفره ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا من يهد الله فلا مضل ومن يضلل فلا هادي له ، وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك ، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبده ورسوله أرسله بين يدي الساعة بشيراً ونذيراً وداعياً إلى الله بإذنه وسراجاً منيراً صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً أما بعد :
فإن الله أحب من عباده العلماء واصطفاهم واجتباهم ورثة للأنبياء وزادهم من الخير والبر حتى صاروا من عباده الأتقياء السعداء ، وأثنى عليهم في كتابه فشرفهم وكرمهم فقال وهو أصدق القائلين : { إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ}(1) أئمة الهدى ومصابيح الدجى بهم بعد الله يهتدى وبنهجهم يحتذى ويقتدى فكم من طالب علم علموه ؟! وتائه عن سبيل الرشد أرشدوه وحائر عن صراط الله دلوه .
العلماء الذين جعل الله بقاءهم للعباد رحمة وعلمهم في القلوب نوراً وبركة وامتن سبحانه وتعالى على نبيه محمد صلى الله عليه وسلم بالعلم وشرفه وكرمه به فكان إمامهم وقدوتهم وهاديهمصلوات الله وسلامه عليه .
العلم فضل عظيم وصدق الله إذ يقول :{ وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكَانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيماً}(2) .
قال بعض العلماء:كان فضل الله عليك عظيماً حينما علمك ما لم تكن تعلم حينما انقذك من الضلال وهداك إلى الحق : { مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلا الإِيمَانُ }(3) فالله علَّمه ودلَّه وهداه-جل سبحانه في علاه-.
العلم بصيرة قال-تعالى- : { قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ }(4) .
__________
(1) /فاطر ، آية : 28 .
(2) /النساء ، آية : 113 .
(3) /الشورى ، آية : 52 .
(4) /يوسف ، آية : 108 .(1/2)
قال العلماء : لأن العالم يبصر الحق فيتبعه ، ويبصر الباطل فيتقيه ويجتنبه ، العلم بينة تنكشف بها الحقائق ويخرس عند دلائلها كل متكلم وناطق قال-تعالى- : { قُلْ إِنِّي عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي}(1) العلم نور ورحمة نور في القلوب ونور لأهله في القبور يُذهب الله عز وجل به عن أهله ظلمة القبور وفزع الهول والنشور فأصحابه يخوضون في رحمات الله حتى ينتهي بهم إلى الجنة .
العلم ... وما أدراك ما العلم ؟! الذي شرف الله- - عز وجل -- به من شاء واصطفى من عباده فشهد أنه أراد بأهله الخير فقال سبحانه وتعالى :{ يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيراً }(2).
وكثير من الله ليست بالهينة فمن تعلم انكسر قلبه لربه ومن تعلم عرف الله بأسمائه وصفاته ومن تعلم عرف حدوده فاتقاها ومحارمه فاجتباها ومراضي الله-جل وعلا- فطلبها .
العلم فاتحة كل خير وأساس كل طاعة وبر فلا طاعة إلا بعلم وكلما أطاع العبد على بصيرة وعلم كانت طاعته أرجى للقبول من الله سبحانه وتعالى ، لا يكون العلم بهذه المثابة العظيمة والمنزلة الشريفة الكريمة إلا إذا نور الله قلب صاحبه بالإخلاص فاتجه إلى الله قلباً وقالباً يريد ما عند الله في كل كلمة يقولها وفي كل حكمة يسمعها ويكتبها ويفهمها يريد ما عند الله سبحانه وتعالى فينظر الله إلى قلبه وهو يغدو إلى مجالس العلم ليس فيه إلا الله ، وينظر الله إلى قلبه وهو جالس مع العلماء ومذاكر لطلاب العلم وهو لا يريد إلى وجه الله والدار الآخرة فلا يزال يحبه ويكرمه ويرفعه ويعظم أجره ويحسن العاقبة له في العلم .
__________
(1) /الأنعام ، آية : 57 .
(2) / البقرة ، آية : 269 .(1/3)
العلم لا يراد به إلا وجه الله ولا يلتمس به إلا رضوان الله فمن كمل إخلاصه لله فإن الله يوفقه ويسدده ويرحمه ويجعل علمه نفعاً له في دينه ودنياه وآخرته ، ما الذي انتفع به السلف الصالح وأئمة الأخيار بعد الإيمان بالله عز وجل بشيء مثل الإخلاص لوجهه الكريم اطلع الله إلى قلوبهم فوجد فيها إرادة وجهه وابتغاء مرضاته ففتح لهم من أبواب رحمته ، ويسَّر لهم من العلم ما بلغوا به المبلغ العظيم فماتوا وما مات علمهم وارتحلوا وما ارتحلت فضائلهم ومآثرهم لماَّ علم الله إخلاصهم بقيت كتبهم كأنها كتبت بالأمس القريب وبقيت علومهم تغشاهم بها الرحمات آناء الليل وأطراف النهار .
الإخلاص لوجه وأي مجلس تجلس فيه تريد أن تتعلم أو تُعلَّم وتجلس وليس في قلبك إلا الله سبحانه وتعالى وتستحي من الله سبحانه وتعالى إذ علمَّك وفهمَّك وأجلسك مجالس الرحمة أن ترجو غيره أو تلتمس رضوان أحد سواه فاجعل عملك خالصاً لله ليس فيه لإحد سواه أي حظ ولا نصيب .
ومن أمارات هذا الإخلاص ودلالته وعلاماته المشهورة أنك تجد المخلص في العلم زاهداً في الدنيا كثير الطمع في الآخرة ، زاهداً في الدنيا فلا يبحث عن سمعة ولا يبحث عن رياء ولا يلتمس رضوان أحد غير الله-- جل جلاله -- ، وكذلك شديد الطمع في الآخرة يصبر ويكافح ويجاهد في طلب العلم لا تثنى له عزيمة ولا تنكسر له شوكة ولا يصرف وجهه عن الوجهة التي علم فيها رضوان الله العظيم حتى يبلغ غايته التي يريدها وينشدها وهذا هو النهم الذي أشار إليه النبي صلى الله عليه وسلم بقوله : (( منهومان لا يشبعان طالب علم وطالب دنيا)) فطالب العلم المخلص لوجه الله لا تفتر له عزيمة ولا يضعف ولايكل ولا يسأم من طلب العلم ؛ لأنه يعلم ما وراء هذا التعب والنصب من رضوان الله العظيم ويعلم أن هذا الشيء الذي يتعب وينصب ويكدح من أجله أن فيه محبة الله وفيه الدرجات العلى عند الله سبحانه وتعالى .(1/4)
كذلك أيضاً من الأمور التي يوطَّن عليها طالب العلم نفسه بعد الإخلاص لله-- جل جلاله -- الاهتداء فلا خير في العلم إذا لم يُصحب بالاهتداء بالكتاب والسنة أساس العلوم ومنبعها الذي تصدر عنه كتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم فمن اتبع كتاب الله فإن الله تكفل له ألا يضل أبداً ولا يشقى .
تكفل الله لمن تمسك بوحيه ألا يضل ولا يشقى وتكفل له بالسعادة وحسن الغاية وعظيم الرضا فيوطَّن نفسه على الاهتداء بكتاب الله وسنة النبي صلى الله عليه وسلم يهتدي بكتاب الله الذي قال الله فيه يصف ويصف حاله : { إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ }(1) فمن أهتدى بكتاب الله صار على الصراط المستقيم صار على النهج القويم عصمه الله من الفتن وحفظه من المحن وجعل قلبه في طمأنينة وصدره في انشراح ، فالناس تضل وهو يهتدي والناس تنحرف وهو يسير على المنهج ويقتدي حتى يلقى الله-- جل جلاله --يلقاه بكتابه المبين فإذا بالقرآن شفيعاً له بين يدي الله سبحانه وتعالى ولا يزال أهل القرآن يعلمون ويعملون به يسهر ليلهم ويظمئ نهارهم حتى يلقوا الله-- جل جلاله -- وهم من أهله العاملين به فإذا لقوا الله-جل وعلا- على ذلك شفع لهم بين يدي الله فشفعه -سبحانه-فيهم كما صح عن النبي صلى الله عليه وسلم : (( أن القرآن يحاج لصاحبه بين يدي الله حتى ينتهي به إلى الجنة)) ، يهتدي بسنة النبي صلى الله عليه وسلم فطاعته واتباعه وحبه ولزوم سنته هي الهداية الحقيقة : { وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ }(2) اتبعوا رسولنا واتبعوا نبينا صلوات الله وسلامه عليه فمن اتبعه فإن الله يهديه ويأخذ بناصيته لكل خير فإن الله قفل أبواب الجنة كلها ولم يبق إلا الباب الذي فيه سنة النبي صلى الله عليه وسلم : {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلاَ
__________
(1) / الإسراء ، آية : 9 .
(2) / الأعراف ، آية : 158 .(1/5)
تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ }(1) فالعبد يريد الذي يريد يبارك الله له في علمه يعض بناجذه على كتاب الله وسنة النبي صلى الله عليه وسلم وعلمه مقرون بالكتاب والسنة واتباع هدي الشريعة والملة فإذا تشعبت الأراء وتباينت الأهواء وكثرت المحن وادلهمت الفتن وجدكتاب الله مشرقاً منيراً ليس به ضلالة ولا غواية .
__________
(1) / الأنعام ، آية : 153 .(1/6)
الأمر الثالث : الذي ينبغي لطالب العلم أن يوطَّن نفسه عليه الأدب والتربية الصالحة التي يقَّوم بها نفسه على سيرة السلف الصالح ومنهجهم وهديهم وسمتهم ودلهم-رحمة الله عليهم أجمعين- والأدب نعمة من نعم الله-جل وعلا- ورحمة يرحم الله به عبده الذي يريد به خيري الدنيا والآخرة ولو لم يكن في الأدب والخلق الحسن إلا قول النبي صلى الله عليه وسلم حينما سُئل عن أثقل شئ في الميزان قال : (( تقوى الله وحسن الخلق)) وسئل عن أكثر ما يدخل الناس الجنة قال : (( تقوى الله وحسن الخلق)) فطالب العلم يوطَّن نفسه على مكارم الأخلاق ويسمو بنفسه إلى فضائلها وإلى معالي الأمور ويترَّفع عن محتقارتها وسفاسفها فإذا أراد الله بالعبد الخير رزقه حلية العلم وجماله ووقاره وزينته وبهاءه فما أجمل طالب العلم إذا ضم إلى علمه السكينة والوقار والخشية لله سبحانه وتعالى والخشوع والحلم والأناة والتواضع وغير ذلك من مكارم الأخلاق التي يحُبها الله ويحب أهلها قال صلى الله عليه وسلم لأشج عبد القيس : (( إن فيك خصلتين يحبهما الله الحلم والأناة )) فالحلم والأناة كلاهما من مكارم الأخلاق فيكمل طالب العلم ويجمل ويعظم ويحسن إذا زَّينه الله-جل وعلا- بزينة التقوى وألبسه الله حلية مكارم الأخلاق فرأيت آثار النبي صلى الله عليه وسلم وأخلاقه وشمائله وآدباهصلوات الله وسلامه عليه تظهر من ذلك العبد الصالح في وجهه وفي كلامه وفي معاملاته وفي أخذه وعطائه وظاهره وباطنه مع الناس .(1/7)
أول ما ينبغي على طالب العلم أن يلتفت إليه في مكارم الأخلاق وهو الأمر الأول: أن ينقي قلبه من الحسد والبغضاء والشحناء وغير ذلك من الأمور التي هي من أمراض القلوب فأول ما ينبغي على طالب العلم إذا أراد أن يجمَّله الله ويزينه بالأدب وبالخلق الحسن أن يُري الله قلباً نقياً تقياً برياً يخافه سبحانه وتعالى في عباده المؤمنين وإلى ذلك أشار النبي صلى الله عليه وسلم بقوله : (( لاتحاسدوا ولاتباغضوا ولاتدابروا وكونوا عباد الله إخواناً )) أحق الناس بعد العلماء بسلامة الصدور طلاب العلم فطالب العلم غداً يقف أمام الناس يفتيهم ويعلمهم ويرشدهم فلا بد من أن يُربي نفسه على سلامة الصدر ونقاء السريرة ويرى الله إلى قلبه أنه قلب عبد فيه صفة من صفات أهل الجنة وهي السلامة والصفاء والنقاء ما استطاع إلى ذلك سبيلاً وإذا سلَّم الله طالب العلم بل إذا سلَّم الله عبده من الحسد فقد أراد الله به خيراً وإذا أراد أن يهلك عبده ملأ قلبه بالشحناء والبغضاء والحسد حتى لايبالي به في أي أودية الدنيا هلك فإن من حسد ظلم وبغى فإن ابليس مع علمه وعلو مرتبته بين الملائكة حينما كان بينهم حسد آدم فأضله الله وأغواه ولعنه سبحانه وتعالى كل ذلك بسبب الحسد فطالب علم في قلبه الحسد قل أن ينبغ وقل أن يشرف وقل أن يكمل ولابد للإنسان إذا أخفى سريرة لاترضي الله أن تظهر في شمائله وفي أخلاقه وأقواله وإذا سلم صدره للمؤمنين أظهر الله السلامة على أقواله وأفعاله وأخلاقه مع الناس فتجد طالب العلم الذي سلم الله صدره لايؤذي أحداً بلسانه وتجده لا يتهم الناس ولايسئ الظنون بهم ويحملهم على أحسن المحامل حتى يتبين ماهو خلاف ذلك ، والعكس بالعكس فمن تجده حسوداً-والعياذ بالله- فإنه يظلم ويحمل على أسوأ المحامل ولايلتمس لإخوانه المخرج حتى يهلك بما يكون من أذيتهم-نسأل الله السلامة والعافية- .(1/8)
الأمر الثاني : الذي يُعين على مكارم الأخلاق وينبغي على طالب العلم أن يلتفت إليه لسانه فلا يغتاب ولا يكون نمَّاماً ينقل الحديث بين طلاب العلم يفسد قلوب بعضهم علىبعض أو ينقل الفتاوى بين العلماء يفسد قلوب بعضهم على بعض أو ينقل الردود والمناقشات لإيغار صدور بعضهم على بعض ، فإن النبي صلى الله عليه وسلم مرّ على برين ومعه أصحابه فوقف فجأة وأوحى الله إليه بعلم غيب ما كان يعلمهصلوات الله وسلامه عليه أوحى الله إليه أن نحت هذه الأرض التي يمشي عليها جحيماً وناراً فقالصلوات الله وسلامه عليه : (( إنهما ليعذبان وما يعذبان في كيبر)) وفي رواية : (( بلى إنه لكبير)) أي ليس في أمر كبير على الإنسان أن يتقيه ويتحفظ منه ويسلم ثم قال : (( بلى إنه كبير)) أي عند الله-- جل جلاله -- : (( أما أحدهما فكان يمشي بالنميمة وأما الآخر فكان لايستنزه )) وفي رواية : (( لايستبرأ من بوله)) قوله : (( أما أحدهما فكان يمشي بالنميمة )) قال بعض العلماء : أشد ما تكون النميمة وأعظم ما تكون إذا كانت بين العلماء أو بين الأخيار والصالحين ؛ لأنها تقَّطع أواصر المحبة بين عباد الله الأخيار وبين عباد الله الصالحين ، فيوطَّن نفسه من الآن على سلامة صدره وسلامة ولسانه من أن يوقع بين المسلمين ما يوجب القطيعة بينهم يكون لسانه يدعو إلى المحبة والألفة والاجتماع كما أمر الله سبحانه وتعالى : { إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ }(1) فطالب العلم يوطَّن نفسه على هذا لماذا ؟؟ لأنه غداً يقود الناس ويوجههم ويربيهم فإذا تربى من بدايته على سلامة صدره ونقاء سريرتة وحفظ لسانه من النميمة فإنه أحرى أن يحفظ الله عز وجل من تبعه وسار على نهجه من شر ذلك اللسان وزلاته ، كذلك ينبغي أيضاً أن يبتعد عن الغيبة قال بعض السلف-رحمه الله عليهم- : " ما اغتبت مسلماً منذ سمعت أن الله ينهى
__________
(1) / الحجرات ، آية :10.(1/9)
عن الغيبة " فطالب العلم يبتدئ من الآن على تربية نفسه ويكبح جماحها عن أن يذكر مسلماً بسوء أو يذكر عورة أخيه المسلم ويحافظ قدر ما يستطيع على ذلك فإنك إن كنت اليوم محافظاً كان ذلك أدعى لحفظ الله لك في الغد إذا قدت الناس ووجهتم ، وأما إذا كان الإنسان مسترسلاً في غيبة الناس منذ بداية طلبه للعلم فإنه-نسأل الله السلامة والعافية- لايأمن إذا جلس الناس بين يديه أن يعلمهم الغيبة وأن يصبح طلابه وإشياعه وانصاره على هذا الوتيره ، وعلى المنهج الذي هو زلل وخلل فيمسى ويصبح وحسناته في صحائف أعمال الناس-نسال الله السلامة والعافية- يوطن نفسه طالب العلم على حفظ لسانه من الغيبة والنميمة ومنكرات الأخلاق التي تقع بين طلاب العلم وإياك أن تحتقر بلسانك أو تستذله أو تنتقص من مكانته فتكون بذلك مؤذياّ لأخيك المسلم فإن أذية المؤمن محرمة ولاتليق بعوام المسلمين فضلا عن طلاب العلم ، كذلك يترفع عن منكرات اللسان التي تقع بانتقاص العلماء والوقيعة فيهم فقد يتكلم طالب العلم في مسألة أو نازلة أو فتوى يتعصب فيها لشيخه أو يتعصب فيها لمعلمه ويسفه غيره من العلماء ويتنقصهم فتول قدم بعد ثبوتها-والعياذ بالله- احفظ لسانك ما استطعت لذلك سبيلا كان أبوبكر رضي الله عنه يمسك بلسان نفسه‘ويقول:" هذا الذي أوردني الموراد".(1/10)
كذلك أيضاً من الأخلاق التي ينبغي أن يتحلى بها طالب العلم التواضع فيوطن نفسه على توطئة الكنف يتواضع للناس ويكون قريباً من الناس عامتهم وخاصتهم قال صلى الله عليه وسلم : (( ما تواضع أحد لله إلا رفعه )) وإذا تعلم طالب العلم التواضع منذ بدايته لطلب العلم فإنه أحرى أن يكون التواضع سجية فيه دون تكلف إذا بلغ مبلغ العلماء وما أجمل العالم وما أحسنه وما أكمله وأشرفه إذا زيَّنه الله بالتواضع فتواضع لعوام المسلمين وقضى حوائجهم وتأسى برسول الأمة حينما أمره الله بهذه الخلة الكريمةصلوات الله وسلامه عليهفقال-سبحانه- : { وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِمَنْ اتَّبَعَكَ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ }(1) تتواضع وتكون سهلا ميسراً حليماً رقيقاً بعيداً عن الكبرياء وبعيدا عن العجب يكسر قلبك لله ، هذا العلم الذي تتعلمه وتعلم أنه خليق بك إذا سرت على هذا النهج وسرت على هذا السبيل أعنى طلب العلم أن تتخلق بأخلاق أهل الجنة التي منها التواضع قال صلى الله عليه وسلم : (( ما زاد الله عبداً بعفو إلا عزاً وما تواضع أحد لله إلا رفعه )) ويقولون"ما سلمت سريرة الإنسان إلا تواضع لله-- جل جلاله --" فطالب العلم ينبغي أن يتحلى بالتواضع :
إن كريم الأصل كاالغصن كلما ... ... ازداد من خير تواضع وانحنى
__________
(1) / الشعراء ، آية : 215 .(1/11)
لا تترفع على إخوانك ولاعلى زملائك ولا على أقرانك ولكن تكون موطأ الكنف حتى تكون من أهل الجنة قال صلى الله عليه وسلم : (( ألا أنبئكم بأقربكم مني مجلساً يوم القيامة ؟؟ أحاسنكم أخلاقاً الموطئون اكنافاً الذين يألفون ويؤلفون)) يكون طالب العلم منذ بداية طلبه للعلم فيه لين وفيه يسر بعيداً عن الفظاظة بعيداً عن العسر والأذية وسوء المنطق الذي ينفَّر الناس منه فإذا تواضع الإنسان لله كمَّله الله ورفع قدره وكان في رحمة من الله سبحانه وتعالى وكان تواضعه قربة لله-- جل جلاله -- قال بعض السلف "والله ما دخلت مجلساً أرى نفسي أصغر الناس إلا خرجت وأنا أعلاهم ولادخلت مجلساً أرى نفسي أعلاهم إلا خرجت وقد وضعني الله وأنا أدناهم".(1/12)
فالإنسان إذا تواضع لله-- جل جلاله -- رفع الله قدره فلا يرفع الإنسان اجتهاده ولاكدحه ؛ ولكن يرفعه الله-- جل جلاله --وكان العلماء رحمة الله عليهم يكثرون من الوصية بالتواضع ؛ لأن العلم فيه طفرة والإنسان إذا تعلم ربما يدخله الغرور ويدخله العجب بالنفس ، ولذلك ما أعظم الفتن في العلم وما أعظم الابتلاء في العلم فطالب العلم إذا أراد أن يطلب العلم جاءته المشاغل من كل حدب وصوب وجاءه الشيطان وقال له : من أنت حتى نجلس في مجالس العلم ؟؟ ومن أنت حتى تطلب العلم ؟؟ ثم إذا عزم قال له متى تنتهي من هذا العلم ولربما تمر عليك خمس سنوات أو ست سنوات وأنت لاتختم هذا الكتاب ، فلايزال به عدو الله حتى يصرفه عن طاعة الله أو يثبت فإذا ثبت جاءته المحن تلو المحن والفتن تلو الفتن حتى يثبته الله-- جل جلاله -- إذا أراد به الخير فمن ذلك أن يأتيه بالعجب قالوا أول العم طفرة وغرور وآخره انكسار وخشية لله سبحانه وتعالى أول العلم طفرة فتجد الإنسان إذا تعلم القليل من العلم وكان في بدايته ربما اغتر وربما أخذه شئ من العجب والكبرياء حتى تدخله الخشية لله-- جل جلاله -- فينكسر قلبه لله سبحانه وتعالى نسأل الله أن يجعلنا وإياكم ذلك الرجل .
من الأمور التي ينبغي أن يوصى بها طالب العلم الأدب مع العلماء والأدب مع العلماء ينقسم إلى قسمين :
الأدب الأول : الأدب مع العلماء الذي أفضوا إلى الله-تبارك وتعالى-وانتقلوا إلى الدار الآخرة .
والأدب الثاني : مع العلماء الأحياء .(1/13)
أما بالنسبة لأموات العلماء فحق على الأحياء أن يذكروهم بالجميل ومن ذكرهم بسوء فهو على غير السبيل كما قال الإمام الطحاوي وهو يبين عقيدة السلف الصالح رحمة الله عليهم حينما ذكر : " أهل الخير والأثر وأهل الفقه والنظر من علماء الأمة من الصحابة والتابعين لهم بإحسان قال -رحمة الله عليه-: " لايذكرون إلا بالجميل ومن ذكرهم بغير ذلك فقد ضل سواء السبيل " أي : ضل سبيل الأمة الذي يعصم الله عز وجل الإنسان من الزلل والهوى فذكر العلماء والأموات بالسوء وتتبع عثراتهم بقصد التشفي والتشهير لاخير فيه ؛ إنما يبحث الإنسان عن علم العالم وينصفه فإن كانت عند العالم أخطاء بينها وإن كان هناك مخرج له من تأويل دليل في كتاب الله وسنة النبي صلى الله عليه وسلم أنصفه وبين دليله وبين حجته وإذا تعاملت في المسائل الخلافية التي وقعت بين السلف هذه الأمة من العلماء العاملين ومن بعدهم من أئمة الكتاب والسنة تتأدب في ذكرهم تترحم عليهم تقول قال الإمام فلان رحمه الله تذكره بالإمامة وتشرفه وتذكره بالعلم وتكرمه ؛ لأن الله سبحانه وتعالى يرضى عن ذلك لأن تعظيم العلماء شعيرة من شعائر الإسلام والاستهانة بهم واحتقارهم وذكرهم كعامة الناس على غير منهج السلف وعلى غير السنة ، ولذلك قال الله-تعالى-يؤدب أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم : { لاَ تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضاً}(1) ، لاينبغي أن يدعو الإنسان رسول الله صلى الله عليه وسلم باسمه بين الناس كما قال-تعالى- : { لاَ تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضاً} فلذلك لاينبغي أن يكون ذكره باسمه مجرداًصلوات الله وسلامه عليهوإنما يقال يارسول الله ويانبي الله أي في حياته فأدب الله في أصحابه بهذا الأدب قال العلماء : والعلماء ورثة الأنبياء فلا يقال قال فلان وقال علان يذكر
__________
(1) / النور ، آية : 63 .(1/14)
باسمه مجردا إنما يذكر بما يدل على علمه ورفعه وقدره وأنه ليس كعامة الناس فهذا حق من حقوقه وقد قال صلى الله عليه وسلم : (( إن من إجلال الله إجلال ذي الشيبة المسلم)) فكيف بإجلال العالم !! الحافظ لكتاب الله الحافظ لسنة النبي صلى الله عليه وسلم الذي أحيا الله به السنة وأمات به البدعة لاشك أنه أحق ، وإجلاله إجلال للدين ولذلك إذا ذكر العالم بما لايليق بوصف به من وصف الشرف والتكريم أحست الناس بهيبة العلم وأحست بمكانة العالم وإذا ذكر كما يذكر عوام الناس لم يفرق بينه وبين العوام وهذه مظلمة في حق العلماء رحمة الله عليهم وهذا يستوي فيه الأحياء والأموات ما دام أنه عالم بكتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم فينبغي أن يجل وأن يكرم ولذلك ذكر العلماء رحمهم الله في أدب مجلس العلم أنه ينبغي على الطالب أن يكرم الشيخ وأن يذكره بما يدل على تشريفه وتوقيره واحترامه وإجلاله تأسياً بالآية التي ذكرنا من سورة النور التي أدب الله فيها أصحاب نبيه مع النبي صلى الله عليه وسلم .
كذلك أيضاً العلماء الأموات يعتنى بذكر فضلهم على الأمة فهذا من رد الجميل وقد قال صلى الله عليه وسلم : (( من صنع إليكم معروفاً فكافئوه)) من نحن لولا الله-- جل جلاله -- ثم علم هؤلاء العلماء ؟! ومن نحن لو لا الله ثم هؤلاء الأئمة ؟! الذين فسروا كتاب الله وبينوا أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم وقفوا عند كل كلمة من كتاب الله وسنة النبي صلى الله عليه وسلم بينوا حلالها وحرامها وبينوا ناسخها ومنسوخها وبينوا حدودها ومحارمها وبينوا حقوقها وواجباتها رحمة الله عليهم -أسأل الله العظيم ، رب العرش الكريم ، أن يسبغ عليهم شآبيب الرحمات ، وأن يوجب لهم علو الدرجات ، وأن يجمعنا بهم في رياض الجنات ، إنه ولي ذلك والقادر عليه- .(1/15)
هؤلاء الأئمة لهم فضل لولا الله ثم هم ما تكلمنا وما استطعنا أن نعرف كثيراً من شعائر ديننا فينبغي للإنسان إذا قرأ كتاباً لعالم ميت تترحم عليه ويدعو له ؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال : (( من صنع إليكم معروفاً فكافئوه فإن لم تستطيعوا فادعو له )) ولهذا يقول العلماء إن الإنسان لو أمسك كتاباً واستفاد منه فلايستطيع أن يكافئ العالم إلا بالدعاء له تمر عليك المسألة في الأحكام ويمر عليك حديث من أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم مشكل لاتدري أهو صحيح أم ضعيف ثم لاتدري متنه ما هو المراد منه ؟؟ أهو مطلق أم مقيد ؟؟ عام أم مخصص؟؟
فإذا وقفت أمام هذا الكلام الذي يقوله هذا الإمام أدركت حقيقة الأمر وأدركت جليته كنت على بينة من هذا النص في كتاب الله أو ذاك النص من سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم فما تملك إذا أطلعت على هذا الخير إلا أن تقول رحمة الله على فلان وكان بعض مشايخنا رحمة الله عليهم إذا نظر في الكتاب وقرأ فيه كثيراً ما اسمعه يقول-رحمة الله عليه- ..-رحمة الله عليه-... -رحمة الله عليه-كأنه كل ما فرغ من مسألة يترحم عليه فسألت ذات مرة وهو الوالد-رحمة الله عليه- سألته ذات مرة قلت : " يا أبت تكثر من قولك -رحمة الله عليه-؟!" قال : " ما فرغت من مسألة وظننت فضله عليّ إلا ترحمت عليه وهذا قليل من حقه عليّ أي أقل ما يكون له أن أقول له رحمه الله فهذا أفضل" .
من منا الآن إذا أمسك الكتاب وقرأ لهذا الإمام وذلك العالم قال رحمه الله وترحم على هذا العالم ودعا له بالمغفرة ودعا له بعلو الدرجة !! فإنك إن دعوت له بالرحمة سخر الله لك من يترحم عليك بعد موتك فهؤلاء أولياء الله العلماء العاملون أهل السنة الذين هم على منهج الكتاب والسنة هؤلاء أحباب الله وهم صفوة الله بعد الأنبياء ولذلك جعل الله فيهم علم الكتاب والسنة وجعلهم أمناء على الشريعة والملة فالترحم عليهم والدعاء لهم خير كثير .(1/16)
وكذلك أيضاً ينشر فضل هؤلاء الأئمة وإذا قرأت فائدة أو علماً نبه عليه إمام من أئمة السلف وكان من الحق عليك أن تنّبه على فضله في ذلك فتقول كما قرره شيخ الإسلام كما بينه شيخ الإسلام ولاتوهم الناس أن الفضل بعد الله لك وحدك لا إنما تنصفهم وتذكر مآثرهم وتبين فضلهم ، فإن ذكر دقائق ما توصلوا إليه من الإفهام وما كشفوه من العلوم والحقائق المبنية على دليل الكتاب والسنة هذا الخير الكثير إذا نشر بين الناس ونسب إليهم عرف الناس قدرهم وأدركوا فضلهم خاصة بين طلاب العلم فمن الآفات التي يغمط بها هؤلاء الأئمة حقوقهم أن يتنقصوا وأن يهانوا فتجد العالم في التفسير أو في الحديث أو في الفقه إذا اطلع على زلة واحدة منه وجد التشهير والتقريع والتوبيخ وكأنه ليس من الإمامة في شئ وهذا صنيع من لاينصف وصنيع من يظلم العلماء أما المنصف العادل فإنك تجده يتناول ذلك الخطأ وذلك الزلل من قوله عليه الصلاة والسلام : (( إذا اجتهد الحاكم فأصاب كان له أجران وإذا أجتهد فأخطأ كان له أجر واحد )) .(1/17)
فتعلم أن هذا إمام مجتهد وأن هذه المسألة الفرعية من مسائل الفقه إذا أخطأ فيها وجه الصواب أن له الأجر عند الله عز وجل وأنه لاينبغي أن تثرب وقد قرّر ذلك شيخ الإسلام-رحمة الله عليه-في كتابه النفيس "رفع الملام عن الأئمة الأعلام"وقّرره الأئمة رحمة الله عليهم أنه لاينبغي أخذ الأخطاء المعينة والتشهير بالأئمة فيها ؛ ولكن لايمنع هذا أن يين الأخطاء وأن نبين أن هذه المسألة أخطأ فيها الإمام فلان هذا أوذاك ؛ ولكن أن تعتبر هذا الخطأ الفرعي سبباً في غمط هذا العالم حقه فليس من الإنصاف في شئ فتجد مثلاً لو كان هذا الإمام إماماً من أئمة الجرح والتعديل أخطأ في هذا الراوي فحسَّن روايته ؛ لكن تخطئتك له في هذا التحسين ؛ إنما هو بناءً على ما ترجحه أنت من كون الراوي مجروحاً وأنه لايقبل التحسين ؛ ولكن هذا الإمام وبما نظر أن هذا الإمام يقبل التحسين من وجهة نظره ، فلماذا يقال أن فلاناً كذا وكذا وإن فلاناً ليس من التحسين والتصحيح في شيء ومن أوهامه ومن زلاته ولاتغتر به ولا كذا وكذا من الكلمات الجارحة التي تربي في طلبة العلم الإستهانة بالعلماء والاحتقار لهم ولذلك لاينبغي هذا بل المنبغي أن تنبه على الأخطاء ؛ ولكن نّنبه على فضل الأئمة وعلو شرحهم وعلو قدرهم عند الله عز وجل وعند عباده الصالحين .(1/18)
هذا منهج السلف وهذا منهج الأئمة ثم اقرأ-رحمك الله- في كتب الأئمة والأعلام الذين شرحوا الأحاديث وتكَّلموا في المسائل الفقهية تجد الأدب الجم تجد التواضع تجد الإحترام والتقدير والإجلال وحفظ الفضل لأهله ولايحفظ الفضل إلا من كان من أهله فتجد الأئمة والحفاظ إذا أطلعوا على شئ قالوا : وقد قال فلان عفا الله عنه كذا كل ذلك من باب الأدب ، ولذلك قال الله لنبيه : { عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنتَ لَهُمْ }(1) قدّم لهم بالمغفرة والعفو قبل أن يعاتبهصلوات الله وسلامه عليه ، ولذلك ينبغي التأدب مع الأئمة مااستطعت إلى ذلك سبيلاً أئمة الكتاب والسنة الذين شهد لهم بتحري الحق والصواب ، وأما غيرهم من المبتدعة وأهل الهواء فليس على مثلهم يلوى ولا على مثلهم يحزن وأما بالنسبة للأدب مع العلماء الأحياء فالأدب يكون بآداب مجلس العلم التي ينبغي أن تجُل وتُكرم في الحدود الشرعية ، ولذلك قال الله لنبيه موسى-عليه السلام- : { فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ إِنَّكَ بِالْوَادِي الْمُقَدَّسِ طُوًى - وَأَنَا اخْتَرْتُكَ فَاسْتَمِعْ لِمَا يُوحَى }(2).
قالوا أول ما ينبغي على طالب العلم :
__________
(1) / التوبة ، آية : 43 .
(2) / طه ، آية : 11-12 .(1/19)
التبكير إلى مجلس العلم فإن التأخر والتقاعس عن التبكير لمجلس العلم خاصةً إذا كان عن قصد يدل على عدم توقير العلم وعدم إجلاله وكذا يقولون قل أن يوفق إنسان لتعظيم العلم في الطلب إلا رزقه الله في طلابه ومن يأخذ العلم عنه غداً من الإجلال مثلما كان يفعل فإن كان محافظاً على مجلس العلم ولايتأخر عنها إلا من عذر ضرورة فإن الله سبحانه وتعالى يبارك له له في طلابه غداً ويبارك له في من يأخذ عنه العلم ، التبكير إلى مجلس العلم كان من شأن الأئمة والسلف الصالح كان ابن عباس رضي الله عنه يغدو إلى زيد بن ثابت فينام على عتبة بابه ينام في الظهيرة وينام في السحر وهذا لو تأملناه لوجدنا فيه فوائد عظيمة ذلك أن ابن عباس-رضي الله عنهما-لم يرض لنفسه أن يُشارك طلاب العلم فيأتي ويحضر معهم إلى المجلس حتى ولو يُبكر ؛ ولكن غدا إلى بيت العالم فمضى إلى زيد بن ثابت وكان ينام على بابه فإذا خرج زيد ربما أشفق عليه-رضي الله عنهما وأرضاهم-وثبت عنه أنه كان إذا ركب زيد على دابته أخذ بخطام الدابة فيقول له يا ابن عم رسول الله أنت ابن عم رسول الله صلى الله عليه وسلم فيقول له ابن عباس : " وأنت أنت " ، كان زيد رضي الله عنه أهل العلم بكتاب الله عز وجل وممن كتب القرآن وحفظه وعلم حلاله وحرامه وناسخه ومنسوخه رضي الله عنه وأرضاه ولماّ دُفن زيد بكى أبو هريرة وقال قولته المشهورة : " لقد دفن الناس اليوم علماً كثيراً ؛ ولكن لعل الله أن يجعل في ابن عباس خلفاً من ذلك العالم " ؛ لأن ابن عباس حفظ على زيد وحافظ عليه وكان كثير الحرص على التبكيرحتى يغدو إليه في بيته التبكير إلى مجلس العلم ولايتخلَّف الإنسان إلامن حاجة.(1/20)
الأمر الثاني : لايسأم الإنسان وهو في مجلس العلم ولا يمل ولايفتر: فالنوم والتشاغل والتكاسل كل ذلك لايليق بطالب العلم فإن الله-تعالى-يقول :{ إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلاً ثَقِيلاً }(1) .
فالعلم ثقيل ويحتاج إلى ثقل وعزيمة وقوة وصبر وجلد ولذلك قال موسى بن عمران لما حمله أعباء العلم والرسالة قال : { قَالَ رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي - وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي}(2) فالأمر جد عظيم فالإنسان الذي يتناوم ويتكاسل في مجلس العلم ويكون فيه صفة الخمول لايليق بطالب العلم ذلك والمحروم من حُرم وكان بعض العلماء يشنَّع حتى على من يستاك في مجلس العلم ؛ لأن الله-تعالى-يقول :{ مَا جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ}(3) فيقول الاستياك يشغله وينبغي عليه أن يُقبل بكليته ، وكان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا جلسوا في مجلسه أطرقوا كأن على رؤسهم الطير ما كانوا يستاكون ولاكانوا ينشغلون فينبغي أني قبل عليه بالكلية مع أن السواك قربة وسنة وطاعة لكن كونه في مجلس العلم مشغولاً بالعبادة وكانت من حكمه العلماء المشهورة " أعط العلم كلك يعطك بعضه فكيف إذا أعطاه الإنسان بعضه من الأمور التي تُعين طالب العلم على الإقبال على العالم بالكلية وحفظ كل ما يقوله استشعار الإنسان أن كل كلمة يسمعها أنها حسنة وقربة وطاعة لله-- جل جلاله --فيحرص على إلا تفوته كلمة واحدة .
__________
(1) / المزمل ، آية : 5 .
(2) / طه ، آية : 25-26 .
(3) / الأحزاب ، آية : 4 .(1/21)
ثانياً : استشعاره أن كل حكمة يعلمها أنها قربة وطاعة لله سبحانه وتعالى فيشفق على نفسه أن تفوته فائدة واحدة يحفظها غيره فيقوم من المجلس وغيره أرفع قدراً عند الله سبحانه وتعالى منه فيحرص على أنه لاتفوته كلمة ولاتفوته حكمة ولايفوته ضبط لمسألة وتحليل للقاعدة حتى يكون أوعى من جلس في ذلك المجلس وهذا من حُب الله تعالى للعبد فإذا رأيت الله-- جل جلاله -- يشرح صدر طالب العلم فلا تفوته الكلمة ولاتفوته النادرة يضبط حق الضبط ويحصل حق التحصيل فاعلم أن الله سيبارك له في علمه ؛ ولذلك ما نبغ من السلف ولااشتهر من الأئمة إلا من كان بهذه المثابة وكان من أهل الحديث رحمة الله عليهم كانوا ربما غفلوا حتى عن طعامهم لمجالس العلم ولربما أخذوا الزاد وهم في شدة الجوع وأحوج ما يكونون إلى الطعام يجلسون لتهيئة الطعام فيأتيهم الخبر أن العالم فلاناً عقد مجلساً حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم في مسجد كذا فيتركون طعامهم وينطلقون إلى ذلك العالم والله لو نعلم ما الذي ضحى به السلف الصالح والأئمة لضبط هذا العلم وتحريره لوجدنا عجباً عجاباً لقد سخر الله لهذه الأمة سلفاً صالحاً إذا ذكروا كأن ذكرهم أشبه بالخيال مما تجد من الحرص والتفاني والضبط على هذا العلم والغدو إلى مجالسه وعدم التفريط في الكلمه والنادرة كل ذلك لمرضاة الله-- جل جلاله -- ، ولذلك بارك الله في علومهم وأبقى لهم المحبة بين الناس حتى أنك تسمع بالعالم وما قرأت له كتاباً واحداً ومع ذلك تحس أن قلبك يحبه وتحس أنك تجلَّه وأنك تكرمه مما وضع الله لهم القبول بين عباده-نسأل الله العظيم أن يمن علينا بواسع رحمته- فكان الأئمة رحمة الله عليهم يجتهدون ويحصلون ويتعبون حتى إذا بلغوا أعظم الدرجات وأعلاها عند الله سبحانه وتعالى يقبل طالب العلم علىالمجلس بكليته ثم يكون هناك انضباط فلا يُقبل علىمجلس لم يحُضر له التحضير قبل الجلوس في مجالس العلم إذا(1/22)
كان المجلس لحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم تقرأه المرة والمرتين والثلاث والأربع والخمس تقرأ كل كلمة وكل حرف وتضبط وتُصحَّح وتغدو إلى المجلس وأنت منشرح الصدر فاهماً لما تريتد تحصيله ، وكذلك عالماً بالذي تسأل عنه وتستشكله فهذه من الأمورالتي تعين على ضبط العلم .
كذلك أيضاً ينبغي على طالب العلم أن ينصت لمن حدثه : وكان العلماء رحمة الله عليهم يشنَّعون على الكلام أثناء مجلس العلم كأن يكلم الطالب طالباً قالوا إن هذا من التشاغل عن العلم ولذلك وصف الله الصحابة أنهم إذا كانوا مع نبيه عليه الصلاة والسلام على أمر جامع لم يذهبوا حتى يستأذنوه فكيف بالعلم الذي هو أشرف ما اجتمعت عليه القلوب ، ولذلك ينبغي على طالب العلم ألا ينشغل بأحد وإني أعرف من طلاب العلم ممن صحبناهم وبعضهم قد مات وتوفي رحمة الله عليهم كان من كبار السن وجدنا فيهم من الإقبال علىالعلم العجب العجاب كنّا في مسجد النبي صلى الله عليه وسلم نجلس بين يدي الوالد ونقرأ الحديث فربما وقع شيء في المسجد فنلتفت إليه الأنظار هنا وهناك وهم وجوههم لاتنصرف عمن يتعلم ولايمكن أن تجد الواحد يلتفت يمنة ويسرة ؛ إما مقبلاً على الشيخ أو مطئطاً رأسه في كتابه أو صحيفته وهذا من أبلغ ما يكون من الكمال في طلب العلم قال أنس رضي الله عنه : " كأن على رؤوسهم الطير" ، وقال سهيل يصف أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم حينما غدا على قريش : " ما رأيت مثل حُب أصحاب محمد لمحمد والله ما رفعوا أبصارهم إليه إذا حدثهم وإذا حدثهم أطرقوا "وهذا كله من كمال الأدب الذي يجمل الله عز وجل به طالب العلم .(1/23)
كذلك أيضاً من الأمور التي ينبغي لطالب العلم أن يحرص عليها السؤال عند الاستشكال: يسأل عما أشكل عليه والسؤال مفتاح العلم كما قال ابن عباس رضي الله عنهما : " إنه كان لي لسان سؤؤل وقلب عقول" فالسؤال يشعر العالم بعلمه ويكشف للإخوان والزملاء والرفقاء يكشف لهم كثيراً من الفضائل وكان الصحابة -رضوان عليهم- يحبون أن يأتي الأعرابي من البادية لكي يسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم فيتعلموا ويدركوا كثيراً من خير التنزيل وهذا السؤال ينبغي أن يتأدب فيه طالب العلم بالأدب فليس كل شيء يسأل عنه هناك أسئلة تصلح بحضرة الناس وهناك أسئلة لاتصلح بحضرة الناس وهناك أسئلة تحتاج إلى أن يتَّحين الإنسان فيها وقت الاستجمام وقوة العالم على الجواب والبحث والتمحيص والتحليل فيها فكل هذه الأمور ينبغي لطالب العلم أن يتعلمها وإنها والله بصيرة وكلما كانت مجالس العلم تنضبط وتتقيد وتكون بالتربية الصالحة التي كان عليه السلف هذه الأمة كلما وجدناها على اكمل ما يكون عليه مجلس العلم ولاغرو في ذلك فإن هذه الأمة تأدبت بكتاب ربها لآداب مجلس العلم كما قال-تعالى-: { صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَرًا مِنْ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ فَلَمَّا حَضَرُوهُ قَالُوا أَنْصِتُوا فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّوْا إِلَى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ }(1) فكان السلف الصالح رحمة الله عليهم من الصحابة والتابعين على هذا الكمال والجلال،كذلك أيضاً ينبغي إكرام أهل العلم العلماء الأحياء إكرامهم فإذا أراد الإنسان أن يسألهم يتَّخير الألفاظ المناسبة ، إكرام أهل العلم أن لا يأتي بألفاظ العوام والرعاع خاصة إذا كان من طلاب العلم أن يذكر الألفاظ التي تليق به كطالب علم .
__________
(1) / الأحقاف ، آية : 29 .(1/24)
كذلك أيضاً ينبغي التأدب في الألفاظ التي يستحى من ذكرها فتذكر بأفضل الألفاظ البعيدة عن قلة الحياء وكمال المرؤة فيتعاطى مثل هذه الأمور التي هي معالي الأمور التي يحبها الله ويرضاها ، ولذلك كان النبي صلى الله عليه وسلم يسأله الصحابة وتسأله الصحابيات يسألوه عن الأمور الدقيقة فتعجب من حسن الأدب في السؤال وكذلك كمال الأدب من رسول الله صلى الله عليه وسلم في الجواب ، هناك أساليب في السؤال أسلوب الترفع وأسلوب الأدب والتوقير كإشعار العالم بعلمه ومخاطبته بخطاب أهل العلم والإجلال والتوقير هذا من أدب السؤال فلا يأتي الإنسان مباشرة ما حكم كذا وكذا إذا كان مع العلماء ونحوهم خاصة من كبار السن والأئمة الذين عرف فضلهم أو سأل في مجمع من الناس مايأتي ويقول ما حكم كذا وكذا ؟ ولكن يقول ياشيخ أو يا إمام يخاطبه إذا كان من الأئمة والعلماء الحاملين لكتاب الله وسنة النبي صلى الله عليه وسلم بالإجلال ويخاطبه بالتوقير قبل أن يسأله:
إن المعلم والطبيب كلاهما ... ... لاينصحان إذا همالم يكرما
فاقنع بدائك إن جفوت طبيبها ... واقنع بجهلك إن جفوت معلماً
العالم حينما يرى من طالب العلم الأدب والإكرام والإجلال يُقبل عليه بكليته وكما أن الإنسان يُكرِم ويُكرَم وكما أنه يُجِل ويُجَل وتجد طلاب العلم على مراتب فإن جالست العلماء فكن كأحسن ما يكون عليه طالب العلم ، وانظر إلى إخوانك وقرنائك فلإن وجدت من تحلى بالأدب مع العالم فكن أفضل منه وحاول قدر استطاعتك أن تكون خيرهم وأفضلهم .(1/25)
قال ابن عمر رضي الله عنه وأرضاه "إيكم الأبيض المشرب بحمرة "قالوا ذاك أيوب بن تيمية السختياني قال أراه أصلحكم وخيركم أراه يعني أظنه أنه أصلحكم وخيركم وكان من أكمل طلاب ابن عمر-رضي الله عن الجميع وأرضاهم ورحمهم- كان من أكملهم أدباً وصلاحاً وتقوى لله عز وجل وهو الذي حضرته الوفاة وبكي قيل ما يبكيك قال : " تبسمت في وجه مبتدع يوماً من الأيام..!!" كان رحمه الله إماماً من الأئمة في الصلاح والأدب .
ولذلك لايزال طالب العلم يتحلى بالآداب والأخلاق حتى تصبح سجية لايتكلفها وتصبح طبيعة فيه فيألفه الناس ويحبوه ويجلوه وما أروع طالب العلم إذا جمله الله بهذه الأمور-نسأل الله أن يمن علينا وعليكم بهذا الفضل- لو لم يكن في هذه المكارم والآداب إلا أن النبي صلى الله عليه وسلم يقف بين يدي ربه يستفتح الصلاة التي هي خير الأعمال وأحبها إلى الله-تعالى- بعد الإيمان يقول له : (( واهدني لأحسن الأخلاق لايهدى لأحسنها إلا أنت )) ما أحوجنا اليوم إلى التربية إلى أن نشعر بحقوق العلماء بحقوق مجالس العلم ذهبت هيبة العلماء وذهب جلال مجالس العلم ووقارها وسكينتاها بذهاب آداب طالب العلم وزوال التربية والأخلاق الكريمة وآداب الإسلام التي بها تجمل مجالس العلم لطلاب العلم الأخيار الصالحين-ونسأل الله العظيم أن يرحمنا برحمته وأن يغمنا بواسع فضله ومنَّه وكرمه- .
من الأمور التي ينبغي التأدب مع العلماء عند الاعتراض والاستشكال: فبعض طلاب العلم-أصلحهم الله-وهذه من الآفات التي نشأت عند المتأخرين ولاتُعرف عند المتقدمين فتجد طالب العلم بمجرد أن يحفظ القليل من العلم ويجلس في الكلية علىمقاعد الدراسة أو يجلس في المسجد بين يدي العالم تجده يستشكل بطريقة المعترض مع أنه لم يفهم كلام العالم ولم يضبط الكلام الذي يعترض عليه وهذه من الآفات .(1/26)
طالب العلم إذا أراد أن يسأل ويستشكل ينبغي أن يشعر العالم أنه يستشكل أما أن يقول إن هذا القول يخالفه قول النبي صلى الله عليه وسلم كذا وكذا هذا إتهام للعالم بمخالفة النبي صلى الله عليه وسلم ولربما كان يخالفه لأنك ترى أن دلالته علىهذا الوجه ؛ لكن قد تكون دلالة الحديث على غير هذا الوجه الذي تراه وقد يكون هذا الحديث الذي تحتج به ضعيفاً وقد تكون دلالته من أضعف أنواع الدلالة كأنواع المفاهيم الضعيفة ، ولذلك ينبغي أن تقول أشكل علي كذا وكذا وكيف نوفق بين قول كذا وكذا ؟؟ وكان بعض طلاب العلم بدل أن يقول للعالم قلت كذا وكذا يقول أشكل عليّ أن نقول كذا أو يقول كذا وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم كذا وكذا أما أن يأتي بأسلوب الهجوم وبأسلوب التقريع والتوبيخ لذلك كم من أناس من أهل العلم نعرفهم وأهل الفضل سئموا من بعض طلاب العلم تعليمهم بسبب هذه الأساليب المنكره التي لا تمت إلى آداب العلم بصلة .
ينبغي التأدب عند الاعتراض وعند الاستشكال وأن تعلم أن هذا الذي أمامك إنسان له حق عليك وله واجب ينبغي أن تحفظه وأن توقره خاصة بين الأقران والزملاء .
وكذلك من الأمور التي يوصى بها الأدب مع القرناء: فيحاول الإنسان مع قرنائه أن يعينهم على طلب العلم ومن الآدب معهم اجلال أخيك الذي يطلب العلم خاصة وأنه من طلاب العلم يلتمس مرضاة الله عز وجل فأعنه على مرضاة الله وكنَّ خير مُعين له على طاعة الله عز وجل .
ومن الأمور التي كان العلماء يوصون بها طالب العلم أنه يبحث عن قرين صالح يعينه على طلب العلم يبحث عن شاب خيرَّ صالح يريد مرضاة الله عز وجل ويعرف فيه الهمة والنشاط فيتخذه بطانة له على الخير ويشد من أزره كل منهم ينصح لأخيه ويوصيه بالتقوى حتى يكون من المرحومين الذين سمى الله-- جل جلاله -- فينبغي البحث عن هؤلاء .(1/27)
ومن الأمور المسُتحبة أن الإنسان لايطلب العلم لوحده وكان السلف الصالح رحمة الله عليهم يعرفون الرفقة في طلب العلم فابحث عن قرين صالح قال الله-تعالى- عن نبيه موسى لما أوحى إليه بالرسالة :{ وَاجْعَلْ لِي وَزِيرًا مِنْ أَهْلِي - هَارُونَ أَخِي - اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي - وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي - كَيْ نُسَبِّحَكَ كَثِيرًا - وَنَذْكُرَكَ كَثِيرًا - إِنَّكَ كُنْتَ بِنَا بَصِيرًا}(1)،{اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي - وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي} فجملة كي نسبحك تعليلة أي سألتك هذا لكي نكون أكثر عوناً على طاعتك فالقرين الصالح الذي تعرف فيه الهمة والنشاط يعينك ويثبتك بإذن الله-- جل جلاله -- ثم أن تعينه على طاعة الله وتكون ممن وصفهم الله في كتاب المبين في قوله -تعالى-:{وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ}(2) ، فهذه من ولاية المؤمن لأخيه المؤمن والعلم كما يقول العلماء والحكماء العلم رحم بين أهله وينبغي إذا آخيت طالب العلم أن تشعره بالمحبة والمودة وتكون الصحبة يتخللها شئ من الوفاء ومن النقاء الصفاء بعيدة عن محقرات الأمور التي يكون فيها النفرة وتفرق القلوب وكان طلاب العلم في القديم ترى بينهم التواضع والألفة والله لقد كنا نجلس مع العلماء فأجلس عند شيخ ويجلس غيري عند شيخ ويجلس ثالث عند شيخ ثالث والله نجتمع كالقلب الواحد وكالعالم الواحد ليس منا أحد يطعنَّ في الشيخ الآخر أو ينتقصه كنا نجلس بعد صلاة المغرب فاجلس عند الوالد ويجلس غيري عند غيره فإذا كان قبل العشاء بما يقرب ربع الساعة انتهى درس الوالد رحمه الله فيأتيني هذا من حلقة ذاك وذاك من فنجلس والله لانشعر بيننا فرقة كل منا يسأل الآخر ما الذي قاله شيخه حتى يستفيد منه وحتى يأخذ عنه ومع ذلك تجد القلوب كلقلب واحد والنفوس متآلفة متراحمة متعاطفة الله وصف العوام من المؤمنين بأنهم متراحمون وأنهم
__________
(1) /طه ، آية:29-35 .
(2) /التوبة،آية:71.(1/28)
متعاطفون ، وكذلك يأمر النبي صلى الله عليه وسلم أن نكون كذلك في عوام المسلمين فكيف بطلاب العلم فينبغي لطلاب العلم أن يكون بينهم ذلك من المودة والمحبة والألفة والجفاء والإعراض هذا ليس من خلق طلاب العلم ، إذا جئت تجتمع مع أخيك في مجلس العالم تسلم عليه وتتعرف عليه وتشد من أزره وإذ رأيت فيه نقصاً كلمته وعيباً سترته وفساداً أصلحته ، وكذلك اكتسبت من أخلاقه الطيبه إذا كان يضبط علماً لاتضبطه تستفيد منه في علمه وتستفيد منه في أدبه ولذلك قالوا في الحكمة لاينبل الرجل يعني لا يكون من النبلاء والفضلاء لاينبل الرجل حتى يأخذ عن من فوقه وعمن دونه وعمن هو مثله،فالحكمة ضالة المؤمن فينبغي على طلاب العلم أن يتكاتفوا وأن يتعاطفوا وأن يتراحموا وأن يكونوا كالقلب الواحد متحابين متآلفين متعاطفين متناصرين متآزرين وأن لا يدخل الشيطان بينهم يفسد ما بين القلوب ويقَّطع أواصر المحبة التي دعا اليها في كتابه وعلى لسان رسوله الله صلى الله عليه وسلم .(1/29)
ومن الأمور التي ينبغي علىطالب العلم أن ينتبه لها وهي من أهم الأمور أن يصحب هذا العلم بالعمل:وأن يقيد هذا العلم بالتطبيق والاقتداء والترجمة الفعلية لهدي رسول الله صلى الله عليه وسلم قالوا في الحكمة "اعمل بالحديث مرة تكن من أهله" فمن عمل بحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم من عمل بهدي رسول الله صلى الله عليه وسلم ، "من عمل بما علم ورثه الله علم ما لم يعمل " العمل بالعلم فإنه كمال للإنسان وكان من العلماء رحمه الله يقولون من أعظم الأمور التي تُعين على ضبط العلم ووضع البركة فيه العمل به فلاتستهين بالسنَّن ولاتقل هذا أمر ليس بواجب بل تحُس أن السنة في حقك كطالب علم واجبة وأنه ينبغي عليك أن تكون كأكمل ما يكون عليه الإنسان وأعرف رجلا كان معروفاً بتحري السنة وحبها والحرص عليها وهذا الرجل لاتكاد ترى منه فعله أو تسمع منه كلمة وإلا ولها أصل قل أن ترى منه شيئاً إلا وله أصل من هدي رسو ل الله صلى الله عليه وسلم وهذا لن يكون إلا بالمحبة الصادقة للسنةفإذا أحب الإنسان السنة صدق المحبة وحاول كلما علمت شيئاً طبقته ويقيد ذلك لا تفوته أذكار الصباح والمساء وأذكار الدخول والخروج وأذكار القيام والقعود السرآء الضرآء الشدة الرخاء مثلما كان النبي صلى الله عليه وسلم يفعل تفعل ومثلما كان يقول تقول حتى تكون من المهتدين فاتباع السنة وتطبيقها يورَّث الله به العلم ويحفظ بها علم الإنسان ؛ ولكن إذا لم يعمل الإنسان بالسنة نسيها:{نَسُوا اللَّهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ }(1) وليس العلم للحفظ ؛ وإنما العلم للعمل العلم يراد به العمل ؛ ولذلك قال بعض السلف:هتف العلم بالعمل فإن أجابه وإلا ارتحل تقيد هذا العلم بالعمل .
__________
(1) /الحشر ، آية:19.(1/30)
ومن الأمور التي تستحسن لطالب العلم أن يجعل له من هذا العمل حظاً من قيام الليل وصيام النهار كصيام الإثنين والخميس والثلاثة الأيام البيض ما لم يكن في شغل يضعفه هو أهم من ذلك يضعف به عن مثل هذه الطاعات.
كذلك أيضا يكون له حظ في تشييع الجنائز وأمر الناس بهدي رسول الله صلى الله عليه وسلم فيها وزيارة القبور وعيادة المرضى .
كذلك من العمل أن يحرص على أن يكون عنده حسنات بينه وبين يدي الله خفية كالإحسان إلى الأيتام والأرامل وزيارة الضعفاء ومواساتهم ونحو ذلك من الأمور الطيبة التي يبارك الله فيها في حال الإنسان واقرأ تراجم العلماء وسير الأئمة والصالحين الذين مضوا رحمة الله عليهم وأفضوا إلى ما كانوا إليه من العمل وقدموه تجد ترجمة العالم يقال كان عالماً في التفسير كان عالماً في الحديث في الفقه ؛لكن حينما يقال وكان كريم وكان متواضعاً وكان حليماً ،وكان كثير الإحسان كثير الصدقات كثير البكاء من خشية الله كثير القيام الليل كثير الصيام تحس بأثر وتحس بهيبة وجلال لهذا العالم-رحمة الله عليه- حينما قرن علمه بالعمل لذلك ينبغي على الإنسان أن يحرص على العمل ، العمل خير وهو بركة العلم ولذلك يجد الإنسان لذة هذا العلم وخيره وبركته بالعمل فيحرص طالب العلم على العمل بهذه السنة وتطبيقها حكى لي بعض طلاب العلم عن والده أنه كان يحب السنة كان حريصاً شديد الحرص على السنة حتى يقول أنه قبل وفاته بلحظات نزّل من على سريره فأراد أن ينتعل ليذهب إلى الخلاء فأدخل رجله اليسرى أولاً وهو في شدة المرض قال : فتغير وجهه كأنه تذكر أنه نسي السنة قال وتغير وجهه وسحب رجليه مع ثقل المرض من قدمه ثم أدخل اليمنى فتهلل وجهه ثم انتقل ومضى فقلت سبحان الله أحب السنة حتى جعل الله آخر حياته على السنة .(1/31)
هكذا تحب السنة وتحب هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى يختم الله لك بخاتمة أهل السنة -نسأل الله العظيم رب العرش الكريم بمنه وكرمه أن يحيينا عليها وأن يميتنا عليها إنه ولي ذلك والقادر عليه وآخر دعوانا أن الحمدلله رب العالمين وصلى الله وسلم وباراك على نبيه وآله وصحبه أجمعين -.
تنبيه : قد آثرنا أن يكون هذا المجلس بمثابة الوصية - وإن شاء الله في المجلس القادم سنبين الأمور التي تتعلق بالكتاب الذي نريد شرحه - نسأل الله بمنه وكرمه أن يعين على ذلك وأن ييسر وأن يشرح صدورنا للعلم والعمل وأن يجعله حجة لنا لاعلينا إن شاء الله سنبين الأمور المهمة والمصطلحات المتعلقة بالكتاب ثم بعد نشرع في شرح ما تيسر من أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم ، والله تعالى أعلم .
- ? - ? - ? - ? - الأسئلة - ? - ? - ? - ? -
السؤال الأول :
هناك بعض الإخوان -جزاهم الله خيراً- لتمام حرصهم -إن شاء الله- على السنة يقترح أن يكون الدرس في غير سنن الترمذي كسنن النسائي مثلاً أو سنن ابن ماجة على حد قوله أنها لم توف حقها من الشرح فيرى أنها أحوج لمثل هذه الدرس ويقول بعضهم أن سنن الترمذي لها عدد من الشروح يعني قد تكون كافية وكذا وهذا الحقيقة متعلق باالكتاب ..؟؟
الجواب :
بسم الله الحمدلله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه:(1/32)
الحقيقة هذا الكتاب- نحن كنا في الأدب مع العلماء وعظيم حقهم علينا -هذا الكتاب هو أول كتاب قرأته على الوالد -رحمة الله عليه- ولذلك لازال للترمذي عليّ دين عظيم ولاشك أنها نعمة كبيرة أن يتصل سندنا إلى النبي صلى الله عليه وسلم ؛ لأن الوالد يرويه بالسند المتصل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ووجود شرح كامل له حتى إني من فضل الله أتذكر كثيرا من المسائل كأن الوالد وهو أمامي يشرحها-رحمة الله عليه-وهذا الكتاب مبارك عظيم النفع كما قال الأئمة :"من كان في بيته سنن الترمذي فكأنما في بيته نبي يتكلم "، كتاب عظيم والحقيقة لا استطيع أن أقول إن هناك مناسبة بينه وبين بعض الكتب ، الحقيقة الترمذي وفق توفيقاً عظيما في الجمع بين السنة رواية ودراية .
سنن النسائي كتاب عظيم لكن فقهه في التراجم لم يتعرض للمذاهب لم يتعرض لمضامين الأحاديث في التراجم فقه،كذلك بقية كتب السنة ، أما الإمام الترمذي لاتدري من أي شئ تعجب أمن دقّة تراجمة وحسن إيراده للأحاديث وتنبيه إلى بعض الروايات المختلفة أو ما يقوله وفي الباب عن فلان وفلان من الصحابة-رضوان الله عليهم- فينبه إلى أشياء وأحاديث أخرى في نفس الباب تكون متعلقة بنفس الأحكام وهذه لها صلة بالفقه والأحكام .
الأمر الثالث : لايقف الأمر عند هذا بل تجده يقول وبهذا الحديث قال الشافعي وأحمد واسحاق ابن راهوية وأبو عبيدة وفلان وفلان وقال غيرهم كذا وكذا ينبه على المذاهب وبينه على مواقف بعض الأئمة من هذا الحديث ويقول وعلى هذا الحديث العمل عند عامة أهل العلم من الصحابة والتابعين وهذا الحديث مختلف فيه وهذا الحديث وهذا الحديث … -فرحمة الله عليه وأعظم أجره وأجزل ثوابه-.
كتاب الترمذي كتاب عظيم وفيه فوائد نفيسة جداً ولاشك أن هذا يعطينا عذراً في تقديمه على غيره خاصة وأنه يجمع بين الأحاديث رواية ودراية .(1/33)
سنن النسائي وسنن أبي داود وسنن ابن ماجة ليس فيها ما في الترمذي من التنبيه على المذاهب والأئمة ولذلك هو من الأهمية بمكان .
أضف إلى ما في بعض الأحاديث من بعض الرواة الذين من فيهم بعض الكلام وفيهم المناقشات وقد تمر فوائد حديثية فيهم ، أضف إلى أنه يستخدم مصطلحات دقيقة حتى أن بعض العلماء حاروا في مراد الترمذي بهذا المصطلح يعني قوله هذا "حديث حسن صحيح " ما مراده "بحسن صحيح " واختلاف العلماء رحمة الله عليهم في هذه الكلمة حتى بلغت أقوالهم ما يقرب من تسعة أقوال وبعضهم أوصلها إلى عشرة أقوال مامراد الترمذي" بحسن صحيح " فليس من السهولة بمكان الإمام الترمذي وما ادراك ما الترمذي يقول ذاكرت محمداً من محمد ؟ الإمام محمد بن اسماعيل البخاري يذاكر الإمام البخاري في الحديث ويُدلي بباع طويل ويد لاشلت ولاكلت في الفقه والأحكام فجمع بين الحديث رواية ودراية -فرحمة الله عليه وأسبغ عليه من شآبيب الرحمات لما قدم للأمة من هذا الخير العظيم- ، وقل أن تجد مسألة خلافية إلا وقالوا :وحديث الترمذي بل قد يدور الخلاف على حديث ليس موجوداً إلا في الترمذي فكتابه كتاب عظيم ليس هذا الكتاب كما يظن البعض أنه كغيره ولكنه كتاب حوى أشياء لم يحوها غيره وفيه من النكات واللطائف والغرائب والفوائد ما يكون إن شاء الله كفيلا لترشيحه وتقديمه على غيره نسأل الله بمنه وكرمه أن يعيننا على الإخلاص لوجهه وأن يكتب لنا التوفيق فيما نقوله وأن يعصمنا من الزّلل ،والله تعالى أعلم .
السؤال الثاني :
إني لا أجد بغيتي بسبب عدم توفر المشايخ الذين نطلب على أيديهم العلم وما الحل في ذلك ؟ أرشدونا فأنا في حيرة..؟؟
الجواب :
من الأمور التي تعين على تيسير العالم وطلب العلم على يديه الإخلاص .(1/34)
إن الله عز وجل يقول:{إِنْ يَعْلَمْ اللَّهُ فِي قُلُوبِكُمْ خَيْرًا يُؤْتِكُمْ خَيْرًا}(1)وهذا وعد من الله سبحانه وتعالى انتبه لنيتك وتفقد سريرتك:{ إِنَّ اللَّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ }(2) .
إن داخلك أنك تريد العلم للسمعة والرياء فقد يحرمك الله عز وجل من التوفيق للعالم فلذلك ينبغي عليك أن توطن نفسك على الإخلاص وبقدر ما تخلص يقيض الله لك العالم ويقيض لك الكتاب ويقيض لك الوقت وييسر لك طلب العلم والانتفاع فلذلك أوصيك بإعادة النظر في نيتك وإني والله لا أتهمك ولكن أعرف من سنن الله -جل وعلا- التي لاتتبدل ولاتتحول أنه ما صدق عبد معه إلا صدق الله معه .
__________
(1) / الأنفال ، آية :70.
(2) /الرعد ، آية :11.(1/35)
والأمر الثاني : أن تعلم أن العلم ليس مقصوراً علىكون الإنسان لابد وأن يطلب العلم في بلده العلم لايتقيد فلو كنت مشغولا في أيام دراستك في المدرسة أو نحوها أو في الجامعة فاغتنم أيام العطل سافر إلى العلماء سافر إلى أهل العلم تغَّرب فينظر الله إليك وقد غابت عليك شمس يوم وقد غبرت قدمك في سبيل الله-- جل جلاله --تسافر وتتحمل المشاق والمتاعب غيرك يتغرب لعلوم الدنيا ويسهر ويتعب وينصب في الفيزياء والكيمياء وغيرها من علوم الدنيا وأنت تطلب أشرف ما يطلب وأفضل ما يرغب هذه نعمة من الله سبحانه وتعالى أن الله عز وجل يعينك على أن تطلب العلم بالتعب والنصب حتى يبارك لك فيه فتغرب كما تغرب من قبلك من الأئمة بدواوين العلم ولايمنع أن الإنسان يتغرب في هذه السنة شهراً أوشهرين ثم السنة الثانية شهراً أو شهرين حتى يبارك الله في علمه وأعرف أناساً يتغربون بالأسابيع فيتفق مع الشيخ على أنه يأتيه أسبوعياً يقرأ عليه في متن أو كتاب ويفرغ الشيخ له نفسه حتى يأتيه ويقرأ عليه في هذا القدر تطلب العلم على قدر طاقتك وإن تيسر وجود درس أو درسين في مدينتك تحرص عليه وتضبط هذا الدرس وتجعل كليتك لهذا الدرس حتى يبارك الله فيه ،والله تعالى أعلم .
السؤال الثالث :
إذا تعارض طلب العلم مع بر الوالدين كأن لايسمح له والده بالتغرب لطلب العلم فبماذا تنصحون ..؟؟
الجواب :
هذه المسألة لها وجهان:
الوجه الأولى: إما أن يكون طلب العلم فرضاً علىالإنسان فقالوا لايشترط فيه أذن الوالدين ؛ وذلك بأن يكون في موضع ليس فيه عالم والأحكام تعّم البلوى وتقع ويحتاج إلى من يفتي وإلى من يبين الأحكام ولا يوجد من يقوم بحجة الله على عباده في هذا البلد فحينئذ يتعين عليك أن تخرج وتحاول قد رالمستطاع أن ترضي والديك وأن تعلمهم أن هذه فريضة كما لو خرجت إلى حج الفريضة .(1/36)
والوجه الثاني : أن يوجد غيرك ممن يمكنه القيام بهذا الحق أو يوجد علماء يقومون بالحق فطلب العلم هنا يعتبر ليس بفريضة ليس بواجب ولافريضة عليك فيقدم بر والديك على طلب العلم فتطيعهما وتتقي الله عز وجل فيهما .
ومن أعظم الأمور التي تُعين على طلب العلم بر الوالدين ، ولذلك أذكر من الأئمة قال بعض العلماء وهو يكتب ترجمته لنفسه وقد بلغ شأواً كبيراً في علم الحديث والفقه كتب ترجمته ويقول لا أعلم عملا صالحاً أرجو من الله أن يتقبله مني بعد الإيمان بالله عز وجل وفرائضه حافظت عليه مثل بري لوالدي فأعانني الله به على طلب العلم حتى إن والدي توفي وهو في النزع يدعو لي بالعلم والعمل .
فبر الوالدين من أعظم الأسباب التي تعين على طلب العلم وتشرح صدر طالب العلم وتيسر له -نسأل الله العظيم أن يبلغنا بر الوالدين وأن يجعلنا من أهله-.
السؤال الرابع :
إن بعض الشباب في هذه الأيام إذا نزلت نازلة فإنهم يهرعون إلى أنصاف العلماء والخطباء ويزهدون في العلماء وفي الالتفات حولهم وفي التقيد بتوجيهاتهم فهل من نصيحة ..؟؟
الجواب :
ينبغي الرجوع إلى العلماء وينبغي سؤال من هو أهل لأن يسأل وقال العلماء : إذا سأل السائل من ليس بأهل للسؤال فأفتى على غير علم وعلى غير بصيرة فإن الله يجعل للسائل حظاً من أثمه ووزره.(1/37)
لاتجوز المجالمة في العلم إذا علمت أن الذي أمامك ليس من أهل العلم المشهود لهم بأنهم أهل للفتوى ولا أن يسأل فإنك إن سألته فأجاب على غير بصيرة كنت شريكاً له في الإثم-والعياذ بالله- ولذلك ينبغي على الإنسان أن يتقي الله فليس في العلم مجالمة تبحث عن إنسان ترضاه حجة لك بين يدي الله سبحانه وتعالى تأتمته على دينك وتأتمته على دين الناس خاصة إذا كان السؤال يتعلق بغيرك لابد من الرجوع للعلماء وترك أصاف المتعليمن وترك الجهال ولذلك قال الرسو ل صلى الله عليه وسلم :(( حتى إذا لم يبق عالماً اتخذ الناس رؤوساً جهالاً فسئلوا فأفتوا بغير علم فضلوا وأضلوا )) -نسأل الله السلامة والعافية -، لايجوز الرجوع إلى مثل هؤلاء بل ينبغي الرجوع إلى العلماء والتقيد بمثل هؤلاء الأئمة فإنك إن سألت العالم الذي هو أهلٌ أن يسأل فأفاد بكتاب أو سنة أو علم ثَّم نقلت هذا إلى غيرك كان لك مثل أجره لأنك أعنت على طاعته وأعنت على بره ، والله تعالى أعلم .
السؤال الخامس:
إني أريد أن أكون وأهل بيتي ممن يدخلون الجنة بغير حساب ولاعذاب -إن شاء الله -؛ ولكن يشكل علي موضوع التداوي من المرض ..؟؟
الجواب:
أما التداوي من المرض فإنه جائز ولايقدح في حديث السبعين الذين يدخلون الجنة بدون حساب ولاعذاب إلا ما ورد من الرقية والاكتواء فيتقي هذان إذا كان الإنسان يريد أن يكون منهم .
وأما التداوي بغيرها من الأدوية الطبيعية المفردة والمركبة ونحوها فإنه لاحرج على الإنسان أن يتداوى بذلك ولايؤثر في توكله وكمال يقينه .(1/38)
كان سيد المتوكلين وإمامهم -صلوات الله وسلامه عليه - يتداوى وقال كما في الحديث الصحيح :(( تداوا عباد الله فإن الله ما أنزل من داء إلا وأنزل له دواء))،وقال العلماء :من التوكل على الله التداوي لأن الإنسان إذا تداوى بهذا الدواء ازداد إيمانه وذلك أنه يعتقد في قرارة قلبه أن هذا الدواء لم يؤثر إلا بالله-- جل جلاله -- وأن الله سبحانه وتعالى شفاه وجعل سر شفائه في هذا الطعام أو هذا العُشب أو هذا الدواء فسبحان من الهم من وضعه وركبه وجعله سبيلا للشفاء سبحانه وتعالى فهذا من التوكل علىالله ولايقدح في يقين الإنسان.
وآخر دعوانا أن الحمدلله رب العالمين وصلى الله وبارك على عبده ونبيه محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.(1/39)
بسم الله الرحمن الرحيم ?
مقدمة شرح سنن الإمام الترمذي رحمه الله
الشرح:
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين وعلى آله وصحبه أجمعين وعلى جميع من سار على نهجهم واهتدى بهديهم إلى يوم الدين أمَّا بعد :
فإن الله-تبارك وتعالى- شرَّف العِلْمَ وأهلَه ، وأكرمهم ورفع منزلتَه فالعلم أساس كل خير، ومنبع كل فضيلة يُصرَفُ الإنسان به عن الهوى والشرِّ والرذيلة ولذلك دعا-?- عباده المؤمنين أن يتفقهوا ويتعلموا أحكام الشريعة والدين ، فقال في كتابه المبين : { فَلَوْلاَ نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ ليَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ }. [ التوبة ، آية : 122] إن من رحمة الله-تبارك وتعالى- بالعبد ، وعظيم لطفه وإحسانه به-جلَّ وعلا- أن يُكرمه بعلم الحلال والحرام فالعلم رحمةٌ من الله-تبارك وتعالى- وعلم الأحكام والحلال والحرام يحتاجه الإنسان في نفسه لكى يكون على سدادٍ وهُدَىً في معاملته لربه ، وكذلك يحتاج إليه مع الناس في معاملاته معهم سواءً كانت ماليةً أو كانت غيرَ مالية فيعلم ما الذي له وما الذي عليه فما كان له أخذه وحُقَّ له أن يُطالِب به ، وما كان عليه أدَّاه على الوجه الذي يُرضى مولاه ، ولا شكَّ أنَّ علم الحلال والحرام يفتقر إلى العلم بالكتاب والسنة لكى يعلم الإنسان أمرَ الله-?- ونهيه الذي أوحاه إلى نبيه-?- والعلم بكتاب الله-?- ، والعلم بسُنَّة رسوله-?- هو النور والرحمة التى يهتدى بها الإنسان إلى صراط الله المستقيم الذي لا نجاة ولا صلاح ولا فلاح للعبد إلا به : { وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلاَ تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ}[ الأنعام ، آية : 153 ] ، ولذلك عظمَّ العلماءُ علومَ الكتاب(2/1)
والسُّنَّة ، وبيَّنوا عظيم شرفها وعظيم بلائها ، وأن إتقان علم الكتاب والسنة يكون الإنسانُ به من العلماء الذين ورثوا من رسول الله-?- الميراثَ الكريم الذي أثنى عليه رسول الله-?- وبيَّنه بقوله : (( من سلك طريقاً يلتمس فيه علماً سهَّل الله له به طريقاً إلى الجنة )) وعِلْمُ الحديثِ يُعتبر من هذه العلوم المباركة التى عظُم نفعها وجلَّ خيرُها .
وإتقانه لا شكَّ أنَّه إتقانٌ لأمرٍ عظيم يحتاجُه الأنسان لكى يعلم هَدْي رسول الله-?- بِعِلْمِ الحديث يعلم ما الذي قاله عليه الصلاة والسلام ، وما الذي فعله ، يعلم أوامره ونواهيه وآدابه وشمائله وأخلاقهصلوات الله وسلامه عليه وإذا علم ذلك اهتدى بها وطبَّقها وسار على نهجها حتى يكون من السعداء المفلحين .
عِلْمُ الحديثِ علمٌ شريفٌ كريمٌ ، فمن حفظ سُنَّة رسول الله-?- كما نطق بها عليه الصلاة والسلام ، وأدَّاها كما حفظها نضَّر اللهُ وجهه .
قال بعض العلماء : معنى قوله عليه الصلاة والسلام : (( نضَّر الله امرءاً سمع مقالتى فوعاها فحفظها وأدَّاها كما سمعها فرُبَّ مُبَلَّغ أوعى من سامِعٍ )) قالوا : قوله : (( نضَّر الله امرءاً )) أي أن وجهه يكون عليه النور في الحشر يوم القيامة ،وقال بعض العلماء : بل إنَّ الله يُنَوِّرُ وجهه في الدنيا والآخرة فأهل الحديث على وجوههم نورٌ كما أن أهل البدعة والضلالة والهوى تكون وجوههم مظلمة بالإعراض عن سُنَّةِ رسول الله-?- وهَدْيه ، ولقد حفظ الله هذا الدين بحِفْظِ سُنَّة سيِّد الأنبياء والمرسلينصلوات الله وسلامه عليه هذه السنة التى خصَّصت عموم كتاب الله-?- ، وقيَّدت مُطلقه ، وبيَّنت مُجمله ، وفسَّرت أموره فجاءت على أكمل ما يكون عليه الهدْىُ ، وأجمل ما يكون عليه السبيل ، ولذلك كلَّ من حفظ هذه السنة يكون على سدادٍ وبصيرةٍ في جميع أموره وشئونه متى ما عمل بها .(2/2)
قيَّض الله لهذه السنة من حفظها وحافظ عليها ووعاها قيَّض لها دواوين العلم من الرجال الأمناء والثقات الأكفاء الذين أحبوا سنة رسول الله-?- صدق المحبة ، أُمَّةٌ بذلت أوقاتَها وأعمارَها في خدمة هذه السُّنَّةِ الكريمة .!! الله أعلم كم تحمَّلوا من مشاق ومتاعب!! تغرَّبوا عن الأوطان وفارقوا الأهل والولدان حتى نحلت أجسادهم ، واصفرَّت ألوانهم ، ووجدوا من المشقة والعناء ، والضيقِ والبلاء ما لا يعلم قدره إلا اللهُ-?- وكان الواحدُ منهم يتعب وينصب من أجل أن يسمع حديثاً عن رسول الله-?- وإذا وجد رجلاً من أهل السُّنَّة عضَّ عليه بناجذه فسمع منه ، ولازمه ، وأحبَّه ، وأخذ عنه ، واهتدى بهديه فما زالت هذه الأمة التى حفظت حديث رسول الله-?- محفوظهً من الهوى والردى بما حفظت من هدْيِه الكريم-?- وكان لهم عظيم البلاء في الدين حتى إنهم حفظوا هذه السُّنة فبلَّغها كلُّ جيلٍ إلى مَنْ بعدَه ، وكل رعيلٍ إلى مَنْ بعدَه ، فحُفِظت سُنَّة رسول الله-?- على أكمل وأجمل ما يكون عليه الحفظ ولم يقتصر أمرهم عند ذلك بل إنهم حرصوا على معرفة الرواة الذين نقلوا حديث رسول الله-?- حفِظوا أسماءَهم ، وأنسابَهم وديارَهم ، وأحوالَهم ، وكذلك كانوا على أدقِّ ما يكون في تمييز من وقعت الشبهة في اسمه ونسبه حتى كان لهم في ذلك من البلاء ما الله به عليم ، وكلُّ مَنْ نظر في علم الرجال والجرح والتعديل أدرك عظيمَ بلائهم ، وَعَلِمَ جليل ما قدَّموا لهذه الأمة من صالح العمل مِمَّا نفع اللهُ به القرون من بعدِهم ، وكان علم الحديث علماً مميَّزاً لا يتقدم إليه كلُّ أحدٍ ، ولا يقومُ به كلُّ أحدٍ وإنمَّا يختصُّ به من عُرِف بالثقة والضبط والأمانة والعدالة والتحفظ فكانوا يُشدِّدون في النقل عن رسول الله-?- ولا يقبلون الرواية من كلِّ أحدٍ ، ولا يأخذونها من كُلِّ مُتكلِّمٍ وإنَّما اقتصروا على من عُرِف بالضبط والأمانة حتَّى عُرِفت الأحاديث وتميَّزت ،(2/3)
فكان صحيحُها وحسنُها وضعيفُها ثُمَّ قسَّموا الصحيحَ إلى مراتبه ، والحسن إلى مراتبه ، والضعيف إلى مراتبه فوضعوا بهذا الجهد وبهذا العمل العظيم كُلَّ شيءٍ في نصابه وضعوا الأمور في نصابها ، وعُرِف الصادقُ من الكاذِب ومن هو قوىُّ الضبط والحفظ ممَّن هَو دُون ذلك فكان لهم بذلك عظيمُ البلاء حتَّى اتضحت سُنَّةُ رسول الله-?- بكل وضوحٍ وجلاءٍ .
وعِلْمُ الحديث يكون فيه جانبان :
الجانب الأول : يعرفه العلماء أو يصفونه بجانب الرِّواية . والجانب الثاني : هو جانب الدِّراية .
فأمَّا علم الحديث روايةً فإنَّه يتطلب العلمَ بالرواة ، وأحوالهم ، ومَنْ هو مقبول الرواية ، ومَنْ هو مردود الرواية ، مَنْ أُجمِع على قبول روايته ، ومن اختُلِف في قبول روايته ، وكذلك من أُجِمع على ترك روايته ، ومن اختُلف في ذلك ، ثُمَّ بعد ذلك يُبحث في مُتونِ الأحاديث -وهوعلمُ الحديث دِرَاية - وما اشتملت عليه من الدِّلالات .
وهذا الكتاب الذي سندرسُه - إن شاء الله ونسأل الله بعزته وجلالِه ، وعظمتِه وكماله أن يجعله خالصاً لوجهه الكريم وأن يكتب لنا العون منه والتوفيق والسداد وأن يُلهمنا فيه الصوابَ والرَّشاد - .
هذا الكتاب ديوان من دواوين السُّنَّة وهو كتاب الإمام الحافظ أبى عيسى محمد بن عيسى بن موسى بن سَوْرة بن الضحَّاك الترمذي البُوْغىِّ ينتهي نسبُه إلى بنى سُلَيْم من قيس عَيْلان .
إمامٌ من أئمة السلف ، وديوان من دواوين السُّنَّة .
وُلد رحمه الله في أوائل القرن الثالث الهجرى ، وذكر الحافظ الذهبيُّ-رحمة الله عليه- أن مولده في حدود سنة عشرٍ ومائتين .
هذا الإمام العظيم أجمع العلماء على إمامتِه ، وعلمه وفضله وجلالتِه ، وأنه إمامٌ من أئمة هذا العلم المبارك- أعني علمَ الحديث- .(2/4)
وُلِدَ رحمه الله ولم تتحدَّث المصادر عن بيئته ونشأتِه-رحمةُ الله عليه- ، ولكن تحدَّثت عن ذلك مآثِرُه الكريمة، وأعماله الجليلة العظيمة التى خدم بها سُنَّة رسول الله-?- ، وخدم بها هذا الدين بهذا الكتاب المبارك وغيرِه من المؤلفات الجامعة النافعة ، ارتحل رحمه الله بعد أن طلب العلم في بلده- تِرْمِذ- إلى الحجاز وأخذ عن الأئمة والعلماء ، وكذلك إلى العراق ، وتنقَّل رحمه الله وأخذ عن الشيوخ ، وأجمع العلماء رحمهم الله على أنَّه يُعَدُّ من كبار الحُفَّاظِ الأئمةِ المتقنين للحديث ، ولذلك ما ترجم له أحدٌ من الأئمة إلا وصفه بالحافظ ، وكان من عادة العلماء رحمة الله عليهم أنَّهم لا يصفون بهذا اللقب في الغالب إلاَّ مَنْ حفظ ما لا يقلُّ عن مائة ألف حديثٍ عن رسول الله-?- فهذا اللقب لقبٌ عظيم وهو لقب الحفظ مع ما أُثِنىَ عليه من لقب الإمامة والفضل ، عاصر الأئمة والأجلاء ، ومن أشهر وأنبغ وأفضل من لَقِي الإمامُ العظِيمُ أبو عبدالله محمد بن إسماعيل البخارى صاحب الصحيح التقى به الترمذي وأخذ عنه واستفاد منه وفي ذلك يقول الإمام البخاريُّ رحمه الله يُبَيِّنُ لنا عظيم فضل هذا الإمام الجليل ، يقول : " ما استفدتُه منك أكثر ممَّا استفدتَه منِّي ..!!" ما استفدتُه منك وأخذتُه عنك من الفوائد أكثر ممَّا أخذته مِنِّي .. ! وهذا يدلُّ على عُلُّوِّ شأنه ، وعظيم فضله فإن الإمام البخاري رحمه الله كان لا يملأ عينه كلُّ أحدٍ كان إماماً عظيماً لا يُمكن أن يُلقى بسمعه ، ولا يمكن أن يجلس لأحدٍ ليستفيدَ منه إلا إذا كان ذاك الرجل في علمه وفضله وضبطه واتقانه ، يقول لهذا الإمام : " ما استفدتُه منك " وبعضهم يقول " ما أفدته منك " أكثر مما استفدتَ منِّي" وحدَّث بحديثين سمعهما من الإمام الترمذي ، وقال بعضُهم : ثلاثة أحاديث أخذها عن الإمام الترمذي ، وحدَّث عنه أيضاً الإمامُ الترمذي-رحمة الله عليه- .(2/5)
وأثنى عليه الأئمة ، وكان هذا الإمام -أعنى الإمام الترمذي- مشهوراً بالحفظ حتَّى إنه وقعت له حادثةٌ ذات مرَّة أنَّه كتب جُزأين من حديث شيخٍ من الشيوخ ، وأراد أن يأخذ بالسماع عن هذا الشيخ فشاء الله أنَّه في طريقه بين مكة والمدينة -أنه في طريقه إلى مكة- سمع بالشيخ أنَّه مرَّ به فذهب إليه لكي يعرض عليه هذين الجُزأين ، فلمَّا أقبل على هذا الشيخ ومعه الجُزآن وهِمَ الترمذي -وكان قد أخذ جُزأين يُشبهان الجزأين الَّلذَيْن كتبهما عن ذلك الشيخ- فجاء إلى هذا الشيخ وحدَّثه بما يرغب فيه منالسماع أعنى سماع الجُزأين -عليه فلمَّا شرع وجد أنه أخطأ في الجُزأين ، فنظر الشيخ فوجد البياض بين يدى الترمذي فقال للترمذي : أمَا تستحي .؟! أي حينما ذكر له أنه كتب الجُزأين فوجد أنه لم يصدُق -على ظاهر حالِه- وأنَّ الذي بين يديه ليست بالأجزاء التى هي له فقال الترمذي : "إني أحفظهما - يعني أحفظ الجزأين - وإن شئت أسمعتكهما فأمره أن يُسمعه الجزأين فحدَّث بالجزأين من حفظه -رحمة الله عليه- فانبهر الشيخ ، وعظُم في عينه ، وقال : ما رأيت مثَلك !! أي ما رأيتُ مثلك في الحفظ.
وهذه رحمة من الله-?- جعلها لحديث رسوله-?- ، لو نقرأ تراجم العلماء والأئمة والحُفَّاظ كأنَّك تنظر إلى شيىءٍ أشبه بالخيال .!! ولكن يعلم الله أن أخبارهم نُقلت بأمانة وحفظ ، وأنهم في هذه المنزلة ، وقد يكونوا في أكثر مِمَّا ذُكر عنهم من الحفظ والتحرِّى .
شىءٌ إلهي من الحفظ والإتقان ..!! شُعبةُ إمامٌ في الحديث يقال له : أمير المؤمنين في الحديث ، يقول عن نفسه: ما خططتُ سوداء في بيضاء ، ولا سألتُ رجلاً أن يُعيد علىَّ حديثه مرَّتين بمُجرَّد أن يتحدث الرجل يحفظ كلامه كاملاً ، ولا يمكن أن يخرم منه حرفاً واحداُ .(2/6)
القومُ كانوا أقرب ما يكونون إلى الصلاح ، وهُم أهل خير واستقامةٍ وفلاح ، غضيضهٌ عن الشرِّ أعينُهم ،ثقيلةٌ عن الباطل أرجُلهم أنضاءُ عبادةٍ وأطلاح سَهَر أئمة مُلِئت قلوبهم بحُبّ الله- ?- وحب رسول الله-?- فلا يمكن أن يُفرِّطوا في الحرف الواحد من كلام رسول الله-?- فلمَّا رأي جلالة الترمذي أثنى عليه بهذا الثناء العظيم ، وقال له : ما رأيتُ مثلك !! ثُمَّ أقبل عليه وحدَّثه بما شاء الله أن يُحدثه .
كان الإمام الترمذي في منزلةٍ عظيمةٍ من الفضل والنُّبْل والعبادة والصلاح ذكروا أنَّه وُلد بصيراً ولكنَّه فقد عينيه وكان سبب ذلك كثرةُ بكائه -رحمة الله عليه- فأُثنِى عليه في الزهد وأُثنِى عليه في العبادة والاستقامة وليس ذلك بغريب على من حفظ سُنَّة رسول الله-?- فإنَّ الغالب في الإنسان إذا حفظ كتاب الله وحفظ سُنَّة رسول الله-?- حِفْظ الواعى المتأمِّلِ المتبصِّرِ فإن الله-?- ينفعه بهذا الوحى ، ويكسر قلبه له-?- ولا يجعل الله هذا النور - في الغالب - في قلب أحدٍ إلا و يُريد به الخير، ويُريد به الرحمة والسداد .
ألَّف الإمامُ الترمذي هذا الكتاب العظيم والسِّفرَ المبارك ، فعرضه على أئمة الحديث ودواوين العلم في الحجاز،وكان الحجاز يومئذٍ- في القرن الثالث - لازال قريباً من عصور النبوة مليئاً بالعلماء والأئمة ودواوين العلم والفضل عرض كتابه عليهم فأثنوا عليه ، ثُمَّ عرضه على الأئمة في العراق فأثنوا عليه ، ثُمَّ على الأئمة في خُراسان فأثنوا عليه .
وكان يقول رحمه الله عن كتابه : ومن كان في بيته - أي هذا الكتاب - فكأنَّما في بيتهِ نبىٌّ يتكلَّم !!.
جمع اللهُ للترمذى -رحمة الله عليه- في كتابه هذا بين أمرين قلَّ أن يجتمعا في كتابٍ:
الأمر الأول : هو الرواية لحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم مع التمحيص والضبط وكشف ما بالأسانيد والآثار والأخبار من عِلَلٍ وأقوالٍ للعلماء رحمهم الله من جرْحٍ وتعديلٍ .(2/7)
وجمع له أيضاً -وهي المزية الثانية -: في كتاب الإمام الترمذي- الفقه والفهم وفقه الترمذي رحمه الله يظهر في مواضع من كتابه .
الموضع الأول : في تراجمه ، فيضع الأبواب ويُعَنْوِنُ للأحاديث فتجد عنوان الباب يطابق حديثَ رسول الله-?- مطابقةً تدلُّ على أمانته وحفظه وتحرِّيْه، وهذا العلم-علم التراجم- علمٌ دقيقٌ ، ويتضمَّن فقه الرجل وإذا كتب المحدِّث التراجم فإنَّه يقصد من ورائها أحكاماً شرعيةً ، والدلالة على رُجحان أقوالٍ في مسائل خلافية ، ولذلك قال الأئمة عن كتاب البخارى قالوا : فِقْهُ البُخاري في تراجِمِه .
فإذا قال المحدِّث : باب كذا ، فإنه يقصد من هذه الترجمة شيئاً معيناً إمَّا أن يقصد به حُكماً عامَّاً أو حُكماً خاصَّاً وقد يقصد به تقييد مُطلقٍ تقدَّم في الباب الذي قبله ، وقد يقصد به تخصيص عامٍّ ، وقد يقصد به أيضاً بيان نسخ منسوخٍ سبق ذكره أو كان في موضعٍ آخر من كُتب الحديث .(2/8)
كذلك أيضاً ظهر فقه الإمام الترمذي-رحمة الله عليه- في هذا الكتاب المبارك حينما سرد لنا مذاهب العلماء فتجده إذا انتهي من الحديث يُبيِّن من الذي يقول بهذا الحديث ، وقد يُبيِّنُ القائلين بهذا الحديث من الصحابة والتابعين وتابع التابعين ، وكذلك من الأئمة الأربعة-رحمة الله على الجميع- . لم يقف عند سرِد الأحاديث كما هو موجودٌ في بعض كتب الأحاديث ولكنه يُبين من الذي عَمِل بهذا الحديث ، وقد يُبيِّنُ من الذي ردَّه لوجودِ مُعارضٍ أرجح في نظره من هذا الحديث إمَّا دليلُ كتابٍ أو دليلُ سُنَّةٍ أو هما معاً ، فجمع رحمه الله بين علم الحديث روايةً وعلمه درايةً ، وإنك والله لتعجب إذا نظرت إلى فقه الترمذي سواءً في تراجمه ، أو إلى فقهه عند سرْده للمذاهب وسعةِ اطلاعه على أقوال الأئمة والفحول والجهابذة -رحمة الله عليهم أجمعين- فإنَّه يذكر رحمه الله في تراجمه أموراً دقيقة ، وسنُبِيِّنُ -إن شاء الله - عند ذكرنا لهذه الأبواب بعض هذه النكات اللطيفة التى تدل على عمق فهمه، فإنه في بعض التراجم لا يستطيع أن يُجاوز لفظ الحديث قليلاً ولا كثيراً.. يتقيَّدُ باللفظ الوارد عن رسول الله-?- في انتزاعه للحكم بخلاف ما يُبتلى به البعض من تعميم الحديث أكثر مما هو عليه، فقد يكون المعنى الذي دلَّ عليه الحديث مُتوقِّفاً عندحدٍّ يُجاوزه المترجِمُ بالتعميم وتوسعةِ المعنى المنتزَع من النص ولم يكن الترمذي-رحمة الله عليه- من أهل هذا بل إنه غلب عليه جانب الورع والأمانة والدقة والتحفظ .
وعند دراستنا لهذا الكتاب- إن شاء الله تعالى - سنتعرَّض لأمورٍ مهمة يحسُن التنبيه عليها ، وأكثرها وأهمُّها يتعلق بالأحكام الشرعية وهو باب الفقه .
والفقه مسائله تنقسم إلى قسمين :
القسم الأول : مسائل أجمع العلماء رحمة الله عليهم عليها .
والقسم الثانى: مسائل وقع الخلاف بينهم فيها .(2/9)
فأمَّا المسائل التى أجمعوا عليها فإنَّه لا إشكال فيها وبحثُ العلماء رحمة الله عليهم في هذه المسائل المُجَمع عليها يبحثون فقط في معنى هذه المسألة ، أو يبحثون في صورة المسألة وأمثلتها ، أو يبحثون في أدلَّتِها وكيف انتُزع حكمُها وما هو الدليل الذي دلَّ على حُكمها ، سواءً كان نقلياً أو عقلياً .
وأمَّا المسائلُ الخلافية فإنَّ الخلاف إذا تعرَّض العلماء رحمة الله عليهم يتعرَّضُون له بأوسع وأشمل ما يكون على الصورة التالية :
الصورة الأولى : تتعلَّق ببيان أقوال العلماء في المسألة فأي مسألة خلافية يحتاج من يريد أن يبحثها وأن يتكلَّم عليها أن يبحث أوَّل ما يبحث في أقوال العلماء رحمة الله عليهم في هذه المسألة .
وأقوال العلماء ينبغى أن يُرَكِّزَ عند بحثه فيها على دِقَّة النظر في فهم كلامهم ، ومُرادِ هم حينما يُبينون أقوالهم . هل يُريدون العموم أو يُريدون الخصوص ..؟ أو يُريدون الإطلاق أو التقييد..؟ حتى يستطيع أن يعرف أين محلُّ الخلاف ، ويحدد موضع النزاع بين القولين أو الأقوال المذكورة في المسألة ، أقوال العلماء تُؤخذ من الكتب المعتمدة فالخلاف تارةً يقع بين الصحابة ، وتارةً يقع بين مَنْ هُمْ منْ بعدِ الصحابة وينتشر بعد ذلك ، فإن كان الخلاف أو المسألة تكلَّم عليها الصحابة فأقوال الصحابة يمكنُك أخذُها من كتبِ تعتنى بهذه الأقوال .
وهذه الكتب تنقسم إلى قسمين :(2/10)
قسمٌ منها يعتنى ببيان أقوال الصحابة-رضوان الله عليهم- بالرواية والسَّنَد ، وهذا ما يُسمَّى بخلاف الرواية ، وهو أرفع وأدق نوعى الخلاف ، وهذه الكُتُب من أشهرها : " المُصَنَّف " لعبد الرزَّاق ، وكذلك لا بن أبى شيبة ، و" المُحَلَّى" للإمام ابن حزم الظاهريِّ-رحمة الله على الجميع- ، يذكرون أقوال الصحابة ويُسندون ، ومنها كذلك-من هذه الكتب المعتمدة- كُتُب الإمام العظيم أبوجعفر محمد بن جرير الطبرىِّ-رحمة الله عليه-فإنه يُسنِد ، خاصَّةً في كتابه :" تهذيب الآثار " .
يقول مثلاً : وهل يجوز هذا أو لا يجوز..؟ قال ابنُ عبَّاس بالجواز حدَّثني فلانٌ عن فلانٍ عن فلانٍ عن ابن عبَّاسٍ أنَّه قال كذا وكذا فهذا النوع من الخلاف عن الصحابة (الخلاف المُسنَد المروِى) هو أوثق ما يكون إن صحت الرواية به .
وأمَّا النوع الثانى من الكتب التى تعتنى بخلاف الصحابة ورُبمَّا تذكر أقوالهم فهي كتب الحكاية، تحكى أقوالهم دون ذكر للسند على سبيل الاختصار ككتاب " المجموع " للإمام النووىِّ ، وكتاب " المُغْنِيً " للإمام ابن قُدامةَ-رحمة الله على الجميع- .(2/11)
فهذه تسرد أقوال الصحابة، فيقولون : وقال قومٌ إنه يحرم ذلك ، وبه قال عُمَرُ و عُثمانُ وعلىٌّ وابن عبَّاسٍ وابن مَسْعُودٍ .. وهكذا ويذكرون الصحابة دون ذكرٍ للرواية ، وكذلك "المُغنى" للإمام ابن قُدامة فإنه يذكر أقوال الصحابة-رضوان الله عليهم- بدون رواية ، وهذا كما يقول العلماء : حكايةُ أقوال الصحابة فإذا جئت تبحث في المسألة الخلافية فإن وجدت أقوال الصحابة محكيَّة فالأفضل أن ترجع إلى المصادر التى تعتنى بالرواية عنهم حتَّى تتثبَّت من حكاية هذه الأقوال عن هؤلاء الصحابة ، ثُمَّ تُحكى الأقوال عن الأئمة الأربعة والظاهرية ولابُدَّ لطالب العلم أن يكون على إلمامٍ بالمصادر والمراجع التى تعتنى بأقوال الأئمة في المذاهب الأربعة ومذهب الظاهرية ففي كل مذهبٍ من مذاهب العلماء رحمة الله عليهم خاصةً الأربعة هناك كُتبٌ منها المختصر ومنها المُطوَّلُ ، وهذه الكتب المختصرة تعتنى ببيان أقوال الأئمة ومذاهبهم باختصار تارةً تكون بالنثر ، وتارةً تكون بالنظم والشِّعر وهي ما يُسمَّى بالمتون الفقهية .
ثُمَّ فوق المتون كتباً تسمى بالشروح تعتنى بفكِّ رموز هذه المتون ، وشرحِ غوامضها ، وبيان الأمور التى يُحتاج إلى التنبيه إليها .
ثُمَّ بعد الشروح مرتبة ثالثة أو كتبٌ تُسمَّى بالحواشى وهي تتتبَّع الشُّرَّاح فتبيِّنُ مفهموم كلامِهم وتزيل الإشكال إن كان ثَمَّ إشكال ، وكذلك أيضاً رُبَّما تَرُدُّ الاعتراض على صاحب المتن.
ثُمَّ هناك التقريرات فوق الحواشى .
هذه الكُتُب في المذاهب مُرَتَّبة على حسب الترتيب الزماني :(2/12)
في مذهب الحنفية رحمة الله عليهم : من أشهر كتبهم المعتمده كتاب : "المبسُوط " للإمام السَّرخسى وهو كتاب عظيم جمع فقه الإمام أبى حنيفة-رحمة الله عليه- ، واعتنى بالاستدلال وبيان وجه دلالة الأدلة الشرعية على مذهبه رحمه الله ، كذلك كتاب "بدائع الصنائع " للإمام الكاسانى رحمه الله فإنه يعتنى بذكر مذهب الإمام أبى حنيفة ، وبيان دليله من الكتاب والسُّنَّة وكذلك من العقل ، وكذلك هناك كتاب " فتح القدير" للإمام الكَمَال بن الهُمَام مع تكملته وكتاب "البحر الرائق في شرح كنز الدقائق " لابن نُجَيْمٍ ، مع حاشيته لابن عابدين " مِنحة الخالق ".
هذه الكتب تعتنى ببسط المذهبِ الحنفي تذكر ما الذي يذهب إليه هذا الإمام وأصحابُه ثُمَّ لماذا ذهب إلى هذا المذهب أو هذا القول ..؟ وما دليله من الكتاب والسُّنَّة ، وكذلك من العقل.؟ وقد تعتنى بمناقشة الأدلَّة والردود وإذا أراد طالب العلم أن ينظر إلى أدِلَّة الحنفية النقلية في الكتاب فليرجع إلى كتاب " أحكام القرآن " للإمام الجصَّاص ، وكذلك إذا أراد من السُّنَّة فليرجع إلى شروح الأحاديث والتى من أهمها كتاب " عُمْدة القارى " للإمام العينىِّ -رحمة الله على الجميع-.
أما مذهب الإمام مالكٍ : إمام دار الهجرة فإنَّه قد بيَّن مذهبه في كتابه " المُوَطَّأ " ثُمَّ جاءه ابن القاسم رحمه الله وأخذ عنه ، وأخذ عنه أصحابه ، ثُمَّ دوَّن ابن القاسم " المُدَوَّنة " نقلها عنه أسدُ بن الفرات ، وكذلك سُحنون وفُقِدت مُدوَّنة أسدٍ وبقيت مُدَوَّنةُ سحنون ، وفيها مسائل ذكر فيها ابن القاسم مذهب الإمام مالكٍ .
ثُمَّ انتشر مذهب الإمام مالكٍ إلى أن استقر في كتب المتأخرين التى من أهمِّها شروح مختصر خليل بن إسحاق المالكي .
من أهمِّ مراجع المالكية رحمة الله عليهم : التي تعتنى ببيان مذهبهم شروح المختصر ، ومنها " مواهب الجليل " للحطَّاب ، وكذلك " مِنَحُ الجليل " لمحمد بن عِلِّيْش .(2/13)
وهناك كتابٌ يعتبر من الكتب التى تعتنى بحسم الخلاف في مذهب المالكية وهو كتاب " حاشية محمد البُنَّانى" والتى تُوسم بقولهم : " حاشية البُنَّانى "، هذه الكتب تعتنى ببيان مذهب الإمام مالكٍ رحمه الله .
أمَّا أدِلَّتُه من الكتاب : فإنَّها تُوجد في تفسير القرطبيِّ ، وكذلك كتاب " أحكام القرآن " لابن العربىِّ المالكىِّ، وكذلك في شُروح الموطَّأ كـ "المنتقى " للباجى يعتنى بالأدِلَّة النقلية والعقلية وفي شرحىْ الإمام الحافظ ابن عبد البرِّ " التمهيد " و" الاستذكار " هذه الكتب تعتنى بأدلَّة الإمام مالكٍ ، وكذلك الردود والمناقشات في المسائل الخلافية .
وأمَّا مذهبُ الإمام الشافعىِّ رحمه الله : فإنه قد بيَّن مذهبه في كتابه " الأُمِّ " وأخذ عنه أصحابه كالبُويطى ، والمُزَنى مذهبه ودوَّنوه ، وكانت له أقوالٌ رجع عنها رحمه الله .
واستقرَّت كُتُب الشافعية عند المتأخرين :في كُتُبٍ مُهِمَّةٍ من أهمها شروح " المنهاج " للإمام النووى إذ يُعدُّ الإمام النووىُّ رحمه الله من أهمِّ علماء الشافعية وأبرزهم وأكثرهم إتقاناً وضبطاً وتحريراً لمذهبه-رحمة الله عليه- هذا الكتاب الذي هو" المنهاج " ألَّفه رحمه الله مَتناً في مذهب الإمام الشافعيِّ ، ولهذا المنهاج شروح من أوسعها وأهمِّها كتاب " نهاية المحتاج بشرح المنهاج " للإمام الرملىِّ الذي كان يُلقب بالشافعىِّ الصغير .
اعتنى ببسط مذهب الإمام الشافعىِّ ، وبيان أقوال أئمة المذهب ، والراجح من هذه الأقوال ، والخلافات ، وهو كتابٌ نفيسٌ ، وهناك كُتُبٌ أُخرى تعتني بمذهب الشافعىِّ ككتاب " روضة الطالبين " للإمام النووىِّ ، وغيره من الكتب كالشروح التى وُضعت على متن أبى شُجاع ، وكذلك كتاب " كفاية الأخيار" للحِصْنِى.. ونحوها من الكتب التى تعتني ببيان مذهب الإمام الشافعىِّ .(2/14)
أمَّا أدلته: فإنها إذا كانت من الكتاب فيُرجَع في مظانِّ الآيات إلى كتاب " أحكام القرآن " لإلِكْيَا الهرَّاسِ الطبرىِّ .
وأمَّا أدِلَّتُه من السُّنَّة فإنها توجد في شروح الأحاديث خاصَّةً لكُتُب أصحابه كالإمام الحافظ ابن حجر حيث شرح صحيح البخاري في شرحه الكريم العظيم " فتح البارى" فهذا الشرح يُعتبر من أهم شروح صحيح البخاري ، واعتنى ببيان وجه دِلالة أدلة الشافعية رحمهم الله من السُّنَّة والجواب عن الاعتراضات والإشكالات التى ترد على أدلتهم.
وأمَّا بالنسبة لمذهب الحنابلة رحمة الله عليهم : فإن كتب الحنابلة استقرت في كتبٍ مهمَّة منها كتبٌ تعتنى ببيان المذهب الذي استقرَّ عليه العمل والفتوى عند أصحابه وأنفسُها وأجمعها الكتاب العظيم الذي جمع روايات الإمام أحمد وحَسَمَ الخلاف فيها وهو كتاب "الإنصاف" للإمام المَرْدَاوِىِّ فإنَّ هذا الكتاب اختصره الإمام المرداوى من مائةٍ وخمسين كتاباً وهو كتابٌ عظيمٌ يُعتَبر من أهم المراجع في مذهب الحنابلة .
السبب في هذا أنَّ الإمام أحمد كان معروفاً بالورع والتحرِّى والضبط-رحمة الله عليه- ، وتأخَّر عن إخوانه من الأئمة فاطلع على السُّنن والأخبار والآثار ، واطلع على الأدلَّة ، فقد تجد له في المسألة ثلاثة أقوال ، وقد تجد له أربعة فتارةً يقول بالجواز ، ثُمَّ تظهر له سُنَّةٌ فيعدِل إلى الكراهة ، ثُمَّ تظهر له سُنَّةٌ فيعدل إلى التحريم فكان رحمه الله مشهوراً بالورع والدقة والتحفظ-رحمة الله عليه- ، فتتعدَّدُ عنه الروايات الأمرُالذي يصعُب معه تحديدُ مذهبه ، ولذلك قام هذا الإمام الجليل المرداوي رحمه الله بدراسة هذه الروايات وأوْجه الأصحاب وبيان الذي استقر عليه مذهبُ الإمام أبى عبدالله أحمد بن حنبل رحمه الله .(2/15)
وأمَّا الكتب التى تعتنى بالمذهب : فهناك كتبٌ مهمة منها المختصر ومنها الموسَّع فمن أهمهِّا كتاب " المُغْنِي " -وهو كاسمه - للإمام ابن قُدامة-رحمة الله عليه - ، وكذلك " الشرح الكبير" و " المُبْدِع " لابن مُفلِح ، وكتب شيخ الحنابلة وإمامهم في زمانهم الإمام منصور البُهُوتي-رحمه الله -" كشَّاف القناع عن مَتْنِ الإقناع " و " شرح مُنتهي الإيرادات " هذه الكتب تعتنى بمذهب الإمام أحمد رحمه الله .
أمَّا أدِلَّةُ الحنابلة : فإنها توجد مبسوطةً مع المناقشات والردود في كتب شيخ الإسلام ابن تيمية ، والإمامِ ابن القيِّم-رحمة الله عليهما- فإنَّهما اعتنيا ببيان الأدلَّةِ النقليةِ والعقليةِ على صحَّة قَول الإمام أحمد ، ومناقشة الأقوال المخالِفة بكل أمانةٍ وورعٍ وتحرٍّ رحمة الله عليهم على دأبهم وعادتِهم فهذه الكتب تعتنى ببيان أدَلَّتِه ، والمناقشة والردود بالنسبة للمخالفين .
وأمَّا بالنسبة للمذهب الظاهري : فإنَّ أجمعَ كتبه وأنفسها كتاب الإمام أبى محمد علىِّ بن حَزْم الظاهرى حيثُ اعتنى ببيان مذهب الظاهرية ، وبيان أدِلَّتهم ، وناقش أدلَّة المخالِفين ، وبينَّ رُجحان مذهبه ، فهذه الكتب تُعتبر من الكتب المهمة التى ينبغى لطالب العلم عند تحريره لمسألةٍخلافيةٍ أن يرجع إليها .(2/16)
ومن الأهمية بمكانٍ أن يُوصى طالب العلم إذا أراد أن يبحث مسألة خلافية أن يأخذ كل قولٍ من مصدره لا تأخذ الأقوال من الكتب المتأخرة متى ما أمكن الرجوع إلى كتبِ المتقدِّمين ، ولا تأخذ الأقوال من المراجع البديلة متى ما أمكن الرجوع إلى المصادر الأصيله ؛ ولذلك رُبَّما يكون هناك وهْمٌ عند المتأخرين في نقل الأقوال ، وعدمُ تحرٍّ ودقة في نقل هذه الأقوال وحكايتِها ولذلك ينبغى أخذ الأقوال من مصادرها ، ويُوصى طالبُ العلم أساساً دائماً في الفقه أنه ينبغى عليه الرجوع إلى كتب المتقدمين ، والتأصيل من فقه السلف رحمة الله عليهم والأئمة ما أمكن وإذا كان يُريد أن يقرأ مذهباً يعتني بدليله ولا يقتصر على أخذ الأقوال مُجرَّدةً عن أدِلَّتها ، خاصةً طالب العلم الذي لا يسوغ في حقِّ مثله أن يُقَلِّد ، إِنَّما عليه أن يرجع إلى الأقوال ويأخذها من الأئمة موثوقة بأدلتها ، ولذلك إذا وقف بين يدى الله -?- وسأله عن مُعتقَدِه في المسألة وقال إنه يعتقد الحلال أو الحرام ، وسأله الله عن حُجَّتِه ودليله كان على بينة بذكر الدليل من الكتاب والسُّنَّة أمَّا أن يأخذ الأقوال مُجرَّدة فإنَّ هذا مظنَّة العطب إذا لم يكون من أهل التقليد كعوامَّ الناس فطالب العلم ينبغى عليه أن يأخذ الأقوال بأدلَّتِها ، وأن يأخذ ما وافق منها الحقَّ، وما وافق كتابَ الله وسُنَّةَ رسولِه-?- ، قال الإمامُ أبو عبدالله محمدُ بنُ إدريسَ الشافعي : " أجمع الناسُ على أنَّه لا يحِلُّ لرجلٍ إذا استبانت له سُنَّةُ رسول الله-?- أن يدعها لقولِ أحدٍ كائناً من كان "إذا استابنت السُّنَّةُ واتضح الدليل فلا يجوز للإنسان أن يُقدِّم على قول الله وقول رسولهِ-?- بعد ذكر الأقوال في المسائل الخلافية ينتقل إلى الدليل ، ما هي أدِلَّةُ العلماء في هذه المسائل الخلافية ..؟
والأدلةُ تنقسم الى قسمين :(2/17)
إذا وقع الخلاف بين العلماء إمَّا أن يستدلُّوا بدليل نقلىٍّ ، أو يستدلُّوا بدليل عقلىٍّ .
فأمَّا الدليل النقلىُّ: فإنَّه يشملُ دليل الكتاب ، ودليل السُّنَّة ، ودليلَ الإجماع ، أمَّا كون دليل الكتاب والسُّنَّة نقلياً فلا إشكال ، وأمَّا كون الإجماع نقلياً فلأنه يُنقَل إلينا عمَّن هم قبلنا من الأئمة والعلماء رحمة الله عليهم ، فيأخذ دليل الكتاب ودليل السُّنَّة فإذا أخذ دليل الكتاب فإنه يعتنى بفهم وجه دِلالة النص فالدليل من الكتاب والسنة إذا دلَّ على المسألة إمَّا أن يدُلَّ بمنطوقه ، وإمَّا أن يدُلَّ بمفهومه ، فمنطوق النص دلالة ، ومفهومه دلالة ولكُلٍّ من المنطوق أنواع ومراتب في الدلالة وكذلك المفهوم له أنواع ومراتب ، ففي دلالة المنطوق ينظر هل هي دِلالة عامَّةٌ أو دِلالةٌ خاصَّةٌ إن كانت دِلالةً عامَّةً أبقى العامَّ على عمومه حتى يرد الدليل من الكتاب والسنة الذي يدلُّ على استثناء شىءٍ من هذا العامِّ ، وإن كانت مُطلقةً أبقاها على إطلاقها حتى يرد الدليل من الكتاب والسُّنَّة على تقييدها وعدم بقاء هذا الإطلاق على إطلاقه .
ثُمَّدِلالة المنطوق تنقسم إلى مراتب :
أعلاها وأقواها النصُّ : والنص عند العلماء : هو الذي لا يحتمل معنىً غيره كقوله-?- : {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ}[ الإخلاص ، آية : 1 ] فإنَّ قوله :{ قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} نصٌّ في الدلالة على وحدانية الله-?- لا يحتمل معنىً آخر فـ :{ أَحَدٌ} ليس لها معنىً ثانٍ ، فهي نصُّ في الدلالة على وحدانية الله-?- ؛ كذلك قوله -تعالى- : {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ }[ النور ، آية : 2] {مِائَةَ جَلْدَةٍ }نصٌّ وقوله :{ فَاجْلِدُوا} نصٌّ فإنه نصٌّ في الجلد وأن يكون مائة جلْدة فلا يحتمل معنىً ثانياً فيقول العلماء : هذه دِلالةٌ نصيَّةٌ .(2/18)
هناك نوعٌ ثان ٍ: من الدلالات أدنى من هذه الدلالة :وهي أن يتردَّد بين معنيين معنىً الذي هو ظاهر النصّ ويُسمِّيهِ العلماء الراجح ومعنىً مرجوح وهذا النوع من الدلالات يسمِّيه العلماءُ بالظاهر ، والظاهر ضبطه العلماءُ بقولهم : أن يتردَّد الدليلُ بين معنيين أحدُهما أقوى من الآخر فمثلاً : حينما يرد النصُّ في الكتاب والسُّنَّة محتملاً لمعنيين ؛ لكنَّ أحدهما أرجح من الآخر فإن الراحج يُسمَّى ظاهراً والظهور أصله الغلبة،كما قال-تعالى- : {فَأَصْبَحُوا ظَاهِرِينَ} [ الصف ، آية : 14 ] أي غالبين فالدليل من الكتاب والسنة إذا جاء بمعنىً ظاهر فإنه يجب عليك أن تعمل بالظاهر ، وأن تترك ضدَّه وهو المرجوح حتَّى يستبين رُجحانُ المرجوح والانصرافُ إليه بالتأويل .
النوع الثالث : من الدلالة التى تكون من منطوق النص : المُؤوَّل .
والتأويل هو صرف النص عن ظاهره الراجح إلى معناه المرجوح بدليلٍ من خارج النص بمعنى أن يتردَّد النص بين معنيينَ مثل ما ذكرنا في النوع الثانى أحدُهما راجحٌ والثانى مرجوحٌ فأنت تحمل النص على المرجوح بدليلٍ من الخارج .
مثلاً : (( لا وضوء لمن لم يذكر اسم الله عليه )) قوله عليه الصلاة والسلام : (( لا وضوء )) يحتمل معنيين : إمّا أن يكون لا وضوء صحيحاً لمن لم يذكر اسم الله عليه ، هذا معنى أو : لا وضوء كاملاً فيكون ذكراسم الله-?- عند الوضوء يجعل الوضوء في مرتبة الكمال فهو أحظُّ من الوضوء الذي لا يذكَرُ اسمُ الله عليه .(2/19)
فإن قُلتَ : إن قوله : (( لا وضوءَ لمن لم يذكر اسم الله عليه )) أنه يدلُّ على أنَّ الوضوء غير صحيح-وهذا هو الظاهر- فحينئذٍ يتعارض مع أدِلَّةٍ كدليل الكتاب :{ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاَةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ }[ المائدة ، آية : 6] ولم يأمر بالبسملة وقد أمر بالبسملة عند التذكية{ فَكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ ..} [ الأنعام ، آية : 118] { وَلاَ تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرْ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ} [ الأنعام ، آية : 121 ] { فَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا}[ الحج ، آية : 26] كلُّ هذا يدل على أن الوضوء لا يجب ذكر اسم الله عليه فدلَّ على أنَّ قوله : (( لا وضوء )) أنَّه لاوضوءَ كامل .
وكذلك حديث حُمْرَان مولى عثمان عن عثمان عن النبي-?- لمَّا توضَّأ وضوءَه ولم يذكر عثمانُ بسملة النبي-?- فدلَّ على أنَّ قوله : (( لا وضوء )) أي لا وضوءَ كامل ، فهذا النوع من الدلالة يُسميه العلماءُ بالتأويل فالتأويل ينقسم إلى قسمين :
القسم الأول : تأويلٌ محمودٌ .
القسم الثاني : تأويل مذمومٌ .
أمَّا التأويل المحمود فهو تفسيرُ النصِّ من الكتاب والسنة على غير ظاهره بدليلٍ يدلُّ على ذلك هذا تأويلٌ محمودٌ لأنَّ له دليلاً يدلُّ على كونه سائغاً مقبولاً .
وأمَّا التأويل المذموم فهو التلاعب بالنصوص في الكتاب والسنة وصرفها بالهوى عن دلالتها دون وجود دليلٍ يدلُّ على هذا الصرف وتفسيرُ القرآن والسنة بشىءٍ لا أصل له ، كقول بعضهم -عليه من الله ما يستحق من لعنته وعذابه- : { يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ}[ النساء ، آية : 51 ] قال : الجبت أبو بكر ، والطاغوت عمر فهذا من أسوأ أنواع التأويل التى ذكرها الأصوليون رحمهم الله يقولون : إن هذا التفسير من أسوأ وأبعد التفاسير عن كتاب الله وسُنَّة النبي-?- .(2/20)
فهذا التأويل يُسُمَّونه التأويل المذموم ، ومثل تأويل بعض المتعصبة حينما يستبين له دليلٌ ممَّن يخالفُه فيتكلَّف في الجواب عن هذا الدليل ، كقول بعضهم في حديث أبى هريرة-?- حينما في حديث المصرَّات : (( لا تُصِرُّوا الإبل ولا الغنم ..)) إلى آخر الحديث قال بعض الحنفية رحمهم الله قالوا : إن هذا الحديث مُعَارِضٌ للأصول ، فلا نعمل به ..!! فهذا تأويل الحديث وصرفه بدون نص وعدم العمل به بدون حُجَّة يُعتبر ضرباً-نسأل الله العافية من الزيغ-قال بعض العلماء : لا آمَنْ على عبدٍ يرُدُّ شيئاً من سُنَّةِ النبي-?- أن تُصيبه فتنةٌ ؛ لأن الله-?- يقول : { فَلْيَحْذَرْ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ }[ النور ، آية : 63 ] .
جاء رجلٌ إلى الإمام مالكٍ رحمه الله وقال :" يا أبا عبدالله إنى أُريدُ أن أُهلَّ بالنُّسُك يعنى بالحج أوالعمرة-من مسجد رسول الله-?- أريد أن أُهلَّ بالنسك من المسجد؟! والنبي-?- أهلَّ من الميقات ، فقال له الإمام مالكٌ: لا تفعل . فقال :ولِمَ !!-يرحمك الله-..؟! قال : "إنى أخاف عليك الفتنة إن الله-?-يقول : { فَلْيَحْذَرْ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ }(1)وقد أهلَّ رسول الله -?- من الميقات ما أنت بخيرٍ من رسول الله-?- .
فالرجل الذي يستبين له الدليل من الكتاب والسنة لا يجوز أنْ يتأوَّله ويصرفه ويتكلَّف في الطعن في هذا الدليل وردِّه بدون دليلٍ وحُجَّةٍ .
إذا تبيَّن هذا بعد نصوص الكتاب والسُّنَّة بالنسبة لأدلة السنة في المسائل الخلافية .
فينبغى على طالب العلم أن يتنبه إلى جانبين في الدليل :(2/21)
الجانب الأول : في السَّند، فالأحاديث يبحث في أسانيدها هل هي صحيحة أو ضعيفة...؟ وإذا كانت صحيحة هل هو متفقٌ على صحتها أو مُختلَف في تصحيحها..؟ وهكذا بالنسبة للضعيف يبحث فلرُبَّما يكون ضعيفاً يقوى بغيره من الشواهد كأن يكون قابلاً للاعتبار والشواهد فمثل هذا يتعين على طالب العلم الذي يُريد أن يصل إلى الحق في المسائل الخلافية ..يبحث عن السَّنَد ولا يحتج بالأحاديث دون نظرٍ في صحتها وضعفها ، فرُبَّما يكون الحديث ضعيفاً لا يصلح للاحتجاج ، ولا تصحُّ نسبته إلى رسول الله-?- فينبغى على طالب العلم عند بحثه للمسائل التى فيها أحاديث عن رسول الله -?- أن يتوخى الصحة والثبوت عن النبي-?- ، ولذلك قال عليه الصلاة والسلام : (( من حدَّث عنى حديثاً يرى أنه كذبٌ فهو أحد الكذَّابِيْنَ )) وفي رواية : (( الكاذبين )) فلهذا لا يجوز للإنسان أن يروى حديثاً عن رسول الله-?- وهو يعلم أنه ضعيف ما لم يُبيِّن ضعفه .
وكذلك لا ينبغى لمسلم أن يحكى حديثاً عن رسول الله-?- دون أن يتأكد من أنه حديثٌ قاله عليه الصلاة والسلام كما قال بعض الفضلاء :
وَلاَ يَقُوْلُ مُسْلِمٌ قَالَ النبي *******************بِلاَ رِوَايَةٍ لخَوْفِ الْكَذِبِ
فإن الإنسان الذي يحمل الأحاديث ويتلقاها من كل من هبَّ ودبَّ دون تحرٍّ ورجوع إلى العلماء لا يأمن أن يكون ممن ينقل الحديث المكذوب عن رسول الله-?- فيبوء بذلك الإثم .(2/22)
ينبغى عرض الأحاديث على العلماء والأجلاَّء ومعرفة هل هي صحيحة عن رسول الله-?- أو ليست بصحيحة ، وينبغى على العلماء والأئمة والمُفتين والخطباء والوعاظ والقصاصين والمُوَجِّهين والمُرَبِّين إذا أرادوا أن يُحدِّثُوا عن رسول الله-?- وأن يقفوا أمام الناس ليعظوهم ويحاضروهم أن يتوخوا الأمانةوالدقة والتحرى ، خاصةً في مجامع الناس، خاصةً إذا كان الإنسان يُوثق بعلمهِ ودينِه وأمانته فلا يُحدِّثْ عن رسول الله-?- إلا بتحرٍّ وضبط حتَّى لا يبوء بإثم نقل الأحاديث المكذوبة عن رسول الله-?- ، وقد كفانا العلماء رحمة الله عليهم كفونا المؤونة ، وهذه كتبهم زاخرة ببيان أحاديث رسول الله-?- إذا كُنتَ تُريد أحاديث الوعظ وجدَت أبوابها مُصَّنفة مُرَتَّبة إن جئتَ تبحث عن الحديث في أبواب المناسبة وجدت كتباً تعتنى بوضعه في الأبواب المُناسبة إن جئت تبحث بألفاظه وجدتها مُفهرسة بالألفاظ إن جئت تبحث في الرجال فيمن يُقال إنَّه روى الحديث من الصحابة وجدتَها مُفهرسةً بأسماء الرواة مسنده إليهم-فرحمة الله عليهم وجزاهم عنا وعن الإسلام والمسلمين خير ما جزى عالماً عن علمه- .
والله كُلَّما نظر الإنسان إلى فضل هؤلاء الأئمة -أئمة الحديث في الجرح والتعديل- لا تملك عينُه أن تذرِف من الخشوع من عظمة ما وهب الله هؤلاء القوم من الخير والتوفيق والسداد والذبِّ عن سُنَّة رسول الله-?- ، فلذلك ينبغى الرجوع إلى مثل هذه الكتب ودائماً إذا سمعت حديثاً تحرَّ عنه ولا تُحدثْ به إلا وأنت مُتَحرٍّ مالم يكن الذي تُحدث عنه شيخاً أو عالماً معروفاًبالضبط والثقة والأمانة والتحفظ ، فلا يُحدِّثُ بأحاديث مكذوبة عن رسول الله-?- فحينئذٍ لا إشكال .
أمّا بالنسبة للأدلَّة العقلية : فهناك أدلَّة عقلية يُستدلُّ بها من أشهرها وأهمِّها دليل القياس .(2/23)
أولاً مسلك العقل قد يرد عليه إشكالٌ وهو أن الشريعة كاملة ، والله-?- يقول :{ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمْ الإِسْلاَمَ دِيناً}[ المائدة ، آية : 3 ] فالشريعة كاملة.
ولذلك قد يقول قائلٌ: كيف يكون العقلُ دليلاً ..؟!
والجواب: عن هذا أن الرأي الذي ورد ذمُّه في كتاب الله-?- كقوله-سبحانه- : {إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الأَنْفُسُ }[ النجم ، آية : 23 ] ونحوها من الآيات التى تذمُّ الرأي .
والرأي من حيث هو ينقسم إلى قسمين :
القسم الأول : الرأي المنتزع من النصوص .
القسم الثاني : والرأي الذي لا يُنتزع من النصوص ويكون بمحض الهوى .
قد يقول قائل : ما دليلُك على أنَّ الرأي ينقسم إلى مُنتزع من النصوص ، وما ليس بمُنتزع منها ..؟
دليلنا حديث رسول الله-?- : (( إذا اجتهد الحاكم فأصاب كان له أجران. وإذا اجتهد فأخطأ كان له أجرٌ واحدٌ )) فدلَّ على أنَّ الرأي والاجتهاد تارةً يكون صواباً وتارةً يكون خطأً ، وأن الفقيه إذا بذل وُسعه وجُهدَه فإنه لا ملامة عليه يقول الإمام الحسن البصريُّ : " لولا آيةٌ في كتاب الله لأشفقتُ على المجتهدين" أي لقلتُ إن المجتهدين الذين يجتهدون بآرائهم في فهم النصوص بناءً على الرأي المبنى على النصوص الشرعية لهلكوا .
قيل : وما هي ..؟ قال : قولُه-تعالى- :{فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ وَكُلاَّ آتَيْنَا حُكْماً وَعِلْماً}[ الأنبياء ، آية : 79 ] .(2/24)
وجه الدلالة أن الله-?- قال : {فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ } ثُمَّ أثنى على كلا الفهمين على داود وعلى سليمان ، وذلك أنَّ أصل القصة التى ذُكرت فيها هذه الآية الكريمة أنَّ رجلاً كانت له غنم ، فنفشت في الليل رعت في الليل فنزلت على بُستان رجل فأتلفت هذا البُستان فاختصموا إلى نبىِّ الله داود فنظر داود فإذا بالزرع قيمته تساوى قيمة الغنم فقال لصاحب الزرع : دونك الغنم فخُذها .
هذا الحكم من داود لو تأمَّلْتَه لوجدته صحيحاً كأنَّه نظر إلى أن الغنم حينما رعَتْ في أرض هذا الرجل وأفسدتها صار صاحب الزرع يسأل صاحب الغنم بحقِّ مالىٍّ هو قدرُ هذا الزرع فإذا كان له عنده حقٌّ نظر إلى قيمة الغنم فإذا هي تساوى هذا الحق فقضى أن الغنم لصاحب الزرع هذا حُكْم داود .
فلمَّا خرجوا سألهم سليمان قال : لو كان الأمرُ إلىَّ لحكمتُ بغير هذا ثم بيَّن قال : أقضىأن على صاحب الغنم أن يأخذ الزرع فيُصلحَه ، وصاحب الزرع يأخذالغنم فينتفع بحليبها وصوفها وما يكون منها من خيرٍ حتى يعود إليه زرعه فترجع الغنم إلى صاحبها والزرع إلى صاحبه.
فأثنى اللهُ على هذا الحكم لماذا..؟ لأنه يُراعى الأصل فالأصل أنَّ الغنم مِلكها لصاحبها ولا تُنتزع إلا بالرضا ومن هُنا كانت دقة الفهم وهذا ما يُسمى بالرجوع إلى الأصل .(2/25)
فسُليمان-عليه السلام- رجع إلى الأصل ، وداودُ قضى بحكمٍ اجتهادىٍّ صحيحٍ ما ظلم أحدهما لا ظلم صاحب الأرض ولا ظلم صاحب الغنم ؛ ولكنَّ سليمان-عليه السلام- لمَّا نظر إلى الأصل من ثبوت اليد على الغنم وعلى الزرع أعطى كُلَّ ذى يدٍ حقه ، وردَّ المظلمة عن حالها ولذلك قال الله :{فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ} فأثنى على اجتهاد سليمان ، ولذلك الاجتهاد إذا كان مُنتزَعاً من الأدلَّة وفهماً أعطاه الله-?- ؛ لأنه لابُدَّ أن نفهم الأدلَّة ، والدليل على أننا نفهم قوله-تعالى-:{لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ } [ النساء ، آية : 83 ] فقال : يستنبطونه منهم لم يكتفِ بكون النص في الكتاب والسنة معناه أن نصوص الكتاب والسنة تحتاج إلى استنباط.. تحتاج إلى دقة في الفهم والتحرِّى والضبط ، حتى يستطيع الإنسان أن يفقه عن الله ورسوله .
أيضاً دلَّت السنة على اعتبار الرأي المستند إلى الشرع والفهم المبنىِّ على الشرع ، وذلك في قوله عليه الصلاة والسلام : (( من يُردِ اللهُ به خيراً يُفقهه في الدين )) والتفعيل في (( يفقهه )) "زيادة المبنى يدل على زيادة المعنى"أي يزيده فهماً للنصوص حتى يفهم ويعى ويعقل عن الله ورسوله-?- ، فالأدلة العقلية المعتبرة كالقياس مثلاً .
القياس : إلحاق المسكوت عنه بالمنطوق به ، فمثلاً لو قلنا لا نقيس ولا قياس ، فإن النوازل تتجدد والحوادث تطرأ ، والمسائل لا تنتهي .(2/26)
مثلاً الآن : المخدرات لم تكن موجودة على عهد رسول الله-?- فحينما نقول : المخدرات مُحرَّمة ، فالمخُدرُ كالخمر بجامع الإسكار في كُلٍّ منهما فإنك إذا جئت تنظر إلى أن الشرع حرَّم الخمر وعاقب شاربها ولعن بائعها ومشتريها وعاصرها ومُعتصرها وحاملها والمحمولة إليه وساقيها وشاربها.. هذا الوعيد كله من أجل إفساد العقول ، تنظر إلى المخدرات فتجد أن المعنى الذي من أجله نُهي عن الخمر وعُوقب عليها موجودٌ في المخدرات كما هو موجودٌ في المُسكِرات وكما يقول شيخ الإسلام رحمه الله : بل أشدُّ وأسوأ ، فإن في الحشيشة ما ليس في الخمر وهي أشد من الخمر كما يقول شيخ الإسلام رحمه الله من وجوهٍ ، والخمر أشدُّ منها من وُجوه .
فأنت إذا تأمَّلتَ المخدرات ليس فيها نصٌّ يبينُ حكمها بذاتها ، ولكن إذا نظرت إلى المعنى تقول : إن غيرَها آخذٌ حُكمَها .
والقياس والنظر لابُدَّ منه القياس المبنى على أصولٍ صحيحة ولا يكون في مقابل النص من الكتاب والسنة والإجماع فإنه قياسٌ معتبر ، ولذلك كتب عمر بن الخطاب-?-إلى أبى مُوسى الأشعرى كتابه العظيم الذي بيَّن له منهج الاستدلال وطريقه الاستدلال في القضاء فقال له : اعرفُ الأشباه ثُمَّ قِسْ الأمور بنظائرها .
والقياس حُجَّة .. هذا الدليل العقلي حُجَّة والكتاب يدل على اعتباره ، وكذلك السنة لكن دليلُ السنة أقوى فإن النبي-?- جاءته امرأة وقالت : يا رسول الله إنَّ أُمِّى ماتت وعليها صوم نذرٍ أفأقضيه عنها ..؟ فقال عليه الصلاة والسلام : (( أرأيتِ لو كان على أُمِّكِ دَيْنٌ أكُنتِ قاضيته ..؟ قالت : نعم ، قال : (( فدَيْن الله أحقُّ أن يُقضى )) إذا تأملت هذا الحديث وجدت رسول الله-?- يقيس حقَّ الله في صيام النذر على حق المخلوق الذي هو الدَّين فكأنه يقول : يجب قضاء صوم النذر عن الميت كما يجب قضاء دَيْنه بجامع انشغال ذِمَّته بالحق في كُلٍّ هذا هو عَيْنُ القياس .(2/27)
كذلكَ دلت السُّنَّة على اعتبار القياس حُجَّة قالوا :" يا رسول الله أيأتى أحدُنا شهوته ويكون له بها أجر ..؟!!" قال عليه الصلاة والسلام : (( أرأيتم لو وضعها في الحرام ، أكان عليه وزر..؟ )) هذا قياس وهو قياسُ العكسِ فكما أنَّه يُعاقب على فعل شهوته في الحرام ، كذلك يُثاب على وضعها في الحلال .
جاء رجلٌ إلى رسول الله-?- وذكر له أن امرأته ولدت غُلاماً على غير لونه فقال- عليه الصلاة والسلام - : (( هل لك من إبلٍ ..؟ قال : نعم . قال : ما لونها ..؟" فذكر ألوانها ، قال : هل فيها من أورق ..؟، قال : نعم . إن فيها لوُرْقاً . قال : مِنْ أين..؟ لونها ليس بأورق ، فقال : لعلها نزعها عِرْق فقال : وهذا لعلَّه نزعه عرقٌ )).
انظر.. هذا حكمٌ شرعىُّ في الأنكحة.فالأول أحكام في العبادات: الصوم ، والحجّ أيضاً في قصة الخثعمية . كذلك أيضاً بالنسبة للنكاح هُنا يدرأ النبي-?- الشُّبْهة عن المرأة وذلك باحتمال أن يكون نَزَعَ العِرْق بالنسبة لجدِّها أوجدِّ الرجل الذي هو الزوج ، كما أنه يقع في الدوابِّ كذلك يقع في الآدميين .
هذا نوعٌ من القياس والأدلة على حُجيَّة القياس بسطها الإمام ابن القيم رحمه الله في مبحثٍ جيدٍ ينبغى لطالب العلم أن يرجع إليه في كتابه النفيس : " أعلام المُوَقعين " ذكر فيه ما لا يقلَّ عن مائة صفحة في حُجِّية القياس والكلام على شرحه لأثر أبى موسى الأشعرى في كتاب عمر بن الخطاب له .
بعد بيان الأدلة النقلية والعقلية ينتقل طالب العلم إلى الترجيح والترجيح يحتاج من طالب العلم أن يعرف القول الذي هو أقوى دليلاً من جهة النقل ، وأقوى دليلاً من جهة العقل ثُمَّ بعد ذلك يُرجِّح بموازين فينظر إلى دِلالة الأدلة.(2/28)
فمثلاً إذا كان أمامه نصان : حديثٌ و حديثٌ ، فينظر إلى سند الحديثين فإن كان أحدهما صحيحاً والثانى ضعيف قدَّم الصحيح على الضعيف ، ورجَّح القول الذي يستند إلى حديثٍ صحيح وردَّ القول الذي يستند إلى الحديث الضعيف ، لو كان أحد القولين حديثه حديثٌ صحيح ، والثاني حديثه حسن فيُقدَّم مَنْ احتجاجه بالصحيح على من احتجاجه بالحسن .
لو كان أحد القولين حديثُه صحيح والآخر حديثه صحيحٌ ، ولكن الأول صحيحٌ لذاته والثاني صحيحٌ لغيره قدَّم الصحيح لذاته على الصحيح لغيره والحسن لذاته على الحسن لغيره .
ولذلك يقول العلماء رحمهم الله من أئمة الحديث يقولون : فائدة تقسيم الحديث إلى صحيح وحسن وضعيف ، وتقسيم الحديث الصحيح إلى صحيح لذاته وصحيحٍ لغيره ، والحسن إلى حسنٍ لذاته وحسنٍ لغيره إنَّما هو معرفة القوىِّ المعتبر عند التعارض يعنى هذا التقسيم من أجل تقديم الأقوى على ما دونه عند التعارض ثّمَّ تُرجِّح من جهة الدلالة فالمنطوق يُقدَّم على المفهوم ؛ كذلك أيضاً النصُّ يُقدَّم على الظاهر .. وقِسْ على هذا.
ثُمَّ لو وجدت دليل القول الأول عامَّاً ودليل القول الثانى خاصاً فإنك تُقدِّم القول الثاني على القول الأول لأنه لا تعاُرضَ بين عامٍ وخاصٍ ، ولو وجدت دليل القول الأول مُطلقاً ودليل القول الثاني مقيَّداً فإنك تُقدم القول الذي يستند على المقيَّد على القول الذي يستند على الإطلاق .. وقِسْ على هذا .
فالمقصود أنَّه إذا رجَّح طالبُ العلمِ فينبغى أن يُرجِّح بدليلٍ وبحُجَّةٍ حتَّى يَستبين له القول الذي هو أقعد وأقرب للصواب بإذن الله-?- .(2/29)
بالنسبة لهذا الكتاب فكتاب الترمذي في الحقيقة يشتمل على رُواةٍ ورجالٍ منهم من هو ثِقةٌ لا كلام فيه، ومنهم من هو دون ذلك في التوثيق ، ومنهم من هو ضعيف والضعيف منهم من اختُلِف في ضعفه فالكلام على الرجال سيأخذ وقتاً طويلاً ، ولذلك إذا كان الترمذي صحَّح أو أثبت الحديث وحكم باعتباره فإننا نعتبر تصحيحه وتحسينه نعتبر تصحيح الترمذي وتحسينه ؛ لأنَّه منهج الأئمة والعلماء والأجِلاء ، إلا في أحوال نادرة نبَّه العلماءُ عليها خاصَّةً إذا انفرد ، أمَّا هذا الإمام فالمحفوظ عند الأئمة والعلماء والأجِلاَّء والذي نعرفه من مناهج الأئمة رحمة الله عليهم في كتبهم من فقهاء ومُحدِّثِين أن الترمذي حُجَّةِ ، ولذلك اقرأ في كتب العلماء تجدهم-حتَّى إن كانوا من المحدِّثين- يذكرون الحديث ويقولون : وصحَّحه الترمذي .
هذا الإمام الحافظ ابن حجر إمامٌ وديوان في الجرح والتعديل يأتى في بلوغ المرام ويقول : رواه الترمذي وصحَّحه .. رواه الترمذي وحسَّنه .. رواه الترمذي وضعَّفه فكانوا يعتبرون تصحيحه وتحسينه وتضعيفه .
وليُعْلَمْ أن الترمذي إمامٌ مجتهدٌ في الجرح والتعديل ، وليس كأمثالنا وخاصةً في هذا العصر فإن كُلَّ من جاء في مثل هذه العصور يُعتبر مُقَلِّداً لأنه يأخذ عن كُتُب العلماء رحمهم الله كلامهم في الرُّواة ، وهذا لا شكَّ أنه تقليد ،ولكن كون الترمذي والإمام البخارىِّ وأبى داود وغيرهم رحمة الله عليهم من الأجلاء يعرفون ويستندون إلى الجرح إلى معرفتهم ، فهذا أشبه ما يكون بالاجتهاد ، ولذلك لا شكَّ أن الترمذي إمامٌ يُعتبر تصحيحُه وتحسينُه وتضعيفُه ؛ لكنْ في أحوالٍ نادرة-كما ذكرنا- إذا انفرد فيحتاج إلى بعض التمحيص .
أما ما نشأ عندبعض طلاب العلم المتأخرين من تحقير الترمذي ، والاستهانه به ، وعدم الاعتداد بتصحيحه فهذا أمرٌ ينبغى التنبيه عليه ، وتحذيرُ طُلاَّب العلم من المساس بحُرمةِ هذا العالم العظيم .(2/30)
ونُنبِّهُ على قاعدةٍ عامَّةٍ : وهي احترام العلماء والأئمة ودواوين العلم ، ومعرفة قدرهم ، وإنزالهم منازلهم .
انظر إلى شيخ الإسلام تجده يقول : وهذا الحديث صحَّحه أئمة الحديث كالترمذي وفلان وفلان .. ويذكرون الأئمة وتجد أئمة الفقه كالإمام ابن قُدامة رحمه الله وغيرهم من الأئمة يعتبرون تصحيحه ، والإمام النووىُّ ينقل في مجموعه ويقول : حسَّنه الترمذي وصحَّحه .
وانظر في شروح العلماء رحمة الله عليهم ودواوينِ العلم تجدهم يذكرون تصحيحاتِه-رحمة الله عليه- وتحسيناته، أمَّا الذي انفرد به من بعض التحسينات التى عُدَّ فيها مُتساهِلاً-رحمة الله عليه- ، -فهذه سنُنَبِّه عليها إن شاء الله في مواضعها - وهي لا تُنْزل من قدر الرجل ولا تغمطه حقَّه ، وينبغى على طُلاَّب العلم أن يتنبهوا لهذا الأمر ، لقد تقرحت القلوب وتألمَّت والله - حينما سمعتُ بعض طُلاَّب العلم يذكر هذا الإمام بشيءٍ من الاحتقار والاستهانة ، فيقول : مثله لا يُشتغل بتصحيحه وتحسينه .!! وبعضهم يقول: لا تغترَّ بتضعيفه..!!
وهذه آفةٌ موجودةٌ الآن ، فتجده يقول : أمَّا الدار قُطنى والإمام الترمذي وغيرهم من الأئمة والأجلاَّء فهؤلاء غير مُعدودٍ بهم ولا محسوبون !! وهذا تهوُّر-نسأل الله السلامة والعافية - وغمطٌ لهؤلاء الأئمةِ والأجلاَّء الذين أطبق العُلماء رحمة الله عليهم على فضلهم وعُلُوِّ شأنهم في هذا الَعِلم فينبغى التأدُّبُ معهم .
إذا كان الإمامُ البخاري رحمه الله يستفيدُ من هذا العالِم الجليل والإمام العظيم ، ويُثنى عليه ، ويُجلُّه ، ويُعظِّمُه فخليقٌ بأمثالنا أن نسير على هذا النهج الذي سار عليه الأئمَّة ولا نُريد من طُلاَّب العلم أن يحتقروا الأئمة ، واللهِ لو أنَّنا نقرأ الكتب ولا نخرج منها إلا بما فيها من أحكامٍ ثُمَّ باحترام السَّلفِ وتقدير الأئمة لكفى بذلك خيراً .(2/31)
الأدب مع العلماءِ والأجلاَّء وتوقيرُهم وتقديرهم أمرٌ مطلوب ، وينبغي على طلاب العلم فيما بينهم أن يُحْيُوا هذا في النفوس ، ولا يرضوا من أحدٍ أن يمسَّ كرامة العلماء رحمة الله عليهم مهما كان هذا الرُّجَل إذا جاء يُصحِّح أو يضعِّف ويمسُّ بحُرمةِ العلماء وينتقصهم ويثلبهم وكأنَّه يقول : لا تغتر بأحدٍ إلا بى ..!! فهذا أمرٌ ينبغى الحذرُ منه ، ينبغى علينا أن نُجِلَّ العلماء ونُقدِّرَهم ونحفظ كرامتَهم ما أخطأوا فيه نُبيِّنُه ونقول : إن هذا الحديث يُستدرَك عليه كذا .
انظُرْ إلى الحافظ ابن حجر في علمه-رحمةُ الله عليه- تجده يقول : وهذا الحديث صحَّحهُ فلانٌ، لكِنْ يُشْكِلُ عليه كذا وكذا .. ما قال : وهذا من تساهُلِه ..!! وهذا لا تغترَّ به فإنه يفعل ..!! هذا لا ينبغى هذا ليس من شأن الأئمة ، وما كان أئمة العلم يفعلون هذا ؛ إنَّما كانوا يُجلُّون العلماءَ ويُقدِّروُنهم واقرأ في كُتُب العلماء رحمة الله عليهم لا تجد من يقول لك:لا تغتر به.. ولا تُعوِّلْ عليه .. ولا ..!! إلا عند المتأخرين وهذه آفة موجودة عند بعض طُلاَّب العلم الذين لا يَقْدرُون العلماءَ قدْرَهم قُلتُ هذا حينما جاءنى طالبُ عِلمٍ .. طُويلبُ عِلمٍ في بداية طلبه للعلم جاءنى وقال - وهو على بداية هدايته والتزامه- يقول : دخل علىَّ طالبُ علمٍ فقال لى : فُلانٌ لا يُعتدُّ بجرحِه ولا تعديلِه .!!واللهِ إِنَّهُ إمام من أئمة الجرح والتعديل قُلْتُ : سُبْحانَ الله .!! هذا إنسانٌ شابٌ في بداية هدايته ما وجدنا من شىءٍ نُعلِّمُه ونفيده ونُتحفُه به إلا جرحَ الأئمة ؟!! وهَبْ أنَّ هذا العالِم يُخطىءُ في تصحيحه وتضعيفه فليس هذا موضعَ أن تذكُر أنَّه يُخطىءُ موضع ذلك عند الحديث الذي أخطأ فيه أو عند الحاجة كأن تُنَبِّه على منهجه.. نعم .(2/32)
أمَّا أن نتخذ ذلك أسلوباً لجرح الأئمة وثلبهم وانتقاصهم فهذا لا يليق هذا لا يليق : {لاَ يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنْ الْقَوْلِ إِلاَّ مَنْ ظُلِمَ}[ النساء ، آية : 148] هذا يليق عند الحاجة إذا احتجْنا إلى التنبيه على خطأ إمامٍ نُبيِّنُ ونوضِّحُ أنَّه أخطأ في هذا الأمر ، لا أن نمسَّ كرامتَه ونستنزِله خاصَّةً أئمة الحديث وأهل السنة ودواوين العلم ننزع الثقة من أمثال الأئمة كالإمام الدارقطنى وجهابذة العلم والمُحَرِّرين والمحقِّقين الذين خدموا هذا العلم ، الدارقطنى رحمه الله لو تنظر حينما يأتى إلى الرَّجُل لا يحكم على الرجُلٍٍ حتَّى يتتبع مروياتِه ليس كمثلِنا اليوم مثلاً نذهب إلى " تهذيب التهذيب " ونأخذ منه صفوة الأقوال .. لا الإمام الدارقطنى يطَّلِع على كلام العلماء في الرجل حتَّى لو قبل التحسين يذهب وينظر إلى مروياته ، ويتتَّبع مروياتِه فلعلَّ أن تكون فيها شواذُّ وأمورٌ غريبة فيُضرِب عن تحسينه وهذا أمرٌ ينبغى التنبه له .. نَعَمْ ..عند بعض الأئمة تساهُلٌ ، وعند بعضهم أخطاءٌ ينَبِّهُ عليها ، ويُنَبَّه عليها الأئمة والعلماء عند الحاجة أمَّا أن نتخِذَّ التشهير من الطعن في الترمذي ، والطعن في الحاكم ، والكلامِ في زيدٍ وعمرٍو ، والإمامِ المنُذرِيِّ ، وغيرهم من الأئمة رحمة الله عليهم نتخذ هذا دَيْدَناً ونتفكَّه بذلك في المجاِلس فهذا لا ينبغى لطُلاَّب العلم ، ينبغى أن نُحيى في المجالس حُبَّ أهل الحديث ، وحُبَّ أهل السُّنَّة واحترامهم وتقديرهم وإجلالهم ، ونذكر بلاءَهم في الدين ، وما قدَّموا للأمَّة حتى يُترحَّمَ عليهم وهذه من محاسن الموتى التى أُمرنا بذكرها ، - أسأل الله العظيم أن يعصمنا من الزلل ، في القول والعمل - .
وآخر دعوانا أن الحمدُ للَّهِ رَبِّ العالمين وصلَّى اللهُ وسلَّم وبارَك على نبيِّه وآله وصحبِه أجمعين.
????????? الأسئلة @ @ @ @ @
السؤال الأول :(2/33)
هل من كلمة توجيهه في كتابة الأسئلة ؟
الجواب :
بسم الله الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله ، وعلى آله وصحبه ومن والاه أمَّا بعد :
في الحقيقة المجلس عامٌّ هُنَاك-ما شاء اللَّهُ لا قوةَ إلا بالله- من هُم من أهل العلم ، وهُناك من العَوامِّ ، وكلٌّ له حقٌّ ، فبالنسبة للأسئلة التى تتعلق بالحديث الذي سنذكره ينبغى أن تكون لها الأولوية. وإذا أشكل على طالب العلم أمرٌ في الحديث أو شرحِه فإنَّه يذكرُه .
ثانياً : إذا عُرِض عليك الحديثُ فالأفضل قبل أن تجلس في مجلس العلم أن تُهَيِّىءَ الأسئلة في ذهنك وتقرأ الحديث مرَّةً ومرَّتين وثلاثاً ، وتجعل عندك إشكالات تكون هذه الإشكالات مُرَتبةً في ذهنك وحبَّذا لو تكتب الأسئلة قبل حضورك للدرس وتكون جاهزة ، ثّمَّ إذا جلست فإن وجدت جوابها سحبت كل سؤالٍ أو أزلته من ذهنك إذا زال إشكالُه ، وأمَّا إذا بقى تكون محتفظاً بهذا السؤال حتَّى يمكن الإجابة عنه .
هذا بالنسبة للأسئلة التى تتعلَّق بالدرس يُرَكَّز على الأسئلة المفيدة التى تكون إشكالاتٍ في محلِّها ، وإيراداتٍ في موضعها ويُقدَّم الأهمُّ فالأهمّ .
كذلك أيضاً هُناك جوانب أُخرى التى هي تطبيقٌ للحديث فالأسئلة إمَّا أن تكون عن الحديث ، أو تطبيقٍ للحديث فهناك أمورٌ جديدةٌ تطرأ تُعتبر من تطبيقات الأحاديث ، والأسئلة عن مثل هذه الأمور طيِّبةٌ لأنَّه رُبَّما أثناء الشرح لم يُستوفَ هذا الجانب فيكون طالب علم عنده عقليةٌ ناضجةٌ ، وفِكرٌ فاهمٌ ثاقبٌ يستطيع من خلاله أن يستجمع بعضَ الصُّور المعاصرة ، ويسأل كيفية تطبيق حُكم الحديث عليها .(2/34)
مثلاً : أنت سمعتَ عن سُنَّةٍ مثلاً في الوضوء الوضوء في القديم قد يكون عن طريق الأباريق والأواني ؛ لكن الآن مثلاً الوضوء عن طريق الصنبور فكيف يكون فِعلُ بعض السُّنَنِ وتعاطيها ..؟ فهذه أمورٌ تكون تطبيقية خاصَّةً في أمور المعاملات كالبيوع ونحوها تحتاج إلى ذِكرِ النوازل والمسائل الجديدة التى جدَّت وطرأت .. كيف يُطبَّقُ الحديث عليها..؟ هذه من أفضل الأسئلة لأنَّها تُكمِّلُ النقص الموجود في الشرح وخاصةً إذا كان الذي يسألُ عنها يُحدِّد نقاط الإشكال بتركيزٍ هذا بالنسبة للأسئلة التى في موضوع الدرس .
والأسئلة الخارجة عن الدرس لها أهمية ولها مكانها وتُعتبرُ في بعض الأحيان قد تكون الأسئلة التى تتعلق بالدرس قبل الوقت ، بمعنى أن الإنسان يسأل ويستعجل في السؤال ، فبعض طُلاَّب العلم يكتب السؤال ولا ينتظر الانتهاء من الشرح فرُبَّما كان جواب سؤاله في آخر الدرس ولذلك لا ينبغى الاستعجال في كتابة السؤال وإنما يكون عنده مِرْسامٌ وتكون ورقة خارجية يُعلِّقَ عن سؤالٍ ما ، وينتظر إن جاء جوابه في الشرح فبها ونعمت وإن لم يرد فإنه يكتب هذا السؤال ويُقدمُه هذا من الأمور التى ينبغى التنبه لها عن قضية الأسئلة التى يَتبين عدم وجود حاجةٍ لذكرها في الدرس .
أمَّا بالنسبة للأسئلة العامَّة فالأسئلة العامَّة تكون على نوعين :(2/35)
منها ما تعمُّ به البلوى ويُحتاجُ إلى معرفة حُكم الله في هذه المسائل العامَّة ، فالسؤال عن الأمور المُهمَّة التى تعمُّ بها البلوى أفضل وأكمل ، ويحتسب السائل فإذا كتبتَ لشيخٍ سؤالاً عن مسألة تعمُّ بها البلوى تُريد أن تبين للناس حلالَها وحرامَها فإنَّك تُثاب وتؤجَرُ من الله-?- ويكون لك مثل أجر هذا العالِم ؛ لأنَّه بسبب سؤالِك كان هذا العلم وكان هذا الخير وهكذا ينبغى لطُلاَّب العلم ، وكان بعض العلماء يُوصى بعض طُلاَّبه إذا جلس في المجالس العامَّة أن يسألوا عن أُمورٍ يحتاج إليها العامَّة وهذه نعمة ومنحة يُعطيها اللهُ لبعض طُلاَّب العلم فبعض طُلاَّب العلم مُوَفَّقٌ والذين يصحبون العُلماء ويلازمونهم وهم تلامذة العُلماء والمشائخ بعضُهم مُبارَكٌ مُوَفَّقٌ مُسَدَّدٌ مُلهَمٌ فإذا جاء بين الناس أحسن أن يسأل الشيخ عن أُمور طيبة يستفيد منها أهل المجلس .
خاصَّةً بيان هَدْىِ رسول الله-?- ، وتنبيه الناس في كيفية هديه عليه الصلاة والسلام ودعوتهم إلى السُّنَّة ، وتجيبهم فيها فهذا أمرٌ يعظُم أجره ويعظُم خيرُه لأنه لا سعادة للمسلم إلا باتباع رسول الله-?- والسَّيْرِ على نهجه ، فمثل هذه الأسئلة ينبغى على طلاب العلم أن يضعوها في المجالس العامَّة ، ولذلك من الرزيَّة أن تجد العالِم يحضر في مجمعٍ يكون فيه الناس ولا يستفيد منه أحدٌ ، ورُبَّما تجد القوم سكوتاً لا يسألون ، وإذا سألوا سأل عامىُّ عن سُؤالٍ ربَّما يكون يسيراً أو ليس بذاك السؤالِ.(2/36)
والسبب في هذا تقصير طُلاَّب العلم فإنَّ طُلاَّب العلم وبعضُ مَنْ يصحب العُلماء والمشائخ في هذا الزمان يُفرِّط في حقِّ الصُّحْبة فمن حقِّ الصُّحبة أن تُعين العالم على أداء رسالته فتتخيَّر الأسئلة المناسبة والإشكالات الطيِّبة التى يستفيد منها الناس وإذا جلستَ مع العالِم وأعطاك العالِم حُبَّه ووُدَّه وأقربك منه وأدناك من مجلسِه فاشكر نعمة الله عليك ، وقدِّم له الأسئلة المفيدة لتنفع الأُمَّة وتكون خير جليسٍ لهذا العالِم أمَّا أن يجلس طالِبُ العلم هكذا ويغترَّ بصُحبةِ العلماء ومرافقتهم وقضاء حوائجهم الدنيوية بغضِّ النظر عن إعانتهم على مسئوليتهم أمام الله-?- بتبليغ هذه الشريعة وهذا الميراث النبوى فهذا أمر يفوت به الخيرُ الكثير .
الأمر الثالث في الأسئلة الأسئلة الخاصَّة والأسئلة الخاصَّة التى تشتمل على مشاكل تكون على نوعين :
إمَّا أن تكون مشاكل لا يحسُنُ ذِكرُها في مُجتمعات النَّاسِ ، ولا يحسُن بيانُها لأنَّها رُبَّما تنشُر فكرةً ليست بطيبةٍ لأنَّها حوادث قد تقع من بعض الأفراد ، فرُبَّما سمع إنسانٌ غريبٌ فيقول : سبحان الله ..!! الناس هُنا يفعلون كذا ! فيسوء ظنه بالناس ، وهذا يقع في بعض المحاضرات وبعض الندوات ينبغى أن يُنبَّه على بعض الأسئلة الخاصَّةٍ النادرة التي تُعطى فكرةً ليست بطيِّبة خاصَّةً عن بعض المُلتزمين .(2/37)
يأتى إنسانٌ حديثُ عهدٍ بالتزام ويقول إنه يفعل معصيةً ما فيقول : أنا شابٌ مطيع ملتزمٌ وأفعل كذا وكذا ..!! مثل هذا السؤال بهذا الأسلوب يُسىء الناس به الظن بالأخيار والصالحين ما ذنبُ الأخيار والصالحين مِنْ هذا الرَّجُل الذي لا يحسبُ مثلُه عليهم لأنَّه ليس بإنسانٍ ثابت القدم على هداية الله-?- ، وبعضهم يقول : أنا طالبُ علمٍ ويكونُ طالبَ علمٍ بالاسم حمل كتابَه وحضر الدرس دون أن يلتزم بحقوق طلب العلم ودون أن يلتزم بآداب طلب العلم فيأتى ويقول في السؤال : أنا طالبُ علمٍ أفعل كذا وكذا ..!! هذا لا يليق ..!! ينبغى التحفظ في مثل هذه الأمور ، والدقة والتحرِّى في الأسئلة لئلا يُساء الظَّنُّ-ونسأل الله العظيم أن يعصمنا من الزَّلل ، وأن يُوفِّقنا في القول والعمل- .
السؤال الثاني :
هذه الدروس وهذه المواد الشرعية تحتاج إلى جهدٍ وصبرٍ. وقد ضربت لنا أمثلةً في أثناء كلامك في بداية هذا الدرس على ما تلقَّاه العلماء وما تحمَّلُوه في سبيل جمع هذا العلم وحفظه، وبعد ذلك نشره ، وهذا المسلك وهذا الطريق هو هو للأولين وللمتأخرين لمن أراد أن يسلُك سبيلهم،وأن ينتفع بجُهْدِهم ، وأن ينتفع كما انتفعوا من قبل فهل من كلمةٍ توجيهيةٍ لنا ولإخواننا في هذا الموضوع تُذكِّرُنا فيها بما ينبغى في مثل هذه الدروس من الصبر والتحمُّل وسعة البال وسعة الصدر، وخاصَّةً في مواطن الخلاف ومواطن اختلاف العلماء-رحم الله الجميع-..؟؟
الجواب :
بسم الله الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه أمَّا بعدُ:(2/38)
فهذا السؤال- في الحقيقة- من الأهمية بمكانٍ خاصةً بالنسبة لبعض الإخوة الذين يُشَوِّشُ عليهم ذِكرُ الأقوالِ والأدِلَّةِ والرُّدود والمناقشات ، ولو كانوا من طُلاَّب العلم قد يكونون مُبتدئين ، ولذلك رُبَّما يكون من الصعوبة بمكان عند تعرُّضنا لخلافِ العلماءِ وأدلتِهم ، وأقوالهم ، والراجح منها ، وكيفية الترجيح قد يسأم طالبُ العلم ولذلك أُوصيكم ونفسى بعد تقوى الله-?- بالصبر .
هذا الكتاب(كتاب الترمذي) ابتدأ الوالدُ-رحمةُ الله عليه- به وكنتُ في الثانية عشرة تقريباً وجلستُ في مجلسه وهو يذكر أقوال العلماء والردودَ والمناقشات والأدِلَّة ، وكنتُ لا أفهم وكانت المجالس الأولى لم أستفِدْ منها إلاَّ القليلَ الواضح ؛ لأن كان درسه كان مُرَكَّزاً ويخاطِبُ به أكثرَ ما يُخاطِبُ طُلاَّب العلم ثّمَّ شاء الله-?- وما مكثتُ أسبوعين تقريباً أو ثلاثة إلاَّ وقد تعاملتُ مع هذه النصوص وفهمتُ وأدركتُ وهذه رحمةٌ من الله-?-يرحم بها عبادَه بمُجَرَّد ما تحضر دروسَ العلم التى فيها دَسامةُ مادَّةٍ ، وصعوبةٌ في الأقوال والأدِلَّة فقبل العشاء رُبَّما أنَّ البعض استغرب ، ورُبَّما جلس وقد لا يكون استفاد إلاَّ القليل ؛ لكِنْ إذا شاء اللهُ وصبرْتَ وتحمَّلتَ سيأتى يومٌ من الأيام وإذا بهذه العلوم كأنَّها طعامٌ لك وشراب ، ويُيسِّر لك من أمره-?-ما يكون سبباً في انتفاعِك ، وفي بعض الأحيان رُبَّما تجلس مَجْلِسَ عِلْمٍ وتفهم جميعَ ما يُقال ، ويغترُّ الإنسان بفهمه فيسلبُه الله بركةَ العمل بذلك العلم ، ولرُبَّما تجلس مجلساً لا تفهم منه إلاَّ القليل ويضع الله لك البركة فينتفع بهذا القليل منك أقوامٌ وفئامٌ .(2/39)
فأحسِنْ الظَّنَّ بالله ما دامت نيِّتُك صالحةً ، وما دام أنَّ النَّاس في الدُّنيا وأنت في الآخرةِ ، والناس يُقبِلون على تجارة الدُّنيا وأنت مُقْبِلٌ على تجارةِ الآخرة وتخرُج من بيتك وأنت تستشعر قول المصطفي عليه الصلاة والسلام : (( من سلك طريقاً يلتمس فيه عِلماً سهَّل اللَّهُ له به طريقاً إلى الجنَّة )) فلن يُخيِّبك الله وبإذن الله سيفتحُ اللهُ لك من رحمتِه .
كُنَّا والله نجلسُ ونشهدُ لله -?- كُنَّا نجلسُ وما نعلمُ ، وكُنَّا نجلس وما نفهمُ ولكنَّ الله علَّمنا وفهَّمنا ووهبنا من فضله وهو- سُبحانَه- ذو الفضل العظيم ، فنحمده-?- .(2/40)
أحسنْ الظَّنَّ بالله-?- ولو لم يكُنْ إلاَّ أنَّك تجلس في مجلسٍ تغشاه الرحمة وتنزل عليه السَّكِينة ويذكرُ اللهُ أهلَه لكفي ولو لم يكُن إلاَّ مجلساً يقول اللهُ-?- فيه في الحديث القُدُسىِّ : (( وجبتْ محبتى للمتجالسين في ، والمتزاورين في ، والمتحابِّين في )) فلو لم يكُن إلا أن تجلس في هذا المجلس الذي يقول الله-تعالى- في الحديث القُدُسىِّ : (( وَلَهُ قد غفرتُ هُمْ القومُ لا يشقى بهم جليسٌ )) فلنحمد الله-تباركَ وتعالى-هذا حديث رسول الله-?- وتتسِّع صدورنا، وينبغى للإنسان أن يُهيِّىءَ لنفسه موضعاً في كُلِّ مجلس علمٍ فإن كان في بداية الطلب أخذ خُلاصة الأقوال واكتفي بما يستطيع أن يكتفي به ، فلا يُكلِّفُ اللهُ نفساً إلا وُسعَها ولا يأخذ العُمْق إذا كُنْتَ في بداية الطلب لا تتعمَّقْ ، ولذلك قال-تعالى- : {وَلَكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ}[ آل عمران ، آية : 79 ] قالوا : إنَّ العالِم الرَّبانىَّ الذي تعلَّم صغار العِلْمِ قبل كِباره قال بعضُ السَّلفِ : أن يأخُذ صِغارَ العلم قبل الكبار فمثلُ هذا ينفع اللهُ به ويفتح اللهُ عليه من رحمته ، ومن الآن تُجنِّدُ نفسك أنَّ فضلَ اللهِ عظيمٌ ، وأنَّ الله-?- كما علَّمَ آدم وفهَّم سُليمان يُعلِّمُك ويُفَهِّمُك وقال الله يخاطب نبيَّه :{ وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْماً}[ طه ، آية : 114] العلم علمُه-?- ، والفهم من الله-?- فلذلك ينبغى عليك ألاَّ تسأم ولا تملَّ ؛ لكِنْ المنهجية.. إن كُنتَ في بداية الطلب والمسألة خلافية أوصيك بثلاث جُزئيَّات :
الجُزئية الأُولى : أن تفهم عن أي شىءٍ تتكلَّم هذه المسألة الذي هو التصوُّر. تحاول عند حكاية الأقوال وشرح الأقوال أن تفهم ما هي هذه المسألة عن أي شىءٍ تتحدَّث عن جواز الشىءِ وحُرْمتِه ..؟! أي تفهم .(2/41)
ثُمَّ بعد ذلك تترك الأقوال من الذي قال ؟وحجتُّه ، ودليلُه إلى أن تأتي إلى الرَّاجح فتنظر إلى القول الراجح وتأخذ دليله إذا كنت لا تستطيع أن تُدْرِكَ بعُمقٍ .
فهذا أمرٌ يسعُ الإنسانَ المُبتدىءَ اليوم تبدأ بهذه الطريقة وتستمرُّ عليها الأسبوع الأول .. والأسبوع الثاني تبدأ بكتابة ورقة .. رؤس أقلام تذكر فيها ثم ترجع وتسمع الشريط مرَّةً ثانيةً وثالثةُ .
الأسبوع الثانى تضبط ، الأسبوع الثالث وإذا بك أصبح الفهمُ لرؤس الأقلامِ عندك سجيَّةً وإلْفَاً ، فتصبح تفهم شيئاً زائداً عن الفهم ، وهذه فتوحُ اللَّهِ على طالب العلم .(2/42)
يبدأ أوَّل ما يبدأُ بالقليل فإذا علم اللَّهُ من قلبه الخير والإخلاصَ وإرادة وجهِه فتح له بالكثير ، حتَّى يُصبحَ يجلسُ المجلِسَ فيه المُطَوَّلات والمناقشات والأقوال والرُّدود فيخرج وقد جمع علماً كثيراً وخيراً كثيراً بل لرُبَّما يجلس في المجلس بعد أن اعتاد يستطيع إذا ذُكر الدليلُ أن يعرف كيف يستدلُّ صاحب القول قبل أن يُذكَرَ وجه دِلالته وهذا مُجَرَّبٌ ومُشَاهدٌ ؛ ولَكِنْ وطِّنْ نفَسك بالإخلاص ، وبقوة العزيمة ، ولا تسأمْ وأوصى طالِبَ العلم -خاصةً ونحن في بداية الكتاب أي شىءٍ تجدُه في قلبك من السآمة والملل وسوء الظَّنِّ.. وهذا شىءٌ صعب .. وهذا شيءٌ .. كلهُّ من الشيطان والنفسِ الأمَّارةِ بالسوء وأي شىءٍ وجدته سيفتح اللهُ يُيَسِّرُ اللهُ .. إن شاء الله يُعينُ الله .. أنا أبذلُ ما أستطيع .." يكون من لَمَّة المَلَك ، وإذا بالله-?- يكون عند حُسْنِ ظنِّك فإن ظننتَ به خيراً كان لك منه من الخير ما يكون فوق الحًسْبَان ولذلك يقول اللَّهُ-?- : {إِنْ يَعْلَمْ اللَّهُ فِي قُلُوبِكُمْ خَيْرًا يُؤْتِكُمْ خَيْراً}[ الأنفال ، آية : 70 ] ، فلذلك لا تَقُل : أنا عامِّى ، ولا تقُل: أنا ما أعرف .. لستُ من طُلاَّب العلم . لا ..!! أنت طالِبُ عِلْمٍ في كُلِّ شىءٍ تفهمه وأي حكمة تتعلَّمُها فأنت طالِبُ عِلْمٍ لأنك تحتاجها ، وطالبُ العِلمِ لا يختصُّ بإنسانٍ مُعيَّنٍ مُفَرَّغٍ تمام التفرُّغ لطلب العلم قد يكون الإنسانُ طالبَ عِلْمٍ وهو حدَّاد.. وهو نجَّار، وقد يفوق طُلاَّب العلم المُتفرِّغين لطلب العلم بإخلاصِه وجدِّه ومثابرته وصدق عزيمته .(2/43)
الشاشى القفَّال إِمامٌ من الأئمة وديوان من دواوين العلم قوىُّ الباع في الفقه كان آيةً في الفقه ؛ والسبب أنَّه كان يصنع الأقفال وجاء إلى الخليفة فأوقِفَ بالباب ومُنِع من الدخول ، ثُمَّ دخل رجلٌ فقال : من هذا..؟! قالوا : هذا عالِمٌ ثُمَّ دخل ثانٍ قالوا : هذا قاضٍ فسأل : ما هذا .؟ قالوا : هؤلاء أهل العلم فنظرَهم يدخلون بدون استئذان ، يُجَلَّون ويُكرمون ، فأحسَّ بقدر العلم فأقبل على العلم بعد الكِبَر ، وفتح اللهُ له من أبواب رحمته حتَّى أصبح من دواوين العلم ، وممَّنيُذكر في قوة الفقه وسعة الباع ، وله في علم الخلاف الفقهي كتبٌ نفع اللهُ بها كثيراً ، فلذلك لا تقف عند حدٍّ وذلك فضل الله يُؤتيه من يشاء ، وأعرفُ من كان طبيباً ومن كان مُمرضاً بعيداً عن العلم حتَّى سبحان الله ..!! فتح الله عليه وأفاض عليه من خيره حتَّى نفع الَّلهُ به وانتفع ، العلم لا يقف عند حدٍّ ذلك فضل الله يُؤتيه من يشاء - فنسأل اللهَ العظيم أن يُؤتينا وإيَّاكم من فضله ، وأن يرزُقَنا مِنْ واسع رحمته - ، والله تعالى أعلم .
السؤال الثالث :
النصيحة في الشرح المناسب الذي يَتْبَعُونه معكم في سُنَنِ الترمذي ؟
الجواب :(2/44)
سُنَنُ الترمذي لها شُرُوح منها المخطوط ومنها المطبوع والشرح الذي كمل وطبع وموجودٌ هو : عَارِضة الأحْوَذِى بشرح سُنَنِ الترمذي للإمامِ أبى بكر ابن العربىِّ-رحمةُ اللهِ عليه- الفقيه المشهورٍ هذه العارضة موجودة ومطبوعة وبالنسبة للمتقدمين ليس هناك شرحٌ للترمذىِّ إلاَّ هذا الكتاب وتوجد " تُحفة الأحوذِى " للمباركفوري رحمه الله أيضاً شرحٌ نفيسٌ وقد أجاد فيه وأفاد-رحمة الله عليه- وتجرَّد للنصوص والحق-رحمة الله عليه- ، وكذلك أيضاً شرح الإمام ابن العربي جاء فيه بنفائسَ في المعانى واللُّغات وكذلك في الأحكام ، أجاد وأفاد ، وهناك شروحٌ مخطوطةٌ للكتاب طبعاً مثل شرح ابن سيِّد النَّاس "المُنَقَّحِ الشَّذِى بشرح سُنَنِ الترمذي" ولكنَّه تُوفي ولم يُكمِله ، وأكمله الحافِظُ العراقيُّ رحمه الله ، وهناك شرحٌ للحافظ ابن حجر ، وشرحٌ للحافظ ابن رَجب وهذه كلُّها مخطوطاتٌ ، وبالنسبة للشرح الموجود إمَّا للشرح المتّقَدِّم لابن العربى ، أو الشرح المُتأخِّرُ المباركفورى وهذان الشرحان عظيمان أيُّهما أخذت فيه الخير والبركة ؛ ولَكِنْ يُفضَّل دائماً إذا وجدت شرحاً قديماً وشرحاً مُتأخِّراً أن تبدأ بالقديم وذلك لأنَّ عِلْمَ القُدماءِ فيه فوائدُ كثيرةٌ إنَّ عِلمَهم كان فيه اختصارٌ مع دِقَّةٍ ودَسامةٍ في المعنى ودِقَّةٍ في التعبير والألفاظ مع وُجودِ ورَعٍ وتحفَّظٍ .(2/45)
وكذلك أيضاً هذه الكُتب- التي هي كتب المتقدمين- أُلِّفت في أزمنة الأئمة ، واطَّلَع عليها العلماء وأقرُّوها ، بل رُبَّما عقَّبوا أو بيَّنوا أموراً فيها ، فتجد فيها ما لا تجده في غيرها مع ما للقوم من إخلاصٍ ظهر أثرُه في بقاء كُتُبهم وانتفاع المسلمين بها والكتابُ إذا عُرف صاحبه بالإخلاص فكثيرٌ نفعُه ، وكثيرٌ خيرُه وما يضع الله-?- فيه من النفع ، ولذلك بقدر ما تستطيع تحرص على كُتُب المتقدِّمين وأعرف من الزُّملاء في طلب العلم من كان حريصاً على كُتُبِ المتأخِّرين ، وكان الوالد-رحمة الله عليه- يقول لي : أوصيك - قدر المستطاع - ألا ترجع إلا لكتب المتقدِّمين ، فإن الله ينفع بعلمك ، وأيضاً يُعينُك على الفهم وتأخذ الشىءَ من معدنه وأصله ، ومن معينيه الصافي الذي لا كدَرَ فيه فتجدُ من يأخذُ من كتب المتأخرين عبارته ضعيفة ، وفهمه سقيم ؛ لأنَّه يحاول أن يأخذ الواضح فقط وهذه الآفة التى ابتُلى بها كثيرٌ-إلاَّ من رحم الله- في هذا الزمان ، يبحثون عن الكتب الواضحة، ويشتغلون بكتب المتأخرين عن كُتُب المتقدمِّين ؛ لكن كتبُ المتقدمين أبرك وأنفع ، فإنَّك إذا قرأت كتاباً عبارتُه دقيقةٌ ، وأصبحتَ أثناء القراءة تُحاول الفهم تفاعلت مع الشرح ، وأصبحت عندَك مَلَكَةٌ في الفهمِ ، فتقرأ شيئاً يجذبُك وشيئاً تحتاج إلى فكِّه والتفاعل معه ، فإذا فككت الرُّموز أحسستَ بلذَّةِ العلم ، ولذةِ الأثر والظفر فعندها تتقوَّى العزيمة ؛ لَكِنْ إذا جاءَك الشيءُ سهلاً مُيسَّراً فإنَّك تألفُ الشىءَ السهل المُيَسَّرَ ، فإذا وقفت أمام المُعضِلاتِ والمشكلاتِ لا تَحيرُلها جواباً ، ولا تحُسنُ فيها المخرج ولكنْ كتبُ المتقدمين على خلاف هذا ، فإنَّك تجدُها دقيقةً مُركَّزةً ، ولذلك تجد من يعتمدُ كتبَ المتقدِّمين في فتاويه يتأثر .. في عباراته يتأثَّر .. في شرحه يتأثر .. كلُّ شىءٍ تجده يقوله في العلم يتأثرُ بأسلوبه وبالشيخ الذي أخذ عنه(2/46)
قديماً أو حديثاً فلذلك يُوصى بالرجوع إلى كُتُب المتقدَّمين، وهذا حقُّهم علينا ، وهم الأصل وغيرهم فرعٌ ، ولذلك يُستَقَى من المعينِ الصَّافي ما أمكن وما استطاع الإنسانُ إلى ذلك سبيلاً حتىَّ يأمن من التحريف ، ويأمن مِنْ حمل الألفاظ على غير معانيها ونحو ذلك من الأخطاء التى قد يقع فيها بعضُ مَنْ ينقلُ كلام المتقدمِين ، والله تعالى أعلم .
السؤال الرابع :
هل يتحقَّقُ الإجماعُ في العصرِ الحاضر - مثل المجامع الفقهية - ، أم يُشترَط انقراض العصر ؟
الجواب :
هذه مسألتان :
المسألة الأولى : الإجماع حُجَّةٌ قال-تعالى- : {وَمَنْ يُشَاقِقْ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى }[ النساء ، آية : 115] فتوعدَ من خالف سبيل المؤمنين ، ولذلك قالوا : هذه الآية أصلٌ في حجيَّةِ الإجماعِ وقد قال-?- : (( وستفترقُ أُمَّتِى على ثلاثٍ وسبعين فِرقةٍ ، كُلَّها في النَّار إلاَّ واحدة ." قالوا : ومن هي ..؟ قال : (( هي التى تكون على مثل ما أنا عليه وأصحابى )) .
فمعنى ذلك أنَّه لو أجمعت الأُمَّة فإن الطائفة المنصورة ستكون داخل الإجماع فمعنى ذلك أنَّ الحقَّ موجودٌ في إجماع الأُمَّة ، على هذا فالإجماع حُجَّة وحُجِّتُه أن يتفق العلماء المجتهدون فالإجماع إجماع العلماء لا إجماع العوام والعبرة في الإجماع بإجماع العلماء المجتهدين .
وبالنسبة لهذا العصر نَعَمْ يُمكن أن يتحقَّق الإجماع إذا أمكن اشتهار المسألة واشتهار فتوى العلماءِ المجتهدين المعاصرين فيها بقولٍ واحدٍ هذا إجماع.. إذا قالوا قولاً واحداً في المسألة فإنَّه إجماعٌ .(2/47)
وأمَّا إذا كانت مثلاً المجامع الفقهية فإنَّها جيِّدة ، ولا شكَّ أن فتاواها تحمل ثقلاً عظيماً من الفقه ومادةً دقيقةً جداً ، خاصةً وأن المجامع الفقهية -كمجمع الَّرابطة- يعتنى بالرجوع إلى أهل الاختصاص ، وفي المسائل العصرية يطلبون الأطباء إن كانت المسألة طبية ، ويطلبون أهل الفلك إذا كانت مسألة فلكية فالحقيقةُ هذا منهجٌ جيدٌ ، وهو منهج السَّلَفِ والأئمةِ-رحمةُ اللهِ عليهم- في النَّوازل .
أنَّهم ينظرون إلى قول أهل الخبرة ، ثُمَّ يجتمع الأطباء والعلماء ويتناقشون مثلما حدث في مسألة موت الدَّماغ كانت بحوثٌ جيِّدة وآراء قيِّمة ، وتلاقى الأطباء والعلماء وتذاكروا وتناقشوا وكان خيرٌ كثيرٌ استفاد منه كثيرٌ من العلماء الأجِلاَّء وطّلاَّب العلم فهي ذخيرة عظيمة ، فإن كان جميعُ العلماء مِنْ غير مَنْ هم في المجمع وافق على فتوى المجمع فهو إجماعٌ .
وأمَّا إذا كان هُناك خلافٌ فإنَّها مسألة خِلافية شأنُها شأنُ الخلاف المعروف في الفقه .
المسألة الثانية : مسألة انقراض العصر هل يُشترط انقراض العصر لثبوت الإجماع؟ الإجماع للعصر فإن كان أئمته وعلماؤه قد اجتهدوا فإنَّه حينئذٍ يُحتجُّ بالإجماع ، ويبقى إجماعاً ، أمَّا لو نشأت ناشئة في عصر العلماء الذين اجتهدوا قبل أن يُفصل القول فإنهم إذا خالفوا اعتُدَّ بخلافهم وحينئذٍ لا تكون المسألة إجماعية ،والله تعالى أعلم.
السؤال الخامس :
قال بعض أهل العلم إنَّ القياس كالميتة لا نأخذ به إلاَّ عند الضرورة أرجو توجيه هذه العبارة ؟
الجواب:(2/48)
يُسْئَلُ عنها مَنْ قالها ..!! أمَّا القياس فإن قُلنا إنه حجةٌ شرعيةٌ فلا نقول : ميتة ، ولا نقول غيرها . إن قُلتَ إن القياس حُجةٌ بدليل الكتاب والسَّنَّة وما ثبت عن رسول الله-?- أنَّه حُجةٌ فليس القياسُ بحاجةٍ إلى مثلِ هذا التعليق الذي قد يُفهمُ منه انتقاص هذا الدليل الشرعيِّ ، وأمَّا إذا كان المُراد بذلك بمعنى أنك لا تدخلَ إلى القياس والرأي إلا بعد أن يتعذر عليك وجود النصَّ ، فالعبارةُ صحيحةٌ لا يحلُّ إلاَّ لمُضطرٍّ كالميتة.. نعم . بمعنى أنَّك لا تعدل إلى القياس إلاَّ بعد أن تُتعب نفسك وتُجهِدها في وُجودِ نصٍّ في المسألة ، فإذا لم تجد النصوص النقلية تنتقل إلى دليل العقل الذي منها القياس ، ولذلك حبذا لو يُقتصر على منهج العلماء والأئمة ، فالأدلةُ الشرعيةُ لها حُرمتها ولها مكانتُها إن كان الإنسان يقول به يقولُ به ، وإذا كان لا يقول به لا يقولُ به ، ويُتأدَّبُ ، وتكون العبارات مُهَذَّبةً ودقيقةً عِلميَّةً ؛ لأن الهدف بيانُ الحقِّ والوصول إلى الحق فإن القياس إذا كان جليَّاً واضحاً فإنَّه مبنٍ على أصل شرعىٍّ وهو حُجَّة ، وأمَّا إذا صادمَ نصوص الكتابِ والسُّنَّة فلا يُعتدُّ به ، ولذلك يقدحون في القياس من أربعة عشر وجهاً ، منها فسادُ الاعتبار وفساد الاعتبار : أن يكون القياس في مقابل النَّصِّ من الكتاب أو السُّنَّةِ أو الإجماعِ فيقولون : قياسٌ فاسدُ الاعتبار ثُمَّ انظر إلى دِقَّة العُلماء الذين يقولون بالقياس يقولون : فاسدُ الاعتبار ، أي لا يُقامُ له أي اعتبار مادام أنَّه قَابَل النَّصَّ من الكتابِ والسُّنَّةِ والإجماع ، والله تعالى أعلم .
السؤال السادس:
هل يجوزُ لى أن أعمل في محلٍّ عند رَجُلٍ أموالهُ ربويةٌ ؟
الجواب:
هذه المسألة تكلَّم عليها العُلماءُ في انفصال اليدِ والجِهةِ .(2/49)
توضيح ذلك أنهم قالوا : لو أنَّ الإنسان كان ماله حراماً ثُمَّ تعامل معه إنسانٌ في مُعَاملةٍ شرعيَّةٍ صحيحةٍ. قالوا : اختلفت اليدُ مثال ذلك : لو أن إنساناً ماله حرامٌ فطلب من إنسانٍ أن يبنى له بيتاً ، أو أن يبيعه سيارته ، فَبعته سيارتَك فحينئذٍ يقولون : السَّيارةُ مِلكٌ للبائع ، والمالُ حلال وكون هذا الرجل آثماً فإنَّ إثمه متعلِّقٌ به ، ولا يتعدَّى إثمُه إلى الآخذ ؛ ولكنْ استثنوا من ذلك أن يبيع الحرام بعينه فحينئذٍ يحرُم كأن يكون مُغتصِباً أرضاً وباعها عليك وأنت تعلم أنَّه مغتصبها فلا يحلُّ لك .
أمَّا لو كان تعامُلُك معه في عمل شرعيٍّ بذاته كالبيع والإجارة ونحو ذلك ، فحينئذٍ يقولون بانفكاك الجهةِ .
والأصل في ذلك حديثُ الصَّحيح عن النبي-?- أنه تُوفي ودِرُعه مرهونٌ عند يهودىٍٍّ في صاعين من شعيرٍ .
وتوضيح ذلك : أنَّ اليهود كانت أموالهم فيها الحرام ، وقد شهد الله لهم أنَّهم يأكلون الرِّبا ويتعاملون به ومع ذلك تعامَلَ النبي-?- ورَهنَ دِرعه ، وجعل لِمالِ اليهودىِّ حُرمةً حينما جعله دَيناً يحبُ الوفاء به ودلَّ على وجوب الوفاء به ولُزومِه بالَّرهن ، قال العلماء : إنما عدل النبي-?- عن الاستدانة من أبى بكرٍ وعمر ونحوهم من الصحابة ، خاصَّةً الأثرياء كعُثمان وعبدالرَّحمن بن عوفٍ فقد كانوا أثرياء ومع ذلك لم يستدن منهم ، وإنما استدان من اليهودىِّ ليُقرِّر هذه المسألة ، وهي اختلاف اليدِ ، وأنَّ كون ماله حراماً إذا كان التعامل بينك وبينه شرعياً فإنَّ ذلك لا يُوجب التحريم لا نفكاك الجهة ، والله تعالى أعلم.
السؤال السابع:
رجلٌ يسأل عن صحَّةِ حديث : (( الجنَّةٌ تحت أقدام الأُمهات )) ؟
الجواب:(2/50)
هذا الحديث بهذا اللفظ ضعيفٌ ، ولكن هُناك ما يدلُّ على صِحَّةِ متنه والحديث يضعُف سنداً ويصحُّ متناً فصحَّةُ متنه ما ثبت في حديث السنن عن النبي -?- أنَّ رَجلاً قال :" يا رسول الله أقبلتُ من اليمن أبايُعك على الهجرة والجهاد" قال : (( أحيَّةٌ أُمُّك ..؟" قال : نعم قال : (( الزم رِجلَها فإنَّ الجنَّةَ ثَمَّ )) هذا الحديث حسَّنه غيرُ واحدٍ من العُلماء رحمة الله عليهم .
وجه الدلالة في قوله : (( الزم رِجلها، فإنَّ الجَنَّةَ ثمّ )) قالوا : إنَّ هذا يدلَّ على المعنى وهو أنَّ طاعتها والتذلُّل لَها كما قال-تعالى- : {واخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ }[ الإسراء ، آية : 24 ] واختارَ الرِّجْلَ من باب التَّذَلُّلِ . أي الزم التذلُّلَ لها وقضاءَ حوائجها دون استكبارٍ عليها وتجبُّرٍ فإنك تكون من أهل الجنَّة بهذا الصنيعِ ، والله تعالى أعلم .
السؤال الثامن :
طالِبٌ يسأل ويقول إنَّه رأي مع زميله صوراً لذواتِ الأرواح، فجاء ينصحُه وأخبره أن النبي-?- قال : (( لا تدخلُ الملائكةُ بيتاً فيه كلبٌ أو صورةٌ )) فاحتجَّ عليه بوجود الصُّور في النُّقودِ والبطاقاتِ وغيرها . فبماذا ينصحُه ..؟ وكيف يُجيبه ؟
الجواب :
هذه المسألة من الذي كُنَّا فيه قبل صلاة العشاء ..!! ينبغي للإنسان أن يتهذَّبَ في السؤال ، وأن يختار المسائلِ المناسبة للسؤال ولذلك أقول: الإنسان عليه أن يُبيِّن للنَّاس الحُجَّة إذا كان الشخص جئْتَ تُبَّينُ له حُكمَ اللهِ ورسولِه عليه الصلاة والسلام تُبيِّنُ له فإذا جاء يناظرُ ويناقش فاتركه عنك إذا فهِمْتَ من الرَّجُلِ أنَّه يُمارِى ويُريد أن يُناقش فاتركُه عنك فإنَّه لا خير في الجدال في مِثل هذا ، وعليه ينطبق حديث رسول الله-?- : (( أنا زعيمٌ ببيتٍ في رَبَض الجنَّة لمن ترك المِراءَ وإن كان مُحِقَّاً )) ، والله تعالى أعلم .
السؤال التاسع :(2/51)
إنَّه قد سمع من أحدِ النَّاس أن الحكمة من عدم الكلام في بيتِ الخلاءِ هو أنَّ الملائكةَ قد تموتُ إذا دخلَتْ بيت الخلاء لتُسجِّل هذا الكلام ؟
الجواب :
لا حول ولا قوةَ إلا باللَّه ..!! هذا ليس له أصلٌ ، وهو باطِلُ . ويُعتبَرُ من الكذب الذي لا يجوزُ ولا يحلُّ نقلهُ ولا التعويلُ عليه ؛ إَنَّما مُنِع لأنَّ المكان غيرُ مُناسب وقد ثبت في الحديث عن النبي-?- في السُّنَنِ أنَّه قال : (( إِنَّ هذه الحُشُوشَ مُحْتضَرة )) قالوا : تحضرها الشياطين فالشياطين تحضرُ أماكن الخلاء ، فليست بأماكن ذكر ، ولذلك لما مرَّ الرَّجُلُ على النبي-?- وهو يقضى حاجته سلَّم عليه ، فلم يرُدَّ عليه السلام فقال عليه الصلاة والسلام : (( إني كُنتُ على حالةٍ كرِهْتُ أنْ أذكُرَ الله عليها )) فلذلك لا يُسلَّمُ على إنسانٍ يقضى حاجتَه وقد ثبت في الحديث عنه عليه الصلاة والسلام أنَّه قال : (( غُفْرَانك )) حينما خرج من الخلاء قالوا : إنَّه استغفر عليه الصلاة والسلام لأنَّ المكان لم يكُن مناسِباً لِذِكْرِ اللَّهِ ، فكأنَّ هذا الوقت ضاع دون أن يكون في ذِكْر للَّهِ-?- فاستغفر إجلالاً وتعظيماً لِلَّهِ-?- ، وهُنَا مسألة : وهي مسألة تعليل النصوص الواردة والأحكام الواردة في الكتاب والسُّنَّةِ والأمورُ الغيبية الواردة في الكتاب والسُّنَّة والتى لا يستطيع العقلُ أن يُدْرِك عِلَلَها ينبغى الوقوف عند حدِّ الشرع وعدم مُجاوزةِ هذا الحدِّ ، فينبغى عليك إذا بلغك الحكم عن الله ورسولِه-?- بلزوم أمر أن تلزمَه أمَّا التعليلُ بالعقل ومحاولةُ التكلُّفِ ومحاولةُ فهم بعضِ العِلَلِ عن طريق العقلِ والاستنباط- ولوكان يقول به بعض الأئمة- فهذا دَحْضُ مَزلَّة فإنَّ الإنسان إذا تكلَّم في مثل هذه الأُمورِ سيُحاسبُه الله ، وسيسألُه ولذلك لا يجوز للإنسان أن يتكلَّم في مثل هذه الأمورِ الغيبية إلا بنصٍّ من الكتاب أو السُّنَّةِ أو فهمٍ مبنٍ علىنصِّ(2/52)
الكتاب والسُّنَّة ، وأمَّا الرَّجْمُ في الأمُورِ بالغيبِ ، فهذا لا يجوزللإنسان أن يفعله لأنَّه من القول على الله بدون عِلمٍ كان بعض مشايخِنا-رحمةُ الله عليه- إذا كان الإنسان يتكلمَّ في مثل هذا يقول : { قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَمَا أَنَا مِنْ الْمُتَكَلِّفِينَ }[ ص ، آية : 86 ] هذا من التكلُّف والخروج عن الهَدْى والسَّنَنِ - ونسألُ الله أن يعصِمَنا من الزَّلل ، في القولِ والعمل - .
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين .(2/53)
بسم الله الرحمن الرحيم
قال المصنف رحمه الله :كِتَاب الطَّهَارَةِ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
…… بَاب مَا جَاءَ لا تُقْبَلُ صَلاةٌ بِغَيْرِ طُهُورٍ
حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ حَدَّثَنَا أَبُو عَوَانَةَ عَنْ سِمَاكِ بْنِ حَرْبٍ ( ح ) وحَدَّثَنَا هَنَّادٌ حَدَّثَنَا وَكِيعٌ عَنْ إِسْرَائِيلَ عَنْ سِمَاكٍ عَنْ مُصْعَبِ بْنِ سَعْدٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ:(( لا تُقْبَلُ صَلاةٌ بِغَيْرِ طُهُورٍ وَلا صَدَقَةٌ مِنْ غُلُولٍ)) ، قَالَ هَنَّادٌ فِي حَدِيثِهِ :(( إِلاَّ بِطُهُورٍ)) .
قَالَ أَبو عِيسَى رحمه الله : هَذَا الْحَدِيثُ أَصَحُّ شَيْءٍ فِي هَذَا الْبَابِ وَأَحْسَنُ وَفِي الْبَاب عَنْ أَبِي الْمَلِيحِ عَنْ أَبِيهِ وَأَبِي هُرَيْرَةَ وَأَنَسٍ وَأَبُو الْمَلِيحِ بْنُ أُسَامَةَ اسْمُهُ عَامِرٌ وَيُقَالُ زَيْدُ بْنُ أُسَامَةَ بْنِ عُمَيْرٍ الْهُذَلِيُّ .
الشرح:
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين وعلى آله وصحبه اجمعين أما بعد :
فقد ذكر المصنف رحمه الله هذه الترجمة التي استفتح بها كتابه المبارك .
فقال - رحمه الله- " أبواب الطهارة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم " : أي في هذا الموضع ساذكر لك جملة من أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم والتي تتعلق بأحكام الطهارة لعبادة الصلاة .
وقوله رحمه الله : " الطهارة " مأخوذه من قولهم : طهر الشيء يطهر طهارةً إذا كان نظيفاً ، وأصل الطهارة : النزاهة والنظافة من الدنس وتستعمل في طهارة المحسوسات ، وطهارة المعنويات.
و المراد بالطهارة هنا نوعان :(3/1)
طهارة الأحداث و طهارة الأخباث ، وذلك أن الله عز وجل أوجب على عباده المؤمنين إذا قاموا إلى الصلاة أن يكونوا على طهارة في ابدانهم وكذلك في ثيابهم ، وفي الأماكن التي يصلون عليها ، وأوجب عليهم نوعاً ثانياً من الطهارات وهو طهارة الأحداث ، ولذلك قسّم العلماء - رحمهم الله - الطهارة إلى قسمين :
القسم الأول : يعرف بطهارة الأحداث .
والقسم الثاني : يعرف بطهارة الأخباث أو طهارة الخبث كما يعبر العلماء رحمهم الله عنه في كتب الفقه .
فأما طهارة الأخباث: فإن المسلم إذا أراد أن يصلي وجب عليه أن يكون ثوبه : طاهراً من النجاسة لقوله سبحانه وتعالى :{وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ}(1) .
كذلك يجب عليه أن يكون نظيفاً من النجاسة في بدنه : ولذلك أوجب الله عز وجل على عباده المؤمنين أن يتطهروا من البول والغائط ، وورد الوعيد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فيمن لم يتنزه ولم يستنزه من بوله ، كما في حديث ابن عباسٍ في الصحيحين .
وأما طهارة المكان : فقد دلت عليها السنة الصحيحة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم كما في قوله:(( اريقوا على بوله سَجْلاً من الماء)) فهذه ثلاثة أنواع للقسم الثاني وهو طهارة الأخباث فالطهارة من الخبث أن يكون بدن المصلي ليست فيه نجاسة ، وكذلك ثوبه ، وكذلك المكان الذي يصلي عليه فهذا هو طهارة الخبث.
وأما النوع الثاني وهو طهارة الحدث فإنه يشتمل على قسمين :
القسم الأول : الطهارة من الحدث الأصغر ، وذلك بالوضوء الذي وصف الله وبينه رسول الله صلى الله عليه وسلم .
القسم الثاني : من هذا النوع : الطهارة الكبرى وهي الغسل من الجنابة والحيض والنفاس ونحوها من الأحداث التي توصف بكونها كبرى فهذا هو القسم الثاني من الطهارات .(3/2)
وعلى هذا فقول المصنِّف رحمه الله : أبوابُ الطهارة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم كأنه يقول لنا : سأذكر لكم أحاديثَ رسول الله صلى الله عليه وسلم والتي بيَّن فيها ما ينبغي على المسلم أن يكون عليه في طهارة الحدث والخبث .
و السؤال : لماذا استفتح المصنف -رحمه الله - كتابه بكتاب الطهارة ..؟؟
و الجواب : أن الصلاة هي أعظم شعائر الإسلام التي أوجبها الله وفرضها على عباده بعد الشهادتين ، وإذا أراد الإنسان أن يقوم بهذا الركن العظيم والفرض الكريم ، فإنه لابد له من أن يكون على طهارة مخصوصة فلذلك قدّم أبواب الطهارة على أبواب الصلاة ، وكان بعض السلف رحمهم الله يقدمون مواقيت الصلاة على أبواب الطهارة كما هو منهج الإمام مالك بن أنس رحمه الله في كتابه الموطّأ ، وقد قال العلماء : إن الطهارة هي أهم شروط الصلاة التي ينبغي أن تتوفر للحكم بصحتها فلذلك ترجم المصنف رحمه الله واستفتح كتابه المبارك بهذه الأبواب المهمة .
وأبواب الطهارة يبحث العلماء رحمهم الله فيها مباحث :
المبحث الأول : يتعلق بالمياه التي يتطهر بها الإنسان فيبينون أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم والتي بينت أحكام المياه: متى يحكم بكونها باقية على الأصل ؟ ومتى يحكم بكونها خارجة عن الأصل ؟؟
ثم بعد ذلك يتكلمون على ما يستلزمه هذا الأمر من بيان أحكام الآنية ، وبعضهم يفرد ذلك بباب الأطعمة ويجعله متعلقاً به ؛ لأنه أقيس وأشبه بذلك الباب .(3/3)
ثم بعد كلامهم عن المياه يتكلمون على صفة الطهارة الصغرى وهي الوضوء فيذكرون أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم والتي بينت الصفة المعتبرة للوضوء الذي ينبغي للمكلف أن يفعله ، وكذلك يذكرون ما رخَّصَ الشرع فيه كالمسح على الخُفَّين ، وإذا انتهوا من الطهارة الصغرى يعتنون ببيان الأحاديث المتعلقة بنواقض الطهارة الصغرى فيذكرون نواقض الوضوء و ماورد من الأحاديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم .
فإذا انتهوا من بيان الطهارة الصغرى شرعوا بذكر الأحاديث الواردة عن النبي صلى الله عليه وسلم في الطهارة الكبرى -أعني الغسل من الجنابة- فبيّنوا أسباب الغسل من حيض ونفاس وجنابة واحتلام وغير ذلك .
ثم بعد ذلك- بعد بيانهم للطهارة الصغرى و الكبرى - يذكرون الأحاديث المتعلقة بالبدل عن الوضوء والغسل وهي أحاديث التيمم التي وردت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم .
ولذلك قال المصنف رحمه الله "أبواب الطهارة": ولم يقل بابُ الطهارة وذلك ؛ لأنها أبواب متنوعة متعددة مختلفة فناسب أن يجمعها لكي ينبه على اختلافها وتعدد أحكامها ومسائلها .
"أبواب الطهارة ": أبواب : جمع باب ، والبابُ هو الفتحة في الحائل بين الشيئين يُتَوصل به من خارجٍ إلى داخل فالأبوابُ يتوصل بها من خارج البيوت إلى داخلها ، ومن داخلها إلى خارجها ، كذلك أبوابُ العلم يُتَوصل بها من خارج - وهو الجهل - إلى داخلٍ وهو العلم بحكم الله ورسوله صلوات الله وسلامه عليه .(3/4)
"أبواب الطهارة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم : أي التي وردت فيها الأحاديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم ترجم رحمه الله بالترجمة المذكورة "باب لا تقبل صلاة بغير طُهُور": هذه الترجمة المراد بها وجوب الوضوء ولزومه للصلاة ، والله أوجب على عباده المؤمنين إذا قاموا إلى الصلاة أن يتوضوا كما في قوله سبحانه وتعالى :{ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ} (1) فأوجب الله سبحانه وتعالى الطهارة الصغرى-أعني الوضوء-وقوله :{ إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ} أي إذا أردتم القيام إلى الصلاة فإنه بإجماع العلماء لا يجوز للإنسان أن يستفتح الصلاة بغير طهور -كما سيأتي إن شاء الله بيانه- .
وكذلك أوجبت السنة الصحيحة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم الوضوء ، واختلف العلماء - رحمهم الله - متى أوجب الله الوضوء على عباده ..؟؟
والصحيح قول جمهور العلماء أن الله لما أمر نبيه عليه الصلاة والسلام بالصلاة وفرضها عليه نزلصلوات الله وسلامه عليه فلما كانت صبيحةُ الإسراء جاء جبريل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم حينما دخل وقت الظهر فتوضأ أمامَ رسول الله صلى الله عليه وسلم وتوضأ رسول الله صلى الله عليه وسلم كوضوء جبريل ثم أَمَّهُ صلوات الله وسلامه عليه عند البيت ، والحديث في ذلك صحيح ثابت في الصحيحين عن عبد الله بن عمر-- رضي الله عنه - وعن أبيه- ففرضية الوضوء ثابتةٌ في صبيحة الإسراء .(3/5)
وذهب بعض العلماء إلى أن فرضية الوضوء تأخرت ، والصحيح أنها متقدمة كانت في صبيحة الإسراء ثم إنَّ هذه الفرضية أوجبها الله عز وجل عند القيام لكل صلاة فكان المسلمون إذا حضرت صلاةُ الظهر توضئوا بعد الزوال ثم إذا حضرت صلاة العصر ولم ينتقض وضوء الظهر فإنه ينتقضُ بخروج وقت الظهر فإذا دخل وقت صلاة العصر توضئوا من جديد، حتى ولو كانوا على وضُوئهم السابق ثم إذا غابت الشمس توضئوا من جديد ولو كانوا على طهارة ثم إذا دخل وقت العشاء توضئوا من جديد .. وهكذا الفجر فكان الوضوء واجباً لكل صلاة ، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم : (( إنما أمرت بالوضوء عند القيام إلى الصلاة )) ثم إن الله خفف عن عباده المؤمنين ويسر لهم فجعل الوضوء فريضة من حيث الإطلاق ، فالمطلوب من الإنسان أن يكون متوضئاً حتى ولو صلى بالوضوء أكثر من صلاة فنسخ هذا الحكم و كان نسخه يوم الخندق وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم حينما رابط مع أصحابه -رضي الله عنهم وأرضاهم- حينما رابطوا يوم الخندق كان النضح بالنَّبْلِ شديداً حتى غابت الشمس ولم يُصَلِّ عليه الصلاة والسلام العصر وفي بعض الروايات : لم يصل الظهر و لا العصر فلما غابت الشمس جاءه عمر بن الخطاب وقال :"يارسول الله والله ماكدت أصلي العصر حتى كادت الشمس تغرب" فقال صلى الله عليه وسلم :(( والله ماصليتها شغلونا عن الصلاة الوسطى صلاة العصر ملأ الله وقبورهم و بيوتهم ناراً ثم)) قال :(( قوموا بنا إلى بُطْحَان)) وكان بُطْحَان يجري إلى جوار الخندق فتوضأ -صلوات الله وسلامه عليه - وصلى أكثر من صلاة بوضوء واحد فَنُسِخَ وجوب الوضوء لكل صلاة وهذا المثال يمثل به العلماء رحمهم الله على النسخ نسخ الأثقل بما هو أخف منه ، فلذلك خفف الله عن عباده المؤمنين وجعل فرضية الوضوء متعلقة بالمكلف إذا كان على حدث وأراد القيام إلى الصلاة .(3/6)
واختلف العلماء رحمهم الله هل يجب على الإنسان أن يتوضأ بمجرد أن يُحْدِثَ ، أم يجب عليه الوضوء عند القيام إلى الصلاة ..؟؟
ثلاثة أوجه أصحها أن الوضوء واجب على المكلف بسببٍ وهو الحدث ويجب عليه بسببٍ ثان وهو القيام إلى الصلاة ، ولكنه إذا أحدث يجوز له أن يؤخر الوضوء إلى القيام إلى الصلاة كالحال في الواجب الموسّع ، ولذلك يقولون : الحدث سببٌ في الوضوء فإذا أحدث الإنسان وجب عليه أن يتوضأ ، ولا يجوز له أن يقف بين يدي الله إلا إذا كان على وضوء .
قال المصنف رحمه الله حدّثنا قُتَيْبَةُ بنُ سَعيدٍ حدثنا أبو عَوَانَةَ عن سِمَاكِ بن حَرْبٍ (ح) وحدثنا هَنَّادٌ حدثنا وَكِيعٌ عن إسْرَائِيلَ عن سِمَاكٍ عن مُصْعَبِ بن سَعْدٍ عن ابنِ عُمَرَ عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:(( لاَ تُقْبَلُ صَلاَةٌ بِغَيْرِ طُهُورٍ ، وَ لاَ صَدَقَةٌ مِنْ غُلُولٍ)) قال هَنَّادٌ في حديثه : (( إِلاَّ بطهور)) .
الشرح:
هذا الحديث يرويه المصنف رحمه الله عن شيخين أحدهما قتيبة بن سعيد ، والثاني هناد بن السري وكلاهما يرويه بالسند فأما سند قتيبة فإنه عالٍ ، وأما سنده عن طريق هناد فإنه نازل.
والسند العالي: هو الذي قلَّت رجاله ، وأما السند النازل: فهو الذي كثرت رجاله.
وإلى ذلك أشار الناظم بقوله -رحمه الله -:
وَكُلُّ مَاقَلَّتْ رِجَالُهُ عَلاَ ……وَضِدُّهُ ذَاكَ الَّذِيْ قَدْ نَزَلاَ
وقوله رحمه الله :" حدثنا قتيبة ":حدثنا : كلمة تدل على اتصال السند بالسماع وهي مثل قوله :" أخبرنا من حيث القوةُ والاعتبار وكذلك قوله : "سمعت".
فهذه ثلاثة ألفاظ هي أقوى مراتب الرواية في السند فإن قال الراوي : حدثنا أو قال : أخبرنا. أو قال : سمعت فإنها أقوى مراتب الرواية .
وللعلماء تفصيل في هذه الثلاث فمذهب طائفة من المحدثين والأصولين أن قوله : "سمعت" أقوى من قوله : أخبرنا وحدثنا. وذلك أن السماع صريح والعبرة في صحة السند وجود السماع .(3/7)
وقال بعض العلماء : إن (أخبرني وحدثني ) أقوى من قوله (سمعت) وذلك أنه إذا قال : (حدثني وأخبرني) فقد قصد إسماعه و النقل والرواية عنه ، وأما إذا قال : (سمعت) فإنه ربما سمع منه دون أن يعلم الشيخ بسماعه أو يأذن له. كما هو الحال في شهادة المستخفي.
وهذا الوجه الثاني هو الذي رجحه جمع من المحققين ، ومال إليه الإمام الحافظ ابن المُلَقِّن رحمه الله .
وفائدة البحث في هذه الألفاظ : أنه إذا تعارضت رواية السماع والتحديث والإخبار فإننا إذا قلنا إنها بمنزلة واحدة فلا إشكال وأما إذا قلنا إنَّ بعضها أقوى من بعض فتُقدم الرواية التي صرحت بالسماع عند من يقول هو أقوى أو الراوية التي صرحت بالتحديث والإخبار عند من يرى قوتَّها.
وقال رحمه الله :" حدثنا قتيبة " : قتيبة : تصغير القتب و القتب : واحد الأقتاب وهي الأمعاء . واختلف العلماء رحمهم الله هل هذا اسم أو لقب ؟ فقيل أنه لقب كان يلقب به ، وأما اسمه فإنه: يحي وصرح جمع من المحدثين أن اسمه هو قتيبة قتيبة بن سعيد بن جميل بن طريف البغلاني كان من أجلاء العلماء والثقات الحفاظ المكثرين ،وقد أجمع العلماء رحمهم الله على جلالته وعلمه وفضله وثقته وعدالته وهو شيخ الإمام الترمذي وشيخ الشيخين -أعني البخاريَّ ومسلم-وكفى بذلك شرفاً وفضلاً له - رحمة الله على الجميع - ، كان ديواناً من دواوين السنة ومن كبار الحفاظ.(3/8)
وقوله :"قُتَيْبَةُ حدثنا أبو عَوَانَةَ ":هو الوَضَّاح بن عبدالله اليشْكُريُّ مولاهم البزار وكان مولى ليزيد بن عطاء ثم إن يزيد بن عطاء أعتقه ولعتقه قصة طريفة ذكرها العلماء - رحمهم الله - وذلك أن يزيد بن عطاء جاءه رجل فقير وسأله أن يحسن إليه فلم يعطه شيئاً فانطلق الفقير إلى أبي عوانه فسأله فأعطاه أبو عوانه فانطلق هذا الفقير وصار يصيح في الناس : ادعوا ليزيد بن عطاء فإنه أعتق أبا عوانه.. فصار الناس يسألون يزيد هل أعتقه أو لم يعتقه حتى استحى يزيد وأعتق أبا عوانه -رحمة الله على الجميع- ، وهو ثقة ، إذا حدث من الكتاب فلا إشكال ، وأما إذا حدث بدون كتاب ففيه كلام للعلماء رحمهم الله .
قال :"حدثنا أبو عَوَانَةَ عن سِمَاكِ": سماك بن حرب الذُهْليُّ وقيل الهُذَليُّ وهو كذلك من الائمة-رحمة الله عليه-وقيل : إنه كان يقبل التلقين ومن أجل ذلك لم يورد البخاري رحمه الله هذا الحديث : كما أشار إليه بعض العلماء أن البخاري لم يذكر هذا الحديث في صحيحه وذلك بسبب الكلام في سِماك .
وقد ذكر العلماء رحمهم الله أنه من الأفاضل العباد ، ومن الأخيار رحمه الله ولكن أشكل عليهم قبوله للتلقين ، وقال بعض العلماء : إن روايته عن عكرمة هي الضعيفة بخلاف غيرها فإنها معتمدة.
وقوله :" (ح) ": المراد بذلك تحويل الإسناد ، ولذلك يقول العلماء ينبغي أن يقال بعد ذكرها: قال : وحدثنا : فيُعْطف بالقول والتحديث إذا كانت الرواية بالتحديث.
قال " حدثنا هَنَّادٌ السري": وهو التيمي وثقة غير واحد وكان خيراً فاضلاً - رحمه الله-.(3/9)
قال:" حدثنا هَنَّادٌ السري حدثنا وَكِيعٌ ": هو وكيع بن الجراح إمام من ائمة العلم ، وديوان من دواوين الحفظ والفهم كان عابداً ناسكاً صالحاً رحمه الله وكان يقول فيه الامام أحمد -كان إماماً من ائمة المسلمين- مارأيت أشبه بالنساك منه وسئل وقيل له : كيف أنت زاهد وأنت سمين.؟ فقال- رحمه الله-: من فرحي بالإسلام كان كثير العبادة كثير الصلاح والخير ، وهذا الإمام كان قوي الحفظ قوي الذاكرة سأله الناس فقالوا له : مادواء الحفظ..؟ أي : ماهو الأمر الذي يعين على الحفظ ويقوي ذاكرة الإنسان فقال رحمه الله :" تركُ المعاصي ماجربت دواء مثلَه" أي إذا وفق الله الإنسان لترك المعاصي فإنه سيبلغ درجة الحفظ-بإذن الله-والإتقان .
"عن إسْرَائِيلَ ": وهو ابن يونس بن أبي إسحاق السَبِيعي .
وقوله "عن مُصْعَبِ بن سَعْدٍ ": هو مصعب بن سعد بن أبي وقاص كان من الحفاظ المكثرين .
"عن ابنِ عُمَرَ ": هو عبدالله بن عمر.
وطريقتنا في هذا الشرح المبارك: أن ننّبه على بعض الائمة ممن يحتاج إلى تنبيهٍ في ذكر ترجمته وذلك خشية الإطالة والسآمة .
وأما تراجم أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم فإنها نعمَ الترجمةُ والأخبار والآثار التي وردت في ذكرهم ؛ ولكن نظراً لضيق الوقت فإننا نقتصر على تراجم الائمة وحدهم .
يقول :" عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ": الصحابي إذا روى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فله أحوال ، أعلاها وأقواها أن يقول " سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم " يقول .." أو : قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم أو شهدت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول " كذا وكذا... أو : كنت عند النبي صلى الله عليه وسلم فقال كذا وكذا.. ، كل هذه الأحوال إذا تأملتها ونظرت فيها فإن التصريح بالاتصال والسماع فيها واضحٌ بينٌ.(3/10)
الحالة الثانية : أن يقول الصحابي : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم .. أو : عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فلا يخلو من ضربين:
الضرب الأول :
أن يكون سمع ذلك من رسول الله صلى الله عليه وسلم وحينئذ فلا إشكال ، وهذا هو الظاهر عند الائمة - أعني ائمة الحديث والأصول- أنهم يقولون : إذا قال الصحابي : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم .." فرواية متصلة حتى يثبت أنها بواسطة ، وهناك قول ضعيفٌ شاذ يرى ضعف الجزم بكونها متصلة .
الضرب الثاني :
أن يقول : عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ... فإنه يعني بذلك وجودَ الواسطة ولذلك قال ابن عباسٍ : " عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ؛ إنما الربا في النسيئة " فلما سئل قال حدثني أسامة بن زيد ، وفي رواية مسلم : " أَخبرني أسامة بن زيد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:.. .
فهذه المرتبة تعتبر دون المرتبة التي سبقت الإشارة إليها وهي المرتبة الثانية من رواية الصحابي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وأياً ماكان فلو أن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم رووا أحاديثه ولم يذكروا إخوانهم من الصحابة فإن ذلك لايضر لأنهم كلهم عدول سواء علمنا من الذي روى حقيقةً أو علمنا الذي روى بواسطة ؛ وإنما ذكر هذا على سبيل التنظير.
المرتبة الثالثة :
من رواية الصحابي:أن يقول : " أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بكذا أو نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن كذا " فللعلماء فيه قولان مشهوران :
جمهورهم على أنه مرفوع كقول النبي صلى الله عليه وسلم :"افعلوا أو لا تفعلوا" فهو أمر وهو نهي على حسب ماذكر الصحابي.
وقال الظاهرية : إنه لايعطى حكم المرفوع ؛ لأن الصحابي ربما ظن ماليس بأمر أمراً وربما ظن ماليس بنهي نهياً .(3/11)
والصحيح: مذهب جمهور العلماء أن قول الصحابي:"أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أو نهى" أنه مرفوع كأمره الصريح صلوات الله وسلامه عليه ، والدليل على ذلك أن أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم فصحاء بلغاء يعرفون لحن الكلام شهدوا مواطن التنزيل فهم أعرف بما يكون من رسول الهدى من فعل وقيل عليه الصلاة والسلام .
والحالة الأخيرة:
من رواية الصحابي:" أن يقول أُمِرْنا أو نُهِينا" ولايصرح بالآمر والناهي فهذه اختلف العلماء فيها على قولين كالقولين المتقدمين والصحيح أنه مرفوع وإلى ذلك أشار بعض الفضلاء رحمهم الله بقوله:
أُمِرْتُ أوْ نُهِيْتُ قُلْ وَأْمَرَا الرَّفْعُ حُكْمُهُ عَلَى ماشُهَّرَا
قوله عليه الصلاة والسلام :(( لاتقبل صلاة بغير طهور)): القبول: هو ترتب الآثار على الشئ وإذا ترتبت الآثار على الشئ بمعنى أنه صح فإنه يحكم بقبوله بعد ذلك ؛ ولكن القبول بهذا المعنى يشمل الصحة ويشمل الإجزاء فكل عمل ترتبت آثاره الشرعية عليه فإنه صحيح مُجزئ ، ولذلك يعتبر القبول بهذا المعنى في معنى الصحة والإجزاء .(3/12)
وقد يطلق القبول بمعنى تَقَبُّلِ الله لعمل العامل ، وهذا هو أرفع المراتب وأسناها وأشرفها على الإطلاق وأعلاها أن يعمل العامل العمل وتقبل الله منه العمل ، وذلك أن الله إذا تقبل القول والعمل فإنه ذلك دليل على صلاح الإنسان وكذلك حسن نيته وكمال قصده لوجه الله-- جل جلاله --وقد زكى الله- - عز وجل --من تقبل منه العمل فقال سبحانه وتعالى :{قَالَ إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنْ الْمُتَّقِينَ }(1) وهذا القبول أمر من الغيب ، فالناس يصلُّون ويزكون ويحجون ويصومون ويعتمرون ؛ ولكن لايعلم من هو المقبول غير الله-- جل جلاله -- علام الغيوب ولاينكشف الغطاء إلا :{ إِذَا بُعْثِرَ مَا فِي الْقُبُورِ - وَحُصِّلَ مَا فِي الصُّدُورِ - إِنَّ رَبَّهُمْ بِهِمْ يَوْمَئِذٍ لَخَبِيرٌ }(2) فالإنسان في هذه الدنيا يعمل ولربما رد الله أقواله وأعماله بسبب الذنوب ، ولذلك قال ابن عمر-رضي الله عنهما وأرضاهما-لو أعلم أن لي صلاةً مقبولة لاتكلت لأن الله- - سبحانه وتعالى --يقول:{قَالَ إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنْ الْمُتَّقِينَ } وكم من أمم تدخل إلى بيوت الله ومساجده وتخرج منها فلا يقبل إلا من القليل ..!! وقد يجتمع الناس في صعيد واحد ولايتقبل الله إلا من الأفراد-نسأل الله بمنه وكرمه أن يجعلنا من المقبولين وألا يجعلنا من المحرومين- ، فإن من أعظم الخسران ومن أعظم الخيبة للعبد في الدنيا والآخرة أن يكون سعيه غير مشكور من الله-- جل جلاله -- ؛ ولكن للقبول آثار وعلامات ومن أهمها ماذكره العلماء أن الإنسان إذا فعل الطاعة انشرح صدره للطاعة بعدها ووجد نفسه تستقيم على الخير بعد فعل الطاعة ، فذلك من أظهر الدلائل على القبول فإن الحسنة المقبولة تدعو إلى أختها كما قال الله-- جل جلاله --:{فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى - وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى - فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى}(3) قالوا : ومن علامة قبول الصلاة أنها تنهى(3/13)
صاحبها عن الفحشاء والمنكر ، فإذا خرج المصلي من المسجد ووجد قلبه لايطمئن إلى الحرام ووجد قالبه يفر عن الفواحش والآثام فإنه دليل على قبول الله لصلاته ، أما إذا صلى وخرج من مسجده فباشر المحرمات وانتهك الحدود وغشيها -والعياذ بالله-فذلك من أصدق الدلائل على الحرمان-نسأل الله السلامة والعافية- .
يقول:(( لا تقبل صلاة بغير طهور)) قوله(( لاتقبل)) المراد بهذا أي لاتصح ولاتجزئ.
وقوله(( بغير طهور)): الطُّهُور ( بالضم ) هو فعل الطهارة-أعني الوضوء- الطَّهور ( بالفتح ) هو الماء الذي يُتَطَهَّر به كالوضوء ( بالفتح ) هو الماء الذي يتوضأ به ، والوُضُوء ( بالضم ) هو فعل الوضوء.
وقوله(( بغير طهور)): فيه دليل على مسائل:
المسألة الأولى : فرضية الوضوء للصلاة ، وهذه الفرضية دل عليها دليل الكتاب وأجمعت الأمة على ذلك كما سبقت الإشارة إليه وهذا الحديث دليل على نفس ماتقدم بيانه من كون الوضوء مشترطاً لصحة الصلاة.
المسألة الثانية :قلنا إنه لاتصح الصلاة بغير وضوء فهل هذا عام في الصلوات أو هوخاص في بعضها دون بعض؟
الإجماع منعقد على أن الصلاة سواء كانت مفروضة أونافلة أنه لايجوز للمكلف أن يفعلها إلا بعد الوضوء سواءً كانت من الفرائض أو كانت من النوافل ، وأما إذا كانت في حكم الصلاة كالطواف بالبيت ففيه خلاف بين العلماء .
وقوله(( لاتقبل صلاة بغير طهور)): فيه دليل على أن الصلاة على الجنائز لاتصح بغير وضوء.
وذهب بعض السلف إلى أن الصلاة على الجنازة تصح بغير وضوء وبه قال الإمام الطبري والشعبي-رحمة الله عليهما-قالا : يجوز للإنسان أن يصلي على الميت ولو يكن متوضئاً ، والصحيح أن الصلاة على الجنائز لابد فيها من الوضوء لأنها صلاة بالإجماع ؛ والنبي صلى الله عليه وسلم قال في هذا الحديث:(( لاتقبل صلاة بغير طهور)) فدل على أن الصلاة على الجنائز لاتصح بغير طهور وهذا هو الصحيح.(3/14)
أما بالنسبة للطواف بالبيت ففيه قولان مشهوران للعلماء:
القول الأول: يصح الطواف بدون وضوء وبه قال الإمام أبو حنيفة -رحمة الله عليه-.
القول الثاني: لايصح الطواف بغير وضوء وهو مذهب جمهور العلماء من المالكية والشافعية والحنابلة.
واحتج الجمهور على وجوب الوضوء للطواف بالبيت بأن النبي صلى الله عليه وسلم سمى الطواف بالبيت صلاة كما في حديث ابن عباس -رضي الله عنهما-مرفوعاً:(( الطواف بالبيت صلاة إلا أنه أبيح فيه الكلام فلا يتكلم فيه إلا بخير)) قالوا: فقد سماه النبي صلى الله عليه وسلم صلاة وهنا يقول:(( لاتقبل صلاة بغير طهور)) فلذلك قالوا يجب الوضوء للطواف بالبيت وهذا هو أصح القولين أنه لايصح الطواف بالبيت بغير وضوء وذلك على ظاهر هذين النصين أعني حديث ابن عباس وحديث ابن عمر رضي الله عن الجميع .
المسألة الرابعة : لو أن إنساناً لم يجد الماء ولم يتيسر له التراب الذي يتيمم به فأصبح فاقداً للطهورين فليس عنده ماء وليس عنده تراب فهل يصلي أو لايصلي..؟؟
اختلف العلماء رحمهم الله في هذه المسألة ومن أمثلتها لو أن إنساناً كان مربوط اليدين لايستطيع أن يتحرك من مكانه فيتوضأ أو يتيمم فهل إذا بقي في مكانه فترة الصلاة كلها فهل يصلي أو لايصلي..؟؟ وهكذا لو كان في موضع كأن يكون في مكان ليس فيه ماء ولاتراب يتيمم به فما حكمه في هذه الحالة..؟؟ كما لو كان في طائرة ولم يتيسر له أن يتوضأ ولم يتيسر له أن يتيمم ومضى عليه وقت الصلاة فهل في هذه الحالة يصلي على حالته بدون وضوء أم لابد للصلاة من الوضوء فينتظر حتى يجد الماء أو يجد التراب فيصلي بطهارته..؟؟
اختلف العلماء في هذه المسألة التي يسمونها بمسألة" فاقد الطهورين" وذلك على أربعة أقوال:
القول الأول : إنه لايصلي ولايقضي ، وبه قال الإمام أبو عبدالله مالك بن أنس وأصحابه-رحمة الله على الجميع-.(3/15)
يقول رحمه الله : من فقد الماء والتراب فإنني لا أوجب عليه الصلاة ، وكذلك لاأوجب عليه القضاء فلو أنه فاته وقت الظهر والعصر وغابت عليه الشمس ولم يجد ماءً ولاتراباً سقطت عنه فريضة العصر.
أما الدليل على كونه لايصلي قال: لأن الصلاة لاتصح بغير وضوء كما في آية المائدة وهذا الحديث الذي معنا : فلا نقول إنه يصلي لأنه غير متطهر ، كذلك لانوجب عليه القضاء لأنه إذا سقطت عنه الصلاة أداءً سقطت عنه قضاءً.
القول الثاني : إنه يصلي ويقضي -عكس القول الأول-وبه قال الإمام الشافعي في رواية أصحابه المدنيين عنه.
قال: إنه يصلي ويقضي يقول رحمه الله أُوجب عليه الصلاة فيصلي بغير وضوء ولاتيمم ، وذلك لأنه وجب عليه أمران:
الأمر الأول : الوضوء . والأمر الثاني : فعل الصلاة فلما سقط عنه الوضوء وجب عليه فعل الصلاة ثم قد فعل الصلاة بغير طهور فنوجب عليه القضاء من هذا الوجه إعمالاً للنصوص كلها.
القول الثالث : إنه يصلي ولايقضي ، وبه قال الإمام أحمد وطائفة من أهل الحديث-رحمة الله على الجميع- يقولون إنه يصلي على حالته بغير وضوء ولاتيمم وإذا خرج عليه الوقت ووجد الماء أو وجد التراب فلايجب عليه القضاء واحتج الإمام أحمد-رحمة الله عليه- بحديث يعتبر نصاً في موضع النزاع ، وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم خرج بأصحابه فلما نزل بذات الجيش فقدت أم المؤمنين عائشة-رضي الله عنها- عقدها فحبس الجيش لطلب ذلك العقد وكان التيمم لم يشرع بعد فأرسل النبي صلى الله عليه وسلم طائفة من أصحابه يلتمسون عقد أم المؤمنين ، فلما التمسوه جاءهم - أو حضرهم - وقت الصلاة وليس عندهم ماء ولم يكن التيمم قد وجب بعد فلما حضرت الصلاة وليس عندهم ماء صلوا بغير وضوء ثم قدموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم يعنفهم ولم يوبخهم ولم يأمرهم بقضاء صلاتهم فدل على أن من فقد الطهورين أنه يصلي ولايقضي.(3/16)
القول الرابع : أنه يقضي ولايصلي وبهذا القول قال الإمام أبوحنيفة وهو وجه عند أصحاب الشافعي -رحمة الله على الجميع-يقولون : يقضي ولايصلي فلو كان مربوط اليدين فإنه يبقى بغير صلاة حتى يحل عنه الرباط ويمكنه أن يتوضأ أو يتيمم ثم إذا تمكن قضى جميع الصلوات ولو استمرت أياماً أو شهوراً أو سنوات ، وهذا هو مذهب الحنفية قالوا : نسقط عنه الصلاة لأن الصلاة لاتجب في هذه الحالة لفقد الوضوء وفقد التيمم الذي هو بدل عن الوضوء فحينئذ لايجب عليه أن يصلي الصلاة لعدم وجود القدرة عليها ، فلما خرج الوقت تمكن من الوضوء أو من التيمم فتوجه عليه الخطاب بالفعل وهذا هو القول الأخير في المسألة .
والصحيح في نظري والعلم عند الله أن الراجح هو القول بكونه يصلي ولايقضي وذلك لأن حديث السنن الذي استدل به أصحاب هذا القول حديث صحيح قوي وهو نص في موضع النزاع فحينئذ يصلي الإنسان ولكن لايجب عليه قضاء الصلاة .
المسألة الأخيرة : في قول عليه الصلاة والسلام :(( لاتقبل صلاة بغير طهور)) :لو أن إنساناً تعمد أن يصلي وهو على غير طهارة فللعلماء فيه قولان :
القول الأول :ذهب جمهور العلماء رحمهم الله إلى أنه ليس بكافر وأنه آثم إثماً عظيماً بارتكابه لهذا المحرم العظيم .
القول الثاني : وذهب الإمام أبو حنيفة -رحمة الله عليه-إلى أن من تعمد الصلاة وهو على غير وضوء عالماً أنه يعتبر كافراً-والعياذ بالله-قال: لأنه مستهزئ بالصلاة ومتلاعب بأعظم شعائر الإسلام بعد الشهادتين ، والصحيح أنه ليس بكافر وذلك لأن الكفر متعلق بالاعتقاد والفعل محتمل فإن قصد الاستهزاء والاستخفاف فإنه لايبعد القول بالكفر ، وأما إذا كان من باب الخوف وضعف الإيمان فإنه يبعد القول بالكفران.(3/17)
مثال ذلك : لو أن إنساناً دخل في صلاة الظهر ثم تذكر أنه محدث فإنه لو بقي وصلى يحكم بكفره على القول الثاني ، وأما إذا نصرف فإنه لايكفر إجماعاً والصحيح أنه لايكفر عن شدة الخجل وشدة الخوف ؛ ولكنه ضعف في الإيمان وقلة حياء من العظيم الرحمن وتعظيم لبني الإنسان على الواحد الديان ، أما الحكم بكونه من أهل الكفران فإنه مرجوح والصحيح أنه من أهل الإسلام مالم يكن ذلك منه على سبيل التلاعب والاستهزاء .
وقوله:(( ولاصدقة من غلول)) : أي لايقبل الله صدقة المتصدق إذا كانت من الغلول .
والغلول: هو الخيانة وقيل :إن الغلول هي السرقة في لغة العرب ويطلق الغلول بمعنى شرعي وهو الأخذ من الغنيمة قبل قسمها وفيه الوعيد الشديد في قوله سبحانه وتعالى :{وَمَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ وَمَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِمَا غَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ }(1) فهو كبيرة من كبائر الذنوب قُتل رجل من الصحابة فقال بعضهم لبعض: هنيئاً له الشهادة!! فقال صلى الله عليه وسلم :(( والذي نفسي بيده إن الشملة التي غلها يوم أحد تشتعل عليه ناراً)) فمن غل من الغنيمة فإن الله يعذبه في قبره ويفضحه في حشره ونشره بما غل كما ثبت في الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم وهذه الجملة فيها مسائل:
المسألة الأولى : تحريم الغلول من الغنائم ، وتحريم الخيانة على وجه العموم.
المسألة الثانية : أن فيها دليلاً على أن المتصدق بالمال الحرام أنه غير مثاب على صدقته ولذلك لاتعتبر صدقته قربة لله-جل وعلا-.
واختلف العلماء رحمهم الله لو أن إنساناً أخذ أموال الناس بالغصب أو بالربا ثم تاب إلى الله إلى عز وجل فماحكمه ..؟؟(3/18)
قال طائفة من العلماء : يتتبع من غصب منه ماله فيرد الأموال المغصوبة لأصحابها ويرد الأموال التي رابى فيها إلى الضعفاء والفقراء الذين أكل أموالهم بالربا فتلك توبته فيما بينه وبين الناس ، وأما فيما بينه وبين الله فالندم والإقلاع والاستغفار .
وقال بعض العلماء :إنه إذا أخذ أموال الربا فإنه ينفقها في غير مطاعم الناس ومشاربهم .
وينبغي التفصيل في هذه المسألة: فإن كان الإنسان عنده مال محرم يستطيع أن يتركه مع من رابى معه فيتركه ولايأخذ إلا رأس ماله لأنه إذا أودع مائة ألف وكانت الفائدة عليها مائة مثلاً فإنه لو أخذ مائة ألف وحدها فإنه لايقع الربا ويكون ذلك تحقيقاً للنص الرباني في قوله سبحانه وتعالى :{وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لا تَظْلِمُونَ وَلا تُظْلَمُونَ}(1) أما إذا اجتهدنا وقلنا إنه يأخذ المال بالفوائد ويتصدق بالفوائد فإن أخذ المال بالفوائد يوقع الربا والمنع من الربا مقدم على تورطه فيه ثم الاجتهاد في التخلص منه ، ولذلك مذهب بعض المحققين أنه إذا كان امتناعه يمنع الربا فلا يجوز له الأخذ إلا لرأس ماله ويترك مابفي حتى لايقع الربا ؛ لأن القول بأخذ المال بالفائدة مبني على الاجتهاد والنص ينص على أخذ رأس المال فيعمل النص القطعي من كتاب الله عز وجل .
قوله عليه الصلاة والسلام :(( ولاصدقة من غلول)):ليس المراد به التخصيص فلو أن إنساناً -والعياذ بالله- حج بمال حرام فإنه مظنة ألا يتقبل الله حجه .
واختلف العلماء هل يصح حجه أو لايصح ..؟؟
على قولين أصحهما أن الحج يصح ويجزئ ؛ ولكن القبول لايكون إلا للمال الحلال:
إذا حججت بمال لست تملكه فما حججت ولكن حجت العير
لايقبل الله إلا كل صالحة ماكل من حج بيت الله مبرور
-نسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يمن علينا بالحلال الطيب اللهم اكفنا بحلالك عن حرامك وأغننا بفضلك عمن سواك يا واسع الفضل يا أرحم الراحمين-.(3/19)
- ? - ? - ? - ? - الأسئلة - ? - ? - ? - ? -
السؤال الأول :
حبذا لوذكرت لنا إسنادك من طريق والدك في جامع الإمام الترمذي حتى نكتب الإسناد ، وكما تعلمون أن هذا منهج المحدثين ..؟؟
الجواب:
بسم الله الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن الاه أمابعد:
إذا انتهينا-إن شاء الله- من الكتاب أبشر بالإسناد من سأل شيئاً قبل إبانه عوقب بحرمانه..!! ينبغي دائماً للإنسان أن يستشعر مابينه وبين الله عز وجل فإن بعضاً من طلاب العلم قد يدخله شئ من الغرور والفتنة بالأسانيد ، وهذا أمر ينبغي الخوف منه والتورع منه ما أمكن خاصةً في مسائل الإجازات ، وكان الوالد-رحمة الله عليه- شديداً في هذا ، وإن كان الحمدلله الأئمة رحمة الله عليهم يتساهلون في هذا ويوسعون فيه ؛ لكن لما صارت مسائل الإجازات والأسانيد أشبه بالمباهاة وعندي سند الترمذي وعندي سند السنن وعندي سند الصحيحين فاعلم-رحمك الله-إن أخذت هذا الكتاب عمن اتصل سنده إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فإنه حينئذ لاشك أنك تعتبر أخذته على بينةٍ وبصيرة وكون الإنسان يوفقه الله للسند ينبغي أن يتقي الله فيه ، ويحرص كل الحرص على ألا يكون همه إلا أن يعذره الله في رواية هذا الكتاب أو رواية هذا المسند حتى يكون على بينة من أمره ، والله تعالى أعلم.
السؤال الثاني :
وضح لنا ياشيخ مقولة الإمام الترمذي بعد ذكر الحديث يقول: وفي الباب عن فلان ..الخ فلماذا لم يذكر الترمذي هذه الأحاديث عن هؤلاء ..؟؟ هل هو للاختصار أم أنه ليس على شرطه ..؟؟
الجواب:(3/20)
إذا قال الترمذي رحمه الله " وفي الباب.." لايعني هذا أن لفظ الحديث نفسه ، ولذلك يقولون: إن قوله "وفي الباب.." المراد به مسألة الباب فإذا كانت مسألة الباب التي معنا هي اشتراط الوضوء للصلاة ، فإنه يورد بهذه المسميات التي ذكر عمن روى هذه الأحاديث أنها تَعُضدُ هذا الحكم الذي ترجم له رحمه الله ، يعني قوله"وفي الباب " لايعني أن حديث أبي هريرة وحديث أبي المليح وغيره ممن سمى أنها بنفس اللفظ: (( لاتقبل صلاة بغير طهور)) لا إنما مراده أن هناك أحاديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد تكون متفقة بهذا اللفظ:(( لاتقبل صلاة بغير طهور)) وقد تكون بألفاظ أخرى وقد تكون أحاديث أخرى تتضمَّن نفس المعنى ، ولذلك لايفهم منه أن المراد به نفس اللفظ الذي ذكره الإمام رحمه الله قد يكون نفس اللفظ ، وقد يكون غيره ، وقد يكون حديثاً في باب آخر ولكنه يتضمن المعنى الذي ترجم له المصنف رحمه الله ؛ لأن الترمذي من مميزاته في جامعه-رحمة الله عليه- أنه يعتني بالأحكام الفقهية ويعتني بالدلالة على المسائل والمباحث الفقهية ، ولذلك قوله"وفي الباب" يقولون إنه جمع بين الطريقة الحديثية رواية ودراية فهو يجمع لك ماورد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في هذا الباب وهي طريقة من أنفس الطرق ، ويعتبر الترمذي إماماً مبرزاً فيها فأنت إذا جئت إلى باب اشتراط الوضوء للصلاة وأردت أن تبحث عن أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم التي دلت على اشتراط الوضوء للصلاة فإنه قد كفاك المؤونة بقوله :"وفي الباب.." فهو يجمع بهذه الجملة ماجاء بهذا اللفظ وماجاء بالمعنى وإن اختلف لفظه عن اللفظ المذكور ، والله تعالى أعلم .
السؤال الثالث :
ماحكم قراءة القرآن من غير وضوء..؟؟
الجواب:(3/21)
أما قراءة القرآن بغير وضوء فإنها تجوز وقد دل الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم على الجواز ففي الصحيحين عن عبدالله بن عباس-رضي الله عنهما-قال:" بِتُّ عند خالتي ميمونة في عرض الوسادة فبات رسول الله صلى الله عليه وسلم ونام حتى نفخ ثم لما كان هَوِيُّ من الليل قام فمسح النوم عن عينيه وتلا الآيات من آخر سورة آل عمران :{ إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلاَفِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لآيَاتٍ لأُولِي الأَلْبَابِ..}(1) ثم قال:(( ويل لمن قرأهن ولم يتعظ بهن ..! ويل لمن قرأهن ولم يتعظ بهن..! ويل لمن قرأهن ولم يتعظ بهن)) هذا حديث الصحيحين قرأ هذه العشر آيات من آخر سورة آل عمران : { إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلاَفِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لآيَاتٍ لأُولِي الأَلْبَابِ ..} ((ويل لمن قرأهن ولمن يتعظ بهن..)) أي أن قلبه قد صار إلى الموات وجمسه سينتهي إلى الهلاك إن استمر على قسوةٍ حيث لم يتأثر بهذه الآيات العظيمة.
((ويل لمن قرأهن ولم يتعظ بهن)) وكان بعض العلماء يقول: من أراد أن يختبر قسوة قلبه ورقته فليعرضها على العشر الآيات من آخر سورة آل عمران فإن وجد أنه قد أصابته الرهبة والخشية لله سبحانه وتعالى وأنها نقلته من ضيق الدينا إلى سعة الآخرة فليعلم أن في قلبه خيراً على قدر ما أصاب من ذلك الخشوع ، وإن وجد العكس فالعكس-نسأل الله السلامة والعافية- ، وجه الدلالة من هذا الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم نام ثم استقيظ وقرأ القرآن ثم قال ابن عباس:"فتوضأ فقام إلى شن فأفرغ فتوضأ فقمت فصنعت مثلما صنع"وجه الدلالة أنه قرأ الآيات قبل أن يتوضأ فدل على جواز قراءة القرآن لمن كان محدثاً حدثاً أصغر ، والله تعالى أعلم.
السؤال الرابع :
إذا كان الزوج لايعطي زوجته حقوقها الزوحية فهل يجب عليها أن تؤدي حقوقه عليها أم لايجب جزاءً لتفريطه في حقها ..؟؟
الجواب:(3/22)
إذا ظلم الزوج فيجب على الزوجة أن تقوم بحقوقه على الوجه المعتبر شرعاً قال صلى الله عليه وسلم :(( أد الأمانة لمن ائتمنك ولا تخن من خانك)) فإن كان الزوج معتدياً لحدود الله ، يغشى محارم الله حينما ضَّيع هذا الحق الذي أوجب الله فإن المرأة ينبغي ألا تتشبه به بل تؤدي حقه كاملاً ، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم :(( تُؤدون الحق الذي عليكم وتسألون الله الحق الذي لكم)) فكل شئ فيه الحقوق مقابلة مالم تكن المقابلة على سبيل المعاوضة وعلى سبيل المقايضة كالحقوق الزوجية وغيرها فإنه يجب على الإنسان أن يقوم بحق الغير ، وألا يدفعه ظلم الغير إلى أن يظلم ويكون شبيهاً به ، والله تعالى أعلم .
السؤال الخامس:
توجد مشكلة بيني وبين أبي منذ مايقارب الثمانية شهور وهو لايكلمني ولايدخل بيتي ولايحب الاجتماع بي في مكان واحد ، وقد حاولت جاهداً أن أستسمح منه ؛ ولكنه يرفض ذلك .. الخ ثم قال: أرجو منكم توجيهي إلى الفعل الصحيح ..؟؟
الجواب:
أخي في الله اتق الله في أبيك ، واكتسب رضى الله-جل وعلا-في رضى أبيك عنك ، وإن استطعت ألا تنام الليلة إلا وقد رضي عنك فافعل فالزم رجله وابك عنده واخفض له جناح الذل من الرحمة ، وقل رب ارحمه كما رباني صغيراً فإن قبل توبتك وقبل عذرك فإن الله يتوب عليك ، وأما إذا أمسى عليك ساخطاً وأنت عاق له-والعياذ بالله-فإني أخشى عليك من نقمة الله ، ثمانية أشهر وأنت محروم من بر الوالدين ورضوان الله-- جل جلاله -- .(3/23)
مهما كانت الأمور ينبغي أن تكون ذليلاً مع الوالد والوالدة ، وينبغي أن يتسع صدرك وأن ينشرح صدرك لمقابلة إساءته بالإحسان خاصة عند المشيب والكبر ، فقابل إساءته بالإحسان وأذيته بالصفح والغفران واشمله بالعطف والبر والإحسان لعل الله أن يجعل ذلك موجباً لك لدخول الجنان ، اتق الله في والديك وأقبل على أبيك والزم رجليه وابك عندها لعل الله-جل وعلا- أن يكتب لك رحمة في هذه الليلة بتوبته ومغفرته لك ، وإن كان هو المسيء وإن كان هو الظالم فما عليك إلا أن تصبر على ظلمه وأن يصبر على اساءته وأن لاتقابل ذلك بالعقوق فلعله إذا نظر منك كمال الخشوع وكمال الذلة أن يرق قلبه فإنه الوالد مهما بغى ومهما كانت فيه الشدة والعنف فإنه إذا رأى دموع الولد لابد وأن يحن ، قال صلى الله عليه وسلم لما ذرفت عيناه على ابنه إبراهيم قيل له : ماهذا يارسول الله؟ قال:(( رحمة أسكنها الله في قلوب عباده)) فالله أسكن في قلوب الوالدين رحمةً خفيةً فإن كنت ترى منه الشدة والقسوة فذلك لاينفرك منه ؛ ولكن اصبر عليه فلعل هذه الشدة والقسوة داخلها قلب رحيم ، ولعل داخلها أن يكون القلب الذي فيه الحنان والعطف إذا رآك بصفة فيها بالغ الذلة .
أما أن تقطع عنه فتصرم حبال الود بينك وبينه فتصبح كأنك بلا أب محروماً من بر الوالدين ثمانية أشهر-نسأل الله السلامة والعافية-أسال الله أن يرحمك برحمته وأن يتوب على ماقدمت من هذه الإساءة العظيمة ، أقبل على والديك من هذه الساعة وأنت تجتهد في بره وتلزم رجله وإن طردك وإن امتنع من توبته عليك فاردد عليه والزم بابه ، وأظهر له من الخشوع والذلة مايفطر قلبه لك فإنك إن فعلت ذلك فذلة تصيب بها كرامة ومهانة تصيب بها عزة وذلك خير لك في دينك ودنياك وآخرتك ، ولعل الله أن يجعل هذه الغربة التي بينك وبين أبيك من هذه المدة الطويلة سبباً في عمق المحبة إذا رجعت فكم من صحبة كملت بعد العداوة ، والله تعالى أعلم.
السؤال السادس:(3/24)
رأيت في قدمي قبل صلاة العشاء في أحد الأيام شيئاً يمنع وصول الماء إلى البشرة ونسيت أن أُزيله وكان مقداره أقل من القرش المعدني المعروف..فهل أعيد الوضوء والصلاة ..؟؟
الجواب:
بسم الله الحمدلله والصلاة على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن الاه أمابعد:
من توضأ ولم يستوعب مكان الفرض في أي عضو من أعضاء الوضوء فإنه تلزمه الإعادة إذا تبين له أنه قصر في غسل هذا العضو ، سواءً علم بعد الصلاة مباشرة في وقتها أو علم بعد خروج الوقت فصلاته غير مجزئة ، ويلزمه أن يعيد الوضوء وأن يعيد الصلاة ، وفيه حديث أصله في صحيح مسلم في قصة الرجل الذي رأى النبي صلى الله عليه وسلم على ظفره اللمعة فأمره عليه الصلاة والسلام بالإعادة فدل على أن الوضوء لايعتد به ولايجزئ إلا إذا استوعب المكلف جميع الأعضاء المأمور بها ، والله تعالى أعلم .
السؤال السابع:
أنا شاب أعاني من سلس البول وأقوم بالوضوء وعند النهاية أجد قطرات من البول وأعيد الوضوء مرارً وعند الذهاب إلى الصلاة أحس بذلك مرة أخرى..؟؟
الجواب:
هذا السَّلس لايخلو من حالتين :
الحالة الأولى : أن يكون حقيقاً-وسنبين حكمه-.(3/25)
الحالة الثانية : أن يكون ضرباً من الخيال والوسوسة بمعنى أنك تتخيل فتارة يكون موجوداً وتارة يكون غير موجود فإن كان ضرباً من الخيال فإنك تبقى على كونك متطهراً ولاتنصرف ، وتحكم بكونك على طهارة حتى تستيقن من خروج الخارج الذي يوجب انتقاض الوضوء ، وعلى هذا فلو خرجت من البيت وجاءك الشيطان وقال: خرج فقل :إنه لم يخرج حتى تحس بالقطرات على الفخذ ، أو تحس بالندى والبلل على الثياب التي تلي العضو فإن لم تحس بالندى والبلل في الثياب التي تلي العضو ، ولم تحس بها على الفخذ فإنك تحكم بكونك متوضئاً وصلاتك صحيحة مجزئة لايكلفك الله ماوراء ذلك من حديث قال صلى الله عليه وسلم :(( إذا أشكل على أحدكم فلا ينصرف حتى يسمع صوتاً أو يجد ريحاً )) قال عبدالله بن زيد : شُكي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم الرجل يخيل إليه أنه يجد الشئ في الصلاة قال :(( لاينصرف حتى يسمع صوتاً أو يجد ريحاً)) فدل هذا الحديث على أن العبرة باليقين فكما أنك في الريح لاتنصرف إلا بعد سماع الصوت أو وُجدان الرائحة اللذين هما أمارة وعلامة على اليقين ، كذلك بالنسبة للبول لاتنصرف إلا بعد الإحساس بالندى إما في الثياب أو على البدن والأعضاء التي تلي العضو.
وأما إذا كان حقيقاً وكان ذلك مستمراً فإنه لا يخلو من ضربين :
الضرب الأول: أن يكون مستمراً بحيث لاتستطيع أن تتوضأ وتصلي مباشرة دون وجود هذه القطرات ، فإن كان مستمراً بحيث لاتستطيع أن تتمكن من الصلاة بدون وجود هذا القطر فإنك تبقى على حالتك وتتوضأ لدخول وقت كل صلاة هذا بالنسبة إذا كان مسترسلاً ، أما إذا كان غير مسترسل فإنك تتوضأ في حالة فقده دون حالة وجوده.
والخلاصة : إذا كان حقيقاً فإنك تتوضأ عند وقت الصلاة إذا كان مسترسلاً لجميع وقت الصلاة ، وإذا كان غير مسترسل بأن يتقطع وأمكنك أن تفعل الصلاة حال الانقطاع فإنك تصلي حال الانقطاع ولا تصح صلاتك إذا كان وقوعها في الوقت الذي به السلس.(3/26)
آخر دعوانا أن الحمدلله رب العالمين وصلى الله على نبينا وآله وصحبه أجمعين.(3/27)
(
قال المصنف رحمه الله : بَابُ مَا جَاءَ فِي فَضْلِ الطُّهُورِ
حَدَّثَنَا إِسْحَقُ بْنُ مُوسَى الأَنْصَارِيُّ حَدَّثَنَا مَعْنُ بْنُ عِيسَى الْقَزَّازُ حَدَّثَنَا مَالِكُ بْنُ أَنَسٍ (ح) وحَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ عَنْ مَالِكٍ عَنْ سُهَيْلِ بْنِ أَبِي صَالِحٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم :(( إِذَا تَوَضَّأَ الْعَبْدُ الْمُسْلِمُ أَوِ الْمُؤْمِنُ فَغَسَلَ وَجْهَهُ خَرَجَتْ مِنْ وَجْهِهِ كُلُّ خَطِيئَةٍ نَظَرَ إِلَيْهَا بِعَيْنَيْهِ مَعَ الْمَاءِ أَوْ مَعَ آخِرِ قَطْرِ الْمَاءِ أَوْ نَحْوَ هَذَا وَإِذَا غَسَلَ يَدَيْهِ خَرَجَتْ مِنْ يَدَيْهِ كُلُّ خَطِيئَةٍ بَطَشَتْهَا يَدَاهُ مَعَ الْمَاءِ أَوْ مَعَ آخِرِقَطْرِ الْمَاءِ حَتَّى يَخْرُجَ نَقِيًّا مِنَ الذُّنُوبِ )).
قَالَ أَبو عِيسَى رحمه الله : هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ وَهُوَ حَدِيثُ مَالِكٍ عَنْ سُهَيْلٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ وَأَبُو صَالِحٍ وَالِدُ سُهَيْلٍ هُوَ أَبُو صَالِحٍ السَّمَّانُ وَاسْمُهُ ذَكْوَانُ وَأَبُو هُرَيْرَةَ اخْتُلِفَ فِي اسْمِهِ فَقَالُوا عَبْدُ شَمْسٍ وَقَالُوا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَمْرٍو وَهَكَذَا قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْمَعِيلَ وَهُوَ الأَصَحُّ .(4/1)
قَالَ أَبو عِيسَى رحمه الله : وَفِي الْبَاب عَنْ عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ وَثَوْبَانَ وَالصُّنَابِحِيِّ وَعَمْرِو بْنِ عَبَسَةَ وَسَلْمَانَ وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو وَالصُّنَابِحِيُّ الَّذِي رَوَى عَنْ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ لَيْسَ لَهُ سَمَاعٌ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَاسْمُهُ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عُسَيْلَةَ وَيُكْنَى أَبَا عَبْدِ اللَّهِ رَحَلَ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَقُبِضَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم وَهُوَ فِي الطَّرِيقِ وَقَدْ رَوَى عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَحَادِيثَ وَالصُّنَابِحُ بْنُ الأَعْسَرِ الأَحْمَسِيُّ صَاحِبُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم يُقَالُ لَهُ الصُّنَابِحِيُّ أَيْضًا وَإِنَّمَا حَدِيثُهُ قَالَ سَمِعْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ:(( إِنِّي مُكَاثِرٌ بِكُمُ الأُمَمَ فَلا تَقْتَتِلُنَّ بَعْدِي)).
الشرح:
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين وعلى آله وصحبه أجمعين أما بعد:
فيقول المصنِّف رحمه الله " باب فضل الطُّهور عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ": أي في هذا الموضع سأذكر لك جملة من أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم والتي تدل على فضل الطُّهور .
و الطُّهور : هو فعل الطهارة . والطَّهُور ( بالفتح ) : هو الماء الذي يَتَطَهَّرُ به الإنسان .(4/2)
و لمَّا كان بيان فضل الطُّهور مما يتعلق بأبواب الطهارة ناسب أن يذكر المصنف رحمه الله أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم التي دلت على فضل الطُّهور وهذه الأحاديث-في الحقيقة- إنما بينت فضل الوضوء وظاهر ترجمة المصنف رحمه الله أن الفضل للطُّهور مطلقاً ، سواء كان وضوءاً أو كان غُسلاً من الجنابة ؛ ولكنّ الذي ورد في الأحاديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم إنما هو بيانُ فضلِ الطُّهور ولذلك تكون هذه الترجمةُ فيها عمومٌ .
و قوله"فضل الطهور": الفضل من الشيء : ما تبقى . وفضلة الشيء : ماتبقى منه وأصل الفضل: الزيادة،ومنه قولهم: ربا الفضل ، ويقال: إنسان فاضل إذا كانت فيه زيادة من العبادة والبر والإحسان.
وقوله - رحمه الله- "فضل الطهور": أي ما ورد من الأحاديث عن النبي صلى الله عليه وسلم ممّا يدل على خصوصية الطهور والوضوء بفضيلة .
ثم ذكر- رحمه الله- حديث أبي هريرة-- رضي الله عنه - و أرضاه- .
قال" حدّثنا إسحاق بن موسى الأنصاري - قال حدّثنا معن بن عيسى - قال حدّثنا مالك (ح ) قال وحدثنا قتيبة بن سعيد عن مالك عن سهيل بن أبي صالح عن أبيه ذكوان - و أبوه ذكوان السمّان - عن أبي هريرة -- رضي الله عنه - و أرضاه- "وهذا الحديث مداره على الإمام مالك بن أنس - إمام دار الهجرة.
وهو الإمام أبو عبد الله مالك بن أنس بن مالك بن أبي عامر الأصبحي - رحمه الله-.
كان جد أبيه-وهو أبو عامر- من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم الذين شهدوا المشاهد كلها ما خلا بدراً ، وأما جده مالك فإنه كان من أجلاّء التابعين وثقاتهم وكان أحد الأربعة الذين شهدوا مقتل عثمان بن عفان-- رضي الله عنه - و أرضاه- وحدّث مالك أعني الجد عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه وعن بقيّة من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم .(4/3)
وقيل إن مالكاً جدّ مالك بن أنس كان من الرجال الذين يستشيرهم عثمان بن عفان رضي الله عنه ويحبهم ويجلّهم ، ولذلك ذُكر أنه كان ممّن كتب القرآن على عهد عثمان-- رضي الله عنه - وأرضاه-.
ولد مالك رحمه الله في المدينة ثم إنه نشأ في بيت فضل ، ولما أراد أن يطلب العلم ألبسته أمه أحسن الثياب ثمّ قالت: أي بني .. اذهب إلى ربيعة بن أبي عبد الرحمن- وكان ربيعة من أجلاّء علماء المدينة في زمانه- اذهب إلى ربيعة وخذ من أدبه وسمته وخشوعه قبل أن تأخذ من علمه فمضى رحمه الله إلى ربيعة وتتلمذ عليه وعلى العلماء الأجلاء وكان آية في الحفظ والإتقان والضبط وكان بعيداً عن السُقاطات والسفاهة-رحمة الله عليه- ولذلك قال له أصحابه ذات يوم : من الذي حدّثك - بهذا الحديث..؟ قال:"والله ما جالست سفيهاً ".
وهذا يدل على علو قدره فقد كان معروفاً بالعقل والحلم ، ولذلك كان ربيعة شيخه كان إذا أقبل مالكٌ يقول :" أقبل العاقل ".
وقال عبد الرحمن بن مهديّ:"أخذت عن مالك وعن سفيان وعن شعبة وابن المبارك فكان مالكٌ أكملَهُم عقلاً".(4/4)
وكان رحمه الله معروفاً بكمال العقل والحلم ، ولذلك أثنى عليه العلماء والإجلاء وضحّى في سبيل العلم بالكثير ، حتّى أُثر عنه أنه باع أخص ما يملك في بيته لكي يتفرغ لطلب العلم - رحمة الله عليه- ويستعين بذلك على تحصيله وأُثر عنه -رحمه الله - أنه لمّا قدم محمد بن شهاب الزهري إمام العلم والسنّة في زمانه على المدينة لما قدّم إلى المدنية وكان في يوم عيد مضى مالك- رحمه الله- إلى المصلى فصلى العيد ثم انطلق إلى بيت ابن شهاب فلما دخل على ابن شهاب قال له ابن شهاب:هل طعمت..؟ قال: لا والله…قال : هل تريد الطعام..؟ قال: لا ؛ إنما أريد حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم فانصرف عن العيد وبهجته إلى أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم وحدثه الزُهري يومها أربعين حديثاً ثمّ قال : حسبك يا مالك. فقال: إني قد حفظت ووعيت ما حدثتني به- فلما طلب منه أن يعيد الأحاديث أعادها بكمالها دون نقص . فقال:" ما رأت عيناي مثلك" ، وأثنى عليه الزهري- رحمه الله - ثناءً عظيماً وكان الأئمة والعلماء يحبونه ويجلّونه ويكرمونه ، وما جلس في مسجد النبي صلى الله عليه وسلم للفتيا وللعلم إلا وقد شهد له سبعون من أهل العلم أنه أهل للعلم و الفتيا -عليه رحمة الله- وجلس وهو ابن سبع عشرة سنة.. وهذا يدل على كمال نضجه مع كونه مبكراً في السن فالعلم لا يضبط بالسن ؛ وإنما يكون بالحفظ والإتقان والوعي والفهم عن الله ورسوله-صلوات الله وسلامه عليه إلى يوم الدين-.
أثنى عليه العلماء و الأجلاّء قال الإمام الشافعي:" رضيتُ بمالك حجة بيني وبين الله " وكان يقول:" إذا ذُكر العلماءُ فمالكٌ النجمُ "، وكان يقول :"مالك معلمي" فكان يعترف بفضله ويثني عليه كثيراً ، وكان جمع من العلماء والمحدثين يحملون عليه حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم :((يوشك أن يضرب الناس أكباد الإبل فلا يجدون عالماً إلا عالم المدينة )).(4/5)
فكان مالك رحمه الله في زمانه عالم المدينة المُبَرَّز الذي ارتحل إليه العلماء والأجلاء لأخذ حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم ومع هذا كله فقد كان شديد الخوف من الله كثير البكاء من خشية الله ، وأُثر عنه أنّه كان يفتح المصحف فيقرأ فيعظم عليه البكاء ويغلبه ، حتى لا يستطيع أن يتم قراءته -عليه رحمة الله-.
وكان كثير العبادة والتهجد حتى كان سمته سمت الصالحين القائمين ، وكان إذا رئي تهلهل وجهه من نور العبادة -عليه رحمة الله ورضوانه-.
ومع هذا كله فكان محباً لسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم مجلاً لها، يعلوه الوقار و السكينة ، ما أثر عنه أنه كان يجالس السفهاء ، ولذلك ذُكر عنه أنه ما كشف رأسه يوماً قط بين الناس ، وهذا يدل على كمال حشمته-رحمة الله عليه-.
وكان رحمه الله إذا سئل عن الفتيا تغيّر وجهه واصفر لونه رحمه الله وربما امتنع من شدّة الخشية -رحمة الله عليه-.
وكان كثيراً ما يقول للسائل: لا أدري ، ولذلك أثر عنه أنه ارتحل إليه رجل بالمسائل من اليمن وكانت ثمانية وأربعين مسألة ثم سأله رحمه الله فأجاب عن مسألتين ، وقال في باقيها : الله أعلم. أو : لا أدري .
فقال له:أرتحل إليك من اليمن وتقول: لا أدري...؟ من الذي يجيب إذا لم تجبني .. فقال رحمه الله : لا عليك . ارجع إليهم فقل: سألت مالكاً فقال : لا أدري .
وهذا من كمال خوفه من الله حيث لم يستحيي من الناس ؛ وإنما استحيا من الله ويسأله السائل في المسألة العظيمة فيتردد ويقول : ارجع إلىَّ بعد يوم أو أرجع إليَّ بعد أيام فيقول له السائل وكيف ذاك..؟
فيقول له : يا هذا قد رضيت بي حجة بينك وبين الله إني أريدُ خلاص نفسي ثم أخلِّصك بعدُ .
أي أبحث و أنظر في المسائل حتى أعرف الحقَّ الذي أتخلص به من بين يدي الله ، وكان رحمه الله شديداً على أهل البدع و الأهواء لا تأخذه في الحقِّ لومةُ لائم -عليه رحمة الله- .(4/6)
وهو صاحب القصة المشهورة: حينما دخل عليه السائل وقال : كيف استوى ..؟ فقال-رحمه الله - : الاستواء معلوم ، والكيف مجهولٌ ، والسؤال عنه بدعة ، و لا أراك إلا رجلَ سوءِ ... أخرجوه .
فكان يطرد من عرف بالبدعة أو يسأل عن المسائل التي فيها تكلفٌ و تنطعٌ وكان يحب سنة النبي صلى الله عليه وسلم ويتبعُها .
قال الإمام أحمد :" ومن مثل مالك في إتباعه لأثر من مضى مع علمٍ و عقلٍ" أي من مثله في هذا الإتباع والتأسي وشدة الملازمة لسنة النبي صلى الله عليه وسلم فعرف بحبه للسنة وإتباعه للآثار ، ولذلك كان يقول : رحمه الله :" حقٌ على من طلب العلم أن تكون فيه سكينة ووقار و اتباع لأثر من مضى قبله" .
وكان الناس يهابونه كثيراً ، ولربما جاءه السائل وجلس بين يديه فارتعد ولم يستطع أن يسأله عن مسألته من شدّة ما ما يجد من هيبته رحمه الله قال بعض العلماء :" جلست بين يدي الهادي والمهدي والرشيد - ثلاثة من الخلفاء العظماء - قال : والله ما هبتهم كهيبتي حينما جلست بين يدي مالك ".
ولا نظن ذلك إلا لشيء بين مالك وبين الله ، قالوا : إن الإنسان إذا اشتد خوفه من الله عز وجل وكان شديد الخشية لله سبحانه وتعالى قذف الله -في قلوب العباد حبّه وهيبته- وذلك من كمال إيمانه واستقامته ولذلك كانوا يقولون : لا نرى ذلك إلا لشيء بين مالك وبين الله أي خاف الله فقذف الله في قلوب العباد هيبته ، ولذلك قال الشاعر :
يأبى الجواب فلا يراجع هيبةً ………والسائلون نواكِسُ الأذقان(4/7)
فكان رحمه الله مهاباً جليلاً، وكان إذا أراد أن يحدّث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يحدَّث إلا وهو على وضوء، وكان رحمه الله إذا وقف الناس ببابه يريدون الدخول قال لمولاته :سليهم فإن كانوا يريدون الفتوى خرج إليهم وأجابهم عن المسائل والنوازل ، وإن كانوا يريدون حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم توضأ ، وتطيّب ، ولبس من أحسن ما يجد من الثياب ، وجلس على أريكته ، وعلته السكينة والوقار رحمه الله ، واسند عن النبي صلى الله عليه وسلم ما شاء الله له أن يسند.
حدّث بالأحاديث والأخبار ، وروى عن المصطفى السنن والآثار ثم إنه اختاره الله -جلّ وعلا- إلى جواره عام ثلاث وسبعين بعد المائة من هجرة النبي صلى الله عليه وسلم .
ولما حضرته الوفاة: أغشي عليه يوم السبت والأحد والاثنين والثلاثاء ، وأفاق يوم الأربعاء فقالوا : كيف أنت يا أبا عبد الله..؟ قال: إنّي أرى الموت.. ولكنكم ستعاينون من رحمة الله ما لم يخطر لكم على بال.. أي ستجدون من رحمة الله ولطفه وحلمه ما لم يخطر لكم بحسبان وبال - نسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يكرمنا بذلك بمنّه ورحمته- .
توفي – رحمه الله- يوم الأربعاء ، ثم إنه خلف خيراً كثيراً من سنّة النبي صلى الله عليه وسلم ومن أشهر تآليفه النافعة التي ما ألف غيرها كتابه " الموطّأ " الذي انتفعت به الأمة وقد قيل إنه رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال له : وطِّئ الدين للأمة فألّف هذا الكتاب المشتمل على سنّة النبي صلى الله عليه وسلم .
مدار إسناد المؤلّف في هذا الحديث الشريف على الإمام مالك ، - وبقيّة رجال السّند سيأتي بيان تراجمهم- ، ولذلك سنقتصر في كل مجلس على علم من أعلام السّند ، حتّى نستوفيَ الكلام-بإذن الله-على رجال هذا الكتاب المبارك .(4/8)
وقوله : عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :(( إذا توضأ العبد المسلم أو المؤمن)) ((إذا توضأ العبد)) : هذه الصيغة تأتي على ثلاثة أوجه :
الوجه الأول : أن يقصد بها ما قبل فعل الشيء .
مثال ذلك : قوله سبحانه وتعالى :{ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاَةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ }(1) أي إذا أردتم القيام إلى الصلاة. فالصيغة المراد بها ما قبل الفعل .
ومنه قوله سبحانه وتعالى :{فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ}(2) أي قبل أن تقرأ القرآن استعذ بالله من الشيطان الرجيم .
والوجه الثاني : أن يقصد بهذه الصيغة أثناء الفعل كقولك : إذا أذنت فترسَّل ، وإذا أقمت فاحدِرْ ، وكذلك قولك : إذا قرأت القرآن فرتِّل ، فالمراد بذلك ما يصحب الفعل وهذا هو المراد في حديثنا ، فإن قوله-عليه الصلاة السلام-: (( إذا توَضأ العبد المسلم -أو المؤمن-)) المراد به:ما يصحب الفعل.
الوجه الثالث : لهذه الصيغة: أن يراد بها ما بعد وقوع الفعل كقولك: إذا صلّيت فأْتني أي إذا تمَّت الصلاة وفعلتها كاملة فأْتني .
ومنه قول أمّ المؤمنين عائشةَ-رضي الله عنها- أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا خرج عن الخلاء قال " غُفْرانك " أي إذا خرج و تم خروجه من المكان المعد للخلاء قال هذا الذكر .
قوله عليه الصلاة والسلام : (( إذا توضّأ العبد المسلم..)): فيه مسائل :
المسألة الأولى : دلّ علىفضل الوضوء ، وهذا من خصوصيات الوضوء كما قدّمنا وألحق بعض العلماء طهارة الغسل كما سيأتي.
المسالة الثانية:هذا الفضل الذي اشتمل عليه هذا الحديث يعمّ الوضوء سواءً كان واجباً أو كان غير واجب فمن توضّأ للفريضة فإن له هذا الفضل ، وكذلك لو توضّأ على سبيل الاستحباب والسُنِّية فإنه يشمله هذا الفضل.
و هنا سؤال : فلو توضّأ الإنسان وهو جنب هل يشمله هذا الفضل أو لا يشمله..؟(4/9)
وتوضيح ذلك : أن النبي صلى الله عليه وسلم لمّا سأله عمر بن الخطاب: أينام أحدُنا وهو جنب..؟ قال صلى الله عليه وسلم :(( توضّأ ، واغسل ذكرك)) فأمره عليه الصلاة والسلام بالوضوء قبل النوم إذا كان على جنابة فإذا توضّأ هذا الوضوء وعليه الجنابة هل يتحقق له هذا الفضل ..؟
والجواب : أنه يتحقق له هذا الفضل ، لعموم قوله - عليه الصلاة والسلام -(( إذا توضّأ العبد المسلم)) .
المسألة الثالثة : هل يلتحق بالوضوء الغسل من الجنابة أو لا يلتحق..؟؟
فظاهر قول بعض العلماء إن الغسل من الجنابة إذا نوى العبد فيه اندراج الوضوء فإنه يشمله هذا الفضل وذلك لأن من اغتسل من الجنابة يجزئه عن وضوئه ، فحينئذ يتحقق له الفضل بغسل الأعضاء ، كما لو غسلها في الوضوء .
في هذا الحديث الذي معنا يقول عليه الصلاة والسلام :(( إذا توضّأ العبد..)) وهذا اللفظ ليس المراد به نفيُ الإناث بمعنى أنه لامفهوم لقوله:(( إذا توضّأ العبد)) .
فهذه الفضيلة تشمل الذكور والإناث وليست خاصة بالذكور دون الإناث ، وهذا هو الأصل في الشرع أن النساء والرجال على حدّ سواء حتى يدلّ الدليل على تخصيص الرجال أو تخصيص النساء .
وتوضيح ذلك: أن المرأة لو توضأت أنا داخلة في هذه الفضيلة ، وإن كان منطوق النص قد ورد في الرجال دون النساء .(4/10)
وقوله- عليه الصلاة والسلام -:(( إذا توضّأ العبد..فغسل وجهه)) : هذه الرواية فيها اختصار ، وفي حديث عبد الله الصنابحي الذي رواه الإمام النسائي عن قتيبة بن سعيد عن مالك بن أنس عن زيد بن أسلم عن عطاء بن يسار عن عبد الله الصنابحي- - رضي الله عنه - و أرضاه- قال:سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:(( إذا توضّأ العبد المؤمن فمضمض خرجت الخطايا من فمه ، وإذا استنثر خرجت الخطايا من أنفه ، وإذا غسل وجهه خرجت الخطايا من وجهه حتى تخرج من تحت أشفار عينيه)) فهذه الرواية فيها تفصيل ، ولذلك يعتبر حديثنا قد انتقل إلى الوجه ، وليس المراد به نفي ما يكون في الأنف والفم ، وفي رواية الصنابحي:(( إذا توضّأ العبد المؤمن فتمضمض خرجت الخطايا من فمه)).
وفي هذا دليل: على أن الإنسان إذا أخطأ بلسانه أن خطاياه تكون ثمّ ، كما يقول بعض العلماء.
وهكذا بالنسبة لقوله:((خرجت الخطايا من تحت أشفار عينيه)) وفي هذا رد على بعض الفلاسفة الذين يقولون إن هذا من باب التمثيل، وليس المراد به الحقيقة ، ومذهب العلماء رحمهم الله في هذا الحديث أنه يحمل على ظاهره وذلك أنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم أخبرنا أنها تخرج من الفم والأنف فإنها تخرج على الحقيقة كما أخبرصلوات الله وسلامه عليه .
وقوله في حديث أبي هريرة الذي معنا(( إذا توضّأ العبد المسلم أو المؤمن)) الشّك من الراوي وليس من رسول الله صلى الله عليه وسلم فـ " أو" هنا تفيد الشكّ ، وليس المراد بها التنويع .(4/11)
وقوله (( العبد المسلم أو المؤمن)): إذا اجتمع وصف الإسلام مع الإيمان افترقا ، وإذا افترقا كانا مجتمعين ، بمعنى أن دلالتهما واحدة ، فكل مؤمن مسلم وليس كل مسلم مؤمناً ولذلك قال سبحانه وتعالى :{قَالَتْ الأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلْ الإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ}(1) فأخبر سبحانه وتعالى أن مرتبة الإيمان أعلى من مرتبة الإسلام ، وهذا نصّ صريح في كتاب الله عز وجل ولذلك احتاط الراوي فقال:(( العبد المسلم أو المؤمن..)) و(أو) تأتي بمعنى الجمع ، وتأتي بمعنى التنويع فمن استعمالها أو بمعنى الجمع قوله سبحانه وتعالى :{وَأَرْسَلْنَاهُ إِلَى مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ}(2) أي :ويزيدون ، وكذلك قوله سبحانه وتعالى :{فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى}(3) أي وأدنى .
لأن الله لا يشكّ ولذلك قالوا : إن (أو) في كلا الموضعين المراد بها العطف الذي يدل على الجمع .
ومنه قول الشاعر :
…كانوا ثمانين أو زادوا ثمانية ……................ …………………………
أي : وزادوا ثمانية.
وقوله - عليه الصلاة والسلام -:((فغسل وجهه خرجت من وجهه )): الوجه : عضو معروف وسمي الوجه وجهاً لأنه تحصل به المواجهة وهي : المقابلة .
وحدّ الوجه في الشرع:من منابت شعر الرأس إلى ما انحدر من اللّحْيين والذقن طولاً ومن الأذن إلى الأذن عرضاً.
فهذا هو الوجه المعتبر إذا أطلق في أحكام العلماء رحمهم الله وهو المراد بنصّ الآية- أعني آية الوضوء -.(4/12)
وقوله-عليه الصلاة السلام-:((خرجت الخطايا)) : من جهة قوله:((الخطايا)):جمع خطيئة والخطأ : ضد الصواب ، والمراد به : ما يخالف الصواب سواء كان الإنسان متعمّداً له أو غير متعمّد فيقال أخطأ "إذا لم يقصد ومنه قوله سبحانه وتعالى :{وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُمْ بِهِ وَلَكِنْ مَا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ }(1) ففرّق سبحانه وتعالى بين ما كان عن قصد وما لم يقصده المكلّف .
ومنه قوله سبحانه وتعالى :{رَبَّنَا لاَ تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا}(2) ويطلق الخطأ ويراد به فعل الشئ الذي هو ليس على الصواب حتّى ولو كان من الذنوب ، فيقال : ( أخطأ ) إذا أصاب الخطأ من الذنوب.
وسميت الخطايا خطايا لأن صاحبها أخطأ السبيل ، واعتدى حدود الله-جلّ وعلا-.
قال بعض العلماء : الإثم على مراتب :
…المرتبة الأولى : الذنوب .……المرتبة الثانية : الخطايا .
…المرتبة الثالثة : السيئات .……المرتبة الرابعة : المعاصي .
المرتبة الخامسة : ثم بعد ذلك كبائر الذنوب .
-نسأل الله السلامةوالعافية- فهذه خمس مراتب للآثام ، وهذا التنويع والترتيب من هؤلاء العلماء لم يدلّ دليل صريح عليه فإن النصوص فيها ذكر الذنوب ، وذكر الخطايا ، وذكر السيئات ، وذكر المعاصي، وذكر الآثام ، وليس في الأدلة ما يدلّ على هذا الترتيب و الكل يشترك في كونه مجانباً للصواب ، وفيه اعتداء لحدود الله- - عز وجل -- .
إلا أن الله سبحانه وتعالى قسّم المعاصي إلى قسمين، فجعل منها كبائر الذنوب وصغائرها فقال بعض العلماء : إن قول النبي صلى الله عليه وسلم :(( خرجت الخطايا)) المراد بها صغائر الذنوب دون الكبائر وهذا هو مذهب جمهور العلماء - رحمهم الله -.(4/13)
أي أن الله يجعل الوضوء سبباً في خروج الخطايا إذا كانت من الصغائر ، وأمّا إذا كانت من الكبائر فإنها لا تكفر إلا بالتوبة النصوح ، والندم عليها ، وعدم الرجوع إليها فإذا فعل المكلّف ذلك تاب الله عز وجل عليه وظاهر النص هنا الإطلاق حيث لم يفصّل النبي صلى الله عليه وسلم هل الخطايا هنا من صغائر الذنوب أو من كبائرها ولا شكّ أن الفم فيه كبائر للذنوب كالغيبة والنميمة والبهت وقول الزور وشهادة الزور وغير ذلك من الكبائر المعروفة في اللسان وكونه عليه الصلاة والسلام يقول:((خرجت الخطايا من فمه)) فيه إطلاق لا يخفى ، ولذلك اعتبر بعض أهل العلم -رحمة الله عليهم - هذه التقييد بالصغائر محل نظر .
أما على القول بأن هذا التكفير يكون للصغائر فاستحب بعض العلماء لمن أراد أن يتوضّأ للصلاة أن يستحضر في قلبه التوبة من كبائر الذنوب حتى يخرج من ذنوبه نقياً كيوم ولدته أمه .
وقوله-عليه الصلاة السلام-:(( خرجت من وجهه كل خطيئة نظرت إليها عينيه مع الماء ، أو مع آخر قطر الماء)) : فيه دليل على أن أعظم الجوارح في الوجه جارحة النظر ، ولذلك قال العلماء رحمهم الله : إن جارحة النظر تفتن بها القلوب ولذلك الفتنة فيها أشد من غيرها ، ولذلك خصّ النبي صلى الله عليه وسلم البصر حتى قال بعض العلماء في قوله- - سبحانه وتعالى --:{إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُوْلَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولا}(1) قال: إن الله ذكر البصر وخصّه من أعضاء الوجه فدل على عظيم ما يأتي من الذنوب وذلك أن الإنسان إذا أطلق لعينيه العنان ، وأخذ يتلفت هنا وهناك لا يبالي بما يرى من حدود الله ومحارم الله أصابته الفتنة في قلبه ، لأن النظر سهم من سهام الشيطان ، يتوصل به إلى إغواء الجَنان ولذلك قال القائل:
كل الحوادث مبدأها من النظر… ومعظم النار من مستحقر الشررِ
كم نظرة فتكت في قلب صاحبها… فتك السهام بلا قوس ولا وترِ(4/14)
والمرء مادام ذا عين يقلبها في أعين الغيد محفوف على خطرِ
يسرمقلته ماضر مهجته لا خير بسرور جاء بالضررِ
فلذلك حذّر العلماء رحمهم الله من كثرة الالتفات والنظر خاصةً في مواضع الفتن ، وكان العلماء والصلحاء يكثرون من غضّ الأبصار والإطراق صيانة للعين من الفتنة ويتعين ذلك عند وجود ما يدعو إلى الفتنة ، كالنظر إلى النساء ، والنظر إلى المردان ونحو ذلك ممّا تكون الفتنة بالنظر إليه والنظر الذنب على مراتب فأشدّ النظر النظر إلى العورات والسوءات ، وأشد ما تكون العورات إذا كانت من العورات التي أمر الله بصونها وحفظها ، كعورة الفرجين ، وكذلك النظر إلى وجوه النساء ومحاسنهن ومفاتنهن ، ولو كان ذلك من فوق الثياب.
وينبغي على المسلم أن يأخذ بالأسباب التى يعصمه الله -جل وعلا- بها من النظر ، وذلك بصرف النظر عما يكون من حدود الله ومحارم الله وقلَّ أن يكون الإنسان كثير النظر فتصدق له فراسة ، ولذلك يقولون: إن الإنسان إذ فتُن بالنظر عميت بصيرة القلب-نسأل الله السلامة والعافية-.
ولذلك يبتلى كثير ممن كان يدمن النظر إلى المحارم والحدود بسقم هذا النظر ولو تاب وأناب فإنه لا يزال الشيطان يذكره بتلك المناظر الفاتنة ، ويؤذيه ويزعجه ؛ ولكن إذا ثبت الله قلبه وعصمه من الفتن فإنه سرعان مايزول عنه هذا الكيد من الشيطان .
ولذلك ينبغى للمسلم أن يتعاطى الأسباب في حفظ بصره عن الفتنة وظاهر هذا الحديث:(( أن من توضأ خرجت ذنوب عينيه مع الماء أو مع آخر قطر الماء)) وظاهر هذا الخروج أنه على الحقيقة لأن النبي صلى الله عليه وسلم ، عبَّر بالخروج والأصل في الألفاظ أن تحمل على الحقيقة حتى يدل الدليل على كونها غيرَ مرادة ولا دليل هنا يدل على صرف الخروج عن ظاهره .(4/15)
يقول- عليه الصلاة والسلام - في حديث الصنابحى-- رضي الله عنه - و أرضاه-:(( فإذا غسل يديه خرجت كل خطيئة بطشتها يداه مع الماء أو مع آخر قطر الماء حتى تخرج من تحت أظفار يديه)) :وهذا فيه دليل على أمر من الغيب وذلك أن الخطايا لاترى بالبصر ؛ ولكن النبي صلى الله عليه وسلم أخبر عن خروجها وحدد مكان الخروج فهو أمر من أمور الغيب التى لا يعلمها إلا الله سبحانه وتعالى .
وقوله(( بطشتها يداه)) :يشمل مايكون من الضرب ، ومايكون من الكتابة وغير ذلك من الأفعال المحرمه التى تكون بجارحة اليد ولا يختص الأمر بالبطش ولكن ذكر النبي صلى الله عليه وسلم بطش اليد لأنه من أعظم ذنوبها لما فيه من الإعتداء على الغير .
ولكن هنا إشكال : وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:((كل خطيئة بطشتها يداه)) مع أن الإنسان إذا اعتدى على الغير فإن حق صاحب الحق يبقى- وإن تاب - .
وأجيب: بان هذا يختص بحق الله دون حق المخلوق.
هكذا ذكر المصنف رحمه الله الحديث وفي حديث الصنابحى- - رضي الله عنه --:(( فإذا مسح برأسه خرجت خطايا رأسه من أذنه )) .
فهذا يدل على أن الأذن من الرأس وأنه يجب مسحها مع الرأس وفي ذلك حديث ابن عباس-رضى الله عنهما- أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:(( الأذنان من الرأس )).
وقوله عليه الصلاة والسلام :(( فإذا غسل رجليه خرجت كل خطيئة مشتها رجلاه مع الماء ، أو مع آخر قطر الماء ))وفي حديث الصنابحي ((حتى يخرج نقياً من الذنوب )).(4/16)
وهذا يدل على أنه تكَّفر عنه الذنوب وأطلق النبي صلى الله عليه وسلم الذنوب والأصل في المطلق أن يبقى على إطلاقه حتى يرد ما يقيده ، ولذلك قال العلماء : إن تخصيص هذا الحديث بالصغائر دون الكبائر سببه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال :(( الصلوات الخمس ، ورمضان إلى رمضان والعمرة إلى العمرة مكفرات مابينهن ما اجتنبت الكبائر)) فحملوا المطلق في حديثنا على المقيد في هذا الحديث .
وهذا محل نظر وذلك لأن موضع الإطلاق في النصين ليس بواحدٍ فلا يستقيم التقييد ، لأن موضع الإطلاق والتقيد ليس بمتحد ، والصحيح عند الأصوليين: أنه لا يقيد بمثل هذا ، ولذلك يبقى الإطلاق في الذنوب على ظاهره كما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم .
قَالَ أَبو عِيسَى رحمه الله : وَفِي الْبَاب عَنْ عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ وَثَوْبَانَ وَالصُّنَابِحِيِّ وَعَمْرِو بْنِ عَبَسَةَ وَسَلْمَانَ وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو وَالصُّنَابِحِيُّ الَّذِي رَوَى عَنْ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ لَيْسَ لَهُ سَمَاعٌ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَاسْمُهُ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عُسَيْلَةَ وَيُكْنَى أَبَا عَبْدِ اللَّهِ رَحَلَ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَقُبِضَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم وَهُوَ فِي الطَّرِيقِ وَقَدْ رَوَى عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَحَادِيثَ.
وَالصُّنَابِحُ بْنُ الأَعْسَرِ الأَحْمَسِيُّ صَاحِبُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم يُقَالُ لَهُ الصُّنَابِحِيُّ أَيْضًا وَإِنَّمَا حَدِيثُهُ قَالَ: سَمِعْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ:(( إِنِّي مُكَاثِرٌ بِكُمُ الأُمَمَ فَلاَ تَقْتَتِلُنَّ بَعْدِي)).
الشرح:(4/17)
يقول المصنف رحمه الله هذا حديث حسن صحيح هذه العبارة المراد بالحديث الصحيح : هو الذي اتصل إسناده برواية العدل الضابط عن مثله إلى منتهاه ، وإلى ذلك أشار صاحب البيقونية رحمه الله :
أوله صحيح وهو ما اتصل …منه إسناده ولم يشذ أو يعل
يرويه عدل ضابط عن مثله … معتمد في ضبطه ونقله
فالحديث الصحيح:هو الذي اتصل إسناده بروايه العدل الضابط عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فلابد في الراوى من شرطين :
الشرط الأول : أن يكون عدلاً . والشرط الثاني : أن يكون ضابطاً .
أما العدالة فإننا ندفع بها التهمة بالكذب عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وهى تدل على أمانة الإنسان و ورعه وتحفظِّه ، وخشيته لله عز وجل .
وأما بالنسبة للضبط فالمراد به دفع التهمة في الخطأ والزلل ونحو ذلك مما يعتري الإنسان ، فإنه ربما كان الإنسان صالحاً ولكنه كثير الخطأ ، ولذلك لا يوثق بقوله من جهة ضبطه.
فلا بد في الحديث الصحيح من هذين الشرطين .
وأما الحديث الحسن : فإنه دون الحديث الصحيح من حيث ضبط الرجال ، وكذلك من حيث قوة حفظهم .
وإلى ذلك أشار بعض العلماء رحمهم الله :
وهو في الحجة كالصحيح ……ودونه إن صير للترجيحِ
لأن هذا قصرت رجاله ……في الحفظ دون منكر يناله
فالحديث الحسن قصرت رجاله عن الحديث الصحيح ، فرجاله أخف ضبطاً من رجال الحديث الصحيح.
وإلى ذلك أشار صاحب البيقونية رحمه الله :
والحسن المعروف طرقاً وغدت …رجاله لا كالصحيح اشتهرت
إذ ثبت أن الحديث منه صحيح ومنه حسن فهنا إشكال كيف يقول المصنف : هذا حديث حسن صحيح فيجمع بين هذين الوصفين ، ولذلك استشكل العلماء رحمهم الله هذا المصطلح للإمام الحافظ أبى عيسى الترمذي-عليه رحمة الله- و اختلفت أجوبتهم في ذلك ، وأشهر هذه الأجوبة ثلاثة أجوبه :(4/18)
الجواب الأول: أن هذا الحديث له سند صحيح وله سند حسن أى قصد المصنف رحمه الله أن يشير بهذا المصطلح إلى أن طرق الحديث وأسانيده بين حسن و صحيح.
وهذا هو الجواب الأول وضعفه غير واحد من العلماء حيث قالوا إن الترمذي قال: حسن صحيح غريب فوصف الحديث بكونه غريباً ، والغريب فيه انفراد في أي طبقة من طبقات السند كما قال صاحب الطلعة :
ومابه انفرد راوي مطلقاً … فذاك بالغريب قد تحققا
فقالوا : لو كانت الأسانيد متعددة لما صح وصفه بالغريب .
وأجيب : بأنه لا مانع أن يكون غريباً وله مداران أى أنه يكون له طريقان ؛ ولكن هذا الجواب لم يسلم .
أما الجواب الثاني : أن مراد الترمذي التردد في الحكم على هذا الحديث ، فهو ينقل من حسن ومن صحح وهو يتردد في الحكم على هذا الحديث ، وهذا الجواب ضعيف وذلك أن الإمام الترمذى إمام مجتهد في الجرح والتعديل ، أبعد ما يكون من أن يكون مقلداً متردداً في الحكم على الأحاديث ، ولذلك استبعد غير واحدٍ هذا الجواب .
وهناك جواب ثالث مال إليه الحافظ ابن دقيق - رحمة الله عليه- وهو أقوى هذه الأجوبة عند غير واحد من العلماء ، وذلك أنه قال : إن الحديث الحسن منه مايرتقى إلى درجة الصحيح ، ومنه ما يقف عند حد الحسن ، وقد يتشرب بالوصف حتى يكون جامعاً بين الوصفين ، ولذلك قالوا : إنه يصف الحديث بكونه مرتقياً إلى درجة الصحة بالجمع بينهما .
وقد أشار صاحب الطلعة إلى هذه الأقوال بقوله - رحمه الله :
وفي صّحيحٍ حسنٌ أقوال في كلها قد ظهر اختلال
ثم الجواب بتنوع السند… لحسن ولصحيح معتمد
وبالتردد لوصف من نقل… وعن صحيح والأخير قد نزل
فأشار إلى هذا الاختلاف وإن كان أصح هذه الأقوال عند غير واحد من العلماء أنه وصف لهذا الحديث بإرتقائه إلى درجة الصحة وذلك أنه قد يكون صحيحاً للغير والصحيح لغيره الأصل فيه أنه حديث حسن .
ثم ذكر رحمه الله الخلاف في الصنابحي :(4/19)
والصنابحي : منهم صحابى متفق على صحبته ، ومنهم من اختلف في صحبته ، ومنهم تابعي .
فأما الصحابى الذى اتفق على صحبته فهو : الصنابح بن الأعسر فهذا صحابي متفق على صحبته يقال له(الصنابح) بدون ياء النسبة .
وأما الصنابحي الذى روى له الإمام النسائى فإنه- على رواية الإمام مالك يعتبر صحابياً ، و وهَّم الإمام البخاريُّ الإمام مالكاً- رحمه الله - في ذلك وذكر ماذكره الإمام الترمذى هنا من أن الصنابحي ليست له صحبة ، وأن اسمه : عبدالرحمن بن عُسيلة ، والذي عليه المحققون أن ( الصنابحي عبدالله ) صحابى قد ثبت السند الصحيح الذي يدل على اتصال سماعه من النبي صلى الله عليه وسلم فقد روى الإمام النسائى عن قتيبة بن سعيد عن مالك عن زيد بن أسلم عن عطاء بن يسار عن عبدالله الصنابحي قال :سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم وهكذا في الرواية الثانية عند الإمام أحمد في مسنده ولذلك لما ذكر الإمام الحافظ ابن حجر كلام الإمام البخاري في تعقبه لمالك قال : وفيه نظر ، ومال -رحمه الله - إلى تقوية كون عبدالله الصنابحي يعتبر صحابياً .
ولذلك يكون التابعى الذي أشار إليه الإمام البخاري هو : عبدالرحمن بن عسيلة الذي روى عن أبى بكر الصديق ، وهو الذى جاء من الشام يريد لقاء النبي صلى الله عليه وسلم فتوفي النبي صلى الله عليه وسلم وهو في الطريق .وصنابح : بطن من اليمن من بني مراد ، وعلى هذا يكون فى ( الصنابحي ) ثلاثة :
الأول: من اتفق على كونه صحابياً : وهو الصنابح بن الأعسر .
الثاني : من اختلف في كونه صحابياً : وهو عبدالله الصنابحي .
الثالث: من عُدَّ تابعياً : وهو عبد الرحمن بن عُسيلة ، وبعضهم يقول : إن الصنابحي هو ( عبدالله الصنابحي ) ويكنى أيضاً بأبى عبدالله الصنابحي ، والله أعلم بالصواب وإليه المرجع والمآب.
- ? - ? - ? - ? - الأسئلة - ? - ? - ? - ? -
السؤال الأول:(4/20)
أشكل على قول الإمام الترمذي - رحمة الله عليه - عن الحديث : هذا أصح شيء في الباب وأحسن هل هو جزم بصحة الحديث ، أم أن الحديث يحتمل أن يكون غير ذلك ..؟؟
الجواب :
بسم الله والحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه أما بعد:
فقول الإمام الترمذي-رحمه الله - " هذا أصح شىء في الباب وأحسن " ليس المراد به الجزم بصحة الحديث وكونه حسناً كما هو معروفٌ بالاستقراء .
وإنما المراد به أنه أقوى ماورد في نظره من الأسانيد في رواية هذا الحديث ، فقد يكون حديثاً ضعيفاً لكن ضعفه يعتبر أحسن بالنسبة لغيره بمعنى أن الضعف الذي فيه ليس كالضعف الذي في غيره هذا إذا كان ضعيفاً .
وأما إذا كان صحيحاً فإن جزمه بالصحة بالنسبة لما حصَّل من رواياته ، وهذا لا يقتضى أن ذلك التحسين المطلق ولا يقتضى التصحيح المطلق بمعنى أنه لا يقتضى أن هذا الحديث أصح ما روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم على العموم وإنما يحُمل على أنه أقوى مايكون في الرواية بالنسبة لما أخرجه-رحمة الله عليه- ، ولذلك يعقب بقوله : وفي الباب عن فلان وفلان ، والله تعالى أعلم .
السؤال الثاني :
هل تتحقق هذه الفضيلة لمن قام بتجفيف الأعضاء بعد الوضوء ..؟؟
الجواب:
هذه المسألة يقول العلماء : إن النبي صلى الله عليه وسلم قال:(( مع الماء أو مع آخر قطر الماء)) ولذلك استحبوا ألا يجفف أعضاء الوضوء ، حتى يكون الخارج من الذنوب أكثر وأكثر ، بخلاف ما إذا جفف أعضاء الوضوء ، ولذلك ثبت عنه في الحديث- صلوات الله وسلامه عليه- في الحديث الصحيح أنه لما ناولته ميمونة-رضى الله عنها– المنديل لم يقبله ، ورده ، وجعل ينفض الماء بيديه- صلوات الله وسلامه عليه- ، والله تعالى أعلم.
السؤال الثالث:
هل يلزم الإنسان عند الوضوء للصلاة أن ينوى بوضوئه الصلاة بذاتها ..؟ وماهو ضابط الوضوء بنية رفع الحدث ..؟؟
الجواب:(4/21)
ينوى الإنسان رفع الحدث ، و استباحة الصلاة فالإنسان إذا أحدث فإنه ممنوع من الصلاة ومما يمنع منه المحدث فينوى أن يستبيح هذه المحظورات فإذا نوى رفع الحدث فإنه يستحل بهذا الوضوء النوافل والفرائض على حد سواء.
أما لو نوى الوضوء لنافلة فإنه لا يستبيح بها الفريضة في قول طائفة من العلماء لقوله عليه الصلاة والسلام :(( إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئٍ مانوى )) .
وقال بعض العلماء : مَنْ نوى بوضوئه النافلة يجوز له أن يصلي الفريضة لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (( لايقبل الله صلاة أحدكم إذا أحدث حتى يتوضأ )) ، وفي الحقيقة ينبغي للإنسان أن يحتاط ، وذلك أن نية المكلف هنا مخصوصة والأصل فيه أنه محدث فلما رفع على الخصوص تقيَّد بظاهر حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم :((وإنما لكل امرىءٍ مانوى)) ، ولذلك الأفضل للإنسان أن ينوى رفع الحدث كما هو مقرَّرٌ عند العلماء ونبَّه عليه الأئمة رحمهم الله وإلى ذلك أشار بعض الفضلاء بقوله :
ولينوي رفع حدث أو مفترض …أو استباحة لممنوع عرض
ولينوي رفع حدث :هذه النية المطلقة فيستبيح بها الفريضة والنافلة ( أو مفترض ) كأن ينوى صلاة الظهر أوصلاة العصر ونحو ذلك أو" إستباحة لممنوع عرض " كأن يستبيح مس المصحف أوالطوف بالبيت ، والله تعالى أعلم.
السؤال الثالث:
قلتم - حفظكم الله - في درسكم الماضي أن سلس البول إذا كان متقطعاً فإنه يتوضأ و يصلي عند دخول وقت الصلاة ؛ لكن ما يحصل من البول على السراويل بسبب السلس فما حكمه؟؟هل هو نجاسه أم لا..؟؟
الجواب:…
أما بالنسبة لما يتقاطر من العضو في السلس وغيره فمغتفر أثناء وقت الصلاة فلو توضأ لصلاة الظهر ثم خرج منه هذا السلس وتقاطر فإنه يعفى عن الحدث والخبث فيبقى محكوماً بكونه متطهراً إلى دخول وقت العصر ، فإذا دخل وقت العصر توضأ وغسل المواضع النجسة ثم استباح الصلاة على الصفة التى تقدمت في صلاة الظهر ، والله تعالى أعلم.(4/22)
السؤال الرابع :
والدي مريض بالتبول المستمر لأنه شيخ كبير ، والسؤال : هل يصلي أم لا ..؟؟
الجواب:
من كان مبتلاً بالبول المستمر فإنه يتوضأ لدخول وقت كل صلاة ويعفى عن هذا البول أثناء الفرض ، -وأسأل الله العظيم أن يرفع عنه وعن عامة المسلمين المبتلين إنه ولى ذلك والقادر عليه- .
السؤال الخامس:
لو أصابت النجاسة جسد إنسان وهو متوضىء . هل يغسلها ووضؤه صحيح ، أم أن وضوءه ينتقض..؟؟
الجواب:
إذا وقعت النجاسه على الثوب أو البدن أو المكان فإن الواجب على المكلف أن يغسلها ويزيلها ولا يؤثر ذلك في وضوئه شيئاً فلو أن قطرةً من البول أصابت الثوب ، أو أصابت بدن الإنسان فإنه يغسلها ووضؤه باقٍ معتبر ؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال:(( لا ينصرف حتى يسمع صوتاً أو يجد ريحاً)) والأصل المقرر أنه لا يحكم بانتقاض الوضوء إلا بما هو حدث أو في حكم الحدث كالنوم ، والله تعالى أعلم.
السؤال السادس:
إذا زال أثر النجاسة من الثوب وبقي عينها فهل تصح الصلاة أم لا..؟؟
الجواب:…
الصواب إذا زال عينها بقي أثرها ، لأن عين الشيء هو الذى يتبعه أثره والأثر : بقية الشىء ، ولذلك فتزول العين ويبقى الأثر بمعنى أن يغسل الدم-مثلاً- وتبقى الصفرة أو يغسل النجاسة وتبقى الكدرة فبعض العلماء يقول في هذا إنه إذا غسل غسلاً قوياً بحيث أزال العين ، فإن الأثر لا يضر ، لحديث أم سلمة حينما سألت النبي صلى الله عليه وسلم عن الدم فقال:((حكيه بماء ثم اقرصية وأمرها أن تصلى فيه)) فيقولون : إنه لا يضر بقاؤ الصفرة بعد غسل الدم ، وعلى هذا قاس بعض العلماء بقية فضل النجاسة وإن كان الأقوى والأصح أنه لابد من إزالة العين والأثر ، والله تعالى أعلم.
السؤال السادس:
هل هناك حديث صحيح يدل على أن الأرض والحجارة تلعن الذي يمشي عليها وهو جنب ..؟؟
الجواب:(4/23)
لاحول ولا قوة إلا بالله ... !! هذا ما أعرف له أصلاً لا من كتاب الله ولا من سنة النبي صلى الله عليه وسلم بل هذا باطل لأن النصوص تدل على بطلانه ، وقد سئل أمهات المؤمنين : هل كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ينام وهو جنب..؟فأخبر أن النبي صلى الله عليه وسلم كان ينام وعليه الجنابة ، ولذلك فهذا يعتبر باطلاً بناءً على الأصول المعروفة من هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم ومما يدل على بطلانه ما ثبت في الصحيحين من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أنه قال:" لقينى رسول الله صلى الله عليه وسلم فى بعض سكك المدينة"فانخست"وفي رواية :"فانتجست" ، وفي رواية"فانبجست" قرابة تسعة ألفاظ قال فقال لي : (( أين كنت يا أبا هريرة..؟)) قال :" كنت على جنابة ، فخشيت أن أجالسك وأنا جنب" ،قال: (( سبحان الله … !! إن المؤمن لاينجس)).
ألا ترى أبا هريرة رضي الله عنه حينما لقي النبي صلى الله عليه وسلم في السكة ثم ذهب واغتسل من الجنابة ، ألا يمر على أرض وحجارة .. ؟! إلا إذا كان يمشى بين السماء والأرض فهذا أمر آخر ..!!
لذلك فهذا باطل ليس بصحيح-ونسأل الله أن يعيذنا من القول في الدين بدون علم- .
فإن من أعظم المصائب أن يبلغ بالإنسان الجرأة أن يقول في دين الله ماليس له به علم .
فهذه لعنة ..!! يخبر بأن إنساناً يلعن .. ويخبر عن الله أن هذه الأرض تلعن وهذا أمر صعب جداً لأنه من أمور الغيب ، ولا يجوز للإنسان أن يحدث بمثل هذا ، وعلى الناس أن يحتاطوا في الأحكام ، والإخبار عن المغيبات ، فلا يقولوا شيئاً من ذلك إلا ما كان صحيحاً في كتاب الله وسنة رسول الله ، والله تعالى أعلم.
السؤال السابع:
هل لي ياشيخ أن أغسل وجهي دون أن أتمضمض أو أستنشق ، لأني سمعت البعض يقول : يجوز والبعض يقول: لا يجوز ..؟؟
الجواب:
هذه المسألة فيها خلاف بين العلماء هل المضمضة والإستنشاق من فرائض الوضوء أو لا..؟(4/24)
وأصح الأقوال أن المضمضة والاستنشاق ليستا من فرائض الوضوء وذلك لأن الله عز وجل وصف الوضوء ولم يذكر فيه المضمضة ولا الاستنشاق وإنما اكتفى بغسل الوجه ، ولذلك يعتبر غسل الوجه كافياً لكن السنة والأكمل أن يمضمض ويستنشق .
ولذلك لما سأل الأعرابى رسول الله صلى الله عليه وسلم كيف أتوضأ ؟ قال:((توضأ كما أمرك الله))والله قال:{ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ} والوجه ما تحصل به المواجهة بظاهر البشرة لا بباطنها ، والفم من الباطن ، والأنف من الباطن ولذلك لا يجب غسلهما ، وإنما يجتزأ بهذه الأربعة الأعضاء : الوجه ، واليدان ، والرأس ( بمسحه ) ، والرجلان.
وفائدة هذه المسألة :لو أن إنساناً كان عنده ماء لايستطيع أن يغسل به إلا هذه الأربعة الأعضاء .
فلو قلنا إن المضمضة والإستنشاق من فرائض الوضوء ، فإنه يعدل إلى التيمم ، وإن قلنا : إنها ليست من فرائض الوضوء ، فإنه يتوضأ ، ولايحل له أن يتيمم ،والله تعالى أعلم.
وصلى الله وسلم وبارك على عبده ونبيه محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.(4/25)
بسم الله الرحمن الرحيم
قال المصنف رحمه الله : بَاب مَا جَاءَ أَنَّ مِفْتَاحَ الصَّلاَةِ الطُّهُورُ
حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ وَهَنَّادٌ وَمَحْمُودُ بْنُ غَيْلاَنَ قَالُوا حَدَّثَنَا وَكِيعٌ عَنْ سُفْيَانَ (ح) و حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مَهْدِيٍّ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُحَمَّدِ ابْنِ عَقِيلٍ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْحَنَفِيَّةِ عَنْ عَلِيٍّ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ:(( مِفْتَاحُ الصَّلاَةِ الطُّهُورُ وَتَحْرِيمُهَا التَّكْبِيرُ وَتَحْلِيلُهَا التَّسْلِيمُ )) .
قال أبو عيسى رحمه الله :هذا الحديث أصح شئ في هذا الباب وأحسنه .
الشرح :
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين وعلى آله وصحبه اجمعين أما بعد :
فيقول المصنف رحمه الله :(( بَاب مَا جَاءَ أَنَّ مِفْتَاحَ الصَّلاةِ الطُّهُورُ)): وردت الآيات في كتاب الله عز وجل والأحاديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم تدل دلالةً واضحةً على أنه لا يجوز للمسلم أن يقف بين يدي الله مصلياً إلا بعد الوضوء والطهارة ؛ ولذلك أوجب الله سبحانه وتعالى على كل قائم للصلاة أن يتطهر ويتوضأ وبين النبي صلى الله عليه وسلم حقيقة الطهور الذي تستباح به الصلاة فنظراً لهذا كله نص المصنف رحمه الله بهذه الترجمة على أنه لا تستباح الصلاة إلا بعد الطهارة وذلك بقوله " بَاب مَا جَاءَ أَنَّ مِفْتَاحَ الصَّلاةِ الطُّهُورُ".(5/1)
ومفتاح الشيء يتوصل به إلى فتحه إن كان مغلقاً والوصول إليه عن طريق ذلك الفتح فكأن الصلاة لايمكن للإنسان أن يدخل في حرماتها ، ولايستبيح أفعالها وأقوالها إلا بعد أن يتطهر على ظاهر كتاب الله عز وجل ، وسنة النبي صلى الله عليه وسلم ، وقد راعى المصنف رحمه الله بهذه الترجمة ظاهر السنة الثابتة عن النبي صلى الله عليه وسلم فقوله :" بَاب مَا جَاءَ أَنَّ مِفْتَاحَ الصَّلاةِ الطُّهُورُ" يدلنا على أدب هذا العالم الجليل مع سنة النبي صلى الله عليه وسلم حيث ترجم لهذا الباب بلفظ الحديث الوارد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وهذا النوع من التراجم يعتبر أفضل أنواع التراجم أن يقتصر المؤلف في ترجمته على لفظ كتاب الله أو سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم ؛ ولكن العلماء رحمهم الله ربما غيروا في ألفاظ الأبواب والفصول كل ذلك مراعاة للأحكام التي ترد على سبيل التخصيص والتقييد فلو أنه ترجم بظاهر الآية الكريمة ربما كان عمومها مخصصاً ، وكذلك لو ترجم بظاهر الحديث ربما كان إطلاقه مقيداً فيحتاج العلماء رحمهم الله في بعض التراجم إلى شيء من التفصيل ومخالفة بعض الألفاظ الواردة ولكن ذلك عندهم بقدر .
قوله رحمه الله " بَاب مَا جَاءَ أَنَّ مِفْتَاحَ الصَّلاةِ الطُّهُورُ" : أي سأذكر لك في هذا الموضع جملة من أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم ، أو ما ورد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم مما يدل على أن مفتاح الصلاة الطهور ، ومناسبة هذه الترجمة لماتقدم واضحة ، وذلك أنها اشتملت على لزوم الطهارة وأنها لاتستباح الصلاة إلا بها.
يقول رحمه الله :"حدثنا هناد "وهو السّري.(5/2)
قال:حثنا هناد وقتيبه وسعيد ":وقد تقدمت ترجمته ، "ومحمود بن غيلان" قالوا:"حدثنا وكيع عن سفيان(ح) وحدثنا محمد بن بشار ، حدثنا عبد الرحمن هو ابن مهدي حدثنا سفيان" ومدار الإسناد على سفيان ، وسفيان هنا يعتبر من المُشْتَبِه وذلك أن سفيان إذا أطلق ربما ينصرف إلى سفيان الثوري ، وربما ينصرف إلى سفيان ابن عيينة ، ولكن المراد هنا هو سفيان الثوري كما ورد مصرحا به في سنن ابن ماجة ، وكذلك رواية البيهقي وهو الذي أشار إليه الحافظ الزيلعي رحمه الله في كتابه "نصب الراية".
وقوله"عن سفيان ": هو أبو عبدالله سفيان بن سعيد بن مسروق ينتهي نسبة إلى أُد بن طابخة إلى عدنان ،وقال بعض العلماء :إن جد جده وهو ثور ينتهي نسبه إلى ثور همدان وليس ثور الذي نسب إليه -أعني ثور بن أُد بن طابخة- ، والذي عليه المحققون أن ثوراً هو ثور بن أَد بن طابخة ، وأنه ينتهي نسبه إلى عدنان وهذا هو الذي مال إليه الحافظ الذهبي رحمه الله في السير، إمام من ائمة العلم وديوان من دواوين الصلاح والخير والفلاح.(5/3)
نشأ رحمه الله في بيت أبيه سعيد بن مسروق الحافظ الصدوق روى الأحاديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وجده ثور قيل إنه شهد مع علي وقعة الجمل ، وأبوه وهو سعيد بن مسروق يعد ممن روى أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو موثق ، نشأ سفيان رحمه الله في هذا البيت الصالح فأقبل على كتاب الله عز وجل ، وحفظه على حمزة الزيات ، وعرض عليه كتاب الله عز وجل أربع مرات فحفظ الكتاب أتم الحفظ وأتقنه ، وكان رحمه الله بعد اشتغاله في ضبط كتاب الله مُكِبَّاً على حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم أجمع العلماء على جلالته وحفظه وعلو شأنه في سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم حفظ الأحاديث والآثار وروى السُّنن والأخبار ، واهتدى بهدي المصطفى المختار عليه الصلاة والسلام ، وكان من المصطفين الأخيار جمع العلم والعمل حتى قال بعض الأئمة :"ومن مثل أبي عبد الله سفيان الثوري..!! ، وكان الإمام أحمد -رحمة الله عليه-يعظمه تعظيماًكبيراً وقل أن يقرنه بأحد .
وكان الإمام سفيان رأساً في رواية الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم رأساً في الزهد والورع والعبادة والخوف من الله عز وجل ، وكذلك كان رأساً في الفقه والفتوى كما ذكر الإمام الحافظ الذهبي ، كان آية في الحفظ حتى قال العلماء : إذا أختلف سفيان مع غيره قدمت روايته على رواية غيره.
وكان رحمه الله عند بعضهم أحفظ من شعبة ، وكان شعبة رحمه الله يضرب به المثل في الحفظ فكان سفيان رحمه الله يقدم على شعبة مع جلالة قدر شعبة وعلو شأنه في حفظ الأحاديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قذف الله في قلبه حب سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو القائل :"ما بلغني حديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا عملت به ولو مرة واحدة " فما فاته من سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم والعمل بها -رحمه الله برحمته الواسعة-.(5/4)
حدث عن الأئمة والحفاظ حتى ذُكر أنه روى عن ستمائة شيخ رحمه الله ، وذلك من سعة ما جمع له من الرواية وأخذ عنه مشائخه ومن كان يتلقى عنه حتى إن عاصم بن أبي النجود قال له :"ياسفيان -وذلك لما أصبح علما من أعلام الدين وإماماً من أئمة المسلمين- أقبل عليه عاصم رحمه الله وهو من الأئمة القراء وقال :ياسفيان أتيتنا صغيراً وأتيناك كبيراً "، فهو كبير في العلم كبير في القدر -رحمه الله برحمته الواسعة- وكان شديد الخوف من الله شديد الورع ، حتى إنه رحمه الله في آخر حياته أقبل على العبادة وقل أن يتفرغ لرواية الحديث إلا بين العصر والمغرب وبين الفجر وطلوع الشمس بسبب كون هذين الوقتين ليس فيهما وقت صلاة للنافلة ، فكان وقته مشغولاً بالصلاة والذكر حتى قال بعض العلماء أقبلت على البيت أطوف وسفيان ساجد فو الله ما رفع رأسه من السجود حتى انتهيت من الطواف ، وذلك من طول سجوده رحمه الله .
وكان إذا ذكر النار تغير وجهه وامتنع من الحديث ونزلت عليه السكنية ، وأصابه الخشوع فمكث أصحابه حوله ينتظرون منه أن يحدث فلا يستطيع حتى يذكروا رواية الأحاديث فيسرَّى عنه ويذهب عنه مابه ، ثم يقبل على أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم كأنه بحر ، ولذلك جمع رحمه الله بين العلم والعمل ، ومع هذا كله فقد كان إماماً من أئمة الفتوى صاحب سنة وهُدى كان الناس يرجعون إليه في الشرائع والأحكام ومعرفة الحلال والحرام ، حتى إنه كان يقرن بالإمام مالك وأبي حنيفة والشافعي وغيرهم من الإئمة الكبار رحمهم الله .(5/5)
وكان له أصحاب يحيون مذهبه وقله وهم الذين يقال لهم :"الثورية"فكانوا يأخذون بقوله وفتواه في الحلال والحرام ، وكان-رحمه الله - مع ذلك كله يخاف الفتوى ويتورع عنها كثيراً وطُلب للقضاء فامتنع ، حتى إنه تغافل واستحمق وتظاهر أنه ليس من أهل العلم ، وكان هذا هو شأنه كثير التخفي رحمه الله فلما أكره على القضاء امتنع وأُعطى كتاب القضاء فرماه رحمه الله ، ثم فرَّ واختفى وطلبه أبو جعفر المنصور وكتب إلى الآفاق أن يحضروه إليه ، وهم بقتله حتى إنه رحمه الله لجأ إلى الحرم ، ودخل إلى مكة-شرفها الله-ومازال متخفياً فيها لا يظهر إلا للعلماء ولمن يثق به من طلابه ومن يأخذ عنه ، فأقبل أبو جعفر على مكة فلما أراد دخولها أرسل بالنجارين يريد قتل سفيان وصلبه رحمه الله فلما أُبلغ سفيان بما هم به الخليفة أقبل على البيت وتضرع لله سبحانه وتعالى فمضى أبو جعفر حتى نزل بسرف فأصابته منيه فمات هناك قبل أن يدخل الحرم ، وسلمَّ الله سفيان رحمه الله وهذه من مناقبه ومما يعد من مكرمات الله-جل وعلا-له.
وكان رحمه الله شديد الخوف لله سبحانه وتعالى شديد الكراهية لمن يخالف سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم من أهل البدع والأهواء ، وكانت لا تأخذه لومة لائم في الله عز وجل كما ذكر الإمام الحافظ الذهبي ، كان رحمه الله رأساً في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وصحبه بعض أصحابه في الحج قال :"والله ما فتر لسانه من الأمر بطاعة الله والنهي عن معصية الله".
كان مولده رحمه الله سنة سبع وتسعين من الهجرة ، وكانت وفاته سنة إحدى وستين بعد المائة من الهجرة النبوية -رحمه الله برحمته الواسعة وأنار قبره بأنواره الساطعة ، وجمعنا به في جنان النعيم إنه صاحب الفضل والتكريم-.(5/6)
يقول المصنف رحمه الله "عن سفيان ، عن عبدالله بن محمد بن عقيل بن أبي طالب عن محمد بن الحنفية عن أبيه علي بي أبي طالب -- رضي الله عنه - وأرضاه - ، -وبقية رجال السند سيأتي الكلام عليهم إن شاء الله تعالى-.
قوله "عن علي -- رضي الله عنه - وأرضاه - عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال :(( مِفْتَاُح الصَّلاِة الطُّهُوُر ، وَتَحْرِيْمُهَا التَّكْبِيْرُ ، وَتَحْليْلُهَا التَّسِلْيْمُ)): هذا الحديث الشريف اشتمل على ثلاث جمل ، وكل جملة منها تشتمل على عدد من المسائل والأحكام الشرعية:
أما الجملة الأولى : وهي قوله عليه الصلاة والسلام :((مِفْتَاُح الصَّلاِة الطُّهُوُر)) :فقد تقدم بيان أحكامها في حديث أبي هريرة رضي الله عنه الذي تقدم معنا في أول حديث ذكره المصنف رحمه الله في هذا الكتاب المبارك ، وبينا أن الصلاة لا تصح بغير طهور وبهذا اللفظ الذي ذكره المصنف من حديث علي-- رضي الله عنه - وأرضاه -من قوله عليه الصلاة والسلام : (( مِفتَاحُ الصَّلاةِ الطُّهُورُ)) يحتج أصحاب الإمام مالك رحمهم الله على أن يحتاجون بهذا اللفظ لا يجوز للإنسان إذا فقد الماء والتراب أن يصلي ، وأنه لا يجب عليه أن يصلي ولا يجب عليه القضاء إذا خرج الوقت ولم يتطهر قالوا : لأن النبي صلى الله عليه وسلم بين لنا بهذه العبارة أن الصلاة لا يمكن للإنسان أن يتوصل إليها إلا بالطهارة فدل على أنه لاتصح صلاة بغير طهارة والرجل إذا فقد الماء والتراب فلم يتوضأ ولم يتيمم فإنه لا يصلي لأنه غير متطهر ، وقد قدمنا هذه المسألة(1) وبينا خلاف العلماء رحمهم الله ، وأن الراجح أنه يصلي ويعتبر حديث النسائي وغيره في صلاة الصحابة -رضوان الله عليهم- بغير وضوء ولاتيمم يدل على تخصيص مامعنا وتخصيص ما ورد في كتاب الله عز وجل أعني آية الوضوء.
__________
(1) / انظر الدرس الثالث:في مسألة فاقد الطهورين.(5/7)
قوله عليه الصلاة والسلام :(( وَتَحْرِيْمُهَا التَّكْبِيْرُ )):التحريم :تفيعل من الحرام ، وحرم الشيء حرمة إذا منع الإنسان منه ، فالحرام هو المنموع ؛ والسبب في ذلك أن المصلي إذا دخل في صلاته حرمت عليه الأمور التي تحرم على المصلي الواقف بين يدي الله عز وجل ، ولذلك يعتبر في حرمات الصلاة فيمنع من الكلام والحركة وغيرها من الأمور التي لا يجوز للمصلي أن يفعلها أو يقولها ، فلذلك يعتبر في حرمات الصلاة فإذا كبرَّ التكبيرة فقد دخل في هذه الحرمات التي ذكرناها ، ومن هنا سمى العلماء –رحمهم الله- التكبيرة الأولى تكبيرة الإحرام ويسمونها التحريمة ؛ والسبب في ذلك أن المصلي يدخل بها في حرمات الصلاة.
وقوله عليه الصلاة والسلام :(( تَحْرِيْمُهَا التَّكْبِيْرُ )):التكبير مأخوذ من قولهم :" الله أكبرَّ" ،كما أن التحميد من قولهم :"الحمد لله "، والتهليل من قولهم :"لاإله إلا الله"..ونحو ذلك من الأذكار.
ففوله عليه الصلاة والسلام :(( التَّكْبِيْر)):المراد به :"الله أكبرَّ" ، لثبوت السنة عن النبي صلى الله عليه وسلم : أنه كان إذا قام في صلاته كبرَّ -أي قال-:الله أكبرَّ ، وفي الحديث الصحيح عن أبي هريرة -- رضي الله عنه -وأرضاه - أن النبي صلى الله عليه وسلم قال للمسيء صلاته :(( إذا قمت إلى الصلاة فكبرَّ)).
فقوله :"الله أكبرَّ" هو التكبير ، والتكبير في الصلاة ينقسم إلى قسمين :
القسم الأول: يسمى بتكبيرة الإحرام ، وهي المرادة والمقصودة بهذا الحديث.(5/8)
أماالقسم الثاني: وهو تكبيرات الإنتقال ، وهي التكبيرات التي ينتقل المصلى بها من ركن إلى ركن ؛ كأن ينتقل من القيام إلى الركوع فيقول:"الله أكبرَّ" ، وكذلك إذا أراد السجود أو رفع من السجود أو ارتفع من التشهد الأول ، سميت هذه التكبيرات بهذا الاسم -أعني تكبيرات الانتقال- ؛ لأن المصلي يقولها عند الانتقال ، أما تكبيرة الإحرام فهي أعظم التكبير وأجله ، ولذلك تستفتح بها الصلاة وفيها مسائل:
المسألة الأولى: أن تكبيرة الإحرام هي قوله:"الله أكبرَّ"، وللعلماء في حكمها قولان :
القول الأول:أنه لايصح للإنسان أن يدخل إلى الصلاة إلا بهذا اللفظ فلايصح له أن يدخل في الصلاة بدون تكبير ، وهذا هو مذهب جمهور العلماء رحمهم الله ومنهم الائمة الأربعة والظاهرية وهو مذهب أهل الحديث -رحمة الله على الجميع- أن الصلاة لايدخل المصلي في حرماتها إلا بالتكبير.
القول الثاني:أن التكبير سنة ، وأنه إذا فعله الإنسان أثيب وإذا تركه ودخل في الصلاة بنيته بدون تكبير فإنه يجزئه ذلك ولايأثم ، وبهذا القول قال الحسن البصري وسعيد بن المسيب والحكم بن عيينه وكذلك قال به الأوزاعي ومحمد بن شهاب الزهري-رحمة الله على الجميع- ، يقولون : إن تكبيرة الإحرام ليست بواجبة ، وأنك إذا نويت الدخول في الصلاة صحَّ منك الدخول دون أن تتلفظ بقولك : الله أكبرَّ .
والصحيح ماذهب إليه جمهور العلماء رحمهم الله أنه لايصح الدخول في الصلاة بالنية ، وأن التكبير يعتبر فرضاً من فرائض الصلاة وذلك لهذا الحديث الذي معنا حيث بين النبي صلى الله عليه وسلم فيه أنه لايدخل المصلي في حرمات الصلاة إلا بالتكبير ، والأسلوب فيه قصر وحصر ، وهذا يدل على عدم صحة الصلاة بدون تكبير.(5/9)
المسألة الثانية : لو أن إنساناً دخل في الصلاة بغير لفظ التكبير ، فذكر الله عز وجل كأن يقول:"الله العظيم"، أو "الله الجليل" ، أو "العزيز"...ونحو ذلك مما هو من صفاته سبحانه وتعالى فذكر الله وعظمه بدون قوله:"الله أكبرَّ" فهل يصح تكبيرة أو لايصح..؟؟
قولان :
القول الأول : لايصح إلا أن يكبرَّ وهو مذهب جمهور العلماء رحمهم الله من المالكية والشافعية والحنابلة والظاهرية وأهل الحديث -رحمة الله على الجميع-.
القول الثاني : يصح الدخول في الصلاة بكل لفظ فيه ذكر لله عز وجل .
واحتج جمهور العلماء على تعيين التكبير بالأدلة الصحيحة :
أولاً: ماثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه مادخل في صلاته بغير التكبير.
ثانياً: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في هذا الحديث : (( تَحْرِيْمُهَا التَّكْبِيْرُ )) وهذا يدل على تخصيص التكبير وأن غيره لايقوم مقامه.
الدليل الثالث : أن النبي صلى الله عليه وسلم قال للمسئ صلاته:(( إذا قمت إلى الصلاة فكبرَّ )) فحدد النبي صلى الله عليه وسلم التكبير ، فدل على أن الصلاة لاتصح بغيره من ذكر الله عز وجل .
وذهب الإمام أبوحنفية-رحمة الله عليه- إلى أنه لو دخل في الصلاة بأي ذكر لله عز وجل صح وأجزأه واحتج بقوله سبحانه وتعالى :{ قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى - وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى} (1) يقول رحمه الله إن الله عز وجل يقول:{ وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى} فدل على أن من ذكر الله عز وجل إنه يصدق عليه أنه مصلاً.
__________
(1) / الأعلى ، آية : 14-15 .(5/10)
وهذه الآية فيها نظر! وذلك أن مذهب طائفة من العلماء أن المراد بهذه الآية الدلالة على أحكام التكبير في ليلة العيد فقوله سبحانه وتعالى :{ قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى} أي زكاة الفطر ، : {وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ } أي كبرَّ التكبير ليلة العيد :{ فَصَلَّى} أي صلى صلاة العيد ، وبهذا القول يقول بعض السلف رحمهم الله وعلى هذا الوجه فإنه لايستقيم الاستدلال بهذه الآية الكريمة على ماذكر.
الوجه الثاني: في الجواب عن الاستدلال بهذه الآية الكريمة أن نقول: إن هذا اللفظ الذي ورد في القرآن مجمل بينته السنة وقيدته ، وذلك بقوله عليه الصلاة والسلام :(( تَحْرِيْمُهَا التَّكْبِيْرُ )) وبفعله عليه الصلاة والسلام حيث لم يثبت في حديث صحيح أنه استفتح صلاته بغير التكبير لهذا كله يترجح مذهب الجمهور أن الصلاة لاتصح إلا بتكبيرة الإحرام.
المسألة الثالثة : لو أنه قال:"الله الكبير" فزاد في هذا اللفظ كقوله:"الله الكبير" أو "الله الأكبرَّ" هل يجزئه أولاًيجزئه..؟
قولان للعلماء أصحهما مذهب الجمهور أنه لايصح إلا هذا اللفظ المخصوص وذلك بقوله:"الله أكبرَّ" لايزيد فيها ولاينقص فالزيادة فيها كالنقصان فكما أنه لايصح منه أن يقول :"الله" ويسكت كذلك لايصح منه أن يزيد ويقول"الله الأكبرَّ" ، فالنقص كالزيادة والزيادة كالنقص ؛ لأن الألفاظ التعبدية يقتصر فيها على ماورد فلما ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم البيان الذي يحدد المراد بالتكبير وجب المصير إلى اللفظ المخصوص ، وقد قال عليه الصلاة والسلام : ((صلوا كما رأيتموني أصلى)).
السنة في تكبيرة الإحرام :أن يستفتح المصلى بها صلاته .
وهنا أمور ينبغي التنبيه عليها فتكبيرة الإحرام لاتخلو من حالتين :
الحالة الأولى: أن تكون في الصلاة المفروضة . الحالة الثانية: أن تكون في الصلاة النافلة .(5/11)
فأما في الصلاة المفروضة فينبغي للمكلف أن يكبرَّ تكبيرة الإحرام وهو قائم فلو أنه كبرَّ قبل أن يستتم قائماً وهو قادر على القيام بطل تكبيرة ، وذلك أن تكبيرة الإحرام لاتصح في الفريضة ممن يستطيع القيام إلا بعد استتمامه قائما وذلك لما ثبت في الاحاديث الصحيحة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كبرَّ قائماً ، وفي الحديث الصحيح أنه قال للمسئ صلاته :(( إذا قمت إلى الصلاة فكبرَّ )) فأمره بالتكبير بعد أن يستتم قائماً أي إذا استتممت قائما في الصلاة فكبرَّ فدل على أنه إذا كبرَّ وهو قاعد في الفريضة أن تكبيره لايجزئه.
وبعض من الناس -خاصة كبار السن- فإنهم لايطيقون طول القيام فربما صلى الواحد منهم وهو جالس فيكبرَّ تكبيرة الإحرام جالساً وهذا خطأ ، فالواجب عليه أن يكبرَّ قائما ثم يجلس إذا كان لايطيق إطالة القيام ، أما إذا كان لايطيق القيام بالكلية فلاإشكال فإنه يكبرَّ وهو قاعد.
الحالة الثانية : أن تكون الصلاة نافلة فصلاة النافلة يجوز للإنسان أن يكبرَّ وهو قاعد أو يكبرَّ وهو قائم ؛ لكنه إن كبرَّ وهو قاعد قادر على القيام فإن أجره على النصف من أجر القائم ؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال :(( صلاة القاعد على النصف من صلاة القائم)) فمن صلى النافلة وهو قادر على القيام صلاها قاعداً فإن صلاته على النصف ، أما لو صلاها قاعد وهو لايطيق القيام فأجره كامل ؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم بين أن المريض يكتب له أجره ويكتب له عمله .
قول عليه الصلاة والسلام :((وَتَحْرِيْمُهَا التَّكْبِيْرُ)) قلنا إن المعتبر في لفظ التكبير :"الله أكبرَّ" فلو كان الإنسان لايستطيع أن يتلفظ بلفظ التكبير فله صور:
الصورة الأولى : أن يكون أخرساً لايستطيع النطق ، والحكم حينئذ أنه لايلزمه النطق لكنه كأنه ينطق في نفسه إن وسعه ذلك.(5/12)
الصورة الثانية : أن يكون أعجمياً فإن كان أعجمياً لايستطيع أن يقول :"الله أكبرَّ" كإنسان حديث العهد بالإسلام ، أو ضاق عليه الوقت فلم يستطع أن يتعلم التكبير ، ففيه تفصيل :
إذا كان الإنسان أعجمياً لايستطيع أن يتلفظ بالعربية أو يعرفها فله حالتان:
الحالة الأولى : أن يستطيع التعلم ، ويمتنع من التعلم على سبيل التقصير ، فلايصح منه أن يصلي بدون أن يتعلم تكبيرة الإحرام ويلزم بعاقبة تقصيره وهو آثم بإجماع العلماء رحمهم الله .
الحالة الثانية : أن يضيق عليه الوقت ، أو لايستطيع أن يتعلم لعدم وجود من يعلمه ، ففي هذه الحالة يجوز له أن يكبرَّ ولو بالأعجمية فإذا كبرَّ بالأعجمية أو عرف معناها فإنه حينئذ يصح منه أن يدخل إلى الصلاة بلغته ولاحرج عليه في ذلك كله.
وهنا أمور ينبغي التنبيه عليها: وهي التي يقول العلماء فيها إخلال بألفاظ تكبيرة الإحرام فمن أشهرها إضافة الحروف بين لفظ الجلالة والتكبير ، وأشهر ذلك حينما يبالغ في ضم الهاء حتى يتولد من مبالغته حرف الواو فيقول:"الله وأكبرَّ"ففي هذه الحالة قال العلماء : يبطل تكبيره ، وذلك لوجود التحريف في الصيغة ولايعتد بهذا التكبير ، وقال بعض العلماء : يغتفر ؛ ولكنه آثم باللحن المقصود ، وينبغي على الإنسان ألاَّ يبالغ في هذه الحركة إلى درجة يحصل بها زيادة هذا الحرف.
الصورة الثانية من الإخلال: مد الباء من قوله:"أكبرَّ" فإنه إذا مدها فإنه يعتبر خارجاً عن الوصف المعتبر ، ولذلك قالوا: إنه إذا فعل ذلك بطل تكبيره.
الصورة الثالثة : المبالغة في تفخيم الراء ، حتى كأنه تتولد معها راء ثانية ، فكل ذلك من اللحن الذي حكم جمع من العلماء رحمهم الله ببطلان التكبير بسببه ، والمنبغي الأخذ بسنة النبي صلى الله عليه وسلم .(5/13)
وينبغي على الائمة أن يحذفوا لفظ التكبير وألا يمدوه ، ولذلك قال العلماء :إذا بالغ الإمام في التكبير وأطاله ربما أبطل صلاة المأمومين ، وذلك أن مدَّ قوله:"الله"ربما استعجل المأموم فقال قبله:"الله أكبرَّ" فكبرَّ قبل الإمام فبطلت صلاته ، فالمنبغي على الإمام ألاَّ يطوَّل في تكبيرة الإحرام ؛ لأنه إذا مدَّها ومططها فإنه يسبقه المأموم ويعرضَّ صلاة المأمومين للبطلان ، ولذلك نُبه على هذا خوف تعريض صلاة المأمومين للبطلان .
قول عليه الصلاة والسلام :(( تَحْرِيْمُهَا التَّكْبِيْرُ ، وَتَحْليْلُهَا التَّسِلْيْمُ)) : التسليم قوله:" السلام عليكم"والسلام سنة عن النبي صلى الله عليه وسلم فكان عليه الصلاة والسلام إذا قضى صلاته قضاها بالتسليم .
وكانت له سنن في السلام تتفرع إلى أربع صور :
الصورة الأولى : كان يقول فيها :"السلام عليكم ورحمة الله وبركاته"عن يمينه ثم يقول عن شماله"السلام عليكم ورحمة الله "ولايزيد .
الصورة الثانية :كان يقول فيها :"السلام عليكم ورحمة الله ..السلام عليكم ورحمة الله "يسلمَّ تسليمتين على الصورة المعروفة المشهورة.
الصورة الثالثة : كان يقول عن اليمين:"السلام عليكم ورحمة الله" وكان يقول عن الشمال "السلام عليكم".
الصورة الرابعة : كان يقول فيها :"السلام عليكم " لايزيد عليه الصلاة والسلام على هذا اللفظ شيئاً.
فهذه أربع صور كلها ثابتة عن النبي صلى الله عليه وسلم ، ومن فعل أي واحدة منها فلا حرج ؛ ولكنه إذا سلَّم تسليمة واحدة فللعلماء فيه وجهان :
منهم من يقول يسلَّم قبالة وجهه ، ثم يلتفت عن يمينه بعد أن ينتهي من السلام ؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال في هذا الحديث:(( تَحْليْلُهَا التَّسِلْيْمُ)) قالوا فلا يعتبر خارجاً من الصلاة إلا بالسلام فينبغي أن يتلفظ بالسلام أولاً والحركة بعد ذلك تكون بعد الخروج من الصلاة ، ولايتحرك فيلتفت عن اليمين إلا بعد تمام السلام.(5/14)
وهذا القول يقول به بعض الائمة من السلف واختاره جمع من العلماء رحمهم الله أنه يسلَّم قبال وجهه ثم يلتفت عن يمينه دون أن يتلفظ.
الوجه الثاني: أنه يسلمَّ فيبتدئ باللفظ ويحرك وجهه إلى اليمين ، وينتهي التسليم عند أنتهاء التفاته كأن يصل ذقنه إلى كتفه ، وكلتا الصورتين وردت بهما سنة عن النبي صلى الله عليه وسلم فمن سلمَّ قبال وجهه ثم التفت ، ومن سلمَّ والتفت ووافق بين القول والفعل فكل على خير وسنة ، ورجَّح بعض العلماء الصورة الثانية : أن يسلمَّ فيوافق القول الفعل ، وقالوا ينتهي التسليم عند انتهاء الالتفات وذلك حتى لايسبقه المأموم هذا هو التسليم .
أما إذا سلمَّ تسليمتن فيسلمَّ الأولى عن اليمين ، والثانية عن الشمال ؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قدم اليمين على الشمال ، واختلف العلماء رحمهم الله لو سلمَّ عن الشمال أولاً ثم سلمَّ عن اليمين ثانياً ، فإنه في هذه الحالة إن تعمد فقد أساء وخالف سنة النبي صلى الله عليه وسلم وهو أقرب إلى البدعة منه إلى السنة ، وأما هل يحكم ببطلان صلاته أولاً يحكم..؟
قال بعض العلماء : صلاته صحيحة سواء سلمَّ عن اليمين أولاً أو سلمَّ عن الشمال ؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال:(( تحْليْلُهَا التَّسِلْيْمُ)) وهذا قد سلمَّ فما وقع من الفعل فإنه لايؤثر والحركة سنة وليست بركن ، وهذا هو أصحَّ الوجهين وأقواهما أن تسليمه يعتبر صحيحاً وصلاته صحيحه مجزئة ؛ ولكنه إن تعمَّد فقد ابتدع ومن خالف سنة النبي صلى الله عليه وسلم وشذ عنها فإنه لايأمن من الفتنة -نسأل الله السلامة والعافية-.
المسألة الأولى : هل يجب على المكلف أن يسلمَّ من الصلاة..؟؟
المسألة الثانية : وإذا قلنا بالوجوب فهل يجب عليه أن يسلمَّ تسليمتين أو تسليمة واحدة..؟؟
أما حكم السلام فللعلماء فيه قولان :(5/15)
القول الأول : أن التسليم من الصلاة يعتبر واجباً ومن أركانها ، وهذا هو مذهب جمهور العلماء رحمهم الله يقول به المالكية والشافعية والحنابلة والظاهرية وجمع من أهل الحديث -رحمة الله على الجميع- يقولون إن التسليم يعتبر من أركان الصلاة ، وعلى هذا القول فلو أن إنساناً قرأ التشهد ثم أحدث قبل أن يسلمَّ بطلت صلاته عندهم وذلك لأنه لايحكم بخروجه من الصلاة إلا بالسلام وصلاته لاتتم إلا بعد أن يتم سلامه.
القول الثاني : أن التسليم من الصلاة لايعتبر ركناً ولافرضاً ، وأنه إن سلمَّ أحسن وإذا لم يسلمَّ فصلاته صحيحة إذا أتم التشهد ، وبهذا القول قال الإمام أبو حنيفة وأصحابه -رحمة الله على الجميع- يقولون من قرأ وأتمه وأكمله ثم أحدث بعد ذلك فصلاته صحيحة ولو لم يسلمَّ.
استدل الجمهور بحديثنا وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم قال فيه :(( تحْليْلُهَا التَّسِلْيْمُ)) فبين أن المصلي لايخرج عن صلاته إلاَّ بالسلام ، فهذا يدل على الركنية .
واستدل الإمام أبو حنيفة -رحمة الله عليه- بما جاء في الحديث عنه عليه الصلاة والسلام وهو حديث عمرو بن العاص رضي الله عنه وأرضاه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال :(( إذا تشهد أحدكم فأحدث قبل أن يسلمَّ فصلاته صحيحة)) قالوا هذا يدل على أنه لو أحدث قبل السلام صلاته صحيحة ، ويدل على أن السلام ليس بركن .
والصحيح ماذهب إليه الجمهور وذلك أن حديث علي يعتبر نصاً في موضع النزاع ، وأما الحديث الذي ذكروه فهو حديث عمرو بن العاص يرويه عبدالرحمن بن زياد بن أنعم الإفريقي وحديثه ضعيف عند العلماء رحمهم الله ، وبناءً على ذلك فمن أحدث قبل السلام فإن صلاته تعتبر باطلة ويلزمه أن يعيد الصلاة ، وعلى مذهب الإمام أبي حنيفة فإنه يقول إن الخروج من الصلاة يكون بأي قول أو بأي فعل يخالفها.(5/16)
ولو أن إنساناً وقف بعد أن انتهى من التشهد صحت صلاته ويعتبر قد خرج من الصلاة إعمالاً لنيته وعدم التفات منه إلى الفعل والقول والصحيح مذهب الجمهور لظاهر الحديث الذي معنا أنه لابد من التسليم وكان من هديه عليه الصلاة والسلام أنه إذا سلمَّ التفت ، وكان أصحابه يرون بياض خدهَّ عليه الصلاة والسلام ، وهذا يدل على أنه من السنة أن يبلغ الإنسان بذقنه إلى حد منكبه وكتفه ، فإذا فعل ذلك أصاب السنة ، ولكن بعضاً من طلاب العلم يسيئون فهم هذه السنة ويفعلون أمورا ربما أنها تخل .
وتوضيح ذلك : أنهم فهموا أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا سلمَّ رُئَي بياض خده ولم يلتفتوا إلى أنه كان يلبس العمامة وخده واضح أمام الناس فمبجرد أن يلتفت عن يمينه فإنه إذا بلغ بذقنه إلى كتفه فإنه يرى بياض خده ، وأما عند وجود هذا الغطاء المعروف في زماننا فإنه ينحرف أحدهم بكتفه حتى لربما انحرف عن القبلة حتى يُريِ من خلفه بياض خده فيصيب سنة ويضيع فرضا واجباً ، وهو كونه متوجها إلى القبلة فينبغي التنبيه على هذا الخطأ ، قال بعض العلماء : إذا انحرف بصدره قبل أن يكمل لفظ السلام بطلت صلاته ؛ لأنه قد انحرف عن القبلة ، ولذلك ينبغي أن يجعل صدره تجاه القبلة ولا يحرك صدره فالحركة بدعة وليست من السنة ؛ وإنما يجعل يديه على ركبته أو على فخذيه ثم ينحرف بوجهه ملتفتا وحده ولاينحرف بجذعه ولابصدره حتى لايعرض صلاته للبطلان ، وكثير -إلامن رحم الله- يقع في هذا الخطأ فينبغي التنبيه على ذلك ، العبرة في السلام أن يلتفت فإذا التفت برأسه كفاه وأجزاه.(5/17)
يقول عليه الصلاة والسلام :(( مِفْتَاُح الصَّلاِة الطُّهُوُر ،وَتَحْرِيْمُهَا التَّكْبِيْرُ ،وَتَحْليْلُهَا التَّسِلْيْمُ)): الصيغ كلها جاءت بصيغ الحصر والقصر ، وأسلوب الحصر والقصر عند البلغاء يعتبرونه من الصيغ التي تدل على انحصار الشيء في الشيء فكأنه يقول لاتستباح الصلاة إلا بالطهور ، وكذلك لايدخل المكلَّف في حرماتها إلا بالتكبير وكذلك لايخرج من حرماتها إلا بالتسليم على خلاف .
قوله الطُّهُوُر مِفْتَاُح الصَّلاِة ، وكذلك قوله التَّكْبِيْرُ تَحْرِيْمُ الصَّلاِة ، والتَّسِلْيْمُ تَحْليْلُهَا .
قَالَ أَبو عِيسَى رحمه الله هَذَا الْحَدِيثُ أَصَحُّ شَيْءٍ فِي هَذَا الْبَابِ وَأَحْسَنُ وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عَقِيلٍ هُوَ صَدُوقٌ وَقَدْ تَكَلَّمَ فِيهِ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ مِنْ قِبَلِ حِفْظِهِ .
قَالَ أَبو عِيسَى رحمه الله : و سَمِعْت مُحَمَّدَ بْنَ إِسْمَعِيلَ يَقُولُ كَانَ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ وَإِسْحَقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ وَالْحُمَيْدِيُّ يَحْتَجُّونَ بِحَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَقِيلٍ قَالَ مُحَمَّدٌ وَهُوَ مُقَارِبُ الْحَدِيثِ.
قَالَ أَبو عِيسَى رحمه الله : وَفِي الْبَاب عَنْ جَابِرٍ وَأَبِي سَعِيدٍ.
الشرح:
هذه الجملة أراد المصنف رحمه الله أن يشير إلى الكلام في أحد رواة هذا الحديث ، وهو عبدالله بن محمد بن عقيل بن أبي طالب فجده عقيل بن أبي طالب الصحابي المعروف ، -وهذا الرواي سيأتي الكلام عليه في حديث سيذكره المصنف ويشير عند ذكره إلى أنه حديث حسن-.
وقوله:"عن البخاري مقارَب الحديث أو مقارِب الحديث":هذا اللفظ ضبط بالفتح والكسر يقال: مُقارَب الحديث ومُقارِب الحديث ، وهذه العبارة يعتبرها العلماء رحمهم الله من عبارات التعديل وذلك أن تعديل الرواة يأتي على مراتب:(5/18)
المرتبة الأولى : أن يكون تعديل الرواة بصيغة " أفعل" كقولهم فلان أوثق الناس فلان أثبت الناس ، فهذه هي أرفع ألفاظ التعديل وأعلاها.
المرتبة الثانية : أن يكون بتكرار لفظ التوثيق كقولهم فلان ثقة ثقة ، وفلان ثبت ثبت ، وفلان حجة حجة .
المرتبة الثالثة : أن يكون بدون تكرار كقولهم فلان ثقة حافظ حجة ثبت ، فلان ثقة ، فلان حافظ ، فلان حجة ،فلان ثبت ،فهذه هي المرتبة الثالثة من مراتب التوثيق والتعديل.
المرتبة الرابعة :قولهم فلان صدوق مأمون لابأس به ..فلان صدوق ..فلان مأمون ، فلان لابأس به فهذه هي المرتبة الرابعة.
المرتبة الخامسة : أن يقال فلان مُقارَب الحديث ، فلان صالح الحديث ، فلان حسن الحديث ، فلان جيد الحديث ، كل ذلك يعتبر بمعنى واحد ، وهو قوله هنا مقارِب الحديث.
فقولهم"مقارِب الحديث" يعتبر من التوثيق لكنها مرتبة دُنْيَا بالنسبة لمراتب التوثيق وقد أشار بعض العلماء إلى ذلك بقولهم أشار إلى ذلك السيوطي في ألفيته بقوله:
وَجَيَّدُ الحَدِيْثِ أَو يُقَارِبُهْ حَسَنُه صَالِحُهُ مُقَارِبُهْ
فقولهم :"وَجَيَّدُ الحَدِيْثِ" وقولهم :"صالح الحديث "،وقولهم :"حسن الحديث" وقولهم :"مقارِب الحديث":يقارِب الحديث حديثه مقارب.
كله بمعنى واحد وبمرتبة واحدة على هذا الترتيب الذي أشار إليه العلماء رحمهم الله واختلف العلماء في ضبط هذه العبارة فبعض العلماء يقول : مقارِب الحديث -بالكسر- وبعضهم يقول مقارَب الحديث -بالفتح- وبعضهم يجيز الوجهين.
وبعضهم يقول:"مقارَب الحديث" تجريح أي إذا كان بالفتح يعتبر تجريحاً وإذا كان بالكسر يعتبر تعديلاً ، والله تعالى أعلم.
- ? - ? - ? - ? - الأسئلة - ? - ? - ? - ? -
السؤال الأول:
ماحكم من يخالجهم من شعور بانتقاض وضوئهم ،فهل هذا من وسوسة الشيطان وحكمه كما في حديث زيد بن عاصم في شكواه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ..؟؟
الجواب:(5/19)
بسم الله الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن وآلاه أمابعد:
فمن وجد في نفسه أنه خرج منه مايوجب انتقاض وضوئه فإنه لا يخلومن حالتين :
إما أن يجد علامة على الخروج ، وإما ألا يجد علامة على ذلك ، فإن لم يجد علامة فإنه يبقى على الحكم بكونه متوضئاً ولايلتفت إلى هذا الحديث والوسوسة ؛ لأنه من الشيطان ففي الصحيح من حديث عبدالله بن زيد -- رضي الله عنه - وأرضاه – قال شُكِىَ إلى النبي صلى الله عليه وسلم الرجل يخيل إليه أنه يجد الشيء في الصلاة فقال صلى الله عليه وسلم :(( لاينصرف حتى يسمع صوتا أو يجد ريحا)) فلو أن إنسانا وجد حركة في بطنه فلايخلو من حالات :
الحالة الأولى:أن يجد الحركة ولايسمع صوتاً ولايجد ريحاً ، ففي هذه الحالة يحكم بكونه متوضئاً وصلاته صحيحة ولو قويت الحركة وسمع الصوت من بطنه ولم يسمعه من الموضع.
الحالة الثانية :أن يسمع الصوت من الموضع فإذا سمع الصوت فإنه لايخلو من حالتين:
إما أن أن يكون معه من يشك في أنه هو المحدث ولايجزم بحدث نفسه أو يكون وحيداً فريداً ، فإذا سمع الصوت وهو وحيد فريد حكم بانتقاض وضوئه وجهاً واحداً :
أما لو كان مع غيره وَشَكَّ هل هذا الصوت خرج منه أو من غيره فإنه يبقى على اليقين من كونه متوضئاً حتى يجزم بأن الخارج منه ؛ لأنه على يقين من الطهارة وهذا الصوت يشك من خروجه فإذا لم يجد الحركة في الموضع فإنه قرينة إلى انصرافه إلى الغير ، ولكن في هذه الحالة لايجوز له أن يأتم بهذا الغير الذي اتهمه بخروج الخارج منه.
الحالة الثالثة: أن يجد الريح ولايسمع الصوت فإذا وجد الريح لا يخلو أيضاً من ضربين:(5/20)
إما أن يجد الريح وهو وحيد بحيث يحزم بكونه خارجاً من نفسه فحينئذ لا إشكال ويحكم بانتقاض وضوئه،أو يجد الريح ومعه الغير ويشك في خروج الريح من الغير فإنه يبقى على كونه متوضئاً حتى يجزم بأن هذا الريح قد خرج منه ، ولايجوز له أن يأتم بهذا الغير فالأصل فيه أنه متوضئ ، ولو فرضنا أن ظنه هذا باطل وأنه هو الذي أحدث فإن الله يقبل صلاته ويجزئه هذا الفعل ولايأثم ؛ لأن الشرع علق الأمر على وجود اليقين واليقين وغالب الظن غير موجود فصلاته صحيحة ومجزئه ، والله تعالى أعلم.
السؤال الثاني:
ماحكم التلفظ بالنية في الوضوء؟ومامعنى قول بعض العلماء:إذا نوى الشيء ناسياً صَّح وإذا نواه ذاكراً لم يصح..؟؟
الجواب:
بسم الله الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه أمابعد:(5/21)
فإن التلفظ بالنية بالنسبة للوضوء والصلاة ليس بسنه بل هو أقرب البدعة كما هو مذهب جمهور العلماء رحمهم الله ، ولذلك يجزئه إذا قصد الصلاة وخرج من بيته ناوياً أن يصلي مع الناس صلاة الظهر أو صلاة العصر فإن نيته تجزئه خاصة إذا كان مستحضراً لها عند قيامه للصلاة ، ولايشترط أن يتلفظ بما في قلبه ؛ لأن العبرة بالقصد وقد قال – عليه الصلاة والسلام - :((إنما الأَعمال بالنيات وإنما لكل أمرى ما نوى )) فإذا كان في قلب المكلف أن يصلي صلاة الظهر أو صلاة العصر فإنه قد نوى فكون هذا الحديث الذي هو عمدة وحجة على اشتراط النية يدل على أن العبرة بالقصد فهمنا من هذا أن اشتراط اللفظ يعتبر زائداً ، وبناء على ذلك يعتبر التلفظ بالنية عند الوضوء من البدعة والحدث ، وهكذا إذا تلفظ بها عند القيام إلى الصلاة وذهب الإمام الشافعي رحمه الله يحكى عنه أنه يقول بالتلفظ بالنية وانتصر لذلك أصحابه رحمة الله عليهم ونقله غير واحد من الأئمة فاعتبروا التفلظ بالنية وقالوا إنه يرى أنه لاحرج أن يقول نويت صلاة الظهر أو صلاة العصر ؛ ولكن أجيبَ بأن هذا الذي رآه رحمه الله إنما هو من باب القياس ، وذلك أنهم قاسوا الصلاة ونحوها من العبادات على نية النسك وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم لما نوى نسكه في الحج والعمرة تلفظ وقال:(( لبيك عمرة وحجة)) وكذلك ثبت عنه عليه الصلاة والسلام رفع صوته بالتلبية ، وفي الصحيح من حديث البخاري أن النبي صلى الله عليه وسلم قال :(( أتاني الليلة آت من ربي وقال: أَهِلَّ في هذا الوادي المبارك وقل عمرة في حجة )) فنقول إن هذا خاص بالحج وخاص بالنسك-أعني ذبح الأضيحة ونحوها-يتلفظ فيهما بالنية ، وأما ماعداهما فإنه يبقي على الأصل من عدم التلفظ بالنية ، والله تعالى أعلم.
السؤال الثالث:
ماحكم مس المصحف بدون وضوء لمن يعاني من كثرة الريح في بطنه خصوصاً إذا كان محتاجاً لذلك بكثرة لمراجعه حفظه مثلاً..؟؟(5/22)
الجواب:
من توضأ عند دخول وقت الصلاة وكان به سلس ريح أو بول أومذىٍ فإنه يجزئه ذلك الوضوء للصلاة المفروضة والنافلة وجميع مايكون إلى انتهاء وقت هذه الصلاة فإذا انتهى وقت هذه الصلاة توضأ لما بعدها واستباح بعد ذلك مس المصحف ، فإذا مسه ولو مرات وكرات بعد حدثه فإنه معذور ، والله تعالى أعلم .
السؤال الرابع:
هناك قاعدة تقول "إنه ما ثبت في الفرض ثبت في النفل إلا ماخص بالدليل" ،فكيف يخص الفرض بالتكبير قياماً دون النفل مع أن الأدلة عامة كحديث المسئ صلاته ..؟؟
الجواب:
خصصتها السنن:
أولاً:هذه القاعدة هي من كلام العلماء واجتهادتهم ، والأصل الرجوع إلى النصوص عندنا نصوص يقول فيها النبي صلى الله عليه وسلم :(( إذا قمت إلى الصلاة فكبرَّ)) فهذا فيه إطلاق يشمل كل صلاة ،فلما قال عليه الصلاة والسلام :((صلاة القاعد على النصف من صلاة القائم)) فهمنا أن قوله:{وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ }(1) ونحوه من الأدلة التي تأمر بالقيام في الصلاة ؛ إنما هو في الفريضة ، وأما النافلة فإنه يجوز أن يصليها قائما ويصليها قاعداً ، إذا ثبت أن النافلة يجوز صلاتها قائماً وتجوز صلاتها قاعدا بظاهر هذا الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم فإن معنى ذلك أنه يجوز للإنسان أن يكبرَّ تكبيرة الإحرام جالساً.
ماالدليل على أن الفرض يجب عليه أن يكبرَّ قائماً..؟حديث عمران بن حصين:(( صَلَّ قائما فإن لم تستطع فقاعداً )) فألزمه في الفرض فأنت تسلمَّ أن الفرض يجب فيه أن يكبرَّ وهو قائم بقيت النافلة والنافلة قال فيها النبي صلى الله عليه وسلم : (( صلاة القاعد على النصف من صلاة القائم)) ، هذا الحديث أنت بالخيار فيه بين وجهين :
__________
(1) / البقرة ، آية : 238 .(5/23)
إما أن تقول: (( صلاة القاعد على النصف من صلاة القائم)) المراد به المعذور ، وحينئذ تصبح مخالفا لنصوص صحت أن المعذور أجره كامل لوجود العذر،فإذاً تصرفه إلى غير المعذور فإن صرفته إلى غير المعذور عارضك الحديث الذي يأمر بالقيام فتبقى الحديث الذي يأمر بالقيام في الفرض ، وتبقى الحديث الذي يرخص في القعود في النفل والعمل بالنصين أولى من العمل بأحدهما وترك الآخر ؛ لأن الكل خرج من مشكاة واحدة ، فلما قال عليه الصلاة والسلام :(( صَلَّ قائما)) فهمنا أن الفرض لايجوز فيه القعود مع القدره على القيام والله-تعالى- يقول :{ وَقُومُوا لِلَّهِ} فأمر بالقيام:{ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ }(1) فجاءت التوسعة في السنة:(( صلاة القاعد على النصف من صلاة القائم)) في النافلة ، يقول قائل لماذا تفرقون بين النفل والفرض..؟ نقول ؛ لأن الشرع أفهمنا ان الفرض أقوى من النفل ، والله- تعالى-يقول:{ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا}(1) ألاترى -رحمك الله- أنه يجوز للإنسان أن يتنفل في السفر على دابته حيثما توجهت به ولايجوز في الفرض..؟ ألا تراه في النافلة يجوز له أن يصلي إلى غير القبلة أيضاً في السفر اختياراً على الدابة ولايجوز له ذلك في الفرض..؟! بل يجب عليه أن يجتهد حتى ولو كان في السفر يجتهد في جهة القبلة ويصلى إليها ، فدلت هذه النصوص كلها على أن النفل أدنى من الفرض وأنه أقل ثم إن الفرض أمر به الشرع والنافلة لم يأمر بها الشرع ، وعهدنا من الشرع أن ما أمر به أقوى مما لم يؤمر به فنحن نفرق بتفريق الشرع وليس اجتهاد العلماء رحمهم الله وقولهم إن النافلة أدنى من الفرض أو أقل رتبة من الفرض ليس باجتهاد منهم وإنما هو استنباط وفقه عن الله ورسوله حيث فهمنا أن الشرع يفرق بين النافلة والفريضة ، وعلى هذا يسع في النافلة مالايسع في الفرض مما يؤكد هذا أن النبي صلى الله عليه وسلم كان في(5/24)
قيام الليل لايمر بآية رحمة إلا سأل الله من فضله ، ولايمر بآية عذاب إلا أستعاذ بالله منها ولم يثبت في حديث صحيح أنه فعل ذلك في الفريضة مع كثرة صلاته وإمامته في الصلوات الجهرية لم يثبت عنه في حديث واحد أنه وقف عند آية رحمة أو آية عذاب فاستعاذ أو سأل من الرحمة ، ولكن في النافلة فعل ذلك في قيام الليل فوسع في النافلة مالم يسع في الفرض ثم إن الشرع فرق بينهما بالحكم بالعزيمة في الأولى دون الثانية ، والله تعالى أعلم.
السؤال الخامس:
هل تندرج تكبيرة الانتقال تحت تكبيرة الإحرام ..؟؟
الجواب:
أصح الأقوال أنه إذا دخل والإمام راكع أو ساجد فإنه يكبرَّ تكبيرة واحدة ، ويندرج الأدنى تحت الأعلى ،ولذلك يجزئه إذا كبرَّ تكبيرة واحدة أن يركع ولايلزمه أن يكبرَّ تكبيرتين ، قال بعض العلماء : إذا كبرَّ تكبيرة الإحرام الأولى ثم كبرَّ الثانية لزمة ركن القيام ، وبناءً على ذلك يكبرَّ لكي يدخل في الفرض الذي أدرك الإمام فيه والركن الذي أدركه من صلاة الإمام ، ولو قال قائل إنه يلزمه بالتكبير بناء على الأصل ثم يكبرَّ لما انتقل إليه من الركن قلنا إن هذا يلزم منه أن يكبرَّ عند سجود الإمام أكثر من تكبيرة فإن تكبيره السجود إنما كانت بعد التكبير للركوع والتسميع والتكبير المنتقل إلى السجود ، وإذا ألزمته بهذا ينبغي أن تلزمه بما قبله ، فأصح الأقوال أنه يكبرَّ ويجزئه ويندرج الأدنى تحت الأعلى ، أما لو أراد الإنسان أن يخرج من خلاف العلماء ويكبرَّ تكبيرتين فلا حرج عليه في ذلك ، ومراعاة الخلاف في مثل هذا معتبرة ، والله تعالى أعلم.
السؤال السادس:
من كان في صلاة النافلة وأقميت الفريضة فكيف يخرج منها..؟؟
الجواب:(5/25)
إذا أقميت الصلاة وأنت في صلاة النافلة فإن أمكنك إتمامها أتممت ؛ لأن الله سبحانه وتعالى يقول:{ وَلا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ}(1) فلو كنت في السجدة الأخيرة أو بين السجدتين في الركعة الاخيرة أو في السجدة ماقبل الأخيرة من الركعة الأخيرة فإنه يمكنك أثناء الإقامة أن تتم الأركان البقية ثم تسلمَّوتدرك الصلاة والعمل بالنصين أولى من العمل بأحدهما وترك الآخر ، أما لو أقميت الصلاة وأنت في أولها وغلب على ظنك أن الإمام يركع وأنت لاتسطيع أن تدركه قبل ركوعه فإنه حينئذ تسلمَّ ؛ والسبب في ذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم قال :(( تحريمها التكبير،وتحليلها التسليم )) فجعل السلام خروجا من الحرمة ألاتراه قال :(( تحريمها التكبير ..!!)) تقول بلى إنه قال :(( تحريمها التكبير)) فنفهم من قوله :(( تحريمها التكبير)) أن من كبرَّ تكبيرة الإحرام دخل في حرمة ، ولايجوز له الخروج من الحرمة إلا بالسلام فقال :(( تحليلها التسليم )) ولم يفرق بين السلام المعهود والسلام الذي هو سبق المعهود الذي يكون في أثناء الصلاة فنقول بهذا النص إنه يسلمَّ عن يمينه ، واجتهد بعض العلماء كما هو قول بعض الحنفية رحمة الله عليهم ويختاره بعض الائمة -رحمة الله على الجميع- يقولون يجوز له أن يلتفت ويجوز له أن ينوى الخروج بالنية دون أن يسلمَّ ، والصحيح إعمال هذه السنة التي بين فيها النبي صلى الله عليه وسلم لزوم التسليم على الإطلاق ، والعمل بالنص أولى من الاجتهاد ، والله تعالى أعلم.
وصلى الله وسلم وبارك على عبده ونبيه محمد ، وعلى آله وصحبه أجمعين.
__________
(1) / محمد ، آية :33 .(5/26)
بسم الله الرحمن الرحيم
قال المصنف رحمه الله : بَاب مَا يَقُولُ إِذَا دَخَلَ الْخَلاءَ
الشرح:
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء المرسلين سيدنا ونبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين أما بعد :
فقد ذكر المصنف رحمه الله هذه الترجمة التي تدل على جملة من الآداب التى وردت عن النبي صلى الله عليه وسلم عند الدخول إلى الخلاء وقد اعتنى العلماء من المُحَدِّثين والفقهاء بهذا الباب الذى سمَّوه" بباب آداب الخلاء" ؛ والسبب في هذه التسمية هذا الحديث الذى سيذكره المصنف رحمه الله عن أنس رضي الله عنه وأرضاه " أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا دخل الخلاء يقول:… " ، فلذلك قال العلماء :" باب آداب الخلاء " .
ومن أهل العلم من يقول :"باب الاستطابة " ؛ والسبب في هذه التسمية ما ثبت في الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:(( فلا يستطبْ بيمينه )) ، وقال بعض العلماء :" باب آداب قضاء الحاجة" ؛ والسبب في هذه التسمية ما ثبت في الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:(( إذا قعد أحدُكم لحاجته )) .(6/1)
وهذا الباب يُعتبر من أبواب الطهارة لاشتماله على جملة من الآداب الواردة عن النبي صلى الله عليه وسلم إذا أراد الإنسان قضاء حاجته ولذلك يُعتبر هذا الباب من الدلائل على كمال شريعتنا ، ولمَّا قالت اليهود لسلمان الفارسى رضي الله عنه وأرضاه :" علَّمكم نبيُّكم كُلَّ شىءٍ حتى الخِراءة" قال:"أجل علَّمنا كلَّ شىءٍ حتى الخراءة ثم ذكر الحديث-- رضي الله عنه -وأرضاه -"، ولذلك ما تركت الشريعة الإسلامية صغيرة ولا كبيرة إلا ولله حكمٌ فيها ولذلك يُعتبر هذا الباب من الأدِلةِ على كمال شريعتنا فالمسلم وهو قاعد يقضى حاجته يتعبد ويتقرب لله سبحانه وتعالى ، وهذه الآداب الشرعية منها ما يكون في المكان الذى يريد الانسان أن يقضى حاجته فيه ، ومنها ما يكون في الإنسان نفسِه.
ولذلك قسَّم العلماء رحمهم الله آداب قضاء الحاجة إلى قسمين :
القسم الأول : يصفونه بآداب المكان .والقسم الثاني : يصفونه بكونه آداباً للإنسان .
فأمَّا آداب المكان فقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه أمر بأمور ينبغي للإنسان إذا أراد أن يقضى حاجته أن يتنبه لها في المكان الذى يريد أن يقضى حاجته فيه .(6/2)
فأمَّا الأدب الأول: من آداب قضاء الحاجة والذى يتعلَّق بالمكان : أن يكون هذا المكان بعيداً عن أبصار الناس ، وهذا الأدب الأصل فيه حديث المغيرة بن شعبة رضي الله عنه وأرضاه وقد رواه أبو داود والترمذى وابن ماجة والنسائى -رحمة الله على الجميع-أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا أراد المذهب أبعد ، والمقصود بكونه يُبعِد: أن يتوارى عن أبصار الناس والغالب في هذا الأدب أن يكون في الصحراء والخلاء ؛ والسبب فيه واضح وذلك أن الإنسان رُبَّما مرَّ به الفريق والطائفة من الناس فرأوه على حاجته فتنكشف عورته ، ولذلك كان من هديه عليه الصلاة والسلام أن يُبعِد في المذهب ، لأنه إذا أبعد في المذهب لم يستطع إنسان أن يتمكن من رؤية العورة وهذا الأدب قد يخالفه كثيرٍ من الناس-إلا من رحم الله- في الأسفار ، وذلك أن البعض إذا أراد أن يقضى حاجته كان قضاؤه للحاجة على طرف من الطريق بحيث يتمكن الناس من رؤيةشخصه ولربما رُئِيت عورتُه -نسأل الله السلامة والعافية-.
وكذلك يقع بعض الناس في الخطأ وذلك حينما يقضى بعضهم حاجته في المكان الذى يتوضأ فيه الناس ، فلا يأمن من انكشاف عورته وسوأته مع أذيته للناس برائحة البول ، وقضائه لهذه الحاجة في هذا الموضع الذى لم يُعدَّ لقضاء الحاجة فكلُّ ذلك مُخالِفٌ لهدْى النبي صلى الله عليه وسلم فهذا هو الأدب الأول : أن يُبعِدَ الإنسان عن أنظار الناس.
قال بعض العلماء : من أبعد عن أنظار الناس كان في بُعده مصلحتان :
المصلحة الأولى : أنه أمكنُ لاستتاره عن رؤية الناس لعورته .
والمصلحة الثانية : أنه لا يُسمَع شىءٌ عند قضاء حاجته ، بخلاف ما إذا كان قريباً من الناس فإنه وإن كان متوارياً لا يأمن من سماع شىءٍ فلا يرتفق عند قضائه لحاجته .(6/3)
الأدب الثاني : أن يستتر الإنسان بساترٍ يحجزه ويمنعه من رؤية الناس لعورته وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم كما ثبت عنه في حديث عبدالله بن جعفر ابن أبى طالب-- رضي الله عنه -وأرضاه-كان أحبَّ ما يكون إليه إذا قضى حاجته أن يستتر بحائط بستان ، أو يبول إلى هدف كما روى مسلمٌ ذلك في الصحيح :"كان أحب ما يكون إلى النبي صلى الله عليه وسلم عند قضائه لحاجته أن يستتر بهدف أو حَائِش نَخْلٍ " وقوله رضي الله عنه وأرضاه "أو حَائِشِ نَخْلٍ" المراد بذلك أن يستتر بجدار النخل أو ما يكون من ستارالنخيل ، وهذا يدل دلالةً واضحةً على أن السنة أن يقضى الإنسان حاجته في حالةٍ تكون فيها العورة في مأمنٍ من نظر الغير لها ، ولذلك استحبَّ العلماء رحمهم الله لمن أراد أن يقضى الحاجة في الخلاء أن يجعل بينه بين الناس كثيباً أو حجراً ضخماً أو هضبةً أو تلاً يحجزه عن رؤية الناس له والأفضل أن تكون حُفرةً مطمئنة من الأرض يكون ذلك أمكن في ستر عورته فهذا هو الأدب عن النبي صلى الله عليه وسلم .
قال العلماء : وقد ورد الوعيد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم والذى يدل دلالةً واضحةً على أهمية هذا الأدب-أعني ستر الإنسان لعورته عند قضاء حاجته- ، وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم في حديث الرجلين المقبورين قال : (( أما أحدهما فكان لا يستتر من بوله ..)) قال بعض العلماء : المراد بذلك أنه كان يبول في الأماكن التى لا يأمن فيها من نظر الناس وكان عند قضائه لحاجته لا يستتر بمعنى أنه لا يجعل ساتراً بينه وبين الناس ، ولذلك قالوا إنه يعتبر من كبائر الذنوب أن يبول الإنسان وهو منكشف العورة أمام الناس ، ومن فعل ذلك فقد سقطت مُرؤته وكان ذلك طعناً له في عدالته -نسأل الله السلامة والعافية- .(6/4)
فالوعيد الشديد لمن تساهل في عورته عند قضاء الحاجة ثابتٌ عن النبي صلى الله عليه وسلم والأمر في النساء أشد من الرجال ولذلك يحتاط النساء أكثر مما يحتاط له الرجال .
أما الأدب الثالث : الذي ينبغى للإنسان عند قضائه لحاجته أن يراعيه ، فهو أن يرتاد لبوله موضعاً رخواً والموضع الرخو هو ضد اليابس الذى إذا بال عليه ربما انتشر بوله على أسافل جسده وعلى الثياب وذلك أن الإنسان إذا أراد أن يبول فينبغي له أن يطلب المكان السهل الرخو من الأرض ؛ لأن السهل الرخو منها يحبس البول عن أن يتطاير إلى الثياب والبدن ، ومن ثَمَّ قال العلماء رحمهم الله يُستحب للإنسان إذا قضى حاجته أن يكون الموضع الذى يريد أن يبول فيه رخواً لأنه يتشرَّب البول ولا يتطاير معه على أسافل البدن والثياب ، وأما إذا كان الموضع صلباً من النَّجسِ فإن الأمرفيه أشد ولذلك قال بعض العلماء رحمهم الله : إذا كان الموضع رخواً طاهراً فإنه يُخير الإنسان بين القعود والقيام ، وأما إذا كان صلباً نجساً فإنه يجب عليه القيام .
وإلى ذلك أشار بعض العلماء رحمهم الله بقوله :
بالطَّاهِرِ الصُّلْبِ اجْلِسِ وَامْنَعْ بِرَخْوٍ نَجِسِ
وَالنَّجِسَ الصُّلْبَ اجْتَنِبِ وَاجْلِسْ وَقُمْ إِنْ تَعْكِسِ
فهذه هي أحوال الأماكن التى يقضى الإنسان فيها حاجته ، وعلى هذا فإنه إذا كان المكان المعد لقضاء الحاجة قد مُلِىءَ بالنجاسة كما هو الحال الآن في عصرنا فإنه إذا امتلأ مكان قضاء الحاجة من النجاسة ولم يأمن الإنسان إذا دخل هذا المكان أن يُصيب ثيابه وأسافل بدنه فإنه يمتنع من الدخول إلى هذا النوع من الحمَّامات ونحوها .(6/5)
الأدب الرابع : الذى ينبغى على الإنسان أن يتنبه له في المكان الذى يقضى فيه حاجته ألا يكون هذا الموضع شِقَّاً أو جُحْراً فإن الشِقَّ والحُجر لا يأمن الإنسان إذا بال فيه أن يخرج منه ثعبانٌ أو تخرج منه هامَّة ونحو ذلك فيؤذيه ، وربما يكون سبباً في قتله ، وقد جاء في حديث عبدالله بن سرجس-- رضي الله عنه - و أرضاه- أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن البول في الجُحْر ، ولمَّا سُئِل قتادة رحمه الله راوى الحديث عن السبب في ذلك فقال :إنها مساكن الجن فقالوا : لا يبول في الشَّقَّ ، ولا يبول في الثقب ولا في الجُحْر لأنه لا يأمن أن يكون سبباً في أذيتهم فيؤذونه ، ومن هُنا شدَّد العلماء رحمهم الله في البول في هذه المواضع لأن الإنسان لا يأمن عند بوله في الثقب والشق أن تخرج له هامة فتكون سبباً في قتله أو على الأقل فإنه إذا رأى الحية أو الثعبان فزع فكان سبباً في حصول الضرر في بوله وجسده ، ومن هُنَا شدَّد العلماء رحمهم الله في هذا الموضع ؛ لأن النهى عن النبي صلى الله عليه وسلم يدل على تحريم مثل هذا الفعل .
الأدب الخامس : ألا يبول في الطريق الذى يسلكه الناس وذلك أنَّ الطُّرق يتضرر الناس بالبول وقضاء الحاجة فيها. ومن هنا ثبت الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (( اتقوا اللعَّانَيْنِ. قالوا : يا سول الله . وما اللعَّانان..؟ قال:" الذى يبول في طريق الناس وظلهم)) فهذا يدل على حرمة البول في الطريق .(6/6)
وسُمِّى الطريق طريقاً لأن الناس يطرقونه ويسيرون فيه ومن ثَمَّ قال العلماء : إنه يحرُم على الإنسان أن يقضى حاجته في الطرق ، لأنه إذا قضى الحاجة في الطريق تضرر الناس أثناء سيرهم فلا يأمنون من وطأ النجاسات فيكون ذلك ضرراً لهم في دينهم ، ولا يأمنون من شمِّ الروائح الكريهة فيتضررون في أجسادهم فاجتمعت مفسدة الدين والدنيا ولذلك لا يجوز للمسلم أن يتسبب في أذية الناس وشرط هذا الطريق أن يكون مطروقاً سابلاً ، أما إذا كان الطريق فيه أماكن تصلح لقضاء الحاجة فإنهم رخَّصوا في انتحاء النواحى من الطرق البعيدة عن الضرر والتى يُؤمن فيها مفسدة الأذية للناس .(6/7)
أما الأدب السادس : فهو اتقاء أماكن المياه فلا يجوز البول في موارد المياه لأن النبي صلى الله عليه وسلم حرَّم ذلك ونهى عنه والإنسان إذا بال في الماء فإنه يُفسِدُه على الغير وقد ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : (( لا يبولن أحدكم في الماء الدائم الذى لا يجرى )) ولذلك قال العلماء إن البول في الماء الراكد والدائم يُعتبر من المحرمات ؛ والسبب في ذلك أن الماء يخبُث وينجُس ،كما أن فيه ضرراً على صحة الناس لأن البعض قد يشرب من هذا المكان ومواردُ المياه يحتاجها الناس في أسفارهم ، فتنزل الرفقة على ذلك المورد فترتفق بحمل الماء لها ويشربون وتشرب الدواب من ذلك الماء فلا يؤمن من حصول الضرر عليهم في نفوسهم وفي دوابهم ، ومن هُنا نصَّ العلماء رحمهم الله على تحريم البول في المياه الراكدة ، وأما الأنهار الجارية فللعلماء رحمهم الله فيها قولان-وسيأتى إن شاء الله بسط هذه المسألة في الحديث الذى تقدمت الإشارة إليه-والذى اشتمل على نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن البول في الماء الراكد ، وقرَّر الأطباء أن هذا الفعل يتسبَّب في حصول بعض الأمراض التى تكون ضرراً على أجساد الناس ونفوسهم ، ولذلك لا يجوز للمسلم أن يتعاطى أسباب الضرر بإخوانه المسلمين .
أما الأدب السابع : الذي ينبغي أن يراعيه الإنسان عند قضائه لحاجته في المكان ألاَّ يكون هذا المكان ظِلاًَّللناس لأن الظل يحتاجه الناس عند حصول التعب والعناء ، ولربما يحتاجه الناس للجلوس فيه ومن ثَمَّ يحرُم قضاء الحاجة في الأماكن التى يستريح الناس فيها وفي ذلك حديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم في ذكر الملاِعن الثلاث حيث ذكر منها الظِلَّ كما ثبت عنه عليه الصلاة والسلام .(6/8)
ويشتد ذلك إذا كان الظل تحت شجرة مثمرة ، فإنه إذا كان تحت الأشجار المثمرة يتضرر الناس بحصول الروائح الكريهة فيكون ضرراً على من يجلس وكذلك يتضرر من يجنى ثمرة هذه الشجرة فلا يستطيع البقاء في هذا المكان لحصول النَّتن والقَذَر ، وكذلك ربما أضرَّ بالثمار فإن الثمرةتتضرر بالنجاسة حولها ، ولذلك ذهب طائفة من العلماء رحمهم الله إلى عدم جواز الأكل الذى يكون من الثمار التى تُسقى بالمياه النجسة .
والأصل في ذلك ما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم من حديث عبدالله بن عمر -رضى الله عنهما وأرضاهما- أن النبي صلى الله عليه وسلم :"نهى عن أكل الجلاَّلة" وهي الدابة التى تأكل العذرة والنجاسة فحرَّم النبي صلى الله عليه وسلم لحمها ، وكذلك بالنسبة للثمار والأشجار التي تُسقى بالمياه النجسة فإنه لا يؤمنُ من تضرر الناس بها ، وهذا على أصح قولى العلماء رحمهم الله .
وقال بعض أهل العلم : الأمر في الطعام أشدُّ إذا كان من الخضروات والبقول ؛ والسبب في ذلك أن الخضروات والبقول تُعتبر قريبة المشرب والجذور في الأرض ، فهي تمتص النجاسة مباشرة ، ولذلك شدَّدوا فيها أكثر من الأشجار كالنخيل ونحوها .(6/9)
أما الأدب الثامن : فهو ألاَّ يستقبل الرياح عند قضائه للحاجة ؛ والسبب في ذلك أنه إذا استقبل الرياح تطاير البول على ثوبه وبدنه فتنجس ولم يستطيع أن يُحصِّل أماكن البول ، وذلك لصعوبة التمييز والتحديد ، ولذلك لايجوز للإنسان أن يتعاطى هذا السبب الذي قد يكون سبباً في فساد عبادته وعدم صحة صلاته فلا يستقبل الرياح ، فإذا أراد أن يقضى بوله فإنه يستدبر الريح حتى يتطاير البول مع الريح ، ويكون ذلك أدعى لحفظ بدنه وجسده عن ضرره وقد جاء في الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه نهى عن استقبال الريح عند قضاء الحاجة وقد روى هذا الحديث أبو هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم وأخرجه ابنُ عديِّ والبَيْهَقيُّ والدار قطنيُّ ؛ ولكن تكلَّم العلماء على سنده ، ومرجع ذلك إلى التلخيص للحافظ -رحمة الله عليه- .(6/10)
الأدب التاسع : ألا يستقبل القبلة ولا يستدبرها بالبول والغائط، والأصل في ذلك ما ثبت في الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم من حديث أبي أيوب الأنصاريِّ-- رضي الله عنه -وأرضاه- أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : (( إذا أتيتُم الغائط فلا تستقبلوا القبلة ولا تستدبروها ببول ولا غائطٍ ؛ ولَكِنْ شَرِّقوا أو غرِّبوا)) وقوله عليه الصلاة والسلام :((ولكن شَرِّقوا أو غَرِّبوا)) إنما هو لأهل المدينة ؛ لأن القبلة بالنسبة لأهل المدينة إنما هى في ناحية الجنوب ، ولذلك قال لهم :(( شَرِّقوا أو غَرِّبوا)) وما بين المشرق والمغرب بالنسبة لأهل المدينة يُعتبر قبلة كما في حديث السُّنن عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:((ما بين المشرق والمغرب قبلةً)) فلذلك لا يجوز للإنسان أن يستقبل القبلة ولا أن يستدبرها بالبول والغائط ، فإذا كان المكان قد جُعل على ناحية القبلة فإنه يجب عليه أن يطلب مكانا غيره ، وإذا جلس على المكان انحرف فإذا اضطر إليه فإنه إذا جلس عليه ينحرف عن القبلة كما في الصحيحين من حديث أبي أيوب الأنصاري-- رضي الله عنه - وأرضاه-عن النبي صلى الله عليه وسلم مرفوعاً بالنهي ثُمَّ قال أبو أيوب :" فقدِمنا الشام فوجدنا مراحيض قد بُنيت قِبَل الكعبة فكُنَّا ننحرف عنها ونستغفر الله" فهذا يدل على تحريم استقبال القبلة واستدبارها أثناء قضاء البول والغائط.
هذه التسعة الآداب كلها ترجع للمكان الذى يقضى الإنسان فيه حاجته فينبغى على المسلم أن يُراعيها ، وأن يأتسى بالنبي صلى الله عليه وسلم ويقتدى به في مراعاتها.
وأمَّا بالنسبة للآداب التى ينبغى للإنسان أن يُراعيها في نفسه فإنها تنقسم إلىقسمين :
القسمُ الأول: آدابُ أقوالٍ . والقسمُ الثاني: آدابُ أفعالٍ .
فأمَّا آداب الأقوال فإنها على ضربين :
الضرب الأول : يكون عند الدخول .والضرب الثاني : يكون بعد الخروج .(6/11)
فأمَّا أدب الدخول: فقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم كما في حديث أنس بن مالكٍ رضي الله عنه الذى معنا أنَّه كان إذا أراد أن يدخل الخلاء يقول : (( اللهم إني أعوذ بك من الخُبْث والخبائث )) هذا يدلُّ على مشروعية هذا الذكر ، وإنما يقوله الإنسان قبل الدخول- كما سيأتي- .
وأما الأدب الذى يكون بعد الخروج: فهو الذكر الذي روته أم المؤمنين عائشة -رضى الله عنها-أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا خرج من الخلاء قال : (( غُفْرانك)) أي : اغفر اللهم غفرانك -وسيأتى الكلام على معنى هذه العبارة ، وما تضمَّنَته من الأدب مع الله عز وجل .
وأمَّا بالنسبة للآداب الفعلية فإنه ينبغي للإنسان إذا أراد أن يقضى حاجته فإنها تنقسم إلى أقسام :
القسم الأول: آداب تكون عند الدخول .والقسم الثاني : تكون عند قضاء الحاجة ، أي أثناء قضائه للحاجة .
وأما القسم الثالث: فإنه يكون بعد انتهائه وفراغه من الحاجة .
أمَّا بالنسبة للآداب التى تكون قبل دخول الخلاء من الأفعال فالسُّنة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يُقدِّمَ اليسار ويُؤخر اليمين لعموم حديث أمِّ المؤمنين عائشة-رضي الله عنها وأرضاها- في التَّيَمُّنِ ، فيدخل إلى مواضع الخلاء باليسار ، -ويخرج منها باليمين كما سيأتى- .
وأمَّا بالنسبة لآدابه أثناء الجلوس فإنه لا يرفع ثوبه ولا يكشف عورته إلا بعد أن يقترب من الأرض خاصَّةً إذا كان في العراء والصحراء ؛ والسبب في هذا واضح وذلك أن الإنسان إذا كان في العراء والصحراء فإنه إذا جلس أمكن لحفظ عورته واستتارِه عن أعين الناس ، ولذلك قالوا : لايرفع الثوب إلا عند قُربه من الأرض وفي ذلك حديثٌ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد تكلَّم العلماء رحمهم الله على إسناده فإذا رفع ثوبه عند اطئنائه من الأرض .(6/12)
استثنى العلماء من ذلك أن يكون الموضعُ نجساً ، فإنه إذا خاف أن تتنجس ثيابه فإنه يرفع الثياب ، وذلك بالنسبة للثياب التى لا تلى العورة وإذا كانت ثياب العورة أيضاً يُخشى من إصابتها بالنجاسة فإنه يجوز أن يكشف عورته قبل أن يصل إلى الأرض وهذا كُلهُّ داخلٌ في الأدب الذى ذكرناه من المحافظة على عورة الإنسان وعدم كشفها للناس وكل ذلك من باب تعاطي الأسباب والخوف من الوعيد الشديد الذي ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم في قصة الرجلين المقبورين:(( أمّا أحدهما فكان لا يستتر من بوله ..)) .
وأما بالنسبة للأدب أثناء قضائه للحاجة فالسُّنَّة ألا يُمسك العضوَ باليمين ، وإنما يُمسكه بالشِّمال ؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم " نهى عن مسِّ الذَّكر باليمين" وهكذا بالنسبة للقُبُل والدُّبُر فإن القُبُل من المرأة لا يجوز أن يُمَسَّ باليمين ، وإنما يُمسُّ بالشمال ، وكذلك الحال بالنسبة للدُّبُر فينبغي أن يُنَزه اليمين عن المسَّ .
قال عثمان -- رضي الله عنه - وأرضاه-:" ما مسستُ ذكرى بيمينى منذ أن صافحت بها النبي صلى الله عليه وسلم "وكان بعض الحكماء يقول "إنه قلَّ أن يمسَّ الإنسان ذكره بيمينه إلا أُصيب في عقله "والله أعلم بصحة ذلك .
ولذلك نُزِّهت اليمين لشرفها وفضلها فلا يُمسِك بها العضو ، وإنما يكون إمساكه للعضو بالشمال دون اليمين .
وأما بالنسبة للآداب أثناء إزالة الخارج فالسُّنَّة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه كان يغسل وكذلك يستجمر بالحجارة ، والأمر في ذلك واسع ، فمن أحب أن يستنجى بالماء فلا حرج عليه وكذلك لو أراد أن يُنقي بالأحجار أو شبهها من الطاهرات كالمناديل والورق مالم يكن الورق مشتملاً على ذكر الله عز وجل فهذه من الآداب أثناء قضائه للحاجة وفراغه منها.(6/13)
ومن الآداب التى ينبغى عليه أن يُراعيها ألاَّ يستعجل في القيام حتى يُتم قضاء حاجته لأنه إذا استعجل في القيام من البول لم يأمن -والعياذ بالله- أن يخرج منه البول أو قطرات البول فيكون ذلك داخلاً في حديث النبي صلى الله عليه وسلم :((وأمَّا الآخر فكان لا يستنزه من بوله )) والاستنزاه من البول المراد به :أن يُنْقِى العضو من البول ، وذلك بتعاطى الأسباب بعدم الاستعجال في القيام ، ولكن ينتظر حتى يغلب على ظنه أن الموضع ليس به بول ، فحينئذ يُباشر القيام.
وكذلك من الآداب ما يكون عند خروجه من الخلاء وبعد خروجه منه :
أمَّا ما يكون عند خروجه من الخلاء فتقديم اليمين وتأخير الشمال ، وذلك في المواضع التي أُعِدَّت لقضاء الحاجة ، كدورات المياه في عصرنا والأمرُ في ذلك أيضاً فيه توسُّعٌ فإنَّه يُخرج اليمين ويُبقِى الشمال إذا كان في موضع قضاء الحاجة ثُمَّ إذا خرج من الموضع الكامل بِنفسه فإنه يُقدِّم اليمين أيضاً ويُؤخِّرُ الشمال للمعنى نفسِه .
فهذه كلُّها آداب قضاء الحاجة وهى تدل دلالةً واضحةً على كمال الشريعة الإسلامية ، وسمو منهجها وتدلُّ على عظيم رحمة الله بالأمة ، وذلك أن الله- - عز وجل --جعل في هذه الآداب صيانة لمرؤةِ الناس وفيها حِفظٌ لهم من الشرور والبلاء-كما سيأتي في الأذكار- فهى آداب تشتمل على خيرى الدنيا والآخرة-فالحمد لله على عظيم رحمته ، وجليل إحسانه ونعمته- ، قال بعض العلماء : ومن فضائل هذه الآداب أن المسلم إذا فعلها تقرُّباً لله عز وجل فإن الله سبحانه وتعالى يكتُب له بها الأجر ولو لم تكن هذه الآداب وكان الناس يقضون حاجاتهم بدون هذه الآداب لم يكن هناك مجالٌ للتقرب لله سبحانه وتعالى فهى آداب تزيد في الأجر والثواب ويكون بها حُسن العاقبة والمآب .(6/14)
يقول المصنف رحمه الله :حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ وَهَنَّادٌ قَالا حَدَّثَنَا وَكِيعٌ عَنْ شُعْبَةَ عَنْ عَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ صُهَيْبٍ عَنْ أَنَسِ ابْنِ مَالِكٍ قَالَ:" كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم إِذَا دَخَلَ الْخَلاءَ قَالَ:(( اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ )) ،قَالَ شُعْبَةُ وَقَدْ قَالَ مَرَّةً أُخْرَى:(( أَعُوذُ بِكَ مِنَ الْخُبْثِ وَالْخَبِيثِ أَوِ الْخُبُثِ وَالْخَبَائِثِ )).
قَالَ أَبو عِيسَى رحمه الله : وَفِي الْبَاب عَنْ عَلِيٍّ وَزَيْدِ بْنِ أَرْقَمَ وَجَابِرٍ وَابْنِ مَسْعُودٍ .
الشرح:
هذا الحديث الشريف اشتمل على أدب من الأقوال وذلك في قوله عليه الصلاة والسلام :(( اللهم إني أعوذ بك من الخُبث والخبائث)) ، وفي الرواية الثانية :((من الخُبْثِ والخبيثِ)) ، وقوله في الرواية الثانية:(( من الخُبُثِ والخبائث)) فناسب أن يعتنى المصنف- رحمه الله- بإيراده في هذا الموضع .
يقول رحمه الله :" حدَّثنا هنَّادٌ وقْتيبة" : "هنَّادٌ": السرىُّ . "وقُتيبةُ ": ابن سعيد .
" قالا : حدثنا وكيع عن شعبة عن عبدالعزيز بن صُهيب عن أنس بن مالكٍ -- رضي الله عنه - وأرضاه-":هذا الإسناد من رجاله الأجلاَّء ، وعُلمائه الثِّقات الإمامُ شعبة :وهو : أبو بسطامٍ شعبةُ بَن الحجَّاج بن الوَرد الُعَتكِىُّ الأزدىُّ (مولاهم) الواسطىُّ ، وُلد رحمه الله سنة ثمانين من الهجرة ، وكان مولده في خلافة عبدالملك بن مروان الخليفة الأموى وُلد رحمه الله ونشأ وترعرع فأحبَّ الأشعار والأخبارَ فاستكثر من رواية الأشعار ، ثُمَّ إن الله عز وجل قذف في قلبه حُبَّ الحديث والآثار فجلس رحمه الله في مجالس الحديث فأحبها ولازمها حتى صار من رجالها، وأصبح من أهل الروايات ونُقَّادِها .(6/15)
هذا الإمام العظيمُ قال عنه الحافظُ الذهبىُّ رحمه الله في السِّيَرِ: " الإمام الحافظ أمير المؤمنين في الحديث شعبة بن الحجاج بن الورد كان رحمه الله عالِمَ البصرة ومحدثَها بل كان عالِمَ زمانه وشيخ أوانه في رواية الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم .
أثنى عليه العلماء وأثنى عليه الأجلاء وكان سُفيان الثورى رحمه الله يُعظِّمه ويُجِله ويقول : شُعبةُ أمير المؤمنين في الحديث ، وهو الذى يُحكى عنه من قوة حفظه أنه قال:" ما خططتُ سوداء في بيضاء ، ولا سألت رجلاً أن يُعيد حديثه علىَّ مرتين " ، وكان رحمه الله آيةً في الحفظ والإتقان وجمع الله له العلماء والأجلاء فروى عنهم وحدَّث حدَّث عن أكثر من ثلاثمائة من الأجلاء والتابعين وهذا فضلٌ عظيمٌ قلَّ أن يتيسَّر لغيره -رحمه الله برحمته الواسعة-.(6/16)
هذا الإمام العظيم مع علمه بالحديث وروايته له كان من الأئمة النُقَّادِ فكان عالِماً بالجرح والتعديل حتَّى عدَّه الإمام يحيى القطَّانُ إمامَ الجرح والتعديل أي أول من جرَّح وعدَّل ومنه أخذ العلماء كثيراً من علم الجرح والتعديل ، فله بعد الله عز وجل في ذلك الفضل وكذلك كان رأساً في العلم والعبادة ، والخير والصلاح والزهادة كان كثير الصلاة والصيام ، حَسَنَ العبادةِ والقيام أُثرعنه رحمه الله أنَّه رُبَّما ركع حتى إذا رآه الإنسان ظَنَّ أنَّه نسى ، وذلك من طُول ركوعه-عليه رحمة الله-وكان كذلك يجلس بين السجدتين حتَّى يُظَنَّ أنَّه نسى ، وكان -رحمة الله-يُكثر الصيام حتَّى حُكى عنه أنه صام الدهر فإن صحَّ هذا عنه فالسُّنَّةُ على خلاف ذلك فلاأفضل من صيام نبىِّ الله داودَ عليه الصلاة والسلام يصومُ يوماً ، ويُفطر يوماً كما ثبت الخبر عن سيد البشر-صلوات الله وسلامه عليه إلى يوم الدين- ومع هذا العلم والفضل ، والخير والنَّوْل كان كثير العطف على الفقراْء والمساكين ، كثير الرحمة بالضعفاء والمحتاجين حتَّى قال عنه النَّضْرُ رحمه الله :"ما رأيتُ أرحمَ بالمساكين من شُعْبَة" ، وكذلك حكى عنه الإمام يحيى القطان رحمه الله " أنَّه كان لا يَرُدُّ أحداً سأله "وذلك من جوده -رحمة الله عليه -وكثير فضله وقلَّ أن يجتمع للإنسان هذا الخير أن يكون عالِمَاً حَسَنَ الأخلاق كريمَ العشرة كثير العطف على الضعفاء والفقراء إلاَّ كان ذلك من أصدق الدلائل على عُلُوَّ شأنه ورفعةِ مكانته عند ربِّه فلذلك جمع رحمه الله بين العلم والعمل ورُبَّما جاءه السائلُ وبكى عنده فقد ذكروا عنه أنَّه اشتكى له رجلٌ ذات يومٍ وبكى في مجلسه ، وأنَّه أضاع دابَّتَه وكانت بثلاثةِ دنانير فأدخل شُعبةُ رحمه الله يده وأخرج ثلاثة دنانير وقال : خُذْها ، والله إني لا أملك غيرها ..!! -رحمه الله برحمته الواسعة- وهكذا كان أئمة السلف يعطفون على(6/17)
الضعفاء ، ويُحسنون إلى الفقراء وذلك هو شأن الصالحين ودأب العلماء ، حتَّى قال القائل عن سفيان :ما رأيتُ الضعفاء والفقراء أجلَّ منهم في مجلس سُفيان رحمه الله فكانوا ينظرون إلى الضعفاء أكثر من نظرهم إلى الأغنياء والأقوياء جمعَ وحفظ ووعى وأصاب الخيرَ والهُدَى .
وقوله رحمه الله :" عن شعبة عن عبدالعزيز بن صُهَيْبٍ ": وهو من الثِّقات.
عن أنس بن مالكٍ رضي الله عنه وأرضاه قال :" كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا دخل الخلاء .... " .
تقدَّم أن هذه الصيغة ، وهي قوله : كان إذا فعل كذا وكذا .." تنقسم إلى ثلاثة أقسام(1) :
القسم الأول: أن يُراد بها ما قبل الفعل . والثاني : أن يُراد بها أثناء الفعل . والثالث: أن يُراد بها ما بعد الفعل .
والمراد هنا ما قبل الفعل فقوله -- رضي الله عنه - وأرضاه-" كان إذا دخل الخلاء": أي إذا أراد أن يدخل الخلاء وقد ورد ذلك صريحاً عن النبي صلى الله عليه وسلم :((إذا أراد أحدكم أن يدخل الخلاء فلْيقُلْ ..)) فهذا يدلُّ على أنَّ المراد ما قبل الدُّخول .
وأماكن الخلاء تنقسم إلى قسمين :
القسم الاول : أن تكون مُعَدَّةً لقضاء الحاجة ، كدورات المياه في زماننا فهذا النوع من مواضع قضاء الحاجة يُشرَع أن يقول الإنسانُ الذِّكرقبل أن يدخُل فيه .
وأمَّا إذا كان من القسم الثاني : وهو أن يكون الموضعُ غير مُعَدٍّ لقضاء الحاجة كالصحراء والعراء والخلاء الذى ليس فيه موضعٌ معيَّنٌ لقضاء الحاجة فهل يقول الإنسان هذا الذكر بمجُردِّ ذهابه إلى موضع قضاء الحاجة..؟؟ أو يقوله عند وقوفه في المكان الذى يُريد قضاء الحاجة..؟؟ أو يقوله بعد رفعه للثياب قبل أن يُخرِج حاجته..؟؟
ثلاثةُ أَوجُه للعلماء رحمهم الله أقواها أن يقول هذا الذكر وذلك عند وقوفه على المكان الذى يريدُ أن يقضى حاجته فيه .(6/18)
يقول رضي الله عنه وأرضاه :" كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا دخل الخلاء..": سُمِّىِ الخلاُءخلاًء لخلوه من الناس فالمكان الخالى من الناس يصفه العرب بكونه خَلاءً وهو البَراز ، وهو الغائطُ كُنَّىَ بالغائط وهو المطمئن من الأرض لموضع قضاء الحاجة وكلُّها بمعنى واحدٍ ، المرادُ به : المكان الذي يقضى فيه الإنسان حاجته .
وقوله :" الخلاء": لأن الغالب في أماكن قضاء الحاجة أن تكون خاليةً من الناس ، فوُصفت بهذا الوصف ، وكذلك وصفها بالبراز: لأن الإنسان يبرُز عند قضائه لحاجته من العمران والبنيان ، خاصةً في الأزمنه القديمة حيثُ لم يكُنْ في البيوت كَنِيْفٌ .
وقوله رضي الله عنه :" يقول ..": هذا هوالأدبُ القولىُّ .
يقول: اللَّهُمَّ إني أعوذ بك ": اللَّهُمَّ : أصله يا الله فالعربُ حذفت ياء النداء ، وأبدلت عنها الميم ، ولذلك قالوا: "اللَّهُمَّ " ولا يصحُّ أن يُقالَ : يا اللَّهُمَّ ؛ لأنَّه جمعٌ بين البَدَل والمُبْدَل إلا إذا كان ذلك في الشِّعر .
وقد أشار ابنُ مالكٍ رحمه الله إلى هذه المسألة بقوله :
وَالأكْثَرُ اللَّهُمَّ بالتَّعْوِيْضِ وَشَذَّيا اللهم في قريضِ
أي الأكثر أن يُقالَ: اللَّهُمَّ ولا يُقال: يا اللَّهُمَّ ، ولكنه يُقال في القريض والشِّعر ، ومنه قول الشاعر :
إنِّى إذَا مَا حَدَث ٌ أَلَمَّا نَادَيْت : يا اللَّهُمَّ يَا اللَّهُمَّا
فلذلك لا يجمعون بين الياء والميم في النثر، وإنما يُجمع في الشعر .
وقوله :" اللَّهُمَّ ": يا الله نداءٌ واستغاثةٌ بالله سبحانه وتعالى أَعُوذُ: بمعنى ألوذ وأصلُه عُوْدٌ ينحنى إليه العُشْب ، وذلك إذا هبَّت عليه الرياح ، فسُمِّى به كُلُّ إنسان يطلبُ اللَّوذ يلوذ بالله سبحانه وتعالى أو يلوذ بالشيْ الذى يعصمه بعد الله عز وجل من الشرور .(6/19)
((اللهم إني أعوذ بك)) : وهذا بمثابة التخصيص ؛ لأن الاستعاذة لا تكونُ إلا بالله سبحانه وتعالى كما قال سبحانه وتعالى :{ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُو السَّمِيْعُ الْعَلِيْمُ }(1) أي الذى يسمعك إذا استعذت ، ويعلم بحالِكَ إذا استغثت واستجرت.
وقوله :(( إنِّى أَعُوْذُ بِكَ من الخُبْثِ )) : الخُبْث (باَلإسكان ): هو الشَّرُّ وغلَّط الخطَّابىُّ رحمه الله هذا اللفظ ، والذى ذكره المُحَقِّقُون من أئمة اللغة أنه يُوصف بهذا اللفظ وأنَّ الإسكان فيه صحيح وعليه أكثر الروايات ، وذلك بقوله:((الخُبْث )) والمراد بالخُبْث : الشر ، وقد يطلق الخُبْث ويُرادُ به الحرام من المآكل ، وكذلك يُوصَفُ بالخبيث ما كان مُحَرَّماً ، وذلك في الأطعمة كما في قوله سبحانه وتعالى :{وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَ يُحَرِّمُ عَلَيْهمُ الخَبَائثَ }(2) ، وكذلك يُوصف بالخبيث الشىءُ المستقذَرُ الذى فيه رائحة كريهة ، ومنه الحديث الصحيح:(( من شجرتين ما أُراهما إلاَّ خبيثتين الثَّوْم والبصل)) فهذا الخُبْثُ ليس المراد به التحريم وإنما المراد به النَّتَنُ وما يكون من الرائحة التى تؤذى الناسَ في غالب الأحوال .
وقد توصف الخبيثُ بمعنى المعاصى وذلك واردٌ في الكتاب والسُّنَّة وذلك في قوله سبحانه وتعالى :{ الخَبيْثَاتُ لِلْخَبِيْثِيْنَ والخَبْيثونَ لِلْخَبيِثَاتِ وَ الطَّيِّبَاتُ لِلطَّيِّبِيْنَ والطّيِّبُوْنَ لِلطَّيِّبَاتِ}(3) فقوله:{الخَبِيْثَات للخَبِيْثِيْنَ }: أي الكلمات الخبيثة تقال لمن كان موصوفاً بالخُبْث وهكذا الأفعات الخبيثة يُوصف بِها من كان خبيثاً -والعياذُ بالله-فكلُّ ذلك من إطلاق الخبيث .
وقوله عليه الصلاة والسلام :(( وَالْخَبَائِثِ)): إِنْ قُلْنا إنَّ الخُبْثَ المراد به الشر فالمراد بالخبائث تأنيثها .
وقوله في الرواية:(( الْخُبُثِ )) (بالضم) المرادُ به : ذُكور الشياطين .(6/20)
وأما بالنسبة لقوله في مقابلها:((والخبائث)) فالمراد به إناث الشياطين .
وهذا الحديث يُعتَبرُ مُعجزة من مُعجزات النبي صلى الله عليه وسلم وذلك أن هذه الأماكن - أعني أماكن قضاء الحاجة- لا يعلمُ ما فيها من الشرور ، ولا ما يكون فيها من الأرواح الخبيثة إلا اللَّهُ الذى هو علاَّمُ الغيوب فشَرَعَ الله لهذه الأُمَّةِ أن تستعيذ به سبحانه وتعالى وتستجير لأنه نِعْمَ الملاذ ونِعْمَ المعاذ .
تستعيذ به سبحانه وتعالى من الأرواح الخبيثة التى تكون في هذه الأماكن الخبيثة ، ولذلك قال العلماء: إن الأماكن التى لا يُذْكَر فيها اللَّهُ عز وجل ، والتى يكثُر فيها عصيانُ اللهِ سبحانه وتعالى لا يُؤمَنُ أن تكون فيها الأرواح الخبيثة .
ولذلك نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن النزول في الأماكن التى هى أماكن العذاب ، وقال-صلوات الله وسلامُه عليه-:(( لا تمُرُّوها إلا وأنتم باكون أو متباكون لا يصيبكم ما أصابهم )) ولذلك يُتَّقى مثلُ هذه الأماكن .
وفي هذا الحديثِ دليلٌ على مشروعية الاستعاذة بالله عز وجل عند خوف الإنسان من الضرر الذى قد يكون في مستقبله ، فهذا الضرر المتوقَّعُ الحصول من أماكن النجاسات ونحوها استعاذ النبي صلى الله عليه وسلم بِرَبِّه عز وجل قبل أن يدخُل فيه.
وهنا سؤال :فلو أنَّ إنساناً نسِى هذا الذكر ولم يذكره إلا هو قاعدٌ على موضع قضاء الحاجة..؟؟
والجواب لا يخلو من حالتين :
الحالة الأولى : أن يكون الموضعُ مُعَدَّاً لقضاء الحاجة ، كدورات المياه في زماننا فحينئذٍ قال بعضُ العلماء: يقول هذا الذِّكرَ في نفسه ولا يتلفظ بلسانه وذلك على سبيل التَّدارُكِ لما نُسِىَ.
ومنهم من يقول : لا يحتاج إلى الذِّكر ، وإنما يكون قبل الدخول فقط ؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم خصَّه بهذه الحالة.(6/21)
الحالة الثانية : أن يكون الموضع غير مُعَدٍّ لقضاء الحاجة كالصحراء والخلاء ، فإنه لا حَرجَ أن يقوله قبل أن يخرج منه الخارج ، والله أعلم تعالى .
- ? - ? - ? - ? - الأسئلة - ? - ? - ? - ? -
السؤال الأول :
إذاكان لايجوز استقبال القبلة ولااستدبارها عندقضاء الحاجة فبماذا يُجاب عن حديث ابن عُمَرَ في الصحيح أنَّه رقى على بيت حفصة فرأى النبي صلى الله عليه وسلم يقضى حاجته مستدبر القبلة مُستقِبلَ الشام ..؟؟
الجواب :
بسم الله الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه أمابعد:
الجواب عن هذا الحديث من وُجوه :
أولُّها : أن النبي صلى الله عليه وسلم خاطب الأُمة فقال:(( لاتستقبلواولاتستدبروا)) وحديث ابن عُمرَ من فِعْلِه عليه الصلاة والسلام والقاعدة : " أن القول مُقَدَّمٌ على الفعل" لأن دِلالة القول تشريعٌ للأُمة ، ودلالة’الفعل لا يُؤْمُنُ معها أن تكون من خُصوصياته عليه الصلاة والسلام ومَسْلَك التخصيص بالفعل يكون عند ورود التعارض بالقول ، وهذا من أقوى المسالِكِ عند الأُصوليين رحمة الله عليهم .
الجواب الثاني :ما أجاب به الجمهور أنَّ حديث ابن عُمرَ محمولٌ على البُنِيان ، وحديث النهى محمولٌ على الخلاء والصحراء ، ولذلك كان ابن عمر-رضى الله عنهما- إذا أراد أن يقضى حاجته في الصحراء أناخ بعيره وبال إلى بعيره وهو مُستقبل القبلة ، وكان يترخص في ذلك ويتأول حديثَ الرُّقِىِّ على بيت حفصة-رضى الله عنه وعنها-.
وأمَّا الجواب الثالث : فهو جواب من قال بالجمع بين الحديثين ، فقالوا : نحمل النهى على الكراهة ، ونجعل الفِعل صارفاً للنهى عن ظاهره من التحريم إلى الكراهة ، وأقوى هذه الوجوه هو الوجه الأول ، والله تعالى أعلم.
السؤال الثاني:
هل البول في البحر يدخل في النهى عن التبول في المياه ..؟؟
الجواب:(6/22)
البول في البحر رخَّص فيه جمعٌ من العُلَماء لأنَّهم قالوا: إن البحر لا يركُدُ ، وذلك لجريان الموج فيه ، ولذلك قالوا: إنه لا حَرَجَ أن يُبالَ فيه ، ومنع منه طائفةٌ من أهل العلم لوجود الضرر ، وذلك أن ساحل البحر يُطرق ، ولا يأمن أن يبقى شىءٌ من بوله على طرف الساحل ، وإن كان الأقوى والأشبه أنه لا حَرَجَ في بوله ، والله تعالى أعلم.
السؤال الثالث :
وردت أسئلة متفرقة يشتكى أصحابها من الوساوس التى تنتابهم في الغُسل أو الوضوء . نرجو من فضيلتكم ذِكر العلاج، حيثُ أنَّ هذا الأمر قد سبَّب لكثيرٍ هموماً وغموماً ومشاكل كثيرة ..؟؟
الجواب:
من أصابه الوسواس عليه بأمور ، أولُّها وأعظمُها : كثرةُ الدعاء والاستغفار واسترحام الله عز وجل ، فإنه ما نزل بلاءٌ إلا بذنب ولا رُفِع إلا بتوبة فيُكثِر من الاستغفار والتوبة لله عز وجل ويعتقد أنه المذنِبُ المُقَصِّر فلعلَّ الله عز وجل أن يرحمه إذا رأى منه صدق التوبة والإنابة إليه .
الأمر الثاني: الذى ينبغى على الإنسان إذا كثُرت منه الوساوِس :أن يتصل بالعلماء ، وألا يُفتى نفسه فإن كثيراً من هذه الوساوس إنَّما تكثر بين الناس بسبب إفتاء الإنسان لنفسه ، فتجده يُفتى نفسه أنه لم يتوضَّأ بعدُ ، وأنَّه لم يغتسلْ بعد ، ولذلك يبقى في شكٍّ دائمٍ ، ويأتيه الشيطان أن صلاته غيرُ صحيحة ، وأن عبادَتَه غيرُ مُجزئة .(6/23)
ولو وفَّق اللهُ الموسوسَ فأكثرمن سؤال العلماء ، وكُلَّما جاءه الشيطان فقال : وُضؤُك غير صحيح وغُسْلُك غير صحيح قال :قد سألتُ وفعلتُ ما أُمْرِتُ فإنَّه حينئذٍ تنقطع عنه كثيرٌ من الوساوس ، ولذلك قلَّ أن تجد إنساناً قد استفحلتْ فيه الوسوسة واستعظمت عليه إلا وجدته يفتى نفسه غالباً ، فتجده مع فتوى العلماء لا يثق ، ومع أمر العلماء له ونهيهم له لا يأتمر ولا ينتهى فلذلك يزيدُه اللهُ بلاءً ، ويزيده مُصيبةً على ما هو فيه ؛ وَلكِنْ إذا أراد اللهُ أن يُوفقَّه فأصبح يسألُ العالِم ويتقيَّدُ بفتواه فيجد في أوَّلِ مرَّةٍ الضيق والحرج.. كيف يُصلِّى وهو يشكُّ أنَّه خرج منه ..؟! فيقول : لا .. قد أفتانى العالِم ، وصلاتي- إن شاء الله- صحيحة .
فإنه إذا أفتاك العَالِمُ ومن يُوثَقُ بدينهِ أنَّ وضوءَك صحيح على الوجه الذى تفعله فإنه يُجزئك وقد أدِّيْت ما عليك بسؤال العلماء والعمل بما قالوا لك .
أمَّا إذا استرسل الإنسان مع وساوسه ، وأطلق العنان لشيطانه فإنه يأخذ به إلى مسالك لا تنتهى به حتَّى رُبماَ يخرج من دينه بكثرة ما يكون وساوِسه-نسأل الله السلامة والعافية- .
الأمر الثالث: الذى ينبغى على الإنسان الذى يُصاب بالوسوسة أن يستكثر منه :كثرةُ تلاوة القرآن وسماع مواعظ الذكر وغشيان حلق الذكر والجلوس فيها ، والله تعالى أعلم.
السؤال الربع :
إذا كانت الريح عكس اتجاه القبلة . فماذا يصنع من أراد قضاء الحاجة..؟؟
الجواب:
بسم الله والحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله ، وعلى آله وصحبه ومن والاه أمَّا بعد:(6/24)
فهذه المسألة يتعارض فيها أمران : ارتكاب النهي باستقبال القبلة ، والقول بأنه يستقبل الريح ويبول ثم يُزيل ما علق به من البول فإذا نظرنا إلى النهيين فإننا نجد أن النهى عن استقبال القبلة أقوى من النهى عن استقبال الريح ، وقد ثبت هذا في الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم ، والآخر - أعني حديث أبى هريرة- عند ابن عَدِيٍّ وكذلك البيهقي والدارقطنى فيه كلام فيُقدَّم ما صحَّ وثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ويكون هو الأولى .
ثانياً: أن مفسدة طشاش البول يُمكن أن تُزال بغسل الموضع فأمكن تدارُكُها ، وأمَّا مفسدة استقبال القبلة فإنه لا يُمكن إزالتُها بعد وقوعها فتُقَدَّمُ المفسدةُ التى يمكن تداركُها فيفعلها الإنسان ، وتُعتبر المفسدة التى لا يُمكن تداركُها فيتقيها الإنسان ، ولذلك يقوى ألا يستقبل .
ثم هناك مخرجٌ.. أن يكون بين الجهتين على وجه لا يتمحَّضُ به باستقبال القبلة ، ويخرج به عن الاستقبال ،والله تعالى أعلم.
السؤال الخامس :
هل ما ذُكِر من التحفظ في قضاء الحاجة والبُعْد ينبغي أن يكون بين الزوجين ..؟؟
الجواب :
اطِّلاعُ الزوج على عورة زوجته ، والزوجة على عورة زوجها قد ثبتت النصوص بجوازه وليس ثَمَّ دليلٌ يُحَرِّمُ نظرَ كُلِّ واحدٍ منهما إلى عورة الآخر وفي الصحيحين عنه عليه الصلاة والسلام أنه اغتسل مع أُمَّهات المؤمنين ، وهذا دليلٌ قوىٌّ على مشروعية التجرُّدِ منهما ، ولذلك لا حرج في نظر كلٍّ منهما إلى عورة الآخر وما ورد من الحديث الذى فيه التحريم للنظر فهو حديثٌ ضعيف لم يصحّ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وقول أُمِّ المؤمنين : إنَّها ما رأت ذلك من رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا رآه منها أيضا لم يثبتْ ولم يصحّ .(6/25)
ولذلك الأصل جوازه ، وأمَّا بالنسبة للتحفظ فإنه إذا تحفَّظ في غير حالة الشهوة فإنَّ ذلك أكمل وأولى وكونُه أكمل لا يقتضى تحريم ضدِّه ، والله تعالى أعلم.
السؤال السادس :
هل ورد في السُّنَّة أن المسلم إذا قضى أن حاجته يعتمد على شقِّه الأيسر أو جنبه الأيسر حتى يسهُل خروج الأذى..؟؟
الجواب :
جاء في الحديث عنه- عليه الصلاة والسلام -أنَّه أمر بالاعتماد على يُسْرَاه قالوا : لأن الاعتماد على الجانب الأيسر يُسَهِّلُ خروج الخارج ، ولذلك قالوا إنَّ هذا يُعتبر من آداب قضاء الحاجة ؛ ولَكِنَّ الحديث في ذلك ضعيفٌ ، أمَّا من غير الحديث وهو الطِّبُّ فالعلماء رحمهم الله يقولون : إن الحكماء القدماء يوُصُون به ، ولذلك يكون الارتفاق باليسار على صورتين :
الصورة الأولى: عند بوله يجعل رُكْبتَه على الأرض ، ثُم يقضِى رُكبته اليُسرى على الأرض فهذا اعتماد على اليسار ، وأمَّأ إذا كان يُريدُ أن يقضى بخروج البراز منه أو الغائط منه فإنَّه يعتمد على يساره بالانحناء ، وحينئذٍ يُشكِل مع النهى عن الاعتماد على اليسار والاتكاء عليها ، والله تعالى أعلم.
السؤال السابع :
هل هذه الرواية وهي" أعوذ بالله من الخُبث والخبائث الرَّجس النَّجسِ الشيطانِ الرَّجيم" ثابتةٌ عن النبي صلى الله عليه وسلم ؟؟
الجواب :
هذه هي رواية ابن ماجة في السُّنن ، وقد حسَّنها بعض العلماء رحمهم الله ، والطعن فيها أقوى،والله تعالى أعلم.
السؤال الثامن:
هلآَّ تفضلتم بإعادة ذكر النظمِ في آداب الجلوس للبول مع شرحه ..؟؟
الجواب:
بالطاهرَّ الصُّلْبِ اجْلِسِ .........................
يعني : إذا كانت الأرض طاهرةً صلبةً تجلس .
......................... وَامْنَعْ بِرَخْوٍ نَجِسِ .
يعني : إذا كانت الأرض رخوةً نجسةً ، وذلك أنها إذا كانت طاهرة صلبة فإنه حينئذٍ يستطيع أن يرتفِق .
بالطاهر الصُّلْبِ اجْلِسِ .........................(6/26)
ولاحرج عليه في هذه الحالة ، وأمَّا إذا كانت رخوة نجسة فإنَّه لا يأمن عند نزول البول أن يتطاير البول عليه ، ولذلك :
......................... وامنع برخوٍ نجسِ .
فالرخو النجس لا يأمن من سقوط ثوبه عليه ، وكذلك طشاش البول يكون بالنجاسة ، ومن ثَمَّ قالوا: يُمنع من الرَّخو النجس .
والنَّجسَ الصُّلْبَ اجْتَنِبِ .........................
يعني : لا تجلس في النجس الصلب أيضاً ، وإنما يبول الإنسان قائماً فاذا كانت الأرض نجسة صلبة فإنه يبول قائماً ، وأما إذا كان عكس ذلك (صلبةً طاهرةً) فإنَّه مخيرٌ بين الجلوس وبين القيام يؤكدون هذا بحديث حديفة في صحيح مسلم "أن النبي صلى الله عليه وسلم أتى سُباطة قوم فبال قائما" أتى سُباطة قومٍ .." هي كالمزبلة فالغالب فيها القذارة والنجاسة"فبال قائماً" فحينئذٍ امتنع من الرخو النجس ، قالوا : وهو يدل بمنطوقه على عدم الجلوس في الرخو النجس ، ويُفهَم من ذلك أنه إذا كان رَخْواً طاهراً فإنه يُخَيَّرُ فيه بين القيام وبين القعود ، والله تعالى أعلم.
السؤال التاسع :
هل يكون الدعاء سِرَّاً أو جهراً - أي الدخول للخلاء-..؟؟
الجواب :
الدعاء لدخول الخلاء والخروج لابُدَّ وأن ينطق به الإنسان والنُّطقُ لا يكون إلا بصوت مشتمل على الحروف .
أمَّا إذا كان قد تكلَّم بلسانه وقد أطبق الشفتين فإنَّه لا يُعدّ ذاكراً ، لقوله عليه الصلاة والسلام :(( إذا أراد أحدُكم أن يدخل الخلاء فليقل ..)) والقول لا يكون إلا بصوتٍ مشتملٍ على الحروف.
وأمَّا بالنسبة للكلام النفسى فليس بكلامٍ ، وعلى هذا أشكل قولُ من قال : إنه يقول الذكر في نفسه إذا كان قاعداً في قضائه للحاجة وهذا مذهبٌ فيه نظرٌ ، وقد تقدَّم معنا غيرُ مرَّة لأنه يبنى على مذهب من يقول بالكلام النفسى ، وهو مذهبٌ ضعيفٌ .(6/27)
أمَّا بالنسبة للنطق فإنه يكفي أن يلفظ بالشفتين ، ولا يُشترط أن يُسمعَ من حوله ، فلو تمتم بهذه الجُمَلِ -أو بهذه الجُمْلة- ولو أسمع نفسه ولولم يسمع نفسه ، وأنَّمَّا حرَّك شفتيه بحروفها فإنه يجزئه ، والله تعالى أعلم.
السؤال العاشر :
إذا قُلْنا بوجوب السلام من الصلاة فهل يجب مرَّةً أو مرَّتين..؟؟
الجواب :
التسليم من الصلاة للعلماء فيه وجهان :
منهم من يقول : الواجب تسليمتان ، ومنهم من يقول الواجب تسليمة واحدة ؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم ثبت عنه أنه سلَّم تسليمة واحدةً ، وهذا هو أقوى الوجهين : أن الأُولى واجبة ، والثانية سُنَّة ، ويتفرَّعُ على هذا ما ذكرناه من المسائل فيما لو سلَّم التسليمة الأولى فانتقض وضؤُه وخرج منه الريح قبل أن يُسلِّم التسليمة الثانية ، فإنه تصحُّ صلاتُه وتجزؤه وهكذا لو سلَّم التسليمة الأُولى ومرَّت بين يديه امرأة أو كلبٌ أو حمارٌ صحَّت صلاته وأجزأت إذا كانت قبل التسليمة الثانية كما يتفرَّع عليه أنه إذا سلَّم الإمام وأردت أن تقوم للقضاء فإنه يجوز ذلك أن تقوم بعد تسليمته الأولى ، والله تعالى أعلم .
السؤال الحادي عشر :
هل تدخل الفخذان في العورة..؟؟
الجواب :
هذه مسألةٌ خِلافيةٌ قال بعض العلماء :الفخذان من العورة المُغلَّظة ، فلا يجوز كشف الفخذين وفيه الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم أنَّه أمر الصحابَّى أن يحفظ عورته إلا من امرأته لمَّا رآه كاشفاً عن فخذه .(6/28)
ومِن العلماء مَنْ قال: الفخذان ليستا من العورة ، ومن الأدلة التى تدل على أن الفخذين من العورة أيضاً مع الحديث السابق الذى ذكرناه ما ثبت في الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:(( ما بين السُّرَّة والرُّكْبةِ عورةٌ في الصلاة )) هذا اللفظ:(( ما بين السُّرَّة والرُّكْبة عورةٌ في الصلاة )) حسن ، وهناك لفظ ثانٍ:(( مابين السُّرَّة والرُّكبة عورةٌ)) بإطلاقٍ، وهو الضعيف ؛ ولكن الحسن الذى هوثابتٌ :(( ما بين السُّرَّة وارُّكْبة عورةٌ في الصلاة)) فهذا يدلُّ دلالةً قويةً على أن الفخذ من العورة المُغَلَّظة ، وعلى هذا فإنه يجب حفظه وعدم كشفه .
وأمّا الذين قالوا : إن الفخذ ليس من العورة فاستدلُّوا بدليلين:
الأول : ما جاء عنه عليه الصلاة والسلام في قصته مع أبى طلحة يوم كان في يوم خيبر أنه ما زال يُقاتل حتَّى انحسر الرِّداء عن فخذه والحديث صحيح قالوا : فلو كانت الفخذ عورة لما كشفها عليه الصلاة والسلام .
والدليل الثاني : لمَّا كان عليه الصلاة والسلام عند أم المؤمنين ، فدخل أبو بكر ، وهو كاشفٌ عن فخذه ، ودخل عمر ، ثُمَّ استأذن عثمان فغطى فخذه وقال:(( ألا أستحى من رجُلٍ تستحى منه الملائكة..)).
هذان الدليلان هما أقوى ما استدلَّ به من قال بأن الفخذ ليست بعورة ويُردُّ على الدليلين بما يلى :
أمَّا الدليل الأول : أنَّه قاتل حتى انحسر الإزار عن فخذه ، فأُجيبَ بانشغاله عليه الصلاة والسلام بالقتال وتكون عورةً أخفَّ من العورة المُغلَّظةِ فاغتُفِرَتْ لكمال الشُّغل لإن الناس في انصراف عن النظر للعورة فكان مُغتفراً من أجل هذا .(6/29)
ثانياً : أمَّا حديث تغطيته من أجل دخول عثمان ، فأُجيبَ عنه بأنَّه الأمن من النظر وذلك أن أبا بكر وعمر -رضى الله عن الجميع- ممَّن يُؤمَنُ نظره ومِنْ ثَمَّ كان حاسراً عن الفخذ ، ولذلك يقوى قولُ من قال: إن الفخذ عورة ، ولذلك يُحتاطُ فيها ولا تكُشَف وهي قريبةٌ من السَّوْأة ، وقد تكون الفتنة فيها شديدة ، ولذلك قال العُلماء: من صلَّى وعليه ثوبٌ رقيقٌ وكان الذى عليه من الملابس الداخلية قصيراً بحيث يبدو نصف فخذه أو يبدو أغلبُ فخذه ، فإنه إذا كان الثوب الأعلى شفَّافاً يُشِفُّ لوْن العورة ، فإنَّه لا تصِحُّ صلاتُه وهذا على ظاهر النص في الحديث الذى ذكرنا:(( ما بين السُّرَّة والرُّكْبة عورةٌ)) ، والله تعالى أعلم.
وصلَّى الله وسلَّم وبا رك على نبيه وآله وصحبه أجمعين(6/30)
(
قال المصنف رحمه الله : حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرٍ مُحَمَّدُ بْنُ زَنْجَوَيْهِ الْبَغْدَادِيُّ وَغَيْرُ وَاحِدٍ قَالَ حَدَّثَنَا الْحُسَيْنُ بْنُ مُحَمَّدٍ حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ قَرْمٍ عَنْ أَبِي يَحْيَى الْقَتَّاتِ عَنْ مُجَاهِدٍ عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ رَضِي اللَّه عَنْهمَا قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم :(( مِفْتَاحُ الْجَنَّةِ الصَّلاَةُ وَمِفْتَاحُ الصَّلاَةِ الْوُضُوءُ )) .
الشرح :
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين وعلى آله وصحبه أجمعين أمابعد :
فقد ذكر المصنف رحمه الله حديث جابر بن عبدالله رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:(( مفتاح الجنة الصلاة ومفتاح الصلاة الوضوء)) هذا الحديث قصد المصنف رحمه الله من إيراده في هذا الموضع بيان أهمية الوضوء وأنه شرط لصحة الصلاة كما قدمنا في حديث علي رضي الله عنه وأرضاه ورجال هذا الإسناد كما ذكر المصنف رحمه الله .
قال "حدثنا أبوبكر محمد بن زنجويه البغدادي وغير واحد": قالوا : حدثنا وفي النسخ المطبوعة قال : حدثنا ويستقيم إذا قصد به الإفراد.
قال"حدثنا أبوبكر محمد بن زنجويه البغدادي قال حدثنا الحسين بن محمد قال حدثنا سليمان بن قرم عن أبي يحي القتات عن مجاهد عن جابر بن عبدالله -- رضي الله عنه - وأرضاه-": في هذا الإسناد رجلان متكلم فيهما :
أما الأول: منهما فهو سليمان بن قرم وهذا الرواي قد ضعفه غير واحد من العلماء وقد قال الحافظ ابن حجر رحمه الله في التقريب :" سيء الحفظ يتشيع" فقيل :" إن فيه تشيعاً ".(7/1)
وأما الرجل الثاني : فهو أبو يحي القتات وهذا الراوي قد طعن فيه غير واحد من العلماء أيضاً ، ولذلك قال الحافظ ابن حجر في التقريب :" لين الحديث إلا أن ابن عدي قال عنه أحاديثه عندي حسان" وكذلك أثر عن الإمام أحمد -رحمة الله عليه- أنه نقل عن الإمام البخاري أنه استشهد بحديثه ، وقد ضعف العلماء رحمهم الله هذا الحديث لمكان هذين الروايين.
وأما قوله:" عن مجاهد": فهو أبو الحجاج مجاهد بن جبر تلميذ حبر الأمة وترجمان القرآن عبدالله بن عباس رضي الله عنه وأرضاه .
قال عنه الحافظ الذهبي في السير:" مجاهد بن جبر الإمام شيخ المفسرين والقراء مولى السائب بن أبي السائب ، وقيل عبدالله بن السائب القارئ ، كان هذا الإمام الجليل ديواناً من دواوين العلم رواية ودراية عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أخذ عن ابن عباس علم التفسير وقل أن يوجد له نظير ، ولذلك أثر عنه رحمه الله أنه عرض كتاب الله على عبدالله بن عباس ثلاث مرات وفي كل مرة يستوقفه عند كل آية يسأله عن حلالها وحرامها وناسخها ومنسوخها ومتى نزلت وكيف نزلت وما الذي اشتملت عليه ، فكان رحمه الله من أعرف الناس بفقه ابن عباس وتفسيره ، ولذلك استحق من العلماء عاطر الثناء وأثنى عليه غير واحد من الأجلاء حتى قال قتادة بن دعامة السدوسي - مع أنه ممن نقل التفسير عن ابن عباس - قال بعد موت عبدالله بن عباس رضي الله عنه :" مابقي أحدٌ يعلم التفسير أفضل من مجاهد " رحمه الله وكذلك كان سفيان الثوري رحمه الله يوصي بتفسيره وثنى عليه خيراً وكان رحمه الله إماماً في الصلاح والخير والاستقامة .
كان شديد الإخلاص مخلصاً لله عز وجل حتى قال سلمة بن كهيل رحمه الله :" مارأيت أحداً يبتغي بعلمه وجه الله إلا ثلاثة وهم : مجاهد بن جبر ، وطاوس بن كيسان ، وعكرمة بن عبدالله البربري -رحم الله الجميع-.(7/2)
كان رحمه الله يخاف من الشهرة والثناء ، ولذلك كان يوصي أصحابه ألا يرفعوا قدره عند الناس بمعنى أن يبالغوا في الثناء عليه.
وكان رَثَّ الثياب والمنظر لايبالي بهيئته -رحمة الله عليه- ؛ ولكنه إذا تكلم كأنما يغرف من البحر من سعة علمه رحمه الله .
وكان العلماء رحمهم الله يأخذون من تفسيره وقوله في التفسير معتبر ، وربما تسامح في نقل الإسرائيليات وبعض الأخبار -رحمه الله برحمته الواسعة-.
ومع ذلك أحسن الله له الختام حتى أثر أنه توفي وهو ساجد بين يدي الله سنة اثنتين بعد المائة من الهجرة ، وقيل سنةثلاث ، وقيل: سنة أربع ، و الله أعلم بالصواب.
يقول: عن جابر بن عبدالله-رضي الله عنهما-: هذا الحديث إذا نظرنا إليه من جهة ضعفه فإنه قد يقول قائل لاحاجة إلى تفسيره وشرحه وبيان مسائله وأحكامه ؛ ولكننا نبين هنا أن الحديث ربما كان ضعيف الإسناد صحيح المتن فيكون متنه صحيحاً قد شهدت الأصول والأدلة في كتاب الله عز وجل وسنة النبي صلى الله عليه وسلم بصحة المتن واعتباره ، ولذلك فشرح المتون على هذا الوجه مستقيم ، وكان العلماء والأجلاء يقولون : هذا الحديث وإن كان ضعيف الإسناد لكنه صحيح المتن ، فكون الإسناد ضعيفاً لايمنع من الحديث عن متنه الصحيح وماتضمن من مسائل وأحكام شهدت بها الأصول ، ثم إن التصحيح والتضعيف قد يكون محل خلاف بين العلماء رحمهم الله ، ولذلك حسن هذا الحديث بعض العلماء ورمز له السيوطي في الجامع بأنه حسن بالنظر إلى كون الرواة لم يصلوا إلى الضعف الشديد مع قوة المتن وصحة اعتباره .(7/3)
يقول: عن جابر-رضي الله عنهما-أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:(( مفتاح الجنة الصلاة)) : هذه الجملة دلت دلالة واضحة على أهمية الصلاة ، كيف لا وهي الركن الثاني من أركان الدين الموجبة للقرب من الله رب العالمين صلة بين العبد وربه فهي عمود الإسلام ، ولذلك عظم الله شأنها في كتابه المبين وعلى لسان رسوله الأمين صلى الله عليه وسلم ، ولذلك لما حضرته الوفاة عليه الصلاة والسلام كان يقول:(( الصلاة وماملكت أيمانكم الصلاة وما ملكت أيمانكم )) فكانت آخر وصايا رسول الله صلى الله عليه وسلم .
وقوله:(( مفتاح الجنة الصلاة)): فيه إشارة إلى أن الجنة لها أبواب ، ولذلك ثبتت النصوص في كتاب الله- - عز وجل --وسنة النبي صلى الله عليه وسلم تدل على أن للجنة أبواباً ثمانية.(7/4)
فأما الكتاب فإن الله عز وجل قال:{حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا وَفُتِحَتْ أَبْوَابُهَا}(1) وقوله:{ وَفُتِحَتْ أَبْوَابُهَا} بالواو وهذه الواو تعرف في لغة العرب بواو الثمانية ، وذلك أن العرب إذا عددت فإنها تبتدئ بالعدد الواحد ثم تتبعه بالثاني والثالث دون ذكر للواو ، حتى إذا بلغوا العدد السابع قالوا: والثامن ، فيضيفون الواو للثامن ، ومنه قوله- - سبحانه وتعالى -- :{سَيَقُولُونَ ثَلاَثَةٌ رَابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ وَيَقُولُونَ خَمْسَةٌ سَادِسُهُمْ كَلْبُهُمْ رَجْماً بِالْغَيْبِ وَيَقُولُونَ سَبْعَةٌ وَثَامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ}(2) وكذلك قول:{ التَّائِبُونَ الْعَابِدُونَ الْحَامِدُونَ السَّائِحُونَ الرَّاكِعُونَ السَّاجِدُونَ الآمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّاهُونَ عَنْ الْمُنكَرِ}(3) فلذلك قال: {حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا وَفُتِحَتْ أَبْوَابُهَا} فأبواب الجنة ثمانية وفي الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:(( من توضأ فأسبغ الوضوء ثم قال: أشهد ألا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله فتحت له أبواب الجنة الثمانية يدخل من أيها شاء)) .(7/5)
وقوله (( مفتاح الجنة الصلاة )) : فيه حجة ودليل لمن قال بكفر تارك الصلاة وأن من ترك الصلاة لاحظ له في دخول الجنة-نسأل الله السلامة والعافية- ، وفي الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:(( العهد الذي بيننا وبينهم الصلاة فمن تركها فقد كفر )) وكان أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم لايرون شيئاً تركه كفر إلا الصلاة من تعظيم أمرها وإجلالهم لشأنها فلذلك يعتبر قوله :(( مفتاح الجنة الصلاة)) دليلاً على أنه لاحظ لتارك الصلاة في الجنة ، ولذلك جعل الله لهذه الشعيرة مالم يجعله لغيرها مما هو دونها من شعائر الإسلام ، فسماها الصلاة فهي صلة بين العبد وربه وفي الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أن العبد إذا حافظ على طهارتها وركوعها وسجودها وخشوعها صعدت إلى السماء وعليها نور ففتحت لها أبواب السماء حتى تنتهي إلى ماشاء الله أن تنتهي فتشفع لصاحبها وتقول:((حفظك الله كما حفظتني )) فلذلك سميت بهذا الاسم العظيم الذي يدل على أنها صلة بين العبد وبين الله ، وأن صاحبها موصول برحمة الله -جل شأنه-ولذلك قال الله في كتابه المبين :{اتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ الْكِتَابِ وَأَقِمْ الصَّلاَةَ إِنَّ الصَّلاَةَ تَنْهَى عَنْ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ}(1) فأخبر سبحانه وتعالى أن أهلها المحافظين عليها في سلامة من الفتن ماظهر منها ومابطن ، ومن هنا عظم النبي صلى الله عليه وسلم شأنها في هذا الحديث على القول بتحسينه وثبوته فعدها مفتاحاً للجنة ، وقد ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:(( من أنفق زوجين في سبيل الله نودي يوم القيامة ياعبدالله هذا خير فمن كان من أهل الصلاة نودي من باب الصلاة ومن كان من أهل الصدقة نودي من باب الصدقة ومن كان من أهل الصيام نودي من باب الريان )) قال بعض العلماء : من كل من أهل(7/6)
الصلاة أي ممن يحافظ على الصلاة المفروضة ، وقال جمع من المحققين : أي من أكثر من الصلوات النافلة فإنه يدخل الجنة من باب المصلين المحافظين على الفرائض والنوافل ، وفي الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أن الله-تعالى- يقول :(( ماتقرب إلي عبدي بشئ أحب إلي مما افترضته عليه ولايزال عبدي يتقرب إلى بالنوافل حتى أحبه فإذا أحببته كنتُ سمعه الذي يسمع به ، وبصره الذي يبُصر به ، ورجله التي يمشي عليها ، ويده التي يبطش بها ، ولئن سألني لأعطينه ، ولئن استعاذني لأعيذنه)).
فكل هذه النصوص تدل على ماتضمنته هذه الجملة العظيمة من كون الصلاة مفتاحاً للجنة ، ولذلك تتردد هذه الجملة بين معنيين :
المعنى الأول : إما أن يقال إنها مفتاح للجنة على الحقيقة .
المعنى الثاني : وإما أن يقال إنها مفتاح لكل خير يتوصل به إلى الجنة وبذلك تكون جامعة للفضائل ، وسبباً من أعظم الأسباب التي ينال بها الإنسان خيري الدينا والآخرة.
وقوله عليه الصلاة والسلام :(( مفتاح الجنة)) : سميت الجنة جنَّةُ من الاجتنان ، وأصل الجنَّ الستر ومنه المِجَنُّ لأنه يستر صاحبه من ضربات السلاح في الحروب، وسميت البساتين جَنَّةً لأنها تجن من بداخلها بمعنى أنها تستره ، ويوصف الليل بذلك كما في قوله سبحانه وتعالى :{فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ}(1) يعني ستره الليل بظلامه ، فلذلك سميت الجنة جنة من كثرة حدائقها ومافيها من البساتين كما وصف الله –جل وعلا-في كتابه المبين.
وقوله عليه الصلاة والسلام :(( مفتاح الجنة الصلاة)) : الصلاة هنا تحتمل معنيين :
المعنى الأول : إما أن يكون المراد بها الصلاة المفروضة فحينئذ لاإشكال ، ويكون التعبير بالعموم منصرفاً إلى الخصوص ، ولذلك تعتبر هي الأصل فالتعبير وارد على هذا الأصل فتقول: عام أريد به الخصوص.(7/7)
والمعنى الثاني : وإما أن يراد بها عموم الصلوات فيشمل ذلك ماكان منها فريضةً وماكان منها نافلة والأول هو الأقوى والذي نص العلماء رحمهم الله على اعتباره في مطلقات النصوص غالباً.
وقوله عليه الصلاة والسلام :(( ومفتاح الصلاة الوضوء)) : فيه دليل على أن الوضوء فريضةً للصلاة ولايجوز للمسلم أن يصلي بدون وضوء ، وقد تقدمت هذه المسألة بأدلتها في كتاب الله عز وجل وسنة رسولهصلوات الله وسلامه عليه ولكن قوله عليه الصلاة والسلام :(( مفتاح الصلاة الوضوء)) فيه دليل على أن الصلاة لاتصح بدون وضوء ؛ لكن هذا الإطلاق مقيد بما وردت به الرخصة في النصوص الصحيحة من كتاب الله وسنة النبي صلى الله عليه وسلم فلذلك يصح للإنسان أن يصلي بالتيمم مع أنه لم يتوضأ ، وذلك لمكان الرخصة الشرعية التي نص الدليل الشرعي على اعتبارها ، ومن هنا أخذ بعض العلماء دليلاً على أن الإنسان إذا اغتسل من الجنابة وأراد أن يصلي فإنه لايجوز له أن يصلي حتى يتوضأ وهذه المسألة لها صورتان .
فلو أن إنساناً اغتسل من الجنابة وأراد أن يصلي فلا يخلو من حالتين :
الحالة الأولى: أن يكون قد نوى بغسله أن يصلي فحينئذ يندرج الوضوء تحت الغسل من الجنابة بالإجماع وذلك لما ثبت في الحديث الصحيح عن أم المؤمنين عائشة-رضي الله عنها وأرضاها- أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يصلي بعد غسله من الجنابة دون أن يتوضأ ، فهذا الحديث الصحيح قد دل دلالة واضحة على أن من اغتسل من الجنابة فإنه يجوز له أن يصلي ولو لم يتوضأ ؛ ولكن محل ذلك إذا نوى ؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال:(( إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ مانوى)) فمن نوى بغسله من الجنابة أن يصلي الفريضة أو النافلة فإنه يجزؤه .(7/8)
الحالة الثانية : ألا ينوي الوضوء تحت الغسل كأن يغتسل ذاهلاً عن الحديث الأصغر فللعلماء فيه قولان أصحهما وأقواهما أنه يجب عليه الوضوء ، وذلك لأن الحدث الأكبر قد نواه منفرداً عن الأصغر والقاعدة :" أن من نوى شيئاً كان له ، ومن لم ينو الشيء لم يكن له " ، ولذلك يجزؤه ذلك الغسل عن الجنابة دون الوضوء فيلزمه أن يتوضأ بعد غسله من الجنابة.
المسألة الثالثة : في هذه العبارة دليل لمن قال من العلماء : إن من فقد الوضوء والتيمم لا يصلي لأن مفتاح الصلاة الوضوء وماقام مقامه من التيمم ، ومن لم يتوضأ ولم يتيمم فلا يصلي ، والصحيح أنه يصلي لأن التيمم قلنا مخصص من هذا العموم فكذلك ينبغي أن يقال في حالة الاضطرار وقد تقدمت هذه المسألة بأقوال العلماء وأدلتهم رحمة الله عليهم فيها وأن الصحيح أن من فقد الماء والتراب أو كان عاجزاً عن الوضوء والتيمم فإنه يصلي على حالته.
قال المصنف رحمه الله :بَاب مَا يَقُولُ إِذَا دَخَلَ الْخَلاَءَ
الشرح :
يقول المصنف رحمه الله " باب مايقول إذا خرج من الخلاء ": هذه العبارة المراد بها بيان هدي النبي صلى الله عليه وسلم وماكان يقوله عند خروجه من الخلاء ، وقد تقدم في المجلس الماضي بيان الأحاديث التي وردت عن النبي صلى الله عليه وسلم والتي اشتملت على الأذكار التي يشرع قولها قبل الدخول في الخلاء ، ولذلك ناسب أن يتبع الباب السابق بهذا الباب اللاحق لأنه تتمة له من جهة الأدب ، ويعتبر العلماء رحمهم الله هذا الأدب القولي من الآداب المتعلقة بآدب الخلاء أو آداب قضاء الحاجة وقد قدمنا ذلك.(7/9)
وقوله :" باب مايقول إذا خرج من الخلاء": قال حدثنا محمد بن إسماعيل " اختلفت النسخ في هذا الراوي ففي بعض النسخ "حدثنا محمد بن إسماعيل" وهذا هو الصحيح منها والمراد بمحمد بن إسماعيل الإمام أبو عبدالله محمد بن إسماعيل البخاري صاحب الصحيح -عليه رحمة الله ورضوانه- وفي بعض النسخ قال:" حدثنا أحمد بن محمد بن إسماعيل " وليس هناك في شيوخ الإمام الترمذي من هو بهذا الاسم ، وفي بعضها "حدثنا محمد بن إسماعيل عن حميد قال حدثنا حميد" وهذا غلط أيضاً فإنه لايعرف في شيوخ البخاري رحمه الله من هو بهذا الاسم ،ولذلك فالصحيح مااشتملت عليه النسخة التي بين أيدينا والمشتملة على ذكر محمد بن إسماعيل والمراد به محمد بن إسماعيل البخاري .
"قال حدثنا مالك بن إسماعيل ": وهو شيخه الحافظ .
"قال حدثنا مالك بن إسماعيل عن إسرائيل بن يونس" ابن أبي إسحاق السبيعي": وهو ثقة وقد تقدمت الإشارة إلى توثيقه قال الإمام أحمد :" ثقة ثبت".
وقوله "عن يوسف بن أبي بردة عن أبيه": -يعني أبابردة- وهو الذي سماه المصنف عامر بن الحارث أو الحارث كما ذكر.
"عن عائشة -رضي الله عنها وأرضاها-قالت:" كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا خرج من الخلاء يقول".
قولها"كان النبي صلى الله عليه وسلم ": هذه الجملة يعتبرها العلماء رحمهم الله مفيدة للاستمرار فالصحابي إذا قال:" كان النبي صلى الله عليه وسلم يقول" أو قال:"كان النبي صلى الله عليه وسلم يفعل كذا وكذا "فإنها تدل على كثرة فعله عليه الصلاة والسلام لذلك الأمر .(7/10)
وقولها:"كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا خرج من الخلاء..": المراد بذلك بعد تمام الخروج لا عند إرادة الخروج على عكس حديث أنس الذي تقدم معنا :"كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا دخل الخلاء "قلنا المراد به إذا أراد دخول الخلاء ، وهنا حديث عائشة "كان إذا خرج من الخلاء" أي إذا تم خروجه من الخلاء ، ولذلك لا يشرع هذا الذكر والقول إلا بعد خروج الإنسان من مواضع قضاء الحاجة كالحمامات ونحوها ، والمعتبر في ذلك المكان الذي يقضي الإنسان فيه حاجته ولاعبرة بأماكن الوضوء ، فلو أن إنساناً دخل موضعاً يشتمل على مكان يتوضأ فيه ، ومكان قد أُعد لقضاء الحاجة فالعبرة بالمكان المعد لقضاء الحاجة ، أما إذا اشترك المكانان وكان في المكان الواحد باب يدخل الإنسان فيه إلى موضع الوضوء وقضاء الحاجة فالعبرة بالباب وليست العبرة بالموضع ، ولذلك لا يجوز أن يذكر الله داخل ذلك الموضع -أعني دخوله إلى ذلك الموضع-.
وقولها يقول:(( غفرانك)): الغفر في لغة العرب المراد به الستر ، ومنه سمي المغفر مغفراً لأنه يستر رأس صاحبه من ضربات السنان وغيره من آلات الحروب ، وفي الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه دخل مكة وعلى رأسه المغفر فأصل الغفر الستر قالوا : لأن الله-تعالى-إذا تولى ذنوب العباد وعفا سبحانه وتعالى عنها فإنه يسترها كأن لم تكن موجودة ولم تقع من العبد ، وهذا من كريم فضله سبحانه وتعالى ومن صفاته أنه الغفور وصيغة فعول تفيد المبالغة أي كثير المغفرة ، وكذلك هو الغفار وفعال من صيغ المبالغة أيضاً كما قال سبحانه وتعالى :{وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً ثُمَّ اهْتَدَى}(1).
وقوله:((غفرانك)): أي اغفر غفرانك فهو مفعول مطلق لفعل محذوف تقديره اغفر غفرانك ، أو يكون مفعولاً به لفعل محذوف أي أسأل غفرانك أي اسألك اللهم أن تغفر لي .(7/11)
واستشكل العلماء رحمهم الله كيف سأل النبي صلى الله عليه وسلم المغفرة مع أنه لم يتعاط الذنوب أثناء قضائه للحاجة..؟؟
وللعلماء رحمهم الله في هذا اللفظ النبوي وجهان :
الوجه الأول : أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن أول من قال هذه الكلمة وسأل الله المغفرة فقالوا إن آدم-عليه السلام- لما أُهبط من الجنة إلى الأرض لحقه الغائط ، فلما خرج منه ورأى مافيه من نتن الرائحة وكان في الجنة لايرى ذلك لأن أهل الجنة لا يبولون ولايتغوطون ؛ ولكن يكون منهم الرشح كرشح المسك ، ولذلك لما أهبط إلى الأرض أصابه ما اصابه من الخارج فلما رأى نتنه ووجد رائحته الكريهة ظن أن ذلك إنما هو فضلة الشجرة التي أكل منها فاستغفر ربه هوأناب إليه ، وهذا القول قد حكاه بعض العلماء رحمهم الله ، ولكنه لم يثبت به خبر صحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم والأصل في الأخبار عن الأنبياء والأحكام ونحوها من العقائد أن يتوقف فيها حتى يثبت الخبر ، ولذلك لاتصح نسبة هذا إلى نبي الله آدم عليه الصلاة والسلام ومن ثَمَّ لا يحُكم بأن هذه سنة نبوية بأنها سنة مطردة لعدم ثبوت النص الذي يدل على صحة نسبة ذلك إلى آدم عليه الصلاة والسلام .(7/12)
الوجه الثاني : أن النبي صلى الله عليه وسلم أراد التشريع للأمة وذلك أن الإنسان إذا دخل هذه المواضع لم يأمن من النظر إلى عورته ونحو ذلك من الأمور التي يشدد فيها بعض العلماء ، حتى قالوا: إنه لاينظر الإنسان إلى عورته من دون حاجة قالوا فلايأمن من التقصير بعض الشيء ، خاصةً وأن هذه المواضع-أعني الغائط ومواضع قضاء الحاجة- فيها التكشف فلربما تساهل في شئ من ذلك ، فاستغفر النبي صلى الله عليه وسلم ربه لكي يكون تشريعاً للأمة وليس المراد أن ذلك وقع من النبي صلى الله عليه وسلم ؛ وإنما هو التفات لما تعم به البلوى من سائر أمته-صلوات الله سلامه عليه- ، وعلى هذا الوجه يكون المراد مايتلبس به الناس من الخطأ في هذه المواضع فيكون الاستغفار مناسباً من هذا الوجه.
القول الثالث: أن النبي صلى الله عليه وسلم استغفر ربه على سبيل الكمال وذلك أن حسنات الأبرار سيئات المقربين كما ذكر العلماء ، أي أن النبي صلى الله عليه وسلم كأنه نظر إلى هذا الوقت الذي خلافيه بدون ذكر الله عز وجل فاستغفر الله عز وجل على فوات هذا الوقت دون وجود ذكر ، وهذا القول محل نظر إذ لو كان الأمر كما ذكروا لاستغفر ربهصلوات الله وسلامه عليهمن كل شيء من فضول الدينا ، ولذلك يعتبر هذا القول ضعيفاً من هذا الوجه.
والصحيح وهو القول الأخير أن هذا الأمر تعبدي فكما أن الإنسان يتعبد لله-سبحانه-بالأذكار في المناسبات فإن الله شرع على لسان رسولهصلوات الله وسلامه عليهأن يقول المكلف هذا الذكر عند خروجه من الخلاء ماهي المناسبة؟؟وماهي الحقيقة ؟؟
أمر علمه عند الله فكما ورد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم نقول ونمتثل فعلى الله الأمر وعلى رسولناصلوات الله وسلامه عليهالبلاغ وعلينا الرضا والتسليم ، والله تعالى أعلم .
- ? - ? - ? - ? - الأسئلة - ? - ? - ? - ? -
السؤال الأول:
هل الغسل للتبرد أو التنظف يغني عن الوضوء..؟؟(7/13)
الجواب:
بسم الله الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه أمابعد :
فقد قال بعض العلماء من اغتسل أو استحم من أجل أن يتبرد في الصيف فإنه لايصح منه أن ينوي الوضوء ؛ لأن هذا الغسل ليس من قبيل العبادات فلا يندرج الوضوء تحته ، وهذا القول من القوة بمكان وذلك أن الغسل يفوت أموراً مهمة في الوضوء منها الترتيب الذي يعتبر من شروط صحة الوضوء ، ولذلك لايصح أن يقال بإجزاء غسل التبرد عن الوضوء حتى ولو نوى لخروجه عن مقام التعبد ، والله تعالى أعلم.
السؤال الثاني :
ماحكم من نوى اندراج الوضوء تحت الغسل ولكن ماهو حكمه لو مس ذكره أثناء الغسل أو بعده..؟؟
الجواب:
من مس ذكره أثناء الغسل فلا يخلو من حالتين :
إما أن يقع مسه بعد انتهائه من غسله أو بعد غسله لأكثر جسده فحينئذ لايصح ولايجزئ هذا الغسل عن الوضوء وذلك أن وضوءه منتقض ؛ لأنهم لما قالوا باندراج الوضوء تحت الغسل فإن الحكم يقتضي أن يقع منه غسله لجميع البدن دون وجود إخلال بناقض ، وعلى هذا فلو غسل بدنه كله وخرج منه الريح أو قطر البول فإنه ينتقض وضوؤه بالإجماع كذلك لو مس الذكر.
أما لو وقع مسه للذكر في أول غسله فقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم كما في الصحيحين من حديث أم المؤمنين عائشة وميمونة رضي الله عن الجميع قالت:" فبدأ عليه الصلاة والسلام فغسل ذكره ومواضع الأذى"فهذا يدل على أن غسل هذه المواضع في بداية الغسل لايضر ولايؤثر ، والله تعالى أعلم.
السؤال الثالث:
ماهو القول الصحيح في السائل الذي يخرج من رحم المرأة هل ينقض الوضوء أم لا..؟ وماذا تفعل المرأة لو كان هذا السائل ينزل بكثرة ..؟؟
الجواب:
هذه المسألة تعرف عند العلماء رحمهم الله بمسألة رطوبة فرج المرأة وللعلماء فيها قولان:
منهم من تسامح فيها ولم يحكم بنجاسة رطوبة فرج المرأة .(7/14)
ومنهم من قال: إنها نجسة وهو الصحيح الذي دلت عليه السنة الثابتة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وذلك أنهم كانوا في أول الإسلام إذا جامع الرجل المرأة لايجب عليه الغسل إلا إذا أنزل وذلك في قوله عليه الصلاة والسلام :(( إنما الماء من الماء)) وقوله للأنصاري:(( لعلك أعجلت؟؟ إذا أعجلت أو أقحطت فلا غسل عليك)) وفي الحديث الآخر((إذا فضخت الماء فاغتسل)) فكانوا في أول الإسلام إذا جامع الرجل المرأة ولم ينزل لم يجب الغسل ، ثم أمر النبي صلى الله عليه وسلم حينما كان التشريع بعدم وجوب الغسل إذا لم يقع الإنزال قال:((ليغسل ما أصابه منها)) أي ليغسل عضوه وماأصاب بدنه من رطوبتها فدل هذا على أن الرطوبة نجسة ، وهذا هو الصحيح الذي اختاره جمع من العلماء وأشار إليه بعض الأئمة كالإمام النووي رحمه الله وغيره.
وأما إذا عمت به البلوى فأصبح السائل مع المرأة مسترسلاً فإنه يأخذ حكم دم الاستحاضة تؤمر المرأة بإزالته عند ابتداء وقت الصلاة فتغسل الموضع ثم تضع القطن إذا كان يمكنها أن تتلجم وتحبسها.
أما بالنسبة إذا اغلبها فإنها تتوضأ لدخول وقت كل صلاة ويجزؤها أن تصلي ولو تقاطر على ثيابها ،والله تعالى أعلم.
السؤال الرابع:
إذا نوى الإنسان غسل الجمعة فهل تندرج الجنابة تحته أم أن للجمعة غسلاً مستقلاً والجنابة كذلك ..؟؟
الجواب:(7/15)
من نوى الجنابة وأن يندرج تحتها غسل الجمعة وكان الوقت قريباً من الجمعة أجزأه ذلك ، وكان ابن عمر-رضي الله عنهما وأرضاهما-يفتي بذلك كان يفتي أنه من اغتسل للجنابة أجزأه عن غسل الجمعة ؛ والسبب في ذلك أن العبادة تندرج تحت العبادة إذا تحقق مقصود الشرع ، فلما كان مقصود الشرع من غسل الجمعة أن يمضي الإنسان إلى الجمعة نظفياً طيب الرائحة بعيداً عن النتن والقذر وأذية المصلين ، كما يفيده حديث عائشة عند الترمذي وغيره حينئذ نقول إن المعنى الذي دل عليه النص موجود في حالة ما إذا اغتسل للجنابة فإذا نوى اندارج غسل الجمعة تحت الجنابة فقد وقع عنهما وحينئذ ينطلق ولايلزمه أن يعيد غسلاً مستقلاً للجمعة ، وأما إذا لم ينو فإنه يلزمه حينئذ أن يغتسل الغسلين الغسل الأول لجنابته والثاني لجمعته ، والله تعالى أعلم .
السؤال الخامس :
سمعت من بعض الناس بعد خروجه من الخلاء يقول: غفرانك الحمدلله الذي أذهب عني الأذى وعافاني فما مدى صحة هذا القول..؟؟
الجواب :
هذا الحديث :(( الحمدلله الذي أذهب عني الأذى وعافاني)) متكلم في إسناده وهو ضعيف عند العلماء رحمة الله عليهم وبعضهم يحسنه ولكن تحسنيه فيه تسامح ، وقالوا مناسبة قوله : (( الحمدلله الذي أذهب عني الأذى)) أي مايكون في الجوف فلو أن الله حبس الطعام والشراب في الإنسان لهلك وانظر إلى الإنسان المحصور كيف تقوم قيامته وتعظم بليته إذا حبس الله قطر البول في جسده ، وقد يعجز الأطباء عن إخراجه وقد يموت بسبب هذا الحصر ، ولذلك كان مناسباً أن يحمد الله على سلامته من هذا الأذى ، وكذلك أيضاً قوله :((عافاني)) فالمعافاة تكون للبلاء المعنوي أي أن الله عافاه من أذى الجن وشرورهم وما يكون في مواضع الأذى فحمدالله على ما أزال عنه من أذى الحس وما أزال عنه من أذى المعنى ، والله تعالى أعلم .
السؤال السادس :(7/16)
أنا مريض بالسكر-عافاكم الله والمسلمين من ذلك - ينزل مني البول مادمت جالساً لقضاء حاجتي فماذا أصنع..؟؟وهل يجوز لي أن أفرغ الذكر من البول بيدي..؟؟ أي بما يسمى عند بعض الأئمة السلت أو النتر..؟؟
الجواب :
-أسأل الله العظيم أن يمُنَّ علينا وعليك وعلى جميع المسلمين بالعفو والعافية- وهذا ابتلاء وما يسعك إلا الصبر واحتساب الأجر عند الله سبحانه وتعالى ومايدريك أن هذا السكر أو هذا الضغط يكون مفتاحاً للجنة..؟؟ ومايدريك أن الله يبلغك به درجة في الجنة لاتبلغها بكثرة صلاة ولاصيام..؟؟ فالصابرون أجرهم عند الله بدون حساب .
لاتتذمر ولاتشتك الله على خلقه ؛ ولكن قل الحمدلله وهذا من لطف الله عز وجل فدفع الله ماكان أعظم.
فبلاء السكر بلاء عظيم ولكن لايسعك إلا أن تصبر وتحمدالله عز وجل ، ومن ابتلاه الله في جسده بالبلاء فشكر وحمدالله رضي الله عنه قال صلى الله عليه وسلم :(( إن الله إذا أحب قوماً ابتلاهم )) فمن رضي فله الرضا من الله سبحانه وتعالى .
-فأسأل الله أن يصبرنا ويصبرك ويصبر المبتلين من عباده المسلمين-.
وأما ماسألت عنه من تقاطر البول فإذا كان البول يغلبك ولايمكنك أن تكفه في وقت الصلاة كلها فالحكم حينئذ حكم من به السلس ، فإنك توضأ لدخول وقت كل صلاة وتغسل الأذى في مواضع ثيابك ثم تصلي أثناء هذا الوقت إلى أن يدخل وقت الصلاة التي بعدها.
وأما ماسألت عنه من السلت والنتر فالسلت هو أن يضع الإنسان رأس أصبعه عند أصل المجرى من الذكر ثم يجريه إلى رأس العضو وهذا يسمى بالسلت.(7/17)
وأما النتر فإنه يعتبر حفز العضو على الإنزال بشده ، وليس في السلت والنتر حديث صحيح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وذكره بعض العلماء ؛ ولكن الصحيح أنه لايفعله الإنسان لايفعل السلت والنتر لأنه يدخل على الإنسان الوسوسة ويعرضه لأمور لا تحمد عقباها والأطباء يؤكدون هذا ، وقد تكلم شيخ الإسلام رحمه الله على هذا ونبه عليه أنه لاخير فيه وأن فيه ضرراً على الإنسان ، ولذلك لايسلت إلا عند وجود الضروة والحاجة فإذا كان العضو ضعيفاً في إخراج الفضلة فالعلماء رحمة الله عليهم يقولون من الناس من يخرج فضلته بالحركة فحينئذ إذا قضى حاجته في موضع ينتقل إلى موضع آخر يستنجي أو يستجمر فيه ؛ لأنه بانتقاله تقوى الغدة على إخراج مافي الفضلة الباقية ، ومنهم من يخرج بالصوت كما في النحنحة ونحوها فيتنحنح ، ومنهم من يخرج بالحركة فهذا عند وجود الحاجة لكن إذا لم توجد حاجة للإنسان فإن الإنسان يقتصر على غسل العضو عند غلبه ظنه بانتهاء مافي العضو ، أما إذا غلب على ظنك أنه يحتاج منك الانتظار إلى دقيقة أو دقيقتين إلى خمس دقائق فانتظر حتى تستبرئ،والله تعالى أعلم.
السؤال السابع :
سائلة تقول: إنها قبل موعد الحيض بأربعة أيام أو خمسة تنزل قطرات من الدم ثم بعد ذلك تأتي الآلام المصاحبة للحيض فهل هذه الأيام التي تنزل فيها هذه القطرات تعتبر من الحيض أو لا..؟؟
الجواب :
هذه الأيام التي تسبق أيام العادة إذا كانت المرأة قد ميزت دم الحيض فيها كما ورد في السؤال بالألم فإنها تعتبر أيام الحيض أيام الألم ، ولاتعتد بهذه الأيام السابقة ؛ لأن الحيض يعرف بالألم ويعرف باللون ويعرف بالرائحة وقد جمع بعض العلماء هذه الأمارات فقال:
بِاللَّوْنِ وَالريْحِ وَبالتَّألُّمِ وكَثْرَةٍ وَقِلَّةٍ مَيْزُ الدَّمِ(7/18)
أي أن المرأة تميز الدم بهذه الأوصاف ، فنظراً لكونها تجد الألم وتعرفه بوجود الألم المعتاد فإنها تعتد بذلك وتحتسبه حيضةً ، أما إذا كانت لاتميزه بلون ولابألم ولابرائحة ولابغيرها من صفات التمييز وسبق أيام عادتها واطرد ذلك ثلاث مرات متتابعات فإنه تنتقل حيضتها متقدمة ، فمثلاً : كانت من عادتها أن تحيض أول الشهر فسبقها يومان أو سبقت بثلاثة ثم أصبحت ثلاثاً ثلاث مرات متتابعة فحينئذ تنتقل عادتها إلى الثلاث التي قبل الشهر وتعتد بالأيام التي كانت تألفها ، والله تعالى أعلم.
السؤال الثامن :
هل الريح تستلزم الاستنجاء قبل الوضوء..؟؟
الجواب:
ليس في الريح استنجاء ولاغيره ؛ وإنما يقتصر الإنسان على الوضوء ، وذهب بعض أهل المذاهب الذين لايعتد بخلافهم-وهم من الشيعة-إلى أنه يجب غسل الموضع-أعني الدبر-من خروج الريح وهو قول بعض الشعية الإمامية ؛ ولكن الصحيح ماقال به جماهير السلف والخلف أن من خرج منه الريح فإنه لايلزمه إلا الوضوء ، إلا في حالة واحدة وهي أن تصحب الريح رطوبة يغلب على الظن معها خروج قطرات أو نحو ذلك ، فحينئذ إذا وجد البلة في الدبر أو أحس بخروج البلة في الدبر-كما في بعض حالات الإسهال-فإنه حينئذ لابد من غسل الموضع لامن أجل الريح ولكن من أجل ماصاحبه من الرطوبة المؤثرة التي توجب الغَسْل ، والله تعالى أعلم .
السؤال التاسع :
كثر استعمال الناس للعطور المحتوية على نسبة من الكحول فما الحكم في ذلك ..؟ وما الحكم إذا لم يكن مكتوباً على الزجاجة نسبة الكحول..؟؟
الجواب:
بالنسبة للكحول وهي المادة التي تسمى بالسبرتو إذا وجدت في العطور فإنها مستخلصة من الخمر وللعلماء في الخمر قولان:(7/19)
القول الأول: إنها نجسة وهو مذهب جماهير العلماء قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله الخمر نجسة باتفاق الأئمة الأربعة ، ولم يحك القول المخالف لضعفه وذلك استئناساً بظاهر القرآن في قوله سبحانه وتعالى :{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنصَابُ وَالأَزْلاَمُ رِجْسٌ}(1)والرجس في لغة العرب النجس المستقذر فانتفى كون الأصنام نجسة لدلالة الحس ، وانتفى كون الميسر نجساً لكونها معنوياً ، وبقيت الأزلام لأنه يذبح عليها الدم المسفوح النجس وبقي الخمر أيضاً فبقيت على النجاسة .
ومن قال بطهارتها يلتفت إلى حديث أنس في قول :" فجرت بها سِكَكُ المدينة" ولكن أُجيب بأن هذا الحديث لايستلزم أن النعال قد وطئه ، ولو قيل إنه وطئه النعال فقد ثبت في الحديث الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر الصحابة من أراد أن يدخل المسجد أن يدلك نعليه إن وجد بهما الأذى ، ولاشك أن الخمر من الأذى وإذا دلكها خرجت عن النجاسة وصارت طاهرة ؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم أخبر أن ثوب المرأة يُطهَّره مابعده إن أصاب النجاسة ، وعلى هذا فإن مذهب جماهير العلماء النجاسة فإذا كان الإنسان قد ترجح عنده قول الجمهور فإنه يعطيها حكم من صلى بنجاسة ، وأما إذا ترجح عنده قول من يقول بالطهارة فلاإشكال.
لكن يبقى النظر هل يجوز شراء الخمر وماتولد من الخمر أو لا..؟؟(7/20)
فالاتفاق والإجماع قائم من العلماء على عدم جواز بيع الخمر ومشتقاتها وشرائها ففي الصحيحين من حديث جابر ابن عبدالله-رضي الله عنهما-أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في خطبة يوم الفتح:(( إن الله ورسوله حرما بيع الميتة والخمر والخنزير والأصنام)) فدل هذا الحديث الصريح الصحيح على عدم جواز بيع وشراء ماتولد من الخمر أو كانت فيه الخمر ، وكذلك أيضاً نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بيع العنب لمن يعصره خمراً أو يتخده خمراً ، وهو الحديث المشهور في السنن ، وأيضاً لو قيل إنها طاهرة فإن من يضعها في ثيابه فإنه يضع شيئاً من الخمر وقد ثبت في كتاب الله عز وجل مايدل على وجوب الاجتناب فقال-سبحانه-:{إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنصَابُ وَالأَزْلاَمُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ}(1)ولذلك قال علماؤنا ومشائخنا رحمة الله عليهم ومن أدركنا أنه ينبغي اتقاء الخمر ومشتقاتها ومن وضعها ، والله تعالى أعلم.
السؤال العاشر :
إذا أحدث المصلي فهل يُسلم ثم يخرج أم يخرج من الصلاة بدون سلام..؟؟
الجواب:
بسم الله الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن الاه أمابعد:
فمن أحدث أثناء الصلاة فقد بطلت صلاته وحينئذ ينصرف بدون سلام ؛ وإنما يكون السلام لمن أراد أن يقطع صلاته لعارض وذلك كأن تقام الصلاة المكتوبة وهو مشتغل بالنافلة ويغلب على ظنه أنه لايدرك الركعة الأولى من المكتوبة فحينئذ يسلم ؛ والسبب في هذا أنه إذا سلم كتب له الأجر لما مضى من صلاته ويعتبر معذوراً وقد خرج من التحريم بالسلام لنص النبي صلى الله عليه وسلم بقوله:(( تحريمها التكبير وتحليلها التسليم)) .(7/21)
وقال الحنفية ومن وافقهم إذا أقيمت الصلاة والإنسان في صلاة أراد أن يقطعها فلينصرف بدون أن يسلم ، وهذا بناء على أنهم قالوا : إذا انصرف بطلت صلاته ، وبناءً على ذلك قالوا لاحاجة أن يسلم ، وهذا القول اجتهاد ورأي في مقابل النص الصحيح في قول:((تحريمها التكبير وتحليلها التسليم)) فلو قال قائل إن:((تحليلها التسليم)) المراد به تمام الصلاة رد عليه بأن قول:(( تحريمها التكبير)) يدل على أن كل مكبر تكبيرة الإحرام فقد دخل في الحرمات فإن قوله:(( تحليلها التسليم)) يدل على الخروج من هذه الحرمات دون تفصيل بين كونه بعد تمام الصلاة أو قبل تمامها ، ومن فصل فلعيه بالدليل الذي يقيد حالة دون أخرى ولادليل ، والله تعالى أعلم.
السؤال الحادي عشر :
لو أن الإمام عندما سلم قال السلام عليكم ورحمة الله وبركاته فهل يجب على المأموم أن يقول السلام عليكم ورحمة الله وبركاته ..؟؟
الجواب:
إذا سلم الإمام بهذه الصيغة فإنه يتأسى ويسلم بهذه الصيغة لأنها صحيحة ثابتة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فيسلم بتسليمه حتى يصيب السنة ويصيب موافقة الإمام ، كما قال عليه الصلاة والسلام :((إنما جعل الإمام ليؤتم به)) وقد نص بعض العلماء على أنه إذا كان المأموم يرى التسليمة الواحدة موجبة للخروج من الصلاة فإنه إذا صلى وراء إمام يسلم تسليمتين يسلم وراءه تسليمتين ، وإن كان يعتقد أن الخروج من الصلاة بتسليمة واحدة وذلك لقوله عليه الصلاة والسلام :((إنما جعل الإمام ليؤتم به)) ، والله تعالى أعلم.
السؤال الثاني عشر:
كيف يتوضأ صاحب الجبيرة وكيف يغتسل؟ وكذلك الذي به لفافة على جرح يسير في يده أو قدمه..؟؟
الجواب:(7/22)
أما بالنسبة للجبائر فالجبائر إذا احتيج إليها لكسر أو جروح ونحو ذلك فإنه لابأس أن يشد هذا الكسر بالجبيرة ، وهي حالة حاجة كما يسميها العلماء والقاعدة : " أن الحاجة منزلة منزلة الضرورة " وحينئذ إذا اغتسل من الجنابة وجب عليه أن يغسل جميع جسده ويمر يده مبلولة بالماء على الجبيرة ، كما يمرها على العمامة مبلولة بالماء وكما يمرها على الخفين مبلول بالماء.
وقال بعض العلماء : يجمع بين التيمم والغسل ، وذلك لحديث ذي الشجة وذلك أن الصحابة-رضوان الله عليهم-كانوا في غزاة ثم كان معهم رجل أصابته جنابة وبه جراح فسأل أصحابه هل من رخصة..؟ قالوا : لارخصة لك اغتسل ، فاغتسل فمات فقال صلى الله عليه وسلم لما بلغه خبره:(( قتلوه قتلهم الله هلاَّ سألوا إذ جهلوا)) وهذا الحديث صححه ابن السكن ، والكلام فيه معروف عند العلماء رحمهم الله وإن كان ضعفه من القوة بمكان إلا أن الأصول تشهد بصحة المسح على الجبيرة ، وحينئذ لاحرج أن يمسح عليها الإنسان ؛ ولكن بشرط ألا يجازو في الجبيرة مقدار الحاجة ، فلو كان الكسر في اليد مثلاً واحتيج إلى شد بقدر الكف فإنه لايجوز له أن يزيد إلا إذا قال الأطباء لابد من الاحتياط بزيادة قدر الأصبع عرضاً من قبل المكان ومن بعده فلاحرج ؛ لأن الشيء الذي يعين على حصول المقصود بمثابة المقصود نفسه ، وعلى هذا فلا حرج أن يزيد زيادة يحتاج إليها لاستصلاح العضو.
أما لو زاد عن القدر المعتاد فللعلماء فيه قولان :
القول الأول: يلزمه أن يعيد جميع صلواته بعد فكه لجبيرته.
القول الثاني : ومنهم من يقول: يلزمه أن يفك الجبيرة ويعيد شدها على قدر موضع الحاجة.(7/23)
أما بالنسبة لما يفعله بعض الناس بمجرد أن يقع أي جرح بالجسد وقد يكون في موضع هو من أعضاء الوضوء يقوم بوضع اللفافة عليه وشده والزيادة في الشد فذلك كله يوجب بطلان الوضوء والغسل ، فإن الإنسان إذا غطى شيئاً من موضع الغسل لايحتاج إلى تغطيته وليس تغطيته ضروية فإنه يجب عليه غسل ذلك الموضع ، وعلى هذا فالجروح التي في اليد والتي في الرجل إن قال الأطباء لابد من سترها ولايمكن علاجها إلا بالستر فحينئذ إذا أمكن سترها فحينئذ تستر ، يقولون لاتكشف أبداً فحينئذ تستر ويمسح عليها ، وينبغي على الطبيب والممرض والمريض ألا يجاوز قدر الحاجة ويكون الستر على موضع الجرح ولا يزيد عليه ، فلو كان الجرح بأعلى الإصبع واحتاج إلى ستره فقام فشد أعلاه وباطنه فإن الباطن ليس بمحتاج إليه ، وعلى هذا يلزمه أن يجعل الساتر على موضع الأذى وهذا هو المستقر في أصول الشريعة ، وعلى هذا فمن زاد بدون حاجة فإن هذا يوجب بطلان وضوئه وغسله ، والله تعالى أعلم .
السؤال الثالث عشر :
بعض الناس إذا كبر الإمام قال عز وجل وكذلك مع كل تكبيرة ثم يكبر بعد هذا اللفظ فهل يعتبر هذا حدثاً في الدين..؟؟
الجواب:(7/24)
لايجوز للمصلى أن يزيد في أذكار الصلاة أو ينقص منها ، فالله عز وجل عز جاره وجل ثناؤه وتقدست أسماؤه ولاإله غيره- ، والصلاة كما وردت عن النبي صلى الله عليه وسلم بدون زيادة ولانقصان ، وعلى هذا فإذا قال الإمام الله أكبر تقول: الله أكبر فقط لاتزيد ولاتنقص ؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال كما في الصحيحين من حديث أنس رضي الله عنه وأرضاه :((إنما جعل الإمام ليؤتم به فإذا كبر فكبروا)) ولم يقل فعظموا ولم يقل وأثنوا عليه إنما قال :((فكبروا)) فتقتصر على قولك الله أكبر ولاتزد ، والزيادة توجب لصاحبها المسئولية بين يدي الله ، في حديث عن أبي موسى الأشعري يقول النبي صلى الله عليه وسلم في صفة الصراط على متن جهنم-نسأل الله بعزته وجلاله وأسمائه الحسنى وصفاته العلى أن يسلمنا منه وأن يوردنا إياه سالمين مسلمين بفضله وهو أرحم الراحمين-وصف الصراط أنه أدق من السيف وأرق من الشعرة وأن الناس يمرون عليه قدر أعمالهم ، منهم يعطيه الله نوره كالجبل فيمر كالريح المرسلة وكأجاود الخيل ، ومنهم من يعطى نوره على قدر أخمص قدمه-نسأل الله السلامة والعافية-من قلة الطاعات وقلة الخير فيضئ له تارةً فيمشى ثم يطفأ عنه فتتخطفه كلاليب النار-نسأل الله السلامة والعافية-يقول صلى الله عليه وسلم لأبي موسى:(( إن أحببت ألا يوقفك الله على الصراط طرفة عين فلاتحدثن في دين الله برأيك )) لا تجتهد في الدين لاتأت بشيء من عندك ولو كنت تراه حسناً ، فالحسن والأحسن والأكمل ماكان عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم اليوم أكملت لكم دينكم النجاة والفوز والفلاح والصلاح والخير كله في اتباع النبي صلى الله عليه وسلم فإذا زاد الإنسان فقد انحرف عن طريقه وضل عن سبيله بقدر ما زاد و بقدر ما أحدث ، يذاد عن حوضه الذي إذا ورده الإنسان وشرب من يده الشريفة شربة هنيئة مريئة لايظمأ بعدها أبداً يحجب بسبب البدعة في الدين :(( إنك(7/25)
لاتدري ما أحدثوا بعدك)) الحدث والبدعة الزيادة في الدين لاتجوز ، وعلى هذا ينبغي للمسلم أن يبقى على ماأثر والخير كل الخير في الاتباع والشر كل الشر في الابتداع.
وآخر دعوانا أن الحمدلله رب العالمين وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.(7/26)
بسم الله الرحمن الرحيم
يقول المصنِّفُ رحمه الله : بَاب فِي النَّهْيِ لعَنِ اسْتِقْبَالِ الْقِبْلَةِ بِغَائِطٍ أَوْ بَوْلٍ
الشرح :
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد الله رب العالمين والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين أمابعد :
فقد ذكر المصنِّفُ رحمه الله هذا الباب ومقصودُه أن يُبَيّن جملَةً من الآداب المتعلقة بقضاء الحاجة فناسَبَ بعد بيان هَدْي النبي صلى الله عليه وسلم وما كان يقوله قبل الدخول إلى الخلاء وما كان يقوله بعد الخروج من الخلاء ناسَبَ بعد أن بيَّن لنا الآداب القوليَّة أن يشرع في بيان الآداب الفعلية ، وقد اشتملت سُنَّةُ النبي صلى الله عليه وسلم على نوعين من الآداب منها ما هو أقوالٌ ومنها ما هو أفعالٌ وهذا الباب الذى عقده المصنِّف رحمه الله يتعلَّق بآداب الأفعال حيثُ بيَّن بهذه الترجمة ما ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم من النهي عن استقبال القبلة بالبول والغائط .
وقوله رحمه الله " بَاب فِي النَّهْيِ" : النهي : أصلُه محمول على التحريم وذلك هو مذهب طائفةٍ من عُلماء الأصول وصيغتُه تقوم على قوله" لا تفعل " فإذا وردت هذه الصيغة في الكتاب وسُنَّةِ النبي صلى الله عليه وسلم فإنها صيغةٌ تدلُّ على النهي وكل ما ورد من الصيغ مشتملاً على النهى فللعلماء فيه قولان :
القول الأول : أن كلَّ نهي ورد في كتاب الله أو سُنَّة النبي صلى الله عليه وسلم محمول على التحريم حتَّى يدل الدليل على ما دون ذلك وهي الكراهة .
القول الثاني: وقال طائفة من الأصوليين كلُّ نهي في كتاب الله أو سُنَّة النبي صلى الله عليه وسلم فهو محمولٌ على الكراهة حتَّى يدُلَّ الدليل على التحريم .(8/1)
والصحيح أن الأصل في النهي أنه محمول على التحريم ، ولذلك إذا قال السيدُ لعبده : لا تفعل وفعل فإنَّه يستحق العقاب فدلَّ على أن صيغة " لا تفعل " الأصل فيها أنَّها محمولةٌ على التحريم .
وفي الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال :(( إذا أمرتكم بأمرٍ فأتُوا منه ما استطعتم ، وإذا نهيتكم فانتهوا )) ولذلك دلَّ هذا النصُّ على أن الأصل في النهي أنَّه محمولٌ على التحريم ، وإذا قُلنا إنه محمولٌ على التحريم فمعنى ذلك أنه يُثاب تاركُه ويُعاقب فاعله .
وقوله " فِي النَّهْيِ عَنِ اسْتِقْبَالِ الْقِبْلَةِ": الاستقبال :مأخوذٌ من القُبُل ، وقوله " استقبال " أي أن يجعل القِبلة في وجهه وكلُّ شىءٍ جعله الإنسانُ في وجهه فقد استقبله ولذلك المراد بالاستقبال أن يجعله قِبَله .
وقوله :" اسْتِقْبَالِ الْقِبْلَةِ " : المراد بالقِبلة : الكعبة وهذا هو الأصل في النواهى التى وردت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وقد ذهب جماهير العلماء رحمهم الله إلى أن النهى يختص بالكعبة ولا يلتحق بها غيرها- أعني بيت المقدس- وهى القِبلة المنسوخة- وسيأتي إن شاء الله بيان هذه المسألة في موضعها-.
ومراد المصنِّف أن التحريم والنهى مختصٌ بالِقبلة المعهودة وهى الكعبة وذلك ؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم إنَّما ثبتت الأحاديث الصحيحة عنه في النهي عن استقبال الكعبة ، وأمَّا غيرها ففيه أحاديث فيها كلامٌ عند العلماء رحمهم الله كحديث مَعْقِل بن أبي مَعِقلَ رضي الله عنه وأرضاه أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن استقبال القِبلَتين .(8/2)
وقوله " اسْتِقْبَالِ الْقِبْلَةِ بِغَائِطٍ أَوْ بَوْلٍ": الغائط : أصله في لغة العرب المكان المطمئن من الأرض ، فكلُّ مكانٍ مُطمئنٍ منخفضٍ يُوصف بكونه غائِطاً ثّمَّ إنَّ العرب خصَّت هذه الحقيقة اللغوية بالعُرْف فأصبح العُرْف يُطلِقُ هذا اللفظ على المكان الذى تُقضى فيه الحاجة ، وكذلك يُطلق على ما يَخرج من الخارج- أعني من الدبر- ويطلقونه على الخارج من الدبر .
وقوله هنا:" بِغَائِطٍ " : المراد به ما يخرج من الدبر وذلك ؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم حرَّم استقبال القبلةِ واستدبارها سواءً كان الاستقبال بالقُبُل أو كان بالدُّبر أثناء خروج الخارج من الدبر فإن كان الإنسان يبول وجعل الكعبة قِبل وجهه فإنه قد استقبل بالبول وإن كان يتغوَّط وكانت الكعبة في جهة الدبر فقد استقبل بالغائط وكذلك الحال إذا وقع الاستدبار بأن يكون مستقبلاً بقُبُلِه وهو يبول مستدبراً الكعبة بدون أن يخرج منه الخارج -أعني الغائط-.
وقوله رحمه الله "بَاب فِي النَّهْيِ": استقبالُ القبلة بالبول والغائط ثبتت به الأحاديث عن النبي صلى الله عليه وسلم ، ثبتت بالنهى عن استقبال القبلة واستدبارها بالبول والغائط والأحاديث في ذلك ثابته في الصحيحين وفي السُّنن عن أبي أيوب الأنصاريِّ وعن أبي هريرة ، وكذلك عن أبي أُمامة ، وعن معقل بن أبي معقل ، وكذلك عن غيرهم كسلمان الفارسيِّ وعائشة -رضي الله عن الجميع وأرضاهم - .
وقد اختلف العلماء رحمهم الله هل يجوز للإنسان إذا قضى حاجته أن يستقبل القِبلة أو يستدبرها ، وذلك على سبعة أقوال :(8/3)
القول الأوَّل : أنه يحرُم على المسلم أن يستقبل القبلة أو يستدبرها بالبول أو الغائط وأصحاب هذا القول يرون أن تحريم النبي صلى الله عليه وسلم المُرَاد منه الإطلاق ، فلا يجوز للمسلم عند قضائه لحاجة البول أو الغائط أن يستقبل القبلة أو يستدبرها وبهذا القول قال أبو أيوب خالد بن زيد النجَّاريُّ الأنصاري ، وكذلك قال به أبو هريرة من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم - رضي الله عنهم- ، ويُحكى كذلك عن سُرَاقة بنِ مالكٍ من الصحابة -رضي اللهِ عن الجميع -وممَّن قال بهذا القول مجاهدُ بن جبر تلميذ عبدالله بن عبَّاس ، وكذلك قال به إبراهيمُ بن يزيدَ النخعي فقيهُ الكوفةِ المشهور ، وقال به الإمامُ أبو حنيفةَ النعمان -عليهم من اللهِ الرحمةُ والرضوان-.
وهوإحدى الروايتين عن الإمام أحمد -رحمة الله عليه - ، وبعض العلماء يجعل للإمام أحمد في هذه المسألة أكثر من رواية ، ومِمَّن قال بهذا القوِل الإمام عبدالرحمن الأوزاعيُّ فقيهُ الشام المشهور ، وكذلك قال به أبو ثوْر إبراهيم بن خالد بن يزيد الكلبيُّ ، واختار هذا القول جمعٌ من المحققين ، وممَّن اختاره الإمام أبو بكر بن العربي ، وكذلك اختاره الإمام الشوكانيُّ ، ومال له الإمامُ ابن حزمٍ الظاهري- رحمة الله على الجميع- .
أصحاب هذا القول يقولون : لا يجوز للمسلم إذا قضى حاجته أن يستقبل القبلة أو يستدبرها سواء وقع منه الاستقبال أو الإستدبار في العمران أو وقع منه في الصحراء والخلاء فهم يُحرِّمون على المسلم أن يستقبل القبلة أثناء قضائِه للحاجة مُطلقاً .(8/4)
واحتجَّ أصحاب هذا القول بالأدلة الصحيحة الثابتة عن الرسول صلى الله عليه وسلم ففي الصحيحين من حديث أبي أيوب الأنصاريِّ أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم قال :(( أذا أتيتم الغائط فلا تستقبلوا القِبلة بغائطٍ ولا بولٍ ، ولا تستدبروها ، ولكن شرِّقُوا أو غرِّبُوا)) فهذا الحديث الصحيح اشتمل على نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن الاستقبال والاستدبار ولم يُفصِّل النبي صلى الله عليه وسلم ولم يُفرِّقْ بين العمران والخلاء والصحراء ، ولذلك قالوا إن القاعدة في الأصول تقول : " الأصل في العام أن يبقى على عمومِه حتى يرد ما يُخَصِّصُه" فلا وجه لتخصيص هذا العموم بالصحراء دون البنيان ، ولم يثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم حديثٌ صريحٌ وإنما ثبتت عنه أفعال- سيأتي الكلامُ عليها إن شاء الله في موضعها- .
أمَّا الدليل الثاني فحديث أبيَ هُريرة عند مسلمٍ في صحيحه أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم قال :((إذا جلس أحدكم لحاجته فلا يستقبل القبلة ولا يستدبرها)) قالوا : وهذا نهىٌ كسابقه يدلُّ دلالةً واضحةً على التحريم ولم يُفرِّق النبي صلى الله عليه وسلم فيه بين العمران وكذلك الخلاء ، وبناءً عليه فإنه يبقى على عمومه في التحريم .
وكذلك استدلوا بحديث سلمان الفارسي- - رضي الله عنه - وأرضاه- وفيه أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن استقبال القبلة بالبول والغائط ومثله حديث معقل بن أبي معقل ، وحديث أبي أمامة ، وكذلك حديث المِسْوَر بن مخرمة -رضي الله عن الجميع وأرضاهم - ، وحديث عبدالله بن حارث كلُّ هذه الأحاديث تدل دِلالةً واضحةً على تحريم الاستقبال والاستدبار وليس فيها تفصيل أو تخصيصٌ للحكم ، ولذلك لا يجوز للمسلم أن يستقبل القبلة أو يستدبرها على ظاهر هذا النهي .(8/5)
أمَّا الأمر الثاني قالوا إنّه لا وجه لتخصيص هذا النهي بالخلاء دون البناء قالوا ؛ لأنَّ الخلاء إذا قضى الإنسانُ حاجته فيه فإن بينه وبين القبلة جبالاً وكذلك هضاب ، ولا يخلو من وجود البنيان بينه وبين الكعبة حتَّى ولو كان في الصحراء فلا وجه لتخصيص الحُكم بالصحراء دون البناء ، هذه هي مُحصِّل أدلة أصحاب القول الأوِّل .
أما القول الثاني : فقالوا إنه يجوز الاستقبال والاستدبار مطلقاً ، أي سواءً كان في الصحراء أو كان في البناء وأصحاب هذا القول هم : عُروة بن الزُّبير ، وكذلك قال به ربيعةُ الرأى شيخ الإمام مالكٍ-رحمة الله على الجميع-وهو مذهب داود الظاهرى وأصحابه رحمهم الله .
يقول أصحابُ هذا القول : إنَّه لا حرج على المسلم أن يقضى حاجته مستقبل القبلة أو مستدبرها واحتجُّوا بما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم في الأحاديث الصحيحة وكذلك الحسنة والتى تدل دلالةً واضحةً عندهم على الجواز .(8/6)
أمَّا الدليل الأول : فحديثُ عبدالله بنِ عمر في الصحيحين قال :"رقيتُ على بيت حفصة ، فرأيت النبي صلى الله عليه وسلم يقضى حاجته على لبنتين مُستقبل الشام مُستدبِر الكعبة" قالوا : فهذا الحديث يدل على نسخ النهي ، وأكدوا ذلك بما ورد في حديث جابر بن عبدالله -رضي الله عنهما وأرضاهما- قال : " نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نستقبل القبلة بفروجنا ، فرأيتُه قبل أن يُقبض بعامٍ يستقبل القبلة وهو يبول" ، قالوا : فهذا الحديث الذى رواه الترمذيُّ وغيره فقد رواه الترمذيُّ وأبو داودَ وابنُ ماجةَ وأحمدُ في مسنده قالوا : فهذا الحديث يدل على أنَّ نهي النبي صلى الله عليه وسلم الثابت في الأحاديث المتقدمة أنه منسوخٌ والقاعدة : " أنه يُعمل بالمتأخر ويكون مُقدَّماً على ما سبقه " فقد نصَّ جابرٌ رضي الله عنه وأرضاه على أنَّ النهي قد سبق الإباحة ، وبناءً على ذلك يُؤخذُ بالمتأخر ويُحكم بنسخ المتقدِّم وقد كان أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم يأخذون بالأحدث فالأحدث من هَدْى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وأكَّدوا هذا بحديث أم المؤمنين عائشة -رضي الله عنها وأرضاها -والذى رواه الإمام أحمد في مسنده :" أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم ذُكِر له قومٌ يكرهون أن يستقبلوا القبلة بفُروجهم" ، فقال عليه الصلاة والسلام :(( أو قد فعلوها..؟ حوِّلوا مقعدتي )) ، قالوا : فهذا الحديث يدل على جواز الاستقبال والاستدبار ، وأنَّ ما ورد من نهي النبي صلى الله عليه وسلم إنما وقع منه في أول الأمر ثُمَّ نُسخ بعد ذلك ، وهذا الدليل الذى احتجُّوا به لا يخلو من النظر.(8/7)
أمَّا حديث عبدالله بن عمر فحديثٌ قد ثبت سنده ولا إشكال في صحتَّه ؛ ولكنَّ الإشكال في متنه ، وذلك أنَّه من دلالة الفعل والقاعدة في الأصول : " أن دلالة القول أقوى وأبلغ من دلالة الفعل" ولا يُحكم بقوة التعارض بين القول والفعل فدلالة القول إذا تعارضت مع الفعل قُدِّمت على الفعل ؛ والسبب في ذلك أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم خصَّه اللهُ - - عز وجل --بالخصائص ، فلا يبعُد أن يكون من خصوصياته هذا الحكم فكيف يُخاطب سائرَ الأُمَّة بالتحريم ثُمَّ يفعل هذا الفعل في الخفاء وهو تشريعٌ للأُمَّة ، ولذلك لا يقوى حديثُ ابن عمر على دلالة النسخ.
أضفْ إلى هذا أنَّ حديث ابن عمر إنَّما فيه أن النبي صلى الله عليه وسلم استقبل الشام واستدبر الكعبة ، وحديثُنا يدلُّ على تحريم الأمرين نصَّاً وليست معارضةُ حديثِ ابن عُمر من كُلِّ وجه ، والأصل في الأصول : " أنَّه لا يُحكم بالتعارض بين النصَّين إلا إذا استويا دلالةً وثُبوتاً " أمَّا استواؤهما هنا ثبوتاً فلا إشكال ؛ ولكنَّ الإشكال في عدم استوائهما من جهة الدلالة ، فدلالة حديث ابن عمر تدلُّ على الجواز في حال العمران ، وتدلُّ على جواز الإستدبار دون الإستقبال فكيف يُقالُ إنَّ حديث ابن عمر يُعتبر مُعارضاً لحديث أبي أيوب والأحاديث الصحيحة معارضاً لها من كل وجه ؟؟
هذا لا يستقيم ولذلك يقول العلماء : إنَّ دعوى النسخ بحديث ابن عُمر تُعتبر أعمَّ من الدليل ، ولا تثبت الدعوى إذا كانت أعمَّ من الدليل بل ينبغى الاقتصارُ على قدْر ما دلَّ عليه الدليل ، - وسيأتى إن شاء الله بيان ذلك عند ذكر دلالة من قال بجواز الإستدبار دون الاستقبال- .(8/8)
أمَّا الوجه الثاني فإنَّ باقي الأحاديث التى احتجَّ بها أصحابُ هذا القول لم تخلُ من مقالٍ إلا أنَّ حديث جابر بن عبدالله رضي الله عنه وأرضاه قد حسَّن بعضُ العلماء إسنادَه وحينئذٍ يكون مُعارِضاً من جهة الثبوت لكن ثبوته دون ثبوت حديث أبي أيوب الذي في الصحيحين ، والقاعدة في الأصول ومصطلح الحديث : " أنَّه إذا تعارض ما في الصحيحين ، أو تعارَض الصحيح مع الحسن فإنَّه يُقدَّم ما في الصحيحين ، ويُقدَّمُ الصحيحُ على الحسن"كما قال صاحبُ الطلعة عند ذكره للحديث الحسن :
وَهُوَ في الْحُجَّةِ كَالصَّحِيْحِ وَدُوْنَهُ ‘إنْ صِيرَ للتَّرْجِيْحِ
لأَنَّ هَذَا قَصُرَتْ رِجَالُهُ في الحْفْظِ دُوْنَ مُنْكَرٍ يَنَالُهُ
فالحديث الحسن لا يقوى على معارضة الحديث الصحيح ، إضافةً إلى أنَّ حديث جابر بن عبدالله رضي الله عنه وأرضاه على القول بثبوته فإنَّه دلالة فعلٍ لا تقوى على دلالة القول .
القول الثالث في المسألة : أنَّه يجوز الاستقبال والاستدبار في البنيان دون الصحراء ، وبهذا القول قال عبدُالله بنُ عمر وكذلك عبدُالله بنُ عبَّاسٍ ، والعبَّاسُ بنُ عبدِ المطَّلب ، وهو مذهب المالكية والشافعية والحنابلة -رحمة الله على الجميع-.
يقولون : إنَّه يجوز للمسلم أن يستقبل القبلة أو يستدبرها إذا كان في البنيان ، أمَّا إذا كان في الصحراء والخلاء فإنَّه لا يجوزُ له ذلك إلاَّ إذا وضع حائلاً بينه وبين القبلة ، وهذا القول يُنسب للجمهور ، أي عند المتأخرين و ليس المقصودُ بالجمهور جمهورَ الصحابة والتابعين ؛ لأنَّ الأئمة رحمة الله عليهم يقولون : إنَّ القول الأوَّل هو مذهب جمهور أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وهكذا التابعين .
وأمّا هذا القول الثالث فإنَّه يُنسب للجمهور ؛ ولكنَّ نسبة الفقهاء لهذا القول للجمهور مُرادهمُ الجمهور من الأئمة الأربعة لا جمهورَ أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم والتابعين .(8/9)
واستدلَّ أصحابُ هذا القول بحديث عبدالله بن عُمر رضي الله عنهما الثابتِ في الصحيحين : " رقيُت على بيت حفصة فرأيتُ النبي صلى الله عليه وسلم يقضى حاجته على لبنتَين مُستقبل الشام مستدبر الكعبة "ووجه الدلالة من هذاالحديث أنَّهم قالوا إنَّه إذاقضى حاجته داخل البنيان استتر ، وأمَّا إذا قضى حاجته في العراء والخلاء فإنَّه يستقبل بعورته المُصلِّى ، وحينئذٍ يكون الأمرُ أشدَّ ، ومن ثَمَّ قالوا بالجواز في البنيان دون الصحراء.
وهذا القول محلُّ نظر ، وذلك أنَّ حديث ابن عمر-رضي الله عنهما وأرضاهما- لو كان مرادُ النبيَّ صلى الله عليه وسلم به التشريع للأُمةَ لمَا كان يفعل هذا بطريقةٍ لا يطلع عليها إلاخاصُّ أصحابه في حالةٍ بدون قصد ، وذلك أنَّ ابن عمر رقى بيت حفصة ولم يقصد الاطلاع على رسول الله صلى الله عليه وسلم فلوكان فعله عليه الصلاة والسلام على سبيل التشريع لكان يُصرِّح صلوات الله وسلامه عليه بالاستثناء ، ومن هُنا قوى مسلكُ من يقول إنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم له خُصوصية في الاستقبال والاستدبار ، فلاحرج عليه أن يستقبل أويستدبر ، وأمَّا ما عداه من سائر الأمَّة فباقٍ على الأصل الذى دلَّ عليه حديثُ أبي أيوب وأبي هريرة -رضي اللهُ عن الجميع- .
أمَّا القول الرابع في هذه المسألة : فإنَّه يقول : يجوز الاستدبارُ داخل البنيان دون الاستقبال وبهذا القول قال القاضى أبو يوسف صاحب الإمام أبي حنيفة -رحمة الله على الجميع -.
يقول يجوز الاستدبار ؛ لأنَّ حديث عبدالله بن عُمر اشتمل على جواز الاستدبار داخل البنيان دون الاستقبال ، فنخُصُّه من عموم النَّهى ونقول بجواز الاستدبار دون الاستقبال ؛ ولأنَّ الاستدبارَ أهونُ من الاستقبال فمن هُنا خصَّصوا عموم حديث أبي أيوب بحديث عبدالله بن عُمر-رضي الله عنهما وأرضاهما- .(8/10)
القول الخامس في المسألة : أنه يجوز الاستقبال دون الاستدبار ، وذلك في البنيان دون الصحراء ويُحكى عن بعض أصحاب الإمام أبي حنيفة-رحمة الله على الجميع- .
وهذا القول من أضعف الأقوال في هذه المسألة ، وذلك أنَّه لا يستقيم على حديث ابن عمر ، إلاَّ على حديث جابر بن عبدالله رضي الله عنه وأرضاه وفيه ما فيه من الكلام .
القول السادس في المسألة : أنه يُكرَه الاستقبال والاستدبار ولا يحرُم وبهذا القول قال أصحاب الإمام أبي حنيفة -رحمة الله على الجميع-.
يقولون لا حرج على المسلم أن يستقبل ويستدبر سواءُ وقع منه الاستقبال والاستدبار داخل البنيان أو في الصحراء ، ولكنَّ ذلك على سبيل الكراهة ، بمعنى أنَّه يُثاب إذا ترك ولا يُعاقب إذا فعل .
واحتجُّوا بأنَّ النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن الاستقبال والاستدبار في حديث أبي أيوب وغيره- رضي الله عن الجميع - ، وأمَّا حديثُ ابن عمر فإنَّه يُعتبر صارفاً للنهى عن ظاهره من التحريم إلى الكراهة جمعاً بين النصوص ، والقاعدة في الأصول : " أنَّ الجمع بين النَّصين أولى من العمل بأحدهما وترك الآخر" .
القول السابع : أنَّ هذا التحريم يختصُّ بأهل المدينة ومَنْ كان في سمْتِهم ، وبناءً عليه فإنَّهم يرون تخصيص هذا التحريم بأهل المدينة ؛ ولكنَّ هذا المذهب أيضاً ضعيف ويُحكى عن أبي عوانة ، وكذلك عن المُزَنيِّ من أصحاب الشافعيِّ-رحمة الله على الجميع- كأنَّهم يرون تخصيص حديث أبي أيوب بأهل المدينة ؛ لأنَّ النبي صلى الله عليه وسلم قال:(( ولكِنْ شرِّقوا أو غرِّبوا)) ولا يستقيم هذا إلا في مدينة النبي صلى الله عليه وسلم ومَنْ كان في سَمْتها .(8/11)
القول الأخير في هذه المسألة : هو مذهبُ الإمام مُحمَّدِ بنِ سيرين من فقهاء التابعين-رحمة الله عليهم أجمعين- يقول أنَّه يحرُم الاستقبالُ والاستدبارُ للكعبة ، وكذلك لبيت المقدس ، فيجعل الحكم شاملاً للكعبة وبيت المقدس ، وهذا المذهب يحتجُّ العلماءُ رحمهم الله له بحديث معقل بن أبي معقل رضي الله عنه وأرضاه ، وقد رواه الإمامُ أحمدُ في مسنده أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم نهى عن استقبال القبلتين .
هذه هي مُحَصِّل أقوال العلماء ، وحُجَج هؤلاء الأئمة الفقهاء -عليهم رحمة الله أجمعين -.
والذى يترجَّح في نظرى -والعلم عند الله- أنَّ القول بالتحريم المطلق هو أولى هذه الأقوال بالصواب ، وذلك لأنَّ حديثَ أبي أيوب رضي الله عنه وأرضاه وغيره من الأحاديث الأُخَرِ الصحيحة دلَّت على تحريم الاستقبال والاستدبار دون تخصيصٍ لحالةٍ دون حالةٍ وهذا العموم يبقى ، وهو الأصل : " في كُلِّ عامٍّ أن يبقى على عمومه حتَّى يرد ما يُخصِصُه" ، وحديث ابن عمر -رضي الله عنهما وأرضاهما - لو كان المراد به التشريع لمَا فعل ذلك النبي صلى الله عليه وسلم في الخفاء ، ولأظهره للأمَّة ولبيَّنَه -صلواتُ اللهِ وسلامُه عليه- ويقوى قول من قال إنَّه من خصوصياته عليه الصلاة والسلام .
إذا ثبت هذا فهُنا مسألة وهى : هل هذا التحريم مُعلَّلٌ أو غيرُ مُعلَّل ..؟؟
والجواب: أن العلماء رحمهم الله انقسموا في هذه المسألة على قسمين :(8/12)
القسم الأول : يقول إن هذا نهىٌ من الله ورسوله صلوات الله وسلامه عليه نُبقيه على حالته دون بحث عن عِلَّتِه ، ولذلك قالوا : إنَّ الله تعبدنا بعدم استقبال القبلة واستدبارها أثناء قضاء الحاجة دون أن نخوض في العِلَّة والمعنى الذى من أجله ورد هذا التشريع والله أعلمُ بعلَّةِ ذلك وحكمته فما على الله إلا الأمر ، وما على رسولنا إلا البلاغ ، وما علينا إلاَّ الرضا والتسليم ، وقال جمعٌ من العلماء : إنَّ هذا التحريم له عِلَّة واختلف هؤلاء العلماء ، فقال بعضهم : أنَّ العلة في تحريم استقبال القبلة واستدبارها هو انكشاف العورة ، فإنَّه لا يخلو الإنسان إذا قضى حاجته -خاصةً في الصحراء والخلاء - من وجود مُصلٍّ من الجن ونحو ذلك ، فلذلك قالوا إنَّه لا يكشف عورته وإنَّ المراد بذلك أنَّه إذا قضى حاجته كشف عورته ، ولذلك نُهي عن ذلك صيانةً للمصلين من عورات الناس ، وهذا المذهب له حديثٌ مُتكلَّمٌ في إسناده .(8/13)
المذهب الثاني : أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن استقبال القبلة واستدبارها لأن الإنسان إذا قضى حاجته فإن القبلة لها شرف ، فكونُه يستقبل القبلة بخروج الخارج فيه امتهانٌ لهذه القبلة ، ولذلك نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أن يبصق المصلِّى قِبل وجهه كما في الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم قالوا : ومن أجل هذا فإنَّ المراد ألاَّ يستقبل القبلة بالخارج نقسِه ، وبناءً على هذين المذهبين تتفرَّع فوائد ذكرها العلماء فإنْ قُلنا إن العَلَّة هى كشفُ العورة فإنَّه يتفرَّع على ذلك الجماعُ ، فإذا جامع الرجل زوجته فإنَّه لا يُجامعها وهما مستقبلان للقبلة وذلك لكشف العورة في حال الاستقبال للقبلة ، وإنَّما ينحرف ويكون على وضعٍ لا يكونُ به الاستقبال هكذا ذكر بعض العلماء رحمهم الله بناءً على أنَّ العلَّة هى انكشاف العورة ، فيستوى أن يكون انكشافها بقضاء الحاجة أو يكون انكشافها بالجماع ، فالمعنى فيهما واحد .
كذلك من الفوائد : أنَّنا إذا قُلنا يحرم الاستقبال والاستدبار من أجل العورة فإنَّه إذا قضى حاجته غير مُستقبلاً للقبلة وأراد أن يصُبَّ الماء ويستنجى وهو مستقبلٌ للقبلة أو مستدبرها كأن يقوم من المكان الذى قضى فيه حاجته ويصب الماء في حالةٍ يكون فيها مستقبلاً أو مستدبراً للقبلة فإذا قلنا إن العِلَّة هي انكشاف العورة فإنَّ العلماء يمنعون في هذه الحالة .
وأمَّا إذا قُلنا إنَّ العلة هى خروج الخارج فإنَّه يجوز في حال الاستنجاء وحال الاستجمار أن يستقبل القبلة ويستدبرها دون حالة قضاء الحاجة ، ويتفرَّع على ذلك إذا أزال ثيابه ورفعها عن جسده فانكشفت عورته فإن قُلنا إن المعنى هو خروج الخارج فإنَّه يجوز له ذلك ، وأمَّا إذا قلنا إنَّ العِلة هي انكشاف العورة فإنَّه لا يفعل ذلك مستقبلاً للقبلة .(8/14)
والذى يظهر -والعلم عند الله- أنَّه لا يجوز الاستقبال والاستدبار في حال قضاء الحاجة ، وأمَّا ماعدا ذلك فإنَّه باقٍ على الأصل وهذا هو مفهوم هذا الحديث الصحيح الذى سيذكره المصنِّف-رحمه الله -في هذا الباب .
وبناءً على ذلك فإنَّ الأصل هو الجواز والإباحة حتَّى يدُلَّ الدليل على التحريم وقد كان أصحابُ النبي صلى الله عليه وسلم يخلعون ثيابهم ويحصل منهم العُرْى في بعض الحالات فلو كان الحكم عامَّاً لكلَّ حالةِ عُرْى لنبَّه النبي صلى الله عليه وسلم على هذا العموم ، والقاعدة في الأصول : " أنَّه لا يجوز تأخير البيان عن وقت الحاجة " فالحاجة داعيةٌ أنْ يُنبَّه أصحابُه -رضوان الله عليهم- على هذا الحكم فكونُه عليه الصلاة والسلام لم ينّه يدلُّ دلالةً واضحةً على جواز الجماع سواء استقبل القبلة أواستدبرها ، وعلى جواز الاستنجاء وهو مستقبلٌ للقبلة أو مستدبر لها فهذا كله يدل عليه ما فُهِم من النص ؛ ولأنَّ الأصل الجواز حتَّى يدل الدليل على التحريم ومن هُنا يقوى قول من قال إنَّ الأمر للتعبُّد وهذا هو الأصل في النصِّ حتَّى يدل الدليل على معنى مناسب للتعليل .
يقول المصنِّفُ رحمه الله : بَاب فِي النَّهْيِ عَنِ اسْتِقْبَالِ الْقِبْلَةِ بِغَائِطٍ أَوْ بَوْلٍ
حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْمَخْزُومِيُّ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ عَنِ الزُّهْرِيِّ عَنْ عَطَاءَ بْنِ يَزِيدَ اللَّيْثِيِّ عَنْ أَبِي أَيُّوبَ الأَنْصَارِيِّ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم :(( إِذَا أَتَيْتُمُ الْغَائِطَ فَلا تَسْتَقْبِلُوا الْقِبْلَةَ بِغَائِطٍ وَلا بَوْلٍ وَلا تَسْتَدْبِرُوهَا وَلَكِنْ شَرِّقُوا أَوْ غَرِّبُوا)). قَالَ أَبُو أَيُّوبَ:" فَقَدِمْنَا الشَّامَ فَوَجَدْنَا مَرَاحِيضَ قَدْ بُنِيَتْ مُسْتَقْبَلَ الْقِبْلَةِ فَنَنْحَرِفُ عَنْهَا وَنَسْتَغْفِرُ اللَّهَ " .(8/15)
قَالَ أَبو عِيسَى رحمه الله : وَفِي الْبَاب عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ جَزْءٍ الزُّبَيْدِيِّ وَمَعْقِلِ بْنِ أَبِي الْهَيْثَمِ وَيُقَالُ مَعْقِلُ بْنُ أَبِي مَعْقِلٍ وَأَبِي أُمَامَةَ وَأَبِي هُرَيْرَةَ وَسَهْلِ بْنِ حُنَيْفٍ .
قَالَ أَبو عِيسَى رحمه الله :حَدِيثُ أَبِي أَيُّوبَ أَحْسَنُ شَيْءٍ فِي هَذَا الْبَابِ وَأَصَحُّ وَأَبُو أَيُّوبَ اسْمُهُ خَالِدُ بْنُ زَيْدٍ وَالزُّهْرِيُّ اسْمُهُ مُحَمَّدُ بْنُ مُسْلِمٍ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ ابْنِ شِهَابٍ الزُّهْرِيُّ وَكُنْيَتُهُ أَبُو بَكْرٍ قَالَ أَبُو الْوَلِيدِ الْمَكِّيُّ.
قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ ابْنُ إِدْرِيسَ الشَّافِعِيُّ إِنَّمَا مَعْنَى قَوْلِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم لا تَسْتَقْبِلُوا الْقِبْلَةَ بِغَائِطٍ وَلا بِبَوْلٍ وَلا تَسْتَدْبِرُوهَا إِنَّمَا هَذَا فِي الْفَيَافِي وَأَمَّا فِي الْكُنُفِ الْمَبْنِيَّةِ لَهُ رُخْصَةٌ فِي أَنْ يَسْتَقْبِلَهَا وَهَكَذَا قَالَ إِسْحَقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ ، وقَالَ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ رَحِمَهُ اللَّهُ إِنَّمَا الرُّخْصَةُ مِنَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِي اسْتِدْبَارِ الْقِبْلَةِ بِغَائِطٍ أَوْ بَوْلٍ وَأَمَّا اسْتِقْبَالُ الْقِبْلَةِ فَلاَ يَسْتَقْبِلُهَا كَأَنَّهُ لَمْ يَرَ فِي الصَّحْرَاءِ وَلا فِي الْكُنُفِ أَنْ يَسْتَقْبِلَ الْقِبْلَةَ.
الشرح:
يقول المصنِّف رحمه الله " حدَّثنا سعيد بن عبدالرحمن المخزومىُّ " : وهو القُرَشيُّ شيخُ الترمذيِّ والنَّسائيِّ ، وقد وثَّقه الإمام الحافظ أبو عبد الرحمن النسائيُّ .(8/16)
قال :"حدَّثنا سفيانُ وهو سفيان بن عُيينة أبو عمران " ، ويقال : أبو محمد سفيان بن عيينة بن أبي عمران واسمه: ميمون الكوفي ، وُلِدَ رحمة الله سنة سبعٍ بعد المائة وكان ديواناً من دواوين العلم والخير والصلاح والإمامة ، وكان من أئمة الدين أجمع العلماء رحمهم الله على توثيقه وجلالة علمه وفضله كان -رحمه الله -من الحُفَّاظ الأثبات وكان الإمام الشافعىُّ رحمه الله يقرنه بالإمام مالك بن أنس ، حتَّى كان يقول :" القرينان : مالكٌ وسفيان ".
وكان يقول- رحمه الله-:" لولا سفيان بن عيينة ومالك بن أنس لذهب علم الحجاز" .
كان - رحمه الله- قد جمع في الرواية بين رواية أهل الحجاز ورواية أهل الكوفة ، ولذلك قدَّمه غيرُ واحدٍ - رحمة الله عليهم - على الإمام مالكٍ من جهة الجمع ، وذكر الإمام الشافعىُّ - رحمه الله- أنَّه وجد عنده أحاديث الأحكام كلها إلا ستة أحاديث ووجد عند الإمام مالكٍ أحاديث الأحكام إلا بضعةً وثلاثين حديثاً ؛ والسبب في ذلك ما فاق به الإمامُ سفيانُ الإمامَ مالكاً-رحمة الله على الجميع-من لقيه لأئمة الكوفة وأخذه عن بعضهم -رحم الله الجميع - .
كان-رحمه الله - غايةً في الخير والصلاح ولذلك أُثِر عنه أنَّه حجَّ عام سبع وتسعين بعد المائة وقال : شهدتُ هذا المكان سبعين حجَّة ، وكلُّها أسأل الله العظيم ألاَّ يجعله آخر العهد بهذا المكان ، وإني لأستحي من الله أن أسأله هذه السنة فرجع فمات -رحمه الله برحمته الواسعة - .
وقوله:" قال : حدَّثنا سفيان بن عُيينة عن الزُّهرىُّ": هو الإمام محمد بن مسلم بن شهاب بن عبيد الله بن عبدالله الزُّهرىُّ ، كان رحمه الله إمامَ السُّنَّة في زمانه وهبه الله من الحفظ والإتقان حتَّى أُثِر عنه رحمه الله أنَّه قال : " ما استودعتُ قلبي شيئاً فخاننى" ، وقال : "ما سمعتُ شيئاً فنسيتُه قطُّ "وهذا يدلُّ على حفظه وإتقانه رحمه الله .(8/17)
ووفد على هشام بن عبدالملك فأراد أن يختبر حفظ الزُّهريِّ فأمره أن يُملى على ولده الأحاديث ، فأملى أربعمائة حديث ، فكُتبت هذه الأحاديث في الصحائف فأمر هشامُ بنُ عبدِ الملكِ أن تُرفع ثُمَّ انصرف الزُّهْرىُّ ، وبعد سنة كاملة وفد على هشام بن عبد الملك فسأله هشامٌ أن يُعيد الأحاديث التي حدَّث بها في العام الماضي ، وأمر الكُتَّاب أن ينسخوا ، فنسخوا له الأربعمائة التى سبق وأن حدَّث بها في العام المنصرم ، فلمَّا كُتبت عُرِضت النسختان فلم يجد فيهما حرفاً واحداً ساقطاً .(8/18)
كان رحمه الله آيةً في الحفظ والإتقان ومع هذا كُلِّه جَدَّ واجتهد فأخذ ينتقل بين دُور الأنصار في المدينة يأخذ عن الصغيرِ والكبيرِ الأخبارَ والمغازى والآثار جمع من السُّنَّة والآثار شيئاً كثيراً حتَّى قال عنه الإمام عمر بن عبد العزيز الخليفة الراشد قال : "ما بقى على وجه الأرض أعلمُ بسُنَّة النبي صلى الله عليه وسلم من الزُّهْريِّ" ولمَّا أراد أن يكتب رحمه الله أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم أراد عُمرُ بن عبد العزيز أن يُدَونَّ وِّسُنَّة النبي صلى الله عليه وسلم وكان ذلك أول ما كان من أمر تدوين السُّنَّة في الآفاق كتب رحمه الله إلى الأمصار والأقطار بجمع حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد أشار الإمامُ البخاريُّ في صحيحه إلى ذلك فكتب إلى أبي بكر بن عمرو بن حزْمٍ أن يجمع سُنَّة النبي صلى الله عليه وسلم التي هى قبله ، وكذلك كتب إلى محمد بن شهاب الزُّهرىِّ أن يجمع سُنَّة النبي صلى الله عليه وسلم ، وكان شديداً في الحفظ والإتقان وضبط الرواية فكان الإمامُ مالكُ بن أنسٍ يجلس في مجالسه ، وكان يزاحم الناسَ على مجالس ابن شهاب الزُّهرىِّ فلمَّا دخل المدينة غدا إليه الإمامُ مالكٌ ومازال واقفاً ببابه يُزاحِم أصحابَه على الأخذ عنه حتَّى سقطت عمامتُه على باب الزُّهريِّ وهذا يدلُّ على حرص الأئمة والعلماء على الأخذ عنه وقد نفع اللهُ به الأُمَّة فانتشر علمُه وذاع ، مع جودٍ وسخاء وحُسْنٍ خُلُقٍ منه -رحمه الله برحمته الواسعة - قال عنه بعض السلف : ما كانت الدنانير والدراهم عند ابن شهابٍ إلاَّ كمثل البعر يُريد بذلك أنَّه يُهينُ الدنيا ولا يلتفتُ إليه ، كان الإمامُ مالكٌ يقول : كان ابنُ شهابٍ أسخى الناس أي أكثر الناس جُوداً وعطاءً .(8/19)
ومع هذا كُلِّه كان شديداً في الحقِّ أُثِر عنه رحمه الله أنَّه وقعت له حادثةٌ مع هشام بن عبد الملك ، وقيل إنها تكرَّرت مع هشام بن عبدالملك وكذلك الوليد بن عبد الملك .
وذلك أنَّ هشاماً دخل عليه صاحب بدعةٍ وهوى ، وكان يطعن في عليٍّ رضي الله عنه فدخل هذا المبتدع وذكر لهشامٍ رحمه الله أن عليَّاً رضي الله عنه هو المعنىُّ بقوله-تعالى -:{ وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذَابٌ عَظِيمٌ}(1)-قبَّحه الله وأخزاه- فلما أخبر هشام بنَ عبد الملك بذلك دخل سُليمان بن يسارٍ- وهو العالم المشهور- دخل على هشامٍ فسأله هشام : يا سليمان ، من الذى تولَّى كبْرَه وله العذاب العظيم ..؟ قال : ذاك عبدالله بن أُبَيِّ بن سلول فقال له هشامٌ: كذبت ..!! إنَّما هو علىُّ بن أبي طالب فقال سُليمانُ : أمير المؤمنين أعلمُ بما يقول وهاب أن يرُدَّ عليه ما قال . فلم يلبث حتَّى دخل الإمامُ الزُّهريُّ -عليه رحمةُ الله ورضوانه- فسأله هشام بن عبدالملك وقال : يا زُهرىُّ من الذى تولَّى كِبْرَه منهم وله عذابٌ عظيمٌ ..؟ قال : ذاك عبدُ الله بنُ أُبيِّ بن سلول قال له : كذبت ..!! قال : أنا كذبتُ لا أبالك !! أنا أكذبُ لا أبالك !! والله لو نادى مُنادٍ من السماء إنَّ الله قد أحلَّ الكذب لمَا كذبت -أي أنَّ الشيىْء قد يكون حلالاً ويُتَّقى على سبيلِ الكمال كما في خوارم المروءة- فقال لهشام : أنا أكذب لا أبا لك ..؟واللَّه لو نادى منادٍ من السماء إنَّ الله قد أحلَّ الكذبً ما كذبتُ حدَّثنى عروةُ بن الزُّبير عن عائشة-رضي الله عنها- في قوله -تعالى -:{ وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذَابٌ عَظِيمٌ} أنه عبدُ الله بن أُبَيِّ فأسكت هشاماً وأخرسه، فكان رحمه الله حريصاً على السُّنَّة والاهتداء ، ولزوم المِلَّة والاقتداء- عليه من الله الرحمةُ والرضوان- .(8/20)
وقوله : عن الزُّهرىِّ عن عطاء بن يزيد الليثى عن أبي أيوب الأنصارىِّ قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :(( إذا أتيتم الغائط فلا تستقبلوا القبلة بغائطٍ ولا بول ، ولا تستدبروها )).
قوله عليه الصلاة والسلام :(( إذا أتيتم الغائط )) : الغائط : هو المطمَئِنُّ من الأرض ثُمَّ كُنِّى به عن موضع قضاء الحاجة كما هو واضحٌ في نصوص الكتاب والسُّنَّة ؛ والسبب في ذلك أنَّ العرب تتأدَّب في الألفاظ القبيحة المستبشعة فلا تذكرها بصريح ألفاظها وإنَّا تُكنِّى فكنَّتِ العرب عن هذه المواضع المستقذرة بهذا الاسم ، فقالوا : هو الغائطٍ:(( إذا أتيتم الغائط )) :أي مكان قضاء الحاجة سواء كان مُعَدَّاً لها أو كان خلاءً غير مُعَدٍّ .
(( فلا تستقبلوا القبلة )) : أي لا تجعلوها قبالة لكم وكلُّ شىءٍ أتاك من الوجه فقد أتاك من القُبُل وقد استقبلته أي جعلته قِبل وجهك .
(( فلا تستقبلوا القبلة )) : المراد بذلك الكعبة وقال بعض السلف : المرادُ بذلك عموم القبلة القديمة المنسوخة وهى بيت المقدس ، وما استقرَّ عليه الحكم وهى الكعبة وبناءً على ذلك يرون الحكم على العموم .
والصحيح مذهب جماهير السلف والخلف أنَّ الحكم يختصُّ بالكعبة دون غيرها .
(( فلا تستقبلوا القبلة بغائطٍ ولا بولٍ ، ولا تستدبروها )) : هذا نهيٌ صريحٌ يدلُّ على التحريم في جميع الأحوال سواء وقع على سبيل الاستقبال أو على سبيل الاستدبار ، وسواء كان بالعضو الذى يخرج منه الخارج أو كان بالعضو الذى هو غيرُه .(8/21)
(( ولكِنْ شرِّقوا أو غرِّبوا )) : أي انصرفوا إلى جهة المشرق أو جهة المغرب وهذا يختصُّ بالمدينة ومن كان في سمْتِهم مِمَّن إذا انصرف إلى المشرق أو المغرب فإنَّه لا يستقبل القبلة ، أمَّا أهل المشرق فإنَّهم إذا غرَّبوا أصابوا القبلة ، وكذلك أهل المغرب إذا شرَّقوا أصابوا القبلة ، فليسوا بُمرادين بهذا الحديث ؛ وإنَّما هذه الجملة المرادُ بها أهل المدينة ومن كان في سمْتِهم وفيها دليلٌ على بطلان قول من قال من الفقهاء إنَّه لا يجوز استقبال الشمس والقمر وذلك ؛ لأنَّ النبي صلى الله عليه وسلم قال :(( ولكنْ شرِّقُوا أو غرِّبوا)) ولا شكِّ أن الإنسان إذا استقبل المشرق رُبَّما استقبل الشمس أثناء طلوعها ، وإذا استقبل المغرب رُبَّما استقبل الشمس أثناء غروبها وكذلك يستقبل القمر إذا كانت منازِلُه في جهة المشرق أو جهة المغرب ، وبناءً على ذلك فلا وجه لمن قال من الفقهاء إنَّه يحرم استقبال الشمس والقمر أثناء قضاء الحاجة والصحيح أنَّه يجوز ذلك لصريح قوله عليه الصلاة والسلام :((ولكنْ شرِّقوا أو غرِّبُوا )).
قال أبو أيوب رضي الله عنه : " فقدِمْنا إلى الشام ": الشام : قيل إنَّه نسبةٌ إلى سام بن نوح ، ثُمَّ أصبح" شام " وذلك لمكان الأعجمية وانصراف الكلام من العُجمة إلى العربية ، فقالوا : شام وقيل إنه سُمِّى شاماً لكثرة القرى والمدن فيه كالشامات إذا كثُرت في البدن وقيل إنَّه شامٌ لأن الإنسان إذا استقبل باب الكعبة فإنَّ الشام يكون في جهة الشمال هذا هو الذى ذكروه في تسميته بهذا الاسم ، وهو قُطْرٌ معروفٌ.
وقولُه " فقدمنا إلى الشام فوجدنا مراحيض ": وهى أماكن قضاء الحاجة ، وقد يُطلق المرحاض على غير مكان قضاء الحاجة كمكان الاغتسال " فوجدنا مراحيض قد بُنيِت " قال بعض العلماء : بناها الكُفَّار ، وقال بعضُهم بناها مسلمون بعد الفتوح .(8/22)
قوله " قد بُنيت قبلَ الكعبة فكنا فننحرف عنها ونستغفر الله": قوله " ونستغفر الله " أي نسأله المغفرة .
قال بعض العلماء : نستغفر الله لمن بناها ، وذلك لأنَّه أخطأ في بنائها للكعبة ، وقيل إنه يستغفر الله لأنَّه استقبلها ذاهلاً ، ثُمَّ تنبَّه فانحرف واستغفر الله ، وهذان القولان محلُّ نظر .
والصحيح أنَّ هذا الاستغفار إنَّما هو على سبيل الكمال كما يقول بعض العلماء ، أو يكون استغفاراً عند ذكر الذنوب ؛ لأن الإنسان إذا رأى ذنباً من غيره رُبَّما تذكَّر ذنوبه فقال : أستغفر الله ، وعلى هذا يكون المرادُ أنَّ استغفارهم إنَّما هو من باب ذِكر الذنوب ، أو بعد انصرافهم من قضاء الحاجة ؛ لأنَّ النبي صلى الله عليه وسلم كان ينصرف من حاجته ويستغفر كما تقدَّم معنا في الحديث السابق .
وقوله : " فننحرفُ عنها ونستغفرُالله": فيه دليلٌ على أنَّ المسلم إذا علم أنَّه مستقبلٌ للقبلة أثناء قضائه للحاجة وكان ناسياً أو ذاهلاً أثناء القعود فإنَّه ينحرف إذا علم لأنَّه يلزمُه الحكم بعد علمه ، ويُغتفَر عنه ما كان حال ذُهوله وما كان حال نسيانه وغفلته ، والله تعالى أعلم .
- ? - ? - ? - ? - الأسئلة - ? - ? - ? - ? -
السؤال الأول :
كيف يُمكنُنى أن أُصبحَ طالبَ علمٍ، وأستفيد من دروس العلماء ..؟؟
الجواب:
بسم الله الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه أمَّا بعدُ :(8/23)
فهنيئاً لك بنعمة الله وما أسدى إليك من الخير والفضل ، فإنَّ الله لا يهب الهداية إلا لمن أحبَّ ، فإنه يُعطى الدنيا لمن أحبَّ وكره ولكنه لا يُعطى الدين والهداية إلا لمن أحبَّ فإذا أعطى اللهُ الهداية لعبده وأراد أن يزيده من فضله شرح صدره لطلب العلم ، وشرح صدره لحب العلماء وغشيان حِلق الذكر فأصبح منهوماً لا يشبع يبحث عن كتاب الله وسُنَّة رسول الله صلى الله عليه وسلم وهَدْىِ السلف الصالح وما كانوا عليه من الخير والبرِّ والإحسان والطاعة والاستقامة على دين الله عز وجل فالحمد لله الذى هدانا وهداك ، وأوْلانا وأوْلاك ، فاشكر الله على نعمته حتَّى يتأذن لك بالمزيد.
أمَّا ما سألت عنه :كيف تستفيد في حِلَق الذِّكر :
فأوَّلاً: أخلِص للَّه-- جل جلاله --فإن الله يشرح صدرك ويُنوِّر قلبك ويفتح لك من أبواب فضله ما أردتَ وجهه:{ إِنْ يَعْلَمْ اللَّهُ فِي قُلُوبِكُمْ خَيْراً يُؤْتِكُمْ خَيْراً}(1) فإذا علم الله أنك خرجت من بيتك تريد أن تتعلمَّ سُنَّة رسول الله صلى الله عليه وسلم وأن تعلم ما الذى أمرك الله به فتأتمر ، وما الذي نهاك عنه فتنكفّ وتنزجر فأنت على خير وأنت على برٍّ إذا أردتَ وجه اللَّه -- جل جلاله --.
أمَّا الأمر الثانى : فأوصيك بالجِدِّ والاجتهاد وأنت في حِلَق العلم وحِلق الذِّكر لا تفوتُك سُنَّة ولا تفوتُك حكمة .. تُدَوِّن ، وتكتب ، وتحفظ ، وتضبط ، وتصغى ، وتُنصِت فإذا وفَّقك الله لذلك جمعت الخير وكان القلبُ لهذا العلم كالأرض الطيِّبة يُصيبها الغيثُ النافع فتنتفع ما شاء الله لها أن تنتفع .
فأصغِ إلى العلم ، وأقبل عليه بقلبك وقالبك ، ولا تشتغل بأيِّ شىءٍ وأنت في مجالس العلم حتَّى يُعظِم اللَّهُ منك هذا الإقبال فيوفقك ويسدِّدك وتصيب من العلم أفضل ما يصيبه طالبُ علمٍ .(8/24)
الوصية الثالثة : تبحث عن طالب علمٍ يُعينك على طلب العلم تبحث عن اثنين أو ثلاثة من الإخوة الصالحين الذين إذا ذكرت الله أعانوك ، وكذلك ثبَّتوك فتحرص على طلب العلم معهم وتكون رفيقاً لهم في هذه المجالس الطيِّبة التى تستفيد منها .
كذلك أيضاً ينبغى: أن ينعقد قلبُك على حُبِّ العلم والعلماء وأئمة السلف ، أمواتُهم تحبُّهم وتجلُّهم وتتمنَّى أن تكون مثلهم في الخير والطاعة والبِرِّ ، فإنَّ الله ينفعك بهذا كُلِّه فإنَّ الإنسان إذا أحبَّ العلماء رزقه الله الاهتداء بهم. ولو لم يكن في حُبِّ العلماء والأئمة من السلف الصالح إلا قول النبي صلى الله عليه وسلم :(( مَنْ أحبَّ قوماً حُشِر معهم)) لكفى ولذلك لما جاء-كما في الصحيح من حديث أنس - الأعرابيُّ إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال : يا رسول الله الرجل يحبُّ القوم ولمَّا يلحق بهم ..؟ فيحب الصالحين ويحب العلماء ويرى نفسه دون ذلك .. يرى أنَّه ليس عنده العلم والصلاح الذى بلغه هؤلاء الأخيار فقال صلى الله عليه وسلم :(( أنت مع مَنْ أحببْت )) ، قال أنسٌ : " ما فرح أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم بشىءٍ بعد الإسلام مثل فرحهم "بقوله عليه الصلاة والسلام :(( المرءُ مع مَنْ أحبَّ )) وذلك أنَّهم كانوا يحبُّون النبي صلى الله عليه وسلم ويُحبُّون السُّنَّة فمن أحبَّ العلماء رزقه الله الاهتداء بهم ورزقه الله الأدب معهم والإجلال لهم والإكبار والاحترام والتقدير لهم والعمل بما يقولون ونشر علمهم بين الناس.(8/25)
كذلك أيضاً أوصيك : أن تعمل بما تعلم ، فإنَّ مَنْ عمل بما علم ورَّثه الله علم مالم يعلم . فإذا نظر اللهُ إليك لا تسمع بسُنَّةٍ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا عملت بها ودعوت إليها وفَّقك وعظَّم أجرك في العلم وهذا هو النفع الذى سأل رسولُ الله صلى الله عليه وسلم ربَّه أن يُبارك له في علمه وأن ينفعه به فمن نفع العلم ومن آثاره الطيبة المباركة على العبد أن يعمل بما علم فإذا عمل الإنسان بما علم ورَّثه الله علم مالم يعلم وقالوا في الحكمة : هتف العلم بالعمل ، فإن أجابه وإلا ارتحل.
أمّا الوصية الأخيرة : التي أُحِبُّ أن أوصيك بها فهى كثرة المراجعة ، ولا تملّ ولا تسأم ولا تتذمر ولو جلستَ في مجلس العالم فلم تفهم إلا حكمة واحدة فهى خير ، واصبر فإنك في بدايةِ الطريق وبدايةُ الطريق صعبة ، ولذلك رُبَّما يجد الإنسانُ السآمة والملل حينما يجد الأدِلَّة والأقوال وتتناثر عليه الحجج فيصعب عليه ضبطها ؛ ولكن رُويْداً رويداً فقد جلسنا في مجالس العلماء ولم نعِ كثيراً مِمَّا قالوه حتَّى فتح اللهُ من فضلِه ويسَّر لنا مِن عظيم رحمته.
فلذلك اصبر فإنَّ اللَّه عز وجل يُصبِّرُك ويعينك ويثبِّتُك ولخِّصْ ما تسمع ، وحاول أن تحفظ هذا الذى تُلخصُه ، ولا تقوم من مجلسٍ إلا وقد سجَّلت وكتبت فوائد مُعيَّنة ، ثُمَّ بعد ذلك تراجعها مع مرور الزمان حتَّى يُبارك اللَّهُ لك في علمك ، -وأسأل الله العظيم كما أحببتنا فيه أن يُحبَّك ، وأن يجمعنا بك في جنته ودار كرامته إنَّه ولىُّ ذلك والقادر عليه - ، والله تعالى أعلم .
السؤال الثاني:
كما تعلمون أنَّه قد أقبلت الامتحانات . فهل من كلمةٍ توجيهيةٍ للشباب ..؟؟
الجواب:
أوصيكم ونفسى بتقوى اللَّه عز وجل وأيام الامتحان لا شكَّ أنها صعبة على كثِيرٍ من طُلاَّب العلم ؛ والسبب في ذلك أن الإنسان قد يهتمُّ ويغتمُّ بها .(8/26)
فأول ما أوصى به طالب العلم : أن يتوكَّل على الحي الذى لا يموت وأن يُسبِّح بحمده ، ولذلك كان من دعائه عليه الصلاة والسلام :(( ياحيُّ يا قيوم برحمتك أستغيث أصلح لي شأني كُلَّه ، ولا تِكلْنى إلى نفسى طرْفة عين)) فلا تعتمد على ذكائك ولا على حفظك ولا على فهمك ولا على ضبطك ؛ ولكن توكَّلْ على الله وقُلْ حسبى الله ونعم الوكيل .
أمَّا الأمر الثانى : فأوصيك أخي أن ترفق بنفسك من الأمور التى يُوصى بها طُلاَّب العلم أيَّام الاختبارات أن يراعوا الحدود الشرعية والحقوق التى أوجب الله فلا يجوز لطالب العلم أن يُعرِّضَ نفسَه للهلاك بالسهر والتعب والنصب إلى ساعات متأخرة تذهب فيها من الجسد قُوَّتُه ويتعرَّضُ لأمور لا تحمدُ عُقباها .
واذكر حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم كما في الصحيح :(( إن لنفسك عليك حقَّاً)) حينما قالها سلمانُ لأخيه أبي الدرداء فقال صلى الله عليه وسلم :((صدق سلمان)) فلنفسك عليك حقِّاً فأعطِها حقَّها أعطها حقها من الراحة والاستجمام .
وكذلك أيضاً أُوصي طالب العلم أن يتنَّبه إلى أن النَّاس لا تنتظر منه :" ممتاز" ولا تنتظر منه أن يكون من العشرة الأوائل ولا من المتقدمين ولكن تنتظرُ منه أمرين :
الأمر الأول : دينُه واستقامته وما ينطوى عليه من الخُلُق والأدب الذى يُترجمُ به إسلامه واستقامته فإذا استقام قلبُه استقامت جوارحُه بالأدب ومُراعاة الحُرْمة فإذا وفَّقك اللَّهُ للدين والاستقامة فأنت المُقَدَّمُ ولو كُنت آخر القوم.
والأمر الثاني : علمُك وضبطُك فلو جئت في آخر النتائج وأنت ضابطٌ لما تقول عالمٌ بما تقول فأنت مُقَدَّمٌ وسيرفعك اللَّهُ ولو بعد حين فعلى الإنسان ألا يجعل الدنيا أكبر همِّه ولا مبلغ علمه ؛ ولكن عليه أن يتحرَّى الديانة والاستقامة وترجمة هذ الدين بالعمل ثُمَّ بعد ذلك ضبط العلم ما استطاع إلى ذلك سبيلا .(8/27)
الوصية الرابعة التى أوصى بها الإخوان : وهم قادمون على أيَّام الاختبارات الاَّ يُقصِروا في السُّنن والفضائل والرغائب ، وكذلك الواجبات فالبعض يسهر إلى ساعاتٍ مُتأخرة بالليل حتى تضيع عليه صلاة الفجر أو بعضهم يتساهل في السُّنن الرواتب وهذا لا ينبغى فإنَّ الصلاة صلة بين العبد وربِّه وإذا وفَّق اللهُ الإنسانَ لحفظ الصلاة حفظه بها ، ولذلك ورد في الحديث :(( حفظك الله كما حفظتني)) فإذا كان الإنسانُ يُريدُ من الله المعونة والتوفيق في أيَّام الشدائد إذا رأيت الإنسان لا يُقصِّر في الصلاة ويضبط صلاته فاعلم أنَّ الله سيعينه وأنه سيكون له من الله مُعين وظهيِرٌ ولو بعد حين ، ولذلك عليك بالمحافظة على فرائض الله واتقاء حدود الله ومحارم الله والحرص على الفضائل والسنن ، ولا تُضيِّع هذه الخيرات فبعضٌ من طُلاَّب العلم إذا صلَّى أيام الاختبارات لا يعى صلاته ، ولرَبُّمايخرج بعد الصلاة مباشرةً كأنَّه كان في ضيقٍ كرب ، والمُنبغىِ أن يكون الأمُر على العكس كان صلى الله عليه وسلم إذا حزبه أمرٌ فزع إلى الصلاة والله-تعالى- يُوصى عباده المؤمنين فيقول:{ وَاستَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ}(1) فعليك بالصلاة .(8/28)
كذلك أوصى الإخوة الذين يختبرون : أن يحافظوا على كتاب الله وسُنَّة النبي صلى الله عليه وسلم فرمْىُ الملخَّصات في الطرقات وتعريض كلام الله وكلام رسوله للامتهان ينبغى التناصُحُ في هذا وتنبيه الطُّلاب على هذا المنكر العظيم الذي- وقع فيه الكثير إلا من رحم الله- فلا ينبغى أن تُعرَّض هذه النصوص الشرعية وكلامُ الله عز وجل وكلام رسولِه للوطأ بالأقدام والرمى في الطرقات وبمجرد أن ينتهى انسانُ من اختباره يرمى هذه النصوص ولا يبإلى بها فهذا أمرٌ ينبغى التنبيهُ عليه والتناصح فيه وصيانة كلام اللَّه وكلام رسوله صلى الله عليه وسلم عن الامتهان والابتذال كان بعض العلماء يقول : مَنْ تعاطى أسباب امتهان كتاب الله يُخشى عليه الكُفْر فينبغى على الإنسان أن يتنبه لهذا ؛ لأنَّ مَن وضع هذه الملخَّصات وهويعلم أنَّها ستُوطأ بالأقدام فيضعها في الطرقات ويتركها للرياح تعصفُ بها هنا وهناك لكى توطأ وتمتهن فإنَّه عالِمٌ بالعواقب ، ولذلك عاقب الله بالأسباب كما في حديث :(( ويْلٌ للأعقاب من النار)) وحديث المقبورينِ لأنَّهم تعاطوا أسباب الإخلال .
وَآخِرُ دَعْوَانَا أَنِ الحمَْدُ لِلَّهِ رَبِّ العَالَميْنَ وصلَّى اللَّهُ وسلَّم وبارك على عبده ونبيَّه محمد وعلى آله وصحبه أجمعين(8/29)
بسم الله الرحمن الرحيم
قال المصنف رحمه الله : بَاب مَا جَاءَ مِنَ الرُّخْصَةِ فِي ذَلِكَ
الشرح:
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين أما بعد :
فيقول المصنف رحمه الله "باب ما جاء من الرخصة في ذلك": هذا الباب قصد المصنِّف -رحمه الله - فيه إيراد الأحاديث التي وردت عن النبي صلى الله عليه وسلم والتي تدل على جواز استقبال القبلة واستدبارها أثناء قضاء الحاجة ، وقد ذكر رحمه الله ثلاثة أحاديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم .
أمَّا الحديث الأول : فيرويه جابر بن عبدالله بن حرامَ رضي الله عنه وعن أبيه .
وأمَّا الحديث الثاني : فيرويه أبو قتادة الحارثُ بن رِبعىٍّ فارسُ رسول الله صلى الله عليه وسلم .
وأمَّا الحديث الثالث : فيرويه أبو عبدالرحمن عبدالله بن عمر بن الخطاب رضي الله عنه وعن أبيه.
أمَّا الحديث الأول : فهو عن جابر وهو : أبو عبدالله ، وقيل :أبو عبدالرحمن ، وقيل:أبو محمد جابربن عبدالله بن حرام بن ثعلبة الأنصاري الخزرجى صاحبُ رسول الله صلى الله عليه وسلم وابنُ صاحبه فأبوه عبدالله بن حرام من الذين شهدوا مع النبي صلى الله عليه وسلم المشاهد ، وقُتل يوم أُحد رضي الله عنه وأرضاه وكان جابر رضي الله عنه صغير السن ، ولذلك منعه أبوه من غزوة بدر ومن غزوة أُحد ؛ والسبب في ذلك أن أباه أراد أن يقوم على أخواته ويرعى شئونهم من بعد موته .(9/1)
وفي الصحيح أن عبدالله بن حرام رضي الله عنه دعا ابنه جابراً ليلة أُحُد وقال : يا بُنى ما أظن إلا أنى مقتول ، فاستوص بأخواتِك خيراً فلما أصبح الصباح انطلق عبدالله بن حرام مع النبي صلى الله عليه وسلم إلى أُحُد ، وفي الطريق قام عدو الله عبدالله بن أُبىٍّ بن سلول وخذل الناس عن الجهاد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال ما أخبر الله عنه في كتابه :{ لَوْ نَعْلَمُ قِتَالاً لا تَّبَعْنَاكُمْ }(1) فرجع عدو الله ومعه ثلث الجيش ومع ذلك لم يخذل عبدالله بن حرام رضي الله عنه وأرضاه وإنما انطلق مع النبي صلى الله عليه وسلم إلى غزوة أُحد ، وقاتل حتى قُتِل ، وخرج جابر رضي الله عنه مع الناس من المدينة يرى أحوال القوم فرأى أباه قد استُشهد من الذين كُتبت لهم من الله الحُسنى ، فجعل رضي الله عنه وأرضاه يبكى لِمَا رأى من حال أَبيه مقتولاً ، وما زال يكشف الثوب عن وجه أبيه ويبكى فقال له النبي صلى الله عليه وسلم لمَّا رأى عليه شدة الحزن :(( ابكه أو لا تبكِه ، ما زالت الملائكة تُظِلُّه حتَّى رفعته إلى السماء..!!)) ثُم إنَّ جابراً رضي الله عنه اشتدَّ حزنه حتَّى قال :" يارسول الله هل أبى في الجنة فأصبر وأتسلَّى ..؟" فقال له:(( ياجابر إنَّها جِنانٌ وليست بجنَّةٍ واحدةٍ ، وإنَّ أباك قد أصاب الفردوس الأعلى )).
__________
(1) / آل عمران ، آية : 167.(9/2)
وأنزل الله فيه وفي أصحابه المجاهدين مع النبي صلى الله عليه وسلم الصادقين:{وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ - فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمْ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ أَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ} (1) فأثنى اللهُ عليه وعلى أمثاله من الصحابة. وفي الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنَّ شُهداء أُحُد لمَّا رأوا ما عند الله من الحبوة والكرامة قال اللَّهُ لهم: تمنَّوا عبادى . قالوا : نتمنَّى أن نعود فنُقتل في سبيلك فقال: أمَا إنه قد سبق العهدُ منِّى أنَّه من مات لا يرجع إليها . فقالوا: ربَّنا بلِّغ عنَّا إخواننا ، فأنزل الله عز وجل آياتٍ نُسخِت ، وهي قوله سبحانه وتعالى حكايةً عنهم :{ بلِّغوا عنَّا إخواننا أنَّا قد لقينا ربَّنا فرضي عنَّا ورضينا عنه} فكان من القرآن الذي يُتلى حتَّى نُسخ بالعرْضة الأخيرة على رسول الله صلى الله عليه وسلم ولمَّا تُوفي عبدالله بن حرام لزم جابرٌ رضي الله عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم وما تخَّلف عن غزوةٍ من غزواته فشهد تسع عشرة غزوة مع النبي صلى الله عليه وسلم ، وفي الحديث عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم في قصة البعير الذي أراد أن يشتريه من جابر قال جابر رضي الله عنه استغفر النبي صلى الله عليه وسلم ليَّ خمساً وعشرين مرة وهذه منقبة من مناقبه رضي الله عنه وأرضاه .
وحفظ السُّنن والآثار ، وحدَّث بهدْى النبي المصطفي المختار فكان إماماً من أئمة العلم ومن حُفَّاظ أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ، ولذلك يعدُّه العلماء من الصحابة المُكثرين في الرواية ، وقد أشار بعض الفضلاء إليهم بقوله :
__________
(1) /آل عمران ، آية : 169-170.(9/3)
والمُكْثِرُون حَبْرُوهُمْ وَأَنَسُ عَائِشَةٌ وَجَابِرُ المُقَدَّسُ
صَاحِبُ دَوْسٍ وَكَذا ابْنُ عُمَرَا رَبِّ قِنى والمُكْثِرِينَ الضَّرَرَ
فروى عن النبي صلى الله عليه وسلم أكثر من ألفي حديث ثُمَّ إنَّه رضي الله عنه تُوفي عام سبعين من الهجرة وقيل إنَّه تُوفي بغيرها رضي الله عنه وأرضاه وجعل أعالى الفردوس مسكنه ومثواه .
يقول المصنف - رحمه الله- :" باب ما جاء من الرخصة في ذلك ":قوله رحمه الله :" باب ما جاء " أي ما ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم والتعبير بالمجىء لا يستلزم تصحيح الخبر ، ولذلك تقول جاء أو ورد إذا لم تلتزم بذلك الصحة .
وقوله :" ما جاء من الرخصة في ذلك ": الرُّخْصة في كلام العرب تُطلق بمعنى التسهيل ورخَّص الشىء : إذا سهَّله لغيره ولذلك يُوصف قليل السعر بكونه رخيصاً لأنَّه سهلٌ على الناس ، ولذلك يقولون : رخُصت الأسعار إذا كانت سهلةً ولم تكن غالية ، وأمَّا الرخصة في الشريعة الإسلامية فقد اختلف الأصوليون في تعريفها ، فقال بعض العلماء :الرُّخْصَة : استباحة المحظور مع قيام السبب الحاضر .
وقال بعضهم : ما ثبت بدليل شرعى على خلاف الأصل فقولهم رحمهم الله :استباحة المحظور مع قيام الحاظر المراد بذلك أن يرد الدليل في كتاب الله وسنة النبي صلى الله عليه وسلم بتحريم الشىء ، ثم إنَّ الله عز وجل يستثنى حالةً يُرخِّص فيها لعباده.(9/4)
ومن أمثلة ذلك : تحريم الميتة فإن الله سبحانه وتعالى حرَّم أكلها فقال-سبحانه-{حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ الْمَيْتَةُ}(1) فهذا النص يدل على حظر الميتات وعدم جواز أكلها ، ولكن الشريعة الإسلامية أباحت أكل الميتة عند وجود سبب معين ، وهى حالة الضرورة كما قال سبحانه وتعالى :{فَمَنْ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لإِثْمٍ}(1) وقال -سبحانه-:{ إِلاَّ مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ}(2) وقال -سبحانه -:{فَمَنْ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلا عَادٍ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ}(3) فهذا النص الصريح في كتاب الله عز وجل يدل على استباحة الميتة المحرمة بالدليل الشرعى السابق ولذلك يقولون : يُرخَّص للمضطر أن يأكل الميتة.
وقال العلماء :إن الرُّخصة تنقل الحكم من الحرمة إلى الحل والإباحة ، فالميتة في الأصل حرام لا يجوز للإنسان أن يأكلها، ولكنه إذا اضطر إلى أكلها انتقلت بهذه الرخصة من الحرام إلى الحلال ، وقد ينتقل المكلف في الرخصة إلى الوجوب فقد يكون الشىء حراماً وينتقل بالرخصة إلى الوجوب ، وقد ذكر العلماء مثالاً على ذلك من حصلت له الضرورة فعلم أنه إذا لم يأكل الميتة فإنه يموت ، قالوا : فحينئذٍ إذا امتنع عن أكل الميتة فإنه يأثم لأنه يجب عليه أكل الميتة لحفظ نفسه التي ائتمنه الله على حفظها والقاعدة : "أن مالايتم الواجب إلا به فهو واجب" فلمَّا كان حفْظ النفوس عن الموت واجباً على المُكلَّف ، وتوقَّف القيام بهذا الواجب على الأكل من الميتة صار الأكل واجباً من هذا الوجه .
واختلف العلماء لو أنَّ إنساناً أصابته الضرورة وعنده مَيْتة وعلم أنه إذا لم يأكل من هذه الميتة فإنه يموت فهل لو امتنع عن أكلها ثم مات هل يُعتبر قاتلاً لنفسه أولا يُعتبر..؟؟
__________
(1) / المائدة ، آية : 3 .
(2) / الأنعام ، آية : 119 .
(3) / البقرة ، آية : 173 .(9/5)
فقال جمعٌ من العلماء : من امتنع عن أكل الميتة عند الضرورة وعلم أنه سيموت ثم مات فإنه يُعتبر قاتلاً لنفسه .
وقال جمعٌ من العلماء : إنه ليس بقاتلٍ لنفسه لعدم وجود اليقين.
ومن هُنا تفرَّعت المسألة المشهورة عند العلماء رحمهم الله :لو كان الإنسان مصاباً بمرضٍ قاتلٍ ، وهذا المرض القاتل له دواءٌ وعلاجٌ فهل لو امتنع عن التداوى والعلاج مع غلبة ظنه بالهلاك هل يُعتبر قاتلاً لنفسه لو مات على هذا الوجه على قولين :
فمنهم من يقول: إنَّه إذا امتنع عن العلاج يُعتبر قاتلاً لنفسه ، ومنهم من يقول : إنه غير قاتلٍ لنفسه ، وهو الصحيح وذلك ؛ لأن مسألة الميتة ليست كمسألة التداوى ووجه ذلك أن التداوى يعتبر من المظنونات ، والأكل من الميتة يعتبر من القطعيات أو ما هو غالبٌ من القطعى .
وتوضيح ذلك :أن الإنسان إذا كان جائعاً وأكل فإنه يحيا ، ولكنه إذا كان مريضاً وتداوى فإنه يحتمل أن ينفعه الدواء فيشفيه الله-- جل جلاله --ويحتمل أن الدواء لا يفيد ، ولذلك اختلف الحكم في الحالتين لعدم وجود التساوى بينهما .
وهذا هو أصح القولين عند العلماء رحمهم الله .
يقول المصنف رحمه الله " باب ما جاء من الرخصة في ذلك ":أى في هذا الموضع سأذكر لك جملة من أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم والتي تدل على الترخيص في استقبال القبلة واستدبارها أثناء قضاء الحاجة ، وهذا التعبير من الترمذي رحمه الله يُعتبر من فقهه وورعه.
وتوضيح ذلك : أنَّه لم ينصّ على النسخ ، وإن كان بعض العلماء اعتبر الأحاديث التي ستأتى بمثابة الناسخ للحديث الذي تقدم والصحيح أنه ليس هناك نسخ كما قررناه .(9/6)
قال المصنف رحمه الله : حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ وَمُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى قَالاَ حَدَّثَنَا وَهْبُ بْنُ جَرِيرٍ حَدَّثَنَا أَبِي عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَقَ عَنْ أَبَانَ بْنِ صَالِحٍ عَنْ مُجَاهِدٍ عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ:" نَهَى النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم أَنْ نَسْتَقْبِلَ الْقِبْلَةَ بِبَوْلٍ فَرَأَيْتُهُ قَبْلَ أَنْ يُقْبَضَ بِعَامٍ يَسْتَقْبِلُهَا " .
قال رحمه الله :وَفِي الْبَاب عَنْ أَبِي قَتَادَةَ وَعَائِشَةَ وَعَمَّارِ بْنِ يَاسِرٍ .
قَالَ أَبو عِيسَى رحمه الله : حَدِيثُ جَابِرٍ فِي هَذَا الْبَابِ حَدِيثٌ حَسَنٌ غَرِيبٌ .
الشرح:
يقول المصنف-رحمة الله-:" حدَّثنا محمد بن بشار ومحمد بن المُثَنَّى ": وهما شيخا الترمذي والإمام أحمد -رحمة الله على الجميع- وكلاهما ثقة .
ومن عادتنا أن نذكر تراجم رجال السند واختيار بعض العلماء رحمهم الله ؛ ولكن نظراً لوجود الإطالة في ذلك اقتصرنا على تراجم أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم مع الإشارة إلى ما يذكره الحافظ ابن حجر رحمه الله في التقريب من خلاصة الكلام في الراوى .
وكلٌ من محمد بن بشار-وهو المشهور بـ:بُنْدار- ، وكذلك محمد بن المثنى-والذي يُقال له الزَّمِن- ، وهو :محمد بن المثنى بن عُبيد العَنَزي كلاهما ثقة.
وقوله " قالا: حدَّثنا وهب بن جرير":وهو أبو عبدالله وهب بن جرير بن حازم بن زيد بن عبدالله الأزدي .
قال "حدَّثنا أَبِى": وكلاهما ثقة كما ذكر الحافظ رحمه الله في التقريب .
"عن محمد بن إسحاق ": وهو إمام السيرة المعروف صاحب المغازي والسِّيَر وقد اختلف العلماء رحمهم الله فيه اختلافاً كثيراً قلَّ أن يُوجد في غيره من الرواة ، ولذلك اجتمع من الجرح فيه والتعديل ما قلَّ أن يجتمع في غيره فاجتمع فيه الجرح المجمل والجرح المبيَّن ، واجتمع فيه التعديل المجمل والتعديل المبيَّن .(9/7)
ووقع الخلاف بين العلماء رحمهم الله فيه فكان الإمام مالك رحمه الله يطعن فيه وقد اختلف العلماء رحمهم الله في سبب طعن الإمام مالك في الإمام محمد بن إسحاق ، فقيل : إن الإمام مالكاً تبع في ذلك هشام بن عروة في الطعن في محمد بن إسحاق وذلك أنَّه بلغ هشامَ بنَ عروة أنَّه حدَّث عن امرأته فاطمة بنت المنذر ، وكان ذلك سبب طعَّن هشام بن عروة في الإمام محمد بن إسحاق ، ومن ثَمَّ قالوا إنَّ الإمام مالكاً إنما طعن فيه تبعاً لهشام بن عروة .
وهذا القول يختاره الإمام الحافظ ابن عبدالبرِّ وهذا الطعن من هشام بن عروة في محمد بن إسحاق سببه أن هشاماً كان ينفي أن تكون فاطمة قد حدَّثت محمد بن إسحاق ، وقد أجاب العلماء والأجلاَّء عن هذا الطعن ، فالإمام البخارى -عليه رحمة الله- يقول : إنَّه يحتمل أن فاطمة بنت المنذر قد كتبت لمحمد بن إسحاق بما روت ، فكان تحديثه على سبيل الكتابة لا على سبيل الاتصال المباشر ، وقد قرَّر ذلك بناءً على أن مذهب أهل المدينة أنهم يتسامحون في الرواية بالكتابة.
وقال بعض العلماء :إن محمد بن إسحاق قد سمع من فاطمة بنت المنذر وإنَّ هذا السماع كان من وراء حجاب كما فعل علقمة والأسود مع أم المؤمنين عائشة-رضي الله عنها وأرضاها-.
وقال بعض العلماء : إن محمد بن إسحاق قد روى عن فاطمة بنت المنذر وكانت بينه وبينها قرابة من الرضاعة ، فقالوا: لاحتمال القرابة فإنه يحتمل أن يكون هشامٌ غير عالمٍ بهذه القرابة ، فنفي أن يكون قد سمع منها أو رآها ، ولذلك قالوا إنَّ هذا الطعن لا يُقبل لهذه الوجوه التي ذكرناها.
والقول الثانى : أنَّ الإمامَ مالكاً إنما طعن في محمد بن إسحاق لأنه كان يعتب عليه طعنه في نسبه ، وذلك أنه حُكى عن محمد بن إسحاق أنَّه طعن في نسب مالك -رحمه الله -لبنى أصبح ، فقال:" إنَّه من الموالى لامن أنْفَسِهم" ، ولذلك نسبه الإمام مالكٌ إلى الكذب والدجل .(9/8)
وقد ضعَّف بعض العلماء رحمهم الله هذا القول لأنَّ الإمام محمد بن إسحاق كان على علم بالأنساب لا يخفي عليه مكانة مالكٍ رحمه الله وكذلك نسبه وثبوت نسبه عن بني أصبح من بنى حِمْيَر ، ولذلك وهَّن بعض العلماء هذا الطعن .
وقيل: إن الإمام مالكاً طعن فيه بسبب قوله عن الموطأ: أيتوني به فأنا بَيْطارُه ، فشدَّد رحمه الله في هذه الكلمة واعتبرها جرحاً في هذا الإمام .
وأيَّاً ما كان فقد عدَّ جمعٌ من المحققين طعن مالكٍ رحمه الله في الإمام محمد بن إسحاق إنَّما هو من كلام الأقران ، ولخَّص الإمام الحافظ ابن حجر رحمه الله القول فيه بأنه إمام المغازي ، صدوقٌ يُدلِّس ، رُمِى بالتشيع وبالقدر ، وهذه الخلاصة يميل إليها الحافظ الذهبي -عليه رحمة الله- ، ولذلك حسَّن جمعٌ من العلماء رواية محمد بن إسحاق ولكن بشرط ألاَّ يكون مُدَلِّساً ، ومن ثَمَّ قالوا : إنَّه تُعتبر روايته بهذا الشرط-أعني ألاَّ يكون مُدَلِّساً- فيُصِّرح بالسماع والتحديث ، وكذلك اشترطوا عدم شذوذه كما قرَّره الحافظ الذهبي رحمه الله .
يقول المصنِّف " عن محمد بن إسحاق عن أبان بن صالح ": وهو ثقة ، وطعن فيه الحافظ ابن عبدالبرِّ فضعَّفه ، وكذلك الإمام أبو محمد على بن حزم الظاهري فعدَّه من المجاهيل ، وكلا الطعنين مردود عند العلماء رحمهم الله فهو ثقة عند المحققين ولم يعتدُّوا بهذا التوهين .
وقوله " عن مجاهد":هو مجاهد بن جبر تلميذُ حبر الأمة وترجمانِ القرآن عبدالله بن عبَّاس رضي الله عنه وأرضاه وقد تقدَّمت ترجمته معنا .(9/9)
عن جابر بن عبدالله قال :" نهانا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نستقبل القبلة ببولٍ":قد تقدَّم أنَّ قولَ الصحابىِّ:" نهانا رسول الله صلى الله عليه وسلم " من الصيغ التي يعتبرها العلماء رحمهم الله محتملة في دلالتها ومذهب جمهور العلماء أنها تُعتبر مرفوعة إلى النبي صلى الله عليه وسلم مُوجبة للحكم بما تضمَّنه النهي من التحريم ويؤكد هذا حديث أبي أيوب الأنصاري الثابت في الصحيحين أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:((لا تستقبلوا القبلة)) فهذا نصٌّ صريح من كلام النبي صلى الله عليه وسلم يدل على ثبوت تعبير جابر بالنهى ضمناً .
وقوله رضي الله عنه " أن نستقبل القبلة ببول ": أى أن نجعل القبلة قبالة وجوهنا عند البول ، وظاهر هذا الحديث التحريم للبول ، ولم يذكر رضي الله عنه تحريم النبي صلى الله عليه وسلم للاستدبار ، ولذلك يُعتبر هذا الحديث أقل دلالةً من حديث أبى أيوب الأنصاري وذلك أن حديث أبي أيوب الأنصاري-- رضي الله عنه -وأرضاه- اشتمل على النهي مطلقاً سواءً كان الإنسان مستقبلاً أو كان مستدبراً ، وسواءً استقبل بالعضو الذي يقضى الحاجة به أو استقبل بغيره كما هو الحال إذا كان يبول واستدبر القبلة .
وقوله رضي الله عنه وأرضاه :"أن نستقبل القبلة ببول فرأيتُه قبل أن يُقبض بعام": قوله : " فرأيتُه ": مذهب طائفة من العلماء أن المراد به التعقيب الذي يتضمن معنى النسخ فكأن هذه الرؤية وقعت بعد نهيه عليه الصلاة والسلام عن الاستقبال .
وقال جمع من العلماء :إن الصيغة ليست بصريحة وهو التحقيق ، ولذلك قالوا إن هذا الحديث كحديث ابن عمر لايقوى على الدلالة على النسخ لمكان التردد .
وقوله: " فرأيته " يحتمل وجهين : إمَّا أن تكون رؤية مقصودة ، أو تكون رؤية غير مقصودة.(9/10)
أما الرؤية المقصودة فهى أن يتعمَّد جابر- - رضي الله عنه -وأرضاه- رؤية شخص النبي صلى الله عليه وسلم وهو يقضي حاجته ، وهذا معنىً مرجوح.
والوجه الثانى : أن يكون غير مقصود بأن رآه اتفاقاً دون قصدٍ منه رضي الله عنه وأرضاه كما وقع من عبدالله بن عمر رضي الله عنه وأرضاه ولذلك جاء التعبير في بعض الروايات أن اللبنتين كانتا إلى جهة القبلة ، وهذا لا يستلزم الرؤية أثناء قضائه صلوات الله وسلامه عليه لحاجته .
وقوله :"فرأيته قبل أن يُقبض بعامٍ يستقبلها": بمعنى أنه يستقبل القبلة حال بوله.
هذا الحديث حجَّةٌ لطوائف من العلماء :
الطائفة الأولى : تقول : هذا الحديث دليلٌ على النسخ ، وهم أصحاب داود الظاهري وهو مذهب ربيعة الرأى والليث بن سعد- رحمة الله على الجميع- ، يقولون : إنَّ هذا الحديث يدل على نسخ تحريم استقبال القبلة واستدبارها أثناء قضاء الحاجة .
الطائفة الثانية : تستدل بهذا الحديث على تحريم الاستقبال وحده دون الاستدبار ، وذلك لأن النص الصريح في الاستقبال دون الاستدبار .
الطائفة الثالثة : تستدل به على جواز الاستقبال والاستدبار ؛ ولكن بشرط أن يكون ذلك في العمران دون الخلاء والعراء ، وهذا هو مذهب جمهور المذاهب الأربعة كما ذكرنا .
فيقولون : إن جابراً رضي الله عنه وأرضاه رآه يقضى حاجته في الكنيف وهذا القول محل نظر ؛ وذلك لأن رواية جابر جاءت على الإطلاق ، بل لو قال قائلٌ إنها في الخلاء لكان قوله أقوى من القول بأنها في البنيان ، وذلك لأن رؤيته على هذه الحالة في الخلاء أقوى من أن تكون في البنيان ، ومن هنا يضعف مذهب الجمهور الذين يقولون بجواز الاستقبال والاستدبار في البنيان دون العراء .
وقد تقدَّم بسط الكلام على هذه المسألة ، وبيان أدِلَّة العلماء والراجح من أقوالهم ، والجواب على الأدلة المُعَارِضة(1).
__________
(1) /راجع الدرس الثامن.(9/11)
وهذه الأحاديث الثلاثة التي ذكرها المُصنِّفُ إذا تأمَّلنا فيها وجدنا حديث جابر بن عبدالله وأبى قتادة -رضي الله عن الجميع - كِلَيْهما مُختلَفٌ في إسناده ، أمَّا حديث أبى قتادة فضعفه أشدُّ من ضعف حديث جابر .
وأمَّا حديث عبدالله بن عمر - وهو الحديث الثالث- فهو حديثٌ متفقٌ عليه.
وحينئذٍ يَرِدُ الإشكال: كيف قدَّم المصنف رحمه الله حديث جابر وأبى قتادة مع أنهما أضعف من حديث عبدالله بن عمر - رضي الله عن الجميع - ..؟؟
والجواب من وجهين :
الوجه الأول : أن حديث جابر بن عبدالله وحديث أبي قتادة وإن كانا ضعيفين من جهة السند من جهة الكلام فيهما فإنهما أقوى في المتن من حديث ابن عمر ، وتوضيح ذلك أن حديث جابر يشير إلى معنى النسخ ، وهو يدل على تقدم النهى عن الفعل .
والوجه الثاني : أن حديث جابر صَرَّح رضي الله عنه وأرضاه فيه بالمعنى الذي تضمَّنه حديث ابن عمر ، فأصبحت فيه زيادة من هذا الوجه ، فنظراً لقوة حديث جابرمن جهة المتن قدَّمه المصنف على حديث عبدالله بن عمر-رضي الله عن الجميع وأرضاهم -.
قال المصنف رحمه الله : وَقَدْ رَوَى هَذَا الْحَدِيثَ ابْنُ لَهِيعَةَ عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ عَنْ جَابِرٍ عَنْ أَبِي قَتَادَةَ :" أَنَّهُ رَأَى النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم يَبُولُ مُسْتَقْبِلَ الْقِبْلَةِ ".
حَدَّثَنَا بِذَلِكَ قُتَيْبَةُ حَدَّثَنَا ابْنُ لَهِيعَةَ وَحَدِيثُ جَابِرٍ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَصَحُّ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ لَهِيعَةَ وَابْنُ لَهِيعَةَ ضَعِيفٌ عِنْدَ أَهْلِ الْحَدِيثِ ضَعَّفَهُ يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ الْقَطَّانُ وَغَيْرُهُ مِنْ قِبَلِ حِفْظِهِ .
الشرح:
هذا الحديث الثاني هو حديث أبي قتادة الحارث بن رِبْعىٍّ بن بَلْدَمَةَ بن خِرَاشٍ صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم وفارسه.(9/12)
قال أبو سعيد الخُدريُّ-- رضي الله عنه - وأرضاه-: حدَّثني من هو خيرٌ مِنِّي أبو قتادة ، وكان رضي الله عنه من فُرسان النبي صلى الله عليه وسلم وفي الحديث :(( أبو قتادة من خير فُرساننا)) وقد جاء في الحديث في قصة مسيره عليه الصلاة والسلام لمَّا قفل من غزوة تبوك أنَّه كان وراءه أبو قتادة رضي الله عنه حتى غفا عليه الصلاة والسلام وكاد أن يسقط من البعير فكان كُلمَّا أراد أن يسقط دفع أبو قتادة بعيره فاستيقظ صلوات الله وسلامه عليه فقال له :(( منذُ متى وأنت ورائى..؟)) فقال :" من كذا وكذا " فدعا له النبي صلى الله عليه وسلم وقال :(( حفظك الله كما حفظت نبيَّه)) فكانت منقبة من مناقبه رضي الله عنه وأرضاه .
تُوفي سنة أربع وسبعين ، وقيل : خمس وسبعين من الهجرة-- رضي الله عنه - وأرضاه-.
وأمَّا عبدُالله بنُ لَهِيْعَة بنِ عُقْبة القاضي بمصر فإنه اختلف العلماء رحمهم الله في تعديله وجرحه ، وإن كان الذي عليه المحققون أنه لا شك في إمامته وعلمه وفضله وصلاحه وورعه ؛ وإنَّما الكلام في حفظِه .
وقد حسَّن بعض العلماء رحمهم الله إسناده وروايته ، وقال : إنَّ الخلل إذا وقع في روايته فإنَّما يكون ممَّن فوقه أو ممَّن دونه يروى عنه أو يروى عمَّن يروى عنه .
وقال بعض العلماء : إنَّه كان يُحدِّثُ من كتبه فاحترقت عليه كتبُه ، ثُمَّ إنه اختلط بعد ذلك فمن هُنَا ضعُف حديثه ، فمن روى عنه قبل الاختلاط فروايته مقبولة كعبدالله بن المبارك وعبدالله بن وهب- عليهما رحمة الله- ، ومن روى عنه بعد الاختلاط فإن روايته تكون ضعيفة ، وكان أهل مصر لا يُفَرِّقون بين حاله قبل الاختلاط وحاله بعد الاختلاط.
ولخَّص الحافظ ابن حجر- رحمه الله- القول فيه فوصفه بكونه صدوقاً إذا حدَّث من حفظه فإنَّه لا يُقبل لمكان الضعف في حفظِه وضعفه .(9/13)
وأبو الزُّبَيْرِ : هو محمد بن تادْرُسٍ المكىُّ ، صاحب جابر بن عبدالله رضي الله عنه وأرضاه وكان من خيار أصحابه الذين حفظوا عنه سُنَّة النبي صلى الله عليه وسلم حتَّى قال بعض من رافقه في الطلب على جابر: كُنَّا نُجالِس جابراً ومعنا محمدٌ أبو الزبير ، فإذا خرجنا كان أبو الزبير أحفظنا .
فهذا يدل على قوة حفظه وضبطه -رحمه الله برحمته الواسعة- ، وهذا الحديث قد دلَّ على ما دلَّ عليه حديثُ جابر ، ويحتجُّ به من يقول بالنسخ ، وكذلك من يقول بالجواز مطلقاً ، ومن يُفرِّق بين الصحراء والبنيان فإنَّه يعتبر هذا الحديث دليلاً على البنيان ولا يرى عمومه أي شموله للصحراء والبنيان ، والله تعالى أعلم .
- ? - ? - ? - ? - الأسئلة - ? - ? - ? - ? -
السؤال الأول:
متى يكون الاستغفار عند قضاء الحاجة في المراحيض التي تُبنى في اتجاه القبلة ..؟؟ هل يكون قبل أو أثناء أو بعد ذلك حيث إن قول أبى أيوب :" فننحرف عنها ونستغفر الله " لم يُبيِّن ذلك ..؟؟
الجواب:
بسم الله الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه أما بعد:
أمَّا الاستغفار أثناء قضاء الحاجة فإنَّه لا وجه له ؛ وإنَّما يكون الاستغفار إذا وقع الإنسان في ذلك واضطُر إليه ثُمَّ خرج فإنه يستغفر بعد خروجه ، وأمَّا قبل الدخول فإنَّه إذا رأى أن المرحاض والكنيف قد بُنى إلى جهة القبلة فإنَّه لا يبول عليه وإنَّما ينحرف وبانحرافه يخرج عن ذَنبه ووزره فلا وجه لاستغفاره ، والله تعالى أعلم .
السؤال الثاني :
ما حكم الصلاة لمن صلَّى وفي بطنه تشويشٌ يُريد أن يقضى حاجته ولكنه صبر وصلى ..؟؟
الجواب:(9/14)
هذه المسألة تُعرف بمسألة الحاقن إذا كان الإنسان قد حصره البول أو الغائط وأراد أن يبقى حتى يُصلى صلاته كأن يكون في مسجد جماعة فللعلماء رحمهم الله في الحاقن إذا صلَّى وهو حاقنٌ قولان : قال بعض العلماء : صلاته باطله كما هو مذهب الظاهرية وبعض أهل الحديث .
وقال بعضهم : إن صلاته صحيحه، وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم حينما قال :((لا صلاة بحضرة طعامٍ ولا وهو يدافعه الأخبثان )) المراد بذلك : نفي الكمال لا نفي الصحة .
وذهب طائفةٌ من العلماء وهو المذهب الراجح إلى التفصيل: فإن كان الذي يُريد أن يصلى وفي بطنه ما يُشكل عليه ويُشوش قد بلغ به التشويش حتى يذهل عن صلاته ويذهب عنه خشوعه فإن صلاته باطلةَ على ظاهر الحديث ، وأمَّا إذا كان يتمالك نفسه ويعي ما يسمع من قراءة الإمام ، وكذلك يعي ما يقول إذا صلَّى منفرداً فإن صلاته صحيحة ، والله تعالى أعلم .
السؤال الثالث:
كيف يقول العلماء في مسألة ما إذا تذكر الإمام في نصف الصلاة أنَّه على غير طهارة فجذب من وراءه وانصرف فهل يُعيد القومُ من أول الصلاة، أم ماذا يفعلون ..؟؟
الجواب:
هذه المسألة تُعرف بمسألة الاستخلاف ؛ والسبب في ذلك أن السُّنة عن النبي صلى الله عليه وسلم قد دلَّت على جواز انتقال الإمامة عند وجود الحاجة وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لمَّا ثَقُل عليه المرض-وذلك في مرضه الذي تُوفي فيه- أمر أبابكر رضي الله عنه أن يُصلى بالناس فقام أبوبكر رضي الله عنه وأحرم وصلَّى بالناس ، وفي أثناء الصلاة أحسَّ صلوات الله وسلامه عليه بالخِفَّة فخرج وهو معتمدٌ على العباس وعليٍّ –رضي الله عن الجميع – حتى أقاماه في مقامه فكان أبوبكر عن يمينه ، ثُمَّ جلس عليه الصلاة والسلام وأتمَّ الصلاة بالناس .(9/15)
وجه ذلك : أنَّه طرأت إمامتُه عليه الصلاة والسلام فلم تقدح في الابتداء الذي ابتدأه أبو بكر رضي الله عنه فدلَّ على مشروعية انتقال الإمامة ؛ ولكن عند وجود الحاجة فإذا طرأ على الإمام العذر بأن يكون قد طرأ عليه ما يُوجب انتقاض وضوئه سحب من وراءه ، أو تذكَّر أنَّه على غيرطهارة فإنَّه يسحب المأموم والنظر في ذلك نظراً عكسياً مبنٍ على هذه السُّنَّة ، والله تعالى أعلم.
السؤال الرابع :
ما حكم من أوتر ثُمَّ أراد أن يُصلِّى بعد الوتر..؟؟
الجواب:
من أوتر في الليل ثم استيقظ آخر الليل وأراد أن يتهجد أو يصلى فإن كان يُريدُ أن يُصلى ركعتين مثلاً فإن السُّنة أن يُصلى ركعتين ولا يوتر ؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم كما في الصحيح صلَّى ركعتين بعد ما أوتر .
وألَّف الحافظُ ابن حجر رحمه الله في ذلك رسالة أورد فيها الأحاديث الصحيحة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بفعله ذلك ، وأمَّا إذا كان يُريد أن يصلى كثيراً فإنه لا حرج أن ينقض الوتر الأول بركعة ، ثُمَّ يُصلِّى ركعتين ركعتين ، ويُوتر والدليلُ على ذلك حديثُ الترمذي :(( لا وترانِ في ليلةً )).
ووجه الدلالة في هذا الحديث : أنَّه لمَّا نهانا عليه الصلاة والسلام عن الوترين في الليلة دلَّ على أنَّ الوتر الثانى ينقض الوتر الأول والمطلوب في صلاة الليل أن تكون على نهاية الوتر فلمَّا قال :(( لا وترانِ في ليلة )) ؛ فالسبب في ذلك أنه إذا أوتر مرتين صار العدد شفعيَّاً ولم يصل إلى الوتر .(9/16)
ومن هُنَا أخذ العلماءُ من هذه السُّنة دليلاً على أنَّ الوتر ينقض الوتر ، وعلى هذا كان ابن عمر-- رضي الله عنه -وأرضاه- يُصلِّى ركعةً ينقض بها وتره الأول ، ثُمَّ يتهجد ثُمَّ يُوتِر وهذا القول هوالأولى ؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال:(( لا وترانِ في ليلة)) فيجوز له أن ينقض الوتر الأول ، ثُمَّ يُوتر مرَّةً ثالثة وحينئذٍ يكون وتره الثالث مبنياً على السُّنَّة كما في الصحيح :(( اجعلوا آخر صلاتكم بالليل وتراً )) ، والله تعالى أعلم .
السؤال الحامس:
ما حكم من أذَّن لصلاة المغرب قبل وقتها بخمس دقائق هل يؤذن مرَّة أُخرى إذا دخل الوقت ..؟ وما حكم صوم الصائمين الذين أفطروا بهذا الأذان ..؟؟
الجواب:
من أذَّن قبل المغرب ولو بالشيء اليسير فلا يخلو من حالتين :
إمَّا أن يكون ذلك باستهتار واستخفافٍ وعدم ضبطٍ للوقت فإنَّه آثِمٌ شرعاً مُتحِّمل للمسئولية بين يدى الله عز وجل عن كُلِّ من أفطر بهذا الأذان ، وذلك لأنَّ النبي صلى الله عليه وسلم قال في حديث أبى هريرة في السُّنن : (( الإمامُ ضامنٌ والمؤذِّنُ مُؤتمَنٌ )) فدلَّ على أن المؤذِّن مُؤتمَن فمن خيانة الأمانة والتقصير فيها ألاَّ يضبط أمانته ولا يراعى الوقت كما ينبغى أن يُراعيه المؤذن .
أمَّا إذا كان وقوعه في هذا الخطأ كان بعد تحرٍّ واجتهادٍ ثُمَّ إنَّه أخطأ في اجتهاده فإنَّه لا إثم ولا وزر عليه ؛ ولكن ينبغى عليه أن يُعلم النَّاس ويعود مرَّةً ثانيةً ويُوذِّن حتَّى يعلم الأولون أنَّه قد أخطأ في أذانه الأول ويلزمهم قضاء ذلك اليوم ،والله تعالى أعلم.
السؤال السادس:
امرأةٌ كان يأتيها الحيض قبل الحمل سبعة أيام، ثُمَّ إنَّها حملت فلما طهرت من النفاس جاءها الحيض شهرين ثمانية أيام فما حكم صيامها في اليوم الزائد ..؟؟
الجواب:(9/17)
إذا كانت للمرأة عادةٌ قبل أن تختلَّ عادتُها فإنَّه يجب عليها أن تُعمل هذه العادة لِمَا ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنَّه لما استُفْتِى عن المرأة التي استُحيضت قالت له فاطمة-رضي الله عنها-:" يا رسول الله إنِّى أستحيض فلا أطهر أفدَعُ الصلاة..؟ قال عليه الصلاة والسلام :(( لا ولكن دعي الصلاة أيام أقْرَائِك )) فقوله عليه الصلاة والسلام :((دعِى الصلاة أيام أقرائك)) يدل دلالةً واضحةً على أنَّه ينبغي للمرأة المعتادة أن ترجع إلى عادتها .
وفي الحديث الصحيح أيضاً قوله :(( لتنظر الأيام التي كانت تحيضهن قبل أن يصيبها الذي أصابها)) فردَّ- صلوات الله وسلامه عليه- المرأة إلى عادتها سواءً نقصت أو زادت سواءً وقع الاضطراب بالنقص أو وقع بالزيادة.
وعلى هذا فهذه المرأة حيضها سبعة أيام بناءً على عادتها قبل الحمل ، فلمَّا طهرت من نفاسها وحاضت الحيضة الأولى ثمانية أيام فإننا نردُّها إلى السبعة على ظاهر السُّنَّة ، ونقول:
يجب عليك أن تُمسكى عن الصلاة السبعة ، وأمَّا اليوم الثامن فإنَّ المرأة يجب عليها أن تصوم وتصلى فيه لأنها لا تُعتبر حائضاً فيه ، ثُمَّ تنظر إلى الشهر الثاني ، فإن جاءها الشهر الثاني بعد الحمل ثمانية أيَّامٍ أيضاً فإنَّنا نُطالبها بالسبعة ونعتبر الثامن استحاضة فإن جاءها الشهر الثالث ثمانية أيامٍ فإننا نحكم بانتقال عادتها من السبعة إلى الثمانية وحينئذٍ تُطالَب بقضاء اليومين اللَّذَيْنِ ثبت أنهما من الحيض ، والقاعدة : " أنَّه لا عبرة بالظنِّ البيِّن خطأه" أي لا عبرة بالظن والاجتهاد إذا تبيَّن خطأه فلمَّا كُنَّا نظن أن اليوم الثامن استحاضة وثبت أنه حيض رجعنا إلى ما ثبت ويلزمها قضاء اليومين المتقدمين إن كانت قد صامتهما .
وعلى هذا فإنَّها تنتظر إلى الشهر الثالث، فإن جاء الشهر الثالث فلا يخلو من حالتين :(9/18)
إمَّا أن يأتيها على الثمانية ، فحينئذٍ تُلزم بقضاء اليومين المتقدمين إن كانت قد صامت فيهما وإن كان قد جاءها سبعة أيَّام فقد رجعت إلى عادتها ، وإن كان قد جاءها أكثر من ثمانيه فتعتدُّ بالسبعة وتُلغى ما زاد ، والله تعالى أعلم .
السؤال السابع :
هذه امرأة تسأل وتقول إنَّها نفست قبل رمضان بثلاثة أسابيع والآن لا يخرج منها دمٌ ، ولكن يخرج سائل قريبُ الصُّفْرة فهل تصوم أو تُمسك ..؟؟
الجواب:
هذه المسألة تُعرف بمسألة الصُّفرة والكُدْرة ،وللعلماء فيها خلاف معروف . فمنهم من يرى أن الصُّفْرة والكُدْرة تأخذ حكم دم الحيض ، وذلك لحديث أمِّ عَطِيَّةَ -رضي الله عنها-:"كُنَّا لا نعدُّ الصُّفْرة والكُدْرة بعد الطُّهْر شيئاً".
وهذا يدلُّ على أنَّها قبل الطُّهْر تُعتبرمُؤثرة وفي الصحيح عن أم المؤمنين عائشة-رضي الله عنها-"أنَّ النَّساء كُنَّ يبعثْنَ إليها بالدُّرْجَة فيها الكُرْسُف فيه الصُّفْرة والكُدْرة من دم الحيض، فتقول -رضي الله عنها وأرضاها- :"انتظرْنَ لا تعجلِنَّ حتى تريِنَّ القَصَّة البيضاء ".
توضيح هذا الأثر: أن النساء كُنَّ يبعثن بالدُّرْجة -وهى الخِرْقة- فيها الكُرْسُف -وهو القُطن- فيه الصُّفْرة من دم الحيض أي أن المرأة تبعث بهذا اللون إلى أم المؤمنين تستفتيها هل هو آخذٌ حكم الحيض أولا ؟! فتقول أمُّ المؤمنين :" انتظرن ، لا تعجلِنَّ حتى ترينَّ القصَّة البيضاء " فكانت ترى-رضي الله عنها وأرضاها- أن الصُّفرة والكُدْرة آخِذةٌ حكم دم الحيض إذا كانت في الوقت ، ولذلك أمرت بالانتظار إلى الطُّهْر .
وعلى هذا فإنَّ المرأة النُّفَسَاء إذا أصابتها الصُّفْرة فلا تخلو من حالتين :(9/19)
إمَّا أن تكون قد رأت علامة تدل على طُهرِها ، وللعلماء فيها وجهان: منهم من يرى الاقتصار على القَصَّة البيضاء دون غيرِها ، ومنهم من يرى أنها إذا رأت الجفوف مع القَصَّة البيضاء فإنَّهما علامتان مُمَيِّزتان ما بعدهما لا يؤثِّر ، والله تعالى أعلم.
السؤال الثامن:
ما حكم النخامة في نهار رمضان هل تبطل الصوم إذا بلعها الإنسان أولا تبطل ..؟؟
الجواب:
النُّخامة لها حالتان :
الحالة الأولى : أن يكون لها جِرْمٌ كالقِطَع التي تحدث من الإنسان في شدة البلْغَم .
والحالة الثانية : أن تكون لزجةً حتى تُقارب اللُّعاب والمُخاط ونحو ذلك .
فإن كانت لزجةً تُقارب المخاط واللعاب فإنها لا تؤثر في الصوم .
وأمَّا إذا كانت قِطعا لها جرْمٌ فإنَّها لا تخلو من ثلاث حالات :
الحالة الأولى : أن يُخرجها الصائم إلى شفتيه فحينئذٍ إذا ردَّها فإنَّه كَرَدِّ القيء يُوجب فطره وعدم الاعتدادِ بذلك اليوم .
والحالة الثانية : أن يزدردها دون أن يُخرجها إلى فمه كأن تكون في أعلى خياشيمه فيزدردها عن طريق النَّشَق إلى حلقه دون أن يُخرجها إلى فمه فهذه لا تُفطِر بإجماع العُلماء .
والحالة الثالثة: أن يُخرجها إلى فمِه ولا يخرجها إلى شفتيه فهذه فيها الخلاف المشهور ، والأقوى والأشبه أنها إذا كانت كالقطع أشبهت القىء وحينئذٍ لا يجوز له أن يزدردها فإن ازدردها أفطر ، والله تعالى أعلم.
السؤال التاسع :
والدىّ كبير السن ويجد عناءً في صيامه حتى لرُبَّما يُغشى عليه فهل يجوز هذا إذا كان يُصرُّ على رأيه ويظن أنه يحرم عليه أن يُفطر ..؟؟
الجواب:(9/20)
لا يجوز للإنسان أن يُعذِّب نفسه وفي الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنَّه لمَّا رأى أبا إسرائيل-الذي حلف أنَّه لا يستظل بظل-وهو قائمٌ في الشمس قال صلى الله عليه وسلم :(( ما شأن هذا..؟)) قالوا :نذر أن يقوم ولا يجلس ولا يستظل فقال صلى الله عليه وسلم :(( إنَّ الله عن تعذيب هذا لنفسه لغنىٌّ )) فلا يجوز للمُسلم أن يُعذِّب نفسه ، وأمَّا اذا بلغ به الجهد في الصيام إلى درجة المشقة والعناء وإلى هذه الحالة التي ذُكرت فإنَّه يجب عليه أن يُفطر ، وذلك لمخالفة السُّنة ، وقد قال عليه الصلاة والسلام :((عليكم برُخَص الله التي رخَّص لكم )) ، وقوله:(( عليكم )) صيغةٌ تدلُّ على الإلزام أي :الزموا رُخَصَ الله التي رخَّص لكم فدلَّت هذه السُّنة على أنَّه لا يجوز تعذيب الإنسان لنفسه إلى هذه الدرجة المُحرمة وليعلمْ أنه إذا أُغشِى عليه حتى يذهب عنه إدراكه فمذهب بعض العلماء أنَّ هذا يؤثِّرُ في صومه لزوال عقله ، والله تعالى أعلم .
وصلى الله وسلم وبارك على عبده ونبيه محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.(9/21)
بسم الله الرحمن الرحيم
قال المصنف رحمه الله حَدَّثَنَا هَنَّادٌ حَدَّثَنَا عَبْدَةُ بْنُ سُلَيْمَانَ عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ يَحْيَى بْنِ حَبَّانَ عَنْ عَمِّهِ وَاسِعِ بْنِ حَبَّانَ عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ:" رَقِيتُ يَوْماً عَلَى بَيْتِ حَفْصَةَ فَرَأَيْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم عَلَى حَاجَتِهِ مُسْتَقْبِلَ الشَّامِ مُسْتَدْبِرَ الْكَعْبَةِ " .
قَالَ أَبو عِيسَى رحمه الله : هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ .
الشرح:
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء المرسلين سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين أما بعد :
فقد ذكر المصنِّف رحمه الله هذا الحديث الشريف الذي اتفقَّ الشيخان على إخراجه ، وهو حديث عبدالله بن عمر بن الخطاب -- رضي الله عنه - وعن أبيه-.
وهو أبو عبدالرحمن عبدالله بن عمر وقيل: أبو محمد عبدالله بن عمر بن الخطَّاب ولد رضي الله عنه وأرضاه قبل الهجرة بعشر سنوات ، وهاجر مع أبيه من مكة إلى المدينة .
وكان رضي الله عنه وأرضاه قد تخلَّف عن غزوة بدر وغزوة أُحُد ؛ والسبب في ذلك أنَّه كان صغير السن وقد عُرِض على النبي صلى الله عليه وسلم يوم أُحُدٍ فلم يُجِزه ، ففي الصحيح عنه رضي الله عنه أنه قال :" عُرِضْتُ على النبي صلى الله عليه وسلم يوم أُحُدٍ وأنا ابن أربع عشرة سنة فلم يُجزنى "وفي رواية للبيهقى :"ولم يرنى قد بلغت "، وعُرِضتُ عليه يوم الخندق وأنا ابن خمس عشرة سنة فأجازنى " وفي رواية البيهقي:" ورآنى قد بلغت" .(10/1)
وكان هذا الحديث يعجب أمير المؤمنين عمر بن عبدالعزيز رحمه الله ، ولذلك كتب إلى الآفاق : انظروا إلى من بلغ خمس عشرة سنة فاضربوا عليه الجزية ومن كان دون ذلك فاجعلوه في الذُّرِّية فكان رضي الله عنه يعتدُّ بهذا الحديث الذى عمل به الإمام أحمد والشافعى-رحمة الله عليهما- ، فكانا يريان أن سن البلوغ هي خمس عشرة سنة ، ولذلك أمر عمر بن عبد العزيز رحمه الله بضرب الجزية على من بلغ خمس عشرة سنة ولم يحتلم أمَّا من احتلم قبل خمس عشرة سنة فإنه يُعتبر بالغاً بإجماع العلماء .
وكان أول مشاهده رضي الله عنه وأرضاه غزوة الخندق ، ثُمَّ إنه لازم النبي صلى الله عليه وسلم ملازمةً شديدةً ، وما تخلف عن غزوة غزاها رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد ذلك .
وقد شهد بيعة الرضوان وفيها الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم :(( لن يلج النار أحدٌ بايع تحت الشجرة )).
وكان رضي الله عنه وأرضاه حريصاً على هّدْى النبي صلى الله عليه وسلم وسُنَّتِه حتَّى ثبت في الحديثِ الصحيح أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم لمَّا دخل إلى الكعبة كان عبدالله بن عمر أوَّل من دخل من الصحابة يسأل :" أين كانت صلاة النبي صلى الله عليه وسلم ؟؟ وأين كان مكانها.؟؟
وقد جاء عن بعض أهل العلم رحمهم الله أنَّ عبدالله بن عمر كان من الصحابة المبشَّرين بالجنة ، وفي الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنَّ أم المؤمنين حفصة-رضي الله عنها- قصَّت على النبي صلى الله عليه وسلم رؤيا رآها عبدالله رضي الله عنه فقال النبي صلى الله عليه وسلم :(( إن أخاكِ رجلٌ صالحٌ)) ، فكانت هذه منقبة من مناقبه رضي الله عنه حيث زكَّاه النبي صلى الله عليه وسلم .(10/2)
ولزم السُّنة والأثر ولم يعدُ عن شيء فعله رسول الله صلى الله عليه وسلم أو قاله حتَّى كان رضي الله عنه وأرضاه يسافر من المدينة إلى مكة في حجه وعمرته فكان لا ينزل إلا في منازل النبي صلى الله عليه وسلم ولا يفعل إلا كفعله حتى سُمِّى : الأثرى من كثرة متابعته لهدى النبي صلى الله عليه وسلم وحبه لسنته صلوات الله وسلامه عليه.
وكان من صالحي شباب قريش وكان عبدالله بن مسعود رضي الله عنه يقول:" إنَّ من أملك شباب قريش لنفسه لعبدالله بن عمر ".
كان إماماً في الخير ، صالحاً في طاعةٍ وبر ، مستقيماً على هَدْى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، كثير الصيام كثير القيام كان رضي الله عنه وأرضاه كثير الإحياء لليل فإذا جنَّ عليه الليل قام فصلَّى حتى يدركه العناء والتعب فينام ، فإذا أخذه النوم انتبه رضي الله عنه من شدة فزعه من الآخرة وقام يتهجد حتى ينبلج الفجر وكذلك كان حاله في النهار .
فكان على إحدى ثلاث خلال : يدخل عليه الرجل فيجده إمَّا قائماً يصلى ، وإمَّا ناظراً في كتاب الله يتلوه ، أو جالساً يذكر الله عز وجل كما حُفظ عن نافعٍ مولاه أنه ذكر ذلك من حاله ، وقال: أيُّكم يطيق فعل عبدالله-- رضي الله عنه -وأرضاه-؟
وكان يطوف بالبيت فلا يجاوز الحجر حتى يُقَبِّله ولو كان الزحام عليه شديداً وكان الناس يعتبون عليه في ذلك فيقول: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يُقبله فأنا أُقبله كما قبَّله رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان يأخذ في الشوط الواحد ما لا يقل عن خمسمائة آية بسبب انتظاره لفراغ الناس ولربُّما زاحموه حتى يُرعِف ومع ذلك لا يبرح الحجر حتى يُقبله تأسياً واقتداءً بالنبي صلى الله عليه وسلم .(10/3)
وكان مع هذا كله من المكثرين في الرواية عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ومع هذا كله عُدَّ من فقهاء الصحابة وأجلاَّئهم قال الإمام أبوعبدالله مالكُ بن أنس رحمه الله : "أفتى عبدالله بن عمر ستين سنة" ، فتقلَّد رحمه الله الفُتيا وكان فيفُتياه وفقهه شديد الورع والتحوط والتحفظ في دين الله- - عز وجل -- ، ولذلك عُرفت فتاواه بالشدة مما كان عليه من الورع والزهد رضي الله عنه وأرضاه .
قال جابر بن عبدالله :"ما منا من أحدٍ إلا مالت به الدنيا ومال بها إلا عبدالله بن عمر" ، وكان رضي الله عنه وأرضاه كثير الخير كثير الصدقات حتى كان إذا رأى عبداً من عبيده يُصلى أعتقه لوجه الله عز وجل وقالوا له :" يا أبا عبدالرحمن إنهم يخدعونك بكثرة الصلاة" قال :" من خدعنا لله انخدعْنا له ".
أي نحن نعتق لوجه الله-- جل جلاله --ولنا ظواهر الناس لا نكشف عن بواطنهم ، ولم نُكَلَّف بتتبع شيء من ذلك إنَّما نعتق لوجه الله فالله لا يضيع الأجر على ما كان من حُسن النية .
ومع هذا الصلاح والخير فإنه لما حضرته الوفاة بكى وجلس سالمٌ ابنُه عند رأسه فصار يُذكره بما كان منه من الخيرات والباقيات الصالحات والجهاد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فلمَّا أكثر عليه قال : أجلِسونى فلما أجلسوه قال : أيْ بُنيَّ ، أتدرى ممن يتقبل الله ..؟ إنما يتقبل الله من المتقين .
تُوفي رحمه الله سنة ثلاثٍ وسبعين من الهجرة -رحمنا الله وإياه برحمته الواسعة وجمعنا به في جنان النعيم- .
يقول المصنف رحمه الله "حدَّثنا هناد لسَّرىُّ": أبو محمدٍ التميمي وقد تقدَّمت ترجمته وأنه من الثقات .
قال: حدَّثنا هنَّاد السَّرِىُّ ، حدثنا عبدة بن سليمان الكلابى ": قال الإمام الحافظ ابن حجر : إنَّه ثقة .(10/4)
قال :" حدَّثنا عبدة بن سليمان عن عبيد الله بن عمر": بن حفص بن عاصم بن عمر بن الخطاب رضي الله عنه وأرضاه وهو أحد الثقات الأثبات وكان رحمه الله من الفقهاء المشهورين ، والائمة المُبَرَّزين .
"عن محمد بن يحيى بن حبَّان " : وهو ثقة فقيه .
"عن عمَّه واسع بن حبَّان " : وقد اختُلف فيه هل هو صحابى أو غير صحابى على قولين فعلى القول بأنه من الصحابة فلا إشكال ، وأمَّا على القول بأنه من غير الصحابة فهو من كبار التابعين .
قال الحافظ ابن حجر في التقريب :إنَّه ثقة .
عن عبدالله بن عمر رضي الله عنهما قال:" رقيتُ يوماً بيت حفصة ، فرأيت النبي صلى الله عليه وسلم ": يُقال : رَقِى الشيء يرقاه رُقِيَّاً إذا صعد عليه ومنه سُميت المرْقاةُ مرْقاةً وهى الدرجة التى يصعد الإنسان عليها ويرتقى .
والمراد بذلك الرُّقِىِّ أن عبدالله بن عمر-- رضي الله عنه -وأرضاه- ارتفع وقد اختلفت الروايات في تحديد المكان الذى ارتفع عليه ، ففي بعض الروايات أنه قال :" على بيتٍ لنا" ، وفي روايةٍ :"على بيت حفصة" وقد جمع العلماء رحمهم الله بين ذلك فقالوا : إن قوله :" على بيتٍ لنا " يكون فيه تجوُّز ، وذلك أن بيت حفصة يُعتبر بيتاً له أو بمثابة البيت له لمكان الرَّحِم .(10/5)
وقد قيل-وهو الأقوى-: إنَّ بيت عمر بن الخطاب رضي الله عنه كان مجاوراً لحجرة النبي صلى الله عليه وسلم وقد كانت جهة بيت عمر بن الخطاب رضي الله عنه إلى الجهة القبلية من حجرات النبي صلى الله عليه وسلم وذكر بعض العلماء أنَّ بيت عمر رضي الله عنه كان في المواجهة المعروفة الآن ، فالجهة التى هى قبله حُجرات النبي صلى الله عليه وسلم كان فيها بيت عمر ، ولم تكن مفتوحةً إلى عهد الوليد رحمه الله حيث أدخلها في توسعته للمسجد ولذلك قالوا : أن عبدالله بن عمر قد رقى هذا المكان ، وقد قيل : إنه رقي على جدار بيته وهو مشترك بينه وبين بيت النبي صلى الله عليه وسلم .
والرُّقىُّ على البيوت الأصل فيه أنه إذا كان يكشف عورات الناس ويطَّلع الإنسان به على عيوبهم فإنه ينبغى عليه أن يتقى ذلك ، ولا يجوز له أن يتسبب في الاطَّلاع على عورات الناس والكشف لسوآتهم وهذا من حقوق المسلمين بعضهم على بعض : أن يحفظ بعضُهم عوراتِ بعض ولا يسعوا في تعاطى الأسباب التى تُوجب كشفها ، ولذلك شدَّد العلماء رحمهم الله في رفع البيوت بعضِها على بعض وفتح النوافذ على عورات الناس إذا كانت بُيوتَ ضعفاء وفقراء ونحو ذلك ؛ وإنما يجوز الاطَّلاع والرُّقىُّ على قدر الحاجة .
ومن هنا قال بعض العلماء –رحمهم الله- في حديث أبى هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:(( الإمام ضامن ، والمؤذن مؤتمن اللهم اغفر للمؤذنين، وأرشد الأئمة)) قالوا : إن النبي صلى الله عليه وسلم قال:((والمؤذن مؤتمن)) ؛ قالوا لأن المؤذن يرقى على سطح المسجد ويطَّلع على عورات الناس فهو مؤتمن ؛ وكذلك إذا رقى الأماكن العالية لأجل أن يُسِمع الناسَ الأذان ولذلك قالوا: هو مؤتمنٌ على مواقيت الصلوات الخمس ، ومؤتمن على صيام الناس وإفطارهم ، ومؤتمنٌ على عورات الناس إذا كان على سطح المسجد .(10/6)
ومن هنا قال بعض العلماء : إنَّه إذا رقى المؤذن على سطح المسجد أو مكانٍ عالٍ وكانت هناك سوآت وعورات فإنه ينبغى عليه أن يكُفَّ بصره ويغضه عن النظرإلى هذه الحُرُمات.
قال:" فرأيت النبي صلى الله عليه وسلم ": هذه الرواية جاءت على أوجه فهناك روايات بأنه رآه من فوق ، وهذا حال قضائه لحاجته- صلوات الله وسلامه عليه-وهذه الرؤية من عبدالله بن عمر-رضي الله عنهما وأرضاهما-لا تخلو من حالتين :
الحالة الأولى : أن تكون مقصودة .والحالة الثانية : أن تكون غير مقصودة .
أمَّا إذا كانت مقصودة فيكون اطَّلاع عبدالله بن عمر ليعرف صفة جلوسه عليه الصلاة والسلام مع المحافظة على عدم الاطلاع على العورة وهذا ضعيف عند جمع من العلماء رحمهم الله وهو الأقوى أنَّ ابن عمر رضي الله عنه لم يقصد الاطَّلاع على حال النبي صلى الله عليه وسلم .
والحالة الثانية : أن ابن عمر رقى على البيت إمَّا لحاجةٍ من حوائجه ووافق ذلك جلوسه عليه الصلاة والسلام لقضاء حاجته ، فوقعت منه هذه النظرة ، وعلى هذا الوجه تكون النظرة غير مقصودة من عبدالله رضي الله عنه وأرضاه ومن هُنا ضعّف جمعٌ من العلماء الاحتجاج بهذا الحديث من جهة كونه في الخفاء وأنَّ النبي صلى الله عليه وسلم لم يقصد إطْلاع عبدالله بن عمر على حالته من هذا الوجه فلذلك لا يقوى الاحتجاج بهذا الحديث على جواز الاستقبال للقبلة والاستدبارلها أثناء قضاء الحاجة . ...
وقوله رضي الله عنه : "فرأيت النبي صلى الله عليه وسلم على لبتين يقضي حاجته مستقبل الشام": الشأمة : واحدة الشامات ، وسُمِّى الشامُ شاماً لكثرة القرى وتقاربها ، ولذلك سُميت الشامةُ شامةً لأنها علامة قالوا : سُمِّى الشام شاماً لكثرة القرى فيه وتقاربها وهو معروف .(10/7)
وقوله:"مستقبل الشام": فيه دليل على جواز استقبال بيت المقدس وأن استقباله ليس بحرام وهذا هو مذهب جماهير العلماء رحمهم الله ومنهم الأئمة الأربعة وأهل الحديث : أنه لا حرج على الإنسان إذا استقبل قبلة بيت المقدس ، وإنما المحرم أن يستقبل أو يستدبر الكعبة وحدها دون غيرها وشدَّد بعض السلف رحمهم الله فقالوا بتحريم استقبال بيت المقدس(1) - والتعبير بالشذوذ هنا لا يُقصد منه احتقار القول ؛ وإنما يُقصد منه التنبيه على أن العمل على خلاف هذا القول- فقال محمد بن سيرين رحمه الله بالتحريم ، وهذا القول من قول الأفراد من أئمة السلف -رحمة الله على الجميع -.
قال :" مستقبل الشام مستدبر الكعبة": هذا الحديث يحتج به طوائف من العلماء:
الطائفة الأولى : تحتج به على نسخ التحريم فيقولون : إن هذا الحديث حُجة على جواز الاستقبال والاستدبار للقبلة ، وإن النبي صلى الله عليه وسلم ؛ إنما حرَّم الاستقبال والاستدبار في أول الأمر ، ثُمَّ إنه نسخ ذلك وفعلهصلوات الله وسلامه عليهوهذا المذهب ضعيف وذلك لأنه ليس في هذا الحديث التصريح بكونه متأخراً عن نهى النبي صلى الله عليه وسلم وليس فيه التصريح بتقدُّم نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن الاستقبال والاستدبار .
الطائفة الثانية : تستدل بهذا الحديث على جواز الاستقبال والاستدبار في البنيان دون الصحراء ، وهذا هو مذهب جمهور الأئمة الأربعة -رحمة الله على الجميع- .
__________
(1) / تم تعديل هذه العبارة من قبل فضيلة الشيخ- بارك الله فيه- .(10/8)
يقولون : يجوز للإنسان أن يستقبل القبلة و يستدبرها أثناء قضائه لحاجته ؛ ولكن بشرط أن يكون بينه وبين القبلة حائل وهذا الحائل مستفادٌ من البنيان الذى جلس النبي صلى الله عليه وسلم يقضى فيه حاجته فجمع هؤلاء الأئمة بين هذا الحديث وحديث أبي أيوب المتقدم ، فقالوا : إن الحديث المتقدم محمول على العراء والصحراء ، وأما حديث ابن عمر فإنه محمول على البنيان ووجود الحائل بين الإنسان وبين القبلة .
وبهذا المذهب قال أبوعبدالرحمن عبدالله بن عمر رضي الله عنه وأرضاه فكان يرى جواز الاستقبال والاستدبار إذا كان بين الإنسان وبين القبلةِ الحائلُ .
واختلف العلماء في هذا الحائل فالحائل له صورٌ ووجوه فالذين يقولون إن الحائل يُعتبر مُؤثراً اختلفوا فيه .
فاتفقوا أولاً :على أن الإنسان إذا كان داخل البنيان أو كان الحائل من الجدران ونحو ذلك أنه حائل ، وأنه يجوز له الاستقبال والاستدبار في هذه الحالة ؛ ولكن هناك خلافٌ إذا كان هناك جدار : هل يشترط أن يقترب من الجدار أو يكون بينه وبين الجدار مجال ؟
فقال بعض العلماء : إذا كان بينه وبين الجدار فُسحة، وكان بينه وبين الجدار مقداراً من المسافة فإنه لا يجوز له أن يستقبل ويستدبر، حتى قال بعض العلماء : يُضبط هذا القدر بمقدار السُّترة ، لأنه حدٌّ له أصل في الشرع ، ولذلك قالوا: السُّترة تستر المُصلِّى ، فننظر إلى المعنى ، فلما اعتبرت الشريعة الإسلامية سُترة المصلىِّ حائلة فلذلك نعتبر قدرها في الحوائل عند قضاء الحاجة فإذا كان الحائل بين الإنسان وبينه قدر السترة أجزأه وإذا زاد عن هذا القدر فإنه لا يُعدُّ مؤثراً ويحرم عليه الاستقبال والاستدبار .
الحالة الثانية : أن يكون الحائل من غير الجدران وهذا يأتى على صُور :
الصورة الأولى : أن يكون ثابتاً في الأرض ، كأن يكون هناك لوحٌ من الخشب ونحو ذلك ، وهذا اللوح ثابت في الأرض فحينئذٍ يبول إليه ولا إشكال .(10/9)
والصورة الثانية : أن يكون منتقلاً فإذا كان منتقلاً كأن تكون دابة أو يكون حجراً يضعه الإنسان أثناء قضائه للحاجة ونحو ذلك من السُّتَر قالوا : يجوز له في هذه الحالة أن يستقبل الشاخص حتى قال بعض العلماء : إذا لم يجد الشاخص فإنه يجمع الكَوْم من التراب كل ذلك لكي يكون بينه وبين القبلة حائلاً .
وهنا مسألة اختلف فيها الجمهور الذين يقولون بالحائل
قالوا : هل ثوب الإنسان يُعتبر حائلاً أو لا يُعتبر حائلاً فلو أن إنساناً أراد أن يقضى حاجته وأرخى ثوبه من وراء ظهره حتى التصق بالأرض فهل في هذه الحالة يُعتبر الثوب حائلاً أو غير حائل ..؟؟
فمنهم من يقول إنه غير حائل لأنه متصل لا يأخذ حكم المنفصل ، ولذلك يأخذ حكم جسد الإنسان ، فهو مستقبل للقبلة ومستدبر لها بثوبه وبجسده معاً ، ومنهم من يقول : إن الثوب حائل ، وهما وجهان عند أصحاب الشافعى-رحمة الله على الجميع-.
والصحيح : أنه لا يجوز للإنسان أن يستقبل القبلة ويستدبرها مطلقاً سواء كان في الصحراء أو كان في البنيان وأن حديث ابن عمر هذا الأقوى فيه أنه خاص بالنبي صلى الله عليه وسلم .
والدليل على ذلك : أن النبي صلى الله عليه وسلم خاطب الأمة كلها فقال:(( لا تستقبلوا القبلة ولا تستدبروها)) وهذا النصُّ تشريعٌ للأمة كلها دون تقييد بأحد ، ثُمَّ إنه عليه الصلاة والسلام فعل هذا الفعل ولو كان النهي منسوخاً لصرَّح به قولاً كما ورد النهي قولاً ويبعد في شرع الله-جلَّ وعلا- أن يُحرِّم النبي صلى الله عليه وسلم وينهى الأمة في العلانية ثم إن ذلك الفعل يُنسخ فلا يُبَلِّغُه إلا بدلالةٍ خفيَّةٍ كهذه الدلالة التى وقع من ابن عمر الاطَّلاع عليها .(10/10)
والقاعدة في الأصول :" أن القول إذا تعارض مع الفعل أنَّ القول مُقدَّم على الفعل" وهذا لا يُعتبر من ردِّ السُّنة كما يسىء البعض فهمه ولكنه من باب تقديم الأقوى ، وذلك أنَّه تعارض معنا حديثان صحيحان عن رسول الله صلى الله عليه وسلم حديثٌ خاطبنا فيه وشَرَّع فيه للأمة كلها ، وحديثٌ فعله صلوات الله وسلامه عليه في الخفاء ولم يطلِّع عليه إلا أفراد الناس فهل يُعقل أن هذا الذى صُرِّح به علانيةً أمام الناس يُعتبر منسوخاً بهذا الوجه الخفي ..؟ فهذا محل نظر ، ولذلك الفقه أن ننظر إلى قوة الأدلة ، فلمَّا وجدناه- عليه الصلاة والسلام -يُخَصُّ من ربه بالخصوصيات فهمنا أن دلالة القول أقوى لأنها خطاب لنا وتشريع لنا.
وقوله سبحانه وتعالى :{لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ }(1) عندنا أسوتان : أُسْوةٌ لا تحتمل إلاَّ معنىً واحداً وهو التحريم ، وأسوة مترددة بين الخصوصية وبين الجواز فقدَّمنا الائتساء بالتحريم ؛ لأنه أقوى وأولى لمكان الخطاب للأمة ، وهذا هو الفقه إذا تعارضت النصوص : أن يُنظر بأقواها وأولاها بالاعتبار فيُقَّدم .
ومن هنا أصبح حديث أبي أيوب الأنصاري والذى يدل على تحريم الاستقبال والاستدبار مُقدَّماً على حديث ابن عمر ، أضف إلى أن حديث ابن عمر يحتمل أن يكون قبل التحريم ويحتمل أن يكون بعد التحريم فلا ندري أوقع هذا الفعل من رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل التحريم أو بعده ..؟
وجاء حديث جابر بن عبدالله -ولكنَّه أضعف سنداً- يدلُّ على أن الفعل وقع بعدُ فتوقَّفْنا في حديث ابن عمر لمكان التردُّد ، وأمَّا حديث جابرفقدَّمنا ما هو أصح وأثبت منه وهو حديث أبي أيوب الثابت الصحيح .
وكلٌّ من حديث جابر وحديث ابن عمر كلُّها دلالة أفعال لا تقوى على دلالة الأقوال .
__________
(1) / الأحزاب ، آية : 21 .(10/11)
ثم إن القاعدة في الشريعة الإسلامية : " أنه إذا تعارض الحاظر والمبيح أنه يُقدَّم الحاظر والمحرِّم على المبيح المجيز" ودليل ذلك قوله- عليه الصلاة والسلام - لِعَدِّى بن حاتم الطائى-- رضي الله عنه - وأرضاه-:((وإن أكل-أي أكل كلبك الذي أرسلته للصيد- فلا تأكل فإنى أخاف أن يكون إنما أمسك لنفسه ولم يُمسِكْ لك )).
فدلَّ هذا على تقديم التحريم على الحلِّ فلذلك قُدِّم الحظر في حديث أبي أيوب على الإباحة التى تضمنها حديث ابن عمر .
ثُمَّ إننا تأمَّلنا حديث ابن عمر -رضي الله عنهما -فوجدناه يدل على جواز الاستدبار دون الاستقبال ، ولا يدل على جواز الاستقبال ؛ لأنه لم يشتمل على فعلهصلوات الله وسلامه عليهللاستقبال فمن هنا ضعفت دلالته في معارضة حديث أبي أيوب الذى اشتمل على تحريم الاستقبال والاستدبار نصَّاً .
فلذلك تطمئن النفس إلى تقديم التحريم الوارد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو الأقوى ، وفي عن الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال :(( إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم وإذا نهيتكم فانتهوا)) فهذا الحديث الصحيح يدل دلالةً واضحةً على قوة النهي ، وأنه مُقدَّم على الواجب المأمور فكيف في تقديمه على المباح الجائز ..؟؟
من هذا كله نخلص إلى القول بتحريم الاستقبال والاستدبار مطلقاً سواء وقع ذلك في الصحراء أو وقع ذلك في البنيان.
... ... قال المصنف رحمه الله : بَاب مَا جَاءَ فِي النَّهْيِ عَنِ الْبَوْلِ قَائِماً
الشرح:
يقول المصنف رحمه الله :" باب ما جاء ": أي عن النبي صلى الله عليه وسلم من الأحاديث التى تدل على النهى عن البول قائماً .
البول قائماً أو قاعداً حالتان للإنسان فالإنسان إمَّا أن يبول وهو قائمٌ أو يبول وهو قاعد ، ولذلك اعتنت الشريعة الإسلامية ببيان قضاء الحاجة على الحالتين أي بول الإنسان في حال القيام ، وبوله في حال القعود .(10/12)
والسُّنَّة المحفوظة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يبول وهو قاعد ، ولذلك قالت أم المؤمنين عائشة -رضي الله عنها وأرضاها- كما سيأتى : "من حدَّثكم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بال قائماً فلا تُصِّدقوه" وهذا الحديث حديث صحيح ثابت يدل دلالةً واضحةً على تحريم البول قائماً وقد عارض هذا الحديث حديثٌ هو أصحُّ وأقوى ، وهو حديث حذيفة بن اليمان رضي الله عنه وأرضاه أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم أتى سُباطة قوم فبال عندها قائماً ، وهذا الحديث رواه الإمام مسلم في صحيحه ، وهو يدل دلالةً واضحةً على جواز البول قائماً ولذلك اختلفت الأحاديث عن النبي صلى الله عليه وسلم : فأمُّ المؤمنين -رضي الله عنها وأرضاها- تحكى من فعله أنَّه ما بال إلا قاعداً ، وحذيفة بن اليمان رضي الله عنه وأرضاه حفظ هذه السُّنة التى لم تطَّلع عليها أم المؤمنين-رضي الله عنها وأرضاها-فأخبر أنه عليه الصلاة والسلام بال وهو قائم ، وقد كانت من عادة اليهود وغيرهم من أهل الكتاب أنهم يبولون وهم قيام وكانوا يتشددون في أمر البول ، ولذلك فعل النبي صلى الله عليه وسلم خلاف ما يفعلون فكان يبول عليه الصلاة والسلام وهو قاعد وهذه هى السُّنَّة المحفوظة الكثيرة عنه ، ولذلك قرَّر الإمام ابن القيم رحمه الله أن هديه صلوات الله وسلامه عليه القعود أثناء البول ، وأمَّا ما ورد من القيام فللعلماء رحمهم الله في حديثه أجوبة ، فقال بعض العلماء : إن النبي صلى الله عليه وسلم بال قائماً لمكان الضرر ، وذلك أن المكان الذى كان يريد أن يقضى حاجته فيه نجاسةٌ وقذَرَ ، وذلك أن حذيفة قال :" أتى سُباطة قوم" والسُّباطة : هى المزبلة والمكان الذى يُلقى فيه النَّتن، فأتى عليه الصلاة والسلام إلى هذا المكان ، ومن شأن هذه الأمكنة -أعني المزابل- أن تكون روائحها كريهة وتكون أماكنها قذرة نجسة ، وذلك في الغالب فلا تخلو من(10/13)
الأذى فامنتع عليه الصلاة والسلام من الجلوس وفي أمتناعه من الجلوس رفقٌ بالبدن ، وذلك أنَّه إذا جلس في هذا المكان تضرَّر برائحة السباطة من وجود القذر ونحوه فيها ، وكذلك ربما أصابه شيء من النجس القذر الموجود على الأرض .
ومن هنا قال العلماء : إذا كان المكان الذى تريد أن تقضى الحاجة فيه نجساً فإن السنة أن يقف الإنسان ويبول وهو قائم كما هو الحال الآن إذا امتلأ الكنيف أو مكان قضاء الحاجة وغلب على الظن الإنسان أنه لو جلس تطاير البول المحبوس في الكنيف على ثيابه وبدنه ، قالوا : إنَّه يقوم لكى يحفظ البدن من النجاسة والقذر ، وكذلك إذا كان المكان غير نجسٍ ولكنه قذر فإنه يحفظ الإنسانُ ثيابَه من القذر والأذى ويصونها عنه ، فمن هُنا يبول قائماً لا قاعداً .
ومنهم من يقول : إن النبي صلى الله عليه وسلم بال قائماً ؛ لأنه كان مريضاً حيث كان يشتكى من مأبِضه –والمأبض: هو باطن الرُّكْبة من الجهة المخالفة-فإذا كان الأمر كذلك فإنه يصعب عليه أن يجلس ، لأنه إذا جلس فإن الفخذ ينحنى على الساق ، ومن هنا يتأذى المأبض ولذلك قالوا : قامصلوات الله وسلامه عليه لوجود الحاجة والمرض .
ومنهم من قال- كما هو قول الإمام الشافعي- : إن النبي صلى الله عليه وسلم يحتمل أنه فعل ذلك لكونه يستشفي من داء الصُّلْب ، وكانت العرب تستشفي من داء الصُّلب بالبول قائماُ .
وقال بعض المعاصرين : إن هذا النوع من المرض يكون في الغُدَّة المعروفة التى تتحكم في البول ، فإذا أضرَّت الإنسان وبال قائماً فإنها تقوى على الدفع -أعني دفع البول- ، فكان بوله قائماً أرفق ببدنه وأرفق بصحَّتِه من هذا الوجه ، وعلى هذه الوجوه كلها يُعتبر فعله عليه الصلاة والسلام للقيام إنما هو لمكان الحاجة والضرورة .
وذهب جمع من العلماء رحمهم الله إلى أن البول قائماً جائز ، وأنه سُنَّة من سُنن النبي صلى الله عليه وسلم ولأصحاب هذا القول وجهان :(10/14)
الوجه الأول : يقول : يجوز البول قائماً بدون كراهة .
والوجه الثاني : يقول :يجوز البول قائماً ، ولكنه مكروةٌ ويُعتبر خلاف السُّنة التى هى أولى وأحرى .
فأمَّا الذين يقولون بالكراهة فإنهم يقولون : نظراً لوجود هذه الاحتمالات خاصَّة وأن حديث حذيفة فيه قوله : "سباطة قوم .." وهذا يشير إلى معنىً يمكن استنباطه كَعِلَّة للقيام من النبي صلى الله عليه وسلم ، فنظراً لذلك فهمنا أن القيام فيه معنى العُذر ، فيُعتبر مكروهاً ؛ لأنَّ النبي صلى الله عليه وسلم حافظ على القعود وهذا المذهب يجمع بين الأدلَّة والأحاديث التى وردت في هذه المسألة .
وقال جمعٌ من العلماء : بل إن الجواز على الإطلاق ، ولا يُعتبر مكروهاً ؛ وإنما يجوزللإنسان أن يبول قائماً ، ويجوز له أن يبول قاعداً فإن بال قائماً فقد أصاب السُّنة ، وإن بال قاعداً فقد أصاب السُّنة .
وهذا المذهب يُجيبُ عن حديث أم المؤمنين عائشة -رضي الله عنها- بأنها لم تحفظ القيام ، وحذيفة حفظ القيام والقاعدة : " أن من حفظ حْجَّةٌ على من لم يحفظ" وأم المؤمنين عائشة تنفي وحذيفة يثبت والقاعدة : " أن المثبت مُقدَّمٌ على النافي " لذلك قالوا : نُقدِّم حديث حذيفة على حديث أم المؤمنين عائشة -رضي الله عنها وأرضاها- ، ونقول بجواز البول قائماً وأنه لا حرج على الإنسان إذا بال قائماً أو بال قاعداً .
- ? - ? - ? - ? - الأسئلة - ? - ? - ? - ? -
السؤال الأول:
كيف نُوفِّق بين كون هذا الحديث قد اتفقَّ عليه البخارى ومسلم وبين قول الإمام الترمذي -رحمة الله عليه- عن الحديث : حديثٌ حسنٌ صحيحٌ ..؟؟
الجواب:
بسم الله الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلىآله وصحبه ومن وآلاه أمَّا بعد:(10/15)
فلا تعارض بين قول الإمام الترمذي : هذا حديثٌ حسنٌ صحيحٌ ، وبين تصحيح الإمامين رحمهم الله لهذا الحديث ؛ والسبب في ذلك أنَّ المختار عند العلماء رحمة الله عليهم أن الحديث الحسن يأتى على وجهين:
الوجه الأول : أن يكون حَسَناً مُرتقياً إلى درجة الصحيح .
والوجه الثانى: أن يكون دون ذلك ، فيكون حسناً ولا يرتقى إلى درجة الصحيح فإذا قال الإمام الترمذي : حسن صحيح أي أنَّه بلغ درجة الصحة ، ثُمَّ يتفاوت ما حكم الترمذى بكونه قد بلغ درجة الصحة إلى ما بلغ أقصى درجات التعديل والتوثيق فحينئذ لا إشكال ، وبين ما هو دون ذلك فالتعديل مُطلقٌ من هذا الوجه فيكون الترمذى قد عبَّر بالعموم لثبوت النص والتعبير بالحُسْن لا يستلزم أن الحديث قد نزل إلى درجة الحَسَن ؛ وإنما كان العلماء رحمهم الله يُعبرون بالحَسَن ويعنون به ما دون الصحيح ، ثُمَّ إنه ارتقى إلى درجة الصحيح بقوله : حَسَنٌ صحيحٌ وهذا يختاره جمع من المحققين ومنهم الحافظ ابن دقيق العيد - عليه رحمة الله- ، والله تعالى أعلم.
السؤال الثاني:
إذا استدار الإنسان في البنيان أثناء الاغتسال فهل هذا يدخل في التحريم ..؟؟
الجواب:
هذه المسألة مُفرَّعةٌ على كشف العورة حال كون الإنسان مستقبلاً للقبلة أو مستدبراً لها هل تحريم النبي صلى الله عليه وسلم للاستقبال والاستدبار المراد به قضاء الحاجة أم قضاء الحاجة مع كشف العورة ..؟
فإن قيل إن العِلَّة هى قضاء الحاجة فكشف العورة مستقبلاً للقبلة أو مستدبراً لها لا يضرُّ ، وإن قيل إن العلَّة هى كونه يستقبل القبلة بعورته بغض النظر عن كونه يقضى حاجته أو لا يقضيها فحينئذٍ لا يستقبل القبلة كاشفاً لعورته ؛ والسبب في ذلك أنه قال :(( لا تستقبلوا القبلة ولا تستدبروها)) وهذا لأنه رُبَّما كان يبول واستدبر القبلة فدَّل على أن الجزء الذى يستدبر به إنما هو مجرد عورة .(10/16)
فأخذ بعض العلماء من هذا دليلاً أنه لا يشترط في التحريم كون الإنسان يقضى حاجته فلو أنه استدبر القبلة أو استقبلها حال العُرْىِ قالوا : إنه يقع في المحظور ، والأشبه والأقوى الجواز ، لأن الذى ذكروه محتمل ، خاصَّةً على حديث أبي أيوب ، والله تعالى أعلم .
السؤال الثالث:
إذا دخل الإنسان إلى بيت الخلاء وأصاب بعض ثيابه البللُ من بعض الماء الموجود على الأرض أو على المقعد وهو يعلم أن هذا الماء أحياناً يكون مختلطاً بنجاسة فهل يغسل ثوبه..؟ خصوصاً إذا كان هذا الماء الذى أصاب الثوب قد جفَّ ولا يستطيع تحديد مكانه وهل يُعتبر غسله من قبيل الوسوسة ..؟؟
الجواب:
هذه المسألة تُعرف عند العلماء بتعارض الأصل والظاهر ، هناك شيء يسمُّونه الأصل ، وهناك شيء يسمُّونه الظاهر ، الأصل: هو ما يكون دائماً يقيناً للإنسان أو غالب ظن فهذا هو المعتبر .
مثال ذلك : أن يقولوا : الأصل في الذِّمة براءتُها حتى يدُلَّ الدليل على شغلها فلو أن إنساناً مثلاً ادَّعى على إنسانٍ أن له دَيْناً عليه ، فقال : ليس لك علىَّ شيء ، فاختصما إلى القاضى ، فإن القاضى حينما يقول المُدَّعى : لي على فلان ألفٌ ، فيقول المُدَّعَى عليه : ليس له علىَّ شيء فإنَّ الأصل يُقوِّى قول المُدَّعَى عليه لأن الأصل أنَّه غير مديون وأنَّه برىءٌ ممَّا ألصق المُدَّعِى به مما ذكره فهذا يسمُّونه الأصل .
والأصل يكون في العبادات والمعاملات في المعاملات مثلما ذكرنا في القضاء ويكون في العبادات مثل: إذا توضَّأ الإنسان وشكَّ : هل خرج منه شيء أولم يخرج تقول الأصل أنه متطهر .
لو طاف أربعة أشواط وشكَّ هل طاف ثلاثة أشواط أو أربعة أشواط يقول : الأصل أنها ثلاثة حتى أتأكد من الرابع ، والأصل أنى مطالبٌ بالأشواط كاملة إذاً قد طفتُ ثلاثة ويلزمه أن يأتى بالرابع ويبنى على الأقل .
هذا كُلُّه يسمَّى أصلاً عند العلماء ويكون في العبادات ويكون في المعاملات .(10/17)
والقاعدة : " أن الأصل بقاء ما كان على ما كان حتَّى يدل الدليل على ارتفاع هذا الاصل" .
هناك شيء آخر يسمُّونه الظاهر وهي دلالة الظاهر فلوا أن اثنين اختصما في بعير وكلٌّ منهما يقول : هذا بعيرى كلاهما راكبٌ على البعير الظاهر : أننا إذا تأمَّلنا في العُرْف أن الذى يكون في المُقدِّمة هو مالك البعير ، والذى يكون وراءه يكون غير مالك للبعير فنقول: المُدَّعِى الذى في الخلف والمدَّعى عليه المُتقدِّم ؛ لأن الظاهر يشهد أن صاحب البعير هو الذى في المقدمة.
كذلك أيضاً لو ادَّعى اثنان بيتاً وكان أحدهما يسكن البيت فالظاهر أن الذي يسكن البيت مالك له ، فنقول هذا الظاهر ونبقى على هذا الظاهر حتى يأتي ما يُزيله فنعتبر من سكن البيت مُدَّعىً عليه ومن هو خارج البيت مُدَّعِياً.
هذا أمرٌ مهمٌ جداً وتترتب عليه فوائد جداً في الأحكام في العبادات والمعاملات.
ومسألة الظاهر في العبادات من أمثلتها هذه المسألة : فداخل الكنيف والحمَّام هناك ماءٌ يوجد في المكان الذي يقضي الإنسان فيه حاجته وهناك ماءٌ في الرَّحبْة التي هي بعد الكَنِيْف وبين الكنيف وبين الباب ، وهناك ماءٌ يوجد في المواضى والمغتسلات التي يغتسل الناس فيها.
هذه ثلاثةُ أنواع من المياه فما كان في المغتسل الذي يكون في أماكن الوضوء وأماكن الاغتسال -الحمَّامات-التى لايقضى الإنسان فيها حاجته هذه الماء الظاهر فيه الطهارة ونبقى على هذا الظاهر ونقول هو ماء طاهر ولانحكم بنجاسته حتى نتأكد ونتحقق أن الماء قد انتقل من الطهارة إلى النجاسة.(10/18)
كذلك أيضاً ماكان في الكنيف أي داخل المكان الذي عُدَّ لقضاء الحاجة فهذا المسُتْقرُّ والوعاء-أكرمكم الله-الذي تُقضى فيه الحاجة الظاهرُ فيه أنه نجس ويدلُّ ظاهر حاله أنه نجس فنقول : جميع مافيه من الماء نجس حتى نتأكد من أنَّه قد صار طاهراً أو أنَّه طاهر نتأكد أنه طاهر لو أنه بُنى مكان لقضاء الحاجة ولم يقضِ أحدٌ حاجته فيه ومُلئ بالماء فإننا نقول: هذا طاهر حتى نتأكد من وقوع النجاسة فيه.
فهذا الماء الموجود بالكنيف أو المستقر الذي تُقضي فيه الحاجة الظاهر فيه أنه نجس حتى نتأكد من طهارته.
ومابينها مُترَدَّد بينها فليس له ظاهرٌ يُقويه بالنجاسة ، وليس له ظاهرٌ يقويه بالطهارة فيتردد وإن اعتباره طاهراً أقرب وأقوى من كونه نجساً مالم تدل دلالة ظاهرة وهى طشاش البول ، كأن تكون الرَّحبة قربية من طشاش البول أو لا يؤمن أن تكون مكان ضيق فلايؤمن عند حفز البول أن ينتقل البول إلى هذا المكان فلذلك تردَّد ظاهره بين أن يكون نجساً وبين أن يكون طاهراً ، وعلى هذه فإن الأشبه والأقوى أن يُلحق بالنجس ؛ لأن الاسم يشملهما والمكان واحد فدلالة الظاهر فيه أقوى إلحاقاً بالنجس .
وبناءً على ذلك نقول :
هذا المكان إذا تأكد الإنسان من طهارته كأن يكون اغتسل فيه أو يكون صُبَّ فيه ماءٌ كثير أو دخل بعد تنقيته وتغسيله ثُمَّ قضى حاجته وأصابه شيء من طشاش الماء الذي نُقَّي به وغُسَّل فإنَّه طاهر حتَّى يتأكد من نجاسته.
وعلى هذا تكون الأحكام كالتالى:
من جلس لقضاء حاجته وتطاير منه ماءٌ أو فتح مايُسمىَّ في عُرْف الناس-بالسيفون- على مكان قضاء الحاجة فتطاير شيءٌ من الرذاذ فإننا فنقول: إن هذا الرذاذ نجس حتى نتأكد أنه تطاير من سيفون الماء الطاهر فتعتبره نجساً على الظاهر ، وفي هذه الحالة يستوى أن يتطاير الماء من الكنيف أو ينزل الثوب أو أدنى الثوب أو أوصالة إلى المكان فإننا نحكم بنجاسته ؛ لأن الظاهر نجاسته حتى نتأكد ونتحقق من طهارته.(10/19)
وأما بالنسبة لما بينهما فإننا قُلنا نُعطيه حكم المُشْتبه وتقوى الشُّبْهة فيه أكثر إلاَّ إذا تحقَّق الإنسان من طهارته فهذا الموضع يغسل الإنسان ثوبه إذا أصابه .
في هذه الحالة لو تردَّد الإنسان بين كون هذا الطشاش الذي أصاب الثوب من المستقر النجس أم مما هو بينهما أو أثناء غُسله وتوضئه فإنه في هذه الحالة يعتبر مما اشتبه فيأخذ كفَّاً من الماء والنجاسة المشتبهة يجزى فيها كفُّ الماء أن ينضحه عليه.
والدليل على ذلك حديث أنس فإن النبي صلى الله عليه وسلم دخل على أم حرام بنت ملحان -رضي الله عنها وأرضاها-قال أنس:فقال لنا:(( قوموا فلأصل لكم )) قال :"فقُمتُ إلى حصير قد أسودَّ من طُول مالُبِثَ فنضحتُه بماءٍ فوقف عليه النبي صلى الله عليه وسلم ..الحديث قالوا نُضح بماءٍ ؛ لأن النجاسة المشكوك فيها يُجزِئ فيها النضح بالماء.
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين وصلى الله وسلم وبارك على نبيه وآله وصحبه أجمعين.(10/20)
(
قال المصنف رحمه الله :" بَاب مَا جَاءَ فِي النَّهْيِ عَنِ الْبَوْلِ قَائِماً "
الشرح:
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين وعلى آله وصحبه أجمعين أمَّا بعد :
فقد ذكر المصنِّف رحمه الله هذه الترجمة والتي قصد بها بيان حكم البول قائماً ، وذلك أن أهل العلم رحمهم الله قد اعتنوا بآداب قضاء الحاجة ومنها حكم البول قائماً ، ومن كمال الشريعة الإسلامية أن النبي صلى الله عليه وسلم بيَّن للعباد سُنن الهُدي ، وما زال هديه الكريم صلوات الله وسلامه عليه مع المسلم حتى في قضائه لحاجته .
ومسألة البول قائماً مسألةٌ تكلَّم العلماء رحمهم الله فيها وقد وردت عن النبي صلى الله عليه وسلم أحاديث فمنها ما يدل على جواز البول قائماً ومنها ما يدل على المنع من ذلك ، ومن هنا يعتني المحدِّثون رحمهم الله ببيان هذه الأحاديث .
وقد ترجم المصنف رحمه الله بهذه الترجمة على ظاهر حديث أم المؤمنين-رضي الله عنها-أن النبي صلى الله عليه وسلم ما كان يبول قائماً ، وذلك بقولها :" من حدَّثكم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بال قائماً فلا تُصدِّقوه" وهذا الحديث يعتبره العلماء رحمهم الله أصلاً من المنع من البول قائماً ، ومن هنا اعتنى الإمام الحافظ الترمذي رحمه الله بهذه الترجمة لبيان هذا الحكم ، ثُمَّ يتبع ذلك بما صحَّ وثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم من الرُّخصة والجواز .
قال المُصنِّفُ رحمه الله : حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ حُجْرٍ أَخْبَرَنَا شَرِيكٌ عَنِ الْمِقْدَامِ بْنِ شُرَيْحٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ :" مَنْ حَدَّثَكُمْ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَبُولُ قَائِماً فَلاَ تُصدِّقُوهُ مَا كَانَ يَبُولُ إِلاَّ قَاعِداً ".
قَالَ وَفِي الْبَاب عَنْ عُمَرَ وَبُرَيْدَةَ وَعَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ حَسَنَةَ .(11/1)
قَالَ أَبو عِيسَى رحمه الله : حَدِيثُ عَائِشَةَ أَحْسَنُ شَيْءٍ فِي هَذَا الْبَابِ وَأَصَحُّ وَحَدِيثُ عُمَرَ إِنَّمَا رُوِيَ مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ الْكَرِيمِ بْنِ أَبِي الْمُخَارِقِ عَنْ نَافِعٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ عَنْ عُمَرَ قَالَ :" رَآنِي النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم وَأَنَا أَبُولُ قَائِماً فَقَالَ:(( يَا عُمَرُ لاَ تَبُلْ قَائِماً )) فَمَا بُلْتُ قَائِمًا بَعْدُ ".
قَالَ أَبو عِيسَى رحمه الله : وَإِنَّمَا رَفَعَ هَذَا الْحَدِيثَ عَبْدُ الْكَرِيمِ بْنُ أَبِي الْمُخَارِقِ وَهُوَ ضَعِيفٌ عِنْدَ أَهْلِ الْحَدِيثِ ضَعَّفَهُ أَيُّوبُ السَّخْتِيَانِيُّ وَتَكَلَّمَ فِيهِ وَرَوَى عُبَيْدُ اللَّهِ عَنْ نَافِعٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ قَالَ عُمَرُ-رَضِي اللَّه عَنْهم-:" مَا بُلْتُ قَائِمًا مُنْذُ أَسْلَمْتُ "وَهَذَا أَصَحُّ مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ الْكَرِيمِ وَحَدِيثُ بُرَيْدَةَ فِي هَذَا غَيْرُ مَحْفُوظٍ.
الشرح:
هذا الحديثُ الذي ذكره المصنِّفُ رحمه الله حديثُ أمِّ المؤمنين عائشة-رضي الله عنها-وقد ساق الإمامُ الترمذي سَنَدَه إلى أم المؤمنين-رضي الله عنها وأرضاها- وهذا السند فيه أبو عبدالله شَريْكُ بْنُ عَبْدِ اللهِ الكُوفي النَّخعيُّ .
هذا الراوي إمامُ من الأئمة وعالمٌ من العلماء الأجلاَّء ، وقد تكلمَّ العلماء رحمهم الله فيه من قبَل الحفظ لا من جهة العدالة رحمه الله .
فقد كان رحمه الله قاضياً بواسط ثم انتقل إلى القضاء بالكوفة وهو من القضاة المشهورين والأئمة المعدودين المُبَرَّزين .
وقد لخَّص الإمام الحافظ ابنُ حجر الكلام فيه بقوله : صَدُوقٌ كثير الخطأ ثم بيَّن فضله فقال-رحمه الله -:"وكان عادلاً إماماً فاضلاً شديداً على أهل البدع".(11/2)
وقد قرر بعض العلماء أن هذا الحديث يُعتبر من الأحاديث الحسان ، وقوله من الوجاهة بمكان ، وإن كان الحافظ ابن حجر رحمه الله يُقرَّر أنه لم يصحّ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في النهي عن البول قائماً حديثٌ .
وهذا الحديث يُروى عن أم المؤمنين عائشة-رضي الله عنها وأرضاها-وهي أمُّ عبدِ الله عائشةُ بنتُ الصَّدَّيقِ الأكبر بنتُ أبى بكر بن أبي قُحافة عامر بن عمرو بن كعب بن سعد بن تيم بن مُرَّة بن كعب بنِ لُؤَىءٍ القُرَشيَّةُ التَّيْمِيُة الصحابيَّةُ الجليلةُ ، قال الحافظُ الذهبي- رحمه الله-: لم يكنْ في نساء الأمة أفقه منها قطُّ .
وهذا يدل على عُلوِّ شأنها وعظيم مكانها في الفقه والدين ، وكان مَسْرُوقٌ إماماً من أئمة التابعين كان يقول:حدَّثتنى الصِّدِّيقةُ بنتُ الصِّدِّيق حبيبةُ حبيب الَّله المُبَرَّأة من فوق سبع سماواتٍ وما كنتُ لأُكَذِّبَها.
وكان أصحابُ النبي صلى الله عليه وسلم يُجلونها ويُعظمون قدرها وهي الوحيدةُ التى برَّأها الله سبحانه وتعالى في حادثة الإفك ، ولذلك أجمع العلماء رحمهم الله على أنَّ مَنْ طعن في أمِّ المؤمنين عائشة فنسبها-رضي الله عنها وأرضاها-إلى الزِّنا أنَّه يُعتبر كافراً بإجماع العلماء ، وذلك لتكذيبه لنصوص الكتاب العزيز ، وكان من فضلها أن النبي صلى الله عليه وسلم أثنى عليها في غير ما حديث .(11/3)
نكحهاصلوات الله وسلامه عليهوعقد عليها قبل الهجرة ، ثُمَّ دخل بها سنة اثنتين من الهجرة بعد انصرافه من غزوة بدر الكبرى ، وذلك في شوال من سنة اثنتين من الهجرة ، وكانت -رضي الله عنها وأرضاها- أحظى نساء رسول الله صلى الله عليه وسلم عنده وما نزل الوحى على رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو في لحاف امرأةٍ من نسائه غير عائشة ، ولذلك لمَّا اشتدَّ الأمر على أُمهات المؤمنين بسبب الهدايا في يوم عائشة حيثُ كان الصحابة يتحرَّوْن يوم عائشة بالهدية فغضب أمهات المؤمنين واجتمعن عند أم سلمة وأخبروها ما كان من شأن الناس مع أم المؤمنين ، وسألوها أن تكلم رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يُكلم الناس أن يُهدوا إليه في أي يومٍ من أيامه ، دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم على أم سلمة فأخبرته بما كان من أمهات المؤمنين فسكتصلوات الله وسلامه عليهولم يجُبْها ، ثُمَّ كرَّرت عليه ثانية " فسكت صلوات الله وسلامه عليهولم يُجبها ، فلما كانت الثالثة قال :(( يا أُم سلمة ، لا تغضبينى في عائشة فوالله ما نزل عليَّ الوحىُ وأنا في لحاف امرأةٍ مُنكن غيرها)) فسكتت أم سلمة-رضي الله عنها وأرضاها- .
وقد جاءه جبريلُ-عليه السلام-بصورتها وهي زوجةُ النبي صلى الله عليه وسلم في الدَّنيا والآخرة ولم يتزوجصلوات الله وسلامه عليهبكراً غيرها .
وتوفي صلوات الله وسلامه عليه ما بين سَحْرِها ونحرها وكان آخر عهده من الدنيا بريقها-رضي الله عنها وأرضاها- ودُفن في بيتها .(11/4)
ومناقبها عظيمة كانت مع النبي صلى الله عليه وسلم حافِظةً عالمةً ، ولذلك رَوَت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أكثر من ألفي حديث ما بين سُنَّة قولية وفعليةٍ وتقريريةٍ ومشتملةٍ على أوصاف خلُقِيَّة وخَلْقِيَّة ، وجمعت للأمَّة من هدي النبي صلى الله عليه وسلم الخير الكثير ، وكان صلوات الله وسلامه عليه يُفَضِّلُها ويقول :(( وفضلُ عائشة على النساء كفضل الثريد على سائر الطعام)) ، وكان الزُّهْري يُجلُّ علمَها -رضي الله عنها وأرضاها- وماكان أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم يختلفون في حُكم أو يُشكل عليهم أمرٌ من أمورهصلوات الله وسلامه عليه في بيته إلا رجعوا إليها قال أبو سعيد رضي الله عنه وأرضاه :"ما أشكل علينا أمرٌ فرجعنا إلى عائشة إلا وجدنا عندها خبراً ".
وكانت مع هذا تُعتبر من المُفتين على عهد الصحابة-رضوان الله عليهم أجمعين-فكانت تفتى في زمان أبيها أبى بكر وزمان عُمر وبقية الخلفاء -رضي الله عنهم أجمعين- .
و مع هذا العلم والفضل فقد كانت-رضي الله عنها وأرضاها- مُقدَّمةً في الرأي والفتوى ، فقد اختصم أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم إذا جامع الرجلُ أهله ولم ينزل هل يجب عليه الغُسْلُ أو لا يجب ..؟؟
وقد كانت في هذه المسألة سُننٌ وآثار تدل على أنه لا يجب الغُسل وذلك في أول الإسلام ، ثُمَّ نُسخ الحُكم بعد ذلك فاختصم الصحابة :
فمنهم من يقول: السُّنَّة على عدم وجوب الغسل.
ومنهم من يقول: أن ذلك منسوخ ، وأنه أمرٌ في أول الإسلام ، وعظُم الخلافُ على عهد أمير المؤمنين وثانى الخلفاء الراشدين- رضي الله عنهم أجمعين- ، وهو عمر رضي الله عنه فأرسل إلى أم المؤمنين عائشة يسألها عن حكم هذه النازلة والمُعضلة ، فأفتتْه-رضي الله عنها وأرضاها-بأنَّ آخر الأمرين من النبي صلى الله عليه وسلم أنَّه أمر بالغسل فوقف عمر وقال للصحابة : من خالف بعد هذا جعلتُه نكالاً للعالمين .(11/5)
فقدموا آراءها وفتاوِيها -رضي الله عنها- ، وقد وضع الله لها القبول فكانت فتاويها في العامَّه مقبولةً فكانت إذا قالت بالقول أحبَّه الناسُ وارتضوْه وذلك من عاجل البشرى لها-رضي الله عنها وأرضاها-.
ومع العلم والدين ، والسابقةِ في الفضل على شأنٍ متين ، مع هذا كُلِّه كانت كريمةً سخيَّةً فقد أرسل إليها معاويةُ رضي الله عنه وأرضاه أرسل إليها عطاءً بمائة ألف درهم وهي صائمةٌ -رضي الله عنها وأرضاها- فقسَّمتها بين الضعفاء والفقراء وما غابت الشمس وعندها من ذلك درهمٌ واحدٌ ، فلمَّا أرادت أن تُفطر-رضي الله عنها-ما وجدتْ شيئاً تُفطر به حتىَّ عاتبتها مولاتها وقالت لها : هَّلا أمسكتِ مِمَّا جاءَكِ..؟ فقالتْ : هَّلا ذكَّرْتِيني ..؟؟
وكانت-رضي الله عنها-صوَّمةً قوَّامةً ، وقد جاء أن الرجل يمرُّ عليها وهي تتلو كتاب الله في الضُّحى تبكى ثُمَّ يمضى إلى السوق فيقضي حاجته فيرجع إليها وهي تُردِّدُ الآية بالبكاء فكانت-رضي الله عنها-على خيرٍ كثيرٍ وفضلٍ عظيمٍ ، وجمعت من الخير والفضائل ماقل أن يجتمع لغيرها .
تُوفِّيت سنة أربعٍ وخمسين من الهجرة النبويَّة -رضي الله عنها وأرضاها وجعل أعالىَ الفردوس مسكنها ومثواها- .
تقول -رضي الله عنها-:" من حدَّثكم ": يقالُ : حدَّث بالشيء ، يُحدث حديثاً إذا أخبربه وأصل الحديث في لغة العرب : الجديد ، يقال : حدث كذا وكذا إذا جد وطرأ وسُمِّي الخبر حديثاً لأنه يجُدُّ على السامعِ علمُه به .
وقولها :- رضي الله عنها-" من حدَّثكم ": أي من أخبركم " أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم بال قائماً " أي كان يبول حال كونه قائماً " فلا تصدِّقوه " .
قولها"فلا تُصدقوه":فيه إشكالٌ معروف وذلك أنَّه يتضمن تكذيبَ من حدَّث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنَّه بال قائماً.
ومن هْناً يرد الإشكالُ: كيف جزمت-رضي الله عنها وأرضاها -بذلك ..؟(11/6)
ومن هنا ينبغى التنبيه على أنَّ أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم يُطلقون بعض العبارات ولا يُقصد منها حقيقتها وظاهرُها بقصد التعنيف والتكذيب ، ومن ذلك قول عبدِالله بن عُمرَ في الصحيحين : "بيداؤكم هذه التى تكذبون على رسول الله صلى الله عليه وسلم "فليس مراده الكذب الحقيقىَّ كما قرَّر العلماءُ والأجلاَّء رحمهم الله ، وإنَّما مرادُه أنهم أخبروا بخلاف الواقع لا بقصد الكذب ؛ وإنمَّا شنع عليهم القول حتى نزَّلهم منزلة الكذَّاب حتىَّ يتركوا ذلك القول ، ومنه قول عبدالله ابن عباسٍ رضي الله عنه في الرَّمَل لمَّا قالوا إنَّه سُنَّة قال :صدقوا وكذبوا .
فمثل هذه العبارات كما ذكر العلماءُ لا يُقصدُ منها نسبة الإنسان إلى الكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم وإنمَّا المراد الإخبار بالنفي حتىَّ كأنَّ هذا الشيء ينبغى هجرُه كما يُهجَر الكذب .
وقولها"فلا تُصدِّقوه ": يدلُ دلالةً واضحةً على أن النبي صلى الله عليه وسلم ما كان يبول إلا قاعداً ، ومن هنا قالت-رضي الله عنها وأرضاها-:" ما كان يبول إلاَّ قاعداً ".
هذا الحديث فيه إشكالاتٌ عند العلماء رحمهم الله ولذلك عارَضه حديثُ حُذيفة بن اليمان- - رضي الله عنه - وسيأتى-، ومن هنا للعلماء رحمهم الله في الجمع بين حديثِ أمِّ المؤمنين هذا وحديثِ حُذيفة رضي الله عن الجميع وجوه:
الوجه الأول: فمنهم من يقول أُقدَّمُ حديث أم المؤمنين عائشة- رضي الله عنها وأرضاها- وأعتذر عن حديث حُذيفة رضي الله عنه وأرضاه فاعتذروا عن حديث حذيفة بقولهم : إنَّ النبي صلى الله عليه وسلم إنَّما بال قائماً لمكان الحاجة والضرورة فكأنَّ أم المؤمنين -رضي الله عنها- ألغت هذه الحاجة والضرورة وتحدَّثت عن الأصل أنَّه في الأصل لا يبول إلا قاعداً وكونُه يبول قائماً من حاجةٍ وضرورةٍ لا إشكال فيه .
واختلفوا في هذه الحاجة والضرورة :(11/7)
فمنهم من يقول : إن النبي صلى الله عليه وسلم إنما بال قائماً لأن المكان كان نجساً ، ولذلك كان حذيفة-- رضي الله عنه -وأرضاه- يُشير إلى السبب، وذلك بقوله:"أتى سُباطةَ قومٍ"فوقع البول من النبي صلى الله عليه وسلم في حال قيامه بسبب كون الأرض غير طاهرةٍ ولا يأمن من طشاش البول إذا جلس صلوات الله وسلامه عليه .
ومنهم من يقول : إنَّما بال قائماً لمكان المرض فمنهم من يقول : مرض الصُّلب ومن عادة العرب أنهم يستشفون من مرض الصُّلب بالبول قائماً وهي الغدَّةُ المعروفة التى تتحكم في بول الإنسان ومَنيِّه فقالوا : إنَّ بول الإنسان قائماً يُخففُ العبء عنها ويُعين على قوَّتها وشدَّتها ولذلك قالوا : فعل النبي صلى الله عليه وسلم ذلك لمكان الضرورة .
فهذه هي مُحصَّل أقوال من يقول إنَّ البول قائماً ممنوع ، والأصل أن يبول الإنسان قاعداً لحديث أم المؤمنين عائشة -رضي الله عنها وأرضاها- .
وجمهور العلماء على أنَّ البول قائماً مكروهٌ إلا إذا وُجدت الحاجة فكأنهم يرون حديث حذيفة رضي الله عنه وأرضاه يُعتبر بمثابة الصارف الذي يدل على أن فعله بمثابة الدلالة على الكراهة لا على التحريم فكونه عليه الصلاة والسلام يبول قائماً لبيان الجواز ؛ ولكنَّ هذا الجواز مصحوبٌ بالكراهة عند جمهور العلماء –رحمهم الله- .
وذهب طائفة من السلف والأئمة إلى أن السَّنَّة وهدي النبي صلى الله عليه وسلم المداومة على البول قاعداً ، وأن البول قائماً فُعل لبيان الجواز .
وهذا القول يختاره المُحققون كما أشار إلى ذلك الإمام ابن القيَّم رحمه الله في الهدي وهو أقوى الأقوال وأعدلها وأولاها بالصواب-إن شاء الله تعالى-: أنَّ البول قائماً يجوز ولكنَّه قليلٌ من هَدْيه- صلوات الله وسلامه عليه-، خاصَّةً وأن الحديث الذي دلَّ على فعله- صلوات الله وسلامه عليه- فيه تنبيهٌ و إشارةٌ إلى سببٍ يقتضى ربط الحكم به .(11/8)
ومن هُنا يُقال : إنَّ السُّنًّة أن يبول قاعداً ، وفي الصحيحين من حديث عبدالله بن عمر-رضي الله عنهما-أنه رأى النبي صلى الله عليه وسلم على اللَّبِنَتَيْن يقضي حاجته فالأصل في بوله وقضائه لحاجتهصلوات الله وسلامه عليه القعود .
وذهب بعض أصحاب الإمام أبي حنيفة رحمه الله وهو قولٌ يختاره بعض العلماء المتأخرين إلى أن البول قائماً في عصرنا هذا قد أصبح من سِمَات الكُفَّار وحال الكفار .
ولذلك تُشْرع مخالفتُهم حتىَّ إن بعضهم يقول بتحريم البول قائماً خوفاً من المُشابهة وقد يكون الشيء جائزاً حتى ينصرف ويكون من عادة الكُفَّار فيصير إلى التحريم أو أقل درجات الكراهه ، ولذلك لمكان النهي عن التَّشبُّه بالكفار كما هو مُقرَّر في أصول شريعتنا .
وقولها- رضي الله عنهاوأرضاها-:" ما كان يبول إلا قاعداً ": صيغةٌ تدلُّ دلالةً واضحةً على المداومة وأنَّ ما كان يُداوم عليهصلوات الله وسلامه عليه إنمَّا هو البول قاعداً لا قائماً .
ثُمَّ ذكر المُصنِّف -رحمه الله -حديث عمر بن الخطاب ولم يُسنده ، وإنَّما أشار إلى لفظه بقوله عليه الصلاة والسلام لمَّا رأى عمر يبول قائماً :(( لا تَبُل قائماً)) قال :" فما بُلتُ بعدها قائماً" .
وهذا الحديث رواه ابنُ ماجة والبيهقيُّ في السُّنَن وهو حديثٌ ضعيفٌ ، وذلك لأنه من رواية عبدالكريم بن أبى المُخارقِ قال الحافظ ابنُ حجر في المُقدِّمة: متروك ، وقال في التقريب : ضعيف .
وقال الحافظُ ابنُ عبد البرِّ رحمه الله : أجمع العلماءُ على ضعفه ، وكان أيوبُ بن تميمة السختيانيُّ يطعن فيه ويتكلم فيه والمقرر عند العلماء رحمهم الله ضعفُ روايته مع أنَّ عمر بن الخطاب رضي الله عنه قد ورد عنه في الأثر أنه رخَّص في البول قائماً فلوصح أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم نهاه لما أجاز للناس البول قياماً .(11/9)
قال المصنف رحمه الله : وَمَعْنَى النَّهْيِ عَنِ الْبَوْلِ قَائِمًا عَلَى التَّأْدِيبِ لاَ عَلَى التَّحْرِيمِ وَقَدْ رُوِيَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ قَالَ إِنَّ مِنَ الْجَفَاءِ أَنْ تَبُولَ وَأَنْتَ قَائِمٌ .
الشرح:
هذه الجملة من المصنِّف رحمه الله تُعتبر جمعاً بين حديث النهي الذي ورد عن عمر بن الخطاب وحديث الجواز الذي ورد عن حُذيفة بن اليمان ؛ ولكنَّ القاعدة في الأصول: " أنَّه لا يُمكن أن يُحكم بالتعارض إذا كان أحدُ النَّصين ضعيفاً" فنظراً لكون حديث حُذيفة ممَّا اتفق عليه الشيخان وهو حديثٌ لا إشكال في صحته وثبوته عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وحديثُ عمر بن الخطاب حديث ضعيف فلا وجه لأن يُقال بصرف النهي إلى التأديب وإن كان الأصل المحفوظ والمُقرَّر أنَّ النهي محمولٌ على التحريم حتى يدل الدليل على ما دون ذلك .
وللأصوليين في هذه المسألة قولان مشهوران :
القول الأول يقول : كل نهي في كتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم فإنه محمولٌ على التحريم حتى يُدلَّ الدليل على ما دون ذلك .
والقول الثاني يقول: كل نهي في الكتاب والسنة محمول على الكراهة حتى يدُلَّ الدليل على التحريم .
فالذين يقولون : إن النهي محمول على التحريم حتى يدُلَّ الدليل على الكراهة قالوا : إن الأصل في نهيه أنه للتحريم لقوله في الحديث الصحيح:(( إذا نهيتكم فانتهوا)) فدلَّ على أن النهي يُفيد التحريم ، وهذا هو أصحُّ القولين وأولاهما بالصواب إن شاء اللهُ تعالى-.
وقوله "ومعنى النهي التأديب": قد وردت أوامر في الكتاب والسُّنة ووردت مثلها نواهٍ في الكتاب والسُّنة فنجد العلماء رحمهم الله يقولون :هذه النهي للتأديب لا للتحريم وهذا النهي للتحريم وليس المراد أنَّه للكراهة فهل مرادهم صرف هذا النهي عن ظاهره ..؟؟(11/10)
والجواب : نعم أنهم إذا قالوا : النهي للتأديب فمرادهم أنه ليس من سُنن العبادات التى يُعتبر الإنسان مُلزماً فيها بالنهي بحيث لو ارتكبه كان مُرتكباً للمُحرَّم .
وذلك إنَّما يستقيم عند الأصوليين في النواهي التى تردُ في الأمور الجِبِلِّية ، ولذلك يُعتبر البول هنا متردِّداً بين التشريع والجبلّيَة ، فبعض العلماء يرى أنه إذا تردَّد الحكم بين التشريع و الجِبِلَّة والطبيعة فإنه يُحمل على الجبلّة والطبيعة حتى يدل الدليل على التشريع تورعاً منهم في تعميم الحكم قبل استظهار ذلك العموم .
وهذا أصل عند جمهور العلماء رحمهم الله ، ولذلك قد يرد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنَّه يأمر بأشياء على سبيل التعليم والإرشاد والتأديب لا على سبيل التشريع والإلزام ، ومن هنا يستقيم حمل مثل هذه الأوامر على التأديب لا على الوجوب والإلزام ومردُّ ذلك إلى الفقيه المجتهد الذي يعلم أصول الشريعة الإسلامية ويكون على إلمام بأدلتها فهو الذي يستطيع أن ينظر إلى مقاصد الشريعة وهذا هو الفقه الذي عناه النبي صلى الله عليه وسلم بقوله : (( من يرُدِ الله به خيراً يفقهه في الدين)) أي يرزقه فهماً عن الله ورسوله بحيث يُنزِّل كل خطاب ونص في الكتاب والسنة منزلته دون إفراط أو تفريطٍ ، وذهب بعض العلماء إلى حمل جميع الأوامر وجميع النواهي على سنن العبادات ولو كانت في العادات الجبلِّية ، وهذا هو مسلك الظاهرية رحمة الله عليهم ويوافقهم طائفة من أهل الحديث .(11/11)
والصحيح أنَّه لابد من النظر ، فليس كل أمر محمولاً على ظاهره سواءً كان في الجبلَّة أو غيرها لأن النبي صلى الله عليه وسلم لمَّا عتقت بريرة وأصبحت مخيَّرةً بين أن تعود إلى زوجها أو تبقى حُرَّةً فاختارت أن تبقى حُرَّةً ، فحينئذٍ أمرها رسول الله صلى الله عليه وسلم وكلَّمها أن ترجع إلى زوجها فقالت-رضي الله عنها- أتأمُرني ..؟ قال:(( إنما أنا شافع)) فدلَّ قولُها : أتامرني ..؟ أي هل أمرك لي على سبيل الشفاعة أو على سبيل اللزوم ..؟ فقال :((إنما أنا شافع )) فدلَّ على أن أوامره قد تخرج عن ظواهر التشريع ، وقد تكلَّم الإمام الشاطبي رحمه الله على هذه المسألة كلاماً نفيساً في كتابه النفيس :" الإحكام في تمييز الفتاوى من الأحكام ، وبيان تصرُّفات القاضي والإمام ".
وقوله" إن من الجفاء": الجفاء من شَيْن الطباع ، فالإنسان الذي فيه جفاءٌ يكون غليظ القول سيىء الفعل وسىء المعاشرة للناس وهذا من أشنع مايكون من الإنسان لأنه ينفر الناس عنه ، والأصل في المسلم أن يكون ودوداً قريباً تأسياً بالنبي صلى الله عليه وسلم ، ولذلك امتنَّ الله على نبيه بصرف الجفاء عنه فقال سبحانه وتعالى :{فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنْ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ }(1) فلذلك يقول رضي الله عنه :"إن من الجفاء أن يبول الرجل قائماً ".
وهذا اللفظ من هذا الصحابي الجليل إن كان محمولاً على ظاهره فإنه يُجاب عنه بأن النبي صلى الله عليه وسلم إذا كان بوله قائماً على سبيل التشريع فيُعتذر لعبدالله بن مسعود رضي الله عنه أنَّه لم يطَّلع على فعله عليه الصلاة والسلام ، وقد كانت السُّننُ رُبَّما خفيت على بعض أصحابه-رضي الله عنهم أجمعين- ، وبناءً على ذلك يُعتبر الأصل أنه يجوز أن يبول الإنسان قائماً وليس ذلك من الجفاء على الإطلاق كما ورد في هذا الأثر .(11/12)
قال المصنف رحمه الله : بَاب الرُّخْصَةِ فِي ذَلِكَ
الشرح:
يقول رحمه الله :" بَاب الرُّخْصَةِ فِي ذَلِكَ ": الرخصة : ضد العزيمة ، وقد تقدَّم بيان حقيقتها في اللغة وحقيقتها في اصطلاح العلماء رحمهم الله وهذا منهج للإمام الترمذي وغيره من العلماء والأجلاَّء : أنهم يذكرون النصوص المنسوخه أولا ، ثم يُتبعونها بما يدل على نسخها ويضعون التراجم التى يُصرح فيها بما يفيد النسخ وأحياناً يتورَّع بعض العلماء ، ولذلك تجد الإمام الترمذي يقول هنا :" بَاب الرُّخْصَةِ فِي ذَلِكَ " ولم يجزم بقوله : باب نسخ ذلك ؛ وإنما أورده بعبارة :" الرخصة في ذلك " ، أي باب ما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم من الأحاديث التى تدل على جواز البول قائما ، ومن أهل العلم من يُصرح بالحكمين ، فيقول : باب البول قائماً وقاعداً كما هو صنيع الإمام أبى عبدالله محمد بن إسماعيل البخاري حيث ترجم في صحيحه بذلك ، ومنهم من يُصرَّح بالنسخ كما هو صنيع بعض المحدَّثين رحمهم الله .
قال المصنِّف- رحمه الله-: حَدَّثَنَا هَنَّادٌ حَدَّثَنَا وَكِيعٌ عَنِ الأَعْمَشِ عَنْ أَبِي وَائِلٍ عَنْ حُذَيْفَةَ :" أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم أَتَى سُبَاطَةَ قَوْمٍ فَبَالَ عَلَيْهَا قَائِمًا فَأَتَيْتُهُ بِوَضُوءٍ فَذَهَبْتُ لأَتَأَخَّرَ عَنْهُ فَدَعَانِي حَتَّى كُنْتُ عِنْدَ عَقِبَيْهِ فَتَوَضَّأَ وَمَسَحَ عَلَى خُفَّيْهِ ".
الشرح :
هذا الحديث حديث حذيفة بن اليمان رضي الله عنه وأرضاه وهو أبو عبدالله حُذيفة بن اليمان ، واسم اليمان : حُسَيْل بن جابر العبْسي اليماني وقيل له "اليمان" لأنَّه حالف الأنصار- رضي الله عنهم وأرضاهم- .(11/13)
وكان رضي الله عنه قد شهد مع النبي صلى الله عليه وسلم -أعني حذيفة- المشاهد كلها ماعدا غزوة بدر فإنه شهدها ولكنه لم يقاتل هو وأبوه ؛ والسبب في ذلك أن المشركين أمسكو بهما في الطريق قبل مقدمهما على النبي صلى الله عليه وسلم وأخذوا العهد على حذيفة وأبيه أنهما لا يقاتلان مع النبي صلى الله عليه وسلم فلما قدما على رسول الله صلى الله عليه وسلم ببدر وأخبروه خبر المشركين وسألوه أن يُرخَّص لهم في القتال معه فقالصلوات الله وسلامه عليه:(( بل نفي لهم ونستعين بالله عليهم )) فأمرهما بالوفاء بالعهد الذي أُخذ عليهما ، ومن هنا أخذ العلماء وجوب الوفاء بالعهود التي بين المسلمين والمشركين ، وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر حُذيفة وأباه رضي الله عنهما بالوفاء فدلَّ على أن ذلك على اللزوم والوجوب ، كان حذيفة بن اليمان من أجلاَّء أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم و-رضي عنهم أجمعين- كانت له منقبتان عظيمتان ما كانت لأحدٍ من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم .
أمَّا المنقبة الأولى: فهي أن النبي صلى الله عليه وسلم استودعه الأسرار فأخبره بالمنافقين وذكرهم لحذيفة بأسمائهم فكان حذيفة رضي الله عنه يعرف المنافقين رجلاً رجلاً ، وكان يتخلَّف عن الصلاة عليهم إذا ماتوا ، فكان عمر بن الخطاب رضي الله عنه إذا أُتي بجنازة نظر فإن صلىَّ عليها حذيفة صلَّى عليها رضي الله عنه وإن تنحَّى عنها تنحى عمر ولم يُصلَّ عليها ، وقال له ذات يوم يا حذيفة : أناشدك الله هل سَّماني رسول الله صلى الله عليه وسلم لك ..؟ قال: لا ولا أزكى بعدك أحداً .
فكان من مناقبه رضي الله عنه اختصاصه بسرِّ رسول الله صلى الله عليه وسلم ،ولذلك إذا أُطلق صاحب السرِّ في الصحابة فإن المعنيَّ به حذيفة-- رضي الله عنه - وأرضاه-.(11/14)
أمَّا المنقبة الثانية : فقد كان عنده حديث الفتن فقد أخبره النبي صلى الله عليه وسلم بالفتن ، خاصةً الفتن العظيمة وثبت في الصحيح عنه أنه قال : والله مامن فتنةٍ بيني وبين الساعة إلا أخبرني عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم فكان أعلم الناس رضي الله عنه وأرضاه بما يكون من الفتن والمحن ؛ والسبب في ذلك أنَّه كان يُكثر سؤال النبي صلى الله عليه وسلم عنها ، فكان الناس يسألون عن الخير، وكان حذيفة يسأل عن الشرور والفتن والمحن ، كلُّ ذلك لكي يتقيها ويكون بمأمن منها رضي الله عنه وأرضاه ، ولذلك قال عمر كما في الصحيحين أنه قال يوماً من الأيام لأصحابه وفيهم حُذيفة :" أيكم يُحدِّثنا حديث الفتن"؟ فقال حذيفة : أنا ياأمير المؤمنين فقال : والله إنك عليها لجرىء ، وهذا يدل على علو مكانته وشأنه عند عمر ، فقد كان الصحابة يهابون التحديث بالأحاديث في زمان عمر ، ومع ذلك اجترأ وقال : أنا أُحِّدثك عنها فقال له : إنك عليها لجرئ فقال حذيفة سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول :(( فتنة الرجل في أهله وماله وزوجه تُكفِّرُها الصلاة والصدقة)) فقال له رضي الله عنه : ليس عن هذه أسال فقال: يا أمير المؤمنين أتسأل عن التي تموج موج البحار..؟ أي الفتن العظيمة التى أخبر النبي صلى الله عليه وسلم عن وقوعها بين يدى الساعة قال عمر : نعم . قال : إن بينك وبينها باباً. فقال له أيُكسر الباب أو يُفتح..؟ قال بل يُكسّر قال: إن كُسِر حًرِيٌّ ألاَّ يُغْلق إلى يوم القيامة .
ومعنى ذلك أن حذيفة رمز لعمر بالباب ، فقال : يا أمير المؤمنين ، إن بينك وبينها باباً أي مادُمت حياً فإن الناس بمأمنٍ من الفتن ، وذلك لما حبا اللهُ به عُمرَ بنَ الخطابَ رضي الله عنه وأرضاه .
فهم عمر أنه الباب ، فقال له: أيُكسر البابُ أم يُفتح ؟؟ فقال :يُكسر إشارةً إلى قتله واستشهاده رضي الله عنه وقد كان .(11/15)
تُوفي حذيفة بن اليمان سنة ستٍ وثلاثين من الهجرة ، وحضرته الوفاة فلمَّا أصبح واشتد عليه البلاء قال : اللهم إني أعوذ بك من صباح إلى النار.. اللهم إني أعوذ بك من صباحٍ إلى النار..اللهم إني أعوذ بك من صباحٍ إلى النار ، ثُمَّ فاضت روحه -- رضي الله عنه - وأرضاه - ، وجعل أعالي الفردوس مسكنه ومثواه .
يقول رضي الله عنه :" أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم سُباطة قومٍ ":السُّبَاطة: هي المزبلة والمكان الذي يُلقى الناس فيه فضلاتهم وما يكون من القاذورات .
وقول حُذيفة :" سُباطة قومٍ " هذه الإضافة لها وجهان :
الوجه الأول :أن تكون إضافة تمليك أي أن موضعها مِلكٌ لقومٍ فإذاكانت هذه الإضافة إضافة تمليكٍ .
فحينئذٍ يرد الإشكال: كيف النبي صلى الله عليه وسلم يبول في ملك الغير ..؟
فالأصل المقَّرر في الشريعة الإسلامية أنه لا يجوز للمسلم أن يبول في ملك غيره لمكان الضرر إلا في أحوال مستثناة ، وذلك لِمَا يتضمنه البولُ وقضاءُ الحاجة من بالغ الضرر.
وحينئذٍ يرد الإشكال : كيف قضى عليه الصلاة والسلام حاجته في هذا الموضع ولم يستأذن أصحاب هذا الموضع من الصحابة -رضوان الله عليهم- ..؟
وهناك جوابان مشهوران :
الجواب الأول : أننا إذا قلنا إنها مِلكٌ لهم فإن النبي صلى الله عليه وسلم أولى بالمؤمنين من أنفسهم كما هو صريح كتاب الله في قوله عز وجل :{ النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ}(1) إذا كان هذا النص يدل على أنه أولى بالمؤمنين من أنفسهم فإنه يتضمن من باب أولى وأحرى مِلكيته لأموالهم ، وأموالهم أن له أن يتصرف فيهاصلوات الله وسلامه عليهلأن نصوص الشريعة تدل على أن ملكية النفس تستلزم ملكية ما ملكت ، ومن هنا قالوا إنَّه يكون مُخَرَّجاً على هذا .(11/16)
الوجه الثاني وهو أقوى : أن النبي صلى الله عليه وسلم قضى حاجته لعلمه بأنهم لا يكرهون ذلك ، بل أنهم يحبون كل ما فيه رِفق برسول الله صلى الله عليه وسلم .
وإذا تقَّرر هذا فإنه يُؤخذُ منه الحكمُ الشرعيُّ أنُّه يجوز للإنسان أن يقضي حاجته في مكان الغير إذا علم أن الغير يرضى بذلك ولا يكره ، خاصةً إذا كان هناك إذْنٌ قولي أو إذنٌ فعلي يتضمن ما يدل عليه القول من الإذن فإنَّه حينئذٍ لا إشكال في الجواز .
ومن هنا قال العلماء : من بنى مسجداً ثم فتح أبوابه دلَّ ذلك على إذْنه بالصلاة فيه وهكذا بناء دورات المياه وما شابهها ، فإنَّه إذن بالدخول فيها وقضاء الحوائج .
لكن هنا إشكالٌ:وهو أن فتح أبوابها وتمكين الناس من قضاء الحاجة في دورات المياه الأصل فيه أنه للصلاة والعبادة.
ومن هنا يرد الإشكال: لو احتاج الإنسان لقضاء حاجته لغير العبادة فهل يكون ذلك داخلاً في الإذن العام أو غير داخل ..؟؟
وحينئذٍ يُنظر فإن قيل إنه إذنٌ بالغالب نظراً إلى أن غالب الناس يحتاجون إلى ذلك لصلاتهم فلا إشكال في دخول النادر ، وأمَّا إذا كانت المساجد تتضرَّر بدخول الناس إليها في غير أوقات الصلاة ويتسبب ذلك في إزعاج المصلين أثناء الصلاة حيث لا يجدون مايتمكنون به من الطهارة فحينئذٍ يُمنع من استخدامها إلا في أوقاتها التى أوقفت من أجلها، وذلك باستعمالها على سبيل الطهارة للعبادة لا غير .
ومن الأخطاء الشائعة الذائعة : قيام بعض الناس بأخذ المياه من دورات المياه المُسَبَّلة في المساجد لبيوتهم ومنازلهم وغسل أشيائهم من سياراتٍ ونحوها فذلك من الخطأ البيَّن الواضح ، فإنَّ المياه مُسّبَّلةٌ للطهارة للعبادة ولا يجوز التضييق على المُصلِّين بأخذ هذه المياه المُسَبَّلة إذا عُلم تخصيصها للعبادة والطهارة .(11/17)
واستثنى بعض العلماء رحمهم الله المساجد التى تكون في الطرقات للمسافرين ، فإنه يُرخَّص لهم في دخولها لمكان وجود الحاجة والدلالة الفعلية الدالة على الإذن لهم .
وهنا سؤال :هل يجوز للإنسان أن يقضي حاجته في أرضٍ هي ملكٌ لغيره ..؟؟
والجواب : أنَّ الأصل أنه لا يجوز قضاء الحاجة في مساكن الناس وبيوتهم ، خاصةً في مواضع السكنى والنُّزْلى وممَّا عمَّت به البلوى أن بعض الناس خاصةً في السفر أن بعض الناس- أصلحهم الله- يأتون إلى غُرَفٍ تكون رِفْقاً بالمسافرين فيقضون حاجتهم فيها ، وهذا من أشدِّ الضرر وبالغه وفي صحيح مسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:(( اتقوا اللعانين قالوا:يارسول الله وما اللعانان..؟قال الذي يبول في طريق الناس وظلهم)) فإذا كان البول في الطريق والظلِّ يتسبب في لعنة صاحبه ويجوز أن يُلعن صاحبُه فمن باب أولى وأحرى إذا بال في أماكن نزولهم ، وضيَّق على المسافرين في مثل هذه البيوت التى يحتاجها الناس خاصَّةً إذا كانت عندهم العوائل ، فإنهم بحاجة ماسة للارتفاق بها ، فقضاء الحوائج فيها لا شك أنَّه يُضرُّ بهم ، ومن هنا يُعتبر حراماً وقد جاء في الحديث وحسَّنه المنذري وغيره أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:(( الذي يبول في طريق المسلمين وجبت عليهم لعنته)) فهذا يدل على أنه مستحقٌ لَلَّعن-والعياذ بالله-وقد قاس العلماء رحمهم الله غير الطريق على الطريق ، بل إنَّ هذه الغُرَف وأمثالها الحاجةُ والتضرُّر فيها أعظم في بعض الأحيان من الطريق كما لا يخفى ، فالمقصود أن قضاء النبي صلى الله عليه وسلم لحاجته وذلك ببوله على سُباطة القوم يتضمَّن إذا كانت الإضافة للمِلك الدلالةَ على جواز قضاء الحاجة في الأماكن التي يأذن أصحابُها بقضاء الحاجة فيها.
الوجه الثاني : أن الإضافة إضافة نِسبةٍ للموضع وليس المراد بها إضافة تمليك .(11/18)
وعلى هذا الوجه لا إشكال ؛ لكنْ فيه دليلٌ على جواز قضاء الحاجة في المزابل ونحوها ؛ ولكنْ ينبغى التنبيه على أمرٍ يذكره بعض العلماء رحمهم الله حيث قالوا : إن المزابل على حالتين :
الحالة الأولى : أن تكون مخصوصةً بالقاذورات وتستحيل فيها الأطعمة حتى تصير نجسةٍ أو تتغير تغيراً كاملاً ، فلا إشكال في جواز قضاء الحاجة عليها .
الحلة الثانية: إذا كانت المزابل فيها الأطعمة ، أو فيها شيء من الطعام ونعمة الله عز وجل فلا يجوز البول عليها ، ولذلك يُعتبر من كبائر الذنوب أن يبول الإنسان-والعياذ بالله- على الطعام ، فذلك من كُفران النعم الذي يُؤذن الله به بزوالها- نسأل اللهَ العافية والسلامة- .
قال- رضي الله عنه - وأرضاه- : فأتيتُه بِوَضوءٍ :أي بماءٍ لكى يتوضأ به والوَضوء ( بالفتح ) : الماء الذي يُتوضَّأُ به ، والوُضوء ( بالضم ): هو فعلِ الوُضوء ، وكذلك الطهور( بالفتح ) والطُّهور ، والغَسْل والغُسْل كل ذلك عند العلماء رحمهم الله على هذا التفصيل.
وقوله" وأتيتُه بِوَضوء ": فيه دليلٌ على مشروعية خدمة العلماء ، والصلحاء الأتقياء بشرط أن تُؤمن الفتنة فيُشرع للإنسان أن يخدم العالم ، وأن يُجله ويُكرمه وذلك فعل أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم معه ، وكان التابعون يُجِلُّون أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ويُكرمونهم ، وكذلك حال سلف الأمة ممن بعدهم ، والخلف الصالحون على ذلك : أنَّه لا حرج في خدمة الأحرار لمن له فضلٌ ومَزِيَّةٌ في الدين كالعلماء وكبار السِّنِّ الأخيار الصُّلحاء ، فإنَّهم يُكرَمون ويُجلون وذلك بشرط أمْن الفتنة ، أمَّا إذا كان في إكرامهم فتنة كأن يُقصد من ذلك حظُّ الدنيا والرياء فإنَّه فتنةٌ للتابع والمتبوع.(11/19)
ولذلك لما خرج عبدُالله بن مسعود رضي الله عنه خرج معه أصحابه يُشيعونه فسألهم هل يريدون شيئاً قالوا: لا إنَّا رأيناك تمشي وحدك فمشينا معك فقال: اذهبوا عني فإنها فتنة للتابع والمتبوع.
وهذا إذا لم يكن هناك مقصدٌ شرعي ، أمَّا إذا أُمنت الفتنة فإنه يُشرع خدمة العلماء وإجلالُهم ، وكذلك كبار السن ومن له سابقة في الدين وله فضلٌ على المؤمنين فإجلالُهم طاعةٌ وقُرْبة ، وإكرامُهم أجرٌ للعبد وحسبة .
قال-- رضي الله عنه - وأرضاه-: فذهبت ، فقال لى :(( ادنُ ))كما في الصحيح فقوله عليه الصلاة والسلام :(( ادنُ ))لكى يستره حُذيفة أثناء قضائه للحاجة ، ومن هنا أخذ العلماء أنه يجوز إذا كان الإنسان يريد أن يقضي حاجته ولم يجد شيئاً يستتر به أن تقف من وراء ظهره وتُولِّيه القفا فذلك مما يُعين على ستره فوقف رضي الله عنه لستر النبي صلى الله عليه وسلم ، فاستتر من أمامه بالحائط ، واستتر من خلفه بحُذيفة.
ولكنَّ الإشكال أن النبي صلى الله عليه وسلم إذا وقف وبال وهو واقف فإن العورة لا تنكشف من الظهر ، ولكن يكون أمرُه لحذيفة من باب الكمال ، وهذا هو الأولى والأحرى .
قال رضي الله عنه وأرضاه :" حتىَّ كنتُ عند عقبيه ، فتوضَّأ ومسح على خُفَّيْه":
فيه دليلٌ على مشروعية المسح على الخُفَّيْنِ في الحضَر خلافاً لمن قال من العلماء إنَّ المسح على الخفين يختصُّ بالسفر-وسيأتى إن شاء الله تعالى بيان الأحكام والمسائل المتعلقة بالمسح على الخفين- ، وذلك في أبواب الطهارة التى ذكرها المصنِّف- رحمه الله- .
????????? الأسئلة ?????????
السؤال الأول:
هل من دليلٍ على كراهة الكلام في بيت الخلاء ، أو عند قضاء الحاجة ..؟ وبالنسبة للوضوء في الحمَّام ما هي الطريقة للبسملة ؟ هل يبسمل جهراً أو يبسمل في نفسه ..؟؟
الجواب:
بسم الله الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله ، وعلى آله وصحبه ومن والاه أما بعد:(11/20)
فإن النبي صلى الله عليه وسلم لمَّا مرَّ عليه الرجل وسلَّم عليه وهو يقضي حاجته لم يُجِبه- عليه الصلاة والسلام -وقال :(( إني كنتُ على حالةٍ فكرهتُ أن أذكر الله عليها)) وجاء في الرواية الثانية أنه نهاه إذا مرَّ عليه وهو يقضي حاجته أن يُسلم عليه ، ومن هنا أخذ العلماء أنه لا يُشرع الكلام إضافةً إلى قوله- عليه الصلاة والسلام -:(( لا يذهب الرجلان يضربان الغائط يتحدثان فإن الله يمقت ذلك)) فأخذ العلماء من مجموع هذا أنه ليس من السُّنة الكلام أثناء قضاء الحاجة ، وأنه ينبغى على الإنسان إذا دخل لقضاء الحاجة أن يلتزم الصمت وألاَّ يتكلَّم في هذه المواضع حتى يخرج .
وأمَّا إذا أراد أن يتوضَّأ لصلاته وهو في موضع قضاء الحاجة : فالأفضل أن يتوضأ في غير موضع قضاء الحاجة ، وأن يخرج من حمَّامه ومكان قضائه للحاجة ، ولذلك الأفضل في أماكن قضاء الحاجة ألاَّ يكون فيها صنابير للوضوء ما استطاع الإنسان إلى ذلك سبيلاً فهذا هو الأكمل وهو هَدْي النبي صلى الله عليه وسلم ، أمَّا إذا كان هناك موضعٌ مشتركٌ يجمع بين مكان قضاء الحاجة والوضوء فإنَّه يُبسمل في نفسه ولا يتلفظ بالبسملة ، والله تعالى أعلم .
السؤال الثاني :
متى يكون بول الأطفال نجساً..؟ وبكم غَسْلةٍ تطهُر الفُرُش والثياب إذا أصابها البول ..؟ وإذا غسَّلت الأمُّ لطفلها فهل ينتقض وضوؤها..؟؟
الجواب:
أمَّا بالنسبة للأطفال فإن الصبي الذي لم يأكل الطعام مضى هديُه- عليه الصلاة والسلام - أنه يُنضحُ من بوله ولا يُغسل.(11/21)
وأمَّا بالنسبة للجارية فإنَّه يُغسل ، ومن هنا يُفرَّق بين الذكر والأنثى وهذا تشريعٌ من الله سبحانه وتعالى لا يُسأل عن حُكمه ، ولا يُعقَّبُ في حكمه فهو الذي فرَّق بينهما ، وهو أعلم بالفرق الذي من أجله شُرع غَسلُ هذا ونضحُ هذا ، وللعلماء في ذلك كلامٌ يطول ؛ ولكن السنة على أنه إذا كان الطفل رضيعاً لم يأكل الطعام ولم يُفطم بعد أنَّه ينضح من بوله ولا يُغسل ، ففي الصحيح عنه عليه الصلاة والسلام أنه أُتي بصبيٍ فأجلسه في حجره فبال عليه فأمر عليه الصلاة والسلام :(( بماءٍ فنضحه ولم يغسله وأتبع البول الماء ولم يغسله)) ، فدلَّ على الفرق بين بول الغلام والجارية ، وفيه حديثُ عليٍّ بالتصريح:(( يُغسل من بول الجارية ، ويُنضح من بول الغلام)).
أمَّا المسألة الثانية : وهو إذا غسَّلت الأم لابنها وطفلها وطهرته ولمست عورته فإن هذا يُوجب الحكم بانتقاض وضوئها ، فلمس الفرج من صغيرٍ أو كبير ، ذكر أو أنثى يُوجب النقص سواءً لمس فرجه أو لمس فرج غيره كالطبيب إذا احتاج ذلك للفحص ، مالم يكن اللمس بحائل كأن يكون على يد الطبيب أو نحو ذلك حائلٌ يحول بينه وبين اللمس المباشر فإنه لا ينتقض وضوؤه .
وبناءً على ذلك يُفصَّل فيه وجود الحائل وعدمه ، وأمَّا كون الصبي صغيراً أو كبيراً فلا فرق ؛ إنما فرَّق العلماء بين الغلام الذي هو دون السبع وما هو أكبر من ذلك في مسألة تغسيله : هل لأُمَّه أن تُغَسِّله وعمره خمس سنوات وتتطلع على عورته ..؟؟
فبعضٌ من العلماء يقول : لا حرج ومن هنا قرَّروا أنه إذا توفي الصبي وعمره خمس أو ستٌ- أي دون السبع- أنه لا حرج أن يُغسِّله الذكر أو تُغسِّله الأنثى ، والله تعالى أعلم.
السؤال الثالث:
ما معنى قول الإمام الترمذي عن حديث :" لا نعرفه إلا من هذا الوجه "..؟؟
الجواب:(11/22)
هذا يكون من الإمام الترمذي بسنده ، ومن هنا قال العلماء : إنَّ هذا النفي لا يستلزم النفي المطلق ، ولا يستلزم الحكم عند طائفةٍ من العلماء رحمهم الله على الأخذ بأنَّ هذا المصطلح على ظاهره ، وليس مراده النفي الكلى ، وذلك باتصال السند ، أي أنَّه لم يروه مُسنَداً إلاَّ من هذا الوجه ، ومنهم من يقول : المعرفة المطلقة سواءً كان بروايته أو برواية غيره ، والله تعالى أعلم .
السؤال الرابع :
إنني ذهبتُ إلى العُمرة وقد أحسستُ بآلام الدورة ولكني لم أر الدم ، وطفتُ وأحسستُ بنزول شيء في الشوط قبل الأخير وبعد إتمام الطواف وجدتُ الدم فما الحكم علماً بأنني أكملتُ السعى ..؟؟
الجواب:
إذا أحسَّتِ المرأةُ بخروج دمها فإن هذا الإحساسَ الغالبُ فيه أنَّ الدم موجود ، وبذلك يُعتبر مُؤثَّراً فلمَّا تحقَّقتْ بعد ذلك أنها قد نزل عليها دمها وعُذرها فحينئذٍ يُعتبر طوافها لاغياً وعليها أن تُعيد طوافها بالبيت لأنه لا يصح الطواف من الحائض ففي الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال لعائشة لمَّا حاضت : ((مالك ..؟ أنُفِسْتِ ..؟ )) قالت : نعم قال:((ذاك شىءٌ كتبه الله على بناتِ آدم اصنعي ما يصنع الحاج غيرَ ألا تطوفي بالبيت)) .
فدلَّ دلالةً واضحةً على أن المرأة الحائض لا يصح منها أن تطوف بالبيت ، واجتهد بعض العلماء كما هو مذهب بعض أصحاب الإمام أبى حنيفة فقال : لا حرج عليها أن تتلجَّم وتطوف لأنه إنما مُنعت من البيت لمكان الدم ، فإذا تحفَّظتْ وصانت دمها صح طوافها ، وهذا اجتهادهٌ يخالف ظاهر النص ، إذْ لو كان الأمر كذلك لقال عليه الصلاة والسلام لأم المؤمنين : تلجَّمي وطوفي بالبيت ولم يأمرها بتأخير طوافها وانتقالها إلى القران ، والله تعالى أعلم.
السؤال الخامس:(11/23)
ذكرتُم أنَّ الحائض إذا اختلت حيضتُها فإنها تُعمل حيضتها ثلاث مرَّات ، ثمَّ تنتقل بعد ذلك لحيضة جديدة ما دليل التقييد بثلاث مرَّات..؟ وكيف تعمل من ينقطع الدم عنها بوقتٍ ثُمَّ يأتيها آخر ..؟؟
الجواب:
أجمع العلماء رحمة الله عليهم على أن المرأة إذا مرَّت لها ثلاثُ دورات على وتيرة واحدة أنها معتادة .
والخلاف إذا مرَّت مرَّتان ، فالإمام أبو حنيفة-رحمة الله عليه- يُثبت العادة بالمرَّتين ، وهي إحدى الروايات عن الإمام أحمد ؛ لكنْ إذا بلغت ثلاث مرَّات متتابعات والدم يأتيها على وتيرةٍ واحدةٍ الإجماع قائم على أنها معتادة ، وأنها ترجع لعادتها لحديث فاطمة-رضي الله عنها- وحديث أم المؤمنين عائشة :(( لتنظرِ الأيام اللاتى كانت تحيضُهن قبل أن يُصيبها الذي أصابها)) فدلَّ على تقييدها بالعادة فالمقصود أنه إذا تتابع الدم ثلاث مرَّاتٍ متتابعات على وتيرة واحدة فهي عادتها ، والله تعالى أعلم.
السؤال السادس :
من كان في جماع أهله قُبيل أذان الفجر من رمضان ، وكان وقت الإنزال هو بداية الأذان ، ولم ينزع إلا بعد مرور جُملةٍ أو جُملتين من ألفاظ الأذان فما حُكم ذلك..؟؟
الجواب:
هذه المسألة للعلماء فيها وجهان مبنيان على القاعدة المشهورة :هل النزع بمثابة الإيلاج أو ليس بمثابته..؟؟
فمن قال: إنَّ النزع بمثابة الإيلاج نفسِه فإنه يراه مُجامعاً ، سواءً نزع عند بداية الأذان أو بعد الأذان ولو بيسير ، وذلك لأنَّ النزع يشعر فيه باللَّذة كما يشعر بالإيلاج وإن تفاوتاً ، ومن هنا قالوا : إنَّه يُعتبر بمثابة المُجامع بعد الأذان .
وتسامح بعض العلماء فقالوا : إن نزع مباشرةً فلا إشكال ، أمَّا لو استمرَّ ولو لحظةً واحدةً بعد سماعه للأذان وعلمه به فإنه يُعتبر متعمداً للجماع حُكمُه حُكمُ من جامع في نهار رمضان مُتعمَّداً .
وبناءً على ذلك تنظر : فإذا سمعتَ الأذان ونزعتَ مُباشرةً فلا إشكال ، وحينئذٍ الصحيح أنه لا شيء عليك .(11/24)
وأمَّا إذا استمرَّ الإنسان ، ولو لحظة بعد سماعه للأذان سواءً مرَّتْ عليه كلمةٌ أو جُملةٌ أو جُملتان فإنَّه يُعتبر في حُكم المُجامِع ، والله تعالى أعلم.
السؤال السابع :
إنَّ من أجلَّ القُرُبات طلبَ العلم الشرعى الذي نسأل الله عز وجل أن يجزيكم خيراً على تعليمكم إياه ؛ولكن قد ينتابنا الكسل والملل أحياناً ، فهلا شحذتُم لنا الهمم ..؟؟
الجواب:
لا يُكرم اللهُ إنساناً بطلب العلم إلا وهو يُريدُ به الخير ، قال صلى الله عليه وسلم :(( من يُردِ اللَّهُ به خيراً يُفقِّهْهُ في الدين)) ومن خرج إلى حلق العلماء ورياض العلم فإن الله-تعالى-وعده أن يسلُك به طريقاً إلى الجنة قال صلى الله عليه وسلم :(( من سلك طريقاً يلتمس فيه علماً سهل الله له به طريقاً إلى الجنة )) يقول بعض العلماء : (( من سلك طريقاً يلتمس فيه علماً )) قالوا : لو لزم عالماً من العلماء أو درسَ علمٍ أو مجلسَ علمٍ وهو يريد وجه الله محتسباً الثواب عند الله عز وجل فإن الله يفتح له باب رحمةٍ ينتهي به إلى الجنة إن عاجلاً أو آجلاً ، يفتح الله له باب عبادة .. يفتح الله له باب جدٍّ واجتهادٍ في طلب العلم حتى يصير إماماً من أئمة الدين ، يفتح الله له باب قضاء ، باب فتوى إلى غير ذلك من أبواب الخير يفتحُها عليه حتى يكون من أهل الجنة ، هذه رحمة يريدها الله بمن خرج من بيته يُغبِّر قدمه لطلب العلم فهنيئاً ثم هنيئاً لمن شرح الله صدره ووفَّقه للإخلاص لوجهه الكريم .
أمَّا ما ينبغى على الإنسان :
أولاً : أن يحمد الله ويشكره أن يمضى عليه الوقت وهو جالسٌ في حِلق العلم ، وأن يستكثر من الله ويستعظم من الله هذه النعمة فإنك كلما حمدتَ نعمة الله عز وجل شكرك ، فإن الله يشكر من شكره ويجزى من شكره ، ويعظِم الأجر لمن ذكره ، فإذا أصبحت القلوب تُعظِّمُه وتُعظِّمُ نِعمَه أنزل فيها البركة وأنزل فيها الخير وأصبح طلبُ العلم حُجَّةً لك لا عليك .(11/25)
أمَّا الأمر الثاني : الذي ينبغي على الإنسان أن يكون على إلمام به إذا طلب العلم : أن يعلم أن لهذا العلم فترات وهنَّاتٍ ومصاعب وأذِيَّة ، ولذلك يُؤذَى في نفسه ، ويُؤذى في زوجه وولده فمن أذيَّتِه في نفسه أن الشيطان يأتيه ويقول له: من أنت حتى تطلب العلم ؟ ومن أنت حتى تقرأ ؟ وهذا الدرس فوق علمك وفوق فهمك .. ولا حاجة أن تجلس في هذه المجالس التي لا تستطيع أن تفهم كل ما يقال فيها ، يُثبطه الشيطان بكل ما يستطيع فإن قال : أجلس ، ولو لم يكن في جلوسي إلا أن الله- تعالى-يرحمني لكفى .
ولا شكَّ أنه سيجلس المرة الأولى والثانية والثالثة حتى يأتى يومٌ من الأيام لا يخَرم من المجلس حرفاً واحداً .
وقد كُنَّا في بداية الطلب نجلس مع العلماء لا نفقهُ كثيراً مما يُقال ولا كثيراً مما يذُكر حتى رحمنا الله برحمته ، فهو الذي يُعلِّم ويُفهِّم سبحانه وتعالى فإياك أن يُخَذِّلك الشيطان في نفسك .
الأمر الثالث : أنه يُخذِّل الإنسان في أهله وولده ، فيأتيه الزوجة.. ربما تشغله بالمشاغل .. وربما يشغله الأبناء والبنات ، فينبغي أن يُخصِّص للعلم وقتاً لا ينشغل فيه بغيره ، وأن يكتحل السهر من أجله ، وأن يبذل كل ما يستطيع فإنَّ العبد إذا أرَى اللهَ من نفسه الخير والحرص في طلب العلم أراه الله حُسْن العاقبة .
ولذلك انظر إلى ما جعل الله للعلماء من الحب والكرامة والذكر الحسن والثقة ، حتى إن الناس تثق بفتاويهم وتنقلها في الآفاق وتسير بها الركبان ، قال العلماء : هذا عاجل ما جعله الله لأهل العلم فقد ضحوا في طلب العلم فأكرمهم الله بعاجل ذلك في الدنيا ، ولَمَا ينتظرهم عند الله أكبر .
وكان بعض العلماء يقول : ما تعب أحدٌ في طلب العلم إلا نزلت البركة في علمه أكثر فكُلَّما كان تعبك في طلب العلم أكثر كلما كان أجر الله لك أعظم وكُلَّما كان التوفيق لك أكثر .(11/26)
وكانوا يأخذون من قصة الوحي دليلاً على هذا : فإنَّ جبريل لما أراد الله عز وجل أن يُوحي الى نبيه أخذه وغطَّه حتى رأى الموت ، قالوا : هذا يدل أن بداية طلب العلم فيها التعب والنصب والشقاء والعناء والتغرب عن الأهل والأوطان والسهر وغير ذلك من المشاق والمتاعب .
ثُمَّ الوصية الرابعة التي أُوصي بها : العمل بالعلم وإياك ثم إياك أن تستقلَّ من العلم شيئاُ فأي شيء من سُنَّة النبي صلى الله عليه وسلم تعمل به .
ويكون المجلس طيلة المجلس على البول قائماً وقاعداً فتقول: ظفرتُ بهذه السُّنَّة !! وكان الرجل من الصحابة يسافر ويتغرَّب من أجل حديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وخُذْها سُنَّة ، وإيَّاك أن تحتقر ، فإن أناساً فاتهم العلم بسبب الاحتقار ، ويقول : أُضيع الساعات من أجل حكم البول قائماً أو قاعداً ..؟؟
تقول لا العلم تعطيه من الإجلال والهيبة والإكرام ولو كانت كلمةً واحدةً ، ولو كانت حكمةً واحدةً ، فلعلَّ الله صلى الله عليه وسلم أن يوفقك بهذه الحكمة لخير لم يخطر لك على بال .
وكم من مسائل أخذناها من العلماء ماكُنَّا نظن أنها تبلغ ذلك المبلغ جعل الله فيها من الخير ما لم يخطر لنا على بال فلا تستقلّ من العلم شيئاً ، فلرُبَّما هذه السُّنَّة في البول قائماً أو قاعداً تفصل فيها بين اثنين ، ولرُبما تُصلح فيها بين مُتخاصمين ، ولرُبَّما تُذكِّر بها أمة فتعمل بهذه السُّنَّة تكون في ميزان حسناتك .
فإياك أن تستقلّ من العلم شيئاً تتفانى في حب هذا العلم ، والبحث عنه والبحث عن كل صغيرة وكبيرة ، وتُجلُّ كل ما يكون منه-أسال الله العظيم ربَّ العرش الكريم أن يجعلنا هُدّاةً مُهتدين ، غيرَ ضالين ولا مُضلين ، وأن يُنزِل الخير فيما وهبنا من العلم ، وأن يجعله حُجَّةً لنا لا حُجَّةً علينا-.
وآخِرُ دعوانا أن الحمد لله رب العالمين وصلى الله وسلم وبارك على عبده ونبيه محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين(11/27)
بسم الله الرحمن الرحيم
قال المصنف رحمه الله : بَاب مَا جَاءَ فِي الاِسْتِتَارِ عِنْدَ الْحَاجَةِ
حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ حَدَّثَنَا عَبْدُ السَّلاَمِ بْنُ حَرْبٍ الْمُلاَئِيُّ عَنِ الأَعْمَشِ عَنْ أَنَسٍ قَالَ :" كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم إِذَا أَرَادَ الْحَاجَةَ لَمْ يَرْفَعْ ثَوْبَهُ حَتَّى يَدْنُوَ مِنَ الأَرْضِ " .
الشرح :
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين أما بعد :
فيقول المصنف رحمه الله " باب الاستتار عند قضاء الحاجة ": تقول العرب استتر الرجل إذا جعل له ستاراً يقيه نظر الناس وأذيتهم ، ومنه سميت السترة سترةً ؛ لأنها تستر الإنسان إذا جعلها بينه وبين الناس ، ومراده رحمه الله أن يبين أن هدي النبي صلى الله عليه وسلم أنه يحافظ على عورته إذا ذهب لقضاء حاجته ، وهذا هو الأصل في المسلم أن يحفظ عورته من نظر الناس إليها ، وعورة الإنسان أمانة في عنقه لا يجوز له أن يتساهل فيسهل للناس الوصول إلى النظر إليها ومسها بدون حق ، ولذلك وردت النصوص عن النبي صلى الله عليه وسلم تدل دلالةً واضحةً على أن المنبغي على المسلم أن يحفظ عورته ، وهذا الحديث الذي ذكره المصنف رحمه الله حديث مرسل ، وكذلك حديث عبدالله بن عمر رضي الله عن الجميع كلا الحديثين يعتبر حديثاً مرسلاً كما سينبه عليه المصنف رحمه الله .(12/1)
وقوله "باب الاستتار عند قضاء الحاجة": أي في هذا الموضع سأذكر لك ماورد عن النبي صلى الله عليه وسلم من الأحاديث التي تدل على أنه ينبغي لمن أراد أن يقضي حاجته أن يكون في موضع أو مكان لايتمكن الناس من النظر إلى عورته فيه ، ولذلك أجمع العلماء رحمهم الله على حرمة التساهل في كشف العورات ، وإبداء السوءات من الرجال والنساء ولكن الأمرمن النساء أشد وأعظم ، والإنسان الذي يتساهل في كشف عورته فإنه يدل بهذا الفعل على أمرين :
أما الأمر الأول : فقلة خوفه من الله سبحانه وتعالى وأنه لاتقوى عنده تردعه عن هذا الفعل المحرم ، فمن تساهل في عورته ، وتساهل في كشفها أمام الناس ، وكذلك عند قضائه للحاجة لايستتر ، فإن مثل هذا قليل الورع ليس عنده من تقوى الله عز وجل والخوف منه مايردعه عن هذا الفعل المشين طبعاً وشرعاً .
وأما الأمر الثاني : فإن هذا الفعل يدل دلالةً واضحةً على قلة عقله ، فالإنسان الذي عنده عقل يعقله و يحجره عن هذا الفعل المشين فإن العقلاء والحكماء لا يرضون بالتساهل بالعورات ، و لا بكشف السوءات ؛ وإنما يعرف ذلك ممن نقص عقله و عرف بالمجون و الفسق - نسأل الله السلامة و العافية-.
فلما كان هذا الباب قدخصه المصنف رحمه الله بأحكام الطهارات ناسب أن يذكر الأحاديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم والتى تدل على ما ينبغي على المسلم إذا قعد لحاجته من حفظ عورته ، و صيانتها عن نظر الناس .
وقال بعض العلماء : يستوي أن يكشف الإنسان عورته و يقصد نظر الناس إليها ، أو يتعاطى الأسباب فيأتي في مكان مكشوف أمام الناس ، أو في مكان لايأمن من مرورالناس فيه ، فيكشف عورته فإنه إذا مر أحد مظنة أن يرى تلك العورة فحينئذٍ يكون في حكم من كشف عورته للناس ، ومن هذه الأفعال المحرمة ما صار يفعله بعض الناس من قضاء حوائجهم أماكن الوضوء ، وبعضهم يقوم بالاستنجاء مكان الوضوء ، فإن العادة قد جرت أن هناك موضعين :(12/2)
أحدهما: لقضاء الحاجة ، والثاني : للوضوء ، فبعض الناس يقضي حاجته في مكان قضاء الحاجة ، ثم يؤخر الاستنجاء إلى مكان الوضوء ، فيأتي إلى صناير المياه إلى جوار المتوضئين فيكشف عن عورته -والعياذ بالله- لكي يستنجي ، ولا شك أن في هذا من التساهل ما يعين على النظر إلى عورته وسوءته ، قال العلماء : من تساهل في النظر إلى عورته فقد ارتكب كبيرة من كبائر الذنوب ، وفي الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم من حديث عبد الله بن عباس -رضي الله عنهما-في قصة المقبورين اللذين مر عليهما النبي صلى الله عليه وسلم فنزل عليه الوحي أنهما يعذبان قال صلى الله عليه وسلم في أحدهما :(( أما أحدهما فكان لايستتر من بوله )) قال بعض العلماء : معنى هذه الرواية أنه كان يقضي حاجته ويبول في الأماكن التي يكشف الناس فيها عورته ، ويطلعون فيها على سوءته ، فلذلك استحق هذا الوعيد بعذاب القبر -نسأل الله السلامة والعافية- .
وقوله - رحمه الله-" باب الاستتار عند قضاء الحاجة" : إنما خص المصنف رحمه الله الاستتار عند قضاء الحاجة لأن كلامه هنا يختص بمسائل الطهارات ، وإلا فالواجب على المسلم أن يستتر عند إلقائه لثوبه وكشفه لعورته ، حتى ولوكان على غير الحاجة كما هو معلوم .
قال المصنف رحمه الله : حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ حَدَّثَنَا عَبْدُ السَّلاَمِ بْنُ حَرْبٍ الْمُلاَئِيُّ عَنِ الأَعْمَشِ عَنْ أَنَسٍ قَالَ :" كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم إِذَا أَرَادَ الْحَاجَةَ لَمْ يَرْفَعْ ثَوْبَهُ حَتَّى يَدْنُوَ مِنَ الأَرْضِ " .
الشرح:(12/3)
هذا الحديث عن أنس بن مالك مرسل ، وذلك لأن الأعمش رحمه الله لم يسمع من أنس ابن مالك ، وهو سليمان ابن مهران الكاهلي مولاهم ، روايته عن أنس رضي الله عنه وأرضاه مرسلة كماذكرالمصنف رحمه الله ، والمرسل تعتبر روايته حجة عند بعض الفقهاء ، إذا صح سنده ، وإن كان الصحيح أن المراسيل يتوقف عن الحكم فيها حتى يصح ثبوتها عن النبي صلى الله عليه وسلم وفي هذا الحديث إشارة إلى أنه ينبغي للمسلم ألا يبادر برفع ثوبه إذا قضى حاجته إلا عند دنوه من الأرض ؛ والسبب في ذلك أن العرب في القديم وفي زمان النبي صلى الله عليه وسلم كان يكثر منهم قضاء الحاجة في الخلوات والفلوات ، وهذه الفلوات تحتاج إلى أن يتحفض الإنسان عند رفعه لثيابه ، فيكون عند قربه من الأرض ، وذلك أمكن لاستتار عورته ، وحفظها من أعين الناس ، ولذلك قالوا إن هذا الحديث وإن كان مرسلاً لكن متنه صحيح ، لأنه يدل دلالةً واضحةً على مشروعية التستر ، وهذا أمر انعقدت عليه نصوص الكتاب والسنة وإجماع الأمة على مشروعيته ، وأنه واجب على المسلم ، والقاعدة في الشرع :" أن ما لا يتم الواجب إلابه فهو واجب" ، فلما كان حفظ العورة في الفلوات والخلوات يتوقف على كون الإنسان يتحفظ من كشف ثوبه عند القيام ، فإنه إذا كشفه حال القيام أمكن للغير أن يرى شخصه ، ولكن إذا رفعه عند دنوه من الأرض كان ذلك أمكن في حفظ عورته وسوءته .
وقال بعض العلماء : العلة هنا أن النبي صلى الله عليه وسلم جمع بين أمرين :
الأمر الأول : -كونه عليه الصلاة والسلام - يحفظ عورته ، وذلك بعدم رفع ثوبه إلا عند الدنو من الأرض .(12/4)
وأما الأمر الثاني : فإنه إذا دنا من الأرض قرب ثوبه من الأرض ، فيكون رفعه لثوبه من باب حفظه من النجاسات والقاذورات التي تكون في مواضع قضاء الحاجة ، ولاشك أن كلا المعنيين له وجه ، ولكن المعنى الأول أظهر ، ولذلك ترجم المصنف رحمه الله لهذين الحديثين بهذه الترجمة التي تدل على ترجيحه للمعنى الأول .
قال المصنف رحمه الله : هَكَذَا رَوَى مُحَمَّدُ بْنُ رَبِيعَةَ عَنِ الأَعْمَشِ عَنْ أَنَسٍ هَذَا الْحَدِيثَ وَرَوَى وَكِيعٌ وَأَبُو يَحْيَى الْحِمَّانِيُّ عَنِ الأَعْمَشِ قَالَ : قَالَ ابْنُ عُمَرَ :" كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم إِذَا أَرَادَ الْحَاجَةَ لَمْ يَرْفَعْ ثَوْبَهُ حَتَّى يَدْنُوَ مِنَ الأَرْضِ "وَكِلاَ الْحَدِيثَيْنِ مُرْسَلٌ وَيُقَالُ لَمْ يَسْمَعِ الأَعْمَشُ مِنْ أَنَسٍ وَلاَ مِنْ أَحَدٍ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَقَدْ نَظَرَ إِلَى أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ رَأَيْتُهُ يُصَلِّي فَذَكَرَ عَنْهُ حِكَايَةً فِي الصَّلاَةِ وَالأَعْمَشُ اسْمُهُ سُلَيْمَانُ بْنُ مِهْرَانَ أَبُو مُحَمَّدٍ الْكَاهِلِيُّ وَهُوَ مَوْلًى لَهُمْ قَالَ الأَعْمَشُ كَانَ أَبِي حَمِيلاً فَوَرَّثَهُ مَسْرُوقٌ .
الشرح:
قوله رحمه الله "كلا الحديثين مرسل ": الحديث المرسل هو الذي سقط منه الصحابي ، سواءً كان ذلك عن طريق الرواية بأن يروي التابعي عن النبي صلى الله عليه وسلم مباشرة ، كأن يقول سعيد بن المسيب رحمه الله قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ، أو يروي التابعي عن صحابي لم يسمع منه ، فإنها رواية تعتبر مرسلة كما أشار المصنف رحمه الله ، والمرسل هو الذي سقط منه الصحابي ، والإرسال ضد التقييد ، قال الناظم :
وَمُرْسَلٌ مِنْهُ الصَّحَابِيُّ سَقَط وَقُلْ غَرِيْبٌ مَا رَوَى رَاوٍ فَقَط(12/5)
وقوله "كان أبي حميلاً فورَّثه مسروق من أمه ":هذه مسألة خلافية معروفة عند العلماء ، حاصلها أن أولاد الكفار إذا كانوا في بلاد الكفر فإنهم يحكم بكونهم كفاراً من باب التقدير لا من باب الحقيقة ، وكذلك أولاد المسلمين في ديار المسلمين يحكم بكونهم مسلمين ولكنهم في الحقيقة لم يشهدوا ، لأنهم لم يبلغوا سن التكليف .
ولذلك ينقسم الأولاد إلى قسمين :
القسم الأول : محكوم بإسلامهم وهم أولاد المسلمين .
والقسم الثاني : محكوم بكفرهم وهم أولاد الكفار .
وهذا الحكم في أولاد المسلمين والكافرين مفرعٌ على القاعدة المعروفة التي أشار إليها الإمام العز بن عبد السلام رحمه الله في كتابه النفيس " قواعد الأحكام ومصالح الأنام" حيث قال : إن التقدير يكون على أوجه : منها تقدير المعدوم موجوداً ، فتقدير المعدوم موجوداً من أمثلته الحكم بكون أولاد المسلمين في حكم المسلمين ، ولذلك لهم ما للمسلمين وعليهم ما على المسلمين ، ومن وجد لقيطاً في بلاد المسلمين حكم بكونه من أولاد المسلمين ، عملاً على ظاهر الدار .
أما بالنسبة لأولاد الكفار: فإنه يحكم بتبعيتهم لديارهم .
فالإشكال هنا: لو أن المسلمين حاربوا الكفار ثم غنموا النساء والذريات ونحوها ، فجاءت المرأة ومعها أولادها ، أو جاء الرجل ومعه أولاده ، فإذا أسلم الأب وبقي الأولاد صغاراً..؟؟(12/6)
فإن الأصل في الأولاد أنه محكوم بكونهم في حكم الكفار ، فلو مات هذا الوالد المسلم فإن قضاء عمر بن الخطاب رضي الله عنه وجمهور الصحابة والتابعين والعلماء على أنه لايورث هذا الصبي من أبيه ، لأن الأصل فيه ما ذكرنا ، ولا يرث من حكم بكفره المسلم ، وكذلك العكس ، ثم حينئذٍ خالف مسروق بن الأجدع رحمه الله هذا القضاء من عمر ، فورَّث الولد من أمه ، مع أنه حميل والحميل محكوم بأصله من كونه على ديار الكفر حتى يبلغ فيكون مسلماً حقيقة أو كافراً على أصله ، وهذا الحكم لابد منه إعمالاً للأصول ، وهو مقرر في كتب العلماء رحمهم الله وقضى به الخليفة الراشد أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه وهو مفرع على السنة المشهورة:((كل مولود يولد على الفطرة فأبواه يهودانه أو يمجسانه أو ينصرانه)) قالوا : فهذا يدل على تبعيته للديار ، ولكن من العلماء من قال الأصل في أولاد الكفار أنه يحكم بإسلامهم ، والفرق بين القولين : أنه لو مات هذا الولد فإنه يعامل معاملة أولاد المسلمين إذا حكم بإسلام أولاد الكفار ، أو يعامل معاملة الكافرين إذا حكم بالعكس ، وهكذا بالنسبة لأحكام المواريث .
قال المصنف رحمه الله : بَاب مَا جَاءَ فِي كَرَاهَةِ الاِسْتِنْجَاءِ بِالْيَمِينِ
الشرح:
يقول المصنف رحمه الله "بَاب مَا جَاءَ فِي كَرَاهَةِ الاِسْتِنْجَاءِ بِالْيَمِينِ " : هذا الباب استفتح المصنف رحمه الله به أبواب الاستنجاء ، والاستنجاء من المباحث الفقهية التي تترتب عليها الأحكام الشرعية ، وقد اعتنى به العلماء من المحدثين والفقهاء فذكروا أبواب الاستنجاء مرتبة على حسب أحكامها المهمة ، وما من فقيهٍ ولا محدث إلا وقد اعتنى في كتابه بأحكام الاستنجاء ، والسبب في ذلك واضح لأن الصلاة لاتصح إلا بالطهارة من الخبث ، والاستنجاء وسيلة لتطهر المكلف من الخبث ، وهو باب من الأهمية بمكان .(12/7)
وقوله رحمه الله " الاستنجاء ": مأخوذ من النجو ، والاستنجاء قيل إنه قطع الخارج من السبيلين بالماء أو الحجر ومافي حكمهما ، وقولهم رحمهم الله قطع الخارج من السبيلين : أي إزالة الخارج من السبيلين ،سواءً كان الخارج من البول ، أو من الغائط ، أو كان من الودي ، أو المذي ، أو كان دم حيض ، أو دم استحاضة أو دم نفاس ، فكل هذه الخوارج لابد للمكلف من أن يستنجي أويستجمر منها ، ولذلك أوجب الشرع هذه الطهارة ، لأنه لاتصح الصلاة إلا بها .
والاستنجاء يشمل الاستجمار ، ولذلك يعتبره العلماء أعم من كونه بالماء ، وبعض العلماء يخصه بطهارة الماء .
وقوله " الاستنجاء ": الاستنجاء كما ذكرنا قطع الخارج من السبيلين أو أحدهما ، والخارج من غير السبيلين لايوصف قطعه أو إزالته بكونه إستنجاءً ، فلو أن إنساناً رعف أنفه ثم غسل الدم الذي خرج من الأنف ، فإنه لايقال استنجى ، وكذلك إذا غسل القيء إذا قاء وغسل القيء ، فإنه لايقال استنجى ، وإنما يختص الاستنجاء بالخارج من السبيلين ، وما في حكم السبيلين ، كأن يُفتح للإنسان فتحةً تحت السرة ، لخروج الخارج من البول والغائط .
وقوله رحمه الله :" باب ماجاء في كراهيه الاستنجاء": المكروه ضد المحبوب ، والمكروه هو الذي يثاب تاركه ولايعاقب فاعله ، والمكروه أخف درجة من الحرام ، ويرد فيه النهي في كتاب الله عز وجل أو سنة النبي صلى الله عليه وسلم ولايكون النهي على ظاهره المقتضي للتحريم ، وإنما يراد به الكراهة .
ولذلك قسم العلماء الكراهة إلى قسمين :
القسم الأول : الكراهة التحريمية .والقسم الثاني : الكراهة التنزيهية .
فأما الكراهة التحريمية فإن من فعلها يأثم ، والكراهة التنزيهية من تركها يثاب ومن فعلها لا يأثم .(12/8)
وقوله :" الاستنجاء باليمين": أي كون الإنسان يستنجي من الغائط أو البول باليمين ، سواءً كان ذلك بإمساك الذكر ، أوكان بوضع اليد اليمين على الدبر وصب الماء لإنقاء الخارج ، كأن المصنف رحمه الله يقول سأذكر لك في هذا الموضع الأحاديث التي وردت عن النبي صلى الله عليه وسلم والتي تدل على كراهة استنجاء الإنسان بيده اليمين ، واليمين : قال بعض العلماء : مأخوذة من اليُمن لأنه بركة وخير ، وهذا من باب التفاؤل ؛ لأن الله شرفها وكرمها وفضلهاعلى الشمال ، ولذلك قال سبحانه وتعالى :{عَنِ اليَمِيْنِ وَالشَّمَائِلِ سُجَّدَاً لله} فأفرد اليمين وجمع الشمال ، والعرب تفرد العزيز وتجمع مادون ذلك ، ومن هنا قوله-- سبحانه وتعالى - -:{ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَاْلأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ} ، فجمع الظلمات وأفرد النور ، للإشارة إلى فضل النور ، وكذلك هنا قال اليمين والشمائل ، فأفرد اليمين وجمع الشمال لفضل اليمين وتشريفها ، وجعل أصحاب الجنة أصحاب اليمين ، وأصحاب النار أصحاب الشمال ، وجعل السعداء يأخذون كتبهم بأيمانهم ، والأشقياء يأخذون كتبهم بشمالهم ، كل ذلك للإشارة إلى فضلها ، ولذلك كان النبي صلى الله عليه وسلم يعجبه التيمن في كل شيء في طهوره وتنعله وترجله ، وفي شأنه كله – صلوات الله وسلامه عليه-.
وقوله" باب ماجاء من كراهية الاستنجاء في اليمين": ترجم المصنف بالكراهية ، ويحتمل أن يكون مراده كراهة التحريم ، إعمالاً لظاهر النص الذي ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم بالنهي ، ويحتمل أن يكون مراده أنها كراهةٌ تنزيهيةٌ كما يقول جمهور العلماء ، والفرق بين القولين أننا إذا قلنا يكره الاستنجاء باليمين كراهة التحريم فإن من فعل ذلك يأثم ، وإن قلنا إنها كراهة تنزيهية لايحكم بإثمه .(12/9)
قال المصنف رحمه الله :حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي عُمَرَ الْمَكِّيُّ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ عَنْ مَعْمَرٍ عَنْ يَحْيَى بْنِ أَبِي كَثِيرٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي قَتَادَةَ عَنْ أَبِيهِ :" أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم نَهَى أَنْ يَمَسَّ الرَّجُلُ ذَكَرَهُ بِيَمِينِهِ " .
الشرح:
هذا الحديث يرويه المصنف رحمه الله عن أبي قتادة الحارث بن ربعي الأنصاري صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم وفارسه، وأصل هذا الحديث في الصحيحين ، وقد وردت فيه جمل :
أولها قوله- عليه الصلاة والسلام -:(( لايمسكن أحدكم ذكره بيمينه ، ولا يتمسح من الخلاء بيمينه ، ولا يتنفس في الإناء)) : فهذه ثلاث منهيات اشتمل عليها هذا الحديث الشريف .
فأما قوله عليه الصلاة والسلام :(( لايمسكن أحدكم ذكره بيمينه)) قوله :(( لايمسكن)) : أللاء ناهية ، والنون للتوكيد ، وأمسك بالشيء إذا أخذه بيده وقبض عليه ، ولذلك قوله- عليه الصلاة والسلام -:(( لايمسكن)) فيه عموم حيث يشمل من أمسك ذكره بواسطة أو أمسك ذكره مباشرة ، ومن هنا قال بعض العلماء : تحريم مسك الذكر باليمين يشمل حالتين :
الحالة الأولى : أن يكون بدون حائل . والحالة الثانية : أن يكون بالحائل كأن يمسكه من فوق ثوب ونحو ذلك بيمينه ، فكلتا الحالتين يعتبرها بعض العلماء رحمهم الله داخلة في هذا النهي بقوله : (( لايمسكن أحدكم ذكره بيمينه)) ، وظاهر قوله- عليه الصلاة والسلام -:(( لايمسكن)) التحريم ، وهو مذهب طائفة من السلف قال به بعض أصحاب الإمام مالك والإمام الشافعي وكذلك داود الظاهري ، وهو مذهب طائفة من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وقال به :جمع من أهل الحديث أن إمساك الذكر باليمين يعتبر محرماً .
وقال جمهور العلماء : إنه محمول على الكراهة لا على التحريم .(12/10)
والصحيح ما ذهب إليه أصحاب القول الأول أن إمساك الذكر باليمين محرم ؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال:(( لا يمس كن أحدكم ذكره بيمينه)) وهذه الصيغة من صيغ النهي ، ومن صيغ التحريم النهي ، فلذلك ورود قوله لا يمسكن يعتبر دليلاً على التحريم ، لاشتماله على النهي والأصل في النهي أنه للتحريم حتى يدل الدليل على الكراهة ولا دليل يظهر يدل على صرف هذا النهي عن ظاهره الموجِب للتحريم إلى الكراهة .
المسألة الثانية : قوله عليه الصلاة والسلام (( لا يمسكن ذكره)) : هذا لايختص بالذكر وإنما يشمل الدبر أيضاً ، فالحكم عام في القبل والدبر ، قال العلماء ويشير إلى ذلك قوله في الجملة الثانية :(( ولا يتمسح من الخلاء بيمينه)) ، فإذا كان التمسح بالخلاء باليمين محرم فمن باب أولى إذا أمسك حلقة الدبر بأصابعه اليمنى .
المسألة الثالثة : إن هذا النهي إذا قلنا إنه يدل على التحريم فإنه لا يختص بالإنسان نفسه ، بل يشمل ذكر الإنسان وذكر الغير ، ومن هنا إذا أراد الطبيب أن يعالج واحتاج إلى مس ذكر الغير فإنه لايمسه باليمين إلا عند الضرورة والحاجة ، وهكذا الحال في الأم إذا أرادت أن تغسل صبيها فإنه يحرم عليها مس العضو باليمين ، وهكذا الحال بالنسبة للدبر .
وقال الظاهرية رحمة الله عليهم :التحريم يختص بالإنسان نفسه ولا يشمله إذا مس ذكر غيره لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال :(( لا يمسكن ذكره بيمينه)) قالوا والإضافة تقتضي التخصيص ، والجواب عن قولهم هذا بأن قوله :(( لا يمسكن أحدكم ذكره بيمينه)) خرج مخرج الغالب ، والقاعدة في الأصول : " أن النص إذا خرج مخرج الغالب لم يعتبر مفهومه".
المسألة الرابعة : يستوي مس الذكر متصلاً ومنفصلاً ، ولذلك لو بتر حرم مسه باليمين كما حرم متصلاً ؛ وذلك لشرف اليمين لأن الحكم متعلق بشرف اليمين ، ولذلك لايمسك مفصولاً ولا متصلاً ، والحكم في ذلك كما ذكرنا على حد سواء .(12/11)
المسألة الخامسة : قال بعض العلماء : إن الحكم يختص بقضاء الحاجة ، فتحريم مس الذكر إنما هو حال قضاء الحاجة ؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال في حديث سلمان:(( لا يستنجي بيمينه)) وهذا القول الذي ذكروه محل نظر ، فإن الأصل في هذا المطلق أن يبقى على إطلاقه ، ولا يقوى التقييد بمثل هذه الصورة لأن العلة مطردة .
المسألة السادسة : النهي عن إمساك الذكر باليمين فيه إشارة إلى شرفها وفضلها ، ولذلك قال عثمان-- رضي الله عنه - وأرضاه-"ما كذبت ولا نصبت ولا مسست بيميني ذكري منذ أن بايعت بها رسول الله صلى الله عليه وسلم " ، وقال علي رضي الله عنه وأرضاه " يميني لوجهي وشمالي لحاجتي " أي : أجعل يميني لأمسح بها وجهي ونحو ذلك من الأعضاء الكريمة ، وأجعل شمالي لأمسح بها فضلتي وما يكون من الحاجة والقذر ، وتنخم الحسن عند معاوية-رضي الله الجميع- بيمينه ، فقال له معاوية : تنخم بشمالك ، وهذا يدل على أنه ينكر على من أهان اليمين ، ومن هنا فرع العلماء على أنه ينبغي تشريفها في الأحوال ، حتى قال بعض العلماء : إنه لايستاك باليمين ، ولكن أجيب بأن هناك فرقاً بين السواك وغيره ، ولمن قال بأن السواك باليمين ممتنع له وجه من ظاهر السنة ، وقد جاء عن أبي العالية التابعي المشهور أنه قال رحمه الله :"ما مسست ذكري بيميني منذ ستين أو سبعين سنة " ولذلك كان السلف يهابون ذلك ، حتى قال بعضهم :"ما مس رجل ذكره بيمينه إلا نقص من عقله على قدر مسه " ، وفي ذلك حديث ضعيف ذكره الحكيم الترمذي في نوادر الأصول أن مس الذكر في اليد اليمين يوجب نقصان العقل ، ولكنه حديث ضعيف ؛ لأن الحكيم الترمذي إذا انفرد برواية الحديث فإنه يعتبر ذلك بالاستقراء من الأدلة على ضعف الرواية ، وقد أشار بعض العلماء إلى ذلك بقوله رحمه الله :
وما نُمِي لِعَد وَعَق وَخَط وَكِر وَمُسْنَدُ الفِرْدَوْسِ ضَعْفُه شُهِر(12/12)
كََذَا نَوَادِرُ الأُصُوْلِ وَزِدِ التَّارِيْخَ لِلْحَاكِمِ وَلْتَجْتَهِدِ
فقوله : عد أي : ابن عدي في الكامل ، وقوله عق أي : العقيلي في الضعفاء ، وقوله خط أي : الخطيب البغدادي في تاريخ بغداد ، وقوله كر أي : ابن عساكر ، فإذا انفرد هؤلاء بالرواية فالغالب الحكم بالضعف ، وكذلك مسند الفردوس ، ثم قال ونوادر الأصول وزد : ونوادر الأصول هو الكتاب الذي ذكرناه للحكيم الترمذي ، فإنه ما انفرد بحديث إلا كان في الغالب ضعيفاً ، وقوله وزد التاريخ للحاكم ولتجتهد أي :ما رواه الحاكم في مستدركه في كتاب التاريخ ؛ وذلك أنه توفي قبل أن يبيض هذا الموضع من كتابه ، ولذلك كثرت الرواية الضعيفة في الثلث الأخير من المستدرك ، فالمقصود أن هذا الحديث ضعيف ، ومن هنا قال بعض العلماء رحمهم الله إنَّ مس الذكر باليمين إنما حرم لشرف اليمين .
وقوله عليه الصلاة والسلام في هذا الحديث: (( ولا يتمسح من الخلاء بيمينه )) : المراد بذلك أمران :
الأمر الأول : أن يمسك الحجر ، ثم يستنجي به باليمين .
والأمر الثاني : أن يتمسح بمعنى أن يضع أصابع اليمين على حلقة الدبر فيمسح ما ثَمَّ من النجاسة والقذر ، فأما وضع أصابع اليمين على حلقة الدبر فإنه محرم على الصحيح كما ذكرنا ، وهذا التمسح متفق على المنع منه.
وأما الحالة الثانية وهي أن يمسك الحجر ويتمسح به باليمين ففيها إشكال معروف فإن كانت في الدبر فلا إشكال لأنه في الدبر يمكنه أن يمسك الحجر باليسار ثم يتمسح من الخلاء بيساره .
وأما بالنسبة للقبل والذكر بالنسبة للرجل فإنه يحتاج إلى أن يمسك العضو باليسرى وأن يمسك الحجر باليمنى .
فحينئذٍ يقع الإشكال: كيف يمكن للمكلف أن يمتثل هذا النهي مع أنه لا يمكنه أن يمسك الحجر إلا بالشمال؟؟
قال بعض العلماء : الحكم على الظاهر ويضع الحجر على الأرض ثم يتمسح عليه وهذا ضعيف ، وفيه من المشقة ما لا يخفى .(12/13)
والصحيح أنه يمسك الحجر باليمين ويمسك القضيب باليسار ثم يثبت اليمين ولا يحركها ؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال:((لايتمسح)) وهذا يدل على الحركة ، وبناءً على ذلك فإنه يثبت اليمين ثم يحرك العضو باليسار ، ومن هنا يخرج من الاشكال .
وعلى هذا فرّع بعض العلماء رحمهم الله مسألة السواك فقالوا إن السواك يكون باليسار لا باليمين ؛ والسبب في ذلك أنه إذا استاك باليمين كأنه يتمسح من القذر والأذى باليمين ، وقد منع النبي صلى الله عليه وسلم من استخدام اليمين في إزالة القذر والوسخ ، وقال بعض العلماء : يستاك باليمين ولا حرج ، والسبب في ذلك أنه لا يحسن السواك إلا باليمين ، وإذا ذهب يستاك بالشمال تضرر فإنه ربما أدمى لثته وجرح فمه ؛ ولذلك قالوا يستاك بيمينه لابشماله ، ولأنه إذا استاك باليمين فإنه يستطيع أن ينقي على أتم الوجوه وأكملها ، وكلا القولين له وجهه ومن استاك بالشمال يتأول السنة فلا حرج ، ومن استاك باليمين يتأول السنة فلا حرج ، هذه الأحكام والمسائل كلها إنما تكون في حال الاختيار .
أما في حالة الاضطرار فلا حرج أن يمسك الإنسان الذكر باليمين ، كأن يكون إنساناً مقطوع الشمال، أو تكون يده الشمال مشلولة ، أو يكون بها مرض وعاهة ، فحينئذٍ لا حرج عليه أن يمسك بالشمال .(12/14)
وقوله عليه الصلاة والسلام :(( ولا يتنفس في الإناء)) : أي لايتنفس وهو ممسك للإناء يشرب منه وهذا على سبيل الصيانة والحفظ للمياه ، قال بعض العلماء : إنه إذا تنفس أثناء الشرب فإنه يتطاير القذر من أنفه إلى الماء والشراب فيفسده على نفسه ويفسده على غيره ، وقال بعض العلماء : إنه إذا تنفس والإناء في فمه فإن الماء يُضِر بجسده ، لأن الماء ينزل شديداً على المعدة بسبب عدم وجود النَّفَس والارتياح للجسد ، وكلا العلتين معتبر ، وذلك لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان من هديه إذا شرب أنه يبين الإناء عن فمه ويتنفس ، وربما كان شربه عليه الصلاة والسلام وتراً ، كل ذلك حفظاً للبدن ، ومن ثمَّ جاء الحديث عنه بقوله:(( فإنه أهنأ وأمرأ)) أما كونه هنيئاً فلأن الإنسان إذا أطلق نفسه على الماء ولم يتنفس فإنه يشرب كثيراً ، وأما كونه أمرأ وذلك لأن المريء يسلم من العاهات والآفات عند اختلاط النفس والماء أثناء الشرب ، ولذلك إذا أبان الإناء عن فمه سلم من هذا الضرر والحمدلله على فضله العظيم ، وعلى هذا الخير الكريم من نبيه العظيمصلوات الله وسلامه عليه الذي جعله رحمة للعباد في دينهم ودنياهم .
- ونسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يرزقنا التمسك بالسنة والدوام عليها ، وأن يحينا عليها ويميتنا عليها ويحشرنا في زمرة أهلها ، إنه ولي ذلك والقادر عليه-.
- ? - ? - ? - ? - الأسئلة - ? - ? - ? - ? -
السؤال الأول :
هل يجوز لي أن أكشف عورتي أثناء خلوتي بنفسي.. ؟؟
الجواب:
بسم الله الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلىآله وصحبه ومن والاه أمابعد :
-فأشهد الله العظيم رب العرش الكريم على حبكم فيَّ ، وأسأل الله بأسمائه الحسنى وصفاته العلى أن يجمعنا بهذا الحب في دار كرامته - .(12/15)
أما ما سألت عنه أخي الكريم من كونك تكشف عورتك أثناء خلوتك فإن معك من ينبغي أن تستحي منه وهم الكرام الحافظون الذين يعلمون ما تفعلون فإن مع الإنسان ملكين شاهدين على ما يكون منه من خيرٍ وشرٍ ، ولذلك ينبغي للمسلم أن يستحي منهم وأن يكرمهم ، حتى ورد في بعض الأحبار وتكلم في سنده أنه إذا حضرت المنية للعبد الصالح قال له الملكان جزاك الله عنا خير الجزاء فكم من مجلس خير أشهدتنا ، وكم من ذكر أسمعتنا ، وإذا كان على سوء وشرٍ -والعياذ بالله- قالا لا جزاك الله عنا خيراً فكم من مجلس شرٍ أشهدتناه وكم من كلام سوءٍ أسمعتناه ، فلو لم يصح هذا الخبر فإن الإنسان إذا تأمله فإنه ينظر إلى أن معه الملكين وينبغي أن يستحي منهم ، إنَّ معكم من لا يفارقوكم فاستحيوهم وأكرموهم ، فعلى هذا قال العلماء : يتحفظ الإنسان من عورته ويحفظها ، وهناك أمر نبه عليه بعض العلماء وهو الاعتياد على الخير .(12/16)
يقول بعض أهل العلم : إن من تأمل سنة النبي صلى الله عليه وسلم يجدها في أمورٍ عادية ، وقد يجدها في أمورٍ جبلية قد ينظر إليها البعض فيظن أنها يسيرة ، وأنها لا يكون فيها ذلك المعنى الكثير ، ولكنه إذا نظر إلى المقصود من كونه يبقى على الدوام متابعاً للنبي صلى الله عليه وسلم علم أن من وراء ذلك قصداً عظيماً ، وعلى هذا فإن الذي يعتاد على كشف عورته خالياً لايأمن من التساهل أمام الناس ، والذي يتحفظ ويحفظ عورته حتى وهو خالٍ أدعى أن يحفظها وهو بين الناس ، فهذا شعور نفسي ينبغي للمسلم أن يحيه في نفسه ، ولذلك حرم الله على المسلم شهوة الطعام والشراب والفرج في رمضان فإن الذي يمتنع من أكل الطعام الحلال والشراب الحلال والشهوة الحلال ، وهو يراها أمام عينيه وقد أحلها الله له ، أمكن أن يدع الطعام والشراب والشهوة إذا كانت حراماً ، فهذا شعور نفسي ، فالإنسان إذا حافظ على عورته وهو خالٍ ، وحرص على أن لا تبدوَ منه العورة حتى وهو خال ،ٍ فإنه أدعى أن يحفظها حتى أمام الناس ، ولذلك قال بعض العلماء يحرم على الإنسان أن ينظر إلى عورته ، فمذهب طائفة من العلماء أنه لايجوز للإنسان أن ينظر إلى عورة نفسه ، وإنما يقتصر نظره على قدر الحاجة ، والله تعالى أعلم .
السؤال الثاني :
قلتم إن القول بتحريم مس الذكر مطلق في حالة البول أو غيرها وهناك حديث لطلق بن علي حين سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن مس الذكر:(( إنما هو بضعة منك)) فهل يحمل التحريم في حالة البول ، والإباحة في غيرها أرجو التوضيح..؟؟
الجواب :(12/17)
حديث طلق بن علي رضي الله عنه لمّا قدم على النبي صلى الله عليه وسلم وهو يبني مسجده في المدينة وسأله عن مس الذكر بالنسبة للوضوء فالسؤال مقيد وليس بمطلق ، ولذلك القاعدة عند العلماء : " أن السؤال معاد في الجواب" ، أي مس ذكرك وأنت متوضىءٌ كمسك لبضعة منك ، وليس المراد منه مطلق الحكم كما يظهر من السؤال ، ولذلك قوله:((بضعة منك)) المراد به في الحكم الذي سألت عنه ، ومن هنا خرج بعض العلماء منه القول أن مس الذكر لا ينقض الوضوء وإن كان الصحيح أنه ينقض الوضوء إذا كان مباشراً ، وحديث طلق بن علي إذا وقع بدون مباشرة كأن يمسه من فوق الثوب ؛ ولذلك قال :(( ما هو إلا بضعة منك)) أي : على هذا الوجه ، أو يحمل حديث طلق بن علي على أنه أول الاسلام ؛ لأن أحاديث النهي وردت عن صحابة أسلموا بعد بناء المسجد ، وحديث طلق بن علي وقع أثناء بناء المسجد لأنه قدم على النبي صلى الله عليه وسلم وهومن بني حنيفة قدم عليه وهو يبني المسجد ، فلمّا سأله آنذاك أفتاه بهذا الحكم ، ثم جاءت الرواية عن صحابة متأخري الإسلام ، والقاعدة عند العلماء رحمهم الله : " أن من دلائل النسخ أن يرد الحكم المنسوخ بصحابي متقدم ويرد في حديثه ما يدل على تقدمه" كمثل حديثنا من كونه ورد أثناء بناء المسجد ثم يرد الحديث الناسخ من صحابي متأخر الإسلام كأبي هريرة وبسرة بنت صفوان التي روت حديث نقض الوضوء بمس الذكر كل هذا يدل على أن الرخصة بمس الذكر سابقة ، وأن النقض بمسه لاحق .
فعلى هذا نقول يجاب من أحد وجهين :
الوجه الأول : أن يكون متقدماً والناسخ متأخر والحكم للمتأخر .(12/18)
والوجه الثاني : أن يقال إنه مس بحائل ، وعلى كلا الوجهين فإن طلق بن علي لم يقل يا رسول الله إني أمس ذكري بيميني فلو قال إني مسست ذكري بيميني وقال له وهل هو إلا بضعة منك لصح الاستدلال ؛ ولكن قال سأله عن مس الذكر مطلقاً ، وهذا لا يقتضي أنه مسه باليمين بل لو قال قائل إن المعروف من الصحابة من هدي النبي صلى الله عليه وسلم بتعليمهم أنهم لا يمسون الذكر باليمين لقوي أن يكون حديث طلق لمسٍ بالشمال ؛ لأن سلمان يقول :" علمنا كل شيء حتى الخراءة " وقال:"ونهانا أن يستنجي أحدنا بيمينه" ، فكأنه فهم منه أنهم لا يمسون المواضع باليمين ، وإذا كان الأمر كذلك فيكون سؤاله على المعروف والمألوف من كونهم يمسون باليسار ، وعلى كل حال فالحديث ليس بقوي في الدلالة على الكراهة ولاعلى الدلالة على جواز مس الذكر مطلقاً باليمين ،والله تعالىأعلم .
السؤال الثالث :
ما هي حدود العورة بين الزوجين ؟ وهل يصح حديث:(( لا عورة بين زوجين)) ؟ وهل الفخذ من العورة..؟؟
الجواب :(12/19)
أما بالنسبة للزوجين فلا حرج أن ينظر كل واحد منهما إلى عورة الآخر ، وذلك لأن المقصود العفة عن الحرام ، فإن الزوج إذا نظر إلى زوجته انطفأت شهوته وخفت عن الحرام نزوته ، وحينئذٍ قال العلماء لا يحد ذلك بحد ، ومن هنا كان النبي صلى الله عليه وسلم يغتسل مع نسائه ، فدل على أن شأن العورة مع الزوجين مخفف ، وأن لكلا الزوجين أن ينظر إلى عورة الآخر ؛ لأن ذلك يكسر شهوته ، ويصرفه إلى الحلال ، ويغنيه بالحلال عن الحرام ، ويصرفه بالمأذون به عما حرم الله ونهى ، ولذلك يقول العلماء لا ينضبط بين الزوجين الأمر واسع ، وأما حديث عائشة أنها ما نظرت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا نظر منها فهو حديث ضعيف والصحيح أنه لاحرج أن ينظر الزوج إلى عورة زوجته، وأن ذلك ممايقصد منه إطفاء الشهوة والنزوة إلى الحرام ، وعلى كل حال فإن الله- تعالى- يقول :{ هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَهُنَّ } فجعل كلاً منهما كلباسه للآخر ، وحينئذٍ لا حرج في نظر كل منهما إلى عورة الآخر واستمتاعه حتى يدل الدليل على التحريم ، وأجاز العلماء رحمهم الله صور الاستمتاع على اختلا ف أوجهها ما عدا أن يكون بالوطء في الدبر فهذا مما حرم الله ، حتى قال بعض العلماء إنه لاحرج أن يستمني بيد المرأة ، لأن ذلك ليس من الاعتداء ؛ لأنها زوجته ، والله-تعالى-وصف الاعتداء بما وراء الزوجة ، وإنما يحظر إذا كان منه من نفسه ، وعلى كل حال فإن شأن الزوجين قصد الشرع منه أن يحفظ المكلف نفسه عن الحرام ، والناس في الشهوات مختلفون ، فمنهم من جعل الله شهوته في النظر أشد من شهوته في الفعل ، ومنهم من جعل الله شهوته في الفعل أشد من النظر ، ولذلك لم يقيد الشرع هذه الشهوة بقيدٍ إلا ما ورد من المستثنيات المحرمة ، وبقي ما عداها على الأصل المباح حتى قال بعض العلماء في قوله- عليه الصلاة والسلام -يوم الجمعة:(( من غسل واغتسل)) قالوا غسل أي : وطئ زوجته(12/20)
قبل أن يذهب للجمعة حتى تنكسر نفسه عن الحرام ، فكأن مقصود الشرع أن يكسر المكلف نفسه عن الحرام ، ولذلك أحل الله نكاح كل منهما للآخر حتى يكون أدعى للحفظ عما حرم الله عز وجل .
وأما الفخذ ففيها قولان مشهوران : منهم من يرى كونها عورة ، ومنهم من يرى كونها ليست بعورة ، ومن قال إنه عورة استدل بنهيه عليه الصلاة والسلام في قوله:((غط فخذك)) فإن هذا أمر وهو يدل على وجوب الستر للفخذ .
ومنهم من يقول إنه ليس بعورة ؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم :(( قاتل يوم خيبر حتى انحسر إزاره عن فخذه)) ، ولأنه كان جالساً مع أبي بكر وعمر وهو كاشف عن فخذيه حتى دخل عثمان وقال:(( ألا أستحي من رجل تستحي منه الملائكة)) ولكن أجيب عن الحديثين : فقيل إن الحديث الأول من كونه قاتل حتى انحسر الإزار عن فخذه إن ذلك لمكان الاشتغال بالقتال ، وأمن النظر ؛ لأن الناس مشغولون بما هو أعظم ، ولذلك كان النساء يشهدن الغزوات ويسقين الجرحى لأنهن مشغولون عما هو أعظم ، وإلا الأصل ألا يختلط النساء بالرجال ، فخُفف في هذه المواضع لاشتغال النفوس بما هو أعظم ، فهكذا بالنسبة لما وقع منه عليه الصلاة والسلام .
أما الأمر الثاني من كونه مع أبي بكر وعمر فقالوا إنه كان آمناً للنظر من أبي بكر وعمر ؛ ولذلك كشف ، فلما دخل عثمان ليس المراد أنه لايأمن النظر من عثمان لا ، إنما المراد أراد أن يدل على فضل عثمان ، وعلو شرفه وقدره رضي الله عنه بهذه المنقبة التي قال فيها- عليه الصلاة والسلام -:(( ألا أستحي من رجل تستحي منه الملائكة)) ، ولكن كلا الجوابين لم يخل من نظر ؛ ولذلك قال بعض العلماء : إن حديث عثمان أقوى الأدلة على أنه من باب الكمال لامن باب الوجوب لقوله ألا أستحي.(12/21)
واستدل اللذين قالوا إن الفخذ عورة : بقوله عليه الصلاة والسلام :(( ما بين السرة إلى الركبة عورة في الصلاة )) هناك حديث مطلق ما بين السرة و الركبة عورة مطلق ، وهو متكلم في سنده ، ولكن حديث القيد في الصلاة أقوى وأثبت سنداً ، والله تعالى أعلم .
السؤال الرابع :
إذا علمنا أن المرسل هو الذي سقط منه الصحابي فهذا دليل على صحة الحديث المرسل ؛ لأن الصحابة كلهم ثقات ، فكيف الجمع ..؟؟
الجواب:
هو الإشكال أن التابعي ربما روى عن تابعي متكلم فيه ، ومن هنا في سقوطها قد تكون رواية التابعي بواسطة ولكن الصحابة مع بعضهم كرواية الأصاغر عن الأكابر ، وحذف الأصاغر لرواية الأكابر فهذا هو الذي ذكر العلماء فيه اغتفار الصحابة ؛ لأن الصحابة عدول ، وروايتهم مقبولة ، وأما بالنسبة للتابعي فإنه لا يأمن أن يروي عن تابعي ولذلك قال علي رضي الله عنه كما ذكرذلك الإمام مسلم في مقدمة الصحيح -قال كنت أروي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فلما ركب الناس الصعب والذلول ، لاأروي إلا عن فلان وفلان وخص أقواماً بالرواية ، إذا كان هذا في زمان علي بسبب وجود كبار التابعين ، ولذلك عصر كبار الصحابة-رضوان الله عليهم- لم يخل من وجود كبار التابعين ، كمن عاصرعهد الخلفاء الراشدين ومن بعدهم ، فمن هنا رواية التابعين تحتاج إلى نظر ، وأما بالنسبة للصحابة فإنهم عدول ، وسقوط الصحابي إذا كانت الرواية متصلة عن صحابي فلا إشكال ، ولكن الإشكال أن التابعي إذا روى عن النبي صلى الله عليه وسلم مباشرة احتمل أن تكون هناك واسطة بينه وبين الصحابي الذي روى عن النبي صلى الله عليه وسلم ولأجل هذا لم يأمن العلماء وقالوا إنه لاتقبل هذه المراسيل ، إلا أن بعض السلف رحمهم الله استثنى بعض المراسيل ، كمراسيل سعيد بن المسيب رحمهم الله ونحوه من أفاضل الصحابة ، قالوا هذه من المستثنيات ، كاالإمام الشافعي ، يستثني مراسيل سعيد بن المسيب ونحوها(12/22)
ويقول إن هذه المراسيل ، الأشبه بها الصحة ، خاصة وأنه قد شهدت الأصول باعتبارها ، والله تعالى أعلم .
السؤال الخامس :
هذه سائلة تقول إنها كانت حاملاً ، فلما بلغت نصف أشهر الحمل اشتد عليها الحمل فربطت بحزام على بطنها ظناً منها أن ذلك يخفف عنها ، فلما أتى وقت الوضع وضعته ميتاً ، فهل عليها شيء ..؟؟
الجواب :
الأصل براءة الذمة حتى يدل الدليل على شغلها ، فالأصل أنكِ بريئة من القتل حتى يثبت طبياً أن وضع الأحزمة يضر بالجنين أو يتسبب في القتل على الوجه الذي حصل لهذا الجنين ، فإذا ثبت ذلك فحينئذٍ يلزمك ما يلزم من قتل الأجنة ، وأما إذا كان الأمر كما ذكرت بدون وجود شهادة من طبيب أو من يوثق بقوله وتجربته فحينئذ لا يحكم بشغل ذمتك والحكم بكونك قاتلة لهذا الجنين ، والله تعالى أعلم .
السؤال السادس:
إني أعاني من خروج المني أثناء خروج الغائط -أكرمكم الله-فهل عليّ في ذلك شيء ؟ وإذا كان أثناء الصيام -ويعلم الله - أني أتحاشى ذلك في وقت الصيام ، أي: الذهاب إلى الدورة إلا أحياناً أكون متضايقاً في هذا الأمر ، وقد تكرر هذا الأمر عليّ عدة مرات في وقت الصيام فما الحكم في مثل هذا الأمر وهل عليّ شيء في ذلك؟ أم يكفي غُسل الجنابة؟ ومن زمن قمت بتحليل للبول فوجدت في التحليل السائل المنوي.. ؟؟
الجواب :(12/23)
هذا الخروج على هذا الوجه خروج مرض ، وقد ذكر العلماء رحمهم الله أن خروج المني الذي تترتب عليه الأحكام الشرعية يشترط فيه أن يكون على وجه الصحة لا على وجه المرض ، فإذا كان الإنسان مبتلىً بمرض الغدة التي تتحكم في البول والسائل المنوي ويحصل فيها في بعض الأحيان خروج للسائل المنوي أو عدم تحكم في خروج السائل المنوي ، أو كان به مرض يوجب اختلاط بوله بالسائل المنوي فإن العلماء رحمهم الله يقولون لا يجب عليه غُسل ، وإنما يأخذ حكم من بال ، يغسل ذكره ولا يجب عليه أن يغتسل ، إلا أنه إنما يجب عليه الغسل إذا خرج منه المني بالصورة المعتادة ، وهذا هو الصحيح ، ولذلك وصف الله المني بالصفة المعتبرة فقال- سبحانه-:{خُلِقَ مِنْ مَاءٍ دَافِقٍ - يَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ الصُّلْبِ وَ التَّرَائِبِ } وقال-عليه الصلاة و السلام- كما في الحديث الصحيح عنه :(( إذا فضخت الماء فاغتسل)) فقوله: {خُلِقَ مِنْ مَاءٍ دَافِقٍ}، و قوله:(( إذا فضخت الماء)) يدل على أن المني لا يكون تبعاً فإذا خرج المني مع البول كالقطرات أو يكون تبعاً قطرات أو يكون مصاحباً للبول ممتزجاً به فهذا ليس من خروج المني الذي تترتب عليه الأحكام ، ومن هنا لايؤثر في صيام و لايؤثر في طهارة ويبقى الحكم بكونك طاهر اً على الأصل ، والله تعالى أعلم .
السؤال السابع:
هل تندرج صيام الست من شوال ضمن الأيام البيض والثلاث من كل شهر والإثنين والخميس كذلك..؟؟
الجواب:
اندراج صيام الست مع الإثنين والخميس ممكن ، فينوي صيام الست ويصوم الإثنين والخميس من كل أسبوع حتى إذا تمت له ثلاثة أسابيع فإنه يمكن ، والسبب في ذلك أن مقصود الشرع في يوم الإثنين والخميس أن يُعرض عمل العبد وهو صائم لقوله عليه الصلاة والسلام :(( فأحب أن يُعرض عملي وأنا صائم)) فمن صام الست بهذه النية فإنه يندرج صيام الإثنين و الخميس تحتها .(12/24)
وأما بالنسبة للأيام البيض فإنه هناك وجه أن تندرج إذا قيل بأنها تابعة للصحة لأن الدم يفور ، وإذا قيل إنها لعدة الأشهر وهو له وجهه من حديث أبي هريرة رضي الله عنه " أوصاني خليلي رسول الله صلى الله عليه وسلم وفيها أن أصوم ثلاثة أيام من كل شهر" فحينئذٍ لا يقوى الاندراج لأنها ثلاثة مقصودة بأعيانها فينبغي أن يخصها بصيامها ، وتكون الست لصيام رمضان تابعة ، فتفترق الست عن صيام الثلاثة الأيام البيض ، وأما بالنسبة للأفضل والأكمل فلا شك أنه لو فصلها وجعل لكل واحدة صيامها فإن ذلك أكمل وأفضل ، وأعظم أجراً عند الله عز وجل ، والله تعالى أعلم .
السؤال الثامن :
هل يجوز الدخول على الصحب والأهل بملابس خفيفة وهي كما تسمى بالبجامة خاصة أنها تصف مناطق العورة .. ؟؟
الجواب:
بسم الله الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه أما بعد :(12/25)
فقد سئل الإمام أحمد رحمه الله عن كشف المرأة عن صدرها وساقيها لأخيها وقريبها من محارمها فقال رحمه الله " أخشى عليه الفتنة" فإذا كان هذا الإمام الجليل رحمه الله في ذلك العصر الذي عرف بالنزاهة والعفة والطهارةوالخير ، وشهد له النبي صلى الله عليه وسلم بما شهد له من خير وفضل ، مع هذا كله يقول أخشى عليه الفتنة ! فكيف بهذه الأزمنة المتأخرة؟ أما بالنسبة للملابس الشفافة والضيقة فهي على حالتين : فإن شفت العورة ، أو وصفت لون العورة فإنها محرمة بين المحارم وبين الأجانب ، وهذا النوع من اللباس يعتبر صاحبه عارياً ولو كان لابساً ؛ ولذلك قال صلى الله عليه وسلم في حديث مسلم :((صنفان من أهل النار لم أرهما : نساء كاسيات عاريات)) فقوله(( كاسيات عاريات)) قال العلماء : فيه دليل على أن الألبسة التي تشف العورة ويمكن معها أن يرى بياض العورة أوحمرتها أو نحو ذلك أنها محرمة ، فقد وصفهن بكونهن كاسيات ولكنهن في حكم الشرع عاريات ، وعلى هذا فما شف العورة قالواآخذ حكم ما كشفها ، بل قال بعض العلماء ماشف وحدد ووصف أبلغ فتنة مما كشف ، فكون الإنسان يلبس الشفاف فإنه أبلغ فتنة من الذي يكشف عورته ، ومن هنا قالوا خص النبي صلى الله عليه وسلم هذا الصنف من النساء فقال :(( نساءكاسيات عاريات)) فوصفهن بكونهن يكتسين ، وذكر الكسوة ولم يذكر العري الفاضح قالوا لأن الدعوة للشهوة والحرام بالملبوس الشفاف أبلغ من العاري ، وهذا صحيح فإنه إذا نُظر إلى المرأة وهي عارية فإنه ربما كانت الفتنة برؤيتها وهي تلبس الشفاف أبلغ من الفتنة من رؤيتها وهي عارية ، وإن كان الكل محظوراً ؛ وذلك لأن الشفاف يدعو إلى دقة النظر ، ويدعو إلى تحريه ، وأحب شيء إلى النفوس ما منعت منه ، فلذلك جبلت الطباع والنفوس على التحري والاستقراء في مثل هذا ، فالفتنة-والعياذ بالله-به أعظم ، وعلى المسلم أن يتقي الله في أقرب الناس إليه وهم أرحامه خاصةً(12/26)
إذا كان من الأخيار ، فإنه قدوة لغيره ، ثم إن الإنسان ينبغي عليه أن يعلم أن عليه مسؤلية أمام أبنائه وبناته وذرياته وأخواته ، فهل يحب أحداً أن يفيق على أبيه ويراه لابساً للشفاف في البيت ، فلو أن رجلاً رأى أباه على هذه الصفة لكان وقع تلك الرؤية في النفس عظيماً ، فينبغي على الإنسان أن يستشعر ما وراء هذا اللبس من الأذية للأبناء والبنات ، وتعويدهم على التساهل في العورات ، وإذا نظر الابن إلى أبيه بهذه الصفة فإنه لايأمن أن يفعلها مع الغريب الذي لايؤمن منه النظر ، ولو قال الإنسان هؤلاء أرحام ، وهؤلاء آمن منهم الفتنة فإنه قد ينظر إليه ولده ويقتدي به فيفعلها مع من لاتؤمن منه الفتنة ، وعلى العموم فتنة المحارم أشد من فتنة الأجانب والغرباء ، وعلى المسلم أن يتقي الله ، وأن يلبس لباس الحياء فذلك أدعى لكمال دينه وصيانته وحفظه وورعه ، فإن الله يرضى عن عبده الذي يستحي ، فمن كمال الإيمان ومن جماله وبهائه أن يستحي العبد ليكون عند الإنسان من الحياء والخجل ما يمنعه من هذه الأمور التي يتردى فيها وينزل فيها إلى الحظيظ ولو كان مباحاً ، ومن هنا قال صلى الله عليه وسلم :(( الحياء شعبة من الإيمان)) وقال صلى الله عليه وسلم :(( الحياء خير كله)) فمن كان عنده حياء ، وكان في وجهه ماء الحياء سارياً فإن الله يحفظه عن هذه الأمور التي تخل بمروءته ، وتغض من منزلته ، وتحط من قدره حتى بين أقاربه وأهله وخاصة إذا كان سيداً مطاعاً ، أو كان والداً ، أو كانت أماً يقتدى بها فإن الأمر فيها أعظم :
يعيش المرء ما استحيا بخير ويبقى العود ما بقي اللحاء
-نسأل الله العظيم أن يكرمنا بصالح الأمور ومعاليها ، وأن يعصمنا عن سفاسفها- ،والله تعالى أعلم.
السؤال التاسع :
هل المقصود بمس الذكر هو فقط رأس الذكر ؟ أم هو الذكر كاملاً؟ وهل هناك فرق بين باطن الكف وظاهره..؟؟
الجواب:(12/27)
الحكم عام ؛ ولذلك الدبر يمس برؤوس الأصابع ، وهو محرم ، وكذلك الحال بمس الذكر مسه برؤوس الأصابع أو القبض عليه بجميع الأصابع الحكم في ذلك على حد سواء لاينبغي للإنسان ولا يجوز .
أما بالنسبة للباطن والظاهر ، فالفرق في نقض الوضوء ، وقال بعض العلماء : إن نقض الوضوء يكون بالباطن لا بالظاهر ، فلو أن ظاهر الكف مر على العضو وتحكك بالعضو بدون قصد ونحو ذلك فإنه لاينتقض وضوؤه ؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال من مس والمس فيه أخذ وقبض وإمساك ، ولذلك قالوا الحكم في نقض الوضوء يحتاج إلى القبض ويحتاج إلى الإفضاء بباطن الكف لابظاهرها ، وأما بالنسبة لليمين فيستوي فيها الظاهر والباطن لمكان الحرمة ، فإن حرمة اليمين شاملة لظاهرها وباطنها، وعلى هذا لايختص الحكم بالباطن دون الظاهر، الله تعالى أعلم .
السؤال العاشر :
تزوجت ابنتي من شخص له أبناء ، فهل يكون أبناؤه محارم لي ..؟؟
الجواب :
أبناء الزوج ليسوا بمحارم لأم زوجتة ، وبناءً على ذلك تعتبر أم الزوجة محرماً للزوج نفسه ، لأن التحريم من جهة المصاهرة ، وتحريم المصاهرة تختص فيه أي التحريم أم الزوجة بالزوج نفسه ، وأما أولاد الزوج فإنهم يحرمون على الزوجة نفسها لاعلى أمها ، وعلى هذا يصح من الرجل أن يتزوج البنت ثم ولده يتزوج بأمها ، ولاحرج في ذلك ، وهي أجنبية عنه ، والله تعالى أعلم .
السؤال الحادي عشر :
تعلمنا النهي عن كشف العورات ، فهلا ذكرتم لنا النهي عن تتبع العورات.. ؟؟
الجواب :(12/28)
إن الله هذب المؤمنين وأدبهم وصانهم عن الحرمات والسيئات وسفاسف الأمور والمنكرات ، ومما أدّب الله به المؤمنين حفظ ألسنتهم عن تتبع عورات إخوانهم ، ويكون ذلك أشد مايكون بالغيبة والسب والشتم والاحتقار وذكر العيوب واللمز والهمز ، ولذلك وصف الله عز وجل من ابتلي بذلك بأنه حقير مهين ونهى رسول الأمة صلوات الله وسلامه عليه أن يطعه أو يستمع اليه فقال سبحانه وتعالى :{ وَلاتُطِعْ كُلَّ حَلاَّفٍ مَهِينٍ - هَمَّازٍ مَشَّاءٍ بِنَمِيْمٍ - مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ مُعْتَدٍ أَثَيْمٍ - عُتُلٍ بَعْدَ ذَلِكَ زَنَيْمٍ - أَنْ كَاْنَ ذَا مَالٍ وَبَنِيْنَ} فوصفه بكونه مشاءً بنميم وهذا يدل على أنه- والعياذ بالله-يمشي بعورات المسلمين ، وينم الحديث بينهم ، فيقول فلان قال فيك ، وفلان ذكر فيك ، فيذكر عورته عند أخيه ، ويذكر ماكان منه من الخطأ في حق أخيه ، فوصفه بكونه مهيناً-والعياذ بالله- حقيراً ، وقال سبحانه وتعالى :{ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا} وصف الذي ينقل الأخبار بأنه فاسق ، ولذلك كان السلف يحتقرون من ينقل الأخبار التي تتبع فيها عورات المسلمين ويقصد بها سوءاتهم ، حتى قال بعض السلف من اغتاب الناس عندك فأنه يغتابك عند الناس ، من يأتي اليك بعورات الناس وعيوبهم ، فاعلم أنه يذكر عورتك عند الناس ، وكما لم يتق الله عز وجل في إخوانك فأنه أحرى ألا يتق الله عز وجل فيك ، إن الله إذا رزق الإنسان تقواه في قلبه وخشيته في فؤاده وسلمت نفس الأنسان وطهر قلبه وزكى أظهر الله طهارته في لسانه ، ولذلك أشار النبي صلى الله عليه وسلم إلى هذا المعنى بقوله:(( المسلم من سلم المسلمون من يده ولسانه)) فإذا أردت أن ترى عيناك إنساناً يخاف الله ويتقيه فانظر إليه في اللسان وتتبع العورات ، فإن وجدته عفيفاً عن أعراض المسلمين ، عفيفا عن غيبتهم ، همزهم ، لمزهم ،(12/29)
شتمهم ، سبهم ، فاعلم أن وراء هذا اللسان قلباً يخاف الله-- جل جلاله -- ولما خاف الله في قلبه أظهر الله الخوف في لسانه ، ولما طهر قلبه بإخوانه المسلمين أظهر الله طهارة قلبه على لسانه ، وإذا رأيت ذلك الفاجر المتهتك الذي لايخاف الله عز وجل كلما جلس عندك يقول فلان فيه وفلان فيه ، فاعلم أن وراء هذا اللسان قلباً لا يخاف الله عز وجل فإنها آفات وهنات وزلات وويلات وعورات ، ومن تتبع عورة أخيه المسلم تتبع الله عورته ، ومن تتبع الله عورته فضحه ولو كان في عقر داره ، -والعياذ بالله-ولذلك يعتبر من دلائل الخوف من الله سبحانه وتعالى والخشيه من الله عز وجل عفة اللسان عن أعراض المسلمين ، لاخير في ذكر عيوبهم ، وأشد ماتكون العيوب إذا كانت للعلماء ، والأئمة ، والفضلاء ، والخطباء ، ونحوهم ممن لهم حق على المسلمين ، فهؤلاء ذكر عيوبهم إهانة للإسلام ، ذكر عيوب العلماء ، حتى أن بعض طلاب العلم ، ربما يقول الشيخ فلان يقول كذا والشيخ إذا جلس يجلس كذا ، وإذا تحدث يكون في حديثه كذا ، فيقع في همزه ، ولمزه ، واحتقاره من حيث لايشعر ، عليك أن تتقي الله ، وأن تحفظ خاصة لعلماء الامة ، وأهل الحق فيها قدرهم ، ولذلك إهانة العلماء وذكر عيوبهم ، وتتبع عوراتهم ، وزلاتهم ، سيهين الله اصحابه وقل أن تجد إنساناً يتتبع عورات العلماء إلا تتبع الله عورته ، وفضحه وأخزاه ، وأهانه ، إن عاجلاً أوآجلا ، ولايزال مثل هذا العمل يتتبع صاحبه ، حتى يكون بلائه عليه في الدنيا ، وإذا فاته في الدنيا، ربما أن الله يبتليه في سكرات الموت ، وربما أن الله يبتليه في قبره ، وربما يبتليه في آخرته ، وحشره ونشره ، فأما أن يعجل الله عقوبته في الدنيا فيهينه كما أهان العلماء ، والصلحاء ، والأتقياء ، والأخيار ، خاصة الشباب الصالحين بعضهم مع بعض ، فإن غيبة الصالحين ليست كغيبة عوام الناس ، فإذا رأيت طلاب العلم ، لاتقل طلاب فلان ،(12/30)
وطلاب الشيخ الفلاني ، بعض طلاب العلم يفعل كذا أويقول كذا على سبيل النقص والازدراء ، وهكذا التنقص للمحسنين والصالحين كأن يتنقص منهم بذكر ثيابهم أنها قصيرة ، أو لحاهم أنها طويلة ، أو أن ثيابهم مرقعة ، أو أنهم على حالة ضعيفة كل ذلك مما يغضب الله عز وجل وفي الحديث الصحيح عن أبي بكر رضي الله عنه أنه لما قال الصحابة - رضوان الله عليهم - في أبي سفيان "ما أخذت سيوف الله عز وجل من عدوالله" غضب أبوبكر وقال أتقولون هذا لشيخ من مشائخ قريش أتى إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال له يا أبا بكر هذا صديق الأمة الأكبر رضي الله عنه وأرضاه الذي ما بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم أفضل ولا أعلى شأناً منه رضي الله عنه يقول له النبي صلى الله عليه وسلم :((أغضبتهم إنك إن أغضبتهم أغضبت ربك)) إن أغضبت هؤلاء الذين تراهم مرقعي الثياب ، وتراهم بهذه الحالة الرثة بلال وصهيب وتراهم فقراء غرباء إن أغضبتهم أغضبت ربك ، فإذا كان هذا في صديق الأمة فكيف بمن سواه ، لاتذكر عورات المسلمين ، لاتقل فلان لجنسه ولا للونه ولا لفقره ولا لوظيفته ولا لمنزلته ، احتقر نفسك وامتهنها في ذات الله -- جل جلاله -- يرفع الله قدرك ، وإذا عشت بين الناس ترى نفسك وضيعاً رفعك الله-- جل جلاله -- قال بعض السلف ما دخلت مجلساً وأرى نفسي أعلى القوم إلا خرجت وقد وضعني الله أدناهم ، وما دخلت مجلساً وأرى نفسي أصغر القوم إلا خرجت وأنا أعلاهم ، فالذي يعتقد في نفسه أنه ناقص وأنه ضعيف وأنه حقير وأنه مهان إلا أن يكرمه الله ، وأنه ذليل إلا أن يعزه الله ، وأنه مهان إلا ان يرفع الله قدره ومكانه فإن الله يتولى أمره ، أما لإذا أخذ ينظر إلى حسبه ، إلى نسبه إلى لونه إلى وظيفته إلى جاهه إلى علمه فإن الله يهلكه ، فينبغي على الإنسان أن يتحفظ من عورات المسلمين ، ولا تظن أن فقر أخيك يبيح غيبته ، ولاتظن أن حسبه أو(12/31)
نسبه أن ذلك يبيح لك حقه الذي نهاك الله عز وجل عنه ؛ ولذلك لما خطب عليه الصلاة والسلام في حجة الوداع قال عليه الصلاة والسلام في خطبته المشهورة التي اشتملت على الوصايا العظيمة المأثورة :(( إن دماءكم وأموالكم وأعراضكم)) الأعراض أعراضكم عليكم حرام فكما أن الدم حرام كذلك العرض ، قرن النبي صلى الله عليه وسلم العرض بالدم ولذك كما أن الإنسان يؤذي المسلم بسفك دمه كذلك يؤذيه بغيبته ، ولمزه ، وهمزه ، إذا قيل له من فلان قالوا فلان كذا وكذا انتقصه وازدراه ، وإذا قيل فلان الغني أو الثري أو له المنصب أو الذي له الحسب أو له النسب رفع قدره ، وأخذ يعظم شأنه ويجله ويكرمه ، بل إن ذلك يقع حتى بين الأخيار وللأسف ، وقد قال علي رضي الله عنه لما نزل قوله- تعالى-:{ إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} قال:" ذهب النسب اليوم "، لانسب بعد اليوم إلا بالتقوى ، ولا يزال الإنسان يرى لنفسه على الناس حقاً وفضلاً حتى يأتي يوم القيامة فيحشره الله مع المتكبرين كأمثال الذر يوطأ بالأقدام ، ولا يزال يرى نفسه أنه الحقير إلى أن يرفع الله قدره حتى يعلو شأنه وطيب الله ذكره بين الناس ؛ فلذلك ينبغي على المسلم أن يحفظ عورات المسلمين ، وعلينا أن نتقي الله في بعضنا ، ليس الالتزام ولا الاهتداء بكون الإنسان يطلق لحيته ويقصر ثوبه دون أن يلتزم بشعائر الإسلام الحقيقية التي يشعر فيها بأخوة الإسلام مع إخوانه فيقرب أبعد الناس منه نسباً إليه بالدين والإسلام ، ولربما يدخل إلى المسجد فيرى إخوانه من طلاب العلم ومن الصلحين والأخيار فيحبهم والله أكثر من محبته لوالديه لما رأى فيهم من الاستقامة وحب الخير ، وهذا من أصدق الدلائل على الإيمان ، بل من دلائل حلاوة الإيمان التي تذوق القلوب وتطعمها القلوب-نسأل الله عز وجل أن يجعلنا وإياكم من أهلها ، من حلاوة الإيمان ومن يريد أن يذوق حلاوة الإيمان وكماله فإنه يحب(12/32)
الناس لايحبهم إلا لله ، ولا يبغضهم إلا في الله ، يجعل مراتب الناس على قدر طاعته الله -- جل جلاله -- فما أن يرى تقياً نقياًزكياً سائراً على طاعة الله أو عالماً أو داعية إلى الخير إلا أحبه صدق المحبة وأصبح يلهج بفضله وعلمه ونشر خيره آناء الليل وأطراف النهار قربة لله سبحانه وتعالى لا تعظيماً للذوات ولا للأشخاص ولكن قربة لله سبحانه وتعالى إنك إن فعلت ذلك كان لك الخير في دينك ودنياك وآخرتك ، -نسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يعصمنا من الزلل وأن يوفقنا لصالح القول والعمل-.
وآخر دعوانا أن الحمدلله رب العالمين وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه.(12/33)
(
قال المصنف - رحمه الله-: بَاب مَا جَاءَ فِي الاِسْتِنْجَاءِ بِالْحَجَرَيْنِ
حَدَّثَنَا هَنَّادٌ وَقُتَيْبَةُ قَالاَ حَدَّثَنَا وَكِيعٌ عَنْ إِسْرَائِيلَ عَنْ أَبِي إِسْحَقَ عَنْ أَبِي عُبَيْدَةَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ:" خَرَجَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم لِحَاجَتِهِ فَقَالَ:(( الْتَمِسْ لِي ثَلاَثَةَ أَحْجَارٍ ، قَالَ: فَأَتَيْتُهُ بِحَجَرَيْنِ وَرَوْثَةٍ فَأَخَذَ الْحَجَرَيْنِ وَأَلْقَى الرَّوْثَةَ "، وَقَالَ: إِنَّهَا رِكْسٌ )) .
الشرح:
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين سيدنا محمد وعلىآله وصحبه أجمعين أما بعد :
فقد ذكر المصنف -رحمه الله - هذه الترجمة التي تدل على أن الاستجمار يجزئ فيه أن يكون بحجرين وقد تقدمت هذه المسألة معنا ، والصحيح من أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم أنه يجب على المكلف أن يستجمر بثلاثة أحجار كما تقدم معنا من حديث سلمان رضي الله عنه وأرضاه ، ولذلك ذهب الشافعية والحنابلة وطائفة من أهل الحديث : إلى أن ثلاثة أحجار واجبة على المكلف لكي ينقي بها المكان عند البول والغائط .(13/1)
وقوله -رحمه الله -" الاستنجاء بالحجرين": أي : سأذكر لك ما ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم من الأحاديث التي تدل على جواز الاكتفاء بالحجرين ، وظاهر هذا أن المصنف رحمه الله يرى أن الثلاث ليست بواجبة ؛ ولذلك ذكر أحاديث الثلاثة ثم أتبعها بحديث عبدالله-- رضي الله عنه -وأرضاه- ويمكن أن يقال إن هذا من خلاف التنوع لا من خلاف التضاد ، أي أنه يجوز لك أن تستجمر بحجرين أو ثلاثة أحجار وأنت بالخيار ، والصحيح ما ذكرناه من وجوب الثلاث لأن هذا الحديث الذي معنا وإن دلّ على أن النبي صلى الله عليه وسلم أخذ الحجرين واكتفى بهما إلا أن الرواية التي وردت عنه عليه الصلاة والسلام أنه أمره أن يأتي بغير الروثة تدل على قوة القول الذي يقول بالثلاث ، أضف إلى أن أول الحديث أمر فيه النبي صلى الله عليه وسلم بالثلاثة الأحجار .
ولو قال قائل : إن النبي صلى الله عليه وسلم اكتفى بالحجرين على ظاهر هذا الحديث ؟؟(13/2)
فإننا نقول إنه- عليه الصلاة والسلام - أمر عبدالله أن يحضر ثلاثة أحجار ، فهذا هو الأصل أن المكلف يستجمر بثلاثة أحجار ثم سكت الحديث هل أحضر عبدالله غير الروثة أم لم يحضر ؟ وبناءً على ذلك يصبح هذا الحديث محتملاً لا يقوى على معارضة الأحاديث الصحيحة ، وقد روى المصنف رحمه الله هذا الحديث عن عبدالله بن مسعودٍ رضي الله عنه وأرضاه وهو أبو عبدالرحمن عبدالله بن مسعود بن غافل بن حبيب بن كهل الهذلي الصحابي الجليل ، صحابي وأمه صحابية ، أمه أم عبد بنت عبد بن سواءٍ الهذلية وكانت من الصحابيات ، أسلم رضي الله عنه وأرضاه قديماً وذلك قبل أن يتحولصلوات الله وسلامه عليه إلى دار ابن الأرقم ، وكان رضي الله عنه سُدُسَ الإسلام ، وفي الحديث عنه رضي الله عنه أنه قال" لقد رأيتني سادس ستة ما على وجه الأرض مسلم غيرنا" وهذا يدل على فضل سبقه إلى الإسلام ، وثبت عنه أنه جهر بالقرآن وأوذي رضي الله عنه وأرضاه في الله ، هاجر الهجرتين وشهد مع النبي صلى الله عليه وسلم المشاهد كلها فما تخلف عن غزوة غزاها رسول الله صلى الله عليه وسلم وخصه النبي صلى الله عليه وسلم بالفضائل والمكرمات فكان عبدالله رضي الله عنه صاحب نعل رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان إذا خرجصلوات الله وسلامه عليه تقدم عبدالله فوضع نعليهصلوات الله وسلامه عليه ثم خرج قبل خروجه يتقدمه يحمل العصا معه بأبي وأمي- صلوات الله وسلامه عليه- ، حتى إذا دنا من المجلس أخذ عبدالله نعلي النبي صلى الله عليه وسلم فأدخلهما رضي الله عنه وأرضاه تحت إبطيه ، ثم جلس رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وفي الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم أذن لعبدالله أن يدخل عليه أي ساعة شاء ، وكان وحده يدخل على رسول الله صلى الله عليه وسلم بدون استئذان ، فكان إذنه أن يرفع الستارة والحجاب ويدخل دون أن(13/3)
يكلمه أحد وما بلغ أحد من أصحاب النبي -- صلى الله عليه وسلم - - هذه المنزلة العظيمة ، ففي الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له : (( إذنك علي أن ترفع الحجاب وأذنت لك أن تسمع سِوادي حتى أنهاك )) ، فكان يسمع أسرار النبي صلى الله عليه وسلم وأحاديثه الخاصة في بيته ، لايستطيع أحد أن يمنعه إلا إذا أمره النبي صلى الله عليه وسلم أن ينصرف ، وكان يدخل ويخرج متى شاء وكما شاء رضي الله عنه حتى إن الصحابة الغرباء كانوا يظنونه من أهل بيت النبي صلى الله عليه وسلم ، صاحب السوادين والنعلين ، وإذا خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى سفره كان عبدالله هو الذي يفرش فراش رسول الله صلى الله عليه وسلم ويهيئه له ، وإذا غدا إلى قضاء حاجته حمل-- رضي الله عنه - وأرضاه-طهور النبي صلى الله عليه وسلم ، كان صاحب علم وفضل ، سمع من النبي صلى الله عليه وسلم السنن والأثار ، وحدث بالأحكام والأخبار ، وكان له الشأو العظيم في الإسلام بحفظ كتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وفي الصحيح عنه أنه قال : لقد حفظت من فم النبي صلى الله عليه وسلم سبعين سورة ، ولو علمت أن أحداً أعلم بالقرآن مني تبلغه الإبل لفعلت ، أي لبلغته رضي الله عنه وأرضاه ، ومر النبي صلى الله عليه وسلم عليه وهو يقرأ القرآن متهجداً في الليل فاستمع لقراءته فقالصلوات الله وسلامه عليه : (( من أراد أن يقرأ القران غضاً طرياً كما نَزَل فليقرأه بقراءة ابن أم عبد )) ، وفي رواية أحمد في مسنده ، أن النبي-- صلى الله عليه وسلم - - لما سمع قراءته بالليل ثم سمع دعاءه في وتره قال :((سل تعط)) ، أي سل الله -جل وعلا -ما شئت فإن دعاءك مستجاب ، فدعا رضي الله عنه وأرضاه فكانت من مناقبه وفضائله ، ولما ضحك الصحابة من دقة ساقيه قال- صلوات الله وسلامه عليه-:(( أتضحكون من دقة ساقيه والذي نفسي(13/4)
بيديه لهما أثقل في الميزان من جبل أحد )) كان رضي الله عنه حريصاً على تعليم الناس الخير ، فما حفظ من السنن والهدى ، وما ضبط من كتاب الله - جل وعلا- بثه للناس ، فكان وعاءً من أوعية العلم والفضل ؛ ولذلك كان عمر بن الخطاب رضي الله عنه يعظمه ويجله ، وإذا سأل الناس الصحابة وهم من أهل العراق ، قال الصحابة لهم : أتسألوننا وفيكم صاحب السوادين والنعلين ؟ قالها عمر وقالها حذيفة ، وقال أبوموسى الأشعري وهو بالكوفة لا تسألوني وهذا الحبر بينكم ، فكانوا يعظمونه ويجلونه حتى قال حذيفة رضي الله عنه :" ولقد علم المحفوظون من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم أن ابن أم عبد أعظمهم وسيلة عند الله يوم القيامة " ، ولما حضرته الوفاة زاره عثمان رضي الله عنه وهو خليفة على المسلمين ، فقال له : ما تشتكي؟ قال : أشتكي ذنوبي ، قال : ماتشتهي ؟ قال : أشتهي رحمة ربي ، قال : أو لا آمر لك بالعطاء ؟ قال : لاحاجة لي فيه توفي رضي الله عنه سنة اثنتين وثلاثين ، وقيل ثلاث وثلاثين ، وأوصى أن يصلي عليه الزبير-رضي الله عن الجميع وأرضاهم وجعل أعالي الفردوس مسكنهم ومثواهم-.
هذا الحديث فيه دليلٌ على مسائل تتعلق بالاستجمار وذلك أنه دل على أشياء يشرع للمكلف أن يستجمر بها ، وأشياء يحرم عليه أن يستجمر بها .(13/5)
قوله عليه الصلاة والسلام :(( التمس )): فيه دليل على مشروعية خدمة الأحرار بعضهم لبعض ، فقد خدم أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم النبي صلى الله عليه وسلم ورضي منهم تلك الخدمة ، وكان العلماء - رحمهم الله - يقولون: لا بأس بخدمة أهل الفضل ، ومن لهم حقوق على الإنسان كالعلماء ، والأخيار الصلحاء الذين عرفوا بالاستقامة والتمسك بالدين ، وكذلك من له حق على الإنسان كوالديه ونحوهم من القرابة الذين لهم حق ، وهكذا كبار السن فخدمة هؤلاء قربة لله عز وجل وحسبة ، بشرط أن لا تكون على سبيل الرياء ومشتملة على الغلو وما فيه حرج ،أما إذا كانت بالمعروف والمألوف وقصد الإنسان بها وجه الله -- جل جلاله --فإنه يؤجر.
فأتاه" رضي الله عنه بحجرين وروثة " : والروثة قد تقدم معناها ، ولذلك لمّا أحضرها قال :أخذ النبي صلى الله عليه وسلم الحجرين وألقى الروثة ، وفي هذا دليل على مسائل :
المسألة الأولى : أنه يشترط في الحجر الذي يزيل الإنسان به الحاجة أن يكون طاهراً نقياً ، وهذا هو أحد ثلاثة شروط لابد من توفرها فيما يستجمر به :
الشرط الأول : أن يكون نقياً طاهراً . والشرط الثاني : أن يكون منقياً للمحل .
والشرط الثالث : ألا يكون طعاماً - وسيأتي بسط الشرطين الأخيرين-.(13/6)
والشرط الذي معنا يدل عليه إلقاء النبي صلى الله عليه وسلم الروثة ، وقد اختلف التعليل من النبي صلى الله عليه وسلم لهذا الإلقاء ففي الحديث الصحيح عنه - عليه الصلاة والسلام - أنه القى الروثة وقال:(( إنها ركس)) والركس هو الرجس ، والرجس في كلام العرب هوالنجس ، والعرب تبدل الجيم كافاً في لغة أهل اليمن ، ويقولون ركس والمعنى واحد ، وعلى هذا قال العلماء : لا يجزيء أن يستجمر بالأحجار النجسة ، وقد تقدم معنا بيان ذلك وأن الإجماع على أنه إذا استجمر بالحجر النجس أنه لايجزيه الاستجمار ، ولو أن إنساناً أخذ حجراً نجساً وغسله بالماء ثم استجمر به بعد نشافه ويبسه أجزأه ، وفي حكم الحجارة المناديل وغيرها فكل ما كان نجساً فإنه لايجزىء أن يستجمر الإنسان به ولابد في كون الشيء الذي يُستجمر به أن يكون طاهراً .
قال المصنف-رحمه الله - : بَاب مَا جَاءَ فِي كَرَاهِيَةِ مَا يُسْتَنْجَى بِهِ
حَدَّثَنَا هَنَّادٌ حَدَّثَنَا حَفْصُ بْنُ غِيَاثٍ عَنْ دَاوُدَ بْنِ أَبِي هِنْدٍ عَنِ الشَّعْبِيِّ عَنْ عَلْقَمَةَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم :(( لاَ تَسْتَنْجُوا بِالرَّوْثِ وَلاَ بِالْعِظَامِ فَإِنَّهُ زَادُ إِخْوَانِكُمْ مِنَ الْجِنِّ )) .
لشرح :
قوله -رحمه الله -" باب كراهية ما يستنجى به " : الكراهة يطلقها العلماء من السلف الصالح ومن بعدهم من الأولين ويقصدون بها التحريم ، ولكن المتأخرين اصطلحوا على التفريق بين التحريم والكراهة ، ولكن السلف رحمهم الله يطلقون المكروه بمعنى الحرام ، وذلك على سبيل الورع منهم خوفاً من تحريم ما لم يحرمه الله عز وجل فكان العالم يقول أكره ذلك ومراده أنه محرم ، وظاهر النهي من النبي صلى الله عليه وسلم يدل دلالةً واضحةً على أن المذكور في الحديث محرم أن يستنجي المكلف به .(13/7)
وقوله رحمه الله " كراهية ما يستنجى به " : فيه دليل على أن الذي يستنجي الإنسان به ينقسم إلى قسمين :
القسم الأول : ما أذن الله ورسوله صلى الله عليه وسلم به ، والقسم الثاني : ما لم يؤذن به .
فالقسم الثاني هو المراد في هذا الموضع ، والشيء الذي يحرم على الإنسان أن يستجمر به : إما أن يكون نجساً ، وإما أن يكون غير مُنَقٍّ ، وإما أن تكون له حرمة كما سيأتي ؛ ولذلك قال العلماء :إن الشيء الذي يستجمر به الإنسان يجمع الثلاثة الأوصاف ، وقد جمعها بعض العلماء بعبارة جميلة فقال :"يستجمر بكل نَقيٍّ مُنَقي ، لاتتبعه نفس الملقي" فقوله كل نقي منقي" فيه إشارة إلى شرطين وهما الطهارة ، وكذلك كونه يطهر المكان ، وأما الشرط الثالث فهو قوله" لاتتبعه نفس الملقي "، وسيأتي بيان هذه الشروط بالتفصيل عند بيان جمل الحديث .
قوله عليه الصلاة والسلام :(( لاتستنجوا )): هذه الصيغة من صيغ النهي والقاعدة في الأصول: " أن النهي محمول على التحريم حتى يدل الدليل على ما دون ذلك" ولا دليل هنا يدل على صرف هذا الظاهر ؛ ولذلك يحرم الاستنجاء بالروث والعظام ؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم نهى ، والأصل في النهي أن يحمل على المنع ؛ لقوله-تعالى- :{ فَلْيَحَذرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيْبَهُمْ عَذَابُ أَلِيمُ }(1) ، ولقوله عليه الصلاة والسلام : (( وإذا نهيتكم فانتهوا )) فدلّ على أنه يحرم الاستنجاء بهذين الشيئين .(13/8)
المسألة الثانية : أن قوله - عليه الصلاة والسلام - :(( لاتستنجوا )) : إذا دلّ على التحريم فإنه يدل على أنه إذا استنجى الإنسان بالروث والعظم أنه لايحكم له بالطهارة لأنه خالف الشرع ، والنهي هنا متعلق بذات المنهي عنه ، وفعل المكلف له يخالف مقصود الشرع ، ولذلك يقول العلماء : من استنجى بالروث والعظم فإنه يعتبر غير متطهر ويلزمه أن يصب الماء أو يستنجي بما هو مأذون به شرعاً .
وقوله عليه الصلاة والسلام :(( لاتستنجوا بالروث ولا بالعظام)) :فيه تحديد للمنهي عنه ، وهو يدل على أن ما عدا الروث والعظام يجوز أن يستجمر الإنسان به ، ثم علل - عليه الصلاة والسلام - هذا التحريم بقوله:(( فإنه زاد إخوانكم من الجن )) .
قوله (( فإنه)): قال العلماء عائد إلى الجميع ، وإن كان ظاهر التذكير في الضمير يعود إلى الروث ، العرب قد تعطف على الأول وتريد الجميع ، وقد تعطف على الأخير وتريد الجميع ، ومن ذلك قوله- تعالى-:{وَاسْتَعِيْنُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيْرَةٌ إلاَّ عَلَى الْخَاشِعِيْنَ }(1) فأعاد الضمير على المتأخر وهي الصلاة فأنث ، وقوله -تعالى-:{وَ إِذا رَأَوا تِجَارةً أَو لَهْواً انْفَضُوا إِليْهَا }(2) فأعاد الضمير على الأول وهي التجارة ، وهذا كله من باب التنويع في الخطاب .
…وقوله : ((فإنه زاد إخوانكم من الجن)) : فيه مسائل :
المسألة الأولى : إثبات أخوة الإيمان لإخواننا المؤمنين من الجن ، فكما أن مؤمني الإنس يعتبرون إخواناً لنا كذلك مؤمني الجن ، وقوله إنه زاد إخوانكم صريح في أنها أخوة إسلام ودين ، وليست بأخوة حسب ولا نسب ، وهذه الأخوة التي قررها رسول الله صلى الله عليه وسلم بهذا الحديث الصحيح قد أثبتها القرآن في قوله سبحانه وتعالى :{ إِنَّمَا الْمُؤْمِنُوْنَ إِخْوَةٌ}(3) فلم يفرق بين المؤمنين إنساً ولا جاناً فدل على أنهم إخوان في الإسلام .(13/9)
المسألة الثانية : ولازم هذه الأخوة أن يحسن المؤمن إلى أخيه المؤمن ، ولايتسبب في أذيته ؛ ولذلك يحرم على مؤمني الجن أن يؤذوا إخوانهم من مؤمني الإنس ، ويحرم على مؤمني الإنس أن يؤذوا إخوانهم من مؤمني الجن ، وفي الحديث الصحيح عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه وأرضاه أنه كان يصلي في بيته ذات يومٍ فدخل عليه رجل وكان ذلك الضيف ينتظر أبا موسى أن يفرغ من صلاته وهو جالس في البيت ، قال فتحرك شيء في الدار ففوجىء الضيف بحية عظيمة فأراد أن يقتلها ، فأشار إليه أبو موسى رضي الله عنه أن الزم مكانك ، فانتظر الرجل حتى فرغ أبو موسى من صلاته ، فأقبل عليه أبو موسى وقال : أترى ذلك البيت-وأشار إلى دار من الدور- قال: إنه كان فيه شاب حديث عهد بعرس ، فاستأذن النبي صلى الله عليه وسلم يوم الخندق ، فانطلق إلى أهله فإذا هو بامرأته قائمة على باب الدار ، فأهوى إلى سهم من كنانته يريد أن يقتلها ؛ لأن العرب لا ترى المرأة على هذه الحال إلا إذا كان ثمَّ أمر عظيم من فضيحة وعارٍ ، فأخذته الحمية فأراد أن يقتلها فأشارت إليه لا تفعل-يرحمك الله-حتى تدخل الدار ، فدخل إلى الدار فوجد الحية فيها فانتزع السهم من كنانته ورماها ، فقتلها فلم يُدر أيهما مات قبل أهو أم الحية ؟؟ فلمَّا مات أُخبر النبي صلى الله عليه وسلم بخبره ، فقال- صلوات الله وسلامه عليه-:(( إن بالمدينة سكاناً -أي إخواناً لكم من الجن يسكنونها -فإذا رأيتم شيئاً من هذا فآذنوه ثلاثاً فإن رأيتموه بعد فاقتلوه فإنما هو شيطان )) فلذلك لما حصلت الأذية من هذا الصحابي أُوذي كما آذى ؛ ولذلك حرمت أذية الجن إذا كانوا مؤمنين ، كما يحرم عليهم أن يؤذوا المسلمين ، وظاهر هذا الحديث صريح في تحريم أذيتهم أو التعرض لهم بالسوء ، لأن النبي صلى الله عليه وسلم نهانا عن استعمال هذين المحظورين في الاستجمار ، وقال إنه:(( زاد إخوانكم من الجن)) .(13/10)
المسألة الثالثة : فيه دليل على عموم الشريعة الإسلامية لشمول رسالته للإنس والجن ، وهذا محل إجماع وظاهر القرآن يدل عليه في قوله -سبحانه-:{ وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِيْنَ }(1) فهي رسالة عامة وذلك من خصوصياته - صلوات الله وسلامه عليه- .
المسألة الرابعة : قوله :(( زاد إخوانكم)) :الزاد ما يتبلغ به الإنسان ، خاصةً إذا كان في السفر والرحلة من طعام وشراب وما يعين الإنسان ويبلغه على حاجته ، وقوله عليه الصلاة والسلام :(( زاد إخوانكم)) فيه دليل على أنهم يأكلون كما يأكل الإنس .
وقوله:(( زاد إخوانكم)) : مبني على أصل وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم كما ثبت عنه في الصحيح من حديث عبدالله بن مسعودٍ رضي الله عنه وأرضاه أنه خرج ليلة الجن وخطَّ لأصحابه خطاً ونهاهم أن يتخطوا ذلك الخط ثم انطلق- عليه الصلاة والسلام -إلى قِبَلِ حراء ، فاجتمع مع الجن وعرض عليهم رسالتهصلوات الله وسلامه عليه فآمنوا به وصدقوه ، وكذلك الحال في قصته في جن نِصِّيْبِيْنَ-فلما أسلموا سألوا النبي صلى الله عليه وسلم الزاد-كما في حديث مسلم في صحيحه- فسألوه عن الزاد فقال لهم :(( لكم كل عظم ذكر اسم الله عليه تجدونه أوفر ما يكون لحماً )) فقوله :(( لكم كل عظم ذكر اسم الله عليه)) للعلماء فيه وجهان :
الوجه الأول : قال بعض العلماء المراد بذلك أنه إذا ذبحت الشاة وذكر اسم الله عليها فإنها كما ينتفع بها المسلم ينتفع بها أخوه من الجن .(13/11)
والوجه الثاني : قيل إن المراد أن الإنسان إذا أكل اللحم وأراد أن يلقي العظم فليقل بسم الله عند إلقائه، حتى ينتفع به إخوانه من الجن ، وكلا الأمرين محتمل ، لكم كل عظم ذكر اسم الله عليه تجدونه أوفر ما يكون لحماً ، فهذا هو زادهم ، وأما دوابهم فقد أخبرهم أنه يكون لهم الأرواث علفاً ، تنتفع به دواب الجن ؛ ولذلك نهى - عليه الصلاة والسلام - عن الاستنجاء بهما ، فلا يستنجى بالعظم ولا يستنجى بالروث .
قوله :(( بالعظم)) : يدل على أنه يحرم على المسلم أن يستجمر بالعظم مطلقاً ، وفي ذلك تفصيل عند بعض العلماء ، فالعظم له أحوال :
الحالة الأولى : أن يكون رطباً. والحالة الثانية : أن يكون يابساً .وظاهر الحديث شمولية التحريم لكلتا الحالتين.
أما إذا كان يابساً فإنه يكون على حالتين:
الحالة الأولى : أن ينقلب إلى رماد . الحالة الثانية : أن يُحرق فيسحق .
فإذا أُحرق وسحق هل يجوز أن يُستجمر به ..؟؟
للعلماء قولان في هذه المسألة :
القول الأول : فذهب طائفة من العلماء إلى أن العظم يحرم الاستنجاء به مطلقاً سواء كان رطباً ، أو كان يابساً، أو كان رماداً ، أو باقياً على حالته ، وسواءً حرقه حتى صار رماداً أو غير ذلك من الأحوال كل ذلك يحرم على الإنسان أن يستجمر به لعموم نهيه -صلوات الله وسلامه - عن الاستجمار به .(13/12)
القول الثاني : ذهب بعض أصحاب الشافعي-رحمة الله على الجميع - إلى القول بجواز الاستجمار بالعظام إذا أحرقت وصارت رماداً ، قالوا : لأنها إذا أحرقت تغيرت من حالة العظام إلى حالة جديدة فأخذت حكم الأصل ، فالأصل أنه يجوز أن يستجمر بكل طاهر ، وأما إذا كانت على هذه الحالة وهي كونها رماداً من نار فإنها ليست بعظم ولا في حكم العظم ، ثم قالوا : يجوز الاستجمار بالعظام إذا أحرقت كما يجوز الاستجمار بجلود الميتة إذا دبغت ، ووجه ذلك أن العظم فيه شبهة النجاسة ، فقالوا إنه إذا دبغ الأديم مع كونه نجساً في الأصل لأنه آخذ حكم الميتة فإنه يطهر بالدباغ فيحكم بجواز الاستنجاء به ، قالوا كذلك العظام إذا أحرقت ، والصحيح أنه لا يجوز الاستجمار بالعظام ولو أحرقت ؛ وذلك لأمرين :
أما الأمر الأول : فعموم نهيهصلوات الله وسلامه عليه عن الاستجمار بها دون أن يفرق بين كونها باقية على الأصل أو مستحيلة عنه بالنار .
أما الأمر الثاني : فإن قولهم إن العظام قد تبدلت فتأخذ حكم الميتة إذا دبغ جلدها يجوز الاستجمار به ، فنقول إن الجلد إذا دبغ ينتقل من الأضعف إلى حالة هي أفضل فأصبح الوصف زائداً ، وأما العظم إذا أحرق فإنه ينتقص وصفه ، والقاعدة :" أنه إذاخالف الوصفان أنه لايمكن إلحاقهما ببعضهما ، إذا اختلف الشيئان وصفاً مؤثراً فإنه يحكم بالفارق الموجب لبطلان قياس أحدهما على الآخر" ؛ ولذلك نقول الجلد إذا دبغ انتقل من حالة النقص إلى حالة الكمال فأعطي حكم الكمال فجاز الاستجماربه ، وأما العظم إذا أحرق فإنه ينتقل من وصف الكمال- أي كونه عظماً-إلى النقص- أي كونه رماداً-فأصبح الحكم فيه بأولوية القياس ، فنقول تحريم الاستجمار به هنا أولى.
وقوله عليه الصلاة والسلام :(( لاتستنجوا بالعظم )): حرم الاستنجاء بالعظم لإحدى علتين :(13/13)
العلة الأولى : إما لكون العظم أملسَ ، فالأملس لايمكن أن ينقي مكان الخارج ، فالإنسان إذا استجمر بالعظام فإنها ملساء لاتنقي من البول ولامن الغائط .
وأما العلة الثانية : فهي كون العظم طعاماً أي : آخذ حكم الطعام ، وكلتا العلتين دلَّ عليهما الدليل ، أما الدليل على كون العظام ملساء فظاهر حديث الدارقطني عن أبي هريرة -- رضي الله عنه - وأرضاه-" أن النبي -- صلى الله عليه وسلم - - نهىعن الاستنجناء بالعظام والروث "وقال : (( إنهما لايُطَهِّران )) فهذا الحديث الصحيح يدل على أن العلة في تحريم الاستنجاء بالعظام كونها لاتطهر لأنها ملساء ، وإذا كانت العلة أنها ملساء فإنه يقاس عليها كل شيء أملس ، فلا يستجمر الإنسان بالحجر الأملس الذي يكون كالزجاج مصقولاً ، وكذلك لايستجمر بالزجاج ولا بالنحاس ولا بالصفر ولا بالحديد ولا نحو ذلك من المعادن إذا كان أملساً ، والأملس لايتشرب النجاسة ، فتنتشر النجاسة بدل أن يمتصها ذلك الشيء المستجمر به ، وبناءً على ذلك فمن استجمر بالزجاج فإنه لم يستجمر ، ويجب عليه أن يعيد الاستجمار ، وهكذا لو استجمر بحجر أملس .(13/14)
أما العلة الثانية وهي كونها طعاماً فإنه دلّ عليه الدليل الذي معنا في قوله :(( فإنه زاد إخوانكم من الجن )) فأما إذا قلنا إن العلة كونها طعاماً للجن ، فإنه من باب أولى وأحرى ألا نستجمر بالطعام الذي هو زاد لنا ، فيحرم على المسلم أن يستجمر بالطعام الذي يؤكل سواء كان من الحبوب أو غير الحبوب ، وذلك لأن النبي صلى الله عليه وسلم لمّا علل التحريم بكون العظم في حكم المطعوم دل على أن ما كان مطعوماً أصلاً هو أولى بالتحريم ، ولأن الاستجمار بالطعام فيه كفر لنعمة الله -- عز وجل - - إذ أنه يمتهن هذه النعمة التي سخرها الله له ، ثم إن ذلك - أي الاستجمار بالطعام ونحوه - يخالف مقصود الخلقة لأن الله خلق الطعام لكي يُطعم ، ولم يخلقه لكي يُمتهن بالاستجمار ، ولذلك يحرم الاستجمار بالأطعمة .
وهناك تفصيل تقدم بيانه والإشارة إليه : فهناك أطعمة يابسة وأطعمة رطبة ، وقد تكون الثمرة يؤكل ظاهرها ولا يؤكل باطنها ، وقد يؤكل باطنها ولا يؤكل ظاهرها ، وقد يؤكل ظاهرها وباطنها ، وقد تقدم تفصيل الحكم في جميع ذلك ، والحديث الذي معنا أصل في التحريم ، ولو قال قائل إنه لا يستجمر بالثمار سواءً كان يؤكل ظاهرها أو باطنها أو هما معاً لكان قوله سديداً موفقاً لأن العظم لايؤكل وإنما يؤكل اللحم الذي عليه ومع ذلك نهى صلوات الله وسلامه عليه عن الاستجمار به ، فلذلك تفصيل من فصل من الفقهاء بين قشور الثمار وبين باطنها لا يخلو من نظر على ظاهر تحريم الاستجمار بالعظام وفي تحريمه صلوات الله وسلامه عليه .
الاستجمار بالعظام فيه مسائل :(13/15)
المسألة الأولى : أنه لا يستجمر باللين وذلك أن بعض الأشياء يكون فيه لين وضعف ، فإذا كان فيه ضعف ورخوة فإنه لايستجمر به ومن أمثلة ذلك الفحم وحمم البراكين ، فإن الفحم وحمم البراكين ضعيفة رخوة لا تقوى على امتصاص الخارج وإزالة النجاسة ، ومن ثمَّ نصَّ العلماء رحمهم الله على عدم الاستجمار بها ، لأنه إذا نهى صلوات الله وسلامه عليه عن الاستجمار بالعظام لكونها ملساء لاتنقي الموضع فكذلك إذا كان المُستجمَر به رخواً ضعيفاً فالمعنى فيهما واحد .
أما المسألة الثانية : التي تتفرع على المنع : فهي منع الَّليِّن ، واللين هو اللزج الذي تكون فيه رطوبة لا يمكن معها إنقاء الموضع ، فكما أنه يحرم الاستجمار بالعظام لكونها ملساء كذلك لايستجمر بالرطب الذي لا ينقي ، والعلة فيهما واحدة ، لأن الأملس لا يوجب طهارة المكان وكذلك الرطب ، بل إن الأشياء الرطبة تزيد المواضع نجاسة ، ومن أمثلة الشيء الرطب : أن يستجمر بالطين حال رطوبته ، وقاسوا على ذلك الشمع فقالوا إنه لا يستجمر به لمكان لينه وضعفه ، فهذه الأشياء كلها تُلحق بالعظام ، وإلحاقها وقياسها على العظام مبني على العلة والنظر .(13/16)
ومما ألحقه العلماء وهي المسألة الثالثة : أن يكون الشيء الذي يستجمر به فيه لزوجة إذا مسه الموضع لايزيل النجاسة لمكان ضعفه بتلك اللزوجة كما هو الحال في القطن ، وكذلك الحرير ، فقالوا لايستجمر بالقطن والحرير ، وهذا واضح لأن القطن إذا مسح به الموضع انضم بعضه إلى بعض فصار كالأملس ، فقالوا القطن كالعظام ومن هنا قالوا إنه لايستجمر به وإن كان في القطن قوة على الامتصاص في بعض الأحيان ، لكنه معروف ومألوف أن القطن إذا مسح به على الموضع انضم بعضه على بعض وأصبح ضعيفاً رقيقاً لا يقوى على الإزالة كالخشن ، ومن هنا قالوا إنه لايستجمر به ، وعلى هذا فلو كان المنديل من حرير أو كان من قطن فإنه لايجزىء أن يستجمر به ، كل ذلك فرَّعه العلماء على هذا الحديث الذي معنا ، وإنما بناه أهل العلم على هذا النص الصحيح الصريح ، لأن معنى الشرع هو إنقاء الموضع ، وهذه الأشياء كلها لاتنقي الموضع ، بل إنها تزيده قذراً .
قال المصنف رحمه الله : بَاب مَا جَاءَ فِي الاِسْتِنْجَاءِ بِالْمَاءِ
حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ وَمُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ أَبِي الشَّوَارِبِ الْبَصْرِيُّ قَالاَ حَدَّثَنَا أَبُو عَوَانَةَ عَنْ قَتَادَةَ عَنْ مُعَاذَةَ عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ :" مُرْنَ أَزْوَاجَكُنَّ أَنْ يَسْتَطِيبُوا بِالْمَاءِ فَإِنِّي أَسْتَحْيِيهِمْ فَإِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَفْعَلُهُ " .
الشرح:(13/17)
يقول المصنف - رحمه الله -" باب الاستنجاء بالماء ": أي في هذا الموضع سأذكر لك ما ورد من هدي النبي صلى الله عليه وسلم الذي يدل على مشروعية الاستنجاء بالماء ، والاستنجاء بالماء دلت عليه الأحاديث الصحيحة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ومن أقواها حديث أنس بن مالك رضي الله عنه الثابت في الصحيحين "أنه كان ينطلق مع رسول الله صلى الله عليه وسلم حاملاً إداوة من ماء يستنجي بها رسول الله صلى الله عليه وسلم من حاجته" فهذا الحديث يدل دلالةً واضحةً على مشروعية الاستنجاء بالماء ، والاستنجاء بالماء يقول به جماهير السلف والخلف من الصحابة والتابعين والأئمة الأربعة-رحمة الله عليهم أجمعين- ، وذلك لثبوت السنن والآثار والأخبار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه كان يستنجي بالماء وكان بعض أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم يمنع من الاستنجاء بالماء ، فكان سعد بن أبي وقاص وحذيفة بن اليمان وأثر عن عبدالله بن عمر يشددون في الاستنجاء بالماء ، حتى إن حذيفة بن اليمان كان يكره ذلك ولمّا سئل عن الاستنجاء بالماء قال إذاً تُنْتِنُ يدي ، أو إذاً يصيب يدي النتن ، كل ذلك لكي يستبشع الاستنجاء بالماء ، والصحيح أن الاستنجاء بالماء مشروع ؛ لأن السنة وردت عن النبي صلى الله عليه وسلم بذلك ، وهذا القول من الصحابة يحمل بأنهم لم يكونوا على علم بما ورد عنه عليه الصلاة والسلام من استنجائه بالماء ، وكان بعض التابعين يقول بقول هؤلاء الصحابة-وضوان الله عليهم أجمعين- فكان عطاء يقول إنه بدعة وحدث ، أي: الاستنجاء بالماء بدعة ، ولعله لم تبلغه الآثار عن النبي صلى الله عليه وسلم وكم من سنن خفيت على العلماء وذلك لاينقص من قدرهم ولكن يوجب معذرتهم -- رضي الله عنه -وأرضاهم- ، وعلّل العلماء رحمهم الله كراهية بعض الصحابة للاستنجاء بالماء بما ذكره حذيفة من أن الماء ينتن اليد ،(13/18)
وتوضيح ذلك أنه في حال الاستنجاء من الغائط خاصة فإن الاستنجاء بالماء يكون شديداً ، لأن الإصبع ستلي ذلك الخارج ، ومن ثمَّ تعلق بالأُصبع رائحة النجاسة .
وقد اختلف العلماء رحمهم الله في حال استنجاء الإنسان بالماء هل يجب عليه أن يشم يده فيتأكد من أنها نقيت من النجاسة أو لايجب عليه ذلك ؟؟ على وجهين ذكرهما الإمام الماوردي وغيره رحمهم الله :
الوجه الأول : يجب على المكلف أن يتأكد من زوال القذر من يده ؛ لأنه إذا غسل الغائط وبقيت رائحة النجاسة في يده فإن يده لاتطهر الموضع ، ويكون صبه للماء غير موجب للحكم بطهارة الموضع ، بدليل أن يده لم تتطهر ، وبدليل أن الآلة التي وليت النجاسة لازالت متنجسة بالأثر ، فلذلك قالوا يجب عليه أن ينقي الموضع إلى درجة تكون يده سالمة من الرائحة والأذى .(13/19)
والوجه الثاني : أنه لايجب على المكلف ذلك ، وأن بقاء بعض الروائح في اليد لايوجب الحكم بنجاسة المكان ، وهذا هو الصحيح وعليه جمهور العلماء رحمهم الله أنه إذا كانت اليد فيها رائحة الخارج من الغائط أنه لايحكم بنجاسة الموضع ؛ وذلك لأننا لو كلفنا الناس أن يفعلوا ذلك لكان فيه من المشقة والحرج ما الله به عليم ؛ ولأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يفعل ذلك ، ولم يأمر بهصلوات الله وسلامه عليه فدل على أنه تكلف وحرج ، والشريعة شريعة تيسير لاشريعة تعسير ، وأما ما ذكروه من كونها رائحة للخارج فإننا نقول وجود الرائحة في الأصبع لايدل على نجاسة المكان ، لأنه إذا تقابل الشيئان والتقيا وطهر أحدهما وبقي أثر الرائحة في الآخر لم يدل على نجاسة الأول كما هو معلوم ؛ ولذلك نقول إن الرائحة من أضعف المؤثرات في أبواب النجاسة ، وذلك أن حكمك بنجاسة الشيء يستلزم وجود أحد ثلاثة أشياء : إما لون دال على النجاسة ، وإما طعم لها ، وإما رائحة ، فالرائحة تعتبر أضعف الدلائل على نجاسة الشيء ، ومن هنا قال العلماء لو أن ميتة ماتت بجوار بركة من الماء ، وتحركت الريح ونقلت رائحة هذه الميتة النجسة إلى الغدير ، أو إلى البئر ، أو إلى البركة فإننا لانحكم بنجاسة البركة ، إلا إذا التصقت الميتة بها ، كما أشار بعض العلماء إلى هذه المسألة بقوله :
لَيسَ المُجَاوِرُ إِذَا لَمْ يَلتَصِقْ يَضُرُّ مُطلَقاً وَضَرَّ إِنْ لَصِقْ
في الَّلونِ وَالطَّعْمِ بِالاتِّفَاقِ كَالرِّيحِ فِي مُعتَمدِ الشِّقـ اقِ
فجعل اللون والطعم بالاتفاق ، وجعل الرائحة محل نزاع لكونها أضعف في التأثير ، ومن هنا قال العلماء : إن رائحة النجاسة أضعف من عينها وكذلك وجود طعمها .
…وبناءً على ذلك نقول من وجد الرائحة في يده فله حالتان :
الحالة الأولى : ألا يكون هناك أثر للنجاسة ، فلا يوجد صفرة ولانحوها من لون الغائط .
والحالة الثانية : أن يوجد الأثر .(13/20)
…فأما في الحالة الأولى : وهي أن يكون الإِصبع على ظاهره ليس فيه شيء ، ولكن لاتجد النجاسة إلا إذا شممت رائحة الأصبع ، فإنه طاهر والمكان طاهر .
…وأما الحالة الثانية : وهي وجود الأثر ، كوجود بقع النجاسة ولونها من صفرة ونحوها فإنه يحكم بنجاسة اليد ولازال المكان نجساً لبقاء الأثر ، لأن طهارة الماء لابد فيها من طهارة المخرج وما خرج ، وأما طهارة الحجر فإنه ينبغي أن يُنْقَي ، وأما عين المكان فلا يشترط إنقاؤه .
قولها-رضي الله عنها وأرضاها - "مرن أزواجكن" : فيه دليل على فضل أم المؤمنين-رضي الله عنها وأرضاها- ، وما كان لها من المكانة عند أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم حيث كانت المعلمة الفاضلة ، والمؤدبة المربية لأصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وحُقَّ لها لعلمها وفضلها وعلو شأنها وقربها من حبيبهاصلوات الله وسلامه عليه فاستحقت بذلك التكريم والتشريف - عليها من الله أفضل الرحمات- .(13/21)
تقول-رضي الله عنها وأرضاها -" مرن أزواجكن ": فيه دليل على حيائها وخجلها ، وهو يدل على أنه لا حرج للعالم أن يستحي من بيان الحق إذا أمكنه أن يبين الحق بالواسطة ، فلو كان الإنسان يستحي من أبيه ، ولايستطيع أن يصرح له بالحق ، أو يبين له الخطأ فإنه يشرع له أن يأمر الغير أن يأمر أباه ، وإذا فعل ذلك فقد أعذر ، ومن هذا الحديث وأمثاله أخذ العلماء القاعدة المعروفة : " أنه إذا طلب الإنسان جلب المصلحة أو درء المفسدة وكان له طريقان : طريق فيه مفسدة وحرج له أو لمن يدعوه أو لهما معاً ، فإنه يعدل إلى الطريق الثاني الذي لاحرج فيه عليهما أوعلى واحد منهما" ، ووجه ذلك أن أم المؤمنين كانت مخيرة في دعوتها وأمرها بالخير بين طريقين : بين أن تنصح الناس مباشرة بنفسها ، وبين أن تأمر الزوجات أن ينصحن الأزواج بهذا الخير ، وبهذا الهدي من فعله صلوات الله وسلامه عليه ، فأما الطريق الأول فكان فيه الحرج لها من جهة ذكرها لهذا الأمر ، فاختارت الطريق الثاني الذي هو أسلم ، وأكمل في الحياء والخجل ، وعلى هذا فلا يلام العالم ، ولايلام الداعية إذا اختار طريقاً فيه سلامة من الحرج ، ولم يختر أن يقوم بنفسه بالنصيحة فيما يستحي منه ، أو يجد فيه ضرراً عليه وأمكنه أن يجد البديل الذي لايكون فيه ضرر .(13/22)
"مرن أزواجكن ": فيه دليل على مسألة ثانية وهي أنه يجب على الزوجات أمرهن لأزواجهن بالخير ، وهو يدل على ما كان عليه السلف الصالح من القيام بأمر الله ، والدعوة إلى الله ، والتذكير بالله ، من الرجال والنساء على حد سواء ، فقد كان ذلك العصر القريب من عصر النبي صلى الله عليه وسلم عصر خير وبركة ، يقوم فيه الناس بحقوق الله من دعوة إلى الخير ونهي عن الشر ، يستوي في ذلك رجالهم ونساؤهم-- رضي الله عنهم - وأرضاهم- وعلى الأزواج أن يتقبلوا النصائح من الزوجات ، فإن بعض الرجال ناقص العقل قليل الدين - نسأل الله السلامة والعافية - إذا سمع النصيحة من زوجه استكبر وتعالى ، كأنه يظن أن للرجال على النساء فضلاً ، ولاشك أن الله فضل الرجل على المرأة ، ولكنه صغير أمام الحق إذا كان منها ، كبير بالحق إذا كان منه ، فالرجل له فضل على المرأة في قيُّومِيَّتِه عليها ، أما في أمر الله وطاعة الله فالكبير منهما من أمر بطاعة الله ونهى عن معصية الله عز وجل ، وهذا يدل على أن حق الدعوة إلى الله لايختص بالرجال دون النساء ، ولكنه يكون من النساء والرجال ، ولكن النساء يقمن بالدعوة في المجال الصالح لهن ، فالمرأة تدعو بناتها وأهل بيتها وقرابتها من محارمها ، وأما بالنسبة للرجال فالمرأة لاتقوم بذلك إلا عند وجود الحاجة وتعين الأمر عليها ؛ لأن الرجال أمكن للدعوة منها ؛ ولأنها إذا وليت ذلك ربما فتنت غيرها ، والمرأة فتنة في كلامها فتنة في حالها ، فلذلك لايؤمن منها أن تفسد أكثر مما تصلح ، وعلى هذا فالمرأة تأمر الرجال بالمعروف إذا كان زوجاً لها ، أو ابناً لها أو قريباً محرماً لها ، وأما الرجل الأجنبي فبِقَدَر ، والأصل في الدعوة أن يقوم بها الرجال في الأماكن العامة ونحوها ، وأما الأحوال الخاصة كحديثنا فإنها لايشملها ذلك.(13/23)
وقولها" أن يستنجوا بالماء فإني أستحييهم ": فيه دليل على أن الاستنجاء بالماء مأمور به ، وقد تقدم معنا أن الاستنجاء والاستجمار واجب ، وذلك على الصحيح من أقوال العلماء رحمهم الله وقدَّمنا الأدلة من سنة النبي صلى الله عليه وسلم التي تدل على الوجوب .
وقولها" فإني أستحييهم ": الحياء خجل وانكسار يعتري الإنسان عند ملابسته لما يستحيا منه ، ويكون ذلك راجعاً إلى العرف في الغالب ، وهو خلق محمود شرعاً ، وقد امتدح النبي صلى الله عليه وسلم هذا الخلق الكريم ، وأخبر أن صاحبه في خير كبير ، كما في الحديث الصحيح عنه- عليه الصلاة والسلام -أنه قال:(( إن الحياء خير كله )) فهذا يدل على فضيلة الحياء ، بل عدَّه من شعب الإيمان التي يتقرب بها إلى الرحمن ، كما قال في الحديث الصحيح عنه :(( الإيمان بضع وستون أو وسبعون شعبة ، أعلاها قول لاإله إلا الله وأدناها إماطة الأذى عن الطريق ، والحياء شعبة من الإيمان)) ومن استحيا فإن حياءه يدل علىكمال عقله ، لأن العقل نور ، وهذا النور يعقل به الإنسان عما لايليق بمثله، فيعيش حميداً سليم العرض قد سلم الناس من دخائله ومصائبه ، ولذلك قال الشاعر :
يَعِيْشُ المَرْءُ مَا اسْتَحْيَا بِخَيرٍ وَيَبقَى العُوْدُ مَا بَقِيَ الِّلحَاءُ(13/24)
فبقاء الرجل وبقاء المرأة وكمال كل منهما في الحياء ، ولذلك قال العلماء رحمهم الله الحياء في النساء آكد من الرجال ، ولذلك لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم النساء المسترجلات ، لخروجهن عن طبيعة الحياء ، ومن حياء المرأة خوفها من الله سبحانه وتعالى وحشمتها في مدخلها ومخرجها وحديثها وشأنها كله ، فالمرأة التي تستحيي فتلقي عليها جلبابها ، وتكتمل في سترها وعفافها كاملة العقل فاضلة كاملة الدين ، فإنها إذا استترت واكتملت في حجابها دلَّ ستر ظاهرها على كمال باطنها ، ولكنها إذا ألقت جلبابها وخرجت كالرجال فإنها قليلة الحياء عديمة المروءة ، فلو كان عندها الحياء لكفها عن مشابهة الرجال ، وكذلك إذا استرجلت المرأة في حديثها وكلامها ، فمن الحياء أن تغض صوتها إذا تكلمت ، وهكذا إذا خاصمت أو اعترضت تأدبت وتلطفت فنالت الكمال ، وكان ذلك من الإيمان .
-نسأل الله العظيم رب العرش الكريم بأسمائه الحسنى وصفاته العلى أن يرزقنا الحياء ، وأن يجعلنا من أهله ، وأن يبقيه لنا في شؤوننا وأحوالنا إنه ولي ذلك والقادرعليه- .
- ? - ? - ? - ? - الأسئلة - ? - ? - ? - ? -
السؤال الأول:
هل يجوز الاستنجاء بماء زمزم ؟ وإزالة النجاسات به ؟ وهل هو من المطعومات التي لايجوز الاستنجاء بها لقوله عليه الصلاة والسلام : ((طعام طعم))..؟؟
الجواب:
بسم الله الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه أما بعد :(13/25)
فقد نص جمع من العلماء رحمهم الله على المنع من الاستنجاء بماء زمزم ، وكان العباس رضي الله عنه وأرضاه وهو الذي يلي السقيا بماء زمزم يقول:" إني لا أحله لمغتسل ، وهو لشارب حل وبل " فكان يشدد في الاغتسال به رضي الله عنه وأرضاه فكيف بالاستنجاء به ، وحرم بعض العلماء الاستنجاء به للحديث المذكور أن النبي صلى الله عليه وسلم قال :(( إنه طعام طعم وشفاء سقم)) كما في حديث أبي ذر رضي الله عنه وأرضاه ، وبناءً على ذلك فإنه لايستنجى به وإنما يقتصر على الاستنجاء بما عداه من الطاهرات بما ذكرنا ، - وأحبكم الله الذي أحببتمونا من أجله- ، والله تعالى أعلم .
السؤال الثاني:
إذا احتلم شخص وصلى الفجر دون أن يعلم بذلك ولم يعلم إلا بعد خروج الوقت فماذا يفعل ؟ وهل عليه شيء..؟؟
الجواب:
من نام واحتلم ولم يطلع على احتلامه إلا بعد صلاة أو صلوات أو بعد يوم أو أكثر فإنه يطالب بالاغتسال وإعادة جميع الصلوات لقوله عليه الصلاة والسلام :(( لايقبل الله صلاة أحدكم إذا أحدث حتى يتوضأ )) ومن هنا يلزم بإعادة جميع الصلوات ولو تكررت ، والله تعالى أعلم .
السؤال الثالث:
هل يجزىء غسل الجنابة عن الغسل لصلاة الجمعة ؟ وهل تشترط النية لذلك ..؟؟
الجواب:(13/26)
هذه المسألة من مسائل الاندراج ، وشرط الاندراج أن يتحقق مقصود الشارع بالاندراج ، ووجه ذلك أن الجمعة ؛ إنما أمر بالاغتسال لها حتى يكون الإنسان نظيفاً ، ولايؤذي المصلي إخوانه بالنتن والقذر الذي يكون موجوداً خاصة عند الزحام ، فأمروا أن يغتسلوا على ظاهر حديث أم المؤمنين عائشة-رضي الله عنها- وإذا كان الأمر كذلك وكانت العلة هي النقاء والنظافة فإنه إذا اغتسل يوم الجمعة ويقصد من هذا الغسل غسل الجنابة وأن يندرج تحته غسل الجمعة وكان ذلك قريباً من صلاة الجمعة فإنه يندرج غسل الجمعة تحت غسل الجنابة ، فينوي الجنابة أصلاً ، والجمعة تبعاً ، ولا يجعل الجنابة تبعاً للجمعة ، وذلك لتأكد الجنابة وقوة الوجوب فيها أكثر من الجمعة ، فإن غسل الجنابة مجمع عليه ، وأما غسل الجمعة فمختلف فيه، فيقدم المجمع عليه ويعتبره أصلاً ، ثم يجعل غسل الجمعة تبعاً ، وأثر عن عبدالله بن عمر رضي الله عنه وأرضاه أنه كان يفتي بذلك ، والله تعالى أعلم .
السؤال الرابع:
هل الصدف الذي يستخرج من البحار يعتبر من العظام المنهي عن الاستجمار بها..؟؟
الجواب:
الصدف الذي يخرج من البحار وما يكون فيه من الخارج له حالتان :
الحالة الأولى أن يكون خشناً ، فإذا كان خشناً جاز أن يستجمر به ، وأما إذا كان أملسَ فإنه كالعظم لايستجمر به ، لكونه كالعظم أملسَ ، أما إذا كان خشناً فإنه يستجمر به ، فهو ليس بزادٍ لإخواننا من الجن ، وأما ما ذكرناه مما هو بداخل الأصداف كاللؤلؤ والمرجان ونحو ذلك فإنها تكون ملساء كالزجاج ، وحينئذٍ لايصح أن يستجمر بها ، إلا أن العلة فيهما هي كون كل منهما أملسَ كالعظم لاينقي الموضع ، لاأنهما زاد لإخواننا من الجن ، والله تعالى أعلم.
السؤال الخامس :(13/27)
لدينا أطفال وقد يتبول أحدهم على الفرش أو على الزل دون أن نعلم موقعه بالتحديد ، فهل تنتقل النجاسة -أي نجاسة البول - بعد أن يجف إلى من يجلس عليه ؟ وإذا أردنا الصلاة في هذا المكان فهل يجزيء أخذ سجادة ووضعها على المكان النجس ثم الصلاة ..؟؟
الجواب:
هاتان مسألتان : المسألة الأولى إذا كان المكان نجساً ، وكانت النجاسة فيه وفي أجزائه ، بحيث لو جلس الإنسان عليه حال اليبس لم تنتقل النجاسة ، وإذا جلس حال الرطوبة انتقلت النجاسة ، فحينئذٍ إذا جلس في حال كونه يابساً والثوب الذي عليه يابس فإنه يحكم بطهارته للأصل ، إلا إذا علقت به أجزاء النجس الجامدة ، هذا إذا كان الموضع ناشفاً يابساً فحينئذ إذا كان ناشفاً يابساً له حالتان :
إما أن يكون ناشفاً يابساً بحيث لو جلست عليه لم تنتقل إلى ثوبك أجزاء النجاسة الموجودة فيه فهذا طاهر ثوبك طاهر وأنت طاهر ، وأما إذا كان يابساً وانتقلت أجزاء النجاسة سواءً لخشونة الثوب الذي تلبسه فعلقت بها النجاسة ، أو لعلوق النجاسة من تشربها بالثوب لوجود قوة الجلوس وضغطه فإنه يحكم بكون الثوب قد تنجس لوجود هذا العلوق به ، هذا إذا علق به ، ويحكم بالنجاسة بالعلوق ، وحينئذٍ لابد وأن تزيل ذلك الذي علق ، فإن أصبحت أجزاؤه في أجزاء الثوب وجب الغسل .(13/28)
الحالة الثانية : أن تكون النجاسة رطبة ، والذي تلبسه يابساً ، أو يكون موضع النجاسة يابساً والذي تلبسه رطباً ، فحينئذٍ تتشرب النجاسة بالرطوبة ، فيستوي في ذلك أن يكون المكان رطباً والذي تلبسه يابساً فتنتقل النجاسة بالأثر كما هو معلوم ، أو يكون الذي تلبسه رطباً والموضع يابساً فإن الرطب إذا لامس اليابس فإنه ينتقل ما فيه من نجاسة أو غيره من الطاهرات إلى أجزاء الثوب الرطب فيحكم بالنجاسة ، والدليل على هذا حديث فاطمة بنت قيس وذلك:" أنه أتي - عليه الصلاة والسلام - بصبي لم يأكل الطعام فأجلسه في حجره فبال في حجره فرش النبي صلى الله عليه وسلم الماء على بوله" ، فانظر -رحمك الله - إلى كونه بال في حجره فإن الصبي له ثيابه ثم بال فيها فأصبحت رطوبة الثياب على ثوبه عليه الصلاة والسلام فأخذ العلماء من هذا دليلاً أنه إذا كان الذي جلس على النجاسة اليابسة رطباً ، أو كان موضع النجاسة رطباً والذي جلس عليه يابساً فإنه يحكم بالتنجيس ، هناك حالة في حكم رطوبة المكان وهي أن يجلس وثوبه يابس والمكان الذي جلس عليه يابس ، لكنه بفعل طول الجلوس ترطب حتى أحس بالبلل والعرق فيحكم بالتنجيس لسريان الرطوبة ، كل هذه الأحوال يحكم فيها بكون الشيء نجساً .
المسألة الثانية : بالنسبة للمواضع الخفية لبول الصبي ما حكمها؟
إذا كان الإنسان قد علم أن الصبي قد بال فله أحوال :
الحالة الأولى : أن يعلم جهة البول ولايمكنه أن يحدد مكانه . والحالة الثانية : أن يمكنه أن يحدد قدره .
فإذا علم الجهة ولم يحدد المكان كأن يقول هي في الركن الأيسر ، ولايستطيع أن يعرف هل هي في ثلثه الأول ، أو ثلثه الثاني ، أو الثالث نقول اغسل الركن الأيسر كاملاً ؛ لأنه إذا غسل الركن الأيسر كاملاً تحقق من إزالتها .(13/29)
أما الحالة الأولى : وهي أن يعلم القدر بمعنى أن يقول طرف هذه السجادة نجس ، ولكنني لا أعرف هل هو الطرف الأيسر أو الأيمن فنقول اغسل من الطرف حتى تبلغ أوائل المفرشة ، ثم بعد ذلك يحكم بيقين بطهارة المفروش ؛ لأنه قد صب الماء على الموضع ، وبهذا يغلب على ظنه أنه تطهر .
الحالة الثانية : ألا يعلم مكانها أصلاً ولاجهتها ولا قدرها ، فهو يعلم أن الصبي قد بال ولكن لايعلم أين بال من السجادة ، ويعلم ويتأكد أنه قد بال على سجادته ، فتحقق من كونها نجسة ، ولكنه لايعلم جهة النجاسة ولا قدرها ولا مكانها فحينئذٍ يطالب بغسل جميع المفرشة ، فجميع أجزاء المفرشة محكوم بنجاسته .
بقيت مسألة ثالثة في السؤال : وهي لو بسط السجادة على مفرشة فيها نجاسة فهذا مبني على أنه إذا صلى بطاهر على موضع نجس هل يحكم بإعطائه حكم الأصل الذي صلى عليه ؟ أوحكم ما هو بينه وبين النجس ؟
فإن نظرنا إلى السجادة قلنا بطهارته ، قالوا هذا هو الصحيح والأقوى ؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم صلى على ظهر الحمار ، ومعلوم أن ظهر الحمار كانت عليه البردعة ، والبردعة حائل طاهر ، ثم إن بدن الحمار لايخلو من بوله - أكرمكم الله - النجس فحينئذٍ قالوا حكم بطهارة الموضع ؛ لأن الحائل يعتبر فاصلاً بينهما ، وفرَّق بعض العلماء بين الحائل المركب والحائل المنفصل ، فالحائل المركب كالبيوتات وغيرها ربما أعطوا الأعلى حكم الأدنى فقالوا : من صلى على سطح حمامٍ أخذ حكم أسفله ، وقالوا إن هذا الاتصال يعطي حكم ما أسفله ، ومن هنا قالوا من ملك أرضاً ملك أعلاها ، وفرَّعوا عليه الطواف في الدور الثاني ، وكذلك السعي في الدور الثاني لأن من ملك أرضاً ملك سماها لقوله عليه الصلاة والسلام :(( من ظلم قيد شبر من الأرض طوقه من سبع أرضين)) فجعل ما علا وسفل آخذ حكم الأصل ، والله تعالى أعلم .
وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.(13/30)
بسم الله الرحمن الرحيم
قال المصنف - رحمه الله -: بَاب مَا جَاءَ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كَانَ إِذَا أَرَادَ الْحَاجَةَ أَبْعَدَ فِي الْمَذْهَبِ …
الشرح:
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين أما بعد :
فقد ذكر المصنف رحمه الله هذه الترجمة التي اقتبسها من حديث المغيرة أن النبي صلى الله عليه وسلم أبعد في المذهب عند قضائه للحاجة ، والعرب تقول أبعد ضد القرب ، ومرادهم بذلك البعد في المذهب إذالم ير شخصه أو كان بعيداً ، بحيث لا يستطيع الإنسان أن يراه.
وقوله رحمه الله " ماجاء": أي ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم ، وهذه الترجمة من أدب المصنف - رحمه الله- مع سنة النبي صلى الله عليه وسلم وذلك أنه جعل لفظ الترجمة كلفظ الحديث الوارد عن النبي صلى الله عليه وسلم من كلام المغيرة رضي الله عنه وأرضاه ، وهذا النوع من التراجم هو أفضل أنواع التراجم وأحسنها ؛ وذلك لأنه تأدب مع الوحي ، وبعض العلماء رحمهم الله يذكر التراجم بالمعاني ، ويكون السبب الداعي إلى ذلك اختلاف الأحاديث والآيات ، فكأنه يقصد أن يجمع بينها بلفظ متقارب ، ولا إشكال في كلا النوعين ، ولكن الأفضل أن يتأدب المترجم مع الوارد في كتاب الله وسنة النبي صلى الله عليه وسلم ، وكان الإمام أبو عبد الله محمد بن إسماعيل البخاري يراعي ذلك في كتابه الجامع الصحيح ، فقد اعتنى بلفظ الآيات وبلفظ الأحاديث الواردة عن النبي صلى الله عليه وسلم ، ولكن العدول عن ألفاظ الآيات والأحاديث ربما يحتاج إليه لمقصد يريده المجتهد ، أو يريده الإمام من جمع الأحاديث المختلفة والآيات المتعددة ، فحينئذ يعدل إلى المعاني بدل الاقتصار على الألفاظ .(14/1)
ومراد المصنف بهذه الترجمة أن يذكر ما ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم من رعاية التستر عند قضائه للحاجة ، وينبغي على المسلم إذا أراد أن يقضي حاجته أن يحفظ عورته ، لأن هدي الإسلام ، يوجب عليه أن يحفظ سوءته ولا يبديها للناس ، وإبداء السوءات ، والعورات والتساهل في كشفها أمام الناس منقصة لمن فعل ذلك ، فتنة للناظر والمنظور ، ولذلك لا يجوز للمسلم أن يتساهل بتعاطي الأسباب ، ومن تعاطي الأسباب أن يقترب من الناس ، ويكون مكان قضائه للحاجة قريباً بدون وجود حائل ، أما إذا وجد الحائل فإنه لا إشكال .
قال المصنف رحمه الله : حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَهَّابِ الثَّقَفِيُّ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَمْرٍو عَنْ أَبِي سَلَمَةَ عَنِ الْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ قَالَ:"كُنْتُ مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِي سَفَرٍفَأَتَى النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم حَاجَتَهُ فَأَبْعَدَ فِي الْمَذْهَبِ ".
الشرح:(14/2)
هذا الحديث يرويه المغيرة وهو المغيرة بن شعبة رضي الله عنه وأرضاه وهو أبو عيسى وقيل أبو محمد وقيل أبو عبد الرحمن المغيرة بن شعبة الثقفي أحد الأجلاء من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم بايع تحت الشجرة فاستوجب المرضاة من الله -- جل جلاله -- وفي الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:(( لن يلج النار أحد بايع تحت الشجرة)) فكان أحد الذين بايعوا تحت الشجرة ، وكان رضي الله عنه من أجلاء أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ومن دهاة العرب المشهورين ؛ ولذلك كان يقال له مغيرة الرأي إشارة إلى دهائه وحنكته في التصرف في الأمور حتى قال قبيصة يصفه " لو أن مدينة لها ثمانية أبواب لا يخرج من باب منها إلا بمكيدة لخرج المغيرة من أبوابها كلها " فكان محمود الرأي ، عظيم الدهاء ، وكان مع ذلك يكرم النبي صلى الله عليه وسلم ويجله حتى لما بعثت قريش عروة بن مسعود إلى النبي صلى الله عليه وسلم يوم الحديبية لكي يتفاوض معه في الصلح جعل عروة يمسك بلحية النبي صلى الله عليه وسلم يستعطفه ويسترحمه خشية أن تقع الفتنة والحرب ، فقال المغيرة له اكفف يدك عن لحية رسول الله صلى الله عليه وسلم وإلا لما عادت إليك ، أي : سأقطعها لك ، وكان رضي الله عنه وأرضاه مع النبي صلى الله عليه وسلم في سفر كما ورد في هذه الرواية مبهماً ، والسفر مأخوذ من الإسفار يقال أسفر الصبح إذا بان واتضح ضوءه ، وأسفرت المرأة عن وجهها إذا كشفت حجابها ، ومنه قوله عليه الصلاة والسلام :(( أسفروا بالفجر فإنه أعظم للأجر)) فالعرب تصف بهذا اللفظ ما كان بيناً واضحاً ، وسمي السفر سفراً لأنه يُسفر عن وجوه الناس فيتبين الإنسان على حقيقته ، هل هو صابر أو غير صابر؟ وهل هو قوي العزيمة أو ضعيفها ؟ إلى غير ذلك مما يكشف حقائق الأمور في السفر ، ويتبين الإنسان فيه على حقيقته .(14/3)
وقوله" كنت مع النبي صلى الله عليه وسلم في سفر": قد أطلق رضي الله عنه هذا السفر وجاء في الصحيح وغيره أنه كان مع النبي صلى الله عليه وسلم يقوم على خلائه في غزوة تبوك ، فعلَّهذه السفر المطلق هنا هو المقيد في غزوة تبوك حينما خرج مع النبي صلى الله عليه وسلم لقضائه لحاجته وتخلف رسول الله صلى الله عليه وسلم يومها عن الجماعة حتى صلى عبد الرحمن بن عوف بالناس ، فهذا لعله هو المقصود هنا .
وقوله رضي الله عنه " فأبعد في المذهب": أي أبعد في ذهابه صلوات الله وسلامه عليه وهذا إنما يتحقق في الأماكن التي هي من البراز والخلاء ، حيث لا يوجد الشاخص والحائل بين الإنسان وبين أنظار الناس ، فمن كان يقضي حاجته في الصحراء والعراء فإن السنة له أن يبعد في مذهبه حتى يصيب الحسنيين :
الأولى منهما : أن يكون بعيداً عن نظر الناس لعورته فيحفظ ما أمر الله بحفظه من السوءة والعورة .
والثانية : يكون بمأمن من سماع صوت الخارج ونحو ذلك ؛ ولذلك يرتاح الإنسان عند بعده في مذهبه من الوجهين فلا أحد يستطيع أن يميز شخصه ويكشف عورته لبعد المنظر ، ولا يستطيع أحد أن يسمع صوت الخارج ، فيرتفق من ثمَّ ، وهذا الحديث موافق للترجمة التي ذكرها المصنف -رحمه الله - .
وقد أجمع العلماء رحمهم الله على وجوب تعاطي الأسباب لحفظ العورة عند قضاء الحاجة .
أما إذا كان مكان قضاء الحاجة قريباً ففيه تفصيل : فإن كان في مكان مطمئن بحيث لا يرى أحد شخصه فلا حرج ، وأما إذا كان بارزاً بحيث ينكشف إذا جلس فإنه لا يجوز له أن يجلس في هذا الموضع ويجب عليه أن يبعد في مذهبه تأسياً برسول الله صلى الله عليه وسلم .
يقول المصنف - رحمه الله- : بَاب مَا جَاءَ فِي كَرَاهِيَةِ الْبَوْلِ فِي الْمُغْتَسَلِ
الشرح:(14/4)
يقول المصنف -رحمه الله -" بَاب مَا جَاءَ فِي كَرَاهِيَةِ الْبَوْلِ فِي الْمُغْتَسَلِ" أي : في هذا الموضع سأذكر لك ما ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم مما يدل على كراهية بول الإنسان في المكان الذي يغتسل فيه ، وقد صحت الأحاديث عن النبي صلى الله عليه وسلم وهي تدل دلالةً واضحةً على حرمة بول الإنسان في المكان الذي يغتسل فيه إذا كان من الماء فقد ثبت عنه عليه الصلاة والسلام أنه نهى عن البول في الماء الراكد ، والماء الدائم الذي لا يجري كما في الصحيح من حديث أبي هريرة رضي الله عنه وأرضاه وهذا الحديث يدل دلالةً واضحةً على تحريم البول في المكان الذي يغتسل منه بمعنى أن يكون بحيرة أو بركة أو مستنقعاً ونحو ذلك ، أما إذا كان ماءً جارياً فإنه قد ورد ما يدل على الجواز على-تفصيل سيأتي بيانه إن شاء الله تعالى في موضعه -.
ولكن المراد هنا أن يبين أنه لا يجوز للإنسان أن يبول في مكان الاغتسال وليس المراد تحريم البول في المستنقعات والمياه فذلك شيء وهذا شيء .
قال المصنف -رحمه الله - : حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ حُجْرٍ وَأَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ مُوسَى مَرْدَوَيْهِ قَالاَ أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْمُبَارَكِ عَنْ مَعْمَرٍ عَنْ أَشْعَثَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ عَنِ الْحَسَنِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُغَفَّلٍ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم نَهَى أَنْ يَبُولَ الرَّجُلُ فِي مُسْتَحَمِّهِ وَقَالَ إِنَّ عَامَّةَ الْوَسْوَاسِ مِنْهُ .
الشرح:(14/5)
هذا الحديث يرويه أبو سعيد عبد الله بن مغفل بن عبدنُهمٍ المزني ، صاحب النبي صلى الله عليه وسلم ومن الذين بايعوا بيعة الرضوان ، توفي رضي الله عنه سنة سبع وخمسين ، وقيل إحدى وستين ، والله أعلم بالصواب. … وقوله "إن النبي صلى الله عليه وسلم نهى أن يبول في مغتسله": المغتسل هو مكان الاغتسال ، وقد جاء في مستحمه وسمي المستحم مستحماً لأنه مأخوذ من الحميم فالإنسان إذا أراد أن يغتسل في الحمام فإنه يسخن له الماء لأن الماء الساخن يقلع الأذي والوسخ والقذر ، ولذلك سمي الحمام حمامًا من الحميم لأنه يسخن فيه الماء لكي يغسل به البدن والماء الحميم أقوى على قلع الأوساخ من الماء البارد ونهي النبي صلى الله عليه وسلم عن البول في المستحم ، هذه القطعة يعتبرها العلماء من الحديث صحيحة ، وقد دل على صحة متنها ما تقدمت الإشارة إليه من حديث أبي هريرة رضي الله عنه المشتمل على نهي النبي صلى الله عليه وسلم عن البول في الماء الدائم ، ولكن البول في المستحم يأتي بالوسواس من جهة كونه إذا بال في المكان ثم صب الماء على عضوه فإنه يتطاير طشاش البول على ثوبه ، وكذلك على بدنه ، وحينئذٍ يوسوس هل أصابته النجاسة أو لم تصبه ؟ وبناءً على ذلك يكون الوسواس هنا وسواس الطهارة ، وليس بالوسواس العام ، ولكنّ بعض العلماء رحمهم الله يقولون إن البول في المستحم نفسه يعتبر سبباً في جلب الوسواس أي بعمومه فيصبح الإنسان موسوساً-والعياذ بالله-ولكنّ هذه القطعة التي هي آخر الحديث تعتبر ضعيفة ، وهي من رواية أشعث بن عبد الله ويقال له الأعمى وقد ضعف العلماء رحمهم الله روايته وحديثه ، وبناءً على ذلك يقول العلماء البول في المكان الذي يستحم فيه الإنسان ممنوع لا من جهة الحديث ؛ ولكنّه من جهة المعنى أقوى فإن الإنسان لا يجوز له أن يغتسل في موضع يتسبب في نجاسة بدنه فينبغي عليه أن يتقي من هذا الوجه أي يتقي الاغتسال في(14/6)
مكان بوله ، ويقاس على ذلك أن يكون الموضع نجساً بأصله فإنه لا يغتسل الإنسان فيه للمعنى الذي ذكر ، والوسواس يكون حديثاً في نفس الإنسان منه ما يكون بسبب من الجن ، ومنه ما يكون بسبب الإنس ، فما يكون بسبب الجن والشياطين هو الأغلب والأعم ، ولكن الذي يكون بسبب الإنس يكون خاصاً في بعض المواضع ، كما هي مواضع الفتن الني يحركها أصحابها المفتونون وقد أشار الله -تعالى- إلى ذلك بقوله :{ مِنْ شرِّ الوَسوَاسِ الخَنَّاسِ - الَّذي يُوَسوِسُ في صُدُورِ النَّاسِ - مِن الجِنَّةِ والنَّاسِ}(1) فقيل إن هذا يدل عل تنوع الوساوس والخطرات ، فبعض الوساوس يكون سببها شيطان الجن ، وبعضها يكون سببه شيطان الإنس الذي يفسد قلب الإنسان على الناس ويجعله شكاكاً يحملهم على أسوأ المحامل ؛ بسبب ما كان في نفسه من خبث الطوية وسوء النية -نسأل الله السلامة والعافية - .
__________
(1) / الناس ، الآيات : 4-6 .(14/7)
… والوسواس يكون للإنسان عند بوله في المستحم بشكه في طهارته ونقائه ، وإذا كان عاماً فلا إشكال وهنا نبين أن بعض العلماء رحمهم الله أشار إلى أن للوسوسة أسباباً تكون موجبة لوقوع الناس فيها فذكروا أن الإنسان إذا تعاطى بعض الأمور أصابه الوسواس وأصابه النسيان ، ومن ذلك قولهم : إن النظر إلى المقتول ، والنظر إلى المصلوب ، وقطع القطار من الناس عند مشيهم إلى غير ما ذكروه وهو يقرب من ستٍ وثلاثين حالة ذكروها وكلها قد وردت فيها أحاديث ضعيفة لم يثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم شيء فيها ، ولذلك لا يعول على مثل هذا الأمور ، حتى إنك لترى فيها أموراً عجيبةً غريبةً فقالوا : إن توسد الإنسان لبعض ثيابه كالسراويل ونحوها يجلب النسيان إلى غير ذلك مما ذكروه ويثير العجب ، ولا ينبغي الالتفات إلى مثل هذه الأمور إلا بنص من كتاب الله وسنة النبي صلى الله عليه وسلم وينبغي على المسلم أن يكون قوي اليقين بالله-- جل جلاله --مستديم الذكر لله سبحانه وتعالى ، والذي يظهر أن أعظم الأسباب التي تجلب الوساوس هي واحد من أمرين :(14/8)
أولهما : غفلة الإنسان عن ذكر الله عز وجل وقد أشار الله سبحانه وتعالى إلى ذلك بقوله-جل شأنه-:{ وَمَنْ يَعْشُ عَن ذِكْرِ الرَّحمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانَاً فَهُوَ لَهُ قَرِيْنٌ } فأخبر سبحانه وتعالى أن الغافلين يُسلَط عليهم الشياطين فيكونون سبباً في حصول الوسوسة لهم بما لا يحمد .…… والسبب الثاني : هو معصية الله -- جل جلاله -- لأن معصية الله شؤم على صاحبها وسميت السيئة سيئة لأنها تسيء إلى صاحبها في الدنيا ، أو تسيء إليه بعد الموت ، أوتسيء إليه في الدنيا والآخرة معاً ولذلك إذا اتقى الإنسان هذين الأمرين فإن الله -- عز وجل - - يحفظ له ما أتاه من النعم من حفظ وغير ذلك لأن الله عز وجل يحفظ من حفظ حدوده ومحارمه ،ولا يمكن للإنسان أن يصاب بالبلاء إلا بنفسه كما هو صريح كتاب الله -جل وعلا-:{ وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ } فالحاصل أن هذا الحديث الذي دل على أن الوسواس يكون من البول في المستحم لا يعول عليه ، ولذلك لا يلتفت إلى شيء من هذه الأمور إلا بحديث صحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم .
قال المصنف رحمه الله : وَفِي الْبَاب عَنْ رَجُلٍ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم .
قَالَ أَبو عِيسَى هَذَا حَدِيثٌ غَرِيبٌ لاَ نَعْرِفُهُ مَرْفُوعاً إِلاَّ مِنْ حَدِيثِ أَشْعَثَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ وَيُقَالُ لَهُ أَشْعَثُ الأَعْمَى وَقَدْ كَرِهَ قَوْمٌ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ الْبَوْلَ فِي الْمُغْتَسَلِ وَقَالُوا عَامَّةُ الْوَسْوَاسِ مِنْهُ وَرَخَّصَ فِيهِ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ مِنْهُمُ ابْنُ سِيرِينَ وَقِيلَ لَهُ إِنَّهُ يُقَالُ إِنَّ عَامَّةَ الْوَسْوَاسِ مِنْهُ فَقَالَ رَبُّنَا اللَّهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ وقَالَ ابْنُ الْمُبَارَكِ قَدْ وُسِّعَ فِي الْبَوْلِ فِي الْمُغْتَسَلِ إِذَا جَرَى فِيهِ الْمَاءُ .(14/9)
قَالَ أَبو عِيسَى رحمه الله : حَدَّثَنَا بِذَلِكَ أَحْمَدُ بْنُ عَبْدَةَ الآمُلِيُّ عَنْ حِبَّانَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْمُبَارَكِ .
الشرح :
هذه الجملة من هذا الإمام محمد بن سيرين-عليه رحمة الله- تدل على كمال إيمان السلف رحمهم الله بالله-- جل جلاله -- وتفويضهم الأمور لله سبحانه وتعالى فإنه لما قيل له يقال إن عامة الوسواس منه ، قال ربنا الله لا شريك له ، هذا العبارة فيها رد لما ذكر ، ولكن يشكل على هذا إذا كان هناك حديث مرفوع عن النبي صلى الله عليه وسلم وقد يقال إنه حكي له ما ورد ؛ ولكن ظاهر الكلام لا يدل على ذلك ويكون نفي الإمام محمد بن سيرين مبنياً على أنه لم يجد في ذلك نصاً صحيحاً صريحاً ، فرد الأمور إلى الله-- جل جلاله -- فقال :" ربنا الله لا شريك له" ، فذكر لفظ الربوبية لأن الرب يدل على التصرف في الأمور فالله سبحانه وتعالى مقدر الأمور ومصرف الشؤون والأحوال سبحانه وتعالى .
وقوله"لا شريك له": الشريك مأخوذ من الشركة مثلثة يقال شِركةً وشَركةً وشُركةً ، وأصلها الاجتماع والاختلاط ، وسميت الشركة شركة لاجتماع رأس المالين ، ولاجتماع الشركاء في التصرف في أموالهم .
وقوله" لا شريك له": أي أنه سبحانه وتعالى المتفرد في هذه الأمور لا يقدرها ولا يكتبها أحد سواه ، فهو الذي يقضي بها ويقدرها ، فنفى هذا الإمام -رحمه الله - تأثير البول في الوسواس ، ورد الأمور إلى الله سبحانه وتعالى ، وهكذا ينبغي للمسلم الذي كملت عقيدته في الله-- جل جلاله -- إذا سمع من كلام العوام والناس ما يعارض الأصول الشرعية فإنه يحتج بالأصول ويذكر الناس بتوحيد الله-- جل جلاله -- ، وأنه الذي بيده مقاليد كل شيء .(14/10)
فقوله رحمه الله " ربنا الله لا شريك له" : أي لا نلتفت لأحدٍ سواه ، ليس للشياطين تسلط على الإنسان إذا لم يرد الله ذلك ، ولم يقدره على العبد فإنه سبحانه وتعالى يعصم من يشاء بلطفه ، -نسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يعصمنا بعصمته وأن يكلأنا بحفظه ورعايته -.
قال المصنف - رحمه الله- : بَاب مَا جَاءَ فِي السِّوَاكِ
الشرح:
يقول المصنف رحمه الله " بَاب مَا جَاءَ فِي السِّوَاكِ ": السواك يطلق بمعنيين :
المعنى الأول أن يراد به العود الذي يستاك به فهو المسواك سواءً كان من الأراك أو كان من غير عود الأراك ، ومن هذا الإطلاق ما ثبت في الحديث عن حذيفة رضي الله عنه أنه قال كان النبي صلى الله عليه وسلم : (( إذا قام من الليل يشوص فاه بالسواك)) ، أي يدلك فمه بالمسواك .(14/11)
ويطلق السواك ويراد به فعل السواك ، ومنه قوله عليه الصلاة والسلام : (( السواك مطهرة للفم مرضاة للرب)) فالمراد بذلك فعل السواك ، والسواك مشروع بهدي النبي صلى الله عليه وسلم القولي والفعلي فقد كانصلوات الله وسلامه عليه يأمر أمته أمر ندب واستحباب ، للإكثار من السواك خاصةً في بعض الأحوال ، كعند القيام إلى الصلاة وعند الوضوء ، -كما سيأتي إن شاء الله بيانه- ، وكذلك ورد عنه عليه الصلاة والسلام أنه كان يحب السواك ، حتى إنه قبل وفاته وعهده بالدنيا كان آخر عهده من الدنيا فعل السواك كما في الصحيح من حديث أم المؤمنين عائشة -رضي الله عنها وأرضاها- حينما دخل عبد الرحمن بن أبي بكر الصديق-- رضي الله عنه - وعن أبيه - على النبي صلى الله عليه وسلم وهو في السياق وبيد عبد الرحمن المسواك فأبَّدَه النبي صلى الله عليه وسلم بصره ، فقالت عائشة : أتحبه فأشار برأسه أن نعم ، فأخذته فقضمته فطيبته فوضعه النبي صلى الله عليه وسلم في فمه فاستن به واستاك سواكاً ما استاك مثلهصلوات الله وسلامه عليه ثم أشار بإصبعه وقال : (( اللهم الرفيق الأعلى)) ثم قضىصلوات الله وسلامه عليه .(14/12)
والسواك فيه فضائل عظيمة ، ومآثر طيبة ، فهو مرضاة لله سبحانه وتعالى لاشتماله على الطهارة التي يحب الله أهلها ، وفي الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال :(( السواك مطهرة للفم مرضاة للرب)) فكونه مرضاة لله سبحانه وتعالى يوجب للمسلم أن يكون حريصاً عليه ، قال العلماء :كونه مرضاة لله سبحانه وتعالى من جهة اشتماله على الطهارة التي يحبها -جل شأنه- ولاشتماله على التأسي والطاعة لرسول الله صلى الله عليه وسلم وفي السواك نقاء للفم ، وسلامة من الآفات ، وسلامة من نتن الروائح وقذرها ، وذلك يضر بالإنسان عاجلاً و آجلاً ، ولذلك يحمد عرفاً وطبعاً كما يحمد شرعاً ، ومن هنا قالصلوات الله وسلامه عليه:(( السواك مطهرة للفم)) .
ولكن السواك أفضل ما يكون في مواضع أفضلها عند قيام الإنسان للصلاة إما عند الوضوء ، أي عند وضوئه للصلاة ، أو حال قيامه بعد الإقامة ، للعلماء وجهان في ذلك ، وقد وردت الأحاديث عن النبي صلى الله عليه وسلم محتملة للوجهين ، ولذلك يقول بعض العلماء بالأول ويقول بعضهم بالثاني .
وفائدة الخلاف : أنه لو تسوك الإنسان عند الوضوء لا يحتاج أن يتسوك عند قيامه للصلاة ، وذلك لأنه إذا استاك عند قيامه للصلاة لم يأمن أن يجرح لثته أو يدميها فيتنجس فمه بالدم ، ولذلك قالوا لا يفعله بعد وضوئه من هذا الوجه ، كما هو قول طائفة من السلف رحمهم الله .(14/13)
ومن المواضع التي يستحب فيها السواك عند تغير رائحة الفم : إما بسبب الصمت ، وإما بسبب الطعام ، وإما بسبب الشراب ، وإما بسبب النوم والأصل في ذلك حديث حذيفة في الصحيح كان النبي صلى الله عليه وسلم (( إذا قام من الليل يشوص فاه بالسواك)) يقال شَاصَه ومَاصَه إذا دلكه ، فدل هذا الحديث على أن السنة إذا تغيرت رائحة الفم أن يستاك ولذلك قال العلماء : يستاك إذا أكل طعاماً له رائحة استضر بها فمه ، وكذلك إذا شرب شيئاً له رائحة كاللبن ونحو ذلك ، فقالوا يشرع له أن يتسوك تأسياً بالنبي صلى الله عليه وسلم في سواكه وعموم قوله : (( مطهرة للفم )) يدل على أنه يطهر الفم من بقايا الطعام ومن المواضع التي ثبتت السنة باستحباب السواك فيها عند الدخول على البيت والمنزل ، وذلك أن الزوج يخالط زوجته ويعاشرها ، وقد ثبت في الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم " أنه كان إذا دخل بيته أول ما يبدأ به السواك " ، كما في حديث شريح حينما سأل أم المؤمنين-رضي الله عنها وأرضاها- قال العلماء : ينبغي للزوج أن يحفظ رائحة فمه عند عشرته لأهله سواءً كان ذلك بجلوسه معهم أوحال معاشرته لأهله في النوم ، وهذا يدل على أنه ينبغي للمسلم أن يتعاطى أسباب العشرة بالمعروف ، فليس من العشرة بالمعروف أن يكون المسلم نتن الرائحة يؤذي أهله وزجه ومن كان قريباً منه ، وقد يغفل عن هذه السنة العظيمة بعض الناس بسبب جهلهم بهدي النبي صلى الله عليه وسلم وكم من نساء طلقت وبيوت هدمت ؛ بسبب ما كان من سوء العشرة في الحال والهيئة ، فالرجل لا يبالي في ملبسه عند دخوله على أهله ، ولا يبالي برائحته ونتنه حتى تسئم الزوجة من عشرته ، وقد جبلت النفوس على حب الروائح الطيبة والنفرة من ضدها ، فإذا دخل الزوج على زوجته بالرائحة الكريهة آذاها ، وأضرها ، ولذلك ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم في قصة العسل أنه لما اشتكت الأزواج من رائحة العسل حلف(14/14)
صلوات الله وسلامه عليه ألا يشربه وهذا يدل على كمال هديه في العشرة الزوجية ، وقد يغفل بعض الصالحين والأخيار أمثال هذه الأمور فتقع بسبب تلك الغفلة أمور لا تحمد عقباها ، وقد كان سلف الأمة رحمهم الله من الصحابة والتابعين يراعون مثل هذه المشاعر والأحاسيس ، حتى أثر عن حبر الأمة وترجمان القران عبد الله بن عباس رضي الله عنه أنه كان يدعو بالمكحلة ويكتحل ، ويسرح شعره ثم يقول لأصحابه : "إني لأحب أن أتجمل لأهلي كما أحب أن يتجمل لي أهلي " ، فشاهدنا أن السواك عند معاشرة الأهل ينبغي أن يحافظ الإنسان عليه لما فيه من التأسي بالنبي صلى الله عليه وسلم ودفع الضرر عن الأهل ، وفي حكم ذلك جلساء الإنسان ، فإذا أراد الإنسان أن يجلس مجلساً يحدث فيه الناس ينبغي أن يراعي ذلك ما استطاع إليه سبيلا ، وهكذا الحال إذا خاطب الغير وكان خطابه قريباً منه ، كأن يدني رأسه إلى رأسه فينبغي أن يحافظ على رائحة فمه ، وكان بعض العلماء رحمهم الله يسأم من الناس عند سؤالهم وقربهم عند السؤال من فم العالم ، وكانوا يقولون ينبغي للإنسان ألا يؤذي العالم عند سؤاله بالدنو منه ، لبخر الفم ونتنه ، والإنسان ضعيف لا يسلم من ذلك ، فشاهدنا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يتعاطى السواك عند جلوسه مع أهله ، رعايةً لهذه المشاعر والأحاسيس ، ودفعاً للضرر الذي يكون من نتن الفم وبخر رائحته .
قال المصنف - رحمه الله -: حَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْبٍ حَدَّثَنَا عَبْدَةُ بْنُ سُلَيْمَانَ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَمْرٍو عَنْ أَبِي سَلَمَةَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم :(( لَوْلاَ أَنْ أَشُقَّ عَلَى أُمَّتِي لأَمَرْتُهُمْ بِالسِّوَاكِ عِنْدَ كُلِّ صَلاةٍ )) .
الشرح:(14/15)
هذا الحديث حديث أبي هريرة رضي الله عنه وأرضاه يعتبره العلماء - رحمهم الله - من أهم الأحاديث التي وردت في السواك لأنه بين حكم السواك وأوضح فيه النبي صلى الله عليه وسلم عدم وجوبه .
يقول صلوات الله وسلامه عليه:(( لولا أن أشق على أمتي )) : لولا حرف امتناع لوجود ، فامتنع التكليف بالسواك على سبيل اللزوم لوجود المشقة والحرج ، وقد يستعمل هذا الحرف للدلالة على معاني أُخر : كالدلالة على الحظ كما في قوله-سبحانه-:{وَلَوْلا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ قُلْتُمْ مَا يَكُونُ لَنَا أَنْ نَتَكَلَّمَ بِهَذَا } أي هلا إذ سمعتموه ، ومنه قوله-سبحانه-:{ فَلَوْلا إِذْ جَاءَهُم بَأْسُنَا تَضَرَّعُوْا } أي فهلا إذ جاءهم بأسنا تضرعوا ، إلى غير ذلك من الآيات والأمثلة والشواهد .
وقوله -صلوات الله وسلامه عليه -:((لولا أن أشق)): المشقة تحميل الإنسان ما فيه عناء وتعب ، فتطلق على ما فيه تعب على الإنسان ، والأمر الشاق هو الصعب ، الذي لا تتحمله النفوس أو تتحمله مع وجود العناء والنصب الشديد .
والمشقة تنقسم إلى قسمين :
القسم الأول : مشقة غير مقدور عليها . والقسم الثاني : ومشقة مقدور عليها .
فأما المشقة غير المقدور عليها :فإن الله لا يكلف عباده بها ، لقوله سبحانه وتعالى :{ لا يُكَلِّفُ الله نَفْساً إِلا وُسْعَهَا } و لاشك أن غير المقدور عليه ليس في وسع الإنسان ، فهذا النوع من المشقة ، لا يكلف الله به عباده ، ومن أمثلة ذلك من أصابته المخمصة وأوشك على الهلاك ، فلو أن إنساناً أصابه الجوع ، وبلغ به الجوع إلى حد الموت ، ورأى ميتةً أمامه لو لم يأكلها لهلك ، فإننا لو كلفناه بعدم الأكل منها لتحمل ما لا يطيقه وتلفت عليه نفسه ، فحينئذٍ يخفف عنه ويقال له كل منها ، ولكن كل بقدر الضرورة والحاجة ، فهذا النوع من المشقة لا يكلف الله به عباده .(14/16)
أما النوع الثاني من المشقة : وهي المشقة المقدور عليها ، وهذه تنقسم إلى قسمين :
القسم الأول : مشقة مقدور عليها مع وجود الحرج والتعب الشديد .
والقسم الثاني : ومشقة مقدور عليها بدون حرج ولا تعب شديد . …
فأما المشقة المقدور عليها مع الحرج والتعب الشديد : فكالصيام في السفر ، والصيام في حال المرض ، فإن الصائم يمكنه أن يصبر على الطعام ثلاثة أيام ، ولكنه إذا صبر يوماً واحداً ، فإنه يشق عليه في حال السفر ، ولكنها مشقة مقدور عليها فيها عناء ، وقد يصل إلى درجة الحرج فحينئذٍ يخير الله المكلف بين الفعل والترك ، فالنوع الأول من المشقة يسقط التكليف فيه كما في مسألة الميتة .
والنوع الثاني لا يسقط التكليف فيه ولكن يخير يقال له إن شئت فصم وإن شئت فافطر ، فهذا إذا كان في حال السفر ، وهكذا إذا كان في حال المرض ، فإن صيامه حال المرض يشق عليه ، ومشقته مقدور عليها ، ما لم يصل ذلك إلى درجة يخشى معها الهلاك ، فحينئذٍ ينتقل إلى سابقه ، فإذا كان يمكنه مع المرض أن يصوم ولكنه يجد الحرج و العناء ، فنقول له أنت مخير بين الفطر وبين الصيام ، إن صام أُجر وإن أفطر فلا حرج عليه ، على ظاهر التنزيل في قوله سبحانه وتعالى :{ فَمَنْ كَانَ مِنْكُم مَرِيضَاً أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ } ، فخير الله المسافرين والمرضى بين الصيام والفطر فدل على أن المشقة إذا كانت مقدوراً عليها ، ولكن يجد الإنسان الحرج فيها خير المكلف .
القسم الثاني : من النوع الثاني من المشقة :(14/17)
أن تكون مشقة مقدوراً عليها وليس فيها حرج ، فهذا يكلف الله به وهو الأصل في التكليف فما سمي التكليف تكليفاً إلا لوجود الكلفة والمشقة ، ولذلك تخاطب بالصلاة مع الجماعة فتتوضأ لها وتخرج إلى المسجد وفي ذلك مشقة عليك ، ولكنها مشقة مقدور عليها لاتصل بصاحبها إلى الحرج والعناء فهذه يكلف الله عز وجل بها وهي المعنية بقوله -صلوات الله وسلامه عليه -:((حفت الجنة بالمكاره)) فمكاره الطاعات عند الأمر بفعلها تعتبر مشقة مقدوراً عليها ، ومكاره الصبر على المعاصي مشقة مقدور عليها مكلف العبد بها .
وقوله صلوات الله وسلامه عليه:(( لولا أن أشق )) : المراد بذلك مشقة الحرج والعناء التي هي فوق المقدور عليها بدون حرج ، ودون المشقة التي لا يقدر عليها ، وهي التي يسميها العلماء بمرتبة الحاجيات التي هي دون الضروريات .
قوله عليه الصلاة والسلام :(( لأمرتهم)) : الأمر هو الطلب يقال أمره بكذا إذا طلب منه ذلك الشيء ، وهذه اللفظة تدل على مسائل :
المسألة الأولى : أن الأصل في الأمر أنه محمول على الوجوب ، حتى يدل الدليل على ما دون ذلك من الندب والاستحباب ، فهذا هو مذهب جمهور الأصوليون - رحمهم الله - فالأصل في الأوامر أن تحمل على الوجوب حتى يدل الدليل على ما دونها ، ولذلك قالوا إنه يثاب فاعلها ويعاقب تاركها قال-تعالى-:{ أَفَعَصَيْتَ أَمْرِي} فوصف التارك للأمر بكونه عاصياً ، فدل على أن الأمر للوجوب ، وقال-سبحانه-:{ فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُوْنَ عَنْ أَمْرِهِ} فأخبر أن مخالفة الأوامر معصية فدل على أن الأصل في الأمر الوجوب .
المسألة الثانية : دل على أن السواك ليس بواجب لقوله:(( لأمرتهم)) ولم يأمرنا - صلوات الله وسلامه عليه- بالسواك ، وهذا هو مذهب جمهور العلماء .(14/18)
وخالف الظاهرية رحمهم الله فقالوا : السواك واجب ومن تركه فإنه يأثم ، وذهب إسحاق بن راهويه إلى قول عجيب ! فقال : السواك للصلاة واجب ، ومن صلى ولم يستك فإن صلاته باطلة ! وهذا قول شاذ عند العلماء رحمهم الله ؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يجعل السواك شرطاً في صحة الصلاة .
وقوله – علية الصلاة والسلام-:(( لأمرتهم بالسواك)): أي بفعل السواك ، لأمرتهم بالسواك عند كل صلاة ، أي عند فعل كل صلاة فهناك محذوف مقدر .
وقوله(( عند كل صلاة)) : فيه دليل لمن قال من العلماء إنه يسن الاستياك عند القيام إلى الصلاة ، وخالف في ذلك بعض السلف وهو قول طائفة من أصحاب الإمام مالك-رحمة الله على الجميع - فقالوا لا يستاك عند القيام إلى الصلاة ، لأنه لا يأمن أن يجرح لثته ويدميها ، وأجيب بأن الغالب السلامة "والنادر لا حكم له" ، وظاهر هذا الحديث يدل دلالةً واضحةً على أنه لا حرج في السواك إذا كان عند الصلاة ، ولكن ينبغي أن ينظر في المسواك فإن كان المسواك يجرح اللثة ويدميها ، فإنه لا يستاك لأنه يضيع ما هو آكد ، ولا ينبغي للمسلم أن يحرص على السنة لإضاعة ما هو آكد منها ، فحينئذٍ يتقيه لما ذكر .
وقوله:(( السواك)): الأصل أن يكون السواك من عود الأراك ، وأما ماعدا عود الأراك ، كالفرشاة الموجودة في عصرنا ، وهكذا القماش والمنديل ، فهل يأخذ حكم السواك أو لا يأخذ حكم السواك ؟
فللعلماء فيه وجهان فمنهم من يقول : إن من استاك بما يقوم مقام العود فهو مستاك ، لأن مقصود الشرع إزالة الأذى والضرر، وما علق بالأسنان فكما أن السواك يزيل ذلك فإن المنديل والفرشاة ونحوهما يزيل ذلك ، وقد تكون إزالته بهذه الأشياء أبلغ ، كما في بعض الأحوال ، فلذلك قالوا لا حرج ، ومن استاك بالفرشاة فإنه ينزل منزلة المستاك بالسواك ، والصحيح أن السنة أن يستاك بعود الأراك ، وهو الذي ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم .(14/19)
وأما ماعداه من الفرشاة والمنديل ، فإنه لاحرج أن يستاك بها ، ولكنها تحقق المعنى المقصود، ولا ينزل صاحبها منزلة الفاعل للسنة التي وردت عن صلى الله عليه وسلم لهذا كان الأفضل والأكمل أن يحرص المسلم على التأسي برسول الله صلى الله عليه وسلم والاقتداء به وذلك بالسواك ، وإنما يكون السواك عند الصلاة وهي الحالة الأفضل ، وقد يكون عند الصلاة لمعنى مقصود ، قال العلماء : إن النبي صلى الله عليه وسلم ندب إلى السواك عند الصلاة في هذا الحديث : لأن المصلي يقرأ القرآن وإذا قرأ القرآن تلقفته الملائكة من فمه ، وفي ذلك حديث تكلم العلماء على سنده ، قالوا وفي حكم ذلك قراءة السنة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وهكذا مجالس الفتوى والعلم ، ولكن السواك يشغل الإنسان ، ولهذا كره بعض العلماء أن يجلس في مجلس الحديث ويستاك بسواكه أو يجلس في خطبة الجمعة ويستاك بالمسواك، لما فيه من الانشغال عن سماع ذكر الله عز وجل الذي هو آكد ، ولا يشتغل بالوسيلة ويترك المقصد ، فالمقصد من السواك طيب الفم بالذكر ، فالذكر أفضل وأشرف وأكمل ، فلا يشتغل بالسواك في حلق العلم ، ولا يشتغل بالسواك في مجالس الذكر كمجالس القرآن ونحو ذلك ، لأن الله عز وجل لم يجعل للإنسان في جوفه قلبين ، ومن اشتغل بالسواك انصرف عن ذكر الله - - عز وجل -- ، وقد يقول قائل إن السواك فعل ، وذكر الله قول ، ولا يشغل الفعل عن القول ، والجواب أنه ثبتت السنة أن الفعل يشغل عن القول ، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم :(( من مس الحصى فقد لغا)) وذلك أثناء الخطبة ، لأنه إذا مس الحصى فقد فعل ، وانصرف قلبه للانشغال بالفعل عن التفكر والتدبر في القول .
- ? - ? - ? - ? - الأسئلة - ? - ? - ? - ? -
السؤال الأول:
بعد قضاء حاجتي من البول وبعد الوضوء أشعر وكأن شيئاً ينزل مني فاتأكد فلا أجد شيء ، وأحياناً أجد فماذا أفعل..؟؟
الجواب:(14/20)
بسم الله الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه أما بعد :
وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته ، - وأشهد الله العظيم رب العرش الكريم على حبكم جميعاً فيه وأسأل الله بأسمائه الحسنى وصفاته العلى أن يجمعنا بهذا الحب في دار كرامته-.
أما ما سألت عنه أخي في الله من كونك تجلس لقضاء حاجتك ثم إذا انتهيت من قضائها تشعر كأن شيئاً يخرج فإذا تفقدت لم تجد وفي بعض الأحيان تجد ، فالأصل أنك إذا انتهيت من قضاء بولك وشعرت بانقطاع البول أنك تطالب بغسل الموقع وبالقيام ، فإذا حدثتك نفسك بخروج الخارج أو شعرت كأن شيئاً يخرج فإنه لا عبرة بهذا الشعور ولا تلتفت إليه فإنه من الشيطان يريد أن يدخل عليك في صلاتك ، وأن يؤذيك في عبادتك ، فلا تلتفت إلى هذا حتى تحس بقطرة البول على فخذك أو تجدها على عضوك فحينئذٍ تنصرف للطهارة وأما ماعدا ذلك فإن اليقين طهارتك ، والله تعالى أعلم .
السؤال الثاني :
إذا استجمر الإنسان ثم بقي أثر النجاسة ، ثم أصاب الموضع العرق فهل يعفى عن هذه النجاسة أم أنه لابد من إزالتها مع التفصيل ..؟؟
الجواب:(14/21)
قال بعض العلماء : إن موضع النجاسة مغتفر ، وهذا في الاستجمار إذا استجمر الإنسان بمنديل أو بحجر أو بغير ذلك مما يجوز الاستجمار به ، فإن الاستجمار بالجامدات لا يقلع الأذى كلاً من الموضع ، بل يبقى الموضع فيه أثر النجاسة ، ولذلك إذا عرق الإنسان فإنه ينزل العرق إلى الموضع ومن هنا قال الإمام الشافعي- رحمه الله- في حديث أبي هريرة - - رضي الله عنه -وأرضاه- أن النبي صلى الله عليه وسلم قال :((إذا استيقظ أحدكم من نومه فلا يغمس يده في الإناء حتى يغسلها ثلاثاً ، فإن أحدكم لا يدري أين باتت يده)) قال : إنما ذلك في الأماكن الحارة ، لأنهم كانوا يستجمرون ، ويعرقون بسبب الحرارة فتجول يده فتصيب النجاسة وتنتقل إلى وضوئه إذا توضأ فتمضمض أو استنشق ، فالحاصل إن موضع النجاسة لا يؤمن عند الاستجمار ، ومن هنا فضل العلماء الاستنجاء بالماء على الاستجمار بالحجارة ؛ لأن الاستنجاء بالماء يقلع النجاسة ويطيب المكان أبلغ من الاستجمار بالحجارة ، وعلى هذا فلو جرى العرق إلى الموضع فبعض العلماء رحمهم الله يعتبرها مشقة معفواً عنها لأنه كان مما يقع للصحابة ولم يؤمروا بغسل الموضع ، ومنهم من قال يلزمه أن ينظف الموضع ، وأن يزيل الأذى ولاشك أن القول الأول أقوى ، والقول الثاني أحوط ، والله تعالى أعلم .
السؤال الثالث :
ما حكم السواك الذي يسقى بالنحاسات كمياه المجاري - أكرمكم الله -.. ؟؟
الجواب :(14/22)
اختلف العلماء رحمهم الله في الزروع إذا كانت مسقية بالنجاسة ، فمنهم من يقول إنه إذا سُقي الزرع بالنجاسة أخذ حكم ما سُقي به ، واستدلوا على ذلك بما ثبت في الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم :" أنه نهى عن أكل لحم الجلالة "والجلالة لاشك أنها اغتذت بالنجاسة ، فإذا كان قد نهى عن أكل لحم الجلالة فلا معنى لذلك إلا كونها اغتذت بالنجاسة ، قالوا فإذا اغتذى النبات بالنجاسة فإنه يحكم حينئذٍ بتنجس ثمرته ، فلا ينتفع بثماره ، ولا ينتفع بما يكون منه ، ومنهم من قال إنه إذا وضُعت النجاسة في الزروع فإنها تستحيل بسقي الماء ، ثم تُشرب عن طريق الجذور مادةً أخرى ، فتنتقل إلى حكم جديد غير الحكم الذي كان لها أولاً ، والأقوى الأول ، والله تعالى أعلم .
السؤال الرابع :
بأي اليدين يستاك المسلم ، وهل يستاك طولاً أو عرضاً ..؟؟
الجواب :
بسم الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه أما بعد :(14/23)
فللعلماء وجهان في اليد التي يستاك بها ، قال بعض العلماء الأفضل أن يستاك باليسار ، لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يتقي اليمين في إزالة القذر ، ولاشك أن قلع مع على الأسنان وما في الفم من أثر الطعام ونتنه أنه في حكم القذر ، فيترك ذلك ليده اليسرى ، ويكون استياكه باليسرى لا باليمنى وذلك تفضيلاً وتشريفاً لليمين على اليسار ، ومنهم من قال إنه يستاك باليمين ، لأن السواك هو الذي يلي النجاسة ، وأما اليد فإنها لا تلي النجاسة ، ولأن يده اليمين لو تركها ربما استاك بشماله فأدمى لثته ، وكلا القولين له وجهه ، فلو استاك بالشمال يتأول السنة فهو على خير ، ويثاب على ذلك لمكان احتمال النص له ، وإن استاك بيمينه لكي يتقن السواك فلا إشكال ، لكن قال بعض العلماء إذا كان استياكك باليمين أبلغ في إزالة الأذى فإن الأفضل أن تستاك باليمين ، وذلك لأنك تحقق مقصود الشرع أبلغ من إصابة سنة التيمن ، لأنها مصلحة متصلة بالعبادة ، وهي الطهارة ، وأما إذا كان استياكك بالشمال أقوى فحينئذٍ يجتمع الخيرين للإنسان من جهة كونه يتقن السواك ، ومن جهة كونه يفضل اليمين على الشمال ، وأما بالنسبة للاستياك فإنه يكون عرضاً ، وفيه حديث ضعيف : " ادهنوا غباً واستاكوا عرضاً واشربوا مصاً " وهذا حديث ضعيف لا أصل له كما ذكر العلماء رحمهم الله ، لكن أهل العلم قالوا لا يستاك بالطول ، لأنه إذا استاك بالطول أدمى اللثة ، وكذلك ربما أضر بالأسنان ، والأفضل أن يستاك بالعرض فيبدأ بالشق الأيمن تيمناً وينتهي بالشق الأيسر ، وهذا هو الأفضل والأكمل ، والله تعالى أعلم .
السؤال الخامس :
هل يجوز بعد الاغتسال الوضوء في مكان الاغتسال ..؟؟
الجواب :
لا حرج أن يتوضأ في مكان اغتساله ، لأن النبي صلى الله عليه وسلم توضأ في مغتسله ، والله تعالى أعلم .
السؤال السادس :(14/24)
علمنا أن الماء الحار أقوى على التنظيف من الماء البارد فكيف نوفق بين ذلك وبين قول النبي صلى الله عليه وسلم : ((واغسلني بالماء والثلج والبرد)) ..؟؟
الجواب :
المقام مقام نعيم وتكريم وليس مقام إزالة للأثر الحسي ، ثم اعلم - رحمك الله - أن تغّسيل الميت من جهة المعنى ، وذلك أنه غسل الذنوب ، وغسل الذنوب ليس حسياً ، وأما غسل الحسي فالحار به أبلغ ، فكلامنا في الحسي ، ومورد النص في المعنوي ، والقاعدة في الأصول : " لا تعارض إلا إذا اتحد مورد النصين"، ولذلك لاشك أن الماء الحار بالتجربة والحس أبلغ في إزالة الأذى وقلع الوسخ ، وأما بالنسبة للماء البارد فماء نعيم وتكريم ، ولذلك إذا أراد إنسان أن يزيل الوسخ فإنه يطلب الماء الحار ، لأنه يرى أن الحرارة أبلغ في إزالة الأذى ، ولكنه إذا أراد أن يستحم فإنه يبحث عن الماء البارد لكي يتنعم ويترفق ، وهذا مشاهد وموجود بالتجربة ، وفرق بين ما قصد به إزالة الأذى وبين ما قُصد به النعيم والتكريم إضافة إلى أن غُسل الآخرة للذنوب وللمعاصي كما ذُكر ، والله تعالى أعلم.
السؤال السابع :
إذا قال العبد ونذر إن نجحت ذهبت إلى الحج ، فهل هذا الحج يجزئه عن حجة الإسلام ..؟؟
الجواب :(14/25)
قوله إن نجحت أو قدم أبي أو جاء ابني من السفر هذا هو النذر المعلق الذي يكره في الشرع ؛ والسبب في ذلك أن الإنسان إذا نذر قد يظن أن الله فعل حاجته لكي يفعل ما ذكر من الطاعة ، والله غني عن عباده وعن طاعتهم ، فلا تضره معصية العاصين ، ولا تنفعه طاعة المطيعين ، تبارك الله رب العالمين ، وهذا هو المعني بقوله - عليه الصلاة والسلام -:(( إن النذر لا يأتي بخير ، إنما يستخرج به من البخيل)) ، أي لا تظن إنه لما جاءك الخير بسبب نذرك ، ولكن جاءك الخير رحمة من ربك فلا تعتقد أن النذر يقدم مؤخراً أو يؤخر مقدماً ، ولذلك نهي عن هذا النذر على سبيل الكراهة ، أما لو قلت إن شفا الله مريضي حججت ففيه تفصيل : إن قصدت أنك تقوم بالحج الذي فرض الله عليك ، وقصدت مطلق الذهاب فحينئذٍ يتحقق حج الفريضة عن ما ذكرت ويكون التعجيل آكد ، وأما إذا قصدت من ذلك حجاً مستقلاً فإنك تبدأ أول ما تبدأ بحجة الإسلام ثم تثني في العام القادم بحجة النذر ، والله تعالى أعلم .
السؤال الثامن :
هل القرض من مال اليتيم جائز أما أن في ذلك شيء ..؟؟
الجواب :(14/26)
فيه كل شيء ، مخاطرة بأموال اليتامى ، يقول العلماء : ينبغي على ولي اليتيم أن يحفظ مال اليتيم ، ولذلك لا يجوز له أن يتصدق به ، لو تصدق بمال اليتيم وجب عليه الضمان ، ويجب عليه أن يدفع المال كاملاً ، ولو قصد أفضل الطاعات والقربات لأنه مال لغيره ، حتى لو نواه عن اليتيم ، ويجب عليه أن يحفظه عن القروض ، لأنه إذا أعطاه للغير وأقرضه للغير لم يأمن أن يبلغ اليتيم ولا يجد مالاً ، فلربما ذلك الغير يصير فقيراً عند بلوغ اليتيم ، فالقرض فيه مخاطرة بأموال اليتامى ، ولذلك الذي نص عليه جمع من العلماء ، واختاره طائفة من مشائخنا رحمة الله عليهم أنه لا يجوز للولي أن يسلف أموال اليتامى ، ولا أن يقرض منها ، وإذا أقرض وجب عليه أن يضمن المال كله ، وأن يحفظ مال اليتيم وإنما يجوز له فقط أن يتاجر في مال اليتيم بالمعروف ، وبشرط أن يغلب على ظنه الربح ، أما إذا غلب على ظنه الخسارة أو شك هل يربح أو يخسر فإنه لا يجوز له أن يخاطر بماله ، والله تعالى أعلم .
السؤال التاسع :
لديّ أرض وأريد وقفها على أبنائي الذكور مع العلم أنه ليس لديّ إناث ، وأريد وقفها أيضاً من بعدهم للذكور من أولادهم دون الإناث فهل يجوز ذلك أم لا ..؟؟
الجواب :
هذه المسألة فيها خلاف بين العلماء - رحمهم الله - هل يجوز للإنسان أن يخص بوقفه بعض الورثة دون بعض أو لا يجوز ؟
فبعض العلماء يجيز ذلك ، لأن الزبير بن العوام رضي الله عنه أوقف دوراً له على بناته ، وذلك شفقة منه على بناته إذا طلقن فإنهن لا يجدن المأوى فأوقف دوره عليهن شفقة منه على بناته ، وكان بعض العلماء يجيزه كما يقول به بعض أصحاب الإمام مالك - رحمة الله عليهم - .
وبعض العلماء يرى أن الوقف على بعض الورثة كالوصية لبعض الورثة ويشدد في ذلك ، ويرى أنه يعتبر من الظلم لأنه خص الذكور دون الإناث ، وهذه هي عادة الجاهلية تفضيل الذكور على الإناث ، ولذلك قالوا :(14/27)
بنونا بنو أبنائنا وبناتنا بنوهن أبناء الرجال الأباعد
فكانوا يجعلون الحظ لأبنائهم الذكور ، وأبناء أبنائهم الذكور ، ويحرمون الإناث وبنات الذكور ، وبنات بنات الإناث ، كل ذلك منهم ظلماً للمرأة ، والله عز وجل منع من الظلم ، فهذا من تفضيل بعض الورثة على بعض ؛ ولذلك قال صلى الله عليه وسلم للنعمان:(( أتحب أن يكون ولدك في برك سواء ، قال : نعم ، قال:فاتقوا الله واعدلوا بين أولادكم)) ، فينبغي عليك العدل ، وافرض أنه قد جاءت المنية لأولادك الذكور ، ولم يبق إلا الإناث فقد حرمت نفسك من الخير ، ولذلك لا ينبغي أن يقدم على مثل هذه الأمور ، والذي أوصي به نفسي وإخواني أن يتقوا الله -- جل جلاله --في الورثة ، وألا يقدموا على مثل هذه الأمور ، والأفضل والأكمل أن تترك الأمر لأمر الله-- جل جلاله -- فالله قسم الأموال والتركات من فوق سبع سماوات ، فلست بأفضل من ربك ، ولا بأعلم بالصالح لأهلك وأولادك ، فاترك الأمور لله - - جل جلاله -- واترك هذه التقديرات فلربما جاءك أبناء يسوءونك ويضرونك ، فحينئذٍ تندم حين لا ينفعك الندم ، فالأفضل والمنبغي والأكمل أن تقتصر على هدي الشرع ، تحسن إلى أولادك بالعدل في حياتك ، وتموت والجميع عنك راضون لا يحمل بعضهم عليك في نفسه ، فيقال فعل الله بأبينا يوم فعل كذا وكذا ، فإن هذا ظلم للإناث ، وجور وتعدي لحدود الله-- جل جلاله -- وإن كان بعض العلماء يميل إليه لكن النفس تميل إلى العدل الذي أمر الله به ورسوله .
وَآخِرُ دَعْوَانَا أَنِ الحمَْدُ لِلَّهِ رَبِّ العَالَميْنَ وصلَّى اللَّهُ وسلَّم وبارك على عبده ونبيَّه محمد وعلى آله وصحبه أجمعين(14/28)
(
قال المصنف رحمه الله : حَدَّثَنَا هَنَّادٌ حَدَّثَنَا عَبْدَةُ بْنُ سُلَيْمَانَ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَقَ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ عَنْ أَبِي سَلَمَةَ عَنْ زَيْدِ بْنِ خَالِدٍ الْجُهَنِيِّ قَالَ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ :(( لَوْلاَ أَنْ أَشُقَّ عَلَى أُمَّتِي لأَمَرْتُهُمْ بِالسِّوَاكِ عِنْدَ كُلِّ صَلاَةٍ وَلأَخَّرْتُ صَلاَةَ الْعِشَاءِ إِلَى ثُلُثِ اللَّيْلِ )) ، قَالَ:" فَكَانَ زَيْدُ بْنُ خَالِدٍ يَشْهَدُ الصَّلَوَاتِ فِي الْمَسْجِدِ وَسِوَاكُهُ عَلَى أُذُنِهِ مَوْضِعَ الْقَلَمِ مِنْ أُذُنِ الْكَاتِبِ لاَ يَقُومُ إِلَى الصَّلاَةِ إِلاَّ أُسْتَنَّ ثُمَّ رَدَّهُ إِلَى مَوْضِعِهِ " .
الشرح:
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين أما بعد :
فقد ذكر المصنف رحمه الله حديث زيد بن خالد وهو أبو عبد الرحمن زيد بن خالد الجهني ، ينتهي نسبه إلى جهينة إحدى قبائل العرب ، وهي من القبائل التي كان لها بلاء في الإسلام مع النبي صلى الله عليه وسلم وفي الصحيح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال :(( أسلم سالمها الله وغفار غفر الله لها وجهينة ومزينة موالي الله ورسوله)) ، وكان أبو عبد الرحمن زيد بن خالد رضي الله عنه صاحب لواء جهينة يوم فتح مكة توفي رضي الله عنه وأرضاه سنة تسع وسبعين من الهجرة وقيل بغيرها .(15/1)
أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:((لولا أشق على أمتي)) الأمة تطلق في لغة العرب بمعان : تطلق ويراد بها الجماعة من الناس كقوله سبحانه وتعالى :{ وَلَمَّا وَرَدَ مَاءَ مَدْيَنَ وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً مِنَ النَّاسِ يَسْقُونَ }(1) أي وجد عليه طائفة وجماعة من الناس ، وتطلق الأمة ويراد بها الزمان ، ومنه قوله-- سبحانه وتعالى - -:{وَادَّكَرَ بَعْدَ أُمَّةٍ }(2) أي بعد زمان ، وتطلق الأمة ويراد بها الرجل الكامل في أخلاقه ، وكذلك الكامل في نهجه واستقامته ، ومنه قوله سبحانه وتعالى :{إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتَاً لله}(3) أي جامعاً لخصال الخير التي لا تتوفر إلا في الجماعة الكثيرة ، وهذا على سبيل التشريف والتكريم له صلوات الله وسلامه عليه وتطلق الأمة ويراد بها المنهج والطريقة والمذهب ومنه قوله سبحانه وتعالى :{ إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ}(4) أي على طريقة ، وهي طريقة الضلال وعبادة الأصنام - نسأل الله السلامة والعافية - .
وقد أضاف النبي صلى الله عليه وسلم الأمة إليه فقال:((لولا أن أشق على أمتي)) وإذا أضيفت إلى النبي صلى الله عليه وسلم فإنها تطلق بمعنيين:
المعنى الأول : أن يراد بها أمة الإجابة بمعنى أن يكون المقصود بها أتباع النبي صلى الله عليه وسلم .(15/2)
والمعنى الثاني : أن يقصد منها عموم من خُوطِب برسالة النبي صلى الله عليه وسلم سواء كان مسلماً أو كان كافراً ، فتقول هذا الرجل من أمة محمد صلى الله عليه وسلم بمعنى أنه ممن وجُد بعد بعثته وخُوطِب باتباعه - صلوات الله وسلامه عليه- بغض النظر عن كونه متبعاً له أو مخالفاً له ، كاليهودي والنصراني ، فالمقصود أن الأمة هنا المراد بها أمة الإجابة لا أمة الدعوة ، فقوله:((لولا أن أشق على أمتي))كقوله:(( إن أمتي يدعون يوم القيامة غراً محجلين)) أي أمة الإجابة لا أمة الدعوة ، ومنه قوله في الحديث الصحيح أنه إذا كانت عرصات يوم القيامة وأهوالها ، وأصبح الناس في فزع عظيم ، كانت دعوى الأنبياء إذا ضرب الصراط على متن جهنم كل يقول نفسي نفسي ورسولنا صلوات الله وسلامه عليه يقول :(( أمتي أمتي)) فالمراد بذلك أمة الإجابة لا أمة الدعوة .
وقوله :(( لولا أن أشق على أمتي لأمرتهم)): الأمر يطلق بمعان :
يقال الأمر ويراد به طلب الفعل ، أن يطلب الإنسان من غيره أن يفعل الشيء فيقول له افعل فصيغة افعل صيغة أمر تكون دالة على الطلب ، وهذا هو الأصل في الأمر .
ويطلق الأمر بمعنى الحال والشأن ، فتقول أمر فلان إلى خير أي حاله وشأنه على الاستقامة والخير ، فهذه من اطلاقات الأمر ، والمراد هنا في قوله:(( لأمرتهم بالسواك)) أي لأمرتهم أمر إيجاب وإلزام .
وقوله صلوات الله وسلامه عليه:(( لأمرتهم بالسواك)) : فيه دليل على أن أوامر النبي صلى الله عليه وسلم محمولة على الوجوب حتى يدل الدليل على الندب والاستحباب .(15/3)
وقوله:((عند كل صلاة)): قد تقدم أن هذا يدل بظاهره على أنه يشرع أن يستاك قبل الصلاة مباشرة ، وشدد في ذلك بعض أصحاب الإمام مالك ، وكذلك بعض الحنفية - رحمة الله على الجميع - فقالوا إن الإنسان إنما يستاك عند الوضوء لا عند القيام إلى الصلاة لخوف أن يدمي لثته ويجرحها ، وإذا جرح اللثة سال دمه وحينئذٍ يتنجس ؛ لأن الفم من ظاهر البدن لامن داخله كما هو معلوم ، وقد احتج بهذا اللفظ من قال بمشروعية السواك عند القيام إلى الصلاة ، ويؤيد ذلك تفسير الراوي ، والقاعدة في الأصول :" أن الراوي إذا روى وفسر ما روى بما هو موافق لظاهره فإنه حجة " عند جميع الأصوليين ، وأما إذا روى وفسر بغير الظاهر فالجمهور لا يحتجون والحنفية يحتجون ، فالمقصود أن زيد بن خالد رضي الله عنه وأرضاه فسر الحديث بالفعل، فكان إذا قام إلى الصلاة يستاك رضي الله عنه وأرضاه ، فدل على أن ظاهر هذا الحديث أن يكون السواك عند القيام إلى الصلاة ، لشرف تلاوة القرآن ، وحينئذٍ يكون مقصوداً ومطلوباً على سبيل الندب والاستحباب.
وقوله - عليه الصلاة والسلام -:((ولأمرتهم أن يؤخروا العشاء إلى ثلث الليل)) : العشاء مأخوذ من العشي ، لأنها صلاة تقع في العشي أول الليل ، وذلك عند دخول العتمة بعد ذهاب الشفق الأبيض وزواله كما هو معلوم ، وبناءً على ذلك سميت العشاء عشاءً لأنها تكون في هذا الوقت ، من باب تسمية الشيء بزمانه ، كصلاة الضحى ، سميت بذلك لأنها تقع في الضحى ، ونحو ذلك من الصلوات سميت بزمانها .(15/4)
وقوله :((و لأمرتهم بالعشاء)) : أي بصلاة العشاء أن يؤخروها ، وتأخير العشاء ثابت من هديه صلوات الله وسلامه عليه ففي الصحيحين من حديث أنس بن مالك -- رضي الله عنه - وأرضاه - قال :" أعتم النبي صلى الله عليه وسلم بالعشاء فخرج عمر يصرخ ويقول: الصلاة يا رسول الله رقد النساء والصبيان فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم ورأسه يقطر يقول :(( لولا أن أشق على الناس أو على أمتي لأمرتهم بهذه الصلاة هذه الساعة)) فدل هذا الحديث الصحيح على أفضلية تأخير العشاء ، وفي الصحيح من حديث أبي بزرة الأسلمي رضي الله عنه وأرضاه أنه لما سئل عن صفة صلاتهصلوات الله وسلامه عليه للمكتوبة قال فذكر الظهر والعصر والمغرب ثم قال :"وكان يستحب أن يؤخر من العشاء التي تدعونها العتمة " ، وكذلك ثبت في الصحيحين من حديث جابر بن عبد الله - رضي الله عنهما - فالسنة عن النبي صلى الله عليه وسلم تدل دلالةً واضحةً على أن الأفضل في العشاء أن تؤخر ، ولكن في مساجد الجماعات إذا حصلت المشقة بالتأخير فإنه يقدمها رفقاً بالناس لحديث جابر في الصحيحين عنه عليه الصلاة والسلام " أنه كان إذا رآهم اجتمعوا عجل وإذا رآهم أبطأوا أخر" فهذا يدل على أن مساجد الجماعات ينظر إلى حال الناس ، ففيهم الضعيف والسقيم ، والكبير ، وذو الحاجة الذي يريد أن يبلغ حاجته ،كالمساجد التي تكون قريبة من أسواق الناس وأعمالهم فهذا من الرفق أن يبادر بالعشاء تخفيفاً عليهم ، وتحبيباً للخير إلى قلوبهم ، فإنهم يحبون الطاعة متى ما ألفوها بالتيسير عليهم ،- وسيأتي إن شاء الله بسط ذلك عند الكلام على مواقيت الصلاة-.(15/5)
وفعل زيد بن خالد رضي الله عنه وأرضاه فيه دليل على حرص أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم على السنة ، وحرصهم على بيانها بالقول والفعل ، فلم يقتصر زيد رضي الله عنه على التحديث بحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أَتْبَعَ ذلك بالفعل أمام الناس.
قال المصنف رحمه الله : بَاب مَا جَاءَ إِذَا اسْتَيْقَظَ أَحَدُكُمْ مِنْ مَنَامِهِ فَلاَ يَغْمِسْ يَدَهُ فِي الإِنَاءِ حَتَّى يَغْسِلَهَا
الشرح :
هذه الترجمة ساقها المصنف -رحمه الله - موافقة لحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم فانظر إليه - رحمه الله- لم يقل باب ما جاء من غسل اليدين قبل إدخالهما في الإناء ، وإنما ساق لفظ الحديث أو ما هو قريب جداً من لفظ الحديث تأدباً مع سنة النبي صلى الله عليه وسلم ، أي في هذا الموضع سأذكر لك هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم والذي ورد بالأمر بغسل اليدين قبل إدخالهما في الإناء ، وغسل اليدين قبل إدخالهما في الإناء له حالتان :
الحالة الأولى : أن يكون عند استيقاظك من النوم سواءً كان نوم الليل أو نوم النهار.
والحالة الثانية : أن يكون مطلقاً .(15/6)
فأما الإطلاق فهو أن يكون الإنسان عند وضوئه كلما أراد الوضوء غسل يديه فهذه هي حالة الإطلاق ، وهي حالة دلت السنة على مشروعيتها ، وأن الأفضل للمسلم إذا توضأ أن يبتدئ بغسل كفيه ؛ والسبب في ذلك أن الكفين ينقل بهما الماء ، فإذا كانت الكفان نظيفتين نقيتين كان الماء المجعول فيهما نقياً طاهراً ، وأما إذا كانت الكفان قذرتين أو نجستين تأثر الماء بذلك ، فمن حكمة الشرع وما ورد عنه عليه الصلاة والسلام أن يحافظ على غسلهما سواء تحقق من طهارتهما ، أو تحقق من نجاستهما ، أو شك في شيء من ذلك ، فالأفضل والأكمل في الإطلاق أن يبتدئ المتوضئ بغسل كفيه ثلاثاً حتى ولو تحقق من كونها طاهرة ؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم ما توضأ إلا ابتدأ بغسل كفيه فغسلهما بالماء ، ولذلك قال العلماء : بسنية غسل اليدين قبل إدخالهما في الإناء على الإطلاق .
وأما الحالة الثانية ففيها حديث الباب وخلاف بين العلماء مشهور :
فالقول الأول : وقد ذهب جمهور العلماء رحمهم الله إلى أنه إذا استيقظ النائم من نومه أنه يستحب له أن يغسل يديه قبل إدخالهما في الإناء ثلاثاً ، وهذا هو مذهب الحنفية والمالكية والشافعية والحنابلة في رواية .
القول الثاني : أنه يجب على المستيقظ من النوم أن يغسل يديه ثلاثاً قبل أن يدخلهما في الإناء ، وذلك من النوم مطلقاً سواءً كان نوم ليلٍ أو كان نوم نهارٍ ، وهذا هو مذهب الظاهرية ، وطائفة من أهل الحديث - رحمة الله على الجميع -.
القول الثالث : أنه يجب غسل اليدين ثلاثاً قبل إدخالهما في الإناء إذا استيقظ الإنسان من نوم الليل دون نوم النهار ، فيفرقون بين نوم الليل ونوم النهار ، وهذه هي الرواية الثانية عن الإمام أحمد ، وهي المذهب عند أصحابه رحمهم الله ، فتحصل من ذلك أن معنا في هذه المسألة ثلاثة أقوال :
القول الأول : بالسنية والاستحباب أي يثاب من غسل ولا يعاقب من ترك .(15/7)
والقول الثاني : الوجوب من نومٍ مطلقاً سواءً مستيقظاً من نوم الليل أو مستيقظاً من نوم النهار ، وهو مذهب بالظاهرية ومن وافقهم من أهل الحديث .
والقول الثالث : الوجوب من نوم الليل دون نوم النهار كما هو مذهب الحنابلة - رحمة الله على الجميع - .
استدل الجمهور على الاستحباب والندب بأن الأحاديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وردت بمحافظته على غسل يديه قبل إدخالهما في الإناء سواءً كان في حال يقظته أو حال قيامه من النوم ، قالوا فهذا يدل على الندب والاستحباب إضافة إلى أن الأحاديث التي أوجبت إنما عللت بعلة لا تقتضي الوجوب ، وذلك في قوله - صلوات الله وسلامه عليه-:(( فإن أحدكم لا يدري أين باتت يده)) وهذه علة يعرفها العلماء بقولهم علة مشكوك فيها ، والأمر إذا علل بعلة الشك لا يقتضي الوجوب كما هو معلوم ، لأن الأصل في اليد أنها طاهرة ، والشك أنها أصابت النجاسة فنبقى على الأصل من كونها طاهرة فلا يجب عليه غسلها ، هذا هو حاصل ما استدل به الجمهور ، وأكدوا ذلك بأن الله سبحانه وتعالى لم يفرضه في الوضوء على ظاهر آية الوضوء .
وذهب الظاهرية إلى الوجوب مطلقاً على ظاهر حديث أبي هريرة في الصحيحين :(( إذا استيقظ أحدكم من نومه فليغسل يديه ثلاثاً قبل يدخلهما في الإناء)) ، قالوا هذا يدل على الوجوب على كل مستيقظ من النوم سواءً كان استيقاظه من نوم ليلٍ أو كان من نوم نهارٍ .
واستدل الإمام أحمد - وهو القول الثالث - على وجوبها من نوم الليل دون نوم النهار بالعلة ، وذلك في قوله في الحديث المتقدم:((فإن أحدكم لا يدري أين باتت يده)) فقال رحمه الله : البيتوته لا تكون إلا بالليل فأوجب غسلها من نوم الليل دون نوم النهار .(15/8)
وأرجح هذه الأقوال وأولاها بالصواب والعلم عند الله عز وجل هو القول بوجوب غسل اليدين ثلاثاً قبل إدخالهما في الإناء ، وذلك مطلقاً سواءً كان مستيقظاً من نوم الليل أو مستيقظاً من نوم النهار ، والدليل على رجحان هذا القول :
أولاً: ثبوت السنة الصحيحة عن المصطفى صلى الله عليه وسلم بالأمر بغسلهما ، ولم يرد ما يصرف هذا الأمر عن ظاهره المقتضي للوجوب .
أما الأمر الثاني: فإن من خص الوجوب بنوم الليل إنما خصه بمفهوم قوله:(( أين باتت)) والقاعدة في الأصول:"أن النص إذا خرج مخرج الغالب لم يعتبر مفهومه" فيكون قوله - صلوات الله وسلامه عليه-:(( أين باتت )) عبر به بما هو غالب ، وإذا عبر بما هو غالب لم يعتبر المفهوم ، وبناءً على ذلك يقوى الوجوب على الإطلاق ، وأما ما استدل به الجمهور من وجود العلة فإننا نقول إن اليد وإن كان الأصل طهارتها لكن جوالها في الليل موجود فقد تجول على بثرة من دم أو تجول على موضع نجاسة فتتنجس ، ومن هنا يقوى القول بوجوب غسلها ، وبناءً على ذلك يترجح قول من قال بالوجوب مطلقاً سواءً كان الإنسان مستيقظاً من نوم الليل أو كان مستيقظاً من نوم النهار .
قال المصنف رحمه الله : حَدَّثَنَا أَبُو الْوَلِيدِ أَحْمَدُ بْنُ بَكَّارٍ الدِّمَشْقِيُّ يُقَالُ هُوَ مِنْ وَلَدِ بُسْرِ بْنِ أَرْطَاةَ صَاحِبِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم حَدَّثَنَا الْوَلِيدُ بْنُ مُسْلِمٍ عَنِ الأَوْزَاعِيِّ عَنِ الزُّهْرِيِّ عَنْ سَعِيدِ ابْنِ الْمُسَيِّبِ وَأَبِي سَلَمَةَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ :(( إِذَا اسْتَيْقَظَ أَحَدُكُمْ مِنَ اللَّيْلِ فَلاَ يُدْخِلْ يَدَهُ فِي الإِنَاءِ حَتَّى يُفْرِغَ عَلَيْهَا مَرَّتَيْنِ أَوْ ثَلاَثاً فَإِنَّهُ لاَ يَدْرِي أَيْنَ بَاتَتْ يَدُهُ )) .
الشرح:(15/9)
يقول عليه الصلاة والسلام :((إذا استيقظ أحدكم من الليل)): الاستيقاظ هو انتباه الإنسان من النوم .
وقوله:(( فليفرغ على يديه)): أي ليصب على يديه ، وقوله:(( فليفرغ على يديه)) بناءً على ما كان موجوداً في عهدهصلوات الله وسلامه عليه ويكون ذلك بإمالة الإناء بالشمال على اليمين ثم غسل كلتا يديه .
وقوله:(( فليفرغ على يديه)) : ظاهره أن يغسل كلتا اليدين وقد جاءت الرواية في الصحيحين كفيه ثلاثاً والكفان مثنى الكف فيكون المراد بقوله يديه هنا المراد به الكفان ، و ليس المراد به اليد بكمالها لأن الشرع ربما أطلق اليد و أراد بذلك اليد بكمالها ، و ربما أطلق و أراد جزء اليد لا كل اليد ، فأما إطلاقه على بعض اليد كحديثنا الذي معنا، وحد اليد التي يجب غسلها ثلاثاً عند الاستيقاظ من النوم من أطراف الأصابع إلى الزندين وذلك يتأكد بالكفين ولذلك عبر بالكفين وإن كان المراد من أطراف الأصابع إلى الزندين ، والكفان مثنى كف ، سمي الكف كفاً لأنه تُكف به الأشياء وتُدفع .
وقوله عليه الصلاة والسلام :(( فليفرغ على يديه)) : غسلك لليدين يكون على صورتين :
الصورة الأولى : أن تصب وتغسل اليمين على حدة ثلاث مرات ، ثم تصب على شمالك فتغسلها ثلاث مرات فيكون الصب حينئذٍ بست مرات لكل كف ثلاث .
الصورة الثانية : أن تصب على اليد وتجمع الماء فيهما ثم تغسلهما معاً وهذا هو المراد وهو السنة التي قصدها رسول الله صلى الله عليه وسلم بهذا اللفظ ؛ ولذلك يجمع غسل اليدين ولا يفرق بينهما ويجمع الغسل بصب الماء عليهما معاً ، قال العلماء لأنه إذا جمعهما في الغسل فإنه يكون ذلك أبلغ في نقائهما ، وأبلغ في طهارتهما لأنه يستعين بكل يدٍ على الأخرى في طهارتها ونقائها ، وتقوى اليدين على دلك القذارة والأذى الموجود فيهما.(15/10)
وقوله:((فليفرغ على يديه مرتين أو ثلاثاً)): قوله((فليفرغ)) أمر ، والأمر يدل على الوجوب ، ففيه دليل للظاهرية والحنابلة-رحمة الله على الجميع- أن غسل اليدين قبل إدخالهما في الإناء يعتبر واجباً للمستيقظ على التفصيل الذي ذكرناه .
وفيه دليل على أن الشريعة تدفع الشكوك والشبهات وتدفع الخواطر والوساوس الرديئة ، وذلك أن الإنسان إذا نام شك في يديه ، ولذلك قطعت الشريعة الشك باليقين فألزمتك بغسل يديك حتى يزول ما في نفسك من ظن نجاستهما ، وبناءً على ذلك يعتبر أصلاً في قطع الشكوك ومن أمثلة ذلك ما ثبت في الصحيحين من حديث أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم " دخل على أم حرام بنت ملحان فقال لها ولأنس :((قوموا فلأصل لكم )) قال أنس :"فقمت إلى حصير قد أسود من طول ما لبس فنضحته بماء " فاليقين أن الحصير طاهر ولكنه نضخه بالماء قطعاً للشك والوسوسة ، ولذلك قال العلماء - رحمهم الله - من شك هل خرج منه البول أو لم يخرج وتسلط عليه الشيطان بهذه الوساوس فإنه بعد استنجائه ينضح ثوبه بالماء حتى إذا قال له الشيطان خرج منك شيء وشككه في البول ، فإنه يحمله على الماء الموجود ، قطعاً للشك باليقين وهذا منهج سامٍ يقصد منه راحة المسلم ودفعه للخطرات والوساوس لأن الشيطان يؤذي المسلم بما يكون في قلبه من الشكوك والوساوس والخطرات .
وقوله :(( فإن أحدكم لا يدري أين بات يده)) -كما هو رواية الصحيحين - وهي تمام الحديث تدل على علة الحكم فكأن النبي صلى الله عليه وسلم أراد أن يبين أن الأمر بغسل اليدين سببه الشك في طهارتها ؛ ولذلك قال العلماء :لو أن إنساناً شك في يديه فإنه يقطع الشك بغسل اليدين حتى ولو لم يكن نائماً .
أما إذا تحققت من وجود النجاسة في اليدين فإنه يجب عليك غسل النجاسة وإزالتها .(15/11)
وقوله عليه الصلاة والسلام :(( فيفرغ على يديه مرتين أو ثلاثاً)) : رواية بالشك فقال بعض العلماء : الشك هنا مرتفع بالجزم فتكون رواية الصحيحين بالثلاث جازمة بأن الغسل إنما يكون ثلاث مرات ، وفيه مسائل :
المسألة الأولى : احتج بهذا اللفظ طائفة من السلف على أن النجاسات يجب غسلها ثلاث مرات فالمرة الأولى تقلع عين النجاسة ، والثانية تذهب الأثر ، والثالثة يستبرئ المكلف بها من وجود أثر النجاسة ، فقالوا كل نجاسة علقت بالثوب أو البدن أو المكان فإنه يجب على المسلم أن يغسلها ثلاثاً ؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بالغسل ثلاثاً ، ومن هنا قال فقهاء الحنابلة ومن وافقهم-رحمة الله على الجميع - : لا يجزئ في غسل النجاسات إلا ثلاثاً منقيةً ، فإذا وقعت النجاسة على ثوبك فلا تخلو من حالتين :
الحالة الأولى : أن تغسلها ثلاث مرات وينظف الثوب منها فحينئذٍ لا إشكال .
والحالة الثانية : أن تغسلها أن تغسلها ثلاثاً ويبقى الأثر بعد الثلاث ، فيجب عليك أن تزيد غسلة رابعةً وخامسةً وسادسةً على حسب الحال حتى تتأكد من زوال النجاسة ، فقولهم بالغسل ثلاثاً شرطه أن تزول النجاسة ولا تبقى .
أما لو بقي أثر النجاسة فإنه يجب عليك الزيادة حتى ترتفع ، وهناك نوع من النجاسات زاد الشرع في غسله وهي نجاسة الكلب حيث أمرنا -صلوات الله وسلامه عليه - بغسل الإناء إذا ولغ فيه الكلب سبع مرات ويعفر الثامنة بالتراب ، وتكون غسلة التراب داخلة في السبع وليست بغسلة ثامنة زائدة لرواية مسلم : (( إحداهن أو أولاهن بالتراب)) ، وتكون رواية :(( عفروه الثامنة )) لا يراد بها الترتيب وإنما يراد بها وجودها داخل الغسلات ، وبناءً على ذلك تعتبر نجاسة الكلب مستثناة من هذه النجاسات ، وقاس بعض فقهاء الحنابلة نجاسة الخنزير فقالوا الخنزير إذا ولغ في الإناء وجب غسله سبعاً والثامنة بالتراب ، وهو قياس ضعيف .(15/12)
والصحيح أن النجاسات تغسل ثلاث مرات إلا الكلب ، وأما إذا كانت النجاسة على الأرض كالنجاسة التي تقع في المسجد ونحو ذلك فيجزئ صب الماء صبة واحدة تذهب بعين النجاسة لما ثبت في الصحيحين من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في بول الأعرابي :(( أريقوا عليه سجلاً من ماء)) فصب صبة واحدة - صلوات الله وسلامه عليه- على بوله واجتزأ بهذه الصبة فدل على أن العبرة بها ، وأنه إذا صب على النجاسة الموجودة على الأرض صبةً واحدةً أجزأت إذا أزالت النجاسة وقلعت.
وقوله- صلوات الله وسلامه عليه- :((فليغسل يديه قبل أن يدخلهما في الإناء)) فيه مسألة ثانية وهي أن ورود النجاسة على الماء يؤثر وهي مسألة تعرف بمسألة ورود النجاسة على الماء وورود الماء على النجاسة فعند من يقول بتحديد الماء بالقلتين فيفرق بين القليل والكثير بالقلتين كما هو مذهب الحنابلة والشافعية يقولون من أدخل يداً نجسة في إناء دون القلتين فإن الإناء يتنجس ، سواءً تأثر الماء أولم يتأثر .
وقال فقهاء المالكية : لا يتنجس الماء إلا إذا تغير لونه أو طعمه أو ريحه وبه قال فقهاء الظاهرية وفرق الحنفية بين القليل والكثير بالحركة ، فقالوا : إذا كان للماء موج بحيث لو حركت طرفه لم يسر إلى الطرف الآخر فهو كثير ولا يتأثر كأن تدخل إلى بركة حركت طرفها لا يتحرك طرفها الثاني ، أو لا يبلغ الموج طرفها الثاني فحينئذٍ إذا وقعت يدك النجسة في هذه البركة فإنها لا تتأثر ولا يحكم بتأثر الماء .(15/13)
والصحيح مذهب المالكية والظاهرية أنك لو أدخلت اليد النجسة على السطل أو على الإبريق وكان فيه ماء طهور أننا لا نحكم بنجاسته إلا بتغيره لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال:((إن الماء طهور لا ينجسه شيء)) فالأصل في الماء أنه طهور ولا يحكم بنجاسته إلا بيقين ، ولا يقين من لون ولا طعم ولا رائحة فبقي على الأصل الموجب لطهوريته ، وأما استدلالهم بحديث القلتين فهو استدلال بالمفهوم والقاعدة : " إذا تعارض المفهوم والمنطوق قدم المنطوق على المفهوم" ، ومفهومهم مفهوم عدد فيه ما فيه ، إضافةً إلى أن حديث القلتين لم يخل من كلام ، وعلى القول بتحسينه لا يقوى على معارضة ما هو أصح منه .
وقوله - عليه الصلاة والسلام -في هذا الحديث الذي معنا كما هو رواية الصحيحين-:((فإن أحدكم لا يدري أين باتت يده)) فيه مسائل :
المسألة الأولى : فيه أنه ينبغي للمسلم أن يقطع الشكوك باليقين كما قدمنا .(15/14)
المسألة الثانية : فيه الأدب في الخطاب حيث إن النبي صلى الله عليه وسلم لم يصرح ، حيث لم يذكر جولان اليد إلى الموضع النجس وهذا من كما أدبهصلوات الله وسلامه عليه وهو منهج الكتاب والسنة ولذلك قال سبحانه وتعالى :{ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ}(1) فعبر بالمسيس وكنى به عن الجماع ، وكذلك في قوله:{ الَّلاتِي دَخَلْتُم بِهِنَّ }(2) فعبر بالدخول كنايةً عن الجماع تأدباً ، وكذلك قوله: { أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ }(3) كل ذلك أدب رباني في بيان الأحكام والشرائع ، ولذلك كان من الأدب للعالم والفقيه والمفتي ونحوهما أن يراعي الكنايات بدل التصريح ، ولكن إذا وجدت حاجة إلى التصريح فإنه يصرح فلا يجوز للعالم أن يعدل إلى الكنايات التي توقع الناس في لبس في الأحكام ، خاصة في هذه الأزمنة التي ضعف فيها إدراك الكثير ، وأصبحت اللغة غريبة حتى بين أهلها ؛ بسبب تفشي العامية بينهم فكونه يعدل إلى الكنايات التي لا يعرفها إلا من له ذوق بمعان اللغة أمر من الصعوبة بمكان خاصة إذا خاطب العوام فحينئذ يصرح لمكان الحاجة ، أما إذا كان من معه يفقه ويفهم فالسنة والهدي أن يتأدب وألا يصرح مراعاة للأدب تأسياً بكتاب الله وسنة النبي صلى الله عليه وسلم .
قال المصنف - رحمه الله -: بَاب مَا جَاءَ فِي التَّسْمِيَةِ عِنْدَ الْوُضُوءِ
الشرح:
قوله - رحمه الله -" ما جاء في التسمية عند الوضوء" : التسمية تفعلة من الاسم ، والمراد بالتسمية أن تقول عند وضوئك بسم الله وهذه التسمية لها صورتان :
الصورة الأولى : أن تكون مجزئة ، والصورة الثانية : أن تكون على الكمال .(15/15)
فأما صورة الإجزاء: فهي أن يقول بسم الله ، فهذا هو اللفظ المعتبر للتسمية عند الإطلاق ، وأما إذا قال بسم الله الرحمن الرحيم فهذه هي أكمل صور التسمية التي نص عليها كتاب الله عز وجل كما في قوله سبحانه وتعالى :{ إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمَانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ }(1) فهذه هي التسمية الكاملة ، فإذا قُصِدَ مَقْصِدُ الإجزاء فإن المراد أن يقول بسم الله ، وإذا أطلقت التسمية على كمالها فقوله بسم الله الرحمن الرحيم فإن قال المتوضئ عند وضوئه بسم الله الرحمن الرحيم صدق عليه أنه مسمٍ ، وكذلك إذا أراد أن يأكل أو يشرب فقال بسم الله الرحمن الرحيم فقد سمى تسميةً شرعيةً نص الكتاب عليها في أكمل صورها ، ولا وجه لقول من يقول إنها بدعة ، فقد أخطأ القول حينما خطأ التسمية الواردة في كتاب الله عز وجل ، والمحفوظ عن أهل العلم رحمهم الله أن أقل ما يجزئ في التسمية في الوضوء ولكن أن يقول بسم الله فقط فإن زاد الرحمن الرحيم فلم ينص أحد على بدعية الزيادة بلفظ الرحمن الرحيم ؛ لأن الأصل في الشرع أنها تسمية على الكمال ، وقوله بسم الله هو الأصل ، وذكر اسم الله عند الوضوء فيه بركة وخير .
والسؤال لو قال: بسم الرحمن ، أو قال بسم الرحيم ، أو بسم الملك ، أو بسم القدوس ، فهل ذلك يصدق عليه أنه تسمية ..؟؟(15/16)
والجواب: أن المشهور عند العلماء أن ذلك مخالف للسنة ، وأن السنة أن يقول بسم الله، وفي الصحيح عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال لأصحابه في قصة الماء لما تفجر بين أصابعه:(( توضئوا بسم الله)) فدل على أن السنة أن يقول بسم الله ، وبناءً على ذلك لا حاجة أن يعدل الإنسان إلى الألفاظ الأخر: كقوله في التكبير ( الله أرحم ) أو (الله أجل) أو (الله أعظم) فكما لا يجزئ في التكبير إلا هذا الوارد كذلك لا يجزئ في التسمية إلا هذا الوارد ، وقد يقال كيف يزاد بالرحمن الرحيم ؟ قلنا : لوروده ، بخلاف قوله بسم الرحيم و بسم السلام ونحو ذلك ، فإنه لم يرد عنه عليه الصلاة والسلام العدول عن لفظ الجلالة ، ولفظ الجلالة أجل الأسماء وأرفعها وأعظمها ؛ ولذلك قال-تعالى-:{هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيَّاً}(1) قال بعض العلماء : هو اسم الله لم يتسم به أحد سواه ؛ ولذلك قال بعض العلماء إنه هو الاسم الأعظم الذي إذا دعي به الله أجاب ، وإذا سئل به أعطى ، وإذا استرحم به رحم ، قالوا ولكن الناس يحرمون الإجابة بسبب سوء المطعم أو بسببٍ ما يقتضي ردَّ إجابتهم وإلا فهذا الاسم هو أعظم الأسماء ولذلك قالوا إنه يقول بسم الله .
وقوله"التسمية عند الوضوء" : التسمية عند الوضوء تكون على صورتين :
من يوجب التسمية في الوضوء يقول المطلوب أن تكون قبل أول فرض من فرائض الوضوء ، فيسمي قبل غسل وجهه ، وبناءً على ذلك لو نسي التسمية فتمضمض واستنشق ، ثم تذكر قبل أن يغسل وجهه فسمى ثم غسل أجزأه على هذا القول لأنهم يرون وجوبها عند أول فرض من فرائض الوضوء .
ومن أهل العلم من قال : هي واجبة ولو ذكرها قبل آخر عضو من أعضاء الوضوء أجزأه ، وليس المراد أن يذكرها عند ابتداء الوضوء ، ولكن يقولون بالتخفيف في حالة النسيان أكثر من العمد .(15/17)
وقوله" التسمية عند الوضوء" : فيه دليل على فضل ذكر اسم الله عند الوضوء ، وذلك أن اسم الله فيه بركة وخير ، قال العلماء : إن المتوضئ إذا ذكر اسم الله انخنس الشيطان فلم عنه يستطع على وسوسته في وضوئه ، خاصةً إذا ذكر اسم الله عز وجل بقلب موقن صادق مستحضر لعظمة الله-سبحانه- ، فإنه إذا ذكر الله من قلبه انخنس الشيطان وضعف أثره على العبد ، فشرعت التسمية قطعاً لوساوس الشيطان لأن للوضوء شيطاناً ، وللصلاة شيطاناً ، فيوسوس للإنسان في وضوئه ويوسس له في طهارته ، وبناءً على ذلك يكون ذكره لاسم الله عز وجل يخنس به الشيطان ويقوى به باعث الطاعة للرحمن ، ولاشك أن اسم الله فيه بركة ما كان في قليل إلا كثَّره ، ولا يسير إلا باركه ولذلك قال سبحانه وتعالى :{تَبَارَكَ اسْمُ رَبِّكَ ذِي الْجَلالِ وَالإِكْرَامِ }(1) فاسم الله فيه بركة وخير ، ولو لم يكن فيه إلا ذكر الله لكفى ؛ ولذلك قال سبحانه وتعالى :{ وَلَذِكْرُ اللهِ أَكْبَرُ }(2) هذه التسمية تشرع عند الوضوء ولا يخلو المتوضئ من حالتين :
الحالة الأولى : أن يكون في مكان يتسنى له أن يذكر اسم الله كأن يكون في موضع غير نجس ، وفي موضع يصلح أن يسمي ويذكر الله فيه فحينئذٍ لا إشكال .
والحالة الثانية : أن يكون في موضع لا يصلح أن يذكر اسم الله فيه كدورات المياه في داخلها .
هل تكون التسمية مشروعة في حقه باللفظ؟ أو يسمي داخل نفسه ؟وجهان:
فمنهم من يقول إنه يسمي باللفظ ، وهذا قول شاذ يفتي به بعض المتأخرين ، وذلك جموداً على ظاهر الحديث ، ويقول إنه يتنحى عن موضع قضاء الحاجة ، ويذكر اسم الله .(15/18)
والصحيح أنه لا يتلفظ ، فقد ثبت في الحديث عنه عليه الصلاة والسلام أنه مر عليه الرجل وهو يقضي حاجته فسلم عليه فلم يرد عليه صلوات الله وسلامه عليه وقال:(( إني كنت على حالة كرهت أن أذكر اسم الله عليها)) فهذا يدل على أنه لا يتلفظ ، وإنما يسمي في نفسه ، ويكون عدوله عن الظاهر إلى الباطن لوجود المقتضي ووجود العذر الذي يعذر فيه بترك الظاهر ، فمن هنا رخص العلماء أن يذكر اسم الله في نفسه ، وهكذا الحال لو سمع الأذان وهو يقضي الحاجة داخل الخلاء فإنه يردد ألفاظ الأذان في نفسه على هذا القول ، وقد أشكل على هذا القول أن الكلام النفسي ليس بكلام ، وإنما الكلام يكون بالقول ! والجواب أن النبي صلى الله عليه وسلم وصف ذكر النفس بكونه ذكراً كما في الحديث الصحيح: أن الله-تعالى- يقول :(( فإن ذكرني في نفسه ذكرته نفسي)) فدل على أن الكلام النفسي في هذه المسألة ذكر وأنه مشروع ولذلك يعدل إلى ذكر الله- - عز وجل -- بقلبه ولا يتلفظ بلسانه لأن المكان لا يشرع فيه ذكر اسم الله ، والله تعالى أعلم.
- ? - ? - ? - ? - الأسئلة - ? - ? - ? - ? -
السؤال الأول :
إني أحبك في الله سؤالي هو كيف يكون السواك عند الوضوء ؟ وهل هو قبل أم بعد أم أثناء الوضوء عند المضمضة مثلاً ..؟؟
الجواب :
بسم الله الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه أما بعد :
فقال بعض العلماء : السواك عند الوضوء أن يكون قبل الوضوء فقبل أن يتوضأ يستاك ، ثم بعد ذلك يشرع في وضوئه ، ورواية عند كل وضوء يقولون إن المراد بها عند إرادة الوضوء .(15/19)
والوجه الثاني يقول : إنها تكون أثناء الوضوء ، وذلك قبل مضمضته ، أو أثناء المضمضة ، فإذا مضمض فإنه يبتدئ فيستاك ، ثم يمضمض الثانية والثالثة إن ثنى وثلث ، وأما إذا لم يثنِّ ويثلث فإنه يبتدئ بالسواك قبل مضمضته ثم يتمضمض ، فيقولون بشرعية السواك مع الوضوء ، أي مصاحباً للوضوء ، قالوا لأنه أبلغ في النضافة والنقاء ، وبناءً على ذلك قال بعض أصحاب الشافعي على هذا الوجه إذا لم يتيسر له السواك فإنه يدلك بإبهامه أثناء مضمضته ، فهذا هو الوجه الذي جعل بعضهم يقول إنه عند المضمضة يدخل إصبعه لدلك ظاهر الأسنان عند فقد السواك وعدم وجوده ، وبناءً على ذلك قالوا يصحب السواك المضمضة ، والصحيح أنه يكون قبل الوضوء ، أي قبل الشروع في الوضوء ، سواءً كان ذلك قبل الوضوء مباشرة أو كان أثناء الوضوء ، لكن يتفرع على القولين أن الإنسان لو استاك بعد قضائه للحاجة ، وحصل الفاصل بينه وبين وضوئه ، فإنه في هذه الحالة يكون قد أصاب السنة من جهة كونه استاك قبل وضوئه .
وأما على القول الثاني فإنه لا يعتبر مصيباً للسنة إلا إذا كان سواكه مع الوضوء ، وهذه الحالة لاشك أنها أبلغ في النقاء وأبلغ في تحقيق مقصود الشرع ؛ فلذلك إذا استاك قبل الوضوء يراعي قرب الوقت من الوضوء حتى يحقق مقصود الشرع ، لأنه ربما استاك قبل الوضوء ، ثم بعد ذلك أكل أو شرب ، ثم تمضمض فحينئذٍ يكون نقاؤه أقل مما لو كان سواكه مصاحباً لوضوئه ، وأحبك الله الذي أحببتنا من أجله ، والله تعالى أعلم .
السؤال الثاني :
هل ورد حديث صحيح في طول حجم المسواك ..؟؟
الجواب :(15/20)
ذكر بعض العلماء حد الشبر ، ولكن الرواية لا أحفظ فيها نصاً صحيحاً يدل على صحتها وثبوتها والأمر في ذلك واسع ؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال:(( لولا أن أشق على أمتي لأمرتهم بالسواك)) وأطلق ، وكذلك قوله:(( السواك مطهرة للفم)) وأطلق ، فإن قصير السواك وطويله على حد سواء ، لكن بعض العلماء رحمهم الله يقولون : إذا وردت السنة وكان فيها مألوف معروف ، وشيء غير مألوف ولا معروف يلفت الأنظار ، ويجعل الإنسان أشبه بالاشتهار فإنه ينبغي أن يتقى ، حتى لا يكون سبيلاً لشهرته ، وقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن لباس الشهرة ؛ لأنه يلفت أنظار الناس إلى الإنسان ، ويجعله متميزاً عن إخوانه ، قالوا فإذا كان هذا في اللباس يكون كذلك في الهيئات والأحوال الأخر ، فمن يأخذ سواكاً متميزاً على صورة يقصد بها أن يشتهر بين الناس فإنه لا يخلو فعله هذا من النظر ، ويبقى على أصل الشرع من السواك لا حد فيه ، والله تعالى أعلم .
السؤال الثالث :
ما حكم صلاة رجل وهو يصلي أتاه الدم من الأنف وهو الرعاف ماذا يجب عليه أن يعمل..؟؟
الجواب :
بسم الله الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه أما بعد :
فمن أصابه الرُّعَافُ أثناء الصلاة فلا يخلو الدم الخارج من حالتين :
الحالة الأولى : أن يكون نزيفه على خارج ، بمعنى أن ينتثر من أنفه ، والحالة الثانية : أن يكون إلى داخله ، وتخرج القطرة والقطرتين مع الأنف ، بحيث لو أدخل إصبعه لوجد الدم ، فإن كان في الحالة الأولى الحالة التي يخرج فيها الدم قطرة وقطرتين أي يسيراً ، وكان الدم الذي خرج قليلاً بحيث لم يبلغ قدر الدرهم البغلي - وهو قدر الهللة في زماننا ، أو القرش في يومنا-فإنه حينئذٍ يغتفر هذا الدم اليسير ولا يؤثر لا في طهارة حدث ، ولا في طهارة خبث .(15/21)
ومن أمثلة ذلك لو كان في سنه دم ، أو كان هناك بثرة - وهي الحبة الصغيرة على يده - عصرها فخرج منها القيح أو خرج منها الدم أو خرج منها الصديد كل ذلك لا يؤثر إذا كان بقدر الدرهم - وهو قدر الهللة كما ذكرنا ، أو القرش الموجود في زماننا - سواء تفرق الدم أو كان مجتمعاً في مكان واحد ، فلو تفرق بأن أدخل يده أو منديله فخرجت القطرة اليسيرة ، ثم أدخل ثانية فخرجت قطرة يسيرة فيجمع القطرتين بالقدر فإن بلغت قدر الدرهم أثرت ، إذا جاوزته وكانت فوقه ، وأما إذا كانت دونه فإنها لا تؤثر في الصلاة ولا في الطهارة بإجماع العلماء ؛ لأن الله تعالى يقول:{ أَو دَمَاً مَسْفُوحَاً أَو لَحْمَ خِنْزِيْرٍ فَإِنَّه رِجْسٌ }(1) فجعل الحكم متعلقاً بالسفح وهو الدم الكثير .
أما إذا كان الدم كثيراً وخارجاً من الأنف فللمصلي حالتان :(15/22)
الحالة الأولى : أن يمكنه غسل الدم بماء قريب ، دون أن ينحرف عن القبلة ودون أن يكون هناك عمل كثير يخرجه عن هيئات الصلاة وأركانها - مثلاً كأن يكون يصلي وبجواره بركة ماء ، أو بجواره حوض ماء وهذا الحوض ولو كان بعيداً عنك خطوة أو خطوتين أو ثلاثاً عن يمينك أو أمامك فتمشي إليه بالخطوة والخطوتين بشرط ألا تنحرف عن القبلة ، ولا تعمل عملاً كثيراً تنتقل فيه من ركن إلى ركن، كأن تنتقل من القيام إلى القعود ونحو ذلك ، أو تنحني إلا إذا كانت الصلاة نافلة فيجوز لك أن تقوم وتقعد ؛ لأن النافلة يجوز فعلها قائماً وقاعداً ، الكلام في الفريضة ، فإذا كان صنبور الماء أو حوض الماء قريباً منك بحيث يمكنك أن تمشي إليه أو تقترب منه دون أن تنحرف من القبلة أو يكون منك كثير عمل أو تخرج عن هيئات الصلاة وأركانها ، فحينئذٍ تغسل الدم وأنت في صلاتك وترجع إلى صلاتك وصلاتك صحيحة ، ويكون هذا الفعل من مصلحة الصلاة ، كما لو نزع عنه ثوباً نجساً والأصل في هذا ما ثبت في الصحيح من حديث أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم كان في صلاة فخلع نعليه فخلع الصحابة نعالهم فلما سلم قال : ما شأنكم ؟ قالوا : رأيناك خلعت فخلعنا ، قال:(( أما إنه قد أتاني جبريل فأخبرني أنهما ليستا بطاهرتين)) قال العلماء : خلع النبي صلى الله عليه وسلم نعليه ففعل فعلاً بقصد الطهارة ، ودفع النجاسة عن بدنه ، فدل على مشروعية أن تغسل هذه النجاسة دفعاً لها عن بدنك حتى يحكم بصحة صلاتك ، فهذا الفعل معفو عنه ويعتبر ذلك مغتفراً في صلاة الإنسان ، سواءً كان إماماً ، أو كان مأموماً ، أو كان منفرداً .(15/23)
الحالة الثانية : أن يكون الماء بعيداً عنك ، أو لا يمكنك تناوله أو أخذه إلا بعمل كثير ويخرجك عن هيئات الصلاة كأن تكون في غرفة وتحتاج أن تنتقل إلى غرفة ثانية ، أو يكون الماء في غير جهة القبلة تحتاج أن تنحرف إليه أو تكون في فريضةٍ قائماً فتنتقل إلى قعودٍ أو انحناءٍ إلى ركوع فحينئذٍ تبطل صلاتك بخروج الدم ، وتذهب لغسل هذا الدم وإزالته ، ثم ترجع وتستأنف الصلاة ، وخروج الرعاف يوجب نجاسة البدن ونجاسة الثوب إن أصابه ذلك الدم ، ولا يوجب بطلان وضوئك ، والله تعالى أعلم .
السؤال الرابع :
إذا أخرت العشاء عن وقتها لغرض تطبيق السنة ولكن كانت الجماعة التي صليت بها أقل من الجماعة التي تركتها ، فهل يجوز ترك الجماعة الكبيرة والصلاة في جماعة صغيرة..؟؟
الجواب :(15/24)
هذه المسألة تعتبر من تعارض الفضائل ، فمثلاً لو كانت هناك جماعتان : جماعة تبكر ، وجماعة تؤخر ، وكلاهما يمكنك أن تصلي فيه فلا شك أن تأخرك إلى الجماعة الأخرى فيه فضيلة في الزمان ، وصلاتك مع الجماعة الأولى قد يكون لها فضل العدد كأن تكون أكثر عدداً ، أو تكون مثلاً في موضع مفضل كالحرمين ، فهل الأفضل فضيلة الزمان أو فضيلة المكان ؟ وهل الأفضل فضيلة الجماعة أو فضيلة الزمان ؟ فإن كانت الجماعة الأولى في المسجد الحرام أو أحد المسجدين مسجد مكة أو المدينة فحينئذٍ تتعارض فضيلة الزمان وفضيلة المكان ، فإن قلنا أخر العشاء فحينئذٍ تفوتك فضيلة المكان وتصيب فضيلة الزمان ، وإن قلنا قدم العشاء وأدرك الجماعة الأولى فإنك تدرك فضيلة المكان وتفوتك فضيلة الزمان ، فكان الوالد رحمه الله يختار تقديم فضيلة الزمان على فضيلة المكان ، ويحتج بأن الصحابة-رضوان الله عليهم- لم يكونوا يؤخروا الصلاة إلى مسجد النبي صلى الله عليه وسلم إذا أدركتهم أول الوقت ، وهذا القول قوي وأميل إليه ؛ لأنه ثبت في بعض الأحاديث ما يدل على مراعاة فضيلة الزمان وتقدمها على فضيلة المكان ؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال:(( إن العبد ليصلي الصلاة وما يصليها في وقتها ولما فاته من وقتها خير له من الدنيا وما فيها)) فدل على فضيلة تقديم الزمان على المكان ، وبناءً على ذلك إذا كان الأفضل في الصلاة أن تكون في أول وقتها فإنه حينئذٍ تراعي الجماعة التي تبكر ، وإن كان الأفضل أن تؤخر الصلاة إلى آخر وقتها كالعشاء فتراعي الجماعة التي تؤخر إلى آخر الوقت ؛ لكن بعض العلماء يقول باستحباب تقديم فضيلة المكان ويحتج لذلك بحديث صلح النبي صلى الله عليه وسلم بين حيين من بني عوف ، فإن النبي صلى الله عليه وسلم تأخر في الصلح بينهم فتقدم أبوبكر وصلى بالناس فجاء النبي صلى الله عليه وسلم متأخراً على جماعته ولو كانت فضيلة الزمان أفضل لصلى-صلوات(15/25)
الله وسلامه عليه- في الطريق ولم يؤخر إلى مسجده .
لكن أجيب عن هذا الدليل بأنه مرتبط بالجماعة فخرج عن موضع نزاعنا لأن الصحابة كانوا ينتظرونه فراعى انتظارهم فخرج النص عن موضع النزاع ، وإذا خرج النص عن موضع النزاع لا يقوى على الاحتجاج به ، أما كثرة الجماعة والقلة فالأحاديث دالة على أن الجماعات يفضل فيها كثرتها على قلتها لقوله- عليه الصلاة والسلام -:(( صلاة الرجل مع الرجل أزكى من صلاته وحده وصلاته مع الرجلين أزكى من صلاته مع الرجل وكلما كان أكثر كان أزكى)) قالوا : فهذا يدل على فضيلة الجماعة الأكثر ، فحينئذٍ يقع التفضيل بين الزمان وبين الجماعة ، فننظر ففضيلة الزمان متصلة بالعبادة ؛ لأن الوقت من شرط صحة العبادة ، وفضيلة العدد منفصلة عن العبادة ؛ لأنها ليست شرطاً في صحة الجماعة فقوي الزمان من جهة كونه متصلاً بشرط الصحة ، فيقدمون في مثل هذا فضيلة الزمان لاتصالها بشرط الصحة على فضيلة العدد .(15/26)
يبقى التفضيل لو كان المسجد أقدم مثلاً هناك مسجدان مسجد قديم ومسجد جديد ، فالمسجد القديم الصلاة فيه أفضل من المسجد الجديد ؛ لأن الله –تعالى-يقول:{ لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيْهِ }(1) فدل على أن المسجد القديم أفضل وأزكى من الصلاة في المسجد الجديد ؛ لأن المسجد كلما قدم كلما كانت الطاعة فيه أكثر ، والقربة لله-- سبحانه وتعالى - -فيه أشهر ، وهو أحق من الذي يكون من بعده فنص العلماء على أن الجماعات تفضل مساجدها بقدمها ، ولذلك قالوا : لو تكررت الجمع فكان هناك مسجد قديم ومسجد جديد فإن الجمعة للمسجد القديم إذا كان التكرار بدون عذر ، فتبطل جمعة الجديد مع وجود جمعة القديم ، وهذا هو الصحيح الذي يقول به طائفة من السلف رحمهم الله أنه إذا تعددت الجمع بدون حاجة فالعبرة بالمسجد القديم ، إذا ثبت أن المسجد القديم أفضل من المسجد الجديد فتقع مسألتنا كذلك إذا كان المسجد القديم يبكر ، والمسجد الجديد يؤخر العشاء فحينئذٍ فضيلة زمان وفضيلة مكان ، فكما قلنا في المسألة الأولى أن الأفضل أن يؤخر فحينئذٍ يكون التفضيل للتأخير ، والله تعالى أعلم .
السؤال الخامس :
ما حكم من يأتي متأخراً ويزاحم المصلين في الصف الأول ويقصد فضيلة الصف وكذا القرب من مجلس العالم وكذلك من يكون بحذاء الإمام ، وأيضاً من يحدث ضغطاً في الصف في صلاة العشاء قد يضر بالآخرين..؟؟
الجواب :(15/27)
هذا السؤال الحقيقة تكررت الشكوى منه ، وكل مرة أريد أن أذكره ولكنني أنسى ، ويعلم الله أنه جاء من غير ترتيب ، الحقيقة في هذا المسجد يشتكي الإخوان من دخول بعض الأخوة متأخرين مثلاً في صلاة المغرب ويزاحمون أهل الصف الأول ، ولا شك أن هذا لا يجوز ؛ لأن فيه إضراراً ، ولا يجوز لأحد متأخر أن يؤذي المتقدم ، والسابق أحق ، وقد يصل ببعضهم أنه لا يحسن الركوع ولا يحسن السجود ، ويعلم الله أنني لا أصلي المغرب كله لأجل أنني أرى أنه ليس من حقي أن أدخل في صف أول وأوذي أهله ، وهذا من الأسباب التي تدعوني في بعض الأحيان في المحاضرات والدروس ألا أحضر في الصلاة ؛ لأنه ليس من حقنا أن نأتي إلى أقوام سبقوا ومنهم من يكون في بعض الأحيان من العصر في المحاضرات والدروس بعضهم يحضر من العصر ، ويتكلف من المشقة والعناء ما الله به عليم ، ويأتي أخوه يزاحمه فلا يستطيع يركع ولا يستطيع أن يسجد ويصل به من الحرج والضيق ما الله به عليم ؛ ولذلك أوصي الإخوة ألا يتميزوا على إخوانهم ، هذه بيوت الله ولا ينبغي لأحد أن يتفضل على أحد ولا أن يؤذي أخاه ، وكلٌ يصلي في مكانه الذي هو أهل أن يصلي فيه إن جاء متأخراً فمتأخر وإن جاء متقدماً فمتقدم ، أما أن يأتي إلى الصف الأول وخاصة عند إقامة العشاء الكثير يتقدم إلى الصفوف الأولى ، ويحدث ربكة وأذية للإخوان الذين يصلُّون في الصف الأول ، العالم والدرس لا شك أنها فضيلة ، ولكن ليس على حساب أذية الناس ؛ ولذلك لما رأى النبي صلى الله عليه وسلم الصحابي يتخطى الرقاب يوم الجمعة من أجل أن يصيب فضيلة الصف الأول قال له:(( اجلس فقد آذيت وآنيت)) آنيت : تأخرت ، وآذيت : آذيت المسلمين بتخطي رقابهم ، وهكذا في حلقة العلم البعض يأتي والحلقة مكتملة لكي يتخطى الرقاب وكي يجلس في منتصف الحلقة وهذا لا يجوز ، ليس من حق الإنسان أن يتخطى رقاب إخوانه ، ويؤذيهم ، ويزعجهم ، ويلفت أنظار الناس إليه أثناء الدرس ،(15/28)
أو أثناء الخطبة ، أو أثناء المحاضرة كل ذلك لا يجوز وبيوت الله يستوي فيها الغني والفقير ، والرفيع والوضيع ، ولا يجوز لأحد أن يتميز عن أحد ، ولا أن يتفضل عليه ، إذا أخوك رأى سعة وأدخلك فالحمد لله ، وإذا لم ير سعة فإنه لا حاجة أن تؤذيه ؛ والسبب الذي يجعلني أصلي بجوار الإمام هو في بعض الأحيان خوف أن أدخل في الصف الأول ، ولذلك اعتاد بعض الأخوة حتى أصبحت عادة وإلفاً ، وأصبح من الصعوبة في بعض الأحيان أن نسيطر عليها ؛ ولذلك أرجو من الإخوان أن يحصل التعاون خاصة في هذا المسجد يعني وفي المحاضرات أيضاً أن الإنسان لا يؤذي إخوانه ، وأنه إذا أقيمت الصلاة يلزم كل إنسان مكانه ، وألا يُؤذى أهل الصفوف الأول ، ويحرص على أن يكون الأمر فيه رفق بالإخوان خاصة المتقدمين .(15/29)
وأما مسألة بعد صلاة المغرب أنه ربما يزدحم الإخوة على مجلس الدرس ، أو في المحاضرات يزدحمون حولها فهذا لا يلامون فيه ، يعني كونهم يزدحمون والكل يريد أن يسبق فهذا درج عليه فعل الأئمة والسلف - رحمة الله عليهم- ، كان مالك رحمه الله الإمام العظيم تسقط عمامته وهو يزاحم على باب الإمام محمد بن مسلم الزهري -رحمة الله عليه - ، فلذلك لا حرج أن الإنسان يزاحم عند العالم لكن لا يؤذي غيره ، ولذلك نقول إنه لا عتب عليهم أن يبادروا إلى المجلس ، وإن كانوا يرون مشروعية تأخير سنة المغرب إلى بعد العشاء لا ينكر عليهم ، وبعض العلماء يرى أن فضيلة القرب من العالم أفضل من النوافل ؛ لأن المراد بها التحصيل والجد والإتقان ، وكلما كان الإنسان أقرب كلما كان أوعى وأبعد من التشويش ، لكنه إذا كان متأخراً ربما يشغل نفسه رؤية شيء ، أو يكون أبعد عن التركيز مع الإمام وضبط العلم ، فلذلك لا يلام أحد على التبكير ، ولا يلام على القرب من مجلس العالم وهو على رأيه ، وقد رأيت بعض الإخوة ربما ينكر على بعض الإخوة أنه بعد السلام يبادر إلى مجلس العالم ، لا ما يُنكر وكم رأينا من أهل الدنيا وهم يتسابقون إلى الدنيا ويقتتلون عليها ، وأولياء الله يتسابقون على الخير فلا يلامون ، ولكن بشرط ألا يؤذي بعضهم بعضاً ، ويكون ذلك بالسنن وبالرفق ما أمكن ، وأما إنسان يزاحم على العالم أو على سؤال العالم فيكون هناك المكروب ، أو المنكوب ، أو الذي عنده مشكلة ، أو طالب علم ، بعض طلاب العلم إذا أعيته المسألة لا يستطيع أن يرتاح ولا يهنأ له بال ، وقد لا يضبط الدرس بوجود إشكال فيه - وقد مرَّ بنا هذا - فلا يلام على أن يزاحم من أجل أن يبلغ العالم أو يصل إلى العالم أو يحرص على أن يسمع فتاوى العالم ، هذا لا ملامة فيه ولكن بشرط ألا يكون بأذية ، وأن يحرص على المحبة والمودة والرفق بالمسلمين ، وأن يحب الإنسان لإخوانه مثل ما يحب لنفسه حتى يبلغ درجة(15/30)
الإيمان .
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين .(15/31)
(
قال المصنف - رحمه الله-: حَدَّثَنَا نَصْرُ بْنُ عَلِيٍّ الْجَهْضَمِيُّ وَبِشْرُ بْنُ مُعَاذٍ الْعَقَدِيُّ قَالَا حَدَّثَنَا بِشْرُ بْنُ الْمُفَضَّلِ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ حَرْمَلَةَ عَنْ أَبِي ثِفَالٍ الْمُرِّيِّ عَنْ رَبَاحِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي سُفْيَانَ بْنِ حُوَيْطِبٍ عَنْ جَدَّتِهِ عَنْ أَبِيهَا قَالَ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ :(( لاَ وُضُوءَ لِمَنْ لَمْ يَذْكُرِ اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهِ )) .
الشرح :
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين أما بعد :(16/1)
فذكر المصنف رحمه الله هذا الحديث عن سعيد بن زيد بن عمرو بن نفيل ، وهو أحد العشرة الذين بشرهم النبي صلى الله عليه وسلم بالجنة ، أسلم رضي الله عنه وأرضاه قديماً ، وكان سبباً في إسلام عمر بن الخطاب رضي الله عنه وابن عمه في قصته المشهورة مع زوجه فاطمة بنت الخطاب وهي أخت عمر بن الخطاب - رضي الله عن الجميع - ، وكان سعيد بن زيد بن عمرو بن نفيل من المتمسكين بالحنيفية في الجاهلية ، ولذلك قالوا إنه كان يتعبد لله عز وجل ولم يكن على دين الوثنية ، ولما كانت غزوة بدر بعثه رسول الله صلى الله عليه وسلم مع طلحة بن عبيدالله - رضي الله عنهما وأرضاهما - ليتحسسا أخبار عير قريش ؛ ولذلك تخلف عن غزوة بدر وإن كان في الحكم كأهل بدر ؛ ولذلك قسم له النبي صلى الله عليه وسلم على الأصل المقرر في الشريعة أن الإمام إذا بعث السرايا والبعوث ، أو بعث العيون من الجيش فإنه يقسم لها في الغنيمة إن تخلفت لعذر ، ثم إنه رضي الله عنه وأرضاه عاش بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم ، وكان مجاب الدعوة ، ولذلك ذكروا أن أروى خاصمته عند مروان بن الحكم في قصة البئر والأرض التي بينها وبين سعيد رضي الله عنه وأرضاه وكانت أرضه بغربي المدينة فاشتكته إلى مروان وادعت أن سعيداً قد ظلمها في أرضها واغتصب منها حقها وكذبت عليه رضي الله عنه وأرضاه فدعا عليها وقال : اللهم أعم بصرها وأمتها في بئرها ، فعمي بصرها وسقطت في بئرها وماتت ، وكان رضي الله عنه وأرضاه من خيار أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وفضلائهم ، توفي سنة خمسين من الهجرة وقيل بغير ذلك .
حديث سعيد بن زيد : هو أحد أحاديث تسعة وردت عن النبي صلى الله عليه وسلم في التسمية ، وهي تدل على وجوب التسمية عند الوضوء .(16/2)
أما الحديث الثاني : فهو حديث أبي هريرة رضي الله عنه وأرضاه وقد رواه أبو داود وابن ماجه وأحمد في المسند .
وأما الحديث الثالث : فهو حديث أبي سعيد الخدري ويرويه ابن ماجه وكذلك يرويه الإمام أحمد في مسنده .
وأما الحديث الرابع : فحديث علي بن أبي طالب رضي الله عنه وأرضاه ويرويه ابن عدي في الكامل وهو حديث ضعيف .
وأما الحديث الخامس : فهو حديث أم المؤمنين عائشة -رضي الله عنها وأرضاها - ويرويه البزار وهو أيضاً ضعيف السند .
وأما الحديث السادس : فهو حديث أبي العباس سهل بن سعد الساعدي وقد رواه عنه حفيده وهو سهل بن العباس بن سهل بن سعد الساعدي وهو ضعيف الرواية وقد أخرجه الطبراني في الأوسط .
وأما الحديث السابع : فهو حديث أنس بن مالك -- رضي الله عنه - وأرضاه-وحديث أنس بن مالك متكلم في سنده أيضاً وقد تكلم العلماء فيه حتى ذكر بعض أهل العلم أنه لا يقبل ، وقد ذكره عبد الملك بن حبيب الأندلسي الفقيه المشهور.
وأما الحديث الثامن : فهو حديث أم سبرة .
وحديث أبي سبرة هو التاسع : وكلاهما يذكره البغوي في الصحابة وقد ذكره غيره كالطبراني وهو حديث ضعيف؛ لأنه من رواية عيسى بن سبرة بن أبي سبرة وقد تكلم العلماء فيه وضعفوا روايته .
هذه الأحاديث بمجموعها للعلماء فيها قولان :
القول الأول : إنها أحاديث ضعيفة لا تقبل ولا تنجبر ، بمعنى أنه لا يقوي بعضها بعضاً ، وهذا القول رواية عن الإمام أحمد -رحمة الله عليه- ؛ ولذلك قال لا أعلم في هذا الباب حديثاً له إسناد جيد ، وقد ذكر الإمام الترمذي رحمه الله مقالته هذه ، وكذلك ضعفها العقيلي وقال : إن أحاديث الباب لينة ، وكذلك ضعفها غيره من الأئمة - رحمة الله على الجميع- فالبزار يضعفها ويقول إن الطرق لا يعتضد بعضها ببعض .(16/3)
أما القول الثاني : فهو اعتبار هذه الأحاديث والحكم بصحتها وحسنها ، فمنهم من يقول إنها حسنة باعتضاد بعضها ببعض ، والحديث وإن كان راويه ضعيف الحفظ إذا جاء من طريق ثانٍ براوٍ مثله فإنه يعتضد ويحكم بحسنه ، ويعتبر كما أشار إلى ذلك صاحب الطلعة رحمه الله بقوله :
وحيث تابع الضعيف معتبر فحسن لغيره وهو نظر
إن لم يكن لتهمة بالكذب أو الشذوذ فانجباره أُبي
هذا الذي من غمده قد امتضى من حقق الحسنا وجا بالمرتضى
فبين رحمه الله أن الحديث إذا كان من رواية الضعيف في حفظه ، ونحو ذلك ممن تعتبر روايته فإنه حينئذٍ يعتضد برواية من هو مثله في الضعف ، والشرط في هذا الضعف ألايكون بتهمة بالكذب والوضع على رسول الله صلى الله عليه وسلم فالأحاديث الموضوعة ولو بلغت الألوف لايعتضد بعضها ببعض ، وبناءً على ذلك يقول هؤلاء الأئمة من أصحاب هذا القول إن أحاديث البسملة يقوي بعضها بعضاً ، وقد حسنها الإمام الحافظ ابن كثير ، وكذلك الإمام الحافظ المنذري ، وكذلك الحافظ ابن حجر ، والإمام ابن القيم ، وكذلك من المتأخرين الإمام الشوكاني وغير هؤلاء من العلماء والأجلاء فحكموا باعتبار هذه الأحاديث ، ومن هنا قال ابن سيد الناس رحمه الله :" الأحاديث في هذا الباب إما صحيح غير صريح أو حسناً صريح " ، ولذلك العمل عند المحققين -رحمهم الله على ثبوت هذا الحديث وأنه يحكم أو بكونه حسن للغير وإما بكونه صحيحاً لغيره.(16/4)
يقول عليه الصلاة والسلام :(( لا وضوء لمن لم يذكر اسم الله عليه)) : لا نافية ، وقوله - عليه الصلاة والسلام -:(( لاوضوء)) الوضوء بالضم هو فعل الوضوء من غسل الوجه واليدين ، وكذلك مسح الرأس وغسل الرجلين ولذلك عرفه العلماء رحمهم الله بأنه المسح والغسل لأعضاء مخصوصة وهي التي سمى الله عز وجل في كتابه ، وكذلك فعلها رسول الله صلى الله عليه وسلم وبينها بسنته ، والوضوء مأخوذ من الوضاءة والحسن وقوله:(( لاوضوء)) إذا كان الوضوء بالفتح فإنه يراد به الماء الذي يتوضأ به ، وأما بالضم فإنه فعل الوضوء ، والنفي هنا مسلط على حقيقة شرعية وهي الوضوء والقاعدة والعمل عند الأصوليين : " على أن النفي إذا سلط على الحقيقة الشرعية فإنه ينصب على الصحة حتى يدل الدليل على الكمال" -وسيأتي بسط هذه المسألة إن شاء الله تعالى- احتج بهذه الجملة من قال إن التسمية تعتبر شرطاً لصحة الوضوء وكذلك يحتج بهذا اللفظ من يقول إن التسمية واجبة .
وقد اختلف العلماء - رحمهم الله - في مسألة التسمية في الوضوء ؟ فمنهم من يقول إنها واجبة والذين يقولون إن التسمية واجبة في الوضوء ينقسمون إلى طائفتين :
الطائفة الأولى : تقول التسمية واجبة عند الذكر والنسيان ومن ترك التسمية فإن وضوءه لايصح وهذا القول يميل إليه بعض أصحاب داود الظاهري وهو رواية عن الإمام أحمد رجحها بعض أصحابه - رحم الله الجميع - .(16/5)
الطائفة الثاني : إن التسمية تسقط عند النسيان والغفلة والذهول فمن نسي التسمية فإنه يصح وضوؤه ويجزيه ، وإنما يأثم إذا كان ذاكراً لها عند ابتدائه للوضوء ، وبهذا القول قال الإمام أحمد في رواية رجحها طائفة من أصحابه وهو قول إسحاق بن راهويه من أصحاب الحديث-رحمة الله على الجميع- يقول أصحاب هذا القول إن النبي صلى الله عليه وسلم نفى الاعتداد بالوضوء وبناء على ذلك فالتسمية واجبة ولازمة للحكم باعتبار الوضوء أو إنها واجبة يأثم الإنسان عند تركها متعمداً ولايحكم ببطلان وضوئه إذا تركها ناسياً لأن النصوص في كتاب الله وسنة النبي صلى الله عليه وسلم تدل على أن الناسي غير مواخذ كقوله سبحانه وتعالى :{رَبَّنَا لا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا}(1) قالوا فالناسي لايجب عليه شيء ويحكم بصحة وضوئه وسقوط الإثم عنه بالنسيان .
وقوله عليه الصلاة والسلام :(( لا وضوء لمن لم يذكر)): الذكر ضد النسيان ، والذكر للعلماء فيه قولان :
القول الأول : إن مراد النبي صلى الله عليه وسلم بذكر اسم الله عند الوضوء أن يتلفظ الإنسان ببسم الله عند ابتداء وضوئه ، وهذا هو مذهب جمهور العلماء رحمهم الله سواءً قالوا بالوجوب أو عدم الوجوب .??
القول الثاني : إن المراد بقوله من لم يذكر اسم الله المراد به النية وذلك محله القلب ، فمراده صلوات الله وسلامه عليه بذكر اسم الله النية في القلب ، فمن نوى صح وضوؤه ومن لم ينو لم يصح وضوؤه ، وهذا القول يقول به بعض العلماء .(16/6)
والصحيح ما ذهب إليه جمهور العلماء رحمهم الله من أن المراد بذكر اسم الله عز وجل التلفظ بلفظ الجلالة المعهود ، وهذا هو المعروف عند إطلاق الكتاب والسنة لهذه الجملة كما في قوله سبحانه وتعالى :{مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللهِ عَلَيْهِ}(1) وقوله :{وَلا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللهِ عَلَيْهِ }(2) وقوله : { فَاذْكُرُوا اسْمَ اللهِ عَلَيْهَا صَوَافَّ فّإِذَا وَجَبَتْ جُنُوبُهَا فَكُلُوا مِنْهَا ..}(3) الآية ، كل ذلك المراد به التسمية ، وبناءً على ذلك يعتبر القول الذي يقول إن الذكر هو النية ضعيفاً .
والصحيح أن المراد بذلك أن يذكر المكلف اسم الله عز وجل .
وقولهصلوات الله وسلامه عليه:(( يذكر اسم الله )) :ذكر اسم الله-تعالى-له صورتان :
الصورة الأولى : أن يتلفظ الإنسان بالحروف المعتبرة للتسمية فيقول باللفظ بسم الله ، سواءً سمع ذلك أو لم يسمعه والعبرة بالنطق ، فإذا حرك الشفتين ولسانه فإنه يعتد بتسميته ، وهذا الاعتداد مجمع عليه .
الصورة الثانية : أن يذكر اسم الله بقلبه دون أن يتلفظ باللسان وهذا هو الذي يسمى بالكلام النفسي ، وللعلماء في الكلام النفسي مذهبان :(16/7)
المذهب الأول أن الكلام النفسي لا يعتد به ؛ لأن الله-تعالى- قال في كتابه:{ آيَتُكَ أَلا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ إِلا رَمْزَاً }(1) فدل على أن الكلام النفسي لا يعتد ، وأن العبرة بالكلام أن يسمع صوته وحروفه ، فما كان في داخل القلب فإنه لا يعتد به ، وهذا هو مذهب السلف الصالح رحمة الله عليهم وهو الذي فهمه أئمة السلف والتابعين من صفة الكلام لله عز وجل :أنه كلام بحرف وصوت يسمعه من بعد كمن قرب كما ورد في الخبر عن النبي صلى الله عليه وسلم ، وهو الذي دل عليه كتاب الله عز وجل :{وَ كَلَّمَ اللهُ مُوسَى تَكْلِيْمَاً }(2) وقوله :{ وَقَرَّبْنَاهُ نَجِيَّاً}(3) كل ذلك يدل على أن الكلام باللفظ وليس بكلام نفسي .
وذهب الأشاعرة إلى أن الكلام نفسي ، وأنه بدون صوت ولا حرف ، وبذلك خالفوا الأصل الشرعي الذي هو ظاهر كتاب الله وسنة النبي صلى الله عليه وسلم ، ولا يصح من المسلم أن يصف الله بكونه متكلماً كلاماً نفسياً ، بل الواجب أن يعتقد ما دل عليه ظاهر كتاب الله وسنة النبي صلى الله عليه وسلم من أن الله يتكلم ويكلم من شاء بما شاء ، وأن كلامه بحرف وصوت ، وبناءً على ذلك فلا يعتد بالكلام النفسي .
ومن هنا قال بعض العلماء : إن التسمية لا تصح إذا كانت في القلب ، حتى ولو كان الإنسان في موضع لا يتلفظ فيه ببسم الله .(16/8)
وقال بعض العلماء : إذا كان الإنسان في موضع لا يستطيع أن يتكلم فيه بالصوت وأن ينطق ببسم الله فإنه يجوز أن يذكر اسم الله في قلبه ، وهذا القول هو الصحيح ؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال في الحديث الصحيح عن الله-تعالى- :(( فمن ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي)) فوصف الذاكر في النفس بكونه ذاكراً ، والحديث يقول لمن لم يذكر اسم الله فدل على أنك إذا سميت الله في القلب أنه حينئذٍ يعتبر من ذكر الله- - عز وجل -- على ظاهر هذا الحديث وإن كان الأصل أن يتلفظ باللفظ ، وبناءً على ذلك يجوز للإنسان إذا كان في المكان المعد لقضاء الحاجة ونحوه أن يذكر اسم الله في قلبه ولا يتلفظ بشيء من ذلك .
قوله - عليه الصلاة والسلام -:(( لا وضوء لمن لم يذكر اسم الله عليه)): عليه أي على الوضوء ، وحينئذ لا يخلو من سمى على وضوئه من أحوال :
الحالة الأولى : أن تكون التسمية قبل الوضوء وذلك قبل السنن والمستحبات والواجبات والمفروضات .
مثال ذلك : أن يُقرب الإناء من موضع الماء ثم يقول بسم الله فهذه الحالة لا إشكال فيها ، وهي معتبرة وجهاً واحداً عند العلماء - رحمهم الله - .
الحالة الثانية : أن يذكر اسم الله قبل الفرائض ولا يذكر اسم الله قبل السنن ، مثال ذلك : أن يبتدئ فيغسل كفيه ، ثم يمضمض ويستنشق ويكون لا يرى فرضية المضمضة الاستنشاق ، ثم يقول بسم الله ويغسل وجهه ، وهذه الحالة معتبرة عند من يقول بوجوب التسمية ؛ لأنها واجبة قبل الفرائض لا قبل المستحبات ، فلو نسيها قبل بداية الوضوء وذكرها أثناء الوضوء فإنه يجزيه أن يكون ذلك قبل الواجبات .(16/9)
الحالة الثالثة : أن يذكرها أثناء فعله للواجبات ، كأن يغسل وجههه ويديه إلى المرفقين ثم يتذكر فيذكر اسم الله عز وجل ، فقال بعض السلف : يسمي ولو بقي من وضوئه غسله لرجليه ؛ لأنه قد ذكر اسم الله على الوضوء ، ويصدق ذلك على أول الوضوء وأوسط الوضوء وآخر الوضوء ، ولاشك أن ظاهر الحديث أن العبرة ببداية الوضوء وأنه يكون اللزوم عند بداية الفرائض والواجبات .
والسؤال : هل التسمية واجبة على الوضوء أو غير واجبة ..؟؟
للعلماء في هذه المسألة قولان :
القول الأول : إن التسمية واجبة للوضوء ، وهذا هو مذهب الظاهرية ورواية عن الإمام أحمد رواها عنه ابناه صالح وعبد الله -رحمة الله على الجميع- وبه يقول إسحاق بن راهويه وطائفة من أهل الحديث : يقولون إن التسمية على الوضوء واجبة لازمة .
القول الثاني : إن التسمية على الوضوء مستحبة وليست بواجبة ، وهو مذهب جمهور العلماء من الحنفية والمالكية والشافعية والحنابلة في رواية ، يقولون إنها ليست بواجبة فمن ذكرها أُجر ، ومن تركها ولو كان متعمداً لا إثم عليه.
والذين قالوا بالوجوب ينقسمون إلى طائفتين : فمنهم من يقول إنها واجبة وليست بشرط في صحة الوضوء ، فلو تركها الإنسان صح وضوؤه ولكنه يأثم .
ومنهم من يقول واجبة وشرط في صحة الوضوء فلو تركها بطل وضوؤه ، ثم يفترقون إلى طائفتين منهم من يعذر بالنسيان ومنهم من لا يعذر .
فهذه المسألة على قولين منقسمان إلى ثلاثة أقوال ، استدل الذين قالوا بوجوب التسمية بظاهر هذا الحديث الذي معنا ، قالوا : إن النبي صلى الله عليه وسلم نفى صحة الوضوء ، فكأنه يقول لاوضوء صحيح لمن لم يذكر اسم الله عليه ، وهذا الحديث يعتبر واضحاً في الدلالة على وجوب التسمية ولزومها .(16/10)
أما الذين قالوا بعدم الوجوب وهم الجمهور فقد احتجوا بقوله سبحانه وتعالى :{ياأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيَدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ}(1) قالوا : إن الله سبحانه وتعالى أوجب علينا عند القيام إلى الصلاة أن نبتدئ بغسل وجوهنا ، ولم يأمرنا بالتسمية على الوضوء ولو كانت واجبة لنص عليها القرآن كما في قوله -سبحانه- : {وَلا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللهِ عَلَيْهِ} فنص على لزوم التسمية ووجوبها قبل التذكية ، قالوا فلما لم يذكر في آية الوضوء لم تذكر التسمية دل على أنها فضل وليست بفرض ، وقالوا إن الحديث الذي دل على اللزوم من قوله :(( لا وضوء)) محمول على نفي الكمال وليس على نفي الصحة ، فيكون قوله :(( لا وضوء لمن لم يذكر اسم الله عليه)) المراد به : لاوضوء كامل في الأجر والثواب ، فالوضوء الذي تذكر اسم الله عليه أعظم أجراً من الوضوء الذي لا يذكر اسم الله عليه .????
الدليل الثاني : حديث عثمان بن عفان وعبد الله بن زيد وعلي بن أبي طالب رضي الله عن الجميع وكلها دلت على صفة وضوئه صلوات الله وسلامه عليه وهي أحاديث ثابتة صحيحة ، ومنها ما اتفق عليه الشيخان كحديث عبد الله بن زيد وعثمان ، وكلها لم تذكر تسمية النبي صلى الله عليه وسلم ، فلو كانت التسمية واجبة لما تركها صلوات الله وسلامه عليه ، وقد جاء أعرابي إلى النبي صلى الله عليه وسلم سأله كيف الوضوء ؟ فقال له النبي صلى الله عليه وسلم :(( توضأكما أمرك الله)) ، فرده صلوات الله وسلامه عليه إلى القرآن وليس في القرآن نص على وجوب التسمية ؛ فلهذه النصوص الصحيحة الصريحة قالوا إن الوضوء صحيح بدون تسمية ولا إثم على من ترك التسمية .(16/11)
وهذا هو القول الصحيح : أن التسمية على الوضوء ليست بواجبة ؛ وذلك لظاهر الكتاب والسنة فإن ظاهرهما واضح في الدلالة على عدم الوجوب ولذلك يعتبر حديثنا:(( لا وضوء)) متردداً بين أمرين :
الأمر الأول : إما أن يكون مراد النبي-- صلى الله عليه وسلم - - لا وضوء صحيح .
والأمر الثاني : وإما أن يكون مراده لا وضوء كامل ، والقاعدة في الأصول : " أنه إذا تردد النص بين معنيين واحتملهما وكان أحدهما معارضاً والآخر لامعارضة فيه وجب صرفه إلى الذي لامعارضة فيه " كقوله عليه الصلاة والسلام :(( لاإيمان لمن لا أمانة له)) أي لا إيمان كامل لدلالة النصوص على أن المؤمن لا يخرج من الإسلام بالخيانة ، وبناءً على ذلك فنص الكتاب والسنة صارف لحديث:(( لاوضوء)) عن الظاهر ، والقاعدة : " أنه يجوز صرف النص عن ظاهره الراجح إلى معناه المرجوح بدليل من خارج النص" وهو الذي يسميه الأصوليون بالتأويل ، وهو التأويل بالنص لا بالرأي والهوى .
وبناءً على ذلك يترجح القول بعدم وجوب التسمية ، وأن من ترك التسمية لا إثم عليه ، ولكن الأفضل والأكمل أن يذكر المكلف اسم الله عز وجل ، ولذلك قال العلماء : إنه من أسباب طرد الوسواس ذكر اسم الله عز وجل قبل الوضوء ؛ لأنه إذا ذكر الله انخنس الشيطان وقوي الجنان على طاعة الرحمن ، وحينئذٍ يتوضأ الإنسان وهو سالم من الشكوك ، قوي النفس قوي العزيمة على الخير ، على خلاف ما إذا توضأ غافلاً عن ذكر الله عز وجل ، أضف إلى أنه إذا ذكر اسم الله عز وجل فإنه ذكر محمود يؤجر على لفظه ، إضافة إلى أن ذكر اسم الله فيه بركة فاسم الله ما كان في قليل إلا كثره ، ولا يسير إلا باركه ؛ ولذلك ينبغي للمسلم أن يحتاط ، وأن يذكر اسم الله عز وجل ، فإن كان في موضع يتيسر له اللفظ تلفظ ، وإن كان في موضع لا يتيسر له التلفظ فإنه ينوي ذلك بقلبه على ما ذكرنا .(16/12)
قال المصنف رحمه الله : بَاب مَا جَاءَ فِي المَضْمَضَةِ وَالاِسْتِنْشَاقِ
الشرح:
المضمضة : مأخوذة من قول العرب مضمضت الحية إذا تحركت في جحرها .
والاستنشاق : استفعال من النَّشَق وأصل النشق جذب الشيء إلى أعلى الخياشيم بالنفس والهواء ، ولذلك سمي النشوق نشوقاً لأنه يستنشق ، بمعنى أنه يجذب إلى أعالي الخياشيم بالنفس والهواء .
وقوله رحمه الله " باب المضمضة والاستنشاق": أي في هذا الموضع سأذكر لك هدي النبي صلى الله عليه وسلم في المضمضة والاستنشاق .
أما المضمضة فقد قلنا إنها مأخوذة من قول العرب تمضمضت الحية في جحرها إذا تحركت ، وبناءً على ذلك قال العلماء في تعريفها الاصطلاحي : المضمضة إدخال الماء إلى الفم وتحريكه ثم مجه ، وبناءً على ذلك تكون حقيقة المضمضة مشتملة على ثلاثة أمور :
الأمر الأول : إدخال الماء إلى الفم ، فلا مضمضة بدون ماء .
الأمر الثاني : تحريك الماء ، فيديره في الفم يميناً وشمالاً .
الأمر الثالث: أن يطرحه من فمه .
وهنا سؤال : فإذا تخلف واحد من هذه الأوصاف فهل يصدق على الإنسان كونه متمضمضاً..؟؟
مثال ذلك : لو أدخل الماء في فمه ، ثم لم يحركه وطرحه مباشرة هل يكون متمضمضاً ؟
والحالة الثانية : أن يدخل الماء ويحركه في الفم يميناً وشمالاً ، وبدل أن يقذفه خارج الفم يبلعه ويزدرده فهل يعتبر متمضمضاً أو لا يعتبر ؟
للعلماء قولان :
أصحهما أنه لابد من الإدارة والطرح ، وأنه إذا أدار الماء ولم يطرحه فإنه في هذه الحالة لا يكون قد أزال الأذى عن بدنه ، فكأن مقصود الشرع أن يزيل هذا القذر والنتن المشتمل عليه الفم ، أن يزيله بالطرح بعد إدارة الماء ، وبناءً على ذلك فلا بد من الإدارة والطرح .
ولكن هنا سؤال : لو كان الإنسان مشلول الشق ولا يستطيع تحريك الماء ، أو كان مخدر الشق فلا يستطيع أن يقلب الماء إلى شقه الأيمن أو شقه الأيسر ..؟؟(16/13)
قال بعض العلماء : يحرك رأسه حتى يتحرك الماء في فمه ؛ لأن المقصود قلع الأذى ، أو يدخل إصبعه ويحركه في داخل الفم لإزالة الأذى ، فإذا أزال الأذى حصل مقصود الشرع ، وبناءً على ذلك فلابد من التحريك ، أما إذا كان لا يستطيع أن يحرك فإنه يحرك رأسه لكي يُدارَ الماء في فمه.
وأما الاستنشاق فقد قلنا إنه مأخوذ من النشق ، والسنة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان لا يتوضأ إلا تمضمض واستنشق صلوات الله وسلامه عليه .(16/14)
والمضمضة والاستنشاق فيهما فوائد عظيمة ، وكذلك ترتيب الشرع لها فيه حكمة بديعة ذكرها بعض السلف رحمة الله عليهم ، فأما فوائد المضمضة فإنها تزيل الأذى الموجود في فم الإنسان ، وتزيل ما ثمَّ من الروائح الكريهة والنتن ، فيقوم المصلي بين يدي الله عز وجل طاهر الفم نقياً من الأدران والقذر ، ويتلو كتاب الله عز وجل فكما طيب نفسه معنىً بتلاوته يطيب لسانه بالحس ، فلذلك قالوا إن لها فضيلة النقاء والطهارة إضافة إلى ما فيها من القربة والاحتساب ، قال العلماء : يبتدئ المكلف بإدخال الماء إلى فمه ثم يرفعه إلى أنفه ثم يغسل به وجهه وفي هذه حكمة ذكر بعض العلماء عن الأطباء من العلماء المتقدمين أن هذا الترتيب فيه سر بديع وذلك أن الإنسان يدرك الشيء إما بشمه وإما بذوقه ، وفي الفم قدرة على دفع الأذى أكثر من الأنف ، وفي الأنف قدرة على دفع الضرر أكثر من العين ، فلو أن إنساناً أخذ ماءً قذراً ، أو كان الماء فيه ضرر أو شديد اللذع أو فيه ما فيه من الأذى ، فإنك إذا أدخلته في فمك أدركت الأذى وأمكنك أن تتلافى الضرر ، ثم إذا كان هذا الشئ الذي فيه الضرر ضرره في الذوق كاللاذع والحامض فإنك تدركه بذوق اللسان فلا تستنشق به ولا تغسل وجهك ويمكنك أن تدفع الضرر قبل وصوله إلى العين والأنف ، وأما إذا كان الضرر الموجود فيه يمكنك أن تكتشفه بالشم والرائحة فإنه بعد أن تستنشق يمكنك أن تدرك ذلك عند رفعه إلى الأنف ، فحينئذٍ تسلم العين من الضرر ، ولذلك يقول بعض الأطباء المعاصرين : إن في الجسم ما يعين على دفع الضرر عنه وذلك في الفم أقوى منه في الأنف وفي الأنف أقوى منه في العين ، ولو تصورنا أن إنساناً أحضر الماء القذر وهو لا يدري أنه قذر لمكان ظلمة في ليل أو نحو ذلك ثم أخذه وغسل به وجهه مباشرة فإن العين ستتضرر ولكنه إذا تمضمض واستنشق أدرك هذا الضرر قبل أن يصل إلى العين التي هي أضعف في دفع الضرر ، ولله الحكمة البالغة(16/15)
فالحمدلله على فضله ورحمته ، وما زال الناس كلما تقدمت بهم العلوم والفهوم أدركوا سعة هذه الشريعة و عميق ما فيها من الخير و كثير ما فيها من الخير والبركة.
- نسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يرزقنا التمسك بها والثبات عليها وأن يحشرنا في زمرة أهلها إنه السميع المجيب- ، والله تعالى أعلم .
- ? - ? - ? - ? - الأسئلة - ? - ? - ? - ? -
السؤال الأول:
هل غسل اليدين عند الاستيقاظ من النوم مقيدة بإدخالها في الإناء أم يشمل صنابير المياه الموجودة الآن ..؟؟
الجواب :
بسم الله الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله و صحبه ومن والاه أما بعد :
فإن غسل اليدين يشمل حالة إدخالهما الإناء وحالة سكب الماء عليهما فالحكم واحد وذلك على ظاهر السنة الواردة عن النبي صلى الله عليه وسلم في قوله:(( فإن أحدكم لا يدري أين باتت يده)) ويكون قوله :(( فإن أحدكم لايدري أين باتت يده)) بمثابة التعليل للأمر بغسل اليدين قبل إدخالهما في الاناء فإذا ثبت أن العلة خوف الأذى الموجود في اليد فيستوي في ذلك أن يدخلها في الإناء أو لايدخلها لأنه إذا لم يدخلها فإنه سيحمل الماء بها لمضمضة و استنشاق وغسل وجه ومسح رأس و غسل رجلين ومن هنا يبقى الحكم ثابتاً سواءً أدخلهما في الاناء أو سكب الماء عليهما ، والله تعالى أعلم.
السؤال الثاني :
قلتم إن للوضوء مستحبات و واجبات فمن المستحبات المضمضة و الاستنشاق فهل إذا لم أستنشق و أتمضمض يصح الوضوء و هذا لقول الله-تعالى-:{ فَاغَسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَ أَيْدَيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ .. }..؟؟
الجواب:
هذه المسألة للعلماء فيها ثلاثة أقوال :
قول بوجوب المضمضمة والاستنشاق في الوضوء ، وقول بوجوب الاستنشاق دون المضمضة ، وقول بسنية الجميع.(16/16)
فالذين قالوا بوجوبهما معاً كما هو رواية عن الإمام أحمد وبه يقول إسحاق بن راهويه و عبد الرحمن بن أبي ليلى وغيرهم من السلف يقولون إن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بها فلذلك تعتبر واجبة كما في حديث الدارقطني:((إذا توضأت فمضمض)) قالوا هذا أمر و الأمر للوجوب وكذلك حديث الصحيحين عن أبي هريرة- - رضي الله عنه - -:(( إذا توضأ أحدكم فليجعل على أنفه ماءً ثم لينتثر)) قالوا هذان أمران و القاعدة في الأصول : " أن الأمر محمول على ظاهره من الدلالة على الوجوب حتى يدل الدليل على ما دون ذلك" الذين قالوا بوجوب الاستنشاق دون المضمضة قالوا إن أحاديث الاستنشاق أصح من أحاديث المضمضة فيجب عليه أن يستنشق ولا يجب عليه أن يمضمض كما هو مذهب داود الظاهري ، فإن داود الظاهري لايرى فرضية المضمضة ويرى فرضية الاستنشاق على ظاهر حديث أبي هريرة في الصحيحين:(( إذا توضأ أحدكم )) المتقدم ، قالوا فالاستنشاق واجب والمضمضة سنة ، وفرقوا بين المضمضة والاستنشاق من هذا الوجه .
القول الثالث وهو للجمهور قالوا إن ظاهر القرآن لايدل على الوجوب ، وظاهر السنة في حديث الأعرابي ، فإن النبي صلى الله عليه وسلم له :(( توضأكما أمرك الله )) والله لم يذكر لامضمضةً ولااستنشاقاً وإنما قال:{ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ } وهذا هو الصحيح من أقوال العلماء أنهما سنة وليستا بفرضين من فرائض الوضوء ، وذلك لأن ظاهر القرآن يدل على هذا ومن اكتفى بالأربعة الأعضاء المنصوص عليها في كتاب الله فقد صح وضوؤه وأجزأه ، ولكنه ليس على الكمال ، والكمال أن يتوضأ بوضوئه عليه الصلاة والسلام وأما الأمر هو أمر تعليم وإرشاد لوجود السنة التي دلت على صرف الأمر عن ظاهره من الوجوب إلى الندب ، والله تعالى أعلم.
السؤال الثالث :
ما حكم إدخال الأصبع في الفم عند المضمضة وفرك الأسنان بأصبعه إذا أراد بذلك المبالغة في التنظيف..؟؟
الجواب:(16/17)
هذا الفعل نص عليه بعض أصحاب الشافعي رحمة الله عليهم وقالوا إذا لم يكن عند الإنسان مسواك وأراد أن يتوضأ ، فإن مقصود الشرع أن ينظف أسنانه عند وضوئه ، فإذا لم يجد السواك فإنه يدخل أصابعه ويدلك بها أسنانه ، وهذا القول لايخلو من نظر فإن الذي يظهر أن السواك إنما يكون بالعود ويكون غيره في معناه ولايصل إلى السنة ، ولذلك الذي يظهر أنه لاحاجة إلى هذا الفعل لكنه لو فعله فهو فعل نقاء وليس بسنة أي ليس بهدي ولاسنة ولكنه يعتبر موافقاً للشرع من جهة المعنى ، ولذلك لايصل إلى الحدث ، واتقاؤه أولى ، والله تعالى أعلم .
السؤال الرابع :
مامراد النبي صلى الله عليه وسلم بقوله حينما فرغ من وضوئه : (( فمن زاد فقد أساء وظلم)) أو كما قال صلى الله عليه وسلم ..؟؟
الجواب :(16/18)
الزيادة إذا كانت في الإسباغ وهو وضوؤك ثلاث مرات ، غسلت اليدين ثلاث مرات وغسلت الوجه ثلاث مرات وغسلت الرجلين ثلاث مرات فلايشرع أن تزيد على ذلك للمرة الرابعة هذه هي الزيادة في العدد وقال بعض العلماء والزيادة في الموضع بمعنى أن الله فرض عليك أن تغسل يديك إلى المرفقين فيأتي إنسان ويتنطع-والعياذ بالله- فيغسل عضده ويبالغ في العضد ، فقالوا إن هذا من التنطع ، وحملوا عليه قوله عليه الصلاة والسلام :(( يأتي في آخر الزمان أقوام يعتدون في الطهور وفي الدعاء)) قالوا إن هذا من الاعتداء في الطهور والأثر عن أبي هريرة رضي الله عنه لما روى حديث: (( تبلغ الحلية بالمؤمن حيث يبلغ به الوضوء)) وحديثه عن النبي صلى الله عليه وسلم في الصحيح:(( إن أمتي يدعون يوم القيامة غراً محجلين من أثر الوضوء)) قال أبو هريرة فمن استطاع منكم أن يطيل غرته فليفعل قالوا كان يفهم من هذا الحديث أن الزيادة بإطالة الغرة الزيادة على موضع الوجوب ، فكان يغسل عضده يغسل إلى مرفقيه ثم يشرع في العضد ، ويبالغ في رجليه فيغسل إلى أنصاف ساقيه ، وهذا لاشك أنه خالفه فيه الصحابة - رضوان الله عليهم - والصحيح أن حلية الوضوء لمن أكثر من الوضوء وأن المؤمن إذا حافظ على أن يكون متوضئا فإنه تعظم حليته إذا كان لايبقى على حدث فكلما أحدث يتوضأ وخاصة إذا توضأ وصلى ركعتين فإنه نور ورحمة وخير وبركة ، ولذلك قال لبلال:(( إني سمعت خشخشة نعليك في الجنة فاخبرني عن أرجى عمل عملته)) قال :"ما أحدثت إلا توضأت ولاتوضأت إلا صليت ما كتب لي" ، فهذا هو الأفضل أن الإنسان تكون زيادته بإسباغ الوضوء زيادة شرعية إذا أسبغ الوضوء بالثلاث ؛ لأن الواجب عليه مرة ، دون أن يزيد على الموضع الذي حده الشرع للوضوء ، وبناءً على ذلك فإن قوله عليه الصلاة والسلام :(( فمن زاد فقد أساء وظلم)) المراد به أن تغسل مرة رابعة فلو جاء رجل وغسل وجهه أربع مرات وهو عالم وقال أريد(16/19)
الرابعة وبالغ في الوضوء مجتهداً من عنده نقول هذه بدعة وحدث ؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال:(( فمن زاد فقد أساء وظلم )) ، فلذلك لايعتبر مثاباً على ذلك بل إنه إذا علم أن الشرع يقيده بالثلاث فزاد متعدياً فإنه يأثم ، وتعتبر الرابعة بدعة ، خاصة إذا قصدها ونواها وأعتد بذلك قربة لله-سبحانه- ، واختلف العلماء لوأنك توضأت فغسلت أعضاء الوضوء ثلاثاً ، ثم أردت أن تتوضأ مرة ثانية هل يكون وضوءك للمرة الثانية غسلة رابعة فتعتبر من الإساءة والظلم ؟ للعلماء قولان :
منهم من يقول : إساءة وظلم فالوضوء على الوضوء شرطه ألا يكون الأول مسبغاً ، فإن كان مسبغاً فإن الثاني يكون حينئذ غسلة رابعة فلا يشرع .
وقال بعضهم إنها ليست بغسلة رابعة لأن النبي صلى الله عليه وسلم كما في الحديث الصحيح عنه لما سئل أنتوضأمن لحوم الإبل؟! قال:(( نعم قيل أن نتوضأ من لحوم الغنم قال إن شئت)) فجعل الخيار له ولم يقيده بالثلاث ، والقاعدة تقول:"أن ترك الاستفصال في مقام الاحتمال ينزل منزلة العموم في المقال" أي إن شئت فتوضأ وضوء على وضوء سواء كان غسلك للإسباغ أو لم يكن للإسباغ ، لكن هناك من العلماء من قال يفرق بين كونك تصلي أو تتنفل بالوضوء الأول ، فيجوز لك أن تبني الوضوء الثالث لوجود الانقطاع ، ولكن هذا التفصيل لادليل عليه ، ولذلك الذي يظهر جواز الوضوء على الوضوء لإطلاق النبي-- صلى الله عليه وسلم - - في الوضوء من أكل لحم الغنم على التخيير دون أن يفصل ، وهذا هو الصحيح وأن الوضوء على الوضوء لايعتد غسلة رابعة ، وإن كان الأولى والأفضل أن يتقي ذلك ، والله تعالى أعلم.
السؤال الخامس :
هل المضمضة والاستنشاق يفصل بينهما بحيث يكون هناك غرفة للفم ثم بعد ذلك يغرف للأنف فيكون مجموع الغرفات ست غرفات ثلاث للفم وثلاث للأنف ..؟؟
الجواب:(16/20)
هذه المسألة اختلف العلماء رحمهم الله فيها ، من أهل العلم من يقول السنة أن تجمع بين المضمضة والاستنشاق من كف واحد ، وهو الذي ثبت في حديث عبد الله بن زيد في الصحيحين أن النبي صلى الله عليه وسلم :((تمضض واستنشق ثلاثاً من كف واحدة )) فتأخذ الكف فتقسمها بين المضمضة وبين الاستنشاق فتجعل نصفها مثلا لفمك والنصف الثاني لأنفك ، وقال بعض العلماء : وهو الصفة الثانية إن السنة أن تفصل بينها ثلاث للمضمضة وثلاث للاستنشاق والصحيح والأقوى أنه يصل ولايفصل أي يجمع بين المضمضة والاستنشاق من كف واحد ، وبناءً على ذلك يكون مجموع الغرفات ثلاثاً وتكون الثلاث جامعاً فيها بين المضمضة والاستنشاق على حديث عبدالله بن زيد-- رضي الله عنه - وأرضاه-، والله تعالى أعلم.
السؤال السادس :
هل صحيح أن يبالغ الانسان بأن يصل الماء الى الحلق لكي يحقق المضمضة ..؟؟
الجواب :
الدين لا حدث فيه و لا غلو فان النبي صلى الله عليه وسلم لما أمر الفضل أن يلتقط له سبع حصيات أخذهن بيده وقال:(( بمثل هذا فارموا وإياكم والغلو)) فالشيطان إذا يئس من الانسان في الشر جاءه في الخير والطاعة ولذلك ربما أهلك العابد بعبادته و أهلك المتنطع بتنطعه - نسأل الله السلامة والعافيه - تمضمض وحرك الماء في فمك ولا تبالغ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال لقيط بن صبره كما في الحديث في السنن وهو حديث صحيح:((وبالغ في الاستنشاق إلا أن تكون صائماً)) ولم يقل له بالغ في المضمضة فدل على أن السنة أن يبالغ في الاستنشاق و أن المبالغة في المضمضة تعتبر من الحدث والبدعة ، و الله تعالى أعلم .
السؤال السابع :
يقول السائل ذكرت في الدرس السابق أن من رأى جنابة فعليه إعادة الصلاة يقول فما الدليل على ذلك وما حكم من كان يأخذ بالحديث :((رفع عن أمتي الخطأ و النسيان)) و كان لا يعيد الصلاة..؟؟
الجواب :(16/21)
من وجد الجنابة على ثوبه وعلم أن هذه الجنابة قبل يوم ويومين أو قبل صلاتين أو ثلاثة وكان قد صلى و نسيها فإنه يجب عليه أن يعيد الصلوات ؛ لأن الله عز وجل بين في كتابه و على لسان رسوله-- صلى الله عليه وسلم - - أنه لا يقبل الصلاة إلا بالطهارة وهذا مصلٍ بغير طهارة و أما ماقلته:(( رفع عن أمتي الخطأ و النسيان )) أي رفع الإثم عن المخطئ و الناسي وهذا لا يسقط حق الله في قيامك بالعبادة على وجهها ألا ترى الرجل يخطئ فيقتل وتراه يرمي بسلاحه على الصيد فيأتي إنسان بينه و بين الصيد فتقتله الطلقة هل نقول رفع عن أمتي الخطأ و النسيان فلا تجب دية و لا يجب إثم ؟ الجواب : لا.. نقول يضمن هذه النفس وحينئذٍ يسقط عنه الإثم لمكان الخطأ فالخطأ أسقط الإثم و النسيان يسقط عنه الإثم صلى في حالة معذورة معذور فيها فلما تبين له خطأه الزم بالأصل من فعل العبادة على وجهها ، وبناء على ذلك قال- عليه الصلاة والسلام - كما في الصحيح من حديث أبي هريرة :(( لايقبل الله صلاة أحدكم إذا أحدث حتى يتوضأ)) هذا نص صحيح صريح يدل على أنه لايعتد بالصلاة إلا بعد الطهارة ، وبناءً على ذلك أنت ملزم بإعادة صلاتك ولو بلغت أياماً ، والله تعالى أعلم .
السؤال الثامن :
إذا توضأ رجل وغسل وجهه ثلاثاً ، وغسل يده مرتين ، هل يعيد الوضوءأم يكمل الوضوء ؟ وهل وضوؤه صحيح..؟؟
الجواب:(16/22)
من توضأ فغسل بعض الأعضاء مرتين وبعضها ثلاثاً فلا حرج عليه وحملوا عليه حديث عثمان في السنن"أن النبي صلى الله عليه وسلم توضأ مرة مرة ومرتين مرتين وثلاثاً ثلاثاً "، قالوا غسل بعض الأعضاء مرة وبعضها مرتين وبعضها ثلاثاً فلا حرج أن ينوع المكلف ، ولكن الأفضل والأكمل أن يغسل ثلاثاً إلا في مسح الرأس فالسنة أن يمسح مرة واحدة ، وهذا هو مذهب جمهور العلماء لما ثبت في حديث عبدالله بن زيد " ومسح برأسه مرة واحدة " وبناءً على ذلك لايكرر في مسحه لرأسه ، وأما بقية أعضائه إن ثنى فلا حرج وإن ثلث فلا حرج وإن نوع بين التثنية والتثليث فلا حرج عليه ، والله تعالى أعلم .
السؤال التاسع :
إذا طليت خزانات المياة بطلاء والدهان فإنه تبقى رائحتها في الماء ، فما حكم هذا الماء ..؟؟
الجواب :(16/23)
إذا تغير الماء بشيء طاهر فطاهر ، وإن تغير بنجس فنجس ولايتوضأ إلا بالماء الطهور لأن الله-تعالى- يقول :{ وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً طَهُورَاً }(1) ولما سئل عليه الصلاة والسلام عن ماء البحر فقال:(( هو الطهور ماؤه الحل ميتته)) فلما قال هو "الطهور" ولم يقل الطاهر دل على أنه لايتوضأ إلا بالماء الباقي على أصل الخلقة ، وثبت في الحديث الصحيح - عنه عليه الصلاة والسلام -أنه قال :(( إن الماء طهور لاينجسه شيء)) فالأصل في الماء الذي يتوضأ به أن يكون باقياً على أصل الخلقة فلو أخذ الماء ووضع فيه ورد أو وضع فيه زعفران فتغير لونه أو طعمه أوريحه بالورد أو الزعفران أو بإي شيء طاهر فإنه يقال هذا ماء طاهر ماء ورد أو ماء زعفران ولايقال هذا ماء مطلق لأنه قد تغير بصفته بذلك الطاهر ، وبناء على ذلك فإنه لايتوضأ الإنسان من هذا الماء المتغير بالورد و الزعفران ، لكن لوكان قرار الماء قد تغير الماء بقراره كطلاء الخزانات ، وكالأعشاب التي تكون في المستنقعات والبحيرات والبرك وهكذا الصنابير تشم فيها رائحة الصدأ أو يررى فيها لون الصدأ فما الحكم ؟ قال العلماء إذا كان التغير بالقرار وبما داخله فإنه يعفى عنه لأنه مما يشق التحرز عنه ، وهكذا لو كان على البئر شجرة أو في داخل البئر شجرة شجرة ورد مثلاً وتساقط وردها في البئر فتغيرت رائحة البئر إلى الورد أو تغيرت برائحة تلك الشجرة أو بأصلها أو بجذعها فإنه ممايشق التحرز عنه ، ولايكلف الله نفساً إلا وسعها ، ولو قلنا للناس إن هذا لايجوز لحصلت لهم المشقة ، أما الدليل على جواز توضئك منه مع وجود الاختلاف فإن قرب الصحابة والشن كما هو معلوم في القديم يتغير بالحرارة في الصيف ، ومع ذلك ماأثر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه أمرهم ألا يتوضئوا من هذه المزادات والقرب وبناء عليه فإنه لايؤثر مثل هذا الطلاء ، لكن بعض العلماء يقول إن إدخال المؤثر ليس كوجوده(16/24)
بالأصل فيقولون القرب موجودة في الأصل والطحال موجود في المستنقع والبركة في الأصل بخلاف ما إذا طلا البركة أو طلا الخزان فإن هذا من فعل المكلف كما لو أدخل الشيء في الماء فيفرقون بين أصل خلقته وبين كونه ناشئ من فعل المكلف ، ولذلك قالوا لو كان الماء مالحاً كماء البئر كماء بئر مالح أو ماء بحر قالوا لاحرج أن يتوضأ به لأن الملوحة من أصل خلقته ، لكن لو أخذ ملحاً ووضعه في الماء فغير طعم الماء قالوا لايجوز أن يتوضأ به لأنه في هذه الحالة خرج عن أصل خلقته وبناء على ذلك فرقوا بين فعل المكلف وبين كونه موجود في أصل الخلقه ، وعلى هذا فإن وجد غير هذا الماء فإن الإنسان يتقيه ، وأما إذا لم يجد غيره فإنه يتوضأ به ، والله تعالى أعلم.
السؤال العاشر :
إني أذهب إلى المسجد مبكراً قبل الأذان ، وأصلي النوافل والسنن اقتداءً بالرسول - عليه الصلاة والسلام - في البيت قبل الأذان للفريضة فهل تصح صلاتي للنوافل هكذا أم لابد أن أصليها بعد الأذان في المسجد..؟؟
الجواب:(16/25)
أثابك الله على هذا الخير وعلى هذا التمسك بالخير والحب له فإن من أعظم الأسباب التي يثبت الله بها قلب العبد على الخير وعلى الهداية وعلى الاستقامة حرصه على الصلاة مع الجماعة وتبكيره إليها ، ونزوله إليها قبل الوقت ، وكلما بكر الإنسان كان أسعد الناس بالوقوف بين يدي الله عز وجل ولا يعرف قدر الصلاة ولايبكر إليها إلا المؤمن الموفق الصالح الذي يخاف الله ويرجو رحمته ، لن ترى إنساناً يحافظ على بيوت الله ويبكر إلى الصلوات بهذا الوجه قبل الأذان تجده بعض الأحيان قبل الأذان بربع ساعة بنصف ساعة إلا وجدته مرحوماً موفقاً ، وكما أنه أقبل على الله عز وجل يكفيه أمر دنياه وآخرته بل إنه يعصمه من الفتن وتجده في طمأنيينة وانشراح ، الناس تقلق على دنياها ولكنه في طمأنينة وراحة بال لايضيق عليه أمر إلا فرجه الله ، ولايشتد عليه كرب إلا نفسه الله ، لأنه قد فرغ نفسه لآخرته ، ومن فرغ قلبه للآخره جمع الله أمره وفرج كربه وأعظم أجره وأحسن عاقبته:{ أَلاَ إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ - الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ }(1) وكانوا يتقون يعني يتقون الله عز وجل بفعل فرائضه وترك محارمه فمن كان حريصاً على فرائض الله - - عز وجل --بمجرد أن تراه قبل الصلاة ونفسه معلقة ببيت الله - - عز وجل --فإن الله يظله في ظله يوم لاظل إلا ظله ، أما ماسألت عنه أخي الكريم من كونك تصلي السنة الراتبة القبليه قبل الأذان تأسياً بالنبي صلى الله عليه وسلم فلا ليس هذا من التأسي التأسي بالنبي صلى الله عليه وسلم أن تصليه بعد الأذان ولاتصليها قبل الأذان وما قبل الأذان نافلة مطلقة وليست بسنة راتبة ، واختلف العلماء في البعدية لو أن إنساناً أخر بعدية المغرب إلى ما بعد العشاء ، فقال بعض العلماء : هي بعدية فيجزئ إذا أخر بعدية المغرب إلى ما بعد العشاء لحضور درس علم ونحو ذلك ،(16/26)
وقال بعض العلماء لابد أن يوقع بعدية المغرب بعد المغرب وإذا أوقعها بعد العشاء فإنه ليس من السنة خاصة إذاكان قادراً على ذلك ونفسي تميل إلى هذا فإن السنة أن يوقعها بين المغرب والعشاء وألا يؤخرها إلى ما بعد العشاء تأسياً بالنبي صلى الله عليه وسلم وبناءً على ذلك فما صليته قبل الأذان في بيتك فنافلة مطلقة وزادك الله حرصاً ولاتعد .
السؤال الحادي عشر :
إذا تحلل المحرم التحلل الأول فهل يعامل معاملة المحرم أم يعامل معاملة غير المحرم ؟بالنسبة للتغسيل والتكفين..؟؟
الجواب:
إذا توفي الإنسان وهو في الإحرام فإن السنة في حديث ابن عباس في الصحيحين أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في الرجل الذي وقصته دابته وهو واقف بعرفة :(( اغسلوه بماء وسدر وكفنوه في ثوبيه ولاتخمروا وجهه ولاتغطوا رأسه فإنه يبعث يوم القيامة ملبياً)) قال العلماء هذا هو السنة أنه يعامل معاملة المحرم فلا يغطى وجهه ولايمس بطيب ويغسل بماء وسدر على خلاف الأموات فإنهم يغسلون ويجعل في غسلهم كافور أو شيء من كافور كما ثبتت السنة عن النبي صلى الله عليه وسلم أما المحرم فلا ولايمس بطيب إذا ثبت هذا في المحرم فحينئذٍ يرد السؤال لو تحلل التحلل الأول وقبل أن يطوف طواف الإفاضة مات فما الحكم ؟ الحكم حينئذٍ يعامل معاملة الحلال لأنه لما تحلل التحلل الأول فإنه حينئذٍ قضى تفثه ثم بعد ذلك لايشترط لقضاء تفثه أن يطوف بالبيت ، وهذا هو مذهب جماهير العلماء رحمة الله عليهم .
أما ماورد من حديث ميمونة فتكلم العلماء على سنده وضعفوه اضافة إلى أنه يخاف نص القرآن في قوله-تعالى-:{ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيْقِ }(1) ولذلك قالوا هو ضعيف سنداً ومتناً ، وعلى هذا فإنه يعامل معاملة الحلال ويغسل ويكفن ويفعل به ما يفعل بالحلال ، والله تعالى أعلم .
السؤال الثاني عشر :(16/27)
هل من أتى بعمرة في أشهر الحج يلزمه أن يحج متمتعاً علماً بأنه لم ينو أن يتمتع بالعمرة إلى الحج..؟؟
الجواب:
من جاء بالعمرة في أشهر الحج يعني بعد ليلة العيد أو من ليلة العيد فما بعد لايلزمه أن يحج لما ثبت في الحديث الصحيح عنه عليه الصلاة والسلام أنه اعتمر من الجعرانة ، وكانت عمرته من الجعرانه بالإجماع في ذي القعدة أو أواخر شوال وإن كان الأقوى في السير أنها في ذي القعدة ، والسبب في ذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم بعد فتحه لمكة وكان ذلك في رمضان من السنة الثامنة للهجرة دخل النبي عليه الصلاة والسلام مكه ثم أرسل العيون على الطائف ، وقد بلغه أنه كانت هوازن تعد له ، وكان من هديه عليه الصلاة والسلام أنه لايعلم بقوم أنهم يريدون قتاله إلا بادرهم من شجاعتهصلوات الله وسلامه عليه وقوة شكيمته في الحق فأرسل العيون اليهم وعزم - صلوات الله وسلامه عليه- على المضي إليهم فخرج في أواخر رمضان وقيل في أوآئل شوال وذلك إلى الطائف ووقع ماوقع في غزوة حنين ثم حاصر الطائف أكثر من خمسة عشر يوماً إلى أن نزلوا عن حكمه ثم نزل وقسم الغنائم - صلوات الله وسلامه عليه- بالجعرانه ثم أحرم فوقع إحرامه بالإجماع في أشهر الحج سواء قلنا في شوال أو ذي القعدة ، ومع ذلك بالإجماع لم يحج من عامه ذلك فدل على أن وقوع العمرة في أشهر الحج لايلزم صاحبه بالحج فيها ، والله تعالى أعلم .
السؤال الثالث عشر :
يكون مع بعض المصلين أجهزة نداء فتحدث أصواتاً معينة ، ما حكمها خصوصاً وأن فيها تشويشاً للمصلين..؟؟
الجواب:
بسم الله الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه أما بعد :(16/28)
فجزاك الله خيراً على هذا السؤال وهو في محله وأوصي الأئمة والخطباء بالتنبيه على قفل هذه الأجهزة وعدم وإدخالها في المساجد وإحداث هذا الصوت حرام لا يجوز لاشتمال هذا الصوت على أذية المصلين مع ما فيه من الصوت الموسيقي المعروف ، ولذلك لايليق ببيوت الله عز وجل أن تفتح هذه النداءات في داخلها فأنا أرى عدم جوازها ولاشك أنه مؤذٍ للمصلين ومؤذٍ للتالين ومؤذٍ لنفسه فإن الإنسان إذا سمع هذا الصوت تشوش في نفسه وانصرف عن الاقبال إلى ربه وذهب عنه خشوعه-نسأل الله السلامة والعافية- وهذه من الفتن العاجلة فإن الإنسان لايزال يفتن حتى-والعياذ بالله- في وقوفه بين يدي الله عز وجل هذا الوقت الذي لو تأمل الإنسان نفسه قد يجد نفسه طيلة اليوم في غفلة عن الله عز وجل إلا في لحظة وقوفه بين يدي الله ، أبى الشيطان إلا أن يشغلك حتى في موقفك بين يدي الله عز وجل ، ولذلك تقفل هذه النداءات وهذه الساعة ساعة لربك وليست لدنياك وسلم أمرك لله عز وجل فإن سمعت هذا النداء فما الذي ستفعل ، وما الذي سيكون منك هل تستطيع أن تقدم أو تؤخر شيئاً ، ولذلك لا أرى جواز فتحها في المساجد والذي يظهر وتطمئن إليه النفس حرمة ذلك لأن صوتها إزعاج وثانياً تشويش على المصلين واشتمالها على أصوات لاتخلو من المحظور من الموسيقى ، وبناء عليه فإن الذي أراه أنه يقفلها وإن كان ولابد فإنه يضعها في جيبه بدون أن يكون لها نداء وإزعاج -ونسأل الله العظيم أن يعصمنا من الزلل- ، والله تعالى أعلم.
السؤال الرابع عشر :
امرأة كانت حاملاً وأجهضت ولها حوالي 75 يوم أو 80 يوم فما الحكم بالنسبة للصلاة هل هي نفساء أو مستحاضة..؟؟
الجواب:(16/29)
هذا فيه تفصيل المرأة التي تجهض جنينها فتسقط الجنين قبل الأمد إما أن تكون في الجنين صفة الخلقة فالدم دم نفاس وإما ألا تكون في الجنين صفة الخلقة فالدم دم استحاضة وفساد وعلة إلا إذا رأت فيه علامة الحيض ، وبناء على ذلك إن كان الذي أسقطته فيه صفة الخلقة من يد أو رجل أو صورة إنسان فهو دم نفاس ، وإن لم تكن فيه صفة الخلقة فإنه دم استحاضة تصوم وتصلي حكمها حكم الاستحاضة سواء بسواء ، والله تعالى أعلم.
السؤال الخامس عشر :
أفتونا في ولد ماتت أمه وعمره أربعة أشهر فأخذته جدته أم أبيه وهي تبلغ من العمر 60 سنة وعندما تبنته جاءها لبن كأنها امرأة شابة وأرضعته حولين كاملين هل يجوز له أن يتزوج من ابنة عمه أخي أبيه أم لا ..؟؟
الجواب:
هذا من لطف الله عز وجل سبحان الله هذا لبنها لطف بهذا الطفل ، ولذلك يعتبر هذا الطفل ابن لها ولا يجوز أن ينكح جميع ماتنجبه ، فما تنجبه من أبنائها الذكور أو تنجبه من بناتها الإناث يعتبر في هذه الحالة إما عماً وإما خالاً من الرضاعة وعلى هذا فليسوا بحلال له ولايحل له أن ينكح بنات ابن هذه المرأة أو بنات بنتها على الأصل المقرر والاجماع منعقد على ذلك ، والله تعالى أعلم.
السؤال السادس عشر :
المرأة المعتدة في وفاة زوجها أربعة أشهر وعشراً ، هل العبرة بالأشهر ثلاثين يوماً وإذا كانت الأشهر ناقصة هل تكمل الناقص بعد العشرة الأيام..؟؟
الجواب:(16/30)
الأشهر تنقسم إلى قسمين أشهر شمسية وأشهر قمرية والعبرة في الشريعة الإسلامية بالأشهر القمرية لا بالأشهر الشمسية ، وقد نص الله تعالى على ذلك بقوله:{ يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ}(1) فأخبر سبحانه وتعالى إن الاعتداد بالأشهر القمرية لابالأشهر الشمسية وفي الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:((إنا أمة أمية لانكتب ولانحسب الشهر هكذا وهكذا)) فأشار ثلاثين مرة وتسعة وعشرين مرة ، وبناءً على ذلك فلوكان على المرأة هذا القدر-أعني الحداد أربعة أشهر وعشراً- ، أوكان من عليه الكفارة صيام شهرين متتابعين فهل العبرة بالشهر كاملاً أوناقصاً..؟
الجواب: فيه تفصيل فمن ابتدأ صيام الكفارة أو المرأة ابتدأت حدادها من أول شهرٍ فإنها تعتد بذلك الشهر ناقصاً أو كاملاً ، فلو ابتدأت من بداية محرم فإنها حينئذٍ تعتد بمحرم وصفر وربيع أول وربيع ثاني ثم عشر من جمادة تخرج بها من الحداد فلو كان محرم ناقصاً فهو شهر لقوله عليه الصلاة والسلام في الصحيح ((شهرا عيدٍ لا ينقصان))فأخبر أن الشهر لا ينقص إذا كان تسع و عشرين لأنه منزلة القمر ، والقمر و الشهر ناقص فيكون شهرها ناقصاً ، هذا اذا ابتدأت حساب شهرها ابتدأته من أول الشهرفلو ابتدأت صيامها في الكفارة أو ابتدأت حدادها على الوفاة من أول الشهر فالعبرة بالشهر نفسه ناقصاً أو كاملاً ونقول اعتدي بالأشهر القمرية ناقصة كانت أو كاملة.(16/31)
أما لو أنها ابتدأت أثناء الشهر كأن تكون ابتدأت في عشر أو ابتدأت في ثمان فلابد وأن تحسب المدة كاملة أربعة أشهر وعشراً فمئة وعشرون يكون مجموعها مئة وثلاثون يوماً لابد وأن تمر عليها كاملة وعلى هذا يكون كمال المدة إذا ابتدأت أثناء الشهر ، ويكون نقصان الشهور إذا ابتدأت أثناء الشهر ، والحساب في الشرع بالأشهر القمرية كما ذكرنا أما الأشهر الشمسية فلا يعتد بها وعلى هذا لو قال رجل لرجل استأجرتك تعمل عندي شهراً فإن العبرة بالشهر إن قال استأجرتك تعمل عندي شهراً وسكت وأبتدأ وأثناء الشهر كعشرة أو خمسة أو ثلاثة حتى لو في اليوم الثاني فلابد وأن يتم ثلاثين يوماً ، لكن لو قال له استأجرتك شهر محرم أو شهر صفر فحينئذٍ العبرة برؤية الهلال إن رؤي الهلال فناقص فإن لم ير فكامل ، وهذه السنة ضيعها الناس-إلا من رحم الله- في هذا الزمان والمنبغي أن يتراى الهلال وأن يعرف كل شهر أو هو كامل أم ناقص لأن هذا تترتب عليه أحكام شرعية كثيرة ولايجزىء الحساب الفلكي والعبرة بالتقويم ، وإنما العبرة بالرؤية لأن النبي صلى الله عليه وسلم كما في الصحيحين :(( إنا أمة أمية لانكتب ولانحسب الشهر هكذا وهكذا )) فجعل العبرة برؤية الهلال ، ولذلك المنبغي على الناس أن يكون منهم من يرى الهلال حتى يعلم بداية الشهور ونهايتها وما يترتب على ذلك من أحكام عبادات ومعاملات .
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين .(16/32)
(
قال المصنف رحمه الله : بَاب مَا جَاءَ فِي الْمَضْمَضَةِ وَالاِسْتِنْشَاقِ
حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ وَجَرِيرٌ عَنْ مَنْصُورٍ عَنْ هِلاَلِ بْنِ يَسَافٍ عَنْ سَلَمَةَ بْنِ قَيْسٍ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم :(( إِذَا تَوَضَّأْتَ فَانْتَثِرْ وَإِذَا اسْتَجْمَرْتَ فَأَوْتِرْ )) .
الشرح:
بسم الله الرحمن الرحيم الحمدلله رب العالمين والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء و المرسلين سيدنا محمد وعلى آله و صحبه أجمعين أما بعد :
فقد ذكر المصنف - رحمه الله تعالى - هذا الحديث المشتمل على أمر النبي صلى الله عليه وسلم بالانتثار في الوضوء ، ومناسبة هذا الحديث أنه اشتمل على الدلالة على وجوب الاستنشاق وذلك هو مذهب طائفة من السلف رحمهم الله ، وقد اعتنى المصنف رحمه الله بإيراد هذا الحديث في باب الطهارة ، و قد روى هذا الحديث عن سلمة بن قيس وهو الأشجعي الغطفاني رضي الله عنه وأرضاه ولم تسعف كتب التراجم و السير بذكر شيءٍ من أخباره رضي الله عنه إلا أنه قد ثبت بالسند الصحيح أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قد استعمله على بعض الغزوات و ذلك في غزوة فارس .
هذا الحديث الشريف يقول فيه النبي صلى الله عليه وسلم :((إذا توضأت فانتثر)) العرب تقول إذا فعلت فافعل و لهم في ذلك ثلاثة أوجه :
الوجه الأول : أن يكون مقصودهم وقوع الفعل قبل التلبس بالشيء .
والوجه الثاني : أن يكون مقصودهم حال التلبس بالشيء .
والوجه الثالث : أن يكون مقصودهم بعد فعل الشيء .(17/1)
أما مثال الوجه الأول : فذلك كقوله سبحانه وتعالى :{ فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللهِ مِنَ الشَّيطَانِ الرَّجِيمِ }(1) أي إذا أردت أن تقرأ القرآن فاستعذ بالله من الشيطان الرجيم ، ومنه قوله سبحانه وتعالى :{إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ }(2) أي إذا أردتم القيام إلى الصلاة فاغسلوا وجوهكم .
أما الوجه الثاني : وهي أن يراد بالفعل ما يكون مصاحباً فمثاله قولك إذا أذنت فترسل ، وإذا أقمت فأحدر أي أثناء الأذان و أثناء الإقامة ، وكذلك قوله إذا قرأت القرآن فرتل أي أثناء فعل للقراءة .
و أما الوجه الثالث : و هو ما بعد الفعل فكقولك إذا صليت فأتني أي بعد فعلك للصلاة .
وقوله -عليه الصلاة و السلام- هنا ((إذا توضأت فانتثر)) : مراده -صلوات الله و سلامه عليه - أثناء فعل الوضوء و ذلك لأن الانتثار يكون أثناء فعل الوضوء لا قبله و لا بعده .
وقوله(( فانتثر)) : تقول العرب نثر الشيء ينثره نثراً إذا طرحه ومنه النثار الذي يكون في العُرس .
وقوله عليه الصلاة والسلام : ((فانتثر)) : أي اطرح الماء من أنفك ، والأصل أن الإنسان إذا استنشق يجذب الماء إلى أعلى الخياشيم بالنفس ثم إن هذا الماء يكون له حالتان :
الحالة الأولى: أن تطرحه فتدفعه وهي حالة الاستنثار .
و الحالة الثانية : أن تضغط بالإصبعين على جانبي الأنف فيخرج ما ثم من الماء و القذر .
فهل المراد بالانتثار الأول أوِ الثاني..؟؟(17/2)
والجواب : مراد النبي صلى الله عليه وسلم أن تنثر الماء من أنفك بالطرح بالنفس وذلك هو السنة المحفوظة عن النبي صلى الله عليه وسلم ، وعلى هذا فلو أن إنساناً أدخل الماء إلى أنفه ثم وضع أصبعيه على طرفي الأنف ولم ينتثر بالهواء وإنما ضغط بأصبعيه لم يصب سنة النبي صلى الله عليه وسلم وهذا الحديث ظاهره الأمر و الأمر يدل على الوجوبِ وقد استدل به من يقول بوجوب الاستنشاق في الوضوء وقالوا إن النبي صلى الله عليه وسلم ذكر الاستنثار وهو يتضمن الاستنشاق لأنك إنما تنثر الشيء الذي استنشقته من الماء حتى يطرح القذر ، وقد صرف الجمهور- رحمهم الله -هذا الحديث عن ظاهره الموجب للوجوب إلى الندب والاستحباب بدلالة القرآن والسنة .
أما دليلُ القرآن فقوله-- سبحانه وتعالى - -:{ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ} ولم يأمرنا بمضمضة ولاباستنشاق فدل على أن الواجب أن تغسل الوجه وأن المضمضة والاستنشاق كمالٌ وليس بفرض و استدلوا بسنة النبي صلى الله عليه وسلم في قوله للأعرابي لما سأله كيف يتوضأ قال:(( توضأ كما أمرك الله )) قالوا فرده إلى الآية الكريمة وليس فيها ذكر لمضمضة ولااستنشاق ثم إن النبي - صلى الله عليه وسلم --لما رد الأعرابي إلى الآية الكريمة فهمنا من ذلك أن القرآن واضح في الدلالة على الواجبات والفرائض المعتبرة في الوضوء وأن ما زاد يعتبر فضلاً ولا يعتبر فرضاً .(17/3)
وقوله- عليه الصلاة والسلام -:(( فانتثر)) : قال العلماء : أمر النبي صلى الله عليه وسلم بالاستنشاق لحَكم عظيمة :فالاستنشاق يطرد الشيطان لأنه يبيت على الخياشيم كما ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم ؛ والسبب في ذلك أن الشياطين تحب القاذورات ، وتألف مواضع النجاسات على خلاف الملائكة فإنها تنفر من القذر ، ولذلك نهي المصلي عن شهود المساجد حال أكله للثوم والبصل ، ومن ثم أمر بالاغتسال للجُمع لاشتمالها على الاجتماع خشية حصول القذر ونتن الروائح .
قال بعض العلماء ومن حِكَمِ الاستنشاق أنه يطهر الأنف ، ويعين القاريء على إخراج الحروف من مخارجها ، ويساعد على حسن التلاوة لكتاب الله - - عز وجل -- ، فالأنف إذا كان مشتملاً على القذر فإنه يمنع صاحبه من إحسان النطق و القيام بحق التلاوة لكتاب الله-- عز وجل - -والمصلي قائم بين يدي الله-جل وعلا- لايخلو من تلاوة كتابه العزيز فمن ثم أمر بالاستنشاق .
وقوله صلوات الله وسلامه عليه:(( وإذا استجمرت فأوتر )) : الاستجمار استفعال من الجمر-وقد تقدمت معنا هذه العبارة في الأبواب التي سبقت هذا الباب وبينا حكم الاستجمار-(1) ومراد النبي صلى الله عليه وسلم بهذه العبارة أن الإنسان إذا قضى حاجته وأراد أن يزيل ما ثَم أراد أن يزيله بالجمار أو منديل ونحو ذلك فإنه إذا قطع النجاسة لايخلو من حالتين :
الحالة الأولى : أن تقطع النجاسة على عدد وتري كأن تزيل النجاسة بثلاثة أحجار وينقطع ما ثم فلا إشكال في الاجتزاء والاكتفاء بهذه الثلاثة على ظاهر السنة في حديث سلمان وحديث عبد الله بن مسعود -رضي الله عن الجميع - .(17/4)
والحالة الثانية : أن تقطع الخارج بالشفع كأن ينقطع بأربعة أحجار وستة أحجار وثمانية أحجار أو تمسح بالمنديل أربع مرات وست مرات وثمان مرات فحينئذٍ إذا انقطع الخارج بالشفع فإنك تضيف عدداً وترياً تأسياً بهذه السنة الثابتة عن النبي صلى الله عليه وسلم وظاهر هذا الأمرالوجوب ، ولذلك لايكتفى بالشفع ولابد من وضع حجر زائد يتحقق به الايتار.
وقوله: (( من استجمر فليوتر)) : للعلماء فيه قولان مشهوران :
القول الأول : المراد بالاستجمار قطع الخارج مماذكرنا .
والقول الثاني : إن مراد النبي صلى الله عليه وسلم بقوله من : (( استجمر)) أي من تطيب بالعود ونحو ذلك فليوتر لأن المجامر من البخور وفي الصحيح في صفة الجنة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:(( ومجامرهم الألوٌّة)) أي مجامر أهل الجنة ، فقولهم استجمر أي إذا تطيب ، والعرب تسمي من تطيب بالعود والندِّ ونحوذلك مستجمراً قالوا فمن استجمر بالعود ونحو ذلك فإنه يوتر ولايستجمر بالشفع مرتين وأربعاً ، فلو أن العود جرى على ضيف ونحو ذلك فالسنة أن يجرى مرة واحدة وإذا زيد على ذلك فإنه يراعى الوتر فيرد إلى الضيف ثلاثاً أو خمساً أو سبعاً على حسب مايتيسر من الوتر.
الوجه الأول : هو مذهب جمهور العلماء رحمهم الله .
والوجه الثاني : هو مذهب مالك وبعض أصحابه-رحم الله الجميع - .
والصحيح أن المراد بالاستجمار قطع الخارج وأنه لاحرج إذا تطيب الإنسان بالعود أن يوتر ؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال:(( إن الله وتر يحب الوتر)) وللعلماء في قوله:(( يحب الوتر)) وجهان :(17/5)
منهم من يقول بالعموم لعموم النص فكل شيء وتري يحبه الله-جل وعلا - ، ومنهم من يقول بالتخصيص أي المراد به وتر الصلاة ، وإن كان ظاهر النص يدل على العموم ، وبناءً على ذلك يستحب الإيتار في التطيب ولاينكر على الإنسان إذا قصد الإيتار في الطيب ونحو ذلك ، وهل يلتحق بالعود مايتطيب به الناس في زماننا وما كان في السابق من مسك وعود وعنبر ونحو ذلك ، قال بعض العلماء : يستقيم الإلحاق لأنه في معنى الاستجمار بالعود فإذا أراد أن يتطيب أوتر وله وجه من السنة خاصة على حديث الوتر .
وآخر دعوانا أن الحمدلله رب العالمين.
ملاحظة:
اسئلة الحج (الـ 60 سؤال ) سوف تكون في مذاكرة مستقلة – إن شاء الله تعالى- .(17/6)
بسم الله الرحمن الرحيم
قال المصنف رحمه الله : بَاب الْمَضْمَضَةِ وَالاِسْتِنْشَاقِ مِنْ كَفٍّ وَاحِدٍ
الشرح:
بسم الله الرحمن الرحيم الحمدلله رب العالمين والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين ، أما بعد :
فقد ذكر المصنف-رحمه الله - الأحاديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم والتي تدل على سنية المضمضة والاستنشاق ، وهذا الباب يعتبر من أبواب صفة وضوء النبي صلى الله عليه وسلم وقد اعتنى أئمة الحديث رحمهم الله ببيان هدي النبي صلى الله عليه وسلم في صفة الوضوء ، وكان هديه عليه الصلاة والسلام مشتملاً على شيء من التفصيل في الأحكام ، ولذلك ذكروا في صفة المضمضة والاستنشاق صوراً -سنذكرها إن شاء الله تعالى -.
ولاشك أن العلم بسنة النبي صلى الله عليه وسلم وهديه في المضمضة والاستنشاق يوجب للمسلم خير الدنيا والآخرة لما فيه من فضل اتباعه - صلوات الله وسلامه عليه- ، فالمسلم ربما تمضمض واستنشق دون أن يعلم الصفة التي وقعت عليها مضمضتة واستنشاقه- صلوات الله وسلامه عليه- إلى يوم الدين فمن تمضمض واستنشق دون علم بهديه ، فإنه يفوته أجر السنة ، ولكن تفصيل الصفة التي تمضمض بها عليه الصلاة والسلام واستنشق بها في وضوئه يوجب العلم بالسنة والعمل والدعوة إليها ، ومن هنا يكون المتوضئ أعظم أجراً وأكثر اتباعاً لهديه صلوات الله وسلامه عليه والمضمضة والاستنشاق تقع على صور :
الصورة الأولى: يسميها العلماء بصورة الوصل ، وذلك أن تجمع بين المضمضة والاستنشاق من كف واحد.
مثال ذلك: أن تغرف بيمينك الماء ثم تدنيه إلى الفم فتمضمض ثم ترفع الباقي إلى الأنف فتقسم هذه الكف بين المضمضة والاستنشاق ، وهذه الصورة يسميها العلماء بصورة الوصل .
و عليه فإنك إذا تمضمضت و استنشقت ثلاث مرات فإنك تتمضمض و تستنشق بثلاثة غرفات .(18/1)
الصورة الثانية: وهي صورة الفصل سماها العلماء -رحمهم لله- بصورة الفصل ؛ لأن المتوضئ يفصل بين المضمضة والاستنشاق وهذه الصورة يجعل فيها المكلف للمضمضة ماءً مستقلاً من كف مستقلة ثم يجعل للاستنشاق مثلها ، وبناءً على ذلك فمن تمضمض و استنشق مرة واحدة بهذه الصورة فإنه يجمع بينهما بكفين فيجعل الكف الأولى للمضمضة والكف الثانية للاستنشاق وهذه الصورة يكون المكلف فيها متمضمضاً ومستنشقاً ثلاث مرات بست غرفات كما هو معلوم .
و أما الصورة الثالثة: فهي صورة جامعة بين الصورتين وهي صورة الفصل و الوصل وحاصلها أنه يأخذ الماء بكفيه أو يأخذ ماءاً بكفه اليمين كله سيان ، فإذا أخذ الماء بالكفين فإنه يفصل لكل كف ماءها ثم بعد ذلك يتمضمض من كف و يستنشق من كف أخرى وهذه الصفة يصدق عليها أنها مضمضة واستنشاق من كف واحد و يصدق عليها أنها مضمضة واستنشاق من كفين هذه هي أشهر صور المضمضة والاستنشاق.
وقد ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم ما يدل على الصورة الأولى : و أنها هي الأفضل وذلك في حديث عبد الله بن زيد بن عاصم النجاري الأنصاري-- رضي الله عنه - وعن أبيه- وفيه أنه لما سُئل عن وضوء النبي صلى الله عليه وسلم :" تمضمض واستنشق ثلاثاً بثلاث غرفات " وهذا الحديث ثابت في الصحيحين ، وقد جاء في رواية : " أنه تمضمض واستنشق ثلاثاً بثلاث غرفات من كف واحدة " فرواية من كف واحدة صريحة في الدلالة على أنه جمع وهي صورة الوصل كما ذكرنا .
أما الصورة الثانية وهي صورة الفصل فقد حمل العلماء - رحمهم الله -:(18/2)
الحديث الأول عليها وقالوا : إن قوله "تمضمض و استنشق ثلاثاً بثلاث غرفات" أي تمضمض بثلاث غرفات و استنشق بثلاث غرفات ، فيكون ذلك من باب العطف على كل واحد على حده وليس المراد مجموع الأمرين وحينئذٍ تكون الواو لمطلق العطف وعلى الوجه الذي ذكرناه تكون للجمع وهذا القول أو هذه الصورة دل عليها حديث أبي داود عن طلحة بن مصرف-- رضي الله عنه - و أرضاه- أنه "رأى النبي صلى الله عليه وسلم توضأ وفصل بين المضمضة و الاستنشاق" وهذا الحديث رواه أبو داود في سننه ؛ ولكنه حديث ضعيف لأنه من رواية ليث بن أبي سليم و لذلك لم يعتد العلماء –رحمهم الله- بهذا الحديث لمكان ضعفه .
و أما الدليل الثالث على هذه الصفة- أعني صفة الوصل- ففيها حديث عن عثمان وعلي-رضي الله عنهما-"أنهما توضئا وفصلا بين المضمضة والاستنشاق فجعلا كل واحدة منهما على حدة وقالا بعد فراغ الوضوء هكذا رأينا رسول الله صلى الله عليه وسلم " وهذا الحديث سكت عنه الحافظ بن حجر ، وقال بعض العلماء : إن سكوته يدل على تحسينه له ولم يخلُ هذا الكلام من نظر ، ولذلك اجتمع أصحاب هذا القول على القول بمشروعية الفصل ومما يؤيده إطلاق الروايات في حديث عثمان بن عفان وحديث علي رضي الله عنهما في صفة وضوءه صلوات الله وسلامه عليه.
وأما الصورة الثالثة : وهي الجمع بين المضمضة و الاستنشاق وذلك من كفين متباينتين فحملوا عليها رواية حديث عبد الله بن زيد أن النبي صلى الله عليه وسلم "تمضمض و استنشق ثلاثاً من كف واحدةٍ " قالوا فكف للمضمضة وكف للاستنشاق.(18/3)
وهناك صورة رابعة غريبة بعيدة مستصعبة : وهي التي ورد فيها حديث ابن ماجة و حملوا عليها رواية حديث عبد الله بن زيد وفيها أن النبي صلى الله عليه وسلم لما وصف عبد الله بن زيد رضي الله عنه وضوءه "قال فتمضمض ثلاثاً واستنشق ثلاثاً من كف واحدة" قالوا وهذا يدل على أن السنة أن يجمع بين المضمضة والاستنشاق من كف واحدة تكون المضمضة ثلاثاً والاستنشاق ثلاثاً ، وقد استبعد العلماء رحمهم الله هذه الصورة وقالوا إنها أشبه بالمتعذر أن يأخذ الإنسان كفاً واحدة ثم يتمضمض ثلاثاً ويستنشق ثلاثاً من هذه الكف ، ولا شك أن استبعادهم واستصعابهم واستغرابهم لهذا القول وجيه وصحيح ، ولذلك نص بعض أهل العلم رحمهم الله على بعد هذه الصورة في المضمضة والاستنشاق ، وإذا ثبت أن المضمضة والاستنشاق يكون كل منهما بالفصل والوصل يكونان بالفصل بينهما والوصل بينهما.
فقد اختلف العلماء رحمهم الله هل الأفضل أن تفصل بين المضمضة و الاستنشاق ؟؟ فتتمضمض ثلاثاً و تستنشق ثلاثاً بست غرفات أم الأفضل أن تجمع بين المضمضة و الاستنشاق ثلاثاً بثلاث غرفات ..؟؟
فذهب جمهور العلماء رحمهم الله إلى أن الأفضل أن تفصل وهذا القول هو مذهب الحنفية وبعض أصحاب مالك وقال به أئمة الشافعية على المختار من قولي الإمام الشافعي ، وكذلك قال به الحنابلة كما قرره الإمام ابن قدامة في المغني -رحمة الله على الجميع- قالوا الأفضل أن تفصل بينهما واستدلوا برواية الصحيح "أنه تمضمض ثلاثاً واستنشق ثلاثاً بثلاث غرفات" قالوا والمراد بذلك أنه تمضمض ثلاثاً واستنشق ثلاثاً فتكون لكل واحدة منهما ثلاث غرفات.
واستدلوا بالأحاديث التي سبقت الإشارة إليها وقالوا من جهة العقل إن الأنف والفم يعتبران بمثابة العضوين المنفصلين فالأولى أن يجعل لكل واحد منهما ماءً مستقلاً فتكون كف للمضمضة وكف للاستنشاق.(18/4)
و أكدوا ذلك بأمرٍ ثالث : فقالوا إن مقصود الشرع أن تنظف الأنف والفم ولاشك أنك إذا فصلت بين المضمضة والاستنشاق أن ذلك أدعى لنظافة الفم ولنظافة الأنف فالماء الذي يدخله المتوضئ إلى أنفه وفمه يعتبر ماءً كافياً لنقاء الموضع أما لو أنه أجمع بينهما فإن الماء يكون قليلاً .
وإذا قل الماء قلت النظافة والنقاء ومن هنا قالوا الأفضل أن يفصل بينهما ولايصل ، أما الذين قالوا بالوصل وهو رواية عن الإمام مالك ، وكذلك قول للإمام الشافعي وقال به بعض أصحاب الإمام أحمد واختاره عدد من أئمة الحديث-رحمة الله على الجميع- فقد استدلوا بحديث عبد الله بن زيد بن عاصم-- رضي الله عنه - وعن أبيه- " وفيه أنه لما وصف وضوء النبي صلى الله عليه وسلم "جمع بين المضمضة والاستنشاق من كف واحدة " .
وكذلك استدلوا بحديث عبد الله بن عباس في صحيح البخاري : أن النبي صلى الله عليه وسلم "غرف غرفة واحدة فتمضمض واستنشق" قالوا : فهذا الحديث يدل دلالةً واضحةً على أن الوصل هو هديه -صلوات الله وسلامه عليه - ولذلك ترجم الإمام البخاري لهذا الحديث باب من تمضمض واستنشق من غرفة واحدة قالوا وبذلك الأفضل والأكمل أن يجمع بينهما ، وأكدوا ذلك بأن مقصود الشرع أن لايسرف المكلف في الوضوء ، ولذلك إذا جمع بينهما حقق مقصود الشرع .
وقد ورد الذم عن النبي صلى الله عليه وسلم لمن أسرف في الماء في وضوئه ، وفي الحديث عنه عليه الصلاة والسلام - أنه قال:(( يأتي في آخر الزمان أقوام يعتدون في الدعاء وفي الطهور)) ، قالوا فذم الشرع الاعتداء في الطهور ، ومن الاعتداء أن يكثر الماء فإذا كان إنقاء الفم والأنف يحصل من كف واحدة فالأفضل والأكمل لاشك أنه يجمع بينهما لأنه أقرب إلى ماهو أحسن وأكمل .(18/5)
والذي يترجح في نظري والعلم عند الله هو القول بالجمع بين المضمضة والاستنشاق فالأفضل للمتوضيء إذا توضأ أن يجمع بين المضمضة والاستنشاق تأسياً برسول الله صلى الله عليه وسلم ، ولاشك أن الأحاديث التي استدل بها أصحاب هذا القول أرجح وأصح ، وأما ماورد من الأحاديث الأخر فإنه يدل على الجواز لا على الكمال والأفضلية .
وأما ما قاله أصحاب القول الأول من كونه إذا فصل بين المضمضة والاستنشاق أنه أبلغ في النقاء والنظافة التي هي مقصود الشرع ، فجوابه أن النقاء والنظافة إنما تقع بحسن الإلقاء للقذر ، وحسن تحريك الماء في الفم إذا تمضمض ، فالإنسان إذا أدخل الماء الكافي إلى فمه وأنفه وطرح القذر فإن هذا يحقق مقصود الشرع ، وأما كثرة الماء وقلته فليست هي المحك ، وإنما العبرة بكونه يبالغ في إدارة الماء ويحسن الاستنثار وطرح الماء من أنفه.
وأما قولهم " إنهما عضوان منفصلان " : فإن هذا الدليل حجة لنا لاعلينا لأن كلا من الفم والأنف يعتبران تابعين للوجه ، والوجه عضو واحد وليس بأعضاء منفصلة ، ولذلك نقول إن هذا الدليل يمكن قلبه لإصحاب القول الثاني فيقال إن الوصل أولى من هذا الوجه ، فتلخص أن الأفضل والأكمل للمكلف أن يجمع بين المضمضة والاستنشاق من كف واحدة ، والسنة إذا تمضمض الإنسان واستنشق أن يبدأ بالمضمضة قبل الاستنشاق ، ومن ابتدأ بالاستنشاق قبل المضمضة فإنه يجزئه ، ولكنه قد فاته الأفضل ، وفاته الأجر الأكمل لأنه خالف هدي النبي صلى الله عليه وسلم وهو هدي كمال وليس بهدي إجزاء ، وعلى هذا فإن الأصل أن يقدم المضمضة على الاستنشاق ثم يجعل للمضمضة حظها من الماء ، ويقسم الكف الواحدة بين الأنف والفم على الصورة المعروفة المشهورة .(18/6)
قال المصنف رحمه الله :حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ مُوسَى حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ مُوسَى الرَّازِيُّ حَدَّثَنَا خَالِدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ عَنْ عَمْرِو بْنِ يَحْيَى عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ زَيْدٍ قَالَ : " رَأَيْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم مَضْمَضَ وَاسْتَنْشَقَ مِنْ كَفٍّ وَاحِدٍ فَعَلَ ذَلِكَ ثَلاَثاً " .
الشرح :
هذا الحديث أصله في صحيح البخاري ومسلم وذلك بقصة مشهورة عن عبد الله بن زيد رضي الله عنه وأرضاه وقد رواه المصنف رحمه الله عن عمرو بن يحي المازني أنه شهد عمر بن أبي الحسن سأل عبد الله بن زيد صاحب النبي صلى الله عليه وسلم عن صفة وضوئه صلوات الله وسلامه عليه ، وهنا وقفة في هذا الإسناد ، وذلك أن عمر بن أبي الحسن وهو من رجال التابعين الفضلاء الأخيار الأتقياء رحمهم الله سأل هذا الصحابي عن صفة وضوء النبي صلى الله عليه وسلم الأمر الذي يدل على فائدتين عظيمتين :
الفائدة الأولى : حرص التابعين رحمهم الله على معرفة هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وذلك أن الوضوء من الأمور المعروفة المعهودة ومع كبر سن هذا الرجل ومكانته يسأل صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم عن هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم في الوضوء وهو يدل على انتفاء الكبر فيهم فكانوا يسألون عن هديه حتى في دقائق الأمور ولربما وجدت الرجل يستنكف في زماننا عن السؤال في الأمور الصعبة العويصة تكبراً على العلم والعلماء ، -نسأل الله السلامة والعافية- وهؤلاء الصلحاء الأتقياء يسألون عن أوضح الأشياء كل ذلك حباً للسنة والاقتداء بالنبي-- صلى الله عليه وسلم - - وكلما كان الإنسان على صلاح وبر كلما كان أحرص على الخير ومعرفة الهدى فسأل هذا الصحابي عن صفة وضوء النبي صلى الله عليه وسلم .(18/7)
الفائدة الثانية : فيه دليل على حرص السلف الصالح رحمة الله عليهم على سؤال العلماء والاستفادة من مجالسهم فما كانت مجالس العلماء تخلو من علم يستفاد به في الدين ، ولذلك كان لزاماً على من جالس العلماء أن يحمد نعمة الله -جل وعلا- عليه بالتوفيق وتيسير تلك المجالس فيسأل عن أمور دينه ويستفيد من مصاحبتهم والجلوس معهم فسأل عبد الله بن زيد عن صفة وضوء النبي صلى الله عليه وسلم ، وفي هذه الرواية التي ذكرها الإمام الترمذي جاءت بلفظ القول ورواية الصحيحين جاءت بالفعل ، وكونه رضي الله عنه يأمر بطشت يتوضأ منه رضي الله عنه وأرضاه لكي يجمع بين العلم والعمل وهي طريقة مستحبة في التلقين ، ولذلك دعا بطشت أوبتورٍ من صفر ثم توضأ فيه وضوء النبي صلى الله عليه وسلم ، وفعل هذه المسألة من الجمع بين المضمضة والاستنشاق من كف واحدة ، وهذا الحديث الصحيح يدل على ضعف حديث طلحة بن مصرف الذي فيه "أنه رأى النبي صلى الله عليه وسلم يفصل بينهما " إذا كان المراد به دوام الهدي .
أما إذا حمل حديث طلحة رضي الله عنه على أنه فعلهصلوات الله وسلامه عليه من باب الجواز فهذا محل إجماع بين العلماء رحمهم الله ، وقد استدل بهذا الحديث على تفضيل الوصل ، وقد روى هذا الحديث رواه الإمام الترمذي عن عبد الله بن زيد وهو الصحابي وابن الصحابي والصحابية فأبوه صحابي وأمه صحابية -رحمة الله على ذلك البيت وبركاته عليه -فقد كانت أمه أم عمارة وهي نسيبة بنت كعب وهي من أفاضل الصحابيات ، وكان لها بلاء في زمان النبي صلى الله عليه وسلم وأخوه حبيب بن زيد بن عاصم بن النجاري الذي قتله مسيلمة الكذاب ونال فضل الشهادة على يديه ، وقد قيل إن عبد الله بن زيد رضي الله عنه وأرضاه قتل مسيلمة أخاه حبيباً وقطعه إرباً إرباً ومثّل به رضي الله عنه وأرضاه .(18/8)
ومضى عبد الله بن زيد رضي الله عنه أيام الردة وقاتل مع أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وأخذ بثأره وقتل مسيلمة الكذاب وقد قيل أنه هو الذي ابتدره ، وقيل إن وحشياً هو الذي ابتدره وأجهز عليه عبد الله بن زيد رضي الله عنه وأرضاه ، وكان عبد الله بن زيد ممن شهد أحد مع النبي صلى الله عليه وسلم والمشاهد بعدها .
واختلف أهل السير هل شهد عبد الله رضي الله عنه غزوة بدر أو لم يشهدها..؟؟
وذلك على قولين : فاختار الإمام الحافظ بن عبد البر أنه لم يشهد بدراً ، وهذا هو الذي مال إليه المحققون ، وقال الحاكم وابن مندة إنه شهد بدراً ، وعلى هذا القول يكون بدرياً رضي الله عنه وأرضاه قُتل هذا الصحابي يوم الحرة وهو يوم حرّة واقمٍ ، وهي الحرة الشرقية من المدينة ، فالحرة الشرقية اسمها حرة واقمٍ والغربية اسمها حرّة الوبرة ، قُتل رضي الله عنه وأرضاه يوم وقعت الحرة في ذي الحجة من سنة 63 هـ وهو اليوم الذي قُتل فيه عدد من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ، وذلك في الجيش الذي غزا المدينة وفي ذلك يقول قيس الرقيات بيته المشهور :
فإن تقتلونها يوم حرة واقمٍ فإنا على الإسلام أول من قتل
ونال رضي الله عنه فضل الشهادة ، وهذا الحديث يعتبره العلماء رحمهم الله برواية التفصيل ، من أجمع الأحاديث التي وصفة وضوء النبي صلى الله عليه وسلم ، ولذلك قال : بعض العلماء أوضح الأحاديث في صفة وضوء النبي صلى الله عليه وسلم حديث عثمان بن عفان رضي الله عنه وعبد الله بن زيد وعلي بن أبي طالب ، وكذلك الرُبَيَّع -رضي الله عن الجميع وأرضاهم وجعل أعالي الفردوس مسكنهم ومثواهم -.
يقول المصنف - رحمه الله- بَاب مَا جَاءَ فِي تَخْلِيلِ اللِّحْيَةِ
الشرح:(18/9)
يقول المصنف -رحمه الله -" باب ماجاء في تخليل اللحية " : "التخليل" : مأخوذ من خُلل الشيء والعرب تصف الشيء بهذا الوصف إذاكان وسطاً بين الشيء فيقال تخلل القوم إذا جلس وسطهم ومنه خلل الباب لأنها مناسم وفتحات في الباب ، وسمي الخليل خليلاً لإن محبته قد تخللت القلب وتسربت إلى مناسمه وشعبه.
وقوله " تخليل اللحية " : سُميت اللحية بهذا الاسم لأن الشعر ينبت على اللحيين ، وإذا اجتمع اللحيان في الوجه ، في مقدم الوجه فهي الذقن .
ثم قوله -رحمه الله -" تخليل اللحية " : والمراد بتخليل اللحية أن يخللها بأصابعه أثناء غسله لوجهه حتى يتسرب الماء إلى اللحية وتخليل اللحية يعتبر من مسائل الوضوء وقد اعتنى الفقهاء والمحدثين-رحمة الله على الجميع - ببيان حكم هذه المسألة ، وذلك أن الله سبحانه وتعالى أمرنا بغسل الوجوه ، واللحية تنبت في وجوه الرجال.
ومن هنا يرد السؤال : هل يجب على الإنسان أن يغسل لحيته كاملة سواء كانت كثة أو كانت يسيرة أو لايجب عليه أن يغسلها..؟؟(18/10)
وقد وردت عن النبي صلى الله عليه وسلم الأحاديث بصيغة القول وبصيغة الفعل تبين هدي النبي صلى الله عليه وسلم في التخليل ،وقد وردت في ذلك أحاديث عن أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم بلغ عددهم أربعة عشر رجلاً من أصحابهصلوات الله وسلامه عليه و-رضي الله عنهم أجمعين- ، وقد اعتنى الإمام الحافظ الزيلعي في كتابه" نصب الراية " ببيان هذه الأحاديث وتخريجها ومن أشهر هذه الأحاديث حديث عثمان بن عفان رضي الله عنه وأرضاه في صفة تخليلهصلوات الله وسلامه عليه للحيته ، وهذا الحديث يعتبر من أصح أحاديث اللحية ، وفيه عامر بن شقيق ، وقد اختلف العلماء رحمهم الله في الحكم عليه فضعفه يحيى بن معين ، وحسن الإمام البخاري حديثه ، ولذلك صحح الحاكم وغيره حديث عثمان ، وكذلك صرح الإمام الترمذي رحمه الله بثبوته وهو من أقوى الأحاديث الواردة في تخليل اللحية عن رسول الله صلى الله عليه وسلم .(18/11)
أما الحديث الثاني فهو حديث أم المؤمنين عائشة -رضي الله عنها وأرضاها-وقد رواه الإمام أحمد في مسنده ، وقال الإمام الحافظ بن حجر إن إسناده حسن ، وهناك حديث ثالث وهو حديث أنس بن مالك رضي الله عنه وأرضاه أن النبي صلى الله عليه وسلم " توضأ فأخذ كفاً من ماء وأدخله تحت حنكه ثم خلل به لحيته ، وقال:(( هكذا أمرني ربي عز وجل )) ، وهذا الحديث صححه ابن القطان ، وكذلك صححه الحاكم وسكت الذهبي على تصحيحه ، قال بعض العلماء : سكوته إقرار له بالصحة ، وهذا الحديث يعتبر من الأحاديث القوية التي دلت على مشروعية تخليل اللحية ، ومن هنا قال العلماء إنها سنة ثابتة ، وبقية الأحاديث الأخر لم تخل من كلام وضعفها شديد ، فهناك أحاديث عن علي بن أبي طالب وعبد الله بن عباس وعبدالله بن عمر وأبي الدرداء وبن أبي أوفى وأبي أمامة رضي الله عن الجميع ، ولكن ضعفها شديد ، وهذه الأحاديث الثلاثة هي أقوى الأحاديث في تخليل اللحية ، ولذلك قال الإمام البخاري عن حديث عثمان رضي الله عنه : " إنه أصح شيء في هذا الباب" ، وشدد بعض العلماء رحمهم الله في ثبوت الخبر عن سيد البشر صلى الله عليه وسلم في تخليل اللحية ، فقال ابن أبي حاتم عن أبيه :" لايثبت في تخليل اللحية عن رسول الله صلى الله عليه وسلم حديث".
وكذلك روى عبدالله بن أحمد عن أبيه الإمام أحمد رحمة الله عليهما أنه قال : " لايثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم في تخليل اللحية حديث "، ولكن الأحاديث التي ذكرنا قوية في الدلالة على ثبوت هذه السنة : " والمثبت مقدّم على النافي" ، ولاشك أن اختلاف العلماء ومناهجهم في التصحيح والثبوت توجب المعذرة لمن قال بالنفي والمعذرة لمن قال بالإثبات .
" تخليل اللحية " فيه مسائل ، من أهمها :
هل تخليل اللحية يعتبر واجباً أو غير واجب ..؟؟(18/12)
والجواب: أن تخليل اللحية لا يخل الحكم فيه من حالتين ، تختلف بحسب اختلاف اللحية ، فلاتخل اللحية من حالتين :
الحالة الأولى : أن تكون اللحية يسيرة . الحالة الثانية : أن تكون اللحية كثة .
ومن هنا يرد السؤال : ماهو الفرق بين اللحية الخفيفة واللحية الكثة ..؟؟
وللعلماء ثلاثة أوجه في التفريق :
الوجه الأول : أن الضابط في ذلك رؤية البشرة ، فإذا كان الشعر الذي على اللحية يسيراً بحيث يمكنك أن ترى البشرة فإنها يسيرة وخفيفة ، وأما إذا كان الشعر كثيراً بحيث يستر البشرة ولا يمكنك أن ترى لونها من تحت الشعر فإنها لحية كثة .
الوجه الثاني : أن مرد ذلك إلى العرف ، فما عده العرف كثاً فهو كث ، وهي لحية كثيفة .
وماعده العرف يسيراً وخفيفاً فهو لحية خفيفة ، وهذا هو أضعف الوجوه .
الوجه الثالث : أن الفرق بين اللحية الكثة واليسيرة إذا كانت اللحية مسترسلة فهي كثة ، وإذا كانت غير مسترسلة فإنها يسيرة .
وإذا تبين لنا أن هناك فرقاً بين الخفيفة واليسيرة ، فما حكم تخليل اللحية فيهما..؟؟
والجواب : أن أصح هذه الوجوه أن اللحية الكثة هي التي لا ترى البشرة من تحتها ، وأن اللحية الخفيفة هي التي ترى البشرة من تحتها ، ومن هنا يتبين الحكم ، فإن كانت اللحية يسيرة ترى البشرة من تحتها فإنه يجب عليك أن تغسل البشرة وتغسل شعر اللحية كاملاً ، وذلك لأن الله سبحانه وتعالى أوجب على المكلف غسل وجهه فإذا كانت اللحيه يسيرة ترى البشرة من تحتها فإن صاحبها يواجه الناس ببشرته وشعرلحيته فأوجب الله عليه أن يغسلهما ، وأما إذا كانت اللحية شعرها كثيفاً ولا يمكن للإنسان أن يرى ظاهر البشرة فإنه يجب عليه أن يخللها .
والتخليل له صورتان :
الصورة الأولى : أن يكون لظاهر اللحيه . الصورة الثانية : أن يكون لباطنها .(18/13)
فأما تخليل الظاهر: فإنك تصب الماء على الوجه حتى إذا جرى بقية الماء من أسفل الوجه على اللحية أدخلت الماء في مناسمها مفرقاً بين الشعر فهذا هو تخليل الظاهر .
وأما تخليل الباطن : فإنك تأخذ الكف من الماء ثم تدخله تحت الحنك ثم بعد ذلك تخلل اللحية بالأصابع مفرقه وعلى ذلك حديث أنس بن مالك-- رضي الله عنه - و أرضاه- أن النبي صلى الله عليه وسلم " أخذ كفاً من الماء و أدخله تحت حنكه ثم خلل به لحيته" فهذا هو تخليل باطن اللحية .
و الواجب على المكلف أن يخلل ظاهر اللحية بشرط أن تكون كثيفة .
وأما باطنها فقد قيل إن الاجماع على أنه لايجب على المكلف أن يخلل باطنها .
و أما ورد من قوله عليه الصلاة والسلام :((هكذا أمرني ربي عز وجل )) فقد اختلف في هذا النوع من الصيغ خلافاً أصولياً معروفاً .
هل الأمر له بالتخصيص يدل على دخول الأمه بالتبع أولا يدل على الدخول ..؟؟
ولما دلنا ظاهر نص القرآن على أن العبرة بظاهر اللحية لا بباطنها ؛ لأن الله أمرك بغسل الوجه والوجه ماتحصل به المواجهه ومواجهة اللحية تكون بظاهرها لا بباطنها دل ظاهر القرآن من هذا الوجه على أن المكلف لا يجب عليه غسل باطن اللحيه.
و هنا مسألة : وهي هل يجب عليك أن تغسل ما استرسل من اللحية إذا كانت كثيفة..؟؟
فقال بعض العلماء الواجب على المكلف أن يغسل اللحية إلى حد الوجه وأما ما استرسل من اللحية من أسفلها فغير واجب إن أمر الماء عليه فحسن ، و إن لم يمره فإنه ليس بواجب عليه ، وقال بعض العلماء : الواجب عليه أن يغسل ظاهر اللحية سواء كانت مسترسلة أو غير مسترسلة وهذا هو الصحيح و القوي ؛ لأن المواجهة تحصل بهذا الشعر ولذلك يعتبر تبعاً لأصله ومن ثم يجب غسله لأن الله أمر بغسل الوجه و اللحية من الوجه ولذلك يجب على المكلف أن يغسله .
وبناءً على هذا فتلخيص الأحكام :
أن يقال إن اللحية لا تخلو من حالتين :(18/14)
الحالة الأولى : أن تكون يسيرة تصف ظاهر البشرة فيجب على صاحبها أن يغسل الوجه كاملاً فيغسل البشرة ويغسل اللحية ؛ لأن المواجهة حاصلة بهما معاً.
والحالة الثانية : أن تكون كثة فحينئذٍ يرسل الماء على ظاهرها ويخلل مناسم الظاهر دون مناسم الباطن ويكون تخليل الباطن من باب الكمال وليس من باب الوجوب ، والله تعالى أعلم .
- ? - ? - ? - ? - الأسئلة - ? - ? - ? - ? -
السؤال الأول :
إذا لم يستنشق المتوضئ الماء ويدخله داخل أنفه وإنما اكتفى بالغسل الخارجي وإدخال إصبعه مبلولاً بالماء داخل أنفه هل يجزيء ذلك أو لا يجزيء..؟؟
الجواب :
بسم الله الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه أما بعد :
فالاستنشاق يستلزم من المكلف أن بجذب الماء الى أعلى الخياشيم بالنفس فإذا لم يدخل الماء بهذه الصوره وبلّ أصابعه وأدخل الأصابع في الأنف فإنه ماسح لأنفه وليس بغاسل له والسنة غسل الأنف وليس مسحه ، وبناءً على ذلك يفصل في حكمه على حسب اختلاف العلماء فإن قلنا إن الاستنشاق واجب وفرض من فروض الوضوء فلا يصح وضوؤه على هذا الوجه وإن قلنا بالسنية فلا أجر له في هذا الفعل ؛ لأنه لم يستنشق حقيقة وقد خالف هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم ، والله تعالى أعلم .
السؤال الثاني :
هل ترتيب الأعضاء في الوضوء واجب ؟ وهل على من فعل ذلك وصلى به الفريضة شيء..؟؟
الجواب:(18/15)
الترتيب يعتبر من فرائض الوضوء ؛ لأن الله رتب أعضاء الوضوء ومن الأدلة القوية على وجوبه ولزومه أن الله -تعالى- أدخل ممسوحاً بين مغسولين فقال سبحانه وتعالى :{ يَاأَيٌّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلى الصَّلاَةِ فَاغْسِلُواْ وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلى الْمَرافِقِ وَامْسَحُوا برُؤوسِكُمْ وأَرْجُلَكُمْ إِلى الْكَعْبَينِ}(1) فلما قال :{وَامْسَحُوا برُؤوسِكُمْ } وكان قبلها قد أمر بغسل الوجه ثم أمر بعدها بغسل الرجلين فُهم من هذا ان الترتيب مقصود والعرب تدخل الممسوح بين المغسولين على هذا الوجه للدلالة على تأكد الترتيب وإلا لو كان الترتيب غير لازم لذكر المغسولات تبعاً ثم أتبعها بالممسوح أو ذكر الممسوح ثم أتبعه بالمغسول ولذلك لابد من مراعاة هذا الترتيب .
ثم الأمر الثاني أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:(( توضأ كما أمرك الله)) كما في حديث السنن والله أمرنا على هذه الصفة التي وقعت فيها أعضاء الوضوء تبعاً مرتبة وعليه فإنه ينبغي مراعاة هذا الترتيب .
وأما الأمر الثالث فلان هديه صلوات الله وسلامه عليه بمراعاة الترتيب ولم يثبت عنه حديث صحيح أنه لم يرتب بين أعضاء وضوئه صلوات الله وسلامه عليه ، وبناءً على ذلك فإنه يعتبر الترتيب فرضاً من فرائض الوضوء .
__________
(1) / المائدة ، آية : 6 .(18/16)
أما بالنسبه لهذه الفرضية ففيها تفصيل إن كان الترتيب بين مفروض ومفروض ففرض ، مثل غسل الوجه واليدين فلاتغسل اليدين إلا بعد غسلك لوجهك ومن غسل يديه قبل وجهه فإنه يلزمه أن يغسل وجهه أولاً ثم يغسل يديه بعد ذلك ، أما الترتيب بين المسنون والمسنون كالمضمضه والاستنشاق فلو قدم الاستنشاق على المضمضه فإنه يجزيه ويصح منه ذلك ولكنه قد فاتته السنه وفاته هدي النبي صلى الله عليه وسلم وهكذا الترتيب في العضو الواحد ليس بفرض كاليدين والرجلين فلك أن تغسل اليسرى قبل اليمنى ولو سألك رجل عن رجلٍ غسل يده اليسرى قبل يده اليمنى لحكمنا بصحة وضوءه ؛ لأن الله-تعالى-قال :{ وَأَيْدِيَكُمْ إِلى الْمَرافِقِ} وقال :{وأَرْجُلَكُمْ إِلى الْكَعْبَينِ} ومن غسلهما مرتين أو غير مرتين حقق الواجب الذي أمر الله سبحانه وتعالى به ، وبناءً على ذلك فمسألة الترتيب فيها تفصيل فإن كان فرضاً مع فرض فإنه يجب أن يراعي الترتيب بينهما وإن كان مسنوناً مع مسنون فإنه لا يجب عليه ويعتبر ترتيبه فضلاً لا فرضاً ، والله تعالى أعلم.
السؤال الثالث :
إذا احتلم رجل ثم اغتسل للتنظف لا للجنابه هل يجزئه ذلك عن غسل الجنابة ..؟؟
الجواب :
هذه المسألة فيها قولان للعلماء رحمهم الله جمهور أهل العلم أن من اغتسل مثلاً لنظافة أو لطلب البرد في شدة الحر وكانت عليه جنابة فإن الجنابة لا ترتفع ولابد أن ينوي بغسله العبادة وأن غسله للعادة والتنظيف ونحوها لا يجزيه عن غسل العبادة وهذا هو مذهب المالكية والشافعية والحنابلة والظاهرية-رحمة الله على الجميع -يقولون لابد من النية في الغسل وهي شرط لصحته فإن وجدت النيه صح غسله وإلا فلا .(18/17)
القول الثاني : أن النية ليست بشرط فإن فعلها أكمل وأفضل وإن لم تك نية فإن غسله مجزيء وصحيح وهذا هو مذهب الحنفية وقال به بعض السلف رحمة الله عليهم يقولون من دخل الى بركة ماء أو إلى سيل أو في نهر أو في بحر وانغمس فيه وكانت عليه قبل جنابة أو امرأة دخلت في بركة وكانت قد انتهت وطهرت من نفاسها أو طهرت من حيضها فإنها لولم تنوي بهذا الغسل العبادة يجزيها عن غسل العبادة وهذا القول مرجوح والصحيح أنه لابد من النية والدليل قوله -تعالى-:{ومَا أُمِرُو إِلا لِيَعْبُدُوا اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدينَ }(1) وقوله-تعالى-:{ فاعْبُدِ اللهَ مُخْلِصَاً لَهُ الدِّينِ}(2) والغسل عبادة بل هو شرط في صحة العبادة وأما الدليل الثاني الذي يدل على لزوم النية فهو قوله عليه الصلاة والسلام :(( إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل إمرئ مانوى)) حيث دل هذا الحديث بمنطوقه على أن اعتبار الأعمال وثبوت صحتها مبني على النية فمن نوى العبادة صحت له العبادة ومن نوى العادة فإنها لاتجزيه عن العبادة بل لابد وأن ينويها ، وبناءً على ذلك فمن من اغتسل لعادته من نظافة أو طلب برد في شدة حر فإنه لا يجزيه غسله ذلك عن الغسل الواجب في المسألة الماضية فقهاء الحنفية ومن وافقهم يقولون لا نشترط النية لصحة الوضوء ولا لصحة الغسل ووجه ذلك أنهم يقولون إن الله- تعالى- أمر المكلفين أن يغسلوا وجوههم وأيديهم ويمسحوا برؤوسهم ويغسلوا أرجلهم وأمرهم أن يطهّروا فهذا الرجل الذي دخل في البركة وكانت عليه جنابة قد فعل ماأمر الله به كونه ينوي أو لا ينوي هذا شيء زائد عن القرآن فهذه من أدلتهم يقولون إن الله أمرنا بالوضوء والغسل ومن دخل بدون نية فقد توضأ واغتسل ، ومن الجواب عن ذلك وهو من ألطف الأجوبة لبعض الأئمة -رحمة الله- عليهم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : (( الطهور شطر الإيمان)) والمراد بالإيمان الصلاة
__________
(1) / البينة ، آية : 5 .
(2) / الزمر ، آية : 2 .(18/18)
فإن الله-تعالى- سمى الصلاة إيماناً كما في قوله- تعالى-:{ وَمَاكَانَ اللهُ لِيُضِيعَ إيمَانَكُمْ }(1) فقوله : (( الطهور شطر الإيمان)) فإذا قلت بأن الطهور الشامل للوضوء والشامل بلفظه شامل للوضوء وشامل للغسل شطر الإيمان وهي الصلاة والحنفي يوافقك أن الصلاة لا تصح بدون نية فحينئذ إذا كانت شطراً فإنه تجب وتلزم لها النية كما تجب وتلزم للصلاة التي هي شطر ونصيف معها ، والله تعالى أعلم .
السؤال الرابع :
هل تخليل اللحيه يكون وقت غسل الوجه أو بعد الوضوء..؟؟
الجواب :
التخليل يكون وقت غسل الوجه فإذا أراد الإنسان أن يخلل لحيته وكان واجباً عليه أن يخلل ظاهرها فإنه يكون أثناء الوضوء ، وأما لو أخره إلى مابعد الوضوء فغسل وجهه إلى حد الذقن ثم ترك التخليل ثم بعد إنتهائه من الوضوء خلل ظاهر لحيته فإنه حينئذ يلزمه أن يرجع فيغسل يديه ثم يمسح برأسه ثم يغسل رجليه لأنه لم يغسل عضو الوجه كاملاًوالترتيب كما قلنا شرط في صحة الوضوء فالترتيب كما أنه لازم لغسل العضو كله لازم لغسل بعضه ولذلك قالوا من توضأ فترك قدراً من يده ثم نظر بعد وضوئه مباشرة ويده مبلوله فرأى أن هناك لمعة لم يصبها الماء فإنه يغسل هذه اللمعة ثم يمسح برأسه ثم يغسل رجليه ، -أعني أن يقوم بفرض الله فيما بقي من الفرائض التي بعد اليد الناقصة-وعلى هذا فمن غسل وجهه ولم يخلل لحيته في القدر الواجب تخليله فإنه قد ترك جزءاً من وجهه فيلزمه أن يرجع ويغسل هذا الجزء ثم بعد ذلك يتم مابقي من وضوئه وحملوا حديث أنس بن مالك أنه أخذ كفاً من ماء وخلل به لحيته على أنه تخليل الباطن على أنه بعد الوضوء على سبيل الندب والإستحباب لا على سبيل الحتم والإيجاب ، والله تعالى أعلم.
السؤال الخامس:
هل تخليل اللحية واجب في الغسل والوضوء أم هو واجب في الغسل وسنة في الوضوء..؟؟
الجواب:
تخليل اللحية في الغسل أشد منه في الوضوء وهذا كالمضمضة والاستنشاق.
__________
(1) / البقرة ، آية : 143 .(18/19)
وتوضيح ذلك : أننا في الغسل أمرنا الله-تعالى- بغسل ظاهر البدن فتدخل اللحية ظاهرها وباطنها بل ويدخل أصول الحيته فلابد على المغتسل من الجنابة أن يخلل الماء إلى أصول لحيته ، ولو كانت كثيفة وهذا قول جماهير العلماء رحمة الله عليهم أن اللحية في الغسل من الجنابة يعتبر من الفرض أن تخللها وأن توصل الماء إلى أصولها كالرأس فكما أن شعر الرأس يجب عليك غسله ، وكذلك إرواء أصله قالت أم المؤمنين-رضي الله عنها-:" ثم أفاض الماء على رأسه وجعل يدلك بكلتا يديه حتى إذا ظن أنه روّى أصول شعر رأسه "فدل على لزوم غسل البشرة ظاهراً وأن ذلك شامل الشعر واللحية وأصول هذا الشعر ، وبناءً على ذلك فأمر التخليل في الغسل أشد منه في الوضوء ، والله تعالى أعلم.
السؤال السادس :
هل التخليل يكون بعد كل غسلة أم أنه بعد الغسلة الأخيرة ..؟؟
الجواب :
التخليل يكون في كل غسلة إذا كان الغسل للوجه ثلاثاً فإنه في كل غسلة يخلل حتى يصيب فضيلة التثليث أما لو أخره إلى أخر غسلة فإنه قد غسل وجهه مرة واحدة هذا على أن ما يخلل تبعاً للوجه وهذا هو أصح الأقوال كما ذكرنا ، والله تعالى أعلم .
السؤال السابع :
هل يلزم المرأة المسح على ما استرسل من شعرها إن كان طويلاً..؟؟
الجواب :
يقول بعض العلماء : إن العبرة في شعر المرأة بما يحاذي محل الفرض والمسح أخف من الغسل وهذه المسأله ينظرونها على مسألة اللحية في المسترسل فالذين لا يرون غسل المسترسل من اللحية يقولون ألا ترون أنه لا يجب على المرأة أن تغسل المسترسل من شعرها إلحاقاً للحية وقد أُجيب بضعف الممسوح عن المغسول ويلزم في المغسول مالايلزم في الممسوح بل إن الشرع لما أوجب غسل هذا دل على تأكده أكثر من الممسوح .(18/20)
من الأدله اللطيفة التي يقرر بها العلماء قاعدة الفرق بين المغسول والممسوح يقولون إن الرجلين أمر الله بغسلهما فإذا جئت تغسلهما في الوضوء لابد وأن تستوعب الرجلين في الغسل لكن إذا لبست الخفين فإنك تعدل من الغسل الى المسح فلما مسحصلوات الله وسلامه عليه مسح على خفيه خطوطاً حتى الظاهر لم يستوعبه بالمسح فدل على أن الممسوح أخف من المغسول مع أنك في عضو واحد وهو الرجل وهذا لا شك أنه تقعيد نفيس وهو يدل على فقه الله الذي فقّه به علماء الأمه ، والله تعالى أعلم.
السؤال الثامن :
هل دم الحامل-الحبلى- حيض أم هو دم فساد وهل تصلي المرأة إذا رأت هذا الدم..؟؟
الجواب :
قد اختلف العلماء رحمهم الله هل الحامل تحيض أو لا تحيض وأصح القولين والعلم عندالله أن الحامل لا تحيض ، وأن ماتراه من الدم يعتبر دم فساد وعله لا يوجب انقطاعها عن صلاة وصيام ولا بطلان حجها إذا طافت طواف الركن به وعلى هذا فإن جميع مايكون أثناء حملها من الدماء يعتبر من دم الاستحاضة الذي لايوجب حكماً .
وأما إذا كان هذا الدم من الحامل قبل ولادتها بيوم أو يومين إلى ثلاثة أيام فللعلماء فيه وجهان منهم من يقول إنه دم نفاس سبق أوانه وهذا يختاره جمع من أصحاب الإمام أحمد-رحمة الله عليه- ويستدل له بالقاعده المشهوره :" أن ماقارب الشيء أخذ حكمه" فإذا كانت المرأه قد اكتملت مدة حملها وأخرجت أو نزل معها نزيف قبل الولاده بيوم أو يومين فهو دم نفاس سبق إبَّانه ، ومنهم من قال : إنه ليس بدم نفاس وإنما هو دم فساد وعلّه طرداً للأصل لأن الاستصحاب في هذا أقوى وأولى وهو من جهة النظر أقوى القولين والثاني أحوط ، والله تعالى أعلم .
السؤال التاسع :(18/21)
إمرأة تسأل وتقول : يحدث بعد استعمال جهاز اللولب أن تطول مدة الحيضة إلى خمسة عشر يوماً مع العلم أن الدم ينقطع في الخمسة أيام الأخيرة ولكن تبقى الصفرة حتى بعد الخمسة عشر يوماً فهل تعتبر كل هذه الفترة حيضاً تمنع من الصلاة أو الصيام وما هي علامة الطهر..؟؟
الجواب :
في هذه المسألة ثلاث مسائل :
المسألة الأولى : هل يجوز استعمال هذه الآلات ووضعها في الموضع والذي يسمى اللولب فالذي ظهر بعد دراسة هذه المسأله والنظر في حجج من قال بالجواز أنه لايجوز وضع هذه ألآلات وهي مخالفة لمقصد الشرع مع وجود الضرر واختلال عبادة النساء وأضف إلى ما فيه من الكشف ولمس الأجنبي لعورة المرأة واطلاعه على ذلك الموضع وكلها محاذير شرعية ثقيلة وردت بها النصوص في سنة النبي صلى الله عليه وسلم تحرمها وتؤكد تحريمها وتشدد فيها فالذي تطمئن إليه النفس أنه لا مساغ ولا مجال لهذا الذي يسمى اللولب وأنه محرم ولا يجوز وضعه ولا يجوز للطبيب أن يضع هذه الآلة وتعتبر جراحتها محرمة لما ذكرناه .
أما بالنسبة للمسألة الثانية وهي لو وضعت المرأة اللولب ثم اختلّت عليها عادتها.
فحينئذ لا تخلو المرأة من حالتين :
الحالة الأولى : أن تكون لها عادة تذكرها فإذا كانت لها عادة تذكرها قبل وضع اللولب فإنها ترجع إلى عادتها لإن النبي صلى الله عليه وسلم قال:(( لتنظر الأيام التي كانت تحيضهن قبل أن يصيبها الذي أصابها فإذا هي خلفت ذلك فلتغتسل ثم لتصلي)) فدل هذا إلى ردها الى العادة إذا كانت لها عادة.(18/22)
أما الحاله الثانية : إذا لم تكن لها عادة أو كانت لها عادة ونسيت هذه العادة فحينئذ تعتد بالست والسبع لقوله عليه الصلاة والسلام :(( تحيضي في علم الله ستاً أو سبعاً)) فالست هي كمال الحيض والسابع هو الذي يكون فيه بعض الأحيان دلائل النقاء ولا يكون محضاً بالنقاء ولذلك أُضيف إلى السادس فأصبح الحيض في هذه الحالة للمتحبرة ستاً أو سبعاً وهذا الحديث قد حسنه أئمة كالإمام البخاري -رحمة الله عليه-وغيره من أئمة الحديث.
وبناء على على ذلك ترد الى ست أو سبع فيقال لها تحيضي في علم الله ستاً و سبعاً فأو بمعنى" الواو" أي تحيضي ستاً و سبعاً والعرب تستعمل "أو " بمعنى "الواو" كما هو مشهور ومعروف كقوله-تعالى-:{فَكَانَ قَابَ قَوْسَينِ أَوْ أَدْنَى}(1) فإن لله لا يشك والمراد وأدنى فالمقصود أنها تتحيض ستاً وسبعاً أي تتحيض سبعة أيام.
أما ماسألت عنها من الصفرة والكدرة فالصفرة والكدرة فيها قولان مشهوران أصحهما أن الصفرة والكدرة إن كانت في زمان الحيض وإبان الحيض وعادتها التي تحيض فيها .
مثال ذلك : إمرأة من عادتها تحيض أول الشهر فرأت الصفرة والكدرة في مثل أيام عادتها من أول الشهر فإنها حيض وإن رأت الصفرة والكدرة بعد أيام الحيض أو في غير أيام حيضها وهي أيام الطهر والنقاء فإنها ليست بحيض وعليه حُمل حديث أم عطية في الصحيح :" كنا لا نعد الصفرة والكدرة على عهد رسول الله بعد الطهر شيئاً "فمفهوم هذا الحديث أنها قبل الطهر معتد بها وبعد الطهر غير معتد بها ولذلك صار أرجح الأقوال في هذه المسألة قول من قال بالتفريق في الصفرة والكدرة بين أن تكون قبل دم الحيض أو زمان الحيض وبين أن تكون في زمان الحيض وإبان الحيض.
والمسألة الأخيرة : في هذا السؤال : ماهي علامة الطهر..؟؟
__________
(1) / النجم ، آية :9 .(18/23)
علامة الطهر هناك علامتان لطهر المرأة من الحيض والنفاس علامة منها اتفق العلماء عليها وهي التي يسميها العلماء العلامة القوية وهي القصة البيضاء وهي العلامة الأولى : وهي تختلف باختلاف النساء ولكن ضابطه الذي قاله العلماء إنه ماء كالجير الأبيض يخرج بعد تمام العادة يعرفه النساء هذا الماء إذا خرج فهو تمام العادة والدليل عليه ما جاء عن أم المؤمنين عائشة-رضي الله عنها- في صحيح البخاري " أنه كان النساء يبعثن اليها الدُّرجه يعني " الخرقة" فيها الكرسف وهو القطن فيه الصفرة والكدرة من دم الحيض فكانت تقول " انتظرن لا تعجلن حتى ترين القصة البيضاء" قال العلماء : فقولها : "حتى ترين القصة البيضاء " يدل على أن علامة الطهر هي القصة البيضاء وهو الماء الذي ذكرناه كالجير.
وأما العلامة الثانية : وهي التي اختلف فيها العلماء فهي الجفوف وهذه العلامه يصار إليها عند تعذر العلامة الأولى والجفوف مأخوذ من جف الشيء إذا انقطع وجف الوادي إذا انقطع ماؤه والمراد بذلك أن يجف فرج المرأه وضابط هذا الجفاف أن تُدخل المرأه القطن فيخرج القطن نقياً لا دم فيه فإذا فعلت ذلك المرات والكرات فقد تبين جفوف الموضع فاختلف العلماء هل إذا فقدت القصة البيضاء يعتبر جفوف فرجها دليلاً على طهرها كالقصة البيضاء عند تعذرها ، فمنهم من قال : هو نقاء وطهر ، ومنهم من قال : ليس بنقاء وطهر والأقوى أنه نقاء وطهر لأن العبرة بوجود الدم فإذا خلفت الدم وانقطع الدم فإنه حينئذ يعتبر الحكم بطهارتها سائغاً وهذا هو على ظاهر التنزيل:{حَتَّى يَطْهُرْنَ فَإذَا تَطَهَّرْنَ فَأتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمْ اللهُ }(1) فقوله:{حَتىَّ يَطْهُرْنَ }يدل على أن الموضع قد طهر ونظف والنظافة تدل على انقطاع الدم ، وبناءً على ذلك يعتبر انقطاع الدم بالجفوف والنقاء دليلاً على الطهر.
__________
(1) / البقرة ، آية : 222 .(18/24)
وَآخِرُ دَعْوَانَا أَنِ الحمَْدُ لِلَّهِ رَبِّ العَالَميْنَ وصلَّى اللَّهُ وسلَّم وبارك على عبده ونبيَّه محمد وعلى آله وصحبه أجمعين(18/25)
بسم الله الرحمن الرحيم
قال المصنف رحمه الله : حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي عُمَرَ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ عَنْ عَبْدِ الْكَرِيمِ بْنِ أَبِي الْمُخَارِقِ أَبِي أُمَيَّةَ عَنْ حَسَّانَ بْنِ بِلاَلٍ قَالَ :"رَأَيْتُ عَمَّارَ بْنَ يَاسِرٍ تَوَضَّأَ فَخَلَّلَ لِحْيَتَهُ فَقِيلَ لَهُ أَوْ قَالَ فَقُلْتُ لَهُ أَتُخَلِّلُ لِحْيَتَكَ ؟ قَالَ وَمَا يَمْنَعُنِي وَلَقَدْ رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يُخَلِّلُ لِحْيَتَهُ ".
الشرح :
بسم الله الرحمن الرحيم الحمدلله رب العالمين والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين أما بعد :
فقد ذكر المصنف- رحمه الله- حديث عمار بن ياسر-رضي الله عنهما - وفيه أنه توضأ وخلل لحيته فأنكر عليه ذلك وسئل عنه فقال وما يمنعني وقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يخلل لحيته ، هذا الحديث هو أحد الأحاديث التي وردت في تخليل النبي صلى الله عليه وسلم للحيته ، وقد ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم روى عنه أكثر من خمسة عشر من أصحابه -- رضي الله عنهم -- أنه خلل لحيته في الوضوء ولكن هذه الأحاديث ضعيفة كما ذكرنا إلا أن بعضها يقبل التحسين ، ومن أقوى ذلك حديث عثمان رضي الله عنه وأرضاه وسيذكره المصنف- رحمه الله- بعد حديث عمار بن ياسر هذا وحديث عثمان حسنه الإمام البخاري وصححه غيره من الأئمة إلا أن التصحيح من باب تصحيح الحديث لغيره نظراً للشواهد والمتابعات ، ومن أقوى الأحاديث حديث أنس وغيره كما ذكرنا في المجلس الماضي ، وتخليل اللحية يتعلق بفرض الوجه وهوالفرض الأول من فرائض الوضوء وقد اعتنى المصنف -رحمه الله -بذكر هذا الحديث لتعلقه بهذا الفرض من فرائض الوضوء الأربعة التي سماها الله عز وجل في كتابه .(19/1)
قال المصنف رحمه الله : حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ مُوسَى حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ عَنْ إِسْرَائِيلَ عَنْ عَامِرِ بْنِ شَقِيقٍ عَنْ أَبِي وَائِلٍ عَنْ عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كَانَ يُخَلِّلُ لِحْيَتَهُ" .
الشرح :
هذا الحديث هو الذي تقدمت الإشارة إليه أنه من أقوى الأحاديث التي وردت في باب تخليل اللحية وقد حسنه الإمام البخاري وضعفه ابن معين لرواية عامر بن شقيق ، وعامر بن شقيق قد قبل التحسين كما نص البخاري رحمه الله على ذلك وارتضى تحسينه غير واحد من الأئمة -رحمة الله عليهم - ، ومن هنا كان تخليل اللحية من هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم في الوضوء ، وقد ذكرنا تفصيل العلماء رحمهم الله في كيفية تخليل اللحية وهل الواجب الظاهر والباطن أم الواجب واحد منهما ؟ وبيّنا الفرق بين اللحية الكثيفة واليسيرة في المجلس الماضي ، وكون المصنف -رحمه الله - يعتني بذكر هذا الحديث لأنه يتعلق بفرض واجب من فروض الوضوء ولذلك كأنه يبين الحد الذي أوجب الله غسله فإن قلنا بوجوب التخليل فذلك لمكان وجوب غسل الوجه وإن قلنا باستحبابه فحينئذ لا إشكال أي أنه من باب السنن والمستحبات لا من باب الفرائض والواجبات .
قال المصنف رحمه الله : باب مَاجَاءَ في مَسحِ الرأسِ أنه يبدأُ بمقدمِ الرأسِ إلى مؤخرهِ
الشرح:
ذكر المصنف- رحمه الله -هذه الترجمة في مسح الرأس .
وهنا إشكال : وهو أن فرائض الوضوء أولها غسل الوجه كما ذكر الله -- عز وجل - -في كتابه ثم بعد ذلك غسل اليدين ثم بعده مسح الرأس ثم بعده غسل الرجلين إلى الكعبين ، فلماذا انتقل المصنف- رحمه الله -من غسل الوجه إلى مسح الرأس ؟؟(19/2)
وعذره في ذلك عدم ورود أحاديث بتحديد اليد ، وقد يكون ذلك أعني من روايته -رحمه الله - وإن كان قد ذكر الأحاديث الصحيحة عن عثمان وعبد الله بن زيد رضي الله عن الجميع في صفة وضوئه -صلوات الله وسلامه عليه -ولهذا فإنه ينبغي بيان الفرض الثاني من فرائض الوضوء وهو غسل اليد:
واليد تطلق في لغة العرب على ثلاثة مواضع :
الموضع الأول :أن يراد بها مابين أطراف الأصابع إلى مفصل الكتف وهذا هو المعنى الذي يشمل اليد بكمالها.
وأما المعنى الثاني : أن تطلق ويراد بها مابين أطراف الأصابع إلى مفصل العضد مع الساعد أعني المرفقين.
والموضع الثالث : أن تطلق ويراد بها مابين أطراف الأصابع إلى الزندين ويشمل ذلك الكف والأصابع وقد ذكر ذلك الله -- عز وجل - - في كتابه أن الواجب غسل اليدين من أطراف الأصابع إلى المرفقين وأما بالنسبه لإطلاق اليد بمعنى الكف والأصابع فذلك في قوله سبحانه وتعالى :{وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَهُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا كَسَبَا نَكَالاً مِنَ اللهِ }(1) فهذا من إطلاق اليد والمراد بها مابين أطراف الأصابع إلى الزندين ، وأما بالنسبة للوضوء فإن الحد الذي أوجب الله غسله من اليدين من أطراف الأصابع إلى المرفقين، والمرفقان داخلان في اليدين-كما سيأتي إن شاء الله تعالى- .
وهذا الفرض من فرائض الوضوء نص الكتاب على وجوبه ولزومه ، وأجمع العلماء رحمهم الله على أن غسل اليدين من فرائض الوضوء لقوله سبحانه وتعالى :{ وَأَيْدِيَكُمْ إِلى الْمَرَافِقِ }(2)والتقدير اغسلو أيديكم إلى المرافق والمرفقان مثنى مِرْفَق ومِرْفِق كل ذلك يطلق في لغة العرب بالكسر والفتح ، ولذلك اختلف العلماء رحمهم الله هل يدخل المرفقان في اليد أو لا يدخلان ؟ وذلك على قولين مشهورين :
القول الأول : يجب في الوضوء أن يغسل المرفقين مع اليدين .
__________
(1) / المائدة ، آية : 38.
(2) / المائدة ، آية : 6.(19/3)
والقول الثاني : لا يجب عليه غسل المرفقين مع اليدين .
أما القول الأول : فيقول به جمهور العلماء ومنهم الأئمة الأربعة - رحمة الله على الجميع - أنه يجب على المكلف أن يدخل المرفقين في اليدين واستدلوا بقوله سبحانه وتعالى :{وَأَيْدِيَكُمْ إِلى المَرَافِقِ } قالوا : إنَّ قوله : { إِلى المَرَافِقِ} أي مع المرافق لأن العرب تستعمل إلى بمعنى مع كقوله-- سبحانه وتعالى - - :{ مَنْ أَنْصَارِي إِلى اللهِ }(1) أي مع الله ، وقوله-تعالى-:{ وإِذَا خَلَوا إِلى شَيَاطِينِهِمْ }(2) أي مع شياطينهم كل ذلك بمعنى مع ، ومنه قوله سبحانه وتعالى :{وَلاتَأْكُلُوا أَمْوَالَهُم إِلى أَمْوَالِكُمْ }(3) أي مع أموالكم قالوا فهذا يدل على أن المرفقين يجب غسلهما مع اليدين لأن الله- - سبحانه وتعالى - -أدخلهما في هذه الغاية المذكورة ، واستدلوا بما ورد في السنة عن النبي صلى الله عليه وسلم من حديث جابر بن عبدالله-رضي الله عنهما-" أن النبي صلى الله عليه وسلم توضأ وأدار الماء على مرفقيه "وهو حديث ضعيف ، واستدلوا بحديث أبي هريرة في الصحيح أنه توضأ حتى شرع في العضد ورفع ذلك إلى النبي صلى الله عليه وسلم قالوا فهذا يدل على أن المرفقين يجب غسلهما مع اليدين .
__________
(1) /الصف ، آية : 14 .
(2) / البقرة ، آية : 14 .
(3) / النساء ، آية : 2 .(19/4)
واستدل أصحاب القول الثاني وهم الظاهرية وبعض أصحاب الإمام مالك بأن قوله سبحانه وتعالى :{إِلى المَرَافِقِ} أن المراد به بيان الحد الذي يجب غسل اليدين إليه ، والمرفقان لايدخلان لأن الغاية لا تدخل في المغيا واستدلوا لذلك بقوله سبحانه وتعالى :{ ثمَّ أَتِمُّوا الصِّيامَ إِلى الليلِ}(1) قالوا فقوله:{ إِلى الليلِ} يدل على أن الغاية لا تدخل في المغيا ؛ لأن الإجماع قائم على أن الليل لا يجب صيامه كالنهار فدل على أن المراد بها انتهاء الغاية ، وبناءً على ذلك فلا يغسل المرفقين مع اليدين .
والذي يترجح والعلم عندالله هو القول بوجوب غسل المرفقين مع اليدين لأن إلى بمعنى مع .
وأما ماذكروه من أن العرب تستعمل إلى بمعنى انتهاء الغاية فالجواب بأن الغاية لا تخلو من حالتين :
الحاله الأولى : أن تكون من جنس المغيا فتدخل في الحكم .
الحاله الثانية : أن تكون من غير جنس المغيا فلا تدخل في الحكم .
فإن كانت من جنس المغيا دخلت كقوله سبحانه وتعالى هنا:{ وَأَيْدِيَكُمْ إِلى المَرَافِقِ } فإن المرافق من جنس اليد فدخلت في المغيا بخلاف قوله سبحانه وتعالى :{ثمّ أَتِمُّوا الصِّيامَ إِلى الليلِ} فإن جنس الليل يخالف جنس النهار فلم تدخل الغاية في المغيا ؛ ولذلك ترجح قول الجمهور رحمهم الله أن المرفقين يجب غسلهما مع اليدين وهذا هو الأصل في المرفقين أنهما من اليدين .
المسألة الثانية : أوجب الله عز وجل غسل اليدين ، والواجب على المكلف أن يغسل ظاهر يديه فلو أن هاتين اليدين قطع منهما شيء فما هو الواجب على صاحبه ..؟؟
والجواب: أن القطع لا يخلو من حالتين :
الحالة الأولى : أن يقطع من اليد دون المرفقين فيجب على الإنسان أن يغسل ما بقي إلى المرفقين ويدخل المرفقين في الغسل .
__________
(1) / البقرة ، آية : 187 .(19/5)
الحالة الثانية : أن يقع القطع فوق المرفقين فحينئذ لا يجب عليه غسل شيء من يده التي قطعت لأن الله عز وجل أوجب عليه غسلها من أطراف الأصابع إلى المرفقين فإذا لم يكن هذا الحد موجوداً فإنه لا يجب عليه غسل مابقي لأن الله -- عز وجل - -لم يسمِّه في كتابه ولم يوجبه على عباده ، فبقي على الأصل من كونه غير واجب غسله ، وبناءً على ذلك يفصّل في مقطوع اليد على هذا التفصيل.
وهنا سؤال : فلو قطعت اليد من مفصلها وبقي المرفقان فهل يجب عليه غسل المرفقين؛ لأن الله سبحانه وتعالى أمرنا بغسلها تبعاً لليد فهل إذا قطعت اليد وبقي المرفقان هل يجب عليه غسلهما..؟؟
والجواب: يجب عليه غسل المرفقين ؛ لأن الله - - سبحانه وتعالى - - أدخلهما في الحد الذي يجب غسله فيستوي في ذلك أن يكونا مع المحدود أو يكونا منفصلين .
المسألة الثالثة : إذا كان مشلول اليدين لا يستطيع أن يمر الماء عليهما ، أو كان مكتوف اليدين كأن يُربط ويمُنع من استعمال الماء ولكنه يستطيع أن يُدْخِلْ رأسه في حوض الماء فيغسل وجهه وكذلك يمر على مقّدم رأسه الماء بإدخال الرأس ويستطيع إدخال رجليه ولكنه لا يستطيع غسل اليدين فما الحكم .؟؟
والجواب : أنه إذا لم يستطع إيصال الماء إلى اليدين فإن كان مشلولا ووجد من يستطيع صبّ الماء على يديه وجب عليه أن يغسلهما ، وإن كان لا يجد من يصب الماء فلا يجب عليه غسلهما ويغسل ما استطاع من فرائض الوضوء لأن الله عز وجل يقول :{ لا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْسَاً إِلا وُسْعَهَا }(1) .
واختلف العلماء لو كان الإنسان يستطيع أن يستأجر رجلاً ليصب الماء عليه في الوضوء فهل يجب عليه أن يستأجر هذا الرجل ليقوم عليه ؟ وهكذا إذا كان مريضاً هل يجب عليه أن يلزم أحداً بالجلوس عنده لكي يتوضأ لفرائضه أو لا يجب عليه ؟
__________
(1) / البقرة ، آية : 286.(19/6)
والجواب : أنه إذا تمكن من الإجارة وجبت عليه الإجارة لأن الله سبحانه وتعالى فرض عليه الوضوء " ومالا يتم الواجب إلا به فهو واجب" ، فكونه لا يستطيع تحقيق هذا الواجب إلا بالاستئجار لزمه ، ولكن اشترط العلماء ألاّ تجحف الإجارة به فإن طلب الأجير مالاً باهظاً يشق عليه دفعه سقطت الإجارة وحينئذ يصبح غير مكلف باستئجاره لما في ذلك من الحرج والمشقه .
المسألة الرابعة : فرض الله على المكّلف أن يغسل ظاهر يديه .
وحينئذ يرد السؤال : عما تحت الأظافر والجواب أن الأظافر يجب غسلها فإن طالت أظافره حتى سترت ماتحتها من مقدم الأصابع ..؟؟
فحينئذ لا تخلو من حالتين :
الحالة الأولى : أن تستر على وجهٍ لا يمنع تسرّب الماء لما هو في مقدم الأصابع فوضوؤه صحيح ولا إشكال .
والحالة الثانية : أن يكون هناك حائل بين الأظافر وظاهر الأصبع كالوسخ ونحو ذلك فيجب عليه إزالة هذا الوسخ حتى يتسرب الماء الى المحل الذي فرض الله غسله .
وهنا مسألة مشهورة وهي مسألة الأصباغ التي توضع على الأظافر وهي لا تخلو من حالتين :
الحالة الأولى : أن تكون حائلة للماء بمعنى أنها تمنع وصول الماء إلى ظاهر بشرة اليد كما هو موجود في بعض الأصباغ التي تصبغ بها المنازل والدور ، ونحو ذلك من الأصباغ التي تضعها النساء على الأظافر فهذا الطلاء الذي يمنع وصول الماء إلى البشرة لا يجوز للإنسان أن يتركه حال الوضوء ، وكذلك حال الغسل من الجنابة ونحوه من الأغسال الواجبة ، ولو توضأ وهذا الطلاء موجود على الأظافر فإن وضوءه غير صحيح لأن الله أوجب عليه أن يمر الماء على هذا الموضع والطلاء مانع من وصول الماء إلى بشرة الموضع المأمور بغسله ، وحينئذ يلزمه إزالة هذا الطلاء ولو اغتسل لم يصح غسله حتى يزيل هذا الطلاء ؛ ليصيب الماء ظاهر البشرة تحقيقاً لأمره سبحانه وتعالى بإصابة الموضع بالماء .(19/7)
الحالة الثانية : أن يكون الطلاء لا يمنع وصول الماء إلى البشرة إما لكونه يتسرب من خلاله حتى يصل الماء إلى ظاهر البشرة كطين يسير ونحو ذلك ، فحينئذ يصح الوضوء ويصح الغسل من الجنابة ، وهكذا في الألوان التي لا تمنع وصول الماء إلى ظاهر الظفر ، كما هو الحال في الحناء فإنها صبغ ، ولكنها لا تحول بين ظاهر الأظفر والماء ، وبناءً على ذلك يصح الوضوء ، وعلى هذا فصّل العلماء رحمهم الله في الحوائل فما كان من الحوائل يمنع الماء فلا يصح الوضوء ولا الغسل بوجوده ، وأما ماكان منها لا يمنع الماء فيصح الوضوء مع وجوده إذا غلب على الظن وصول الماء للبشرة .
وهناك نوع ثالث من الأصباغ والحوائل: وهو الذي يمكن أن يزيله الإنسان وهو الذي يمكن الإنسان أن يوصل الماء معه بدلك الموضع ونحو ذلك كما هو الحال في الأدهان ، وهذا النوع من الحوائل يجب على المتوضئ أن يدلك الموضع فإذا دلك الموضع بحيث غلب على ظنه وصول الماء للبشرة أجزأه ، وأما إذا صبّ الماء بدون دلك فإنه حينئذ لا يجزئه .
المسألة الخامسة : الأعضاء الموجودة في موضع اليد إذا كانت زائدة على الأعضاء المعهودة يجب غسلها كالأصبع السادس ونحو ذلك فإنه يجب عليه غسله بشرط أن يكون في الموضع الذي أوجب الله عز وجل على المكلف غسله ، قال العلماء : ولو نبتت الأصبع في مكان ليس من حد الوضوء فإنه لا يجب عليه غسلها ، وهكذا بالنسبة للجلدة الزائدة إذا نبتت في اليد فإن كانت في مكان الفرض وجب عليه غسلها ، وأما إذا كانت في غير موضع الفرض كأن تكون نبتت في العضد فمن العلماء من قال : لا يجب غسلها مطلقاً ، ومنهم من قال بالتفصيل فقال : إن طالت حتى حاذت موضع الفرض وجب غسل المحاذي لموضع الفرض دون الأصل .(19/8)
والصحيح أنه لا يجب غسلها بحال وأن العبرة في الزوائد أن تكون نابتة في المواضع التي أمر الله بغسلها ، وبناءً على ذلك فلو نبتت في غيرها فإنه لا يجب على المكلف أن يغسلها ، أشبهت الموضع الذي نبتت فيه فإذا نبتت في العضد فإنه لا يجب غسلها لأنها كالعضد ، والفرع آخذ حكم أصله كما هو معروف .
هذه هي حاصل المسائل المتعلقة بغسل اليدين وغسل اليدين لابدل فيه كالوجه ، وأما بالنسبة للرجلين فإن لهما بدلاً -كما سيأتي - ، وهكذا بالنسبة للرأس ، ومن هنا قال العلماء : أعضاء الوضوء منها مايجب غسله أصالة كاليد والوجه ، ومنها مارخص الشرع في مسح البدل عنه كمسح العمامة في الرأس ، ومسح الخفين في الرجلين ، وأما اليدان فإنه يجب غسلهما ، وقال بعض العلماء : لو ستر يديه بساتر لا يمكن له أن يزيله كما لو كانت يده مكسورة ثم وضع الجبيرة عليها فإن الجبيرة تنزل منزلة اليد ، ولكن لا يجب غسل الجبائر وإنما يمسح عليها-كما سيأتي إن شاء الله بيانه عند بيان الأحكام المتعلقة بالمسح على العمامة إن شاء الله تعالى-.
قال المصنف-رحمه الله - : حَدَّثَنَا إِسْحَقُ بْنُ مُوسَى الأَنْصَارِيُّ حَدَّثَنَا مَعْنُ بْنُ عِيسَى الْقَزَّازُ حَدَّثَنَا مَالِكُ بْنُ أَنَسٍ عَنْ عَمْرِو بْنِ يَحْيَى عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ زَيْدٍ :" أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مَسَحَ رَأْسَهُ بِيَدَيْهِ فَأَقْبَلَ بِهِمَا وَأَدْبَرَ بَدَأَ بِمُقَدَّمِ رَأْسِهِ ثُمَّ ذَهَبَ بِهِمَا إِلَى قَفَاهُ ثُمَّ رَدَّهُمَا حَتَّى رَجَعَ إِلَى الْمَكَانِ الَّذِي بَدَأَ مِنْهُ ثُمَّ غَسَلَ رِجْلَيْهِ ".
الشرح :(19/9)
هذا الباب يتعلق بالفرض الثالث من فرائض الوضوء وهو مسح الرأس وقد أجمع العلماء - رحمهم الله - على أن مسح الرأس من فرائض الوضوء لأن الله سبحانه وتعالى قال :{ وَامْسَحُوا بِرُؤُوسِكُمْ }(1) قالوا هو من فرائض الوضوء فلا يصح الوضوء بدون مسح الرأس ، والمسح على الرأس فيه مسائل :
المسألة الأولى: أن الله عز وجل فرض مسحه ولم يفرض غسله ولله عز وجل في ذلك الحكمة البالغة يحكم ولا معقب لحكمه ، فلم يأمر عباده بغسل الرأس وإنما أمرهم بمسح الرأس ولا شك أن مسح الرأس أخف مؤونة وأقل مشقة على المكلفين ، ولو تصور الناس أنهم أُمرو بغسل رؤوسهم في الوضوء ونظروا إلى المشقة التي تحصل في غسل الرؤوس لعلموا عظيم رحمته بعباده ، خاصة في أوقات البرد وشدته فإن الأمر يكون أشد ضرراً وأعظم خطراً ، ولكن الله سبحانه وتعالى يسّر على عباده بالمسح .
والمسح في لغة العرب إمرار اليد على الشيء يقول مسحت برأس اليتيم إذا مرّ يده على ذلك الرأس ، وأما بالنسبة لمسح الرأس في الوضوء فالمراد به إمرار اليدين على الرأس أو إحداهما على الرأس مبلولة-وسيأتي إن شاء الله بيان هديه صلوات الله وسلامه عليه في مسح الرأس -.
وأما بالنسبة للمقدار الذي أوجب الله على عباده مسحه من الرأس فقد اختلفت العلماء رحمهم الله في هذه المسألة على قولين:
القول الأول : يجب مسح جميع الرأس ولا يجزئ مسح بعض الرأس وهذا هو مذهب المالكية في المشهور، ورواية عن الإمام أحمد-رحمة الله على الجميع-.
القول الثاني : إنه يجب مسح بعض الرأس واختلفوا على أقوال :
فقال بعضهم يجب مسح ربع الرأس وهو مذهب الإمام أبي حنيفة وأصحابه - رحمة الله على الجميع-.
والقول الثاني إنه يجب مسح ثلث الرأس ويسقط الثلثان وهو قول لبعض أصحاب الإمام مالك-رحمة الله على الجميع-.
__________
(1) / المائدة ، آية : 6.(19/10)
والقول الثالث يجب مسح ثلاث شعرات فإذا مسح ثلاث شعرات من الرأس أجزأه وهو مذهب الإمام الشافعي.
والقول الرابع : لا حد في الأقل وهو رواية عن الإمام أحمد - رحمة الله على الجميع -.
استدل الذين قالوا بوجوب مسح جميع الرأس بظاهر القرآن وذلك في قوله سبحانه وتعالى :{وَامْسَحُوا بِرُؤُوسِكُمْ}قالوا إن الباء للإلصاق وعلى هذا يكون التقدير امسحوا رؤوسكم ، فأوجب الله على عباده أن يعموا جميع الرأس بالمسح فدل على أن الواجب مسح جميع الرأس لا بعض الرأس ، ولأن النبي -- صلى الله عليه وسلم - -مسح بجميع رأسه ، ووقع هذا المسح منه بياناً للآية الكريمة فدل على وجوب مسح جميع الرأس ، قالوا ولم يصح عن النبي -- صلى الله عليه وسلم - - أنه اقتصر على بعض رأسه فلو كان ذلك جائزاً لفعله ولو مرة واحدة ، فكونه يمسح جميع رأسه يدل دلالة واضحة على الوجوب ، وأنه لا يجزئ أن يقتصر على بعض الرأس .
واستدلوا بالقياس الصحيح فقالوا : كما لا يجوز أن يغسل بعض اليدين وبعض الوجه كذلك لا يجوز أن يمسح بعض الرأس ؛ لأن الكل من فرائض الوضوء .
واستدل الذين قالوا بأنه يجوز أن يقتصر على البعض بأدلة مختلفه فأصحاب القول بالربع وهم الحنفية يحتجون بحديث المغيرة بن شعبة-- رضي الله عنه - وأرضاه - وهو في الصحيح " أن النبي -- صلى الله عليه وسلم - -توضأ ومسح بناصيته وعلى العمامة " قالوا : والناصية تعدل ربع الرأس فوجب على المكلف أن يمسح ربع رأسه لا كل رأسه. واستدل الذين قالوا إنه يجزئ أن يمسح ثلاث شعرات بأن الباء للتبعيض كما تقول أخذت بثوبه أي ببعض ثوبه لا بكل الثوب ، وقد ضعّف بعض العلماء هذا المعنى في الباء ، والصحيح أنه من معاني الباء المشهورة ، وقد أشار إليها بن مالك - رحمه الله- بقوله :
تعد لصوقاً واستعن بتسبب وبدل صِحاباً قابلوك بالاستعلا
وزد بعضهم يميناً(19/11)
فقوله "زد بعضهم ": من معاني الباء البعضية والزيادة فدل على أنها تستعمل بمعنى البعضية ، ومن هنا يجب عليه مسح بعض رأسه لا كل رأسه ، قالوا وأقل الجمع في الشعر ثلاث شعرات فإذا مسح ثلاث شعرات أجزأه ذلك وصح وضوؤه .
واستدل الذين قالوا بالثلث قالو إن النبي -- صلى الله عليه وسلم - - فرق بين القليل والكثير بالثلث فقال كما في الصحيحين من حديث سعد -- رضي الله عنه - وأرضاه-: (( الثلث والثلث كثير)) فمن مسح ثلث رأسه فكأنه مسح رأسه كله .
والذي يترجح والعلم عند الله هو القول بوجوب مسح الرأس كله وذلك على ظاهر القرآن ، والباء للإلصاق كما ذكر ، ومعنى الإلصاق في المسح أقوى من غيره من المعاني ؛ ولأن التبعيض معنى مجازي والإلصاق يقوي الحقيقة فصير إلى الحقيقة وقُدّمت على المجاز ، وأما استدلالهم بحديث المغيرة فيجاب عنه بأن الحديث حجة على وجوب جميع الرأس لا على وجوب بعضه ؛ وذلك لأن النبي-- صلى الله عليه وسلم - - جمع في مسحه بين الناصية والعمامة فدل على أنه يجب مسح جميع الرأس لأنه لو كان يجوز الاقتصار على بعض الرأس لمسح الناصية ولم يمسح على العمامة ، فهذا الحديث حجة لنا لا علينا ، وبناءً على ذلك يترجح القول بوجوب مسح الرأس كله ، ومن مسح بعض رأسه دون بعض لم يصح وضوؤه ولابد للمكلف أن يستوعب جميع الرأس بالمسح .
ثم بين المصنف رحمه الله هدي النبي -- صلى الله عليه وسلم - - في مسح الرأس فبين في حديث عبدالله رضي الله عنه الذي معنا أن النبي -- صلى الله عليه وسلم - - :" بدأ بمقدم رأسه حتى انتهى إلى مؤخره ثم ردهما إلى المكان الذي بدأ به " وهذا الحديث حجة لجماهير العلماء رحمهم الله على هذه الصفة الكاملة وقبل بيان ما تضمنه الحديث من الهدي يحسن التنبيه على أمر مهم وهو أن مسح الرأس له صفتان :
الصفة الأولى: يسميها العلماء صفة الإجزاء .و الصفه الثانية : صفة الكمال .(19/12)
فأما صفة الإجزاء أن يمر يده مرة واحدة على ظاهر الشعر إن كان هناك شعر، أما إذا كان أصلع الرأس أو كان قد حلق رأسه فإنه يمر على ظاهر البشرة ؛ لأنه قد زال الشعر فبقي الحكم للأصل فيجب عليه أن يمسح ظاهر البشرة ، فإذا وُجِد الشعر فالواجب عليه أن يمر على ظاهر الشعر مرة واحدة ، ولكن إذا كان الشعر قليلاً فلا بد وأن يمس الماء ظاهر البشرة ويشعر المكلف بمماسة البشرة للبشرة حتى يتحقق المسح للأصل ، وبناءً على ذلك فإذا مسح مرة واحدة سواء بدأ من مؤخر الرأس أو بدأ من مقدم الرأس أجزأه ، وسواء جمع بينهما بيدين أو بيد واحدة كل ذلك يجزيه .
أما صفة الكمال : فهي التي ورد فيها حديث عبدالله بن زيد رضي الله عنه أن النبي-- صلى الله عليه وسلم - -:" مسح برأسه فأقبل بكلتا يديه وأدبر" واختلف العلماء في هذه الصفة الكاملة ، ولذلك أورد المصنف- رحمه الله- حديثنا الذي الذي معنا ، وهو حجة لجمهور العلماء على أن السنة في هذه الصفة أن يبدأ المكلف بمقدم الرأس ويمضي بكلتا يديه إلى آخر الرأس ثم يرجع إلى المكان الذي بدأ به ، وعلى ذلك حملوا قوله رضي الله عنه " فأقبل بهما وأدبر " قالوا : فأقبل بهما أي بدأ من مقدم الرأس ، وأدبر بهما أي رجع من مؤخر الرأس ، وقيل إن " أقبل بهما وأدبر" ليس على ظاهره الموجب للترتيب ، وإن المراد أدبر بهما وأقبل أي أنه مضى بكلتا يديه إلى آخر الرأس ثم رجع إلى المكان الذي بدأ به ، والعرب تقدم وتؤخر في مثل هذه الألفاظ فقالوا قوله " أقبل بهما وأدبر " المراد به أدبر بهما وأقبل .
كما في قولِ امرئ القيس وهو يصف فرسه في حال القتال :
مكرٍ مفرٍمقبل مدبرٍ معاً كجلمود صخر حطه السيل من علِ
فقالوا الأصل في التقدير مفرٍ مكرٍ ، ولكنه ذكر الكرّ قبل الفر لأهميته ؛ ولذلك قالو قوله " فأقبل بهما وأدبر المراد به أدبر بهما وأقبل وفي هذه الصفة ثلاثة أقوال العلماء :(19/13)
القول الأول الذي ذكرناه : أنك تضع كلتا اليدين عند مقدم الرأس ثم تمرهما إلى مؤخر الرأس ثم ترجع إلى المقدمة وهذا هو اختيار جمهور العلماء رحمهم الله على ظاهرحديثنا .
القول الثاني : إنه يبدأ بموخر الرأس ، فيضع يديه في مؤخرة الرأس ثم يقلبهما إلى المقدمة ، ثم يرجع من مقدم الرأس إلى مؤخره ، وبهذا القول قال بعض السلف ويقول به بعض أصحاب الإمام أبي حنيفة ومالك ، وقال به وكيع بن الجراح كما نقله المصنف رحمه الله ، وهذا القول يحتج بظاهر الحديث فأقبل بهما وأدبر قالوا فأقبل بهما أي أنه يبدأ من آخر الرأس حتى إذا جاء إلى المقدمة صدُق عليه أنه أقبل ثم يدبر بعد ذلك.
الوجه الثالث عند العلماء في هذا المسح : أن يفصل الرأس إلى قسمين : فيجعل اليمنى للمقدمة واليسرى للمؤخرة ، ويجعل كلتا يديه في منتصف رأسه ثم يمضي باليمين إلى المقدمة وباليسار إلى المؤخرة قالوا وهذا هو معنى قوله " فأقبل بهما وأدبر" أي جمع بين الإقبال والإدبار بكلتا يديه فاليمين تًقْبل والشمال تدبر ، ولا يتأتى ذلك إلا إذا وضع كلتا يديه في منتصف الرأس ، وهما مبلولتان بالماء ثم يمضي إلى مقدمه باليمين ، وإلى مؤخره باليسار ، وبهذه الصفة يقول بعض أصحاب الإمام مالك -رحمة الله على الجميع- .
والصحيح ماذكرنا من قول الجمهور لهذا الحديث الذي معنا .
والذي استدلوا به فيه إجمال والذي ورد في حديثنا بيان ، وبناءً على ذلك تكون الصفة الكاملة : أن يقبل بكلتا يديه ويدبر بهما ، بمعنى أن يبدأ بمقدم الرأس حتى ينتهي الى القفا ثم يرجع من القفا إلى مقدم الرأس ، والذي أوجب الله عز وجل في رأس الإنسان أن يمسحه في الوضوء .
واختلف العلماء إذا غسل رأسه ولم يمسحه هل يجزئ الغسل عن المسح على قولين:(19/14)
فقال بعض العلماء : لا يجزئ الغسل عن المسح لأن الله-- عز وجل - - أوجب على المكلف المسح ولم يوجب عليه الغسل ، وبناءً على ذلك يجب عليه المسح ولا يجب عليه الغسل ، فإذا غسل فإنه لا يصدق عليه أنه مسح .
وذهب جمهور العلماء إلى التفصيل فقالوا إذا غسل رأسه وأمرّ يده مع الغسل أجزأه لأنه جمع بين الغسل والمسح ، وأما إذا صب الماء مجرداً فإنه غير ماسح ، وبناءً على ذلك يلزمه أن يمر يده على رأسه ليتحقق المسح ولا شك في أن هذا هو المذهب الراجح .
وهنا مسألة ذكرها بعض العلماء وهي : لو كانت يده لا يستطيع أن يمر بها على رأسه فأخذ قطعة من القماش مبلولة ومسح بها على رأسه ، هل يجزيه ذلك أو لا يجزيه ..؟؟
والصحيح مذهب الجمهور أنه يجزيه ؛ لأنه قد مسح رأسه ، والله عز وجل أوجب عليه مسح الرأس على أي حالة كان المسح ، كما لو كان عاجزاً للشلل فقام رجل بالمسح عنه فإنه يجزيه بالإجماع ، فكذلك لو أخذ خرقة مبلولة ومر بها على رأسه ، وهذا كله في حال الاضطرار ، وأما في حال الاختيار فإنه يجزيه ولكنه يسيء بمخالفة هدي النبي-- صلى الله عليه وسلم - - ، ولذلك قال العلماء : من كان يستطيع أن يمر يده على رأسه ويمسحه فأخذ خرقة مبلولة أو خشبة مبلولة ونحوهما ، وأمرها على رأسه فإنه يفوته أجر الاقتداء بالنبي صلى الله عليه وسلم ، ويتحقق له الواجب والفرض ، فوضوؤه صحيح ولكنه لا ينال أجر الإتساء لمخالفته لهديه صلوات الله وسلامه عليهوهذا من المخالفة في الصفة التي ليست بواجبة ، أما لو خالف في صفة واجبة فإن ذلك يؤثر في إجزاء العبادة كما هو معلوم .
قال المصنف رحمه الله : باب مَا جَاء أنه يبدأُ بمؤخرِ الرأسِ(19/15)
حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ حَدَّثَنَا بِشْرُ بْنُ الْمُفَضَّلِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَقِيلٍ عَنِ الرُّبَيِّعِ بِنْتِ مُعَوِّذِ ابْنِ عَفْرَاءَ:" أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم مَسَحَ بِرَأْسِهِ مَرَّتَيْنِ بَدَأَ بِمُؤَخَّرِ رَأْسِهِ ثُمَّ بِمُقَدَّمِهِ وَبِأُذُنَيْهِ كِلْتَيْهِمَا ظُهُورِهِمَا وَبُطُونِهِمَا ".
قَالَ أَبو عِيسَى رحمه الله : هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ وَحَدِيثُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ زَيْدٍ أَصَحُّ مِنْ هَذَا وَأَجْوَدُ إِسْنَادًا وَقَدْ ذَهَبَ بَعْضُ أَهْلِ الْكُوفَةِ إِلَى هَذَا الْحَدِيثِ مِنْهُمْ وَكِيعُ بْنُ الْجَرَّاحِ
الشرح :
هذا الحديث الذي ذكره المصنف رحمه الله حسن كما بينه بناءً على الكلام في عبدالله بن عقيل- رحمه الله - ، وبناء على ذلك قدم حديث عبدالله بن زيد الأصح على هذا الحديث الذي فيه كلام ، وقد ضعّف بعض العلماء هذا الحديث لمكان عبدالله المذكور والصفة التي ذكرناها من كونه يبدأ بالمقدّم هي الراجحة ، وقد جاءت الرواية بها وهي أقوى ثبوتاً من الروايات المخالفة ، ومن فقه الإمام الترمذي رحمه الله أنه ذكر الصفة الراجحة أولاً ، ثم أتبعها بالصفة المرجوحة وأشار إلى القول المخالف فنسبه إلى قائله وهذا من فقه الخلاف المحرر لأن حكاية الخلاف لها حالتان :
الحاله الأولى : أن يحررها العالم وذلك يأتي على صفتين :
الصفة الأولى : أن يحررها بذكر المخالف بطريق الحكاية .
الصفة الثانية : أن يحررها بذكر المخالف عن طريق الرواية .(19/16)
ولذلك تنقسم كتب الخلاف الفقهي إلى قسمين : كتب رواية تعتني برواية الأسانيد عن السلف الصالح الذين اختلفوا في المسألة من الصحابة والتابعين ومن تبعهم-رحمة الله على الجميع- ، وكتب لا تعتني بخلاف الرواية وإنما تحكي الخلاف ، فمن أمثلة النوع الأول من الكتب كتب الإمام أبي جعفر محمد بن جرير الطبري -عليه رحمة الله- ، وكذلك كتاب المحلى للإمام أبي محمد علي بن حزم الظاهري ، وكذلك كتب المصنّفات كمصنّف عبدالرزاق وابن أبي شيبة ، فهذه الكتب اعتنت بتحرير خلاف الأئمة من الصحابة والتابعين ، والخلاف فيها غالباً مايكون عن طريق الرواية لا عن طريق الحكاية ، وحينئذ ينصب النظر إلى الأسانيد فإن صحت صح الخلاف وثبت ، وإن لم تصح فحينئذ يغفل هذا القول حتى يثبت عن قائله ، وينظر في متونها من حيث الدلالة على المطلوب وذلك محله في فقه الخلاف ، وأما إذا حُكي الخلاف بدون رواية فإن كان الذي حكاه من الأئمة ، وكان الكتاب من الكتب المعتمدة ، فلا إشكال ككتاب المجموع للإمام النووي وكتاب المغني للإمام ابن قدامة-رحمة الله على الجميع - ، فهذه كتب أئمة الشأن في الخلاف يحكون الخلاف معتمدين على مصادر اعتمدت الرواية فالإمام ابن قدامة-رحمة الله عليه- يعتمد كثيراً على كتب ابن المنذر وهي تنبنى على الرواية لا على الحكاية ، كتكابه " الإشراف على مسائل الخلاف "وكذلك يعتمد مُسند الأثرم رحمه الله وهو يعتني بحكاية الخلاف بالرواية ، فهذه كتب خلاف معتمدة في الفقه ، وأما إذا حُكي القول هكذا مرسلاً بدون تحرير عن الصحابة والتابعين فإنه يتوقف في هذا الخلاف مالم يحُرر .
- ? - ? - ? - ? - الأسئلة - ? - ? - ? - ? -
السؤال الأول :
هل للمسح على الرأس غرفة خاصة أم يكفي بلل اليدين بعد غسل الوضوء الذي قبل اليدين ..؟؟
الجواب :
بسم الله الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه أما بعد :(19/17)
فقد اختلف العلماء رحمهم الله في هذه المسألة فبعض العلماء يقول لابد وأن يأخذ ماءً جديداً فيغرف غرفة من الإناء ، ثم يصبها على يديه ، ثم ينفض ما ثم من الماء إن شاء ويمسح برأسه على الصفة التي ذكرنا ، وقال بعض العلماء يجزيه أن يأخذ بقية الماء الذي غسل به يديه فيمسح رأسه بفضلة الماء الباقي من غسل اليدين ، وفي ذلك حديث سيذكره الإمام الترمذي -رحمة الله عليه - وسيأتي الكلام عليه ونبين عنده إن شاء الله تحرير أقوال العلماء في هذه المسألة -، وبيان وهدي رسول الله-- صلى الله عليه وسلم - -، وحديث عبدالله ابن زيد الأصح على أنه يكون لمسح الرأس غرفة مستقلة وأنه لا يمسح بما بقي من غسله ليديه .(19/18)
بالنسبة للمسألة الأولى إذا صب الماء على يديه وغسل كلتا يديه وأراد أن يمر بفضلة الماء الموجودة في يديه على رأسه في الأصل هذه المسألة مبنية على مسألة الماء إذا استعمل في رفع الحدث هل يجزئ أن يتوضأ به ثانية أو لا يجزئ ؟ فهذا الماء الذي على يديه هو فضلة غسله لليدين وهذا يكون أشبه برفع الحدث عنها ، أي صفة الحدث عنها ، وبناءً على ذلك قالوا لا يمسح رأسه خاصة على المذهب الذي لا يرى استعمال الماء الذي اُستعمل في الطهارة ، والصحيح أن الماء المستعمل في رفع الطهارة يجزئ أن يتوضأ به ثانية ، فلو أن إنساناً توضأ في حوض أو في طشت ، ثم وجد هذا الماء نظيفاً ولم يتغير فيه شي من أوصافه فأراد أن يتوضأ به ثانية فإنه يجزيه أن يتوضأ من هذا الماء ، وذلك لأن رفع الحدث لا يقتضي تنجيس الماء ولاخروجه عن الطهورية ، والدليل على ذلك قوله عليه الصلاة والسلام : (( إن الماء طهور لا ينجسه شيء)) فدل على أن الأصل في الماء الطهورية حتى يخرج عن هذه الطهورية بحكم الشرع ، أو بتغير صفة من أوصافه المعتبرة للتغيير ، وبناءً على ذلك يجزيه أن يمسح رأسه بفضلة الماء الذي على يديه ، لكن بالنسبة للأفضل والأكمل هو أن يأحذ ماء جديداً على حديث عبدالله بن زيد الذي ذكرنا ، والله تعالى أعلم .
السؤال الثاني :
رجل اغتسل من الجنابة وبعد انتهائه من الغسل وجد قدر لمعة لم يصلها الماء فهل يعيد الغسل أم يكفيه أن يغسل المكان الذي لم يصله الماء..؟؟
الجواب :
وأما بالنسبة للسؤال الثاني اغتسل من الجنابة وبعد غسله منها وجد قدر اللمعة لم يصلها الماء في أي موضع من المواضع التي فرض الله غسلها فما الحكم ؟ لا يخلو من حالتين:(19/19)
الحالة الأولى : أن يكون الماء رطباً على جسده ، بحيث تتحقق الموالاة فحينئذ يصب الماء على اللمعة ويجزيه أن يستمر ، ويبقى طاهراً ، ولاحاجة لإعادة الغسل ، وعلى هذا فلو كان على لحيته بقاء الماء فإنه يجزيه أن يعصر لحيته وأن يأخذ الماء منها ويصبه ، وهكذا لو كانت قطرات الماء على وجهه فجمعها بأصبعه ثم أمرها على اللمعة حتى غسلت أجزأه ، هذا إذا لم يمر الفاصل المؤثر بين غسل اللمعة وانتهاء الغسل ، أما لو مر الفاصل المؤثر الذي يقطع الموالاة فإنه حينئذ يلزمه أن يعيد غسله ؛ لإن الغسل الأول لايصح لعدم تمامه واستيفائه للمواضع التي أمر الله بغسلها ، ولو غسل هذه اللمعة فإنه قد انقطعت عن الغسل الأصلى ، أشبه مالو غسل نصف بدنه أول النهار ونصف بدنه آخر النهار فالإجماع قائم على أنه لا يجزيه ، كذلك هنا لو مضى من الوقت ما ينشف به العضو فإنه لا يجزيه أن يغسل اللمعة فيتم بها غسله ، والله تعالى أعلم .
السؤال الثالث :
في يوم من الأيام توضأت للصلاة وأثناء الركوع لاحظت لمعاناً في قدمي فشككت هل عم الماء تلك البقعة أم لا فماذا أصنع..؟؟
الجواب :
هذا اللمعان الذي رأيته أثناء صلاتك : إن تحققت أن الماء لم يصله وظهرت العلامات البينة.(19/20)
مثال ذلك : كما يقول بعض العلماء لو أن إنساناً مشى في أرض مغبرة فإن قدميه ستتأثر بهذا الغبار ، وتشوبها لون الصفرة ثم غسل رجليه وبقيت اللمعة ، فإن اللمعة تكون بشائبة الغبار ويظهر عليها أثر عدم الغسل بيناً واضحاً ، فحينئذ يلزمك أن تنقطع عن صلاتك ، وصلاتك من أصلها باطلة لأنه لا تصح الصلاة إلا بالوضوء قال صلى الله عليه وسلم :(( لا يقبل الله صلاة أحدكم إذا أحدث حتى يتوضأ)) وهذا لم يتوضأ مع وجود هذا اللمعان ، فإن كان الوقت والفاصل يسيراً بحيث لم ينشف العضو فحينئذ تغسل اللمعة ووضوؤك صحيح وهي حالة البناء ، وأما إذا كان الفاصل مؤثراً فحينئذٍ تستأنف الوضوء من أوله وهي حالة الاستئناف ، هذا إذا كان الإنسان قد تحقق من أن المكان لم يصبه الماء ، أما لو شك هل أصابه أولم يصبه ولم يجد علامة بينة على أن الماء لم يصب هذا الموضع فالشك لاغٍ ، والأصل فيه أنه قد استوعب المكان وحينئذ لا يعدل عن كونه قد غسل رجليه على الكمال إلا بدليل واضح بيّن ، والله تعالى أعلم.
السؤال الرابع :
ماحكم غسل الأطراف الصناعية كاليد الصناعية مثلاً حيث إن تركيب الطرف الصناعي يؤدي الى تغطية جزء من اليد كالمرفق مثلاً فيشق على صاحبه نزع الطرف للوضوء..؟؟
الجواب :
الأطراف الصناعية إذا كانت في محل الفرض يرد السؤال عنها ، وإن كانت زائدة عن محل الفرض وخارجة عنه فلا إشكال ، والأطراف الصناعية لا تخلو من حالتين :
الحالة الأولى : أن تكون على ظاهر البدن والموضع الذي أمر الله بغسله. والحالة الثانية : أن تكون بداخله.(19/21)
فأما الذي بداخل فإنه لا يبحث عنه ولا يسأل كغرس بعض الركب الصناعية ، أو نحو ذلك من الأشياء التي توضع في داخل البدن ، فهذه لا إشكال فيها ، وإنما يبحث عن الظاهر منها فهذا الظاهر له صورتان إذا كانت اليد أو الأصابع التي وضعت زائدة عن موضع الأصابع فإن هذه الأصابع لا يجب غسلها ولا يلزم المكلف بغسلها لأنها ليست بيد حقيقية ، وبناءً على ذلك يجب عليه غسل ما بقي من اليد وترك هذا الزائد ، وإن أراد أن يغسله إحتياطاً فلا حرج ، إذا أراد أن يغسله لمكان الشبهة فلا حرج ، فقد سمعت بعض المشائخ- رحمة الله عليهم- ينزل هذا المتصل منزلة الأصل ، ويفرق ويقول إذا اتصلت بالبدن بحيث زرعت في اليد وجب غسلها ، وأما إذا لم تزرع في اليد كأن تكون يده مقطوعة الكف فتفعل له كف صناعية فيدخل هذه الكف الصناعية في اليد فحينئذ لا يجب عليه غسلها لأنها زائدة بأصلها ، والذي يظهر والله أعلم بأن هذه الأطراف الصناعية لا يجب غسلها لأنها ليست بيد حقيقية ، لكن في حالة واحدة وهي إذا أُدخلت اليد فيها فإنه يجب نزعها عند الوضوء وغسل الأصل الذي أوجب الله غسله ثم بعد ذلك تدخل في اليد ويكون شأنها شأن القفازين إذا ستر بهما محل الفرض ونحوها من الأشياء التي يضعها المكلف على مواضع الوضوء ولا يجب عليه غسلها.(19/22)
أما بالنسبة لما يوضع من الأمور التي تلبس بها الأعضاء ويكون العضو باق في الأصل كما لو وضع على الأسنان غطاء من فضة ونحو ذلك ، أو وضع له أنف من فضة : فبعض العلماء -رحمة الله عليهم - يقول إذا كان العضو في أصل الموضع موجوداً فإن هذا المعدن ينزل منزلة هذا العضو ، فإنه إذا تمضمض تنزل الذهب منزلة ظاهر الأسنان ، لأنه يجب عليه أن يتمضمض في الغسل من الجنابة وحينئذ يكون ظاهر السن مأموراً بغسله ، فإذا كان عليه المعدن فإنه ينزل هذا المعدن منزلة العضو ؛ لأن العضو موجود وأصبح هذا التلبيس لمكان الحاجة والاضطرار بشرط وجودها منزلاً منزلة أصله ، وأما إذا كان يوضع وضعاً كالأنف ونحوه كما في حديث خالد بن أبي عرفطة أنه لما جدع أنفه يوم كلاب اتخذ أنفاً من ذهب ، والحديث فيه كلام معروف ، على هذا لا يجب غسل هذا الأنف الصناعي ، ولا ينزل هذا المعدن منزلة الأنف لما ذكرناه في اليد والأطراف الصناعية .
أما لو ترتب في نزع هذه الأطراف مشقة وضرر لا يخلو من حالتين :
الحالة الأولى : إن وجد به ضرر بمعنى أنه يتضرر ولا يمكن نزعها إلا بوجود هذا الضرر فحينئذ لا إشكال يعدل عنها ويصير هذا من باب الترخيص بمقام الحاجيات ، والقاعدة : " أن الحاجة تنزل مزلة الضرورة " .(19/23)
الحالة الثانية : إذا كان نزعها لا ضرر فيه ولكن فيه عناء وتعب فإن الله عز وجل جعل التكليف تكليفاً لوجود الكلفة ، ولذلك إذا توضأ الإنسان في البرد تعب وحصل له العناء ، وإذا خرج من بيته إلى المسجد فهي مشقة فهذه مشقات مقدور عليها ، فحيث لا ضرر يلزمه أن ينزع ويلزمه أن يغسل ، وهو مأجور على هذا العناء ، ومأجورعلى هذا التعب ، ومأجور على هذه المشقة ، وقد يكون أجره في هذا الوضوء الذي يجد فيه المشقة أعظم من أجر غيره الذي لا يجد المشقة فهذا خير وأجر له ، أما إذا وجد هذا الضرر بحيث يتعفن الموضع ، مثلاً يستر طرف الكف بأطراف صناعية بحيث لو نزعت فإنها مع النزع وإصابة الماء معها تتعفن ، فهذا شيء آخر ينزل منزلة الضرورة للقاعدة التي ذكرناها : "أن الحاجة تنزل منزلة الضرورة عامة كانت أو خاصة" ، والله تعالى أعلم.
السؤال الخامس :
يشْكُل عليّ جعل المضمضة والاستنشاق من سنن الوضوء لأن الفم والأنف من الوجه التي نصت الآية على غسله..؟؟
الجواب :
هذا إشكال وارد ، المشكلة أننا نقول تجب المضمضة والاستنشاق في الغسل ولا تجب في الوضوء .(19/24)
وتوضيح ذلك : أن الوضوء أمر الله فيه بغسل الوجه ، والوجه ما تحصل به المواجهه هذا في لغة العرب ما يواجه به الإنسان الغير ، فالإنسان إذا واجه فإنما يواجه بظاهر البشرة ، فلا يواجه مفتوح الفم بباطن فمه ولا يواجه بباطن أنفه ،كما قال الأئمه - رحمة الله عليهم - وهو مذهب الجمهور ، قالوا فلما قال الله عز وجل اغسلوا وجوهكم أمرنا بغسل الظاهر الذي تفهمه العرب ، ويدل ذلك أن الأعرابي لما سأل النبي صلى الله عليه وسلم كيف أتوضأ ؟ قال :(( توضأ كما أمرك الله)) وليس في ظاهر الآية ما يدل علىوجوب المضمضة والاستنشاق ، فقالوا : الذي أمره الله في لغة العرب بالوجه ، فيجب عليه غسل ظاهر الوجه؛لكن في الغسل أمره الله بغسل ظاهر البدن ، وبناءً على ذلك لابد أن ننظر إلى حكم الشرع بكون هذا العضو من داخل أو من خارج ، فما كان من داخل لا يجب عليه غسله ، وما كان من خارج وجب عليه غسله ، مثلاً الآن عندنا في الشعر فإن الشعر في الوضوء تمسح على ظاهر الشعر لكن في الغسل تروي إلى أصول الشعر ، فدل على أن الظاهر لم يكتف به بظاهره ، فأصبح الغسل أشد من الوضوء من هذا الوجه ، وهذا هو فقه الأحاديث والنصوص ، فالفم من ظاهر البدن لا من باطنه بدليل أن من تمضمض لا يفسد صيامه، ولو كان الفم من باطن لفسد صيامه ، وكذلك لو استنشق فإنه لايفسد صيامه فدل على أنه من ظاهر وليس من باطن في حكم الشرع ، فيجب عليه غسل هذا الظاهر حكماً وإن كان مستتراً في الصورة ،كما يجب عليه أن يروي أصول شعره وإن كانت مستترة في الظاهر ، ففي الصحيحين من حديث أم المؤمنين عائشة لما وصفت غسله عليه الصلاة والسلام في الجنابة قالت :" ثم أفاض على رأسه الماء ودلك بكلتا يديه حتى إذا ظن أنه روى أصول شعره" فقالت حتى إذا ظن أنه روى أصول شعره ، ومن هنا فرق الأئمة رحمة الله عليهم بهذا التفريق ، وهو تفريق وجيه مستند إلى النصوص والتفريق إذا كان مستنداً إلى أصل شرعي فهو(19/25)
حجة ومعتبر ، والله تعالى أعلم .
السؤال السادس :
هل يجب على المرأة أن تغسل أو تمسح جميع شعر رأسها أم تكتفي بما هو على الرأس فقط..؟؟
الجواب :
بسم الله الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه أما بعد :
فقال بعض العلماء : إن الواجب عليها أن تمسح مايحاذي محل الفرض ، وأما ما استرسل من شعرها فلا يجب عليها مسحه ؛ لأن الله أوجب عليها مسح الرأس ، ونُزِّل الشعر منزلة الرأس بالمحاذاة ولا يجب عليها مسح المسترسل ، وقال بعض العلماء يجب عليها أن تمسح المسترسل كما يجب على ذي اللحية أن يغسل ما استرسل من لحيته لما نُزلت منزلة بشرة الوجه ، والذي يظهر والله أعلم أن القول بالمحاذاة أقوى ، وبناءً على ذلك تمسح على ظاهر شعرها الذي يحاذي الفرض ، فإن ظفرت شعر رأسها فإنها تمر يدها ممسوحة على الظفائر ؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم سألته أم سلمه-رضي الله عنها-كما في الصحيحين فقالت يارسول الله إني امرأة أشد ظفر شعر رأسي أفأنقضه إذا اغتسلت من الجنابة ؟ قال :(( لا إنما يكفيك أن تحثي على رأسك ثلاث حثيات ثم تفيضين الماء فإذا أنت قد طهرت)) قالوا فهذا يدل على أنها إذا مسحت على ظاهر الظفائر أجزأها لأن صبّ الماء على ظاهر الظفائر يجزئ في الغسل وهو أشد فمن باب أولى إذا مسحت على ظاهر الظفائر على القول بأنه يجب مسح المسترسل،والله تعالى أعلم.
السؤال السابع :
إذا أراد رجل أن يتوضأ وكان يلبس الخاتم فماهي الصفة الصحيحة هل يخلعه أو يكتفي بالتحريك..؟؟
الجواب :(19/26)
لا حرج إذا كان يلبس الخاتم وأمرَّ الماء ، وحرك الخاتم بحيث غلب ع لى ظنه إصابة الماء للموضع ، لا يلزمه أن يفسخ الخاتم ، أما إذا كان لا يستطيع إيصال الماء إلا بتحريك الخاتم بسحبه وإخراجه من الموضع الذي هو فيه وتحويله أو تقديمه أو تأخيره ، فإنه يجب عليه أن يحركه فيقدمه ويؤخره عن مكانه فيغسل مكانه ثم يرده و يغسل بقية اليد أو بقية الأصبع ؛ وذلك لأن الله أوجب غسل هذا الموضع : "ومالا يتم الواجب إلا به فهو واجب" ، فالمستتر تحت الخاتم لا يمكن غسله إلا بتحريك الخاتم فيجب عليه التحريك ، والله تعالى أعلم.
السؤال الثامن :
رجل توضأ فاستنشق فأكمل وضوءه وقبل أن ينتهي خرج من أنفه شئ فهل يصح له أن يرجع مرة أخرى ويستنشق ثم يكمل ما وقف عليه من الوضوء في وضوئه الأول..؟؟
الجواب :
يتم وضوءه فإذا أتم وضوءه فإنه يغسل الدم الذي بأنفه فيستنشق لإزالة ما علق بالأنف من الرعاف ، والله تعالى أعلم.
السؤال التاسع :
ما حكم أخذ مازاد عن القبضة من اللحية..؟؟
الجواب :
مازاد عن القبضة من اللحية فيه أثر عبدالله بن عمر رواه الإمام مالك عن نافع عن عبدالله بن عمر أنه كان إذا كان في الحج قبض على لحيته وأخذ مازاد منها ، فمن العلماء من قال إن هذا يعتبر من السنة ؛ لأن عبدالله بن عمر رضي الله عنه ما حفظ عنه أنه فعل فعلاً إلا وله سنة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو من الصحابة الذين إذا سئلوا عن فعل قال :" لولا أني رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يفعله ما فعلته" ، فدل هذا على أنه يجوز أن يقبض على لحيته ويأخذ مازاد عن القبضة .(19/27)
وقال بعض العلماء : إن الأصل إرخاء اللحية وتركها لأنه ظاهر النص ، والصحابي الذي ورد عنه هذا الفعل فعله محتمل أن يكون إجتهاداً منه فهم أن اللحية تتم بالقبضة وأن مازاد لا يعتبر واجباً فأخذ مازاد فلما احتمل الاجتهاد لم يقو على تخصيص الأصل الذي ورد بوجوب إعفاء اللحية وتركها ، وقد أمر النبي صلى الله عليه وسلم بإعفائها ، فصار إعفاء اللحية من السنة ، وتركها من السنة ، والذي يظهر والله أعلم أن الإحتياط أن يترك ، ولكن لا ينكر على أحد أخذ مازاد عن القبضة ؛ لأن له سلفاً وله وجه تحتمله سنة النبي صلى الله عليه وسلم واللحية إذا كانت قبضة فهي لحية وقد أمر النبي صلى الله عليه وسلم بإعفائها وقد أعفى ، ولكن الذي يظهر أنه يتركها وهذا الذي تميل إليه النفس أنه لا يؤخذ ما زاد على القبضة ، إلا أننا مع ترجيحنا لمازاد عن القبضة فإننا لا ننكر على أحد أخذ ما زاد عن القبضة من لحيته ، والله تعالى أعلم .
السؤال العاشر :
رجل أُبتلي بمرض سلس البول فهل يجوز له أن يؤم الناس في الصلاة إذا كان هو أقرأ القوم والباقون أُميون..؟؟
الجواب :
من به سلس في بوله : قال بعض العلماء لا يتقدم على الغير لأن طهارته رُخِّص له فيها لنفسه ، والرخص لا تتعدى محالّها ، فحيث إن الشرع رخص له فلا تتعدى الرخصة إلى غيره ، وصلاة غيره محمولة عليه خاصة على قول من يقول إنه يحمل الفاتحة عن المأمومين ، وبناءً على ذلك قالوا إنه لا يؤم بهذه الحالة .
وقال بعض العلماء يجوز أن يؤم من به سلس لأن عمرو بن العاص رضي الله عنه أمَّ أصحابه وهو جنب قد تيمم وهي رخصة ومع ذلك لم يبطل النبي صلى الله عليه وسلم صلاتهم وراءه .(19/28)
فأجاب الأولون بأن هناك فرقاً بين من به سلس وبين طهارة التيمم فإن طهارة التيمم انتقل فيها إلى بدل فكأنه توضأ ، وكأنه نُزل منزلة المتوضئ ، ولكن الذي به سلس قد انتقضت طهارته بالكلية ، وبناءً على ذلك رخص له الشرع وجاءنا الترخيص في حقه ، ولم يرد عندنا ترخيص أنه يؤم ولا شك أنه يُحتاط ، ومن به سلس ينبغي أن يحتاط فلا يتقدم على الناس إذا كان سلسه على الوجه الذي يؤثر في وضوئه وطهارته، والله تعالى أعلم .
السؤال الحادي عشر :
ما القول الراجح في حكم الدم هل هو نجس أم لا ؟ وهل يعيد الصلاة من رأى في ثوبه قطرات من الدم..؟؟
الجواب :
الدم للعلماء فيه قولان : القول الأول وهو مذهب جمهور الأئمة-رحمة الله عليهم - أنه نجس ؛ لأن الله عز وجل قال:{ أَو دَمَاً مَسْفُوحَاً أَوْ لَحْمَ خِنْزِيرٍ فَإِنَّه رِجْسٌ }(1) والمسفوح هو الذي خرج بغير ذكاة ، فما خرج من الحيوان أو خرج من الإنسان في حال حياته فهو مسفوح ، وبناءً على ذلك قالوا إنه نجس ويجب عليه أن يطهر الموضع ، وبهذا القول قال الأئمة رحمة الله عليهم وهو مذهب الأئمة الأربعة أنه نجس.
__________
(1) / الأنعام ، آية : 145 .(19/29)
وقال بعض العلماء من أهل الحديث وأهل الظاهر إنه ليس بنجس ، وأنه طاهر لأنه الأصل في الإنسان ، والذي يظهر أنه نجس وقد ثبت في الصحيح عنه - عليه الصلاة والسلام - أنه قال:(( اغسلي عنك الدم وصلي)) فلما كان دم الحيض خارجاً من داخل البدن وقد أمر النبي صلى الله عليه وسلم بغسله فإنه يستوي مع غيره من الدماء ، ويكون حكمه كحكم دم الحيض ، مع ظاهر التنزيل الذي احتج به أصحاب المذهب الأول من قوله:{ أَو دَمَاً مَسْفُوحَاً أَوْ لَحْمَ خِنْزِيرٍ فَإِنَّه رِجْسٌ } والرجس في لغة العرب هو النجس ، وبناءً على ذلك فإنه يجب عليه أن يطهر الموضع ، وأما من استدل على طهارته بحديث الشعب حينما ضرب بالسهم فنزفت جراحه ، ولأن عمر بن الخطاب صلى وجرحه يثعب ، ولأن عبدالله بن عمر كان يعصر البثرة في صلاته ويصلي فهذه أحاديث خارجة عن موضع النزاع :
أما بالنسبة لحديث الشعب ، وأثر عمر فإنه نزيف ، وبالإجماع أنه من كان به نزيف فإنه يصلي ولو نزف جرحه لأنه لا يمكنه بحال أن يغسل الدماء ، ولا يمكنه أن يتطهر.
وأما بالنسبة لعصر البثرة عن عبدالله بن عمر فهو دم يسير ، والإجماع منعقد على أن يسير الدم مغتفر .
وَآخِرُ دَعْوَانَا أَنِ الحمَْدُ لِلَّهِ رَبِّ العَالَميْنَ وصلَّى اللَّهُ وسلَّم وبارك على عبده ونبيَّه محمد وعلى آله وصحبه أجمعين(19/30)
بسم الله الرحمن الرحيم
قال المصنف رحمه الله : باب مَاجَاءَ أنَّ مسحَ الرأسِ مرَّةٌ
الشرح :
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء و المرسلين سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين أما بعد :
فقد ترجم المصنف - رحمه الله- بقوله" باب ماجاء": أي عن النبي صلى الله عليه وسلم من المسح للرأس مرة واحدة وهذه مسألة خلافية ذكرها العلماء رحمهم الله هل السنة للإنسان إذا أراد أن يصيب الأفضل أن يثلث مسح رأسه كما يثلث غسل وجهه ويديه ورجليه ، أم أن التثليث يختص بالأعضاء غير الرأس ؟
فقال بعض العلماء : إن السنة والأفضل أن يقتصر فى مسح الرأس على المرة الواحدة ، وبهذا القول قال جمهور العلماء رحمهم الله : من الحنفية والمالكية والحنابلة ، فقالوا الأفضل أن يقتصر على مرة واحدة ، ومنهم من يقول إنه إذا مسح رأسه ثلاث مرات فقد ابتدع ، ويرى أن السنة عن النبي صلى الله عليه وسلم الاقتصار على المرة الواحدة .
وذهب الإمام الشافعي رحمه الله إلى سنية التثليث فى مسح الرأس ، وقال إنه يجزيه أن يمسح مرة واحدة والأفضل له أن يمسح ثلاث مرات .(20/1)
واحتج جمهور العلماء رحمهم الله بالأحاديث الثابتة فى الصحيحين عن عثمان وعبد الله بن زيد وعلى بن أبي طالب -رضي الله عن الجميع - فقد وصفوا وضوء النبي -- صلى الله عليه وسلم - - ولم يذكروا تثليث الرأس ، وإنما ذكروا التثليث فى غسل الوجه وغسل اليدين والرجلين قالوا فالسنة والأفضل أن يقتصر على المرة الواحدة ولا يثلث ؛ ولأنه إذا ثلث مسح الرأس فإنه يصير الرأس مغسولاً لا ممسوحاً ، والله عز وجل أمرنا بمسح الرأس ولم يأمرنا بغسل الرأس ، فلو أن إنساناً كان حالقاً لرأسه فمسح ثلاث مرات فإن بلل الماء يصل إلى حد الغسل ، ولذلك قالوا السنة والأكمل أن يقتصر على المرة الواحدة لهذين الدليلين النقلي والعقلي ؛ ولأن مسح الرأس كمسح الخفين حيث لا يشرع فى مسح الخفين أن يثلث فكذلك فى مسح الرأس لا يثلث .(20/2)
وذهب الإمام الشافعي إلى القول باستحباب التثليث لحديث عثمان الصحيح" أن النبي -- صلى الله عليه وسلم - -توضأ ثلاثاً ثلاثاً" ، وهذا الحديث يجاب عنه بأنه قد جاء ما يفصل ويبين ما فيه ، فقد ثبتت الرواية فى الصحيحين بتفصيل هذا الحديث ، والقاعدة فى الأصول : " أن الحديث إذا ورد مجملاً وورد مبيناً مفصلاً فالحجة فى المفصل وهي مقدمة على المجمل " ، ولذلك يعتبر حديث " ثلاثاً ثلاثاً " المراد به أكثر أعضاء الوضوء وأغلبها ، وليس المراد جميعها وكلها ، وقد جاءت الأحاديث تصرح أن النبي صلى الله عليه وسلم مسح برأسه مرة واحدة ؛ ولذلك قالوا إن هذا هو الأقوى لاشتماله على التفصيل والبيان ، وأما رواية حديث الرُّبَيع بنت معوذ بن عفراء -رضي الله عنها وعن أبيها- ففيها "أن النبي -- صلى الله عليه وسلم - - توضأ مرتين بدأ بمؤخَّرِهِ ثم بمقَدَّمِهِ" هذا الحديث ليس فيه دلالة على تثنية مسح الرأس ؛ لأن الربيع فسرت هذه المرتين بقولها :" بدأ بمؤخره ثم رجع بمقدمه" ، فمرادها أنه لما ابتدأ بآخر الرأس إلى المقدم ، ثم من المقدمة إلى المؤخرة ، فكل واحدة منهما تعتبر مسحة فىنظرها ؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان هديه فى المسح أنه يبدأ بمقدم الرأس حتى ينتهى إلى آخره ثم يرجع يده إلى المكان الذى بدأ ، كما تقدم معنا فى حديث عبد الله بن زيد الصحيح لذلك يعتبر قولها "مرتين" ليس على ظاهره الذي يدل على التكرار ؛ وإنما المراد به أنها اعتبرت ذهاب اليد إلى القفا مرة ، ورجوع اليدين إلى المقدمة مرة ثانية ، والصحيح أنها مرة واحدة.
ولذلك يترجح مذهب الجمهور القائل بأن السنة أن لا يثلث ، وأنه يقتصر على المسح مرة واحدة ، وهذه الترجمة اعتنى المصنف- رحمه الله- بذكرها لاشتمالها على بيان هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم فى مسح رأسه .(20/3)
قال المصنف- رحمه الله-: حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ حَدَّثَنَا بَكْرُ بْنُ مُضَرَ عَنِ ابْنِ عَجْلاَنَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَقِيلٍ عَنِ الرُّبَيِّعِ بِنْتِ مُعَوِّذِ ابْنِ عَفْرَاءَ أَنَّهَا رَأَتِ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم يَتَوَضَّأُ قَالَتْ :"مَسَحَ رَأْسَهُ وَمَسَحَ مَا أَقْبَلَ مِنْهُ وَمَا أَدْبَرَ وَصُدْغَيْهِ وَأُذُنَيْهِ مَرَّةً وَاحِدَةً " .
الشرح :
هذا الحديث حديث الرُّبَيع بنت معوذ بن عفراء -رضى الله عنها وعن أبيها- وقد اشتمل على جملة من الأحكام .
قولها -رضى الله عنها - "رأيت النبي -- صلى الله عليه وسلم - - يتوضأ" : الرؤية تطلق على البصر يقال رأى فلان فلاناً إذا أبصره بعينيه ، وقد يقال رأى من الرأي الذي يرجع إلى الفكر والعقل ، ومنه الرؤيا لأنها لا تتعلق بالمحسوسات وإنما هي مرتبطة بالنفس .(20/4)
وقولها "رأيت النبي صلى الله عليه وسلم يتوضأ " :جملة يتوضأ جملة حالية أي حال كونه يتوضأ ، وفي هذا دليل على مشروعية نظر المرأة للرجل الأجنبي ، وفي هذه المسألة تفصيل : فالأصل يقتضي أن المراة تغض بصرها عن رؤية الرجال لأمر الله عز وجل بذلك في قوله- سبحانه-:{وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ}(1) فأمر الله سبحانه وتعالى المؤمنات أن يغضضن من أبصارهن ؛ لذلك قال العلماء : إن الأصل فى نظر المرأة إلى الرجل أنه يمنع ؛ لأن الله جبل النساء بالميل إلى الرجال والعكس ، فنظرة المراة إلى الرجل لا تأمن معها الفتنة ، ولذلك أمر الله النساء أن يغضضن من أبصارهن وذلك لكونه أزكى لهن وأحفظ لهن من الفتنة ، وقد وردت النصوص عن النبي صلى الله عليه وسلم تدل دلالةً واضحةً على مشروعية النظر عند وجود الحاجة وأمن الفتنة ، ففي الصحيح عنه- عليه الصلاة والسلام -:" أنه وقف لأم المؤمنين عائشة-رضي الله عنها-وهي تنظر إلى الحبشة يلعبون بالسلاح فى يوم العيد" ولم ينكر النبي صلى الله عليه وسلم منها النظر وذلك لأمن الفتنتة وغلبة الظن بذلك ، وكذلك وردت الأخبار برؤية النساء من الصحابيات لرسول الله صلى الله عليه وسلم ومخاطبتهن له بالمعروف ، فدلت على مشروعية نظر المرأة إلى الرجل ولكن بشرط وجود الحاجة وأمن الفتنة ، أما إذا لم تأمن الفتنة أو شكت فى حصولها واستوى عندها الأمن وعدم الأمن فإنها تمتنع إعمالاً للأصل ؛ ولذلك قالت فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم و-رضي الله عنها- : "خير للمرأة أن لا ترى الرجل ولا يراها الرجل" ، فالأفضل والأكمل أن تتحفظ المرأة من النظر إلى الرجال ؛ لأن النظرات المحرمة مسمومة وتعتبر هلاكاً لأهلها .(20/5)
وقولها" رأيت النبي صلى الله عليه وسلم يتوضأ ومسح رأسه" : فقولها"مسح رأسه" فيه دليل علىمشروعية مسح الرأس وهو إجماع وقد تقدم ، والرأس له حالتان :
الحالة الأولى: أن يكون مكشوفاً . والحالة الثانية: أن يكون مستوراً .
أما اذا كان الرأس مكشوفاً فإن حد الرأس من منابت الشعر وذلك عند التقاء أول الوجه مع منابت الشعر من الرأس إلى آخر ما نبت من الشعر ، وذلك يكون عند التقاء العنق أو الرقبة بالرأس ، فهذا هو حد الرأس الممسوح والذى أمر الله عز وجل بمسحه فيجب على المكلف أن يمر يديه على هذا الموضع كله ، ومن الجوانب يشمل من الصدغ إلى الصدغ ، والصدغان هما العظمان الناتئان قبالة الأذن ، فهذان العظمان هما الفاصلان بين شعر الرأس وشعر اللحية ، فما كان منهما من فوق فإنه يمسح ولا يغسل لأنه من الرأس وما كان منهما أسفل فإنه يغسل ولا يمسح لأنه من اللحية والوجه ، ولذلك كان حبر الأمة وترجمان القرآن عبد الله بن عباس- رضى الله عنهما - إذا حج واعتمر أو اعتمر وتحلل من نسكه فحلق شعر رأسه أمر الحلاق أن يوقف الحلاقة عند الصدغ ، ولا يمس الباقي لأنه من اللحية ، فيأمره بحلق ما علا وترك ما سفل ، وهذ هو الحد الذى ينتهى إليه شعر الرأس ، -والأذنان من الرأس كما سيأتي إن شاء الله فى حديث أبي أمامة رضي الله عنه وأرضاه .
فالواجب على المكلف اذا كان الرأس مكشوفاً أن يمر كلتا يديه على الرأس وإن كانت إحدهما مقطوعة أو مشلولة أجزأه أن يمر إحداهما ، وقال بعض العلماء : العبرة بمرور اليد فلو أمر إحدى اليدين أجزأه ، والسنة عن النبي صلى الله عليه وسلم مرورهما ، أي يمر كلتا يديه على رأسه .
فإن كان رأسه مكشوفاً فلا يخلو حينئذ من حالتين :
الحالة الأولى : أن يكون بدون شعر . والحالة الثانية : أن يكون له شعر .(20/6)
فإن كان بدون شعر لكونه حالقاً لشعره أو كونه أصلع لا شعر له فإنه يمسح الجزء الذى ذكرناه كاملاً ولا يترك شيئاً من رأسه البتة ؛ لأن الله عز وجل أمره بمسح جميع رأسه ، ولذلك يجب عليه تعميم جميع الرأس في الحدود التي ذكرناها .
وحينئذ يرد السؤال : إذاكان له شعر يمكنه أن يعرف نهاية الرأس ، أما إذا كان أصلع لا شعر عنده أو إذا كان أصلع لم ينبت له شعر ، فإنه حينئذ يرد السؤال : إلى أين ينتهي مسحه من القفا..؟؟
والجواب : أنه ينتهي عند بداية الرقبة فلا يمسح القفا ، وقد ورد فى ذلك حديث عند أبي داود عن طلحة ابن مصرف عن أبيه عن جده" أن النبي صلى الله عليه وسلم مسح ما ثم" أى مسح على رقبته ، وهو حديث ضعيف لأنه من رواية ليث بن أبى سليم وهو ضعيف ، وما ورد فى الحديث"من أن مسح الرقبة أمان من الغل من غل يوم القيامة" فإنه ضعيف ، أما حديث طلحة بن مصرف الذى ذكرناه " أن النبى صلى الله عليه وسلم مسح برأسه حتى بلغ القذال" فهو حديث ضعيف لأنه من رواية ليث بن أبى سليم وهو ضعيف ، وأما بالنسبة لحديث الغل فهو حديث ضعيف باتفاق العلماء رحمهم الله ؛ ولذلك قال العلماء إنه لا يمسح الرقبة وإنما يقتصر فى مسحه عند نهاية الرأس وبداية الرقبة .
الحالة الثانية : أن يكون رأسه مستوراً فإذا كان الرأس مستوراً فلا يخلو من حالتين :
الحالة الأولى : أن يستره بغير العمامة . والحالة الثانية : أن يستره بالعمامة .
فإن كان الساتر له من غير العمامة فإنه يجب عليه نزع ذلك الساتر ومسح الرأس ؛ وذلك لأن الله سبحانه وتعالى أوجب مسح الرؤوس ، وإذ ا مسح على الساتر لم يكن ماسحاً على رأسه ، ومن أمثلة ذلك ما يعرف في زماننا بالطواقي ونحوها ، وهكذا بالنسبة للغتر فإنه لا يشرع المسح عليها إلا إذا عمم بها الرأس على صفة العمامة -وسيأتي إن شاء الله بيان مسائلها وأحكامها - .(20/7)
أما إذا ستر الرأس بآلات الحرب كالمِغْفَر وهو نوع من لباس الحرب وآلات الحرب كان يوضع على الرأس لكي يقيه ضربات السيوف ، وفي الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه دخل مكة وعلى رأسه المغفر ، فلم يثبت عنه - عليه الصلاة والسلام - أنه مسح على هذا النوع من الساتر ، ولم يأذن لأصحابه -رضوان الله عليهم- بالمسح عليه ، فدل على أنه يجب نزع هذه الآلات وما في حكمها ، أما إذا كان مشجوج الرأس ووضع على رأسه ما يستر مواضع الشجات فان كان الطبيب يلزمه بذلك ولا يمكن له أن يبرأ إلا بالستر فإنه حينئذ يأخذ حكم الجبائر فيرخص له بالمسح على الجبيرة ، وهي منزلة منزلة الرأس ، ولكن بشرط أن توجد الحاجة والضرورة ، وبشرط ألا يجاوز المواضع المحتاج إلى سترها فإن جاوز ذلك وجب عليه أن يمسح على الأصل لا على الفرع الذي ستر .
الحالة الثانية : أن يكون ساتراً لرأسه بالعمامة : والعمامة مأخوذة من قول العرب عمّ الشيء إذا شمل والعموم هو الشمول ، ولذلك سميت العمامة عمامة لأنها تشمل جميع الرأس بالغطاء ، والعمامة كانت من هديه - صلوات الله وسلامه عليه- وفى الحديث الصحيح عنه - عليه الصلاة والسلام - أنه خطب ثاني يوم من يوم الفتح ، وكانت عليه عمامة سوداء ، فكان من هديه صلوات الله وسلامه عليه أن يتعمم ، وأجمع العلماء رحمهم الله على أنها من سننه ، وهى من سننه التي كان أصحابه-رضوان الله عليهم-محافظين عليها ، ولذلك وصفهم حسان بن ثابت رضي الله عنه بقوله :
إن الذوائب من فهر وإخوتهم قد بينوا سنناً للناس تتبعُ
يرضى بها كل من كانت سريرته تقوى الإله وبالأمر الذي شرعوا(20/8)
فوصفهم بقوله :" إن الذوائب من فهر وإخوتهم" ؛ و السبب في ذلك : أنهم كانوا يرسلون لعمائمهم ذوائبها فكانت عمامته صلوات الله وسلامه عليه لها ذؤابة ، ولذلك قال العلماء : إن العمامة التي للمسلمين تكون غير مقطوعة أي محنكة ، إما أن تكون محنكة ، أو لها عذَبَةٌ وذؤابة ، وهي من هدى رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا شك أنه من الهدي الباقي إلى قيام الساعة ، فلا حرج في الائتساء والاقتداء به-صلوات الله وسلامه عليه - في لبسها ، وقال بعض العلماء : إنها من السنن الجبلية ولذلك إذا قيل إنها من السنن الجبلية قالوا إنها لا تلبس إذا خالفت العرف ، وهذا القول اجتهاد ونظر ، لا يخالف السنة الواردة عن النبي صلى الله عليه وسلم ولا يوجب لأحد كائناً من كان أن ينكر على من تعمم تأسياً برسول الله-- صلى الله عليه وسلم - - ، فالأصل أنها كانت معروفه بين المسلمين ؛ وإنما أصبحت غريبة في بعض الأعصار وغربتها في بعض الأزمنة لا تقتضي بطلان سنية الائتساء بالنبي صلى الله عليه وسلم والاقتداء به ، ولذلك لا حرج في لبسها ولا إنكار على من لبسها ، وقد أخطأ بعض طلاب العلم في إنكارهم على بعض إخوانهم الذين يلبسونها تأسياً بالنبي صلى الله عليه وسلم ، وإنكارهم محل نظر وذلك لأنه ليس من حق أحد أن يلزم غيره بوجهة نظره إذا كان ذلك الغير يتمسك بسنة النبي صلى الله عليه وسلم ، ولذلك قالوا "إنه لا إنكار في الفروع" أي ما دام أن لكل دليله ، وحجته ، ومن هنا لا إنكار على من لبسها يتأسى بالنبي صلى الله عليه وسلم ويقتدي ، فإذا لبس العمامة وأحب أن يمسح عليها فللعلماء في هذه المسألة قولان :(20/9)
القول الأول : يشرع له أن يمسح على العمامة ، وهومذهب أبي بكر وعمر وأنس بن مالك وأبي أمامة رضي الله عن الجميع ، وهو قول عمر بن عبد العزيز من أئمة السلف الصالح رحمة الله عليهم وبه قال الإمام أحمد وإسحاق بن راهويه وأبو ثور وهو إبراهيم بن خالد بن يزيد الكلبي قالوا إنه إذا لبس العمامة شرع له أن يمسح عليها .
القول الثاني : وذهب جمهور العلماء إلى أنه لا يمسح على العمامة إذا كانت قد سترت جميع الرأس ، وأما إذا سترت بعض الرأس وترِك بعض الرأس فإنه يمسح على البعض المكشوف ، ثم يجوز له أن يمسح على العمامة تبعاً لا أصلاً ، فكأنهم يرون أن العمامة تبع وليست بأصل .
واحتج الإمام أحمد ومن وافقه من أئمة السلف- رحمة الله على الجميع- بحديث المغيرة بن شعبة رضي الله عنه وأرضاه "أنه كان مع النبي صلى الله عليه وسلم في غزوة تبوك ، فذهب -صلوات الله وسلامه عليه - المذهب لقضاء حاجته والمغيرة معه فذكر وضوءه صلوات الله وسلامه عليهقال : فمسح على ناصيته وعلى العمامة " قالوا فكونه عليه الصلاة والسلام يمسح على العمامة يدل دلالةً واضحةً على مشروعية المسح على العمامة ، وفي الصحيح من حديث بلال رضي الله عنه وأرضاه " أن النبي صلى الله عليه وسلم مسح على العمامة " كما في صحيح مسلم ، وفي الصحيح من حديث عمرو بن أمية الضمري رضي الله عنه وأرضاه " أن النبي صلى الله عليه وسلم مسح على العمامة " قالوا فبمجموع هذه الأحاديث الصحيحة يشرع المسح .(20/10)
وذهب الجمهور إلى عدم مشروعية المسح ، واستدلوا بقوله-تعالى-:{وَامْسَحُوا بِرُؤُوسِكُمْ }(1) والعمامة ليست برأس وإنما هي ساترة للرأس ، قالوا فيجب عليه نزعها والمسح على الرأس مباشرة ، أو على الأقل يكشف ما يعتد بالإجزاء به من الرأس فيمسحه ثم يمسح عليها تبعاً لا أصلاً ، وقالوا إن حديث العمامة مسح فيه النبي صلى الله عليه وسلم على الناصية وعلى العمامة .
والذي يترجح في نظري والعلم عند الله هو القول بمشروعية المسح على العمامة ؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم مسح عليها ، ولذلك يعتبر حديث المغيرة أصلاً في جواز المسح على العمامة ، وأما ما ذكروه من إجزاء بعض الرأس فقد تقدم الجواب عنه في مسألة القدر الواجب مسحه من الرأس ، وبينّا أن النبي صلى الله عليه وسلم مسح على الناصية مع العمامة ؛ والسبب في مسحه على الناصية أن كشف النواصي من صنيع أهل الفضل والتواضع ولذلك كشفه عليه الصلاة والسلام لجريان العادة بكشفه ، فيرخص في كشف ذلك ومسحه عند المسح ، ثم يعمم العمامة بالمسح -كما سيأتي إن شاء الله - .
إذا ثبت القول بمشروعية المسح على العمامة فإن العمامة آخذة حكم أصلها وهو الرأس .
ولذلك اختلف العلماء رحمهم الله هل يجب عليه أن يمسح جميع العمامة كالرأس ؟؟ أو يجب عليه أن يمسح بعض العمامة قياساً على الخفين ..؟؟(20/11)
والصحيح أنه يجب عليه مسح جميع العمامة أي ظاهرها ، ولا يجب عليه أن يخلل بين كور العمامة كما هو معلوم ؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم مسح ظاهر عمامته ، والشرط في جواز المسح على العمامة أن تكون على صفة عمائم المسلمين : فلا تكون مقطوعة لا عذبة لها ، فإن كانت مقطوعة فإنه لا يمسح ولا تستباح الرخصة بها ، بل يجب عليه نزعها كالقلنسوة والطاقية ، ويشترط عند فقهاء الحنابلة رحمة الله عليهم أن لا تكون العمامة مغصوبة أو من مال حرام ، فإن كانت مغصوبة أو من مال حرام لم يجزه أن يمسح عليها ، واشترط بعض العلماء طهارتها وهذا لا إشكال فيه من جهة كونه سيصلي بها فلابد وأن تكون طاهرة .
ذكر المصنف-رحمه الله -هذا الحديث حديث الرُّبَيع بنت معوذ بن عفراء -رضي الله عنها وأرضاها- وقد اشتمل على كونه عليه الصلاة والسلام يمسح برأسه ويشمل جميع الرأس بالمسح .
وهنا سؤال : لو أن إنساناً مسح جميع رأسه وعليه الشعر ثم بعد أن انتهى من الوضوء حلق شعر رأسه هل يلزمه أن يعيد وضوءه أم يجزه الوضوء الأول ..؟؟
ذهب جماهير السلف والخلف إلى أن من مسح على رأسه ثم غسل رجليه وأتم الوضوء أنه لا يجب عليه أن يعيد وضوءه إذا حلق شعر رأسه ، وهذا القول هو مذهب الحنفية والمالكية والشافعية والحنابلة والظاهرية-رحمة الله على الجميع- .
وقال الإمام أبو جعفر محمد بن جرير الطبري-رحمة الله عليه- إنه يلزمه أن يعيد الوضوء ، وذلك لأنه إذا حلق شعر رأسه وجب عليه أن يمسح الجلدة وهي الأصل ؛ وإنما رخص له أن يمسح الشعر لكونه لايستطيع أن يباشر البشرة ، وأما إذا حلق فإنه يمكنه أن يباشر.(20/12)
والصحيح ما ذهب إليه الجمهور أنه لايعيد الوضوء لظاهر قوله عليه الصلاة والسلام :(( لا يقبل الله صلاة أحدكم إذا أحدث حتى يتوضأ)) وهذا قد توضأ ومسح برأسه على الصفة المعتبرة فهو متوضيء والحكم بانتقاض وضوئه ليس بوارد ؛ لأن ذلك ليس بحدث ولافي معنى الحدث ؛ ولأن الشعر نزل منزلة الأصل .
وأما قياسه على الخفين فهناك فرق بين المسح على الخفين والمسح على الشعر لأن الخفين إنما هما بدل عن الأصل ولذلك يمسحان ولا يغسلان ، وأما بالنسبة في الشعر فمسحٌ قائم مقام مسح ، ولذلك نُزِّل منزلة الأصل بخلاف المسح على الخفين ، ومن هنا ترجَّح قول الجمهور أنه في هذه الحالة لا يلزمه أن يعيد الوضوء ، وهكذا لو توضأ ثم قص أظافره أو اغتسل من الجنابة وقص الأظافر فإنه لايلزمه أن يعيد الوضوء ويعيد الغسل ، ويجزئه وضوءه وغسله لأنه توضأ واغتسل كما أمره الله عز وجل ، ومن توضأ واغتسل كما أمره الله وأعمل الأصل فإنه متطهر حتى يقوم الدليل على انتقاض طهارته ، ولادليل قوي هنا من كتاب الله وسنة النبي صلى الله عليه وسلم يدل على انتقاض الوضوء ، فلذلك بقي على الأصل واستصحب حكمه.
وقولها-رضي الله عنها-" وصدغيه " : فيه دليل على حد الرأس من الطرفين كما ذكرنا ، ولذلك يفرق بين ما علا وما دنا منهما ، واختلف العلماء رحمهم الله في البياض الذي يكون بين اللحية والأذن هل يجب غسله أو يجب مسحه ؟
والصحيح أنه يجب غسله لأنه من الوجه ولذلك يعتبر حد الوجه من طرف الأذن إلى طرفها عرضاً ، ولذلك يعتبر تابعاً للوجه وليس بتابع للرأس .
يقول المصنف رحمه الله : باب مَا جَاءَ أنهُ يأخذُ لرأسهِ ماءً جديداً(20/13)
حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ خَشْرَمٍ أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ وَهْبٍ حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ الْحَارِثِ عَنْ حَبَّانَ بْنِ وَاسِعٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ زَيْدٍ أَنَّهُ رَأَى النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم تَوَضَّأَ وَأَنَّهُ مَسَحَ رَأْسَهُ بِمَاءٍ غَيْرِ فَضْلِ يَدَيْهِ " .
الشرح:
هذه الترجمة والأحاديث التي ذكرها المصنف رحمه الله قصد بها بيان سنة النبي صلى الله عليه وسلم وهديه ، من أخذ الماء الجديد للمسح ، وهذا هو الذي ذهب إليه جمهور العلماء رحمهم الله من أن السنة أن يمسح رأسه بماء جديد ، - وكذلك الحال بالنسبة للأذنين كما سيأتي-.
وأما قوله" مسح رأسه بماء غير فضل يديه " : هذه الجملة فيها إشكال وذلك أن في بعض النسخ قوله "غبر" بدل "غير" ، ولذلك قال بعض العلماء : إن المسح كان بما غبر من غسل اليدين ، ويكون معنى الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم غسل كلتا يديه ، ثم أخذ الماء المتبقي على الكفين ومسح بهما رأسه صلوات الله وسلامه عليه .
وحينئذ يرد السؤال: هل يجوز للإنسان إذا غسل يديه وأراد أن يمسح رأسه ببقية الماء الذي في الكفين هل يجزيه أن يمسح الرأس بذلك الماء أو لا يجزيه ..؟؟
فيه قولان للعلماء : أصحهما أنه يجزيه لأن هذا الماء غاية ما فيه أنه مستعمل في رفع الحدث ، والماء المستعمل في رفع الحدث لا يحكم بنجاسته ؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال كما في الحديث الصحيح : (( إن الماء طهور لا ينجسه شيء)) فبين هذا الحديث الصحيح أن الماء على الأصل من كونه طهوراً حتى يدل الدليل على ارتفاع الطهورية ولا دليل هنا ، ولذلك يجوز له أن يمسح رأسه بفضلة الماء الذي غسل به يديه ولا حرج عليه في ذلك ، ويستوي هنا أن يقال بماء غير فضل يديه أو بماء غبر من فضل يديه كل ذلك سائغ على أرجح أقوال العلماء رحمهم الله .(20/14)
يقول المصنف رحمه الله : بَاب مَا جَاءَ فِي مَسْحِ الأُذُنَيْنِ ظَاهِرِهِمَا وَبَاطِنِهِمَا
الشرح:
يقول المصنف- رحمه الله -" باب ما جاء في مسح الأذنين ظاهرهما وباطنهما" : هذه الترجمة قصد المصنف بها أن يبين أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم التي دلت على سنية تعميم الأذنين بالمسح .
وقد اختلف العلماء- رحمهم الله - في الأذنين إذا توضأ الإنسان هل يجب عليه غسلهما مع الوجه أو يجب عليه مسحهما مع الرأس ؟ أو فيهما التفصيل ..؟؟
ثلاثة مذاهب للسلف - رحمهم الله - :
المذهب الأول : أن السنة في الأذنين أن تمسحا مع الرأس ، وهو مذهب الأئمة الأربعة والظاهرية- رحمة الله على الجميع - أن الأذنين من الرأس ، وحكمهما حكم الرأس يمسحان ولا يغسلان .
المذهب الثاني : إن الأذنين من الوجه ويجب على الإنسان غسلهما لا مسحهما وبهذا القول قال الزهري والحسن بن أبي صالح .
والمذهب الثالث : التفصيل فقال : ما أقبل من الأذنين يغسل مع الوجه ، وما أدبر منهما-أعني ظواهرهما التي تلي الرأس- فإنه يمسح ولا يغسل وبهذا القول قال : إسحاق بن راهويه ، فهذه ثلاثة مذاهب للسلف- رحمهم الله -في الأذنين.
أما الذين قالوا إنهما من الرأس فاحتجوا بحديث ابن عباس وأبي أمامة وأنس وعائشة- رضي الله عن الجميع- أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:(( الأذنان من الرأس)) ووجه الدلالة أن هذا الحديث نص على اعتبار الأذنين من الرأس ، ولذلك يكون حكمهما المسح لا الغسل ، وتكونان تابعتين للرأس لا يجب غسلهما مع الوجه .(20/15)
واحتج الذين قالوا : إنه يجب غسل الأذنين مع الوجه احتجوا بما ثبت في صحيح مسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول في سجوده :((سجد وجهي للذي خلقه وصوره وشق سمعه وبصره وتبارك الله أحسن الخالقين)) وجه الدلالة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال :((سجد وجهي)) ثم قال : ((وشق سمعه وبصره)) فأضاف السمع إلى الوجه فدل على أنه يجب غسل الأذنين لا مسحهما .
واستدل الذين قالوا : ما أقبل منهما يغسل مع الوجه لأن الوجه من المواجهة فيرون أنها داخلة في قوله :{فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ}(1) وما كان منهما مما يلي الرأس من ظهورهما فإنه يمسح ، ولا يجب غسله لأنه تابع للرأس .
والصحيح ما ذهب إليه الجمهور بنص الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم :(( بأن الأذنين من الرأس)) ، وأما ما ذكروه من قوله عليه الصلاة والسلام :(( سجد وجهي للذي خلقه وصوره وشق سمعه وبصره)) فإنه من باب الإضافة للمجاور ، ولذلك لا يعتبر حجة على كونهما من الوجه ، ومن هنا يكون حكمهما المسح ، ولا يجب غسلهما ، ويمسح ظاهر الأذنين وباطنهما ، وهذا على السنة الكاملة من هديهصلوات الله وسلامه عليه ، وقد كان عبد الله بن عمر- رضي الله عنهما -يبلّ السبابة والإبهام فيجعل السبابة لداخل الأذنين والإبهام لظاهرهما ، وهذا هو الهدي ، ولذلك قالوا إنه يقتصر على الإصبعين في مسح الأذنين ، فإذا فعل ذلك فقد شمل الظاهر والباطن بالمسح ، وقال بعض العلماء : لو مسح ظاهر الأذنين أجزأه والداخل فضل وليس بفرض ، وقد ترجم المصنف- رحمه الله - بهذه الترجمة لاتصالها بالعضو الثالث من أعضاء الوضوء وهو مسح الرأس .(20/16)
قال المصنف - رحمه الله- : حَدَّثَنَا هَنَّادٌ حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ إِدْرِيسَ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَجْلاَنَ عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ عَنْ عَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ : "أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم مَسَحَ بِرَأْسِهِ وَأُذُنَيْهِ ظَاهِرِهِمَا وَبَاطِنِهِمَا ".
الشرح :
هذا الحديث فيه دليل واضح على هديه صلوات الله وسلامه عليه في مسح ظاهر الأذنين وباطنهما على ما سبقت الإشارة إليه .
- ? - ? - ? - ? - الأسئلة - ? - ? - ? - ? -
السؤال الأول :
هل نزع العمامة بعد الوضوء يقتضي إعادة الوضوء إذا كان قد مسح على العمامة في وضوئه..؟؟
الجواب:
بسم الله الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه أما بعد :
فإن مَنْ قال مِنَ العلماء رحمهم الله بالمسح على العمامة كما هو مذهب الحنابلة ، يرون أنها آخذة حكم الخفين ولذلك لاينزعها حتى يتم المدة ، وتأخذ حكم الخفين ، ومن هنا أوجبوا على من أراد أن يمسح عليها أن يلبسها على طهارة كالخفين ، ومن هنا قالوا إنه إذا نزعها بطلت ويلزمه أن يعيد وضوءه ، فإن كان الوقت قريباً بحيث لازالت يداه مبلولتين بحيث يمكنه أن يدرك شرط الموالاة فإنه يمسح برأسه ثم يغسل رجليه ، ويتم وضوؤه ، والله تعالى أعلم .
السؤال الثاني :
هل يشترط فيمن أراد مسح العمامة أن يكون قد لبسها على طهارة قياساً على مسح الخفين..؟؟
الجواب :(20/17)
هذه المسألة يقول بها طائفة من العلماء كما هو مذهب الحنابلة - رحمة الله عليهم - ونصوا عليه ، وإن كان الصحيح والأقوى أنه لاتشترط الطهارة ؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم لما أهوى المغيرة لينزع خفيه قال:(( دعهما فإني أدخلتهما طاهرتين)) ولم يقل في المسح على العمامة ماقاله في المسح على الخفين ، ولذلك يقوى أن العمامة تخالف الخفين ولاتشترط لها الطهارة ؛ ولكن الأفضل والأكمل أن الإنسان يخرج من الخلاف ، ويلبسها على طهارة ، خاصة وأن الصلاة أمرها عظيم ، والطهارة شرط لصحتها فيستبرئ المسلم لدينه ، لكن كونه الزاماً وحكماً بعدم بصحة مسحه فهذا يحتاج إلى دليل صريح ، والله تعالى أعلم .
السؤال الثالث :
ما حكم من يقول بمسح بعض شعرات من الرأس استدلالاً بأن الباء في الآية للتبعيض فهل هذا الحكم صحيح..؟؟
الجواب :(20/18)
هذا القول يقول به جماعة من السلف والأئمة رحمة الله عليهم أن الواجب مسحه بعض الرأس ، فقال الحنفية : الربع ، وقال الشافعية : ثلاث شعرات فأكثر ، والأقوى مذهب من قال إن الباء للإلصاق ، وبناء على ذلك يجب مسح جميع الرأس ، أو تكون زائدة كما في قراءة :{ تُنْبِتُ بِالدُّهْنِ } (1) فإن قراءة تنبت بالدهن الباء زائدة ، ومن معاني الباء أنها تأتي زائدة ، وينبغي أن ينبه على أنه إذا قيل إن الباء زائدة ليس معناها أنها ليست حرفاً من القرآن ، هذا مصطلح وله معنى مخصوص عند الأئمة- رحمة الله عليهم - ، كما يقولون هذه قراءة شاذة ، يعني إذا عرضت على الضوابط والأصول ، وليس المراد بذلك الكلام في القرآن أو الطعن له بالزيادة والنقص ، وقد ذكر الزيادة أئمة من السلف رحمة الله عليهم ، وتناقل ذلك العلماء والأجلاء ، فمرادهم بذلك المصطلح "زائدة" بمعنى أنه يكون المعنى فيها مسح جميع الرأس ، كأنه قال امسحوا رؤوسكم ، كقراءة : { تُنْبِتُ بِالدُّهْنِ } فإن قراءة تنبت بالدهن أصلها تنبت الدهن ، والباء زائدة ، والباء لها معانٍ : التعدية ، واللصوق ، والاستعانة ، السببية ، والبدلية ، المصاحبة ، وتأتي زائدة وتأتي لليمين ، والقسم ، وقد جمعها ابن مالك -رحمة الله عليه - في قوله :
تعد لصوقاً واستعن بتسببٍ وبدل صحاباً قابلوك بالاستعلا
وزد بعضهم يميناً تحز معانيها كلا(20/19)
فهذه معاني الباء ، ومن معانيها في قولهم وزد بعضهم أي تأتي زائدة ، وبعضهم للتبعيض ، يميناً للقسم تقول بالله ، فهذه كلها من معاني الباء ، فقالوا إن الباء للتبعيض كما يقوله أئمة الشافعية ، لكن أنكر بعض أئمة اللغة هذا القول ، وقال إنها للإلصاق أرجح ، وذلك لأن التبعيض خلاف الحقيقة ، وهو معنى فيه نوع من التجوز ، ولذلك قالوا الأصل حمل الألفاظ على حقيقتها ، فالأصل أن تحمل على الإلصاق ؛ لأن الإطلااق يقتضيه ، والسياق يقويه ، ومن هنا قالوا إن مذهب من قال بتعميم الرأس أولى وأرجح لهذا ، والله تعالى أعلم .
السؤال الرابع :
ذكرتم حفظكم الله أنه يجب على المغتسل أن يتمضمض ويستنشق فإذا كان المغتسل قد توضأ قبل الغسل فهل يجب عليه الاستنشاق أثناء الغسل..؟؟
الجواب :
هذا فيه تفصيل إذا كانت مضمضته واستنشاقه قد وقعا أثناء غسله فحينئذٍ يجزئه ذلك ويكون الوضوء تابعاً للغسل كما كان النبي صلى الله عليه وسلم يفعل ذلك كما في الصحيحين من حديث أم المؤمنين عائشة وميمونة حينما وصفتا غسله عليه الصلاة والسلام من الجنابة فإن وقع وضوئه أثناء غسله ولم يفصل بينهما بالفاصل المؤثر أجزأه وحينئذٍ تكون المضمضة والاستنشاق تابعة للغسل فهي وإن وقعت في الظاهر وضوءاً لكنها في الحقيقة غسلاً ، وأما إذا كان قد توضأ ثم بعد ذلك أغتسل بعد انتهاء وضوئه فاصلاً بين الوضوء والغسل فالوضوء شيء والغسل شيء ويلزمه حينئذٍ أن يعيد مضمضته واستنشاقه لأنه مطالب في غسله بتعميم جميع بدنه وقد وقعت مضمضته واستنشاقه في غير غسله فلم يجزئ ذلك عن الواجب ، والله تعالى أعلم .
السؤا ل الخامس :
هل غسل اليدين يبدأ من المفصلين إلى المرفقين أم من الأصابع إلى المفصلين نرجوا التوضيح..؟؟
الجواب :(20/20)
غسل اليدين في الوضوء لابد من أطراف الأصابع إلى المرفقين وهذا الحقيقة سؤال جيد لأن البعض من العامة يخطئ في هذه المسألة فتجده يبدأ بغسل يديه كفيه ثم يتمضمض ويستنشق ويغسل وجه فإذا جاء يغسل يديه أدخل يديه من الزندين تحت صنبور الماء وجلس يدلك يديه لكونه يرى البلل على كفيه فإن فعل هذا لم يصح وضوئه لأن الله فرض عليه غسل اليد كاملة فإذا غسل من زنديه إلى مرفقيه فمعنى ذلك أن الكفين لم تغسلا ، ولذلك يحب عليه أن يغسل من أطرافه أصابعه إلى مرفقه حتى يكون غاسلاً ليديه كما أمر الله وينبغي تنبه الناس إذا رأو على ذلك ، والله تعالى أعلم .
السؤال السادس :
من كان على رأسه خضاب أو حناء فكيف يمسح..؟؟
الجواب :
بالنسبة للحناء فإنها تعتبر عازلة ، ولذلك فصل بعض العلماء إذا كان ثم شعر وكانت أطراف الشعر فوق الحناء بحيث يمكنه إذا أمر يده أن تصيب أطراف الشعر قالوا يجزئه ولكن إذا كانت ساترة بحيث لايمكن أن يتخلل الماء معها إذا أمر ماسحاً فإنه يلزمه أن يقلعها ثم يمسح على رأسه كما أمر الله.
أولاً: بالنسبة مسألة الحناء الحناء لها حالتان :
الحالة الأولى : أن تكون مادة الحناء موجودة . والحالة الثانية :أن تزال وتبقى الصبغة.(20/21)
فكلامنا الذي ذكرناه من الفاصل المؤثر إذا وجدت المادة وهو جرم الحناء بحيث يغطي الشعر فإذا مرت اليد مرت على الحناء ولم تمر على الشعر فحيئذٍ يلزمه أن يزيلها ثم بعد ذلك يمسح البشرة أو يمسح الشعر الذي أمر الله - - عز وجل -- بمسحه ، وأما إذا كانت مادة الحناء وصبغة الحناء موجودة الجرم مزال والصبغة موجودة فلاتؤثر لأنها لاتمنع من وصول الماء وحيئذٍ قالوا إنه لاحرج في كونه يمسح وقد حنا رأسه ، والحناء لاتعتبر مزيلة وهكذا لو حنا قدميه ووضع الحناء في الشعر حتى ذكره الإمام ابن القيم رحمه الله في الطب النبوي وذكر أنه علاج لإمراض في الرأس وأمرض حتى في الجوف والبطن أن وضعها على الرأس يعتبر علاجاً فهو معروف من القديم وضعها في الرأس إذا احتيج أو يجعلها في الرأس لإزالة الشيب كما في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال :(( غيروا هذا الشيب)) فإذا أراد أن يضعها لتغييرالشعر فيفصل فيها بهذا التفصيل فإن كانت ساترة منعت كالطين فلو أن إنساناً تلطخ بالطين وبقي الطين على رأسه بحيث لو مسح لايستطيع أن يباشر البشرة ولاالشعر فلايجزئه ويلزمه قلع الطين ثم بعد ذلك يباشر البشرة أو الشعر بالمسح لأن القاعدة أن يمسح هذا المحل وقد أمر الله عز وجل به فيلزمه أن يمسحه ، والله تعالى أعلم.
السؤال السابع :
بعض الحلاقين عندما يحلق للمعتمر أو الحاج يترك بعض مافوق الصدغين ظناً منه أنها من اللحية ، فهل يعتبر هذا حلق أو تقصير..؟؟
الجواب :(20/22)
أما بالنسبة للسؤال الثاني وهو إذا اعتمر أو حج فترك الحلاق مافوق الصدغ في هذه الحالة يفصل فيه على الأمر بحلق جميع الرأس فمن تحلل من عمرته أو حجه بالحلاقة فإنه يجب أن يعمم جميع الرأس بالحلاقة على أصح أقوال العلماء رحمة الله عليهم وخالف في ذلك الشافعية فقالوا لو حلق في ذلك ثلاث شعرات أو قصرها أجزأه ، والصحيح مذهب الجمهور ، بناءً على ذلك لوترك ما فوق الصدغ يلزمه حلقه وحيئذٍ يعتبر من بقايا نسك التحلل بمعنى أنه في عمرته يلزمه أن يزيل هذا القدر الباقي من الشعر ، والله تعالى أعلم .
السؤال الثامن :
صليت المغرب والعشاء جمع تقديم وذلك لنزول أمطار شديدة ولكن بعد صلاة المغرب بقليل توقف المطر أي قبل دخول وقت العشاء فهل أعيد صلاة العشاء لزوال سبب الجمع قبل دخول وقت العشاء..؟؟
الجواب :
هذه المسألة فيها قولان مشهوران عند من يقول بمشروعية الجمع بين العشائين في المطر فهم يخصون الجمع في المطر في العشائين فقط لورود السنة بالعشائين ولذلك قالوا بعدم الجمع بين الظهر و العصر في المطر وخص الحكم بالعشائين لشدة المشقة في الليل أكثر من النهار وقالوا إنها خلاف الأصل فيقتصر فيها على الوارد ، بناءً على ذلك الأصل عندهم في صحة الجمع أن يستمر العذر إلى دخول وقت الثانية ومن هنا قالوا لو كان في سفر فجمع جمع تقديم ثم دخل مدينته وبلدته قبل أذان الثانية يعني قبل دخول وقت الثانيه يلزمه أن يعيدها تامة ولا تجزيه مقصورةً مجموعه وذلك لأنه توجه عليه الخطاب بدخول وقت الثانية ، توجه عليه أربع ركعات وقد صلى ركعتين فليزمه أن يعيد ويعيدها تامة ، وبناءً على ذلك يشترط في الجمع أن يدخل وقت الثانية ولا يزال العذر بالإنسان فإن كان جمعه لسفر فلا بد وأن يكون مسافراً .(20/23)
وأما في مسألة المطر فقال بعض العلماء : العبرة بحال الأداء فإن كان حال آداءه معذوراً بعذر الشرع من وجود المطر فحينئذٍ لا يؤثر ذهابه وزواله وأنقطاعه إذا انقطع المطر فلا يلزمه يعيد والذين قالوا أنه تلزمه الإعاده قالوا إن ظنه خاطئ والقاعدة : " لاعبرة بالظن البين خطأه" أي لا عبرة بالظن الذي بان خطأه وهو يظن أن العذر يستمر فلما تبين له أن العذر لم يستمر لزمه أن يعيد ، وهذا القول لا شك أنه أحوط وأبرأ للذمة لأنه إذا اختلف القولان وتعارض الأصلان رجع إلى الأصل السابق ، فالأصل السابق أنه يصلي كل صلاة في وقتها ولأن جمع المطر فيه ضعف وفيه كلام ولذلك يبقى الإنسان على ما يبرؤ ذمته ويبقى على الأصل الأقوى والأحفظ والأبرأ لدينه وعرضه ، والله تعالى أعلم .
السؤال التاسع :
وردت أسئلة كثيرة عن حكم مسح الرقبة عموماً لأنها من الرأس فهل تمسح ..؟؟
الجواب:
بسم الله الحمدلله والصلاة والسلام على رسول الله و على آله و صحبه ومن والاه أما بعد:
فالرأس ينتهي بإنتهاء حد الشعر المعروف الذي يكون عند بداية الرقبة مع الرأس هذا هو الحد الذي أمر الله بمسحه ما سفل منه هذا من الرقبة وهو الذي فيه القذال حديث أبي داود في السنن أن النبي صلى الله عليه وسلم " مسح حتى بلغ القذال" هذا الحديث فيه ليث بن أبي سليم ويرويه عن طلحة بن مصرف أبيه عن جده وكان العلماء رحمة الله عليهم تكلموا في ليث بن أبي سليم وضعفوه وهو ضعيف لكن كذلك في اشكال في طلحة بن المصرف عن أبيه عن جده حتى العلماء -رحمة الله عليهم - والأئمة والحفاظ لهم كلام فيه مشهور ، المقصود أن هذا الحديث ليس بدليل على مشروعية مسح الرقبة لضعفه ثم حديث أمان من الغل يوم القيامة حديث ضعيف فلما لم يثبت في ذلك حديث صحيح والله-تعالى-أمرنا بمسح الرأس فالرأس في لغة العرب ينتهي عند هذا الحد .(20/24)
وأما ما سفل منه وهو الرقبة فإنه رقبة وليس برأس ولذلك لا يعتبر من جنس ما أمر الله عز وجل بمسحه ولا يمسحه الإنسان ، وقال بعض العلماء : مسح الرقبة بدعة ويشرع للإنسان أن ينكر فيه لأنه ليس له أصل صحيح يعتمد عليه و لذلك يقتصر على الحد الذي ذكرناه ، و الله تعالى أعلم .
السؤال العاشر :
هل نستطيع أن نقيس أن من حلق رأسه لا يعيد و ضوءه قياساً بمن تيمم ثم وجد ماءً لا يتوضأ لأنه قد تطهر بالتيمم..؟؟
الجواب:
من شرط صحة القياس أن لا يوجد فارق مؤثر بين الأصل والفرع فالأصل عندنا من حلق شعر رأسه و الفرع عندنا من حلق شعر رأسه والأصل من تيمم ووجد الماء فإنك إذا نظرت إلى ماسح شعر رأسه فإنه ماسح لأصل وليس بماسحٍ لبدل ولا قائم بطهارةٍ بدلية بل هو قائم بالفرض الأصلي لأن شعر الرأس من الرأس وهو يسمى رأساً قال بعض العلماء : في تفسير قوله-تعالى- :{وَأَخَذَ بِرَأْسِ أَخِيهِ يَجُرُّهُ إِلَيْهِ}(1) قالوا أخذ بشعر الرأس ولم يأخذ بالرأس نفسه لأن الرأس لا يمسك و إنما قصد :{وَأَخَذَ بِرَأْسِ أَخِيهِ يَجُرُّهُ إِلَيْهِ}قالوا انه أخذ بشعر الرأس وجره فوصف القرآن شعر الرأس بكونه رأساً وأكد هذا في قوله-تعالى-:{وَلاَ تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ}(2) إذاً فقد سمى الله عز وجل الشعر نفسه رأساً فأصبح أصلاً لذاته ، وأما بالنسبة للتيمم ومسح اليدين والوجه والكفين والوجه فهذا على سبيل البدلية وفرق بين الأصل والبدل لأن البدل يزول بزوال عذره ، وأما بالنسبة لمسح الرأس فإنه ليس بقضية عذر إنما هو أصل قائم برأسه فضعف الخلاف هنا وقوي الاعتبار هناك ، ولذلك لو قيل بهذا القياس يرد عليه القادح الذي ذكرناه وهو أحد أربعة عشر قادحهً مؤثرهً في القياس وهو يوجب رده .(20/25)
وأيضاً حتى لو قاس حلق شعر الرأس على من تيمم ثم وجد الماء هذا يشكل عليه من باب قياس المختلف فيه رد المختلف فيه إلى المختلف فيه لأن مسألة من وجد الماء أثناء الصلاة أو وجده قبل أن يتلبس بالصلاة فيها مسألة مختلف فيها فبعض العلماء يرى أنه إذا وجد الماء أو رأى الماء أثناء الصلاة بطلت صلاته وهو مذهب من القوة بمكان ولذلك يرخص له مالم ينتهي من صلاته و بعضهم يشترط خروج الوقت ، والله تعالى أعلم .
السؤال الحادي عشر :
ما حكم البيع و الشراء بطريقة الاستبدال بأن نعطي البائع جهازاً أو سيارة مستعملة ونأخذ غيرها جديدة مع دفع فرق السعر..؟؟
الجواب:(20/26)
هذه المسألة جائزة وجوازها باجماع العلماء - رحمة الله عليهم - ؛ والسبب في ذلك أن الآلات والسيارات من جنس المعدودات ، والمعدودات لايجري فيها الربا فيجوز أن تبيعها متفاضلة لحديث عبدالله عمرو بن العاص -رضي الله عنهما - في السنن أن النبي - صلى الله عليه وسلم -- "أمره أن يأخذ البعير بالبعيرن من إبل الصدقة " وإنما يحرم الربا والزيادة في جنس المكيلات والموزونات أما المعدود فيجوز أن تبيعه متفاضلاً تبادل القلم بالقلمين والساعة بالساعتين والثوب بالثوبين والناقة بالناقتين وفي زماننا السيارة بالسيارتين والثلاجة بالثلاجتين أو ثلاجة قديمة بثلاجة جديدة مع دفع الفرق كل ذلك جائز ولاحرج فيه لأنه ليس من جنس الربويات المحرمة لأنها معدودة ، بل إنهم قالوا إن الحديد على قول الحنفية والحنابلة لأنه لايجري الربا في غير المطعومات إلا على مذهب الحنفية ورواية عن الإمام أحمد قيل إنها هي الأشهر وهي المذهب كما في الإنصاف على هذا القول ، أما الجمهور فيرون أن العلة في غير الطعام الثمنية فلا يرون أي شيء ممالا يطعم يرون أنه يجوز أن تبيعه متفاضلاً النحاس الحديد لو أن إنساناً أراد أن يبني عمارته فبادل طن حديد بطنين لا حرج لأن الحديد ليس بثمن ولافي حكم الثمن وهكذا النحاس لوباع كيلو بكيلوين قالوا لاحرج لايرد الاشكال إلا على مذهب الحنفية الذين قالوا إن غير المطعومات التي هي الذهب والفضة العلة فيها الوزن فقالوا كل معدن من غير الذهب والفضة ينظر فيه إلى كونه موزوناً فإن كان موزوناً وجب بيعه مثلاً بمثل يداً بيد فالحديد إذا بيع يباع مثلاً بمثل يداً بيد.(20/27)
فيرد الاشكال في السيارة فإن أصلها حديد لكن قالوا شرط جريان الربا في الحديد ألا تخرجه الصنعة عن كونه موزوناً إلى كونه معدوداً تطبيق ذلك لو أن إنساناً أراد أن يبني عمارته فاشترى عدداً من كيلو من الحديد ثم أراد أن يستبدله بحديد آخر متفاضل لايجوز لأنه موزون وحينئذٍ لا يجوز أن يبيع طنه بطنين ولا أن يبادل حديد قديم بجديد مما يوزن ويدفع الفرق لأنه الربا لأنه موزون.
أما لو أن هذا الحديد صنع فأصبح أبواباً أو نوافذ فقد أخرجته الصنعة عن كونه موزوناً إلى كونه معدوداً ، ولذلك تبيعه بالعدد وتقول أريد نافذة أو نافذتين أو باباً أو بابين ولاتقول أريد طناً من الأبواب أو طناً من النوافذ إنما يباع بالعدد فإذا أخرجته الصنعة إلى كونه معدوداً جاز التفاضل فيه ولم يجز النسأ وحينئذٍ يقولون إنه يجوز الحديد إذا كانت السيارة تصنع من الحديد أو الثلاجة من حديد تقول إنه قد أخرجتها الصنعة عن كونها موزونة إلى كونها معدودة وحينئذٍ يجوز أن تفاضلها في البيع ويجوز أن تدفع زيادة الفرق بينها .
وَآخِرُ دَعْوَانَا أَنِ الحمَْدُ لِلَّهِ رَبِّ العَالَميْنَ وصلَّى اللَّهُ وسلَّم وبارك على عبده ونبيَّه محمد وعلى آله وصحبه أجمعين(20/28)
بسم الله الرحمن الرحيم
قال المصنف رحمه الله : بَاب مَا جَاءَ أَنَّ الأُذُنَيْنِ مِنَ الرَّأْسِ
حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ عَنْ سِنَانِ بْنِ رَبِيعَةَ عَنْ شَهْرِ بْنِ حَوْشَبٍ عَنْ أَبِي أُمَامَةَ قَالَ تَوَضَّأَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فَغَسَلَ وَجْهَهُ ثَلاَثاً وَيَدَيْهِ ثَلاَثاً وَمَسَحَ بِرَأْسِهِ وَقَالَ:(( الأُذُنَانِ مِنَ الرَّأْسِ )).
الشرح:
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين وعلى آله وصحبه أجمعين أما بعد :
فقد ذكر المصنف رحمه الله حديث أبي أمامة رضي الله عنه وأرضاه أن النبي صلى الله عليه وسلم توضأ فغسل وجهه ثلاثاً ويديه ثلاثاً ومسح برأسه وأذنيه ، وقال : (( الأذنان من الرأس )) .
هذا الحديث قد جاء عن ثمانية من أصحاب النبي -- صلى الله عليه وسلم - - :
أولهم : أم المؤمنين عائشة -رضي الله عنها وأرضاها- و قد روى حديثها الدارقطني وهو حديث ضعيف تكلم العلماء عليه .
و أما الحديث الثاني : فهو حديث أبي موسى الأشعري ويرويه الدارقطني وفيه اختلاف في وصله ووقفه ، ولذلك رجَّح الدارقطني رحمه الله وقفه على أبي موسى الأشعري-- رضي الله عنه -وأرضاه- إضافةً إلى وجود علة الانقطاع .
وأما الحديث الثالث : فحديث أبي هريرة عبدالرحمن بن صخر رضي الله عنه وأرضاه وهذا الحديث قد رواه ابن ماجة في سننه وهو برواية ضعيفة .
و أما الصحابي الرابع : فهو أبو أمامة كما ذكر المصنف رحمه الله روايته من طريق شهر بن حوشب ، وفي هذا الحديث كلام ، ولذلك لم يثبته العلماء رحمهم الله لوجود العلتين- الكلام في شهر بن حوشب ، وكذلك مسألة رفعه ووقفه .(21/1)
و أما الحديث الخامس : فهو حديث عبدالله بن زيد الأنصاري رضي الله عنه وأرضاه ويرويه عنه الإمام الحافظ ابن ماجة في السنن وهذا الحديث قال الإمام الزيلعي-رحمه الله -إن إسناده أمثل أسانيد الباب وذلك لاتصاله وقوة رواته ومن هنا رجحه على غيره من الأحاديث ، وتعقبه الحافظ ابن حجر رحمه الله بوجود الإدارج في الحديث .
وأما الحديث السادس : فهو من رواية عبد الله ابن عباس رضي الله عنهما وقد رواها الدارقطني في السنن وهي الرواية التي صححها غير واحد من العلماء وممن صححها ابن القطان ، وارتضى تصحيحه غير واحد ، ولذلك قال العلماء بثبوت الحديث لهذه الرواية أو للتي قبلها أعني حديث عبدالله بن زيد رضي الله عن الجميع .
وأما الصحابي السابع : فهو عبدالله بن عمر وحديثه ضعيف .
وأما الصحابي الثامن : فهو أنس بن مالك رضي الله عنه وحديثه كذلك ضعيف ، وكلاهما من رواية الدارقطني والبيهقي -رحمة الله عليهم أجمعين -.(21/2)
هذا الحديث اشتمل على اعتبار الأذنين من الرأس ، وبناءً على ذلك فحكمهما في الوضوء أنهما يمسحان ولا يغسلان وقد تقدم أن بعض السلف الصالح رحمة الله عليهم يقولون إن الأذنين تغسلان ولا تمسحان ومنهم من فصل بين ما أقبل منها وما أدبر وبينا هذه المسألة وأن الراجح هو القول بمسحهما لا بغسلهما واحتج بهذا اللفظ من الحديث من يقول إن الأذنين لا يأخذ لهما ماء جديد ، وذلك لأن النبي صلى الله عليه وسلم جعلهما من الرأس ، وإذا كانت الأذنان من الرأس فإنك تمسحهما بالماء الذي في اليد دون حاجة إلى أخذ ماء جديد والذين قالوا بمشروعية الأخذ بالماء الجديد احتجوا بما تقدم في الرواية من أخذه عليه الصلاة والسلام لماء جديد لأذنيه وقد تقدم الكلام على ذلك عند الحديث في مسألة مسح الرأس ولامانع أن يكون هذا الحديث ثابتاً ويؤخذ الماء الجديد للأذنين لأن الأذنين وإن قلنا إنهما من الرأس فحكمهما كالمضمضة والاستنشاق وهما تابعان للوجه ، ومع ذلك نأخذ للمضمضة والاستنشاق ماءاً جديداً ، فعلى هذا فلا حرج في أخذ الماء الجديد ولاحرج في مسح الإنسان بما بقي من فضلة الماء الذي مسح به رأسه .
وقوله عليه الصلاة والسلام (( الأذنان من الرأس)) : استنبط منه الفقهاء مسألة فقهية في الإحرام وهي أنه لايجوز تغطية الأذنين لأن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن تغطية المحرم لرأسه وذلك هو المفهوم من حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما وهو ثابت في الصحيحين حيث" نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم فيه عن لبس العمامة " ، ولما نهى عن لبس العمامة دل على أن المحرم لا يغطى رأسه وإذا كانت الأذنان من الرأس فإنه لا يجوز تغطيتهما حال الإحرام .
…………قال المصنف رحمه الله : بَاب مَا جَاءَ فِي تَخْلِيلِ الأَصَابِعِ
الشرح:(21/3)
يقول المصنف - رحمه الله -" بَاب مَا جَاءَ فِي تَخْلِيلِ الأَصَابِعِ": تقدم معنا معنى التخليل ، وقوله الأصابع جمع إصبع وللأنسان أصابع في موضعين من الجسد أحدهما في اليد والثاني في الرجل ، ولذلك لما كان كل من الموضعين مأموراً بغسلهما في الوضوء .
فإنه يرد السؤال : عن هذه الأصابع هل يجب تخليلها في الوضوء أو لايجب ..؟؟
فاعتنى رحمه الله بإيراد الأحاديث الواردة عن النبي صلى الله عليه وسلم في تخليل الأصابع ، وهي مسألة تكلم العلماء رحمهم الله على حكمها ، ولذلك أورد الأحاديث الواردة عن النبي صلى الله عليه وسلم ، ومناسبة هذا الباب للوضوء أن كلاً من اليد والرجل قد أمر الله عز وجل بغسله ، و إذا كان الإنسان مأموراً بغسل اليدين والرجلين فهل مابين الأصابع يجب تخليله حتى يتحقق من وصول الماء أو لا يجب ؟ وقد أخر المصنف- رحمه الله -هذا الباب إشارة إلى مسألة عامة وهي استيعاب محل الفرض وذلك أن الله - - سبحانه وتعالى -- أوجب على العباد غسل المواضع التي أُمِر المسلم بغسلها في الوضوء ، ومسح ما أمر بمسحه والأصل أنك مطالب باستيعاب الأعضاء المغسولة والأعضاء الممسوحة بالغسل والمسح فاليد مثلاً يجب على المكلف أن يستوعبها بالماء وتخليل أصابعها تابع لهذا الاستيعاب ، ولذلك يعتني العلماء رحمهم الله بهذه المسألة في مباحث الوضوء .
قال المصنف-رحمه الله -حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ وَهَنَّادٌ قَالاَ حَدَّثَنَا وَكِيعٌ عَنْ سُفْيَانَ عَنْ أَبِي هَاشِمٍ عَنْ عَاصِمِ بْنِ لَقِيطِ بْنِ صَبِرَةَ عَنْ أَبِيهِ قَالَ قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم :(( إِذَا تَوَضَّأْتَ فَخَلِّلِ الأَصَابِعَ )) .
الشرح:(21/4)
هذا الحديث قد أخرجه غير واحد من أهل العلم فقد رواه الإمام أحمد في مسنده ، وكذلك أخرجه النسائي و ابن ماجة وأبو داود في السنن ، وكذلك أخرجه الحاكم في المستدرك وابن حبان وابن خزيمة وابن أبي شيبة في مصنفه ، وهذا الحديث قد صححه غير واحد من العلماء رحمهم الله ، وقد نص الإمام الحافظ أبو عيسى على صحته -كما سيأتي إن شاء الله تعالى- وصححه الإمام النووي وكذلك البغوي والحاكم في المستدرك ووافقه الذهبي ، وصححه ابن قطان وابن حبان ، ولذلك العمل عند أهل العلم -رحمهم الله تعالى- على ثبوت هذا الحديث.
وهذا الحديث برواية الترمذي فيه اختصار ، وإلا فهو مشتمل على ثلاث جمل :
فقد قال عليه الصلاة والسلام :(( أسبغ الوضوء ، وخلَّل بين الأصابع ، وبالغ في الاستنشاق إلا أن تكون صائماً)) : هذه هي الجمل الثلاث التي اشتمل عليها حديثنا ، وموضع الشاهد من هذا الحديث .
إما في قوله : (( أسبغ الوضوء)) : بناءً على وجود معنى التعميم أو في قوله : (( وخلَّل الأصابع)) كما في رواية الترمذي هنا وهي المرادة بالاستشهاد ، وبناءً على ذلك يكون موضع الشاهد في الحديث في الجملة الثانية ، والجملة الأولى على العموم .(21/5)
وقوله عليه الصلاة والسلام : (( أسبغ الوضوء)) : الإسباغ في لغة العرب الستر والتغطية مع الكمال والتمام ، ومنه قوله سبحانه وتعالى :{ أَنْ اعْمَلْ سَابِغَاتٍ وَقَدِّرْ فِي السَّرْدِ}(1) والمراد بذلك الدروع السابغة التي يستتر بها المقاتل أثناء الحروب ، وقوله -سبحانه-:{وَ قَدِّرْ } أي ضَيِّق في السرد والمراد بذلك الحلقات التي يتقى بها ضرب السنان والأسلحة في الحروب ومنه قوله سبحانه وتعالى :{ وَ أَسْبَغَ عَلَيكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَ بَاطِنَةً }(2) وفي قراءة : { وَ أَسْبَغَ عَلَيكُمْ نِعْمَةً ظَاهِرَةً وبَاطِنَةً } فقوله:{وَ أَسْبَغَ } أي أتم عليكم نعمه سبحانه وتعالى ظاهراً وباطناً ، أما باطناً فبالإسلام والتوحيد والبراءة من الشرك والأوثان ، وأما ظاهراً فمن النعم التي لاتعد ولاتحصى ، فالإسباغ في لغة العرب الستر والتغطية مع التمام والكمال .
وقوله عليه الصلاة والسلام :(( وأسبغ الوضوء )) : يحتمل معنيين :
__________
(1) / سبأ ، آية : 11.
(2) / لقمان ، آية :20.(21/6)
المعنى الأول : أن يطلق الإسباغ بمعنى أن يكون المحل قد استوعبه المكلف بالماء ، وبناءً على ذلك يكون المراد بقوله عليه الصلاة والسلام :(( أسبغ الوضوء)) أي عمَّم مواضع الوضوء بالماء ، فإن كانت المواضع مأموراً بغسلها فعممها بالماء حتى يستوعبها غسلاً وإن كانت المواضع مأموراً بمسحها فعممها ببلل الماء الذي في يديك ، وهذا المعنى أعني إطلاق الإسباغ على التوفية والكمال عند الغسل والمسح معنىً واجب ، وبناءً على ذلك يكون الإسباغ هنا فرضاً لازماً ، فعلى المكلف إذا توضأ وغسل يديه ، وغسل وجهه أن يوفي الموضع ، فيعممه بالماء كما أمر الله سبحانه وتعالى ، وبناءً على ذلك فيكون الأمر على ظاهره ، وإذا قلنا إن الإسباغ على هذا المعنى ، وهو استيعاب المحل بالماء فضابط ذلك جريان الماء على ظاهر البشرة ، فبجريان الماء على ظاهر البشرة يصح أن المكلف قد أسبغ وعمَّم ، ولذلك لا يشترط الدلك ، وقال الإمام أبو عبدالله مالك بن أنس رحمه الله إن الدلك واجب ، وخالفه جمهور العلماء ، فقالوا إذا جرى الماء على العضو فقد كفي لأن الله أمرنا بالغسل ، والغسل أن يمر الماء على الشيء ، وأما زيادة الدلك فلا دليل عليها .
والصحيح ماذهب إليه الجمهور من أن الدلك ليس بواجب وأن الذي يطالب به المكلف إنما هو إمرار الماء ، ولايشترط أن يمر يده إذا صب الماء واستوعب المحل .(21/7)
المعنى الثاني للإسباغ : أن يطلق الإسباغ بمعنى التوفية والكمال في المرات ، ويكون المقصود به المرة الثانية والثالثة ويكون المقصود به أن يتوضأ مرتين ، وثلاثاً وهذا المعنى قد ورد في السنة عن النبي صلى الله عليه وسلم مايدل عليه ففي الحديث الصحيح عنه - عليه الصلاة والسلام - أنه قال :(( ألا أنبئكم بما يمحو الله به الخطايا ، ويرفع به الدرجات ، إسباغ الوضوء على المكاره ، وكثرة الخطا إلى المساجد)) فقوله : (( إسباغ الوضوء على المكاره)) تثنية الوضوء وتثليثه في زمان البرد الشديد ، وذلك أن الإنسان يكره ويجد المشقة والعناء بصب الماء على الجسد فإذا كرر الصب في الوضوء فقد أسبغ ووفي وأكمل ولذلك مُدح ووُعد بهذا الأجر والثواب وهذا المعنى-أعني إطلاق الإسباغ- على المرة الثانية والثالثة في الوضوء إنما هو من باب الندب والاستحباب لا من باب الحتم والإيجاب ، وبناءً على ذلك يكون الأمر في قوله: (( إسباغ الوضوء)) على هذا المعنى للندب وليس للوجوب ، والدليل على أنه للندب وليس للوجوب أن الله سبحانه وتعالى أمرنا بغسل الوجه واليدين والرجلين ومسح الرأس ، ومن غسل مرة صدق عليه أنه قد غسل ، ولذلك لايشترط التكرار في وصف الإنسان غاسلاً ، وإذا ثبت ذلك فحينئذٍ يصرف الأمر في حديثنا عن ظاهره المقتضي للوجوب إلى الندب والاستحباب ، وبذلك قال جماهير السلف والخلف رحمة الله عليهم ولاقائل بوجوب تثنية الوضوء وتثليثه كما لايخفى .
قوله عليه الصلاة والسلام : (( أسبغ الوضوء)) : أمرٌ بتوفية الأعضاء جميعها ، وبناءً على ذلك يكون النبي صلى الله عليه وسلم قد ذكر في هذا الحديث ثلاثة أنواع من التوفية والكمال :
النوع الأول : في قوله:(( أسبغ الوضوء)) حيث أمرنا بإسباغ الوضوء في جميع الأعضاء دون تفريقٍ بين عضوٍ وآخر .
والنوع الثاني : في قوله:((وخلل الأصابع)) حيث أمرنا باستيعاب عضو فرض الله غسله .(21/8)
والنوع الثالث: في قوله:(( وبالغ في الاستنشاق إلا أن تكون صائماً)) حيث أمر بتوفية المسنون ، وبناءً على ذلك تضمن الحديث جميع الأنواع .
وقوله عليه الصلاة والسلام :((وخلل بين الأصابع)) : الأصابع تكون في موضعين :
الموضع الأول: أصابع اليدين . والموضع الثاني: أصابع الرجلين .
فأما أصابع اليدين فإن المهم فيها أن يصل الماء إليها جميعها لأن الأصابع تابعة لليد التي أمر الله بغسلها ، ولذلك يجب على المكلف أن يمر الماء على جميع اليد ظاهراً وباطناً .
وهنا يرد الإشكال: بالنسبة لما بين الأصابع فإن الإنسان ربما غفل عن ذلك حتى يفوته موضع مأمور بغسله وإذا فات الموضع المأمور بغسله بطل وضوءه ، وإذا بطل وضوئه فسدت عليه صلاته ولم تصح ولذلك أمر النبي صلى الله عليه وسلم بالتخليل، وتخليل الأصابع له ثلاث صور عند العلماء - رحمهم الله -:
الصورة الأولى : أن يجعل باطن اليمنى على ظاهر اليسرى ، وأن يجعل باطن اليسرى على ظاهر اليمنى فإذا فعل ذلك فقد خلَّل ، ويلزم من ذلك أن يحرك أصابع اليدين ، وفي هذه الحالة تكون إحدى اليدين على اليد الأخرى ثم يدخل الأصابع بعضها ببعض وإذا فعل ذلك فقد تم التخليل المأمور به في حديثنا .
الصورة الثانية: أن يخلِّل بالظاهر والباطن وذلك بأن يضع اليسرى على اليمنى ويخللها بين الأصابع ثم يعود إلى الباطن كأنه مشبك بين أصابعه .(21/9)
الصورة الثالثة: أن يجعل الظاهر على الباطن بدون تحريك ، ويكون ذلك بإصبع وأصابع كما لايخفي فحينئذٍ يخلل بين المناسم الموجودة بين الأصابع فأما هذه الثلاث الصور فلا إشكال فيها إلا في صورة التشبيك فقد كرهها بعض أصحاب الإمام مالك-رحمة الله على الجميع- وقالوا : لايشبك الإنسان أثناء الوضوء لحديث الحاكم عن أبي هريرة وهوحديث صحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : (( إذا توضأ أحدكم في بيته وخرج إلى المسجد فلا يشبك بين أصابعه)) فنهى عن التشبيك بين الأصابع وقالوا قوله :(( إذا توضأ)) ، يدل على أن التشبيك منهى عنه حتى في الوضوء ، وهذا القول مرجوح ، لأن قوله عليه الصلاة والسلام :(( إذا توضأت في بيتك )) فالمراد به إذا أتممت الوضوء ، والمنع من تشبيك الأصابع إنما هو بعد انتهاء الإنسان من وضوئه ومضيه إلى المسجد ، وذلك في قوله عليه الصلاة والسلام :(( فإنه في صلاة)) ومن هنا نُهي عن التشبيك بين الأصابع .
إذا ثبت هذا وعرفنا حقيقة التخليل ، وصورة التخليل لأصابع اليدين .
فالسؤال : هل تخليل أصابع اليدين واجب أو ليس بواجب ..؟؟
والجواب : أن المكلف لا يخلو من حالتين :
الحالة الأولى : أن يتوضأ بالماء الكثير الذي يمكنه معه أن يصيب ظاهر البشرة دون حاجة إلى تخليل ، فإذا كان الماء كثيراً وأمكنك أن تصبه على اليد حتى تعمم الأصابع فحينئذٍ قد فعلت ما أمر الله بفعله ، ومن هنا لا يجب عليك التخليل بين الأصابع ، وهذا هو مذهب جمهور العلماء : أنه إذا كان الماء كثيراً ، وتمكن المكلف من إيصال الماء للأصابع جميعها فلا يجب عليه أن يخلل بين الأصابع وذهب المالكية -رحمة الله عليهم - إلى وجوب التخليل سواء وصل الماء أو لم يصل وإلى ذلك أشار ابن عاشر -رحمه الله - في منظومته :
…خلل أصابع اليدين وشعر …وجهٍ إذا من تحته الجلد ظهر(21/10)
فقوله :" خلل أصابع اليدين " : لأن أصابع اليدين عندهم أعظم من أصابع الرجلين وآكد في التخليل ، والسبب في هذا أن أصابع اليدين متفرقة فكأنها أجزاء وأعضاء متعددة ، وأما أصابع الرجلين ، فمتقاربة كأنها عضو واحد ، ومن هنا شددوا في أصابع اليدين أكثر من أصابع الرجلين ، واستدل الجمهور على عدم وجود التخليل بظاهر التنزيل ، وذلك في قوله- - سبحانه وتعالى --:{ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ} قالوا : إن الله عز وجل أمرنا بغسل اليدين إلى المرفقين فإذا وصل الماء إلى الأصابع فقد غسل المكلف ومضى أمره وحينئذ لا يجب عليه أن يخلِّل .
واستدل المالكية-رحمة الله عليهم - بحديثنا ، وأكدوا هذا بحديث أم المؤمنين عائشة -رضي الله عنها- في الصحيح " أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يتوضأ بالمد ويغتسل بالصاع "قالوا ولا يمكن لشخص كالنبي صلى الله عليه وسلم أن يتوضأ بمد إلا إذا خلل بين أصابعه ومن هنا قالوا بوجوب التخليل .
والصحيح ما ذهب إليه الجمهور رحمة الله عليهم وذلك لصحة دلالة الآية الكريمة على عدم الوجوب.(21/11)
وأما الاستدلال بحديثنا فيجاب عنه بأن الأمر مصروف عن ظاهره لظاهر التنزيل ولذلك لما وصف عثمان وعبدالله بن زيد وعلي بن أبي طالب رضي الله عن الجميع وضوء النبي صلى الله عليه وسلم لم يذكروا التخليل فيه فدل على أن العبرة بوصول الماء كيفما كان وأما استدلالهم بحديث أم المؤمنين في وضوئه بالمد فنحن نقول بذلك لأنه إذا كان الماء قليلاً فإنه لابد من التخليل وقد نبهنا عليه ، والجمهور يوافقون المالكية على أنه إذا كان الماء قليلاً يجب التخليل من باب أنه ما لا يتم الواجب الا به فهو واجب فالواجب غسل اليدين ، ولا يمكننا إتمام هذا الواجب إلا بالدلك فصار واجباً ، وبناءً على ذلك يترجح القول بعدم وجوب التخليل إذا كان الإنسان يستطيع أن يصيب يده بالماء جميعها دون أن يخلل بين أصابعه .
الحالة الثانية في التخليل : تخليل أصابع الرجلين والمراد بذلك أن يدخل الماء بين أصابع الرجلين قال بعض العلماء : يدخلها بالخنصر ، وذلك لحديث المستورد بن شداد رضي الله عنه وأرضاه وقد ذكره المصنف-رحمه الله - في آخر الأحاديث التى ذكرها في بابنا ، قالوا : إن السنة أن يخلل بالخنصر ، وهذا هو هديه-صلوات الله وسلامه عليه -.
و اختلف العلماء في تخليله بالخنصر ؟؟
فقال بعض العلماء : إنها سنة مقصودة ، وبناءً على ذلك يكون هدياً ، وقال بعض العلماء : سنة متفقة ، وتوضيح ذلك أن الخنصر يعتبر أصغر الأصابع ، وأصابع الرجلين متقاربة فتحتاج إلى ما هو صغير أكثر من حاجتها إلى ما هو ضخم كبير ، ولذلك خلل بالخنصر فهي سنة اتفاقية وليست بمقصودة ، وبناءً على ذلك يكون للمكلف أن يخلل بها على هذا الوجه ، والتخليل لأصابع الرجلين للعلماء فيه وجهان :
الوجه الأول : أن يخلل بالخنصر كما ذكرنا .
والوجه الثاني : أن يخلل بأصابع اليدين جميعها .(21/12)
وإذا خلل بأصابع اليدين أو خلل بالخنصر فهل يقتصر على الشمال ويخلل بالشمال وحدها أو يجوز له أن يخلل بالشمال واليمين فللعلماء وجهان.. ؟؟
قال بعض العلماء : يخلل باليسار ولا يخلل باليمين لأن التخليل إزالة للقذر والضرر ، ومن هنا يكون بالشمال لا باليمين ، وقال جمع من العلماء : يخلل باليمين واليسار وهو الصحيح لأنه ليس من باب إزالة الضرر ولكنه من باب استيعاب المحل بالماء ، ومن هنا يخلل باليمنى ويخلل باليسرى ، فإن قلنا بالتخليل بالخنصر فإنه يكون الخنصر منتقلاً بين الأصابع ، وإن قلنا إن التخليل يكون بأصابع اليدين جميعها فيدخل أصابع اليمنى في اليمنى واليسرى في اليسرى .
وهنا مسألة يرد السؤال عنها وهى إذا التحمت الأصابع و التصقت أو تركب بعضها على بعض..؟؟
فأما إذا التحمت الأصابع في اليدين والرجلين فإن المكلف يراعي المناسم الموجودة دون أن يتكلف لأنه لا يمكنه أن يدخل الماء بين الأصبعين لأن ذلك محال بالنسبة له ، والقاعدة في الأصول : " أن التكليف شرطه الإمكان" فلا يكلف الإنسان إلا ما يمكنه لقوله سبحانه وتعالى :{لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلا وُسْعَهَا}(1) وليس بوسع الإنسان إذا كانت أصابع يديه أو رجليه ملتصقة أن يدخل الماء بين الأصابع ، وبناءً على ذلك يقتصر على غسل الظاهر ولا باطن لأصابعه .
الحالة الثانية : أن تكون الأصابع بعضها محمول على بعضها فيركب بعضها على بعض وهذه الحالة لا تخلو من ضربين :
الضرب الأول : أن تكون منفصلة بحيث يمكن المكلف أن يجد فراغاً ومنسماً بين الأصبعين ، فإذا كانت كذلك وجب عليه أن يصيب الماء وأن يرفع الأصبع الأعلى حتى يتخلل الماء على الموضع الذى تركب عليه.
__________
(1) / البقرة ، آية : 286.(21/13)
وأما الضرب الثاني : وهو أن تكون متركبة عليه ولكنه لا يمكنه أن يرفع الأعلى ولا يمكنه أن يزيله إلا بمشقة وعناء شديد أو لا يمكنه بالكلية لشد العصب ، وحينئذ يكون حكمها حكم الملتصق فلا يجب عليه إلا أن يمر الماء على المناسم الظاهرة ، وأما غيرها فلا يجب عليه كما لو التصقتا ، وبناءً على ذلك يختص الحكم بالفتحات فما كان من الأصابع منفتحاً وجب على المكلف أن يمر الماء فيه سواء كان ذلك بالتخليل إن عجز عن إمراره بدونه أو بدون تخليل إذا أمكنه كأن يغمس رجله في بركة ونحو ذلك .
الجملة الثالثة : قوله عليه الصلاة والسلام :((وبالغ في الاستنشاق إلا أن تكون صائماً)) قوله :(( بالغ)) البلوغ هو الوصول ، يقال بلغ المدينة إذ وصلها وقوله- تعالى-:{ وَالَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ}(1) أي لم يصلوا إلى سن الحلم . فالبلوغ هو الوصول وقوله عليه الصلاة والسلام :(( وبالغ في الاستنشاق)) الاستنشاق تقدم معناه ، والمراد بقوله :(( وبالغ في الاستنشاق)) : أي اجذب الماء إلى أعلى الخياشيم ؛ والسبب في ذلك أن الشيطان يبيت على خياشيم الإنسان ، ولذلك إذا بالغ فيه كان أمكن لطرده خاصة عند استيقاظه من النوم ، وأما في غير الحالات التي يستيقظ فيها من نومه فإن المبالغة لمكان الأذى والضرر الموجود في الأنف فأمر النبي صلى الله عليه وسلم بإزالته عن طريق جذب الماء إلى أعلى الخياشيم ثم طرحه بعد ذلك.
وقوله - عليه الصلاة والسلام -:((وبالغ في الاستنشاق)) : ندب واستحباب وليس بحتم ولا إيجاب فليس بواجب على المكلف أن يبالغ في الاستنشاق وإنما ذلك من باب الفضائل لا من باب الفرائض وعلى ذلك فمن فعل المبالغة أُجر ومن تركها فلا إثم عليه إذا كان الأنف قد استوعبه بالماء .
__________
(1) / النور ، آية : 58.(21/14)
وقوله - عليه الصلاة والسلام -:((وبالغ في الاستنشاق إلا أن تكون صائماً)) : ((إلا أن تكون صائماً)) استثناء والاستثناء في لغة العرب إخراج بعض ما يتناوله اللفظ فلما قال - عليه الصلاة والسلام -:((وبالغ في الاستنشاق)) هذا الأمر منه فيه عموم حيث دل على أن السنة أن يبالغ الإنسان في الاستنشاق سواء كان صائماً أو كان مفطراً ، فقال عليه الصلاة والسلام : (( إلا أن تكون صائماً)) أي فلا تبالغ في الاستنشاق وإنما اقتصر على إدخال الماء في الأنف وطرحه بعد ذلك.
وقوله:((وبالغ في الاستنشاق إلا أن تكون صائماً)) : فيه مسألتان أصوليتان :
المسأله الأولى : أنه دل دلالةً واضحةً على أنه لا ينبغى للمكلف أن يطلب الفضائل على سبيل يفوت به الفرائض الواجبة أو يطلب الفضائل على سبيل يرتكب به المحارم والمنهيات.
وتوضيح ذلك أن الاستنشاق مندوب اليه والمبالغة في الاستنشاق من السنن والنوافل ، وأما الصيام فان الإمساك فيه واجب على المكلف ، ولذلك لا يشتغل بالسنة على سبيل يفوت به الفرض الواجب عليه ولا يشتغل بالنافلة على وجه يقع فيه بالمحظور ومن هنا فَرَّعوا على ذلك : " أنه إذا تعارض الأمر والنهي قُدِّم النهي على الأمر" وذلك لأن النبى صلى الله عليه وسلم قال:(( إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم وإذا نهيتكم فانتهوا)) فجعل مرتبة النهي مقدمة على مرتبة الأمر ، ولذلك قالوا إن المنهيات مقدمة ، وبناءً على ذلك فلا يجوز للإنسان أن يشتغل بالسنة على وجه يضيع به الفرض اللازم أو على وجه يقع فيه المحظور ، ومن أمثلة ذلك أن يكون الإنسان محرماً ويطوف بالبيت العتيق ، ثم يرى على الحجر طيباً فإن الطيب محرم على المحرم فإذا أراد أن يقبل الحجر أو يلمسه فإن لازم ذلك أنه يصيب الطيب ، وحينئذ يصيب سنة بالإخلال بالمنهي فقالوا لا يقبل الحجر ، وإنما يدع الحلال يقبله حتى تذهب المادة ثم بعد ذلك يشرع في التقبيل والاستلام .(21/15)
وعلى ذلك فَرَّعوا الفروع الكثيرة من تقديم المنهيات على السنن والفضائل وهذا هو شرع الله ودينه أن المكلف لايطلب السنة على وجه يقع فيه بالمحظور المحرم .
تَفَرَّع على ذلك المسألة الأصولية المشهورة ، وهى المسألة الثانية المستفادة من هذا اللفظ الشريف وهي قاعدة : "سد الذرائع " وسد الذرائع قاعدة من قواعد الأحكام قد اعتبرها أئمة الإسلام ودلت عليها الشرائع الواردة في كتاب الله وسنة الرسول عليه الصلاة والسلام .
"والذريعة " هي الأمر المباح الذي يتوصل به إلى مفسدة معتبرة شرعاً أي إلى مفسدة حكم الشرع بالنهي عنها ، وتخالف مقصود الشرع.
وبناءً على ذلك فيرد السؤال: هل سد الذرائع يعتبر من الأصول أو لايعتبر..؟؟
وللعلماء في هذه المسألة قولان :
القول الأول : أن سد الذرائع يعتبر أصلاً شرعياً تنبني عليه الأحكام ، وهو مذهب المالكية والحنابلة وأهل الحديث وطائفة من السلف -رحمة الله على الجميع- .
القول الثاني : إن سد الذرائع ليس من الأصول ولا تنبني عليه الأحكام ، وهو مذهب الشافعية ، والحنفية رحمة الله على الجميع .
استدل الذين قالوا باعتبار سد الذرائع أصلاً من أصول الشرع تنبني عليه المسائل والفروع استدلوا بدليل الكتاب والسنة وهدى السلف الصالح لهذه الأمة .(21/16)
أما دليل الكتاب فقوله- - سبحانه وتعالى --:{وَلا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ}(1)وجه الدلالة من هذه الآية الكريمة أن الله نهى عن سب آلهة الكفار وهو أمر مباح ومندوب إليه شرعاً لما فيه من إغاظة الكافرين وإغاظتهم قربة لله -- جل جلاله -- ، ومع ذلك نهى الله عن ذلك السب وجعله محرماً لكونه يفضي إلى سب الله-- جل جلاله -- ، ومن هذا قالوا أن سد الذريعة في هذا واضح بين واستدلوا بقوله سبحانه وتعالى :{ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقُولُوا رَاعِنَا وَقُولُوا انظُرْنَا وَاسْمَعُوا}(2)حيث نهى الله- - سبحانه وتعالى -- عباده المؤمنين أن يقولوا لنبينا -صلوات الله وسلامه عليه -راعنا لأن هذا اللفظ يحتمل معنيين :
المعنى الأول : وهو معنى حسن يقصد منه المتكلم أن يصغي له النبي صلى الله عليه وسلم أى استمع لنا و أرعنا سمعك .
المعني الثاني : قبيح مذموم فكان الصحابة يقولون بالمعنى الحسن وكان اليهود يقولون ويقصدون المعنى الخبيث ، فنهى الله عز وجل عباده المؤمنين أن يخاطبوا نبيه -صلوات الله وسلامه عليه -بهذا اللفظ المحتمل "سداً للذريعة " .
والدليل الثالث : قوله سبحانه وتعالى :{وَلا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَّ}(3) حيث نهى سبحانه وتعالى النساء أن يضربن بأرجلهن ، والضرب بالرجل على الأرض مباح شرعاً ، ولكنه لما تضمن جذب الأنظار وتنبيههم على وجه تقع به الفتنة والمحظور نهى الله سبحانه وتعالى عنه فدل على اعتبار سد الذرائع وأنه أصل شرعي.
__________
(1) / الأنعام ، آية 108.
(2) / البقرة ، آية 104.
(3) / النور ، آية : 31 .(21/17)
وأما الدليل من هدي النبي صلى الله عليه وسلم فالأحاديث الكثيرة المشتملة على قوله وفعله المتضمن لاعتباره لهذا الأصل فمن أقواله -صلوات الله وسلامه عليه - : ما ثبت في حديث علي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:(( لعن الله من لعن والديه : قالوا يا رسول الله ويلعن الرجل والديه ، قال : يسب الرجل أبا الرجل فيسب أباه ويسب أمه ، فيسب أمه )).
فنهى النبي صلى الله عليه وسلم الرجل أن يسب أبا الرجل لأنه إذا سبه أفضى إلى سب الثاني لأبي الأول فكأنه تذرع بهذا الأمر للمحذور ، وبناءً على ذلك دل الحديث على اعتبار سد الذرائع فنهى النبي صلى الله عليه وسلم بهذا الأسلوب المشتمل على التغليظ.
وأما الدليل الثانى من هديه صلوات الله وسلامه عليه الفعلي ، وذلك في قوله - عليه الصلاة والسلام -لأم المؤمنين :(( لولا أن قومك حديثو عهد بجاهلية لهدمت الكعبة ولبنيتها على قواعد إبراهيم)) فامتنعصلوات الله وسلامه عليه من هدم الكعبة خشية أن ترتد العرب فدل على اعتبار سد الذريعة وأنه لا ينبغى فعل الأمور المباحة المفضية إلى ما هو شر منها ، وقد جاء هدي السلف الصالح باعتبار هذه الأمور إضافة إلى أنه عليه الصلاة والسلام ثبت عنه في الحديث الصحيح أنه قال:(( لا يتحدث الناس أن محمداً يقتل أصحابه)) ولذلك لم يقتل المنافقين مع أنهم مستحقون لقتله صلوات الله وسلامه عليه وإنما امتنع من قتلهم لئلا يفضي ذلك إلى قول الناس إن محمداً يقتل أصحابه ، فقبل من المنافقين الظاهر ووكل سرائرهم إلى الله -- جل جلاله -- ، وكذلك دل هدى السلف الصالح على اعتبار قاعدة سد الذرائع .(21/18)
فدل على أعتبار قاعدة : "سد الذرائع" وبناءً على ذلك يترجح القول القائل : باعتبار هذه القاعدة ، ومن هنا إذا خُشى من أمور أنها تفضي بالناس إلى فساد عقائدهم ، أو الوقوع في المحرمات ، والمنهيات ، فإنه ينبغي المنع منها والكف عنها ، ولذلك منع مالك وشدد من تقبيل يد العالم ، وقال إنها السجدة الصغرى ، وقد ثبتت الأحاديث بجواز التقبيل ، ولكنهم شددوا في ذلك وضيقوا فيه خشية الغلو والإفراط ولذلك كان السلف الصالح رحمة الله عليهم يسدون الذرائع المفضية إلى الشرك والوقوع في العبادة المحذورة كل ذلك تعظيماً للأصل ، وهو توحيد الله سبحانه وتعالى وكما ينبغي تحقيق الأسباب للوصول إلى فعل ما أمر الله ينبغي تحقيق الأسباب للانكفاف عن ما حرم الله - - عز وجل - -.
وقوله صلوات الله وسلامه عليه:((وبالغ في الاستنشاق إلا أن تكون صائماً)) (( إلا أن تكون صائماً)) : يدل على مسائل في الصيام :
المسألة الأولى : أنه ينبغي على المكلف أن يحفظ صيامه ، وألا يتعاطى أسباب الفطر ولذلك نُهى عن الحجامة ، لأنه إذا احتجم ربما ضعف جسده ، وإذا ضعف جسده تعرض للفطر ، ولذلك قالوا ينبغي عليه تعاطي الأسباب لحفظ صيامه ، ومن هنا لا يجوز له أن يبالغ في المضمضة ، لأنه إذا بالغ في الغرغرة ، والمضمضة لم يأمن من دخول الماء إلى حلقه ، وإذا دخل الماء إلى الحلق في الغرغرة وجب عليه القضاء وفسد صيام ذلك اليوم على ظاهر هذا الحديث .
المسألة الثانية : فيه دليل على أن الأنف يعتبر منفذاً للجوف ، وبناءً على ذلك فما وضع في الأنف من السائل أو الجامد حتى أفضى إلى الجوف فإنه يفطر ، ومن هنا قالوا إذا جذب النخامة من أعلى الخياشيم إلى فمه وازدردها فإنه يفطر .
المسألة الثالثة : فيه دليل على أن يسير المفطر يفطر، ويحكم بسببه بفطر الإنسان .(21/19)
وتوضيح ذلك : لو قطر الإنسان قطرة واحدة من الماء في حلقه فإنه يحكم بفطره ؛ لأن المبالغ في الاستنشاق غاية ما يستنشقه اليسير من الرذاذ ، فإذا حُكم بالخوف على الصيام فإنه يدل على أن يسير المفطرات وكثيرها سواء ، يتفرع على ذلك ما صنع في يومنا من البخاخات التي يقصد بها ترطيب الرئة فإنها تشتمل على البخار المتضمن للرذاذ ، ولذلك يحكم بفطر صاحبها ، وإذا كان صاحبها لا يمكنه الصبر كما في حالات الربو وأشباهها فإنه يعدل إلى الفطر وحينئذ يلزمه الإطعام إذا لم يمكنه الصيام بقول الأطباء .
المسألة الرابعة : إذا قلنا إن من أدخل الماء إلى أنفه ، أو أدخل النشوق إلى أنفه حتى وصل إلى جوفه أنه يحكم بفطره ، يتفرع على ذلك من وضع الكحل في عينيه ووجد طعم الكحل في حلقه فإنه يحكم بفطره لأن النبي صلى الله عليه وسلم اعتبر المنفذ في هذه السنه الصحيحة .
تفرع على ذلك فرع خامس : أنه لا عبرة بوصول المفطر إلى البدن بأي موضع كان لأن النبي صلى الله عليه وسلم اعتبر الأنف موجباً للفطر إذا دخل منه الماء ، فكذلك ينبغى الحكم بالفطر بكل داخل إلى البدن من أي منفذ ، سواء عن طريق الإبر أو غيرها وهذا هو الذي دعا جمهور العلماء رحمهم الله إلى عدم تقييد الفطر بالفم والأنف ؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم ألغى الفم فدل على أن العبرة بالوصول إلى الجوف سواء وصل عن طريق الفم أو عن طريق الأنف أو عن طريق العينين أو عن طريق غيرهما.
وقوله عليه الصلاة والسلام : ((وبالغ في الاستنشاق إلا أن تكون صائماً)) : استثنى بعض العلماء رحمهم الله من ذلك حالات الضرر فليس للمسلم أن يبالغ على وجه يفضي به إلى الضرر ، لأن الشريعة شريعة تيسير وليست بشريعة تعسير والله-جل وعلا- قد بعث نبيه رحمة ولم يبعثه عذاباً ، والله تعالى أعلم .
- ? - ? - ? - ? - الأسئلة - ? - ? - ? - ? -
السؤال الأول :(21/20)
أشكل علىّ عدم ورود ذكر لمسح الأذنين في الحديثين المشهورين في الوضوء في حديث عثمان ، وحديث عبدالله بن زيد ..؟؟
الجواب :
بسم الله الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه أما بعد:
فلا تخفي مكانة عثمان رضي الله عنه وكذلك علي بن أبي طالب وهما من الخلفاء الراشدين الذين أمر باتباع سنتهما فكانا على درجة من الفقه والعلم بأحوال الناس ، ولذلك اقتصر الراوي على ذكر مسحهما للرأس ولم يذكر مسحهما للأذن إما لكونه معلوماً ولم يحتج إلى ذكرهه بالخصوص وحينئذٍ يزول الإشكال لأنه إذا قيل إن عثمان رضي الله عنه قد مسح فعلاً بأذنيه وعلياً رضي الله عنه قد مسح بأذنيه فيكون سكوت الراوي لقوله : ومسح برأسه ، فلما قال مسح برأسه فهم من ذلك دخول الأذنين في المسح ، والله تعالى أعلم .
السؤال الثاني :
هل يكون تخليل الأصابع على عدد غسل الرجلين واليدين ، فإذا غسلنا الرجلين مثلاً ثلاث مرات فهل نخلل ثلاثاً ، أم نقتصر على واحدة .نرجو التوضيح ..؟؟
الجواب:
قلنا في التخليل ما سبق الكلام فيه إن كان الماء لا يمكن أن يصل إلا بالتخليل وأردت أنت تغسل العضو ثلاثاً فتخلل ثلاثاً لأن كل غسلة منها مستقلة ، وحينئذ تخلل بين الأصابع ثلاث مرات أو مرتين على حسب ما يكون من التكرار ، والله تعالى أعلم .
السؤال الثالث :
إذا كان للإنسان أصبع زائد في الرجل كأن تكون ستة أصابع مثلاً فهل يمسح الخمسة الأصابع ويترك السادس أم يمسحهما جميعاً..؟؟
الجواب:(21/21)
لاما يمسح ويغسل يجب عليه غسل الجميع ويغسل الأصبع الزائد ، والأصبع الزائد آخذ حكم الأصلي وذلك لأنه في الموضع الذى أمر الله عز وجل بغسله ، ومن هنا قال العلماء : لو نبتت له جلدة على ساعده فإنه يجب عليه غسلها وهكذا لو نبت له أصبع زائد ، أو كانت أصابعه ستة فإنه يجب عليه غسل هذا السادس لأنه من يده والله عز وجل أمر بغسل اليدين فكل مكلف مأمور بغسل يده كما خلق الله فإن كانت الأصابع ناقصة قلنا له اغسل ما وجد ، كذلك إذا كانت زائدة نقول له اغسل ما وجد لأن أمر الله بغسل اليد متجه لكل مكلف بحسبه ، والله تعالى وأعلم.
السؤال الرابع :
هل يدخل في عموم النهى من حديث تشبيك الأصابع إذا شبك أحدنا يديه مع يد أخيه وهما سائرين إلى المسجد مثلاً أم أن النهى خاص بأصابع اليدين الواحدة ..؟؟
الجواب :
النهي خاص بالمكلف وحده فلو شبك مع غيره لم يشمله النهي لأن المراد من ذلك المنع من مشابهة اليهود حيث إنهم يشبكون ، ومن هنا نُهى المسلم عن تشبيك يديه وذلك إنما يكون في المكلف وحده لا إذا كان مع غيره ، والله تعالى أعلم.
السؤال الخامس :
هذا سائل يستشكل في سؤاله فيقول ورد أن النبي صلى الله عليه وسلم شبك بين أصابعه في المسجد ، وبين حديث النهي عن التشبيك ، فكيف يجمع بين هذين الخبرين ..؟؟
الجواب :(21/22)
أما تشبيكه - عليه الصلاة والسلام -فقد ثبت في الصحيح من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى إحدى صلاتي العشى ، إما الظهر ، وإما العصر ، قال فصلى ركعتين ثم قام إلى الجذع واستند إليه وشبك بين أصابعه كالغضبان فهاب الصحابة أن يكلموه ، وجه الدلالة أنه شبك بين أصابعه -صلوات الله وسلامه عليه - وقد أجيب عن هذا الحديث بأن النهي عن التشبيك إنما ورد قبل الصلاة وفي حال الصلاة وأما بعد الإنتهاء من الصلاة فإنه لا يشمله النهي فلو قال قائل إن النبي صلى الله عليه وسلم قد سلم من ركعتين ، وبقيت له الركعتان فيكون تشبيكه أثناء الصلاة رُد بأن النبي صلى الله عليه وسلم شبك لكونه ظاناً بأن الصلاة انتهت ، ولذلك لما قال له ذو اليدين أقصرت الصلاة أم نسيت يا رسول الله ؟ قال:(( ما قصرت ولا نسيت )) وفي رواية (( ما كان شيء من ذلك )).
إذن فقد شبك على ظنه بتمام الصلاة ، وبناءً على ذلك اختلف مورد النصين فالنهى الوارد في السنن عن تشبيك اليدين إنما هو بعد خروجك من البيت عامداً إلى المسجد من ذلك الحين إلى أن تفرغ من صلاتك لا تشبك لما فيه من مشابهة اليهود في عبادتهم ، وبناءً على ذلك فإذا انتهت الصلاة جاز لك أن تشبك على حديث أبي هريرة في الصحيحين والقاعدة في الأصول : " أنه لا يحكم بتعارض النصين إلا إذا استويا دلالة وثبوتاً ومحلاً "فإذا استويا محلاً بأن يكون مورد النصين واحداً وهنا مورد النصين مختلف فالذي نهى عنه - عليه الصلاة والسلام -إنما هو قبل فعل الصلاة ، وأثنائها ، وما ورد عنه من الفعل إنما وقع بعد انتهاء الصلاة ، فاختلف الموردان ، وبناءً على ذلك حُكم بعدم تعارض النصيين ، والله تعالى أعلم.
السؤال السادس :(21/23)
ذكر الإمام ابن القيم - رحمه الله تعالى- في كتابه زاد المعاد :" أن السنة في التخليل أن يفعلها أحياناً ، ويتركها أحياناً "، فهل هذا قول ثالث ؟ أم أن هذا محمول على قول الجمهور..؟؟
الجواب:
هذا المسلك يعتمده أئمة أعلام من مشايخ الإسلام ، ومنهم شيخ الإسلام ابن تيميه -رحمة الله عليه- قد تتعارض عنده الأقوال ويحاول أن يجمع بينها فما كان من قال بالتخليل ، ومن قال بعدم التخليل فيقول يفعل هذا أحياناً ، ويتركه أحياناً ويرى أن الأحاديث التى وردت فيصفة وضوئه عليه الصلاة والسلام لم تنص على التخليل وحينئذ كأنه يقول الغالب من حاله أنه لا يخلل ، وما ورد في المستورد وغيره ممن يعتضد حتى يحكم بثبوته ، يقول إن هذا يحمل على بعض الأحيان دون بعضها فيكون هذا وجه جمع بين القولين وبين الأقوال إن اختلفت وهو مسلك يميل إليه شيخ الإسلام -رحمة الله عليه- وقد يصار إليه في بعض السنن عند الاختلاف في الهيئات فيجعل الخلاف فيالنصوص من باب اختلاف التنوع لا من باب اختلاف التضاد فإذا قلت إن النبي صلى الله عليه وسلم كان يفعل هذا أحياناً ويتركه أحياناً وأن الأمر بذلك على سبيل الندب والاستحباب حينئذٍ يرتفع الإشكال ، والله تعالى أعلم.
السؤال السابع :
هل فتح الصنبور على الأعضاء يجزي في الوضوء دون تمرير اليدين على الوضوء..؟؟
الجواب:
إذا فتح صنبور الماء وغلب على ظنه إصابة الماء لجميع العضو فإنه يجزيه ولكن الأفضل والأكمل أن يمر بيده لأنه إذا مر بيده اجتزأ بأقل الماء فكان في ذلك تركاً للإسراف ولكن إذا فتح الصنبور على أنه يعمم فإن الماء يكون أكثر بخلاف ما إذا أمر بيديه فإنه يقتصر على أقل الماء وذلك محمود شرعاً ، والله تعالى أعلم .
السؤال الثامن :
إذا وجد الإمام أثناء الصلاة نجاسة على ثوبه فماذا يفعل..؟؟
الجواب :
إذا وجد الإمام نجاسة على ثوبه أثناء الصلاة فلا تخلو من حالتين :(21/24)
إما أن تكون في القدر المعفو عنه كيسير الدم الذى لا يبلغ مقدار الدرهم متفرقاً ومجتمعاً فحينئذ يتم الصلاة ولا حرج كأن تكون بثرة من يده خرج منها الدم وأصابت ثوبه فخرجت منها بقعة لا تصل منها قدر الدرهم البغلي ، والدرهم البغلي بقدر : الهللة القديمة الصفراء بحيث يكون أقل من القرش الموجود في زمننا هذا بقليل فمثل هذا القدر إذا رآه في الصلاة من دم أو بول أو غير ذلك من النجاسات سواء كان متفرقاً أومجتمعاً : يعني رآه في موضع واحد أو متفرقاً فيقدراجتماعه فإذا كان بهذا القدر فما دون فهذا معفو عنه ويتم صلاته .
أما إذا كان كثيراً ومما لا يعفي عنه فحينئذ لا يخلو من حالتين :
الحالة الأولى : أن يمكنه إزالة هذه النجاسة دون أن ينتقل إلى ركن أو يتحول عن القبلة كأن يكون بجواره صنبور ماء والنجاسة على طرف كمه فيدلي الكم إلى صنبور الماء ويغسل أو بجواره بركة يغترف منها ونحو ذلك مما يتيسر فيه غسل النجاسة فيغسل ويتم صلاته لأنها حركة لمصلحة الصلاة والدليل على ذلك التحافه عليه الصلاة والسلام بالثوب في صلاته وخلعه للنعلين أثناء الصلاة لما علم أنها ليست بطاهرة فدل على أنه يجوز أن يزيل النجاسة وهى حركة محققة لمقصود الشرع.
أما الحالة الثانية : إذا كان لا يمكنه الغسل إلا بفعل كثير كأن ينتقل من غرفة إلى غرفة أو يستدبر القبلة أو ينتقل من ركن إلى ركن فحينئذ يقطع صلاته ولا يبني إذا عاد وإنما يستأنفها ، والله تعالى وأعلم .
السؤال التاسع :
ما الفرق بين السنة المقصودة ، والسنة المتفقة ..؟؟
الجواب :(21/25)
الشيء المقصود هو الذى يكون تشريعاً على سبيل التشريع ويفعله النبي صلى الله عليه وسلم قصداً لمعنى أنه شرعه للأمة حتى يقتدوا به صلوات الله وسلامه عليه والاتفاق الذى فعله عليه الصلاة والسلام دون قصد من أمثلة ذلك ما ثبت في الصحيحين من حديث بن عباس-رضى الله عنهما -: " أنه بات مع النبي صلى الله عليه وسلم في عرض الوسادة ومع خالته ميمونة فلما كان الهوي من الليل ونام عليه الصلاة والسلام حتى نفخ قام ثم مسح النوم عن عينيه وتوضأ ثم اسقبل القبلة ، وكبر وصلى فقام ابن عباس وفعل كفعله وجاء عن يساره فأداره عن يمينه فصلى به - عليه الصلاة والسلام - جماعة في قيام الليل هذا القيام منه - عليه الصلاة والسلام -لم يكن قصداً فلم يقل لابن عباس : إنني سأصلي بك الليلة ، أو سنقوم الليل فهذا يسمى من سنن الاتفاق لا القصد ، يتفرع عليها أنك إذا قلت إنها اتفاقاً تقول أنها سنة لمن اتفق له ذلك أما لو قال جماعة إننا سنخرج في رحلة أو في طلعة فإذا كان نصف الليل فإننا سنقوم الليل نقول هذا لاأصل له لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يقصد القيام جماعة ، وإنما شرع قيام الليل جماعة في ليالي رمضان وأما ما عداها فيبقى على الأصل لأن الكيفيات تعتبر تابعة للتعبديات فكيفيات العبادة معتبرة ، فحينئذ تقول ليس من السنة أن يندب الناس إلى أن يجتمعوا ويصلى بهم الليل جماعة لكن لو اتفق ذلك بأن رأيت إنساناً من إخوانك قام في الليل فأحببت أن تقوم الليل معه أو حافظ لقرآن تحب أن تقوم الليل معه وكان ذلك منك اتفاقاً فلا حرج ، وأما قصداً فلا ، وهكذا بالنسبة لبقية السنن الواردة عنه - عليه الصلاة والسلام - فإن قلنا إن النبي صلى الله عليه وسلم قصد أن يخلل أصابعه فحينئذ تكون من السنن التى يؤتسى به عليه الصلاة والسلام ويقتدى ، وأما إذا قيل إن مراده أن يوصل الماء ألى الأصابع كيفما كان بتخليل أو غيره فحينئذ تكون من السنن(21/26)
الاتفاقية ، وليست بالمقصودة ، والله تعالى أعلم.
السؤال العاشر:
اعمل مدرساً في الفترة المسائية وتتأخر الرواتب عدة سنوات فهل أزكي هذا المال عن كل سنة أم أزكى فقط عند استلام الرواتب مرة واحدة..؟؟
الجواب:
بسم الله الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن ولاه أما بعد :
فإنه تلزمك الزكاة عند قبضك للرواتب ولا تلزمك الزكاة قبل ذلك والمال غير مقدور عليه ولذلك إذا قبضته ، ولو لعشر سنوات تزكية زكاة واحدة ، والله تعالى أعلم .
السؤال الحادي عشر :
أنها أنجبت طفلاً وبعد ذلك بمدة انقطع عنها الدم ثم عاودها مرة أخرى على شكل قطرات خفيفة فماذا تفعل هل تصلي أو لا تصلي ..؟؟
الجواب:
إذا نفست المرأة فلا يخلو الدم من حالتين إذا إنقطع :
الحالة الأولى : إما أن ينقطع بعد تمام المدة ، وهي الأربعون فحينئذ ما بعد ذلك من القطرات استحاضة ، إلا إذا علمته بأوصاف الحيض ..فحيض وحينئذ تكون قد دخلت في الحيض بعد النفاس .
وأما الحالة الثانية : أن ينقطع لدون أمد النفاس فحينئذ لا يخلو من ضربين :
إذا عاودها بعد انقطاعه كأن يجرى معها الدم عشرين يوماً ثم بعد ذلك يعاودها في يوم خمس وعشرين ، فإن عاودها قبل انقضاء مدة النفاس-أعني الأربعين- فلا يخلو من حالتين :
إما أن يعاودها ولا ترى فيه صفة الحيض فهو تابع للنفاس وحكمه حكم دم النفاس وتلفق العدد ، ومعنى ذلك أننا نضيف اليوم الخامس والعشرين إلى العشرين ، فنقول إحدى وعشرين فإذا بقيت بعد ذلك عشرين يوماً يجري معها فإنها تطهر بعد العشرين بكمالها وهذا المذهب يسميه العلماء " بمذهب التلفيق" .
وأما الحالة الثانية : أن تري فيه أوصاف دم الحيض فقال بعض العلماء إن التمييز هنا معتبر فتنقل هنا من النفاس إلى الحيض ، والله تعالى وأعلم .
السؤال الثاني عشر:
إذا كانت المسافة بين السواري كبيرة كما هو الحال في هذا المسجد فهل تجوز الصلاة بينها ..؟؟
الجواب:(21/27)
بالنسبة للسواري إذا كان الفاصل بينهما كثيراً اغتفر الأئمة رحمة الله عليهم ونص جمع من العلماء من المالكية ، والشافعية والحنابلة على أن هذا مغتفر ، لأن السواري على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم مقطعة للصفوف وإذا وقع الفاصل بين الساريتين بشكل واسع فإنه بمثابة الصف بخلاف ما إذا كانت المسافة قصيرة فلا يصدق على الذى بينها على أنه صف ، أما إذا كانت منفرجة وواسعة فقد اغتفر الأئمة رحمة الله عليهم ذلك وممن نص على ذلك كبار أئمة الشافعية وذكروا لذلك أمثلة كما نقله الإمام النووي رحمه الله والحافظ ابن الملقن ولا شك أن هذا المذهب النفس تميل إليه خاصةً لحديث المنبر فإن المنبر يعتبر قاطعاً للصف الأول على عهده صلوات الله وسلامه عليه ، وبناءً على ذلك فإنه لا حرج في هذا القطع ، واغتفر العلماء قطع المنبر في مسجده عليه الصلاة والسلام لأنه ليس بسارية و لا في حكم السارية وكذلك المنابر إذا كان هناك فاصل من طول المنبر فإنه مغتفر وقد زاد عثمان رضي الله عنه فيمنبر النبي صلى الله عليه وسلم حتى أصبح ست درجات وقطع ومع ذلك لم يحكم الصحابة بالمنع من الصفوف الأول ولم يأمروا بتأخر الأئمة فدل ذلك على أنه موسع فيه وقالوا حينئذ إذا كان المسجد على عضادتين وكان الانفراج بينه كثيراً فإنه يغتفر هذا ، ولكن قالوا بالنسبة للطرف الأيمن إذا كان صفاً منقطعاً بحيث يكون الطرف من السارية اليمنى إلى طرف المسجد يسيراً والطرف من السارية اليسرى إلى طرف المسجد الأيسر قصيراً فيتقى الصلاة في هذا الموضع ويبقى الحل بالنسبة للمنفرج على وجه واسع لأنه في حكم الصف المكتمل ، وهذا القول هو أعدل الأقوال وأولاها إن شاء الله بالصواب ، والله تعالى أعلم .
السؤال الثالث عشر :
من اشترى ذبيحةً وكانت مجوفة من الداخل بدون قلب أو كبد وكذلك بدون رأس فهل يجوز شرائها للعقيقة ؟؟
الجواب :(21/28)
هذه العقيقة جوفاء لا يجزيء مثل هذا في الأضحية ولا في العقيقة لأن مقصود الشرع إراقة الدماء ، وبناءً على ذلك فإنه يريقها بنية القربى لله عز وجل والمقصود من ذلك أن تكون إراقه الدم لهذا الأمر الذي خصه الشرع من عقيقة أو اضحية ، وعلى ذلك لو اشترى هدياً جاهزاً ولو كان كاملاً برأسه واحشائه وأمعائه أو اشترى عقيقة كاملة ولو كانت بأحشائها وأمعائها وفرثها وجميع ما فيها فإنها لا تجزيه لابد من إراقة الدماء وقصد القربى لله سبحانه وتعالى .
وَآخِرُ دَعْوَانَا أَنِ الحمَْدُ لِلَّهِ رَبِّ العَالَميْنَ وصلَّى اللَّهُ وسلَّم وبارك على عبده ونبيَّه محمد وعلى آله وصحبه أجمعين(21/29)
بسم الله الرحمن الرحيم
قال المصنف رحمه الله : حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ سَعِيدٍ وَهُوَ الْجَوْهَرِيُّ حَدَّثَنَا سَعْدُ بْنُ عَبْدِ الْحَمِيدِ بْنِ جَعْفَرٍ حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أَبِي الزِّنَادِ عَنْ مُوسَى بْنِ عُقْبَةَ عَنْ صَالِحٍ مَوْلَى التَّوْأَمَةِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ:(( إِذَا تَوَضَّأْتَ فَخَلِّلْ بَيْنَ أَصَابِعِ يَدَيْكَ وَرِجْلَيْكَ )) .
قَالَ أَبو عِيسَى رحمه الله : هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ غَرِيبٌ .
قال المصنف رحمه الله :حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ حَدَّثَنَا ابْنُ لَهِيعَةَ عَنْ يَزِيدَ بْنِ عَمْرٍو عَنْ أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْحُبُلِيِّ عَنِ الْمُسْتَوْرِدِ بْنِ شَدَّادٍ الْفِهْرِيِّ قَالَ :" رَأَيْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم إِذَا تَوَضَّأَ دَلَكَ أَصَابِعَ رِجْلَيْهِ بِخِنْصَرِهِ " .
قَالَ أَبو عِيسَى رحمه الله : هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ غَرِيبٌ لاَ نَعْرِفُهُ إِلاَّ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ لَهِيعَةَ .
الشرح :
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين وعلى آله وصحبه أجمعين أما بعد :
فقد ذكر المصنف-رحمه الله -هذين الحديثين الشريفين واللذين دلا على وجوب دلك الأصابع وقد تقدم في المجلس الماضي بيان ما ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم في حديث لقيط بن صبرة رضي الله عنه وأرضاه وهذان الحديثان تكلم العلماء رحمهم الله في إسنادهما .
أما الأول : فلرواية صالح بن نبهان وهو مولى التوأمه ، وحديثه حسن كما أشار الإمام الترمذي وقد رمز له الحافظ بكونه صدوقاً والذي يروي عنه في مرتبة الحسن .(22/1)
وأما الحديث الثاني : فقد ضعفه رحمه الله لرواية بن لهيعة له وهذان الحديثان قد دلا على مشروعية دلك أصابع اليدين والرجلين وقد تقدمت المباحث والمسائل المتعلقة بذلك الأصابع وبينّا مشروعية ذلك ووجوبه إذا افتقر وصول الماء إلى القدمين واليدين إلى تخليل الأصابع وقد احتج فقهاء المالكية رحمهم الله بهذا الحديث على وجوب دلك أعضاء الوضوء ، وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بالدلك قالوا : فلما أمر بالدلك فليس ذلك إلا لكونه واجباً ، ومن هنا قالوا يجب على من توضأ أن يدلك أعضاء الوضوء فإذا غسل وجهه دلك وجهه بيديه وإذا غسل يديه فإنه يدلك كل يد باليد الأخرى .
وذهب جمهور العلماء رحمهم الله إلى التفصيل ، فقالوا : إذا كان وصول الماء إلى الأعضاء يفتقر إلى الدلك وجب الدلك .
وأما إذا أمكنه أن يصب الماء على أعضاء الوضوء دون حاجة إلى الدلك فإن الدلك ليس بواجب عليه.
والصحيح ما ذهب إليه الجمهور ؛ لأن الله سبحانه وتعالى أمرنا بالغسل ومن صب الماء على وجهه وكذلك على يديه ورجليه فقد غسل ، ومن هنا يتحقق ما أمر الله عز وجل به ولا حاجة إلى الدلك إلا عند وجود الضرورة لكون الماء قليلاً ونحو ذلك فإذا كان الماء قليلاً فإنه يشرع الدلك لإيصال الماء من باب ما لا يتم الواجب إلا به ، وحينئذ يكون وجوب الدلك تبعاً لا أصلاً .
يقول المصنف - رحمه الله- : بَاب مَا جَاءَ وَيْلٌ لِلأَعْقَابِ مِنَ النَّارِ
حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ قَالَ حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ مُحَمَّدٍ عَنْ سُهَيْلِ بْنِ أَبِي صَالِحٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ:(( وَيْلٌ لِلأَعْقَابِ مِنَ النَّارِ )) .
الشرح:(22/2)
هذا الحديث الشريف اشتمل على الوعيد الشديد لمن أخل بأعضاء الوضوء وقد ذكر النبي صلى الله عليه وسلم الأعقاب وخصها بهذا الوعيد ؛ والسبب في ذلك أنه عليه الصلاة والسلام مر بأصحابه ورأى أعقاباً تلوح لم يصبها الماء وهم يتوضئون .
فقال عليه الصلاة والسلام :((ويل للأعقاب من النار)) : والويل في لغة العرب هو الهلاك والحزن والعذاب يقولون ويل لفلان إذا كان في مهلكة أو أصابه العذاب ويطلق الويل ويراد به الإشفاء على الهلكة بمعنى أن يكون الإنسان قد أشفي على هلاك ونحو ذلك كأن تقول لرجل ويلك من النار إذا كان قريباً من نار أو ويلك من الحفرة إذا كان يوشك أن يسقط فيها ، ولذلك قالوا إن الويل في لغة العرب يطلق بهذين المعنيين ، وقال بعض العلماء : إنه لا يطلق إلا بالمعنى الأول .
وأما المعنى الثاني : وهو خوف الوقوع في العذاب والهلاك فالعرب تقول ويحك ولا تقول ويلك ، وقال سيبويه ويل لمن كان يستحق العذاب وويح لمن لا يستحق العذاب فتقول لمن يستحق العذاب ويلك من النار ، وتقول لمن لا يستحق العقوبة ويحك من كذا وكذا ، ومنه قوله عليه الصلاة والسلام في عمار بن ياسر : (( ويح بن سمية )) والمراد بذلك كونه يصيبه عذاباً على وجه الظلم لاعلى وجه العدل فالويح لمن لا يستحق والويل لمن يستحق وقد ورد في الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم :(( إنه وادٍ في جهنم لو سُيرت فيه جبال الدنيا لذابت من حره )) وجاء عن عبد الله بن مسعود ما يدل على ذلك والحديث رواه ابن حبان ومال الحافظ بن حجر إلى التفسير بالويل بهذا المعنى أي أنه واد في جهنم .
وفسروا به قوله سبحانه وتعالى :{ وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ}(1) وقوله سبحانه وتعالى :{ وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ}(2) كل ذلك قالوا بمعنى دخول النار- نسأل الله السلامة والعافية- .
__________
(1) / الهمزة ، آية : 1.
(2) / المطففين ، آية : 1.(22/3)
وقوله - عليه الصلاة والسلام -:((ويل للأعقاب)) : ليس المراد به كل الأعقاب ؛ ولكن المراد به أعقاب مخصوصة ؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قصد الأعقاب التي لم تغسل في الوضوء وهذا يدلنا على أن النصوص قد ترد في كتاب الله وسنة النبي صلى الله عليه وسلم بألفاظ عامة ويراد بها الخصوص ولذلك يختص هذا الحكم بالأعقاب التي لا يغسلها صاحبها في الوضوء وفي حكم الوضوء الغسل من الجنابة .
وقوله- عليه الصلاة والسلام -:((ويل للأعقاب من النار)) : معجزة من معجزاته صلى الله عليه وسلم حيث أخبر عن أمر من أمور الآخرة وأن الله سبحانه وتعالى يعذب المقصر في وضوئه ويكون العذاب في المكان الذي قصر فيه ، ومن هنا أخذ العلماء رحمهم الله أن العقوبة في الآخرة قد تكون بحسب الإخلال من المكلف ، ومن هنا قوله عليه الصلاة والسلام :(( ما أسفل الكعبين ففي النار)) لأن الذي يسبل إزاره قد عصى الله ورسوله بإرخاء الإزار فحينئذ كانت المعصية بستر ذلك المحل فعذبه الله عز وجل بذلك ومن قوله سبحانه وتعالى :{إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ اليَتَامَى ظُلْماً إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَاراً وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيراً}(1) فأخبر الله عز وجل أن هذا الطعام الذي تلذذوا به في الدنيا وأن هذا المال الذي ارتفقوا به في الدنيا سيعود عليهم بالعذاب وتكون الأعضاء التي تمتعوا بها من طعمة الحرام تكون عرضة للعذاب ، ومنه قوله عليه الصلاة والسلام :(( الذي يشرب في انية الذهب إنما يجرجر في بطنه نارجهنم)) فهذا يدل على شدة الوعيد في كون المكلف يعصي الله عز وجل بالفعل ، ومن هنا قال العلماء : لا يؤمن أن يعذب الإنسان بما أتى من حدود الله ومحارمه بأعضائه .
__________
(1) / النساء ، آية :10.(22/4)
وقوله عليه الصلاة والسلام :(( من النار)) : فيه إطلاق للعقوبة فيحتمل أن تصيبها النار من كونه تصيبه النار بغض النظر عن كون ذلك العذاب مختصاً بالعقب أو شاملاً لكل البدن .
وقد أخذ العلماء من هذا الحديث دليلاً على مسألة مشهورة وهى :
هل يجب تعميم الرجلين بالغسل أو لا يجب..؟؟
فقال أهل السنة والجماعة- رحمة الله عليهم - إن الله فرض على المكلف أن يغسل الرجلين.
واحتجوا بقوله سبحانه وتعالى :{وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ}(1) قالوا فيجب عليه غسل الرجلين ؛ لأن الله سبحانه وتعالى فرض عليه الغسل ، وقال بعض أهل الظاهر إنه يجب عليه الغسل والمسح ، أما الغسل فلظاهر قوله -سبحانه-:{وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ} وأما المسح فلظاهر الآية بقراءة الجر ، وأما الغسل فلقراءة النصب ولفعل النبي صلى الله عليه وسلم .
والصحيح ما ذهب إليه أهل السنة والجماعة من وجوب غسل الرجلين خلافاً لمن خالف من أهل الظاهر ، وكذلك الشيعة الإمامية الذين يقولون بوجوب مسح الرجلين لا بوجوب غسلهما ، ولذلك قال العلماء رحمهم الله إن الواجب غسل الرجلين ، وأما مسح الرجلين فهو مذهب أهل البدع ممن لا يعتد بخلافه وهذا هو الصحيح أي أن الفرض غسل الرجلين والمسح لا يجزي ، أما الدليل على وجوب غسل الرجلين فلأن الله سبحانه وتعالى قال :{ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ} أي اغسلوا أرجلكم إلى الكعبين .
أما الدليل الثاني فحديث عمرو بن عبسة رضي الله عنه وأرضاه أن صلى الله عليه وسلم قال:(( ثم يغسل رجليه كما أمر الله )) فدل على أن الرجلين تغسل و لاتمسح.
__________
(1) / المائدة ، آية : 6 .(22/5)
وأما الدليل الثالث فالأحاديث الصحيحة عن عثمان وعبد الله بن زيد وعلي وعبد الله بن عباس -رضي الله عن الجميع -في صفة وضوئه صلوات الله وسلامه عليهحيث ذكروا الغسل ولم يذكروا مسحه صلوات الله وسلامه عليه لرجليه ، وإذا ثبت هذا فإن الواجب غسل الرجلين لا مسحهما وأما ما استدلوا به في قوله -سبحانه-:{وَأَرْجُلَكُمْ} بقراءة الجر فيجاب عن ذلك من وجهين :
الوجه الأول : أن الآية احتملت المسح والغسل على التسليم أي نسلم جدلاً أنها مترددة بين المسح على قراءة الجر وبين الغسل على قراءة النصب فرجعنا إلى سنة النبي صلى الله عليه وسلم ولم نجد فيها حديثاً صحيحاً عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه اكتفي بالمسح دون الغسل فدل هذا على أن قراءة النصب هي المتعينة وأن الجر محمولٌ على معنى غير ظاهره ، وذلك أن العرب تجر بالمجاورة كما هو معلوم ومنه قول الشاعر :
لعب الزمان بها وغيرَّها بعدي سوافي المور والقطرِ
فقوله"والقطرِ" إنما كان على سبيل الجر بالمجاور وإلا فالأصل يقتضي قوله والقطرُ ، ومن هنا قالوا أن قوله:{وَأَرْجُلَكُمْ}على الجر بالمجاور وعلى هذا ترجح مذهب أهل السنة والجماعة رحمة الله عليهم ، قال ابن أبي ليلى : أجمع أصحاب صلى الله عليه وسلم على غسل الرجلين فدل هذا على أن المراد بالأية الكريمة الغسل ولا شك أن أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم أفقه الأمة وأعلم بالتنزيل ؛ ومراد الله ورسولهصلوات الله وسلامه عليهبالنصوص الواردة ولذلك تعين الغسل ، ومن مسح رجله فوضوؤه باطل إلا أن يمسح على الخفين على الصفة التي وردت عن النبي صلى الله عليه وسلم أو يمسح على الجوربين .(22/6)
الفائدة الثانية : من هذا الحديث دل هذا الحديث على وجوب تعميم الأعضاء فهو وارد في الرجلين ولكنه شامل لجميع أعضاء الوضوء وحينئذ يجب على المكلف أن يتفقد مواضع وضوئه ولا يجوز له أن يتعاطى أسباب الإخلال والتقصير فإن تعاطى ذلك فإنه يلزم بعاقبة تقصيره .
وفيه دليل على أنه ينبغي على المكلف أن يتعاهد المواضع الخفية ، ومن هنا قال العلماء : لو كانت رجلاه متشققة وكان التشقق بارزاً منفلجاً وجب عليه أن يصيب الماء في الشقق التي تكون ظاهرة للعيان ولا يجب عليه أن يخلل في المناسم ؛ لأن الله أوجب عليه غسل ظاهر رجليه فإذا تشقق العقب فإن هذا التشقق إذا أنفتح كان من الرجلين الظاهرة فيجب عليه أن يصيبه بالماء ويدلكه حتى يتحقق من وصول الماء إلى ثم .
الفائدة الثالثة : في هذا الحديث دليل على أنه إذا قصر الإنسان وتعاطى أسباب التقصير حاسبه الله وعاقبة ، ومن هنا قال بعض أهل العلم رحمة الله عليهم إن هؤلاء عذبوا ؛ لأن الواجب عليهم أن يتعاطوا أسباب التفقد والحياطة حتى يتموا أمر الله على وجه فلما قصروا في ذلك نالوا العقوبة ، ومن هنا أخذ بعض العلماء دليلاً على أن الجا هل لا يعذر إذا كان بين العلماء فمن حج أو اعتمر فكان المنبغي عليه أن يسأل عن صفة الحج والعمرة فكونه يقصر في السؤال عن صفة الحج والعمرة ثم يقع في الإخلال بالواجبات وارتكاب المحظورات فإن هذا الإخلال بتقصير فيلزم بعاقبة تقصيره ولا يعذر فصورتة في الظاهر تقتضي عذره ولكنه في الحقيقة غير معذور كهؤلاء الصحابة لأنهم في الظاهر معذورون بسبب عدم الرؤية للمحل وفي الباطن غير معذورين لكونهم لم يتعاطوا أسباب المحافظة فكل من ضيع حقوق الله وارتكب محارم الله مفرطاً مضيعاً فإنه يضمن .(22/7)
تفرعت على ذلك فائدة رابعة : وهى إلزام الضمان لمن فرط بتعاطي الأسباب فلو أن امرأة كان عندها صبي ترضعه ثم تركت الصبي بجوار نار أو تركته بجوار بركة ماء ونحو ذلك ثم سقط في البركة أو أحرقته النار فإنها تعتبر في هذه الحالة مطالبة بالضمان والكفارة فتلزمها دية الصبي وتلزمها الكفارة من عتق الرقبة وصيام شهرين متتابعين إذا لم تجد ؛ والسبب في ذلك أنها فرطت فلما فرطت ألزمت بعاقبة التفريط ، وكذلك الحال لمن فرط في الآلات فمن وضع الآلات القاتلة كالسكين ونحوها في المواضع التي يعبث عندها الصبيان وقتل أحدهم الآخر بهذه الآلات فإن الواضع يلزم بالضمان إذا كان المباشر لا يضمن، وقس على هذا المسائل المشابهة .
ومن هنا أخذ العلماء رحمهم الله حكمة الشريعة الإسلامية في المحافظة وذلك أن التساهل في الأمور وتعاطى أسباب التساهل يدل على نوع من الاستخفاف فإذا كانت في حقوق الله الواجبة كالوضوء والغسل من الجنابة فهي كذلك في حقوق الناس فكل من تساهل في حقوق الناس على وجه أضاع به حقوقهم أو عرض أرواحهم وأجسادهم للهلاك فإنه يعتبر مسئولاً وضامناً .(22/8)
ومن هنا أخذ العلماء دليلاً على هذا الأصل الشرعي وفي الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : (( من تطبب ولم يعلم منه طب فهو ضامن)) فألزم النبي صلى الله عليه وسلم الطبيب الجاهل بالضمان ؛ لأنه تعاطى أسباب الإضرار بحقوق الناس فالشاهد أن الأضرار بحقوق الله وحقوق الناس إذا كان على سبيل التقصير يوجب على صاحبه الضمان وهذا الحديث يدل أيضاً على أنه ينبغي على المكلف أن يتفقد أعضاء الوضوء ، ومن هنا إذا كان المكلف مبتلاً بالأعمال التي يقع بسببها الإخلال في الوضوء والغسل فإنه يجب عليه أن يتفقد جميع أعضائه كمن أبتلي بالصبغات ونحو ذلك فإنه إذا كان مبتلاً بها لا يأمن أن تتلطخ يديه بهذا العازل سواء كان من الألوان والصبغات أو كان من غيرها وحينئذ إذا قصر في تفقد المحل فإنه يعاقب بهذه العقوبة لقوله عليه الصلاة والسلام : (( ويل للأعقاب من النار)) .
يقول المصنف -رحمه الله - : بَاب مَا جَاءَ فِي الْوُضُوءِ مَرَّةً مَرَّةً
حَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْبٍ وَهَنَّادٌ وَقُتَيْبَةُ قَالُوا حَدَّثَنَا وَكِيعٌ عَنْ سُفْيَانَ(ح) قَالَ وحَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ قَالَ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ عَنْ عَطَاءِ ابْنِ يَسَارٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ:"أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم تَوَضَّأَ مَرَّةً مَرَّةً ".
الشرح :
هذا الحديث رواه الإمام البخاري في صحيحه عن عبد الله بن عباس-رضي الله عنهما-"أن النبي صلى الله عليه وسلم توضأ مرة مرة" ولذلك ترجم في صحيحة "باب الوضوء مرة مرة " .
وفي هذا الحديث فائدة : وذلك أن الله -- سبحانه وتعالى - - أمرنا بغسل أعضاء الوضوء .(22/9)
وحينئذ يرد السؤال : هل يجب على الإنسان أن يغسل أكثر من مرة أو يقتصر على مرة واحدة لتحقق الواجب المأمور؟؟ فبين المصنف رحمه الله بهذه الترجمة أن الذي فرض الله على المكلفين إنما هو مرة واحدة لأن الأصل في الأمر أنه لا يقتضي التكرار فأذا امرنا الله بفعل ولم ينص على التكرار فإنه لا يجب على المكلف أن يكرر ، ومن هنا توضأ النبي صلى الله عليه وسلم مرة مرة لكي يبين للأمة أن الواجب علينا أن نتوضأ مرة مرة وأنه لا يجب علينا أن نتوضأ أكثر من مرة فمن توضأ مرة فقد أجزأه ، ومن توضأ أكثر من مرة فقد أصاب الفضل ، ومن توضأ أكثر من مرة فهناك مرتبتان :
المرتبة الأولى : أن يتوضأ ثلاثاً ثلاثاً إلا مسح الرأس مرة فهذه المرتبة هي أعلى المراتب وأعظمها أجراً عند الله سبحانه وتعالى وهي مرتبة الإسباغ التي عناها النبي صلى الله عليه وسلم بقوله:(( ألا أنبئكم بما يمحو الله به الخطايا ويرفع به الدرجات كثرة الخطا إلى المساجد وإسباغ الوضوء على المكاره)) فالوضوء ثلاث مرات خاصة في البرد الشديد من أحب الأعمال إلى سبحانه وتعالى وأعظمها أجراً خاصة إذا كان في النوافل وقيام الليل ؛ لأنه ليس بواجب على المكلف لا أصله ولا صفته .
وأما بالنسبة للمرتبة الثانية : فهي أن يتوضأ مرتين مرتين فإذا توضأ مرتين مرتين فذلك من أدني الكمال إلا مسح الرأس فإنه يكون مرة واحدة .
وقوله -رحمه الله -"باب الوضوء مرة مرة " : قال العلماء رحمهم الله إن هذه المرة مستوعبة لجميع أعضاء الوضوء وقد وقعت من النبي صلى الله عليه وسلم على الأقل وإلا فالأكثر من هديهصلوات الله وسلامه عليه أنه كان يثلث الوضوء فالأفضل والأكمل أن يحافظ على التثليث.
وهنا مسألة : لو أن إنساناً أراد أن يتوضأ ثلاث مرات ولكن تفوته تكبيرة الإحرام وإذا توضأ مرة مرة لحق تكبيرة الإحرام وأدركها هل الأفضل أن يتوضأ مرة مرة أو أنه يثلث..؟؟(22/10)
والجواب : أن الأفضل أن يتوضأ مرة مرة ؛ لأن القاعدة : " إذا تعارضت الفضيلة المتصلة بالصلاة والفضيلة المنفصلة قدمت الفضيلة المتصلة بالصلوات على الفضائل المنفصلة " ، ومن أمثلة ذلك لو كان يمشى على قدميه فإنه قد يفوته الصف الأول وقد تفوته تكبيرة الإحرام ولو ركب فإنه يدرك الصف الأول ويدرك تكبيرة الإحرام فالأفضل أن يركب حتى يدرك فضيلة الصف الأول لكونها متصلة بمحل الصلاة وفضيلة المرتين والثلاث في الوضوء منفصلة عن فعل الصلاة ومحلها ، ولذلك تقدم الفضائل المتصلة على الفضائل المنفصلة .
وأما بالنسبة لإيراد المصنف لهذا الباب بعد باب التخليل فالواقع أن المصنف -رحمه الله -بباب الأعقاب قد ختم صفة الوضوء المجزأة وقد بين فيها ما أوجب الله غسله من الأعضاء وذكر الأحاديث عن رسول صلى الله عليه وسلم التي تبين حكم أعضاء الوضوء منفصلة ، ثم شرع-رحمه الله -بهذا الباب في بيان الهدي المجمل في صفة الوضوء كلها وسيتبع ذلك بأبواب صفة وضوء النبي صلى الله عليه وسلم الشاملة .
وهنا يحسن التنبيه على أمور مهمة وهى بمثابة التلخيص للأبواب السابقة حيث تلخص معنا أن فرائض الوضوء تشمل أعضاء قد سماها الله عز وجل في كتابه المبين وحافظ النبي صلى الله عليه وسلم عليها في هديه وهى غسل الوجه ثم غسل اليدين إلى المرفقين ثم مسح الرأس ثم غسل الرجلين إلى الكعبين فهذه هي الأربعة الأعضاء التي أمر الله عز وجل بها في الوضوء ، وأما ما عداها من المضمضة والاستنشاق فإنه لا يجب على المكلف وإنما هو فضل وليس بفرض إن فعله كان مصيباً للكمال وإن تركه صح وضوؤه .
وهناك ثلاثة أمور لازمة تعتبر تبعاً لهذه الأربعة :
أولوها : النية فلا يصح الوضوء إلا بنية . وأما الثاني : فهو الموالاة . وأما الثالث: فهو الترتيب .(22/11)
فأما النية فهي مأخوذة من قولهم نوى الشيء ينويه نية ونيته بالتخفيف إذا قصده ، فالنية هي قصد القربة لله عز وجل والطاعة والامتثال فإذا أراد أن يتوضأ فإنه ينبغي أن يحقق هذه النية وبذلك يتحقق إخلاصه للعمل لله عز وجل فإذا توضأ ولم ينو ذلك لم يجزيه ، ولذلك قد يتوضأ الإنسان للتبريد وقد يتوضأ للنظافة ولا يقصد القربة لله عز وجل فحينئذ لا يجزيه هذا الوضوء ، ولا يصح منه أن يصلي به نافلة أو فريضة ؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال :((إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل أمري ما نوى)) والوضوء عمل فدل هذا على وجوب النية وإذا قلنا بوجوب النية فإن الإنسان لا يخلو من حالتين :
الحالة الأولى : أن ينوى نية عامة يعتبر بها رافعاً للحدث ، وذلك بأن ينوى رفع الحدث فإذا نوى رفع الحدث جاز له أن يصلى ما شاء سواء كان نافلة أو فريضة وهذه هي النية العامة التي إذا حققها المكلف جاز له أن يستبيح كل ما تشترط له الطهارة .
أما الحالة الثانية من النية : فهو النية الخاصة وذلك بأن ينوي استباحة المحظور كأن ينوي الطواف بالبيت ينوي بوضوئه الطواف بالبيت أو صلاة النافلة فإذا نوى الطواف بالبيت أو نوى صلاة النافلة فلا يجزيه أن يصلي به الفريضة في قول طائفة من العلماء لما ثبت في الصحيح من قوله عليه الصلاة والسلام :((وإنما لكل امرئ ما نوى)) فهذا إذا نوى الأقل لا يجزيه أن يستبيح ما هو أرفع منه .
وحينئذ ينبغي للمكلف أن ينوى النوع الأول حتى يخرج من الإشكالات وقد أشار إلى ذلك بعض الفضلاء - رحمهم الله -:
ولينوي رفع حدث أو مفترض أو استباحة لممنوع عرض
فهذه كلها أنواع للنية والأفضل والأكمل أن ينوى رفع حدثه .(22/12)
المسألة الثالثة في النية : ينبغي لهذه النية أن تكون مقاربة لفعل الوضوء فإذا قرب الإنسان وضوئه أو اقترب من صنبور الماء فانه ينوى ويقصد ولو خرج من مكان الخلاء إلى مكان الوضوء وفي قصده أن يتقرب إلى الله بفعل الوضوء فقال العلماء : إن الفاصل بين الخلاء وبين فعل الوضوء إذا كان يسيراً فانه يغتفر بحيث لو توضأ وهو ناس للنية أجزأه الوضوء ؛ لأن النية سابقة للمحل واليسير من الوقت لا يرفعها لأن خروجه من دورة الماء بقصد الوضوء يدل على القصد فعلاً وحينئذ لا يؤثر هذا الفاصل في كونه ناوياً للوضوء وبحكم بكون حدثه قد ارتفع.
المسألة الرابعة : هذه النية خالف فيها الإمام أبو حنيفة -رحمة الله عليه- فقال يجوز للإنسان إذا نوى بالوضوء التبرد في الصيف أن يصلي به ما شاء ولا تشترط النية لصحة الوضوء واستدل بقوله سبحانه وتعالى :{ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ ..}(1) قال إن الله عز وجل أوجب علينا غسل الأعضاء ومسح ما يمسح ولم يأمرنا بالنية والقصد ، ورد الجمهور هذا الاستدلال بأن الله أمرنا بإقام الصلاة ولم يأمرنا بالنية معها في الآيات كقوله :{ فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ } (2) ومع ذلك يقول -رحمه الله -بوجوب النية في الصلاة لظاهر الحديث فكما قال هنا بوجوبها يلزمه القول بوجوبها في الوضوء .
وأما قوله إن الوضوء وسيلة وليس بمقصد والنية تشترط في المقاصد و لا تشترط في النيات فمراد الإمام أبوحنيفة -رحمة الله عليه- بذلك أن الوضوء ليس من العبادات وإنما هو وسيلة للعبادة كإزالة النجاسة فلو أن إنساناً أزال النجاسة من القبل والدبر لا يجب عليه عند صب الماء أن ينوي الطهارة بحيث لو غسل المحل ولو لم ينو الطهارة تحققت الطهارة ، كذلك الوضوء لأنه يراه من باب الوسائل لا من باب المقاصد .
__________
(1) / المائدة ، آية : 6.
(2) / الحج ، آية : 2.(22/13)
والصحيح أن الوضوء عبادة ومقصد لقوله عليه الصلاة والسلام :(( الطهور شطر الإيمان )) والمراد بالإيمان الصلاة وإذا كان شطر لها كانت النية له كما تكون للصلاة .
أما الفرض الثاني فهو الترتيب : والمراد بذلك أن يرتب أعضاء الوضوء على الصفة التي ذكرها الله عز وجل في كتابه فيبدأ بغسل وجهه ثم يغسل يديه ثم يمسح برأسه ثم يغسل رجليه فلو غسل وجهه ثم مسح رأسه ثم غسل يديه لم يصح وهكذا لو بدأ برجليه ثم مسح رأسه ثم غسل يديه ثم غسل وجهه لم يصح ، فلابد وأن يوقع الوضوء مرتباً.
وحينئذ يرد السؤال : عن الدليل على وجوب الترتيب هذا الترتيب ..؟؟
أوجبه الشافعية والحنابلة رحمة الله عليهم واستدلوا على وجوبه بظاهر التنزيل وذلك أن الله عز وجل أدخل الممسوح بين المغسولين فأدخل مسح الرأس بين غسل اليدين والرجلين ولو كان الترتيب ليس بشرط لذكر المسح بعد المغسول أو قبل المغسول أما كونه يدخل الممسوح بين المغسولين دل على أن هذا الترتيب مقصود .
الدليل الثاني : أن النبي صلى الله عليه وسلم طاف بالبيت في حجة الوداع ثم سعى بين الصفا والمروة وقال : (( أبدأ بما بدا الله به)) فلما أراد أن يرقىالصفا قرأ آية البقرة :{ إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ}(1) ثم قال : (( ابدأ بما بدا الله به)) وفي رواية النسائي :(( ابدؤوا بما بدأ الله به )) وقد تكلم فيها العلماء ، ولذلك قالوا إن الرواية الصحيحة قوله : (( أبدا بما بدا الله به)) قالوا : وعلى رواية : (( أبدا بما بدأ الله به)) فهو خبر بمعنى الإنشاء أي إبدأوا بما بدا الله به : قالوا فهذا يدل على أن الأصل أن يبدأ المكلف بما بدأ الله عز وجل به والله بدا بغسل الوجه ثم باليدين ثم بمسح الرأس ثم بغسل الرجلين فعلى المكلف أن يرتب كما رتب الله في الآية الكريمة.
__________
(1) / البقرة ، آية : 158 .(22/14)
أما الدليل الثالث : فقالوا إن صلى الله عليه وسلم توضأ وبيَّن الوضوء للصحابة ومع ذلك لم يقدم عضواً على عضو فدل هذا على وجوب الترتيب لأن بيان الواجب واجب فكونه - عليه الصلاة والسلام -يراعي الترتيب في الوضوء يدل دلالةً واضحةً على وجوبه وخالف الإمام أبو حنيفة النعمان ، وكذلك المالكية -رحمة الله على الجميع - فقالوا : بعدم وجوب الترتيب واستدلوا بما جاء في الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه تمضمض واستنشق بعد غسل يديه وهذا الحديث متكلم في سنده إضافة إلى أنه لايصلح حجة لهم لأن المضمضة والاستنشاق من سنن الوضوء وليستا من فرائض الوضوء والترتيب بين المسنون والمفروض ليس بفرض-وسنبين إن شاء الله تعالى ذلك- وبناءً عليه يترجح قول من قال بوجوب الترتيب لقوة الأدلة التي استدلوا بها .
أما الفرض الثالث : الذي ينبغي تحقيقه : فهو المولاة ، والموالاه أن لا يؤخر عضواً حتى ينشف الذي قبله فمن غسل وجهه وأراد أن يغسل يديه فإنه يشترط فيه أن لا ينشف الماء الذي على وجهه فإن تأخر حتى نشف الماء الذي على وجهه فلا يخلو تأخره من حالتين :
الحالة الأولى : أن يكون بعذر متعلق بالوضوء فهذا لا يؤثر في المولاة .
الحالة الثانية : أن يكون بعذر خارج عن الوضوء كإنقطاع الماء من الصنبور ونحو ذلك فإن كان قد انقطع عنه الماء والتمس الماء بطل وضوؤه وذلك ؛ لأن الموالاة شرط في صحة الوضوء ولابد من تحقيقها للحكم بصحته ، أما إذا كان العذر متصلاً بالوضوء .(22/15)
مثال ذلك : لو غسل يديه ثم كان في اليدين شيء يمنع من وصول الماء إلى اليد فجلس يدلك ذلك الشيء حتى نشفت يداه أوحتى نشف وجهه أو دلك الذي بيده حتى نشف وجهه فإن هذا النشاف لا يؤثر لأنه مشتغل بالفرض الذي أمر الله ومن أمثلة ذلك إذا ركع وطول في الركوع لأن الأصل في الصلاة أن تقع الأفعال متتابعة على الولاء ، ولكن إذا طول في ركوعه وسجوده لم يخرج عن الموالاة المعتبرة للصلاة وعلى هذا فرق العلماء رحمهم الله في الموالاة ومسائلها على هذا الوجه .
والسؤال : ما هو ضابط المولاة..؟؟
وضابطها عند العلماء : أن لا ينشف العضو والعبرة في النشاف بالزمان المعتدل فإذا كان العضو في الزمان المعتدل ينشف في حدود خمسة دقائق إلى عشر فإنه إذا مضى هذا الوقت يحكم بانقطاع المولاة ووجوب استئناف الوضوء .
أما الدليل على وجوب الموالاة : فحديث خالد بن معدان رضي الله عنه وأرضاه أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى رجل يصلي وعلى ظهر قدمه لمعة فأمره أن يعيد الوضوء والصلاة فدل هذا على اشتراط الموالاة لأنه لو كانت الموالاة غير مشروطة لقال له اغسل اللمعة وبها يتم وضوؤك ولكن أمره بإعادة الوضوء لأن الفاصل بين انتهائه من الوضوء وصلاته قد فوت شرط الموالاة ، ولذلك وجب عليه أن يستأنف الوضوء ويستأنف الصلاة هذه الثلاثة الفروض تضم إلى غسل الوجه واليدين ومسح الرأس والرجلين وحينئذ يلزم المكلف سبعة أشياء :
أولاً : النية . ثانياً : غسل الوجه . ثالثاً : غسل اليدين إلى المرفقين . رابعاً : مسح الرأس .
خامساً : غسل الرجلين . سادساً : الموالاة . سابعاً : الترتيب .
فهذه هي الأمور التي ينبغي توفرها للحكم بصحة الوضوء ، وعلى هذا فلو أن إنساناً كان عنده ماء ولا يمكنه أن يغسل إلا الثلاثة الأعضاء ويمسح برأسه هل يعدل إلى التيمم أولا يعدل ..؟؟(22/16)
والجواب : أنه يغسل ولا يجوز له أن يعدل للتيمم لأن فرض الوضوء يتحقق بهذه الأعضاء الأربعة ، أما على القول بكون المضمضة والاستنشاق من فرائض الوضوء فإنه يعدل حينئذٍ إلى التيمم ، وقال بعضهم : إنها من الواجبات تسقط لمكان العجز ويجزيه حينئذ أن يغسل ويمسح ما أمر الله بغسله ومسحه على ظاهر آية الوضوء ، والله تعالى أعلم .
- ? - ? - ? - ? - الأسئلة - ? - ? - ? - ? -
السؤال الأول :
في بعض الأحيان أغسل العضو أكثر من ثلاث مرات فهل أنا آثم في ذلك..؟؟
الجواب:
بسم الله الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه أما بعد :
فمن غسل أكثر من ثلاث مرات فلايخلو من حالتين :
الحالة الأولى : أن يكون قاصدً متعمداً عالماً بأن الذي حده النبي صلى الله عليه وسلم هو الثلاث فحينئذ قد أساء وظلم ، ووقع في البدعة والحدث لأنه لاخير ولا أفضل من هدي النبي صلى الله عليه وسلم ومن زاد على الثلاث فإنما يزيد قربة وطاعة لله عز وجل فكأنه يحدث في دين الله ما ليس منه ، وعلى هذا فإنه يكون فعله بدعة وحدثاً لا يشرع من المكلف وحمل عليه قوله - عليه الصلاة والسلام -:(( فمن زاد فقد أساء وظلم)) أساء بمخالفة هديه - عليه الصلاة والسلام - وظلم بمجاوزة الحد الشرعي وحينئذٍ يقول العلماء الزيادة على الثلاث يكون صاحبها بالتعمد والقصد مأزور غير مأجور-نسأل الله السلامة والعافية- .
أما الحالة الثانية : أن يكون مبتلى بالوسواس فإذا كان مبتلى بالوسواس يظن أنه لم يستوعب المحل إلى الاثنين والثلاث والأربع فيوسوس فهذا إذا غلبه الوسواس وقهره وكان من الوسواس القهري فإنه لايأثم لوجود العذر به والمنبغي عليه أن يقتصر على ما أوجب الله عليه ، والله تعالى أعلم .
السؤال الثاني :
ماذا يفعل من بقي في أحد أعضاءه لمعة لم يصلها الماء هل يغسلها أو يعيد الوضوء..؟؟
الجواب :(22/17)
من بقي في أحد أعضاءه مكان لم يصبه الوضوء فلا يخلو من حالتين :
الحالة الأولى : أن يكون العضو الذي قبل العضو الذي فيه اللمعة والقدر المتروك عليه بلل الماء ولازال طرياً ندياً فحينئذٍ يغسل ذلك المكان وتلك اللمعة ثم يغسل مابعدها لأنه لايصح غسل البعدي وقد بقيت اللمعة في القبلي فحينئذٍ الشرط أن يبقى العضو طرياً فيه نداوة الماء بحيث لايفوت شرط الموالاة ثم الشرط الثاني يفعل الغسل الذي أمر الله - - عز وجل -- ثم يرتب الأعضاء بعده فلوكانت اللمعة في يده لايقتصر على غسل مكانها ويكتفي لا ، بل يغسل قدر اللمعة المكان الذي لم يصبه الماء ثم يمسح برأسه ويغسل رجليه ، وهكذا لو ترك نصف رأسه ولازال شرط الموالاة متحققاً فإنه يبل يده ويتم النصف الباقي ثم بعد ذلك يغسل رجليه إلى الكعبين كما أمر الله عز وجل وحملوا على ذلك عصره عليه الصلاة والسلام لشعره حينما رأى المكان الذي لم يصبه الماء قالوا لأنه طري والدليل على ذلك أنه لما عصر الشعر فالماء موجود فدل على أن شرط الموالاة معتبر وأنه إذا كان المكان الذي قد أخل به المكلف لم ينشف الذي قبله فالموالاة متحققة وحينئذٍ يجزيه أن يغسل المكان وما بعده ، والله تعالى أعلم .
السؤال الثالث :
ماهي البراجم وهل هي من أعضاء الوضوء وما حكم غسلها ؟
الجواب :
غسل البراجم أمر مطلوب لتمام العضو لأنه لايمكن له أن يحقق في رؤوس أظفاره وأقدامه إلا إذا دلكها وأمعن في وصول الماء إليها لأنها من ظاهر البشرة في اليد وكذلك في أصابع القدمين وإذا أخل بها كان مخلاً بوضوئه ، وينبغي عليه أن يحافظ على دلك الموضع حتى يصله الماء ، والله تعالى أعلم .
السؤال الرابع :
هل تعتبر المراهم والزيوت التي تدهن بها بعض أعضاء الوضوء للتداوي أوغيرها هل تعتبر مانعة من وصول الماء للبشرة فيصح الوضوء عليها أم لا ؟
الجواب :(22/18)
هذه المسألة فيها تفصيل يرجع فيه إلى أهل الخبرة فإذا كان الذي دهن به الإنسان دواء طبياً سأل الصيدلي والخبير في الدواء هل المادة الموجودة فيه مانعة وعازلة فحينئذٍ إذا قال إنها عازلة تتقى أثناء الوضوء ويحتاط الإنسان فيتوضأ ثم يضعها وأما إذا كانت غير عازلة فإنه حينئذٍ يتوضأ ولايؤثر وجودها في العضو فلابد من سؤال أهل الخبرة ، والقاعدة :" أنه ينظر في أصل المادة" إن كانت عازلة لها جرم أو لاجرم لها بأن تكون مادة لزجة تسامث العضو كالغراء ثم تكون معه كالشيء الشفاف بحيث كأنك ترى ظاهر البشرة والواقع أنه لايصل الماء إلى البشرة فهذا النوع من العوازل يؤثر في الوضوء ويؤثر في الغسل من الجنابة ومن توضأ ووجد العازل هذا كما يسمى بالبوية ويسمى بالمزيل الذي يكتب به ونحوها من هذه العوازل والغراء والصمغ ونحوه هذه كلها توجب بطلان الوضوء وبطلان الغسل وينبغي عليه أن يعيد إذا فاتت الموالاة ، أما إذا كانت من العوازل التي يتسرب معها الماء كالطين ونحو ذلك بحيث أنها تتشرب الماء و غلب على ظنه أنها تتشرب الماء فهذه لاتؤثر ، والله تعالى أعلم .
السؤال الخامس :
هل المرأة في مسح الرأس بعد أن تبدأ من أوله إلى الوراء هل يجب عليها أن تعود إلى مقدم الرأس دون النزول إلى الدوائر..؟؟
الجواب :
لا يجب عليها أن تعود إلى مقدمه كما لا يجب على الرجل لأنها إذا أمرت بيدها على شعرها محاذي لمحل الفرض فقد مسحت وأجزأها ، والله تعالى أعلم .
السؤال السادس :
قد ذكرتم وجوب الترتيب في الوضوء فلو نسي الفرد من شيء أو عضو من أعضاء الوضوء فهل يعيد الوضوء أم يغسل العضو الذي نسيه..؟؟
الجواب:(22/19)
إذا نسي عضواً من أعضاء الوضوء فحينئذٍ ينظر للذي قبله فإن كان شرط الموالاة موجوداً فيه متحققاً فيه يغسله وما بعده فلو أنه نسي مسح الرأس وغسل رجليه ثم تذكر بعد الوضوء مباشرة نقول له امسح برأسك واغسل رجليك لكن لو ترك مسح الرأس أوترك إحدى اليدين فغسل أحدهما وترك الأخرى ثم تذكر بعد وقت بحيث ذهب شرط الموالاة فيلزمه أن يعيد الوضوء من أوله ، وهكذا إذا كان العضو أخيراً فإن كان العضو أخيراً كالرجل نسي إحدى الرجلين أو نسي الرجلين ولم يغسلهما فحينئذٍ إن كان الوقت الذي تذكر فيه متصلاً بحيث لاينقطع شرط الموالاة يغسل رجليه ويجزيه ، وأما إذا كان منفصلاً ويزول شرط الموالاة فيلزمه أن يعيد الوضوء من أوله ، والله تعالى أعلم.
السؤال السابع :
إذا أراد الإنسان العمل بمسألة خلافية قال بعض العلماء فيها يتخير وقال آخرون يأخذ بالأيسر لأن الشريعة مبناها على اليسر والسهولة ولأن الأصل براءة الذمة وقال غيرهم يأخذ بالأشد لأنه أحوط ولقول النبي صلى الله عليه وسلم :((دع مايريبك إلى مالايريبك)) وقوله عليه الصلاة والسلام :(( فمن اتقى الشبهات فقد استبرأ لدينه وعرضه ومن وقع في الشبهات فقد وقع في الحرام كالراعي يرعى حول الحمى يوشك أن يرتع فيه )) ، ماالصحيح فضيلتكم من هذه الأقوال..؟؟
الجواب:
بسم الله الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن الاه أمابعد :(22/20)
المنبغي عند الخلاف الرجوع إلى كتاب الله وسنة النبي صلى الله عليه وسلم وهذا هو أمر الله عز وجل في كتابه المبين:{ وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ }(1) وأمرنا بالرد إليه سبحانه وتعالى والرد إلى رسولهصلوات الله وسلامه عليه وقال العلماء الرد إلى الله رد لكتابه والرد إلى رسوله رد إلى سنته بعد وفاته والرد إلى الكتاب والسنة يقولون الرجوع إلى أهل العلم وحينئذٍ إذا وقع الخلاف أمام المكلف فلا يخل المكلف من ثلاث حالات :
الحالة الأولى : أن يكون مجتهداً بمعنى أنه يحسن النظر في الأدلة والأقوال وتمييز القوي منها من الضعيف فحينئذٍ يجب عليه أن يبحث المسألة وأن ينظر في أقوى الدليلين وأقوى الحجتين فيعمل به ويعتذر لمن خالف بدليله ولا يجوز له في هذه الحالة أن يقلد أحد العالمين أو يسير على أحد القولين تخييراً لأن الله أوجب عليه الاجتهاد ولا يجوز له أن يترك يقين نفسه لظن غيره .
__________
(1) / الشورى ، آية :10.(22/21)
الحالة الثانية : أن يكون عامياً لايفقه ولايعرف الدليل الصحيح من الضعيف ولا يحسن النظر في أقوال العلماء أحياءهم وأمواتهم فإذا كان عامياً فالأصل في الإنسان أن يبحث عن عالمٍ ويرضى به حجة بينه وبين الله عن عالمٍ عامل بكتاب الله وسنة النبي صلى الله عليه وسلم مشهود له بالنبوغ في علمه فإن شهادة الناس حجة كما قال صلى الله عليه وسلم :(( أنتم شهداء الله في الأرض)) فمن وضع الله القبول في علم العقيدة رُجع إليه في العقيدة واعتبر حجة فيها مادام أنه يتكلم بكتاب الله وسنة النبي صلى الله عليه وسلم ومن وضع له القبول في علم الحديث فهو عالم الحديث ومن وضع له القبول في علم الفقه فهو عالم الفقه وقس على هذا فيرجع إلى كل عالم في علمه فإذا وجدت عالماً يوثق في دينه وعلمه والتزمت فإنك تلتزم قوله بالدليل والعامي يلزمه الرجوع إلى هذا العالم لقوله-تعالى-: {فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ} (1)فهذا العامي لايعلم فإذا كان لايعلم فيلزمه أن يرجع إلى أهل العلم فإذا رجع إلى أهل العلم لايتذبذب ؛ والسبب في وقوع اللبس في مثل هذه المسائل أنهم يختاروا أكثر من شيخ ويأخذوا بكل شيخ فتجده كلما سمع فتوى عمل بها المنبغي أن يكون له عالم عامل عرفه بكتاب الله وسنة النبي صلى الله عليه وسلم فيسأله عن حلال الله وحرام ويلتزم بقوله ويسير على منهجه ، ولذلك إذا نظرنا في أصحاب النبي الله صلى الله عليه وسلم وجدنا لكل صحابي أصحابه ، فوجدنا لابن عمر نافع وابنه سالم بن عبدالله بن عمر وغيرهما من أصحابه ، وكذلك وجدنا لعبد الله بن عباس مجاهد وطاووس وعطاء وسعيد بن جبيروغيرهم رحمة الله عليهم كل واحد من العلماء لزمه أصحابه وأخذوا عنه ورضوا به حجة بينهم وبين الله مادام أنه يتكلم بالدليل ؛ السبب أننا نقول أن طالب العلم الذي يحسن النظر نوعاً ما ولايحسنه على الكمال ينبغي
__________
(1) / الأنبياء ، آية : 7 .(22/22)
أن يتقيد بعالم بدليله أننا لو قلنا اجتهد لايحسن الاجتهاد ولوقلنا له ابحث لايحسن البحث فحينئذٍ نكلفه ماليس في وسعه والله لايكلف نفساً ألا ما في وسعها ثم لوقلنا له قلد مثله لايقلد وإنما يتبع هذا العالم بالدليل ولو قلنا له خذ بفتوى أي عالم فهذا خطأ لأنه لو جاء إلى الصلاة فأخذ بقول من يقول بعدم وجوب قراءة الفاتحة على المأموم وترك قراءتها لقوله هذا فإن هذا القول قد يكون مبنياً على أصل في دلالة منطوق أو مفهوم فيأتي في البيع والشراء ويسأل غيره ويكون هذا الغير قد اعتمد أصلاً ضد الأصل الذي اعتمده الآخر فيتعبد الله بأصول متناقضة فهو تارة يعتقد الحكم بما أنزله الله عز وجل في دلالة ويرى في موضع آخر أنها ليست بحجة وليست بدليل ، ولذلك إذا أصبح طالب العلم يأخذ بقول كل إنسان دون أن يتقيد بعالم يتذبذب ولايمكن أن يثبت له حال وتجد بعض طلاب العلم يبدأ بقراءة الفقه فلايستقيم له حال لأنه يذهب ويقرأ في شروح الأحاديث فيجد خلاف الأئمة وأقوالهم وأدلتهم أمر ضاعت فيه عقول الجهابذة من أهل العلم فضلاً عن طويلب علم مبتدئ ويريد أن يصل إلى العلم بهذه الطريقة لايمكن ولايمكن أن يضبط العلم إلا بعالم يسير على نهجه بكتاب الله وسنة النبي صلى الله عليه وسلم وليس هذا من التعصب ولامن التقليد المذموم إنما التقليد المذموم والتعصب أن يقال له قال الله قال رسوله فيعدل إلى قول شيخه مجرداً عن الدليل ، أما إذا أخذ بقول شيخه بدليل وحجة ورضي به بينه وبين الله فهذا مذهب السلف رحمة الله عليهم ولن تجد عالماً إلا وقد جثى بركبتيه بين يدي إنسان من أهل العلم قد أخذ العلم عن أهله حتى نبغ وضبط وبعد أن يضبط يتوسع فيصل إلى درجة الاجتهاد فيبقى على ماكان حقاً ويعدل إلى الصواب الذي عند غيرشيخه هذا هو الصواب الذي سار عليه الأئمة وسار عليه الجهابذة رحمة الله عليهم فانتفعوا ونفع الله بهم لكن طالب العلم الذي لايلتزم بأصل ولايكون له(22/23)
شيخ يتذبذب فإن كان الإنسان مجتهداً أو طالب علمٍ والتبست عليه مسألة في موضع وليس عنده شيخ يسأله أو يتقيد به فوجد شيخين كل واحد منهما يفتي بضد الآخر فاختلف العلماء على ماذُكر من أهل العلم من يقول يأخذ بالسماحة لأنها الأصل قال-تعالى-:{وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ}(1) وما خير صلى الله عليه وسلم بين أمرين ألا اختار أيسرهما ، وكذلك قال صلى الله عليه وسلم :((يسرا ولاتعسرا وبشرا ولاتنفرا)) فقالوا يأخذ بالأيسر وقال بعضهم بل يأخذ بالعزيمة والذين يقولون بأخذ بالعزيمة يقولون لأنه تعارض عنده من يقول بالوجوب وعدم الوجوب فاسقاط الوجوب مشكوك فيه لما بلغه الوجوب بقول إنسان هو حجة وعالم فإنه يشك في سقوط الوجوب بالمعارض فيبقى على الوجوب والالزام ويبقى على التحريم والحظر ولما في أخذه من التحريم والحظر من الحيطة لدينه كما في الحديث : (( دع مايريبك إلى مالايربيك )) ونحو ذلك من الأدلة التي دلت على أنه ينبغي للإنسان أن يستبرئ لدينه وعرضه ومنهم من قال يخير يأخذ ماشاء من الأقوال والذي يظهر والله أعلم أن المسألة تحتاج إلى نظر ، فإن كان العالمان متفاوتين في النظر والفقه عمل بمن هو أقوى وحينئذٍ ينظر في العالمين فلو كان أحدهما أعلم من الآخر في الفقه وتعارضا في مسألة فقهية أو عالم يحسن الحديث ولايحسن الفقه وعالم يحسن الفقه ولايحسن الحديث فإن تعارضا في مسألة حديثية قدم العالم الذي يحسن الحديث على العالم الذي يحسن الفقه ، وإن كانت مسألة فقهية قدم الذي يحسن المتون والنظر في الفقه على الذي يحسن الأسانيد والنظر في الحديث لأنه لابد وأن يعطى كل إنسان حقه وقدره فقد أمر النبي صلى الله عليه وسلم بأنزال الناس منازلهم فهذا عالم متقن لأمره متفرغ له قد جعل له وسعه فهو أدرى بما يقول واضبط للأصول وأعرف بكلام العلماء - رحمة الله عليهم- وأقعد بالدليل ، فلذلك
__________
(1) / الأنبياء ، آية: 107.(22/24)
الغلبة بالظن برجحان قوله .
كذلك أيضاً لو قال قائل إن استويا في العلم فمذهب بعض الأصوليين أنه ينظر إلى حال العالمين فإن وجد أحدهما أصلح وأتقى لله عز وجل وأورع وأكثر خشية لله-سبحانه-وأكثر اجتهاداً في العبادة والخير فغلبة الظن بأصابته للحق أكثر من غيره لأن الذي عُلم بالالتزام بالسنة والعبادة والصلاح والخير أقرب لطاعة الله وأقرب للتوفيق من الله عز وجل من غيره فكانت له مزية فضل أن يتبعه ويرجحه على غيره ، ولهذا أصل فالدليل على الترجيح بهذه المرجحات فعل السلف فإن الصحابة كانوا إذا اختلفوا في أمر من أمور النبي صلى الله عليه وسلم في بيته مع أهله احتكموا إلى أمهات المؤمنين فلما اختلفوا في حديث : (( إنما الماء من الماء)) ووجوب الغسل بمجرد الإيلاج بعث عمر رضي الله عنه إلى أم المؤمنين عائشة يسألها فذكرت حديثه عليه الصلاة والسلام -: (( إذا التقى الختان فقد وجب الغسل )) فقال عمر من خالف بعد اليوم جعلته نكالاً فجعل الأمر مرده إلى من هو أعلم بالسنة لأن أم المؤمنين في فقها في علم حال النبي صلى الله عليه وسلم في بيته أعلم ولما رجع إلى أم المؤمنين في علم مسائل السفر كانت تبعث إلى عبدالله بن عمر وكانت ترجع إليه فهذا من باب إنزال الناس منازلهم وهذا هو هدي السلف والأئمة رحمة الله عليهم ، حتى كانوا في المناقشات والمناظرات لايعدلون بأقوال الجهابذة وإذا جاء القول عن جهبذ متقن محرر لعلمه قد تفرغ له وبذل له وسعه فلاشك أن غلبة الظن بإصابة الحق فيه أولى ، ولذلك قال الإمام الشافعي رحمه الله "رضيت بمالك حجة بيني وبين الله" ، مع أنه في زمان مالك كان هناك أئمة وعلماء ولكنه لما رأى من حب مالك للسنة واتباعه لأثر النبي صلى الله عليه وسلم وكثرة خشية لله وكثرة عبادته وورعه في المشتبهات غلب ظنه برجحان قوله فرضي به حجة بينه وبين الله.(22/25)
كذلك أيضاً إذا كان هناك أمور تدل على رجحان القول كالعامي مثلاً يأتي ويستفتي العالم فيجد العالم يبسط له المسألة ويذكر له أن فيها خلافاً وأن القول الأول يقول كذا والثاني يقول كذا أو طالب علم يجد العالم يبسط له المسألة ويذكر له الخلاف ويجيب عن الأدلة والثاني يذكر له قول مجرداً عن الدليل أو يذكر القول بدليل ولايحسن الإجابة عن الدليل الآخر رجح عندك أن قول من بسط أولى بالصواب من الذي لم يبسط ، وهناك طريقة ثالثة يذكرها بعض العلماء وهي أن يأخذ دليل هذا ويعرضه على الثاني فينظر في جوابه فإن وجد منه القوة على الجواب والقدرة على رده علم أنه أقوى فإن وجد منه جواباً رجع إلى الثاني وذكر له دليلاً ولايقول له فلاناً يقول حتى لايوقع الشحناء والبغضاء ولكن يقول هناك من يقول كذا لكذا فهل هذا صحيح ؟
يقول له لا والجواب كذا وكذا ، فإن قال لا والجواب كذا وكذا فحينئذ يعلم أن الذي أجاب مقدم على الذي لم بجب فالحجة السالمة من المعارض أقوى من الحجة التي لها معارض والحجة التي أجيب عنها عن الاعتراضات الواردة والمناقشات التي عليها مقدمة على ضدها ولذلك يرضى بها ويكون غلبة الظن برجحانها أقوى من غيرها ، والله تعالى أعلم .
السؤال الثامن :
كماتعلمون يافضيلة الشيخ أننا على أعتاب الاختبارات النهائية فهلا ذكرتنا حفظك الله ماينبغي علينا فعله في هذه الأيام..؟؟
الجواب :
-أسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يمن علينا وعليكم بالنجاة من عذاب الدنيا وعذاب الآخرة و امتحان الدنيا وامتحان الآخرة وبلاء الدنيا والآخرة ونسأله بعزته وجلاله أن يسلمنا إلى كل خير وطاعة وبر أنه ولي ذلك والقادر عليه-.
أوصي بأمور :
أولها للطلاب :(22/26)
أوصيهم أن يجعلوا الآخرة أكبر همهم ومبلغ علمهم وغاية رغبتهم وسؤلهم وأن يكون خوفهم من اختبار الآخرة أشد من خوفهم من اختبار الدنيا وأن يجعلوا اختبار الدنيا مذكراً لهم اختبار الآخرة فكم اهتمت النفوس وشحذت الهمم وأصبح الإنسان في قلق وكرب بهذه الاختبارت وماعند الله أولى بذلك كله بل أولى بما هو أعظم من هذا كله ، ولاشك أن الإنسان الموفق يتخذ من هذه المواقف زاداً يعينه على ذكر الآخرة ولايزال قلب الإنسان حياً ماذكر الآخرة بل لايزال الإنسان موفقاً لكل خير ماعمر قلبه بامتحان الآخرة ، والله أثنى على من ذكر الآخرة وقام بحقها وأولاها ماينبغي أن يوليها ونسأل الله العظيم أن يجعلنا وإياكم ذلك الرجل ووالله ما دخل الخوف من الآخرة والخوف من امتحان الآخرة في قلب إنسان إلا أسهر عينه في طاعة الله وجعل جسده وجوارحه في محبة الله ومرضاة الله وتهذبت أخلاقه واستقامت أقواله وأفعاله على طاعة الله بذكر الآخرة وما وجد الناس ولاوجد الصلحاء والأتقياء والعلماء والفضلاء شيء يعينهم على طاعة الله - - عز وجل -- بعد كتاب الله مثل ذكر الآخرة فإنه ماعمر قلب بذكر امتحان الآخرة إلاوجدت صاحبه على أحسن وأكمل مايكون عليه الحال ، وكان بعض العلماء يكون إنه يوضع الحب للإنسان بكثرة خوفه من الله - - عز وجل -- باستدامة ذكر الآخرة .
أما الأمر الثاني : أوصي به إخواني من الطلاب فهو أن يرفقوا بأنفسهم وألا يحملوها مالا تطيق فإن النفس أمانة في عنق الإنسان فلا يحملها من التعب والسهر والنصب مالاتتحمله .
الأمر الثالث : أن يحدد الطالب أوقات للمراجعة والمذاكرة وأوقات للنوم والراحة ويعطي الجسم حظه حتى لايكون ظالماً ولايبغي بهذا على هذا .(22/27)
الأمر الرابع : الذي أوصي به طالب العلم في مثل هذه المواقف أن يكون دائم الذكر لله - - عز وجل -- كثير الاستغفار محافظاً على الفرائض كالصلوات فلايقصر في الصلاة مع الجماعة ويسهر إلى ساعات متأخرة بحيث تضيع عليه صلاة الفجر وكذلك أيضاً يتقاعس عن الصلاة ويأتي حتى تفوته الجماعة أو يأتي متأخراً لا بل ينبغي في مثل هذه المواقف أن يكون أشد محافظة على الصلاة وكلما حافظت على الفرائض وجدت التوفيق من الله خاصة في أيام الشدائد وصدق الله إذ يقول :{ وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاَةِ}(1) فقرن الله الصلاة مع الصبر وإذا وجدت المنكوب والمكروب في أيام كربته ونكبته كثير الصلاة كثير الاقبال على الله فاعلم أن الفرج أقرب إليه من حبل الوريد لأنها صلة بين العبد وربه ، ومن وفى لله في حقوقه وفى الله له والله مع العبد ماكان العبد معه ، ولذلك أوحى الله إلى حواري بني اسرائيل أنه معهم إذا أقاموا الصلاة وآتوا الزكاة وآمنوا برسله وعزروه ووقروه سبحانه وتعالى ومن كان الله معه فنعم المولى ونعم النصير.
الأمر الخامس : أن تبرأ إلى الله من الحول والقوة فلاتعتمد على ذكائك ولاعلى فهمك ولاعلى جدك ولاعلى اجتهادك ولكن توكل على الحي الذي لايموت وسبح بحمده وكفي به سبحانه ولياً ونصيراً ومن كنوز الجنة لاحول ولاقوة إلا بالله العلي العظيم ، لأنها كنز من كنوز الجنة ومفتاح خير للإنسان إذا برأ لله من الخير والقوة كمل الله نقصه وجبر كسره وأقر بالعاقبة عينه إذا بريء الإنسان من حوله وقوته وأسلم الحول والقوة لله مع أنه حافظ وفاهم فإن الله يوفقه ويلهمه ويسدده .
__________
(1) / البقرة ، آية : 45(22/28)
الوصية الثانية : في حال الاختبارات ينبغي على الإنسان أن يحمد الله على كل حال وأن يدخل وهو مطمئن واثق بالله - - عز وجل -- ولايدخل في القلق والحيرة ولكن يدخل مطمئن عليه رباطة الجأش وثبات القلب فالأمور كائنة على ماقدر الله - - عز وجل -- فإن وجد خيراً حمد الله وإن وجد ماسره قال الفضل والملة لله واعترف لله - - سبحانه وتعالى -- بالفضل ، والله-تعالى- يقول :{ وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكَانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيماً} فإذا أجاب ووجد الشيء الطيب قال الحمد لله ولا يخرج يتباهى ولا يتعالى فإذا خرج لا يكسر قلوب إخوانه فإنه قد يكسر قلوب إخوانه بادعاء الإجابة وغير ذلك من التصرفات التي يكون فيها أذية لإخوانه فليتواضع لله ويحمد الله - - عز وجل -- على كل حال لازم ذلك إذا وجد الضد أن يحمد الله على كل حال فلعل الدرجة تفوتك بالدنيا يعوضك الله بها في الآخرة وما من إنسان يرضى عن مصائب الدنيا إلا أقر الله عينه في الآخرة فمن رضي فله الرضا ولا يغتاب ولا ينم ولا يسب ولايشتم فإن المسلم نقي اللسان بريء الجواراح والأركان عفيفاً عن أعراض المسلمين ، ومن اللؤم أن يذكر من له الفضل عليه من أساتذته ومعلميه يغتابهم ويسبهم حتى لو رأيت على معلمك عورة فإن من الوفاء والجميل أن تستره فضلاً عن أن يتبجح الإنسان بها ويسبه ويشتمه أمام قرنائه -نسأل الله السلامة والعافية - لا بل يستر فما كان من خير ستره وما كان منه من إساءة سأل الله له العفو والصفح كلما ذكر جميله وفضله وإحسانه انكسرت عينه مهما كان من بالغ الإساءة والله-تعالى- أوحى إلى نبيه- عليه الصلاة والسلام - لما كتب حاطب بن أبي بلتعه كتابه لقريش بعد صلح الحديبية حينما نقضوا العهد قال عمر رضي الله عنه لما كشف أمر كتابه يارسول الله "دعني أضرب عنق هذا المنافق" فقال النبي صلى الله عليه وسلم :(( دعه ياعمر ومايدريك لعل الله أطلع على أهل بدر فقال(22/29)
اعملوا ماشئتم فقد غفرت لكم)) فالذي يحسن يذكر بإحسانه ولاتنسى حسنات المحسن فلاينبغي الغيبة والنميمة والسب والشتم والوقيعة في أعراض المدرسين وغير ذلك من الأمور التي يترفع عنها عامة المسلمين فضلاً عن طلاب العلم
والوصية الثانية : للأباء والأمهات أن يحسنوا لأبناءهم وبناتهم وأن يقدروا ماهم فيه من الضيف والكرب وهم الاختبار وأن يعينوهم بالتي هي أحسن ويذكروهم بالله عز وجل ويثبتوا قلوبهم ويفرغوا عليهم السكينة وهذا من الرفق الذي مدحه النبي صلى الله عليه وسلم ومن الاحسان في الرعية ومن أحسن إلى اولاده وبناته أحسن الله إليه فهذا من الاحسان قال صلى الله عليه وسلم :(( من ابتلي بشء من البنات فأدبهن وأحسن تأديبهن فأحسن إليهن إلا كن له ستراً من النار)) فالاحسان إلى الأولاد ستراً من النار فيحسن الإنسان إليهم وينظر إلى أحوالهم وماهم فيه من القلق فيدخل عليهم السرور والثقة بالله - - عز وجل -- حتى يتعودوا في الشدائد أن يكونوا قريبين من الله عز وجل .(22/30)
الوصية الأخيرة : للمعلمين والمعلمات أن يتقوا الله في أبناء المسلمين وبناتهم وأن يحسنوا القيام على شؤونهم ورعايتهم وألا يضغطوا عليهم ويحملوهم مالايطيقون ويضيقوا عليهم في الأسئلة ويضيقوا عليهم في الاختبارات فهذا من العنف الذي نهى عنه النبي صلى الله عليه وسلم وأخبرصلوات الله وسلامه عليه أن الإنسان مؤاخذ عليه إذا قصد الظلم والإساءة فمن الإساءة والظلم أن يأتي الطالب مشتت الذهن في هم وغم لكي يخاطبه المدرس بجفاء أو يطلب منه القراءة في الاختبار بقوة حتى يرتبك ويرتبش ويكون عنده عزوف عما في ذهنه وخاطره فهذا لاينبغي بل هذا من الظلم والإساءة يتحمل إثم هذا بل ينبغي أخذهم بالحنان واللطف والرفق فإن النبي صلى الله عليه وسلم :(( من نفس عن مؤمن كربة نفس الله عنه كربة من كرب يوم القيامة )) وخاصة الصغار الضعفاء ولو صدر منهم الجهل والإساءة فإنهم يؤخذون باللطف ، وكذلك أيضاً ييسر عليهم في الاختبار ولايشدد عليهم في الأسئلة ، وإنما تكون بين بين بحيث يأخذ الجيد حقه ويأخذ المتوسط حقه ويأخذ الضعيف حقه فلايسئ مرة فلايكون صلباً فيكسر ولايكون ليناً فيعصى وإنما يكون بينهما والله-تعالى-يقول :{وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَاما} والعاقل الحكيم الموفق المدرس المعلم الملهم يستطيع أن يضع الأمور في نصابها إذا وفقه الله عز وجل .
-نسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يوفقنا لمافيه حبه ورضاه وأن يرزقنا الصلاح وتقواه إنه ولي ذلك والقادر عليه- .
وَآخِرُ دَعْوَانَا أَنِ الحمَْدُ لِلَّهِ رَبِّ العَالَميْنَ وصلَّى اللَّهُ وسلَّم وبارك على عبده ونبيَّه محمد وعلى آله وصحبه أجمعين .(22/31)
بسم الله الرحمن الرحيم
يقول المصنف- رحمه الله- : بَاب مَا جَاءَ فِي الْوُضُوءِ مَرَّتَيْنِ مَرَّتَيْنِ
حَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْبٍ وَمُحَمَّدُ بْنُ رَافِعٍ قَالاَ حَدَّثَنَا زَيْدُ بْنُ حُبَابٍ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ ثَابِتِ بْنِ ثَوْبَانَ قَالَ حَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْفَضْلِ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ هُرْمُزَ هُوَ الأَعْرَجُ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم تَوَضَّأَ مَرَّتَيْنِ مَرَّتَيْنِ" .
الشرح :
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين أما بعد :
فقد ذكر المصنف رحمه الله حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم " توضأ مرتين مرتين" الأصل في الوضوء أن يغسل المكلف جوارحه مرة مرة ويمسح برأسه كما أمر الله عز وجل ومن غسل أعضاء الوضوء ومسحها مرة واحدة فيما يمسح فقد فعل ما أوجب الله عز وجل عليه ، ولذلك ذهب الأصوليون إلى أن الأصل في الأوامر ألا يطلب المكلف فيها بالتكرار فتكرار الوضوء ليس بواجب ولكن هذا التكرار فعله النبي صلى الله عليه وسلم من باب الكمال وقسم العلماء - رحمهم الله - الكمال في الوضوء إلى قسمين :
القسم الأول : الأكمل في الوضوء أن يتوضأ ثلاثاً ثلاثاً .
القسم الثاني : وهو أوسط الكمال وذلك بأن يتوضأ مرتين مرتين فإذا فعل ذلك فقد أجزأه وهذا الحديث حجة على جواز التثنية في أعضاء الوضوء ، وقد اعتنى الإمام الحافظ الترمذي كإخوانه من الأئمة الحفاظ ببيان هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم بتثنية الوضوء وتثليث غسل أعضاء الوضوء كما فعل الإمام النسائي وغيره-رحمة الله على الجميع- وقوله : توضأ مرتين مرتين " للعلماء فيه قولان :(23/1)
القول الأول : أنه شامل لجميع أعضاء الوضوء وهو مذهب الشافعية -رحمة الله عليهم - وبناءً على هذا فإنهم يستحبون لمن توضأ مرتين مرتين أن يمسح رأسه مرتين مرتين .
والقول الثاني : وذهب جمهور العلماء إلى أن قوله"توضأ مرتين مرتين " في غالب أعضاء الوضوء وأن مسح الرأس لايشمله ذلك وإنما عبر الراوي لأن أغلب أعضاء الوضوء غسلها النبي صلى الله عليه وسلم مرتين مرتين ، وهذا هو الصحيح أن مسح الرأس لايكرر وأن السنة فيه أن يقع مرة واحدة .
قال المصنف -رحمه الله - : بَاب مَا جَاءَ فِي الْوُضُوءِ ثَلاَثاً ثَلاَثاً
حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مَهْدِيٍّ عَنْ سُفْيَانَ عَنْ أَبِي إِسْحَقَ عَنْ أَبِي حَيَّةَ عَنْ عَلِيٍّ": أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم تَوَضَّأَ ثَلاَثاً ثَلاَثاً " .
قَالَ أَبو عِيسَى رحمه الله : وَفِي الْبَاب عَنْ عُثْمَانَ وَعَائِشَةَ وَالرُّبَيِّعِ وَابْنِ عُمَرَ وَأَبِي أُمَامَةَ وَأَبِي رَافِعٍ وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْروٍ وَمُعَاوِيَةَ وَأَبِي هُرَيْرَةَ وَجَابِرٍ وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ زَيْدٍ وَأُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ .
قَالَ أَبو عِيسَى رحمه الله : حَدِيثُ عَلِيٍّ أَحْسَنُ شَيْءٍ فِي هَذَا الْبَابِ وَأَصَحُّ لأَنَّهُ قَدْ رُوِيَ مِنْ غَيْرِ وَجْهٍ عَنْ عَلِيٍّ -رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِ- وَالْعَمَلُ عَلَى هَذَا عِنْدَ عَامَّةِ أَهْلِ الْعِلْمِ أَنَّ الْوُضُوءَ يُجْزِئُ مَرَّةً مَرَّةً وَمَرَّتَيْنِ أَفْضَلُ وَأَفْضَلُهُ ثَلاَثٌ وَلَيْسَ بَعْدَهُ شَيْءٌ و قَالَ ابْنُ الْمُبَارَكِ لاَ آمَنُ إِذَا زَادَ فِي الْوُضُوءِ عَلَى الثَّلاَثِ أَنْ يَأْثَمَ و قَالَ أَحْمَدُ وَإِسْحَقُ لاَ يَزِيدُ عَلَى الثَّلاَثِ إِلاَّ رَجُلٌ مُبْتَلًى .
الشرح :(23/2)
هذا الحديث الذي ذكره المصنف-رحمه الله -يدل على هدي النبي صلى الله عليه وسلم الأكمل في وضوئه -صلوات الله وسلامه عليه - فأفضل ما يكون الوضوء أن يكون ثلاث مرات ، وحمل بعض العلماء قول النبي صلى الله عليه وسلم :(( أسبغوا الوضوء على التثليث)) ؛ لأن في التثليث زيادة مشقة وعناء على المكلف وأجر من ثلَّث أعظم من أجر من ثنَّى ومن غسل مرة واحدة ، وقد ذكر المصنف رحمه الله حديث علي بهذه الرواية وهي مجملة ، وقد جاءت الرواية الثانية مفسرة لفعله -- رضي الله عنه - و أرضاه- وذلك أنه دعا بالماء وتوضأ أمام الناس فغسل الأعضاء ثلاثاً ثلاثاً ورفع ذلك إلى النبي صلى الله عليه وسلم وبعض العلماء بجعل هذا الحديث قولياً وحديث علي الآخر فعلياً كل ذلك من باب التأكيد على التثليث .
وقوله -رحمه الله -"عن ابن المبارك ":هو الإمام عبدالله بن المبارك وقد تقدمت ترجمته معنا.
وقوله " لا آمن على من زاد على الثلاث أن يأثم": من غسل أعضاء الوضوء ثلاثاً فلا يُشرع له أن يزيد الغسلة الرابعة فإن زاد الغسلة الرابعة فلا يخلوا من حالتين :
الحالة الأولى : أن يكون ذلك منه على سبيل الابتلاء والوسوسة ، كأن يشك أنه ثنَّى أو ثلّث فيبني على التثنية فيزيد واحدة وتتضح أنها الرابعة فهذا معذور لمكان الشك والدخل ؛ ولكن اختلف العلماء رحمهم الله هل إذا شك الإنسان أنه غسل مرتين أو ثلاثاً هل يُشرع له أن يزيد ؟؟
والصحيح أنه يجوز له يزيد غسلة لطلب الفضل إلاً إذا استرسل معه الوسواس- نسأل الله السلامة والعافية- فقال بعض العلماء إذا استرسل معه الوسواس فإنه يقتصر على مرة واحدة حتى لا يكون للشيطان عليه سبيل والله يكتب له أجر الثلاث لمكان العذر .(23/3)
وأما الحالة الثانية : أن يزيد الغسلة الرابعة معتقداً الفضل فهذه بدعة بإجماع العلماء- رحمهم الله - ، وقد اتفق العلماء على أن من غسل الغسلة الرابعة يظن أنها أفضل أنه قد أساء وظلم واعتدى لحديث ابن ماجة والنسائي أن النبي صلى الله عليه وسلم ((توضأ ثلاثاً ثلاثاً)) وقال : (( هذا وضوئي ووضوء الأنبياء من قبلي فمن زاد فقد أساء وظلم وتعدى)) ، وقال بعض العلماء : إن هذا الحديث يدل دلالةً واضحةً على الإثم وهذا هو الذي جعل الإمام عبدالله بن المبارك -رحمة الله عليه -يقول "لا آمن على من زاد على الثلاث أن يأثم" أي لا آمن أن يعاقبه الله عز وجل ويكون آثماً بهذا الفعل لأنه اعتداء في الشرع ، وحمل بعض العلماء مثل هذا الاعتداء على قوله صلوات الله وسلامه عليه في حديث ابن ماجة عن عبد الله بن مغفل رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال :(( يأتي في آخر الزمان أقوام يعتدون في الطهور و في الدعاء)) ، قالوا و الأعتداء في الطهور يشمل هذه الحالة-أعني إذا غسل أربع مرات-.
و هنا مسألة : فلو أن إنساناً توضأ ثم أراد أن يجدد الوضوء فهل نعتبر غسلة التجديد متصلة بالوضوء الأول أو منفصلة ..؟؟
مثال ذلك : لو توضأ مرة مرة في الوضوء الأول فهل نحسب وضوءه الثاني مرة مرة ثانية متصلة بالأولى ، للعلماء في هذه المسألة قولان :
القول الأول:أن تجديد الوضوء منفصل وبناءً على ذلك فمن توضأ ثلاث مرات يجوز له أن يجدِّد الوضوء متى شاء .(23/4)
القول الثاني : إن تجديد الوضوء يعتبر متصلاً ، ولكن عندهم خلاف وتفصيل فمنهم من يقول إنه متصل مالم يصلِ بالوضوء الأول ، فإن تنَّفل أو صلى صلاة مفروضة انقطع الاتصال وحينئذ يجوز له أن يجدد ويعتبر التجديد بمثابة الغسلة الجديدة المنفصلة ، وبناءً على هذا القول فمن توضأ ثلاث مرات وأراد أن يجدد نظر فيه أصحاب هذا القول فإن لم يتنفل ولم يصل فإنهم يمنعونه من التجديد لأن التجديد في حقه غسلة رابعة والغسلة الرابعة ممنوع منها ، وأما إذا كان قد صلى فإنهم يجيزون له أن يتوضأ من جديد .
و احتجوا بقوله -عليه الصلاة و السلام- : ((حينما سُئل أنتوضأ من لحوم الغنم قال : إن شئت)) فمن المعلوم أن السائل لم يستفصل منه النبي صلى الله عليه وسلم وإنما أطلق له الحكم فدل على أن التجديد منفصل ، وبناءً على ذلك يعتبر غسلة منفصلة ، ولا شك في أن الاحتياط أن يمتنع الإنسان من الغسلة الرابعة سواء صلى أو لم يصل لمكان الإتصال وإن كان القول بالانفصال له وجه ، وقال العلماء رحمهم الله إن وضوء النبي صلى الله عليه وسلم ثلاثاً ثلاثاً فيه فضيلة تحات الذنوب والخطايا فالإنسان إذا توضأ مرة واحدة كان أقل في الفضل وإذا توضأ مرتين كان أبلغ ثم إذا توضأ ثلاثاً كان أكمل ما يكون من التطهير من الذنوب وهو أحظ الناس بعظم الأجر من الله عز وجل لما ثبت في الحديث الصحيح عن أم المؤمنين عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : (( ثوابك على قدر نصبك)) ولا شك أن من غسل ثلاثاً نصبه أعظم وتعبه أشد .
قال المصنف -رحمه الله - : بَاب مَا جَاءَ فِي الْوُضُوءِ مَرَّةً وَمَرَّتَيْنِ وَثَلاَثاً(23/5)
حَدَّثَنَا إِسْمَعِيلُ بْنُ مُوسَى الْفَزَارِيُّ حَدَّثَنَا شَرِيكٌ عَنْ ثَابِتِ بْنِ أَبِي صَفِيَّةَ قَالَ:" قُلْتُ : " لأَبِي جَعْفَرٍ حَدَّثَكَ جَابِرٌ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم تَوَضَّأَ مَرَّةً مَرَّةً وَمَرَّتَيْنِ مَرَّتَيْنِ وَثَلاَثاً ثَلاَثاً "، قَالَ :" نَعَمْ ".
الشرح :
هذا الحديث يرويه ثابت ابن أبي صفية عن أبي جعفر ، وثابت ابن أبي صفية رافضي منكر الحديث ، ولذلك ضعّف العلماء رحمهم الله حديثه هذا وأبو صفية اسمه عدي الكوفي والحديث ضعيف ؛ ولكن شهدت أدلة أخرى بمتنه أن النبي صلى الله عليه وسلم توضأ فغسل بعض الأعضاء مرة وبعضها مرتين وبعضها ثلاثاً .
وفي هذا دليل على مشروعية التغيير في العدد وأنه لا يجب على الإنسان إذا التزم الثلاث أن يستمر بها إلى كمال الوضوء فقد يكون الماء قليلاً ، ولذلك يقتصر في بعض الأعضاء على التثليث وبعضها على التثنية وفي بعضها على المرة.
وهنا سؤال : إذا كان الوضوء لا يكفي لتثليث جميع الأعضاء ؛ و إنما يستطيع أن يثلث بعضها دون بعض..؟؟
فقال بعض العلماء : المستحب أن يغسل وجهه ثلاث مرات وأن يجعل التثليث للوجه لأنه أشرف الأعضاء ولذلك قال صلى الله عليه وسلم : (( سجد وجهي للذي خلقه وصوره وشق سمعه وبصره)) فاختار أشرف الأعضاء وأكملها لكي يتذلل لربه سبحانه وتعالى ، ولذلك قالوا من أجل هذا فالأفضل أن يجعل التثليث للوجه فإن زاد شيء جعله لليدين فحينئذٍ يكون التثليث للوجه واليدين وهذا لكون هذين العضوين أفضل ، ومن هنا ينال الإنسان كتابه بيمينه وشرفت اليد بمناولة الكتا ب وشُرف الوجه بتذلل النبي صلى الله عليه وسلم لربه بالسجود والذكر به .
و قوله " توضأ مرة مرة ، و مرتين مرتين و ثلاثاً ثلاثاً" أي غسل بعض الأعضاء مرة و بعضها مرتين وبعضها ثلاثاً.(23/6)
وقوله " قلت لأبي جعفر ": المراد بأبي جعفر الإمام محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب رضي الله عن الجميع إمام وسيد من العلماء الأجلاء الأتقياء من آل بيت النبي صلى الله عليه وسلم أجمع العلماء على علمه وفضله وجلالة قدره ولد-رحمه الله -سنة ستين للهجرة وعاش ثلاثاً وستين سنة وكان رحمه الله مثالاً في العلم والعمل والزهد والدعوة إلى الخير.
وقوله " قلت لأبي جعفر حدثكم جابر": هذا النوع من الرواية اختلف العلماء- رحمهم الله -فيه على قولين :
القول الأول : أن الرواية تثبت إذا قال الشيخ نعم ، وتوضيح ذلك أنه سأل أبا جعفر هل حدثه جابر بكذا وكذا فقال : أبو جعفر قال نعم فالجمهور يعتبرون قول الشيخ نعم ، بمثابة قوله"حدثني جابر" أن النبي صلى الله عليه وسلم فعل كذا وكذا ، وبناءً على ذلك تعتبر هذه الرواية و يكون جواب الشيخ بنعم بمثابة سياقه للسند والمتن وهذا هو المحفوظ عند العلماء ، وعليه العمل أن إجابة الشيخ بنعم بمثابة ذكر السند و المتن لأن "الجواب مُعاد فيه السؤال" وهذه قاعدة عند العلماء رحمهم الله فإن أجاب المجيب بنعم فكأنه كرر السؤال بإجابته وهكذا إذا أجاب بلا فمعناه لا لم يحدثني فلان عن فلان عن فلان وقس على ذلك من المسائل حتى ألحق العلماء بها مسائل الفقه فلو قالت امرأة لزوجها طلقتني فقال : نعم فهي طالق كأنه قال : نعم طلقتك أو أنت طالق .
و بناءً على ذلك يعتبر قول الشيخ نعم ، بمثابة سياق السند والمتن.
والقول الثاني : وخالف في هذه المسألة بعض أصحاب الإمام الشافعي والظاهرية -رحمة الله على الجميع-وقالوا : لابد للشيخ من أن يصرح بالسند وبالمتن والصحيح ما ذكرناه .
قال المصنف رحمه الله : بَاب مَا جَاءَ فِيمَنْ يَتَوَضَّأُ بَعْضَ وُضُوئِهِ مَرَّتَيْنِ وَبَعْضَهُ ثَلاَثاً(23/7)
حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي عُمَرَ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ عَنْ عَمْرِو بْنِ يَحْيَى عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ زَيْدٍ :" أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم تَوَضَّأَ فَغَسَلَ وَجْهَهُ ثَلاَثاً وَغَسَلَ يَدَيْهِ مَرَّتَيْنِ مَرَّتَيْنِ وَمَسَحَ بِرَأْسِهِ وَغَسَلَ رِجْلَيْهِ مَرَّتَيْنِ " .
قَالَ أَبو عِيسَى رحمه الله : هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ وَقَدْ ذُكِرَ فِي غَيْرِ حَدِيثٍ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم تَوَضَّأَ بَعْضَ وُضُوئِهِ مَرَّةً وَبَعْضَهُ ثَلاَثاً وَقَدْ رَخَّصَ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ فِي ذَلِكَ لَمْ يَرَوْا بَأْساً أَنْ يَتَوَضَّأَ الرَّجُلُ بَعْضَ وُضُوئِهِ ثَلاَثاً وَبَعْضَهُ مَرَّتَيْنِ أَوْ مَرَّةً .
الشرح :
هذا الباب كالباب الذي سبق والفرق بينهما أن حديث عبد الله بن زيد رضي الله عنه ترجم له الإمام الحافط بالمرتين والثلاث والذي قبله فيه زيادة المرة ، وختم الإمام رحمه الله هذه المسألة بما ذكر من مذهب العلماء ، والعمل في الفتوى على جواز التثليث والتثنية والإفراد جمعاً وأنه لا حرج على الإنسان أن يجمع بينها ولو غسل بعض الأعضاء مرتين وبعضها ثلاثاً واقتصر على التثنيه والتثليث دون مسح الرأ س فإنه يجزيه ذلك ولاحرج عليه .
قال المصنف -رحمه الله - : بَاب مَا جَاءَ فِي وُضُوءِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم كَيْفَ كَانَ ؟(23/8)
حَدَّثَنَا هَنَّادٌ وَقُتَيْبَةُ قَالاً حَدَّثَنَا أَبُو الأَحْوَصِ عَنْ أَبِي إِسْحَقَ عَنْ أَبِي حَيَّةَ قَالَ:" رَأَيْتُ عَلِيًّا تَوَضَّأَ فَغَسَلَ كَفَّيْهِ حَتَّى أَنْقَاهُمَا ثُمَّ مَضْمَضَ ثَلاَثاً وَاسْتَنْشَقَ ثَلاَثاً وَغَسَلَ وَجْهَهُ ثَلاَثاً وَذِرَاعَيْهِ ثَلاَثاً وَمَسَحَ بِرَأْسِهِ مَرَّةً ثُمَّ غَسَلَ قَدَمَيْهِ إِلَى الْكَعْبَيْنِ ثُمَّ قَامَ فَأَخَذَ فَضْلَ طَهُورِهِ فَشَرِبَهُ وَهُوَ قَائِمٌ ثُمَّ قَالَ أَحْبَبْتُ أَنْ أُرِيَكُمْ كَيْفَ كَانَ طُهُورُ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم ".
الشرح :
هذا الباب عقده المصنف رحمه الله لصفة وضوء النبي صلى الله عليه وسلم وقد جاءت هذه الصفة في أحاديث من أشهرها حديث عثمان رضي الله عنه وأصله في الصحيحين ، وحديث عبدالله بن زيد كذلك في الصحيحين ، وحديث عبدالله بن عباس عن علي ، وكذلك هذا الحديث الذي معنا كلها في صفة وضوء النبي صلى الله عليه وسلم وقد فعل علي هذا الوضوء فعله إبان وجوده بالكوفة حينما كان خليفة للمسلمين فدعا بالماء وتوضأ هذا الوضوء في الرحبة لكي يري الناس وضوء النبي صلى الله عليه وسلم ، وهذا يدل على حرص أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم على تبليغ العلم وبيان السنة وهدي النبي صلى الله عليه وسلم وأنهم أدوا الأمانة التي حملوها وذلك ببيان هديهصلوات الله وسلامه عليه ولم يقتصر حرصهم على البلاغ بالقول حتى شمل الفعل ، وقد جاء عنه رضي الله عنه وأرضاه أنه دعا بالماء ثم غسل كفيه حتى أنقاهما ، الكفان مثنى كف وحد الكف من أطراف الأصابع إلى الزندين ، وقال العلماء : سمي الكف كفا لأنه تكف به الأشياء .
وغسل الكفين لايخلو الإنسان فيه من ثلاث حالات :
الحالة الأولى:أن يكون على يقين بنجاسة اليدين فحينئذٍ يجب عليه غسل الكفين وهذا بإجماع العلماء رحمهم الله .(23/9)
الحالة الثانية : أن يكون مستيقناً طهارة يديه فحينئذٍ يستحب له أن يغسل كفيه ولايجب وذلك لأنه سينقل الماء بيديه فلربما كان في اليدين نتن من شيء فيكون أبلغ في نظافتهما ونقائهما ، وحينئذٍ يكون الماء الذي يجعل فيهما نقياً طاهراً وهذا هو مقصود الشرع بالبداءة بغسل الكفين قال : "حتى أنقاهما " .
الحالة الثالثة : في غسل الكفين : أن يكون الإنسان على شككٍ من طهارة يديه فحينئذٍ يستحب له أن يقطع الشك باليقين ، وإلا فالأصل طهارة كفيه حتى يتيقن نجاستها فإذا شك هل أصابت يديه النجاسة أو لم تصبهما فحينئذٍ يبني على أنهما طاهرتان وحينئذٍ لايجب عليه غسل الكفين ولكن يستحب.
والدليل على استحباب غسل الشيء المشكوك فيه ونضحه بالماء ما ثبت في الصحيح من حديث أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم لما دخل على أم حرام بنت ملحان - رضي الله عنها - قال أنس فقال لنا : (( قوموا فلأيصل لكم)) قال : " فقمت إلى حصير قد اسود من طول مالبس فنضحته بالماء" فدل على إستحباب نضح الشيء المشكوك فيه فاستحب العلماء - رحمهم الله - إذا شك في يديه أن يغسلهما لمداومة النبي - صلى الله عليه وسلم -- على الغسل .
وبقيت حالة الاستيقاظ من النوم وهي حالة مفردة يجب على المكلف فيها أن يبدأ بغسل كفيه ثلاثاً سواء كان مستيقظاً من نوم الليل أو من نوم النهار وسواء تحقق من كونها طاهرة أو كونهما نجسة لأن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بذلك بدون تمييز.
قوله " حتى أنقاهما ": أي صارتا نقيتين طاهرتين نظيفتين من الدنس.
قال " ثم مضمض ثلاثا واستنشق ثلاثاً ": المضمضة والاستنشاق قد تقدم أنهما من سنن الوضوء والتثليث فيهما مستحب .
وقوله " وغسل وجهه ثلاثاً ": وهذا هو الفرض الأول من فرائض الوضوء .
قال : " وذراعيه ثلاثاً": أي غسل الذراعين ، والذراعان من أطراف الأصابع إلى مفصل المرفق فهذا هو الذراع والمراد بذلك أنه غسل حتى استوعب المرفقين.(23/10)
وقوله " ومسح برأسه مرة ": احتج به جمهور العلماء رحمهم الله على مشروعية الإفراد لمسح الرأس وأن السنة إذا ثلث أعضاء الوضوء أن يمسح برأسه مرة واحدة ، وهذا الحديث الصحيح هو من أقوى الأحاديث دلالة على عدم التثليث في الرأس لأن النبي صلى الله عليه وسلم مسح مرة واحدة ولأنك إذا مسحت بالرأس كأنك غسلته إذا ثلثت ، ومن هنا قالوا السنة كما يقول الجمهور أن يقتصر على المرة الواحدة ثم غسل قدميه إلى الكعبين أي غسل كلتا رجليه ولم يذكر تثليثاً ولاتثنية وقد يكون سكوته للعلم بذلك .
وقال الشافعية في الجواب عن هذا الحديث إن هذا الحديث محمول على الجمع بين الإفراد والتثليث فالنبي صلى الله عليه وسلم ثلث غسل الوجه والمضمضة والاستنشاق وغسل اليدين وأفرد مسح الرأس والرجلين.
والصحيح ما ذهب إليه الجمهور من أنه دليل على افراد مسح الرأس .
وقوله " ثم شرب فضل وضوئه ثم قام " قوله" شرب فضل وضوئه ": الفضل هو الزائد وفضلة الطهور هو مازاد من الماء بعد الوضوء وفضلة الطهور الطهور بالفتح هو الماء الذي يتطهر به سواء في الغسل أو في الوضوء والطهور بالضم هو الفعل فإذا قيل طهور المراد به الفعل ، ومنه قوله- عليه الصلاة والسلام -:(( الطهور شطرالايمان)) وإذا قيل الطهورالمراد به الماء الذي يتطهر به وفضلة الطهور أي مابقي بعد الوضوء وهذا يدل على مسائل :
المسألة الأولى : مشروعية شرب الماء الزائد عن الوضوء سواءً كان قليلاً أو كان كثيراً مالم يضر بالإنسان لأن النبي صلى الله عليه وسلم شرب الفضلة ، وقال بعض العلماء : يختص باليسير لأنه كان يتوضأ بالمد ولايزيد إلا الشيء القليل ومن هنا قالوا يختص بالقليل دون الكثير ، وعلى هذا فإنه لايكون من السنة شرب الكثير .
والصحيح أنه لافرق بين القليل والكثير .(23/11)
المسألة الثانية : مشروعية الشرب قائماً وهذه المسألة وردت فيها أحاديث عن النبي صلى الله عليه وسلم وظاهر هذه الأحاديث التعارض فقد نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الشرب قائماً حتى جاء في الحديث عنه أنه قال :(( من شرب قائماً فليستقه )) أي يستقي الماء الذي شربه وهو قائم وجاء في الحديث : (( أن من شرب قائماً فقد شرب معه القرين)) قالوا فهذا يدل على عدم جواز الشرب قائماً ، وقد ثبت النهي عنه عليه الصلاة والسلام عن الشرب قائماً وجاء في الأحاديث ما يدل على جواز الشرب قائماً وذلك في نوعين من الأحاديث :
النوع الأول : أحاديث الوضوء وذلك في حديث علي رضي الله عنه الذي معنا حيث شرب فضلة الوضوء ورفع ذلك إلى النبي صلى الله عليه وسلم .
النوع الثاني: من الأحاديث فأحاديث ماء زمزم ومن أشهرها حديث حجة الوداع حيث كان راكباً على بعيره ووقف على العباس وهو يسقي الناس صبيحة يوم النحر واستقاه فسقاه من الدلو فشرب عليه الصلاة والسلام وهو على البعير ومن كان على بعير بمثابة القائم لأنه يرسل رجليه وحينئذٍ يكون في حكم القائم وكذلك جاء في حديث أحمد في مسنده أنه لما طاف عليه الصلاة والسلام وصلى خلف المقام شرب من زمزم ثم صعد إلى الصفا فأخذ العلماء من هذا سنة الشرب والفصل بين الركعتين وبين السعي بين الصفا والمروة بشرب ماء زمزم قالوا وقد شرب عليه الصلاة والسلام قائماً ، وبناءً على ذلك قالوا إن هذه الأحاديث تدل على الجواز وقد اختلف العلماء في الجمع بين هذه الأحاديث على ثلاثة مذاهب :(23/12)
المذهب الأول : تحريم شرب الماء قائماً على المسلمين وما ورد من الأحاديث خاص بالنبي صلى الله عليه وسلم لأنه أمن القرين والقاعدة : " أنه إذا تعارض قوله وفعله قدم قوله على فعله" وقد خص الله نبيهصلوات الله وسلامه عليه بالخصائص التي لا تكون لسائر أمته قالوا فحينئذٍ نقدم التحريم على الجواز والقاعدة في الأصول : " أنه إذا تعارض النهي والاباحة قدم النهي " فحينئذٍ قالوا نقدم أدلة التحريم على أدلة الجواز .
المذهب الثاني : جواز الشرب قائماً وحينئذٍ أجابوا عن أحاديث الجواز بأن النبي صلى الله عليه وسلم صرف بها التحريم إلى الكراهة فقالوا يجوز الشرب قائماً ولكنه مكروه ، وبناءً على ذلك جمعوا بين أحاديث النهي وأحاديث الجواز بصرف النهي عن ظاهره إلى الكراهة .
المذهب الثالث : يقول يجوز ذلك في ماء زمزم دون غيره وهذا القول مبني على علل :
أولها : أن النبي صلى الله عليه وسلم شرب زمزم قائماً قالوا وهذا لخاصية في هذا الماء لأنه إذا شرب قائماً كان أمكن في الري من زمزم و مقصود الشرع أن يرتوي الإنسان لمكان الخير والبركة التي جعلها الله في هذا الماء ، ولذلك قال عليه الصلاة والسلام :(( إنه طعام طعم وشفاء سقم)) فلما كان مقصود الشرع أن يكثر الإنسان من شربه شربه عليه الصلاة والسلام قائماً ، ومنهم من يقول : يلحق بذلك الشرب لفضلة الوضوء لأنه شيء يسير لا يحكم بكونه شرباً أي ليس بماء كثير فيفرق بين اليسير والكثير.
ولاشك أن المذهب القائل بالمنع أحوط وهو أولى وأحرى وأما ماء زمزم فإنه مستثنى ويجوز للإنسان أن يشربه قائماً تأسياً بالنبي صلى الله عليه وسلم وقد بين رضي الله عنه أنه فعل هذا ليري الناس صفة وضوء النبي صلى الله عليه وسلم .(23/13)
وفيه دليل على مشروعية الدعوة بالفعل : والمراد بالدعوة بالفعل تطبيق السنة بالفعل فذلك أبلغ في الفهم والوعي خاصة في الأمور التي تضبط بالرؤية أكثر من ضبطها بالسماع ففعله رضي الله عنه للوضوء يدل على أن من السنة والهدي بيان بعض المسائل بالفعل ، ومن هنا قال بعض العلماء : يستحب للعالم و طالب العلم إذا كان بين أناس يجهلون السنة في الطهارة والعبادة أن يطبق ذلك ويريه للناس حتى يتأسوا بالنبي صلى الله عليه وسلم على أتم الوجوه وأكملها ، وقال بعض العلماء : إن البيان بالفعل أبلغ من البيان بالقول ؛ والسبب في ذلك أن القول يحتمل الخطأ في الفهم ويحتمل الخطأ في التعبير ولكن الفعل أبلغ في الدلالة والبيان ولذلك حج النبي صلى الله عليه وسلم بالناس وقد كان بالإمكان أن يبين لهم المناسك بالقول ولكنه أخر ذلك إلى حجة الوداع وقال :(( خذوا عني مناسككم)) وقال للصحابي كما في الصحيح قال له :((صلوا صلاة كذا حين كذا وكذا وصلاة كذا وكذا إذا حضرت الصلاة فليؤذن أحدكما وليؤمكا أكبركما وصلواكما رأيتموني أصلي)) فهذا يدل على قوة البيان بالفعل وقد استحبه العلماء رحمهم الله خاصة إذا كان الإنسان بين العوام الذين يكثر فيهم الجهل ففعل هذه الأمور يكون أبلغ في بيان سنة النبي صلى الله عليه وسلم وهديه. ... ... ...
... ... ... ... ... ...
- ? - ? - ? - ? - الأسئلة - ? - ? - ? - ? -
السؤال الأول :
نرجوا توضيح صحة حديث:(( من توضأ مرة فله كفل ومن توضأ مرتين فله كفلين ومن توضأ ثلاثاً فتلك سنن الأنبياء ))..؟؟
الجواب :
أما ماسألت عنه من حديث الكفل في المرة والمرتين والثلاث فهو حديث ضعفه غير واحد من العلماء -رحمة الله عليهم - وقالوا لا يثبت عنه صلى الله عليه وسلم بهذا اللفظ حديث ، والله تعالى أعلم .
السؤال الثاني :(23/14)
كيف يجمع الإنسان بين سنة الشرب جالساً وعدم الجلوس في المسجد إلا بعد صلاة الركعتين مع أنه يكره الصلاة وفي نفس الإنسان رغبة خاصة في الطعام والشراب خاصة إذاكانت له رغبة شديدة قد تفسد الخشوع..؟؟
الجواب :
ما يستطيع يصبر على كأس ماء حتى يصلي ركعتين يعني بعض الإخوة-أصلحهم الله- إذا سألوا يشددوا في المسألة يعني مايستطيع أن يصبر قد لا تجاوز دقيقتين أو ثلاثة يركع فيها ركعتي تحية المسجد ويخففها ويتجوز فيها فقد ثبت عنه عليه الصلاة والسلام في يوم الجمعة أنه أمر الرجل أن يتجوز في الركعتين فالأمر ليس بتلك الشدة الثابت عنه عليه الصلاة والسلام أنه أمر بالركعتين قبل الجلوس فحينئذٍ لايجلس حتى يصلي ركعتين سامح بعض العلماء وقال يجوز أن يجلس ويشرب ثم يقوم لأنها جلسة خفيفة وعدوا ذلك بمثابة جلسة الخطيب على المنبر لأن النبي صلى الله عليه وسلم جلس ولم يصل ركعتي التحية حينما دخل المسجد ، ولكن هذا القول كما ذكر غير واحد من العلماء من باب الاستحسان وهو ضعيف لأنه قياس على فرع مستثنى من الأصل فإن بعض العلماء يرى أن خطبتي الجمعة بمثابة الركعتين وحينئذٍ يكون لا دليل في هذا القياس ولاوجه له ، والصحيح أنه لايجلس حتى يصلي ركعتين ثم بعد ذلك يشرب ماشاء ، والله تعالى أعلم .
السؤال الثالث :
قلنا للبعض بأن النبي صلى الله عليه وسلم قد توضأ بالمد فقال مجيباً لم يكن هناك ماء على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فما نجيب هؤلاء..؟؟
الجواب:(23/15)
تجيب بأنه ما عنده علم كيف ماكان فيه ماء على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم هذا جهل -نسأل الله السلامة والعافية- من سأل عن شيء من هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم فليتق الله وليعلم أنه بين الجنة والنار الجنة إن اتقى الله عز وجل وتورع والنار إن تقحم على بصيره فأفتى بغير علم وماهذا الجواب ، وقد ثبت في الأحاديث عنه صلى الله عليه وسلم أنه توضأ بالماء وقوله لم يكن ماء بإشارة على أن الماء قليل على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فهذا غير وارد لأن الله عز وجل أمرنا بالوضوء بالماء بغض النظر عن كونه قليلاً في المدينه أو كثيراً فلاوجه لهذا التفريق ولاوجه لهذا الاجتهاد وهذا المسلك يسلكه بعض من لايحسن الفهم والفقه في السنة فإنك إذا أتيتهم بالسنن وهي ثابتة عن النبي صلى الله عليه وسلم تكلفوا في ردها والجواب عنها وعدم قبولها وهذا-نسأل الله السلامة والعافية -من الحرمان إذا بلغتك السنة عن النبي صلى الله عليه وسلم فاجتهد واحرص على تطبيقها والعمل بها والتزامها والدعوة إليها وإياك أن تكون ممن في قلبه مرض فأصبح منصرفاً عنها مشتغلاً عنها بالأهواء والأراء والعلل ومحاولة إفساد دلالتها وردها- نسأل الله السلامة والعافية- فلايزال الإنسان يتكلف في رد السنة حتى ينسلخ من السنة-نسأل الله السلامة والعافية- فكلما جاءه هدي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم تكلف في الجواب عنه وتكلف في رده وعدم قبوله وهذا كله-نسأل الله السلامة والعافية- من الحرمان ولكن المؤمن الموفق إذا بلغته السنة حمد الله أولاً أن الله علمه فإنك إن تعلمت شيئاً من السنة رفعك الله بهذا العلم درجة وما أكرم وما أجل الدرجة إذا كانت بسنة النبي صلى الله عليه وسلم وهديه كان الرجل يسافر من مصر إلى مصر ومن قطر إلى قطر لسنة النبي صلى الله عليه وسلم وكان الرجل يقدم على الصحابي الجليل من أصحاب(23/16)
النبي صلى الله عليه وسلم فإذا جلس معه يقول له كيف كان رسول صلى الله عليه وسلم يصلي ؟ كيف كان رسول صلى الله عليه وسلم يتوضأ ؟ قال شهدت عمرو بن الحسين وقد رأى عبد الله بن زيد قال اتستطيع أن تريني كيف كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتوضأ إمام من الأئمة التابعين ورجل من أهل الفضل ويدخل على هذا الصحابي ويسأله عن الوضوء الذي هو من أوضح الأشياء ولكنه يريد السنة يريد هدي النبي صلى الله عليه وسلم ولما دخل أبو المنهال سيار بن سلامة رحمه الله يقول دخلت أنا وأبي على أبي برزة الأسلمي رضي الله عنه فلما دخلنا قال أبي كيف كان النبي صلى الله عليه وسلم يصلي المكتوبة ؟ كان الصحابة والتابعون لهم بإحسان يبحثون عن السنة يسألون عنها يحاولون أن يعرفون كيف كان هدي النبي صلى الله عليه وسلم في الصغير والكبير والجليل والحقير من الأمور كل ذلك ابتغاء مرضات الله عز وجل إذا تعلمت السنة رفع الله قدرك بهذا العلم وازددت خيراً وازددت بصيرة سواء تعلمت قولها أو تعلمت معناها فلو جلست في مجالس الذكرالتي تشرح فيها أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم فهذه رفعة درجة وخير لك في الدنيا والاخرة ، أما كون الإنسان كلما جاءته سنة يردها فإذا توضأ بالماء القليل قالوا لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن عنده ماء وإنما كان الماء عزيزاً قليلاً على عهد رسول صلى الله عليه وسلم لا والله كان عزيزاً قليلاً ولكن وضع الله فيه البركة ووضع فيه الخير .(23/17)
وأما كون الإنسان يحاول رد سنة النبي صلى الله عليه وسلم ويتكلف في الجواب عنها فهذا من الحرمان-نسأل الله السلامة والعافية-من الخذلان ونسأله أن يرزقنا التمسك بالسنه عند فساد الأمه وليحذر المسلم من هذا وإذا رأيت رجلاً يتكلف في مثل هذه الأمور فرده فقد يرد أموراً واجبة حتى من العجب لقد سمعت رجلاً ينتسب إلى طلب العلم يسأل عن اللحية التي أمر النبي صلى الله عليه وسلم بإعفائها فقال لأن زمان النبي صلى الله عليه وسلم كانوا يطلقون اللحية فهي من سنن العادات أي أننا في زماننا هذا الف الناس حلق اللحية فيكون لاحرج على الإنسان أن يحلق لحيته-والعياذ بالله-ويعصى رسول الله صلى الله عليه وسلم والله عز وجل يقول :{ فَلْيَحْذَرْ الذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ}(1) وقد قال لنا : (( اعفوا اللحية ، ارخوا اللحية)) فهذا يدل-نسأل الله السلامة والعافية- الانسلاخ من السنة انطمست بصيرته حتى لربما يترك الواجبات ولربما يقع في المحرمات ؛ لأن الله - - عز وجل -- يقول :{ فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ }(2) وكان السلف رحمة الله عليهم يخافون من ترك السنة فضلاً عن ردها لأن الإنسان إذا بلغته السنة ولم يعمل بها وهي ليست بواجبة أهون من الإنسان التي تبلغه السنة فيرد أنها سنة-نسأل الله السلامة والعافية- بل قال بعض العلماء من ترك الأمر الذي أمر به النبي صلى الله عليه وسلم وهو يعتقد أنه واجب أهون من إنسان يرده ولايقبله ويتكلف في الجواب عنه ؛ لأنه -نسأل الله السلامة والعافية- جمع بين مصيبتين رد السنة وعدم العمل بها فليحذر الإنسان إذا بلغتك السنة فقل سمعت وأطعت غفرانك ربي وإليك المصير هذا هو شأن الموفق الخير- نسأل الله العظيم أن يرزقنا حب السنن والالتزام بها والعمل بها والدعوة إليها إنه سميع مجيب- ، والله تعالى أعلم .
__________
(1) / النور ، آية : 63 .
(2) / الصف ، آية : 5 .(23/18)
السؤال الرابع :
أيهما أقوى و أصح المضمضة ثلاثاً ثم الأستنشاق ثلاثاً أو المضمضة و الأستنشاق ثلاثاًدون فصل بينهما ومادليل كلا القولين..؟؟
الجواب :
لا شك بأن الجمع بينهما من كفٍ واحدة هو السنة ، وقد بينا ذلك وحديث عبدالله بن زيد أنه تمضمض واستنشق ثلاثاً بثلاث غرفات واضح في الدلالة على أن السنة والأكمل أن يجمع بين المضمضة والاستنشاق من كفٍ واحدة ، والله تعالى أعلم .
السؤال الخامس :
هل ننكر على من شرب قائماً بتطبيقه سنة..؟؟
الجواب :
إذا شرب الإنسان قائماً فإن كنت تتوسم فيه أنه من أهل العلم ومن طلاب العلم فإن له تأويلاً وله مساغاً من السنة ، وأما إذا كان من غير طلاب العلم أو كان من العوام فتبين له هدى النبي صلى الله عليه وسلم في النهي عن الشرب قائماً وتقول له إن هذا هو الأحوط والأسلم ، والله تعالى أعلم .
السؤال السادس :
من تعود على صيام الإثنين و الخميس و أراد ا لسفر فما هو الأفضل له أو في حقه الصيام أم الفطر..؟؟
الجواب :
الصيام في السفر على حالتين : فإن كان يجهد الإنسان و يؤذيه و يحرجه فالأكمل له والأفضل أن يترك الصيام ولو كان من الفرض ، وأما إذا كان يطيقه فإنه لا حرج عليه أن يصوم ؛ ولكن صيام النافلة إذا كان الإنسان من عادته أن يصوم الإثنين والخميس ثم سافر كتب الله له أجر صيام الإثنين والخميس ؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال :(( إذا مرض العبد أو سافر كتب له عمله)) وهذا هو الأفضل أنه لا يصوم الإثنين أو الخميس لأنه يكتب له العمل ولأنه هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم فيكتب له الأجران أجر التأسي بالنبي صلى الله عليه وسلم حينما لم يثبت عنه أنه صام الإثنين والخميس في سفره، والله تعالى أعلم .
السؤال السابع :(23/19)
لو توضأ رجل ثم جفف يديه بمنديل ثم تبين له أنه نسي مسح رأسه فهل يعيد الوضوء من اليدين أم من الرأس؟ علماً بأن الفاصل الزمني قليل . و ما حكم التجفيف بالمناديل و نحوها..؟؟
الجواب :
إذا كان الفاصل يسيراً والزمان لا ينشف فيه العضو المتقدم فإنه يبني ولا يجب عليه أن يستأنف الوضوء ، وأما بالنسبة لتنشيف أعضاء الوضوء بالمنديل فهو خلاف الأفضل والأكمل فالأفضل والأكمل عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه كان ينفض الماء بيديه .
قال العلماء : لأن الذنوب تتحات والخطايا تذهب مع قطرات الماء كما ثبت في الحديث الصحيح -عليه الصلاة و السلام-:(( إن العبد إذا مضمض واستنشق وغسل وجهه خرجت كل خطيئة مع الماء أو مع قطر الماء حتى تخرج من تحت أشفار عينيه)) ثم ذكر اليدين والرأس والرجلين فدل هذا على أن الأفضل أن يترك قطرات الماء حتى يكون ذلك أبلغ في نقائه و طهره ، والله تعالى أعلم . ...
السؤال الثامن :
قلتم في إحدى المحاضرات في شرحكم لحديث :(( من زاد فقد ظلم)) قلتم في الزيادة ، زيادة عدد و زيادة موضع فكيف نوفق بين حديث من استطاع أن يطيل غرته فليطلها..؟؟
الجواب :
إطالة الغرة بتكرار العدد وهذا مذهب جمهور السلف والخلف في قوله عليه الصلاة والسلام من حديث أبي هريرة :(( إن أمتي يدعون غراً محجلين فمن استطاع منكم أن يطيل غرته)) هذه اللفظة فيها وجهان الوجه الأول : أنها مدرجة وفهم منها أبو هريرة الإطالة وكان يزيد عن محل الفرض ، وبناءً على هذا الوجه فإنه لا يستقيم الاعتراض بها ويكون الحديث في تكرار الغسل للأعضاء قالوا لأن زيادة النور في الوضوء إنما هو مبني على زيادة النقاء وكثرة المرات في الغسل فمن توضأ ثلاثاً فإنه أكمل نوراً يوم القيامة وأعظم بهاءً ممن يتوضأ مرة واحدة ، وعلى هذا فإنه لا تعارض و لا يرد ما ذكر ، والله تعالى أعلم .
السؤال التاسع :(23/20)
سائلة تقول : أن عادتها الشهرية اضطربت و جاءتها في غير أيامها المعتادة فهل في هذه الحالة تصلي او تترك الصلاة حتى تأتيها الأيام التي كانت تحيض فيها و السبب في ذلك أنها تتعاطى حبوب الدورة..؟؟
الجواب :
إذا اختلت العادة للمرأة فإن أمكنها أن تميز بلون الدم أو رائحته أو الألم أو غلظ الدم ورقته وكثرته وقلته فإنها تميز دمها ونقول لها هذا الدم الذي يخرج منك عليك أن تنظري فيه في صفات دم الحيض فما وجدت فيه صفة دم الحيض حكمت فيه بالعادة وحينئذ تمتنعي من فعل الصوم والصلاة وإذا لم تجدِ صفات دم الحيض حكمت بكونه استحاضة ، أما إذا اضطربت العاده بالكلية بحيث لا تستطيع أن تميز شيئاً وأصبح الأمر ملتبساً عليها والدم يسترسل معها ، ولا تستطيع أن تعرف دخول العادة وخروجها فحينئذ تتحيض ستاً أو سبعاً كما ثبت في الحديث الحسن عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه لما اشتكت له المرأة المستحاضه قال لها :(( تحيضي في علم الله ستاً أو سبعاً)) فتجلس سبعة أيام وحينئذ يرد السؤال هل السبعة من أول الشهر أو من آخر الشهر أو من وسط الشهر والجواب نقول لها إن كانت عادتك قبل هذا الاختلال تأتيك في أول الشهر فسبع من أول الشهر وإن كانت تأتيها في منتصف الشهر فسبع من منتصفه وإن كانت تأتيها من آخره فسبع من آخره ، وبناءً على ذلك فإنها تعتد بهذا العدد فإن كانت تحفظ عدد أيام عادتها بحيث كانت خمسة أيام أيام عادتها وأيام الدورة لها ولكنها اختلت على الصورة التي ذكرناها فتتحيض الخمس من أول الشهر أو من أوسط الشهر أو من آخر الشهر على التفصيل الذي ذكرناه ، والله تعالى أعلم .
السؤال العاشر :
هل يشترط في صحة الوضوء أن يسبقه الاستنجاء أو الاستجمار بعد قضاء الحاجة..؟؟
الجواب :(23/21)
لا يشترط في صحة الوضوء أن يسبقه الإستنجاء و الاستجمار بعد قضاء الحاجة فلو أن إنساناً كان في دورة الماء مثلاً على عري فاغتسل مثلاً ونوى الوضوء ثم أحدث ثم توضأ وتذكر أنه لم يغسل العضو فحينئذ يصب الماء دون أن يمس العضو ويصح وضوؤه لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال :(( لا يقبل الله صلاة أحدكم إذا أحدث حتى يتوضأ )) واعتد بفعل الوضوء وهذا قد فعل الوضوء والدليل على ذلك ما ثبت في الصحيح عنه عليه الصلاة والسلام أنه لما سأله عمر : أينام أحدنا وهو جنب فقال :(( توضأ واغسل ذكرك)) فأمره عليه الصلاة والسلام بالوضوء وجعله سابقاً لغسل الذكر فأخذ منه جمع من العلماء أن تقدم الوضوء على الاستنجاء لايضر ولكن السنة والأكمل والهدي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم سبق الاستنجاء وهي طهارة الخبث ولكن لا يؤثر إذا تأخر عن الوضوء بشرط أن لا يكون هناك نقض ، و الله تعالى أعلم .
السؤال الحادي عشر :
متى نحكم على المصلي بأنه قد أدرك تكبيرة الإحرام هل أثناء سكتة الإمام قبل القراءة أم قبل الركعة ..؟؟
الجواب :
هذه المسألة مبنية على حديث الترمذي وغيره أن النبي صلى الله عليه وسلم قال :(( من صلى أربعين يوماً لاتفوته تكبيرة الإحرام مع إمامه كتبت له براءتان براءة من النفاق و براءة من النار)) وهذا الأمر من أعظم الأمور فقل أن تجد إنساناً يستطيع أن يحافظ عليه محافظة كاملة بحيث لا تفوته تكبيرة الإحرام مع إمامه وحينئذٍ يرد السؤال ، كيف يعتبر أو متى نحكم بكونه مدركاً لتكبيرة الإحرام فلا تخلو الصلاة من حالتين :(23/22)
إما أن تكون سرية أو تكون جهرية فإن كانت جهرية فمالم يشرع بقراءة الفاتحه فحينئذٍ يحكم بكونه مدركاً فلو أنه كبر تكبيرة الإحرام ثم شرع في دعاء الإستفتاح وأدركته أثناء الدعاء أو بعد إنتهاء الدعاء وقبل البداءة بالقراءة فحينئذٍ يحكم بكون الإنسان مدركاً لتكبيرة الإحرام فإن قرأ الفاتحة أو شرع في قراءة الفاتحة فقد فات الاعتداد بهذه الصلاة في العدد أربعين يوماً .
الحالة الثانية : أن تكون الصلاة سرية فحينئذٍ يقدر الزمان الذي في مثله يقرأ دعاء الإستفتاح وهو أقل ما يجزي من الإستفتاح فإذا مضى مثل هذا الوقت فإنه قد فاتته تكبيرة الإحرام ، والله تعالى أعلم .
السؤال الثاني عشر :
ما حكم قلع السن أو الضرس إذا كان زائداً لا حاجة فيه و لا ضرر مع إبقاءه لكنه يشوه منظر الإنسان؟
الجواب :
بسم الله والحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه أمابعد :(23/23)
فلا يجوز تغيير الخلقة فإذا كانت هناك أعضاء زائدة فإنه لا يجوز للطبيب ولا للمكلف أن يأذن بإزالتها وتلك هي خلقة الله عز وجل أوجدها في الإنسان لحكمة حتى يكون له الأجر في الصبر على هذا البلاء كما ابتلى الأعمى بالعمى والنقص والمشلول بالشلل والنقص ، كذلك يبتلى بالزيادة فما يسعه إلا الصبر فهذا الجسد لله و لا يجوز للمسلم أن يقدم على تغيير خلقة الله ، وفي الحديث الصحيح عنه -عليه الصلاة و السلام- أنه : (( لعن الواشرة والمستوشرة والواصلة والمستوصلة ثم قال المتفلجات بالحسن المغيرات خلق الله)) فكأن قوله : (( المغيرات خلق الله )) وقع بمثابة التعليل للعن فالإقدام على تغيير الخلقة لا يجوز إلا إذا وجدت حاجة كأن يكون الناب زائداً ويضغط على اللثة و يجد الإنسان منه الألم والضرر فنعم ، وأما بالنسبة لكونه تتشوه خلقته فهذا ابتلاء ابتلاه الله عز وجل به كما فاضل الله عز وجل الناس في خلقهم لحكمة منه سبحانه وتعالى فجعل في هذا البلاء للمكلف أجراً من جهة كونه يصبر على هذا البلاء وقد يصرف الله عنه الفتنة بوجود التشوه في خلقته ، وكذلك أيضاً يذكر عباده برؤية هذا المخلوق على هذه الصورة فمن رأى زائد الأسنان حمد الله عز وجل على سلامة أسنانه ، ومن رأى زأئد الأصابع حمد الله عز وجل فهذا كله ابتلاء للرائي والمرئي وعلى هذا فلا يسع المكلف إلا أن يصبر و يحتسب ، والله تعالى أعلم.
السؤال الثالث عشر :
متى يجوز لي أن أصلي الفريضة في الطائرة و كيف تكون مع عدم استقبال القبله نرجو التوضيح و التفصيل في هذه المسألة ..؟؟
الجواب :(23/24)
الصلاة في الطائرة لا تكون إلا إذا غلب على ظنك أن وقت الفريضة يستغرق في السفر بحيث لا تستطيع أن تدرك وقت الفريضة على الأرض لا قبل ولا بعد ، لا من قبل ولا من بعد أما لو أمكنك أن تؤخر وتجمع جمع التأخير أو تقدم وتجمع جمع التقديم فتفعله حتى تؤدي الصلاة بأركانها وشرائط صحتها كاملةٌ فإذا كان الوقت مستغرقاً بحيث يشمل أوقات الصلوات فحينئذٍ تصلي في الطائرة وتختار موضعاً كالممر ونحوه منفصلاً عن أذية النا س خاصة في حال جلوسهم فتصلي وتستقبل القبلة إذا أمكن فإذا كان الموضع الذي أنت فيه لا يمكن معه إستقبال القبلة فتتحرى أقرب المواضع للقبله وتكبر ثم تصلى وتتم صلاتك وأنت قائم ، وأما بالنسبه للصلاة على الكرسي وأنت جالس فلا يرخص إلا إذا كان الإنسان لا يستطيع أن يقوم لاضطراب الطائرة وعدم وجود فرصة أن يقف فحينئذٍ يجوز له أن يجلس ، أما إذا أمكنه القيام فالقيام ركن ، وقد قال الله- تعالى -:{وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ }(1) و قال-سبحانه-:{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاَةِ }(2) وقال صلى الله عليه وسلم :(( إذا قمت إلى الصلاة فكبر)) ، وقال لعمران لما ابتلي بالبواسير : ((صل قائماً )) فالأصل أنه يصلي قائم لا يرخص له بالجلوس في الكرسي إلا إذا تعذر الأمر واستغرقت الرحله وقت الصلاة ولم يستطع أن يصلي على القيام فحينئذٍ يصلي جالساً على كرسيه وهذا كمثل الصلاة في السفينة إذا اضطربت فإنه يصلي جالساً إذا خشي من السقوط و الضرر ، والله تعالى أعلم .
السؤال الرابع عشر:
تقول السائلة أنها حجت قبل سنوات ولم تطف طواف الإفاضة حتى الآن فماذا عليها وماذا يلزمها..؟؟
الجواب :
__________
(1) / البقرة ، آية : 238 .
(2) / المائدة ، آية : 6 .(23/25)
أما أولاً : فعليها الندم و التوبة و الاستغفار للتساهل في فريضة الله عز وجل فالذي فرض الحج فرض أركانه وواجباته فلا يجوز للمسلم ولا للمسلمة أن يتساهل بهذه الفريضة وهذه الشعيرة فعليها الندم والاستغفار لأن الله سيحاسبها عن جميع هذا الوقت الذي أخرت فيه فريضة الله عز وجل من الطواف بالبيت الذي أمر به في كتابه :{ثُمَّ لِيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ}(1) ولذلك قال ابن رشد في البداية : إن هذا الطواف هو الذي أجمع العلماء على ركنيته في الحج وهو طواف الإفاضة ، وبناءً على ذلك تستغفر و تتوب إلى الله عز وجل .
الأمر الثاني : عليها أن تذهب وتأتي بعمرة وتبدأ أول ما تبدأ بطواف الإفاضة وتنويه عن حجها ثم تطوف عن عمرتها وتسعى بعد ذلك ، تطوف طواف الإفاضة وتصلي ركعتيه ثم تطوف عن عمرتها ثم تسعى فإن كانت قد حصل جماع في هذه الفترة قبل طوافها للإفاضة فالعمرة لازمة ويجب عليها أن تأتي بالعمرة وعليها دم في قول طائفة من العلماء رحمة الله عليهم ويكون هذا الدم لوجود الإخلال والإصابة وأفتى به بعض أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ، ولذلك أمر بالخروج إلى التنعيم ابن عباس-رضي الله عنهما-وعبد الله بن عمر أمرا بالخروج إلى التنعيم فيمن جامع قبل أن يطوف طواف الإفاضة أن يخرج إلى التنعيم وأن يهدي .
الحالة الثانية : أن لا يكون هناك جماع فحينئذٍ قلنا تأتي بعمرة استحباباً لا وجوباً وتطوف عن الافاضة وتطوف عن عمرتها وتسعى وعليها الدم الثاني وهو دم التأخير عن زمان الحج فهي مطالبة بدم التأخير سواءً وقع الجماع أو لم يقع فإن وقع الجماع فعليها دمان وعليها عمرة زائدة على فعل الطواف ، والله تعالى أعلم .
السؤال الخامس عشر :
__________
(1) / الحج ، آية : 29 .(23/26)
تقول السائلة : أنها قالت لزوجها وهي غاضبة أنه محرم عليك زواجي أو وطئي علماً بأن لها منه أولاداً فما الواجب عليها..؟؟
الجواب:
إذا قالت الزوجة لزوجها أنت علي كأبي أو كأخي وأنت حرام علي فهذا لايقع ظهاراً على أصح أقوال العلماء رحمة الله عليهم وإذا حرَّمت زوجها عليها فإنها يلزمها كفارة اليمين لقوله سبحانه وتعالى :{يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ }(1) ثم قال :{ قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ }(2) فتتحلل بكفارة اليمين وتتوب إلى الله وتستغفره.
وَآخِرُ دَعْوَانَا أَنِ الحمَْدُ لِلَّهِ رَبِّ العَالَميْنَ وصلَّى اللَّهُ وسلَّم وبارك على عبده ونبيَّه محمد وعلى آله وصحبه أجمعين
__________
(1) /سورة التحريم ، آية : 1.
(2) /سورة التحريم ، آية : 2.(23/27)
بسم الله الرحمن الرحيم
قال المصنف رحمه الله : بَاب مَا جَاءَ فِي النَّضْحِ بَعْدَ الْوُضُوءِ
حَدَّثَنَا نَصْرُ بْنُ عَلِيٍّ الْجَهْضَمِيُّ وَأَحْمَدُ بْنُ أَبِي عُبَيْدِ اللَّهِ السَّلِيمِيُّ الْبَصْرِيُّ قَالاَ حَدَّثَنَا أَبُو قُتَيْبَةَ سَلْمُ بْنُ قُتَيْبَةَ عَنِ الْحَسَنِ بْنِ عَلِيٍّ الْهَاشِمِيِّ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الأَعْرَجِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ:" جَاءَنِي جِبْرِيلُ فَقَالَ يَا مُحَمَّدُ إِذَا تَوَضَّأْتَ فَانْتَضِحْ )) .
قَالَ أَبو عِيسَى رحمه الله : هَذَا حَدِيثٌ غَرِيبٌ قَالَ وسَمِعْت مُحَمَّدًا يَقُولُ الْحَسَنُ بْنُ عَلِيٍ الْهَاشِمِيُّ مُنْكَرُ الْحَدِيثِ وَفِي الْبَاب عَنْ أَبِي الْحَكَمِ بْنِ سُفْيَانَ وَابْنِ عَبَّاسٍ وَزَيْدِ بْنِ حَارِثَةَ وَأَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ ، وقَالَ بَعْضُهُمْ سُفْيَانُ بْنُ الْحَكَمِ أَوِ الْحَكَمُ بْنُ سُفْيَانَ وَاضْطَرَبُوا فِي هَذَا الْحَدِيثِ *
الشرح :
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء و المرسلين سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين أما بعد :
فقد ذكر المصنف- رحمه الله-"باب النضح بعد الوضوء" : هذا الباب يعتبر من أهم الأبواب المتعلقة بطهارة الحدث والخبث ؛ والسبب في ذلك أن الناس يبتلون بالوسواس في الوضوء وفي الطهارة فناسب أن يشير إلى ما ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم في النضح وقد فسره المصنف رحمه الله بما ذُكر والنضح للعلماء فيه قولان :
القول الأول : إن النضح هو الرش بالماء أن تأخذ كفاً من الماء فترش بها على البدن أو على الثياب وهذا النضح هو أخف النوعين ، وقد جاء فيه حديث أنس بن مالك-- رضي الله عنه - و أرضاه- في الصحيحين أنه قال : " فقمت إلى حصير قد اسود من طول ما لُبس فنضحته بماء " أي رششت الماء عليه .(24/1)
وأما النوع الثاني : من النضح فهو صب الماء وعلى ذلك جاء حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم في الصحيح :(( و ما سُقي بالنضح ففيه ربع العشر)) أي ما سقي صباً بالماء فيه نصف العُشر إذا كان بالمؤنة والكلفة ولذلك فسروه بصب الماء ، وقد اختلف العلماء رحمهم الله في تفسير النضح في حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي ورد في نضح بول الغلام ؛ والسبب في ذلك تردد النضح بين هذين المعنيين فجمهور العلماء حملوا النضح على الرش بالماء دون الغسل وحمله المالكية -رحمة الله على الجميع- على صب الماء والغسل والمراد هنا رش الماء لا صبه ولا الغسل .
وقوله " باب ما جاء في النضح بعد الوضوء " هذا الحديث الذي ذكره المصنف- رحمه الله - يرويه الحسن بن علي الهاشمي وهو ضعيف الحديث ، ولذلك اعتبر العلماء هذا الحديث ساقطاً لأن راويه منكر وممن ضعفه الإمام أحمد و النسائي والدارقطني وغيرهم -رحمة الله على الجميع -وقال الإمام البخاري في راوية منكر وهي كلمة شديدة من الإمام البخاري حيث لا يقول في رجل إنه منكر الحديث إلا كان ممن لا تحل الرواية عنه ، وهذا الباب الذي ذكره المصنف- رحمه الله- في النضح اختلف العلماء رحمهم الله في تفسير الحديث الذي ورد فيه وإن كانت بعض التفاسير قد دلت عليها نصوص صحيحه ثابتة عن النبي صلى الله عليه وسلم .(24/2)
وقوله عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :(( جاءني جبريل)) : جبريل ملك من الملائكة وهو أفضلهم وأشرفهم كما نص العلماء رحمهم الله على ذلك ، وقد أثني الله عز وجل عليه ووصفه بأفضل الصفات فقال سبحانه وتعالى : {نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الأَمِينُ - عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنْ الْمُنذِرِينَ - بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ }(1) ووصفه سبحانه وتعالى بالشدة والقوة فقال سبحانه وتعالى :{عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى - ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوَى - وَهُوَ بِالأُفُقِ الأَعْلَى}(2) وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه رآه على خلقته وكانت أول رؤية له بمكة في شعابها فلما رآه على خلقتة خر مغشياً على وجهه ، ولذلك ورد أن له ستمائة جناح وأن النبي صلى الله عليه وسلم لما رفع بصره إلى السماء ليتبع الصوت الذي ناداه جبريل به رآه قد سد ألأفق وهذا يدل على عظم خلقته .
وقوله :(( جاءني جبريل)) : لأنه السفير والرسول بين الله عز وجل وبين رسله و قد شرفه الله عز وجل وكرمه ، ولذلك خصه بالذكر بين اللائكة تشريفا وتكريماً كما قال سبحانه وتعالى :{تَنَزَّلُ الْمَلاَئِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا} (3) فخصه بالذكر للدلالة على شرفه وعلو فضله عليهم وقد نص أهل السنة والجماعة في العقيدة على أنه أفضل الملائكة وأشرفهم .
وقوله : ((جاءني جبريل فأمرني أن أنتضح بعد الوضوء )) فقال : (( إذا توضأت فانتضح)) قوله : (( إذا توضأت فانتضح)) ظاهره إذا أتممت الوضوء وأكملت الوضوء فانتضح وقد فسر شُعبة راوي الحديث عن الحكم بأن يأخذ كفاً من الماء فينضح به الفرج وقد اختلف العلماء رحمهم الله في هذه الجملة على أربعة أقوال :
__________
(1) / الشعراء ، آية : 193 ، 194 ، 195 .
(2) / النجم ، آية : 5 ، 6 ، 7.
(3) / القدر ، آية : 4.(24/3)
القول الأول : إن المراد بالنضح في الحديث الذي ورد بالنضح سواء هذا الحديث أو الحديث الذي ورد عند النسائي عن الحكم أن المراد به أن يغسل العضو وأن لا يقتصر على مسح العضو.
القول الثاني : أن المراد به نتر الذكر وسنبين الكلام في هذا القول .
القول الثالث : إن المراد به أن يرش الثياب التي تلي الفرج كالسراويل ونحوها فهذه هي أشهر الأوجه في تفسير النضح بعد الوضوء .
أما بالنسبة لقولهم "إن المراد به غسل العضو لا مسحه": فقد نص العلماء رحمهم الله على أن السنة لمن أراد أن يطهر الفرجين بالماء أن يصب الماء على الفرجين ولا يقول أحد من السلف ولا من الخلف أنه يمسح العضو فليست طهارة العضو بالمسح وإنما هي بالغسل وذلك هو السنة الواردة عن النبي صلى الله عليه وسلم كما في حديث الإداوة عن انس وكذلك حديث أم المؤمنين ميمونة-رضي الله عنها- في صفة غسله عليه الصلاة والسلام من الجنابة ، ولذلك قالوا إن السنة أن يصب الماء ويغسل العضو لا أن يمسح .
و أما بالنسبة للقول الثاني وهو النتر فالنتر هو أن يجذب العضو وهذا الفعل ورد فيه حديث عن النبي صلى الله عليه وسلم تكلم العلماء في سنده وهو حديث ضعيف لا يثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم والمراد بالنتر أن يمسك العضو ويجذبه حتى يقوى العضو على إخراج ما هناك من النجاسة الباقية- أعني قطرات البول الأخيرة-وهذا النتر نص العلماء رحمهم الله على المنع منه بل نص بعض العلماء على بدعية فعله لاشتمله على الضرر ، وقد ذكر الأطباء أنه يضر بالعضو ضرراً شديداً ، ولذلك لا وجه للأمر به لأن الحديث لم يثبت ولاشتماله على الضرر والله لا يأمر بما فيه ضرر .(24/4)
وأما بالنسبة للقول الثالث : إن المراد بالنضح أن يستبرئ وذلك على صور والمراد بالاستبراء أن يمكن العضو من إخراج ما بقي من قطرات البول الأخيرة ؛ والسبب في ذلك أن بعض الناس قد يتأخر في بوله وتبقى قطرات يسيرة في العضو وحينئذٍ يحتاج إلى إخراجها بالمعالجة وهذه المعالجة تأتي على صور :
فمنهم من يخرجها بالنحنحة والصوت فيقوى على إخراج ما هناك ومنهم من يخرجها عن طريق السلت والسلت أن يضع رأس الأصبع -أعني أصبع اليسرى- أن يضعه في أصل مجرى البول من الذكر ثم يمرها حتى تصل إلى أعلى العضو فتقوى على إخراج ما هناك من القطرات .
وهذا النوع من السلت لا يخلو الإنسان من حالتين :
الحالة الأولى : أن يكون غير محتاجاً إليه وذلك لقوة العضو على الإخراج فحينئذٍ لا إشكال ، ولا وجه لأن يفعل هذا الفعل لأنه يضر بالعضو في بعض الأحوال إذا لم يكن الإنسان بحاجة إليه .
الحالة الثانية : وهو أن يكون محتاجاً إلى السلت لكبر سنه أو ضعف العضو على الإخراج فحينئذٍ نص العلماء على أنه لاحرج أن يخرج الباقي بالسلت واستدلوا بحديث ابن عباس في الصحيح في قصة المقبورين :(( أما أحدهما فكان لا يستبرئ من بوله )) وهي إحدى الروايات في الحديث قالوا : والاستبراء النقاء ولما كان مقصود الشرع أن ينقي العضو من الخارج وذلك لا يتحقق إلا عن طريق السلت شرع السلت ، ومن هنا قالوا إن من احتاج إلى السلت لا حرج أن يسلت وهذا القول له وجه من الأصل العام أعني قوله عليه الصلاة والسلام : (( لا يستبرئ من بوله)) ، ولذلك لا حرج إذا كان الإنسان محتاجاً إلى ذلك أن يفعله وقد نص على ذلك بعض الأئمة رحمة الله عليهم .(24/5)
وأما بالنسبة للقول الثالث في تفسير النضح فقد حملوه على رش الثياب وقالوا إن المراد بقوله : (( إذا توضأت فانتضح)) أي إذا انتهيت من الوضوء فانضح الثياب التي تلي فرجك وهذا التفسير حمل بعض العلماء الحديث عليه وهو يختص بأنواع من الناس ، ولذلك قال بعض العلماء : إنما ورد على هذا الوجه محمول عليه .
وتوضيح ذلك : أن الله عز وجل قد يبتلي بعض الناس بالوسواس في الحدث ، ولذلك يجد في نفسه أحاديث النفس أنه قد خرج من العضو شيء ولا يستقر له حال فكلما استنجى أو استجمر فتوضأ أحس كأن عضوه أخرج شيئاً ولربما كان الوسواس يأتيه في الصلاة فلا يستقر على حال ولا يزال به الوسواس حتى لربما ترك الصلاة من شدة ما يجد من المؤنة والبلاء -نسأل الله العافية- ومسألة الوسواس في الطهارة مسألة مهمة ولذلك لا يخلو الإنسان في وسواس الطهارة من حالتين :
الحالة الأولى : أن يكون وسواسه في الخبث- أعني إصابة النجاسة لبدنه أو ثوبه أو نحو ذلك مما يتصل به-.
الحالة الثانية : أن يكون الوسواس في خروج الخارج من بول أو ريح أو نحو ذلك .(24/6)
فأما إذا كان الوسواس في الخارج من البول والريح فإن الإنسان ينبغي عليه أن يعمل اليقين وذلك أن الله عز وجل ألزمه بالأصل فإذا كان الوسواس يأتيه أن البول قد أصاب الثياب أو قد أصاب أسفل البدن فحينئذٍ ينظر أسفل البدن فإن وجد البول كما حدثته نفسه ورأى آثار البول واستيقنها حينئذ وجب عليه أن يغسل ، وأما إذا كان مجرد حديث لا يرى معه أثر النجاسة فلا يلتفت إليه والله لا يكلفه ما وراء ذلك ، ومن هنا ينبغي على المسلم إذا جاءه الشيطان خاصةً عند قضائه للبول فحدثه أن البول قد أصاب رجليه أو قد أصاب أدنى الثياب التي تلي الأرض فإنه يبني على اليقين ولا يلتفت إلى هذه الوساوس والخطرات وليعلم علماً يقينياً أن الله عز وجل قد عفا عنه فإذا لم ترى عينه ذلك الأثر الذي حدثته به نفسه فإن الله عز وجل قد عفا عن ذلك ولو صلى وعليه النجاسة وهو لا يعلمها فإن صلاته صحيحة لحديث النعلين ، وبناءً على ذلك لا حاجة أن يُشدد فيشدد الله عليه ، ومن هنا قال العلماء : يعمل اليقين ولا يلتفت إلى الشك وهكذا بالنسبة لتطهير العضو فبعض ممن يُبتلى بالوسواس إذا أخرج العضو النجاسة فإنه يشكُ في تطهير العضو فلا يزال يصب الماء تلو الماء تلو الماء وكلما صب الماء شك أن الماء الذي صبه قد تنجس بقطرات البول فلا يهنأ له حال ولا يرتاح له بال وكل ذلك حرج ومشقة عليه لأنه خالف شرع الله وما أمره الله به والواجب عليه أن يصب الماء على العضو فإذا صب الماء على وجه هو أكثر من البول فإنه حينئذٍ نحكم بطهارة العضو ، ولا يكلف أن يصب الماء مرات وكرات وإذا جاءه الشيطان فقال له إنك إن غسلت العضو بالماء وصببت الماء على قطرات البول تنجس الماء بالبول-أعني بقطرات البول التي هناك- فهذا غير صحيح لأن الماء الكثير إذا ورد على النجاسة القليلة طهرها لما ثبت في الصحيح من حديث أنس بن مالك -- رضي الله عنه - و أرضاه- أن النبي - - صلى الله عليه وسلم(24/7)
--"أمر أن يصب ذنوب الماء على بول الأعرابي" فبول الأعرابي نجاسة في المسجد والأرض فاكتفى-عليه الصلاة و السلام- بصب الماء الكثير عليها فدل على أن الماء الكثير إذا صب على النجاسة طهرها ، ومن هنا إذا قال الشيطان إن قطرات البول تنجس غسالة الماء فهو غير صحيح ولا ينبغي أن يلتفت إلى هذه الوساوس لأنه إذا التفت إليها لم يستطع أن يتطهر وقد بلغ ببعضهم أن أشتكى أنه يشك في هذه الغُسالة فيدخل قبل صلاة الفجر ولا يخرج إلا بعد طلوع الشمس بساعات -نسأل الله السلامة والعافية- فأمر الوسواس أمر عظيم ولا شك أنه إذا أراد الله أن يرفع عن المبتلى به رزقه ثلاثة أمور مهمة :
الأمر الأول : الدعاء وكثرة الذكر لله سبحانه وتعالى ، لأن الله يحفظ من ذكره و يذكر عبده إذا تضرع إليه سبحانه وتعالى .
الأمر الثاني : فهو أن يُعمل اليقين ولا يلتفت إلى الشك فإذا جاءه الشيطان وقال له أصاب البول الثوب أو القدم لم يلتفت إلى ذلك إلا إذا رأت عينه القطرات وتحقق أنها قطرات بول لا قطرات ماء .(24/8)
الأمر الثالث : هو أن يرجع إلى العلماء ويُكثر سؤالهم لأن أكثر مسائل الوساوس مبنية على إفتاء الموسوس لنفسه و شكه في نفسه ولذلك إذا أدمن سؤال العلماء ارتاحت نفسه ، أما إذا أصبح يُفتي نفسه شكك نفسه فيما يفعل وما يذر وحينئذٍ لا يستقر له حال ، فتجده كلما أراد أن يقوم بناءً على غلبة الظن جاءه الشيطان وقال له إنك إذا قمت في هذه الحالة قمت وأنت على غير طهارة فيصيبك الوعيد الذي ورد في المقبورين فيخاف و يجلس وهكذا إذا صلى وأحس أن عضوه يتحرك شك هل خرج أو لم يخرج قال له الشيطان إنك إن أتممت الصلاة أتممتها باطلة وإذا بطلت صلاتك بطلت عبادتك وهي أساس العمل منك فلا يزال يخوفه ويرعبه حتى لا يهنأ له حال ، ولا يرتاح له بال وهذا هو دأب الشيطان مع الإنسان أنه عدو لدود يدخل عليه بالوسوسة حتى يفسد عليه العبادة وإذا يئس من المعاصي جاء من الطاعات فشدد على العبد حتى يشدد العبد على نفسه ، ومن هنا قرر العلماء أنه ينبغي على الموسوس أن يرجع دائماً إلى اليقين فإذا قال له الشيطان إن البول قد أصاب القدم فإنه إذا رأى الآثار والعلامات عمل بها وإذا لم يجد للبول أثراً فإنه يقوم ولا يلتفت إلى هذه الخطرات .(24/9)
و قوله (( فانتضح )) : حمل بعض العلماء ذلك على نضح الثياب -أعني السراويل التي تلي العضو- والحكمة في ذلك أنه إذا نضح السروال وجاءه الشيطان فقال له خرج منك شيء أو هذه قطرات البول لا زالت في ثيابك وصلاتك باطلة ردها إلى الماء فارتاح ، وبهذا القول أفتى عبد الله بن عباس حبر الأمة وترجمان القرآن ، وعبد الله بن عمر-رضي الله عنهما وأرضاهما -فكانا يفعلان النضح ويفتيان به ، ولذلك جاء رجل إلى عبد الله بن عباس كما روى عبد الرزاق في مصنفه وسأله أنه إذا قام في صلاته خيل له الشيطان أن بذكره شيء فقال له -- رضي الله عنه -و أرضاه- " قاتل الله الشيطان إنما عليك أن تنضح إذا توضأت" فأمره أن ينضح ثيابه فذهب عنه الوسواس ، فلذلك قال العلماء : من ابتليَ بالوسواس فإنه ينضح ثيابه حتى إذا جاءه الشيطان وقال له خرج بول ردّ القطرات إلى ذلك الماء الذي صبه وهو طاهر .
وهنا إشكال : وهو إذا كان الإنسان قد رش الماء على الثياب ثم مضى وقت طويل فإن الثياب ستنشف من أثر طول الزمان بسبب طول الزمان وحنيئذٍ لربما عاد إليه الوسواس فما هو الحل في هذه الحالة ..؟؟
والحل: أن الإنسان إذا حدثه الشيطان أنه خرج منه البول سواء حدثه في الصلاة أو في غير الصلاة فإنه لا ينصرف ولا يلتفت إلا إذا أحس بندى البول على فخذه ، أو أحس بقطرات البول من عضوه إحساساً يستيقن أو يغلب على ظنه به الخروج ، وأما ما عدا ذلك فإنه لا يلتفت إليه فهذه هي الأحكام المتعلقة بالشك والوسواس في طهارة الخبث .
أما النوع الثاني : من الشك والوسواس فهو الشك في خروج الخارج وذلك أن بعض الناس يشك إذا توضأ هل خرج منه الريح أو لم يخرج وفي بعض الأحيان يشك هل خرجت منه قطرات بول فانتقض وضوؤه أو لم يخرج أو لم تخرج القطرات والحكم حينئذٍ أنه ينبغي عليه في حالة الشك في خروج الريح أن يعمل إحدى العلامتين :
إما أن يسمع الصوت أو يشم الرائحة .(24/10)
فإذا لم يسمع الصوت أو لم يشم الرائحة فإن الله لم يكلفه ووضوؤه صحيح وصلاته صحيحه فإنه على يقين من أن وضوءه باقٍ ، وأما شكه في الخروج فلا تأثير له والأصل في ذلك ما ثبت في الصحيح من حديث عبد الله بن زيد رضي الله عنهما أنه قال : " شُكي إلى النبي صلى الله عليه وسلم الرجل يُخيل إليه أنه يجد الشيء في الصلاة؟" فقال صلى الله عليه وسلم :(( لا ينصرف حتى يسمع صوتاً أو يجد ريحاً)) فرد النبي صلى الله عليه وسلم المتوضئ إلى اليقين وأمره أن يعمل العلامات التي تغلب على الظن أو يستيقن الإنسان بها خروج الخارج وحدد ذلك بالصوت والرائحة فإذا وجد الرائحة فإنه يحكم بخروج الخارج وهكذا بالنسبة للصوت فدل على أن مجرد حركة العضو لايكفي في الحكم بخروج الخارج.
فلو أن إنساناً توضأ وبعد الوضوء أحس بحركة في الدبر فإنه لا يلتفت إلى هذه الحركة ولا يعول عليها إلا إذا سمع الصوت أو وجد الرائحة وقد ورد في بعض الآثار أن الشيطان يلعب بمقعدة الإنسان خاصةً إذا قام في الصلاة فظن أنه خرج منه شيء كل ذلك لكي يحرمه لذة الخشوع والوقوف بين يدي الله عز وجل ومن هنا لا يجب عليه أن يلتفت إلى هذه الحركة ولا يعول عليها ، وهكذا الحكم إذا شك هل خرج منه بول أم لم يخرج فبعض من الناس يحس كأن العضو يتحرك بعد وضوءه ، ومن هنا يشك في خروج القطرات فلا ينبغي عليه حينئذٍ أن يلتفت إلى هذه الحركة إلا في حالة واحدة ، وهي أن يجد بلل البول على السروال ونحو ذلك من الثياب التي تلي العضو أو يجد البلل على فخذه أو يحس به على العضو ففي هذه الحالات جميعها يحكم بخروج الخارج وانتقاض الوضوء ، وماعدا ذلك فإنه لا يلتفت إليه.
وهذا الحديث وإن كان ضعيفاً فمسائل الوسوسة المتفرعة عليه تعتبر مردودة إلى أصول الشريعة والنصوص الصحيحة الواردة عن النبي صلى الله عليه وسلم فهذه ثلاثة أوجه في الانتضاح .(24/11)
وهناك وجه رابع ذكره العلماء رحمهم الله في تفسير هذا الحديث أن المراد بالنضح أن يجمع بين الماء والحجارة وصورة ذلك إذا استجمر بالحجارة أن يصب الماء بعدها وذلك أبلغ ما يكون من النقاء والنظافة وهذه الصورة تعتبر من طهارة الأخباث ، وقد نص العلماء رحمهم الله على أنها أكمل ما يكون في النقاء والأصل في مشروعيتها قصد الشرع الذي دلت عليه النصوص الصحيحة من الاستبراء قصده والنقاء فقد بينت نصوص الكتاب والسنة أن الشرع يريد طهارة المكلف : { إنما يريد الله لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ}(1) فنص سبحانه وتعالى على قصده الطهارة من المكلفين ، وقصد الشارع أن يكون فعل المكلف موافقاً لقصده ونظراً لأن طهارة الخبث لا تعتبر من جنس التعبديات التي لا تعقل معانيها أجاز العلماء الجمع بين طهارة الماء والحجارة ولم ينص أحد من العلماء المتقدمين رحمة الله عليهم على المنع وحرمة هذا الفعل ، وبناءً على ذلك قالوا إن مقصود الشرع النقاء فإذا جمع المكلف بين الحجارة والماء فلا حرج لأنه ليس من جنس التعبديات التي يقصد بها الاقتصار على الوارد بعينه والدليل على ذلك أن طهارة الخبث لا تشترط لها النية بالإجماع ، ولذلك خرجت من العبادة التعبدية التي لا يعقل معناها وأصبحت من العبادة المعقولة المعنى كما ذكر العلماء رحمهم الله والمعنى في الاستنجاء والاستجمار هو النقاء بدليل قوله : (( لا يستبرئ من بوله )) وقوله : (( لا يستنزه من بوله )) فدل على أن مقصود الشرع هو النقاء ، ومن المعلوم أنه لو تطهر بالحجارة أخذ بالرخصة وذلك أنه إذا تطهر بالحجر بقيت فضلة النجاسة في الموضع وبإجماع العلماء أن هذه الفضلة تعتبر مغتفرة فإذا أنال الكمال بإزالتها بالماء خاصة وأن الماء طهارة وردت في الشرع فحينئذٍ ساغ أن يقال بتطهره بالماء كمالاً ، وعلى ذلك نص جمهور العلماء رحمهم الله على أن أفضل حالات الاستنجاء الثلاث أن يجمع بين
__________
(1) / الأنفال ، آية : 11 .(24/12)
الحجارة والماء قوله: (( إذا توضأت فانتضح)) قال العلماء : إن هذا الحديث ضعيف ولكن متنه يفصل فيه على الصورة التي ذكرنا فما كان من متنه تشهد الأصول باعتباره كدفع الوسواس في حالة رش الثياب التي تلي العضو وهكذا بالنسبة لكمال الاستبراء ، وكذلك صب الماء بدل مسح العضو فإنه لاحرج على المكلف أن يفعله.
قال المصنف-رحمه الله - : بَاب مَا جَاءَ فِي إِسْبَاغِ الْوُضُوءِ
حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ حُجْرٍ أَخْبَرَنَا إِسْمَعِيلُ بْنُ جَعْفَرٍ عَنِ الْعَلاَءِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ أَبِيهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ :(( أَلاَ أَدُلُّكُمْ عَلَى مَا يَمْحُو اللَّهُ بِهِ الْخَطَايَا وَيَرْفَعُ بِهِ الدَّرَجَاتِ ، قَالُوا بَلَى يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ :(( إِسْبَاغُ الْوُضُوءِ عَلَى الْمَكَارِهِ وَكَثْرَةُ الْخُطَا إِلَى الْمَسَاجِدِ وَانْتِظَارُ الصَّلاَةِ بَعْدَ الصَّلاَةِ فَذَلِكُمُ الرِّبَاطُ )) .
وقال أبوعيسى رحمه الله : حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ مُحَمَّدٍ عَنِ الْعَلاَءِ نَحْوَهُ وقَالَ قُتَيْبَةُ فِي حَدِيثِهِ فَذَلِكُمُ الرِّبَاطُ فَذَلِكُمُ الرِّبَاطُ فَذَلِكُمُ الرِّبَاطُ ثَلاَثاً )) .
الشرح :(24/13)
إسباغ الوضوء يعتبر من أجل القربات وأحبها إلى الله سبحانه وتعالى خاصة إذا كان الإنسان مستعجلاً أو عنده من الظروف التي تدفعه إلى عدم إسباغ الوضوء فكونه يسبغ مع هذه الظروف دليل على محبته لطاعة الله سبحانه وتعالى وعلى حرصه على الخير وشدة محافظته عليه وكلما كان المكلف حريصاً على طاعة الله محافظاً مداوماً عليها كلما كان أسعد الناس برحمة الله والفوز برضوانه ودار كرامته وقد ترجم العلماء رحمهم الله بهذه الترجمة وهي إسباغ الوضوء تأسياً بالحديث الوارد عن النبي صلى الله عليه وسلم وقد ذكر العلماء رحمهم الله ومنهم الإمام الترمذي -رحمة الله عليه- هذا الباب بعد صفة الوضوء وذلك للدليل على فضل العناية بأفضل حالات الوضوء وهي التثليث .
وقوله - عليه الصلاة والسلام -:(( ألا أدلكم )) : وفي رواية : (( ألا أخبركم)) قوله- عليه الصلاة والسلام -: (( ألا)) أداة استفتاح وتنبيه والمراد بها تشويق السامع والمخاطب إلى ما يقال فقد قصد النبي صلى الله عليه وسلم تشويق أصحابه - رضي الله عنهم - إلى سماع ما يذكره ، ومن هنا قال العلماء : يستحب أن يتعاطى الإنسان الكلمات التي تشوق السامع لفهم مايقول ، وكذلك تشوقه لحبه والعمل به خاصة إذا كان من الطاعات وفضائل الأعمال وهذا هو أسلوب الكتاب والسنة ولذلك تجد نصوص الكتاب والسنة تشتمل على الكلمات البليغة المؤثرة .(24/14)
وقوله عليه الصلاة والسلام :(( ألا نبئكم)): أي أخبركم ، (( ألا أنبئكم بما يمحو الله به الخطايا )) المحو هو إزالة الأثر يقال محوت الأثر إذا أزلته من مكانه ومنه قوله سبحانه وتعالى :{ يَمْحُوا اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ}(1) قالوا يمحو الله من صحيفة الملك وذلك إذا كان الملك عنده الصحيفة في حال العبد فيها أن عمره إن وصل الرحم ستين وأن عمره إذا لم يصلها أربعون والله أعلم هل يصل الرحم أو لايصل وحملوا على ذلك قوله عليه الصلاة والسلام :(( من أحب منكم أن ينسأ له في أثره ويزاد له في عمره)) فالمقصود أن المحو هو إزالة الشيء .
وقوله : (( يمحوالله به الخطايا)) : الخطايا جمع خطئية وهي مأخوذة من الخطأ لأن الإنسان إذا أصاب معاصي الله أووقع في حدود الله فقد أخطأ السبيل وعصى الجليل وحينئذٍ يوصف بكونه مخطئ للصواب والخير ، وكذلك الحال بالنسبة لكونه مسيئاً في جنب الله عز وجل .
وقوله عليه الصلاة والسلام : (( يمحو الله به الخطايا )) : قال العلماء : إن مغفرة الذنوب لها أسباب ومن أسبابها فعل الطاعات والمداومة على الخيرات والباقيات الصالحات ، والعبد إذا وقع منه الذنب فإما أن يندم ندماً شديداً صادقاً من قلبه ويعزم على أن ألايعود إلى ذلك الذنب فحينئذٍ يتوب فيتوب الله عز وجل عليه فهذا سبب من أسباب المحو والمغفرة ومن أسباب المغفرة أن يفعل العبد طاعة من طاعات الله عز وجل فيرضى الله عنه فيغفر له الذنب الذي فعله وهذه تأتي على صورتين :
الصورة الأولى : أن تكون بطاعات مخصوصة بين الله عز وجل أنها أسباب للعفو والمغفرة .
__________
(1) / الرعد ، آية : 39 .(24/15)
والصورة الثانية : أن تكون تفضلاً من الله سبحانه وتعالى ، ولذلك قد يكون العمل الصالح حقيراً يسيراً في نظر الإنسان ولكن الله يعظمه ويراه كبيراً من عبده فيغفر به زلته وذنبه ففي الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم :(( أن بغياً من بغايا بني إسرائيل مرت على كلب يلهث الثرى من الظمأ وهو يطوف بركية أي ببئر ماء فنزلت إلى البئر فسقته فشكر الله لها فغفر ذنبها )) فهذا العمل قد يكون يسيراً في نظر العبد ولكن الله يعظمه ويراه من العبد كبيراً تفضلاً منه سبحانه وتعالى وإلا فهو الموفق للخيرات والمعين على الطاعات ولاحول ولاقوة للإنسان إلا بربه ، ولذلك قال العلماء رحمهم الله : إن مغفرة الذنوب تأتي على ثلاثة أوجه :
الوجه الأول : إما أن يغفر الله الذنب بسبب توبة عبده وندمه وإنابته إليه سبحانه وتعالى .
والوجه الثاني : وإما أن يغفر الله الذنب بسبب طاعة وقربة يفعلها الإنسان فيرضى الله عنه فيغفر له ذنبه كبر والده وصلة رحم ونحو ذلك من الأفعال الصالحة .
والوجه الثالث : وإما أن يغفر الله له الذنب رحمة منه سبحانه وتعالى وتكرمًا لا يسأل عما يفعل يحكم ولامعقب لحكمه وهو سريع الحساب فلله نفحات ورحمات فلربما أصابت العبد رحمة من رحمات الله - جلاوعلا- تغفر بها ذنوبه وتستر بها عيوبه .(24/16)
وهذا الحديث يدل على النوع الثاني من أسباب المغفرة ومحو الخطايا وهو فعل الصالحات والمداومة على الأعمال الخيرية قال صلى الله عليه وسلم :(( ألا أنبئكم بما يمحو الله به الخطايا ويرفع به الدرجات)) الدرجات جمع درجة والمراد بالدرجات درجات الآخرة على أحد الوجهين وذلك أن الله - - سبحانه وتعالى -- جعل الجنة على درجات ومراتب أعظمها وأفضلها وأجلها وأكرمها درجة الأنبياء فليس فوق درجتهم درجة وهم بأعلى المنازل عند الله - - سبحانه وتعالى -- لأنه ما من خير يصيبه العباد إلابدلالة الرسل والأنبياء عليه ، ولذلك كانت منزلتهم أعلى المنازل وأحبها وأشرفها وأكرمها عند الله - - سبحانه وتعالى -- وخالف في ذلك أهل البدع والضلالة كاالمتصوفة الذين يقولون إن العبد إذا داوم على الطاعة وأصبح في أعلى مراتب الولاية أنه يفوق الأنبياء-نسأل الله السلامة والعافية- فعندهم إذا أطاع العبد ربه طاعة كاملة ووصل إلى مراتب العلم الباطن لربما وصل إلى درجة فوق درجة النبي تعالى الله عما يقول الظالمون علواً كبيراً ، ولاشك أن هذا القول جرأة على الله- - سبحانه وتعالى -- ومخالفة لنصوص الكتاب والسنة وتنطع في الدين فمنزلة الأنبياء والرسل لاتوازيها منزلة أحد كائناً من كان ، وأما ما ماورد من الأحاديث التي يتشبث بها بعض أهل الأهواء كقوله عليه الصلاة والسلام :(( يغبطهم عليها الأنبياء والشهداء)) فهذه منزلة خاصة والقاعدة في الفضائل : " أنه إذا فضل الخاص بالخصوص لايقتضي ذلك التفضيل على العام الذي ورد تفضيله بالعموم " .
وتوضيح ذلك : على سبيل المثال في أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم فأبو بكر أفضلهم بإجماع أهل السنة والجماعة وقد ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه فضل بعض أصحابه بفضائل خاصة فهل يعني ذلك أنه أفضل من أبي بكر ؟؟(24/17)
والجواب : لا ، لأن تفضيل أبي بكر وقع على العموم وتفضيل هذا الصحاببي وقع بالمنقبة الخاصة التي لاتقتصي التفضيل على العموم فيحمل علىهذا ماورد من قوله :(( يغبطهم الأنبياء والشهداء)) فهذه الغبطة لاتستلزم أنهم بنمزلة هي أفضل من منزلة الأنبياء والشهداء فهذه هي أعلى المراتب أعني مراتب الأنبياء ، ثم يلي مرتبة الأنبياء مرتبة العلماء العاملين الذين صدقوا في علمهم وتعليمهم ونفعهم للمسلمين فمنزلتهم بعد منازل الأنبياء ومرتبتهم هي مرتبة الصديقين الذين سمى الله بقوله سبحانه وتعالى :{فَأُوْلَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ }(1) فجعل المراتب منقسمة إلى هذه الأربعة وهي درجات الجنة المتفاضلة فدرجة العلماء بعد درجة الأنبياء ؛ والسبب في ذلك أن الله فضل الأنبياء بالنبوة والعلماء ورثوا من الأنبياء العلم فعلموا وعملوا وعلموا فكانوا في أحب المنازل إلى الله- - سبحانه وتعالى -- بعد منزلة الأنبياء وقاموا بدعوة الرسل بتبليغ شريعة الله عز وجل فنالوا هذا الفضل العظيم ، ولذلك قال العلماء : إن مرتبة العلم هي أشرف المراتب وأحبها إلى الله سبحانه وتعالى وهو أفضل من الجهاد لأن العالم يجاهد جهاد لايعلم حسن بلائه إلا الله عز وجل ، والسبب في ذلك أنه لايستطيع أن يصير عالماً إلابتعب ونصب ومحافظة على العلم أخذاً وتلقياً ويجد في ذلك من الفتن والموانع والأسباب التي تحول بينه وبين الخير ما الله به عليم فيصبر ويصابر حتى يحبب الله العلم إلى قلبه فإذا وفق للعلم فإنه يجتهد في ضبطه والمحافظة عليه وصيانة نفسه عن محارم الله وحدوده ثم إذا وفق للعمل وفقه الله عز وجل بعد ذلك لدعوة الناس ودلالتهم على الخير ويجد في ذلك من البلاء والنصب والتعب ماالله به عليم فيصبر على جهل الجاهلين وأذية المرجفين وغير
__________
(1) / النساء ، آية : 69 .(24/18)
ذلك من البلاء الذي يجده العالم ويتعرض لمشاكل الناس وهموهم وغمومهم فيتلقى ذلك بصدره الرحب ويحاول أن يجتهد في النوازل والمسائل والمعضلات والمشكلات ، وكل ذلك جهاد يرفع الله به درجته ويعظم له بلائه ويحسن له العاقبة في الدنياوالآخرة ، ولذلك لما عظم بلاؤهم وضع الله لهم القبول بين العباد وأعانهم على تبليغ شرعه ووفقهم للسداد وتلك رحمة الله وفضله الذي يؤتيه من يشاء فمرتبهم في المرتبة الثانية بعد مرتبة الأنبياء ثم يلي مرتبتهم مرتبة الشهداء ثم مرتبة الصالحين فدرجات الجنة متفاوتة بحسب ذلك .
وأما ورد في هذا الحديث من رفع الدرجة فهو الصلاح والخير وذلك أن الأعمال الصالحة تتفاوت درجاتها وكلما كان البلاء بها أشد كلما كان الأجر بها أعظم وكانت الدرجة بها أرفع .
وقوله- عليه الصلاة والسلام -:(( إسباغ الوضوء على المكاره )) : المراد بذلك أن يتوضأ ثلاث مرات وأن يحسن إصابة الماء لجسده وأعضاء وضوئه على الوجه الذي ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم ، والمراد بالمكاره مايجد من الصعوبة والشدائد التي تحول بينه وبين تثليث الوضوء وهكذا الإمعان في أصابة العضو بالماء .(24/19)
ومثال ذلك : أن يكون في شدة البرد والماء بارد فإن إسباغ الوضوء في هذه الحالة فيه أذية عليه ويعتبر مكروهاً إلى النفس بالجبلة والطبيعة فإذا أراد الإنسان أن يصب الماء على وجهه أو على يديه فإن هذين العضوين يتضرران ويجد الإنسان الأذى من تضررهما بسبب برد الماء وحينئذٍ إذا بالغ فتوضأ ثلاثاً كان ذلك من أصدق الدلائل على حبه في الخير وحرصه على هذه الطاعة الفاضلة ومن المكاره أن يكون الإنسان مستعجلاً لحاجة من حوائجه الدنيوية فيمتنع إلا أن يثلث وضوءه وذلك أن حوائجه الشخصية تدعوه إلى أن يقتصر على المرة الواحدة فيمتنع ويكرر الوضوء ثلاثاً فيتأخر عن حاجته ، ويستثنى من ذلك أن يكون هناك فضيلة هي أعظم من فضيلة التثليث في الوضوء كأن يطلبه الوالد أو الوالدة فحينئذٍ الأفضل له أن يبر والديه وهو أفضل من اسباغه للوضوء لأن مبادرته ببر الوالدين من أعظم القربات وأشرف الطاعات فحينئذٍ يسقط التثليث ويقتصر على الإجزاء .
ومن حالات المكاره أن يكون الماء عزيزاً على الإنسان فيتوضأ به مرة واحدة فيجزئه أن يتوضأ منه المرة الواحدة فيصر على التثليث وفي تثليثه تكلف لمشقة الماء فيثلث ومن حالات المكاره أن يكون الماء بعيداً عنه فيحرص على الذهاب والوضوء من البئر في وقت ليس فيه صلاة فيتوضأ ويكون على طهارة كل ذلك من إسباغ الوضوء على المكاره وذلك أن المكلف بفعله للوضوء على هذا الوجه صدقت رغبته ونيته في ما عند الله من الأجر والمثوبة ، ولذلك كان السلف الصالح -رحمة الله عليهم - يشيدون بهذه المنزلة العظيمة- أعني اسباغ الوضوء على المكاره- وكان الرجل تحضره الوفاة فيبكي وإذا سئل عن البكاء لم يذكر الدنيا وزينتها ، وإنما يتذكر لذة الوضوء في الليلة الشتاية الباردة ، وذلك من أثر ما يجد من طاعة الله وحلاوة محبته ومرضاته بالحرص على الخير .(24/20)
وقوله - عليه الصلاة والسلام -:(( إسباغ الوضوء على المكاره ، وكثرة الخطا إلى المساجد)) : كثرة الخطا إلى المساجد أي المشي إلى المساجد للصلاة مع الجماعة وهي من الطاعات المحبوبة إلى الله سبحانه وتعالى ، ولذلك أجمع العلماء :أن المشي أفضل من الركوب وفي حديث الجمعة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال :(( ومشى ولم يركب)) وذلك أن المشي فيه كلفة ومشقة .
وفي قوله - عليه الصلاة والسلام -: ((كثرة الخطا إلى المساجد)) : لأن الخطوة إلى المسجد تعتبر من الطاعة والقربة لله سبحانه وتعالى كما في الصحيح من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال :(( إذا توضأ العبد فاسبغ الوضوء ثم خرج إلى المسجد لايخرجه إلا الصلاة لم يخطو خطوة إلا كتبت له بها حسنة ومحيت عنه بها خطيئة)) وفي رواية : (( ورفعت له بها درجة)) فدل على فضل المشي إلى المساجد ، وقال بعض العلماء : في هذا دليل على أن الوسائل تأخذ حكم مقاصدها وذلك أن المشي إلى المسجد وسيلة إلى مقصد وهي الصلاة فنال الفضيلة لشرف المقصد وقرر العلماء رحمهم الله " أن الوسائل تتفاضل بحسب مقاصدها " .
وتوضيح ذلك : أن المشي لما كان لأفضل مقصد وهي الصلاة فإنه فضل من هذا الوجه وهكذا المشي في بر الوالدين أفضل من المشي في الطاعات التي هي دون البر وقس على ذلك من المسائل .
واختلف العلماء - رحمهم الله - هل إذا كان المسجد بعيداً عن الإنسان ومشى على قدميه هل الأفضل أن يمشي ويفوته الصف الأول أو تفوته تكبيرة الإحرام أو الأفضل أن يركب ويدرك الصف الأول وتكبيرة الإحرام..؟؟(24/21)
فأصح القولين أن الأفضل أن يركب لأنه إذا ركب وأدرك الصف الأول وتكبيرة الإحرام فإنهم فضيلتان متصلتان بالعبادة ، وأما المشي ففضيلة منفصلة عن العبادة فالأفضل له أن يركب ولايمشي وقد ثبت في الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم ثبت في الأحاديث أن الناس يتفاضلون في الصلاة فأعظم الناس أجراً في الصلاة أبعدهم إليها ممشى ففي الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال :(( أعظم الناس أجراً في الصلاة أبعدهم إليها ممشى)) وكان رجل لاتخطئه صلاة مع النبي صلى الله عليه وسلم وكان يمشي على رجليه بعيد الدار عن المسجد فقال له الصحابه لو اتخذت دابة تقيك حر الرمضاء والهوام في الليل فقال رضي الله عنه وأرضاه ما أحب أن طمب بيتي معلق بطم مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم إني أحتسب عند الله أن يجمع لي أجري في ذهابي ورجعتي فأخبر صلى الله عليه وسلم بخبره فقال عليه الصلاة والسلام قد جمع الله لك بين ذلك ، ولذلك إذا نوى الإنسان أن يكتب الله له الأجر في الذهاب والرجوع أجر بخطواته إلى المسجد في الذهاب والرجوع.
وقوله - عليه الصلاة والسلام - :(( وانتظار الصلاة بعد الصلاة فذلكم الرباط فذلكم الرباط فذلكم الرباط)) : انتظار الصلاة بعد الصلاة بمعنى أن يجلس في المسجد ولا يخرج منه حتى يصلي الصلاة الثانية كأن يصلي المغرب ويجلس في حلقة علم أو في ذكر لله عز وجل حتى يصلي العشاء فذلك رباط على الخير .(24/22)
قوله : (( فذلكم الرباط )) : الرباط هو حبس النفس على الشيء وأما في الشريعة فالمراد به الرباط في الثغور في نحر العدو وذلك بالسهر في حراسة الثغور وحفظها من الأعداء وهي من أحب الطاعات وأجلها لما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم من فضل الرباط في سبيل الله- - عز وجل -- ومن سهرت عينه مرابطاً حراساً لثغور المسلمين فإن عينه لاتمسها النار ، وفي الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال :(( رباط يوم في سبيل الله خير من الدنيا وما فيها)) .
وقوله : (( فذلكم الرباط)) : فيه ثلاثة أوجه :
الوجه الأول : أن هذا الفعل يعتبر بمثابة الرباط على الثغور لأن المرابط على الثغر رابط في نحر العدو وهذا رابط في طاعة الله - - سبحانه وتعالى --.
الوجه الثاني : أن المراد بقوله : (( الرباط)) الرباط على الخير وحبس النفس على طاعة الله سبحانه وتعالى .
الوجه الثالث : أنه رباط من جهاد النفس له فضيلته الخاصة لأن جهاد النفس في بعض الأحيان يكون أعظم من جهاد العدو وذلك أن جهاد النفس أعظم فتنة ولربما انتكس الإنسان إذا لم يوفق فيه بخلاف جهاد العدو ، ومن هنا قالوا إن الرباط على الطاعة أفضل وأكمل وذلك أن الإنسان إذا رابط على هذه الخصال وداوم عليها رزق المرابطة على الخير .
- نسأل الله العظيم رب العرش الكريم بأسمائه الحسنى وصفاته العلى أن يرزقنا علو الدرجات وأن يكفر عنا السيئات وأن يجزل المثوبة والحسنات وأن يحسن لنا الختام عند الممات ، وصلى الله وسلم وبارك على محمد عليه أفضل الصلاة والتسليم -.
- ? - ? - ? - ? - الأسئلة - ? - ? - ? - ? -
السؤال الأول :
نرجوا توضيح الفرق بين النتر والسلت وهل يمكن قياس النتر على السلت إذا لم يحصل النقاء إلا به..؟؟
الجواب :
بسم الله الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه أما بعد :(24/23)
فإن النتر أن يمسك العضو بيسراه ثم يجذبه لأن هذه الحركه تقوى الغده على الدفع لأن بعض الناس إذا وجدت معه هذه الحركة ربما تقوى على الدفع ، ونظراً لوجود الضرر الأكبر منع العلماء منه خاصة وأن الحديث الذي ورد فيه ضعيف بخلاف السلت فضرره قليل يسير والعلماء -رحمة الله عليهم - يقولون : إن العضو كلما جذبه الإنسان أخرج ، ولذلك قالوا إن الإنسان كلما تكلف في العضو وضغط عليه أخرج ، ومن هنا كلما ترك العضو كلما كان أسلم له وأبعد من الوسوسة .
والسلت أن يأخذ طرف أصبعه ثم يضعه في أصل مجرى البول في أسفل الذكر ثم يمره حتى يصل إلى أعلى الذكر فهذا يسمى سلتاً ، ولذلك قالوا إنه إن احتاج إليه فإنه يفعله لأن الإستبراء به أبلغ من الإستبراء بالنتر والنتر يضر بالعضو ويؤذيه ويؤذي كذلك الخصية كما يقول الأطباء ، وعلى هذا فرق بين السلت والنتر والمنبغي على الإنسان أن لا يفعل هذه الأمور إلا إذا أضطر أن لا يفعل السلت إلا إذا احتاج إليه لكبر سن أو مرض أو نحو هذا ، والله تعالى أعلم ، - وأحبك الله الذي أحببتنا من أجله وأشهد الله العظيم على حبكم فيه وأسأله أن يجمعنا بهذا الحب في دار كرامته إنه سميع مجيب - .
السؤال الثاني :
نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن الصلاة بحضرة الطعام أو مدافعة الأخبثين فهل يلحق بهما الريح ..؟؟
الجواب :
أما بالنسبة لمدافعة الريح ، الريح إذا غلب الإنسان واستمر معه في وقت الصلاة فإنه يتوضأ عند دخول الصلاة ويصلي ولو خرج معه الريح ، ولا يجب عليه أن يجدد الوضوء كلما خرج منه الريح ، أما بالنسبة إذا كان الريح لا يخرج منه ولا يسترسل أثناء وقت الصلاة وإنما جاءه عند الصلاة فحبس وكظم حتى لا يخرج منه شيئاً فإنه يأخذ حكم هذا من جهة المعنى ، والسبب في ذلك أن المنع من مدافعة الأخبثين لكونهما يشوشان على الخشوع ومن دافع الريح فإنه يتشوش في خشوعه كحالهما ، والله تعالى أعلم .
السؤال الثالث :(24/24)
إذا كنت في الصلاة وتيقنت بخروج الريح و لكن لم أسمع صوتاً و لم أشم ريحاً ، فماذا أفعل..؟؟
الجواب :
لست بمتيقن إذ لو كنت متيقناً لما قال عليه الصلاة والسلام :(( لا ينصرف حتى يسمع صوتاً أو يجد ريحاً)) هذا ليس بيقين ؛ وإنما هو عبث من الشيطان ولو فرضنا أنه خرج منك ريح بالفعل ولم تشمه ولم تسمع الصوت فصلاتك صحيحة فكما أن المستحاضة يجري معها الدم والشرع يصحح صلاتها مع جريان الدم للعذر ، كذلك أنت معذور بحكم الشرع وصلاتك صحيحة فلا يلبس الشيطان عليك ويقول لك أنت على يقين لوجود الحركة ، و الله تعالى أعلم .
السؤال الرابع :
ذكرتم أن العضو لا يمسح بل يغسل فهل يفهم من ذلك عدم جواز مسح الذكر حتى بالمنديل..؟؟
الجواب
هذا فهم خاطئ نحن نتكلم على طهارة الماء ولا نتكلم على طهارة الحجارة والطاهرات المراد بأنه لا يُمسَح أي عند طهارة الماء كأن يأخذ كفه ويبلها بالماء ثم يمسح بدل الغسل وهذه حالة يفعلها بعض الناس في حالة البرد فلا يستطيع أن يصب الماء مباشره فربما يقتصر على المسح وهذا لا يجزي ، ولذلك إذا أراد أن يغسل لا بد أن يغسل أو تكون طهارته بالجامد الطاهر كما ذكرنا في تفصيل أحكام الاستنجاء ، والله تعالى أعلم .
السؤال الخامس :
هل إذا كان الإنسان في جو بارد و عنده ماء ساخن وماء بارد فما هو الأفضل له إستخدام الماء البارد أو استخدام الماء الحار لكي يصيب أجر إسباغ الوضوء على المكاره..؟؟
الجواب :(24/25)
إذا استعمل الماء الحار فإن المكاره موجوده لأنه إذا غسل ثلاثاً فإن العضو سيتضرر بكثرة الماء عليه فيتأخر نشافه في البرد حتى ولو نشف بالمنديل فإن الماء قد أمعن في البدن أكثر من المرة الواحدة وتكون المكاره هنا أخف مما لو استعمل الماء البارد ، وقال العلماء : إن المكاره موجودة في الماء الحار والماء البارد ، لأنه إذا توضأ بالماء الحار فإنه سيخرج إذا غسل ثلاث مرات بالماء الحار فإن البدن يتشرب ذلك الحار ثم يخرج إلى البارد فيجد الكره في ذلك فيختص الماء البارد بفضيلة وهي عند الصب ولا توجد في الماء الحار ثم يختص الماء الحار بفضيلة بعد الصب وهي نداوة العضو رطباً بحرارة ولا يوجد ذلك في البارد ؛ لأن البارد إذا غسلت قوى البدن على البرد وحينئذ ألفه ويقوى ، ولذلك قالوا الإغتسال بالبارد أقوى من الاغتسال بالحار كما هو معلوم ، وعلى ذلك يقولون إن البرد يدخل في بدنه فالجلد يتشرب الماء هذا البارد فيقوى على البرد بعد الوضوء فللحار فضيلةُ بعد الوضوء وللبارد فضيلة قبل الوضوء وكلاهما من المكاره كلاهما من المكاره من جهة كونه إذا صب الأولى والثانية والثالثة أمعن في دخول الماء إلى البدن ، والله تعالى أعلم .
السؤال السادس :
هل نقول إنه يستفاد من قوله -عليه الصلاة و السلام-:(( وكثرة الخطا إلى المساجد)) استحباب تقصير الخطوات لتكثر أم أنه يمشي مشياً عادياً ..؟؟
الجواب:
يمشي مشياً عادياً ولا يتكلف في تقارب الخطا ، وإن كان بعض العلماء قال : يقصر الخطا ولا حرج عليه في تقصير الخطوات لأن النبي صلى الله عليه وسلم تعاطى سبب التكثير بدليل أنه كان يذهب من طريق ويرجع من طريق آخر ، تكثيراً للثواب قالوا : فمادام أن السنة قد دلت على مشروعية قصد التكثير بالمحل يشرع له أن يقصد التكثير بالآلة وهي القدم التي يمشي بها فلذلك يقارب بين خطاه تحصيلاً لهذا الفضل ، والله تعالى أعلم .
السؤال السابع :(24/26)
إذا كان المسجد قريباً من الرجل فهل يستحب له أن يذهب إلى مسجد أبعد منه رغبة في أجر الذهاب إلى المسجد..؟؟
الجواب
قال بعض العلماء : المساجد تختلف في الفضائل فإن كان المسجد الأبعد له فضيلة خاصة كإنسان في مكة أو إنسان في المدينة فإن المسجد الحرام ومسجد النبي صلى الله عليه وسلم له مزية وفضيلة ، ولذلك تجتمع فيه الفضائل فمشيه إلى المسجد الحرام الأبعد أو إلى مسجد النبي صلى الله عليه وسلم الأبعد لا شك أنه أفضل وجهاً واحداً .
الحالة الثانية : أن يكون للأبعد فضيلة غير فضيلة المضاعفة للصلاة كفضيلة القدم وكثرة المصلين فإذا كان المسجد الأبعد أكثر مصليناً و أقدم فإنه أفضل لأن الله-تعالى- يقول :{ لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ}(1) قالوا : هذا يدل على أن المسجد القديم أفضل من المسجد الجديد فإن كان مسجدك القريب منك جديداً والمسجد الذي هو أبعد قديماً أو أكثر مصلين ، كذلك لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال :((صلاة الرجل مع الرجل أزكى من صلاته وحده وصلاته مع الرجلين أزكى من صلاته مع الرجل وما كان أكثر فهو أزكى)) فإذا كان المسجد الأبعد أكثر مصلين وشهوداً للخير وقد تَصِلُ فيه رَحِماً وقد تفرج فيه كربة أو تحصل فيه علماً فلا شك أنه أفضل وأكمل وأعظم أجراً للإنسان ، أما إذا كان الأمر بالعكس الأقرب هو الأكثر مصلين ، وكذلك أيضاَ الأقرب هو الأقدم فحينئذٍ تتعارض فضيلة المشي مع فضيلة المسجد نفسه فينظر هل إذا تعارضت الوسيلة وفضيلة المكان تقدم فضيلة المكان أو الوسيلة ، بعض العلماء يقول : فضيلة المكان تقدم ومن هنا قالوا الصف الأول أفضل لأنه فضيلة مكان مما لو مشى وفاته الصف الأول وعلى هذا الوجه يتخرج القول بتقديم المسجد القريب على المسجد البعيد .
__________
(1) / التوبة ، آية : 108 .(24/27)
وَآخِرُ دَعْوَانَا أَنِ الحمَْدُ لِلَّهِ رَبِّ العَالَميْنَ وصلَّى اللَّهُ وسلَّم وبارك على عبده ونبيَّه محمد وعلى آله وصحبه أجمعين .(24/28)
بسم الله الرحمن الرحيم
قال المصنف رحمه الله : بَاب مَا جَاءَ فِي التَّمَنْدُلِ بَعْدَ الْوُضُوءِ
حَدَّثَنَا سُفْيَانُ بْنُ وَكِيعِ بْنِ الْجَرَّاحِ حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ وَهْبٍ عَنْ زَيْدِ بْنِ حُبَابٍ عَنْ أَبِي مُعَاذٍ عَنِ الزُّهْرِيِّ عَنْ عُرْوَةَ عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ : " كَانَ لِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم خِرْقَةٌ يُنَشِّفُ بِهَا بَعْدَ الْوُضُوءِ " .
قَالَ أَبو عِيسَى رحمه الله : حَدِيثُ عَائِشَةَ لَيْسَ بِالْقَائِمِ وَلاَ يَصِحُّ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِي هَذَا الْبَابِ شَيْءٌ وَأَبُو مُعَاذٍ يَقُولُونَ هُوَ سُلَيْمَانُ بْنُ أَرْقَمَ وَهُوَ ضَعِيفٌ عِنْدَ أَهْلِ الْحَدِيثِ قَالَ وَفِي الْبَاب عَنْ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ .
قال المصنف رحمه الله : حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ حَدَّثَنَا رِشْدِينُ بْنُ سَعْدٍ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ زِيَادِ بْنِ أَنْعُمٍ عَنْ عُتْبَةَ بْنِ حُمَيْدٍ عَنْ عُبَادَةَ بْنِ نُسَيٍّ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ غَنْمٍ عَنْ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ قَالَ :"رَأَيْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم إِذَا تَوَضَّأَ مَسَحَ وَجْهَهُ بِطَرَفِ ثَوْبِهِ ".(25/1)
قَالَ أَبو عِيسَى رحمه الله : هَذَا حَدِيثٌ غَرِيبٌ وَإِسْنَادُهُ ضَعِيفٌ وَرِشْدِينُ بْنُ سَعْدٍ وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ زِيَادِ بْنِ أَنْعُمٍ الأَفْرِيقِيُّ يُضَعَّفَانِ فِي الْحَدِيثِ ، وَقَدْ رَخَّصَ قَوْمٌ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَمَنْ بَعْدَهُمْ فِي التَّمَنْدُلِ بَعْدَ الْوُضُوءِ وَمَنْ كَرِهَهُ إِنَّمَا كَرِهَهُ مِنْ قِبَلِ أَنَّهُ قِيلَ إِنَّ الْوُضُوءَ يُوزَنُ وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ وَالزُّهْرِيِّ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ حُمَيْدٍ الرَّازِيُّ حَدَّثَنَا جَرِيرٌ قَالَ حَدَّثَنِيهِ عَلِيُّ بْنُ مُجَاهِدٍ عَنِّي وَهُوَ عِنْدِي ثِقَةٌ عَنْ ثَعْلَبَة عَنِ الزُّهْرِيِّ قَالَ إِنَّمَا كُرِهَ الْمِنْدِيلُ بَعْدَ الْوُضُوءِ لأَنَّ الْوُضُوءَ يُوزَنُ .
الشرح:
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين أما بعد :
فقد ذكر المصنف-رحمه الله -هذا الباب وهو باب ما جاء في المنديل بعد الوضوء ، وقد اعتنى المصنّف رحمه الله ببيان سنة النبي صلى الله عليه وسلم والأحاديث التي وردت في هديه في الوضوء ، وبعد الفراغ من وصفه لوضوء النبي صلى الله عليه وسلم ، وبيانه للأبواب المتعلقة بأحكام الوضوء ، شرع في بيان بعض الأمور التي وردت فيها الأحاديث عن النبي صلى الله عليه وسلم بعد الفراغ من الوضوء ومن ذلك مسألة المنديل .(25/2)
والمنديل ما يتمسح به سواء كان من خرقة أو غيرها كالمناديل في زماننا ، وهذه المسألة وردت فيها أحاديث عن النبي-- صلى الله عليه وسلم - -منها حديث أم المؤمنين عائشة-رضي الله عنها وأرضاها- والذي اعتنى المصنف رحمه الله بذكره في هذا الباب ، وهو حديث ضعيف ؛ وذلك لأنه من رواية أبي معاذ "سليمان بن أرقم" وهو ضعيف الرواية لا يقبل حديثه .
وقد ورد عن النبي -- صلى الله عليه وسلم - - بعض الأحاديث التي تدل على مسألة المنديل منها : حديث سلمان الفارسي وقد رواه ابن ماجة في السنن بسند ضعيف وفيه أن النبي صلى الله عليه وسلم توضأ فأحسن الوضوء ثم قلب جبته ومسح وجههصلوات الله وسلامه عليه بباطن الجبة .
ومنها حديث أبي بكر رواه البيهقي في سننه بسند ضعيف وهو قريب من حديث أم المؤمنين الذي معنا .
ومنها حديث أنس بن مالك رضي الله عنه ورواه البيهقي في السنن وهو معلول .
وهناك حديث عن ابن أبي مريم ، وهو حديث يروى عن رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ولم يسم هذا الصحابي وتسمية الصحابي لا تضر إذا جهلت ، وقد ذكر الإمام العيني إن سنده صحيح وخرّجه النسائي في الكنى ، هذه هي جملة الأحاديث التي وردت عن النبي صلى الله عليه وسلم .
ولذلك قال بعض العلماء : لا يصح في هذا الباب شيء وقد وردت أحاديث في الصحيح تدل على صحة مسالة التنشف بعد الطهارة ، ومن ذلك حديث ميمونة-رضي الله عنها وأرضاها -أنها أتت النبي صلى الله عليه وسلم بالمنديل فلم يُرِدْه أتته بخرقة بعد الغسل لكي يتمندل ويتمسح بها -صلوات الله وسلامه- عليه فلم يُرِدْه قالت -رضي الله عنها- وجعل ينفض الماء بيديه وهذا الحديث أصله في الصحيحين ، ولذلك قال العلماء : يدل على أنهم كانوا عارفين لمسألة المنديل بعد الطهارة ، وهذا أمر معلوم بداهة ، والسبب في ذلك أن الإنسان قد يغتسل في شدة البرد وإذا لم يتنشف فإنه مظنة الضرر في جسده .(25/3)
ومن هنا قال طائفة من العلماء : باستحباب التنشف بعد الوضوء ؛ وذلك لأن عرض أم المؤمنين على النبي صلى الله عليه وسلم المنديل بعد الوضوء يدل على أنها عهدت من النبي صلى الله عليه وسلم ذلك ، وكره بعض السلف رحمة الله عليهم المنديل بعد الوضوء والسبب في الكراهة أن الذنوب تذهب مع قطرات الماء وقد ثبت بذلك الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم فقال : (( خرجت خطاياه مع الماء أو مع آخر قطر الماء فإذا غسل وجهه خرجت الذنوب من تحت أشفار عينيه ، وإذا غسل يديه خرجت الذنوب من تحت أظفار يديه )) وبقية الأعضاء ذكرت كما ورد في الحديث الذي ذكره الترمذي وهو حديث صحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم ؛ ومن هنا قالوا يكره أن يتنشف بعد الوضوء لأنه إذا ترك الماء يتقاطر فإن معنى ذلك أن تكون المغفرة أشمل وأكثر ، وهذا المعنى على ظاهر الحديث صحيح مقبول ، ومن هنا كان الأفضل أن لا يتنشف بعد الوضوء وذلك لطلب الفضيلة التي ذكرنا ، قال بعض العلماء : إنه إذا كان في الزمان شديد البرد وكان يخشى من بقاء الماء على أعضاء الوضوء وأراد أن يتنشف فإنه يتنشف والله يكتب له الأجر والمثوبة ؛ والسبب في ذلك أن هذه تعتبر حالة نادرة يخشى معها الضرر ، والله يعلم أنه لولا شدة البرد لكان تاركاً للماء يتقاطر ؛ فلذلك قالوا لمكان العذر فإنه يكتب له الأجر كاملاً ، وقد ثبتت النصوص عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه من حيل بينه وبين الفضل بسبب يعذر فيه أن الله يكتب له الفضل كما ثبت في الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : (( إذا مرض العبد أو سافر كتب له عمله )) ، فإذا كانت السنة تدل على أن المعذور يكتب له الأجر والفضل فمعنى ذلك أنه إذا وجد العذر هنا من شدة البرد فإنه ينال الفضيلة ، ولا حرج عليه حينئذ أن يترك التمسح .(25/4)
وقال بعض العلماء : بل إنه يترك التمسح ولو كان في شدة البرد لأن الأجر يكون أكثر وأكدوا ذلك بقوله عليه الصلاة والسلام : (( إسباغ الوضوء على المكاره )) فإذا كان إسباغ الوضوء على المكاره مطلوباً ، وذلك لفضيلة الثواب والأجر وغفران الذنوب والخطيئة فكذلك التمسح بعد الوضوء ، وقد جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم مايؤكد أن له فضل التقاطر فيترك الحديث على ظاهره ، فمن هنا استحبوا أن لايتمسح ولو كان في شدة البرد طلباً لهذا الفضل العظيم .
وأما قوله رحمه الله "وقد كره قوم التمسح بعد الوضوء ؛ لأن الوضوء يوزن كما روى ذلك عن الزهري": وهذه المسالة تعرف بمسألة الوزن ، فقال بعض العلماء : إن الأعمال هي التي توزن فإذا فعل الإنسان أمراً فإن الله عز وجل يزن مايكون منه من الخير ، سواء كان من الأقوال أو كان من الأفعال .
وقال بعض العلماء : إن الذي يوزن هو العبد نفسه ، وأن الله عز وجل يثقّل الإنسان على حسب مافيه من الخير والطاعة والبر .
واستدل الذين قالوا إن الأعمال هي التي توزن بما ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:(( الحمد لله تملأ الميزان ، وسبحان الله والحمدلله تملآن أو تملأ مابين السماء والأرض)) ، واستدلوا بما ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال :(( كلمتان خفيفتان على اللسان ثقيلتان في الميزان حبيبتان إلى الرحمن سبحان الله وبحمده سبحان الله العظيم )) قالوا وقد دل هذان الحديثان الصحيحان على أن الأعمال هي التي توزن .(25/5)
وأكدوا ذلك بحديث البطاقة وقد ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم ، وهو حديث صححه غير واحد من أهل العلم وحاصله :(( أن عبداً ينشر له يوم القيامة تسعة وتسعون سجلاً كل سجلٍ منها مد البصر وكلها خطايا وذنوب فإذا نظر إليها قال الله عز وجل عبدي هل ظلمتك ملائكتي ؟ قال: " لا يارب . قال هل تنكر منها شئياً؟ قال: لا يارب. قال : إنك لن تظلم من عملك اليوم شيئاً. ثم يؤتى ببطاقة فيقول : يارب ما تفعل هذه البطاقة مع هذه السجلات ؟ فقال الله عز وجل إنك لن تظلم من عملك اليوم شيئاً. قال فتوضع البطاقة فترجح كفتها على كفة السجلات وإذا فيها لاإله إلا الله " قال صلى الله عليه وسلم : (( ولايثقل مع اسم الله شيء)) .
قال أصحاب هذا القول : فدلت هذا الاحاديث على أن الأعمال هي التي توزن ، أما كيف يكون للأعمال وزن؟؟ فهذا أمر مرده إلى الله سبحانه وتعالى فهو على كل شيء قدير ، ولا يسأل عما يفعل ، يحكم ولا معقب لحكمه وهو سريع الحساب .
وقال طائفة من العلماء : إن العبد هو الذي يوزن ؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال في ابن مسعود لما عبثت الريح بالشجرة وهو عليها فضحك الصحابة من دقة ساقيه فقال صلى الله عليه وسلم :(( أتضحكون من دقة ساقيه فوالذي نفسي بيده لهما أثقل في الميزان من جبل أحد)) فهذا يدل على أن العبد يوزن ، قالوا ومن هنا فإن النصوص تدل على أن الوزن يكون للعباد لقوله سبحانه وتعالى :{فَلاَ نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْنًا}(1) .(25/6)
والذي يترجّح والعلم عند الله أن عرصات يوم القيامة مختلفة فهناك عرصة يوزن فيها الناس ، وهناك عرصة توزن فيها أعمال الناس ؛ ولذلك لما وردت النصوص متنوعة مختلفة حملت على هذا الوجه، وحملها على هذا الوجه هو مذهب حبر الأمة وترجمان القرآن عبدالله بن عباس ، فإنه لما سئل عن آيات القرآن المتعارضة في العرصات حمل ذلك على اختلافها ، فدل على أن مواقف القيامة متعددة مختلفة ، فتارة يعرض الله الخلائق ويجعل الوزن لأجسادهم على حسب ماهم فيه من الخير والشر ، وتارة يعرض أعمال العباد فيزنها خيراً وشراً كما قال سبحانه وتعالى :{وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلاَ تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ}(1) -ونسأل الله العظيم رب العرش الكريم بمنه وكرمه أن يرحم في موقف العرض عليه ذل مقامنا وأن لا يفضحنا بسوء أفعالنا-.
قال المصنف-رحمه الله -:بَاب فِيمَا يُقَالُ بَعْدَ الْوُضُوءِ
حَدَّثَنَا جَعْفَرُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عِمْرَانَ الثَّعْلَبِيُّ الْكُوفِيُّ حَدَّثَنَا زَيْدُ بْنُ حُبَابٍ عَنْ مُعَاوِيَةَ بْنِ صَالِحٍ عَنْ رَبِيعَةَ بْنِ يَزِيدَ الدِّمَشْقِيِّ عَنْ أَبِي إِدْرِيسَ الْخَوْلاَنِيِّ وَأَبِي عُثْمَانَ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم :(( مَنْ تَوَضَّأَ فَأَحْسَنَ الْوُضُوءَ ثُمَّ قَالَ أَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ اللَّهُمَّ اجْعَلْنِي مِنَ التَّوَّابِينَ وَاجْعَلْنِي مِنَ الْمُتَطَهِّرِينَ فُتِحَتْ لَهُ ثَمَانِيَةُ أَبْوَابِ الْجَنَّةِ يَدْخُلُ مِنْ أَيِّهَا شَاءَ )) .
قَالَ أَبو عِيسَى رحمه الله : وَفِي الْبَاب عَنْ أَنَسٍ وَعُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ .(25/7)
قَالَ أَبو عِيسَى رحمه الله : حَدِيثُ عُمَرَ قَدْ خُولِفَ زَيْدُ بْنُ حُبَابٍ فِي هَذَا الْحَدِيثِ قَالَ وَرَوَى عَبْدُ اللَّهِ بْنُ صَالِحٍ وَغَيْرُهُ عَنْ مُعَاوِيَةَ بْنِ صَالِحٍ عَنْ رَبِيعَةَ بْنِ يَزِيدَ عَنْ أَبِي إِدْرِيسَ عَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ عَنْ عُمَرَ وَعَنْ رَبِيعَةَ عَنْ أَبِي عُثْمَانَ عَنْ جُبَيْرِ بْنِ نُفَيْرٍ عَنْ عُمَرَ وَهَذَا حَدِيثٌ فِي إِسْنَادِهِ اضْطِرَابٌ وَلاَ يَصِحُّ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِي هَذَا الْبَابِ كَبِيرُ شَيْءٍ قَالَ مُحَمَّدٌ وَأَبُو إِدْرِيسَ لَمْ يَسْمَعْ مِنْ عُمَرَ شَيْئاً .
الشرح :
اعتنى المصنّف رحمه الله ببيان ماورد عن النبي صلى الله عليه وسلم بعد الفراغ من الوضوء ، وسنن الوضوء وآدابه التي وردت عن النبي صلى الله عليه وسلم تنقسم إلى ثلاثة أقسام :
منها ما يكون قبل الوضوء ، ومنها ما يكون أثناء الوضوء ، ومنها ما يكون بعد الفراغ من الوضوء ، وهذا الباب يتعلق بالسنن التي وردت بعد الفراغ من الوضوء.
وحديث الباب أصله في حديث صحيح مسلم عن النبي صلى الله عليه وسلم ما عدا قوله : (( اللهم اجعلني من التوابين واجعلني من المتطهرين)) فهذه الزيادة لم ترد في صحيح مسلم وقد صحح بعض العلماء ورودها كما سيأتي.(25/8)
وحديثنا قد رواه عمر بن الخطاب : أبو حفص عمر بن الخطاب بن نفيل ينتهي نسبه إلى عدي بن كعب بن لؤي ، فيلتقي مع النبي صلى الله عليه وسلم في جده ، كان رضي الله عنه وأرضاه من سادات قريش وأعيانها ، وكانت قريش تجله وتعظمه في الجاهلية حتى كان أمر السفارة إليه ، فكان لايفاخرهم مفاخر ولاينافرهم منافر إلا رضوا بعمر رضي الله عنه وأرضاه ، ولمّا بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم كان عمر رضي الله عنه شديداً على الإسلام والمسلمين ، ثم إن الله شرح صدره للإسلام في قصته المشهورة مع أخته وزوجها ، فلما أسلم أعزه الله بالإسلام وأعز الإسلام به، وصحب النبي صلى الله عليه وسلم فأحسن الصحبة ، ولذلك قال عبدالله بن مسعود رضي الله عنه وأرضاه :"رحم الله عمر لقد كان إسلامه نصراً وهجرته فتحاً وخلافته رحمة بالمسلمين" ، وكان محدثاً ملهماً فكم نزل القرآن بلسانه رضي الله عنه وأرضاه وفي الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : (( إنه كان فيمن كان قبلكم محدثون إن يكن في أمتي فعمر)) فكان رضي الله عنه صادق الفراسة صادق البيان ؛ ولذلك قال له النبي صلى الله عليه وسلم : (( والذي نفسي بيده لا يراك الشيطان تسلك فجاً إلا سلك غيره )) ، وكان رضي الله عنه شديداً في الحق لا تأخذه في الله لومة لائم ، هاجر مع النبي صلى الله عليه وسلم وشهد المشاهد كلها ، وتوفي رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو عنه راض، وهو أحد العشرة المبشرين بالجنة وعهد إليه بالخلافة أبو بكر الصديق رضي الله عنه وأرضاه فسار في الرعية ، وقسم بالسوية ، ومصّر الأمصار ، وجنّد الأجناد ، وفتح الفتوح ، وحصل من خلافته الخير العظيم للإسلام والمسلمين، توفي رضي الله عنه مقتولاً شهيداً في المحراب وذلك لثلاث بقين من شهر ذي الحجة سنة ثلاث وعشرين من الهجرة ، طعنه أبو لؤلؤة المجوسي وهو(25/9)
قائم بين يدي الله يصلي في صلاة الفجر ، ثم طعن معه سبعة من الصحابة ، ثم طعن نفسه لكي ينال عذاب الدنيا قبل عذاب الآخرة - عليه من الله اللعنات ، وسوء الجحيم والدركات- .
يقول أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه :قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :(( من توضأ فأحسن الوضوء)):إحسان الوضوء إتمام غسل الأعضاء التي أمر بغسلها ، وإتمام مسح الأعضاء التي أمر بمسحها على الوجه الذي ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم ، وأكمل مايكون الإحسان إذا ثلّث أعضاء الوضوء المغسولة دون مسح الرأس ؛ لأنه الإسباغ المحمود شرعاً ؛ ولأنه إذا غسل ثلاث مرات فإن المشقة أكثر ، والتقرب إلى الله-جل وعلا- أعظم ، ومن هنا حملوا إحسان الوضوء على الإسباغ الذي يكون بالثلاث ، وقال بعض العلماء : أحسن الوضوء أي فعله على الوجه الذي ورد في الشرع ، والذي يظهر أن أحسن صيغة أفعل وهي تدل على وجود حسن وأحسن ، وإذا كان الأمر كذلك فإن الحسن أن يأتي بالوضوء على الصفة التي تجزي ، والأحسن أن ياتي به على الصفة الكاملة وهي التثليث ، ولذلك يحمل قوله أحسن على إتمام الوضوء ثلاثاً ماعدا مسح الرأس كما ذكرنا .
قوله عليه الصلاة والسلام :(( ثم قال أشهد أن لاإله إلا الله وحد لا شريك له )) : أشهد بمعنى أعلم وتطلق الشهادة بمعنى الحضور ، ومنه قوله سبحانه وتعالى :{وَمَا كُنتَ مِنْ الشَّاهِدِينَ}(1) أي من الحاضرين ، وسمي الشهيد شهيداً لأن الملائكة تشهده أي تحضره كما ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه لما قتل عبدالله بن حرام والد جابر بن حرام جعل جابر رضي الله عنه يكشف الثوب عن وجه أبيه ويبكي فقال صلى الله عليه وسلم :(( ابكيه أو لا تبكيه ما زالت الملائكة تظله حتى رفعته إلى السماء)) قالوا فسمي الشهيد شهيداً من هذا الوجه ، وقيل لشهوده الخير من الله سبحانه وتعالى .(25/10)
وقوله :(( أشهد )) : بمعنى أعلم أي أعلم علماً يقينياً لا شك فيه ولا مرية أن لا إله إلا الله أي لامعبود بحق ، فإله بمعنى معبود ، وأله تأتي بمعنى عَبَدَ ، ومنه قوله سبحانه وتعالى :{وَهُوَ الَّذِي فِي السَّمَاءِ إِلَهٌ وَفِي الأَرْضِ إِلَهٌ }(1) أي مألوه ومعبود .
وقوله : (( إلا الله )) : نفي وإثبات ، وهذه هي شهادة التوحيد التي لا ينظر الله في عمل عامل أياً كان حتى يحققها ويأتي بها على وجهها ويسلم مما يضادها ويخالفها ، وقد قامت على النفي والإثبات ، فينفي الإنسان الألوهية لغير الله- - سبحانه وتعالى -- ، ويثبتها لله عز وجل وحده لاشريك له ، وهذا هو معنى قوله -- سبحانه وتعالى - -:{وَلَقَدْ بَعثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنْ اُعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} (2) فقوله- - سبحانه وتعالى --:{ اُعْبُدُوا اللَّهَ} إثبات ، وقوله سبحانه وتعالى :{اجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} نفي ، ولذلك كان أول أمر في كتاب الله و أول نهي كان متضمناً لشهادة التوحيد فأول أمر في كتاب الله عز وجل قوله-سبحانه- :{يَاأَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمْ} (3) فهذا إثبات العبادة لله سبحانه وتعالى ، ثم قال بعدها :{فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَندَادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ}(4) فهذا هو النفي ، ولو أن إنساناً شهد بالألوهية لله سبحانه وتعالى ولم ينفها عن غيره فإن الشهادة لاتنفعه ، ولذلك لابد للإنسان من أن يقيم هذين الأمرين ، ومن هنا قال العلماء : يحرم الوقوف على قوله "لاإله" لأنه إذا قال "لاإله" وسكت واعتقد هذا المعنى فإنه يكفر -والعياذ بالله- ، وهو قول الملاحدة الذي يسندون الحياة إلى الطبيعة ، ويقولون إنها وجدت بالصدفة ولاإله ولا معبود ، تعالى الله عما يقول الظالمون علواً كبيراً .(25/11)
وقوله : (( وحده لاشريك له)) : وحده تأكيد لمعنى الوحدانية في الاستثناء في قوله : (( إلا الله )) أي حال كونه وحده لاشريك له ، والله سبحانه وتعالى له الوحدانية المطلقة الوحدانية في الألوهية والوحدانية في الربوبية والأسماء والصفات ، فهو الواحد في ألوهيته فلا يستغاث ، ولا يستجار ، ولا يتوكل ، ولا يرجى أحد سواه سبحانه وتعالى سواء كان ملكاً مقرباً ، أو نبياً مرسلاً فلا يجوز صرف هذه المعاني لغيره-- سبحانه وتعالى - - ، وفي معنى ذلك الذبح وكذلك الصلاة والطواف وغيرها من معاني العبادة فإن الله -سبحانه- هو الواحد المستحق لها ، وكذلك هو واحد في ربوبيته ، فهو الذي خلق الخلق فأحصاهم عدداً ، وقسّم أرزاقهم فلم ينس منهم فرداً ، وهو رب العالمين مقدر الأمور ومصرفها كيف يشاء- - سبحانه وتعالى - - ، وهو الواحد في أسمائه وصفاته كما قال-تعالى- :{ هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا}(1) فلا يساميه ولايماثله شيء ، كما قال-سبحانه- :{لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ}(2) .
وقوله : (( لا شريك له )) : الشريك مأخوذ من الشركة يقال شِركة وشَركة وشُركة وهو مثلث الشين ، وأصلها الاختلاط وضم الشيء إلى الشيء فالله لاشريك له كما قال سبحانه وتعالى :{قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ}(3) .
وقوله : (( وأشهد أن محمداً عبده ورسوله )) : أشهد بمعنى أعلم أن محمداً عبده ، العبد مأخوذ من قولهم طريق معبّداً أي مذلل ، وأصل العبادة الذلة وذلك لأن الإنسان إذا تعبّد لله سبحانه وتعالى تذلل له سواء وقع ذلك التذلل بالأقوال أو بالأفعال .(25/12)
وقوله : (( ورسوله)) : مأخوذ من الرسالة وهي السفارة ، وسمي الرسول رسولاً لأنه يحمل رسالة الله سبحانه وتعالى إلى عباده كما قال-سبحانه-: { الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَالاَتِ اللَّهِ وَيخْشَوْنَهُ }(1) وقال-سبحانه-:{ يَاأَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنْ النَّاسِ}(2) ورسالة الله إلى العباد تتلخص في أمرين : البشارة والنذارة ، كما أشار الله- تعالى- إلى ذلك بقوله :{ رُسُلاً مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ}(3) بشارة لمن آمن ووحّد الله عز وجل بخيري الدنيا والآخرة ، ونذارة لمن كفر وعصى وطغي وبغى بعذاب الله سبحانه وتعالى وغضبه في الدنيا والآخرة .(25/13)
وقوله :(( عبده ورسوله )) : هذه هي الوسطية التي خرجت بها الأمة المحمدية من غلو النصارى وإجحاف اليهود ؛ والسبب في ذلك أن اليهود احتقروا أنبياء الله حتى عابوهم ، وانتقصوهم ، ونسبوا إليهم الفحشاء والمنكر-صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين - ، بل حتى قتلوهم ، وسفكوا دماءهم كما أخبر الله في كتابه وهو أصدق القائلين وخير الشاهدين ، وكذلك النصارى غلت في رسلها وأنبيائها فأطرت عيسى بن مريم حتى اتخذته إلهاً مع الله ، وقالوا ثالث ثلاثة ، وقالوا هو ابن الله-تعالى- الله عما يقول الظالمون علواً كبيراً ، فلما قال المسلمون في نبيهم صلى الله عليه وسلم (عبد الله) خرجوا من إطراء النصارى ، وأعطوه وصف العبودية وهو وصف تشريف وكمال ؛ ولذلك من أشرف الصفات أن تصف الإنسان بأنه عبد لله عز وجل ولما أراد الله أن يثني على الصالحين قال-سبحانه-:{وَعِبَادُ الرَّحْمَانِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الأَرْضِ هَوْناً وَإِذَا خَاطَبَهُمْ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلاَماً}(1) فوصفهم بالعبادة له سبحانه وتعالى وقال في نبيه{سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً}(2) فوصفه بالعبادة تشريفاً له وتكريماً ، ولمّا قالوا (رسوله) خرجوا من إجحاف اليهود ، ولذلك ينبغي للمسلم أن يكون وسطاً في شهادته للرسل ، فلا يبالغ في إطرائهم ومدحهم ويعطيهم من الأمور ما لا يليق بهم فإن ذلك لايرضي الله عز وجل ، وما بعث الله رسله ولا أرسلهم إلاّ لكي يبينوا حقه وحق عباده فيقوم الناس بحقه على وجهه ، أما أن يبالغ في إطرائهم ومدحهم وإضفاء الصفات التي لاتليق إلا بالله عليهم فهذا أمر يغضب الله سبحانه وتعالى ، ويخرج الإنسان عن متابعة النبي صلى الله عليه وسلم بالكلية ، ولذلك نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن الغلو وقال :(( إنما أهلك من كان قبلكم الغلو)) فلا يجوز الغلو والإطراء في أنبياء الله- صلوات الله وسلامه(25/14)
عليهم- ، وخاصة النبي صلى الله عليه وسلم فإنه لايجوز إطراؤه ، ومدحه ، وإضفاء الصفات عليه ، على وجه لايليق إلا بالله سبحانه وتعالى فهذا هو الذي نهى الله عنه ونهى عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ولذلك ورد عنه في الحديث قوله :(( لاتطروني كما أطرت النصارى عيسى بن مريم)) فنهانا عن الغلو والإطراء ، فواجب على المسلم أن يكون على صراط الله المستقيم ، بعيداً عن الغلو وعن الإجحاف ، والمسلم في أشرف مقاماته ومناجاته لربه وهي الصلاة حينما يكون واقفاً بين يدي الله عز وجل يسأله السلامة من فعل اليهود والنصارى كما قال :{ اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ - صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلاَ الضَّالِّينَ }(1) أي أخرجنا من غلو النصارى وإجحاف اليهود ، فالمنبغى على المسلم أن يحقق هذا الأصل العظيم الذي دعا إليه الرسول الكريم عليه من الله أفضل الصلاة وأزكى التسليم .
وليعلم أن صدق المحبة وصدق الإجلال لرسول الله صلى الله عليه وسلم يتمثل في طاعته فيما أخبر واجتناب مانهى عنهصلوات الله وسلامه عليه وزجر ، فالشيء الذي أمر به النبي صلى الله عليه وسلم يأتمر به العبد ، والشيء الذي نهى عنه ينكف عنه ، فإذا فعل ذلك فقد أحب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وهذا هو الدليل الصادق على حبه وإجلاله صلوات الله وسلامه عليه ، ولذلك ينبغي للمسلم أن يحقق هذا المعنى من شهادة التوحيد .
وقوله عليه الصلاة والسلام : (( اللهم اجعلني من التوابين واجعلني من المتطهرين)) : قوله (( اللهم )) أصلها يا الله ، حذفت الياء وعوّض عنها بالميم ولذلك لايقال يااللهم ؛ لأنه جمع بين البدل والمبدل وهو لايجوز ، واستثنوا من ذلك قريض الشعر ، وقد أشار ابن مالك إلى ذلك بقوله رحمه الله في الألفية :
والأكثر اللهم بالتعويض……وشذ يااللهم في قريضِ(25/15)
ومن ذلك قول الشاعر:
إني إذا ماحدث ألمّا … ناديت يااللهم يااللهما
وأصله اللهم .
وقوله عليه الصلاة والسلام :(( اجعلني)) : سأل الله عز وجل أن يجعله من أهل التوبة ومن أهل الطهارة ، قال بعض العلماء : سأل الله أن يجعله من التائبين ؛ لأن الوضوء فيه طهارة الحس ، ومغفرة الله عز وجل فيها طهارة المعنى ، فجمع بين طهارة الحس والمعنى ، وإن كان الوضوء يشتمل على التطهير ، والطهارة مأخوذة من طهر الشيء يطهر طهارة إذا كان نقياً من الدنس والقذر ، وسميت الطهارات بهذا الاسم لأن الله يطهر المكلفين بها حساً ومعنى ، فمن توضأ تطهر من ذنوبه وكذلك تطهر من أدرانه التي عليه ، وهذا الحديث يدل على عظيم رحمة الله عز وجل بعباده ؛ لأن المسلم إذا سأل الله عز وجل بعد الطاعة فإنه مظنة أن يقبل الله عز وجل منه دعاءه وسؤاله ويحقق له رجاءه.
وقوله : (( فتحت له أبواب الجنة )) : فيه دليل على مسائل:(25/16)
المسألة الأولى : أن للجنة أبواباً ، وهذا هو ظاهر كتاب الله عز وجل ، كما قال سبحانه وتعالى :{وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ زُمَرًا حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا وَفُتِحَتْ أَبْوَابُهَا}(1) ، وقال سبحانه وتعالى :{وَالْمَلاَئِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بَابٍ - سَلاَمٌ عَلَيْكُمْ بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ}(2) فأخبر سبحانه وتعالى أن للجنة أبواباً ، وقوله :(( فتحت له أبواب الجنة)) جمع يدل على أنها أكثر من باب ، ثمّ بيّن النبي صلى الله عليه وسلم عدد الأبواب وهي الثمانية ، وقد تأكد ذلك بقوله سبحانه وتعالى :{ حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا وَفُتِحَتْ أَبْوَابُهَا} (3) فزاد الواو في فتح أبواب الجنة الثمانية إشارة لهذا المعنى، والعرب تزيد الواو في العدد الثامن ، ومنه قوله سبحانه وتعالى :{ وَيَقُولُونَ سَبْعَةٌ وَثَامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ}(4) وقوله سبحانه وتعالى :{ الآمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّاهُونَ عَنْ الْمُنكَرِ}(5) ولذلك يعدون العدد فيقولون محمد ، علي ، عبدالله ، عبدالرحمن ، عبدالعزيز ، صالح ، قاسم وعلي فيضيفون الواو للثامن ، وهذا الحديث يؤكد أن أبواب الجنة ثمانية وهذه الأبواب وردت النصوص عن النبي صلى الله عليه وسلم أنها بحسب الطاعات ، كما ثبت في الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : (( من أنفق زوجين في سبيل الله نودي يوم القيامة ياعبد الله هذا خير ، فمن كان من أهل الصلاة دعي من باب الصلاة ، ومن كان من أهل الصدقة دعي من باب الصدقة ، ومن كان من أهل الصيام دعي من باب الريان)) وهذا يدل على تفاوت أبواب الجنة بحسب الطاعات ، " قال أبو بكر- - رضي الله عنه - -يارسول الله : " وماعلى رجل أن يدعى من أبوابها كلها من ضرورة ؟؟" قال :(( نعم وأرجو أن تكون منهم )) وذلك لعظيم(25/17)
صلاحه ، وماكان منه من الخير في طاعة ربه ، وهذا الحديث يدل على فضل الطهارة وهذا الدعاء بعدها -أعني طهارة الوضوء - .
واستشكل العلماء هذا الحديث مع ما ورد من شفاعة النبي صلى الله عليه وسلم بدخول الجنة ، والسبب في ذلك أن الناس إذا انصرفوا من عرصات يوم القيامة ، وفرّق بين أهل الجنة وأهل النار فراقاً لالقاء بعده أبداً ، صار أهل الجنة إلى الجنان حتى إذا وقفوا عليها فإنه لاتفتح لهم إلا بشفاعة النبي صلى الله عليه وسلم ، فيشفع عند ربه فيؤذن لهم بدخول الجنة ، وقد أجيب بأن الشفاعة لمطلق الدخول ، وأما النداء فهو لخصوص الدخول ، فيشفع في الدخول من النبي صلى الله عليه وسلم ، ثم يأذن الله بدخول العباد ، فإذا أذن سبحانه وتعالى بدخولهم تفاضل الناس في ذلك الدخول بحسب الطاعات ، قال العلماء : أبواب الجنة مختلفة بحسب الطاعات وكل من أكثر من طاعة دعي من بابها فمن كان يكثر من النوافل وقيام الليل ونحوها من نوافل الطاعات فإن الله عز وجل يجعل نداءه ودعاءه من باب الصلاة ، وإذا كان من أهل الصدقات ، وتفريج الكربات عن المسلمين جعل الله نداءه من باب الصدقة ، وإذا كان كثير الصيام جعل الله نداءه من باب الريان ، وهذا يدل على تفاضل الطاعات ، حتى قال بعض العلماء : أفضل هذه الأبواب هو باب الصلاة ؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال : (( استقيموا ولن تحصوا واعلموا أن خير أعمالكم الصلاة)) فهي أفضل الطاعات وأشرفها وأعظمها ثواباً بالنسبة لمطلق النوافل ، ومن هنا ورد الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم عن الله-تعالى- أنه يقول : (( ماتقرب إلي عبدي بشيء أحب إلي مما افترضته عليه ولا يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به وبصره الذي يبصر به ورجله التي يمشي عليها ويده التي يبطش بها ولئن سألني لأعطينه ولئن استعاذني لأعيذنه)) فدل على فضل الصلاة ، ومما يدل(25/18)
على فضلها أن الوضوء إذا أحسنه العبد مع أنه وسيلة إلى الصلاة دعي من أبواب الجنة كلها- نسأل الله العظيم رب العرش الكريم بأسمائه الحسنى وصفاته العلى أن يجعلنا من أهل هذا الفضل العظيم وأن يمن علينا بالمغفرة والجود إنه الجواد الكريم-، والله تعالى أعلم .
- ? - ? - ? - ? - الأسئلة - ? - ? - ? - ? -
السؤال الأول:
هل كل ماكان تحت الأظافر من الأوساخ يجب التخلص منه أم أنه يعفى عن شيء منه لصحة الوضوء..؟؟
الجواب :
بسم الله الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه أما بعد :
فإن السنة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم التي عدها رسول الله صلى الله عليه وسلم من خصال الفطرة تقليم الأظافر ، وقد علل العلماء رحمهم الله ذلك بما يكون في التقليم من إزالة القذر وهذه الأظافر تتبطن النجاسة ، كما هو الحال لو استنجى الإنسان فإنه لايأمن من علوق القذر وبقائه تحت ظفره ، ومن هنا كان من السنة تقليم الأظافر ، ولا ينبغي للمسلم أن يترك أظفاره طويلة ، وقد حدد النبي صلى الله عليه وسلم ووقت لأصحابه الأربعين يوماً في حلق العانة والاستحداد ، وغير ذلك من خصال الفطرة في قول طائفة من العلماء ، وقال بعض أهل العلم : إن الأظافر تتأقت بحسب طولها فإن طالت وجب تقليمها ولو لم تبلغ أربعين يوماً وهذا هو الصحيح ، وأما بالنسبة لطولها المعتاد لو دخلت تحته نجاسة فإنه مما يعفى عنه كما عفي عن محل الاستجمار ؛ لأنه من اليسير المغتفر ؛ ولأن الإنسان إذا جرح فإن الدم نجس وقد يبقى مكان الجرح فيه الدم ولايؤمر بإزالة الدم من نفس الجرح وإنما يؤمر بإزالته من حوله ، والله تعالى أعلم.
السؤال الثاني :
هل يعتبر الوقوف أمام الأجهزة الكهربائية مثل المراوح وجهاز التكييف هل يعتبر هذا من وسائل التنشيف..؟؟
الجواب :(25/19)
هذا يعتبر من التنشيف ، إذا وقف الإنسان أمام الريح أو أمام مايحرك له الريح يعتبر من التنشيف ، لكنه لايفوت الفضل ؛ لأن التنشيف بالمنديل أشد من التنشيف بالهواء ، ولذلك قال بعض العلماء : هل إذا كان الإنسان في بيت أو توضأ في بيت ثم أراد أن يخرج للهواء بعد وضوئه مباشرة فهل الأفضل أن يبقى حتى تتقاطر منه الذنوب أو يخرج مباشرة ؟ استحب بعض العلماء بقاءه حتى يطول منه التقاطر ، وتخرج منه الذنوب على وجه أكثر ، وهذا له معنى صحيح من الحديث الذي أشرنا إليه وهو حديث الصنابحي والذي تقدم شرحه في السنن ، والله تعالى أعلم.
السؤال الثالث :
هل صحيح أن من توضأ على وضوء له عشر حسنات..؟؟
الجواب :
أما بالنسبة للوضوء على الوضوء فإنه ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم الإذن به ، ووردت أحاديث في فضله منها ماذكر ومنها قوله- عليه الصلاة والسلام - :(( الوضوء على الوضوء نور على نور)) وهو حديث ضعيف واستحب العلماء رحمهم الله تجديد الوضوء مالم يكن الإنسان قد توضأ ثلاث مرات في الأولى ، فإنه لايجدد ؛ خوفاً من أن تكون غسلة رابعة ، وأما حديث العشر حسنات فقد حسن بعض العلماء إسناده ، والله تعالى أعلم .
السؤال الرابع :
ما الحكم في حديث أبي سعيد الخدري الذي فيه زيادة : (( سبحانك اللهم وبحمدك أستغفرك وأتوب إليك )) بعد الذكر المشروع بعد الوضوء والحكم فيمن يرفع أصبعه أثناء الشهادة وكذلك النظر في السماء..؟؟
الجواب :(25/20)
أما بالنسبة لرفع الأصبع والنظر إلى السماء فإنه لم يرد في ذلك حديث صحيح بعد الوضوء ، أما رفع الأصبع عن النبي صلى الله عليه وسلم فقد ثبت عنه : عند التوحيد ، وعند الشهادة ، أنه أشار ؛ ولذلك لما رفع عمرو بن سعيد الأشدق يديه في الدعاء في المنبر يوم الجمعة قال الصحابي : تباً لها من يدين قصيرتين ماكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يزيد على أن يشير بأصبعه ، اللهم اغفر لنا اللهم ارحمنا. ونحو ذلك ، ولذلك في الدعاء في التشهد فإنه شرع أن يشير بأصبعه قال : يدعو بها كما ثبت الخبر عن النبي صلى الله عليه وسلم ، وفي الصحيح في خطبة حجة الوداع أنه قال :((هل بلغت؟ )) قالوا :(( نعم )) قال : (( اللهم فاشهد ، فجعل يرفع أصبعه إلى السماء ثم ينكتها عليهم)) قالوا فهذا أصل في مشروعية إذا ذكر الله وحده أن يشير الإنسان بالتوحيد ؛ لأن له أصلاً ، أما في المواضع المخصوصة التي تكون أشبه بالعبادة كأن يكون داخل الصلاة فلا يحرك ولا يشير إلا بما ورد به النص .
وأما بالنسبة لزيادة :((سبحانك اللهم وبحمدك)) فقد حسنها بعض العلماء وقالوا : لا حرج في ذكرها ، والله تعالى أعلم.
السؤال الخامس :
ما رأيكم فيمن يقول إن من تعظيم رسول الله صلى الله عليه وسلم التبرك بالأماكن التي أتاها أو مكث فيها كغار حراء وغيره..؟؟
الجواب :(25/21)
التبرك بالنبي صلى الله عليه وسلم أعظم ما يكون وأشرف ما يكون وأكمل ما يكون باتباع هديه ، والالتزام بسنته التبرك إذا جاءتك السنة عن النبي صلى الله عليه وسلم أن تفعل تقول : سمعت وأطعت غفرانك ربي وإليك المصير ، والتبرك إذا جاءك النهي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم تنكف وتنزجر عن شيء هو حبيب متعلق به قلبك ، حبيب إلى نفسك تعلق به قلبك ، تؤثر محبته عليه الصلاة والسلام واتباعه على نفسك وأهلك ومالك وولدك ، فإذا دعيت إلى أمر من الأمور وتعارض مع شهوة نفسك قدمت ذلك الأمر الذي سار عليه النبي صلى الله عليه وسلم ودعا إليه وحبب فيه ، قدمته على هواك وقدمته على نفسك ووالديك وأهلك تأسياً واقتداءً به- صلوات الله وسلامه عليه-ولذلك كان ابن عمر يقف على الحجر ويقبله حتى يرعف ؛ تأسياً بالنبي صلى الله عليه وسلم ولما قيل له في ذلك قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقبله فأنا أقبله ، ما كان يستطيع أن يتركه مع أنه ليس بواجب ولكنه رأى النبي صلى الله عليه وسلم يفعله فلم يتركه ، وهذا أنس بن مالك رضي الله عنه يقول : " رأيت النبي صلى الله عليه وسلم يتتبع الدباء في القصعة فما زلت أحبها منذ أن رأيت النبي صلى الله عليه وسلم يتتبعها " أي أنهم اتبعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم في كل شيء حتى في أموره الجبلية العادية تأسياً بهصلوات الله وسلامه عليهواقتداءً له ، وهذا هو الحب الصادق ، وهذا هو الحب المبارك ، وهذا هو التبرك الحقيقي الذي منه البركة ومنه الخير ومنه زيادة الأجر ومنه الطاعة والبر ، ما بعث الله رسوله صلى الله عليه وسلم إلا هادياً للخير ، فمن اهتدى بخيره وانكف عما نهى عنه عليه الصلاة والسلام من الشر والسوء والفحشاء والمنكر فقد تبرك به - عليه الصلاة والسلام -على أكمل مايكون التبرك .(25/22)
أما وقوف الإنسان عند المشاهد والمبالغة في ذلك والحرص على زيارتها مع أنك إذا نظرت إلى وجهه وجدته مخالفاً لسنة النبي صلى الله عليه وسلم ، وإذا سمعت إلى قوله وجدته يخالف هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وإذا نظرت إلى مايتبطن في قلبه من الحسد والبغضاء والشحناء مخالفاً لرسول الله صلى الله عليه وسلم في قلبه ، مخالفاً له في قالبه ، ثم يزعم أن محبته في الإتيان لهذه الأماكن ، وأن هذا هو الحب الصادق ، وأن من منعه من ذلك غير محب لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، أو كاره لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، ولا شك أن ذلك من الظلم أن ينسب من منع من هذه الأشياء خوفاً أو سداً لذريعة الغلو فيه عليه الصلاة والسلام أن ينسب لبغضه حاشا وكلا بل هو المحب الصادق لرسول الله صلى الله عليه وسلم .(25/23)
لو كان رسول الله صلى الله عليه وسلم حياً فرأى هذا الغلو وهذه المبالغة لنهى عنها عليه الصلاة والسلام ؛ لأنه يخاف على أمته يخاف على أمته ماوقعت فيه النصارى من قبل من الغلو ، ولذلك واجب على المسلم أن يبحث ماذا كان يفعل رسول الله صلى الله عليه وسلم فيفعله ، وماكان يتركه فيجتنبه وينكف عنه ولو كان من هواه ومما يحبه ، فالواجب على الإنسان أن يبحث عن السنة الحقيقية ، كيف يكون الإنسان محباً لرسول الله صلى الله عليه وسلم وإذا أمرته بأمر من أوامره تكلف الرد في ذلك الأمر ؟ فإذا أمرته بإعفاء لحيته قال إنها سنة وليست بواجبه ، ولربما استهزأ من الملتحي مع علمه أن سنة النبي صلى الله عليه وسلم إطلاق اللحية ، فبقي بعض الناس في محبة رسول الله صلى الله عليه وسلم على هذه الأمور ، تاركين الحب الحقيقي والتأسي الحقيقي برسول الله صلى الله عليه وسلم الذي لا نجاة للإنسان إلا به ، مابعث الله نبيه عليه الصلاة والسلام إلا ليتبع ، ما بعث عليه الصلاة والسلام إلا ليطاع فيما أمر ويصدق فيما أخبر ويجتنب مانهى عنهصلوات الله وسلامه عليه وزجر ، ويصبح الإنسان في عبادته لايقدم ولا يؤخر إلا بسنة وهدي ؛ ولذلك قال بعض السلف : إن استطعت أن لاتحك رأسك إلا بسنة وأثر فافعل ذلك ، فلا يزال الإنسان حريصاً على التأسي بسنة النبي صلى الله عليه وسلم وتطبيقها والتزامها والعمل بها حتى يعرف بها ، -نسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يرزقنا التمسك بالسنة عند فساد الأمة إنه ولي ذلك والقادر عليه- .
السؤال السادس :
هل الاقتداء بسنن النبي صلى الله عليه وسلم الجبلية هل هي بدعة كما يقول بعض الناس..؟؟
الجواب:
بسم الله الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه أما بعد :
فما ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم ينقسم إلى قسمين :(25/24)
القسم الأول: ما تبين أنه تشريع للأمة كصفة صلاته عليه الصلاة والسلام ، وصفة حجه ونحو ذلك من الأمور التي وردت عنه عليه الصلاة والسلام من العبادات ، وصفة العبادات ، وبياناً لما أجمله كتاب الله عز وجل أو زيادة عليه.
القسم الثاني : ما يكون جبلة منه - عليه الصلاة والسلام -كصفة أكله ، وصفة شربه -صلوات الله وسلامه عليه -وهو ينقسم إلى قسمين أيضاً : قسم منه ترجح الائتساء به والاقتداء-صلوات الله وسلامه عليه - في صفته كذهابه للعيد من طريق ورجوعه من طريق ، واضطجاعه بعد الفجر لمن قام الليل أن يضطجع بعد الفجر، لأن هذه وإن كانت جبلية لكن فيها معنى التشريع ؛ والسبب في ذلك أنه إذا كان قائماً في الليل واستمر قيامه إلى قرب السحر كما ورد عنه عليه الصلاة والسلام فإنه سيضعف عن صلاة الفجر ، ومن هنا إذا اضطجع قوي على الفريضة ، ولا يمكن أن يكون بعد قيامه بالنوافل قوياً جلداً مستطيعاً أن يصلي الفجر باستجمام كما لو اضطجع ، فترجح مع كونها جبلية أن يكون فيها معنى التشريع فهذا يؤتسى به عليه الصلاة والسلام ويقتدى ، وكأكله عليه الصلاة والسلام باليمين وإن كان ورد عنه عليه الصلاة والسلام ما يدل على التزام ذلك بالقول ، وذهابه للعيد من طريق ورجوعه من طريق فإن هذا الذهاب والرجوع فيه معنى العبادة فهو جبلي من وجه تعبدي من وجه ، جبلي من جهة كونه أرفق له- عليه الصلاة والسلام - ، وتعبدي من جهة تحصيل كثرة الثواب والأجر ، ولأجل أن يمر على مساكين أكثر فيحسن إليهم ونحو ذلك ، وكدخوله لعرفة من طريق ضب وخروجه إلى المزدلفة من طريق المأزمين ، فإن هذا يؤتسى فيه- عليه الصلاة والسلام - ، ويترجح أن يكون من السنن التي يقتدى به - عليه الصلاة والسلام -فيها .(25/25)
وأما بالنسبة للسنن الجبلية في الهيئة نفسها كلبسه - عليه الصلاة والسلام - للعمامة ، ونحو ذلك من السنن التي وردت في جبلته عليه الصلاة والسلام فإن من فعلها يقصد التأسي برسول الله صلى الله عليه وسلم فهو على سنة وخير ، ولا يبدع ولايقال إنه على غير السنة ، بل إن له وجهاً من هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم ؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم لبس العمامة ، وكانت موجودة في زمانه وإلى عهد قريب بل إلى يومنا هذا وهي تلبس وموجودة في بلاد المسلمين ، فلا يقال للذي لبسها إنه مبتدع ، أعوذ بالله من ذلك ، لايقال هذا القول لمن فعله وهو يقصد التأسي برسول الله صلى الله عليه وسلم ، وإن ترجح عندك أنها سنة جبلية فلا يجوز أن تأمر غيرك بما تعتقده مادام أن الغير له اعتقاد في تأول سنة النبي صلى الله عليه وسلم ، ولذلك كان من شعار الصحابة لبسها كما قال حسان بن ثابت في قصيدته العينية المشهورة :
إن الذوائب من فهر وإخوتهم… قد بينوا سننا للناس تتبع
يرضى بها كل من كانت سريرته … تقوى الإله وبالأمر الذي شرعوا(25/26)
فوصفهم بأنهم "أصحاب ذوائب " : والذوائب جمع ذؤابة وهي طرف العمامة ، ومن سنن الشرع المسح على العمامة ، فإذا قلت إن العمامة اليوم بدعة معنى ذلك أنه لايمسح عليها ولا يستباح بها الرخص ، ولا قائل يقول بهذا ، ولذلك من لبسها لاينكر عليه بل هو على سنة إذا اعتقد التأسي برسول الله صلى الله عليه وسلم وعلى خير ، فإن اعتقدت أنها ليست بسنة فلا تلزم الغير بما أنت تعتقده ، ولا تشنع على الغير بما أنت تعتقده ، فلو قبض إنسان بعد الركوع وأنت لاترى القبض ليس من حقك أن تقول هذا مبتدع ؛ لأنه يتأول سنة النبي صلى الله عليه وسلم ويعتقد أن ذلك من السنة ، وهكذا لو حرك إصبعيه بين السجدة الأولى والثانية يتأول سنة النبي صلى الله عليه وسلم في تحريكه في الدعاء لايقال مبتدع ؛ لأن هذا اعتقاده ، وهذا ما أدى إليه اتباعه لعلماء وأجلاء وفضلاء وأخيار وله أصل من سنة النبي صلى الله عليه وسلم ، فلا يبدع مثل هذا إنما يبدع من ضل السبيل ولم يكن له معلم ولا دليل ، وأخذ السنة بالأهواء وابتعد عنها بشعب الآراء ، فهذا هو الذي ابتدع في دين الله مالم يأذن به الله ، أما من بلغته سنة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم صحيحة ثابتة كوضح النهار في فعل شيء أو ترك شيء ففعله أو تركه وله مساغ في الفعل والترك فلا يقال إنه مبتدع .
وهذا بإجماع العلماء في مسألة الخلاف أنه لاينكر فيها ولايبدع صاحبها بل له أجره ، وكون الإنسان يعجز عن تطبيق بعض السنن فلا يدعوه ذلك إلى أن يكون حجرة عثر في إحياء هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم نسال الله العظيم أن يرزقنا حب سنته ، وأن لايخالف بنا عن طريقته ، وأن لايحشرنا في غير زمرته ، والله تعالى أعلم .
السؤال السابع :
قال الإمام أبو عيسى الترمذي -رحمه الله تعالى - : حديث عائشة - رضي الله عنها - ليس بالقائم فهل هذا اللفظ يعتبر من ألفاظ التضعيف صراحة ..؟؟
الجواب :(25/27)
نعم .. هذا يتضمن التضعيف ، وبعض العلماء : يقول إن الإسناد ليس بقائم على الوجه الذي ذكره ، ولا يمنع أن يكون هناك روايات أخر أو شواهد أخر تعضد الحديث وتدعو بقبوله ، ولذلك يقولون : لا يتضمن التضعيف للرواية لكنه قدح وجرح في السند .
وَآخِرُ دَعْوَانَا أَنِ الحمَْدُ لِلَّهِ رَبِّ العَالَميْنَ وصلَّى اللَّهُ وسلَّم وبارك على عبده ونبيَّه محمد
وعلى آله وصحبه أجمعين .(25/28)
(
قال المصنف-رحمه الله - : بَاب فِي الْوُضُوءِ بِالْمُدِّ
حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ مَنِيعٍ وَعَليُّ بْنُ حُجْرٍ قَالاَ حَدَّثَنَا إِسْمَعِيلُ ابْنُ عُلَيَّةَ عَنْ أَبِي رَيْحَانَةَ عَنْ سَفِينَةَ :"أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَتَوَضَّأُ بِالْمُدِّ وَيَغْتَسِلُ بِالصَّاعِ ".
قَالَ رحمه الله : وَفِي الْبَاب عَنْ عَائِشَةَ وَجَابِرٍ وَأَنَسِ بْنِ مَالِكٍ .
قَالَ أَبو عِيسَى رحمه الله : حَدِيثُ سَفِينَةَ حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ وَأَبُو رَيْحَانَةَ اسْمُهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَطَرٍ وَهَكَذَا رَأَى بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ الْوُضُوءَ بِالْمُدِّ وَالْغُسْلَ بِالصَّاعِ ، وقَالَ الشَّافِعِيُّ وَأَحْمَدُ وَإِسْحَقُ لَيْسَ مَعْنَى هَذَا الْحَدِيثِ عَلَى التَّوَقِّي أَنَّهُ لاَ يَجُوزُ أَكْثَرُ مِنْهُ وَلاَ أَقَلُّ مِنْهُ وَهُوَ قَدْرُ مَا يَكْفِي .
الشرح:
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين أمابعد :(26/1)
فقد ذكر المصنف رحمه الله هذه الترجمة المأخوذة من حديث النبي صلى الله عليه وسلم ، وهي تدل على الاختصار في ماء الوضوء ، وأن النبي صلى الله عليه وسلم كان لا يسرف في الماء الذي يتوضأ به ، وقد أجمع العلماء على أن السنة أن يقتصر الإنسان في وضوئه على أقل ما يكفيه ؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم حرص حرصاً شديداً على عدم الإسراف في الماء ، وهذا الأصل قد دلت عليه نصوص الكتاب العزيز ، وأجمع العلماء رحمهم الله على اعتباره ؛ ولذلك حرم الله الإسراف وتوعّد عباده عليه ، وأخبر أن الإسراف في الأمور من شأن الشيطان وإخوانه وأعوانه ، ولذلك لا ينبغي للمسلم إذا توضأ أن يبالغ في الوضوء فيسرف في الماء ؛ لأن ذلك مما لا يرضي الله عز وجل ، وقد أخبر سبحانه وتعالى أنه لا يحب المسرفين ، ومن أراد أن يتقرب إلى الله بالطهارة فليتقرب إلى الله بما يحبه لا بما لا يحبه ، ولذلك حرص رسول الله صلى الله عليه وسلم على الوضوء بأقل الماء .
وقوله " كان يتوضأ بالمد " : هذا الحديث هو أحد أحاديث وردت في القدر الذي كان النبي صلى الله عليه وسلم يتوضأ به ، وأقل ما ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم هو ثلثا المد ، وذلك في الحديث الذي صححه الحاكم وغيره أن النبي صلى الله عليه وسلم توضأ بثلثي المد ، ومن المعلوم أن المد من المكاييل التي كانت على عهد النبي صلى الله عليه وسلم ، فهناك مكيالان مشهوران :
المكيال الأول: هو المد وهو الأصغر ، ويسمى بالصاع النبوي وبربع الصاع .
وأما النوع الثاني: وهو الصاع.(26/2)
أما بالنسبة للمد فقد ضبطه العلماء رحمهم الله بقولهم : هو ملء اليدين المتوسطتين لا مقبوضتين ولا مبسوطتين ، فلو أن إنساناً جعل الطعام في كفيه ، وكانت الكفان متوسطتين في الحجم لا كبيرتين ولا صغيرتين ولا مقبوضتين ولا مبسوطتين ، فإن هذا القدر من متوسط الخلقة يملأ مد النبي صلى الله عليه وسلم .
وقد ذهب بعض العلماء إلى تقدير المد والصاع بالوزن ، وهذا التقدير ضعفه العلماء ؛ لأن المكيلات لا تنضبط بالوزن ، وقد أشار إلى ذلك الإمام ابن قدامة-رحمة الله عليه- في كتابه المغني ، ونص العلماء في الربويات على تحريم بيع المكيلات بالوزن ، وتحريم بيع الموزونات بالكيل ؛ لأن كلا منهما لا يضبط الآخر، ولو قال قائل : إن الصاع النبوي يعادل قدراً معيناً من الغرامات فإن هذا القدر يختلف باختلاف الطعام ، فلو قيل من التمر فإن التمر لا ينضبط فهناك تمر ثقيل وهناك تمر خفيف ، وهكذا بالنسبة للحبوب والثمار فامتنع السلف رحمة الله عليهم من ضبط الصاع والمد بالوزن ، ولذلك ضبطوه بالصورة فقالوا هو ملء الكفين المتوسطتين لا مقبوضتين ولا مبسوطتين.
وأما بالنسبة للصاع النبوي فالصاع النبوي يعادل أربعة أمداد ؛ ولذلك يسمى المد بربع الصاع ، ويسمى بالصاع الصغير ، والصاع هو الذي كان النبي صلى الله عليه وسلم يغتسل به ، وأما بالنسبة للمد الذي ورد في حديثنا فإنه أقل ما ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم من جهة الكيل التام ، أما بالنسبة لثلثي المد فقد ورد عنه عليه الصلاة والسلام أنه توضأ به .
وقد استدل بهذا الحديث بعض فقهاء المالكية رحمة الله عليهم على أنه لا يجوز الوضوء بأكثر من المد ؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم توضأ بالمد فلا يجوز لأحد أن يزيد عليه .(26/3)
وذهب جماهير السلف والخلف إلى أن النبي صلى الله عليه وسلم توضأ بالمد ليس على سبيل الإلزام به وإنما هي سنة والناس يختلفون في الأحجام وتيسر إصابة الماء للأعضاء واستيعابها ، ولذلك لايلزمون بهذا التقدير ، وإنما قالوا يستحب للإنسان أن يتوضأ بهذا القدر الذي ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم ، ومن حرص على الوضوء بهذا القدر فإنه يعتبر مثاباً شرعاً ؛ لأنه تأسى برسول الله صلى الله عليه وسلم ، ومن تأسى برسول الله صلى الله عليه وسلم أصاب الرحمة والهداية كما أخبر الله في كتابه ، ولذلك الحرص على تطبيق هذه السنة النبوية فيه خير كثير للإنسان.
وقد استدل بهذا الحديث الإمام أبو عبدالله مالك بن أنس إمام دار الهجرة-رحمة الله عليه- فقال : إن الدلك في الوضوء يعتبر واجباً ؛ والسبب في ذلك أنه نظر إلى أن المد لا يمكن للنبي صلى الله عليه وسلم أن يستوعب به أعضاء الوضوء إلا إذا دلك بيده ، ولذلك ورد في حديث الحاكم : (( دلك دلكاً شديداً )) ، فقال فقهاء المالكية يجب على المتوضيء أن يدلك بيده ، ولا يكفي أن يصب الماء على البشرة ؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم توضأ على هذه الصفة فهي واجبة .
وذهب جمهور العلماء إلى أن الدلك ليس بواجب ؛ لأن الله-- سبحانه وتعالى - -أمرنا بالغسل ، والغسل يتحقق بإمرار الماء على العضو ، ويعتبر قول المالكية بوجوب الدلك من مفردات مذهب المالكية وقد أشار إلى ذلك ابن عاشر قوله :
فرائض الوضوء سبعة وهي ……دلك وفور نية في بدئه
فهم يرون أن الدلك واجب وأنه من فرائض الوضوء .(26/4)
والصحيح ماذهب إليه جمهور العلماء ؛ لأن الله عز وجل أمرنا بالغسل ، والغسل في لغة العرب صبّ الماء على الشيء ، فمن صبّ الماء على يديه ولم يمر يده عليها فقد أصاب ، وحينئذ يعتبر غاسلاً على الوجه الذي أمر الله عز وجل به ، وهذه السنة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم يصعب تحقيقها وتطبيقها إلا لمن وفقه الله عز وجل لذلك ، ومن حرص على تطبيقها فإن الله يعينه ؛ لأن حب سنة النبي صلى الله عليه وسلم والحرص على تطبيقها يوفق الإنسان فيه أيما توفيق ، فالمنبغي على المسلم أن يحرص على التأسي برسول الله صلى الله عليه وسلم ، أما الإسراف في الوضوء وإطلاق صنابير الماء دون مراعاة للماء الذي يسكب فإنه يعتبر أمراً محرماً شرعاً إذا زاد عن القدر المحتاج إليه ، فقد أجمع العلماء رحمهم الله على أن المتوضئ والمغتسل إذا زاد في الماء عن الحد الذي يحتاج إليه فقد أسرف ، وقد حمل العلماء –رحمهم الله- الإسراف في الماء حملوا عليه حديث عبدالله بن مغفل رضي الله عنه وأرضاه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : (( يأتي في آخر الزمان أقوام يعتدون في الطهور والدعاء )) ، فبين النبي صلى الله عليه وسلم أنه في آخر الزمان لايبالي المتوضيء والمتطهر بالماء الذي يتوضأ ويتطهر به ، وهي معجزة من معجزات النبي صلى الله عليه وسلم ، فمن نظر في زماننا إلى حال الكثير-إلا من رحم الله- إذا أرادوا أن يتوضأوا لم يبالوا بالماء الذي يسكب ، وإذا نظر المسلم إلى حاجة إخوانه إلى هذا الماء وقد يكون الماء وقفاً على المسجد يتحمل الإنسان في إيصاله ووجوده المؤونة والكلفة ، فإطلاق الصنابير دون محاسبة ودون تقيد يعتبر من المنكرات ، والواجب على كل مسلم توضأ ورأى أخاه بجواره يسرف في الماء أن يذكره الله-جل وعلا- ، وأن يبين له أن الله لا يحب هذا الإسراف ، وأنه إذا اتقى الله في طهارته وفي صلاته تقبّل الله(26/5)
عبادته ، وأما إذا أسرف وأغضب الله في طهارته ولم يؤدها على الوجه المعتبر فيخشى عليه حرمان القبول ؛ لأن الله يتقبل من المتقين ، ومن تقوى الله عز وجل أن يتقي الإنسان ربه في ماء الوضوء ولايسرف على وجه لا يحبه الله عز وجل ، ولايجوز السكوت على من يسرف في الماء ، بل ينبغي عليك نصيحته ، وتذكيره بالله -جل وعلا- ، أو على الأقل أن تقصر ماء الوضوء على القدر الذي يحتاج إليه ، وتعلمه أن هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم على المحافظة على الماء وعدم الإسراف فيه ، وأن الإسراف فيه لايحبه الله عز وجل لقوله :{ إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ }(1) ، ولايجوز للإنسان أن يسكت على معصية الله عز وجل متى ماوسعه الإنكار ، وإذا سكتّ عنه وقد فعل فعلته على هذا الوجه الذي لايرضي الله فإن الله يحاسبك عنه بين يديه سبحانه وتعالى ، ويسألك عن حقه في الإنكار عليه ، فالواجب التنبيه على هذا الأمر خاصة في دورات مياه المساجد ؛ لما فيها من مال الوقفية ، واعتبار الماء أشبه مايكون بالوقف على المسجد لايجوز استباحته للطهارة إلاّ بقدر الحاجة.
قال المصنف - رحمه الله- : بَاب مَا جَاءَ فِي كَرَاهِيَةِ الإِسْرَافِ فِي الْوُضُوءِ بِالْمَاءِ
حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ حَدَّثَنَا أَبُو دَاودَ الطَّيَالِسِيُّ حَدَّثَنَا خَارِجَةُ بْنُ مُصْعَبٍ عَنْ يُونُسَ بْنِ عُبَيْدٍ عَنِ الْحَسَنِ عَنْ عُتَيِّ بْنِ ضَمْرَةَ السَّعْدِيِّ عَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ:(( إِنَّ لِلْوُضُوءِ شَيْطَاناً يُقَالُ لَهُ الْوَلَهَانُ فَاتَّقُوا وَسْوَاسَ الْمَاءِ )) .
قَالَ رحمه الله : وَفِي الْبَاب عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُغَفَّلٍ .(26/6)
قَالَ أَبو عِيسَى رحمه الله : حَدِيثُ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ حَدِيثٌ غَرِيبٌ وَلَيْسَ إِسْنَادُهُ بِالْقَوِيِّ عِنْدَ أَهْلِ الْحَدِيثِ لأَنَّا لاَ نَعْلَمُ أَحَدًا أَسْنَدَهُ غَيْرَ خَارِجَةَ وَقَدْ رُوِيَ هَذَا الْحَدِيثُ مِنْ غَيْرِ وَجْهٍ عَنِ الْحَسَنِ قَوْلَهُ وَلاَ يَصِحُّ فِي هَذَا الْبَابِ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم شَيْءٌ وَخَارِجَةُ لَيْسَ بِالْقَوِيِّ عِنْدَ أَصْحَابِنَا وَضَعَّفَهُ ابْنُ الْمُبَارَكِ .
الشرح :
هذا الحديث يعتبر حديثاً ضعيفاً ؛ لأن فيه خارجة بن مصعب وقد كذّبه ابن معين ، وضعفه ابن المبارك وغيرهما من أئمة الحديث ، ولذلك العمل عند العلماء رحمهم الله على ضعف هذا الحديث ، والإسراف في الماء أجمع العلماء رحمهم الله على تحريمه في الوضوء وغير الوضوء ، وإذا كان الإسراف محرماً في الوضوء وهو عبادة فمن باب أولى غيره ؛ ولذلك قال العلماء : لا يجوز للإنسان أن يستكثر في الماء الذي يتوضأ به ، وفي هذا الزمان نظراً لوجود صنابير الماء يكثر الإسراف .
وأما في الزمان القديم فإن صبّ الماء من الوعاء والإناء قد يتحكم فيه بعض الشيء ، بخلاف صنابير الماء التي تحتاج إلى معالجة ومتابعة قد يصعب معها التحكم ، ولذلك ينبغي للمسلم أن يتقي الله ما استطاع إلى ذلك سبيلاً ، وأما الوسوسة في الوضوء فإنه بلاء من الله-جل وعلا-يبتلي به من شاء من عباده ، وهذه الوسوسة تأتي على صورتين :
الصورة الأولى : أن تكون الوسوسة في إصابة الماء للأعضاء .
والوسوسة الثانية : تأتي بالشك في خروج الخارج وانتقاض الوضوء .
فأما بالنسبة للشك والوسوسة في انتقاض الوضوء-فسيأتي بيانها إن شاء الله تعالى عند بيان نواقض الوضوء -.(26/7)
وأما بالنسبة للوسوسة في إصابة الماء للأعضاء فإنه بلاء وأي بلاء ، فإن الله -جل وعلا - ابتلى بني آدم بالشيطان وحزبه ؛ ولذلك مامن مسلم يستقيم على طاعة الله- جل وعلا- إلا قعد له الشيطان في كل سبيل بالرصد ، وآذاه حتى يبلغ من الأذية ما شاء الله له أن يبلغ ، وذلك من كيد الشيطان وتوهينه للمسلم ، فإذا أراد أن يستقيم على طاعة الله-جل وعلا- حجبه عن الطاعة ومنّاه الأماني ، ولربما صبّره وقال لاتعجل فأنت في شبابك اصبر حتى تكبر سنك وحينئذ تتوب إلى ربك ، فإذا أصرّ على التوبة والإنابة إلى الله-جل وعلا – جاء وذكره الذنوب في الماضي فقنّطه من رحمة الله ويأسه من روح الله ، وقد يكون مغفوراً له من أول لحظة تاب فيها ، ولكنه يوسوس له في قلبه أن الله لايحبه وأنه كثير الذنوب كثير العيوب كثير الإساءة لا مكان له من الهداية ، فإذا أصرّ على توبته وإنابته إلى الله ، وأحسن الظنّ في الله سبحانه وتعالى حنق عدو الله عليه وأصابه الغيظ فجاءه من كل سبيل وطريق ، حتى لربما يحرّض عليه قرناءه وأصحابه يثبطوه ، ويخذلوه ، وعن الخير يردوه ، فإذا أصرّ على طاعة ربه والقرب من سيده ومولاه جاءه من باب الطاعات فإذا أراد أن يفعل طاعة قال له : هيهات هيهات ما أنت بالمطيعين ، ولا مكانك في مكان الصالحين ، أنت من أعداء الله فعلت وفعلت ، فإذا أصرّ على الفعل قال له: أنت لاتريد وجه الله ، أنت تريد أن يتحدث الناس عنك بالخير ، أنت مراءٍ فيما تقول وما تفعل ، أنت أنت حتى يصيب الإنسان من الهم والغم ما الله به عليم ، ولا يزال المسلم صابراً محتسباً ، وعدو الله يخذّله وييئسه من رحمة الله، ويقنّطه من روح الله ، لما فيه من الغيظ والعدواة لعبد الله وأمته ، وما على الإنسان إلاّ أن يتعلق بالله -- جل جلاله -- ، فإذا أصرّ على الطاعة ومضى فيها جاءه بالوساوس والخطرات فشككه في عبادته ووسوس له في طاعته وصلاته ، حتى لربما يصاب الإنسان بالحيرة(26/8)
والدهش ويعظم عليه البلاء فلا يستطيع حيلة ولا يهتدي سبيلاً إلا أن يرحمه الله برحمته ، ومن ذلك وسوسته له في الوضوء ، فإذا قنط عدو الله ويئس من هذا العبد المطيع لله تركه والطاعة ، فإذا أراد أن يتوضأ فغسل وجهه قال له : تركت كذا وكذا ، الماء لايصيب وجهك ، إن هذا الموضع لايصيبه الماء ، ماتحت عينيك لم يصبه الماء انظر إلى كذا ، ولربما ينظر الإنسان في المرآة مرات وكرات ، وقد اشتكى بعض الموسوسين من هذا البلاء بما لا يتخيله الإنسان ، حتى بلغ ببعضهم أن يتوضأ مائة مرة وهو لايعتقد أنه متوضئ ؛ لأن عدو الله استحكم من قلبه ، ونفث فيه السموم حتى يؤذيه ويضره ، فإذا بلغ به هذا المبلغ لربما ترك الصلاة وترك الطاعة بسبب هذه الوساوس والخطرات .(26/9)
ولكن الله -- جل جلاله - -إذا أراد أن يرحم عبده قيض له أموراً يستعين بها على دفع الوسوسة ، والسلامة من شرها وضرها ، وأعظم ذلك وأجله أن يكثر من ذكر الله سبحانه وتعالى ، ويحافظ على أذكار الصباح والمساء ؛ لأن الله جعلها حرزاً لعباده من الشيطان الرجيم ، والغالب في الموسوس إذا اعتقد اعتقاداً قوياً جازماً أن الذكر يحفظه حفظه الله بالذكر ، ولكن الشيطان يوسوس له أن الذكر لايفيد ؛ ومن هنا تجد الكثير إلاّ من رحم الله إذا قلت له استعذ بالله ربما لم يفكر فيما تقول ولم يتأمل ؛ لأنه لايحسن الذكر لله-جل وعلا- على الوجه المؤثر ، وقد بيّن سبحانه وتعالى أن النجاة من وسوسة الشيطان بالاستعاذة فقال-سبحانه-:{وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنْ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ}(1) فأخبر سبحانه وتعالى أنه يسمع استعاذة عباده واستجارتهم به وأنه عليم بأحوالهم ، فإذا كان الموسوس قوي الإيمان بالله -جل وعلا- ربط الله على قلبه، والغالب أنه إذا أكثر من الذكر أن الوسوسة تخف ، وأن الله يجعل له العاقبة خيراً ، وقد جعل الله-جل وعلا- من أذكار الوسوسة التي يدفع بها شرها وبلاؤها المعوذات ؛ لأن الله سبحانه وتعالى جعلها حرزاً لعباده وفي الحديث الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم قال :(( قل هو الله أحد ، وقل أعوذ برب الفلق ، وقل أعوذ برب الناس تكفيك من كل شيء )) أي من قرأها ثلاث مرات في المساء وفي الصباح ، ولكن يقرؤها بقلب حاضر ولذلك قال سبحانه وتعالى :{قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ - مَلِكِ النَّاسِ - إِلَهِ النَّاسِ - مِنْ شَرِّ الْوَسْوَاسِ الْخَنَّاسِ - الَّذِي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ - مِنْ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ}(2) فمن قرأ هذه السورة الكريمة متأملاً متدبراً ، يستعيذ برب الناس الذي لارب سواه ولا معاذ ولا ملاذ للعبد عداه ، فإذا(26/10)
استعاذ الإنسان به وهو حاضر القلب أعاذه سبحانه وتعالى وأجاره ، وقد ابتلى بعض الناس بالوسوسة ، وبلغ به من البلاء ما بلغ ، وكان غافلاً عن الدعاء ، وشاء الله عز وجل أن يسأل بعض العلماء عن ذلك فدلوه على الدعاء ، فقال :كنت أدعو ولا أستحضر الدعاء في قلبي ، فشاء الله سبحانه وتعالى أن يحافظ على الدعاء ، قال : فمرّت ثلاثة أيام لا أشعر بشيء ثم من بعدها أصبح يتفلت عدو الله ويخف شيئاً فشيئاً ، وهذا أمر غريب وهو أن الله سبحانه وتعالى يبتلي الناس بذكره ، فإذا أراد العبد أن يذكر ربه ويستعيذ به أخّر الله عنه إجابة الدعاء حتى يبتلي إيمانه ويقينه وصبره، فإذا كان عنده اليقين أحس بأن هذا الدعاء لايخيب صاحبه ، وأن الله سبحانه وتعالى سيأتيه بالفرج ولو بعد حين فتمر عليه الأيام ، بل حتى تمر عليه الشهور والأعوام وهو صابر ينتظر الفرج من الله -جل وعلا- حتى يأتيه الفرج من حيث لايحتسب .(26/11)
ذكر بعض الأخيار أنه ابتلي بالوسوسة في الغسل من الجنابة ، ومكث على هذه الوسوسة أكثر من ثلاث سنوات ، بلغ به أنه يدخل قبل صلاة الفجر فلا يخرج إلا بعد طلوع الشمس بأكثر من ساعة ، ومع ذلك يشك أنه قد اغتسل من الجنابة - نسأل الله السلامة والعافية - واشتكى وكثرت شكواه حتى دلّه بعض العلماء على أن يحسن الظن بالله ، وأن يكون قوي اليقين ، وأنه مهما دعا أن يكون في قلبه أن الله سيستجيب له ، قال : والله مامرت ثلاثة أيام وأنا أشعر أن الفرج سيأتي ، حتى شاء الله -- عز وجل - - في ثالث الأيام أن ذهب عني جميع ما أجده ، وهذه رحمة من الله سبحانه وتعالى ، ولذلك آذى الشيطان عبدالله ونبيه أيوب ، ومسّه بالنصب والعذاب ، وأيوب صابر ومحتسب يرجو من الله- جل وعلا- حسن الثواب وطيب المآب ، فوجده الله صابراً كما أثنى عليه في كتابه سبحانه وتعالى وأَنْعَم فقال :{ إِنَّا وَجَدْنَاهُ صَابِراً نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ }(1) أي أننا فرجنا عنه لأنه كثير الإنابة إلى الله سبحانه وتعالى ، فما زال أيوب يدعو ربه حتى فرّج الله كربه ، ودفع عنه أذية الشيطان ، والله لا يعجزه شئ :{ قُلْ مَنْ بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ يُجِيرُ وَلاَ يُجَارُ عَلَيْهِ }(2) سبحانه وتعالى : { أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الأَرْضِ أَءلَهٌ مَعَ اللَّهِ}(3) لاإله إلا الله ، فالمنبغي على الإنسان أن لا يقنط من رحمة الله ، وكثير من الموسوسين إلا من رحم الله تضيق عليه نفسه ويسوء ظنه بالله -- جل جلاله -- بسبب تأخر الإجابة لدعائه ، وهو لا يعلم أن الله لربما رفع درجته بهذا البلاء ، ولذلك أخبر النبي صلى الله عليه وسلم عن امرأة من المسلمين أوذيت بالشيطان فصرعها وآذاها أنها من أهل الجنة ، فكانت تمشي على وجه الأرض وهي مبشرة بالجنة ، وهذا كله(26/12)
بالصبر واحتساب الأجر ، وكم من إنسان بلي بهذه الوساوس والخطرات وجعل الله له بها الخير في دينه ودنياه ، فقد يعلم الله أن هذا العبد المهتدي أنه لو سلم من الوسوسة انتكس عن صراط ربه ، وقد يعلم الله -سبحانه- أنه لو سلم من هذه الوسوسة في وضوئه وطهارته أنه يوسوس بالحرام ، وفعل الآثام ، وما على الإنسان إلا أن ينصب وجهه للحي القيوم الذي لا تأخذه سنة ولا نوم ، فهو نعم المولى ونعم النصير ، وهو المعيذ ، وهو المجير .(26/13)
وأما الأمر الثاني الذي ينبغي على الموسوس أن يحافظ عليه : فهو أن يرجع إلى العلماء ، وأن يكثر من سؤال أهل العلم ، وأن لا يتضجر من ذلك ، ولا يستحي ، ولا يستنكف ، فإذا أصبح على صلة من العلماء علموه وبينوا له أن وضوءه وغسله معتبر ، فلا يزال الشيطان يتسلّط عليه بالوسوسة فيرفعها الله بنور العلم ، وبالرجوع إلى العلماء ، وينبغي على طلاب العلم وأهل العلم أن تتسع صدورهم لأمثال هؤلاء المبتلين ، وأن يصبروا في قضاء حوائجهم وتفريج كرباتهم ، فإذا وفق الله طالب العلم وابتلي بمن به وسوسة يراجعه ويكثر الإلحاح عليه فعليه أن يصبر ويحتسب الأجر عند الله سبحانه وتعالى ، وقد اشتكى بعض المبتلين بهذا البلاء أنه يجد من أهل العلم من الإعراض ، والصدود ، والسآمة ، والملل ، والضجر ماهو أعظم عنده من البلاء الذي يجده في نفسه ، فبعضهم يطرده العالم ، وبعضهم يوبخه ، وبعضهم يشتم ، خاصةً إذا كانت وسوسته في الاعتقاد ، وهذا لا ينبغي فأمثال هؤلاء مبتلون ، ويحتاجون إلى صبر واحتساب للأجر ، ومن احتسب الأجر عند الله في الصبر عليهم أعظم الله أجره ، وأحسن عاقبته ، وأجزل مثوبته :{ وَلاَ تَطْرُدْ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ}(1) وقد يكون هذا المبتلى الذي يسألك عبداً عظيم المكانة عند الله سبحانه وتعالى ، فتطرده فيغضب الله عليك بطرده ، فإن كنت طالب علم ، أو إماماً لمسجد ، أو نحو ذلك من الولايات الدينية التي يحتاج الناس فيها للسؤال عن أمورهم التي يبتلون بها في دينهم فينبغي عليك أن تكون مُوطَأَ الكنف ، وأن تصبر على أمثال هؤلاء ، وإذا وجدت الضجر في نفسك ، والسآمة في قلبك فاضرع إلى الله -جل وعلا- أن يعينك ، وأن يسددك ؛ فإنه نعم المولى ، ونعم النصير ، وإذا كان طلاب العلم وأهل العلم معرضين عن أمثال هؤلاء فلا يؤمن منهم أن ينتكسوا عن طاعة الله-- جل جلاله -- ومنهم من(26/14)
يصيبه الجنون فيفقد عقله وإدراكه-نسأل الله السلامة والعافية - ، وإذا أتاك الموسوس بسؤاله وبلائه فاعلم أنك أمام الغريق الذي يلتمس أي سبيل لنجاته ، ويريد أي طريق لسلامته ، فاحتسب عند الله عز وجل في دفع همومهم ، وإعانتهم على أنفسهم ، ولا شك أنك ستجد في ذلك من البلاء شيء كثير ، وقد كان العلماء وأهل الفضل يوصون طلابهم بالصبر على أمثال هؤلاء ، وهذا هو الذي يعظم الله به الأجر ، فصبر العلماء وطلاب العلم والأئمة ونحوهم من أهل العلم صبرهم على هذه الأمور يعتبر من الصبر على تبليغ رسالة الله ، وأداء أمانة الله، وانظر إلى أهل الدنيا كيف يصبرون وكيف يحتسبون فالطبيب يصبر على شكوى المرضى ، ويسهر إلى ساعات متأخرة من الليل لا يسأم ولا يضجر ؛ لأنه يجد بعد الحين ثمرة عمله ، فكيف بمن وفقه الله -جل وعلا - لهداية الناس إلى طاعة رب الناس ، وصبر على ذلك واصطبر ، واحتسب الأجر عند الله سبحانه وتعالى ،- نسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يوفقنا لذلك- .
وينبغي على من كان قريباً من المبتلى بالوسوسة أن يثبته وأن يعينه وأن يقويه ، فالوالدان عليهما مسئولية عظيمة تجاه الولد إذا بلي بمثل هذا الأمر ، يصبرانه ولا يضجران ، فإذا تضجر الوالدان وضيقا على الولد سئمت نفسه ، ولربما خرج من البيت وكره الجلوس بين والديه ، وهما أقرب الناس إليه بسبب سوء المعاملة.(26/15)
قال بعض العلماء : لايؤمن أن الشيطان يسلّط الوالدين على المبتلى بالوسوسة لكي يضيق عبد الله عن طاعة الله فينتكس ، قاتلهم الله فهم أعداء الله لايفترون عن أذية أوليائه بأي سبيل ، فالواجب على الوالدين أن يصبروا ، وكذلك الزوجة والزوج ينبغي عليهما الصبر ، واحتساب الأجر ، وأن يكون كل واحد منهما براً رحيماً رفيقاً رقيقاً ، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم : (( إن الرفق ماكان في شيء إلا زانه ولا نزع من شيء إلا شانه )) ، وهكذا بالنسبة للقرناء والأصحاب فبعضهم يضيق ذرعاً بصديقه إذا رآه مبتلى بالوسوسة ، ولا يجوز له أن يفعل ذلك على سبيل التضييق على أخيه ، فحق الأخوة عظيم ، وإذا رأيت أخاك مبتلىً بالوسوسة فأكثر من الدعاء له فإن الله يأجرك ، وكذلك لا يجوز لك أن تشمت به ، أو تسخر منه ، فذلك مما حرمه الله عز وجل ، وإذا عيّر الإنسان المبتلى لم يأمن من الله عز وجل أن يعافيه ويبتليه فعلى الإنسان أن يسأل الله السلامة ، وأن يحمد الله على عافيته ، فكل من كان قريباً من الموسوس فإنه ينبغي عليه أن يراعي هذه الأمور ، وكم صبرنا على الدنيا ، وصبرنا في تحقيق مقاصدها وغاياتها ، ولم نصبر على تحقيق مرضاة الله والوصول إلى رحمته ، ومامن بيت يوجد فيه أمثال هؤلاء إلا كان بلاءً على جميع أهل البيت صغيرهم وكبيرهم ، يختبر الله حالهم مع هذا الموسوس ، فالواجب على الجميع أن يتقوا الله في أمثال هؤلاء ، وأن يرفقوا بهم ما استطاعوا لذلك سبيلاً ، وإذا ابتلي الإنسان بالوسوسة وأراد سؤال العلماء واحتاج إلى مراجعتهم فإنه ينبغي عليه كذلك أن يترفق بأهل العلم ، وأن لا يضجرهم ، وأن لا يأتيهم على وجه يوجب السآمة والضجر عليهم ، فإن الإنسان بشر ، وأهل العلم متحملون لأمانة عظيمة ، ومسئولية جسيمة فينبغي الرفق بهم وعدم التضييق عليهم ، فإذا أمكن أن يرجع إلى إمام المسجد وأن يترك من هو أكثر منه شغلاً رجع إلى إمام مسجده وارتبط(26/16)
به يسأله عما ينوبه من مسائل وسوسته ، وهكذا إذا وجد في حيِّه طالب علم وأمكنه أن يرجع إليه رجع إليه ، أما أن يصرّ على العلماء الذين عرفوا بكثرة مشاغلهم وكثرة ارتباطهم بمشاكل الناس ومسائلهم وفتاويهم ، فإنه ربما يزعجهم بكثرة المرور عليهم ، وقد يكون مروره عليهم على وجه فيه أذية لهم ، كأن يكون في ساعة راحتهم ونحو ذلك فالعالم وراءه أمم ، فإزعاجه وإقلاقه يضيع عليه الفائدة عن من هو أكثر وأعظم نفعاً للمسلمين ، فالواجب على الجميع أن ينظر إلى مافيه تحقيق مرضاة الله- جل وعلا- .
-نسأل الله العظيم رب العرش الكريم بأسمائه الحسنى وصفاته العلى أن يمن علينا بعافيته وأن يسلمنا من بلائه إنه ولي ذلك والقادر عليه - . …
- ? - ? - ? - ? - الأسئلة - ? - ? - ? - ? -
السؤال الأول :
إذا استطعت أن أتوضأ بالمد فإنني لا أستطيع أن أثلث الوضوء ، فأيهما أفضل؟ وهل يمكن الجمع بينهما..؟؟
الجواب :
بسم الله الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه أما بعد :
فإن تثليث الوضوء أفضل من اقتصارك على المد مرة واحدة ؛ وذلك لأن التثليث من الإسباغ ، وقد ندب النبي صلى الله عليه وسلم إليه ، وأخبر أن الله يمحو به الخطايا ويرفع به الدرجات ، فتوضؤك على التثليث أفضل من اقتصارك على المرة الواحدة بالمد ، والله تعالى أعلم .
السؤال الثاني :
قلتم أن ماء المسجد أشبه بالوقف فهل يجوز استخدام ماء المسجد لغير غرض الطهارة مثل أخذه للبيت أو للسيارة إذا احتاج لذلك ؟ علماً بأن الماء من الماء العام الذي يأتي من العين وليس خاصاً بالمسجد..؟؟
الجواب :(26/17)
إذا كان المسجد خاصاً والماء يجلب إليه فإن هذا الماء مخصص للطهارة من وضوء وغسل وما يتبع ذلك من إزالة الخبث ، فإخراجه عن المسجد إخراجه عما أوقف له ، ولذلك العلماء رحمهم الله يقولون : إن دلالة الفعل منزلة منزلة القول ، وقد تكلم على هذه المسألة شيخ الإسلام -رحمه الله -في كتابه النفيس "القواعد النورانية" حيث بين أن السلف كانوا ينزلون الفعل منزلة القول ، وكانوا يعتبرون فتح أبواب المساجد إيذاناً بالصلاة فيها دليلاً على وقفيتها لله عز وجل ، وهكذا بالنسبة لما يلحق المسجد من دورات مياه ، ومنافع ، ومصالح فإنها موقوفة لهذا العمل بعينه ، بدليل أن الماء انحصر في هذا المكان ، وقصد منه الارتفاق لهذه الطاعة ، فلا يجوز صرفه إلى أمور خارجة ، كأن يؤخذ لغسيل سيارة أو نحو ذلك كما يفعله بعض الناس-أصلحهم الله- ، فلا يجوز الاعتداء على المياه الموقفة في المساجد ؛ لأن ذلك إضاعة لها في غير ما أوقفت له ، ولا شك أن هذا الماء مدفوع له مقابل ، وهذا المقابل إنما دفع من أجل قيام الناس بعبادة ربهم وارتفاقهم به على الوجه المشروع لا على الوجه الممنوع من صرفه في المصالح الأخرى ، وعلى هذا فإنه يقتصر في المياه الموجودة في دورات المياه على ما وضعت من أجله ، والله تعالى أعلم .
السؤال الثالث :
ماهو المنبغي على طالب العلم أن يقول في الحكم على الحديث أن نقول حديث ضعيف أو أن نقول إسناد الحديث ضعيف..؟؟
الجواب :(26/18)
هذه المسألة اشار إليها أئمة الحديث -رحمة الله عليهم -أن هناك فرقاً بين قولك حديث ضعيف ، وبين قولك إسناد هذا الحديث ضعيف فالورع أن يقول إسناد هذا الحديث ضعيف ؛ لأنه يحتمل أن يوجد له إسناد آخر ، أو طريق آخر هو أصح من هذا الطريق ، فإذا قلت هذا الحديث ضعيف فإن هذا يقتضي أنه ضعيف بجميع مروياته ، لكنهم قالوا إذا كان بساط المجلس دالاً على التخصيص ، أو يفهم منه التخصيص فإنه يغتفر ، وهكذا سياق الكلام إذا دل على إرادته لطريق معين للحديث فإنه مغتفر ، وقد نبه على ذلك الحافظ ابن كثير وكذلك الإمام النووي ، فقالوا إن الأورع أن يقول الإنسان إسناد هذا الحديث من طريق فلان ويحدد ويخصص ؛ لاحتمال أن توجد طريق أخرى الحديث فيها صحيح ، والله تعالى أعلم.
السؤال الرابع :
هل ورد في السنة أن الرجل يقرأ المعوذات وقل هو الله أحد ثم يجمع يديه وينفث فيهما ويمسحهما على جسمه وولده كل صباح ومساء..؟؟
الجواب :
الثابت في الحديث عن أم المؤمنين عائشة-رضي الله عنها - أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا أوى إلى فراشه جمع كفيه فنفث فيهما ، ثم قرأ المعوذات ثلاثاً يفعل ثلاث مرات ، يتفل ثم يقرأ المعوذات ، ثم يتفل ثم يقرأ المعوذات ، ثم يتفل ثم يقرأ المعوذات ، وفي كل مرة يمسح بهما مانال من جسده هذا عند النوم وهي سنة صحيحة ثابتة ، قالت أم المؤمنين : فلما مرض كنت أفعل ذلك له ، فكانت هي التي تفعل ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، وأما بالنسبة في الصباح والمساء فلم يحفظ في ذلك حديث صحيح ، ولذلك لا أصل لهذا الفعل في الصباح والمساء ، والسنة للإنسان إذا أراد أن يعوذ ولده أن يقول : (( أعيذكم بكلمات الله التامة من كل شيطان ، وهامة ، ومن كل عين لامة )) هذا حديث صحيح ثابت عن النبي صلى الله عليه وسلم ، وهي تعويذة إبراهيم لابنيه إسماعيل وإسحق- عليهم السلام- ، والله تعالى أعلم.
السؤال الخامس :(26/19)
ماذا يفعل من أحدث أثناء الطواف هل يكمل طوافه بعد الوضوء ؟ أو يستأنف من جديد..؟؟
الجواب :
هذه المسألة فيها خلاف بين أهل العلم ، وأصح أقوال العلماء رحمهم الله أن من أحدث أثناء الطواف عليه أن يقطع طوافه ، وأن يتوضأ ، وأن يبدأ من جديد ؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم وصف الطواف بالبيت صلاة فقال في حديث ابن عباس- رضي الله عنهما -:(( الطواف بالبيت صلاة )) فدل على أنه آخذ حكم الصلاة ، وعلى هذا فلو انتقض وضوءه أثناء الطواف لزم أن يقطعه ، ثم يتوضأ ويستأنف من جديد ، والله تعالى أعلم .
السؤال السادس :
ما حكم الوضوء من ماء وقف للشرب كماء البرادات مثلاً ..؟؟
الجواب:
الماء إذا أوقف للشرب لم يجز صرفه لشيء آخر ، إذا أوقف للشرب فإنه يشرب ، ولا يرتفق به في غسل ولا غيره، ولذلك كان العباس بن عبدالمطلب رضي الله عنه إذا سقى الناس من زمزم قال : " إني لا أحله لمغتسل وهو لشارب حل وبل" وذلك بسبب ضيق الحال في ذلك الزمان ، وعلى هذا فإنه إذا أوقف الماء للشرب فهو للشرب ، وإذا أوقف لغير الشرب فإنه لما أوقف له ؛ لأن هذا الماء كما قال العلماء يملك بالحيازة ، وإذا كان الماء يملك بالحيازة فإن معنى ذلك أنه لا يجوز للإنسان أن يأخذ هذا المملوك للغير إلا على الوجه الذي أذن به الغير ، فإذا أذن به الغير للشرب لم يأذن به لغسيل ونحو ذلك ، وعلى هذا فإنه لا يجوز أن يغتسل من مياه البرادات ؛ لما في الاغتسال بها من مخالفة مقصود أصحابها في الوقفية والتسبيل ، وكذلك أيضاً لما في الاغتسال بها من أذية للناس فإن الماء يتقاطر ويخرج عن مكانه فيؤذي كل من أراد أن يشرب فيجد مستنقع الماء حوله ، فيتضررون الناس بالاغتسال من مثل هذه البرادات ، وعلى هذا فإنه لايجوز للمسلم أن يتسبب في أذية إخوانه المسلمين ، وبناءً عليه يقتصر على الشرب منها ، وأما الغسل فإنه يغتسل بما عد للغسل ، والله تعالى أعلم .
السؤال السابع :(26/20)
هل يستحسن لنا أن نقول أعوذ بالله من الشيطان الرجيم قبل الوضوء..؟؟
الجواب :
لم يحفظ عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه استعاذ قبل الوضوء ، وعلى هذا فإن الأذكار توقيفية ، والسنة أن الإنسان يفعل مافعله رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وقد ثبت عنه أنه قال : (( اللهم إني أعوذ بك من الخبث والخبايث )) فكان إذا أراد أن يتطهر من الخبث ويدخل لقضاء حاجته يستعيذ بالله ، ولم يحفظ عنه في حديث صحيح أنه استعاذ بالله عز وجل قبل وضوئه ، وعلى هذا فإنه لا وجه لفعل هذا الأمر ، والله تعالى أعلم .
السؤال الثامن :
ما صحة حديث لا تسرف ولو كنت على نهر جار..؟؟
الجواب :
هذا حديث الترمذي وهو حديث تكلم العلماء في سنده ، والأقوى ضعفه ، ولكن معناه صحيح ، قال العلماء : إن النهي عن الإسراف أصل صحيح دل عليه الكتاب ، ودلت عليه نصوص السنة في هديه عليه الصلاة والسلام فلا يشرع للإنسان أن يسرف ، إضافة إلى أن حديث عبد الله بن مغفل يدل على اعتبار هذا الأصل فهو صحيح المتن وإن كان ضعيف السند ، والله تعالى أعلم .
السؤال التاسع :
هل تقال أذكار المساء بعد صلاة العصر أو بعد المغرب..؟؟
الجواب :
هذه المسألة فيها تفصيل : فبعض الأذكار يشرع ذكرها من بعد صلاة العصر إلى المغرب كالتهليل مائة مرة ، وسبحان الله وبحمده سبحان الله العظيم مائة مرة ، فهذه كلها من أذكار العشي ، وكذلك اللهم بك أمسينا وبك أصبحنا ، وكذلك قوله أمسينا وأمسى الملك لله والحمد لله ، ونحوها من الأذكار غير المؤقتة بصلاة المغرب أو بدخول المغرب .(26/21)
أما النوع الثاني : من الأذكار وهو المؤقت فإنه يُقرأ بعد دخول وقت المغرب أي بعد مغيب الشمس كقوله عليه الصلاة والسلام :(( من قرأ الآيتيتن من آخر سورة البقرة في ليلة كفتاه )) ، وهي قوله-سبحانه- :{ آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ}(1) هاتان الآيتان تشرع قراءتهما بعد غروب الشمس ؛ لأنه قال في ليلة ، وعلى هذا لو قرأها بعد العصر وقبل الغروب لم يتحقق المقصود ، وهكذا بالنسبة للمعوذات ، وقال بعض العلماء يدخل في هذا قوله : (( من قال حين يمسي أعوذ بكلمات الله التامات من شر ما خلق لم يضره شئ )) فقالوا حين يمسي أي حين المساء وهذا أشبه ما يكون بمغيب الشمس ، فمثل هذه الأذكار تتأقت ، وكذلك التهليل عشر مرات بعد صلاة المغرب قبل أن يتكلم وقبل أن يخاطب الناس وقبل أن يتحول من موضعه يكون على هيئة جلوسه يقول : (( لاإله إلا الله وحده لا شريك له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير)) عشر مرات فإن الله يجعلها حرزاً له من الشيطان ، وفيها فضل عظيم ، وكفاية من الله سبحانه وتعالى ، والمقصود أن من الأذكار مايتأقت ومنها ماهو مطلق ، فما كان مطلقاً في المساء والعشي فإنه يكون من بعد صلاة العصر ، والله تعالى أعلم.
السؤال العاشر :
هل يصلى على السقط في الشهر السادس ؟ وهل يغسل ويكفن ؟ وكيف يكون ذلك..؟؟
الجواب :
إذا تمت له أربعة شهور فقال جمع من العلماء : إنه يغسل ، ويكفن ، ويأخذ حكم من استتمت خلقته ؛ لأنه تنفخ فيه الروح وينزل الملك بكتابة شقي هو أو سعيد ، وكتابة رزقه وأجله وسعيه وعمله ، قالوا فهذا يدل على أنه بعد الأربعة الأشهر في حديث ابن مسعود رضي الله عنه في الصحيح : (( يجمع خلق أحدكم في بطن أمه أربعين يوماً نطفة)) إلى آخر الحديث قالوا : فإذا تمت له الأربعة الأشهر فإنه حينئذ يعامل معاملة الكامل ، والله تعالى أعلم .
السؤال الحادي عشر :(26/22)
ماحكم السكن في مساكن كانت مقابر للكفار وهجرت منذ أكثر من خمسين عاماً وبنى عليها المسلمون مساكن ..؟؟
الجواب :
هذه المسائل لايفتى فيها ؛ لأن البعض يصورها بصورة قد يكون فيها خطأ ، القبور لها أحكام خاصة والنبي صلى الله عليه وسلم ثبت عنه في الحديث صحيح أنه نبش قبور المشركين التي كانت في مسجده عليه الصلاة والسلام حينما اشترى الحائط من الغلامين اليتيمين الأنصاريين ، وبعد أن نبشها استحق البناء والملكية ، والعلماء رحمة الله عليهم يقولون : إنه لايعتدى على القبر ما دامت العظام فيه ، خاصةً إذا كان مسلماً فله حرمة ، وعلى هذا قالوا إنه لايجوز أن يبنى على قبر المسلم ، وإذا حفر قبر المسلم وقد وجدت فيه عظامه فهو افتيات عليه ، وظلم له ، ولا يجوز فعل ذلك ؛ لأن البناء على القبور محرم ، وهكذا الجلوس عليها ، وعلى هذا إذا كان القبر فيه عظام الميت ويغلب على الظن وجوده فيه لايجوز البناء عليه ، ولا يجوز أيضاً تملكه للغير عن طريق الإحياء ونحو ذلك .
أما إذا كانت القبور قد مضت عليها مدة ، وغلب على الظن ذهاب مافيها ، ونبشت ولم يوجد فيها شيء ، خاصة إذا كانت قبور كفار فأفتى بعض أهل العلم أنها تملك ؛ لكنه لايفتى في المسائل الخاصة حتى يراجع وينظر في المسألة بعينها ، والله تعالى أعلم .
السؤال الثاني عشر :
هل يحاسب العبد بالوسواس الذي يدور في خلده حتى وإن كانت هذه الوساوس شركية كفرية ؟ وماذا يفعل العبد إذا لم تنصرف عنه هذه الوساوس ولم يسع في صرفها وتساهل في هذا الأمر..؟؟
الجواب :(26/23)
أما بالنسبة للوسوسة فإن الله عفى عنها لعباده ففي الصحيح عن النبي -- صلى الله عليه وسلم - - أنه قال : (( إن الله عفى لإمتي عماحدثت به نفسها )) ، وثبت في الحديث الصحيح عنه عليه الصلاة والسلام أنه جاءه الصحابة وقالوا : يارسول الله إن أحدنا يجد في نفسه ما يتعاظم أن يتكلم به فقال صلى الله عليه وسلم : (( أو قد وجدتم ذاك ؟ ذاك صريح الإيمان )) قال بعض العلماء : (( ذاك صريح الإيمان )) أي كونكم أنكرتم الوسوسة ، وقلتم إنه يتعاظم أن يتكلم الإنسان بها ، هذا هو الإيمان أنكم أنكرتم ، وقال بعض العلماء : (( ذاك صريح الإيمان )) أي كون الشيطان يتسلط عليكم بالوسوسة يدل على وجود الخير فيكم والإيمان ؛ لأنه كلما عظم إيمان الإنسان كلما عظم بلاؤه كما قال صلى الله عليه وسلم : (( إن الله إذا أحب قوماً ابتلاهم )) وأخبر أن البلاء على قدر الإيمان ، وأن أشد الناس بلاء هم الأنبياء ثم الأمثل فالأمثل ، فهذا كله يدل على أن وجود الوسوسة عند الإنسان في الأصل إذا كانت بلاء من الله أنها تدل على وجود الخير فيه ؛ لأن الشيطان عدو ، ولا يتسلط إلا على عدوه ، أما أولياؤه فإنه لا يتسلط عليهم بمثل هذه الأمور ، وإن كان يتسلط عليهم بغير ذلك من معاصي الله عز وجل ، فما كان من حديث النفس في القلب فإنه لا يؤثر ، وعلى الإنسان أن يدفعه ، وأن يكرهه ، وأن يمقت هذا الحديث ، ويعتقد في قرارة قلبه أنه لو كان بيده أن يجعل بينه وبين هذه الوسوسة حجاباً ومانعاً لفعل ، فإذا اعتقد في قرارة قلبه أنه لو كان بيده أن يزيل هذه الوسوسة لأزالها دل على أنه كاره لها ، وأنه غير راض بها ، وحينئذ لا تؤثر عليه، والله تعالى أعلم .
السؤال الثالث عشر :
نرجو منك أن توضح لنا حرمة الاختلاط بين العوائل والأقارب بالأدلة علماً بأن هذا الأمر قد انتشر في هذا الزمان وأصبح الناس يتهاونون فيه ..؟؟
الجواب :(26/24)
بسم الله والحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه أما بعد :
فإن الله - - سبحانه وتعالى - - أحل حلالاً وحرم حراماً ، فالحلال ما أحله والحرام ماحرمه ، ولا يجوز للمسلم أن يتعاطى الأسباب التي تنتهي به إلى الحرام ، فإنه إن وقع في الحرام فإن الله سبحانه وتعالى يؤاخذه ، ويجعل عليه شؤم معصيته في الدنيا والآخرة ، ولذلك سميت السيئة سيئة ؛ لأنها تسيء إلى صاحبها في الدنيا والآخرة ، فمن رحمته سبحانه وتعالى أنه حرم الأسباب التي يفضى بها إلى الحرام ، ولذلك نهى المرأة أن تضرب برجلها حتى يعلم ما تخفي من زينتها ، وأمرها بالعفة والحصانة ، وهيأ لها أسباب الصلاح ، ونهاها عن الجلوس مع الأجنبي ، والخلوة مع الأجنبي ، والسفر مع الأجنبي رحمة منه-سبحانه- بعباده ؛ لأن المرأة ضعيفة والرجل ضعيف ، وما خلا رجل بامرأة إلا كان الشيطان ثالثهما ، وإذا كان الشيطان ثالثاً لهما سهل لهما السبيل إلى معصية الله ، وزين لهم الوقوع في حدود الله فأصابا من حدود الله ما يصيبا ، ثم يندما في ساعة لا ينفع فيها الندم ، فلا يجوز للمسلم أن يتساهل فيما حرم الله ، أو يتعاطى الأسباب التي تفضي به للوقوع في حدود الله ومحارم الله ، ومن ذلك مسائل الاختلاط ، فالاختلاط قد يفضي إلى الحرام ، ولا شك أنه إذا فتح باب الاختلاط دمرت حياة الناس ، وانتشرت الرذائل ، وذهبت الفضائل ، وزال ماء الحياء من الوجوه ، فالمرأة لا تزال بخير ما حفظت نفسها ، وقرت في قرارها ، واتقت الله ربها ، المرأة لا تزال بخير ما دامت مع النساء بعيداً عن مخالطة الرجال ، في سلامة ، وعافية في نفسها ، وفي دينها ، وفي عرضها ، ولكنها ما إن تخالط الرجال حتى يراق ماء الحياء من وجهها ، وإذا ذهب الحياء فقد ذهب الخير، وإذا ذهب الحياء من المرأة فلا تسأل عن حالها فإنك تجدها كالرجل سواء بسواء ، وعندها يمقتها الله مقته ، وإذا مقت الله عبده ، أو مقت(26/25)
أمته ، فإنه لا يأمن أن يصاب بغضب الله ، وسخطه ، ولعنته في الدنيا والآخرة ، قال العلماء : من أشد ماينتهي بالعبد إلى لعنة الله ، وغضبه ، وسخطه أن يمقت الله عبده ، وإذا مقت الله العبد قل أن يتقبل منه طاعة ، أو يوفقه لخير ، ولذلك تجد الجريء على حدود الله صفيق الوجه الذي يكون صلفاً جلفاً حريصاً على معصية الله -- جل جلاله -- لايتورع عن حدوده لا تجده موفقاً للخير ، لأنه يُنزع ماء الحياء من وجهه ، ويحرم التوفيق في قوله وعمله ، وعندها لا تبالي به في أي أودية الدنيا هلك -نسأل الله السلامة والعافية- ، ولكن إذا رأيت المرأة قد حفظت حياءها ، واتقت ربها ، وحرصت على أن لا تتعاطى الأسباب لفتنتها ، وجدت النور في وجهها ، وجدت البهاء يزينها ، والجلال يحيطها ، فهي كالحلوى إن تكشفت نزل عليها الذباب فشاءها ، وساءها ، وأصبحت بلاء لمن أصابها ، فهكذا المرأة إذا تكشفت وخالطت ، أو أصبحت لا تبالي تخاطب من شاءت من الرجال ، وتتكلم مع هذا وهذا ، وتأخذ بالرخص فعندها لا تأمن أن يذهب الحياء من وجهها ، وإذا ذهب الحياء فإن الإنسان لا يسأل عنه كيف يكون حاله.
يعيش المرء ما استحيا بخير……ويبقى العود مابقي اللحاء(26/26)
ولذلك قال صلى الله عليه وسلم : (( الحياء خير كله )) ، المرأة التي تستحي لا تخاطب الرجال ، والمرأة التي تستحي لا تنظر في الرجال ، والمرأة التي تستحي لا تأتي إلى أماكن الرجال ، والأماكن التي فيها مظنة الاختلاط بالرجال ، تجدها على عفة وحصانة ، والله يحب من أمته ويحب من المرأة أن تكون عفيفة أن تكون بعيدة عن محارمه وحدوده ، ولا يقول الإنسان هذه بنت عمي ، وهذه قريبتي ، هذه كأختي ، هذا عرضي وهذا مني وفي ، الله يحكم ولا معقب لحكمه ، وهو أعلم بعباده ، وأحكم في تدبيره ، فلا يجوز للناس أن يتساهلوا في مسائل الاختلاط ، واليوم قد يكون عند الناس حياء ، وقد تكون فيهم بقية خير فيأتي أجيال وينشأ أجيال لا يبالون بحدود الله ، ويستهترون بمحارم الله ، وعندها تذهب الفضائل ، وتنتشر الرذائل ويؤذن الله-- عز وجل - - عباده بعذابه وسخطه ، - نسأل الله العظيم أن يمن علينا بالهداية والتوفيق- ، والله تعالى أعلم .
السؤال الرابع عشر :
لا شك أن الحياة الزوجية تقوم على أسس متينة منها المودة والرحمة ، ولكن قد تنتاب هذه الحياة المشكلات والقلاقل وكثرة الشقاق بين الزوجين ، أضف إلى ذلك تدخل البعض لزيادة نار الفتنة ، فما هي نصيحتكم لبقاء الحياة الزوجية على الوجه السعيد ..؟؟
الجواب :(26/27)
أهم الأمور التي يوصى بها الزوجان وأعظمها وأجلها : حسن النية ، فإن العبد إذا صلحت نيته صلحت علانيته ومامن إنسان يسر سريرة خير إلا أظهرها الله في وجهه وفلتات لسانه ، ومامن إنسان يسر سريرة سوء وشر إلا أظهرها الله في وجهه وفلتات لسانه شاء أو أبى ، فإذا ابتدأت الحياة الزوجية ، أو عقدت على امرأة فاجعل في قلبك كل خير لها ، وليكن في ضميرك أن تأخذ بحجزها عن النار ، وأن تبني البيت المسلم الذي يقام على طاعة الله ومحبة الله عز وجل :{إِنْ يَعْلَمْ اللَّهُ فِي قُلُوبِكُمْ خَيْرًا يُؤْتِكُمْ خَيْراً}(1) ويقول صلى الله عليه وسلم :(( ألا إن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله وإذا فسدت فسد الجسد كله ألا وهي القلب )) فأول مايوصى به الزوجان ، وتوصي به المتزوج أن يحسن النية ، وأن يصلح الطوية ، حتى يصلح الله له ما ظهر من علانيته ؛ ولذلك بمجرد ما يغير الإنسان قلبه على زوجته تسوء أخلاقه ، ويظهر الله السوء الذي في قلبه على جوارحه ، وكلما كان الإنسان حسن النية قد يوفقه الله لخصلة واحدة يحرمه بها على النار، الرجل خرج من بيته في يوم من الأيام فمر على غصن شوك فقال كما في الصحيح : (( والله لأنحينه عن طريق المسلمين لا يؤذيهم فزحزحه عن الطريق فزحزحه الله به عن نار جهنم )) قال العلماء : لأنه خرج وفي نيته الخير للمسلمين فلما مر على الغصن قال : لأنحينه لايؤذيهم ، فلما كان قلبه ينطوي على حب الخير للمسلمين وفق حتى لخصلة واحدة فزحزحه الله بها عن نار جهنم ، هكذا في بيتك هكذا مع الناس حسن النية.(26/28)
الأمر الثاني : أعلم أنك لن تقيم بيت الزوجية بحولك ، ولا بقوتك ، ولا بذكائك ، ولا بفهمك ، ولكن توكل على الحي القيوم الذي لا تأخذه سنة ولا نوم ، وأي أمر من الأمور تدخل فيه وأنت تعتقد في نفسك النقص وأنك لن تستطيع القيام به على وجهه إلا وفقك الله ، وسددك ، وأعانك ، وجعل لك منه المعين والظهير ، ومامن أمر تدخل وتحس أنك الزوج الكامل أو تحس المرأة أنها الزوجة الكاملة وأنها تبني وتفعل وتتحدث بما سيكون وبما سيقع إلا خذله الله -- جل جلاله -- لأنه اتكل على حوله وعلى قوته ، ولكن إذا قال : لا حول ولا قوة إلا بالله ، ويسأل الله ويدعو ، لأنك إذا اتكلت على الله اعتقدت أنك لست بشيء وأنك تحت رحمة الله فيعينك ويوفقك.(26/29)
الأمر الثالث : الحياة الزوجية أولها أنس وبهجة ولذة ، فالإنسان يبتليه الله بهذا الأنس وبهذه البهجة واللذة ، فمن الناس من يقف عند هذا الحدود الضيقة ، فإذا ذاق اللذة وأصاب الشهوة بعدها يقلب ظهر المجن لزوجته ، والزوجة تقلب ظهر المجن لزوجها ؛ لأن الحدود ضيقة ، ودخل أبناء المسلمين وبناتهم بالهيام والعشق والغرام ، غافلين عن حقوق الله وأمانة الله ومسؤوليته ، فعندها تدمر بيوت المسلمين ؛ لأن اللذة قد زالت ومن أحب لشيء زال حبه بزوال ذلك الشيء ، فالحدود الضيقة تضيق بها النفوس ، فالإنسان إذا دخل إلى بيت الزوجية يكون أبعد نظر ، ويرجو رحمة الله-جل وعلا- في كل لحظة حتى جعل النبي صلى الله عليه وسلم النطفة يلقيها الرجل في فرج امرأته يكون له بها أجر وتكون له صدقة ، حتى تكون بيوت الزوجية قائمة على المعاملة مع الله حتى في الشهوة واللذة ، فالإنسان لايكون ضيق العطن ، لا يكون ضيق الفكر ، لايكون محدود الغايات إنما ينظر إلى ماهو أبعد من مرضات الله سبحانه وتعالى ، فإذا أحسست أن الحياة الزوجية قربة لله عز وجل من أول ما تضع قدمك في بيت الزوجية وفقت وسددت ؛ لأنك تحس أنك كما تتقرب إلى الله في سجودك وركوعك تتقرب إلى الله في بيتك ، فإذا دخلت إلى البيت وأنت تحس أنك تريد أن تعامل الله أول ماتدخل تحس أنك أمام أمة من إماء الله-- جل جلاله -- امرأة ضعيفة قد تكون ناقصة العقل ، ناقصة التصور ، تحتاج إلى عطفك إلى حنانك ، فضلك الله بالصبر ، فضلك الله بالقوة ، وجعل لك مزية وجعل لها أيضاً اللين والعطف والحنان ، وجعل لكل منهم خاصيته ، فإذا دخلت وأنت تحس أن هذه المرأة أمانة في عنقك ، وأن الله يحاسبك عن كل لحظة معها رحمتها ، وخاصة إذا ذكرت أنها أمة من إماء الله وأن هذه الأمة خاصة في هذا الزمان إذا كانت صالحة دينة تتقي الله-جل وعلا- فيها ، وتحسن إليها ، وتنظر إلى ما حولها من الفتن والمحن كيف أنها أقبلت(26/30)