سبل السلام
شرح بلوغ المرام
للصنعاني
كتاب الصلاة
باب المواقيت
الصلاة لغة: الدعاء، سميت هذه العبادة الشرعية باسم الدعاء؛ لاشتمالها عليه. والمواقيت: جمع ميقات، والمراد به: الوقت الذي عينه الله لأداء هذه العبادة، وهو القدر المحدود للفعل من الزمان.
عَنْ عبدِ الله بن عَمْرو رضي الله عنهما، أنَّ النبي صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم قالَ: "وَقْتُ الظّهْرِ إذا زَالَتِ الشّمْسُ، وكانَ ظِلُّ الرَّجُلِ كطولِهِ ما لَمْ يحضُرْ وقْتُ العصرِ، ووقت العصر ما لمْ تصْفَرَّ الشّمْسُ، ووقتُ صلاةِ المَغْرِبِ مَا لمْ يغب الشّفقُ، ووقتُ صلاةِ العِشاءِ إلى نصفِ اللّيْلِ الأوْسَطِ، ووقتُ صلاةِ الصُّبحِ مِنْ طُلوعِ الفجر ما لمْ تطلعِ الشّمس" رواه مسلم.
(عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنه: ــــ أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم واله قال: ــــ وقت الظهْر إذا زالت الشمْسُ) أي مالت إلى جهة المغرب، وهو: الدلوك الذي أراده تعالى بقوله: {ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيداً} ، (وكان ظلُّ الرَّجل كطوله) أي ويستمر وقتها حتى يصير ظل كل شيء مثله، فهذا تعريف لأول وقت الظهر واخره. فقوله "وكان" عطف على زالت، كما قررناه: أي ويستمر وقت الظهر إلى صيرورة ظل الرجل مثله (ما لم يحضُر وقت العصر) وحضوره بمصير ظل كل شيء مثله، كما يفيده مفهوم هذا، وصريح غيره (ووقْتُ) العَصْر يستمر (ما لم تَصْفَرَّ الشمسُ) وقد عين اخره في غيره: بمصير ظل الشيء مثليه (ووقت صَلاة المغْرب) من عند سقوط قرص الشمس، ويستمر (ما لم يَغب الشفَقُ) الأحمر، وتفسيره بالحمرة سيأتي نصاً. (ووَقْتُ صلاة العشاء) من غيبوبة الشفق، ويستمر (إلى نصْف الليْل الأوسَط) المراد به الأول، (ووقْتُ صلاة الصُّبْح) أوله (منْ طُلُوع الفجْر) ، ويستمر ما لم تَطْلُع الشمْسُ. رواه مسلم) تمامه في مسلم: "فإذا طلعت الشمس، فأمسك عن الصلاة؛ فإنها تطلع بين قرني الشيطان".(1/1)
الحديث أفاد تعيين أكثر الأوقات الخمسة: أولاً، واخراً، فأول الظهر زوال الشمس واخره مصير ظل الشيء مثله، وذكر الرجل في الحديث تمثيلاً، وإذا صار كذلك فهو أول العصر، ولكنه يشاركه الظهر في قدر يتسع لأربع ركعات فإنه يكون وقتاً لهما، كما يفيده حديث جبريل فإنه صلى بالنبي صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم الظهر في اليوم الأول بعد الزوال، وصلى به العصر عند مصير ظل الشيء مثله، وفي اليوم الثاني صلى به الظهر عند مصير ظل الشيء مثله: في الوقت الذي صلى فيه العصر اليوم الأول، فدل ذلك على أن ذلك وقت يشترك فيه الظهر والعصر، وهذا هو الوقت المشترك، وفيه خلاف، فمن أثبته، فحجته ما سمعته، ومن نفاه تأول قوله: "وصلى به الظهر في اليوم الثاني حين صار ظل الشيء مثله". بأن معناه فرغ من صلاة الظهر في ذلك الوقت، وهو بعيد. ثم يستمر وقت العصر إلى اصفرار الشمس، وبعد الاصفرار ليس بوقت للأداء، بل وقت قضاء، كما قاله أبو حنيفة. وقيل: بل أداء إلى بقية تسع ركعة؛ لحديث: "من أدرك ركعة من العصر قبل أن تغيب الشمس فقد أدرك العصر".
وأول وقت المغرب إذا وجبت الشمس: أي غربت، كما ورد عند الشيخين، وغيرهما، وفي لفظ: "إذا غربت"، واخره ما لم يغب الشفق، وفيه دليل على اتساع وقت الغروب، وعارضه حديث جبريل؛ فإنه صلى به صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم المغرب في وقت واحد في اليومين، وذلك بعد غروب الشمس، والجمع بينهما: أنه ليس في حديث جبريل حصر لوقتها في ذلك، ولأن أحاديث تأخير المغرب إلى غروب الشفق متأخرة، فإنها في المدينة، وإمامة جبريل في مكة، فهي زيادة تفضل الله بها. وقيل: إن حديث جبريل دالٌ على أنه لا وقت لها إلا الذي صلى فيه.
وأول العشاء غيبوبة الشفق، ويستمر إلى نصف الليل، وقد ثبت في الحديث التحديد لآخره بثلث الليل، لكن أحاديث النصف صحيحة، فيجب العمل بها. وأول وقت صلاة الصبح طلوع الفجر، ويستمر إلى طلوع الشمس.(1/2)
فهذا الحديث الذي في مسلم قد أفاد أول كل وقت من الخمسة واخره، وفيه دليل على أن لوقت كل صلاة أولاً واخراً، وهل يكون بعد الاصفرار وبعد نصف الليل وقت لأداء العصر والعشاء، أو لا؟ هذا الحديث يدل على أنه ليس بوقت لهما، ولكن حديث "من أدرك ركعة من العصر قبل غروب الشمس فقد أدرك العصر" يدل على أن بعد الاصفرار وقتاً للعصر، وإن كان في لفظ "أدرك" ما يشعر بأنه إذا كان تراخيه عن الوقت المعروف لعذر أو نحوه، وورد في الفجر مثله وسيأتي، ولم يرد مثله في العشاء، ولكنه ورد في مسلم: "وليس في النوم تفريط على من لم يصل الصلاة حتى يجيء وقت الصلاة الأخرى" فإنه دليل على امتداد وقت كل صلاة إلى دخول وقت الأخرى، إلا أنه مخصوص بالفجر، فإن اخر وقتها طلوع الشمس، وليس بوقت للتي بعدها، وبصلاة العشاء فإن اخره نصف الليل وليس وقتاً للتي بعدها. وقد قسم الوقت إلى اختياري واضطراري، ولم يقم دليل ناهض على غير ما سمعت، وقد استوفينا الكلام على المواقيت في رسالة بسيطة، سميناها اليواقيت في المواقيت.
ولَهُ مِنْ حديث بريدةَ في العصر: "والشمسُ بيضاءُ نَقِيّةٌ".
(وله) أي لمسلم (من حديث بريدة) بضم الموحدة فراء فمثناة تحتية فدال مهملة فتاء تأنيث، هو أبو عبد الله، أو أبو سهل، أو أبو الحصيب، بريدة بن الحصيب بضم الحاء المهملة فصاد مهملة مفتوحة فمثناة تحتية ساكنة فموحدة، الأسلمي، أسلم قبل بدر، ولم يشهدها، وبايع بيعة الرضوان سكن المدينة، ثم تحول إلى البصرة، ثم خرج إلى خراسان غازياً فمات بمرو زمن يزيد بن معاوية سنة اثنتين، أو ثلاث وستين (في العصر) أي في بيان وقتها: (والشمس بيضاءُ نقية) بالنون والقاف ومثناة تحتية مشددة، أي: لم يدخلها شيء من الصفرة.
ومن حديث أبي موسى: والشمس مرتفعة".(1/3)
(ومن حديث أبي موسى) أي ولمسلم من حديث أبي موسى، وهو عبد الله بن قيس الأشعري، أسلم قديماً بمكة، وهاجر إلى الحبشة، وقيل: رجع إلى أرضه، ثم وصل إلى المدينة مع وصول مهاجري الحبشة، ولاه عمر بن الخطاب البصرة بعد عزل المغيرة سنة عشرين، فافتتح أبو موسى الأهواز، ولم يزل على البصرة إلى صدر خلافة عثمان، فعزله، فانتقل إلى الكوفة وأقام بها، ثم أقره عثمان عاملاً على الكوفة، إلى أن قتل عثمان، ثم انتقل بعد أمر التحكيم إلى مكة، ولم يزل بها حتى مات سنة خمسين، وقيل: بعدها، وله نيف وستون سنة (والشمس مُرْتفعة) أي وصلى العصر، وهي مرتفعة لم تمل إلى الغروب.
وفي الأحاديث ما يدل على المسارعة بالعصر؛ وأصرح الأحاديث في تحديد أول وقتها حديث جبريل: "أنه صلاها بالنبي صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم وظل الرجل مثله" وغيره من الأحاديث: كحديث بريدة، وحديث أبي موسى، محمولة عليه.
وعن أبي برزة الأسلمي رضي الله تعالى عنْهُ قالَ: كان رسولُ الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم يصلي العصْرَ ثمَّ يَرْجعُ أحدُنا إلى رحْلهِ في أقصى المدينة والشّمس حَيّةٌ، وكان يَسْتَحِبُّ أنْ يؤخّر من العِشاء، وكان يكرهُ النّومَ قَبْلَها، والحديثَ بَعْدَهَا، وكانَ يَنْفَتِلُ من صلاةِ الْغَدَاةِ حين يَعْرفُ الرَّجُلُ جليسهُ، وكان يقرأ بالسِّتِّين إلى المائَةِ. متفقٌ عليهِ.(1/4)
(وعن أبي برزة) بفتح الموحدة وسكون الراء فزاي فهاء، اسمه: نضلة بفتح النون فضاد ساكنة معجمة، ابن عبيد، وقيل: ابن عبد الله، أسلم قديماً، وشهد الفتح، ولم يزل يغزو مع رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم حتى توفي صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم، فنزل البصرة، ثم غزا خراسان، وتوفي بمرو، وقيل: بغيرها سنة ستين (الأسلمي قال: كان رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم يصلي العصر ثم يرجع أحدنا) بعد صلاته (إلى رحله) بفتح الراء وسكون الحاء المهملة، وهو مسكنه (في أقصى المدينة حال من رحله، وقيل: صفة له (والشمس حيةٌ) أي يصل إلى رحله حال كون الشمس حية: أي بيضاء قوية الأثر حرارة ولوناً وإنارة.
(وكان يَسْتَحب أن يؤخر من العشاء) لم يبين إلى متى، وكأنه يريد مطلق التأخير، وقد بينه غيره من الأحاديث (وكان يكره النوم قبلها) لئلا يستغرق النائم فيه حتى يخرج اختيار وقتها (والحديث) التحادث مع الناس (بعدها) ، فينام عقب تكفير الخطيئة بالصلاة، فتكون خاتمة عمله، ولئلا يشتغل بالحديث عن قيام اخر الليل، إلا أنه قد ثبت: أنه صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم كان يسمر مع أبي بكر في أمر المسلمين.
(وكان يَنْفَتِل) بالفاء فمثناة بعدها فوقية مكسورة أي: يلتفت إلى من خلفه، أو ينصرف (من صلاة الغداة) الفجر (حين يعرفُ الرجُلُ جليسهُ) أي بضوء الفجر، لأنه كان مسجده صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم ليس فيه مصابيح، وهو يدل على أنه كان يدخل فيها والرجل لا يعرف جليسه، وهو دليل التبكير بها (وكانَ يقرأ بالستين إلى المائة) يريد: أنه إذا اختصر قرأ بالستين في صلاته في الفجر، وإذا طول فإلى المائة من الايات (متفق عليه).
فيه ذكر وقت صلاة العصر والعشاء، والفجر من دون تحديد للأوقات، وقد سبق في الذي مضى ما هو أصرح وأشمل.(1/5)
وعندهُما مِنْ حديث جابرٍ: والعشاء أحْياناً يُقدمُها، وأحْياناً يؤخِّرُها: إذا راهُمُ اجْتَمَعوا عَجّل، وإذا راهم أبطأوا أخّر، والصُّبحُ: كان النبي صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم يُصَلِّيها بِغَلَسٍ.
(وعندهما) أي: الشيخين المدلول عليهما بقوله: متفق عليه (من حديث جابر: والعشاء أحياناً يقدمها) أول وقتها "وأحياناً يؤخرها) عنه، كما فصله قوله (إذا راهُمْ) أي: الصحابة (اجتمعوا) في أول وقتها (عَجّلَ) رفقاً بهم (وإذا راهم أبطأوا) عن أوله (أخّرَ) مراعاة لما هو الأرفق بهم، وقد ثبت عنه: "أنه لولا خوف المشقة عليهم لأخرهم (والصُّبحُ كان النبي صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم يصليها بغلس) الغلس محركة: ظلمة اخر الليل، كما في القاموس، وهو أول الفجر، ويأتي ما يعارضه: في حديث رافع بن خديج.
ولمسلمٍ مِنْ حديث أبي مُوسى: فأقامَ الفَجْرَ حين انشقَّ الفجْرُ، والنّاس لا يكادُ يعرفُ بعضُهُمْ بعْضاً.
(ولمسلم) وحده (من حديث أبي موسى: فأقام الفجر حين انشق الفجرُ والناس لا يكاد يعرف بعضهم بعضاً) وهو كما أفاده الحديث الأول.
وعنْ رافعِ بن خديج رضي الله عنه قالَ: كُنّا نُصَلي المغْربَ معَ رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم فيَنْصرفُ أحدُنا وإنه لَيُبصرُ مَوَاقعَ نَبْلِهِ. متفق عليه.(1/6)
(وعن رافع بن خديج) بفتح الخاء المعجمة وكسر الدال المهملة، فمثناة تحتية فجيم، ورافع هو أبو عبد الله، ويقال: أبو خديج الخزرجي الأنصاري الأوسي من أهل المدينة. تأخر عن بدر لصغر سنه، وشهد أحداً وما بعدها، أصابه سهم يوم أحد، فقال له النبي صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم: "أنا أشهد لك يوم القيامة"، وعاش إلى زمان عبد الملك بن مروان، ثم انتقضت جراحته فمات سنة ثلاث، أو أربع وسبعين، وله ست وثمانون سنة، وقيل: زمن يزيد بن معاوية (قال: كُنّا نصلي المغرب مع النبي صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم فينصرف أحدنا وإنه ليبْصرُ مواقع نَبْله) بفتح النون وسكون الموحدة، وهي: السهام العربية، لا واحد لها من لفظها، وقيل: واحدها نبلة كتمر وتمرة (متفق عليه).
والحديث فيه دليل على المبادرة بصلاة المغرب، بحيث ينصرف منها والضوء باق، وقد كثر الحث على المسارعة بها.
وعن عائشةَ رضي الله عنها قالتْ: أعْتَمَ النبيُّ صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم ذاتَ ليْلَةٍ بالعشاء، حتى ذَهَب عامّةُ اللَّيْلِ، ثم خَرَجَ فصَلى، وقالَ: "إنهُ لَوَقْتُها لولا أن أشقَّ على أمّتي" رواه مسلمٌ.
(وعن عائشة رضي الله عنها قالت: أعتم) بفتح الهمزة وسكون العين المهملة فمثناة فوقية مفتوحة، يقال: أعتم إذا دخل في العتمة، والعتمة محركة: ثلث الليل الأول بعد غيبوبة الشفق، كما في القاموس (رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم ذات ليلة بالعشاء) أي أخر صلاتها (حتى ذهب عامة الليل) كثير منه، لا أكثره (ثم خرج فصلى، وقال: إنّهُ لوَقْتها) أي: المختار والأفضل (لولا أن أشُقَّ على أُمَّتي) أي لأخرتها إليه (رواه مسلم).
وهو دليل على أن وقت العشاء ممتد، وأن آخره أفضله، وأنه صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم كان يراعي الأخف على الأمة، وأنه ترك الأفضل وقتاً. وهي بخلاف المغرب. فأفضله أوله، وكذلك غيره إلا الظهر أيام الحر، كما يفيد قوله.(1/7)
وعن أبي هريرةَ رضي الله عنهُ قالَ: قالَ رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم: "إذا اشْتَدّ الحرُّ فأبْردوا بالصّلاةِ، فإنَّ شِدَّةَ الحرِّ مِنْ فَيْح جَهَنَّم"، متّفقٌ عليه.
(وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم: إذا اشتد الحر فأبردوا) بهمزة مفتوحة مقطوعة وكسر الراء (بالصلاة) أي: صلاة الظهر (فإن شدة الحر من فَيْح جهنّم) بفتح الفاء وسكون المثناة التحتية فحاء مهملة، أي: سعة انتشارها وتنفسها (متفق عليه). يقال: أبرد إذا دخل في وقت البرد، كأظهر إذا دخل في الظهر، كما يقال أنجد وأتهم إذا بلغ نجداً وتهامة، ذلك في الزمان، وهذا في المكان.
والحديث دليل على وجوب الإبراد بالظهر عند شدة الحر؛ لأنه الأصل في الأمر، وقيل: إنه للاستحباب، وإليه ذهب الجمهور، وظاهره عام للمنفرد، والجماعة، والبلد الحار، وغيره، وفيه أقوال غير هذه. وقيل: الإبراد سنة، والتعجيل أفضل؛ لعموم أدلة فضيلة الوقت. وأجيب: بأنها عامة مخصوصة، بأحاديث الإبراد.
وعورض حديث الإبراد: بحديث خباب "شكونا إلى رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم حر الرمضاء في جباهنا وأكفنا، فلم يشكنا" أي: لم يزل شكوانا، وهو حديث صحيح رواه مسلم.
وأجيب عنه بأجوبة: أحسنها: أن الذي شكوه شدة الرمضاء في الأكف والجباه، وهذه لا تذهب عن الأرض إلا اخر الوقت، أو بعد اخره، ولذا قال لهم صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم: "صلوا الصلاة لوقتها" كما هو ثابت في رواية خباب هذه بلفظ: "فلم يشكنا. وقال: صلوا الصلاة لوقتها" رواها ابن المنذر؛ فإنه دال على أنهم طلبوا تأخيراً زائداً عن وقت الإبراد، فلا يعارض حديث الأمر بالإبراد.(1/8)
وتعليل الإبراد بأن شدة الحر من فيح جهنم: يعني: وعند شدته يذهب الخشوع الذي هو روح الصلاة وأعظم المطلوب منها. قيل: وإذا كان العلة ذلك، فلا يشرع الإبراد في البلاد الباردة، وقال ابن العربي في القبس: "ليس في الإبراد تحديد، إلا ما ورد في حديث ابن مسعود: يعني الذي أخرجه أبو داود، والحاكم من طريق الأسود عنه: "كان قدر صلاة رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم الظهر في الصيف ثلاثة أقدام، إلى خمسة أقدام، وفي الشتاء خمسة أقدام، إلى سبعة أقدام" ذكره المصنف في التلخيص، وقد بينا ما فيه، وأنه لا يتم به الاستدلال في المواقيت، وقد عرفت أن حديث الإبراد يخصص فضيلة صلاة الظهر في أول وقتها بزمان شدة الحر كما قيل: إنه مخصص بالفجر.
وعن رافِع بن خديج رضي الله عنه قالَ: قالَ رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم: "أَصْبِحُوا بالصُّبْحِ فإنّه أعظمُ لأجوركم" رواهُ الخمسة. وصححهُ التِّرمذي وابنُ حِبّانَ.
(وعن رافع بن خديج قال: قال رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم: "أصبحوا بالصُّبح) وفي رواية: "أسفروا" (فإنه أعْظم لأجوركم". رواه الخمسة، وصححه الترمذي، وابن حبان) ، وهذا لفظ أبي داود.
وبه احتجت الحنفية على تأخير الفجر إلى الإسفار. وأجيب عنه: بأن استمرار صلاته صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم بغلس، وبما أخرج أبو داود من حديث أنس: "أنه صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم أسفر بالصبح مرة، ثم كانت صلاته بعد بغلس، حتى مات"، يشعر بأن المراد: بأصبحوا غير ظاهره، فقيل: المراد به تحقق طلوع الفجر، وأن أعظم ليس للتفضيل، وقيل: المراد به إطالة القراءة في صلاة الصبح، حتى يخرج منها مسفراً. وقيل: المراد به الليالي المقمرة؛ فإنه لا يتضح أول الفجر معها؛ لغلبة نور القمر لنوره، أو أنه صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم فعله مرة واحدة لعذر، ثم استمر على خلافه، كما يفيده حديث أنس.(1/9)
وأما الرد على حديث الإسفار بحديث عائشة عند ابن أبي شيبة، وغيره بلفظ: "ما صلى النبي صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم الصلاة لوقتها الآخر، حتى قبضه الله" فليس بتام؛ لأن الإسفار ليس اخره وقت صلاة الفجر، بل اخر ما يفيده.
وعن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه أنَّ النبيَّ صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم قال: "مَنْ أَدرك من الصبح ركْعةً قَبْل أن تَطْلُعَ الشّمْسُ فقدْ أدرَك الصُّبْحَ، ومن أدرَكَ رَكْعةً من العصرِ قَبْلَ أن تَغْرُب الشمسُ فَقَدْ أدركَ الْعصْر" متفق عليه.
(وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم قال: "من أدركَ من الصُّبح ركعة قبل أن تطلع الشمس) أي: وأضاف إليها أخرى بعد طلوعها، (فقد أدرك الصُّبح) ضرورة أنه ليس المراد: من صلى ركعة فقد. والمراد فقط أدرك صلاته أداء؛ لوقوع ركعة في الوقت (ومن أدرك ركعة من العصر") ففعلها (قبلَ أنْ تغْرُب الشمس فقد أدرك العصر) ، وإن فعل الثلاث بعد الغروب (متفق عليه).
وإنما حملنا الحديث على ما ذكرناه من أن المراد: الإتيان بالركعة بعد الطلوع، وبالثلاث بعد الغروب؛ للإجماع على أنه ليس المراد: من أتى بركعة فقط من الصلاتين صار مدركاً لهما. وقد ورد في الفجر صريحاً في رواية البيهقي بلفظ: "من أدرك من الصبح ركعة قبل أن تطلع الشمس، وركعة بعد أن تطلع الشمس، فقد أدرك الصلاة"، وفي رواية: "من أدرك في الصبح ركعة قبل أن تطلع الشمس، فليصل إليها أخرى"، وفي العصر من حديث أبي هريرة بلفظ: "من صلى من العصر ركعة قبل أن تغرب الشمس، ثم صلى ما بقي بعد غروبها لم يفته العصر"، والمراد من الركعة: الإتيان بواجباتها من الفاتحة واستكمال الركوع والسجود.
وظاهر الأحاديث أن الكل أداء، وأن الإتيان ببعضها قبل خروج الوقت ينسحب حكمه على ما بعد خروجه فضلاً من الله. ثم مفهوم ما ذكر: أنه من أدرك دون ركعة، لا يكون مدركاً للصلاة، إلا أن قوله:(1/10)
ولمُسْلمٍ عن عائشةَ رضي الله عنهَا نَحْوَهُ، وقالَ "سَجْدةً" بدَلَ "رَكْعَةً". ثمَّ قالَ: والسّجدة إنّما هي الرَّكْعةُ"
(ولمسلم عن عائشة رضي الله عنها نحوه، وقال: سجدةً بدل ركعةً) فإنه ظاهر: أن من أدرك سجدة صار مدركاً للصلاة، إلا أن قوله: (ثم قال) أي الراوي، ويحتمل أنه النبي صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم: (والسجْدةُ إنما هي الركعةُ): يدفع أن يراد بالسجدة نفسها، لأن هذا التفسير: إن كان من كلامه صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم، فلا إشكال، وإن كان من كلام الراوي، فهو أعرف بما روى.
وقال الخطابي: المراد بالسجدة: الركعة بسجودها وركوعها، والركعة إنما تكون تامة بسجودها، فسميت على هذا المعنى سجدة اهـ، ولو بقيت السجدة على بابها لأفادت: أن من أدرك ركعة بإحدى سجدتيها صار مدركاً، وليس بمراد؛ لورود سائر الأحاديث بلفظ الركعة، فتحمل رواية السجدة عليها، فيبقى مفهوم من أدرك ركعة سالماً عما يعارضه. ويحتمل: أن من أدرك سجدة فقط، صار مدركاً للصلاة، كمن أدرك ركعة، ولا ينافي ذلك ورود من أدرك ركعة: لأن مفهومه غير مراد بدليل: "من أدرك سجدة" ويكون الله تعالى قد تفضل، فجعل من أدرك سجدة مدركاً، كمن أدرك ركعة، ويكون إخباره صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم بإدراك الركعة قبل أن يعلمه الله جعل من أدرك السجدة مدركاً للصلاة، فلا يرد: أنه قد علم أن من أدرك الركعة فقد أدرك الصلاة بطريق الأولى.
وأما قوله: والسجدة إنما هي الركعة، فهو محتمل أنه من كلام الراوي، وليس بحجة، وقولهم تفسير الراوي مقدم: كلام أغلبي، وإلا فحديث: "فربّ مبلغ أوعى من سامع"، وفي لفظ: "أفقه" يدل على أنه يأتي بعد السلف من هو أفقه منهم. ثم ظاهر الحديث: أن من أدرك الركعة من صلاة الفجر، أو العصر: لا تكره الصلاة في حقه عند طلوع الشمس، وعند غروبها، وإن كانا وقتي كراهة، ولكن في حق المتنفل فقط، وهو الذي أفاده قوله.(1/11)
وعنْ أبي سعيد الخدريِّ رضي الله تعالى عنهُ قالَ: سمِعْتُ رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم يقول: "لا صلاةَ بَعْدَ الصُّبحِ حتى تَطْلُعَ الشمسُ ولا صلاةَ بعد العصْرِ حتى تغيبَ الشّمسُ" متفق عليه. ولَفظُ مسلم: "لا صلاة بعد صلاة الفجْرِ".
(وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم يقول: لا صلاة) أي نافلة (بعد الصُّبح) أي صلاته، أو زمانه (حتى تطلُع الشّمس ولا صلاة بعد العصر) أي صلاته، أو وقته (حتى تغيب الشمس. متفق عليه. ولفظ مسلم: لا صلاة بعد صلاة الفجْر) فعينت المراد من قوله بعد الفجر، فإنه يحتمل ما ذكرناه، كما ورد في رواية: ــــ "لا صلاة بعد العصر" نسبها ابن الأثير إلى الشيخين، وفي رواية: "لا صلاة بعد طلوع الفجر إلا ركعتي الفجر" ستأتي فالنفي قد توجه إلى ما بعد فعل صلاة الفجر، وفعل صلاة العصر، ولكنه بعد طلوع الفجر لا صلاة إلا نافلته فقط، وأما بعد دخول العصر فالظاهر إباحة النافلة مطلقاً ما لم يصل العصر، وهذا نفي للصلاة الشرعية، وهو في معنى النهي، والأصل فيه التحريم. فدل على تحريم النفل في هذين الوقتين مطلقاً.
والقول: بأن ذات السبب تجوز، كتحية المسجد مثلاً، وما لا سبب لها لا تجوز، قد بينا أنه لا دليل عليه في حواشي شرح العمدة: وأما صلاته صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم ركعتين بعد صلاة العصر في منزله، كما أخرجه البخاري من حديث عائشة: "ما ترك السجدتين بعد العصر عندي قط": وفي لفظ: "لم يكن يدعهما سراً ولا علانية". فقد أجيب عنه: بأنه صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم صلاهما قضاء لنافلة الظهر لما فاتته، ثم استمر عليهما، لأنه كان إذا عمل عملاً أثبته، فدل على جواز قضاء الفائتة في وقت الكراهة، وبأنه من خصائصه جواز النفل في ذلك الوقت، كما دل له حديث أبي داود عن عائشة: "أنه كان يصلي بعد العصر، وينهي عنها، وكان يواصل، وينهي عن الوصال".(1/12)
وقد ذهب طائفة من العلماء: إلى أنه لا كراهة للنفل بعد صلاتي الفجر والعصر؛ لصلاته صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم هذه بعد العصر، ولتقريره صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم لمن راه يصلي بعد صلاة الفجر نافلة الفجر، ولكنه يقال: هذان دليلان على جواز قضاء النافلة في وقت الكراهة، لا أنهما دليلان على أنه لا يكره النفل مطلقاً؛ إذ الأخص لا يدل على رفع الأعم، بل يخصصه، وهو من تخصيص الأقوال بالأفعال، على أنه يأتي النص على أن من فاتته نافلة الظهر، فلا يقضيها بعد العصر، ولأنه لو تعارض القول، والفعل، كان القول مقدماً عليه. فالصواب أن هذين الوقتين يحرم فيهما إذن النوافل، كما تحرم في الأوقات الثلاثة التي أفادها.
ولهُ عن عُقْبَةَ بن عامِر: ثَلاثُ ساعاتٍ كان رسولُ الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم يَنْهانا أن نُصلي فيهنَّ، وأن نقبر فيهن مَوْتانا: "حين تطْلُعُ الشمسُ بازغةً حتى ترتفِعَ، وحينَ يقومُ قائمُ الظّهيرةِ حتى تَزولَ الشمسُ، وحينَ تَتَضَيّفُ الشمسُ للغُروبِ".
(وله) أي لمسلم (عن عقبة) بضم العين المهملة وسكون القاف فموحدة مفتوحة (ابن عامر) هو أبو حماد، أو أبو عامر، عقبة بن عامر الجهني. كان عاملاً لمعاوية على مصر، وتوفي بها سنة ثمان وخمسين، وذكر خليفة: أنه قتل يوم النهروان مع علي عليه السلام، وغلطه ابن عبد البر.(1/13)
(ثلاث ساعات كان رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم ينهانا أن نصلي فيهن، وأن نَقْبرَ) بضم الباء وكسرها (فيهنَّ موتانا: حتى تطلع الشمس بازغة حتى ترفع) بين قدر ارتفاعها الذي عنده تزول الكراهة: حديث عمرو بن عبسة بلفظ: "وترتفع قيس رمح أو رمحين" وقيس بكسر القاف وسكون المثناة التحتية فسين مهملة: أي قدر، أخرجه أبو داود، والنسائي (وحين يقوم قائم الظّهيرة) في حديث ابن عبسة: "حتى يعدل الرمح ظله" (حتى تزول الشمس) أي تميل عن كبد السماء (وحين تتضيفُ) بفتح المثناة الفوقية فمثناة بعدها وفتح الضاد المعجمة وتشديد الياء وفاء: أي تميل (الشمس للغروب).
فهذه ثلاثة أوقات، إن انضافت إلى الأولين كانت خمسة، إلا أن الثلاثة تختص بكراهة أمرين: دفن الموتى، والصلاة، والوقتان الأولان يختصان بالنهي عن الثاني منهما، وقد ورد تعليل عن هذه الثلاثة في حديث ابن عبسة عند من ذكر: "بأن الشمس عند طلوعها تطلع بين قرني شيطان، فيصلي لها الكفار، وبأنه عند قيام قائم الظهيرة تسجر جهنم، وتفتح أبوابها، وبأنها تغرب بين قرني شيطان، ويصلي لها الكفار": ومعنى قوله: "قائم الظهيرة" قيام الشمس وقت الزوال، من قولهم: قامت به دابته: وقفت. والشمس إذا بلغت وسط السماء أبطأت حركة الظل إلى أن تزول، فيتخيل الناظر المتأمل أنها وقفت وهي سائرة.
والنهي عن هذه الأوقات الثلاثة: عام بلفظه لفرض الصلاة ونفلها. والنهي للتحريم، كما عرفت من أنه أصله. وكذا يحرم قبر الموتى فيها. ولكن فرض الصلاة أخرجه حديث: "من نام عن صلاته" الحديث، وفيه: "فوقتها حين يذكرها"، ففي أي وقت ذكرها، أو استيقظ من نومه أتى بها. وكذا من أدرك ركعة قبل غروب الشمس، وقبل طلوعها لا يحرم عليه، بل يجب عليه أداؤها في ذلك الوقت، فيخص النهي بالنوافل دون الفرائض.(1/14)
وقيل: بل يعمها بدليل: أنه صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم لما نام في الوادي عن صلاة الفجر، ثم استيقظ لم يأت بالصلاة في ذلك الوقت، بل أخرها إلى أن خرج الوقت المكروه. وأجيب عنه، أولاً: بأنه صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم لم يستيقظ هو وأصحابه إلا حين أصابهم حر الشمس، كما ثبت في الحديث، ولم يوقظهم حرها، إلا وقد ارتفعت وزال وقت الكراهة. وثانياً: بأنه قد بين صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم تأخير أدائها عند الاستيقاظ: بأنهم في واد حضر فيه الشيطان، فخرج صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم عنه وصلى في غيره، وهذا التعليل يشعر بأنه ليس التأخير لأجل وقت الكراهة: لو سلم أنهم استيقظوا ولم يكن قد خرج الوقت.
فتحصل من الأحاديث: أنها تحرم النوافل في الأوقات الخمسة، وأنه يجوز أن تقضي النوافل بعد صلاة الفجر، وصلاة العصر. أما صلاة العصر؛ فلما سلف من صلاته صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم قاضياً لنافلة الظهر بعد العصر، إن لم نقل: إنه خاص به. وأما صلاة الفجر؛ فلتقريره لمن صلى نافلة الفجر بعد صلاته، وأنها تصلى الفرائض في أي الأوقات الخمسة لنائم، وناسٍ، ومؤخر عمداً، وإن كان اثماً بالتأخير. والصلاة أداء في الكل، ما لم يخرج وقت العامد، فهي قضاء في حقه. ويدل على تخصيص وقت الزوال يوم الجمعة من هذه الأوقات بجواز النفل فيه: الحديث الاتي. وهو قوله:
والْحُكمُ الثاني عِنْدَ الشافعي من حديثِ أبي هُريرة بسنَدٍ ضعيفٍ. وزادَ "إلَّا يومَ الجمعةِ".(1/15)
(والحكم الثاني) وهو النهي عن الصلاة وقت الزوال، والحكم الأول النهي عنها عند طلوع الشمس، إلا أنه تسامح المصنف في تسميته حكماً، فإن الحكم في الثلاثة الأوقات واحد، وهو النهي عن الصلاة فيها، وإنما هذا الثاني أحد محلات الحكم، لا أنه حكم ثان. وفسَّر الشارح الحكم الثاني: بالنهي عن الصلاة في الأوقات الثلاثة، كما أفاده حديث أبي سعد، وحديث عقبة، لكن فيه أنه الحكم الأول، لأن الثاني هو النهي عن قبر الأموات، فإنه الثاني في حديث عقبة، وفيه: أنه يلزم أن زيادة استثناء يوم الجمعة يعم الثلاثة الأوقات في عدم الكراهة، وليس كذلك اتفاقاً، إنما الخلاف في ساعة الزوال يوم الجمعة (عند الشافعي من حديث أبي هريرة بسند ضعيف وزاد) فيه: (إلا يوم الجمعة).
والحديث المشار إليه أخرجه البيهقي في المعرفة: من حديث عطاء بن عجلان عن أبي نضرة عن أبي سعيد، وأبي هريرة قالا: "كان رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم ينهى عن الصلاة نصف النهار إلا يوم الجمعة"، وقال: إنما كان ضعيفاً؛ لأن فيه إبراهيم بن يحيى، وإسحاق بن عبد الله بن أبي فروة، وهما ضعيفان، ولكنه يشهد له قوله.
وكذا لأبي داودَ عنْ أبي قَتادَةَ نَحْوُهُ.
(وكذا لأبي داود عن أبي قتادة نحوه).
ولفظه: "وكره النبي صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم الصلاة نصف النهار إلا يوم الجمعة، وقال: إن جهنم تسجر إلا يوم الجمعة". قال أبو داود: "إنه مرسل، وفيه ليث بن أبي سليم، وهو ضعيف. إلا أنه أيده فعل أصحاب النبي صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم، فإنهم كانوا يصلون نصف النهار يوم الجمعة. ولأنه صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم حث على التبكير إليها ثم رغب في الصلاة إلى خروج الإمام من غير تخصيص، ولا استثناء.
ثم أحاديث النهي عامة لكل محل يصلي فيه، إلا أنه خصها بغير مكة قوله:(1/16)
وعن جُبير بن مُطْعمٍ قال: قالَ رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم: "يا بَني عَبْدِ منافٍ، لا تَمْنعُوا أحداً طافَ بهذا البَيْتِ وصلَّى أيّةَ ساعةٍ شاءَ من لَيْلٍ أو نهارٍ" رواهُ الخمسةُ. وصححهُ الترمذي وابن حبّان.
(وعن جبير) بضم الجيم وفتح الموحدة وسكون المثناة التحتية فراء (ابن مطعم) بضم الميم وسكون الطاء وكسر العين المهملة، وهو أبو محمد: جبير بن مطعم بن عدي بن نوفل: القرشي النوفلي، كنيته أبو أمية. أسلم قبل الفتح، ونزل المدينة، ومات بها سنة أربع، أو سبع، أو تسع وخمسين. وكان جبير عالماً بأنساب قريش، قيل: إنه أخذ ذلك من أبي بكر.
(قال: قال رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم: "يا بني عبد مناف لا تمنعوا أحداً طافَ بهذا البيت وصلى أية ساعة شاء من ليل أو نهار" رواه الخمسة، وصححه الترمذي وابن حبان) ، وأخرجه الشافعي، وأحمد، والدارقطني، وابن خزيمة، والحاكم من حديث جبير أيضاً. وأخرجه الدارقطني من حديث ابن عباس. وأخرجه غيرهم. وهو دال على أنه لا يكره الطواف بالبيت، ولا الصلاة فيه، في أي ساعة من ساعات الليل والنهار، وقد عارض ما سلف.
فالجمهور: عملوا بأحاديث النهي؛ ترجيحاً لجانب الكراهة، ولأن أحاديث النهي ثابتة في الصحيحين، وغيرهما، وهي أرجح من غيرها. وذهب الشافعي وغيره: إلى العمل بهذا الحديث، قالوا: لأن أحاديث النهي قد دخلها التخصيص بالفائتة والمنوم عنها، والنافلة التي تقضى، فضعفوا جانب عمومها، فتخصص أيضاً بهذا الحديث. ولا تكره النافلة بمكة في أي ساعة من الساعات.(1/17)
وليس هذا خاصاً بركعتي الطواف، بل يعم كل نافلة لرواية ابن حبان في صحيحه: "يا بني عبد المطلب: إن كان لكم من الأمر شيء، فلا أعرفن أحداً منكم يمنع من يصلي عند البيت، أي ساعة شاء من ليل أو نهار". قال في النجم الوهاج: وإذا قلنا: بجواز النفل، يعني في المسجد الحرام في أوقات الكراهة، فهل يختص ذلك بالمسجد الحرام، أو يجوز في جميع بيوت حرم مكة؟ فيه وجهان، والصواب: أنه يعم جميع الحرم.
وعن ابن عمر رضي الله تعالى عنهُما أنَّ النبي صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم قالَ: "الشّفقُ الحمْرةُ"، رواهُ الدارقطنيُّ، وصححهُ ابنُ خُزيمةَ، وغيرُهُ وقَفَهُ على ابن عُمَرَ.
(وعن ابن عمر رضي الله عنهما: عن النبي صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم قال: "الشفقُ الحُمْرَةُ" رواه الدارقطني، وصححه ابن خزيمة. وغيره وقفه على ابن عمر).
وتمام الحديث: "فإذا غاب الشفق وجبت الصلاة"، وأخرجه ابن خزيمة في صحيحه من حديث ابن عمر مرفوعاً: "ووقت صلاة المغرب: إلى أن تذهب حمرة الشفق"، وقال البيهقي: روى هذا الحديث عن علي، وعمر، وابن عباس، وعبادة بن الصامت، وشداد بن أوس، وأبي هريرة، ولا يصح منها شيء: قلت: البحث لعوي، والمرجع فيه إلى أهل اللغة وقح الغرب، فكلامه حجة وإن كان موقوفاً عليه. وفي القاموس: الشفق محركة: الحمرة في الأفق من الغروب إلى العشاء، وإلى قريبها، أو إلى قريب العتمة اهـ.(1/18)
والشافعي يرى. أن وقت المغرب عقيب غروب الشمس بما يتسع لخمس ركعات، ومضى قدر الطهارة، وستر العورة، وأذان، وإقامة، لا غير، وحجته حديث جبريل: أنه صلى به صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم المغرب في اليومين معاً؛ في وقت واحد عقيب غروب الشمس. قال: فلو كان للمغرب وقت ممتد لأخره إليه، كما أخر الظهر إلى مصير ظل الشيء مثله في اليوم الثاني. وأجيب عنه: بأن حديث جبريل متقدم في أول فرض الصلاة بمكة اتفاقاً، وأحاديث: أن اخر وقت المغرب الشفق: متأخرة واقعة في المدينة أقوالاً وأفعالاً، فالحكم لها، وبأنها أصح إسناداً من حديث توقيت جبريل، فهي مقدمة عند التعارض.
وأما الجواب بأنها أقوال وخبر جبريل فعل فغير ناهض، فإن خبر جبريل فعل وقول، فإنه قال له صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم بعد أن صلى به الأوقات الخمسة: "ما بين هذين الوقتين وقت لك ولأمتك" نعم، لا بينية بين المغرب والعشاء على صلاة جبريل، فيتم الجواب: بأنه فعل بالنظر إلى وقت المغرب، والأقوال مقدمة على الأفعال عند التعارض على الأصح. وأما هنا، فما ثم تعارض، إنما الأقوال أفادت زيادة في الوقت للمغرب، من الله بها. قلت: لا يخفى أنه كان الأولى تقديم هذا الحديث في أول باب الأوقات عقب أول حديث فيه، وهو حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنه.
واعلم أن هذا القول هو قول الشافعي في الجديد، وقوله القديم: إن لها وقتين: أحدهما هذا، والثاني يمتد إلى مغيب الشفق، وصححه أئمة من أصحابه، كابن خزيمة، والخطابي، والبيهقي، وغيرهم. وقد ساق النووي في شرح المهذب الأدلة على امتداده إلى الشفق، فإذا عرفت الأحاديث الصحيحة تعين القول به جزماً؛ لأن الشافعي نص عليه في القديم، وعلق القول به في الإملاء على ثبوته، وقد ثبت الحديث، بالأحاديث.(1/19)
وعن ابن عبّاس رضي الله عنهما قال: قالَ رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم: "الفَجْرُ فَجْرَان: فَجْرٌ يحرِّمُ الطّعامَ وتحلُّ فيه الصَّلاةُ، وفَجْر تحْرمُ فيه الصَّلاةُ ــــ أي صلاةُ الصُّبحِ ــــ ويحلُّ فيه الطَّعامُ" رواهُ ابنُ خُزَيمَةَ والحاكِمُ وصَحّحاه.
(وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم: الفَجْرُ) أي لغة (فَجْران: فَجْرٌ يحرِّمُ الطّعام) يريد على الصائم (وتحلُّ فيه الصَّلاةُ) أي يدخل وقت وجوب صلاة الفجر (وفجرٌ تحرَمُ فيه الصلاةُ ــــ أي صلاة الصبح) ، فسره بها؛ لئلا يتوهم أنها تحرم فيه مطلق الصلاة، والتفسير يحتمل أنه منه صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم، وهو الأصل، ويحتمل أنه من الراوي (ويحلُّ فيه الطعام. رواه ابن خزيمة، والحاكم، وصححاه). لما كان الفجر لغة مشتركاً بين الوقتين، وقد أطلق في بعض أحاديث الأوقات: أن أول صلاة الصبح الفجر، بين صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم المراد به، وأنه: الذي له علامة ظاهرة واضحة؛ وهي التي أفاده قوله:
وللحاكم من حديث جابرٍ نَحْوُهُ، وزاد في الذي يُحرِّمُ الطّعام: "أنه يذهبُ مستطيلاً في الأفُق". وفي الاخر: "إنّه كَذَنَبِ السِّرْحَانِ".(1/20)
(وللحاكم من حديث جابر: نحوه) نحو حديث ابن عباس ولفظه في المستدرك: "الفجر فجران: فأما الفجر الذي يكون كذنب السرحان، فلا يحل الصلاة، ويحل الطعام، وأما الذي يذهب مستطيلاً في الأفق، فإنه يحل الصلاة، ويحرم الطعام"، وقد عرفت معنى قول المصنف: (وزاد في الذي يحرم الطعام أنه يذهب مستطيلاً) أي ممتداً (في الأفق) وفي رواية للبخاري: "أنه صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم مد يده عن يمينه ويساره"، (وفي الآخر) وهو الذي لا تحل فيه الصلاة ولا يحرم فيه الطعام: أي وقال في الاخر: (إنه) في صفته (كذنب السرحان) بكسر السين المهملة وسكون الراء فحاء مهملة وهو الذئب: والمراد أنه لا يذهب مستطيلاً ممتداً، بل يرتفع في السماء كالعمود، وبينهما ساعة، فإنه يظهر الأول، وبعد ظهوره يظهر الثاني ظهوراً بيناً.
فهذا فيه بيان وقت الفجر: وهو أول وقته، واخره ما يتسع لركعة، كما عرفتَ. ولما كان لكل وقت أول واخر، بين صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم الأفضل منهما في الحديث الآتي وهو:
وعن ابن مسعود رضي الله تعالى عنه قال: قال رسولُ الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم: "أفضلُ الأعْمال الصَّلاةُ في أوَّل وقْتها" رواهُ الترمذي، والحاكم، وصحّحاه، وأصْلُهُ في الصَّحيحين.
وعن ابن مسعود رضي الله تعالى عنه قال: قال رسولُ الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم: "أفضلُ الأعْمال الصَّلاةُ في أوَّل وقْتها" رواهُ الترمذي، والحاكم، وصحّحاه، وأصْلُهُ في الصَّحيحين.
أخرجه البخاري عن ابن مسعود بلفظ: "سألت النبي صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم: أيُّ العمل أحب إلى الله؟ قال: الصلاة لوقتها" وليس فيه لفظ أول.(1/21)
فالحديث دل على أفضلية الصلاة في أول وقتها، على كل عمل من الأعمال، كما هو ظاهر التعريف للأعمال باللام. وقد عورض بحديث: "أفضل الأعمال إيمان بالله"، ولا يخفى أنه معلوم: أن المراد من الأعمال في حديث ابن مسعود: ما عدا الإيمان، فإنه إنما سأل عن أفضل أعمال أهل الإيمان. فمراده: غير الإيمان، قال ابن دقيق العيد: الأعمال هنا. أي في حديث ابن مسعود محمولة على البدنية، فلا تتناول أعمال القلوب، فلا تعارض حديث أبي هريرة: "أفضل الأعمال: الإيمان بالله عز وجل".
ولكنها قد وردت أحاديث أخر في أنواع من أعمال البر، بأنها أفضل الأعمال، فهي التي تعارض حديث الباب ظاهراً. وقد أجيب: بأنه صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم أخبر كل مخاطب بما هو أليق به، وهو به أقوم، وإليه أرغب، ونفعه فيه أكثر. فالشجاع أفضل الأعمال في حقه: الجهاد؛ فإنه أفضل من تخليه للعبادة. والغني أفضل الأعمال في حقه: الصدقة، وغير ذلك، أو أن كلمة "من" مقدرة، والمراد من أفضل الأعمال، أو كلمة "أفضل" لم يرد بها الزيادة، بل الفضل المطلق. وعورض تفضيل الصلاة في أول وقتها، على ما كان منها في غيره بحديث العشاء؛ فإنه قال صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم: "لولا أن أشق على أمتي لأخرتها" يعني: إلى النصف، أو قريب منه. وبحديث الإصباح، أو الإسفار بالفجر، وبأحاديث الإبراد بالظهر. والجواب: أن ذلك تخصيص لعموم أول الوقت، ولا معارضة بين عام وخاص.(1/22)
وأما القول: بأن ذكر أول وقتها تفرد به علي بن حفص من بين أصحاب شعبة، وأنهم كلهم رووه بلفظ: "على وقتها" من دون ذكر أول. فقد أجيب عنه من حيث الرواية: بأن تفرده لا يضر؛ فإنه شيخ صدوق من رجال مسلم؛ ثم قد صحح هذه الرواية الترمذي، والحاكم، وأخرجها ابن خزيمة في صحيحه؛ ومن حيث الدراية أن رواية لفظ: على وقتها تفيد: معنى لفظ: أول؛ لأن كلمة "على" تقتضي الاستعلاء على جميع الوقت، ورواية: لوقتها باللام تفيد ذلك؛ لأن المراد استقبال وقتها؛ ومعلوم ضرورة شرعية: أنها لا تصح قبل دخوله، فتعين أن المراد لاستقبالكم الأكثر من وقتها، وذلك بالإتيان بها أول وقتها، ولقوله تعالى: {فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَوَهَبْنَا لَهُ يَحْيَى وَأَصْلَحْنَا لَهُ زَوْجَهُ إِنَّهُمْ كَانُواْ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَباً وَرَهَباً وَكَانُواْ لَنَا خاشِعِينَ} ، ولأنه صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم كان دأبه دائماً الإتيان بالصلاة في أول وقتها؛ ولا يفعل إلا الأفضل. إلا لما ذكرناه كالإسفار، ونحوه كالعشاء. ولحديث علي عند أبي داود: "ثلاث لا تؤخر، ثم ذكر منها الصلاة إذا حضر وقتها" والمراد: أن ذلك الأفضل، وإلا فإن تأخيرها بعد حضور وقتها جائز، ويدل له أيضاً قوله.
وعن أبي محْذورةَ أنَّ النبي صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم قال: "أوَّلُ الوَقتِ رضوان الله، وأَوْسَطُهُ رحْمَةُ الله، واخرُهُ عَفْوُ الله" أخْرَجهُ الدَّارقُطْني بسندٍ ضعيف جداً.(1/23)
(وعن أبي محذورة) بفتح الميم وسكون الحاء المهملة وضم الذال المعجمة بعد الواو راء. واختلفوا في اسمه على أقوال: أصحها أنه سمرة بن معين بكسر الميم وسكون العين المهملة وفتح المثناة التحتية، وقال ابن عبد البر: إنه اتفق العالمون بطريق أنساب قريش: أن اسم أبي محذورة: أوس، وأبو محذورة مؤذن النبي صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم. أسلم عام الفتح، وأقام بمكة إلى أن مات وهو يؤذن بها للصلاة، مات سنة تسع وخمسين.
(أن النبي صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم قال: أول الوقت) أي للصلاة المفروضة (رضوان الله) أي: يحصل بأدائها فيه رضوان الله تعالى عن فاعلها. (وأوسطه رحمة الله) أي يحصل لفاعل الصلاة في رحمته، ومعلوم أن رتبة الرضوان أبلغ (واخره عفو الله) ولا عفو إلا عن ذنب (أخرجه الدارقطني بسند ضعيف) ؛ لأنه من رواية يعقوب بن الوليد المدني. قال أحمد: كان من الكذابين الكبار، وكذبه ابن معين، وتركه النسائي، ونسبه ابن حبان إلى الوضع، كذا في حواشي القاضي. وفي الشرح: أن في إسناده: إبراهيم بن زكريا البجلي، وهو متهم، ولذا قال المصنف (جداً) مؤكداً لضعفه، وقدمنا إعراب جداً، ولا يقال: إنه يشهد له قوله.
وللترمذي من حديثِ ابن عُمرَ نَحْوُهُ، دون الأوْسَطِ، وَهُو ضعيفٌ أيضاً.(1/24)
(وللترمذي من حديث ابن عمر نحوه) في ذكر أول الوقت واخره (دون الأوسط وهو ضعيف أيضاً) ؛ لأن فيه يعقوب بن الوليد أيضاً، وفيه ما سمعت، وإنما قلنا لا يصح شاهداً؛ لأن الشاهد والمشهود له فيهما، من قال الأئمة فيه: إنه كذاب، فكيف يكون شاهداً ومشهوداً له؟ وفي الباب عن جابر، وابن عباس، وأنس، وكلها ضعيفة. وفيه عن علي عليه السلام: من رواية موسى بن محمد عن علي بن الحسين عن أبيه عن جده عن علي. قال البيهقي: إسناده فيما أظن أصح ما روي في هذا الباب، مع أنه معلول، فإن المحفوظ روايته عن جعفر بن محمد عن أبيه موقوفاً. قال الحاكم. لا أعرف فيه حديثاً، يصح عن النبي صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم، ولا عن أحد من الصحابة، وإنما الرواية فيه عن جعفر بن محمد عن أبيه موقوفاً.
قلت: إذا صح هذا الموقوف، فله حكم الرفع؛ لأنه لا يقال في الفضائل بالرأي، وفيه احتمال. ولكن هذه الأحاديث، وإن لم تصح، فالمحافظة منه صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم على الصلاة أول الوقت: دالة على أفضليته، وغير ذلك من الشواهد التي قدمناها.
وعن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما أنَّ رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم قالَ: "لا صلاةَ بعْدَ الفجر إلا سجْدتَيْنِ، أخرجه الخمْسَةُ إلا النسائيَّ وفي رواية عبد الرزاق: "لا صلاة بعْدَ طلوع الفجْر إلا ركعتي الفَجْرِ".
(وعن ابن عمر رضي الله عنهما: ــــ أن رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم قال: لا صلاةَ بعد الفَجْر إلا سجدتين) أي ركعتي الفجر، كما يفسره ما بعده (أخرجه الخمسة إلا النسائي) وأخرجه أحمد، والدارقطني، قال الترمذي: غريب، لا يعرف، إلا من حديث قدامة بن موسى.(1/25)
والحديث: دليل على تحريم النافلة بعد طلوع الفجر قبل صلاته، إلا سنة الفجر. وذلك أنه، وإن كان لفظه نفياً، فهو في معنى النهي، وأصل النهي التحريم. قال الترمذي: أجمع أهل العلم على كراهة أن يصلي الرجل بعد الفجر إلا ركعتي الفجر. قال المصنف: دعوى الترمذي الإجماع عجيب. فإن الخلاف فيه مشهور، حكاه ابن المنذر، وغيره، وقال الحسن البصري: لا بأس بها، وكان مالك يرى: أن يفعل من فاتته الصلاة في الليل. والمراد ببعد الفجر: بعد طلوعه كما دل له قوله: (وفي رواية عبد الرزاق) أي عن ابن عمر: (لا صلاة بعد طلوع الفجْر إلا ركعتي الفَجْر) ، وكما يدل له قوله.
ومثلُهُ للدَّارقطني عن عَمْرو بن العاص، رضي الله عنهُ.
ومثلُهُ للدَّارقطني عن عَمْرو بن العاص، رضي الله عنهُ.
فإنهما فسرا المراد ببعد الفجر، وهذا وقت سادس من الأوقات التي نهى عن الصلاة فيها، وقد عرفت الخمسة الأوقات مما مضى، إلا أنه قد عارض النهي عن الصلاة بعد العصر الذي هو أحد الستة الأوقات:
وعن أُمِّ سَلَمَةَ رضي الله تعالى عنها قالتْ: صلى رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم الْعَصْرَ. ثمَّ دَخَلَ بيْتي، فصلَّى ركْعتين. فسأَلْتُهُ، فقالَ: "شُغِلْتُ عن ركعتين بعدَ الظُّهْرِ فصَلّيْتُهُمَا الان"، فقلتُ: أَفَنَقضيهما إذا فاتتا؟ قال: "لا" أخرجهُ أحمدُ.(1/26)
(وعن أم سلمة رضي الله عنها قالت: صلى رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم العصر ثم دخل بيتي فصلى ركعتين فسألته) في سؤالها: ما يدل على أنه صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم لم يصلهما قبل ذلك عندها، أو أنها قد كانت علمت بالنهي، فاستنكرت مخالفة الفعل له (فقال: شغلت عن ركعتين بعد الظهر) قد بين الشاغل له صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم: "أنه أتاه ناس من عبد القيس"، وفي رواية عن ابن عباس عند الترمذي: "أنه صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم أتاه ما شغله عن الركعتين بعد الظهر" (فصَلّيْتُهما الان) أي: قضاء عن ذلك، وقد فهمت أم سلمة أنهما قضاء، فلذا قالت: (قلت: أفنقضيهما إذا فاتتا؟) أي كما قضيتهما في هذا الوقت (قال: لا) أي لا تقضوهما في هذا الوقت، بقرينة السياق، وإن كان النفي غير مقيد (أخرجه أحمد) إلا أنه سكت عليه المصنف هنا. وقال بعد سياقه له في فتح الباري: إنها رواية ضعيفة لا تقوم بها حجة، ولم يبين هنالك وجه ضعفها، وما كان يحسن منه أن يسكت هنا عما قيل فيه.
والحديث: دليل على ما سلف من أن القضاء في ذلك الوقت كان من خصائصه صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم. وقد دل على هذا حديث عائشة: "أنه صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم، كان يصلي بعد العصر، وينهى عنها، ويواصل، وينهى عن الوصال" أخرجه أبو داود، ولكن قال البيهقي: الذي اختص به صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم: المداومة على الركعتين بعد العصر، لا أصل القضاء اهـ. ولا يخفى أن حديث أم سلمة المذكور: يرد هذا القول، ويدل على أن القضاء خاص به أيضاً، وهذا الذي أخرجه أبو داود، هو الذي أشار إليه المصنف بقوله:
ولأبي داود عنْ عائشةَ رضي الله تعالى عَنْها بمعناهُ.
و (لأبي داود عنْ عائشةَ رضي الله عنهاا بمعناه).
تقدم الكلام فيه.
باب الأذان(1/27)
الأذان لغة: الإعلام، قال الله تعالى: {وَأَذَانٌ مِّنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى النَّاسِ يَوْمَ الْحَجِّ الأَكْبَرِ أَنَّ اللَّهَ بَرِيءٌ مِّنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ فَإِن تُبْتُمْ فَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ وَإِن تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُواْ أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللَّهِ وَبَشِّرِ الَّذِينَ كَفَرُواْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ}. وشرعاً: الإعلام بوقت الصلاة: بألفاظ مخصوصة، وكان فرضه بالمدينة في السنة الأولى من الهجرة، ووردت أحاديث تدل على أنه شرع بمكة. والصحيح الأول.
عن عبد الله بن زيد بن عبد ربِّه قال: طافَ بي ــــ وأنا نائمٌ ــــ رجلٌ فقالَ: تقولُ: الله أكبر الله أكبر، فذكر الأذان ــــ بتربيع التكبير بغير ترجيع، والإقامة فُرَادَى، إلا قد قامت الصَّلاةُ ــــ قال: فلَمّا أصْبَحْتُ أتيتُ رسولَ الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم، فقالَ: "إنّها لَرُؤيا حقَ ــــ الحديثَ" أخرجهُ أحمد وأبو داود. وصحّحهُ التِّرْمذي وابنُ خُزيمْةَ.
(عن عبد الله بن زيد) هو أبو محمد عبد الله بن زيد (بن عبد ربه) الأنصاري الخزرجي. شهد عبد الله العقبة، وبدراً، والمشاهد بعدها، مات بالمدينة سنة اثنتين وثلاثين. (قال: طاف بي وأنا نائم رجل).(1/28)
وللحديث سبب، هو ما في الروايات: أنه "لما كثر الناس، ذكروا: أن يعلموا وقت الصلاة بشيء يجمعهم لها، فقالوا: لو اتخذنا ناقوساً؟ فقال رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم: ذلك للنصارى، فقالوا: لو اتخذنا بوقاً؟ قال: ذلك لليهود، فقالوا: لو رفعنا ناراً؟ قال: ذلك للمجوس، فافترقوا، فرأى عبد الله بن زيد، فجاء إلى النبي صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم، فقال: طاف بي" الحديث؛ وفي سنن أبي داود: "فطاف بي وأنا نائم رجل يحمل ناقوساً في يده، فقلت: يا عبد الله، أتبيع الناقوس؟ قال: وما تصنع به؟ قلت: ندعو به إلى الصلاة. قال: أفلا أدلك على ما هو خير من ذلك؟ قلت: بلى" (فقال: تقول: الله أكبر الله أكبر، فذكر الأذان) أي إلى اخره (بتربيع التكبير) تكريره أربعاً، ويأتي ما عاضده، وما عارضه (بغير ترجيع) أي في الشهادتين. قال في شرح مسلم: هو العود إلى الشهادتين برفع الصوت بعد قولهما مرتين بخفض الصوت، ويأتي قريباً (والإقامة فرادى) لا تكرير في شيء من ألفاظها (إلا قد قامت الصلاة) فإنها تكرر (قال: فلما أصبحت أتيت رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم فقال: إنها لرؤيا حق. الحديث. أخرجه أحمد، وأبو داود، وصححه الترمذي، وابن خزيمة).
الحديث دليل على مشروعية الأذان للصلاة، دعاء للغائبين ليحضروا إليها، ولذا اهتم صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم في النظر في أمر يجمعهم للصلاة، وهو إعلام بدخول وقتها أيضاً، واختلف العلماء في وجوبه، ولا شك أنه من شعار أهل الإسلام، ومن محاسن ما شرعه الله. وأما وجوبه، فالأدلة فيه محتملة، وتأتي. وكمية ألفاظه قد اختلف فيها.(1/29)
وهذا الحديث دل على أنه يكبر في أوله أربع مرات، وقد اختلفت الرواية، فوردت بالتثنية في حديث أبي محذورة في بعض رواياته، وفي بعضها بالتربيع أيضاً. فذهب الأكثر: إن العمل بالتربيع؛ لشهرة روايته؛ ولأنها زيادة عدل، فهي مقبولة، ودل الحديث على عدم مشروعية الترجيع، وقد اختلف في ذلك، فمن قال: إنه غير مشروع عمل بهذه الرواية؛ ومن قال: إنه مشروع: عمل بحديث أبي محذورة وسيأتي.
ودل على أن الإقامة تفرد ألفاظها، إلا لفظ الإقامة فإنه يكررها. وظاهر الحديث أنه يفرد التكبير في أولها، ولكن الجمهور على أن التكبير في أولها يكرر مرتين، قالوا: ولكنه بالنظر إلى تكريره في الأذان أربعاً، كأنه غير مكرر فيها، وكذلك يكرر في اخرها، ويكرر لفظ الإقامة، وتفرد بقية الألفاظ. وقد أخرج البخاري حديث: أمر بلال: "أن يشفع الأذان ويوتر الإقامة إلا الإقامة" وسيأتي؛ وقد استدل به من قال: الأذان في كل كلماته مثنى مثنى، والإقامة ألفاظها مفردة، إلا قد قامت الصلاة، وقد أجاب أهل التربيع: بأن هذه الرواية صحيحة دالة على ما ذكر، لكن رواية التربيع قد صحت بلا مرية، وهي زيادة من عدل مقبولة، فالقائل بتربيع التكبير أول الأذان قد عمل بالحديثين، ويأتي أن رواية: "يشفع الأذان" لا تدل على عدم التربيع للتكبير. هذا، ولا يخفى أن لفظ: كلمة التوحيد في اخر الأذان، والإقامة مفردة بالاتفاق، فهو خارج عن الحكم بالأمر بشفع الأذان.
قال العلماء: والحكمة في تكرير الأذان وإفراد ألفاظ الإقامة هي: أن الأذان لإعلام الغائبين، فاحتيج إلى التكرير، ولذا يشرع فيه رفع الصوت، وأن يكون على محل مرتفع، بخلاف الإقامة، فإنها لإعلام الحاضرين، فلا حاجة إلى تكرير ألفاظها؛ ولذا شرع فيها خفض الصوت والحدر، وإنما كررت جملة "قد قامت الصلاة" لأنها مقصود الإقامة.
وزادَ أحمد في اخره قِصَّة قولِ بلال في أَذان الفَجْر: الصَّلاةُ خيرٌ من النوم.(1/30)
(وزاد أحمد في اخره) ظاهره في حديث عبد الله بن زيد: (قصة قول بلال في أذان الفجر: الصَّلاة خيرٌ من النوم) روى الترمذي، وابن ماجه، وأحمد من حديث عبد الرحمن بن أبي ليلى: عن بلال قال: قال لي رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم: "لا تثوبنَّ في شيء من الصلاة، إلا في صلاة الفجر". إلا أن فيه ضعيفاً، وفيه انقطاع أيضاً. وكان على المصنف أن يذكر ذلك على عادته، ويقال: التثويب: مرتين كما في سنن أبي داود، وليس "الصلاة خير من النوم" في حديث عبد الله بن زيد، كما ربما توهمه عبارة المصنف حيث قال في اخره، وإنما يريد أن أحمد ساق رواية عبد الله بن زيد، ثم وصل بها رواية بلال.
ولابن خُزيمةَ عنْ أَنس رضي الله عنْهُ قال: منَ السُّنّة إذا قالَ المؤذِّنُ في الفَجْر: حيَّ على الفلاحِ، قالَ: الصَّلاةُ خيرٌ من النّوْم.
(ولابن خزيمة عن أنس رضي الله عنه قالَ: من السنة) أي طريقة النبي صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم (إذا قال المؤذن في الفجر: حيَّ على الفلاح) الفلاح: هو الفوز والبقاء. أي هلموا إلى سبب ذلك (قال: الصَّلاة خيرٌ من النوْم) وصححه ابن السكن، وفي رواية النسائي: "الصلاة خير من النوم، الصلاة خير من النوم في الأذان الأول من الصبح" وفي هذا تقييد لما أطلقته الروايات. قال ابن رسلان: وصحح هذه الرواية ابن خزيمة.
قال: فشرعية التثويب إنما هي في الأذان الأول للفجر؛ لأنه لإيقاظ النائم؛ وأما الأذان الثاني فإنه إعلام بدخول الوقت، ودعاء إلى الصلاة. ولفظ النسائي في سننه الكبرى: من جهة سفيان عن أبي جعفر عن أبي سليمان عن أبي محذورة. قال: "كنت أؤذن لرسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم، فكنت أقول في أذان الفجر الأول: حيَّ على الصلاة، حيَّ على الفلاح، الصلاة خير من النوم، الصلاة خير من النوم" قال ابن حزم: وإسناده صحيح اهـ من تخريج الزركشي لأحاديث الرافعي.(1/31)
ومثل ذلك في سنن البيهقي الكبرى: من حديث أبي محذورة: "أنه كان يثوب في الأذان الأول من الصبح، بأمره صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم". قلت: وعلى هذا، ليس "الصلاة خير من النوم" من ألفاظ الأذان المشروع للدعاء إلى الصلاة، والإخبار بدخول وقتها، بل هو من الألفاظ التي شرعت لإيقاظ النائم، فهو كألفاظ التسبيح الأخير الذي اعتاده الناس في هذه الأعصار المتأخرة: عوضاً: عن الأذان الأول.
وإذا عرفت هذا: هان عليك ما اعتاده الفقهاء من الجدال في التثويب: هل هو من ألفاظ الأذان، أو لا؟ وهل هو بدعة، أو لا؟ ثم المراد من معناه: اليقظة للصلاة خير من النوم. أي من الراحة التي يعتاضونها في الآجل خير من النوم. ولنا كلام في هذه الكلمة أودعناه رسالة لطيفة.
وعن أبي محذورة رضي الله عنه أنَّ النبي صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم علّمه الأذان، فذَكَر فيهِ التّرجيع. أخرجهُ مسلمٌ. ولكن ذكرَ التّكبير في أوَّله مرَّتين فَقَطْ. وروَاهُ الخمْسةُ فذكروهُ مُربعاً.
(وعن أبي محذورة) تقدم ضبطه وبيان حاله (أن النبي صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم عَلّمَهُ الأذَانَ) أي ألقاه صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم بنفسه، في قصة حاصلها:(1/32)
"أنه خرج أبو محذورة بعد الفتح إلى حنين، هو وتسعة من أهل مكة، فلما سمعوا الأذان، أذنوا استهزاء بالمؤمنين، فقال صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم: "قد سمعت في هؤلاء تأذين إنسان حسن الصوت، فأرسل إلينا فأذنّا رجلاً رجلاً، وكنت اخرهم؛ فقال حين أذنت: تعال، فأجلسني بين يديه، فمسح على ناصيتي، وبرّك عليّ ثلاث مرات. ثم قال: اذهب فأذّن عند المسجد الحرام، فقلت: يا رسول الله، فعلمني. الحديث (فذكر فيه التّرجيع) أي في الشهادتين، ولفظه عند أبي داود: "ثم تقول أشهد أن لا إله إلا الله أشهد أن لا إله إلا الله، أشهد أن محمداً رسول الله أشهد أن محمداً رسول الله، تخفض بها صوتك" قيل: المراد أن يسمع من بقربه. قيل: والحكمة في ذلك: أن يأتي بهما أولاً بتدبير وإخلاص، ولا يتأتى كمال ذلك إلا مع خفض الصوت. قال: "ثم ترفع صوتك بالشهادة: أشهد أن لا إله إلا الله أشهد أن لا إله إلا الله، أشهد أن محمداً رسول الله، أشهد أن محمداً رسول الله".
فهذا هو الترجيع، الذي ذهب جمهور العلماء: إلى أنه مشروع؛ لهذا الحديث الصحيح؛ وهو زيادة على حديث عبد الله بن زيد، وزيادة العدل مقبولة.
وإلى عدم القول به ذهب الهادي وأبو حنيفة، واخرون؛ عملاً منهم بحديث عبد الله بن زيد الذي تقدم (أخرجه مسلم، ولكن ذكر التكبير في أوله مرتين فقط) لا كما ذكره عبد الله بن زيد انفاً. وبهذه الرواية عملت الهادوية، ومالك، وغيرهم (ورواه) أي حديث أبي محذورة هذا (الخمسة) هم أهل السنن الأربعة، وأحمد (فذكروه) أي التكبير في أول الأذان (مربعاً) كروايات حديث عبد الله بن زيد.(1/33)
قال ابن عبد البر في الاستذكار: التكبير أربع مرات في أول الأذان محفوظ من رواية الثقات: من حديث أبي محذورة، ومن حديث عبد الله بن زيد، وهي زيادة يجب قبولها. واعلم أن ابن تيمية في المنتقى نسب التربيع في حديث أبي محذورة إلى رواية مسلم، والمصنف لم ينسبه إليه، بل نسبه إلى رواية الخمسة، فراجعت صحيح مسلم وشرحه فقال النووي: إن أكثر أصوله فيها التكبير مرتين في أوله. وقال القاضي عياض: إن في بعض طرق الفارسي لصحيح مسلم: ذكر التكبيع أربع مرات في أوله، وبه تعرف أن المصنف اعتبر أكثر الروايات، وابن تيمية اعتمد بعض طرقه، فلا يتوهم المنافاة بين كلام المصنف، وابن تيمية.
وعنْ أنس رضي الله عنه قال: أُمِرَ بلالٌ: أن يشْفع الأذان شَفْعاً، ويوترَ الإقامةَ، إلا الإقامةَ، يَعْني: إلا قدْ قامتِ الصَّلاة. متّفقٌ عليه، ولم يذكر مُسلمٌ الاستثناء.
(وعن أنس رضي الله عنه قال: أُمر) بضم الهمزة مبني لما لم يسم: بنى كذلك للعلم بالفاعل؛ فإنه لا يأمر في الأصول الشرعية إلا النبي صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم؛ ويدل له الحديث الاتي قريباً (بلالٌ) نائب الفاعل (أنْ يشْفع) بفتح أوله (الأذان) يأتي بكلماته شفعاً (أي مثنى مثنى أو أربعاً أربعاً) ، فالكل يصدق عليه أنه شفع، وهذا إجمال، بينه حديث عبد الله بن زيد، وأبي محذورة، فشفع التكبير: أن يأتي به أربعاً أربعاً؛ وشفع غيره: أن يأتي به مرتين مرتين، وهذا بالنظر إلى الأكثر، وإلا، فإن كلمة التهليل في اخره مرة واحدة اتفاقاً. (ويوتر الإقامة) يفرد ألفاظها (إلا الإقامة) بين المراد بها بقوله: (يعني: قد قامت الصلاة) ، فإنه يشرع أن يأتي بها مرتين، ولا يوترها (متفق عليه ولم يذكر مسلم الاستثناء) ، أعني قوله: إلا الإقامة.(1/34)
فاختلف العلماء في هذا على ثلاثة أقوال: الأول، للهادوية، فقالوا: تشرع تثنية ألفاظ الإقامة كلها؛ لحديث: "إن بلالاً كان يثني الأذان والإقامة" رواه عبد الرزاق، والدارقطني، والطحاوي، إلا أنه قد ادعى فيه الحاكم الانقطاع، وله طرق فيها ضعف، وبالجملة لا تعارض رواية التربيع في التكبير رواية الإفراد في الإقامة؛ لصحتها. فلا يقال: إن التثنية في ألفاظ الإقامة زيادة عدل، فيجب قبولها، لأنك قد عرفت أنها لم تصح، والثاني: لمالك، فقال: تفرد ألفاظ الإقامة حتى: قد قامت الصلاة. والثالث: للجمهور: أنها تفرد ألفاظها، إلا قد قامت الصلاة، فتكرر؛ عملاً بالأحاديث الثابتة بذلك.
وللنسائي: أمَرَ النبيُّ صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم بلالاً.
(وللنسائي) أي عن أنس: (أمر) بالبناء للفاعل، وهو (النبي صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم بلالاً) ، وإنما أتى به المصنف ليفيد: أن الحديث الأول: متفق عليه، مرفوع، وإن ورد بصيغة البناء للمجهول. قال الخطابي: إسناد تثنية الأذان، وإفراد الإقامة أصحها. أي الروايات، وعليه أكثر علماء الأمصار، وجرى العمل به في الحرمين، والحجاز، والشام، واليمن، وديار مصر، ونواحي الغرب، إلى أقصى حجر من بلاد الإسلام، ثم عد من قاله من الأئمة.
قلت: وكأنه أراد باليمن من كان فيها شافعي المذهب. وإلا، فقد عرفت مذهب الهادوية وهم سكان غالب اليمن. وما أحسن ما قاله بعض المتأخرين ــــ وقد ذكر الخلاف في ألفاظ الأذان. هل هو مثنى، أو أربع؟ أي التكبير في أوله ــــ وهل فيه ترجيع الشهادتين، أو لا؟ والخلاف في الإقامة ــــ ما لفظه:(1/35)
هذه المسألة من غرائب الواقعات، يقلّ نظيرها في الشريعة، بل وفي العادات، وذلك أن هذه الألفاظ في الأذان، والإقامة: قليلة محصورة معينة، يصاح بها في كل يوم دليلة خمس مرات، في أعلى مكان، وقد أمر كل سامع أن يقول كما يقول المؤذن، وهم خير القرون في غرة الإسلام، شديدو المحافظة على الفضائل، مع هذا كله، لم يذكر خوض الصحابة، ولا التابعين، واختلافهم فيها؛ ثم جاء الخلاف الشديد في المتأخرين، ثم كل من المتفرقين أدلى بشيء صالح في الجملة، وإن تفاوت، وليس بين الروايات تناف؛ لعدم المانع من أن يكون كل سنة، كما نقوله، وقد قيل: في أمثاله، كألفاظ التشهد، وصورة صلاة الخوف.
وعن أبي جُحيفة رضي الله عنهُ قال: رأيْتُ بلالاً يؤذن وأَتَتَبّعُ فَاه ههنا وهَهُنا، وإصْبِعاهُ في أُذنيْه. رواهُ أحمدُ والترمذي وصححهُ.
ولابن ماجَهْ: وجعَلَ إصبَعَيْهِ في أُذُنيه.
ولأبي داود: لَوى عُنُقَهُ، لما بلغ حيَّ على الصلاة، يميناً وشمالاً ولم يستدرْ. وأصْلُه في الصَّحيحين.
(وعن أبي جحيفة) بضم الجيم وفتح الحاء المهملة فمثناة تحتية ساكنة ففاء، هو وهب بن عبد الله، وقيل: ابن مسلم: السوائي بضم السين المهملة وتخفيف الواو وهمزة بعد الألف: العامري. نزل الكوفة وكان من صغار الصحابة، توفي رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم ولم يبلغ الحلم، ولكنه سمع منه. جعله عليّ على بيت المال، وشهد معه المشاهد كلها؛ توفي بالكوفة سنة أربع وسبعين.(1/36)
(قال: رأيت بلالاً يُؤذِّن، وأتتبع فاه) أي أنظر إلى فيه متتبعاً (ههنا) أي يمنة (وههنا) أي يسرة (وأُصبعاه) أي إبهاماه، ولم يرد تعيين الأصبعين، وقال النووي: هما المسبحتان (في أذنيه. رواه أحمد، والترمذي، وصححه، ولابن ماجه) أي من حديث أبي جحيفة أيضاً: (وجعل أصبعيه في أذنيه. ولأبي داود) من حديثه أيضاً: (لوى عُنُقه لما بلغ حيَّ على الصلاة يميناً وشمالاً) هو بيان لقوله: ههنا وههنا (ولم يستدر) بجملة بدنه (وأصله في الصحيحين).
الحديث دل على اداب للمؤذن وهي: الالتفات إلى جهة اليمين، وإلى جهة الشمال، وقد بين محل ذلك لفظ أبي داود حيث قال: "لوى عنقه لما بلغ حي على الصلاة": وأصرح منه حديث مسلم بلفظ: (فجعلت أتتبع فاه ههنا وههنا يميناً وشمالاً، يقول: حي على الصلاة، حي على الفلاح) ، ففيه بيان أن الالتفات عند الحيعلتين. وبوَّب عليه ابن خزيمة بقوله: "انحراف المؤذن عند قوله حيَّ على الصلاة حيَّ على الفلاح بفمه، لا ببدنه كله" قال: وإنما يمكن الانحراف بالفم بانحراف الوجه، ثم ساق من طريق وكيع: "فجعل يقول في أذانه: هكذا، وحرف رأسه يميناً وشمالاً" وأما رواية: "إن بلالاً استدار في أذانه"، فليست بصحيحة، وكذلك رواية: "أنه صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم أمره أن يجعل أصبعيه في أذنيه" رواية ضعيفة. وعن أحمد بن حنبل: لا يدور إلا إذا كان على منارة قصداً لإسماع أهل الجهتين.
وذكر العلماء: أن فائدة التفاته أمران: أحدهما: أنه أرفع لصوته. وثانيهما: أنه علامة للمؤذن؛ ليعرف من يراه على بعد، أو من كان به صمم أنه يؤذن، وهذا في الأذان. وأما الإقامة فقال الترمذي: إنه استحسنه الأوزاعي.
وعن أبي مَحْذورة رضي الله عنه أنَّ النَّبي صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم أعجبهُ صَوْتُهُ، فَعَلّمهُ الأذان. رواه ابنُ خُزْيمة.(1/37)
وعن أبي مَحْذورة رضي الله عنه أنَّ النَّبي صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم أعجبهُ صَوْتُهُ، فَعَلّمهُ الأذان، رواه ابنُ خُزْيمة.
وصححه، وقد قدمنا القصة، واستحسانه صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم لصوته، وأمره له بالأذان بمكة.
وفيه دلالة على أنه يستحب أن يكون صوت المؤذن حسناً.
وعن جابر بن سَمُرةَ قَالَ: صَلّيْت مع النبي صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم العيدينِ، غَيْرَ مرَّة، ولا مرَّتين، بغير أذان، ولا إقامة. رَوَاهُ مُسْلمٌ.
(وعن جابر بن سمرة رضي الله عنه قال: صليت مع رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم العيدَيْن غير مرَّة ولا مرَّتين) أي: بل مرات كثيرة (بغير أذان، ولا إقامة) أي حال كون الصلاة غير مصحوبة بأذان، ولا إقامة (رواه مسلم).
فيه دليل: على أنه لا يشرع لصلاة العيدين أذان، ولا إقامة، وهو كالإجماع. وقد روى خلاف هذا عن ابن الزبير، ومعاوية، وعمر بن عبد العزيز، قياساً منهم للعيدين على الجمعة، وهو قياس غير صحيح، بل فعل ذلك بدعة، إذ لم يؤثر عن الشارع، ولا عن خلفائه الراشدين، ويزيده تأكيداً قوله:
ونحوه في المتفق عليه عن ابن عباس رضي الله عنهما وغيره.
(ونحوه) أي نحو حديث جابر بن سمرة (في المتفق عليه) أي الذي اتفق على إخراجه الشيخان (عن ابن عباس رضي الله عنهما، وغيره) من الصحابة.(1/38)
وأما القول بأنه يقال في العيد عوضاً عن الأذان: "الصلاة جامعة" فلم ترد به سنة في صلاة العيدين. قال في الهدي النبوي: وكان صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم إذا انتهى إلى المصلى أخذ في الصلاة: أي صلاة العيد من غير أذان، ولا إقامة، ولا قول: الصلاة جامعة، والسنة: أن لا يفعل شيء من ذلك، وبه يعرف أن قوله في الشرح: ويستحب في الدعاء إلى الصلاة في العيدين، وغيرهما، مما لا يشرع فيه أذان، كالجنازة: الصلاة جامعة: غير صحيح؛ إذ لا دليل على الاستحباب، ولو كان مستحباً لما تركه صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم، والخلفاء الراشدون من بعده، نعم، ثبت ذلك في صلاة الكسوف لا غير، ولا يصح فيه القياس؛ لأن ما وجد سببه في عصره، ولم يفعله، ففعله بعد عصره بدعة، فلا يصح إثباته بقياس، ولا غيره.
وعن أبي قتادة رضي الله عنهُ ــــ في الحديث الطويل، في نوْمهم عن الصَّلاة ــــ ثمَّ أَذَّن بلالٌ، فصلى النّبي صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم، كما كان يصْنعُ كل يوم. رواه مسلم.
(وعن أبي قتادة: في الحديث الطويل في نومهم عن الصلاة) أي عن صلاة الفجر، وكان عند قفولهم من غزوة خيبر. قال ابن عبد البر: هو الصحيح: (ثم أذَّن بلالٌ) أي: بأمره صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم، كما في سنن أبي داود: "ثم أمر بلالاً أن ينادي بالصلاة فنادى بها"، (فصلى رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم كما كان يصنَع كُلَّ يوْم. رواه مسلم).(1/39)
فيه دلالة على شرعية التأذين للصلاة الفائتة بنوم، ويلحق به المنسية؛ لأنه صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم جمعهما في الحكم؛ حيث قال: "من نام عن صلاته، أو نسيها" الحديث. وقد روى مسلم من حديث أبي هريرة: أنه صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم "أمر بلالاً بالإقامة، ولم يذكر الأذان، وبأنه صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم لما فاتته الصلاة يوم الخندق، أمر لها بالإقامة، ولم يذكر الأذان" كما في حديث أبي سعيد عند الشافعي، وهذه لا تعارض رواية أبي قتادة؛ لأنه مثبت، وخبر أبي هريرة، وأبي سعيد ليس فيهما ذكر الأذان بنفي، ولا إثبات، فلا معارضة؛ إذ عدم الذكر لا يعارض الذكر.
ولهُ عن جابر رضي الله عنه أنَّ النبي صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم أتى المُزدلفةَ فصلى بها المغرب والعشاءَ، بأذان واحدٍ وإقامتين.
(وله) أي لمسلم (عن جابر: أن النبي صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم أتى المزْدَلفة) أي منصرفاً من عرفات (فصلى بها المغرب والعشاء) جمع بينهما (بأذان واحد وإقامتين). وقد روى البخاري من حديث ابن مسعود: "أنه صلى" أي: بالمزدلفة "المغرب بأذان، وإقامة، والعشاء بأذان، وإقامة، وقال: رأيت رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم يفعله"، ويعارضهما معاً قوله:
ولهُ عن ابن عمرَ رضي الله عنهُما: جمعَ النبي صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم بيْنَ المغربِ والعشاء بإقامة واحدةٍ. وزاد أبو داود: لكل صلاةٍ، وفي رواية لهُ: ولم يُناد في واحدة منهُما.(1/40)
(وله) أي لمسلم (عن ابن عمر رضي الله عنهما، جمع النبي صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم بين المغرب والعشاء بإقامة واحدة) وظاهره: أنه لا أذان فيهما، وهو صريح في مسلم: أن ذلك بالمزدلفة، فإن فيه، قال سعيد بن جبير: أفضنا مع ابن عمر، حتى أتينا جَمْعاً. أي المزدلفة، فإنه اسم لها وهو بفتح الجيم وسكون الميم، فصلى بها المغرب والعشاء بإقامة واحدة، ثم انصرف وقال: "هكذا صلى بنا رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم في هذا المكان".
وقد دل: على أنه لا أذان بهما، وأنه لا إقامة إلا واحدة للصلاتين، وقد دل قوله: (وزاد أبو داود) أي من حديث ابن عمر (لكل صلاة) أي: أنه أقام لكل صلاة؛ لأنه زاد بعد قوله بإقامة واحدة: لكل صلاة، فدل على أن لكل صلاة إقامة، فرواية مسلم تقيد برواية أبي داود هذه.
(وفي رواية له) أي لأبي داود عن ابن عمر: (ولم يناد في واحدة منهما) وهو صريح في نفي الأذان، وقد تعارضت هذه الروايات، فجابر أثبت أذاناً واحداً، وإقامتين، وابن عمر نفى الأذان، وأثبت الإقامتين؛ وحديث ابن مسعود الذي ذكرناه: أثبت الأذانين، والإقامتين. فإن قلنا المثبت مقدم على النافي عملنا بخبر ابن مسعود. والشارح رحمه الله قال: يقدم خبر جابر. أي: لأنه مثبت للأذان على خبر ابن عمر؛ لأنه ناف له، ولكن نقول: بل نقدم خبر ابن مسعود؛ لأنه أكثر إثباتاً.
وعن ابْن عمرَ وعائشةَ رضي الله عنهمْ قالا: قالَ رسولُ الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم: "إنَّ بلالاً يؤذنُ بليْلٍ، فكُلوا واشْرَبوا حتى ينادي ابنُ أُمِّ مَكْتوم" وكانَ رجلاً أعمى لا يُنادي، حتى يقال له: أصبحْتَ. أَصْبحتَ، متفقٌ عليه، وفي آخره إدراجٌ.(1/41)
(وعن ابن عمر، وعائشة رضي الله عنهم قالا: قال رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم: إن بلالاً يؤذن بليل). قد بينت رواية البخاري: أن المراد به: قبيل الفجر، فإن فيها: "ولم يكن بينهما إلا أن يرقى ذا، وينزل ذا" وعند الطحاوي بلفظ: "إلا أن يصعد هذا: وينزل هذا" (فكلوا واشربوا حتى ينادي ابن أمَ مَكْتُوم) واسمه عمرو (وكان) أي: ابن أم مكتوم (رجلاً أعمى لا ينادي حتى يقال له: أصبحت أصبحت) أي دخلت في الصباح (متفق عليه، وفي اخره إدراج) أي كلام، ليس من كلامه صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم، يريد به قوله: "وكان رجلاً أعمى إلى اخره"، ولفظ البخاري هكذا: "قال: وكان رجلاً أعمى" بزيادة لفظ قال، وبين الشارح فاعل قال أنه: ابن عمر، وقيل: الزهري، فهو كلام مدرج من كلام أحد الرجلين.
وفي الحديث: شرعية الأذان قبل الفجر، لا لما شرع له الأذان، فإن الأذان شرع، كما سلف للإعلام بدخول الوقت، ولدعاء السامعين لحضور الصلاة.
وهذا الأذان الذي قبل الفجر، قد أخبر صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم بوجه شرعيته بقوله: "ليوقظ نائمكم، ويرجع قائمكم" رواه الجماعة إلا الترمذي. والقائم: هو الذي يصلي صلاة الليل، ورجوعه عوده إلى نومه، أو قعوده عن صلاته إذا سمع الأذان، فليس للإعلام بدخول وقت، ولا لحضور الصلاة. إنما هو كالتسبيحة الأخيرة التي تفعل في هذه الأعصار، غايته أنه كان بألفاظ الأذان، وهو مثل النداء الذي أحدثه عثمان في يوم الجمعة لصلاتها، فإنه كان يأمر بالنداء لها في محل، يقال له: الزوراء؛ ليجتمع الناس للصلاة، وكان ينادي لها بألفاظ الأذان المشروع، ثم جعله الناس من بعده تسبيحاً بالاية، والصلاة على النبي صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم. فذكر الخلاف في المسألة، والاستدلال للمانع والمجيز، لا يلتفت إليه من همه العمل بما ثبت.
وفي قوله: "كلوا واشربوا" أي أيها: المريدون للصيام "حتى يؤذن ابن أم مكتوم": ما يدل على إباحة ذلك إلى أذانه.(1/42)
وفي قوله: "إنه كان لا يؤذن" أي ابن أم مكتوم "حتى يقال له: أصبحت أصبحت": ما يدل على جواز الأكل والشرب بعد دخول الفجر. وقال به جماعة. ومن منع من ذلك قال: معنى قوله: "أصبحت أصبحت" قاربت الصباح، وأنهم يقولون له ذلك، عند اخر جزء من أجزاء الليل، وأذانه يقع في أول جزء من طلوع الفجر.
وفي الحديث دليل على جواز اتخاذ مؤذنين، في مسجد واحد، ويؤذن واحد بعد واحد. وأما أذان اثنين معاً، فمنعه قوم، وقالوا: أول من أحدثه بنو أمية، وقيل: لا يكره، إلا أن يحصل بذلك تشويش. قلت: في هذا المأخذ نظر؛ لأن بلالاً لم يكن يؤذن للفريضة، كما عرفت، بل المؤذن لها واحد: هو ابن أم مكتوم.
واستدل بالحديث على جواز تقليد المؤذن الأعمى، والبصير، وعلى جواز تقليد الواحد، وعلى جواز الأكل والشرب مع الشك في طلوع الفجر؛ إذ الأصل بقاء الليل. وعلى جواز الاعتماد على الصوت في الرواية إذا عرفه، وإن لم يشاهد الراوي، وعلى جواز ذكر الرجل بما فيه من العاهة، إذا كان القصد التعريف به ونحوه، وجواز نسبته إلى أمه إذا اشتهر بذلك.
وعن ابنِ عُمَر رضي الله عنهما أن بلالاً أذَّن قَبْل الفَجْر، فأمَرهُ النبي صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم أن يرجعَ، فيُناديَ "ألا إنَّ العَبْدَ نامَ" رواهُ أبو داودَ، وضعّفه.
وعن ابنِ عُمَر رضي الله عنهما أن بلالاً أذَّن قَبْل الفَجْر، فأمَرهُ النبي صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم أن يرجعَ، فيُناديَ "ألا إنَّ العَبْدَ نامَ" رواهُ أبو داودَ، وضعّفه.
فإنه قال عقب إخراجه: هذا حديث لم يروه عن أيوب إلا حماد بن سلمة. وقال المنذري: قال الترمذي: هذا حديث غير محفوظ. وقال علي بن المديني: حديث حماد بن سلمة: هو غير محفوظ، وأخطأ فيه حماد بن سلمة.(1/43)
وقد استدل به من قال: لا يشرع الأذان قبل الفجر، ولا يخفى أنه لا يقاوم الحديث الذي اتفق عليه الشيخان، ولو ثبت أنه صحيح لتؤول على: أنه قبل شرعية الأذان الأول؛ فإنه كان بلال هو المؤذن الأول، الذي أمر صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم عبد الله بن زيد أن يلقي عليه ألفاظ الأذان، ثم اتخذ ابن أم مكتوم بعد ذلك مؤذناً مع بلال، فكان بلال يؤذن الأذان الأول؛ لما ذكره صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم من فائدة أذانه، ثم إذا طلع الفجر أذن ابن أم مكتوم.
وعن أبي سعيدٍ الخُدْريِّ رضي الله عنه قال: قال رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم: "إذا سمعتُم النِّداءَ فقُولوا مِثْل ما يقُولُ المؤذِّنُ" متفَقٌ عليه.
فيه شرعية القول لمن سمع المؤذن: أن يقول، كما يقول على أي حال كان من طهارة، وغيرها، ولو جنباً، أو حائضاً، إلا حال الجماع، وحال التخلي؛ لكراهة الذكر فيهما، وأما إذا كان السامع في حال الصلاة، ففيه أقوال: الأقرب: أنه يؤخر الإجابة إلى بعد خروجه منها. والأمر يدل على الوجوب على السامع، لا على من راه فوق المنارة ولم يسمعه، أو كان أصم.(1/44)
وقد اختلف في وجوب الإجابة، فقال به الحنفية، وأهل الظاهر، واخرون. وقال الجمهور: لا يجب، واستدلوا: بأنه صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم سمع مؤذناً، فلما كبر قال: "على الفطرة"، فلما تشهد قال: (خرجت من النار) أخرجه مسلم. قالوا: فلو كانت الإجابة واجبة، لقال صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم، كما قال المؤذن. فلما لم يقل: دل على أن الأمر في حديث أبي سعيد للاستحباب. وتعقب: بأنه ليس في كلام الراوي ما يدل على أنه صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم لم يقل، كما قال. فيجوز أنه صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم قال مثل قوله، ولم ينقله الراوي، اكتفاء بالعادة، ونقل الزائد، وقوله: "مثل ما يقول" يدل على أنه يتبع كل كلمة يسمعها، فيقول مثلها. وقد روت أم سلمة: أنه صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم: كان يقول، كما يقول المؤذن حتى يسكت" أخرجه النسائي، فلو لم يجاوبه حتى فرغ من الأذان، استحب له التدارك إن لم يطل الفصل.
وظاهر قوله: "النداء" أنه: يجيب كل مؤذن أذن بعد الأول، وإجابة الأول أفضل. قال في الشرح: إلا في الفجر، والجمعة، فهما سواء؛ لأنهما مشروعان. قلت: يريد الأذان قبل الفجر، والأذان قبل حضور الجمعة، ولا يخفى أن الذي قبل الفجر قد صحت مشروعيته، وسماه النبي صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم أذاناً في قوله: "إن بلالاً يؤذن بليل"، فيدخل تحت حديث أبي سعيد، وأما الأذان قبل الجمعة، فهو محدث بعد وفاته صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم، ولا يسمى أذاناً شرعياً. وليس المراد من المماثلة: أن يرفع صوته كالمؤذن؛ لأن رفعه لصوته لقصد الإعلام، بخلاف المجيب، ولا يكفي إمراره الإجابة؛ على خاطره فإنه ليس بقول:
وظاهر حديث أبي سعيد والحديث الاتي وهو:
وللبخاري عنْ معاوية رضي الله عنه مِثْلُهُ.
وللبخاري عنْ معاوية رضي الله عنه مِثْلُهُ.
أي مثل حديث أبي سعيد: أن السامع يقول كقول المؤذن في جميع ألفاظه، إلا في الحيعلتين، فيقول: ما أفاده قوله:(1/45)
ولمسْلمٍ عن عُمرَ رضي الله عنه في فَضْل القوْل كما يقولُ المُؤذِّنُ كلمةً كلمةً، سوى الحَيْعلَتين، فيقولُ: "لا حوْل ولا قُوَّةَ إلا بالله".
(ولمسلم عن عمر في فضل القول، كما يقول المؤذن كلمة كلمة، سوى الحيعلتين) حي على الصلاة، حي على الفلاح، فإنه يخصص ما قبله (فيقول) أي السامع: (لا حول ولا قوة إلا بالله) عند كل واحدة منهما.
وهذا المتن هو الذي رواه معاوية، كما في البخاري، وعمر كما في مسلم، وإنما اختصر المصنف فقال: وللبخاري عن معاوية. أي القول، كما يقول المؤذن إلى اخر ما ساقه في رواية مسلم عن عمر. إذا عرفت هذا فيقولها أربع مرات؛ ولفظه عند مسلم: "إذا قال المؤذن، الله أكبر الله أكبر. فقال أحدكم: الله أكبر الله أكبر، إلى أن قال: فإذا قال: حيَّ على الصلاة، قال: لا حول ولا قوة إلا بالله، ثم قال: حيَّ على الفلاح، قال: لا حول ولا قوة إلا بالله؛ فيحتمل أنه يريد إذا قال: حيَّ على الصلاة حوقل؛ وإذا قالها ثانياً حوقل، ومثله حيَّ على الفلاح، فيكن أربعاً. ويحتمل أنها تكفي حوقلة واحدة عند الأولى من الحيعلين؛ وقد أخرج النسائي، وابن خزيمة حديث معاوية، وفيه "يقول ذلك، وقال المصنف: "في فضل القول" لأن اخر الحديث أنه قال: "إذا قال السامع: ذلك من قلبه دخل الجنة" والمصنف لم يأت بلفظ الحديث، بل بمعناه. هذا، والحول: هو الحركة: أي لا حركة، ولا استطاعة إلا بمشيئة الله، وقيل: لا حول في دفع شر، ولا قوة في تحصيل خير إلا بالله، وقيل: لا حول عن معصية الله إلا بعصمته، ولا قوة على طاعته إلا بمعونته، وحكى هذا عن ابن مسعود مرفوعاً.(1/46)
واعلم أن هذا الحديث مقيد لإطلاق حديث أبي سعيد الذي فيه: "فقولوا مثل ما يقول" أي فيما عدا الحيعلة، وقيل: يجمع السامع بين الحيعلة والحوقلة؛ عملاً بالحديثين والأول أولى؛ لأنه تخصيص للحديث العام أو تقييد لمطلقه؛ ولأن المعنى مناسب لإجابة الحيعلة من السامع بالحوقلة؛ فإنه لما دعي إلى ما فيه الفوز، والفلاح، والنجاة، وإصابة الخير، ناسب أن يقول: هذا أمر عظيم، لا أستطيع مع ضعفي القيام به، إلا إذا وفقني الله بحوله وقوته، ولأن ألفاظ الأذان ذكر الله، فناسب أن يجيب بها؛ إذ هو ذكر له تعالى. وأما الحيعلة: فإنما هي دعاء إلى الصلاة، والذي يدعو إليها هو المؤذن، وأما السامع، فإنما عليه الامتثال والإقبال على ما دعي إليه، وإجابته في ذكر الله لا فيما عداه.
والعمل بالحديثين، كما ذكرنا هو الطريقة المعروفة في حمل المطلق على المقيد، أو تقديم الخاص على العام، فهي أولى بالاتباع، وهل يجيب عند الترجيع أو لا يجيب؟ وعند التثويب؟ فيه خلاف. وقيل: يقول في جواب التثويب صدقت وبررت؛ وهذا استحسان من قائله؛ وإلا فليس فيه سنة تعتمد.
فائدة: أخرج أبو داود عن بعض أصحاب النبي صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم: "أن بلالاً أخذ في الإقامة، فلما أن قال: قد قامت الصلاة، قال النبي صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم: أقامها الله وأدامها" وقال في سائر الإقامة: بنحو حديث عمر في الأذان. يريد بحديث عمر: ما ذكره المصنف، وسقناه في الشرح: من متابعة المقيم في ألفاظ الإقامة كلها.
وعن عُثمانَ بنِ أبي العاص رضي الله عنه قال: يا رسول الله اجْعَلني إمام قَوْمي. فقال: "أَنْتَ إمامُهُمْ، واقْتدِ بأَضعفهمْ، واتّخِذْ مُؤذِّناً لا يأخذُ على أَذانِهِ أجراً" أخرجه الخمسة، وحسنهُ الترمذيُّ، وصحّحهُ الحاكِمُ.(1/47)
(وعن عثمان بن أبي العاص) هو أبو عبد الله عثمان بن أبي العاص بن بشر الثقفي، استعمله النبي صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم على الطائف، فلم يزل عليها مدة حياته صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم، وخلافة أبي بكر وسنين من خلافة عمر، ثم عزله، وولاه عمان، والبحرين، وكان من الوافدين عليه صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم في وفد ثقيف، وكان أصغرهم سناً، له سبع وعشرون سنة، ولما توفي رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم عزمت ثقيف على الردة، فقال لهم: يا ثقيف كنتم اخر الناس إسلاماً، فلا تكونوا أولهم ردة، فامتنعوا من الردة، مات بالبصرة سنة إحدى وخمسين (أنه قال: يا رسول الله اجعلني إمام قومي، فقال: أنت إمامُهُم، واقْتِد بأَضْعفهم) أي اجعل أضعفهم بمرض، أو زمانه، أو نحوهما قدوة لك، تصلي بصلاته تخفيفاً (واتخذ مُؤَذِّناً لا يأخذُ على أذانه أجْراً. أخرجه الخمسة، وحسنه الترمذي، وصححه الحاكم).
الحديث يدل على جواز طلب الإمامة في الخير. وقد ورد في أدعية عباد الرحمن الذين وصفهم الله بتلك الأوصاف أنهم يقولون: {وَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُواْ عَذَاباً دُونَ ذَلِكَ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ} ، وليس من طلب الرياسة المكروهة، فإن ذلك فيما يتعلق برياسة الدنيا، التي لا يعان من طلبها، ولا يستحق أن يعطاها، كما يأتي بيانه.
وأنه يجب على إمام الصلاة أن يلاحظ حال المصلي خلفه، فيجعل أضعفهم كأنه المقتدي به، فيخفف لأجله، ويأتي في أبواب الإمامة في الصلاة تخفيفه. وأنه يتخذ المتبوع مؤذناً ليجمع الناس للصلاة، وأن من صفة المؤذن المأمور باتخاذه: أن لا يأخذ على أذانه أجراً: أي أجرة، وهو دليل على أن من أخذ على أذانه أجراً، ليس مأموراً باتخاذه، وهل يجوز له أخذ الأجرة؟ فذهب الشافعية. إلى جواز أخذه الأجرة مع الكراهة. وذهبت الهادوية، والحنفية: إلى أنها تحرم عليه الأجرة؛ لهذا الحديث.(1/48)
قلت: ولا يخفى أنه لا يدل على التحريم، وقيل: يجوز أخذها على التأذين في محل مخصوص؛ إذ ليست على الأذان حينئذ، بل على ملازمة المكان، كأجرة الرصد.
وعن مالك بن الحُوَيْرثِ رضي الله عنه قالَ: قالَ لنَا النّبيُّ صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم: "إذا حضَرَت الصلاةُ فَليُؤذن لكم أحَدُكم" الحديث. أخرجَهُ السبعةُ.
(وعن مالك بن الحويرث) بضم الحاء المهملة وفتح الواو وسكون المثناة التحتية وكسر الراء وثاء مثلثة؛ وهو: أبو سليمان مالك بن الحويرث الليثي وفد على النبي صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم، وأقام عنده عشرين ليلة، وسكن البصرة، ومات سنة أربع وتسعين بها (قال: قال لنا النبي صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم: "إذا حضرت الصَّلاة فليُؤذنْ لكُمْ أحدُكُمْ"، الحديث أخرجه السبعة).
هو مختصر من حديث طويل أخرجه البخاري بألفاظ: أحدها: قال مالك: "أتيت النبي صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم في نفر من قومي، فأقمنا عنده عشرين ليلة، وكان رحيماً رفيقاً، فلما رأى شوقنا إلى أهلينا قال: ارجعوا فكونوا فيهم، وعلموهم، وصلوا، فإذا حضرت الصلاة، فليؤذن لكم أحدكم، وليؤمكم أكبركم" زاد في رواية: "وصلوا كما رأيتموني أصلي"، فساق المصنف قطعة منه، هي موضع ما يريده من الدلالة على الحث على الأذان، ودليل إيجابه الأمر به، وفيه أنه لا يشترط في المؤذن غير الإيمان لقوله: "أحدكم".
وعن جابر رضي الله عنه أنَّ رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم قال لبلال: "إذا أذَّنْتَ فترسّلْ، وإذا أقَمْت فاحْدُرْ واجعل بين أذانِك وإقامَتك مقدار ما يفْرُغُ الاكل مِنْ أكلِهِ" الحديث رواهُ الترمذيُّ وضَعّفهُ.(1/49)
(وعن جابر رضي الله عنه: أن رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم قال لبلال: إذا أذنت فترسل) أي رتل ألفاظه، ولا تعجل، ولا تسرع في سردها (وإذا أَقَمْتَ فاحْدُر) بالحاء والدال المهملتين والدال مضمومة فراء. والحدر: الإسراع (واجعل بين أذانك، وإقامتك مقْدارَ ما يفْرُغُ الاكل منْ أكله) أي تمهل وقتاً يقدر فيه فراغ الاكل من أكله (الحديث) بالنصب على أنه مفعول فعل محذوف: أي: اقرأ الحديث، أو أتم، أو نحوه، ويجوز رفعه على خبرية مبتدأ محذوف. وإنما يأتون بهذه العبارة، إذا لم يستوفوا لفظ الحديث، ومثله قولهم: الاية، والبيت، وهذا الحديث لم يستوفه المصنف، وتمامه "والشارب من شربه، والمعتصر إذا دخل لقضاء الحاجة، ولا تقوموا حتى تروني" (رواه الترمذي وضعفه). قال: لا نعرفه إلا من حديث عبد المنعم، وإسناده مجهول. وأخرجه الحاكم أيضاً، وله شاهد من حديث أبي هريرة، ومن حديث سليمان، أخرجه أبو الشيخ. ومن حديث أبيّ بن كعب، أخرجه عبد الله بن أحمد، وكلها واهية.
إلا أنه يقويها المعنى الذي شرع له الأذان؛ فإنه نداء لغير الحاضرين، ليحضروا الصلاة، فلا بد من تقدير وقت يتسع للذاهب للصلاة وحضورها، وإلا لضاعت فائدة النداء. وقد ترجم البخاري: (باب كم بين الأذان والإقامة) ولكن لم يثبت التقدير. قال ابن بطال: لا حد لذلك غير تمكن دخول الوقت، واجتماع المصلين.
وفيه دليل على شرعية الترسل في الأذان، لأن المراد من الإعلام للبعيد، وهو مع الترسل أكثر إبلاغاً. وعلى شرعية الحدر، والإسراع في الإقامة؛ لأن المراد منها إعلام الحاضرين، فكان الإسراع بها أنسب، ليفرغ منها بسرعة؛ فيأتي بالمقصود، وهو الصلاة.
ولهُ عن أبي هُريرة رضي الله عنهُ أنَّ النبي صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم قال: "لا يُؤذِّنُ إلَّا مُتوضىء" وضَعّفهُ أيضاً.(1/50)
(وله) أي الترمذي (عن أبي هريرة رضي الله عنه: أن النبي صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم قال: لا يُؤَذِّنُ إِلَّا مُتوضىء. وضعفه أيضاً) أي كما ضعف الأول، فإنه ضعف هذا بالانقطاع؛ إذ هو عن الزهري عن أبي هريرة. قال الترمذي: والزهري لم يسمع من أبي هريرة، والراوي عن الزهري ضعيف، ورواية الترمذي من رواية يونس عن الزهري عنه موقوفاً، إلا أنه بلفظ "لا ينادي" وهذا أصح، ورواه أبو الشيخ في كتاب الأذان من حديث ابن عباس بلفظ: "إن الأذان متصل بالصلاة فلا يؤذن أحدكم إلا وهو طاهر"، وهو دليل على اشتراط الطهارة للأذان من الحدث الأصغر، ومن الحدث الأكبر بالأولى. وقالت الهادوية: يشترط فيه الطهارة من الحدث الأكبر، فلا يصح أذان الجنب، ويصح من غير المتوضيء، عملاً بهذا الحديث، كما قاله في الشرح.
قلت: ولا يخفى أن الحديث دال على شرطية كون المؤذن متوضئاً، فلا وجه لما قالوه من التفرقة بين الحديثين. وأما استدلالهم لصحته من المحدث حدثاً أصغر بالقياس على جواز قراءة القران، فقياس في مقابلة النص، لا يعمل به عندهم في الأصول. وقد ذهب أحمد، واخرون إلى: أنه لا يصح أذان المحدث حدثاً أصغر، عملاً بهذا الحديث، وإن كان فيه ما عرفت. والترمذي صحح وقفه على أبي هريرة.
وأما الإقامة فالأكثر على شرطية الوضوء لها. قالوا: لأنه لم يرد أنها وقعت على خلاف ذلك في عهد رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم، ولا يخفى ما فيه، وقال قوم: تجوز على غير وضوء، وإن كان مكروهاً، وقال اخرون: تجوز بلا كراهة.
ولهُ عن زياد بن الحارث رضي الله عنهُ قالَ: قالَ رسولُ الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم: "ومنْ أذَّنَ فهو يُقيمُ" وضعفهُ أيضاً.(1/51)
(وله) أي الترمذي (عن زياد بن الحارث) هو زياد بن الحارث الصدائي: بايع النبي صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم، وأذن بين يديه، يعد في البصريين، وصداء بضم الصاد المهملة وتخفيف الدال المهملة وبعد الألف همزة: اسم قبيلة (قال: قال رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم: ومَنْ أَذَّن) عطف على ما قبله. وهو قوله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم: "إن أخا صداء قد أذن" (فهُوَ يُقيم، وضعفه أيضاً) أي: كما ضعف ما قبله. قال الترمذي: إنما يعرف من حديث زياد ابن أنعم الأفريقي، وقد ضعفه ابن القطان، وغيره، وقال البخاري: هو مقارب لحديث ضعفه أبو حاتم، وابن حبان. وقال الترمذي: والعمل على هذا عند أكثر أهل العلم: أن من أذن فهو يقيم.
والحديث دليل على أن الإقامة حق لمن أذن، فلا تصح من غيره، وعليه الهادوية، وعضد حديث الباب حديث ابن عمر بلفظ: "مهلاً يا بلال، فإنما يقيم من أذن" أخرجه الطبراني، والعقيلي، وأبو الشيخ، وإن كان قد ضعفه أبو حاتم، وابن حبان. وقال الحنفية وغيرهم: تجزىء إقامة غير من أذن؛ لعدم نهوض الدليل على ذلك، ولما يدل له قوله:
ولأبي داودَ مِنْ حديث عبد الله بن زيد أنه قالَ: أَنا رأَيْتُهُ ــــ يعني الأذان ــــ وأنا كُنْتُ أُريدُهُ. قالَ "فأَقِمْ أَنْتَ" وفيه ضَعْفٌ أيضاً.
(ولأبي داود من حديث عبد اللهبن زيد) أي: ابن عبد ربه، الذي تقدم حديثه أول الباب: (أنه قال): أي النبي صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم لما أمره أن يلقيه على بلال: (أنا رأيته يعني الأذان) في المنام (وأنا كنت أريده قال: فأقم أنت. وفيه ضعف أيضاً). لم يتعرض الشارح رحمه الله لبيان وجهه، ولا بينه أبو داود، بل سكت عليه، لكن قال الحافظ المنذري: إنه ذكر البيهقي: أن في إسناده، ومتنه اختلافاً. وقال أبو بكر الحازمي: في إسناده مقال، وحينئذ، فلا يتم به الاستدلال، نعم الأصل جواز كون المقيم غير المؤذن، والحديث يقوي ذلك الأصل.(1/52)
وعن أبي هريرة قالَ: قالَ رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم: "المؤذِّنُ أمْلَكُ بالأذان، والإمامُ أَمْلك بالإقامة" رواهُ ابن عدي وضعّفهُ.
وللبيهقي نحوه عن علي رضي الله عنه من قوله.
(وعن أبي هريرة رضي الله عنه قالَ: قال رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم: المُؤَذِّنُ أَمْلَكُ بالأذان) أي: وقته موكول إليه؛ لأنه أمين عليه (والإمام أمْلكُ بالإقامة) فلا يقيم إلا بعد إشارته (رواه ابن عدي) هو الحافظ الكبير الإمام الشهير، أبو أحمد: عبد الله بن عدي الجرجاني، ويعرف أيضاً بابن القصار، صاحب كتاب الكامل في الجرح والتعديل، كان أحد الأعلام، ولد سنة تسع وسبعين ومائتين، وسمع على خلائق، وعنه أمم. قال ابن عساكر: كان ثقة على لحن فيه. قال حمزة السهمي: كان ابن عدي حافظاً متفنناً، لم يكن في زمانه أحد مثله. قال الخليلي: كان عديم النظر حفظاً وجلالة، سألت عبد الله بن محمد الحافظ فقال: زرّ قميص ابن عدي أحفظ من عبد الباقي بن قانع. توفي في جمادى الاخرة سنة خمس وستين وثلاثمائة (وضعفه) ؛ لأنه أخرجه في ترجمة شريك القاضي، وتفرد به شريك. وقال البيهقي: ليس بمحفوظ، ورواه أبو الشيخ، وفيه ضعف.
وَعَنْ سَلَمَةَ بن الْمُحَبِّقِ رضي الله عَنْهُ، قَالَ: قال رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم: "دِباغُ جُلُودِ الْمَيْتَةِ طُهُورُهَا"، صححهُ ابنُ حِبّان.(1/53)
والحديث دليل على أن المؤذن أملك بالأذان: أي أن: ابتداء وقت الأذان إليه؛ لأنه الأمين على الوقت، والموكول بارتقابه، وعلى أن الإمام أملك بالإقامة، فلا يقيم إلا بعد إشارة الإمام بذلك، وقد أخرج البخاري. "إذا أقيمت الصلاة فلا تقوموا حتى تروني"، فدل على أن المقيم يمقيم، وإن لم يحضر الإمام، فإقامته غير متوقفة على إذنه، كذا في الشرح، ولكن قد ورد: "أنه كان بلال قبل أن يقيم يأتي إلى منزله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم يؤذنه، بالصلاة" والإيذان لها بعد الأذان: استئذان في الإقامة. وقال المصنف: إن حديث البخاري معارض بحديث جابر بن سمرة: "إن بلالاً كان لا يقيم حتى يخرج رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم" قال: ويجمع بينهما: بأن بلالاً كان يراقب وقت خروج رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم، فإذا راه يشرع في الإقامة، قبل أن يراه غالب الناس، ثم إذا رأواه قاموا. اهـ.
وأما تعيين وقت قيام المؤتمين إلى الصلاة، فقال مالك في الموطأ: لم أسمع في قيام الناس حين تقام الصلاة حداً محدوداً، إلا أني أرى ذلك على طاقة الناس، فإن منهم الثقيل، والخفيف، وذهب الأكثرون إلى أن الإمام إن كان معهم في المسجد لم يقوموا حتى تفرغ الإقامة. وعن أنس: أنه كان يقوم إذا قال المؤذن: "قد قامت الصلاة". رواه ابن المنذر، وغيره، وعن ابن المسيب: إذا قال المؤذن: الله أكبر، وجب القيام، وإذا قال: حيَّ على الصلاة عدلت الصفوف، وإذا قال: لا إله إلا الله، كبر الإمام، ولكن هذا رأي منه، لم يذكر فيه سنة.
(وللبيهقي نحوه) أي نحو حديث أبي هريرة (عن علي عليه السلام من قوله).
وعن أنس رضي الله عنه قالَ: قالَ رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم: "لا يُرَدُّ الدعاءُ بينَ الأذان والإقامة" رواهُ النسائيُّ، وصحّحهُ ابنُ خُزيْمَةَ.(1/54)
وَعَنْ جَابِرٍ رَضِيَ الله عَنْهُ أَنَّ رَسُولَ الله صَلَّ الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "مَنْ قَالَ حَينَ يَسْمَعُ النِّدَاءَ: اللُّهُمَّ رَبَّ هَذِهِ الدَّعْوَةِ التَّامَة، والصَّلاةِ الْقَائِمَةِ، آتِ مُحَمّداً الْوسِيلَةَ وَالْفَضِيلَةَ وَأَبْعَثَهُ مَحْمُوداً الَّذِي وَعَدْتَهُ، حَلَّتْ لَهُ شَفَاعَتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ". أَخْرَجَهُ الأَرْبَعَةُ.
وعن أنس رضي الله عنه قالَ: قالَ رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم: "لا يُرَدُّ الدعاءُ بينَ الأذان والإقامة" رواهُ النسائيُّ، وصحّحهُ ابنُ خُزيْمَةَ.
والحديث مرفوع في سنن أبي داود أيضاً، ولفظه هكذا: عن أنس بن مالك قال: قال رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم: "لا يرد الدعاء بين الأذان والإقامة" اهـ. قال المنذري: وأخرجه الترمذي، والنسائي في عمل اليوم والليلة اهـ.
والحديث دليل على قبول الدعاء في هذه المواطن؛ إذ عدم الرد يراد به: القبول والإجابة: ثم هو عام لكل دعاء، ولا بد من تقييده بما في الأحاديث غيره: من أنه ما لم يكن دعاء بإثم، أو قطيعة رحم. هذا، وقد ورد تعيين أدعية تقال بعد الأذان، وهو ما بين الأذان والإقامة.
قلنا: في غيره من الأدلة غنية عنه. فمنها ما أخرجه أحمد من حديث أنس: "أنه صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم دعاه يهودي إلى خبز شعير وإهالة سنخة فأكل منها" بفتح السين وسكون النون المعجمة فخاء مفتوحة أي متغيرة.
الأول: أن يقول "رضيت بالله رباً، وبالإسلام ديناً، وبمحمد رسولاً". قال صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم: "إن من قال ذلك غفر له ذنبه".
الثاني: أن يصلي على النبي صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم بعد فراغه من إجابة المؤذن، قال ابن القيم في الهدى: أكمل ما يصلي به، ويصل إليه، كما علم أمته: أن يصلوا عليه، فلا صلاة عليه أكمل منها. قلت: وستأتي صفتها في كتاب الصلاة إن شاء الله تعالى.(1/55)
الثالث: أن يقول بعد صلاته عليه: "اللهم رب هذه الدعوة التامة، والصلاة القائمة ات محمداً الوسيلة والفضيلة، وابعثه مقاماً محموداً الذي وعدته" وهذا في صحيح البخاري، وزاد غيره: "إنك لا تخلف الميعاد".
الرابع: أن يدعو لنفسه بعد ذلك، ويسأل الله من فضله، كما في السنن عنه صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم: "قل مثل ما يقول" أي المؤذن "فإذا انتهيت فسل تعطه"، وروى أحمد بن حنبل عنه صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم: أنه قال: "من قال حين ينادي المنادي: اللهم رب هذه الدعوة القائمة، والصلاة النافعة، صل على محمد، وارض عنه رضاً، لا سخط بعده، استجاب الله دعوته"، وأخرج الترمذي من حديث أم سلمة رضي الله عنها قالت: "علمني رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم أن أقول عند أذان المغرب: اللهم هذا إقبال ليلك وإدبار نهارك، وأصوات دعاتك، فاغفر لي"، وأخرج الحاكم عن أبي أمامة يرفعه قال: "كان إذا سمع المؤذن قال: اللهم رب هذه الدعوة المستجابة المستجاب لها، دعوة الحق، وكلمة التقوى، توفني عليها، وأحيني عليها، واجعلني من صالحي أهلها عملاً يوم القيامة" وقد عين صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم ما يدعي به أيضاً لما قال: "الدعاء بين الأذان والإقامة لا يرد. قالوا: فما نقول يا رسول الله؟ قال: سلوا الله العفو والعافية في الدنيا والاخرة". قال ابن القيم: إنه حديث صحيح. وذكر البيهقي: أنه صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم كان يقول عند كلمة الإقامة: "أقامها الله وأدامها"، وفي المقام أدعية أُخر.
باب شروط الصلاة
الشرط لغة: العلامة، ومنه قوله تعالى: {تَظُنُّ أَن يُفْعَلَ بِهَا فَاقِرَةٌ} ـــ أي علامات الساعة ـــ وفي لسان الفقهاء: ما يلزم من عدمه العدم.
عن عليِّ بن طَلْقٍ رضي الله عنه قالَ: قالَ رسولُ الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم: "إذا فَسَا أحَدُكُمْ في الصلاةِ فلْينصرفْ، ولْيَتوضَّأ، ولْيُعِد الصلاة"، رواهُ الخمسةُ، وصحّحه ابنُ حبّان.(1/56)
(عن علي بن طلق) تقدم طلق بن علي في نواقض الوضوء. قال ابن عبد البر: أظنه والد طلق بن علي الحنفي. ومال أحمد والبخاري: إلى أن علي بن طلق، وطلق بن علي اسم لذات واحدة (قال: قال رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم: إذا فسا أَحَدُكُمْ في الصَّلاة فلْيَنْصرف وليَتَوَضَّأ، ولْيُعدُ الصَّلاةَ، رواه الخمسة، وصححه ابن حِبّان) كأنه عبر بهذه العبارة اختصاراً، وإلا فأصلها: "وأخرجه ابن حِبّان، وصححه" وقد تقدمت له هذه العبارة مراراً، ويحتمل: أن ابن حبان صحح أحاديث أخرجها غيره، ولم يخرجها هو، وهو بعيد. وقد أعل الحديث ابن القطان بمسلم بن سلام الحنفي؛ فإنه لا يعرف، وقال الترمذي: قال البخاري: لا أعلم لعلي بن طلق غير هذا الحديث الواحد.
والحديث دليل على أن الفساء ناقض للوضوء، وهو مجمع عليه، ويقاس عليه غيره من النواقض، وأنه تبطل به الصلاة، وقد تقدم حديث عائشة فيمن أصابه قيء في صلاته، أو رعاف، فإنه ينصرف، ويبني على صلاته، حيث لم يتكلم. وهو معارض لهذا، وكل منهما فيه مقال، والشارح جنح إلى ترجيح هذا، قال: لأنه مثبت لاستئناف الصلاة، وذلك ناف. وقد يقال: هذا ناف لصحة الصلاة، وذلك مثبت لها، فالأولى الترجيح: بأن هذا: قال بصحته ابن حبان، وذلك: لم يقل أحد بصحته، فهذا أرجح من حيث الصحة.
وعن عائشة رضي الله عنها أن النبي صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم قال: "لا يقْبلُ الله صلاةَ حائضٍ إلا بخمار" رواهُ الخمسةُ إلا النسائيَّ وصححهُ ابن خُزَيْمة.(1/57)
(وعن عائشة رضي الله عنها: أن النبي صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم قال: لا يَقْبَلُ الله صلاةَ حائض) المراد بها المكلفة؛ وإن تكلفت بالاحتلام مثلاً، وإنما عبر بالحيض نظراً إلى الأغلب (إلا بخمار) بكسر الخاء المعجمة اخره راء، هو هنا: ما يغطي به الرأس والعنق (رواه الخمسة إلا النسائي، وصححه ابن خزيمة) ، وأخرجه أحمد، والحاكم، وأعله الدارقطني، وقال: إن وقفه أشبه، وأعله الحاكم بالإرسال. ورواه الطبراني في الصغير، والأوسط من حديث أبي قتادة بلفظ: "لا يقبل الله من امرأة صلاة حتى توارى زينتها، ولا من جارية بلغت المحيض حتى تختمر".
ونفى القبول المراد به هنا: نفي الصحة والإجزاء، وقد يطلق القبول، ويراد به: كون العبادة بحيث يترتب عليها الثواب، فإذا نفى: كان نفياً لما يترتب عليها من الثواب، لا نفياً للصحة، كما ورد: "إن الله لا يقبل صلاة الابق، ولا من في جوفه خمر" كذا قيل. وقد بينا في رسالة الإسبال وحواشي شرح العمدة: أن نفي القبول يلازم نفي الصحة، وفي قوله: "إلا بخمار" ما يدل على أنه يجب على المرأة ستر رأسها، وعنقها، ونحوه مما يقع عليه الخمار.
ويأتي في حديث أبي داود: من حديث أم سلمة في صلاة المرأة في درع وخمار، ليس عليها إزار، وأنه قال صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم: "إذا كان الدرع سابغاً يغطي ظهور قدميها" فيدل على أنها لا بد في صلاتها من تغطية رأسها، ورقبتها، كما أفاده حديث الخمار، ومن تغطية بقية بدنها حتى ظهر قدميها، كما أفاده حديث أم سلمة، ويباح كشف وجهها حيث لم يأت دليل بتغطيته، والمراد: كشفه عند صلاتها بحيث لا يراها أجنبي، فهذه عورتها في الصلاة.(1/58)
وأما عورتها بالنظر إلى نظر الأجنبي إليها فكلها عورة، كما يأتي تحقيقه. وذكره هنا، وجعل عورتها في الصلاة هي عورتها بالنظر إلى نظر الأجنبي، وذكر الخلاف في ذلك ليس محله هنا؛ إذ لها عورة في الصلاة، وعورة في نظر الأجانب، والكلام الان في الأول. والثاني يأتي في محله.
وعن جابر رضي الله عنه أنَّ النبي صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم قالَ لهُ: "إذا كانَ الثّوْبُ واسعاً فالْتَحفْ بهِ ــــ في الصلاة". ولمُسْلمٍ: "فخالف بين طَرَفَيْهِ، وإن كان ضيّقاً فاتّزرْ بهِ" متفق عليه.
(وعن جابر رضي الله عنه: أن النبي صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم قال: إذا كانَ الثّوْبُ واسعاً فالتحف به: يعني في الصلاة. ولمسلم: فخَالفْ بين طرفيه) وذلك: بأن يجعل شيئاً منه على عاتقه (وإنْ كانَ ضَيِّقاً فاتّزر به. متفق عليه) الالتحاف في معنى الارتداء، وهو أن يتزر بأحد طرفي الثوب، ويرتدي بالطرف الاخر، وقوله: "يعني في الصلاة"، الظاهر: أنه مدرج من كلام أحد الرواة، قيد به أخذاً من القصة؛ فإن فيها: أنه قال جابر: "جئت إليه صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم، وهو يصلي، وعليَّ ثوب، فاشتملت به، وصليت إلى جانبه، فلما انصرف. قال لي صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم: ما هذا الاشتمال الذي رأيت؟ قلت: كان ثوب، قال: فإن كان واسعاً فالتحف به، وإذا كان ضيقاً فاتزر به".
فالحديث قد أفاد: أنه إذا كان الثوب واسعاً التحف به بعد اتزاره بطرفيه، وإذا كان ضيقاً اتزر به لستر عورته. فعورة الرجل من تحت السُّرَّة إلى الركبة، على أشهر الأقوال.
ولهُما من حديث أبي هريرة رضي الله عنه: "لا يُصلي أحدُكمْ في الثوب الواحدِ ليسَ على عاتقِهِ منه شيء".(1/59)
(ولهما) أي الشيخين (من حديث أبي هريرة رضي الله عنه: لا يُصلي أحَدُكُمْ في الثّوب الواحد ليس على عاتقه منهُ شيءٌ). أي إذا كان واسعاً، كما دل له الحديث الأول. والمراد: ألا يتزر في وسطه، ويشد طرفي الثوب في حقويه، بل يتوشح به على عاتقه، فيحصل الستر لأعالي البدن، وحمل الجمهور هذا النهي: على التنزيه، كما حملوا الأمر في قوله: "فالتحف به" على الندب. وحمله أحمد على الوجوب، وأنها لا تصح صلاة من قدر على ذلك، فتركه، وفي رواية عنه: تصح الصلاة، ويأثم، فجعله على الرواية الأولى من الشرائط، وعلى الثانية من الواجبات.
واستدل الخطابي للجمهور: بصلاته صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم في ثوب واحد، كان أحد طرفيه على بعض نسائه وهي نائمة قال: ومعلوم أن الطرف الذي هو لابسه من الثوب غير متسع لأن يتزر به، ويفضل منه ما كان لعاتقه. قلت: وقد يجاب عنه بأن مراد أحمد: مع القدرة على الالتحاف، لا أنه لا تصح صلاته، أو يأثم مطلقاً. كما صرح به قوله: لا تصح صلاة من قدر على ذلك. ويحتمل أنه في تلك الحالة لا يقدر على غير ذلك الثوب، بل صلاته فيه، والحال أن بعضه على النائم: أكبر دليل على أنه لا يجد غيره.
وعن أُمِّ سلمةَ رضي الله عنها أنّها سألت النبي صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم: أَتُصلي المْرأَةُ في درع وخمار، بغير إزار؟ قال: "إذا كانَ الدِّرْعُ سابغاً يُغطِّي ظُهُور قدمَيْهَا" أخرجه أبو داود. وصحّحَ الأئمّةُ وَقْفَهُ.(1/60)
(وعن أم سلمة: أنها سألت النبي صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم: أتصّلي المرأة في درع وخمار بغير إزار؟ قالَ: إذا كان الدرع سابغاً) بسين مهملة فموحدة بعد الألف فغين معجمة: أي واسعاً (يُغطي ظُهُور قَدَمَيْهَا. أخرجه أبو داود، وصحح الأئمة وقفه) وقد تقدم بيان معناه، وله حكم الرفع، وإن كان موقوفاً، إذ الأقرب أنه لا مسرح للاجتهاد في ذلك، وقد أخرجه مالك، وأبو داود موقوفاً، ولفظه عن محمد بن زيد بن قنفذ عن أمه أنها سألت أم سلمة: ماذا تصلي فيه المرأة من الثياب؟ قالت: تصلي في الخمار والدرع السابغ، إذا غيب ظهور قدميها.
وعن عامر بن ربيعةَ رضي الله عنهُ قالَ: كُنّا مع النبيِّ صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم في لَيْلَةٍ مُظْلمةٍ، فأَشْكَلتْ عَلَيْنَا القِبْلَةُ، فَصَلّينا. فلما طَلَعت الشّمس إذا نحنُ صليْنَا إلى غير القِبْلَةِ، فنزلتْ {وَمَن لَّمْ يَسْتَطِعْ مِنكُمْ طَوْلاً أَن يَنكِحَ الْمُحْصَنَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ فَمِنْ مَّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُم مِّن فَتَيَاتِكُمُ الْمُؤْمِنَاتِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِكُمْ بَعْضُكُمْ مِّن بَعْضٍ فَانكِحُوهُنَّ بِإِذْنِ أَهْلِهِنَّ وَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ مُحْصَنَاتٍ غَيْرَ مُسَافِحَاتٍ وَلاَ مُتَّخِذَاتِ أَخْدَانٍ فَإِذَآ أُحْصِنَّ فَإِنْ أَتَيْنَ بِفَاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنَ الْعَذَابِ ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ الْعَنَتَ مِنْكُمْ وَأَن تَصْبِرُواْ خَيْرٌ لَّكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} أخرجه الترمذي وضعّفه.(1/61)
(وعن عامر بن ربيعة رضي الله عنه) هو أبو عبد الله عامر بن ربيعة بن مالك العنزي بفتح العين المهملة وسكون النون، وقيل: بفتحها، والزاي. نسبة إلى عنز بن وائل، ويقال له: العدوي. أسلم قديماً، وهاجر الهجرتين، وشهد المشاهد كلها. مات سنة اثنتين أو ثلاث، أو خمس وثلاثين (قال: كنا مع النبي صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم في ليلة مظلمة فأَشْكَلَتْ علينا القبْلَةُ فصَلّينا) ظاهره من غير نظر في الأمارات (فلما طَلَعتْ الشمس إذا نحنُ صَلّينا إلى غير القبْلة فنَزَلَتْ" {وَمَن لَّمْ يَسْتَطِعْ مِنكُمْ طَوْلاً أَن يَنكِحَ الْمُحْصَنَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ فَمِنْ مَّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُم مِّن فَتَيَاتِكُمُ الْمُؤْمِنَاتِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِكُمْ بَعْضُكُمْ مِّن بَعْضٍ فَانكِحُوهُنَّ بِإِذْنِ أَهْلِهِنَّ وَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ مُحْصَنَاتٍ غَيْرَ مُسَافِحَاتٍ وَلاَ مُتَّخِذَاتِ أَخْدَانٍ فَإِذَآ أُحْصِنَّ فَإِنْ أَتَيْنَ بِفَاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنَ الْعَذَابِ ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ الْعَنَتَ مِنْكُمْ وَأَن تَصْبِرُواْ خَيْرٌ لَّكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} أخرجه الترمذي، وضعفه) ، لأن فيه أشعث بن سعيد السمان، وهو ضعيف الحديث.
والحديث دليل على أن من صلى إلى غير القبلة لظلمة، أو غيم: أنها تجزئه صلاته، سواء كان مع النظر في الإمارات والتحري، أو لا، وسواء انكشف له الخطأ في الوقت، أو بعده. ويدل له ما رواه الطبراني من حديث معاذ بن جبل قال: "صلينا مع رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم في يوم غيم، في السفر، إلى غير القبلة، فلما قضى صلاته تجلت الشمس، فقلنا: يا رسول الله صلينا إلى غير القبلة، قال: قد رفعت صلاتكم بحقها إلى الله". وفيه أبو عيلة، وقد وثقه ابن حبان.(1/62)
وقد اختلف العلماء في هذا الحكم، فالقول: بالإجزاء: مذهب الشعبي، والحنفية، والكوفيين، فيما عدا من صلى بغير تحر، وتيقن الخطأ. فإنه حكى في البحر: الإجماع على وجوب الإعادة عليه، فإن تم الإجماع خص به عموم الحديث.
وذهب اخرون: إلى أنه لا تجب عليه الإعادة إذا صلى بتحر، وانكشف له الخطأ، وقد خرج الوقت. وأما إذا تيقن الخطأ، والوقت باق: وجبت عليه الإعادة، لتوجه الخطاب مع بقاء الوقت، فإن لم يتيقن، فلا يأمن من الخطأ في الاخر، فإن خرج الوقت فلا إعادة للحديث. واشترطوا التحري؛ إذ الواجب عليه عليه تيقن الاستقبال، فإن تعذر اليقين فعل ما أمكنه من التحري، فإن قصر فهو غير معذور، إلا إذا تيقن الإصابة.
وقال الشافعي: تجب الإعادة عليه في الوقت، وبعده، لأن الاستقبال واجب قطعاً، وحديث السرية فيه ضعف.
قلت: الأظهر العمل بخبر السرية، لتقويه بحديث معاذ؛ بل هو حجة وحده. والإجماع قد عرف كثرة دعواهم له، ولا يصح.
وعن أبي هُريرة رضي الله عنه قال: قال رسولُ الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم: "ما بَيْن المشرق والمغْربِ قِبْلَةٌ" رواهُ الترمذي وقواه البخاريُّ.
وعن أبي هُريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم: "ما بَيْن المشرق والمغْرب قِبْلَةٌ" رواهُ الترمذي وقواه البخاريُّ.
وفي التلخيص حديث: "ما بين الشرق والمغرب قبلة" رواه الترمذي عن أبي هريرة مرفوعاً، وقال حسن صحيح، فكان عليه هنا أن يذكر تصحيح الترمذي له على قاعدته، ورأيناه في الترمذي بعد سياقه له بسنده من طريقين حسن إحداهما، وصححها ثم قال: وقد روى عن غير واحد من أصحاب النبي صلى الله عليه واله وسلم "ما بين المشرق والمغرب قبلة". منهم عمر بن الخطاب، وعلي بن أبي طالب، وابن عباس. وقال ابن عمر: إذا جعلت المغرب عن يمينك، والمشرق عن يسارك، فما بينهما قبلة إذا استقبلت القبلة، وقال ابن المبارك: ما بين المشرق، والمغرب قبلة لأهل المشرق. اهـ.(1/63)
والحديث دليل على أن الواجب استقبال الجهة، لا العين في حق من تعذرت عليه العين، وقد ذهب إليه جماعة من العلماء؛ لهذا الحديث. ووجه الاستدلال به على ذلك: أن المراد: أن ما بين الجهتين قبلة لغير المعاين، ومن في حكمه؛ لأن المعاين لا تنحصر قبلته بين الجهتين المشرق والمغرب، بل كل الجهات في حقه سواء، متى قابل العين، أو شطرها. فالحديث: دليل على أن ما بين الجهتين قبلة: وأن الجهة كافية في الاستقبال، وليس فيه دليل على أن المعاين يتعين عليه العين، بل لا بد من الدليل على ذلك.
وقوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْاْ مِنكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطَانُ بِبَعْضِ مَا كَسَبُواْ وَلَقَدْ عَفَا اللَّهُ عَنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ} ، خطاب له صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم، وهو في المدينة، واستقبال العين فيها متعسر، أو متعذر، إلا ما قيل: في محرابه صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم: ولكن الأمر بتوليته وجهه شطر المسجد الحرام عام لصلاته في محرابه، وغيره، وقوله: {إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْاْ مِنكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطَانُ بِبَعْضِ مَا كَسَبُواْ وَلَقَدْ عَفَا اللَّهُ عَنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ}: دال على كفاية الجهة؛ إذ العين في كل محل تتعذر على كل مصل، وقولهم: يقسم الجهات حتى يحصل له أنه توجه إلى العين تعمق، لم يرد به دليل، ولا فعله الصحابة وهم خير قبيل. فالحق أن الجهة كافية، ولو لمن كان في مكة وما يليها.
وعن عامر بن ربيعة رضي الله عنه قالَ: رأيت رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم يُصلي على راحِلَتِهِ حَيْثُ توجّهَتْ به. متفقٌ عليه، زادَ البخاريُّ: يومِىء برأسه ــــ ولم يكن يصنعهُ في المكتوبة.(1/64)
(وعن عامر بن ربيعة رضي الله عنه قال: رأيت رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم يُصلي على راحلته حَيْثُ تَوَجّهتْ به. متفق عليه). هو في البخاري عن عامر بن ربيعة بلفظ: "كان يسبح على الراحلة" وأخرجه عن ابن عمر بلفظ: "كان يسبح على ظهر راحلته" وأخرج الشافعي نحوه من حديث جابر بلفظ: "رأيت رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم يصلي وهو على راحلته النوافل" وقوله: (زاد البخاري: يومىء برأسه) أي في سجوده وركوعه. زاد ابن خزيمة: "ولكنه يخفض السجدتين من الركعة" (ولم يكن يصنعه) ، أي: هذا الفعل، وهو الصلاة على ظهر الراحلة (في المكتوبة) أي الفريضة.
الحديث دليل على صحة صلاة النافلة على الراحلة، وإن فاته استقبال القبلة، وظاهره سواء كان على محمل أو لا، وسواء كان السفر طويلاً أو قصيراً، إلا أن في رواية رزين في حديث جابر زيادة: "في سفر القصر". وذهب إلى شرطية هذا جماعة من العلماء، وقيل: لا يشترط، بل يجوز في الحضر، وهو مروي عن أنس من قوله، وفعله. والراحلة: هي الناقة.
والحديث ظاهر في جواز ذلك للراكب، وأما الماشي فمسكوت عنه. وقد ذهب إلى جوازه جماعة من العلماء، قياساً على الراكب بجامع التيسير للمتطوع، إلا أنه قيل: لا يعفى له عدم الاستقبال في ركوعه وسجوده، وإتمامهما، وأنه لا يمشي إلا في قيامه وتشهده. ولهم في جواز مشيه عند الاعتدال من الركوع قولان: وأما اعتداله بين السجدتين فلا يمشي فيه، إذ لا يمشي إلا مع القيام، وهو يجب عليه القعود بينهما وظاهر قوله: "حيث توجهت" أنه لا يعتدل لأجل الاستقبال، لا في حال صلاته، ولا في أولها، إلا أن في قوله:
ولأبي داود من حديث أنس رضي لله عنه: وكان إذا سافرَ فأراد أن يتطوَع استقبلَ بناقتِهِ القِبلة، فكبّر ثمَّ صلى حيث كانَ وجْهُ رِكَابِه، وإسنادُهُ حسنٌ.(1/65)
ولأبي داود من حديث أنس رضي لله عنه: وكان إذا سافرَ فأراد أن يتطوَع استقبلَ بناقتِهِ القِبلة، فكبّر ثمَّ صلى حيث كانَ وجْهُ رِكَابِه، وإسنادُهُ حسنٌ.
ما يدل على أنه عند تكبيرة الإحرام يستقبل القبلة، وهي زيادة مقبولة، وحديثه حسن، فيعمل بها. وقوله: ناقته، وفي الأول: راحلته: هما بمعنى واحد، وليس بشرط أن يكون ركوبه على ناقة، بل قد صح في رواية مسلم: "أنه صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم صلى على حماره" وقوله: "إذا سافر" تقدم أن السفر شرط عند بعض العلماء، وكأنه يأخذه من هذا، وليس بظاهر في الشرطية.
وفي هذا الحديث؛ والذي قبله: أن ذلك في النفل، لا الفرض، بل صرح البخاري: أنه لا يصنعه في المكتوبة، إلا أنه قد ورد في رواية الترمذي والنسائي: "أنه صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم أتى إلى مضيق هو وأصحابه، والسماء من فوقهم، والبلة من أسفل منهم، فحضرت الصلاة، فأمر المؤذن، فأذن، وأقام. ثم تقدم رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم على راحلته، فصلى بهم يومىء إيماء، فيجعل السجود أخفض من الركوع". قال الترمذي: حديث غريب، وثبت ذلك عن أنس من فعله، وصححه عبد الحق، وحسنه الثوري، وضعفه البيهقي، وذهب البعض: إلى أن الفريضة تصح على الراحلة إذا كان مستقبل القبلة في هودج، ولو كانت سائرة كالسفينة، فإن الصلاة تصح فيها إجماعاً.
قلت: وقد يفرق: بأنه قد يتعذر في البحر وجدان الأرض فعفي عنه، بخلاف راكب الهودج. وأما إذا كانت الراحلة واقفة، فعند الشافعي تصح الصلاة للفريضة، كما تصح عندهم في الأرجوحة المشدودة بالحبال، وعلى السرير المحمول على الرجال إذا كانوا واقفين. والمراد من المكتوبة: التي كتبت على جميع المكلفين، فلا يرد عليهّ: أنه صلى الله عليه واله وسلم كان يوتر على راحلته، والوتر واجب عليه.(1/66)
وعن أبي سعيد الخدريِّ رضي الله عنه أنَّ النبي صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم قال: "الأرض كُلُّها مسجدٌ إلا المقبرة والحمام" رواه الترمذيُّ ولَهُ علّةٌ.
وعن أبي سعيد الخدريِّ رضي الله عنه أنَّ النبي صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم قال: "الأرض كُلُّها مسجدٌ إلا المقبرة والحمام" رواه الترمذيُّ ولَهُ علّةٌ.
وهي الاختلاف في وصله، وإرساله، فرواه حماد موصولاً عن عمرو بن يحيى عن أبيه عن أبي سعيد، ورواه الثوري مرسلًا عن عمرو بن يحيى عن أبيه عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم، ورواية الثوري أصح، وأثبت. وقال الدارقطني: المحفوظ المرسل، ورجحه البيهقي.
والحديث دليل على أن الأرض كلها تصح فيها الصلاة، ما عدا المقبرة وهي: التي تدفن فيها الموتى، فلا تصح فيها الصلاة، وظاهره سواء كان على القبر، أو بين القبور، وسواء كان قبر مؤمن، أو كافر، فالمؤمن تكرمة له، والكافر بعداً من خبثه. وهذا الحديث يخصص "جعلت لي الأرض كلها مسجداً" الحديث. وكذلك الحمام، فإنه لا تصح فيه الصلاة فقيل: للنجاسة فيختص بما فيه النجاسة منه، وقيل: تكره لا غير. وقال أحمد بن حنبل: لا تصح فيه الصلاة، ولو على سطحه عملاً بالحديث، وذهب الجمهور: إلى صحتها، ولكن مع كراهته، وقد ورد النهي معللاً بأنه محل الشياطين، والقول الأظهر مع أحمد. ثم ليس التخصيص لعموم حديث: "جعلت لي الأرض مسجداً" بهذين المحلين فقط، بل بما يفيده الحديث الاتي وهو قوله:
وعن ابن عمر رضي الله عنهما: أن النبي صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم نهى "أنْ يُصَلى في سبْعِ مَواطِن: المزْبَلَة، والمجْزَرة، والمقْبَرَةِ، وقارعةِ الطريق والحمّام، ومعَاطنِ الإبلِ، وفوْقَ ظَهْرِ بيتِ الله تعالى" رواه الترمذي وضعّفَهُ.(1/67)
(وعن ابن عمر رضي الله عنهما: أن النبي صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم نهى أن يصلي في سَبْع: المزْبَلَة) هي مجتمع إلقاء الزبل (والمجزرة) محل جزر الأنعام (والمقبرة) وهما بزنة مفعلة بفتح العين ولحوق التاء بهما شاذ (وقارعة الطريق) ما تقرعه الأقدام بالمرور عليها (والحمام) تقدم فيه الكلام (ومعاطن) بفتح الميم فعين مهملة وكسر الطاء المهملة فنون (الإبل) وهو مبرك الإبل حول الماء (وفوق ظهر بيت الله تعالى، رواه الترمذي، وضعفه) فإنه قال بعد إخراجه ما لفظه: وحديث ابن عمر ليس بذاك القوي، وقد تكلم في زيد بن جبيرة من قبل حفظه، وجبيرة بفتح الجيم وكسر الموحدة فمثناة تحتية فراء. وقال البخاري: فيه متروك.
وقد تكلف استخراج علل للنهي عن هذه المحلات، فقيل: المقبرة والمجزرة؛ للنجاسة، وقارعة الطريق كذلك، وقيل: لأن فيها حقاً للغير، فلا تصح فيها الصلاة، واسعة كانت، أو ضيقة؛ لعموم النهي. ومعاطن الإبل ورد التعليل فيها منصوصاً: "بأنها مأوى الشياطين". أخرجه أبو داود، وورد بلفظ: "مبارك الإبل"، وفي لفظ: "مزابل الإبل"، وفي أخرى: "مناخ الإبل" وهي أعم من معاطن الإبل.
وعللوا النهي عن الصلاة على ظهر بيت الله، وقيدوه بأنه إذا كان على طرف بحيث يخرج عن هوائها لم تصح صلاته، وإلا صحت، إلا أنه لا يخفى أن هذا التعليل أبطل معنى الحديث، فإنه إذا لم يستقبل بطلت الصلاة لعدم الشرط، لا لكونها على ظهر الكعبة، فلو صح هذا الحديث لكان بقاء النهي على ظاهره في جميع ما ذكر هو الواجب، وكان مخصصاً لعموم، "جعلت لي الأرض مسجداً"، لكن قد عرفت ما فيه، إلا أن الحديث في القبور من بين هذه المذكورات قد صح، كما يفيده:
وعن أبي مَرْثَدٍ الغَنَوي قالَ: سمعتُ رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم يقولُ: "لا تُصلُّوا إلى القُبور، ولا تجْلِسُوا عَلَيْها" رواهُ مُسْلِمٌ.(1/68)
(وعن أبي مرثد) بفتح الميم وسكون الراء وفتح المثلثة (الغنوي) بفتح الغين المعجمة والنون، وهو مرثد بن أبي مرثد. أسلم هو وأبوه، وشهد بدراً، وقتل مرثد يوم غزوة الرجيع شهيداً في حياته صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم. (قال: سمعت رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم يقول: لا تُصَلُّوا إلى القبور، ولا تجلسوا عليها. رواه مسلم).
وفيه دليل على النهي عن الصلاة إلى القبر، كما نهى عن الصلاة على القبر، والأصل التحريم، ولم يذكر المقدار الذي يكون به النهي عن الصلاة إلى القبر، والظاهر: أنه ما يعد مستقبلاً له عرفاً. ودل على تحريم الجلوس على القبر، وقد وردت به أحاديث، كحديث جابر في وطء القبر، وحديث أبي هريرة: "لأن يجلس أحدكم على جمرة، فتحرق ثيايه، فتخلص إلى جلده: خير له من أن يجلس على قبر" أخرجه مسلم، وقد ذهب إلى تحريم ذلك جماعة من العلماء. وعن مالك: أنه لا يكره القعود عليها ونحوه، وإنما النهي عن القعود لقضاء الحاجة. وفي الموطأ: عن علي عليه السلام: "أنه كان يتوسد القبر ويضطجع عليه"، ومثله في البخاري: عن ابن عمر، وعن غيره. والأصل في النهي التحريم، كما عرفت غير مرة، وفعل الصحابي لا يعارض الحديث المرفوع، إلا أن يقال: إن فعل الصحابي دليل لحمل النهي على الكراهة، ولا يخفى بعده.
وعن أبي سعيدٍ رضي الله عنه قال: قالَ رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم: "إذا جاءَ أحَدُكُمْ المسْجد، فَلْيَنْظُر، فإن رأى في نعليْه أذىً أوْ قَذراً فَلْيَمْسَحْهُ ولْيُصَلِّ فيهما" أخرجه أبو داود. وصححه ابنُ خزيْمَة.(1/69)
(وعن أبي سعيد رضي الله عنه قال: قال رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم: إذا جاءَ أحدكم إلى المسجد فلينظر) أي نعليه، كما دل له قوله: (فإن رأى في نعْلَيْهِ أذى أو قَذراً) شك من الراوي (فَلْيَمْسَحْهُ وليُصَلِّ فيهما. أخرجه أبو داود، وصححه ابن خزيمة) اختلف في وصله، وإرساله، ورجح أبو حاتم وصله، ورواه الحاكم من حديث أنس، وابن مسعود، ورواه الدارقطني من حديث ابن عباس، وعبد الله بن الشخير، وإسنادهما ضعيف.
وفي الحديث دلالة على شرعية الصلاة في النعال، وعلى أن مسح النعل من النجاسة مطهر له من القذر والأذى، والظاهر فيهما عند الإطلاق النجاسة رطبة أو جافة، ويدل له: سبب الحديث، وهو إخبار جبريل له صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم: أن في نعله أذى، فخلعه في صلاته، واستمر فيها، فإنه سبب هذا. وأن المصلي إذا دخل في الصلاة وهو متلبس بنجاسة، غير عالم بها، أو ناسياً لها، ثم عرف بها في أثناء صلاته، أنه يجب عليه إزالتها، ثم يستمر في صلاته، ويبني على ما صلى، وفي الكل خلاف، إلا أنه لا دليل للمخالف، يقاوم الحديث، فلا نطيل بذكره. ويؤيد طهورية النعال بالمسح بالتراب الحديث الاتي وهو:
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قالَ رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم: "إذا وَطىءَ أحدُكُم الأذَى بخُفّيْهِ فطهُورُهُما التّراب". أخرَجَهُ أبو داود وصحّحهُ ابنُ حِبّان.
(وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم: إذا وطىء أحدكم الأذى بخفّيه) أي مثلاً، أو نعليه، أو أي ملبوس لقدميه (فطهورهما) أي الخفين (التراب، أخرجه أبو داود وصححه ابن حبان) ، وأخرجه ابن السكن، والحاكم، والبيهقي: من حديث أبي هريرة، وسنده ضعيف. وأخرجه أبو داود: من حديث عائشة، وفي الباب غير هذه بأسانيد، لا تخلو من ضعف، إلا أنه يشد بعضها بعضاً.(1/70)
وقد ذهب الأوزاعي: إلى العمل بهذه الأحاديث، وكذا النخعي وقالا: يجزيه أن يمسح خفيه إذا كان فيهما نجاسة بالتراب، ويصلي فيهما؛ ويشهد له: أن أم سلمة سألت النبي صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم فقالت: إني امرأة أطيل ذيلي، وأمشي في المكان القذر، فقال: "يطهره ما بعده". أخرجه أبو داود، والترمذي، وابن ماجه. ونحوه: "أن امرأة من بني عبد الأشهل قالت: قلت: يا رسول الله إن لنا طريقاً إلى المسجد منتنة، فكيف نفعل إذا مطرنا؟ فقال: أليس من بعدها طريق هي أطيب منها؟ قلت: بلى، قال: فهذه بهذه" أخرجه أبو داود، وابن ماجه.
قال الخطابي: وفي إسناد الحديثين مقال، وتأوله الشافعي: بأنه إنما هو فيما جرى على ما كان يابساً، لا يعلق بالثوب منه شيء، قلت: ولا يناسبه قولها: "إذا مطرنا". وقال مالك؛ معنى كون الأرض يطهر بعضها بعضاً: أن يطأ الأرض القذرة، ثم يصل للأرض الطيبة اليابسة، فإن بعضها يطهر بعضاً. أما النجاسة تصيب الثوب أو الجسد، فلا يطهرها إلا الماء؛ قال: وهو إجماع.
قيل: ومما يدل لحديث الباب، وأنه على ظاهره: ما أخرجه البيهقي عن أبي المعلى عن أبيه عن جده قال: أقبلت مع علي بن أبي طالب عليه السلام إلى الجمعة، وهو ماش؛ فحال بينه وبين المسجد حوض من ماء وطين، فخلع نعليه وسراويله؛ قال: قلت: هات يا أمير المؤمنين أحمله عنك. قال: لا، فخاض، فلما جاوزه لبس نعليه وسراويله، ثم صلى بالناس، ولم يغسل رجليه. أي ومن المعلوم: أن الماء المجتمع في القرى لا يخلو عن النجاسة.
وعن معاوية بن الحكم رضي الله عنه قال: قالَ رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم: "إنَّ هذه الصَّلاةَ لا يَصْلُحُ فيها شيءٌ من كلام الناس، إنما هُوَ التّسْبيحُ، والتّكبير، وقراءةُ القُران" رواه مُسلمٌ.(1/71)
(وعن معاوية بن الحكم) هو معاوية بن الحكم السلمي كان ينزل المدينة، وعداده في أهل الحجاز (قال: قال رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم: إنَّ هذه الصلاة لا يصْلُحُ فيها شيءٌ من كلام النّاس، إنّما هو التسبيحُ والتّكبيرُ وقراءة القران. رواه مسلم).
وللحديث سبب حاصله: "أنه عطس في الصلاة رجل، فشمته معاوية، وهو في الصلاة، فأنكر عليه من لديه من الصحابة بما أفهمه ذلك، ثم قال له النبي صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم بعد ذلك: إن هذه الصلاة. الحديث" وله عدة ألفاظ. والمراد من عدم الصلاحية: عدم صحتها، ومن الكلام مكالمة الناس ومخاطبتهم، كما هو صريح السبب. فدل على أن المخاطبة في الصلاة تبطلها، سواء كانت لإصلاح الصلاة، أو غيرها؛ وإذا احتيج إلى تنبيه الداخل فيأتي حكمه، وبماذا يثبت. ودل الحديث: على أن الكلام من الجاهل في الصلاة لا يبطلها، وأنه معذور لجهله؛ فإنه صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم لم يأمر معاوية بالإعادة. وقوله: "إنما هو": أي الكلام المأذون فيه في الصلاة، أو الذي يصلح فيها: التسبيح، والتكبير، وقراءة القران: أي إنما يشرع فيها ذلك، وما انضم إليه من الأدعية، ونحوها، لدليله الاتي وهو:
وعن زيد بن أرْقَم أنه قالَ: إنْ كُنا لَنَتَكلّم في الصلاة على عهْد رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم يُكلِّمُ أحدُنا صاحبهُ بحاجَتِهِ، حتّى نَزَلَتْ {حَافِظُواْ عَلَى الصَّلَوَاتِ والصَّلاَةِ الْوُسْطَى وَقُومُواْ للَّهِ قَانِتِينَ} فأمرنا بالسكوت ، ونهينا عن الكلام. متفق عليه ، واللفظ لمسلم.(1/72)
(وعن زيد بن أرقم قال: إن كنا لنتكلم في الصلاة على عهد رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم) والمراد: ما لا بد منه من الكلام، كرد السلام ونحوه، لا أنهم كانوا يتحادثون فيها تحادث المتجالسين، كما يدل قوله: (يكلم أحدنا صاحبه بحاجته، حتى نزلت: {حَافِظُواْ عَلَى الصَّلَوَاتِ والصَّلاَةِ الْوُسْطَى وَقُومُواْ للَّهِ قَانِتِينَ} وهي صلاة العصر على أكثر الأقوال. وقد ادعى فيه الإجماع {حَافِظُواْ عَلَى الصَّلَوَاتِ والصَّلاَةِ الْوُسْطَى وَقُومُواْ للَّهِ قَانِتِينَ}
قال النووي في شرح مسلم: فيه دليل على تحريم جميع أنواع كلام الادميين. وأجمع العلماء: على أن المتكلم فيها عامداً عالماً بتحريمه، لغير مصلحتها، ولغير إنقاذ هالك، وشبهه: مبطل للصلاة، وذكر الخلاف في الكلام لمصلحتها، ويأتي في شرح حديث ذي اليدين في أبواب السهو. وفهم الصحابة الأمر بالسكوت من قوله: "قانتين"؛ لأنه أحد معاني القنوت، وله أحد عشر معنى معروفة، وكأنهم أخذوا خصوص هذا المعنى من القرائن، أو من تفسيره صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم لهم ذلك. والحديث فيه أبحاث قد سقناها في حواشي شرح العمدة، فإن اضطر المصلي إلى تنبيه غيره، فقد أباح له الشارع نوعاً من الألفاظ كما يفيده الحديث:
وعن أبي هريرة قالَ: قالَ رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم: "التّسْبيحُ للرجالِ، والتّصْفيقُ للنِّساءِ" مُتّفقٌ عليهِ، زادَ مُسْلمٌ "في الصَّلاةِ".
(وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم: التسبيح للرجال) وفي رواية: "إذا نابكم أمر فالتسبيح للرجال" (والتّصفيق للنساء متفق عليه. زاد مسلم: في الصلاة) وهو المراد من السياق، وإن لم يأت بلفظه.(1/73)
والحديث دليل: على أنه يشرع لمن نابه في الصلاة أمر من الأمور، كأن يريد: تنبيه الإمام على أمر سها عنه، وتنبيه المار، أو من يريد منه أمراً، وهو لا يدري أنه يصلي، فينبهه على أنه في صلاة، فإن كان المصلي رجلاً قال: سبحان الله؛ وقد ورد في البخاري بهذا اللفظ، وأطلق فيما عداه، وإن كانت المصلية امرأة نبهت بالتصفيق. وكيفيته، كما قال عيسى بن أيوب: أن تضرب بأصبعين من يمينها على كفها اليسرى. وقد ذهب إلى القول بهذا الحديث جمهور العلماء، وبعضهم فصل بلا دليل ناهض، فقال: إن كان ذلك للإعلام: بأنه في صلاة فلا يبطلها، وإن كان لغير ذلك: فإنه يبطلها، ولو كان فتحاً على الإمام. قالوا: لما أخرجه أبو داود من قوله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم: "يا علي لا تفتح على الإمام في الصلاة". وأجيب: بأن أبا داود ضعفه بعد سياقه له.
فحديث الباب باق على إطلاقه، لا تخرج منه صورة إلا بدليل. ثم الحديث لا يدل على وجوب التسبيح تنبيهاً، أو التصفيق؛ إذ ليس فيه أمر، إلا أنه قد ورد بلفظ الأمر في رواية: "إذا نابكم أمر فليسبح الرجال وليصفق النساء". وقد اختلف في ذلك العلماء. قال شارح التقريب: الذي ذكره أصحابنا: ومنهم: الرافعي، والنووي: أنه سنة، وحكاه عن الأصحاب، ثم قال بعد كلام: والحق انقسام التنبيه في الصلاة إلى: ما هو واجب، ومندوب، ومباح، بحسب ما يقتضيه الحال.
وعنْ مُطرِّف بن عبد الله بن الشِّخِّير عن أبيه قال: رَأَيْتُ رسولَ الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم يُصَلي، وفي صدره أَزيزٌ كأزيز المرْجلِ، من الْبُكاءِ. أخرجهُ الخمسة إلا ابن ماجهْ، وصَحّحهُ ابن حِبّان.
(وعن مطرف) بضم الميم وفتح الطاء المهملة وتشديد الراء المكسورة وبالفاء (ابن عبد الله بن الشخير) بكسر الشين المعجمة وكسر الخاء المشددة، ومطرف تابعي جليل (عن أبيه) عبد الله بن الشخير، وهو ممن وفد إلى النبي صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم في بني عامر، يعد في البصريين.(1/74)
(قال: رأيت رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم يصلي وفي صَدْرهِ أزيزٌ) بفتح الهمزة فزاي مكسورة فمثناة تحتية ساكنة فزاي، وهو: صوت القدر في غليانها (كأزيز المرجل) بكسر الميم وسكون الراء وفتح الجيم هو القدر (من البكاء) بيان للأزيز (أخرجه الخمسة) هم عنده على ما ذكره في الخطبة: من عدا الشيخين، فهم أصحاب السنن، وأحمد، إلا أنه هنا أراد بهم غير ذلك، وهم أهل السنن الثلاثة وأحمد، كما بينه قوله: إلا ابن ماجه، وصححه ابن حبان) ، وصححه أيضاً ابن خزيمة، والحاكم، ووهم من قال: إن مسلماً أخرجه، ومثله ما روى: "أن عمر صلى صلاة الصبح، وقرأ سورة يوسف حتى بلغ إلى قوله: {قَالُواْ حَرِّقُوهُ وَانصُرُواْ آلِهَتَكُمْ إِن كُنتُمْ فَاعِلِينَ} (يوسف: 86). فسمع نشيجه، أخرجه البخاري مقطوعاً، ووصله سعيد بن منصور، وأخرجه ابن المنذر.
والحديث دليل على أن مثل ذلك لا يبطل الصلاة، وقيس عليه الأنين.
وعن عليٍّ قال: كان لي من رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم مَدْخلان، فكُنْتُ إذَا أتيتُهُ وهُوَ يُصلي تَنَحْنَحَ لي. رَواهُ النسائيُّ وابنُ مَاجَهْ.
(وعن علي رضي الله عنه قال: كان لي من رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم مدخلان) بفتح الميم ودال مهملة وخاء معجمة تثنية مدخل بزنة مقتل: أي وقتان أدخل عليه فيهما (فكنت أذا أَتيْتُه وهو يُصلي تَنَحْنَحَ لي، رواه النسائي، وابن ماجه) وصححه ابن السكن، وقد روى بلفظ: "سبح" مكان "تنحنح": من طريق أخرى ضعيفة.(1/75)
والحديث دليل: على أن التنحنح غير مبطل للصلاة، وقد ذهب إليه الناصر، والشافعي؛ عملاً بهذا الحديث، وعند الهادوية: أنه مفسد إذا كان بحرفين فصاعداً، إلحاقاً له بالكلام المفسد، قالوا: وهذا الحديث فيه اضطراب، ولكن قد سمعت: أن رواية: تنحنح صححها ابن السكن، ورواية سبح ضعيفة، فلا تتم دعوى الاضطراب؛ ولو ثبت الحديثان معاً، لكان الجمع بينهما ــــ بأنه صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم كان تارة يسبح، وتارة يتنحنح ــــ صحيحاً.
وعن ابن عمر رضي الله عنهما قال: قُلتُ لبلالٍ: كيْفَ رأيت النّبيَّ صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم يرُدُّ عليهمْ حين يُسلِّمون عليه، وهو يُصلي؟ قال: يَقُولُ هكذا، وبَسَطَ كَفّهُ. أخرجهُ أبو داود، والترمذي، وصَحّحهُ.
(وعن ابن عمر رضي الله عنهما قال: قلت لبلال: كيف رأيت النبي صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم يرد عليهم) أي على الأنصار، كما دل له السياق (حين يسلمون عليه وهو يُصلي؟ قال: يقول: هكذا وبسط كفه. أخرجه أبو داود والترمذي، وصححه) ، وأخرجه أيضاً أحمد، والنسائي، وابن ماجه، وأصل الحديث: "أنه خرج رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم إلى قباء يصلي فيه، فجاءت الأنصار، وسلموا عليه، فقلت لبلال: كيف رأيت؟ الحديث، ورواه أحمد، وابن حبان، والحاكم أيضاً من حديث ابن عمر: "أنه سأل صهيباً عن ذلك" بدل بلال، وذكر الترمذي: أن الحديثين صحيحان جميعاً.(1/76)
والحديث دليل على أن إذا سلم أحد على المصلي رد عليه السلام، بالإشارة دون النطق. وقد أخرج مسلم عن جابر: "أن رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم بعثه لحاجة. قال: ثم أدركته وهو يصلي، فسلمت عليه، فأشار إليّ، فلما فرغ دعاني: وقال: إنك سلمت علي، فاعتذر إليه بعد الرد بالإشارة". وأما حديث ابن مسعود: "أنه سلم عليه وهو يصلي، فلم يرد عليه صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم، ولا ذكر الإشارة، بل قال له بعد فراغه من الصلاة: "إن في الصلاة شغلاً"، إلا أنه قد ذكر البيهقي في حديثه: "أنه صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم أومأ له برأسه".
وقد اختلف العلماء في رد السلام في الصلاة على من سلم على المصلي. فذهب جماعة: إلى أنه يرد باللفظ. وقال جماعة: يرد بعد السلام من الصلاة. وقال قوم: يرد في نفسه. وقال قوم: يرد بالإشارة، كما أفاده هذا الحديث، وهذا هو أقرب الأقوال للدليل، وما عداه لم يأت به دليل. قيل: وهذا الرد بالإشارة استحباب، بدليل: أنه لم يرد صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم به على ابن مسعود، بل قال له: "إن في الصلاة شغلاً".
قد عرفت من رواية البيهقي، أنه صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم رد عليه بالإشارة برأسه، ثم اعتذر إليه عن الرد باللفظ، لأنه الذي كان يرد به عليهم في الصلاة، فلما حرم الكلام، رد عليه صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم بالإشارة، ثم أخبره: "أن الله أحدث من أمره أن لا يتكلموا في الصلاة" فالعجب من قول من قال: يرد باللفظ مع أنه صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم قال هذا. أي أن الله أحدث من أمره في الاعتذار عن رده على ابن مسعود السلام باللفظ، وجعل رده السلام في الصلاة كلاماً، وأن الله نهى عنه. والقول: بأنه من سلم على المصلي لا يستحق جواباً. يعني بالإشارة لا باللفظ، يرده: رده صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم على الأنصار، وعلى جابر بالإشارة؛ ولو كانوا لا يستحقون لأخبرهم بذلك، ولم يرد عليهم.(1/77)
وأما كيفية الإشارة، ففي المسند من حديث صهيب قال: "مررت برسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم، وهو يصلي، فسلمت، فرد علي إشارة" قال الراوي: لا أعلمه إلا قال "إشارة بأصبعه" وفي حديث ابن عمر: في وصفه لرده صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم على الأنصار: أنه صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم قال: "هكذا، وبسط جعفر بن عون ــــ الراوي عن ابن عمر ــــ كفه، وجعل بطنه أسفل، وجعل ظهره إلى فوق". فتحصل من هذا: أنه يجيب المصلي بالإشارة إما برأسه، أو بيده، أو بأصبعه.
والظاهر: أنه واجب؛ لأن الرد بالقول واجب، وقد تعذر في الصلاة، فبقي الرد بأي ممكن، وقد أمكن بالإشارة، وجعله الشارع رداً، وسماه الصحابة رداً ودخل تحت قوله تعالى: {وَلَهَدَيْنَاهُمْ صِرَاطاً مُّسْتَقِيماً} وأما حديث أبي هريرة: أنه قال صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم: "من أشار في الصلاة إشارة تفهم عنه فليعد صلاته" ذكره الدارقطني؛ فهو حديث باطل؛ لأنه من رواية أبي غطفان عن أبي هريرة، وهو رجل مجهول.
وعن أبي قتَادة رضي الله عنه قالَ: كان رسولُ الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم يُصَلي وهو حامِلٌ أُمامةَ ــــ بنت زينب ــــ فإذا سَجَدَ وضعها. وإذا قامَ حَمَلَهَا. متفقٌ عليه. ولمسلمٍ: وهو يؤمُّ الناسَ في المسجدِ.
(وعن أبي قتادة قال: كان رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم يُصلي وهوحاملٌ أُمامةَ) بضم الهمزة (بنت زينب) هي أُمها، وهي زينب: بنت رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم. وأبوها: أبو العاص بن الربيع (فإذا سجد وضعها، وإذا قام حملها متفق عليه: ولمسلم) زيادة (وهو يؤم الناس في المسجد) في قوله: كان يصلي ما يدل على أن هذه العبارة لا تدل على التكرار مطلقاً؛ لأن هذا الحمل لأمامة وقع منه صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم مرة واحدة، لا غير.(1/78)
والحديث دليل على أن حمل المصلي في الصلاة حيواناً ادمياً، أو غيره لا يضر صلاته، سواء كان ذلك لضرورة، أو غيرها، وسواء كان في صلاة فريضة أو غيرها، وسواء كان إماماً أو منفرداً، وقد صرح في رواية مسلم: أنه صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم كان إماماً، فإذا جاز في حال الإمامة جاز في حال الانفراد. وإذا جاز في الفريضة جاز في النافلة بالأولى. وفيه دلالة على طهارة ثياب الصبيان وأبدانهم، وأنه الأصل ما لم تظهر النجاسة.
وأن الأفعال التي مثل هذه لا تبطل الصلاة؛ فإنه صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم كان يحملها ويضعها، وقد ذهب إليه الشافعي، ومنع غيره من ذلك، وتأولوا الحديث بتأويلات بعيدة: منها: أنه خاص به صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم. ومنها: أن أُمامةَ كان تعلق به من دون فعل منه. ومنها: أنه للضرورة، ومنهم من قال: إنه منسوخ، وكلها دعاوى بغير برهان واضح، وقد أطال ابن دقيق العيد في شرح العمدة القول في هذا، وزدناه إيضاحاً في حواشيها.
وعن أبي هُريرة رضي الله عنه قالَ: قال رسولُ الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم: "اقتُلُوا الأسوَديْنِ في الصلاة: الحيّةَ، والعقرب" أخرجه الأربعة، وصححه ابنُ حِبّان.
وعن أبي هُريرة رضي الله عنه قالَ: قال رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم: "اقتُلُوا الأسوَديْنِ في الصلاة: الحيّةَ، والعقرب" أخرجه الأربعة، وصححه ابنُ حِبّان.
وله شواهد كثيرة، والأسودان اسم يطلق على الحية والعقرب، على أي لون كانا، كما يفيده كلام أئمة اللغة، فلا يتوهم أنه خاص بذي اللون الأسود فيهما.(1/79)
وهو دليل على وجوب قتل الحية والعقرب في الصلاة إذ هو الأصل في الأمر، وقيل: إنه للندب، وهو دليل على أن الفعل الذي لا يتم قتلهما إلا به لا يبطل الصلاة، سواء كان بفعل قليل، أو كثير، وإلى هذا ذهب جماعة من العلماء. وذهبت الهادوية: إلى أن ذلك يفسد الصلاة، وتأولوا الحديث بالخروج من الصلاة، قياساً على سائر الأفعال الكثيرة التي تدعو إليها الحاجة، وتعرض وهو يصلي، كإنقاذ الغريق ونحوه، فإنه يخرج لذلك من صلاته، وفيه لغيرهم تفاصيل أخر، لا يقوم عليها دليل. والحديث حجة للقول الأول.
وأحاديث الباب اثنان وعشرون، وفي الشرح ستة وعشرون.
باب سترة المصلي
عن أبي جُهَيْم بن الحارث رضي الله عنهُ قالَ: قالَ رسولُ الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم: "لوْ يَعْلَمُ المارُّ بَيْنَ يدي المُصلي ماذا عليْه من الإثم لكان أن يقف أربعينَ خيْراً له منْ أنْ يمُر بين يديه" متّفق عليه، واللفظُ للبخاريِّ، ووقعَ في البَزَّار من وجهٍ اخر "أَربعين خريفاً".
(عن أبي جهيم) بضم الجيم مصغر جهم، وهو عبد الله بن جهيم. وقيل: هو عبد الله بن الحارث بن الصمة بكسر المهملة وتشديد الميم، الأنصاري، له حديثان، هذا أحدهما، والاخر في السلام على من يبول. وقال فيه أبو داود: أبو الجهيم بن الحارث بن الصمة. وقد قيل: إن راوي حديث البول: رجل اخر، هو عبد الله بن الحارث، والذي هنا عبد الله بن جهيم وأنهما اثنان.(1/80)
(قال: قال رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم: لوْ يعلم المارُّ بين يَدَيِ المُصَلِّي ماذا عليه من الإثمِ) لفظ من الإثم ليس من ألفاظ البخاري، ولا مسلم، بل قال المصنف في فتح الباري: إنها لا توجد في البخاري إلا عند بعض رواته، وقدح فيه: بأنه ليس من أهل العلم. قال: وقد عيب على الطبري نسبتها إلى البخاري في كتابه الأحكام، وكذا عيب على صاحب العمدة نسبتها إلى الشيخين معاً اهـ فالعجب من نسبة المصنف لها هنا إلى الشيخين، فقد وقع له من الوهم ما وقع لصاحب العمدة (لكان أن يقف أربعينَ خيراً لَهُ من أن يَمُرّ بين يديهِ. متفق عليه واللفظ للبخاري) وليس فيه ذكر مميز الأربعين (ووقع في البزار) أي من حديث أبي جهيم (من وجه) أي من طريق رجالها غير رجل المتفق عليه (أربعين خريفاً) أي عاماً، أطلق الخريف على العام، من إطلاق الجزء على الكل.
والحديث دليل على تحريم المرور بين يدي المصلي: أي ما بين موضع جبهته في سجوده، وقدميه، وقيل: غير هذا، وهو عام في كل مصل فرضاً، أو نفلاً، سواء كان إماماً، أو منفرداً، وقيل: يختص بالإمام والمنفرد، إلا المأموم، فإنه لا يضره من مر بين يديه؛ لأن سترة الإمام سترة له، وإمامه سترة له، إلا أنه قد رد هذا القول: بأن السترة إنما ترفع الحرج عن المصلي، لا عن المار. ثم ظاهر الوعيد يختص بالمار، لا بمن وقف عامداً مثلاً بين يدي المصلي، أو قعد، أو رقد، ولكن إذا كان العلة فيه التشويش على المصلي، فهو في معنى المار.
وعن عائشة قالت: سُئِل النّبي صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم ــــ في غَزوةِ تَبوك ــــ عنْ سُترةِ المُصَلي. فقَالَ: "مثل مُؤخِرةِ الرَّحْلِ" أخرجه مُسْلِمٌ.
(وعن عائشة رضي الله عنها قالت: سئل رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم في غزوة تبوك: عن سترة المصلي فقال: مثل مؤخرة) بضم الميم وهمزة ساكنة وكسر الخاء المعجمة وفيها لغات أخر (الرحل:) هو العود الذي في اخر الرحل (أخرجه مسلم).(1/81)
وفي الحديث ندب للمصلي إلى اتخاذ سترة، وأنه يكفيه مثل مؤخرة الرحل، وهي قدر ثلثي ذراع، وتحصل بأي شيء أقامه بين يديه.
قال العلماء: والحكمة في السترة كف البصر عما وراءها، ومنع من يجتاز بقربه. وأخذ من هذا. أنه لا يكفي الخط بين يدي المصلي، وإن كان قد جاء به حديث، أخرجه أبو داود، إلا أنه ضعيف مضطرب، وقد أخذ به أحمد بن حنبل فقال: يكفي الخط، وينبغي له أن يدنو من السترة، ولا يزيد ما بينه وبينها على ثلاثة أذرع، فإن لم يجد عصا، أو نحوها جمع أحجاراً، أو تراباً، أو متاعه، قال النووي: استحب أهل العلم الدنو من السترة: بحيث يكون بينه وبينها قدر مكان السجود، وكذلك بين الصفوف. وقد ورد الأمر بالدنو منها، وبيان الحكمة في اتخاذها، وهو ما رواه أبو داود وغيره من حديث سهل بن أبي حثمة مرفوعاً: "إذا صلى أحدكم إلى سترة، فليدن منها، لا يقطع الشيطان عليه صلاته"، ويأتي في الحديث الرابع: ما يفيد ذلك، والقول بأن أقل السترة مثل مؤخرة الرحل يرده الحديث الاتي:
وعن سَبْرة بن مَعْبدٍ الجُهنيِّ قال: قالَ رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم: "لِيَسْتِترْ أحدُكم في الصلاة ولوْ بسَهْمٍ" أخرجه الحاكم.
(وعن سبرة) بفتح السين المهملة وسكون الموحدة، وهو أبو ثرية بضم المثلثة وفتح الراء وتشديد المثناة التحتية وهو سبرة (ابن معبد الجهني) سكن المدينة، وعداده في البصريين (قال: قال رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم: ليستتر أحدكم في الصلاة، ولو بسهم. أخرجه الحاكم).
فيه الأمر بالسترة، وحمله الجماهير على الندب، وعرفت أن فائدة اتخاذها: أنه مع اتخاذها لا يقطع الصلاة شيء، ومع عدم اتخاذها: يقطعها ما يأتي، وفي قوله: "لو بسهم" ما يفيد: أنها تجزىء السترة، غلظت أو دقت، وأنه ليس أقلها مثل مؤخرة الرحل، كما قيل: قالوا: والمختار أن يجعل السترة عن يمينه، أو شماله، ولا يصمد إليها.(1/82)
وعن أبي ذرّ الغفاري رضي الله عنه قالَ: قال رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم: "يَقْطعُ صلاة الرَّجل المسلم ــــ إذا لم يكن بين يديْهِ مِثْلُ مُؤخِرةِ الرَّحل ــــ المرأةُ، والحمارُ، والكَلْبُ الأسودُ ــــ الحديث" وفيه "الكلبُ الأسودُ شيطانٌ" أخرجه مسلمٌ.
(وعن أبي ذرّ) بفتح الذال المعجمة وقد تقدمت ترجمته (قال: قال رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم: يقْطَعُ صلاة المرء المسلم) أي يفسدها، أو يقلل ثوابها (إذا لم يكُنْ بين يديه مِثْلُ مُؤْخرة الرّحل) أي مثلاً، وإلا فقد أجزأ السهم كما عرفت (المرأة) هو فاعل يقطع: أي مرور المرأة (والحمار والكلبُ الأسودُ. الحديث) أي: أتم الحديث، وتمامه "قلت: فما بال الأسود من الأحمر من الأصفر من الأبيض؟ قال: يا ابن أخي سألت رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم عما سألتني فقال: "الكلب الأسود شيطان" (وفيه الكلبُ الأسوَدُ شَيْطانُ) الجار يتعلق بمقدر: أي وقال: (أخرجه مسلم) ، وأخرجه الترمذي، والنسائي، وابن ماجه مختصراً، ومطولاً.
الحديث دليل: على أنه يقطع صلاة من لا سترة له مرور هذه المذكورات، وظاهر القطع الإبطال. وقد اختلف العلماء في العمل بذلك، فقال قوم: يقطعها المرأة، والكلب الأسود، دون الحمار؛ لحديث ورد في ذلك عن ابن عباس: "أنه مرَّ بين يدي الصف على حمار، والنبي صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم يصلي، ولم يعد الصلاة، ولا أمر أصحابه بإعادتها" أخرجه الشيخان فجعلوه مخصصاً لما هنا. وقال أحمد: يقطعها الكلب الأسود. قال: وفي نفسي من المرأة، والحمار. أما الحمار، فلحديث ابن عباس. وأما المرأة، فلحديث عائشة عند البخاري أنها قالت: "كان رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم يصلي من الليل، وهي معترضة بين يديه، فإذا سجد غمز رجليها فكفتهما، فإذا قام بسطتهما" فلو كانت الصلاة يقطعها مرور المرأة: لقطعها اضطجاعها بين يديه.(1/83)
وذهب الجمهور إلى أنه لا يقطعها شيء، وتأولوا الحديث بأن المراد بالقطع: نقص الأجر، لا الإبطال. قالوا: لشغل القلب بهذه الأشياء. ومنهم من قال: هذا الحديث منسوخ بحديث أبي سعيد الاتي: "لا يقطع الصلاة شيء" ويأتي الكلام عليه، وقد ورد: "أنه يقطع الصلاة: اليهودي والنصراني، والمجوسي، والخنزير" وهو ضعيف، أخرجه أبو داود من حديث ابن عباس، وضعفه.
ولهُ عن أبي هريرة نحوهُ دون الكلْبِ.
(وله) أي لمسلم (عن أبي هريرة نحوه) أي نحو حديث أبي ذر (دون الكلب) كذا في نسخ بلوغ المرام، ويريد: أن لفظ الكلب لم يذكر في حديث أبي هريرة، ولكن راجعت الحديث، فرأيت لفظه في مسلم عنه قال: قال رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم: "يقطع الصلاة: المرأة، والحمار، والكلب، ويقي من ذلك مثل مؤخرة الرحل".
ولأبي داود والنسائيِّ عن ابن عباس رضي الله عنهما نحْوُهُ، دون آخرهِ. وقَيّد المرْأة بالحائض.
(ولأبي داود والنسائيِّ عن ابن عباس رضي الله عنهما نحْوُهُ، دون آخرهِ. وقَيّد المرْأة بالحائض).(1/84)
في أبي داود عن شعبة قال: حدثنا قتادة قال: سمعت جابر بن زيد: يحدث عن ابن عباس، رفعه شعبة. قال: "يقطع الصلاة المرأة الحائض، والكلب"، وأخرجه النسائي وابن ماجه وقوله: "دون اخره" يريد: أنه ليس في حديث ابن عباس: اخر حديث أبي هريرة الذي في مسلم، وهو قوله: "ويقي من ذلك مثل مؤخرة الرحل" فالضمير في اخره في عبارة المصنف: لاخر حديث أبي هريرة، مع أنه لم يأت بلفظه، كما عرفت، ولا يصح أنه يريد: دون اخر حديث أبي ذر، كما لا يخفى، من أن حق الضمير عوده إلى الأقرب. ثم راجعت سنن أبي داود، وإذا لفظه "يقطع الصلاة المرأة الحائض، والكلب" فاحتملت عبارة المصنف: أن مراده: دون اخر حديث أبي ذر وهو قوله: "الكلب الأسود شيطان"، أو دون اخر حديث أبي هريرة، وهو: ما ذكرناه في الشرح، والأول أقرب؛ لأنه ذكر لفظ أبي ذر، دون لفظ حديث أبي هريرة، وإن صح أن يعيد إليه الضمير، وإن لم يذكره: إحالة على الناظر. وتقييد المرأة بالحائض يقتضي ــــ مع صحة الحديث ــــ حمل المطلق على المقيد، فلا تقطع إلا الحائض، كما أنه أطلق الكلب عن وصفه بالأسود في بعض الأحاديث. وقيد في بعضها به، فحملوا المطلق على المقيد، وقالوا: لا يقطع إلا الأسود، فتعين في المرأة الحائض: حمل المطلق على المقيد.
وعن أبي سعيد الخدريِّ رضي الله عنه قال: قالَ رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم: "إذا صلى أحدكم إلى شيء يسترُهُ من الناس، فأراد أحدٌ أنْ يجتازَ بين يديهِ فلْيدفعْهُ، فإن أبى فَلْيُقاتلهُ، فإنّما هو شَيْطَانٌ" متّفق عليه، وفي رواية: "فإنَّ معهُ القرين".(1/85)
(وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم: إذا صلى أحدُكم إلى شيء يَسْتُرهُ منَ الناس) مما سلف تعيينه من السترة، وقدرها، وقدر كم يكون بينها وبين المصلي (فأراد أحدٌ أن يجْتاز) أي يمضي (بين يدَيْهِ فلْيدفَعْهُ) ظاهره وجوباً (فإن أبى) أي عن الاندفاع (فلْيُقاتِلْهُ) ظاهره كذلك (فإنما هو شَيْطانٌ) تعليل للأمر بقتاله، أو لعدم اندفاعه، أو لهما (متفق عليه. وفي رواية) أي لمسلم: من حديث أبي هريرة (فإن معَه القرين) في القاموس: القرين: الشيطان المقرون بالإنسان لا يفارقه، وظاهر كلام المصنف أن رواية: (فإن معه القرين) متفق عليها بين الشيخين من حديث أبي سعيد، ولم أجدها في البخاري، ووجدتها في صحيح مسلم، لكن من حديث أبي هريرة.
والحديث دال بمفهومه: على أنه إذا لم يكن للمصلي سترة، فليس له دفع المار بين يديه، وإن كان له سترة دفعه. قال القرطبي: بالإشارة، ولطيف المنع، فإن لم يمتنع عن الاندفاع قاتله: أي دفعه دفعاً أشد من الأول، قال: وأجمعوا: أنه لا يلزمه أن يقاتله بالسلاح؛ لمخالفة ذلك قاعدة الصلاة: من الإقبال عليها والاشتغال بها، والخشوع. هذا كلامه، وأطلق جماعة: أن له قتاله حقيقة، وهو ظاهر اللفظ. والقول بأنه يدفعه بلعنه وسبه يرده: لفظ هذا الحديث، ويؤيده: فعل أبي سعيد راوي الحديث مع الشاب الذي أراد أن يجتاز بين يديه، وهو يصلي. أخرجه البخاري عن أبي صالح السمان قال: "رأيت أبا سعيد الخدري في يوم جمعة يصلي إلى شيء يستره من الناس، فأراد شاب من بني أبي معيط أن يجتاز بين يديه، فدفعه أبو سعيد في صدره، فنظر الشاب، فلم يجد مساغاً إلا بين يديه، فعاد ليجتاز، فدفعه أبو سعيد أشد من الأول. الحديث" وقيل: يرده بأسهل الوجود، فإذا أبى، فبأشدّ، ولو أدى إلى قتله، فإن قتله، فلا شيء عليه؛ لأن الشارع أباح قتله.(1/86)
والأمر في الحديث، وإن كان ظاهره الإيجاب، لكن قال النووي: لا أعلم أحداً من الفقهاء قال بوجوب هذا الدفع، بل صرح أصحابنا: بأنه مندوب، ولكن قال المصنف: قد صرح بوجوبه أهل الظاهر. وفي قوله: "فإنما هو شيطان": تعليل بأن فعله فعل الشيطان: في إرادة التشويش على المصلي، وفيه دلالة على جواز إطلاق لفظ الشيطان على الإنسان الذي يريد إفساد صلاة المصلي، وفتنته في دينه، كما قال تعالى: {وَبَيْنَهُمَا حِجَابٌ وَعَلَى الأَعْرَافِ رِجَالٌ يَعْرِفُونَ كُلاًّ بِسِيمَاهُمْ وَنَادَوْاْ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ أَن سَلاَمٌ عَلَيْكُمْ لَمْ يَدْخُلُوهَا وَهُمْ يَطْمَعُونَ} وقيل: المراد بأن الحامل له على ذلك شيطان، ويدل له رواية مسلم: "فإن معه القرين".
وقد اختلف في الحكمة المقتضية للأمر بالدفع، فقيل: لدفع الإثم عن المار، وقيل: لدفع الخلل الواقع بالمرور في الصلاة، وهذا الأرجح؛ لأن عناية المصلي بصيانة صلاته أهم من دفعه الإثم عن غيره، قلت: ولو قيل: إنه لهما معاً، لما بَعُد، فيكون لدفع الإثم عن المار، الذي أفاده حديث: "لو يعلم المار"، ولصيانة الصلاة عن النقصان من أجرها، فقد أخرج أبو نعيم عن عمر: "لو يعلم المصلي ما ينقص من صلاته بالمرور بين يديه، ما صلى إلا إلى شيء يستره من الناس"، وأخرج ابن أبي شيبة: عن ابن مسعود: "إن المرور بين يدي المصلي يقطع نصف صلاته"، ولهما حكم الرفع، وإن كانا موقوفين، إلا أن الأول فيمن لم يتخذ سترة. والثاني مطلق، فيحمل عليه. وأما من اتخذ السترة فلا نقص في صلاته بمرور المار؛ لأنه قد صرح الحديث: أنه مع اتخاذ السترة لا يضره مرور من مرّ، فأمره بدفعه للمار، لعل وجهه: إنكار المنكر على المارّ؛ لتعديه ما نهاه عنه الشارع، ولذا يقدم الأخف على الأغلظ.(1/87)
وعن أبي هريرة أن رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم قالَ: "إذَا صلى أحدُكم فَلْيجعل تِلْقاءَ وَجْهِه شَيئاً، فإن لم يجد فلينْصِب عصا، فإن لمْ يكُن فلْيَخُطَّ خطَّاً، ثمَّ لا يضُرُّهُ منْ مرَّ بين يديْه" أخرجهُ أحمد وابنُ ماجهْ، وصحّحهُ ابنُ حِبّان، ولمْ يُصِبْ من زعمَ أنَّهُ مُضطَربٌ، بل هو حسنٌ.
(وعن أبي هريرة رضي الله عنه: أن رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم قال: إذا صلى أحدكم فلْيجعلْ تلقاءَ وجهِهِ شيئاً، فإنْ لم يجد فلْينصب عصاً، فإن لم يكن فلْيَخُطُّ خطّاً، ثمَّ لا يضره من مرَّ بين يديه. أخرجه أحمد، وابن ماجه، وصححه ابن حبان، ولم يصب من زعم) وهو ابن الصلاح (أنه مضطرب) فإنه أورده مثالاً للمضطرب فيه (بل هو حسن) ونازعه المصنف في النكت، وقد صححه أحمد، وابن المديني، وفي مختصر السنن، قال سفيان بن عيينة: لم نجد شيئاً نشد به هذا الحديث، ولم يجيء إلا من هذا الوجه، وكان إسماعيل بن أمية إذا حدث بهذا الحديث يقول: هل عندكم شيء تشدونه به؟ وقد أشار الشافعي: إلى ضعفه، وقال البيهقي: لا بأس به في مثل هذا الحكم، إن شاء الله تعالى.(1/88)
والحديث دليل على أن السترة تجزىء بأي شيء كانت. وفي مختصر السنن: قال سفيان بن عيينة: رأيت شريكاً صلى بنا في جنازة العصر، فوضع قلنسوته بين يديه. وفي الصحيحين من رواية ابن عمر: "أنه صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم: كان يعرض راحلته فيصلي إليها"، وقد تقدم: أنه أي: المصلي إذا لم يجد: جمع تراباً، أو أحجاراً، واختار أحمد بن حنبل: أن يكون الخط كالهلال. وفي قوله: "ثم لا يضره شيء" ما يدل: أنه يضره إذا لم يفعل: إما بنقصان من صلاته، أو بإبطالها على ما ذكر: أنه يقطع الصلاة، إذ في المراد بالقطع: الخلاف، كما تقدم. وهذا فيما إذا كان المصلي إماماً، أو منفرداً، لا إذا كان مؤتماً، فإن الإمام سترة له، أو سترته سترة له، وقد سبق قريباً، وقد بوب له البخاري، وأبو داود، وأخرج الطبراني في الأوسط من حديث أنس مرفوعاً: "سترة الإمام لمن خلفه"، وإن كان فيه ضعف.
واعلم أن الحديث عام: في الأمر باتخاذ السترة في الفضاء وغيره، فقد ثبت: أنه صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم: "كان إذا صلى إلى جدار جعل بينه وبينه قدر ممر الشاة، ولم يكن يتباعد منه، بل أمر بالقرب من السترة، وكان إذا صلى إلى عود، أو عمود، أو شجرة: جعله على جانبه الأيمن، أو الأيسر، ولم يصمد له صمداً، وكان يركز الحربة في السفر، أو العنزة، فيصلي إليها، فتكون سترته، وكان يعرض راحلته فيصلي إليها". وقال الشافعية على ذلك: بسط المصلي لنحو سجادة، بجامع إشعار المار أنه في الصلاة، وهو صحيح.
وعن أبي سعيدٍ الخدْري رضي الله عنه قالَ: قالَ رسولُ الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم: "لا يقطعُ الصَّلاةَ شَيءٌ، وادرَأُوا ما استطعتمْ" أخرجهُ أبو داود، وفي سنده ضَعْفٌ.
(وعن أبي سعيدٍ الخدْري رضي الله عنه قالَ: قالَ رسولُ الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم: "لا يقطعُ الصَّلاةَ شَيءٌ، وادرَأُوا ما استطعتمْ" أخرجهُ أبو داود، وفي سنده ضَعْفٌ).(1/89)
في مختصر المنذري: في إسناده مجالد، وهو أبو سعيد بن عمير الهمداني الكوفي. وقد تكلم فيه غير واحد، وأخرج له مسلم حديثاً مقروناً بغيره من أصحاب الشعبي، وأخرج نحوه أيضاً الدارقطني: من حديث أنس، وأبي أمامة، والطبراني: من حديث جابر، وفي إسنادهما ضعف.
وهذا الحديث معارض لحديث أبي ذر، وفيه: أنه يقطع صلاة من ليس له سترة: المرأة، والحمار، والكلب الأسود". ولما تعارض الحديثان اختلف نظر العلماء فيهما، فقيل: المراد بالقطع في حديث أبي ذر: نقص الصلاة بشغل القلب: بمرور المذكورات، وبعدم القطع في حديث أبي سعيد: عدم البطلان، أي أنه لا يبطلها شيء، وإن نقص ثوابها بمرور ما ذكر: في حديث أبي ذر. وقيل: حديث أبي سعيد هذا: ناسخ لحديث أبي ذر، وهذا ضعيف؛ لأنه لا نسخ مع إمكان الجمع؛ لما عرفت؛ ولأنه لا يتم النسخ إلا بمعرفة التاريخ، ولا يعلم هنا المتقدم من المتأخر، على أنه لو تعذر الجمع بينهما لرجع إلى الترجيح، وحديث أبي ذر أرجح؛ لأنه أخرجه مسلم في صحيحه، وحديث أبي سعيد في سنده ضعف، كما عرفت.
باب الحث على الخشوع في الصلاة
في القاموس: الخشوع: الخضوع، أو قريب من الخضوع، أو هو في البدن، والخشوع في الصوت والبصر والسكون والتذلل. وفي الشرع: الخضوع: تارة يكون في القلب، وتارة يكون من قبل البدن، كالسكوت، وقيل لا بد من اعتبارهما، حكاه الفخر الرازي في تفسيره. ويدل على أنه من عمل القلب: حديث عليّ عليه السلام: "الخشوع في القلب" أخرجه الحاكم. قلت: ويدل له حديث: "لو خشع قلب هذا لخشعت جوارحه"، وحديث الدعاء في الاستعاذة: "وأعوذ بك من قلب لا يخشع". وقد اختلف في وجوب الخشوع في الصلاة. فالجمهور على عدم وجوبه، وقد أطال الغزالي في الإحياء: الكلام في ذلك، وذكر أدلة وجوبه، وادعى النووي: الإجماع على عدم وجوبه.(1/90)
عن أبي هُريرة رضي الله عنه قالَ: نَهى رسُولُ الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم أن يُصَلي الرَّجُلُ مختصراً. متفقٌ عليه. واللفظ لمسْلم، ومعناه أن يجْعلَ يدهُ على خاصرتِه.
(عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: نهى رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم) هذا إخبار من أبي هريرة: عن نهيه صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم، ولم يأت بلفظه الذي أفاد النهي، لكن هذا: له حكم الرفع (أنْ يُصَليَ الرَّجُلُ) ومثله المرأة (مختصراً) بضم الميم وسكون الخاء المعجمة، وفتح المثناة الفوقية فصاد مهملة مكسورة فراء، وهو منتصب على الحال، وعامله يصلي، وصاحبه الرجل. (متفق عليه واللفظ لمسلم) ، وفسره المصنف أيضاً بقوله: (ومعناه أن يجعل يده) اليمنى أو اليسرى (على خاصرته) كذلك: أي الخاصرة اليمنى، أو اليسرى، أو هما معاً عليهما، إلا أن تفسيره بما ذكر يعارضه: ما في القاموس من قوله: وفي الحديث: "المختصرون يوم القيامة على وجوههم النور" أي: المصلون بالليل، فإذا تعبوا وضعوا أيديهم على خواصرهم. اهـ، إلا أني لم أجد الحديث مخرجاً، فإن صح، فالجمع بينه وبين حديث الكتاب: أن يتوجه النهي إلى من فعل ذلك بغير تعب، كما يفيده قوله في تفسيره: فإذا تعبوا، إلا أنه يخالفه تفسير النهاية فإنه يقول: أراد: أنهم يأتون، ومعهم أعمال صالح يتكئون عليها. وفي القاموس: الخاصرة: الشاكلة وما بين الحرقفة، والقصيري، وفسر الحرقفة بعظم الحجبة: أي: رأس الورك، وهذا التفسير الذي ذكره المصنف عليه الأكثر، وقيل: الاختصار في الصلاة هو: أن يأخذ بيده عصا يتوكأ عليها، وقيل: أن يختصر السورة، ويقرأ من اخرها اية أو ايتين، وقيل: أن يحذف من الصلاة، فلا يمد قيامها وركوعها وسجودها وحدودها. والحكمة في النهي عنه بينها قوله:
وفي البخاري عن عائشةَ: أنَّ ذلك فِعْل اليهود في صلاتهم.
(وفي البخاري عن عائشة أن ذلك) أي الاختصار في الصلاة (فعل اليهود في صلاتهم).(1/91)
وقد نهينا عن التشبه بهم في جميع أحوالهم، فهذا وجه حكمة النهي، لا ما قيل: إنه فعل الشيطان، أو أن إبليس أهبط من الجنة كذلك، أو إنه فعل المتكبرين؛ لأن هذه علل تخمينية، وما ورد منصوصاً: أي عن الصحابي هو العمدة؛ لأنه أعرف بسبب الحديث، ويحتمل أنه مرفوع، وما ورد في الصحيح مقدم على غيره؛ لورود هذه الأشياء أثراً. وفي ذكر المصنف للحديث في باب الخشوع ما يشعر بأن العلة في النهي عن الاختصار: أنه ينافي الخشوع.
وعن أنَس رضي الله عنه: أن رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم قال: "إذا قُدِّم العشاءُ فابدَءوا به قبلَ أن تُصَلُّوا المغْربَ" متفقٌ عليه.
(وعن أنس رضي الله عنه: أن رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم قال: إذا قدم العشاءُ) ممدود، كسماء: طعام العشى، كما في القاموس (فابْدأوا به) أي بأكله (قبلَ أن تُصلوا المغْرب، متفق عليه) وقد ورد بإطلاق لفظ الصلاة، قال ابن دقيق العيد: فيحمل المطلق على المقيد، وورد بلفظ: "إذا وضع العشاء، وأحدكم صائم" فلا يقيد به؛ لما عرف في الأصول: من أن ذكر حكم الخاص الموافق: لا يقتضي تقييداً، ولا تخصيصاً.
والحديث دالّ على إيجاب تقديم أكل العشاء إذا حضر على صلاة المغرب، والجمهور حملوه على الندب، وقالت الظاهرية: بل يجب تقديم أكل العشاء، فلو قدم الصلاة لبطلت؛ عملاً بظاهر الأمر. ثم الحديث ظاهر في أنه يقدم العشاء مطلقاً: سواء كان محتاجاً إلى الطعام، أو لا، وسواء خشي فساد الطعام، أو لا، وسواء كان خفيفاً، أو لا.(1/92)
وفي معنى الحديث تفاصيل أخر بغير دليل، بل تتبعوا علة الأمر بتقديم الطعام، فقالوا: هو تشويش الخاطر بحضور الطعام، وهو يفضي إلى ترك الخشوع في الصلاة، وهي علة ليس عليها دليل، إلا ما يفهم من كلام بعض الصحابة؛ فإنه أخرج ابن أبي شيبة عن أبي هريرة، وابن عباس: "أنهما كانا يأكلان طعاماً، وفي التنور شواء، فأراد المؤذن أن يقيم الصلاة، فقال له ابن عباس: لا تعجل: لا نقوم وفي أنفسنا منه شيء"، وفي رواية: "لئلا يعرض لنا في صلاتنا"، وله عن الحسن بن علي عليهما السلام أنه قال: "العشاء قبل الصلاة يذهب النفس اللّوامة". ففي هذه الاثار: إشارة إلى التعليل بما ذكر. ثم هذا إذا كان الوقت موسعاً.
واختلف إذا تضيق: بحيث لو قدم أكل العشاء خرج الوقت، فقيل: يقدم الأكل، وإن خرج الوقت؛ محافظة على تحصيل الخشوع في الصلاة. قيل: وهذا على قول من يقول بوجوب الخشوع في الصلاة، وقيل: بل يبدأ بالصلاة؛ محافظة على حرمة الوقت، وهو قول الجمهور من العلماء. وفيه أن حضور الطعام عذر في ترك الجماعة: عند من أوجبها، وعند غيره. قيل: وفي قوله: "فابدأوا" ما يشعر: بأنه إذا كان حضور الصلاة وهو يأكل. فلا يتمادى فيه. وقد ثبت عن ابن عمر: أنه كان إذا حضر عشاؤه، وسمع قراءة الإمام في الصلاة، لم يقم حتى يفرغ من طعامه. وقد قيس على الطعام غيره: مما يحصل بتأخيره تشويش الخاطر، فالأولى البداءة به.
وعن أبي ذَرَ رضي الله عنه قال: قالَ رسولُ الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم: "إذا قامَ أَحَدُكم في الصلاةِ فلا يمسَح الحَصى، فإنَّ الرحمَةَ تُواجِهُهُ، رواهُ الخمسة بإسنادٍ صحيح، وزادَ أحْمدُ "واحدةً أوْ دَعْ".(1/93)
(وعن أبي ذر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم إذا قام أحدكم في الصلاة) أي دخل فيها (فلا يمسح الحصى) أي من جبهته أو من محل سجوده، (فإنّ الرحمة تُواجِهه. رواه الخمسة بإسناد صحيح وزاد أحمد) في روايته (واحدة، أوْ دَعْ) في هذا النقل قلق؛ لأنهم يفهم أنه زاد أحمد على هذا اللفظ الذي ساقه المصنف، ومعناه: على هذا فلا يمسح واحدة، أو دَعْ، وهو غير مراد. ولفظه عند أحمد عن أبي ذر: "سألت النبي صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم عن كل شيء، حتى سألته عن مسح الحصاة، فقال: واحدة، أو دع" أي امسح واحدة، أو اترك المسح، فاختصار المصنف أخل بالمعنى، وكأنه اتكل في بيان معناه على لفظه لمن عرفه، ولو قال: وفي رواية لأحمد: الإذن بمسحة واحدة، لكان واضحاً.
والحديث دليل على النهي عن مسح الحصاة بعد الدخول في الصلاة، لا قبله، فالأولى له أن يفعل ذلك، لئلا يشغل باله وهو في الصلاة، والتقييد بالحصى، أو التراب، كما في رواية: للغالب، ولا يدل على نفيه عما عداه.
قيل والعلة في النهي: المحافظة على الخشوع، كما يفيده سياق المصنف للحديث في هذا الباب، أو لئلا يكثر العمل في الصلاة. وقد نص الشارع على العلة بقوله: "فإن الرحمة تواجهه": أي تكون تلقاء وجهه، فلا يغير ما تعلق بوجهه من التراب والحصى، ولا ما يسجد عليه، إلا أن يؤلمه، فله ذلك، ثم النهي ظاهر في التحريم.
وفي الصحيح عن مُعَيْقيب نحوهُ بغير تعْليل.(1/94)
(وفي الصحيح) أي المتفق عليه (عن معيقيب) بضم الميم وفتح العين المهملة والمثناة التحتية، وكسر القاف بعدها تحتية ساكنة بعدها موحدة. هو معيقيب بن أبي فاطمة الدوسي، شهد بدراً، وكان قد أسلم قديماً بمكة، وهاجر إلى الحبشة: الهجرة الثانية، وأقام بها حتى قدم النبي صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم المدينة، وكان على خاتم النبي صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم، واستعمله أبو بكر، وعمر رضي الله عنهما على بيت المال. مات سنة ست وأربعين، وقيل: في اخر خلافة عثمان (نحوه) أي: نحو حديث أبي ذر، ولفظه: "لا تمسح الحصى وأنت تصلي، فإن كنت لا بد فاعلاً فواحدة لتسوية الحصى" (بغير تعليل) أي ليس فيه: أن الرحمة تواجهه.
وعن عائشة رضي الله عنها قالت: سألْتُ رسولُ الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم عنْ الالْتِفَاتِ في الصَّلاة؟ فقالَ: "هوَ اختلاسٌ يَخْتَلِسُهُ الشْيطانُ من صلاة العبْد" رواهُ البُخاريُّ.
وللترمذي ــــ وصحّحهُ ــــ: "إيَّاكِ والالتِفات في الصلاة، فإنّه هَلَكَةٌ، فإنْ كان لا بُدَّ ففي التطوُّعِ".
(وعن عائشة رضي الله عنها قالت: سألت رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم عن الالتفات في الصلاة، فقال: هو اختلاس) بالخاء المعجمة فمثناة فوقية اخره سين مهملة، هو الأخذ للشيء على غفلة (يَخْتَلسُهُ الشَيْطانُ من صلاة العَبْدِ. رواه البخاري) قال الطيبي: سماه اختلاساً؛ لأن المصلي يقبل على ربه تعالى، ويترصد الشيطان فوات ذلك عليه، فإذا التفت استلبه ذلك، وهو دليل على كراهة الالتفات في الصلاة، وحمله الجمهور على ذلك، إذا كان التفاتاً لا يبلغ إلى استدبار القبلة بصدره، أو عنقه كله، وإلا كان مبطلاً للصلاة.(1/95)
وسبب الكراهة: نقصان الخشوع، كما أفاده إيراد المنصف للحديث في هذا الباب، أو ترك استقبال القبلة ببعض البدن، أو لما فيه من الإعراض عن التوجه إلى الله تعالى، كما أفاده ما أخرجه أحمد وابن ماجه من حديث أبي ذر: "لا يزال الله مقبلاً على العبد في صلاته ما لم يلتفت، فإذا صرف وجهه انصرف" أخرجه أبو داود، والنسائي.
(وللترمذي) أي عن عائشة (وصححه: إيّاكِ) بكسر الكاف؛ لأنه خطاب المؤنث (والالتفات) بالنصب لأنه محذَّر منه (في الصلاة فإنه هلكة) ؛ لإخلاله بأفضل العبادات، وأي هلكة أعظم من هلكة الدين؟ (فإن كان لا بدّ) من الالتفات (ففي التّطَوُّعِ) قيل: والنهي عن الالتفات إذا كان لغير حاجة، وإلا فقد ثبت: "أن أبا بكر رضي الله عنه التفت لمجيء النبي صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم في صلاة الظهر"، والتفت الناس. لخروجه صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم في مرض موته، حيث أشار إليهم، ولو لم يلتفتوا ما علموا بخروجه، ولا إشارته، وأقرهم على ذلك.
[رح7] ــــ وعن أنس قالَ: قالَ رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم: "إذا كانَ أحَدُكمْ في الصَّلاة فإنّهُ يُناجي ربَّهُ، فلا يَبْصُقَنَّ بين يديه ولا عن يمينه، ولكن عن شماله تَحْتَ قدَمه" متّفقٌ عليه. وفي رواية: "أو تَحْتَ قدَمِهِ".
(وعن أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم: إذا كان أحدكم في الصّلاة فإنه يناجي ربّه) وفي رواية في البخاري: "فإن ربه بينه وبين القبلة" والمراد من المناجاة: إقباله تعالى عليه بالرحمة والرضوان (فلا يَبْصُقنّ بين يديه ولا عنْ يمينه) قد علل في حديثه أبي هريرة: بأن عن يمينه ملكاً (ولكنْ عن شمالهِ تحت قدمِه متفق عليه. وفي رواية: أو تحت قدَمِهِ).(1/96)
الحديث نهى عن البصاق إلى جهة القبلة، أو جهة اليمين إذا كان العبد في الصلاة. وقد ورد النهي مطلقاً عن أبي هريرة، وأبي سعيد: "أن رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم رأى نخامة في جدار المسجد، فتناول حصاة، فحتها وقال: "إذا تنخم أحدكم، فلا يتنخمن قِبل وجهه، ولا عن يمينه، وليبصقن عن يساره، أو تحت قدمه اليسرى" متفق عليه. وقد جزم النووي: بالمنع في كل حالة: داخل الصلاة وخارجها: سواء كان في المسجد أو غيره، وقد أفاده حديث أنس في حق المصلي، إلا أن غيره من الأحاديث قد أفادت تحريم البصاق إلى القبلة مطلقاً، في المسجد وفي غيره، وعلى المصلي وغيره.(1/97)
ففي صحيح ابن خزيمة وابن حبان: من حديث حذيفة مرفوعاً: "من تفل تجاه القبلة جاء يوم القيامة وتفلته بين عينيه"، ولابن خزيمة: من حديث ابن عمر مرفوعاً: "يبعث صاحب النخامة في القبلة يوم القيامة وهي في وجهه"، وأخرج أبو داود وابن حبان: من حديث السائب بن خلاد: "أن رجلاً أمَّ قوماً فبصق في القبلة، فلما فرغ، قال رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم: "لا يصلي لكم". ومثل البصاق إلى القبلة: البصاق عن اليمين، فإنه منهي عنه مطلقاً أيضاً. وأخرج عبد الرزاق عن ابن مسعود: "أنه كره أن يبصق عن يمينه وليس في الصلاة"، وعن معاذ بن جبل: "ما بصقت عن يميني منذ أسلمت"، وعن عمر بن عبد العزيز: أنه نهى عنه أيضاً. وقد أرشد صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم إلى أي جهة يبصق فقال: "عن شماله تحت قدمه"، فبيّن الجهة: أنها جهة الشمال، والمحل: أنه تحت القدم. وورد في حديث أنس عند أحمد، ومسلم بعد قوله: "ولكن عن يساره أو تحت قدمه" زيادة: "ثم أخذ طرف ردائه فبصق فيه ورد بعضه على بعض فقال: أو يفعل هكذا، وقوله: "أو تحت قدمه" خاص بمن ليس في المسجد، وأما إذا كان فيه، ففي ثوبه؛ لحديث: "البصاق في المسجد خطيئة"، إلا أنه قد يقال: المراد البصاق إلى جهة القبلة، أو جهة اليمين خطيئة، لا تحت القدم، أو عن شماله؛ لأنه قد أذن فيه الشارع، ولا يأذن في خطيئة. هذا وقد سمعت: أنه علل صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم النهي عن البصاق على اليمين: بأن عن يمينه ملكاً، فأورد سؤال، وهو: أن على الشمال أيضاً ملكاً، وهو كاتب السيئات، وأجيب: بأنه اختص بذلك ملك اليمين: تخصيصاً له وتشريفاً وإكراماً، وأجاب بعض المتأخرين: بأن الصلاة: أم الحسنات البدنية، فلا دخل لكاتب السيئات فيها.(1/98)
واستشهد لذلك بما أخرجه ابن أبي شيبة: من حديث حذيفة موقوفاً في هذا الحديث: "ولا عن يمينه؛ فإن عن يمينه كاتب الحسنات"، وفي الطبراني من حديث أمامة: في هذا الحديث: "فإنه يقوم بين يدي الله، وملك عن يمينه، وقرينه عن يساره"، وإذا ثبت هذا فالتفل يقع على القرين، وهو الشيطان، ولعل ملك اليسار حينئذ بحيث لا يصيبه شيء من ذلك، أو أنه يتحول في الصلاة إلى جهة اليمين.
وعنه قالَ: كان قِرامٌ لِعَائشة سَتَرت به جانب بَيْتِها، فقال لها النبي صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم: "أميطي عنّا قِرَامَكِ هذا، فإنّهُ لا تَزالُ تصَاويرُهُ تَعْرض لي في صلاتي" رواه البخاريُّ.
(وعنه) أي أنس رضي الله عنه (قال: كان قرام) بكسر القاف وتخفيف الراء: الستر الرقيق، وقيل: الصفيق من صوف ذي ألوان (لعائشة سترت به جانب بيتها، فقال لها النبي صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم: أميطي عنا) أي أزيلي (قرامك هذا؛ فإنه لا تزال تصاويرُهُ تَعرضُ) بفتح المثناة الفوقية وكسر الراء (لي في صلاتي، رواه البخاري).
في الحديث دلالة: على إزالة ما يشوش على المصلي صلاته: مما في منزله أو في محل صلاته، ولا دليل فيه على بطلان الصلاة؛ لأنه لم يرو أنه صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم أعادها، ومثله:
واتّفقا على حديثها في قصة أَنْبجانيّة أبي جَهْمٍ، وفيهِ: "فإنّها أَلهَتْني عنْ صلاتي".(1/99)
(واتفقا) أي الشيخان (على حديثها) أي عائشة (في قصة أنبجانية) بفتح الهمزة وسكون النون وكسر الموحدة وتخفيف الجيم، وبعد النون ياء النسبة: كساء غليظ لا علم فيه (أبي جَهْمٍ) بفتح الجيم وسكون الهاء هو عامر بن حذيفة (وفيه: فإنها) أي: الخميصة "وكانت ذات أعلام أهداها له صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم أبو جهم"، فالضمير لها، وإن لم يتقدم في كلام المصنف ذكرها. ولفظ الحديث عن عائشة: "أن النبي صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم صلى في خميصة لها أعلام، فنظر إلى أعلامها نظرة، فلما انصرف قال: اذهبوا بخميصتي هذه إلى أبي جهم وأتوني بأنبجانية أبي جهم، فإنها ألهتني انفاً عن صلاتي" هذا لفظ البخاري، وعبارة المصنف تفهم: أن ضمير فإنها: للأنبجانية، وكذا ضمير (ألهتني عن صلاتي).
وذلك أن أبا جهم أهدى للنبي صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم خميصة لها أعلام، كما روى مالك في الموطأ: عن عائشة قالت: "أهدى أبو جهم بن حذيفة إلى رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم خميصة لها علم، فشهد فيها الصلاة، فلما انصرف قال: ردي هذه الخميصة إلى أبي جهم" وفي رواية عنها: "كنت أنظر إلى علمها وأنا في الصلاة، فأخاف أن يفتنني" قال ابن بطال: إنما طلب منه ثوباً غيرها؛ ليعلمه أنه لم يرد عليه هديته استخفافاً به.
وفي الحديث: دليل على كراهة ما يشغل عن الصلاة من النقوش، ونحوها: مما يشغل القلب، وفيه مبادرته صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم إلى صيانه الصلاة عما يلهي، وإزاله ما يشغل عن الإقبال عليها. قال الطيبي: فيه إيذان بأن للصور، والأشياء الظاهرة تأثيراً في القلوب الطاهرة، والنفوس الزكية، فضلاً عما دونها. وفيه كراهة الصلاة على المفارش، والسجاجيد المنقوشة، وكراهة نقش المساجد، ونحوه.(1/100)
وعن جابر بن سَمُرةَ رضي الله عنه قالَ: قالَ رسولُ الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم: "لَيَنْتَهِينَّ أقوامٌ يَرْفعُونَ أبْصارَهُمْ إلى السماءِ في الصلاة أوْ لا تَرْجِعُ إليْهِمْ" رواه مسلم.
(وعن جابر بن سمرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم لينتهينَّ) بفتح اللام وفتح المثناة التحتية وسكون النون وفتح المثناة الفوقية وكسر الهاء (أقوام يرفعون أبصارَهُم إلى السماء في الصَّلاة) أي إلى ما فوقهم مطلقاً (أو لا ترجع إليهم. رواه مسلم) قال النووي في شرح مسلم: فيه النهي الأكيد، والوعيد الشديد في ذلك، وقد نقل الإجماع على ذلك، والنهي يفيد تحريمه. وقال ابن حزم: تبطل به الصلاة. قال القاضي عياض: واختلفوا في غير الصلاة في الدعاء، فكرهه قوم، وجوزه الأكثرون.
ولهُ عن عائشة رضي الله عنها قالت: سَمِعْتُ رسولَ الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم يقول: "لا صلاةَ بحضرَةِ طَعَام ولا هو يُدَافِعُهُ الأخْبَثانِ".
(وله) أي لمسلم (عن عائشة قالت: سمعت رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم يقول: لا صلاة بحضرة طعام) تقدم الكلام في ذلك، إلا أن هذا يفيد: أنها لا تقام الصلاة في موضع حضر فيه الطعام، وهو عام للنفل، والفرض، وللجائع، وغيره. والذي تقدم أخص من هذا (ولا) أي: لا صلاة (وهوَ) أي المصلي يُدافعُهُ (الأخبثان) البول والغائط. ويلحق بهما مدافعة الريح، فهذا مع المدافعة، وأما إذا كان يجد في نفسه ثقل ذلك، وليس هناك مدافعة، فلا نهي عن الصلاة معه، ومع المدافعة فهي مكروهة، قيل: تنزيهاً لنقصان الخشوع، فلو خشى خروج الوقت إن قدم التبرز وإخراج الأخبثين: قدم الصلاة، وهي صحيحة مكروهة، كذا قال النووي: ويستحب إعادتها. وعن الظاهرية: أنها باطلة.(1/101)
وعن أبي هريرة رضي الله عنهُ أنَّ النبي صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم قالَ: "التّثاؤبُ من الشيطانِ، فإذا تثَاءَب أحدُكم فَلْيكظِمْ ما استطاع" رواهُ مسلمٌ والترمذيُّ، وزادَ: "في الصَّلاة".
(وعن أبي هريرة رضي الله عنه: أن النبي صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم قال: التثاؤُب من الشيطان) ؛ لأنه يصدر عن الامتلاء والكسل، وهما مما يحبه الشيطان، فكأن التثاؤب منه (فإذا تثاءَب أحدُكم فلْيكظمْ) أي: يمنعه ويمسكه (ما استطاع. رواه مسلم، والترمذي، وزاد) أي الترمذي (في الصلاة) فقيد الأمر بالكظم بكونه في الصلاة، ولا ينافي النهي عن تلك الحالة مطلقاً، لموافقة المقيد، والمطلق في الحكم، وهذه الزيادة هي في البخاري أيضاً، وفيه بعدها: "ولا يقل: ها؛ فإنما ذلك من الشيطان يضحك منه"، وكل هذا مما ينافي الخشوع، وينبغي أن يضع يده على فيه لحديث: "إذا تثاءب أحدكم فليضع يده على فيه؛ فإن الشيطان يدخل مع التثاؤب" وأخرجه أحمد، والشيخان، وغيرهم.
باب المساجد
المساجد: جمع مسجد بفتح الجيم وكسرها، فإن أريد به المكان المخصوص، فهو بكسر الجيم، لا غير، وإن أريد به موضع السجود، وهو موضع وقوع الجبهة في الأرض، فإنه بالفتح، لا غير. وفي فضائل المساجد أحاديث واسعة، وأنها "أحب البقاع إلى الله"، وأن "من بنى لله مسجداً من مال حلال بنى الله له بيتاً في الجنة"، وأحاديثها في مجمع الزوائد وغيره.
عن عائشة رضي الله عنها قالتْ: أمرَ رسولُ الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم بِبِناءِ المساجد في الدُّور، وأن تُنَظّفَ وتُطَيبَ. رواهُ أحمدُ، وأبو داود، والترمذي، وصحح إرسالهُ.(1/102)
(عن عائشة رضي الله عنها قالت: أمر رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم ببناء المساجد في الدور) يحتمل أن المراد بها: البيوت، ويحتمل أن المراد: المحالّ التي تبنى فيها الدور (وأن تنظف) عن الأقذار (وتطيب رواه أحمد وأبو داود والترمذي وصحح إرساله) والتطييب بالبخور، ونحوه. والأمر بالبناء للندب لقوله: "أينما أدركتك الصلاة فصل" أخرجه مسلم، ونحوه عند غيره. قيل: وعلى إرادة المعنى الأول في الدور، ففي الحديث دليل على أن المساجد شرطها قصد التسبيل، إذ لو كان يتم مسجداً بالتسمية: لخرجت تلك الأماكن التي اتخذت في المساكن عن ملك أهلها. وفي شرح السنة أن المراد: المحال التي فيها الدور. ومنه {وَمَثلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ اجْتُثَّتْ مِن فَوْقِ الأَرْضِ مَا لَهَا مِن قَرَارٍ} لأنهم كانوا يسمون المحال التي اجتمعت فيها القبيلة داراً. قال سفيان: بناء المساجد في الدور يعني: القبائل.
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قالَ رسولُ الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم: "قاتل الله اليهود اتّخذُوا قبورَ أَنْبِيائِهمْ مساجد" متفقٌ عليه وزادَ مسلم: "والنّصارى".
(وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم: قاتل الله اليهود) أي: لعن، كما جاء في رواية، وقيل: معناه: قتلهم وأهلكهم (اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد. متفق عليه) ، وفي مسلم عن عائشة: "قالت: إن أم حبيبة، وأم سلمة ذكرتا لرسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم كنيسة رأتاها بالحبشة، فيها تصاوير، فقال: إن أولئك إذا كان فيهم الرجل الصالح فمات بنوا على قبره مسجداً، وصوروا تلك التصاوير، أولئك شرار الخلق عند الله يوم القيامة" واتخاذ القبور مساجد: أعم من أن يكون بمعنى الصلاة إليها، أو بمعنى الصلاة عليها. وفي مسلم: "لا تجلسوا على القبور، ولا تصلوا إليها، ولا عليها".(1/103)
قال البيضاوي: لما كانت اليهود والنصارى يسجدون لقبور أنبيائهم، تعظيماً لشأنهم، ويجعلونها قبلة يتوجهون في الصلاة نحوها، اتخذوها أوثاناً: لعنهم، ومنع المسلمين من ذلك قال: وأما من اتخذ مسجداً في جوار صالح، وقصد التبرك بالقرب منه، لا لتعظيم له، ولا لتوجه نحوه، فلا يدخل في ذلك الوعيد. قلت: قوله: لا لتعظيم له. يقال اتخاذ المساجد بقربه وقصد التبرك به: تعظيم له. ثم أحاديث النهي، مطلقة، ولا دليل على التعليل بما ذكر.
والظاهر أن العلة سدّ الذريعة والبعد عن التشبه بعبدة الأوثان: الذين يعظمون الجمادات، التي لا تسمع ولا تنفع ولا تضر، ولما في اتفاق المال في ذلك من العبث والتبذير الخالي عن النفع بالكلية؛ ولأنه سبب لإيقاد السرج عليها الملعون فاعله. ومفاسد ما يبنى على القبور من المشاهد والقباب لا تحصر. وقد أخرج أبو داود، والترمذي، والنسائي، وابن ماجه: عن ابن عباس قال: "لعن رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم زائرات القبور، والمتخذين عليها المساجد والسرج" (وزاد مسلم: والنصارى) زاد في حديث أبي هريرة هذا بعد قوله: اليهود.
وقد استشكل ذلك؛ لأن النصارى ليس لهم نبي إلا عيسى عليه السلام؛ إذ لا نبي بينه وبين محمد صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم، وهو حي في السماء، وأجيب: بأنه كان فيهم أنبياء غير المرسلين، كالحواريين، ومريم في قول، وأن المراد من قوله: "أنبيائهم" المجموع من اليهود والنصارى، أو المراد الأنبياء، وكبار أتباعهم، واكفى بذكر الأنبياء، ويؤيد ذلك قوله في رواية مسلم: "كانوا يتخذون قبور أنبيائهم وصالحيهم مساجد" ولهذا، لمّا أفرد النصارى كما في الحديث الآتي.
ولهُمَا منْ حديث عائشةَ "كانوا إذا مات فيهمُ الرَّجُلُ الصَّالحُ بَنَوْا على قبره مَسْجداً" وفيه: "أُولئك شرارُ الخَلْق".(1/104)
(ولهما) أي البخاري ومسلم (من حديث عائشة: كانوا إذا مات فيهم) أي النصارى. قال: (الرّجلُ الصالحُ) ، ولما أفرد اليهود، كما في حديث أبي هريرة قال: "أنبيائهم". وأحسن من هذا أن يقال: أنبياء اليهود: أنبياء النصارى؛ لأن النصارى مأمورون بالإيمان بكل رسول، فرسل بني إسرائيل يسمون أنبياء في حق الفريقين (بَنَوْا على قبره مَسْجداً، وفيه أولئك شرار الخلق) اسم الإشارة عائد إلى الفريقين، وكفى به ذماً. والمراد من الاتخاذ: أعم من أن يكون ابتداعاً، أو اتباعاً، فاليهود ابتدعت والنصارى اتبعت.
[رح4]ـــ وعن أبي هريرة رضي الله عنهُ قال: بعثَ النبيُّ صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم خَيْلاً، فجَاءَتْ برجُلٍ، فَرَبَطُوهُ بساريةٍ من سواري المسجد. الحديث متفقٌ عليه.
الرجل هو: ثمامة بن أسال، صرح بذلك في الصحيحين، وغيرهما، وليس فيه: أن الربط عن أمره صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم، ولكنه صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم قرر ذلك؛ لأن في القصة: أنه كان يمر به ثلاثة أيام ويقول: "ما عندك يا ثمامة. الحديث".
وفيه دليل: على جواز ربط الأسير بالمسجد، وإن كان كافراً، وأن هذا تخصيص لقوله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم: "إن المسجد لذكر الله والطاعة"، وقد أنزل صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم وفد ثقيف في المسجد.
قال الخطابي: فيه جواز دخول المشرك المسجد، إذا كان له فيه حاجة مثل: أن يكون له غريم في المسجد لا يخرج إليه، ومثل أن يحاكم إلى قاض هو في المسجد، وقد كان الكفار يدخلون مسجده صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم، ويطيلون فيه الجلوس، وقد أخرج أبو داود من حديث أبي هريرة: "أن اليهود أتوا النبي صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم وهو في المسجد".(1/105)
وأما قوله تعالى: {فَلْيَضْحَكُواْ قَلِيلاً وَلْيَبْكُواْ كَثِيراً جَزَآءً بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ} فالمراد به: لا يمكنون من حجّ، ولا عمرة، كما ورد في القصة التي بعث لأجلها صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم بايات براءة إلى مكة، وقوله: "فلا يحجنّ بعد هذا العام مشرك"، وكذلك قوله تعالى: {بَلَى إِن تَصْبِرُواْ وَتَتَّقُواْ وَيَأْتُوكُمْ مِّن فَوْرِهِمْ هَذَا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آلافٍ مِّنَ الْمَلائِكَةِ مُسَوِّمِينَ} لا يتم بها دليل على تحريم المساجد على المشركين، لأنها نزلت في حق من استولى عليها، وكانت له الحكمة والمنعة، كما وقع في سبب نزول الاية الكريمة، فإنها نزلت في شأن النصارى، واستيلائهم على بيت المقدس، وإلقاء الأذى فيه والأزبال، أو أنها نزلت في شأن قريش، ومنعهم له صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم عام الحديبية عن العمرة، وأما دخوله من غير استيلاء ومنع وتخريب، فلم تفده الاية الكريمة، وكأن المصنف ساقه لبيان جواز دخول المشرك المسجد، وهو مذهب إمامه، فيما عدا المسجد الحرام.
وعنهُ أنَّ عُمر رضي الله عنه مرَّ بحسّان يُنْشِدُ في المسجد، فلَحَظَ إليه، فقال: قد كُنْتُ أُنْشدُ فيه، وفيه مَنْ هُو خيرٌ منْكَ، متّفق عليه.(1/106)
(وعنه) أي أبي هريرة: (أن عمر رضي الله عنه مرّ بحسان) بالحاء المهملة مفتوحة فسين مهملة مشددة. هو ابن ثابت، شاعر رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم، يكنى أبا عبد الرحمن. أطال ابن عبد البر في ترجمته في الاستيعاب قال: وتوفي حسان قبل الأربعين في خلافة عليّ عليه السلام، وقيل: بل مات سنة خمسين، وهو ابن مائة وعشرين سنة (ينشد) بضم حرف المضارعة وسكون النون وكسر الشين المعجمة (في المسجد فلحظ إليه) أي نظر إليه، وكأنَّ حسّاناً فهم منه نظر الإنكار (فقال: قد كنتُ أنشد فيه، وفيهِ) أي المسجد (من هو خير منك) يعني: رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم (متفق عليه) وقد أشار البخاري في باب بدء الخلق: في هذه القصة: أن حساناً أنشد في المسجد: ما أجاب به المشركين عنه صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم.
ففي الحديث دلالة على جواز إنشاد الشعر في المسجد. وقد عارضه أحاديث. أخرج ابن خزيمة، وصححه الترمذي من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال: "نهى رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم عن تناشد الأشعار في المسجد" وله شواهد، وجمع بينها وبين حديث الباب: بأن النهي محمول على تناشد أشعار الجاهلية وأهل البطالة، وما لم يكن فيه غرض صحيح، والمأذون فيه ما سلم من ذلك، وقيل: المأذون فيه مشروط: بأن لا يكون ذلك مما يشغل من في المسجد.
وعنهُ رضي الله عنه قال: قالَ رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم: "مَن سَمِعَ رَجُلاً يَنْشُدُ ضالّةً في المسْجِدِ فَلْيَقُلْ: لا رَدَّهَا الله علَيْكَ، فإنَّ المساجدَ لمْ تُبن لهذا" رواه مُسلمٌ.(1/107)
(وعنه) أي أبي هريرة (قال: قال رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم: من سمعَ رجُلاً ينشدُ) بفتح المثناة التحتية وسكون النون وضم الشين المعجمة، من نشد الدابة: إذا طلبها (ضالّة في المسجد فليقُل: لا ردّها الله عليك) عقوبة له؛ لارتكابه في المسجد ما لا يجوز. وظاهره أنه يقول: جهراً، وأنه واجب (فإن المساجد لم تُبْنَ لهذا. رواه مسلم) أي: بل بنيت لذكر الله، والصلاة، والعلم، والمذاكرة في الخير، ونحوه.
والحديث دليل: على تحريم السؤال عن ضالة الحيوان في المسجد، وهل يلحق به السؤال عن غيرها من المتاع، ولو ذهب في المسجد؟ قيل: يلحق للعلة، وهي قوله: "فإن المساجد لم تبن لهذا"، وأن من ذهب له متاع فيه، أو في غيره قعد في باب المسجد: يسأل الخارجين والداخلين إليه. واختلف أيضاً في تعليم الصبيان القران في المسجد، وكأن المانع يمنعه لما فيه من رفع الأصوات المنهي عنه في حديث واثلة: "جنبوا مساجدكم مجانينكم وصبيانكم ورفع أصواتكم" أخرجه عبد الرزاق، والطبراني في الكبير، وابن ماجه.
وعنهُ رضي الله عنه، أن رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم قال: "إذا رَأَيْتُمْ منْ يَبيعُ، أوْ يَبْتاعُ في المسجدِ فقُولوا لهُ: لا أَرْبَحَ الله تَجارَتك" رواهُ النسائيُّ والترمذي، وحسّنَهُ.
(وعنه) أي أبي هريرة: (أن رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم قال: إذا رأيتمْ منْ يبيعُ أو يبتاعُ) يشتري (في المسجد فقولوا لهُ: لا أَرْبَحَ الله تجارتك. رواه الترمذي، والنسائي، وحسنه).
فيه دلالة على تحريم البيع والشراء في المساجد، وأنه يجب على من رأى ذلك فيه أن يقول لكل من البائع والمشتري: لا أربح الله تجارتك، يقول جهراً: زجزاً للفاعل لذلك، والعلة: هي قوله فيما سلف: "فإن المساجد لم تبن لذلك" وهل ينعقد البيع؟ قال الماوردي: إنه ينعقد اتفاقاً.(1/108)
وعن حكيم بن حزام رضي الله عنه قالَ: قالَ رسُولُ الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم: "لا تُقام الحدودُ في المساجدِ، ولا يُسْتَقادُ فيها" رواهُ أحمد وأبو داودَ بسندٍ ضعيفٍ.
(وعن حكيم بن حزام) بالحاء المهملة المكسورة والزاي. وحكيم صحابي كان من أشراف قريش في الجاهلية والإسلام: أسلم عام الفتح، عاش مائة وعشرين سنة، ستين في الجاهلية، وستين في الإسلام. وتوفي بالمدينة سنة أربع وخمسين، وله أربعة أولاد صحابيون كلهم: عبد الله، وخالد، ويحيى، وهشام (قال: قال رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم: لا تُقامُ الحدودُ في المساجد ولا يُستقاد فيها) أي يقام القود فيها (رواه أحمد، وأبو داود بسند ضعيف) ، ورواه الحاكم، وابن السكن، وأحمد بن حنبل، والدارقطني، والبيهقي. وقال المصنف في التلخيص: لا بأس بإسناده.
والحديث دليل: على تحريم إقامة الحدود في المساجد، وعلى تحريم الاستفادة فيها.
[رح9] ــــ وعن عائشةَ قالت: أُصيب سَعْدٌ يومَ الخنْدقِ فضرب عليهِ رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم خيْمَةً في المسْجدِ، لِيَعُودَهُ من قريب. متّفق عليه.
(وعن عائشة رضي الله عنها قالت: أصيبَ سَعْدٌ) هو ابن معاذ بضم الميم فعين مهملة بعد الألف ذال معجمة، هو أبو عمرو، سعد بن معاذ الأوسي، أسلم بالمدينة بين العقبة الأولى والثانية، وأسلم بإسلامه بنو عبد الأشهل، وسماه رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم سيد الأنصار، وكان مقداماً مطاعاً، شريفاً في قومه، من كبار الصحابة، شهد بدراً وأحداً، وأصيب يوم الخندق في أكحله، فلم يرقأ دمه حتى مات بعد شهر. توفي في شهر ذي القعدة سنة خمس من الهجرة (يوم الخندق فضرب عليه رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم) أي نصب عليه (خيمة في المسجد ليعوده من قريب) أي ليكون مكانه قريباً منه صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم، فيعوده (متفقٌ عليه).(1/109)
فيه دلالة على جواز النوم في المسجد، وبقاء المريض فيه، وإن كان جريحاً، وضرب الخيمة، وإن منعت من الصلاة.
وعنْها قالَتْ: رأَيْت رسُولَ الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم يسْتُرني وأنا أَنْظُرُ إلى الحبشةِ يلعبون في المسجد......." الحديثَ. متفقٌ عليه.
(وعنها) أي عن عائشة (قالت: رأيت رسولَ الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم يسترني، وأنا أنظرُ إلى الحبشة يلعبون في المسجد. الحديث. متفق عليه) قد بين في رواية للبخاري: أن لعبهم كان بالدرق والحراب. وفي رواية لمسلم: "يلعبون في المسجد بالحراب" وفي رواية للبخاري: "وكان يوم عيد".
فهذا يدل على جواز مثل ذلك في المسجد في يوم مسرة، وقيل: إنه منسوخ بالقران والسنة. أما القران: فقوله تعالى: {فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَن تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ} ،
وأما السُّنَّة فبحديث: "جنبوا مساجدكم صبيانكم" الحديث، وتعقب بأنه حديث ضعيف، وليس فيه ولا في الآية تصريح بما ادعاه ولا عرف التاريخ فيتم النسخ.
وقد حكى أن لعبهم كان خارج المسجد، وعائشة كانت في المسجد. وهذا مرود بما ثبت في بعض طرق الحديث هذا أن عمر أنكر عليهم لعبهم في المسجد، فقال له النبي صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم: "دعهم". وفي ألفاظه أنه صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم قال لعمر: "لتعلم اليهود أن في ديننا فسحة وأني بعثت بحنيفية سمحة". وكأن عمر بنى على الأصل في تنزيه المساجد فبين له صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم أن التعمق والتشدد ينافي قاعدة شريعته صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم من التسهيل والتيسير. وهذا يدفع قول من قال: إن اللعب بالحراب ليس لعباً مجرداً، بل فيه تدريب الشجعان على مواضع الحروب والاستعداد للعدو، ففي ذلك من المصلحة التي تجمع عامة المسلمين، ويحتاج إليها في إقامة الدين، فأجيز فعلها في المسجد.(1/110)
وهذا وأما نظر عائشة إليهم وهم يلعبون وهي أجنبية، ففيه دلالة على الجواز نظر المرأة إلى جملة الناس من دون تفصيل لأفرادهم، كما تنظرهم إذا خرجت للصلاة في المسجد وعند الملاقاة في الطرقات، ويأتي تحقيق هذه المسألة في محلها.
[رح 11/442] ـ وعَنْهَا: "أَن وَلِيدَةً سَوْدَاءَ كَانَ لَهَا خِبَاءٌ فِي الْمَسْجِدِ، فَكَانَتْ تَأْتِينِي فَتَحَدَّثُ عِنْدِي.." الْحَدِيثَ، مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
(وعنها) أي عائشة (أن الوليدة الأمة (سوداء فكان لها خباء) بكسر الخاء المعجمة وموحدة فهمزة ممدودة الخيمة من وبر أو غيره، وقيل: لا تكون إلا من شعر (في المسجد فكانت تأتيني فتحدث عندي ـ الحديث متفق عليه).
والحديث برمته في البخاري عن عائشة: أو وليدة سوداء كان لحي من العرب فأعتقوها فكانت معهم فخرجب صبية لهم عليها وشاح أحمر من سيور، قال: فوضعته أو وقع منها فمرت حدأة وهو ملقي فحسبته لحماً فخطفته، قالت: والله إني لطقائمة معهم، إذ مرت الحدأة فألقته قالت: فوقع بينهم، فجاءت إلى رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم فأسلمت، قال عائشة: فكان لها خباء في المسجد أو حفش، فكانت تأتيني فتحدث عندي، قالت: فلا تجلس إلا قالت:
[شع] ويوم الوشاح من تعاجيب ربنا
أَلا إِنه من دارة الكفر نجاني[/شع].
قالت عائشة: قلت لها: ما شأنك لا تقعدين إلا قلت هذا، فحدثتني بهذا الحديث"، فهذا الذي أشار إليه المصنف بقوله: "الحديث".
وفي الحديث دلالة على إباحة المبيت والمقيل في المسجد لمن ليس له مسكن من المسلمين رجلاً كان أو امرأة عند أمن الفتنة، وجواز ضرب الخيمة له ونحوها.
[رح 21/542] ـ (وَعَنْ أَنَسٍ رَضِيَ الله عَنْهُ، قَالَ رَسُولَ الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم: "البصاق) في القاموس البصاق كغراب والبساق والبزاق ماء الفم إذ خرج منه، وما دام فيه فهو ريق، وفي لفظ للبخاري: البزاق، ولمسلم: التفل. (في المسجد خطيئة وكفارتها دفنها" متفق عليه).(1/111)
الحديث دليل على أن البصاق في المسجد خطيئة والدفن يكفرها، وقد عارضه ما تقدم من حديث: "فليبصق عن يساره أو تحت قدمه". فإن ظاهره سواء كان في المسجد أو غيره. قال النووي: عما عمومان، لكن الثاني مخصوص بما إذا لم يكن في المسجد ويبقى عموم الخطيئة إذا كان في المسجد من دون تخصيص، وقال القاضي عياض: إنما يكون البصاق في المسجد خطيئة إذا لم يدفنه، وأما إذا أراد دفنه فلا. وذهب إلى هذا أئمة من أهل الحديث، ويدل له حديث أحمد، والطبراني بإسناد حسن، من حديث أبي أمامة مرفوعاً: "من تنخع في المسجد فلم يدفنه فسيئة فإن دفنه فحسنه". فلم يجعله سيئة إلا بقيد عدم الدفن، ونحوه حديث أبي ذر عند مسلم مرفوعاً: "وجدت في مساوىء أمتي النخاعة تكون في المسجد لا تدفن"، وهكذا فهم السلَفَ، ففي سنن سعيد بن منصور، وعن أبي عبيدة بن الجراح: "أنه تنخم في المسجد ليلة فنسى أن يدفنها حتى رجع إلى منزله، فأخذ شعلة من نار ثم جاء فطلبها حتى دفنها، وقال: الحمد لله، حيث لم تكتب على خطيئة الليلة". فدل على أنه فهم أن الخطيئة مختصة بمن تركها وقدمنا وجهاً من الجمع، وهو أن الخطيئة حيث كان التفل عن اليمين أو إلى جهة القِبْلة لا إذا كان عن الشمال وتحت القدم، فالحديث هذا مخصص بذلك ومقيد به، قال الجمهور: والمراد أي من دفنها في تراب المسجد ورمله وحصاه، وقول من قال: المراد من دفنها إخراجها من المسجد بعيد.
[رح 31/642] ـ وَعَنْهُ رَضِيَ الله عَنْهُ، قَالَ رَسُولَ الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم: لا تَقُومُ السّاعَةُ حَتَّى يَتَبَاهَى النَّاسُ فِي الْمَسَاجِدِ". أَخْرَجَهُ الْخَمْسَةُ إِلا التَّرْمِذِيَّ، وَصَحَّحَهُ ابْنُ خُزَيْمَةَ.
(وعنه) أي أنس، (قال رسول الله: "لا تقوم الساعة حتى يتباهى) يتفاخر، (الناس في المساجد) بأن يقول واحد في مسجدي " أحسن من مسجدك علواً وزينة وغير ذلك. (أخرجه الخمسة إلا الترمذي وصححه ابن خزيمة).(1/112)
الحديث من أعلام النبوة وقوله: "لا تقوم الساعة" قد يؤخذ منه أنه من أشراطها والتباهي، إما بالقول كما عرفت، أو بالفعل كأن يبالغ كل واحد في تزيين مسجده ورفع بنائه وغير ذلك. وفيه دلالة مفهمة بكراهة ذلك، وأنه من أشراط الساعة، وأن الله لا يحب تشييد المساجد ولا عمارتها إلا بالطاعة.
[رح 41/724] ـ وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ الله عَنْهُمَا، قَالَ: قَالَ رَسُولَ الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم: "ما أُمِرْتُ بِتَشْيِيد الْمَسَاجِدِ". أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ، وَصَحَّحَهُ ابْنُ حِبّانَ.
(وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم: ما أمرت بتشيد المساجد" أخرجه أبو داود وصححه ابن حبان) وتمام الحديث قال ابن عباس: "لتزخرفنها كما زخرفتها اليهود والنصارى". وهذا مدرج من كلام ابن عباس، كأنه فهمه من الأخبار النبوية من أن هذه الأمة تحذو حذو بني إسرائيل. والتشييد رفع البناء وتزيينه بالشيد، وهو الجص كذا في الشرح. والذي في القاموس: شاد الحائط يشيده طلاه بالشيد وهو ما يطلى به الحائط من جص ونحوه وانتهى. فلم يجعل رفع البناء من مسماه.
والحديث ظاهر في الكراهة أو التحريم لقوله ابن عباس كما زخرفت اليهود والنصارى فإن التشبه بهم محرم، وذلك أنه ليس المقصود من بناء المساجد إلا أن تكن الناس من الحر والبرد وتزيينها يشغل القلوب عن الخشوع الذي هو روح جسم العبادة. والقول بأنه يجوز تزيين المحراب باطل.(1/113)
قال المهدي في البحر: إن تزيين الحرمين لم يكن برأي ذي حل وعقد ولا سكوت رضا أي من العلما، وإنما فعله أهل الدول الجبابرة من غير مؤاذنة لأحد من أهل الفضل وسكت المسلمون والعلماء من غير رضا، وهو كلام حسن وفي قوله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم: "ما أمرت"، إشعار بأنه لا يحسن ذلك فإنه لو كان حسناً لأمره الله به صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم. وأخرج البخاري، من حديث ابن عمر: "أن مسجده صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم كان على عهده صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم مبنياً باللبن وسقفه الجريد وعمده خشب النخل، فلم يزد فيه أبو بكر شيئاً، وزاد فيه عمر وبناه على بنائه في عهد رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم باللبن والجريد وأعاد عمده خشباً، ثم غيره عثمان فزاد فيه زيادة كبيرة وبنى جدرانه بالأحجار المنقوشة والجص وجعل عمدة من حجارة منقوشة وسقفه بالساج".
قال ابن بطال: وهذا يدل على أن السنة في بنيان المساجد القصد وترك الغلو في تحسينها، فقد كان عمر مع كثرة الفتوحات في أيامه وكثرة المال عنده لم يغير المسجد عما كان عليه، وإنما احتاج إلى تجديده لأن جريد النخل كان قد نخر في أيامه، ثم عند عمارته: "أكن الناس من المطر وإياك أن تحمر أو تصفر فتفتن الناس"، ثم كان عثمان والمال في زمنه أكثر فحسنه بما لا يقتضي الزخرفة، ومع ذلك أنكر بعض الصحابة عليه، وأول من زخرف المساجد الوليد بن عبد الملك، وذلك في أواخر عصر الصحابة وسكت كثير من أهل العلم عن إنكار ذلك خوفاً من الفتنة.(1/114)
وللعلماء في ذلك قولان: أحدهما أن يغمس يديه في الماء، ثم يضع باطن كفه اليسرى تحت عقب الخف، وكفه اليمنى على أطراف أصابعه، ثم يمر اليمنى إلى ساقه، واليسرى إلى أطراف أصابعه. وهذا للشافعي. واستدل لهذه الكيفية بما ورد في حديث المغيرة: "أنه صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم مسح على خفيه، ووضع يده اليمنى على خفه الأيمن، ويده اليسرى على خفه الأيسر، ثم مسح أعلاهما مسحة واحدة، كأني أنظر أصابعه على الخفين" رواه البيهقي، وهو منقطع، على أنه لا يفي بتلك الصفة.
[رح 51/842] ـ وَعَنْ أَنَسٍ رَضِيَ الله عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم: عُرِضَتُ عَلَيَّ أُجُورُ أُمَّتِي، حَتَّى الْقَذَاةُ يُخْرِجُهَا الرَّجُلُ مِنَ الْمَسْجِدِ" رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ والتِّرْمِذِيُّ، وَاسْتَغْرَبَهُ، وَصَحّحَهُ ابْنُ خُزَيْمَةَ.
(وعن أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم: "عرضت على أجور أمتي حتى القذاة يخرجها الرجل من المسجد" رواه أبو داود، والترمذي، واستغربه، وصححه ابن خزيمة) القذاة بزنة حصاة هي مستعملة في كل شيء يقع في البيت وغيره إذا كان يسيراً، وهذا إجبار بأن ما يخرجه الرجل من المسجد وإن قل وحقر مأجور فيه لأن فيه تنظيف بيت الله وإزالة ما يؤذي المؤمنين ويفيد بمفهومه أن من الأوزار إدخال القذاة إلى المسجد.
[رح 61/942] ـ وَعَنْ أَبِي قَتَادَةَ رَضِيَ الله عَنْهُ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم: "إِذَا دَخَلَ أَحَدُكُمُ الْمَسْجِدَ فَلا يَجْلِسْ حَتَّى يُصَلِّيَ رَكْعَتَيْنِ" مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ).
(وعن أبي قتادة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم: "إذا دخل أحدكم المسجد فلا يجلس حتى يصلي ركعتين" متفق عليه).(1/115)
الحديث نهى عن جلوس الداخل إلى المسجد إلا بعد صلاته ركعتين وهما تحية المسجد. وظاهره وجوب ذلك، وذهب الجمهور إلى أنه ندب واستدلوا بقوله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم للذي رآه يتخطى: "اجلس فقد آذيت"، ولم يأمره بصلاتهما وبأنه قال صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم لمن علمه الأركان الخمسة فقال: لا أزيد عليها: أفلح إن صدق".
الأول: مردود بأنه لا دليل على أنه لم يصلهما فإنه يجوز أنه صلاهما في طرف المسجد، ثم جاء يتخطى الرقاب. والثاني: بأنه قد وجب غير ما ذكر كصلاة الجنائز ونحوها ولا مانع من أنه وجب بعد قوله: "لا أزيد" واجبات وأعلمه صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم بها.
ثم ظاهر الحديث أنه يصليهما في أي وقت شاء ووقت الكراهة، وفيه خلاف وقررناه في حواشي شرح العمدة أنه لا يصليهما من دخل المسجد في أوقات الكراهة، وقررنا أيضاً أن وجوبهما هو الظاهر لكثرة الأوامر الواردة به وظاهره أنه إذا جلس ولم يصلهما لا يشرع له أن يقوم فيصليهما، وقال جماعة: يشرع له التدارك، لما رواه ابن حبان في صحيحه من حديث أبي ذر أنه دخل المسجد، فقال له النبي صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم: "ركعت ركعتين قال: لا قال: قم فاركعهما". وترجم عليه ابن حبان تحية المسجد لا تفوت بالجلوس، وكذلك ما يأتي من قصة سليك الغطفاني وقوله: "ركعتين" لا مفهوم له في جانب الزيادة، بل في جانب القلة فلا تتأدى سنة التحية بركعة واحدة. قال في الشرح: وقد أخرج من عموم المسجد المسجد الحرام فتحيته الطواف، وذلك لأن النبي صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم بدأ فيه بالطواف.(1/116)
قلت: هكذا ذكره ابن القيم في الهدى. وقد يقال: إنه لم يجلس فلا تحية للمسجد الحرام إذ التحية إنما تشرع لمن جلس، والداخل المسجد الحرام يبدأ بالطواف ثم يصلي صلاة المقام فلا يجلس إلا وقد صلى نعم لو دخل المسجد الحرام وأراد القعود قبل الطواف، فإنه يشرع له صلاة التحية كغيره من المساجد، وكذلك قد استثنوا صلاة العيد لأنه صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم لم يصل قبلها ولا بعدها، ويجاب عنه بأنه صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم ما جلس حتى يتحقق في حقه أنه ترك التحية، بل وصل إلى الجنانة أو إلى المسجد فإنه صلى العيد في مسجده مرة واحدة، ولم يقعد بل وصل إلى المسجد ودخل في صلاة العيد، وأما الجنابة فلا تحية لها إذ ليست بمسجد إذا، وأما إذا اشتغل الداخل بالصلاة كأن يدخل وقد أقيمت الفريضة فيدخل فيها فإنها تجزئه عن ركعتي التحية، بل هو منهي عنها بحديث: "إذا أقيمت الصلاة فلا صلاة إلا المكتوبة".
باب صفة الصلاة
[رح 1/052] ـ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ الله عَنْهُ، أَنَّ النَّبِيّ صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم قَالَ: "إِذَا قُمْتَ إلَى الصَّلاةِ فَأَسْبِغِ الْوُضُوءَ، ثُمَّ اسْتقَبِلِ الْقِبْلَةَ، فَكَبَّرْ، ثُمَّ اقْرَأْ مَا تَيَسّرَ مَعَكَ مِنَ الْقُرُآنَ، ثُمَّ اركْعْ حَتَى تَطْمَئِنَّ رَاكِعاً، ثُمَّ ارْفَعْ حَتَّى تَعْتِدِلَ قَائِماً، ثُمَّ اسْجُدْ حَتَى تَطْمَئنَّ سَاجِداً، ثُمَّ ارْفَعْ حَتَى تَطْمَئِنَّ جَالِساً، ثُمَّ اسْجُدْ حَتَى تَطْمَئِنَّ سَاجِداً، ثُمَّ افْعَلْ ذَلِكَ فِي صَلاتِكَ كُلِّهَا". أخرجه السَّبْعَةُ، وَاللَّفْظُ لِلْبُخَارِيِّ، وَلابْنِ مَاجَهْ بِإِسْنَادِ مُسْلِمِ: "حَتَّى تَطْمَئِنَّ قَائِماً".(1/117)
(وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم قال): مخطباً للمسيء في صلاته وهو خلاد بن رافع، (إذا قمت إلى الصلاة فاسبغ الوضوء) تقدم أن إسباغ الوضوء إتمامه، (ثم استقبل القبلة فكبر) تكبيرة الإحرام، (ثم اقرأ ما تيسر معك من القرآن) فيه أنه لا يجب دعاء الاستفتاح، إذ لو وجب لأمره به، وظاهره أنه يجزئه من القرآن غير الفاتحة ويأتي تحقيقه، (ثم اركع حتى تطمئن راكعاً) فيه إيجاب الرجوع والاطمئنان فيه، (ثم ارفع) من الركوع، (حتى تعتدل قائماً) من الركوع، (ثم اسجد حتى تطمئن ساجداً) فيه أيضاً وجوب السجود ووجوب الاطمئنان فيه، (ثم ارفع) من السجود، (حتى تطمئن جالساً) بعد السجدة الأولى، (ثم اسجد) الثانية، (حتى تطمئن ساجداً) كالأولى فهذه صفة ركعة من ركعات الصلاة قياماً وتلاوة وركوعاً واعتدالاً منه وسجوداً وطمأنينة وجلوساً بين السجدتين ثم سجدة باطمئنان كالأولى، فهذه صفة ركعة كاملة، (ثم افعل ذلك) أي جميع ما ذكر من الأقوال والأفعال إلا تكبيرة الإحرام، فإنها مخصوصة بالركعة الأولى لما علم شرعاً من عدم تكرارها (في صلاتك) في ركعات صلاتك، (كلها. أخرجه السبعة) بألفاظ متقاربة، (و) هذا (اللفظ) الذي ساقه هنا (للبخاري) وحده، (ولابن ماجه) أي من حديث أبي هريرة، (بإسناد مسلم) أي بإسناد رجاله رجال مسلم، (حتى تطئمن قائماً) عوضاً من قوله في لفظ البخاري حتى تعتدل، فدل على إيجاب الاطمئنان عند الاعتدال من الركوع، (ومثله) أي مثل ما أخرجه ابن ماجه ما في قوله.
[رح 2/152] ـ وَمِثْلُهُ فِي حَدِيثِ رِفَاَعَةَ بْنِ رَافِعِ، عِنْدَ أَحْمَدَ، وَابْنِ حَبَّانَ: "حَتَّى تَطُمَئِنَّ قَائِماً".
وَلأَحْمَدَ: "فَأَقمْ صُلْبَكَ حَتَّى تَرْجعَ الْعظَامُ".(1/118)
وَلِلْنِّسَائِيِّ، وَأَبِي دَاوُدَ مِنْ حَديِثِ رِفَاعَةَ بْنِ رَافِعِ: "إنَّهَا لا تَتِمُّ صَلاةُ أَحَدِكُمْ حَتَّى يُسْبِغع الْوضُوءَ كَمَا أَمَرَهُ الله تَعَالَى، ثُمَّ يُكَبِّرَ الله تَعَالَى وَيَحْمَدَهُ وَيُثْنَِيَ عَلَيْهِ". وَفِيهَا: "فَإنْ كَانَ مَعَكَ قُرْآنٌ فَاقَرَأْ وَإِلا فَاحْمَدِ الله وَكَبِّرْهُ وَهَلِّلْهُ".
وَلأَبِي دَاوُدَ: ثُمَّ اقْرأْ بِأْمِّ الْكِتابِ وَبِمَا شَاءَ الله".
وَلابْنِ حِبَّانَ: "ثُمَّ بِمَا شِئْتَ".
(في حديث رفاعة) بكسر الراء هو ابن رافع صحابي أنصاري شهد بدراً وأُحُداً وسائر المشاهد مع رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم، وشهد مع عليّ عليه السلام الجمل وصفين وتوفي أول إمارة معاوية، (عند أحمد وابن حبان) فإنه عندهما بلفظ: انخفضت حال الركوع ترجع إلى ما كانت عليه حال القيام للقراءة، وذلك بكمال الاعتدال، (وللنسائي) وأبي داود من حديث (رفاعة بن رافع) أي مرفوعاً، (إنها لا تتم صلاة أحدكم حتى يسبغ الوضوء كما أمره الله) في آية المائدة، (ثم يكبر الله) تكبيرة الإحرام (ويحمده) بقراءة الفاتحة إلا أن قوله: (فإن كان معك قرآن) يشعر بأن المراد بقوله يحمده غير القراءة وهو دعاء الافتتاح فيؤخذ منه وجوب مطلق الحمد والثناء بعد تكبيرة الإحرام، ويأتي الكلام في ذلك، (ويثني عليه) بها (وفيه) أي في رواية النسائي وأبي داود عن رفاعة، (فإن كان معك قرآن فاقراً وإلا) أي وإن لم يكن معك قرآن، (فاحمد الله) أي ألفاظ الحمد الله والأظهر أن يقول الحمد لله، (وكبره) بلفظ الله أكبر (وهلله) بقول لا إله إلا الله، فدل على أن هذه عوض القراءة لمن ليس له قرآن يحفظه، (ولأبي داود) أي من رواية رفاعة، (ثم اقرأ بأم الكتاب وبما شاء ولابن حبان ثم بما شئت).(1/119)
هذ حديث جليل يعرف بحديث المسيء صلاته، وقد اشتمل على تعليم ما يجب في الصلاة، وما لا تتم به فدل على وجوب الوضوء لكل قائم إلى الصلاة، كما عرف من غيره، وقد فصل ما أجملته رواية البخاري: رواية النسائي بلفظ: "حتى يسبغ الوضوء، كما أمره الله، فيغسل وجهه، ويديه إلى المرفقين، ويمسح برأسه، ورجليه إلى الكعبين" وهذا التفصيل دل: على عدم وجوب المضمضة والاستنشاق، ويكون هذا قرينة على حمل الأمر بهما ــــ حيث ورد ــــ على الندب، ودل على إيجاب استقبال القبلة قبل تكبيرة الإحرام، وقد تقدم وجوبه، وبيان عفو الاستقبال للمتنفل الراكب.
ودل على وجوب تكبيرة الإحرام، وعلى تعيين ألفاظها رواية الطبراني لحديث رفاعة بلفظ: "ثم يقول الله أكبر" ورواية ابن ماجه التي صححها ابن خزيمة، وابن حبان: من حديث أبي حميد: من فعله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم: "إذا قام إلى الصلاة اعتدل قائماً ورفع يديه ثم قال الله أكبر"، ومثله: أخرجه البزار من حديث علي عليه السلام، بإسناد صحيح على شرط مسلم: "أنه صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم كان إذا قام إلى الصلاة قال: الله أكبر"، فهذا يبين أن المراد من تكبيرة الإحرام: هذا اللفظ.(1/120)
ودل على وجوب قراءة القران في الصلاة، سواء كان الفاتحة أو غيرها لقوله: "ما تيسر معك من القران" وقوله: "فإن معك قران"، ولكن رواية أبي داود بلفظ: "فاقرأ بأُم الكتاب"، وعند أحمد، وابن حبان: "ثم اقرأ بأُم القران ثم اقرأ بما شئت"، وترجم له ابن حبان: "باب فرض المصلي فاتحة الكتاب في كل ركعة"، فمع تصريح الرواية بأم القران، يحمل قوله: "ما تيسر معك" على الفاتحة؛ لأنها كانت المتيسرة لحفظ المسلمين لها، أو يحمل أنه صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم عرف من حال المخاطب: أنه لا يحفظ الفاتحة، ومن كان كذلك، وهو يحفظ غيرها، فله أن يقرأه، أو أنه منسوخ بحديث تعيين الفاتحة، أو أن المراد: ما تيسر فيما زاد على الفاتحة، ويؤيده رواية أحمد، وابن حبان، فإنها عينت الفاتحة، وجعلت ما تيسر لما عداها، فيحتمل أن الراوي حيث قال: ما تيسر، ولم يذكر الفاتحة، ذهل عنها. ودل على إيجاب غير الفاتحة معها: لقوله: "بأم الكتاب، وبما شاء الله، أو شئت". ودل على أن من لم يحفظ القران يجزئه الحمد والتكبير والتهليل، وأنه لا يتعين عليه منه قدر مخصوص، ولا لفظ مخصوص. وقد ورد تعيين الألفاظ بأن يقول: سبحان الله، والحمد الله، ولا إله إلا الله، والله أكبر، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
ودل على وجوب الركوع، ووجوب الاطمئنان فيه. وفي لفظ لأحمد بيان كيفيته فقال: "فإذا ركعت، فاجعل راحتيك على ركبتيك، وامدد ظهرك، ومكّن ركوعك"، وفي رواية: "ثم تكبر، وتركع حتى تطمئن مفاصلك وتسترخي". ودل على وجوب الرفع من الركوع، وعلى وجوب الانتصاب قائماً، وعلى وجوب الاطمئنان لقوله: "حتى تطمئن قائماً". وقد قال المصنف: إنها بإسناد مسلم، وقد أخرجها السراج أيضاً بإسناد على شرط البخاري، فهي على شرط الشيخين.(1/121)
ودل على وجوب السجود، والطمأنينة فيه. وقد فصلتها رواية النسائي عن إسحاق بن أبي طلحة بلفظ: "ثم يكبر ويسجد حتى يمكن وجهه وجبهته حتى تطمئن مفاصله وتسترخي". ودل على وجوب القعود بين السجدتين. وفي رواية النسائي: "ثمَّ يكبر، فيرفع رأسه حتى يستوي قاعداً على مقعدته ويقيم صلبه"، وفي رواية: "فإذا رفعت رأسك، فاجلس على فخذك اليسرى"، فدل على أن هيئة القعود بين السجدتين بافتراش اليسرى.
ودل على أنه يجب أن يفعل كل ما ذكر في بقية ركعات صلاته، إلا تكبيرة الإحرام؛ فإنه معلوم: أن وجوبها خاص بالدخول في الصلاة أول ركعة. ودل على إيجاب القراءة في كل ركعة، وعلى ما عرفت من تفسير ما تيسر بالفاتحة، فتجب الفاتحة في كل ركعة، وتجب قراءة ما شاء معها في كل ركعة، ويأتي الكلام على إيجاب ما عدا الفاتحة في الاخرتين، والثالثة من المغرب.
واعلم أن هذا حديث جليل، تكرر من العلماء الاستدلال به على وجوب كل ما ذكر فيه، وعدم وجوب كل ما لم يذكر فيه.
أما الاستدلال على أن كل ما ذكر فيه واجب؛ فلأنه ساقه صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم بلفظ الأمر بعد قوله: "لن تتم الصلاة إلا بما ذكر فيه".
وأما الاستدلال بأن كل ما لم يذكر فيه لا يجب؛ فلأن المقام مقام تعليم الواجبات في الصلاة. فلو ترك ذكر بعض ما يجب: لكان فيه تأخير البيان عن وقت الحاجة، وهو لا يجوز بالإجماع.(1/122)
فإذا حصرت ألفاظ هذا الحديث الصحيح أخذ منها بالزائد، ثم إن عارض الوجوب الدال عليه ألفاظ هذا الحديث، أو عدم الوجوب: دليل أقوى منه عمل به، وإن جاءت صيغة أمر بشيء لم يذكر في هذا الحديث، احتمل أن يكون هذا الحديث قرينة على حمل الصيغة على الندب، واحتمل البقاء على الظاهر، فيحتاج إلى مرجح للعمل به. ومن الواجبات المتفق عليها، ولم تذكر في هذا الحديث: النية. قلت: كذا في الشرح. ولقائل أن يقول: قوله: "إذا قمت إلى الصلاة" دالّ على إيجابها إذ ليس النية إلا القصد إلى فعل الشيء. وقوله: فتوضأ: أي قاصداً له. ثم قال: والقعود الأخير: أي من الواجب المتفق عليه ولم يذكره في الحديث، ثم قال: ومن المختلف فيه التشهد الأخير، والصلاة على النبي صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم فيه، والسلام في اخر الصلاة.
وعن أبي حُميدٍ السّاعدي رضي الله تعالى عنه قالَ: رأيتُ رسولَ الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم إذا كَبّرَ جعلَ يَدَيْهِ حَذْوَ مَنْكبيه، وإذا رَكَعَ أمْكنَ يديهِ من ركبتيْهِ، ثمَّ هَصَرَ ظهرَهُ، فإِذ رفعَ رأسه استَوى حتى يعُودَ كُل فَقَارٍ مَكَانَهُ، فإذا سجدَ وضَعَ يديْهِ غَيْرَ مُفْترشٍ ولا قابضهما، واستقبل بأطرافِ أصابع رجْليْه القِبْلة، وإذا جلس في الرَّكْعتين جلس على رجْله اليُسرى ونَصَبَ الْيُمنى، وإذا جلس في الرَّكْعةِ الأخيرة قدَّمَ رجْلهُ اليُسْرَى ونَصَبَ الأخْرى، وقعدَ على مقْعدَتِهِ. أخرجه البخاري.
(وعن أبي حميد) بصيغة التصغير (الساعدي) هو أبو حميد بن عبد الرحمن بن سعد الأنصاري الخزرجي، الساعدي منسوب إلى ساعدة، وهو أبو الخزرج المدني، غلب عليه كنيته، مات اخر ولاية معاوية.(1/123)
(قال: رأيت رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم إذا كبرَ) أي للإحرام (جعل يديْه) أي كفيه (حَذْوَ:) بفتح الحاء المهملة وسكون الذال المعجمة (منْكبيْه) وهذا هو رفع اليدين عند تكبيرة الإحرام (وإذا ركعَ أمكن يديه من ركبتيه) تقدم بيانه: في رواية أحمد لحديث المسيء صلاته: "فإذا ركعت فاجعل راحتيك على ركبتيك، وامدد ظهرك، ومكن ركوعك" (ثمَّ هَصَر) بفتح الهاء فصاد مهملة مفتوحة فراء (ظهْره) قال الخطابي: أي ثناه في استواء من غير تقويس، وفي رواية للبخاري: "ثم حنى" بالحاء المهملة والنون وهو بمعناه، وفي رواية: "غير مقنع رأسه ولا مصوبه"، وفي رواية: "وفرّج بين أصابعه" (فإذا رفع رأسه) أي من الركوع (استوى) زاد أبو داود: ــــ فقال: سمع الله لمن حمده اللهم ربنا لك الحمد ورفع يديه"، وفي رواية لعبد الحميد زيادة: "حتى يحاذي بهما منكبيه معتدلاً" (حتى يعود كل فقار) بفتح الفاء والقاف اخره راء جمع فقارة، وهي عظام الظهر، وفيها رواية بتقديم القاف على الفاء (مكانه) وهي التي عبر عنها في حديث رفاعة بقوله: حتى ترجع العظام" (فإذا سجد وضع يديه غير مفترش) أي لهما. وعند ابن حبان: "غير مفترش ذراعيه"، (ولا قابضهما) بأن يضمهما إليه (واستقبل بأطراف أصابع رجليْه القبلة) ويأتي بيانه في شرح حديث: "أمرت أن أسجد على سبعة أعظم" (وإذا جلس في الركعتين) جلوس التشهد الأوسط (جلس على رجله اليسرى ونصب اليمنى، وإذا جلس في الركعة الأخيرة) للتشهد الأخير (قدم رجله اليسرى ونصب الأخرى، وقعد على مقعدته. أخرجه البخاري).(1/124)
حديث أبي حميد هذا روى عنه قولاً، وروى عنه فعلاً، واصفاً فيهما صلاته صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم. وفيه بيان صلاته صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم. وأنه كان عند تكبيرة الإحرام يرفع يديه حذو منكبيه، ففيه دليل على أن ذلك من أفعال الصلاة، وأن رفع اليدين مقارن للتكبير، وهو الذي دل عليه حديث وائل بن حجر عند أبي داود، وقد ورد تقديم الرفع على التكبير وعكسه، فورد بلفظ: "رفع يديه ثم كبر"، وبلفظ "كبر ثم رفع يديه". وللعلماء قولان: الأول: مقارنة الرفع للتكبير. والثاني: تقديم الرفع على التكبير، ولم يقل أحد بتقديم التكبير على الرفع، فهذه صفته.
وفي المنهاج وشرحه النجم الوهاج: الأول: رفعه ــــ وهو الأصح ــــ مع ابتدائه؛ لما رواه الشيخان عن ابن عمر: "أن النبي صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم كان يرفع يديه حذو منكبيه حين يكبر" فيكون ابتداؤه مع ابتدائه، ولا استصحاب في انتهائه، فإن فرغ من التكبير قبل تمام الرفع، أو بالعكس أتم الاخر، فإن فرغ منهما حط يديه، ولم يستدم الرفع. والثاني: يرفع غير مكبر ثم يكبر، ويداه قارتان، فإذا فرغ أرسلهما، لأن أبا داود رواه كذلك بإسناد حسن، وصحح هذا البغوي، واختاره الشيخ، ودليله في مسلم في رواية ابن عمر. والثالث: يرفع مع ابتداء التكبير ويكون انتهاؤه مع انتهائه، ويحطهما بعد فراغ التكبير، لا قبل فراغه، لأن الرفع للتكبير، فكان معه، وصححه المصنف، ونسبه إلى الجمهور. انتهى بلفظه، وفيه تحقيق الأقوال، وأدلتها، ودلت الأدلة أنه من العمل المخير فيه، فلا يتعين شيء بحكمه.(1/125)
وأما حكمه فقال داود، والأوزاعي، والحميدي شيخ البخاري، وجماعة: إنه واجب، لثبوته من فعله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم، فإنه قال المصنف: إنه روى رفع اليدين في أول الصلاة خمسون صحابياً، منهم العشرة المشهود لهم الجنة. وروى البيهقي عن الحاكم قال: لا تعلم سنة اتفق على روايتها عن رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم الخلفاء الأربعة، ثم العشرة المشهود لهم بالجنة، فمن بعدهم من الصحابة، مع تفرقهم في البلاد الشاسعة: غير هذه السنة. قال البيهقي: هو كما قال أستاذنا أبو عبد الله. قال الموجبون: قد ثبت الرفع عند تكبيرة الإحرام هذا الثبوت، وقد قال صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم: "صلوا كما رأيتموني أصلي" فلذا قلنا بالوجوب.
وقال غيرهم: إنه سنة من سنن الصلاة، وعليه الجمهور، وزيد بن عليّ، والقاسم، والناصر، والإمام يحيى. وبه قالت الأئمة الأربعة من أهل المذاهب، ولم يخالف فيه، ويقول: إنه ليس سنة، إلا الهادي، وبهذا تعرف: أن من روى عن الزيدية: أنهم لا يقولون به، فقد عمم النقل بلا علم. هذا.
وأما إلى أي محل يكون الرفع، فرواية أبي حميد هذه تفيد: أنه إلى مقابل المنكبين، والمنكب مجمع رأس عظم الكتف والعضد، وبه أخذت الشافعية، وقيل: إنه يرفع حتى يحاذي بهما فروع أذنيه، لحديث وائل بن حجر بلفظ: "حتى حاذى أذنيه" وجمع بين الحديثين: بأن المراد أنه يحاذي بظهر كفيه المنكبين، وبأطراف أنامله الأذنين، كما تدل له رواية لوائل عند أبي داود بلفظ: "حتى كانت حيال منكبيه ويحاذي بإبهاميه أذنيه".(1/126)
وقوله: "أمكن يديه من ركبتيه" قد فسر هذا الإمكان رواية أبي داود: "كأنه قابض عليهما"، وقوله: "هصر ظهره" تقدم قول الخطابي فيه، وتقدم في رواية: "ثم حنى" بالحاء المهملة والنون، وهو بمعناه، وفي رواية "غير مقنع رأسه ولا مصوبه" في رواية "وفرج بين أصابعه" وقد سبق. وقوله: "حتى يعود كل فقار" المراد منه: كمال الاعتدال، وتفسره رواية: "ثم يمكث قائماً حتى يقع كل عضو موضعه".
وفي ذكره كيفية الجلوسين الجلوس الأوسط، والأخير: دليل على تغايرهما، وأنه في الجلسة الأخيرة يتورّك: أي يفضي بوركه إلى الأرض، وينصب رجله اليمنى، وفيه خلاف بين العلماء سيأتي، وبهذا الحديث عمل الشافعي، ومن تابعه.
وعن عليِّ بن أبي طالب رضي الله عنه عنْ رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم: أنّهُ كان إذا قام إلى الصلاة قالَ: "وجّهْتُ وجْهي للذي فَطَرَ السّمواتِ والأرض ــــ إلى قوله: منَ المُسْلمين، اللهمَّ أنت الملك لا إلهَ إلاَّ أنت، أَنْت ربِّي وأنا عَبْدُك ــــ إلى اخره" رواهُ مُسْلمٌ، وفي رواية له: إنَّ ذلك في صلاة الليل.
(وعن علي بن أبي طالب رضي الله عنه: عن رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم: أنه كان إذا قام إلى الصلاة قال: (وجهت وجهي للذي فطر السموات) أي قصدت بعبادتي (إلى قوله: من المسلمين) وفيه روايتان: أن يقول: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ} بلفظ الاية، ورواية: وأنا من المسلمين، وإليها أشار المصنف (اللهم أنت الملك لا إله إلَّا أنت، أنت ربي وأنا عبدكَ إلى اخره. رواه مسلم) تمامه: "ظلمت نفسي، واعترفت بذنبي، فاغفر لي ذنوبي جميعاً، إنه لا يغفر الذنوب إلا أنت، واهدني لأحسن الأخلاق، لا يهدي لأحسنها إلا أنت، واصرف عني سيئها، لا يصرف عني سيئها إلا أنت، لبيك وسعديك، والخير كله في يديك، والشر ليس إليك، أنا بك وإليك، تباركت وتعاليت، أستغفرك وأتوب إليك".(1/127)
وقوله: "فطر السموات والأرض" أي ابتدأ خلقهما من غير مثال سبق. وقوله: "حنيفاً" أي مائلاً إلى الدين الحق، وهو الإسلام، وزيادة: "وما أنا من المشركين" بيان للحنيف، وأيضاً لمعناه، النسك: العبادة، وكل ما يتقرب به إلى الله، وعطفه على الصلاة من عطف العام على الخاص. وقوله: "ومحياي ومماتي" أي حياتي وموتي لله: أي هو المالك لهما والمختص بهما. وقوله: "رب العالمين" الرب: الملك، والعالمين جمع عالم مشتق من العلم، وهو اسم لجميع المخلوقات، كذا قيل. وفي القاموس العالم: الخلق كله، أو ما حواه بطن الفلك، ولا يجمع فاعل بالواو والنون غيره، وغير ياسم.
وقوله: "لا شريك له" تأكيد لقوله: "رب العالمين" المفهوم منه الاختصاص. وقوله: "اللهم أنت الملك" أي المالك لجميع المخلوقات. وقوله: "ظلمت نفسي" اعتراف بظلم نفسه، قدمه على سؤال المغفرة. ومعنى (لبيك) أقيم على طاعتك، وامتثال أمرك إقامة متكررة "وسعديك" أي أسعد أمرك، وأتبعه إسعاداً متكرراً. ومعنى "الخير كله في يديك" الإقرار بأن كل خير واصل إلى العباد، ومرجو وصوله، فهو في يديه تعالى. ومعنى "والشر ليس إليك" أي ليس مما يتقرب إليه به: أي يضاف إليك، فلا يقال يا رب الشر، أو لا يصعد إليك؛ فإنه إنما يصعد إليه الكلم الطيب، ومعنى "أنا بك وإليك" أي: التجائي وانتهائي إليك، وتوفيقي بك، ومعنى "تباركت": استحققت الثناء، أو ثبت الخير عندك، فهذا ما يقال في الاستفتاح مطلقاً.
(وفي رواية له) أي لمسلم: (أنَّ ذلك) كان يقوله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم (في صلاة الليل) ، ونقل المصنف في التلخيص عن الشافعي، وابن خزيمة: أنه يقال في المكتوبة، وأن حديث علي عليه السلام ورد فيها، فعلي كلامه هنا يحتمل أنه مختص بها هذا الذكر، ويحتمل أنه عام، وأنه يخير العبد بين قوله عقيب التكبير، أو قول ما أفاده:(1/128)
وعنْ أبي هُريرة رضي الله عنه قالَ: كان رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم إذا كبّرَ لِلصَّلَاةِ سَكَتَ هُنَيْهَةً، قَبْلَ أَنْ يقْرأَ، فسَأَلْتُهُ، فقالَ: "أقولُ: اللّهُمَّ باعدْ بيْني وبَيْنَ خطاياي كما باعدْتَ بين المشرق والمغْرِبِ، اللَّهُمَّ نقِّني من خَطايايَ، كما ينقّى الثّوبُ الأبيض من الدَّنس، اللهُمَّ اغسلني من خطايايَ بالماءِ والثلجِ والبرَدِ" متفق عليه.
(وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: كان رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم إذا كبر في الصلاة) أي تكبيرة الإحرام (سكت هُنيهة) بضم الهاء فنون فمثناة تحتية فهاء مفتوحة فتاء: أي ساعة لطيفة (قبل أن يقرأ فسألته) أي عن سكوته ما يقول فيه: (فقال: أقول: اللهم باعد ببين وبين خطاياي) المباعدة المراد بها: محو ما حصل منها، أو العصمة عما يأتي منها (كما باعدت بين المشرق والمغرب) فكما لا يجتمع المشرق والمغرب، لا يجتمع هو وخطاياه (اللهم نقِّني من خطايايَ، كما ينقى الثوبُ الأبيضُ من الدنس) بفتح الدال المهملة والنون فسين مهملة. في القاموس: أنه: الوسخ، والمراد: أزل عني الخطايا بهذه الإزالة (اللهم اغسلني من خطاياي بالماءِ والثلج والبرَد) بالتحريك جمع بردة قال الخطابي: ذكر الثلج والبرد تأكيد، أو لأنهما ماءان لم تستعملها الأيدي. وقال ابن دقيق العيد: عبر بذلك عن غاية المحو؛ فإن الثوب الذي تكرر عليه ثلاثة أشياء منقية يكون في غاية النقاء، وفيه أقوال أخر (متفق عليه).
وفي الحديث دليل: على أنه يقول هذا الذكر بين التكبيرة، والقراءة سراً، وأنه يخير العبد بين هذا الدعاء، والدعاء الذي في حديث علي عليه السلام، أو يجمع بينهما.
وعن عمر رضي الله عنه أنه كانَ يقولُ: سُبحانك اللهُمَّ وبحمدِكَ، وتَبَارَكَ اسمُك، وتعالى جَدُّكَ، ولا إله غيرُكَ، رواهُ مُسْلمٌ بسَنَدٍ منقطعٍ. ورواهُ الدارقطني موصولاً وموقُوفاً.(1/129)
(وعن عمر رضي الله عنه أنه كان يقول:) أي بعد تكبيرة الإحرام (سُبحانك اللهم وبحمدك) أي أسبحك حال كوني متلبساً بحمدك (تبارك اسمك، وتعالى جدُّكَ، ولا إله غيركَ. رواه مسلم بسند منقطع).
قال الحاكم: قد صح عن عمر. وقال في الهدي النبوي: إنه قد صح عن عمر: أنه كان يستفتح به في مقام النبي صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم، ويجهر به، ويعلمه الناس، وهو بهذا الوجه في حكم المرفوع، ولذا قال الإمام أحمد: أما أنا فأذهب إلى ما روي عن عمر، ولو أن رجلاً استفتح ببعض ما روي لكان حسناً، وقد ورد في التوجه بألفاظ كثيرة، والقول: بأنه يخير العبد بينها: قول حسن. وأما الجمع بين هذا وبين "وجهت وجهي" الذي تقدم، فقد ورد في حديث ابن عمر رواه الطبراني في الكبير وفي رواته ضعف (والدارقطني) عطف على مسلم: أي ورواه الدارقطني (موصولاً وموقوفاً) على عمر، وأخرجه أبو داود، والحاكم من حديث عائشة مرفوعاً: "كان رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم إذا استفتح الصلاة قال: سبحانك" الحديث. ورجال إسناده ثقات، وفيه انقطاع، وأعله أبو داود. وقال الدارقطني: ليس بالقوي.
ونحوه عنْ أبي سعيد الخُدْري رضي الله عنه مرفوعاً عنْدَ الخمسة، وفيه وكان يقولُ بعد التّكبير: "أعوذُ بالله السميع العليم من الشيطان الرَّجيم، من همزهِ، ونفْخهِ، ونَفْثِهِ".
(ونحوه) أي نحو حديث عمر (عن أبي سعيد مرفوعاً عند الخمسة، وفيه: وكان يقول بعد التكبير: أعوذ بالله السميع) لأقوالهم (العليم) بأقوالهم، وأفعالهم، وضمائرهم (من الشيطان الرجيم) المرجوم (من همزه) المراد به الجنون (ونَفْخه) بالنون فالفاء فالخاء المعجمة، والمراد به: الكبر (ونفثه) بالنون والفاء والمثلثة المراد به: الشعر وكأنه أراد به: الهجاء.
والحديث دليل: على الاستعاذة، وأنها بعد التكبيرة، والظاهر أنها أيضاً بعد التوجه بالأدعية؛ لأنها تعوذ القراءة، وهو قبلها.(1/130)
وعن عائشة رضي الله عنها قالت: كان رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم يَسْتفتِح الصَّلاةَ بالتّكبير، والقِرَاءَةَ بالحمد لله ربِّ العالمين. وكانَ إذا رَكَعَ لم يشْخِصْ رأسَهُ، ولمْ يُصَوِّبْهُ، ولكنْ بيْن ذلك. وكان إذا رَفَعَ من الركُوع لم يسْجُد حتى يسْتوي قائماً. وكانَ إذا رفَعَ رأسَهُ منَ السّجود، لم يسْجُدْ حتى يسْتويَ جَالِساً. وكانَ يقُولُ في كُلِّ ركعتين التّحِيَّةَ. وكان يَفْرشُ رجْلَهُ اليُسْرى ويَنْصِبُ الْيمنى. وكانَ ينْهى عنْ عُقْبَةِ الشّيطان، وينهى أنْ يفترشَ الرَّجل ذراعيهِ افْتراشَ السّبُع. وكان يخْتمُ الصَّلاة بالتسليم. أَخْرَجَهُ مُسْلمٌ، ولَهُ عِلّةٌ.(1/131)
(وعن عائشة رضي الله عنها قالت: كان رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم يستفتح) أي يفتتح (الصلاة بالتكبير) أي يقول: الله أكبر، كما ورد بهذا اللفظ في الحلية لأبي نعيم، والمراد: تكبيرة الإحرام، ويقال لها: تكبيرة الافتتاح (والقراءة) منصوب عطف على الصلاة: أي ويستفتح القراءة (بالحمد) بضم الدال على الحكاية (لله رب العالمين، وكان إذا ركع لم يشخص) بضم المثناة التحتية فشين فخاء معجمتان فصاد مهملة (رأسه) أي لم يرفعه (ولم يصَوِّبهُ) بضمها أيضاً وفتح الصاد المهملة وكسر الواو المشددة (أي لم يخفضه خفضاً بليغاً، بل بين الخفض والرفع، وهو التسوية، كما دل له قوله: (ولكن بين ذلك) أي بين المذكور من الخفض والرفع (وكان إذا رفع) أي رأسه (من الركوع لم يسجد حتى يستوي قائماً) تقدم في حديث أبي هريرة في أول الباب: "ثم ارفع حتى تعتدل قائماً" (وكان إذا رفع رأسه من السجود): أي الأول (لم يسجد) الثانية (حتى يَسْتوي) بينهما (جالساً) وتقدم: "ثم ارفع حتى تطمئن جالساً" (وكان يقول: في كل ركعتين) أي بعدهما (التحية) أي يتشهد بالتحيات لله، كما يأتي. ففي الثلاثية والرباعية، المراد به: الأوسط، وفي الثنائية: الأخير (وكان يفْرش رجلهُ اليسرى وينصب اليُمنى) ظاهره: أن هذا جلوسه في جميع الجلسات بين السجودين، وحال التشهدين. وتقدم في حديث أبي حميد: "وإذا جلس في الركعتين جلس على رجله اليسرى ونصب اليمنى" (وكان ينهى عن عُقْبة الشيطان) بضم العين المهملة وسكون القاف فموحدة، ويأتي تفسيرها (وينهى أن يفترش الرجل ذراعيه افتراش السّبع) بأن يبسطهما في سجوده، وفسر السبع: بالكلب، وورد في رواية: بلفظه، (وكان يختم الصلاة بالتسليم. أخرجه مسلم، وله علة) وهي: أنه أخرجه مسلم من رواية أبي الجوزاء بالجيم والزاي عن عائشة. قال ابن عبد البر: هو مرسل، أبو الجوزاء لم يسمع من عائشة. وأعل أيضاً: بأنه أخرجه مسلم من طريق الأوزاعي مكاتبة.(1/132)
والحديث فيه دلالة: على تعيين التكبير عند الدخول في الصلاة، وتقدم الكلام فيه: في حديث أبي هريرة أول الباب: واستدل بقولها: "والقراءة بالحمد": على أن البسملة ليست من الفاتحة، وهو قول أنس، وأبيّ من الصحابة، وقال به مالك، وأبو حنيفة، واخرون، وحجتهم هذا الحديث.
وقد أجيب عنه: بأن مرادها بالحمد لله رب العالمين: السورة نفسها، لا هذا اللفظ؛ فإن الفاتحة تسمى بالحمد لله رب العالمين، كما ثبت ذلك في صحيح البخاري، فلا حجة فيه على أن البسملة ليست من الفاتحة، ويأتي الكلام عليه مستوفى في حديث أنس قريباً. وتقدم الكلام على أنه في ركوعه لا يرفع رأسه، ولا يخفضه، كما تقدم على قوله: "وكان إذا رفع رأسه" إلى قوله:
"وكان يقول: التحية" والمراد بها: الثناء المعروف بالتحيات لله: الاتي لفظه في حديث ابن مسعود إن شاء الله تعالى، ففيه شرعية التشهد الأوسط، والأخير. ولا يدل على الوجوب؛ لأنه فعل، إلا أن يقال: إنه بيان لإجمال الصلاة في القران: المأمور بها وجوباً، والأفعال لبيان الواجب واجبة، أو يقال: بإيجاب أفعال الصلاة لقوله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم: "صلوا كما رأيتموني أصلي" وقد اختلف في التشهدين، فقيل: واجبان، وقيل: سنتان، وقيل: الأول سنة، والأخير واجب، ويأتي الكلام في حديث ابن مسعود إن شاء الله تعالى: على التشهد الأخير.
وأما الأوسط، فإنه استدل من قال بالوجوب بهذا الحديث كما قررناه، وبقوله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم: "إذا صلى أحدكم فليقل: التحيات لله" الحديث. ومن قال: بأنها سنة، استدل بأنه صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم لما سها عنه، لم يعد لأدائه، وجبره بسجود السهو، ولو وجب لم يجبره سجود السهو، كالركوع وغيره من الأركان، وقد رد هذا الاستدلال: بأنه يجوز أن يكون الوجوب مع الذكر، فإن نسي حتى دخل في فرض اخر: جبره سجود السهو.(1/133)
وفي قولها: "وكان يفرش رجله اليسرى وينصب اليمنى" ما يدل على أنه كان جلوسه صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم بين السجدتين، وحال التشهد، وقد ذهب إليها الهادوية، والحنفية، ولكن حديث أبي حميد الذي تقدم فرَّق بين الجلوسين، فجعل هذا صفة الجلوس بعد الركعتين، وجعل صفة الجلوس الأخير: تقديم رجله اليسرى، ونصب الأخرى، والقعود على مقعدته. وللعلماء خلاف في ذلك، والظاهر: أنه من الأفعال المخير فيها.
وفي قولها: "ينهى عن عقبة الشيطان" أي في القعود، وفسرت بتفسيرين: أحدهما: أنه يفترش قدميه ويجلس بأليتيه على عقبيه، ولكن هذه القعدة اختارها العبادلة في القعود غير الأخير، وهذه تسمى إقعاء، وجعلوا المنهي عنه هو الهيئة الثانية، وتسمى أيضاً: إقعاء وهي: أن يلصق الرجل أليتيه في الأرض، وينصب ساقيه وفخذيه، ويضع يديه على الأرض، كما يقعى الكلب. وافتراش الذراعين تقدم أنه: بسطهما على الأرض حال السجود، وقد نهى صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم عن التشبه بالحيوانات، نهى عن بروك: كبروك البعير، والتفات: كالتفات الثعلب، وافتراش: كافتراش السبع، وإقعاء: كإقعاء الكلب، ونقر: كنقر الغراب، ورفع الأيدي وقت السلام: كأذناب خيل شمس.
وفي قولها: "وكان يختم الصلاة بالتسليم" دلالة على شرعية التسليم، وأما إيجابه فيستدل له بما قدمناه سابقاً.
وعن ابن عُمَرَ رضي الله عنهما أنَّ النبيَّ صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم كان يرفعُ يديْهِ حَذْوَ مَنْكبيهِ إذا افْتَتَحَ الصَّلاةَ، وإذَ كَبّرَ للرُّكوعِ، وإذا رفع رأسهُ منَ الرُّكوعِ. متفق عليه.
(وعن ابن عمر: أن النبي صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم كانَ يرفع يديه حذوَ) بفتح الحاء المهملة وسكون الذال المعجمة: أي مقابل (منكبيه إذا افتتح الصلاة) تقدم في حديث أبي حميد الساعدي (وإذا كبّر للركوع) رفعهما (وإذا رفع رأسه) أي أراد أن يرفعه (من الركوع. متفق عليه).(1/134)
فيه شرعية رفع اليدين في هذه الثلاثة المواضع. أما عند تكبيرة الإحرام، فتقدم فيه الكلام. وأما عند الركوع والرفع منه، فهذا الحديث دل على مشروعية ذلك. قال محمد بن نصر المروزي: أجمع علماء الأمصار على ذلك، إلا أهل الكوفة.
قلت: والخلاف فيه للهادوية مطلقاً في المواضع الثلاثة. واستدل للهادي في البحر بقوله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم: "مالي أراكم. الحديث". قلت: وهو إشارة إلى حديث جابر بن سمرة، أخرجه مسلم، وأبو داود، والنسائي، ولفظه عنه قال: "كنا إذا صلينا مع رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم، قلنا بأيدينا: السلام عليكم ورحمة الله، وأشار بيديه إلى الجانبين، فقال رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم: علام تومئون بأيديكم. مالي أرى أيديكم، كأذناب خيل شمس، اسكنوا في الصلاة، وإنما يكفي أحدكم أن يضع يده على فخذه، ثم يسلم على أخيه: عن يمينه وشماله" انتهى بلفظه، وهو حديث صريح في أنه كان ذلك في إيمائهم بأيديهم عند السلام، والخروج من الصلاة، وسببه صريح في ذلك.
وأما قوله: "اسكنوا في الصلاة" فهو عائد إلى ما أنكره عليهم: من الإيماء إلى كل حركة في الصلاة: فإنه معلوم أن الصلاة مركبة من حركات، وسكون، وذكر الله. قال المقبلي في المنار على كلامم الإمام المهدي: إن كان هذا غفلة من الإمام إلى هذا الحد، فقد أبعد، وإن كان مع معرفته حقيقة الأمر فهو أورع وأرفع من ذلك. والإكثار في هذا لجاج مجرد، وأمر الرفع أوضح من أن تورد له الأحاديث المفردات، وقد كثرت كثرة لا توازى، وصحت صحة لا تمنع، ولذا لم يقع الخلاف المحقق فيه إلا للهادي فقط، فهي من النوادر التي تقع لأفراد العلماء، مثل مالك، والشافعي، وغيرهما، ما أحد منهم إلا له نادرة، ينبغي أن تغمر في جنب فضله، وتجتنب، انتهى.(1/135)
وخالفت الحنفية فيما عدا الرفع عند تكبيرة الإحرام، واحتجوا برواية مجاهد: "أنه صلى خلف ابن عمر فلم يره يفعل ذلك"، وبما أخرجه أبو داود من حديث ابن مسعود: "بأنه رأى النبي صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم يرفع يديه عند الافتتاح، ثم لا يعود"، وأجيب: بأن الأول فيه أبو بكر بن عياش، وقد ساء حفظه؛ ولأنه معارض برواية نافع، وسالم ابن عمر لذلك، وهما مثبتان، ومجاهد ناف، والمثبت مقدم، وبأن تركه لذلك إذا ثبت، كما رواه مجاهد، يكون مبيناً لجوازه، وأنه لا يراه واجباً، وبأن الثاني وهو حديث ابن مسعود لم يثبت كما قال الشافعي، ولو ثبت لكانت رواية ابن عمر مقدمة عليه؛ لأنها إثبات، وذلك نفي، والإثبات مقدم.
وقد نقل البخاري عن الحسن، وحميد بن هلال: أن الصحابة كانوا يفعلون ذلك. قال البخاري: ولم يستثن الحسن أحداً، ونقل عن شيخه علي بن المديني أنه قال: حق على المسلمين أن يرفعوا أيديهم عند الركوع، والرفع منه؛ لحديث ابن عمر، هذا. وزاد البخاري في موضع اخر بعد كلام ابن المديني: وكان عليّ أهم أهل زمانه، قال: ومن زعم أنه بدعة فقد طعن في الصحابة، ويدل له قوله:
وفي حديث أبي حُميدٍ، عند أبي داود: يرفعُ يديهِ حتى يحاذي بِهِمَا مَنْكبيه. ثمَّ يكبرُ.
(وفي حديث أبي حُميدٍ، عند أبي داود: يرفعُ يديهِ حتى يحاذي بِهِمَا مَنْكبيه. ثمَّ يكبرُ).(1/136)
تقدم حديث أبي حميد من رواية البخاري، لكن ليس فيه ذكر الرفع إلا عند تكبيرة الإحرام، بخلاف حديثه عند أبي داود، ففيه إثبات الرفع في الثلاثة المواضع، كما أفاده حديث ابن عمر، ولفظه عند أبي داود: "كان رسول الله صلى الله عليه واله وسلم، إذا قام إلى الصلاة اعتدل قائماً، ورفع يديه حتى يحاذي بهما منكبيه، فإذا أراد أن يركع رفع يديه حتى يحاذي بهما منكبيه" الحديث، تمامه: "ثم قال الله أكبر، وركع، ثم اعتدل، فلم يصوب رأسه، ولم يقنع، ووضع يديه على ركبتيه، ثم قال: سمع الله لمن حمد، ورفع يديه، واعتدل حتى رجع كل عظم إلى موضعه معتدلاً. الحديث". فأفاد رفعه رسول الله صلى الله عليه واله وسلم يديه في الثلاثة المواضع.
وكان على المصنف أن يقول بعد قوله ثم يكبر: الحديث، ليفيد: أن الاستدلال به جميعه، فإنه قد يتوهم أن حديث أبي حميد ليس فيه إلا الرفع عند تكبيرة الإحرام، كما أن قوله:
ولمسلم عن مالك بن الْحُوَيْرثِ نحو حديث ابن عُمَرَ، لكن قالَ: حتى يحاذي بهمَا فُروع أُذُنَيْهِ.
(ولمسلم عن مالك بن الحويرث: نحو حديث ابن عمر) أي الرفع في الثلاثة المواضع (لكن قال: حتى يحاذي بهما) أي اليدين (فروع أذنيه) أطرافهما. فخالف رواية ابن عمر، وأبي حميد في هذا اللفظ. فذهب البعض إلى ترجيح رواية ابن عمر؛ لكونها متفقاً عليها، وجمع اخرون بينهما فقالوا: يحاذي بظهر كفيه المنكبين، وبأطراف أنامله الأذنين، وأيدوا ذلك برواية أبي داود عن وائل بلفظ: "حتى كانت حيال منكبيه، وحاذى بإبهاميه أذنيه"، وهذا جمع حسن.
وعن وائل بن حُجْر قالَ: صَلّيْتُ مع النبيِّ صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم، فوضَعَ يدَهُ الْيُمْنَى على يدهِ اليُسْرى على صدره. أخْرَجَهُ ابنُ خُزَيْمَةَ.(1/137)
(وعن وائل) بفتح الواو وألف فهمزة، هو أبو هنيد بضم الهاء وفتح النون (بن حُجْر) بن ربيعة الحضرمي، كان أبوه من ملوك حضرموت، وفد وائل على النبي صلى الله عليه واله وسلم، فأسلم، ويقال: إنه صلى الله عليه واله وسلم بشر أصحابه قبل قدومه فقال: "يقدم عليكم وائل بن حجر من أرض بعيدة، طائعاً، راغباً في الله عز وجل وفي رسوله، وهو بقية أبناء الملوك، فلما دخل عليه صلى الله عليه واله وسلم رحب به وأدناه من نفسه، وبسط له رداءه فأجلسه عليه وقال: اللهم بارك على وائل وولده، واستعمله على الأقيال من حضرموت"، روى له الجماعة، إلا البخاري، وعاش إلى زمن معاوية، وبايع له. (قال: صلّيْت مع رسول الله: صلى الله عليه واله وسلم، فوضع يدهُ اليمنى على يده اليسرى على صدره: أخرجه ابن خزيمة) ، وأخرج أبو داود والنسائي بلفظ: "ثم وضع يده اليمنى على ظهر كفه اليسرى والرسغ والساعد"، الرسغ: بضم الراء وسكون السين المهملة بعدها معجمة: هو المفصل بين الساعد والكف.
والحديث: دليل على مشروعية الوضع المذكور في الصلاة، ومحله على الصدر، كما أفاد هذا الحديث، وقال النووي في المنهاج: ويجعل يديه تحت صدره. قال في شرح النجم الوهاج: عبارة الأصحاب "تحت صدره" يريد، والحديث بلفظ: "على صدره" قال: وكأنهم جعلوا التفاوت بينهما يسيراً، وقد ذهب إلى مشروعيته زيد بن علي، وأحمد بن عيسى. وروى أحمد بن عيسى حديث وائل هذا في كتابه الأمالي، وإليه ذهبت الشافعية، والحنفية. وذهبت الهادوية إلى عدم مشروعيته، وأنه يبطل الصلاة لكونه فعلاً كثيراً. قال ابن عبد البر: لم يأت عن النبي صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم فيه خلاف، وهو قول جمهور الصحابة والتابعين. قال: وهو الذي ذكره مالك في الموطأ، ولم يحك ابن المنذر، وغيره عن مالك غيره، وروى عن مالك الإرسال، وصار إليه أكثر أصحابه.(1/138)
وعن عبادة بنِ الصّامتِ قالَ: قالَ رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم: "لا صَلاةَ لمَنْ لمْ يقرَأْ بأُمِّ القران" متفقٌ عليه.
وفي رواية، لابن حبّان والدَّارقُطنيِّ: "لا تُجْزىء صلاةٌ لا يُقْرَأ فيها بفاتحة الكتاب".
وفي أُخرى، لأحْمَد وأبي داود، والترمذي، وابن حِبّان: "لَعلّكُمْ تقْرَءون خَلْف إمامِكُمْ"؟ قُلنا: نعم. قال: "لا تَفْعلوا إلَّا بفاتحة الكتاب، فإنهُ لا صلاةَ لمنْ لمْ يقرأ بها".
(وعن عبادة) بضم العين المهملة وتخفيف الموحدة وبعد الألف دال مهملة، وهو أبو الوليد عبادة (بن الصامت) بن قيس الخزرجي الأنصاري السالمي، كان من نقباء الأنصار، وشهد العقبة الأولى، والثانية، والثالثة، وشهد بدراً، والمشاهد كلها، وجهه عمر إلى الشام قاضياً، ومعلماً، فأقام بحمص، ثم انتقل إلى فلسطين، ومات بها في الرملة، وقيل: في بيت المقدس سنة أربع وثلاثين، وهو ابن اثنتين وسبعين سنة.
(قال: قال رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم: لا صلاة لمنْ لم يقرأ بأُمِّ القران. متفقٌ عليه) هو دليل على نفي الصلاة الشرعية إذا لم يقرأ فيها المصلي بالفاتحة؛ لأن الصلاة مركبة من أقوال وأفعال، والمركب ينتفي بانتفاء جميع أجزائه، وبانتفاء البعض، ولا حاجة إلى تقدير نفي الكمال؛ لأن التقدير إنما يكون عند تعذر صدق نفي الذات، إلا أن الحديث الذي أفاده قوله: (وفي رواية لابن حبان، والدارقطني: لا تجزىء صلاةٌ لا يقرأ فيها بفاتحة الكتاب) فيه دلالة: على أن النفي متوجه إلى الإجزاء، وهو كالنفي للذات في المال؛ لأن ما لا يجزىء، فليس بصلاة شرعية.(1/139)
والحديث دليل على وجوب قراءة الفاتحة في الصلاة، ولا يدل على إيجابها في كل ركعة، بل في الصلاة جملة، وفيه احتمال أنه في كل ركعة؛ لأن الركعة تسمى صلاة، وحديث المسيء صلاته قد دل على أن كل ركعة تسمى صلاة؛ لقوله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم بعد أن علمه ما يفعله في ركعة: "وافعل ذلك في صلاتك كلها" فدل على إيجابها في كل ركعة؛ لأنه أمر أن يقرأ فيها بفاتحة الكتاب، وإلى وجوبها في كل ركعة ذهبت الشافعية، وغيرهم.
وعند الهادوية، واخرين: أنها لا تجب قراءتها في كل ركعة، بل في جملة الصلاة.
والدليل ظاهر مع أهل القول الأول. وبيانه من وجهين:
الأول: أن في بعض ألفاظه بعد تعليمه صلى الله عليه واله وسلم له ما ذكره: من القراءة، والركوع، والسجود، والاطمئنان إلى اخره، أنه قال الراوي: فوصف أي: رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم واله الصلاة هكذا أربع ركعات، حتى فرغ، ثم قال: "لا تتم صلاة أحدكم حتى يفعل ذلك" ومعلوم أن المراد من قوله يفعل ذلك، أي: كل ما ذكره من القراءة بأم الكتاب، وغيرها في كل ركعة لقوله: فوصف الصلاة هكذا أربع ركعات.(1/140)
والثاني: أن ما ذكره صلى الله عليه واله وسلم مع القراءة: من صفات الركوع، والسجود، والاعتدال، ونحوه: مأمور به في كل ركعة، كما يفيده هذا الحديث. والمخالف في قراءة الفاتحة في كل ركعة، لا يقول ــــ إنه يكفي الركوع والسجود والاطمئنان في ركعة واحدة من صلاته؛ أو يفرقها في ركعاتها، فكيف يقول: إن القراءة بالفاتحة تنفرد من بين هذه المأمورات بأنها لا تجب إلا في ركعة واحدة، أو يفرق بين الركعات؟ وهذا تفريق بين أجزاء الدليل بلا دليل فتعين حينئذ أن المراد من قوله: "ثم افعل ذلك في صلاتك كلها": في ركعاتها، ثم رأيت بعد كتبه: أنه أخرج أحمد، والبيهقي، وابن حبان بسند صحيح، أنه صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم واله قال لخلاد بن رافع وهو المسيء صلاته: "ثم اصنع ذلك في كل ركعة"؛ ولأنه صلى الله عليه واله وسلم كان يقرأ بها في كل ركعة، كما رواه مسلم، وقال: "صلوا كما رأيتموني أصلي".
ثم ظاهر الحديث وجوب قراءتها في سرية وجهرية: للمنفرد، والمؤتم. أما المنفرد فظاهر، وأما المؤتم فدخوله في ذلك واضح، وزاده إيضاحاً في قوله: (وفي أخرى) من رواية عبادة (لأحمد، وأبي داود، والترمذي، وابن حبان: لعلكم تقْرءُون خلفَ إمامكم؟ قلنا: نعم، قال: لا تفعلوا إلَّا بفاتحة الكتابِ، فإنهُ لا صلاة لمنْ لم يقرأ بها) ، فإنه دليل على إيجاب قراءة الفاتحة خلف الإمام تخصيصاً، كما دل اللفظ الذي عند الشيخين بعمومه، وهو أيضاً ظاهر في عموم الصلاة: الجهرية، والسرية، وفي كل ركعة أيضاً، وإلى هذا مذهب الشافعية.
وذهبت الهادوية: إلى أنه لا يقرؤها المؤتم خلف إمامه في الجهرية إذا كان يسمع قراءته، ويقرؤها في السرية، وحيث لا يسمع في الجهرية. وقالت الحنفية: لا يقرؤها المأموم في سرية ولا جهرية، وحديث عبادة: حجة على الجميع.(1/141)
واستدلالهم بحديث: "من صلى خلف الإمام فقراءة الإمام قراءة له" مع كونه ضعيفاً. قال المصنف في التلخيص: بأنه مشهور من حديث جابر، وله طرق عن جماعة من الصحابة، كلها معلولة انتهى، وفي المنتهى: رواه الدارقطني من طرق كلها ضعاف، والصحيح أنه مرسل، لا يتم به الاستدلال؛ لأنه عام. لأن لفظ قراءة الإمام اسم جنس مضاف يعم كل ما يقرؤه الإمام، وكذلك قوله تعالى: {وَإِذَا قُرِىءَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُواْ لَهُ وَأَنصِتُواْ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} ، وحديث: "إذا قرأ فأنصتوا"، فإن هذه عمومات في الفاتحة وغيرها، وحديث عبادة خاص بالفاتحة فيخص به العام.
ثم اختلف القائلون بوجوب قراءتها خلف الإمام، فقيل، في محل سكتاته بين الايات، وقيل: في سكوته بعد تمام قراءة الفاتحة، ولا دليل على هذين القولين في الحديث، بل حديث عبادة دال أنها تقرأ عند قراءة الإمام الفاتحة، ويزيده إيضاحاً: ما أخرجه أبو داود من حديث عبادة: "أنه صلى خلف أبي نعيم، وأبو نعيم يجهر بالقراءة، فجعل عبادة يقرأ بأم القران، فلما انصرفوا من الصلاة، قال لعبادة بعض من سمعه يقرأ: سمعتك تقرأ بأم القران وأبو نعيم يجهر، قال: أجل، صلى بنا رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم بعض الصلوات التي يجهر فيها بالقراءة. قال: فالتبست عليه القراءة، فلما فرغ أقبل علينا بوجهه فقال: هل تقرءُون إذا جهرت بالقراءة؟ فقال بعضنا: نعم، إنا نصنع ذلك، قال: فلا، وأنا أقول: مالي ينازعني القران، فلا تقرءُوا بشيء إذا جهرت إلا بأُمِّ القران. فهذا عبادة راوي الحديث قرأ بها جهراً خلف الإمام؛ لأنه فهم من كلامه صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم: أنه يقرأ بها خلف الإمام جهراً، وإن نازعه.(1/142)
وأما أبو هريرة، فإنه أخرج عنه أبو داود: أنه لما حدث بقوله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم: "من صلى صلاة لا يقرأ فيها بأُم القران، فهي خداج، فهي خداج، فهي خداج، غير تمام". قال له الراوي عنه، وهو أبو السائب مولى هشام بن زهرة: يا أبا هريرة إني أكون أحياناً وراء الإمام، فغمز ذراعه، وقال: اقرأ بها يا فارسي في نفسك. الحديث. وأخرج عن مكحول: أنه كان يقول: اقرأ في المغرب، والعشاء، والصبح بفاتحة الكتاب، وفي كل ركعة سراً، ثم قال مكحول: اقرأ بها فيما جهر به الإمام إذا قرأ بفاتحة الكتاب وسكت سراً، فإن لم يسكت قرأتها قبله، ومعه، وبعده، لا تتركها على حال. وقد أخرج أبو داود من حديث أبي هريرة: "أنه أمره صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم: أن ينادي في المدينة: أنه لا صلاة إلا بقراءة فاتحة الكتاب، فما زاد"، وفي لفظ: "إلا بقران، ولو بفاتحة الكتاب، فما زاد"، إلا أنه يحمل على المنفرد، جمعاً بينه وبين حديث عبادة: الدالّ على أنه لا يقرأ خلف الإمام إلا بفاتحة الكتاب.
وعن أنس رضي الله عنه أنَّ النبي صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم وأبا بكر وعُمَر كانوا يَفْتَتِحُونَ الصَّلاة بالحمد لله ربِّ العالمين، متفق عليه.
زاد مسلمٌ: لا يَذكرونَ (بسم الله الرحمن الرحيم في أوَّل قِراءةٍ ولا في اخرها.
وفي رواية لأحمَدَ والنسائي وابن خُزيمة: لا يَجْهَرون ببسمِ الله الرَّحمنِ الرحيمِ.
وفي أُخرى لابن خُزيمة: كانوا يُسرونَ.
وعلى هذا يحمل النّفيُ في رواية مسلم، خلافاً لمنْ أَعَلّها.(1/143)
(وعن أنس رضي الله عنه، أن النبي صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم، وأبا بكر، وعمر كانوا يفتتحون الصلاة بالحمد لله رب العالمين) أي: القراءة في الصلاة بهذا اللفظ (متفق عليه). ولا يتم هنا أن يقال: ما قلناه في حديث عائشة: أن المراد بالحمد لله رب العالمين السورة، فلا يدل على حذف البسملة، بل يكون دليلاً عليها، إذ هي من مسمى السورة لقوله: (زاد مسلم: لا يذكرون بسم الله الرحمن الرحيم، في أول قراءة، ولا في اخرها) زيادة في المبالغة في النفي، وإلا فإنه ليس في اخرها بسملة، ويحتمل أن يريد باخرها: السورة الثانية التي تقرأ بعد الفاتحة.
والحديث دليل: على أن الثلاثة كانوا لا يسمعون من خلفهم لفظ البسملة عند قراءة الفاتحة جهراً، مع احتمال أنهم يقرءون البسملة سراً، ولا يقرءونها أصلاً، إلا أن قوله: (وفي رواية) أي عن أنس (لأحمد، والنسائي، وابن خزيمة: لا يجْهرون ببسم الله الرحمن الرحيم) يدل بمفهومه أنهم يقرءونها سراً، ودل قوله: (وفي أخرى) أي رواية أخرى عن أنس (لابن خزيمة: كانوا يسرون) فمنطوقه أنهم كانوا يقرءون بها سراً، ولذا قال المصنف: (وعلى هذا) أي على قراءة النبي صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم، وأبي بكر، وعمر البسملة سراً (يحمل النفي في رواية مسلم) حيث قال: لا يذكرون: أي: لا يذكرونها جهراً (خلافاً لمن أعلها) أي أبدى علة لما زاده مسلم، والعلة هي: أن الأوزاعي روى هذه الزيادة عن قتادة مكاتبة، وقد ردت هذه العلة: بأن الأوزاعي لم ينفرد بها، بل قد رواها غيره رواية صحيحة.
والحديث قد استدل به من يقول: إن البسملة لا يجهر بها في الفاتحة، ولا في غيرها، بناء على أن قوله: ولا في اخرها مراد به أول السورة الثانية، ومن أثبتها قال: المراد: أنه لم يجهر بها الثلاثة حال جهرهم بالفاتحة، بل يقرءونها سراً، كما قرره المصنف. وقد أطال العلماء في هذه المسئلة الكلام، وألف فيها بعض الأعلام، وبين أن حديث أنس مضطرب.(1/144)
قال ابن عبد البر في الاستذكار: بعد سرده روايات حديث أنس هذه ما لفظه: هذا الاضطراب لا تقوم معه حجة لأحد من الفقهاء الذين يقرؤون بسم الله الرحمن الرحيم، والذين لا يقرؤونها. وقد سئل عن ذلك أنس فقال: كبرت سني ونسيت انتهى، فلا حجة فيه. والأصل: أن البسملة من القران. وطال الجدال بين العلماء من الطوائف؛ لاختلاف المذاهب، وقد استوفينا البحث في حواشي شرح العمدة بما لا زيادة عليه. واختار جماعة من المحققين: أنها مثل سائر ايات القران، يجهر بها فيما يجهر فيه، ويسر بها فيما يسر فيه.
وأما الاستدلال بكونه صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم لم يقرأ بها في الفاتحة، ولا في غيرها في صلاته، على أنها ليست باية، والقراءة بها تدل على أنها اية، فلا ينهض؛ لأن ترك القراءة بها في الصلاة لو ثبت لا يدل على نفي قرانيتها؛ فإنه ليس الدليل على القرانية الجهر بالقراءة بالاية في الصلاة، بل الدليل أعم من ذلك، وإذا انتفى الدليل الخاص، لم ينتف الدليل العام.
وعنْ نُعَيْمِ المُجْمِر، قالَ: صَلّيتُ وراءَ أبي هريرة رضي الله تعالى عنه. فقرأ (بسم الله الرَّحمن الرَّحيم). ثمَّ قرأ بأُمِّ القُران، حتى إذا بلغ (ولا الضَّالين) قال: "امين" ويَقولُ كُلّما سجدَ، وإذا قامَ من الجلوس: الله أكبرُ، ثمَّ يقول إذا سَلّمَ: والذي نفسي بيده إني لأشْبَهُكُمْ صلاةً برسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم. رواهُ النسائي وابنُ خُزَيْمَةَ.(1/145)
(وعن نعيم) بضم النون وفتح العين المهملة مصغر (المجمر) بضم الميم وسكون الجيم وكسر الميم وبالراء، ويقال: وتشديد الميم الثانية، ذكره الحلبي في شرح العمدة، هو أبو عبد الله مولى عمر بن الخطاب، سمع من أبي هريرة، وغيره، وسمى مجمراً؛ لأنه أمر أن يجمر مسجد المدينة كل جمعة حين ينتصف النهار (قال: صليت وراء أبي هريرة، فقرأ بسم الله الرحمن الرحيم ثم قرأ بأُم القران، حتى إذا بلغ "ولا الضَّالين" قال: امين ويقول كلما سجد، وإذا قام من الجلوس) أي: التشهد الأوسط، وكذلك إذا قام من السجدة الأولى، والثانية (الله أكبر) وهو تكبير النقل (ثمَّ يقول) أي أبو هريرة: (إذا سلم والذي نفسي بيده) أي: روحي في تصرفه (إني لأشبهكم صلاة برسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم. رواه النسائي وابن خزيمة).
وذكره البخاري تعليقاً وأخرجه السراج، وابن حبان، وغيرهم، وبوب عليه النسائي: "الجهر ببسم الله الرحمن الرحيم"، وهو أصح حديث ورد في ذلك، فهو مؤيد للأصل، وهو كون البسملة حكمها: حكم الفاتحة في القراءة: جهراً، وإسراراً؛ إذ هو ظاهر في أنه كان صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم يقرأ بالبسملة؛ لقول أبي هريرة: "إني لأشبهكم صلاة برسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم"، وإن كان محتملاً: أنه يريد: في أكثر أفعال الصلاة، وأقوالها، إلا أنه خلاف الظاهر، ويبعد من الصحابي: أن يبتدع في صلاته شيئاً: لم يفعله رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم فيها، ثم يقول: والذي نفسي بيده إني لأشبهكم.
وفيه دليل: على شرعية التأمين للإمام، وقد أخرج الدارقطني في السنن من حديث وائل بن حجر: "سمعت رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم إذا قال: "غير المغضوب عليهم ولا الضالين". قال: امين يمد بها صوته" وقال: إنه حديث صحيح، ودليل على تكبير النقل، ويأتي ما فيه مستوفى، في حديث أبي هريرة.(1/146)
وأما الرعاف ففي نقضه الخلاف أيضاً، فمن قال بنقضه فهو عمل بهذا الحديث، ومن قال بعدم نقضه فإنه عمل بالأصل، ولم يرفع هذا الحديث.
وعن أبي هُريرة رضي الله عنه قال: قالَ رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم: "إذا قرأتُمُ الفاتحة فاقْرَءُوا: بسم الله الرَّحمن الرحيم، فإنها إحْدى اياتها" رواه الدارقطني، وصَوَّبَ وَقْفَهُ.
(وعن أبي هُريرة رضي الله عنه قال: قالَ رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم: "إذا قرأتُمُ الفاتحة فاقْرَءُوا: بسم الله الرَّحمن الرحيم، فإنها إحْدى اياتها" رواه الدارقطني، وصَوَّبَ وَقْفَهُ).
لا يدل الحديث هذا على الجهر بها، ولا الإسرار، بل يدل على الأمر بمطلق قراءتها، وقد ساق الدارقطني في السنن له أحاديث: في الجهر ببسم الله الرحمن الرحيم في الصلاة واسعة مرفوعة عن علي عليه السلام، وعن عمار، وعن ابن عباس، وعن ابن عمرو وعن أبي هريرة، وعن أم سَلمة، وعن جابر، وعن أنس بن مالك، ثم قال بعد سرد أحاديث هؤلاء، وغيرهم ما لفظه: وروى الجهر ببسم الله الرحمن الرحيم: عن النبي صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم: من أصحابه، ومن أزواجه غير من سمينا، كتبنا أحاديثهم بذلك في كتاب الجهر بها مفرداً، واقتصرنا على ما ذكرنا هنا؛ طلباً للاختصار، والتخفيف، انتهى لفظه.
والحديث دليل: على قراءة البسملة، وأنها إحدى ايات الفاتحة، وتقدم الكلام في ذلك.
وعَنْهُ قالَ: كان رسولُ الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم إذا فرَغَ من قراءة أُمِّ القران رَفَعَ صَوْته، وقال: "امين" رواهُ الدارقطني وحسّنهُ. والحاكمُ وصحّحهُ.
(وعنه) أي أبي هريرة (قال: كان رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم إذا فرغَ من قراءة أُمِّ القران رفعَ صوته وقال: امين. رواه الدارقطني وحسنه، والحاكم، وصححه) قال الحاكم: إسناده صحيح على شرطهما، وقال البيهقي: حسن صحيح.(1/147)
والحديث دليل على أنه يشرع للإمام التأمين بعد قراءة الفاتحة جهراً، وظاهره في الجهرية وفي السرية، وبشرعيته قالت الشافعية. وذهبت الهادوية: إلى عدم شرعيته، لما يأتي. وقالت الحنفية: يسر بها في الجهرية. ولمالك قولان: الأول: كالحنفية، والثاني: أن لا يقولها.
والحديث حجة بينة للشافعية. وليس في الحديث تعرض لتأمين المأموم، والمنفرد. وقد أخرج البخاري في شرعية التأمين للمأموم من حديث أبي هريرة قال: قال رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم: "إذا أمن الإمام فأمنوا؛ فإنه من وافق تأمينه تأمين الملائكة، غفر الله ما تقدم من ذنبه" وأخرج أيضاً من حديثه قال: قال رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم: "إذا قال الإمام ولا الضالين فقولوا: امين" الحديث، وأخرج أيضاً من حديثه مرفوعاً: "إذا قال أحدكم: امين، وقالت الملائكة في السماء: امين، فوافق أحدهما الاخر غفر الله له ما تقدم من ذنبه"، فدلت الأحاديث على شرعيته للمأموم، والأخير يعم المنفرد، وقد حمله الجمهور من القائلين به على الندب، وعن بعض أهل الظاهر: أنه للوجوب، عملاً بظاهر الأمر، فأوجبوه على كل مصلّ.
واستدلت الهادوية: على أنه بدعة مفسدة للصلاة بحديث: "إن هذه الصلاة لا يصلح فيها شيء من كلام الناس"، الحديث، ولا يتم به الاستدلال، لأن هذا قام الدليل على أنه من أذكار الصلاة، كالتسبيح، ونحوه، وكلام الناس المراد به: مكالمتهم، ومخاطبتهم، كما عرفت.
ولأبي داود والترمذي من حديث وائلْ بنِ حُجْرٍ نحوهُ.
(ولأبي داود والترمذي من حديث وائلْ بنِ حُجْرٍ نحوهُ).
أي نحو حديث أبي هريرة ولفظه في السنن: "إذا قرأ الإمام ولا الضالين قال: امين، ورفع بها صوته"، وفي لفظ له عنه: "أنه صلى خلف رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم، فجهر بامين" وامين بالمد والتخفيف في جميع الروايات، وعن جميع القراء، وحكى فيها لغات، ومعناها: اللهم استجب، وقيل: غير ذلك(1/148)
وعنْ عَبْدِ الله بنِ أبي أَوْفَى رضي الله عنهُ قالَ: جاءَ رَجلٌ إلى النبيِّ صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم فَقَالَ: إني لا أسْتطيعُ أنْ اخذَ منَ القُرانِ شيئاً، فعَلّمني ما يُجزئُني عنه. فقال: "قُل: سُبحان الله، والحمدُ لله، ولا إلهَ إلا الله والله أكبرُ، ولا حوْل ولا قوةَ إلا بالله العلي العظيم" الحديث. رواهُ أحْمدُ، وأبو داود، والنسائي. وصحّحهُ ابنُ حِبّان، والدارقطني، والحاكم.
(وعن عبد الله بن أبي أوفى) هو أبو إبراهيم، أو محمد، أو معاوية، واسم أبي أوفى، علقمة بن قيس بن الحرث الأسلمي، شهد الحديبية، وخيبر وما بعدهما، ولم يزل في المدينة حتى قبض صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم، فتحول إلى الكوفة، ومات بها، وهو اخر من مات بالكوفة من الصحابة. (قال: جاء رجل إلى النبي صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم فقال: إني لا أستطيع أن اخذ من القران شيئاً، فعلمني ما يجزئني عنه، فقال: قُلْ: سبحان الله والحمد لله، ولا إله إلا الله والله أكبر، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم. الحديث) بالنصب: أي أتم الحديث.
وتمامه في سنن أبي داود: "قال: أي الرجل: يا رسول الله هذا لله فما لي؟ قال: قل: اللهم ارحمني وارزقني وعافني واهدني، فلما قام، قال هكذا بيديه، فقال رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم: أما هذا فقد ملأ يديه من الخير" انتهى. إلا أنه ليس في سنن أبي داود العلي العظيم. (رواه أحمد، وأبو داود، والنسائي، وصححه ابن حبان، والدارقطني، والحاكم).
الحديث دليل على أن هذه الأذكار قائمة مقام القراءة للفاتحة، وغيرها، لمن لا يحسن ذلك، وظاهره: أنه لا يجب عليه تعلم القران ليقرأ به في الصلاة، فإن معنى لا أستطيع: لا أحفظ الان منه شيئاً، فلم يأمره بحفظه، وأمره بهذه الألفاظ، مع أنه يمكنه حفظ الفاتحة، كما يحفظ هذه. وقد تقدم في حديث المسيء صلاته.(1/149)
وعن أبي قتادَة رضي الله عنهُ قالَ: كان رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم يُصَلي بنا، فيَقْرأُ في الظُّهر والعصر ــــ في الركعتين الأوليَيْن ــــ بفاتحة الكتاب وسُورتين، ويسمعنا الاية أحياناً، ويُطَوِّلُ الرَّكْعةَ الأولى، ويقرأُ في الأخْريَيْن بفاتحة الكتاب. متفقٌ عليه.
(وعن أبي قتادة رضي الله عنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه واله وسلم يُصلي بنا فيقرأُ في الظهر والعصر في الركعتين الأوليين) بياءَيْنِ تثنية أولى (بفاتحة الكتاب) أي في كل ركعة منهما (وسورتين) أي: يقرؤهما في كل ركعة سورة (ويُسمعنا الاية أحياناً) وكأنه من هنا علموا مقدار قراءته (ويطوِّل الركعة الأولى) يجعل السورة فيها أطول من التي في الثانية (ويقرأ في الأخريين) تثنية أخرى (بفاتحة الكتاب) ، من غير زيادة عليها (متفق عليه).
فيه دليل: على شرعية قراءة الفاتحة في الأربع الركعات في كل واحدة، وقراءة سورة معها في كل ركعة من الأوليين، وأن هذا كان عادته عليه الصلاة والسلام، كما يدل له: كان يصلي؛ إذ هي عبارة تفيد الاستمرار غالباً. وإسماعهم الاية أحياناً دليل: على أنه لا يجب الإسرار في السرية، وأن ذلك لا يقتضي سجود السهو، وفي قوله: "أحياناً": ما يدل على أنه تكرر ذلك منه صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم. وقد أخرج النسائي من حديث البراء قال: "كنا نصلي خلف النبي صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم الظهر، ونسمع منه الاية بعد الاية من سورة لقمان، والذاريات" وأخرج ابن خزيمة من حديث أنس نحوه، ولكن قال: "سبح لله اسم ربك الأعلى، وهل أتاك حديث الغاشية".
وفي الحديث دليل على تطويل الركعة الأولى، ووجهه: ما أخرجه عبد الرزاق في اخر حديث أبي قتادة هذا: "وظننا أنه يريد بذلك أن يدرك الناس الركعة الأولى"، وأخرج أبو داود من حديث عبد الرزاق عن عطاء: "أني لأحب أن يطوِّل الإمام الركعة الأولى".(1/150)
وقد ادعى ابن حبان: أن التطويل إنما هو بترتيل القراءة فيها مع استواء المقروء. وقد روى مسلم من حديث حفصة: "كان يرتل السورة، حتى تكون أطول من أطول منها" وقيل: إنما طالت الأولى بدعاء الافتتاح والتعوذ، وأما القراءة فيها فهما سواء. وفي حديث أبي سعيد الاتي: ما يرشد إلى ذلك، وقال البيهقي: يطول في الأولى إن كان ينتظر أحداً، وإلا فيسوى بين الأوليين.
وفيه دليل: على أنه لا يزاد في الأخريين على الفاتحة، وكذلك الثالثة في المغرب، وإن كان مالك قد أخرج في الموطأ من طريق الصنابحي: "أنه سمع أبا بكر يقرأ فيها: {رَبَّنَا لاَ تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِن لَّدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ} الاية. وللشافعي: قولان في استحباب قراءة السورة في الأخريين.
وفيه دليل على جواز أن يخبر الإنسان بالظن، وإلا فمعرفة القراءة بالسورة لا طريق فيه إلى اليقين، وإسماع الاية أحياناً لا يدل على قراءة كل السورة، وحديث أبي سعيد الاتي: يدل على الإخبار عن ذلك بالظن. وكذا حديث خباب حين سئل: "بم كنتم تعرفون قراءة النبي صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم في الظهر والعصر؟ قال: باضطراب لحيته" ولو كانوا يعلمون قراءته فيهما بخبر عنه صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم لذكروه.
وعن أبي سعيد الخُدري رضي الله عنه قال: كُنّا نحْزُرُ قيامَ رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم في الظُّهر والعصْر، فَحَزَرْنَا قيامَهُ في الرَّكعتين الأوليين من الظُّهْر قَدْر: (الم. تنزيل) السّجدةَ. وفي الأخْريَين قَدْر النّصف منْ ذلك. وفي الأوليَيْن من العصر على قَدْر الأخريينِ مِنَ الظُّهر، والأخْرَيين على النِّصف من ذلك. رواه مُسلمٌ.(1/151)
(وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: كُنّا نحْزر) بفتح النون وسكون الحاء المهملة وضم الزاي نخرص ونقدر، وفي قوله: "كنا نحزر": ما يدل على أن المقدرين لذلك جماعة. وقد أخرج ابن ماجه رواية: أن الحازرين ثلاثون رجلاً من الصحابة (قيام رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم في الظهر والعصر، فحزرنا قيامه في الرَّكعتين الأوليين من الظُّهر قدر ألم تنزيل السّجدة) أي في كل ركعة بعد قراءة الفاتحة (وفي الأخريين قَدْرَ النّصف من ذلك) فيه دلالة على قراءة غير الفاتحة معها في الأخريين، ويزيده دلالة على ذلك قوله (وفي الأوليين من العصر على قدر الأخريين من الظُّهر) ، ومعلوم أنه كان يقرأ في الأوليين من العصر سورة غير الفاتحة (والأخْريين) أي من العصر (على النّصف من ذلك) أي من الأوليين منه (رواه مسلم).
الأحاديث في هذا قد اختلفت، فقد ورد أنها: "كانت صلاة الظهر تقام، فيذهب الذاهب إلى البقيع، فيقضي حاجته، ثم يأتي إلى أهله، فيتوضأ، ويدرك النبي صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم في الركعة الأولى؛ مما يطيلها" أخرجه مسلم، والنسائي عن أبي سعيد. وأخرج أحمد، ومسلم من حديث أبي سعيد أيضاً: "أن النبي صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم كان يقرأ في صلاة الظهر، في الركعتين الأوليين، في كل ركعة، قدر ثلاثين اية، وفي الأخريين قدر خمس عشرة اية، أو قال: نصف ذلك، وفي العصر: في الركعتين الأوليين: في كل ركعة قدر خمس عشرة اية، وفي الأخريين قدر نصف ذلك" هذا لفظ مسلم. وفيه دليل على أنه لا يقرأ في الأخريين من العصر إلا الفاتحة، وأنه يقرأ في الأخريين من الظهر غيرها معها.(1/152)
وتقدم حديث أبي قتادة: "أنه صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم كان يقرأ في الأخريين من الظهر بأُم الكتاب، ويسمعنا الاية أحياناً". وظاهره أنه لا يزيد على أُم الكتاب فيهما، ولعله أرجح من حديث أبي سعيد، من حيث الرواية؛ لأنه اتفق عليه الشيخان من حيث الرواية، ومن حيث الدراية؛ لأنه إخبار مجزوم به، وخبر أبي سعيد انفرد به مسلم؛ ولأنه خبر عن حزر وتقدير وتظنن، ويحتمل أن يجمع بينهما: بأنه صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم كان يصنع هذا تارة، فيقرأ في الأخريين غير الفاتحة معها، ويقتصر فيهما أحياناً، فتكون الزيادة عليها فيهما سنة، تفعل أحياناً، وتترك أحياناً.
وعن سليمان بن يسار قال: كان فلانٌ يطيل الأوليَين منَ الظُّهر، ويخفّف العصْر، ويقرأ في المغرب بقصار المُفَصَّل، وفي العِشاءِ بوَسَطه وفي الصُّبح بطوالِهِ. فقال أبو هُريرة: ما صَلّيتُ وراءَ أحَدٍ أشْبَهَ صلاةً برسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم مِنْ هذا. أخرجَهُ النسائي بإسنادٍ صحيح.(1/153)
(وعن سليمان بن يسار) هو أبو أيوب سليمان بن يسار بفتح المثناة التحتية وتخفيف السين المهملة، وهو مولى ميمونة: أم المؤمنين، وأخو عطاء بن يسار من أهل المدينة، وكبار التابعين. كان فقيهاً فاضلاً، ثقة عابداً، ورعاً حجة، وهو أحد الفقهاء السبعة (قال: كان فلان) في شرح السنة للبغوي: أن فلاناً يريد به: أميراً كان على المدينة. قيل: اسمه عمرو بن سلمة، وليس هو عمر بن عبد العزيز، كما قيل؛ لأن ولادة عمر بن عبد العزيز كانت بعد وفاة أبي هريرة، والحديث مصرح: بأن أبا هريرة صلى خلف فلان هذا (يُطيل الأوليين في الظهر ويخفف العصر، ويقرأ في المغرب بقصار المُفصل). اختلف في أول المفصل. فقيل: إنها من الصافات، أو الجاثية، أو القتال، أو الفتح، أو الحجرات، أو الصف، أو تبارك، أو سبح، أو الضحى، واتفق أن منتهاه اخر القران (وفي العشاء بوَسَطه، وفي الصبح بطِواله، فقال أبو هريرة: ما صَليْتُ وراءَ أحد أشبه صلاة برسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم من هذا. أخرجه النسائي بإسناد صحيح).
قال العلماء: السنة أن يقرأ في الصبح والظهر بطوال المفصل، ويكون الصبح أطول، وفي العشاء والعصر بأوسطه، وفي المغرب بقصاره. قالوا: والحكمة في تطويل الصبح والظهر: أنهما وقتا غفلة بالنوم في اخر الليل، والقائلة، فطولهما ليدركهما المتأخرون لغفلة، أو نوم، ونحوهما، وفي العصر ليست كذلك، بل هي في وقت الأعمال فخفت لذلك، وفي المغرب: لضيق الوقت، فاحتيج إلى زيادة تخفيفها، ولحاجة الناس إلى عشاء صائمهم وضيفهم، وفي العشاء لغلبة النوم، ولكن وقتها واسع، فأشبهت العصر، هكذا قالوه، وستعرف اختلاف أحوال صلاته صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم مما يأتي، بما لا يتم به هذا التفصيل.
وعَنْ جُبَيْر بن مُطعمٍ رضي الله عنه قالَ: سمعت رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم يقرأُ في المغْرب بالطُّور. متّفقٌ عليه.(1/154)
(وعن جبير بن مطعم رضي الله عنه) تقدم ضبطهما، وبيان حال جبير (قال: سمعت رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم: يقرأ في المغرب بالطور. متفق عليه).
قد بين في فتح الباري: أن سماعه لذلك كان قبل إسلامه، وهو دليل على أن المغرب لا يختص بقصار المفصل، وقد ورد: أنه صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم قرأ في المغرب بـ "المص"، وأنه قرأ فيها "بالصافات"، وأنه قرأ فيها "بحم الدخان"، وأنه قرأ فيها "سبح اسم ربك الأعلى"، وأنه قرأ فيها "والتين والزيتون"، وأنه قرأ فيها بالمعوذتين، وأنه قرأ فيها بالمرسلات، وأنه كان يقرأ فيها بقصار المفصل، وكلها أحاديث صحيحة.
وأما المداومة في المغرب على قصار المفصل، فإنما هو فعل مروان بن الحكم، وقد أنكر عليه زيد بن ثابت، وقال له: "مالك تقرأ بقصار المفصل، وقد رأيت رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم يقرأ في المغرب بطولى الطوليين" تثنية طولى، والمراد بهما: الأعراف، والأنعام، والأعراف أطول من الأنعام، إلى هنا أخرجه البخاري: وهي الأعراف. وقد أخرج النسائي: "أنه صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم فرق الأعراف في ركعتي المغرب. وقد قرأ في العشاء بالتين والزيتون، ووقت لمعاذ فيها بالشمس وضحاها، والليل إذا يغشى، وسبح اسم ربك الأعلى ونحوه" والجمع بين هذه الروايات: أنه وقع ذلك منه صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم باختلاف الحالات، والأوقات، والأشغال، عدماً ووجوداً.
وعن أبي هُريرة رضي الله عنهُ قالَ: كان رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم يَقْرَأُ في صلاة الفجر يَوْمَ الجُمُعةِ "ألم تنزيل" السّجدة، و"هَلْ أتَى على الإنسان" متّفق عليه.
(وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: كان رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم يقرأُ في صلاة الفجر يوم الجمعة ألم تنزيل السجدة) أي في الركعة الأولى (وهل أتى على الإنسان) أي في الثانية (متفق عليه).(1/155)
فيه دليل على أن ذلك كان دأبه صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم في تلك الصلاة، وزاد استمراره على ذلك بياناً قوله:
وللطبراني منْ حديث ابن مسْعودٍ: يديم ذلك.
(وللطبراني منْ حديث ابن مسْعودٍ: يديم ذلك).
أي يجعله عادة دائمة له. قال شيخ الإسلام ابن تيمية: السر في قراءتهما في صلاة فجر يوم الجمعة: أنهما تضمنتا ما كان، وما يكون في يومهما، فإنهما اشتملتا على خلق ادم، وعلى ذكر المعاد، وحشر العباد، وذلك يكون في يوم الجمعة، ففي قراءتهما تذكير للعباد بما كان فيه، ويكون. قلت: ليعتبروا بذكر ما كان، ويستعدوا لما يكون.
وعن حُذيفةَ رضي الله عنه قالَ: صَلّيْتُ مع النبي صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم فَمَا مَرّتِ به اية رحْمةٍ إلا وَقَفَ عنْدها يسْأَلُ. ولا اية عَذَاب إلَّا تَعوَّذ منها. أخرجهُ الخمسة. وحسنه الترمذي.
(وعن حذيفة رضي الله عنه قال: صليت مع النبي صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم فما مرّت به اية رحمةً إلا وقف عندها يسأل) أي يطلب من الله رحمته (ولا اية عذاب إلا تعوذ منها) مما ذكر فيها (أخرجه، وحسنه الترمذي).
في الحديث دليل على أنه ينبغي للقارئ في الصلاة تدبر ما يقرؤه، وسؤال رحمته، والاستعاذة من عذابه، ولعل هذا كان في صلاة الليل، وإنما قلنا ذلك؛ لأن حديث حذيفة مطلق، وورد تقييده بحديث عبد الرحمن بن أبي ليلى عن أبيه قال: "سمعت رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم يقرأ في صلاة ليست بفريضة، فمر بذكر الجنة والنار فقال: أعوذ بالله من النار ويل لأهل النار" رواه أحمد، وابن ماجه بمعناه، وأخرج أحمد عن عائشة: "قمت مع رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم ليلة التمام، فكان يقرأ بالبقرة، والنساء، وال عمران، ولا يمر باية فيها تخويف إلا دعا الله عز وجل، واستعاذ، ولا يمر باية فيها استبشار إلا دعا الله عز وجل، ورغب إليه".(1/156)
وأخرج النسائي، وأبو داود، من حديث عوف بن مالك: "قمت مع رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم، فبدأ، فاستاك، وتوضأ، ثم قام فصلى، فاستفتح البقرة، لا يمر باية رحمة إلا وقف، فسأل،ولا يمر باية عذاب إلا وقف، وتعوذ" الحديث، وليس لأبي داود ذكر السواك، والوضوء.
فهذا كله في النافلة، كما هو صريح الأول، وفي قيام الليل، كما يفيده الحديثان الاخران، فإنه لم يأت عنه صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم في رواية قط: أنه أمَّ الناس بالبقرة، وال عمران: في فريضة أصلاً. ولفظ: قمت يشعر أنه في الليل، فتم ما ترجينا بقولنا: ولعل هذا في صلاة الليل باعتبار ما ورد، فلو فعله أحد في الفريضة، فلعله لا بأس فيه، ولا يخلّ بصلاته، سيما إذا كان منفرداً؛ لئلا يشق على غيره إذا كان إماماً، وقولها: "ليلة التمام" في القاموس: ليلة التمام ككتاب، وليل تمام: أطول ليالي الشتاء، أو هي ثلاث لا يستبان نقصانها، أو هي إذا بلغت اثنتي عشرة ساعة فصاعداً. انتهى.
وعن ابن عبّاس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم: "ألا وإني نُهيت أن أقرأَ القران راكعاً أو ساجداً، فأما الرُّكوع فعَظِّمُوا فيه الرَّبَّ، وأمّا السُّجُودُ فاجْتَهِدُوا في الدُّعاءِ، فقمنٌ أَنْ يُستجابَ لكُم". رَوَاهُ مُسلمٌ.
(وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم: ألا وإني نهيت أن أقرأ القران راكعاً أو ساجداً) فكأنه قيل: فماذا تقول فيهما؟ فقال: (فأمَّا الرُّكوع فعظِّموا فيه الرَّب) قد بين كيفية هذا التعظيم حديث مسلم عن حذيفة: "فجعل يقول، أي: رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم: سبحان ربي العظيم" (وأما السجود فاجتهدوا في الدُّعاءِ فقَمِنٌ) بفتح القاف وكسر الميم، ومعناه: حقيق (أن يُستجاب لكم. رواه مسلم).(1/157)
الحديث دليل على تحريم قراءة القران حال الركوع والسجود، لأن الأصل في النهي التحريم، وظاهره وجوب تسبيح الركوع، ووجوب الدعاء في السجود؛ للأمر بهما. وقد ذهب إلى ذلك أحمد بن حنبل، وطائفة من المحدثين. وقال الجمهور: أنه مستحب؛ لحديث المسيء صلاته، فإنه لم يعلمه صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم ذلك، ولو كان واجباً لأمره به، ثم ظاهر قوله: "فعظموا فيه الرب": أنها تجزىء المرة الواحدة، ويكون بها ممتثلاً ما أمر به. وقد أخرج أبو داود من حديث ابن مسعود: "إذا ركع أحدكم فليقل ثلاث مرات: سبحان ربي العظيم، وذلك أدناه" ورواه الترمذي، وابن ماجه، إلا أنه قال أبو داود: فيه إرسال، وكذا قال البخاري، والترمذي، وفي قوله: "ذلك أدناه": ما يدل على أنها لا تجزىء المرة الواحدة.
والحديث دليل على مشروعية الدعاء حال السجود، بأي دعاء كان: من طلب خيري الدنيا والاخرة، والاستعاذة من شرهما، وأنه محل الإجابة، وقد بين بعض الأدعية ما أفاده قوله:
وعن عائشة رضي الله عنها قالتْ: كان رسولُ الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم يقولُ في ركوعهِ وسجوده: "سبحانك اللهمَّ ربّنا وبِحَمْدكَ، اللّهمَّ اغفرْ لي" مُتّفقٌ عليه.
(وعن عائشة رضي الله عنها قالت: كان رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم يقول في ركوعه وسجوده: سبحانك اللهمّ ربنا وبحمدك) الواو للعطف والمعطوف عليه ما يفيده ما قبله، والمعطوف متعلق بحمدك، والمعنى: أنزهك وأتلبس بحمدك، ويحتمل أن تكون للحال، والمراد: أسبحك، وأنا متلبس بحمدك: أي حال كوني متلبساً به (اللهم اغْفِرْ لي. متفقٌ عليه).
الحديث ورد بألفاظ منها: أنها قالت عائشة: (ما صلى النبي صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم بعد أن أنزلت عليه "إذا جاء نصر الله والفتح" إلا يقول: سبحانك ربنا وبحمدك، اللهم اغفر لي).(1/158)
والحديث دليل: على أن هذا من أذكار الركوع والسجود، ولا ينافيه حديث: "أما الركوع فعظموا في الرب"؛ لأن هذا الذكر زيادة على ذلك التعظيم، الذي كان يقوله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم، فيجمع بينه وبين هذا. وقوله: "اللهم اغفر لي" امتثال لقوله تعالى: "فسبح بحمد ربك واستغفره"، وفيه مسارعته صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم إلى امتثال ما أمره الله به، قياماً بحق العبودية، وتعظيماً لشأن الربوية، زاده الله شرفاً وفضلاً، وقد غفر له ما تقدم من ذنبه، وما تأخر.
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: كان رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم إذا قامَ إلى الصلاة يكبِّرُ حين يقُومُ، ثمَّ يكبّرُ حين يركعُ ثم يقولُ: "سَمِعَ الله لمن حمده" حين يرفعُ صُلبه من الرُّكوع، ثمَّ يقولُ وهو قائمٌ: "ربنا ولكَ الحمْدُ" ثمَّ يكبِّر حين يهْوى ساجداً، ثمَّ يكبِّر حين يرْفعُ رأسَهُ، ثمَّ يكبِّر حين يسْجُدُ، ثمَّ يكبِّر حينَ يرْفعُ، ثم يفْعَلُ ذلكَ في الصلاةِ كُلِّها، ويُكبِّرُ حين يقومُ من الثِّنْتَيْن بَعْدَ الجُلوس. متّفقٌ عليه.(1/159)
(وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: كان رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم إذا قام إلى الصلاة) أي إذا قام فيها (يكبر) أي: تكبيرة الإحرام (حين يقوم) فيه دليل: على أنه لا يتوجه ولا يصنع قبل التكبيرة شيئاً (ثم يكبر حين يركع) تكبيرة النقل (ثم يقول سمع الله لمنْ حمده) أي أجاب الله من حمده؛ فإن من حمد الله تعالى متعرضاً لثوابه، استجاب الله له، وأعطاه ما تعرض له، فناسب بعده أن يقول: "ربنا ولك الحمد" (حين يرفع صلبه من الركوع) فهذا في حال أخذه في رفع صلبه من هويه للقيام (ثم يقول: وهو قائمٌ ربنا ولك الحمد) بإثبات الواو للعطف على مقدر: أي ربنا أطعناك وحمدناك، أو للحال، أو زائدة، وورد في رواية: بحذفها، وهي نسخة في بلوغ المرام (ثم يكبر حين يهوى ساجداً) تكبير النقل (ثم يكبر حين يرفع رأسه) أي من السجود الأول (ثم يكبر حين يسجدُ) أي السجدة الثانية (ثم يكبر حين يرفع) أي من السجدة الثانية. هذا كله تكبير النقل (ثمَّ يفعلُ ذلك) أي ما ذكر، ما عدا التكبيرة الأولى التي للإحرام (في الصلاة) أي: ركعاتها (كلها، ويكبر حين يقوم من الثنتين بعد الجلوس) للتشهد الأوسط (متفق عليه).
الحديث دليل على شرعية ما ذكر فيه من الأذكار. فأما أول التكبير فهي تكبيرة الإحرام، وقد تقدم الدليل على وجوبها من غير هذا الحديث.
وأما ما عداها من التكبير الذي وصفه، فقد كان وقع من بعض أمراء بني أمية تركه تساهلاً، ولكنه استقر العمل من الأمة على فعله: في كل خفض، ورفع: في كل ركعة خمس تكبيرات، كما عرفته من لفظ هذا الحديث، ويزيد في الرباعية، والثلاثية: تكبير النهوض من التشهد الأوسط، فيتحصل في المكتوبات الخمس بتكبيرة الإحرام أربع وتسعون تكبيرة، ومن دونها تسع وثمانون تكبيرة.(1/160)
واختلف العلماء في حكم تكبير النقل: فقيل: إنه واجب، وروي قولاً لأحمد بن حنبل، وذلك لأنه صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم داوم عليه، وقد قال: "صلوا كما رأيتموني أصلي". وذهب الجمهور: إلى ندبه؛ لأنه صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم لم يعلمه المسيء صلاته، وإنما علمه تكبيرة الإحرام، وهو موضع البيان للواجب، ولا يجوز تأخيره عن وقت الحاجة. وأجيب عنه: بأنه قد أخرج تكبيرة النقل في حديث المسيء أبو داود من حديث رفاعة بن رافع، فإنه ساقه، وفيه: "ثم يقول: الله أكبر، ثم يركع" وذكر فيه قول: "سمع الله لمن حمده" وبقية تكبيرات النقل، وأخرجها الترمذي، والنسائي، ولذا ذهب أحمد، وداود إلى وجوب تكبير النقل.
وظاهر قوله: يكبر حين كذا، وحين كذا: أن التكبير يقارن هذه الحركات، فيشرع في التكبير عند ابتدائه للركن. وأما القول: بأنه يمد التكبير حتى يمد الحركة، كما في الشرح وغيره، فلا وجه له، بل يأتي باللفظ من غير زيادة على أدائه، ولا نقصان منه.
وظاهر قوله: ثم يقول "سمع الله لمن حمده ربنا ولك الحمد": أنه يشرع ذلك لكل مصلِّ: من إمام ومأموم، إذ هو حكاية لمطلق صلاته صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم، وإن كان يحتمل أنه حكاية لصلاته صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم إماماً، إذ المتبادر من الصلاة عند إطلاقها: الواجبة، وكانت صلاته صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم الواجبة جماعة، وهو الإمام فيها، إلا أنه لو فرض هذا، فإن قوله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم: "صلوا كما رأيتموني أصلي": أمر لكل مصلَ أن يصلي، كصلاته صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم: من إمام ومنفرد.(1/161)
وذهبت الشافعية، والهادوية، وغيرهم إلى: أن التسميع مطلقاً: لمتنفل، أو مفترض: وللإمام، والمنفرد، والحمد للمؤتمّ، لحديث: "إذا قال الإمام سمع الله لمن حمده، فقولوا: ربنا لك الحمد" أخرجه أبو داود. وأجيب: بأن قوله: "إذا قال الإمام سمع الله لمن حمده فقولوا: ربنا لك الحمد" لا ينفي قول المؤتم: سمع الله لمن حمده، وإنما يدل على أنه يقول المؤتمّ: ربنا لك الحمد عقب قول الإمام: سمع الله لمن حمده، والواقع هو ذلك؛ لأن الإمام يقول: سمع الله لمن حمده في حال انتقاله، والمأموم يقول التحميد في حال اعتداله، واستفيد الجمع بينهما من الحديث الأول. قلت: لكن أخرج أبو داود عن الشعبي: "لا يقول المؤتم خلف الإمام: سمع الله لمن حمده، ولكن يقول: "ربنا لك الحمد"، ولكنه موقوف على الشعبي، فلا تقوم به حجة.
وقد ادعى الطحاوي، وابن عبد البر الإجماع على كون المنفرد يجمع بينهما، وذهب اخرون إلى أنه يجمع بينهما الإمام والمنفرد، ويحمد المؤتم. قالوا: والحجة جمع الإمام بينهما؛ لاتحاد حكم الإمام والمنفرد.
وعن أبي سعيد الخُدري رضي الله عنه قالَ: كانَ رسولُ الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم إذَا رفعَ رأسَهُ منَ الرُّكوعِ قالَ: "اللهُمَّ رَبّنا لكَ الحمْدُ، ملءَ السّموات والأرض، وملءَ ما شئتَ من شيءٍ بَعْدُ، أَهْلَ الثّناءِ والمَجْد، أحَقُّ ما قال العَبْدُ ــــ وكلُّنا لكَ عَبْدٌ ــــ اللهُمَّ لا مانعَ لما أعْطيتَ، ولا مُعطِي لما مَنَعْتَ، ولا يَنْفَعُ ذا الجدِّ مِنْكَ الجَدُّ"، رواه مسلم.(1/162)
(وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: كان رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم إذا رفع رأسه من الركوع قال: اللهم) لم أجد لفظ اللهم في مسلم في رواية أبي سعيد، ووجدتها في رواية ابن عباس (ربنا لك الحمدُ ملء) بنصب الهمزة على المصدرية، ويجوز رفعه خبر مبتدأ محذوف (السموات والأرض) وفي سنن أبي داود وغيره: "وملء الأرض" وهي في رواية ابن عباس عند مسلم، فهذه الرواية كلها ليست لفظ أبي سعيد، لعدم وجود اللهم في أوله، ولا لفظ ابن عباس لوجود ملء الأرض فيها (وملء ما شئت من شيء بعدُ) بضم الدال على البناء للقطع عن الإضافة، ونية المضاف إليه (أهل) بنصبه على النداء، أو رفعه: أي أنت أهل (الثناء والمجد. أحق ما قال العبد) بالرفع خبر مبتدأ محذوف، وما مصدرية، تقديره هذا: أي قوله: اللهم لك الحمد، أحق قول العبد، وإنما لم يجعل: "لا مانع لما أعطيت" خبراً وأحق مبتدأ، لأنه محذوف في بعض الروايات، فجعلناه جملة استئنافية، إذا حذف تم الكلام من دون ذكره.
وفي الشرح: جعل أحق مبتدأ وخبره لا مانع لما أعطيت. وفي شرح المهذب نقلاً عن ابن الصلاح معناه: أحق ما قال العبد قوله: لا مانع لما أعطيت إلى اخره، وقوله: "وكلنا لك عبد" اعتراض بين المبتدأ والخبر. قال: أو يكون قوله: أحق ما قال العبد خبراً لما قبله: أي قوله: ربنا لك الحمد إلى اخره أحق ما قال العبد. قال: والأول أولى. قال النووي: لما فيه من كمال التفويض إلى الله تعالى، والاعتراف بكمال قدرته وعظمته وقهره وسلطانه، وانفراده بالوحدانية، وتدبير مخلوقاته انتهى (وكلنا لك عبْدٌ) ثم استأنف فقال: (اللهم لا مانع لما أعطيت ولا معطي لما مَنَعْتَ، ولا ينْفَعُ ذا الجدِّ منْك الجدُّ. رواه مسلم).(1/163)
الحديث دليل على مشروعية هذا الذكر في هذا الركن لكل مصلَ، وقد جعل الحمد كالأجسام، وجعله ساداً لما ذكره من الظروف، مبالغة في كثرة الحمد، وزاد مبالغة بذكر ما يشاؤه تعالى، مما لا يعلمه العبد، والثناء: الوصف بالجميل والمدح والمجد والعظمة ونهاية الشرف، والجد بفتح الجيم معناه الحظ: أي: لا ينفع ذا الحظ من عقوبتك حظه، بل ينفعه العمل الصالح، وروى بالكسر للجيم، أي: لا ينفعه جده واجتهاده، وقد ضعفت رواية الكسر.
وعن ابن عباس رضي الله عنهما قالَ: قالَ رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم: "أُمِرْت أن أَسْجُدَ على سبعة أعظمٍ: على الْجَبْهَةِ ــــ وأَشَارَ بيدهِ إلى أَنفِهِ ــــ واليَدَيْن، والرُّكْبتَيْن، وأَطْرَافِ القدمَين" متّفقٌ عليه.
(وعن ابن عباس رضي الله عنهما قالَ: قالَ رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم: "أُمِرْت أن أَسْجُدَ على سبعة أعظمٍ: على الْجَبْهَةِ ــــ وأَشَارَ بيدهِ إلى أَنفِهِ ــــ واليَدَيْن، والرُّكْبتَيْن، وأَطْرَافِ القدمَين" متّفقٌ عليه).(1/164)
وفي رواية: "أمرنا" أي: أيها الأمة، وفي رواية: "أمر النبي صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم" والثلاث الروايات: للبخاري، وقوله: "وأشار بيده إلى أنفه" فسرتها رواية النسائي. قال ابن طاوس: "وضع يده على جبهته، وأمرها على أنفه، وقال: هذا واحد" قال القرطبي: هذا يدل على أن الجبهة الأصل في السجود، والأنف تبع لها. قال ابن دقيق العيد: معناه: أنه جعلهما كأنهما عضو واحد، وإلا لكانت الأعضاء ثمانية. والمراد من اليدين: الكفان، وقد وقع بلفظهما في رواية، والمراد من قوله: "وأطراف القدمين": أن يجعل قدميه قائمتين على بطون أصابعهما: وعقباه مرتفعتان، فيستقبل بظهور قدميه القبلة. وقد ورد هذا في حديث أبي حميد في صفة السجود، وقيل: يندب ضم أصابع اليدين؛ لأنها لو انفرجت انحرفت رءوس بعضها عن القبلة، وأما أصابع الرجلين، فقد تقدم في حديث أبي حميد الساعدي في باب صفة الصلاة بلفظ: "واستقبل بأصابع رجليه القبلة". هذا.
والحديث دليل على وجوب السجود على ما ذكر؛ لأنه ذكر صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم بلفظ الإخبار عن أمر الله له، ولأمته، والأمر لا يرد إلا بنحو صيغة أفعل، وهي تفيد الوجوب.
وقد اختلف في ذلك، فالهادوية وأحد قولي الشافعي: أنه للوجوب: لهذا الحديث، وذهب أبو حنيفة: إلى أنه يجزىء السجود على الأنف فقط، مستدلاً بقوله: "وأشار بيده إلى أنفه". قال المصنف في فتح الباري: وقد احتج لأبي حنيفة بهذا: في السجود على الأنف، قال ابن دقيق العيد: والحق أن مثل هذا لا يعارض: التصريح بالجبهة، وإن أمكن أن يعتقد أنهما كعضو واحد، فذلك في التسمية والعبارة، لا في الحكم الذي دل عليه. انتهى.(1/165)
واعلم أنه وقع هنا في الشرح: أنه ذهب أبو حنيفة، وأحد قولي الشافعي، وأكثر الفقهاء إلى: أن الواجب الجبهة فقط؛ لقوله: صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم في حديث المسيء صلاته، "ومكن جبهتك"؛ فكان قرينة على حمل الأمر هنا على غير الوجوب. وأجيب عنه: بأن هذا لا يتم إلا بعد معرفة تقدم هذا على حديث المسيء صلاته، ليكون قرينة على حمل الأمر على الندب، وأما لو فرض تأخره لكان في هذا زيادة شرع، ويمكن أن تتأخر شرعيته، ومع جهل التاريخ: يرجح العمل بالموجب لزيادة الاحتياط، كذا قاله الشارح، وجعل السجود على الجبهة والأنف مذهباً للعترة، فحولنا عبارته إلى الهادوية، مع أنه ليس مذهبهم إلا السجود على الجبهة فقط، كما في البحر وغيره.
ولفظ الشرح هنا: والحديث فيه دلالة على وجوب السجود على ما ذكر فيه، وقد ذهب إلى هذا العترة، وأحد قولي الشافعي: انتهى.
وعرفت أنه وهم في قوله: إن أبا حنيفة يوجبه على الجبهة، فإنه يجيزه عليها، أو على الأنف، وأنه مخير في ذلك: ثم ظاهره وجوب السجود على العضو جميعه، ولا يكفي بعض ذلك، والجبهة يضع منها على الأرض ما أمكنه بدليل: "وتمكن جبهتك".
وظاهره أنه لا يجب كشف شيء من هذه الأعضاء؛ لأن مسمى السجود عليها يصدق بوضعها من دون كشفها، ولا خلاف أن كشف الركبتين غير واجب؛ لما يخاف من كشف العورة.(1/166)
واختلف في الجبهة. فقيل: يجب كشفها؛ لما أخرجه أبو داود في المراسيل: "أن رسول الله صلى الله عليه واله وسلم: رأى رجلاً يسجد على جنبه، وقد اعتم على جبهته، فحسر عن جبهته"، إلا أنه قد علق البخاري عن الحسن: "كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه واله وسلم يسجدون وأيديهم في ثيابهم، ويسجد الرجل منهم على عمامته"، ووصله البيهقي، وقال: هذا أصح ما في السجود موقوفاً على الصحابة، وقد وردت أحاديث: "أنه صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم كان يسجد على كور عمامته" من حديث ابن عباس: أخرجه أبو نعيم في الحلية، وفي إسناده ضعف، ومن حديث ابن أبي أوفى: أخرجه الطبراني في الأوسط، وفيه ضعف، ومن حديث جابر: عند ابن عدي، وفيه متروكان، ومن حديث أنس: عند ابن أبي حاتم في العلل، وفيه ضعف. وذكر هذه الأحاديث وغيرها البيهقي ثم قال: أحاديث "كان يسجد على كور عمامته" لا يثبت فيها شيء يعني: مرفوعاً. والأحاديث من الجانبين غير ناهضة على الإيجاب، وقوله: "سجد على جبهته" يصدق على الأمرين وإن كان مع عدم الحائل أظهر، فالأصل جواز الأمرين.
وأما حديث خباب: "شكونا إلى رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم حر الرمضاء في جباهنا وأكفنا، فلم يشكنا" الحديث. فلا دلالة فيه على كشف هذه الأعضاء، ولا عدمه، وفي حديث أنس عند مسلم: "أنه كان أحدهم يبسط ثوبه من شدة الحر، ثم يسجد عليه"، ولعل هذا مما لا خلاف فيه، والخلاف في السجود على محموله، فهو محل النزاع، وحديث أنس محتمل.
وعن ابن بُحَيْنَةَ أنَّ رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم: كان إذا صلى وسجد فرَّج بين يديه، حتى يبدو بياضُ إبطيه، متفق عليه.(1/167)
(وعن ابن بحينة) هو عبد الله بن مالك بن بحينة بضم الباء الموحدة وفتح الحاء المهملة، وسكون المثناة التحتية وبعدها نون، وهو اسم لأم عبد الله، واسم أبيه: مالك بن القشب بكسر القاف وسكون الشين المعجمة فموحدة الأزدي. مات عبد الله في ولاية معاوية بين سنة أربع وخمسين وثمان وخمسين: (أن النبي صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم كان إذا صلى وسجد فرَّج) بفتح الفاء وتشديد الراء اخره جيم (بين يديه) أي باعد بينهما: أي نحى كل يد على الجنب الذي يليها (حتى يبدو بياض إبطيه، متفق عليه).
الحديث دليل على فعل هذه الهيئة في الصلاة. قيل: والحكمة في ذلك: أن يظهر كل عضو بنفسه ويتميز، حتى يكون الإنسان الواحد في سجوده، كأنه عدد. ومقتضى هذا أن يستقل كل عضو بنفسه، ولا يعتمد بعض الأعضاء على بعض. وقد ورد هذا المعنى مصرحاً به فيما أخرجه الطبراني، وغيره: من حديث ابن عمر بإسناد ضعيف أنه قال: "لا تفترش افتراش السبع، واعتمد على راحتيك، وأبد ضبعيك، فإذا فعلت ذلك سجد كل عضو منك". وعند مسلم من حديث ميمونة: "كان النبي صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم يجافي بيديه، فلو أن بهيمة أرادت أن تمر مرت".(1/168)
وظاهر الحديث الأول، وهذا، مع قوله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم: "صلوا كما رأيتموني أصلي" يقتضي الوجوب، ولكنه قد أخرج أبو داود من حديث أبي هريرة: ما يدل على أن ذلك غير واجب بلفظ: "شكا أصحاب النبي صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم له مشقة السجود عليهم إذا تفرجوا، فقال: استعينوا بالركب"، وترجم له: (الرخصة في ترك التفريج) قال ابن عجلان أحد رواته: وذلك أن يضع مرفقيه على ركبتيه إذا أطال السجود، وقوله: "حتى يرى بياض إبطيه" ليس فيه، كما قيل دلالة: على أنه لم يكن صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم لابساً القميص؛ لأنه وإن كان لابساً فإنه قد يبدو منه أطراف إبطيه؛ لأنها كانت أكمام قمصان أهل ذلك العصر غير طويلة، فيمكن أن يرى الإبط من كمها، ولا دلالة فيه: على أنه لم يكن على إبطيه شعر، كما قيل، لأنه يمكن أن المراد يرى أطراف إبطيه، لا باطنهما حيث الشعر؛ فإنه لا يرى إلا بتكلف، وإن صح ما قيل: إن من خواصه صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم: أنه ليس على إبطيه شعر، فلا إشكال.
[رح33] ــــ وعن البراءِ بن عازبٍ رضي الله عنه قال: قالَ رسولُ الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم: "إذا سَجَدْتَ فَضَعْ كفّيك، وارْفعْ مرفقيْك" رواه مسلمٌ.
(وعن البراء) بفتح الموحدة فراء، وقيل: بالقصر ثم همزة ممدودة، هو أبو عمارة في الأشهر، وهو (ابن عازب) بعين مهملة فزاي بعد الألف مكسورة فموحدة: ابن الحرث الأوسي الأنصاري الحارثي، أول مشهد شهده الخندق، نزل الكوفة، وافتتح الريّ سنة أربع وعشرين في قول، وشهد مع أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام الجمل، وصفين، والنهروان. مات بالكوفة أيام مصعب بن الزبير (قال: قال رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم: إذا سجدت فضع كفّيْك وارفع مرفقيك. رواه مسلم).(1/169)
الحديث دليل على وجوب هذه الهيئة للأمر بها، وحمله العلماء على الاستحباب، قالوا: والحكمة فيه: أنه أشبه بالتواضع، وأتم في تمكين الجبهة والأنف من الأرض، وأبعد من هيئة الكسالى، فإن المنبسط يشبه الكلب، ويشعر حاله بالتهاون بالصلاة، وقلة الاعتناء بها، والإقبال عليها.
وهذا في حق الرجل، لا المرأة، فإنها تخالفه في ذلك؛ لما أخرجه أبو داود في مراسيله عن زيد بن أبي حبيب: أن النبي صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم مرَّ على امرأتين تصليان، فقال: "إذا سجدتما فضما بعض اللحم إلى الأرض، فإن المرأة في ذلك ليست كالرجل" قال البيهقي: وهذا المرسل أحسن من موصولين فيه: يعني: من حديثين موصولين، ذكرهما البيهقي في سننه، وضعفهما.
ومن السنة: تفريج الأصابع في الركوع؛ لما رواه أبو داود من حديث أبي حميد الساعدي: "أنه كان صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم يمسك يديه على ركبتيه كالقابض عليهما ويفرج بين أصابعه" ومن السنة في الركوع: أن يوتر يديه، فيجافي عن جنبيه، كما في حديث أبي حميد عند أبي داود بهذا اللفظ، ورواه ابن خزيمة: "ونحى يديه عن جنبيه" وتقدم قريباً، وذكر المصنف: حديث ابن بحينة هذا الذي ذكره في بلوغ المرام: في التلخيص مرتين. أولاً: في وصف ركوعه، وثانياً: في وصف سجوده، دليلاً على التفريج في الركوع، وهو صحيح، فإنه قال: "إذا صلى فرج بين يديه حتى يبدو بياض إبطيه"؛ فإنه يصدق على حالة الركوع والسجود.
وعن وائل بن حُجْر رضي الله عنه أنَّ النبي صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم: كان إذا ركعَ فَرَّجَ بين أصابعهِ، وإذا سَجَدَ ضَمَّ أَصَابَعَهُ. رواه الحاكِمُ.
(وعن وائل بن حجر: أن النبي صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم كان إذا ركع فرج بين أصابعه) أي أصابع يديه (وإذا سجد ضم أصابعه، رواه الحاكم) قال العلماء: الحكمة في ضمه أصابعه عند سجوده: لتكون متوجهة إلى سمت القبلة.(1/170)
وعن عائشة رضي الله عنها قالتْ: رأيتُ رسُول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم يُصَلي مُتربّعاً. رواهُ النسائي، وصحّحه ابنُ خُزيمة.
(وعن عائشة رضي الله عنها قالتْ: رأيتُ رسُول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم يُصَلي مُتربّعاً. رواهُ النسائي، وصحّحه ابنُ خُزيمة.)
وروى البيهقي من حديث عبد الله بن الزبير عن أبيه: "رأيت رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم يدعو هكذا، ووضع يديه على ركبتيه، وهو متربع جالس"، ورواه البيهقي عن حميد: "رأيت أنساً يصلي متربعاً على فراشه" وعلقه البخاري. قال العلماء: وصفة التربع: أن يجعل باطن قدمه اليمنى تحت الفخذ اليسرى، وباطن اليسرى تحت اليمنى: مطمئناً، وكفيه على ركبتيه مفرِّقاً أنامله، كالراكع.
والحديث دليل على كيفية قعود العليل إذا صلى من قعود؛ إذ الحديث وارد في ذلك، وهو في صفة صلاته صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم، لما سقط عن فرسه، فانفكت قدمه، فصلى متربعاً. وهذه القعدة اختارها الهادوية في قعود المريض لصلاته. ولغيرهم اختيار اخر، والدليل مع الهادوية، وهو هذا الحديث.
وعنْ ابن عباس رضي الله عنهما، أن النبي صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم كانَ يقولُ بينَ السّجْدَتينِ: "اللهمَّ اغفرْ لي، وارحَمْني، واهدني وعَافِني، وارْزُقني". رواه الأربعة إلا النسائيَّ، واللفظُ لأبي داود، وصَحّحهُ الحاكمُ.
(وعنْ ابن عباس رضي الله عنهما، أن النبي صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم كانَ يقولُ بينَ السّجْدَتينِ: "اللهمَّ اغفرْ لي، وارحَمْني، واهدني وعَافِني، وارْزُقني". رواه الأربعة إلا النسائيَّ، واللفظُ لأبي داود، وصَحّحهُ الحاكمُ).
ولفظ الترمذي: "واجبرني" بدل وارحمني، ولم يقل، وعافني. وجمع ابن ماجه في لفظ روايته بين: ارحمني، واجبرني، ولم يقل: اهدني، ولا عافني، وجمع الحاكم بينهما، إلا أنه لم يقل: وعافني.(1/171)
والحديث دليل: على شرعية الدعاء في القعود بين السجدتين، وظاهره أنه كان صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم يقوله جهراً.
وعن مالك بن الحُويْرثِ رضي الله عنهُ: أَنَّهُ رأى النبي صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم يُصَلي، فإذا كانَ في وترٍ من صلاته لمْ ينهض حتى يَسْتويَ قاعداً. رواهُ البُخاري.
(وعن مالك بن الحُويْرثِ رضي الله عنهُ: أَنَّهُ رأى النبي صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم يُصَلي، فإذا كانَ في وترٍ من صلاته لمْ ينهض حتى يَسْتويَ قاعداً. رواهُ البُخاري).
وفي لفظ له: "فإذا رفع رأسه من السجدة الثانية جلس، واعتمد على الأرض، ثم قام" وأخرج أبو داود من حديث أبي حميد في صفة صلاته صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم، وفيه: "ثم أهوى ساجداً، ثم ثنى رجليه، وقعد حتى رجع كل عضو في موضعه، ثم نهض" وقد ذكرت هذه القعدة في بعض ألفاظ رواية حديث المسيء صلاته.
وفي الحديث دليل: على شرعية هذه القعدة بعد السجدة الثانية من الركعة الأولى، والركعة الثالثة، ثم ينهض لأداء الركعة الثانية، أو الرابعة، وتسمى جلسة الاستراحة. وقد ذهب إلى القول بشرعيتها: الشافعي في أحد قوليه، وهو غير المشهور عنه. والمشهور عنه، وهو رأي الهادوية، والحنفية، ومالك، وأحمد، وإسحاق: أنه لا يشرع القعود، مستدلين: بحديث وائل بن حجر: في صفة صلاته صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم: بلفظ: "فكان إذا رفع رأسه من السجدتين استوى قائماً" أخرجه البزار في مسنده، إلا أنه ضعفه النووي، وبما رواه ابن المنذر من حديث النعمان بن أبي عياش: "أدركت غير واحد من أصحاب رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم، فكان إذا رفع رأسه من السجدة في أول ركعة وفي الثالثة قام كما هو ولم يجلس".
ويجاب عن الكل: بأنه لا منافاة؛ إذ من فعلها فلأنها سنة، ومن تركها فكذلك، وإن كان ذكرها في حديث المسيء يشعر بوجوبها، لكن لم يقل به أحد فيما أعلم.(1/172)
وعن أَنَس رضي الله عنه أنَّ النبيَّ صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم قَنَتَ شهراً، بَعْدَ الرُّكوع، يَدْعُو على أحياء من العرب، ثمَّ تركَهُ، متفقٌ عليه.
ولأحْمَدَ والدارقطني نحوُهُ من وجهٍ اخر، وزاد: وأمّا في الصُّبح فلمْ يزل يَقْنُتُ حتى فارق الدنيا.
(وعن أنس رضي الله عنه: أن رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم قَنَتَ شهراً بعد الرُّكوع يدعو على أحياء من العرب) وورد تعيينهم: أنهم، رعل، وعصية وبنو لحيان. (ثم تركه. متفق عليه) لفظه في البخاري مطولاً عن عاصم الأحول قال: "سألت أنس بن مالك عن القنوت فقال: قد كان القنوت، قلت: قبل الركوع أو بعده؟ قال: قبله، قلت: فإن فلاناً أخبرني عنك أنك قلت: بعد الركوع، قال: كذب، إنما قنت رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم بعد الركوع شهراً، أراه، كان بعث قوماً يقال لهم: القراء، زهاء سبعين رجلاً إلى قوم من المشركين، فغدروا، وقتلوا القراء، دون أولئك، وكان بينهم وبين رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم عهد، فقنت رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم شهراً يدعو عليهم".
(ولأحمد، والدارقطني: نحوه) أي من حديث أنس: (من وجه اخر، وزاد: فأما في الصبح، فلم يزل يقنت حتى فارق الدنيا) ، فقوله في الحديث الأول: "ثمَّ تركه" أي فيما عدا الفجر، ويدل على أنه أراده: قوله: "فلم يزل يقنت في كل صلاته". هذا، والأحاديث عن أنس في القنوت قد اضطربت، وتعارضت في صلاة الغداة.(1/173)
وقد جمع بينها في الهدى النبوي فقال: أحاديث أنس كلها صحاح، يصدق بعضها بعضاً، ولا تناقض فيها، والقنوت الذي ذكره قبل الركوع غير الذي ذكره بعده، والذي وقته غير الذي أطلقه، فالذي ذكره قبل الركوع هو إطالة القيام للقراءة، الذي قال فيه النبي صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم: "أفضل الصلاة طول القيام"، والذي ذكره بعد، هو: إطالة القيام للدعاء، ففعله شهراً يدعو إلى قوم، ويدعو لقوم، ثم استمر تطويل هذا الركن للدعاء والثناء إلى أن فارق الدنيا، كما دل له الحديث: "أن أنساً كان إذا رفع رأسه من الركوع انتصب قائماً حتى يقول القائل: قد نسى، وأخبرهم أن هذه صفة صلاته صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم" أخرجه عنه في الصحيحين، فهذا هو القنوت الذي قال فيه أنس: "إنه ما زال صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم حتى فارق الدنيا"، والذي تركه هو الدعاء على أقوام من العرب، وكان بعد الركوع، فمراد أنس بالقنوت: قبل الركوع، وبعده، الذي أخبر أنه ما زال عليه: هو إطالة القيام في هذين المحلين بقراءة القران، وبالدعاء.
هذا مضمون كلامه. ولا يخفى أنه لا يوافق قوله: "فأما في الصبح فلم يزل يقنت حتى فارق الدنيا". وأنه دل على أن ذلك خاص بالفجر، وإطالة القيام بعد الركوع عام للصلوات جميعها. وأما حديث أبي هريرة الذي أخرجه الحاكم، وصححه: "بأنه كان رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم إذا رفع رأسه من الركوع من صلاة الصبح الركعة الثانية، يرفع يديه، فيدعو بهذا الدعاء: اللهم اهدني فيمن هديت إلى اخره". ففيه عبد الله بن سعيد المقبري ولا تقوم به حجة. وقد ذهب: إلى أن الدعاء عقيب اخر ركوع من الفجر سنة جماعة من السلف، ومن الخلف: الهادي، والقاسم، وزيد بن علي والشافعي. وإن اختلفوا في ألفاظه، فعند الهادي: بدعاء من القران، وعند الشافعي: بحديث: "اللهم اهدني فيمن هديت إلى اخره".(1/174)
وعنه رضي الله عنه أنَّ النبي صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم: كان لا يقْنُتُ إلا إذا دعَا لِقَوْم، أو دعا على قوم، صَحّحهُ ابنُ خزيمةَ.
(وعنه) أي أنس: (أن النبي صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم كان لا يقنت إلا إذا دعا لقوم أو دعا على قوم. صححه ابن خزيمة). أما دعاؤه لقوم فكما ثبت: أنه كان يدعو للمستضعفين من أهل مكة. وأما دعاؤه على قوم، فكما عرفته قريباً.
ومن هنا قال بعض العلماء: يسن القنوت في النوازل، فيدعو بما يناسب الحادثة. وإذا عرفت هذا فالقول: بأنه يسن في النوازل: قول حسن، تأسياً بما فعله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم: في دعائه على أولئك الأحياء من العرب، إلا أنه قد يقال: قد نزل به صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم حوادث، كحصار الخندق، وغيره، ولم يرو أنه قنت فيه، ولعله يقال: الترك لبيان الجواز.
وقد ذهب أبو حنيفة: وأبو يوسف: إلى أنه منهي عن القنوت في الفجر وكأنهم استدلوا بقوله:
وعن سعد بن طارق الأشجعي رضي الله عنه قالَ: قلتُ لأبي: يا أبَتِ، إنك قد صلّيت خلْف رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم، وأبي بكْر، وعُمَرَ، وعُثْمان، وعليَ، أَفكانوا يَقْنُتُون في الفَجْر؟ قالَ: أي بُنيَّ، محدثٌ، رواه الخمسةُ إلا أبا داود.(1/175)
(وعن سعيد) كذا في نسخ البلوغ سعيد وهو سعد بغير مثناة تحتية (بن طارق الأشجعي قال: قلت لأبي:) وهو طارق بن أشيم بفتح الهمزة فشين معجمة فمثناة تحتية مفتوحة بزنة أحمر، قال ابن عبد البر: يعد في الكوفيين. روى عنه ابنه أبو مالك سعد بن طارق (يا أبت إنك صليْتَ خَلْف رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم، وأبي بكر، وعُمَر، وعثمان، وعلي، أفكانوا يقنتون في الفجر؟ فقال: أيْ بُنيّ: محدثٌ. رواه الخمسة إلا أبا داود). وقد روى خلافه عمن ذكر. والجمع بينهما. أنه وقت القنوت لهم تارة، وتركوه أخرى، وأما أبو حنيفة، ومن ذكر معه، فإنهم جعلوه منهياً عنه؛ لهذا الحديث؛ لأنه إذا كان محدثاً فهو بدعة، والبدعة منهي عنها.
وعن الحسَن بنْ علي رضي الله عنهما أنَّهُ قالَ: علّمني رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم كلماتٍ أقُولُهُنَّ في قُنُوت الوتْر: "اللهمَّ اهدني فيمَنْ هديْتَ، وعافِني فيمَنْ عَافَيْت، وتولَّني فيمنْ توَلّيت، وبارك لي فيما أَعْطَيْتَ، وقِني شرَّ ما قَضَيْتَ، فإنّكَ تَقْضِي ولا يُقْضَى عليكَ، وإنّهُ لا يذِلُّ مَنْ والَيْتَ، تَبَارَكْتَ ربّنا وتعالَيْت" رواه الخمسة. وزاد الطّبرانيُّ والبيهقي: "ولا يعزُّ من عادَيْت" زادَ النسائي منْ وجْهٍ اخر في اخرهِ: "وصلَّى الله تعالى على النبيِّ".(1/176)
(وعن الحسن بن علي عليهما السلام) هو أبو محمد الحسن بن علي، سبط رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم. ولد في النصف من شهر رمضان: سنة ثلاث من الهجرة. قال ابن عبد البر: إنه أصح ما قيل في ذلك. وقال أيضاً: كان الحسن حليماً ورعاً فاضلاً، ودعاه ورعه وفضله إلى أنه ترك الدنيا والملك: رغبة فيما عند الله، بايعوه بعد أبيه عليه السلام، فبقي نحواً من سبعة أشهر خليفة بالعراق، وما وراءهما من خراسان، وفضائله لا تحصى، وقد ذكرنا منها شطراً صالحاً في الروضة الندية. وفاته سنة إحدى وخمسين بالمدينة النبوية، ودفن في البقيع، وقد أطال ابن عبد البر في الاستيعاب: في عده لفضائله.
(قال: علمني رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم كلمات أقولهنّ في قنوت الوتر) أي في دعائه وليس فيه بيان لمحله (اللهُمُّ اهدني فيمَنْ هديْت وعافني فيمنْ عافيْت وتولّني فيمن توليت وبارك لي فيما أعطَيْت وقِني شر ما قَضَيْت فإنك تقْضي ولا يُقضى عليْك وإنه لا يذلُّ من واليْت، تباركت ربنا وتعاليْت، رواه الخمسة، وزاد الطبراني، والبيهقي) بعد قوله: ولا يذل من واليت (ولا يعِزُّ من عاديتَ. زاد النسائي في وجه آخر في آخره: وصلى الله على النبيِّ إلخ). إلا أنه قال المصنف في تخريج أحاديث الأذكار: إن هذه الزيادة غريبة لا تثبت؛ لأن فيها عبد الله بن علي، لا يعرف، وعلى القول: بأنه عبد الله بن علي بن الحسين بن علي، فالسند منقطع؛ فإنه لم يسمع من عمه الحسن؛ ثم قال: فتبين أن هذا الحديث ليس من شرط الحسن، لانقطاعه، أو جهالة رواته. انتهى. فكان عليه أن يقول: ولا تثبت هذه الزيادة.
والحديث دليل على مشروعية القنوت في صلاة الوتر، وهو مجمع عليه في النصف الأخير من رمضان، وذهب الهادوية، وغيرهم: إلى أنه يشرع أيضاً في غيره، إلا أن الهادوية لا يجيزونه بالدعاء من غير القران. والشافعية يقولون: إنه يقنت بهذا الدعاء في صلاة الفجر، ومستندهم في ذلك قوله:(1/177)
وللبيْهقيِّ عن ابن عباسٍ قال: كانَ رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم يُعَلِّمْنا دُعاءً ندعو به في القُنُوتِ من صلاة الصُّبح وفي سَنَدِهِ ضَعْفٌ.
(وللبيهقي عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: كان رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم يُعلمنا دُعاءً ندعو به في القنوت من صلاة الصبح) قلت: أجمله هنا، وذكره في تخريج الأذكار من رواية البيهقي وقال: "اللهم اهدني. الحديث" إلى اخره، رواه البيهقي من طرق أحدها عن بريد: بالموحدة والراء تصغير برد، وهو ثقبة بن أبي مريم. سمعت ابن الحنفية، وابن عباس يقولان: "كان النبي صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم يقنت في صلاة الصبح، ووتر الليل بهؤلاء الكلمات"، وفي إسناده مجهول، وروى من طريق أخرى، وهي التي ساق المصنف لفظها عن ابن جريج بلفظ: "يعلمنا دعاء ندعو به في القنوت من صلاة الصبح" وفيه عبد الرحمن بن هرمز ضعيف، ولذا قال المصنف: (وفي سنده ضعف).
وعن أَبي هُريرةَ قال: قالَ رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم: "إذا سَجَدَ أَحدُكمْ فلا يَبْرُكْ كما يبركُ البعيرُ، ولْيَضَعْ يديه قبلَ ركبتيهِ، أخرجه الثلاثة، وهوَ أقوى من حديث وائل بن حُجْر:(1/178)
(وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم: إذا سجد أحدُكم، فلا يبرك كما يبرك البعير، وليضع يديه قبل ركبتيه. أخرجه الثلاثة). هذا الحديث أخرجه أهل السنن، وعلله البخاري والترمذي، والدارقطني. قال البخاري: محمد بن عبد الله بن الحسن لا يتابع عليه. وقال: لا أدري: سمع من أبي الزناد أم لا. وقال الترمذي: غريب لا نعرفه من حديث أبي الزناد. وقد أخرجه النسائي من حديث أبي هريرة أيضاً عنه: "أن النبي صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم" ولم يذكر فيه: "وليضع يديه قبل ركبتيه"، وقد أخرج ابن أبي داود من حديث أبي هريرة: "أن النبي صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم كان إذا سجد بدأ بيديه قبل ركبتيه"، ومثله أخرج الدراوردي من حديث ابن عمر، وهو الشاهد الذي سيشير المصنف إليه. وقد أخرج ابن خزيمة في صحيحه من حديث مصعب بن سعد بن أبي وقاص عن أبيه قال: "كنا نضع اليدين قبل الركبتين، فأمرنا بوضع الركبتين قبل اليدين".
والحديث دليل على أنه يقدم المصلي يديه قبل ركبتيه عند الانحطاط إلى السجود، وظاهر الحديث الوجوب؛ لقوله: لا يبركن وهو نهي، وللأمر بقوله: "وليضع" قيل: ولم يقل أحد بوجوبه، فتعين أنه مندوب.
وقد اختلف العلماء في ذلك، فذهب الهادوية، ورواية عن مالك، والأوزاعي: إلى العمل بهذا الحديث، حتى قال الأوزاعي: أدركنا الناس يضعون أيديهم قبل ركبهم. وقال ابن أبي داود: وهو قول أصحاب الحديث، وذهبت الشافعية، والحنفية، ورواية عن مالك، إلى العمل بحديث وائل وهو قوله (وهو) أي حديث أبي هريرة هذا (أقوى) في سنده (من حديث وائل) وهو أنه قال:
رأيت النبي صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم: إذا سَجَدَ وضعَ ركبتيهِ قبْلَ يَدَيْهِ، أخرجه الأربعةُ.
فإنَّ للأولِ شاهداً من حديث ابن عُمرَ رضي الله تعالى عنهُ، صحّحهُ ابنُ خُزيمة، وذكره البخاري مُعلقاً موْقوفاً.(1/179)
(رأيت النبي صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم إذا سجدَ وضع ركبتيه قبلَ يديه: أخرجه الأربعة، فإن للأول) أي حديث أبي هريرة (شاهداً من حديث ابن عمر، صححه ابن خزيمة) تقدم ذكر الشاهد هذا قريباً (وذكره) أي: الشاهد (البخاري معلقاً موقوفاً) قال: قال نافع: كان ابن عمر يضع يديه قبل ركبتيه، وحديث وائل أخرجه أصحاب السنن الأربعة، وابن خزيمة، وابن السكن في صحيحيهما: من طريق شريك عن عاصم بن كليب عن أبيه. قال البخاري، و الترمذي، و أبو داود، و البيهقي: تفرد به شريك.
ولكن له شاهد عن عاصم الأحول عن أنس قال: "رأيت رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم انحطّ بالتكبير حتى سبقت ركبتاه يديه". أخرجه الدارقطني، والحاكم، والبيهقي، وقال الحاكم: هو على شرطهما. وقال البيهقي: تفرد به العلاء بن العطار، والعلاء مجهول.
هذا، وحديث وائل هو دليل الحنفية، والشافعية، وهو مروي عن عمر، أخرجه عبد الرزاق، وعن ابن مسعود: أخرجه الطحاوي، وقال به أحمد، وإسحاق، وجماعة من العلماء، وظاهر كلام المصنف ترجيح حديث أبي هريرة، وهو خلاف مذهب إمامه الشافعي. وقال النووي: لا يظهر ترجيح أحد المذهبين على الاخر، ولكن أهل هذا المذهب رجحوا حديث وائل، وقالوا في أبي هريرة إنه مضطرب؛ إذ قد روى عنه الأمران. وحقق ابن القيم المسألة، وأطال فيها وقال: إن في حديث أبي هريرة قلباً من الراوي حيث قال: وليضع يديه قبل ركبتيه، وإن أصله: وليضع ركبتيه قبل يديه. قال: ويدل عليه أول الحديث وهو قوله: "فلا يبرك، كما يبرك البعير" فإن المعروف من بروك البعير هو تقديم اليدين على الرجلين، وقد ثبت عن النبي صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم: الأمر بمخالفة سائر الحيوانات في هيئات الصلاة، فنهى عن التفات كالتفات الثعلب، وعن افتراش كافتراش السبع، وإقعاء كإقعاء الكلب، ونقر كنقر الغراب، ورفع الأيدي كأذناب خيل شمس: أي حال السلام، وقد تقدم ويجمعها قولنا:(1/180)
[شع] إذا نحن قمنا في الصلاة فإننا
نهينا عن الإتيان فيها بستة[/شع]
[شع] بروك بعير والتفات كثعلب
ونقر غراب في سجود الفريضة[/شع] [شع] وإقعاء كلب أو كبسط ذراعه
وأذناب خيل عند فعل التحية[/شع]
وزدنا على ما ذكره في الشرح قولنا:
[شع] وزدنا كتدبيح الحمار بمده
لعنق وتصويب لرأس بركعة[/شع]
هذا السابع، وهو بالدال بعدها موحدة ومثناة تحتية وحاء مهملة، وروي بالذال المعجمة. قيل: وهو تصحيف. قال في النهاية: هو أن يطأطىء المصلي رأسه حتى يكون أخفض من ظهره. انتهى. إلا أنه قال النووي: حديث التدبيح ضعيف.
وقيل: كان وضع اليدين قبل الركبتين، ثم أمروا بوضع الركبتين قبل اليدين، وحديث ابن خزيمة الذي أخرجه عن سعد بن أبي وقاص ــــ وقد قدمناه قريباً ــــ يشعر بذلك، وقول المصنف: إن لحديث أبي هريرة شاهداً يقوى به ــــ معارض: بأن لحديث وائل أيضاً شاهداً، قد قدمناه. وقال الحاكم: إنه على شرطهما. وغايته ــــ وإن لم يتم كلام الحاكم ــــ فهو مثل شاهد أبي هريرة، الذي تفرد به شريك، فقد اتفق حديث وائل، وحديث أبي هريرة في القوة.
وعلى تحقيق ابن القيم، فحديث أبي هريرة عائد إلى حديث وائل، وإنما وقع فيه قلب، ولا ينكر ذلك، فقد وقع القلب في ألفاظ الحديث.
وعن ابن عُمَر رضي الله عنهما أن رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم: كان إذا قَعَدَ للتّشَهُّد وضع يده اليُسرى على ركْبتيهِ اليُسرى، واليُمنى على اليُمنى، وعقد ثلاثاً وخمسين، وأشارَ بإصْبعهِ السّبّابةِ، رواهُ مسلمٌ. وفي رواية له: وقَبَض أصابعهُ كلَّها، وأشار بالّتي تلي الإبْهامَ.(1/181)
(وعن ابن عمر رضي الله عنهما. أن رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم كان إذا قَعَدَ للتّشَهُّدِ وضَعَ يدهُ اليسرى على ركبته اليسرى واليمنى على اليمنى وعقد ثلاثاً وخمسين وأشار بأصبعه السبابة) قال العلماء: خصت السبابة بالإشارة لاتصالها بنياط القلب، فتحريكها سبب لحضوره (رواه مسلم. وفي رواية له: "وقبضَ أصابعهُ كُلّها وأشار بالتي تلي الإبهام).
ووضع اليدين على الركبتين مجمع على استحبابه. وقوله: "وعقد ثلاثاً وخمسين". قال المصنف في التلخيص: صورتها أنه يجعل الإبهام مفتوحة تحت المسبحة، وقوله: "وقبض أصابعه كلها" أي: أصابع يده اليمنى قبضها على الراحة وأشار بالسبابة. وفي رواية وائل بن حجر: (حلق بين الإبهام والوسطى) أخرجه ابن ماجه، فهذه ثلاث هيئات: جعل الإبهام تحت المسبحة مفتوحة، وسكت في هذه عن بقية الأصابع. هل تضم إلى الراحة أو تبقى منشورة على الركبة؟ الثانية: ضم الأصابع كلها على الراحة والإشارة بالمسبحة. الثالثة: التحليق بين الإبهام والوسطى ثم الإشارة بالسبابة.
وورد بلفظ الإشارة، كما هنا، وكما في حديث ابن الزبير: "أنه صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم كان يشير بالسبابة ولا يحركها" أخرجه أحمد، وأبو داود، والنسائي، وابن حبان في صحيحه. وعن ابن خزيمة، والبيهقي من حديث وائل: "أنه صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم رفع إصبعه، فرأيته يحركها، يدعو بها" قال البيهقي: "يحتمل أن يكون مراده بالتحريك: الإشارة، لا تكرير تحريكها، حتى لا يعارض حديث ابن الزبير، وموضع الإشارة عند قوله: لا إله إلا الله، لما رواه البيهقي من فعل النبي صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم. وينوي بالإشارة: التوحيد والإخلاص فيه، فيكون جامعاً في التوحيد بين الفعل، والقول، والاعتقاد؛ ولذلك نهى النبي صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم عن الإشارة بالأصبعين، وقال: "أحد أحد" لمن راه يشير بأصبعيه.(1/182)
ثم الظاهر أنه مخير بين هذه الهيئات. ووجه الحكمة شغل كل عضو بعبادة، وورد في اليد اليسرى عند الدارقطني من حديث ابن عمر: "أنه صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم ألقم كفه اليسرى ركبته". وفسر الإلقام. بعطف الأصابع على الركبة، وذهب إلى هذا بعضهم: عملاً بهذه الرواية، قال: وكأن الحكمة فيه: منع اليد عن العبث.
واعلم أن قوله في حديث ابن عمر: "وعقد ثلاثاً وخمسين" إشارة إلى طريقة معروفة، تواطأت عليها العرب في عقود الحساب، وهي أنواع من الاحاد، والعشرات، والمئين، والألوف. أما الاحاد، فللواحد: عقد الخنصر إلى أقرب ما يليه من باطن الكف. وللاثنين: عقد البنصر معها كذلك. وللثلاثة: عقد الوسطى معها كذلك. وللأربعة: حل الخنصر. وللخمسة: حل البنصر معها دون الوسطى. وللستة: عقد البنصر وحل جميع الأنامل. وللسبعة: بسط البنصر إلى أصل الإبهام مما يلي الكف. وللثمانية: بسط البنصر فوقها كذلك. وللتسعة: بسط الوسطى فوقها كذلك.
وأما العشرات: فلها الإبهام والسبابة. فللعشرة الأولى: عقد رأس الإبهام على طرف السبابة وللعشرين: إدخال الإبهام بين السبابة والوسطى. وللثلاثين: عقد رأس السبابة على رأس الإبهام، عكس العشرة. وللأربعين: تركيب الإبهام على العقد الأوسط من السبابة، وعطف الإبهام على أصلها. وللخمسين: عطف الإبهام إلى أصلها. وللستين: تركيب السبابة على ظهر الإبهام، عكس الأربعين. وللسبعين: إلقاء رأس الإبهام على العقد الأوسط من السبابة، ورد طرف السبابة إلى الإبهام. وللثمانين: رد طرف السبابة إلى أصلها، وبسط الإبهام على جنب السبابة من ناحية الإبهام. وللتسعين: عطف السبابة إلى أصل الإبهام، وضمها بالإبهام. وأما المئين فكالاحاد إلى تسعمائة في اليد اليسرى، والألوف كالعشرات في اليسرى.(1/183)
وعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: الْتفتَ إليْنا رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم، فقَالَ: "إذا صلى أحدَكم فلْيَقُل: التّحِيّات لله، والصَّلواتُ، والطّيِّباتُ، السّلامُ عليك أيّها النبيّ ورحمةُ الله وبركاتُهُ، السّلام علينا وعلى عباد الله الصالحينَ، أشهدُ أن لا إلَه إلَّا الله، وأشْهَدُ أنَّ محمداً عبْدُهُ ورسولُهُ، ثمَّ ليتخَيّر من الدّعاءِ أَعْجبَهُ إليه، فيَدْعو" متفقٌ عليه، واللفظ للبخاري.
وللنسائي: كُنّا نقولُ قبلَ أن يُفرض علينا التشهد.
ولأحمد: أن النبي صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم علمه التشهد وأمره أن يعلمه الناس.
(وعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: التفت إلينا رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم فقال: إذا صلى أحدكم فليقل التّحيات) جمع تحية، ومعناها: البقاء والدوام، أو العظمة، أو السلامة من الافات، أو كل أنواع التعظيم (لله والصَّلوات) قيل: الخمس، أو ما هو أعم من الفرض والنفل، أو العبادات كلها، أو الدعوات، أو الرحمة، وقيل: التحيات: العبادات القولية، والصلوات: العبادات الفعلية (والطّيّبات) أي: ما طاب من كلام وحسن أن يثني به على الله، أو ذكر الله، أو الأقوال الصالحة، أو الأعمال الصالحة، أو ما هو أعم من ذلك، وطيبها: كونها كاملة خالصة عن الشوائب، والتحيات مبتدأ خبرها لله، والصلوات والطيبات عطف عليه، وخبرهما محذوف؛ وفيه تقادير أخر.
(السّلامُ) أي السلام الذي يعرفه كل أحد (علَيك أيها النبي ورحمةُ الله وبركاته) خصوه صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم أولًا بالسلام عليه لعظم حقه عليهم، وقدموه على التسليم على أنفسهم، لذلك، ثم أتبعوه بالسلام عليهم في قولهم: (السّلام علينا وعلى عباد الله الصَّالحين) وقد ورد: أنه يشمل كل عبد صالح في السماء والأرض، وفسر الصالح: بأنه القائم بحقوق الله، وحقوق عباده، ودرجاتهم متفاوتة.(1/184)
(أشهد أن لا إله إلا الله) لا مستحق للعبادة بحق غيره، فهو قصر إفراد: لأن المشركين كانوا يعبدونه، ويشركون معه غيره (وأشهد أنَّ محمداً عبده ورسوله) هكذا هو بلفظ عبده ورسوله في جميع روايات الأمهات الست، ووهم ابن الأثير في جامع الأصول، فساق حديث ابن مسعود بلفظ: (وأن محمداً رسول الله) ونسبه إلى الشيخين، وغيرهما، وتبعه على وهمه: صاحب تيسير الوصول، وتبعهما على الوهم: الجلال في ضوء النهار، وزاد: أنه لفظ البخاري، ولفظ البخاري كما قاله المصنف، فتنبه.
(ثم ليتخير من الدعاء أعجبَهُ إليه فيدعو. متفق عليه واللفظ للبخاري) قال البزار: أصح حديث عندي في التشهد حديث ابن مسعود، يروى عنه من نيف وعشرين طريقاً، ولا نعلم روى عن النبي صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم في التشهد أثبت منه، ولا أصح إسناداً، ولا أثبت رجالاً، ولا أشد تظافراً بكثرة الأسانيد والطرق. وقال مسلم: إنما أجمع الناس على تشهد ابن مسعود؛ لأن أصحابه لا يخالف بعضهم بعضاً، وغيره قد اختلف عنه أصحابه. وقال محمد بن يحيى الذهلي: هو أصح ما روى في التشهد. وقد روى حديث التشهد أربعة وعشرون صحابياً، بألفاظ مختلفة، اختار الجماهير منها حديث ابن مسعود.(1/185)
والحديث فيه دلالة على وجوب التشهد لقوله: "فليقل"، وقد ذهب إلى وجوبه أئمة من الال، وغيرهم من العلماء، وقالت طائفة: إنه غير واجب لعدم تعليمه المسيء صلاته. ثم اختلفوا في الألفاظ التي تجب عند من أوجبه، أو عند من قال: إنه سنة. وقد سمعت أرجحية حديث ابن مسعود، وقد اختاره الأكثر، فهو الأرجح. وقد رجح جماعة غيره من ألفاظ التشهد الواردة عن الصحابة، وزاد ابن أبي شيبة قول: "وحده لا شريك له" في حديث ابن مسعود من رواية أبي عبيدة عن أبيه، وسنده ضعيف، لكن ثبتت هذه الزيادة من حديث أبي موسى عند مسلم، وفي حديث عائشة الموقوف في الموطأ، وفي حديث ابن عمر عند الدارقطني، إلا أنه بسند ضعيف، وفي سنن أبي داود: قال[اث] ابن عمر[/اث]: زدت فيه: "وحده لا شريك له". وظاهره: أنه موقوف على ابن عمر.(1/186)
وقوله: "ثم ليتخير من الدعاء أعجبه". زاد أبو داود: "فيدعو به" ونحوه للنسائي من وجه اخر بلفظ: "فليدع". وظاهره الوجوب أيضاً للأمر به، وأنه يدعو بما شاء من خيري الدنيا والاخرة. وقد ذهب إلى وجوب الاستعاذة الاتية: طاوس، فإنه أمر ابنه بالإعادة للصلاة؛ لما لم يتعوذ من الأربع الاتي ذكرها، وبه قال بعض الظاهرية. وقال ابن حزم: ويجب أيضاً في التشهد الأول، والظاهر مع القائل بالوجوب، وذهب الحنفية، والنخعي، وطاوس: إلى أنه لا يدعو في الصلاة إلا بما يوجد في القران. وقال بعضهم: لا يدعو إلا بما كان مأثوراً، ويرد القولين: قوله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم: "ثم ليتخير من الدعاء أعجبه" وفي لفظ: "ما أحب"، وفي لفظ للبخاري: "من الثناء ما شاء" فهو إطلاق للداعي أن يدعو بما أراد. وقال ابن سيرين: لا يدعو في الصلاة إلا بأمر الاخرة. وقد أخرج سعيد بن منصور من حديث ابن مسعود: فعلمنا التشهد في الصلاة: أي النبي صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم ثم يقول: إذا فرغ أحدكم من التشهد فليقل: اللهم إني أسألك من الخير ما علمت منه وما لم أعلم، وأعوذ بك من الشر كله ما علمت منه وما لم أعلم، اللهم إني أسألك من خير ما سألك منه عبادك الصالحون، وأعوذ بك من شر ما استعاذك منه عبادك الصالحون، {وَاتَّبَعُواْ مَا تَتْلُواْ الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيْاطِينَ كَفَرُواْ يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ وَمَآ أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولاَ إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلاَ تَكْفُرْ فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ وَمَا هُم بِضَآرِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ وَلاَ يَنفَعُهُمْ وَلَقَدْ عَلِمُواْ لَمَنِ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي(1/187)
الآخِرَةِ مِنْ خَلاَقٍ وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْاْ بِهِ أَنْفُسَهُمْ لَوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ} الآية.
ومن أدلة وجوب التشهد ما أفاده قوله: (وللنسائي) أي من حديث ابن مسعود: (كنا نقول قبل أن يفرض علينا التشهد) حذف المصنف تمامه وهو: "السلام على الله، السلام على جبريل، وميكائيل، فقال رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم: لا تقولوا هذا، ولكن قولوا: التحيات. إلى اخره". ففي قوله: يفرض عليه: دليل الإيجاب، إلا أنه أخرج النسائي هذا الحديث من طريق ابن عيينة. قال ابن عبد البر في الاستذكار: تفرد ابن عيينة بذلك، وأخرج مثله: الدارقطني، والبيهقي، وصححاه.
(ولأحمد) أي من حديث ابن مسعود وهو من أدلة الوجوب أيضاً: (أن النبي صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم علّمه التشهد، وأمره أن يعلمهُ الناس) أخرجه أحمد عن ابن عبيدة عن عبد الله قال: "علمه رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم التشهد، وأمره أن يعلمه الناس: التحيات وذكره إلخ".
ولمسْلمٍ عن ابن عباس قالَ: كانَ رسولُ الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم يُعلِّمُنا التّشهدَ: "التحيات المُباركاتُ الصلوات الطّيِّبات لله ــــ إلى اخرِهِ".
(ولمسْلمٍ عن ابن عباس قالَ: كانَ رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم يُعلِّمُنا التّشهد: "التحيات المُباركات الصوات الطّيِّبات لله ــــ إلى اخرِهِ").(1/188)
تمامه: "السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته، السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين، أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمداً رسول الله" هذا لفظ مسلم، وأبي داود، ورواه الترمذي، وصححه كذلك، لكنه ذكر السلام منكراً، ورواه ابن ماجه كمسلم، لكنه قال: "وأشهد أن محمداً عبده ورسوله" ورواه الشافعي، وأحمد: بتنكير السلام أيضاً، وقالا فيه: "وأن محمداً"، ولم يذكرا: أشهد، وفيه زيادة: المباركات، وحذف الواو من: الصلوات ومن الطيبات. وقد اختار الشافعي: تشهد ابن عباس هذا. قال المصنف: إنه قال الشافعي لما قيل له: كيف صرت إلى حديث ابن عباس في التشهد؟ قال: لما رأيته واسعاً، وسمعته عن ابن عباس صحيحاً، كان عندي أجمع وأكثر لفظاً من غيره، فأخذت به، غير معنف لمن يأخذ بغيره مما صح.
وعن فَضالةَ بن عُبَيْدٍ رضي الله عنهُ قالَ: سمع رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم رجلاً يدعو في صلاته، ولم يحْمد الله، ولم يصل على النبيِّ صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم، فقال: "عجل هذا" ثمَّ دعاهُ، فقالَ: "إذا صلى أحدكم فلْيبدأ بتحميد ربِّه والثناء عليه، ثمَّ يصلي على النبي صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم، ثمَّ يدعو بما شاءَ" رواهُ أحمد والثلاثة، وصحّحهُ الترمذي، وابن حِبّان، والحاكم.
(وعن فضالة) بفتح الفاء بزنة سحابة، هو أبو محمد: فضالة (بن عبيد) بصيغة التصغير لعبد، أنصاري أوسي. أول مشاهده أحد، ثم شهد ما بعدها، وبايع تحت الشجرة، ثم انتقل إلى الشام، وسكن دمشق، وتولى القضاء بها، ومات بها، وقيل غير ذلك.(1/189)
(قال: سمع رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم رجلاً يدعو في صلاته، ولم يحمد الله، ولم يصل على النبي صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم فقال: عجل هذا) أي: بدعائه قبل تقديم الأمرين (ثم دعاه، فقال: إذا صلى أحدكمْ فلْيَبدأ بتحميدِ ربّه والثناءِ عليه) هو عطف تفسيري، ويحتمل أن يراد بالتحميد: نفسه، وبالثناء: ما هو أعم) أي: عبارة، فيكون من عطف العام على الخاص (ثمّ يصلي) هو خبر محذوف: أي ثم يصلي عطف جملة على جملة، فلذا لم تجزم (على النبي صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم، ثم يدعو بما شاء) من خير الدنيا والاخرة (رواه أحمد، والثلاثة، وصححه الترمذي، وابن حبان، والحاكم).
الحديث دليل: على وجوب ما ذكر من التحميد والثناء، والصلاة عليه صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم، والدعاء بما شاء، وهو موافق في المعنى: لحديث ابن مسعود وغيره، فإن أحاديث التشهد تتضمن ما ذكر من الحمد والثناء، وهي مبينة لما أجمله هذا. ويأتي الكلام في الصلاة عليه صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم، وهذا إذا ثبت: أن هذا الدعاء الذي سمعه النبي صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم من ذلك الرجل، كان في قعدة التشهد، وإلا فليس في هذا الحديث دليل على أنه كان ذلك حال قعدة التشهد، إلا أن ذكر المصنف له هنا يدل على أنه كان في قعود التشهد، وكأنه عرف ذلك من سياقه. وفيه دليل على تقديم الوسائل بين يدي المسائل وهي نظير {خَالِدِينَ فِيهَآ أَبَداً لاَّ يَجِدُونَ وَلِيّاً وَلاَ نَصِيراً} (فكيف نصلي عليك؟ فسكت) أي رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم، وعند أحمد، ومسلم زيادة: "حتى تمنينا أنه لم يسأله" (ثم قال: قولوا: اللهم صلى على محمد وعلى ال محمد، كما صليت على إبراهيم، وبارك على محمد وعلى ال محمد، كما باركت على إبراهيم في العالمين إنك حميدٌ مجيدٌ).(1/190)
الحميد: صيغة مبالغة فعيل بمعنى مفعول، يستوي فيه المذكر والمؤنث. أي إنك محمود بمحامدك اللائقة بعظمة شأنك، وهو تعليل لطلب الصلاة، أي: لأنك محمود، ومن محامدك: إفاضتك أنواع العنايات، وزيادة البركات على نبيك، الذي تقرب إليك بامتثال ما أهلته له من أداء الرسالة، ويحتمل أن حميداً بمعنى: حامد: أي أنك حامد من يستحق أن يحمد، ومحمد من أحق عبادك بحمدك، وقبول دعاء من يدعو له، ولاله، وهذا أنسب بالمقام، "مجيد" مبالغة ماجد، والمجد: الشرف.
(والسلام كما علمتم) بالبناء للمجهول وتشديد اللام، وفيه رواية بالبناء للمعلوم وتخفيف اللام (رواه مسلم. وزاد ابن خزيمة: فكيف نصلي عليك إذا نحن صلينا عليك في صلاتنا). وهذه الزيادة رواها أيضاً ابن حبان، والدارقطني، والحاكم، وأخرجها أبو حاتم، وابن خزيمة في صحيحيهما، وحديث الصلاة أخرجه الشيخان: عن كعب بن عجرة عن أبي حميد الساعدي، وأخرجه البخاريّ: عن أبي سعيد، والنسائي: عن طلحة، والطبراني: عن سهل بن سعد، وأحمد والنسائي: عن زيد بن خارجة.(1/191)
والحديث دليل على وجوب الصلاة عليه صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم في الصلاة؛ لظاهر الأمر، أعني: "قولوا" وإلى هذا ذهب جماعة من السلف، والأئمة، والشافعي، وإسحق، ودليلهم: الحديث مع زيادته الثابتة، ويقتضي أيضاً وجوب الصلاة على الال، وهو قول الهادي، والقاسم، وأحمد بن حنبل، ولا عذر لمن قال: بوجوب الصلاة عليه صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم مستدلاً بهذا الحديث من القول: بوجوبها على الال، إذ المأمور به واحد، ودعوى النووي، وغيره الإجماع على أن الصلاة على الال مندوبة: غير مسلمة، بل نقول: الصلاة عليه صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم لا تتم، ويكون العبد ممتثلاً بها، حتى يأتي بهذا اللفظ النبوي الذي فيه ذكر الال؛ لأنه قال السائل: "كيف نصلي عليك" فأجابه بالكيفية: أنها الصلاة عليه وعلى اله، فمن لم يأت بالال، فما صلى عليه بالكيفية التي أمر بها، فلا يكون ممتثلاً للأمر، فلا يكون مصلياً عليه صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم. وكذلك بقية الحديث: من قوله: "كما صليت إلى اخره" يجب؛ إذ هو من الكيفية المأمور بها، ومن فرق بين ألفاظ هذه الكيفية، بإيجاب بعضها، وندب بعضها، فلا دليل له على ذلك.
وأما استدلال المهدي في البحر على: أن الصلاة على الال سنة: بالقياس على الأذان؛ فإنهم لم يذكروا معه صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم فيه، فكلام باطل، فإنه كما قيل: لا قياس مع النص، لأنه لا يذكر الال في تشهد الأذان لا ندباً ولا وجوباً، ولأنه ليس في الأذان دعاء له صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم، بل شهادة بأنه رسول الله، والال لم يأت تعبد بالشهادة بأنهم اله.(1/192)
ومن هنا تعلم: أن حذف لفظ الال من الصلاة، كما يقع في كتب الحديث ليس على ما ينبغي. وكنت سئلت عنه قديماً فأجبت: أنه قد صح عند أهل الحديث بلا ريب كيفية الصلاة على النبي صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم، وهم رواتها، وكأنهم حذفوها خطأ؛ تقية لما كان في الدولة الأموية من يكره ذكرهم. ثم استمر عليه عمل الناس متابعة من الاخر للأول، فلا وجه له، وبسطت هذا الجواب في حواشي شرح العمدة بسطاً شافياً.
وأما من هم الال، ففي ذلك أقوال: الأصح: أنهم من حرمت عليهم الزكاة، فإنه بذلك فسرهم زيد بن أرقم، والصحابي أعرف بمراده صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم، فتفسيره قرينة على تعيين المراد من اللفظ المشترك، وقد فسرهم: بال علي، وال جعفر، وال عقيل، وال العباس.
فإن قيل: يحتمل أن يراد بقوله: "إذا نحن صلينا عليك في صلاتنا" أي إذا نحن دعونا لك في دعائنا، فلا يدل على إيجاب الصلاة عليه في الصلاة. قلت: الجواب من وجهين: الأول: المتبادر في لسان الصحابة من الصلاة في قوله: "صلاتنا": الشرعية، لا اللغوية، والحقيقة العرفية مقدمة إذا ترددت بين المعنيين. الثاني: أنه قد ثبت وجوب الدعاء في اخر التشهد، كما عرفت من الأمر به، والصلاة عليه صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم قبل الدعاء واجبة؛ لما عرفت من حديث فضالة، وبهذا يتم إيجاب الصلاة عليه صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم بعد التشهد: قبل الدعاء الدالّ على وجوبه.
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قالَ رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم: "إذا تشهّدَ أحدُكم فلْيَسْتَعِذْ بالله مِنْ أربعٍ، يقولُ: اللّهُمَّ إني أعوذُ بكَ مِنْ عذابِ جهنّم، ومن عذاب القبر، ومن فتنة المحيا والممات، ومن فتنة المسيحِ الدّجّالِ" متفقٌ عليه.
وفي رواية لمسلم: إذا فرغ أحدكم من التشهد الأخير.(1/193)
(وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم: إذا تشهد أحدكم) مطلق في التشهد الأوسط، والأخير (فليستعذ بالله من أربع) بينها بقوله: (يقول: اللهم إني أعوذُ بك من عذاب جهنم ومن عذاب القبر، ومن فتنة المحيا والممات، ومن فتنة المسيح الدجال. متفق عليه. وفي رواية لمسلم: إذا فرَغَ أحدكُمْ من التشهد الأخير) هذه الرواية قيدت إطلاق الأولى، وأبانت أن الاستعاذة المأمور بها بعد التشهد الأخير. ويدل التعقيب بالفاء أنها تكون قبل الدعاء المخير فيه بما شاء.
والحديث: دليل على وجوب الاستعاذة مما ذكر، وهو مذهب الظاهرية. وقال ابن حزم منهم: ويجب أيضاً في التشهد الأول عملاً منه بإطلاق اللفظ المتفق عليه، وأمر طاوس ابنه بإعادة الصلاة لما لم يستعذ فيها؛ فإنه يقول بالوجوب، وبطلان صلاة من تركها، والجمهور حملوه على الندب.
وفيه: دلالة على ثبوت عذاب القبر. والمراد من فتنة المحيا: ما يعرض للإنسان مدة حياته من الافتتان بالدنيا، والشهوات، والجهالات. وأعظمها ــــ والعياذ بالله ــــ أمر الخاتمة عند الموت. وقيل: هي: الابتلاء مع عدم الصبر. وفتنة الممات، قيل: المراد بها الفتنة عند الموت؛ أضيفت إليه لقربها منه، ويجوز أن يراد بها فتنة القبر، وقيل: أراد بها السؤال مع الحيرة، وقد أخرج البخاري: "إنكم تفتنون في قبوركم مثل، أو قريباً من فتنة الدجال" ولا يكون هذا تكريراً لعذاب القبر؛ لأن عذاب القبر متفرع على ذلك.(1/194)
وقوله: "فتنة المسيح الدجال" قال العلماء أهل اللغة: الفتنة: الامتحان، والاختبار، وقد يطلق على: القتل، والإحراق، والتهمة، وغير ذلك، والمسيح بفتح الميم وتخفيف السين المهملة، واخره حاء مهملة، وفيه ضبط اخر، وهذا الأصح، ويطلق على الدجال، وعلى عيسى، ولكن إذا أريد به الدجال: قيد باسمه. سمي المسيح؛ لمسحه الأرض، وقيل: لأنه ممسوح العين. وأما عيسى فقيل له: المسيح؛ لأنه خرج من بطن أمه ممسوحاً بالدهن، وقيل: لأن زكريا مسحه. وقيل: لأنه كان لا يمسح ذا عاهة إلا برأ. وذكر صاحب القاموس: أنه جمع في وجه تسميته بذلك خمسين قولاً.
وعن أبي بكْر الصّديق رضي الله عنه أنهُ قال لرسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم: علّمْني دُعاءً أدْعو به في صلاتي، قال: "قلْ: "اللهم إني ظلَمْت نفسي ظلماً كثيراً، ولا يغْفِرُ الذنوبَ إلَّا أنت، فاغْفر لي مغفرةً من عندك وارحمني، إنك أنت الغفور الرحيم" متّفقٌ عليه.
(وعن أبي بكر الصديق رضي الله عنه: أنه قال لرسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم: علمني دعاء أدعو به في صلاتي، قال: قل: اللهُمّ إني ظلمت نفسي ظلماً كثيراً) يروى بالمثلثة وبالموحدة فيخير الداعي بين اللفظين، ولا يجمع بينهما، لأنه لم يرد إلا أحدهما (ولا يغفر الذنوب إلا أنت) إقرار بالوحدانية (فاغفر لي) استجلاب للمغفرة (مغفِرة) نكرها للتعظيم: أي مغفرة عظيمة، وزادها تعظيماً بوصفها بقوله: (من عندك) ؛ لأن ما يكون من عنده تعالى لا تحيط بوصفه عبارة (وارحمني إنك أنت الغفور الرحيم) توسل إلى نيل مغفرة الله ورحمته بصفتي غفرانه، ورحمته (متفق عليه).(1/195)
الحديث دليل على شرعية الدعاء في الصلاة على الإطلاق من غير تعيين محل له، ومن محلاته بعد التشهد، والصلاة عليه صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم، والاستعاذة لقوله: "فليتخير من الدعاء ما شاء" والإقرار بظلم نفسه: اعتراف بأنه لا يخلو أحد من البشر عن ظلم نفسه: بارتكابه ما نهى عنه، أو تقصيره عن أداء ما أمر به. وفيه: التوسل إلى الله تعالى بأسمائه عند طلب الحاجات، واستدفاع المكروهات، وأنه يأتي من صفاته في كل مقام ما يناسبه، كلفظ الغفور الرحيم عند طلب المغفرة، ونحو: {وَمَا تَنقِمُ مِنَّآ إِلاَّ أَنْ آمَنَّا بِآيَاتِ رَبِّنَا لَمَّا جَآءَتْنَا رَبَّنَآ أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْراً وَتَوَفَّنَا مُسْلِمِينَ} عند طلب الرزق. والقران، والأدعية النبوية: مملوءة بذلك.
وفي الحديث دليل على طلب التعليم من العالم، سيما في الدعوات المطلوب فيها جوامع الكلم.(1/196)
واعلم أنه قد ورد في الدعاء بعد التشهد ألفاظ غير ما ذكر. أخرج النسائي عن جابر: "أنه صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم كان يقول في صلاته بعد التشهد: أحسن الكلام كلام الله، وأحسن الهدي هدى محمد"، وأخرج أبو داود عن ابن مسعود: "أنه صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم كان يعلمهم من الدعاء بعد التشهد: اللهم ألِّف على الخير بين قلوبنا، وأصلح ذات بيننا، واهدنا سبل السلام، ونجنا من الظلمات إلى النور، وجنبنا الفواحش والفتن: ما ظهر منها وما بطن، وبارك لنا في أسماعنا، وأبصارنا، وقلوبنا، وأزواجنا، وذرياتنا، وتب علينا، إنك أنت التواب الرحيم، واجعلنا شاكرين لنعمتك، مثنين بها، قابليها، وأتمها علينا" أخرجه أبو داود. وأخرج أبو داود أيضاً، عن بعض الصحابة: أنه صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم قال لرجل: "كيف تقول في الصلاة؟" قال: أتشهد، ثم أقول: اللهم إني أسألك الجنة، وأعوذ بك من النار، أما إني لا أحسن دندنتك، ولا دندنة معاذ، فقال صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم: "حول ذلك ندندن أنا، ومعاذ" ففيه أنه يدعو الإنسان بأيّ لفظ شاء: من مأثور، وغيره.
وعن وائل بنُ حُجر رضي الله عنه قال: صَلّيت مع النبي صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم، فكان يسلِّم عن يمينه: "السلام عليكم ورحمة الله وبركاتُه" وعن شماله: "السلام عليكم ورحمةُ الله وبركاتهُ" رواهُ أبو داود بإسناد صحيح.
(وعن وائل بنُ حُجر رضي الله عنه قال: صَلّيت مع النبي صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم، فكان يسلِّم عن يمينه: "السلام عليكم ورحمة الله وبركاتُه" وعن شماله: "السلام عليكم ورحمةُ الله وبركاتهُ" رواهُ أبو داود بإسناد صحيح).(1/197)
هذا الحديث أخرجه أبو داود من حديث علقمة بن وائل عن أبيه، ونسبه المصنف في التلخيص إلى عبد الجبار بن وائل، وقال: لم يسمع من أبيه، فأعله بالانقطاع، وهنا قال: صحيح، وراجعنا سنن أبي داود، فرأيناه: رواه عن علقمة بن وائل عن أبيه، وقد صح سماع علقمة عن أبيه، فالحديث سالم عن الانقطاع، فتصحيحه هنا هو الأولى، وإن خالف ما في التلخيص.
وحديث التسليمتين رواه خمسة عشر من الصحابة بأحاديث مختلفة، ففيها صحيح، وحسن، وضعيف، ومتروك، وكلها بدون زيادة: "وبركاته" إلا في رواية وائل هذه، ورواية عن ابن مسعود. وعند ابن ماجه، وعند ابن حبان، ومع صحة إسناد حديث وائل، كما قال المصنف هنا: يتعين قبول زيادته؛ إذ هي زيادة عدل، وعدم ذكرها في رواية غيره ليست رواية لعدمها. قال الشارح: إنه لم ير من قال: وجوب زيادة وبركاته، إلا أنه قال: قال الإمام يحيى: إذا زاد وبركاته ورضوانه وكرامته أجزأ، إذ هو زيادة فضيلة، وقد عرفت أن الوارد زيادة "وبركاته"، وقد صحت ولا عذر عن القول بها، وقال به السرخسي، والإمام، والروياني في الحلية.(1/198)
وقول ابن الصلاح: إنها لم تثبت قد تعجب منه المصنف وقال: هي ثابتة عند ابن حبان في صحيحه، وعند أبي داود، وعند ابن ماجه قال المصنف: إلا أنه قال ابن رسلان في شرح السنن: لم نجدها في ابن ماجه. قلت: راجعنا سنن ابن ماجه من نسخة صحيحة مقروءة فوجدنا فيه ما لفظه: "باب التسليم" حدثنا محمد بن عبد الله بن نمير حدثنا عمر بن عبيد عن ابن إسحاق عن الأحوص عن عبد الله: "أن رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم كان يسلم عن يمينه، وعن شماله، حتى يرى بياض خده: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته"، انتهى بلفظه: وفي تلقيح الأفكار تخريج الأذكار للحافظ ابن حجر: لما ذكر النووي: أن زيادة وبركاته زيادة فردة، ساق الحافظ طرقاً عدة لزيادة "وبركاته" ثم قال: فهذه عدة طرق ثبتت بها: "وبركاته" بخلاف ما يوهمه كلام الشيخ أنها رواية فردة، انتهى كلامه.
وحيث ثبت أن التسليمتين من فعله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم في الصلاة، وقد ثبت قوله: "صلوا كما رأيتموني أصلي"، وثبت حديث: "تحريمها التكبير وتحليلها السلام" أخرجه أصحاب السنن بإسناد صحيح، فيجب التسليم لذلك. وقد ذهب إلى القول بوجوبه الهادوية، والشافعية. وقال النووي: إنه قول جمهور العلماء من الصحابة، والتابعين، ومن بعدهم.(1/199)
وذهب الحنفية، واخرون إلى: أنه سنة، مستدلين على ذلك بقوله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم في حديث ابن عمر: "إذا رفع الإمام رأسه من السجدة وقعد ثم أحدث قبل التسليم، فقد تمت صلاته" فدل على أن التسليم ليس بركن واجب، وإلا لوجبت الإعادة؛ ولحديث المسيء صلاته؛ فإنه صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم لم يأمره بالسلام. وأجيب عنه: بأن حديث ابن عمر ضعيف باتفاق الحفاظ؛ فإنه أخرجه الترمذي، وقال: هذا حديث إسناده ليس بذاك القوي، وقد اضطربوا في إسناده. وحديث المسيء صلاته لا ينافي الوجوب؛ فإن هذه الزيادة، وهي مقبولة، والاستدلال بقوله تعالى: {يأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ ارْكَعُواْ وَاسْجُدُواْ وَاعْبُدُواْ رَبَّكُمْ وَافْعَلُواْ الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} على عدم وجوب السلام: استدلال غير تام؛ لأن الاية مجملة بيّن المطلوب منها فعله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم، ولو عمل بها وحدها لما وجبت القراءة، ولا غيرها.
ودل الحديث: على وجوب التسليم على اليمين واليسار، وإليه ذهبت الهادوية، وجماعة، وذهب الشافعي: إلى أن الواجب تسليمة واحدة، والثانية مسنونة. قال النووي: أجمع العلماء الذين يعتد بهم: أنه لا يجب إلا تسليمة واحدة، فإن اقتصر عليها استحب له أن يسلم تلقاء وجهه، فإن سلم تسليمتين، جعل الأولى عن يمينه، والثانية عن يساره، ولعل حجة الشافعي حديث عائشة: "أنه صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم كان إذا أوتر بتسع ركعات، لم يقعد إلا في الثامنة، فيحمد الله، ويذكره، ويدعو، ثم ينهض، ولا يسلم، ثم يصلي التاسعة، فيجلس ويذكر الله ويدعو، ثم يسلم تسليمة" أخرجه ابن حبان، وإسناده على شرط مسلم. وأجيب عنه: بأنه لا يعارض حديث الزيادة، كما عرفت من قبول الزيادة إذا كانت من عدل. وعند مالك: أن المسنون تسليمة واحدة. وقد بين ابن عبد البر: ضعف أدلة هذا القول من الأحاديث.(1/200)
واستدل المالكية: على كفاية التسليمة الواحدة: بعمل أهل المدينة، وهو عمل توارثوه كابراً عن كابر. وأجيب عنه: بأنه قد تقرر في الأصول: أن عملهم ليس بحجة، وقوله: "عن يمينه وعن شماله" أي منحرفاً إلى الجهتين بحيث يرى بياض خده، كما ورد في رواية سعد: "رأيت رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم سلم عن يمينه وعن شماله، حتى كأني أنظر إلى صفحة خده" وفي لفظ: "حتى أرى بياض خده". أخرجه مسلم والنسائي.
وعن المغيرة بن شعبة رضي الله عنه: أن النبيَّ صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم كانَ يقولُ في دُبُر كل صلاة مكتوبة: "لا إله إلا الله وحدَه لا شريكَ لهُ، لهُ الملك ولهُ الحمد، وهو على كل شيء قديرٌ، اللهم لا مانع لِمَا أَعْطَيْتَ، ولا مُعْطيَ لما مَنَعْتَ، ولا يَنْفَعُ ذا الجدِّ منْك الجدُّ" متفقٌ عليه.
(وعن المغيرة بن شعبة: أن النبي صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم كان يقول في دبر) قال في القاموس: الدبر بضم الدال وبضمتين: نقيض القبل من كل شيء، عقبه ومؤخره، وقال في الدبر محركة الدال والباء بالفتح: الصلاة في اخر وقتها، وتسكن الباء ولا يقال بضمتين؛ فإنه من لحن المحدثين (كل صلاة مكتوبة: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، وهو على كل شيء قديرٌ، اللهم لا مانع لما أعطيت، ولا معطي لما مَنعت) ووقع عند عبد بن حميد بعده: "ولا راد لما قضيت" (ولا ينفع ذا الجد منك الجدُّ. متفق عليه). زاد الطبراني من طريق أخرى عن المغيرة بعد قوله: "له الملك وله الحمد" ــــ "يحيي ويميت وهو حي لا يموت بيده الخير" ورواته موثوقون، وثبت مثله عند البزار: من حديث عبد الرحمن بن عوف بسند صحيح، لكنه في القول: إذا أصبح وإذا أمسى.(1/201)
ومعنى: "لا مانع لما أعطيت": أن من قضيت له بقضاء من رزق، أو غيره، لا يمنعه أحد عنه، ومعنى: "لا معطي لما منعت": أنه من قضيت له بحرمان، لا معطى له. والجد بفتح الجيم كما سلف. قال البخاري: معناه الغنى، والمراد: لا ينفعه، ولا ينجيه حظه في الدنيا بالمال والولد والعظمة والسلطان، وإنما ينجيه فضلك ورحمتك.
والحديث دليل على استحباب هذا الدعاء عقب الصلوات، لما اشتمل على توحيد الله، ونسبة الأمر كله إليه، والمنع، والإعطاء، وتمام القدرة.
وعن سعد بن أبي وقّاص رضي الله عنه، أن رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم كانَ يَتَعَوَّذُ بهنَّ دُبُر كلِّ صلاة: "اللهُمَّ إني أعوذُ بك من البخلِ وأعوذُ بك من الجبن، وأعوذُ بك من أن أُرَدَّ إلى أَرْذَلِ العمر، وأعوذُ بك من فِتْنَةِ الدنيا، وأعوذُ بك من عذاب القبر" رواه البخاري.
(وعن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه: أن رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم كان يتعوَّذُ بهنَّ دُبُر كلِّ صلاة اللهُمَّ إنِّي أعوذ بك) أي: ألتجيء إليك (من البُخْل) بضم الموحدة وسكون الخاء المعجمة. وفيه لغات (وأعوذُ بك من الجبن) بزنة البخل (وأعوذُ بك من أن أراد إلى أرذل العمر، وأعوذُ بك من فتنة الدنيا، وأعوذُ بك من عذاب القبر. رواه البخاري).(1/202)
قوله: دبر الصلاة هنا، وفي الأول، يحتمل، أنه قبل الخروج؛ لأن دبر الحيوان منه، وعليه بعض أئمّة الحديث، ويحتمل: أنه بعدها، وهو أقرب. والمراد بالصلاة عند الإطلاق: المفروضة. والتعوذ من البخل قد كثر في الأحاديث، قيل: والمقصود منه: منع ما يجب بذله من المال شرعاً، أو عادة. والجبن: هو المهابة للأشياء، والتأخر عن فعلها يقال منه: جبان، كسحاب: لمن قام به، والمتعوذ منه هو: التأخر عن الإقدام بالنفس إلى الجهاد الواجب، والتأخر: عن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ونحو ذلك. والمراد من الرد إلى أرذل العمر: هو بلوغ الهرم والخرف حتى يعود، كهيئته الأولى في أوان الطفولية، ضعيف البنية، سخيف العقل، قليل الفهم. وأما فتنة الدنيا، فهي: الافتتان بشهواتها وزخارفها، حتى تلهيه عن القيام بالواجبات، التي خلق لها العبد، وهي عبادة بارئه وخالقه، وهو المراد من قوله تعالى: {وَاعْلَمُواْ أَنَّمَآ أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلاَدُكُمْ فِتْنَةٌ وَأَنَّ اللَّهَ عِندَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ} وتقدم الكلام على عذاب القبر.
[رح55]ـــ وعن ثوبان رضي الله عنهُ قالَ: كانَ رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم إذا انصرف من صلاته استغفر الله ثلاثاً، وقال: "اللهمَّ أنت السّلام ومنك السلام، تباركت يا ذا الجلال والإكرام" رواه مسلم.
(وعن ثوبان رضي الله عنه قال: كان رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم إذا انصرف من صلاته) أي سلم منها (استغفر الله ثلاثاً) بلفظ: أستغفر الله. وفي الأذكار للنووي: قيل للأوزاعي، وهو أحد رواة هذا الحديث: كيف الاستغفار؟ قال: تقول: أستغفر الله أستغفر الله (وقال: اللهُمَّ أنت السلام ومنك السلام تباركت يا ذا الجلال والإكرام، رواه مسلم).
والاستغفار: إشارة إلى أن العبد لا يقوم بحق عبادة مولاه؛ لما يعرض له من الوساوس والخواطر، فشرع له الاستغفار تداركاً لذلك.(1/203)
وشرع له: أن يصف ربه بالسلام، كما وصف به نفسه، والمراد: ذو السلامة من كل نقص وافة، مصدر وصف به للمبالغة "ومنك السلام" أي منك نطلب السلامة من شرور الدنيا والاخرة، والمراد بقوله: يا ذا الجلال والإكرام: يا ذا الغنى المطلق والفضل التام، وقيل: الذي عنده الجلال والإكرام لعباده المخلصين، وهو من عظائم صفاته تعالى، ولذا قال صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم: "ألظوا بيا ذا الجلال والإكرام" ومر برجل يصلي وهو يقول: يا ذا الجلال والإكرام، فقال: "قد استجيب لك".
وعن أبي هريرة رضي الله عنه عن رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم قال: "من سَبّح الله دُبر كل صلاة ثلاثاً وثلاثين، وحمد الله ثلاثاً وثلاثين، وكبّر الله ثلاثاً وثلاثين، فتلك تِسْعٌ وتسْعون، وقال تمام المائة: لا إله إلا الله وحدَهُ لا شريكَ لَهُ، لَهُ الملكُ، وله الحمْد، وهو على كلِّ شيءٍ قديرٌ، غفرَت خطاياه، ولوْ كانتْ مِثْلَ زَبَدِ البَحْر" رواه مسلمٌ، وفي رواية أخرى: أنَّ التكبير أربعٌ وثلاثون.
(وعن أبي هريرة رضي الله عنه عن رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم قال: من سبّح الله دُبُر كلِّ صلاة ثلاثاً وثلاثين) يقول: سبحان الله (وحمد الله ثلاثاً وثلاثين) يقول: الحمد لله (وكبر الله ثلاثاً وثلاثين) يقول: الله أكبر (فتلك تسعٌ وتسعون) عدد أسماء الله الحسنى (وقال تمام المائة: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، لهُ المُلْكُ ولهُ الحمْدُ، وهُوَ على كلِّ شيء قديرٌ، غُفِرَت خطاياه، ولو كانت مثل زَبَد البحر) وهو ما يعلو عليه عند اضطرابه (رواه مسلم، وفي رواية أخرى) لمسلم، عن أبي هريرة: (أنَّ التكبير أربعٌ وثلاثون) وبه تتم المائة، فينبغي العمل بهذا تارة، وبالتهليل أخرى؛ ليكون قد عمل بالروايتين.
وأما الجمع بينهما، كما قال الشارح، وسبقه غيره، فليس بوجه؛ لأنه لم يرد الجمع بينهما، ولأنه يخرج العدد عن المائة، هذا.(1/204)
وللحديث سبب، وهو: "أن فقراء المهاجرين أتوا رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم، وقالوا: يا رسول الله، قد ذهب أهل الدثور بالدرجات العُلى، والنعيم المقيم، فقال: وما ذلك؟ قالوا: يصلون كما نصلي، ويصومون كما نصوم، ويتصدقون ولا نتصدق، ويعتقون ولا نعتق، فقال رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم: أفلا أعلمكم شيئاً، تدركون به من سبقكم، وتسبقون به من بعدكم، ولا يكون أحد أفضل منكم، إلا من صنع مثل ما صنعتم؟ قالوا بلى: قال: سبحوا الله. الحديث" وكيفية التسبيح وأخويه كما ذكرناه. وقيل: يقول: سبحان الله والحمد لله، والله أكبر ثلاثاً وثلاثين.
وقد ورد في البخاري من حديث أبي هريرة أيضاً: "يسبحون عشراً، يحمدون عشراً، ويكبرون عشراً". وفي صفة أخرى: "يسبحون خمساً وعشرين تسبيحة، ومثلها تحميداً، ومثلها تكبيراً، ومثله لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك، وله الحمد، وهو على كل شيء قدير، فتتم المائة".
وأخرج أبو داود من حديث زيد بن أرقم: "كان رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم يقول دبر كل صلاة: اللهم ربنا ورب كل شيء، أنا شهيد: أنك أنت الرب وحدك لا شريك لك، اللهم ربنا ورب كل شيء، أنا شهيد: أن محمداً صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم عبدك ورسولك، اللهم ربنا ورب كل شيء، أنا شهيد: أن العباد كلهم إخوة، اللهم ربنا ورب كل شيء، اجعلني مخلصاً لك وأهلي، في كل ساعة من الدنيا والاخرة، يا ذا الجلال والإكرام، استمع واستجب، الله أكبر الله أكبر، الله نور السموات والأرض، الله أكبر الأكبر، حسبي الله ونعم الوكيل، الله أكبر الأكبر".(1/205)
وأخرج أبو داود من حديث علي عليه السلام: "وكان رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم إذا سلم من الصلاة قال: اللهم اغفر لي ما قدمت، وما أخرت، وما أسررت وما أعلنت، وما أسرفت، وما أنت أعلم به مني، أنت المقدم وأنت المؤخر، لا إله إلا أنت" وأخرج أبو داود، والنسائي: من حديث عقبة بن عامر: "أمرني رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم أن أقرأ بالمعوذات دبر كل صلاة"، وأخرج مسلم من حديث البراء: أنه صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم كان يقول بعد الصلاة: "رب قني عذابك يوم تبعث عبادك".
وورد بعد صلاة المغرب، وبعد صلاة الفجر، بخصوصهما: "قول لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك، وله الحمد، وهو على كل شيء قدير عشر مرات" أخرجه أحمد، وهو زيادة على ما ذكر في غيرهما، وأخرج الترمذي عن أبي ذر: أن رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم قال: "من قال في دبر صلاة الفجر وهو ثان رجليه قبل أن يتكلم: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك، وله الحمد، يحيي ويميت، وهو على كل شيء قدير عشر مرات، كتب الله له عشر حسنات، ومحا عنه عشر سيئات، ورفع له عشر درجات، وكان يومه ذلك في حرز من كل مكروه، وحرز من الشيطان، ولم ينبغ لذنب أن يدركه في ذلك اليوم، إلا الشرك بالله عزَّ وجل"، وقال الترمذي: غريب حسن صحيح. وأخرجه النسائي من حديث معاذ، وزاد فيه: "بيده الخير" وزاد فيه أيضاً: "وكان له بكل واحدة قالها: عتق رقبة".(1/206)
وأخرج الترمذي والنسائي من حديث عمارة بن شبيب قال: قال رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم: "من قال: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، يحيي ويميت، وهو على كل شيء قدير عشر مرات، على إثر المغرب، بعث الله له ملائكة يحفظونه من الشيطان الرجيم حتى يصبح، وكتب له بها عشر حسنات، ومحا عنه عشر سيئات موبقات، وكانت له بعدل عشر رقبات مؤمنات" قال الترمذي: حسن لا نعرفه إلا من حديث ليث بن سعد، ولا نعرف لعمارة سماعاً من النبي صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم.
وأما قراءة الفاتحة بنية كذا، وبنية كذا، كما يفعل الان، فلم يرد بها دليل، بل هي بدعة. وأما الصلاة على النبي صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم بعد تمام التسبيح وأخويه من الثناء، فالدعاء بعد الذكر سنة، والصلاة على النبي صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم أمام الدعاء كذلك سنة، إنما الاعتياد لذلك، وجعله في حكم السنن الراتبة، ودعاء الإمام مستقبل القبلة مستدبراً للمأمومين، فلم يأت به سنة، بل الذي ورد: أنه صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم كان يستقبل المأمومين إذا سلم، قال البخاري: "باب يستقبل الإمام الناس إذا سلم"، وورد في حديث سمرة بن جندب، وحديث زيد بن خالد: "كان إذا صلى أقبل علينا بوجهه"، وظاهره المداومة على ذلك.
وعن مُعاذ بن جبل، أنَّ رسولَ الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم قالَ لَهُ: "أُوصِيك يا مُعَاذُ: لا تدعنَّ دُبُرَ كل صلاة أن تقول: اللهم أعني على ذِكْرك وشُكركَ وحسْنِ عبادتك" رواهُ أحمدُ، وأبو داود، والنسائي بسند قوي.(1/207)
(وعن معاذ بن جبل رضي الله عنه: أن رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم قال له: أُوصيك يا معاذ لا تدعَنَّ) هو نهي من ودعه، إلا أنه هجر ماضيه في الأكثر، استغناء عنه بترك، وقد ورد قليلاً وقرىء: "ما ودعك ربك" (دُبرَ كلِّ صلاة أن تقول: اللهمَّ أعنّي على ذكرك وشكرك وحُسن عبادتك. رواه أحمد، وأبو داود، والنسائي بسند قوي) النهي أصله: التحريم، فيدل على إيجاب هذه الكلمات دبر الصلاة، وقيل: إنه نهى إرشاد، ولا بد من قرينة على ذلك. وقيل: يحتمل أنها في حق معاذ نهي تحريم، وفيه بعد. وهذه الكلمات عامة لخير الدنيا والآخرة.
وعن أبي أُمامة رضي الله عنه قالَ: قالَ رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم: "منْ قرَأَ اية الكرسيِّ دُبُر كلِّ صلاةٍ مكتوبةٍ لم يمنعه من دُخُول الجنّةِ إلَّا المَوْت". رواهُ النسائي، وصحيحه ابن حبّان.
وزاد فيه الطّبراني: "وقُلْ هوَ الله أحدٌ".
(وعن أبي أمامة) هو إياس على الأصح، كما قاله ابن عبد البر، ابن ثعلبة، الحارثي الأنصاري الخزرجي، لم يشهد بدراً، إلا أنه عذره صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم عن الخروج، لعلته بمرض والدته. وأبو أمامة الباهلي، تقدم في أول الكتاب، فإذا أطلق فالمراد به: هذا، وإذا أريد الباهلي، قيد به.(1/208)
(قال: قال رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم: من قرأ اية الكرسي دُبُر كلِّ صلاة مكتوبة) أي مفروضة (لم يمْنَعْهُ من دخول الجنّة إلا الموت. رواه النسائي، وصححه ابن حبان، وزاد فيه الطبراني: و"قُل هو الله أحدٌ") وقد ورد نحوه من حديث علي عليه السلام بزيادة: من قرأها حين يأخذ مضجعه، أمنه الله على داره، ودار جاره، وأهل دويرات حوله، رواه البيهقي في شعب الإيمان، وضعف إسناده. وقوله: "لم يمنعه من دخول الجنة إلا الموت" هو على مضاف: أي: لا يمنعه إلا عدم موته، حذف لدلالة المعنى عليه. واختصت اية الكرسي بذلك؛ لما اشتملت عليه من أصول الأسماء، والصفات الإلهية، والوحدانية، والحياة، والقيومية، والعلم، والملك، والقدرة، والإرادة. وقل هو الله أحد: متمحضة لذكر صفات الله تعالى.
وعن مالك بن الحُويرث رضي الله عنه قال: قال رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم: "صلُّوا كما رأَيْتُمُوني أصلي" رواهُ البخاريُّ.
(وعن مالك بن الحُويرث رضي الله عنه قال: قال رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم: "صلُّوا كما رأَيْتُمُوني أصلي" رواهُ البخاريُّ).
هذا الحديث: أصل عظيم في دلالته: على أن أفعاله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم في الصلاة، وأقواله: بيان لما أجمل من الأمر بالصلاة في القران، وفي الأحاديث، وفيه دلالة: على وجوب التأسي به صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم فيما فعله في الصلاة، فكل ما حافظ عليه من أفعالها، وأقوالها، وجب على الأمة، إلا لدليل يخصص شيئاً من ذلك، وقد أطال العلماء الكلام في الحديث، واستوفاه ابن دقيق العيد في شرح العمدة، وزدناه تحقيقاً في حواشيها.
وعن عِمْران بن حصين رضي لله عنه أنَّ النبي صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم قالَ: "صلِّ قائماً، فإن لم تَسْتطع فقاعداً، فإن لم تستطعْ فعلى جَنْبٍ، وإلا فأَوْم". رواه البخاري.
(يتبع...)(1/209)
(تابع... 1): واختلف العلماء في حكم تكبير النقل: فقيل: إنه واجب، وروي قولاً لأحمد... ...
(وعن عمران بن حصين رضي الله عنه قال: صلِّ قائماً، فإن لم تستطع) أي الصلاة قائماً (فقاعداً فإن لم تستطع) أي وإن لم تستطع الصلاة قاعداً (فعلى جنْب، وإلَّا) أي: وإن لم تستطع الصلاة على جنب (فأوْم) لم نجده في نسخ بلوغ المرام منسوباً، وقد أخرج البخاري دون قوله: "وإلا فأوْم" والنسائي، وزاد: "فإن لم تستطع فمستلق" لا يكلف الله نفساً إلا وسعها وقد رواه الدارقطني من حديث علي عليه السلام بلفظ: "فإن لم تستطع أن تسجد أوم، واجعل سجودك أخفض من ركوعك، فإن لم يستطع أن يصلي قاعداً صلى على جنبه الأيمن مستقبل القبلة، فإن لم يستطع أن يصلي على جنبه الأيمن، صلى مستلقياً رجلاه مما يلي القبلة" وفي إسناده ضعف، وفيه متروك.
وقال المصنف: لم يقع في الحديث ذكر الإيماء، وإنما أورده الرافعي. قال: ولكنه ورد في حديث جابر: "إن استطعت، وإلا فأوم إيماء، واجعل سجودك أخفض من ركوعك" أخرجه البزار، والبيهقي في المعرفة. قال البزار: وقد سئل عنه أبو حاتم، فقال: الصواب عن جابر موقوفاً، ورفعه خطأ، وقد روي أيضاً من حديث ابن عمر، وابن عباس، وفي إسناديهما ضعف.
والحديث دليل: على أنه لا يصلي الفريضة قاعداً إلا لعذر، وهو عدم الاستطاعة، ويلحق به ما إذا خشي ضرراً لقوله تعالى: {وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَوَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ} وكذا قوله: "فإن لم تستطع فعلى جنب" وفي قوله في حديث الطبراني: "فإن نالته مشقة فجالساً، فإن نالته مشقة فنائماً" أي مضجعاً، وفيه حجة على من قال: إن العاجز عن القعود تسقط عنه الصلاة، وهو يدل على أن من نالته مشقة، ولو بالتألم، يباح له الصلاة من قعود، وفيه خلاف. والحديث مع من قال: إن التألم يبيح ذلك. ومن المشقة: صلاة من يخاف دوران رأسه، إذا صلى قائماً في السفينة، أو يخاف الغرق: أبيح له القعود، هذا.(1/210)
ولم يبين الحديث هيئة القعود على أي صفة، ومقتضى إطلاقه صحته على أي هيئة شاءها المصلي، وإليه ذهب جماعة من العلماء. وقال الهادي وغيره: إنه يتربع واضعاً يده على ركبتيه، ومثله عند الحنفية، وذهب زيد بن علي، وجماعة إلى: أنه مثل قعود التشهد. قيل: والخلاف في الأفضل.
قال المصنف في فتح الباري: اختلف في الأفضل، فعند الأئمة الثلاثة: التربع، وقيل: مفترشاً، وقيل متوركاً، وفي كل منها أحاديث. وقوله في الحديث: "على جنب" الكلام في الاستطاعة هنا، كما مر، وهو هنا مطلق. وقيده في حديث عليّ عليه السلام عند الدارقطني، على جنبه الأيمن، مستقبل القبلة بوجهه، وهو حجة الجمهور. وأنه يكون على هذه الصفة، كتوجه الميت في القبر. ويؤخذ من الحديث: أنه لا يجب شيء بعد تعذر الإيماء على الجنب. وعن الشافعي، والمؤيد: يجب الإيماء بالعينين والحاجبين. وعن زفر: الإيماء بالقلب.
وقيل: يجب إمرار القران، والذكر على اللسان، ثم على القلب، إلا أن هذه الكلمة لم تأت في الأحاديث، وفي الاية {فَقَدْ كَذَّبُواْ بِالْحَقِّ لَمَّا جَآءَهُمْ فَسَوْفَ يَأْتِيهِمْ أَنْبَاءُ مَا كَانُواْ بِهِ يَسْتَهْزِءُونَ} وإن كان عدم الذكر لا ينفي الوجوب بدليل اخر. وقد وجبت الصلاة على الإطلاق، وثبت: "إذا أمرتم بأمر فأتوا منه ما استطعتم" فإذا استطاع شيئاً مما يفعل في الصلاة وجب عليه، لأنه مستطيع له.
وعن جابر رضي الله عنه أنَّ النبي صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم قال لمريضٍ ــــ صلى على وسادةٍ، فرمى بها ــــ وقال: "صلِّ على الأرض إن اسْتطعْتَ، وإلَّا فأوم إيماءً، واجْعَل سُجودكَ أخْفض منْ رُكوعكَ" روَاهُ البيهقي بسندٍ قوي، ولكن صَحّح أبو حاتمٍ وقْفَهُ.(1/211)
(وعن جابر رضي الله عنه أنَّ النبي صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم قال لمريضٍ ــــ صلى على وسادةٍ، فرمى بها ــــ وقال: "صلِّ على الأرض إن اسْتطعْتَ، وإلَّا فأوم إيماءً، واجْعَل سُجودكَ أخْفض منْ رُكوعكَ" روَاهُ البيهقي بسندٍ قوي، ولكن صَحّح أبو حاتمٍ وقْفَهُ).
الحديث أخرجه البيهقي في المعرفة من طريق سفيان الثوري. وفي الحديث: "فرمى بها وأخذ عوداً ليصلي عليه، فأخذه ورمى به" وذكر الحديث. وقال البزار: لا يعرف أحد رواه عن الثوري غير أبي بكر الحنفي. وقد سئل عنه أبو حاتم فقال: الصواب عن جابر موقوفاً ورفعه خطأ. وقد روى الطبراني من حديث طارق بن شهاب عن ابن عمر قال: "عاد رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم مريضاً فذكره"، وفي إسناده ضعف.
والحديث دليل على أنه لا يتخذ المريض ما يسجد عليه، حيث تعذر سجوده على الأرض، وقد أرشده إلى أنه يفصل بين ركوعه وسجوده، ويجعل سجوده أخفض من ركوعه، فإن تعذر عليه القيام والركوع، فإنه يومىء من قعود لهما، جاعلاً الإيماء بالسجود أخفض من الركوع، أو لم يتعذر عليه القيام، فإنه يومىء للركوع من قيام، ثم يقعد ويومىء للسجود من قعود، وقيل في هذه الصورة: يومىء لهما من قيام ويقعد للتشهد، وقيل: يومىء لهما كليهما من القعود، ويقوم للقراءة، وقيل: يسقط عنه القيام ويصلي قاعداً، فإن صلى قائماً جاز، وإن تعذر عليه القعود أومأ لهما من قيام.
باب سجود السهو وغيره من سجود التلاوة والشكر
عن عبد الله بن بُحَيْنَةَ رضي الله عنه أنَّ النبي صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم صلى بهم الظهرَ، فقامَ في الركعتين الأوليَين، ولمْ يجلسْ، فقامَ النّاسُ معهُ، حتى إذا قضى الصَّلاة، وانتظَرَ النّاس تسْليمَهُ، كَبّر وهو جالسٌ. وسَجَدَ سَجْدتين، قبْلَ أنْ يسَلّمَ، ثم سَلّمَ. أخرجه السبعة وهذا اللفظ للبخاريِّ.(1/212)
وفي رواية لمسلم: يُكبِّر في كلِّ سجْدةٍ وهو جالسٌ ويَسْجُد. ويَسْجُدُ الناسُ معهُ، مكان ما نسي من الجلوس.
(وعن عبد الله بن بحينة رضي الله عنه) تقدم ضبطه وترجمته، وتكرر على الشارح ترجمته فأعادها هنا (أنَّ النبي صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم صلى بهم الظهر فقام في الركعتين الأولييْن) بالمثناتين التحتيتين (ولم يجْلس) هو تأكيد لقام من باب: أقول له: ارحل لا تقيمن عندنا (فقام الناسُ معه حتى إذا قضى الصلاة وانتظر الناس تسليمه، كبر وهو جالس وسجد سجدتين قبل أنْ يسلم ثمَّ سلم. أخرجه السبعة وهذا لفظ البخاري).
الحديث: دليل على أن ترك التشهد الأول سهواً يجبره سجود السهو، وقوله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم: "صلوا كما رأيتموني أصلي" يدل على وجوب التشهد الأول، وجبرانه هنا عند تركه: دل على أنه وإن كان واجباً، فإنه يجبر بسجود السهو، والاستدلال على عدم وجوبه: بأنه لو كان واجباً لما جبره السجود؛ إذ حق الواجب أن يفعل بنفسه ــــ لا يتم؛ إذ يمكن أنه كما قال أحمد بن حنبل: واجب، ولكنه إن ترك سهواً جبره سجود السهو. وحاصله أنه لا يتم الاستدلال على عدم وجوبه، حتى يقوم الدليل على أن كل واجب لا يجزىء عنه سجود السهو إن ترك سهواً. وقوله: "كبر" دليل على شرعية تكبيرة الإحرام لسجود السهو، وأنها غير مختصة بالدخول في الصلاة، وأنه يكبرها، وإن كان لم يخرج من صلاته بالسلام منها.
وأما تكبيرة النقل فلم تذكر هنا، ولكنها ذكرت في قوله: (وفي رواية لمسلم) أي عند عبد الله بن بحينة: (يكبِّر في كلِّ سجدة وهو جالسٌ ويسجُدُ، ويسجدُ معهُ النّاس) فيه دليل على شرعية تكبير النقل، كما سلف في الصلاة، وقوله: (مكان ما نسي من الجلوس) كأنه عرف الصحابي ذلك من قرينة الحال، فهذا لفظ مدرج من كلام الراوي، ليس حكاية لفعله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم الذي شاهده، ولا لقوله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم.(1/213)
ثم فيه دليل: على أن محل مثل هذا السجود قبل السلام، ويأتي ما يخالفه والكلام عليه. وفي رواية مسلم دلالة: على وجوب متابعة الإمام. وفي الحديث دلالة أيضاً: على وجوب متابعته، وإن ترك ما هذا حاله؛ فإنه صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم أقرهم على متابعته، مع تركهم للتشهد عمداً، وفيه تأمل، لاحتمال أنه ما ذكر أنه ترك وتركوا إلا بعد تلبسه وتلبسهم بواجب اخر.
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قالَ: صلى النبي صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم إحْدى صلاتي العشيِّ ركعتين، ثمَّ سلّم، ثمَّ قام إلى خشبةٍ في مقدَّم المسْجد، فوضعَ يدهُ عليها، وفي القوْم أبو بكر وعُمَرُ، فهابا أنْ يُكلماهُ وخرج سرعانُ النّاس، فقالوا: قُصِرتِ الصَّلاة، وفي القوم رجُلٌ يدْعُوهُ النبيُّ صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم ذا اليدين، فقال: يا رسول الله، أنسيتَ أمْ قُصِرتِ الصَّلاةُ؟ فقالَ: "لمْ أنسَ ولمْ تُقْصَرْ" فقال: بَلى، قدْ نَسِيتَ، فَصَلى ركعتين ثمَّ سلّم، ثمَّ كبّر، ثمَّ سَجَد مثل سُجوده أَوْ أَطْوَل، ثمَّ رفع رأسَهُ فكبر، ثمَّ وَضع رأسَهُ، فكبّرَ، فسَجَدَ مثل سُجوده، أَو أَطوَل، ثمَّ رفع رأسه وكبّر. متفقٌ عليه، واللفظ للبخاري.
وفي رواية لمسلم: صلاة العَصْر.
ولأبي داود، فقال: "أَصَدقَ ذو اليدينْ؟" فأَوْمَأُوا: أي نعم، وهي في الصحيحين، لكن بلفظ: فقالوا.
وفي رواية لهُ: ولمْ يسْجد حتى يقّنَهُ الله تعالى ذلك.(1/214)
(وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: صلى النبي صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم إحدى صلاتي العشي) هو بفتح العين المهملة وكسر الشين المعجمة وتشديد المثناة التحتية. قال الأزهري: هو ما بين زوال الشمس وغروبها، وقد عينها أبو هريرة في رواية لمسلم: أنها الظهر، وفي أخرى أنها العصر، ويأتي، وقد جمع بينهما بأنها تعددت القصة (ركعتين، ثم سلم، ثم قام إلى خشبة في مقدم المسجد فوضع يده عليها، وفي القوم) المصلين (أبو بكر وعمر، فهابا أن يكلماه) أي بأنه سلم على ركعتين (وخرج) من المسجد (سرعان الناس) بفتح السين المهملة وفتح الراء هو المشهور، ويروى بإسكان الراء، هم المسرعون إلى الخروج، قيل وبضمها وسكون الراء على أنه جمع سريع كقفيز وقفزان (فقالوا قصرت) بضم القاف وكسر الصاد (الصلاة) وروى بفتح القاف وضم الصاد، وكلاهما صحيح، والأول أشهر (ورجل يدعوه) أي يسميه (النبي صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم ذا اليدين) وفي رواية: "رجل يقال له: الخرباق بن عمرو" بكسر الخاء المعجمة وسكون الراء فباء موحدة، آخره قاف، لقب ذي اليدين، لطول كان في يديه، وفي الصحابة رجل اخر يقال له: ذو الشمالين هو غير ذي اليدين، ووهم الزهري فجعل ذا اليدين وذا الشمالين واحداً، وقد بين العلماء وهمه.
(فقال: يا رسول الله أنسيت أم قصرت الصلاة؟) أي شرع الله قصر الرباعية إلى اثنتين (فقال: لم أنس ولم تقصر) أي في ظني (فقال: بلى قد نسيت، فصلى ركعتين ثم سلم، ثم كبر، ثم سجد مثل سجوده أو أطول، ثم رفع رأسه فكبر، ثم وضع رأسه فكبر، فسجد مثل سجوده أو أطول، ثم رفع رأسه وكبر. متفق عليه، واللفظ للبخاري).(1/215)
هذا الحديث قد أطال العلماء الكلام عليه، وتعرضوا لمباحث أصولية، وغيرها، وأكثرهم استيفاء لذلك، القاضي عياض، ثم المحقق: ابن دقيق العيد في شرح العمدة، وقد وفينا المقام حقه في حواشيها، والمهم هنا: الحكم الفرعي المأخوذ منه، وهو: أن الحديث دليل على أن نية الخروج من الصلاة، وقطعها إذا كانت بناء على ظن التمام، لا يوجب بطلانها، ولو سلم التسليمتين، وأن كلام الناسي لا يبطل الصلاة، وكذا كلام من ظن التمام، و بهذا قال جمهور العلماء من السلف، والخلف، وهو قول ابن عباس، وابن الزبير، وأخيه عروة، وعطاء، والحسن وغيرهم، وقال به: الشافعي، وأحمد، وجميع أئمة الحديث. وقال به: الناصر من أئمة الال.
وقالت الهادوية والحنفية: التكلم في الصلاة ناسياً، أو جاهلاً يبطلها مستدلين بحديث ابن مسعود، وحديث زيد بن أرقم: في النهي عن التكلم في الصلاة، وقالوا: هما ناسخان لهذا الحديث.
وأجيب: بأن حديث ابن مسعود كان بمكة متقدماً على حديث الباب بأعوام، والمتقدم لا ينسخ المتأخر، وبأن حديث زيد بن أرقم، وحديث ابن مسعود أيضاً عمومان، وهذا الحديث خاص بمن تكلم ظاناً لتمام صلاته، فيخص به الحديثان المذكوران، فتجتمع الأدلة من غير إبطال لشيء منها.
ويدل الحديث أيضاً على أن الكلام عمداً الإصلاح الصلاة لا يبطلها، كما في كلام ذي اليدين، وقوله: "فقالوا: ــــ يريد الصحابة ــــ: نعم" كما في رواية تأتي؛ فإنه كلام عمد لإصلاح الصلاة.(1/216)
وقد روي عن مالك: أن الإمام إذا تكلم بما تكلم به النبي صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم: من الاستفسار، والسؤال عند الشك، وإجابة المأموم، أن الصلاة لا تفسد. وقد أجيب: بأنه صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم تكلم معتقداً للتمام، وتكلم الصحابة معتقدين للنسخ، وظنوا حينئذ التمام. قلت: ولا يخفى أن الجزم باعتقادهم التمام محل نظر، بل فيهم متردد بين القصر والنسيان، وهو ذو اليدين، نعم سرعان الناس اعتقدوا القصر، ولا يلزم اعتقاد الجميع، ولا يخفى أنه لا عذر عن العمل بالحديث لمن يتفق له مثل ذلك، وما أحسن كلام صاحب المنار، فإنه ذكر كلام الهدى ودعواه نسخه، كما ذكرناه، ثم رده بما رددناه، ثم قال: وأنا أقول أرجو الله للعبد إذا لقي الله عاملاً لذلك: أن يثبته في الجواب بقوله: صح لي ذلك عن رسولك، ولم أجد ما يمنعه، وأن ينجو بذلك، ويثاب عن العمل به، وأخاف على المتكلفين، وعلى المجبرين على الخروج من الصلاة للاستئناف، فإنه ليس بأحوط، كما ترى، لأن الخروج بغير دليل ممنوع، وإبطال للعمل.
وفي الحديث دليل، على أن الأفعال الكثيرة التي ليست من جنس الصلاة إذا وقعت سهواً، أو مع ظن التمام لا تفسد بها الصلاة، فإن في رواية "أنه صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم خرج إلى منزله" وفي أخرى: "يجرّ رداءه مغضباً" وكذلك خروج سرعان الناس فإنها أفعال كثيرة قطعاً، وقد ذهب إلى هذا الشافعي.(1/217)
وتقدم حديث عائشة: "أنه صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم كان يذكر الله على كل أحيانه"، وقدّمنا أنه مخصص بحديث علي عليه السلام هذا، ولكن الحق أنه لا ينهض على التحريم، بل يحتمل أنه ترك ذلك حال الجنابة للكراهة، أو نحوها، إلا أنه أخرج أبو يعلى من حديث علي عليه السلام قال: "رأيت رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم توضأ، ثم قرأ شيئاً من القران، ثم قال هكذا لمن ليس بجنب، فأما الجنب فلا، ولا اية". قال الهيثمي: رجاله موثقون، وهو يدل على التحريم؛ لأنه نهي، وأصله ذلك، ويعاضد ما سلف.
وفيه دليل: على صحة البناء على الصلاة بعد السلام، وإن طال زمن الفصل بينهما، وقد روي هذا عن ربيعة، ونسب إلى مالك، وليس بمشهور عنه. ومن العلماء من قال: يختص جواز البناء إذا كان الفصل بزمن قريب، وقيل: بمقدار ركعة، وقيل: بمقدار الصلاة.
ويدل أيضاً أنه يجبر ذلك سجود السهو وجوباً لحديث: "صلوا كما رأيتموني أصلي" ويدل أيضاً: على أن سجود السهو لا يتعدد بتعدد أسباب السهو، ويدل على أن سجود السهو بعد السلام خلاف الحديث الأول، ويأتي فيه الكلام.
وأما تعيين الصلاة التي اتفقت فيها القصة فيدل له قوله: (وفي رواية لمسلم) أي من حديث أبي هريرة: (صلاة العصر) عوضاً عن قوله في الرواية الأولى: "إحدى صلاتي العشي" (ولأبي داود) أي من حديثه أيضاً: (فقال) أي النبي صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم: (أصَدَق ذُو اليدين، فأومئوا، أي نعم، وهي في الصحيحين، لكن بلفظ: فقالوا) قلت: وهي في رواية لأبي داود بلفظ: "فقال الناس: نعم"، وقال أبو داود: إنه لم يذكر: "فأومئوا" إلا حماد بن زيد (وفي رواية له) أي لأبي داود من حديث أبي هريرة: (ولم يسجد حتى يقنه الله ذلك) ولفظ أبي داود: "ولم يسجد سجدتي السهو حتى يقنه الله ذلك" أي صير تسليمه على ثنتين يقيناً عنده، إما بوحي، أو تذكر حصل له اليقين به. والله أعلم ما مستند أبي هريرة في هذا.(1/218)
وعن عمْران بن حُصَين رضي الله عنه أنَّ النبي صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم صلى بهم، فسَهَا فسجد سجْدتين، ثمَّ تشهّد، ثمَّ سلم، رواهُ أبو داود والترمذي وحسّنه، والحاكم وصَحّحهُ.
(وعن عمْران بن حُصَين رضي الله عنه أنَّ النبي صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم صلى بهم، فسَهَا فسجد سجْدتين، ثمَّ تشهّد، ثمَّ سلم، رواهُ أبو داود والترمذي وحسّنه، والحاكم وصَحّحهُ).
في سياق حديث السنن: أن هذا السهو سهوه صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم، الذي في خبر ذي اليدين، فإن فيه: بعد أن ساق حديث أبي هريرة: مثل ما سلف من سياق الصحيحين إلى قوله: "ثم رفع وكبر" ما لفظه: فقيل لمحمد: أي ابن سيرين الراوي: سلم في السهو؟ فقال: لم أحفظه من أبي هريرة ولكن نبئت أن عمران بن حصين قال: "ثم سلم"، وفي السنن أيضاً من حديث عمران بن حصين، قال: "سلم رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم في ثلاث ركعات من العصر، ثم دخل، فقام إليه رجل يقال له: الخرباق، كان طويل اليدين. إلى قوله: فقال:أصدق؟ فقالوا: نعم، فصلى تلك الركعة، ثم سجد سجدتيها، ثم سلم" انتهى. ويحتمل أنها تعددت القصة.
وفي الحديث: دليل أنه يستحب عقيب الصلاة، كما تدل له الفاء وفيه تصريح بالتشهد، قيل: ولم يقل أحد: بوجوبه، ولفظ تشهد: يدل أنه أتى بالشهادتين، وبه قال بعض العلماء، وقيل: ــــ يكفي التشهد الأوسط، واللفظ في الأول أظهر، وفيه دليل على شرعية التسليم، كما تدل له رواية عمران بن حصين التي ذكرناها، لا الرواية التي أتى بها المصنف، فإنها ليست بصريحة: أن التسليم كان لسجدتي السهو، فإنها تحتمل أنه لم يكن سلم للصلاة، وأنه سجد لها قبل السلام، ثم سلم تسليم الصلاة.(1/219)
وعن أبي سعيد الخُدْريِّ رضي الله عنهُ قالَ: قالَ رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم: "إذا شكَّ أحدكُمْ في صلاته، فلم يدْرِ كَمْ صلى أثلاثاً أمْ أربعاً؟ فلْيطرح الشكَّ وليَبْن على ما استيقنَ، ثمَّ يَسْجُدُ سَجْدتين قبل أن يُسَلِّمَ، فإن كانَ صلى خمساً شَفَعْنَ لهُ صلاتَهُ، وإن كانَ صلى تماماً كانتا ترْغيماً للشيطان" رواهُ مسلمٌ.
(وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم: إذا شك أحدكم في صلاته، فلم يدر كم صلى أثلاثاً أم أربعاً؟ فليطرح الشك وليبن على ما استيقن، ثم يسجد سجدتين قبل أن يسلم، فإن كان صلى خمساً) في رباعية (شفَعْنَ) أي السجدتان (له صلاته) صيرنها شفعاً؛ لأن السجدتين قامتا مقام ركعة، وكأن المطلوب من الرباعية: الشفع، وإن زادت على الأربع (وإنْ كان صلى تماماً كانتا ترغيماً للشيطان) أي إلصاقاً لأنفه بالرغام، والرغام: بزنة غراب: التراب، وإلصاق الأنف به في قولهم: رغم أنفه: كناية عن إذلاله وإهانته، والمراد: إهانة الشيطان حيث لبس عليه صلاته (رواه مسلم).(1/220)
الحديث فيه دلالة على أن الشاك في صلاته يجب عليه البناء على اليقين عنده، ويجب عليه أن يسجد سجدتين، وإلى هذا ذهب جماهير العلماء، ومالك، والشافعي، وأحمد. وذهب الهادوية، وجماعة من التابعين: إلى وجوب الإعادة عليه حتى يستيقن، وقال بعضهم: يعيد ثلاث مرات، فإذا شك في الرابعة، فلا إعادة عليه. والحديث مع الأولين. والحديث ظاهر في أن هذا حكم الشاك مطلقاً: مبتدأ كان أو مبتلي. وفرق الهادوية بينهم، فقالوا: في الأول يجب عليه الإعادة، وفي الثاني يتحرى بالنظر في الأمارات، فإن حصل له ظن التمام، أو النقص عمل به، وإن كان النظر في الأمارات لا يحصل له بحسب العادة شيئاً، فإنه يبني على الأقل، كما في هذا الحديث، وإن كان عادته أن يفيده النظر الظن، ولكنه لم يفده في هذه الحالة، وجب عليه أيضاً الإعادة، وهذا التفصيل يرد عليه هذا الحديث الصحيح، ويرد عليه أيضاً حديث عبد الرحمن بن عوف عند أحمد قال: سمعت رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم يقول: "إذا شك أحدكم في صلاته فلم يدر واحدة صلى، أو اثنتين، فليجعلها واحدة، وإذا لم يدر اثنتين صلى، أو ثلاثاً، فليجعلها اثنتين، وإذا لم يدر ثلاثة صلى، أو أربعاً، فليجعلها ثلاثاً، ثم يسجد ــــ إذا فرغ من صلاته، وهو جالس قبل أن يسلم ــــ سجدتين".
وعن ابن مَسْعُودٍ رضي الله عنه قالَ: صلى رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم. فلمَّا سَلّمَ قيلَ لهُ: يا رسول الله، أَحَدَثَ في الصَّلاة شيءٌ؟ قال: "وما ذاكَ؟" قالوا: صلّيْتَ كذا وكذا، قالَ: فَثَنَى رجْلَيْهِ واستقْبَلَ القِبلةَ، فسجد سَجْدتين، ثمَّ سلّم، ثمَّ أَقبلَ على النّاس بوجهِهِ فقالَ: "إنّه لو حدثَ في الصَّلاةِ شيءٌ أَنبأتُكُمْ به، ولكن إنّما أنا بشرٌ مثْلُكم أنسى كما تَنْسَون، فإذا نسيتُ فذكِّروني، وإذا شكَّ أحدكُمْ في صلاته فلْيَتَحَرَّ الصَّواب، فَلْيُتِمَّ عليه، ثمَّ ليَسْجُدْ سَجْدتين" متفقٌ عليه.(1/221)
وفي رواية للبخاريِّ: "فلْيُتمَّ ثمَّ يسلم ثمَّ يسْجُد".
ولمسلم: أنَّ النبيَّ صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم سَجَدَ سَجْدتي السّهْوِ بَعْد السلام والكلامِ.
(وعن ابن مسعود رضي الله عنه قال: صلى رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم) أي: إحدى الرباعيات خمساً، وفي رواية: أنه قال إبراهيم النخعي: "زاد أو نقص" (فلما سلم قيل له: يا رسول الله أحدث في الصلاة شيء؟ قال: وما ذاك؟ قالوا: صليت كذا وكذا، فثنى رجليه، واستقبل القبلة فسجد سجدتين ثم سلم، ثم أقبل على الناس بوجهه فقال: إنّه لو حدث في الصلاة شيءٌ أنبأتكم به، ولكن إنّما أنا بشرٌ مثلكم) في البشرية، وبين وجه المثلية بقوله: (أنسى، كما تنسون، فإذا نسيت فذكِّروني، وإذا شكَّ أحدُكم في صلاته) هل زاد أو نقص؟ (فليتحرّ الصواب) بأن يعمل بظنه من غير تفرقة بين الشك في ركعة، أو ركن، وقد فسره حديث عبد الرحمن بن عوف الذي قدمناه (فليُتمّ عليه ثم ليسجدْ سجدتين. متفقٌ عليه).
ظاهر هذا الحديث أنهم تابعوه صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم على الزيادة، ففيه دليل: على أن متابعة المؤتم للإمام فيما ظنه واجباً لا يفسد صلاته، فإنه صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم لم يأمرهم بالإعادة، وهذا في حق أصحابه في مثل هذه الصورة؛ لتجويزهم التغيير في عصر النبوة، فأما لو اتفق الان قيام الإمام إلى الخامسة سبح له من خلفه، فإن لم يقعد انتظروه قعوداً، حتى يتشهدوا بتشهده ويسلموا بتسليمه، فإنها لم تفسد عليه حتى يقال يعزلون، بل فعل ما هو واجب في حقه.
وفي هذا دليل، على أن محل سجود السهو بعد السلام، إلا أنه قد يقال: إنه صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم ما عرف سهوه في الصلاة إلا بعد أن سلم منها، فلا يكون دليلاً.(1/222)
واعلم أنه قد اختلفت الأحاديث في محل سجود السهو. واختلفت بسبب ذلك أقوال الأئمة. قال بعض أئمة الحديث: أحاديث باب سجود السهو قد تعددت: منها حديث أبي هريرة فيمن شك، فلم يدر كم صلى؟.. وفيه الأمر أن يسجد سجدتين، ولم يذكر موضعهما، وهو حديث أخرجه الجماعة، ولم يذكروا فيه محل السجدتين، هل هو قبل السلام أو بعده؟ نعم عند أبي داود، وابن ماجه فيه زيادة: "قبل أن يسلم". ومنها حديث أبي سعيد من شك. وفيه: "أنه يسجد سجدتين قبل التسليم". ومنها حديث أبي هريرة، وفيه: "القيام إلى الخشبة، وأنه سجد بعد السلام" ومنها حديث ابن بحينة، وفيه: السجود قبل السلام.
ولما وردت هكذا اختلفت اراء العلماء في الأخذ بها، فقال داود: تستعمل في مواضعها على ما جاءت به، ولا يقاس عليها، ومثله قال أحمد في هذه الصلاة خاصة، وخالف فيما سواها، فقال: يسجد قبل السلام لكل سهو. وقال اخرون: هو مخير في كل سهو: إن شاء سجد بعد السلام، وإن شاء قبل السلام في الزيادة والنقص. وقال مالك: إن كان السجود لزيادة سجد بعد السلام، وإن كان لنقصان سجد قبله. وقالت الهادوية، والحنفية: الأصل في سجود السهو بعد السلام، وتأولوا الأحاديث الواردة في السجود قبله، وستأتي أدلتهم. وقال الشافعي: الأصل السجود قبل السلام، وردّ ما خالفه من الأحاديث بادعائه نسخ السجود بعد السلام. وروى عن الزهري قال: سجد رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم سجدتي السهو قبل السلام، وبعده، واخر الأمرين قبل السلام، وأيده برواية معاوية: "أنه صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم سجدهما قبل السلام" وصحبته متأخرة. وذهب إلى مثل قول الشافعي أبو هريرة، ومكحول، والزهري، وغيرهم.
قال في الشرح: وطريق الإنصاف: أن الأحاديث الواردة في ذلك قولاً وفعلاً فيها نوع تعارض، وتقدم بعضها، وتأخر البعض غير ثابت برواية صحيحة موصولة، حتى يستقيم القول بالنسخ، فالأولى الحمل على التوسع في جواز الأمرين.(1/223)
ومن أدلة الهادوية والحنفية: رواية البخاري التي أفادها قوله: (وفي رواية للبخاري) أي من حديث ابن مسعود: (فليتم ثم يسلم ثم يسجد) ما يدل على أنه بعد السلام. وكذلك رواية مسلم التي أفادها قوله: (ولمسلم) أي من حديث ابن مسعود: (أن النبي صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم سجد سجدتي السهو بعد السلام) من الصلاة (والكلام) أي الذي خوطب به وأجاب عنه بما أفاده اللفظ الأول؛ ويدل له أيضاً:
ولأحْمَد وأبي داود والنّسائيِّ من حديث عبد الله بن جعفر مرفوعاً: "مَنْ شكَّ في صلاته فلْيسجدْ سجْدتين بعد ما يُسلِّمُ" وصَحّحهُ ابنُ خُزيمةَ.
(ولأحْمَد وأبي داود والنّسائيِّ من حديث عبد الله بن جعفر مرفوعاً: "مَنْ شكَّ في صلاته فلْيسجدْ سجْدتين بعد ما يُسلِّمُ" وصَحّحهُ ابنُ خُزيمةَ).
فهذه أدلة من يقول: إنه يسجد بعد السلام مطلقاً، ولكنه قد عارضها ما عرفت، فالقول بالتخيير أقرب الطرق إلى الجمع بين الأحاديث، كما عرفت. قال الحافظ أبو بكر البيهقي: روينا عن النبي صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم: أنه سجد للسهو قبل السلام، وأنه أمر بذلك، وروينا: أنه سجد بعد السلام، وأنه أمر به، وكلاهما صحيح، ولهما شواهد يطول بذكرها الكلام، ثم قال: الأشبه بالصواب جواز الأمرين جميعاً، قال: وهذا مذهب كثير من أصحابنا.
وعن المغيرة بن شُعبةَ أنَّ رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم قال: "إذا شكَّ أحدُكمْ، فقامَ في الرَّكعتينِ، فاستْتمَّ قائماً، فلْيمضِ، ولا يعودُ، ولْيَسْجد سَجْدتين، فإنْ لمْ يَسْتَتِمَّ قائماً فَلْيَجْلس ولا سهو عليه" رواه أبو داود وابن ماجهْ والدارقطني، واللفظُ لهُ، بسَنَد ضَعيفٍ.(1/224)
(وعن المغيرة بن شعبة: أن رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم قال: إذا شك أحدكم، فقام في الركعتين فاستتم قائماً، فليمض ولا يعود) للتشهد الأول (ولَيسْجد سجْدتين) لم يذكر محلهما (فإنْ لم يستتم قائماً فليجلس) ليأتي بالتشهد الأول (ولا سهو عليه. رواه أبو داود وابن ماجه، والدارقطني واللفظ له بسند ضعيف) وذلك أن مداره في جميع طرقه على جابر الجعفي، وهو ضعيف. وقد قال أبو داود: ليس في كتابي عن جابر الجعفي غير هذا الحديث.
وفي الحديث دلالة: على أنه لا يسجد للسهو إلا لفوات التشهد الأول، لا لفعل القيام لقوله: "ولا سهو عليه" وقد ذهب إلى هذا جماعة.
وذهبت الهادوية، وابن حنبل: إلى أنه يسجد للسهو؛ لما أخرجه البيهقي من حديث أنس: "أنه تحرك للقيام من الركعتين الأخريين من العصر على جهة السهو، فسبحوا فقعد، ثم سجد للسهو" وأخرجه الدارقطني، والكل من فعل أنس موقوف عليه؛ إلا أن في بعض طرقه أنه قال: "هذه السنة" وقد رجح حديث المغيرة عليه، لكونه مرفوعاً؛ ولأنه يؤيده حديث ابن عمر مرفوعاً: "لا سهو إلا في قيام عن جلوس، أو جلوس عن قيام" أخرجه الدارقطني، والحاكم، والبيهقي، وفيه ضعف، ولكن يؤيد ذلك: أنها وردت أحاديث كثيرة في الفعل القليل، وأفعال صدرت منه صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم، ومن غيره مع علمه بذلك، ولم يأمر فيها بسجود السهو، ولا سجد لما صدر عنه منها.(1/225)
قلت: وأخرج النسائي من حديث ابن بحينة: "أنه صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم صلى فقام في الركعتين، فسبحوا به، فمضى، فلما فرغ من صلاته، سجد سجدتين، ثم سلم" وأخرج أحمد، والترمذي، وصححه من حديث زياد بن علاقة قال: "صلى بنا المغيرة بن شعبة، فلما صلى ركعتين، قام ولم يجلس، فسبح له من خلفه، فأشار إليهم أن قوموا، فلما فرغ من صلاته سلم، ثم سجد سجدتين وسلم؛ ثم قال هكذا صنع بنا رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم"، إلا أن هذه فيمن مضى بعد أن يسبحوا له، فيحتمل أنه سجد لترك التشهد، وهو الظاهر.
وعن عُمَر رضي الله عنه عن النبي صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم قال: "ليس على من خَلْف الإمام سَهْوٌ، فإنْ سَهَا الإمامُ فَعَلَيْهِ وعلى من خَلْفهُ". رواهُ الترمذي، والبيْهَقِي بسندٍ ضعيفٍ.
(وعن عُمَر رضي الله عنه عن النبي صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم قال: "ليس على من خَلْف الإمام سَهْوٌ، فإنْ سَهَا الإمامُ فَعَلَيْهِ وعلى من خَلْفهُ". رواهُ الترمذي، والبيْهَقِي بسندٍ ضعيفٍ).
وأخرجه الدارقطني في السنن بلفظ اخر، وفيه زيادة: "وإن سها من خلف الإمام فليس عليه سهو، والإمام كافيه" والكل من الروايات فيها خارجة بن مصعب: ضعيف. وفي الباب عن ابن عباس، إلا أن فيه متروكاً.
والحديث دليل: على أنه لا يجب على المؤتم سجود السهو إذا سها في صلاته، وإنما يجب عليه إذا سها الإمام فقط، وإلى هذا ذهب زيد بن علي، والناصر، والحنفية، والشافعية. وذهب الهادي: إلى أنه يسجد للسهو؛ لعموم أدلة سجود السهو للإمام، والمنفرد، والمؤتم. والجواب: أنه لو ثبت هذا الحديث لكان مخصصاً لعمومات أدلة سجود السهو، ومع عدم ثبوته، فالقول قول الهادي.
[رح9]ـــ وعن ثوْبانَ عن النبي صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم أنّه قال: "لكُلِّ سَهْوٍ سجْدتان بعدما يُسلِّم" رواهُ أبو داود وابن ماجه بسندٍ ضعيف.(1/226)
(وعن ثوْبانَ عن النبي صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم أنّه قال: "لكُلِّ سَهْوٍ سجْدتان بعدما يُسلِّم" رواهُ أبو داود وابن ماجه بسندٍ ضعيف).
قالوا: لأن في إسناده إسماعيل بن عياش، وفيه مقال وخلاف. قال البخاري: إذا حدّث عن أهل بلده: يعني الشاميين فصحيح، وهذا الحديث من روايته عن الشاميين، فتضعيف الحديث به: فيه نظر.
والحديث دليل لمسألتين: الأولى: أنه إذا تعدد المقتضى لسجود السهو تعدد لكل سهو سجدتان. وقد حكي عن ابن أبي ليلى. وذهب الجمهور: إلى أنه لا يتعدد السجود، وإن تعدد موجبه، لأن النبي صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم في حديث ذي اليدين سلم، وتكلم، ومشى ناسياً، ولم يسجد إلا سجدتين. ولئن قيل: إن القول أولى بالعمل به من الفعل، فالجواب: أنه لا دلالة فيه على تعدد السجود لتعدد مقتضيه، بل هو للعموم لكل ساه، فيفيد الحديث: أن كل من سها في صلاته بأي سهو كان يشرع له سجدتان، ولا يختصان بالمواضع التي سها فيها النبي صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم، ولا بالأنواع التي سها بها، والحمل على هذا المعنى أولى من حمله على المعنى الأول، وإن كان هو الظاهر فيه، جمعاً بينه وبين حديث ذي اليدين، على أن لك أن تقول: إن حديث ذي اليدين لم يقع فيه السهو المذكور حال الصلاة، فإنه محل النزاع، فلا يعارض حديث الكتاب.
والمسألة الثانية: يحتج به من يرى سجود السهو بعد السلام، وتقدم فيه تحقيق الكلام.
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: سَجدَنا مع رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم في {إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحاً مُّبِيناً} و {الْحَاقَّةُ} رواه مسلم.
(وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: سجدنا مع رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم في {إذا السماء انشقت} و {اقرأ باسم ربك الذي خلق} رواه مسلم) هذا من أحاديث سجود التلاوة وهو داخل في ترجمة المصنف الماضية كما عرفت، حيث قال: باب سجود السهو وغيره.(1/227)
والحديث دليل على مشروعية سجود التلاوة، وقد أجمع على ذلك العلماء، وإنما اختلفوا في الوجوب، وفي مواضع السجود، فالجمهور أنه سنة، وقال أبو حنيفة: واجب غير فرض ثم هو سنة في حق التالي والمستمع إن سجد التالي، وقيل: وإن لم يسجد، فأما مواضع السجود، فقال الشافعي: يسجد فيما عدا المفصل فيكون أحد عشر موضعاً.
وقالت الهادوية والحنفية: في أربعة عشر محلاً إلا أن الحنفية لا يعدون في الحج إلا سجدة، واعتبروا بسجدة سور ص والهادوية عكسوا ذلك كما ذكر ذلك المهدي في البحر، وقال أحمد وجماعة: يسجد في خمسة عشر موضعاً عدوا سجدتي الحج وسجدة ص، واختلفوا أيضاً هل يشترط فيها ما يشترط في الصلاة من الطهارة وغيرها، فاشترط ذلك جماعة، وقال قوم: لا يشترط.
وقال البخاري: كان عمر يسجد على غير وضوء، وفي مسند ابن أبي شيبة: "كان ابن عمر ينزل عن راحلته فيهريق الماء ثم يركب فيقرأ السجدة فيسجد وما يتوضأ"، ووافقه الشعبي على ذلك، وروي عن ابن عمر أٌّه لا يسجد الرجل إلا وهو طاهر، وجمع بين قوله وفعله على الطهارة من الحدث الأكبر.
قلت: والأصل إنه لا يشترط الطهارة إلا بدليل وأدلة وجوب الطهارة وردت للصلاة والسجدة لا تسمى صلاة، فالدليل على من شرط ذلك وكذلك أوقات الكراهة ورد النهي عن الصلاة فيها فلا تشمل السجدة الفردة.(1/228)
وهذا الحديث دل على السجود للتلاوة في المفصل، ويأتي الخلاف في ذلك. ثم رأيت لابن حزم كلاماً في شرح المحلي لفظه: السجود في قراءة القرآن ليس ركعة أو ركعتين فليس صلاة، وإذا كان ليس صلاة فهو جائز بلا وضوء وللجنب والحائض وإلى غير القِبْلة كسائر الذكر ولا فرق، إذ لا يلزم الوضوء إلا للصلاة ولم يأت بإيجابه لغير الصلاة قرآن ولا سنة ولا إجماع ولا قياس، فإن قيل: السجود من الصلاة وبعض الصلاة صلاة. قلنا: والتكبير بعض الصلاة والجلوس والقيام والسلام بعض الصلاة، فهل يلتزمون أن لا يفعل أحد شيئاً من هذه الأفعال والأقوال إلا وهو على وضوء هذا لا يقولونه ولا يقوله أحد. انتهى.
[رح 11/123] ـ وَعَنْ ابْنِ عَبّاسٍ رَضِيَ الله عَنْهُمَا، قَالَ: ص لَيْسَتْ مِنْ عَزَائِمِ السُّجُودِ، وَقَدْ رَأَيْتُ رَسُولَ الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم يسجد فيها. روَاهُ الْبُخَارِيُّ.
(وعن ابن عباس رضي الله عنه قال: ص ليست من عزائم السجود، وقد رأيت رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم يسجد فيها. رواه البخاري) أي ليست مما ورد في السجود فيها أمر ولا تحريص ولا تخصيص ولا حث، وإنما ورد بصيغة الإخبار عن داود عليه السلام بأنه فعلها وسجد نبينا صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم فيها اقتداء به لقوله تعالى: {فبهداهم اقتده}.
وفيه دلالة على: أن المسنونات قد يكون بعضها اكد من بعض، وقد روي: أنه قال صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم: "سجدها داود توبة وسجدناها شكراً" وروى ابن المنذر، وغيره بإسناد حسن: عن علي بن أبي طالب عليه السلام: "إن العزائم حم، والنجم، واقرأ، وألم تنزيل"، وكذا ثبت عن ابن عباس في الثلاثة الأخر، وقيل: في الأعراف، وسبحان، وحم، وألم. أخرجه ابن أبي شيبة.
وعنهُ: أنَّ النبي صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم سَجَدَ بالنّجْمِ،.... رواهُ البخاريُّ.
(وعنه) أي ابن عباس: (أن النبي صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم سجد بالنجم. رواه البخاري).(1/229)
هو دليل على السجود في المفصل، كما أن الحديث الأول دليل على ذلك، وقد خالف فيه مالك، وقال: لا سجود لتلاوة في المفصل، وقد قدمنا لك الخلاف في أول الفصل محتجاً بما روي عن ابن عباس: "أنه صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم لم يسجد في شيء من المفصل منذ تحول إلى المدينة" أخرجه أبو داود، وهو ضعيف الإسناد، وفيه أبو قدامة، واسمه الحارث بن عبد الله، إيادي، بصري، لا يحتج بحديثه، كما قال الحافظ المنذري في مختصر السنن، ومحتجاً أيضاً بقوله:
وعن زيد بن ثابتٍ رضي الله عنهُ قال: قرَأَتُ على رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم النّجْم، فلمْ يَسْجُدْ فيها، متفق عليه.
(وعن زيد بن ثابتٍ رضي الله عنهُ قال: قرَأَتُ على رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم النّجْم، فلمْ يَسْجُدْ فيها، متفق عليه).
وزيد بن ثابت من أهل المدينة، وقراءته بها كانت في المدينة، قال مالك: فأيد حديث ابن عباس. وأجيب عنه: بأن ترك السجود، تارة، وفعله تارة: دليل السنية، أو لمانع عارض ذلك، ومع ثبوت حديث زيد، فهو نافٍ، وحديث غيره ــــ وهو ابن عباس ــــ مثبت، والمثبت مقدم.
وعن خالد بن معدان رضي الله عنه قال: فُضِّلَتْ سورةُ الحجِّ بسَجْدتين، رواهُ أبو داود في المراسيل.(1/230)
(وعن خالد بن معدان رضي الله عنه) بفتح الميم وسكون العين المهملة وتخفيف الدال، وخالد هو أبو عبد الله بن معدان، الشامي، الكلاعي بفتح الكاف، تابعي، من أهل حمص قال: لقيت سبعين رجلاً من أصحاب النبي صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم، وكان من ثقات الشاميين، مات سنة أربع ومائة، وقيل: سنة ثلاث (قال: فضلت سورة الحج بسجدتين. رواه أبو داود في المراسيل) كذا نسبه المصنف إلى مراسيل أبي داود، وهو موجود في سننه مرفوعاً: من حديث عقبة بن عامر بلفظ: "قلت: يا رسول الله في سورة الحج سجدتان؟ قال: نعم، ومن لم يسجدهما فلا يقرأهما". فالعجب كيف نسبه المصنف إلى المراسيل مع وجوده في سننه مرفوعاً؟ ولكنه قد وصل في.
ورواه أحمد والترمذي موْصولاً من حديث عُقبةَ بن عامرٍ، وزادَ: فمن لم يَسجدْهما فلا يقرأهما، وسندُهُ ضعيفٌ.
(ورواه أحمد والترمذي موصولاً من حديث عقبة بن عامر، وزاد) أي الترمذي في روايته: (فمن لم يسجدها فلا يقرأها) بضمير مفرد: أي السورة، أو اية السجدة ويراد الجنس (وسنده ضعيف) ؛ لأن فيه ابن لهيعة. قيل: إنه تفرد به، وأيده الحاكم: بأن الرواية صحت فيه من قول عمر، وابنه، وابن مسعود، وابن عباس، وأبي الدرداء، وأبي موسى، وعمار، وساقها موقوفة عليهم، وأكده البيهقي بما رواه في المعرفة: من طريق خالد بن معدان.
وفي الحديث ردّ على أبي حنيفة وغيره ممن قال: إنه ليس بواجب، كما قال: إنه ليس في سورة الحج إلا سجدة واحدة: في الأخيرة منها، وفي قوله: "فمن لم يسجدها فلا يقرأها" تأكيد لشرعية السجود فيها، ومن قال بإيجابه، فهو من أدلته، ومن قال: ليس بواجب، قال: لما ترك السنة، وهو سجود التلاوة بفعل المندوب، وهو القران، كان الأليق الاعتناء بالمسنون وأن لا يتركه، فإذا تركه، فالأحسن له أن لا يقرأ السورة.(1/231)
وعنْ عُمَرَ رضي الله عنهُ قال: يا أيها النّاسُ إنا نمرّ بالسجود فَمَنْ سجدَ فَقَدْ أصابَ، ومَنْ لمْ يَسْجُدْ فلا إثم عليه. رواهُ البخاري، وفيه: إن الله تعالى لمْ يفرض السُّجودَ إلا أن نشاءَ، وهُو في الموطأ.
(وعن عمر رضي الله عنه قال: يا أيها الناس إنا نمرّ بالسجود) أي بايته (فمن سجد، فقد أصاب) أي السنة (ومن لم يسجد، فلا إثم عليه. رواه البخاري. وفيه) أي البخاري عن عمر: (إن الله لم يفرض السجود) أي لم يجعله فرضاً (إلا أن نشاء، وهو في الموطأ).
فيه دلالة على أن عمر كان لا يرى وجوب سجود التلاوة، واستدل بقوله: "إلا أن نشاء": أن من شرع في السجود وجب عليه إتمامه؛ لأنه مخرج من بعض حالات عدم فرضية السجود. وأجيب: بأنه استثناء منقطع، والمراد: ولكن ذلك موكول إلى مشيئتنا.
وعن ابن عُمَرَ رضي الله عنهما قال: كان النبي صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم يقرأُ عَلَيْنا القران، فإذا مَرَّ بالسّجدَةِ كَبّرَ وسَجَدَ وَسَجَدْنا مَعَهُ. رواهُ أبو داود بسَنَدٍ فيه لينٌ.
(وعن ابن عُمَرَ رضي الله عنهما قال: كان النبي صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم يقرأُ عَلَيْنا القران، فإذا مَرَّ بالسّجدَةِ كَبّرَ وسَجَدَ وَسَجَدْنا مَعَهُ. رواهُ أبو داود بسَنَدٍ فيه لينٌ).
لأنه من رواية عبد الله ــــ المكبر ــــ العمري، وهو ضعيف، وأخرجه الحاكم من رواية عبيد الله ــــ المصغر ــــ وهو ثقة.
وفي الحديث دلالة على التكبير، وأنه مشروع، وكان الثوري يعجبه هذا الحديث. قال أبو داود: يعجبه، لأنه كبر، وهل هو تكبير الافتتاح، أو النقل؟ الأول أقرب، ولكنه يجتزىء بها عن تكبيرة النقل، لعدم ذكر تكبيرة أخرى، وقيل: يكبر له، وعدم الذكر ليس دليلاً، قال بعضهم: ويتشهد ويسلم، قياساً للتحليل على التحريم، وأجيب: بأنه لا يجزىء هذا القياس، فلا دليل على ذلك.(1/232)
وفي الحديث دليل: على مشروعية سجود التلاوة للسامع؛ لقوله: وسجدنا، وظاهره سواء كانا مصليين معاً، أو أحدهما في الصلاة. وقالت الهادوية: إذا كانت الصلاة فرضاً أخرها حتى يسلم. قالوا: لأنها زيادة عن الصلاة فتفسدها، ولما رواه نافع عن ابن عمر أنه قال: "كان رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم يقرأ علينا السورة في غير الصلاة، فيسجد، ونسجد معه" أخرجه أبو داود. قالوا: ويشرع له أن يسجد إذا كانت الصلاة نافلة، لأن النافلة مخفف فيها. وأجيب عن الحديث: بأنه استدلال بالمفهوم، وقد ثبت من فعله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم: أنه قرأ سورة الانشقاق في الصلاة، وسجد، وسجد من خلفه، وكذلك: سورة تنزيل السجدة، قرأ بها، وسجد فيها. وقد أخرج أبو داود، والحاكم، والطحاوي من حديث ابن عمر: "أنه صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم سجد في الظهر، فرأى أصحابه أنه قرأ اية سجدة، فسجدوها".
واعلم أنه قد ورد الذكر في سجود التلاوة بأن يقول: "سجد وجهي للذي خلقه، وصوره وشق سمعه وبصره بحوله وقوته" أخرجه أحمد، وأصحاب السنن، والحاكم، والبيهقي، وصححه ابن السكن، وزاد في اخره: "ثلاثاً" وزاد الحاكم في اخره: {هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُواْ زِلْزَالاً شَدِيداً} ، وفي حديث ابن عباس: "أنه صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم كان يقول في سجود التلاوة: اللهم اكتب لي بها عندك أجراً، واجعلها لي عندك ذخراً، وضع عني بها وزراً، وتقبلها مني، كما تقبلتها من عبدك داود".
وعن أبي بكرة رضي الله عنهُ، أنَّ النبيَّ صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم كانَ إذا جاءَهُ خَبَرٌ يسرُّهُ خَرَّ ساجداً لله. رواه الخمسة إلا النسائي.
(وعن أبي بكرة رضي الله عنهُ، أنَّ النبيَّ صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم كانَ إذا جاءَهُ خَبَرٌ يسرُّهُ خَرَّ ساجداً لله. رواه الخمسة إلا النسائي).(1/233)
هذا مما شملته الترجمة بقوله: وغيره، وهو دليل على شرعية سجود الشكر، وذهبت إلى شرعيته الهادوية، والشافعي، وأحمد، خلافاً لمالك، ورواية أبي حنيفة: بأنه لا كراهة فيه: ولا ندب، والحديث دليل للأولين، وقد سجد صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم في اية ص، وقال: "هي لنا شكر".
واعلم أنه قد اختلف: هل يشترط لها الطهارة أم لا؟ فقيل: يشترط قياساً على الصلاة، وقيل: لا يشترط؛ لأنها ليست بصلاة، وهو الأقرب كما قدمناه. وقال المهدي: إنه يكبر لسجود الشكر. وقال أبو طالب: ويستقبل القبلة. وقال الإمام يحيى: ولا يسجد للشكر في الصلاة قولاً واحداً؛ إذ ليس من توابعها. قيل: ومقتضى شرعيته: حدوث نعمة، أو اندفاع مكروه، فيفعل ذلك في الصلاة، ويكون كسجود التلاوة.
وعن عبدِ الرَّحْمن بن عوف رضي الله عنه قالَ: سَجَدَ النّبي صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم، فأطالَ السُّجودَ، ثمَّ رفعَ رأسَهُ، فقالَ: "إن جبريلَ أتاني، فبَشّرني، فسَجَدْتُ لله شُكراً" رواهُ أحمد وصححهُ الحاكمُ.
(وعن عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه قال: سجد رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم، فأطال السجود، ثم رفع رأسه، فقال: إن جبريل أتاني فبشرني) وجاء تفسير البشرى: بأنه تعالى قال: "من صلى عليك صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم صلاة: صلى الله عليه بها عشراً" رواه أحمد في المسند من طرق (فسجدت لله شكراً. رواه أحمد، وصححه الحاكم) أخرجه البزار، وابن أبي عاصم في فضل الصلاة عليه صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم.
قال البيهقي: وفي الباب عن جابر، وابن عمر، وأنس، وجرير، وأبي جحيفة.
وعنَ البراءِ بن عازبٍ رضي الله عنهُ، أنَّ النبي صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم بَعثَ علياً إلى اليمن ــــ فذكرَ الحديث ــــ قالَ: فَكَتَبَ عليٌّ بإسلامهم فلما قرأ رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم الكتابَ خرَّ ساجداً، شُكراً لله تعالى على ذلك. رواهُ البيهقيُّ. وأصْلُهُ في البُخاريِّ.(1/234)
(وعنَ البراءِ بن عازبٍ رضي الله عنهُ، أنَّ النبي صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم بَعثَ علياً إلى اليمن ــــ فذكرَ الحديث ــــ قالَ: فَكَتَبَ عليٌّ بإسلامهم فلما قرأ رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم الكتابَ خرَّ ساجداً، شُكراً لله تعالى على ذلك. رواهُ البيهقيُّ. وأصْلُهُ في البُخاريِّ).
وفي معناه سجود كعب بن مالك لما أنزل الله توبته، فإنه يدل على أن شرعية ذلك كانت متقررة عندهم.
باب صلاة التطوع
أي صلاة العبد التطوع فهو من إضافة المصدر إلى مفعوله وحذف فاعله. في القاموس صلاة التطوع: النافلة.
[رح 1/133] ـ عَنْ رَبِيعَةَ بْنِ مَالِكٍ الأَسْلَمِيِّ رَضِيَ الله عَنْهُ، قَالَ: قَالَ لِي النَّبِيُّ صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم: "سَلْ"، فَقُلتُ: أَسْأَلُكَ مُرَافَقَتَكَ فِي الْجَنَّةِ، فَقَالَ: "أَوْ غَيْرَ ذَلِكَ". فَقُلْتُ: هُوَ ذَاكَ، قَالَ: فَأَعِنِّي عَلَى نَفْسِكَ بِكَثْرَةِ السُّجُودِ". رَوَاهُ مُسْلِمٌ.
(عن ربيعة بن كعب الأسلمي رضي الله عنه) من أهل الصفة كان خادماً لرسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم صحبه قديماً ولازمه حضراً وسفراً، مات سنة ثلاث وستين من الهجرة، وكنيته أبو فراس بكسر الفاء فراء آخره سين مهملة، (قال: قال لي رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم: سل، فقلت: اسألك مرافقتك في الجنة، فقال أو غير ذلك) ، قلت: هو ذاك، قال: "فأعني على نفسك" أي على نيل مراد نفسك، (بكثرة السجود". رواه مسلم) حمل المصنف السجود على الصلاة نفلاً فجعل الحديث دليلاً على التطوع، وكأنه صرفه عن الحقيقة كون السجود بغير صلاة غير مرغب فيه على انفراده والسجود وإن كان يصدق على الفرض، لكن الإتيان بالفرائض لا بد منه لكل مسلم، وإنما أرشده صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم إلى شيء يختص به ينال به ما طلبه.(1/235)
وفيه دلالة على كمال إيمان المذكور وسمو همته إلى أشرف المطالب وأغلى المراتب وعزف نفسه عن الدنيا وشهواتها. ودلالة على أن الصلاة أفضل الأعمال في حق من كان مثله فإنه لم يرشده صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم إلى نيل ما طلبه إلا بكثرة الصلاة مع أن مطلوبة أشرف المطالب.
[رح 2/233] ـ وَعَنِ عُمَرَ رَضِيَ الله عَنْهُمَا، قَالَ: "حَفِظْتُ مِنَ النَّبِيِّ صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم عَشْرَ رَكَعاتٍ: رَكْعَتَيْنِ قَبْلَ الظُّهْرِ، وَرَكْعَتَيْنِ بَعْدَهَا، وَرَكْعَتَيْنِ بَعْدَ الْمَغْرِبِ فِي بَيْتِهِ، وَرَكْعَتَيْنِ بَعْدِ الْعِشَاءِ فِي بَيْتِهِ، وَرَكْعَتَيْنِ قَبْلَ الصُّبْحِ". مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. وَفِي رِوَايَةٍ لَهُمَا: "وَرَكْعَتَيْنِ بَعْدَ الْجَمْعَةِ فِي بَيْتِهِ".
وَلِمُسْلِمٍ: "كَانَ إِذَا طَلَعَ الْفجْرُ لا يُصَلِّي إِلا رَكْعَتَيْنِ خَفِيفَتَيْنِ".
(وعن ابن عمر رضي الله عنهما قال: حفظت من النبي صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم عشر ركعات) هذا إجمال فصله بقوله: (ركعتين قبل الظهر وركعتين بعدها وركعتين بعد المغرب في بيته) تقييدها يدل على أن ما عداها كان يفعله في المسجد، "وكذلك" قوله: (ركعتين بعد العشاء في بيته وركعتين قبل الصبح) لم يقيدهما مع أنه كان يصليهما صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم في بيته وكأنه ترك التقييد لشهرة ذلك من فعله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم (متفق عليه. وفي رواية لهما وركعتين بعد الجمعة في بيته) فيكون قوله عشر ركعات نظراً إلى التكرار كل يوم، (ولمسلم) أي من حديث ابن عمر (كان إذا طلع الفجر لا يصلي إلا ركعتين خفيفتين) هما المعدوتان في العشر، وإنما أفاد لفظ مسلم خفتهما، وإنه لا يصلي بعد طلوعه سواهما وتخفيفهما مذهب مالك والشافعي وغيرهما. وقد جاء في حديث عائشة. "حتى أقول أقرأ بأم الكتاب" يأتي قريباً.(1/236)
والحديث دليل على أن هذه النوافل للصلاة، وقد قيل في حكمة شرعيتها إن ذلك ليكون ما بعد الفريضة جبراً لما فرط فيها من أدابها وما قبلها لذلك وليدخل في الفريضة ، وقد انشرح صدره للإتيان بها وأقبل قلبه علي فعلها.
قلت: قد أخرج أحمد، وأبو داود، وابن ماجه، والحاكم من حديث تميم الداري قال: قال رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم: "أول ما يحاسب به العبد يوم القيامة صلاته فإن كان أتمها كتبت له تامة وإن لم يكن أتمها، قال الله لملائكته: انظروا هل تجدون لعبدي من تطوع فتكملون بها فريضته ثم الزكاة كذلك ثم تؤخذ الأعمال على حسب ذلك". انتهى وهو دليل لما قيل من حكمة شرعيتها، وقوله في حديث مسلم: "إنه لا يصلي بعد طلوع الفجر إلا ركعتيه". قد استدل به من يرى كراهة النفل بعد طلوع الفجر وقد قدمنا ذلك.
[رح 3/333] ـ وَعَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ الله عَنْهَا: "أَن النَّبِيَّ صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم كَانَ لا يَدَعُ أَرْبَعاً قَبْلَ الظُّهْرِ، وَرَكْعَتَيْنِ قَبْلَ الْغَدَاةِ". رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ.
(وعن عائشة رضي الله عنه أن النبي صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم كان لا يدع أربعاً قبل الظهر وركعتين قبل الغداة. رواه البخاري) لا ينافي حديث ابن عمر في قوله ركعتين قبل الظهر لأن هذه زيادة علمتها عائشة ولم يعلمها ابن عمر، ثم يحتمل أن الركعتين اللتين ذكرهما من الأربع وأنه صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم كان يصليهما مثنى، وأن ابن عمر شاهد اثنتين فقط ويحتمل أنهما من غيرها، وأنه صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم كان يصليهما أربعاً متصلة.(1/237)
ويؤيد هذا حديث أبي أيوب عند أبي داود، والترمذي في الشمائل، وابن ماجه، وابن خزيمة بلفظ: "أربع قبل الظهر ليس فيهن تسليم تفتح لهن أبواب السماء". وحديث أنس: "أربع قبل الظهر كعدلهن بعد العشاء وأربع بعد العشاء كعدلهن من ليلة القدر". أخرجه الطبراني في الأوسط، وعلى هذا فيكون قبل الظهر ست ركعات، ويحتمل أنه كان يصلي الأربع تارة ويقتصر عليها وعنها أخبرت عائشة، وتارة يصلي ركعتين وعنهما أخبر ابن عمر.
[رح 4/433] ـ وَعَنْها رَضِيَ الله عَنْهَا، قَالَتْ: "لَمْ يَكُنِ النَّبِيُّ صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم عَلَى شَيْءٍ مِنَ النَّوَافِلِ أَشَدَّ تَعَاهُداً مِنْهُ عَلَى رَكْعَتِي الْفَجْرِ". مُتَّفَقَ عَلَيْهِ.
وَلِمُسْلِمٍ: "رَكْعَتَا الْفَجْرِ خَيْرٌ مِنَ الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا".
(وعنها) أي عن عائشة (قالت: لم النبي صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم على شيء من النوافل أشد تعاهداً منه على ركعتي الفجر. متفق عليه) تعاهداً، أي محافظة، وقد ثبت أنه كان لا يتركهما حضراً ولا سفراً، وقد حكى وجوبهما عن الحسن البصري (ومسلم) أي عن عائشة مرفوعاً، (ركعتا الفجر خير من الدنيا وما فيها) ، أي أجرهما خير من الدنيا، وكأنه أريد بالدنيا الأرض وما فيها أثاثها ومتاعها. وفيه دليل على الترغيب في فعلهما وأنها ليستا بواجبتين إذ لم يذكر العقاب في تركهما بل الثواب في فعلهما.
[رح 5/333] ـ وَعَنْ أُمِّ حَبِيبَةَ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ رَضِيَ الله عَنْهَا، قَالَتْ: سَمِعْتُ رَسُولَ الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم يَقُولُ: مَنْ صَلَّى اثْنَتَيْ عَشَرَةَ رَكْعَةً فِي يَوْمِهِ وَلَيْلَتِهِ بُنِيَ لَهُ بِهِنَّ بَيْتٌ فِي الْجَنَّةِ". رَوَاهُ مُسْلِمٌ. وَفِي رِوَايَةٍ: تَطَوُّعاً".(1/238)
وَللتِّرْمِذِيِّ نَحْوَهُ، وزَادَ: "أَرْبعاً قَبْلَ الظُّهْرِ، وَرَكْعَتَيْنِ بَعْدَهَا، وَرَكْعَتَيْنِ بَعْدَ الْمَغْرِبِ، وَرَكْعَتَيْنِ بَعْدَ الْعِشَاءِ، وَرَكْعَتَيْنِ قَبْلَ صَلاةِ الْفَجْرِ".
وَلِلْخَمْسَةِ عَنْهَا: "مَنْ حَافَظَ عَلَى أَرْبَع قَبْلَ الظُّهْرِ وَأَرْبَعٍ بَعْدَهَا حَرَّمَهُ الله تَعَالَى عَلَى النَّارَ".
(وعن أم حبيبة أم المؤمنين) تقدم ذكر اسمها وترجمتها، (قالت: سمعت رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم يقول: "من صلى اثنتي عشرة ركعة في يومه وليلته) كأن المراد في كل يوم وليلة لا في يوم من الأيام وليلة من الليالي، (بني له بهن بيت في الجنة) ، ويأتي تفصيلها في رواية الترمذي، (رواه مسلم وفي رواية) أي مسلم عن أم حبيبة (تطوعاً) تمييز للاثنتي عشرة زيادة في البيان وإلا فإنه معلوم، (وللترمذي) أي عن أم حبيبة (نحوه) أي نحو حديث مسلم، (وزاد) تفصيل ما أجملته رواية مسلم (أربعاً قبل الظهر) هي التي ذكرتها عائشة في حديثها السابق، (وركعتين بعدها) هي التي في حديث ابن عمر، (وركعتين بعد المغرب) هي التي قيدها حديث ابن عمر بفي بيته، (وركعتين بعد العشاء) هي التي قيدها أيضاً بفي بيته، (وركعتين قبل الصلاة الفجر) هما اللتان اتفق عليهما ابن عمر وعائشة في حديثيهما السابقين، (وللخمسة عنها) أي عن أم حبيبة، (من حافظ على أربع قبل الظهر وأربع بعدها) يحتمل أنها غير الركعتين المذكورتين سابقاً، ويحتمل أن المراد أربع فيها الركعتان اللتان مر ذكرهما، (حرمه الله على النار) أي منعه عن دخولها كما يمنع الشيء المحرم ممن حرم عليه.
[رح 6/633] ـ وَعَنْ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ الله عَنْهُمَا، قَالَ: قَالَ رَسُولُ الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم: "رَحِمَ الله أَمْراً صَلَّى أَرْبَعَاً قَبْلَ الْعَصْرِ". رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَأَبُو دَاوُدَ، وَالتِّرْمِذِيُّ، وَحَسَّنَهُ، وَابْنُ خُزَيْمَةَ، وَصَحَّحَهُ.(1/239)
(وعن ابن عمر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم: "رحم الله أمراً صلى أربعاً قبل العصر") هذه الأربع لم تذكر فيما سلف من النوافل، فإذا ضمت إلى حديث أم حبيبة الذي عند الترمذي كانت النوافل قبل الفرائض وبعدها ست عشرة ركعة، (رواه أحمد وأبو داود والترمذي وحسنه وابن خزيمة وصححه). وأما صلاة ركعتين قبل العصر فقط فيشملها حديث: "بين كل أذانين صلاة".
[رح 7/733] ـ وَعَنْ عَبْدِ الله بْنِ مُغَفَّلٍ الْمُزَنِيِّ رَضِيَ الله عَنْهُ، قَالَ: قَالَ رَسُولَ الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم: صَلُّوا قَبْلَ الْمَغْرِبِ، صَلُّوا قَبْلَ الْمَغْرِبِ". ثُمَّ قَالَ في الثَّالِثَةِ: "لِمَنْ شَاءَ". كَرَاهِيَةَ أَنْ يَتَّخِذَهَا النَّاسُ سُنَّةً. رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ.
وَفِي رِوَايَةٍ لابْنِ حِبَّانَ، أَن النَّبِي صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم قَبْلَ الْمَغْرِبِ رَكْعَتَيْنِ.
(وعن عبد الله بن مغفل المزني) بضم الميم وفتح الغين المعجمة وتشديد الفاء مفتوحة هو أبو سعيد في الأشهر عبد الله بن مغفل بن غنم كان من أصحاب الشجرة سكن المدينة المنورة ثم تحول إلى البصرة وابتني بها داراً، وكان أحد العشرة الذين بعثهم عمر إلى البصرة يفقهون الناس، ومات عبد الله بها سنة ستين وقيل قبلها بسنة، (قال رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم صلوا قبل المغرب صلوا قبل المغرب، ثم قال في الثالثة "لمن شاء كراهية) أي لكراهية (أن يتخذها الناس") أي طريقة مألوفة لا يتخلفون عنها فقد يؤدي إلى فوات أول الوقت، (رواه البخاري) وهو دليل على أنها تندب الصلاة قبل صلاة المغرب، إذ هو المراد من قوله: "قبل المغرب" لا أن المراد قبل الوقت لما علم من أنه منهي عن الصلاة فيه، (وفي رواية لابن حبان) أي من حديث عبد الله المذكور (أن النبي صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم صلى قبل المغرب ركعتين) فثبت شرعيتهما بالقول والفعل.(1/240)
[رح 8/833] ـ وَلِمُسْلِمٍ عَنْ أَنَسٍ قَالَ: "كُنَّا نُصَلِّي رَكْعَتَيْنِ بَعْدَ غُرُوبِ الشَّمْسِ، وَكَانَ النَّبِيُّ صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم يَرَانَا، فَلَمْ يَأْمُرْنَا وَلَمْ يَنْهَنَا".
(ولمسلم عن أنس قال: كنا نصل ركعتين بعد غروب الشمس، وكان رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم يرانا فلم يأمرنا ولم ينهنا) فتكون ثابتة بالتقرير أيضاً، فثبتت هاتان الركعتان بأقسام السنة الثلاثة، ولعل أنساً لم يبلغه حديث عبد الله الذي فيه الأمر بهما، وبهذه تكون النوافل عشرين ركعة تضاف إلى الفرائض وهي سبع عشرة ركعة فيتم لمن حافظ على هذه النوافل في اليوم والليلة سبع وثلاثون ركعة وثلاث ركعات الوتر تكون أربعين ركعة في اليوم والليلة، وقال ابن القيم: ثبت أنه كان صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم يحافظ في اليوم والليلة على أربعين ركعة سبع عشرة الفرائض واثنتي عشرة التي روت أم حبيبة وإحدى عشرة صلاة الليل فكانت أربعين ركعة انتهى، ولا يخفى أنه بلغ عدد ما ذكر هنا من النوافل غير الوتر اثنتين وعشرين إن جعلنا الأربع قبل الظهر وبعده داخلة تحتها الاثنتان اللتان في حديث ابن عمر ويزاد ما في حديث أم حبيبة التي بعد العشاء فالجميع أربع وعشرون ركعة من دون الوتر والفرائض.
[رح 9/933] ـ وَعَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ الله عَنْهَا قَالَتْ: "كَانَ النَّبِيُّ صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم يُخَفَّفُ الرَّكْعَتَيْنِ اللَّتَيْنِ قَبْلَ صَلاةِ الصُّبْحِ حَتَّى إنِّي أَقُولُ: أَقَرَأَ بِأُمِّ الْكِتَابِ؟ مُتَّفَقٌ عَلَيهِ.(1/241)
(وعن عائشة رضي الله عنه قالت: كان النبي صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم يخفف الركعتين اللتين قبل الصبح) أي نافلة الفجر (حتى إني أقول أقرأ بأم الكتاب) يعني أم لا لتخفيفه قيامها (متفق عليه) ، وإلى تخفيفهما ذهب الجمهور ويأتي تعيين قدر ما يقرأ فيهما وذهبت الحنفية إلى تطويلهما ونقل عن النخعي، وأورد فيه البيهقي حديثاً مرسلاً عن سعيد بن جبير وفيه لم يسم، وما ثبت في الصحيح لا يعارضه مثل ذلك.
[رح 01/043] ـ وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، أَن النَّبِيَّ صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم قَرَأَ فِي رَكْعَتِي الْفَجْرِ: {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ} ، و {قُلْ هُوَ الله أَحَدٌ}. رَوَاهُ مُسْلِمٌ.
(وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم قرأ في ركعتي الفجر {قل يا أيها الكافرون}) أي في الأولى بعد الفاتحة، و {قل هو الله أحد} أي في الثانية بعد الفاتحة، (رواه مسلم) ، وفي رواية لمسلم أي عن أبي هريرة: "قرأ الآيتين أي في ركعتي الفجر: {قولوا آمنا بالله وما أنزل إلينا} ـ إلى آخر الآية في البقرة ـ عوضاً عن: {قل يا أيها الكافرون} ، و {قل يا أهل الكتاب تعالوا} ـ الآية في آل عمران ـ عوضاً عن {قل هو الله أحد} ، وفيه دليل على جواز الاقتصار على آية من وسط السورة.
[رح 11/143] ـ وَعَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ الله عَنْهَا، قَالَتْ: "كَانَ النَّبِيَّ صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم إِذَا صَلَّى رَكْعَتَيِ الْفَجْرِ اضْطَجَعَ عَلَى شِقِّهِ الأَيْمَنِ". رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ.(1/242)
(وعن عائشة رضي الله عنها قالت: كان النبي صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم إذا صلى ركعتي الفجر اضطجع على شقه الأيمن. رواه البخاري) العلماء في هذه الضجعة بين مفرط ومفرط ومتوسط فأفرط جماعة من أهل الظاهر منهم ابن حزم ومن تابعه فقالوا بوجوبها، وأبطلوا صلاة الفجر بتركها، وذلك لفعله المذكور في هذا الحديث، ولحديث الأمر بها في حديث أبي هريرة عن النبي صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم "إذا صلى أحدكم الركعتين قبل الصبح فليضطجع على جنبه الأيمن". قال الترمذي: حديث حسن صحيح غريب، وقال ابن تيمية: ليس بصحيح لأنه تفرد به عبد الواحد ابن زياد وفي حفظ مقال.
قال المصنف: والحق أنه تقوم به الحُجَّة إلا أنه صرف الأمر عن الوجوب ما ورد من عدم مداومته صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم على فعلها.
وفرط جماعة فقالوا بكراهتها واحتجوا بأن ابن عمر كان لا يفعل ذلك ويقول: "كفى بالتسليم" أخرجه عبد الرزاق وبأنه كان يحصب من يفعلها، وقال ابن مسعود: "ما بال الرجل إذا صلى الركعتين تمعك كما يتمعك الحمار"، وتوسط فيها طائفة منهم مالك وغيره فلم يروا بها بأساً لم فعلها راحة، وكرهوها لمن فعلها استناناً. ومنهم من قال باستحبابها على الإطلاق سواء فعلها استراحة أم لا.
قيل: وقد شرعت لمن يتجهد من الليل لما أخرجه عبد الرزاق عن عائشة كانت تقول: "إن النبي صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم لم يضطجع لسنة لكنه كان يدأب ليلة فيضطجع ليستريح منه". وفيه راوٍ لم يسم، وقال النووي: المختار أنها سنة لظاهر حديث أبي هريرة. قلت: وهو الأقرب وحديث عائشة لو صح فغايته أنه إخبار عن فهمها، وعدم استمراره صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم عليها دليل سنيتها ثم إنه يسن على الشق الأيمن، قال ابن حزم: فإن تعذر على الأيمن فإنه يوميء ولا يضطجع على الأيسر.(1/243)
[رح 21/243] ـ وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ الله عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولَ الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم: "إِذَا صَلَّى أَحَدُكُمُ الرَّكْعَتَيْنِ قَبْلَ صلاةِ الصُّبْحِ فَلْيَضْطَجِعْ عَلَى جَنْبِهِ الأَيْمَنِ". رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَأَبُو دَاوُدَ وَالتَّرْمِذِيُّ، وَصَحَّحَهُ.
(وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم: إذا صلى أحدكم الركعتين قبل صلاة الصبح فليضطجع على جنبه الأيمن. رواه أحمد وأبو داود والترمذي وصححه) تقدم الكلام، وأنه كان صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم يفعلها، وهذه رواية في الأمر بها وتقدم أنه صرفه عن الإيجاب ما عرفت وعرفت كلام الناس فيه.
[رح 31/343] ـ وَعَنْ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ الله عَنْهُما، قَالَ: قَالَ رَسُولُ الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم: "صَلاةُ اللَّيْلِ مَثْنَى، فَإِذَا خَشِيَ أَحَدُكُمُ الصُّبْحَ صَلَّى رَكْعَةً وَاحِدَةً، تُوتِرُ مَا قَدْ صَلَّى". مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
وَلِلْخَمْسَةِ وَصَحّحَهُ ابْنُ حِبَّانَ، بِلَفْظِ: "صَلاةُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ مَثْنَى مَثْنَى". وقَالَ النَّسَائِيُّ: هَذَا خَطَأ.
(وعن ابن عمر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم: "صلاة الليل مثنى مثنى، فإذا خشي أحدكم الصبح صلى ركعة واحدة توتر له ما قد صلى" متفق عليه).(1/244)
الحديث دليل على مشروعية نافلة الليل مثنى مثنى، فيسلم على كل ركعتين. وإليه ذهب جماهير العلماء، وقال مالك: لا تجوز الزيادة على اثنتين لأن مفهوم الحديث الحصر، لأنه في قوة ما صلاة الليل إلا مثنى مثنى لأن تعريف المبتدأ قد يفيد ذلك على الأغلب، وأجاب الجمهور بأن الحديث وقع جواباً لمن سأل عن صلاة الليل فلا دلالة فيه على الحصر، وبأنه لو سلم فقد عارضه فعله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم وهو ثبوت إيتاره بخمس، كما في حديث عائشة عند الشيخين والفعل قرينة على عدم إرادة الحصر.
وقوله: "فإذا خشي أحدكم الصبح أوتر بركعة" دليل على أنه لا يوتر بركعة واحدة إلا لخشية طلوع الفجر وإلا أوتر بخمس أو سبع أو نحوها لا بثلاث للنهي عن الثلاث، فإنه أخرج الدارقطني، والحاكم، وابن حبان من حديث أبي هريرة مرفوعاً "أوتروا بخمس أو بسبع أو بتسع أو إحدى عشرة"، زاد الحاكم: "ولا توتروا بثلاث لا تشبهوا بصلاة المغرب". قال المصنف: ورجاله كلهم ثقات ولا يضره وقف من وقفه، إلا أنه قد عارضه حديث أبي أيوب: "من أحب أن يوتر بثلاث فليفعل"، أخرجه أبو داود والنسائي، وابن ماجه وغيرهم.
وقد جمع بينهما بأن النهي عن الثلاثة إذا كان يقعد للتشهد الأوسط لأنه يشبه المغرب، وأما إذا لم يقعد إلا في آخرها فلا يشبه المغرب، وهو جمع حسن قد أيده حديث عائشة عند أحمد، والنسائي، والبيهقي، والحاكم: "كان صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم يوتر بثلاث لا يجلس إلا في آخرتهن". ولفظ أحمد: "كان يوتر بثلاث لا يفصل بينهن". ولفظ الحاكم: "لا يقعد".
هذا وأما مفهوم أنه لا يوتر بواحدة إلا لخشية طلوع الفجر، فإنه يعارضه حديث أبي أيوب هذا فإن فيه: "ومن أحب أن يوتر بواحدة فليفعل". وهو أقوى من مفهوم حديث الكتاب، وفي حديث أبي أيوب دليل على صحة الإحرام بركعة واحدة، وسيأتي قريباً.(1/245)
(وللخمسة) أي من حديث أبي هريرة، (وصححه ابن حبان بلفظ: "صلاة الليل والنهار مثنى مثنى"، وقال النسائي: هذا خطأ) أخرجه المذكورين من حديث عليّ بن عبد الله البارقي عن ابن عمر بهذا، وأصله في الصحيحين بدون ذكر النهار، وقال ابن عبد البر: لم يقله أحد عن ابن عمر غير عليّ وأنكروه عليه، وكان ابن معين يضعف حديثه هذا ولا يحتج به، ويقول: إن نافعاً وعبد الله بن دينار وجماعة رووه عن ابن عمر بدون ذكر النهار، وروي بسنده عن يحيى بن معين أنه قال: صلاة النهار أربع لا يفصل بينهن فقيل له: فإن أحمد بن حنبل يقول: صلاة الليل والنهار مثنى مثنى، قال: بأي حديث قيل بحديث الأزدي، قال: ومن الأزدي حتى أقبل منه. قال النسائي: هذا الحديث عندي خطأ، وكذا قال الحاكم في علوم الحديث، وقال الدارقطني في العلل: ذكر النهار فهي وهم، وقال الخطابي: روي هذا الحديث طاوس ونانع وغيرهما عن ابن عمر فلم يذكر أحد فيه النهار إلا أن سبيل الزيادة من الثقة أن تقبل، وقال البيهقي: هذا حديث صحيح، وقال: والبارقي احتج به مسلم والزيادة من الثقة مقبولة، انتهى كلام المصنف في التلخيص.
فانظر إلى كلام الأئمة في هذه الزيادة فقد اختلفوا فيها اختلافاً شديداً. ولعل الأمرين جائزان، وقال أبو حنيفة: يخير في النهار بين أن يصلي ركعتين ركعتين أو أربعاً أربعاً ولا يزيد على ذلك. وقد أخرج البخاري ثمانية أحاديث في "صلاة النهار ركعتين".
[رح 41/443] ـ وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ الله عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولَ الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم: "أَفْضَلُ الصَّلاةِ بَعْدَ الْفَرِيضَةِ صَلاةُ اللَّيْلِ". أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ.(1/246)
(وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم: أفضل الصلاة بعد الفريضة) فإنها أفضل الصلاة، (صلاة الليل" أخرجه مسلم) يحتمل أنه يريد بالليل جوفه، لحديث أبي هريرة عند الجماعة إلا البخاري قال: "سئل رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم أي الصلاة أفضل بعد المكتوبة؟ قال: "الصلاة في جوف الليل". وفي حديث عمرو بن عبسة عند الترمذي وصححه: "أقرب ما يكون الرب من العبد في جوف الليل الآخر، فإن استطعت أن تكون ممن يذكر الله في تلك الساعة فكن". وفي حديثه أيضاً عند أبي داود: "قلت: يا رسول الله أي الليل أسمع"؟ قال: "جوف الليل الآخر فصل ما شئت فإن الصلاة فيه مكتوبة مشهودة". والمراد من جوفه الآخر هو الثلث الآخر كما وردت به الأحاديث.
[رح 51/543] ـ وَعَنْ أَبِي أَيُوبَ الأَنْصَارِيِّ، أَنَّ رَسُولَ الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم قَالَ: "الْوَتْرُ حَقُّ عَلَى كُلِّ مُسْلِمِ، مَنْ أَحَبَّ أَنْ يُوتِرَ بِخَمْسٍ فَلْيَفْعَلْ، وَمَنْ أَحَبَّ أَنْ يُوتِرَ بِثَلاثٍ فَلْيَفْعَلْ، وَمَنْ أَحَبّ أَنْ يُوِتَرَ بِوَاحِدَةٍ فَلْيَفْعَلْ". رَوَاهُ الأَرْبَعَةُ إِلا التِّرْمِذِيَّ، وَصَحَّحَهُ ابْنُ حِبَّان، وَرَجّحَ النَّسَائِي وَقْفَهُ.
(وعن أبي أيوب الأنصاري رضي الله عنه أن رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم قال: "الوتر حق على كل مسلم) هو دليل لمن قال بوجوب الوتر، (من أحب أن يوتر بخمس فليفعل ومن أحب أن يوتر بثلاث فليفعل) ، قد قدمنا الجمع بينه وبين ما عارضه، (ومن أحب أن يوتر بواحدة) من دون أن يضيف إليها غيرها كما هو الظاهر، (فليفعل" رواه الأربعة إلا الترمذي وصححه ابن حبان ورجح النسائي وقفه) ، وكذا صحح أبو حاتم، والذهلي، والدارقطني في العلل، والبيهقي وغير واحد وقفه.
قال المصنف: وهو الصواب، قلت: وله حكم الرفع إذ لا مسرح للاجتهاد فيه أي في المقادير.(1/247)
والحديث دليل على إيجاب الوتر، ويدل له أيضاً حديث أبي هريرة عند أحمد: "من لم يوتر فليس منا". وإلى وجوبه ذهبت الحنفية، وذهب الجمهور إلى أنه ليس بواجب مستدلين بحديث عليّ رضي الله عنه: "الوتر ليس بحتم كهيئة المكتوبة ولكنه سنة سنها رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم" ويأتي، ولفظه عند ابن ماجه: "إن الوتر ليس بحتم ولا كصلاتكم المكتوبة ولكن رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم أوتر وقال: يا أهل القرآن أوتروا فإن الله وتر يحب الوتر".
وذكر المجد ابن تيمية أن ابن المنذر روى حديث أبي أيوب، بلفظ: "الوتر حق وليس بواجب"، وبحديث: "ثلاث هن على فرائض ولكم تطوع".
وعد منها الوتر وإن كان ضعيفاً فله متابعات يتأيد بها، على أن حديث أبي أيوب الذي استدل به على الإيجاب قد عرفت أن الأصح وقفه عليه، وإن سبق أن له حكم المرفوع فهو لا يقاوم الأدلة الدالة على عدم الإيجاب، والإيجاب قد يطلق على المسنون تأكيداً كما سلف في غسل الجمعة، وقوله: "بخمس وبثلاث" أي: ولا يقعد إلا في آخرها، ويأتي حديث عائشة في الخمس. وقوله: "بواحدة" ظاهره مقتصراً عليها، وقد روى فعل ذلك عن جماعة من الصحابة، فأخرج محمد بن نصر وغيره بإسناد صحيح عن السائب بن يزيد: "أن عمر قرأ القرآن ليلة في ركعة لم يصل غيرها". وروى البخاري: "أن معاوية أوتر بركعة وأن ابن عباس استصوبه".
[رح 61/643] ـ وَعَنْ عَلِيٍّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ الله عَنْهُ، قَالَ: "لَيْسَ الْوِتْرُ بِحَتْمٍ كَهَيْئَةِ الْمَكْتُوبَةِ، وَلَكِنْ سُنَّةٌ سَنَّةٌ سَنَّهَا رَسُولُ الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم". رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَحَسْنَهُ، وَالنَّسَائِيُّ، وَالْحَاكِمُ وَصَحّحَهُ.(1/248)
(وعن عليّ بن أبي طالب عليه السلام قال: ليس الوتر بحتم كهيئة المكتوبة ولكن سنة سنها رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم" رواه الترمذي والنسائي وحسنه والحاكم وصححه) تقدم أنه من أدلة الجمهور على عدم الوجوب.
وفي حديث عليّ هذا عاصم بن ضمرة تكلم في غير واحد وذكره القاضي الخيمي في حواشيه على بلوغ المرام ولم أجده في التلخيص، بل ذكر هنا أنه صححه الحاكم ولم يتعقبه فما أدري من أين نقل القاضي ثم رأيت في التقريب ما لفظه: عاصم بن ضمرة السلولي الكوفي صدوق من السادسة، مات سنة أربع وسبعين.
[رح 71/743] ـ وَعَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ الله رَضِيَ الله عَنْهُمَا، أَنَّ رَسُولَ الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم قَامَ فِي شَهْرِ رَمَضَانَ، ثُمَّ انْتَظَرُوهُ مِنَ الْقَابِلَةِ فَلَمْ يَخْرُجْ، وَقَالَ: "إنِّي خَشِيتُ أَنْ يُكْتَبَ عَلَيْكُمْ الْوِتْرُ" رَوَاهُ ابْنُ حِبَّانَ.
(وعن جابر بن عبد الله رضي الله عنه أن رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم قام في شهر رمضان ثم انتظروه من القابلة فلم يخرج، وقال: إني خشيت أن يكتب عليكم الوتر. وراه ابن حبان) أبعد المصنف النجعة.
والحديث في البخاري إلا أنه بلفظ: "أن تفرض عليكم صلاة الليل"، وأخرجه أبو داود من حديث عائشة، ولفظه: "أن النبي صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم صلى في المسجد فصلى بصلاته ناس، ثم صلى من القابلة فكثر الناس، ثم اجتمعوا في الليلة الثالثة فلم يخرج إليهم رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم، فلما أصبح قال: "قد رأيت الذي صنعتم ولم يمنعني من الخروج إليكم إلا أني خشيت أن تفرض عليكم" هذا، والحديث في البخاري بقريب من هذا.(1/249)
وأعلم أنه قد أشكل التعليل لعدم الخروج بخشية الفرضية عليهم مع ثبوت حديث: "هي خمس وهن خمسون لا يبدل القول لدي"، فإذا أمن التبديل كيف يقع الخوف من الزيادة، وقد نقل المصنف عنه أجوبة كثيرة وزيفها، وأجاب بثلاثة أجوبة، قال: إنه فتح الباري عليه بها وذكرها واستجود منها أن خوفه صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم كان من افتراض قيام الليل يعني جعل التهجد في المسجد جماعة شرطاً في صحة التنقل بالليل قال: ويوميء إليه قوله في حديث زيد بن ثابت: "حتى خشيت أن يكتب عليكم ولو كتب عليكم ما قمتم به فصلوا أيها الناس في بيوتكم" فمنعهم من التجمع في المسجد إشفاقاً عليهم من اشتراطه انتهى.
قلت: ولا يخفى أنه لا يطابق قوله: "أن تفرض عليكم صلاة الليل" كما في البخاري، فإنه ظاهر أنه خشية فرضها مطلقاً، وكان ذلك في رمضان، فدل على أنه صلى بهم ليلتين. وحديث الكتاب أنه صلى بهم ليلة واحدة وفي رواية أحمد: "إنه صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم صلى بهم ثلاث ليال وغص المسجد بأهله في الليلة الرابعة"، وفي قوله: "خشيت أن يكتب عليكم الوتر" دلالة على أن الوتر غير واجب.(1/250)
واعلم أن أثبت صلاة التراويح وجعلها سنة في قيام رمضان استدل بهذا الحديث على ذلك، وليس فيه دليل على كيفية ما يفعلونه ولا كميته، فإنهم يصلونها جماعة عشرين يتروحون بين كل ركعتين، فأما الجماعة فإن عمر أول من جمعهم على إمام معين وقال: "إنها بدعة" كما أخرجه مسلم في صحيحه، وأخرجه غيره من حديث أبي هريرة: "أنه صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم كان يرغبهم في قيام رمضان من غير أن يأمرهم فيه بعزيمة فيقول من قام رمضان إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه، قال: وتوفي رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم والأمر على ذلك، وفي خلافة أبي بكر وصدر من خلافة عمر"، زاد في رواية عند البيهقي: "قال عروة فأخبرني عبد الرحمن القاري أن عمر بن الخطاب خرج ليلة فطاف في رمضان في المسجد وأهل المسجد أوزاع متفرقون يصلي الرجل لنفسه ويصلي الرجل فيصلي بصلاته الرهط"، فقال عمر: والله لأظن لو جمعناهم على قارىء واحد فأمر أبي بن كعب أن يقوم بهم في رمضان فخرج عمر والناس يصلون بصلاته فقال عمر: "نعم البدعة هذه"، وساق البيهقي في السنن عدة روايات في هذا المعنى.
واعلم أنه يتعين حمل قوله بدعة على جمعه لهم على معين وإلزامهم بذلك لا أنه أراد أن الجماعة بدعة فإنه صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم قد جمع بهم كما عرفت. إذا عرفت هذا عرفت أن عمر هو الذي جعلها جماعة على معين وسماها بدعة.(1/251)
وأما قوله: "نعم البدعة"، فليس في البدعة ما يمدح بل كل بدعة ضلالة، وأما الكمية وهي جعلها عشرين ركعة، فليس فيه حديث مرفوع إلا ما رواه عبد بن حميد والطبراني من طريق أبي شيبة إبراهيم بن عثمان، عن الحكم، عن مقسم، عن ابن عباس: "أن رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم كان يصلي في رمضان عشرين ركعة والوتر"، قال في سبل الرشاد: أبو شيبة ضعفه أحمد، وابن معين، والبخاري، ومسلم، وداود، والترمذي والنسائي، وغيرهم وكذبه شعبة، وقال ابن معين: ليس بثقة، وعد هذا الحديث من منكراته، وقال الأذرعي في المتوسط: وأما ما نقل أنه صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم صلى في الليلتين اللتين خرج فيهما عشرين ركعة فهو منكر، وقال الزركشي في الخادم: دعوى أنه صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم صلى بهم في تلك الليلة عشرين ركعة لم تصح، بل الثابت في الصحيح الصلاة من غير ذكر بالعداد ولما في رواية جابر: "أنه صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم صلى بهم ثمان ركعات والوتر، ثم انتظروه في القابلة فلم يخرج إليهم". رواه ابن حبان في صحيحهما انتهى.
وأخرج البيهقي رواية ابن عباس من طريق أبي شيبة، ثم قال: إنه ضعيف وساق روايات: "أن عمر أمر أبياً وتميماً الداري يقومان بالناس بعشرين ركعة". وفي رواية: "أنهم كانوا يقومون في زمن عمر بعشرين ركعة"، وفي رواية بثلاث وعشرين ركعة. وفي رواية: "أن علياً رضي الله عنه كان يؤمهم بعشرين ركعة ويوتر بثلاث"، قال: وفيه قوة.(1/252)
إذا عرفت هذا علمت أنه ليس في العشرين رواية مرفوعة، بل يأتي حديث عائشة المتفق عليه قريباً: "أنه صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم ما كان يزيد في رمضان ولا غيره على إحدى عشرة ركعة"، فعرفت من هذا كله أن صلاة التراويح على هذا الأسلوب الذي اتفق عليه الأكثر بدعة نعم قيام رمضان سنة بلا خلاف، والجماعة في نافلته لا تنكر، وقد ائتم ابن عباس رضي الله عنه وغيره به صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم في صلاة الليل، لكن جعل هذه الكيفية والكمية سنة، والمحافظة عليها هو الذي نقول: إنه بدعة، وهذا عمر رضي الله عنه خرج أولاً، والناس أوزاع متفرقون منهم من يصلي منفرداً ومنهم من يصلي جماعة على ما كانوا في عصره صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم وخير الأمور ما كان على عهده.
وأما تسميتها بالتراويح فكأن وجهه ما أخرجه البيهقي من حديث عائشة قالت: "كان رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم يصلي أربع ركعات في الليل ثم يتروح فأطال حتى رحمته". الحديث، قال البيهقي: تفرد به المغيرة بن دياب وليس بالقوي، فإن ثبت فهو أصل في تروح الإمام في صلاة التراويح. انتهى.(1/253)
وأما حديث: "عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين بعدي تمسكوا بها وعضوا عليها بالنواجذ". أخرجه أحمد، وأبو داود، وابن ماجه، والترمذي، وصححه الحاكم، وقال: على شرط الشيخين. ومثله حديث: "اقتدوا باللذين من بعدي أبي بكر وعمر" أخرجه الترمذي، وقال: حسن، وأخرجه أحمد، وابن ماجه، وابن حبان، وله طرق فيها مقال إلا أنه يقوي بعضها بعضاً. فإنه ليس المراد بسنة الخلفاء الراشدين إلا طريقتهم الموافقة لطريقته صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم من جهاد الأعداء وتقوية شعائر الدين ونحوها، فإن الحديث عام لكل خليفة راشد لا يخص الشيخين، ومعلوم من قواعد الشريعة أن ليس لخليفة راشد أن يشرع طريقة غير ما كان عليها النبي صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم ثم عمر رضي الله عنه نفسه الخليفة الراشد سمي ما رآه من تجميع صلاته ليالي رمضان بدعة ولم يقل: إنها سنة فتأمل على أن الصحابة رضي الله عنهم خالفوا الشيخين في مواضع ومسائل، فدل أنه لم يحملوا الحديث على أن ما قالوه وفعلوه حُجَّة، وقد حقق البرماوي الكلام في شرح ألفيته في أصول الفقه مع أنه قال: إنما الحديث الأول يدل أنه إذا اتفق الخلفاء الأربعة على قول كان حُجَّة لا إذا انفرد واحد منهم والتحقيق أن الاقتداء ليس هو التقليد بل هو غيره كما حققناه في شرح نظم الكافل في بحث الإجماع.
[رح 81/843] ـ وَعَنْ خَارِجَةَ بْنِ حُذَافَةَ رَضِيَ الله عَنْهُ، قَالَ: قَالَ رَسُولَ الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم: "إنَّ الله أَمَدَّكُمْ بِصَلاةٍ هِيَ خَيْرٌ لَكُمْ مِنْ حُمْرِ النَّعَمِ". قُلْنَا: وَمَا هِيَ يَا رَسُولَ الله؟ قَالَ: "الْوِتْرُ، مَا بَيْنَ صَلاةِ الْعِشَاءِ إِلَى طُلُوعِ الْفَجْرِ". رَوَاهُ الْخَمْسَةُ إِلاَّ النَّسَائِيَّ. وَصَحَّحَهُ الْحَاكِمُ.
وَرَوَى أَحْمَدُ عَنْ عَمْرو بْنِ شُعَيْبٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ نَحْوَهُ.(1/254)
(وعن خارجة) بالخاء المعجمة فراء بعد الألف فجيم هو (ابن حذافة) بضم المهلمة فذال بعدها معجمة ففاء بعد الألف وهو قَرشي عدوي كان يعدل بألف فارس، روي أن عمرو بن العاص استمد من عمر بثلاثة آلاف فارس فأمده بثلاثة وهم خارجة بن حذافة والزبير بن العوام والمقداد بن الأسود. ولي خارجة القضاء بمصر لعمرو بن العاص، وقيل: كان على شرطته وعداده في أهل مصر، قتله الخارجي ظناً منه أنه عمرو بن العاص حين تعاقدت الخوارج على قتل ثلاثة علي عليه السلام ومعاوية وعمرو بن العاص رضي الله عنهما فتم أمر الله في أمير المؤمنين عليّ عليه السلام دون الآخرين وإلى الغلط بخارجة أشار من قال شعراً:
[شع] فليتها إذ فدت عمراً بخارجة
فدت علياً بمن شاءت من البَشر [/شع].
وكان قتل خارجة سنة أربعين (قال: قال رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم: إن الله أمدكم بصلاة هي خير لكم من حمر النعم" قلنا: وما هي يا رسول الله قال: "الوتر ما بين الصلاة العشاء إلى طلوع الفجر". رواه الخمسة إلا النسائي وصححه الحاكم).
قلت: قال الترمذي عقيب إخراجه له: حديث خارجة بن حذافة، حديث غريب لا نعرفه إلا من حديث يزيد بن أبي حبيب، وقد وهم بعض المحدثين في هذا الحديث ثم ساق الوهم فيه؟ فكان يحسن من المصنف التنبيه على ما قاله الترمذي هذا.
وفي الحديث ما يفيد عدم وجوب الوتر لقوله: "أمدكم"، فإن الإمداد هو الزيادة بما يقوي المزيد عليه، يقال: مد الجيش وأمده إذا زاده وألحق به ما يقويه ويكثره ومد الدواة وأمدها زادها ما يصلحها، ومددت السراج والأرض إذا أصلحتهما بالزيت والسماد.
"فائدة في حكمة شرعية النوافل"(1/255)
أخرج أحمد، وأبو داود، وابن ماجه، والحاكم من حديث تميم الداري مرفوعاً: "أول ما يحاسب به العبد يوم القيامة صلاته، فإن كان أتمها كتبت له تامة، وإن لم يكن أتمها، قال الله تعالى لملائكته: {انظروا هل تجدون لعبدي من تطوع فتكملون بها فريضته} ثم الزكاة كذلك} ، ثم تؤخذ الأعمال على حسب ذلك"، وأخرجه الحاكم في الكنى من حديث ابن عمر مرفوعاً: "أول ما افترض الله على أمتي الصلوات الخمس، وأول ما يرفع من أعمالهم الصلوات الخمس، وأول ما يسألون عنه الصلوات الخمس، فمن كان ضيع شيئاً منها يقول نقص من الفريضة؟ وانظروا صيام عبدي شهر رمضان فإن كان ضيع شيئاً منه فانظروا هل تجدون لعبدي نافلة من صيام تتمون بها ما نقص من الصيام؟ وانظروا في زكاة عبدي، فإن كان ضيع شيئاً فانظروا هل تجدون لعبدي نافلة من صدقة تتمون بها ما نقص من الزكاة؟ فيؤخذ ذلك على فرائض الله وذلك برحمة الله وعدله، فإن وجد له فضل وضع في ميزانه، وقيل له: ادخل الجنة مسروراً وإن لم يوجد له شيء من ذلك أمرت الزبانية، فأخذت بيديه ورجليه ثم قذف في النار"، وهو كالشرح والتفصيل لحديث تميم الداري (وروي أحمد عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده نحوه) أي نحو حديث خارجة فشرحه شرحه.
[رح 91/943] ـ وَعَنْ عَبْدِ الله بْنِ بُرَيْدَةَ رَضِيَ الله عَنْه، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: قَالَ رَسُولَ الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم: "الْوِتْرُ حَقٌ، فَمَنْ لَمْ يُوتِرْ فَلَيْسَ مِنَّا". أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ بِسَنَدٍ لَيِّنٍ، وَصَحَّحَهُ الْحَاكِمُ.
وَلَهُ شَاهِدٌ ضَعِيفٌ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ الله عَنْهُ عِنْدَ أَحْمَدَ.(1/256)
(وعن عبد الله بن بريدة) بضم الموحدة بعدها راء مهملة مفتوحة ثم مثناة تحتية ساكنة فدال مهملة مفتوحة هو ابن الحصيب بضم الحاء المهملة وفتح الصاد المهملة والمثناة التحتية والباء الموحدة الأسلمي وعبد الله من ثقات التابعين سمع أباه وسمرة بن جندب وآخرين وتولي قضاء مرو وماب بها (عن أبيه) بريدة بن الحصيب تقدم ذكره (قال: قال رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم: "الوتر حق) أي لازم فهو من أدلة الإيجاب، (فمن لم يوتر فليس منا" أخرجه أبو داود بسند لين) لأن فيه عبد الله بن عبد الله العتكي، ضعفه البخاري والنسائي، وقال أبو حاتم: صالح الحديث، (وصححه الحاكم) ، وقال ابن معين: إنه موقوف (وله شاهد ضعيف عن أبي هريرة عند أحمد) ، رواه بلفظ: "من لم يوتر فليس منا"، وفيه الخليل بن مرة منكر الحديث، وإسناده منقطع كما قاله أحمد، ومعنى "ليس منا" ليس على سنتنا وطريقتنا، والحديث محمول على تأكد السنية للوتر جمعاً بينه وبين الأحاديث الدالة على عدم الوجوب.
[رح 02/053] ـ وَعَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ الله عَنْهُ قَالَتْ: "مَا كَانَ رَسُولُ الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم يَزِيدُ فِي رَمَضَانَ وَلا فِي غَيْرِهِ عَلَى إِحْدَى عَشْرَة رَكْعَةً، يُصَلِّي أَرْبَعاً، فَلا تَسْأَلْ عَنْ حُسْنِهِنَّ وَطُولِهِنَّ، ثُمَّ يُصَلِّي أَرْبَعاً، فَلا تَسْأَلْ عَنْ حُسْنِهِنَّ وَطُولِهِنَّ، ثُمَّ يُصَلَّي ثَلاثاً. قَالَتْ عَائِشَةُ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ الله، أَتَنَامُ قَبْلَ أَنْ تُوتِرَ؟ قَالَ: يَا عَائِشَةُ، إِنَّ عَيْنَيَّ تَنَامَانِ وَلا يَنَامُ قَلْبِي". مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
وفَي رِوَايَةٍ لَهُمَا عَنْهَا: "كَانَ يُصَلِّي مِنَ اللَّيْلِ عَشْرَ رَكَعَاتٍ، وَيُوتِرُ بِسَجْدَةٍ وَيَرْكَعُ رَكْعَتَي الْفَجْرِ، فَتِلْكَ ثَلاثَ عَشْرَةَ رَكْعَةً.(1/257)
(وعن عائشة رضي الله عنه قالت: ما كان رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم يزيد في رمضان ولا في غيره على إحدى عشرة ركعة) ، ثم فصلتها بقولها (يصلي أربعاً) يحتمل أنها متصلاً وهو الظاهر، ويحتمل أنها مفصلات وهو بعيد إلا أنه يوافق حديث "صلاة الليل مثنى مثنى"، (فلا تسأل عن حسنهن وطولهن) نهت عن سؤال ذلك إما أنه لا يقدر المخاطب على مثله فأي حاجة له في السؤال، أو لأنه قد علم حسنهن وطولهن لشهرته فلا يسئل عنه أو لأنها لا تقدر تصف ذلك، (ثم يصلي أربعاً فلا تسأل عن حسنهن وطولهن ثم يصلي ثلاثاً قالت: فقلت يا رسول الله أتنام قبل أن يوتر) كأنه كان ينام بعد الأربع ثم يقوم فيصلي الثلاث وكأنه كان قد تقرر عند عائشة أن النوم ناقض للوضوء فسألته فأجابها بقوله: (قال: يا عائشة إن عيني تنامان ولا ينام قلبي) دل على أن الناقض نوم القلب وهو حاصل مع كل من نام مستغرقاً فيكون من الخصائص أن النوم لا ينقض وضوءه صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم، وقد صرح المصنف بذلك في التلخيص، واستدل بهذا الحديث وبحديث ابن عباس: "أنه صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم نام حتى نفخ ثم قام فصلى ولم يتوضأ". وفي البخاري: "إن الأنبياء تنام أعينهم ولا تنام قلوبهم" (متفق عليه).(1/258)
اعلم أنه قد اختلفت الروايات عن عائشة في كيفية صلاته صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم في الليل وعددها، فقد روي عنها سبع وتسع وإحدى عشرة سوى ركعتي الفجر ومنها هذه الرواية التي أفادها قوله: (وفي رواية لهما) أي الشيخين (عنها) أي عن عائشة (كان يصلي من الليل عشر ركعات) وظاهره أنها موصولة لا قعود فيها، (ويوتر بسجدة) أي ركعة، (ويركع ركعتي الفجر) أي بعد طلوعه، (فتلك) أي الصلاة في الليل مع تغليب ركعتي الفجر أو فتلك الصلاة جميعاً، (ثلاث عشرة ركعة) ، وفي رواية: "أنه كان يصلي من الليل ثلاث عشرة ركعة ثم يصلي إذا سمع النداء ركعتين خفيفتين فكانت خمس عشرة ركعة". ولما اختلفت ألفاظ حديث عائشة زعم البعض أنه حديث مضطرب، وليس كذلك، بل الروايات محمولة على أوقات متعددة وأوقات مختلفة بحسب النشاط وبيان الجواز وأن الكل جائز، وهذا لا يناسبه قولها ولا في غيره، والأحسن أن يقال: إنها أخبرت عن الأغلب من فعله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم فلا ينافيه ما خالفه لأنه إخبار عن النادر.
[رح 12/153] ـ وَعَنْها رَضِيَ قَالَتْ: "كَانَ رَسُولَ الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم يُصَلِّي مِنَ اللَّيْلِ ثَلاثَ عَشْرَةَ رَكْعَةً، يُوتِرُ مِنْ ذَلِكَ بِخَمْسٍ، لا يَجْلِسُ فِي شَيْءٍ إِلا فِي آخِرِهَا.
(وعنها) أي عائشة، (قالت: كان رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم يصلي من الليل ثلاث عشرة ركعة) لم تفصلها وتبين على كم كان يسلم كما ثبت ذلك في الحديث السابق إنما بينت هذا في الوتر بقولها: (ويوتر من ذلك) أي العدد المذكور (بخمس لا يجلس في شيء إلا في آخرها) كأن هذا أحد أنواع إيتاره صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم كما إن الإيتار بثلاث أحدها كما أفاده حديثها السابق.(1/259)
[رح 22/253] ـ وَعَنْها رَضِيَ الله عَنْه قَالَتْ: "مِنْ كُلِّ اللَّيْلِ قَدْ أَوْتَرَ رَسُولَ الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم، وَانْتَهَى وِتْرُهُ إِلَى السَّحَرِ". مُتَّفَقٌ عَلَيْهِمَا.
(وعنها) أي عائشة (قالت: من كل الليل قد أوتر رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم) أي من أوله وأوسطه وآخره، (وانتهى وتره إلى السحر. متفق عليهما) أي على الحديثين وهذا الحديث بيان لوقت الوتر وأنه الليل كله من بعد صلاة العشاء، وقد أفاد ذلك حديث خارجة حيث قال: "الوتر ما بين صلاة العشاء إلى طلوع الفجر"، وقد ذكرنا أنواع الوتر التي وردت في حاشية ضوء النهار.
[رح 32/353] ـ وَعَنْ عَبْدِ الله بْنِ عَمْرو بْنِ الْعَاصِ رَضِيَ الله عَنْهُما، قَالَ: قَالَ: قَالَ لي رَسُولُ الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم: "يَا عَبْدَ الله، لا تَكُنْ مِثْلَ فَلانٍ، كَانَ يَقُومُ مِنَ اللَّيْلِ، فَتَرَكَ قِيَامَ اللَّيْلِ". مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
(وعن عبد الله بن عمرو بن العاص قال: قال رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم: يا عبد الله لا تكن مثل فلان كان يقوم من الليل فترك قيام الليل. متفق عليه).
قوله: "مثل فلان" قال المصنف في فتح الباري: لم أقف على تسميته في شيء من الطرق وكأن إبهام هذا القصد للستر عليه، قال ابن العربي: هذا الحديث دليل على أن قيام الليل ليس بواجب، إذ لو كان واجباً لم يكتف لتاركه بهذا القدر، بل كان يذمه أبلغ ذم. وفيه استحباب الدوام على ما اعتداه المرء من الخير من غير تفريط ويستنبط منه كراهة قطع العبادة.
[رح 42/453] ـ وَعَنْ عَلَيٍّ قَالَ رَسُولُ الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم: "أَوْتِرُوا يَا أَهْلَ الْقُرْآنَ؛ فَإِنَّ الله وِتْرٌ يُحِبُّ الْوِتْرَ". رَوَاهُ الْخَمْسَةُ، وَصَحّحَهُ ابْنُ خُزَيْمَةَ.(1/260)
(وعن عليّ عليه السلام قال: قال رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم: "أوتروا يا أهل القرآن فإن الله وتر") في النهاية أي واحد في ذاته لا يقبل الانقسام ولا التجزئة واحد في صفاته لا شبيه له ولا مثل. واحد في أفعاله لا شريك له ولا معين، (يحب الوتر) يثيب عليه ويقبله من عامله، (رواه الخمسة وصححه ابن خزيمة).
المراد بأهل القرآن المؤمنون لأنهم الذي صدقوا القرآن وخاصة من يتولى حفظه ويقوم بتلاوته ومراعاة حدوده وأحكامه. والتعليل بأنه تعالى وتر فيه ـ كما قال القاضي عياض: ـ أن كل ما ناسب الشيء أدنى مناسبة كان أحب إليه وقد عرفت أن الأمر للندب للأدلة التي سلفت الدالة على عدم وجوب الوتر.
[رح 52/553] ـ وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ الله عَنْهُمَا، أَنَّ النَّبِيَّ صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم قَالَ: "اجْعَلُوا آخِرَ صَلاتِكُمُ بِاللَّيْلِ وِتْراً". مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
(وعن ابن عمر رضي الله عنهما عن النبي صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم قال: "اجعلوا آخر صلاتكم بالليل وتراً" متفق عليه) في فتح الباري أنه اختلف السَلَف في موضعين: أحدهما في مشروعية ركعتين بعد الوتر من جلوس. والثاني: من أوتر ثم أراد أن ينتفل من الليل هل يكتفي بوتره الأول وينتفل ما شاء أو يشفع وتره بركعة ثم ينتفل، ثم إذا فعل هذا هل يحتاج إلى وتر آخر أو لا.
أما الأول فوقع عند مسلم من طريق أبي سلمة عن عائشة: "أنه صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم كان يصلي من الليل ركعتين بعد الوتر وهو جالس". وقد ذهب إليه بعض أهل العلم وجعل الأمر في قوله: "اجعلوا آخر صلاتكم بالليل وتراً" مختصاً بمن أوتر آخر الليل، وأجاب من لم يقل بذلك بأن الركعتين المذكورتين هما ركعتا الفجر، وحمله النووي على أنه صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم فعل ذلك لبيان جواز النفل بعد الوتر وجواز التنفل جالساً.
وأما الثاني: فذهب الأكثر إلى أنه يصلي شفعاً ما أراد ولا ينقض وتره الأول عملاً بالحديث.(1/261)
[رح 62/653] ـ وَعَنْ طَلْقِ بْنِ عَلِيٍّ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم يَقُولُ: "لا وِتْرَانِ فِي لَيْلَةٍ". رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالثَّلاثَةُ، وصَحّحَهُ ابْنُ حِبَّانَ.
وهو (وعن طلق بن عليّ رضي الله عنه سمعت رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم يقول: "لا وتران في ليلة" رواه أحمد والثلاثة وصححه ابن حبان) ، فدل على أنه لا يوتر بل يصلي شفعاً ما شاء، وهذا نظر إلى ظاهر فعله وإلا فإنه لما شفع وتره الأول لم يبق إلا وتر واحد هو ما يفعله آخراً. وقد روي، عن ابن عمر أنه قال: لما سئل عن ذلك: "إذا كنت لا تخاف الصبح ولا النوم فاشفع ثم صل ما بدا لك ثم أوتر".
[رح 72/753] ـ وَعَنَأُبِيِّ بْنِ كَعْبٍ رَضِيَ الله عَنْهُ، قَالَ: "كَانَ رَسُولَ الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم يُوتِرُ بِسَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأَعْلَى، وَقُلْ يَا أيُّهَا الْكَافِرُونَ، وَقُلْ هُوَ الله أَحدٌ". رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَأَبُو دَاوُدَ، وَالنَّسَائِيُّ. وَزَادَ: "وَلا يُسَلِّمُ إِلا فِي آخِرِهِنَّ".
(وعن أبي بن كعب رضي الله عنه قال: كان رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم يوتر) أي يقرأ في صلاة الوتر (بسبح اسم ربك الأعلى) أي في الأولى بعد قراءة الفاتحة، (وقل يا أيها الكافرون) أي في الثانية بعدها، (وقل هو الله أحد) أي في الثالثة بعدها. (رواه أحمد وأبو داود والنسائي وزاد) أي النسائي (ولا يسلم إلا في آخرهن) الحديث دليل على الإيتار بثلاث، وقد عارضه حديث: "لا توتروا بثلات" وهو عن أبي هريرة، صححه الحاكم، وقد صحح الحاكم عن ابن عباس، وعائشة كراهية الوتر بثلاث، وقد قدمنا وجه الجمع ثم الوتر بثلاث أحد أنواعه كما عرفت فلا يتعين فيه.(1/262)
فذهبت الحنفية والهادوية إلى تعيين الإيتار بالثلاث تصلي موصولة، قالوا: لأن الصحابة أجمعوا على أن الإيتار بثلاث موصولة جائز، اختلفوا فيما عداه، فالأخذ به أخذ بالإجماع ورد عليهم بعدم صحة الإجماع كما عرفت.
[رح 82/853] ـ وَلأَبِي دَاُدَ، وَالتِّرْمِذِيِّ نَحْوَهُ، عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ الله عَنْهَا، وَفِيه: "كُلّ سُورَةٍ فِي رَكْعَةٍ، وَفِي الأَخِيرَةِ {قُلْ هُوَ الله أَحَدٌ} (الإخلاص: 1) وَالْمُعَوذَتَيْنِ".
(ولأبي داود والترمذي نحوه) أي حديث أبي (عن عائشة وفيه كل سورة) من سبح والكافرون (في ركعة) من الأولى والثانية كما بيناه، (وفي الأخيرة {قل هو الله أحد} والمعوذتين) في حديث عائشة لين لأن فيه خصيفاً الجزري، ورواه ابن حبان والدارقطني من حديث يحيى بن سعيد عن عمرة عن عائشة. قال العقيلي: إسناده صالح. وقال ابن الجوزي: أنكر أحمد ويحيى بن معين زيادة المعوذتين، وروى ابن السكن له شاهداً من حديث عبد الله بن سرجس بإسناد غريب.
[رح 92/953] ـ وَعَنْ أَبِي سَعِيد الْخُدْرِيِّ رَضِيَ الله عَنْهُ أَن النَّبِيِّ صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم: "أَوْتِرُوا قَبْلَ أَنْ تُصْبِحُوا". رَوَاهُ مُسْلِمٌ.
وَلابْنِ حَبَّانَ: "مَنْ أَدْرَكَ الصُّبْحَ وَلَمْ يُوتِرْ فَلا وِتْرَ لَهُ".
(وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن النبي صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم قال: أوتروا قبل أن تصبحوا. رواه مسلم) هو دليل على أن الوتر قبل الصبح (ولابن حبان) أي من حديث أبي سعيد، (من أدرك الصبح ولم يوتر فلا وتر له) وهو دليل على أنه لا يشرع الوتر بعد خروج الوقت.
وإما أنه لا يصح قضاؤه فلا، إذ المراد من تركه متعمداً فإنه فاتته السنة العظمى حتى أنه لا يمكنه تداركه، وقد حكى ابن المنذر عن جماعة من السَلَف أن الذي يخرج بالفجر وقته الاختياري، وأما وقته الاضطراري فيبقى إلى قيام صلاة الصبح، وأما من نام عن وتره ونسيه فقد بين حكمه الحديث:.(1/263)
[رح 03/063] ـ وَعَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولَ الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم: "مَنْ نَامَ عَنِ الْوِتْرِ أَوْ نِسِيَهُ فَلْيُصَلِّ إِذَا أَصْبَحَ أَوْ ذَكَرَ". رَوَاهُ الْخَمْسَةُ إِلا النَّسائِيَّ.
(وهو قوله): (وعنه) أي عن أبي سعيد (قال: قال رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم: "من نام عن الوتر أو نسيه فليصل إذا أصبح أو ذكر") لف ونشر مرتب، حيث كان نائماً أو ذكر إذا كان ناسياً (رواه الخمسة إلا النسائي) ، فدل على أن من نام عن وتره أو نسيه فحكمه حكم من نام عن الفريضة أو نسيها أنه يأتي بها عند الاستيقاظ أو الذكر أو القياس أنه أداء كما عرفت فيمن نام عن الفريضة أو نسيها.
[رح 13/163] ـ وَعَنْ جَابِرٍ قَالَ: قَالَ رَسُولَ الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم: "مَنْ خَافَ أنْ لا يَقُومَ مِنْ آخِرِ اللَّيْلِ فَلْيُوتِرْ أَوَّلَهُ، وَمَنْ طَمِعَ أَنْ يَقُومَ آخِرَهُ فَلْيُوتِرْ آخِرَ اللَّيْلِ، فَإِنَّ صَلاةَ آخِرِ اللّيْلِ مَشْهُودَةٌ، وَذَلِكَ أَفْضَلُ" رَوَاهُ مُسْلِمٌ.
(وعن جابر رضي الله عنه) هو ابن عبد الله، (قال: قال رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم: "من خاف أن لا يقوم من الليل فليوتر أوله، ومن طمع أن يقوم آخره فليوتر آخر الليل، فإن صلاة آخر الليل مشهودة وذلك أفضل" رواه مسلم) فيه دلالة على أن تأخير الوتر أفضل، ولكن إن خاف أن لا يقوم قدمه لئلا يفوته فعلاً، وقد ذهب جماعة من السَلَف إلى هذا وإلى هذا وفعل كل بالحالين، ومعنى كون صلاة آخر الليل مشهودة تشهدها ملائكة الليل وملائكة النهار.
[رح 23/263] ـ وَعَنْ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ الله عَنْهُمَا، عَنِ النَّبِيَّ صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم قَالَ: "إِذَا طَلَعَ الْفَجْرُ فَقَدْ ذَهَبَ وَقْتُ كُلِّ صَلاةِ اللَّيْلِ وَالْوَتْرِ، فَأَوْتِرُوا قَبْلَ طُلُوعِ الْفَجْرِ". رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ.(1/264)
(وعن ابن عمر رضي الله عنهما عن النبي صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم قال: "إذا طلع الفجر فقد ذهب وقت كل صلاة الليل) أي النوافل المشروعة فيه، (والوتر) عطف خاص على عام فإنه من صلاة الليل عطفه عليه لبيان شرفه، (فأوتروا قبل طلوع الفجر).
فتخصيص الأمر بالإيتار لزيادة العناية بشأنه وبيان أنه أهم صلاة الليل، فإنه يذهب وقته بذهاب الليل وتقدم في حديث أبي سعيد أن النائم والناسي يأتيان بالوتر عند اليقظة إذا أصبح والناسي عند التذكر فهو مخصص لهذا، فبين أن المراد بذهاب وقت الوتر بذهاب الليل على من ترك الوتر لغير العذرين. وفي ترك ذلك للنوم ما رواه الترمذي عن عائشة: "كان رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم إذا لم يصل من الليل منعه من ذلك النوم أو غلبته عيناه صلى من النهار اثنتي عشرة ركعة". وقال: حسن صحيح، وكأنه تداركه لما فات، (رواه الترمذي) ، قلت: وقال عقيبه: سليمان بن موسى قد تفرد به على هذا اللفظ.
[رح 33/363] ـ وَعَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ الله عَنْهَا قَالَتْ: "كَانَ رَسُولُ الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم يُصَلِّي الضُّحَى أَرْبَعاً، وَيَزِيدُ مَا شَاءَ الله". رَوَاهُ مُسْلِمٌ.
(وعن عائشة رضي الله عنها قالت: كان رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم يصلي الضحى أربعاً ويزيد ما شاء الله. رواه مسلم) هذا يدل على شرعية صلاة الضحى، وأن أقلها أربع، وقيل: ركعتان، وهذا في الصحيحين من رواية أبي هريرة "وركعتي الضحى".
وقال ابن دقيق العيد: لعله ذكر الأقل الذي يوجد التأكيد بفعله. قال: وفي هذا دليل على استحباب صلاة الضحى وأن أقلها ركعتان، وعدم مواظبة النبي صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم على فعلها لا ينافي استحبابها لأنه حاصل بدلالة القول وليس من شرط الحكم أن تتظافر عليه أدلة القول والفعل، لكن ما واظب النبي صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم على فعل مرجح على ما لم يواظب عليه انتهى.(1/265)
وأما حكمها فقد جمع ابن القيم الأقوال فبلغت ستة أقوال. الأول: أنها سنة مستحبة. الثاني: لا تشرع إلا لسبب. الثالث: لا تستحب أصلاً. الرابع: يستحب فعلها تارة وتركها تارة فلا يواظب عليها. الخامس: يستحب الموظبة عليها في البيوت. السادس: أنها بدعة. وقد ذكر هنالك مستند كل قول. هذا وأرجح الأقوال أنها سنة مستحبة كما قرره ابن دقيق العيد، نعم وقد عارض حديث عائشة هذا حديثها الذي أفاده قوله:
[رح 43/463] ـ وَلَهُ عَنْهَا: أَنَّها سُئِلَتْ: هَلْ كَانَ رَسُولَ الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم يُصَلِّي الضُّحَى؟ قَالَتْ: لا. إِلا أنْ يَجِيءَ مِنْ مَغِيبِهِ.
وَلَهُ عَنْهَا: "مَا رَأَيْتُ رَسُولَ الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم يُصلِّي قَطُّ سُبْحَةَ الضُّحَى، وَإنِّي لأُسَبِّحُهَا".(1/266)
(وله) أي لمسلم (عنها) أي عن عائشة (أنها سئلت هل كان النبي صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم يصلي الضحى؟ قالت: لا. إلا أن يجيء من مغيبه) فإن الأول دل على أنه كان يصليها دائماً لما تدل عليه كلمة كان فإنها تدل على التكرار، والثانية دلت على أنه كان لا يصليها إلا في حال مجيئه من مغيبه وقد جمع بينهما. فإن كلمة كان يفعل كذا لا تدل على الدوام دائماً بل غالباً، وإذا قامت قرينة على خلاف صرفتها عنه كما هنا، فإن اللفظ الثاني صرفها عن الدوام وأنها أرادت بقولها: "لا إلا أن يجيء من مغيبه" نفي رؤيتها صلاة الضحى، وأنها لم تره يفعلها إلا في ذلك الوقت، واللفظ الأول إخبار عما بلغها في أنه ما كان يترك صلاة الضحى إلا أنه يضعف هذا قوله، (وله) أي لمسلم وهو أيضاً في البخاري بلفظه، فلو قال: ولهما كان أولى (عنها) أي عائشة (ما رأيت رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم صلي قط سبحة الضحى) بضم السين وسكون الباء أي نافلته، (وإني لأسبحها) فنفت رؤيتها لفعله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم لها، وأخبرت أنها كانت تفعلها كأنه استناد إلى ما بلغها من الحث عليها ومن فعله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم لها فألفاظها لا تتعارض حينئذ.
وقال البيهقي: المراد بقولها ما رأيته سبحها أي داوم عليها، وقال ابن عبد البر: يرجح ما اتفق عليه الشيخان وهو رواية إثباتها دون ما انفرد به مسلم وهي رواية نفيها، قال: وعدم رؤية عائشة لذلك لا يستلزم عدم الوقوع الذي أثبته غيرها هذا معنى كلامه. قلت: ومما اتفقا عليه في إثباتها حديث أبي هريرة في الصحيحين: "أنه أوصاه صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم بأن لا يترك ركعتي الضحى"، وفي الترغيب في فعلها أحاديث كثيرة وفي عددها كذلك: مبسوطة في كتب الحديث.(1/267)
[رح 53/563] ـ وَعَنْ زَيْدِ بْنِ أَرْقَمَ رَضِيَ الله عَنْهُ ، أَنَّ رَسُولَ الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم قَالَ: "صَلاةُ الأَوَّابِينَ حِينَ تَرْمَضُ الْفِصَالُ". رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ.
(وعن زيد بن أرقم رضي الله عنه أن رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم قال: صلاة الأوابين) الأواب: الرجاع إلى الله تعالى بترك الذنوب وفعل الخيرات (حين ترمض الفصال) بفتح الميم من رمضت بكسرها أي تحترق من الرمضاء وهو شدة حرارة الأرض من قوع الشمس على الرمل وغيره، وذلك يكون عند ارتفاع الشمس وتأثيرها الحر والفصال جمع فصيل وهو ولد الناقة سمي بذلك لفصله عن أمه، (رواه الترمذي) ولم يذكر لها عدداً.
وقد أخرج البزار من حديث ثوبان: "أن رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم كان يستحب أن يصلي بعد نصف النهار، فقال عائشة: يا رسول الله إنك تستحب الصلاة هذه الساعة؟ قال: "تفتح فيها أبواب السماء وينظر تبارك وتعالى فيها بالرحمة إلى خلقه وهي صلاة كان يحافظ عليها آدم ونوح وإبراهيم وموسى وعيسى.
[رح 63/663] ـ وَعَنْ أَنَسٍ رَضِيَ الله عَنْهُ، قَالَ: قَالَ رَسُولَ الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم: "مَنْ صَلَّى الضُّحَى اثْنَتَيْ عَشَرَةَ رَكْعَةً بَنَى الله لَهُ قَصْراً فِي الْجَنَّةِ". رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَاسْتَغْرَبَهُ.(1/268)
(وعن أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم من صلى الضحى اثنتي عشرة ركعة بنى له قصراً في الجنة رواه الترمذي واستغربه) قال المصنف: وإسناده ضعيف. وأخرج البزار عن ابن عمر، قال: "قلت لأبي ذر: يا عماه أوصني، قال: سألتني عما سألت عنه رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم، فقال: إن صليت الضحى ركعتين لم تكتب من الغافلين، وإن صليت أربعاً كتبت من العابدين، وإن صليت ستاً لم يلحقك ذنب، وإن صليت ثمانياً كتبت من القانتين، وإن صليت ثنتي عشرة بني لك بيت في الجنة". وفيه حسين بن عطاء ضعفه أبو حاتم وغيره. وذكره ابن حبان في الثقات، وقال: يخطيء ويدلس، وفي الباب أحاديث لا تخلو عن مقال.
[رح 73/763] ـ وَعَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ الله عَنْهَا قَالَتْ: "دَخَلَ رَسُولُ الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم بَيْتِي. فَصَلَّى الضُّحَى ثَمَانِي رَكَعَاتٍ". رَوَاهُ ابْنُ حِبَّانَ فِي صَحِيحِهِ.
(وعن عائشة رضي الله عنها قالت: دخل رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم بيتي فصلى الضحى ثماني ركعات. رواه ابن حبان في صحيحه) ، وقد تقدم رواية مسلم عنها "أنا ما رأته صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم يصلي سبح الضحى".
وهذا الحديث أثبتت فيه صلاته في بيتها وجمع بينهما بأنها نفت الرؤية وصلاته في بيتها يجوز أنها لم تره، ولكنه ثبت لها برواية، واختار القاضي عياض هذا الوجه ولا يعد في ذلك، وإن كان في بيتها لجواز غفلتها في الوقت فلا منافاة والجمع مهما أمكن هو الوجب.
"فائدة"
من فوائد صلاة الضحى أنها تجزىء عن الصدقة التي تصبح على مفاصل الإنسان في كل يوم وهي ثلاثمائة وستون مفصلاً، لما أخرجه مسلم من حديث أبي ذر قال فيه: وتجزىء من ذلك ركعتا الضحى".
باب صلاة الجماعة والإمامة(1/269)
1 ــــ[رح] عَنْ عَبْدِ الله بْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُما أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم قال: "صَلاةُ الْجَمَاعَةِ أَفْضَلُ مِنْ صَلاةِ الْفَذِّ بِسَبْعٍ وعِشرينَ دَرَجَةً" مُتّفَقٌ عَلَيْهِ.
2 ــــ وَلَهُمَا عَنْ أَبِي هُرَيْرةَ رَضيَ اللَّهُ عَنهُ "بِخَمْسٍ وَعشْرين جُزْءًا وَكَذَا لِلْبُخَاريِّ عَنْ أَبي سَعِيدٍ رَضيَ اللَّهُ عَنْهُ وَقَالَ: "دَرَجَةً".
(عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم قال: "صلاة الجماعة أفضل من صلاة الفذ" بالفاء والذال المعجمة: الفرد "بسبع وعشرين درجة" متفق عليه).
(ولهما) أي الشيخين (عن أبي هريرة رضي الله عنه: بخمس وعشرين جزءاً) عوضاً عن قوله: "سبع وعشرين درجة" (وكذا) أي وبلفظ "بخمس وعشرين" (للبخاري عن أبي سعيد وقال: "درجة") عوضاً عن جزء.
ورواه جماعة من الصحابة غير الثلاثة المذكورين منهم أنس وعائشة وصهيب ومعاذ وعبد الله بن زيد وزيد بن ثابت.
قال الترمذي: عامة من رواه قالوا: خمساً وعشرين إلا ابن عمر فقال: "سبعة وعشرين" وله رواية فيها "خمساً وعشرين" ولا منافاة فإن مفهوم العدد غير مراد فرواية الخمس والعشرين داخلة تحت رواية السبع والعشرين، أو أنه أخبر صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم بالأقل عدداً أولاً ثم أخبر بالأكثر، وأنه زيادة تفضل الله بها.
وقد زعم قوم أن السبع محمولة على من صلى في المسجد، والخمس لمن صلى في غيره.
وقيل: السبع لبعيد المسجد والخمس لقريبه، ومنهم من أبدى مناسبات وتعليلات استوفاها المصنف في فتح الباري، وهي أقوال تخمينية ليس عليها نص.
والجزء والدرجة بمعنى واحد هنا لأنه عبر بكل واحد منهما عن الآخر وقد ورد تفسيرهما بالصلاة وأن الصلاة الجماعة بسبع وعشرين صلاة فرادى.
والحديث حث على الجماعة. وفيه دليل على عدم وجوبها، وقد قال بوجوبها جماعة من العلماء مستدلين بقوله:(1/270)
[رح3] ــــ وَعَنْ أَبي هُرَيْرَةَ رَضيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم قالَ: "وَالّذي نَفْسي بيدَهِ لَقَدْ هَمَمْتُ أَنْ آمُرَ بحَطَبٍ فيحتطب ثُمَّ آمُرُ بالصَّلاةِ فَيُؤدَّنُ لهَا ثُمَّ آمُرُ رَجُلًا فَيَؤُمَّ النّاسَ ثُمَّ أُخَالِفُ إلى رجَالٍ "لا يَشْهَدُنَ الصَّلاة" فأُحَرِّقُ عَلَيهِمْ بُيُوتَهُمْ، وَالّذي نَفْسي بيَدِهِ لَوْ يَعْلَمُ أَحَدُهُمْ أَنّهُ يَجِدُ عَرْقاً سَمِيناً أَوْ مِرْمَامتَيْنِ حَسَنَتَيْنِ لَشَهِدَ الْعِشَاءَ" مُتّفقٌ عَلَيْهِ وَاللّفْظُ للْبُخَاريِّ.
(وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم قال: "والذي نفسي بيده) أي في ملكه وتحت تصرفه (لقد هممت) جواب القسم، والإقسام منه صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم لبيان عظم شأن ما يذكره زجراً عن ترك الجماعة (أن آمر بحطب فيُحطب ثم آمرُ بالصَّلاة فيؤذَّن لها ثمَّ آمرُ رجلاً فيؤُمَّ الناس ثم أُخالِف) في الصحاح خالف إلى فلان أي أتاه إذا غاب عنه (إلى رجال "لا يشهدون الصَّلاة") أي لا يحضرون الجماعة فأُحرق عليهم بيوتهم. والذي نفسي بيده لو يعلم أحدُهم أنه يجد عرقاً) بفتح المهملة وسكون الراء ثم قاف هو العظم إذا كان عليه لحم (سميناً أوْ مرمامتين) تثنية مرماة بكسر الميم فراء ساكنة وقد تفتح الميم وهي ما بين ظلفي الشاة من اللحم (حسنتين) بمهملتين من الحسن (لشهد العِشاء") أي صلاته جماعة (متفق عليه) أي بين الشيخين (واللفظ للبخاري).
والحديث دليل على وجوب الجماعة عيناً لا كفاية إذ قد قام بها غيرهم فلا يستحقون العقوبة، ولا عقوبة إلا على ترك واجب أو فعل محرم.
وإلى أنها فرض عين: ذهب عطاء والأوزاعي وأحمد وأبو ثور وابن خزيمة وابن المنذر وابن حبان ومن أهل البيت أبو العباس وقالت به الظاهرية.(1/271)
وقال داود: إنها شرط في صحة الصلاة بناءً على ما يختاره من أن كل واجد في الصلاة فهو شرط فيها، ولم يسله له هذا، لأن الشرطية لا بد لها من دليل، ولذا قال أحمد وغيره: إنها واجبة غير شرط.
وذهب أبو العباس تحصيلاً لمذهب الهادي أنها فرض كفاية، وإليه ذهب الجمهور من متقدمي الشافعية، وكثير من الحنفية والمالكية.
وذهب زيد بن علي والمؤيد بالله وأبو حنيفة وصاحباه والناصر إلى أنها سنة مؤكدة.
استدل القائل بالوجوب بحديث الباب، لأن العقوبة البالغة لا تكون إلا على ترك الفرائض، وبغيره من الأحاديث كحديث ابن مكتوم أنه قال: يا رسول الله قد علمت ما بي وليس لي قائد ــــ زاد أحمد ــــ وإن بيني وبين المسجد شجراً ونخلاً ولا أقدر على قائد كل ساعة، قال صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم: "أتسمع الإقامة؟" قال: نعم، قال: "فاحضرها" أخرجه أحمد وابن خزيمة والحاكم وابن حبان بلفظ "أتسمع الأذان؟ قال: نعم. قال: فاتها ولو حَبْواً" والأحاديث في معناه كثيرة ويأتي حديث ابن أم مكتوم، وحديث ابن عباس، وقد أطلق البخاري الوجوب عليها وبوّبة بقوله: "باب وجوب صلاة الجماعة". وقالوا: هي فرض عين إذ لو كانت فرض كفاية لكان قد أسقط وجوبها فعل النبي صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم ومن معه لها.
وأما التحريق في العقوبات بالنار فإنه وإن كان قد ثبت النهي عنه عاماً، فهذا خاص.
وأدلة القائل بأنها فرض كفاية أدلة من قال إنها فرض عين بناءً على قيام الصارف للأدلة على فرض العين إلى فرض الكفاية.
وقد أطال القائلون بالسنية الكلام في الجوابات عن هذا الحديث بما لا يشفي وأقربها أنه خرج مخرج الزجر لا الحقيقة بدليل أنه لم يفعله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم.(1/272)
واستدل القائل بالسنية بقوله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم في حديث أبي هريرة "صلاة الجماعة أفضل من صلاة الفذّ" فقد اشتركا في الفضيلة، ولو كانت الفرادى غير مجزئة لما كانت لها فضيلة أصلاً وحديث "إذا صليتما في رحالكما" فأثبت لهما الصلاة في رحالهما ولم يبين أنها إذا كانت جماعة وسيأتي.
[رح4] ــــ وَعَنْهُ رَضيَ اللَّهُ عَنْهُ قالَ: قالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم: "أَثْقَلُ الصَّلاةِ عَلى المُنَافقينَ صَلاةُ العِشَاءِ وَصَلاةُ الْفجْرِ وَلَوْ يَعْلَمُونَ مَا فِيهمَا لأتَوْهُما وَلَوْ حَبْواً" مُتّفَقٌ عَلَيْهِ.
(وعنه) أي أبي هريرة (قال:قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "أثقل الصلاة على المنافقين) فيه أن الصلاة كلها عليهم ثقيلة فإنهم الذين إذا قاموا إلى الصلاة قاموا كسالى، ولكن الأثقل عليهم (صلاة العشاء) لأنها في وقت الراحة والسكون (وصلاة الفجر) لأنها في وقت النوم وليس لهم داع ديني ولا تصديق بأجرهما حتى يبثهم على إتيانهما، ويخف عليهم الإتيان بهما، ولأنهما في ظلمة الليل، وداعي الرياء الذي لأجله يصلون منتفٍ، لعدم مشاهدة من يراءونه من الناس إلا القليل، فانتفى الباعث الديني منهما كما انتفى في غيرهما، ثم انتفى الباعث الدنيوي الذي في غيرهما. ولذا قال صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم ناظراً إلى انتفاء الباعث الديني عندهم: (ولو يعلمون ما فيهما) في فعلهما من الأجر (لأتوهما) إلى المسجد (ولوْ حَبْواً") أي ولو مشوا حبواً أي كحبو الصبيّ على يديه وركبتيه، وقيل هو الزحف على الركب، وقيل على الإست، وفي حديث أبي أمامة عند الطبراني "ولو حبواً على يديه ورجليه". وفي رواية جابر عنده أيضا بلفظ: "ولو حبواً أو زحفاً".
فيه حث بليغ على الإتيان إليهما. وأن المؤمن إذا علم ما فيهما أتى إليهما على أي حال، فإنه ما حال بين المنافق وبين هذا الإتيان إلا عدم تصديقه بما فيهما (متفق عليه).(1/273)
[رح5] ـــ وَعَنْهُ رضيَ الله عنه قالَ: أتَى النّبيَّ صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم رَجُلٌ أعْمَى فَقَالَ: يَا رَسُولَ الله إنّهُ لَيْسَ لي قَائِدٌ يَقُودُني إلى المَسْجِدِ فَرَخّص لَهُ فَلَمّا وَلّى دَعَاهُ فَقَالَ: "هَلْ تَسْمَعُ النِّدَاءَ بِالصَّلاةِ؟ قالَ: نَعَمْ، قالَ: "فَأَجِبْ" رَوَاهُ مُسْلمٌ.
(وعنه) أي عن أبي هريرة رضي الله عنه (قال: أتى النبيَّ صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم رجلٌ أعمى) قد وردت بتفسيره الرواية الأخرى وأنه ابن أم مكتوم (قال: يا رسول الله ليس لي قائد يقودني إلى المسجد فرخص له) أي في عدم إتيان المسجد (فلما ولى دعاه فقال: "هل تسمع النداءَ) وفي رواية "الإقامة" (بالصلاة؟" قال: نعم قال: "فأجب" رواه مسلم).
كان الترخيص أولاً مطلقاً عن التقييد بسماعه النداء فرخص له ثم سأله هل تسمع النداء قال: نعم فأمره بالإجابة.
ومفهومه أنه إذا لم يسمع النداء كان ذلك عذراً له، وإذا سمعه لم يكن له عذر عن الحضور.
والحديث من أدلة الإيجاب للجماعة عيناً، لكن ينبغي أن يقيد الوجوب عيناً على سامع النداء لتقييد حديث الأعمى وحديث ابن عباس له، وما أطلق من الأحاديث يحمل على المقيد.
وإذا عرفت هذا فاعلم أن الدعوى وجوب الجماعة عيناً أو كفاية، والدليل هو الحديث الهمِّ بالتحريق وحديث الأعمى، وهما إنما دلاّ على وجوب حضور جماعته صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم في مسجده لسامع النداء وهو أخص من وجوب الجماعة، ولو كانت الجماعة واجبة مطلقاً لبين صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم ذلك للأعمى ولقال له انظر من يصلي معك، ولقال في المتخلفين إنهم لا يحضرون جماعته صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم ولا يجمعون في منازلهم. والبيان لا يجوز تأخيره عن وقت الحاجة.
فالأحاديث إنما دلت على وجوب حضور جماعته صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم عيناً على سامع النداء لا على وجوب مطلق الجماعة كفاية ولا عيناً.(1/274)
وفيه أنه لا يرخص لسامع النداء عن الحضور وإن كان له عذر فإن هذا ذكر العذر وأنه لا يجد قائداً فلم يعذره إذن.
ويحتمل أن الترخيص له ثابت للعذر، ولكنه أمره بالإجابة ندباً لا وجوباً ليحرز الأجر في ذلك. والمشقة تغتفر بما يجده في قلبه من الروح في الحضور ويدل لكون الأمر للندب أي مع العذر قوله:
[رح6] ـــ وَعَنْ ابْنِ عَبّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا عَنِ النّبيِّ صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم قالَ: "مَنْ سَمِعَ النِّداءَ فلم يأت فَلا صَلاةَ لَهُ إلا مِنْ عُذْرٍ" رَوَاهُ ابْنُ مَاجَه وَالدَّارَقُطْنيُّ وابْنُ حِبّانَ وَالحْاكِمُ وَإسْنَادُهُ عَلى شَرْطِ مُسْلمٍ لكنْ رَجّجَ بَعْضُهُمْ وَقْفَهُ.
الحديث أخرج من طريق شعبة موقوفاً ومرفوعاً، والموقوف في زيادة "إلا من عذر" فإن الحاكم وقفه عند أكثر أصحاب شعبة.
وأخرج الطبراني في الكبير من حديث أبي موسى عنه صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم: "من سمع النداء فلم يجب من غير ضرر ولا عذر فلا صلاة له"، قال الهيثمي: فيه قيس بن الربيع وثقه شعبة وسفيان الثوري وضعفه جماعة.
وقد أخرج حديث ابن عباس المذكور أبو داود بزيادة "قالوا: وما العذر؟ قال: خوف أو مرض لم يقبل الله منه الصلاة التي صلى" بإسناد ضعيف.
والحديث دليل على تأكد الجماعة وهو حجة لمن يقول إنها فرض عين.
ومن يقول إنها سنة يؤول قوله: "فلا صلاة له" أي كاملة، وأنه نزَّل نفي الكمال منزلة نفي الذات مبالغة.
والأعذار في ترك الجماعة منها ما في حديث أبي داود. ومنها المطر والريح الباردة. ومن أكل كراثاً أو نحوه من ذوات الريح الكريهة فليس له أن يقرب المسجد؛ قيل: ويحتمل أن يكون النهي عنها لما يلزم من أكلها من تفويت الفريضة فيكون آكلها آثماً لما تسبب له من ترك الفريضة، ولكن لعل من يقول إنها فرض عين يقول تسقط بهذه الأعذار صلاتها في المسجد لا في البيت فيصليها جماعة.(1/275)
[رح7] ـــ وَعَنْ يَزيدَ بنِ الأسْودِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنّهُ صَلى مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم صَلاةَ الصُّبْحِ، فَلَمّا صلى رَسُولُ الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم إذا هُوَ برَجُلَيْنِ لَمْ يُصَلِّيَا فَدَعَا بِهِمَا، فجيءَ بهمَا تَرْعُدُ فَرَئِصُهُما فَقَالَ لَهُمَا: "مَا مَنَعَكُمَا أَنْ تُصَلِّيا مَعَنَا؟" قالَا: قَدْ صَلّينَا في رحَالِنَا، قالَ: "فلا تَفْعَلا إذَا صَلّيْتُما في رحَالِكُما ثمَّ أَدْرَكْتُما الإمامَ وَلَمْ يُصَلِّ فَصَلِّيَا مَعَهُ فإنها لَكُمَا نَافِلَة" رَوَاهُ أَحْمَدُ وَاللّفْظُ لَهُ والثّلاثَةُ وَصَحّحَهُ التِّرْمِذِيُّ وَابنُ حِبّانَ.
(وعن يزيد بن الأسود رضي الله عنه) هو أبو جابر يزيد بن الأسود السُّوائي بضم المهملة وتخفيف الواو والمد ويقال الخزاعي ويقال العامري روى عنه ابنه جابر وعداده في أهل الطائف وحديثه في الكوفيين (أنه صلى مع رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم صلاة الصبح، فلما صلى رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم) أي فرغ من صلاته (إذا هو برجلين لم يصليا) أي معه (فدعا بهما فجيء بهما ترعد) بضم المهملة (فرائضهما) جمع فريصة وهي اللحمة التي بين جنب الدابة وكتفيها أي ترجف من الخوف قاله في النهاية (فقال لهما: "ما منعكما أن تصليا معنا؟" قالا: قد صلينا في رحالنا) جمع رحل بفتح الراء وسكون المهملة هو المنزل ويطلق على غيره ولكن المراد هنا به المنزل (قال: "فلا تفعلا إذا صليتما في رحالكما ثم أدركتما الإمام ولم يصل فصليا معه فإنها) أي الصلاة مع الإمام بعد صلاتهما الفريضة (لكما نافلة") والفريضة هي الأولى سواء صليت جماعة أو فرادى لإطلاق الخبر (رواه أحمد واللفظ له والثلاثة وصححه الترمذي وابن حبان) زاد المصنف في التلخيص: "والحاكم والدارقطني وصححه ابن السكن كلهم من طريق يعلي بن عطاء عن جابر بن يزيد بن الأسود عن أبيه".(1/276)
قال الشافعي في القديم: إسناده مجهول، قال البيهقي: لأن يزيد بن الأسود ليس له راوٍ غير ابنه ولا لابنه جابر راوٍ غير يعلى. قلت: يعلى من رجال مسلم، وجابر وثقه النسائي وغيره. انتهى".
وهذا الحديث وقع في مسجد الخيف، في حُجَّة الوداع.
فدل على مشروعية الصلاة مع الإمام إذا وجده يصلي أو سيصلي بعد أن كان قد صلى جماعة أو فرادى، والأولى هي الفريضة والأخرى نافلة كما صرح به الحديث.
وظاهره أنه لا يحتاج إلى رفض الأول. وذهب إلى هذا زيد بن علي والمؤيد وجماعة من الآل وهو قول الشافعي.
وذهب الهادي ومالك وهو قول الشافعي إلى أن الثانية هي الفريضة، لما أخرجه أبو داود من حديث يزيد بن عامر: إنه صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم قال: "إذا جئت الصلاة فوجدت الناس يصلون فصل معهم إن كنت قد صليت تكن لك نافلة وهذه مكتوبة".
وأجيب بأنه حديث ضعيف ضعفه النووي وغيره، وقال البيهقي هو مخالف لحديث يزيد بن الأسود وهو أصح ورواه الدارقطني بلفظ: "وليجعل التي صلى في بيته نافلة" قال الدارقطني هذه رواية ضعيفة شاذة وعلى هذا القول لا بدّ من الرفض للأولى بعد دخوله في الثانية، وقيل بشرط فراغه من الثانية صحيحة.
وللشافعي قول ثالث أن الله تعالى يحتسب بأيهما شاء، لقول ابن عمر لمن سأله عن ذلك: "أو ذلك إليك؟ إنما ذلك إلى الله تعالى يحتسب بأيهما شاء" أخرجه مالك في الموطأ.
وقد عورض حديث الباب بما أخرجه أبو داود والنسائي وغيرهما عن ابن عمر يرفعه "لا تصلوا صلاة في يوم مرتين".
ويجاب عنه بأن المنهي عنه أن يصلي كذلك على أنهما فريضة لا على أن إحداهما نافلة، أو المراد لا يصليهما مرتين منفرداً.
ثم ظاهر حديث الباب عموم ذلك في الصلوات كلها وإليه ذهب الشافعي.
وقال أبو حنيفة: لا يعاد إلا الظهر والعشاء أما الصبح والعصر فلا. للنهي عن الصلاة بعدهما وأما المغرب فلأنها وتر النهار فلو أعادها صارت شفعاً.(1/277)
وقال مالك: إذا كان صلاها في جماعة لم يعدها وإن كان صلاها منفرداً أعادها.
والحديث ظاهر في خلاف ما قاله أبو حنيفة ومالك بل في حديث يزيد بن الأسود أن ذلك كان في صلاة الصبح فيكون أظهر في ردّ ما قاله أبو حنيفة ويخص به عموم النهي عن الصلاة في الوقتين.
[رح8] ــــ وَعَنْ أَبي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قالَ: قالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم: "إنّما جُعِلَ الإِمامُ لِيُؤْتَمَّ بِه، فإذَا كَبّرَ فَكَبِّرُوا وَلا تُكَبِّرُوا حتى يُكبِّرَ، وإذَا رَكَعَ فَارْكَعوا وَلا تَرْكَعُوا حَتى يَرْكَعَ، وإذَا قالَ: سمِعَ الله لِمَنْ حَمِدَهُ فَقُولُوا: اللهُمَّ رَبّنَا لَكَ الْحَمْدُ، وَإذَا سَجَدَ فاسْجُدُوا وَلا تَسْجُدُوا حَتى يَسْجُدَ، وَإذا صَلى قائماً فَصلُّوا قِيَاماً، وَإذا صلى قاعِداً فَصَلُّوا قُعُوداً أَجْمعينَ" رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ وَهذَا لَفْظُهُ وَأَصلُهُ في الصّحيحيْنِ.
(وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم: "إنما جُعِل الإمام ليؤتمَّ به فإذا كبّر) أي للإحرام أو مطلقاً فيشمل تكبير النقل (فكبروا ولا تكبروا حتى يكبِّر) زاده تأكيداً لما أفاده مفهوم الشرط كما في سائر الجمل الآتية: (وإذا ركع فاركعوا ولا تركعوا حتى يركع) أي حتى يأخذ من الركوع لا حتى يفرغ منه كما يتبادر من اللفظ (وإذا قال: سمع الله لمنْ حمده فقولوا: اللهم ربنا لك الحمد؛ وإذا سجد) أخذ في السجود (فاسجدوا ولا تسجدوا حتى يسجدَ وإذا صلى قائماً فصلُّوا قياماً، وإذا صلى قاعداً) لعذر (فصلوا قُعُوداً أَجمعين") هكذا بالنصب على الحال وهي رواية في البخاري وأكثر الروايات على "أجمعون" بالرفع تأكيداً لضمير الجمع (رواه أبو داود وهذا لفظه وأصله في الصحيحين).
إنما يفيد جعل الإمام مقصوراً على الاتصاف بكونه مؤتماً به لا يتجاوزه المؤتم إلى مخالفته.
والائتمام: الاقتداء والاتباع.(1/278)
والحديث دل على أن شرعية الإمامة ليقتدى بالإمام، ومن شأن التابع والمأموم أن لا يتقدم متبوعه، ولا يساويه، ولا يتقدم عليه في موقفه، بل يراقب أحواله ويأتي على أثرها بنحو فعله، ومقتضى ذلك أن لا يخالفه في شيء من الأحوال، وقد فصل الحديث ذلك بقوله فإذا كبر إلى آخره.
ويقاس ما لم يذكر من أحواله كالتسليم على ما ذكر فمن خالفه في شيء مما ذكر فقد أثم ولا تفسد صلاته بذلك، إلا أنه إن خالف في تكبيرة الإحرام بتقديمها على تكبيرة الإمام فإنها لا تنعقد معه صلاته لأنه لم يجعله إماماً إذ الدخول بها بعده وهي عنوان الاقتداء به واتخاذه إماماً.
واستدل على عدم فساد الصلاة بمخالفته لإمامه لأنه صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم توعد من سابق الإمام في ركوعه أو سجوده بأن الله يجعل رأسه رأس حمار ولم يأمره بإعادة صلاته ولا قال فإنه لا صلاة له.
ثم الحديث لم يشترط المساواة في النية فدل أنها إذا اختلفت نية الإمام والمأموم كأن ينوي أحدهما فرضاً والآخر نفلاً أو ينوي هذا عصراً والآخر ظهراً أنها تصح الصلاة جماعة وإليه ذهبت الشافعية. ــــ ويأتي الكلام على ذلك في حديث جابر في صلاة معاذ ــــ.
وقوله: "إذا قال سمع الله لمن حمده" يدل أنه الذي يقوله الإمام ويقول المأموم: اللهم ربنا لك الحمد، وقد ورد بزيادة الواو وورد بحذف اللهم والكل جائز، والأرجح العمل بزيادة اللهم وزيادة الواو لأنهما يفيدان معنى زائداً.
وقد احتج بالحديث من يقول إنه لا يجمع الإمام والمؤتم بين التسميع والتحميد وهم الهادية والحنفية، قالوا: ويشرع للإمام والمنفرد التسميع وقد قدمنا هذا.
وقال أبو يوسف ومحمد: يجمع بينهما الإمام والمنفرد ويقول المؤتم: سمع الله لمن حمده لحديث أبي هريرة أنه صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم كان يفعل ذلك، وظاهره منفرداً وإماماً فإن صلاته صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم مؤتماً نادرة.(1/279)
ويقال عليه فأين الدليل على أنه يشمل المؤتم فإن الذي في حديث أبي هريرة هذا أنه يحمد.
وذهب الإمام يحيى والثوري والأوزاعي إلى أنه يجمع بينهما الإمام والمنفرد ويحمد المؤتم لمفهوم حديث الباب إذ يفهم من قوله: "فقولوا اللهم.." إلخ أنه لا يقول المؤتم إلا ذلك.
وذهب الشافعي إلى أنه يجمع بينهما المصلي مطلقاً مستدلاً بما أخرجه مسلم من حديث ابن أبي أوفى "أنه صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم كان إذا رفع رأسه من الركوع قال: سمع الله لمن حمده اللهم ربنا لك الحمد". الحديث قال: والظاهر عموم أحوال صلاته جماعة ومنفرداً وقد قال صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم: "صلوا كما رأيتموني أصلي" ولا حجة في سائر الروايات على الاقتصار إذ عدم الذكر في اللفظ لا يدل على عدم الشرعية، فقوله إذا قال الإمام سمع الله لمن حمده لا يدل على نفي قول المؤتم سمع الله لمن حمده، وحديث ابن أبي أوفى في حكايته لفعله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم زيادة وهي مقبولة، لأن القول غير معارض لها.
وقد روى ابن المنذر هذا القول عن عطاء وابن سيرين وغيرهما فلم ينفرد به الشافعي ويكون قول سمع الله لمن حمده عند رفع رأسه وقوله ربنا لك الحمد عند انتصابه.
وقوله: "فصلوا قعوداً أجمعين" دليل أنه يجب متابعة الإمام في القعود لعذر وأنه يقعد المأموم مع قدرته على القيام. وقد ورد تعليله بأنه فعل فارس والروم أي القيام مع قعود الإمام فإنه صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم قال: "إن كدتم آنفاً لتفعلون فعل فارس والروم يقومون على ملوكهم وهم قعود فلا تفعلوا" وقد ذهب إلى ذلك أحمد بن حنبل وإسحق وغيرهما.
وذهبت الهادوية ومالك وغيرهم إلى أنها لا تصح متابعة القاعد لا قائماً ولا قاعداً لقوله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم: "لا تختلفوا على إمامكم ولا تتابعوه في القعود" كذا في شرح القاضي ولم يسنده إلى كتاب ولا وجدت قوله: "ولا تتابعوه في القعود" في حديث فينظر.(1/280)
وذهب الشافعي إلى أنها تصح صلاة القائم خلف القاعد ولا يتابعوه في القعود قالوا: لصلاة أصحاب رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم في مرض موته قياماً حين خرج وأبو بكر قد افتتح الصلاة فقعد عن يساره فكان ذلك ناسخاً لأمره صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم لهم بالجلوس في حديث أبي هريرة فإن ذلك كان في صلاته حين جحش وانفكت قدمه فكان هذا آخر الأمرين فتعين العمل به كذا قرره الشافعي.
وأجيب: بأن الأحاديث التي أمرهم فيها بالجلوس لم يختلف في صحتها ولا في سياقها. وأما صلاته صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم في مرض موته، فقد اختلف فيها هل كان إماماً أو مأموماً، والاستدلال بصلاته في مرض موته لا يتم إلا على أنه كان إماماً:
ومنها أنه يحتمل أن الأمر بالجلوس للندب، وتقرير القيام قرينة على ذلك فيكون هذا جمعاً بين الروايتين خارجاً عن المذهبين جميعاً، لأنه يقتضي التخيير للمؤتم بين القيام والقعود.
ومنها أنه قد ثبت فعل ذلك عن جماعة من الصحابة بعد وفاته صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم أنهم أمّوا قعوداً أيضاً منهم أسيد بن حضير وجابر وأفتى به أبو هريرة قال ابن المنذر: ولا يحفظ عن أحد من الصحابة خلاف ذلك.
وأما حديث "لا يؤمن أحدكم بعدي قاعداً قوماً قياماً" فإنه حديث ضعيف أخرجه البيهقي والدارقطني من حديث جابر الجعفي عن الشعبي عن النبي صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم. [تض]وجابر[/تض] ضعيف جداً وهو مع ذلك مرسل، قال الشافعي: قد علم من احتج به أنه لا حجة فيه لأنه مرسل، ومن رواية رجل يرغب أهل العلم عن الرواية عنه ــــ يعني جابراً الجعفي ــــ.(1/281)
وذهب أحمد بن حنبل في الجمع بين الحديثين إلى أنه ابتدأ الإمام الراتب الصلاة قاعداً لمرض يرجى برؤه، فإنهم يصلون خلفه قعوداً، وإذا ابتدأ الإمام الصلاة قائماً لزم المأمومين أن يصلوا خلفه قياماً، سواء طرأ ما يقتضي صلاة إمامهم قاعداً أم لا، كما في الأحاديث التي في مرض موته، فإنه صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم لم يأمرهم بالقعود لأنه ابتدأ إمامهم صلاته قائماً، ثم أمّهم صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم في بقية الصلاة قاعداً، بخلاف صلاته صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم بهم في مرضه الأول فإنه ابتدأ صلاته قاعداً فأمرهم بالقعود وهو جمع حسن.
[رح9] ــــ وَعَنْ أَبي سَعيدٍ الخُدْري رَضيَ اللَّهُ عَنْهُ أنَّ رسولَ الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم رأى في أَصْحَابِهِ تَأَخُّراً فَقَالَ لهم: "تَقَدَّمُوا فَائْتَمُوا بي وَلْيَأتَمَّ بِكُمْ مَنْ بَعْدَكُمْ" رَوَاهُ مُسْلِمٌ.
(وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم رأى في أصحابه تأخراً فقال لهم: "تقدموا فائتموا بي وليأتم بكم من بعدكم" رواه مسلم) كأنهم تأخروا عن القرب والدنو منه صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم وقوله: "ائتموا بي" أي اقتدوا بأفعالي وليقتد بكم من بعدكم مستدلين بأفعالكم على أفعالي.
والحديث دليل على أنه يجوز اتباع من خلف الإمام ممن لا يراه ولا يسمعه كأهل الصف الثاني يقتدون بالأول، وأهل الصف الثالث بالثاني ونحوه أو بمن يبلغ عنه.
وفي الحديث حث على الصف الأول وكراهة البعد عنه. وتمام الحديث "لا يزال قوم يتأخرون حتى يؤخرهم الله عز وجل".(1/282)
[رح10] ــــ وَعَنْ زَيْدِ بْنِ ثَابتٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: احْتَجَرَ رَسُولُ الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم حُجْرَةً بخَصَفَةٍ فَصَلّى فيها فَتَتَبّعَ إلَيْهِ رجَالٌ وَجَاءُوا يُصَلُّونَ بِصَلاتِهِ"، الحديث. وَفِيهِ: "أَفْضَلُ صَلاةِ المَرْءِ في بَيْتِهِ إلاَّ المَكْتُوبَةَ" مُتّفقٌ عَلَيْهِ.
(وعن زيد بن ثابت قال: احتجر) هو بالراء المنع أي اتخذ شيئاً كالحجارة من الخصف وهو الحصير ويروى بالزاي أي اتخذ حاجزاً بينه وبين غيره أي مانعاً (رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم حجرة مخصفة فصلى فيها فتتبع إليه رجال وجاءوا يصلون بصلاته" الحديث وفيه "أَفضلُ صلاة المرءِ في بيته إلا المكتوبة" متفق عليه) وقد تقدم في شرح حديث جابر في باب صلاة التطوع.
وفيه دلالة على جواز فعل مثل ذلك في المسجد إذا لم يكن فيه تضييق على المصلين لأنه كان يفعله بالليل ويبسط بالنهار، وفي رواية مسلم "ولم يتخذه دائماً".
وقوله "فتتبع" من التتبع الطلب والمعنى طلبوا موضعه واجتمعوا إليه، وفي رواية البخاري "فثار إليه" وفي رواية له "فصلى فيها ليالي فصلى بصلاته ناس من أصحابه فلما علم بهم جعل يقعد فخرج إليهم فقال: قد عرفت الذي رأيت من صنيعكم فصلوا أيها الناس في بيوتكم فإن أفضل الصلاة صلاة المرء في بيته إلا المكتوبة" هذا لفظه، وفي مسلم قريب منه.
والمصنف ساق الحديث في أبواب الإمامة لإفادة شرعية الجماعة في النافلة وقد تقدم معناه في التطوّع.
[رح11] ــــ وَعَنْ جَابر بْنِ عَبْدِ اللَّهِ رَضيَ اللَّهُ عَنْهُما قال: صَلّى مُعَاذٌ بأَصْحَابه العشاءَ فطَوّلَ عَلَيْهَمْ فَقَال النّبيُّ صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم: "أتُريدُ يا مُعاذُ أَنْ تَكُونَ فَتّاناً؟ إذا أَممْتَ النّاسَ فَاقْرَأ بالشمس وَضُحَاهَا، وَسَبّحِ اسْم رَبِّكَ الأعْلى، وَاقْرَأ باسْم رَبِّكَ، وَالليّل إذا يغشى" مُتّفقٌ عَلَيْهِ واللّفظ لِمُسْلِمٍ.(1/283)
والحديث في البخاري لفظ "أقبل رجلين بناضحين وقد جنح الليل فوافق معاذاً يصلي فترك ناضحيه وأقبل إلى معاذ فقرأ بسورة البقرة أو النساء فانطلق الرجل" بعد أن قطع الاقتداء بمعاذ وأتم صلاته منفرداً، وعليه بوب البخاري بقوله: "إذا طول الإمام وكان للرجل أي المأموم حاجة فخرج" "وبلغه أن معاذاً نال منه" وقد جاء ما قاله معاذ مفسراً بلفظ "فبلغ ذلك معاذاً فقال إنه منافق" "فأتى النبي صلى الله عليه وآله وسلم فشكا إليه معاذاً فقال النبي صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم: يا معاذ أفتان أنت؟ أو أفاتن ــــ ثلاث مرات ــــ فلولا صليت بسبح اسم ربك الأعلى، والشمس وضحاها، والليل إذا يغشى، فإنه يصلي وراءك الكبير والضعيف وذو الحاجة" وله في البخاري ألفاظ غير هذه.
والمراد بفتان أي أتعذب أصحابك بالتطويل، وحمل ذلك على كراهة المأمومين للإطالة وإلا فإنه صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم قرأ الأعراف في المغرب وغيرها. وكان مقدار قيامه في الظهر بالستين آية وقرأ بأقصر من ذلك. والحاصل أنه يختلف ذلك باختلاف الأوقات في الإمام والمأمومين.
والحديث دليل على صحة صلاة المفترض خلف المتنفل فإن معاذاً كان يصلي فريضة العشاء معه صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم ثم يذهب إلى أصحابه فيصليها بهم نفلاً. وقد أخرج عبد الرزاق والشافعي والطحاوي من حديث جابر بسند صحيح وفيه "هي له تطوع" وقد طول المصنف الكلام على الاستدلال بالحديث على ذلك في فتح الباري، وقد كتبنا فيه رسالة مستقلة جواب سؤال وأبَنّا فيها عدم نهوض الحديث على صحة صلاة المفترض خلف المتنفل.
والحديث أفاد أنه يخفف الإمام في قراءته وصلاته وقد عين صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم مقدار القراءة ويأتي حديث "إذا أمّ أحدكم الناس فليخفف".(1/284)
[رح12] ــــ وَعَنْ عَائِشَةَ رَضيَ اللَّهُ عَنْهَا في قِصّةِ صَلاةِ رَسُول اللَّهِ صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم بالنّاسِ وَهُوَ مَريضٌ قَالَتْ: "فَجَاءَ حتى جَلَسَ عَنْ يَسَارِ أَبي بَكْرٍ فَكَانَ يُصَلي بالنّاس جَالِساً وَأَبُو بَكْرٍ قائماً، يَقْتَدِي أَبُو بَكْرٍ بصَلاةِ النّبيِّ صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم، وَيَقْتَدي النّاس بصلاةِ أَبي بَكْرٍ" مُتّفَقٌ عَلَيْهِ.
(وعن عائشة رضي الله عنها في قصة صلاة رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم بالناس وهو مريض قالت: فجاء حتى جلس عن يسار أبي بكر) هكذا في رواية البخاري في "باب الرجل يأتم بالإمام" تعيين مكان جلوسه صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم وأنه عن يسار أبي بكر، وهذا هو مقام الإمام. ووقع في البخاري في "باب حد المريض أن يشهد الجماعة" بلفظ "جلس إلى جنبه" ولم يعين فيه محل جلوسه، لكن قال المصنف: إنه عين المحل في رواية بإسناد حسين "أنه عن يساره" قلت: حيث قد ثبت في الصحيح في بعض رواياته فهي تبين ما أجمل في أخرى، وبه يتضح أنه صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم كان إماماً (فكان) النبي صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم (يصلي بالناس جالساً وأبو بكر) يصلي (قائماً، يقتدي أبو بكر بصلاة النبي صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم ويقتدي الناس بصلاة أبي بكر" متفق عليه).
فيه دلالة على أنه يجوز وقوف الواحد عن يمين الإمام، وإن حضر معه غيره ويحتمل أنه صنع ذلك ليبلغ عنه أبو بكر، أو لكونه كان وإماماً أول الصلاة أو لكون الصف قد ضاق، أو لغير ذلك من المحتملات، ومع عدم الدليل على أنه فعل لواحد منها فالظاهر الجواز على الإطلاق.
وقولها: "يقتدي أبو بكر" يحتمل أن يكون ذلك الاقتداء على جهة الائتمام فيكون أبو بكر إماماً ومأموماً ويحتمل أن يكون أبو بكر إنما كان مبلغاً وليس بإمام.(1/285)
واعلم أنه قد وقع الاختلاف في حديث عائشة وفي غيره هل كان النبي صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم إماماً أو مأموماً ووردت الروايات بما يفيد هذا وما يفيد هذا، لكنا قدمنا ظهور أنه صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم كان الإمام، فمن العلماء من ذهب إلى الترجيح بين الروايات فرجح أنه صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم كان الإمام لوجوه من الترجيح مستوفاة في فتح الباري. وفي الشرح بعض من ذلك. وتقدم في شرح الحديث التاسع بعض وجوه ترجيح خلافه.
ومن العلماء من قال بتعدد القصة وأنه صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم صلى تارة إماماً وتارة مأموماً في مرض موته.
هذا: وقد استدل بحديث عائشة هذا وقولها: "يقتدي أبو بكر بصلاة النبي صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم ويقتدي الناس بصلاة أبي بكر" أن أبا بكر كان مأموماً إماماً: وقد بوب البخاري على هذا فقال: "باب الرجل يأتم بالإمام ويأتم الناس بالمأموم".
قال ابن بطال: هذا يوافق قول مسروق والشعبي: أن الصفوف يؤم بعضها بعضاً خلافاً للجمهور.
قال المصنف: قال الشعبي فيمن أحرم قبل أن يرفع الصف الذي يليه رؤوسهم من الركعة أنه أدركها ولو كان الإمام رفع قبل ذلك لأن بعضهم لبعض أئمة.
فهذا يدل أنه يرى أنهم متحملون عن بعضهم بعضاً ما يتحمله الإمام. ويؤيد ما ذهب إليه قوله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم: "تقدموا فأتموا بي وليأتم بكم من بعدكم" وقد تقدم.
وفي رواية مسلم "أن أبا بكر كان يسمعهم التكبير" دليل على أنه يجوز رفع الصوت بالتكبير لاسماع المأمومين فيتبعونه، وأنه يجوز للمقتدي اتباع صوت المكبر، وهذا مذهب الجمهور وفيه خلاف للمالكية.
قال القاضي عياض عن مذهبهم: إن منهم من يبطل صلاة المقتدي ومنهم من لا يبطلها ومنهم من قال إن أذن له بالإسماع صح الاقتداء به وإلا فلا، ولهم تفاصيل غير هذه ليس عليها دليل، وكأنهم يقولون في هذا الحديث إن أبا بكر كان هو الإمام ولا كلام أنه يرفع صوته لإعلام من خلفه.(1/286)
[رح13] ــــ وَعَنْ أبي هُرَيْرةَ رضيَ اللَّهُ عَنْهُ أنَّ النّبيَّ صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم قَال: "إذا أمَّ أَحَدُكُمْ النّاسَ فَلْيُخَفِّفْ فإنَّ فيهمُ الصَّغيرَ وَالْكبيرَ والضَّعِيفَ وَذا الْحاجَةِ، فإذا صَلّى وَحْدَهُ فَلْيُصَلِّ كَيْفَ شَاءَ" مُتّفقٌ عَلَيْهِ.
(وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم قال: "إذا أمَّ أَحدكم النّاس فليخفف فإن فيهم الصَّغير والكبير والضَّعيف وذا الحاجة) وهؤلاء يريدون التخفيف فيلاحظهم الإمام (فإذا صلى وحده فليصل كيف شاء" متفق عليه) مخففاً ومطولاً.
وفيه دليل على جواز تطويل المنفرد للصلاة في جميع أركانها ولو خشي خروج الوقت، وصححه بعض الشافعية، ولكنه معارض بحديث أبي قتادة "إنما التفريط أن تؤخر الصلاة حتى يدخل وقت الأخرى" أخرجه مسلم فإذا تعارضت مصلحة المبالغة في الكمال بالتطويل، ومفسدة إيقاع الصلاة في غير وقتها كانت مراعاة ترك المفسدة أولى".
ويحتمل أنه إنما يريد بالمؤخر حتى يخرج الوقت من لم يدخل في الصلاة أصلاً حتى خرج، وأما من خرج وهو في الصلاة فلا يصدق عليه ذلك.
[رح14] ــــ وَعَنْ عَمْرو بْنِ سَلِمَةَ رَضيَ اللَّهُ عَنْهُ قالَ: قالَ أبي: جِئْتُكُمْ ــــ والله ــــ مِنْ عِنْد النّبيِّ صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم حَقّاً فقال: "فَإذا حَضَرَتِ الصّلاةُ فَلْيُؤذِّنْ أَحَدُكُمْ وليؤمكم أَكثرُكُم قُرآناً" قَال: فَنَظَرُوا فَلَمْ يَكُنْ أَحَدٌ أَكْثَر قُرْآناً مِنِّي فَقَدَّمُوني بين أيديهم وَأَنَا ابْنُ سِتِّ أَوْ سَبْع سِنِينَ، رَوَاهُ الْبُخَاريُّ وَأَبو دَاوُدَ وَالنّسَائيُّ.(1/287)
(وعن عمرو بن سلمة) بكسر اللام هو أبو يزيد من الزيادة كما قاله البخاري وغيره، وقال مسلم وآخرون: بُريد بضم الباء الموحدة وفتح الراء وسكون المثناة التحتية فدال مهملة هو: عمرو بن سلمة الجرمي بالجيم والراء مخفف قال ابن عبد البر: عمرو بن سلمة أدرك زمن النبي صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم وكان يؤم قومه على عهد رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم، لأنه كان أقرأهم للقرآن، وقيل إنه، قدم على النبي صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم مع أبيه، ولم يختلف في قدوم أبيه نزل عمرو البصرة وروى عنه أبو قلابة وعامر الأحول وأبو الزبير المكي (قال: قال أبي) أي سلمة بن نُفَيْع بضم النون أو ابن لأيْ بفتح اللام وسكون الهمزة على الخلاف في اسمه (جئتكم من عند النبي صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم حقاً) نصب على صفة المصدر المحذوف أي نبوة حقاً أو أنه مصدر مؤكد للجملة المتضمنة إذ هو في قوة هو رسول الله حقاً فهو مصدر مؤكد لغيره (قال: "إذا حضرت الصلاة فليؤذن أَحدكم وليؤمكمْ أَكثركم قرآناً" قال: أي عمرو بن سلمة (فنظروا فلم يكن أحد أكثر مني قرآناً) وقد ورد بيان سبب أكثرية قرآنيته أنه كان يتلقى الركبان الذين كانوا يفدون إليه صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم ويمرون بعمرو وأهله فكان يتلقى منهم ما يقرأونه وذلك قبل إسلام أبيه وقومه (فقدموني بين أيديهم وأنا ابن ست أو سبع سنين. رواه البخاري وأبو داود والنسائي).
وفيه دلالة على أن الأحق بالإمامة الأكثر قرآناً ويأتي الحديث بذلك قريباً.
وفيه أن الإمامة أفضل من الأذان لأنه لم يشترط في المؤذن شرطاً.
وتقديمه وهو ابن سبع سنين دليل لما قاله الحسن البصري والشافعي وإسحاق من أنه لا كراهة في إمامة المميز.
وكرهها مالك والثوري.
وعن أحمد وأبي حنيفة روايتان والمشهور عنهما الإجزاء في النوافل دون الفرائض.(1/288)
وقال بعدم صحتها الهادي والناصر وغيرهما قياساً على المجنون قالوا: ولا حجة في قصة عمرو هذه لأنه لم يرو أن ذلك كان من أمره صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم ولا تقريره.
وأجيب بأن دليل الجواز وقوع ذلك في زمن الوحي ولا يقرر فيه على فعل ما لا يجوز، سيما في الصلاة التي هي أعظم أركان الإسلام، وقد نبه صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم بالوحي على القذى الذي كان في نعله، فلو كان إمامة الصبي لا تصح لنزل الوحي بذلك، وقد استدل أبو سعيد وجابر بأنهم كانوا يعزلون والقرآن ينزل.
والوفد الذين قدّموا عمراً كانوا جماعة من الصحابة قال ابن حزم: ولا نعلم لهم مخالفاً في ذلك، واحتمال أنه أمهم في نافلة يبعده سياق القصة فإنه صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم علمهم الأوقات للفرائض ثم قال لهم: "إنه يؤمكم أكثركم قرآناً" وقد أخرج أبو داود في سننه قال عمرو: "فما شهدت مشهداً في جرم ــــ اسم قبيلة ــــ إلا كنت إمامهم" وهذا يعم الفرائض والنوافل.
قلت: يحتاج من ادّعى التفرقة بين الفرض والنفل وأنه تصح إمامة الصبي في هذا دون ذلك إلى دليل.
ثم الحديث فيه دليل على القول بصحة صلاة المفترض خلف المتنفل كذا في الشرح وفيه تأمل.
[رح15] ــــ وَعَنْ أبن مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم: "يَؤُمُّ القْوَمْ أَقْرَؤهُمْ لِكِتابِ الله تعالى، فإنْ كَانُوا في الْقِرَاءَةِ سَوَاءً فَأَعْلَمُهُمْ بالسّنّةِ، فَإنْ كَانُوا في السُنّةِ سَواءً فَأَقْدَمُهُمْ هِجْرَةً، فإنْ كَانُوا في الهجرة سَوَاءً فأَقْدَمُهُمْ سِلْماً ــــ وَفي روَاية سِنّاً ــــ ولا يَؤُمّنّ الرَّجُلُ الرَّجُلَ في سُلْطَانِهِ، ولا يَقْعُدُ في بَيْتِهِ عَلى تَكْرمَتِهِ إلّا بإذْنِهِ" رَوَاهُ مُسْلمٌ.(1/289)
(وعن أبن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم: "يؤمُّ القوم أَقرؤهم لكتاب الله تعالى) الظاهر أن المراد أكثرهم له حفظاً وقيل أعلمهم بأحكامه والحديث الأول يناسب القول الأول (فإن كانوا في القراءَة سواءً فأَعلمهم بالسُّنة، فإن كانوا في السُّنة سواءً فأَقدمهم هجرة، فإن كانوا في الهجرة سواءً فأَقدمهم سِلْماً) أي إسلاماً، وفي رواية "سناً" عوضاً عن سلماً (ولا يؤمن الرجلُ الرجل في سلطانهِ، ولا يقعد في بيته على تكرمته) بفتح المثناة الفوقية وكسر الراء: الفراش ونَحوه مما يبسط لصاحب المنزل ويختص به (إلا بإذنه" رواه مسلم).
الحديث دليل على تقديم الأقرأ على الأفقه وهومذهب أبي حنيفة وأحمد.
وذهب الهادوية إلى أنه يقدم الأفقه على الأقرأ لأن الذي يحتاج إليه من القراءة مضبوط، والذي يحتاج إليه من الفقه غير مضبوط، وقد تعرض له في الصلاة أمور لا يقدر على مراعاتها إلا كامل الفقه، قالوا: ولهذا قدم صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم أبا بكر على غيره مع قوله: "أقرؤكم أبيّ"، قالوا: والحديث خرج على ما كان عليه حال الصحابة من أن الأقرأ هو الأفقه وقد قال[اث] ابن مسعود[/اث]: ما كنا نتجاوز عشر آيات حتى نعرف حكمها وأمرها ونهيها.
ولا يخفى أنه يبعد هذا قوله: "فإن كانوا في القراءة سواء فأعلمهم بالسنة" فإنه دليل على تقديم الأقرأ مطلقاً، والأقرأ على ما فسروه به هو الأعلم بالسنة فلو أريد به ذلك لكان القسمان قسماً واحداً.
وقوله: "فأقدمهم هجرة" هو شامل لمن تقدم هجرة سواء ما كان في زمنه صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم أو بعده كمن يهاجر في دار الكفار إلى دار الإسلام. وأما حديث "لا هجرة بعد الفتح" فالمراد من مكة إلى المدينة لأنهما جميعاً صارا دار إسلام ولعله يقال: وأولاد المهاجرين لهم حكم آبائهم في التقديم.
وقوله "سلماً" أي من تقدم إسلامه يقدم على من تأخر.(1/290)
وكذا رواية "سناً" أي الأكبر في السن وقد ثبت في حديث مالك بن الحويرث "ليؤمكم أكبركم".
ومن الذين يستحقون التقديم قريش لحديث "قدموا قريشاً": قال الحافظ المصنف: إنه قد جمع طرقه في جزء كبير.
ومنهم الأحسن وجهاً لحديث ورد به وفيه راو ضعيف.
وأما قوله: "ولا يؤمن الرجل الرجل في سلطانه" فهو نهي عن تقديم غير السلطان عليه والمراد ذو الولاية سواء كان السلطان الأعظم أو نائبه وظاهره وإن كان غيره أكثر قرآناً وفقهاً فيكون هذا خاصاً، وأول الحديث عام، ويلحق بالسلطان صاحب البيت لأنه ورد في صاحب البيت بخصوصه بأنه الأحق. أخرج الطبراني من حديث ابن مسعود: "لقد علمت أن من السنة أن يتقدم صاحب البيت". قال المصنف: رجاله ثقات.
وأما إمام المسجد فإن كان عن ولاية من السلطان أو عامله فهو داخل في حكم السلطان وإن كان باتفاق من أهل المسجد فيحتمل أنه يصير بذلك أحق وأنها ولاية خاصة، وكذلك النهي عن القعود مما يختص به السلطان في منزله أو الرجل من فراش وسرير ونحوه ولا يقعد فيه أحد إلا بإذنه، ونحوه قوله:
[رح16] ــــ وَلابْنِ مَاجَهْ مِنْ حَديثِ جَابِرٍ رَضيَ اللَّهُ عَنْهُ "وَلا تَؤُمّنَّ امْرَأَةٌ رَجُلاً، وَلا أَعْرَابيٌّ مُهَاجراً، وَلَا فَاجِرٌ مؤْمِناً" وإسْنَادُهُ وَاهٍ.
(ولابن ماجه من حديث جابر رضي الله عنه "ولا تؤمنَّ امرأة رجلا، ولا أعرابيٌّ مهاجراً، ولا فاجرٌ مؤمناً" وإسناده واه).
فيه عبد الله بن محمد العدوي عن علي بن زيد بن جدعان، والعدوي، اتهمه وكيع بوضع الحديث، وشيخه ضعيف، وله طرق أخرى فيها عبد الملك ابن حبيب، وهو متهم بسرقة الحديث وتخليط الأسانيد.
وهو يدل على أن المرأة لا تؤم الرجل وهو مذهب الهادوية والحنفية والشافعية وغيرهم.
وأجاز المزني وأبو ثور إمامة المرأة.
وأجاز الطبري إمامتها في التراويح إذا لم يحضر من يحفظ القرآن، وحجتهم حديث أمِّ ورقة وسيأتي ويحملون هذا النهي على التنزيه أو يقولون الحديث ضعيف.(1/291)
ويدل أيضاً على أنه لا يؤم الأعرابي مهاجراً ولعله محمول على الكراهة إذ كان في صدر الإسلام.
ويدل أيضاً على أنه لا يؤم الفاجر وهو المنبعث في المعاصي مؤمناً، وإلى هذا ذهبت الهادوية فاشترطوا عدالة من يصلي خلفه، وقالوا: لا تصح إمامة الفاسق.
وذهبت الشافعية والحنفية إلى صحة إمامته مستدلين بما يأتي من حديث ابن عمر وغيره، وهي أحاديث كثيرة دالة على صحة الصلاة خلف كل برّ وفاجر إلا أنها كلها ضعيفة وقد عارضها حديث: "لا يؤمنكم ذو جرأة في دينه". ونحوه، وهي أيضاً ضعيفة، قالوا: فلما ضعفت الأحاديث من الجانبين رجعنا إلى، الأصل وهي أن من صحت صلاته صحت إمامته.
وأيّد ذلك فعل الصحابة فإنه أخرج البخاري في التاريخ عن عبد الكريم أنه قال: "أدركت عشرة من أصحاب محمد صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم يصلون خلف أئمة الجور".
ويؤيده أيضاً حديث مسلم: "وكيف أنت إذا كان عليكم أمراء يؤخرون الصلاة عن وقتها أو يميتون الصلاة عن وقتها؟ قال: قلت: فما تأمرني؟ قال: صل الصلاة لوقتها فإن أدركتها معهم فصل فإنها لك نافلة". فقد أذن بالصلاة خلفهم وجعلها نافلة لأنهم أخرجوها عن وقتها،وظاهره أنهم لو صلوها في وقتها لكان مأموراً بصلاتها خلفهم فريضة.
[رح17] ــــ وَعَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه عَنِ النَّبيِّ صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم قالَ: "رُصُّوا صُفُوفَكُمْ، وَقَاربُوا بَيْنَهَا، وَحَاذُوا بالأعْنَاقِ" رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ وَالنَّسائيُّ وَصَحّحَهُ ابْنُ حِبّان.(1/292)
(وعن أنس رضي الله عنه عن النبي صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم قال: "رصُّوا) أي في صلاة الجماعة بضم الراء والصاد المهملة من رص البناء (صُفوفكمُ) بانضمام بعضكم إلى بعض (وقاربوا بينها) أي بين الصفوف (وحاذوا) أي يساوي بعضكم بعضاً في الصف (بالأعناق" رواه أبو داود والنسائي وصححه ابن حبان) تمام الحديث من سنن أبي داود "فوالذي نفسي بيده إني لأرى الشياطين تدخل في خلل الصف كأنها الحذف" بفتح الحاء المهملة والذال المعجمة هي صغار الغنم.
وأخرج الشيخان وأبو داود من حديث النعمان بن بشير قال: أقبل رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم على الناس بوجهه فقال: "أقيموا صفوفكم ثلاثاً والله لتقيمنّ صفوفكم أو ليخالفنّ الله بين قلوبكم" قال فرأيت الرجل يلزق منكبه بمنكب صاحبه وكعبه بكعبه" وأخرج[اث] أبو داود[/اث] عنه أيضاً قال: "كان النبي صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم يسوّينا في الصفوف كما يقوّم القداح حتى إذا ظن أن قد أخذنا ذلك عنه وفقهنا: أقبل ذات يوم بوجهه إذا رجل منتبذ بصدره فقال: "لتسونّ صفوفكم أو ليخالفن الله بين وجوهكم" وأخرج أيضاً من حديث [اث]البراء بن عازب[/اث] رضي الله عنه قال: "كان رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم يتخلل الصف من ناحية إلى ناحية يمسح صدورنا ومناكبنا ويقول: "لا تختلفوا فتختلف قلوبكم".(1/293)
وهذه الأحاديث والوعيد الذي فيها دالة على وجوب ذلك وهو مما تساهل فيه الناس، كما تساهلوا فيما يفيده حديث أنس عنه صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم "أتموا الصف المقدم ثم الذي يليه فما كان من نقص فليكن في الصف المؤخر" أخرجه أبو داود؛ فإنك ترى الناس في المسجد يقومون للجماعة وهم لا يملؤن الصف الأول لو قاموا فيه فإذا أقيمت الصلاة يتفرقون صفوفاً على اثنين وعلى ثلاثة ونحوه. وأخرج أبو داود من حديث جابر بن سمرة قال: قال رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم: "ألا تصفون كما تصف الملائكة عند ربهم؟ قلنا: وكيف تصف الملائكة عند ربهم؟ قال: يتمون الصفوف المقدمة ويتراصون في الصف".
وورد في سدّ الفُرج في الصفوف أحاديث. كحديث ابن عمر "ما من خطوة أعظم أجراً من خطوة مشاها الرجل في فرجة في الصف فسدّها" أخرجه الطبراني في الأوسط، وأخرج أيضاً فيه من حديث عائشة قال صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم: "من سدّ فرجة في صف رفعه الله بها درجة وبنى له بيتاً في الجنة" قال الهيثمي: فيه مسلم بن خالد الزنجي وهو ضعيف وثقه ابن حبان وأخرج البزار من حديث أبي جحيفة عنه صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم "من سد فرجة في الصف غفر له" قال الهيثمي: إسناده حسن ويغني عنه "رصوا صفوفكم" الحديث، إذ الفرج إنما تكون من عدم رصهم الصفوف.
[رح18] ــــ وَعَنْ أَبي هُرَيْرَةَ رَضيَ اللَّهُ عَنْهُ قالَ: قالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم: "خَيْرُ صُفُوفِ الرِّجالِ أَوْلُهَا وَشَرُّهَا آخِرُهَا، وَخَيْرُ صُفوفِ النِّساء آخِرُها وَشَرُّهَا أَوَّلُهَا" رَوَاهُ مُسْلِمٌ.(1/294)
(وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم: خير صفوف الرجال أَوَّلها) أي أكثرها أجراً وهو الصف الذي يصلي الملائكة على من صلى فيه كما يأتي (وشرُّها آخرها) أقلها أجراً (وخير صفوف النساء آخرها وشرُّها أوَّلها" رواه مسلم) ورواه أيضاً البزار والطبراني في الكبير والأوسط.
والأحاديث في فضائل الصف الأول واسعة. أخرج أحمد ــــ قال الهيثمي: رجاله موثقون ــــ والطبراني في الكبير من حديث أبي أمامة قال: قال رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم: "إن الله وملائكته يصلون على الصف الأول" قالوا: يا رسول الله وعلى الثاني؟ قال: "وعلى الثاني". وأخرج أحمد والبزار ــــ قال[اث] الهيثمي[/اث]: برجال ثقات ــــ من حديث[اث] النعمان بن بشير[/اث] قال: سمعت رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم استغفر للصف الأول ثلاثاً، وللثاني مرتين، وللثالث مرة". قال الهيثمي: فيه[تض] أيوب بن عتبة[/تض] ضعف من قبل حفظه.
ثم قد ورد في ميمنة الصف الأول ومسامتة الإمام وأفضليته على الأيسر أحاديث، فأخرج الطبراني في الأوسط من حديث أبي بردة قال: قال رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم: "إن استطعت أن تكون خلف الإمام وإلا فعن يمينه" قال الهيثمي: فيه من لم أجد له ذكراً. وأخرج أيضاً في الأوسط والكبير من حديث[اث] ابن عباس[/اث]: "عليكم بالصف الأول وعليكم بالميمنة وإياكم والصف بين السواري" قال الهيثمي: فيه[تض] إسماعيل بن مسلم[/تض] المكي ضعيف.(1/295)
واعلم أن الأحق بالصف الأول أولو الأحلام والنّهى، فقد أخرج البزار من حديث عامر بن ربيعة قال: قال رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم: "ليليني منكم أهل الأحلام والنهى ثم الذين يلونهم" قال الهيثمي: فيه عاصم [تض]ابن عبيد الله العمري[/تض] والأكثر على تضعيفه واختلف في الاحتجاج به: وأخرجه مسلم والأربعة من حديث ابن مسعود بزيادة "ولا تختلفوا فتختلف قلوبكم وإياكم وهيشات الأسواق".
وفي الباب أحاديث غيره.
وفي حديث الباب دلالة على جواز اصطفاف النساء صفوفاً، وظاهره سواء كانت صلاتهن مع الرجال أو مع النساء، وقد علل خيرية آخر صفوفهن بأنهن عند ذلك يبعدن عن الرجال وعن رؤيتهم وسماع كلامهم إلا أنها علة لا تتم إلا إذا كانت صلاتهن مع الرجال، وإما إذا صلين وإمامتهن امرأة فصفوفهن كصفوف الرجال أفضلها أولها.
[رح19] ــــ وعنِ ابْنِ عَبّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قال: "صَلّيْتُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم ذَاتَ لَيْلةٍ فَقُمْتُ عَنْ يَسَارهِ، فَأَخَذَ رَسُولُ اللَّهِ صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم بِرأسي مِنْ وَرائي فَجعَلَني عَنْ يمينِهِ" مُتّفَقٌ عَلَيْهِ.
(وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: صليت مع رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم ذات ليلة) هي ليلة مبيته عنده المعروفة (فقمت عن يساره فأخذ رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم برأسي من ورائي فجعلني عن يمينه. متفق عليه).
دل على صحة صلاة المتنفل بالمتنفل، وعلى أن موقف الواحد مع الإمام عن يمينه، بدليل الإدارة، إذ لو كان اليسار موقفاً له لما أداره في الصلاة.
وإلى هذا ذهب الجماهير، وخالف النخعي فقال: إذا كان الإمام وواحد، قام الواحد خلف الإمام، فإن ركع الإمام قبل أن يجيء أحد قام عن يمينه، أخرجه سعيد بن منصور، ووجه بأن الإمامة مظنة الاجتماع فاعتبرت في موقف المأموم حتى يظهر خلاف ذلك.(1/296)
قيل: ويدل على صحة صلاة من قام عن يسار الإمام لأنه صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم لم يأمر ابن عباس بالإعادة، وفيه أنه يجوز أنه لم يأمره لأنه معذور بجهله، أو بأنه ما كان قد أحرم بالصلاة.
ثم قوله: "فجعلني عن يمينه" ظاهر في أنه قام مساوياً له، وفي بعض ألفاظه "فقمت إلى جنبه".
وعن بعض أصحاب الشافعي أنه يستحب أن يقف المأموم دونه قليلاً. إلا أنه قد أخرج ابن جريج قال: قلنا لعطاء: الرجل يصلي مع الرجل أين يكون منه؟ قال: إلى شقه، قلت: أيحاذيه حتى يصف معه لا يفوت أحدهما الآخر؟ قال: نعم: قلت: بحيث أن لا يبعد حتى يكون بينهما فرجه، قال: نعم. ومثله في الموطأ عن عمر من حديث ابن مسعود أنه صف معه فقربه حتى جعله حذاءه عن يمينه.
[رح20] ــــ وعنْ أنسٍ رضيَ اللَّهُ عنْهُ قالَ: صَلّى رَسُولُ اللَّهِ صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم فَقُمْتُ وَيَتَيِمٌ خَلْفَهُ وَأُمُّ سُليْمٍ خَلْفَنا" مُتّفَقٌ عَلَيه وَاللّفْظُ لِلْبُخَاريِّ.
(وعن أنس رضي الله عنه قال: صلى رسول صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم فقمت ويتيم خلفه) فيه العطف على المرفوع المتصل من دون تأكيد ولا فصل وهو صحيح على مذهب الكوفيين، واسم اليتيم ضميره وهو جدّ حسين ابن عبد الله بن ضميرة (وأمّ سليم) هي أمّ أنس واسمها مليكة مصغراً (خلفنا) متفق عليه واللفظ للبخاري).
دل الحديث على صحة الجماعة في النفل.
وعلى صحة الصلاة للتعليم والتبرك كما تدل عليه القصة.
وعلى أن مقام الاثنين خلف الإمام.
وعلى أن الصغير يعتد بوقوفه ويسد الجناح وهو الظاهر من لفظ اليتيم إذ لا يتم بعد الاحتلام.
وعلى أن المرأة لا تصف مع الرجال وأنها تنفرد في الصف، وإن عدم امرأة تنضم إليها عذر في ذلك، فإن انضمت المرأة مع الرجل أجزأت صلاتها لأنه ليس في الحديث إلا تقريرها على التأخر وأنه موقفها، وليس فيه دلالة على فساد صلاتها لو صلت في غيره.(1/297)
وعند الهادوية أنها تفسد عليها وعلى من خلفها وعلى من في صفها إن علموا.
وذهب أبو حنيفة إلى فساد صلاة الرجل دون المرأة ولا دليل على الفساد في الصورتين.
[رح21] ــــ وَعَنْ أَبي بِكَرَةَ رَضيَ اللَّهُ عَنْهُ انْتَهى إلى النّبي صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم وَهُوَ رَاكعٌ فَرَكَعَ قَبْلَ أَنْ يَصِلَ إلى الصَّفِّ، فذكر ذلك للنبي صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم فقال: "زَادَكَ اللَّهُ حِرْصاً وَلا تَعُدْ" رَوَاهُ البُخَاريُّ، زَادَ أَبُو دَاوُدَ فِيهِ "فَرَكَعَ دُون الصَّفِّ ثُمَّ مَشى إلى الصَّفِّ".
(وعن أبي بكرة رضي الله عنه أنه انتهى إلى النبي صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم وهو راكع فركع قبل أن يصل إلى الصف فذكر ذلك للنبي صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم فقال: "زادك الله حرْصاً) أي على طلب الخير (ولا تعد") بفتح المثناة الفوقية من العود (رواه البخاري وزاد أبو داود في "فركع دون الصف ثم مشى إلى الصف").
الحديث يدل على أن من وجد الإمام راكعاً فلا يدخل في الصلاة حتى يصل الصف لقوله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم "ولا تعد".
وقيل: بل يدل على أنه يصح منه ذلك لأنه صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم لم يأمره بالإعادة لصلاته، فدل على صحتها، قلت: لعله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم لم يأمره لأنه كان جاهلاً للحكم والجهل عذر.
وروى الطبراني في الأوسط من رواية عطاء عن ابن الزبير ــــ قال الهيثمي: رجاله رجال الصحيح ــــ أنه قال: "إذا دخل أحدكم المسجد والناس ركوع فليركع حين يدخل ثم يدب راكعاً حتى يدخل في الصف فإن ذلك السنة". قال عطاء: قد رأيته يصنع ذلك. قال ابن جريج: وقد رأيت عطاء يصنع ذلك.
قلت: وكأنه مبني على أن لفظ "ولا تُعِدْ" بضم المثناة الفوقية من الإعادة أي زادك الله حرصاً على طلب الخير ولا تعد صلاتك فإنها صحيحة.(1/298)
وروى بسكون العين المهملة من العدو وتؤيده رواية ابن السكن من حديث أبي بكرة بلفظ: أقيمت الصلاة فانطلقت أسعى حتى دخلت في الصف فلما قضى الصلاة قال: من الساعي آنفاً؟ قال أبو بكرة: فقلت: أنا، قال صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم: "زادك الله حرصاً ولا تَعْد".
والأقرب رواية أن "لا تَعُد" من العود أي لا تعد ساعياً إلى الدخول قبل وصولك الصف فإنه ليس في الكلام ما يشعر بفساد صلاته حتى يفتيه صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم بأنه لا يعيدها بل قوله زادك الله حرصاً يشعر بإجزائها. أو "لا تعْدُ" من العدو.
[رح22] ــــ وَعَنْ وَابِصَة بْنِ مِعْبَدٍ الجُهنِيِّ رَضيَ اللَّهُ عَنْهُ "أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم رَأَى رَجُلاً يُصَلي خَلْفَ الصَّفِّ وَحْدَهُ فَأَمَرَهُ أَنْ يُعِيدَ الصَّلاةَ" رَوَاهُ أَحمدُ وَأَبُو دَاوَدَ وَالتِّرمِذِيُّ وَحَسّنَه وَصَحّحَهُ ابْنُ حِبّانَ.
(وعن وابِصَة) بفتح الواو وكسر الموحدة فصاد مهملة وهو أبو قرصافة بكسر القاف وسكون الراء فصاد مهملة وبعد الألف فاء (ابن مِعْبد رضي الله عنه) بكسر الميم وسكون العين المهملة فدال مهملة وهو ابن مالك من بني أسد بن خزيمة الأنصاري الأسدي نزل وابصة الكوفة ثم تحول إلى الحيرة ومات بالرقة (أن رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم رأى رجلاً يصلي خلف الصف وحده فأمره أن يعيد الصلاة. رواه أحمد وأبو داود والترمذي وحسنه وصححه ابن حبان).
فيه دلالة على بطلان صلاة من صلى خلف الصف وحده، وقد قال ببطلانها النخعي وأحمد.
وكان الشافعي يضعف هذا الحديث ويقول: لو ثبت هذا الحديث لقلت به، قال البيهقي: الاختيار أن يتوقى ذلك لثبوت الخبر المذكور.
ومن قال بعدم بطلانها استدل بحديث أبي بكرة وأنه لم يأمره صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم بالإعادة، مع أنه أتى ببعض الصلاة خلف الصف منفرداً، قالوا: فيحمل الأمر بالإعادة ههنا على الندب.(1/299)
قيل: والأولى أن يحمل حديث أبي بكرة على العذر وهو خشية الفوات مع انضمامه بقدر الإمكان، وهذا لغير عذر في جميع الصلاة.
"قلت": وأحسن منه أن يقال هذا لا يعارض حديث أبي بكرة بل يوافقه وإنما لم يأمر صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم أبا بكرة بالإعادة لأنه كان معذوراً بجهله ويحمل أمره بالإعادة لمن صلى خلف الصف بأنه كان عالماً بالحكم ويدل على البطلان أيضاً ما تضمنه قوله:
[رح23] ــــ وَلَهُ عَنْ طَلْقٍ بن عليِّ رَضي اللَّهُ عَنْهُ: "لا صَلاةَ لِمنُفَردٍ خَلْفَ الصَّفِّ" وَزَادَ الطّبَرَانَيُّ في حديثٍ وابصةَ رَضي اللَّهُ عَنْهُ "أَلا دَخَلْتَ مَعَهُمْ أو اجتْرَرَتَ رَجُلا".
(وله) أي لابن حبان (عن طلق بن علي رضي الله عنه) الذي سلف ذكره ("لا صلاة لمنفرد خلف الصَّفِّ") فإن النفي ظاهر في نفي الصحة (وزاد الطبراني في حديث وابصة "ألا دخلت) أيها المصلي منفرداً عن الصف (معَهُمْ) أي في الصف (أو اجْتررت رجُلا) أي من الصف فينضم إليك وتمام حديث الطبراني "إن ضاق بك المكان أعد صلاتك فإنه لا صلاة لك" وهو في مجمع الزوائد من رواية ابن عباس "إذا انتهى أحدكم إلى الصف وقد تم فليجذب إليه رجلاً يقيمه إلى جنبه" وقال: رواه الطبراني في الأوسط وقال: لا يروى عن النبي صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم إلا بهذا الإسناد، وفيه[تض] "السري بن إبراهيم"[/تض] وهو ضعيف جداً؛ ويظهر من كلام مجمع الزوائد أن في حديث وابصة؛ السري بن إسماعيل وهو ضعيف، والشارح ذكر أن السري في رواية الطبراني التي فيها الزيادة إلا أنه قد أخرج أبو داود في المراسيل من رواية مقاتل بن حيان مرفوعاً "إذا جاء أحدكم فلم يجد موضعاً فليختلج إليه رجلاً من الصف فليقم معه فما أعظم أجر المختلج" وأخرج الطبراني في الأوسط من حديث ابن عباس "أن النبي صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم أمر الآتي وقد تمت الصفوف بأن يجتذب إليه رجلاً يقيمه إلى جنبه"، وإسناده واه.(1/300)
[رح24]ــــ وَعَنْ أَبي هُرَيْرَةَ رَضي اللَّهُ عَنْهُ عَنِ النَّبيِّ صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم قال: "إذَا سَمِعْتُمْ الإقامة فَامْشُوا إلى الصلاة وَعليكُم السّكينةُ والوقَارُ وَلا تُسْرعُوا فَما أَدْركْتُمْ فَصَلُّوا وَمَا فَاتَكمْ فَأتمُّوا". مُتّفَقٌ عَلَيْهِ وَاللفْظ للْبُخاريِّ.
(وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال النبي صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم: "إذا سمعتم الإقامة) أي للصلاة (فامشوا إلى الصَّلاة وعليكم السكينة) قال النووي: السكينة التأني في الحركات واجتناب العبث (والوقار) في الهيئة كغض الطرف وخفض الصوت وعدم الالتفات، وقيل معناهما واحد وذكر الثاني تأكيداً وقد نبه في رواية مسلم على الحكمة في شرعية هذا الأدب بقوله في آخر حديث أبي هريرة هذا "فإن أحدكم إذا كان يعمد إلى الصلاة فإنه في صلاة" أي فإنه في حكم المصلي، فينبغي اعتماد ما ينبغي للمصلي اعتماده واجتناب ما ينبغي له اجتنابه (ولا تسرعوا فما أدركْتُم) من الصلاة مع الإمام (فصلوا وما فاتكم فأتموا" متفق عليه واللفظ للبخاري).
فيه الأمر بالوقار وعدم الإسراع في الإتيان إلى الصلاة، وذلك لتكثير الخطأ فينال فضيلة ذلك فقد ثبت عند مسلم من حديث جابر "إن بكل خطوة يخطوها إلى الصلاة درجة" وعند أبي داود مرفوعاً "إذا توضأ أحدكم فأحسن الوضوء ثم خرج إلى الصلاة لم يرفع قدمه اليمنى إلا كتب الله له حسنة ولم يضع قدمه اليسرى إلا حط الله عنه سيئة فليقرب أحدكم أو ليبعد فإن أتى المسجد فصلى في جماعة غفر له، فإن جاء وقد صلوا بعضاً وبقي بعض فصلى ما أدرك وأتم ما بقي كان كذلك وإن أتى المسجد وقد صلوا فأتم الصلاة، كان كذلك".
وقوله "فما أدركتم فصلوا" جواب شرط محذوف أي: إذا فعلتم ما أمرتم به من ترك الإسراع ونحوه فما أدركتم فصلوا.
وفيه دلالة على أن فضيلة الجماعة يدركها ولو دخل مع الإمام في أي جزء من أجزاء الصلاة ولو دون ركعة وهو قول الجمهور.(1/301)
وذهب آخرون إلى أنه لا يصير مدركاً لها إلا بإدراك ركعة لقوله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم: "من أدرك ركعة من الصلاة فقد أدركها" وسيأتي في الجمعة اشتراط إدراك ركعة ويقاس عليها غيرها.
وأجيب بأن ذلك في الأوقات لا في الجماعة وبأن الجمعة مخصوصة فلا يقاس عليها.
واستدل بحديث الباب على صحة الدخول مع الإمام في أي حالة أدركه عليها، وقد أخرج ابن أبي شيبة مرفوعاً "من وجدني راكعاً أو قائماً أو ساجداً فليكن معي على حالتي التي أنا عليها".
قلت: وليس فيه دلالة على اعتداده بما أدركه مع الإمام، ولا على إحرامه في أي حالة أدركه عليها، بل فيه الأمر بالكون معه، وقد أخرج الطبراني في الكبير برجال موثقين ــــ كما قال الهيثمي ــــ عن علي وابن مسعود قالا: "من لم يدرك الركعة فلا يعتد بالسجدة" وأخرج أيضاً في الكبير ــــ قال الهيثمي أيضاً برجال موثقين ــــ من حديث زيد بن وهب قال: دخلت أنا وابن مسعود المسجد والإمام راكع فركعنا، ثم مشينا حتى استوينا بالصف فلما فرغ الإمام قمت أقضي فقال: قد أدركته.
وهذه آثار موقوفة، وفي الآخر دليل ــــ أي مأنوس ــــ بما ذهب، وهو أحد احتمالات حديث أبي بكرة وإلا فإنها آثار موقوفة ليست بأدلة على ما ذهب إليه ابن الزبير وقد تقدم.
وورد في بعض الروايات حديث الباب بلفظ "فاقضوا" عوض "أتموا" والقضاء يطلق على أداء الشيء فهو في معنى "أتموا" فلا مغايرة.
ثم قد اختلف العلماء فيما يدركه اللاحق مع إمامه هل هي أول صلاته أو آخرها؟ والحق أنها أولها وقد حققناه في حواشي ضوء النهار.(1/302)
واختلف فيما إذا أدرك الإمام راكعاً فركع معه هل تسقط قراءة تلك الركعة عند من أوجب الفاتحة فيعتد بها أو لا تسقط فلا يعتد بها؟ قيل: يعتد بها لأنه قد أدرك الإمام قبل أن يقيم صلبه، وقيل: لا يعتد بها لأنه فاتته الفاتحة وقد بسطنا القول في ذلك في مسألة مستقلة وترجح عندنا الإجزاء.. ومن أدلته حديث أبي بكرة حيث ركع وهم ركوع، ثم أقره صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم على ذلك وإنما نهاه عن العودة إلى الدخول قبل الانتهاء إلى الصف كما عرفت.
[رح25] ــــ وَعَنْ أَبيِّ بْنِ كَعْبٍ رَضيَ اللَّهُ عَنْهُ قالَ: قالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم: "صَلاةُ الرّجلِ مَعَ الرّجلِ أَزْكى مِنْ صَلاتِهِ وَحْدَهُ، وَصلاتُهُ مَعَ الرّجُلَيْنِ أَزْكَى منْ صلاتهِ مَعَ الرّجُلِ، وَمَا كانَ أَكْثَرَ فَهُوَ أَحَبُّ إلى الله عَزَّ وَجَلّ" رَواهُ أَبُو داود والنسائي وصححهُ ابنُ حبان.
(وعن أبيّ بن كعب رضي الله عنه قال: قال رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم: "صلاة الرَّجل مع الرجل أزكى من صلاته وحده) أي أكثر أجراً من صلاته منفرداً (وصلاتهُ مع الرجلين أزكى من صلاته مع الرجل، وما كان أكثر فهو أحبُّ إلى الله عزَّ وجلَّ" رواه أبو داود والنسائي وصححه ابن حبان) وأخرجه ابن ماجه، وصححه ابن السكن والعقيلي والحاكم، وذكر الاختلاف فيه، وأخرجه البزار والطبراني بلفظ "صلاة الرجلين يؤم أحدهما صاحبه أزكى عند الله من صلاة مائة تترى".
وفيه دلالة على أن أقل صلاة الجماعة إمام ومأموم، ويوافقه ما أخرجه ابن ماجه من حديث أبي موسى "اثنان فما فوقهما جماعة" ورواه البيهقي أيضاً من حديث أنس وفيهما ضعف.(1/303)
وبوَّب البخاري "باب اثنان فما فوقهما جماعة" واستدل بحديث مالك ابن الحويرث "إذا حضرت الصلاة فأذنا ثم أقيما ثم ليؤمكما أكبركما". وقد روى أحمد من حديث أبي سعيد: أنه دخل المسجد رجل وقد صلى النبي صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم بأصحابه الظهر فقال له النبي صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم: "ما حبسك يا فلان عن الصلاة"؟ فذكر شيئاً اعتل به؛ قال: فقام يصلي، فقال رسول اللهصَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم: "ألا رجل يتصدق على هذا فيصلي معه؟" فقام رجل معه. قال الهيثمي رجاله رجال الصحيح.
[رح26] ــــ وَعَنْ أُمِّ وَرَقَة رضي اللَّهُ عَنْها "أَنّ النبيَّ صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم أَمَرَهَا أنْ تَؤُمَّ أهْل دارها" روَاهُ أبو داود وَصَحّحه ابْنُ خُزَيْمة.
(وعن أم ورقة رضي الله عنها) بفتح الواو والراء والقاف هي أم ورقة بنت نوفل الأنصارية، وقيل بنت عبد الله بن الحرث بن عويمر كان رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم يزورها ويسميها الشهيدة، وكانت قد جمعت القرآن، وكانت تؤم أهل دارها، ولما غزا رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم بدراً قالت: يا رسول الله ائذن لي في الغزو معك ــــ الحديث ــــ وأمرها أن تؤم أهل دارها وجعل لها مؤذناً يؤذن، وكان لها غلام وجارية فدبرتهما، وفي الحديث أن الغلام والجارية قاما إليها في الليل بقطيفة لها حتى ماتت، وذهبا فأصبح عمر فقام في الناس فقال: من عنده من علم هذين أو من رآهما فليجيء بهما فوجدا فأمر بهما فصلبهما وكانا أول مصلوب بالمدينة (أن النبي صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم أمرها أن تؤم أهل دارها. رواه أبو داود وصححه ابن خزيمة).
والحديث دليل على صحة إمامة المرأة أهل دارها، وإن كان فيهم الرجل، فإنه كان لها مؤذن وكان شيخاً كما في الرواية، والظاهر أنها كانت تؤمه وغلامها وجاريتها، وذهب إلى صحة ذلك أبو ثور والمزني والطبري.
وخالف في ذلك الجماهير.(1/304)
وأما إمامة الرجل النساء فقط فقد روى عبد الله بن أحمد من حديث أبي بن كعب: أنه جاء إلى النبي صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم فقال: يا رسول الله عملت الليلة عملاً قال: "ما هو؟" قال: نسوة معي في الدار، قلن إنك تقرأ ولا نقرأ فصلّ بنا، فصليت ثمانياً والوتر، فسكت النبي صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم قال: فرأينا أن سكوته رضا". قال الهيثمي: في إسناده من لم يُسَمَّ قال: ورواه أبو يعلى والطبراني في الأوسط وإسناده حسن.
[رح27] ــــ وعنْ أَنَسٍ رضيَ الله عنهُ "أَنَّ النّبيَّ صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم اسْتَخْلف ابْنَ أُمِّ مَكْتوم يؤُمُّ النّاس وهُوَ أَعْمَى" رَوَاهُ أَحْمَدُ وأَبُو داوُدَ.
(وعن أنس رضي الله عنه أن النبي صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم استخلف ابن أمّ مكتوم) وتقدم اسمه في الأذان (يؤمّ الناس وهو أعمى. رواه أحمد وأبو داود) في رواية لأبي داود أنه استخلفه مرتين وهو في الأوسط للطبراني من حديث عائشة: استخلف النبي صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم ابن أمّ مكتوم على المدينة مرتين يؤمّ الناس.
والمراد استخلافه في الصلاة وغيرها، وقد أخرجه الطبراني بلفظ في الصلاة وغيرها وإسناده حسن وقد عدّت مرات الاستخلاف له فبلغت ثلاث عشرة مرة، ذكره في الخلاصة.
والحديث دليل على صحة إمامة الأعمى من غير كراهة في ذلك.
28 ــــ ونَحْوُهُ لابنِ حبّانَ عَن عَائِشَةَ رَضيَ اللَّهُ عَنْهَا.
(ونحوه) أي حديث أنس (لابن حبان عن عائشة رضي الله عنها) تقدم أنه أخرجه الطبراني في الأوسط.
[رح29] ــــ وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ رَضيَ اللَّهُ عَنْهُما قالَ: قالَ رسولُ اللَّهِ صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم: "صَلُّوا على مَنْ قالَ لا إلهَ إلا اللَّهُ، وَصَلُّوا خَلْفَ مَنْ قالَ لا إلهَ إلَا اللَّهُ" رواهُ الدَّارقُطْنيُّ بإسنادٍ ضَعيف.(1/305)
(وعن ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم: "صلوا على من قال لا إله إلا الله) أي صلاة الجنازة (وصلوا خلف من قال لا إله إلا الله" رواه [تض]الدارقطني[/تض] بإسناد ضعيف) قال في البدر المنير: هذا الحديث من جميع طرقه لا يثبت.
وهو دليل على أنه يصلي عن من قال كلمة الشهادة وإن لم يأت بالواجبات وذهب إلى هذا زيد بن علي وأحمد بن عيسى وذهب إليه أبو حنيفة إلا أنه استثنى قاطع الطريق والباغي.
وللشافعي أقوال في قاطع الطريق إذا صلب. والأصل أن من قال كلمة الشهادة فله ما للمسلمين ومنه صلاة الجنازة عليه. ويدل له حديث: الذي قتل نفسه بمشاقص فقال صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم: "أما أنا فلا أصلي عليه" ولم ينههم عن الصلاة عليه، ولأن عموم شرعية صلاة الجنازة لا يخص منه أحد من أهل كلمة الشهادة إلا بدليل.
فأما الصلاة خلف من قال لا إله إلا الله فقد قدّمنا الكلام في ذلك وأنه لا دليل على اشتراط العدالة وأن من صحت صلاته صحت إمامته.
[رح30] ــــ وَعَنْ عليَ رضيَ اللَّهُ عَنْهُ قالَ: قالَ النّبيُّ صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم: "إذا أَتى أَحَدُكمُ الصَّلاةَ والإمَامُ عَلى حَالٍ فَلْيَصْنعْ كما يَصْنَعُ الإمامُ" رَوَاهُ التِّرمذيُّ بإسنادٍ ضعيفٍ.
أخرجه الترمذي من حديث علي ومعاذ وفيه ضعف وانقطاع وقال: لا نعلم أحداً أسنده إلا من هذا الوجه وقد أخرجه أبو داود من حديث عبد الرحمن بن أبي ليلى قال: حدّثنا أصحابنا. الحديث. وفيه أنّ معاذاً قال: لا أراه على حال إلا كنت عليها. وبهذا يندفع الانقطاع؛ إذا الظاهر أن الراوي لعبد الرحمن غير معاذ بل جماعة من الصحابة والانقطاع إنما ادعي بين عبد الرحمن ومعاذ، قالوا: لأن عبد الرحمن لم يسمع من معاذ وقد سمع من غيره من الصحابة وقال هنا "أصحابنا" والمراد به الصحابة رضي الله عنهم.(1/306)
وفي الحديث دلالة على أنه يجب على من لحق بالإمام أن ينضم إليه في أي جزء كان من أجزاء الصلاة: فإذا كان الإمام قائماً أو راكعاً، فإنه يعتد بما أدركه معه كما سلف، فإذا كان قاعداً أو ساجداً قعد بقعود وسجد بسجوده ولا يعتد بذلك، وتقدم ما يؤيده من حديث ابن أبي شيبة. "ومن وجدني قائماً أو راكعاً أو ساجداً فليكن معي على حالتي التي أنا عليها".
وأخرج ابن خزيمة مرفوعاً عن أبي هريرة "إذا جئتم ونحن سجود فاسجدوا ولا تعدّوها شيئاً ومن أدرك الركعة فقد أدرك الصلاة" وأخرج أيضاً فيه مرفوعاً عن أبي هريرة: "ومن أدرك ركعة من الصلاة قبل أن يقيم الإمام صلبه فقد أدركها" وترجم له "باب ذكر الوقت الذي يكون فيه المأموم مدركاً للركعة إذا ركع إمامه".
وقوله "فليصنع كما يصنع الإمام" ليس صريحاً أنه يدخل معه بتكبيرة الإحرام بل ينضم إليه إما بها إذا كان قائماً أو راكعاً فيكبر اللاحق من القيام ثم يركع أو بالكون معه فقط ومتى قام كبر للإحرام، وغايته أنه يحتمل ذلك إلا أن شرعية تكبيرة الإحرام حال القيام للمنفرد والإمام، يقضي أن لا تجزيء إلا كذلك، وذلك أصرح من دخولها بالاحتمال والله أعلم.(1/307)
(فائدة) في الأعذار في ترك الجماعة: أخرج الشيخان عن ابن عمر عن النبي صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم: "أنه كان يأمر المنادي فينادي صلوا في رحالكم في الليلة الباردة وفي الليلة المطيرة في السفر". وعن جابر: "خرجنا مع رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم في سفر فمطرنا فقال ليصل من شاء منكم في رحله". رواه مسلم وأبو داود والترمذي وصححه. وأخرجه الشيخان عن ابن عباس: أنه قال لمؤذنه في يوم مطير إذا قلت: أشهد أن محمداً رسول الله فلا تقل: حي على الصلاة. قل: صلوا في بيوتكم. قال: فكأن الناس استنكروا ذلك فقال: أتعجبون من ذا؟ فقد فعل ذا من هو خير مني يعني ــــ النبي صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم ــــ وعند مسلم: أن ابن عباس أمر مؤذنه في يوم جمعة في يوم مطير بنحوه.
وأخرج البخاري عن ابن عمر قال: قال رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم: "إذا كان أحدكم على الطعام فلا يعجل حتى يقضي حاجته منه وإن أقيمت الصلاة".
وأخرج أحمد ومسلم من حديث عائشة قالت: سمعت النبي صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم يقول: "لا صلاة بحضرة طعام ولا هو يدافع الأخبثين".
وأخرج البخاري عن أبي الدرداء قال: "من فقه الرجل إقباله على حاجته حتى يقبل على صلاته وقلبه فارغ".
باب صلاة المسافر والمريض
[رح1] ــــ عَنْ عائشَةَ رَضيَ اللَّهُ عنْها قالتْ: "أول ما فُرضَت الصلاةُ رَكْعَتَيْنِ فَأُقِرَّت صَلاةُ السّفَر وَأُتِمّتْ صَلاةُ الحضَر" مُتّفَقٌ عَلَيه، وللبُخاريِّ "ثم هَاجَرَ فَفُرضَتْ أرْبعاً وأُقِرّت صَلاةُ السّفَر على الأوّل" زَادَ أَحْمَدُ "إلَّا المغْربَ فإنّها وتْرُ النّهار، وَإلَّا الصُّبْحَ فإنّها تطَوَّلُ فِيها القِراءَةُ".(1/308)
(عن عائشة رضي الله عنها قالت: أول ما فرضت الصلاة) ما عدا المغرب (ركعتين) أي حضراً وسفراً (فأقرت) أي أقر الله (صلاة السفر) بإبقائها ركعتين (وأتمت صلاة الحضر) ما عدا المغرب، يزيد في الثلاث الصلوات ركعتين، والمراد بأتمت: زيد فيها حتى كانت تامة بالنظر إلى صلاة السفر (متفق عليه، وللبخاري) وحده عن عائشة (ثم هاجر) أي النبي صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم (ففرضت أربعاً) أي صارت أربعاً بزيادة اثنتين. (وأقرت صلاة السفر على الأول) أي على الفرض الأول (زاد أحمد: إلا المغرب) أي زاده من رواية عن عائشة بعد قولها: أول ما فرضت الصلاة أي إلا المغرب فإنها فرضت ثلاثاً (فإنها) أي المغرب (وتر النهار) ففرضت وتراً ثلاثاً من أول الأمر (وإلا الصبح فإنها تطوَّل فيها القراءة).
في هذا الحديث دليل على وجوب القصر في السفر لأن "فرضت" بمعنى وجبت، ووجوبه مذهب الهادوية والحنفية وغيرهم.
وقال الشافعي وجماعة: إنه رخصة والتمام أفضل وقالوا: فرضت بمعنى قدرت أو فرضت لمن أراد القصر. واستدلوا بقوله تعالى: {فليسَ عليكمْ جناحٌ أن تقصروا من الصلاة}. وبأنه سافر أصحاب رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم معه فمنهم من يقصر ومنهم من يتم ولا يعيب بعضهم على بعض، وبأن عثمان كان يتم، وكذلك عائشة أخرج ذلك مسلم.
وردَّ بأن هذه أفعال صحابة لا حجة فيها، وبأنه أخرج الطبراني في الصغير من حديث ابن عمر موقوفاً "صلاة السفر ركعتان نزلتا من السماء فإن شئتم فردوهما" قال الهيثمي: رجاله موثوقون، وهو توقيف إذ لا مسرح فيه للاجتهاد، وأخرج أيضاً عنه في الكبير برجال الصحيح "صلاة السفر ركعتان من خالف السنة كفر".
وفي قوله "السنة" دليل على رفعه كما هو معروف، قال ابن القيم في الهدى النبوي: كان يقصر صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم الرباعية فيصليها ركعتين من حين يخرج مسافراً إلى أن يرجع إلى المدينة ولم يثبت عنه أنه أتم الرباعية في السفر البتة.(1/309)
وفي قولها "إلا المغرب" دلالة على أن شرعيتها في الأصل ثلاثاً لم تتغير.
وقولها "إنها وتر النهار" أي صلاة النهار كانت شفعاً والمغرب آخرها لوقوعها في آخر جزء من النهار فهي وتر صلاة النهار، كما أنه شرع الوتر لصلاة الليل، والوتر محبوب إلى الله تعالى كما تقدم في الحديث "إن الله وتر يحب الوتر".
وقولها: "إلا الصبح فإنها تطوَّل فيها القراءة". تريد أن لا يقصر في صلاتها، فإنها ركعتان حضراً وسفراً، لأنه شرع فيها تطويل القراءة ولذلك عبر عنها في الآية بقرآن الفجر لما كانت معظم أركانها لطولها فيها فعبر عنها بها من إطلاق الجزء الأعظم على الكل.
[رح2] ــــ وَعَنْ عَائشَةَ رَضيَ اللَّهُ عَنْهَا: "أَنَّ النّبيَّ صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم كانَ يَقْصُر في السّفَر وَيُتمُّ وَيّصُوم وَيفْطِرُ" رَوَاهُ الدَّارَقُطْنيُّ ورُوَاتُهُ ثِقاتٌ إلَّا أنّهُ مَعْلُولٌ، وَالمحْفُوظُ عَنْ عَائشةَ مِنْ فِعْلِهَا، وَقالَتْ: "إنّهُ لا يَشُقُّ عليَّ" أَخْرَجَهُ البَيْهَقِيُّ.
(وعن عائشة رضي الله عنها: أن النبي صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم كان يقْصُر في السفر ويتم؛ ويصوم ويُفْطر) الأربعة الأفعال بالمثناة التحتية أي أنه صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم كان يفعل هذا وهذا (رواه الدارقطني ورواته) من طريق عطاء عن عائشة (ثقات إلا أنه معلول والمحفوظ عن عائشة من فعلها، وقالت: إنه لا يشق عليّ. أخرجه البيهقي).
واستنكره أحمد فإن عروة روى عنها أنها كانت تتم وأنها تأولت كما تأول عثمان كما في الصحيح، فلو كان عندها عن النبي صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم رواية، لم يقل عروة إنها تأولت، وقد ثبت في الصحيحين خلاف ذلك. وأخرج أيضاً الدارقطني عن عطاء، والبيهقي عن عائشة: أنها اعتمرت معه صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم من المدينة إلى مكة حتى إذا قدمت مكة قالت: يا رسول الله بأبي أنت وأمي أتممت وقصرت. وأفطرت وصمت، فقال: أحسنت يا عائشة وما عاب عليَّ.(1/310)
قال ابن القيم: وقد روى "كان يقصر وتتم" الأول بالياء آخر الحروف والثاني بالمثناة من فوق وكذلك يفطر وتصوم أي تأخذ هي بالعزيمة في الموضعين قال شيخنا ابن تيمية: وهذا باطل، ما كانت أم المؤمنين لتخالف رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم وجميع أصحابه فتصلي خلاف صلاتهم، وفي الصحيح عنها "إن الله فرض الصلاة ركعتين ركعتين فلما هاجر رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم إلى المدينة زيد في صلاة الحضر وأقرت صلاة السفر" فكيف يظن بها مع ذلك أنها تصلي خلاف صلاته وصلاة المسلمين معه؟
قلت: وقد أتمت عائشة بعد موته صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم قال ابن عباس وغيره: إنها تأولت كما تأول عثمان اهـ.
هذا وحديث الباب قد اختلف في اتصاله فإنه من رواية عبد الرحمن بن الأسود عن عائشة قال الدارقطني: إنه أدرك عائشة وهو مراهق قال المصنف رحمه الله: هو كما قال ففي تاريخ البخاري وغيره ما يشهد لذلك، وقال أبو حاتم: أدخل عليها وهو صغير ولم يسمع منها وادعى ابن أبي شيبة والطحاوي ثبوت سماعه منها واختلف قول الدارقطني في الحديث فقال في السنن: إسناده حسن؛ وقال في العلل: المرسل أشبه. هذا كلام المصنف: ونقله الشارح.
وراجعت سنن الدارقطني فرأيته ساقه وقال: إنه صحيح ثم فيه العلاء ابن زهير وقال الذهبي في الميزان: وثقه ابن معين وقال ابن حبان: كان ممن يروي عن الثقات مما لا يشبه حديث الأثبات اهـ. فبطل الاحتجاج به فيما لم يوافق الأثبات وبطل بهذا ادعاء ابن حزم جهالته فقد عرف عيناً وحال وقال ابن القيم بعد روايته لحديث عائشة هذا ما لفظه: وسمعت شيخ الإسلام يقول: هذا كذب على رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم أهـ. يريد رواية يَقْصر ويُتم بالمثناة التحتية وجعل ذلك من فعله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم فإنه ثبت عنه صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم بأنه لم يُتم رباعية في سفر ولا صام فيه فرضاً.(1/311)
[رح3] ــــ وَعن ابْنِ عُمَرَ رضيَ اللَّهُ عَنْهُما قالَ: قالَ رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم: "إنَّ الله يُحِبُّ أنْ تُؤْتَى رُخَصُهُ كما يكرَهُ أن تُؤْتَى مَعْصِيَتُهُ" رواهُ أَحمدُ وَصَحّحَهُ ابْنُ خُزيْمَةَ وابْنُ حِبّان، وفي روايةٍ "كما يُحِبُّ أَنْ تُؤْتَى عَزَائِمُهُ".
فسرت محبة الله برضاه وكراهتُه بخلافها.
وعند أهل الأصول أن الرخصة ما شرع من الأحكام لعذر والعزيمة مقابلها، والمراد بها هنا ما سهله لعباده ووسعه عند الشدة من ترك بعض الواجبات وإباحة بعض المحرمات...
والحديث دليل على أن فعل الرخصة أفضل من فعل العزيمة، كذا قيل وليس فيه على ذلك دليل، بل يدل على مساواتها للعزيمة، والحديث يوافق قوله تعالى: {يريدُ اللهُ بكمْ اليسرَ ولا يريدُ بكمْ العُسرَ}.
[رح4] ــــ وَعَنْ أَنَسٍ رَضيَ اللَّهُ عَنْهُ قالَ: "كانَ رَسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم إذا خرجَ مَسيرةَ ثَلاثَةِ أَمْيالٍ أَوْ فَرَاسِخَ ــــ صَلّى رَكْعَتَيْنِ" رواهُ مُسلمٌ.
المراد من قوله "إذا خرج" إذا كان قصده مسافة هذا القدر لا أن المراد أنه كان إذا أراد سفراً طويلاً فلا يقصر إلا بعد هذه المسافة.
وقوله أميال أو فراسخ شك في الراوي وليس التخيير في أصل الحديث قال الخطابي شك فيه شعبة.
قيل في حد الميل هو أن ينظر إلى الشخص في أرض مستوية فلا يدرك أهو رجل أم امرأة أو غير ذلك.
وقال النووي: هو ستة آلاف ذراع، والذراع أربعة وعشرون أصبعاً معترضة متعادلة، والأصبع ست شعيرات معترضة متعادلة.
وقيل: هو اثنا عشر ألف قدم بقدم الإنسان.
وقيل: هو أربعة ألاف ذراع، وقيل ألف خطوة للجمل، وقيل ثلاثة آلاف ذراع بالهاشمي وهو اثنان وثلاثون أصبعاً، وهو ذراع الهادي عليه الصلاة والسلام وهو الذراع العمري المعمول عليه في صنعاء وبلادها.
وأما الفرسخ فهو ثلاثة أميال وهو فارسي معرب.(1/312)
واعلم أنه قد اختلف العلماء في المسافة التي تقصر فيها الصلاة على نحو عشرين قولاً ــــ حكاها ابن المنذر ــــ.
فذهب الظاهرية إلى العمل بهذا الحديث وقالوا: مسافة القصر ثلاثة أميال، وأجيب عليهم بأنه مشكوك فيه فلا يحتج به على التحديد بالثلاثة الأميال نعم يحتج به على التحديد بالثلاثة الفراسخ إذ الأميال داخلة فيها فيؤخذ بالأكثر وهو الاحتياط لكن قيل إنه لم يذهب إلى التحديد بالثلاثة الفراسخ أحد. نعم يصح الاحتجاج للظاهرية بما أخرجه سعيد بن منصور من حديث أبي سعيد. "أنه كان رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم إذا سافر فرسخاً يقصر الصلاة" وقد عرفت أن الفرسخ ثلاثة أميال:
وأقل ما قيل في مسافة القصر ما أخرجه ابن أبي شيبة من حديث ابن عمر موقوفاً: أنه كان يقول إذا خرجت ميلاً قصرت الصلاة. وإسناده صحيح وقد روى هذا في البحر عن داود ويلحق بهذين القولين قول الباقر والصادق وأحمد بن عيسى والهادي وغيرهم أنه يقصر في مسافة بريد فصاعداً، مستدلين بقوله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم في حديث أبي هريرة مرفوعاً "لا يحل لامرأة تسافر بريداً إلا ومعها محرم" أخرجه أبو داود. قالوا: فسمى مسافة البريد سفراً ولا يخفى أنه لا دليل فيه، على أنه لا يسمى الأقل من هذه المسافة سفراً، وإنما هذا تحديد للسفر الذي يجب فيه المحرم ولا تلازم بين مسافة القصر ومسافة وجوب المحرم لجواز التوسعة في إيجاب المحرم تخفيفاً على العباد.
وقال زيد بن علي والمؤيد وغيرهما والحنفية: بل مسافته أربعة وعشرون فرسخاً لما أخرجه البخاري من حديث ابن عمر مرفوعاً "لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تسافر فوق ثلاثة أيام إلا مع محرم" قالوا: وسير الإبل في كل يوم ثمانية فراسخ.(1/313)
وقال الشافعي، بل أربعة برد لحديث ابن عباس مرفوعاً "لا تقصروا الصلاة في أقل من أربعة برد" وسيأتي وأخرجه البيهقي بسند صحيح من فعل ابن عباس وابن عمر وبأنه روى البخاري حديث ابن عباس تعليقاً بصيغة الجزم: أنه سئل أتقصر الصلاة من مكة إلى عرفة؟ قال: "لا ولكن إلى عسفان وإلى جدة وإلى الطائف" وهذه الأمكنة بين كل واحد منها وبين مكة أربعة بُرُد فما فوقها.
والأقوال متعارضة كما سمعت والأدلة متقاومة قال في زاد المعاد: ولم يحدّ صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم لأمته مسافة محددة للقصر والفطر بل أطلق لهم ذلك في مطلق السفر والضرب في الأرض كما أطلق لهم التيمم في كل سفر؛ وأما ما يروى عنه من التحديد باليوم واليومين والثلاثة فلم يصح منها شيء البتة والله أعلم، وجواز القصر والجمع في طويل السفر وقصيره مذهب كثير من السلف.
[رح5] ــــ وَعَنْهُ رضيَ اللَّهُ عنْهُ قالَ: "خَرَجْنا معَ رسُولُ اللَّهِ صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم منَ المدينةِ إلى مكّةَ، فَكانَ يُصَلِّي رَكعتيْنِ ركعتيْنِ حَتى رَجَعْنَا إلى المدينَةِ" مُتّفَقٌ عَلَيهِ واللّفْظُ للبخاريِّ.
(وعنه) أي عن أنس (رضي الله عنه قال: خرجنا مع رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم من المدينة إلى مكة فكان يصلي) أي الرباعية (ركعتين ركعتين) أي كل رباعية ركعتين (حتى رجعنا إلى المدينة: متفق عليه واللفظ للبخاري).
يحتمل أن هذا كان في سفره عام الفتح ويحتمل أنه في حجة الوداع إلا أن فيه عند أبي داود زيادة "أنهم قالوا لأنس: هل أقمتم بها شيئاً؟ قال: أقمنا عشراً" ويأتي أنهم أقاموا في الفتح زيادة على خمسة عشر يوماً أو خمسة عشر وقد صرح في حديث أبي داود أن هذا أي خمسة عشر ونحوها كان عام الفتح.
وفيه دلالة على أنه لم يتم مع إقامته في مكة، وهو كذلك كما يدل عليه الحديث الآتي:(1/314)
وفيه دليل على أن نفس الخروج من البلد بنية السفر يقتضي القصر ولو لم يجاوز من البلد ميلاً ولا أقل، وأنه لا يزال يقصر حتى يدخل البلد ولو صلى وبيوتهما بمرأى منه.
[رح6] ــــ وَعَنِ ابْنِ عَبّاسٍ رضيَ الله عَنْهُمَا قالَ: "أقامَ النّبي صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم تسعة عَشَرَ يَقْصُرُ" وفي لَفْظٍ "بمكّةَ تسْعَةَ عَشَرَ يَوْماً" رَوَاهُ البخاريُّ، وفي روايةٍ لأبي داوُدَ "سَبْعَ عشرةَ" وفي أُخرى "خَمْس عشْرَةَ".
(وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: أقام النبي صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم تسعة عشر يوماً يقصر وفي لفظ) تعيين محل الإقامة وأنه (بمكة تسعة عشر يوماً. رواه البخاري وفي رواية لأبي داود) أي عن ابن عباس (سبع عشرة) بالتذكير في الرواية الأولى لأنه ذكر مميزه يوماً وهو مذكر، وبالتأنيث في رواية أبي داود لأنه حذف مميزه، وتقديره ليلة، وفي رواية لأبي داود عنه تسعة عشر كالرواية الأولى (وفي أخرى) أي لأبي داود عن ابن عباس (خمس عشرة).
[رح7] ــــ وَلَهُ عنْ عِمْرانَ بنِ حُصَيْنٍ رَضَيَ اللَّهُ عنهما "ثَمَانيَ عَشَرَةَ".
(وله) أي لأبي داود:
(عن عمران بن حصين رضي الله عنهما ثماني عشرة) ولفظه عند أبي داود "شهدت معه الفتح فأقام بمكة ثماني عشرة ليلة لا يصلي إلا ركعتين ويقول: يا أهل البلد صلوا أربعاً فإنا قوم سفر".
[رح8] ـــ وله عَنْ جابرٍ رَضيَ اللَّهُ عَنْهُ: "أقامَ بتَبُوكَ عشِرينَ يَوْماً يَقْصرُ الصَّلاة" وَروَاتُهُ ثِقَاتٌ إلّا أنّهُ اخْتُلِفَ في وَصْلِهِ.
(وله) أي لأبي داود.
(عن جابر رضي الله عنه "أقام) أي النبي صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم (بتبوك عشرين يوماً يقصر الصلاة) ، ورواته ثقات إلا أنه اختلف في وصله" فوصله معمر عن يحيى بن أبي كثير عن محمد بن عبد الرحمن عن ثوبان عن جابر قال أبو داود: غير معمر لا يسنده فأعله الدارقطني في العلل بالإرسال والانقطاع.(1/315)
قال المصنف رحمه الله: وقد أخرجه البيهقي بلفظ "بضع عشرة".
واعلم أن أبا داود ترجم لباب هذه الأحاديث "باب متى يتم المسافر" ثم ساقها وفيها كلام ابن عباس "من أقام سبعة عشر قصر ومن أقام أكثر أتم".
وقد اختلف العلماء في قدر مدّة الإقامة التي إذا عزم المسافر على إقامتها أتم فيها الصلاة على أقوال.
فقال ابن عباس وإليه ذهب الهادوية: إن أقل مدة الإقامة عشرة أيام لقول علي عليه السلام: "إذا أقمت عشراً فأتم الصلاة" أخرجه المؤيد في شرح التجريد من طرق فيها ضرار بن صرد قال المصنف في التقريب: إنه غير ثقة. قالوا: وهو توقيف.
وقالت الحنفية: خمسة عشر يوماً مستدلين بإحدى روايات ابن عباس وبقوله وقول ابن عمر: إذا قدمت بلدة وأنت مسافر وفي نفسك أن تقيم خمس عشرة ليلة فأكمل الصلاة.
وذهبت المالكية والشافعية إلى أن أقلها أربعة أيام وهو مروي عن عثمان والمراد غير يوم الدخول والخروج، واستدلوا بمنعه صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم المهاجرين بعد مضي النسك أن يزيدوا عن ثلاثة أيام في مكة فدل على أنه بالأربعة الأيام يصير مقيماً؛ وثم أقوال أخر لا دليل عليها.
وهذا كله فيمن دخل البلد عازماً على الإقامة فيها.
وأما من تردد في الإقامة ولم يعزم ففيه خلاف أيضاً.
فقالت الهادوية: يقصر إلى شهر لقول علي عليه السلام: "إنه من يقول: اليوم أخرج؛ غداً أخرج. يقصر الصلاة شهراً".
وذهب أبو حنيفة وأصحابه وهو قول للشافعي وقال به الإمام يحيى إلى أنه يقصر أبداً إذ الأصل السفر، ولفعل ابن عمر فإنه أقام بأذربيجان ستة أشهر يقصر الصلاة، وروي عن أنس بن مالك أنه أقام بنيسابور سنة أو سنتين يقصر الصلاة، وعن جماعة من الصحابة أنهم أقاموا برامهرمز تسعة أشهر يقصرون الصلاة.(1/316)
ومنهم من قدّر ذلك بخمسة عشر وسبعة عشر وثمانية عشر على حسب ما وردت الروايات في مدة إقامته صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم في مكة وتبوك وأنه بعد ما يجاوز مدة ما روي عنه صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم يتم صلاته.
ولا يخفى أنه لا دليل في المدة التي قصر فيها على نفي القصر فيما زاد عليها، وإذا لم يقم دليل على تقدير المدة فالأقرب أنه لا يزال يقصر كما فعله الصحابة، لأنه لا يسمى بالبقاء مع التردد كل يوم في الإقامة والرحيل مقيماً وإن طالت المدة، ويؤيده ما أخرجه البيهقي في السنن عن ابن عباس: "أنه صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم أقام بتبوك أربعين يوماً يقصر الصلاة". ثم قال: تفرد به الحسين بن عمارة وهو غير محتج به.
[رح9] ــــ وَعَنْ أَنَسٍ رضيَ اللَّهُ عَنْهُ قال: "كانَ رسُولُ الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم إذا ارْتَحَل قَبْلَ أَنْ تَزيغَ الشّمسُ أَخّرَ الظُّهرَ إلى وَقْتِ الْعَصْرِ ثُمَّ نَزَلَ فَجَمَعَ بَيْنَهُما، فإنْ زَاغَتْ الشّمْسُ قَبْلَ أنْ يَرْتَحِلَ صلى الظهْرَ ثُمَّ رَكبَ" مُتّفَقٌ عَلَيه، وفي رواية الحاكم في الأرْبعينَ بإسْنادِ الصَّحْيح: "صلى الظُّهْر والعَصْرَ ثمَّ رَكِبَ" وَلأبي نُعيم في مُسْتَخْرَجِ مُسلمٍ "كانَ إذَا كانَ في سفَرٍ فَزَالَت الشّمْسُ صلى الظهْرَ والْعَصْرَ جميعاً ثمَّ ارتَحَلَ".
(وعن أنس رضي الله عنه قال: كان رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم إذا ارتحل) في سفره (قبل أن تزيغ الشمس) أي قبل الزوال (أخر الظهر إلى وقت العصر ثم نزل فجمع بينهما، فإن زاغت الشمس قبل أن يرتحل صلى الظهر) أي وحده ولا يضم إليه العصر (ثم ركب. متفق عليه).
الحديث فيه دليل على جواز الجمع بين الصلاتين للمسافر تأخيراً، ودلالة على أنه لا يجمع بينهما تقديماً، لقوله "صلى الظهر" إذ لو جاز مع التقديم لضم إليه العصر، وهذا الفعل منه صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم يخصص أحاديث التوقيت التي مضت.(1/317)
وقد اختلف العلماء في ذلك، فذهب الهادوية وهو قول ابن عباس وابن عمر وجماعة من الصحابة، وروي عن مالك وأحمد والشافعي إلى جواز الجمع للمسافر تقديماً وتأخيراً عملاً بهذا الحديث في التأخير وبما يأتي في التقديم.
وعن الأوزاعي أنه يجوز للمسافر جمع التأخير فقط عملاً بهذا الحديث، وهو مروي عن مالك وأحمد بن حنبل واختاره أبو محمد بن حزم.
وذهب النخعي والحسن وأبو حنيفة إلى أنه لا يجوز الجمع لا تقديماً ولا تأخيراً للمسافر وتأولوا ما ورد من جمعه صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم بأنه جمع صوري وهو أنه أخر الظهر إلى آخر وقتها وقدم العصر في أول وقتها ومثله العشاء.
ورد عليهم بأنه وإن تمشى لهم هذا في جمع التأخير لم يتم لهم في جمع التقديم الذي أفاد قوله (وفي رواية الحاكم في الأربعين بإسناد الصحيح صلى الظهر والعصر) أي إذا زاغت قبل أن يرتحل صلى الفريضتين معاً (ثم ركب) فإنها أفادت ثبوت جمع التقديم من فعله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم ولا يتصوّر فيه الجمع الصوري (و) مثله الرواية التي (لأبي نعيم في مستخرج مسلم) أي في مستخرجه على صحيح مسلم (كان) أي النبي صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم (إذا كان في سفر فزالت الشمس صلى الظهر والعصر جميعاً ثم ارتحل) فقد أفادت رواية الحاكم وأبي نعيم ثبوت جمع التقديم أيضاً وهما روايتان صحيحتان كما قال المصنف إلا أنه قال ابن القيم إنه اختلف في رواية الحاكم، فمنهم من صححها ومنهم من حسنها ومنهم من قدح فيها وجعلها موضوعة وهو الحاكم فإنه حكم بوضعها، ثم ذكر كلام الحاكم في بيان وضع الحديث ثم رده ابن القيم واختار أنه ليس بموضوع، وسكوت المصنف هنا عليه وجزمه بأنه بإسناد صحيح يدل على رده لكلام الحاكم ويؤيد صحته قوله:(1/318)
[رح10] ــــ وَعَنْ مُعاذٍ رضيَ اللَّهُ عَنْهُ قالَ: "خَرَجْنَا معَ رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم في غَزْوَة تَبوكَ فكان يُصَلي الظُّهْرَ والعصرَ جميعاً والمغْربَ وَالعِشَاءَ جميعاً" رَوَاهُ مُسْلمٌ.
إلا أن اللفظ محتمل لجمع التأخير لا غير أوله ولجمع التقديم، ولكن قد رواه الترمذي بلفظ "كان إذا ارتحل قبل أن تزيغ الشمس آخر الظهر إلى أن يجمعها إلى العصر فيصليهما جميعاً وإذا ارتحل بعد زيغ الشمس عجل العصر إلى الظهر وصلى الظهر والعصر جميعاً" فهو كالتفصيل لمجمل رواية مسلم إلا أنه قال الترمذي بعد إخراجه: إنه حديث حسن غريب تفرد به قتيبة لا نعرف أحداً رواه عن الليث غيره قال: والمعروف عند أهل العلم حديث معاذ من حديث ابن الزبير عن أبي الطفيل عن معاذ: أن النبي صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم جمع في غزوة تبوك بين الظهر والعصر وبين المغرب والعشاء. اهـ.
إذا عرفت هذا فجمع التقديم في ثبوت روايته مقال إلا رواية المستخرج على صحيح مسلم فإنه لا مقال فيها.
وقد ذهب ابن حزم إلى أنه يجوز جمع التأخير لثبوت الرواية به لا جمع التقديم، وهو قول النخعي ورواية عن مالك وأحمد.
ثم إنه قد اختلف في الأفضل للمسافر هل الجمع أو التوقيت فقالت الشافعية: ترك الجمع أفضل. وقال مالك: إنه مكروه، وقيل: يختص بمن له عذر.
واعلم أنه كما قال ابن القيم في الهدي النبوي: لم يكن صلى الله تعالى عليه وآله وسلم يجمع راتباً في سفره كما يفعله كثير من الناس، ولا يجمع حال نزوله أيضاً، وإنما كان يجمع إذا جدّ به السير، وإذا سار عقيب الصلاة كما في أحاديث تبوك، وأما جمعه وهو نازل غير مسافر فلم ينقل ذلك عنه إلا بعرفة ومزدلفة لأجل اتصال الوقوف، كما قال الشافعي وشيخنا وجعله أبو حنيفة من تمام النسك وأنه سببه، وقال أحمد ومالك والشافعي: إن سبب الجمع بعرفة ومزدلفة السفر.
وهذا كله في الجمع في السفر.(1/319)
وأما الجمع في الحضر فقال الشارح بعد ذكر أدلة القائلين بجوازه فيه: إنه ذهب أكثر الأئمة إلى أنه لا يجوز الجمع في الحضر لما تقدم من الأحاديث المبينة لأوقات الصلوات، ولما تواتر من محافظة النبي صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم على أوقاتها حتى قال ابن مسعود: ما رأيت النبي صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم صلى صلاة لغير ميقاتها إلا صلاتين جمع بين المغرب والعشاء بجمع وصلى الفجر يومئذٍ قبل ميقاتها".
وأما حديث ابن عباس عند مسلم: أنه جمع بين الظهر والعصر والمغرب والعشاء بالمدينة من غير خوف ولا مطر. قيل لابن عباس: ما أراد إلى ذلك؟ قال: أراد أن لا يحرج أمته" فلا يصح الاحتجاج به لأنه غير معين لجمع التقديم والتأخير كما هو ظاهر رواية مسلم وتعيين واحد منها تحكم فوجب العدول عنه إلى ما هو واجب من البقاء على العموم في حديث الأوقات للمعذور وغيره وتخصيص المسافر لثبوت المخصص وهذا هو الجواب الحاسم.
وأما ما يروى من الآثار عن الصحابة والتابعين فغير حجة إذ للاجتهاد في ذلك مسرح، وقد أول بعضهم حديث ابن عباس بالجمع الصوري واستحسنه القرطبي ورجحه وجزم به ابن الماجشون والطحاوي وقواه ابن سيد الناس لما أخرجه الشيخان عن عمرو بن دينار ــــ رواي الحديث ــــ عن أبي الشعثاء قال: قلت: يا أبا الشعثاء أظنه أخر الظهر وعجل العصر وأخر المغرب وعجل العشاء قال: وأنا أظنه. قال ابن سيد الناس: وراوي الحديث أدرى بالمراد منه من غيره، وإن لم يجزم أبو الشعثاء بذلك.(1/320)
وأقول إنما هو ظن من الراوي والذي يقال فيه: أدرى بما روى إنما يجري في تفسيره للفظ مثلاً. على أن في الدعوى نظراً، فإن قوله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم: "فرب حامل فقه إلى من هو أفقه منه" يرد عمومها، نعم يتعين هذا التأويل فإنه صرح به النسائي في أصل حديث ابن عباس ولفظه: "صليت مع رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم بالمدينة ثمانياً جمعاً وسبعاً جمعاً أخر الظهر وعجل العصر وآخر المغرب وعجل العشاء". والعجب من النووي كيف ضعف هذا التأويل وغفل عن متن الحديث المروي، والمطلق في رواية يحمل على المقيد إذا كانا في قصة واحدة. كما في هذا:
والقول بأن قوله: "أراد أن لا يحرج أمته" يضعف هذا الجمع الصوري لوجود الحرج فيه مدفوع بأن ذلك أيسر من التوقيت إذ يكفي للصلاتين تأهب واحد وقصد واحد إلى المسجد ووضوء واحد بحسب الأغلب بخلاف الوقتين فالحرج في هذا الجمع لا شك أخف.
وأما قياس الحاضر على المسافر كما قيل فوهم، لأن العلة في الأصل هي السفر، وهو غير موجود في الفرع وإلا لزم مثله في القصر والفطر اهـ.
قلت: وهو كلام رصين وقد كنا ذكرنا ما يلاقيه في رسالتنا "اليواقيت في المواقيت" قبل الوقوف على كلام الشارح ــــ رحمه الله وجزاه خيراً ــــ ثم قال: واعلم أن جمع التقديم فيه خطر عظيم وهو كمن صلى صلاة قبل دخول وقتها فيكون حال الفاعل كما قال تعالى: {هم يحسبون أنهم يحسنون صنعاً} الآية من ابتدائها وهذه الصلاة المقدمة لا دلالة عليها بمنطوق ولا مفهوم ولا عموم ولا خصوص.
[رح11] ــــ وَعَن ابنِ عبّاسٍ رضيَ اللَّهُ عنهُما قال: قال رسولُ الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم: "لا تَقْصرُوا الصَّلاةَ في أقَلَّ مِنْ أَرْبَعَةِ بُرُدٍ مِنْ مَكّةَ إلى عُسْفَانَ" رواهُ الدارقُطْنيُّ بإسناد ضَعيف، والصّحيحُ أَنهُ مَوْقُوفٌ، كَذَا أَخْرَجَهُ ابنُ خُزَيمة.(1/321)
فإنه من رواية عبد الوهاب بن مجاهد وهو متروك، نسبه الثوري إلى الكاذب، وقال الأزدي: لا تحل الرواية عنه، وهو منقطع أيضاً لأنه لم يسمع من أبيه (والصحيح أنه موقوف كذا أخرجه ابن خزيمة) أي موقوفاً على ابن عباس وإسناده صحيح ولكن للاجتهاد فيه مسرح فيحتمل أنه من رأيه وتقدم أنه لم يثت في التحديد حديث مرفوع.
[رح12] ــــ وعنْ جابرٍ رضيَ اللَّهُ عنه قال: قالَ رسُولُ الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم: "خيرُ أُمّتي الذين إذا أسَاءوا اسْتغفروا وإذا أَحسنوا اسْتبشروا وإذا سافَرُوا قَصَروا وأَفْطروا". أَخْرَجَهُ الطّبرانيُّ في الأوْسَطِ بإسْنادٍ ضعيفٍ وَهُوَ في مُرْسَلِ سعيد بنِ المُسَيَّب عَنْدَ الَبيْهَقِي مختصراً.
الحديث دليل على أن القصر والفطر أفضل للمسافر من خلافهما.
وقالت الشافعية: ترك الجمع أفضل فقياس هذا أن يقولوا التمام أفضل وقد صرحوا به أيضاً، وكأنهم لم يقولوا بهذا الحديث لضعفه. واعلم أن المصنف رحمه الله أعاد هنا حديث عمران بن حصين وحديث جابر وهما قوله:
[رح13] ــــ وعَنْ عِمْرانَ بن حُصَيْنٍ رضيَ اللَّهُ عَنْهُما قالَ: "كانتْ بي بَوَاسيرُ فَسَأَلْتُ النّبيَّ صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم عنِ الصَّلاةِ فَقَالَ: "صَلِّ قائماً، فَإنْ لمْ تَسْتَطِعْ فَقَاعِداً، فَإنْ لَمْ تَسْتَطعْ فَعَلى جَنْبٍ" رَوَاهُ الْبُخَاريُّ.
(وعن عمران بن حصين رضي الله عنهما قال: كانت بي بواسير فسألت النبي صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم عن الصلاة) هذا لم يذكره المصنف فيما سلف في هذه الرواية (فقال: "صلِّ قائماً فإن لم تستطع فقاعداً فإن لم تستطع فعلى جنْب" رواه البخاري) هو كما قال ولم ينسبه فيما تقدم إلى أحد وقد بينا من غير البخاري وما فيه من الزيادة.(1/322)
[رح14] ــــ وَعَنْ جَابرٍ رَضيَ اللَّهُ عَنْهُ قالَ: عَادَ النّبي صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم مَريضاً فَرَآهُ يُصَلي على وسادَةٍ فَرَمَى بها وقالَ: "صَلِّ عَلى الأرضِ إن اسْتَطَعْتَ، وإلا فَأَوْم إيماءً واجعلْ سُجُودَكَ أَخْفَضَ مِنْ رُكُوعِكَ" رَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ وصحّحَ أَبو حاتم وَقْفَهُ.
زاد فيما مضى أنه رواه البيهقي بإسناد قوي وقد تقدم في آخر باب صفة الصلاة قبيل باب سجود السهو بلفظهما وشرحناهما هناك فتركنا شرحهما هنا لذلك، ثم ذكر هنا حديث عائشة وقد مر أيضاً في الحديث الرابع والثلاثين في باب صفة الصلاة بلفظه وشرحه الشارح. وقال هناك: صححه ابن خزيمة، وهنا قال: صححه الحاكم وهو:
[رح15] ــــ وَعَنْ عَائِشَةَ رَضيَ الله عَنْهَا قالَت: "رَأَيتُ النّبيَّ صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم يُصَلي مُتَرَبِّعاً" رَواه النسائي وَصَحّحَهُ الحاكِمُ.
وهو من أحاديث صلاة المريض لا من أحاديث صلاة المسافر وقد أتى به فيما سلف.
والحديث دليل على صفة قعود المصلي إذا كان له عذر عن القيام، وفيه الخلاف الذي تقدم.
باب الجمعة
الجمعة بضم الميم وفيها الإسكان والفتح مثل همزة ولمزة، وكانت تسمى في الجاهلية العروبة، أخرج الترمذي من حديث أبي هريرة وقال: حسن صحيح أن النبي صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم قال: "خير يوم طلعت فيه الشمس يوم الجمعة: فيه خلق آدم وفيه دخل الجنة وفيه أخرج منها ولا تقوم الساعة إلا في يوم الجمعة".
[رح1] ــــ عَنْ عبْد اللَّهِ بْنِ عُمَرَو أَبي هُريرة رضيَ الله عَنْهُمْ أَنهما سَمِعَا رَسُولَ الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم يقولُ على أعوادِ مِنْبرهِ: "لَيَنْتَهيَنَّ أَقْوَامٌ عَنْ وَدْعِهِمُ الْجُمُعات أَوْ لَيَخْتِمَنَّ اللَّهُ عَلى قُلُوبهمْ، ثمَّ لَيَكونُنَّ مِنَ الْغافِلين" رواه مسلمٌ.(1/323)
(عن عبد الله بن عمر وأبي هريرة رضي الله عنهم أنهما سمعا رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم يقول على أعواد منبره) أي منبره الذي من عود، لا على الذي كان من الطين، ولا على الجذع الذي كان يستند إليه، وهذا المنبر عمل له صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم سنة سبع وقيل سنة ثمان، عمله له غلام امرأة من الأنصار كان نجاراً واسمه على أصح الأقوال ميمون، كان على ثلاث درج ولم يزل عليه حتى زاده مروان في زمن معاوية ست درج من أسفله، وله قصة في زيادته، وهي أن معاوية كتب إليه أن يحمله إلى دمشق فأمر به فقلع فأظلمت المدينة فخرج مروان فخطب فقال: إنما أمرني أمير المؤمنين أن أرفعه، وقال: إنما زدت عليه لما كثر الناس ولم يزل كذلك حتى احترق المسجد النبوي سنة أربع وخمسين وستمائة فاحترق ("لينتهين أقوام عن ودعهم) بفتح الواو وسكون الدال المهملة وكسر العين المهملة أي تركهم (الجمعات، أو ليختمن الله على قلوبهم) الختم الاستيثاق من الشيء بضرب الخاتم عليه كتماً له وتغطية لئلا يتوصل إليه، ولا يطلع عليه، شبهت القلوب بسبب إعراضهم عن الحق واستكبارهم عن قبوله وعدم نفوذ الحق إليها بالأشياء التي استوثق عليها بالختم فلا ينفذ إلى باطنها شيء، وهذه عقوبة على عدم الامتثال لأمر الله، وعدم إتيان الجمعة من باب تيسير العسرى (ثم ليكونن من الغافلين" رواه مسلم) بعد ختمه تعالى عن قلوبهم فيغفلون عن اكتساب ما ينفعهم من الأعمال وعن ترك ما يضرهم منها.
وهذا الحديث من أعظم الزواجر عن ترك الجمعة والتساهل فيها.
وفيه إخبار بأن تركها من أعظم أسباب الخذلان بالكلية.
والإجماع قائم على وجوبها على الإطلاق والأكثر أنها فرض عين وقال في معالم السنن: إنها فرض كفاية عند الفقهاء.(1/324)
[رح2] ــــ وَعَنْ سَلَمَةَ بْنِ الأكْوعِ رَضيَ الله عَنْهُ قالَ: "كنا نُصَلي معَ رَسُولِ اللَّهِ صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم الجُمُعةَ ثمَّ نَنْصرفُ وَلَيْسَ للحيطانِ ظِلٌّ يُستظلُّ بهِ" مُتّفقٌ عليه واللفْظُ للبخاريِّ، وفي لَفْظٍ لمسْلمٍ "كُنّا نجَمّعُ مع رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم إذا زَالت الشّمسُ ثُمَّ نَرْجِعُ نَتَتَبّعُ الْفَيْءَ".
(وعن سلمة بن الأكوع رضي الله عنه قال: كنا نصلي مع رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم يوم الجمعة ثم ننصرف وليس للحيطان ظل يستظل به. متفق عليه واللفظ للبخاري في لفظ لمسلم) أي من رواية سلمة (كنا نجمّع معه) أي النبي صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم (إذا زالت الشمس ثم نرجع نتتبع الفيء).
الحديث دليل على المبادرة بصلاة الجمعة عند أول زوال الشمس، والنفي في قوله "وليس للحيطان ظل" متوجه إلى القيد وهو قوله "يستظل به" لا نفي لأصل الظل حتى يكون دليلاً على أنه صلاها قبل زوال الشمس، وهذا التأويل معتبر عند الجمهور القائلين بأن وقت الجمعة هو وقت الظهر.
وذهب أحمد وإسحاق إلى صحة صلاة الجمعة قبل الزوال.
واختلف أصحاب أحمد فقال بعضهم: وقتها وقت صلاة العيد، وقيل الساعة السادسة.(1/325)
وأجاز مالك الخطبة قبل الزوال دون الصلاة وحجتهم ظاهر الحديث وما بعده وأصرح منه ما أخرجه أحمد ومسلم من حديث جابر: "أن النبي صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم كان يصلي الجمعة ثم نذهب إلى جمالنا فنريحها حين تزول الشمس" يعني النواضح، وأخرج الدارقطني عن عبد الله بن سيدان قال: شهدت مع أبي بكر الجمعة فكانت خطبته وصلاته قبل نصف النهار ثم شهدتها مع عمر فكانت صلاته وخطبته إلى أن أقول انتصف النهار ثم شهدتها مع عثمان فكانت صلاته وخطبته إلى أن أقول زال النهار فما رأيت أحداً عاب ذلك ولا أنكره. ورواه أحمد بن حنبل في رواية ابنه عبد الله قال: وكذلك روي عن ابن مسعود وجابر وسعيد ومعاوية: أنهم صلوا قبل الزوال.
ودلالة هذا على مذهب أحمد واضحة، والتأويل الذي سبق من الجمهور يدفعه أن صلاة النبي صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم مع قراءته سورة الجمعة والمنافقون وخطبته لو كانت بعد الزوال لما ذهبوا من صلاة الجمعة إلا وللحيطان ظل يستظل به كذا في الشرح.
وحققنا في حواشي ضوء النهار أن وقتها الزوال، ويدل له أيضاً قوله:
[رح3] ــــ وَعَن سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ رضيَ اللَّهُ عنهُما قال: "ما كُنّا نَقيلُ ولَا نَتَغَدّى إلا بَعْدَ الْجُمُعةِ" مُتّفقٌ عَلَيْهِ واللّفظ لمسلمٍ، وفي رواية "في عَهْدِ رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم".
(وعن سهل بن سعد رضي الله عنه) هو أبو العباس سهل بن سعد بن مالك الخزرجي الساعدي الأنصاري قيل كان اسمه "حزنا" فسماه صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم "سهلاً" مات النبي صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم وله خمس عشرة سنة ومات بالمدينة سنة إحدى وسبعين وهو آخر من مات بالمدينة من الصحابة (قال: "ما كنا نقيل) من القيلولة (ولا نتغدى إلا بعد الجمعة" متفق عليه واللفظ لمسلم. وفي رواية "في عهد رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم").
في النهاية المقيل والقيلولة الاستراحة نصف النهار وإن لم يكن معها نوم.(1/326)
فالحديث دليل على ما دل عليه الحديث الأول وهو من أدلة أحمد وإنما أتى المصنف رحمه الله بلفظ رواية "على عهد رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم" لئلا يقول قائل إنه لم يصرح الراوي في الرواية الأولى أن ذلك كان من فعله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم وتقريره فدفعه بالرواية التي أثبتت أن ذلك كان على عهده، ومعلوم أنه لا يصلي الجمعة في عهده في المدينة سواه، فهو إخبار عن صلاته وليس فيه دليل على الصلاة قبل الزوال، لأنهم في المدينة ومكة لا يقيلون ولا يتغدون إلا بعد صلاة الظهر كما قال تعالى: {وحين تضعون ثيابكم من الظهيرة} نعم كان صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم يسارع بصلاة الجمعة في أول وقت الزوال بخلاف الظهر فقد كان يؤخره بعده حتى يجتمع الناس.
[رح4] ــــ وعن جابرٍ رضيَ اللَّهُ عنهُ أنَّ رسولَ اللَّهِ صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم كانَ يخطبُ قائماً، فَجَاءَتْ عيرٌ مِنَ الشّام فانفتَلَ النّاسُ إليها حتى لَمْ يَبْقَ إلا اثنا عَشَرَ رَجُلا" رَواهُ مُسْلمٌ.
(وعن جابر رضي الله عنه أن النبي صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم كان يخطب قائماً فجاءت عير) بكسر العين المهملة وسكون المثناة التحتية فراء قال في النهاية: العير الإبل بأحمالها (من الشام فانفتل) بالنون الساكنة وفتح الفاء فمثناة فوقية أي انصرف (الناس إليها حتى لم يبق) أي في المسجد ــــ (إلا اثنا عشر رجلاً. رواه مسلم).
الحديث دليل على أنه يشرع في الخطبة أن يخطب قائماً.
وأنه لا يشترط لها عدد معين كما قيل إنه يشترط لها أربعون رجلاً ولا ما قيل إن أقل ما ينعقد به اثنا عشر رجلاً كما روي عن مالك لأنه لا دليل أنها لا تنعقد بأقل.
وهذه القصة هي التي نزلت فيها الآية: {وإذا رأوا تجارة} الآية:(1/327)
وقال القاضي عياض: إنه روى أبو داود في مراسيله: أن خطبته صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم التي انفضوا عنها إنما كانت بعد صلاة الجمعة وظنوا أنه لا شيء عليهم في الانفضاض عن الخطبة وأنه قبل هذه القصة كان يصلي قبل الخطبة.
قال القاضي: وهذا أشبه بحال أصحابه والمظنون بهم ما كانوا يدعون الصلاة مع النبي صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم ولكنهم ظنوا جواز الانصراف بعد انقضاء الصلاة.
[رح5] ــــ وَعَنْ ابن عمَرَ رضيَ اللَّهُ عنهُما قال: قالَ رسولُ الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم: "مَنْ أَدْرَكَ رَكعةً مِنْ صَلاةِ الجُمُعةِ وغيْرهَا فلْيضفْ إليها أُخرى وَقَد تمّتْ صَلاتُهُ" رواه النّسائيُّ وابنُ مَاجَهْ والدَّارَقُطْنيُّ واللفظُ لهُ، وإسنادُهُ صحيحٌ لكنْ قوَّى أَبو حاتمٍ إرسالَهُ.
(وعن ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم: "من أدرك ركعة من صلاة الجمعة وغيرها) أي من سائر الصلوات (فليضف إليها أُخرى) في الجمعة أو غيرها يضيف إليها ما بقي من ركعة وأكثر (وقد تمت صلاته" رواه النسائي وابن ماجه والدارقطني واللفظ له وإسناده صحيح لكن قوى أبو حاتم إرساله) الحديث أخرجوه من حديث بقية حدثني يونس بن يزيد عن سالم عن أبيه ــــ الحديث ــــ قال أبو داود والدارقطني: تفرّد به بقية عن يونس، وقال ابن أبي حاتم في العلل عن أبيه: هذا خطأ في المتن والإسناد وإنما هو عن الزهري عن أبي سلمة عن أبي هريرة مرفوعاً "من أدرك من الصلاة ركعة فقد أدركها" وأمّا قوله: "من صلاة الجمعة" فوهم وقد أخرج الحديث من ثلاثة عشر طريقاً عن أبي هريرة ومن ثلاثة طرق عن ابن عمر وفي جميعها مقال.
وفي الحديث دلالة على أن الجمعة تصح للاحق وإن لم يدرك من الخطبة شيئاً وإلى هذا ذهب زيد بن علي والمؤيد والشافعي وأبو حنيفة.
وذهبت الهادوية إلى أن إدراك شيء من الخطبة شرط لا تصح الجمعة بدونه.(1/328)
وهذا الحديث حجة عليهم وإن كان فيه مقال لكن كثرة طرقه يقوّي بعضها بعضاً مع أنه أخرجه الحاكم من ثلاث طرق أحدها من حديث أبي هريرة وقال فيها: على شرط الشيخين، ثم الأصل عدم الشرط حتى يقوم عليه دليل.
[رح6] ــــ وَعَنْ جَابرِ بن سَمُرةَ رضي الله عنهُما: "أنَّ النّبيَّ صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم كانَ يخطُبُ قائماً، ثم يجلسُ، ثمَّ يقومُ فَيَخْطبُ قائماً، فَمَنْ أَنْبَأَكَ أَنهُ كانَ يخطُبُ جالساً فَقَدْ كَذَبَ" أَخرجهُ مُسلمٌ.
الحديث دليل أنه يشرع القيام حال الخطبتين والفصل بينهما بالجلوس.
وقد اختلف العلماء هل هو واجب أو سنة فقال أبو حنيفة: إن القيام والقعود سنة.
وذهب مالك إلى أن القيام واجب فإن تركه أساء وصحت الخطبة.
وذهب الشافعي وغيره إلى أن الخطبة لا تكون إلا من قيام لمن أطاقه واحتجوا بمواظبته صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم على ذلك حتى قال جابر: فمن أنبأك إلى آخره. وبما روي أن كعب بن عجرة لما دخل المسجد وعبد الرحمن بن أبي الحكم يخطب قاعداً فأنكر عليه وتلا عليه (وتركوك قائماً) وفي رواية ابن خزيمة: ما رأيت كاليوم قط إماماً يؤم المسلمين يخطب وهو جالس يقول ذلك مرتين.
وأخرج ابن أبي شيبة عن طاوس: خطب رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم قائماً وأبو بكر وعمر وعثمان وأوّل من جلس على المنبر معاوية، وأخرج ابن أبي شيبة عن الشعبي أن معاوية إنما خطب قاعداً لما كثر شحم بطنه ولحمه. وهذا إبانة للعذر فإنه مع العذر في حكم المتفق على جواز القعود في الخطبة.
وأما حديث أبي سعيد الذي أخرجه البخاري: أن النبي صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم جلس ذات يوم على المنبر وجلسنا حوله.
فقد أجاب عنه الشافعي أنه كان في غير جمعة.
وهذه الأدلة تقضي بشرعية القيام والقعود المذكورين في الخطبة.(1/329)
وأما الوجوب وكونه شرطاً في صحتها فلا دلالة عليه في اللفظ إلا أنه قد ينضم إليه دليل وجوب التأسي به صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم وقد قال: "صلوا كما رأيتموني أصلي".
وفعله في الجمعة في الخطبتين وتقديمها على الصلاة مبين لآية الجمعة فما واظب عليه فهو واجب وما لم يواظب عليه كان في الترك دليل على عدم الوجوب فإن صح أن قعوده في حديث أبي سعيد كان في خطبة الجمعة كان الأقوى القول الأوّل وإن لم يثبت ذلك فالقول الثاني.
"فائدة" تسليم الخطيب على المنبر على الناس فيه حديث أخرجه الأثرم بسنده عن الشعبي: "كان رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم إذا صعد المنبر يوم الجمعة استقبل الناس فقال السلام عليكم". الحديث، وهو مرسل. وأخرج ابن عدي: "أنه صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم كان إذا دنا من منبره سلم على من عند المنبر ثم صعد فإذا استقبل الناس بوجهه سلم ثم قعد". إلا أنه ضعفه ابن عدي[تض] بعيسى بن عبد الله الأنصاري[/تض] وضعفه به ابن حبان.
[رح7] ــــ وَعَنْ جابِرِ بنِ عَبْدِ اللَّهِ رَضيَ الله عَنْهُما قال: "كان رَسُولُ الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم إذا خطب احمَرَّت عَيْناه، وَعَلا صَوْتُهُ، واشْتَدَّ غَضَبُهُ، حتى كأنهُ مُنذرُ جَيْشٍ يَقُولُ صَبّحَكم وَمَسّاكمْ" ويقولُ: "أَمّا بَعْدُ فإنّ خَيْرَ الحديث كِتابُ اللَّهِ، وَخَيرَ الْهَدي هُدَى محمّد، وشَرَّ الأُمور مُحْدَثَاتُها، وكلَّ بدعةٍ ضَلالةٌ" رواهُ مُسلمٌ، وفي روايةٍ لهُ: "كانت خطبَةُ النّبيِّ صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم يَوْمَ الْجُمْعَة يَحْمَدُ الله ويُثني عَليه ثمَّ يقولُ عَلى أَثر ذلك وَقد عَلا صَوتُهُ". وفي رواية لهُ: "مَنْ يَهْده الله فلا مُضلَّ لهُ، وَمَنْ يُضلِل فلا هاديَ لهُ" وللنسائي: "وكلَّ ضَلالة في النّار".(1/330)
(وعن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: كان رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم إذا خطب احمرّت عيناه وعلا صوته واشتدّ غضبه حتى كأنه منذر جيش يقول صبحكم ومساكم" ويقول: "أما بعد فإن خير الحديث كتاب الله وخير الهُدى هدَى محمد) قال النووي: ضبطناه في مسلم بضم الهاء وفتح الدال فيهما وبفتح الهاء وسكون الدال فيهما وفسره الهروي على رواية الفتح بالطريق أي أحسن الطريق طريق محمد. وعلى رواية الضم معناه الدلالة والإرسال وهو الذي يضاف إلى الرسل وإلى القرآن قال تعالى: {وإنك لتهدي} (الشورى: 52) {إن هذا القران يهدي} (الإسراء: 9) وقد يضاف إليه تعالى وهو بمعنى اللطف والتوفيق والعصمة {إنك لا تهدي من أحببت} (القصص: 56) الآية (وشر الأمور محدثاتها) المراد بالمحدثات ما لم يكن ثابتاً بشرع من الله ولا من رسوله (وكل بدعة ضلالةٌ") البدعة لغة: ما عمل على غير مثال سابق، والمراد بها هنا: ما عمل من دون أن يسبق له شرعية من كتاب ولا سنة (رواه مسلم).
وقد قسم العلماء البدعة على خمسة أقسام: واجبة ــــ كحفظ العلوم بالتدوين والرد على الملاحدة بإقامة الأدلة، ومندوبة ــــ كبناء المدارس، ومباحة ــــ كالتوسعة في ألوان الطعام وفاخر الثياب، ومحرّمة ومكروهة وهما ظاهران؛ فقوله: "كل بدعة ضلالة" عام مخصوص.(1/331)
وفي الحديث دليل على أنه يستحب للخطيب أن يرفع بالخطبة صوته ويجزل كلامه ويأتي بجوامع الكلم من الترغيب والترهيب ويأتي بقوله: أما بعد وقد جمع البخاري باباً في استحبابها وذكر فيه جملة من الأحاديث وقد جمع الروايات التي فيها ذكر "أما بعد" لبعض المحدثين وأخرجها على اثنين وثلاثين صحابياً وظاهره أنه كان صلى الله عليه وآله وسلم يلازمها في جميع خطبه وذلك بعد حمد الله والثناء والتشهد كما تفيده الرواية المشار إليها بقوله: "وفي رواية له" أي لمسلم عن جابر بن عبد الله "كانت خطبة النبي صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم يوم الجمعة: يحمد الله ويثني عليه ثم يقول على أثر ذلك وقد علا صوته" حذف المقول اتكالا على ما تقدم وهو قوله: "أما بعد فإن خير الحديث" إلى آخر ما تقدم.
ولم يذكر الشهادة اختصاراً لثبوتها في غير هذه الرواية فقد ثبت أنه صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم قال: "كل خطبة ليس فيها تشهد فهي كاليد الجذماء" وفي دلائل النبوة للبيهقي من حديث أبي هريرة مرفوعاً حكاية عن الله عز وجل "وجعلت أمتك لا يجوز لهم خطبة حتى يشهدوا أنك عبدي ورسولي" وكان يذكر في تشهد نفسه باسمه العلم (وفي رواية له) أي لمسلم عن جابر ("من يهده الله فلا مضلَّ له ومن يضلل فلا هادي له") أي أنه يأتي بهذه الألفاظ بعد "أما بعد" (وللنسائي) أي عن جابر ("وكل ضلالة في النار") أي بعد قوله "كل بدعة ضلالة" كما هو في النسائي واختصره المصنف والمراد صاحبها.
وكان يعلم أصحابه في خطبته قواعد الإسلام وشرائعه ويأمرهم وينهاهم في خطبته إذا عرض له أمر أو نهي، كما أمر الداخل وهو يخطب أن يصلي ركعتين، ويذكر معالم الشرائع في الخطبة، والجنة والنار والمعاد ويأمر بتقوى الله ويحذر من غضبه ويرغب في موجبات رضاه.(1/332)
وقد ورد قراءة آية في حديث مسلم: كان لرسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم خطبتان يجلس بينهما يقرأ القران ويذكر الناس ويحذر" وظاهره محافظته صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم على ما ذكر في الخطبة، ووجوب ذلك لأن فعله بيان لما أجمل في آية الجمعة، وقد قال صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم: "صلوا كما رأيتموني أصلي" وذهب إلى هذا الشافعي.
وقالت الهادوية: لا يجب في الخطبة إلا الحمد والصلاة على النبي صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم في الخطبتين جميعاً.
وقال أبو حنيفة: يكفي سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر.
وقال مالك: لا يجزيء إلا ما سمي خطبة.
[رح8] ــــ وَعَنْ عَمّار بن ياسرٍ رضيَ اللَّهُ عَنهُما قالَ: سمعْتُ رسولَ الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم يقولُ: "إن طولَ صَلاة الرَّجل وَقِصَر خُطْبَتِهِ مَئِنّةٌ من فِقْهِهِ" رواهُ مُسلمٌ.
(وعن عمار بن ياسر رضي الله عنهما قال: سمعت رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم يقول: "إنَّ طول صلاة الرجل وقصر خطبته مئنة) بفتح الميم ثم همزة مكسورة ثم نون مشددة أي علامة (مِنْ فِقْهِهِ") أي مما يعرف به فقه الرجل، وكل شيء دل على شيء فهو مَئِنة له (رواه مسلم).
وإنما كان قصر الخطبة علامة على فقه الرجل لأن الفقيه هو المطلع على حقائق المعاني وجوامع الألفاظ فيتمكن من التعبير بالعبارة الجزلة المفيدة ولذلك كان من تمام هذا الحديث "فأطيلوا الصلاة وأقصروا الخطبة وإن من البيان لسحراً".
فشبه الكلام العامل في القلوب الجاذب للعقول بالسحر لأجل ما اشتمل عليه من الجزالة وتناسق الدلالة وإفادة المعاني الكثيرة ووقوعه في مجازه من الترغيب والترهيب ونحو ذلك، ولا يقدر عليه إلا من فقه في المعاني وتناسق دلالتها فإنه يتمكن من الإتيان بجوامع الكلم، وكان ذلك من خصائصه صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم فإنه أوتي جوامع الكلم.
والمراد من طول الصلاة طول الذي لا يدخل فاعله تحت النهي.(1/333)
وقد كان صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم يصلي الجمعة بالجمعة والمنافقون وذلك طول بالنسبة إلى خطبته وليس بالتطويل المنهي عنه.
[رح9] ــــ وَعَنْ أُمِّ هشامٍ بنتِ حارثةً رضيَ اللَّهُ عَنْهُما قالت: "ما أَخَذْتُ (ق وَالْقرْآن المجيد) إلّا عَنْ لِسَانِ رسُول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم يقرَؤها كلَّ جُمُعةٍ على المنبر إذا خَطَبَ النّاسَ" رَوَاهُ مُسلمٌ.
(وعن أم هشام بنت حارثة بن النعمان رضي الله عنهما) هي الأنصارية روى عنها حبيب بن عبد الرحمن بن يساف، قال أحمد بن زهير: سمعت أبي يقول: أم هشام بنت حارثة بايعت بيعة الرضوان ذكره ابن عبد البر في الاستيعاب ولم يذكر اسمها، وذكرها المصنف في التقريب ولم يسمعها أيضاً وإنما قال: صحابية مشهورة (قالت: ما أخذت ق والقرآن المجيد إلا عن لسان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقرؤها كل جمعة على المنبر إذا خطب الناس: رواه مسلم).
فيه دليل على مشروعية قراءة سورة "ق" في الخطبة كل جمعة.
قال العلماء: وسبب اختياره صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم هذه السورة لما اشتملت عليه من ذكر البعث والموت والمواعظ الشديدة والزواجر الأكيدة.
وفيه دلالة لقراءة شيء من القرآن في الخطبة كما سبق وقد قام الإجماع على عدم وجوب قراءة السورة المذكورة ولا بعضها في الخطبة، وكانت محافظته على هذه السورة اختياراً منه لما هو الأحسن في الوعظ والتذكير.
وفيه دلالة على ترديد الوعظ في الخطبة.
[رح10] ــــ وعَنِ ابْنِ عَبّاسٍ رضي الله عَنْهُما قال: قالَ رسولُ الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم: "مَنْ تكلّم يوْمَ الجُمُعةِ والإمامُ يخْطُبُ فَهُو كمَثل الحمار يحملُ أَسفاراً، والذي يقول لَهُ: أَنْصِتْ لَيْسَتْ لَهُ جُمُعَةٌ" رَواهُ أَحمدُ بإسنادٍ لا بأس بهِ.(1/334)
(وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم: "من تكلم يوم الجمعة والإمام يخطب فهو كمثل الحمار يحمل أسفاراً والذي يقول له: أَنصت ليست له جمعة" رواه أحمد بإسناد لا بأس به) وله شاهد قوي في جامع حماد مرسل (وهو) أي حديث ابن عباس (يفسر) الحديث.
[رح11] ــــ عن أَبي هُريرَة رضي اللَّهُ عنْهُ في الصّحيحيّنِ مَرْفوعاً "إذا قُلْتَ لِصاحِبِكَ أَنْصِتْ يَوْمَ الجُمُعَةِ والإمامُ يَخْطُبُ فَقَدْ لَغَوْتَ".
في قوله "يوم الجمعة" دلالة على أن خطبة غير الجمعة ليست مثلها ينهى عن الكلام حالها.
وقوله "والإمام يخطب" دليل على أنه يختص النهي بحال الخطبة، وفيه رد على من قال إنه ينهى من حال خروج الإمام.
وأما الكلام عند جلوسه بين الخطبتين فهو غير خاطب فلا ينهى عن الكلام حاله. وقيل هو وقت يسير يشبه بالسكوت للتنفس فهو في حكم الخاطب.
وإنما شبه بالحمار يحمل أسفاراً لأنه فاته الانتفاع بأبلغ نافع وقد تكلف المشقة وأتعب نفسه في حضور الجمعة، والمشبه به كذلك فاته الانتفاع بأبلغ نافع مع تحمل التعب في استصحابه.
وفي قوله "ليست له جمعة" دليل على أنه لا صلاة له فإن المراد بالجمعة الصلاة إلا أنها تجزئة إجماعاً فلا بد من تأويل هذا بأنه نفي للفضيلة التي يحوزها من أنصت وهو كما في حديث ابن عمر الذي أخرجه أبو داود وابن خزيمة بلفظ "من لغا وتخطى رقاب الناس كانت له ظهراً" قال ابن وهب أحد رواته: معناه أجزأته الصلاة وحرم فضيلة الجماعة.
وقد احتج بالحديث من قال بحرمة الكلام حال الخطبة وهم الهادوية وأبو حنيفة ومالك ورواية عن الشافعي فإن تشبيهه بالمشبه به المستنكر وملاحظة وجه الشبه يدل على قبح ذلك، وكذلك نسبته إلى فوات الفضيلة الحاصلة بالجمعة، وما ذاك إلا ما لحق المتكلم من الوزر الذي يقال الفضيلة فيصير محبطاً لها.(1/335)
وذهب القاسم وابنا الهادي وأحد قولي أحمد والشافعي إلى التفرقة بين من يسمع الخطبة ومن لا يسمعها.
ونقل ابن عبد البر الإجماع على وجوب الإنصات على من يسمع خطبة الجمعة إلا عن قليل من التابعين.
وقوله: "إذا قلت لصاحبك أنصت فقد لغوت" تأكيد في النهي عن الكلام لأنه إذا عد من اللغو وهو أمر بمعروف فأولى غيره، فعلى هذا يجب عليه أن يأمره بالإشارة إن أمكن ذلك.
والمراد بالإنصات قيل: من مكالمة الناس فيجوز على هذا الذكر وقراءة القرآن، والأظهر أن النهي شامل للجميع، ومن فرق فعليه الدليل، فمثل جواب التحية والصلاة على النبي صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم عند ذكره عند من يقول بوجوبها قد تعارض فيه عموم النهي هنا وعموم الوجوب فيهما، وتخصيص أحدهما لعموم الآخر تحكم من دون مرجح.
واختلفوا في معنى قوله "لغوت" والأقرب ما قاله ابن المنير: أن اللغو ما لا يحسن، وقيل بطلت فضيلة جمعتك وصارت ظهراً.
[رح12] ــــ وَعَنْ جابرٍ رضي اللَّهُ عَنْهُ قالَ: "دَخَلَ رَجُلٌ يَوْم الجُمُعةِ والنّبيُّ صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم يخطُبُ فَقَالَ: "صَلّيْتَ؟" قالَ: لا، قالَ: "قُمْ فَصَلِّ ركْعَتَيْن" مُتّفقٌ عليه.
الرجل هو سليك الغطفاني سماه في رواية مسلم، وقيل غيره وحذفت همزة الاستفهام من قوله "صليت" وأصله أصليت وفي مسلم قال له: "أصليت" وقد ثبت في بعض طرق البخاري. وسليك بضم السين المهملة بعد اللام مثناة تحتية مصغر. الغطفاني بفتح الغين المعجمة فطاء مهملة بعدها فاء.
وقوله: "صل ركعتين" وعند البخاري وصفهما بخفيفتين، وعند مسلم "وتجوز فيهما" وبوَّب البخاري لذلك بقوله "باب من جاء والإمام يخطب يصلي ركعتين خفيفتين".
وفي الحديث دليل أن تحية المسجد تصلى حال الخطبة، وقد ذهب إلى هذه طائفة من الآل والفقهاء والمحدثين، ويخفف ليفرغ لسماع الخطبة.(1/336)
وذهب جماعة من السلف والخلف إلى عدم شرعيتهما حال الخطبة، والحديث هذا حجة عليهم، وقد تأولوه بأحد عشر تأويلا كلها مردودة سردها المصنف في فتح الباري بردودها ونقل ذلك الشارح رحمه الله في الشرح، واستدلوا بقوله تعالى: {فاستمعوا له وأنصتوا} ولا دليل في ذلك، لأن هذا خاص وذلك عام، ولأن الخطبة ليست قرآناً وبأنه صلى الله عليه وآله وسلم نهى الرجل أن يقول لصاحبه والخطيب يخطب أنصت وهو أمر بمعروف وجوابه: أن هذا أمر الشارع وهذا أمر الشارع، فلا تعارض بين أمريه، بل القاعد ينصت والداخل يركع التحية وبإطباق أهل المدينة خلفاً عن سلف، على منع النافلة حال الخطبة.
وهذا الدليل للمالكية وجوابه أنه ليس إجماعهم حجة ولو أجمعوا كما عرف في الأصول على أنه لا يتم دعوى إجماعهم، فقد أخرج الترمذي وابن خزيمة وصححه أن أبا سعيد أتى ومروان يخطب فصلاهما فأراد حرس مروان أن يمنعوه فأبى حتى صلاهما ثم قال: ما كنت لأدعهما بعد أن سمعت رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم يأمر بهما.
وأما حديث ابن عمر عند الطبراني في الكبير مرفوعاً بلفظ: "إذا دخل أحدكم المسجد والإمام يخطب فلا صلاة ولا كلام حتى يفرغ الإمام" ففيه أيوب بن نهيك متروك وضعفه جماعة وذكره ابن حبان في الثقات وقال: يخطىء.
وقد أخذ من الحديث أنه يجوز للخطيب أن يقطع الخطبة باليسير من الكلام، وأجيب عنه بأنه هذا الذي صدر منه صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم من جملة الأوامر التي شرعت لها الخطبة، وأمره صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم بها دليل على وجوبها. وإليه ذهب البعض.
وأما من دخل الحرم في غير حال الخطبة فإنه يشرع له الطواف فإنه تحته أو لأنه في الأغلب لا يعقد إلا بعد صلاة ركعتي الطواف.
وأما صلاتها قبل صلاة العيد فإن كانت صلاة العيد في جبانة غير مسبلة فلا يشرع لها التحية مطلقاً وإن كانت في مسجد فتشرع.(1/337)
وأما كونه صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم لما خرج إلى صلاته لم يصل قبلها شيئاً فذلك لأنه حال قدومه اشتغل بالدخول في صلاة العيد ولأنه كان يصليها في الجبانة ولم يصلها إلا مرة واحدة في مسجده صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم فلا دليل فيه على أنها لا تشرع لغيره ولو كانت العيد في مسجد.
[رح13] ــــ وعن ابْنِ عبّاسٍ رضيَ اللَّهُ عَنْهُما: "أَنَّ النّبيَّ صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم كانَ يقرأُ في صَلاة الجُمُعة سورةَ الجّمُعة والمنَافقين" رواهُ مُسْلِمٌ.
(وعن ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم كان يقرأ في صلاة الجمعة سورة الجمعة) في الأولى (والمنافقين) في الثانية أي بعد الفاتحة فيها لما علم من غيره (رواه مسلم).
وإنما خصهما بهما لما في سورة الجمعة من الحث على حضورها والسعي إليها وبيان فضيلة بعثته صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم وذكر الأربع الحكم في بعثته من أنه يتلو عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة والحث على ذكر الله. ولما في سورة المنافقين من توبيخ أهل النفاق وحثهم على التوبة ودعائهم إلى طلب الاستغفار من رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم لأن المنافقين يكثر اجتماعهم في صلاتها، ولما في آخرها من الوعظ والحث على الصدقة.
[رح14] ــــ ولَهُ عَنِ النُعْمانِ بن بشير رضيَ اللَّهُ عنْهُ "كانَ رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم يقرأَ في الْعِيديْنِ وفي الجُمُعَةِ بـ (سَبّحْ اسْم رَبِّك الأعلى) و (هَلْ أَتاكَ حديثُ الغَاشِيةِ).(1/338)
(وله) أي لمسلم (عن النعمان بن بشير رضي الله عنه كان رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم يقرأ) أي رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم (في العيدين) الفطر والأضحى أي في صلاتهما (وفي الجمعة) أي في صلاتها (بسبح اسم ربك الأعلى) أي في الركعة الأولى بعد الفاتحة ({وهل أتاك حديث الغاشية}) أي في الثانية بعدها وكأنه كان يقرأ ما ذكره ابن عباس تارة وما ذكره النعمان تارة، وفي سور سبح والغاشية من التذكير بأحوال الآخرة والوعد والوعيد ما يناسب قراءتهما في تلك الصلاة الجامعة، وقد ورد في العيدين أنه كان يقرأ بقاف واقتربت.
[رح 51/624] ـ وَعَنْ زَيْدِ بْنِ أَرْقَمَ رَضِيَ الله تَعَالَى عَنْهُ، قَالَ: صَلَّى النَّبِيُّ صَلَّى لله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْعِيدَ، ثُمَّ رَخَّصَ فِي الْجُمَعَةِ، ثُم قَالَ: "مَنْ شَاءَ أَنْ يُصَلِّيَ فَلْيُصَلِّ". رَوَاهُ الْخَمْسَةُ إِلا التَّرْمِذِيَّ. وَصَحَّحَهُ ابْنُ خُزَيْمَةَ.
(وعن زيد بن أرقم رضي الله عنه قال: صلى النبي صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم العيد) في يوم الجمعة، (ثم رخص في الجمعة) أي في صلاتها، (ثم قال: من شاء أن يصلي) أي الجمعة (فليصل) هذا بيان لقوله رخص، وإعلام بأنه كان الترخيص بهذا اللفظ، (رواه الخمسة إلا الترمذي وصححه ابن خزيمة).
وأخرج أيضاً أبو داود من حديث أبي هريرة أنه صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم قال: "قد اجتمع في يومكم هذا عيدان فمن شاء أجزأه عن الجمعة وإنا مجمعون". وأخرجه ابن ماجه والحاكم من حديث أبي صالح، وفي إسناده بقية وصحح الدارقطني وغيره إرساله، وفي الباب عن ابن الزبير من حديث عطاء: "أنه ترك ذلك، وأنه سأل ابن عباس فقال: أصاب السنة".(1/339)
والحديث دليل على أن صلاة الجمعة بعد صلاة العيد تصير رخصة يجوز فعلها وتركها وهو خاص بمن صلى العيد دون من لم يصلها، وإلى هذا ذهب الهادي وجماعة إلا في حق الإمام وثلاثة معه. وذهب الشافعي وجماعة إلى أنها لا تصير رخصة مستدلين بأن دليل وجوبها عام لجميع الأيام، وما ذكر من الأحاديث والآثار لا يقوى على تخصيصها لما في أسانيدها من المقال.
قلت: حديث زيد بن أرقم قد صححه ابن خزيمة ولم يطعن غيره فيه فهو يصلح للتخصيص، فإنه يخص العام بالآحاد، وذهب عطاء إلى أنه يسقط فرضها عن الجميع لظاهر قوله: "من شاء أن يصلي فليصل". ولفعل ابن الزبير فإنه صلى بهم في يوم عيد صلاة العيد يوم الجمعة، قال عطاء: ثم جئنا إلى الجمعة فلم يخرج إلينا فصلينا وحدانا، قال: وكان ابن عباس في الطائف، فلما قدم ذكرنا له ذلك فقال: أصاب السنة وعنده أيضاً أنه يسقط فرض الظهر ولا يصلي إلى العصير". وأخرج أبو داود عن ابن الزبير: "أنه قال عيدان اجتمعا في يوم واحد فجمعهما فصلاهما ركعتين بكرة لم يزد عليهما حتى صلى العصر". وعلى القول بأن الجمعة الأصل في يومها والظهر بدل فهو يقتضي صحة هذا القول لأنه إذا سقط وجوب الأصل مع إمكان أدائه سقط البدل.
وظاهر الحديث أيضاً حيث رخص لهم في الجمعة ولم يأمرهم بصلاة الظهر مع تقدير إسقاط الجمعة للظهر يدل على ذلك كما قاله الشارح، وأيد الشارح مذهب ابن الزبير.(1/340)
قلت: ولا يخفى أن عطاءاً أخبر أنه لم يخرج ابن الزبير لصلاة الجمعة وليس ذلك بنص قاطع أنه لم يصل الظهر في منزله، فالجزم بأن مذهب ابن الزبير سقوط صلاة الظهر في يوم الجمعة يكون عيداً على من صلى صلاة العيد لهذه الرواية غير صحيح لاحتمال أنه صلى الظهر في منزله، بل في قول عطاء أنهم صلوا وحدانا أي الظهر ما يشعر بأنه لا قائل بسقوطه، ولا يقال: أن مراده صلوا الجمعة وحدانا فإنها لا تصح إلا جماعة إجماعاً، ثم القول بأن الأصل في يوم الجمعة صلاة الجمعة والظاهر بدل عنها قول مرجوح بل الظهر هو الفرض الأصلي المفروض ليلة الإسراء والجمعة متأخر فرضها، ثم إذا فاتت وجب الظهر إجماعاً فهي البدل عنه، وقد حققناه في رسالة مستقلة.
[رح 61/724] ـ وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ الله عَنْهُ، قَالَ: قَالَ رَسُولَ الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم: "إِذَا صَلَّى أَحَدُكُمُ الْجُمْعَةَ فَلْيُصَلِّ بَعْدَهَا أَرْبَعاً". رَوَاهُ مُسْلِمٌ.
(وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم: "إذا صلى أحدكم الجمعة فليصل بعدها أربعاً" رواه مسلم) الحديث دليل على شرعية أربع ركعات بعد الجمعة والأمر بها وإن كان ظهره الوجوب، إلا أنه أخرجه عنه ما وقع في لفظه من رواية ابن الصباح: "من كان مصلياً بعد الجمعة فليصل أربعاً" أخرجه مسلم فدل على أن ذلك ليس بواجب والأربع أفضل من الاثنتين لوقوع الأمر بذلك وكثرة فعله لها صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم، قال في الهدي النبوي: وكان صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم إذا صلى الجمعة دخل منزله وصلى ركعتين سنتها، وأمر من صلاها أن يصلي بعدها أربعاً، قال شيخنا ابن تيمية: إن صلى في المسجد صلى أربعاً وإن صلى في بيته صلى ركعتين.(1/341)
قلت: وعلى هذا تدل الأحاديث وقد ذكر أبو داود عن ابن عمر: "أنه كان إذا صلى في المسجد صلى أربعاً، وإذا صلى في بيته صلي ركعتين"، وفي الصحيحين عن ابن عمر أنه صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم كان يصلي بعد الجمعة ركعتين في بيته.
[رح 71/824] ـ وَعَنَ السَّائِبِ بْنِ يَزِيدَ رَضِيَ الله عَنْهُ، أنَّ مُعَاوِيَةَ رَضِيَ الله عَنْهُ قَالَ لَهُ: "إِذَا صَلَّيْتَ الْجُمْعَة فَلا تَصِلْهَا بِصَلاةٍ، حَتَّى تَتَكَلَّمَ أَوح تَخْرُجَ، فَإِنَّ رَسُولَ الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم أَمَرَنَا بِذَلِكَ، أَنْ لا نَصِلَ صَلاةً بِصَلاةٍ حَتَّى نَتَكَلَّمَ أَوْ نَخْرُجَ". رَوَاهُ مُسْلِمٌ.
(وعن السائب بن يزيد رضي الله عنه) هو أبو يزيد السائب بن يزيد الكندي في الأشهر ولد في الثانية من الهجرة وحضر الحجة الوداع مع أبيه وهو ابن سبع سنين (أن معاوية قال: إذا صليت الجمعة فلا تصلها) بفتح حرف المضارعة عن الوصل (بصلاة حتى تتكلم أو تخرج) أي من المسجد (فإن رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم أمرنا بذلك أن لا نوصل صلاة بصلاة حتى نتكلم أو نخرج) أن وما بعده بدل أو عطف بيان من ذلك (رواه مسلم) فيه مشروعية فصل النافلة عن الفريضة وأن لا توصل بها، وظاهر النهي التحريم وليس خاصاً بصلاة الجمعة، لأنه استدل الراوي على تخصيصخ بذكر صلاة الجمعة بحديث يعمها وغيرها.(1/342)
قيل: والحكمة في ذلك لئلا يشتبه الفرض بالنافلة، وقد ورد أن ذلك هلكة. وقد ذكر العلماء أنه يستحب التحول للنافلة من موضع الفريضة والأفضل أن يتحول إلى بيته، فإن فعل النوافل في البيوت أفضل، وإلا فإلى موضع في المسجد أو غيره، وفيه تكثير لمواضع السجود، وقد أخرج أبو داود من حديث أبو هريرة مرفوعاً: "أيعجز أحدكم أن يتقدم أو يتأخر أو عن يمينه أو عن شماله في الصلاة يعني السبحة". ولم يضعفه أبو داود، وقال البخاري في صحيحه: ويذكر عن أبي هريرة يرفعه: "لا يتطوع الإمام في مكانه". ولم يصح النهي.
[رح 81/924] ـ وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَة رَضِيَ الله عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولَ الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم: مَنِ اغْتَسَلَ، ثُمَّ أَتَى الْجُمْعَةَ، فَصَلَّى مَا قُدِّرَ لَهُ، ثُمّ أَنْصَتَ، حَتَّى يَفْرُغَ الإِمَامُ مِنْ خُطْبَتِهِ، ثُمَّ يُصَلِّي مَعَهُ: غُفِرَ لَهُ مَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجُمْعَةِ الأُخْرَى، وَفَضْلُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ". رَوَاهُ مُسْلِمٌ.
(وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم من اغتسل) أي للجمعة لحديث: "إذا أتى أحدكم الجمعة فليغتسل" أو مطلقاً، (ثم أتى الجمعة) أي الموضع الذي تقام فيه كما يدل له قوله: (فصلى) من النوافل (قدر له ثم أنصت حتى يفرغ الإمام من خطبته ثم يصلي معه غفر له ما بينه وبين الجمعة الأخرى وفضل) أي زيادة (ثلاثة أيام. رواه مسلم).
فيه دلالة على أنه لا بد في إحرازه لما ذكر من الأجر من الاغتسال إلا أن في رواية لمسلم: "من توضأ فأحسن الوضوء ثم أتى الجمعة". وفي هذه الرواية بيان أن غسل الجمعة ليس بواجب وأنه لا بد من النافلة حسبما يمكنه فإنه لم يقدرها بحد فيتم له هذا الأجر ولو اقتصر على تحية المسجد.(1/343)
وقوله: "أنصت" من الإنصات وهو السكوت وهو غير الاستماع، إذ هو الإصغاء لسماع الشيء، ولذا قال تعالى: {فاستمعوا له وأنصتوا} (الأعراف: 204) وتقدم الكلام على الإنصات هل يجب أو لا.
وفيه دلالة على أن النهي عن الكلام إنما هو حال الخطبة لا بعد الفراغ منها ولو قبل الصلاة فإنه لا نهي عنه كما دلت عليه "حتى".
وقوله "غفر له ما بينه وبين الجمعة" أي ما بين صلاتها وخطبتها إلى مثل ذلك الوقت من الجمعة الثانية حتى يكون سبعة أيام بلا زيادة ولا نقصان أي غفرت له الخطايا الكائنة فيما بينهما.
"وفضل ثلاثة أيام" وغفرت له ذنوب ثلاثة أيام مع السبع حتى تكون عشرة.
وهل المغفور الكبائر أو الصغائر؟ الجمهور على الآخر وأن الكبائر لا يغفرها إلا التوبة.
[رح19] ــــ وعنهُ رَضيَ اللَّهُ عَنْهُ أن رسولَ الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم ذكَرَ يَوْمَ الجُمُعَةِ فَقال: "فِيهِ سَاعةٌ لا يُوافِقُها عَبْدٌ مُسْلم وَهُوَ قائم يصلي يَسْأَلُ اللَّهُ عَزّ وَجَلَّ شَيْئاً إلا أَعْطاهُ إياهُ. وأَشَارَ بِيَدِهِ يُقَلِّلُهَا، مُتّفَقٌ عَلَيْهِ، وفي روايةٍ لِمُسْلمٍ "وهيَ سَاعةٌ خَفِيفَةٌ".
(وعنه) أي أبي هريرة (رضي الله عنه أن رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم ذكر يوم الجمعة فقال: "فيه ساعةٌ لا يوافِقُها عبْدٌ مُسْلمٌ وهوَ قائمٌ) جملة حالية أو صفة لعبد والواو لتأكيد لصوق الصفة (يُصَلي) حال ثانية (يسأَلُ الله عزَّ وجلَّ) حال ثالثة (شيئاً إلا أَعطاهُ إياهُ" وأشار) أي النبي صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم (بيده يقللها) يحقر وقتها (متفق عليه وفي رواية لمسلم "وهي ساعةٌ خفيفة") هو الذي أفاده لفظ يقللها في الأولى وفيه إبهام الساعة ويأتي تعيينها.(1/344)
ومعنى "قائم" أي مقيم لها متلبس بأركانها لا بمعنى حال القيام فقط وهذه الجملة ثابتة في رواية جماعة من الحفاظ وأسقطت في رواية آخرين. وحكي عن بعض العلماء أنه كان يأمر بحذفها من الحديث وكأنه استشكل الصلاة، إذ وقت تلك الساعة إذا كان من بعد العصر فهو وقت كراهة للصلاة وكذا إذا كان من حال جلوس الخطيب على المنبر إلى انصرافه، وقد تأولت هذه الجملة بأن المراد منتظراً للصلاة؛ والمنتظر للصلاة في صلاة كما ثبت في الحديث، وإنما قلنا إن المشير بيده هو النبي صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم لما في رواية مالك "فأشار النبي صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم" وقيل المشير بعض الرواة.
وأما كيفية الإشارة فهو أنه وضع أنملته على بطن الوسطى أو الخنصر يبين قلتها. وقد أطلق السؤال هنا وقيده في غيره كما عند ابن ماجه "ما لم يسأل الله إثماً" وعند أحمد "ما لم يسأل إثماً أو قطيعة رحم".
[رح20] ــــ وعنْ أبي بُرْدَةَ عن أبيهِ رضي اللَّهُ عنْهُما قال: سَمِعْتُ رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم يقُولُ: "هِيَ ما بَيْن أَنْ يجلسَ الإمام إلى أَنْ تُقْضى الصَّلاةُ" رواهُ مُسلم وَرَجّح الدَّارَقُطْنيُّ أَنّهُ من قوْلِ أَبي بُرْدةَ.
(وعن أبي برْدة) بضم الموحدة وسكون الراء ودال مهملة هو عامر ابن عبد الله بن قيس، وعبد الله هو أبو موسى الأشعري، وأبو بردة من التابعين المشهورين سمع أباه وعلياً عليه السلام وابن عمر وغيرهم (عن أبيه) أبي موسى الأشعري (قال: سمعت رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم يقول: "هي) أي ساعة الجمعة (ما بين أن يجلس الإمام) أي على المنبر (إلى أن تُقْضَ الصَّلاة" رواه مسلم ورجح الدارقطني أنه من قول أبي بردة).(1/345)
وقد اختلف العلماء في هذه الساعة وذكر المصنف في فتح الباري عن العلماء ثلاثة وأربعين قولاً وسيشير إليها وسردها الشارح رحمه الله في الشرح، وهذا المروي عن أبي موسى أحدها ورجحه مسلم على ما روى عنه البيهقي وقال: هو أجود شيء في هذا الباب وأصحه وقال به البيهقي وابن العربي وجماعة، وقال القرطبي: هو نص في موضع الخلاف فلا يلتفت إلى غيره وقال النووي: هو الصحيح بل الصواب.
قال المصنف: وليس المراد أنها تستوعب جميع الوقت الذي عين بل تكون في أثنائه لقوله "يقللها" وقوله "خفيفة".
وفائدة ذكر الوقت أنها تنتقل فيها فيكون ابتداء مظنتها ابتداء الخطبة مثلاً وانتهاؤها انتهاء الصلاة.
وأما قوله: إنه رجح الدارقطني أن الحديث من قوله أبي بردة فقد يجاب عنه بأنه لا يكون إلا مرفوعاً فإنه لا مسرح للاجتهاد في تعيين أوقات العبادات ويأتي ما أعله به الدارقطني قريباً.
21 ــــ وفي حديث عَبدِ اللَّهِ بْن سَلَامٍ رضيَ الله عنه عَنْد ابْنِ مَاجَهْ.(1/346)
(وفي حديث عبد الله بن سلام رضي الله عنه) هو أبو يوسف بن سلام من بني قينقاع إسرائيليّ من ولد يوسف بن يعقوب عليه السلام وهو أحد الأحبار وأحد من شهد له النبي صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم بالجنة روى عنه ابناه يوسف ومحمد وأنس بن مالك وغيرهم مات بالمدينة سنة ثلاث وأربعين وسلام بتخفيف اللام قال المبرد: لم يكن في العرب سلام بالتخفيف غيره (عند ابن ماجه) لفظه فيه عن عبد الله بن سلام قال: قلت: ورسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم جالس: إنا لنجد في كتاب الله ــــ يعني التوراة ــــ في الجمعة ساعة لا يوافقها عبد مسلم يصلي يسأل الله عز وجل شيئاً إلا قضى الله له حاجته، قال عبد الله: فأشار أي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أو بعض ساعة قلت: صدقت يا رسول الله أو بعض ساعة، قلت: أي ساعة هي؟ قال: "هي آخر ساعة من ساعات النهار" قلت: إنها ليست ساعة صلاة قال: "إن العبد المؤمن إذا صلى ثم جلس لا يجلسه إلا الصلاة فهو في صلاة" انتهى.
[رح22] ــــ وَجَابرٍ رضي اللَّهُ عنه عِنْد أبي دَاوُدَ وللنسائي: "أَنّها مَا بينَ صَلاةِ العصر إلى غُروب الشّمس" وَقَد اختُلفَ فيها عَلى أَكْثرَ منْ أَرْبعين قوْلاً أَملَيْتُها في شرح البُخاريِّ.
قوله "أنها" بفتح الهمزة مبتدأ خبره ما تقدم من قوله في حديث عبد الله ابن سلام إلى آخره، ورجح أحمد بن حنبل هذا القول رواه عنه الترمذي وقال أحمد: أكثر الأحاديث على ذلك. وقال ابن عبد البر: هو أثبت شيء في هذا الباب، روى سعيد بن منصور بإسناد صحيح إلى أبي سلمة بن عبد الرحمن: "أن ناساً من الصحابة اجتمعوا فتذكروا ساعة الجمعة ثم افترقوا ولم يختلفوا أنها آخر ساعة من يوم الجمعة" ورجحه إسحاق وغيره، وحكي أنه نص الشافعي.(1/347)
وقد استشكل هذا فإنه ترجيح لغير ما في الصحيح على ما فيه، والمعروف من علوم الحديث وغيرها أن ما في الصحيحين أو في أحدهما مقدم على غيره والجواب أن ذلك حيث لم يكن حديث الصحيحين أو أحدهما مما انتقده الحفاظ كحديث أبي موسى هذا الذي في مسلم فإنه قد أعل بالانقطاع والاضطر: أما الأول فلأنه من رواية مخرمة بن بكير وقد صرح أنه لم يسمع من أبيه فليس على شرط مسلم، وأما الثاني فلأن أهل الكوفة أخرجوه عن أبي بردة غير مرفوع، وأبو بردة كوفي وأهل بلدته أعلم بحديثه من بكير فلو كان مرفوعاً عند أبي بردة لم يقفوه عليه ولهذا جزم الدارقطني بأن الموقوف هو الصواب.
وجمع ابن القيم بين حديث أبي موسى وابن سلام بأن الساعة تنحصر في أحد الوقتين وسبقه إلى هذا أحمد بن حنبل (وقد اختلف فيها على أكثر من أربعين قولاً أمليتها في شرح البخاري) تقدمت الإشارة إلى هذا، قال الخطابي: اختلف فيها على قولين فقيل: قد رفعت، وهو محكي عن بعض الصحابة. وقيل: هي باقية واختلف في تعيينها، ثم سرد الأقوال ولم يبلغ بها المصنف من العدد وقد اقتصر المصنف هاهنا على قولين كأنهما الأرجح عنده دليلاً.
وفي الحديث بيان فضيله الجمعة لاختصاصها بهذه الساعة.
[رح23] ــــ وَعَن جابرٍ رضيَ الله عنه قال: "مَضَت السُّنّةُ أَنَّ في كلِّ أَرْبَعين فَصَاعداً جُمُعة" رواهُ الدارَقُطْنيُّ بإسنادٍ ضعيف.
(وعن جابر رضي الله عنه) هو ابن عبد الله (قال: مضت السنة أن في كل أربعين فصاعداً جمعة. رواه الدارقطني بإسناد ضعيف).
وذلك أنه من رواية عبد العزيز بن عبد الرحمن، وعبد العزيز قال فيه أحمد: اضرب على أحاديثه فإنها كذب أو موضوعة، وقال النسائي: ليس بثقة، وقال الدارقطني: منكر الحديث، وقال ابن حبان: لا يجوز أن يحتج به وفي الباب أحاديث لا أصل لها، وقال عبد الحق: لا يثبت في العدد حديث؛ وقد اختلف العلماء في النصاب الذين بهم تقوم الجمعة.(1/348)
فذهب إلى وجوبها على الأربعين لا على من دونهم عمر بن عبد العزيز والشافعي وفي كون الإمام أحدهم وجهان عند الشافعية.
وذهب أبو حنيفة والمؤيد وأبو طالب إلى أنها تنعقد بثلاثة مع الإمام وهو أقل عدد تنعقد به فلا تجب إذا لم يتم هذا القدر مستدلين بقوله تعالى: {فاسعوا} قالوا: والخطاب للجماعة بعد النداء للجمعة وأقل الجمع ثلاثة فدل على وجوب السعي على الجمعة للجمعة بعد النداء لها والنداء لا بدّ له من مناد فكانوا ثلاثة مع الإمام ولا دليل على اشتراط ما زاد على ذلك، واعترض بأنه لا يلزم من خطاب الجماعة فعلهم لها مجتمعين وقد صرح في البحر بهذا، واعترض به أهل المذهب لما استدلوا به للمذهب ونقضه بقوله تعالى: {وأقيموا الصلاة واتوا الزكاة} {وجاهدوا} فإنه لا يلزم إيتاء الزكاة في جماعة.
قلت: والحق أن شرطية أي شيء في أي عبادة لا يكون إلا عن دليل ولا دليل هنا على تعين عدد لا من الكتاب ولا من السنة وإذا قد علم أنها لا تكون صلاتها إلا جماعة كما قد ورد بذلك حديث أبي موسى عند ابن ماجة وابن عدي وحديث أبي أمامة عند أحمد والطبراني، والاثنان أقل ما تتم به الجماعة لحديث "الإثنان جماعة" فتتم بهم في الأظهر، وقد سرد الشارح الخلاف والأقوال في كمية العدد المعتبر في صلاة الجمعة فبلغت أربعة عشر قولاً وذكر ما تشبث به كل قائل من الدليل على ما ادعاه بما لا ينهض حجة على الشرطية.
ثم قال: والذي نقل حال النبي صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم أنه كان يصليها في جمع كثير غير موقوف على عدد يدل على أن المعتبر وهو الجمع الذي يحصل به الشعار ولا يكون إلا في كثرة يغيظ بها المنافق ويكيد بها الجاحد ويسر بها المصدق، والآية الكريمة دالة على الأمر بالجماعة فلو وقف على أقل ما دلت عليه لم تنعقد. قلت: قد كتبنا رسالة في شروط الجمعة التي ذكروها ووسعنا فيها المقال والاستدلال سميناها: اللمعة في تحقيق شرائط الجمعة.(1/349)
[رح24] ــــ وَعَن سَمُرة بنِ جُنْدبٍ رضي الله عنه "أَنَّ النّبيَّ صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم كانَ يَسْتَغْفِرُ" للمؤمنينَ والمؤمنَاتِ كُلَّ جُمُعَةٍ" رَوَاهُ الْبَزَّارُ بإسْنادٍ لَيِّنٍ.
قلت: قال البزار: لا نعلمه عن النبي صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم إلا بهذا الإسناد وفي إسناده[تض] البزار يوسف بن خالد السمتي[/تض] وهو ضعيف ورواه الطبراني في الكبير إلا أنه بزيادة "والمسلمين والمسلمات".
وفيه دليل على مشروعية ذلك للخطيب لأنها موضع الدعاء، وقد ذهب إلى وجوب دعاء الخطيب لنفسه وللمؤمنين والمؤمنات أبو طالب والإمام يحيى، وكأنهم يقولون إن مواظبته صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم دليل الوجوب كما يفيده "كان يستغفر".
وقال غيرهم: يندب ولا يجب لعدم الدليل على الوجوب قال الشارح: والأول أظهر.
[رح25] ــــ وَعَنْ جابر بنِ سَمُرة رضي اللَّهُ عنهما "أنَّ النّبيَ صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم كانَ في الخُطْبة، يقرأُ آياتٍ مِن القرآن ويُذكِّرُ النّاس" رَواهُ أبو داود وأَصْلُهُ في مُسْلمٍ.
كأنه يريد ما تقدم من حديث أمّ هشام بنت حارثة: أنها قالت ما أخذت "ق والقرآن المجيد" إلا من لسان رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم يقرؤها كل جمعة على المنبر" وروى الطبراني في الأوسط من حديث علي عليه السلام: "أن رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم كان يقرأ على المنبر (قل يا أيها الكافرون وقل هو الله أحد) وفيه رجل مجهول وبقية رجاله موثقون وأخرج الطبراني فيه أيضاً من حديث جابر: "أنه خطب رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم فقرأ في خطبته آخر الزمر فتحرّك المنبر مرتين". وفي رواته ضعيفان.(1/350)
[رح26] ــــ وَعَنْ طَارقِ بن شِهَابٍ رضي الله عنهُ أنَّ رَسولَ اللَّهِ صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم قالَ: "الجُمُعةُ حقٌّ وَاجبٌ على كل مُسْلمٍ في جماعةٍ إلا أَربعةً: مملُوكٌ وامرأَةٌ وَصَبيٌّ وَمريض" رواهُ أَبو داود وقالَ: لمْ يَسْمَعْ طارقٌ مِنَ النبي صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم، وأَخرجهُ الحاكمُ منْ روايةِ طارقٍ المذكور عَنْ أَبي موسى.
(وعن طارق بن شهاب رضي الله عنه) ابن عبد شمس الأحمسي البجلي الكوفي أدرك الجاهلية ورأى النبي صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم وليس له منه سماع وغزا في خلافة أبي بكر وعمر ثلاثاً وثلاثين أو أربعاً وثلاثين غزوة وسرية ومات سنة اثنتين وثمانين (أن رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم قال: "الجمعة حق واجبٌ على كلِّ مُسْلمٍ في جماعةٍ إلا أربعة مملُوكٌ وامرأةٌ وصبيٌّ ومريضٌ" رواه أبو داود وقال: لم يسمع طارق من النبي صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم) إلا أنه في سنن أبي داود بلفظ "عبد مملوك أو امرأة أو صبي أو مريض" بلفظ "أو" وكذا ساقه المصنف في التلخيص ثم قال أبو داود: طارق قد رأى النبي صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم وهو من أصحاب النبي صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم ولم يسمع منه شيئاً. انتهى (وأخرجه الحاكم من رواية طارق المذكور عن أبي موسى) يريد المصنف أنه بهذا صار موصولاً. وفي الباب عن تميم الداري وابن عمر ومولى لابن الزبير رواه البيهقي، وحديث تميم فيه أربعة أنفس ضعفاء على الولاء قاله ابن القطان، وحديث ابن عمر أخرجه الطبراني في الأوسط بلفظ "ليس على مسافر جمعة" وفيه أيضاً من حديث أبي هريرة مرفوعاً "خمسة لا جمعة عليهم المرأة والمسافر والعبد والصبي وأهل البادية".
[رح27] ــــ وَعن ابْن عُمَرَ رضي الله عَنْهُمَا قال: قالَ رسولُ الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم: "لَيْسَ على مُسافر جُمْعَةٌ" رواه الطبراني بإسناد ضعيف).(1/351)
(وعن ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم "ليس على مُسافر جمْعَةٌ" رواه الطبراين بإسناد ضعيف) ولم يذكر المصنف تضعيفه في التلخيص، ولا بيّن وجه ضعفه.
وإذا عرفت هذا فقد اجتمع من الأحاديث أنها لا تجب الجمعة على ستة أنفس: الصبي وهو متفق على أنه لا جمعة عليه، والمملوك وهو متفق عليه إلا عند داود فقال بوجوبها عليه لدخوله تحت عموم {يا أيّها الذينَ امنوا إذا نوديَ للصلاةِ} فإنه تقرر في الأصول دخول العبيد في الخطاب وأجيب عنه بأنه خصصته الأحاديث وإن كان فيه مقال فإنه يقوي بعضها بعضاً.
والمرأة وهو مجمع على عدم وجوبها عليها، وقال الشافعي: يستحب للعجائز حضورها بإذن الزوج، ورواية البحر عنه أنه يقول بالوجوب عليهنّ خلاف ما هو مصرح به في كتب الشافعية.
والمريض فإنه لا يجب عليه حضورها إذا كان يتضرر به.
والمسافر لا يجب عليه حضورها وهو يحتمل أن يراد به مباشر السفر وأما النازل فيجب عليه ولو نزل بمقدار الصلاة وإلى هذا ذهب جماعة من الآل وغيرهم. وقيل: لا تجب عليه لأنه داخل في لفظ المسافر وإليه ذهب جماعة من الآل أيضاً، وهو الأقرب لأن أحكام السفر باقية له من القصر ونحوه ولذا لم ينقل أنه صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم صلى الجمعة بعرفات في حجة الوداع لأنه كان مسافراً.
وكذلك العيد تسقط صلاته عن المسافر ولذا لم يرو أنه صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم صلى صلاة العيد في حجته تلك وقد وهم ابن حزم فقال: إنه صلاها في حجته وغلّطه العلماء.
السادس أهل البادية وفي النهاية: أن البادية تختص بأهل العمد والخيام دون أهل القرى والمدن. وفي شرح العمدة أن حكم أهل القرى حكم أهل البادية ذكره في شرح حديث "لا يبيع حاضر لباد".(1/352)
[رح28] ــــ وعَنْ عبد الله بن مَسْعودٍ رضي الله عنْهُ قالَ: "كانَ رسولُ الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم إذَا اسْتَوى على المِنْبر اسْتَقْبلْناهُ بِوُجُوهِنا" رواه الترمذيُّ بإسناد ضَعيف، وَلَهُ شَاهِدٌ مِنْ حديث البَراءِ عنْدَ ابن خزَيْمَةَ.
(وعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إذا استوى على المنبر استقبلناه بوجوهنا. رواه الترمذي بإسناد ضعيف) لأن فيه[تض] محمد بن الفضل بن عطية[/تض] وهو ضعيف تفرد به وضعفه به الدارقطني وابن عدي وغيرهما (وله شاهد من حديث البراء عند ابن خزيمة) لم يذكره الشارح ولا رأيته في التلخيص.
والحديث يدل على أن استقبال الناس الخطيب مواجهين له أمر مستمر وهو في حكم المجمع عليه، جزم بوجوبه أبو الطيب من الشافعية، وللهادوية احتمالان فيما إذا تقدم بعض المستمعين على الإمام ولم يواجهوه يصح أو لا يصح. ونص صاحب الأثمار أنه يجب على العدد الذين تنعقد لهم الجمعة المواجهة دون غيرهم.
[رح29] ــــ وَعَنِ الحَكمِ بنِ حَزْنٍ رضيَ الله عَنْهُ قالَ: "شَهِدنا الجُمُعةَ مع رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم فَقَامَ مُتوكئاً عَلى عصاً أَوْ قَوْسٍ" رواهُ أبو داود.(1/353)
(وعن الحكم بن حَزْن رضي الله عنه) بفتح المهملة وسكون الزاي فنون. والحكم قال ابن عبد البر: إنه أسلم عام الفتح وقيل يوم اليمامة وأبوه حزن ابن أبي وهب المخزومي (قال "شهدنا الجمعة مع رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم فقام متوكئاً على عصا أو قَوْس. رواه أبو داود) تمامه في السنن "فحمد الله وأثنى عليه كلمات خفيفات طيبات مباركات ثم قال: "أيها الناس إنكم لن تطيقوا ــــ أو لن تفعلوا ــــ كل ما أمرتم به ولكن سَدِّدوا ويَسّروا" وفي رواية "وأبشروا" وإسناده حسن وصححه ابن السكن وله شاهد عند أبي داود من حديث البراء: "أنه صلى الله عليه وآله وسلم كان إذا خطب يعتمد على عنزة له". والعنزة مثل نصف الرمح أو أكبر فيها سنان مثل سنان الرمح.
وفي الحديث دليل على أنه يندب للخطيب الاعتماد على سيف أو نحوه وقت خطبته والحكمة أن في ذلك ربطاً للقلب ولبعد يديه عن العبث فإن لم يجد ما يعتمد عليه أرسل يديه أو وضع اليمنى على اليسرى أو على جانب المنبر ويكره دق المنبر بالسيف إذ لم يؤثر فهو بدعة.
باب صلاة الخوف
[رح1] ــــ عَنْ صَالح بنِ خَوَّات رضي الله عنه عَمّن صّلى معَ رسُول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم يَوْمَ ذاتِ الرِّقاع صلاة الخوف "أَنَّ طائفةً صَلّتْ مَعَهُ وطائفَةً وجاه الْعَدُوّ فَصَلى بالذين مَعَهُ ركْعةً ثمَّ ثَبَتَ قائماً وأَتمُّوا لأنْفُسِهم، ثم انْصرَفُوا فصفوا وجاهَ الْعدُوِّ، وجاءَت الطائفة الأخْرَى فَصَلى بهمُ الرَّكْعَةَ التي بَقِيَتْ ثمَّ ثَبَتَ جالساً وأَتَمُّوا لأنْفُسِهِمْ ثمَّ سَلّم بهمْ" مُتفق عليْهِ وهذا لفْظُ مُسْلم، ووقَعَ في المعْرفة لابن مَنْدَه عَنْ صَالح بن خوَّاتٍ عن أَبيهِ.(1/354)
(عن صالح بن خوّات رضي الله عنه) بفتح الخاء المعجمة وتشديد الواو فمثناة فوقية الأنصاري المدني تابعي مشهور سمع جماعة من الصحابة (عمن صلى مع النبي صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم) في صحيح مسلم عن صالح بن خوات ابن جبير عن سهل بن أبي حثمة، فصرح بمن حدثه في رواية. وفي رواية أبهمه كما هنا (يوم ذات الرِّقاع) بكسر الراء فقاف مخففة آخره عين مهملة هو مكان من نجد بأرض غطفان. سميت الغزوة بذلك لأن أقدامهم نقبت فلفوا عليها الخرق كما في صحيح البخاري من حديث أبي موسى وكانت في جمادى الأولى في السنة الرابعة من الهجرة (صلاة الخوف أن طائفة) من أصحابه صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم (صفت معه وطائفة وجاه) بكسر الواو فجيم مواجهة (العدو فصلى بالذين معه ركعة ثم ثبت قائماً وأتموا لأنفسهم ثم انصرفوا وصفوا) في مسلم فصفوا بالفاء (وجاه العدو وجاءت الطائفة الأخرى فصلى بهم الركعة التي بقيت ثم ثبت جالساً وأتموا لأنفسهم ثم سلم بهم. متفق عليه وهذا لفظ مسلم ووقع في المعرفة) كتاب (لابن منده) بفتح الميم وسكون النون فدال مهملة إمام كبير من أئمة الحديث (عن صالح بن خوات عن أبيه) أي خوات وهو صحابي فذكر المبهم أنه أبوه، وفي مسلم أنه من ذكرناه.(1/355)
واعلم أن هذه الغزوة كانت في الرابعة كما ذكرناه وهو الذي قاله ابن إسحاق وغيره من أهل السير والمغازي وتلقاه الناس منهم. قال ابن القيم: وهو مشكل جداً فإنه قد صح أن المشركين حبسوا رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم يوم الخندق عن صلاة الظهر والعصر والمغرب والعشاء فصلاهنّ جميعاً وذلك قبل نزول صلاة الخوف. والخندق بعد ذات الرقاع سنة خمس، قال: والظاهر أن أول صلاة صلاها رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم للخوف بعسفان، ولا خلاف بينهم أن عسفان كانت بعد الخندق، وقد صح عنه صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم أنه صلى صلاة الخوف بذات الرقاع فعلم أنها بعد الخندق وبعد عسفان وقد تبين لنا وهم أهل السير انتهى.
ومن يحتج بتقديم شرعيتها على الخندق على رواية أهل السير يقول: إنها لا تصلى صلاة الخوف في الحضر ولذا لم يصلها النبي صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم يوم الخندق.
وهذه الصفة التي ذكرت في الحديث في كيفية صلاتها واضحة وقد ذهب إليها جماعة من الصحابة ومن الآل من بعدهم.
واشترط الشافعي أن يكون العدو في غير جهة القبلة.
وهذا في الثنائية وإن كانت ثلاثية انتظر في التشهد الأول وتتم الطائفة الركعة الثالثة، وكذلك في الرباعية إن قلنا إنها تصلى صلاة الخوف في الحضر وينتظر في التشهد أيضاً.
وظاهر القرآن مطابق لما دل عليه هذا الحديث الجليل لقوله (ولتأت طائفة أخرى لم يصلوا فيصلوا معك) وهذه الكيفية أقرب إلى موافقة المعتاد من الصلاة في تقليل الأفعال المنافية للصلاة والمتابعة للإمام...(1/356)
[رح2] ــــ وعنِ ابنِ عُمَرَ رضيَ اللَّهُ عنهُمَا قالَ: "غَزَوْتُ معَ رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم قِبَلَ نجدٍ فَوازَيْنَا العْدُوَّ فصافَفْنَاهُمْ، فقامَ رَسُول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم يُصَلي بنا، فَقَامَت طائفةٌ مَعَهُ وأَقبلَت طائفةٌ على العدوّ، وَرَكَعَ بمنْ مَعَهُ وَسَجَدَ سَجْدتَيْن ثمَّ انصرفوا مكانَ الطّائفةِ التي لَمْ تُصَليِّ فجاؤوا فَرَكَعَ بهم ركْعةً وَسَجَدَ سَجْدتْين ثمَّ سلّمَ، فَقَامَ كُلُّ واحدٍ مِنْهُمْ فركَعَ لنَفْسه رَكْعةً وسَجَدَ سَجْدتَيْنِ" مُتّفَقٌ عَلَيْهِ وهذا لفْظُ البُخاريِّ.
(وعن ابن عمر رضي الله عنهما قال: غزوت مع رسول الله صلى الله تعالى عليه وعلى آله وسلم قِبل) بكسر القاف وفتح الموحدة أي جهة (نجد) نجد: كل ما ارتفع من بلاد العرب (فوازينا) بالزاي بعدها مثناة تحتية قابلنا (العدو فصاففناهم فقام رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم فصلى بنا) في المغازي من البخاري أنها صلاة العصر ثم لفظ البخاري "فصلى لنا" باللام قال المصنف في الفتح: أي لأجلنا ولم يذكر أن فيه رواية بالموحدة وفيه "يصلي" بالفعل المضارع (فقامت طائفة معه وأقبلت طائفة على العدو وركع بمن معه ركعة وسجد سجدتين ثم انصرفوا) أي الذين صلوا معه، ولم يكونوا أتوا بالركعة الثانية ولا سلموا من صلاتهم (مكان الطائفة التي لم تصل فجاءوا فركع بهم ركعة وسجد سجدتين ثم سلم، فقام كل واحد منهم فركع لنفسه ركعة وسجد سجدتين. متفق عليه وهذا لفظ البخاري).(1/357)
قال المصنف: لم تختلف الطرق عن ابن عمر في هذا ويحتمل أنهم أتموا في حالة واحدة ويحتمل أنهم أتموا على التعاقب وهو الراجح من حيث المعنى وإلا استلزم تضييع الحراسة المطلوبة وإفراد الإمام وحده ويرجحه ما رواه أبو داود من حديث ابن مسعود بلفظ "ثم سلم فقام هؤلاء أي الطائفة الثانية فصلوا لأنفسهم ركعة ثم سلموا ثم ذهبوا ورجع أولئك إلى مقامهم فصلوا لأنفسهم ركعة ثم سلموا" انتهى.
والطائفة تطلق على القليل والكثير حتى على الواحد حتى لو كانوا ثلاثة جاز للإمام أن يصلي بواحد والثالث يحرس ثم يصلي مع الإمام وهذا أقل ما يحصل به جماعة الخوف.
وظاهر الحديث أن الطائفة الثانية والت بين ركعتيها ثم أتت الطائفة الأولى بعدها، وقد ذهب إلى هذه الكيفية أبو حنيفة ومحمد.
[رح3] ــــ وعن جابر رضيَ الله عَنْهُ قالَ: "شَهِدْتُ مَعَ رسولُ الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم صلاة الخوفَ فَصَفّنَا صَفّين: صَفٌّ خَلْفَ رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم والعَدُوُّ بَيْنَنَا وَبَيْنَ الْقِبْلة، فَكَبّرَ النبيُّ صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم وكبّرْنا جميعاً، ثمَّ ركَعَ وركَعْنَا جميعاً، ثمَّ رَفَعَ رأسَهُ مِن الرُّكوع وَرَفَعْنا جميعاً، ثمَّ انحدَرَ بالسُّجُود والصَّفُّ الذي يليه وقام الصَّفُّ المؤخّرُ في مخر العدوِّ، فلما قضى السجودَ قام الصف الذي يليه" فَذَكر الحديث، وفي روايةٍ: "ثمَّ سَجَدَ وسَجَدَ مَعَهُ الصَّف الأولُ فلمّا قامُوا سَجَدَ الصفُّ الثّاني ثُمَّ تأَخّرَ الصفُّ الأوّلُ وَتَقَدَمَ الصفُّ الثّاني" فَذَكَرَ مِثْلَهُ، وفي آخره "ثمَّ سلّمَ النبيُّ صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم وَسلّمْنَا جميعاً" رواهُ مُسْلمٌ.(1/358)
(وعن جابر رضي الله عنه قال: شهدت مع رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم صلاة الخوف فصففنا صفين: صفٌّ خلف رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم والعدوُّ بيننا وبين القبلة فكبر النبي صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم وكبرنا جميعاً ثم ركع وركعنا جميعاً ثم رفع رأسه من الركوع ورفعنا جميعاً ثم انحدر بالسجود والصف الذي يليه) أي انحدر الصف الذي يليه وهو عطف على الضمير المتصل من دون تأكيد لأنه وقد وقع الفصل (وأقام الصف المؤخر في نحر العدو فلما قضى السجود وقام الصف الذي يليه فذكر الحديث) تمامه "انحدر الصف المؤخر بالسجود وقاموا ثم تقدم الصف المؤخر وتأخر الصف المقدم ثم ركع النبي صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم وركعنا جميعاً ثم رفع رأسه من الركوع ورفعنا جميعاً ثم انحدر بالسجود والصف الذي يليه الذي كان مؤخراً في الركعة الأولى وقام والصف المؤخر في نحور العدو، فلما قضى النبي صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم السجود والصف الذي يليه انحدر الصف المؤخر بالسجود فسجدوا ثم سلم النبي صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم وسلمنا جميعاً، قال جابر: كما يصنع حرسكم هؤلاء بأمرائهم" انتهى لفظ مسلم.(1/359)
قوله (وفي رواية) هي في مسلم عن جابر وفيها تعيين القوم الذين حاربوهم ولفظها "غزونا مع رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم قوماً من جهينة فقاتلونا قتالاً شديداً فلما صلينا الظهر قال المشركون: لو ملنا عليهم ميلة لاقتطعناهم فأخبر جبريل رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم ذلك فذكر لنا رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم قال: وقالوا: إنها ستأتيهم صلاة هي أحب إليهم من "الأولاد" فلما حضرت العصر ــــ إلى أن قال: ثم سجد وسجد معه الصف الأول فلما قاموا سجد الصف الثاني، ثم تأخر الصف الأول، وتقدم الصف الثاني، فذكر مثله) قال: "فقاموا مقام الأول فكبر رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم وكبرنا وركع فركعنا ثم سجد وسجد معه الصف الأول وقام الثاني فلما سجد الصف الثاني ثم جلسوا جميعاً" (وفي أواخره: ثم سلم النبي صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم وسلمنا جميعاً. رواه مسلم).
الحديث دليل على أنه إذا كان العدو في جهة القبلة فإنه يخالف ما إذا لم يكن كذلك فإنها تمكن الحراسة مع دخولهم جميعاً في الصلاة. وذلك أن الحاجة إلى الحراسة إنما تكون في حال السجود فقط، فيتابعون الإمام في القيام والركوع، ويحرس الصف المؤخر في حال السجدتين بأن يتركوا المتابعة للإمام ثم يسجدون عند قيام الصف الأول. ويتقدم المؤخر إلى محل الصف المقدم، ويتأخر المقدم ليتابع المؤخر الإمام في السجدتين الأخيرتين، فيصح مع كل من الطائفتين المتابعة في سجدتين.
والحديث يدل أنها لا تكون الحراسة إلا حال السجود فقط دون حال الركوع لأن حال الركوع لا يمتنع معه إدراك أحوال العدو.
وهذه الكيفية لا توافق ظاهر الآية ولا توافق الرواية الأولى عن صالح ابن خوات ولا رواية ابن عمر إلا أنه قد يقال: إنها تختلف الصفات باختلاف الأحوال.
4 ــــ ولأبي داودَ عَنْ أَبي عَيّاشٍ الزُّرقيِّ رضي الله عنه مِثلَهُ، وزادَ: "إنّها كانت بعُسْفَانَ".(1/360)
(ولأبي داود عن أبي عياش الزرقي مثله) أي مثل رواية جابر هذه (وزاد) تعيين محل الصلاة (أنها كانت بعسفان) بضم العين المهملة وسكون السين المهملة ففاء آخره نون وهو موضع على مرحلتين من مكة كما في القاموس.
[رح5] ــــ وللنّسائيّ مِنْ وَجْهِ آخرَ عَنْ جابرٍ رضيَ الله عنهُ "أَنَّ النبيّ صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم صَلى بطائِفةٍ مِنْ أَصْحابه ركعتينِ ثمَّ صلى بآخرين رَكْعتين ثمَّ سلّمَ".
(وللنسائي من وجه آخر) غير الوجه الذي أخرجه منه مسلم (عن جابر رضي الله عنه أن النبي صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم صلى بطائفة من أصحابه ركعتين ثم سلم ثم صلى بآخرين ركعتين ثم سلم) فصلى بإحداهما فرضاً وبالأخرى نفلاً له.
وعمل بهذا الحسن البصري، وادعى الطحاوي أنه منسوخ بناء منه على أنه لا يصح أن يصلي المفترض خلف المتنفل، ولا دليل على النسخ.
6 ــــ ومِثْلُهُ لأبي داودَ عَنْ أَبي بكْرَةَ رضي اللَّهُ عنه.
(ومثله لأبي داود عن أبي بكرة) وقال أبو داود: وكذلك في المغرب يكون للإمام ست ركعات وللقوم ثلاث ثلاث.
[رح7] ــــ وعَنْ حُذيفة رضيَ اللَّهُ عنه: "أنَّ النّبيَّ صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم في الخوفِ بهؤلاءِ ركْعَةً وهؤلاءِ ركْعَةً ولمْ يَقْضُوا" رَوَاهُ أَحْمدُ وأَبو داودَ والنسائي وصحّحهُ ابنُ حبان.
8 ــــ ومِثْلُهُ عِنْدَ ابنِ خُزَيْمَةَ عن ابنِ عبّاسٍ رضيَ الله عَنْهُما.
وهذه الصلاة بهذه الكيفية صلاها حذيفة بطبرستان وكان الأمير سعيد ابن العاص فقال: أيكم صلى مع رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم صلاة الخوف قال حذيفة: أنا، فصلى بهؤلاء ركعة وبهؤلاء ركعة ولم يقضوا.(1/361)
وأخرج أبو داود عن ابن عمر وعن زيد بن ثابت: قال زيد: فكانت للقوم ركعة ركعة وللنبي صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم ركعتين. وأخرج عن ابن عباس: قال: فرض الله تعالى الصلاة على لسان نبيكم صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم في الحضر أربعاً وفي السفر ركعتين وفي الخوف ركعة.
وأخذ بهذا عطاء وطاوس والحسن وغيرهم فقالوا: يصلي في شدة الخوف ركعة يوميء إيماء.
وإن إسحاق يقول: تجزئك عند المسايفة ركعة واحدة تومىء لها إيماء، فإن لم تقدر فسجدة فإن لم فتكبيرة لأنها ذكر الله".
[رح9] ــــ وعن ابن عُمَر رضي الله عنهما قال: قالَ رسُولُ الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم "صلاة الخوف ركعةٌ على أيِّ وجهٍ كان" رواهُ البزَّارُ بإسناد ضَعيف.
وأخرج النسائي: أنه صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم صلاها بذي قرد بهذه الكيفية. وقال المصنف: قد صححه ابن حبان وغيره. وأما الشافعي فقال: لا يثبت.
والحديث دليل على أن صلاة الخوف ركعة واحدة في حق الإمام والمأموم وقد قال به الثوري وجماعة، وقال به من الصحابة أبو هريرة وأبو موسى.
واعلم أنه ذكر المصنف في هذا الكتاب خمس كيفيات لصلاة الخوف وفي سنن أبي داود ثماني كيفيات منها هذه الخمس وزاد ثلاثاً.
وقال المصنف في فتح الباري: قد روي في صلاة الخوف كيفيات كثيرة ورجح ابن عبد البر الكيفية الواردة في حديث ابن عمر لقوة الإسناد وموافقة الأصول في أن المؤتم لا تتم صلاته قبل الإمام.
وقال ابن حزم: صح منها أربعة عشر وجهاً.
وقال ابن العربي: فيها روايات كثيرة أصحها ست عشرة رواية مختلفة.
وقال النووي: نحوه في شرح مسلم ولم يبينها.
قال الحافظ: وقد بينها شيخنا الحافظ أبو الفضل في شرح الترمذي وزاد وجهاً فصارت سبع عشرة ولكن يمكن أن تتداخل.
وقال في الهدي النبوي: صلاها النبي صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم عشر مرات. وقال ابن العربي: صلاها أربعاً وعشرين مرة.(1/362)
وقال الخطابي: صلاها النبي صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم في أيام مختلفة بأشكال متباينة يتحرّى ما هو الأحوط للصلاة والأبلغ في الحراسة فهي على اختلاف صورتها متفقة المعنى انتهى.
[رح10] ــــ وعَنْهُ رضي اللَّهُ عنهُ مَرْفوعاً "لَيْسَ في صَلاةِ الخوفِ سَهْوٌ" أَخرجَهُ الدَّارقُطني بإسناد ضَعيف.
وهو مع هذا موقوف قيل ولم يقل به أحد من العلماء.
واعلم أنه قد شرط في صلاة الخوف شروط منها:
السفر فاشترطه جماعة لقوله تعالى: {وإذا ضربتم في الأرض} الآية ولأنه صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم لم يصلها في الحضر وقال زيد بن علي والناصر والحنفية والشافعية: لا يشترط لقوله تعالى: {وإذا كنت فيهم} بناء على أنه معطوف على قوله: {وإذا ضربتم في الأرض} فهو غير داخل في التقييد بالضرب في الأرض ولعل الأوّلين يجعلونه مقيداً بالضرب في الأرض وأن التقدير وإذا كنت فيهم مع هذه الحالة التي هي الضرب في الأرض والكلام مستوفى في كتب التفسير.
ومنها: أن يكون آخر الوقت لأنها بدل من صلاة الأمن لا تجزيء إلا عند اليأس من المبدل منه وهذه قاعدة للقائلين بذلك وهم الهادوية. وغيرهم يقول: تجزيء أوّل الوقت لعموم أدلة الأوقات.
ومنها: حمل السلاح حال الصلاة، اشترطه داود فلا تصح الصلاة إلا بحمله ولا دليل على اشتراطه. وأوجبه الشافعي والناصر للأمر به في الآية ولهم في السلاح تفاصيل معروفة.
ومنها: ألا يكون القتال محرّماً سواء كان واجباً عيناً أو كفاية.
ومنها: أن يكون المصلي مطلوباً للعدوّ لا طالباً. لأنه إذا كان طالباً أمكنه أن يأتي بالصلاة تامّة، أو يكون خاشياً لكرّ العدو عليه. وهذه الشرائط مستوفاة في الفروع مأخوذة من أحوال شرعيتها وليست بظاهرة في الشرطية.
واعلم أن شرعية هذه الصلاة من أعظم الأدلة على عظم شأن الجماعة.
باب صلاة العيدين(1/363)
[رح1] ــــ عَنْ عَائشةَ رضي اللَّهُ عنها قالت: قالَ رسولُ الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم "الفطرُ يَوْمَ يُفْطِرُ النّاسُ والأضحى يَوْمَ يُضَحِّي النّاس" رواهُ التِّرمذيُّ.
وقال الترمذي بعد سياقه: هذا حديث حسن غريب. وفسر بعض أهل العلم هذا الحديث أن معنى هذا: الفطر والصوم مع الجماعة ومعظم الناس بلفظه:
فيه دليل على أنه يعتبر في ثبوت العيد الموافقة للناس وأن المنفرد بمعرفة يوم العيد بالرؤية يجب عليه موافقة غيره ويلزمه حكمهم في الصلاة والإفطار والأضحية. وقد أخرج الترمذي مثل هذا الحديث عن أبي هريرة وقال: حديث حسن. وفي معناه حديث ابن عباس وقد قال له كريب: إنه صام أهل الشام ومعاوية برؤية الهلال يوم الجمعة بالشام وقدم المدينة آخر الشهر وأخبر ابن عباس بذلك فقال ابن عباس: لكنا رأيناه ليلة السبت فلا نزال نصوم حتى نكمل ثلاثين أو نراه قال: قلت: أولا تكتفي برؤية معاوية والناس؟ قال: لا هكذا أمرنا رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم.
وظاهر الحديث أن كريباً ممن رآه وأنه أمره ابن عباس أن يتم صومه وإن كان متيقناً أنه يوم عيد عنده.
وذهب إلى هذا محمد بن الحسن وقال: يجب موافقة الناس وإن خالف يقين نفسه وكذا في الحج لأنه ورد "وعرفتكم يوم تعرفون".
وخالفه الجمهور وقالوا: إنه يجب عليه العمل في نفسه بما تيقنه وحملوا الحديث على عدم معرفته بما يخالف الناس فإنه إذا انكشف بعد الخطأ فقد أجزأه ما فعل. قالوا: وتتأخر الأيام في حق من التبس عليه وعمل بالأصل وتأولوا حديث ابن عباس بأنه يحتمل أنه لم يقل برؤية أهل الشام لاختلاف المطالع في الشام والحجاز، أو أنه لما كان المخبر واحداً لم يعمل بشهادته، وليس فيه أنه أمر كريباً بالعمل بخلاف يقين نفسه فإنما أخبر عن أهل المدينة وأنهم لا يعملون بذلك لأحد الأمرين.(1/364)
[رح2] ــــ وَعَنْ أَبي عُميْر بنِ أَنسٍ رضي اللَّهُ عَنْهُما عَنْ عُمُومَةٍ لَهُ من أصحاب النبي صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم "أَنَّ رَكْباً جاءُوا إلى النبي صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم يشهدون أَنّهُمْ رأَوُا الهِلالَ بالأمْسِ فأَمَرَهُم أَنْ يُفْطروا وإذا أَصْبحُوا أَنْ يَغْدُوا إلى مُصَلَّاهُمْ" رواهُ أَحْمَدُ وأَبُو داودَ وهذا لَفْظُهُ وإسنَادُهُ صحيحٌ.
(وعن أبي عمير) هو أبو عمير (ابن أنس بن مالك رضي الله عنهما) الأنصاري يقال: إن اسمه عبد الله وهو من صغار التابعين روى عن جماعة من الصحابة وعمّر بعد أبيه زماناً طويلاً (عن عمومةٍ له من أصحاب النبي صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم أن ركباً جاءوا إلى النبي صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم يشهدون أنهم رأوا الهلال بالأمس فأمرهم) النبي صلى الله عليه وآله وسلم (أن يفطروا وإذا أصبحوا أن يغدوا إلى مصلاهم. رواه أحمد وأبو داود وهذا لفظه وإسناده صحيح) وأخرجه النسائي وابن ماجه وصححه ابن المنذر وابن السكن وابن حزم. وقول ابن عبد البر إن أبا عمير مجهول مردود بأنه قد عرفه من صحح له.
الحديث دليل على أن هذه الأذكار قائمة مقام القراءة للفاتحة، وغيرها، لمن لا يحسن ذلك، وظاهره: أنه لا يجب عليه تعلم القران ليقرأ به في الصلاة، فإن معنى لا أستطيع: لا أحفظ الان منه شيئاً، فلم يأمره بحفظه، وأمره بهذه الألفاظ، مع أنه يمكنه حفظ الفاتحة، كما يحفظ هذه. وقد تقدم في حديث المسيء صلاته.
والحديث دليل على أن صلاة العيد تصلى في اليوم الثاني حيث انكشف العيد بعد خروج وقت الصلاة.(1/365)
وظاهر الحديث الإطلاق بالنظر إلى وقت الصلاة، وأنه وإن كان وقتها باقياً حيث لم يكن ذلك معلوماً من أول اليوم، وقد ذهب إلى العمل به الهادي والقاسم وأبو حنيفة لكن شرط أن لا يعلم إلا وقد خرج وقتها فإنها تقضى في اليوم الثاني فقط في الوقت الذي تؤدى فيه في يومها، قال أبو طالب: بشرط أن يترك اللبس كما ورد في الحديث، وغيره يعمم العذر سواء كان للبس أو لمطر وهو مصرح به في كتب الحنفية قياساً لغير اللبس عليه.
ثم ظاهر الحديث أنها أداء لا قضاء.
وذهب مالك أنها لا تقضى مطلقاً كما لا تقضى في يومها.
وللشافعية تفاصيل أخر ذكرها في الشرح وهذا الحديث ورد في عيد الإفطار وقاسوا عليه الأضحى وفي الترك للبس وقاسوا عليه سائر الأعذار وفي القياس نظر إذا لم يتعين معرفة الجامع والله أعلم.
[رح3] ــــ وَعَنْ أَنَسٍ رَضي اللَّهُ عنهُ قالَ: "كانَ رسُولُ الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم لا يغْدُو يوْمَ الفِطْر حتى يأكُلَ تَمَراتِ" أَخْرَجَهُ البخاريُّ. وفي روايةٍ مُعَلّقةٍ ووصلها أَحْمَدُ "وَيَأكُلُهُنَّ أفراداً".
(وعن أنس رضي الله عنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لا يغدو) أي يخرج وقت الغداة (يوم الفطر) أي إلى المصلى (حتى يأكل تمرات. أخرجه البخاري، وفي رواية معلقة) أي للبخاري علقها عن أنس (ووصلها أحمد "ويأكلهن أفراداً") وأخرجه البخاري في تاريخه وابن حبان والحاكم من رواية عتبة بن حميد عنه بلفظ: حتى يأكل تمرات ثلاثاً أو خمساً أو سبعاً أو أقل من ذلك أو أكثر وتراً.
والحديث يدل على مداومته صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم على ذلك.
قال المهلب: الحكمة في الأكل قبل الصلاة أن لايظن ظان لزوم الصوم حتى يصلي العيد فكأنه أراد سد هذه الذريعة، وقيل لما وقع وجوب الفطر عقيب وجوب الصوم استحب تعجيل الفطر مبادرة إلى امتثال أمر الله.
قال ابن قدامة: ولا نعلم في استحباب تعجيل الأكل في هذا اليوم قبل الصلاة خلافاً.(1/366)
قال المصنف في الفتح: والحكمة في استحباب التمر ما في الحلو من تقوية البصر الذي يضعفه الصوم، أو لأن الحلو مما يوافق الإيمان ويعبر به المنام ويرقق القلب ومن ثمة استحب بعض التابعين أن يفطر على الحلو مطلقاً.
قال المهلب: وأما جعلهن وتراً فللإشارة إلى الوحدانية، وكذلك كان يفعل صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم في جميع أموره تبركاً بذلك.
[رح4] ــــ وعَن ابْنِ بُرَيْدةَ عَنْ أَبيهِ رضيَ اللَّهُ عَنْهُما قال: "كانَ النبيُّ صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم لا يخْرُجُ يَوْمَ الْفِطْرِ حتى يطْعَمَ ولا يَطْعَمُ يَوْمَ الأضحى حتّى يُصَلي" رَواهُ أَحْمَدُ والترمذي وصحّحه ابْنُ حِبّان.
(وعن ابن بريدة رضي الله عنه) بضم الموحدة وفتح الراء وسكون المثناة التحتية ودال مهملة (عن أبيه) هو بريدة بن الحصيب تقدم، واسم ابن بريدة: عبد الله بن بريدة بن الحصيب الأسلمي أبو سهل المروزي قاضيها ثقة من الثالثة قاله المصنف في التقريب (قال: كان النبيُّ صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم لا يخرج يوم الفطر حتى يطعم، ولا يطعم يوم الأضحى حتى يصلي. رواه أحمد) وزاد فيه: فيأكل من أضحيته (والترمذي وصححه ابن حبان) وأخرجه أيضاً ابن ماجه والدارقطني والحاكم والبيهقي وصححه ابن القطان وفي رواية البيهقي زيادة: وكان إذا رجع أكل من كبد أضحيته. قال الترمذي: وفي الباب عن علي وأنس، ورواه الترمذي أيضاً عن ابن عمر وفيها ضعف.
والحديث دليل على شرعية الأكل يوم الفطر قبل الصلاة وتأخيره يوم الأضحى إلى ما بعد الصلاة.
والحكمة فيه هو أنه لما كان إظهار كرامة الله تعالى للعباد بشرعية نحر الأضاحي كان الأهم الابتداء بأكلها شكراً لله على ما أنعم به من شرعية النسكية الجامعة لخير الدنيا وثواب الآخرة.(1/367)
[رح5] ــــ وَعَن أُمِّ عطيّة رضيَ الله عَنْهَا قالت: "أُمِرْنا أَنْ نُخْرِجَ الْعواتِقَ والحُيّضَ في العيديْنِ، يَشْهَدْنَ الْخَيْرَ وَدعْوَةَ المسْلمينَ، ويعْتَزلُ الحُيّضُ المصلى" مُتّفقٌ علَيه.
(وعن أم عطية رضي الله عنها) هي الأنصارية اسمها نسيبة بنت الحرث وقيل بنت كعب كانت تغزو مع رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم كثيراً تداوي الجرحى وتمرض المرضى، تعدّ في أهل البصرة، وكان جماعة من الصحابة وعلماء التابعين بالبصرة يأخذون عنها غسل الميت لأنها شهدت غسل بنت رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم فحكمت ذلك وأتقنت، فحديثها أصل في غسل الميت، ويأتي حديثها هذا في كتاب الجنائز (قالت: أُمرنا) مبني للمجهول للعلم بالآمر، وأنه رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم، وفي رواية للبخاري: "أمرنا نبينا" (أن نُخْرج) أي إلى المصلى (العواتق) البنات الأبكار البالغات والمقاربات للبلوغ (والحيض) هو أعم من الأول من وجه (في العيدين يشهدن الخير) هو الدخول في فضيلة الصلاة لغير الحيض (ودعوة المسلمين) تعم الجميع (ويعتزل الحيض المصلى. متفق عليه) لكن لفظه عند البخاري: "أمرنا أن نخرج العواتق ذوات الخدور ــــ أو قال: العواتق وذوات الخدور فيعتزلن الحيض المصلى". ولفظ مسلم: "أَمرنا يعني النبي صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم أن نخرج العواتق وذوات الخدور وأَمرَ الحيض أن يعتزلن مصلى المسلمين".
فهذا اللفظ الذي أتى به المصنف ليس لفظ أحدهما.
والحديث دليل على وجوب إخراجهن. وفيه أقوال ثلاثة.
"الأول" أنه واجب وبه قال الخلفاء الثلاثة أبو بكر وعمر وعلي. ويؤيد الوجوب ما أخرجه ابن ماجه والبيهقي من حديث ابن عباس: "أنه صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم كان يخرج نساءه وبناته في العيدين". وهو ظاهر في استمرار ذلك منه صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم وهو عام لمن كانت ذات هيئة وغيرها وصريح في الشواب وفي العجائز بالأولى.(1/368)
"والثاني" سنة وحمل الأمر بخروجهن على الندب قاله جماعة وقواه الشارح مستدلاً بأنه علل خروجهن بشهود الخير ودعوة المسلمين قال: ولو كان واجباً لما علل بذلك ولكان خروجهن لأداء الواجب عليهنّ لامتثال الأمر "قلت": وفيه تأمل فإنه قد يعلل الواجب بما فيه من العوائد ولا يعلل بأدائه.
وفي كلام الشافعي في الأم التفرقة بين ذوات الهيئات والعجائز فإنه قال: أحب شهود العجائز وغير ذوات الهيئات من النساء الصلاة وأنا لشهودهن الأعياد أشد استحباباً.
و "الثالث" أنه منسوخ قال الطحاوي: إن ذلك كان في صدر الإسلام للاحتياج في خروجهنّ لتكثير السواد فيكون فيه إرهاب للعدو ثم نسخ. وتعقب أنه نسخ بمجرد الدعوى ويدفعه أن ابن عباس شهد خروجهنّ وهو صغير وكان ذلك بعد فتح مكة، ولا حاجة إليهنّ لقوة الإسلام حينئذ، ويدفعه أنه علل في حديث أم عطية حضورهنّ لشهادتهنّ الخير ودعوة المسلمين. ويدفعه أنه أفتت به أم عطية بعد وفاته صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم بمدة ولم يخالفها أحد من الصحابة.
وأما قول عائشة: "لو رأى النبي صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم ما أحدث النساء لمنعهنّ عن المساجد): فهو لا يدل على تحريم خروجهنّ ولا على نسخ الأمر به بل فيه دليل على أنهنّ لا يمنعن لأنه لم يمنعهنّ صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم بل أمر بإخراجهنّ فليس لنا أن نمنع ما أمر به.
[رح6] ــــ وعن ابْنِ عُمَرَ رضي اللَّهُ عَنْهُمَا قالَ: "كانَ رسُولُ الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم وَأَبُو بكر وعُمَرُ يصلونَ العِيديْنِ قَبْلَ الخُطْبةِ" مُتّفقٌ عليه.
فيه دليل على أن ذلك هو الأمر الذي داوم عليه صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم وخليفتاه واستمروا على ذلك.(1/369)
وظاهره وجوب تقديم الصلاة على الخطبة، ونقل الإجماع على عدم وجوب الخطبة في العيدين، ومستنده ما أخرجه النسائي وابن ماجه وأبو داود من حديث عبد الله بن السائب قال: شهدت مع رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم العيد فلما قضى صلاته قال: "إنا نخطب فمن أحب أن يجلس للخطبة فليجلس ومن أحب أن يذهب فليذهب" فكانت غير واجبة فلو قدمها لم تشرع إعادتها وإن كان فاعلاً خلاف السنة.
وقد اختلف من أول من خطب قبل الصلاة؟ ففي مسلم أنه مروان، وقيل: سبقه إلى ذلك عثمان كما رواه ابن المنذر بسند صحيح إلى الحسن البصري قال: "أول من خطب قبل الصلاة عثمان". أي صلاة العيد.
وأما مروان فإنه إنما قدم الخطبة لأنه قال لما أنكر عليه أبو سعيد: إن الناس لم يكونوا يجلسون لنا بعد الصلاة، قيل إنهم كانوا يتعمدون ترك استماع الخطبة لما فيها من سب من لا يستحق السب والإفراط في مدح بعض الناس.
وقد روى عبد الرزاق عن ابن جريج عن الزهري قال: أول من أحدث الخطبة قبل الصلاة في العيد معاوية... وعلى كل تقدير فإنه بدعة مخالف لهديه صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم وقد اعتذر لعثمان بأنه كثر الناس في المدينة وتناءت البيوت فكان يقدم الخطبة ليدرك من بعد منزله الصلاة وهو رأي مخالف لهديه صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم.
[رح7] ــــ وعن ابْنِ عَبّاسٍ رضيَ اللَّهُ عَنْهُما "أنَّ النّبيَّ صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم صَلى يَوْمَ العيدِ رَكْعَتَيْنِ لمْ يُصَل قَبْلَهُمَا ولا بَعْدهُما" أَخْرجَهُ السّبْعة.
هو دليل على أن صلاة العيد ركعتان وهو إجماع فيمن صلى مع الإمام في الجبانة وأما إذا فاتته صلاة الإمام فصلى وحده فكذلك عند الأكثر.
وذهب أحمد والثوري إلى أنه يصلي أربعاً.
وأخرج سعيد بن منصور عن ابن مسعود "من فاتته صلاة العيد مع الإمام فليصل أربعاً" وهو إسناد صحيح.
وقال إسحاق: إن صلاها في الجبانة فركعتين وإلا فأربعاً.(1/370)
وقال أبو حنيفة: إذا قضى صلاة العيد فهو مخير بين اثنتين وأربع.
وصلاة العيد مجمع على شرعيتها مختلف فيها على أقوال ثلاثة.
(الأول) وجوبها عيناً عند الهادي وأبي حنيفة وهو الظاهر من مداومته صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم والخلفاء من بعده وأمره بإخراج النساء، وكذلك ما سلف من حديث أمرهم بالغدوّ إلى مصلاهم، فالأمر أصله الوجوب، ومن الأدلة قوله تعالى: {فصلِ لربك وانحر} على من يقول المراد به صلاة النحر، وكذلك قوله تعالى: {قد أفلح من تزكى وذكر اسم ربه فصلى} (الأعلى: 41، 51) فسرها الأكثر بزكاة الفطر وصلاة عيده.
الثاني:أنها فرض كفاية لأنها شعار وتسقط بقيام البعض به كالجهاد ذهب إليه أبو طالب وآخرون.
الثالث: أنها سنة مؤكدة ومواظبته صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم عليها دليل تأكيد سنيتها وهو قول زيد بن عليّ وجماعة قالوا: لقوله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم: "خمس صلوات كتبهن الله على العباد" وأجيب بأنه استدلال بمفهوم العدد، وبأنه يحتمل كتبهن كل يوم وليلة. وفي قوله: "لم يصل قبلها ولا بعدها". دليل على عدم شرعة النافلة قبلها ولا بعدها لأنه إذا لم يفعل ذلك ولا أمر به صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم فليس بمشروع في حقه فلا يكون مشروعاً في حقنا ويأتي حديث أبي سعيد فإن فيه الدلالة على ترك ذلك إلا أنه يأتي في حديث سعيد: "أنه صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم كان يصلي بعد العيد ركعتين في بيته". وصححه الحاكم فالمراد بقوله هنا ولا بعدها أي في المصلي.
[رح 8/854] ـ وَعَنْهُ رَضِيَ الله عَنْهُ: "أَنَّ النَّبِيَّ صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم الْعِيدَ بِلا أَذَانٍ، وَلا إِقَامَةٍ. أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ، وأَصْلُهُ فِي الْبُخَارِيِّ.(1/371)
(وعنه) أي ابن عباس (أن النبي صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم صلى العيد بلا أذان ولا إقامة. أخرجه أبو داود وأصله في البخاري) وهو دليل على عدم شرعيتهما في صلاة العيد فإنهما بدعة، وروى ابن أبي شيبة بإسناد صحيح عن ابن المسيب: "أن أول من أحدث الأذان لصلاة العيد معاوية"، ومثله رواه الشافعي عن الثقة وزاد "وأخذ به الحجاج حين أمر على المدينة"، وروى ابن المنذر: "أن أول من أحدثه زياد بالبصرة"، وقيل: أول من أحدثة مروان، وقال ابن أبي حبيب: أول من أحدثه عبد الله بن الزبير وأقام أيضاً، وقد روى الشافعي عن الثقة عن الزهري: "أن رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم كان يأمر المؤذن في العيد أن يقول الصلاة جامعة". قال في الشرح: وهذا مرسل يعتضد بالقياس على الكسوف لثبوت ذلك فيه، قلت: وفيه تأمل:.
[رح 9/954] ـ وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ رَضِيَ الله عَنْهُ قَالَ: "كَانَ النَّبِيُّ صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم لا يُصَلِّي قَبْلَ الْعِيدِ شَيْئاً، فَإِذَا رَجَعَ إِلَى مَنْزِلِهِ صَلَّى رَكْعَتَيْنِ". رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ بِإِسْنَادٍ حَسَنٍ.
(وعن أبي سعيد رضي الله عنه قال: كان رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم لا يصلي قبل العيد شيئاً فإذا رجع إلى منزله صلى ركعتين. رواه ابن ماجه بإسناد حسن) وأخرجه الحاكم وأحمد، وروى الترمذي عن ابن عمر نحوه وصححه وهو عند أحمد والحاكم، وله طريق أخرى عند الطبراني في الأوسط لكن فيه جابر الجعفي وهو متروك، والحديث يدل على أنه شرع صلاة ركعتين بعد العيد في المنزل، وقد عارضه حديث ابن عمر عند أحمد مرفوعاً: "لا صلاة يوم العيد لا قبلها ولا بعدها" والجمع بينهما بأن المراد لا صلاة في الجبانة.(1/372)
[رح 01/064] ـ وَعَنْهُ قَالَ: "كَانَ النَّبِيُّ صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم يَخْرُجُ يَوْمَ الْفِطْرِ وَالأَضْحَى إلَى الْمُصَلَّى، وَأَوَّلُ شَيْء يَبْدَأُ بِهِ الصَّلاةَ، ثُمّ يَنْصَرِفُ فَيَقُومُ مُقَابِلَ النَّاسِ ـ وَالنَّاسُ عَلَى صُفُوفِهِمْ ـ فَيَعِظُهُمْ وَيَأْمُرُهُمْ". مُتَّفَقَ عَلَيْهِ.
(وعنه) أي أبي سعيد (قال: كان رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم يخرج يوم الفطر والأضحى إلى المصلى وأول شيء يبدأ به الصلاة ثم ينصرف فيقوم مقابل الناس والناس على صفوفهم فيعظهم ويأمرهم. متفق عليه) فيه دليل على شرعية الخروج إلى المصلى والمتبادر منه الخروج إلى موضع غير مسجده صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم، وهو كذلك فإن مصلاه صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم محل معروف بينه وبين باب مسجده ألف ذراع، قاله عمر ابن شبة في أخبار المدينة.
وفي الحديث دلالة على تقديم الصلاة على الخطبة وتقدم، وعلى أنه لا نفل قبلها وفي قوله: "يقوم مقابل الناس" دليل على أنه لم يكن في مصلاه منبر، وقد أخرج ابن حبان في رواية: "خطب يوم عيد على راحلته". وقد ذكر البخاري في تمام روايته عن أبي سعيد: "أن أول من اتخذ المنبر في مصلى العيد مروان". وأن كان قد روى عمر بن شبة: "أن من خطب الناس في المصلى على المنبر عثمان فعله مرة ثم تركه حتى أعاده مروان"، وكأن أبا سعيد لم يطلع على ذلك. وفيه دليل على مشروعية خطبة العيد وأنها كخطب الجمع أمر ووعظ وليس فيه أنها خطبتان كالجمعة، وأنه يقعد بينهما ولعله لم يثبت ذلك من فعله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم، وإنما صنعه الناس قياساً على الجمعة.(1/373)
[رح 11/164] ـ وَعَنْ عَمْروِ بْنِ شُعَيْبٍ، عَنْ أَبِيهِ ، عَنْ جِدِّهِ رَضِيَ الله عَنْهُمْ قَالَ: قَالَ نَّبِيُّ الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم: "التَّكْبِيرُ فِي الْفِطْرِ سَبْعٌ فِي الأُولَى وَخَمْسٌ فِي الأُخْرَى، وَالْقِرَاءَةُ بَعْدَهُمَا كِلْتْيِهِمَا". أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ، وَنَقَلَ التِّرْمِذِيُّ عَنْ الْبُخَارِيِّ تَصْحِيحَهُ.
(وعن عمرو بن شعيب) هو أبو إبراهيم عمرو بن شعيب بن محمد بن عبد الله بن عمرو بن العاص سمع أباه وابن المسيب وطاوساً، وروي عنه الزهري وجماعة، ولم يخرج الشيخان حديثه وضمير أبيه وجده إن كان معنا أن أباه شعيباً روى عن جده محمد أن رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم قال: كذا فيكون مرسلاً، لأن جده محمداً لم يدرك النبي صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم وإن كان الضمير الذي في أبيه عائداً إلى شعيب والضمير في جده إلى عبد الله فيراد أن شعيباً روى عن جده عبد الله فشعيب لم يدرك جده عبد الله، فلهذه العِلَّة لم يخرجا حديثه، وقال الذهبي: قد ثبت سماع شعيب من جده عبد الله، وقد احتج به أرباب السنن الأربعة وابن خزيمة وابن حبان والحاكم، (عن أبيه عن جده قال: قال نبي الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم: "التكبير في الفطر" أي في صلاة عيد الفطر (سبع في الأولى) أي في الركعة الأولى، (وخمس في الأخيرة) أي الركعة الأخرى، و (القراءة) الحمد وسورة (بعدهما" أخرجه أبو داود ونقل الترمذي عن البخاري تصحيحه) ، وأخرجه أخمد وعليّ بن المديني، وصححاه، وقد رووه من حديث عائشة وسعد القرظي وابن عباس وابن عمر وكثير بن عبد الله، والكل فيه ضعفاء، وقد روي عن عليّ عليه السلام وابن عباس موقوفاً، قال ابن رشد: إنما صاروا إلى الأخذ بأقوال الصحابة في هذه المسألة لأنه لم يثبت فيها عن النبي صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم شيء.(1/374)
قلت: وروي العقيلي عن أحمد بن حنبل أنه قال: ليس يروى في التكبير في العيدين حديث صحيح. هذا والحديث دليل على أنه يكبر في الأولى من ركعتي العيد سبعاً، ويحتمل أنها بتكبيرة الافتتاح وأنها من غيرها والأوضح أنها من دونها وفيها خلاف، وقال في الهدي النبوي: إن تكبيرة الافتتاح منها إلا أنه لم يأت بدليل، وفي الثانية خمساً وإلى هذا ذهب جماعة من الصحابة وغيرهم وخالف آخرون فقالوا: خمس في الأولى وأربع في الثانية، وقيل: ثلاث في الأولى وثلاث في الثانية، وقيل: ست في الأولى وخمس في الثانية.
قلت: والأقرب العمل بحديث الباب، فإنه وإن كان كل طرقه واهية، فإنه يشد بعضها بعضاً ولأن ما عداه من الأقوال ليس فيها سنة يعمل بها، وفي الحديث دليل على أن القراءة بعد التكبير في الركعتين، وبه قال الشافعي ومالك وذهب الهادي إلى أن القراءة قبلها فيهما واستدل له في البحر بما لا يتم دليلاً وذهب الباقر وأبو حنيفة إلى أنه يقدم التكبير في الأولى ويؤخر في الثانية ليوالي بين القراءتين. واعلم أن قول المصنف أنه نقل الترمذي عن البخاري تصحيحه.
وقال في تلخيص الحبير: إنه قال البخاري والترمذي: إنه أصح شيء في هذا الباب، فلا أدري من أي نقله عن الترمذي فإن الترمذي لم يخرج في سننه رواية عمرو بن شعيب أصلاً بل أخرج رواية كثير بن عبد الله عن أبيه عن جده، وقال: حديث جد كثير أحسن شيء روي في هذا الباب عن النبي صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم، وقال: وفي الباب عن عائشة وابن عمر وعبد الله بن عمرو ولم يذكر عن البخاري شيئاً، وقد وقع البيهقي في السنن الكبرى هذا الوهم بعينه إلا أنه ذكره بعد روايته لحديث كثير فقال: قال أبو عيسى: سألت محمداً يعني البخاري عن هذا الحديث، فقال: ليس في هذا الباب شيء أصح منه قال: وحديث عبد الله بن عبد الرحمن الطائفي عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده في هذا الباب هو صحيح أيضاً، انتهى كلام البيهقي.(1/375)
ولم نجد في الترمذي شيئاً مما ذكره، وقد نبه في تنقيح الأنظار على شيء من هذا، وقال: والعجب أن ابن النحوي ذكر في خلاصته عن البيهقي أن الترمذي قال: سألت محمداً عنه إلخ، وبهذا يعرف أن المصنف قلد في النقل عن الترمذي عن البخاري الحافظ البيهقي، ولهذا لم ينسب حديث عمرو بن شعيب إلا إلى أبي دادو، والأولى العمل بحديث عمرو لما عرفت، وأنه أشفى شيء في الباب، وكان صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم يسكت بين كل تكبيرتين سكتة لطيفة ولم يحفظ عنه ذكر معين بين التكبيرتين ولكن ذكر الخلال عن ابن مسعود أنه قال: يحمد الله ويثني عليه ويصلي على النبي صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم. وأخرج الطبراني في الكبير عن ابن مسعود "أن بين كل تكبيرتين قدر كلمتين" وهو موقوف. وفيه[تض] سليمان بن أرقم[/تض] ضعيف، وكان ابن عمر مع تحريه للاتباع يرفع يديه مع كل تكبيرة.
[رح12] ــــ وعنْ أَبي واقِدٍ الليثيِّ رضيَ اللَّهُ عَنْهُ قال: "كانَ النبيُّ صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم يَقْرَأُ في الْفِطْر والأضحى بقاف واقْتَرَبَتْ" أَخْرجهُ مُسْلمٌ.
(وعن أبي واقد) بقاف ومهملة اسم فاعل من وقد اسمه: الحارث بن عوف الليثي قديم الإسلام قيل إنه شهد بدراً، وقيل إنه من مسلمة الفتح، والأول أصح. عداده في أهل المدينة، وجاور بمكة، ومات بها سنة ثمان وستين (الليثي رضي الله عنه قال: كان النبي صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم يقرأ في الفطر والأضحى بـ "قاف") أي في الأولى بعد الفاتحة (واقتربت) أي في الثانية بعدها (أخرجه مسلم).
فيه دليل على أن القراءة بهما في صلاة العيد سنة، وقد سلف أنه يقرأ فيهما بسبح والغاشية. والظاهر أنه كان يقرأ هذا تارة وهذا تارة، وقد ذهب إلى سُنية ذلك الشافعي ومالك.
[رح13] ــــ وَعَنْ جابرٍ رضيَ اللَّهُ عَنْهُ قالَ: "كانَ رسولُ اللَّهِ صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم إذا كانَ يوْمُ الْعيدِ خَالَفَ الطّريقَ" أَخْرَجَهُ الْبُخَاريُّ.(1/376)
يعني أنه يرجع من مصلاه من جهة غير الجهة التي خرج منها إليه.
قال الترمذي: أخذ بهذا بعض أهل العلم واستحبه للإمام وبه يقول الشافعي انتهى. وقال به أكثر أهل العلم، ويكون مشروعاً للإمام والمأموم الذي أشار إليه بقوله:
14 ــــ وَلأبي دَاوُدَ عن ابْنِ عُمَرَ رضيَ اللَّهُ عنهما نَحْوُهُ.
ولفظه في السنن عن ابن عمر "أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أخذ يوم العيد في طريق ثم رجع في طريق أخرى".
وفيه دليل أيضاً على ما دل عليه حديث جابر. واختلف في وجه الحكمة في ذلك. فقيل: ليسلم على أهل الطريقين: وقيل: لينال بركته الفريقان: وقيل: ليقضي حاجة من له حاجة فيهما وقيل: ليظهر شعائر الإسلام في سائر الفجاج والطرق وقيل: ليغيظ المنافقين برؤيتهم عزة الإسلام وأهله ومقام شعائره، وقيل: لتكثر شهادة البقاع فإن الذاهب إلى المسجد أو المصلى إحدى خطواته ترفع درجة والأخرى تحط خطيئة حتى يرجع إلى منزله وقيل: وهو الأصح أنه لذلك كله من الحكم التي لا يخلو فعله عنها وكان ابن عمر مع شدة تحريه للسنة يكبر من بيته إلى المصلى.
[رح15] ــــ وَعَنْ أَنَسٍ رَضَي اللَّهُ عَنْهُ قالَ: قَدمَ رسولُ الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم المدينة وَلهُم يَوْمان يَلْعبُون فيهما فقَالَ: "قَدْ أَبْدلَكمُ الله بِهِمَا خَيْراً منهما: يومَ الأضحْى ويوْمَ الْفِطْر" أَخْرَجَهُ أَبو داوُد والنسائي بإسنْادٍ صحيح.
الحديث يدل على أنه قال صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم ذلك عقيب قدومه المدينة كما تقتضيه الفاء.
والذي في كتب السير أن أول عيد شرع في الإسلام عيد الفطر في السنة الثانية من الهجرة.(1/377)
وفيه دليل على أن إظهار السرور في العيدين مندوب، وأن ذلك من الشريعة التي شرعها الله لعباده، إذ في إبدال عيد الجاهلية بالعيدين المذكورين دلالة على أنه يفعل في العيدين المشروعين ما تفعله الجاهلية في أعيادها، وإنما خالفهم في تعيين الوقتين (قلت): هكذا في الشرح ومراده من أفعال الجاهلية ما ليس بمحظور ولا شاغل عن طاعة.
وأما التوسعة على العيال في الأعياد بما حصل لهم من ترويح البدن وبسط النفس من كلف العبادة فهو مشروع.
وقد استنبط بعضهم كراهية الفرح في أعياد المشركين والتشبه بهم، وبالغ في ذلك الشيخ الكبير أبو حفص البستي من الحنفية وقال: من أهدى فيه بيضة إلى مشرك تعظيماً لليوم فقد كفر بالله.
[رح16] ــــ وعَنْ علي رَضيَ اللَّهُ عَنْهُ قالَ: "مِنَ السُّنّةِ أَنْ تَخْرُج إلى العِيدِ مَاشياً" رواهُ التّرْمِذيُّ وحَسّنهُ.
تمامه من الترمذي "وأن تأكل شيئاً قبل أن تخرج".
قال أبو عيسى: والعمل على هذا الحديث عند أكثر أهل العلم يستحبون أن يخرج الرجل إلى العيد ماشياً وأن يأكل شيئاً قبل أن يخرج.
قال أبو عيسى: ويستحب أن لا يركب إلا من عذر انتهى.
ولم أجد فيه أنه حسّنه ولا أظن أنه يحسّنه لأنه رواه من طريق الحارث الأعور وللمحدثين فيه مقال.
وقد أخرج الزهري مرسلاً: أنه صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم ما ركب في عيد ولا جنازة. وكان ابن عمر يخرج إلى العيد ماشياً ويعود ماشياً.
وتقييد الأكل بقبل الخروج بعيد الفطر لما مر من حديث عبد الله بن بريدة عن أبيه، وروى ابن ماجه من حديث أبي رافع وغيره: "أنه صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم كان يخرج إلى العيد ماشياً ويرجع ماشياً". ولكنه بوب البخاري في الصحيح عن المضى والركوب إلى العيد فقال: "باب المضي والركوب إلى العيد" فسوى بينهما كأنه لما رأى من عدم صحة الحديث فرجع إلى الأصل في التوسعة.(1/378)
[رح17] ــــ وعنْ أبي هُرَيرة رضيَ اللَّهُ عَنْهُ: "أَنّهُمْ أصَابُهم مطَرٌ في يَوْم عيدٍ فصَلى بهمُ النّبيُّ صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم صَلاةَ الْعيدِ في المسجدِ" رَوَاهُ أَبو دَاوُدَ بإسْنادٍ لَيِّن.
لأن في إسناده رجلاً مجهولاً، ورواه ابن ماجه والحاكم بإسناد ضعيف.
وقد اختلف العلماء على قولين هل الأفضل في صلاة العيد الخروج إلى الجبانة أو الصلاة في مسجد البلد إذا كان واسعاً؟
الثاني قول الشافعي أنه إذا كان مسجد البلد واسعاً صلوا فيه ولا يخرجون فكلامه يقضي أن العلة في الخروج طلب الاجتماع، ولذا أمر صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم بإخراج العواتق وذات الخدور، فإذا حصل ذلك في المسجد فهو أفضل ولذلك فإن أهل مكة لا يخرجون لسعة مسجدها وضيق أطرافها وإلى هذا ذهب الإمام يحيى وجماعة قالوا: الصلاة في المسجد أفضل.
والقول الأول للهادوية ومالك أن الخروج إلى الجبانة أفضل ولو اتسع المسجد للناس. وحجتهم محافظته صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم على ذلك ولم يصل في المسجد إلا لعذر المطر ولا يحافظ صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم إلا على الأفضل ولقول عليّ عليه السلام فإنه روي أنه خرج إلى الجبانة لصلاة العيد وقال: "لولا أنه السنة لصليت في المسجد، واستخلف من يصلي بضعفة الناس في المسجد" قالوا: فإن كان في الجبانة مسجد مكشوف فالصلاة فيه أفضل وإن كان مسقوفاً ففيه تردد.
(فائدة) التكبير في العيدين مشروع عند الجماهير، فأما تكبير عيد الإفطار فأوجبه الناصر لقوله تعالى: {ولتكبِّروا الله على ما هداكم} والأكثر أنه سنة، ووقته مجهول مختلف فيه على قولين.
فعند الأكثر أنه من عند خروج الإمام للصلاة إلى مبتدأ الخطبة، وذكر فيه البيهقي حديثين وضعفهما، لكن قال الحاكم: هذه سنة تداولها أئمة الحديث وقد صحت به الرواية عن ابن عمر وغيره من الصحابة.
والثاني للناصر أنه من مغرب أول ليلة من شوال إلى عصر يومها خلف كل صلاة.(1/379)
وعند الشافعي إلى خروج الإمام أو حتى يصلي أو حتى يفرغ من الخطبة. أقوال عنه.
وأما صفته ففي فضائل الأوقات للبيهقي بإسناده إلى سلمان "أنه كان يعلمهم التكبير ويقول: كبروا الله أكبر الله أكبر كبيراً أو قال كثيراً اللهم أنت أعلى وأجل من أن تكون لك صاحبة أو يكون لك ولد أو يكون لك شريك في الملك أو يكون لك ولي من الذل وكبره تكبيراً اللهم اغفر لنا اللهم ارحمنا".
وأما تكبير عيد النحر فأوجبه أيضاً الناصر لقوله تعالى: {واذكروا الله في ايام معدودات} ولقوله {كذلك سخرها لكم لتكبروا الله على ما هداكم} ووافقه المنصور بالله.
وذهب الجمهور إلى أنه سنة مؤكدة للرجال والنساء ومنهم من خصه بالرجال.
وأما وقته فظاهر الآية الكريمة والآثار عن الصحابة أنه لا يختص بوقت دون وقت، إلا أنه اختلف العلماء فمنهم من خصه بعقيب الصلاة مطلقاً، ومنهم من خصه بعقيب الفرائض دون النوافل، ومنهم من خصه بالجماعة دون الفرادى، وبالمؤداة دون المقضية وبالمقيم دون المسافر، وبالأمصار دون القرى.
وأما ابتداؤه وانتهاؤه ففيه خلاف أيضاً فقيل في الأول من صبح يوم عرفة، وقيل من ظهره، وقيل من عصره.
وفي الثاني إلى ظهر ثالثه، وقيل إلى آخر أيام التشريق، وقيل إلى ظهره، وقيل إلى عصره، ولم يثبت عنه صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم في ذلك حديث واضح، وأصح ما ورد فيه عن الصحابة قول علي وابن مسعود "أنه من صبح يوم عرفة إلى آخر أيام منى"، أخرجهما ابن المنذر.
وأما صفته فأصح ما ورد فيه ما رواه عبد الرازق عن سلمان بسند صحيح "قال: كبروا الله أكبر الله أكبر، الله أكبر كبيراً" وقد روي عن سعيد بن جبير ومجاهد وابن أبي ليلى وقول الشافعي وزاد فيه "ولله الحمد" وفي الشرح صفات كثيرة واستحسانات عن عدة من الأئمة، وهو يدل على التوسعة في الأمر وإطلاق الآية يقتضي ذلك.(1/380)
واعلم أنه لا فرق بين تكبير عيد الإفطار وعيد النحر في مشروعية التكبير لاستواء الأدلة في ذلك وإن كان المعروف عند الناس إنما هو تكبير عيد النحر.
وقد ورد الأمر في الآية بالذكر في الأيام المعدودات والأيام المعلومات، وللعلماء قولان.
منهم من يقول هما مختلفان، فالأيام المعدودات أيام التشريق والمعلومات أيام العشر ذكره البخاري عن ابن عباس تعليقاً ووصله غيره، وأخرج ابن مردويه عن ابن عباس"إن المعلومات: التي قبل أيام التروية ويوم عرفة. والمعدودات: أيام التشريق" وإسناده صحيح وظاهره إدخال يوم العيد في أيام التشريق. وقد روى ابن أبي شيبة عن ابن عباس أيضاً "إن المعلومات يوم النحر وثلاثة أيام بعده" ورجحه الطحاوي لقوله {ويذكروا اسم الله في ايام معلومات على ما رزقهم من بهيمة الأنعام} فإنها تشعر بأن المراد أيام النحر انتهى.
وهذا لا يمنع تسمية أيام العشر معلومات ولا أيام التشريق معدودات بل تسمية التشريق معدودات متفق عليه لقوله تعالى: {واذكروا الله في ايام معدودات} وقد ذكر البخاري عن أبي هريرة وابن عمر تعليقاً: أنهما كانا يخرجان إلى السوق أيام العشر يكبران ويكبر الناس بتكبيرهما. وذكر البغوي والبيهقي ذلك. قال الطحاوي: كان مشايخنا يقولون بذلك أيام العشر جميعها.
(فائدة ثانية) يندب لبس أحسن الثياب والتطيب بأجود الأطياب في يوم العيد ويزيد في الأضحى الضحية بأسمن ما يجد لما أخرجه الحاكم من حديث الحسن السبط قال: "أمرنا رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم في العيدين أن نلبس أجود ما نجد وأن نتطيب بأجود ما نجد وأن نضحي بأسمن ما نجد: البقرة عن سبعة والجزور عن عشرة وأن نظهر التكبير والسكينة والوقار". قال الحاكم بعد إخراجه من طريق إسحاق بن بزرج: لولا جهالة إسحاق هذا لحكمت للحديث بالصحة (قلت): ليس بمجهول فقد ضعفه الأزدي ووثقه ابن حبان. ذكره في التلخيص.
باب صلاة الكسوف(1/381)
[رح1] ــــ عَنِ المُغيرةِ بنِ شُعْبةَ رضي اللَّهُ عَنْهُ قالَ: انْكَسَفتِ الشمْسُ عَلى عَهْد رَسُولِ الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم يَوْمَ مَاتَ إبْراهيم (فقال الناس: انكسَفَتِ الشّمْسُ لموْتِ إبرَاهيم) فَقَالَ رسولُ الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم: "إنَّ الشّمسَ وَالْقَمَرَ آيتَانِ مِنْ آيات الله لا ينْكَسِفَانِ لموْتِ أَحَدٍ ولا لحياتِهِ فإذا رَأَيْتُموهُما فادعُوا الله وصَلُّوا حَتى تَنْكَشِفَ" مُتّفَقٌ عَلَيْهِ، وَفي رواية لِلْبُخاريِّ "حَتى تَنْجَلي".
(عن المغيرة بن شعبة رضي الله عنه قال: انكسفت الشمس على عهد رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم يوم مات إبراهيم) أي ابنه عليه السلام وموته في العاشرة من الهجرة: وقال أبو داود: في ربيع الأول يوم الثلاثاء لعشر خلون منه وقيل: في الرابعة (فقال الناس: انكسفت الشمس لموت إبراهيم) (فقال صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم) أي رادّاً عليهم ("إنّ الشمس والقمرَ آيتان مِنْ آيات الله لا ينكسفان لمَوْتِ أَحدٍ ولا لِحياته فإذا رَأَيْتُموهما فادعُوا الله وصلُّوا) هذا لفظ مسلم ولفظ البخاري "فصلوا وادعوا الله" (حتى تَنكشف") ليس هذا اللفظ في البخاري بل هو في مسلم (متفق عليه) يقال كسفت الشمس: بفتح الكاف وتضم نادراً وانكسفت وخسفت بفتح الخاء وتضم نادراً وانخسفت.
واختلف العلماء في اللفظين هلا يستعملان في الشمس والقمر، أو يختص كل لفظ بواحد منهما، وقد ثبت في القرآن نسبة الخسوف إلى القمر، وورد في الحديث خسفت الشمس كما ثبت في نسبة الكسوف إليهما وثبت استعمالهما منسوبين إليهما فيقال فيهما: الشمس والقمر ينخسفان، وينكسفان إنما الذي لم يرد في الأحاديث نسبة الكسوف إلى القمر على جهة الانفراد، وعلى هذا يدل استعمال الفقهاء فإنهم يخصون الكسوف بالشمس والخسوف بالقمر: واختاره ثعلب، وقال الجوهري: إنه أفصح، وقيل يقال بهما في كل منهما.(1/382)
والكسوف: لغة التغير إلى السواد، والخسوف النقصان، وفي ذلك أقوال أخر.
وإنما قالوا إنها كسفت لموت إبراهيم لأنها كسفت في غير يوم كسوفها المعتاد، فإن كسوفها في العاشر أو الرابع لا يكاد يتفق فلذا قالوا: إنما هو لأجل هذا الخطب العظيم، فردّ عليهم صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم ذلك وأخبرهم أنهما علامتان من العلامات الدالة على وحدانية الله تعالى وقدرته على تخويف عباده من بأسه وسطوته.
والحديث مأخوذ في قوله تعالى: {وما نرسل بالآيات إلا تخويفا}.
وفي قوله "لحياته" مع أنهم لم يدعوا ذلك بيان أنه لا فرق بين الأمرين فكما أنكم لا تقولون بكسوفهما لحياة أحد كذلك لا يكسفان لموته، أو كأن المراد من حياته صحته من مرضه ونحوه، ثم ذكر القمر مع أن الكلام خاص بكسوف الشمس زيادة في الإفادة والبيان، أن حكم النيِّرين واحد في ذلك.
ثم أرشد العباد إلى ما يشرع عند رؤية ذلك من الصلاة والدعاء ويأتي صفة الصلاة.
والأمر دليل الوجوب إلا أنه حمله الجمهور على أنه سنة مؤكدة لانحصار الواجبات في الخمس الصلوات.
وصرح أبو عوانة في صحيحه بوجوبها، ونقل عن أبي حنيفة أنه أوجبها.
وجعل صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم غاية وقت الدعاء والصلاة انكشاف الكسوف، فدل على أنها تفوت الصلاة بالانجلاء، فإذا انجلت وهو في الصلاة فلا يتمها، بل يقتصر على ما فعل إلا أن في رواية لمسلم: "فسلم وقد انجلت"، فدل أنه يتم الصلاة وإن كان قد حصل الانجلاء، ويؤيده القياس على سائر الصلوات فإنها تقيد بركعة كما سلف، فإذا أتى بركعة أتمها.
وفيه دليل على أن فعلها يتقيد بحصول السبب في أي وقت كان من الأوقات، وإليه ذهب الجمهور.
وعند أحمد وأبي حنيفة ما عدا أوقات الكراهة (وفي رواية للبخاري) أي عن المغيرة (حتى تنجلي) عوض قوله تنكشف والمعنى واحد.
[رح2] ــــ وَلِلْبُخَاري مِنْ حديثِ أَبي بَكْرَةَ رضي اللَّهُ عَنْهُ "فَصَلُّوا وادعُوا حَتى يُكْشَفَ مَا بكمُ".(1/383)
هو أول حديث ساقه البخاري في باب الكسوف ولفظه "يكشف" والمراد يرتفع ما حل بكم من كسوف الشمس أو القمر.
[رح3] ــــ وَعَنْ عَائِشَةَ رضي اللَّهُ عَنْهَا: "أنَّ النّبيَّ صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم جَهَرَ في صَلاةِ الْكُسُوف بقرَاءَتِهِ فَصَلى أَرْبَعَ رَكْعَاتٍ في رَكْعتين وَأَرْبَعَ سَجَدَاتَ" مُتّفَقٌ عَلَيْهِ وهذا لَفْظُ مُسْلِمٍ، وفي روايةٍ لَهُ "فَبَعَثَ مُنادياً يُنَادي الصَّلاةُ جَامعةٌ".
(وعن عائشة رضي الله عنها أن النبي صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم جهر في صلاة الكسوف بقراءته فصلى أربع ركعات) أي ركوعات بدليل قولها (في ركعتين وأربع سجدات. متفق عليه وهذا لفظ مسلم).
الحديث دل على شرعية الجهر بالقراءة في صلاة الكسوف، والمراد كسوف الشمس لما أخرجه أحمد بلفظ "خسفت الشمس" وقال: "ثم قرأ فجهر بالقراءة" وقد أخرج الجهر أيضاً الترمذي والطحاوي والدارقطني، وقد أخرج ابن خزيمة وغيره من عليّ عليه السلام مرفوعاً الجهر بالقراءة في صلاة الكسوف، وفي ذلك أقوال أربعة.
(الأول) أنه يجهر بالقراءة مطلقاً في كسوف الشمس والقمر لهذا الحديث وغيره، وهو إن كان وارداً في كسوف الشمس، فالقمر مثله لجمعة صلى الله تعالى عليه وآله وسلم بينهما في الحكم حيث قال: "فإذا رأيتموهما" أي كاسفتين "فصلوا وادعوا" والأصل استواؤهما في كيفية الصلاة، ونحوهما وهو مذهب أحمد وإسحاق وأبي حنيفة وابن خزيمة وابن المنذر وآخرين.
(والثاني) يسرّ مطلقاً لحديث ابن عباس "أنه صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم قام قياماً طويلاً نحواً من سورة البقرة". فلو جهر لم يقدره بما ذكر وقد علق البخاري عن ابن عباس: أنه قام بجنب النبي صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم في الكسوف فلم يسمع منه حرفاً. ووصله البيهقي من ثلاثة طرق أسانيدها واهية فيضعف القول بأنه يحتمل أن ابن عباس كان بعيداً منه صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم فلم يسمع جهره بالقراءة.(1/384)
(الثالث) أنه يخير فيهما بين الجهر والإسرار لثبوت الأمرين عنه صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم كما عرفت من أدلة القولين.
(الرابع) أنه يسر في الشمس ويجهر في القمر وهو لمن عدا الحنفية من الأربعة عملاً بحديث ابن عباس وقياساً على الصلوات الخمس. وما تقدم من دليل أهل الجهر مطلقاً أنهض مما قالوه.
وقد أفاد حديث الباب أن صفة صلاة الكسوف ركعتان في كل ركعة ركوعان وفي كل ركعة سجدتان ويأتي في شرح الحديث الرابع الخلاف في ذلك (وفي رواية) أي لمسلم عن عائشة (فبعث) أن النبي صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم (منادياً ينادي: الصلاةَ جامعةً) بنصب الصلاة وجامعة فالأول على أنه مفعول فعل محذوف أي أحضروا، والثاني على الحال ويجوز رفعهما على الابتداء والخبر وفيه تقادير أخر.
وهو دليل على مشروعية الإعلام بهذا اللفظ للاجتماع لها ولم يرد الأمر بهذا اللفظ عنه صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم إلا في هذه الصلاة.
[رح4] ــــ وعَن ابْنِ عَبّاسٍ رضي الله عَنْهمُا قالَ: "انخَسَفَتْ الشّمْسُ على عَهْدِ رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم فَصَلى رسولُ الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم، فَقَامَ قِيَاماً طَويلاً نحْواً مِنْ قراءةِ سُورَةِ الْبَقرةِ، ثمَّ ركَعَ رُكُوعاً طَويلاً، ثَمَّ رَفَعَ فَقَامَ قِياماً طويلاً وَهُو دُونَ الْقيامِ الأوَّل، ثمَّ ركَعَ ركوعاً طويلاً وهو دون الرُّكوع الأوَّل ثمَّ سَجَدَ، ثمَّ قَام قياماً طويلاً وهُوَ دونَ القِيَام الأوَّل، ثمَّ ركع رُكُوعاً طويلاً وهُو دُون الرُّكوع الأول، ثمَّ رفعَ فقَامَ قياماً طويلاً وهُوَ دونَ القيام الأوَّلِ، ثمَّ ركعَ رُكُوعاً طَويلاً وَهُوَ دونَ الركوع الأوَّل، ثمَّ رفَعَ رَأسَهُ ثمَّ سَجَدَ، ثمَّ انْصرفَ وَقَدْ تَجَلّت الشمسُ فَخَطَبَ النّاسَ" مُتّفقٌ عَلَيْه واللفظ للبُخاريِّ، وفي رواية لمُسلمٍ "صلى حين كَسَفَت الشّمسُ ثَمَاني ركَعَاتٍ في أربعِ سَجَدَاتٍ".(1/385)
قوله "فصلى" ظاهر الفاء التعقيب.
واعلم أن صلاة الكسوف رويت على وجوه كثيرة ذكرها الشيخان وأبو داود وغيرهم وهي سنة باتفاق العلماء. وفي دعوى الاتفاق نظر لأنه صرح أبو عوانة في صحيحه بوجوبها، وحكى عن مالك أنه أجراها مجرى الجمعة وتقدم عن أبي حنيفة إيجابها.
ومذهب الشافعي وجماعة أنها تسنّ في جماعة، وقال آخرون: فرادى وحجة الأولين الأحاديث الصحيحة من فعله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم لها جماعة.
ثم اختلفوا في صفتها. فالجمهور أنها ركعتان في كل ركعة قيامان وقراءتان وركوعان والسجود سجدتان كغيرها وهذه الكيفية ذهب إليها مالك والشافعي والليث وآخرون.
وفي قوله: "نحواً من قراءة سورة البقرة" دليل على أنه يقرأ فيها القرآن، قال النووي: اتفق العلماء أنه يقرأ في القيام الأول من أول ركعة الفاتحة واختلفوا في القيام الثاني ومذهبنا ومالك أنها لا تصح الصلاة إلا بقراءتها.
وفيه دليل على شرعية طول الركوع، قال المصنف: لم أر في شيء من الطريق بيان ما قاله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم فيه إلا أن العلماء اتفقوا أنه لا قراءة فيه وإنما المشروع فيه الذكر من تسبيح وتكبير وغيرهما.
وفي قوله "وهو دون الأول "دلالة على أن القيام الذي يعقبه السجود لا تطويل فيه وأنه دون الأول وإن كان قد وقع في رواية مسلم في حديث جابر "أنه أطال ذلك" لكن قال النووي: إنها شاذة فلا يعمل بها.
ونقل القاضي إجماع العلماء أنه لا يطول الاعتدال الذي يلي السجود وتأول هذه الرواية بأنه أراد بالإطالة زيادة الطمأنينة.
ولم يذكر في هذه الرواية طول السجود ولكنه قد ثبتت إطالته في رواية أبي موسى عند البخاري وحديث ابن عمرو عند مسلم.(1/386)
قال النووي: قال المحققون من أصحابنا وهو المنصوص للشافعي: أنه يطول للأحاديث الصحيحة بذلك، فأخرج أبو داود والنسائي من حديث سمرة "كان أطول ما يسجد في صلاة قط" وفي رواية مسلم من حديث جابر "وسجوده نحواً من ركوعه" وبه جزم أهل العلم بالحديث.
ويقول عقيب كل ركوع: سمع الله لمن حمده ثم يقول عقيبه: ربنا لك الحمد إلى آخره.
ويطول الجلوس بين السجدتين فقد وقع في رواية مسلم لحديث جابر إطالة الاعتدال بين السجدتين، قال المصنف: لم أقف عليه في شيء من الطرق إلا في هذا، وَنَقْلُ الغزالي الاتفاق على عدم إطالته مردودٌ.
وفي قوله: "ثم قام قياماً طويلاً وهو دون القيام الأول" دليل على إطالة القيام في الركعة الثانية ولكنه دون القيام في الركعة الأولى وقد ورد في رواية أبي داود عن عروة "أنه قرأ آل عمران".
قال ابن بطال: لا خلاف أن الركعة الأولى بقيامها وركوعها تكون أطول من الركعة الثانية بقيامها وركوعها.
واختلف في القيام الأول من الثانية وركوعه هل هما أقصر من القيام الثاني من الأولى وركوعه أن يكونان سواء؟ قيل: وسبب هذا الخلاف فهم معنى قوله: "وهو دون القيام الأول" هل المراد به الأول من الثانية أو يرجع إلى الجميع فيكون كل قيام دون الذي قبله.
وفي قوله: "فخطب الناس" دليل على شرعية الخطبة بعد صلاة الكسوف، وإلى استحبابها ذهب الشافعي وأكثر أئمة الحديث.(1/387)
وعن الحنفية: لا خطبة في الكسوف لأنها لم تنقل، وتُعُقِّب بالأحاديث المصرحة بالخطبة. والقول بأن الذي فعله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم لم يقصد به الخطبة بل قصد الرد على ما اعتقد أن الكسوف بسبب موت أحد مُتَعَقّبٌ بأن رواية البخاري، "فحمد الله وأثنى عليه" وفي رواية "شهد أنه عبده ورسوله" وفي رواية للبخاري "أنه ذكر أحوال الجنة والنار وغير ذلك" وهذه مقاصد الخطبة، وفي لفظ مسلم من حديث فاطمة عن أسماء قالت: "فخطب رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم الناس فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: أما بعد ما من شيء لم أكن أُريته إلا وقد أُريته في مقامي هذا حتى الجنة والنار وإنه قد أوحي إليّ أنكم تفتنون في القبور قريباً أو مثل فتنة المسيح الدجال ــــ لا أدري أي ذلك قالت أسماء ــــ فيؤتى أحدكم فيقال ما علمك بهذا الرجل فأما المؤمن أو الموقن ــــ لا أدري أي ذلك قالت أسماء ــــ فيقول: هو محمد رسول الله جاءنا بالبينات والهدى فأجبنا وأطعنا ثلاث مرات ثم يقال: نم قد كنا نعلم أنك تؤمن به فنم صالحاً" وفي مسلم رواية أخرى في الخطبة بألفاظ فيها زيادة (وفي رواية لمسلم) أي عن ابن عباس (صلى) أي النبي صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم (حين كَسَفت الشمس ثماني ركعات) أي ركوعات (في أربع سجدات) في ركعتين لأن كل ركعة لها سجدتان والمراد أنه ركع في كل ركعة أربع ركوعات فيحصل في الركعتين ثمان ركوعات وإلى هذه الصفة ذهبت طائفة.
5 ــــ وَعَنْ عَليٍّ رضي اللَّهُ عَنْهُ مِثْلُ ذلكَ.
(وعن علي رضي الله عنه) أي وأخرج مسلم عنه (مثل ذلك) أي مثل رواية ابن عباس.
6 ــــ وَلَهُ عَنْ جابرٍ رضيَ اللَّهُ عَنْهُ "صلى سِتَّ رَكَعَاتٍ بأَرْبع سَجَداتِ".
(وله) أي لمسلم (عن جابر) بن عبد الله (صلى) أي النبي صلى الله عليه وآله وسلم (ست ركعات بأربع سجدات) أي صلى ركعتين في كل ركعة ثلاث ركوعات وسجدتان.(1/388)
[رح7] ــــ ولأبي دَاوُدَ عَنْ أُبَيِّ بن كَعْبٍ رضي اللَّهُ عنْهُ "صلى فَرَكَعَ خَمْسَ رَكعاتٍ وَسَجَدَ سَجْدتَيْنِ، وَفَعَل في الثّانية مثل ذلك".
(ولأبي داود عن أبيّ بن كعب رضي الله عنه صلى) أي النبي صلى الله عليه وآله وسلم (فركع خمس ركعات) أي ركوعات في كل ركعة (وسجد سجدتين وفعل في الثانية مثل ذلك) ركع خمس ركوعات وسجد سجدتين.
إذا عرفت هذه الأحاديث فقد يحصل من مجموعها أن صلاة الكسوف ركعتان اتفاقاً إنما اختلف في كمية الركوعات في كل ركعة فحصل من مجموع الروايات التي ساقها المصنف أربع صور.
(الأولى) ركعتان في كل ركعة ركوعان وبهذا أخذ الشافعي ومالك والليث وأحمد وغيرهم وعليها دل حديث عائشة وجابر وابن عباس وابن عمرو، قال ابن عبد البر: هو أصح ما في الباب وباقي الروايات معللة ضعيفة.
(والثانية) ركعتان أيضاً في كل ركعة أربع ركوعات وهي التي أفادتها رواية مسلم عن ابن عباس وعلي عليه السلام.
(والثالثة) ركعتان أيضاً في كل ركعة ثلاث ركوعات وعليها دل حديث جابر.
(والرابعة) ركعتان أيضاً يركع في كل واحدة خمس ركوعات.
ولما اختلفت الروايات اختلف العلماء فالجمهور أخذوا بالأولى لما عرفت من كلام ابن عبد البر، وقال النووي في شرح مسلم: إنه أخذ بكل نوع بعض الصحابة.
وقال جماعة من المحققين: إنه مخير بين الأنواع فأيهما فعل فقد أحسن، وهو مبني على أنه تعدد الكسوف وأنه فعل هذا تارة وهذا أخرى، ولكن التحقيق أن كل الروايات حكاية عن واقعة واحدة هي صلاته صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم يوم وفاة إبراهيم، ولهذا عول الآخرون على إعلال الأحاديث التي حكت الصور الثلاث، قال ابن القيم: كبار الأئمة لا يصححون التعدد لذلك كالإمام أحمد والبخاري والشافعي ويرونه غلطاً، وذهبت الحنفية إلى أنها تصلي ركعتين كسائر النوافل.(1/389)
[رح8] ــــ وَعَن ابن عَبّاسٍ رَضيَ اللَّهُ عَنْهُما قالَ: مَا هَبّتْ الرِّيحُ قَطُّ إلّا جَثَا النّبيُّ صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم على رُكْبَتَيْه وقال: "اللهُمَّ اجْعَلْهَا رَحْمَةً ولا تَجْعَلْها عذاباً" رَوَاهُ الشّافعيُّ والطّبرانيُّ.
(وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: ما هبت الريح قط إلا جثا) بالجيم والمثلثة (النبي صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم على ركبتيه) أي برك عليهما وهي قعدة المخافة لا يفعلها في الغالب إلا الخائف (وقال: "اللهمَّ اجعلْها رَحْمة ولا تجعلْها عذاباً" رواه الشافعي والطبراني).
الريح: اسم جنس صادق على ما يأتي بالرحمة ويأتي بالعذاب وقد ورد في حديث أبي هريرة مرفوعاً "الريح من روح الله تأتي بالرحمة وبالعذاب فلا تسبوها".
وقد ورد في تمام حديث ابن عباس: "اللهم اجعلها رياحاً ولا تجعلها ريحاً". وهو يدل أن المفرد يختص بالعذاب والجمع بالرحمة، قال ابن عباس: في كتاب الله {إنا أرسلنا عليهم ريحاً صرصراً}.. {وأرسلنا عليهم الريح العقيم}.. {وأرسلنا الرياح لواقح}.. {وأنه يرسل الرياح مبشرات} رواه الشافعي في الدعوات الكبير. وهو بيان أنها جاءت مجموعة في الرحمة، ومفردة في العذاب، فاستشكل ما في الحديث من طلب أن تكون رحمة، وأجيب: بأن المراد لا تهلكنا بهذه الريح لأنهم لو هلكوا بهذه الريح لم تهب عليهم ريح أخرى فتكون ريحاً لا رياحاً.
[رح9] ــــ وعَنْهُ رضيَ اللَّهُ عنه صلى في زَلْزَلَةٍ سِتَّ رَكَعَاتٍ وأَرْبَعَ سَجَدَاتٍ وقالَ: "هَكذا صَلاةُ الآياتِ" رَواهُ الْبَيْهقيُّ وَذَكَرَ الشافِعيُّ عَنْ عليَ رضيَ اللَّهُ عَنْهُ مِثْلَهُ دونَ آخرهِ.(1/390)
(وعنه) أي ابن عباس (رضي الله عنهما صلى في زلزلة ست ركعات) أي ركوعات (وأربع سجدات) أي صلى ركعتين في كل ركعة ثلاث ركوعات (وقال: هكذا صلاة الآيات. رواه البيهقي. وذكر الشافعي عن علي مثله دون آخره) وهو قوله: "هكذا صلاة الآيات" أخرجه البيهقي من طريق عبد الله بن الحارث أنه كان في زلزلة في البصرة، ورواه ابن أبي شيبة من هذا الوجه مختصراً: أن ابن عباس صلى بهم في زلزلةٍ أربعَ سجدات ركع فيها ستاً. وظاهر اللفظ أنه صلى بهم جماعة وإلى هذا ذهب القاسم من الآل وقال: يصلي للأفزاع مثل صلاة الكسوف وإن شاء ركعتين ووافقه على ذلك أحمد بن حنبل ولكن قال: كصلاة الكسوف (قلت): لكن في كتب الحنابلة أنه يصلي صلاة الكسوف ركعتين إذا شاء.
وذهب الشافعي وغيره إلى أنه لا يسنّ التجميع وأما صلاة المنفرد فحسن، قال: لأنه لم يرو أنه صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم أمر بالتجميع إلا في الكسوفين.
باب صلاة الاستسقاء
أي طلب سقاية الله تعالى عند حدوث الجدب: أخرج ابن ماجه من حديث ابن عمر: أن النبي صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم قال: "لم ينقص قوم المكيال والميزان إلا أُخذوا بالسنين وشدة المؤنة وجور السلطان عليهم، ولم يمنعوا زكاة أموالهم إلا منعوا القطر من السماء".
[رح1] ــــ عن ابن عبّاسٍ رضي اللَّهُ عَنْهُما قالَ: خرَجَ النّبيُّ صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم مُتواضعاً مُتبذِّلا مُتخشِّعاً مُترسِّلاً مُتضَرِّعاً فَصَلّى ركْعتين كما يُصلي في العيد لَمْ يخْطُبْ خُطبتكم هذه" رواهُ الخمْسةُ، وَصَحّحهُ الترمذيُّ وأَبو عَوَانة وابنُ حِبّان.(1/391)
(وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: خرج النبي صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم) أي من المدينة (متواضعاً متبذلاً) بالمثناة الفوقية فذال معجمة أي أنه لابس ثياب البذلة، والمراد ترك الزينة وحسن الهيئة تواضعاً وإظهاراً للحاجة (متخشعاً) الخشوع في الصوت والبصر كالخضوع في البدن (مترسلاً) من الترسل في المشي وهو التأني وعدم العجلة (متضرعاً) لفظ أبي داود "متبذلاً متواضعاً متضرعاً" والتضرع التذلل والمبالغة في السؤال والرغبة كما في النهاية (فصلى ركعتين كما يصلي في العيد لم يخطب خطبتكم هذه) لفظ أبي داود "ولكن لم يزل في الدعاء والتضرع والتكبير ثم صلى ركعتين كما يصلي في العيد" فأفاد لفظه أن الصلاة كانت بعد الدعاء واللفظ الذي أتى به المصنف غير صريح في ذلك (رواه الخمسة وصححه الترمذي وأبو عوانة وابن حبان) وأخرجه الحاكم والبيهقي والآل والدارقطني.
والحديث دليل على شرعية الصلاة للاستسقاء وإليه ذهب الآل.
وقال أبو حنيفة: لا يصلي للاستسقاء وإنما شرع الدعاء فقط.
ثم اختلف القائلون بشرعية الصلاة فقال جماعة: إنها كصلاة العيد في تكبيرها وقراءتها وهو المنصوص للشافعي عملاً بظاهر لفظ ابن عباس.
وقال آخرون: بل يصلي ركعتين لا صفة لهما زائدة على ذلك وإليه ذهب جماعة من الآل ويروى عن علي عليه السلام وبه قال مالك مستدلين بما أخرجه البخاري من حديث عباد بن تميم أنه صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم صلى بهم ركعتين. وكما يفيده حديث عائشة الآتي قريباً وتأولوا حديث ابن عباس بأن المراد التشبيه في العدد لا في الصفة، ويبعده أنه قد أخرج الدارقطني من حديث ابن عباس: أنه يكبر فيها سبعاً وخمساً كالعيدين ويقرأ بسبح وهل أتاك. وإن كان في إسناده مقال فإنه يؤيده حديث الباب.(1/392)
وأما أبو حنيفة فاستدل بما أخرجه أبو داود والترمذي: أنه صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم استسقى عند أحجار الزيت بالدعاء. وأخرج عوانة في صحيحه، أنه شكا إليه صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم قوم القحط فقال: "اجثوا على الركب وقولوا: يا رب يا رب".
وأجيب عنه بأنه ثبت صلاة ركعتين وثبت تركها في بعض الأحيان لبيان الجواز.
وقد عدّ في الهدي النبوي أنواع استسقائه صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم.
(فالأول) خروجه صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم إلى المصلى وصلاته وخطبته.
(والثاني) يوم الجمعة على المنبر أثناء الخطبة.
(والثالث) استسقاؤه على منبر المدينة استسقى مجرداً في غير الجمعة ولم يحفظ عنه فيه صلاة.
(الرابع) أنه استسقى وهو جالس في المسجد فرفع يديه ودعا الله عز وجل.
(الخامس) أنه استسقى عند أحجار الزيت قريباً من الزوراء وهي خارج باب المسجد.
(السادس) أنه استسقى في بعض غزواته لما سبقه المشركون إلى الماء، وأغيث صلى الله عليه وآله وسلم في كل مرة استسقى فيها.
واختلف في الخطبة في الاستسقاء؛ فذهب الهادي إلى أنه لا يخطب فيه لقول ابن عباس "لم يخطب" إلا أنه لا يخفى أنه ينفي الخطبة المشابهة لخطبتهم وذكر ما قاله صلى الله عليه وآله وسلم وقد زاد في رواية أبي داود: أنه صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم رقى المنبر. والظاهر أنه لا يرقاه إلا للخطبة.
وذهب آخرون إلى أنه يخطب فيها كالجمعة لحديث عائشة الآتي وحديث ابن عباس.
ثم اختلفوا هل يخطب قبل الصلاة أو بعدها؟ فذهب الناصر وجماعة إلى الأول.
وذهب الشافعي وآخرون إلى الثاني مستدلين بحديث أبي هريرة عند أحمد وابن ماجه وأبي عوانة والبيهقي: أنه صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم خرج للاستسقاء فصلى ركعتين ثم خطب. واستدل الأوّلون بحديث ابن عباس وقد قدمنا لفظه.(1/393)
وجمع بين الحديثين بأن الذي بدأ به هو الدعاء، فعبر بعض عن الدعاء بالخطبة واقتصر على ذلك ولم يرو في الخطبة بعدها، والراوي لتقديم الصلاة على الخطبة اقتصر على ذلك ولم يروا الدعاء قبلها وهذا جمع بين الروايتين.
وأما ما يدعو به فيتحرى ما ورد عنه صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم من ذلك وقد أبان الألفاظ التي دعا بها صلى الله عليه وآله وسلم بقوله:
[رح2] ــــ وعن عائشةَ رضيَ الله عنْها قالت: شَكا النّاس إلى رسُول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم قُحُوط المطر فأَمَرَ بمنْبر فَوُضِعَ لَهُ بالمُصلى وَوَعَد النّاس يَوْماً يخْرُجُون فيه، قالت عائشة: فَخَرَجَ رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم حين بدا حاجِبُ الشّمس فَقَعَد على المنبر فَكَبّر رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم وحمد الله عزَّ وجل ثمَّ قالَ: "إنكمُ شَكَوْتمْ جدْبَ دياركُم وقدْ أَمركُمُ الله أَن تَدْعُوهُ وَوَعدكُم أَن يَسْتجيب لَكُم" ثمَّ قالَ: "الحمْدُ لله ربِّ العالمينَ، الرَّحمن الرَّحيم، مَلِك يَوْمِ الدينِ، لا إله إلّا اللَّهُ يَفْعَلُ ما يُريدُ، اللهُمّ أَنْتَ الله لا إله إلّا أَنْتَ، أَنْتَ الْغنيُّ ونَحْنُ الْفُقَراءُ، أَنزل عَلَيْنا الْغَيْثَ واجْعَلْ مَا أَنْزلْتَ عَلَيْنَا قُوَّةً وبلاغاً إلى حين" ثمَّ رَفَعَ يدَيْهِ فلَمْ يزَلْ حتّى رُئيَ بَيَاضُ إبْطَيْهِ، ثمَّ حَوَّلَ إلى الناس ظَهْرَهُ وقَلَبَ رداءَه وهو رافعُ يديْهِ، ثمَّ أَقْبلَ على النّاس ونزَلَ فَصَلى رَكعتَيْنِ، فَأَنْشأَ اللَّهُ سَحَابةً فَرَعَدَتْ وبرقَتْ ثمَّ أَمْطرتْ. رواهُ أبو داودَ وقال غريبٌ وإسنَادُهُ جَيِّدٌ.(1/394)
(وعن عائشة رضي الله عنها قالت: شكا الناس إلى رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم قحوط المطر) وهو مصدر كالحقط (فأمر بمنبر فوضع له في المصلى ووعد الناس يوماً يخرجون فيه قالت عائشة:) عينه لهم (فخرج رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم حين بدا حاجب الشمس فقعد على المنبر) قال ابن القيم: إن صح وإلا ففي القلب منه شيء (فكبر رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم وحمد الله عز وجل ثم قال: "إنكُمْ شَكَوْتم جَدْب دياركم واستئخار المطر عن إبان زمانه عنكم فَقَد أَمركُمُ اللَّهُ أن تدعوهُ" قال تعالى: {ادعوني استجب لكم} ووعدكم أن يستجيب لكم كما الآية الأولى وفي قوله {وإذا سألك عبادي عني فإني قريبٌ أجيب دعوة الداعِ إذا دعاني} (ثمَّ قالَ: {الحمد لله رب العالمين الرحمن الرحيم}(1/395)
فيه دليل على عدم افتتاح الخطبة بالبسملة بل بالحمدلة ولم تأت رواية عنه صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم أنه افتتح الخطبة بغير التحميد (مالك يوم الدين لا إلَه إلا الله يفعل ما يريد اللَّهم أنت الله لا إلَه إلا أنت الغني ونحن الفقراء أنزل علينا الغيث واجعل ما أنزلت علينا قوة بلاغاً إلى حين ثم رفع يديه فلم يزل) في سنن أبي داود، "في الرفع" (حتى رئي بياض إبطيه ثم حول إلى الناس ظهر) فاستقبل القِبْلة (وقلب) في سنن أبي داود، "وحول" (رداءه وهو رافع يديه ثم أقبل على الناس) توجه إليهم بعد تحويل ظهره عنهم، (ونزل) أي عن المنبر (فصلى ركعتين فأنشأ الله سحابة فرعدت وبرقت ثم أمطرت) تمامه في سنن أبي داود بإذن الله فلم يأت باب مسجده حتى سالت السيول، فلما رأى سرعتهم إلى الكن ضحك حتى بدت نواجذه، وقال: "أشهد أن الله على كل شيء قدير وأني عبد الله ورسوله" (رواه أبو داود، وقال: غريب وإسناده جيد) هو من تمام قول أبي داود ثم قال أبو داود: "أهل المدينة يقرءون ملك يوم الدين، وإن هذا الحديث حُجَّة لهم"، وفي قوله: "وعد الناس" ما يدل على أنه يحسن تقديم تبيين اليوم للناس ليتأهبوا ويتخلصوا من المظالم ونحوها ويقدموا التوبة، وهذه الأمور واجبة مطلقاً إلا أنه مع حصول الشدة وطلب تفريجها من الله تعالى يتضيق ذلك، وقد ورد في الإسرائيليات "إن الله حرم قوماً من بني إسرائيل السقيا بعد خروجهم لأنه كان فيهم عاص واحد"، ولفظ الناس يعم المسلمين وغيرهم قبل فيشرع إخراج أهل الذمة ويعتزلون المصلي.(1/396)
وفي الحديث دليل على شرعية رفع اليدين عند الدعاء، ولكنه يبالغ في رفعهما في الاستسقاء حتى يساوي بهما وجهه ولا يجاوز بهما رأسه. وقد ثبت رفع اليدين عند الدعاء في عدة أحاديث وصنف المنذري في ذلك جزءاً، وقال النووي: قد جمعت فيها نحواً من ثلاثين حديثاً من الصحيحين أو أحدهما وذكرها في أواخر باب صفة الصلاة من شرح المهذب، وأما حديث أنس في نفي رفع اليدين في غير الاستسقاء، فالمراد به نفي المبالغة لا نفي أصل الرفع. وأما كيفية قلب الرداء فيأتي عن البخاري جعل اليمين على الشمال وزاد ابن ماجه وابن خزيمة "وجعل الشمال على اليمين"، وفي رواية لأبي داود "جعل عطافه الأيمن على عاتقه الأيسر وعطافه الأيسر عاتقه الأيمن"، وفي رواية لأبي داود "أنه كان عليه خميصة سوداء فأراد أن يأخذ بأسفلها ويجعله أعلاها فلما ثقلت عليه قلبها على عاتقه" ويشرع للناس أن يحولوا معه لما أخرجه أحمد بلفظ: "وحول الناس معه"، وقال الليث وأبو يوسف: إنه يختص التحويل بالإمام، وقال بعضهم: لا تحول النساء. وأما وقت التحويل فعند استقباله القِبْلة ولمسلم: "أنه لما أراد أن يدعو استقبل القِبْلة وحول رداءه" ومثله في البخاري.
وفي الحديث دليل على أن صلاة الاستسقاء ركعتان وهو قول الجمهور وقال الهادي: أربع بتسليمتين ووجه قوله بأنه صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم استسقى في الجمعة كما في قصة الأعرابي والجمعة بالخطبتين بمنزلة أربع ركعات ولا يخفى ما فيه، وقد ثبت من فعله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم الركعتان كما عرفت من هذا الحديث والذي قبله ولما ذهبت الحنفية إلى أنه لا يشرع التحويل، وقد أفاده هذا الحديث الماضي زاد المصنف تقوية الاستدلاً على ثبوت التحويل بقوله:
[رح 3/973] ـ وَقِصَّةُ التَّحْوِيلِ فِي الصَّحْيحِ مِنَ حَدِيثِ عَبْدِ الله بِنِ زَيدٍ، وَفِيْهِ: "فَتَوَّجه إِلَى الْقِبْلَةِ يَدْعُو، ثُمَّ صَلَّى رَكْعَتَيْنِ جَهَرَ فِيهِمَا بِالْقَرَاءَةِ".(1/397)
(وقصة التحويل في الصحيح) أي صحيح البخاري (من حديث عبد الله بن زيد) أي المازني وليس هو راوي الأذان كما وهم فيه بعض الحفاظ ولفظه في البخاري "فاستقبل القِبْلة وقلب رداءه" (وفيه) أي في حديث عبد الله بن زيد (فتوجه) أي النبي صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم (إلى القِبْلة يدعو) في البخاري بعد يدعو، "وحول رداءه"، وفي لفظ "قلب رداءه" (ثم صلى ركعتين جهر فيهما بالقراءة) ، قال البخاري: قال سفيان: وأخبرني المسعودي عن أبي بكر قال: "جعل اليمين على الشمال" انتهى. زاد ابن خزيمة "والشمال على اليمين"، وقد اختلف في حكمة التحويل، فأشار المصنف إليه بإيراد الحديث:
[رح 4/084] ـ وَلِلدَّارَقُطْنِي مِنْ مُرْسَلِ أَبِي جَعْفَرٍ الْبَاقِرِ: "وَحَوَّلَ رِدَاءَهُ لِيَتَحَوّلَ الْقَحْطُ".
وهو قوله: (وللدارقطني من مرسل أبي جعفر الباقر) هو محمد بن عليّ بن الحسن بن عليّ بن أبي طالب سمع أباه زين العابدين وجابر بن عبد الله، وروى عنه ابنه جعفر الصادق وغيره. ولد سنة ست وخمسين ومات سنة سبع عشرة ومائة وهو ابن ثلاث وستين سنة ودفن بالبقيع في البقعة التي دفن فيها أبوه وعم أبيه الحسن بن عليّ بن أبي الطالب وسمي الباقر لأنه تبقر في العلم أي توسع فيه انتهى من جامع الأصول، (وحول رداءه ليتحول القحط) وقال ابن العربي: هو أمارة بينه وبين ربه، قيل: له حول رداءك ليتحول للتفاؤل، قال: لأن من شرط الفأل أن لا يقصد إليه، وقال المصنف: إنه ورد في التفاؤل حديث رجاله ثقات.(1/398)
قال المصنف في الفتح: إنه أخرجه الدارقطني والحاكم من طريق جعفر بن محمد عن أبيه عن جار فوصله لأن محمد بن عليّ لقي جابراً، وروي عنه إلا أنه قال: إنه رجح الدارقطني إرساله، ثم قال: وعلى كل حال فهو أولى من القول بالظن وقوله: في الحديث الأول: "جهر فيهما بالقراءة" في بعض روايات البخاري "يجهر"، ونقل ابن بطال أنه مجمع عليه أي على الجهر في صلاة الاستسقاء وأخذ منه بعضهم أنها لا تصلي إلا في النهار ولو كانت تصلي في الليل لأسر فيها نهاراً ولجهر فيها ليلاً وفي هذا الأخذ بعد لا يحفى.
[رح 5/184] ـ وَعَنْ أَنَسٍ ، أَنَّ رَجُلاً دَخَلَ الْمَسْجِدَ يَوْمَ الْجُمْعَةِ، وَالنَّبِيُّ صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم قَائِمٌ يَخْطُبُ. فَقَالَ: يَا رَسُولَ الله، هَلَكَتِ الأَمْوَالُ، وَانْقَطَعَتِ السُّبُلُ فَادْعُ الله عَزَّ وَجَلَّ يُغِيِثُنَا، فَرَفَعَ يَدَيْهِ، ثُمَّ قَالَ: "اللَّهُمّ أَغِثْنَا، اللَّهُمَّ أَغِثْنَا"، فَذَكَرَ الْحَدِيثِ، وَفِيهِ الدُّعَارُ بِإِمْسَاكِهَا، مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.(1/399)
(وعن أنس رضي الله عنه أن رجلاً دخل المسجد يوم الجمعة والنبي صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم قائم يخطب فقال: يا رسول الله هلكت الأموال وانقطعت السُبل فادع الله عز وجل يغيثنا فرفع يديه) زاد البخاري في رواية "ورفع الناس أيديهم" (ثم قال: "اللهم أغِثنا) وفي البخاري أسقنا (اللهمَّ أَغِثْنا") فذكر الحديث (وفيه الدعاء بإمساكها) أي السحاب عن الإمطار (متفق عليه) تمامه من مسلم: قال أنس: فلا والله ما نرى في السماء من سحاب ولا قزعة وما بيننا وبين سلع من بيت ولا دار قال: فطلعت من ورائه سحابة مثل الترس فلما توسطت السماء انتشرت ثم أمطرت قال: فلا والله ما رأينا الشمس سبتاً. ثم دخل رجل من ذلك الباب في الجمعة المقبلة ورسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم قائم يخطب فاستقبله قائماً فقال: يا رسول الله هلكت الأموال وانقطعت السبل فادع الله يمسكها عنا قال: فرفع رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم يديه ثم قال: "اللهم حَوَالينا ولا علينا اللهم على الآكام والظراب وبطون الأودية ومنابت الشجر" قال فانقلعت وخرجنا نمشي في الشمس قال شريك: فسألت أنس بن مالك أهو الرجل الأول؟ قال: لا أدري. انتهى. قال المصنف: لم أقف على تسميته في حديث أنس.
وهلاك الأموال يعم المواشي والأطيان. وانقطاع السبل عبارة عن عدم السفر لضعف الإبل بسبب عدم المرعى والأقوات أو لأنه لما نفد ما عند الناس من الطعام لم يجدوا ما يحملونه إلى الأسواق.
وقوله "يُغيثنا" يحتمل فتح حرف المضارعة على أنه من غاث إما من الغيث أو الغوث ويحتمل ضمه على أنه من الإغاثة ويرجح هذا قوله: "اللهم أغثنا".
وفيه دلالة على أنه يدعى إذا كثر المطر وقد بوب له البخاري "باب الدعاء إذا كثر المطر" وذكر الحديث.(1/400)
وأخرج الشافعي في مسنده وهو مرسل من حديث المطلب بن حنطب: أن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم كان يقول عند المطر "اللهم سقيا رحمة لا سقيا عذاب ولا بلاء ولا هدم ولا غرق اللهم على الظراب ومنابت الشجر اللهم حوالينا ولا علينا".
[رح6] ــــ وَعَنْهُ رضيَ الله عنْهُ أَنَّ عُمَرَ رضيَ الله عنْهُ كانَ إذا قُحِطُوا اسْتسْقى بالعباس بنِ عبد الْمُطّلب وقالَ: "اللّهُمَّ إنّا كُنّا نتوسل إليكَ بنبيّنا فَتَسْقينا، وَإنّا نَتَوسّلُ إليْكَ بِعَمِّ نبيّنا فاسقِنَا، فَيُسْقَوْنَ" رواهُ البُخاريُّ.
(وعن أنس رضي الله عنه أن عمر كان إذا قُحِطوا) بضم القاف وكسر المهملة أي أصابهم القحط (استسقى بالعباس بن عبد المطلب وقال) أي عمر: (اللهم إنا كنا نتوسل إليك بنبينا فتسقينا وإنا نتوسل إليك بعم نبينا فاسقنا فيسقون. رواه البخاري) وأما العباس رضي الله عنه فإنه قال: "اللهم إنه لم ينزل بلاء من السماء إلا بذنب ولم ينكشف إلا بتوبة وقد توجه بي القوم إليك لمكاني من نبيك وهذه أيدينا إليك بالذنوب ونواصينا إليك بالتوبة فاسقنا الغيث؛ فأرخت السماء مثل الجبال حتى أخصبت الأرض" أخرجه الزبير بن بكار في الأنساب، وأخرجه أيضاً من حديث ابن عمر أن عمر استسقى بالعباس عام الرمادة وذكر الحديث، وذكر الباذري أن عام الرمادة كان سنة ثماني عشرة، والرمادة بفتح الراء وتخفيف الميم، سمي العام بها لما حصل من شدة الجدب فاغبرت الأرض جداً من عدم المطر.
وفي هذه القصة دليل على الاستشفاع بأهل الخير والصلاح وبيت النبوة.
وفيه فضيلة العباس وتواضع عمر ومعرفته لحق أهل البيت رضي الله عنهم.
[رح7] ــــ وعنْهُ رضيَ الله عنه قالَ: أَصَابنا ونَحْنُ مَعَ رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم مَطَرٌ، قال فَحَسَرَ ثوْبهُ حتى أَصابه مِن المطر وقال: "إنهُ حديث عَهْدٍ بربّه" رَوَاهُ مُسْلمٌ.(1/401)
(وعن أنس رضي الله عنه قال: أصابنا ونحن مع رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم مطر قال: فحسر ثوبه) أي كشف بعضه عن بدنه (حتى أصابه من المطر وقال: "إنهُ حديثُ عَهْدٍ بربِّهِ" رواه مسلم) وبوّب له البخاري فقال: "باب من يمطر حتى يتحادر عن لحيته" وساق حديث أنس بطوله.
وقوله: "حديث عهد بربه" أي بإيجاد ربه إياه أن المطر رحمة وهي قريبة العهد بخلق الله لها فيتبرك بها وهو دليل على استحباب ذلك.
[رح8] ــــ وَعَنْ عائشة رضيَ الله عنها أَنَّ رسُولَ الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم كان إذا رأَى المَطَرَ قال: "اللّهُمَّ صَيِّباً نافعاً" أَخرجاه.
(وعن عائشة رضي الله عنها أن رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم كان إذا رأى المطر قال: "اللهمَّ صَيِّباً نافعاً" أخرجاه) أي الشيخان وهذا خلاف عادة المصنف فإنه يقول فيما أخرجاه: متفق عليه.
والصيب من صاب المطر إذا وقع، ونافعاً صفة مقيدة احترازاً عن الصيب الضارّ.
[رح9] ــــ وعن سَعْد رضيَ الله عنه أنَّ النّبي صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم دَعَا في الاستسقاء: "اللهُمَّ جِّللنا سَحَاباً كثيفاً قَصيفاً دلُوقاً ضَحُوكاً، تُمْطِرنا مِنْهُ رُذاذاً قِطْقِطاً سَجْلاً يا ذا الجلالِ والإكْرام" رَوَاهُ أَبو عَوَانةَ في صحيحهِ.(1/402)
(وعن سعد رضي الله عنه أن النبي صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم دعا في الاستسقاء "اللهمَّ جَلِّلْنا) بالجيم من التجليل والمراد تعميم الأرض (سحاباً كثيفاً) بفتح الكاف فمثلثة فمثناة تحتية ففاء، أي متكاثفاً متراكماً (قَصِيفاً) بالقاف المفتوحة فصاد مهملة فمثناة تحتية ففاء، وهو ما كان رعده شديد الصوت وهو من أمارات قوة المطر (دلُوقاً) بفتح الدال المهملة وضم اللام وسكون الواو فقاف يقال خيل دلوق أي مندفعة شديدة الدفعة ويقال دلق السيل على القوم هجم (ضَحُوكاً) بفتح أوّله بزنة فعول أي ذات برق (تُمْطِرنَا مِنْه رذاذاً) بضم الراء فذال معجمة فأخرى مثلها هو ما كان مطره دون الطش (قِطْقطِاً) بكسر القافين وسكون الطاء الأولى قال أبو زيد: القطقط أصغر المطر ثم الرذاذ وهو فوق القطقط ثم الطش وهو فوق الرذاذ (سَجْلاً) مصدر سجلت الماء سجلاً إذا صببته صباً؛ وصف به السحاب مبالغة في كثرة ما يصب منها من الماء حتى كأنها نفس المصدر (يا ذا الجَلال والإكْرامِ" رواه أبو عوانة في صحيحه) وهذا الوصفان نطق بهما القرآن.
وفي التفسير أي الاستغناء المطلق والفضل التامّ، وقيل الذي عنده الإجلال والإكرام للمخلصين من عباده وهما من عظائم صفاته تعالى ولذا قال صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم: "ألظوا بياذا الجلال والإكرام" وروي أنه صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّممرّ برجل وهو يصلي ويقول: يا ذال الجلال والإكرام، فقال: "قد استجيب لك".
[رح10] ــــ وعَنْ أَبي هُريرَة رضي اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ رسُولَ الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم قالَ: "خَرَجَ سُليمانُ عَليه السّلامُ يَسْتَسْقي فَرَأَى نمْلَةً مُستلقيةً على ظهْرها رافعة قوائمها إلى السماء تقُولُ: اللّهُمَّ إنا خلقٌ منْ خلْقِكَ ليْس بنا غِنى عنْ سُقياكَ، فقال: ارْجِعُوا سُقيتم بدعوةِ غيركم رواهُ أَحمدُ وصحّحهُ الحاكمُ.
فيه دلالة على أن الاستسقاء شرع قديم والخروج له كذلك.(1/403)
وفيه أنه يحسن إخراج البهائم في الاستسقاء، وأن لها إدراكاً يتعلق بمعرفة الله ومعرفة بذكره وبطلب الحاجات منه. وفي ذلك قصص يطول ذكرها وآيات من كتاب الله دالة على ذلك وتأويل المتأوّلين لها لا ملجأ له.
[رح11] ــــ وَعَنْ أَنسٍ رضي اللَّهُ عَنْهُ: "أنَّ النبي صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم استسْقَى فأَشارَ بظهْر كفيْهِ إلى السماءِ" أَخرجهُ مُسلمٌ.
فيه دلالة أنه إذا أريد بالدعاء رفع البلاء فإنه يرفع يديه ويجعل ظهر كفيه إلى السماء وإذا دعا بسؤال شيء وتحصيله جعل بطن كفيه إلى السماء وقد ورد صريحاً في حديث خلاد بن السائب عن أبيه: "أن النبي صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم كان إذا سأل جعل بطن كفيه إلى السماء وإذا استعاذ جعل ظهرهما إليها".
وإن كان قد ورد من حديث ابن عباس "سلوا الله ببطون أكفكم ولا تسألوه بظهرها" وإن كان ضعيفاً فالجمع بينهما أن حديث ابن عباس يختص بما إذا كان السؤال بحصول شيء لا لدفع بلاء وقد فسر قوله تعالى {ويدعوننا رغباً ورهباً} أن الرغب بالبطون والرهب بالظهور.
باب اللباس
أي ما يحل منه وما يحرم
[رح1] ــــ عنْ أَبي عامر الأشْعري رضي الله عنهُ قالَ: قالَ رسُولُ اللَّهِ صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم: "ليكوننَّ مِنْ أُمّتي أَقْوامٌ يَسْتحلُّونَ الْحِرَ والحرير" رَواهُ أَبو داودَ وأَصلُهُ في البخاريِّ.(1/404)
(عن أبي عامر الأشعري رضي الله عنه) قال في الأطراف: اختلف في اسمه فقيل عبد الله بن هانىء، وقيل عبد الله بن وهب، وقيل عبيد الله بن وهب وبقي إلى خلافة عبد الملك بن مروان سكن الشام. وليس بعم أبي موسى الأشعري فإنّ ذلك قتل أيام حنين في حياة النبي صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم واسمه عبيد بن سليم (قال: قال رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم: "ليكوننَّ من أمّتي أَقوامٌ يَسْتحلُّونَ الْحِرَ) بالحاء والراء المهملتين والمراد به استحلال الزنا وبالخاء والزاي المعجمتين (والحريرَ" رواه أبو داود وأصله في البخاري) وأخرجه البخاري تعليقاً.
والحديث دليل على تحريم لباس الحرير لأن قوله يستحلون بمعنى يجعلون الحرام حلالاً ويأتي الحديث الثاني وفيه التصريح بذلك.
وفي الحديث دليل أن استحلال المحرم لا يخرج فاعله من مسمى الأمة كذا قال (قلت): ولا يخفى ضعف هذا القول فإن من استحل محرّماً أي اعتقد حله فإنه كذّب الرسول صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم الذي أخبر أنه حرام، فقوله بحله ردّ لكلامه وتكذيب، وتكذيبه كفر فلا بدّ من تأويل الحديث بأنه أراد أنه من الأمة قبل الاستحلال فإذا استحل خرج عن مسمى الأمة.
ولا يصح أن يراد بالأمة هنا أمة الدعوة لأنهم مستحلون لكل ما حرّمه لا لهذا بخصوصه.
وقد اختلف في ضبط هذه اللفظة في الحديث. فظاهر إيراد المصنف له في اللباس أنه يختار أنها بالخاء المعجمعة والزاي، وهو الذي نص عليه الحميدي وابن الأثير في هذا الحديث، وهو ضرب من ثياب الإبريسم معروف، وضبطه أبو موسى بالحاء والراء المهملتين.
قال ابن الأثير في النهاية: والمشهور في هذا الحديث على اختلاف طرقه هو الأول وإذا كان هو المراد من الحديث فهو الخالص من الحرير وعطف الحرير عليه من عطف العام على الخاص لأن الخزي ضرب من الحرير.(1/405)
وقد يطلق الخزّ على ثياب تنسج من الحرير والصوف ولكنه غير مراد هنا لما عرف من أن هذا النوع حلال وعليه يحمل. ما أخرجه أبو داود عن عبد الله بن سعد الدشتكي عن أبيه سعد؛ قال: رأيت ببخارى رجلاً على بغلة بيضاء عليه عمامة خز سوداء قال: كسانيها رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم. أخرجه النسائي. وذكره البخاري ويأتي من حديث عمر بيان ما يحل من غير الخالص.
[رح2] ــــ وَعَنْ حُذيفةَ رضي الله عَنْهُ قال: نهى النّبيُّ صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم أَن نَشرب في آنيةِ الذهب والْفِضَّةِ وأَن نأكُلَ فيها، وَعَنْ لُبْس الحرير والدِّيباج وأَنْ نجلِسَ عَليه" رواهُ البخاريُّ.
(وعن حذيفة رضي الله عنه قال: نهى رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم "أَن نَشْرَبَ في آنيةِ الذهبِ والْفِضَّة وأَنْ نَأكُلَ فيها) تقدم الحديث عن حذيفة بلفظ: قال رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم: "لا تشربوا في آنية الذهب والفضة" الحديث فقوله هنا "نهى" إخبار عن ذلك اللفظ الذي تقدّم وتقدم الكلام فيه (وعَنْ لُبْسِ الْحرير والديباج، وأَنْ نَجْلِسَ عَلَيْهِ" رواه البخاري) أي ونهى عن لبس الحرير والنهي ظاهر في التحريم.
وإلى تحريم لبس الحرير ذهب الجماهير من الأمة على الرجال دون النساء، وحكى القاضي عياض عن قوم إباحته ونسب في البحر إباحته إلى ابن علية، وقال: إنه انعقد الإجماع بعده على التحريم، ولكنه قال المصنف في الفتح: قد ثبت لبس الحرير عن جماعة من الصحابة وغيرهم قال أبو داود: لبسه عشرون من الصحابة وأكثر، وأورده ابن أبي شيبة عن جمع منهم وقد أخرج ابن أبي شيبة من طريق عمار بن أبي عمار قال: أتت مروان بن الحكم مطارف خز فكساها أصحاب رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم.(1/406)
قال: والأصح في تفسير الخز أنه ثياب سداها من حرير ولحمتها من غيره وقيل: تنسج مخلوطة من حرير وصوف أو نحوه، وقيل أصله اسم دابة يقال لها الخز فسمى الثوب المتخذ من وبره خزّاً لنعومته ثم أطلق على ما تخلط بحرير لنعومة الحرير.
إذا عرفت هذا فقد يحتمل أن الذي لبسه الصحابة في رواية أبي داود كان من الخز وإن كان ظاهر عبارته يأبى ذلك.
وأما القز بالقاف بدل الخاء المعجمة فقال الرافعي: إنه عند الأئمة: من الحرير فحرّموه على الرجال أيضاً. والقول بحله وحل الحرير للنساء قول الجماهير إلا ابن الزبير فإنه أخرج مسلم عنه: أنه خطب فقال: لا تلبسوا نساءكم الحرير فإني سمعت عمر بن الخطاب يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: لا تلبسوا الحرير" فأخذ بالعموم إلا أنه انعقد الإجماع على حل الحرير للنساء.
فأما الصبيان من الذكور فيحرم عليهم أيضاً عند الأكثر لعموم قوله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم، "حرام على ذكور أمتي" وقال محمد بن الحسن: يجوز إلباسهم، وقال أصحاب الشافعي: يجوز إلباسهم الحلي والحرير في يوم العيد لأنه لا تكليف عليهم ولهم في غير يوم العيد ثلاثة أوجه أصحها جوازه.
وأما الديباج فهو ما غلظ من ثياب الحرير وعطفه عليه من عطف الخاص على العام.(1/407)
وأما الجلوس على الحرير فقد أفاد الحديث النهي عنه إلا أنه قال المصنف في الفتح: إنه قد أخرج البخاري ومسلم حديث حذيفة من غير وجه وليس فيه هذه الزيادة وهي قوله: "وأن نجلس عليه" قال: وهي حجة قوية لمن قال يمنع الجلوس على الحرير وهو قول الجمهور خلافاً لابن الماجشون والكوفيين وبعض الشافعية، وقال بعض الحنفية في الدليل على عدم تحريم الجلوس على الحرير: إن قوله نهى ليس صريحاً في التحريم، وقال بعضهم: إنه يحتمل أن يكون المنع ورد عن مجموع اللبس والجلوس لا الجلوس وحده. (قلت: ولا يخفى تكلف هذا القائل والإخراج عن الظاهر بلا حاجة) وقال بعض الحنفية: مدار الجواز والتحريم على اللبس لصحة الأخبار فيه والجلوس ليس بلبس، واحتج الجمهور على أنه يسمى الجلوس لبساً بحديث أنس الصحيح: "فقمت إلى حصير لنا قد أسودّ من طول ما لبس" ولأن لبس كل شيء بحسبه.
وأما افتراش النساء للحرير فالأصل جوازه وقد أحل لهن لبسه ومنه الافتراش ومن قال بمنعهن عن افتراشه فلا حجة له.
واختلف في علة تحريم الحرير على قولين: الأول الفخر والخيلاء والثاني كونه لباس رفاهية وزينة تليق بالنساء دون شهامة الرجال.
3 ــــ وعنْ عُمَرَ رضيَ الله عنهُ قال: "نهى النّبي صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم عن لُبْس الحرير إلّا موْضع أُصبعين أوْ ثلاثٍ أَوْ أَرْبع" مُتّفقٌ عليه واللّفْظُ لمسْلِمٍ.
قال المصنف: "أو" هنا للتخيير والتنويع.
وقد أخرج الحديث ابن أبي شيبة من هذا الوجه بلفظ "إن الحرير لا يصلح منه إلا هكذا وهكذا وهكذا" يعني أصبعين وثلاثاً وأربعاً ومن قال المراد أن يكون في كل كم أصبعان فإنه يرده رواية النسائي "لم يرخص في الديباج إلا في موضع أربعة أصابع" وهذا ــــ أي الترخيص في الأربع الأصابع ــــ مذهب الجمهور.
وعن مالك في رواية منعه وسواء كان منسوجاً أو ملصقاً ويقاس عليه الجلوس.
وقدرت الهادوية الرخصة بثلاث أصابع لكن هذا الحديث نص في الأربع.(1/408)
[رح4] ــــ وعَن أَنسٍ رضيَ الله عنه "أنَّ النّبيَّ صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم رخّص لِعَبْد الرَّحمن بن عوْفٍ والزُّبيرِ في قميص الحرير في سَفرٍ مِنْ حِكّةٍ كانتْ بهما" مُتّفقٌ عَلَيهِ.
(وعن أنس رضي الله عنه أن النبي صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم رخص لعبد الرحمن بن عوف والزبير في قميص الحرير من حِكّة) بكسر الحاء المهملة وتشديد الكاف نوع من الجرب وذكر الحكة مثلا لا قيداً أي من أجل حكة، فمن للتعليل (كانت بهما. متفق عليه) وفي رواية "أنهما شكوَا إلى رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم القمل فرخص لهما في قميص الحرير في غزاة لهما".
قال المصنف في الفتح: يمكن الجمع بأن الحكة حصلت من القمل فنسبت العلة تارة إلى السبب وتارة إلى سبب السبب.
وقد اختلف العلماء في جوازه للحكة وغيرها. فقال الطبري: دلت الرخصة في لبسه للحكة على أن من قصد بلبسه دفع ما هو أعظم من أذى الحكة كدفع السلاح ونحو ذلك فإنه يجوز. والقائلون بالجواز لا يخصونه بالسفر.
وقال البعض من الشافعية: يختص به.
وقال القرطبي: الحديث حجة على من منع إلا أن يدعي الخصوصية بالزبير وعبد الرحمن ولا تصح تلك الدعوى.
وقال مالك وأبو حنيفة: لا يجوز مطلقاً.
وقال الشافعي بالجواز للضرورة، ووقع في كلام الشارح تبعاً للنووي أن الحكمة في لبس الحرير للحكة لما فيه من البرودة، وتعقب بأن الحرير حارّ فالصواب أن الحكمة فيه لخاصية فيه تدفع ما تنشأ عنه الحكة من القمل.
[رح5] ــــ وعَنْ علي رضي الله عنه قال: "كَسَاني النّبي صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم حُلّةً سِيَرَاءَ فَخَرجتُ فيها فرأَيْتُ الْغَضَبَ في وجْهِهِ فَشَقَقْتُها بين نسَائي" مُتفقٌ عليْهِ وهذا لَفْظُ البخاري.(1/409)
(وعن علي رضي الله عنه قال: كساني النبي صلى الله عليه وآله وسلم حلة سِيَرَاء) بكسر المهملة ثم مثناة تحتية ثم راء مهملة ثم ألف ممدودة قال الخليل: ليس في الكلام فعلاء بكسر أوله مع المد سوى سيراء ــــ وهو الماء الذي يخرج على رأس المولود ــــ وحولاء وعنباء لغة في ضبط العنب وحلة بالتنوين، على أن سيراء صفة لها وبغيره على الإضافة وهو الأجود كما في شرح مسلم (فخرجت فيها فرأيت الغضب في وجهه فشققتها بين نسائي. متفق عليه وهذا لفظ مسلم.
قال أبو عبيدة: الحلة إزار ورداء، وقال ابن الأثير: إذا كانا من جنس واحد، وقيل هي برود مضلعة بالقز، وقيل حرير خالص وهو الأقرب.
وقوله "فرأيت الغضب في وجهه" زاد مسلم في رواية فقال: "إني لم أبعثها إليك لتلبسها إنما بعثتها إليك لتشققها خُمُراً بين نسائك" وله في أخرى: "شققتها خمراً بين الفواطم".
وقوله "فشققتها" أي قطعتها ففرقتها خُمُراً وهي بالخاء المعجمة مضمومة وضم الميم جمع خِمار ــــ بكسر أوله والتخفيف ــــ ما تغطي به المرأة رأسها.
والمراد بالفواطم: فاطمة بنت محمد صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم وفاطمة بنت أسد أم علي عليه السلام والثالثة قيل هي فاطمة بنت حمزة وذكرت لهنّ رابعة وهي فاطمة امرأة عقيل بن أبي طالب.
وقد استدل بالحديث على جواز تأخير البيان عن وقت الخطاب لأنه صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم أرسلها لعلي عليه السلام فبنى على ظاهر الإرسال وانتفع بها في أشهر ما صنعت له وهو اللبس فبيّن له النبي صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم أنه لم يبيح له لبسها.
[رح6] ــــ وَعَنْ أَبي موسى رضي الله عَنْهُ أنَّ رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم قال: "أُحِلَّ الذَّهبُ والحرير لإناثِ أُمّتي وحُرِّمَ على ذكورها" رواهُ أَحمدُ والنّسائي والترمذي وصحّحهُ.(1/410)
(وعن أبي موسى رضي الله عنه أن رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم قال: "أُحِلَّ الذَّهَبُ والْحريرُ) أي لبسهما (لإناثِ أُمّتي وحُرِّمَ) أي لبسهما وفراش الحرير كما سلف (على ذُكُورها" رواه أحمد والنسائي والترمذي وصححه) إلا أنه أخرجه الترمذي من حديث سعيد بن أبي هند عن أبي موسى وأعله أبو حاتم بأنه لم يلقه. وكذا قال ابن حبان في صحيحه: سعيد بن أبي هند عن أبي موسى معلول لا يصح. وأما ابن خزيمة فصححه.
وقد روي من ثمان طرق غير هذه الطريق عن ثمانية من الصحابة وكلها لا تخلوا عن مقال ولكنه يشدّ بعضها بعضاً.
وفيه دليل على تحريم لبس الرجال الذهب والحرير وجواز لبسهما للنساء ولكنه قد قيل إن حل الذهب للنساء منسوخ.
[رح7] ــــ وعنْ عِمْرانَ بن حُصَين رضي الله عَنْهُما أنَّ رسول اللَّهِ صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم قال: "إنَّ الله يحبُّ إذا أَنعمَ على عبدهِ نعْمَةً أَنْ يرَى أَثَرَ نِعْمَتِهِ عليْهِ" رواهُ البيْهَقِيُّ.
وأخرج النسائي من حديث أبي الأحوص، والترمذي والحاكم من حديث ابن عمر "إن الله يحب أن يرى أثر نعمته على عبده" وأخرج النسائي عن أبي الأحوص عن أبيه وفيه: "إذا آتاك الله مالاً فلير أثر نعمته عليك وكرامته".
في هذه الأحاديث دلالة أن الله تعالى يحب من العبد إظهار نعمته في مأكله وملبسه فإنه شكر للنعمة فعْليّ، ولأنه إذا رآه المحتاج في هيئة حسنة قصده ليتصدق عليه، وبذاذة الهيئة سؤال وإظهار للفقر بلسان الحال ولذا قيل: ولسان حالي بالشكاية أنطق، وقيل: وكفاك شاهد منظري عن مخبري.
[رح8] ــــ وَعَنْ عليٍّ رضيَ الله عنه "أن رسولَ الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم نهى عَنْ لُبْس الْقَسِّيِّ والمُعَصْفر" رَواهُ مُسْلمٌ.(1/411)
(وعن علي رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم نهى عن لُبس) بضم اللام (القَسِّي) بفتح القاف وتشديد المهملة بعدها ياء النسبة وقيل: إن المحدثين يكسرون القاف وأهل مصر يفتحونها وهي نسبة إلى بلد يقال لها القس، وقد فسر القسي في الحديث بأنها ثياب مضلعة يؤتى بها من مصر والشام هكذا في مسلم وفي البخاري فيها حرير أمثال الأترج (والمعصفر. رواه مسلم) هو المصبوغ بالعصفر.
فالنهي في الأول للتحريم إن كان حريره أكثر وإلا فإنه للتنزيه والكراهة وأما في الثاني فالأصل في النهي أيضاً التحريم وإليه ذهب الهادوية.
وذهب[اث] جماهير الصحابة[/اث] والتابعين إلى جواز لبس المعصفر وبه قال الفقهاء غير أحمد، وقيل مكروه تنزيهاً، قالوا: لأنه لبس صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم حلة حمراء، وفي الصحيحين عن ابن عمر "رأيت رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم يصبغ بالصفرة".
وقد رد ابن القيم القول بأنها حلة حمراء بحتاً وقال: إن الحلة الحمراء بردان يمانيان منسوجان بخطوط حمر مع الأسود وهي معروفة بهذا الاسم باعتبار ما فيها من الخطوط وأما الأحمر البحت فمنهي عنه أشد النهي ففي الصحيحين أنه صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم نهى عن المياثر الحمر. ولكن الحديث وهو قوله:
[رح9] ــــ وعَنْ عبد الله بن عمْرو رضي اللَّهُ عَنْهُما قالَ: رَأَى عليَّ النَّبيُّ صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم ثَوْبَيْن مُعَصْفَرَيْن فقال: "أُمُّكَ أَمرتْكَ بهذا؟" رواهُ مُسلمٌ.
دليل على تحريم المعصفر معضد للنهي الأول ويزيده قوة في الدلالة تمام هذا الحديث عند مسلم "قلت: أغسلهما يا رسول الله؟ قال: بل احرقهما".
وفي رواية "إن هذه من ثياب الكفار فلا تلبسها" وأخرجه أبو داود والنسائي.
وفي قوله: "أمّك أمرتك" إعلان بأنه لباس النساء وزينتهنّ وأخلاقهنّ.(1/412)
وفيه حجة على العقوبة بإتلاف المال وهو ــــ أي أمر ابن عمرو بتحريقها ــــ يعارض حديث علي عليه السلام، وأمره بأن يشقها بين نسائه كما في رواية قدمناها فينظر في وجه الجمع إلا أن في سنن أبي داود عن عبد الله بن عمرو: أنه صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم رأى عليه رَّيْطَة مضرجة بالعصفر فقال: "ما هذه الرّيْطَة التي عليك؟" قال: فعرفت ما كره، فأتيت أهلي وهم يسجرون تنوراً لهم، فقذفتها فيه ثم أتيته من الغد فقال: يا عبد الله ما فعلت الريطة؟ فأخبرته فقال: "ألا كسوتها بعض أهلك فإنه لا بأس به للنساء" فهذا يدل على أنه أحرقها من غير أمر من النبي صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم فلو صحت هذه الرواية لزال التعارض بينه وبين حديث علي عليه السلام لكنه يبقى التعارض بين روايتي ابن عمرو وقد يقال: إنه صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم أمر أولاً بإحراقها ندباً ثم لما أحرقها قال له صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم: لو كسوتها بعض أهلك إعلاماً له بأن هذا كان كافياً عن إحراقها لو فعله وأن الأمر للندب.
وقال القاضي عياض في شرح مسلم: أمره صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم بإحراقها من باب التغليظ أو العقوبة.
[رح10] ــــ وعَنْ أَسْماءَ بنْت أَبي بكرٍ رضي اللَّهُ عنهُما "أَنها أَخْرَجَتْ جُبّةَ رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم مكْفوفةَ الْجيْب والْكُمّين والْفرْجَيْن بالديباج" رواهُ أَبو داود. وأَصلُهُ في مسلمٍ وزاد "كانت عندَ عائشة حَتى قُبضتْ فَقَبَضْتُهَا، وكان النبيُّ صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم يَلْبَسُها فَنَحْنُ نَغْسِلُها للمرضى يُسْتَشْفى بها" وزاد البُخاريُّ في الأدب المفْرد "وكان يلْبَسُهَا للوَفْدِ والجُمُعَةِ".(1/413)
(وعن أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنهما أنها أخرجت جبة رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم طيالسة مكفوفة) المكفوف من الحرير ما اتخذ جيبه من حرير وكان لذيله وأكمامه كفاف منه (الجيب والكمين والفرجين بالديباج) هو ما غلظ من الحرير كما سلف (رواه أبو داود وأصله في مسلم وزاد) أي من رواية أسماء (كانت) أي الجبة (عند عائشة حتى قُبضت) مغير الصيغة أي ماتت (فقبضتها وكان النبي صلى الله تعالى عليه وعلى آله وسلم يلبسها فنحن نغسلها للمرضى يستشفى بها) الحديث في مسلم له سبب وهو: أن أسماء أرسلت إلى ابن عمر أنه بلغها أنه يحرم العلم في الثواب فأجاب بأنه سمع عمر يقول: سمعت رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم يقول: "إنما يلبس الحرير من لا خلاق له" فخفت أن يكون العلم منه فأخرجت أسماء الجبة (وزاد البخاري في الأدب المفرد) في رواية أسماء (وكان يلبسها للوفد والجمعة).
قال في شرح مسلم للنووي على قوله مكفوفة: ومعنى المكفوفة أنه جعل له كُفة بضم الكاف وهو ما يكف به جوانبها ويعطف عليها ويكون ذلك في الذيل وفي الفرجين وفي الكمين اهـ. وهو محمول على أنه أربع أصابع أو دونها أو فوقها إذا لم يكن مصمتاً جميعاً بين الأدلة.
وفي جواز مثل ذلك من الحرير وجواز لبس الجبة وماله فرجان من غير كراهة.
وفي استشفاء بآثاره صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم وبما لامس جسده الشريف.
وفي قولها: "كان يلبسها للوفد والجمعة" دليل على استحباب التجمل بالزينة للوافد ونحوه كذا قيل، إلا أنه لا يخفى أنه قول صحابية لا دليل فيه.
وأما خياطة الثوب بالخيط الحرير ولبسه وجعل خيط السبحة من الحرير وليقة الدواة وكيس المصحف وغشاية الكتب فلا ينبغي القول بعدم جوازه لعدم شموله النهي له.(1/414)
وفي اللباس آداب: منها في العمامة تقصير العذبة فلا تطول طولاً فاحشاً وإرسالها بين الكتفين ويجوز تركها بالأصالة، وفي القميص تقصير الكم لحديث أبي داود عن أسماء "كان كم النبي صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم إلى الرسغ" قال ابن عبد السلام: إفراط توسعة الثياب والأكمام بدعة وسرف، وفي المئزر، ومثله اللباس والقميص أن لا يسبله زيادة على نصف الساق ويحرم إن جاوز الكعبين.(1/415)
بسم الله الرحمن الرحيم
كتاب الجنائز
كتاب الجنائز هو آخر أبواب الصلاة ختم به المؤلف كتاب الصلاة , وختم كتاب الصلاة بباب الجنائز في غاية المناسبة لأن الجنائز أخر شيء من الحياة فينتقل إلى عالم آخر وهو عالم الآخرة وذلك بالوفاة فإن العالم عالمان عالم الدنيا وعالم الآخرة .استفتح المؤلف رحمه الله هذا الكتاب بحديث أبي هريرة رضي الله عنه قال :
498 – قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( أكثروا ذكر هادم اللذات : الموت ) . رواه الترمذي والنسائي وصححه ابن حبان .
وهذا الخبر رواه الإمام الترمذي رحمه الله وابن ماجة وابن حبان في صحيحه من طريق الفضل بن موسى عن محمد بن عمرو بن علقمة بن وقاص الليثي عن أبي سلمة بن عبدالرحمن عن أبي هريرة به .
ورواه النسائي في سننه من طريق محمد بن إبراهيم عن محمد بن عمرو به ومحمد بن عمرو مختلف فيه , وثقه النسائي ويحي بن معين وعن يحي أنه قال ما زال الناس يتقون حديثه . والمتأمل لكلام أهل الجرح والتعديل لمحمد بن عمرو يجد أن المرء صدوق ولكنه يهم ويخطئ أحياناً خصوصاً في أحاديث أبي سلمة بن عبدالرحمن ولذلك لا يقبل ما انفرد به بالأصول التي تحتاجها الأمة .
وللحديث شاهد عند المقدسي في المختارة من طريق مؤمل بن إسماعيل عن حماد بن سلمة عن ثابت البناني عن أنس بن مالك عن النبي صلى الله عليه وسلم بنحوه , وقد زعم بعض المتأخرين أن هذا الخبر على شرط مسلم وهذا وهم وغلط فليس مؤمل بن إسماعيل من رجال مسلم الذين اعتمد أحاديثهم بالأصول ، ومؤمل بن إسماعيل سيئ الحفظ قاله غير واحد من المحدثين والخلاصة أن حديث الباب حديث حسن .
قوله : ( أكثروا )
هذا أمر والأصل في الأمر أن يحمل على الواجب مالم يمنع من ذلك مانع .
قوله : ( ذكر هادم اللذات )(1/1)
روي بالدال المهملة وبالمعجمة وهو الموت فإن تذكر الموت والإكثار من ذكره يقي النفوس من الوقوع في المحرمات كالغيبة والنميمة وأكل أموال الناس بالباطل والسرقات والربا ونحو ذلك من المحرمات فإن تذكر الموت يخطم النفوس عن كل قبيح ويحيي القلوب فلذلك شرع للمسلم الإكثار من ذكر الموت كي يفطم نفسه من الوقوع في المحرمات ولأن الإكثار من ذكر هادم اللذات يعطي العبد دافعاً من الازدياد في أعمال الآخرة ويحيي القلوب ويكسر النفوس عن الكبر وعن العجب فلا ينبغي للعبد أن يغفل عن الموت وإلا قسى قلبه وتمرد وارتكب الفواحش والمحرمات حتى يطبع على قلبه ويكون عليه كالران ولذلك شرع للمسلم أن يزور القبور ليتذكر الآخرة كما سيأتي إن شاء الله في حديث أبي سعيد الخدري المخرج في صحيح الإمام مسلم رحمه الله .
499 - وعن أنس رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ( لا يتمنين أحدكم الموت لضر نزل به ، فإن كان لا بد متمنيا فليقل : اللهم أحيني ما كانت الحياة خيرا لي وتوفني ما كانت الوفاة خيراً لي ) . متفق عليه .
هذا الخبر متفق عليه قال البخاري رحمه الله حدثنا ابن سلام قال أخبرنا إسماعيل بن علية عن عبدالعزيز بن صهيب عن أنس بن مالك به .
وقال مسلم حدثنا زهير بن حرب قال حدثنا إسماعيل فذكره ورواه أحمد والترمذي والنسائي كلهم من طريق إسماعيل به . ورواه الإمام أحمد والطيالسي من طريق شعبة عن عبدالعزيز بن صهيب به .
ورواه البخاري ومسلم وأحمد وغيرهم من طرق عن ثابت البناني عن أنس بن مالك به .
قوله : ( لا يتمنين ) .
لا هنا ناهية وقد تقدم أن الأصل في النهي التحريم كما أن الأصل في الأوامر الإيجاب ولا نخرج عن هذه القاعدة إلا بدليل إما قرينة تصرف الأمر عن الإيجاب إلى الاستحباب أو النهي عن التحريم إلى الكراهية أو يرد حديث آخر يصدقه عما ذكر .
قوله : ( لضر نزل به ) .(1/2)
هذا وصف أغلبي و إلا لو لم ينزل به ضر وتمنى الموت نهى عن هذا ولكن الغالب على النفوس أنها تتمنى الموت حين ينزل بها الضر كالمرض ونحوه وتجد بعض الناس قليل الصبر إذا أصابته نكبة من نكبات الزمان تمنى الموت ولا يدرى لعله إذا مات والحالة هذه كان حصباً من حصب جهنم . ولذلك قال الرسول - صلى الله عليه وسلم - : ( خيركم من طال عمره وحسن عمله ) فإن العبد لعله إذا طال عمره ازداد من الخير فلا وجه حينئذٍ لتمني الموت ولربما يموت على خاتمة سيئة ولكن على العبد أن يسأل الله التوفيق والسداد وحسن الختام فإن الأعمال بالخواتيم ولكن جاء عن بعض الصحابة أنهم يتمنون الموت خشية الفتن وهذا جوزه بعض أهل العلم وهذا مقصد حسن لأن يخشى على دينه ويخاف على إسلامه وأما مجرد وقوع المرض أو نكبة من نكبات الزمان كحادث أو وفات حبيب ونحو ذلك ويتمنى الموت فهذا غلط علماً أن بعض العلماء ذهب إلى العمل بظاهر الحديث فقال : لا يشرع تمنى الموت حتى بالخوف على الدين وربما ينفع الله به كما قال الرسول لسعد والحديث في الصحيحين ( ينتفع بك أقوام ويضر بك آخرون ) .
فلذلك أرشدنا الرسول - صلى الله عليه وسلم - إلى أدب جم بليغ عظيم إذا سئم العبد الحياة أن يقول ( اللهم أحيني ما كانت الحياة خيراً لي وتوفني ما كانت الوفاة خيراً لي ) .
500 - وعن بريدة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( المؤمن يموت بعرق الجبين ) . رواه الثلاثة وصححه ابن حبان .(1/3)
هذا الخبر يقول عنه المؤلف رواه الثلاثة وكلهم من طريق قتادة بن دعامة السدوسي عن عبد الله بن بريدة عن أبيه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - به , قال الترمذي في جامعه : وقال بعض أهل العلم : لا نعلم لقتادة سماعاً من عبد الله بن بريدة ، وقد ذكر البخاري في التاريخ الكبير أن قتادة لم يسمع من عبد الله بن بريدة ولا ريب أن قتادة عاصر ابن بريدة نحواً من أربعة وأربعين عاماً فإن ابن بريدة قد توفي سنة خمس بعد المئة بينما ولد الإمام قتادة رحمه الله سنة ستين ومن ثم قال بعض أهل العلم : إن عدم سماع قتادة من عبد الله بن بريدة محمول على مذهب الإمام البخاري رحمه الله في عدم الاكتفاء بالمعاصرة وإثبات اللقي ولو مرة واحدة وفي هذا نظر والظاهر أن البخاري رحمه الله لا يريد من إثبات الانقطاع هذا المذهب , وقد جاء الخبر عند النسائي من طريق كهمس عن عبد الله بن بريدة عن أبيه به وهذا سند متصل صحيح ومن ثم صحح الخبر ابن حبان في صحيحه .
قوله : ( المؤمن يموت بعرق الجبين ) .
هذا محمول عند أهل العلم على أحد وجهين :-
الوجه الأول :
أن المؤمن يموت بعرق الجبين بما يكابده من المشاق بطلب المال الحلال فإن طلب المال الحلال لابد له من تعب وكلفة ومشقة .
الوجه الثاني :
أن المؤمن لما يكابده من شدة السياق وسكرات الموت يموت بعرق الجبين ولعل هذا القول أقرب من القول الأول لأن شدة النزع أمر ثابت لا إشكال فيه وقد جاء في الصحيحين من حديث هلال الوزان عن عروة عن عائشة قالت : ( لما نزل برسول الله - صلى الله عليه وسلم - طفق يطرح خميصة على وجهه فإذا أغتم بها كشفها ) الحديث .
فللموت سكرات يجدها كل إنسان عند الاحتضار إلا أن منهم من تخفف عليه هذه السكرات ومنهم من تشدد عليه .
501 - وعن أبي سعيد وأبي هريرة رضي الله عنهما قالا : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : ( لقنوا موتاكم لا إله إلا الله ) . رواه مسلم والأربعة .(1/4)
هذا الخبر رواه مسلم رحمه الله في صحيحه فقال حدثنا أبو كامل فضيل بن حسين قال أخبرنا بشر بن المفضل قال حدثنا عمارة بن غزية قال عن يحيى بن عمارة عن أبي سعيد الخدري عن النبي - صلى الله عليه وسلم - به .
ورواه مسلم في صحيحه من طريق يزيد بن كيسان عن أبي حازم عن أبي هريرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - به .
ورواه أحمد وأهل السنن كلهم من طريق عمارة بن غزية عن يحيى بن عمارة عن أبي سعيد به .
قوله : ( لقنوا موتاكم ) .
هذا أمر والأصل في الأوامر حملها على الإيجاب إلا أن أهل العلم حملوا هذا الخبر على الاستحباب فإن صح إجماع في هذا وإلا فالأصل حمل الأوامر على الإيجاب وقد اختلف أهل العلم في هذا التلقين فقيل إن هذا التلقين يكون عن الاحتضار وهذا وقول هذا أكثر المحققين من أهل العلم وقال بعضهم هذا التلقين بعد الدفن يلقن لا إله إلا الله ويذكر ما مات عليه وهذا القول فيه ضعف والصحيح القول الأول يدل على هذا ما جاء عند ابن حبان في صحيحه ( فإن من كان أخر كلامه لا إله إلا الله دخل الجنة ) فهذا يؤيد وينصر القول الأول وأن التلقين عند الاحتضار حتى ينتفع المحتضر ويقول هذه الكلمة العظيمة وأما التلقين بعد الوفاة فبدعة في الدين على القول الصحيح وسيأتي إن شاء الله بحث هذه المسألة في موضعها .
وقد استحب بعض أهل العلم عدم أمر المحتضر بهذه الكلمة فلا يقال له قل لا إله إلا الله وإنما يذكره بها كأن يتشهد عنده أو يذكر له بعض الأحاديث الواردة في فضل من قالها . و السبب في هذا لئلا يضجر فيفاجئه المحتضر بعدم قولها .
أما الكافر إذا احتضر فيقال له قل لا إله إلا الله كما فعل الرسول مع عمه أبي طالب ففي الصحيحين وغيرهما من حديث سعيد بن المسيب عن أبيه قال لما حضرت أبا طالب الوفاة أتاه النبي صلى الله عليه وسلم وعنده عبد الله بن أمية وأبو جهل فقال له : ( يا عم قل لا إله إلا الله ..... الحديث ) .(1/5)
فأمره النبي - صلى الله عليه وسلم - بالنطق بها لأنه لو مات على عدم النطق بها لكان خالداً مخلداً في النار وهذا هو الواقع في حق أبي طالب نسأل الله السلامة والعافية .
أما المسلم فيختلف عن الكافر في هذه القضية فلو أمرته بقول لا إله إلا الله فلربما جزع من هذا وأخذته العزة بالإثم والمطلوب نفعه لا ضره , والنفع يحصل بتذكيره بلا إله إلا الله أو ذكر الأحاديث الواردة في فضلها عند الموت .
وفي الحديث دليل على فضل لا إله إلا الله وقد جعلهما النبي - صلى الله عليه وسلم - المبدأ وذلك لما رواه الإمام أحمد في مسنده بسندٍ صحيح من طريق النحوي عن أشعث بن أبي الشعثاء قال حدثني رجل من بني مالك بن كنانة أنه سمع النبي - صلى الله عليه وسلم - يسوق ذي المجاز يتخللها ويقول : ( أيها الناس قولوا لا إله إلا الله تفلحوا ) وجعلها النبي - صلى الله عليه وسلم - المنتهى فقال : ( لقنوا موتاكم لا إله إلا الله ) لتكون حياة المسلم معمورة بالتوحيد معمورة بنور لا إله إلا الله وليعلم المسلم عظم حاجته إلى التوحيد وليعلم أهمية التوحيد للنفوس البشرية فإن التوحيد يخرج العباد من رق العبيد إلى رق العبودية الواجبة .
وفي الحديث دليل أيضاً على فضل النطق بهذه الكلمة العظيمة عند الاحتضار ونستنبط من الحديث أنه لو كان هناك كلمة تقال عند الاحتضار أعظم من لا إله إلا الله لقالها النبي - صلى الله عليه وسلم - ولذا جاء عند الترمذي عن جابر أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : ( أفضل الذكر لا إله إلا الله ) ورواه ابن حبان في صحيحه .
وحديث صاحب البطاقة حديث مشهور رواه أحمد والترمذي وابن حبان في صحيحه وسنده صحيح على شرط مسلم من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص وفيه ( ولا يثقل مع اسم الله شئ ) والمراد بسم الله هنا لا إله إلا الله .(1/6)
502 - وعن معقل بن يسار أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : ( اقرءوا على موتاكم يس ) . رواه أبو داود والنسائي وصححه ابن حبان .
هذا الخبر رواه الإمام النسائي في عمل اليوم والليل وابن حبان في صحيحه من طريق سليمان التيمي عن أبي عثمان وليس بالنهدي عن معقل بن يسار به ورواه أبو داود في سننه وابن حبان في صحيحه وابن ماجة وغيرهم من طريق عبد الله بن المبارك عن سليمان التيمي عن أبي عثمان وليس بالنهدي عن أبيه عن معقل بن يسار به.
وقد أعل هذا الخبر ابن القطان بالاضطراب والوقف وجهالة أبي عثمان وأبيه وقد قال الإمام علي بن المديني في أبي عثمان لم يرو عنه غير سليمان التيمي وهذا إسناد مجهول .
وقال الإمام الدارقطني إسناده ضعيف ولا يثبت بهذا حديث عن النبي ويقال أيضاً لا يصح في فضل سورة " يس " حديث عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فجميع الأحاديث الواردة في " يس " ضعيفة وأشدها ضعفاً ما اشتهر على الألسنة بأن " ( يس لما قرئت له ) وهذا لا أصل له عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، وقد توسع بعض الجهال في هذه القضية فجعلوا يقرؤن " يس " عند قبور الأموات رجالاً ونساءً فارتكبوا في ذلك عدة محاذير .
المحذور الأول :
أنهم عملوا بحديث ضعيف في الأحكام الشرعية وخلاف الجادة عند أئمة الحديث.
المحذور الثاني :
أنهم ابتدعوا في الدين , و يقرؤن القرآن في المقابر وهذا محرم ولا يجوز فإن المقابر لم تبن لهذا .
المحذور الثالث :
دخول نسائهم المقابر والمرأة منهية عن اتباع الجنائز فضلاً عن زيارة المقابر كما في حديث ابن عطية في الصحيحين .
وقد لعن النبي - صلى الله عليه وسلم - زوارات القبور . حديث حسن رواه الترمذي من طريق عمرو بن أبي سلمه عن أبيه عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم به .
وبعضهم أيضاً يقرأ قراءة جماعية إضافة إلى ذلك أنهم يضعون الورود والزهور على قبور موتاهم . وإن البدعة لتجر إلى بدعة أخرى .
والخلاصة :-(1/7)
أن حديث الباب حديث ضعيف وقد حمله ابن حبان على قراءتها عند الاحتضار وهذا لو صح الخبر وأما مع ضعفه فلا يشرع التعبد بقراءتها لا عند الاحتضار ولا عند غير ذلك .
وخير الأمور السالفات على الهدى ... وشر الأمور المحدثات البدائع
وعلى المسلم أن يتبع ولا يبتدع وعلى طالب العلم أن يحرص كل الحرص على العمل بالأحاديث الصحيحة وترك العمل بالأحاديث الضعيفة والواهية وعليه أن يبلغ العوام ومن لا معرفة له بمدارك الأحكام الأحاديث الصحيحة دون الضعيفة والواهية حتى يعتادوا العمل بالنصوص الصحيحة وترك العمل بالأحاديث الضعيفة وإلاّ سادت بينهم البدع وعمت بينهم الجهالات والضلالات كما هو واقعنا اليوم والسبب في هذا التساهل بقضية العمل بالحديث الضعيف والحق أيضاً أن الحديث الضعيف لا يعمل به مطلقاً لا بالفضائل ولا بغيرها لأن الكل شرع من عند الله علماً أنه ليس هناك حديث ضعيف في الفضائل إلا وله ارتباط في الغيبيات فينبغي التنبه لهذه القضية والموفق من وفقه الله , والله الهادي إلى سبيل الرشاد .
553 - وعن أم سلمة رضي الله عنها قالت : دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم على أبى سلمة وقد شق بصره فأغمضه ، ثم قال : ( إن الروح إذا قبض أتبعه بصره ) فضج ناسٌ من أهله ، فقال : ( لا تدعوا على أنفسكم إلا بخير فإن الملائكة تؤمن على ما تقولون ) ثم قال : ( اللهم أغفر لأبي سلمة وارفع درجته في المهديين ، و افسح له في قبره ، ونور له فيه واخلفه في عقبه ) .
هذا الخبر رواه الإمام مسلم رحمه الله وأبو داود وابن ماجة .
قال مسلم رحمه الله حدثنا زهير بن حرب قال أخبرنا معاوية بن عمرو عن أبي إسحاق الفزاري عن خالد الحذاء عن أبي قلابة عن قبيصة بن ذؤيب عن أم سلمة بنحوه .
والحافظ رحمه الله اختصر بعضه وقدم فيه وأخر .
ورواه أبو داود وابن ماجه من طريق أبي إسحاق الفزاري بنحوه .
قولها ( وقد شق بصره )(1/8)
المعنى أن بصره قد شخص فأغمض النبي - صلى الله عليه وسلم - عينيه . ففيه استحباب تغميض عيني الميت.
قولها ( فضج ناس ) .
المعنى أن أناساً من أهل أبي سلمة ضجوا حينما توفي فنهاهم النبي صلى الله عليه وسلم عن هذا وأمرهم ألا يدعوا إلا بخير لأن الملائكة تؤمن على دعائهم وليس هذا خاصاً بهم فإن الملائكة تؤمن على دعاء كل داعي فلربما دعى الشخص بسوء فيستجاب الدعاء فيهلك فعليه أن يدعو بما فيه خير وصلاح لدينه ودنياه فلربما استجيب الدعاء فسعد بهذا الدعاء دنيا وأخرى .
قوله ( اللهم اغفر لأبي سلمة ) .
فيه استحباب الدعاء للميت قبل الدفن .
وقوله : ( وأرفع درجته في المهديين ) .
فيه إثبات الشفاعة في رفع درجات قوم دخلوا الجنة .
وللشفاعة أنواع :-
النوع الأول :
شفاعة النبي - صلى الله عليه وسلم - لأهل الموقف أن يقضى بينهم .
النوع الثاني :
شفاعة النبي - صلى الله عليه وسلم - في أهل الجنة أن يدخلوا الجنة .
النوع الثالث :
شفاعة النبي - صلى الله عليه وسلم - في رفع درجات بعض أهل الجنة وهذا النوع من أنواع الشفاعة يستدل له بحديث الباب فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : ( وارفع درجته في المهديين ) .
النوع الرابع :
شفاعته في قوم استوجبوا النار ألا يدخلوها .
النوع الخامس :
شفاعته في قوم دخلوا النار أن يخرجوا منها ، وهذا النوع من أنواع الشفاعة تنكره الخوارج والمعتزلة لأنهم يرون تخليد أصحاب الكبائر في النار ويرد عليهم بقول الله : ( ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء ) وغيرها من الأدلة .
النوع السادس :
شفاعته - صلى الله عليه وسلم - بتخفيف العذاب عن عمه أبي طالب .
قوله : ( واخلفه في عقبه في الغابرين واغفر لنا وله يا رب العالمين ) .
هذا ما أسقطه الحافظ رحمه الله من الحديث وهذا موجود في صحيح الإمام مسلم.
يؤخذ من هذا استحباب الدعاء للعقب لعل الله أن يبارك فيهم .
وقول الرسول - صلى الله عليه وسلم - ( واغفر لنا وله ) .(1/9)
فيه استحباب البدء بالنفس قبل الغير في الدعاء .
ثم قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ( و افسح له في قبره ونور له فيه ) لأن القبر إما روضة من رياض الجنة أو حفرة من حفر النار .
في الحديث دليل على أن القبر قد يكون نوراً على صاحبه وقد يكون ظلاماً كما جاء في صحيح مسلم أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : ( إن هذه القبور مملوءة ظلمة على أصحابها وإن الله ينورها عليهم بصلاتي ) وأعل بالإرسال , وفي الحديث دليل على استحباب الدعاء بما تيسر للميت والأولى اختيار الأدعية الجامعة , والحديث صريح أن هذا الدعاء وقع قبل الدفن .
ويؤخذ من عموم الحديث استحباب تسلية أهل الميت لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - حين دعا له دعا لهم أيضاً بقوله ( واخلفه في عقبه ) فقد سلاهم بهذا وشرح صدورهم .
والشاهد من سياق الحديث لكتاب الجنائز .
قولها : ( فأغمض عينيه ) .
فيه استحباب تغميض عيني الميت لأن الروح إذا مات العبد تبعه البصر ويستفاد من هذه اللفظة أن الروح جسم من الأجسام قال ابن القيم في كتاب الروح " ولكن مهيته تختلف عن سائر الأجسام " .
504 - وعن عائشة رضي الله عنها : ( أن النبي - صلى الله عليه وسلم - حين توفى – سجي ببرد حِبَرةٍ ) .
هذا الحديث متفق على صحته قال البخاري رحمه الله حدثنا أبو اليمان قال أخبرنا شعيب عن الزهرى عن أبي سلمة عن عائشة به .
وقال مسلم حدثنا زهير بن حرب وحسن الحلواني وعبد بن حميد قال عبدٌ : أخبرني وقال الآخران : حدثنا يعقوب بن إبراهيم قال حدثنا أبي عن صالح بن كيسان عن الزهرى عن أبي سلمة بن عبد الرحمن عن عائشة رضي الله عنها به .
قولها ( سجي )
التسجية هي التغطية
قولها : ( ببرد )
جمع البرد أبراد ومفرد البرد بردة فيجمع البردة على برد و أبراد .
وقولها : ( حِبرة ) .(1/10)
صفة للبرد والمراد من هذا أن النبي - صلى الله عليه وسلم - سجى ببرد وهو نوع من اللباس يجلب من اليمن شبيه بالقطن قيل إن لونه أخضر ولكن صاحب هذا لم يذكر دليلاً على هذا القول .
ويستفاد من هذا استحباب تسجية الميت لئلا تنكشف عورته وجاز تسجيته بالشيء الثمين وإن ثبت قول القائل إن هذا البرد لونه أخضر استفيد من هذا مشروعيته التسجية بأي لون وإن لم يثبت هذا فخير شيء البياض لأنه خير اللباس كما سيأتي إن شاء الله .
505 - وعنهما أن أبا بكر رضي الله عنه قبّل النبي - صلى الله عليه وسلم - بعد موته . رواه البخاري .
قال الإمام البخاري رحمه الله حدثنا بشر بن محمد قال أخبرنا عبد الله قال حدثنا معمر ويونس عن الزهرى عن أبي سلمة بن عبد الرحمن عن عائشة به .
وفي الباب عن عاصم بن عبيد الله عن القاسم بن محمد عن عائشة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قبل عثمان بن مظعون حينما توفي .
رواه أبو داود والترمذي في جامعه وإسناده ضعيف جداً لحال عاصم بن عبيد الله قال عنه أبو حاتم سيئ الحفظ مضطرب الحديث وضعفه الإمام أحمد وأبو زرعة وقال مالك : شعبتكم يشدد بالرجال ويروي عن عاصم بن عبيد الله ومع كون شعبه روى عن عاصم بن عبيد الله إلا أنه شدد فيه وقال عنه قولاً لم يقله أحد قبله ولا بعده قال رحمه الله : لو سألت عاصم بن عبيد الله من بنا مسجد البصرة لقال حدثني فلان عن فلان عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه بناه .
والمقصود أن عاصم بن عبيد الله متفق على ضعفه ومع هذا صحح له أبو عيسى وخولف في هذا وعيب عليه هذا ، وضعفه من هو أقعد منه كأبي زرعة وأبي حاتم وأحمد ومالك وأمثالهم .
فالاعتماد في هذه المسألة على فعل أبي بكر .
وفيه دليل على جواز تقبيل الميت وقال بعضهم بالاستحباب وفيه نظر فغاية ما في الخبر الجواز وفعل أبي بكر لا يراد به التعبد إنما فعل هذا فعلم الجواز فلو كان التقبيل محذوراً ما فعله .(1/11)
قال بعض الشراح إن أبا بكر قبل النبي - صلى الله عليه وسلم - تبركاً وهذا غلط من وجوه ، ولكن قبل أن نذكر هذه الأوجه ينبغي أن نعرف أن كثيراً من شراح الحديث يتساهلون في هذه القضية خصوصاً الحافظ ابن حجر في فتح الباري والنووي في شرحه لصحيح مسلم والعيني في عمدة القارئ وقد تبع هؤلاء كثير ممن جاء بعدهم فلا يكاد يمر بهم خبر من هذا القبيل إلا أخذوا منه استحباب التبرك بآثار الصالحين ولا ريب أن هذا الفعل بدعة في الدين لم يكن النبي - صلى الله عليه وسلم - يرغب أمته فيه ولو كان مشروعاً لما أهمله فقد قال أبو ذر رضي الله عنه ( ما من طائر يقلب جناحيه في الهوى إلا وذكر لنا منه رسول الله صلى الله عليه وسلم علما ) .
رواه أحمد من طريق ابن عطية قال قد حدثني الأشياخ عن أبي ذر إسناده جيد.
وروى الإمام مسلم رحمه الله في صحيحه عن عبد الله بن عمرو بن العاص أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : ( ما بعث الله نبياً إلا كان حقاً عليه أن يدل أمته على خير ما يعلمه لهم وينهاهم عن شر ما يعلمه لهم ) .
فلو كان التوسل والتبرك بآثار الصالحين خيراً وفيه صلاح لهذه الأمة لبينه النبي صلى الله عليه وسلم ودخل في قوله : ( أن يدل أمته على خير ما يعلمه لهم ) فعلم أنه من الشر الذي حذرنا منه صلى الله عليه وسلم ودخل في عموم حديث عائشة رضي الله عنها في الصحيحين : ( من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد ) .
ولذلك ترى بعض الجهال يتبركون بعمائم العلماء وعمائم طلبة العلم ويتبركون بعرقهم وبنعالهم ويتوسلون بذواتهم وهذا من الإحداث في الدين ومن فعل الصوفية الضالين .
أما هذه الأوجه :
الوجه الأول :
فمن أين لنا أن أبا بكر فعل هذا تبركاً ولا يستطيع قائل هذا القول أن يورد دليلاً على قوله غاية ما عنده الظن وإن الظن لا يغني من الحق شيئاً .
الوجه الثاني :(1/12)
أن أبا بكر لو فعله تبركاً لفعله مع غير النبي صلى الله عليه وسلم ولكن أبا بكر ما ذكر هذا ولا أومأ إليه ولا فعله مع غير النبي - صلى الله عليه وسلم - ولم يكن للنبي - صلى الله عليه وسلم - اختصاص بهذا التقبيل أيضا.
الوجه الثالث :
أن أبا بكر لو فعله تبركاً ففي هذا إذاً مسألتان :
المسألة الأولى :
أنه يختص التقبيل بالنبي صلى الله عليه وسلم لأن لذاته من الشرف ما ليس لغيره وأصحاب هذا القول لا يلتزمون هذا وهذا يلزمهم .
المسألة الثانية :
أنه لو فعله تبركاً لقلنا بخصوصية هذا الفعل مع النبي - صلى الله عليه وسلم - .
الوجه الرابع :
أن أبا بكر رضي الله عنه حين فعل هذا فعله محبة يدل على هذا سياق الخبر ولذلك بكى أبو بكر وقال : ( والله ما يجمع الله لك بين موتتين ) فظاهر السياق يرد على من زعم أن أبي بكر فعل هذا تبركاً .
الوجه الخامس :
أنه لو فعل هذا تبركاً لبادر كل الصحابة إلى فعله لماذا يختص أبو بكر بهذا الفعل لماذا ما أتت زوجات النبي - صلى الله عليه وسلم - ولا أتى عمر ثم عثمان ثم علي وسائر الصحابة يتبركون بالنبي صلى الله عليه وسلم ويتبركون بذاته فلما لم يقع هذا الفعل على أنهم أجل وأعلم بالله من أن يتبركوا بالتقبيل .
الخلاصة :
غاية ما في الأثر أن يدل علم جواز تقبيل الميت والعلم عند الله .
506 - وعن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي ( قال : ( نفس المؤمن معلقة بديْنه حتى يقضى عنه ) .
رواه أحمد والترمذي من طريق سعد بن إبراهيم عن عمر بن أبي سلمة عن أبيه عن أبي هريرة به .
ورواه ابن حبان في صحيحه من طريق عبد الرزاق قال أخبرنا معمر عن الزهري عن أبي سلمة بن عبد الرحمن عن أبي هريرة عن النبي ( به ورواته كلهم ثقات .(1/13)
وعمر بن أبي سلمة تكلم فيه شعبه وقال النسائي ليس بذاك بينما قال أحمد صالح إن شاء الله قال ابن معين لا بأس به وقال البرقي أكثر أهل العلم على الاحتجاج به ومن ثم قال عنه الحافظ في التقريب صدوق يخطئ .
والخبر إسناده لا بأس به فقد قال البخاري رحمه الله كلمة جامعة في عمر بن أبي سلمة , قال عنه : صدوق إلا أنه يخالف في بعض حديثه .
فعليه إذا تبين مخالفته طرح حديثه وإلا فيعتبر به وعمر هنا لم يتفرد به بل تابعه الزهرى كما سبق في رواية ابن حبان .
والحديث دليل على عظم أمر الدين وأن نفس المؤمن معلقة مهما كان صلاحها حتى يقضى عنها دينها وقد روى الإمام مسلم رحمه الله في صحيحه من طريق القتباني عن أبي عبد الرحمن الحبلي عن عبد الله بن عمرو بن العاص أن النبي ( قال : ( يغفر للشهيد كل ذنب إلا الدين ) .
ففي الحديث دليل على عظم الدين وعظم حقوق العباد فإذا كان الدين الذي أخذه المرء برضا صاحبه لا يغفر فما بالك بمن يتسلل لأخذ أموال الناس بالباطل ويغتصب أموالهم ومن ثم جاء الوعيد الشديد فيمن أخذ شيئاً من أموال الناس بغير حق في الصحيحين وغيرهما عن سعيد بن زيد أن النبي ( قال : ( من ظلم شبراً من الأرض طوقه يوم القيامة من سبع أراضين ).
ومن الأدلة أيضاً على عظم أمر الدين ما رواه النسائي في سننه عن محمد بن جحش أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( والذي نفسي بيده لو أن رجلاً قُتل في سبيل الله ثم أحيي ثم قُتل ثم أحيي ثم قتل وعليه دين ما دخل الجنة حتى يقضى عنه دينه ) .
ومن ثم امتنع النبي ( من الصلاة على الذي عليه الدين فالواجب على العبد التخلص من حقوق العباد فقد جاء في البخاري من حديث أبي المغيث عن أبي هريرة أن النبي ( قال : ( من أخذ أموال الناس يريد أدائها أدى الله عنه ومن أخذها يريد إتلافها أتلفه الله ) .(1/14)
ومعنى هذا أن من اقترض أموال الناس وفي نيته السداد فإن الله ييسر له أموره ويقضى عنه ديونه وأما من أخذ أموال الناس وفي نيته المماطلة أو عدم السداد ولعله يخرج صك إعسار قبل أن يحين الأجل فمثل هذا يتلفه الله ويمحق بركة ما أخذ محقاً حسياً أو محقاً معنوياً .
فالأمر عظيم والناس يريدون حقوقهم وعلى اليد ما أخذت حتى تؤديه .
507 - وعن ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي ( قال – في الذي سقط من راحلته فمات : ( اغسلوه بماء وسدر وكفنوه في ثوبين ) .
هذا الخبر متفق عليه
قال البخاري رحمه الله حدثنا أبو النعمان قال أخبرنا حماد وهو ابن زيد عن أيوب وهو ابن أبي تميمة السختياني عن سعيد بن جبير عن ابن عباس به .
وقال مسلم رحمه الله حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة قال أخبرنا سفيان ابن عيينة عن عمرو عن سعيد بن جبير عن ابن عباس به .
قوله : ( اغسلوه ) .
هذا أمر والأمر يقتضى الإيجاب إلا لصارف ولا صارف لهذا الخبر فدل على وجوب تغسيل الميت وهذا مذهب جماهير العلماء .
وعن مالك رحمه الله أن هذا سنة واختاره القرطبي . والحق ما ذهب إليه الجمهور.
قوله : ( بماء وسدر ) .
الحكمة من وضع السدر ليتصلب جسد الميت ومن ثم لا ينتن وبعض العوام إذا أراد أن يغسل الميت وضع ماءً حاراً وهذا غلط لأن الماء الحار يرقق الجلد والمشروع تصليبه لا ترقيقه لأن ترقيقه يورث نتنه إلا أنه لا مانع من استعمال الماء الحار في الأيام الباردة أما استعماله لغير الحاجة فهذا غلط والأولى مزج السدر بالماء ولم يذكر الرسول ( هنا عدداً للغسل فلذلك جاء في حديث أم عطية في الصحيحين قال ثلاثاً أو خمساً أو سبعاً إن رأيتن ذلك بماء وسدر "
قوله : ( وكفنوه في ثوبين ) .(1/15)
في هذا الحديث دليل على أنه لا يشترط في الكفن الوتر أما كونه لا يشترط فهذا لا نزاع فيه في المحرم وغيره والأولى أن يقال في هذا الحديث دليل على أنه لا يستحب في الكفن الإتار إلا أن هذا خاص بالمحرم وأما غير المحرم إذا مات فالأولى أن يكفن في ثلاثة أثواب بما جاء في الصحيحين وغيرهما من حديث هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة قالت : ( كفن رسول الله ( في ثلاثة أثوابٍ بيضٍ سحولية من كرسفٍ ليس فيها قميص ولا عمامة ) والله جل وعلا يقول : ( لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة ) والأولى في الكفن أن يكون أبيض لقول عائشة : ( بيض ) .
وفي الحديث فوائد أخرى ليست متعلقة في بابنا ولكن نشير إلى بعضها زيادة في الفائدة :
تمامه : ( ولا تحنطوه ولا تخمروا رأسه فإن الله يبعثه يوم القيامة ملبياً ) .
فمن فوائد الحديث :
أن من شرع في عبادة وحالت المنية دونها كتب له أجرها كاملاً .
الفائدة الثانية :
أن من شرع في الحج أو العمرة ومات دون أن يتمهما أنه لا يشرع إتمامهما عنه لأن النبي ( ما قالت أتموا عن صاحبكم .
الفائدة الثالثة :
أنه لا يخمر رأس المحرم إذا مات وألحق بذلك الفقهاء الأحياء وأيدوا هذا بنهى الرسول ( عن لبس البرانس والحديث متفق عليه من حديث ابن عمر .
الفائدة الرابعة :
أن من مات محرماً يبعث يوم القيامة ملبياً وهذه منقبة .
508 - وعن عائشة رضي الله عنها قالت : لما أرادوا غسل رسول الله ( قالوا : والله ما ندري ، نجرد رسول الله ( كما نجرد موتانا أم لا – الحديث .
تمامه عند أبي داود : ( فلما اختلفوا ألقى الله عليهم النوم حتى ما منهم من أحد إلا وذقنه في صدره ثم كلمهم مكلم من ناحية البيت لا يدرون من هو : اغسلوا رسول الله ( وعليه ثيابه فغسلوه وعليه قميصه يصبون الماء فوق القميص ويدلكونه بالقميص دون أيديهم ) وكانت عائشة تقول : ( لو استقبلت من أمري ما استدبرت ما غسل رسول الله ( إلا نساؤه ) .(1/16)
هذا الخبر رواه أحمد وأبو داود في سننه وابن الجارود في المنتقى وابن ماجه في السنن والحاكم في المستدرك كلهم من طريق محمد بن إسحاق قال حدثني يحيى بن عباد عن أبيه عباد بن عبد الله بن الزبير قال سمعت عائشة فذكره .
الخبر رواته كلهم ثقات وقد صرح ابن إسحاق بالسماع فانتفت شبهه تدليسه .
وقد صححه ابن حبان والحاكم وجماعة آخرون .
وتتمته عند أبي داود وغيره ( فلما اختلفوا ألقى الله عليهم النوم .. ) الحديث .
وهو دليل على مشروعية تغسيل الميت ، وقد تقدم أن هذا واجب كما هو قول جماهير العلماء .
وفي الحديث دليل على اختلاف الصحابة في تغسيل الرسول ( هل يجرد من ثيابه كسائر الموتى أم لا فنأخذ من هذا أن الصحابة كان عندهم علم أن سائر الأموات يجردون من ثيابهم ولكن وقع الخلاف بينهم هل يلحق رسول الله ( بهم أم لا فبعضهم قال نجرده كما نجرد موتانا قد يعلل لهم فيقال وتأخير البيان عن وقت الحاجة لا يجوز فلو كان للنبي ( اختصاص بهذا لبينه ووضحه ولما تركهم يختلفون ويتنازعون وقال آخرون لا نجرده كما نجرد موتانا فعظمة النبي ( وجلالته تقتضي عدم تجريده كسائر الأموات فإن عورته أشد حرمة من عورة غيره .
فلما وقع الخلاف بينهم ألقى الله عليهم النوم فما منهم من أحد ألا وذقنه على صدره من النعاس فسمعوا منادياً يقول غسلوه في ثيابه فاتفقوا على هذا فكان الرجل يدلك من وراء الثياب .
إن قال قائل في هذا إشكال كيف غسلوه في ثيابه وهذا يستلزم أن يكون كفن بها وعائشة تقول : ( كفن رسول الله ( بثلاثة أثواب ) .
الجواب : لا تنافي بين هذين الأمرين فقول عائشة كفن بثلاثة أثواب أي من ورائي أو فوق ثيابه ( فكانت اللفايف الثلاث بعد ثيابه فحينئذ يزول الإشكال ويتم الجمع بين الحديثين وهذا أمر واضح لمن تأمل .(1/17)
والحاصل أن الصحابة اتفقوا بعد اختلافهم على تغسيل رسول الله ( في ثيابه ولذلك قالت عائشة في أخر الحديث : لو استقبلت من أمري ما استدبرت ما غسل رسول الله إلا نساؤه .
فنأخذ من هذا الحديث جواز تغسيل المرأة لزوجها وكذلك يجوز العكس وسيأتي إن شاء الله بحث هذه القضية في موضعها .
509 - وعن أم عطية رضي الله عنها قالت : دخل علينا النبي ( ونحن نغسل ابنته . فقال : ( أغسلنها ثلاثاً أو خمساً ، أو أكثر من ذلك إن رأيتن ذلك ، بماء وسدر واجعلن في الأخيرة كافوراً ، أو شيئاً من كافور ) فلما فرغنا آذناه ، فألقى إلينا حقوه . فقال : ( أشعرنها إياه ) متفق عليه . وفي رواية : ( ابدأن بميامنها ومواضع الوضوء منها ) وفي لفظ البخاري : ( فضفرنا شعرها ثلاثة قرون فألقيناها خلفها ) .
قال الإمام أبو عبد الله البخاري رحمه الله حدثنا إسماعيل بن عبد الله قال أخبرنا مالك عن أيوب عن محمد بن سيرين عن أم عطية به .
وقال الإمام مسلم رحمه الله حدثنا يحيى بن يحيى قال أخبرنا يزيد بن زُريع عن أيوب به .
وقوله : وفي روية ( ابدأْنَ بميامنها )
هذه الرواية متفق عليها من طريق خالد عن حفصة بنت سيرين عن أم عطية .
وقوله : وفي رواية للبخاري ( فضفرنا ... )
هذه الرواية جاءت في البخاري من طريق هشام بن حسان قال حدثتنا حفصة بنت سيرين عن أم عطية .
وجاء عند ابن حبان في صحيحه من طريق حماد بن سلمة عن أيوب وهشام وحبيب عن محمد بن سيرين عن أم عطية بلفظ ( وجعلنا لها ثلاثة قرون ) وفي هذا اللفظ نظر والمحفوظ أن هذا الفعل من أم عطية رضي الله عنها ولا يستبعد أن يكون الوهم من حماد بن سلم رحمه الله وأنه وإن كان إماماً إلا إنه صاحب أوهام بالحديث.
قولها : ( دخل علينا رسول الله ( ونحن نُغسلُ ابنتهُ ) .
فيه جواز مثل هذا الفعل .
وفيه جواز مخاطبة الرجال للنساء الأجنبيات للمصلحة والحاجة .
قوله ( أغسلنها ) .(1/18)
فيه دليل على وجوب تغسيل الميت لأن هذا أمر والأمر يقتضي الإيجاب وبهذا قال أبو حنيفة والشافعي وأحمد بن حنبل وهو قول جماهير العلماء سلفاً وخلفاً وخالف في ذلك مالك رحمه الله فرأى الاستحباب ومذهب الجمهور أصح.
قوله : ( ثلاثاً ) .
حمل هذه اللفظة جمهور العلماء على الاستحباب وقالوا الواجب مرة واحدة وما زاد فمستحب وذهب الكوفيون والإمام المزني وأهل الظاهر إلى إيجاب الثلاث لأن النبي ( قال : ( اغسلنها ثلاثاً ) ولم يقل مرةً أو ثلاثاً أو خمساً إنما قال اغسلنها ثلاثاً فوجب اعتبار مفهوم العدد وأن المرة الواحدة لا تكفي فلابد من استيفاء العدد .
قوله : ( خمساً ) .
أي إن احتجتم لذلك فيما لو لم تنق الثلاث تغسل خمساً فإن قال قائل ألا نكتفي بأربع إذا أنقت الجواب إن الأربع مجزئه ولكن القطع على الوتر مستحب فمن ثم قال رسول الله ( : ( أو خمساً أو سبعاً للقطع على الوتر ) .
قوله : ( أو سبعاً ) .
جعله بعض العلماء هذا العدد نهاية الغسلات والحق أن الميت إذا لم يطهر بالسبع يزاد إلى تسع فنكتفي بما يغلب على الظن أنه قد طهر .
فإذا رأينا أن التسع تطهر أكثر من السبع طهرناه تسعاً وإذا رأينا أن الزيادة على هذا العدد أبلغ في التطهير وإن لم يطهر كلياً زدنا على ذلك ولكن هذا ليس واجباً لأن هذا قد يشق على المغسل إنما الواجب أن يغسله ثلاثا .
قوله : ( بماء وسدر ) .
تقدم أن السدر يخلط مع الماء وفي هذا دليل على أن تغير الماء بالطّاهرات لا يسلب الماء الطهورية بل هو طاهر مطهر وفي هذا الحديث رد على من زعم أن المتغير بالطاهرات يكره الوضوء به فالنبي ( جعله طاهراً مطهراً .(1/19)
وفي هذا الحديث إيماء إلى منع تقسيم المياه إلى ثلاثة أقسام كما هو المشهور من مذهب الحنابلة والشافعية والحق أن المياه قسمان طاهر ونجس , والطاهر هو المطهر أما إثبات طاهر غير مطهر فلا أصل له ولا دليل عليه وأيضاً لا وجه له من النظر وقد سبق تقرير هذه القضية في باب المياه .
قوله : ( واجعلن في الأخيرة كافوراً ، أو شيئاً من كافور ) .
وهذا نوع من أنواع الطيب وفي هذا دليل على اختلاف أمور الوفاة عن أمور الحياة فالمرأة لا يجوز لها أن تضع الطيب الذي تظهر رائحته عند الرجال الأجانب أما بعد الوفاة فلا مانع من ذلك ففي هذا دليل على اختلاف أمور الموت عن أمور الحياة ولا يجوز قياس هذا على هذا لوجود الفوارق الكبيرة .
قوله : ( ابدأن بميامنها ومواضع الوضوء منها ) .
الجمهور على أن هذا مستحب ودليلهم ما رواه الشيخان وغيرهما من طريق شعبة عن أشعث ابن أبي الشعثاء عن أبيه عن مسروق عن عائشة رضي الله عنها قالت : ( كان رسول الله ( يعجبه التيامن في تنعله وترجله وطهوره وفي شأنه كله ) .
ظاهر هذا الحديث يدل على استحباب البُداءَة بالميامن دون الإيجاب .
وقول أم عطية : ( فضفرنا شعرها ثلاثة قرون ) .
فيه جواز مثل هذا وقد اتفق العلماء رحمهم الله على جواز نثره لأن الضفر ليس واجباً فإذا لم يكن واجباً بالحياة فمن باب أولى ألا يجب بعدها .
إن قال قائل ما هي الحكمة من ضفر الشعر ؟
علل بعض أهل العلم بأن الحكمة من هذا هو تجميع الشعر لئلا يتناثر فيؤذي المغسل وفي هذا الحكمة نظر لأنه يمكن ضفره مرة واحدة لو كانت هذه الحكمة فلذلك قد يقال بأن الحكمة تعبدية كما أنه قد سبق أن هذا الفعل من أم عطية وليس من أمر النبي ( وغاية ما فيه الجواز وأما الاستحباب فيحتاج إلى دليل .
510 - وعن عائشة رضي الله عنها قالت : كفن رسول الله( في ثلاثة أثواب بيض سحولية من كرسف ليس فيها قميص ولا عمامة . متفق علية .(1/20)
قال الإمام البخاري قال حدثنا محمد بن مقاتل قال أخبرنا عبد الله عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة به .
وقال مسلم حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة ويحيى وأبو كريب واللفظ ليحيى قال يحيى أخبرنا وقال الآخران حدثنا أبو معاوية عن هشام بن عروة به .
قولها : ( كفن رسول الله ( في ثلاثة أثواب ) .
في هذا دليل على استحباب التكفين في هذا العدد وقد ذكر الإمام البغوي رحمه الله في شرح السنة كراهية الزيادة على هذا العدد .
قولها : ( بيض ) .
خصص البياض هنا لأنه خير اللباس وقد روى أهل السنن بسند صحيح من طريق عبد الله بن عثمان عن سعيد بن جبير عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( البسوا من ثيابكم البياض فإنها خير لباسكم , وكفنوا فيما موتاكم ) .
ففي هذا الحديث دليل على استحباب تكفين الأموات بالبياض وظاهر الحدث العموم فيشمل الرجال والنساء ولا مانع من تكفين النساء بالبياض وجعل الخارجي من غير البياض .
قولها : ( سحولية ) .
ضبط بوجهين بفتح السين وضمها وهي ثياب بيض نقية تجلب من اليمن وهي قطنية .
قولها ( ليس فيها قميص ولا عمامة )
تقدم في حديث عائشة أن الرسول ( غُسِّل في ثيابه وتقدم أن هذا لا ينافي هذا الحديث فقد جعلت اللفايف فوق ثوب الرسول صلى الله عليه وسلم ولكن هذه اللفايف ليس فيها قميص ولا عمامة , ففيه استحباب التكفين بمثل هذا لا ينفي التكفين بالقميص كما سيأتي , هذا على حديث ابن عمر أن النبي عليه الصلاة والسلام ألبس أبن أبيّ قميصه , وهو متفق على صحته , فدل هذا على جواز التكفين بالقميص ولكن عائشة رضي الله عنها تخبر خبرا أن النبي عليه الصلاة والسلام كفن في ثلاثة أثواب ليس فيها قميص ولا عمامة .
وفي الحديث دليل على استحباب تحسين الكفن لما جاء في مسلم من حديث ابن جريح قال أخبرني أبو الزبير المكي عن جابر بن عبد الله أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( إذا كفن أحدكم أخاه فليحسن كفنه ) .(1/21)
ذكر الإمام البغوي رحمه الله في شرح السنة أن المراد بالإحسان هنا ليس المغالاة في الأكفان إنما المراد بذلك الكفن الأبيض النظيف دون الإسراف أو التبذير .
511 - وعن ابن عمر رضي الله عنهما قال : لما توفيَ عبد الله بن أبيّ جاء ابنه إلى رسول الله ( . فقال : أعطني قميصك أكفنه فيه ، فأعطاه إياه . هذا الحديث متفق عليه .
قال الإمام البخاري رحمه الله حدثنا مسدد قال أخبرنا يحيى بن سعيد عن عبيد الله بن عمر العمري عن نافع عن ابن عمر به .
وقال الإمام مسلم رحمه الله حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة قال حدثنا أبو أسامة عن عبيد الله به .
وفي الباب عن جابر في الصحيحين من طريق ابن عيينة عن عمرو عن جابر رضي الله عنهما قال : ( أتى النبي ( عبدالله بن أبيّ بعد ما دفن فأخرجه ، فنفث فيه من ريقه وألبسه قميصه ) .
وظاهر الحديثين التعارض فقد دل الخبر الأول أن ابن عبد الله بن أبيّ طَلب من النبي ( قميصه وظاهر الحديث الثاني أن النبي ( أتى إليه في قبره ونبشه وألبسه قميصه وقد قيل في الجمع بينهما .
قوله في حديث ابن عمر : ( أعطاه إياه ) .
أي أنعم له بذلك .
ودل حديث جابر أن الرسول ( تولى هذا الأمر بنفسه بعد ما أعلم عبد الله بن عبد الله بن أبيّ أنه يعطيه قميصه ، وقيل بأن النبي ( أعطاه أولاً إحدى قميصيه ثم ألبسه الثاني والسبب في كون النبي ( أعطى هذا المنافق قميصه أن له نعمة ويداً عند رسول ( أنه كسا العباس رضي الله عنه لما أسر ببدر فأراد النبي( أن يكافئه على صنيعه حتى لا يكون لمنافق عليه نعمه .
وفي الحديث دليل على جواز التكفين بالقميص ويجوز الاقتصار بالكفن على ثوب واحد إذا ستر أما إذا لم يستر فتجب الزيادة مالم يمنع من ذلك مانع كعدم وجود غيره .(1/22)
ويستفاد من الحديث شكران المعروف ولو كان صاحبه منافقاً أو كافراً وقد روى الإمام أبو داود والنسائي بسند صحيح من طريق الأعمش عن مجاهد عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أن النبي ( قال : ( من صنع إليكم معروفاً فكافئوه ) .
ظاهر الحديث يدل على أن هذا الصانع سواءً كان مؤمناً أم كافراً فإن كان مؤمناً فتجازيه بإحسان وإن كان كافراً فترد عليه إحسانه لئلا يميل قلبك إليه .
ويستفاد من الحديث أيضاً جواز نبش القبر للحاجة وقد دل على هذا حديث جابر رضي الله عنهما .
ويستفاد من الحديث أيضاً جواز النفخ في الريق .
ويستفاد من الحديث أيضاً أن من دفن من غير كفن ينبش ونظير هذا لو لم يغسل .
إن قال قائل كيف أعطى النبي( هذا المنافق قميصه مع أنه كان حرباً على هذا الدين وكان يؤلب على النبي( .
الجواب قد سبق أن النبي ( أراد أن يرد عليه نعمته حين أحسن إلى العباس رضي الله عنه وإعطاء النبي ( لهذا المنافق قميصه لا يقتضي هذا الموالاة ولا النصرة ولا المحبة إنما هو من باب رد الجميل ولأن ابنه أيضا قد طلب من النبي ( هذا وكان الابن رجلاً صالحاً ولأنه سأله ذلك وكان رسول ( لا يرد سائلاً .
512 - وعن ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي ( قال : ( البسوا من ثيابكم البياض ، فإنها من خير ثيابكم ، وكفنوا فيها موتاكم ) .
هذا الخبر رواه الخمسة إلا النسائي كلهم من طريق عبد الله بن عثمان بن حثيم عن سعيد بن جبير عن ابن عباس به .
وعبد الله بن عثمان قال عنه يحيى بن معين ثقة حجة ووثقه النسائي والعجلي وجماعة بينما قال الإمام علي بن المديني رحمه الله منكر الحديث , قال الإمام النسائي رحمه الله كأن الله خلق علي بن المديني للحديث .
والمتأمل لأحاديث عبد الله بن عثمان يجد أنه صدوق وأنه حسن الحديث وقد يخطئ ويهم ومن ثم قال عنه الحافظ ابن حجر رحمه الله في التقريب صدوق وقد خرج له مسلم والأربعة.(1/23)
وفي الباب عن سمرة رواه الإمام النسائي رحمه الله من طريق سعيد بن أبي عروبة عن أيوب عن أبي قلابة عن سمرة بنحوه . ورجاله كلهم ثقات وقد قال الترمذي رحمه الله في جامعه وفي الباب عن سمرة بنحوه وابن عمر وعائشة .
وحديث ابن عباس حديث حسن صحيح .
قوله : ( البسوا من ثيابكم البياض ) .
الأمر هنا للاستحباب باتفاق أهل العلم والأمر هنا عام في جميع الملابس يستحب للعبد أن يكون لباسه أبيض ولكن هذا لا يعني كراهية اللباس بغير هذا اللون فقد لبس النبي ( الأحمر والأسود والأخضر وغير ذلك من الألوان .
قوله : ( فإنها من خير ثيابكم ) .
هذه اللفظة صريحة في تفضيل اللباس الأبيض على غيره سواء كان ثوباً أم غترة فجميع ما يلبسه المرء يستحب فيه أن يكون أبيض .
قوله ( وكفنوا فيها موتاكم )
هذا الشاهد من سياق هذا الحديث وقد تقدم حديث عائشة رضي الله عنها في الصحيحين : ( كفن رسول ( في ثلاثة أثواب بيض سحولية من كرسُفٍ ) .
فيستحب في الكفن أن يكون أبيض نظيفاً ولو كفن بغير الأبيض جاز وأجزأ ولكنه خالف الأولى والأفضل , فالأفضل باللباس بما فيه الكفن أن يكون أبيض نظيفاً إلا أن المسلم يستحب في حَقّه أن يتجنب الإسراف والمغالاة في الأكفان فإن الأمر كما قال أبو بكر الصديق رضي الله عنه : فإن الحي أولى بالجديد من الميت إنما هو للمهلة . رواه البخاري في صحيحة عن طريق هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة رضي الله عنها .
513 - وعن جابر عبد الله رضي الله عنهما قال : قال رسول الله صلى الله علية وسلم : ( إذا كفن أحدكم أخاه فليحسن كفنه ) رواه مسلم .
قال مسلم رحمه الله حدثنا هارون بن عبد الله وحجاج بن الشاعر قال حدثنا حجاج بن محمد قال : قال ابن جريح أخبرني أبو الزبير المكي أنه سمع جابر بن عبد الله فذكر الخبر قال الإمام البغوي في شرح السنة المراد بتحسين الكفن هو البياض والنظافة لا كونه ثميناً.(1/24)
وقد اختلف الفقهاء رحمهم الله فهم هذا الحديث فقال الإمام البغوي رحمه الله ما تقدم ذكره وقال بعض أهل العلم المراد بتحسين الكفن هو طلب الشيء الثمين الغالي وهذا قول أبي سعيد الخدري رضي الله عنه .
استدل الإمام البغوي رحمه الله بحديث أبي بكر الصديق السابق : فإن الحي أولى بالجديد من الميت إنما هو للمهلة . رواه البخاري .
واستدل أيضاً بما رواه أبو داود في سننه من طريق عمرو بن هاشم عن إسماعيل ابن أبي خالد عن عامر الشعبي عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أن النبي ( قال : ( لا تغالوا في الكفن فإنه يسلبه سلبا سريعاً ) .
ولكن في هذا الإسناد نظر عمرو بن هاشم لين الحديث وفي سماع الشعبي من علي خلاف بين أهل العلم إلا أن ما ذكره البغوي واختاره قول قوي لأن قوله ( ( فليحسن كفنه ) لا يدل على المغالاة إنما يحمل على النظافة والبياض حيث لا يكون الكفن وسخاً أو يكون متخرقاً لا ينتفع به .
وأما على القول الثاني فيؤخذ من الحديث استحباب طلب الأفضل بالكفن لأن الرسول ( قال : ( فليحسن كفنه ) .
وأجرة الكفن تؤخذ من مال الميت قبل إعطاء أهل الحقوق حقوقهم وقبل قسمة الميراث لأن أكثر ما يرد في تركة الميت خمسة حقوق وهي مرتبة إن ضاقت التركة والحقوق .
فأولاً أجرة الكفن والحفر ونحوهما فندفع أجرة الكفن قبل الديون سواء كانت لله أو للآدمي والأفضل للمسلم أن لا يدع أحداً يمن عليه بالكفن فإما أن يشتريه قبل وفاته وهذا أمر لا مانع منه ذكره الإمام البخاري رحمه الله في صحيحه وغيره من أهل العلم وإما أن يوصي بأن يشترى له الكفن من ماله وبعض الناس يهمل هذه المسألة فيكون غنياً لا يسمح لأحد في الحياة أن يتصدق عليه بدرهم فإذا توفى وخلف المال سمح للناس أن يتصدقوا عليه بكفن وهذا خلاف الأولى والأفضل .(1/25)
514 - وعنه قال : كان النبي ( يجمع بين الرجلين من قتلى أحد في ثوب واحد ، ثم يقول : ( أيهم أكثر أخذاً للقرآن فيقدمه في اللحد ، ولم يغسلوا ولم يصل عليهم ) رواه البخاري .
قال البخاري حدثنا عبد الله بن يوسف قال أخبرنا الليث عن ابن شهاب عن عبد الرحمن بن كعب بن مالك عن جابر به .
وقد أعله بعض أهل العلم بأن معمراً وعمرو بن الحارث ومحمد بن إسحاق وجماعة رووا هذا الخبر عن الزهري عن عبد الله بن ثعلبه .
ولكن جاء الخبر عن معمر عن الزهري بذكر جابر رضي الله عنه ولعل هذا هو الذي جعل البخاري رحمه الله يقدم رواية الليث عن الزهري على رواية غيره ، والليث بن سعد ثقة إمام وهو من المتقنين لأحاديث الزهري.
وقد أورد البخاري رحمه الله هذا الخبر من طرق في صحيحه عن الليث , ومداره على الليث عن الزهري ورواه عن الليث جمع .
قوله : ( يجمع بين الرجلين ) .
في هذا دليل على جواز دفن الرجلين في القبر الواحد للحاجة وأما لغير الحاجة فلا يجوز بل يجب حفر قبر أخر للدفن فيه .
وقد اختلف أهل العلم في الذكر والأنثى هل يدفنان جميعاً أم لا قال بعض العلماء لا مانع من دفنهما إذا كان الرجل أحد محارمها وهذا قول لفقهاء الحنابلة .
وقال بعض العلماء لا تدفن المرأة مع الرجل مطلقاً وذهب واثلة بن الأسقع إلى جواز دفن المرأة مع الرجل الأجنبي فيقدم الرجل وتكون المرأة خلفه .
ولكن ذكر بعض أهل العلم أنه يُجعل بينهما تراب لئلا يتلاصق الجسدان وهذا مجرد اجتهاد ذكره الحافظ في فتح الباري ولم يذكر دليلاً عليه .
قوله : ( في ثوب واحد ) .
قال بعض أهل العلم كُفَّنا جميعاً في ثوب واحد وهذا ظاهر الخبر وهو الذي فهمه غير واحد من الشراح وقال بعض أهل العلم شق الكفن نصفين فكفن كل واحد بالنصف الأخر .
قوله : ثم يقول : ( أيهُمُ أكثر أخذاً للقرآن فيقدمه في اللحد ) .
في هذا فوائد :-(1/26)
فضيلة حفظ القرآن وأن صاحبه يقدم على غيره وفي صحيح الإمام مسلم عن عمر رضي الله عنه قال ألا أني سمعت نبيكم ( يقول : ( إن الله يرفع بهذا الكتاب أقواماً ويضع به آخرين ) فصاحب القران له منزلة عالية في الدنيا ورفعة في الآخرة .
هذا التقديم للاستحباب لا للإيجاب لأن الخبر لم يرد بلفظ الأمر الصريح الدال على الإيجاب فظاهر السياق أنه للاستحباب لا للإيجاب .
أن هذا التقديم لا يلزم منه التفضيل الأخروي فلربما كان المؤخر عند الله أفضل من المقدم إنما هذا الترتيب في القبر على حسب منازلهم في الدنيا .
قوله : ( ولم يغسلوا ) .
وهذا حكم الشهيد والمراد بالشهيد شهيد المعركة فعندهم لا يغسل كما هو قول جماهير العلماء وهو اختيار الأئمة الأربعة وقد جاء عن سعيد بن المسيب والحسن وبعض أهل العلم أن الشهيد يغسل كسائر الأموات وفي هذا نظر وقول الجمهور أصح فلم يرد دليل عن النبي ( أنه أمر بتغسيل الشهداء فحديث الباب صريح برد هذا القول .
وأما غير شهيد المعركة كمن قتل دون ماله أو المبطون أو المطعون أو من مات بالغرق أو الحريق والهدم فإن هؤلاء وإن كانوا شهداء إلا أنهم يغسلون ويكفنون ويصلى عليهم لأن أحكامهم تختلف عن أحكام شهيد المعركة وإطلاق الشهادة عليهم هذا بالنسبة للأجر .
قوله : ( ولم يصل عليهم ) .
احتج بهذا بعض الفقهاء على ترك الصلاة على الشهداء وقد اختلف الفقهاء رحمهم الله في هذه المسألة فقال بعض أهل العلم لا يُصلى على الشهيد وهو قول الحنابلة وقال بعضهم يصلى على الشهداء مطلقاً لأن النبي ( صلى على شهداء أحد بعد مضى ثماني سنين صلاته على الميت . والحديث متفق على صحته .
وقد أختار أبن القيم في تهذيب السنن أن الإمام مخير فيهم إن شاء صلى وإن شاء ترك وهذا قول للإمام أحمد رحمه الله في إحدى الروايات عنه قال ابن القيم : وهي الأليق بأصوله ومذهبه .(1/27)
515 - وعن علي رضي الله عنه قال : سمعت النبي ( يقول : ( لا تغالوا في الكفن ، فإنه يسلب سريعاً ) . رواه أبو داود .
قال الإمام أبو داود رحمه الله حدثنا محمد بن عبيد المحاربي قال أخبرنا عمرو بن هاشم عن إسماعيل بن أبي خالد عن عامر الشعبي عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه .
وهذا الخبر أعل بعلتين :
العلة الأولى :
ضعف عمرو بن هاشم قال عنه الإمام أحمد صدوق ولم يكن صاحب حديث وقال عنه البخاري فيه نظر وضعفه أبو حاتم والإمام مسلم والنسائي .
العلة الثانية :
الانقطاع بين عامر الشعبي وعلي بن أبي طالب رضي الله عنه ، الشعبي على الصحيح ولد سنة ( 28 ) وأما علي رضي الله عنه فقد قتل سنة ( 40 ) فقد أدرك الشعبي من حياة علي رضي الله عنه ثنتي عشرة سنة ومثل هذه المدة يمكن فيها السماع ولكن ذكر الإمام الدار قطني رحمه الله أن الشعبي لم يسمع من علي إلا حديثاً واحداً فعليه هذا الخبر منقطع .
والخبر يدل على منع المغالاة في الكفن وقد تقدم قول أبي بكر الصديق : إن الحي أولى بالجديد من الميت إنما هو للمهلة . رواه البخاري في صحيحه من حديث عائشة .
وأما قوله ( : ( إذا كفن أحدكم أخاه فليحسن كفنه ) فمعناه على ما سبق تقريره من حيث البياض والنظافة لا من حيث المغالاة فإن المغالاة في الأكفان لا تشرع ولا فائدة في هذا ومن لم يقدسه عمله لم يقدسه كفنه ولم يرتب الله عز وجل أجراً على المغالاة في الأكفان وإلا لتسابق إلى ذلك سلفنا الصالح إلى هذا الخير.
516 - وعن عائشة أن النبي ( قال لها : ( لو مت قبلي لغسلتك ) .
هذا الخبر رواه الإمام أحمد في مسنده وابن ماجة وابن حبان في صحيحه من طريق الإمام محمد بن إسحاق عن يعقوب بن عتبة عن الزهري عن عبيدالله عن عائشة رضي الله عنها أن الرسول ( قدم من جنازة بالبقيع فقالت عائشة : ورأساه , فقال النبي ( : ( بل أنا ورأساه ... ) الحديث .
وقد اقتصر المؤلف رحمه الله على الشاهد منه .(1/28)
وقد ذكر الحافظ المزي رحمه الله في تحفة الأشراف أن النسائي رواه في الكبرى ورواه أيضاً عبد الرزاق ورواه البيهقي في دلائل النبوة وعن البيهقي في الدلائل صرح ابن إسحاق بالسماع من يعقوب وقد جاء الخبر في صحيح الإمام البخاري من طريق سليمان بن بلال عن يحيى بن سعيد عن القاسم بن محمد عن عائشة رضي الله عنها وليس فيه : ( لو مت قبلي لغسلتك ) .
فلذلك لا يستبعد أن تكون هذه الجملة شاذة قد أورد البخاري رحمه الله خبر عائشة في صحيحه بطوله إلا هذه الجملة فلم يذكرها .
والخبر احتج به مالك والشافعي وأحمد وجماهير العلماء سلفاً وخلفاً على جواز تغسيل الزوج لزوجته وعزاه بعض أهل العلم إجماعاً وفيه نظر فقد خالف في ذلك الإمام أبو حنيفة رحمه الله إلا أن مذهب الجمهور أصح من مذهب أبي حنيفة في هذه المسألة , وأما العكس فقد جوزه أبو حنيفة وجماهير العلماء فجوازوا للمرأة أن تغسل زوجها فقد تقدم قول عائشة رضي الله عنها : لو استقبلت من أمري ما استدبرت ما غسل رسول الله ( إلا نساؤه .
رواه أبو داود وغيره بإسناد حسن .
وأما تغسيل الرجل لغير زوجته وإن كانت محرما له فإن هذا محرم باتفاق أهل العلم وكذلك الأمر بالنسبة لتغسيل المرأة لغير زوجها ولو كان أخاها لأمها وأبيها فإن هذا لا يجوز إلا أن بعض الفقهاء كفقهاء الحنابلة والشافعية استثنوا من لم يتجاوز سبع سنين فجوزوا للمرأة أن تغسله كما أنهم جوزوا للرجل أن يغسل الطفلة الصغيرة والأولى في الأمرين معاً أن يتولى تغسيل البنت امرأة وأن يتولى تغسيل الذكر ذكرٌ .
517 - وعن أسماء بنت عميس رضي الله عنها أن فاطمة رضي الله عنها أوصت أن يغسلها علي رضي الله تعالى عنه .
هذا الخبر رواه الدار قطني من طريق عبد الله بن نافع عن محمد بن موسى عن عون بن محمد عن أمه عن أسماء رضي الله عنها .
ورواته كلهم ثقات إلا أم عون فإنها غير معروفة .(1/29)
ورواه الإمام الشافعي رحمه الله عن إبراهيم بن محمد قال حدثنا عمارة عن أم محمد عن أسماء .
وإبراهيم بن محمد شيخ الشافعي متروك الحديث تركه أحمد وابن معين والنسائي والدار قطني .
ورواه الإمام الحاكم في مستدركه من طريق محمد بن موسى عن عمارة بن المهاجر وعون بن محمد عن أم جعفر قالت حدثتني أسماء قالت : غسلت أنا وعلي فاطمة بنت رسول الله ( .
ورواته كلهم ثقات إلا أم جعفر فإنها غير معروفة .
وخبر الباب يدل على جواز تغسيل الزوج لزوجته وبهذا قال الإمام مالك والشافعي وأحمد وهو قول جماهير العلماء سلفاً وخلفاً وخالف في ذلك الإمام أبو حنيفة رحمه الله فمنع تغسيل الزوج لزوجته وهو قول الثوري , وروي عن الشعبي .
وقول الجمهور أصح وأما تغسيل المرأة لزوجها فقد نقل ابن عبد البر في الاستذكار الإجماع على جوازه وذلك في كتاب الجنائز على أثر أسماء أنها غسلت أبا بكر الصديق وأسماء هذه هي بنت عميس زوجة أبي بكر الصديق رضي الله عنه ونقل الإجماع على هذه المسألة غير واحد من أهل العلم وأما تغسيل الأب لابنته أو الرجل لأحد محارمه فهذا لا يجوز قولاً واحداً عند أهل العلم .
518 - وعن بريدة ـ في قصة الغامدية التي أمر النبي ( برجمها في الزنا , قال : ثم أمر بها فصلي عليها ودفنت . رواه مسلم .
هذا الخبر رواه مسلم في صحيحه .
قال رحمه الله حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة قال أخبرنا عبد الله بن نمير ح وحدثنا محمد بن عبد الله بن نمير وتقاربا في اللفظ , قال حدثني أبي قال حدثنا بشير بن المهاجر عن عبد الله بن بريدة عن أبيه به , وبشير بن المهاجر لين الحديث وخرج له مسلم في المتابعات لا في الأصول وقد خولف في هذا الخبر فروى الخبر بطوله غيلان بن مجامع المحاربي عن علقمة بن مرثد عن سليمان بن بريدة عن أبيه فلم يذكر قصة الصلاة عليها وهذا هو المحفوظ في هذا الخبر ، وأما رواية بشير بن المهاجر فمنكرة .(1/30)
وفي الباب عن يحيى بن أبي كثير عن أبي قلابة عن عمران بن حصين أن امرأة جُهينة أتت النبي ( وهي حبلى من الزنا ... الخبر , وفيه : فأمر بها فشكت عليها ثيابها ورجمت ثم صلى عليها .
والخبر رواه مسلم وهو دليل على مشروعية الصلاة على من أقيم عليهم الحدود وقد قال بعض أهل العلم ويشرع للإمام ترك الصلاة للتنكيل بهم ولردع غيرهم عن هذا الفعل العظيم كما أنه يشرع للإمام ترك الصلاة على الغال وعلى من قتل نفسه وعلى من ترك ديناً لا وفاء عنده وهذا قول فقهاء الحنابلة ووافقهم على بعض المسائل أبو حنيفة والإمام الشافعي رحمهم الله .
والصحيح في هذه المسألة التفصيل فإن كان المرجوم قد تاب قبل رجمه فالأولى الصلاة عليه لأن التوبة تجب ما قبلها وحديث الباب يدل على هذا فإن النبي صلى الله عليه وسلم صلى على الجهنية وفي هذا ستر لعيبها وتطيب لخواطر أهلها وأما أن لم يتب الزاني أو الزانية من زناهما ورجما على هذا فيشرع للإمام ومن ينظر الناس إليه ترك الصلاة عليهما لردع أمثالهما ومن تسول لهم أنفسهم بالباطل فإن جريمة الزنا جريمة عظيمة إلا أن ترك الصلاة على القول الصحيح ليس خاصاً ممن زنا فيشرع لمن يُقتدى بهم أن يَدَعوا الصلاة على كل مفسدٍ في الأرض كالمبتدع والزاني غير التائب وشارب الخمر والغال وقاتل نفسه وغيرهم من المفسدين في الأرض ذلك لينكل غيرهم عن هذا الفعل العظيم فالصلاة على هؤلاء بالجملة فرض كفاية إذا قام بها البعض سقط الإثم عن الباقين ولا يشرع لجميع الناس ترك الصلاة عليهم فإن هذا خلاف هدي النبي ( وصحابته رضي الله عنهم وإنما المشروع لمن يقتدى بهم ترك الصلاة عليهم لغرض صحيح ولمصلحة راجحة ولذلك لو قدر استواء الأمرين صلى أو لم يصلّ شرعت الصلاة في حقه عليهم لأن المقصود بترك الصلاة عليهم قد فقد .
وفي الحديث دليل على مشروعية الرجم فالزاني والزانية إذا كانا محصنين يجب رجمهما حتى يموتا .(1/31)
وفي الحديث دليل أيضاً على عدم كفر الزانية وفيه رد على الخوارج الذين يُكفِرون بكبائر الذنوب .
وفي الحديث دليل على أن التوبة تجب ما قبلها .
وفي الحديث دليل على أخذ المرء بجريمة الزنا إذا أقر على نفسه وقد اختلف الفقهاء رحمهم الله أيهم أفضل أن يقر على نفسه بالزنا ليقام عليه الحد أو يستر على نفسه كما ستره الله أصح الأقوال أن يستر على نفسه كما أن الله ستر عليه يشرع له أن يستر على نفسه وأن لا يفضحها ولعله أيضاً لا يصبر على إقامة الحد وفي صحيح الإمام مسلم عن أبي هريرة أن النبي ( قال : ( لا يستر الله على عبد في الدنيا إلا ستر عليه في الآخرة ) .
فالأولى للمسلم أن يستتر بستر الله جل وعلا ولا يبدي ما فعله من الجرائم فإن الله غفور رحيم لمن تاب إليه وعمل صالحاً كما قال تعالى : ( والذين لا يدعون مع الله إلها آخر ولا يقتلون النفس التي حرم الله إلا بالحق ولا يزنون ومن يفعل ذلك يلق أثاماً يُضاعف له العذاب يوم القيامة ويخلد فيه مهاناً إلا من تاب وأمن وعمل عملاً صالحاً فأولئك يبدل الله سيئاتهم حسنات وكان الله غفوراً رحيماً ) .
وقال تعالى : ( وإني لغفار لمن تاب وآمن وعمل صالحاً ثم اهتدى ) .
519 - وعن جابر بن سمرة رضي الله عنه قال : أتي النبي ( برجل قتل نفسه بمشاقص ، فلم يُصلَّ عليه . رواه مسلم .
قال رحمه الله : حدثنا عون بن سلام قال : أخبرنا زهير عن سماك بن حرب عن جابر بن سمرة به .
ورواه النسائي في سننه عن إسحاق بن منصور قال أخبرنا أبو الوليد عن أبي خيثمة زهير وفيه : ( أما أنا فلا أصليَّ عليه ) .
ومفهوم هذا أنه لا مانع من الصلاة عليه وهذا قول عامة العلماء .
وأما لفظ مسلم فيدل على أنه يشرع للإمام ومن هو قدوة للناس أن يدع الصلاة على قاتل نفسه ليرتدع غيره عن هذا الفعل العظيم وأما عامة الناس فيصلون عليه .(1/32)
والحديث صريح في عدم كفر قاتل نفسه وهذا مذهب أهل السنة والجماعة قاطبة وقد أجمع أهل السنة بعد خلاف قديم لابن عباس أن قاتل المسلم له توبة وليس كافراً وأن من قتل نفسه تحت المشيئة إن شاء الله عذبه وإن شاء غفر له فإنه داخل تحت المشيئة المذكورة بقوله تعالى : ( إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء ) .
فلا يخلد في النار إلاّ الكفرة الفجرة ولا يقطع لأحد بجنة أو نار وإنما يرجى للمحسنين ويخاف على المسيئين ومن حيث العموم يقال المؤمنون في الجنة والكفرة في النار فهذا وعد الله .
والحديث صريح في عدم كفر قاتل نفسه وقد توقف بعض المتأخرين في هذه المسألة والحق أنه لا وجه للتوقف فالحديث صريح في هذه القضية فقتل النفس كبيرة من كبائر الذنوب لا توجب كفراً وحينئذ لا يجوز الحكم على من قتل نفسه بالنار لأنه ليس كافراً إذ لو كان كافراً لما قال الرسول ( : ( أما أنا فلا أصليَّ عليه ) لأنه يجب حينئذ منع غيره من الصلاة عليه لأنه كافر وهذا لا قائل به من أهل السنة والجماعة فقتل النفس كبيرة من الكبائر قد رتب الله على ذلك وعيداً شديداً كذلك النبي ( عظم هذا الأمر ولكنه لا يصل إلى حد الكفر .
وفي الحديث رد على المرجئة الذين يقولون لا يضر مع الإيمان ذنب إذ لو كان لا يضر مع الإيمان ذب ما امتنع النبي ( من الصلاة على هذا .
فقد تضمن هذا الخبر مع قصره الرد على طائفتين خبيثتين الطائفة الأولى طائفة الخوارج الذين يكفرون بكبائر الذنوب والطائفة الثانية وهي أخبث من الطائفة الأولى وهي طائفة المرجئة الذين يقولون لا يضر مع الإيمان ذنب وقد كفرهم الإمام ابن بطة رحمه الله في الجزء الثاني من الإبانة " .
يقول الإمام الزهري رحمه الله ما ابتدع في الإسلام بدعة أضر على الإسلام من هذه يعني المرجئة .(1/33)
520 - وعن أبي هريرة رضي الله عنه – في قصة المرأة التي كانت تقم المسجد، فسأل عنها النبي ( – فقالوا : ماتت ، فقال : ( أفلا كنتم آذنتموني ؟ ) فكأنهم صغروا أمرها ، فقال : ( دلوني على قبرها ) فدلوه ، فصلى عليها . متفق عليه . وزاد مسلم : ثم قال : ( إن هذه القبور مملؤة ظلمة على اهلها , وغن الله ينورها لهم بصلاتي عليهم .
قال البخاري رحمه الله حدثنا محمد بن فضيل قال حدثنا حماد بن زيد عن ثابت البناني عن أبي رافع عن أبي هريرة به .
وقال مسلم رحمه الله حدثني أبو الربيع الزهراني وأبو كامل فضيل بن حسين الجحدري قالا : حدثنا حماد بن زيد عن ثابت البناني به .
وعن مسلم زيادة : ( إن هذه القبور مملوءة ظلمةً على أهلها ، وإن الله بنورها لهم بصلاتي عليهم ) وهذه الزيادة مدرجة من كلام ثابت البناني رواها مرسلة عن النبي ( فأدرجت في هذا الخبر قال هذا البيهقي رحمه الله ونص عليه الحافظ في فتح الباري ، والظاهر أن البخاري أعرض عنها على عمد ، فلذلك نقول أن هذه اللفظة شاذة فإن مدار الخبر على حماد بن زيد وقد رواه عن حماد بن زيد جمع منهم محمد بن فضيل ، وأحمد بن واقد ، وسليمان بن حرب ورواية هؤلاء عند البخاري .
ورواه أيضاً أبو كامل ، وأبو الربيع ورواية هذين عند مسلم .
فلم يذكر واحد من هؤلاء هذه الزيادة إلا ما وقع في رواية أبي كامل عند مسلم وقد جاء في بعض طرق الحديث ما يبين إدراج هذه الزيادة وأن ثابتاً أرسلها .
وهذا يؤكد شذوذ رفعها فإن الحفاظ الذين رووا الحديث عن حماد لم يذكروها فشذوذها حينئذٍ متيقن .
قوله : ( في قصة المرأة التي كانت تقم المسجد ) .
فيه استحباب كنس المساجد وتنظيفها ، وكنس المساجد يعتبر قربة من القرب الشرعية لأن المساجد بيوت الله عز وجل في الأرض فمن نظفها واعتنى بها فقد اعتنى ببيوت الله جل وعلا .
قوله : ( فقالوا : ماتت ) .(1/34)
كأنهم صغروا أمرها لأن هذه المرأة كانت سوداء وكانت غير معروفة ولم يكن لها كبير عمل في نظرهم فلذلك لما توفيت صلوا عليه ودفنوها ولم يعلموا النبي ( بهذا ولكن النبي ( يعلم ما لا يعلمون فيعرف عظم هذه المرأة وعظم عملها وأنه لا عبرة بالظواهر فرب رجل محتقر أعظم عند الله بأضعاف مضاعفة ممن يشار إليه بالبنان وفي صحيح الإمام مسلم من طريق يزيد الأصم عن أبي هريرة أن النبي ( قال : ( إن الله لا ينظر إلى صوركم ولا إلى أموالكم ولكن ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم ) .
وفي صحيح الإمام البخاري أيضاً من طريق عبد العزيز بن أبي حازم عن أبيه عن سهل بن سعد رضي الله عنه قال : مر رجل على رسول الله ( فقال النبي ( لأصحابه : ( ما تقولون في هذا ؟ ) قالوا : هذا حرى إن خطب أن ينكح وإن شفع أن يشفع وإن قال أن يستمع لقوله ، فمر رجل أخر فقال : ( ما تقولون في هذا ؟ ) قالوا : هذا حرى إن خطب ألا ينكح وإن شفع ألا يشفع وإن قال ألا يستمع لقوله , فقال النبي ( : ( هذا خيرُ من ملْء الأرض من مثل هذا ) فإن العبرة بالأعمال وما يقع في القلب من الإيمان والتصديق والمحبة لله ولرسوله ( أما الظواهر فالناس نعم يتعارفون بها في الدنيا وأما عند الله جل وعلا فلا تساوي شيئاً قال تعالى : ( يوم تبلى السرائر ) أي يظهر طيبها من خبيثها وصالحها من طالحها .
قوله : ( دلوني على قبرها ) .
فيه تفقد الإمام لأحوال رعيته والسؤال عنهم . ويؤخذ من هذا الحديث أيضاً السؤال عمن فُقد فلعله يكون مريضاً فَيُزار أو يكون مسافراً فيطمئن على حاله وفي السؤال عن حال المرء فوائد كثيرة منها فرح المسؤل عنه فإنه يفرح إذا علم أن فلاناً وخصوصاً إذا كان عالماً أو طالب علم يسأل عن حاله ، ومنها تطييب خاطر أهله فإن الأهل إذا علموا أن فلاناً يسأل عن ابنهم فرحوا بهذا وعلموا مقداره عنده وأن له شعوراً يشعر بالمسؤولية يشعر بفقد ألأحبه .(1/35)
ومن الفوائد الصلاة على القبر وفي صحيح الإمام مسلم من طريق غُندر عن شعبة عن حبيب الشهيد عن ثابت عن أنس : أن النبي ( صلى على قبر .
وقد قال الإمام أحمد في الصلاة على القبر : ومن ينكر هذا ؟ ونقل غير واحد من أهل العلم الإجماع على جواز الصلاة على القبر ولكنهم اختلفوا في تحديد المدة ولكن في هذا الإجماع نظر لأن الإجماع إنما وقع على أن النبي ( صلى على القبر ولكن قال بعض الفقهاء هذا خاص بالنبي ( فأين الإجماع حينئذ ، نعم لو قال القائل هذا إجماع من الصحابة لكان وجيهاً فلا يعلم عن صحابي قط أنه منع من الصلاة على القبر ، والأحاديث في هذا كثيرة عن النبي ( أما العلماء رحمهم الله فقد اختلفوا في الصلاة على القبر فذهب جماهير العلماء إلى مشروعية الصلاة على القبر وهؤلاء اختلفوا هل لهذا مدة أم لا منهم من قدرها بشهر كالحنابلة ، ومنهم من قدرها إذا لم يبل الميت ومنهم من لم يقدر هذا ، والصحيح عدم التقدير والتحديد ولكن هل يُصَلى على كل أحد ؟ الجواب : لا فلم يكن النبي ( يصليَّ على قبر كل ميت ولم يكن الصحابة يفعلون هذا نعم إذا توفي من يعز عليك أو من كنت تحرص على الصلاة عليه وفاتتك الصلاة حينئذ فلا مانع أن تصلى على القبر أما ما يفعله الآن بعض العوام عندنا إذا دخل المقبرة قالوا هذا توفى بالأمس وهذا توفي كذا فيصلون جماعات على القبور وهم لا يعرفونهم وليسوا ممن يعز عليهم فقدهم وهذا في الحقيقة بدعة في الدين وليس لهذا أصل عن النبي ( ولا عن الصحابة ولا قاله أحد من الأئمة المتبوعين .
قوله : ( فصلى عليها ) .
ظاهر الحديث أنه صلى عليها وصلى عليها من صلى عليها قبلُ , وجاء هذا مصرحاً به في حديث ابن عباس رضي الله عنهما فنأخذ من هذا قاعدة : أن الشيء يدخل ضمناً وتبعاً ما لا يدخل استقلالا وهذه قاعدة فقهية عظيمة .(1/36)
من هذا أيضاً قراءة القرآن في المقابر بدعة ومحرمةُ ولكن تجوز القراءة ضمن الوعظ والإرشاد فدخلت القراءة ضمناً وتبعاً .
من هذا القبيل أيضاً أكل السرو استقلالاً لا يجوز لأنه من الخبائث ولكن يدخل ضمناً وتبعاً ضمن التمر فتأكله ضمن التمر لا مانع منه .
وهذه القاعدة مطردة في جميع المسائل فيدخل الشيء ضمناً وتبعاً ما لا يدخل استقلالاً .
قوله : ( إن هذه القبور مملوءة ظلمة على أهلها ، وإن الله ينورها لهم بصلاتي عليهم ) .
هذه الرواية شاذة كما سبق وقد احتج بهذه الرواية بعض أهل العلم على منع الصلاة على القبر وأن هذا خاص بالنبي ( لقوله : ( وإن الله ينورها لهم بصلاتي عليهم ) فبين النبي ( الحكمة في هذا ولكن قد سبق أن هذه الرواية شاذة وتقدم أيضاً أن الصلاة على القبر مشروعة .
والعجيب أن بعض الناس يصلي على الجنازة قبل الدفن في المقبرة مع أنه قد صُلي عليها من قبل وليس هناك دليل على النبي ( في جواز الصلاة على الجنازة في المقبرة ومع هذا يمتنع بعض الناس من الصلاة عليها بعد الدفن وهي مشروعة بأحاديث كثيرة عن النبي ( فالصلاة على القبر بعد الدفن أكد من الصلاة عليها قبل الدفن ولذلك الأحوط للمسلم إذا فاتته الصلاة على الجنازة في المسجد وصُليَّ عليه في المقبرة ألا يصلَّي معهم بل ينتظر حتى تدفن فيُصليَّ عليها لأنه ليس هناك دليل عن النبي ( في الصلاة على الجنازة في المقبرة.
إن قال قائل الصلاة عليها قبل الدفن أولى من الصلاة عليها بعد الدفن :
الجواب :(1/37)
أن هذا قياس وهو في الحقيقة في مقابلة النص وما كان الصحابة في العهد النبوي يصلون على جنائزهم في المقابر ولولا ما جاء أيضاً من الآثار عن أبي هريرة وعن غيره من الصلاة على الجنازة في المقبرة لكن هذا الأمر مبتدع ولكن جاء عن أبي هريرة وعن بعض الصحابة وهذا بعد وفاة النبي ( ولذلك منع هذا الإمام أحمد رحمه الله في إحدى الروايتين وهو اختيار ابن الماجشون وجماعة من الفقهاء فرأوا الصلاة عليها بعد الدفن أولى من الصلاة عليها قبل الدفن وقد تقدم بحث هذه القضية على حديث أبي سعيد : ( الأرض كلها مسجد إلا المقبرة والحمام ) إلا إن هذا الخبر لا يصح إلا مرسلاً.
فقد رواه عمرو بن يحيى عن أبيه عن أبي سعيد الخدري عن النبي ( ورواه عن عمرو بن يحيى جمع فرواه الداروردي وحماد بن سلمة عن عمرو بن يحيى عن أبيه عن أبي سعيد عن النبي (.
بينما رواه السفيانان سفيان الثوري ، وسفيان بن عيينة عن عمرو بن يحيى مرسلاً , وهذا أصح كما هو اختيار الإمام الدار قطني في العلل ، وبه قال الإمام الترمذي في جامعه لأن السفيانين أوثق بكثير من الداروردي ومن حماد بن سلمة ومن أمثالها ممن رفع الحديث .
521 - وعن حذيفة رضي الله تعالى عنه أن النبي ( كان ينهى عن النعي . رواه احمد والترمذي وحسنه .
رواه أحمد والترمذي من طريق حبيب بن سُليم عن بلال بن يحيى العبسي عن حذيفة به .
قال أبو عيسى هذا حديث حسن صحيح هكذا وقع في بعض النسخ : صحيح . وفي بعض النسخ : هذا حديث حسن . وهذا هو الذي ذكره الحافظ المزي في تهذيب الكمال ، وهذا هو الذي ذكره الحافظ ابن حجر كما هنا .(1/38)
وحبيب بن سليم روى عنه جمع من الثقات منهم عبد الله بن المبارك وأبو نعيم وذكره ابن حبان في ثقاته والخبر حسنه الحافظ في فتح الباري وإسناده لا بأس به لأن حبيبا صدوق على الصحيح وللحديث شاهد عند الترمذي في جامعه من طريق عنبسة عن أبي جمرة عن إبراهيم عن علقمة عن ابن مسعود أن النبي ( قال : ( إياكم والنعي فإنه من عمل أهل الجاهلية ) . وأعله الترمذي رحمه الله بالوقف فقد رواه سفيان عن أبي جمرة فأوقفه ثم قال أبو عيسى رحمه الله وأبو جمرة اسمه ميمون الأعور وليس بقوي عند أهل الحديث فيتضح من هذا أن الخبر لا يصح لا موقوفاً ولا مرفوعاً والعمدة في هذا خبر حذيفة فلا بأس بإسناده.
قوله : ( نهى ) .
الأصل في النهي أن يكون للتحريم وهذا قول جماهير الأصوليين كما أن الأصل في الأمر أن يكون للإيجاب والصحيح أن النهي للتحريم ما لم يمنع من ذلك مانع ، والموانع كثيرة منها أن ينعقد الإجماع على عدم القول بظاهر الحديث ومنها أن يفعل النبي فعلاً يخالف النهى فحينئذ يصبح النهى للتنزيه كما قال في المراقي :
وربما يفعل للمكروه ... مُبيِّنا أنَّهُ للتنزيه
فصار في جانبه من القُرب ... كالنهي أن يُشرب من فم القِرب
ومنها أيضاً أن تكون في الحديث نفسه قرينة على عدم التحريم وقد جعل الإمام بن عبد البر رحمه الله من القرائن هنا أن يكون النهى أدباً .
قوله : ( عن النعي ) .
المراد بالنعي هنا ما يفعله أهل الجاهلية من الإعلام بوفاة الميت على وجه التفاخر والتباهي وقد ذكر الإمام الترمذي في جامعه أن بعض أهل العلم منع الإعلام بوفاة الميت مطلقاً وأصحاب هذا القول أخذوا النهى من هذا الحديث ولكن جاء في حديث الزهري عن سعيد ابن المسيب عن أبي هريرة أن النجاشي حين توفي أعلم النبي ( به .(1/39)
والحديث في الصحيحين فعُلم أن المراد بالنهى هنا ليس هو مجرد الإعلام بل هو أمر زائد على الإعلام والنعي يشمل أموراً كثيرة منها الإعلام بوفاة الميت على وجه التفاخر ومنها أن يصحب هذا شيء من النوح ونحو ذلك ومنها أن يصحبه ضرب الخدود وشق الجيوب أو ذكر أفعاله الباطلة على وجه الافتخار كأن يقال مات فلان المغني أو اللاعب الفلاني والله المستعان.
522 - وعن أبي هريرة رضي الله عنه : أن النبي ( نعى النجاشي في اليوم الذي مات فيه ، وخرج بهم إلى المصلى فصف بهم ، وكبر عليه أربعاً " هذا الخبر متفق عليه .
قال الإمام البخاري رحمه الله حدثنا إسماعيل قال أخبرنا مالك عن ابن شهاب عن سعيد ابن المسيب عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي ( .
وقال مسلم رحمه الله أخبرنا يحيى بن يحيى التميمي قال أخبرنا مالك عن ابن شهاب به .
ورواه البخاري ومسلم من طريق الليث بن سعد عن عقيل بن خالد بن عقيل عن ابن شهاب عن سعيد بن المسيب وأبي سلمة بن عبد الرحمن عن أبي هريرة به .
قوله : ( نعى النبي ( النجاشي )
المراد بالنعي هنا الإعلام بوفاته ، وما جاء في حديث حذيفة السابق من ذم النعي فمحمول على النعي الذي يصحبه تفاخر وتعالى على العباد فالنعي نوعان :
1ـ نعي جائز : وهو إعلام أهل الخير والصلاح بوفاة فلان ليصلوا عليه ويدعوا له بالرحمة لأن الميت ينتفع بكثرة المصلين عليه كما سيأتي إن شاء الله في حديث ابن عباس .
2ـ نعي محرم : وهو الإعلام بوفاة الميت على وجه النوح والسخط أو على وجه التفاخر أو يصحب هذا شي من آلات المعارف ونحوها .
قوله : ( النجاشي ) .
هو علم على كل من كان ملكا للحبشة كما أن فرعون علم على كل من ملك في مصر وكما إن قيصر علم على ملك الروم وكسرى علم على ملك الفرس وهكذا يقال في أسماء الأعلام .
وليس النجاشي اسم رجل بعينه وإنما هو علم على ملك الحبشة وإلا فاسمه أصحمة .
قوله : ( في اليوم الذي مات فيه )(1/40)
في هذا علم من أعلام النبوة فلا يستطيع أن يخبر بهذا إلا نبي مرسل وذلك لبعد المسافة بين المدينة وبين الحبشة ولما توفي النجاشي أعلم النبي ( بوفاته في اليوم الذي مات فيه وهذا علم صريح من أعلام النبوة .
وفي رواية أن النبي ( قال : ( صلوا على صاحبكم ) .
قوله : ( وخرج بهم إلى المصلىّ ) .
هذا هو المحفوظ في الحديث , وأما ما جاء أن النبي ( صلى عليه في البقيع فالرواية ليست صحيحة والمحفوظ في الخبر أن النبي ( خرج بهم إلى المصلّى .
فيستفاد من هذا مشروعية الصلاة على الجنائز في المصلىّ وأيهم أفضل الصلاة على الجنازة في المصلىّ أم في المسجد .
الجواب أن الصلاة على الجنازة في المصلىّ أفضل لأن هذا هو هدى النبي ( وهدى الصحابة من بعده .
وقد اختلف العلماء رحمهم الله في جواز الصلاة على الجنازة في المسجد وذلك على ثلاثة مذاهب لأهل العلم :
المذهب الأول : المنع مطلقاً
المذهب الثاني : الجواز مطلقاً
المذهب الثالث : التفصيل
إذا لم تتخذ عادة فلا مانع من ذلك لحديث عائشة في مسلم وسيأتي إن شاء الله ولفظه : ما صلى رسول الله ( على ابني بيضاء إلا في المسجد .
ويمنع من هذا إذا اتخذت عادة لأن هذا لم يكن هدى النبي ( الراتب .
قوله : ( وكبر عليه أربعا ً ) .
أكثر الوارد عن النبي ( في التكبيرات على الجنائز أنه يكبر أربعاً حتى نقل ابن عبد البر رحمه الله الاتفاق على عدم جواز الزيادة على هذا العدد وسيأتي إن شاء الله بحث هذه المسألة فقد حفظت الزيادة عن النبي ( وعن جمع من الصحابة رضي الله عنهم وذلك على أهل الصلاح وأهل الفضل والعلم والتقى ومن كان له قدم صدق في الإسلام .
والخبر احتج به الإمام أحمد والشافعي على جواز الصلاة على الغائب وهذه المسألة فيها خلاف مشهور بين أهل العلم رحمهم الله وذلك على النحو التالي :(1/41)
- ذهب الإمام أحمد والشافعي إلى مشروعية الصلاة على الغائب سواء كان الغائب في بلاد إسلامية أو في بلاد كفرية وهذا هو اختيار الإمام أبي محمد بن حزم رحمه الله وقال رحمه الله ولم يأت عن الصحابة خلافه وأبو محمد رحمه الله إنما قصد بهذا أنه لم يأت اللفظ الصريح الوارد بالمنع ويريد بهذا ويشير إلى أن سكوتهم وعدم ورود شئ يدل على الإنكار حجة في هذه القضية وهذه القاعدة لا تسلم لأبى محمد لأن هذا نقل للعدم ونقل العدم ليس علماً فإن للقائل أن يقول ويحج أبا محمد في هذه القضية ويعكس عليه الأمر رأساً لعقب لو كانت الصلاة مشروعة لصُلِّى على النبي ( صلاة الغائب فهذا نقل الإجماع الصحابة لعدم المشروعية فلذلك قضية " نقل العدم " قضية تحتاج إلى تحرير أكثر ، ولكن المراد أن قول أبي محمد " ولم يأت عن الصحابة خلافه " فيه نظر .
ـ المذهب الثاني في المسألة أن الصلاة على الغائب لا تشرع مطلقاً وهذا مذهب أبي حنيفة ومالك وأصحاب هذا القول راعوا الخصوصية للنبي ( في الصلاة على الغائب ولأن النبي ( لم يصل على غائب إلا النجاشي فلو كانت الصلاة على الغائب شرعاً لصلّى النبي ( على غيره ممن مات في أرض نائية .
ـ المذهب الثالث تشرع الصلاة على الغائب إذا مات المسلم في أرض الكفار ولم يوجد من يصلى عليه أما إذا مات في بلاد أهل الإسلام وصلوا عليه فلا تشرع صلاة الغائب حينئذ وهذا اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية وابن القيم عليهما رحمة الله .
- المذهب الرابع : أن صلاة الغائب تشرع على كل من مات من أهل الفضل والصلاح سواء صلىِّ عليه أم لم يصلّ وهذا القول هو اختيار ابن سعدي رحمه الله .(1/42)
والأظهر في هذه القضية أن صلاة الغائب لا تشرع إلا لمن مات في ديار الكفار والدليل على هذا أن الصحابة لم يصلوا على النبي ( صلاة الغائب ولا نقل عن صحابي قط أنه صلى على النبي ( صلاة الغائب فلو كانت صلاة الغائب مشروعة لبادر إلى فعلها الصحابة الأخيار فقد كانوا أحرص الناس على الخير ويوضح هذا ويبينه أن أبا بكر رضي الله عنه توفى ولم يصل عليه صلاة الغائب ثم قتل من بعده عمر ولم يصل عليه صلاة الغائب ثم قتل من بعده عثمان ووقعت الفتنة ولم يصلّ عليه إلا نفر قليل وكان الناس يُمنعون من الصلاة عليه ومع هذا الفعل لم يُصلّ عليه صلاة الغائب ثم قتل من بعده علي رضي الله عنه ولم يصل عليه صلاة الغائب ثم مات من بعد ذلك أئمة الإسلام في مشارق الأرض ومغاربها ولم يصل عليهم صلاة الغائب ولم يكن هذا معروفاً عند أئمة الهدي .
إنما جاءت قضية عينية بالصلاة على النجاشي مجازاة له على فعله بالصحابة حين حماهم واستقبلهم ونصرهم وقال : أنتم سيوم في أرضي فأراد الرسول ( أن يكافئه على صنيعه وليس هذا شرعاً عاماً للأمة هذا ما يظهر في هذه المسألة والعلم عند الله .
523 - وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال : سمعت النبي ( يقول : ( ما من رجل مسلم يموت فيقوم على جنازته أربعون رجلاً ، لا يشركون بالله شيئاً , إلا شفعهم الله فيه ) رواه مسلم .
قال الإمام مسلم رحمه الله حدثنا هارون بن معروف وهارون بن سعيد الأيلي والوليد بن شجاع السكوني قال الوليد حدثني ، وقال الآخران : حدثنا عبد الله بن وهب قال حدثني أبو صخر عن شريك بن عبد الله بن أبي نمر عن كريب مولى ابن عباس عن عبد الله بن عباس به
وفي الباب عن عائشة رضي الله عنها : أن النبي ( قال : ( ما من ميتٍ تصلي عليه أمة من المسلمين يبلغون مائة كلهم يشفعون له إلا شفعوا فيه )
رواه مسلم من طريق أبي قلابة عن عبد الله بن يزيد رضيع عائشة عن عائشة به
قوله : ( ما من رجل مسلم )(1/43)
خرج بذلك المشرك فلو صلت عليه أمة الثقلين ما نفعه ذلك شيئا ودخل بالحديث المسلم الفاسق فإنه ينتفع بكثرة المصلين عليه إذا كانوا لا يشركون بالله شيئا .
قوله : ( فيقوم على جنازته أربعون رجلاً ) .
هذا العدد شرط في التشفيع فلو نقص العدد لم يحصل الفضل الوارد بهذا الحديث وإن زاد العدد فهذا أفضل وأزكى ولكن هذا العدد مقيد بقوله " لا يشركون بالله شيئا " وشيئاً نكرة في سياق النفي تفيد خلوصهم من الشرك الأكبر والأصغر لأن صاحب الشرك الأكبر لا تصح صلاته وصاحب الشرك الأصغر لا تصح شفاعته هنا فلابد من خلو المصلين من نوعي الشرك , ففيه أنه لا يفرح بكثرة المصلين ما لم يكونوا متقين , ولا يضر العبد قلة المصلين عليه كما أن كثرة المصلين إذا لم يكونوا متقين لا تنفعه لأن الناس وإن كانوا شهداء الله في الأرض إلا أنهم يتعاملون مع الظواهر والله عليم بالبواطن فكم من إنسان لا يصلي عليه إلا نفر قليل وقد شهد له بالجنة كعثمان رضي الله عنه ما صلى عليه إلا نفر قليل جداً وهو ثالث الخلفاء الراشدين وشهد له النبي ( بالجنة فقلة المصلين ليست علامة على عدم صلاح الرجل كما أن كثرة المصلين ليست دليلاً على صلاحه ولكن يرجى للمحسنين ويخاف على المسيئين ومن علامات الصلاح بإذن الله كثرة المصلين إذا كانوا متقين .
قوله : ( إلا شفعهم الله فيه )
فيه إثبات الشفاعة للمؤمنين وليست الشفاعة خاصة بالنبي ( إلا أن هناك أنواعاً من أنواع الشفاعة خاصة بالنبي( كشفاعته ( في أهل الموقف أن يقضى بينهم وكشفاعته بدخول أهل الجنة الجنة وكشفاعته ( برفع منازل أهل الجنة وكشفاعته في عمه أبي طالب أن يخفف عنه من العذاب أما الشفاعة لمغفرة ذنوب المذنبين فليست هذه خاصة للنبي ( فإن المؤمن يشفع ويشفعه الله .
وليس لأحد أن يشفع عند الله إلا بإذنه قال تعالى : ( من ذا الذي يشفع عنده إلا بإذنه ) .(1/44)
524 - وعن سمرة بن جندب رضي الله عنه قال : صليت وراء النبي ( على امرأة ماتت في نفاسها ، فقام وسطها . متفق عليه
قال الإمام البخاري حدثنا مسدد قال أخبرنا يزيد بن زُريع حدثنا حُسين حدثنا عبد الله بن بريدة عن سمرة به .
وقال مسلم حدثنا يحيى بن يحيى قال أخبرنا عبد الوارث بن سعيد عن حسين المعلم به .
والخبر دليل على بيان صفة الصلاة على المرأة ، ويجزئ الوقوف أمامها سواء كان عند رأسها أو في وسطها أو عند رجليها .
والمستحب الوقوف وسطها عند عجيزتها وهذا الحكم خاص بالصلاة على المرأة كما هو مذهب الإمام أحمد رحمه الله وجماعة من الأئمة , وذهب الإمام أبو حنيفة والبخاري وجماعة من أهل العلم على عموم هذا الحكم في المرأة والرجل فكما أنه يقف وسط المرأة يقف أيضاً وسط الرجل وفي هذا نظر فقد روى الإمام أبو داود بسندٍ قوي من طريق عبد الوارث عن أبي غالب وهو ثقة عن أنس بن مالك أن النبي ( صلى على رجل فوقف عند رأسه .
وهذا الخبر احتج به فقهاء الحنابلة وجماهير العلماء سلفاً وخلفاً على التفريق بين الرجل والمرأة والخلاف هنا خلاف استحباب وليس خلاف إيجاب فلو وقف الجميع عند الرأس أو عند البطن أو عند القدمين أجزأ إنما القضية قضية أفضلية وأولوية , فالأولى أن يقف الإمام عند رأس الرجل ويقف عند عجيزة المرأة وإذا اجتمع رجل وامرأة يجعل عجيزة المرأة عند رأس الرجل ويقف عند رأس الرجل مقدماً له على المرأة ويكبر عليهما جميعاً وإذا أُتيا بجنازة بعد هذا تجعل خلفهم وهكذا .
525 - وعن عائشة رضي الله عنها قالت : والله لقد صلى رسول الله ( على ابني بيضاء في المسجد . رواه مسلم .(1/45)
قال مسلم رحمه الله حدثنا هارون بن عبد الله ومحمد بن رافع واللفظ لابن رافع قال أخبرنا ابن أبي فُديك أخبرنا الضحاك بن عثمان عن أبي النظر عن أبي سلمة بن عبد الرحمن أن عائشة لما توفي سعد بن أبي وقاص قالت : ادخلوا به المسجد حتى أصلي عليه فأُنكر ذلك عليها فقالت : والله ... الحديث , وفي الباب عند أبي داود من طريق ابن أبي ذئب عن أبي صالح مولى التوأمة عن أبي هريرة أن النبي ( قال : ( من صلى على جنازة في المسجد فلا شئ له ) وهذا الخبر احتج به أبو حنيفة رحمه الله على منع الصلاة على الجنازة في المسجد ولكن هذا الخبر معلول فإن أبا صالح مولى التوأمة ضعفه يحيى بن سعيد حتى جاء عن مالك : أنه كذّبه , ولينه أبو حاتم والنسائي وغيرهما , وجاء عن أحمد أنه قال : لا بأس برواية القدامى عنه , وقد جعل ابن عدي رحمه الله في الكامل رواية ابن أبي ذئب من القدامى , والحق في أبي صالح أنه ضعيف مطلقاً سواء روى عنه القدامى أولم يروى عنه القدامى ولا ريب أن رواية القدامى عنه أحسن حالاً من غيرها ولا يقتضي هذا قبوله خصوصاً إذا تفرد .
وأعل الخبر أيضاً بأن المحفوظ فيه : ( فلا شيء عليه ) كما وضح هذا ابن القيم رحمه الله في تهذيب السنن .
وأيضاً لو صح الخبر لكان الواجب الجمع بينه وبين حديث عائشة في الباب فحديث عائشة يدل على جواز الصلاة على الجنازة في المسجد وظاهر السياق أن هذا الفعل لم يكن معروفاً على وجه الدوام إذ لو كان معروفاً ما أنكر الصحابة رضوان الله عليهم على عائشة ولذلك ذكر ابن القيم رحمه الله أن المستحب الصلاة على الجنازة في الصحراء ولا مانع من الصلاة عليها في بعض الأحيان في المساجد .
قولها : ( لما توفي سعد بن أبي وقاص ) .
سعد رضي الله عنه هو ابن مالك أحد العشرة المبشرين بالجنة وهو أول من رمى بسهم في سبيل الله فأدمى وكان مستجاب الدعوة ، وقد توفي سنة 51 وقيل سنة (56) قال الحافظ في الإصابة وهذا أشهر .(1/46)
قولها : ( ادخلوا به المسجد ) .
فيه جواز طلب مثل هذه للمرأة كأن تطلب المرأة الدخول بالجنازة إلى المسجد لتصلي عليه , لأن عائشة طلبت أن يدخل بسعد إلى المسجد لتصلي عليه وفيه جواز صلاة المرأة على الجنازة ، وفيه جواز الصلاة على الجنازة في المسجد ولكن الأفضل الصلاة عليها في الصحراء .
قولها : ( فأنكر ذلك عليها ) .
أي أنكر عليها الصحابة رضي الله عنهم ولعلهم لم يبلغهم صلاة النبي - صلى الله عليه وسلم - على أبني البيضاء في المسجد وإلا لما أنكروا لما علم عنهم من الانقياد .
قولها : ( والله ) .
فيه جواز الحلف بدون استحلاف .
وقولها : ( والله لقد صلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على ابني بيضاء في المسجد ) .
فحينئذ مكنت عائشة رضي الله عنها من الصلاة على الجنازة ، وفيه ما عليه الصحابة رضي الله عنهم من قبول الحق والإذعان لذلك وفيه أن الواجب على المسلم الإدلاء بحجته إذا فعل أمراً ينكره العامة أو ينكره بعض طلبة العلم ليسْلم أولاً من قيل وقال , ويُعلِمَ غيره ثانياً مع أن الواجب على المسلم ألا يبادر بالإنكار حتى يسأل عن الحجية .
ولذلك جاء في صحيح الإمام مسلم من حديث هُشيم عن حصين بن عبد الرحمن قال : كنت عند سعيد بن جبير فقال : من منكم راء الكوكب الذي انقض البارحة ؟ فقلت : أنا , ثم قلت : أما إني لم أكن بصلاة ولكني لدغت , قال : فماذا صنعت ؟ قال : ارتقيت , قال : فما حملك على ذلك ؟ قلت : حديث حدثناه الشعبي عن بريدة بن الحصيب أنه قال : ( لا رقية إلا من عين أو حُمة ) قال : قد أحسن من انتهى إلى ما سمع ولكن حدثنا ابن عباس إلى أخره .
فهذا الأثر فيه التشبث والسؤال عن الحجة والإرشاد إلى حجة أقوى منها .
526 - وعن عبد الرحمن بن أبي ليلى قال : كان زيد بن أرقم رضي الله عنه يكبر على جنائزنا أربعاً ، و أنه كبر على جنازة خمساً فسألته فقال : كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يكبرها . رواه مسلم والأربعة .(1/47)
قال الإمام مسلم رحمه الله حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة ومحمد بن المثنى وابن بشار قالوا : حدثنا محمد بن جعفر حدثنا شعبة وقال أبو بكر : عن شعبة عن عمرو بن مرة عن عبد الرحمن بن أبي ليلى قال ... الحديث .
ورواه أحمد وأهل السنن كلهم من طريق شعبة عن عمرو بن مرة به .
وقد تقدم حديث الزهري في الصحيحين عن سعيد بن المسيب عن أبي هريرة : ( أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كبر على النجاشي أربعاً) .
وإلى هذا ذهب جماهير العلماء , يرون التكبير أربعاً وذلك على عامة الناس سواء كانوا علماء أو لم يكونوا ، وقد نقل ابن عبد البر الإجماع على هذه المسألة وذلك لما روى عبد الرزاق في المصنف عن الثوري عن عامر بن شقيق عن أبي وائل قال :كان أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يكبرون خمساً وستاً وسبعاً فجمعهم عمر رضي الله عنه على أربع .
قد حسن هذا الإسناد الحافظ ابن حجر وهذا هو المشهور عن عمر رضي الله عنه ولكن ذهبت طائفة من أهل العلم إلى أنه لا مانع من الزيادة لأنه أمر فعله النبي - صلى الله عليه وسلم - فلا يجوز العدول عنه وأما اختيار عمر رضي الله عنه لأربع فلعله لما رأى أن الناس لا يتقيدون بعدد وكان يعلم أن الأمر واسع في التكبير جمعهم على أربع ولذلك صح عن ابن عباس أنه يكبر ثلاثا رواه عبد الرزاق في المصنف فلذلك قال بعض أهل العلم بعدم تقييد العدد وفي هذا القول نظر , والصحيح أنه لا يجوز النقص أربع تكبيرات وأما الزيادة فالقول الراجح أنه لا مانع منها فنهي عمر عن الأربع كإنفاذ الثلاث في الطلاق , لما رواه مسلم رحمه الله في صحيحه من طريق عبد الرزاق عن معمر عن عبد الله بن طاووس عن أبيه عن ابن عباس قال : ( كان الطلاق على عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - وأبي بكر وسنتين من خلافة عمر كان طلاق الثلاث واحدة فقال عمر : إن الناس قد استعجلوا شيئاً كان لهم فيه أناة فلو أمضيناه عليهم فأمضاه عليهم ) .(1/48)
وهذا لا يعني تغيير هذا الحكم كما قرره ابن القيم في إعلام الموقعين فإن الأحكام قد يجتهد فيها العالم في وقت ما ولا يقتضي هذا تغيير الحكم على وجه العموم وعلى الإطلاق حيث يبقى حكم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - معزولاً على وجه الدوام وكذلك التكبير يمكن حمل الزيادة على الأربع في حق العلماء وأهل الخير والصلاح ومن لهم جهود تجاه هذا الدين فلذلك كبر زيد على هذه الجنازة خمساً واستدل بفعل النبي - صلى الله عليه وسلم - فهو يخبر عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ولا يخبر عن نفسه يوضح هذا حديث علي رضي الله عنه :
527 - وعن علي رضي الله عنه أنه كبر على سهل بن حنيف ستاً ، وقال : إنه بدري . رواه سعيد ابن منصور , وأصله في البخاري .
فدل الخبر على جواز التكبير بهذا العدد على أهل الخير وأهل الصلاح ، قد قال الحافظ رحمه الله رواه سعيد بن منصور ، وأصله في البخاري حيث رواه البخاري رحمه الله من طريق ابن عيينة عن عبد الرحمن بن عبد الله الأصفهاني عن عبد الله بن معقل عن علي رضي الله عنه ... الحديث .
ولم يذكر البخاري رحمه الله عدداً في روايته ولكن جاء ذكر العدد عند الحاكم وسعيد بن منصور وغيرهما ولكن جاء في بعض الروايات أنه كبر خمساً وهذا لا يغير من الحكم شيئاً لأن المراد أنه زاد على الأربع ، وروى الإمام الطحاوي والدارقطني والبيهقي وغيرهم من طريق عبد خير قال : كان علي رضي الله عنه يكبر على أهل بدر ستاً وعلى أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خمساً و على سائر المسلمين أربعاً .
وهذا سند صحيح إلى علي رضي الله عنه ولا ريب أن علياً رضي الله عنه فعل هذا بمحضر من الصحابة ولو كان فعله غلطاً لأنكروا عليه .(1/49)
وعلم من هذا الأثر جواز الزيادة على الأربع وهو الحق فلا مانع من كون الإمام يزيد على الأربع على العلماء العاملين وعلى طلبة العلم الذين لهم جهود تجاه هذا الدين وعلى الأمرين بالمعروف والناهين عن المنكر وأما سائر الناس فيكبر عليهم أربعاً ولا يزيد على هذا العدد والله أعلم .
528 - وعن جابر بن عبد الله رضي الله عنه قال : كان رسول الله ( يكبر على جنائزنا أربعاً ويقرأ بفاتحة الكتاب في التكبيرة الأولى .
رواه الإمام الشافعي رحمه الله فقال حدثنا إبراهيم بن أبي يحيى قال أخبرنا عبد الله بن محمد بن عقيل عن جابر به .
و إبراهيم شيخ الشافعي هو ابن محمد قال عنه القطان كذاب وقال يحيى بن معين رافضيٌ خبيث وقال عنه الإمام أحمد رحمه الله جهميٌ قدري كل بلاء فيه ترك الناس حديثه وتركه أيضاً الإمام أبو حاتم والنسائي والدارقطني وغيرهم , ولم أر هذا الخبر إلا من طريقه عن ابن عقيل وهو مختلف فيه وقد وثقه الإمام أحمد في رواية وصحح له جملة من الأحاديث ووثقه أيضاً البخاري وصحح له أيضاً بعض الأحاديث ووثقه إسحاق والحميدي والترمذي وغيرهم , وضعفه جماعة منهم الإمام أحمد في رواية وابن عيينة وأبو داود وغيرهم ، وقد تقدم الكلام عنه وأنه صدوق حسن الحديث إذا لم يخالف أو يتفرد بأصل ولم يصحح حديثه أحد الأئمة الكبار .
قوله : ( كان رسول الله ( يكبر على جنائزنا أربعاً ) .(1/50)
تقدم حديث الزهري في الصحيحين عن سعيد عن أبي هريرة : أن النبي ( نعى النجاشي في اليوم الذي مات فيه وخرج بهم إلى المصلى وكبر عليه أربعاً . وتقدم أيضاً أنه لا مانع من الزيادة في عدد التكبيرات على أهل الفضل والصلاح والعلماء الآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر ومن نقل الإجماع على وجوب الاقتصار على أربع فقد غلط ، وقد كان علي رضي الله عنه يكبر على المهاجرين ستاً , والأثر صحيح إلى علي , وتقدم أيضاً أنه كبر على زيد ستاً , وتقدم فعلُ زيد بن أرقم أنه كبر خمساً وقال : قد فعله رسول الله ( والخبر في مسلم .
قوله : ( ويقرأ بفاتحة الكتاب في التكبيرة الأولى )
وبهذا قال الإمام الشافعي وأحمد بن حنبل وقالوا لا صلاة لمن لم يقرأ بأم القرآن بينما ذهب الإمام أبو حنيفة ومالك ومروي عن ابن عمر بسند صحيح في الموطأ وهو قول أبو هريرة كما هو في الموطأ بسند صحيح أنه لا قراءة في صلاة الجنائز إنما هو الدعاء والثناء على الميت "
والقول الأول أصح فإن الفاتحة مشروعة في الصلاة على الجنازة وتكون بعد التكبيرة الأولى ، قال الإمام النسائي رحمه الله حدثنا قتيبة بن سعيد قال أخبرنا الليث بن سعد عن الزهري عن أبي أمامة قال : السنة في الصلاة على الجنائز أن يقرأ بعد التكبيرة الأولى بفاتحة الكتاب مخافتة . والخبر رواته كلهم ثقات وقد سمع الزهري من أبي أمامة .
والعلماء في قضية قراءة الفاتحة على الجنائز على مذاهب :
المذهب الأول / أنها واجبة وهذا قول أحمد والشافعي .
المذهب الثاني / أنها غير مشروعة وهذا مذهب أبي هريرة وابن عمر وبه قال مالك وأبو حنيفة وجمع من العلماء وهؤلاء لم تبلغهم الأخبار في قراءة الفاتحة.
المذهب الثالث / أن الإمام مخير بين القراءة وعدمها والقول الأول أصح .
529 - عن طلحة بن عبد الله بن عوف رضي الله عنه قال : صليت خلف ابن عباس على جنازة ، فقرأ فاتحة الكتاب فقال : ليعلموا أنها سنة . رواه الإمام البخاري .(1/51)
قال الإمام البخاري رحمه الله حدثنا محمد بن بشار قال أخبرنا غندر عن شعبة عن سعد بن إبراهيم عن طلحة بن عبدالله بن عوف ... الحديث .
ورواه الإمام الترمذي من طريق عبدالرحمن بن مهدي قال اخبرنا سفيان عن سعد بن إبراهيم به , ولكن رواه ابن الجارود في المنتقى من طريق محمد بن يوسف قال اخبرنا سفيان عن زيد بن طلحة عن ابن عباس وفيه : قرأ بفاتحة الكتاب وسورة وجهر بالقراءة . والخبر رواته كلهم ثقات وزيد بن طلحة وثقة أبو حاتم وغيره ولكن المحفوظ عن سفيان ما رواه عنه الترمذي من طريق ابن مهدي عنه .
وقد رواه أيضا الإمام النسائي من طريق إبراهيم بن سعد قال حدثني أبي عن طلحة فذكر فيه بفاتحة الكتاب وسورة .
ورواه أيضاً إبراهيم بن حمزة عن إبراهيم بن سعد به .
قال البيهقي في السنن الكبرى على قوله : ( وسورة ) هي غير محفوظة وتعقبه ابن التركماني رحمه الله فقال بل هي محفوظة .
الخبر رواه سعد بن إبراهيم عن طلحة بن عبد الله بن عوف ورواه عن سعد شعبة وسفيان بلفظ الفاتحة فقط .
ورواه محمد بن يوسف عن سفيان عن زيد بن طلحة بزيادة ( سورة ) توبع سفيان على هذه الرواية تابعة إبراهيم بن سعد ولكن عن أبيه عن طلحة بن عبد الله .
وقد اقتصر البخاري رحمه الله على رواية شعبة عن سعد بن إبراهيم بدون ذكر السورة ولعل هذا أقرب إلى الصواب لأن شعبة رحمه الله أوثق من إبراهيم بن سعد وقد تابع شعبة سفيان والراوي عن سفيان هو ابن مهدي وهو ثقة ثبت خالف محمد بن يوسف وهو أقل مرتبة من عبد الرحمن بن مهدي فرواه عن سفيان عن زيد بن طلحة ولم يذكر طلحة بن عبد الله والمحفوظ عن سفيان الأول فتعين بهذا ترجيح رواية شعبة بالاقتصار على فاتحة الكتاب دون سورة ، والأمر كما قال البيهقي رحمه الله ذكر السورة غير محفوظ ، وبهذا يتضح أن ثقة الرواة لا يلزم منها صحة الإسناد .
قوله : ( صليت خلف ابن عباس .... الخ )(1/52)
ظاهره أن ابن عباس جهر بالقراءة وجاء هذا الظاهر مصرحاً به في كثير من الطرق وقد اختلف العلماء في حكم الجهر بقراءة الفاتحة وتقدم عندنا خبر أبي أمامة ( السنة المخافتة فيها ) وبهذا قال أحمد رحمه الله قال : يسر بفاتحة الكتاب ، وعنه يجهر للتعليم كما كان عمر يجهر بالاستفتاح ليعلمهم .
وذهب فريق ثالث إلى مشروعية الجهر بالفاتحة مطلقاً وفي هذا نظر لأن ابن عباس إنما جهر ليعلمهم السنة .
وأما حكم قراءة الفاتحة فقد تقدم أنها واجبة على الصحيح .
قوله : ( ليعلموا أنها سنة )
إذا قال الصحابي لتعلموا أنها سنة أو من السنة كذا وكذا فهل لذلك حكم المرفوع أم لا الصحيح أن الصحابي إذا قال من السنة كذا وكذا فلهذا حكم الرفع كما هو قول جماهير العلماء قال العراقي في ألفيته : -
قول الصحابي من السنة أو ... نحو أمرنا حكمه الرفع ولو
بعد النبي قاله بأعصر ... على الصحيح وهو قول الأكثر
أما إذا قال لتعلموا أنها سنة فيحتمل أن يكون قال هذا استنباطاً ويحتمل أن يكون قال هذا أو فعله نقلاً عن النبي ( وهذا هو الذي رجحه أكثر أهل العلم بهذا الحديث .
وقالوا المراد بقول ابن عباس : ليعلموا أنها سنة . أي سنة النبي ( الثابتة وليس مراد ابن عباس في السنة في هذا الخبر المرادفة للمستحب فهذا اصطلاح حادث لا يصح تنزيل الأدلة هنا عليه إنما مراده رضي الله عنه أنها شرع ثابت وهذا بصرف النظر هل هي واجبة أم مستحبة .
530 - وعن عوف بن مالك رضي الله عنه قال : صلى رسول الله ( على جنازة . فحفظت من دعائه : ( اللهم اغفر له ، وارحمهُ ، وعافه ، واعف عنه وأكرم نزله ، ووسع مدخلهُ ، واغسله بالماء و الثلج والبرد ، ونقه من الخطايا كما ينقى الثوب الأبيض من الدنس ، وأبدله داراً خيراً من داره ، وأهلاً خيراً من أهله وأدخله الجنة وقه فتنة القبر وعذاب النار ) . رواه مسلم رحمه الله .(1/53)
قال مسلم حدثنا هارون بن سعيد الأيلي أخبرنا ابن وهب أخبرني معاوية بن صالح عن حبيب بن عبيد عن جبير بن نفير سمعه يقول : سمعت عوف .. الحديث
ورواه مسلم رحمه الله من طريق عبد الرحمن بن جبير بن نفير عن أبيه به .
ورواه الإمام أحمد والنسائي والترمذي وابن ماجة كلهم من طريق حبيب بن عبيد قال الترمذي هذا حديث حسن صحيح ونقل عن البخاري أنه قال هذا أصح شيء ورد عن النبي ( في هذا الباب .
قوله : ( صلى رسول الله ( على جنازة ) .
الصلاة على الجنازة فرض كفاية إذا قام بها البعض سقط الإثم عن الباقين ولا يصح دفن الجنازة قبل الصلاة عليها فإن فعل هذا هل تنبش للصلاة عليها أم يصلىّ على القبر قولان للفقهاء في هذه القضية : ـ
القول الأول : أنها تنبش للصلاة عليها .
القول الثاني : يكتفى بالصلاة على القبر وهذا هو اختيار النووي رحمه الله .
أما إذا دفنت قبل أن تغسل الصحيح إنها تنبش ثم تدفن .
قوله : ( فحفظت من دعائه ) .
يحتمل هذا أن النبي ( جهر به ليعلمهم ، ويحتمل هذا أن يكون الرسول ( أعلمه به وفي هذا نظر لأن عوفاً يقول حفظت من دعائه أي حين كان وراءه يُصلّي ، ثم اختلف أهل العلم رحمهم الله في هذه المسألة فقال بعض الفقهاء يجهر بالدعاء مطلقاً وقال بعضهم للتعليم فقط وهذا هو الصحيح ، والأصل في الدعاء الإسرار ولا يجهر إلا بقصد التعليم ، وكان دعاء النبي ( على هذا : ( اللهم اغفر له ، وارحمهُ ، وعافه ، واعف عنه وأكرم نزله ، ووسع مدخلهُ ، واغسله بالماء و الثلج والبرد ، ونقه من الخطايا كما ينقى الثوب الأبيض من الدنس ، وأبدله داراً خيراً من داره ، وأهلاً خيراً من أهله ، وزوجاً خيراً من زوجه ) .(1/54)
وهذه اللفظة لم يذكرها الحافظ رحمه الله مع أنها موجودة في صحيح الإمام مسلم فقد ذكر السيوطي رحمه الله أن هذه اللفظة تقال في حق الرجل وأما في حق المرأة فلا تقال لأن زوجها في الدنيا هو زوجها في الآخرة إن كان من أهل الجنة والأزواج في حق المرأة لا يتعددون ، بخلاف الرجل فإن زوجاته تتعدد فلذلك يقال : ( وأبدله زوجاً خيراً من زوجه ) وسيأتي إن شاء الله حديث أبي هريرة في الدعاء للميت وأنه يقال أولاً ثم يثني بهذا الدعاء المذكور في حديث عوف بن مالك لأن حديث أبي هريرة حديث عام في الدعاء للمسلمين عموماً وأما حديث عوف فإنه دعاء خاص وأما الدعاء للفرط و السقط فلم يثبت بهذا حديث عن النبي ( ولكن صح عن أبي هريرة أنه كان يقول : اللهم قه عذاب النار . رواه مالك وابن أبي الدنيا في كتاب العيال .
531 - وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال : كان رسول الله ( إذا صلى على جنازة يقول ( اللهم اغفر لحينا ، وميتنا ، وشاهدنا ، وغائبنا ، وصغيرنا وكبيرنا وذكرنا وأنثانا ، اللهم من أحييته منا فأحيه على الإسلام ، ومن توفيته منا فتوفه على الإيمان , اللهم لا تحرمنا أجره ، ولا تُضلنا بعده ) . رواه مسلم والأربعة .
يقول المؤلف رواه مسلم والأربعة والخبر لم يروه الإمام مسلم فهذ إما غلظ من الناسخ أو سبق قلم من الحافظ رحمه الله والظاهر الأول لأن مثل هذا لا يخفى على مثل الحافظ ابن حجر رحمه الله وذلك لوجهين : -
الوجه الأول / أن هذا الحديث مختلف فيه وأكثر الأئمة على تضعيفه فيبعد أن يختلط على الحافظ مثل هذا .
الوجه الثاني / أن الحافظ حين خرجه بالتلخيص لم يعزه إلى الإمام مسلم فعلم أن هذا من الناسخ وليس من الحافظ .(1/55)
وهذا الخبر رواه الإمام أحمد وأبو داود والنسائي وابن ماجه كلهم من طريق يحيى بن أبي كثير عن أبي سلمة بن عبد الرحمن عن أبي هريرة وأعله الإمام أبو حاتم بالعلل فقال : والحفاظ لا يقولون فيه أبو هريرة يذكرونه عن أبي سلمة عن النبي ( .
وقال الإمام الترمذي في جامعه ورواه هشام الدستوائي وعلي بن المبارك عن يحيى ابن أبي كثير عن أبي سلمة عن النبي ( مرسلاً .
وقد ذكره الترمذي معلقاً من طريق عكرمة بن عمار عن يحيى بن أبي كثير عن أبي سلمة بن عبد الرحمن عن عائشة رضي الله عنها . قال الترمذي وهذا غير محفوظ وهذا صحيح فإن عكرمة يغلط ويضطرب بأحاديث يحيى بن أبي كثير وقد قال الإمام أحمد عكرمة عن يحيى مضطرب الحديث قال عبد الله فقلت له : من يحيى الاضطراب ؟ قال : لا من عكرمة .
ورواه أحمد في سنة من طريق همام عن يحيى بن أبي كثير عن عبد الله بن أبي قتادة عن أبيه عن النبي ( به وأيضاً هذا معلول .
ورواه الإمام الترمذي في جامعه أيضاً وابن الجارود في المنتقى من طريق يحيى بن أبي كثير عن أبي إبراهيم الأشهلي عن أبيه : أنه شهد النبي ( صلى على جنازة فذكره . قال أبو حاتم : أبو إبراهيم وأبوه مجهولان لا يعرفان ولكن الترمذي رحمه الله قال وهذه حديث حسن صحيح . وقد رجح الإمام البخاري طريق يحيى عن أبي إبراهيم , وجعله هو المحفوظ .
والخبر فيه نوع اضطراب , وأصح طريق له هو طريق يحيى عن أبي إبراهيم الأشهلي، كما رجح هذه الإمام البخاري رحمه الله وأصح حديث ورد في الدعاء للميت هو حديث عوف السابق قاله الإمام أبو عبد الله البخاري رحمه الله .(1/56)
وللمسلم أن يدعو بما أحب إذا صلى على الميت قاله أصحاب الإمام أحمد رحمه الله فليس الدعاء في الصلاة على الميت توقيفياً فللمسلم أن يدعو بما شاء إلا أن الأولى أن يقتصر المصلي على الوارد فإذا فرغ من الوارد له أن يدعو بما يناسب الحال والأولى أن يكرر الدعاء له بالمغفرة لأنه محتاج إليها ، وإن كرر " اللهم قه عذاب النار " فلا بأس بهذا فقد تقدم في حديث عوف بن مالك أن النبي ( كان يقول : ( اللهم اغفر له وارحمه وعافه واعف عنه وأكرم نزله ووسع مدخله ، واغسلهُ بالماء والثلج والبرد ، ونقه من الخطايا كما ينقى الثوب الأبيض من الدنس ، وأبدله داراً خيرا من داره ، وأهلاً خيراً من أهله ، وأدخله الجنة ، وقه فتنة القبر وعذاب النار ) .
وقد استحب بعض الفقهاء أن يقدم الدعاء المذكور في حديث أبي هريرة لأنه دعاء عام ثم يثني بحديث عوف بن مالك .
والدعاء للميت يكون بعد التكبيرة الثالثة لما روى عبد الرزاق في المصنف وابن الجارود في المنتقى من طريقه قال أنبأنا معمر عن الزهري قال سمعت أبا أمامة بن سهل بن حنيف يحدث ابن المسيب ويقول السنة في الصلاة على الجنازة أن يقرأ بأم القرآن بعد التكبيرة ثم يصلي على النبي ( ثم يخلص في الدعاء للميت .
وصفة الصلاة عليه أن يكبر أولاً تكبيرة الإحرام ويرفع يديه في الأولى للإجماع عليها ثم يستعيذ ويبسمل ويقرأ أم الكتاب وقراءتها واجبة كما سبق بحث هذه المسألة ثم يكبر الثانية وهل يرفع يديه أم لا قولان عند الفقهاء :-
فقد روى البخاري في جزء رفع اليدين من طريق عبيد الله بن عمر العمري عن نافع عن ابن عمر أنه كان يرفع يديه في كل تكبيرة وهذا سند صحيح إلى ابن عمر ورواه البيهقي في السنن الكبرى وقد جاء عن ابن عمر رضي الله عنهما من طرق كثيرة .(1/57)
القول الثاني في المسألة : أنه لا يرفع يديه لأن هذا لم ينقل عن النبي ( ولا يصح قياس صلاة الجنازة على الفريضة إلا في الأولى أما تكبيرات الزوائد فلا نظير لها ، وقد صلى النبي ( على الجنائز بضعة عشر عاماً ولم ينقل عنه صحابي قط أنه كان يرفع يديه في الزوائد ومثل هذا توفر الهمم والدواعي على نقله فلو كان يرفع يديه لنقل لنا وأما فعل عبد الله فهذا محض اجتهاد وقد حفظ عن عبد الله مسائل كثيرة اجتهد فيها كما كان يدخل الماء في عينيه حتى عمي ولم يوافقه على ذلك أحد ثم يصلي على النبي ( بعد هذه التكبيرة ولم يرد عن النبي ( وصف لهذه الصلاة إلا أن الأولى أن يقول : ( اللهم صَلَّ على محمد وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم أنك حميد مجيد اللهم بارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم انك حميد مجيد ) . وإذا اقتصر على قوله : اللهم صلَّ وسلم على محمد . صح وأجزأ.
ثم يكبر التكبيرة الثالثة ويدعو للميت ثم يكبر التكبيرة الرابعة وإن دعا لا مانع ثم يسلم وهل يسلم تسليمة واحدة أم يسلم تسليمتين قولان لأهل العلم يأتي ذكرهما وذكر الراجح منهما إن شاء الله قال عبد الله بن مسعود : ( ثلاث خلال كان رسول الله ( يفعلهنّ تركهنّ الناس إحداهن التسليم على الجنازة مثل التسليم في الصلاة ) رواه البيهقي .
532 - وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي ( قال ( إذا صليتم على الميت فأخلصوا له الدعاء ) .
رواه أحمد وأبو داود وابن حبان في صحيحه والبيهقي كلهم من طريق محمد بن سلمة عن محمد بن إسحاق عن محمد بن إبراهيم التيمي عن أبي سلمة بن عبد الرحمن عن أبي هريرة رضي الله عنه وقد صرح ابن إسحاق بالسماع عند ابن حبان والحديث إسناده حسن .
وفي الباب حديث عبد الرزاق عن معمر عن الزهري عن أبي أمامة بن سهل بن حنيف وقد سبق ذكره وفيه : ( ويخلص الدعاء للميت ).(1/58)
وفي الحديث دليل على استحباب إخلاص الدعاء للميت وظاهر الحديث الأمر بهذا والأصل في الأمر عند جماهير الأصوليين أنه للإيجاب قال في المراقي : -
وافعل لدى الأكثر للوجوبِ ... ... وقيل للندبِ أو المطلوبِ
وقيل للوجوبِ أمرُ الرب ... وأمرُ مَنْ أرسَلهُ للندبِ
فجماهير العلماء يرون أن الأمر يقتضي الإيجاب إلا لصارف والنبي ( أمرنا بهذا الحديث إذا صلينا على الميت أن نخلص له الدعاء إلا أن الجمهور حملوا هذا الأمر للاستحباب دون الإيجاب ولكن الأصل حمله على الإيجاب إلا بقرينة تدل على الاستحباب , ويستفاد من الحديث أن الميت ينتفع بالدعاء له فلو لم يكن ينتفع ما كان لدعائنا فائدة وقد احتج شيخ الإسلام بهذا على أن الدعاء يصل إلى الأموات , قال النووي رحمه الله في الأذكار النووية : وهذا بالإجماع ، والحق أيضاً أن جميع القرب تصل إلى الأموات سواء كانت القربة بدنية أو القربة مالية وقد سبق تقرير هذا مراراً وذكرنا الأدلة على هذه القضية وأقوال العلماء فيها وستمر بنا إن شاء الله مرة أخرى ونذكر مباحثها وما يتعلق بها .
وقد تقدم عندنا حديث أبي قلابة عن رضيع عائشة عن عائشة أن النبي ( قال : ( ما من ميت يصلي عليه أمة من الناس يبلغون مائة كلهم يشفعون فيه إلا شفعوا فيه ).
وهذا دليل على انتفاع الميت بالدعاء وهو شاهد في المعنى لحديث الباب .
533 - وعن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي ( قال : ( أسرعوا بالجنازة فإن تك صالحة فخير تقدمونها إليه ، وإن تك سوى ذلك فشر تضعونه عن رقابكم ) متفق عليه .
قال البخاري رحمه الله حدثنا علي بن عبد الله قال حدثنا سفيان قال حفظناه من الزهري عن سعيد بن المسيب عن أبي هريرة رضي الله عنه .
وقال مسلم حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة وزهير بن حرب جميعاً عن ابن عيينة .
ورواه مسلم من طريق ابن وهب عن يونس عن الزهري عن أبي أمامة بن سهل بن حنيف عن أبي هريرة به .(1/59)
قال الحافظ في فتح الباري وهذا محمول على أن للزهري شيخين فيه .
قوله : ( أسرعوا بالجنازة ) .
اختلف العلماء في المراد بهذا الحديث على قولين :-
القول الأول :
أن المعنى أسرعوا بتجهيزها وأصحاب هذا القول أيدوا رأيهم بقوله : ( لا ينبغي لجنازة أن تحبس بين ظهراني أهله ) وهذا الخبر رواه أبو داود في سننه وفي إسناده مقال .
القول الثاني :
أن المعنى أسرعوا الخطى بالذهاب بها إلى المقبرة فقد جاء عند أبي داود بسند قوي من طريق عيينة بن عبد الرحمن عن أبيه أن أبا بكرة رضي الله عنه قال : كنا على عهد النبي ( نرمل بها رملا .
ولا يبعد أن يقال إن الحديث يشمل المعنيين فيكون المعنى أسرعوا بتجهيزها والمشي بها لدفنها فإن تك صالحة فخير تقدمونا إليه وإن تك سوى ذلك فشر تضعونه عن رقابكم .
فقد رجح بعض أهل العلم المعنى الثاني لقوله : ( فشر تضعونه عن رقابكم ) وقد يجاب عن هذا فيقال إن المعنى : ( فشر تضعونه عن رقابكم ) أي الأمانة التي حُملتم إياها من الإسراع في تجهيزها ودفنها .
وقد يقال أيضاً إن النبي ( أشار إلى المعنى الثاني للانتهاء من المعنى الأول .
والمقصود أن الحديث على القول الراجح يشمل المعنيين , يشمل الإسراع بتغسيلها وتجهيزها كما أنه يشمل الإسراع بالذهاب بها إلى المقبرة ولكن دون جري ودون المشي خطوة خطوة يقول ابن القيم رحمه الله وهذا من البدع .
ونستفيد من ظاهر الحديث استحباب المشي بالجنازة دون الركوب بها .
534 - وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله ( : ( من شهد الجنازة حتى يُصلى عليها فله قيراط ، ومن شهدها حتى تدفن فله قيراطان ) قيل : وما القيراطان ؟ قال : ( مثل الجبلين العظيمين ) متفق الله . ولمسلم : ( حتى توضع في اللحد ) .
قال البخاري رحمه الله حدثنا أحمد بن شبيب بن سعيد قال حدثنا أبي قال أخبرنا يونس عن الزهري قال حدثنا عبد الرحمن بن الأعرج عن أبي هريرة به .(1/60)
ورواه مسلم رحمه الله من طريق ابن وهب عن يونس به .
وقوله ولمسلم : ( حتى توضع في اللحد )
جاءت هذه الرواية من طريق عبد الرزاق عن معمر بن الزهري عن سعيد بن المسيب عن أبي هريرة بها .
535 - وقوله في رواية للبخاري من حديث أبي هريرة : ( من تبع جنازة مسلم إيماناً واحتساباً ، وكان معها حتى يُصلى عليها ويفرغ من دفنها فإنه يرجع بقيراطين ، كل قيراط مثل أحد ) .
وهذه الرواية جاءت في الصحيح من طريق روح قال حدثنا عوف عن الحسن ومحمد عن أبي هريرة رضي الله عنه .
وفي الباب عن سهيل بن أبي صالح عن أبيه عن أبي هريرة أن النبي ( قال : ( من صلى على جنازة ولم يتبعها فله قيراط فإن تبعها فله قيراطان ).
وهذا الخبر يوضح أن أحد القيراطين يحصل بمجرد الصلاة عليها ويتم القراط الثاني بشهودها حتى تدفن .
قوله : ( من شهد ) .
ترد هذه اللفظة في لغة العرب على أربعة معاني :-
المعنى الأول :
بمعنى حضر كما في قول الله تعالى : ( فمن شهد منكم الشهر فليصمه ) .
المعنى الثاني :
بمعنى مطّلع قال الله تعالى : ( والله على كل شيء شهيد ) أي مطلع .
المعنى الثالث :
بمعنى الإخبار , من هذا القبيل قول عبد الله بن عباس شهد عندي رجال مرضيون وأرضاهم عندي عمر . بمعنى أخبر ، والحديث في الصحيحين .
المعنى الرابع :
بمعنى الإقرار والاعتراف , ومن هذا القبيل قول المسلم : أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمداً رسول الله .
قوله : ( حتى يصلى عليها ) .
ظاهر هذه الرواية أن القراط الأول لا يتم إلا بتشييعها والصلاة عليها بينما ظاهر حديث سهل السابق أن القراط يتم بمجرد الصلاة عليها ويمكن الجمع بينهما بأن يقال إذا شهدها حين تشيع ثم صلى عليها صار قيراطه أعظم ممن اقتصر على الصلاة عليها لأن القراريط تختلف وبعضها أكثر من بعض وأثقل في الميزان .(1/61)
وفي الحديث دليل على فضيلة اتباع جنازة المسلم والصلاة عليها وقد جاء في الصحيحين وغيرهما من حديث البراء قال : ( أمرنا رسول الله ( بسبع ونهانا عن سبع أمرنا باتباع الجنائز ) . الحديث .
وجاء في الصحيحين أيضاً من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي ( قال : ( حق المسلم على المسلم خمس - ومنها - اتباع جنازته ) .
وقد اختلف الفقهاء رحمهم الله في حكم اتباع الجنائز فذهب أكثر أهل العلم إلى الاستحباب وذهب بعضهم إلى الإيجاب لأن النبي ( أمر بهذا والصحيح التفصيل : فإنه لا ريب أن اتباع كل جنازة يشق و لا يمكن أن يقال بوجوبه والصحيح في هذه المسألة أن يقال إنه يجب اتباع جنازة كل من كان له عليك فضل من قريب حميم أو رحم ونحو ذلك وأما من عداهم فيستحب اتباع جنازته .
واتباع الجنائز فيه فضائل للتابع والمتبوع فإن المتبوع ينتفع بدعاء المسلمين له والتابع يستفيد من الأجر المترتب على اتباع جنازته والصلاة عليه ولربما قيل انصرفوا مغفوراً لكم .
فإن قال قائل من صلى عليه فله قيراط ، لماذا مثل بالقيراط ؟
الجواب لما كان القيراط معروفاً عندهم ومشهوراً مثل النبي ( به لئلا يستشكل أمره فقد كانت أمثلة النبي ( تقريباً للأذهان وكما أنه صلى الله عليه وسلم ضرب مثلاً بحمر النعم في حديث سهل بن سعد والحديث في الصحيحين وكما أنه صلى الله عليه وسلم ضرب مثلاً للمسلم وشبهه بالنخلة والحديث في الصحيحين من حديث ابن عمر ، ولهذا نظائر .
ثم أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن القراطين مثل الجبلين العظيمين :
يؤخذ من هذا عظم ثواب من اتبع الجنازة حتى يصلى عليها .(1/62)
ثم تبعها حتى تدفن : خرج من هذا من اتبع جنازة مجاملة أو مداراة أو تطييباً لأهله فمثل هؤلاء وإن كانوا يؤجرون بمداراتهم ولتطييب خواطر أهاليهم ولكنهم لا يدخلون ولا ينالون هذا الأجر المرتب عليه في هذا الخبر لأن النبي ( قال : ( إيماناً واحتساباً ) أي طلباً للثواب من الله وتقرباً إليه بالصلاة على هذه الجنازة .
536 - وعن سالم بن عبدالله بن عمر عن أبيه رضي الله عنهما أنه رأى النبي ( وأبا بكر وعمر ، يمشون أمام الجنازة .
هذا الخبر رواه الخمسة من طريق سفيان بن عيينة عن الزهري عن سالم بن عبد الله عن ابن عمر به .
ورواه ابن جُريج وجماعة عن ابن عيينة عن الزهري عن سالم به .
ورواه معمر ويونس بن يزيد ومالك بن أنس وغيرهم عن الزهري عن النبي ( قال الزهري وأخبرني سالم أن أباه كان يمشي أمام الجنازة وقد رجح إرساله الإمام أحمد وأبو حاتم والبخاري وقال الترمذي في جامعه وأهل الحديث كلهم يرون أن المرسل أصح وهذا نقل للإجماع لأن هذا الخبر لا يصح إلا مرسلاً ، وقد قال علي بن المديني رحمه الله لابن عيينة الناس يخالفونك في هذا فقال سفيان رحمه الله هكذا سمعته من الزهري ولم أسمعه لا مرة ولا مرتين ولكن هذا لا يقتضى ترجيح رفعه كما فعل بعضهم فإن الثقة قد يخطئ ويهم خصوصاً أن المحدثين الأوائل قد أجمعوا على ترجيح إرسال هذا الخبر وقد روى هذا الخبر الإمام أبو عيسى رحمه الله من طريق محمد بن بكر عن يونس عن الزهري عن أنس بن مالك : ( أن النبي ( وأبا بكر وعمر وعثمان كانوا يمشون أمام الجنازة ) .
قال الإمام البخاري رحمه الله وهذا خطأ , الصحيح ما رواه غير واحد عن يونس عن الزهري مرسلاً .(1/63)
وقد رواه الطحاوي رحمه الله عن طريق أبي زرعة عن يونس بن يزيد عن الزهري عن أنس به ، ورواته كلهم ثقات حفاظ وهذا أيضاً أخشى أن يكون وهماً لأن مداره على الزهري ولا يصح من طريق الزهري إلا مرسلاً كما جزم بذلك الإمام البخاري رحمه الله وغيره من أكابر أهل العلم في العلل .
وهذا الخبر يدل على فضيلة المشي أمام الجنازة وأن هذا هو المشروع للراجل وقد صح هذا عن جمع من أصحاب رسول الله ( وأما الراكب فلا يسير إلا خلفها .
وهذه المسألة اختلف فيها الفقهاء رحمهم الله على أقوال :
القول الأول : مشروعية المشي أمامها , وأصحاب هذا القول احتجوا بحديث الباب وبفعل عبد الله بن عمر والسند إليه صحيح .
القول الثاني : أن الماشي له أن يمشي أمامها وعن يمينها وعن شمالها وله أيضاً أن يمشي خلفها وذلك لما روى أبو داود والنسائي وغيرهما بسند قوي عن المغيرة بن شعبة أن النبي ( قال : ( الراكب يسير خلفها والماشي حيث شاء ).
القول الثالث : استحباب المشي خلفها لمرسل طاووس قال ما مشى رسول الله ( إلا خلف الجنازة.
القول الرابع : أنه لا أفضلية بشيء من هذا فله أن يمشي أمامها وخلفها وعن يمينها وعن شمالها وذلك لعموم حديث المغيرة السابق وهذا القول لعله أقرب الأقوال إلى الدليل .
أما الراكب فلا يسير إلا خلفها لحديث المغيرة السابق .
537 - وعن أم عطية رضي الله عنها قالت : نهينا عن اتباع الجنائز ، ولم يعزم علينا . متفق عليه .
قال البخاري حدثنا قبيصة بن عقبة قال أخبرنا سفيان عن خالد عن أم الهذيل عن أم عطية رضي الله عنها .
قال مسلم رحمه الله حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة قال حدثنا أبو أسامة ح حدثنا إسحاق بن إبراهيم قال حدثنا عيسى بن يونس كلاهما عن هشام عن حفصة عن أم عطية .
قولها : ( نهينا ) .(1/64)
الأصل في النهي التحريم ما لم يرد صارف يصرفه عن ذلك وقد أخذ بظاهر الحديث الإمام أحمد رحمه الله فحرم على المرأة اتباع الجنائز وأخذ الإمام الشافعي وجماعة بعدم التحريم وقالوا بأن النهي للتنزيه لقول أم عطية ولم يعزم علينا قال شيخ الإسلام رحمه الله : وقول أم عطية : ولم يعزم علينا . لعلها تريد ولم يؤكد النهي وإلا فهذا ظن منها ولا عبرة بظنها فالأصل أن نأخذ من كلام النبي ( وما ظنه الراوي فهذا ينظر فيه : إن احتفت به قرائن وأيدت ظنه بعض الأدلة قبل وإلا فلا ، وقد علم من أصول الشريعة أن المرأة ضعيفة وعلم من أصولها نهيها عن مزاحمة الرجال .
واتباع المرأة للجنائز يسبب ضرراً عليها ومخالطة ومزاحمة للرجال فالأصل في هذه المسألة أن نأخذ بنهي رسول الله ( والنهي يقتضي التحريم وإذا كانت المرأة منهية عن اتباع الجنائز فمن باب أولى أن تنهى عن زيارة المقابر وذلك لما رواه الترمذي في جامعه وابن ماجه وغيرهما من طريق عمر بن أبي سلمة عن أبيه عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي ( قال : ( لعن الله زوارات القبور ) وهذا إسناد جيد , وقوله : ( زُورات ) بضم الزاي ، وقد ضبطهما بعضهم ( زَوارات ) بفتحها فعلى الثاني يكون النهي منصباً للمكثرات من الزيارة وعلى الأول يكون النهي عاماً لأنه لا يكون حينئذ ثمة صيغة مبالغة وهذا أرجح لأن المرأة لا يشرع لها زيارة المقابر لأنها إذا نهيت عن اتباع الجنائز فلا يمكن أن يؤذن لها بزيارة المقابر قال شيح الإسلام رحمه الله : وليس هناك شيء في الشريعة يمنع أوله ويباح أخره . وهذا صحيح من حيث العموم ولكن قد يعترض على الشيخ رحمه الله بالنذر منع أوله وجعل أخره عبادة من أجل العبادات فالنذر أولاً مكروه بل عند الشيخ أنه محرم ولكن إذا التزمه الإنسان وجب الوفاء به وصار قربة وعبادة كما قال تعالى : ( يوفون بالنذر ) وقوله تعالى : ( وما أنفقتم من نفقة أو نذرتم من نذر فإن الله يعلمه ) .(1/65)
وهذه المسألة سوف يأتي إن شاء الله بسطها وذكر أدلتها على حديث أبي هريرة : ( لعن الله زائرات القبور ) .
538 - وعن أبي سعيد أن رسول الله ( قال : ( إذا رأيتم الجنازة فقوموا فمن تبعها فلا يجلس حتى توضع ) متفق عليه .
قال الإمام البخاري رحمه الله حدثنا مسلم بن إبراهيم قال حدثنا هشام عن يحيى عن أبي سلمة بن عبد الرحمن عن أبي سعيد الخدري به .
قال الإمام مسلم رحمه الله حدثنا محمد بن المثنى قال أخبرنا معاذ بن هشام عن أبيه عن يحيى به .
وفي الباب عن جابر بن عبد الله أن النبي ( قال : ( إذا رأيتم جنازة فقوموا لها ) متفق عليه .
وقد أخذ بظاهر الحديث جماعة من السلف فرأوا وجوب القيام للجنازة سواء كانت الجنازة جنازة مسلم أو جنازة كافر فأصحاب هذا القول يرون مشروعية القيام لها وهذا من تعظيم الله جل وعلا ومن إجلاله وتوقيره وليس المراد تعظيم ذات الميت فإن الكافر لا حرمه له وإنما المراد ما سبق ذكره .
ويحصل بالقيام لها تذكر الموت والاتعاظ وما يتبع ذلك من الفوائد التي يحصل بها حياة القلوب والبعد عن الدنيا والقرب إلى الآخرة ، فلو أن الناس أكثروا من تذكر الموت وزيارة المقابر لقل ظلمهم وكثر خيرهم وقل تنافسهم في الدنيا وساد الخير والنصح والصلاح والفلاح في أفرادهم ومجتمعاتهم .
وذهب بعض العلماء إلى أن هذا الخبر منسوخ بما جاء في صحيح الإمام مسلم من حديث علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال : ( قام رسول الله ( وقمنا معه وقعد وقعدنا معه ) .
قال أصحاب هذا القول إن قعود النبي ( هو آخر الأمرين وهو ناسخ لحديثي أبي سعيد وجابر رضي الله عنهما .
وذهب فريق ثالث من العلماء إلى حمل الأمر بقوله : ( فقوموا لها ) على الاستحباب وحمل حديث علي رضي الله عنه على الجواز وهذا اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية وتلميذه ابن القيم عليهما رحمة الله ، قال ابن القيم رحمه الله : وهذا أولى من إدعاء النسخ .(1/66)
وهذا صحيح لأن النسخ لابد من توفر أمرين : -
الأمر الأول / معرفة المتقدم من المتأخر .
الأمر الثاني / عدم إمكان الجمع .
أما المقدمة الأولى فنعرف يقيناً من حديث علي أن النبي ( قد قام ولكن أنّى لنا أن نعرف أنه أمر بهذا في أول الأمر ثم جلس بعد الأمر وهذا ما لا يمكن إثباته لكن الذي نعلمه أن النبي ( قام أولاً ثم قعد بعد هذا على وفق ما جاء في حديث علي وقد يكون الأمر بالقيام جاء بعد القعود هذا غير بعيد .
الأمر الثاني / عدم إمكان الجمع ، وهنا الجمع ممكن فإذا أمكن الجمع بين الحديثين فهو أولى من إدعاء النسخ قال في المراقي :-
والجمع واجب متى ما أمكنا ... ... إلاّ فللأخير نسخ بينا
والجمع هنا سهل حيث يقال قوله ( : ( فقوموا لها ) للاستحباب فيستحب لكل مسلم أن يقوم للجنازة إذا مرت به .
ويحمل حديث علي رضي الله عنه على الجواز في الجلوس وأن من جلس فلا حرج عليه لأن الأمر الأول للاستحباب وهذه طريقة مفيدة للجمع بين الأحاديث وعليها علماء المالكية وقد يسلك هذا المنهج بعض فقهاء الحنابلة فإذا تعارض عندنا أمر النبي ( مع فعله أو نهيه مع فعلٍ خالفه فإن أمكن فنحمل أمره عليه الصلاة والسلام على الاستحباب وفعله المخالف للأمر على الجواز ونحمل نهيه على التنزيه وفعله المخالف للنهي على الجواز كما قال : في المراقي رحمه الله :-
وربما يفعل للمكروه ... ... مبّيناً أنه للتنزيه
فصار في حقه من القُرب ... ... كالنهي أن يشرب من فم القِرَب
وقوله : ( فلا يجلس حتى توضع ) .
جاء في رواية : ( حتى توضع على الأرض ) وجاءت رواية أخرى ( حتى توضع في اللحد ) .
ورواية ( الأرض ) أصح واختار هذا الإمام البخاري رحمه الله وشيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله .
وأما رواية ( اللحد ) فهي رواية معلولة وقد رجح الإمام أبو داود رحمه الله رواية ( الأرض ) على رواية ( اللحد ) .(1/67)
والمتأمل لعمل الصحابة رضي الله عنهم يجد أنهم يجلسون إذا وضعت على الأرض كما في حديث البراء وحديث علي وبأحاديث غيرها : ( فجلس النبي ( وجلسنا حوله ولما يُلْحَد ) دلت هذه الرواية وغيرها من الروايات على أن المحفوظ ( حتى توضع على الأرض ) .
539 - وعن أبي إسحاق أن عبد الله بن يزيد أدخل الميت من قبل رجلي القبر . وقال : هذا من السنة . رواه أبو داود .
قال أبو داود رحمه الله حدثنا عبيد الله بن معاذ وهو العنبري قال حدثنا أبي حدثنا شعبة عن أبي إسحاق وهو السبيعي قال : أوصى الحارث أن يصلى عليه عبد الله بن يزيد فصلى عليه ثم أدخله القبر من قبل رجلي القبر ، وقال : هذا من السنة .
وهذا إسناد صحيح ورواته كلهم حفاظ ثقات ، وقد رواه أيضاً الإمام ابن أبي شيبة والبيهقي وجاء عند الإمام أحمد وأبي بكر بن أبي شيبة عن محمد بن سيرين عن أنس بن مالك بنحوه وإسناده صحيح .
والخبر يدل على أن السنة في إدخال الميت القبر أن يُسل من قبل رجليه والذي جرى عليه عمل المسلمين أن تكون رجلا الميت مواجهة لجهة الجنوب ويكون رأسه من جهة الشمال موجها إلى القبلة هذا ما جرى عليه عمل المسلمين لمن كان الغرب قبلتهم .
وقول عبد الله بن يزيد وهو صحابي وهو الخطمي : ( السنة ) .
أي سنة النبي ( فقول الصحابي من السنة كذا وكذا لا يحتمل إلا سنة النبي ( كما قال العراقي رحمه الله في ألفيته :-
وقول الصحابي من السنة أو ... نحو أمرنا حكمه الرفع ولو
بعد النبي قاله بأعصرٍ ... على الصحيح وهو قول الأكثر
قال بعض أهل العلم إن الميت يدخل معترضاً من جهة القبلة .
وقال آخرون يسل من قبل رأسه .
والعلماء مجمعون على جواز إدخال الميت القبر من أي جهة ولكنهم مختلفون في الأفضل والأفضل ما دل عليه حديث أبي إسحاق السبيعي .
540 - وعن ابن عمر رضي الله عنهما عن النبي ( قال : ( إذا وضعتم موتاكم في القبور ، فقولوا : بسم الله ، وعلى ملة رسول الله ) .(1/68)
هذا الخبر رواه الإمام أحمد والنسائي وابن حبان من طريق همام قال حدثنا قتادة عن أبي الصديق عن ابن عمر عن النبي ( به .
ورواه أبو داود في سننه عن مسلم بن إبراهيم عن همام عن قتادة بنحوه إلا أنه ذكره فعلاً لا قولاً أي أن النبي ( قال حين وضعه في القبر : ( بسم الله ..الخ )
ورواه النسائي رحمه الله من طريق عبد الله عن شعبة عن قتادة عن أبي الصديق عن ابن عمر موقوفاً .
وذكره البيهقي في السنن الكبرى من طريق هشام الدستوائي عن قتادة به موقوفاًً وذكر البيهقي في السنن أيضاً أن همام بن يحيى تفرد برفعه .
والحديث وقفه أصح من رفعه كما قال الدار قطني رحمه الله فإن شعبة والدستوائي في قتادة أوثق من همام بن يحيى وقد روياه عن قتادة موقوفاً .
والخبر جاء عند الترمذي من طريق الحجاج بن أرطاة .
وعند ابن ماجه من طريق ليث بن أبي سليم عن نافع عن ابن عمر مرفوعاً .
والحجاج بن أرطاه ضعيف الحديث ، وليث بن أبي سليم مختلط .
والصحيح في الخبر أنه من قول عبد الله بن عمر رضي الله عنهما .
ويحتمل أن يأخذ الخبر حكم المرفوع لأن مثل هذا لا يقال من قبل الرأي وإن قيل هذا من قبل الرأي فمثله لابد أن يشتهر فيكون اتفاقا من الصحابة رضي الله عنهم ولذلك استحب أهل العلم لواضع الميت في القبر أن يقول : بسم الله وعلى ملة رسول الله . أي على طريقته وشرعه ومنهجه ، وهذا الذكر لا يستحب أن يقال إلا لمن يضع الميت في القبر ، ونلاحظ على بعض الناس أنه يقوله عند إهالة التراب على الميت وهذا غلط لأن الخبر مقيد لمن يضع الميت في القبر ، ولم يثبت عن النبي ( ذكر في هذا الموضع وما جاء في المسند وغيره حديث أبي أمامة أن النبي ( قال وهو يدفن : ( منها خلقناكم وفيها نعيدكم ومنها نخرجكم تارة أخرى ) فهذا لا يثبت عنه وقد أنكره ابن حبان وغيره من أهل العلم .
والمشروع للمسلم أن يحثو التراب وهو ساكت ، والمشروع له أن يسأل الله لأخيه التثبيت .(1/69)
541 - وعن عائشة أن رسول الله ( قال : ( كسر عظيم الميت ككسره حيا ) .
رواه أبو داود قال رحمه الله حدثنا القعنبي حدثنا عبد العزيز بن محمد عن سعد – يعني ابن سعيد – عن عمرة بنت عبد الرحمن ، عن عائشة به .
وسعد بن سعيد أخو يحيى بن سعيد - سيئ الحفظ .
ولكن جاء الخبر عند ابن حبان في صحيحه من طريق سفيان قال حدثنا يحيى ابن سعيد عن عمرة بنت عبد الرحمن به ، ورواته كلهم ثقات .
ورواه ابن ماجه من طريق عبد الله بن زياد قال أخبرنا أبو عبيدة بن عبد الله بن زمعة عن أمه عن أم سلمة وزاد : ( في الإثم ) .
ولكن في إسناده عبد الله بن زياد غير معروف .
والمحفوظ في هذا الخبر رواية سفيان عن يحيى بن سعيد .
قوله : ( كسرُ عظم الميت ) .
أراد النبي صلى الله عليه وسلم بهذا تعظيم حرمة الميت وأن الاعتداء على بدنه كالاعتداء على بدن الحي فكما أن كسر عظم الحي لا يجوز ويوجب قصاصاً - العضو بالعضو - فكذلك كسر عظم الميت والاعتداء على حرمته بأخذ شيء من أجزائه ككبد أو أصبع أو غير ذلك لا يجوز فيدخل في هذا نبش القبور لغير حاجة فإن هذا لا يجوز لأنه نوع اعتداء على حرمات المسلمين .
وأما قضية أخذ عضو من أعضاء الميت إما بعد الوفاة أو حين يوشك على الهلاك فهذه قضية فيها تفصيل فإن قرر طبيبُ حاذق أن مرض هذا الشخص مما لا يرجى برؤه وأن أخذ عضو من أعضائه يسبب حياة شخص أخر فبعض الفقهاء في هذه القضية يرخص ويرى أنه لا مانع من ذلك وبعض أهل العلم يمنع هذه المسألة مطلقاً لأن أخذ عضو من الأول قد يؤدي به إلى وفاته وحينئذٍ يكون الطبيب ضامناً ومتسبباً في هلاك هذا الشخص وإن كان مرضه لا يرجى برؤه فعليه الضمان وعليه الدية وعلية كفارة الخطأ.(1/70)
أما قضية التشريح فأيضاً فيها تفضيل فإن كان التشريح لحالة جنائية فلا مانع من ذلك كأن يكون التشريح لتأكد من القاتل أو لغير ذلك من الأسباب فمثل هذا تستدعيه الضرورة , والمصلحة هنا مقدمة على المفسدة الناتجة من التشريح وأما إن كان تشريح الجثة لمعرفة الأمراض الفتاكة بالمسلمين أو لمعرفة دواء هذا الداء فمثل هذا على الراجح لا مانع منه وأما إن كان التشريح لتمرين الأطباء على هذه القضية فهذا لا يجوز لأن هذا اعتداء بدون حاجة ولكن في هذه القضية لا مانع من تشريح الجثث الكافرة للتعلم بها أما جثة المسلم فلها حرمة يجب صيانتها وتعظيمها ومعرفة قدرها ولكن لما كانت جثة الكافر لا حرمة لها - ميتتهُ أقبح من ميتة الكلب - كان التعلم عليها لا مانع منه.
542 - وعن سعد بن أبي وقاص قال : الحدوا لي لحداً وانصبوا عليّ اللبن نصباً ، كما صنع برسول الله ( . رواه مسلم .
قال الإمام مسلم رحمه الله حدثنا يحيى بن يحيى قال أخبرنا عبد الله بن جعفر المسوري عن إسماعيل بن محمد بن سعد عن عامر بن سعد بن أبيّ عن سعد به .
فهذا الخبر يدل على تفضيل اللحد على الشق لأنه هكذا فُعِل بالرسول ( ولا يختار الله جل وعلا لنبيه إلا الأكمل والأفضل .
وقد روى أهل السنن من طريق علي بن عبد الأعلى بن عامر عن أبيه عن سعيد بن جبير عن ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي ( قال : ( اللحد لنا والشق لغيرنا ) .
وهذا يدل على أن اللحد أفضل من الشق .
وهذا الخبر في إسناده عبد الأعلى بن عامر قال عنه يحيى بن سعيد تعرف وتنكر وضعفه الإمام أحمد وأبو زرعه وجماعة وقال الإمام النسائي رحمه الله ليس بالقوي .
قوله : ( وانصبوا عَليّ اللبن نصباً ) .
فيه مشروعية نصب اللبن على الميت وذلك بعد وضعه في اللحد ثم بعد اللبن يُهال عليه التراب .
وفي الحديث دليل على جواز الوصية بمثل هذا لأن سعداً أوصى باللحد وهو أفضل عند الأئمة الأربعة وجماهير العلماء سلفاً وخلفاً من الشق .(1/71)
والشق جائز إلا أنه مفضول وقد يكون فاضلاً في البلاد الرملية التي لا تتماسك تربتها .
543 - وللبيهقي عن جابر رضي الله عنه نحوه , وزاد : ورفع قبره عن الأرض قدر شبر . وصححه ابن حبان .
أي ورواه أيضا ابن حبان في صحيحه من طريق الفضيل بن سليمان عن جعفر بن محمد عن أبيه عن جابر بن عبدالله .
ورواه البيهقي من طريق عبد العزيز عن جعفر بن محمد عن أبيه مرسلاً والمرسل أقرب من الموصول .
والحديث يدل على جواز رفع القبر مقدار شبر وهذا قد رخص فيه غير واحد من أهل العلم أما ما زاد على الشبر فالقول الصحيح أنه يهدم لأن رفع القبور من أفعال الذين لا يعلمون ومن وسائل عبادتها دون الله عز وجل ولم يكن النبي ( ولا الصحابة ولا أئمة الهدى يرفعون قبورهم زيادة على الشبر فضلاً عن البناية عليها .
وفي صحيح الإمام مسلم من حديث أبي الهياج الأسدي عن علي رضي الله عنه قال : قال لي رسول الله ( : ( لا تدع صورة إلا طمستها ولا قبراً مشرفاً – أي عالياً – إلا سويته ) أي سويته بالأرض .
وظاهر هذا الخبر يدلنا على أن الأصل في القبور تسويتها بالأرض ألا أن هذا الحديث حمله غير واحد من أهل العلم على مازاد على الشبر لأن قبر النبي ( كان بنحو شبر وهكذا كانت قبور الصحابة رضوان الله عليهم .(1/72)
وأما ما رواه البخاري في صحيحه عن سفيان التمار قال رأيت قبر النبي ( مسنَّما أي مرتفعاً " فهذا محمول عند المحققين على أنه لا يزيد على الشبر وهذا الحمل لابد منه فإذا كان يحرم رفع القبر على الشبر فما بالك بالبناية عليها فلا ريب أن البناية على القبور من كبائر الذنوب ومن خصائل الجاهلية ومن وسائل الشرك الأكبر ومن ثم نهى النبي صلى الله عليه وسلم أن يجصص القبر أو يبنى عليه وبعض الناس يعتقد أنه حُرُّ التصرف بقبر ميتهِ ويقول هذا قبر أبي أو أخي ولي حر التصرف به وهذا الظن غلط فليس للمرء حق التصرف في قبر ميتهِ فإذا دفن بالمقبرة وجب مراعاة الشرع في هذا , كذلك الحصا التي توضع عند رأس الميت وعند قدميه يحرم رفعها علماً أن النبي ( والصحابة لم يكونوا يضعون حجرين كما هو حالنا اليوم إنما كانوا يضعون حجرا واحداً وأيضاً لكي يعرفوا القبر ليس غير , فلو عرف القبر بدون أحجار كان أفضل وأزكى – ولذلك يحسن في حق طلبة العلم أن يوصوا عدم وضع حجرين عند قبورهم لأنهم قدوة للناس ولأن الناس إنما يقتدون بعلمائهم وعبادهم فإذا أوصوا بمثل هذه الأمور كان الأمر حسناً وأما العوام والصغار فلا عبارة بهم فهم يتنافسون على إطالة الأحجار ولا ندري ماذا سيصنعون بعد هذا .
فالتوحيد في النفوس في هذا الزمان قليل واتباع الدليل أقل وأقل واتباع الهوى قد استحكم على قلوب كثير من العباد . قال أبو تمام الطائي :
وعبادةُ الأهوائي في تطويحها ... في الدينِ فوق عبادةِ الأصنامِ
544 - ولمسلم عنه : نهى رسول الله ( أن يُجصص القبر ، وأن يقعد عليه . وأن يبنى عليه .
قال مسلم حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة قال حدثنا حفص بن غياث عن ابن جريج عن أبي الزبير عن جابر بن عبد الله به .
ورواه من طريق عبدالرزاق عن ابن جريج قال حدثنا أبو الزبير قال حدثنا جابر به .(1/73)
ورواه الحاكم في مستدركه من طريق أبي معاوية محمد بن خازم الضرير عن ابن جريج عن أبي الزبير عن جابر : وفيه النهى عن الكتابة .
قوله : ( نهى رسول الله ( ) .
الأصل في النهي أن يكون للتحريم ما لم يدل دليل على خلاف هذا والدليل على أن الأصل في النهي التحريم قوله جل وعلا : ( ومن يعص الله ورسوله فقد ضل ضلالاً مبينا ) .
ولا ريب أن مخالفة الأمر معصية وارتكاب النهي معصية وفي صحيح الإمام البخاري من طريق فليح بن سليمان عن هلال بن علي عن عطاء بن يسار عن أبي هريرة أن النبي ( قال : ( كل أمتي يدخلون الجنة إلا من أبى قيل يا رسول الله ومن يأبى قال من أطاعني دخل الجنة ومن عصاني فقد أبى ) .
وهذا الحديث يدل ظاهره أن النهي يقتضي التحريم .
قوله : ( أن يقعد عليه ) .
الجلوس على القبر محرم ولا يجوز بل جاء في بعض الأخبار ما يدل على أن القعود على القبر كبيرة من الكبائر ففي صحيح الإمام مسلم من حديث سهيل بن أبي صالح عن أبيه عن أبي هريرة أن النبي ( قال : ( لأن يجلس أحدكم على جمرة فتحرق ثيابه فتخلص إلى جلده خير له من أن يجلس على قبر ) .
فالأموات لهم حرمة يجب احترام قبورهم وصيانتها عما فيه ضرر عليهم .
والحديث يدل أيضاً على تحريم البناية على القبور والبناية على القبور فيها مفاسد كثيرة:
المفسدة الأولى : أن هذه وسيلة إلى عبادتها .
المفسدة الثانية : أن هذا من فعل عباد القبور . والروافضُ هم الذين يضعون القباب على قبور الأولياء والصالحين .
المفسدة الثالثة : أن هذا الفعل مخالف لما بعث الله به أنبياءه ورسله عليهم أفضل الصلاة والسلام .
المفسدة الرابعة : أن هذا يسبب ويؤدي إلى عبادتها وتعظيمها عن القدر المشروع كما أنه يسبب أيضاً ضيقاً في المقابر وكذلك أن هذا من الإسراف والتبذير .(1/74)
ومن المفاسد أيضاً أن هذا الفعل ارتكاب لصريح النهى فلذلك يجب هدم القباب والبنايات التي على القبور وهدمها من التوحيد وإبقاؤها من شعائر عباد القبور والروافض .
وكذلك في حديث أبي معاوية عن ابن جريج النهي عن الكتابة وهذه المسألة اختلف فيها أهل العلم رحمهم الله فمن العلماء من يرى جواز الكتابة على القبور وأصحاب هذا القول يضعفون رواية أبي معاوية عن ابن جريح وبعض أهل العلم يرى النهي عن الكتابة وهذا أولى سداً للذرائع وإن كانت رواية أبي معاوية غير محفوظة إلا أن النهي عن الكتابة من باب سد الذرائع ، ولذلك يجوز الاكتفاء بعلامة دون كتابة ليعرف الإنسان قبر صاحبه .
وكذلك يحرم تجصيص القبور والنهي كما سبق للتحريم وهل وضع الخرسان بمنزلة التجصيص الجواب فيه تفصيل فإن كان وضع الخرسان يزيد عن الشبر فهذا بمنزلة الجص يجب إزالة ما زاد على الشبر وأما إذا كان وضعه تابعاً للشبر فبعض العلماء يرخص بهذا لأن الخرسان يحتفظ بالتربة ويحفظها عن الهدم ونحو ذلك .
545 - وعن عامر بن ربيعة رضي الله عنه : أن النبي ( صلى على عثمان بن مظعون ، وأتى القبر فحثى عليه ثلاث حثيات وهو قائم .
رواه الإمام الدار قطني رحمه الله من طريق القاسم بن عبد الله عن عاصم بن عبيد الله عن ابن عامر بن ربيعة عن أبيه به .
والقاسم بن عبد الله قال عنه الإمام أحمد رحمه الله ليس بشيء وعنه قال كذاب وقد اتهمه بالكذب غير واحد بل قد أجمع كبار المحدثين على تركه وتكذيبه فالخبر إذاً موضوع .
ولكن في الباب ما يغني عنه فروى ابن ماجة رحمه الله من طريق الأوزاعي عن يحيى بن أبي كثير عن أبي سلمة عن أبي هريرة قال : ( صلى النبي ( على جنازة فأتى قبره فحثى ثلاث حثيات من عند رأسه ) .
والحديث رواته كلهم ثقات ولكن أعله الإمامان أبو زرعة وأبو حاتم بالإرسال وقالا : أبو سلمة عن النبي صلى الله عليه وسلم هو المحفوظ .(1/75)
وللحديث شاهد من طريق عبيد الله بن زحر عن علي بن زيد عن القاسم بن عبد الرحمن عن أبي أمامة : أن النبي ( حثا على القبر وقرأ : ( منها خلقناكم وفيها نعيدكم ومنها نخرجكم تارة أخرى ) .
ولكن هذا الشاهد باطل لأنه مسلسل بالضعفاء وقد قال الإمام ابن حبان رحمه الله إذا اجتمع بالإسناد عبيد الله بن زحر عن علي بن زيد عن القاسم بن عبد الرحمن فهو مما عملته أيديهم .
والحقيقة أنه لا يصح في الباب شيء عن النبي ( وأحسن ما في الباب حديث الأوزاعي عن يحيى ومع هذا أعله الإمامان أبو زرعة وأبو حاتم بالإرسال .
وأما ما يفعله الآن بعض العوام إذا حثى الأولى قال منها خلقناكم والثانية يقول وفيها نعيدكم والثالثة يقول ومنها نخرجكم تارة أخرى فهذا من محدثات الأمور وليس على هذا أثارة من علم ولا دليل ولا برهان إنما هو استحسان لا أصل له فالحديث السابق مع إنه متروك ورد بقراءة مطلقة لم يرد بهذا التفصيل المبتدع .
وقد استحب بعض أهل العلم أن يحثو على رأس الميت ثلاثا وهذا مبني على صحة الخبر وقد سبق الكلام عليه والله أعلم .
546 - وعن عثمان رضي الله عنه قال : كان رسول الله ( إذا فرغ من دفن الميت وقف عليه وقال : ( استغفروا لأخيكم واسألوا له التثبيت ، فإنه الآن يُسأل ) .
هذا الخبر رواه الإمام أبو داود في سننه فقال حدثنا إبراهيم بن موسى الرازي قال حدثنا هشام قال أخبرنا عبد الله بن بُحَير بن ريسان عن هاني مولى عثمان عن عثمان به وقد حسنه الإمام النووي في الأذكار وابن حجر ، وعبد الله بن بُحير وثقه ابن معين وهاني مولى عثمان صدوق ، والخبر صححه أيضاً الحاكم في مستدركه .
قوله : ( كان رسول الله ( إذا فرغ من دفن الميت ) .(1/76)
فيه أن الدعاء بعد الفراغ من دفن الميت ، وفيه أن الدعاء يصل إلى الأموات فلو لم يكن الدعاء يصل إلى الأموات لم يكن للاستغفار له معنى ، وقد نقل النووي في الأذكار النووية وغيره من أهل العلم الإجماع على أن الدعاء يصل إلى الأموات وهذا الإجماع صحيح , فقد نقله غير واحد والأدلة صريحة في هذا , قال تعالى ( والذين جاؤوا من بعدهم يقولون ربنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان ) . وهذه الآية صريحة بوصول الدعاء إلى الغير فلو لم يكن الدعاء يصل إلى الأموات لم يكن للدعاء لهؤلاء معنى ولم يثن الله عليهم بهذا ، وقال تعالى ( رب اغفر لي ولوالدي ) . أي عن نوح وعن إبراهيم أيضاً فلو لم يكن دعاؤهم ينفع لم يكن للدعاء معنى ولم يقرهم الله على ذلك , وقال تعالى ( واستغفر لذنبك وللمؤمنين والمؤمنات ) . والاستغفار نوع من أنواع الدعاء وقد أمر الله نبيه أن يستغفر للمؤمنين والمؤمنات فلو لم يكن ينفعهم الاستغفار لم يأمره الله بذلك .
والأدلة في كون الدعاء يصل إلى الغير كثيرة جداً والأمر كما سبق مجمع عليه وإنما اختلفوا في العبادات الأخرى هل تصل إلى الأموات أم لا وقد نقل ابن القيم الاتفاق أيضاً على أن القرب المالية تصل إلى الأموات وجعل الخلاف محصوراً في القرب البدنية ثم رجح رحمه الله وصول القرب البدنية إلى الأموات وهذا مذهب أحمد رحمه الله واختار هذا القول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في أحد قوليه .
قوله : ( استغفروا لأخيكم ) .(1/77)
لأن المشروع بعد الدفن الاستغفار للميت وقد ترك هذا الدعاء واعتاض عنه بعض العوام بقوله : حللوا أخاكم .! وهذا استبدال بالذي هو أدنى عن الذي هو خير فالأولى طلب الاستغفار له وسؤال الله جل وعلا له الثبات فإن قضية تحليل الميت راجعة إلى كل شخص ومن ثبته الله بالقول الثابت فقد عفا الله عنه وأيضاً الناس لهم حقوق منهم من يريد حقه وأيضاً جعل الكلام عاماً حللوا أخاكم فيه نظر فربما لم يكن لهؤلاء حقُ على هذا الميت فالمرء ليس موكلاً عنه حتى يقول هذا ولكن من عُلم له حق وجب سداد الحق له أو يطلب منه العفو أما تعميم هذا في المقابر فهذا لا أصل له والأولى النهي عن هذا أيضاً ففي ذلك محاذير شرعية والاعتياض عن السنة بالبدعة .
قوله : ( و اسألوا له التثبيت فإنه الآن يسأل ) .
فيه إثبات السؤال في القبر وهذا مجمع عليه في حق المسلمين بين أهل العلم والحق أيضاً أن الكافر والمنافق يسألان أيضاً أما المؤمن فيثبته الله جل وعلا ( يثبت الله الذين أمنوا بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة ) وأما الكافر أو المنافق فيضلهم الله جل وعلا فلا يدرون ماذا يقولون ، المؤمن يقول ربي الله والإسلام ديني ومحمد صلى الله عليه وسلم نبيي ، فإن المرء إذا وضع في قبره سُئل عن ربه وعن دينه وعن نبيه محمد صلى الله عليه وسلم .
وفي الحديث دليل على إثبات عذاب القبر لمن أراد الله جل وعلا عذابه .
وفي الحديث دليل على أن دعاء المؤمنين ينفع وإلا لم يكن لسؤال الله جل وعلا التثبت لهذا الميت معنى .
547 - وعن ضمرة بن حبيب – أحد التابعين - قال : كانوا يستحبون إذا سوي على الميت قبره ، وانصرف الناس عنه أن يقال عند قبره : يا فلان قل لا إله إلا الله ، ثلاث مرات ، يا فلان ، قل ربي الله وديني الإسلام ، ونبيي محمد .(1/78)
هذا الخبر مقطوع والمقطوع يختلف عن المنقطع فالمنقطع من متعلقات الإسناد والمقطوع من متعلقات المتن والمقطوع هو قول التابعي فمن دونه والمقطوع لا تقوم به حجه كهذا الأثر ولهذا الأثر شاهد باطل يرويه الطبراني في الكبير من طريق إسماعيل بن عياش عن عبد الله بن محمد القرشي عن يحيى بن أبي كثير عن سعيد بن عبد الله الأودي عن أبي أمامة رضي الله عنه عن النبي ( بنحوه وقد ضعفه النووي وابن القيم وجماعة من المحققين بل حكم عليه ابن القيم رحمه الله بالوضع كما في المنار المنيف .
ولا يصح في الباب شيء عن النبي ( ، ومع هذا اختلف أهل العلم رحمهم الله في حكم التلقين فذهب بعض الفقهاء إلى استحبابه فيقال عند قبر الميت بعد دفنه يا فلان قل لا إله ألا الله – ثلاث مرت يا فلان قل ربي الله وديني الإسلام ونبي محمد صلى الله عليه وسلم .
وذهبت طائفة من مُحققي العلماء إلى أن التلقين بدعة لأن النبي ( لم يفعله ولو كان مشروعاً لشرعه النبي ( لأمته ولفعله الصحابة من بعده فقد كانوا أحرص الناس على الخير وأقربهم للسنة وأتبعهم لها فلما لم يفعلوا التلقين مع انعقاد سببه وإمكان فعله علم أنه بدعة وضلالة ، والحقيقة أيضاً أن هذا التلقين من وسائل الشرك لأنه يخاطب ميتاً والله يقول : ( إن تدعوهم لا يسمعوا دعاءكم ولو سمعوا ما استجابوا لكم ) .
وأيضاً هذا التلقين لا ينفع لمن أراد الله فتنته .
وببدعية التلقين قال الإمام أحمد وابن تيمية وابن القيم , وهو الحق بل القول الحق أن التلقين تجاوز حد البدعة وذلك لوجوه :
الوجه الأول :
لم يصح به أثر والله جل وعلا إنما تعبدنا بالأحاديث الصحاح لا بالأقوال الباطلة والآثار الواهية .
الوجه الثاني :
أن هذا التلقين لم يكن معروفاً عن أحد من الصحابة رضي الله عنهم فلو كان مشروعاً لتواتر نقله عن الصحابة .
الوجه الثالث :(1/79)
أنه لم يدل دليل لا من الكتاب ولا من السنة أن التلقين ينفع الأموات وأقل ما يقال فيه حينئذٍ أنه بدعة .
الوجه الرابع :
أن هذا التلقين لا يفيد صاحبه لا شرعاً ولا نظراً إنما ينفع المرء إذا وضع في قبره عمله.
الوجه الخامس :
أن النبي ( علمنا بعد الدفن أن نستغفر له واسألوا الله له التثبيت وغير هذا تكلف وخروج عن متابعة السنة .
548 - وعن بريدة بن الحُصيب الأسلمي رضي الله عنه قال : قال رسول الله ( : ( كنت نهيتكم عن زيارة القبور فزوروها ) رواه مسلم . زاد الترمذي : ( فإنها تذكر الآخرة )
549 - وزاد ابن ماجه من حديث ابن مسعود : ( وتزهد في الدنيا ) .
قال الإمام مسلم حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة ومحمد بن عبد الله بن نمير ومحمد بن المثنى واللفظ لأبي بكر وابن نمير قالوا حدثنا محمد بن فضيل عن أبي سنان عن محارب بن عبد الله بن بريدة عن أبيه به .
ورواه الترمذي بالزيادة من طريق سليمان بن بريدة عن أبيه به .
ورواه ابن ماجة من طريق ابن جريج عن أيوب بن هاني عن مسروق بن الأجدع عن عبد الله بن مسعود بلفظ : ( وتزهد في الدنيا ) .
وأيوب بن هاني صدوق فيه لين . وقد جاء في صحيح مسلم : ( فإنها تذكر الموت ) وذلك من طريق يزيد بن كيسان عن أبي حازم عن أبي هريرة قال : ( زار النبي ( قبر أمه فبكى وأبكى من حوله فقال : استأذنت ربي في أن أستغفر لها فلم يؤذن لي واستأذنته في أن أزور قبرها فأذن لي فزوروا القبور فإنها تذكر الموت ) .
قوله : ( كنت نهيتكم عن زيارة القبور ) .(1/80)
هذا في أول الأمر فقد نهى رسول الله ( أمته عن زيارة القبور لأنهم حديثو عهد بإسلام وحديثو عهد بأمور الجاهلية فيخشى أن تتعلق قلوبهم بالأموات فحسماً لهذه المفسدة نهاهم النبي ( مطلقاً عن زيارة القبور فلما رسخ الإيمان في قلوبهم وعرفوا توحيد ربهم وانصاعوا للأدلة الشرعية كتاباً وسنة أذن لهم بزيارة القبور إلا أن هذا الإذن خاص بالرجال كما هو قول الإمام أحمد وطائفة من المحققين لأن المرأة سريعة التأثر فيخشى من الإذن لها بزيارة القبور أن تفتتن بالأموات ومن ثم نهاها النبي ( من اتباع الجنازة كما في الصحيحين من حديث أم عطية : ( نهينا عن اتباع الجنائز ولم يعزم علينا ) فضلاً عن زيارة المقابر .
ثم إن النبي ( ( لعن زائرات القبور ) .
550 - وعن أبي هريرة رضي الله عنه : أن رسول الله ( لعن زائرات القبور . أخرجه الترمذي وصححه ابن حبان .
هذا الخبر جاء بلفظين اللفظ الأول ( لعن الله زائرات القبور ) وهذا لفظ ابن حبان وأما لفظ الترمذي ( لعن رسول الله ( زَوارات القبور ) ويقرأ : ( زُورات ) ولفظ ابن حبان يوضح المعنى فيكون اللعن منصباً على الزائرات مطلقاً سواء اتخذن هذا عادة أم لا .
والحديث سنده حسن فقد رواه الترمذي وابن حبان من طريق قتيبة بن سعيد قال حدثنا أبو عوانة عن عمر بن أبي سلمة عن أبيه عن أبي هريرة رضي الله عنه .(1/81)
وروى أهل السنن أيضاً من طريق محمد بن جحادة عن أبي صالح عن ابن عباس قال : ( لعن رسول الله ( زائرات القبور والمتخذين عليها المساجد والسرج ) وأبو صالح لين الحديث ، والمحفوظ بهذا الخبر حديث أبي هريرة وهو يقتضي تحريم زيارة القبور في حق النساء بل يدل الحديث أن زيارة النساء للقبور كبيرة من كبائر الذنوب لأن حد الكبيرة ما ختمت بغضب أو لعنة أو وعيد شديد ، وأما احتجاج الإمام الشافعي وطائفة من الفقهاء على زيارة النساء للقبور بحديث شعبة في الصحيحين عن ثابت البناني عن أنس بن مالك أن النبي ( مر بامرأة تبكي عند القبر فقال لها النبي ( : ( اتق الله واصبري ) . فقالت إياك عني فإنك لم تصب بمصيبتي ..... الحديث .
فهذا قد أجاب عنه ابن القيم بقوله ( اتق الله ) يشمل نهيها عن زيارة المقابر وهناك وجه أخر أحسن من هذا لأن النبي ( لم يقل لها قومي بل أمرها بتقوى الله والصبر وعدم الجزع والدعاء بدعوى الجاهلية فيقال ليس في الحديث أن المرأة داخل المقبرة فلربما كان القبر متنحياً وهذا أمر مشهور في عهد النبي ( كما مر رسول الله ( بقبر منبوذ وغير ذلك من الأحاديث فربما كانت هذه المرأة عند قبر ليس في المقبرة فحينئذ لا يتم الاستدلال به على زيارة النساء للقبور وأيضاً هذا الحديث ليس صريحاً بل هو حديث محتمل وعندنا حديث صريح بنهي المرأة عن زيارة القبور ألا وهو اللعن للمرأة إذا زارت المقابر.
والحكمة من زيارة القبور أنها تذكر الآخرة والموت والعبد إذا تذكر الموت وتذكر الآخرة قل شره وكثر خيره بينما إذا أعرض عن تذكر الموت والآخرة قسى قلبه وزاد إعراضه وقل إيمانه .
وزيارة القبور على مراتب :
المرتبة الأولى :
زيارة شرعية وهي زيارة قبور المسلمين والأقارب بدون شد رحل للدعاء لهم وتذكر الآخرة .
المرتبة الثانية :(1/82)
زيارة قبور المشركين لسؤال الله العافية فهذه زيارة جائزة كما زار النبي ( قبر أمه فإن العبد إذا زار قبور المشركين وعلم أنهم كلهم في النار سأل الله العفو والعافية وزادت رغبته بهذا الدين والتمسك به .
المرتبة الثالثة :
زيارة محرمة وهي تتراوح ما بين الشرك الأكبر والأصغر والبدعة وهي زيارة المقابر إما لسؤال أهلها وهذا شرك أكبر وأما لطلب الدعاء عندها وهذا بدعة ووسيلة من وسائل الشرك والله أعلم .
551 - وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال : لعن رسول الله ( النائحة والمستمِعة .
هذا الخبر رواه الإمام أبو داود والبغوي في شرح السنة من طريق محمد بن الحسن بن عطية العوفي عن أبيه عن جده عن أبي سعيد الخدري .
وفي ثلاث علل :
العلة الأولى :
ضعف محمد بن الحسن قال عنه أبو زرعة لين الحديث وضعفه أحمد ويحي بن معين وقال البخاري لم يصح حديثه .
العلة الثانية :
الحسن بن عطية ضعيف الحديث أيضاً ضعفه البخاري وغيره .
العلة الثالثة :
ضعف عطية العوفي .
اللعن : هو الطرد والإبعاد فمن لعنه الله فقد أبعده الله جل وعلا عن رحمته وطرده عن ذلك .
قوله : ( النائحة ) .
النوح هو رفع الصوت بتعداد مآثر الميت وهذا من خصال أهل الجاهلية فإن الواحدة من نساء أهل الجاهلية كانت تجلس : وآمياه وآبياه تموت وأنت تصل الرحم وأنت تسقي الحجيج تفعل كذا وتفعل كذا , لسان حالها يقول : كيف تموت وأنت تفعل هذا , أمثْلك يموت .؟ مثْلك ينبغي أن يعيش هذه النائحة ملعونة وقال عنها النبي ( بالحديث الذي رواه مسلم من طريق أبي سلام قال حدثنا أبو مالك أن النبي ( قال : ( أربع في أمتي من أمر الجاهلية لا يتركونها الفخر بالأحساب والطعن في الأنساب والاستسقاء في النجوم والنياحة على الميت ) .(1/83)
وقال : ( النائحة إذا لم تتب تقام يوم القيامة وعليها سربال من قطران ودرع من جرب ) وهذا وعيد شديد على النائحة , وهذا يقتضى أن النياحة كبيرة من كبائر الذنوب وأنها تعذب يوم القيامة في سربال من قطران أي رصاص مذاب يوضع على جلدها وسائر جسمها .
قوله : ( والمستمعة ) .
أي التي تستمع النائحة وهذا وإن كان الخبر ضعيفاً إلا أن القاعدة الكلية عند أهل العلم أن الراضي بالذنب كفاعله فالذي يجلس عند النائحة ويسمعها شيطان أخرس له حظه من الإثم كالنائحة تماماً فلو كان في قلبه غيرة وحمية على الدين لبادر بالإنكار على هذه النائحة وعلى الأقل إذا عجز عن الإنكار عليها يفارق المجلس وهذا الأمر كثير في النساء بعض النساء تجلس ولا تنكر وبعض النساء تنوح معها , مداراة لها وتطييباً لخاطرها لأن بعض النساء تعتقد أنه لا يطيب خاطر أختها إلا أذا ناحت معها وإذا ما ناحت معها ما عظمت الميت ولا قدرته حق قدره ، لذلك يجب أحد أمرين إما الإنكار أو مفارقة المجلس وأما الجلوس والسكوت فهذا محرم والراضي في الذنب كفاعله والله تعالى يقول ( وقد نزل عليكم في الكتاب أن إذا سمعتم آيات الله يكفر بها ويستهزأ بها فلا تقعدوا معهم حتى يخوضوا في حديث غيره إنكم إذاً مثلهم ) أخذ من هذه الآية أهل العلم أن الراضي في الذنب كفاعلة والأدلة على هذا كثيرة والظاهر أنه إجماع من أهل العلم ما لم يكن الجلوس عن إكراه .
552 - وعن أم عطية رضي الله عنها قالت : أخذ علينا رسول الله ( أن لا ننوح . متفق عليه .
قال البخاري حدثنا عبد الله بن عبد الوهاب قال حدثنا حماد بن زيد قال أخبرنا أيوب عن محمد بن سيرين عن أم عطية به .
وقال مسلم حدثنا إسحاق بن إبراهيم قال حدثنا أسباط قال حدثنا هشام عن حفصة عن أم عطية .
قولها : ( أخذ علينا رسول الله ( ) .(1/84)
أي وذلك حين المبايعة فلما بايعت النساء النبي ( على ألا يشركن بالله شيئاً ولا يسرقن ولا يزنين ولا يأتين ببهتان يفترينه بين أيديهن وأرجلهن ولا يعصين في معروف أخذ عليهن رسول الله ( أن لا ينحن .
لماذا أخذ الرسول ( أن لا ينحن لأن الناحية كانت من عادات الجاهلية كان التنبيه على هذه القضية من عزائم الأمور .
ولولا أهمية هذا الأمر وأن المسلم يحرم عليه النياحة لما أخذ عليهن رسول الله ( ذلك والمرأة مأمورة بالصبر والاحتساب فلربما أصيبت المرأة بمصيبة كفقد بعض الأحبة فتذهب دنياها ودينها والعياذ بالله كالنائحة الثكلى . لا ديناً حفظَتْ ولا استفادت من المال - المقصود بها المستأجرة - فلذلك على المرأة إذا أصيبت أن تحتسب الأجر عند الله وأن تصبر وعلى وليها أن يذكرها بالله وما أعده الله للصابرين من الثواب والأجر العظيم وهل من العقل إذا أصيب الإنسان بمصيبة أن يفقد أمرين أن يفقد ما أصيب به وأن يفقد الأجر والثواب : لا . العاقل لابد أن يضفر بأحد أمرين أو يضفر بهما جميعاً قال تعالى ( الذين إذا أصابتهم مصيبة قالوا إن لله وإنا إليه راجعون أولئك عليهم صلوات من ربهم ورحمة وأولئك هم المهتدون ) .
الذين يقولون عند المصائب إنا لله وإنا إليه راجعون يحظون بثلاث قرب عظيمة الأولى عليهم صلوات من ربهم الثانية لهم الرحمة الثالثة يهدي الله قلوبهم .
553 - وعن عمر رضي الله عنهما عن النبي ( قال " الميت يعذب في قبره بما نيح عليه " متفق عليه .
قال البخاري حدثنا عبدان قال اخبرنا عبد الله قال أخبرنا ابن جريج عن عبد الله بن عبيد الله بن أبي مليكه عن ابن عمر .
ورواه مسلم عن عبد بن حميد وابن رافع واللفظ لابن رافع قالا حدثنا عبد الرزاق عن ابن جريح به .(1/85)
وهذا الحديث استشكله بعض أهل العلم إذ كيف يعذب الميت بقبره بما نيح عليه والله تعالى يقول : ( ولا تزر وازرة وزر أخرى ) ومن ثم أنكرت عائشة هذا الحديث وظنت أنه معارض للقرآن ولعائشة رضي الله عنها نحو هذا التأويل أحاديث معروفة ولا وجه لقول عائشة رضي الله عنها فإن هذا الخبر محفوظ عن جمع من الصحابة يبعد غلطهم كل البعد فهذا الخبر محفوظ عن ابن عمر وعن عمر رضي الله عنه والخليفة الراشد أعلم من عائشة ومحفوظ أيضاً عن المغيرة بن شعبة ومحفوظ عن أبي موسى وعن غيره من الصحابة فلا إشكال ولا ارتياب أن النبي نطق بهذا الحديث بل أقطع يقينا أن النبي ( قاله , فلقد روي لنا بالأسانيد الصحاح التي لا يشك فيها عالم أن النبي ( قد قالها وطائفة من أهل العلم تثبت الخبر كالبخاري وغيره ولكنهم يقولون في معناه إذا كان هذا من عادته وطائفة أخرى تقول إذا أوصى أن يُناح عليه عذب قال الإمام شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله هذه الأقوال غلط من أصحابها والحق أن النبي ( قال : ( إن الميت يعذب ) ما قال يعاقب فقال شيخ الإسلام يعذب بمعنى يتألم إذا نيح عليه وذلك أنه يتكدر ويتألم بفعل أهله أنهم ينوحون عليه بدل أن يدعوا له ينوحون عليه فيحصل له من التألم كما يحصل للغير من سوء أفعال أهله ففي حال الحياة المرء يتألم ويتكدر إذا رأى أباه أو أمه يفعلون المعاصي فيرثي لحالهم ويتألم لأفعالهم ولكن هل عوقب على أفعالهم لا شك لا يعاقب يقول شخ الإسلام رحمه الله وهذا نظير قوله ( : ( السفر قطعة من العذاب ) إذا سافر المرء يحصل له عذاب بسبب السفر ولكن هل عوقب الجواب لا . لأنَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - قال قطعة من العذاب سماه عذاباً ولم يسّمه عقاباً وهذا في الحقيقة ظاهر جيد لمن يتأمل وهذا في الحقيقة هو القول المختار عند المحققين واختاره بعض السلف وقد أطال شيخ الإسلام ترجيحاً لهذا القول فلتراجع الفتاوى في كتاب الجنائز .(1/86)
فالمشروع لمن توفي ميته أن يشتغل بالدعاء له والتصدق عنه وفعل القرب تجاه هذا الميت فإن البكاء وإن كان جائزاً لكنه لا ينفع .
الرسول - صلى الله عليه وسلم - يقول : ( العين تدمع والقلب يحزن ولا نقول إلا ما يرضى الرب ) متفق عليه .
555 - وعن أنس رضي الله عنه قال : شهدت بنتا للنبي - صلى الله عليه وسلم - تدفن ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - جالس عند القبر . فرأيت عينيه تدمعان .
هذا الخبر رواه البخاري قال البخاري حدثنا عبد الله بن محمد قال أخبرنا أبو عامر قال حدثنا فليح بن سليمان عن بلال بن على عن أنس بن مالك .
وفليح بن سليمان تكلم فيه غير واحد من المحدثين فقال عنه يحيى بن معين لا يحتج بحديثه وقال الإمام الاجري قلت لأبي داود قال ابن معين عبد الله بن محمد بن عقيل وعاصم بن عبيد الله وفليح بن سليمان لا يحتج بحديثهم قال أبو داود صدق وقال النسائي وغيره ليس بالقوي ولكن وثقة جماعة آخرون وتخريج البخاري له في الأصول يدل على أنه عنده ثقة ومن ثم َّ قال الحاكم رحمه الله وتخريج الشيخين له مما يقوي أمره .
والقاعدة - أمثال فليح بن سليمان ممن طعن فيه أكابر أهل العلم وخرج له البخاري أو الشيخان - أن يقال : إنهما خصوصاً البخاري رحمه الله يخرجان لمن تُكلم فيه مما وافقه عليه غيره أو ما علما أنه ضبطه وأتقنه وهذا حصل لهما بالتتبع ولذلك تجد بعض أحاديث هؤلاء في غير الصحيحين فيها ضعف بين وهذا مما يدلنا على أن البخاري خصوصاً يتتبع أحاديث الراوي فلا يخرج له إلا ما وافقه عليه غيره أو علم أنه ضبط فأتقنه .(1/87)
وحديث الباب أورده المؤلف ليبين أن البكاء جائز عند فقد الأحبة وأنه ليس من النياحة وجواز البكاء محمول عند أهل العلم على ما إذا لم يصحبه صوت مرتفع أو ضرب للخدود أو شق للجيوب أو نقع أو لقلقة والنقع هو وضع التراب على الرأس واللقلقة رفع الصوت بالبكاء ولذلك قال عمر كما في البخاري معلقاً : دعهن يبكين على أبي سليمان يعني خالد بن الوليد ما لم يكن نقع أو لقلقة .
أراد بهذه أن يوضح أن البكاء لا مانع منه على الميت مالم يكن في ذلك شئ من خصال الجاهلية كوضع التراب على الرأس أو رفع الصوت في البكاء وأما مجرد دمع العين فهذا لا مانع منه بل هذا رحمة يجعلها الله جل وعلا في قلوب عباده الرحماء ولذلك قال - صلى الله عليه وسلم - : ( العين تدمع والقلب يحزن ولا نقول إلا ما يرضي ربنا وإنا بك يا إبراهيم لمحزونون ) الحديث متفق على صحته من حديث أنس بن مالك , وفي الصحيحين من حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : إن الله لا يعذب بدمع العين ولا بحزن القلب ولكن يعذب بهذا وأخذ بلسانه ) .
وأيهم أكمل للعبد ألا تدمع عينه تصبراً وتجلداً أم أن دمع العين أكمل لا إشكال أن هدي النبي - صلى الله عليه وسلم - أكمل هدي وطريقته أحسن طريقة وفعله خير الأفعال ولا يمكن لأحد من البشر أن يأتي بفعل أحسن من فعله ولا بطريقة أحسن من طريقته وقد دمعت عينا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حين توفيت ابنته فدل هذا أن دمع العين أفضل لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - بين أن دمع العين من الرحمة ومما يجعله الله في قلوب عباده الرحماء ويفهم من هذا أن تقلص العينين من البكاء من قساوة القلوب وإن أبعد القلوب عن الله القلب القاسي.
556 - وعن جابر رضي الله عنه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : ( لا تدفِنوا موتاكم بالليل إلا أن تضطروا )
رواه ابن ماجة في سننه من طريق إبراهيم بن يزيد المكي عن أبي الزبير عن جابر .(1/88)
وإبراهيم بن يزيد هذا هو الخوزي تركه البخاري وأحمد وجماعة أهل الحديث وقد جاء عند ابن ماجة من طريق الوليد بن مسلم عن ابن لهيعة عن أبي الزبير عن جابر أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : ( صلوا على موتاكم بالليل والنهار ) وهذا أيضاً ضعيف ابن لهيعة سيئ الحفظ قاله يحيى وأحمد وغيرهما ولكنه أقوى من حديث الخوزي وحديث الخوزي يدل على منع الصلاة على الميت بالليل إلا عند الحاجة والضرورة .
وحديث ابن لهيعة يدل على جواز الصلاة على الأموات بالليل والنهار , فقد جاء في صحيح الإمام مسلم من حديث ابن جريج عن أبي الزبير المكي عن جابر بن عبد الله : أن النبي - صلى الله عليه وسلم - خطب يوماً فذكر رجلاً من أصحابه قبض فكفن ودفن في غير كفن طائل فزجر النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يقبر الرجل ليلاً إلا أن يضطر إنسان إلى ذلك وقال - صلى الله عليه وسلم - : ( إذا كفن أحدكم أخاه فليحسن كفنه ) وقد احتج بهذا الحديث الإمام ابن حزم رحمه الله على منع الدفن ليلاً وفي هذا نظر فإن نهي النبي - صلى الله عليه وسلم - جاء لسبب وهذا السبب أن الصحابة رضي الله عنهم حين قبض الصحابي كفنوه بكفن غير طائل فلهذا السبب نهى النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يقبر الرجل ليلاٍ وأمر بتحسين الكفن وأما من علم من نفسه تحسين الكفن فلا مانع من القبر ليلا فقد قال البخاري رحمه الله باب الدفن ليلاً ودفن أبو بكر رضي الله عنه ليلا , قال ابن حجر في فتح الباري وهذا كالإجماع بينهم يعني بين الصحابة في جواز الدفن ليلاً ثم ساق البخاري حديث ابن عباس وهو متفق على صحته أن رجلاً توفى بليل ٍ - وفي رواية - امرأة فدفنوها فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - : ( ألا كنتم أذنتموني ) فلو كان الدفن ليلاً مكروهاً أو منهياً عنه لزجر النبي - صلى الله عليه وسلم - الصحابة حين دفنوا هذا الرجل ليلاً ، والمتأمل للأدلة يتبين له أن الدفن ليلاً كان مشهوراً في العهد النبوي(1/89)
ومشهوراً بين الصحابة رضي الله عنهم وهذا كما قال عنه الحافظ كالإجماع بينهم وقد دفن النبي - صلى الله عليه وسلم - كما في خبر عائشة وغيره رواه أبو داود وغيره ويحمل حديث جابر على السبب المذكور فيما تقدم .
557 - وعن عبد الله بن جعفر رضي الله عنه قال : لما جاء نعي جعفر _ حين قتل ـ قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : ( اصنعوا لآل جعفر طعاماً ، فقد أتاهم ما يشغلهم ) .
رواه الأمام أحمد وأبو داود والترمذي وابن ماجة والبيهقي والبغوي بشرح السنة وغيرهم كلهم من طريق سفيان بن عيينة قال حدثنا جعفر بن خالد بن سارة عن أبيه عن عبد الله بن جعفر به .
وعبد الله بن جعفر صحابي ولد في أرض الحبشة وكان يضرب به المثل في الجود والسخاء قال عنه الذهبي : كان كبير الشأن كريماً جواداً يصلح للإمامة , والحديث إسناده صحيح .
وقد احتج به الإمام أحمد وغيره من أهل الحديث وقال أبو عيسى هذا حديث حسن صحيح .
قوله : ( لما جاء نعي جعفر ) .
وذلك في السنة الثامنة من الهجرة في غزوة مؤتة .
قوله : ( اصنعوا لآل جعفر طعاماً ، فقد أتاهم ما يشغلهم ) .
هذا أمر والأصل في الأوامر أن تحمل على الوجوب كما هو قول أكثر الأصوليين ، والذي يصنع الطعام هم أقاربه أو جيرانه غيرهم , والحكمة في هذا لأن أهل الميت مشغولون بحزنهم على ميتهم , فكان الأولى بأقاربه أو جيرانه أن يصطنعوا لهم طعاماً لأن هذا من حقوق المسلمين بعضهم على بعض وهذا من سنة النبي - صلى الله عليه وسلم - وهذه السنة تكاد تكون مهجورة في زماننا هذا بل الذي اشتهر في زماننا هذا هي سنة الجاهلية وذلك أن أهل الميت هم الذين يصطنعون طعاماً للناس وتراهم يجتمعون في بيت الميت لإكرام الوافدين وصنع الطعام لهم وهذه بدعة سيئة وجاهلية قبيحة وفي ذلك مفاسد كثيرة :
الأولى / أن هذا الفعل من أفعال أهل الجاهلية .
الثاني / أن هذا خلاف أمر الرسول - صلى الله عليه وسلم - بقوله اصنعوا لآل جعفر طعاماً .(1/90)
الأمر الثالث / أن الاجتماع في بيت الميت قد نهى عنه أهل العلم ولا يشرع للمرء أن ينتظر المعزين في بيته كما قال الشافعي رحمه الله ينصرفون لقضاء حوائجهم ومن لقيهم عزاهم .
الأمر الرابع / أن بعض أهل العلم قال إن هذا من النياحة وقد جاء عند ابن ماجة بسند رواته كلهم ثقات عن جرير بن عبد الله البجلي رضي الله عنه قال : كنا نعد الاجتماع عند أهل الميت وصنع الطعام لهم من النياحة .
ولكن أعل الإمام أحمد هذا الأثر .
وقوله : ( فقد أتاهم ما يشغلهم ) .
في هذا دليل على أن الحزن عند فقد الأحبة ليس مذموماً قد تقدم قوله - صلى الله عليه وسلم - : ( إن الله لا يعذب بدمع العين ولا بحزن القلب ) متفق عليه من حديث ابن عمر .
558 - وعن سليمان بن بريدة عن أبيه رضي الله عنهما قال : كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يعلمهم إذا خرجوا إلى المقابر أن يقولوا : ( السلام عليكم أهل الديار من المؤمنين والمسلمين ، وإنا إن شاء الله تعالى بكم للاحقون ، أسأل الله لنا ولكم العافية ) .
رواه مسلم فقال حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة وزهير بن حرب قالا حدثنا محمد بن عبد الله الأسدي عن سفيان عن علقمة عن سليمان بن بريدة عن أبيه به.
وفي الباب عن عائشة رواه مسلم في صحيحه وفي الباب أيضاً حديث العلا بن عبد الرحمن عن أبيه عن أبي هريرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - بنحوه رواه مسلم أيضاً في صحيحه وحديث الباب رواه أيضاً أحمد والنسائي وابن ماجه وذكرهُ ابن حبان في صحيحه .
قوله : ( كان رسول الله ( يعلمهم إذا خرجوا إلى المقابر ) .
تقدم عندنا أن زيارة المقابر خاصة بالرجال وأما المرأة فلا يجوز لها أن تزور المقابر فعلى هذا يكون قوله يعلمهم أي يعلم الرجال دون النساء .
قوله: ( إذا خرجوا إلى المقابر ) .(1/91)
فيه دليل على مشروعية زيارة المقابر إلا أنه لا يشرع للمسلم أن يتخذ القبور أعياداً فالمشروع للمسلم أن يفاوت بين الزيارة ولا يتخذ لنفسه يوماً معينا لا يزور المقابر إلا فيه قال - صلى الله عليه وسلم - ( لا تتخذوا قبري عيداً ) والحديث صحيح رواه أبو داود وغيره من حديث أبي هريرة .
قال شيخ الإسلام والعيد إسم لما يعود إما بعود السنة أو الشهر أو الأسبوع .
قوله : ( السلام عليكم أهل الديار من المؤمنين والمسلمين ) .
في هذا دليل على المغايرة بين المؤمن والمسلم فكل مؤمن مسلم وليس كل مسلم مؤمنا إلا أنه لا ريب أن الإسلام يحتاج إلى إيمان يصحح الإسلام فلا يمكن أن يُوجد عبد مسلم ليس بمؤمن أبداً فالصلاة من الإيمان وأنه لابد أن يكون هذا مؤمنا بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الأخر وأن يكون مؤمناً بالقدر خيره وشره وهذا كله من الإيمان أما إذا أفرد الإسلام فيدخل فيه الإيمان وإذا جمعا فيراد بالإيمان ما يعقد عليه المرء في قلبه ويراد بالإسلام الانقياد والعمل بأوامر الشرع الظاهرة وفي الحديث دليل على أن الأموات ينتفعون بالدعاء لهم فلو لم يكن الميت ينتفع بالدعاء ما كان للدعاء معنى ولذلك أجمع العلماء على أن الميت ينتفع بدعاء الغير له نقله النووي وشيخ الإسلام وجماعة آخرون والصحيح أيضاً أن جميع القرب المالية و البدنية تصل إلى الأموات كما هو مذهب الإمام أحمد وهو اختيار شيخ الإسلام في أحد قوليه وانتصر لهذا القول الإمام ابن القيم في كتاب الروح فقد بحث هذه القضية وذكر أدلة المجيزين والمانعين وتوصل في النهاية إلى أن القرب جميعها تصل إلى الأموات سواء كانت مالية أو بدنية.
وفي الحديث مشروعية الدعاء للأموات وقد استدل بهذا الحديث بعض العلماء على أن الميت ترد عليه روحه حين السلام عليه كما وضح هذا ابن القيم في كتاب الروح وشيخ الإسلام في كتاب الجنائز .(1/92)
559 - وعن ابن عباس قال : مر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بقبور المدينة ، فأقبل عليهم بوجهه فقال : ( السلام عليكم يا أهل القبور ، يغفر الله لنا ولكم , أنتم سلفنا ونحن بالأثر ) .
رواه الترمذي من طريق قابوس ابن أبي ظبيان عن أبيه عن ابن عباس به .
وقابوس قال عنه أحمد ليس بذاك وقال أبو حاتم لا يحتج بحديثه ضعيف لين الحديث وضعفه يحيى بن معين والنسائي والدار قطني وغيرهم .
ووثقه يعقوب بن سفيان . والصحيح أنه لين الحديث كما هو قول أكثر المحدثين وحديث الباب احتج به بعض الفقهاء المتأخرين على مشروعية السلام على أهل القبور وإن لم يدخل المرء المقبرة فمجرد المرور عليهم يكفي بالسلام عليهم وهذا فيه نظر لأن حديث الباب ضعيف ولا يصح الاحتجاج به والسلام لا يشرع إلا إذا دخل المسلم المقابر أما مجرد المرور عليهم فلا يكفي بالسلام ومثله يحتاج إلى دليل وحديث الباب ضعيف الإسناد والكتابات الموجودة : لا تنسوا السلام على الأموات إذا مررتم بهم . هذا من فعل الذين لا يعلمون فليس هناك حديث عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صحيح يقتضي التجويز فضلاً عن مشروعية السلام لمن مر بالقبور ولم يدخل المقابر .
560 - وعن عائشة رضي الله عنها قالت : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( لا تسبوا الأموات فإنهم قد أفضوا إلى ما قدموا ) . رواه البخاري .
قال البخاري رحمه الله حدثنا أدم بن أبي إياس قال حدثنا شعبة عن الأعمش عن مجاهد عن عائشة .
561 - ورواه الترمذي في جامعه وأحمد بن حنبل في مسنده وابن حبان في صحيحه عن المغيرة بن شعبة وزاد في آخره ( فتؤذوا الأحياء ) وقد ذكر الترمذي في إسناده اختلافا .
قوله : ( لا تسبوا الأموات ) .
قال بعض أهل العلم يشمل هذا المسلمين والكافرين فيحرم سب الأموات على هذا القول وإن كان الميت كافراً وقال بعض أهل العلم هذا خاص بأموات المسلمين لأنه قد أفضى إلى ما قدم .(1/93)
وقال بعض أهل العلم بالتفصيل فقول الرسول - صلى الله عليه وسلم - لا تسبوا الأموات إن كان الميت كافراً ويتأذى قريبه الحي المسلم بسبه حينئذ يحرم سبه وأما إذا كان لا يتأذى أحد بسبه أو كان الكافر مؤذياً للمسلمين متعرضاً لحرماتهم فمثل هذا لا يحرم سبه ، وأما إذا كان الميت مسلماً فإن كان مبتدعاً فيسب ليحذر شره ولكن ينبغي أن يعرض عن سبه حال وجود أقاربه ، وأما إذا كان الميت من سائر أموات المسلمين لا يعرف وإن كان ليس بصاحب طاعة فحينئذ يحرم سبه فقد أفضى إلى ما قدم ولأنه مسلم له حرمة والتفكه بحرمات المسلمين لا يجوز وقد بين النبي - صلى الله عليه وسلم - السبب في النهي عن سب الأموات يقول - صلى الله عليه وسلم - : ( فإنهم قد أفضوا إلى ما قدموا ) .
فلربما كان هذا الرجل الذي تسبه من أهل الجنة وأنت من أهل النار فلذلك ينبغي للمسلم أن يعرض عن لحوم أموات المسلمين فإن في هذا مفاسد منها أنه نوع من أنواع الغيبة ومنها أن هذا السب أذية للأحياء ومنها أنك تعرض نفسك للسب أيضاً .
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على خيرة العباد أجمعين أما بعد فقد وقفت على كتاب الجنائز شرح بلوغ المرام وهو من إملائي وكلامي فلا مانع من نشره للاستفادة منه .
كتبه سليمان بن ناصر العلوان
1/8/1417هـ(1/94)
كتاب الصيام
الصيام في اللغة الإمساك يقال خيلُ صيام أي ممسكة الصهيل ومنه قوله تعالى على أحد التفاسير في الآية : { إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْمًا} أي إمساكاً عن الكلام .
وأما الصيام في الشرع فهو إمساك بنية عن أشياء مخصوصة في زمن مخصوص من شخص مخصوص .
فقوله إمساك بنية فالصيام لايصح إلا بنية قبل الفجر لقول ابن عمر وحفصة وجماعة من الصحابة ( لا صيام لمن لم يبيت النية قبل الفجر ) وسيأتي إن شاء الله الكلام عن هذا الحديث وهذه المسألة .
قوله : عن أشياء مخصوصة كالأكل والشرب والجماع هذه الأمور الثلاثة أجمع العلماء على وجوب اجتنابها حال الصيام، وهناك أشياء مختلف فيها سيأتي إن شاء الله تحقيق القول فيها .
قوله : في زمن مخصوص قال تعالى : { وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمْ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنْ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنْ الْفَجْرِ } ( 187 ) سورة البقرة ) .
فيمسك المرء عن الأكل والشرب والجماع من طلوع الفجر الثاني إلى غروب الشمس قوله من شخص مخصوص أي مسلم عاقل بالغ قادر تزيد المرأة غير حائض ولا نفساء .
استفتح المؤلف رحمه الله تعالى كتاب الصيام بحديث أبي هريرة .
608/ عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( لاتقدموا رمضان بصوم يوم ولا يومين ، إلا رجل كان يصوم صوماً فليصمه). هذا الحديث متفق على صحته .
قال البخاري رحمه الله حدثنا مسلم بن إبراهيم قال حدثنا هشام عن يحيى بن أبي كثير عن أبي سلمة بن عبد الرحمن عن أبي هريرة به .(1/1)
وقال مسلم رحمه الله حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة وأبو كريب قال أبو بكر حدثنا وكيع عن علي بن المبارك عن يحيى بن أبي كثير عن أبي سلمة بن عبدالرحمن به . ورواه أحمد وأهل السنن وقال الترمذي حديث حسن صحيح، ورواه من طريق محمد بن عمرو عن أبي سلمة عن أبي هريرة مرفوعاً ... بلفظ (لا تقدموا الشهر بيوم ولا بيومين إلا أن يوافق ذلك صوماً كان يصومه أحدكم صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته فإن غُمّ عليكم فعدوا ثلاثين ثم أفطروا ) .
قوله : [ لاتقدموا رمضان ] .
اختلف العلماء رحمهم الله في النهي هل هو للتحريم أم للتنزيه أم في ذلك تفصيل ذهب الإمام أحمد في إحدى الروايتين إلى أن النهي هنا للتحريم وهذا هو اختيار جماعة من المحققين لأن الأصل في النهي أن يكون للتحريم مالم يصرف ذلك صارف أوتدل قرينة على أن المراد الاستحباب أوغيره .
وذهب بعض العلماء إلى أن النهي للتنزيه . وذهبت طائفة ثالثة إلى التفصيل فقالوا يجوز تقدم رمضان بيوم إذا كان ثم غيم وهذا مروي عن عبدالله بن عمر وعن جماعة من فقهاء الحنابلة، وفيه نظر وفعل ابن عمر رضي الله عنه اجتهاد منه والأدلة على خلافه وقد تجاوز بعض الفقهاء أمر الجواز فقال صيام بوجوب صيام يوم الشك إذا كان هناك غيم وهذا قول ضعيف لا دليل عليه لا من كتاب ولامن سنه بل الأدلة على خلافه كما سيأتي إن شاء الله تعالى.
قوله : [ بصيام يوم أو يومين ] .(1/2)
اختلف الفقهاء المانعون من تقدم رمضان بصوم في الحكمة من هذا فقال بعضهم لئلا يصل شعبان برمضان فيخلط المستحب بالواجب وقال آخرون إن الحكمة تعبدية وقال آخرون نهي عن تقدم رمضان بيوم أويومين لئلا يظن ظان وجوب الصيام في شعبان وقيل لأن الحكم علق بالرؤية فمن تقدمه بيوم أويومين فقد حاول الطعن في ذلك الحكم واختار هذا ابن حجر والأقوال في ذلك كثيرة والمهم أن نعرف أن تقدم رمضان بيوم أويومين لايجوز باستثناء من عليه صيام واجب يريد قضاءه فلا مانع من تقدم رمضان بيوم أويومين وكذلك من له عبادة يصوم يوماً ويفطر يوماً أوكانت له عبادة يصوم معظم شعبان لفضل شعبان فلا مانع حينئذٍ أن يتقدم رمضان بيوم أويومين، إنما المحذور أن يتقصد صيام هذين اليومين أو الثلاثة ولم يكن يصوم من قبل . والله أعلم .
قوله : [ إلا رجل كان يصوم صوماً فليصمه ] .
لفظ مسلم ( إلا رجلاً ) .
وعند البخاري [ إلا أن يكون رجلٌ ] أي إلا أن يوجد رجل .
فإن قال قائل روى أبو داود والترمذي وجماعة من طريق العلا بن عبدالرحمن بن يعقوب الحرقي مولاهم عن أبيه عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: [ إذا انتصف شعبان فلا تصوموا ] .
وظاهر حديث الباب يعارض هذا لأن حديث الباب إنما نهى عن تقدم رمضان بيوم أو يومين وحديث العلا يدل على أنه إذا انتصف شعبان فلا يجوز حينئذٍ الصيام.(1/3)
وقد اختلفت مسالك العلماء للجمع بين هذين الخبرين فقال الروياني أحد فقهاء الشافعية إنه يحرم التقدم بيوم أو يومين ويكره التقدم من نصف شعبان .. وفيه نظر وذهب الإمام أحمد وابو حاتم وجماعة من أهل الفقه والنظر إلى الطعن بحديث العلا بن عبدالرحمن وإنكاره حتى إن جماعة من المحدثين ضعفوا العلا من أجل هذا الحديث وذهبت طائفة أخرى إلى تصحيح الحديث منهم أبو داود والترمذي وجماعة لأن العلا ثقة وقد روى الإمام مسلم رحمه الله في صحيحه للعلا بن عبدالرحمن عن أبيه نحواً من خمسين حديثاً وتلقى حديثه أكثر العلماء بالقبول وحملوا حديثه على من يتقصد صيام النصف الأخير من شعبان لحال رمضان ثم قال بعضهم النهي للتحريم وقال آخرون النهي للتنزيه وقالوا عن حديث ( لاتقدموا رمضان بيوم ولا يومين) بإنه لا مفهوم له وحديث العلا منطوق والمنطوق يقدم على المفهوم وفيه نظر ، وسيأتي إن شاء الله بحث هذا المسألة وبيان الراجح فيها على حديث العلاء عن أبيه عن أبي هريرة في باب صوم التطوع ومانُهي عن صومه.
609/ وعن عمار بن ياسر رضي الله عنه قال : من صام اليوم الذي يشك فيه فقد عصى أبا القاسم صلى الله عليه وسلم .
هذا الحديث ذكره البخاري رحمه الله معلقاً في صحيحه وقد جزم البخاري رحمه الله بصحته وقد رواه الإمام أحمد وأهل السنن وابن حبان في صحيحه وابن خزيمة كلهم من طريق عمرو بن قيس الملائي عن أبي إسحاق السبيعي عن صلة بن زفر قال كنا عند عمار بن ياسر فأُتي بشاة مصلية فقال : ( كلوا فتنحى بعض القوم فقال : إني صائم فقال عمار رضي الله عنه من صام اليوم الذي يشك فيه فقد عصى أبا القاسم صلى الله عليه وسلم ) .
وهذا سند صحيح قال أبو عيسى هذا حديث حسن صحيح وصححه الإمام الكبير الدارقطني رحمه الله وصححه الحاكم على شرط الشيخين وسكت عنه الذهبي وصححه ابن خزيمة وابن حبان وغيرهم كثير من الحفاظ .(1/4)
والحديث يدل على تحريم صيام يوم الشك والتفصيل فيما إذا كان يوم غيم أو عدمه لا دليل عليه والصحيح المنع وأن النهي للتحريم سواء كان يوم غيم أولم يكن هذا الذي دل عليه منطوق حديث أبي هريرة السابق وحديث عمار هنا، وقول عمار [ فقد عصى أبا القاسم صلى الله عليه وسلم ] .
دليل على أن عند عمار علماً عن النبي صلى الله عليه وسلم بالنهي عن صيام يوم الشك وإلا فلا يمكن لعمار أن يقطع بأنه عصى النبي صلى الله عليه وسلم وليس هناك دليل عنده على النهي وذهب جماعة إلى أن قول عمار رضي الله عنه موقوف لفظاً مرفوع حكماً قال ابن عبد البر هو مسند عندهم لايختلفون في ذلك وسوف يأتي زيادة بيان لهذه القضية.
610/ وعن عبدالله بن عمر رضي الله عنهما قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : ( إذا رأيتموه فصوموا وإذا رأيتموه فأفطروا، فإن غم عليكم فاقدروا له ) متفق عليه .
قال البخاري رحمه الله حدثنا يحيى بن بكير قال حدثنا الليث عن عقيل بن خالد عن الزهري عن سالم بن عبدالله عن ابن عمر به .
وقال مسلم رحمه الله حدثنا حرملة بن يحيى قال حدثنا ابن وهب قال أخبرنا يونس عن الزهري به .
قوله ولمسلم ( فأن أغمي عليكم فاقدروا له ثلاثين ) .
هذه الرواية رواها مسلم من طريق أبي أسامة قال حدثنا عبيد الله بن عمر عن نافع عن ابن عمر .
ورواها مسلم من طريق يحيى عن عبيد الله ولم يذكر لفظة [ ثلاثين ] قال ذلك مسلم رحمه الله في صحيحه .
وأيضاً جاء الخبر في الصحيحين من طريق مالك عن نافع عن ابن عمر وليس فيه [ثلاثين] وهذا اللفظة شاذه .
ولكن جاءت في البخاري من حديث أبي هريرة بلفظ ( فأكملوا عدة شعبان ثلاثين ) .
ذكرها البخاري في صحيحه عن أدم ابن أبي إياس قال حدثنا شعبة قال حدثنا محمد بن زياد عن أبي هريرة به .
ورواها مسلم في صحيحه من طريق الزهري عن سعيد بن المسيب عن أبي هريرة مرفوعاً بلفظ ( فصوموا ثلاثين يوماً ) .
قوله [ إذا رأيتموه فصوموا ] .(1/5)
في هذا دليل على إبطال الحساب في دخول الشهور وخروجها وأنه لابدَّ من الرؤية وقد اتفق الأئمة الأربعة رحمهم الله على تحريم الاعتداد بالحساب واتفقوا على أن الحساب لايعتد به في الشهور لا في رمضان ولافي غيره وأن المعتبر في هذا هو الرؤية . لقوله صلى الله عليه وسلم : [ صوموا لرؤيته ] . وقد احتج بالحديث بعض الأئمة كأحمد وغيره على أن رؤية الهلال في بلد تكفي عن رؤيته في البلاد الأخرى. وذلك لعموم قوله : ( صوموا لرؤيته ) . وأهل العلم اختلفوا في هذه المسألة على مذاهب :
الأول : ماتقدم ذكره وهو قول أحمد والمشهور عن المالكية أنه إذا رآه أهل بلد لزم أهل البلاد الأخرى مالزمهم .
الثاني : أن لكل بلد رؤيتهم وهذا مذهب ابن عباس والقاسم بن محمد وإسحاق بن راهويه ، ودليل هذا مارواه مسلم في صحيحه من طريق محمد بن أبي حرملة عن كريب أن أم الفضل بنت الحارث بعثته إلى معاوية بالشام قال فقدمت الشام فقضيت حاجتها واستهل علىّ رمضان وأنا بالشام فرأيت الهلال ليلة الجعمة ثم قدمت المدينة في آخر الشهر فسألني عبد الله بن عباس رضي الله عنهما ثم ذكر الهلال فقال متى رأيتم الهلال فقلت رأيناه ليلة الجمعة فقال أنت رأيته فقلت نعم ورآه الناس وصاموا وصام معاوية فقال لكنّا رأيناه ليلة السبت فلا نزال نصوم حتى نكمل ثلاثين أونراه فقلت أولا تكتفي برؤية معاوية وصيامه فقال لا هكذا أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم .
فابن عباس لم يعمل برؤية أهل الشام وكان حاكم المسلمين واحداً ولا ذكر عن أحد من الصحابة مخالف لابن عباس قال الترمذي في جامعه ( والعمل على الحديث عند أهل العلم أن لكل أهل بلد رؤيتهم ) وقوله هكذا أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم يحتمل أن ابن عباس حفظ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قولاً على أنه لايلزم أهل بلد العمل برؤية أهل البلاد الأخرى ، ويحتمل أن يكون قاله اجتهاداً وفهماً .(1/6)
القول الثالث : أنه إذا اتفقت المطالع لزمهم الصوم وإلا فلا وهذا المشهور عند فقهاء الشافعية واختاره ابن تيمية وفيه أقوال أخرى وأظهرها القول الثاني ولاسيما في هذا العصر حين صار لكل بلد حاكم يحكمه والكثير يعتمدون على الحساب دون الرؤية ، وأما الذين يعيشون في غير البلاد الإسلامية فيمسكون مع أقرب بلد إسلامي فإن لم يكن فيتابعون أهل مكة ولو اجتهدوا في رؤية الهلال وصاموا على تحريهم لأجزأ ذلك والله أعلم .
قوله : [ وإذا رأيتموه فأفطروا ] .
ماقيل في الصيام يقال في الفطر أيضاً فلابد من رؤيته بالأبصار وهل تصح رؤيته بالمنظار والمكبرات والأشياء المقربة هذه آلات حادثة لم يتكلم عليها الأوائل رحمهم الله ولكن من حيث الدليل والتعليل الصحيح أنه يعتد بهذه المكبرات في
قوله : [ فإن غم عليكم فاقدروا له ] .
ذهب بعض فقهاء الحنابلة إلى أن المعنى ( ضيقوا عليه ) ومن ثم جوز هؤلاء بل استحبوا صيام يوم الشك وفي هذا نظر فقد تقدم تحريم صيام يوم الشك لحديث عمار وقد تقدم صحته وأما تفسيرهم فاقدروا له بمعنى ضيقوا عليه فهذا غلط أيضاً لأنه جاء في الأحاديث الصحاح مايفسر هذه اللفظة وأن المعنى [ فأكملوا عدة شعبان ثلاثين ] هكذا ذكره ابن عمر وأبو هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم.
والحديث يدل على النهي عن صيام يوم الشك وأن الواجب عندما يحول الغيم دون رؤية الهلال أن نتم العدة وتمام العدة أن تكمل عدة شعبان ثلاثين يوماً .
611/ وعن ابن عمر رضي الله عنهما قال : تراءى الناس الهلال، فأخبرت النبي صلى الله عليه وسلم أني رأيته، فصام، وأمر الناس بصيامه ) .(1/7)
هذا الحديث رواه الدارمي وأبو داود والحاكم والبيهقي والدارقطني كلهم من طريق يحيى بن عبدالله بن سالم قال حدثنا أبو بكر بن نافع عن أبيه عن ابن عمر به وصححه ابن حبان والحاكم. ويحيى بن عبدالله قال عنه يحيى بن معين صدوق ضعيف الحديث وقال عنه النسائي مستقيم الحديث ووثقه الإمام الدارقطني رحمه الله وذكر عنه الحافظان الذهبي وابن حجر عليهما رحمة الله بأنه صدوق . وبقية رجاله ثقات . والحديث إسناده صحيح .
وقد ذكر الإمام أبو محمد بن حزم رحمه الله بأن الخبر صحيح ذكر ذلك عنه الحافظ في التلخيص ولم يتعقبه بشيء .
والحديث يدل على الإجتزاء بشاهد واحد في دخول رمضان وتجزئ المرأة في هذا وبهذا قال أكثر العلماء كأحمد والشافعي في أحد قوليه وأبي حنيفة وجماعة من أهل الفقه والنظر بينما ذهب الإمام مالك رحمه الله وطائفة من أهل العلم إلى أنه لابد من شاهدين في الدخول كما أنه لابد من شاهدين في الخروج واستدل رحمه الله بحديث ابن عمر السابق [ صوموا لرؤيته ] ويشترط في الرائي أن يكونوا جمعاً، والجمع عندهم إثنان فأكثر أما الواحد فلا يعتد في رؤيته والصحيح القول الأول وحديث ابن عمر صحيح صريح وهو مفسّر لحديث ( صوموا لرؤيته ) فيجب القول به والعمل بمقتضاه لأن الدخول مبني على الاحتياط ومن الاحتياط أن نتعجل دخوله بشاهد واحد ولو امرأة ولايشترط قبول الشهادة بلفظ الإشهاد أوقبول قول القائل بلفظ الاشهاد بل بمجرد إخباره إذا كان مستقيماً مسلماً نقبل قوله ولا نقول له اشهد بأنك رأيته فإن هذا ليس عليه دليل صحيح .
612/ وعن ابن عباس رضي الله عنهما أن أعرابياً جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال : ( إني رأيت الهلال فقال : ( أتشهد أن لا إله إلا الله قال : نعم . قال ( أتشهد أن محمداً رسول الله : قال : نعم . قال : فأذن في الناس يابلال : أن يصوموا غداً ) .(1/8)
هذا الخبر رواه الإمام أحمد وأهل السنن من طريق زائده بن قدامة عن سماك ابن حرب عن عكرمة عن ابن عباس به .
وصححه ابن خزيمة وابن حبان وذكر الإمام أبو داود رحمه الله في سننه بأن جماعة رووه عن سماك عن عكرمة مرسلاً .
قال الترمذي في جامعه وأكثر أصحاب سماك يروونه عنه عن عكرمة مرسلاً وصوّب هذا الإمام النسائي رحمه الله وهو الحق فقد رواه الإمام النسائي في سننه من طريق سفيان ورواه أبو بكر بن أبي شيبة من طريق إسرائيل .
ورواه أبو داود من طريق حماد ثلاثتهم عن سماك بن حرب عن عكرمة مرسلاً ومن أرسله أضبط وأحفظ وأكثر ممن وصله فتعين بهذا ترجيح إرساله إلا أنه يشهد له حديث ابن عمر السابق .
والحديث دليل على الإكتفاء برؤية هلال رمضان بشهادة واحد ودليل على أنه لايقبل بالشهادة إلا مسلم لقوله أتشهد أن لا إله إلا الله قال نعم قال أتشهد أن محمداً رسول الله قال : نعم فلم يقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم قوله حتى نطق بالشهادتين ويكفي على الصحيح مجرد العلم بالإسلام دون نطق بالشهادتين. وفي الحديث دليل أيضاً على الاكتفاء بصلاح الظاهر . وفي الحديث دليل أيضاً على أنه يتعين على إمام المسلمين أن يعلن دخول شهر رمضان لأن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بلالاً أن ينادي بأن يصوموا غداً .(1/9)
وفي الحديث دليل أيضاً على أن الشرائع لا تلزم إلا بعد البلوغ وهذا هو اختيار شيخ الإسلام رحمه الله فإذا لم يعلموا بدخول شهر رمضان إلا في أثناء النهار فيلزمهم الإمساك دون القضاء لأنه لم يرد في الحديث ولا غيره أمرهم بالقضاء وقيل يقضون هذا اليوم وهو مذهب الأئمة الأربعة وذلك لاستكمال صيام الشهر، وقياساً على صيام عاشوراء، بينما ذهب شيخ الإسلام رحمه الله إلى القاعدة المتقدمة بأن الشرائع لاتلزم إلا بعد البلوغ فمن لم يعلم عن دخول شهر رمضان إلا بعد منتصف النهار فيمسك ولا قضاء عليه وأمّا أمره صلى الله عليه وسلم بالقضاء في يوم عاشوراء . فالحديث رواه أبو داود وغيره ولايصح.
613/ وعن حفصة أم المؤمنين أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( من لم يبيت الصيام قبل الفجر فلا صيام له ) .
هذا الحديث رواه أحمد وأهل السنن وابن خزيمة وابن حبان والدارقطني والبيهقي والحاكم كلهم من طريق ابن وهب عن يحيى بن أيوب وتابعه ابن لهيعة عند أبي داود عن عبدالله بن أبي بكر بن حزم عن الزهري عن سالم بن عبدالله عن ابن عمر عن حفصة به .
قال أبو داود رحمه الله وأوقفه على حفصة معمر والزبيدي وابن عيينة ويونس كلهم عن الزهري .
واختار وقفه الإمام البخاري وقال عن رفعه بأنه مضطرب والإمام النسائي والترمذي في جامعه وابن عبد البر وغيرهم من أكابر المحدثين .وصححه مرفوعاً ابن خزيمة وابن حبان وابن حزم والحاكم وغيرهم .
والصحيح وقفه على ابن عمر وعلى حفصة أما وقفه على ابن عمر فقد رواه مالك في الموطأ عن نافع عن ابن عمر به وهذا إسناد صحيح .
وأما وقفه على حفصة فقد جاء عنها عند النسائي وغيره من طريق عبدالله عن سفيان ابن عيينة ومعمر وجماعة كلهم يروونه عن الزهري عن حمزة عن ابن عمر عن حفصة به وهذا إسناد صحيح .(1/10)
ولايعلم لحفصة وابن عمر مخالف من الصحابة، ولذلك ذهب جماهير أهل العلم بما فيهم الأئمة الأربعة على أن صيام الفرض لايجزئ إلا بنية قبل طلوع الفجر، فمن نوى صيام الفرض بعد طلوع الصبح فلا يصح، ولكن كما قال شيخ الإسلام أن النية تتبع العلم والشرائع لا تلزم إلا بعد البلوغ فمن لم يعلم أن الليلة من رمضان ونام على هذا فلما استيقظ لصلاة الصبح أخبر يمسك حينئذٍ لأن النية تتبع العلم يقول شيخ الإسلام رحمه الله ولا قضاء عليه .
أما الأئمة الأربعة في هذه الصورة فيرون عليه القضاء .
وأما صيام النفل فقد ذهب جمهور العلماء ومنهم الشافعي وأحمد إلى أنه يصح بنية من النهار ثم ذهب أكثرهم إلى أن آخر مدة من النهار زوال الشمس فإن زالت الشمس فلا يصح الصيام، وجوزه آخرون بعد إتفاق المحققين منهم على أن الأجر والثواب لايكون إلا من النية والكل متفقون على أن هذا القول أعني صيام النفل بنية من النهار مالم يأكل أويشرب أويجامع وبلفظ أعم مالم يخرق صومه بمفطر لأن بعض المفطرات مختلف فيها بين الأئمة .
وذهب ابن حزم إلى أن صيام النفل كصيام الفرض لايصح إلا بنية قبل طلوع الفجر.
ودليل الجمهور في هذه المسألة ماذكره المؤلف رحمه الله في هذا الباب وهو حديث عائشة .
614/ وعن عائشة رضي الله عنها قالت : دخل عليّ النبي صلى الله عليه وسلم ذات يوم . فقال ( هل عندكم شيء ) قلنا : لا قال : فإني إذاً صائم ) ثم أتانا يوماً آخر، فقلنا : أهدي لنا حيسٌ فقال ( أرينيه ) فلقد أصبحت صائماً ) فأكل .
هذا الخبر رواه الإمام مسلم رحمه الله في صحيحه فقال حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة قال أخبرنا وكيع قال حدثنا طلحة بن يحيى عن عمته عائشة بنت طلحة عن عائشة رضي الله عنها به .(1/11)
ورواه مسلم أيضاً من طريق عبدالواحد بن زياد عن طلحة بن يحيى بلفظ (قالت عائشة ماعندنا شيء قال فإني صائم قالت فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم فأهديت لنا هدية أوجاءنا زَوْر وقد خبأت لك شيئاً قال ماهو قلت حيس قال هاتيه فجئت به فأكل قال قد كنت أصبحت صائماً ) ظاهر هذه الرواية تخالف الرواية الأولى فإن الرواية الأولى تدل على وقوع الأمر في يومين وهذه الرواية تفيد أن الأمر وقع في يوم واحد .
فعلى رواية الباب الحديث صريح في كون النبي صلى الله عليه وسلم لم ينو الصيام إلا من النهار وهو حجة لجمهور العلماء في هذه القضية .
وعلى الرواية الثانية فظاهرها أن النبي صلى الله عليه وسلم نوى الصيام من الليل لقوله ( قد كنت أصبحت صائماً ) ولأن الحادثة وقعت في يوم واحد، وهذا مذهب ابن حزم رحمه الله فيقول أن النبي صلى الله عليه وسلم قد نوى الصيام قبل الفجر فلم يجد طعاماً فواصل صيامه فلما أُخبر بوجود الطعام أفطر وقال : قد كنت أصحبت صائماً .
والحديث دليل على جواز الإفطار في صوم التطوع ولو بدون عذر وعند الترمذي وغيره من حيث أم هاني ( الصائم المتطوع أمير نفسه إن شاء صام وإن شاء أفطر ) وهو حديث مختلف في صحته وقد حسنه الحافظ العراقي وفيه نظر فقد ضعفه البخاري والترمذي وهو الصحيح وقد ذهب أكثر أهل العلم أحمد وإسحاق والشافعي وغيرهم إلى أن الصائم المتطوع إذا أفطر فلا قضاء عليه .
وذهب الإمامان أبو حنيفة ومالك إلى أنه لايجوز الإفطار بصوم التطوع إلا من عذر وقد قال صاحب المراقي وهو مالكي : ـ
والنفل ليس بالشروع يجب ... في غير ما نظمه مُقَرّب
قف واستمع مسائلاً قد حكموا ... بأنها بالإبتداء تلزم
صلاتنا وصومنا وحجنا
الشاهد ( وصومنا ) .
والصوم عند المالكية يلزم بالشروع وإن كان نفلاً، أما الحنابلة فلا يرون شيئاً من النوافل يلزم بالشروع إلا الحج والعمرة فقد أجمع العلماء على أن الحج والعمرة يلزمان بالشروع .
مسألة :(1/12)
هل تكفي النية بأول يوم من رمضان أم أن كل ليلة تلزمها نية مستقلة ؟
اختلف الفقهاء في هذه المسألة فذهب الإمام أحمد والجمهور إلى أنه يلزم تجديد النية كل ليلة لأن لكل ليلة حكمها ولأن لفظ أثر ابن عمر وحفصة ( لا صيام لمن لم يجمع النية قبل الفجر ) وفي رواية (يبيت) فظاهر الأثر أن لكل ليلة نية مستقلة ولكن ليس معنى هذا أن الإنسان يتكلف النية فيقع بالوسوسة فمجرد قيامه للسحور كافٍ في نية الصيام .
وذهب الإمام مالك وطائفة من أهل العلم إلى أن النية في أول ليلة تكفي عن سائر الشهر واختار هذا القول طائفة من المحققين وقالوا إن النية من أول الشهر تجزي عن النية من كل ليلة ويظهر الخلاف في هذه القضية فيما لو أن شخصاً نام قبل غروب الشمس ولو بدقائق ولم يستيقظ إلا في نهار الغد فإذا قلنا إن لكل ليلة نية خاصة فصيام هذا لايصح بل عليه قضاؤه وإذا قلنا بأن النية من أول الشهر تكفي فصيامه صحيح لأن النية من أول الشهر كافية عن نية الغد .
615/ وعن سهل بن سعدٍ رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال ( لا يزال الناس بخير ماعجلوا الفطر ) .
هذا الحديث متفق على صحته .
قال الإمام البخاري رحمه الله حدثنا عبدالله بن يوسف قال أخبرنا مالك عن أبي حازم عن سهل بن سعد به .
وقال مسلم رحمه الله حدثنا يحيى بن يحيى قال أخبرنا عبدالعزيز بن أبي حازم عن أبيه عن سهل بن سعد به .
ورواه أبو داود في سننه من طريق محمد بن عمرو عن أبي سلمة بن عبدالرحمن عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( لايزال هذا الدين ظاهراً ماعجل الناس الفطر فإن اليهود والنصارى يؤخرون ) .
ورواه الترمذي من طريق الوليد بن مسلم . عن الأوزاعي عن قرة بن عبدالرحمن المعافري عن الزهري عن أبي سلمة عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال قال الله تعالى : ( أحب عبادي إليَّ أعجلهم فطراً ) . وقد تفرد بهذا الحديث الترمذي عن الستة .(1/13)
وهذا الإسناد معلول فقد قال الإمام أحمد رحمه الله عن قرة منكر الحديث جداً وقال يحيى بن معين ضعيف الحديث وقال أبو زرعة أحاديثه مناكير أما ابن عدي رحمه الله فقال لا بأس في أحاديثه .
قوله [ لايزال الناس بخير ] .
أي أن الخير باقٍ في الناس إذا عملوا بالسنة واجتنبوا البدعة ولم يشابهوا اليهود ولا النصارى .
قوله [ ماعجلوا ] .
الما هنا مصدرية ظرفية فيكون المعنى لايزال الناس بخير مدة تعجيلهم الفطر ولايصح أن تكون نافية بل هي مصدرية ظرفية بها يتضح المعنى ويظهر المراد .
والخبر يدل على مشروعية تعجيل الإفطار وقد ذهب الجمهور إلى أنه مستحب غير واجب وجعلوا الصارف في هذا الحديث جواز الوصال إلى السحر .
وقد يقال بوجوب المبادرة إلى الإفطار لمن لم يرد المواصله حتى لايتشبه باليهود ولا النصارى .
والحديث يدل على مشروعية مخالفة اليهود والنصارى وعلى النهي عن التشبه بهم وأن التشبه بهم يذهب شيئاً من الخيرية في الناس فقد جاء في مسند الإمام أحمد رحمه الله بسند جيد كما قال ذلك شيخ الإسلام في الإقتضاء من طريق عبدالرحمن بن ثابت ابن ثوبان قال حدثنا حسان بن عطية عن أبي منيب الجرشي عن ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( من تشبه بقوم فهو منهم ) .
قال شيخ الإسلام في الإقتضاء وظاهره يقتضي كفر المتشبه بهم . وأقل أحواله التحريم .
قوله [ أحب عبادي إليَّ ] .
يدل على إثبات صفة المحبة لله خلافاً للجهمية والأشاعرة وقد تقدم الكلام عن هذه الصفة والرد على من صرفها أو ألحد فيها . ويدل الحديث أيضاً على استحباب تعجيل الفطر .
616/ وعن أنس بن مالك رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( تسحروا فإن في السحور بركة ) .
هذا الحديث متفق على صحته .
قال البخاري رحمه الله حدثنا أدم بن أبي إياس قال حدثنا شعبة عن عبدالعزيز ابن صهيب عن أنس بن مالك به .(1/14)
وقال الإمام مسلم رحمه الله حدثنا يحيى بن يحيى قال أخبرنا هشيم عن عبدالعزيز ابن صهيب به .
قوله [ تسحروا ] .
هذا أمر بالسحور بفتح السين ويجوز ضمها وهذا الأمر للاستحباب عند الأئمة الأربعة وجماهير العلماء سلفاً وخلفاً، وقد نقل ابن المنذر الإجماع على استحباب السحور وكذا نقل هذا الإجماع الإمام النووي رحمه الله في شرحه على صحيح الإمام مسلم وجعلوا الصارف لهذا الأمر مواصلة الصحابة رضي الله عنهم فقد واصل الصحابة يوماً ويوماً أخر ولم ينههم النبي صلى الله عليه وسلم نهي تحريم وإنما كره فعلهم .
والعجيب أن جماعة من الفقهاء خصوصاً فقهاء الشافعية يرون تحريم الوصال كما سيأتي في بابه ومع ذلك لايقولون بوجوب السحور مع أن النبي صلى الله عليه وسلم أكد وأمر به وقال ( تسحروا ) .
وجاء أيضاً في صحيح الإمام مسلم من طريق موسى بن عُلَيّ عن أبيه عن أبي قيس مولى عمرو بن العاص عن عمرو بن العاص أن النبي صلى الله عليه وسلم قال (فصلُ مابين صيامنا وصيام أهل الكتاب أكلة السحر) فهذا الحديث يدل على أن السحور فيه مخالفة لأهل الكتاب ومخالفتهم غاية مقصودة للشارع .
ويدل الخبر أيضاً على أن ترك السحور تشبه في أهل الكتاب وبعض الناس يتساهل في قضية السحور بدعوى أنه لايشتهيه والأولى في حق المسلم ألا يدع السحور ولو على جرعة لبن مخالفة لأهل الكتاب واتباعاً لسنة النبي صلى الله عليه وسلم .
قوله [ فإن في السحور بركة ) .(1/15)
هذه البركة تشمل الدينية وتشمل الدنيوية فمن المصالح الدينية هنا اتباع السنة ومخالفة أهل الكتاب وامتثال الأمر وتعظيم ذلك ومن المصالح الدنيوية التقوى بالسحور على مواصلة الصيام وعدم إنهاك البدن ، وهناك أيضاً مصالح أخرى فإن الشارع حكيم لا يُرغِّبُ في شيء إلا ومصلحته راجحة على مفسدته وربما تتعدد مصالحه وتنتفي مفاسده مطلقاً علم ذلك من علمه وجهل ذلك من جهله فإن الناس تتفاوت أفهامهم وتختلف مداركهم في قضية إدراك مصالح الشريعة وغايتها وحكمها.
617/ وعن سلمان بن عامر الضبي عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إذا أفطر أحدكم فليفطر على تمر، فإن لم يجد فليفطر على ماء، فإنه طهور).
رواه الإمام أحمد والنسائي والترمذي وابن حبان وابن خزيمة والحاكم كلهم من طريق عاصم الأحول قال حدثتني حفصة بنت سيرين عن الرباب عن سلمان بن عامر، وقد جاء في بعض نسخ البلوغ سليمان بن عامر وصوابه سلمان بن عامر.
ورواه أحمد وابن حبان في صحيحه من طريق هشام بن حسان عن حفصة بنت سيرين به .
وقال أبو عيسى هذا حديث حسن صحيح . وصححه ابن خزيمة وابن حبان والحاكم ورواه النسائي في السنن الكبرى وابن حبان وغيرهما من طريق شعبة عن خالد الحذاء عن حفصة بنت سيرين عن سلمان به وهذا إسناد منقطع بين حفصة وسلمان ويتضح هذا بالطرق السابقة والواسطة بينهما الرباب والرباب لم يرو عنها غير حفصة بنت سيرين ولكن صحح لها الترمذي وغيره فمثلها تستحق وصف الصدق ويرمز لحديثها بالحسن .
والحديث يدل على مشروعية الإفطار على التمر وقد جاء في مسند الإمام أحمد وجامع الترمذي من طريق عبدالرزاق قال حدثنا جعفر بن سليمان عن ثابت البناني عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال : (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يفطر على رطبات فإن لم تكن فعلى تمرات فإن لم تكن حسا حسوات من ماء) .(1/16)
قال الترمذي هذا حسن غريب، وقال الإمام الدارقطني رحمه الله هذا إسناد صحيح فهذا يدلنا على فضيلة الفطر على الرطب إن تيسرت وإلا فعلى التمر فإن لم يتيسر لا هذا ولا هذا فلا أقل من أن يفطر على ماء قال صلى الله عليه وسلم ( فإنه طهور ) وهذا علم من أعلام النبوة فإن الماء في المعدة مع خلوها من الطعام مفيد لها ومنظف كما قرر ذلك الطب الحديث وهو موافق لما قرره وشرعه لنا نبي الهدى صلى الله عليه وسلم فقد جاء ديننا الحنيف بطب القلوب وطب الأبدان كما أنه جاء بصلاح الدنيا والآخرة معاً، فقد ذكر العلامة ابن القيم رحمه الله أن للتمر مع الريق مصالح متعددة ذكر منها رحمه الله قتل الدود وتقوية الفم وإعادة الجسم إلى قوته، وقد قرر الطب الحديث أن الصيام يذهب سكريات الجسم وبالفطر على التمر يستعيد المرء قوته وما فقد من السكريات فحينئذٍ يحضى بقوة ونشاط لأن في التمر فيتامينات كثيرة وهو مقوي للبصر وللمعدة أيضاً فكون النبي صلى الله عليه وسلم يخص التمر للإفطار فَلِمَا يشتمل عليه من غذاء الأبدان ومن تقوية الأفهام أما الإفطار على المأكولات الحارة فإنها تؤثر على المعدة وبعض الناس لا يراعي مصلحة جسمه فيفطر على تلك الحوار التي ربما تكون شهية ولكنَّ مغبتها ضارة ومصالحها معدومة واتباع الشرع لا يأتي إلا بخير وتطبيق السنة مصلحة محضة فعلينا مراعاتها والسير على منوالها .
618/ وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال : نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن الوصال ، فقال رجل من المسلمين : فإنك تواصل يارسول الله ؟ فقال : (وأيكم مثلي ؟ إني أبيت يطعمني ربي ويسقيني ) فلمَّا أبوا أن ينتهوا عن الوصال واصل بهم يوماً، ثم يوماً ثم رأوا الهلال، فقال : ( لو تأخر الهلال لزدتكم ) كالمنكل، لهم حين أبو أن ينتهوا هذا الخبر متفق عليه .(1/17)
قال البخاري رحمه الله حدثنا أبو اليمان قال أخبرنا شعيب ابن أبي حمزة قال حدثنا الزهري عن أبي سلمة بن عبدالرحمن عن أبي هريرة به .
وقال مسلم رحمه الله حدثنا حرملة بن يحيى حدثنا ابن وهب عن يونس عن الزهري به .
ورواه مسلم رحمه الله من طرق عن أبي هريرة، ورواه البخاري أيضاً من طريق عبدالرزاق عن معمر عن همام بن منبه عن أبي هريرة به .
ورواه من طريق أبي الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة به . ورواه البخاري ومسلم من طريق هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة قالت نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الوصال رحمةً لهم ... )
قوله : [ نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الوصال ] .
الأصل في النهي أن يكون للتحريم مالم يمنع من ذلك مانع، وقد ذهب إلى تحريم الوصال الإمام أبو حنيفة ومالك والشافعي وكرهه كراه تنزيه طائفة أخرى منهم عبدالرحمن بن أبي ليلى وأبو الجوزاء وأخرون .
وفصل فيه فقهاء الحنابلة فقالوا المواصلة إلى السحر لا بأس بها والزيادة على ذلك مكروهة وقال بعضهم بالتحريم .
وقد روى الإمام أبو داود بسند صحيح من طريق عبدالرحمن ابن أبي ليلى قال حدثني بعض أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم (نهى عن الوصال والحجامة للصائم ولم يحرمهما إبقاءً على أصحابه) فهذا الخبر يفيد أن النهي عن الوصال للتنزيه لا للتحريم إذ لو كان النهي للتحريم لما واصل النبي صلى الله عليه وسلم بأصحابه يوماً ثم يوماً حتى رأوا الهلال .
وأيضاً لو كان الأمر للتحريم لحسم النبي صلى الله عليه وسلم الأمر بالإنكار عليهم ولما نكل بهم ولذلك جاء عن جماعة من الصحابة أنهم يواصلون حتى أن عبدالله بن الزبير كان يواصل خمسة عشر يوماً . رواه عنه أبو بكر بن أبي شيبة في المصنف ورواته كلهم ثقات .
قوله [ قالوا يارسول الله إنك تواصل ] .(1/18)
ظاهر هذا أنّ أصحابه كانوا يواصلون إقتداءً بالنبي صلى الله عليه وسلم لقول الله جل وعلا { لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا (21) } ( سورة الأحزاب ) .
ويستفاد من الحديث أيضاً أن ماعمله النبي صلى الله عليه وسلم يشرع لنا الإقتداء به مالم يرد دليل في الخصوصية . وقد قال في المراقي :
ومابه قد خوطب النبي ... ... تعميمه في المذهب السني
قوله : [ إني لست كهيئتكم ] .
فيه إثبات خصوصية الوصال للنبي صلى الله عليه وسلم يدل على ذلك قوله صلى الله عليه وسلم " إني أبيت يطعمني ربي ويسقيني " وهذا الطعام والشراب ليس حسياً ومن فهم هذا فقد غلط وإنما مراده صلى الله عليه وسلم ، إن الذي يحصل لي من المعرفة بربي والاشتغال بذكره والمداومة على عبادته يغنيني عن الطعام وعن الشراب .
وقد قيل إن ظواهر الأحاديث ولا سيما حديث عائشة تفيد أن النهي عن المواصلة من أجل المشقة ومن لا يشق عليه لا يمنع من الوصال وهذا قول طائفة من فقهاء الحنابلة وغيرهم ويجاب عن هذا بأنه قد ثبت النهي عن المواصلة لأن من شأن الوصال المشقة والملل في العبادة فوقع النهي عن ذلك لما يترتب عليه من هذه المضار والله أعلم .
ونستفيد من الحديث رأفة النبي صلى الله عليه وسلم بالأمة حيث نهاهم عن الوصال لئلا يشق عليهم، وهذا معنى قول الله جل وعلا { لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ (128)} ( سورة التوبة ) .
قوله [ فواصل بهم يوماً ثم يوماً حتى رأوا الهلال ] .
هذه اللفظة قرينة على أن النهي في أول الحديث ليس للتحريم إذ لو كان النهي للتحريم لما نكل النبي صلى الله عليه وسلم بهم في المحرمات بل لنهاهم فوجب عليهم حينئذ الامتثال .(1/19)
619/ وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( من لم يدع قول الزور والعلم به والجهل ، فليس لله حاجة أن يدع طعامه وشرابه ) .
هذا الحديث رواه الإمام البخاري في صحيحه فقال حدثنا آدم ابن أبي إياس قال حدثنا ابن أبي ذئب عن سعيد المقبري عن أبيه عن أبي هريرة .
والحديث رواه أبو داود في سننه عن شيخه أحمد بن يونس قال حدثنا ابن أبي ذئب فذكره دون قوله و (الجهل) والمؤلف يقول واللفظ لأبي داود وصوابه أن اللفظ للبخاري فقد رواه رحمه الله في كتاب الأدب من صحيحه فقال حدثنا أحمد بن يونس قال أخبرنا ابن أبي ذئب فذكره وعنده والجهل .
قوله [ من لم يدع قول الزور ] .
أي من لم يترك، قول الزور والزور يطلق على الكذب ويطلق على ماهو أعم من الكذب كقول الباطل والعمل بمقتضاه وقوله جل وعلا { وَالَّذِينَ لاَ يَشْهَدُونَ الزُّورَ } قيل لايشهدون شعانين المشركين ولا أعيادهم والحق أن الآية أعم من هذا والصحيح في معنى الزور أنه يشمل كل باطل مخالفاً لكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم إلا أنه في الشهادات أخص منه في غيره فمن يشهد شهادة كذب فهذا يدخل في الزور دخولاً أولياً .
قوله [ والجهل ] .
أي السفه وفي دعاء الخروج من المنزل ( اللهم إني أعوذ بك أن أضل أو أُضل أو أزل أو أُزل أو أظلم أو أُظلم ـ الشاهد ـ أو أجهل أو يُجهل عليَّ ) ومن الجهل الإساءة إلى الآخرين والتعرض لحرمات المؤمنين وليس المراد بالجهل هنا الذي هو ضد العلم فهذا وإن كان مذموماً إلا أنه غير مراد في الحديث فالمراد بالجهل هنا السفه والوقوع بالخطأ بحق الأخرين.
قوله [ فليس لله حاجة ] .
هذا لا مفهوم له فلا يقال في الحديث يفهم منه أنه إذا ترك قول الزور والعمل به والجهل فلله فيه حاجة هذا الحديث لامفهوم له لأن الله غنيٌ عن العباد .(1/20)
قال تعالى : { يَاأَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمْ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ (15)} ( سورة فاطر ) . غنى مطلق من جميع الوجوه فلا يحتاج ربنا جل وعلا إلى أحد من عباده وإنما خلقهم ليعبدوه لم يخلقهم من قلة فيستكثر بهم ولا من ضعف فيستنصر بهم ولا من وحشة فيستأنس بهم فمن ظن هذا فقد ظن بربه ظن السوء وهذا من أقبح أنواعه وهو كفر باتفاق أهل العلم فالمعنى إذاً من الحديث أن من لم يدع قول الزور والعمل به والجهل فالله جل وعلا غنيٌ عن إمساكه عن الطعام والشراب لأن حقيقة الصوم الإعراض عن حرمات الآخرين وحفظ اللسان والفرج وليس الصوم مجرد إمساك عن الطعام وعن الشراب كما هو صوم الكسالى الذين يسهرون معظم الليل وربما صلى الفجر وربما لم يصلّ فينامون إلى صلاة الظهر هذا الكيس منهم وإلا فبعضهم لايصلون ولايستيقظون إلا مع غروب الشمس وهذا في الحقيقة ليس صياماً إنما هو نوم ولعب وكسل مثل هؤلاء مأزورون غير مأجورين . وهؤلاء ليس لله فيهم حاجة .
والحديث يدل على أن قول الزور يدخل في ذلك . والغيبة والنميمة وتتبع عورات المسلمين تنقص ثواب الصيام ولاتبطله باتفاق أهل العلم خلافاً لابن حزم رحمه الله فإنه يرى أن قول الزور والجهل وسائر المعاصي من الغيبة والنميمة وأكل الربا تبطل الصيام وهذا قول مرجوح فلا يُبْطِلُ الصيامَ إلا أشياءُ حسية مخصوصة جاء النص بها الأكل والشرب والجماع وماعداها فمختلف فيه .
620/ وعن عائشة رضي الله عنها قالت : ( كان النبي صلى الله عليه وسلم يُقبل وهو صائم ويباشر وهو صائم ، ولكنه كان أملككم لإربه ) .
هذا الحديث متفق على صحته .
قال الإمام البخاري رحمه الله حدثنا سليمان بن حرب قال حدثنا شعبة عن الحكم عن إبراهيم عن الأسود عن عائشة رضي الله عنها .
وقال الإمام مسلم رحمه الله حدثنا شجاع بن مخلد قال حدثنا يحيى بن أبي زائدة عن الأعمش عن مسلم عن مسروق عن عائشة به.(1/21)
وقوله زاد مسلم [ في رمضان ] لفظ الإمام مسلم (في شهر الصوم) جاءت هذه الزيادة من طريق زياد بن علاقة عن عمرو بن ميمون عن عائشة به .
قولها [ كان النبي صلى الله عليه وسلم يقبل وهو صائم ] .
في هذا دليل على جواز التقبيل للصائم وأن القبلة لاتفسد الصيام ولاتنقص ثوابه وقد سئلت عائشة رضي الله عنها عما يحل للصائم من إمرأته ؟ فقالت اتق الفرج رواه الطحاوي في شرح المعاني والأثار ورواه عبدالرزاق بمعناه في المصنف.
وصححه الحافظ ابن حجر في فتح الباري .
وهو دليل على أن الصائم لايمتنع عن زوجته إلا مايمتنع منها وهي حائض وقد اختلف الفقهاء رحمهم الله في حكم التقبيل للصائم فبعض العلماء بالغ فقال إنه محرم وليس مع أصحاب هذا القول دليل سوى قول عائشة ( وكان أملككم لإربه) والإنسان الذي لايملك إربه ربما جامع أهله عند ثوران الشهوة .
وقال بعض العلماء بالكراهة ونظير هذا القول قول ابن حزم وبعض علماء الظاهر بأن القبلة في نهار رمضان مستحبة .
والحق التوسط واتباع الأدلة بلا تفريط أو إفراط فحديث الباب يدل على الجواز ليس غير ولكن من غلب على ظنه أومن علم من نفسه قوة الشهوة فيخاف على نفسه الوقوع بالمحظور فعليه باجتناب القبلة من باب فمن اتقى الشبهات فقد استبرأ لدينه وعرضه، وأما من علم من نفسه عدم الوقوع في المحظور فالقبلة جائزة للصائم والله أعلم .
قولها [ وكان يباشر وهو صائم ] .
احتج بهذا الإمام ابن خزيمة رحمه الله على جواز مباشرة المرأة في الصيام بما دون الفرج وهذا هو اختيار الإمام أبي محمد بن حزم رحمه الله .
قولها [ ولكنه كان أملككم لإربه ] .(1/22)
المراد بالإرب هنا الذكر وقيل المراد الحاجة وقد احتج بهذه اللفظة بعض الفقهاء على منع مباشرة الصائم لزوجته لأنه لايملك حاجته وفي الحديث القدسي قال الله تعالى ( يدع طعامه وشرابه وشهوته من أجلي ) متفق عليه من حديث أبي هريرة وحقيقة الصيام أن يدع الرجل ملاذهُ تجاه النساء فقد لوحظ على بعض الناس حين يتساهلون في قضية المباشرة أنهم يجامعون في نهار رمضان ومن جامع في نهار رمضان فعليه الكفارة وهي أن يعتق رقبة مؤمنة فإن لم يستطع فعليه صيام شهرين متتابعين لا فطر بينهما فإن لم يستطع فعليه إطعام ستين مسكيناً .
621/ وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما ، أن النبي صلى الله عليه وسلم (احتجم وهو محرم واحتجم وهو صائم) .
هذا الحديث من أفراد الإمام البخاري رحمه الله عن الإمام مسلم .
قال الإمام البخاري رحمه الله حدثنا معلى بن أسد قال أخبرنا وهيب عن أيوب عن عكرمة عن ابن عباس رضي الله عنهما .
ورواه البخاري في صحيحه من طريق عبدالوارث بن سعيد عن أيوب بلفظ (احتجم النبي صلى الله عليه وسلم وهو صائم ) .
ورواه النسائي في السنن الكبرى من طريق ابن وهب قال حدثني ابن أبي ذئب عن الحسن بن زيد عن عكرمة عن ابن عباس به . ورواه النسائي من طريق عبد الله بن رجاء عن هشام عن عكرمة به .
ورواه النسائي في الكبرى من طريق حماد بن زيد عن أيوب عن عكرمة عن ابن عباس به واختلف فيه على حماد بن زيد فرواه أيضاً عن أيوب عن عكرمة مرسلاً وتابعه على إرساله معمر كما عند النسائي وإسماعيل بن عُليّة كما عند النسائي أيضاً.
ومن وصله أوثق ممن أرسله ومن ثم قال الإمام الحافظ بن حجر رحمه الله وهذا الحديث صحيح لا مرية فيه .(1/23)
وقد أعله الإمام أحمد وطائفة من المحدثين فرجح بعضهم إرساله وقال بعضهم الراجح عدم ذكر الصوم نص عليه الإمام أحمد رحمه الله في رواية الخلال، والصحيح ماذهب إليه البخاري رحمه الله من أن لفظة الصوم محفوظة في الحديث وأن الصحيح في الخبر ترجيح رفعه فقد رفعه وهيب بن خالد وهو ثقة ثبت أوثق ممن أرسله كابن عليّه ومعمرم وقد توبع وهيب على رفعه تابعه عبدالوارث وحماد بن زيد في رواية وكذلك توبع أيوب في روايته عن عكرمة تابعه هشام وغيره والحديث صحيح . وهو دليل على أن الحجامة لاتفطر الصائم ونظيرها أخذ الدم للتحليل وبهذا قال جمهور العلماء وهو مذهب أكابر أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم .
وقد روى أبو داود في سننه بسند صحيح من طريق عبدالرحمن بن أبي ليلى قال حدثني بعض أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ( أن النبي نهى عن الحجامة والوصال للصائم ولم يحرمهما إبقاءً على أصحابه ).
فهذا الحديث فيه دليل أيضاً على أن الحجامة غير محرمة للصائم .
وفي البخاري أيضاً من طريق شعبة عن ثابت البناني قال سُئل أنس بن مالك رضي الله عنه أكنتم تكرهون الحجامة للصائم قال لا إلا من أجل الضعف .
وكان ابن عمر يحتجم مراراً فلما رأى أنها تضعفه ترك هذا واحتجم ليلاً.
رواه عبدالرزاق وغيره وجاء بنحوه عند البخاري معلقاً وسنده صحيح . وروى البخاري في صحيحه معلقاً عن بُكير عن أم علقمة قالت : ( كنا نحتجم عند عائشة فلا ننهى ) .
622/ وعن شداد بن أوس أن النبي صلى الله عليه وسلم أتى على رجل بالبقيع وهو يحتجم في رمضان . فقال : ( أفطر الحاجم والمحجوم ) .
هذا الحديث رواه الإمام أحمد في مسنده والدارمي وابن حبان في صحيحه من طريق أبي قلابة عن أبي الأشعث الصنعاني عن أبي أسماء الرحبي عن شداد بن أوس.
ورواه أبو داود والنسائي من طريق أبي قلابة عن شداد به .
وجاء الخبر أيضاً من طريق أبي قلابة عن الأشعث الصنعاني عن شداد به.(1/24)
وجاء أيضاً من طريق أبي قلابة إلا أنه جعله من مسند ثوبان ولذلك تكلم بعض الأئمة في هذا الحديث وأعله بالإضطراب قال الإمام أبو عيسى رحمه الله في كتاب العلل قال البخاري رحمه الله ليس في الباب أصح من حديث شداد وثوبان فذكرت له الاضطراب فقال كلاهما عندي صحيح رواه أبو قلابة عنهما جميعاً .
وقد صححه أيضاً علي بن المديني رحمه الله .
وفي الباب عن بضعة عشر صحابياً فيرى الإمام أحمد رحمه الله أن أصح الأحاديث في هذا حديث رافع بن خديج ويرى علي بن المديني رحمه الله أن أصح الطرق طريق ثوبان وشداد فقال رحمه الله (لا أعلم في أفطر الحاجم والمحجوم ) حديثاً أصح من هذا .
والحديث يدل على أن الحجامة تفطر الصائم ويدل أيضاً أن الحاجم والمحجوم يفطران أيضاً أما الحاجم فربما دخل جوفه شئٌ من الدم وأما المحجوم فلأن استفراغ الدم من جسم الإنسان مضعف له ومنهك ومن ثم كان استخراج الدم من البدن إذا كان كثيراً مفطراً من المفطرات، وهذا مذهب الإمام أحمد رحمه الله واختار هذا شيخ الإسلام ابن تيمية وتلميذه ابن القيم وعزى شيخ الإسلام هذا القول إلى أكثر الفقهاء وفي قول الشيخ رحمه الله بأن هذا قول أكثر الفقهاء نظر ظاهر فجماهير العلماء على أن الحجامة لا تفطر الصائم مطلقاً منهم الإمام أبو حنيفة ومالك والشافعي وهو قول عامة الصحابة والتابعين بل قال بعض الأئمة الكبار لا أعلم أحداً من الصحابة والتابعين قال بأن الحجامة تفطر وهذا قول أنس بن مالك وابن عمر وأبي سعيد الخدري وغيرهم .
قال البخاري رحمه الله حدثنا آدم ابن أبي إياس قال حدثنا شعبة عن ثابت البناني قال سئل أنس بن مالك أكنتم تكرهون الحجامة للصائم قال لا إلا من أجل الضعف .
وروى أبو داود في سننه بسند صحيح عن عبدالرحمن بن أبي ليلى قال حدثني بعض أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم (نهى عن الوصال والحجامة للصائم ولم يحرمهما ابقاءً على الصحابة) .(1/25)
وروى الإمام ابن خزيمة في صحيحه من طريق خالد الحذاء عن أبي المتوكل الناجي عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال : ( رخص للصائم بالحجامه والقبلة) وهذا سند صحيح إلى أبي سعيد رضي الله عنه وله حكم المرفوع لأنه لا يرخص أحدٌ في الحجامة والقبلة إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم فهو الذي رخص فيهما والرخصة تقابلها العزيمة فأفاد هذا نسخ حديث شداد بن أوس السابق وأن الحجامة كانت تفطر في أول الأمر ثم نسخ الأمر باحتجام الرسول صلى الله عليه وسلم وهو صائم كما في البخاري عن ابن عباس كما سبق ذكره .
وبحديث عبدالرحمن ابن أبي ليلى عن بعض أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ويوضح هذا أيضاً ماذكره المؤلف رحمه الله هنا : ( حديث أنس ) .
623/ وعن أنس بن مالك قال : ( أو ماكرهت الحجامة للصائم : أن جعفر بن أبي طلب احتجم وهو صائم، فمر به النبي صلى الله عليه وسلم فقال : (أفطر هذان) ثم رخص النبي صلى الله عليه وسلم بعد في الحجامة للصائم، وكان أنس يحتجم وهو صائم .
هذا الخبر رواه الإمام الدارقطني رحمه الله من طريق عثمان بن أبي شيبة قال : حدثنا خالد بن مخلد القطواني قال حدثنا عبدالله بن المثنى عن ثابت البناني عن أنس بن مالك رضي الله عنه به .
وقال الإمام الدارقطني رحمه الله في سننه رجاله ثقات ولا أعلم له علة .
تعقبه الإمام ابن عبدالهادي رحمه الله فقال هذا خبر منكر لايصح الاحتجاج به وقال عن هذا الإسناد بأنه شاذ والسبب في ذلك أنه مايعرف في دواوين الإسلام المعروفة كمسند الإمام أحمد والصحيحين والسنن الأربعة وموطأ مالك ومصنف ابن أبي شيبة وإنما تفرد به الإمام الدارقطني رحمه الله، ثم إنه أيضاً قد تكلم في خالد بن مخلد القطواني وذلك أنه يتفرد عن الثقات، وكذلك تكلم في عبدالله بن المثنى فإنه وإن كان من رجال الصحيحين إلا أنه قد يهم وأصحاب ثابت البناني الكبار لم يذكروا هذا الخبر .(1/26)
وأيضاً يقال لو كان مثل هذا الخبر ثابتاً والأمة تحتاج إليه لجاء من غير وجه ولكن عنه عندما سبق ذكره من الأخبار على كون الحجامة في حق الصائم منسوخة وأن استخراج الدم في نهار رمضان لا يفطر مطلقاً سواء كان كثيراً أوقليلاً وسواء كان عمداً أم سهواً الحكم واحد والله أعلم .
624/ وعن عائشة رضي الله عنها ، ( أن النبي صلى الله عليه وسلم اكتحل في رمضان ، وهو صائم ) .
هذا الخبر رواه الإمام ابن ماجه رحمه الله من طريق بقية بن الوليد قال حدثنا الزبيدي سعيد بن عبدالجبار عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة رضي الله عنها. وهذا خبر منكر الزبيدي قال عنه عليٌ بن المديني ليس بشئ وقال الإمام النسائي ضعيف الحديث وكان جرير يكذبه .
وكذلك اتهمه بالكذب الحاكم أبو أحمد . وهذا الخبر من أفراد ابن ماجه وأفراد ابن ماجه فيها مقال في الغالب .
وروى الترمذي من طريق أبي عاتكه عن أنس رضي الله عنه قال جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال يارسول الله ( إن عيني تشتكي أفكتحل وأنا صائم قال نعم ) وقد ضعفه الترمذي من أجل أبي عاتكه وقال رحمه الله تعالى ولايصح في الباب شيء .
وكذا قال الإمام أحمد والبخاري وغيرهما .
وجاء عند أبي داود أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في الإثمد ليتقه الصائم . قال أبو داود رحمه الله قال لي يحيى بن معين هذا خبر منكر .(1/27)
وقد اختلف الفقهاء رحمهم الله في الكحل للصائم : فذهب إلى منعه الإمام سفيان وإسحاق وأحمد رحمهم الله ولكنهم لم يذكروا دليلاً صحيحاً في هذا الباب والعين ليست منفذاً للمعدة ولذلك ذهب أكثر أهل العلم إلى أن الكحل لايفطر الصائم مطلقاً سواء اكتحل للحاجة أولغير حاجة وسواء اكتحل في صيام النفل أم بصيام الفرض وبهذا قال الإمام أحمد في رواية عنه، وهو مذهب عامة التابعين وأكابر العلماء فقد روى أبو داود في سننه عن الأعمش رضي الله عنه وهو أحد أئمة التابعين أنه قال : ( ما رأيت أحداً من أصحابنا يكره الكحل للصائم ) وهذا نقل لقول أكابر أهل العلم من التابعين ومن بعدهم ممن أدرك الأعمش بأنهم لايكرهون الكحل للصائم، والسبب في هذا أنه لم يثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم بمنع الكحل شيء هذا أولاً .
ثانياً : أن الأصل البراءة الأصلية والصيام من شرائع أهل الإسلام الظاهرة فلو كان الكحل مفطراً لبينه النبي صلى الله عليه وسلم بياناً عاماً يعلمه العام فضلاً من الخاص.
ثالثاً : أن العين ليست منفذاً للمعدة كالأنف أما كون الإنسان إذا اكتحل يشعر بالطعم في الحلق فهذا لا يدل على أن العين منفذ للمعدة فلو أن امراءً وطأ بقدمه حنظلاً وتركه بقدمه لشعر بالطعم في حلقه وهل يدل هذا على أن وطأ الحنظل يفطر كلا فوجود الطعم بالحلق ليس مفطراً الذي يفطر هو الأكل والشرب ومايقوم مقامهما أما الكحل والطيب وما شابههما فلا تفطر الصائم لأنه لابد من دليل عن النبي صلى الله عليه وسلم والأصل البراءة الأصلية فلا يحق لنا أن نقول بأن هذا يفطر بدون دليل وليس هذا خاصاً بالكحل بل بكل مايمر بنا مما يذكره بعض الفقهاء مفطراً علينا أن نبحث عن الدليل وننظر في صحته أيضاً فربما كان الدليل ضعيفاً أوموضوعاً أوكانت الحجة غير مستقيمة .
والخلاصة أن الكحل لايفطر مطلقاً والله أعلم .(1/28)
625/ وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( من نسي وهو صائم ، فأكل أوشرب ، فليتم صومه ، فإنما أطعمه الله وسقاه ) . هذا الخبر متفق عليه .
قال الإمام البخاري رحمه الله حدثنا عبدان قال حدثنا يزيد بن زريع قال حدثنا هشام عن محمد بن سيرين عن أبي هريرة به .
وقال مسلم رحمه الله حدثنا عمرو بن محمد الناقد قال حدثنا إسماعيل بن إبراهيم قال حدثنا هشام عن محمد بن سيرين عن أبي هريرة .
قوله وللحاكم ورواه أيضاً ابن خزيمة في صحيحه وابن حبان في الصحيح أيضاً كلهم من طريق محمد بن عبدالله الأنصاري قال حدثنا محمد بن عمرو عن أبي سلمة بن عبدالرحمن عن أبي هريرة رضي الله عنه به .
وفي محمد بن عمرو كلام يسير فقد تكلم فيه بعض أهل الحديث من قبل حفظه وحديثه على الصحيح مقبول ومن قبل الأحاديث الحسنة مالم يخالف .
قوله [ من نسي وهو صائم ، فأكل أوشرب ] .
الحديث دليل على أنَّ الأكل والشرب في نهار رمضان نسياناً لايفطر وبهذا قال جمهور العلماء منهم أبو حنيفة والشافعي وأحمد خلافاً لمالك، وقد ألحق الإمام أحمد في إحدى الروايتين عنه الجماع بالأكل والشرب فمن جامع ناسياً فلا قضاء عليه ولا كفارة يؤيد مذهب الإمام أحمد رواية [ من أفطر ناسياً ] فلفظة أفطر تشمل الأكل والشرب والجماع وسائر المفطرات وهذا اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله وقد قال تعالى : { رَبَّنَا لاَ تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا} ( البقرة ) .
وجاء في صحيح الإمام مسلم من حديث ابن عباس : قال الله تعالى : (قد فعلتٌ) فمن رحمة الله جل وعلا على عباده أن من أكل ناسياً أوشرب أوجامع أنه لاكفارة عليه ولاقضاء بل صومه صحيح لقوله صلى الله عليه وسلم (فليتم صومه فإنما أطعمه الله وسقاه) .
وهل يجب تنبيه من أكل أوشرب ناسياً . في هذه المسألة خلاف بين أهل العلم.(1/29)
فقال بعض أهل العلم يجب تنبيهه لأن هذا من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والله يقول : { وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ } ( سورة المائدة ) . وفي صحيح الإمام مسلم من حديث أبي سعيداً مرفوعاً ( من رأى منكم منكراً فليغيره بيده ) .
وهذا الآكل أو الشارب ناسياً قد فعل منكراً بالنسبة لنا فلزم الإنكار عليه.
وقال بعض أهل العلم إنه لايجب تنبيهه لأنك تعلم علم اليقين أنه أكل أوشرب نسياناً ولم يرتكب حينئذ منكراً وإنما أطعمه الله وسقاه أما إذا لم تعلم صيامه فلك حينئذ حق الأنكار وهذا أظهر.
626/ وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( من ذرعه القيء فلا قضاء عليه ، ومن استقاء فعليه القضاء ) .
هذا الحديث رواه الخمسة وغيرهم من طريق عيسى بن يونس قال حدثنا هشام بن حسان عن ابن سيرين عن أبي هريرة .
وقد صححه ابن خزيمة وابن حبان والحاكم وذلك بعتبار أن رواته كلهم ثقات ولكنّ الخبر معلول ولايلزم من ثوثيق الرواة تصحيح الإنساد فقد أعله أكابر المحدثين منهم الإمام أحمد والبخاري والترمذي وقال الإمام الدارمي رحمه الله في سننه قال عيسى زعم أهل البصرة أن هشاماً وهم فيه وهذا قول أكثر المحدثين وقد ضعفه البخاري في صحيحه بما رواه معلقاً بسند صحيح عن أبي هريرة رضي الله عنه موقوفاً أنه قال ( من قاء فلا فطر عليه إنما يخرج ولا يولج ) .(1/30)
فلو كان الخبر محفوظاً عند أبي هريرة لم يخالفه ولم يفت بخلافه والقاعدة عند أبي هريرة ( أن الفطر مما دخل لا مما خرج ) وقد ذكر البخاري في صحيحه معلقاً عن ابن عباس أنه قال ( الفطر مما دخل لا مما خرج ) وهذا مذهب عكرمة وسعيد وهو قول للمالكية فعلى هذا القول يصبح القيء غير مفطر سواء كان عمداً أوسهواً أونسياناً لأنه لم يثبت دليل عن النبي صلى الله عليه وسلم يبين أن القيء مفطر ولو كان القيء مفطراً لبينه النبي صلى الله عليه وسلم بياناً عاما يعلمه العام قبل الخاص لأن هذا الحكم مما تحتاجه الأمة .
وقد ذكر بعض أهل العلم أن القيء عمداً يفطر بالإجماع وهذا ذهول من قائله فقد ذهب جمع من أكابر أهل العلم إلى أن القيء لايفطر مطلقاً منهم أبو هريرة وابن عباس وعكرمة وسعيد والبخاري وجمع من فقهاء المالكية وهو الصحيح .
والقائلون بأن القيء مفطر يعتمدون على حديث الباب ويعتمدون على حديث (قاء فأفطر) وهذا الحديث فيه نظر فقد جاء بلفظ [ قاء فتوضأ ] ولو فرضنا صحته فهذا مجرد فعل لايدل على الإيجاب، وأما حديث الباب فهو ضعيف .
وقالوا أيضاً بأن استفراغ الطعام من البدن ينهك الجسم ويضعفه فكان الفطر أولى فإن الحجامة لما كانت تضعف البدن وتنهكه صارت مفطرة وفي هذا نظر أيضاً فإن التعب ينهك البدن هل يكون مفطراً أما قضية الحجامة فقد سبق أنها لاتفطر الصائم كما هو قول أكثر العلماء من الصحابة والتابعين ومن جاء بعدهم.
627/ وعن جابر بن عبدالله رضي الله تعالى عنهما، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج عام الفتح إلى مكة في رمضان، فصام حتى بلغ كراع الغميم، فصام الناس، ثم دعا بقدح من ماء فرفعه حتى نظر الناس إليه، فشرب، ثم قيل له بعد ذلك : إن بعض الناس قد صام . فقال : ( أولئك العصاة ، أولئك العصاة ) .(1/31)
حديث جابر رواه الإمام مسلم في صحيحه فقال : حدثنا محمد بن المثنى قال حدثنا عبدالوهاب ابن عبدالمجيد عن جعفر بن محمد عن أبيه عن جابر بن عبدالله.
قوله وفي لفظ فقيل له : إن الناس قد شق عليهم الصيام وإنما ينتظرون فيما فعلت . فدعا بقدح من ماء بعد العصر فشرب .
هذه الرواية رواها مسلم في صحيحه من طريق الدراوردي عن جعفر بن محمد عن أبيه عن جابر به ولكن ليس عند مسلم (فشرب) .
والخبر رواه الشافعي والحميدي والترمذي والنسائي من طرق عن جعفر بن محمد به.
قوله [ كراع الغميم ] .
كراع بضم الكاف وفتح الراء وهو طرف الشيء، والغميم وادي بين مكة والمدينة يطل طرفه على البحر الأحمر .
وهذا الحديث قد احتج به من يرى منع الصيام في السفر لأن النبي صلى الله عليه وسلم قد صام وصام معه أصحابه فلما بلغ كراع الغميم وذلك بعد العصر قيل له يارسول لله إن الناس قد شق عليهم الصيام فدعا بقدح ورفعه حتى ينظر الناس إليه ويقتدوا بفعله فشرب وشرب معه ثلة من أصحابه فقيل له بعد هذا إن بعض الناس قد صام فغضب النبي صلى الله عليه وسلم حينئذ ثم قال : ( أولئك العصاة أولئك العصاة) وفي هذا الاحتجاج نظر فإن هذا الخير لايدل على منع الصيام في السفر مطلقاً إنما يمنع من الصيام من يشق عليه وينهكه وأما كون النبي صلى الله عليه وسلم قال ( أولئك العصاة .. ) فلأنهم لم يبادروا بالامتثال مع كون الصيام قد أرهقهم وأتعبهم ولذلك يصح الاحتجاج بهذا الخبر على جواز الصيام في السفر لمن لايشق عليه لأن النبي صلى الله عليه وسلم قد صام إلى وقت العصر وصام معه أصحابه وقد جاء في مسلم من طريق قتادة عن أبي نضرة عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال غزونا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم (لستَّ عشرة مضت من رمضان فمنَّا من صام ومنا من أفطر فلم يعب الصائم على المفطر ولا المفطر على الصائم ) .(1/32)
وفي الحديث دليل أيضاً على أن من يشق عليه الصيام في السفر يجب عليه الفطر ويحرم حينئذ في حقه الصيام .
وهل يصح الصيام مع الإثم أم لا الصحيح أن الصيام صحيح ويأثم بذلك .
وفي الحديث دليل على رفق النبي صلى الله عليه وسلم بأمته ورحمته بهم وشفقته عليهم حيث أفطر صلى الله عليه وسلم بعد العصر لكون الصيام قد شق عليهم.
628/ وعن حمزة بن عمرو الأسلمي رضي الله عنه أنه قال : يارسول الله، إني أجد فيّ قوة على الصيام في السفر . فهل علي جناح ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ( هي رخصة من الله ، فمن أخذ بها فحسن ومن أحب أن يصوم فلا جناح عليه ) .
هذا الخبر رواه مسلم رحمة الله عليه قال حدثنا أبو الطاهر وهارون بن سعيد الأيلي قال حدثنا ابن وهب عن عمرو بن الحارث عن أبي الأسود عن عروة عن أبي مراوح عن حمزة بن عمرو الأسلمي ... الحديث .
ورواه البخاري ومسلم من طريق هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة رضي الله عنها أنَّ حمزة بن عمرو الأسلمي قال للنبي صلى الله عليه وسلم يارسول الله أأصوم في السفر وكان كثير الصيام فقال صلى الله عليه وسلم ( إن شئت فصم وإن شئت فأفطر ) .
والحديث دليل على تخيير المسافر بين الصيام والفطر إلا أن الفطر أفضل لقوله صلى الله عليه وسلم ( هي رخصة فمن أخذ بها فحسن ) وهذا مذهب الإمام أحمد رحمه الله .
ويستدل لهم أيضاً بحديث ابن عمر عند الإمام أحمد وصححه ابن خزيمة من طريق عمارة بن غزية عن نافع عن ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( إن الله يحب أن تؤتى رخصه كما يكره أن تؤتى معصيته ) .
وقد اختلف الفقهاء رحمهم الله في هذه المسألة على مذاهب كثيرة أذكر أهمها على وجه الاختصار .
المذهب الأول : تحريم الصوم في السفر مطلقاً ومن صام فعليه القضاء .
وهذا مذهب جماعة من أهل الظاهر لقول الله جل وعلا { فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ } ( البقرة ) .(1/33)
قالوا دلت هذه الآية على وجوب القضاء على المسافر ولم يذكر الله تعالى الإفطار بينما قدر جمهور العلماء الآية ( فمن كان منكم مريضاً أوعلى سفر فأفطر
وسياق الآيات يدل على هذا أما أهل الظاهر فقالوا إن صام في السفر فعليه القضاء لأن الفطر يلزمه .
واستدلوا أيضاً بحديث جابر السابق ( أولئك العصاة أولئك العصاة ) واستدلوا أيضاً بحديث جابر في الصحيحن أن النبي صلى الله عليه وسلم قال ( ليس من البر الصيام في السفر ) .
المذهب الثاني : عكس هذا المذهب أن الصيام واجب في السفر فلا يجوز الفطر في السفر إلا عند المشقة .
المذهب الثالث : تجويز الأمرين إلا أن الصيام أفضل من الفطر .
وهذا مذهب أبي حنيفة ومالك والشافعي وذكره ابن حجر في فتح الباري عن جمهور العلماء ورجحه .
وقد استدل أصحاب هذه القول بأن الرسول صلى الله عليه وسلم كان يصوم في السفر وأن عبدالله بن رواحه كان يصوم في السفر وأن أنس بن مالك كان يصوم في السفر .
واستدلوا أيضاً بحديث الباب .
فلو كان الصيام في السفر مكروهاً أوخلاف الأولى لأرشد النبي صلى الله عليه وسلم إلى ذلك حمزة الأسلمي .
المذهب الرابع : تجويز الأمرين إلا أن الفطر أفضل .
وهذا مذهب الإمام أحمد رحمه الله وقد تقدم .
المذهب الخامس : أن يفعل المسافر ماهو الأرفق به فإن كان الصيام أرفق به ولايشق عليه بل لو أفطر لشق عليه القضاء فيما بعد فالصيام حينئذ أرفق بحقه وإن كان الصيام يشق عليه أويضعفه عن بعض العبادات المهمة فالفطر في حقه أفضل.
وهذا مذهب أمير المؤمنين عمر بن عبدالعزيز رحمه الله واختار هذا القول الإمام ابن المنذر رحمه الله .
وهذا المذهب أعدل المذاهب وبه يحصل الجمع بين الأدلة .
وأما إن كان الصيام يشق عليه وصام فهذا لايجوز وعليه ينزل حديث (ليس من البر الصيام في السفر) وحديث ( أولئك العصاة أولئك العصاة ) .(1/34)
وأما إذا لم يجد مشقه فعليه ينزل صيام النبي صلى الله عليه وسلم وصيام حمزة بن عمرو الأسلمي وصيام أنس وقد روى مسلم في صحيحه أيضاً من حديث أبي النظر عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ( في غزوة في رمضان فمنا الصائم ومنا المفطر فلا يجد الصائم على المفطر ولا المفطر على الصائم ) .
والسبب في هذا أنهم لايجدون مشقة في الصيام ولم ينكر عليهم صلى الله عليه وسلم فعلم جواز الصيام في السفر لمن لايشق عليه بل ربما يكون أفضل من الفطر على حسب التفصيل السابق .
629/ وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال : رخص للشيخ الكبير (أن يفطر ويطعم عن كل يوم مسكيناً ، ولا قضاء عليه ) .
أثر ابن عباس رواه الإمام الدارقطني والحاكم من طريق خالد الحذاء عن عكرمة عن ابن عباس به .
قال الدارقطني في سننه وهذا إسناد صحيح وقال الحاكم في المستدرك وهذا حديث صحيح على شرط البخاري ولم يخرجاه .
وقد روى الدارقطني وغيره من طريق سعيد وهشام عن قتادة أن أنس بن مالك حين كبر أفطر وأمر أهله أن يطعموا عن كل يوم مسكينا . قال هشام في حديثه : فأطعم ثلاثين مسكيناً وروى أبو عبيد في الناسخ عن عبدالله بن صالح عن الليث عن يحيى بن سعيد في ذلك قال : يطعم كل يوم مُدّاً من حنطة قال قال ذلك أبو بكر ابن محمد بن عمرو بن حزم عن أشياخ الأنصار قال أبو صالح وهو قول الليث قال أبو عبيد وكذلك قول مالك حدثنيه عنه ابن بكير وابن أبي مريم وقد يلحق بهؤلاء أهل العطاش الذين يخاف عليهم منه الموت .(1/35)
وفي صحيح البخاري من حديث عمرو بن دينار عن عطاء أنه سمع ابن عباس يقرأ { وعلى الذين يُطوّقونه فدية طعام مسكين } قال ليست بمنسوخه إنما هي في الشيخ الكبير والمرأة الكبيرة لايستطيعان أن يصوما فيطعمان عن كل يوم مسكيناً". فالكبير الذي لا يستطيع الصوم وفي حكمه المريض الذي لا يُرجئ برؤه يفطران ويطعمان عن كل يوم مسكيناً ولو أطعم ثلاثين مسكيناً في جفنة أجزأ وقد فعله أنس رضي الله عنه رواه الدارقطني . وقد ذكر ابن القيم رحمه الله وغيره أنه لايصار إلى الإطعام إلا عند اليأس من القضاء، وأما المريض الذي يُرجى برؤه فلا فدية عليه فإذا قدر على الصوم لزمه وجوباً لقوله تعالى : { فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ } بقيت مسألة مهمة وهي أنه ثبت عن ابن عمر وابن عباس رضي الله عنهما أنهما قالا في المرضع والحامل يفطران ويطعمان عن كل يوم مسكيناً ولا قضاء عليهما رواه الدارقطني وصححه فظاهر هذا يخالف ظاهر قول الله تعالى { فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ }(1/36)
والجواب أن العلماء رحمهم الله مختلفون في قضية القضاء في حق الحامل والمرضع فذهب الأئمة الأربعة إلى أنهما يقضيان الحاقاً لهما بالمسافر والمريض فقد دلت الآية السابقة على وجوب القضاء على المريض والمسافر وهذا مما أجمع عليه أهل العلم رحمهم الله ولكن اختلفوا في الحامل والمرضع فألحقهما الأئمة الأربعة بالمريض والمسافر فهم بمنزلة واحدة والصيام فرض على الجميع فلا يسقط إلا عن الذي لايطيق فحينئذٍ يعدل إلى الفدية وماثبت عن ابن عمر وابن عباس رضي الله عنهما أنهما قالا لا قضاء عليهما يمكن أن يكون اجتهاداً منهما ويمكن أن يكون عن أمر توقيفي لأن ابن عباس فسر آية البقرة بالشيخ الكبير والمرأة الكبيرة فكأنه رحمه الله يرى خصوصيتها بالمريض والمسافر ولا يبعد أن يقال لامجال للاجتهاد في هذه القضية وكيف يتفق صحابيان فقيهان على هذا الأمر إلا عن أمر توقيفي، وقول الجمهور أحوط فالأولى للحامل والمرضع إذا أفطرتا أن تقضيا لأن الصيام فرض ثلاثين يوماً أوتسعاً وعشرين فيجب أداء هذا بيقين فلا يترك لأمر مظنون وأما الإطعام فلا يجب على القول الراجح إذا قضتا وإنما يلزم عند عدم القضاء .
630/ وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال : جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال : ( هلكت يارسول الله . قال : وما أهلكك ؟ قال وقعت على امرأتي في رمضان . فقال : هل تجد ما تعتق رقبة ؟ قال : لا . قال : فهل تستطيع أن تصوم شهرين متتابعين ؟ قال : لا قال : فهل تجد ماتطعم ستين مسكيناً ؟ قال : لا ، ثم جلس ، فأتي النبي صلى الله عليه وسلم بعرق فيه تمر فقال (تصدق بهذا) فقال : أعلى أفقر منا ؟ فما بين لا بتيها أهل بيت أحوج إليه منا ، فضحك النبي صلى الله عليه وسلم حتى بدت أنيابه . ثم قال : (اذهب فأطعمه أهلك ) .
هذا الحديث متفق على صحته .
قال الإمام البخاري رحمه الله حدثنا أبو اليمان قال حدثنا شعيب عن الزهري عن حميد بن عبدالرحمن عن أبي هريرة به .(1/37)
وقال الإمام مسلم رحمه الله حدثنا يحيى بن يحيى وأبو بكر ابن أبي شيبة وزهير بن حرب وابن نمير كلهم عن ابن عيينة .
قال يحيى أخبارنا سفيان ابن عيينة عن الزهري به .
والحديث رواه عن الزهري جمع كثير يتجاوزون أربعين نفساً كما أشار إلى هذا ابن القيم رحمه الله في تهذيب السنن كلهم رواه عن الزهري عن حميد بن عبدالرحمن بنحو ماذكر .
خالفهم هشام بن سعد كما عند أبي داود فرواه عن الزهري عن أبي سلمة بن عبدالرحمن عن أبي هريرة وزاد ( وصم يوماً ) أي مكان ما أفطرت وهذه الزيادة طعن فيها أكابر الحفاظ وهو الحق فلا يرتاب طالب علم فضلاً عن عالم بشذوذها ونكارتها فأصحاب الزهري الكبار منهم مالك وابن عيينة وابن جريج وشعيب ومعمر والليث وعقيل بن خالد هؤلاء حفاظ الحديث يروون هذا الخبر عن الزهري بدون ماذكره هشام بن سعد ولو كان ابن سعد ثقة لحكم على الرواية بالنكاره فكيف وهو سيء الحفظ أيضاً فقد طعن فيه الإمام أحمد وجماعة من الحفاظ، وقد تابعه على هذه الرواية من لايعتد به .
قوله [ هلكت ] .
احتج بهذه الرواية جماعة من أهل العلم على أنه كان متعمد الجماع وهذا قول جماهير العلماء، وقد ذهب أحمد في رواية وبعض المالكية إلى أن الكفارة الموجودة بهذا الخبر لازمة للعامد وغيره وفي هذا نظر لأن في الحديث قرائن تدل على أنه متعمد وأما الناسي أو الجاهل فالحق أنه لا كفارة عليه كما هو قول الجمهور واختار هذا شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله، وهذا اختيار الحافظ ابن حجر قال ابن القيم لأن الجماع كما سبق بمنزلة الأكل والشرب نسياناً فمن شرب أو أكل ناسياً فلا قضاء ولا كفارة عليه كما سبق تقريره .
قوله [ وقعت على أهلي ] .(1/38)
هذا الوقاع وقع في رمضان ولا تلزم الكفارة إلا لمن واقع في رمضان خاصة فلو أن أمرأ واقع في قضاء رمضان فلا تلزمه كفارة وكذلك لو واقع في صيام نفل أو نذر أوغير ذلك فلا تلزم الكفارة إلا لمن واقع في نهار رمضان وذلك لحرمة الشهر ويشترط في إيجاب الكفارة أن يطأ في الفرج ولو وطأ عن طريق الزنا أعاذنا الله وإياكم من ذلك لوجبت عليه الكفارة أيضاً .
قوله [ هل تجد ماتعتق رقبة ؟ ] .
هذه الكفارة على الترتيب عند أكثر أهل العلم وهو اختيار ابن القيم رحمه الله وذهبت طائفة من أهل العلم إلى أنها على التخيير، والقول الأول أظهر .
وقد قال أبو حنيفة رحمه الله على قوله صلى الله عليه وسلم ( هل تجد ماتعتق رقبة ) أنه لايشترط الإيمان في هذه الرقبة لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يقل مؤمنة فلما أطلق استفيد من اطلاقه العموم . وخالفه في ذلك الجمهور فقالوا لاتجزئ إلا المؤمنة واختار هذا ابن القيم رحمه الله، وقد الحق الجمهور رقبة المجامع في رمضان ورقبة المظاهر برقبة القاتل وهذا مبني على قاعدة حمل المطلق على المقيد .
والصحيح في هذه القضية أن المطلق لايحمل على
المقيد إلا مع اتحاد الحكم والسبب وإلى هذا أشار في المراقي فقال :
وحمل مطلق على ذاك وجب ... ... إن فيهما اتحد حكم والسبب
قوله : [ قال : لا ] .
في هذا دليل على أنّ من لم يستطع عتق الرقبة لزمه شيء آخر ألا وهو الصيام فيصوم شهرين متتابعين لا يفطر بينهما إلا لعذر كمرض وغيره فإن أفطر لغير عذر لزمه الإعادة من جديد عند أكثر أهل العلم كما هو قول الحنابلة والشافعية والمالكية وقد ذكره بعض أهل العلم إجماعاً .
قوله : [ قال : لا ] .
أي لا استطيع أن أصوم شهرين متتابعين وفي رواية ( وهل فعل بي مافعل إلا الصيام ) ظاهر هذه الرواية أن هذا الرجل فيه شبق وهو من لايستطيع ملاك شهوته.(1/39)
فقال النبي صلى الله عليه وسلم هل تستطيع أن تطعم ستين مسكيناً حين عجز عن العتق وعن الصيام انتقل معه صلى الله عليه وسلم إلى الإطعام فقال الرجل : لا أي لا استطيع ظاهرُ هذا أن الرجل كان فقيراً وظاهر الحديث أن الكفارة على الترتيب وليست على التخيير ففي هذا المقطع فوائد منها :
والحديث ساكت عن حكم المرأة فقيل إنها مكرهة وقيل لا كفارة عليها أصلاً كما هو مروي عن الأوزاعي وجماعة وفي هذا نظر فقد سكت الحديث عن حكمها لأنها لم تسأل والحكم متعلق بالسائل لتبين الحق في هذه القضية أن المرأة كالرجل إذا علم أنها عالمة بالحكم ولم يكرهها فعليها الكفارة ككفارة الرجل لأن النساء شقائق الرجال إلا بدليل وهذا قول الإمام أحمد والشافعي ومالك وأكثر العلماء وهو الحق .
ومن فوائد الحديث أيضاً سقوط الكفارة عمن لم يستطع وهل تتعلق بذمته قال بهذا بعض أهل العلم والحق أنها تسقط مطلقاً إذا لم يجد في الحال لأن النبي صلى الله عليه وسلم أسقطها ولم يبين له أنها متعلقة بذمته وتأخير البيان عن وقت الحاجة لايجوز .
قوله : [ فأتي النبي صلى الله عليه وسلم بعرق فيه تمر ] .
العَرَق هو المكتل الواسع فقال له النبي صلى الله عليه وسلم خذ هذا وتصدق به فقال : أعلى أفقر منا ؟ في هذا دليل على جواز الإخبار عن حالته فلا مانع من كون الإنسان يخبر عن حالته أنه فقير إذ لو كان القول غلطاً أومنكراً لبينه الرسول صلى الله عليه وسلم وتأخير البيان عن وقت الحاجة لايجوز .
قوله [ فما بين لابتيها أهل بيت أحوج إليه منا ] .
وفي رواية فوالله مابين إلخ فيه دليل على جواز الحلف بدون استحلاف لأن النبي صلى الله عليه وسلم أقره على حلفه بل ضحك النبي صلى الله عليه وسلم وفيه حسن خلق النبي صلى الله عليه وسلم .
وفيه جواز الضحك بمثل هذه الأمور .
قوله [ ثم قال : اذهب فأطعمه أهلك ] .(1/40)
استشكل هذا بعض الفقهاء فقالوا كيف يأمره الرسول صلى الله عليه وسلم يطعم أهله وهو كفارة واجبه فقال بعض أهل العلم هذا دليل على أن الكفارة مستحبة إذ لو كانت واجبة ما أمره بأن يطعم أهله وفي هذا القول نظرٌ بين .
وقالت طائفة أخرى إن هذا العرق من التمر ليس كفارة عنه إنما هي صدقة وقالت طائفة ثالثة لامانع من الأكل من الكفارات الواجبه إنما يمنع المرء بما خصه الدليل وإلا فالأصل أن المرء يأكل من كفارته، وقيل غير ذلك .
والحق في القضية أن الرجل لما كان فقيراً أذن له النبي صلى الله عليه وسلم بأكل هذه الكفارة .
وقد قال بعض أهل العلم إنه خاص بهذا الرجل والحق العموم فمن اتصف بمثل وصف هذا الرجل فلا مانع أن يأكل من هذه الكفارة بشرط أن يكون قد أُعطى هذه الكفارة أما إذا كان يخرجها من ماله فلا يأكل منها بل يوصلها إلى مستحقيها .
وفي الحديث أيضاً فوائد أخرى كثيرة ويظهر من الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم قد سكت عن قضية القضاء وقد بينت فيما تقدم أن رواية الأمر بالقضاء منكرة وقد اختلف الفقهاء في هذه القضية فذهب الأئمة الأربعة إلى وجوب القضاء لقول الله { فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ } وأنه لا يصدق على هذا الرجل أنه صام شهراً إلا بقضاء ما أفطر فيه .
وذهب ابن حزم إلى عدم لزوم القضاء فمن أفطر متعمداً فلا قضاء عليه وهذا من باب التغليظ والزجر وليس من باب التخفيف وهذا اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله وقد رد هذا القول الإمام ابن عبدالبر رحمه الله وجعله من الأقوال الشاذة وانتصر لوجوب القضاء وهذا أحوط والعلم عند الله .
631/ وعن عائشة وأم سلمة رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم (كان يصبح جنباً من جماع، ثم يغتسل ويصوم) .
هذا الحديث رواه البخاري في صحيحه فقال : حدثنا أبو اليمان قال أخبرنا شعيب ابن أبي حمزة عن الزهري عن أبي بكر بن عبدالرحمن بن الحارث عن أبيه عن عائشة وأم سلمة رضي الله عنهما .(1/41)
وقال مسلم رحمه الله حدثنا يحيى بن يحيى قال قرأت على مالك عن عبد ربه بن سعيد عن أبي بكر بن عبدالرحمن عن عائشة وأم سلمة . ولم يذكر في هذا الإسناد عن أبيه ورواه مسلم أيضاً من طريق الزهري عن أبي بكر بن عبدالرحمن بن الحارث عن أبيه .
والحديث يدل على صحة صيام من أصبح جنباً ولو لم يغتسل إلا بعد طلوع الفجر فليس هناك ارتباط بين الغسل قبل طلوع الفجر وبين الصيام وبمنزلة الجنب الحائض إذا طهرت قبل طلوع الفجر يصح صومها ولو لم تغتسل إلا بعد طلوع الفجر وكذلك النفساء وأنها بمنزلة الحائض والجنب، وهذه المسألة وقع بها خلاف في صدر الأمة الأول وذلك أن أبا هريرة رضي الله عنه يحدث عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : ( إذا أصبح أحدكم جنباً فلا يصم يومه ) رواه الإمام أحمد وغيره وبه قال الشعبي وطائفة قليلة من الفقهاء، ثم إن أبا هريرة رضي الله عنه حين سُئل عن هذا الحديث هل سمعته من النبي صلى الله عليه وسلم قال سمعته من الفضل. والحديث ترك العمل به أكابر العلماء من الصحابة والتابعين والأئمة الأربعة فقالت طائفة بأنه منسوخ بحديثي عائشة وأم سلمة السابق .
وقالت طائفة أخرى بأنه يفطر يوماً استحباباً لا إيجاباً .
وقال البخاري رحمه الله في صحيحه حين ذكر حديث أبي هريرة وقبله حديث عائشة وأم سلمة والأول أسند كأنه رحمه الله يشير إلى تقديم حديث عائشة وأم سلمة . وهذا هو الحق .
وقد اندرس الخلاف الأول واستقر إجماع المسلمين على أن من أصبح جنباً وقد نوى الصيام قبل الفجر أن صومه صحيح ولو لم يغتسل إلا بعد طلوع الفجر، وبمنزلة الجنب الحائض والنفساء .
وقد استدل بحديث الباب طائفة من أهل العلم على أن النبي صلى الله عليه وسلم كان لايحتلم لأن الإحتلام من الشيطان، وقد جاء في بعض طرق الحديث ( يصبح جنباً من غير إحتلام ) وهذا مذهب ابن عباس رضي الله عنهما .(1/42)
وقد استدل بالحديث نفسه أيضاً طائفة أخرى على أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يحتلم وإلا لم يكن لقول عائشة وأم سلمة ( من غير احتلام ) معنى إذا كان لايحتلم فقد أرادتا أن تميزا بين جماعه وبين احتلامه ولذلك قالت طائفة قليلة في صدر الأمة الأول بالتفريق بين من أصبح جنباً فهذا من فعله وبين من أصبح محتلماً والحق أنه لافرق بين من أصبح جنباً وبين من أصبح محتلماً فيتم صومه ولاقضاء عليه ولاكفارة بل ولايستحب على القول الراجح قضاء هذا اليوم إذا لم يغتسل إلا بعد طلوع الصبح .
والحق أن النبي صلى الله عليه وسلم لايحتلم لأن الإحتلام من الشيطان والنبي صلى الله عليه وسلم معصوم من الشيطان فلا يأمره إلا بخير .
632/ وعن عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( من مات وعليه صيام صام عنه وليه ) . .متفق عليه
قال الإمام البخاري رحمه الله حدثنا محمد بن خالد قال حدثنا محمد بن موسى بن أعين قال حدثنا أبي عن عمرو بن الحارث عن عبيدالله بن أبي جعفر أن محمد بن جعفر حدثه عن عروة بن الزبير عن عائشة رضي الله عنها به .
وقال الإمام مسلم رحمه الله حدثنا هارون بن سعيد الأيلي وأحمد بن عيسى قالا حدثنا ابن وهب قال خبرنا عمرو بن الحارث به .
وفي الباب ماجاء في الصحيحين من طريق مسلم البطين عن سعيد بن جبير عن ابن عباس رضي الله عنهما قال : جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال : يارسول الله إن أمي قد توفيت وعليها صيام شهر أفأقضيه عنها فقال الرسول صلى الله عليه وسلم ( لوكان على أمك دين أكنت قاضيه قال نعم قال فدَيْنُ الله أحق أن يُقضى) .
وفي رواية ( وعليها صوم نذر ) .
وقد قال بعض أهل العلم منهم الإمام أحمد رحمه الله تعالى يحمل حديث عائشة على حديث ابن عباس فقد جعل الإمام أحمد رحمه الله هذه القضية من قضايا حمل المطلق على المقيد وقد قال في المراقي .
وحمل مطلق على ذاك وجب ... ... إنْ فيهما اتحد حكم السبب(1/43)
فحديث عائشة في مطلق الصيام وحديث ابن عباس في صيام النذر فرأى الإمام أحمد رحمه الله أنه لايقضى عن الميت إلا صيام النذر ونظير هذا القول قول أبي حنيفة رحمه الله بأنه لايصام عن الميت أبداً لاصيام نذر ولاغيره وذهب أكثر أهل الحديث إلى أنه يصام عن الميت الصيام الواجب سواءً كان نذراً أم صيام رمضان إذا مات وعليه بقية من الشهر لم يتمكن من صيامها لمرض ونحوه وليس المعنى أنه إذا مات في رمضان يتمم عنه بقية الشهر هذا غلط مثل هذا الفعل لايشرع فيه الصيام إنما المعنى إذا توفي وعليه بقية من صيام رمضان قد فاتته لم يصمها وأصحاب هذا القول لم يروا حمل المطلق على المقيد لأن حديث ابن عباس واقعة عين ولأن السائل حين سأل أفتاه النبي صلى الله عليه وسلم على وفق سؤاله بينما حديث عائشة في تقرير قاعدة كلية لجميع الأمة بأن من مات وعليه صيام صام عنه وليه وهذا حديث عام لايصح تقييده بمثل خبر بن عباس .
وقوله [ صام عنه وليه ] .
هذا للاستحباب عند جماهير العلماء حتى قال إمام الحرمين هذا بالإجماع وهذه مبالغة من إمام الحرمين فقد ذهب بعض أهل الظاهر إلى الإيجاب فكأن إمام الحرمين لم يلتفت إلى خلاف أهل الظاهر، والحق أن أهل الظاهر يعتد بهم في الخلاف والإجماع فلا ينعقد الإجماع إلا بهم فإنهم أئمة وعندهم من العلوم الشرعية أكثر مما عند فقهاء الأحناف فإذا كنا لا نعتد بعلماء الظاهر في مواقع الإجماع والخلاف فالأولى ألاّ نعتد بعلماء الأحناف لأن علماء أهل الظاهر أعلم وأفقه للعلوم الشرعية وأتبع للسنة من كثير من فقهاء الأحناف وأما قضية أخذهم بالظاهر فهذا أولى من أخذ الأحناف بالرأي ومن يأخذ بالظاهر ويعتصم به أولى ممن يأخذ برأيه ويدع النصوص الشرعية .
والحاصل أن قول الرسول صلى الله عليه وسلم ( صام عنه وليه ) هذا للاستحباب لا للإيجاب، وقد خرج لفظ الولي مخرج الأولوية وإلا فلو صام عنه غير وليه صح هذا وأجزأ .(1/44)
أما قول أهل الظاهر بالإيجاب فهذا فيه ضعف لقوله تعالى { وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى } سواءً كان الصيام صيام نذر أم لا فلا يلزم أحد أن يصوم عن أحد.
باب صوم التطوع ومانهى عن صومه
هذا الباب معقود لبيان أحكام صيام التطوع وبيان الأيام المشروعة صيامها والمنهي عن صيامها فقد خص النبي صلى الله عليه وسلم بعض الأيام لمزيد فضلها كما أنه نهى عن صيام بعض الأيام كتخصيص يوم الجمعة بالصيام مثلاً .
وصيام التطوع صيام مرغب فيه فإن الصيام جنة من عذاب جهنم وصيام التطوع يتمم مانقص من صيام الفرض .
قال المؤلف رحمه الله :
633/ عن أبي قتادة الأنصاري رضي الله تعالى عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سُئلَ عن صوم يوم عرفة . فقال : ( يكفر السنة الماضية والباقية ) وسُئِل عن صوم يوم عاشوراء . فقال : ( يكفر السنة الماضية ) وسئل عن صوم يوم الإثنين ، فقال (ذلك يوم ولدت فيه وبعثت فيه وأنزل عليّ فيه) .
رواه مسلم في صحيحه قال رحمه الله حدثنا محمد بن المثنى وابن بشار واللفظ لابن المثنى قال حدثنا محمد بن جعفر عن شعبة عن غيلان بن جرير سمع عبدالله بن معبد عن أبي قتادة رضي الله عنه .
ورواه أبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجه بمعناه .
والحديث يدل على فضيلة صيام يوم عرفة لغير الحاج لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن يصوم بعرفة ولا كان أبو بكر وعمر وعثمان يصومون بعرفة يوم كانوا حجاجاً إنما يشرع الصيام لغير الحاج وأما الحاج فمشروع له الفطر وإن كان يقدر على الصيام لأن هذا فعل النبي صلى الله عليه وسلم وفعل الخلفاء بعده، وصيام يوم عرفة لغير الحاج يكفر سنتين السنة الماضية والسنة القابلة وقد قيل إن تكفيره لسنة القابلة بأن يوفق لترك المعاصي وفي هذا نظر والأولى حمل الحديث على ظاهره، وذلك بأن مايعمله من المعاصي فإنها مكفرة وهل التكفير يقع للصغائر دون الكبائر أم أن التكفير يعم الكبائر والصغائر قولان عند أهل العلم :(1/45)
القول الأول : قول الجمهور أن التكفير يقع للصغائر دون الكبائر لقول الله { إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ } ( النساء ) .
ولما روى الإمام مسلم رحمه الله من طريق العلا ابن عبدالرحمن بن يعقوب الحرقي مولاهم عن أبيه عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( رمضان إلى رمضان والجمعة إلى الجمعة مكفرات لما بينهنّ مالم تغش الكبائر ) .
فهذا نص صريح على أن صيام رمضان والصلوات الخمس لاتكفر الكبائر وإنما يكفر الكبائر الندم والتوبة .
فإذا كانت الصلوات الخمس لاتقوى على تكفير الكبائر فمن باب أولى صيام يوم عرفة لأن الصلاة أفضل من الصيام خصوصاً إذا كانت الصلاة فرضاً وهذا قول الأئمة الأربعة وذكره ابن عبدالبر في التمهيد إجماعاً ورد على المخالف في هذه القضية .
القول الثاني : قول أهل الظاهر وهو أن التكفير يقع للكبائر والصغائر معاً وانتصر لهذا القول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله وذكر في كتاب الإيمان عشرة أوجه ينتصر بها لهذا القول، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم كما في الصحيحين من حديث أبي هريرة ( من حج لله فلم يرفث ولم يفسق رجع من ذنوبه كيوم ولدته أمه ) فهذا الحديث من أدلة شيخ الإسلام رحمه الله بتكفير الأعمال للكبائر، وقد سبق بحث هذه القضية بأدلتها وينبغي لطالب العلم أن يراجع كتاب ( الإيمان ) ليستفيد من تقرير شيخ الإسلام رحمه الله لهذه المسألة .
قوله : [ وسئل عن صيام يوم عاشوراء ] .
يوم عاشوراء يوم تعظمه يهود لأنه يوم نجى الله فيه موسى وقومه من آل فرعون فصامه الرسول صلى الله عليه وسلم وقال نحن أحق بموسى منكم، وقال صلى الله عليه وسلم ( لأن بقيت إلى قابل لأصومنَّ التاسع ) . وذلك من أجل مخالفة اليهود في إفراده .(1/46)
صيام يوم عاشوراء يكفر سنة ماضية وهو أقل ثوباً من صيام يوم عرفة لغير الحاج لأن صيام يوم عرفة يكفر سنتين وصيام يوم عاشوراء يكفر سنة واحدة .
وهل يشترط بالتكفير أن يصوم التاسع مع العاشر . الجواب : لا فلو صام عاشوراء لحصل له التكفير فإن قيل صيام عاشوراء لاتحصل به المخالفة فنقول إن المخالفة لليهود تحصل ولو مرة واحدة في العمر كقوله صلى الله عليه وسلم صلوا بالنعال فإن اليهود لايصلون بنعالهم لو أن رجلاً صلى بنعاله مرة واحدة في العمر خرج بذلك عن مشابة اليهود فلا يشترط في جميع العمر أن يصوم التاسع مع العاشر فإن المخالفة تصدق ولو مرة واحدة كما هو مقرر عند جماعة من أهل الأصول كما أن الواجب يصدق فعله في مرة واحدة مالم تدل قرينة التكرار ففي الصحيحين من حديث أبي سعيد أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( إذا أذن المؤذن فقولوا مثلما يقول ) إذا تابعن أحد المؤذنين مرة واحدة أدّين المطلوب فإذا أذن الثاني استحب متابعته والمقصود أن صيام يوم عاشوراء يكفر سنة وصيام يوم قبله أفضل من إفراده وأما حديث ( صوموا يوماً قبله ويوماً بعده ) فهذا رواه الإمام أحمد ومداره على محمد ابن عبدالرحمن ابن أبي ليلى وقد قال عنه الإمام أحمد كان سيء الحفظ مضطرب الحديث وأيضاً قد خولف في إسناده فالخبر منكر ولايصح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه رغب بصيام ثلاثة أيام في عاشوراء وإنما جاءت فضيلة صيام ثلاثة أيام بأدلة عامة لاتختص بشهر الله المحرم .
وكذلك الحديث الآخر ( صوموا يوماً قبله أو يوماً بعده ) هذا الخبر منكر .
وقد روى عبدالرزاق بالمصنف بسند صحيح عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال (صوموا التاسع مع العاشر ) وهذا هو المحفوظ .
قوله [ وسئل عن صوم يوم الإثنين ، فقال : ذلك يوم ولدت فيه ] .(1/47)
يشير بهذا النبي صلى الله عليه وسلم إلى أنه يشرع صيامه لأن يوم الإثنين يوم ولد فيه صلى الله عليه وسلم، وفيه تعرض الأعمال على الله جل وعلا فلذلك كان النبي صلى الله عليه وسلم يستحب أن يُعرض عمله وهو صائم ولذلك كان عليه الصلاة والسلام كثيراً مايصوم يوم الإثنين .
وقد احتج بحديث الباب بعض الصوفية على الاحتفال بمولد النبي صلى الله عليه وسلم ويقولون بما أنه شرع صيام يوم الإثنين فكذلك يشرع الاحتفال بمولده، وأقول بصرف النظر عما يقع في الاحتفال من الشركيات والضلالات والبدع فإننا نقول إن جنس الاحتفال بالمولد بدعة وضلالة، فلو كان فهمُ هؤلاء الصوفية صحيحاً لكان الصحابة بهذا الفهم أولى فليس هناك أحدٌ من البشر أكثر تعظيماً للرسول صلى الله عليه وسلم من الصحابة ولا أكثر حباً له منهم ومع ذلك ماكانوا يحتفلون بمولده صلى الله عليه وسلم ولافعل هذا صحابيٌ قط، كذلك التابعون لهم بإحسان كذلك الأئمة الأربعة كلهم لم يكونوا يحتفلون بمولد النبي صلى الله عليه وسلم .
وإنما أحدث هذا الفاطميون وهم أهل جهل وضلال وأهل بدع، وشرك فإنهم حين بعدوا عن الدين واعتاضوا عن الهدى بالضلال وعن الرشاد بالغي أحدثوا هذه الاحتفالات المبتدعة .
وأما حديث الباب فإنما يدل على مشروعية الصيام يوم الإثنين ولايدل على مشروعية الاحتفال ومن فهم هذا فعليه الدليل والواجب الرجوع إلى فهم الصحابة رضي الله عنهم .
وفي الحديث دليل على أن النبي صلى الله عليه وسلم ولد يوم الإثنين وأوحي إليه في يوم الإثنين وهذا بالإجماع وأدلته كثيرة .
634/ وعن أبي أيوب الأنصاري رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : (من صام رمضان ثم أتبعه ستاً من شوال كان كصيام الدهر).
رواه مسلم رحمه الله فقال حدثنا يحيى بن أيوب قال أخبرنا إسماعيل بن جعفر قال حدثنا سعد بن سعيد بن قيس عن عمر بن ثابت بن الحارث عن أبي أيوب. ورواه أحمد وأهل السنن.(1/48)
وقد تكلم بهذا الحديث بعض أهل العلم وأعله بسعد بن سعيد بن قيس فقد قال عنه الإمام أحمد رحمه الله سيء الحفظ وكذا قال النسائي وغيره ولكنه توبع تابعه صفوان بن سليم عند أبي داود وهو ثقة خرج له الجماعة .
ورواه النسائي من طريق الإمام شعبة عن عبدربه بن سعيد عن عمر بن ثابت به. وعبد ربه بن سعيد قال عنه الإمام أحمد لا بأس به .
وفي الباب عن ثوبان أن النبي صلى الله عليه وسلم قال :( صيام شهر رمضان بعشرة أشهر وصيام ست من شوال بشهرين فذلك صيام سنة ) رواه الإمام النسائي في السنن الكبرى من طريق يحيى بن الحارث عن أبي أسماء الرحبي عن ثوبان به وصححه ابن حبان وغيره وفيه نظر وفي الباب عن جابر رواه أحمد ولا يصح.
قوله [ من صام رمضان ] .
أي كاملاً فلا يصح صيام ست من شوال إلا باستكمال رمضان وليس هذا من باب منع التطوع قبل الفرض، فهذه مسألة خلافية هل يجوز للمسلم أن يتطوع بالصيام قبل أن يؤدي الفرض، الذي عليه الجمهور الجواز وهو الحق إلا أن مسألتنا ليست من هذا الباب فمنع صيام ست من شوال قبل استكمال رمضان من باب أن الست لاتصح إلا بعد استكمال رمضان وذلك لعموم قوله من صام رمضان ثم اتبعه ستاً من شوال .(1/49)
وأما الذي عليه بقية فلا يصدق في حقه أنه صام رمضان وأتبعه ستاً من شوال وهل يلزم في صيام الست أن تكون متتابعة ؟ الصحيح أنه لايلزم فلو فرقها صح هذا لقوله من شوال ومن هنا تبعيضيه إلا أن الأكمل والأفضل أن يصوم الست متتابعة لئلا يعرض له عارض يمنعه من الصيام وقد قال تعالى : { فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ} وقد اختلف العلماء رحمهم الله في حكم صيام ست من شوال ، دل حديث الباب على استحبابها وبهذا قال أبو حنيفة والشافعي وأحمد وأكثر أهل العلم وخالف في ذلك الإمام مالك رحمه الله وقال بالكراهية لئلا يصل رمضان بما ليس منه، وقال في الموطأ إنه لم ير أحداً من أهل العلم والفقه يصومها ولم يبلغني ذلك عن أحد من السلف وإن أهل العلم يكرهون ذلك ويخافون بدعته وأن يلحق برمضان ماليس منه أهل الجهالة والجفاء ) فيحتمل قول مالك رحمه الله في هذه المسألة أحد أمور إما أنه لم يبلغه الخبر أو أنه بلغه فلم يثبت عنده أو أنه رأى العمل على خلافه فلم يقل به وعلى كل فالحديث ثابت في فضيلة صيام ست من شوال وأقوال العلماء يحتج لها ولا يحتج بها والله أعلم .
قوله [ كان كصيام الدهر ].
المراد بالدهر هنا العام والسنة الواحدة وذلك أن صيام رمضان يعدل صيام عشرة أشهر وصيام ست من شوال يعدل شهرين فتلك سنة كاملة .
وفي هذا دليل على أنه لابد من استكمال رمضان وأن الست لاتصح إلا بعد استكمال رمضان، فإن قال قائل إذا ولدت المرأة في رمضان يتعذر معها صيام ست من شوال فيقال إن صيام الست من السنن الراتبة المقيدة فإذا كانت لعذر شرعي جاز قضاؤها كسائر الرواتب فإذا كان النبي صلى الله عليه وسلم قضى الركعتين اللتين بعد الظهر بعد العصر وهذه راتبة مقيدة بوقت معين فكذلك صيام الست إذا فاتت المرأة بعذر شرعي جاز قضاؤها، فتصوم النفساء رمضان ثم تتبعه ستاً من شوال .(1/50)
أما إذا تمادت بالقضاء كأن تؤخر مثلاً إلى محرم فحينئذٍ نقول لها فات وقت صيام ست من شوال لأنها لم تبادر بالصيام كما أن المرء إذا تذكر راتبة الظهر بعد العصر ولم يبادر إلى قضائها فات وقت محلها .
ونظير هذا العقيقة إذا فات اليوم السابع لغير عذر فات محلها لأن النبي صلى الله عليه وسلم قيدها قال ( كل مولود مرتهن بعقيقته تذبح عنه يوم سابعه ) حديث صحيح ولو كان اليوم السابع واليوم العاشر سواء لم يكن لقول النبي صلى الله عليه وسلم تذبح عنه يوم سابعه معنى .
635/ وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ( مامن عبد يصوم يوماً في سبيل الله إلا باعد الله بذلك اليوم عن وجهه النار سبعين خريفاً ) متفق عليه .
قال البخاري رحمه الله حدثنا إسحاق بن نصر قال أخبرنا عبد الرزاق قال أخبرنا ابن جريج قال أخبرني يحيى بن سعيد وسهيل بن أبي صالح أنهما سمعا النعمان بن أبي عياش عن أبي سعيد به .
وقال الإمام مسلم رحمه الله حدثنا محمد بن رمح قال حدثنا الليث بن سعد عن ابن الهاد عن سهيل بن أبي صالح به .
قوله [ من صاما يوماً في سبيل الله ] .
اختلف العلماء رحمهم الله في معنى في سبيل الله فقيل المراد في الجهاد وفي غزو الأعداء وهذا اختيار ابن الجوزي لأنه يجمع بين مجاهدة العدو وبين الصيام فالصيام من العبادات البدنية والجهاد من العبادات المالية والبدنية فيجمع بين الأمرين فيحصل على الثواب والأجر الجزيل .
ورجح القرطبي بأن المراد في سبيل الله أي في مرضاة الله فيصوم قاصداً بذلك وجه الله .(1/51)
وقد استظهر ابن حجر رحمه الله في فتح الباري بأن الحديث أعم من هذا كله فيشمل الجهاد وغيره وهذا هو المعتمد والخبر عام فنحمل الحديث على من صام في الجهاد ومن صام في أي يوم يقصد وجه الله والدار الآخرة ويدخل بذلك على الصحيح صيام رمضان إذا صامه إيماناً واحتساباً باعد الله بكل يوم وجهه عن النار سبعين خريفاً ، فإن قيل لماذا خص الخريف من بين فصول العام ؟ فالجواب أنه خص لأنه أزكى الفصول وفيه تجنى الثمار ذكر ذلك ابن حجر رحمه الله في فتح الباري والمراد بالخريف هنا العام أي باعد الله وجهه عن النار سبعين عاماً .
في هذا الحديث فوائد :
الفائدة الأولى : فضيلة الصيام على وجه العموم .
الفائدة الثانية : فضيلة الصيام في الجهاد في سبيل الله .
الفائدة الثالثة : فضيلة الجهاد في سبيل الله فإذا اجتمع جهاد وصيام فهذا من أفضل الأعمال .
الفائدة الرابعة : فيه أن الأعمال الصالحة سبب بالبعد عن النيران .
الفائدة الخامسة : فيه أن الأعمال داخلة في مسمى الإيمان وهو قول أهل السنة قاطبة إنما ينازع في ذلك أهل الإرجاء .
636/ وعن عائشة رضي الله عنها قالت : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصوم حتى نقول لايفطر ، ويفطر حتى نقول لايصوم، وما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم ( استكمل صيام شهر قط إلا رمضان، وما رأيته في شهر أكثر منه صياماً في شعبان ) . متفق عليه .
قال الإمام البخاري رحمه الله حدثنا عبدالله بن يوسف قال أخبرنا مالك عن أبي النضر عن أبي سلمة بن عبدالرحمن عن عائشة رضي الله عنها .
وقال مسلم رحمه الله حدثنا يحيى بن يحيى قال قرأت على مالك عن أبي النضر عن أبي سلمة بن عبدالرحمن عن عائشة رضي الله عنها .
والحديث دليل على فضيلة الاستكثار من الصيام، وعلى أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يصوم ويسرد الصوم سرداً حتى يقول القائل لايفطر أبداً ولكنه يفطر فإذا أفطر يقول القائل لايصوم أبداً .(1/52)
فإن قال قائل لماذا يفعل النبي صلى الله عليه وسلم هذا ؟ فالجواب قد يقال كان الرسول صلى الله عليه وسلم ينشغل فلا يصوم فتتابع أشغاله حتى يقول القائل لا يصوم أبداً فيفرغ بعد ذلك فيسرد الصوم تعويضاً لما فات فيقول القائل لايفطر أبداً ثم ينشغل فيفطر وهكذا .
وربما يقال إن النبي صلى الله عليه وسلم كان يفعل هذا على وجه التعبد وفي هذا نظر لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( أفضل الصيام صيام داود كان يصوم يوماً ويفطر يوماً ) متفق عليه .
وأما قول عائشة ( وما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم استكمل صيام شهر قط إلا رمضان ) .
ففي هذا دليل على أنه لايشرع صيام شهر كامل إلا رمضان ولأن النبي صلى الله عليه وسلم ماصام شهراً كاملاً إلا رمضان .
قولها [ وما رأيته في شهر أكثر منه صياماً في شعبان ] .
وفي رواية عند مسلم من طريق ابن عيينة عن ابن أبي لبيد عن أبي سلمة عن عائشة قالت : ( ولم أره صائماً من شهر قط أكثر من صيامه من شعبان كان يصوم شعبان كله كان يصوم شعبان إلا قليلاً ) وقد ذكر غير واحد من أهل العلم أنه جائز في كلام العرب أن يقال لمن صام أكثر الشهر قد صام الشهر كله . وفي الحديث دليل على فضيلة الاستكثار من الصيام في شعبان .
وهل يعني هذا أن الصيام في شعبان أفضل من غيره ؟ الجواب لا لأن الرسول صلى الله عليه وسلم قال : ( أفضل الصيام بعد رمضان شهر الله المحرم ) والحديث في مسلم، فالاستكثار من الصيام في شهر الله المحرم أفضل من الاستكثار من الصيام في شعبان ولكن الخبر يدل على فضيلة صيام شعبان وفضيلة الاستكثار منه.(1/53)
فإن قال قائل لماذا يستكثر صلى الله عليه وسلم الصيام في شعبان ؟ قيل فرحاً بقدوم رمضان وقيل للتمرن على الصيام، وقيل للتذكير برمضان وقيل غير ذلك وربما يقال لجميع هذه الأمور، إلا أنه تقدم عندنا النهي عن تقدم رمضان بيوم أو يومين فمن لم يصم في شعبان حتى بقي على رمضان يوم أو يومان فلا يحق له حينئذٍ الصيام إلا إذا كان فرضاً أوله عادة يصوم يوماً ويفطر يوماً .
637/ وعن أبي ذر رضي الله تعالى عنه قال : أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم ( أن نصوم من الشهر ثلاثة أيام : ثلاث عشرة ، وأربع عشرة ، وخمس عشرة) .
رواه الإمام النسائي في سننه، والترمذي في جامعه وابن حبان في صحيحه من طريق يحيى بن بسام عن موسى بن طلحة عن أبي ذر رضي الله عنه .
ويحيى بن بسام روى عنه عبدالملك بن عمير والأعمش وفطر بن خليفة وذكره ابن حبان في ثقاته وقال عنه أبو داود لا بأس بحديثه فهو إذاً صدوق والحديث صححه ابن حبان والحاكم وجماعة، ولكن وقع في إسناده اختلاف على موسى بن طلحة كما أشار إلى ذلك الإمام النسائي رحمه الله في سننه وقد رواه النسائي من طريق أبي عوانة عن عبدالملك بن عمير عن موسى بن طلحة عن أبي هريرة ورواته كلهم ثقات ولكنه معلول فقد روى الإمام أحمد في مسنده عن أبي هريرة أنه كان يصوم ثلاثة أيام من أول الشهر فلو كان حديث الباب محفوظاً عند أبي هريرة ماخالفه . وأحاديث صيام ثلاث عشرة، وأربع عشرة، وخمس عشرة . فيها مقال وقد روى الإمام مسلم رحمه الله في صحيحه من حديث معاذة قالت : قلت : لعائشة أكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصوم ثلاثة أيام من كل شهر قالت : نعم قلت : لها من أي الأيام قالت : لم يكن يبالي من أي أيام الشهر يصوم ) .
فهذا الخبر يدلنا على أن عائشة لاتعرف قضية تحديد الأيام عن النبي صلى الله عليه وسلم لأن المحفوظ عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يرغب أمته بصيام ثلاثة أيام من كل شهر وكان يفعل ذلك .(1/54)
وقد جاء في الصحيحين أيضاً عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : أمرني رسول الله صلى الله عليه وسلم (بثلاث وذكر منهنّ أن أصوم ثلاثة أيام من كل شهر) وجاء في المسند وغيره ( فكان أبو هريرة يصوم ثلاثة أيام من أول الشهر ) .
فيستحب للمسلم أن يصوم ثلاثة أيام من كل شهر، وقد استحب أكثر أهل العلم أن تكون في أيام البيض وهي : (ثلاث عشرة، وأربع عشرة، وخمس عشرة) مع أن الأحاديث في ذلك فيها مقال كما بينا، وقد روى الحارث بن أبي أسامة عن سليمان بن حرب ثنا شعبة بن الحجاج عن قتادة قال سمعت موسى بن سلمة قال سألت ابن عباس عن صيام ثلاثة أيام البيض فقال كان عمر يصومهن .. ) ورواته ثقات وإن صام الأثنين، والخميس فهذا جاء فيه حديث سهيل بن أبي صالح عن أبيه عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( تعرض الأعمال على الله في يوم الاثنين والخميس وأحب أن يعرض عملي وأنا صائم ) . رواه أحمد والترمذي وقال حديث حسن غريب والحديث في صحيح مسلم بلفظ آخر ليس فيه ذكر الصيام .
وتقدم عندنا أن النبي صلى الله عليه وسلم ( كان يصوم يوم الاثنين ويقول ذاك يوم ولدت فيه ) رواه مسلم وغيره .
638/ وعن أبي هريرة رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال ( لايحل للمرأة أن تصوم وزوجها شاهد إلا بإذنه ) . متفق عليه وزاد أبو داود (غير رمضان) .
قال البخاري رحمه الله حدثنا أبو اليمان قال أخبرنا شعيب عن أبي الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة .
وقال مسلم رحمه الله حدثنا محمد بن رافع قال أخبرنا عبدالرزاق قال أخبرنا معمر عن همام بن منبهٍ عن أبي هريرة، ورواه البخاري عن محمد بن مقاتل أخبرنا عبدالله أخبرنا معمر عن همام بن منبه عن أبي هريرة مرفوعاً بلفظ ( لا تصوم المرأة وبعلها شاهد إلا بإذنه ) .(1/55)
وأما رواية أبي داود فقد قال : أبو داود رحمه الله حدثنا الحسن بن علي قال أخبرنا عبد الرزاق قال أخبرنا معمر عن همام بن منبه عن أبي هريرة به، والحسن بن علي هو الهذلي الخلال قال عنه الإمام أحمد ما أعرفه بطلب الحديث وقال يعقوب ابن شيبة ثقة ثبت ووثقة النسائي وقوله ( غير رمضان ) فيها نظر والعمل عليها .
قوله [ لايحل للمرأة ] .
أي يحرم على المرأة أن تصوم النفل غير الفرض كرمضان أوغيره من الفروض كالقضاء والنذر ونحو ذلك إلا بإذن زوجها لأن حق الزوج واجب وصيام غير الفرض مستحب ومن الفقه تقديم الواجبات ومن ذلك طاعة الزوج على فعل المستحبات كالصيام ونحوه وكذلك يحرم على المرأة أن تصوم ستاً من شوال وأن تصوم الاثنين والخميس إلا بإذن الزوج سواء كان الإذن صريحاً أم تلويحاً فلو صامت وأمرها زوجها بالفطر فيجب عليها حينئذِ الفطر فإن أبت فقد عصت الله ورسوله صلى الله عليه وسلم وهذا يدل أيضاً على قلة فقهها لأنها تعمل سنة وترتكب محرماً والحاصل أنّ طاعة الزوج مقدمة على صيام النوافل وفعل المستحبات العامة وإنما تصوم الفرض سواء كان رمضان أوقضاء أونذراً بدون إذن زوجها لأن صيام رمضان فرض فرضه الله فهى حينئذٍ تقدم طاعة الرب على طاعة زوجها .
وفي الحديث فوائد : منها عظم حق الزوج على الزوجة ومنها وجوب تقديم الواجبات على المستحبات ومنها جواز صيام الفرض بدون إذن الزوج ومنها أن الأعمال داخلة في مسمى الإيمان فإن أطاعت زوجها فهذا من الواجب وهو من الإيمان وإن عصت أثمت وهذا من نقص الإيمان، وفيه أيضاً أن الإيمان يزيد بالطاعة وينقص بالعصيان .
639/ وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ( نهى عن صيام يومين : يوم الفطر ويوم النحر ) . متفق عليه .
قال الإمام البخاري رحمه الله حدثنا موسى بن إسماعيل قال حدثنا وهيب عن عمرو بن يحيى عن أبيه عن أبي سعيد .(1/56)
وقال الإمام مسلم رحمه الله حدثنا أبو كامل الجحدري قال أخبرنا عبدالعزيز بن المختار عن عمرو بن يحيى به .
ورواه الشيخان أيضاً من حديث عمر، وخرجاه أيضاً من حديث أبي هريرة رضي الله عنه .
قوله [ نهى ] .
الأصل في النهي أن يكون للتحريم وهو في هذا الموضع للتحريم باتفاق أهل العلم فقد اتفق العلماء رحمهم الله على تحريم صوم يومي العيدين سواء كان الصيام نذراً أو غيره .
فإن هذا النذر نذر معصية لايجوز الوفاء به لحديث عائشة في البخاري أن النبي صلى الله عليه وسلم قال (من نذر أن يطيع الله فليطعه ومن نذر أن يعصي الله فلا يعصه ) .
ونذر صيام يومي العيدين نذر معصية فلا يجوز الوفاء به وهل يقضي في غيرهما فيه خلاف بين أهل العلم وقد قال بعض أهل العلم إن النذر المقيد يفوت بفوات وقته وهذا قول قوي وعليه يكفر عن يمينه .
قوله [ يوم الفطر ويوم النحر ] .
وهذا بالاتفاق والخلاف في صيام أيام التشريق لمن لم يجد الهدي وسيأتي بحث هذه المسألة في موضعها .
وكذلك يوم الجمعة يكره إفراده عند طائفة من الفقهاء ويحرم عند آخرين لما في الصحيحين أن النبي صلى الله عليه وسلم : ( دخل على جويرية في يوم الجمعة وهي صائمة قال صمت أمس . يعني الخميس قالت لا قال : تصومين غداً يعين السبت قالت لا قال : فأفطري ) .(1/57)
وفي صحيح الإمام مسلم من حديث أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم ( قال لاتخصوا ليلة الجمعة بقيام من بين الليالي ولاتخصوا يوم الجمعة بصيام من بين الأيام ) فإن قيل ماهي الحكمة من تحريم صيام يومي العيدين فالجواب أن الحكمة أن هذين عيدا أهل الإسلام فلا يشرع الصيام في العيد ومن ثم قال صلى الله عليه وسلم ( أيام التشريق أيام أكل وشرب وذكر لله عز وجل ) أي فلا تصوموا لأن هذه الأيام للأكل والشرب وللذكر وليست للصيام وأيضاً صيام يومي العيدين يقتضي وصل يوم برمضان ليس منه، ويقتضي أيضاً في يوم النحر عدم الأكل في يوم عظمه الله وأمر الله جل وعلا بالأكل فيه وبعض العلماء يرى وجوب الأكل من الهدي والأضحية وهذا اختيار الشنقيطي رحمه الله في أضواء البيان .
والصيام يتنافى مع الأكل فتعين حينئذ منع الصيام في يومي العيدين .
640/ وعن نبيشة الهذلي رضي الله تعالى عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( أيام التشريق أيام أكل وشرب ، وذكر لله عز وجل ) .
هذا الخبر رواه مسلم في صحيحه فقال حدثنا سريج بن يونس قال أخبرنا هشيم عن خالد عن أبي المليح عن نبيشة الهذلي ويسمى نبيشة الخير وفي الباب عن كعب بن مالك عند مسلم وعن عقبة بن عامر عند الترمذي وأبي داود وعن عمرو بن العاص عند أبي داود، وعن أبي هريرة عند ابن ماجه .
والحديث دليل على النهي عن صيام أيام التشريق قال عطاء هذا في حق الحاج ولكن خالفه الجمهور وقالوا بمنع صيام أيام التشريق للحاج وغيره واختار هذا القول الحافظ ابن رجب في فتح الباري .
والحديث دليل أيضاً على إبطال تقسيم الفقهاء للذكر إلى مطلق ومقيد فإن قوله صلى الله عليه وسلم ( وذكر الله عز وجل ) يدل على أن الذكر كله مطلق ويدخل فيه المقيد دبر الصلاة وأما تقييد الذكر بأيام التشريق بأدبار الصلوات دون غيرها فالحديث يرده .(1/58)
وقد اختلف العلماء رحمهم الله بمن صام أيام التشريق هل يصح صيامه مع الإثم أم أن الصيام باطل هذه المسألة مبنية على حكم ارتكاب النهي هل يقتضي الفساد أم لا وهذه المسألة اختلف فيها الأصوليون على مذاهب .
المذهب الأول : أن النهي يقتضي الفساد وهذا مذهب الإمام أحمد رحمه الله.
المذهب الثاني : أن النهي لايقتضي الفساد وهذا مذهب أبي حنيفة ومالك والشافعي في المشهور عنهم .
المذهب الثالث : إذا كان النهي متعلقاً بشرط من شروط العبادة اقتضى الفساد وإلا فلا وهذا اخيتار الحافظ ابن رجب رحمه الله .
المذهب الرابع : أن نعتبر كل مسألة بخصوصها وننظر فيها بالقرائن كعمل الصحابة رضوان الله عليهم وهذا المذهب هو الحق فلا نجعل في هذه المسالة قاعدة كلية بل ننظر في عمل الصحابة وننظر في تعاملهم في هذه المسألة فنحكم عليها بذلك .
فمثلاً جاء في صحيح الإمام مسلم رحمه الله عن عثمان رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( لاينكح المحرم ولا يُنكِح ولايخطب ) .
عمل الصحابة منهم عمر وعلي وعبدالله بن عمر وجماعة بأن نكاح المحرم فاسد فلذلك فسخوا نكاح من تزوج محرماً ففي هذه القضية نأخذ بقول الصحابة رضي الله عنهم، وفيه قول لأهل العلم بجواز نكاح المحرم ولكن عمل الصحابة مقدم على عمل من جاء بعدهم .
وحديث الباب يدلنا على أن أيام التشريق ليست محلاً للصيام كيوم العيدين ليست محلاً للصيام فالصيام حينئذٍ غير صحيح لأنه وضع الصيام في غير محله سواء كان الصيام فرضاً كالقضاء أونفلاً إلاّ أنه يستثنى من ذلك صيام ثلاثة أيام لمن لم يجد الهدي ودليل هذا ماذكره المؤلف رحمه الله في الباب .
641/ وعن عائشة وابن عمر رضي الله عنهما قالا : ( لم يرخص في أيام التشريق أن يصمن إلا لمن لم يجد الهدي ) .(1/59)
هذا الخبر رواه البخاري فقال حدثنا محمد بن بشار قال حدثنا غندر عن شعبة قال سمعت عبدالله بن عيسى عن الزهري عن عروة عن عائشة وعن سالم عن ابن عمر .. الحديث .
فهذا الحديث يدل على جواز صيام ثلاثة أيام في الحج وفي أيام التشريق خاصة لمن لم يجد الهدي وهذا قول الإمام أحمد رحمه الله لأن قولي عائشة وابن عمر (لم يرخص) يقصدان بذلك سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وهذه الصيغة تشعر بأن لهذا الخبر حكم المرفوع ( كقول الصحابي من السنة أونهينا عن كذا أو أمرنا بكذا) .
ومن ثم يقول الحافظ العراقي رحمه الله :
قولُ الصحابي من السنة أو ... ... نحو أُمرنا حكمه الرفعُ ولو
بعد النبي قاله بأعصر ... على الصحيح وهو قول الأكثر
وذهبت طائفة من العلماء إلى تحريم صيام أيام التشريق مطلقاً سواء وجد الهدي أم لم يجده لحديث نبيشة الهذلي وهو عام في حق المتمتع وغيره ولكنّ قولي عائشة وابن عمر أخص منه ويؤيد الجواز ظاهر الآية ( فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ ) .
وذهبت طائفة أخرى إلى جواز صيام أيام التشريق مطلقاً وهذا مروي عن علي وجماعة ولعل أصحاب هذا القول لم يبلغهم خبر نبيشة الهذلي وهو ظاهر في منع صيام أيام التشريق ودل خبر الباب بطريق المنطوق .
على استثناء من لم يجد الهدي وقد قال تعالى : { فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ } وهذه الثلاثة يجوز صيامها قبل يوم عرفة كما أنه يجوز صيامها على الراجح في أيام التشريق وأيام التشريق ثلاثة أيام بعد يوم النحر وهذا قول الإمام أحمد في رواية وهو اختيار شيخ الإسلام وابن القيم وهو قول الحافظ ابن كثير عليهم رحمة الله .
642/ وعن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( ولا تخصوا ليلة الجمعة بقيام من بين الليالي ولا تخصوا يوم الجمعة بصيام من بين الأيام إلا أن يكون في صوم يصومه أحدكم) .(1/60)
هذا الخبر رواه مسلم فقال حدثنا أبو كريب قال حدثنا حسين ( يعني الجعفي ) قال حدثنا زائدة عن هشام عن ابن سيرين عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم به .
قوله [ لاتخصوا ليلة الجمعة ] .
أخذ من هذا بعض الفقهاء أن النهي خاص بمن يتقصد قيام ليلة الجمعة وأما من قام غير متقصد فلا مانع حينئذٍ، وهذا الذي يدل عليه مفهوم الخبر فالنهي منصب على تخصيص ليلة الجمعة بالقيام وأما ماعدا هذا فلم يُنه عنه وأما الصيام فيختلف عن القيام فحديث الباب يدل على أن النهي لمن خص يوم الجمعة بالصيام وقد ذكر أبو عيسى الترمذي رحمه الله في جامعه عن أهل العلم أنهم يكرهون للرجل أن يختص يوم الجمعة بصيام لايصوم قبله ولا بعده وبه يقول أحمد وإسحاق ولكن جاء في الصحيحين أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( لايصومنّ أحدكم يوم الجمعة ) .
فهذا الخبر يفيد النهي عن إفراد يوم الجمعة مطلقاً سواء كان عن طريق التخصيص أم لايؤيد هذا ماجاء في الصحيحين عن جويرة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم ( دخل عليها وهي صائمة يوم الجمعة فقال لها النبي صلى الله عليه وسلم أصمتي أمس يعني الخميس . قالت لا قال أتصومين غداً . يعني السبت . قالت لا قال فأفطري ) .
ولم يستفصل منها النبي صلى الله عليه وسلم هل تقصدت صيام يوم الجمعة أم لا فدل على العموم . ويحتمل تخصيص هذا وما قبله بحديث الباب فيحمل المطلق على المقيد وحينئذٍ يزول الإشكال .
وقد اختلف الفقهاء رحمهم الله هل النهي عن صيام يوم الجمعة للتحريم أما للتنزيه ذهب أكثر أهل العلم إلى أن النهي للتنزيه وجعلوا قوله صلى الله عليه وسلم (إلا أن يكون في صوم يصومه أحدكم ) وكقوله صلى الله عليه وسلم ( أفضل الصيام صيام داود كان يصوم يوماً ويفطر يوماً ) قرينة على صرف النهي عن التحريم للتنزيه.
وذهب الإمام أحمد في رواية إلى أن النهي للتحريم لأنه الأصل واحتج بما ذكر المؤلف رحمه الله .(1/61)
643/ وعنه أيضاً رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( لايصومن احدكم يوم الجمعة، إلا أن يصوم يوماً قبله أويوماً بعده ) .
هذا خبر متفق عليه .
قال البخاري رحمه الله حدثنا عمر بن حفص بن غياث قال حدثنا أبي عن الأعمش عن أبي صالح عن أبي هريرة به .
وقال مسلم رحمه الله حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة حدثنا حفص وأبو معاوية عن الأعمش ح وحدثنا يحيى بن يحيى واللفظ له قال حدثنا أبو معاوية قال حدثنا الأعمش عن أبي صالح عن أبي هريرة به، ورواه أبو داود والترمذي وابن خزيمة وابن حبان وقال أبو عيسى حديث حسن صحيح .
والحديث يدل على النهي عن إفراد يوم الجمعة بالصيام سواء كان فرضاً أم نفلاً أما إن صام يوماً قبله أو يوماً بعده فلا بأس .
644/ وعنه أيضاً رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : ( إذا انتصف شعبان فلا تصوموا ) .
هذا الخبر رواه الخمسة وغيرهم من طريق العلاء بن عبدالرحمن بن يعقوب الحرقي مولاهم عن أبيه عن أبي هريرة .
ورواه عن العلا جمع منهم الثوري والدراوردي وأبو عميس وزهير بن محمد وغيرهم قال أبو عيسى هذا حديث حسن صحيح ولكن ضعفه الإمام علي بن المديني وأحمد بن حنبل وأكثر الحفاظ وقالوا بأن العلاء وهم فيه والأحاديث الصحيحة عن النبي صلى الله عليه وسلم على خلافه، أما العلاء فقد وثقه جمع من الحفاظ وصحح له الإمام مسلم عدة أحاديث بمروياته عن أبيه، ووثقه الترمذي وغيره.
وأما كون الأحاديث الصحيحة عن النبي صلى الله عليه وسلم على خلافه فهذا قد رده الإمام أبو داود رحمه الله في سننه وقال ليس هذا عندي بخلافه، والمقصود بالأحاديث التي على خلافه كحديث أبي هريرة في الصحيحين أن النبي صلى الله عليه وسلم ( قال لاتقدموا رمضان بيوم ولا يومين ) .(1/62)
مفهومه أنه يجوز تقدمه بغير ذلك ولكن قد يقال إنه ليس لهذا العدد مفهوم لأن المقصود النهي عن سبق رمضان بيوم أو يومين أو أكثر لحال رمضان وهذا قول الإمام الترمذي رحمه الله في جامعه .
أما إذاكان له عادة يصوم يوماً ويفطر يوماً أوله عادة يستكثر من صيام شعبان أو أراد أن يصوم فرضاً أونذراً فلا مانع حينئذ أن يصوم بعد انتصاف شعبان لأن المقصود من حديث الباب أن يتحر المرء انتصاف شعبان فإذا انتصف شعبان شرع بالصوم ليصله برمضان وأما ماعدا هذه الصورة فلا مانع من الصيام مطلقاً فقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يستكثر من الصيام في شعبان ولم يكن في صومه أكثر منه في شعبان إلا في رمضان كما تقدم في حديث عائشة .
فإذا حمل حديث الباب على ماذكرنا لم يكن مخالفاً للأحاديث الأخرى ولكن حمله جماعة من أهل العلم على ظاهره وقالوا إذا انتصف شعبان فلا يشرع الصوم فمن ثمَّ استنكر هذا أكثر الحفاظ وردوه بأحاديث كثيرة تدل على خلاف هذا القول .
645/ وعن الصماء بنت بسر رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : ( لا تصوموا يوم السبت ، إلا فيما افترض عليكم فإن لم يجد أحدكم إلا لحاءَ عنب، أوعود شجرة فليمضغها ) .
رواه الخمسة ورجاله ثقات إلا أنه مضطرب وقد أنكره مالك وقال أبو داود هو منسوخ .
هذا الحديث جاء من طريق ثور بن يزيد عن خالد بن معدان عن عبدالله بن بسر عن أخته الصماء .
وجاء في بعض طرقه عند النسائي عن خالته الصماء وفي رواية عند النسائي أيضاً عن عمته الصماء .
ورواه النسائي عن عبدالله بن بسر عن النبي صلى الله عليه وسلم وجاء الحديث أيضاً في مسند عائشة .
فالحديث فيه اختلاف كثير يدل على اضطرابه قال الإمام أحمد وكان يحيى بن سعيد يأبى أن يحدثني بهذا الخبر وقال الإمام الأوزاعي رحمه الله لم نزل نكتمه حتى انتشر . وقال الإمام أحمد . الأحاديث كلها مخالفة لحديث عبدالله بن بُسر.
وقال الإمام مالك هذا الحديث كذب .(1/63)
فهذا الخبر مضطرب سنداً ومنكر متنا، أما اضطراب الاسناد فتاره يذكر الخبر عن عبدالله بن بسر وتارة عن أخته وتارة عن عمته وتارة عن خالته وتارة عن عائشة والطريق واحد والمخرج واحد فدل على اضطرابه ودل على نكارته أما نكارة متنه فإن الخبر يدل على منع صيام يوم السبت ولو كان قبله يوم أو بعده يوم إلا في الفرض لقوله { إلا فيما افترض عليكم } .
قال الإمام أحمد والأحاديث كلها على خلافه فقد جاء في صحيح الإمام مسلم عن أبي أيوب أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : من صام رمضان واتبعه بست من شوال فكأنما صام الدهر ) .
والغالب في هذه الست أن يوافق أحدها يوم السبت وقد استحب أهل العلم صيام ست من شوال متتابعه، وأيضاً لم يقل النبي صلى الله عليه وسلم ( وأتبعه ستاً من شوال إلا يوم السبت ) وتأخير البيان عن وقت الحاجة لايجوز .
ومن الأدلة الدالة على جواز صيام يوم السبت ماجاء في الصحيحين ( أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : أفضل الصيام صيام داود كان يصوم يوماً ويفطر يوماً ) واليقين حاصل بهذا الحديث أنه يوافق يوم السبت .
ومن الأدلة مارواه الشيخان أيضاً عن جويرية أنها صامت يوم الجمعة فدخل عليها النبي صلى الله عليه وسلم وهي صائمة فقال : أصمتِ أمس قالت لا قال أتصومين غداً ( يعني السبت ) قالت : لا قال إذاً أفطري ) .(1/64)
فهذا الحديث صريح بجواز صيام السبت بغير الفرض، فإن قال قائل آلا يمكن حمل قوله صلى الله عليه وسلم ( لا تصوموا يوم السبت ) على الاستحباب فالجواب، لا يمكن هذا لأن الاستحباب يحتاج إلى دليل فالنصوص متواترة عن النبي صلى الله عليه وسلم في جواز صيام يوم السبت سواء صام قبله يوماً أولم يصم ثم أيضاً إن التورع عن صيام يوم السبت يحتاج إلى دليل قوي ومثل خبر الباب منكر من حيث الإسناد وباطل من حيث المتن، وأكثر الحفاظ على إنكاره كالأوزاعي ويحيى بن سعيد بل قال مالك هذا كذب وأنكره الإمام أحمد وغير هؤلاء من الحفاظ الذين أنكروا هذا الخبر وأعلوه سنداًو متناً .
فإن قال قائل لماذا لانحمل الخبر على من أفرد السبت فنقول قد قال بهذا بعض الفقهاء ولكن مما يرد هذا قوله في الحديث ( إلا فيما افترض عليكم ) فأفادت هذه الجملة النهي عن صيام يوم السبت ولو كان قبله يوم أوبعده لأن الحديث لم يخصص إلا الفرض والخلاصة أن حديث الباب غير صحيح ومما يدل أيضاً على نكارنه ماذكره المؤلف هنا :
646/ وعن أم سلمة رضي الله تعالى عنها، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان أكثر مايصوم من الأيام يوم السبت، ويوم الأحد، وكان يقول : (إنهما يوما عيد للمشركين، وأنا أريد أن أخالفهم ) .
هذا الخبر رواه النسائي من طريق عبدالله بن المبارك عن عبدالله بن محمد بن عمر عن أبيه عن كريب عن أم سلمة رضي الله عنهما .
وعبدالله بن محمد وأبوه قد روى عنهما جمع وذكرهما ابن حبان في ثقاته ومن ثم صحح لهما الإمام ابن خزيمة وابن حبان والحاكم .
والحديث يدل على جواز صيام يوم السبت بل يدل الخبر على استحباب ذلك مخالفة لليهود فإنهم يعظمون يوم السبت والأحد ويجعلونهما عيداً لهم ومعلوم عندنا أن العيد لايشرع صيامه فشرع لنا مخالفتهم وصيام هذين اليومين فدل هذا الخبر عن نكارة حديث الصماء . وأم سلمة رضي الله عنها أدرى بأحوال النبي صلى الله عليه وسلم من الصماء .(1/65)
ويدل الخبر أيضاً على أن مخالفة اليهود والنصارى غاية مقصودة للشارع ومن ثم يقول صلى الله عليه وسلم ( وأنا أريد أن أخالفهم ) فلذلك كان صلى الله عليه وسلم يحرص كل الحرص على مخالفة أهل الكتاب يقول شيخ الإسلام رحمه الله : لأن المشابهة في الظاهر تورث المودة في الباطن ) .
ومن هنا شرع لجميع المسلمين مخالفة اليهود في أعيادهم وجميع أحوالهم ومن تشبه بقوم فهو منهم كما جاء هذا في مسند الإمام أحمد من طريق عبدالرحمن بن ثابت ابن ثوبان عن حسان بن عطيه عن أبي منيب الجرشي عن ابن عمر رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم به .
قال شيخ الإسلام رحمه الله في الاقتضاء إسناده جيد وظاهره يقتضي كفر المتشبه بهم وأقل أحواله التحريم .
والمقصود أنه يشرع للمسلم أن يخالف المشركين ويشرع أيضاً أن يعتز بدينه وشرع نبيه محمد صلى الله عليه وسلم وألا يشابههم فإن مشابهتهم قد تورث مودتهم والعجيب أن الكفار لايرضون بأي حالة من الأحوال مشابهة المسلمين ومع هذا تجد بعض المنتسبين للإسلام يتشبه بهم وبزيهم ومايختصون به في بلاد المسلمين إما افختاراً بذلك وإما تقصداً لإضلال غيره وقد جاء في صحيح الإمام البخاري عن ابن عباس رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( أبغض الرجال إلى الله ثلاثة ملحد في الحرم ومبتغ في الإسلام سنة الجاهلية .. الحديث ) .
الشاهد قوله [ ومبتغ في الإسلام سنة الجاهلية ] .
فمن جلب لبلاد المسلمين ملابس الكفار فهذا من أبغض الرجال إلى الله جل وعلا كذلك يحرم تأجير من يبيع في المحل ملابس الكفار أويُعين على نشر تعاليم دينهم أوما كان من خصائصهم .
647/ وعن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم ( نهى عن صوم يوم عرفة بعرفة ) .
رواه الخمسة إلا الترمذي رووه كلهم من طريق حوشب بن عقيل عن مهدي الهجري عن عكرمة عن أبي هريرة .(1/66)
والخبر صححه ابن خزيمة والحاكم ولكن قال : العقيلي رحمه الله في كتابه الضعفاء في ترجمة حوشب بن عقيل لايتابع عليه وحوشب وثقه وكيع وأحمد وابن معين والنسائي والحديث ضعفه غير واحد وأعلوا الخبر بمهدي الهجري وأنه لايعرف فمثله لا يحتمل تفرده بهذا الخبر وإن ذكره ابن حبان في ثقاته، ومن ثم اختلف الفقهاء رحمهم الله في صوم يوم عرفة بعرفة بعد اتفاق أهل العلم على فضيلة صيام يوم عرفة لغير الحاج فقد تقدم في أول الباب حديث أبي قتادة أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل عن صيام يوم عرفة فقال ( يكفر سنتين السنة الماضية والسنة القادمة ) فقد أخذ بعض الفقهاء بعموم حديث أبي قتادة فرأوا مشروعية الصيام في يوم عرفة للحاج وغيره وأصحاب هذا القول لما ضعفوا وتيقنوا ضعف حديث أبي هريرة وصحة حديث أبي قتادة أخذوا بعموم حديث أبي قتادة وهذا القول الأول في المسألة .
القول الثاني : من كان مطيقاً للصيام ولا يكلفه ولايشق عليه فالصيام أفضل وأما إن كان يشق عليه أويضعفه عن الدعاء فإنه مكروه حينئذٍ وهذه رواية عن الإمام أحمد رحمه الله .
القول الثالث : في المسألة أن الصيام محرم وإن كان مطيقاً له وهذا مروي عن يحيى بن سعيد وهو قول طائفة من أهل الظاهر، وهذا مايدل عليه حديث الباب لو كان صحيحاً فإن الأصل في النهي أن يكون للتحريم ويستدل لهذا القول بأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يصم يوم عرفات ففي الصحيحين وغيرهما من حديث أم الفضل قالت تنازع الناس يوم عرفات هل كان رسول الله صلى الله عليه وسلم (صائماً أم لا فبعثت إليه بإناء فيه لبن فشرب وهو واقف على بعيره ) .
فهذا الخبر يفيد أن النبي لم يصم يوم عرفة والله يقول { لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ } .
ومما يشهد لهذا القول أن عمر رضي الله عنه ( كان ينهى عن صوم يوم عرفة ). رواه النسائي رحمه الله في الكبرى . وجاء هذا أيضاً عن ابن عمر رواه النسائي أيضاً .(1/67)
وروى النسائي أيضاً حديث نافع عن ابن عمر أنه سئل عن صوم يوم عرفة بعرفات فقال : ( لم يصم النبي صلى الله عليه وسلم ولا أبو بكر ولا عمر ولا عثمان ) .
يقصد ابن عمر رضي الله عنهما أنك لا تصمه فهل أنت أعلم من هؤلاء أو أفقه من هؤلاء أو أحرص على الخير من هؤلاء ، وهؤلاء لم يصوموا وهم خيار الأمة وساداتها وعظماؤها .
القول الرابع : استواء الأمرين الصيام والفطر .
القول الخامس : استحباب الصيام وهذا مروي عن عبدالله بن الزبير وعن عائشة وعن جماعة من الأفاضل رضي الله عنهم .
والقول الصحيح أن الصيام في يوم عرفة للحاج غير مشروع ولا مستحب والفطر أفضل ليتقوى على الدعاء والعبادة والله أعلم .
648/ وعن عبدالله بن عمر رضي الله عنهما قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ( لا صام من صام الأبد ) متفق عليه ولمسلم من حديث أبي قتادة بلفظ (لا صام ولا أفطر ) .
هذا الحديث وقع في بعض نسخ البلوغ بأنه عن عبدالله بن عمر وهذا يقتضي أن يكون ابن الخطاب ولكن الصحيح أنه من مسند عبدالله بن عمر وبن العاص.
قال الإمام البخاري رحمه الله حدثنا عمرو بن علي قال أخبرنا أبو عاصم عن ابن جريج عن عطاء أن أبا العباس الشاعر أخبره أنه سمع عبدالله بن عمرو فذكره. وقال مسلم رحمه الله حدثنا محمد بن رافع قال أخبرنا عبدالرزاق عن ابن جريج به.
وحديث أبي قتادة رواه مسلم في صحيحه من حديث حماد بن زيد عن غيلان عن عبدالله بن معبد عن أبي قتادة رضي الله عنه .
قوله [ لا صام من صام الأبد ] .(1/68)
لفظ مسلم [ لا صام ولا أفطر ] فقيل عن هذه الجملة بأنها دعائية فيكون المعنى بأن النبي صلى الله عليه وسلم دعا عليه بأنه لا صام ولا أفطر، ولايخفى أن من دعا عليه النبي صلى الله عليه وسلم فإنه لايفلح ولايكون إلاّ في تباب، وقيل المعنى ( لاصام ولاأفطر ) حيث أنه لم يطعم ولم يشرب ولم يجامع، وعلى المعنيين جميعاً يكون الخبر خرج مخرج الذم لمن صام الدهر وهذا بلا ريب باستثناء العيدين وأيام التشريق لأنه لو كان المعنى مع صيام هذه الأيام لايمكن للنبي صلى الله عليه وسلم أن يقول ( لا صام ولا أفطر ) لأن العلماء مجمعون إتباعاً لأحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم بأن صيام يوم العيدين محرم وأنه باطل وقد تقدم أيضاً أن الجمهور يحرمون أيضاً صيام أيام التشريق للحاج وغيره وإنما اختلفوا في المتمتع إذا لم يجد الهدي .
وقد اختلف الفقهاء فيمن صام الدهر باستثناء العيدين هل فعله محمود أم مذموم على مذاهب .
المذهب الأول : استحباب صيام الدهر وهذا اختيار ابن المنذر رحمه الله وأصحاب هذا القول احتجوا بحديث حمزة الأسلمي وقد سبق ( أنه قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم يارسول الله إني أسرد الصوم فأذن له النبي صلى الله عليه وسلم بالصيام ) .
ولكن يمكن الإيجابة عن هذا الحديث بأن سرد الصوم لايقتضي صيام الدهر فإن النبي صلى الله عليه وسلم كان يصوم حتى يقول القائل لايفطر .
واستدلوا أيضاً بقوله صلى الله عليه وسلم ( من صام رمضان ثم أتبعه ستاً من شوال كان كصيام الدهر ) . وفي هذا نظر لأن التشبيه بالثواب لايقتضي وقوع التشابه أوالتناسب من كل وجه واستدلوا أيضاً بأدلة أخرى لا يتسع هذا المقام لذكرها .
المذهب الثاني : تحريم صيام الدهر وهذا مروي عن ابن حزم وطائفة من أهل العلم لحديث أبي سعيد الخدري عند أحمد والنسائي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( من صام الدهر ضيقت عليه جهنم ) .(1/69)
إلا أن العلماء اختلفوا في تفسير هذا الحديث فقيل المعنى ( ضيقت عليه جهنم) أي فلا يدخلها من أجل صومه فإن الصيام جنة .
وقيل المعنى يدخل جهنم فتضيق عليه لمخالفة هدي النبي صلى الله عليه وسلم فقد قال صلى الله عليه وسلم لمن يصوم الدهر ( ومن رغب عن سنتي فليس مني ) ثم ذكر النبي صلى الله عليه وسلم هديهُ قال : ( أما أنا فأصوم وأفطر ) والحديث في الصحيحين من حديث أنس .
واستدل أصحاب هذا القول بحديث الباب .
المذهب الثالث : أن الحكم يختلف باختلاف الأشخاص فمن كان لايشق عليه الصيام أذن له وإلا منع منه .
والأظهر في المسألة من حيث الأدلة منع صيام الدهر وذلك لوجوه .
الوجه الأول : عموم قوله صلى الله عليه وسلم ( لاصام ولا أفطر ) يمنع من صيام الدهر .
الوجه الثاني : عموم قوله صلى الله عليه وسلم ( من صام الدهر ضيقت عليه جهنم ) فإن هذا الحديث فيه شديد الوعيد لمن صام الدهر .
الوجه الثالث : أن صيام الدهر يخالف هديه صلى الله عليه وسلم فقد كان صلى الله عليه وسلم يصوم ويفطر .
الوجه الرابع : أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : فيمن يصوم الدهر متعبداً بذلك قال : من رغب عن سنتي فليس مني .
الوجه الخامس : أن النبي صلى الله عليه وسلم ( جعل أفضل الصيام صيام داود كان يصوم يوماً ويفطر يوماً ) وقد قال صلى الله عليه وسلم لعبد الله بن عمرو لا أفضل من ذلك .
باب الاعتكاف وقيام رمضان
الاعتكاف في اللغة : هو لزوم الشيء والإقامة فيه .
شرعاً : لزوم أحد المساجد من شخص مخصوص في وقت مخصوص . شرع الاعتكاف بالكتاب والسنة وإجماع سلف الأمة، ففي الكتاب قوله تعالى : { وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْنًا وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى وَعَهِدْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ أَنْ طَهِّرَا بَيْتِي لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ (125) } ( سورة البقرة ) .(1/70)
وأما السنة فقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يعتكف العشر الأواخر حتى قبضه الله إليه .
أما الإجماع فقد أجمع العلماء كما نقل إجماعهم النووي وابن قدامة وسبقهما ابن المنذر وابن عبدالبر كل هؤلاء نقل الاجماع على مشروعية الاعتكاف قال الإمام أحمد رحمه الله لا أعلم خلافاً في سنيته .
ولايصح الاعتكاف إلا في المسجد سواء كان الاعتكاف للمرأة أم للرجل لقوله تعالى : { وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ } .
ويصح الاعتكاف بأي مسجد، وقد جاء حديث بأنه لا اعتكاف إلا في ( المساجد الثلاثة ) وهو حديث غريب معلول لايصح إلا مرسلاً رواه عبدالرزاق وغيره. وأمّا قول المؤلف رحمه الله ( وقيام رمضان ) أي وذكر الأخبار الدالة على فضل قيام الليل وإحيائه فقيام الليل دأب الصالحين وعز المؤمنين ورفعة في الدرجات ومكفرة للسيئات وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم ( نعم الرجل الصالح عبدالله لو كان يقوم من الليل ) رواه البخاري رحمه الله من طريق الزهري عن سالم عن ابن عمر به .
استفتح المؤلف رحمه الله باب الاعتكاف وقيام رمضان بحديث أبي هريرة.
649/ عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : ( من قام رمضان إيماناً واحتساباً غفر له ماتقدم من ذنبه ) .هذا الخبر متفق عليه .
قال الإمام البخاري رحمه الله حدثنا يحيى بن بكير قال أخبرنا الليث عن عقيل بن خالد بن عقيل عن الزهري قال حدثني أبو سلمة بن عبدالرحمن عن أبي هريرة به.
وقال الإمام مسلم رحمه الله حدثنا يحيى بن يحيى قال قرأت على مالك عن الزهري عن حميد بن عبدالرحمن عن أبي هريرة به .(1/71)
ورواه النسائي في السنن الكبرى قال حدثنا قتيبة بن سعيد قال أخبرنا سفيان عن الزهري عن أبي سلمة عن أبي هريرة وفيه ( غفر له ماتقدم من ذنبه وما تأخر ). وقد خولف بذلك قتيبة وخولف بذلك أيضاً سفيان فقد روى الحديث جمع من الحفاظ عن سفيان ورواه آخرون كمعمر ومالك والليث ويونس رووه عن الزهري فلم يذكروا ( وما تأخر ) فهي زيادة غير محفوظة .
قوله [ من قام ] .
(من) اسم شرط جازم تجزم فعلين الأول فعل الشرط والثاني جوابه وجزاؤه قوله [قام] هذا فعل الشرط ولايتم جواب الشرط إلا بتحقق فعل الشرط وفعل الشرط هنا مقيد لمن قام رمضان ( إيماناً واحتساباً ) .
فإن وجد الإيمان ولم يوجد الإحتساب أو العكس لم يحصل على المغفرة والرضوان .
والمراد بالقيام هنا قيام الليل، وفي رواية في الصحيحين ( من صام رمضان إيماناً واحتساباً ) .
و ( إيماناً ) أي تصديقاً بوعد الله وتصديقاً بثوابه فإن الإيمان في اللغة يطلق ويراد به التصديق كما في قول الله جل وعلا { وَمَا أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنَا} أي بمصدق لنا، أما في الشرع : فإنه قول باللسان واعتقاد بالجنان وعمل بالأركان . خلافاً للجهمية فإنهم يزعمون أن الإيمان هو المعرفة وخلافاً للأشاعرة فإنهم يدعون أن الإيمان هو التصديق فقط وخلافاً للمرجئة فإن الإيمان عندهم قول باللسان واعتقاد بالجنان ويخرجون الأعمال عن مسمى الإيمان .
قوله [ احتساباً ] .
أي طلباً للأجر والثواب وطلباً لمرضاة الله فلا يريد من الناس مدحاً ولاثناءاً ولا جزاءً ولاشكوراً قال تعالى : { وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا (114)} ( النساء ) .
قوله [ غفر له ماتقدم من ذنبه ] .
ذهب جمهور العلماء إلى أن المراد بالمغفرة هنا غفران الصغائر دون الكبائر فإن الكبائر عندهم لاتكفر إلا بالتوبة .(1/72)
وقد جاء في صحيح الإمام مسلم من حديث العلا بن عبدالرحمن عن أبيه عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال ( رمضان إلى رمضان والجمعة إلى الجمعة مكفرات لما بينهن مالم تغش الكبائر ) .
وذهب الإمام أبو العباس شيخ الإسلام ابن تيمية قدس الله روحه إلى أن الحديث يعم الصغائر والكبائر، ورجح رحمه الله أن بعض الأعمال الصالحة لا يقتصر تكفيرها على الصغائر فقط بل تكفر حتى الكبائر، وذكر رحمه الله في كتاب الإيمان عشرة أوجه مؤيداً بها قوله فلتراجع .
والحديث يدل على فضيلة قيام رمضان والإحتساب في ذلك وفي الحديث ( ومن قام مع الإمام حتى ينصرف كتب له قيام ليلة ) رواه أحمد وأبو داود وغيرهما وإسناده حسن .
650/ وعن عائشة رضي الله عنها قالت : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ( إذا دخل العشر أي العشر الأخيرة من رمضان . شد مئزره ، وأحيا ليله ، وأيقظ أهله ) متفق عليه.
قال الإمام البخاري حدثنا علي بن عبدالله قال أخبرنا سفيان بن عيينة عن أبي يعفور عن أبي الضحى عن مسروق عن عائشة به .
وقال الإمام مسلم رحمه الله حدثنا إسحاق بن إبراهيم الحنظلي قال حدثنا ابن عيينة عن أبي يعفور به .
قولها [ كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا دخل العشر ] .
كان هنا تفيد الدوام والإستمرار وقد تفيد الأغلبية ولكن بالنظر إلى الأدلة الأخرى يتبين أن المراد بكان هنا الدوام والاستمرار .
قولها [ إذا دخل العشر ] .(1/73)
إذا ظرف لما يستقبل من الزمان ، والمراد بالعشر العشر الأواخر من شهر رمضان فقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يخص العشر بمزيد من العمل . ففي هذا دليل على مشروعية تخصيص بعض الأيام بالعبادة والزيادة عن الوقت المعتاد في سائر الأيام فإن العشر الأواخر من رمضان فيهن ليلة من تُقبل منه فيها حاز أجراً عظيماً وثواباً جزيلاً يزيد فضل هذه الليلة على عبادة ثلاث وثمانين سنة وبضعة أشهر وعظم الله هذه الليلة وذكرها في كتابه فقال تعالى : { وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ (2) لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ (3) } وفي هذه الليلة يقول الله جل وعلا { تَنَزَّلُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا } والمراد بالروح هنا جبريل عليه السلام .
فلذلك كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا دخلت العشر اجتهد في العبادة تقول عائشة رضي الله عنها ذاكرة بعض عمله في هذه العشر تقول ( شد مئزره ) قيل المعنى ربط إزاره ليجتهد في العبادة، وقيل المعنى هذا كناية عن ترك الجماع ليالي العشر فإن هذا الوقت وقت عبادة ووقت اعتكاف وليس وقت تفرغ للنساء ومن ثم رأى بعض الفقهاء مشروعية ترك الجماع ليالي العشر تفرغاً للعبادة وليس المعنى عند هذا الفقيه ان ترك الجماع يراد بذاته وإنما يراد لمن أراد التفرغ للعبادة ولم يخش على نفسه الضرر، أما المعتكف فقد أجمع العلماء رحمهم الله على أنه لايجامع المرأة لقول الله تعالى : { تَنَزَّلُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا }.( البقرة ) .(1/74)
والصحيح في قول عائشة ( شد مئزره ) أنه كناية عن اعتزال النساء ولو كانت تقصد أنه كان يجد ويجتهد بإحياء الليل لما قالت بعد هذا ( وأحيا ليله ) والواو هنا للمغايرة والعطف هنا للمغايرة ففرقت عائشة رضي الله عنها بين شد المئزر وإحياء الليل وليس المعنى أنه صلى الله عليه وسلم يحيي جميع الليل وإنما يحيي معظمه وإطلاق الكل على البعض إسلوب عربي فصيح جاء في الكتاب والسنة الشيء الكثير، من هذا قوله تعالى { الَّذِينَ قَالَ لَهُمْ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ } ( آل عمران ) . هل كل الناس قالوا وهل كل الناس جمعوا لا إنما هم نفرٌ يسير من جملة العالمين ولذلك تقول عائشة كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ( يصوم شعبان كله ) وفي أحاديث أخرى تقول ( إلا قليلاً ) ، ويحتمل أن يكون المراد إحياء الليل كله لأنه لم يرد شيء صحيح يخالف هذا الظاهر والعلم عند الله .
قولها [ وأيقظ أهله ] .
في هذا دليل على مشروعية إيقاظ الأهل ليالي العشر والمراد هنا تأكيد الاستحباب وإلا فهذا الفعل مسنون في جميع الأيام، وعند أبي داود من حديث أبي صالح عن أبي هريرة ( أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : رحم الله رجلاً قام من الليل فصلى ثم أيقظ امرأته فصلت فإنه أبت نضح في وجهها الماء ورحم الله امرأة قامت من الليل فصلت ثم أيقظت زوجها فصلى فإن أبى نضحت في وجهه الماء ).
651/ وعنها رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم ( كان يعتكف العشر الأواخر من رمضان، حتى توفاه الله عز وجل، ثم اعتكف أزواجه من بعده). متفق عليه .
قال الإمام البخاري رحمه الله حدثنا عبدالله بن يوسف قال أخبرنا الليث بن سعد عن عقيل بن خالد عن الزهري عن عروة عن عائشة .
وقال الإمام مسلم حدثنا قتيبة بن سعيد قال أخبرنا الليث به .(1/75)
وروى البخاري من طريق يونس ومسلم من طريق موسى بن عقبة كلاهما عن نافع عن ابن عمر رضي الله عنهما قال : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم (يعتكف العشر الأواخر من رمضان) .
قولها [ يعتكف العشر الأواخر ] .
هذا هو الذي استقر عليه أمر النبي صلى الله عليه وسلم والعجيب مع كون النبي صلى الله عليه وسلم يعتكف العشر وكانت أزواجه تعتكف معه ومن بعده ومع كونه صلى الله عليه وسلم لم يدع الاعتكاف قط إلا أنه لم يرد حديث صحيح عنه صلى الله عليه وسلم في فضل الاعتكاف وفي ذكر ثواب أهله وإنما نأخذ ثواب الاعتكاف من مدح أهله كما في قوله تعالى : { وَالْعَاكِفِينَ } ومن فعل النبي صلى الله عليه وسلم والمواظبة عليه وإجماع أهل العلم .
واعتكاف العشر الأواخر من رمضان آكد من العمرة في رمضان والجمع بينهما أكمل فإن كان لابد لأحدهما دون الأخر فالاعتكاف أفضل لوجهين :
الوجه الأول : أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يعتكف العشر الأواخر ولم يكن يعتمر ولايفعل النبي صلى الله عليه وسلم إلا الأكمل والأفضل .
الوجه الثاني : أن الاعتكاف يعتبر في بعض البلاد من السنن المهجورة فكان إحياؤه أولى من العمرة في رمضان التي يتنافس عليها معظم العباد في هذا الزمان، ولأن الاعتكاف في العشر يفوت وقته بخلاف العمرة يمكن أداؤها في غير رمضان وإن كانت في رمضان أفضل عند أكثر أهل العلم .
والاعتكاف سنة وليس بواجب ولكن يجب بالنذر لحديث عائشة في البخاري أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال : ( من نذر أن يطيع الله فليطعه ) .
قولها [ ثم اعتكف أزواجه من بعده ] .(1/76)
في هذا دليل على صحة اعتكاف المرأة وقد جوز بعض أهل العلم اعتكاف المرأة في بيتها دون المساجد وهذا لا دليل عليه والصحيح أنه لايصح اعتكاف المرأة إلا في المسجد ولكن المرأة لاتعتكف إلا إذا أذن لها وليها أولاً وإذا أمنت الفتنة ثانياً وإذا كانت طاهرة ثالثاً، فإذا اختل شرط من هذه الشروط الثلاثة لم يصح اعتكافها ويجب على المرأة إذا اعتكفت في المسجد أن تعتزل الرجال وأن تتخذ لها خباءاً خاصاً لئلا يراها الرجال في حالة غير متسترة .
652/ وعنها رضي الله عنها قالت : كان النبي صلى الله عليه وسلم ( إذا أراد أن يعتكف صلى الفجر ثم دخل معتكفه ) متفق عليه .
قال البخاري رحمه الله حدثنا محمد بن سلام قال حدثنا محمد بن فُضيل بن غزوان عن يحيى بن سعيد عن عمرة بنت عبدالرحمن عن عائشة به .
وقال مسلم حدثنا يحيى بن يحيى قال أخبرنا أبو معاوية عن يحيى بن سعيد عن عمرة عن عائشة به. وظاهر الحديث يدل على أن المعتكف يدخل معتكفه حين يصلي الفجر من اليوم الحادي والعشرين، وبهذا قالت طائفة قليلة من الفقهاء، وقد ذهب الأئمة الأربعة وجماهير العلماء سلفاً وخلفاً إلى أن المعتكف يدخل معتكفه قبل غروب الشمس من الليلة التي يريد أن يعتكف فيها فعليه يدخل بغروب شمس يوم عشرين وهذا القول أرجح من القول الأول وذلك لوجوه .
الوجه الأول : أن ليلة إحدى وعشرين من ليالي القدر ومن الليالي التي ترجى فيها ليلة القدر فشرع إعتكافها بينما إذا قلنا أنه يدخل بعد صلاة الفجر من يوم إحدى وعشرين يكون قد فوت ليلةً من ليالي القدر .
الوجه الثاني : أنه إذا دخل ليلة إحدى وعشرين يصدق عليه أنه اعتكف العشر بينما إذا دخل فجر إحدى وعشرين ونقص الشهر يكون حينئذ قد اعتكف ثمانية أيام والاعتكاف عشرة أيام وإن نقص الشهر فتسعة .(1/77)
الوجه الثالث : إن معنى قول عائشة في حديث الباب ( دخل معتكفه ) . أي المكان الذي أعد لجلوس المعتكف فيه، وقد كان يوضع للنبي صلى الله عليه وسلم خيمة في ذلك يوضح هذا أن عائشة قالت إذا صلى الفجر فلو كانت تقصد بالمعتكف المسجد فلماذا تقول إذا صلى الفجر لماذا لاتقول إذا أراد أن يصلي الفجر لأنه دخل المسجد ونوى الاعتكاف فعلم حينئذٍ أن عائشة حين قالت دخل معتكفه أي المكان الذي أعد للاعتكاف وليس المعنى أنه منذ هذه اللحظة نوى الاعتكاف فهذا القول ضعيف وجماهير العلماء على خلافه ومن زعم أن هذا الحديث صريح بهذا فقد غلط إذ لو أرادت عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يدخل المسجد وينو الاعتكاف إلا بعد صلاة الفجر لما قالت : (معتكفه) وأيضاً لماذا النبي صلى الله عليه وسلم يدخل معتكفه وينوي الاعتكاف بعد صلاة الفجر لماذا لم ينو حين دخل المسجد كل هذا يبين أن النبي صلى الله عليه وسلم قد اعتكف من قبل ولكنه يحيي معظم الليل أوكله بالصلاة والعبادة والتهجد فإذا صلى الفجر دخل المكان المعد للاعتكاف ليخلو بربه جل وعلا .
والحديث دليل أيضاً على مشروعية الاعتكاف، وفيه دليل أيضاً على أن المعتكف يتخذ لنفسه مكاناً خاصاً وذلك ليخلو بربه ولكي لا يتعوره أحد حين استبدال الثياب أو استقبال من يريد زيارته من أهله .
653/ وعنها قالت : إن كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ( ليدخل عليّ رأسه وهو في المسجد ـ فأرجله ، وكان لايدخل البيت إلا لحاجة، إذا كان معتكفاً ) متفق عليه .
قال الإمام البخاري رحمه الله حدثنا قتيبة بن سعيد قال حدثنا الليث بن سعد عن الزهري عن عروة وعمرة عن عائشة رضي الله عنها .
وقال الإمام مسلم رحمه الله حدثنا يحيى بن يحيى قال قرأت على مالك عن الزهري به .
وفي الحديث فوائد منها .(1/78)
الفائدة الأولى : جواز إخراج المعتكف بعض بدنه وأن هذا لايؤثر على الاعتكاف لقولها (إن كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ليدخل علي رأسه) .
وقد أخذ من هذا بعض الفقهاء أن من حلف ألا يدخل بيت فلان من الناس وأدخل بعض جسده فإنه لا يحنث .
الفائدة الثانية : جواز اشتغال المعتكف بترجيل الرأس وأن هذا الفعل لاينافي هيئة الاعتكاف فإن النظافة مطلوبة وإن كان المرء معتكفاً .
الفائدة الثالثة : جواز محادثة المعتكف لأهله وذلك ليقضوا حوائجه ويفعلوا مصالحه أو غير ذلك من المصالح العامة والخاصة.
الفائدة الرابعة : جواز تخصيص بعض الزوجات بمثل هذا الفعل فإن عائشة رضي الله عنها قد اختصت بالترجيل علماً أن القسم بالاعتكاف قد انقطع فلذلك من له أكثر من زوجة واعتكف واحتاج شيئاً فله أن يخص إحدى الزوجات بما يشاء .
الفائدة الخامسة : أن المعتكف لايخرج إلا لما لابد منه وجاء في رواية ( لايخرج إلا لحاجة الإنسان يعني البول والغائط ، ويلحق بهما مايحتاج إليه المرء، وقد اختلف الفقهاء رحمهم الله هل يعود مريضاً ويشهد جنازة .
القول الأول : فقالت طائفة لايعود مريضاً ولايشهد جنازة مطلقاً وإن كانت الجنازة لأحد الأبوين أوكليهما فإن خرج بطل اعتكافه .
القول الثاني : وقالت طائفة يخرج للحاجة وهو قول للإمام أحمد وهو مروي عن جماعة من الصحابة اختاره جمعٌ من المحققين لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يخرج للحاجة فقد جاء في الصحيحين عن صفية وذلك في قصة مجيئها للنبي صلى الله عليه وسلم ( وهو معتكف فلما انقلبت لتذهب إلى بيتها خرج معها ) .
والحديث صريح بجواز الخروج من المعتكف للحاجة علماً بأنه لايجرأ أحد على محرم النبي صلى الله عليه وسلم ومع ذلك خرج النبي صلى الله عليه وسلم معها ليوصلها، فعيادة المريض القريب أولى من هذا وتشييع جنازة من له حق عليك أولى من هذا .(1/79)
القول الثالث : إن اشترط أن يخرج للحاجة خرج وإلا فلا يخرج وهذا المشهور من مذهب الحنابلة وهذا ضعيف لأن قضية الاشتراط لا أصل لها عن النبي صلى الله عليه وسلم ولا عن أحد من الصحابة فقد قال الإمام مالك رحمه الله في الموطأ لم أسمع من أحد من أهل العلم بالاشتراط ثم ذكر رحمه الله بأنّ الاشتراط بدعة وهذا الحق فلو كان الاشتراط مشروعاً لنقل عن النبي صلى الله عليه وسلم فقد كان يخرج لحاجته ولم يذكر عنه أنه علم أمته الاشتراط، والحق من هذه الأقوال أن المعتكف يخرج للحاجة التي يشق على نفسه بتركها ولو لم يشترط على الراجح وهذا هدي النبي صلى الله عليه وسلم كما في حديث الباب وحديث حفصة رضي الله عنها .
654/ وعنها قالت : السنة على المعتكف أن لايعود مريضاً ولايشهد جنازة، ولا يمس امرأة ولايباشرها، ولايخرج لحاجة إلا لما لابد له منه ولا اعتكاف إلا بصوم، ولا اعتكاف إلا في مسجد جامع .
هذا الخبر رواه الإمام أبو داود في سننه من طريق عبدالرحمن بن إسحاق عن الزهري عن عروة عن عائشة به .
قال أبو داود عقبه غير عبدالرحمن لايقول فيه من السنة وجعل هذا الخبر من قول عائشة .
والخبر رواه البيهقي في السنن الكبرى من طريق الليث بن سعد عن عقيل بن خالد بن عقيل عن الزهري عن عروة عن عائشة قالت كان رسول الله يعتكف العشر الأواخر ـ وفيه ـ والسنة فذكرت الخبر .
ولكن قال الإمام البيهقي في المعرفة قوله ومن السنة من قول من دون عائشة، فقالت طائفة هذا من قول الزهري وقال آخرون هذا من قول عروة فقد روى سفيان عن هشام بن عروة عن عروة من قوله ورواه سعيد بن عروبة عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة قالت : ( لا اعتكاف إلا بصوم ).
وهذا كله يوضح لنا أن قولها في الحديث من السنة ليست محفوظة وأنها مدرجة أيضاً وهذا اختيار الإمام الدارقطني رحمه الله .(1/80)
فعليه لايمكن الاحتجاج بهذا الخبر على منع المعتكف من عيادة المريض وتشييع الجنازة ولكن ليس معنى هذا أن المعتكف كلما سمع بجنازة خرج وتبعها هذا غلط إنما يتبع جنازة من له حق عليه كأحد الوالدين أو ابن أوعم أوعالم له نفع للإسلام والمسلمين مثل هؤلاء تتبع جنائزهم ويعاد مريضهم .
وأما قولها [ ولايمس امرأة ، ولايباشرها ] .
فهذا صحيح فإن المعتكف لايمس امرأة ولايباشرها لقول الله { وَلَا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ } . ( البقرة ) .
ولذلك قال الحبر عبدالله بن عباس إذا جامع المعتكف بطل ( اعتكافه ) رواه أبو بكر بن أبي شيبة بإسناد صحيح فقد رأى ابن عباس أنه يفسد حينئذٍ وإذا أراد الاعتكاف فإنه يستأنف من جديد.
وأما قولها [ ولا اعتكاف إلا بصوم ] .
هذه القضية سيأتي بحثها إن شاء الله على حديث ابن عباس .
وأما قولها [ ولا اعتكاف إلا في مسجد جامع ] .
المراد بالجامع هنا الذي يجمع فيه وليس المراد بالجامع الذي تقام فيه الجمعة فهذا وإن شرطه الإمام مالك إلا أنه أخذ هذا الحكم من أدلة أخرى لأن مالكاً رحمه الله لايرى الخروج من المسجد أبداً إلا لما لابد منه أما كونه يعتكف في غير مسجد جامع ثم يخرج يؤدي الجمعة فهذا ينهى عنه الإمام مالك ويرى أنك تعتكف في مسجد تقام فيه الجمعة حتى لاتخرج ولكن خالفه بهذا الإمام أبو حنيفة والشافعي وأحمد فرأوا جواز الاعتكاف في مسجد لاتقام فيه الجمعة إذا كانت تقام فيه الجماعة ورأوا أيضاً أن المعتكف يخرج يوم الجمعة لأداء صلاة الجمعة ولكن هل يبادر إلى الصلاة أم يتأخر لئلا يطول خروجه فيه قولان للفقهاء :
القول الأول : أنه يذهب مبكراً للأحاديث الوارده في فضل التبكير إلى صلاة الجمعة .(1/81)
القول الثاني : أنه يذهب متأخراً لئلا يكثر خروجه عن معتكفه وإنما رخص له للحاجة والمقصود يتم إذا صلى الجمعة وهذا القول أقرب للصواب من القول الأول. وفي قول عائشة ( ولا اعتكاف إلا في مسجد جامع) دليل على جواز الاعتكاف في جميع المساجد وهذا الصحيح وهو قول أكثر أهل العلم قال تعالى : { وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ } فلم يخص مسجداً عن مسجد .
655/ وعن ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( ليس على المعتكف صيام إلا أن يجعله على نفسه ) .
رواه الدارقطني في سننه والحاكم في مستدركه من طريق عبدالله بن محمد الرملي عن محمد بن يحيى بن أبي عمر قال حدثنا عبدالعزيز بن محمد عن أبي سهيل عم مالك بن أنس عن طاووس عن ابن عباس به .
قال الإمام الدارقطني رفعه هذا الشيخ يعني الرملي وغيره لايرفعه قال ابن القطان وعبدالله بن محمد الرملي لا أعرفه، وقال البيهقي والصواب وقفه ورفعه وهم وهذا هو المحفوظ أي وقفه وأنه من قول عبدالله بن عباس رضي الله عنهما .(1/82)
وهذا الحديث يدل على عدم لزوم الصوم للمعتكف وبهذا قال الإمام أحمد والشافعي رحمهما الله، وقال مالك وأبو حنيفة يلزم الصيام للمعتكف وهذا هو اختيار ابن القيم رحمه الله وذكر في زاد المعاد أن هذا اختيار شيخ الإسلام ولكن الموجود في الفتاوى أن الصوم ليس شرطاً للإعتكاف والقول الأول هو الصحيح لأن النبي صلى الله عليه وسلم قد ( اعتكف عشراً من شوال ) والحديث متفق على صحته ، وقد ذكر الإمام البغوي رحمه الله في شرح السنه أنه يدخل في العشر الأول يوم العيد وهذا لاصيام فيه وعلم أنه صلى الله عليه وسلم اعتكف بدون صيام وأيضاً لم ينقل أحد من الصحابة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه أوجب الصوم بالاعتكاف فدل هذا على عدم لزومه وأن الاعتكاف يصح بدون صوم، وقد اختلف الفقهاء رحمهم الله في أقل مدة للاعتكاف، فقال بعض أهل العلم ليس لأقله مدة فمن دخل المسجد ونوى الاعتكاف أجر بهذا ولكن يشكل على هذا القول أن النبي صلى الله عليه وسلم قال ( وانتظار الصلاة بعد الصلاة فذلكم الرباط فذلكم الرباط ) رواه مسلم فجعل النبي صلى الله عليه وسلم هذا من الرباط ولم يجعله من الاعتكاف ولكن لقائل أن يقول الاعتكاف نوع من أنواع الرباط فكل اعتكاف رباط وليس كل رباط اعتكافاً وهذا القول وارد إلا أن الأولى جعله رباطاً لأن النبي صلى الله عليه وسلم ما قال فذلكم الاعتكاف فذلكم الاعتكاف، ولذلك قالت طائفة أخرى إن أقل الاعتكاف يوم وليلة أما إذا كان أقل من يوم وليلة فيسمى رباطاً ودليل القائلين بيوم وليلة حديث عمر في الصحيحين أنه قال للنبي صلى الله عليه وسلم يارسول الله ( إني نذرت أن أعتكف ليلة في المسجد الحرام فقال له رسول الله أوف بنذرك ) . وهذا الحديث ليس صريحاً فيما ذكروا ولم يرد حديث صحيح يحدد أقل الاعتكاف، وأما أكثره فليس له منتهى ولكن أفضل أنواع الاعتكاف العشر الآواخر من رمضان والاعتكاف سنة باتفاق أهل العلم ولايجب إلا إذ جعله الإنسان على(1/83)
نفسه كما قال ابن عباس ( إلا أن يجعله على نفسه ) يعني بالنذر فحينئذٍ يلزم الاعتكاف وإن نذر الصوم معه لزم الصوم لعموم خبر عائشة في صحيح البخاري ( من نذر أن يطيع الله فليطعه ) وهذا النذر طاعة يجب الوفاء به إلا أن يشق عليه فيعجز عنه فحينئذٍ يكفر عن ذلك على القول الراجح لحديث عقبة بن عامر في صحيح مسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال (كفارة النذر كفارة يمين) وهذا الحديث على القول الراجح يشمل نذر المعصية فمن نذر نذر معصية حرم عليه الوفاء به ولكن يجب عليه أن يكفر عن نذره وبهذا قال الإمام أحمد واختار هذا القول ابن القيم في تهذيب السنن، واختلف العلماء فيما لو نذر نذراً يلزمه فعله أصلاً فلم يف كأن يقول الله عليّ نذر أن لا أحلق لحيتي فلم يف بهذا النذر فحلق لحيته يقول بعض أهل العلم لا كفارة عليه لأن هذا أمر واجب عليه في أصل الشرع وعن أحمد رحمه الله عليه الكفارة وهذا الأظهر وذلك لعموم الأدلة والحقيقة أن هذه المسألة داخله بعموم حديث عائشة من (نذر أن يطيع الله فليطعه) والنذر في إعفاء اللحية نذر طاعة وإن كان واجباً في أصل الشرع فيلزمه أن يكفر عن يمينه إذا نقض نذره .
والمقصود أنه ليس على المعتكف صيام إلا أن يجعله على نفسه بالنذر فحينئذ يلزمه الوفاء .
656/ وعن ابن عمر رضي الله عنهما، أن رجالاً من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم أروا ليلة القدر في المنام، في السبع الآواخر، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( أرى رؤياكم قد تواطأت في السبع الآواخر ) فمن كان متحريها فليتحرها في السبع الآواخر ) متفق عليه .(1/84)
قال البخاري رحمه الله حدثنا عبدالله بن يوسف قال أخبرنا مالك عن نافع عن ابن عمر به وقال مسلم رحمه الله حدثنا يحيى بن يحيى قال قرأت على مالك عن نافع عن ابن عمر به . وقد جاء عند أبي داود من طريق أبي موسى بن عقبة عن أبي إسحاق السبيعي عن سعيد بن جبير عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال في ليلة القدر ( هي في كل رمضان ) .
ولكن هذا الخبر معلول أعله أبو داود وغيره فقد رواه سفيان وشعبة عن أبي إسحاق موقوفاً على عبدالله بن عمر وهو ينقل لنا في حديث الباب عن النبي صلى الله عليه وسلم بأنها في السبع الآواخر فيحمل قوله على أحد ثلاثة أوجه .
الوجه الأول : لعل ابن عمر قال هي في كل رمضان قبل أن يعلم بهذا الحديث.
الوجه الثاني : سلك بعض أهل العلم مسلكاً آخر فقال لعله نسي ماحدث به عن النبي صلى الله عليه وسلم .
الوجه الثالث : لعل مراد ابن عمر بقوله هي في رمضان العموم فيخصص بما روى عن النبي صلى الله عليه وسلم ومن رمضان السبع الآواخر ولا يبعد أن يكون مراد ابن عمر الرد على من قال هي في شعبان أومن قال هي في كل العام فأراد ابن عمر أن يوضح أن ليلة القدر لاتكون إلا في رمضان وهي أيضاً في العشر الآواخر.
قوله [ أن رجالاً من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ( أروا ليلة القدر في المنام ) ] قال الحافظ ابن حجر في فتح الباري لم أقف على تسمية أحد من هؤلاء الرجال والحقيقة أنه لاحاجة بنا إلى معرفة اسمائهم ولو كان للأمة حاجة إلى معرفة أسماء هؤلاء لأبرزهم لنا عبدالله بن عمر الذي يهمنا أن رجالاً أروا ليلة القدر في المنام في السبع الآواخر .
ففي ذلك بعض الفوائد : ـ
الفائدة الأولى : أن الصحابة تواطأت رؤياهم على أنها في السبع الآواخر ومن ثم قال غير واحد من أهل العلم بأن أرجى ليالي القدر السبع الآواخر وأرجاها ليلة سبع وعشرين .(1/85)
الفائدة الثانية : فيه أن ليلة القدر ترى في المنام وقد ذكر شيخ الإسلام أنها ترى في اليقضة كأن يرى الإنسان أنواراً وخيراً ومايتبع ذلك ولليلة القدر علمات كأن تكون ليلتها لا حارة ولا باردة ومنها أن تخرج الشمس في صبيحتها لاشعاع لها وأما قول بعض الناس بأن الكلاب لاتنبح في ليلتها فهذا قد قاله بعض أهل العلم ولا دليل عليه .
الفائدة الثالثة : أن الرؤيا إذا تواطأت على شيء فهذا دليل على صدقها والرؤيا تسر المؤمن ولا تغره فالمسلم يستفيد من الرؤيا ولكن هي ليست شرعاً من عند الله إلا إذا أقرها النبي صلى الله عليه وسلم وهذا انقطع بموته صلى الله عليه وسلم ولكن كم من إنسان استفاد من الرؤيا إما موعظة يتعظ بها أوغير ذلك وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم ( لم يبق من المبشرات إلا الرؤيا الصالحة يراها المؤمن أوترى له ) رواه مسلم في صحيحه .
قوله [ أُرى رؤياكم قد تواطأت ] .
أرى بضم الهمزة أي أظن والظن نوعان : ظنٌ بمعنى اليقين كما قال تعالى : { الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلَاقُو رَبِّهِمْ } أي يستيقنون أنهم يلاقون ربهم ، النوع الثاني الظن بمعنى الشك .
تعريف الظن : هو تجويز أمرين أحدهما أظهر من الآخر .
ويجوز ضبط هذه الكلمة بمعنى أرى وذلك بفتح الهمزة فيكون المعنى أعلم رؤياكم والأول هو الأشهر عند أهل العلم .
قوله [ فمن كان متحريها فليتحرها في السبع الآواخر ] .
أي فمن كان منكم يتحرى ليلة القدر ويتحرى القيام فيها ويتحرى الدعاء فيها وقيام ليلتها فعليه بالجد والاجتهاد بالسبع الآواخر خصوصاً أوتارها .(1/86)
وقد اختلف العلماء رحمهم الله في تحديد ليلة القدر وذلك على أربعين قولاً سردها كلها الحافظ ابن حجر في فتح الباري وفي بعضها تقارب يمكن ضم قول إلى قول وبعض هذه الأقوال شاذة بل باطلة كقول بعضهم إنها رفعت وقول آخر أنها في كل السنة وهذا قول باطل أيضاً، وكذلك من الأقوال الباطلة أنها ليلة النصف من شعبان فهذه لا دليل عليها لا من الكتاب ولا من السنة ولامن قول صاحب جاء عنه بإسناد صحيح .
وأكثر أهل العلم على أن ليلة القدر هي ليلة سبع وعشرين وكان أبي بن كعب يحلف على هذا والأثر عنه رواه مسلم في صحيحه .
واحتج الجمهور لقولهم بما ذكره المصنف في الباب من حديث معاوية بن أبي سفيان .
657/ فعن معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنهما ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال في ليلة القدر ( ليلة سبع وعشرين ) .
وهذا الخبر رواه أبو داود في سننه فقال حدثنا عبيدالله بن معاذ قال حدثنا أبي عن شعبة عن قتادة قال سمعت مطرّفاً يحدث عن معاوية . ورواه الطبراني والبيهقي كلاهما من طريق شعبة به .
ورواه أبو بكر ابن أبي شيبة عن عفان، والبيهقي من طريق أبي داود الطيالسي عن شعبة عن قتادة عن مطرف عن معاوية من قوله وهذا هو المحفوظ وعليه لايصح الاحتجاج بالخبر على تعيين ليلة القدر والحق في هذه المسألة أن يقال إن ليلة القدر في أوتار العشر وأرجاها ليلة سبع وعشرين وهل هي محدَّدة في هذه الليلة على مر السنين أم أنها تنتقل ذهب جماعة من أهل العلم إلى أنها في ليلة واحدة ولاتنتقل وقال آخرون إن ليلة القدر تنتقل فقد تكون في هذا العام ليلة خمس وعشرين وفي العام الثاني ليلة سبع وعشرين وفي العام الثالث ليلة تسع وعشرين وهذا القول أقرب إلى الدليل فإن قيل لماذا لم يعلمنا النبي صلى الله عليه وسلم بتعيينها .(1/87)
فالجواب : لئلا يتكل العباد على هذه الليلة ويدعوا العمل في سائر الشهر فلذلك من الحكمة العظيمة أن العباد لايعلمون تعيينها عن طريق النص ليجتهدوا ويضاعفوا الجهود في العبادة والدعاء لعلهم يصيبونها لأن من أصاب ليلة القدر فقد أصاب خيراً كثيراً ففي الصحيحين وغيرهما من طريق الزهري عن أبي سلمة بن عبدالرحمن عن أبي هريرة: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( من قام ليلة القدر إيماناً واحتساباً غفر له ماتقدم من ذنبه ) وقد قال تعالى : { لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ (3) } .
فمن تقبل منه في ليلة القدر فعبادة ليلة واحدة تفضل عبادة ألف شهر وذلك ثلاثة وثمانون عاماً وأربعة أشهر فهذا ثواب كبير وأجر عظيم على عمل يسير قليل على من يسره الله عليه فقد قال معاذ للنبي صلى الله عليه وسلم أخبرني بعمل يدخلني الجنة ويباعدني عن النار فقال له صلى الله عليه وسلم : ( لقد سألت عن عظيم وإنه ليسير على من يسره الله عليه ) وهذا الخبر وراه الترمذي في جامعه من طريق أبي وائل عن معاذ واختلف في سماعه منه وقال أبو عيسى هذا حديث حسن صحيح . وخالفه الدارقطني وذكر أن الصحيح في هذا الخبر رواية حماد بن سلمة عن عاصم عن شهر بن حوشب عن معاذ .
658/ وعن عائشة رضي الله عنها قالت : قلت يارسول الله ، ( أرأيت إن علمت أي ليلة القدر ، ما أقول فيها ؟ قال : ( قولي : اللهم إنك عفو تحب العفو فاعف عني ) .
هذا الخبر رواه الإمام أحمد وأهل السنن إلا أبا داود .
والحديث رواه الترمذي من طريق جعفر بن سليمان الضبعي عن كهمس بن الحسن عن عبدالله بن بريدة عن عائشة ورواه ابن ماجه عن طريق وكيع عن كهمس بن الحسن به . وقد صححه الترمذي رحمه الله وفيه نظر فإن عبدالله لم يسمع من عائشة قاله النسائي والدارقطني .(1/88)
ورواه الإمام أحمد والنسائي في عمل اليوم والليلة والطبراني في كتاب الدعاء والحاكم في المستدرك كلهم من طريق سفيان عن علقمة بن مرثد عن سليمان بن بريدة عن عائشة به،
وفيه اختلاف ذكره النسائي في عمل اليوم والليلة وقد صححه الحاكم في مستدركه وقال على شرط الشيخين ولم يخرجاه وسكت عن ذلك الإمام الذهبي رحمه الله.
وفي هذا نظر فالحديث ليس على شرط الشيخين وفيه اختلاف كثير والحديث حديث عبدالله بن بريدة وقد تقدم أنه لم يسمع من عائشة .
قولها [ أرأيتَ إنْ علمتُ أي ليلة ليلة القدر ] .
فيه علو همة الصحابة رضي الله عنهم وخاصة عائشة رضي الله عنها حيث تسأل عن دعاء تدعو به في ليلة القدر وعائشة عندها علم عظيم من كون الدعاء في ليلة القدر مشروعاً وتحفظ عائشة رضي الله عنها الشيء الكثير من الأدعية وهذا لايخفاها ولكنها تريد دعاءً جامعاً لخيري الدنيا والآخرة تدعو به في ليلة القدر فأرشدها النبي صلى الله عليه وسلم إلى سؤالها وأعلمها بما ينفعها والحديث لو صحّ صريح بالرد على من زعم بأن ليلة القدر قد رفعت إذ لو كانت ليلة القدر قد رفعت لقال صلى الله عليه وسلم لعائشة لا حاجة إلى معرفة هذا فإن ليلة القدر قد رفعت وتأخير البيان عن وقت الحاجة لايجوز ولذلك الذي عليه عامة الصحابة وأئمة التابعين أن ليلة القدر لم ترفع بل هي موجودة في رمضان وتحديد هذا بليالي العشر وأرجاها بالأفراد وأرجى هذه الأفراد ليلة سبع وعشرين .
قولها [ ما أقول فيها ] .
تريد بذلك دعاء جامعاً لأنه لايخفى على مثلها دعاء تدعو به ثم اعلم أنه ليس لليلة القدر دعاء مخصوص لايدعى إلا به . بل يدعو المسلم بما يناسب حاله وكل بحسبه ولكن أفضل الأدعية في ليلة القدر الأدعية الجامعة من دعوات النبي صلى الله عليه وسلم الواردة عنه في مقامات كثيرة وأحوال خاصة وعامة .(1/89)
ويظهر من الحديث أن الدعاء في ليلة القدر كان معروفاً ومشهوراً عند الصحابة رضي الله عنهم وقد جاء في الصحيحين من حديث الزهري عن أبي سلمة ابن عبدالرحمن عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( من قام ليلة القدر إيماناً واحتساباً غفر له ماتقدم من ذنبه ) .
قول [ من قام ليلة القدر ] .
أي قام يصلي ويدعو ، وفي هذا دليل على مشروعية الإكثار من الدعاء في ليالي القدر .
قوله [ قولي : اللهم إنك عفوٌ ].
فيه إثبات صفة العفو له سبحانه وتعالى .
قوله [ إنك عفو تحب العفو ] .
فيه إثبات صفة المحبة لله وقد قال تعالى { قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمْ اللَّهُ } وقال تعالى : { يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ } وأهل السنة والجماعة يثبتون صفة العفو وصفة المحبة لله تعالى إثباتاً بلا تمثيل وتنزيهاً بلا تعطيل فلا يحرفون ولايكيفون ولايمثلون ولايعطلون بل يؤمنون بأن الله ليس كمثله شيء وهو السميع البصير يقول ابن القيم رحمه الله ناظماً معتقد أهل السنة والجماعة في باب الأسماء والصفات قال رحمه الله :
لسنا نشبه وصفه بصفاتنا
كلا ولا نخليه من أوصافه
من شبه الرحمن العظيم بخلقه
أو عطل الرحمن عن أوصافه ... إن المشبه عابد الأوثان
إن المعطل عابد البهتان
فهو الشبيه لمشرك نصراني
فهو الكفور وليس ذا الإيمان
قوله [ فاعف عني ] .
فيه دليل على أنه يستحب للداعي إذا دعا أن يتوسل إلى الله جل وعلا بالصفة المناسبة لدعائه فإذا أراد المغفرة يقول ياغفور اغفر لي وياعفو اعفو عني وإذا أراد العزة يقول ياعزيز أعزني ولابن القيم رحمه الله كلام مفيد حول هذه القضية أفاده في جلا الأفهام في الصلاة على خير الأنام .
659/ وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( لاتشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد : المسجد الحرام ومسجدي هذا والمسجد الأقصى ) . متفق عليه .(1/90)
قال البخاري رحمه الله حدثنا أبو الوليد قال حدثنا شعبة قال أخبرنا عبدالملك بن عمير قال سمعت قزعة يحدث عن أبي سعيد .
وقال مسلم رحمه الله حدثنا قتيبة بن سعيد حدثنا جرير عن عبدالملك بن عمير به ولفظ مسلم ( لاتشدوا الرحال ) بلفظ النهي ورواه البخاري ومسلم أيضاً من طريق سفيان بن عيينه عن الزهري عن سعيد بن المسيب عن أبي هريرة رضي الله عنه به .
وفي الباب حديث بصرة بن أبي بصرة الغفاري رواه أحمد بن حنبل في مسنده ومالك في الموطأ وابن حبان في صحيحه وإسناده صحيح ( أنه لقي أبا هريرة راجعاً من الطور وقال لو علمت أنك تذهب إلى الطور لمنعتك ثم استدل عليه بحديث الباب وفيه أن إعمال المطي وهذا كناية عن السفر يحرم لبقعة معينة تقصد لذاتها إلا البقاع الثلاث المستثناة بالحديث .
قوله [ لاتشد الرحال ] .
هذا خبر بمعنى النهي يؤيد هذا لفظ الإمام مسلم [ لا تشدوا الرحال ] .
والنهي هنا للتحريم كما هو قول الإمام أحمد واختار هذا أبو محمد الجويني وشيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله وقد حصل لشيخ الإسلام أذى عظيم بسبب فتياه بمنع شد الرحال إلى القبر النبوي فقد قام عليه أعداؤه وخصومه . وبدعوه وضللوه بسبب هذه القضية وسعوا بسجنه حتى سجن وأوذي وعذب ومات في السجن رحمه الله فلقد جاهد في الله حق جهاده ونصر هذا الدين بلسانه وسنانه فمن ثم صارت محبة شيخ الإسلام علماً لأهل السنة والجماعة وعلماً للموحدين وصار بغضه وعداوته وسبه علماً وشعاراً لأهل البدع الضالين فلا تكاد تجد سنياً يبغض شيخ الإسلام أويعاديه .
قال ابن الوردي يرثيه :
عثا في عرضه قوم سلاط
تقي الدين أحمد خير حبر
توفي وهو محبوس فريد
... لهم من نثر جوهره التقاط
خروق المعضلات به تخاط
وليس له إلى الدنيا انبساط
وقد زعم المجوّزون لشد الرحال إلى غير المساجد الثلاثة أن النهي في الحديث مخصوص بمن نذر على نفسه الصلاة في غير المساجد الثلاثة .(1/91)
وقال الخطابي . اللفظ لفظ الخبر ومعناه الإيجاب فيما ينذره الإنسان من الصلاة في البقاع التي يتبرك بها أي لا يلزم الوفاء بشيء من ذلك غير هذه المساجد الثلاثة .
وقال بعضهم : لا تشد الرحال إلى مسجد للصلاة فيه إلا إلى الثلاثة .
وهذه أقاويل ليس عليها دليل ولا تساعدها لغة وفيها تكلف .
والقول الأخير يرده حديث أبي بصرة وقد تقدم .
والصحيح في هذه المسألة تحريم شد الرحل لبقعة معينة تراد وتقصد لذاتها إلا المساجد الثلاثة زادها الله تشريفاً وتعظيماً .
ومن ادعى الكراهية أو الإباحة لم يصب فالحديث ظاهر في تحريم شد الرحال سواء كان للقبر الشريف أوغيره من قبور الصالحين على مافي ذلك من وسائل الشرك ومخالفة عمل الصحابة كلهم وأئمة التابعين فإن قيل ماحكم شد الرحال لطلب العلم وزيارة الأقارب والتعزيه ومايتبعها .
فالجواب : أنه لامانع من شد الرحل في هذه المسائل لأنه لا تُراد بقعة معينة فقد كان الصحابة يشدون الرحل لطلب العلم في وقته ويشدون الرحل لزيارة أقاربهم في عهده صلى الله عليه وسلم ولم ينكر عليهم ومن هنا ذكر غير واحد من أهل العلم على قوله صلى الله عليه وسلم [ لاتشد الرحال ] أي إلى بقعة معينة تقصد لذاتها إلا المساجد الثلاثة .
فإن قال قائل مامناسبة الحديث لباب الاعتكاف فالجواب أن المناسبة ظاهرة فإن المساجد الثلاثة أفضل المساجد على الإطلاق وأفضلها المسجد الحرام ثم المسجد النبوي ثم المسجد الأقصى فكان الاعتكاف في هذه المساجد الثلاثة أولى وأفضل من الاعتكاف في غيرها .
ويحتمل أيضاً أن يكون قصد المؤلف في إيراد هذا الحديث أن يبين منع شد الرحال للاعتكاف في غير هذه المساجد الثلاثة ولكن الحقيقة أنه لايريد هذا وكلامه بالفتح ظاهر في تجويزه شد الرحال إلى القبر الشريف وغيره من قبور الصالحين وهذا خطأ والحديث ظاهر في المنع فلا وجه لقول الحافظ والعلم عند الله .(1/92)
الحمد لله وحده والصلاة والسلام على من لا نبي بعده، أما بعد ...
فقد اطلعت على كتاب الصيام من شرح بلوغ المرام وهو من كلامي وإملائي فلا مانع من نشره للاستفادة منه .
كتبه
سليمان بن ناصر العلوان
الفهرس
رقم الحديث ... الحديث ... الصفحة
608 ... عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( لاتقدموا رمضان بصوم يوم ولا يومين ، إلا رجل كان يصوم صوماً فليصمه) ... 2
609 ... وعن عمار بن ياسر رضي الله عنه قال : من صام اليوم الذي يشك فيه فقد عصى أبا القاسم صلى الله عليه وسلم . ... 4
610 ... وعن عبدالله بن عمر رضي الله عنهما قال : سمعت رسول الله صلى الله علي وسلم يقول : ( إذا رأيتموه فصوموا وإذا رأيتموه فأفطروا، فإن غم عليكم فاقدروا له ) متفق عليه ... 6
611 ... وعن ابن عمر رضي الله عنهما قال : تراءى الناس الهلال، فأخبرت النبي صلى الله عليه وسلم أني رأيته، فصام، وأمر الناس بصيامه ) . ... 8
612 ... وعن ابن عباس رضي الله عنهما أن أعرابياً جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال : ( إني رأيت الهلال فقال : ( أتشهد أن لا إله إلا الله قال : نعم . قال ( أتشهد أن محمداً رسول الله : قال : نعم . قال : فأذن في الناس يابلال : أن يصوموا غداً ) . ... 9
613 ... وعن حفصة أم المؤمنين أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( من لم يبيت الصيام قبل الفجر فلا صيام له ) . ... 10
614 ... وعن عائشة رضي الله عنها قالت : دخل عليّ النبي صلى الله عليه وسلم ذات يوم . فقال ( هل عندكم شيء ) قلنا : لا قال : فإني إذاً صائم ) ثم أتانا يوماً آخر، فقلنا : أهدي لنا حيسٌ فقال(أرينيه ) فلقد أصبحت صائماً ) فأكل . ... 11
615 ... وعن سهل بن سعدٍ رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال ( لا يزال الناس بخير ماعجلوا الفطر ) . ... 13(1/93)
616 ... وعن أنس بن مالك رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( تسحروا فإن في السحور بركة ) . ... 14
617 ... وعن سلمان بن عامر الضبي عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إذا أفطر أحدكم فليفطر على تمر، فإن لم يجد فليفطر على ماء، فإنه طهور). ... 15
618 ... وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال : نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن الوصال ، فقال رجل من المسلمين : فإنك تواصل يارسول الله ؟ فقال : (وأيكم مثلي ؟ إني أبيت يطعمني ربي ويسقيني ) فلمَّا أبوا أن ينتهوا عن الوصال واصل بهم يوماً، ثم يوماً ثم رأوا الهلال، فقال : ( لو تأخر الهلال لزدتكم ) كالمنكل، لهم حين أبو أن ينتهوا هذا الخبر متفق عليه . ... 16
رقم الحديث ... الحديث ... الصفحة
619 ... وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( من لم يدع قول الزور والعلم به والجهل ، فليس لله حاجة أن يدع طعامه وشرابه ) . ... 18
620 ... وعن عائشة رضي الله عنها قالت : ( كان النبي صلى الله عليه وسلم يُقبل وهو صائم ويباشر وهو صائم ، ولكنه كان أملككم لإربه ) . ... 20
621 ... وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما ، أن النبي صلى الله عليه وسلم (احتجم وهو محرم واحتجم وهو صائم) . ... 21
622 ... وعن شداد بن أوس أن النبي صلى الله عليه وسلم أتى على رجل بالبقيع وهو يحتجم في رمضان . فقال : ( أفطر الحاجم والمحجوم ). ... 23
623 ... وعن أنس بن مالك قال : ( أو ماكرهت الحجامة للصائم : أن جعفر بن أبي طلب احتجم وهو صائم، فمر به النبي صلى الله عليه وسلم فقال : (أفطر هذان) ثم رخص النبي صلى الله عليه وسلم بعد في الحجامة للصائم، وكان أنس يحتجم وهو صائم . ... 24
624 ... وعن عائشة رضي الله عنها ،( أن النبي صلى الله عليه وسلم اكتحل في رمضان ، وهو صائم ) . ... 25(1/94)
625 ... وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( من نسي وهو صائم ، فأكل أوشرب ، فليتم صومه ، فإنما أطعمه الله وسقاه ) . هذا الخبر متفق عليه. ... 26
626 ... وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( من ذرعه القيء فلا قضاء عليه ، ومن استقاء فعليه القضاء ) . ... 28
627 ... وعن جابر بن عبدالله رضي الله تعالى عنهما، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج عام الفتح إلى مكة في رمضان، فصام حتى بلغ كراع الغميم، فصام الناس، ثم دعا بقدح من ماء فرفعه حتى نظر الناس إليه، فشرب، ثم قيل له بعد ذلك : إن بعض الناس قد صام . فقال : ( أولئك العصاة ، أولئك العصاة ) . ... 29
628 ... وعن حمزة بن عمرو الأسلمي رضي الله عنه أنه قال : يارسول الله، إني أجد فيّ قوة على الصيام في السفر . فهل علي جناح ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ( هي رخصة من الله ، فمن أخذ بها فحسن ومن أحب أن يصوم فلا جناح عليه ) . ... 30
629 ... وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال : رخص للشيخ الكبير (أن يفطر ويطعم عن كل يوم مسكيناً ، ولا قضاء عليه ) . ... 32
رقم الحديث ... الحديث ... الصفحة
630 ... وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال : جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال : ( هلكت يارسول الله . قال : وما أهلكك ؟ قال وقعت على امرأتي في رمضان .فقال : هل تجد ما تعتق رقبة ؟ قال : لا . قال : فهل تستطيع أن تصوم شهرين متتابعين ؟ قال : لا قال : فهل تجد ماتطعم ستين مسكيناً ؟ قال : لا ، ثم جلس ، فأتي النبي صلى الله عليه وسلم بعرق فيه تمر فقال (تصدق بهذا) فقال : أعلى أفقر منا ؟ فما بين لا بتيها أهل بيت أحوج إليه منا ، فضحك النبي صلى الله عليه وسلم حتى بدت أنيابه . ثم قال : (اذهب فأطعمه أهلك ) . ... 34(1/95)
631 ... وعن عائشة وأم سلمة رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم (كان يصبح جنباً من جماع، ثم يغتسل ويصوم) . ... 38
632 ... وعن عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال :( من مات وعليه صيام صام عنه وليه ) . متفق عليه . ... 39
633 ... عن أبي قتادة الأنصاري رضي الله تعالى عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سُئلَ عن صوم يوم عرفة . فقال : ( يكفر السنة الماضية والباقية ) وسُئِل عن صوم يوم عاشوراء . فقال : ( يكفر السنة الماضية ) وسئل عن صوم يوم الإثنين ، فقال (ذلك يوم ولدت فيه وبعثت فيه وأنزل عليّ فيه) . ... 41
634 ... وعن أبي أيوب الأنصاري رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : (من صام رمضان ثم أتبعه ستاً من شوال كان كصيام الدهر). ... 44
635 ... وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ( مامن عبد يصوم يوماً في سبيل الله إلا باعد الله بذلك اليوم عن وجهه النار سبعين خريفاً ) متفق عليه . ... 46
636 ... وعن عائشة رضي الله عنها قالت : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصوم حتى نقول لايفطر ، ويفطر حتى نقول لايصوم، وما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم ( استكمل صيام شهر قط إلا رمضان، وما رأيته في شهر أكثر منه صياماً في شعبان ) . متفق عليه . ... 47
637 ... وعن أبي ذر رضي الله تعالى عنه قال : أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم ( أن نصوم من الشهر ثلاثة أيام : ثلاث عشرة ، وأربع عشرة ، وخمس عشرة ) . ... 48
638 ... وعن أبي هريرة رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال ( لايحل للمرأة أن تصوم وزوجها شاهد إلا بإذنه ) . متفق عليه وزاد أبو داود (غير رمضان ) . ... 59
639 ... وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ( نهى عن صيام يومين : يوم الفطر ويوم النحر ) . متفق عليه . ... 51(1/96)
640 ... وعن نبيشة الهذلي رضي الله تعالى عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( أيام التشريق أيام أكل وشرب ، وذكر لله عز وجل ) . ... 52
رقم الحديث ... الحديث ... الصفحة
641 ... وعن عائشة وابن عمر رضي الله عنهما قالا : ( لم يرخص في أيام التشريق أن يصمن إلا لمن لم يجد الهدي ) . ... 53
642 ... وعن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( ولا تخصوا ليلة الجمعة بقيام من بين الليالي ولا تخصوا يوم الجمعة بصيام من بين الأيام إلا أن يكون في صوم يصومه أحدكم ) . ... 55
643 ... وعنه أيضاً رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( لايصومن احدكم يوم الجمعة، إلا أن يصوم يوماً قبله أويوماً بعده ) . ... 56
644 ... وعنه أيضاً رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : ( إذا انتصف شعبان فلا تصوموا ) . ... 56
645 ... وعن الصماء بنت بسر رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : ( لا تصوموا يوم السبت ، إلا فيما افترض عليكم فإن لم يجد أحدكم إلا لحاءَ عنب، أوعود شجرة فليمضغها ) . ... 47
646 ... وعن أم سلمة رضي الله تعالى عنها، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان أكثر مايصوم من الأيام يوم السبت، ويوم الأحد، وكان يقول : (إنهما يوما عيد للمشركين، وأنا أريد أن أخالفهم ) . ... 59
647 ... وعن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم ( نهى عن صوم يوم عرفة بعرفة ) . ... 60
648 ... وعن عبدالله بن عمر رضي الله عنهما قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ( لا صام من صام الأبد ) متفق عليه ولمسلم من حديث أبي قتادة بلفظ (لا صام ولا أفطر ) . ... 61
649 ... عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : ( من قام رمضان إيماناً واحتساباً غفر له ماتقدم من ذنبه ) .هذا الخبر متفق عليه . ... 65(1/97)
650 ... وعن عائشة رضي الله عنها قالت : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ( إذا دخل العشر أي العشر الأخيرة من رمضان . شد مئزره ، وأحيا ليله ، وأيقظ أهله ) متفق عليه. ... 67
651 ... وعنها رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم ( كان يعتكف العشر الأواخر من رمضان ، حتى توفاه الله عز وجل، ثم اعتكف أزواجه من بعده ). متفق عليه . ... 68
652 ... وعنها رضي الله عنها قالت : كان النبي صلى الله عليه وسلم ( إذا أراد أن يعتكف صلى الفجر ثم دخل معتكفه ) متفق عليه . ... 70
653 ... وعنها قالت : إن كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ( ليدخل عليّ رأسه وهو في المسجد ـ فأرجله ، وكان لايدخل البيت إلا لحاجة، إذا كان معتكفاً ) متفق عليه . ... 71
654 ... وعنها قالت : السنة على المعتكف أن لايعود مريضاً ولايشهد جنازة، ولا يمس امرأة ولايباشرها، ولايخرج لحاجة إلا لما لابد له منه ولا اعتكاف إلا بصوم، ولا اعتكاف إلا في مسجد جامع . ... 73
رقم الحديث ... الحديث ... الصفحة
655 ... وعن ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( ليس على المعتكف صيام إلا أن يجعله على نفسه ) . ... 75
656 ... وعن ابن عمر رضي الله عنهما، أن رجالاً من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم أروا ليلة القدر في المنام، في السبع الآواخر، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( أرى رؤياكم قد تواطأت في السبع الآواخر ) فمن كان متحريها فليتحرها في السبع الآواخر ) متفق عليه . ... 77
657 ... فعن معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال في ليلة القدر ( ليلة سبع وعشرين ) . ... 79
658 ... وعن عائشة رضي الله عنها قالت : قلت يارسول الله ، ( أرأيت إن علمت أي ليلة القدر ، ما أقول فيها ؟ قال : ( قولي : اللهم إنك عفو تحب العفو فاعف عني ) . ... 80(1/98)
659 ... وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :( لاتشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد : المسجد الحرام ومسجدي هذا والمسجد الأقصى ).متفق عليه . ... 82
الفهرس ... 85(1/99)
بسم الله الرحمن الرحيم
كتاب الحج
الحج مصدر حجَ يحجُ حجاً ، وهو أحد أركان الإسلام ومبانيه العظام ، فرضه الله جل وعلا بقوله : { وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنْ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً } . وجعله الرسول أحد أركان الإسلام فقال : « بُنيَ الإسلام على خمس : شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله ، وإقام الصلاة ، وإيتاء الزكاة ، وصوم رمضان ، وحج البيت » . متفق عليه من حديث عبد الله بن عمر بن الخطاب رضي الله عنهما .
وقد فرض الحج على القول الراجح في السنة التاسعة وفيها حج أبو بكر وعلي رضي الله عنهما بأمرٍ من النبي صلى الله عليه وسلم .
وقيل : إن الحج فرض في السنة السادسة ، وفي هذا نظر . وقيل : إن الحج فرض في السنة العاشرة . وقيل غير هذا . والحق أنه فرض في السنة التاسعة ، وقد اتفق العلماء رحمهم الله على أن الحج لا يجب في العمر إلا مرة واحدة وما زاد فهو تطوع : { وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ } .
والمؤلف رحمه الله استفتح كتاب الحج بذكر الأحاديث الواردة بفضله ليعلم المرء عظم أجر الحج وكثرة ثوابه كي لا يزهد فيه .
باب فضله وبيان من فرض عليه
664- عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : « العمرة إلى العمرة كفارة لما بينهما ، والحج المبرور ليس له جزاء إلا الجنة » .
هذا الخبر متفق على صحته .
قال الإمام البخاري رحمه الله : حدثنا عبد الله بن يوسف قال : أخبرنا مالك عن سُمي مولى أبي بكر بن عبد الرحمن عن أبي صالح عن أبي هريرة رضي الله عنه قال الإمام مسلم رحمه الله : حدثنا يحيى بن يحيى قال : قرأت على مالك عن سُمي به ، ورواه الإمام أحمد والنسائي وابن ماجه وابن خزيمة في صحيحه والبغوي في شرح السنة والبيهقي في السنن الكبرى .
قوله : « العمرة إلى العمرة كفارة لما بينهما » :(1/1)
المراد بذلك الصغائر عند جمهور أهل العلم فإن الكبائر لا تكفر إلا بالتوبة .
والحديث دليل على مشروعية الاستكثار من العمرة لأن العمرة إلى العمرة كفارة لما بينهما والله يقول : { وَافْعَلُوا الْخَيْرَ} . ويقول : { فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ } . ويقول جل وعلا : { وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ (133)} .
وجاء في جامع الترمذي من حديث عاصم ابن أبي النجود عن أبي وائل عن عبد الله بن مسعود أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : « تابعوا بين الحج والعمرة ، فإنهما ينفيان الفقر والذنوب كما ينفي الكير خبث الذهب والحديد والفضة » . وقد حسن هذا الحديث أبو عيسى رحمه الله .
وقوله : « تابعوا بين الحج والعمرة » :
فيه مشروعية تكرار العمرة في السنة أكثر من مرة ، خلافاً لبعض الفقهاء المالكية فإنهم يكرهون في السنة أكثر من مرة ، ويقولون : إن النبي صلى الله عليه وسلم لم يعتمر في السنة أكثر من مرة ، والحديث حُجة عليهم ، وأما كونه لم يعتمر في السنة أكثر من مرة فهذا لا يعني عدم مشروعية الاعتمار في السنة أكثر من مرة ، فالنبي رغب أمته في العمرة وحثهم عليها وندبهم وبين لهم فضلها ورغبهم بالاستكثار منها ، وفعله لا ينافي قوله فهوكان مشغولاً بأمور المسلمين الخاصة والعامة ، وما هو فيه أفضل من العمرة فكذلك المرء المسلم إذا كان له عمل من تعلم وتعليم ونحو ذلك فإن هذا يقدم على العمرة . والمسلم الحاذق الذكي يقدم الفاضل على المفضول .
وقوله في حديث عبد الله بن مسعود : « فإنهما ينفيان الفقر » :(1/2)
في هذا دليل على أن الاستكثار من الحج والعمرة من أسباب جلب الرزق والغنى ودفع الفقر ، وهناك عبادات كثيرة تجلب للعبد الرزق وتدفع عنه الفقر فمن ذلك الاستغفار قال تعالى : { فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا (10) يُرْسِلْ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا(11) وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَارًا(12)} .
ومن ذلك أيضاً صلة الأرحام وبر الوالدين فقد جاء في الصحيحين عن أنس بن مالك رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : « من أحب أن يُبسط له في رزقه وينسأ له في أثره فليصل رحمه » .
قوله في حديث الباب : « والحج المبرور ليس له جزاء إلاَّ الجنة » :
قال الإمام ابن عبد البر رحمه الله : " الحج المبرور هو الذي لا رياء فيه ولا سمعة ولا رفث ولا فسوق وخرج بمال حلال " . وهذا تعريف جامع لخصال وأفعال الحج المبرور ، فمن حج رياءً وسمعة فهذا حجه مأزور غير مبرور وهو إلى الإثم أقرب إليه من التقوى ، وهذا العبد المسكين قد تزود من الآثام وارتدى شعار أهل الرياء والنفاق والسمعة ، فليس له من حجة سوى إنهاك البدن وإذهاب المال ، نسأل الله العافية والسلامة .
ومن شروط الحج المبرور :
أن لا يكون في حجه رفث ( وهو الجماع ) ولا فسوق : لقول الله جل وعلا : { الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ } .(1/3)
أن يكون المال حلالاً : فإن الحج بالمال الحرام كالربوي والمكتسب عن طريق بيع المحرمات من دخان ونحوه فإن هذا المال وبال على صاحبه ، وهو من أسباب منع قبول الحج ، كما إنه أيضاً من أسباب منع إجابة الدعاء ومنع القطر من السماء ، وفي صحيح الإمام مسلم من حديث ابن كيسان عن أبي حازم عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال الحديث وفيه : « ثم ذكر الرجل يطيل السفر أشعث أغبر يمد يديه إلى السماء يا رب ، يا رب ، ومطعمه حرام ، وملبسه حرام ، ومشربه حرام، وغذي بالحرام ، فأنى يستجاب له » .
وفي الحديث دليل أيضاً على أن الأعمال داخلة في مسمى الإيمان كما هو قول أهل السنة قاطبة .
وفيه دليل على أن الأعمال من أسباب دخول الجنان فقد قال تعالى : { جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (17)} .
665- وعن عائشة رضي الله عنها قالت : يا رسول الله ، على النساء جهاد ؟ .
قال : « نعم ، عليهن جهاد لا قتال فيه : الحج والعمرة » .
هذا الخبر رواه الإمام أحمد في مسنده وابن ماجه في سننه من حديث محمد بن فضيل عن حبيب ابن أبي عمرة عن عائشة بنت أبي طلحة عن عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها .
وقال البخاري رحمه الله في صحيحه حدثنا عبدالرحمن بن المبارك قال أخبرنا خالد بن عبدالله الواسطى عن حبيب بن أبي عمرة عن عائشة بنت أبي طلحة عن عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها قالت : قلت للنبي : نرى الجهاد أفضل العمل ، أفلا نجاهد ؟ قال : « لا لكن أفضل الجهاد حج مبرور » .
وقد تقدم شروط الحج المبرور بكلام ابن عبد البر رحمه الله .(1/4)
والحج المبرور أحد أنواع الجهاد فإن الجهاد ليس مقصوراً على جهاد السنان، فطلب العلم من الجهاد ، والحج المبرور من الجهاد ، وقمع النفس عن ملذاتها المحرمة نوع من أنواع الجهاد ، والاصطبار على الطاعات نوع من أنواع الجهاد ، فإن تعطل جهاد السنان فإن جهاد اللسان لم يتعطل من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والدعوة إلى الله بالتي هي أقوم .
قولها : [ هل على النساء جهاد ؟ ] :
تريد بهذا : جهاد السنان ، فأعلمها النبي صلى الله عليه وسلم أن النساء لا يجاهدن بالسيف والسنان ، فإن هذا من خصائص الرجال ، فإن المرأة قد جبلت على الضعف ، فلذلك لا تجاهد بسيفها ولا بسنانها ولكن لا مانع أن تخرج مع المجاهدين لمداواة الجرحى وبذل ما يمكن بذله لهم .
وقد اختلف العلماء رحمهم الله في حكم المرأة لو جاهدت ، فقال بعض أهل العلم : لا مانع من هذا فقد جاهدت عائشة وأم سلمة وام سُليم وأسماء بنت يزيد حتى قيل إنها قتلت تسعةً من الروم . واصحاب هذا القول حملوا حديث الباب على عدم وجوب الجهاد لا على منعه .
وذهب بعض أهل العلم إلى أن المرأة تمنع من الجهاد في السنان ما لم تضطر إلى ذلك ، لأن جهادها يؤدي إلى كشف عورتها وإلى مزاحمتها الرجال وأصحاب هذا القول قالوا : جهاد المرأة الاستكثار من الحج والعمرة لقوله : « عليكن جهاد لا قتال فيه » . الرواية الأخرى : « ولكن أفضل الجهاد ، حج مبرور » .
وقوله : « عليهن جهاد لا قتال فيه » :
احتج بهذه الرواية جماعة من الفقهاء على وجوب العمرة وبه قال الإمام أحمد وجماعة من أهل العلم .
وذهب آخرون إلى أن العمرة مستحبة غير واجبة وإنما الواجب الحج ، وقد دخلت العمرة بالحج إلى يوم القيامة . وهذا قول الجمهور .
وقد استدل كل فريق من هؤلاء الأئمة بثلة من الأحاديث والآثار الواردة في هذا الباب ، ولكن لا يصح عن النبي صلى الله عليه وسلم في الباب حديث صريح .(1/5)
وقد روى الترمذي رحمه الله في جامعه عن أبي رزين وصححه أنه قال للنبي ( : يا رسول الله ، إن أبي شيخ كبير لا يستطيع الحج ولا العمرة ، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم :« حج عن أبيك واعتمر » .
وقد احتج بهذا الإمام أحمد وطائفة من فقهاء الشافعية كما هو مذهب ابن عمر وابن عباس على وجوب العمرة ، وفي هذا نظر ، لأن قوله ( : « حج عن أبيك واعتمر » يريد بذلك الترخيص بالحج والاعتمار عن العاجز وليس المعنى إيجاب العمرة ابتداءً على من لم يعتمر ، ومن تأمل سياق الحديث تبين له ما ذكرنا وأن الحديث إنما سيق لبيان جواز الاعتمار عن العاجز لا غير ، ثم إنه ليس بصريح في وجوب الاعتمار عن العاجز والله يقول : { وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} . فالاعتمار إذاً عن الغير من المستحبات لا من الواجبات .
وفيه دليل على فضيلة الاستكثار من الحج والعمرة ، وفيه دليل أيضاً على أن الجهاد من أفضل الأعمال ، لأن الرسول ( أقر عائشة بقولها : نرى الجهاد أفضل الأعمال .
وفيه دليل أيضاً على فضل عائشة حيث سألت عن أفضل الأعمال تريد بذلك العمل والتطبيق ، فإن العبد لا ينجو من عذاب يوم القيامة إلا إذا عمل بما علم ، وأما علم بلا عمل فكالشجرة بلا ثمر لا ينفع صاحبه ولا يغني عنه شيئاً .
666- وعن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال : أتى النبي صلى الله عليه وسلم أعرابي فقال : يا رسول الله ، أخبرني عن العمرة ، أواجبة هي ؟ .
فقال : « لا ، وأن تعتمر خير لك » .
هذا الخبر رواه الإمام الترمذي في جامعه من طريق عمرو بن علي عن الحجاج بن أرطأة عن ابن المنكدر عن جابر بن عبد الله .
وقد أعل هذا الخبر الحافظ البيهقي بالسنن الكبرى ورجح وقفه ، وكذا قال الحافظ ابن حجر رحمه الله .(1/6)
والحجاج بن أرطأة فيه كلام ، قال عنه الإمام أحمد : كان من الحفاظ ، فقيل له : فلماذا ليس هو عند الناس بذاك ؟ ، قال : لأنه يذكر ما لا يذكر غيره ، وليس يكاد يسلم له حديث من الزيادة . ورماه بالتدليس الإمامان أبو زرعة وأبو حاتم عليهما رحمة الله ، ولم يصرح الحجاج بالسماع هنا من ابن المنكدر .
وقد روى هذا الخبر ابن عدي بالكامل من طريق قتيبة بن سعيد عن ابن لهيعة عن عطاء عن جابر بن عبد الله : أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : « الحج والعمرة فريضتان » .
وهذا خبر معلول أيضاً ، وابن لهيعة سيء الحفظ ، وقد صح إيجاب العمرة عن عبد الله بن عمر وابن عباس رضي الله عنهما ، ذكر هذا عنهما الإمام البخاري معلقاً.
وخبر الباب مع ضعفه يدل على عدم وجوب العمرة ، ولكن من اعتمر فهذا أكمل وأفضل ، ثم اعلم أن القائلين بوجوب العمرة يصححون عمرة المتمتع ويرونها مجزئة عن العمرة الواجبة وهذا ظاهر .
667- وعن أنس رضي الله عنه قال : قيل : يا رسول الله ، ما السبيل ؟ .
قال : « الزاد والراحلة » .
هذا الحديث رواه الحاكم والدارقطني من طريق سعيد بن أبي عروبة عن قتادة عن أنس بن مالك به .
وقد صححه الحاكم ، ولكن أعله الإمام ابن عبد الهادي رحمه الله ، وقال : رفعه وهم ، والصحيح أنه عن قتادة عن الحسن البصري عن النبي صلى الله عليه وسلم مرسلاً ، وهذا هو المحفوظ عند أئمة الحديث وعلماء الجرح والتعديل .
وللحديث شاهد من حديث ابن عمر عند الترمذي ولكن في إسناده إبراهيم بن يزيد الخوزي ، وقد اتفق العلماء على تضعيفه وأجمعوا على أنه متروك الحديث .(1/7)
وللحديث شواهد من حديث ابن عباس ، وعائشة ، وعبد الله بن عمر ، وابن مسعود ، ولا يصح منها شيء . ولا يخلو كل طريق من متروك أو ضعيف جداً ومن ثم اختلف العلماء رحمهم الله في تفسير السبيل في قوله تعالى : { وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنْ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً } ، فقال جمهور العلماء : السبيل "الزاد والراحلة" فإذا اجتمعا معاً وجب على المسلم الحج ، وهذا قول الإمام أحمد وأبي حنيفة وجماعة من أهل العلم .
وذهب الإمام مالك رحمه الله أن هذا على قدر طاقة الناس فقد يجد المرء زاداً وراحلة ولا يقدر على الحج ، ذكر هذا القرطبي رحمه الله في تفسيره ، عن مالك .
وذهب بعض أهل العلم إلى أن السبيل الزاد و الراحلة و القدرة ، لأن المسلم قد يجد سبيلاً للزاد والراحلة ولكنه لا يقدر على الركوب ، فحينئذٍ لا يجب عليه الحج كما في قصة الخثعمية . والحديث في الصحيحين .
وتزيد المرأة على هذه الأمور الثلاثة أمراً رابعاً وهو وجود المحرم ، فإذا لم تجد المرأة محرماً فلا يجب عليها الحج إلى يوم القيامة ، وكذلك لو منعها زوجها فلا يجب عليها الحج حينئذٍ عند جماعة من المحققين ، وقال بعض أهل العلم : لا تطيع زوجها وتحج مع أحد محارمها ، ولو ترتب على ذلك طلاقها ، ولو قيد هذا القول فيما إذا كان الزوج يمنعها من الحج مطلقاً ، أما إذا منعها الزوج من الحج في هذا العام مثلاً فيجب عليها طاعته لأن الحج لا يجب على الفور عند جماعة من المحققين ، فقد فرض الحج في السنة التاسعة ولم يحج النبي صلى الله عليه وسلم إلا في السنة العاشرة فدل هذا أن الحج على التراخي ، وهذه المسألة فيها خلاف بين أهل العلم رحمهم الله .(1/8)
والصحيح في تفسير السبيل : أن هذا يختلف باختلاف الناس كما قال الإمام مالك ممن وجد زاداً وراحلة وعنده قوت لأبنائه حتى يرجع وكان قادراً على الحج فيجب عليه الحج حينئذٍ وليس المراد بوجود الراحلة أن تكون مُلكاً له ، إنما المراد تيسير ركوبها والذهاب عليها قيد هذا بعض أهل العلم إذا لم يكن فيها مِنَّة ، أمّا إذا كان فيها مِنَّة فلا يجب عليه الحج .
668- وعن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم لقي ركباً بالروحاء ، فقال : « من القوم ؟ » ، فقالوا : من أنت ؟ فقال : « رسول الله». فرفعت إليه امرأة صبياً فقالت : ألهذا حج ؟ قال : « نعم ولك أجر » .
رواه مسلم رحمه الله فقال : حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة قال : حدثنا سفيان بن عيينة عن إبراهيم بن عقبة عن كريب مولى ابن عباس عن ابن عباس رضي الله عنهما .
ورواه مالك في الموطأ والشافعي وأبو داود والنسائي ، وله شاهد من حديث جابر عند الترمذي .
قوله : [ بالروحاء ] :
مكان قرب المدينة .
قوله : [ فقال : « من القوم ؟ » ] :
فيه جواز سؤال المرء عن اسمه خصوصاً إذا صحبته أو أردت أن تتعامل معه حتى قال بعض الحكماء : من الجفا أن تصاحب رجلاً لا تعرف اسمه .
قوله : [ فقالوا : من أنت ؟ ] : فيه أنه لا مانع أن يمتنع المرء عن ذكر اسمه حتى يعلم من هو مقابله وسائله لأنه يمكن أن يكون قصد السائل إيقاع ضرر بالمسئول فمن العقل ألا تخبره باسمك ولكن إذا علمت مخبره فمن الأدب والمعاملة الحسنة أن تخبره باسمك ولا تمتنع .
قوله : [ فقال : « رسول الله » ] :
فيه جواز تعريف المرء بنفسه إذ لا مانع أن يقول الإنسان أنا الشيخ الفلاني ليعرف قدره أو أن يقول : أنا إمام المسجد الفلاني ، أو أنا خطيبه ، لأن رسول الله ( قال : « رسول الله » ليعرف مكانه ومن ثم يعظم قدره .
قوله : [ فرفعت إليه امرأة صبياً فقالت : ألهذا حج ؟ ] :(1/9)
فيه دليل على جواز استفتاء المرأة للرجل الأجنبي ولكن لا تخضع بالقول ، لقوله تعالى : { فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ } فتستفتي وتنتهي المحادثة بين الطرفين بانتهاء الفتيا.
قوله ( : « نعم ، ولك أجر » :
في هذا دليل على أن للصبي حجاً كما أنَّ له صلاة . وقد نقل الإجماع على هذا الإمام الطحاوي رحمه الله في شرح معاني الآثار ، ثم اختلف العلماء رحمهم الله هل يجزئ حجة الصبي عن حجة الإسلام أم لا ؟ .
ذهب الجمهور إلى أن حجه لا يجزئ عن حجة الإسلام ، ونقل الإجماع عليه غير واحد من أهل العلم ، وذهب بعض أهل العلم كما نقله في شرح المعاني للطحاوي إلى أن حجه يجزئه عن حجة الإسلام . والصحيح قول الجمهور . لما رواه أبو بكر بن أبي شيبة عن أبي معاوية محمد بن خازم الضرير عن الأعمش عن أبي ظبيان عن ابن عباس رضي الله عنهما قال : ( احفظوا عني ولا تقولوا قال ابن عباس : أيما صبي حج ثم بلغ فليحج حجة أخرى ) .
وهذا إسناده صحيح ، وله حكم الرفع ، لقول ابن عباس : ولا تقولوا قال ابن عباس ، فلو كان هذا من قول ابن عباس ما جاز لابن عباس أن يقول : ولا تقولوا قال ابن عباس ، لأن هذا من قوله ورأيه وفعُلم أن هذا من كلام النبي صلى الله عليه وسلم ، وقد جاء مصرحاً به مرفوعاً ، ولكن فيه نظر .
وكذلك العبد المملوك إذا حج ثم أعتق بعد الحج عليه حجة أخرى . وسيأتي إن شاء الله تعالى زيادة بحث لهذه المسألة على حديث ابن عباس .
والشاهد من سياق الحديث هو صحة حج الصبي ولكن هذا لا يجزئ عن حجة الإسلام ، ثم أيضاً أن قوله صلى الله عليه وسلم : « نعم ، ولكِ أجر » وترك النبي صلى الله عليه وسلم بيان ما يلزم هل تطوف عنه طوافاً مستقلاً ؟ وتسعى عنه سعياً مستقلاً ؟ والقاعدة تقول : ترك الاستفصال مقام الاحتمال ينزل منزلة العموم في المقال.
والقاعدة تقول أيضاً : تأخير البيان عن وقت الحاجة لا يجوز .(1/10)
فكون النبي صلى الله عليه وسلم لم يقل للمرأة : طوفي به طوافاً مستقلاً يفيد هذا أنها تطوف به محمولاً ، ويجزئ الطواف الواحد عنهما معاً ، والسعي الواحد عنهما معاً ولكن ينبغي العمل بأن المرء إذا حج بالصبي يجب أن يجنبه محظورات الإحرام فإن ارتكب الصبي شيئاً من المحظورات فلا شيء عليه لأنه غير مكلف وغير مخاطب ، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم : « رفع القلم عن ثلاثة ... » وذكر الصغير حتى يبلغ ، وهو حديث حسن رواه أبو داود وغيره .
669- وعنه رضي الله عنه قال : كان الفضل ابن عباس رضي الله عنهما رديف رسول الله ، فجاءت امرأة من خثعم فجعل الفضل ينظر إليها وتنظر إليه ، وجعل النبي صلى الله عليه وسلم يصرف وجه الفضل إلى الشق الآخر، فقالت : يا رسول الله ، إن فريضة الله على عباده في الحج أدركت أبي شيخاً كبيراً لا يثبت على الراحلة ، أفأحج عنه ؟ قال : « نعم » . وذلك في حجة الوداع . متفق عليه .
قال الإمام البخاري رحمه الله : حدثنا عبد الله بن يوسف قال : أخبرنا مالك عن ابن شهاب عن سليمان بن يسار عن ابن عباس به .
وقال الإمام مسلم رحمه الله : حدثنا يحيى بن يحيى قال : قرأت على مالك عن ابن شهاب به . ورواه أحمد ومالك وأهل السنن وابن الجارود في المنتقى .
وقد جاء في بعض طرق الحديث صفة المرأة وأنها وضيئة . ولا أظن أن هذه اللفظة تثبت ، فأكثر الطرق خالية منها .
والحديث فيه فوائد :
1 ـ فيه جواز الإرداف على الدابة : وهذا محمول عند أهل العلم إذا كانت مطيقة ، أما إذا كانت الدابة غير مطيقة فلا يجوز الإرداف عليها ، لأن هذا تعذيب لها ، وقد أمرنا الله تعالى بالإحسان حتى إلى البهائم .
2 ـ وفيه جواز استفتاء المرأة للرجل : لأن هذه المرأة الخثعمية استفتت النبي صلى الله عليه وسلم وكانت شابة ، وخثعم قبيلة ترجع إلى قحطان مساكنهم بين الطائف وأبها .(1/11)
وقد احتج بهذا الحديث بعض فقهاء الشافعية على عدم وجوب تغطية المرأة وجهها ، وفي هذا نظر لأننا لو سلمنا بهذا الدليل وبهذا الاستنباط لكان هذا خاصاً بالحج فقد قال بعض الفقهاء : إحرام المرأة بوجهها ، ولذلك يقول فقهاء الحنابلة : يجب على المرأة أن تكشف عن وجهها بالإحرام إلا بحضرة أجنبي ، وفي هذا نظر أيضاً . والحق في هذه القضية أن المرأة يجب عليها ستر وجهها بحضرة الأجانب سواء كانت محرمة أم غير محرمة ، وإذا لم يكن ثم أجنبي فالحق أنها غير ملزمة في الكشف عن وجهها لأن هذا يحتاج إلى دليل . والقول بأن إحرام المرأة في وجهها لا دليل عليه ، والوارد بذلك خبر منكر لا يحتج به.
فإن قال قائل : لفظ الحديث : [ فجعل الفضل ينظر إليها وتنظر إليه ] :
فنقول إن نظرها إليه ظاهر ، وأما نظره إليها فينظر إلى هيكلها وإلى جسمها وربما يكون جسمها ملفتاً للنظر كأن تكون طويلة ونحو ذلك ، وليس في الحديث أنها كانت كاشفة عن وجهها ، وما جاء في بعض الطرق أنها (وضيئة) فلا أظنها تثبت ، والظاهر أنها شاذة .
3 ـ وفي الحديث أنه يحرم على الرجل أن يصعد نظره بالمرأة وإن كانت محتجبة : لأن النبي صلى الله عليه وسلم صرف وجه الفضل لان النظر إلى المرأة وإن كانت محتجبة سهم من سهام إبليس ، ولأن المرأة فتنة كما قال رسول الله: « المرأة عورة ، إذا خرجت استشرفها الشيطان » ، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم صلى الله عليه وسلم والحديث في الصحيحين : « وما تركت بعدي فتنة أضر على الرجال من النساء » .
4 ـ وفيه أن الشيخ الكبير الطاعن في السن لا يجب عليه الحج : ولكن ينوب من يحج عنه .
5 ـ وفيه أيضاً أن الذي لا يستطيع الثبوت على الراحلة يسقط عنه الحج.
6 ـ وفيه جواز حج المرأة عن الرجل : لأن الرسول صلى الله عليه وسلم أقر المرأة أن تحج عن أبيها ولكن يجب عند الجمهور أن تحج أولاً عن نفسها ثم تحج عن أبيها.(1/12)
7 ـ وفيه إذنه صلى الله عليه وسلم أن تحج المرأة عن أبيها : وكان هذا الإذن في حجة الوداع فربما يحتج بهذا على أنه لا يلزم من كون المرء إذا أراد أن يحج عن غيره أن يبدأ بنفسه أولاً ، ولكن جاء عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم سمع رجلاً يقول : لبيك عن شبرمة ، قال : « من شبرمة ؟ » قال : أخ لي ، أو قريب لي ، فقال : « حججت عن نفسك ؟ » ، قال : لا ، قال : « حج عن نفسك ثم حج عن شبرمة » .
ولكن هذا الخبر أعله أحمد ورجح رحمه الله وقفه ، وسوف يمر بنا إن شاء الله . فيمكن أن يُجاب عن حديث الخثعمية فيقال : إن النبي صلى الله عليه وسلم أذِن لها أن تحج عن أبيها إذا حجت عن نفسها ، فلا يلزم من سؤالها أن تنفذ الأمر بالحال .
8 ـ وفيه جواز الحج عن الحي غير القادر : وقد قال بعض الفقهاء : يجوز هذا بالنفل والفرض ، والصحيح أن هذا لا يجوز عن الحي إلا إذا كان غير قادر على الفرض لأن الحي يستطيع أن يعمل يوتقرب إلى الله بما شاء من الطاعات، فلذلك لا يحج عنه .
670- وعنه رضي الله عنه ، أن امرأة من جهينة جاءت إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقالت : إن أمي نذرت أن تحج ، فلم تحج حتى ماتت ، أفأحج عنها ؟ قال : « نعم ، حجي عنها ، أرأيت لو كان على أمك دين ، أكنت قاضيته ؟ اقضوا الله ، فالله أحق بالوفاء » . رواه البخاري .
قال الإمام البخاري رحمه الله : حدثنا موسى بن إسماعيل ، حدثنا أبو عوانة عن أبي بشر عن سعيد بن جبير عن ابن عباس به .
ورواه أحمد والشافعي والنسائي وأبو داود الطيالسي وصححه ابن خزيمة من طرق عن سعيد بن جبير عن ابن عباس به .
قولها : [ إن أمي نذرت ] :(1/13)
النذر هو : إلزام المكلف نفسه بعبادة أو بأمر ما لم يوجبه عليه الشارع ، فإن كان هذا النذر نذر طاعة والطاعة أعم من أن تكون واجبة أو مستحبة فيجب الوفاء، لحديث القاسم عن عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : « من نذر أن يطيع الله فليطعه ، ومن نذر أن يعصي الله فلا يعصه ». رواه البخاري في صحيحه.
فأيما إنسان نذر نذر طاعة فيجب الوفاء بهذا النذر ، وأما نذر المعصية فيحرم الوفاء به قولاً واحداً للعلماء ، وإنما اختلفوا هل في ذلك كفارة أم لا ؟ . والحق في هذا وجوب كفارة اليمين ، لعموم خبر عقبة في صحيح الإمام مسلم : « كفارة النذر كفارة يمين » . وهذا يشمل نذر الطاعة ونذر المعصية والله أعلم.
وفي الحديث إشكال ، فإن الحج قد فرض على القول الراجح في السنة التاسعة فكيف تنذر أن تحج والحج فرض عليها فيمكن الإجابة عن هذا أن يقال: لعل هذه المرأة حجت في السنة التاسعة ونذرت أن تحج في السنة العاشرة مع النبي صلى الله عليه وسلم وإلا فلو لم تحج في السنة التاسعة فالحج فريضة عليها ، فيمكن أن يقال هذا القول يؤيده أن تحج على التراخي ، فلعلها نذرت أن تحج في السنة العاشرة وعينت السنة فماتت قبل أن تحج .
مسألة : ما حكم النذر ؟
فيه ثلاثة مذاهب لأهل العلم :
المذهب الأول : أنه مكروه ، لقوله ( : « إنه لا يأتي بخير لكنه يستخرج به من البخيل » .
وهذا القول هو المشهور عند أكثر أهل العلم .
المذهب الثاني : أن النذر محرم وإليه أشار شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله.(1/14)
المذهب الثالث : أن من قوي على الوفاء بالنذر فالنذر عبادة ويكون مشروعاً حينئذٍ ، قال تعالى : {وَمَا أَنفَقْتُمْ مِنْ نَفَقَةٍ أَوْ نَذَرْتُمْ مِنْ نَذْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُهُ } . وقال تعالى : { يُوفُونَ بِالنَّذْرِ} . فقد أثنى الله عليهم في كونهم يوفون بالنذر فلو لم يكن النذر عبادة ما أثنى الله عليهم بذلك . وأما قوله : « إنه لا يأتي بخير » . فإن المعني أن النذر إذا بذله المرء فربما لا يعود بالخير على صاحبه لأنه قد لا يطيقه ولا ينفذه أو يتكاسل عنه فيأثم وأما من علم من نفسه الوفاء بالنذر فالنذر في حقه عبادة ولأنه لا يمكن أيضاً أن يكون النذر محرماً على قول أو مكروهاً على القول الثاني ثم إذا وفّى به صار عبادة وإذا صرفه لغير الله صار شركاً ، هذا لا يمكن أن يقال به فإذا كان النذر مكروهاً فلماذا يفي به . فلذلك القول الراجح التفصيل بالنذر فإذا علم من نفسه قوة على الوفاء به فالنذر عبادة يشرع له أن ينذر ، قال تعالى : { وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ } . وإن كان يعلم من نفسه عدم القدرة أو الضعف أو غير ذلك من الأشياء التي تمنعه من الوفاء بالنذر فالنذر حينئذٍ مكروه ، وهذا نظير الحلف ، والله تعالى يقول : { وَاحْفَظُوا أَيْمَانَكُمْ } ، أي لا تحلفوا لئلا تحنثوا . ومع هذا حفظ عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه حلف من غير استحلاف بأكثر من ثمانين موضعاً ، ونظير هذا قوله : « لا تتمنوا لقاء العدو » ، مع قوله في مسلم : « ومن مات ولم يغز ولم يحدث نفسه بالغزو مات على شعبة من النفاق ».(1/15)
فالمعنى من قوله : « لا تتمنوا لقاء العدو » ، هذا مَنْ علم من نفسه الضعف خوفاً من أن لا يثبت فيبوء بالإثم والخسران ، وأما مَنْ علم من نفسه قوة فتمنى لقاء العدو مشروع ، فقد كان الصحابة رضوان الله عليهم يتمنون هذا وكان النبي صلى الله عليه وسلم يرغبهم بهذا ، والأخبار بهذا متواترة ، ومن دعاء المؤمنين في الجمعة وغيرها : ( اللهم أقم علم الجهاد ) وهذا لا مانع منه لمن علم من نفسه قوة وثباتاً وصبراً ، فقد قال أحد الشعراء وهو الخارجي الفجاءة التميمي :
فصبراً في مجال الموت صبراً فما نيل الخلود بمستطاع
قولها : [ أفأحج عنها ؟ ] :
في هذه اللفظة دليل على أنه متقرر عند الصحابة أن العبادات مبناها على التوقيف وإلا لفعلت بدون سؤال ، وكون العبادات توقيفية فهذا مما لا نزاع فيه بالجملة بين أهل العلم .
قوله : « نعم » :
أي حجي عن أمك ، وهذا الحديث عام وهو مقيد عند أهل العلم فيما لو حج المرء عن نفسه ، لأنه لا يشرع للمسلم أن يحج عن غيره قبل أن يحج عن نفسه ، لأنه لا يدري ماذا يعرض له ، وقد أجمع العلماء رحمهم الله على انه لا يحج عن نفسه وعن غيره في وقت واحد فلا بد أن تقع الحجة عن أحدهما فإن كان لم يحج عن نفسه وأراد في هذه الحجة عن غيره وقعت الحجة عن نفسه .
وفيه دليل على حج المرأة عن المرأة’ كما أنه يجوز أن تحج المرأة عن الرجل والرجل عن المرأة كما هو قول الأئمة الأربعة ، ولكن هل هذا على وجه الإيجاب أم على وجه الاستحباب ؟ . تقدم عندنا أن مَنْ نذر نذر طاعة وجب عليه الوفاء بذلك ، فإذا توفي المرء وقد نذر أن يحج وجب أن يحج عنه من ماله فإن لم يخلف مالاً استحب لأوليائه أن يحجوا عنه ، وقد ذهب بعض أهل العلم على إيجاب هذا لقوله : « نعم حجي عنها » ، وهذا أمر والأمر يقتضي الإيجاب . وفي هذا نظر من وجهين : -
الوجه الأول : أن الأمر إذا كان عن سؤال لا يكون للإيجاب .(1/16)
الوجه الثاني : أن الله تعالى يقول : { وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} . أينذر أخي ويجب عليَّ الوفاء !! ، هذا غير صحيح .
والحق بهذا أنه يستحب الوفاء بهذا النذر ويجب إذا خلف مالاً أن يحج عنه من ماله ، ولكن ربما يقال بالإيجاب من وجه آخر ، وذلك من باب البر بالوالدين ولكن حينئذٍ يكون الأمر خاصاً بالوالدين والإيجاب خاصاً بهما لا بغيرهما ، وهذا وجيه فإن البر بالوالدين واجب سواء كان بحياتهما أو بعد موتهما .
قوله: « أرأيت لو كان على أمك دين أكنت قاضيته ؟ » :
فيه دليل على جواز القياس ، وبهذا قال الأئمة الأربعة وهذا نظير قوله : « وفي بضع أحدكم صدقة » ، قالوا : يا رسول الله أيأتي أحدنا شهوته ويكون له فيها أجر ؟! ، فقال : « أرأيتم لو وضعها في حرام أكان عليه إثم ؟ فكذلك إذا وضعها في حلال كان له أجر » . رواه مسلم في صحيحه عن أبي ذر رضي الله عنه.
وأهل العلم والفقه والنظر لا يصححون كل قياس ، إنما لهم بذلك ضوابط وقيود ، أما الإمام ابن حزم رحمه الله تعالى فلا يرى القياس مطلقاً ، وهو قول الظاهرية قاطبة ، ويستدلون بقوله تعالى : { مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ } . وبقوله : « وما سكتُّ عنه فهو عفو فاقبلوا من الله عافيته » . رواه الحاكم وغيره بإسناد صحيح ، وجاء من حديث مكحولاً عن ابي ثعلبة الخشني أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : « وسكتُّ عن أشياء رحمة لكم غير نسيان فلا تبحثوا عنها » وفيه انقطاع فإن مكحول لم يدرك أبا ثعلبة ، والحجة في هذا مع جمهور أهل العلم فإلحاق النظير بالنظير أمر مشهور في عهد الصحابة رضي الله عنهم ، وقد ثبت القياس بأدلة كثيرة عن النبي صلى الله عليه وسلم ، كما وضح هذا الإمام العلامة ابن القيم رحمه الله في ( إعلام الموقعين ) ، وللشنقيطي رسالة في هذا تعقب فيها أهل الظاهر وهي مطبوعة في آخر مذكرته فلتراجع .
قوله : « اقضوا الله ، فالله أحق بالوفاء » :(1/17)
الأمر هنا للإيجاب إذا كان من مال الميت وإلا الاستحباب على التفصيل السابق.
وفيه دليل على أن وفاء حق الخالق اولى من حق المخلوق إلا أن جماعة من الفقهاء يقولون: إن حق المخلوق مبني على المُشاحة وحق الخالق مبني على المسامحة. وهذا صحيح ولكل قول وجهه .
وفي الحديث دليل على جواز مخاطبة المرأة الأجنبية للرجل عند الحاجة ، وهذا مقيد بما إذا أمنت الفتنة ولم تخضع بالقول لقوله تعالى : { فَلَا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ} .
671- وعنه رضي الله عنه قال : قال رسول الله: « أيما صبي حج ، ثم بلغ الحنث ، فعليه أن يحج حجة أخرى ، وأيما عبد حج ثم أعتق ، فعليه أن يحج حجة أخرى » .
هذا الخبر جاء من طريق شعبة عن الأعمش عن أبي ظبيان عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم به .
قال الإمام البيهقي رحمه الله : ورواه سفيان الثوري عن الأعمش فأوقفه . وهذا هو المحفوظ عند أكثر أهل العلم ، لأن سفيان الثوري مقدم على شعبة . يقول الإمام يحيى بن سعيد القطان رحمه الله : ليس عندى أحد أحب إلي من شعبة ولا يعدله عندي أحد ، وإذا اختلف شعبة وسفيان أخذت بقول سفيان . وقال الإمام أبو داود رحمه الله : ليس يكاد يفترق شعبة وسفيان إلا وظفر به سفيان وقد خالفه بأكثر من خمسين حديثاً والقول قول سفيان .
وقد جاء هذا الخبر عند الإمام ابن أبي شيبة رحمه الله بما يفيد أن له حكم المرفوع ، وقال رحمه الله : أنبأنا أبو معاوية قال : أخبرنا الأعمش عن أبي ظبيان عن ابن عباس رضي الله عنهما قال : " احفظوا عني ولا تقولوا قال ابن عباس ... " فذكره . وإسناده صحيح . وأبو معاوية محمد بن خازم الضرير من أوثق الناس بالأعمش ، ومن ثم أورد الشيخان روايته عن الأعمش في الصحيحين .
وقوله : [ احفظوا عنّي ولا تقولوا : قال ابن عباس ] :
في هذا إشارة إلى أنه ليس من كلام ابن عباس إنما هو من كلام النبي صلى الله عليه وسلم .
قوله : « أيما صبي حج » :(1/18)
الـ ( ما ) هنا : زائدة ، و ( أي ) مضاف ، و ( صبي ) مضاف إليه ، والمراد بالصبي هنا الذي لم يبلغ ، فلا مانع حينئذٍ من إطلاق لفظة الصبي على كل من لم يبلغ ، كما يطلق عليه لفظ الغلام علماً أن لفظ الغلام يجوز إطلاقه على الكبير كما جاء عن علي رضي الله عنه أنه قال يوم قتاله الخوارج : " أنا الغلام القرشي المؤتمن أبو الحسين فاعلمن والحسن " .
وهذا الخبر يدل على صحة حج الصبي ، ولكن هل يجزؤه عن حجة الإسلام أم لا ؟ . دل هذا الخبر أن هذا الحج لا يجزؤه عن حجة الإسلام وهو قول الأئمة الأربعة وجماهير العلماء سلفاً وخلفاً ، وقد ذكر الإمام الطحاوي رحمه الله في شرح معاني الآثار عن قوم أنهم قالوا : يجزؤه ، ثم ضعف هذا ورجح عدم الإجزاء.
وخبر الباب يشهد لقول الطحاوي وجماهير العلماء ، ولكن لو يبلغ الصبي بعرفات أجزأه حجه عن حجة الإسلام لقوله : « الحج عرفة » .
قوله : « وأيما عبد حج ثم أُعتق ، فعليه أن يحج حجةً أخرى » :
المراد بالعبد هنا المملوك .
أي إذا حج العبد المملوك ثم أعتق بعد حجه فيجب عليه أن يحج حجة الإسلام ، وفي هذا دليل على أن فريضة الحج لا تجب على العبد المملوك إذ لو كانت واجبة لأجزأه حجه قبل العتق ، ولكن جعل النبي صلى الله عليه وسلم حجه نافلة وأوجب عليه أن يحج بعد العتق ولكن لو أعتق بعرفات أجزأه حجُه عن حجة الإسلام . واما لو أعتق ليلة مزدلفة فإن وسعه الوقت بالذهاب والوقوف بعرفة فيجزؤه حجه عن حجة الإسلام فيذهب ويقف بعرفات ويرجع إلى مزدلفة ويصح حجه ، واما إذا لم يسعه الوقت كأن يعتق قبيل الفجر بدقائق فلا يجزؤه حجه حينئذٍ عن حجة الإسلام .(1/19)
672- وعنه رضي الله عنه قال : سمعت رسول الله يخطب يقول : « لا يخلون رجل بامرأة إلا ومعها ذو محرم ، ولا تسافر المرأة إلا مع ذي محرم » ، فقام رجل فقال : يا رسول الله ، إن امرأتي خرجت حاجة وإني اكتتبت في غزوة كذا وكذا ، فقال : « انطلق ، فحج مع امرأتك » . متفق عليه.
قال البخاري رحمه الله : حدثنا قتيبة بن سعيد قال : حدثنا سفيان بن عيينة عن عمرو بن دينار عن أبي معبد عن ابن عباس رضي الله عنهما .
قال الإمام مسلم رحمه الله : حدثنا أبو بكر ابن أبي شيبة قال : أخبرنا ابن عيينة به .
قوله : « لا يخلون رجل بامرأة » :
أجمع العلماء رحمهم الله على تحريم الخلوة بالمرأة الأجنبية وإن كانت امرأة أخيك أو امرأة عمك أو امرأة خالك . وقد جاء في الصحيحين من حديث عقبة أن الرسول قال : « إياكم والدخول على النساء » ، فقال رجل : يا رسول الله أفرأيت الحمو ـ وهو قريب الزوج من أخ وغيره ـ فقال الرسول : « الحمو الموت » . يعني أن الحمو هو الهلاك لأنه يؤمن فيقع المحذور ، وفي صحيح الإمام مسلم من حديث هشيم بن بشير قال حدثنا أبو الزبير المكي عن جابر بن عبد الله أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : « ألا لا يبيتنَّ رجل عند امرأة ثيب إلا أن يكون ناكحاً أو ذا محرم » .
ولفظ الثيب خرج مخرج الغالب ولا مفهوم له .
وعند الترمذي وحسنة من حديث عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : « ما خلا رجل بامرأة إلا وكان الشيطان ثالثهما » .
وقد تساهل كثير من الناس بهذه القضية فيخلون بالنساء الأجنبيات وهذا منكر من الفعل ومحرم باتفاق أهل العلم سواء كانت الخلوة في داخل البلد أو خارجه فلا فرق بين الأمرين عند أهل العلم .
قوله: « ولا تسافر المرأة إلا مع ذي محرم » :(1/20)
( لا ) هنا ناهية ، والنهي هنا للتحريم يؤيد التحريم ما جاء بالصحيحين من حديث الليث بن سعد عن سعيد بن أبي سعيد عن أبيه عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : « لا يحل لمرأة مسلمة تسافر مسيرة يوم إلا ومعها ذو حرمة منها » . وفي رواية : « مسيرة يوم وليلة » . وفي رواية : « تسافر ثلاثاً » .
والذي عليه أهل العلم أن المرأة لا تسافر فيما يسمى سفراً إلا مع ذي محرم، لما يؤدي سفرها بدون محرم من الفساد والإفساد ، فقد جبلت المرأة على الضعف ، ضعف العقول ، وضعف الأبدان ، وضعف الرأي ، ولأن المرأة سريعة الميلان سريعة التأثر ، ولما كانت المفسدة مترقبة بسفرها بدون محرم أو بخلوة الأجنبي فيها نهيت عن هذا نهياً عاماً حتى لو كان سفرها لطاعة كحج وعمرة ، حتى ولو كان سفرها عن طريق الطائرة ، كل هذا محرم ولا يجوز ، ومع هذا تجد بعض السفهاء يدع بناته يسافرن مع سائق وما شابهه وهذا دليل إلى عدم الغيرة ودليل على ضعف الإيمان ومثل هذه الأفعال توجب سخط الله وعقابه ومقته لهذا المرء فإن المرأة أمانة في عنق صاحبها ووليها « كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته » .
فتأملوا هذا الحديث ، يقول الصحابي : [ إني اكتتبت في غزة كذا وكذا وإن امرأتي خرجت حاجة ] ومع هذا يقول له : « انطلق فحج مع امرأتك » منع النبي صلى الله عليه وسلم حج المرأة مع النساء . ومَنْ النساء ؟ ، نساء الصحابة ، طاهرات مطهرات ، عفيفات متعففات ، ومَنْ الرجال ؟ صحابة رسول الله ، ومع هذا لم يأذن النبي صلى الله عليه وسلم للمرأة أن تحج معهم إلا مع زوجها أو وليها .(1/21)
وفي هذا الحديث ردٌ على بعض الفقهاء الذي يجوزون حج المرأة أو سفرها مع جملة من النساء ، والحديث صريح في منع سفر المرأة بدون محرم مطلقاً ، والمرأة إذا لم تجد محرماً يسقط عنها الحج ولا يجب عليها ، فإذا كان الحج الذي هو فريضة من فرائض الإسلام وركن من أركان الدين يسقط عن المرأة بدون محرم فكيف تسافر المرأة مع سائق وما شابهه .
وفي الحديث دليل على جواز ترك الجهاد من أجل الحج ، لأن الحج آكد إذا كان لغرضٍ صحيح كان يكون محرماً للمرأة أو يكون الجهاد فرض كفاية ليس من فروض الأعيان ، فيقدم الحج الواجب على ذلك .
وفيه دليل على أن الحج على التراخي وليس على الفور ، لأن هذا الرجل اكتتب في غزوة كذا وكذا ، فلو كان الحج على الفور لأمر النبي صلى الله عليه وسلم الصحابة كلهم أن يبادروا إلى الحج ، ولكن ليس معنى هذا أن الإنسان يهمل ويفرط ولا يحج ، وتتقدم به السنون وهو غير مريد للحج ، بل على الإنسان أن يتعجل بالحج لأنه لا يدري ماذا يعرض له .
والشاهد من سياق الحديث لكتاب الحج أن المرأة لا يجب عليها الحج إلا مع ذي محرم ، وإذا لم تجد محرماً سقط عنها الحج .
673- وعنه أن النبي صلى الله عليه وسلم سمع رجلاً يقول : لبيك عن شبرمة ، قال : « من شبرمة ؟ » قال : أخ لي ، أو قريب لي ، فقال : «حججت عن نفسك ؟ » ، قال : لا ، قال : « حج عن نفسك ثم حج عن شبرمة » .
رواه أحمد وأبو داود وابن ماجه وصححه ابن خزيمة وابن حبان وكلهم رووه من طريق عبدة بن سليمان عن سعيد بن أبي عروبة عن قتادة عن عزرة عن سعيد بن جبير عن ابن عباس .
ورواه ابن بشر ومحمد بن عبد الله الأنصاري وأبو يوسف ، كلهم عن سعيد بن أبي عروبة بنحوه واسقط بعضهم عزرة .
ولكن رواه الإمام غندر وحسن بن صالح كما عند الدارقطني عن سعيد بن أبي عروبة به موقوفاً ، ورجح وقفه الإمامان أحمد بن حنبل والإمام الطحاوي، واختار هذا الإمام ابن المنذر رحمه الله .(1/22)
وقد روى أبو بكر بن أبي شيبة في المصنف من طريق عبد الوهاب الثقفي عن ايوب عن أبي قلابة عن ابن عباس به موقوفاً ، وهذا إسنادٌ صحيح وهو يؤيد وقف الخبر على ابن عباس وهو الأقرب إلى الصواب .
قوله : [ لبيك عن شبرمة ] :
فيه مشروعية الجهر بالتلبية ، والأحاديث في هذا متكاثرة وهذا هو المشروع.
وقوله : [ عن شبرمة ] : فيه دليل على تسمية المحجوج أو المعتمر عنه .
وقوله : « من شبرمة ؟ » :
فيه الاستفصال مقام الاحتمال لأنه ربما يكون الملبي جاهلاً يقول : لبيك عن شبرمة ويقصد بذلك نفسه ، ففي هذا الاستفصال مقام الاحتمال .
قوله : [ أخ لي ، أو قريب لي ] :
هذا شك من الراوي .
قوله: « حججت عن نفسك ؟ » :
فيه جواز الحج عن الغير سواء كان حياً أو ميتاً إذا حج المرء عن نفسه وإلا لم يكن للاستفصال معنى ، ولكن لا يخفى أن الراجح في هذا الخبر وقفه وان هذامن قول الحبر عبد الله بن عباس رضي الله عنهما .
قوله : « حج عن نفسك ثم حج عن شبرمة » :
احتج بهذا جماهير العلماء على أنه لا يجوز الحج عن الغير إذا لم يحج المرء عن نفسه ، فالواجب أن يبدأ المرء بنفسه ثم يحج عن غيره .
وفيه دليل على مشروعية الإنكار بالحال .
674- وعنه رضي الله عنه قال : خطبنا رسول الله فقال : « إن الله كتب الحج » ، فقام الأقرع بن حابس فقال : أفي كل عام يا رسول الله ؟ قال : « لو قلتها لوجبت ، الحج مرة ، فما زاد فهو تطوع » .
هذا الخبر رواه الخمسة غير الترمذي من طريق سفيان بن الحسين عن الزهري عن أبي سنان عن ابن عباس رضي الله عنهما .
وسفيان بن الحسين سيء الحفظ في الزهري .(1/23)
ولكن جاء الخبر في صحيح مسلم من طريق يزيد بن هارون عن الربيع بن مسلم القرشي عن محمد بن زياد عن أبي هريرة قال : خطبنا رسول الله فقال : « يا أيها الناس ، قد فرض الله عليكم الحج فحجوا » ، فقال رجل : أكل عام يا رسول الله ؟ فسكت حتى قالها ثلاثاً ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : « لو قلت نعم لوجبت ، ولما استطعتم » .
قوله : « إن الله كتب عليكم » :
( كتب ) هنا : بمعنى فرض كما قال الله تعالى : { يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمْ الصِّيَامُ } ، أي فرض عليكم الصيام .
قوله : « فحجوا » :
هذه اللفظة مجملة يحتمل أن يكون معناها فحجوا متعجلين فلا تدرون ماذا يعرض لكم ، ويحتمل أن معناها فحجوا فإن الحج واجب ، فلا يكون حينئذٍ باللفظة دليل على وجوب التعجل ، إنما المراد بيان إيجاب الحج .
قوله : [ فقام الأقرع بن حابس ] :
وعند مسلم : " فقال رجل " ، ولفظ حديث الباب يوضح أن هذا الرجل هو الأقرع بن حابس .
قوله : [ أفي كل عام يا رسول الله ؟ ] :
أي هل الحج في كل سنة ؟ للأمر به في قوله : « فحجوا » ولكن بين النبي صلى الله عليه وسلم أنه لا يجب في العمر إلا مرة واحدة وهذا من يسر الشريعة وسماحتها إذ لو كان الحج كل عام لشق على العباد ولما استطاعوا ذلك بلفظ رسول الله : « لو قلت نعم لوجبت ولما استطعتم » .
وفي الحديث دليل على أن السنة الأصل الثاني من أصول التشريع إذ يقول الرسول : « لو قلت نعم لوجبت » دليل على أنه مشرع وأهل العلم مجمعون بأن السنة هي الأصل الثاني من أصول التشريع ومن قال أنه لا يقبل إلا القرآن دون السنة فقد نقل السيوطي الإجماع على ردته وكفره .
باب المواقيت
أي باب مواقيت الحج المكانية ، ومواقيت الحج نوعان : -
زمانية : وهي شوال ، وذو القعدة ، وعشرٌ من ذي الحجة .
ومكانية : وهي المذكورة بخبر ابن عباس .(1/24)
ومواقيت الحج ابتداءً توقيفية ، وما كان على حذوها أمرُ اجتهادي لقول عمر رضي الله عنه : " انظروا حذوها فأحرموا منه " . رواه البخاري في صحيحه .
وقد وقتَّ النبي صلى الله عليه وسلم هذه المواقيت لمن أراد أن يحج أو يعتمر فلا يتجاوزها إلا بالإحرام ، وقد قيل : إن الحكمة من هذه المواقيت تعظيم البيت وتشريفه وتكريمه ، فلا يدخله مريد للحج أو العمرة إلا بالإحرام ، وهذه المواقيت متفاوتة في البعد أو القرب من مكة ، وكلما عظمت مشقة المرء كلما عظم ثوابه وأجره ، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم لعائشة : « إنما أجرك على قدر نصبك » . رواه البخاري في صحيحه .
وأبعد هذه المواقيت عن مكة ميقات ( ذي الحليفة ) ويسمى " أبيار علي ".
ثم يليه في البعد ( الجحفة ) والناس اليوم يحرمون من رابغ ، ورابغ محاذية للجحفة وإلا فبين الميقاتين بعدٌ غير قليل .
ثم يليه في البعد ( يلملم ) وهو ميقات أهل اليمن ، ويسمى في زماننا هذا بـ " طريق الساحل " .
وأقرب المواقيت إلى مكة ( قرن المنازل ) ويسمى " بالسيل الكبير " .
675- عن ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم وقتَّ لأهل المدينة ذا الحليفة ، ولأهل الشام الجحفة ، ولأهل نجد قرن المنازل، ولأهل اليمن يلملم ، هن لهن ولمن أتى عليهن من غيرهن ممن أراد الحج أو العمرة ، ومن كان دون ذلك فمن حيث أنشأ ، حتى أهل مكة من مكة. متفق عليه .
قال البخاري رحمه الله : حدثنا موسى بن إسماعيل قال : أخبرنا وهيب عن ابن طاووس عن أبيه عن ابن عباس رضي الله عنهما .
وقال مسلم رحمه الله : حدثنا يحيى بن يحيى قال : حدثنا حماد بن زيد عن عمرو بن دينار عن طاووس بن كيسان عن ابن عباس رضي الله عنهما . قوله [ أن النبي صلى الله عليه وسلم : وقت لأهل المدينة ] .(1/25)
ومعنى ( وقتَّ ) هنا : أي حدَّ لهم ميقاتاً يحرمون منه ولا يتجاوزونه ، فمن تجاوزه مريداً للحج أو للعمرة غير محرم وجب عليه الرجوع والإحرام منه فإن لم يرجع باء بالإثم لمخالفته لما فرضه رسول الله.
وهل يجوز الإحرام قبل الميقات ؟ : في ذلك خلاف بين أهل العلم رحمهم الله ، والأصح في هذا إن الإحرام قبل الميقات غير مشروع ومخالف لهدي النبي صلى الله عليه وسلم وبهذا قال الإمام مالك وأحمد رضي الله عنهما .
وذهب بعض أهل العلم إلى جواز الإحرام قبل الميقات ، ويجوز له أن يحرم من بيته ، وإنما أسقط رسول الله هذا خوف المشقة على أمته ، فمن تحمل المشقة وكابد الصعاب فلا يمنع من هذا ، وهذا قول طائفة من الفقهاء ، وهو مذهب أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه ، والقول الأول أصح . إذ لو كان الأمر على ما ذكر لفعل النبي صلى الله عليه وسلم هذا ولو مرة واحدة .
قوله : [ لأهل المدينة ذا الحليفة ] :
فلا يجوز لهم مجاوزته قاصدين للحج أو العمرة إلا بإحرام .
وهل يجوز لهم مجاوزته للإحرام من الجحفة أو من يلملم أو من قرن المنازل؟
منع هذا الإمامان أحمد بن حنبل والشافعي رحمهما الله ، ويجوز هذا الإمامان أبو حنيفة ومالك عليهما رحمة الله . والقول بالجواز قول قوي ، لأن القصد عدم مجاوزة هذه المواقيت إلا بإحرام ، فإذا مر المدني بميقات الجحفة وأحرم منه تم المطلوب ، أو جاوزه ليحرم من قرن المنازل وقع المقصود ولأنه حين مروره بميقاته لم ينو حينئذٍ الإحرام وإنما أنسأ نيته إلى الميقات الذي يريد أن يحرم منه ، والمحظور هو أن ينوي الإحرام حين المرور بأحد المواقيت فلا يحرم ، وأما مجرد قصد العمرة فهذا ليس كافياً ، لأن القصد موجود منذ الخروج من البيت .
قوله : [ ولأهل الشام الجحفة ] :(1/26)
أي وبمن مر بهذا الميقات ، والقادم عبر الطائرات يحرم حين محاذاة أحد هذه المواقيت ، فإذا لم يحرم حتى بلغ مدينة جدة وجب عليه حينئذٍ الرجوع إلى أقرب المواقيت ليحرم منها لأن جدة ليست ميقاتاً .
قوله : [ ولأهل اليمن يلملم ] :
أي ولمن مر بهم من أهل هذه البلاد وما جاورها .
قوله : [ ولأهل نجد قرن المنازل ] :
المراد بنجد هنا نجد اليمامة وهي المعروفة الآن بنجد جغرافياً ويطلق على العراق نجد ، ولكن الأولى إذا أريد هذا أن يقيد فيقال نجد العراق ، والعرب تطلق لفظ نجد على الشيء المرتفع فقد وقت النبي صلى الله عليه وسلم لأهل نجد وما كان على سمتها قرن المنازل لئلا يشق عليهم بأمرهم من الميقات من يلملم أو من ذي الحليفة .
قوله : [ ممن يريد الحج والعمرة ] :
في هذا دليل على القول الصحيح الراجح عند أهل العلم أنه يجوز دخول مكة بدون إحرام لمن لم يقصد الحج ولا العمرة ، وقد قال بعض الفقهاء : لا يجوز دخول مكة ولا مجاوزة المواقيت إلا بإحرام ، وهذا القول يحتاج إلى دليل وليس ثم دليل هنا ، بل حديث الباب يرد هذا القول ، فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: « هن لهنَّ ولمن أتى عليهنَّ من غيرهنَّ ممن أراد الحج والعمرة » ، فمفهومه أن الذي لا يريد الحج ولا العمرة لا يجب عليه الإحرام من هذه المواقيت.
676 - جاء عند أبي داود والنسائي وغيرهما أن النبي صلى الله عليه وسلم : "وقت لأهل العراق ذات عرق " .
وهذا الخبر غير محفوظ فقد قال أبو داود في سننه : حدثنا هشام بن بهرام قال: أخبرنا المعافى بن عمران عن أفلح بن حميد عن القاسم بن محمد عن عائشة رضي الله عنها به .(1/27)
وقد أنكر الإمام أحمد هذا الخبر وجعله من منكرات أفلح بن حميد ، وأما الإمام مسلم رحمه الله فقد أعل هذا الحديث في كتابه التمييز ، وقال : روى هذا الحديث المعافى بن عمران وعنه هشام بن بهرام ، وهو شيخ من الشيوخ لا يقر بما تفرد به من الأحاديث ، ثم اعلم أن تفرد الصدوق الذي لم يشتهر بالضبط والحفظ بأصل من أصول المسائل علة في الحديث كما أشار إلى هذا أئمة الجرح والتعديل المتطلعون بمعرفة هذا الفن ، فلذلك أعل الإمام مسلم هذا الخبر بأنه لم يرو عن طريق الحفاظ الكبار ، مع حاجة الأمة إلى هذا الحديث ، وأيضاً لو كان هذا الخبر محفوظاً لما احتاج عمر إلى التوقيت لأهل العراق ، فإن قال قائل : هذا من موافقات عمر ، نقول : يردُّ هذا أن عمر رضي الله عنه حين وقت لهم ما قال أحد من الصحابة قد سبقك إلى هذا النبي صلى الله عليه وسلم ، ولا ذكر أن أحداً نبه عمر إلى هذه القضية ، فقد قال الإمام ابن خزيمة رحمه الله : لا يصح بتوقيت النبي صلى الله عليه وسلم لأهل العراق حديث .
وقول المؤلف وأصله عند مسلم جاء هذا من طريق ابن جريج عن أبي الزبير عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما ولكن وقع في هذا الحديث الشك هل رفع الحديث إلى النبي صلى الله عليه وسلم أم وقفه ؟ .
والمحفوظ ما رواه البخاري في صحيحه من طريق عبيد الله بن عمر عن نافع عن ابن عمر رضي الله عنهما : أن عمر حدَّ لأهل العراق ذات عرق .
وفي هذا دليل على جواز الإحرام بمحاذاة أحد هذه المواقيت التي وقَّتَها النبي صلى الله عليه وسلم ، ولا يلزم حينئذٍ الإحرام من هذه بعينها ، إنما المحظور أن يتجاوزها بدون إحرام ، أما لو أحرم مما حاذاها فلا مانع حينئذٍ .
677- وقد جاء أيضاً عند الإمام أحمد وأبي داود والترمذي عن ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم : " وقت لأهل المشرق العقيق " .(1/28)
( والعقيق ) : يبعد من ذات عرق نحواً من عشرين كيلوا متراً ، وهذا الخبر جاء من طريق يزيد بن أبي زياد عن محمد بن علي بن حسين بن علي بن أبي طالب عن ابن عباس به .
وقد أعله الإمام مسلم في كتاب ( التمييز ) وقال : يزيد بن أبي زياد ترك حديثه الناس ، ومحمد بن علي لم يسمع من ابن عباس ولا هو رآه .
إذاً الحديث معلول بعلتين : ضعف يزيد بن أبي زياد ، والانقطاع .
فالمحفوظ إذاً عن النبي صلى الله عليه وسلم أربعة مواقيت ، وما عداها أمور اجتهادية ، فلم يوقت النبي صلى الله عليه وسلم إلا : ( ذا الحليفة ، والجحفة ، وقرن المنازل ، ويَلَمْلَم ).
باب وجوه الإحرام وصفته
قوله : [ وجوه ] :
جمع وجه ، والمراد بهذا أنواع الإحرام ، وصفته ، أي كيفيته .
678- عن عائشة رضي الله عنها قالت : " خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم عام حجة الوداع ، فمنا من أهل بعمرة ، ومنا من أهل بحج وعمرة ، ومنا من أهل بحج ، وأهل رسول الله بالحج ، فأما من أهل بعمرة فحل عند قدومه، وأما من أهل بحج ، أو جمع بين الحج والعمرة فلم يحلوا حتى كان يوم النحر " . متفق عليه .
قال الإمام البخاري رحمه الله : حدثنا عبد الله بن يوسف قال : أخبرنا مالك عن أبي الأسود عن عروة بن الزبير عن عائشة رضي الله عنها به .
وقال مسلم رحمه الله : حدثنا يحيى بن يحيى قال قرأت على مالك عن أبي الأسود به . قولها [خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم] أي يوم السبت لخمسٍ بقين من ذي القعدة .
قولها : [ عام حجة الوداع ] :
سميت بهذا الاسم لأن النبي صلى الله عليه وسلم ودع بها الناس ، وقال: « لعلي لا ألقاكم بعد عامي هذا » ، ولفظ الوداع مأخوذة من التوديع وهذه أول حجة للرسول وآخرها .
وما ذكر عند الترمذي وغيره من حديث جابر أن النبي صلى الله عليه وسلم حج حجتين قبل حجة الوداع فهذا غلط ، والخبر منكر ، فقد أنكره الإمام البخاري والترمذي وغيرهما من الحفاظ .(1/29)
قولها : [ فمنا من أهل بعمرة ] :
هؤلاء هم المتمتعون ، فإن المتمتع يهل من الميقات بالعمرة ، فإذا فرغ منها حلَّ وجوباً ثم أهل بالحج يوم التروية .
قولها : [ ومنا من أهل بحج وعمرة ] :
وهؤلاء هم القارنون ، فيطوفون بالبيت حين يقدمون ، ويسعون بين الصفا والمروة ولا يحلون إلا يوم النحر حين ينحرون هديهم إلا انه لا بد مع القِران من سوق الهدي ، أما مع عدم سَوق الهدي فالتمتع أفضل ، وقيل : بل واجب في هذه الحالة كما هو قول الحبر عبد الله بن عباس ، ورواية عن أحمد اختارها ابن القيم رحمه الله لبضعة عشر دليلاً عن النبي صلى الله عليه وسلم .
قولها : [ ومنا من أهل بحج ] :
وهؤلاء هم المفردون ، وطواف القدوم بحقهم سنة ، ولا هدي عليهم ، لأن الله جل وعلا لم يذكر الهدي إلا على المتمتع والقارن ، فقال تعالى : { فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنْ الْهَدْيِ } . والمراد بقوله تعالى : { فَمَنْ تَمَتَّع َ} التمتع المعروف ، ويدخل فيه التمتع الخاص وهو المعروف بالقران ، فإن الصحابة رضي الله عنهم يطلقون لفظ ( التمتع ) على القارن ، لأنه يدخل في مسماه من حيث العموم ، وإلا فالتمتع المعروف يختلف عن القِران .
قولها : [ وأهل رسول الله بالحج ] :
احتج بهذا القائلون بأن النبي صلى الله عليه وسلم حج مفرداً ، وفي هذا نظر، فلم يحج النبي صلى الله عليه وسلم مفرداً فقد تواترت الأخبار عن الصحابة الأخيار أن النبي صلى الله عليه وسلم حج قارناً حتى قال الإمام أحمد : لا يشك في هذا ، وقد أطال الإمام العالم ابن القيم رحمه الله القول : بأن النبي صلى الله عليه وسلم حج قارناً ، فليراجع ( زاد المعاد ـ الجزء الثاني ) .(1/30)
وأما قول عائشة هنا : [ وأهل رسول الله بالحج ] : أي في أول الأمر ثم أدخل العمرة على الحج ، فصار قارناً ، مع أنه هنا فيه إشكال وذلك أن جبريل حين أتى إلى النبي صلى الله عليه وسلم قال له : " صلِ في هذا الوادي المبارك وقل عمرة في حجة ". فهذا صريح في القِران في أول الأمر . والأثر رواه البخاري في صحيحه وهو أرجح من قول عائشة، وقد تواتر هذا عن النبي صلى الله عليه وسلم وأنه حج قارناً.
وقد جاء في الصحيحين من حديث حفصة قالت : قلت للنبي : ما بال الناس حلو ولم تحل أنت ؟ ، قال : « إني قلدتُ هديي ولبدت رأسي ، فلا أحل حتى أنحر هديي » فيه دليل على أن القارن لا يحل إلا بنحر الهدي، ولو تحلل بعد الرمي أجزأ .
وفيه دليل أيضاً على أن القارن لا يحل إحرامه بالطواف بالبيت والسعي بين الصفا والمروة حين قدومه حتى ينحر هديه يوم النحر .
وفيه دليل على مشروعية تلبيد الرأس إما بعسل أو بصمغ أو غير ذلك .
قولها : [ فأما من أهل بعمرة ... الخ ] :
وهذه الصفة للقارن والمفرد فلا يحلان إلا يوم النحر .(1/31)
وهذا الحديث أبان الأنساك الثلاثة ، ووضحت عائشة رضي الله عنها أن الصحابة رضي الله عنهم أهلوا بجميع هذه الأنساك ، وهذا في الحقيقة في مبدأ الأمر فلما كانوا في أثناء الطريق أشار النبي صلى الله عليه وسلم على من لم يسق الهدي أن يتمتع فلما طافوا بالبيت وسعوا بين الصفا والمروة أمر النبي صلى الله عليه وسلم أمراً جازما كل من لم يسق الهدي أن يحل حتى قال جابر والحديث في مسلم: يا رسول الله : أيذهب أحدنا إلى منى وذكره يقطر منياً ، قال : « نعم » ، وقال الآخر يا رسول الله : أي الحل ؟ ، قال : « الحل كله » ، وقال آخر : ألعامنا هذا يا رسول الله ؟ قال : « لا ، بل لأبد الأبد ، بل لأبد الأبد » . وهذه الأحاديث الصحاح كلها تبين أن التمتع لمن لم يسق الهدي واجب ، كما هو قول جماعة من كبار الفقهاء والمحدثين ، قال به الحبر ابن عباس وطائفة من أصحابه واختار هذا القول ابن حزم وانتصر له ابن القيم رحمه الله وقال : ونشهد الله أننا لو حججنا وطفنا بالبيت وسعينا بين الصفا والمروة لوجب علينا الحل تفادياً من غضب الله تعالى .
وأما من ساق الهدي فيبقى على إحرامه والقران في حقه أفضل إذا ساق الهدي، فما كان الله ليختار لنبيه إلا الأكمل والأفضل ، ولكن النبي صلى الله عليه وسلم لحسن خلقه اراد أن يطيب قلوب الصحابة فقال : « لولا أني سقت الهدي لأحللت معكم » . كما قال في حق الأنصار : « لو سلك الناس وادياً وشعباً لسلكت وادي الأنصار وشعبها » . والحديث في الصحيحين .
باب الإحرام وما يتعلق به
نية الدخول في النسك ركن من أركان الحج ، وأما لبس الإحرام فهذا واجب وليس ركناً ، وبعض العوام لا يفرق بين لبس الإحرام وبين نية الدخول في النسك والفرق بينهما أن نية الدخول في النسك ركن من أركان الحج فلو أن إنساناً لبس إحرامه ولم ينو الدخول في النسك لا حج له ، ولو أن امرءاً نوى الدخول في النسك ولم يلبس إحرامه صح حجه مع الإثم .(1/32)
فمجرد نزع الثياب ولبس الإزار والرداء لا يكفي بل لا بد للعبد أن ينوي الدخول في النسك ، والمشروع أن يجهر بالإهلال ، أما ما يفعله كثير من الحجاج خصوصاً في زماننا هذا من قولهم : ( اللهم إني نويت نسك كذا وكذا فيسره لي وتقبله مني إنك أنت السميع العليم ) ، فهذا بدعة كما نص عليه الأئمة المحققون ، فلم يكن النبي صلى الله عليه وسلم ولا صحابته الكرام ولا التابعون لهم بإحسان يقولون لا في حج ولا غيره : اللهم إني نويت ، إنما كان النبي صلى الله عليه وسلم يقول عند الإهلال : « لبيك عمرة » أو « لبيك حجاً وعمرة » ، فالمشروع التلفظ بالنسك لا بالنية .
679- عن ابن عمر رضي الله عنهما قال : ما أهل رسول الله إلا من عند المسجد . متفق عليه .
قال الإمام البخاري رحمه الله : حدثنا عبد الله بن مسلمة قال : أخبرنا مالك عن موسى بن عقبة عن سالم عن ابن عمر به .
وقال الإمام مسلم رحمه الله : حدثنا يحيى بن يحيى قال : قرأت على مالك عن موسى بن عقبة به .
وقد جاء في الصحيحين أيضاً من طريق ابن جريج قال : أخبرني صالح بن كيسان عن نافع عن ابن عمر قال : أهل رسول الله حين استوت به راحلته .
وهذا الخبر لا ينافي الذي قبله فالجمع بينهما أن يقال : أهل رسول الله من عند المسجد حين استوت به راحلته ، وقد قال بعض أهل العلم : يهل من عند المسجد ، وقالت طائفة أخرى : يهل مستقبل القبلة حين تنبعث به راحلته ، ولا يلزم من هذا أن يكون عند المسجد ، وقالت طائفة أخرى يهل مستقبل القبلة حين تنبعث به راحلته، ولا يلزم من هذا أن يكون عند المسجد ، وقالت طائفة : يهل من البيداء .(1/33)
وأصح هذه الأقوال : أن يهل عند المسجد ، حين تنبعث به راحلته مستقبل القبلة ، وأما الإهلال من البيداء فقد قال به أنس وغيره ، والحديث في الصحيحين ولكن أنكر هذا ابن عمر فقال : بيداؤكم التي تكذبون فيها على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ما أهل رسول الله إلا من عند المسجد . يعني مسجد ذي الحليفة . والحديث في الصحيحين .
ويمكن أن يقال عن حديث أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم أهل مرة أخرى فظن أنس أن هذا أول إهلال فقد حفظ ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم أهل من عند المسجد ، وهذا هو الذي اختاره ابن كثير رحمه الله في كتابه ( حجة الوداع ) وهو الذي تدل عليه أكثر الأخبار .
ثم أيضاً إن الاختلاف فيما روى من إهلال النبي صلى الله عليه وسلم على وجه المباح لا على وجه الإيجاب أو التحريم فمن أهل عند المسجد أو أهل حين تنبعث به راحلته أو أهل من البيداء كل هذا جائز بالاتفاق ، إنما الاختلاف هنا في الأكمل والأفضل كما ذكر ذلك الأئمة الحفاظ .
680- وعن خلاد بن السائب عن أبيه رضي الله عنهما أن رسول الله قال : « أتاني جبريل فأمرني أن آمر أصحابي أن يرفعوا أصواتهم بالإهلال ».
هذا الخبر رواه أحمد وأهل السنن وابن حبان كلهم من طريق سفيان عن عبد الله بن أبي بكر عن عبد الملك بن أبي بكر بن عبد الرحمن عن خلاد بن السائب عن أبيه به .
ورواه الإمام أحمد وابن ماجه وابن حبان في صحيحه من طريق المطلب بن عبد الله حنطب عن خلاد بن السائب عن زيد بن خالد عن النبي صلى الله عليه وسلم به .
وصحح ابن حبان رحمه الله كلا الطريقين ولكن أعل الترمذي رحمه الله حديث خلاد عن زيد بن خالد ، ورجح أن المحفوظ خلاد بن السائب عن أبيه .(1/34)
والحديث دليل علىمشروعية رفع الصوت عند الإهلال ، وقد تواتر عن النبي صلى الله عليه وسلم وعن الصحابة رضي الله عنهم أنهم يرفعون أصواتهم عند الإهلال ، ثم لا يزالون يلبون ويرفعون أصواتهم بالتلبية حتى تبح حلوقهم ، قال بكر ابن عبد الله المزني : كنت مع ابن عمر فلبى حتى أسمع ما بين الجبلين . رواه أبو بكر بن أبي شيبة وصححه الحافظ ابن حجر في فتح الباري .
وقد اختلف الفقهاء رحمهم الله في حكم رفع الصوت بالإهلال فقال الأئمة الأربعة وجمهور العلماء سلفاً وخلفاً بأن رفع الصوت مستحب غير واجب ، وحملوا الأمر بالحديث على الندب ، وجعلوا القرينة الصارفة للأمر عن الإيجاب هي المشقة ، فإنه يشق على الحاج أو المعتمر أن يرفعوا أصواتهم بالإهلال إلا إذا حمل الأمر على المرة الواحدة فحينئذٍ لا مشقة فيه ، وذهب الإمام ابن حزم رحمه الله إلى وجوب رفع الصوت بالإهلال وقال بـ (المحلى) : ولو مرة واحدة ، وهذا مبني على قاعدة أصولية بأن الأمر يصدق فعله ولو بمرة واحدة ، وهذا صحيح ، فإذا أمر النبي صلى الله عليه وسلم بامر ولم يدل دليل على قصد التكرار فيصدق أداء الأمر بمرة واحدة ، فعند القائلين مثلاً بوجوب متابعة المؤذن لقوله : « إذا أذن المؤذن فقولوا مثلما يقول » . متفق عليه من حديث أبي سعيد الخدري ، صدق حينئذٍ أداء الأمر بمتابعة مؤذن واحد .
وكذلك النبي صلى الله عليه وسلم حين قال للصحابة : « أيها الناس ، إن الله كتب عليكم الحج فحجوا » . رواه مسلم في صحيحه ، أراد النبي صلى الله عليه وسلم بهذا الأمر أن يؤدى مرة واحدة إلا أن الأقرع بن حابس قال : أفي كل عام يا رسول الله ؟ ، ظن أن الأمر للتكرار ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : « لو قلت : نعم لوجبت » ، فعلم من هذا أن النبي صلى الله عليه وسلم حين أمر بالحج قصد المرة الواحدة ، وأن الأمر إذا فعل مرة تم المطلوب ما لم تدل قرينة ظاهرة على قصد التكرار .(1/35)
قوله : [ أن يرفعوا أصواتهم ] :
هذا أمر وهذا هو حجة ابن حزم بالإيجاب ، أما الجمهور فحملوا الصيغة على الندب ، والمراد بالإهلال بالحديث هو تعيين النسك بحيث يرفع صوته بما أهل به.
حين أهل ابن عمر قال : لبيك عمرة ، رافعاً بها صوته ، ويصدق لفظ الإهلال على التلبية ، وهذا هو الذي فهمه غير واحد من الشراح .
وأما المرأة فقد استحب لها جمهور العلماء خفض صوتها إلا عند محارمها فلا مانع حينئذٍ أن ترفع الصوت ، وأما الإمام ابن حزم فيرى أن المرأة ترفع صوتها بالتلبية كالرجل تماماً وقال في المحلى لم يدل دليل على التخصيص يعني بهذا لم يرد دليل بتخصيص رفع الصوت للرجل دون المرأة ، ولكن ربما يقال : إن الدليل هو التعليل فإن صوت المرأة فتنة ، فإذا رفعت المرأة صوتها بالتلبية تطلعت إليها انظار الرجال وسببت فتنة لهم ، وربما طمع بها الذي في قلبه مرض ، وأيضاً قوله في الحديث السابق : [ فأمرني أن آمر أصحابي ] ظاهر الأمر هنا أنه للرجال ، ولذلك جاء في الصحيحين : أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : « التسبيح للرجال والتصفيق للنساء » ، فمع كون التسبيح عبادة من أجلِّ العبادات ندب النبي صلى الله عليه وسلم المرأة أن تصفق لأنها إذا سبحت فتنت الرجال ، والتلبية بمنزلة التسبيح فلا يحق للمرأة أن ترفع صوتها بالتلبية حتى نقل ابن المنذر رحمه الله الإجماع على هذه القضية .
681- وعن زيد بن ثابت رضي الله عنه : أن النبي صلى الله عليه وسلم تجرد لإهلاله واغتسل .
هذا الحديث رواه الإمام الترمذي رحمه الله في جامعه من طريق عبد الله بن يعقوب المدني عن عبد الرحمن بن أبي الزناد عن أبيه عن خارجة عن زيد به.(1/36)
وقال أبو عيسى : هذا حديث حسن غريب ، وقد تكلم بعض أهل العلم بهذا الخبر فقال عنه الإمام العقيلي بأنه ضعيف ، أعله بعض أهل الحديث بعبد الله بن يعقوب المدني ، وقد قال عنه الحافظ : مجهول الحال ، وقال الذهبي : لا أعرفه ، وأعل أيضاً بسوء حفظ ابن أبي الزناد .
ولكن جاء في الباب قول ابن عمر رضي الله عنهما : من السنة أن يغتسل عند إحرامه وعند دخوله مكة . رواه الحاكم وإسناده صحيح فقد صححه الحافظ ابن حجر وغيره من أهل العلم .
وقول الصحابي : ( من السنة ) يعني بذلك سنة رسول الله ، قال العراقي في ألفيته :
قول الصحابي من السنة أو نحو أمرنا حكمه الرفع
ولو بعد النبي قاله بأعصُرٍ على الصحيح وهو قول الأكثر
وهذا الأثر يدل على استحباب الغسل عند الإحرام ، وبه قال جماهير العلماء ، إلا أن ابن حزم رحمه الله أوجبه في حق النفساء خاصة لما جاء في صحيح الإمام مسلم من حديث جعفر بن محمد عن أبيه عن جابر بن عبد الله قال : خرجنا مع رسول الله للحج .... الحديث وفيه : ( ... فولدت اسماء بنت عميس ـ وزوجها أبو بكر الصديق رضي الله عنه ـ فأمرها النبي صلى الله عليه وسلم أن تغتسل ) . وحمل ابن حزم الأمر هنا على الإيجاب مع العلم أن الغسل هنا لا ينفعها، فغير الحائض إذاً بالإيجاب أولى ، ولكن ابن حزم رحمه الله أوجب الغسل على النفساء ولم يوجبه على غيرها ، وفي هذا نظر ، والحق في هذه القضية ما ذهب إليه الجمهور ، فليس هناك دليل صحيح صريح يدل على وجوب الغسل عند الإحرام غاية ما في ذلك الاستحباب ، والمرأة في هذا كالرجل ، فإن النساء شقائق الرجال إلا ما خصه الدليل وإن تعذر الغسل فما أقل من الوضوء فإن كان الوقت بارداً وتعذر الأمر معاً استحب التيمم عند جماعة من فقهاء الحنابلة . وفي هذا نظر. والحق عدم مشروعيته لأن المراد من الغسل هو التنظف ، والتراب يطهر ولا ينظف، والمراد هنا التنظيف لا التطهر .(1/37)
ويستحب أيضاً الاغتسال عند دخول مكة كما يستحب الاغتسال عند الإحرام، وهذه السنة مهجورة مع أن ابن المنذر رحمه الله نقل الإجماع على سنيتها وذلك لما روى البخاري في صحيحه من طريق أيوب عن نافع قال : كان ابن عمر إذا دخل أدنى الحرم أمسك عن التلبية وبات في ذي طوى فإذا أصبح اغتسل وقال : كان النبي صلى الله عليه وسلم يفعل هذا .
وهذا الاغتسال مسنون للقادم من ميقات ذي الحليفة ، والقادم من المواقيت الأخرى ، وهذا كله باتفاق أهل العلم رحمهم الله .
682- وعن ابن عمر رضي الله عنهما : أن رسول الله سُئل : ما يلبس المحرم من الثياب ؟ قال : « لا يلبس القميص ، ولا العمائم ، ولا السراويلات ، ولا البرانس ، ولا الخفاف ، إلا أحد لا يجد نعلين فليلبس الخفين وليقطعهما أسفل من الكعبين ، ولا تلبسوا شيئاً من الثياب مسهُ الزعفران ولا الورس » . متفق عليه .
قال البخاري رحمه الله : حدثنا عبد الله بن يوسف قال : أخبرنا مالك عن نافع عن ابن عمر .
قال مسلم رحمه الله : حدثنا يحيى بن يحيى قال : قرأت على مالك عن نافع به .
قوله : [ سُئل رسول الله : ما يلبس المحرم من الثياب ؟ قال : « لا يلبس ... الخ » ] :
هذا من جوامع الكلم الذي أوتي نبينا حيث سئل عما يلبس المحرم فلم يقل : يلبس كذا وكذا ، لأن الذي يلبس كثير وكثير ، ولا يمكن حصره ، فأجاب النبي صلى الله عليه وسلم بأن المحرم لا يلبس كذا ولا كذا ، فكان الجواب محصوراً مقيداً جامعاً لأن الأشياء التي لا يلبسها المحرم محصورة عند أهل العلم رحمهم الله تعالى أخذاً بحديث الباب .
قوله : « لا يلبس القميص » :
النفي هنا بمعنى النهي ، والنهي للتحريم ، فيحرم على المحرم أن يلبس قميصه أو سراويلات ـ جمع سروالة عند بعض أهل اللغة ـ وقال آخرون : سراويلات ليس لها مفرد ، وهو اسم أعجمي معرب .
قوله : « ولا العمائم » :(1/38)
يلحق بذلك كل شيء من شماغ وطاقية ونحو ذلك ، لأن النبي صلى الله عليه وسلم حين نهى المحرم من لبس العمامة لا لأنها عمامة ولكن لأنها تلاصق الرأس ، ولذلك نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن ( البرانس ) ـ جمع برنس ـ وهي ثياب رؤوسها منها وهو شبيه بلبس أهل المغرب ، يلبسون ثوباً ويلحق به شيء يوضع على الرأس شبيه بما يسمى ( الطربوش ) ، إلا أنه يلاصق الثوب .
فنستفيد من هذا نهي المحرم عن كل لباس يلاصق الرأس ، ونستفيد من هذا نهي المحرم عن المخيط المقصود لعضو معين ، كشراب قدمين مثلاً أو قفازين ، وأما حزم المحرم متاعه فوق ظهره أو رأسه فهذا لا مانع منه ، لأن هذا أولاً لا يسمى لُبساً ، وثانياً هو لا يقصد بذاته ، إنما يقصد لغيره ، وأما وضع المضلة عن الشمس فهذه لا مانع منها ما لم تكن ملاصقة للرأس لأن النبي صلى الله عليه وسلم حين أتى نمرة وجد قبة قد ضربت له . والحديث في مسلم من حديث جابر ، فدل مثل هذا أنه ليس به بأس ولا يمنع منه .
قوله : « ولا الخفاف » :
وهي التي تغطي القدمين ويلحق بذلك الشراب ، وهذا الحكم خاص بالرجال دون النساء ، وقد اتفق العلماء رحمهم الله علىأنه لا مانع من كون المرأة تلبس شراب قدمين في الإحرام ، إنما تمنع عن لبس القفازين ، والحكمة في هذا تعبدية.
قوله : « إلا أحد لا يجد نعلين فليلبس الخفين وليقطعهما أسفل من الكعبين » :
وهذا قول النبي صلى الله عليه وسلم في المدينة ثم إنه خطب الناس في عرفات فقال: « من لم يجد نعلين فليلبس خفين، ومن لم يجد إزاراً فليلبس سراويل» ، فلم يقل : فليقطع النعلين أو فليفتق السراويل ، وتأخير البيان عن وقت الحاجة لا يجوز .(1/39)
وأفاد هذا أن حديث ابن عمر منسوخ ، لأن هذا المقام مقام تعليم ، والناس متوافرون ، ولو قصد النبي صلى الله عليه وسلم تقييد هذا الخبر بحديث ابن عمر لبينه ووضحه ، وهذا مذهب الإمام أحمد رحمه الله واختيار شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله . وذهب الجمهور إلىانه من لم يجد النعلين فليلبس الخفين وليقطعهما حتى يكون أسفل من الكعبين، وقد أخذوا بحديث ابن عمر وقالوا عن حديث ابن عباس : إنه عام فيقيد بحديث ابن عمر حتى قال بعض الفقهاء المتأخرين بأن الإمام أحمد خالف الدليل في هذه القضية لأنه ما حمل المطلق على المقيد ، وفي هذا نظر . فإن الإمام أحمد رحمه الله قد أصاب السنة هنا ، فإن حديث ابن عمر قاله في المدينة ولعله لم يسمعه منه إلا اثنان أو ثلاثة ، ولو تسامحنا وقلنا سمعه عشرة فحديث ابن عباس سمعه الآلاف ، فلو قصد النبي صلى الله عليه وسلم تقييد حديث ابن عباس بحديث ابن عمر لبين هذا ، فإنه يسمع كلامه حينئذٍ من لم يسمع كلامه من قبل ، وكيف يلزم الناس بحمل المطلق على المقيد وهم لا يعرفون الحديث الأول ولم يسمعوا به أصلاً ، فما ذهب إليه الإمام أحمد رحمه الله هو الأقرب إلى الدليل وهو الأتبع للسنة .
فكذلك عند فقد الإزار لا مانع من لبس السراويل ، وما قاله بعض الفقهاء بأنه يفتقه لا أصل له ، وقال أيضاً بعض الفقهاء الأحناف: يلبس السراويل مع لزوم الدم . وهذا أيضاً لا دليل عليه إذ لو كان عليه دم لقال رسول الله ( مع الدم ، وتأخير البيان عن وقت الحاجة لا يجوز .
قوله : « ولا تلبسوا شيئاً من الثياب مسه الزعفران ولا الورس » :
( الوَرْس ) : بفتح الواو وسكون الراء ، نبت أصفر طيب الرائحة ، قال ابن العربي في (عارضة الأحوذي) : وليس هو بطيب وإنما نهى عنه النبي صلى الله عليه وسلم لأنه طيب الرائحة ولينبه به على منع سائر أنواع الطيب ، وهذا أيضاً من جوامع كلمه حيث نبه بالأدنى على الأعلى .(1/40)
وفيه دليل على نهي المحرم عن الطيب وأنه محظور من محظورات الإحرام فمن تطيب بعد عقد النية وجب عليه غسله أو استبدال الإحرام إن كان الطيب وقع بالإزار أو الرداء ، فإن وقع الطيب بالجسد قبل عقد النية فهذا مشروع ومستحب يدل عليه ما ذكره المؤلف في الباب .
683- وعن عائشة رضي الله عنها قالت : كنت أطيب رسول الله لإحرامه قبل أن يحرم ولحله قبل أن يطوف بالبيت . متفق عليه .
قال البخاري رحمه الله : حدثنا عبد الله بن يوسف قال : أخبرنا مالك عن عبد الرحمن بن القاسم عن أبيه عن عائشة .
قال الإمام مسلم رحمه الله : حدثنا يحيى بن يحيى قال : قرأت على مالك فذكره .
والحديث يدل على مشروعية الطيب عند الإحرام قبل عقد النية ، وهذا عام للذكر والأنثى ، إلا أن طيب المرأة ما ظهر لونه وخفيت رائحته ، ثم لا يضر بعد هذا استدامة الطيب بعد عقد النية حتى ولوا سال على الملابس ، فقد جاء عند أبي داود بسند قوي عن عائشة رضي الله عنها قالت : كنا نضمخ جباهنا بالمسك المطيب ، فإذا عرقت إحدانا سال على وجهها فيرانا النبي صلى الله عليه وسلم ولا ينهانا .
وفي الصحيحين ايضاً عن عائشة قالت : كنت أرى الطيب في مفرق رسول الله .
إنما المحظور أن يطيب الحاج أو المعتمر إحرامه . ويعبر بالإحرام هنا عن الإزار أو الرداء فمن فعل ذلك وجب عليه غسله ، سواء قبل عقد النية أو بعدها، أما إذا طيب جسده ثم سال من الجسد على الإحرام فهذا معفوٌ عنه .
قولها : [ ولحله قبل أن يطوف بالبيت ] :
والتحلل يحصل برمي جمرة العقبة كما هو قول جماهير العلماء ، وهو مذهب مالك وأبي حنيفة ووجه عن أحمد اختاره صاحب المغني .
واما القارن فالأفضل في حقه ألا يحل حتى ينحر الهدي ، لما جاء في الصحيحين عن حفصة قالت : قلت للنبي : ما بال الناس حلو ولم تحل ؟ قال: « إني لبدت رأسي وقلدت هديي فلا أحل حتى أنحره » .(1/41)
والحديث دليل أيضاً على استحباب الطيب قبل الطواف بالبيت ، والطواف هنا طواف الإفاضة . وفيه دليل على مشروعية الطيب عند الذهاب إلى المساجد والبقاع المشرفة فقد قال تعالى : { يَابَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ } فيستحب للمسلم أخذ الزينة عند الذهاب إلى المساجد من لبس الملابس النظيفة والتطيب من الطيب الجيد .
وعن عثمان بن عفان رضي الله عنه أن رسول الله قال : « لا ينكح المحرم ، ولا يُنكحُ ، ولا يخطب » .
رواه الإمام مسلم رحمه الله فقال : حدثنا يحيى بن يحيى قال : أخبرنا مالك عن نافع عن نبيه بن وهب عن أبان عن عثمان رضي الله عنه به .
ورواه أحمد والترمذي والنسائي وابن ماجه وصححه ابن حبان وأعرض عنه الإمام البخاري رحمه الله وخرج في صحيحه من طريق الأوزاعي عن عطاء عن ابن عباس قال : تزوج النبي صلى الله عليه وسلم ميمونة وهو محرم .
ورواه مسلم في صحيحه من طريق الأوزاعي به .
وقد استشكل بعض أهل العلم خبر ابن عباس فقالت طائفة وقع فيه غلط ووهم والوهم من ابن عباس لأنه قد جاء في صحيح الإمام مسلم عن ميمونة نفسها أن النبي صلى الله عليه وسلم تزوجها حلالاً ، وصاحب القصة أولى من غيره خصوصاً أن ابن عباس كان إذ ذاك صغيراً، وهذا قول سيد التابعين سعيد بن المسيب رحمه الله ، وبقوله قال طوائف من الفقهاء والمحدثين وقالوا : لا ينكح المحرم ولا يُنكح لخبر ميمونة في مسلم ، ولحديث الباب ، وقد جاء أيضاً في مسند الإمام أحمد والترمذي في جامعه سند فيه مقال عن أبي رافع قال : كنت السفير بينهما ـ يعني بين رسول الله صلى الله عليه وسلم وميمونة ، وقد بنا بها حلالاً .
وأصحاب هذا القول قالوا : من نكح أو أنكح حال الإحرام فنكاحه باطل وقد صح هذا عن علي بن أبي طالب وابن عمر رضي الله عنهما وهو مذهب الإمام أحمد .(1/42)
وذهب بعض أهل العلم إلى جواز نكاح المحرم محتجين بحديث ابن عباس : أن النبي صلى الله عليه وسلم تزوج ميمونة وهو محرم .
وأصحاب هذا القول لم يأخذوا بخبر عثمان ولا بخبر أبي رافع وقد تقدم أن خبر ابن عباس وقع فيه غلط ، لأن ميمونة نفسها رضي الله عنها تخبر أن النبي صلى الله عليه وسلم تزوجها حلالاً كما جاء هذا في صحيح مسلم .
ولذلك فالحق أن المحرم لا ينكح أي لنفسه ، ولا يُنكح أي لغيره ، ولا يخطب ، لأن الخطبة من مبادئ النكاح ويلحق بذلك كل ما كان بمعنى الخطبة ، ومن باب أولى أن ينهى عن المداعبة وما كان مثلها وقت الإحرام ، فلما نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن النكاح وعن الخطبة علم النهي عما كان في معناها فضلاً عمن هو أشد كالإنزال مثلاً فإنه وإن لم يرد فيه نص إلا أن عموم الأدلة خصوصاً خبر عثمان يدل على المنع ، حتى قال بعض الفقهاء بلزوم الكفارة لمن وقع منه ذلك .
الذي يهمنا الآن أن نعرف أنه لا يجوز في الإحرام فإن قال قائل : ما الحكمة من المنع ؟ فالجواب : أن هذا نوع من الترفه ، والمحرم منهي عن هذا ، والمشروع للمحرم أن يكون في إحرامه خاشعاً لله مجتنباً الدنيا وشهواتها وملذاتها فإنه بإحرامه أشبه ما يكون في يوم القيامة حين يخرج الناس من قبورهم حفاة عراة غرلاً .
684- وعن أبي قتادة الأنصاري رضي الله عنه ـ في قصة صيده الحمار الوحشي وهو غير محرم ـ قال : فقال رسول الله لأصحابه ـ وكانوا محرمين « هل منكم أحد أمرهُ أو أشار إليه بشيء ؟ » قالوا لا ، قال : « فكلوا ما بقي من لحمه » . هذا الخبر متفق عليه .
قال الإمام البخاري رحمه الله : حدثنا موسى بن إسماعيل قال : أخبرنا أبو عوانة عن عثمان بن موهب عن عبد الله بن أبي قتادة عن أبيه به .
وقال الإمام مسلم رحمه الله : حدثنا قتيبة بن سعيد قال : أخبرنا عبد العزيز بن رفيع عن عبد الله بن أبي قتادة به .(1/43)
ورواه الإمام أحمد رحمه الله وأهل السنن ما عدا أبا داود ، وذكره ابن حبان في صحيحه .
وقد احتج بالحديث فقهاء الكوفة وطائفة من علماء السلف على حل صيد المحرم مطلقاً ، وفي هذا نظر ، فإن الحديث لا يدل على هذا ، إنما ظاهر الحديث أن من أعان على الصيد فلا يحل له الأكل ، ومن لم يُعن لا بإشارة ولا بغيرها ولم يصد الصيد لأجله فإنه حينئذٍ يأكل ولا مانع من هذا ، وبهذا قال جمهور العلماء ، فإن قال قائل : هل يجوز للمحرم أن يصيد ؟ ، فنقول : لا يجوز للمحرم أن يصيد ، لقوله تعالى : { لاَ تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ } . وقال تعالى : { وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ مَا دُمْتُمْ حُرُمًا } ، فالمحرم يحرم عليه الصيد ، ولا يسمى الشيء صيداً إلا إذا كان يؤكل ، وأما ما لا يؤكل فلا يسمى صيداً . وأما غير المحرم فيجوز له الصيد ما لم يدخل الحرم ، فإن دخل الحرم حرم عليه الصيد .
وأما صيد البحر فيجوز مطلقاً للمحرم وغيره ، كما دل على ذلك كتاب الله وسنة رسول الله فمن قتل الصيد متعمداً فعليه الإثم والجزاء لقوله تعالى : { وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّدًا فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنْ النَّعَمِ } .
فإن جاء نظيره في أحكام رسول الله وجب إخراجه وإلا حكم في الصيد عدلان ممن يُرتضى علمهما ودينهما لقول الله تعالى : { يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ } .
وقد اختلف أهل العلم فيمن قتل الصيد جاهلاً أو ناسياً أو خطأ.
فقالت طائفة : لا شيء عليه لأن الله تعالى ذكر المتعمد وهذا قوي في الحكم ، فإذا كان المرء غير متعمد فالله يقول : { رَبَّنَا لاَ تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا} وقد جاء في صحيح الإمام مسلم من حديث ابن عباس قال الله تعالى : « قد فعلت » .(1/44)
والقول الثاني في المسالة : أن عليه الجزاء ، سواء كان جاهلاً أو ناسياً أو عامداً واصحاب هذا القول قالوا : إن قوله تعالى : { مُتَعَمِّدًا ً } خرج مخرج الغالب ، وقالوا أيضاً : جاء القرآن بالعمد ، وجاءت السنة في حق الناسي والجاهل، فإن رسول الله جعل بالضبع كبشاً ولم يقل للعامد ، ولكن يجاب عن هذا فيقال: هذا حديث عام ويقيد بالقرآن ، ولذلك الصحيح في هذه القضية أن الجزاء لا يصدق إلا على العامد الذي عمد إلى القتل ذاكراً لإحرامه ، وهو يعلم أن هذا الفعل محرم . ومن أقدم على الصيد متعمداً ، فإذا أقدم متعمداً لم يكن حجه ولا عمرته مبرورة ، لأن أصحاب الحج المبرور أو العمرة لا يرتكب محظوراً ولا يدع واجباً ، ثم إنه أيضاً قد ذهبت طائفة من العلماء إلى تحريم أكل لحم الصيد مطلقاً سواء أشير عليه أو لم يشر ، وسواء صيد من أجل المرء أم لا ، وقد احتج أصحاب هذا القول بحديث الصعب الذي ذكره المؤلف :
685- وعن الصعب بن جثامة الليثي رضي الله عنه أنه أهدى لرسول الله حماراً وحشياً وهو بالأبواء ، أو بودان ، فرده عليه وقال : « إنَّا لم نرده عليك إلا أنا حُرم » . هذا الخبر متفق على صحته .
قال الإمام البخاري رحمه الله : حدثنا عبد الله بن يوسف قال : أخبرنا مالك عن الزهري عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة عن ابن عباس عن الصعب بن جثامة به .
وقال الإمام مسلم رحمه الله : حدثنا يحيى بن يحيى قال : أخبرنا مالك عن الزهري به .
ورواه أيضاً الإمام أحمد والترمذي والنسائي وغيرهم .
قوله : [ بالأبواء ، أو بودان ] :
قال الحافظ في ( فتح الباري ) : الذي يظهر لي أن الشك من ابن عباس .
وقوله : « إنَّا لم نرده عليك إلا أنا حُرُم » :(1/45)
جاءت رواية في الصحيحين : فلما رأى ما في وجهه قال : « إنَّا لم نرده عليك إلا أنا حُرم » . وقوله : ( لم نرده ) : يجوز ضم الدال وفتحها ، وأصل هذا الفعل : لم نردده ، فأدغمت إحدى الدالين بالأخرى فجاز فيها الفتح والضم ، ولكلٌ وجهه من حيث اللغة .
وقوله: « إلا أنا حُرم » :
جعل النبي صلى الله عليه وسلم منع قبول الهدية هو كونه حرماً فأفاد هذا أن المحرم لا يقبل الصيد مطلقاً ، فهذا دليل القائلين بمنع أكل الصيد مطلقاً كما هو مذهب أمير المؤمنين علي بن أبي طالب وابن عباس وابن عمر وإسحاق والثوري وجماعة من الأئمة ، وقد تقدم عندنا أن مذهب الجمهور الجمع بين الخبرين ، فيحمل حديث الصعب على أن الصيد صيد من أجل النبي صلى الله عليه وسلم ، ويحمل حديث أبي قتادة على خلاف هذا وأنه إذا لم يشر أحد عليه ولم يصد لأجل المرء ، فحينئذ يأكل ولا يمتنع لأن النبي صلى الله عليه وسلم أكل من صيد أبي قتادة . والجمع بين النصوص أولى من إلغاء أحدهما ، فقد قال في المراقي :
والجمع واجب متى ما أمكنا وإلا فللأخير نسخٌ بَيِّنَاَ
وهذا اختيار الإمام ابن عبد البر والإمام ابن القيم عليهما رحمة الله .
ويستفاد أيضاً من حديث الصعب مشروعية مراعاة الخواطر ، فإن النبي صلى الله عليه وسلم حين رد عطية الصعب تغير وجه الصعب فبين النبي صلى الله عليه وسلم السبب في الامتناع كي يطيب خاطره فقال: « إنَّا لم نرده عليك إلا أنا حرم ».
ويستفاد أيضاً جواز رد الهدية للسبب الشرعي ، كأن تعلم أن المهدي صاحب منَّة أو أن المهدي يتحدث بها أو يعيّرك بها ، أو تعلم أن المهدي يطلب ثوابها وليس عندك جزاء ، فحينئذ لا مانع من أن ترد الهدية ، ويجب رد الهدية إذا كانت مغصوبة أو مسروقة ، لأنك إن قبلتها أعنته على الإثم والعدوان والله تعالى يقول : { وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ } .(1/46)
686 - وعن عائشة رضي الله عنها قالت : قال رسول الله: « خمس من الدواب كلهن فواسق ، يقتلن في الحل والحرم : العقرب ، والحِدَأة ، والغراب ، والفأرة ، والكلب العقور » . متفق عليه .
قال البخاري رحمه الله : حدثنا يحيى بن سليمان قال : أخبرنا ابن وهب قال: أخبرنا يونس عن الزهري عن عروة بن الزبير عن عائشة رضي الله عنها .
وقال مسلم رحمه الله : حدثنا ابن المثنى وابن بشار قال : حدثنا محمد بن جعفر قال : حدثنا شعبة عن قتادة عن سعيد بن المسيب عن عائشة رضي الله عنها.
قول : « خمس » :
لا مفهوم لهذا العدد ، فقد جاء بلفظ اربع ، وجاء بلفظ ست ، وليس هذا للحصر ، ولكن نبه النبي صلى الله عليه وسلم بهذه الخمس لأنهن أصل الفويسقات فيلحق بهن ما كان بمنزلتهن من الأذى ، فإن ما آذى طبعاً قتل شرعاً.
قوله: « يقتلن » :
هذا على الجواز ، وقال بعض أهل العلم : يحتمل أن يكون للندب أو الإيجاب، وفي هذا نظر ، والصحيح أنه على الجواز ما لم يقترن بالمسألة شيء يجعله للاستحباب أو للإيجاب .
قوله : « في الحل والحرم » :
هذا نفيٌ لما قد يتوهمه المرء من أن الإذن في الحل دون الحرم ، ولو كن هؤلاء صيداً لما جاز قتلهن في الحرم ، فإن الله يقول : { لاَ تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ } ، وقد أجمع العلماء علىتحريم الصيد في الحرم ، فعلم أن هذه المذكورات ليست من الصيد ، وضابط الصيد ما يجوز أكله ، وأما ما يحرم أكله فليس بصيد ولكن لا يلزم من هذا جواز قتله مطلقاً ، فقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن قتل النملة ، وهي ليست من الصيد ، ونهى النبي صلى الله عليه وسلم عن قتل الهدهد والضفدع وليسا بصيد .
قوله: « العقرب » :
ويُلحق بالعقرب جميع ذوات السموم ، فإنها بمنزلتها بالأذى وأشد كالعقربان والحية وما أشبه ذلك .
قوله: « والحِدَأة » :
بكسر الحاء وفتح الدال : وهو طائر معروف يختطف الأموال الثمينة فيلحق، به كل طائر مؤذي .
قوله : « والغراب » :(1/47)
أياً كان لونه عند جماهير العلماء ، وجاء في صحيح الإمام مسلم من حديث سعيد بن المسيب عن عائشة تقييد الغراب الأبقع وهو الذي في ظهره أو بطنه بياض، فحمل الإمام ابن خزيمة رحمه الله المطلق على المقيد وقال : لا يقتل إلا الغراب الأبقع الذي في ظهره أو بطنه بياض ، أما الأسود البحت الذي لم يخالطه لونٌ آخر لا يُقتل . ولكن قال الإمام ابن قدامة رحمه الله : الروايات المطلقة أصح، ولذلك أعل جماعة من أهل الحديث رواية ( الأبقع ) بالشذوذ ، ولذلك لم يخرجها البخاري رحمه الله في صحيحه ، إنما جاءت في بعض طرق حديث عائشة عند مسلم .
قوله : « الفأرة » :
وقد سماها النبي صلى الله عليه وسلم فويسقة لأذاها ، وكل مؤذي يصدق عليه هذا الاسم ، ويلحق بالفويسقة كل شيء بمنزلتها بالأذى كالوزغ وما شابهه .
قوله : « الكلب العقور » :
يلحق به جميع أنواع الحيوانات المفترسة كالأسد والفهد والنمر والذئب وما شابه ذلك ، وذهب بعض أهل العلم إلى الحصر فقالوا : لا يجوز قتل ما لم يذكر في الحديث ، وهذا مروي عن فقهاء الأحناف وأهل الظاهر ، وهذا اللائق بظاهريتهم ، ولكن جاء في بعض طرق الحديث الحية ، وهذا ينقض من حصر الأشياء التي لا تقتل في الحل والحرم بخمس . وأيضاً مَنْ تأمل معاني الحديث والأسباب التي من أجلها أمر النبي صلى الله عليه وسلم بقتل هذه الخمس تبين له إلحاق ما عداها بها ، فالمراد المعنى ليس اللفظ ، فمن المحال أن يقول النبي صلى الله عليه وسلم اقتلوا الكلب العقور ثم يأتي أسد ولا يُقتل ، والنبي نبه بالأدنى وهو الكلب على الأعلى كالذئب وما هو أعلى من الذئب كالنمر وما هو أعلى من النمر كالأسد .
687- وعن ابن عباس رضي الله عنهما : أن النبي صلى الله عليه وسلم احتجم وهو محرم . متفق عليه .
قال الإمام البخاري رحمه الله : حدثنا علي بن عبد الله قال : حدثنا سفيان عن عمرو عن عطاء عن ابن عباس .(1/48)
وقال الإمام مسلم رحمه الله : حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة قال : حدثنا ابن عيينة عن عمرو عن عطاء وطاووس عن ابن عباس .
والحديث دليل على جواز الحجامة للمحرم ، وبهذا قال أبو حنيفة والشافعي وأحمد ، ولكن قالوا : ما لم يقطع شعراً فإن قطع شعراً فدى . وجاء عن ابن عمر وهو مذهب مالك كراهية الحجامة للمحرم مطلقاً .
وذهب الحسن البصري إلى لزوم الفدية لمن احتجم ولو لم يقطع شعراً ، والحق في هذه القضية القول بما دل عليه الخبر من جواز الحجامة للمحرم سواء كانت الحجامة للحاجة أم لغير حاجة ، وأما ما جاء عند أبي داود من طريق يزيد بن زريع عن هشام بن حسان عن عكرمة عن ابن عباس قال : احتجم رسول الله وهو محرم في رأسه من داء كان به . فلا أظن أن هذه الرواية تثبت ، ومن لوازم الحجامة في الرأس قطع بعض الشعر ، ولم يذكر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه فدى أو أمر بالفدية ، وتأخير البيان عن وقت الحاجة لا يجوز ، وهذه المسألة شبيهة بحك الرأس ، فالغالب أن الشعر مع الحك يتساقط ، كذلك غسل الرأس يحصل معه تساقط شعر ، وقد كان رسول الله يغتسل وهو محرم . والحديث في الصحيحين . وتقول عائشة رضي الله عنها : لو ربطت يداي لحككت رأسي برجلي . وما أحسن ما قاله الأعمش رحمه الله حين سأله سائل عن مقدار حك الرأس فقال : حك حتى يخرج العظم . يريد بهذا رحمه الله أن يبين أنه لا داعي للتنطع في التورع عن حك الرأس كما يفعل بعض الناس من ضربه كأنه يضرب مسماراً في خشبة ، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول : « هلك المتنطعون » . وأما حلق الرأس كله فإنه يوجب الفدية ، يدل عليه ما ذكره المؤلف في الباب :
688- وعن كعب بن عجرة رضي الله عنه قال : حُملتُ إلى رسول الله والقُملُ يتناثر على وجهي ، فقال : « ما كنت أرى الوجع بلغ بك ما أرى ، أتجد شاة ؟ » ، قلت : لا ، قال : « فصم ثلاثة أيام ، أو أطعم ستة مساكين لكل مسكين نصف صاع » . هذا الخبر متفق عليه .(1/49)
قال الإمام البخاري رحمه الله : حدثنا أبو نعيم قال : حدثنا سيف عن مجاهد عن عبد الرحمن بن أبي ليلى عن كعب بن عجرة .
قال الإمام مسلم رحمه الله : حدثنا ابن نمير قال : أخبرني أبي عن سيف به .
والحديث دليل على أن من كان به أذى من رأسه لقمل أو نحوه فإنه يحلق شعره ولا إثم عليه ، لأنه حلق للعذر ، ولكن عليه الفدية كما قال تعالى : { فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ } .
وقد جاءت السنة بتوضيح هذا الآية ، فقوله تعالى : { فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ } وضحت السنة الصيام وأنه ثلاثة أيام .
قوله تعالى : { أَوْ صَدَقَةٍ } :
وضحت السنة مقدار الصدقة وأنه طعام ستة مساكين لكل مسكين نصف صاع .
قوله تعالى : { أو نسك } :(1/50)
وضحت السنة أن النسك ( الشاة ) وما يجزئ أضحية ، وقد ذكر الحافظ في فتح الباري أن أكثر التابعين يجوزون وضع الفدية في أي مكان ، وذهب بعض الفقهاء إلى لزوم الفدية في مكة ولكنهم يخرجون عن ذلك الصيام ويقولون أنه لا يتعلق بالفقراء ، فيجوز حينئذٍ في كل مكان ، والقول الأول هو ظاهر الحديث ، وبه قال الإمام مالك رحمه الله ، فإن قوله صلى الله عليه وسلم : « أنسك شاة » عام ولم يدل دليل علىتقييده بالحرم ، وتأخير البيان عن وقت الحاجة لا يجوز ، ولكن قال بعض الفقهاء : إن الفدية بمنزلة الهدي ، فعلى هذا القول يجب ذبح الفدية في الحرم وتوزيعها على فقراء أهله ، وقد ألحق جماهير العلماء ومنهم الأئمة الأربعة جميع محظورات الإحرام بحلق الرأس فأوجبوا الفدية على كل من عمل محظوراً . مع أن الحديث في المتعمد . هذه القضية الأولى . القضية الثانية : في حلق الرأس دون غيره . القضية الثالثة : أن الحديث جاء بالتخيير بين الإطعام والصيام والذبح بينما قال غير واحد من الفقهاء بلزوم الدم على كل من فعل محظوراً ، وهذا تضييق لما وسع الله ، فالله جل وعلا خير العباد فقال : { فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ } و ( أو ) هنا : للتخيير .
689- وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال : لما فتح الله تعالى على رسول الله مكة قام رسول الله في الناس ، فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: « إن الله حبس عن مكة الفيل ، وسلط عليها رسوله والمؤمنين ، وإنها لم تحل لأحد من قبلي ، وإنما حلت لي ساعة من نهار ، وإنها لن تحل لأحد بعدي ، فلا ينفر صيدها ولا يختلى شوكها ، ولا تحل ساقطتها إلا لمنشد ، ومن قتل له قتيل فهو بخير النظرين » . فقال العباس : إلا الإذخر يا رسول الله فإنا نجعله في قبورنا وبُيوتنا ، فقال : « إلا الإذخر » . متفق عليه .(1/51)
قال البخاري رحمه الله : حدثنا أبو نعيم الفضل بن دكين قال : حدثنا شيبان قال أخبرنا يحيى عن أبي سلمة بن عبد الرحمن عن أبي هريرة به .
وقال مسلم رحمه الله : حدثنا زهير بن حرب قال : حدثنا الوليد بن مسلم قال : حدثنا الأوزاعي عن يحيى بن أبي كثير عن أبي سلمة بن عبد الرحمن عن أبي هريرة به .
ورواه الإمام أحمد وأهل السنن وابن الجارود في المنتقى كلهم من طريق يحيى بن أبي كثير به .
قوله : [ لما فتح الله مكة ] :
وكان هذ الفتح في رمضان سنة ثمان من الهجرة .
قوله : [ قام رسول الله ] :
أي أن النبي صلى الله عليه وسلم قام بالناس خطيباً مبتدئاً بحمد الله والثناء عليه، وهذا هو المشروع في كل خطبه ، سواء كانت خطبة جمعة أو غيرها ، وروى أبو داود في سننه والترمذي في جامعه من طريق عاصم بن كليب عن أبيه عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : « كل خطبة ليس فيها تشهد فهي كاليد الجذماء » .
وقد روى الإمام أحمد والترمذي في جامعه من طريق أبي إسحاق السبيعي عن أبي عبيدة ابن عبد الله بن مسعود عن أبيه ، ومن طريق شعبة عن أبي إسحاق السبيعي عن أبي الأحوص وأبي عبيدة عن عبد الله بن مسعود ، وكل الإسنادين صحيح ، قال : كان رسول الله يعلمنا خطبة الحاجة كما يعلمنا السورة من القرآن فيقول : « إن الحمد لله ، نحمده ونستعينه ونستغفره ، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا ، من يهده الله فلا مضل له ، ومن يضلل فلا هادي له ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمداً عبده ورسوله » .
وإنْ حمد الله جل وعلا في غير ما ذكر هنا صح هذا وأجزأ . المراد أن لا يُخلي خطبته من حمد الله والثناء عليه ، فإن فعل أي أخلى خطبته من الحمد والبسملة معاً لم يتم مطلوبه وإن تم حساً لم يتم معنى ولا يبارك الله في ذلك .
قوله : « إن الله حبس عن مكة الفيل » :(1/52)
أي منع عن مكة الفيل ومن أتى به وهم وفود الحبشة بقيادة أبرهة ، وذلك أن أبرهة حين رأى الناس يعظمون الكعبة ويحجون إليها ويعظمونها ولها وقع في قلوبهم وإن كانوا عبدة أوثان ، عزم حينئذٍ أن يبني كعبة في دياره ليحج الناس إليها عوضاً عن بيت الله الموجود في مكة فبنى كعبة ، فلما تم بناؤها أمر الناس أن يطوفوا بها ، فجاء أحد أصحاب الغيرة والأنفة فلطخها بالقاذورات ، فلما علم أبرهة بهذا عزم على هدم الكعبة ليذلل الناس ويرغمهم على الطواف بكعبته ، فحينئذ جهز جيوشه وجعل الفيلة في مقدمة ذلك فحبس الله تعالى الفيل وأرسل عليهم طيراً أبابيل ترميهم بحجارة من سجيل فجعلهم كعصف مأكول .
قوله: « وسلط عليها رسوله والمؤمنين » :
أي جعل مكة منقادة لرسول الله وللمؤمنين حيث مَنَّ الله عليهم بفتحها والتمكين من أهلها بعدما أخرجوا منها وتركوا ديارهم وأموالهم وأهاليهم .
قوله : « وإنها لم تحل لأحد كان قبلي » :
المراد بهذا : إن مكة لا يجوز فيها القتال ، وهذا أمر مجمع عليه ، فإن الله حرم القتال في مكة على جميع الأمم السابقة فلم تحل لأحد قبل النبي صلى الله عليه وسلم ولن تحل لأحد بعده ، وإنما أحلت للنبي صلى الله عليه وسلم ساعة من النهار ، والمراد بالساعة هنا اللحظة من الزمن .
وهل يجوز في مكة إقامة الحد على الجاني ؟ .
فيه خلاف بين الفقهاء رحمهم الله : فذهب الإمام أحمد وأبو حنيفة إلى المنع ، وعن أحمد رواية وهي مذهب مالك والشافعي جواز إقامة الحدود في مكة، إنما المنهي عنه هو القتال لا إقامة الحدود ، وهذا القول أصح من القول الأول فليس هناك دليل عن النبي صلى الله عليه وسلم يمنع من إقامة الحدود في مكة ، وأيضاً إنما ينهى عن القتال فيها ابتداء ، أما إذا بغت الأعداء فلا بد حينئذٍ من الدفاع عن النفس ، فيجوز حينئذٍ قتال العدو وكف شره وأذاه ، فإن هذا الأمر أمر لا بد منه .
قوله : « فلا ينفر صيدها » :(1/53)
وذلك لشرف مكة وعظمها عند الله وعند رسوله صلى الله عليه وسلم ، والمراد بتنفير الصيد إقامته للجلوس في مكانه ، ويشمل هذا تنفيره ليخرج عن الحرم ليصاد .
قوله : « لا يختلى شوكها » :
وفي رواية : « ولا يختلى خلاها » ، والمراد بالاختلى القطع .
الحديث يدل على تحريم قطع شجر مكة وشوكها ونحو ذلك ، ولكن قال جمهور العلماء : يستثنى من ذلك ما أنبته الآدميون ، كالأشجار فإنه يجوز قطعها، وقال الشافعي بالعموم ، وقول الجمهور أصح .
وهل على من قطع شيئاً جزاء ؟ . الجواب : لم يرد على هذا دليل عن النبي صلى الله عليه وسلم ، وقد اجتهد بعض أهل العلم فأوجب جزاءً لمن قطع شيئاً كفارةً لفعله ، وقالت طائفة أخرى : يستغفر الله ويتوب إليه ، ولا كفارة عليه ، فإن الكفارات لا بد لها من دليل ولا يجوز فيها الاجتهاد ، أما التعزير فهذا أمر وارد ولكن الصحيح في التعزير أنه لا يكون إلا للحاكم ومن ينوب عنه .
وهل يجوز للمسلم أن يمكن بهائمه من الرعي ؟ .
جوز هذا جماعة من أهل العلم ، فلم يكن النبي صلى الله عليه وسلم يمنع الرعي والأصل في هذا الجواز كما اختار هذا الشنقيطي رحمه الله في ( أضواء البيان ) .
قوله : « ولا تحل ساقطتها إلا لمنشد » :
المراد بالمنشد : المعرف ، فلقطة مكة أعظم من لقطة غيرها ، فإن لقطة سائر البلاد تعرفها سنة بعدما تعرف عفاصها ووكاءها ، فإن جاء صاحبها وإلا انتفعت بها وأما لقطة مكة فيجب تعريفها على الدوام ، ويحرم تملكها ، ولذلك يقول النبي صلى الله عليه وسلم : « ولا تحل ساقطتها » أي لا تجوز لقطة مكة إلا لمنشد : أي لمن أراد تعريفها والقيام بحقوقها .
فإن قال قائل : ما هي الحكمة في تخصيص مكة عن سائر البلاد ؟ .
فالجواب أن يقال : الحكمة ـ والعلم عند الله ـ أن مكة لا يمكن أن تخلو من أحد فيسهل حينئذٍ وجدانها خصوصاً أوقات المجامع كالحج .(1/54)
واختلف العلماء رحمهم الله في حكم التقاط اللقطة ، قالت طائفة من أهل العلم إن التقاطها واجب ، وقالت طائفة : إن التقاطها مستحب ، وقالت طائفة ثالثة: إن التقاطها مكرمة ، وفيه أيضاً مذاهب أخرى ، والحق في هذه المسألة التفصيل ، فإن علم من نفسه القيام بالمشروع وتعريف اللقطة وغلب على ظنه حفظها والقيام بحقوقها فإن التقاطها حينئذٍ مستحب ، لقول الله : { وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ } ، وأما إذا خشي من نفسه عدم القيام بحقوقها وعدم أداء الأمانة فيها فهو بخير النظرين : إما أن يدفعها للجهات المختصة لتقوم بدورها وتبرأ ذمته حينئذٍ ، وإما أن يدعها فيلتقطها من يقوم بها على الوجه المطلوب ، لأنه بهذه الحالة ربما أخذها ولم يعرفها فيأثم ، فتركها حينئذٍ خيرٌ من أخذها ، وأخذها بهذه الحالة يتراوح ما بين الكراهة والتحريم .
قوله : « ومن قتل له قتيل فهو بخير النظرين » :
أي إما أن يعفوا ويقبلوا الدية ، وإما أن يطلبوا القصاص ، وهذا باستثناء قتل الغيلة ، فيجب إنفاذ القصاص بالجاني ، وبهذا قال الإمام أحمد ، وهو اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية ، وذهب بعض العلماء إلى عدم الوجوب ، والحق الوجوب وإن عفا أولياء المقتول ، لأن قتل الغيلة يسبب فساداً في الأرض ، فوجب حينئذٍ إقامة حق الله لينكل من توسوس له نفسه بهذا الفعل العظيم .
وقد اختلف العلماء رحمهم الله أيهم أفضل : العفو عن القاتل أم طلب القصاص ؟ . ظاهر القرآن يؤيد القول الأول لقوله تعالى : { فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ } .(1/55)
وذهب بعض العلماء إلى التفصيل في هذه المسألة ، فإن كان القاتل من أهل الخير وأهل الصلاح ولكنه غضب أو سولت له نفسه بهذه القضية ولم يعرف عنه الشر فالعفو في هذه القضية أفضل ، لأنه لا يخشى تكرر هذا من مثل هذا الرجل ، وأما إن كان القاتل معروفاً بالفساد والإفساد ، فالأولى طلب القصاص وعدم العفو عنه ، لأن العفو عن مثل هذا يؤدي إلى إزهاق نفوس أخرى ، وأما قضية المبالغة في طلب الدية فهذه القضية جائزة من حيث الأدلة ، كأن يطلب المرء مثلاً مليوني ريال للعفو ولكن هذه دناءة واعتياض بالمال الفاني عن النفس المؤمنة البريئة ، ولا يُشترط بالعفو أن يعفو جميع أولياء المقتول ، بل لو عفا واحد عتق القتيل حتى الزوجة لها حق العفو وقد قتل رجل في عهد عمر رجل آخر فعفت زوجة المقتول وكانت اختاً للقاتل فقال عمر : الله أكبر عتق القتيل . رواه عبد الرزاق في المصنف ورواته ثقات .
قوله : [ فقال العباس : إلا الإذخر يا رسول الله ] :
الإذخر هو نبت طيب الرائحة يجعلونه في القبور ليمنع تسرب الأتربة ، ويضعونه أيضاً في بيوتهم فيكون وقاية ، ويحصل به أيضاً منافع أخرى من روائح طيبة .
والحديث احتج به طائفة من علماء الأصول على صحة الاستثناء ولو بعد مدة ، لأن النبي صلى الله عليه وسلم حيث قال : « فلا ينفر صيدها ولا يختلى شوكها ولا تحل ساقطتها إلا لمنشد ، ومن قتل له قتيل فهو بخير النظرين » فقال العباس : إلا الإذخر .
وفي هذه المسألة وقع خلاف بين أهل العلم ، فمنهم من جوز الاستثناء ولو بعد سنة ، وهذا مروي عن ابن عباس ، ولا أظن الإسناد يصح إليه ، ومنهم من قال: يصح الاستثناء في المجلس فقط ، ومنهم من قال لا يصح الاستثناء إلا إن كان مرتبطاً بالكلام . والصحيح في هذه القضية أن الاستثناء يصح ما لم يطل الفصل عرفاً .
قوله : « إلا الإذخر » :(1/56)
فيه دليل على صحة ما ذكرنا ، لأنه قد اتصل بالكلام ولم يطل عرفاً ، وفيه أيضاً عرض المفضول رأيه على الفاضل بما تحصل منفعته لجميع المسلمين . والله أعلم.
690- وعن عبد الله بن زيد بن عاصم رضي الله عنه أن رسول الله قال : « إن إبراهيم حرم مكة ودعا لأهلها ، وإني حرمت المدينة كما حرم إبراهيم مكة ، وإني دعوت في صاعها ومُدِّها بمثل ما دعا به إبراهيم لأهل مكة» . متفق عليه .
قال الإمام البخاري رحمه الله : حدثنا موسى قال : حدثنا وهيب ، حدثنا : عمرو بن يحيى عن عباد بن تميم عن عبد الله بن زيد رضي الله عنه .
وقال الإمام مسلم رحمه الله : حدثنا قتيبة بن سعيد قال : حدثنا الدراوردي عن عمرو بن يحيى به .
قوله : « إن إبراهيم حرم مكة » :
تقدم أن الله حرم مكة ، ولا تنافي بين الأمرين ، فإن تحريم إبراهيم لمكة بتحريم الله إياها ، فنسب التحريم إلى إبراهيم ، وإلا فقد حرمها الله جل وعلا منذ خلق الله السماوات والأرض .
ومعنى تحريمها هنا : بأنه لا ينفر صيدها ، ولا يختلى شوكها ، ولا تحل ساقطتها إلا لمنشد ، ولا يحل بها قتال ، ولا يسفك بها دمٌ فمن أحدث بها حدثاً بعد هذا فقد جاءت الأخبار عن النبي صلى الله عليه وسلم بأن عليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين ، لا يقبل منه صرف ولا عدل .
قوله : [ ودعا لأهلها ] :
كما في قوله تعالى : { وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنْ الثَّمَرَاتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ } ، فاستجاب الله جل وعلا دعاء إبراهيم ، فكان يجبى لمكة ثمرات كل شيء مع أن أرضها أرض جبلية غير صالحة للزراعة ، ومع نزولها وهبوطها وشدة حرِّها إلا أن الله يرزقهم من ثمرات كل شيء كما قال تعالى : { رِحْلَةَ الشِّتَاءِ وَالصَّيْفِ (2) } ، فإنهم كانوا يرحلون رحلتين : رحلة في الشتاء ورحلة في الصيف ، يجلبون لمكة ما يحتاجون لمعاشهم .
قوله : « وإني حرَّمت المدينة » :(1/57)
وتحريم المدينة بألا يقطع شجرها ولا يحدث بها حدث ، ولا يقتل صيدها ، إلا أن صيد المدينة لا جزاء فيه بخلاف صيد مكة ففيه الجزاء ، والسبب في كون النبي صلى الله عليه وسلم حرم المدينة لأنها صارت بلاد مُهاجره بعدما أخرج من مكة وكانت أحب البقاع إليه وهي أحب البقاع إلى الله وقد جاء في الصحيحين من حديث هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة قالت : لما قدم النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة أصابتهم الحمى ، ووعك بلال وأبو بكر الصديق ... الحديث ، وفيه : فدعا النبي صلى الله عليه وسلم فقال : « اللهم حبب إلينا المدينة كحبنا مكة أو أشد اللهم بارك لنا في مُدنا وصاعنا ، وانقل حمّاها إلى الجحفة ».
قوله : « كما حرَّم إبراهيم مكة ، وإني دعوت في صاعها ومدها بمثل ما دعا به إبراهيم لأهل مكة » :
دعا النبي صلى الله عليه وسلم لأهل المدينة بأن يبارك الله لهم في مُدهم وصاعهم ، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم : « والمدينة خير لهم لو كانوا يعلمون » ، أي خير لهم في أمور دينهم ودنياهم . ومن ثم جاء عند الإمام أحمد والترمذي من حديث أيوب عن نافع عن ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : « من استطاع منكم أن يموت بالمدينة فليمت بها ، فإني أكون له شفيعاً يوم القيام ».
وفي الحديث دليل على حب النبي صلى الله عليه وسلم للمدينة حيث دعا لأهلها . وفيه دليل على فضل المدينة . وفيه دليل على بركة النبي صلى الله عليه وسلم حيث لما سكن المدينة تغيرت بعدما كانت أرض الوباء لا خير فيها ، فصارت أرض هجرة وأرض دين وأرض عقيدة ، وإلا فكان سكانها قِلة وقل ما يسكنها أحد إلا أصيب بالحمى ، حتى إن الصحابة رضي الله عنهم حين قدموها أصيبوا بالحمى وكان بلال يبكي وينشد :
ألا ليت شعري هل أبيتن ليلة بوادي وحولي اذخر وجليلُ
وهل أردنْ يوماً مياه مجنة وهل يبدونْ لي شامة وطفيل
وكان أبو بكر يوعك من شدة حماها فيرفع عقيرته ويقول :(1/58)
كل امرءٍ مصبح في أهله والموت أدنى من شراك نعله
حتى أعلم النبي صلى الله عليه وسلم بخبرهما فدعا لها . والحديث في الصحيحين
691- وعن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال : قال رسول الله : « المدينة حرامُ ما بين عير إلى ثور » .
هذا الخبر اقتصر المؤلف رحمه الله في عزوه للإمام مسلم ، والخبر أخرجه الإمام البخاري رحمه الله في صحيحه فقال : حدثنا قتيبة بن سعيد قال : حدثنا جرير عن الأعمش التيمي عن أبيه عن علي رضي الله عنه .
وقال مسلم رحمه الله : حدثنا أبو كريب قال : حدثنا جرير عن الأعمش به .
وجاء في الصحيحين من حديث الزهري عن سعيد بن المسيب عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : « ما بين لابتيها حرام » .
وحديث الباب يدل على تحديد حدود المدينة النبوية وأنها محرمة من عير إلى ثور، وهما جبلان معروفان عند أهل المدينة ، وقد أنكر بعض أهل العلم أن يوجد جبل في المدينة يسمى بـ ( ثور ) وإنما هذا الجبل يوجد في مكة ، وفي هذا نظر . فإن ثوراً يعرفه أهل المدينة ، وهو موجود بقرب جبل أحد كما ذكر ذلك غير واحد من أهل العلم رحمهم الله ، فما بين عير إلى ثور حرام يحرم فيه إحداث حدث ، يحرم فيه الصيد فقال : « ومن أحدث فيها ـ يعني المدينة ـ حدثاً فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين » . متفق على صحته . إلا ان هناك فرقاً بين حرم مكة وحرم المدينة يتضح هذا بأمور : -
الأمر الأول : أن لقطة مكة لا يتملكها المرء بالتعريف ، بخلاف المدينة فإنه يعرفها سنة ثم يمتلكها ، فإن جاء صاحبها يوماً من الدهر دفعها إليه .
الأمر الثاني : أن صيد مكة فيه جزاء ، بخلاف المدينة .
الأمر الثالث : أن من رأى رجلاً يصيد في المدينة حل له سلبه في أصح قولي العلماء ، كما جاء هذا مصرحاً به في حديث سعد عند الإمام مسلم في صحيحه وهذا خلاف مكة .
باب صفة الحج ودخول مكة(1/59)
اعلم أن أشمل حديث ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم في صفة حجه هو حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنهما فإنه منسك كامل في بيان هذا الأمر خصوصاً إذا جمعت رواياته بعضها إلى بعض ، فقد عُني جابر بن عبد الله رضي الله عنهما في حجة النبي صلى الله عليه وسلم فنقل في هذا الحج معظم أفعاله من خروجه إلى رجوعه.
692- وعن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حج فخرجنا معه ، حتى إذا أتينا ذا الحليفة ، فولدت أسماء بنت عميس فقال : « اغتسلي واستثفري بثوب وأحرمي ... » الحديث .
هذا الخبر من أفراد مسلم دون البخاري رحمهما الله . قال الإمام مسلم رحمه الله : حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة قال : حدثنا حاتم بن إسماعيل عن جعفر بن محمد عن أبيه عن جابر بن عبد الله به . ورواه أحمد وأبو داود والنسائي وابن ماجه وصححه ابن خزيمة .
قوله : [ أن رسول الله حج ] :
تقدم عندنا أنه لم يثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه حج قبل الهجرة ولا بعدها إلا حجة الوداع ، وقد كانت حجة النبي صلى الله عليه وسلم في السنة العاشرة ، وقد فرض الحج على القول الراجح في السنة التاسعة وفيها بعث النبي صلى الله عليه وسلم أبا بكر وعلياً في الحج وأمرهما أن يقرءا على الناس سورة براءة وأنه لا يحج بعد هذا العام مشرك ولا يطوف بالبيت عريان .
قوله : [ فخرجنا معه ] :
فيه استحباب صحبة العلماء وأهل الفضل في الأسفار للاستفادة منهم والتخلق بأخلاقهم والتأدب بآدابهم وكسب الخصال الطيبة منهم والتعلم على أيديهم .
قوله : [ حتى إذا أتينا ذا الحليفة ] :(1/60)
وهو موضع إحرام النبي صلى الله عليه وسلم ، ويسمى بالعقيق ، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم عن العيق بأنه وادي مبارك ، وقد أمر الله نبيه أن يصلى بهذا الوادي وأن يحرم منه قارناً كما جاء هذا في صحيح الإمام البخاري رحمه الله . وذو الحليفة هو أبعد المواقيت عن مكة ، ويليه في البعد الجحفة ، ويليه يلملم ويليه قرن المنازل .
قوله : [ فولدت أسماء بنت عميس ] :
وهي زوجة أبي بكر الصديق وقد ولدت له محمداً ، وكانت من قبل تحت جعفر بن أبي طالب ذي الجناحين الذي قتل في غزوة مؤتة في السنة الثامنة للهجرة حين أخذ الراية بيمينه فقطعت يمينه ، فأخذ الراية بشماله فقطعت شماله ، فأخذ الراية بين ثدييه فقتل رضي الله عنه وأرضاه ، وكان قبل ذلك قد عقر جواده حتى لا ينتفع به المشركون وحتى يقاتل حتى الموت ، فهو أول رجل مسلم عقر جواده في سبيل الله . فلما قتل جعفر تزوجت أسماء أبا بكر، وكان يُضرب بها المثل في الجمال حتى قيل فيها أنها من أجمل نساء العرب ، فلما توفي أبو بكر تزوجها علي بن أبي طالب رضي الله عنه .
وهذا هو أول العهد بأسماء وآخره ، فليس في الحديث ذكر لأسماء بعد هذا ، فلم يذكر لنا جابر بن عبد الله ماذا صنعت فيما بعد هل طهرت قبل طواف الإفاضة فطافت مع الناس ؟ ، أم أنها بقيت على نفاسها ؟ وهل أذن لها النبي صلى الله عليه وسلم أن تطوف وهي نفساء من باب الحاجة ؟ أم أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر أحد محارمها أن يبقى معها حتى تطهر ؟ . كل هذا مسكوت عنه .(1/61)
وجميع طرق الحديث لم تتكلم عن هذه القضية مع حاجة الأمة إليها ، فلو جاء خبر عن حال أسماء لكان قاطعاً لتنازع المتنازعين في حكم طواف الحائض للإفاضة إذا خشيت فوات الرفقة ، فقد بحث هذه القضية شيخ الإسلام بن تيمية بالفتاوى ، وبحثها أيضاً تلميذه الإمام العالم ابن القيم رحمه الله وذلك في (إعلام الموقعين) فتوصل كل منهما في بحثه إلى أن الحائض تطوف بعد أن تستثفر بثوب ونحوه من باب المصلحة والحاجة ، فلو أمرناها بالبقاء دون رفقتها لحصل بسبب ذلك فساد كبير ربما من انتهاك الأعراض وما شابه ذلك ، وإذا أمرناها أن تذهب بدون طواف فقد أمرناها أن تبقى محرمة أبد الدهر ، ولا يأتي شرع بهذا ، فلا يبقى إلا ان تستثفر بثوب وتطوف حائضاً ، ولكن في زماننا هذا ربما يكون الأمر أسهل فإذا لم يأذن رفقتها بالبقاء تذهب معهم وترجع إن تيسر لها هذا بعد الطهر فتطوف بالبيت ، وإذا لم يتيسر فليس هناك بُد من القول بما قاله شيخ الإسلام رحمه الله تعالى .
قوله : « اغتسلي » :
هذا الأمر للاستحباب ، لأن الغسل لا يطهرها ، وقد نقل الإمام ابن المنذر رحمه الله الإجماع على هذا ، ولكن جاء عن الحسن البصري خلاف في هذا . ورجح الإمام أبو محمد بن حزم رحمه الله وجوب الغسل على النفساء خاصة ، وهذا هو اللائق بظاهريته ، فلو وجب الغسل على النفساء لكان على الطاهرة من باب أولى ، ولكنه رحمه الله أخذ بالظاهر ولم ينظر إلى المعنى الحقيقي ، فوقع بهذا الغلط . وقد تقدم عندنا بحث قضية الغسل وما قيل في ذلك وما جاء فيه من الآثار .
قوله : [ فلما استوت به على البيداء أهل بالتوحيد ] :
وهذا دليل القائلين في مشروعية الإهلال من البيداء ، ولكن ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم أهل قبل البيداء ، وتقدم عندنا حديث ابن عمر في الصحيحين أنه قال : بيداؤكم التي تكذبون فيها على رسول الله ، ما أهل رسول الله إلا من عند المسجد . متفق عليه .(1/62)
وقد تقدم بحث هذه القضية وأن الراجح : مشروعية الإهلال من عند المسجد وهذه هي السنة الثابتة ، وأكثر الآثار تدل على هذا .
قوله : [ أهل بالتوحيد ] :
فيه مشروعية الجهر بالإهلال وأما نية الدخول بالنسك فذلك ركن من أركان الحج أو العمرة .
قوله : [ لبيك اللهم لبيك ، لبيك لا شريك لك لبيك ، إن الحمد والنعمة لك والملك ، لا شريك لك ] :
هذه التلبية تشتمل على الانقياد لأوامر الله والإذعان لذلك وتشتمل على توحيد الباري ونفي الشريك عنه ، خلافاً للمشركين الذين يقولون في تلبيتهم : لبيك اللهم لبيك ، لبيك لا شريك لك لبيك ، إلا شريكٌ هو لك تملكه وما ملك . فهذا معنى قول الله جل وعلا : { وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ (106) } يؤمنون بقولهم : لبيك اللهم لبيك ، لبيك لا شريك لك لبيك ، ثم يثبتون بأن له شريكاً : بقولهم ( إلا شريك هو لك تملكه وماملك ) .
قوله : [ حتى إذا أتينا البيت استلم الركن ] :
فيه مشروعية استلام الركن ، والأفضل تقبيله إن تيسر هذا ، وإن لم يتيسر فالأفضل استلامه ، وإن لم يتيسر فالإشارة إليه ، وأما السجود عليه فقد ورد بذلك حديث عمر ، رواه أحمد وغيره . وفيه اضطراب ولا يصح .
قوله : [ فرمل ثلاثاً ] :
وهو مستحب بالاتفاق ، والرمل هو مقاربة الخطى ، لما هو فوق المشي ودون السعي الشديد ، والمستحب في الرمل أن يكون في الثلاثة الأُول ، ولا يكون إلا في طواف القدوم .
قوله : [ ومشى أربعاً ] :
وهذه هي السنة ، وأما ما يفعله بعض الناس من الرمل في السبعة كلها فهذا غلط وهناك طائفة أخرى ذكروا أنه مطلق وهذا غلط أيضاً ، والسنة في هذه القضية ما دل عليه هذا الخبر .
قوله : [ ثم أتى مقام إبراهيم فصلى ] :(1/63)
أي صلى ركعتين ، فقد جاء في صحيح الإمام مسلم أنه صلى في الأولى بـ { قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ } والثانية بـ { قُلْ يَاأَيُّهَا الْكَافِرُونَ } ، وفي رواية : قرأ في الأولى : { قُلْ يَاأَيُّهَا الْكَافِرُونَ } والثانية : { قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ } .
ولا يلزم أداء هاتين الركعتين خلف المقام ، فلو صلاهما في أي مكان من الحرم أو خارجه صح هذا ، وقد اختلف العلماء في حكم هاتين الركعتين ، فذهب جماهير العلماء إلى إنها مستحبة ، وذهب الإمام أبو حنيفة إلى إيجابها ومال إليه العلامة ابن مفلح رحمه الله في ( الفروع ) ، والحكمة بتخصيص هاتين السورتين بهاتين الركعتين ليتذكر الطائف أن الطواف وهذه العبادة ليست لهذه الأحجار إنما هي لله الواحد القهار ، فلو لم يأمرنا ربنا جل وعلا في الطواف بهذا البيت ما طفنا به ولا تعبدنا الله به .
قوله : [ ثم رجع إلى الركن فاستلمه ، ثم خرج من الباب إلى الصفا ] :
فيه استحباب استلام الركن بعد صلاة ركعتين خلف المقام .
وفيه مشروعية الخروج إلى الصفا من بابه .
قوله : [ فلما دنا من الصفا قرأ : { إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ } :
استحب بعض أهل العلم قراءة هذه الآية عند الدنو من الصفا ، والذي يظهر والعلم عند الله أن النبي صلى الله عليه وسلم إنما قرأها من أجل التعليم كما قرأ عند المقام : { وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى } ، فنلاحظ على بعض الناس أنهم يقرأون : { إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ... } الآية . ويعتقدون سنية هذا ، ولهم سلف في هذه القضية ، ولكنهم لا يقرأون : { وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى } عند المقام وقد جاءت قراءة هاتين الآيتين في حديث واحد ، فإما التزام قراءتهما معاً وإما تركهما معاً إلا عند انعقاد السبب من أجل التعليم ، وهذا هو الذي يظهر دليله. والعلم عند الله .
قوله : « أبدأ بما بدأ الله به » :(1/64)
هكذا جاء في مسلم بلفظ الخبر ، وقد رواه النسائي رحمه الله بلفظ الأمر ، وهي رواية شاذة ، وقد رجح أكثر الحفاظ رواية الخبر . فقد اتفق حاتم ابن إسماعيل ووهيب ومالك وسفيان على روايته بلفظ الخبر وهو الذي رجحه الإمام ابن التركماني رحمه الله في ( الجوهر النقي ) .
قوله : [ فرقى الصفا حتى رأى البيت فاستقبل القبلة ، فوحد الله وكبره ] :
فيه استحباب رفع اليدين عند الصعود على الصفا ، وصفة رفعهما كصفة رفعهما عند الدعاء ، ويستحب حينئذٍ التكبير والتحميد كما في حديث أبي هريرة عند أبي داود ، ويستحب التهليل أيضاً وأن يقول : لا إله إلا الله وحده لا شريك له له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير ، لا إله إلا الله وحده ، أنجز وعده ونصر عبده وهزم الأحزاب وحده . وذلك في قول الله جل وعلا : { يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَاءَتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا وَجُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا وَكَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرًا(9) إِذْ جَاءُوكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَإِذْ زَاغَتْ الْأَبْصَارُ وَبَلَغَتْ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَ(10) هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالًا شَدِيدًا(11) } .
ويستحب الدعاء فيما بين ذلك ، والمستحب في الدعاء إخفاؤه ، وأما الذكر فالمستحب الجهر به كما هو مفهوم هذا الخبر ، وصفة فعل هذا أن يذكر الله أولاً ثم يدعو ثم يذكر الله ثانياً ثم يدعو ثم يذكر الله ثالثاً ثم ينزل من الصفا لقوله في الحديث : [ ثم دعا بين ذلك ] فيكون الذكر ثلاثاً والدعاء مرتين ، وهذا التوضيح يفهم من سياق الأحاديث والعلم عند الله .
قوله : [ ثم نزل إلى المروة حتى إذا انصبت قدماه في بطن الوادي سعى ] :(1/65)
المراد حتى إذا وصل المكان المنخفض وهو ما بين العلمين الآن فقد كان وادياً إلى عهد قريب سعى النبي صلى الله عليه وسلم بهذا الوادي ، والسعي هو المشي الشديد وهو سنة ، وقيل واجب ، وفيه نظر .
وذكر القاضي عياض وغيره أنه يرمل رملاً ، وقد وقع في بعض طرق الحديث: حتى إذا انصبت قدماه في بطن الوادي رمل ، وقد جاء في المسند من حديث حبيبة بنت تجزاة أنها رأت النبي صلى الله عليه وسلم يسعى والناس حوله فرأت ركبته من شدة السعي يدور به إزاره . أي من شدة السعي ، ولكن في هذا الحديث مقال وضعف يسير .
قوله : [ حتى إذا صعدتا مشى ] :
أي حتى إذا صعد الوادي وهو المكان المنخفض مشى حتى أتيى المروة ، وحينئذ فعل النبي صلى الله عليه وسلم من الذكر والدعاء كما فعل على الصفا .
وقد أجمع العلماء على أن السعي بين الصفا والمروة سبعة أشواط الذهاب سعيه والرجوع سعيه أخرى ، واتفقوا على أن يبدأ من الصفى وينتهي بالمروة .
قوله : [ فلما كان يوم التروية ] :
سمي بهذا الاسم لأن الناس يروون فيه الماء، وهو اليوم الثامن من شهر ذي الحجة.
قوله : [ توجهوا إلى منى ] :
أي محرمين ، والسنة للحجاج أن يحرموا من أماكنهم ، فإن كانوا نازلين في الأبطح يحرمون قبل الزوال من الأبطح ثم يذهبون إلى منى ، وإن كانوا ساكنين في منى فيحرمون من أماكنهم ، وقد قال بعض الفقهاء كما في ( الروض المربع ) : يحرم من مكة تحت الميزاب ، وهذا غلط وبدعة ، فلم يذكر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه أحرم من عند الميزاب ولا عُهد هذا عن أحد من الصحابة ولا فعله أحدٌ من التابعين ، وقد أحسن القائل :
وخير الأمور السالفات على الهدى وشر المحدثات البدائع
قوله : [ وركب النبي صلى الله عليه وسلم فصلى بها الظهر والعصر والمغرب والعشاء والفجر ] :(1/66)
أي صلى كل صلاة في وقتها قصراً لا جمعاً ، لأن الجمع للحاجة بخلاف القصر فإنه للسفر ، فلا تلازم بين السفر والجمع ، ولكن هناك تلازم بين القصر والسفر ، فالمسافر يقصر الصلاة ولكن لا يجمع إلا عند الحاجة ، والجمع يشرع مع انعقاد سببه في الحضر والسفر ، فقد جمع النبي صلى الله عليه وسلم في السفر بين الظهر والعصر وبين المغرب والعشاء للحاجة ، وأما الفجر فلا يجمع معها غيرها بالإجماع .
قوله : [ حتى طلعت الشمس ] :
أي لم يدفع من منى إلى عرفات حتى طلعت الشمس ، وهذه السنة خلافاً لبعض الجهال الذين يذهبون إلى عرفات في ليلتها ، وهذا غلط وخلاف السنة .
قوله : [ فأجاز حتى أتى عرفة فوجد القبة قد ضربت له بنمرة ] :
المراد حتى توجه إلى عرفات ولم يدخلها ، وإنما قصد طريقها لأن النبي صلى الله عليه وسلم وجد القبة قد ضربت له بنمرة ، ونمرة مشعرٌ وليست من الحرم ، وكون القبة ضربت للنبي في نمرة فيه دليل على جواز الاستظلال في الخيام وما كان في معناها ، إلا أن المحرم لا يجعل شيئاً يلاصق رأسه ، لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال : « لا يلبس المحرم البرانس ». والحديث في الصحيحين من حديث ابن عمر .
فيستحب للحاج أن يجلس في نمرة إلى زوال الشمس إن تيسر له هذا ، فإن لم يتيسر له فلا مانع من الذهاب إلى عرفات قبل الزوال وإلا فالسنة أن لا يذهب إلى عرفات إلا بعد جمع الظهر مع العصر ، فهذا فعل النبي صلى الله عليه وسلم وفعل خلفائه معه ، وقد قال تعالى : { لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ } .(1/67)
وقد ذهب الإمام أحمد في إحداى الروايتين إلى أن الوقوف بعرفات لا يبتدئ ولا يصح إلا من بعد الزوال ، فلو أن امرءاً ( عند الإمام أحمد ) وقف بعرفات من الفجر إلى قبيل الزوال ثم دفع ما صح حجه حتى يقف ولو قليلاً بعد الزوال . وهذا قول أكثر أهل العلم أبي حنيفة ومالك والشافعي، وذهب أحمد في رواية عنه إلى أن الوقوف يصح قبل الزوال مستدلاً بحديث عروة بن مُضرس . وسوف يأتي إن شاء الله الكلام عن هذه المسألة .
قوله : [ حتى أتى بطن الوادي ] :
أي حتى أتى بطن عرنة يوجد فيها الآن بعض المسجد الذي بعرفات أتى النبي صلى الله عليه وسلم هذا الوادي ليخطب فيه ، وقد خطب النبي صلى الله عليه وسلم خطبة جامعة ذكرهم فيها بربهم وأوصاهم فيها بالنساء خيراً وعلمهم ما يحتاجون إليه من المناسك .
فيشرع للخطيب أن يعلم الناس بهذه الخطبة أمور دينهم وما يغلب على ظنه أنهم يجهلونه ، خصوصاً المسائل المتعلقة بالتوحيد فإن حاجة الناس إلى التوحيد فوق حاجتهم إلى تقرير بعض المسائل ، وفي كل خير ولكن التوحيد أعظم . والسنة للخطيب أن يخطب خطبة واحدة ، وقد استحب فقهاء الشافعية خطبتين ، والقول الأول أصح .
قوله : [ ثم أذن ثم أقام فصلى الظهر ] :
فيه استحباب جمع العصر مع الظهر في عرفات ، وهذا الجمع مما أجمع عليه المسلمون ، والمستحب في هذه الصلاة مخافتة القراءة فيها ، والحكمة بجمع العصر مع الظهر في هذا المقام ليطول وقت الوقوف ليتضرع العبد لله جل وعلا .
وفي جمع النبي صلى الله عليه وسلم بعرفات بين هاتين الصلاتين دليل على مشروعية الجمع للحاجة ، وقد زعم أبو حنيفة رحمه الله أن جمع النبي صلى الله عليه وسلم هنا من أجل النسك لا من أجل السفر فتعقبه شيخ الإسلام في الفتاوى ورجح أن الجمع بين الصلاتين في عرفات من أجل السفر لا من أجل النسك ، وهو قول جماهير العلماء .
وفي الحديث دليل أيضاً على مشروعية أذان واحد لكل الصلاتين .(1/68)
وفيه مشروعية الإقامة لكل صلاة ، وهذا هو الذي فعله النبي صلى الله عليه وسلم في مزدلفة كما جاء في حديث جعفر بن محمد عن أبيه عن جابر في صحيح مسلم .
قوله : [ ولم يُصلِّ بينهما شيئاً ] :
وهذا هو المشروع للمسافر ، ومن جمع بين الصلاتين لا يحدث تطوعاً بين الفريضتين لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن يفعل هذا .
قوله : [ ثم ركب حتى أتى الموقف .... واستقبل القبلة ولم يزل واقفاً حتى غربت الشمس ] :
أي فأتى النبي صلى الله عليه وسلم الجبل بعرفات المسمى بجبل الرحمة فاستقبل القبلة ففيه استحباب استقبال القبلة عند الدعاء ، ولا يجب هذا وإنما يستحب ، وأما صعود الجبل فليس بمشروع بل لا أصله ، إنما المشروع الوقوف عنده واستقبال القبلة فلم يزل النبي صلى الله عليه وسلم بهذا اليوم واقفاً على راحلته ففيه استحباب مثل هذا ، لذلك لم يدفع النبي صلى الله عليه وسلم حتى غاب قرص الشمس ، ولذلك أوجب الإمام أحمد هذا الفعل ، وأما الإمام مالك فجعله شرطاً لصحة الحج ، وفي هذا نظر ، والأقرب التوسط ، فلا نقول بقول المالكية بأن الوقوف ليلاً بعرفات شرط لصحة الحج ، ولا نقول بقول جماعة من أهل الظاهر بأن الوقوف إلى الليل مستحب بل نقول : إن الوقوف إلى غياب القرص واجب ويصح الحج بدونه ، وهذا قول الإمام أحمد رحمه الله .
قوله : [ حتى أتى المزدلفة ] :(1/69)
أي ودفع النبي صلى الله عليه وسلم من عرفات بتؤدة وسكينة وهو يأمر الناس: « يا أيها الناس السكينة ، السكينة » وذلك لئلا يؤذي بعضهم بعضاً ويهلك بعضهم بعضاً ، لا ضرر ولا ضرار . حتى وصل إلى مزدلفة فصلى بها المغرب والعشاء ، وهذه هي السنة للقادم إلى مزدلفة ، يبدأ أولاًبصلاة المغرب سواء قدم في أول وقتها أو بوقت العشاء الآخرة أو فيما بين الوقتين ، فإذا صلى المغرب مع العشاء بأذان واحد وإقامتين وهذه هي السنة في هذه المسألة ، وقد قال بعض الفقهاء : يؤذن أذانين ، ويقيم إقامتين وهذا مذهب عبد الله بن مسعود ، وقالت طائفة ثالثة : يؤذن أذاناً واحداً ويقيم إقامة واحدة .
والصحيح في هذه المسألة أنه يؤذن أذاناً واحداً ويقيم لكل صلاة ، ووجود الفاصل بين الصلاتين لا يؤثر ولا تشترط نية الجمع على القول الراجح ، وما ذكره بعض الفقهاء من الاشتراط يحتاج إلى دليل والدليل هنا متعذر .
وهنا بعض المسائل المتعلقة بالجمع : -
المسألة الأولى: ما الحكم إذا خشي فوات الوقت هل يصلى في الطريق أم لا؟.
الجواب : أنه لا مانع من صلاته في الطريق حين يخشى فوات الوقت ، وأما مع عدمه فهذا خلاف السنة ، فإن السنة أن يصلي بالمزدلفة .
المسألة الثانية : إذا قدم المزدلفة فيما بين الوقتين له أن يبادر بأدائهما معاً ، وقد قال بعض أهل العلم : يُصلي المغرب وينتظر دخول وقت العشاء أو يؤخر المغرب إلى دخول وقت العشاء ، وهذا لا دليل عليه وهو خلاف ظاهر الأحاديث . والحق في هذه القضية أنه يبادر بأداء الصلاتين ، سواء قدم فيما بين الوقتين أو غير ذلك .
المسألة الثالثة : الحديث صريح في عدم التنفل فيما بين الصلاتين ، لقوله : [ ولم يسبح ] أي لم يُصل بينهما شيئاً .
قوله : [ ثم اضطجع حتى طلع الفجر ] :(1/70)
ظاهر هذا الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يقم هذه الليلة للتهجد ، وبهذا قال بعض أهل العلم ، فاستحبوا ترك التهجد ليلة المزدلفة ، ولكن جاء في الصحيحين من حديث عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن يدع الوتر ولا ركعتي الصبح لا حضراً ولا سفراً . ويمكن حمل حديث جابر على أحد أمرين : إما أن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما ترك ذكر قيامه للعلم به ، فقد استفاض واشتهر بين الصحابة أن النبي صلى الله عليه وسلم لا يدع قيام الليل والوتر فاستغنى جابر بالشهرة عن الذكر .
الأمر الثاني : أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم أوتر قبل أن ينام ، وكون جابر بن عبد الله ما ذكر هذا لا يعني أنه لم يقع ، فإن نقل العدم ليس علماً ، وعائشة رضي الله عنها تخبر بأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن يدع الوتر ولا ركعتي الفجر لا حضراً ولا سفراً .
ولذلك جاء عن بعض الصحابة رضي الله عنهم أنهم قاموا هذه الليلة كما في حديث أسماء رضي الله عنها في الصحيحين وأنها لم تزل تصلي حتى غاب القمر .
قوله : [ وصلى الفجر حين تبين له الصبح بأذان وإقامة ] :(1/71)
جاء في حديث ابن مسعود في الصحيحين ما يفيد أن النبي صلى الله عليه وسلم بادر بأداء هذه الصلاة في غير الوقت المعتاد ، وذلك ليستقبل يوماً عظيماً من أعظم الأيام ألا وهو يوم النحر ، فيستفتحه بالوقوف عند المشعر الحرام فيدعو ربه ويهلله ويحمده . ولم يرد عن النبي صلى الله عليه وسلم حديث في بيان قراءته في ركعتي الصبح ، ولا نقل ذلك الصحابة إلينا ، ولم يذكروا هل أطال القراءة أم قصرها ؟ كل هذا لم يذكره جابر بن عبد الله ، فلذلك نستطيع أن نقول : إن عدم ذكر جابر بن عبد الله لقراءة النبي صلى الله عليه وسلم ولطولها ولقصرها يدل على أن جابراً لم يذكر كل أفعال النبي صلى الله عليه وسلم وأعماله في الحج ، فمن أخذ من حديث جابر إن ما لم يذكره ليس واجباً ، وليس مستحباً فقد غلط ، وأيضاً من أخذ منه عدم قيام النبي صلى الله عليه وسلم ليلة مزدلفة فهذا فيه نظر ، لأن جابراً أيضاً لم يذكر عن النبي صلى الله عليه وسلم هل صلى ركعتي الفجر أم لا ؟ ولهذا نقول : إن نقل العدم ليس علماً ، فمن نفى تهجد ليلة المزدلفة بحديث جابر فيلزمه أن ينفي ركعتي الفجر ، لأن جابراً لم يذكر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه صلى .
ولذلك نقول الحق في هذه القضية : أن المسلم لا يدع الوتر لا حضراً ولا سفراً ولا يدع ركعتي الفجر ، فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم : « ركعتا الفجر خيرٌ من الدنيا وما فيها » . رواه مسلم من حديث عائشة رضي الله عنها .
قوله : [ ثم ركب حتى أتى المشعر الحرام ] :
وهو جبلٌ صغير كان معروفاً عندهم ويسمى بـ ( قزح ) والآن هدم وأقيم المسجد المعروف مقامه ، فيستحب الوقوف عند المشعر الحرام للدعاء وحمد الله وذكره وتمجيده وتعظيمه ، ويستحب أن يستمر الوقوف إلى الإسفار ، وهل هذا واجب أم مستحب ؟ .(1/72)
الجمهور على استحباب ذلك ، وذهب ابن حزم إلى الوجوب مستدلاً بقول الله تعالى : { فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ } وقال : هذا أمر ، والأمر يفيد الوجوب ، ونحن نقول لأبي محمد : أما كون الأمر يفيد الوجوب فهذا صحيح ، ولكن معنا دليل على أن الأمر في الآية للاستحباب لا للإيجاب ، وهذ الدليل قول النبي صلى الله عليه وسلم حين أتى المزدلفة قال : « وقفت ها هنا ومزدلفة كلها موقف » . رواه مسلم في صحيحه . هذا الدليل الأول .
الدليل الثاني : أن النبي صلى الله عليه وسلم حين وقف عند المشعر الحرام لم يقف معه كل الصحابة ، بل كانوا متفرقين ، فهذا دليل صريح على أن الوقوف عند المشعر الحرام للاستحباب لا للإيجاب ، وإلا لأنكر النبي صلى الله عليه وسلم على الصحابة الذين لم يقفوا عند المشعر الحرام ، وبعض الناس في هذا اليوم ما بين إفراط وتفريط ، ما بين إنسان يدفع بعد صلاة الصبح ليسابق الناس ويصل الأول وهذا غلط وما بين إنسان ينام فلا يستيقظ إلا من حر الشمس وهذا غلط أيضاً وتشبه بالمشركين فإنهم كانوا لا يفيضون كما في حديث عمر عند البخاري رحمه الله حتى تطلع الشمس ويقولون : أشرق ثبير كيما نغير . فخالفهم النبي صلى الله عليه وسلم ودفع حينما أسفر جداً قبل أن تطلع الشمس .
قوله : [ حتى أتى بطن محسر فحرك قليلاً ] :(1/73)
يستحب الإسراع للقادم من المزدلفة إلى منى حين المرور بوادي محسر ، وقد ذكر بعض الفقهاء بأن الحكمة من الإسراع لأنه موطن عذاب وسمي ( محسراً ) لأن الفيل الذي بعثه أبرهة لهدم الكعبة حسر فيه ، وهذا مجرد اجتهاد ، وأما دليل قاطع بالقضية فليس هناك دليل ، بل الحق في هذه المسألة أن الإسراع بودي محسر أمر تعبدي ، والدليل على هذا أنه لا يشرع الإسراع للذاهب ولا يشرع الإسراع لغير القادم من مزدلفة فلو كان على ما ذكروا لشرع الإسراع لكل من مرَّ به ، وهم لا يقولون بهذا ، فعلم أن الإسراع في وادي محسر أمر تعبدي ، وأما كون الفيل حسر فيه فهذا يحتاج إلى دليل ، والدليل هنا متعذر والإسراع هنا مستحب غير واجب ، وأيضاً الإسراع بالنسبة للمشي وليس المعنى أنه يجري جرياً ، إذ قوله في الحديث : [ فحرك قليلاً ] .
ثم إن الفقهاء اختلفوا : هل وادي محسر من منى أم لا ؟
فذهب جماهير العلماء إلى أن وادي محسر برزخ بين منى ومزدلفة ، وليس من منى فعند الجمهور لا يشرع الجلوس فيه وذلك لوجهين : -
الوجه الأول : أنه موطن عذاب .
الوجه الثاني : أنه ليس من منى .
وذهب بعض أهل العلم إلى أن وادي محسر من منى جاء هذا مصرحاً به في صحيح الإمام مسلم في حديث الفضل ، وأما كونه محل عذاب فهذا كما سبق لا بد له من دليل صحيح .
قوله : [ حتى أتى الجمرة ] :(1/74)
أي أتى النبي صلى الله عليه وسلم جمرة العقبة ، وهي أبعد الجمار عن منى وأقربها إلى مكة ، وجمرة العقبة هي آخر منى ، ولذلك كان أمير المؤمنين عمر رضي الله عنه يبعث من ينادي بأن العقبة ليست من منى فكان كل من وراء العقبة يؤمر بالدخول ، والنبي في هذا الحال لم يزل يلبي حتى أتى جمرة العقبة فرماها بسبع حصيات ، وهذه الحصى مثل حصى الخذف ، ليست كبيرة فتوذي الآخرين ، وأيضاً الرمي بالحجار الكبار من الغلو ، وقد حذرنا النبي صلى الله عليه وسلم من الغلو ، وليست أيضاً صغيرة حيث لا يراها الرامي هل وقعت أم لا ؟ . وكان رسول الله يكبر مع كل حصاة وهذا التكبير مستحب غير واجب .
ويلاحظ على بعض الناس أنه يقول : باسم الله ، الله أكبر ، وهذا غلط فالمستحب الاقتصار على التكبير دون التسمية . وهنا بعض المسائل في الرمي : -
المسألة الأولى : ما حكم الرمي بحصى قد رمي فيه ؟ .
الجواب : لا مانع من هذا ، وهو مذهب الإمام الشافعي رحمه الله ، نص عليه كما في ( الأم ) ، وما يرد في بعض الكتب الفقهية خصوصاً كتب الحنابلة بمنع هذا فهذا يحتاج إلى دليل ، علماً بأن فقهاء الحنابلة يقولون معللين بالمنع كالنهي عن الوضوء بالماء الفاضل ـ يعني الذي يفضل ـ فيقال على هذا : إذا بطل الأصل بطل الفرع ، فليس هناك دليل عن النبي صلى الله عليه وسلم ولا عن الصحابة رضي الله عنهم أنهم يمنعون الوضوء بما يفضل من المرء ، فهذا الماء طاهر كما قال النبي صلى الله عليه وسلم : « الماء طهور لا ينجسه شيء » . صححه الإمام أحمد من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه .
وأيضاً لو كان الرمي بالحصى الذي رمي فيه ممنوعاً لبينه النبي صلى الله عليه وسلم فإن الحاجة داعية إلى هذا ، وتأخير البيان عن وقت الحاجة لا يجوز .
المسألة الثانية : يجب الرمي بسبع حصيات فإن نقصن يجب عليه الرجوع لإتمام ما نقص ، وهذا قول الجمهور أيضاً .(1/75)
وأما الأثر الوارد عند النسائي من حديث مجاهد عن سعد قال : منا من رمى بست ، ومنا من رمى بسبع ، ولم يعب بعضنا على بعض . هذا الأثر منقطع ، فإن مجاهداً لم يسمع من سعد ، وقد أنكره الإمام ابن التركماني في الجوهر النقي ، وبين وجوب الرمي بسبع حصيات ، لأن هذا فعل النبي صلى الله عليه وسلم فيجب الاقتداء به .
المسألة الثالثة : يستحب حين الرمي أن يجعل منى عن يمينه ومكة عن يساره، جاء هذا مصرحاً به في الصحيحين من حديث ابن مسعود .
المسألة الرابعة : له رمي جمرة العقبة من أي جهة شاء إذا تأكد وقوع الحصى في موضع الرمي، ولذلك يقال : لو تكاثر الحصى لا مانع من الرمي عليه ، إذ لا يشترط وضعها في نفس الحوض، لأن هذا الحوض لم يكن معروفاً في عهد النبي صلى الله عليه وسلم ولا عهد الصحابة ولا في عهد التابعين ولا في عهد الأئمة الأربعة ، وإنما أحدث أخيراً ، فالمطلوب هو وضع الحصى عند العمود الممتد وهذا ليس خاصاً برمي جمرة العقبة بل بالجمرة الدنيا والوسطى والعقبة أيضاً .
المسألة الخامسة : لا يجزء وضع الحصى وضعاً في المرمى لأن النبي صلى الله عليه وسلم رمى ، فيجب عليك أن ترمي بما يسمى باللغة أو العرف رمياً ، وأما مجرد وضع الحصى فهذا غلط .
المسألة السادسة : ما الحكم لو رمى السبع بقذفة واحدة ؟ .
الحكم أنها تحتسب له واحدة ، فعليه أن يرمي ستاً أخرى ، يرمي كل حصاة على حدة ، وهناك أيضاً بعض المسائل المتعلقة في الرمي سوف نذكرها إن شاء الله فيما بعد .
قوله : [ ثم انصرف إلى المنحر فنحر ] :(1/76)
المستحب في يوم النحر أن يبدأ الحاج أولاً بالرمي ثم يثني بالنحر ، لفعل النبي صلى الله عليه وسلم وقد قال الله تعالى { لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ } ثم يُلث بالحلق وهذا لم يذكره جابر بن عبدالله ولكنه ذكره غيره وتواثر عن النبي صلىا لله عليه وسلم أنه حلق بعدما نحر ثم ربع النبي صلى الله عليه وسلم بالطواف بالبيت ، فلو قدم شيئاً من هذه الأمور على بعض جاز ، سواء كان لعذر أم لغير عذر كما في الصحيحين من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص : أن النبي صلى الله عليه وسلم ما سئل عن شيء قدم أو أخر في هذا اليوم إلا قال افعل ولا حرج .
هذا يدلنا على أن أعمال الحج مبنية على التسامح والتساهل ، قال تعالى : { وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ } ، وكلمة (حَرَجٍ ) نكرة وقعت بعد ( مِنْ ) في سياق النفي ، والنكرة إذا وقعت بعد ( مِنْ ) في سياق النفي تفيد العموم ، وقول النبي صلى الله عليه وسلم : « لا حرج » ربما يقال إن هذا للمعذور ، ومن فعل هذا جهلاً ، ولكن قوله « افعل » تنفي التوهم وتدل على أن التقديم والتأخير يجوز مطلقاً لأنه يشق على الناس الترتيب .
قوله : [ فأفاض إلى البيت ، فصلى بمكة الظهر ] :
هكذا قال جابر رضي الله عنه : أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى الظهر في مكة بينما قال ابن اعمر : أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى الظهر في منى ، وقد جمع بينهما بعض أهل العلم فقال : صلى النبي صلى الله عليه وسلم صلاتين ، أدركته الصلاة بمكة فصلى بهم ، ورجع إلى منى وهم ينتظرونه فصلى بهم ، وذهبت طائفة إلى ترجيح حديث جابر على غيره ، لأن جابراً رضي الله عنه قد عُني بحجة النبي صلى الله عليه وسلم فكان قوله أرجح من قول غيره ، وذهبت طائفة ثالثة إلى ترجيح حديث ابن عمر على حديث جابر لأن أكثر الأخبار على حديث ابن عمر .(1/77)
ولذلك نقول : إن أمكن الجمع بينهما بأن يقال : بأن النبي صلى الله عليه وسلم صلى صلاتين وحدث كل صحابي بما رأى فهذا أمر مطلوب ، فقد قال في (المراقي) :
والجمع مطلوب متى ما أمكنا وإلا فللأخير نسخٌ بيناً
وإلا فكون النبي صلى الله عليه وسلم صلى في منى أرجح لأن الأحاديث في هذا أكثر ، وقد قال في ( المراقي ) :
وكثرة الدليل والرواية مرجحٌ لدى ذوي الدراية
693- وعن خزيمة بن ثابت رضي الله عنه : أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا فرغ من تلبيته في حج أو عمرة سأل الله رضوانه والجنة واستعاذ برحمته من النار .
هذا الخبر رواه الإمام الشافعي والبيهقي والدارقطني والبغوي في شرح السنة كلهم من طريق صالح بن محمد عن عمارة بن خزيمة عن أبيه عن النبي صلى الله عليه وسلم به .
وصالح بن محمد قال عنه الإمام أحمد : ما أرى به بأساً ، ولكن قال عنه الإمام البخاري رحمه الله : منكر الحديث ، وقال عنه النسائي ضعيف ، وضعفه أيضاً الدارقطني وغيره . وقال أيضاً الإمام أبو محمد بن حزم في عمارة بن خزيمة بأنه مجهول ولا يدرى من هو ، وفي هذا نظر . فقد وثقه الإمام النسائي ولم يطعن فيه أحد ، وروى عنه جمع من الثقات ، ووثقه العجلي ، وذكره ابن حبان في ثقاته، وقال عنه ابن سعد : كان ثقة قليل الحديث ، فمثله أقل ما يقال عنه بأنه صدوق .(1/78)
والخلاصة : أن الخبر إسناده ضعيف لحال صالح بن محمد ، فإذا ثبت ضعفه فلا يشرع العمل به ، لأن الله جل وعلا إنما تعبدنا بالأحاديث الصحاح دون الضعاف ، ولكن لا ريب أن الله جل وعلا شرع لنا الاستغفار عقب الأعمال الصالحة ، كما في قول الله جل وعلا : { إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ (1) وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا (2) فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا (3) } . وقد كان رسول الله يستغفر ثلاثاً عقب كل صلاة مفروضة . رواه الإمام مسلم من حديث عائشة رضي الله عنها .
694- وعن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال : قال رسول الله : «نحرت ها هنا ومنى كلها منحر ، فانحروا في رحالكم ، ووقفت ها هنا وعرفة كلها موقف ، ووقفت ها هنا وجمع كلها موقف » . رواه مسلم .
قال الإمام مسلم رحمه الله : حدثنا عمر بن حفص بن غياث قال : حدثنا أبي عن جعفر بن محمد قال : حدثني أبي عن جابر بن عبد الله به .
ورواه أبو داود عن الإمام أحمد بن حنبل قال : حدثنا يحيى بن سعيد عن جعفر بن محمد به ، ورواه ابن ماجه في سننه من طريق وكيع قال : حدثنا أسامة بن زيد عن عطاء عن جابر : أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : « منى كلها منحر، وكل فجاج مكة طريق ومنحر » .
قوله : « نحرت ها هنا ومنى كلها منحر » :
أي فلا أفضلية لموضع دون موضع ، وقد ذهب جماهير العلماء إلىأن النحر يصح في جميع الحرم ، لقوله في رواية ابن ماجه : « وكل فجاج مكة طريق ومنحر » ولقول الله جل وعلا : { هَدْيًا بَالِغَ الْكَعْبَةِ } ، وقال تعالى : { فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنْ الْهَدْيِ } أي في الحرم ، فليس النحر خاصاً بمنى ، بل قال الحبر عبد الله بن عباس : كان النحر بمكة فنزهت عن الدماء فصار في منى . وهذا إسناده صحيح إلى ابن عباس .(1/79)