شرح الأربعين
في
التربية والمنهج
مقدمة
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته. الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين أما بعد:
أيها الإخوة الأكارم الله أسأل بأسمائه الحسنى وصفاته العلا أن يرزقنا جميعًا العلم النافع والعمل الصالح، وأن يجعل علمنا وعملنا خالصًا لوجهه الكريم وفق سنة نبيه الكريم - صلى الله عليه وسلم - سيكون الكلام كما هو معلوم عن شرح أربعين حديثًا مختارة من كلام النبي - صلى الله عليه وسلم - وقبل التعليق إن صحت العبارة أذكر بين يدي هذا الدرس مقدمات.
المقدمة الأولى: أن طرق أهل العلم قد تنوعت في تصانيفهم، فتصانيف مطولة، وتصانيف مختصرة، ومن أنواع التصنيف جمع المتفرق أو تفريق المجتمع، أو جمع النظائر، والكتب، أو كتب أهل العلم في غالبها لا تخرج من هذه التقاسيم وما ذكره أهل العلم فيما يتعلق بتقسيم أو بأنواع التصنيف.
المقدمة الثانية: التصنيف في الأربعينات اختيار أربعين حديثًا، هذا الفن قد كتب فيه كثير من أهل العلم، وتنوعت تصانيفهم فيه، فهناك أربعون حديثًا متعلقة بمتن الحديث كأن يكون المتن في موضوع معين، ومن ذلك الأربعون في الحث على اصطناع المعروف للمنذري، ومن ذلك الأربعون في الحث على الجهاد وفضله لابن كثير، ومن ذلك الأربعون في التوحيد للهروي، ومن ذلك الأربعون في السنة للإمام الذهبي، وقد تكون الأربعون في قواعد الإسلام وكلياته، والكتاب المشهور في هذا الأربعون النووية.(1/1)
وقد تكون الأربعون مصنفة فيما يتعلق بعلم الإسناد، علم الرواية، الأول علم الدراية، علم الرواية: كأن يتقصى المؤلف أسانيد معينة كما فعل الدارقطني في الأربعين التي صنفها في أحاديث بريدة أو بريد بن أبي بردة بن أبي موسى الأشعري فيما يرويه عن جده أبي موسى الأشعري رضي الله تعالى عنه، انتقى الدارقطني أربعين حديثًا رواها وأفردها في مصنف، قد يكون أيضًا من أنواع الأربعين في السند ما ألفه بعضهم في الأربعين العُشارية، الإسناد من عشرة رجال، أو السباعية من سبعة رجال.
المقدمة الثالثة: سبب اختيار عدد الأربعين، القول في هذا على حديث اشتُهر أن من حفظ على أمتي أربعين حديثًا كنت له شفيعًا يوم القيامة، أو بعثه الله فقيها يعني يؤجر أجر الفقهاء، هذا الحديث هو السبب الرئيس في تصنيف كثير من المحدثين لمؤلفات خاصة بالأربعين، لكن هذا الحديث على كثرة طرقة ومخارجه، إلا أنه ضعيف من جميع طرقه، وقد ضعفه أو حكم عليه بالضعف مع كثرة طرقة أئمة فحول، كالإمام ابن حجر، والإمام النووي والدارقطني قبلهما، ومن سواهم.
وهنا يتبين أن كلام أهل العلم أن الحديث إذا روي من طرق متكاثرة بأنه يرتقي إلى درجة الاحتجاج ليس على إطلاقه؛ فقد بين ابن الصلاح وغيره أن ذلك مشروط بما إذا لم تكن الطرق ضعيفة جدًّا، وهذا الحديث ومثَّل به أهل العلم وأظن أن ابن الصلاح مثل به، أنه لا يصح على كثرة طرقه أن يرتقي لشدة الضعف.(1/2)
وأيضًا التمس بعضهم حججًا في التصنيف في الأربعين وقال بأن هذا الرقم له تميز، وقد جاء في ميقات موسى: { فَتَمَّ مِيقَاتُ رَبِّهِ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً } (1) { حَتَّى إِذَا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ } (2) وجاء أن نصاب الغنم أربعين، ولكن هذا لا يعرج عليه، إنما العمدة في ذلك الحديث، ولهذا الإمام النووي رحمه الله تعالى عندما ألف الأربعين قال وهذا الحديث لا يصح من جميع طرقه، وإن كان أهل العلم يترخص بعضهم في الاحتجاج بمثل هذه الأحاديث في فضائل الأعمال، إلا أني -يعني النووي رحمه الله تعالى- إنما صنفت هذه الأربعين لحديث: " نضر الله امرأ سمع مقالتي فأداها كما سمعها " .
المقدمة الرابعة: أن مرادي ومسلكي في هذا الدرس بالتربية والمنهج كما هو مذكور أن التربية متعلقة بالعبد مع جوارحه ونفسه، وخاصة نفسه، أما المنهج فمع تعامله مع الناس سواء الموافقين أو من وافق أو من خالف.
المقدمة الخامسة: طريقتي في هذا المجلس العلمي أو في هذا الدرس أن أذكر تعاليق وفوائد يسيرة؛ لأن أهل العلم كما ورد أو كما جاء في الخبر في الحديث ما ترك لنا عاقل من رباع قد أفاضوا -رحمهم الله تعالى- وأجادوا في شروح هذه الأحاديث وغيرها، بل إن بعض أهل العلم قد أفرد مصنفات مستقلة في شرح أحاديث كل مصنف متعلق بحديث، ولأن الوقت قصير سيكون التعليق يسيرًا، لكن الشاهد والقصد من التعليق هو أن يربط دعاة أن تكون الوقفات خاصة مع دعاة الخير لأنهم قدوة الناس، فإذا كان القدوة على بصيرة من أمرهم انتفعوا وانتفع الناس بهم، وسنسمع متن كل حديث ثم أذكر ما يسر الله وما فتح الله.
الحديث الأول: إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى
بسم الله الرحمن الرحيم. الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، قال رحمه الله تعالى:
__________
(1) - سورة الأعراف آية : 142.
(2) - سورة الأحقاف آية : 15.(1/3)
عن عمر بن الخطاب -رضي الله تعالى عنه- قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - " إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى، فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله، ومن كانت هجرته إلى دنيا يصيبها أو امرأة يتزوجها فهجرته إلى ما هاجر إليه " متفق عليه.
ــــــــــــ
هذا الحديث من أشهر الأحاديث، وقد اتفق العلماء على صحته وقبوله، وأفرده بعضهم بمصنفات مستقلة لعظيم شأنه وجليل خطره، بل عده بعضهم ثلث الإسلام، وعده بعضهم ربع الإسلام، بل قد قال ابن مهدي -رحمه الله تعالى- في فضل أو في شأن هذا الحديث: "أرى أن كل من صنف مصنفًا أن يبدأ بحديث النيات" يعني بذلك هذا الحديث، وأهل العلم قد سلكوا هذا المسلك، فصدر كثير منهم مصنفه بهذا الحديث، وعلى رأس أولئك الإمام البخاري -رحمه الله تعالى- في صحيحه.
ولهذا الحديث من باب الفائدة قصة يحسن أن تذكر ليعلم خبرها. ذكر بعض أهل العلم أن رجلًا يكنى أو رجلًا هاجر من مكة إلى المدينة بقصد أن يتزوج امرأة تكنى بأم قيس، فسمي مهاجر أم قيس، ولأجله جاء هذا الحديث، والصحيح والتحقيق أنه لا علاقة لهذا الرجل بهذا الحديث، وعلى قول من قال بأن ذلك الرجل هو سبب الحديث فالعبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، قوله - صلى الله عليه وسلم - إنما، "إنما" هنا أداة حصر، وفي اللغة أساليب للحصر ومن أشهرها "إنما"، أي إنما كل عمل بنية، لا عمل إلا بنية، ولهذا لا يتصور أن يعمل إنسان عملًا بلا نية، بخلاف المجنون، وبخلاف النائم، وبخلاف الصغير الذي لا يفقه، هؤلاء يتصرفون تصرفات لا تحكمهم نية، ولا مقصد لهم.
............................................................................. ـــــــــــــــ(1/4)
إنما الأعمال بالنيات، اعتبار النية في جميع الأعمال، وإنما لكل امرئ ما نوى، فيه كمال عدل الله جل وعلا، فيه كمال عدل الله، لكل امرئ ما نوى يعطي الله من يشاء بفضله، ويمنع من يشاء بعدله، ولا يظلم ربنا أحدًا، ولهذا من ما جاء في القرآن الكريم من الضوابط الكبيرة أن الجزاء من جنس العمل: { هَلْ جَزَاءُ الْإِحْسَانِ إِلَّا الْإِحْسَانُ (60) } (1) { إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا } (2) .
إذًا فمن كمال عدل الله أن من أحسن فله ومن أساء فعليه؛ ولذا كان من تعبيرات أهل السنة، يعطي الله من يشاء بفضله، ويعاقب ويحرم ويمنع من يشاء بعدله، ولا يظلم ربك أحدًا، فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله، فيه الترغيب في الإخلاص، وفيه أن من أراد الإخلاص أُعِينَ عليه ودُلَّ عليه وهدي إليه، فمن أخلص في نيته لله -جل وعلا- وعلم الله صدق نيته وطيب طويته، أعانه على بلوغ مقصوده وآجره على عمله، ومن كانت هجرته إلى دنيا يصيبها أو امرأة ينكحها، فهجرته إلى ما هاجر إليه، فيه الترهيب من الرياء، وأن من أراد بعمله الرياء فقد وكَلَه الله إلى نيته، وقد وكله الله -تعالى- إلى مراده، وفيه أيضًا موافقة السنة للقرآن الكريم.
من المعلوم أن للسنة مع القرآن وظائف، تارة تكون السنة مؤكدة، لما جاء في القرآن كهذا الحديث: { إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا } (3) هذا الحديث إنما الأعمال بالنيات من هاجر بقصد الخير، فله، ومن هاجر بقصد غير الخير فعليه، ولا يظلم ربك أحدًا، وفيه أن قبول العمل لا بد له من أمرين أو من متلازمين الصلاح أو الإخلاص في الباطن، والاتباع في الظاهر، الإخلاص في نيته، والاتباع في عمله، وإذا افترق أحد الأمرين عن الآخر حصل الخلل في العمل، فكم
.............................................................................
__________
(1) - سورة الرحمن آية : 60.
(2) - سورة الإسراء آية : 7.
(3) - سورة الإسراء آية : 7.(1/5)
ـــــــــــــــ
من عامل على غير إخلاص، وكم من مخلص على غير عمل؛ ولهذا لا بد من اجتماع هذين الأمرين الإخلاص والاتباع، وهنا مسألتان:
الأولى: النية عند الفقهاء أو عند العلماء لها اعتباران: الاعتبار الأول باعتبار المقصود، من العمل هل هو لله أو لغير الله، والاعتبار الثاني باعتبار تمييز العمل، تارة يكون العمل فرضًا، وتارة يكون نفلًا، وتارة تكون عبادة مالية، وتارة تكون عبادة قولية وهلم جرا، لكن يجمع هذا الأمر أن العمل لا بد أن يكون العامل فيه مخلصًا لله.
المسألة الثانية: إذا خالط العمل شيء يشوب الإخلاص، قال العلماء أو قال أهل العلم: ذلك على أحوال، إذا كان قصد العامل من أصل عمله الرياء فعمله حابط لا إشكال في ذلك، القصد الثاني: إذا عمل العمل لله، ثم صاحبه نية أخرى، مثال ذلك، رجل ذهب ليعلم العلم ويبصر الجهلاء احتسابًا، ثم داخله الرغبة في أخذ المال على هذا العلم، العلم لله -جل وعلا- وإنما أخذ المال أو داخلته هذه النية بعد نيته الأصلية، قالوا: لا يأثم، ولكن يقل أجره عما كان عليه.
الأمر الثالث: إذا عمل العمل لله، ثم صاحبه أو جاء الرياء قيل: إن دافعه ونازع نفسه في رده فهو مأجور وليس بمأزور، وإذا استرسل معه، وترك الزمام لنفسه فقد أثم باختياره، ويتحمل تبعته.
الحال الرابع أو القسم الآخر: لو عمل عملًا فأثني عليه ومدح عليه وكان ذلك بغير اختياره هل يأثم؟ لا يأثم؛ لأن ذلك من عاجل بشرى المؤمن إلا إذا زينت له نفسه ذاك ونسي فضل الله عليه، ولهذا قد يعمل العامل العمل ويكون وحيدًا لا يراه أحد، لا يطلع عليه زيد ثم يشيع خبره فيتناقل الناس خبره فيحمد ويمدح، ولكن لا يؤثر فيه مدح الناس ولا ثناء الناس، بل يزداد أو يزيده ذلك المدح إخلاصًا لله ولا يؤثر فيه في أن يشوبه عجب أو حب لثناء الناس أو مدحهم.(1/6)
ولهذا من لطائف كلام أهل العلم أن إخلاص العامل كلما قوي كلما كان عمله أفضل، قال ابن القيم أو غيره: ربما يعمل العبد العمل في جوف الليل، لا يراه أحد فيكون حظه الوزر، وربما يعمل العمل ويكون عمله في حماليق أعين الناس يرقبونه من كل جهة، فيكون مخلصًا في عمله ذاك، والضابط هنا سلامة الباطن، قد يعمل الإنسان العمل، يقوم الليل لكن تعجبه نفسه أنا أحسن من فلان، ينتظر من الله جزاء وشكورًا كأنه يمن على الله -جل وعلا- تعجبه نفسه، ينسى بعض تقصيره
............................................................................. ـــــــــــــــ
لإعجابه بقيامه، فهذا آثم، لكن من عمل العمل والجموع تنظر إليه، وكانت نيته لله ومقصده لله وجاهد نفسه في أن يقيم العمل في الباطن والظاهر على الوجه الذي يرضي الله، فهو من خير وعلى خير وإلى خير.
المسألة الأخيرة: الهجرة، الهجرة أنواع تارة تكون الهجرة واجبة إذا كان في أرض سوء، في أرض كفر، لا يستطيع أن يقيم دينه ويستطيع أن يهاجر فما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب، وأيضًا مما تكون الهجرة فيه واجبة إذا علم المرء من نفسه أنه قادر على نشر خير وإزالة منكر لا يزول إلا به، وأمر بالمعروف لا يكون إلا بحضوره، وبالمثال يتضح المقال، فلان من الناس له قدرة علمية، أو قدرة سلطانية، يعلم أنه بذهابه إلى بلد ما فيه الشر والشرك أنه بذهابه سيزول ذلك الأمر وينقلب العسر يسرًا، والشر خيرًا، فهنا يجب أن يذهب لأنه قادر ولا يكون هذا إلا بحضوره بعلمه أو بسلطانه.
وأيضًا مما ذكر أهل العلم في الهجرة من هاجر لطلب علم، كمن يسافر، قالوا: هذا يؤجر عليه، ومن ذلك الرحلة في طلب العلم أو في طلب علاج لا يكون في بلد المسلمين، أو يكون في بلد المسلمين ولكن يعجزون عنه وسيترتب على بقائه مضرة، وهناك أقسام تدخل تبعًا في تلك الأقسام، نعم يا شيخ.
الحديث الثاني: إن المقسطين عند الله على منابر من نور(1/7)
وعن عبد الله بن عمرو بن العاص -رضي الله تعالى عنهما - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - " إن المقسطين عند الله على منابر من نور عن يمين الرحمن - عز وجل - وكلتا يديه يمين، الذين يعدلون في حكمهم وأهليهم وما ولوا " أخرجه مسلم.
ــــــــــــ
إن المقسطين كلمتان مترادفتان قريبتان في الرسم واللفظ، المقسطون والقاسطون، المقسطون محمودون، والقاسطون غير محمودين، المقسطون العادلون: { إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ (42) } (1) والقاسطون الجائرون الظالمون: { وَأَنَّا مِنَّا الْمُسْلِمُونَ وَمِنَّا الْقَاسِطُونَ فَمَنْ أَسْلَمَ فَأُولَئِكَ تَحَرَّوْا رَشَدًا (14) } (2) { وَأَمَّا الْقَاسِطُونَ فَكَانُوا لِجَهَنَّمَ حَطَبًا (15) } (3) .
وقوله: على منابر، فيه أن العدل رفعة في الدنيا بمرضاة الله تعالى، ورفعة في الآخرة بإكرام الله لأولئك المقسطين، برقيهم ورفعتهم على تلك المنابر، وقوله من نور فيه أن العدل نور في الدنيا وقرة عين لمن عدل، وجزاء ذلك نور في الآخرة، كما أن الظلم ظلم في الدنيا أو ظلام في الدنيا وظلام في الآخرة، الظلم ظلمات يوم القيامة.
وفي قوله: على يمين الرحمن زيادة في إكرامهم؛ فجهة اليمين جهة تشريف وتكريم، وكلتا يديه يمين، جاء في بعض الروايات: بيده الشمال، بعضهم ضعفها سندًا، وبعضهم قال على صحتها، فهذا الحديث كلتا يديه يمين في البركة والخير حتى لا يتوهم أن الشمال أضعف من اليمين، كما هو في غالب حق الآدميين، وفيه إثبات صفة اليدين لله تعالى.
............................................................................. ـــــــــــــــ
__________
(1) - سورة المائدة آية : 42.
(2) - سورة الجن آية : 14.
(3) - سورة الجن آية : 15.(1/8)
والقاعدة العقدية عند أهل السنة والجماعة أن صفات الله تعالى لها أمور ثلاثة: إثباتها من الكتاب والسنة، والثاني: تنزيهها عن صفات النقص والعيب، والثالث: الإيمان بأنها حقيقة، وعدم تأويلها أو تكييفها أو تشبيهها، والقاعدة الأخرى: أن القول في صفة من صفات الله، كالقول في سائر الصفات، فهذه القاعدة، أي: الإيمان بصفات الله -جل وعلا- من كتاب الله وسنة نبيه عليه الصلاة والسلام، حقيقة قاعدة مطردة في جميع الصفات، قد نص على ذلك أهل العلم، كشيخ الإسلام في التدمرية في قواعده المشهورة.
الذين يعدلون في حكمهم، فيه شمولية العدل في كل شيء: في القول، في الفعل، في النفع القاصر على نفسه، والنفع المتعدي لغيره: { وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا } (1) إذا كنت مأمورًا بالعدل مع أهلك ومع نفسك فمع الناس من باب أولى؛ ولذا من كمال الإسلام في مسألة العدل أن العدل في كل شيء حتى في الجوارح، ولهذا من لطائف ما يذكر، ما ذكره بعض شراح الحديث عند قول النبي - صلى الله عليه وسلم - " نهى أن يمشي الرجل في نعل واحدة " ذكروا عللًا أنها مشية الشيطان، وذكروا من ذلك أن هذا فيه جور مع القدم الأخرى، وهذا القول لطيف يحكى في مسألة العدل.
لكن الشأن أن العدل في كل شيء: { وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا } (2) { * إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ } (3) ويزداد الأجر عظمًا، في العدل مع من خالفك وظلمك، قد يخالفك مخالف فلا تكون المخالفة سبيلًا إلى ظلمه؛ ولهذا قال عليه الصلاة والسلام: " أد الأمانة إلى من ائتمنك ولا تخن من خانك " .
............................................................................. ـــــــــــــــ
__________
(1) - سورة الأنعام آية : 152.
(2) - سورة الأنعام آية : 152.
(3) - سورة النحل آية : 90.(1/9)
العدل ثقيل على النفوس، وبخاصة مع المخالفين، لكن الإنصاف أن يجعل المسلم نصب عينيه: { وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا } (1) أو كما قال ابن مسعود - رضي الله عنه - قل الحق ولو قال به عدو بعيد، وقل بأن هذا باطل ولو قال به صديق قريب، أيضًا في قوله - صلى الله عليه وسلم - وما وَلُو، أي: ما تولوا من ولايات، وما قاموا عليه من مسئوليات، نص أو خص هذا؛ لأن عدم العدل هنا يكون فيه الضرر متعديا، وأنت تعلم أن ظلم الاثنين أشد من ظلم الواحد، وأن ظلم العشرة أشد من ظلم الخمسة، ولهذا كان الوعيد للقاضي شديدا إن ظلم، كما أن الوعيد للحاكم السلطان شديد إن ظلم لعظم الضرر المترتب على ظلمهما سواء من القاضي أو من السلطان. كما جاء المدح لمن قضى ولمن حكم بالعدل وبخاصة في حق من يلي أمور الناس من القضاة والسلاطين.
وفيه أيضًا أن العدل متلازم مع الأمانة، العدل لا يكون أو لا يتصور إلا مع الأمانة فيما قضى؛ ولهذا قال بعض العلماء عند قوله تعالى: { إِن خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ (26) } (2) هذه الآية جعلت العمال على أربعة أقسام، قسمة عقلية لا بد منها:
إما أن يكون أمينًا بلا قوة، أو أن يكون قويا بلا أمانة، أو أن يكون لا أمانة ولا قوة، أو أن يكون أمينًا قويا، والعدل أو العادل لا بد فيه من شرطي الأمانة والقوة، بل لا يتصور أن يكون عدلا منفذا إلا بالقوة والأمانة، وفي ذلك أن على دعاة الخير وطلبة العلم أن يحكموا العدل على أنفسهم، قد تحمل على أحد العصاة المسلمين أمرًا في نفسك لخبر شاع عنه أو لمعصية تلبس بها وجهر بها، لكن هذا لا يمنع من العدل معه، وأن يقال أصاب في إصابته وأخطأ إذا أخطأ، أما أن يُستصحَب الحال في بغضه، فيُظلَم، ويجعل الأصل في كلامه الظلم، ويُنحَى عنه العدل فهذا من الجور؛ ولهذا جاء في بعض
.............................................................................
__________
(1) - سورة الأنعام آية : 152.
(2) - سورة القصص آية : 26.(1/10)
ـــــــــــــــ
الروايات أن يهوديا اشتكى عليا إلى شريح، فدخل علي وخصمه عند شريح، فأجلس شريحٌ عليا مع خصمه، وكلكم يعلمه، فعجب اليهودي من هذا فقال: دين يأمر بهذا لا خير فيمن تركه، فأسلم.
الحديث الثالث: يا أيها الناس إن الله قد أذهب عنكم عبية الجاهلية وتعاظمها بآبائها
عن ابن عمر -رضي الله تعالى عنهما- أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خطب الناس يوم فتح مكة فقال: " يا أيها الناس إن الله قد أذهب عنكم عبية الجاهلية وتعاظمها بآبائها، فالناس رجلان: بر تقي كريم على الله، وفاجر شقي هين على الله، والناس بنو آدم وخلق الله آدم من تراب قال الله: { يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا ں@ح !$t7s%ur لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ (13) } (1)"أخرجه الترمذي، وأورده الشيخ الألباني في السلسلة الصحيحة.
ــــــــــــ
قوله: قد أذهب عنكم فيه أن دين الإسلام دين كمال، شامل لكل الخيرات منقىً من جميع السلبيات، دين شمل جميع المصالح الذي يكون بها قوام الدين والدنيا والآخرة. وقوله: عِِبِّيَّة أو عُبِّيَّة الجاهلية يعني الكبر والتفاخر، قال بعضهم: مأخوذ من عباب الماء إذا ارتفع، والمتكبر يرتفع على الآخرين.
وقوله: وتعاظمها بآبائها فيه ذم التعاظم بالأنساب على سبيل انتقاص الآخرين وازدرائهم، وأن من اتصف بذلك بتعصبه بالنسب أنه متشبه بالجاهليين في تعصبهم وتفاخرهم بآبائهم، وهنا يحسن أن يقال: إن تفاضل الناس فيما بينهم في الغالب لا يخرج عن أربعة أمور: بالنسب ،وبالحسب، وبكثرة المال، أو كثرة الولد، في الغالب أن هذه الموازين يفخر بعض الناس على بعض أو يتفاخر الناس بها، ولكن هذه الموازين لاغية لا تنفع أصحابها إلا إذا كانت في طاعة الله: { فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلَا
.............................................................................
__________
(1) - سورة الحجرات آية : 13.(1/11)
ـــــــــــــــ
z>$|،Sr& بَيْنَهُمْ } (1) هذا ميزان النسب، وميزان الحسب والفخر بالعشيرة: { يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ (34) } (2) { وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ (35) } (3) فإن كان حسبه منصبه أو سلطانه، فقارون وفرعون لم ينفعهما جاههما ولا حسبهما.
وأما ميزان كثرة المال والولد: { يَوْمَ لَا يَنْفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ (88) } (4) بقي ميزان واحد جاء مفصلًا: { إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ } (5) وليس على عبد تقي نقيصة إذا حقق التقوى وإن حاك أو حجم، فإذا رأيت الإنسان يفتخر بنسبه أو بعنصره، أو بقوميته الإقليمية أو القبلية، ويزدري الآخرين فاعلم أنه متشبه بصفات الجاهليين؛ فالجاهليون كانوا يتفاخرون ويتعاظمون، وانظر إلى أبي جهل لما صعد ابن مسعود على ظهره أو على بطنه احتقره قبحه الله، ولمزه برويع الغنم من الأنفة التي كان يعتز بها، ولكن لم ينفعه ذاك:
............................................................................. ـــــــــــــــ
فقد رفع الإسلام سلمان فارسا ... وقد وضع الشرك النسيب أبا لهب
وقوله: بر تقي وفاجر شقي هين على الله، أيضًا يفيد أن التقوى هي الميزان وهي الرفعة الحقيقية، وقوله والناس بنو آدم، هذا فيه رد على النظرية الإلحادية التي تزعم أن أصل الإنسان كان حيوانًا، وهي نظرية كما قيل: بطلانها يغني عن إبطالها، ونكارتها تغني عن إنكارها، وسقوطها يغني عن إسقاطها، نظرية النشوء والارتقاء والتطور، بأن أصل الإنسان كان قردًا، ثم مع تقادم الزمن تكوَّن حتى أصبح بهذه الصورة، فهذه نظرية كفرية إلحادية.
__________
(1) - سورة المؤمنون آية : 101.
(2) - سورة عبس آية : 34.
(3) - سورة عبس آية : 35.
(4) - سورة الشعراء آية : 88.
(5) - سورة الحجرات آية : 13.(1/12)
وقوله: والناس بنو آدم وخلق الله آدم من تراب فيه أن أولى الناس بالبعد عن ذلك هم أهل العلم ودعاة الخير؛ لأنهم أعلم الناس بأسباب التقوى، وأسباب التواضع، وأن يكونوا أبعد الناس عن التفاخر بأنسابهم وأحسابهم، ومن أسباب تفرق المسلمين التعصب للقومية، فهناك قومية عربية بحكم الانتماء للعنصر العربي، وهناك قومية إقليمية، أو قطرية أو قَبَلية، وكل هذه القوميات كلها من طبائع الجاهليين؛ لأن الإسلام نبذها وجعل الرابطة الشمولية: { إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ } (1) .
وفي استدلاله أو في ذكره - صلى الله عليه وسلم - لهذه الآية مسألة يحسن أن تذكر، وهي ما يسمى بتضمين الكلام للآيات، يقول بعض أهل العلم: لا يجوز أن تضمن الآيات في كلام الناس ألبتة، بمعنى: لو كنت تتكلم في كلام ثم دخل شخص أو تكلم شخص مثلًا اسمه يوسف، فتقول يوسف أعرض عن هذا، أو رجل اسمه موسى في يده شيء تقول وما تلك بيمينك يا موسى يمنع من هذا منعًا باتًا، وبعض أهل العلم يقسم المسألة إلى أقسام ثلاثة فيقول: إذا كان تضمين القرآن للكلام الماجن فهذا حرام لا يجوز؛ لأنه
............................................................................. ـــــــــــــــ
استخفاف واستهزاء بالقرآن الكريم، وقد ذكر بعض الأدباء في كتبهم أمثلة أُجِلُّ لساني وأسماعكم عنها.
__________
(1) - سورة الحجرات آية : 10.(1/13)
والقسم الثاني: أن تذكر الآية في الكلام الجادّ وليس بالهزل من باب التأكيد، وهذا يجوز كما فعل النبي - صلى الله عليه وسلم - في كثير من الأحاديث ومنها: " إذا أتاكم من ترضون دينه وأمانته فزوجوه؛ إلا تفعلوه تكن فتنة في الأرض وفساد كبير " ومنها قوله - صلى الله عليه وسلم - " الله أكبر خربت خيبر إنا إذا نزلنا بساحة قوم فساء صباح المنذرين " ومنها: " لما أتى النبي -عليه الصلاة والسلام- إلى بيت علي وفاطمة -رضي الله تعالى عنهما- فقال: قوما فصليا، فقال علي -رضي الله تعالى عنه - إن شاء الذي خلقنا بعثنا، فخرج عليه الصلاة والسلام، وهو يضرب فخذه بيده ويقول: وكان الإنسان أكثر شيء جدلًا " .
وقد ذكر ابن حجر وغيره، أن فيه جواز انتزاع الشاهد أو الاستشهاد بالآية في الكلام، قسم آخر وهو تضمين القرآن في الشعر، طبعًا إن كان الشعر ماجنًا فيلحق بالقسم الأول؛ لأن النبي -عليه السلام- يقول: " الشعر كالكلام فحسنه حسن وقبيحه قبيح " أما إذا كان الشعر جادًّا ومعانيه صحيحة، قالوا فيترخص في هذا، ومثلوا بقول الشاعر:
يا من عدا ثم اعتدى ثم اقترف ... ثم انتهى ثم ارعوى ثم اعترف
أبشر بقول الله في آياته ... إن ينتهوا يغفر لهم ما قد سلف
وقول الآخر لما أقرض صاحبه دينًا، قال: أنلني، يعني: أعطني من النيل:
............................................................................. ـــــــــــــــ
أنلني بالذي استقرضت خطا ... وأشهد معشرًا قد شاهدوه
فإن الله خلاق البرايا ... عنت لعظمة هيبته الوجوه
يقول إذا تداينتم بدين ... إلى أجل مسمى فاكتبوه(1/14)
وبكل حال من منع استشهاد الآيات في الشعر قال من باب قوله تعالى: { وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ وَمَا يَنْبَغِي لَهُ } (1) عودًا على الحديث فيه على دعاة الخير أن يكونوا أبعد الناس من هذه الخصال الجاهلية، التعصب والتفاخر وأن ذلك يدل على ضعف في الإيمان، وعلى عدم عدل مع الإخوان، فأولى الناس بالتواضع والبعد عن التفاخر هم دعاة الخير، نعم يا شيخ.
الحديث الرابع: ارجعوا إلى أهليكم فأقيموا فيهم وعلموهم ومروهم
عن مالك بن الحويرث -رضي الله تعالى عنه- أنه قال: " أتيت النبي - صلى الله عليه وسلم - ونحن شبيبة متقاربون، فأقمنا عنده عشرين ليلة، وكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رحيمًا رفيقًا، فلما ظن أنا قد اشتهينا أهلنا، أو قد اشتقنا، سألنا عمن تركنا بعدنا فأخبرناه، فقال ارجعوا إلى أهليكم فأقيموا فيهم وعلموهم ومروهم، وذكر أشياء أحفظها أو لا أحفظها، وصلوا كما رأيتموني أصلي، فإذا حضرت الصلاة فليؤذن لكم أحدكم وليؤمكم أكبركم " أخرجه البخاري.
ــــــــــــ
وأخرجه الحاكم من حديث أبي سعيد وقال: هو أول حديث في فضل طلاب الحديث، قوله: أتينا النبي - صلى الله عليه وسلم - فيه فضل الرحلة في طلب العلم، وأنتم وبخاصة من قدم من خارج البلد، قد أحييتم سنة المحدثين في رحلتهم في أقطار الأرض طلبًا للعلم، الله اسأل أن لا يحرمكم الأجر والثواب، وفيه الحرص على طلب العلو؛ لأن الصحابة -رضي الله تعالى عنهم- لأن مالكا وأصحابه كانوا شبيبة فرحلوا لطلب لقي النبي -عليه الصلاة والسلام- والسماع منه، ففيه فضل الرحلة للتلقي من كبار أهل العلم، ويستحسن بعض أهل العلم أن لا يرحل الطالب عن بلده حتى يأخذ عن أشياخ بلده، قد أشار الخطيب أو غيره إلى أنه ينبغي للطالب أن يأخذ عن أشياخ بلده ثم يرحل طلبًا للقي أو للتزود.
__________
(1) - سورة يس آية : 69.(1/15)
وقوله: ونحن شببة متقاربون فيه حرص صغار الصحابة وشبابهم على طلب العلم، ناهيك عن كبارهم، بل قد قال بعض أهل العلم: وكثير من الصحابة طلبوا العلم وهم كبار وبخاصة من أسلم كبيرًا، لم يمنعه السن والشيب عن طلب العلم؛ ولهذا بعض الناس يتذرع ويتعذر بعدم طلب العلم باشتعال شيب رأسه، وهذا قد حرم نفسه، فقد يُحصِّل في أيام يسيرة مع صدق النية وقوة العزيمة، ما يضعف عنه من يقوم في سنين عددًا، وإذا بارك الله فلا منتهى لبركته عز وجل.
وقوله: فأقمنا عنده عشرين يومًا وليلة فيه أن العلم يحتاج إلى مثابرة وإلى مجاهدة للنفس، قال يحيى بن أبي كثير: لا يستطاع العلم براحة الجسد، لا بد من مجاهدة ومن تركِ الترفه والتنعم الزائد،
............................................................................. ـــــــــــــــ
كان أهل العلم يرحلون الأزمنة الطويلة في طلب إسناد حديث واحد أو في لقي رجل واحد، وكلكم يعلم رحلة شعبة بن الحجاج -رحمه الله- التي طوَّف فيها شهرًا كاملًا لتتبع إسناد حديث كان يرجو صحته، وكذا رحلة أبي حاتم الرازي، وأبي نصر المروزي وغيرهم، ومن قرأ كتاب رحلة في طلب الحديث للخطيب البغدادي، رأى نماذج عليا ومُثلًا تحتذى في قوة العزيمة والمثابرة.
وقوله أيضًا: فأقمنا عنده فيه أصل سكن طلبة العلم بجوار الشيخ، يعني سكن الطلاب بجوار الشيخ سنة ماضية، فمالك وأصحابه -رضي الله تعالى عنهم- أقاموا بجوار النبي - صلى الله عليه وسلم - من باب تسهيل الأخذ عنه. قوله: وكان رحيمًا رفيقًا، فيه عظيم خلق النبي - صلى الله عليه وسلم - ومحبته لطلبة العلم: { بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ (128) } (1) يؤخذ من ذلك رحمة المعلم بتلاميذه، والترفق بمن تعلمه أيا كان، يستفاد أن تعليم العلم للناس وبخاصة من جاءك راغبًا مبتدئًا أن تترفق معه، وأن تتحبب إليه، كما كان ذلك هدي النبي - صلى الله عليه وسلم - .
__________
(1) - سورة التوبة آية : 128.(1/16)
وقوله: فلما رأى أنا قد اشتهينا أهلنا أو قد اشتقنا فيه عظيم فطنة النبي - صلى الله عليه وسلم - وقوة فراسته، وفيه أيضًا أنَّ على المعلم أن يحرص على تفقد طلابه، وأن يلاحظ مشاعرهم، أن يرقب مشاعرهم، فبذا وذاك تعرف ما يدور بإذن الله في نفوس طلابك، رأى النبي -عليه الصلاة والسلام- عليهم بوادر أو قرائن تدل على شوقهم واشتياقهم واشتهائهم للعودة إلى أهليهم، فقال ارجعوا، حقق ما في أنفسهم، قد يستحي الطالب منك، قد يكون محتاجًا، فيمنعه حياؤه وهيبتك من سؤلك المال، قد يكون مشتاقًا للرجوع لكن يمنعه الحياء، وكلما كان المعلم على حرص، وعلى تفقد، وعلى سؤال قد يوكل المعلم أحد الطلاب لتفقد مشاعر الطلاب لحاجياتهم، يمنعه الحياء، الحياء قد يمنع أحيانًا من سؤال المعلم، ألم يقل علي - رضي الله تعالى عنه - كنت رجلًا مذاء فاستحييت من سؤال النبي -عليه الصلاة والسلام- لمكان ابنته مني فأمرت المقداد فسأله، فالطالب قد يستحي من معلمه، وعلى المعلم أن يعنى
............................................................................. ـــــــــــــــ
بهذا الأمر بالتفقد والسؤال، والبحث من طرف خفي، قد يسد خلة محتاج أو يحقق رغبة محتاج بأمر يسير.
وقوله: سألنا عمن تركنا بعدنا فأخبرناه فيه أن عناية المعلم لا تكن بالطالب فحسب، بل بأهله بالسؤال عن والديه، بالسؤال عن حاله عن أولاده إن كان له أولاد، بالسؤال عن أموره، فهذا يحبب الطالب إلى المعلم، ومن باب أولى لازم ذلك أن يحب الطالب العلم، فإذا علم الطالب أن المعلم يعنى به ويهتم ويسأل عنه كما كان النبي عليه الصلاة والسلام، زاد حب الطالب وتعلقه بمعلمه، أما إذا كان المعلم لا يسأل ولا يهتم ولا ينظر، فإن ذلك قد يكون سببًا رئيسًا في نفور الطلاب أو في عدم تحصيلهم أو في عدم أخذهم من معلمهم.(1/17)
وقوله: ارجعوا إلى أهليكم فيه حرص النبي - صلى الله عليه وسلم - على إعطاء كل ذي حق حقه، ولهذا بعض من يطلب العلم يهمل أمر والديه، وأمر زوجته وأولاده، ويظن أنه بهجرته وبتركه لهم في أجر، هذا من الجهل، فصّل أهل العلم في ذلك، سأل أحدهم الإمام أحمد قال: يا أبا عبد الله الرجل يرحل لطلب العلم ويمنعه والداه ما يصنع؟ قال: أما ما لا بد له منه فليرحل، وما سوى ذلك فالوالدان، فليلزم الوالدين، بعض الناس يترك أولاده أضاع أولاده وأهله وجاء لطلب العلم، العلم يمنعك من هذا، العلم يأبى عليك هذا، ولهذا رد النبي -عليه الصلاة والسلام- ذلك الشاب الذي أراد الجهاد، جهاد تحت راية شرعية في وقت النبوة، ومع ذلك كله رده النبي عليه الصلاة والسلام، ألك والدان؟ قال: نعم، لعلمه بحاجتهما له، ففيهما فجاهد.
وقوله: فأقيموا فيهم وعلموهم ومروهم فيه أن على طالب العلم أن يزكي علمه بتعليم نفسه أولًا، وبتعليم من يعول من زوجة أو أولاد أو خدم أو ما شاكل ذلك؛ لأن بعض الناس كالمصباح يضيء للناس ويحرق نفسه، لا ينفع نفسه ولا ينفع أهل بيته، ولا أقاربه، إنما علمه لغير أهل بيته، والأولى بك أن تبدأ بنفسك وتعلم من تعول.
وقوله: وذكر أشياء أحفظها ولا أحفظها من أمانة الصحابي في النقل أنه ذكر أشياء ونسي أشياء، وفيه أيضًا تواضع الصحابي، لو لم يقل لا أحفظها لم يعلم أحد لكن من أمانته في النقل أنه اعترف بأنه
............................................................................. ـــــــــــــــ
حفظ أشياء وغابت عنه أشياء، ومن لازم الخصال المحمودة، بل الواجبة في طالب العلم أن يكون أمينًا فيقول ما له به علم ويتورع، بل يكف عما ليس له به علم.(1/18)
وقوله: وصلوا كما رأيتموني أصلي فيه تعليم العلم بالقول والعمل، المعلم قدوة في قوله وعمله، علمهم أشياء بقوله، وأمرهم أن يتعلموا من فعله صلوا كما رأيتموني أصلي، وإذا كان بعض الصحابة يتقدم يصلي بهم، ويقول: والله ما تقدمت لأني الأحق ولكن لأريكم كيف صلى النبي - صلى الله عليه وسلم - والقدوة الفعلية أبلغ، فطالب العلم كالغيث، مبارك أينما كان، في جميع شئونه، بأقواله وأفعاله ولباسه وصمته، وكلامه، ولهذا بعضهم يستفيد من الشيخ إذا كان الشيخ يتمثل السنة في أخلاقه في صلاته في لباسه، رأى ابن مسعود -رضي الله تعالى عنه- ربيع بن الخثيم، فقال لو رأى هذا نبي الله -عليه السلام- لأحبه، لسمته وخلقه وطيب شمائله.
وقوله: إذا حضرت الصلاة فليؤذن لكم أحدكم وليؤمكم أكبركم، فيه عظيم نفع العلم مع صاحبه، فيه عظيم نفع العلم لصاحبه في سفره وحضره، طالب العلم معه الزاد في كل مكان في السفر والحضر، في الحل والترحال، في الليل والنهار، العلم نور، أما الجاهل فيتعسر ويقع ويسقط، أما طالب العلم فعلمه نور في كل مكان، نعم يا شيخ فهد.
الحديث الخامس: جاء ثلاثة رهط إلى بيوت أزواج النبي - صلى الله عليه وسلم -
عن أنس بن مالك -رضي الله تعالى عنه- يقول: " جاء ثلاثة رهط إلى بيوت أزواج النبي - صلى الله عليه وسلم - يسألون عن عبادة النبي - صلى الله عليه وسلم - فلما أُخبروا كأنهم تقالوها فقالوا: وأين نحن من النبي - صلى الله عليه وسلم - قد غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، قال أحدهم: أما أنا فإني أصلي الليل أبدًا، وقال آخر: أنا أصوم الدهر ولا أفطر، وقال آخر: أنا أعتزل النساء فلا أتزوج أبدًا، فجاء رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إليهم فقال: أنتم الذين قلتم كذا وكذا، أما والله إني لأخشاكم لله وأتقاكم له لكني أصوم وأفطر، وأصلي وأرقد، وأتزوج النساء فمن رغب عن سنتي فليس مني " متفق عليه.
ــــــــــــ(1/19)
قوله: يسألون عن عبادة النبي - صلى الله عليه وسلم - فيه حرص شباب الصحابة على متابعة أحوال النبي - صلى الله عليه وسلم - وطلبة العلم أولى الناس بالبحث والتحري لسنة النبي - صلى الله عليه وسلم - علمًا وعملًا.
وقوله: كأنهم تقالُّوها فيه أن العبرة بالكيف لا بالكم ليست العبرة بكثرة العبادة والتلاوة، إذا لم تكن مأطورة بإطار المنهج الشرعي، فالخوارج لم تنفعهم عبادتهم: " تحقرون صلاتكم مع صلاتهم، وصيامكم مع صيامهم، يأخذون من الليل كما تأخذون " والنتيجة يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية، وفي سورة الغاشية: { وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خَاشِعَةٌ (2) } (1) { عَامِلَةٌ نَاصِبَةٌ (3) } (2) خشوع وعمل ونصب والنتيجة تصلى نارًا حامية، إذًا فالعبرة ليست بالكثرة إن لم تكن الكثرة منضبطة بأصل الشرع إنما العبرة بالكيف.
............................................................................. ـــــــــــــــ
وقوله: قال أحدهم: أما أنا فأصلي الليل أبدًا إلى آخره، إلى آخر أقوال الثلاثة، فيه أن الاستحسان العقلي للعمل لا يصيره مشروعًا، الاستحسان العقلي لا يصير العمل مشروعًا، لا بد من العلم، العقل قد يستحسن أشياء قد يصيب وقد يخطأ لكن الحكم هو ماذا؟ هو العلم، وهنا أذكر أبياتًا لطيفة في تحاور العلم والعمل، دليل أن العلم هو الأكمل وأن العقل تابع والعلم متبوع، يقول شاعرهم أو الشاعر:
علم العليم وعقل العاقل اجتمعا ... من ذا الذي منهما قد أحرز الشرفا
فالعلم قال أنا أحرزت غايته ... والعقل قال أنا الرحمن بي عرفا
فأفصح العلم إفصاحًا وقال له ... بأينا الرحمن في قرآنه اتصفا
فبان للعقل أن العلم سيده ... فقبل العقل رأس العلم وانصرفا
__________
(1) - سورة الغاشية آية : 2.
(2) - سورة الغاشية آية : 3.(1/20)
العلم متبوع فاستحسان الشخص بعقله لعمل من الأعمال لا يصيره مشروعًا، بل يكون العامل مأزورًا إذا لم يتثبت من المنهج الشرعي في هذا العمل، ولم تفتح أبواب البدع إلا بالاستحسان العقلي وترك النص الشرعي؛ ولهذا فضلت ليالٍ، وفضلت أيام وليالٍ، وفضلت أماكن بمجرد الاستحسان العقلي، فأصبحت أبوابًا من أبواب البدع: { وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ } (1) لكنهم ردوه إلى عقولهم وشهواتهم.
قوله: أنتم الذين قلتم كذا وكذا فيه أن المنهج التثبت من القول قبل عتاب قائله، وفيه أيضًا التثبت من قبول الشائعات، وبناء الأحكام عليها دون النظر في حقيقتها، بعض الناس إذا جاءه الخبر
............................................................................. ـــــــــــــــ
بنا عليه الأحكام من اتهام أو تبرئة أو جرح أو تعديل، ولو بحث في حقيقة الأمر لوجد أنه ظلم من عدل وعدل مع من ظلم، ولهذا النبي -عليه الصلاة والسلام- ماذا قال لهم؟ أنتم الذين قلتم كذا وكذا، قد يكون متأكدًا من هذا قد يكون الناقل ثقة، لكن من باب المنهجية.
__________
(1) - سورة النساء آية : 83.(1/21)
ولما قالت الأنصار أو قال بعض الأنصار: أعطى المهاجرين وتركنا، أمر بهم فقال لهم: يا معشر الأنصار ما مقالة بلغتني عنكم، استفهم مع أنه على علم ويقين أنهم قالوا، لكن من باب التثبت في الخبر وحتى يعلموا قولهم، أو يعلموا خطأهم بتقريرهم عليه، فما القول في بعض دعاة الخير، من يبني بغضه لشخص لمجرد خبر وصل إلى سمعه، وقد يكون الخبر مكذوبًا، وقد يكون الخبر مبالغًا فيه، وقد يكون الخبر من شامت أراد الشماتة بأخيه، فكان الأولى بك، أن تنهج هذا النهج ما مقالة بلغتني عنكم أنتم الذين قلتم كذا وكذا: { إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ } (1) .
قوله: أما والله إني لأخشاكم لله، فيه جواز تزكية المرء لنفسه للمصلحة، والنبي -عليه الصلاة والسلام- أتقى الخلق لله، وأكرم الخلق على الله، وقد ذكر العلماء في مباحث تزكية النفس أنها مكروهة في حق الناس: { فَلَا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى (32) } (2) { أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُزَكُّونَ أَنْفُسَهُمْ } (3) .
وفي الحديث الصحيح: " لا تزكوا أنفسكم الله أعلم بأهل البر منكم " إلا إذا كان في التزكية مصلحة، كما قال يوسف عليه السلام: { اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الْأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ (55) } (4)
............................................................................. ـــــــــــــــ
__________
(1) - سورة الحجرات آية : 6.
(2) - سورة النجم آية : 32.
(3) - سورة النساء آية : 49.
(4) - سورة يوسف آية : 55.(1/22)
أخيرًا في قوله: فمن رغب عن سنتي فليس مني، قال الإمام الشاطبي رحمه الله تعالى: وهذه العبارة أشد شيء في الإنكار، فمن رغب عن سنتي فليس مني، هم أتوا طمعًا في التزود من الخير، لكن لأنهم خالفوا المنهج النبوي، وأرادوا أن يكونوا كما أملت عليهم رغباتهم بين النبي -عليه الصلاة والسلام- أن هذا من الخطورة بمكان، فمن رغب عن سنتي -لو تكفلوا للتعبد إذا كان على خلاف السنة- فليس مني.
الحديث السادس: يا معشر الشباب من استطاع منكم الباءة فليتزوج
وعن عبد الله بن مسعود -رضي الله تعالى عنه- قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - " يا معشر الشباب من استطاع منكم الباءة فليتزوج؛ فإنه أغض للبصر وأحصن للفرج، ومن لم يستطع فعليه بالصوم فإنه له وجاء " متفق عليه.
ــــــــــــ
قوله: يا معشر الشباب فيه عناية الإسلام بهذه المرحلة؛ ذلك لأن الشباب أو مرحلة الشباب هي أخصب مراحل العمر، فيها يبني المرء شخصيته، ويشق طريقه؛ ولذا كثرت النصوص الشرعية المتعلقة بهذه المرحلة العمرية، ومن ذلك قول النبي - صلى الله عليه وسلم - " سبعة يظلهم الله في ظله " فقال: " أو شاب نشأ في طاعة الله " وكذا حديث: " يأتيكم شباب من أقطار الأرض يتفقهون في دين الله فإذا رأيتموهم فاستوصوا بهم خيرًا " وكذلك حديث مالك بن الحويرث الذي قد سبق: " قدمنا ونحن شببة متقاربون " وكيف حرص النبي - صلى الله عليه وسلم - عليهم واعتنى بهم وراعى مشاعرهم، ومن ذلك قوله - صلى الله عليه وسلم - " لا تزول قدما عبد يوم القيامة حتى يسأل عن أربع " وعدَّ منها "وعن شبابه فيما أبلاه".(1/23)
وفي الحديث المبادرة بالزواج لتحصين الفروج، ويتأكد هذا لمن خشي على نفسه الفتنة وكان قادرًا على الباءة، القوة الجسدية والمالية، وفيه أيضًا بيان خطأ من زعم أن ترك الزواج أفضل من الزواج؛ لأن ترك الزواج يشغل، فلقد كان النبي - صلى الله عليه وسلم - كثيرًا ما يحث على الزواج، وكان أكثر هذه الأمة نساءً هو - صلى الله عليه وسلم - بحكم ما خصه الله -جل وعلا- به، وحث على الزواج فقال: " تزوجوا الودود الولود فإني مكاثر بكم الأمم " .
وأما ما يحتج بهم بعضهم من كون بعض العلماء لم يتزوجوا فيحمل على أمور: إما لعدم قدرتهم، أو لعدم تفرغهم، أو لرأي رأوه، لكنه خلاف الرأي الصحيح، وفي الحديث أيضًا العناية بشأن الجوارح، أغض للبصر، وأحصن للفرج، العناية بشأن الجوارح، ولهذا جاءت النصوص الكريمة في
............................................................................. ـــــــــــــــ
القرآن الكريم بالعناية بالجوارح: { مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ (18) } (1) { وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ (10) } (2) { كِرَامًا كَاتِبِينَ (11) } (3) اللسان، السمع: { وَإِذَا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ } (4) البصر: { قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ } (5) .
__________
(1) - سورة ق آية : 18.
(2) - سورة الانفطار آية : 10.
(3) - سورة الانفطار آية : 11.
(4) - سورة القصص آية : 55.
(5) - سورة النور آية : 30.(1/24)
وقوله: ومن لم يستطع فعليه بالصوم، دليل أن الإنسان قد يرغب بالزواج لكن لا يستطيعه، يعجز، متطلبات الزواج الحياتية قد يعجز عنها، فجعل لك الشرع مخرجًا آخر، فعليه بالصوم فإنه له وجاء: حصانة، فإنه له وجاء، وكثير من الناس يستعيض بالصوم إذا عجز عن الزواج فتكسر شهوته، تكسر شهوته فيدرأ عنه شر كثير، وبعض الناس يفتح لنفسه بابًا من الحرام، فقد يكون قويا في شهوته ويكون عاجزًا عن الزواج، ومع هذا يلجأ إلى طرق محرمة، كالاستمناء أو كإشباع النظر في الصور، وهذا حرام لا يجوز؛ ولهذا استدل بعض العلماء بهذا الحديث، وبالآية في المعارج وفي المؤمنون: { وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ (5) } (1) { إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ (6) } (2) على تحريم الاستمناء.
............................................................................. ـــــــــــــــ
احفظ منيك ما استطعت فإنه ... ماء الحياة يصب في الأرحام
وطلبة العلم أولى الناس بالزواج، لأن الزواج يهيئ لهم راحة نفسية وبدنية فيستطيعون أن يتعلموا وأن يعلموا، فإذا قصرت بهم النفقة فيلجئوا إلى الوسيلة الشرعية الأخرى وهي الصوم، وفيه أيضًا البعد عن كل ما يثير الشهوة، وبخاصة إذا علم الإنسان من نفسه الضعف، وبخاصة في هذا الزمن كثرت فيه إثارة الشهوات المسموعة والمقروءة والمرئية، وعودا على بدء طلبة العلم أولى الناس بهذا الأمر يعني بالزواج، وقد ذكر غير واحد من المختصين في الدراسات الاجتماعية، أن الإنسان المتزوج المستقر في حياته ينتج أكثر، وهذا يؤكده ما جاء في النصوص الشرعية من الحث على الزواج؛ لأن الله ركب في بني آدم شهوات، وجعل لهذه الشهوات أماكن، وجبلة الإنسان على هذه الشهوة، يؤجر إن وضعها في حلال، ويؤزر إن وضعها في حرام.
__________
(1) - سورة المؤمنون آية : 5.
(2) - سورة المؤمنون آية : 6.(1/25)
الحديث السابع: خيركم خيركم لأهله وأنا خيركم لأهلي
وعن أم المؤمنين عائشة -رضي الله تعالى عنها- قالت: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - " خيركم خيركم لأهله وأنا خيركم لأهلي " أخرجه الترمذي.
ــــــــــــ
فيه كمال دين الإسلام، وأنه أعطى كل ذي حق حقه، وفيه كمال خلق النبي - صلى الله عليه وسلم - فيه كمال خلق النبي - صلى الله عليه وسلم - الذي لم تُغفله أعباء الرسالة وأمور الأمة عن رعاية أهله، بل كما قال هنا: " خيركم خيركم لأهله وأنا خيركم لأهلي " وفيه أن القيام بحق الأهل من التعبد لله تعالى، من التعبد لله تعالى أن تقوم بحق الأهل؛ لأن ذلك أولًا من الواجب الشرعي عليك.
وثانيًا: إذا نويت بذلك إسعاد أهلك وإكمال حاجياتهم قربة إلى الله فأنت مأجور، كان بعض السلف يقول، والله إني لأتقرب إلى الله بإخراج القمائم من بيتي، لأن النية تجعل العادة عبادة، ولهذا على دعاة الخير التأدب بهذا.
وفيه الرد على من زعم أن دعوة الناس وأن نشره للعلم، أو أن طلبه للعلم يمنعه من القيام بحق أهله، هذا من الجهل، ومن عدم البصيرة؛ فالنبي عليه الصلاة والسلام أكثر الناس شغلًا، كان يدعوا الناس، ويستقبل الوفود، ويَسِم إبل الصدقة، ويحضر جنائز المسلمين وقد يشيعها معهم، ويعود المرضى، ويقسم الصدقات بين الناس، وتأخذ الجارية بيده إلى أعالي المدينة، ليقضي حاجتها، ومع هذا كله يقول: " خيركم خيركم لأهله وأنا خيركم لأهلي " إذًا فعلى طالب العلم أن يعنى بهذا، وأما السبب هو الفوضوية في الوقت، والفوضوية في الخروج أو الدخول في المنزل، والفوضوية في عدم ترتيب المشاغل، كم من طالب علم غير متزوج ومخدوم، ولكنه لا يحصل إلا القليل، وكم من طالب علم عنده زوجته وأولاد ومسئولية لكنه يحصل الكثير، وهنا بوادر التوفيق من الله -جل وعلا- تظهر فيمن لزم المسلك الشرعي، وأعطى كل ذي حقه ومستحقَه.(1/26)
وفي الحديث أيضًا أن العناية بشأن الأهل من أسباب التوفيق الإلهي، أن العناية بشأن الأهل من أسباب التوفيق الإلهي، وهذا مشاهد ومسموع في القيام بحق الأهل كما تقدم آنفًا من الواجبات الشرعية، وإذا قام به العبد تقربًا إلى الله -تعالى- وفيه همة للتزود من العلم أعانه الله -جل وعلا-
............................................................................. ـــــــــــــــ
على جميع شئونه، وعلى جميع حوائجه، أما إهمال البيوت وتضييع الأولاد بدعوى التفرغ، فهذا مأزور وليس بمأجور.
الحديث الثامن: أكمل المؤمنين إيمانا أحسنهم أخلاقا
وعن أبي سعيد الخدري -رضي الله تعالى عنه- قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - " أكمل المؤمنين إيمانًا أحسنهم أخلاقًا الموطئون أكنافًا الذين يألفون ويؤلفون، وليس منا من لا يألف ولا يؤلف " أخرجه الطبراني في الأوسط والصغير، والبيهقي في شعب الإيمان.
ــــــــــــ
قوله - صلى الله عليه وسلم - "أكمل المؤمنين إيمانًا" فيه أن الإيمان يزيد وينقص كما هو مقرر عند أهل السنة والجماعة، يزيد بالطاعة وينقص بالمعصية.
وقوله - صلى الله عليه وسلم - "أحسنهم خلقًا" فيه عظيم شأن حسن الخلق، ويقابله عظيم قبح سوء الخلق، ولهذا قوله - صلى الله عليه وسلم - "أكمل المؤمنين إيمانًا أحسنهم خلقًا". جاءت الأحاديث الكثيرة في حسن الخلق والجميع يحفظها، وقد ذكر بعض أهل العلم كلمة جميلة عند قوله جل وعلا: { وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ (4) } (1) فيه بيان منزلة حسن الخلق لوصف الله -جل وعلا- لنبيه - صلى الله عليه وسلم - بتلك الصفة، قال بعض أهل العلم: تعظيم العظماء للشيء يدل على توغله في العظمة، فكيف إذا كان المعظم أعظم عظيم وهو الله جل وعلا، وإنك لعلى خلق عظيم، وفيه أيضًا تفاوت الناس في حسن الخلق، أكمل المؤمنين إيمانًا أحسنهم خلقًا، هناك من يقل، والتفاوت درجات.
__________
(1) - سورة القلم آية : 4.(1/27)
وقوله: "الموطئون أكنافًا" توطئة لين وتواضع، الذين يألفون ويؤلفون، قال - صلى الله عليه وسلم - " المؤمن يألف ويؤلف ولا خير فيمن لا يألف ولا يؤلف " فيه أن على دعاة الخير أن يكونوا أولى الناس بحسن الخلق، ليألفهم الناس، ولأن من أسباب قبول دعوة الخير محبة الناس لمن دعاهم، وحسن خلق الداعي لهم يهيئهم لقبول دعوته، بل لمحبة دعوته، كما أن سوء الخلق ينفرهم عن دعوته.
............................................................................. ـــــــــــــــ
ومن لطيف ما يذكر ما ساقه الذهبي عن بعضهم قال: إن الرجل السيئ في خلقه إذا دخل منزله توارى عنه أولاده، واختفى أهله حتى إن قطه ينزوي في الجدار من سوء خلقه، فهذا دليل على أن سوء الخلق تتعدى مضرته وأثره، قال - صلى الله عليه وسلم - " إن الرجل ليدرك بحسن خلقه درجة القائم بالليل الصائم بالنهار " بعض الناس قد يكون قليل البضاعة العلمية، لكن بحسن خلقه، وطيب معشره، ولكونه يألف ويؤلف يؤثر في جلسائه، في سامعيه، في رائيه، وبعض الناس قد يكون كثير البضاعة فصيح الكلام بليغ العبارة، لكن لسوء خلقه نفر الناس عنه، وأبغض الناس الحق بسببه، فليكن هذا على داعي الخير أن يضعه نصب عينيه، ولهذا كان من دعاء النبي - صلى الله عليه وسلم - في الحديث الحسن: " اللهم كما حسنت خلقي فحسن خلقي " وكذا قوله - صلى الله عليه وسلم - وهو أحسن الناس أخلاقًا: " اللهم اهدنا لأحسن الأخلاق لا يهدي لأحسنها إلا أنت، واصرف عنا سيئها لا يصرف عنا سيئها إلا أنت " .(1/28)
وفي قوله: "لا خير فيمن لا يألف ولا يؤلف" الحذر من تنفير الناس، ومن الجهالة بمكان أن بعض الناس لا يراعي هذا الأمر، ويقول: لا بد من بيان الحق ولو سخط الساخطون، نعم، هذا لا خلاف فيه، لكن لا يشفع لكلامك هذا أن تسلك تنفير الناس عن قبول دعوتك بخشونة في ألفاظك وسوء أخلاقك، الأسلوب الحسن يجعل البعيد قريبًا بفضل الله، ويجعل العسير يسيرًا بفضل الله، كما أن ضده من سوء الخلق يجعل القريب بعيدًا، كم من سوء خلق بعَّد قريبا، وعسَّر يسيرًا، وكم من حسن خلق قرَّب بعيدًا ويسَّر عسيرًا بفضل الله جل وعلا، فلزوم على من علم من نفسه ومن خلقه أن الناس ينفرون عنه أن يجاهد نفسه، وأن يوطن نفسه، وأن يكثر من الدعاء.
ويستحسن هنا ذكر النظرية الباطلة التي يزعم بعض مُنَظِّريها، أن الإنسان لا يستطيع أن يغير أخلاقه بل يكون كالحمل الوديع أو كالسبع المفترس، بعض الفلاسفة اسبينوزا وغيره ملاحدة زعموا أن الأخلاق لا تقبل التغير، وهذه النظرية باطلة شرعًا وعقلًا، فالكافر يسلم، والمسلم قد يكفر، تغيرت عقائد وأديان ألا تتغير أخلاق؟! ومن أسباب تغيير الأخلاق قوله عليه الصلاة والسلام: " إنما العلم بالتعلم، وإنما الحلم بالتحلم، ومن يتحر الخير يُعْطَه " تفعُّل، بذل الأسباب استفراغ الجهد من يتحر الخير يعطه، ومن يتوق الشر يوقه، فشاهد القول أن على طلبة العلم وعلى دعاة الخير أن يراعوا هذا الجانب؛ فقد كان نبينا -عليه الصلاة والسلام- أكمل الناس خلقًا، ونحن نرى في مجتمعنا أو نرى
............................................................................. ـــــــــــــــ
فيمن نعاصر ونعاشر من يؤثر على الناس بسمته ووقاره، ولو كان علمه قليلًا، كما أنا نرى أن بعض الناس قد يكون عنده علم يتميز بين أقرانه، لكن سوء الخلق حرمه وحرم غيره من خير كثير.(1/29)
أقف عند هذا الحد والله تعالى أعلم، وصلى الله وسلم وبارك على رسول الله، والحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات.
الحديث التاسع: من رأى منكم منكرا فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه
بسم الله الرحمن الرحيم. الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، قال المؤلف حفظه الله تعالى:
عن أبي سعيد الخدري - رضي الله تعالى عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - " من رأى منكم منكرًا فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه وذلك أضعف الإيمان " أخرجه مسلم.
ــــــــــــ
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على رسول الله أما بعد: أولًا قرأ الشيخ فهد فقال: قال المؤلف، وهنا فائدة يفرقون بين المصنف والمؤلف فيقولون: المؤلف هو الذي يجمع، والمصنف هو الذي ينحت من ذهنه، فإذا كان الكتاب عبارة عن جمع لأحاديث أو لنقولات فالأحسن أن يقال كما قال الشيخ قال المؤلف؛ لأن التأليف هو الجمع: { لَوْ أَنْفَقْتَ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ } (1) يعني ماذا؟ جمع، وفي البخاري قال، بابٌ، تأليف القرآن، يعني ماذا؟ يعني جمع القرآن، أما التصنيف فهو أن يكتب الكاتب من ذهنه، ولا مشاحة في الاصطلاح، والأمر في ذلك سهل.
هذا الحديث من أعظم الأحاديث، بل قال: قد قال بعضهم: هذا الحديث جمع الإسلام كله؛ لأن الإسلام أمر بمعروف ونهي عن منكر، فكل أحكام الإسلام تدل على الفضائل، وفي المقابل تنهى عن الرذائل.
............................................................................. ـــــــــــــــ
__________
(1) - سورة الأنفال آية : 63.(1/30)
قوله: "من رأى" فيه أن ذلك يشمل من رأى سواء رأى بعينه الباصرة، أم بلغه الخبر علمًا، فكل من رأى أو سمع منكرًا وعنده قدرة، فعليه أن يسعى في تغيير ذلك المنكر، وفيه أن المنكر يختلف بحسب المغير له، فمن الناس من يقدر على تغيير المنكر بيده، شريطة أن يكون في ذلك أمران: القدرة على ذلك، وعدم حصول المفسدة الكبرى في ذلك، من الناس من يستطيع أن يغير بلسانه بحسب المنكر، ومن الناس من يعجز فلا يستطيع التغيير لا بلسانه، ومن باب أولى لا يستطيع بيده، وهنا قاعدة أو هنا ضابط ذكره بعض أهل العلم، قال: عند تغيير المنكر أو أحوال تغيير المنكر على أربعة أقسام:
إما أن يغير المنكر ويحل محله منكر أكبر منه، وهذا لا يجوز؛ لأن هذا إزالة مفسدة ترتب على إزالة تلك المفسدة الصغرى مفسدة ماذا؟ مفسدة كبرى، هذا لا يجوز، يبقى المنكر على هيئته إذا ترتب على تغييره منكر أكبر فليبقَ على هيئته؛ ولذا يذكر أن شيخ الإسلام ابن تيمية لما دخل جنود التتار دمشق أو الشام كانوا يشربون الخمر فيتساقطون أو ينتشون، ويتركون القتال، فكأن بعض تلاميذ شيخ الإسلام أو بعض المسلمين يريد أن يكسر دنان الخمر أن يريق الخمر فكان يقول لهم دعوهم، إذا شربوا سكروا وغفلوا عنا، فإذا أفاقوا قتلوا المسلمين. إذن:
الحال الأولى: أن يترتب على تغيير المنكر منكر أكبر وهذا لا يجوز.
الحالة الثانية: أن يترتب على تغيير المنكر منكر أصغر، يعني يخِفّ شيء من المنكر وهذا يجب على من قدر عليه.
الحال الثالثة: أن يزول المنكر بالكلية، ولا يترتب في ذلك شيء، وهذا أوجب.(1/31)
الحال الرابعة: أن يزول المنكر ويترتب في مكانه منكر مساوٍ له، يقولون: وهذه بحسب حال المحتسب المغيِّر، أحيانًا على سبيل المثال مثل بعض المعاصرين بأن ترى قومًا يرون مجلات مثلًا، هذه المجلات فيها شُبَه عقدية تشكك في الصحابة، وتقدح في عدالة الصحابة الأطهار، وترمي أمهات المؤمنين وتشكك في مسلمات الإسلام عمومًا وثوابته، وهناك مجلات فيها قصص، إما قصص خرافات وماجنة وغزل، ولا بد من بقاء إحدى المجلتين، من أخطر على القراء الأولى ولّا الثانية؟ الأولى لا شك ولا ريب؛ لأنها فتن شبهات، أما الأخرى فتن ماذا؟ شهوات، تدرأ شر الأولى وتبقى الثانية ليس لأن
............................................................................. ـــــــــــــــ
فيها خير لكن لأنها أقل شرًّا، والعرب إذا فرقت بين الشرين، ما تقول هذا أحسن من هذا، تقول هذا أقل شرا من هذا.
وفي الحديث أيضًا أن براءة الذمة لا تستلزم إزالة المنكر، بل ذلك مرهون بالاستطاعة، ومن هنا يظهر خطأ بعض الناس، يوجب على الناس أن يسعوا في تغيير المنكر، ويلزم نفسه بذلك مع علمه بأنه لا يستطيع، مع علمه بأنه سيترتب مضرات أو ضرر أكبر ومضرات كبرى، هذا لا يجب عليه أن يأمر الناس بما لم يستطيعوا: { لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا } (1) { لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا مَا آَتَاهَا } (2) ؛ ولهذا من ضعف الفقه والسياسة الشرعية أن بعض الناس يرى أنه من لازم الأمر أن يتغير المنكر ولو ترتب ما ترتب، وهذا من الجهل: { وَلَا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ } (3) ماذا؟ { عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ } (4) .
__________
(1) - سورة البقرة آية : 286.
(2) - سورة الطلاق آية : 7.
(3) - سورة الأنعام آية : 108.
(4) - سورة الأنعام آية : 108.(1/32)
وفيه أيضًا كمال الشريعة وسماحتها حيث لم تكلف المسلم بما لا يستطيع، وفي الحديث أيضًا أن الإيمان قول وعمل واعتقاد، كما قرر ذلك أهل السنة والجماعة، فالقول من أين نأخذه، من قوله: بلسانه، والعمل من قوله: بيده، والاعتقاد عمل القلب من قوله ماذا؟ فبقلبه، وفي الحديث أيضًا أن الإيمان يزيد وينقص بحسب حال الشخص.
وهنا مسائل أذكرها باختصار:
المسألة الأولى: لا يجوز إنكار الشيء أو الأمر إلا بأمرين:
............................................................................. ـــــــــــــــ
الأمر الأول: أن يتحقق المغير أن ذلك الأمر منكر.
والأمر الثاني: أن يكون ذلك الأمر منكرًا في حق الفاعل.
والثالث: ألا يترتب على ذلك مضرة أكبر، مثال ذلك: رأيت رجلًا يأكل في رمضان هذا منكر، لكن قد يكون هذا المنكر ليس منكرًا في حق الفاعل كيف ذلك؟ قد يكون الآكل ماذا؟ مسافرًا، قد يكون مريضًا، قد يكون ناسيا، فالمرض والسفر له ذلك، لكن النسيان لا، هو منكر في حقه أنه لا يجوز، لكن كون أن الآكل مسافر أو مريض يحق له ذلك، لكن إذا كان يأكل أمام الناس في مجتمع جميع أهله صيام، فهنا يقال: ينبغي احترامًا لمشاعر الناس عدم الأكل، وأن لا يترتب منكر أكبر، ترى رجلًا يفعل منكرًا إما بكذب أو بسب وتعلم أنك لو نهيته في هذا الحال سيترتب عليك أمر أكبر، إما أن يسب دينك، أو أن يسب نبيك، أو أن يسب الصحابة، أو أن يسب أهل السنة، المهم سيترتب منكر أكبر، فمن السياسة الشرعية فقه هذه المسائل؛ لأن الغرض تغيير المنكر لا إحداث منكر أكبر.(1/33)
أيضًا من مسائل تغيير المنكر لم يستطع تغيير المنكر لا بيده ولا بلسانه ولا بقلبه، هناك مرتبة رابعة جاءت في القرآن والسنة، والسنة يفسر بعضها بعضا، في قوله جل وعلا: { وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آَيَاتِنَا } (1) ماذا؟ { فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ وَإِمَّا يُنْسِيَنَّكَ الشَّيْطَانُ فَلَا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَى } (2) قال - صلى الله عليه وسلم - " من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يجلس على مائدة يدار عليها الخمر " ماذا نستفيد من هذه النصوص؟ أن بعد تغيير المنكر بالقلب يستلزم ماذا؟ المفارقة، أما قول بعض الناس: أنا كاره بقلبي لكني أجلس فأسمع هذا المنكر وأرى هذا المنكر، هذا لا يسوغ له الجلوس، بل هو مشارك له في ذلك.
............................................................................. ـــــــــــــــ
ثم يقال: أعظم المنكرات التي يجب تغييرها، ما تعلق بأمور الشبهات من البدع، وما يقدح في جناب التوحيد، وما يتبع ذلك، وشعيرة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر قام بها الأنبياء عليهم الصلاة والسلام كلهم، وكانت تلك الشعيرة أساس دعوتهم.
ودعاة الخير أولى الناس بإحياء هذه الشعيرة، أعني الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وما ضعفت مجتمعات المسلمين إلا بتفريط كثير من دعاة الإصلاح في هذه الشعيرة، نعم يعنون بمنكرات، لكن هناك ما هو أولى منها.
__________
(1) - سورة الأنعام آية : 68.
(2) - سورة الأنعام آية : 68.(1/34)
في بعض مجتمعات المسلمين، الشرك قد ضرب أطنابه، وقد رفع راياته، والتوحيد قد يكون غريبًا، التوحيد الصافي، ومما أعان على غربته بعض من يتولى دعوة الإصلاح، بعضهم يغلب جانب الشهوات، ولا يلقي بالًا لجانب الشبهات، بل يزعم أن تغيير المنكرات العقدية فيها تفريق للأمة، وما علم هذا المسكين أنه بقوله هذا يفرق الأمة، المسلمون فيهم خير كثير، وفِطَرهم تحب الخير وتبحث عن الخير، لكن إذا بلوا بمن حجب عنهم الخير بزعم الإصلاح هنا تكون المصيبة، فيا دعاة الخير أنتم من بلاد شتى، وقد تحملتم أمانة العلم، ومجتمعاتكم وأمتكم تنتظر منكم.
ذهبت إلى غير بلدك ورأيت في بعض البلاد أنك قد لا تصلي في الغالب في مسجد بل تصلي في الحدائق أو في الفنادق لكثرة الأضرحة، وكثرة الشركيات والبدع العقدية، وإذا جالست هؤلاء العامة، وجدت أن قلوبهم طيبة، وأنهم يحبون الخير، ويتقبلون، لكن علماء السوء فرطوا أو تعمدوا صرفهم، إذن فأولى الناس بإصلاح الناس بعد توفيق الله أنتم، يا من تتحملون أمانة العلم.. دخلت في بلد، في قرية يظهر عليها آثار الفقر والمرض، وإذا بمبنى شاهق، مبنى رفيع بالنسبة لبيوت القرية، وعليه أثر الاعتناء، فدخلت مع -الصاحب- أو مع صاحبي، وإذا بضريح، والرمل منتقى ومصفى، والرائحة الزكية على ستار الضريح، وإذا برجل ساجد، سجود في الضريح، فقلت له: يا هذا قم، هذا الميت لا ينفع نفسه فضلا عن أن ينفع غيره، فقام المسكين ونظر إلي واستغرب ورجع، فسألت صاحبي -وهو من أهل البلد-: لماذا الرجل خائف ورجع هناك؟ قال: لأنه رُبي ونُشئ على أن من أهان هذا الولي أو شكك في قدرة منفعته للناس أنه تنزل صاعقة عليه، فهو يبتعد حتى ما تصيبه الصاعقة منك.
............................................................................. ـــــــــــــــ
مسكين، لو وجه هذا للتوحيد الصافي لرأيته من أحرص الناس، ومن أحب الناس للتوحيد.(1/35)
إذن ما قامت تلك البدعة العقدية إلا بتفريط كثير من دعاة الإصلاح، لا نتشاءم، حاشا وكلا، ولكن على المسلم أن يسعى إلى الخير جهده كما قال:
على المرء أن يسعى إلى الخير جهده ... وليس عليه أن تتم المقاصد
التغيير لمنكرات الشبهات أولى وأوجب وأجدر، لكن بالعلم، بالإخلاص لله تعالى وبالعلم في طريقة الإنكار، نعم.
الحديث العاشر: إن الله رفيق يحب الرفق في الأمر كله
وعن عائشة -رضي الله تعالى عنها- قالت: " استأذن رهط من اليهود على النبي - صلى الله عليه وسلم - فقالوا: السام عليكم، فقلت: بل عليكم السام واللعنة، فقال يا عائشة: إن الله رفيق يحب الرفق في الأمر كله، قلت: أولم تسمع ما قالوا، قال: قلت: وعليكم " أخرجه البخاري.
وعنها قالت: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يا عائشة: " إن الله رفيق يحب الرفق، ويعطي على الرفق ما لا يعطي على العنف، وما لا يعطي على ما سواه " أخرجه مسلم.
ــــــــــــ
قول اليهود: السام عليكم؛ فيه أن حقد اليهود عظيم، وفيه أن اليهود قوم بهت، وفيه عظيم بغض اليهود للنبي - صلى الله عليه وسلم - ولدينه، ولأمته عموما، وفيه أنه إذا كان أعداء الإسلام يقدحون في النبي - صلى الله عليه وسلم - في حياته بل وبمحضره فليس غريبا عليهم أن يقدحوا فيه بعد مماته؛ ولهذا ما حصل من قدح في النبي -عليه الصلاة والسلام- على تقادم الأزمان ليس غريبا، فقد قدحوا فيه بمحضره - صلى الله عليه وسلم - وهذا دليل على عظم دينه، وعظم شأن النبي - صلى الله عليه وسلم - وفيه أيضا أن شانئ النبي -عليه الصلاة والسلام- وأن القادح فيه والذامّ له أنه هو الخاسر، وليس هذا مقصورا على النبي عليه الصلاة والسلام، بل وفي حقه آكد، ثم أيضا في حق من نصر سنته واتبع هديه: { وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ (47) } (1) كل من آمن وسلك السبيل السوي.
__________
(1) - سورة الروم آية : 47.(1/36)
وفيه أيضا عظيم كيد أهل الضلال، وأنهم قد يؤذون داعية الخير، ولو في عقر داره، انظر: جاءوا إلى النبي -عليه الصلاة والسلام- في بيته، أضيافا عليه، وكان -عليه السلام- أكرم الناس، فأدخلهم في داره، ومع هذا آذوه بالقول، كما آذوه من قبل ومن بعد بالفعل، وعلى داعي الخير أن يوطن
............................................................................. ـــــــــــــــ
نفسه، قد يؤذى في بيته، يهان في شخصه، في سمعته، فإذا كان على خير فلا ضير، وفيه أيضا في قوله عليه الصلاة والسلام: " إن الله رفيق يحب الرفق في الأمر كله " فيه أن من أسماء الله الرفيق: " إن الله رفيق يحب الرفق في الأمر كله " وفيه فضل الرفق، والتأني في الأمر قبل القطع فيه، وبخاصة في دعاة الخير، تأنَّ قبل أن تدعو، تبصَّر فيما ستقول وفيما ستعمل، كم من إشاعة بنى عليها بعض الناس أمورا فزادوا الفساد فسادا، ولو أنهم ترفقوا وترووا وتأنوا لصلح العطب وزال الشر والفساد:
قد يدرك المتأني بعض حاجته ... وقد يكون مع المستعجل الزلل(1/37)
وخير من قول الشاعر قول نبي الله - صلى الله عليه وسلم - " إن الله رفيق يحب الرفق في الأمر كله " وكذا قوله - صلى الله عليه وسلم - " إذا أراد الله بأهل بيت خيرا أدخل عليهم الرفق " وكذا قوله - صلى الله عليه وسلم - " من يحرم الرفق يحرم الخير في الأمر كله " وكذا قوله - صلى الله عليه وسلم - في حديث قاله ابن القيم في إعلام الموقعين إسناده جيد: " التأني من الله، والعجلة من الشيطان " وكذا قوله - صلى الله عليه وسلم - " التؤدة في كل شيء خير، إلا في أمر الآخرة " التؤدة الترفق، وليس المراد أن تأخذ الأمور جزافا، ولكن تبادر وتسارع إلى فعل الخير ببصيرة، بعلم وبصيرة، وفيه إثبات صفة الرفق لله تعالى، والمحبة؛ إثبات صفة المحبة لله تعالى، يحب الرفق في الأمر كله، وفيه أن في الرفق حصول الخير للداعي والمدعوين، كما أن في العنف حصول الضرر للداعي والمدعوين، فعلى داعية الخير أن يترفق، وليس المراد أن يتقاعس وأن يتكاسل، لا، الترفق أن يأخذ الأمر بروية، وأن لا يتسرع فيندم ويعض أصابع الندم. نعم.
الحديث الحادي عشر: لا تلعنوه، فوالله ما علمت إلا أنه يحب الله ورسوله
وعن عمر بن الخطاب -رضي الله تعالى عنه-: " أن رجلا على عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - كان اسمه عبد الله وكان يلقب حمارا، وكان يضحك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وكان النبي - صلى الله عليه وسلم - قد جلده في الشراب، فأتي به يوما فأمر به فجلد، فقال رجل من القوم: اللهم العنه، ما أكثر ما يؤتى به، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - لا تلعنوه؛ فوالله ما علمت إنه يحب الله ورسوله " أخرجه البخاري.
ــــــــــــ(1/38)
والله ما علمت أيش عندك؟ إنه يحب الله ورسوله، أي: والله ما علمت إلا أنه يحب الله ورسوله. الشاهد في قوله: كان يضحك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فيه سماحة خلق النبي - صلى الله عليه وسلم - سماحة خلق النبي عليه الصلاة والسلام، رءوف رحيم ومن رأفته أنه يضحك مع أصحابه، ويتبسم معهم ويتبسط التبسط المحمود، أيضا وفيه الرد على من زعم أن الضحك والتبسم لا يليق بأهل العلم والوقار ودعاة الخير، بعض الناس يمنع أو يتحرج من الضحك ديانة، بل وينكر على من ضحك، ويرى أن ذلك مما ينقص الهيبة، وما يخرم المروءة، وهذا من الجهل؛ فالنبي -عليه الصلاة والسلام- كان يضحك ويتبسم ويتبسط مع أصحابه -رضي الله تعالى عنهم- لكن ذكر أهل العلم أن الضحك والتبسم على قسمين:
قسم مذموم: وهو الذي يخرج به الإنسان عن حد المروءة، لا تراه إلا ضاحكا متمسخرا، كثير الضحك في كل مجلس، لا يفرق في جميع الأحوال، فهذا مذموم، " إياك وكثرة الضحك؛ فإن كثرة الضحك تميت القلب " حديث أبي هريرة رضي الله تعالى عنه.
أما الضحك المحمود: هو الضحك بقدر، فيه إدخال السرور من غير تمسخر أو تنقص، ومما يأتي في بعض السير، بعض التراجم، قولهم عن بعض المترجمين: لم يُرَ ضاحكا أو لم ير يتبسم قط، في الغالب أن أهل العلم ينتقدون هذا الأمر، فيقولون: النبي -عليه الصلاة والسلام- أكمل المؤمنين أخلاقا، وأعظمهم هيبة ومهابة، ومع هذا لم يكن على هذا الهدي، أو على هذا النهج من عدم الضحك والتبسم؛ ولهذا كان من شمائله -عليه الصلاة والسلام- التنوع بحسب حال المخاطبين والمجالس، ومن
............................................................................. ـــــــــــــــ(1/39)
قرأ في شمائل الترمذي أو في غيرها رأى تنوع أحوال النبي عليه الصلاة والسلام، ودعاة الخير أولى الناس بهذا، في مجلس يتبسطون، فيه دعابة، مجلس فيه حزم، مجلس فيه نوع من الترويح، مجلس فيه علم وجد وإنكار وأمر؛ ولهذا تقرأ في فهارس شمائل الترمذي باب في ضحكه - صلى الله عليه وسلم - باب في تبسمه - صلى الله عليه وسلم - باب في بكائه - صلى الله عليه وسلم - باب في غضبه - صلى الله عليه وسلم - باب في فرحه - صلى الله عليه وسلم - وهكذا، والحكيم هو الذي يضع الأمور مواضعها، الضحك موطن الضحك، والغضب موطن الغضب.
أما التقطيب والعبوس والنفور من الأنس والترويح فهذا يأباه الإسلام وهدي الإسلام، وفيه أيضا أن غلبة الدعابة على رجل لا تنقص من شخصه، فهنا قال: كان يُضحك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يتمايز الناس يتفاوتون، فقد يغلب على بعضهم الدعابة، كما يغلب على بعضهم الغضب، يغلب على بعضهم الصمت، يغلب على بعضهم الوقار، فالناس أجناس، ونحن نعلم في مجالسنا وفي مجتمعاتنا أناس تغلب عليهم الدعابة، لكن شريطة أن لا تخرج تلك الدعابة إلى محظور شرعي، فهذا الصحابي الجليل كان يضحك النبي عليه الصلاة والسلام.(1/40)
من المعلوم أن إقرار النبي عليه السلام له دليل على أنه لم يكن في ضحكه يرتكب محظورا، يعني تهكما بأحد، أو قدحا في أحد، لهذا بعض الناس إذا غلب عليه الدعابة فلا ينكر عليه إذا كان بقدر، ولم يجرح أو لم يجرح دعابته بمحظور شرعي، وقوله: كان يلقب في الأول حمارا، جواز تلقيب الرجل باسم الحيوان، أو بأي اسم إذا كان يؤثر فيه، ولم يكن في الاسم محظور شرعي، فبعض الناس يحب هذا اللقب الذي اشتهر به، بل بعض الناس لم يعرف إلا بلقبه، وغاب اسمه، وهنا أذكر أمرا، نَقَدَ بعض الناس من دعاة الشعوبية إطلاق أسماء الحيوانات على العرب، أو تسمي العرب، ليس هذا من دعوة القومية حاش وكلا، لكن فائدة علمية، ذكر ابن قتيبة وغيره، أن العرب لما سمت بهذه الأسماء أخذت أفضل أوصافها فسمت بجحش وبحمار، وبجمل، وبذئب، لقوته، لتحمله، وما شاكل ذلك، كما أن الغراب اسم مشهور في الرواة، وحبيبنا الشيخ فهد قال: وسمت العرب بهذا الاسم لشدة حذره ونباهته، فإذا كان الإنسان حذرا ونبيها، فهذه منقبة، وياما أتعبنا حذر الشيخ فهد وتنبيهه سامحه الله.
............................................................................. ـــــــــــــــ
أيضا فيه في الحديث قوله: لا تلعنوه، فوالله ما علمت إلا أنه يحب الله ورسوله، فيه الإنكار على من خالف منهج الإنكار، قد يكون المنكر المعروف ارتكب خطأ فينكر عليه، ولهذا قد يخطئ الناصح، قد يخطئ المنكر، الرجل الذي كان ينصح أخاه في الحياء، يعظ أخاه في الحياء، هل أقره النبي عليه الصلاة والسلام، أم أنكر عليه، أنكر عليه، قال: دعه، هو ينصح أخاه، قصده سليم، قال: " دعه، فإن الحياء لا يأتي إلا بخير " كذلك هنا أخطئوا في الإنكار عليه، لعنوه، ولو كان قصدهم الإنكار فقد يقع صاحب تغيير المنكر في منكر آخر، لا تلعنوه، أيضا في الحديث الترفق بالمنكر عليه، ولو تكرر المنكر، إذا عُلِمَ منه أنه يحب الخير.(1/41)
بعض المنكرين إذا رأى الشخص قد تكرر منه المنكر قد يتغير، يفرق بين الأشخاص، بعض الناس تغلبه نفسه، ويُعلم أنه يحب الخير، لكن النفس أمارة بالسوء، بعض الناس لا، تعلم أنه لا يحب الخير، ويتعمد تكرار المنكر، مطاوعة لشيطانه وهواه، ولم يُعرف بحب الخير، فينبغي أن نفرق، ثم أيضا ينبغي على دعاة الخير، أن ينظروا للمنْكَرِ عليهم بنظرة النصح والشفقة، تختلف المنكرات حتى في المنكر العقدي، يقول شيخ الإسلام رحمه الله: ننظر إلى هؤلاء المخالفين بمنهج أهل السنة والجماعة بمنظارين: بعين القدر نرحمهم، بعين الشرع نبغضهم، نبغضهم لأعمالهم، لكن نحمد الله أن عافانا مما ابتلاهم به، وندعو لهم بالتوفيق والهداية، أيضا فيه النهي عن اللعن بغير حق.
وفي الحديث أيضا فيه ذكر ما في صاحب المعصية من خصال الخير، لعل ذلك يكون دافعا له لترك الشر، وأيضا لتذكير المنكرين بالترفق مع المنكر عليه، يشرب الخمر مرارا ويجلد، ثم لما لعن، نهاهم عن اللعن -عليه الصلاة والسلام- وقال: " والله ما علمت إلا أنه يحب الله ورسوله " وفيه أيضا أن مرتكب الكبيرة لا يَكفُر، خلافا لمن كفر كالخوارج ومن سار على نهجهم، لا يكفر، الخمر من كبائر الذنوب، وتكرر شربه، ومع هذا لم يكفر، بل يحب الله ورسوله، فعلى دعاة الخير أن يعلموا هذه الأصول وتلك الفروع في مسائل الإنكار، كم من محب للخير جلب على نفسه شرا، وجلب على المدعوين شرا، لعدم فقهه بهذه المسائل الشرعية العظيمة، نعم.
الحديث الثاني عشر: تبسمك في وجه أخيك لك صدقة
وعن أبي ذر -رضي الله تعالى عنه- قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - " تبسمك في وجه أخيك لك صدقة، وأمرك بالمعروف ونهيك عن المنكر صدقة، وإرشادك الرجل في أرض الضلال لك صدقة، وبصرك للرجل الرديء البصر لك صدقة، وإماطتك الحجر والشوكة والعظم عن الطريق لك صدقة، وإفراغك من دلوك في دلو أخيك لك صدقة " أخرجه البخاري في الأدب المفرد والترمذي وابن حبان.(1/42)
ــــــــــــ
أخرجه البخاري في الأدب المفرد، الأدب المفرد كتاب للإمام البخاري يختلف عن الصحيح، فإذا أطلق البخاري رواه البخاري فينصرف إلى ماذا؟ إلى الصحيح، وإذا أرادوا غيره قيدوه، كرواه البخاري في الأدب المفرد، رواه البخاري في التاريخ الكبير، التاريخ الصغير، التاريخ الأوسط، في جزء القراءة خلف الإمام، وهلم جرا.
قد ذكر ابن حجر فروقا ثلاثة، أو خصائص ثلاث للأدب المفرد، أن فيه أحاديث كثيرة ليست في الصحيح، وذكر أيضا قلة معلقاته فيه، ولا أذكر الأمر الثالث، شاهد القول: في الحديث كثرة أبواب الخير، كثرة أبواب الخير، التبسم صدقة، وتهدي الرجل الكفيف إلى مقصده صدقة، وتميط الأذى عن الطريق صدقة، وتأمر بالمعروف صدقة، وتفرغ من دلوك في دلو أخيك صدقة، الشاهد كثرة أبواب الخير، وفي الحديث أيضا أن النية تجعل العادة عبادة، فأنت إذا أزلت هذا الأذى بقصد التقرب والحصول على الأجر فأنت مأجور.
وفي الحديث أيضا عظيم عناية الإسلام بتحقيق مبدأ التعاون والتكاتف، كل هذه الخصال فيها ذلك، التبسم يجمع الشمل، التعاون في إفراغك من دلوك في دلو أخيك يجمع الشمل، إماطة الأذى تجمع الشمل، دليل على المحبة والتكاتف، الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر يجمع الشمل، ففي ذلك عظيم عناية الإسلام بمبدأ الترابط والتعاون، ودعاة الخير أولى الناس بإبراز هذا المبدأ، وفي الحديث
............................................................................. ـــــــــــــــ(1/43)
أيضا عدم احتقار الخير ولو كان يسيرا: { فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ (7) وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ (8) } (1) والنبي - صلى الله عليه وسلم - يقول: " لا تحقرن من المعروف شيئا " "شيئا" نكرة تشمل أي شيء، لا تحقر أي شيء من المعروف، رب كلمة تفتح لك أبوابا من الخير، رب عمل يسير كما قال ابن المبارك: رب عمل يسير تكبره النية.
لا تحقر شيئا من المعروف. أوصى الإمام أحمد -رحمه الله تعالى- أحد أبنائه فقال: ما قدرت عليه من الخير فاعمله، فربما لا تدركه في الغد، ولا ترجئ عمل اليوم إلى غد، لعل غدا يأتي وأنت فقيد. فرُبّ كلمة من الخير تشجع بها طالب علم، صدقة تدفعها في فم مسكين، تبسم في وجه مغموم، أمر بالمعروف لمن تلوث في معصية، هدايتك للرجل الكفيف، تحصل أو تحظى بدعوة، كل هذا خير، وأضرب لكم مثالا واحدا أو مثالين: الإمام الذهبي -رحمه الله تعالى- كان في أول أمره كما قرأت قصر همته على التاريخ، فكتب أو أطلع أحد أشياخه على ورقة، على بحث له أو على كتابة له، فشيخ الذهبي أخذ الكتاب ينظر فيه، وكان بجانبه الإمام البرزالي، فلما رأى خط الذهبي قال له: يا بني، خطك هذا يشبه خط المحدثين، شجعه، قال الذهبي: فحبب الله إليّ علم الحديث، حتى قال السبكي: لو قام الذهبي على ثنية -على جبل صغير- وأُتي بالرواة من عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى عهده، لقال: هذا فلان ابن فلان روى عن فلان عن فلان.
__________
(1) - سورة الزلزلة آية : 7-8.(1/44)
والبخاري، مر إسحاق وهم في مجلس مذاكرة، مجلس التحديث كان مجلسا، والمذاكرة مجلس يتذاكر فيه عشرة من الطلاب سويا وخمسة سويا، بعد ما يتفرقون من الدرس يجتمع كل ثلة مع بعضهم، فمر إسحاق على ثلة فيها البخاري مع بعض الشبيبة، فقال: لو أن أحدكم صنف مصنفا يجمع فيه ما صح عن النبي - صلى الله عليه وسلم - . قال البخاري، فوقع ذلك في نفسي وحبب الله إلي ذلك: " فلا تحقرن من المعروف شيئا " قوله: " تبسمك في وجه أخيك لك صدقة " أولى الناس دعاة الخير؛ لأن تبسمهم دعوة فعلية:
............................................................................. ـــــــــــــــ
بشاشة وجه المرء خير من القرى ... فكيف الذي يأتي به وهو ضاحك
لو دعاك إنسان إلى طعام، ووجهه باش هاش، لفرحت زيادة على فرحك بإكرامه لك، أما لو كان معبسا مكفهرا، لم يطب لك طعم الطعام.
أيضا نصح الناس بالرفق، الترفق مع الناس، التبسم في المواضع التي ترى فيها مصلحة، لا تبخل على الناس، قال جرير رضي الله تعالى عنه: " ما حجبني النبي -عليه السلام- منذ أسلمت، ولا رآني إلا تبسم في وجهي " أيضا يقال على دعاة الخير أن يحفظوا مروءتهم أن تخرم من الضحك بلا قيد من غلبة جانب التمسخر، بعض دعاة الخير لا تسمعه إلا ضاحكا أو متمسخرا، في مجالسه، في كلماته، في جميع شأنه، هذا خروج عن المألوف بل ينشِّئ السامعين والرائين إلى النهج أو نهج هذا المسلك، فليحذر طالب العلم، أن يسن سنة سيئة.
وحفظ المروءة، كما قيل: المروءة والحياء يبعثان على فعل الجميل وترك القبيح. فإياك أن تكون متمسخرا مضحاكا بزعم أن ذلك من ترغيب الناس، لا، الأمر بقدر، النبي -عليه السلام- أرحم الناس بالناس، وأعلم الناس بأحوال الناس، وأحكم الناس وأفقه الناس، عليه الصلاة والسلام، وكان يتبسم أحيانا في مواضع فيها مصلحة، ويغضب ويجد ويحزن، بحسب الحال.(1/45)
أيضا في قوله: " وإماطتك الحجر والشوك والعظم عن الطريق لك صدقة " فيه كمال دين الإسلام وعنايته بشئون الدنيا والدين، عنايته بشئون الدنيا والدين جميعا، وفيه أن على دعاة الخير أن يكونون قدوة في جميع شئونهم، ترى بعض دعاة الخير يقوم بأفعال يستقبحها الناس، كرمي الأذى في الطريق، رمي الأوراق أمام الناس، أو يفعل ما يستقبح، هو يظن أن هذا شيء لا قيمة له، أمر يسير، لكن الناس إذا رأوا ذلك منه انتقصوه، وترتب عليه ذلك نقده في المجالس، وقد يصل الأمر به إلى
............................................................................. ـــــــــــــــ
الغيبة كما يحصل، لكن إذا كان داعي الخير محافظا على مروءته وأخلاقه أثر في الناس بقوله وفعله. نعم يا شيخ.
الحديث الثالث عشر: في كل ذات كبد رطبة أجر
عن أبي هريرة -رضي الله تعالى عنه- قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - " بينما رجل يمشي بطريق اشتد عليه العطش، فوجد بئرا فنزل فيها فشرب، ثم خرج فإذا كلب يلهث يأكل الثرى من العطش، فقال الرجل: لقد بلغ هذا الكلب من العطش مثل الذي كان بلغ بي، فنزل البئر فملأ خفه ثم أمسكه بفيه، فسقى الكلب، فشكر الله له فغفر له، قالوا: يا رسول الله، وإن لنا في البهائم أجرا، فقال: نعم، في كل ذات كبد رطبة أجر " متفق عليه.
ــــــــــــ
في الحديث أن لداعي الخير أن يسوق الأخبار والقصص، ولا يثرب على من ذكر الأخبار والقصص، بشرط أن تكون قصصا حقة، وأن يفيد الناس بسوقه لها بذكر العبر والاعتبار، وفي الحديث أيضا، عند قوله: " لقد بلغ هذا مثل الذي بلغ بي " فيه أن تذكر النعم يُعين على شكرها، وبخاصة إذا رأى من حُرِمَها، ودعاة الخير أولى الناس بهذا، إذا أنعم الله عليك بالعلم، ورأيت من جهل فاحمد الله، وبلغ العلم.(1/46)
فإذا كان هذا الرجل لما شرب وارتوى سقى الكلب، وتذكر نعمة الله عليه، فسقى حيوانا فأُجِر عليه، ما بالك بمن علَّم أو سقى الناس حياة القلوب، الطعام حياة الأبدان، والعلم حياة القلوب، وحياة القلوب أعظم من حياة الأبدان، كما أن موت القلوب أعظم من موت الأبدان.
وفي الحديث أيضا: " السعي في عمل الخير مع كل أحد " التقرب إلى الله في عمل الخير، تقدم قبل قليل أن إماطتك الأذى صدقة، هنا مخلوق له كبد رطبة، روح، كلب تؤجر عليه، فمن باب أولى أن لا يسترخص الإنسان عملا فيه شيء من الخير، هنا صدقت نية الرجل، وأعطى الكلب لذاته، يعني لم يره أحد ولم ينتظر أجرا، بل أعطاه لأنه شعر أن الكلب قد بلغ منه العطش والألم كما بلغ به، فكان عاقبة أمره خيرا، وعاقبة أمره أجرا عظيما.
............................................................................. ـــــــــــــــ
وفيه أن شكر الله تعالى يكون بالقول والفعل، وحتى تكون الفائدة كاملة، قالوا: شكر الله -جل وعلا- على أربعة أقسام: بالقول باللسان، وبالقلب، وبالجوارح، وبالنعمة ذاتها.
فباللسان يلهج لسانك بشكر الله تعالى، وبالقلب أن تعتقد أن كل ما تيسر لك من النعم فهو من فضل الله ورحمته، وبالجوارح أن تسخر جوارحك في طاعة الله وأن تكفها عن معصية الله، فهذا شكر
لله بنعمة الجوارح، وبالنعمة ذاتها آتاك الله مالا أنفق في طاعة الله، آتاك الله علما علم الناس كما علمك الله، وفي قول الصحابة: يا رسول الله إن لنا في البهائم أجرا، فيه حرص الصحابة على جميع سبل الخير.
ومن ذلك أن على داعي الخير أن يحرص على كل سبيل يحصل به خيرا، وأن لا يسترخص شيئا من ذلك، وفي الحديث الرد على جمعيات الرفق بالحيوان، وطالب العلم ينبغي أن يكون على بينة فيما يُرمى به الإسلام من الشبهات والتضليل، وبخاصة أن كثيرا من ضعفاء النفوس من المسلمين ينساق وراء هذه الشبهات جهلا أو مرضا، مرضا قلبيا.(1/47)
ففي هذا الحديث رد بليغ على جمعيات الرفق بالحيوان الزاعمة بأن الإسلام ظلم الحيوان، وهذه الجمعيات تنشط عند قدوم عيد ماذا؟ الأضحى، وبخاصة في البلاد التي فيها أقليات إسلامية، والإسلام العظيم قد أعطى الحيوان حقوقه، ولو تأملت في النصوص الشرعية لوجدت أن تلك الجمعيات قد ظلمت الإنسان والحيوان سويا.
أنفقت الأموال الطائلة على الحيوانات، وضيعت حقوق الإنسان، مساجد تهدم، وحيوانات تكرم، أطفال ييتمون، ونساء ترمل، ومدارس تهدم، وكلاب وقطط يعقد لها حفلات، ويعقد لها اجتماعات، بل أعجب ما قرأت وأستميحكم عذرا عن مصنع لعطر خاص للكلاب، فهنيئا للكلاب بالكلاب، وعزاء لك أيتها العقول، كنت في دولة أوروبية، كنت أعبر الشارع كان ورائي امرأة تقود كلبا بسلسلة، ومع الكلب صبي يمشي وراءه، المهم بعد ما عبرت الشارع سمعت صوت كوابح سيارة، فالتفت فإذا بالمرأة تتكلم بشدة على سائق السيارة، أنا لا أفهم تلك اللغة، فسألت المترجم، فقال: تقول له سأقيم عليك دعوى في المحكمة؛ لأنك عرضت حياة كلبي للموت. قلت: والطفل؟ قال: لم تذكر طفلها في الكلام.
............................................................................. ـــــــــــــــ(1/48)
نحمد الله على نعمة العقل، نعمة الفطرة؛ ولهذا أذكر لكم بعض عناية الإسلام بالحيوان، أذكر لكم بعضا من ذلك، قال - صلى الله عليه وسلم - " دخلت النار امرأة في هرة " لاحظ، رتب دخول النار أو جعل من أسباب دخول النار تعذيب ماذا؟ الحيوان، بينما هنا غفر الله له بإكرامه أو بسقيه الحيوان، " ودخل النبي عليه الصلاة والسلام -فيما رواه مسلم- حائطا أي بستانا، سمي بالحائط لأنه محوط، فإذا بجمل يأتي إلى النبي عليه السلام، ويبرك عند قدميه، وتذرف عينا الجمل، فقال عليه الصلاة والسلام: من ص(4) هذا الجمل أو البعير، فجاء فتى للأنصار معه عصى غليظة، قال: أنا يا رسول الله، قال: اتق الله في بعيرك هذا، فإنه قد شكا لي أنك تجيعه وتدئبه -تضربه- " وفي المسند: " أن النبي -عليه السلام- كان في الصحراء مع بعض أصحابه جلوسا، فجاءت حمرة من طيور البر، تحوم فوق رأس النبي عليه الصلاة والسلام، فقال عليه الصلاة والسلام: من فجع هذه بولدها، قالوا أو قال بعض الصحابة: يا رسول الله، أنا أخذت بيضها، قال: رد عليها بيضها " .
" ورأى النبي -عليه الصلاة والسلام- رجلين يتكلمان وهم جالسان راكبان على حمارين، فقال: لا تتخذوا هذه الدواب كراسي " وقال عليه الصلاة والسلام: " إذا قتلتم فأحسنوا القتلة، وإذا ذبحتم فأحسنوا الذبحة، وليحد أحدكم شفرته، وليرح ذبيحته " وأوجب الفقهاء على من كان عنده بهيمة أن يطعمها، فإن كان عاجزا فليبعها أو ليذبحها، بل ذكر بعضهم إذا لجأت إلى بيته قطة عمياء أن يطعمها، وذكر بعض الشافعية أن على الطيان -الطيان من يطين الجدر- يجب عليه قبل أن يطين الشقوق أن يتأكد هل فيها ماذا؟ طيور من عصافير أو غيرها.(1/49)
ورفع إلى بعض أئمة المالكية، القابسي، أن رجلا أراد أن يذبح تيسا فجرَّح مكان الذبح بالسكين يزيل الشعر، فقال: هذا يعزر ويذاق تعزيرا وجيعا حتى يتأدب، بهيمة، فهذه الأمور شيء يسير مما جعله الإسلام لحق الحيوان، فينبغي لطالب العلم أن يكون على بينة؛ لأن هذه الشبهات تثار في كل عام، نعم يا شيخ فهد.
الحديث الرابع عشر: كنت أمشي مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وعليه برد نجراني غليظ الحاشية
عن أنس بن مالك -رضي الله تعالى عنه- قال: " كنت أمشي مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وعليه برد نجراني غليظ الحاشية، فأدركه أعرابي فجبذه برداءه جبذة شديدة، حتى نظرت إلى صفحة عاتق رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قد أثرت بها حاشية البرد من شدة جبذته، ثم قال: يا محمد مر لي من مال الله الذي عندك، فالتفت إليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ثم ضحك، ثم أمر له بعطاء " متفق عليه.
ــــــــــــ
قوله: كنت أمشي مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فيه تواضع النبي - صلى الله عليه وسلم - في مشيته مع الصغار، مع الشاب الصغير، مع الخادم، ودعاة الخير أولى الناس بهذا، يترفع بعض الناس، ويرى أنه إذا وقف مع صبي فإن ذلك من قلة هيبته ومن إنزاله عن منزلته، وهذا جهل، دعاة الخير أولى الناس بهذا الخلق، كما كان نبينا - صلى الله عليه وسلم - وقوله: برد نجراني غليظ الحاشية، البرد نوع من اللباس، ونجران المعروفة هذه، فيه زهد النبي - صلى الله عليه وسلم - في ترك الترفه في اللباس، " إن الله جميل يحب الجمال " كما سيأتي.
لكن بعض الناس يُعنى، يغلب جانب الاهتمام بملابسه على أمور أخرى، نعم، تجملْ في ملابسك، ولكن التجمل الذي لا يخرجك عن الحد، المخالف للشرع من الإسراف والبذخ، وجعل هذا هو القصد الأكبر.(1/50)
وفي الحديث أيضا عناية الصحابة في نقل أخبار النبي عليه الصلاة والسلام، أنس كان شابا صغيرا , وهذا حدث وقع في حضوره هذا الأمر، فمن باب أمانته في النقل نقل هذا الخبر، لعلمه بعظيم فائدته، وفي الحديث أيضا توطين دعاة الخير على تحمل أذى الناس، وبخاصة ممن قد يكون في خُلُقه غلظة أو جهالة، هنا يتميز طالب العلم وداعي الخير عن غيره، تحمل دعوة الناس، تحمل أخلاق الناس؛ لأن ذلك ينعكس عليهم، وعليك أنت، أنت مأجور، وهذا يهيئ نفوسهم لقبول دعوتك.
............................................................................. ـــــــــــــــ
ولهذا قد يغلط عليك بعض الناس، فتحمل، في البخاري نهج عمر هذا النهج، نهج النبي عليه الصلاة والسلام، دخل على عمر رجل في خلافته، بل في مجلس خلافته، فقال: يا ابن الخطاب والله ما تعطينا الجزل، وما تحكم بيننا بالعدل، قال الراوي -أظنه ابن عباس- فقام عمر وهم أن يقع به، فقال الحر بن قيس: يا أمير المؤمنين، إن الله قال لنبيه - صلى الله عليه وسلم - { خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ (199) } (1) وإن هذا من الجاهلين، قال ابن عباس: فوالله ما جاوزها عمر حين تلاها عليه، وكان وقافا عند حدود الله.
__________
(1) - سورة الأعراف آية : 199.(1/51)
أنت يا داعي الخير يا طالب العلم أولى الناس بهذه الأخلاق، وقد رأينا من مشايخنا صبرا وتحملا لأمور لو حصلت لبعضنا قد يثور ويخرج من طوره، لكن الحلم والتخلق بهذه الأخلاق العظيمة يزيدك عند الله رفعة ثم عند الناس، وأيضا يهيئ الناس لقبول دعوتك.. أذكر أن رجلا في درس سماحة الشيخ ابن باز -رحمه الله تعالى- في عام اثنين وتسعين للهجرة بعد المائة الثالثة والألف سأل الشيخ سؤالا فكأن الشيخ ما سمع السؤال، أو أراد أن يستوضح عفوا من السائل، فقاطع الشيخ السائل ليستوضحه، فقال السائل وكان رجلا كفيفا كبير السن: اصبر يا شيخ، ثم أعاد السؤال فكأن الشيخ رحمه الله لبعد السائل عن الشيخ أراد الاستيضاح، فأيضا الشيخ قاطعه ليطلب منه الاستيضاح، فقال: يا شيخ لا تعجل، والثالثة أيضا أمر الشيخ بالاستيضاح، فقال: يا شيخ لا تعجل أنت مفتٍ لا تخطئ في الفهم اسمع السؤال كاملا ثم أجب، فقال الشيخ: خيرا إن شاء الله، لو قال هذا لبعضنا قد يكون ما لا تحمد عقباه.
في قوله: يا محمد، فيه ذم من كره أن ينادى باسمه العلم، بعض الناس قد يخطئ أو قد يناديه بعض الناس باسم، باسمه العلم، فيرى أن ذلك تنقص في حقه، يعني مثلا يقول: أيها الشيخ، أيها كذا، انظر مَن المخاطب أولا، مَن المخاطب لك، حتى ولو كان المخاطب لك ممن يعرف بالمشيخة، الأولى أن يعود الإنسان بخاصة داعي الخير نفسه. يا محمد مر لي من مال الله، بعض الناس يكره إلا أن يلقب
............................................................................. ـــــــــــــــ
بألقاب التفخيم، ينبغي أن تفرق بين المنادي لك، فإن كان من عامة الناس، أو ممن يجهل، أو ممن في خلقه جفاء أن تتحمل ذلك، والنبي -عليه السلام- هنا تبسم، في ذلك أن على دعاة الخير أن يفعلوا قبل إجابة السائل ما يُرغِّب السائل في قبول دعوتهم.(1/52)
يلحظ في بعض مسائل أئمة الدعوة -عليهم رحمة الله- وبخاصة الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله، اعلم علمني الله وإياك، اعلم رحمك الله، اعلم أرشدك الله تعالى، هذا يهيئ النفس لقبول ما سيقال، من أساليب العرب أنها تستفهم في أول الكلام لتشوق السامع للكلام، كذلك أيضا من الأساليب المشوقة لقبول الكلام الدعاء، إذا أتاك رجلا يسأل، أو أردت أن تنصح فتقول: اسمع هداك الله، اسمع بارك الله فيك، جوابك رعاك الله كذا وكذا، أقول لك: غفر الله لك ولوالديك، هذا الكلام مقدمة يعقبه نتيجة، المقدمة هذه يعقبها التقبل والقبول من السامع لك.
أيضا فيه، الحديث، أن على داعي الخير أن يعطي السائل جواب سؤله ولو أساء الأدب، يشفع لإساءته جهله، فلا تحرمه أو فلا تجعله يصاب بأمرين: أساء الأدب معك، ولم يأخذ منك خيرا. ولكن إساءته الأدب هذا خطأ لكن أيضا حرمانه من الخير خطأ أكبر، فإياك أن تغفل هذا الأمر، احتسب أذيته لك، وفي المقابل احتسب تعليمك له. نعم يا شيخ فهد.
الحديث الخامس عشر: جاء رجل إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فاستأذنه في الجهاد فقال: أحي والداك
وعن عبد الله بن عمرو بن العاص -رضي الله تعالى عنهما- قال: " جاء رجل إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فاستأذنه في الجهاد فقال: أحي والداك، قال نعم، قال: ففيهما فجاهد " متفق عليه.
ــــــــــــ(1/53)
فيه حرص الصحابة -رضي الله تعالى عنهم- على مراجعة النبي - صلى الله عليه وسلم - فهذا الصحابي أتى ليجاهد، ولكنه أراد أن يكون جهاده على علم وعلى بصيرة، فسأل النبي عليه الصلاة والسلام: " يا رسول الله ائذن لي بالجهاد، فقال النبي عليه الصلاة والسلام: أحي والداك " فيه أيضا فضيلة الجهاد، وفيه عظيم شأن منزلة الوالدين " قال: نعم، قال: ففيهما فجاهد " فيه حرص النبي - صلى الله عليه وسلم - على شأن الوالدين: " أي العمل أفضل؟ قال: الصلاة على وقتها، قلت: ثم أي؟ قال: بر الوالدين، قلت: ثم أي؟ قال: الجهاد في سبيل الله " فما بالكم من يتذمر ويضيق ذرعا إذا قلت له قَدِّم والديك على ذهابك للجهاد، قدم طاعة والديك على حبك للجهاد.
هنا الجهاد مشروع، وفي عهد النبي عليه الصلاة والسلام، وأي شرف، وأي فخر، وأي منزلة في جهادٍ مع النبي عليه الصلاة والسلام، ومع هذا كله، ألك والدان؟ قال: نعم، قال: ففيهما فجاهد. وفي الحديث أيضا أن دعاة الخير أولى الناس ببر والديهم، وأن عليهم أن يلزموا هذا الأمر، فقد كان أنبياء الله -عليهم الصلاة والسلام- أحرص الناس على بر والديهم.
يضيق بعض طلبة العلم، وبعض المحبين للخير، إذا ذكرت طاعة والديه، وقلت لكم أمس: ذاك الشاب الذي سأل الإمام أحمد رحمه الله، يا إمام، الرجل يرحل لطلب العلم فيمنعه والداه؟ قال: أما ما لا بد له فنعم، وأما ما سوى ذلك فأمر الوالدين أعظم وأجل شأنا.. أنبياء الله -عليهم الصلاة والسلام- كانوا أبر الناس بوالديهم، بل ذكر الله بر الوالدين حتى ولو كانا مشركين.
............................................................................. ـــــــــــــــ(1/54)
والبر أنواع: { وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلَى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ } (1) لاحظْ جاهداك، على الشرك: { فَلَا تُطِعْهُمَا } (2) هذا نهي، لكن جاء الأمر: { وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا } (3) جاهداك على الشرك لا تطعهما، لكن الأمر أن تصاحبهم.
ولهذا كان أنبياء الله أبر الناس، عليهم الصلاة والسلام بالوالدين، نوح عليه السلام: { رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِمَنْ دَخَلَ بَيْتِيَ مُؤْمِنًا } (4) داود، سليمان: { رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ } (5) ذكر الوالدين بالخير، إبراهيم كان بارا بوالديه أتم البر: { يَا أَبَتِ لَا تَعْبُدِ الشَّيْطَانَ } (6) { يَا أَبَتِ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يَمَسَّكَ عَذَابٌ مِنَ الرَّحْمَنِ } (7) يا أبتِ، للترفق، يقول بعض المفسرين: استعمل الخليل -عليه السلام- أرق عبارات الخطاب، الأبوة، وذكر والده بالخير الذي فوته، وبالشر الذي هو عليه.
............................................................................. ـــــــــــــــ
عيسى عليه السلام: { وَبَرًّا بِوَالِدَتِي } (8) يحيى عليه السلام: { وَبَرًّا بِوَالِدَيْهِ } (9) والنبي عليه السلام كان بارا بوالديه، قد تقول: كيف ذلك. عم الرجل صنو أبيه، وكان عليه الصلاة والسلام يبر بعمه أبي طالب، وحاول فيه، يا عم قل: لا إله إلا الله، كلمة أحاج لك بها عند الله.
__________
(1) - سورة لقمان آية : 15.
(2) - سورة العنكبوت آية : 8.
(3) - سورة لقمان آية : 15.
(4) - سورة نوح آية : 28.
(5) - سورة النمل آية : 19.
(6) - سورة مريم آية : 44.
(7) - سورة مريم آية : 45.
(8) - سورة مريم آية : 32.
(9) - سورة مريم آية : 14.(1/55)
وقد ذكر أهل العلم عجائب في برهم بوالديهم. الإمام أبو حنيفة ذكر صاحب كتاب مناقب أبي حنيفة ابن مكي، قال: رأيت الإمام أبا حنيفة قد أركب أمه على حمار، وذهب بها إلى علقمة -علقمة كان إماما لمسجد في الحي الذي يسكن فيه أبو حنيفة- تسأل أم أبي حنيفة أبا حنيفة عن أمر من أمور النساء، فلما أجابها، قالت: دع عنك هذا، اذهب بي إلى علقمة، وعلقمة من تلاميذ أبي حنيفة -كما أذكر الآن- فلما جاء أبو حنيفة وقد أركب أمه على الحمار -رحمهم الله تعالى- قال أبو حنيفة: يا علقمة هذه أمي تستفتيك، فخجل واضطرب -وهو تلميذ من أصاغر تلاميذ أبي حنيفة- فقال: يا أماه هذا أبو حنيفة. قالت: أجبني، ما تفعل المرأة إذا حصل كذا وكذا؟ فأتذكر أن أبا حنيفة أشار له بالجواب، فقال: افعلي كذا. قالت: هذا العلم والله لا علم أبي حنيفة. مع أن الجواب واحد لكن بره بأبيه.
حيوة بن شريح كان في مجلس العلم تأتيه أمه تقول: يا حيوة قم، قم أعط الدجاج الحب، فيقوم وينزل ويعطيها الحب، وما منعه علمه ولا هيبته.
الإمام الذهبي -رحمه الله- ذكر عن نفسه في كتاب معرفة القراء الكبار، ذكر أحد القراء وقال: إنني كنت أتحسر ولا أتجسر من والدي، فأذن لي بالرحلة لشهر واحد، فذهبت ولم أختم، وقد وددت أن أجلس ولكنني وعدت الوالد. ولما سئل ابن عساكر: لماذا لم يقدم ذكروا مدينة لا أذكرها الآن، قال: كانت الوالدة تمنعني من ذلك.
ولما قدم أحد المحدثين إلى بغداد جاء أحدهم إلى أحمد، فقال: يا أحمد، نعبر الشط، النهر -يروي عنه- قال: إن أمي قد أخذت علي العهد أن لا أعبر إذا كان النهر قد فاض، فاذهب أنت.
............................................................................. ـــــــــــــــ
والأمثلة كثيرة:(1/56)
حجر بن الأدبر -رحمه الله- كان يتقلب على فراشه أو على فراشه أمه، فسئل لماذا؟ قال: أخشى أن يكون حجر تحت فراشها. والمعتمر بن سليمان يقول: بت أغمز قدمي أمي وبات أخي يصلي وما أحب أن ليلتي بليلته، لأن النفع هناك متعدٍ لبره بأمه وهذا النفع قاصر. فطالب العلم أولى الناس ببر والديه.
بر الوالدين يفتح أبوابا من الخير ويغلق أبوابا من الشر، فاحرص يا رعاك الله على هذا الأمر ترى من الله تعالى ما يسرك ويشرح صدرك.
قبل الختام هناك سؤالان في الحقيقة:
الأول: يقول لماذا طبع كتاب باسم الأربعين؟
العهدة على الطابع، والشيخ فهد الغراب، طبع الغراب الحذر، لكنه غُلب هذه المرة، فالأصل أن يقال: الأربعون، لكن كما قال الشافعي: أهل اللغة جن الإنس، يبصرون ما لا يبصر غيرهم. يقولون: هذا مقدر، بحذف مقدر، هذا كتاب الأربعين، أو هذا جزء في الأربعين.
الأمر الثاني: فيما يتعلق بصفة اليدين لله تعالى.
جاء في القرآن الكريم، اليد بالإفراد { بِيَدِهِ الْمُلْكُ } (1) للجنس، وجاء { لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ } (2) للحقيقة، وجاء { مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا } (3) للتعظيم الجمع، فلله يدان تليقان به، صفتان حقيقيتان لا تكيف ولا تشبه، بل تليقان به يقال فيهما كسائر الصفات.
جاء في بعض الروايات: يقبض بيمينه ويقبض بالأخرى، في بعضها بشماله. وهذه الرواية كما قلت لكم أمس: فيها ضعف، قوله: كلتا يدي ربي يمين، إثبات اليدين الحقيقيتين لله جل وعلا.
............................................................................. ـــــــــــــــ
__________
(1) - سورة الملك آية : 1.
(2) - سورة ص آية : 75.
(3) - سورة يس آية : 71.(1/57)
فمن أثبت الشمال قال: يمين وشمال. ومن ضعف الشمال قال: كلتاهما يمين. قال بعض الشراح: حتى لا يتوهم أن في الأخرى نقصا. والشيخ عبد الرزاق موجود ودرسه متعلق بالصفات، وهو أدرى بالتفصيل في هذا، شكر الله لكم جميعا، وصلى الله وسلم وبارك على رسول الله.
الحديث السادس عشر: صل صلاة مودع، فإنك إن كنت لا تراه فإنه يراك
بسم الله الرحمن الرحيم. الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، قال المؤلف حفظه الله تعالى:
عن ابن عمر -رضي الله تعالى عنهما- قال: " أتى رجل النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: يا رسول الله، حدثني بحديث واجعله موجزا، فقال له النبي - صلى الله عليه وسلم - صل صلاة مودع فإنك إن كنت لا تراه فإنه يراك، وايأس بما في أيدي الناس تكن غنيا، وإياك وما يعتذر منه " أخرجه الطبراني في الكبير.
ــــــــــــ
الحمد لله رب العالمين وصلى الله وسلم وبارك على رسول الله، أما بعد..
هذا الحديث أخرجه الطبراني في معجمه الأوسط، وأظنه في الكبير كذلك، وإسناده فيه مقال، إلا أن له طرقا كثيرة، يرتقي بها الحديث عند بعض أهل العلم إلى درجة الحسن، وهذا الحديث فيه أولا تواضع النبي - صلى الله عليه وسلم - لطلب ذلك السائل الذي اشترط في سؤاله شرطا، "واجعله موجزا" إما لأن الصحابي علم من نفسه أن الكلام إذا كان طويلا قد يعجز عن حفظه وفهمه، فطلب من النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يوجز له في الحديث، وهذه من السياسة الدعوية أن يراعي المسئول والداعي حال المدعوين وحال السائلين، فقد يكون الكلام علميا، لكن فيه طول، فتذهب فائدته على السائل أو السامع، ولكن إذا راعى المسئول والداعي حال السائل، ففي ذلك خير للمسئول والسائل؛ خير للمسئول لأنه قد أدى العلم وتحقق النفع والأجر، وخير للسائل لأنه قد حصل ما يريد.(1/58)
ولهذا ينبغي لطالب العلم أن لا يجد في نفسه حرجا أو ضيقا إذا اشترط السائل في سؤاله شرطا، السائل يرى أن ذلك من مصلحته.
أيضا، قد تكون الحاجة داعية إلى أن يزيد المسئول في جواب السؤال للمصلحة، "باب من سئل فأجاب السائلَ بأكثر مما سئل" " يا رسول الله أنتوضأ من ماء البحر؟ " فقط السؤال عن الوضوء،
............................................................................. ـــــــــــــــ
فقال: " هو الطهور ماؤه، الحل ميتته " واكتبوا عندكم هذه الفائدة، "حال المسئول في جوابه مع السائل" أنتم طلبة علم وتُسألون، وقبل ذكر الأحوال لا بد أن يكون المسئول على علم من جواب السؤال:
الحال الأولى: أن تجيب السائل على قدر سؤاله " يا رسول الله، أي العمل أفضل؟ قال: الصلاة على وقتها، قلت: ثم أي؟ قال: بر الوالدين، قلت: ثم أي؟ قال: الجهاد في سبيل الله، ولو استزدته لزادني " .
الحال الثانية: أن يجيب المسئول السائل بأكثر مما سأل إذا كان هناك مصلحة، ومثاله ما تقدم " أنتوضأ من ماء البحر، قال: هو الطهور ماؤه الحل ميتته " ومثال آخر: " يا رسول الله ما يلبس المحرم؟ قال: لا يلبس السراويل ولا البرانس " إلى آخر الحديث.
الحال الثالثة: الإعراض عن السائل إذا سأل في غير وقت سؤال " كان النبي -عليه الصلاة والسلام- يتكلم فقال رجل: يا رسول الله متى الساعة؟ فأعرض عنه، فلا ندري أسمعه، أم لم يسمعه، فلما فرغ قال: أين أراه السائل عن الساعة " دل على ماذا؟ أنه سمعه.(1/59)
الحال الرابعة: أن يجعل المسئول السائل مسئولا، كيف هذا؟ أن يجعل المسئول السائل مسئولا، تقلب السؤال عليه، بخاصة إذا كان السؤال يتعلق في رد شبهة " جاء رجل إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال يا رسول الله إن امرأتي ولدت غلاما أسود " قد الرجل الأسود يأتي بطفل أبيض والعكس، وهذه أمور معلومة ومشاهدة " قال: يا رسول الله إن امرأتي ولدت غلاما أسود " السائل في سؤاله هذا قد يكون في نفسه شيء وحرج، فأراد النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يزيل شكه وحرجه، وأن يجيب على سؤاله، كيف ذلك؟ استعمل معه طريقة يقنع نفسه بنفسه، فقال عليه الصلاة والسلام: " ألك إبل؟ " من السائل الآن؟ النبي عليه الصلاة والسلام، من المجيب؟ المسئول. السائل الأول الصحابي " ألك إبل؟ قال: نعم " السؤال الثاني: " ما ألوانها؟ قال: دهم " السؤال الثالث: " هل فيها من أورق؟ قال: نعم " السؤال الرابع: " أنى ذلك؟ قال: يا رسول الله لعله نزعه عرق " هذا البعير خالف السلالة في لونه، فقال: أنى ذلك له؟ قال لعله نزعه عرق، فقال عليه الصلاة والسلام: " لعل غلامك هذا نزعه عرق " هل زال شك الصحابي وحرجه؟ نعم.
............................................................................. ـــــــــــــــ
مثال آخر: " جاءت امرأة قالت: يا رسول الله إن فريضة الحج أدركت أبي شيخا كبيرا لا يستطيع أن يثبت على الراحلة، أفأحج عنه؟ " تريد إما نعم أو لا، فقال لها عليه الصلاة والسلام: " أرأيت لو كان على أبيك دين أكنت قاضيته؟ قالت: نعم يا رسول الله، قال: فدين الله أحق بالقضاء " .
مثال آخر، أو منهج آخر في الجواب عن السؤال، أن يكون الجواب بالفعل، ولكن هذا لا يكون إلا لمن له سلطة وقوة.(1/60)
جاء رجل إلى عمر، أو بلغ عمر خبر أن صبيغا يثير تساؤلات في متشابه القرآن الكريم، ويورد أسئلة يبحث عن جواب أو يريد بها شكا وإشكالا وتلبيسا، فلما بلغ عمر أمره أتى به، قال: أنت صبيغ، قال: نعم، قال: أنت القائل كذا وكذا وكذا؟ قال: نعم، فضربه بماذا؟ بالدِّرة أو الدُّرة أو الدَّرة، ماذا يقال؟ أنا الآن أعطيتكم كيف يجيب السائل المسئول، وخالفتم منهجي ها الحين.
الدُّرة بالضم سُرة الذهب، والدَّرة قيل: در الحليب الشاة. والدِّرة بالكسر التي يحملها عمر، فضربه عمر بالدِّرة وقال: لا يؤاكل ولا يجالس، ولا يشارب، ولا يبتاع منه ولا يباع عليه، فمكث على فراشه شهرا، فلما تعافى أُتي به إلى عمر، فضربه مرة أخرى، فقال: لا يؤاكل ولا يشارب ولا يجالس، فلما أفاق بعد شهر أتى به عمر، فضربه، فلما أفاق الرابعة قال: يا أمير المؤمنين إن كنت تريد قتلي فأحسن قتلتي، وإن كنت تريد إقناعي فقد أذهب الله شيطاني، وهذه لا تكون إلا لمن له سلطان، وبخاصة مع أصحاب الشبهات والبدع المضللة.
قوله: " صل صلاة مودع كأنك تراه فإن كنت لا تراه فإنه يراك " فيه أن استشعار حلول خاتمة العبد عند تلبسه بالعبادة يزيد العبد إخباتا ويقينا وإخلاصا "صل صلاة مودع" اجعل هذه الصلاة آخر صلاة تصليها، يحدثني بعض رجال الأمن يقول: قدمنا رجلا للقصاص، فكان يصلي قبل القصاص، يقول: فدعا وتضرع وألح على الله وخشع في صلاته ودعائه، فأحسب لحسن ظني بالله أن يقبل الله دعاءه؛ لأنه في حال يعلم أن هذه الصلاة آخر صلاة سيصليها.
............................................................................. ـــــــــــــــ
فاستشعارك أن هذا الحج آخر حج تقوم به، أو أن هذا الشهر أو هذا اليوم آخر يوم تصومه، أو أن هذه القراءة آخر قراءة تقرؤها، أو أن تلك الصلاة آخر صلاة تصليها؛ لا شك أن الأمر يزيد عندك من حيث الاستشعار واستحضار معاني الآيات والخشوع في الدعاء وما يتبع ذلك.(1/61)
وفيه أيضا أن استشعار واعتقاد مراقبة الإحسان في كل أحوال العبد تزيد العبد طاعة وإخباتا، "كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك".
الفائدة الثالثة: أن على دعاة الخير العناية بشأن العبادات عموما وبالصلاة خصوصا، فمحافظة داعية الخير على إقامة الصلاة في أوقاتها على السنة، بحد ذاتها دعوة فعلية وقدوة فعلية، ولذا كان السلف الصالح أئمة العلم يعنون بشأن الصلاة بخاصة عناية عظيمة، من حيث التبكير لها، والمحافظة على أدائها في أوقاتها، وعلى السنة، حتى قال بعضهم: إذا رأيت الرجل يفرط في تكبيرة الإحرام فاغسل يدك منه. ومحمد بن سماعة يقول: لم تفتني جماعة منذ أسلمت، إلا مرة واحدة، كنت مشغولا بدفن أمي في قبرها، قل لي بربك الآن كم يفوت من الصلوات على طلبة العلم.
إذن قد يخف التثريب على العامة، إذا رأوا قدواتهم على هذا النمط، وقوله: "وايأس مما في أيدي الناس تعش غنيا، فيه أن الاستغناء عما في أيدي الناس من أسباب قوة التوكل على الله - عز وجل - "تعش غنيا" { أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ (15) } (1) { مَا عِنْدَكُمْ يَنْفَدُ وَمَا عِنْدَ اللَّهِ بَاقٍ } (2) { وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا عِنْدَنَا ¼çmمYح !#t"yz وَمَا نُنَزِّلُهُ إِلَّا بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ (21) } (3) استغن عما في أيدي الناس، لا تمد يدك إلى الناس إلا إذا بلغت الحاجة مبلغا، وعلمت أن الأمر قد أُغلق عليك، وأن هذا الأمر مشروع لك، فذاك شيء آخر، أما أن يتعود الإنسان مد يده إلى الناس، وبخاصة إذا كان من دعاة الخير، هذا قد يقلل قبول دعوته، والكلام هنا عن من يستطيع أن يتكسب أو يتعفف.
............................................................................. ـــــــــــــــ
__________
(1) - سورة فاطر آية : 15.
(2) - سورة النحل آية : 96.
(3) - سورة الحجر آية : 21.(1/62)
وقوله: "وإياك وما يعتذر منه" فيه حرص دعاة الخير على حفظ مروءتهم، إياك أن تعرض نفسك لعمل أو لقول قول تنتقد بعده.
ورد عن علي، ذكر النووي في كتاب بستان العارفين، قولا عن علي رضي الله تعالى عنه: إياك وما يسبق إلى القلوب إنكاره، وإن كان عندك اعتذاره. لا تفعل فعلا تكن محط النقد واللوم، والمراد بالفعل هنا ما لا يضر تركه، أما الحق فلا تنظر إلى أحد. وفيه أيضا حرص دعاة الخير على فهم مقاصد الشريعة متى تُفعَل الأمور، متى تُترَك، متى تقدم هذه المصلحة على تلك، مراعاة ترتيب المصالح، وتقديم الأكبر، مراعاة درء المفاسد، دفع الأكبر، مراعاة دعاة الخير، وحرصهم على فهم مقاصد الشريعة، ففي ذلك مصالح ثلاث:
سلوك منهج النبي - صلى الله عليه وسلم - في دعوته للناس، وتحبيب الخير إلى الناس، وتأليف الناس.
إذا كان الإنسان قدوة في تصرفاته، على بينة وبصيرة من أمره، أما إذا كان في كل ساقطة لاقطة، أقوال نشاذ، أفعال تخرم المروءة، دخول في كل شيء؛ فهذا يقلل دعوته ومن ثم ينفر الناس عنه، نعم يا شيخ.
الحديث السابع عشر: عليكم بقيام الليل فإنه دأب الصالحين قبلكم
وعن أبي أمامة -رضي الله تعالى عنه- قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - " عليكم بقيام الليل، فإنه دأب الصالحين قبلكم، وإن قيام الليل، قربة إلى الله، ومنهاة عن الإثم، وتكفير للسيئات، ومطردة للداء عن الجسد " أخرجه الترمذي والحاكم والبيهقي في الشعب.
ــــــــــــ
أولا اكتبوا عندكم زيادة "ومطردة للداء عن الجسد" هذه الزيادة وردت من حديث سلمان وبلال، ولكنها لا تصح، في الإسنادين مجهول وكذاب، فالحديث بدون هذه الزيادة.(1/63)
قوله: " عليكم بقيام الليل فإنه دأب الصالحين قبلكم " للنوافل فضل عام، وفضل خاص، أما الفضل العام. أولا: من أسباب محبة الله تعالى، لما جاء في الخبر القدسي: ما تقرب إلي عبدي بشيء أحب إلي مما افترضته عليه. تقربه إلي بماذا؟ بالنوافل، إذن من أسباب محبة الله. الفضل الثاني من الفضل العام أنها ترقع ما نقص من ماذا؟ من الفرائض.
" أول ما يحاسب العبد عليه الصلاة، فإن كملت صلاته , وإلا قيل انظروا هل لعبدي من تطوع " وكذلك في الصيام والزكاة والحج، والفضل الثالث العام، أنها ترفع درجة العبد لأن العباد يتفاوتوا في منازلهم، ترفع درجة العبد إلى السبَّاقين بالخيرات { ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا
............................................................................. ـــــــــــــــ
َOكg÷YدJsù ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ } (1) قيل: من فرط في الواجبات، { وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ } (2) من أدى الواجبات دون غيرها { وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ } (3) من أدى الفرائض وحافظ على ماذا؟ النوافل.
أما الفضل الخاص، فعلى حسب ما جاء في الأحاديث، فهنا خص قيام الليل، وقيام الليل من أفضل القربات. الفضل الخاص ما جاء في كل نافلة بعينها، جاء فضل لصيام ست من شوال، وجاء فضل للسنن الرواتب، وجاء فضل لصيام عاشوراء، لكن فضل الليل حُظِي بفضل عظيم " عليكم بقيام الليل، فإنه دأب الصالحين قبلكم " من الصالحون؟ على رأسهم من؟ الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، وأتباع الأنبياء، ومن سار على منهجهم، كل نبي وأتباعه.
__________
(1) - سورة فاطر آية : 32.
(2) - سورة فاطر آية : 32.
(3) - سورة فاطر آية : 32.(1/64)
فيه أن دعاة الخير أولى الناس بالمحافظة على قيام الليل، زار شاب الإمام أحمد بن حنبل -رحمة الله عليه، أو رحمة الله عليهم جميعا: على أحمد وعلى أبيه، وعلى الشاب- فبات عند الإمام أحمد، فوضع الإمام أحمد عنده ماء فلما أصبح الإمام أحمد، وإذا بالماء لم يتغير، لما أيقظه للفجر لم ينقص الماء، فتعجب الإمام أحمد، وقال: لا ينبغي لطالب علم وحديث أن يكون ممن لا يقوم الليل، كأنه كان المعهود عندهم، هذا هو الأصل؛ أن أهل العلم وطلبة العلم أولى الناس بقيام الليل؛ لأنهم إذا حافظوا عليه فمن باب أولى أن يحافظوا على ماذا؟ على الفرائض.
ولهذا ذكر أن بعض المتقدمين في الرعيل الأول كانوا إذا أرادوا الخروج في الليل، لسرية أو لسفر، قالوا: موعدكم وقت قيام القراء في البيوت في صلاة الليل، وقال: أبو الزناد كنت أخرج من السحر قبل الفجر، أو في وسط الليل، أذهب إلى مسجد النبي - صلى الله عليه وسلم - فلا أمر على بيت من بيوت المدينة إلا وفيه قارئ يقرأ، لكن قيام الليل يشترط أن لا يؤثر على ماذا؟ على صلاة الفجر، روى مالك بن الموطأ أن سلمان بن أبي حثمة غاب عن صلاة الفجر ففقده عمر، فسأل أمه: أين سلمان؟ قالت: قام
............................................................................. ـــــــــــــــ
الليل حتى غلبته عيناه، فنام عن الفجر، فقال عمر، والله لئن أشهد الفجر مع الجماعة أحب إلي من قيام الليل كله.(1/65)
وقوله: " منهاة عن الإثم " دليل أن المحافظة على النوافل والتكثر منها يرد العبد عن الإثم، والفرائض من باب أولى، منهاة عن الإثم، وفيه أيضا أن قيام الليل يزيد العبد قوة حسية ومعنوية. لو ضعفت الرواية السابقة ففي الحديث وفي غيره ما يفيد أن قيام الليل يزيد العبد إيمانا وقوة حسية ومعنوية، إذا كان قربة ومنهاة عن الإثم وتكفيرا للسيئات، فلا شك ولا ريب أن هذا مما يقوي حال العبد، يؤكد هذا قوله - صلى الله عليه وسلم - " أولا أدلكما على خير لكما من خادم -لما زار عليا وفاطمة- تكبران الله أربعا وثلاثين، وتحمدان ثلاثا وثلاثين، وتسبحان ثلاثا وثلاثين، فذلكما خير لكما من خادم " قال شيخ الإسلام في كلام له: فيه دليل أن هذا الذكر يقوي البدن. ما بالك إذا كان الذكر، جمع العبد بين الذكر القولي والذكر البدني صلاة الليل، تجمع الذكرين، بل تجمع كثيرا من الأذكار، القرآن الكريم، والأدعية، وتعظيم الله، وفعل الصلاة؛ كل هذه الأمور تزيد العبد قوة بدنية، وقوة معنوية. وأوصيكم بقراءة كتاب "مختصر قيام الليل" لمحمد بن نصر المروزي، اختصار المقريزي، نعم يا شيخ.
الحديث الثامن عشر: يا معاذ أفتان أنت ثلاثا اقرأ والشمس وضحاها
عن جابر بن عبد الله -رضي الله تعالى عنهما- " أن معاذ بن جبل -رضي الله تعالى عنه- كان يصلي مع النبي - صلى الله عليه وسلم - ثم يأتي قومه فيصلي بهم الصلاة، فقرأ بهم البقرة، قال: فتجوز رجل فصلى صلاة خفيفة، فبلغ ذلك معاذا، فقال: إنه منافق، فبلغ ذلك الرجل، فأتى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: يا رسول الله، إنا قوم نعمل بأيدينا ونسقي بنواضحنا، وإن معاذا صلى بنا البارحة فقرأ البقرة، فتجوزت، فزعم أني منافق، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - يا معاذ أفتّان أنت، ثلاثا، اقرأ والشمس وضحاها، وسبح اسم ربك الأعلى، ونحوها " أخرجه الشيخان.
ــــــــــــ(1/66)
قوله: "كان يصلي مع النبي صلى الله عليه وسلم" فيه أن للإمام أن يستكثر من الخير ما لم يشق على جماعته بتأخر؛ لأن بعض دعاة الخير قد يكون إماما فيضيع مسئولية الإمامة، أو يكون مؤذنا، فيضيع مسئولية المئذنة أو الإمامة بزعم تحصيل العلم والخير، هذا ليس على إطلاقه، أنت مؤتمن وتأخذ رزقا من بيت المال، حتى ولو كنت متطوعا، إذا كان سيترتب على ذلك إهمال لجماعة المسجد، فإما أن تتنحى أو أن توكل من يقوم بالمقام بدلك.
فهنا معاذ -رضي الله تعالى عنه- يعلم من جماعته عدم الضجر من التأخير وإلا لو كان، لرفعوا ذلك إلى النبي عليه السلام، كما رفع الغلام الشاب الأنصاري.
وفي قوله: " فقرأ بهم البقرة " فيه أن للإمام أن يراعي حال المأمومين في أثناء الصلاة، السابقة قبل الصلاة، في التأخر، وهذه في أثناء الصلاة، ما لم يشق يطيل القراءة، لكن إذا كان فيه مشقة فلا، ومعاذ يصلي مع النبي -عليه الصلاة والسلام- في الحرم، ثم يأتي إلى قباء على الراحلة يحتاج إلى وقت قرابة نصف أو أكثر أو ساعة، ثم يقرأ بهم البقرة، انظر إلى همة معاذ -رضي الله تعالى عنه- ونشاطه،
............................................................................. ـــــــــــــــ
ولكن مع هذا نهاه النبي عليه الصلاة والسلام، وغضب أشد الغضب؛ لأن ذلك التأخر وتلك الإطالة أثرت ونفرت.
وقوله: " فتجوز رجل " فيه مسألة فقهية: جواز انفصال المأموم عن الإمام إذا دعت الحاجة، وقوله: " فأتى النبي - صلى الله عليه وسلم - " فيه جواز طلب دفع المظلمة لأن الصحابي الغلام أصبح الآن في موقف خصومة، ومن إنصافه -رضي الله تعالى عنه- أنه ذهب إلى الحكم المرتضى، إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - .(1/67)
وقوله: " يا رسول الله إنا قوم نعمل بأيدينا ونسقي بنواضحنا، وإن معاذا صلى بنا البارحة فقرأ، فتجوزت، فزعم أني منافق " فيه الأمانة في النقل، نَقَلَ ما له وما عليه، ذكر أنه تجوز في الصلاة، وذكر عذره، وذكر ما قال معاذ، فنقل الخبر كله. ونستفيد أن على دعاة الخير سواء كان حكما أو خصما أن يكون أمينا فيما ينقل وفيما يقول، إن كنت خصما فانقل بأمانة وصدق، وإن كنت حكما فقل بصدق وأمانة.
بعض الناس إذا أخطأ عليه أحد العامة، أو أخطأ عليه قريب له أو أكبر أو أصغر أتى إليك يتشكى ويتباكى، وهذا من الخيانة في النقل، ومن ضعف الإيمان، والأولى والأوجب بل الأوجب أن تنقل ما لك وما عليك، قوله: " يا معاذ أفتان أنت " فيه تغليظ المعلم العتب على تلميذه، وبخاصة إذا كان الضرر متعديا. هنا نستفيد أن خطأ طالب العلم، وأن إصراره على الخطأ -داعية الخير- أنه يترتب على إصراره أو على تنفيره ضرر متعدي، فليحذر طالب العلم من أن يكون منفرا، ولهذا تقدم "أحسنهم أخلاقا" لا خير فيمن لا يألف ولا يؤلف.
وأيضا أعيد فأقول: على من يتولى إمامة المسجد أو المئذنة في المسجد أن يتقي الله في هذه الأمانة، وأنَّ تركها بدعوى التفرغ للعلم إن ترتب على ذلك إقامة من يقوم مقامك فالحمد لله، أما تضييع الأمانة وترك الناس يتضايقون ويتلاومون بسبب إضاعتك لما حملك الله فهذا من الإثم العظيم، نعم يا شيخ.
الحديث التاسع عشر: ثلاثة أقسم عليهن وأحدثكم حديثا فاحفظوه قال ما نقص مال عبد من صدقة(1/68)
عن أبي كبشة الأنماري -رضي الله تعالى عنه- أنه سمع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: " ثلاثة أقسم عليهن وأحدثكم حديثا فاحفظوه، قال: ما نقص مال عبد من صدقة، ولا ظلم عبد مظلمة فصبر عليها إلا زاده الله عزا، ولا فتح عبد باب مسألة إلا فتح الله عليه باب فقر، وأحدثكم حديثا فاحفظوه، إنما الدنيا لأربعة نفر: عبد رزقه الله مالا وعلما فهو يتقي فيه ربه ويصل فيه رحمه، ويعلم لله فيه حقا، فهذا بأفضل المنازل، وعبد رزقه الله علما ولم يرزقه مالا فهو صادق النية يقول لو أن لي مالا لعملت بعمل فلان فهو بنيته، فأجرهما سواء، وعبد رزقه الله مالا ولم يرزقه علما فهو يخبط في ماله بغير علم، لا يتقي فيه ربه، ولا يصل فيه رحمه، ولا يعلم لله فيه حقا فهذا بأخبث المنازل، وعبد لم يرزقه الله مالا ولا علما، فهو يقول: لو أن لي مالا لعملت فيه بعمل فلان، فهو بنيته فوزرهما سواء " أخرجه أحمد والترمذي.
ــــــــــــ
هذا حديث عظيم جمع خصالا من الخير كثيرة، قوله: " ثلاث أقسم عليهن " وكذا قوله: " وأحدثكم حديثا فاحفظوه " فيه أن على دعاة الخير في أثناء تبليغ العلم والنصح أن يشوقوا السامعين، وأن يجعلوا السامعين يشتاقون ويتنبهون إلى ما سيقال، فقوله عليه الصلاة والسلام: " ثلاث أقسم عليهن " لأهميتهن " وأحدثكم حديثا فاحفظوه " كل هذه الأساليب تجعل السامعين يعون بقلوبهم قبل آذانهم.
............................................................................. ـــــــــــــــ(1/69)
ولذا تقدم أن من أساليب العرب وضع مقدمات في الكلام لتشويق السامعين، قالوا: وفي القرآن الكريم الاستفهام في أول السور { أَرَأَيْتَ الَّذِي يُكَذِّبُ بِالدِّينِ (1) } (1) فهذا كأنه يقول ماذا فعل؟ ما فعله؟ من هو؟ ما صنيعته؟ ما جزاؤه؟ ما وزره؟ ففي قوله عليه الصلاة والسلام: " ثلاث أقسم عليهن، وأحدثكم حديثا فاحفظوه " فيه أن على دعاة الخير في المواضع أو في الكلام المهم في المسائل الهامة أن يعنوا بإيضاح الأسلوب حتى لا يكون غامضا على الناس، وكلما قُسِّم الكلام كلما كان أهون وأوضح؛ ولذا قال ابن القيم: وهل العلم إلا السبر والتقسيم.
وقوله: " ما نقص مال عبد من صدقة " فيه بركة الزكاة والصدقة، الصدقة لا تنقص المال بل تزيده حسا ومعنى، في قوله -عليه الصلاة والسلام- في الخبر الآخر " ما نقصت صدقة من مال " والزكاة تزكي المال تطهره وتنميه.
أما ما ورد من الزيادة في الحديث: ما نقصت صدقة من مال بل، بل ماذا؟ بل تزده، فهذه الزيادة لا تصح لا سندا ولا متنا، فلم تثبت سندا، بل لم أقف على راو لها بعد البحث، ومتنا لا تصح لغة، لأنه لو كانت ثابتة لقال بل تزيده، وإن كان هناك تقدير.
وقوله: عبد ما نقص مال عبد، فيه استشعار معنى التعبد في أثناء عمل الطاعات، وهذا كالذي قبله، الذي قبله: اجعلها آخر صلاة تصليها. الحديث الذي قبله، أول حديث، وهنا استشعار معنى التعبد لله في أداء العبادة يزيد العبد خضوعا وإخباتا لله عز وجل.
__________
(1) - سورة الماعون آية : 1.(1/70)
وقوله: " ولا ظلم عبد مظلمة صبر عليها إلا زاده الله عزا " فيه فضل الصبر، وطالب العلم، أولى الناس، وداعي الخير أولى الناس بهذه المعالم العظيمة، قال - صلى الله عليه وسلم - فيما رواه مسلم: " ما نقصت صدقة من مال، وما زاد الله عبدا بعفو إلا عزا " إذن الصبر وبخاصة إذا علمت أن ترك، ليس لك وسيلة إلى طلب الحق، أو علمت أن بحثك عن حقك سيؤدي بك إلى مصاعب أخرى، فهنا الصبر، والاحتساب بل في ترك الانتصار للنفس منقبة عظيمة، فقد " كان عليه الصلاة والسلام لا ينتقم لنفسه في شيء قط حتى تنتهك حرمات الله تعالى " بعض الناس يستشيط غضبا، ويخرج عن الحد
............................................................................. ـــــــــــــــ
المشروع في الانتقام لنفسه، نعم لك أن تنتصر لنفسك { وَلَمَنِ انْتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُولَئِكَ مَا عَلَيْهِمْ مِنْ سَبِيلٍ (41) } (1) لكن { وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ (43) } (2) فكلما ترك العبد الأمر لله، زاده الله بصبره واحتسابه عزا.
وفيه أن العاقبة للمتقين، أنت لما تركت الانتقام وصبرت، هذا من تقوى الله - عز وجل - { وَالْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَى (132) } (3) { وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ (128) } (4) ومن لم يجرب كما يقول بعض أهل العلم:
ومن لم يجرب ليس يعرف قدره ... فجرب تجد تصديق ما قد ذكرناه
__________
(1) - سورة الشورى آية : 41.
(2) - سورة الشورى آية : 43.
(3) - سورة طه آية : 132.
(4) - سورة الأعراف آية : 128.(1/71)
وقوله: " ولا فتح عبد باب مسألة إلا فتح الله عليه باب فقر " فيه أن سؤال الناس والتذلل من أسباب الضعف الحسي والمعنوي، ومن سقوط قدر السائل عند الناس، وبخاصة إذا كان داعية للخير أو طالب علم، وعنده قدرة على التعفف، والنتيجة أن يفتح عليك باب فقر، لكن من تعفف { إِنْ يَكُونُوا فُقَرَاءَ يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ } (1) .
............................................................................. ـــــــــــــــ
وقوله: " إنما الدنيا لأربعة نفر " هذا كالذي تقدم في أول الحديث، كلما قُسِّم الكلام إذا كان طويلا أو إذا كان فيه أنواع وتقاسيم، أو أنواع وجمل متعددة، كلما جمعت النظائر كلما كان أسهل، وقد كان كذلك نبينا - صلى الله عليه وسلم - أبلغ أسلوب وأسهل معاني، وقوله: " عبد رزقه الله مالا وعلما فهو يتقي فيه ربه، ويصل فيه رحمه، ويعمل لله فيه حقا فهذا بأفضل المنازل " فيه تفاوت العباد في منازلهم، والناس يتفاوتون، كما في الجنة " إن أهل الجنة يتراءون منازلهم كما تتراءون الكوكب الدري الغابر في أفق السماء " فالناس يتفاضلون في الدنيا والآخرة، وفيه أن بركة المال فيه أن المال لا تكون له بركة إلا إذا أنفق بشرطين: بالعلم بما ينفق من أبواب الخير، وبالإخلاص، وهذان شرطا العبادة: الإخلاص لله، وأن يكون العمل على بصيرة وعلى علم.
__________
(1) - سورة النور آية : 32.(1/72)
وفيه أن صلة الرحم من أعظم القربات، وأن من أسباب تقوية صلة الرحم العون المادي، من أقوى الأسباب، قد يكون قريبك فقيرا فإعطاؤه مما أعطاك الله مما يزيد الأواصر، وطلبة العلم الفقراء هم أولى الناس بالعون، إذا كانوا غير قادرين لأن نفعهم يتعدى، وفيه أن على دعاة الخير أن يكونوا أسبق الناس في هذا الأمر، أعني في صلة الرحم، ورحم العلم، أبلغ من رحم القرابة، وفيه في قوله: " وعبد رزقه الله تعالى علما ولم يرزقه مالا فهو صادق النية " فضل العلم على صاحبه، قد ينفع الله بصاحب العلم أكثر مما ينفع بصاحب المال، لأن العلم غذاء للقلوب والأرواح، والمال غذاء للأبدان، وغذاء القلوب أعظم من غذاء البطون، وفيه أيضا في الحديث في آخره لما قال: فهو بنيته فأجرهما سواء في أصحاب الخير، ووزرهما سواء في أصحاب الشر فيه دليل، أن تمني فعل الخير يؤجر عليه صاحبه، كما أن تمني فعل الشر يؤزر عليه صاحبه، لو أن عندي مالا لطبعت كتابا في السنة، مأجور، لو أن عنده مالا لطبع كتابا في البدعة، مأزور، وفيه في الجملة كمال عدل الله وحكمته، وأنه يعطي من يشاء بفضله ويمنع من يشاء بعدله، ولا يظلم ربنا أحدا؟
وفي الحديث أيضا أكرر أن طالب العلم على خير ولو كان فقيرا، وأن من أنفق على طالب العلم فهو على خير ولو كان ليس عنده علم، أحيانا يكون العامي أكثر أجرا من طالب العلم إذا دعم طالب العلم، وكفه عما في أيدي الناس، وأغناه بعد الله -جل وعلا- عن السؤال، روى الترمذي
............................................................................. ـــــــــــــــ
" أن رجلا قال يا رسول الله إن لي أخا يطلب العلم وأنا أنفق عليه، فقال عليه الصلاة والسلام: لعلك ترزق به " نعم يا شيخ.
الحديث العشرون: هل تنصرون وترزقون إلا بضعفائكم(1/73)
وعن مصعب بن سعد، قال رأى سعد - رضي الله عنه - أن له فضلا على من دونه، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - " هل تنصرون وترزقون إلا بضعفائكم " أخرجه البخاري، وفي رواية: " إنما ينصر الله هذه الأمة بضعيفها بدعوتهم وصلاتهم وإخلاصهم " أخرجه النسائي.
ـــــــــــــــ
فيه عناية الإسلام بمبدأ الترابط بين عموم المسلمين، وفيه عناية الإسلام خصوصا بشأن الفقراء، وبرعايتهم والترفق بحالهم، وفيه أيضا، فضل دعاء المضطر، سواء كان فقيرا أو مظلوما؛ لأن الضعيف لا ناصر له من الناس، وكذلك الفقير، وكذا المظلوم، يقول بعض أهل العلم: لماذا كان دعاء الفقير أرجى بالقبول، ودعاء الضعيف والمظلوم أرجى بالقبول من دعاء غيرهم؟ قالوا: لأن الفقير والمريض كذلك، والمظلوم والضعيف يشعرون بتخلي جميع الأسباب المعينة لهم، فيزدادون افتقارا واضطرارا ولجوءا وتضرعا إلى الله جل وعلا.
فيه أيضا أن الصبر على الأقدار والاحتساب، من أسباب قبول الدعاء وحصول الرزق، وفيه أن على دعاة الخير أن يكونوا أرفق الناس بالضعفاء، وأن يكونوا أرحم الناس بالضعفاء، و أن يعنوا بشأن الفقراء والضعفاء، وبخاصة إذا كانوا طلبة علم، اجتمع فضلان فضل إغناء الفقير، وفضل أن هذا الفقير طالب علم، فأنت تمده بالمال وهو يمدك بالأجر من الله -جل وعلا- لما ينفع بدعوته.
الحديث الحادي والعشرون: من تطبب ولا يعلم منه طب فهو ضامن
عن عبد الله بن عمرو -رضي الله تعالى عنه- قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - " من تطبب ولا يعلم منه طب، فهو ضامن " أخرجه أبو داود والنسائي وابن ماجه والحاكم .
ـــــــــــــــ(1/74)
فيه ذم من ادعى ما ليس فيه، ذم من لبس ثوب غيره، ذم من ادعى علما ليس من أهله، وإذا كان هذا في شأن طب الأبدان، فما بالك بشأن طب ماذا؟ طب القلوب، وفيه أيضا شرف مهنة الطب، لما لها من النفع العظيم، ولما يجريه الله -جل وعلا- على أيدي الأطباء من أسباب الشفاء والعافية، بإذن الله وقدره.
قال الشافعي -رحمه الله تعالى- العلم علمان، علم للدين، وعلم للدنيا، فعلم الدنيا الطب، والعلم الذي للدين الفقه، وقال أيضا: ما أعلم علما أنبل بعد الفقه من الطب، ولكن أهل الكتاب غلبونا عليه، وكان الشافعي يتحسر على ما ضيع المسلمون من علوم الطب، وفيه أيضا وجوب الضمان لما أُتلف بدعوى التعالم، من أتلف شيئا فهو غارم له طبعا بضوابط، وهنا -نعوذ بالله- قد يؤدي الشخص بقتل مريض إذا كان جاهلا، وأعظم من ذلك من يدعي تقريب القلوب وإصلاح أحوال الناس، وليس له من العلم حظ، بل له من الجهل حظوظ كثيرة.
وفي ذلك من الفوائد أن على طالب العلم أن عليه أن يحذر أن يتكلم فيما لا يحسن فهذا حرام عليه؛ ولهذا قال بعض أهل العلم: من تكلم في غير فنه أتى بالعجائب. وذكر الذهبي أن أهل المغرب كانوا لا يأخذون عمن لا يحسن فنه؛ ولذا ترى بعض الناس يتعالم في كل شيء، مع أنه عَرِيّ جاهل، فهذا أجرم في حق نفسه، وأجرم في حق أمته؛ ولهذا كان من منهج أهل العلم أن بعضهم يقصر، أو يكون جهده مركزا على علم أكثر فيتميز فيه، فإذا سُئل عن علم آخر لا يتقنه يتورع، بل يعترف بتقصيره، ذكر الذهبي في كتابه "تذكرة الحفاظ" في ترجمة الحليمي.
ذكر الذهبي حديثا ثم قال في إسناده نوح الجامع، ويسمى نوح بن أبي مريم، يكنى بأبي عصمة المروزي يسمى نوح الجامع، قال: جمع كل شيء إلا الصدق فهو كذاب، ثم قال: فكم من إمام في فن
............................................................................. ـــــــــــــــ(1/75)
مقصر في غيره، فسيبويه إمام في النحو ما يدري ما الحديث، وأبو نواس رأس في الشعر عري من غيره، ومحمد بن الحسن إمام في الفقه وليس بذاك في الحديث، وعاصم إمام في القراءات تالف في الحديث، الشاهد: أن من الخطورة بمكان أن يتعالم الإنسان وبخاصة طلبة العلم إذا وثق الناس فيهم، فينبغي أن يقول لا أدري لما لا يعلم.
ولهذا مما وقع فيه بعض الناس أنه يتصدر على كل منبر في كل قضية، ولسان حاله سلوني سلوني، دخل علي بن أبي طالب -رضي الله تعالى عنه- السوق وإذا برجل يفتي الناس وهو جاهل ويقص على الناس وهو جاهل، فقال علي: من أنت، قال علي: أتعرف الناسخ من المنسوخ؟ قال: لا. قال: من أنت؟ قال أنا أبو يحيى. قال: أنت أبو اعرفوني. ثم طرده من السوق.
ولهذا مما جر على مجتمعات المسلمين من أسباب الخلل في المنهج الشرعي، ودعوة الناس عدم التفريق بين العالم وغير العالم، والله إن هذا الأمر من أعظم المصائب، يقول ابن الجوزي: وعند العامة أن كل من ارتقى المنبر فهو عالم، عند العامة، والأغرار، عدم التفريق بين العالم وغير العالم، هذا شاعر قريحته تنقدح غيرة على الإسلام، يشكر، هذا خطب مفوه، يشكر، هذا صاحب قلم سيال، يشكر، لكن لا بشعره ولا بقلمه ولا بفصاحته يترقى إلى منابر أهل العلم.(1/76)
فمن الخلل العظيم عدم التفريق بين العالم وغير العالم، ولو أن كل إنسان لزم حده وقال لا علم لي سلوا أهل العلم لزال كثير من الشر، لكن الخلل أن يتكلم بعضهم في كل فن، وهذا من الجهالة { وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا (36) } (1) لما دخل الشافعي إلى بغداد قابله الإمام أحمد واستفاد منه، فجاء رجل إلى الإمام أحمد فقال: يا إمام أو يا أبا عبد الله إنه يقول كذا وكذا؟ فقال أحمد رحمه الله تعالى: إن هذا ليس من بابتك، إن هذا للفقه وإن الرجل فقيه فكن في الحديث.
............................................................................. ـــــــــــــــ
فمن الجهالة بمكان أن لا نفرق بين العالم وغير العالم، إذا قال إنسان قصيدة شعرية مؤثرة جعلهم يحبونه الناس هو المفتي وهو المنظِّر وهو المؤصِّل، أو ارتقى الخطيب لفصحاته وخطب خطبة كما يقال قوية جعله الناس أو جعله بعض من يجهل التأصيل الشرعي لصفات العالم، جعلوه القدوة، والمنظر، والمقرر، وطلبة العلم أولى الناس بالتباعد عن هذه الأمور وبتبيينها للناس. نعم يا شيخ فهد.
الحديث الثاني والعشرون: ما أدري تبع أنبيا كان أم لا
وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - " ما أدري تبع أنبيا كان أم لا، وما أدري ذا القرنين أنبيا كان أم لا، وما أدري الحدود كفارات لأهلها أم لا " أخرجه الحاكم والبيهقي.
ـــــــــــــــ
__________
(1) - سورة الإسراء آية : 36.(1/77)
في هذا الحديث فوائد عظيمة، أعظمها ورع النبي - صلى الله عليه وسلم - وخشيته من الله - عز وجل - وهو من في مقام التقى والخشية، ومع هذا يقول: ما أدري تبع أنبيا كان أم لا، وما أدري ذو القرنين أنبيا كان أم لا، وما أدري الحدود كفارات لأهلها أم لا، قبل أن يعلمه الله، ما أدري، يقول الإمام مالك، وكان النبي -عليه الصلاة والسلام- سيد المسلمين إذا سئل عما لا يعلم قال لا أدري، ولما سألوه عن الروح توقف فسكت حتى أنزل الله عليه { وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي } (1) وأدبه ربه { وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ } (2) .
وكان عليه الصلاة والسلام، أمثل الناس، أسرع الناس امتثالا لربه - عز وجل - { وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا (36) } (3) ونوح -عليه السلام- لما قال له ربه: { فَلَا تَسْأَلْنِ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنِّي أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ (46) قَالَ رَبِّ إِنِّي
............................................................................. ـــــــــــــــ
èŒqممr& بِكَ أَنْ أَسْأَلَكَ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ } (4) ثم اعترف وسأل واسترحم { وَإِلَّا تَغْفِرْ لِي وَتَرْحَمْنِي أَكُنْ مِنَ الْخَاسِرِينَ (47) } (5) وذم الله أهل الكتابين { هَا أَنْتُمْ هَؤُلَاءِ حَاجَجْتُمْ فِيمَا لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ فَلِمَ تُحَاجُّونَ فِيمَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (66) } (6) .
__________
(1) - سورة الإسراء آية : 85.
(2) - سورة الإسراء آية : 36.
(3) - سورة الإسراء آية : 36.
(4) - سورة هود آية : 46-47.
(5) - سورة هود آية : 47.
(6) - سورة آل عمران آية : 66.(1/78)
وقد جعل ابن القيم -رحمه الله تعالى- أكبر الأمور والفواحش القول على الله بغير علم، قال كما قاله الله - عز وجل - { قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ } (1) يذكر ابن القيم في إعلام الموقعين أن الله ذكر الفواحش بدأ بأسهلها لما بعدها وختم بأعظمها { قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْإِثْمَ } (2) أعلى منه { وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ (33) } (3) .
قد يقول قائل: أليس الشرك أعظم؟ بلى، الشرك متفرع من القول على الله بغير علم؛ لأن من عبد غير الله ودعا غير الله فقد قال بلا علم قال بغير علم، وهنا على دعاة الخير وجوبا أن يحذروا من
............................................................................. ـــــــــــــــ
القول بغير علم، وأن يقولوا لا ندري لا نعلم، الله أعلم، فهذا هو الواجب، ولا يستخفن بعضنا الشيطان فيقول لبعضهم، إذا قلت لا أدري نقص قدرك عند من يجلك.
إذا قلت لا أعلم سلوا غيري انتقصوك، وليكن، الحقيقة أنهم يرفعونك إن كانوا عقلاء؛ لأن قولك هذا ديانة، يجب أن تقول لا أدري لا أعلم، جاء رجل من الأندلس إلى الإمام مالك في المدينة، فسأله عن مسائل كثيرة، فقال لا أدري، أجاب عن ثلاث وأمسك عن بضع وستين، فقال أنت الإمام مالك وتقول لا أدري، قال وأخبر من وراءك أن مالكا لا يدري، هنا العلم، هنا الديانة، هنا التواضع.
__________
(1) - سورة الأعراف آية : 33.
(2) - سورة الأعراف آية : 33.
(3) - سورة الأعراف آية : 33.(1/79)
وبعض الناس، لسان حاله ومقاله، ما قال لا قط إلا في تشهده، سلوني سلوني، فيجب على داعي الخير طالب العلم أن يكف أن يسكت أن يتقرب إلى الله بقول لا أدري، أيضا فيه الحذر من الأخبار المكذوبة في التفسير، من نقلها، لا أدري أكان تبع نبيا أم لا، الرسول -عليه الصلاة والسلام- توقف في ذلك، فيأتي بعض الناس عموما في الأخبار في التفسير أو في غير التفسير، فينقل أخبارا في تفسير الآيات، ولو سألته عن صحتها، قال لا علم لي، ألا يسعك ما دلك وأرشدك إليه النبي عليه الصلاة والسلام.
ولهذا ينبغي على طالب العلم ألا يقول في كلامه أخبارا مكذوبة أو موضوعة، رفع إلى بعض أئمة الشافعية أن بعض الخطباء في القرن العاشر -فتوى- أن بعض الخطباء يذكر أحاديث لا تصح ومكذوبة، قال: هذا ينبغي أن ينهى فإن انتهى وإلا رفع إلى من كان له سلطة ليكف يده ولسانه، فعلى داعي الخير وطالب العلم أن يتثبت، وأيضا عليه أن يعلِّم الناس أخبار القرآن الأخبار الصحيحة، والتفاسير الصحيحة التي جاءت تفسر ما جاء في القرآن الكريم. نعم يا شيخ فهد.
الحديث الثالث والعشرون: والذي نفسي بيده لقد جئتكم بها بيضاء نقية
عن جابر بن عبد الله رضي الله تعالى عنه: " أن عمر بن الخطاب -رضي الله تعالى عنه- أتى النبي - صلى الله عليه وسلم - بكتاب أصابه من بعض أهل الكتب، فقرأه النبي - صلى الله عليه وسلم - فغضب فقال: أمتهوكون فيها يا ابن الخطاب، والذي نفسي بيده لقد جئتكم بها بيضاء نقية لا تسألوهم عن شيء فيخبروكم بحق فتكذِّبوا به، أو بباطل فتصدقوا به، والذي نفسي بيده، لو أن موسى - صلى الله عليه وسلم - كان حيا ما وسعه إلا أن يتبعني " أخرجه الإمام أحمد في المسند.
ـــــــــــــــ(1/80)
في الحديث الحذر من النظر في كتب الضلال، والكتب التي فيها ضلال وبدع إذا لم يكن عالما بها عارفا بالمخرج منها والرد عليها، فضرر الكتب البدعية والمتضمنة للبدع العقدية وغيرها من أعظم الآثار ضررا ومن أعظم الأمور هدما للدين، وبخاصة إذا كان القارئ يجهل، والنبي -عليه الصلاة والسلام- في هذا الحديث زجر عمر ونهاه لحكمة عظيمة، ذكروا أن هذا من خوف النبي - صلى الله عليه وسلم - على أمته، فإذا كان عمر وهو مَنْ في قوة إيمانه قد نهي عن هذا، فما بالك بمن هو أقل من عمر.
وقد يقال إن ذلك كان في أول الأمر، وقد يقال أيضا إن هذا إذا لم يحتج إلى الرد عليهم، ولم تدع الحاجة إلى مناظرتهم للمصلحة، فلا يعرج عليها، قد تُلقِي في النفس شبها، وقد تؤثر في الإيمان بزعزعة وتشكيك، وقد حصل؛ ولهذا شدد السلف الصالح -عليهم رحمة الله- في أمر كتب البدع والضلال، حتى سأل أحدهم الإمام أحمد: إذا وجدت كتابا من كتب أهل البدع أحرقه أم أخرقه؟ فقال: افعل به أي شيء.
لكن هذا يستثنى إذا كانت الكتب مملوكة ويخشى من إتلافها المضرة والضرر، قد سألت سماحة الوالد الشيخ عبد العزيز بن باز -رحمه الله تعالى- عمن وجد كتبا بدعية ويعلم أنها مملوكة فهل يحرقها؟ قال بل إن كان له سلطة وإلا فليرفعها إلى من له سلطة، وأيضا من شدة السلف على تلك الكتب أنهم جعلوها أعظم شأنا من آلات المعازف واللهو والطرب، وهذا هو الصحيح؛ لأن تلك شهوات وهذه شبهات، والشبهات تهدم العقائد.
............................................................................. ـــــــــــــــ
وأيضا فيه أن الفلاح والنجاة بالقرآن والسنة، وأن من ألف ولم يرد من النصوص الشرعية، ويدعو الناس وفق ما جاء في النصوص على هدي السلف فإنه إن خالف ذلك ضر ولم ينفع ويؤزر ولا يؤجر، وفيه أيضا عظيم فتنة الشبهات، وعظيم ضرر كتَّاب وكتابات أهل البدع، والانحراف العقدي، وفيه أيضا كمال الشريعة وتمامها.(1/81)
وفيه أيضا: فضل -موسى عليه السلام- لتخصيص النبي -عليه الصلاة والسلام- له، كما أن فيه أن الأنبياء يتفاضلون عليهم الصلاة والسلام: { * تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ } (1) نعم يا شيخ فهد.
الحديث الرابع والعشرون: لا يقص على الناس إلا أمير أو مأمور أو مراء
وعن عبد الله بن عمرو -رضي الله عنهما- قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - " لا يقص على الناس إلا أمير أو مأمور أو مُرَاء " أخرجه أحمد وابن ماجه.
ـــــــــــــــ
"لا يقص على الناس" قيل بأن هذا نهي، وفيه أصل لنهي بعض الوعاظ عن الوعظ، وأن هذا له أصل في الشريعة، وقد حصل هذا في عصور الإسلام المتقدمة، فبعض الناس قد يقول يقال لماذا يمنع فلان من القص والوعظ والتذكير، هذا ليس جديدا بل له أصول ضاربة في تاريخ الإسلام السابق، وهذا الحديث أصل في ذلك.
قيل "لا يقص" أنه نهي، وقيل نفي وإخبار، أن هذا لا ينبغي أن يكون القص إلا من فلان أو من كذا أو كذا أو كذا، وفي عهد الخطيب البغدادي رحمه الله أمر الخليفة العباسي بعدم القص في المسجد إلا بعد أن يعرض القُصّاص على الخطيب البغدادي رحمه الله تعالى، وابن الجوزي في كتاب القصاص والمذكرين ذكر كثيرا من هذا أن بعض القصاص يسيء ولا يحسن ويضر ولا ينفع.
وما أفرد العلماء أحاديث القصاص وأكاذيب القصاص إلا لجهالة كثير منهم، وفي الحديث أيضا أنه " لا يقص أو لا يعظ إلا من كان مأمورا " أو من علم من نفسه وعلم الناس وأهل العلم أن له قدرة على القص، وذكر الأخبار، شريطة أن يكون القاص على بصيرة مما يقول، وأن لا يغلب جانب القصص في كل أموره، يقول أبو قلابة: تجالس القاص سنة كاملة فلا تخرج بفائدة، بل قد تخرج بمضرة إذا لم يكن على بصيرة من قصِّه ورواياته.
__________
(1) - سورة البقرة آية : 253.(1/82)
لا يقص إلا أمير، من له السلطة، قد كانوا في الزمن الأول يتكلم الأمراء، وقيل يراد بهم أيضا العلماء فلهم إمرة فهم ولاة أمر، أو مأمور أو مرخص له مأذون له من أهل العلم إما لفظا أو إقرارا، أو مراء من خرج في الغالب أن يكون خروجه لحظ نفسه، وقد سئل أهل العلم عن هؤلاء القصاص، الناس يألفون القص وذكر الأخبار وبخاصة الغريبة، فيجتمع الناس عند القاص بالآلاف، يقول الإمام أحمد: لا بأس بالقاص إذا كان صدوقا أن يجالس. لكن المصيبة أن يكون جاهلا ويتعمد إيراد الغرائب، وقد عني أهل العلم في شأن القاص والواعظ بأمور، اكتبوها عندكم: لعموم البلوى لدعوى الحاجة العلم بها:
............................................................................. ـــــــــــــــ
الأمر الأول: أن يراجع القاص أهل العلم، وبخاصة فيما يذكره من الأحاديث والأحكام.
وأيضا: عدم إطالة المجلس بالقص والوعظ.
وثالثا: أن على القاص أن يتمثل ما يأمر الناس به.
ورابعا: إذا كان يقص على من لهم سلطة كالسلاطين ومن دونهم ممن لهم سلطة أن يترفق بهم، وأن يسلك معهم ما يحببهم إلى الخير
فقد نص أهل العلم وقالوا: إذا كان الموعوظ والمقصوص عليه سلطانا فعلى القاص أن يتلطف به؛ لأن القصد النفع وليس التشفي والانتقام وتنفيس الغيظ، وأيضا يقال هنا: إن من أدمن على شيء حرم من غيره، يقول شيخ الإسلام -رحمه الله- ومن أدمن بمعنى كلامه على سماع الأشعار وأخبار القصص وتتبع روايات القصص كعنتر وما شاكله، فإن ذلك يصده عن سماع الحديث والخير.(1/83)
وهذا ملاحظ، إذا أدمن الإنسان وغلّب وقته في قراءة الأشعار والأخبار والقصص يتثاقل أن يسمع الآيات والأحاديث، ولقد ذكرني بعض الشبيبة أن بعضهم أدمن على سماع الأناشيد، وأخذت وقته، حتى قال بعضهم بعبرات تسبق عباراته، نسيت ما حفظت من القرآن الكريم، وأتثاقل أن أقرأ في كتب العلم، والسبب ملء القلب بشيء مشروط بتفريغه من ضده نسبيا، فالأمر يؤخذ برفق وببصيرة.
وعلى من كان يقص على الناس أيضا أن يجتنب الهزل والإغراق في الضحك؛ حتى لا تفرق بين الموعظة أهي مجلس للهزل أم للوعظ، نعم، لا يفهم من هذا الانقباض عن إضحاك الناس، وعن إدخال البسمة، حاش وكلا ولا لعل، لكن الشأن في الإغراق والإيغال والغلو في هذا الشأن حتى يتربى من يسمعه على الضحك، بل لو جاءهم جاد ليتكلم في مسألة إيمانية علمية، عقدية، في المعاملات في العبادات، نفروا وتثاقلوا منه.
وانظر إلى من أوغل ينطبع ذلك عليه وعلى من يجالسه، وطالب العلم أو القاص إذا أراد الله به الخير فليسأل أهل العلم وليتبصر في قصه ووعظه على الناس.
الحديث الخامس والعشرون: كفى بالمرء كذبا أن يحدث بكل ما سمع
عن أبي هريرة -رضي الله تعالى عنه- قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - " كفى بالمرء كذبا أن يحدث بكل ما سمع " أخرجه مسلم.
ـــــــــــــــ(1/84)
فيه الحذر من كثرة الكلام، وأنها قد تؤدي بصاحبها إلى التزيّد في القول، من جميل كلام النووي رحمه الله في رياض الصالحين فيما معناه، أن الكلام إما أن يكون خيرا يؤجر العبد عليه، أو أن يكون شرا يأثم العبد عليه، أو أن يكون مباحا وعليه أن لا يوغل في المباحات لأنها قد تجر إلى الخطيئات، وفي الحديث أيضا الحذر من عدم التثبت فيما يقول { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا } (1) وفي قراءة: { فتثبتوا } لأن عدم التثبت ينبني عليه أشياء: اتهام بريء، تبرئة متهم، الغلو في القول، أو الغلو في الذم.
والعاقل المسلم البصير في أمر دينه المحتاط لنفسه وجوارحه عليه أن يتثبت فيما يقول، وبخاصة في نقله للكلام:
أخا العلم لا تعجل لعيب مصنف ... ولم تتيقن ذلة منه تعلم
فكم أفسد الراوي كلاما بنقله ... وكم حرَّف المنقول قوم صحفوا
وكم ناسخ أضحى لمعنى مغيرا ... وجاء بشيء لم يرده المصنف
الحذر من نقل الأخبار عن عواهنها بل لا يعلم عنك هذا، فأنت مذموم كفى بالمرء كذبا، وفي الحديث الآخر: " بئس مطية الرجل زعموا " بئس كلمة تقبيح وذم وتشنيع، وأولى الناس بالبعد
............................................................................. ـــــــــــــــ
عنها، دعاة الخير، ومن قدَّمَهم الناس في مساجدهم وعلى منابرهم , وفي مجالسهم هم أولى الناس بها فهم قدوة الناس، وهنا يقال الإشاعات، تلك الإشاعات التي يتناقلها الناس أو كثير من الناس.
__________
(1) - سورة الحجرات آية : 6.(1/85)
فيه مثل صيني، يقول الإشاعة كالكرة الثلجية، تكون في أولها كالبيضة ثم تكون في آخرها كماذا، كالجبل، هذا يزيد، هذا يدبج، هذا يحليها، وهلم جرا، الإشاعات، الإشاعات تفرق القلوب قبل الأبدان، والواجب عليك شرعا أن تقتل هذه الإشاعة في مهدها إذا لم يكن صاحبها متأكدا منها، وأن تذكره بالله، وأن تحذره من مغبة الضرر المتعدي الذي يقع فيه الناقل وما يقع فيه السامعون وزره عليهم لا ينقص من أوزارهم شيئا، إشاعات فيها اتهامات وقدح في أديان وقدح في أعراض، تشويه سمعة بمجرد التشفي في نقل هذه الإشاعة.
فالحذر كل الحذر من أن يكون طالب العلم مطية بلسانه لنقل الأخبار؛ ولهذا يدخل الكذب والغيبة والنميمة في جعبة الإشاعة، فالحذر أيها الأكارم، والواجب علينا جميعا إذا سمعنا خبرا يتناقله الناس أن لا نعين في نقله، تذكرون تأتي أرقام في الجوالات ادفعوا لحساب كذا، ثم يأتي بعد يومين أخطأنا في الرقم، الرقم الصواب كذا، وتأتي إشاعات عن أناس بأنهم قد ماتوا وهم أحياء، وعن أناس بأنهم متهمون وهم أبرأ -كما يقال- من ماء السحاب.
أختم لكم بخبر حصل لي شخصيا، درست طالبا في المرحلة الثانوية، فجاءني خبر من زميل له سألني عنه قال: تعرف أين فلان؟ قلت: لا أعلم. قال مات، أمتأكد أنت؟ قال: نعم، وقد اجتهد بعض الإخوة وصلوا عليه صلاة الغائب، هذه أول تبيعة، وقد عزينا أهله إن أحببت أن تعزيهم. هذا الكلام قبل غروب الشمس بنصف الساعة، وفي طريقه إلى بيته قابلت شابا أيضا يدرس معه، فتلطفت معه قلت أين صاحبكم فلان؟ قصدي الذي مات، فقال: بخير وموجود، فلم أحب أن أفجعه ذهبت إلى البيت، وكأن ذلك الشاب من ذكائه علم أن سؤالي ورائه مغزى، فلما دخلت لأتوضأ لصلاة المغرب وإذا بالباب يطرق علي، من؟ أنا طالبك الميت بعثني الله، أصابني نوع من الشعور الغريب، فنزلت مباشرة، فلان؟ قال: نعم، فجعوا والدتي في وأدخلوا الرعب على أهلي، بمجرد إشاعة.(1/86)
ومن طرائف ما يحكى في الإشاعات شيخنا الشيخ الوالد الكريم الشيخ عبد الله بن عقيل جزاه الله عنا خيرا، ذُكِر أنه لما كان قاضيا في جنوب المملكة، كان في لجنة ومعه رجل اسمه ابن عقيل، أظنه
............................................................................. ـــــــــــــــ
كان عسكريا، فمات ذلك العسكري المسمى بابن عقيل، فأشيع أن الشيخ ابن عقيل الذي أتى قاضيا قد مات، يقول: فصلي عليه صلاة الغائب، يقول الشيخ من دعابته: فكان الذي صلى عليه يقول يا شيخ نحن قدمنا صلاة الغائب عليك، فإذا مت فلن نصلي عليك.
فأخيرا أختم لكم أيها الأكارم بالحذر من التسرع في الإشاعات وبخاصة فيما يتعلق بأهل العلم الراسخين، وبخاصة إذا كانت تلك الشائعة مستمرة أن تكون سببا في دفنها، وفي زجر من قال وتذكيره بالله عز وجل.
هنا أسئلة:
يقول: عندنا في فرنسا إذا أنكرت بعض المنكرات التي تستطيع تغييرها باليد يطردونك أو يعاقبونك؟
لا تنكر إذا كان عليك مضرة، وكان في سفرك مضرة، اصبر وادع الناس بالتي هي أحسن إذا لم يترتب على ذلك مضرة في دينك وعقيدتك، أما إذا ترتب على تغيير المنكر مضرة عليك أكبر فدع ذلك واسلك سبيلا آخر للإنكار.
ما حكم قتل الحشرات المؤذية؟
أي شيء يؤذي، قاعدة: خمس يقتلن في الحل والحرم، وهذا العدد ليس للحصر كما يقولون يقاس عليه ما كان على شاكلته، إذا آذاك الشيء من حشرة نمل، نحل أي شيء فتخلص منه.(1/87)
أما الأجهزة التي تصدر موجات حرارية للفائدة هذا السؤال يقول لي أحد الإخوة هذا السؤال هو آخر سؤال سئل عليه الشيخ ابن باز -رحمه الله تعالى- سأله أحد الإخوة قبل دخوله إلى منزله في الليلة الأخيرة، هذا الذي يوضع للحشرات المؤذية، الشيخ يرى أن هذا من قتل الحشرات بالنار، ولا يعذب بالنار إلا رب النار، ويرى بعض مشايخنا التفريق بين ما كان له لهب وبين ما كان بالكهرباء صعقا، فيجيز ما كان يقتل بسرعة كما يوضع في البيوت والمطاعم، ويمنع ما كان له لهب.
يقول مادة الجيلاتين تستخرج من عظام الحيوانات وقد يكون من بينها لحم خنزير؟
............................................................................. ـــــــــــــــ
عظام الحيوانات وقد يكون قد هنا للظن للتوقع، إن كان فيها خنزير فدعها، إن كانت عظام حيوانات ذبحت على غير الشريعة الإسلامية فلا، ثم يقول التي توضع في المواد الغذائية، سواء وضعت في الغذاء أو في غيره.
تقول السائلة إذا أتى ضيف إلى زوجها، ثم خرج زوجها ليشتري بعض الأشياء وتركه في البيت في غرفة وأنا في غرفة أخرى، هل يعتبر هذا خلوة؟
الأصل، لا، إن شاء الله، بخاصة أن الأمور هذه تعم بها البلوى، إلا إذا كان الضيف مريبا فلا.
من يطلق المشيخة على كل شخص فما توجيهكم، ومن يطلق عليه المشيخة وهو يعلم أنه ليس أهلا لذلك؟
أولا حب ثناء الناس لا تحرص عليه، لا تتشوف لثناء الناس عليك، إذا أثنوا عليك من أنفسهم، فهذا من عاجل بشرى المؤمن، أما حب ثناء الناس والتصدر والتشوف فلا، والمشيخة كلمة واسعة، الشيخ في السن، الشيخ في العلم، الشيخ، الآن حتى الشيخ شيخ الذهب شيخ المعارض، وهلم جرا، فإذا أطلق الشيخ، فالمراد طبعا في الغالب من كان له وقار العلم وهيبة العلم وتحصيل العلم.(1/88)
ولأن سلفنا الصالح كانوا يروحون في المجالس ببعض الطرف أختم ذكر السمعاني حتى يعرف هذا الأمر، أن السلف الصالح كانوا في مجالسهم يروحون الجالسين من باب التأليف، وكان عمر كما يقول -رضي الله عنه وأرضاه- يحدث الناس، فإذا رآهم ملوا وسأموا أخذ في أخبار الزرع والنخل لإدخال التنفيس عليهم.
كان هناك شابان صديقان، قال أحدهما لصاحبه: حيا الله الشيخ، فقال الآخر صاحبه: حيا الله الحافظ، أو قال الأول: حيا الله الحافظ، فقال صاحبه: حيا الله الشيخ، فقال: أنا قصدي بقولي حيا الله الشيخ كما قال ابن منظور: مَنْ شاخَ في السن وشاب رأسه، فأنت لست شيخا في العلم، إنما كما قال ابن منظور شيخ في الشيب، فالآن أنت وصفتني بالحفظ حفظ العلم، وأنا وصفتك بالمشيخة أي مشيخة الشيب وكبر السن، قال: اصبر عليَّ، أنت أخذت بقول ابن منظور في الشيخ، وأنا أخذت بالحافظ بقول ابن الأثير في اللباب سمي الحافظ بالحافظ -طبعا شخص معين- لأنه يحفظ سراويل
............................................................................. ـــــــــــــــ
الناس عند دخول الحمامات، وأستميح الشيخ عبد الرزاق وفهد، لكن كما كان سلفنا، وفق الله الجميع والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته الحمد لله رب العالمين وصلى الله وسلم وبارك على رسول الله، بلغ الكلام عند نهاية الحديث الخامس والعشرين، فنسمع الآن -إن شاء الله تعالى- من الشيخ فهد الحديث السادس والعشرين.
الحديث السادس والعشرون: لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال ذرة من كبر
بسم الله الرحمن الرحيم. الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
قال المؤلف -حفظه الله تعالى-:(1/89)
عن عبد الله بن مسعود -رضي الله تعالى عنه- قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - " لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال ذرة من كبر، قال رجل: إن الرجل يحب أن يكون ثوبه حسنا ونعله حسنة، قال: إن الله جميل يحب الجمال، الكبر بطر الحق وغمط الناس " أخرجه مسلم.
ـــــــــــــــ
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على رسول الله، نلحظ في كثير من الأحاديث أن الصحابة -رضي الله تعالى عنهم- يستفهمون من النبي - صلى الله عليه وسلم - فيجيبهم النبي - صلى الله عليه وسلم - بما يزيل الإشكال الذي علق في أذهانهم، ونستفيد أمرين: حرص الصحابة -رضي الله تعالى عنهم- على الخير، وعدم لبس غيره به، وقبله حرص النبي - صلى الله عليه وسلم - على إيصال الخير وإيضاحه في الأذهان.
وهنا ينبغي لطالب العلم أن يكون حريصا على السؤال فيما قد يشكل عليه، والعلم لا يطلبه مستحي ولا متكبر، قال ابن عباس -رضي الله تعالى عنهما- لما سئل: أنى لك هذا العلم؟ قال: بلسان سئول وقلب عقول، ويقول ابن عباس رضي الله تعالى عنهما: لولا السؤال لذهب العلم.
فشاهد القول أن على طالب العلم، أن يسأل عما أشكل عليه، كما كان الصحابة -رضي الله تعالى عنهم- يسألون.
قوله: الكبر بطر الحق، بطر الحق رده، أو جعل أن يجعل الحق باطلا والباطل حقا، فيه منافاة الكبر والمتكبر لقبول دعوة الحق، صفة الكبر تأبى على صاحبها أن يقبل الحق إلا ما وافق هواه، وفي هذا
............................................................................. ـــــــــــــــ
تحريم لهذه الخصلة، وقبح من اتصف بها، وقوله: غمط الناس، التجبر على الخلق، وجحد حقوقهم، والمماطلة، واستحقارهم وازدرائهم، فيه عظيم ضرر الكبر، وأنه ليس مقصورا على صاحبه.(1/90)
فرق بين الإثمين: الإثم الذي ينتهي شره على صاحبه، والإثم الذي يتعدى إثمه إلى غيره؛ لهذا لما ذكر ابن القيم -رحمه الله تعالى- مراتب الشيطان الست وعقبات الشيطان الست التي يتعقب فيها ابن آدم، ذكر أن أول مرتبة الشرك، ثم قال: المرتبة الثانية البدعة، ثم قال: الثالثة الكبيرة، قدم البدعة على الكبيرة وهذا هو الصحيح، لأمور كثيرة منها: أن البدعة ضررها عام، وأما الكبيرة فضررها خاص على من؟ على صاحبها.
وقوله: إن الرجل يحب أن يكون ثوبه حسنا ونعله حسنا، فيه ورع الصحابة -رضي الله تعالى عنهم- وحرصهم على مباعدة ومجانبة كل ما يدخل بهم حول دائرة الإثم، وفيه أيضا أن على طالب العلم، على دعاة الخير أن يكونوا أحرص الناس على تجنيب أخلاقهم وخلقهم ما يسيء إلى سمعتهم شرعا، وفيه أيضا حرص الصحابة -رضي الله تعالى عنهم- على حسن مظاهرهم، طابت بواطنهم وطابت ظواهرهم.
وأما من قدح فيهم، فقبحت ظواهرهم وقبحت بواطنهم، رضي الله تعالى عن الصحابة وأرضاهم، حرصهم على التجمل في الظاهر؛ لأن الله -جل وعلا- جميل يحب الجمال، كما في هذا الحديث.
ويستفاد: أن على طالب العلم أن يكون نظيفا في باطنه وخارجه، أن يكون نظيفا في مظهره أمام الناس، يعنى بنظافة الباطن هي الأصل، ويتبعها نظافة الظاهر، كان عليه الصلاة والسلام أنظف الناس ثوبا وأحسن الناس رائحة، وكان يحب الطيب، وكان يكره - صلى الله عليه وسلم - أن توجد منه الريح.
فحري بطالب العلم أن يعنى بهذه الأمور، يظن بعض الناس أنها من التنعم والترفه، لا، الترفه المذموم والتنعم المذموم، الوارد في قوله عليه الصلاة والسلام " إياك والتنعم فإن عباد الله ليسوا بالمتنعمين " الإغراق، وجعل التنعم هو المقصد الأسمى، أما أن يحرص الإنسان على نظافة ثوبه والطيب، فهذا مما أمر به الإسلام وحث عليه؛ ولهذا تجد أن طالب العلم إذا اعتنى بنظافة ثيابه وطيب رائحته كان ذلك أدعى لقبول قوله وأنضر في أعين الناظرين.
.............................................................................(1/91)
ـــــــــــــــ
وأيضا فيه عظيم إثم من اتهم آحاد الصحابة ناهيك عن جماعتهم، قوم طهرت بواطنهم، وطابت ظواهرهم، وكانوا أحرص الناس على كل فضيلة وأبعد الناس عن كل رذيلة، فيا ويل ويا عظيم إثم من لمزهم أو قدح فيهم، قال الإمام الطحاوي -رحمه الله تعالى- في معتقده: ونحب أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولا نتبرأ منهم، ونبغض من يبغضهم وبغير الحق يذكرهم، وحبهم دينٌ وإسلام وإحسان، وبغضهم كفر ونفاق وطغيان.
قال - صلى الله عليه وسلم - " لا تسبوا أصحابي فوالذي نفسي بيده لو أن أحدكم أنفق مثل أحد ذهبا ما بلغ مد أحدهم ولا نصيفه " قوم رضي الله عنهم، أوجبت العقول عدالتهم، واطمأنت القلوب والفطر إلى حقيق صدقهم وأمانتهم، فعياذا بالله من لمزهم أو لمز أحدهم.
قوله: " إن الله جميل يحب الجمال " فيه وصف الله تعالى بالجمال، فكل صفة مدح وجمال للمخلوق الخالق أولى بها، قاعدة، وفيه الحرص على فعل ما يحبه الله، يحب الجمال، إن الله يحب التوابين، يحب التواب، يحب المتطهرين، يحب المحسنين، يحب العافين عن الناس والعفو، فحري بالعبد أن يستشعر هذا، وفيه أيضا التعبد لله بمقتضى أسمائه وصفاته فأنت تتجمل وتعلم أن الله يحب التجمل وأن الله جميل يحب الجمال، وأن تسأل الله وتفتقر إليه لأنك تعلم أن الله هو الغني وأنت الفقير، وعليك أيضا إذا دعتك النفس إلى معصية أن تتذكر، تعتقد أن الله يسمعك ويراك، ولا تخفى عليه خافية. نعم يا شيخ فهد.
الحديث السابع والعشرون: إذا قال الرجل هلك الناس فهو أهلكهم
وعن أبي هريرة -رضي الله تعالى عنه- قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - " إذا قال الرجل هلك الناس فهو أهلكهم " أخرجه مسلم.
ـــــــــــــــ(1/92)
جاء في رواية بلفظ آخر فهو أهلكَهم، يعني أهلكُهم وأهلكَهم، أهلكُهم أشدهم هلاكا، أهلكَهم تسبب في إهلاكهم، في الحديث ذم التشاؤم وتقنيط النفس، واليأس، لا تقنطوا من روح الله { إِنَّهُ لَا يَيْئَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ (87) } (1) { * قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ } (2) ذم التشاؤم، القنوط، اليأس، كلها تورِّث العجز والخمول، والقعود والضعف والتخلف عن الخير، وفيه أن المتشاءم يحرم نفسه وغيره من الخير، ليت أن الأمر وقف على المتشائم، هو سوء، فيه سوء، لكن المصيبة أن يتعدى الأمر إلى غيره، والضرر إلى غيره؛ لأن من قنت الناس أدخل الضيم عليهم.
ودعاة الخير أولى الناس بالاجتناب عن هذا الأمر والحذر والبعد عنه، قال رجل للإمام أحمد كما ذكر ابن الجوزي في المناقب: يا إمام ظهر الباطل على الحق، لما قامت المعتزلة بالفتنة، قال: كلا بما أن قلوبنا على الحق فالحق ظاهر. فبعض الناس ينظر إلى الخير الكبير بمنظار صغير، وينظر إلى الشر الصغير بمنظار كبير، كلما أخبر بخير زهَّد فيه وهوَّن من شأنه، ولو كان الخير عظيما، وكلما بلغته شائعة عن شيء عن أمر سوء ضخمه وأشاعه وأذاعه، وزاد نفسه وغيره تقنيطا وتيئيسا، إن دخل بيته فأخطأ أحد أولاده أو أهله في أمر، رماهم بأسوأ الألفاظ بالبعد عن الخير، بالفسق، بالفجور، ولو أحسنوا ما أحسنوا واجتهدوا لم يبال بهم، ينظر إلى الناس بمنظار مظلم، منظار شؤم، هذا لا يعيش عيشة هنيئة،
............................................................................. ـــــــــــــــ
هذا لا يرتاح في عبادته، ولا يطمئن في تلاوته ولا في دعائه؛ لأن الشيطان قد غلبه وقيده وأسره فأصبح مأسورا مقادا تابعا لا متبوعا، تابعا للشر للشيطان لا متبوعا في الخير.
__________
(1) - سورة يوسف آية : 87.
(2) - سورة الزمر آية : 53.(1/93)
وفيه الحذر أيضا من تزكية النفس لأنه إذا ذم الناس فهو يزكي نفسه، كأنه هو الذي على الحق وما سواه على الباطل، هو الذي ينقد الناس، وهو الذي يقيم المجتمع، فهذا من الجهل ومن الضعف، وضعف الهمة بل ودناءة النفس { فَلَا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى (32) } (1) قد يكون في هؤلاء الذين يأستهم أو قنطتهم قد يكون أضعفهم خيرا منك { فَلَا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى (32) } (2) { أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُزَكُّونَ أَنْفُسَهُمْ } (3) .
قال - صلى الله عليه وسلم - " لا تزكوا أنفسكم الله أعلم بأهل البر منكم " كأن من زكى نفسه يبعد من خصال أهل البر والصلاح، وللعلماء في هذه المقولة تخريجان: من قالها تقنيطا وتيئيسا، وقعد مع الخالفين فهذا المذموم، أما من قالها بحق تحزنا على ما أصاب مجتمعه أو بلده وقصد بذلك إعلاء همة نفسه وهمة غيره بتوفيق الله ثم بكلامه فنعم، لكن المحذور التقنيط والتيئيس، إن سمع شرا أذاعه ونشره، وإن سمع خيرا قبره ودفنه، فإذا المحذور هذا الأمر.
أما من قاله من باب حث الناس، يا إخوان كثر الشر، يا إخوان أهل البدع ظهرت رءوسهم، اجتهدوا، ظهر التقصير في بر الوالدين، ظهر الفحش في الغيبة والمجلات والقنوات، اجتهدوا، بقصد بعث الهمة، لا تقنيط الناس أو التشاؤم بقصد إضعاف الهمة، ثم أيضا أيها الأكارم ينبغي أيضا أن نعلم أن المسلمين فيهم خير وأن أهل المعاصي تبقى عندهم الفطر فينبغي أن يترفق بهم، فأنت يا داعي الخير طبيب، والذي تلبث بالمعصية مريض فالرفق الرفق، والعلم العلم، كم من أسلوب حسن غير مجرى
............................................................................. ـــــــــــــــ
__________
(1) - سورة النجم آية : 32.
(2) - سورة النجم آية : 32.
(3) - سورة النساء آية : 49.(1/94)
حياة رجل، كم من أسلوب طيب على علم وبصيرة أدخل رجلا في الإسلام بعد أن كان كافرا، وكم من أسلوب سيئ بغض كثيرا من الناس في الإسلام وغير المسلمين. نعم يا شيخ.
الحديث الثامن والعشرون: لا تزال طائفة من أمتي قائمة بأمر الله، لا يضرهم من خذلهم
وعن معاوية -رضي الله تعالى عنه- قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - " لا تزال طائفة من أمتي قائمة بأمر الله لا يضرهم من خذلهم أو خالفهم، حتى يأتي أمر الله وهم ظاهرون على الناس " أخرجه أحمد والشيخان.
ـــــــــــــــ
قوله لا تزال: اللام نافية، نفي الزوال يدل على دوام البقاء، وآخر الحديث يؤكد أوله، حتى يأتي أمر الله، وقوله: طائفة تشمل الواحد فأكثر، يقول ابن عبد البر -رحمه الله تعالى- في كتاب جامع بيان العلم وفضله، وقبله أهل اللغة وبعض أهل اللغة، الطائفة في لسان العرب تطلق على الواحد فأكثر { وَإِنْ بb$tGxےح !$sغ } (1) من المؤمنين لو تقاتل رجلان من المؤمنين ولو تقاتل رجلان من المؤمنين يصدق عليهم أن كل واحد منهم طائفة، فيصلح بينهم.
وفيه أيضا في قوله طائفة أن دعاة الحق ليس لهم عدد معين ولا مكان معين ولا زمان معين، بل هم على الدوام موجودون، يقلون تارة في بلد ويكثرون، جاء رجل إلى عبد الله بن المبارك -رحمه الله تعالى- فقال يا أبا عبد الرحمن الإمام ابن المبارك من أشهر علماء السنة في القرن المتقدم الثاني، وكان إماما في الديانة والسنة والعلم والورع، ولقب بشيخ الإسلام من مرو، يقول فيه الشاعر:
إذا سار عبد الله من مرو ليلة ... فقد سار منها نجمها وهلالها
إذا ذكر الأحبار في كل بلدة ... فهم أنجم فيها وأنت هلالها
............................................................................. ـــــــــــــــ
__________
(1) - سورة الحجرات آية : 9.(1/95)
ولابن حجر في التقريب يقول عنه: ابن المبارك إمام مجاهد جواد جمعت فيه خصال الخير، والذهبي يقول: والله إني لأحبه وأتقرب إلى الله بحبه، هذا الإمام العلم، كان من آيات الله في الديانة والعلم، جاءه رجل فقال: يا أبا عبد الرحمن إن الناس اختلفوا عندنا فمع من أكون، قال: كن مع الجماعة، قال ليس هناك ثم جماعة، فرق، اختلافات، قال: عندكم أبو حمزة السكري؟ قال نعم، قال: الزمه فإنه جماعة وحده، على السنة والديانة.
وقوله قائمة فيه أن دعوة الحق ظاهرة، قال قائمة، وقال ظاهرون، فيه أن دعوة الحق ظاهرة دائما، وفيه أن دعوة الحق بظهورها ووضوحها تخالف تلك الدعوات السرية في السراديب والخنادق وغيرها، فدعوة السنة واضحة كالشمس في النهار ليس دونها سحاب، أما الدعوات السرية الخفية فهذه لا تأتي بالخير وخلاف منهج أهل السنة والجماعة، ورد فيه أثر عن عمر بن عبد العزيز وإن كان فيه ضعف لكن المعنى صحيح: إذا رأيت القوم يجتمعون في أمر دينهم دون العامة فاعلم أنهم على سوء.
دعوة السنة ظاهرة في كل مكان، صاحبها يظهر ما عنده ما يخفي؛ لأن الخير الذي معه ليس له، مأمور بإشاعته ونشره على كل أحد، مع كل أحد في كل مجتمع، وقوله: " لا يضرهم من خذلهم ولا من خالفهم حتى يأتي أمر الله وهم ظاهرون على الناس " فيه أن لدعاة الحق مخذلين، ومضارّين ومخالفين، وفيه تثبيت الله تعالى لدعاة الحق، ودفع ضرر المخذلين والمخالفين، والمضارين لهم، وفيه أيضا: دوام المخالفة لهذه الدعوة، داعي الحق والسنة دائما مخالف؛ لأنه يخالف الهوى وشهوة النفس، والدعوات الأخرى توافق الهوى وشهوة النفس.(1/96)
وفيه أيضا دوام حفظ الله لهذه الدعوة وأهلها، فليفرح صاحب الحق، فليفرح صاحب السنة، بحفظ الله لدعوته وحفظ الله له، وفيه دوام نفع هذه الطائفة لأنفسهم وللناس بتوفيق الله، وفيه أن أصحاب هذه الدعوة، دعوة الحق أدرى الناس بالبدع، وهم أشد الناس ابتعادا عنها، وأشد الناس تحذيرا من البدع ومن أهلها، والفائدة الأخيرة في علمي القاصر البشارة لأهل دعوة الحق، بأنهم هم المنصورون في الدنيا والمنصورون في الآخرة، وأن هذه الطائفة هي الطائفة المنصورة الخيِّرة الثابتة على الحق، الله نسأل أن يجعلنا وإياكم منها. نعم يا شيخ.
الحديث التاسع والعشرون: خيركم من تعلم القرآن وعلمه
عن عثمان -رضي الله تعالى عنه- قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - " خيركم من تعلم القرآن وعلمه " أخرجه البخاري.
ـــــــــــــــ
فيه تفاضل قوله خيركم، فيه تفاضل العلوم وتفاضل المعلمين، خيركم من تعلم القرآن وعلمه، تفاضل العلوم، وتفاضل المعلمين، وفيه أن خيرية معلم القرآن وخيرية متعلمه خيرية مطلقة، هي خيرية في الدنيا وخيرية في البرزخ، وخيرية في الآخرة، أما خيرية الدنيا فهذا الحديث، فقوله عليه الصلاة والسلام: " يؤم القوم " من أيها الأكارم " أقرؤهم لكتاب الله " قُدِّم ليس لنسبه ولا حسبه ولا ماله، لكن لخيرية ما يعلم، هذا في الدنيا، وأما الخيرية في البرزخ، فما أخرجه الشيخان " لما كثر القتلى في غزوة أحد، وشق على الصحابة -رضي الله تعالى عنهم- أن يدفنوا كل ميت في قبر دفنوا كل ميتين أو ثلاثة في قبر واحد فاستأذنوا النبي -عليه الصلاة والسلام- فأذن لهم فكان عليه الصلاة والسلام يشرف أو يأتي عند الدفن فإذا أتي بالموتى لإدخالهم في القبر قال: أي هؤلاء الموتى أكثر أخذا للقرآن؟ فإذا أشير على أحدهما قدمه على أصحابه " .(1/97)
وأما الخيرية في الآخرة، فللحديث قال - صلى الله عليه وسلم - " يقال لقارئ القرآن اقرأ وارق ورتل كما كنت ترتل في الدنيا فإن منزلتك عند آخر آية تقرؤها " وفيه أيضا الحرص على تعلم القرآن، حفظ القرآن، العمل به، التأدب بما فيه من الآداب، ولقد جاء عن السلف درر في هذا الأمر، في الترغيب والترهيب، يقول أحدهم يوصي تلميذا له، قال: يا بني أنت تطلب العلم فعليك بقراءة حزب من القرآن الكريم، فإني إذا قرأت حزبا وداومت عليه فُتِح لي من أبواب العلم، قال التلميذ: فجربت ذلك ففتح الله لي، فاجعل لنفسك حظا من التلاوة، أيضا احرص على تجنب المعاصي، فإنها تمنع فهم القرآن وحفظ القرآن.
ذكر السهمي في تاريخ جرجان أن كرز أو كُرز بن وبرة، دخلوا عليه فكان يبكي، قالوا: ما لك؟ قال: إن الباب موصد، والستر مجافى ولم يدخل علي أحد، وهاأنا عجزت أن أراجع حفظي، فوالله لا يكون ذلك إلا بذنب جنيته، فحريّ بطالب العلم أن يعنى بحفظ القرآن وعلم القرآن، في
............................................................................. ـــــــــــــــ
ترجمة أحد الرواة في تقريب التهذيب، قال ابن حجر: وقيل بأنه كان لا يحفظ القرآن، كان مفسر يحب التفسير، وقيل -لاحظْ- كان لا يحفظ القرآن.
وبلغت همم المتقدمين أمرا عجبا يقول ابن الجوزي أو غيره يوصي طالبا من طلاب العلم، قال: واجعل لنفسك حظا من القرآن ويكفي أن تحفظه بسبع قراءات، يكفي أن تحفظ القرآن بسبع قراءات، كيف لو رأى زمننا هذا، لا نقول يأسا حاش وكلا، ولكن شحذا يقال هذا من باب شحذ الهمم وقوة العزيمة، ثم يقال أيضا في الحديث: إن على معلم القرآن أن يتمثل هذه الخيرية، على معلم القرآن تمثل هذه الخيرية بأخلاقه، وحسن ألفاظه ونظافة ثيابه، ذكر الذهبي في معرفة القراء الكبار، ذكر أئمة من القراء، وكانوا قدوة في أخلاقهم وفي اتباعهم للسنة، وفي محافظتهم على السمت والوقار.(1/98)
الحديث الثلاثون: نضر الله عبدا سمع مقالتي فحفظها ووعاها وبلغها
عن جبير بن مطعم -رضي الله تعالى عنه- قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول بالخيف، خيف منى: " نضر الله عبدا سمع مقالتي فحفظها ووعاها وبلغها من لم يسمعها فرب حامل فقه لا فقه له، ورب حامل فقه إلى من هو أفقه منه، ثلاث لا يغلّ عليهن قلب مؤمن: إخلاص العمل لله، والنصيحة لأئمة المسلمين، ولزوم جماعتهم؛ فإن دعوتهم تحيط مَنْ وراءهم " أخرجه أحمد وابن ماجه والطبراني .
ـــــــــــــــ
نضّر ويقال نضر، والروايتان صحيحتان من النضارة، نعمه، حسنه؛ ولهذا ترى نضارة في وجوه أهل السنة، أذكر عبارة نذكرها للفائدة لشيخ الإسلام في كتاب الاستقامة، يقول: ووجوه أهل السنة كلما تقدمت بهم العمر تزداد نضارة ووضاءة، ووجوه أهل البدعة، كلما تقدمت بهم السن تزداد قبحا وظلمة، حتى بلغنا بالتواتر أن بعضهم يمسخ كوجه خنزير أو قرد أو كلب عياذا بالله، نضر الله امرأ سمع مقالتي، فيه التثبت من النقل عن أخبار النبي - صلى الله عليه وسلم - التثبت فيما ينقله الإنسان وينسبه إلى النبي عليه الصلاة والسلام.
وقوله " فوعاها وحفظها " فيه أن الانتفاع بالعلم لا يكمل إلا بالعمل به، وبفهمه، إما بالسؤال أو بالبحث في كلام أهل العلم، وقوله: ثم أداها إلى من لم يسمعها فيه فضل تبليغ العلم، وأن من مهام طالب العلم أن يعلم ويعمل، ويدعو ويصبر، ولهذا جاء في المسائل، الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله، اعلم أنه يجب لتعلم المسائل العلم والعمل والدعوة والصبر، بهذا يكمل لطالب العلم المبتغى والمراد.(1/99)
وقوله " فرب حامل فقه غير فقيه " فيه أن مجرد حفظ النصوص لا يكفي، بعض الناس وعاء، حافظ، يسرد الأحاديث سردا لكن لا يفقه المعاني، وهو مشكور إذا لم يتجاوز إلى ما ليس له به علم، لكن يُحثّ على التزود من فهم هذه الأحاديث، وقوله: " ورب حامل فقه إلى من هو أفقه منه " فيه التأكيد على ما سبق، وفيه أيضا فضل نشر العلم، وأن من فوائد نشر العلم أن يكون المبلَّغ مفيدا
............................................................................. ـــــــــــــــ
للمبلِّغ، قد تحفظ حديثا من سنين عددا، ثم إذا قرأته أو سمعته عند أحد ربما يذكر لك فيه فوائد أنت لا تعلمها من قبل هذا.
وقوله: " ثلاث لا يُغَلّ " وقيل يغِلُّ وقيل يغِلُ، وكلا الألفاظ صحيح، ومعناها تدور حول لا يكون فيه حقد ولا شر، ولا خيانة في هذه الخصال الثلاثة، إخلاص العمل لله الشر أن يكون في الإخلاص رياء وحب ظهور، أو أن يكون العمل لغير الله بالكلية عياذا بالله، والنصح لأئمة المسلمين، الناس في الولاة على أقسام ثلاثة: قوم لا هم لهم إلا القدح صباح مساء، لو أحسن الولاة ذمهم هؤلاء وجعلوا إحسانهم بقصد الشر، ولو أساء الولاة زادوا النقد والذم، وقسم لا هم لهم إلا المدح إن أساء الولاة وأخطئوا التمس ألف عذر وبرأهم، وإن أحسنوا بالغ في مدحهم، والأمران نقيضان على طرفي نقيد.
أما المنهج الحق، هو منهج أهل السنة والجماعة، عدم الحقد عياذا بالله، وعدم تمني الشر لهم، بل الفرح بخيرهم، والبغض لشرهم مع السعي في الأساليب الشرعية لإصلاح الخلل، أما التهييج والتحريش وإشاعة الفوضى فهذا يأتي بالشر ولا يأتي بالخير؛ ولهذا تجد أهل العلم وأهل السنة يركزون على هذا الأمر لعظم التفريط فيه، قال شيخ الإسلام: الحق حقان: حق لله، وحق للعباد، حق الله إفراده بالعبادة.(1/100)
وحق العباد ينقسم إلى قسمين: حق خاص وحق عام، الحق الخاص: لك أنت مع أولادك وأهل بيتك وجيرانك، والحق العام: حق للولاة الرعاة، حقوق الرعية لعموم المسلمين، حقوق الولاة أن تلزم فيهم النص الشرعي، المناصحة الشرعية بالمكاتبة، بالمهاتفة بالمشافهة، بالزيارة، بإبلاغ أهل العلم، بالدعاء لهم، قال البربهاري: إذا رأيت الرجل يدعو للسلطان فاعلم أنه صاحب سنة، وإذا رأيت الرجل يدعو على السلطان فاعلم أنه صاحب بدعة، ومع الأسف الشديد تأتي أحاديث تجمع الإخلاص لله والنصح ولزوم الجماعة، فتجد أن لحظ خصلة الولاة تبخس من حقهم، هذا من الجهل، أنت تتقرب إلى الله بأن هذه النصوص شرعية، لا تقدح ولا تمدح، ولكن الشرع ميزان الأمور كلها وشاهد لفرعها وأصلها.
............................................................................. ـــــــــــــــ
فطالب العلم يرى أهل السنة، الإمام أحمد يجلد، وترفع المبتدعة راية الاعتزال، وتجبر الأمة على القول بالخلق، خلق القرآن، ورفع الإمام أحمد رأسه لهذه الفتنة وأخمدها الله على يديه ويدي إخوانه، ومع هذا لو أشار بيده لقام أهل بغداد، ولكن الإمام ينطلق من نصوص، جاءه الواثق أو المتوكل، فتنة تعاقب عليها ثلاثة: المأمون ثم المعتصم، ثم الواثق وأطفأها الله بالمتوكل، فطلب أن يحلل فكان يدعو للسلطان وهو في تعذيب منه، ويعلم أنه ملبس عليه.
ثم أيضا العداء للولاة، فيه مضار ثلاث:
الأولى: خلاف المنهج الشرعي في النصح.
الثانية: تفرح أهل الباطل وبطانة السوء على أهل الخير، بتسليط السلطان عليهم.
الثالث: عدم قبول السلطان للنصيحة، أو لأكثر النصح.(1/101)
لكن الأسلوب الشرعي إن استجاب فلك وله، وإن أبى فلك وعليه، ولزوم جماعة المسلمين فإن دعوتهم تحيط مِنْ ورائِهم، في لفظ آخر مَنْ وراءهم مَنْ موصولة الذي وراءهم، بمعنى أن دعوة المسلمين جماعة المسلمين كالسور من لزمه فهو محفوظ بحفظ الله له، ولزوم جماعتهم فيه حث الإسلام على الاجتماع والتحذير من أسباب الفرقة والاختلاف.
وقوله ثلاث، في أول وسط الحديث فيه التلازم بين هذه الثلاث وأن فيها صلاح الدين والدنيا، أبو طالب المكي، يقول: من اجتمعت فيه تلك الثلاث في زماننا فهو من أولياء الله، لأن النفوس تريد الترويض على هذه الأمور، فيا طلبة العلم، يا دعاة الخير لنلزم جميعا المنهج السليم منهجَ أهل السنة والجماعة في التعامل، ولنقرأ كتب العقيدة، السلفية التي صنفها العلماء، أهل السنة، الإمام أحمد، اللالكائي، البربهاري، ابن بطة، ونرى كيف أنهم تواطئوا على أصول متفق عليها من نص القرآن والسنة.
الحديث الحادي والثلاثون: عليك السمع والطاعة في عسرك ويسرك ومنشطك ومكرهك وأثرة عليك
عن أبي هريرة -رضي الله تعالى عنه- قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - " عليك السمع والطاعة في عسرك ويسرك ومنشطك ومكرهك وأثرة عليك " أخرجه مسلم.
ـــــــــــــــ
"عليك" فيه خطاب الأمر، والأمر للوجوب إلا ما جاء في المعصية، إذا أمر بمعصية فلا سمع ولا طاعة، بنص الخبر الآخر، وقوله بالسمع والطاعة، فيه قبح من أظهر السمع والطاعة للولاة في الظاهر، ثم إذا خلا أظهر المخالفة والتحريش، وهذا من صفات النفاق عياذا بالله، وفيه تلازم السمع والطاعة لولاة الأمور وليس المراد التسليم لكل ما يقال، والسكوت عن كل خطأ، لا، كما تقدم، الدعاء والنصح، وبيان الحق بالأساليب الشرعية.(1/102)
وفيه أن من علامات صاحب منهج الحق الثبات على المبدأ في جميع أحواله، في العسر واليسر، في المنشط والمكره، وفي ظهور الأثرة؛ ولهذا تجد أن صاحب المبدأ ما يتغير، لكن الذي في قاربه أو في سفينته خروق، كلما سد خرقا انفتح خرق، يتأرجح تارة تراه مادحا ثم ينقلب قادحا، تارة تراه مبغضا ثم محبا، مجرد لما في نفسه، أما إذا أحب للخير وأبغض للشر فنعم، فصاحب المنهج الحق على مبدئه وعلى أصوله في جميع الشئون والأحوال.
وقوله: وأثرة، هنا ظهور خلاف طاعة النبي -عليه الصلاة والسلام- فيمن حرش على الولاة بسبب الأثرة، أنت مأمور بالسمع والطاعة، الأثرة الدنيوية تذهب، هنا تميز طالب العلم أنا وأنت نعلم هذا الحديث، وأمرنا بالسمع والطاعة في طاعة الله، والأثرة، قال النبي - صلى الله عليه وسلم - سترون من بعدي أثرة فاصبروا، إذا منافاة الصبر خلاف منهج النبوة.
بعض الناس يقولون إذا نذعن وننكس رءوسنا، لا، انصح وبلغ النصيحة شريطة أن يكون النصح بالأساليب الشرعية، أما التهييج والخروج، فهذا ليس من منهج أهل السنة والجماعة، من منهج الفرق الضالة التي شوهت مجرى التاريخ؛ ولهذا قال العلماء: من الذي أراق دم عثمان ودم
............................................................................. ـــــــــــــــ
علي رضي الله تعالى عنهما، إلا الخروج، وفيه الصبر والاحتساب عند رؤية الأثرة والسعي بالنصح، وفيه أن تأليب الناس عند الأثرة مخالف لمنهج النبي عليه الصلاة والسلام.
وفيه حث الإسلام على أسباب الاجتماع، والتحذير من أسباب الافتراق، وفيه فوائد كثيرة وأعظمها لزوم منهج أهل السنة والجماعة. نعم يا شيخ فهد.
الحديث الثاني والثلاثون: أيما رجل قال لأخيه يا كافر فقد باء بها أحدهما
عن عبد الله بن عمرو -رضي الله تعالى عنهما- قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - " أيما رجل قال لأخيه يا كافر فقد باء بها أحدهما " متفق عليه.
ـــــــــــــــ(1/103)
في الحديث تهذيب الشرع لجارحة اللسان خصوصا ولجميع الجوارح، وفيه تعظيم جانب الأخوة الإسلامية، الأخوة سياج عظيم قوي إياك أن تخرقه بغير حق، إياك أن تسعى في نقده بغير حق فإن الدائرة تكون عليك، وفيه خطورة القول بلا علم، عموما وخصوصا خطورة القدح في عقائد الناس بلا علم، وفيه أيضا أن الجزاء من جنس العمل.
وكما تقدم أن هذه القاعدة جاءت في آيات كثيرة في القرآن، بل الإسلام كله كما يقال: الجزاء من جنس العمل، ويعفو عن كثير، وفيه كمال عدل الله - عز وجل - فقد باء بها أحدهما، كاللعن، إذا لعن أحد صاحبه ترتفع اللعنة إلى السماء فتغلق دونها أبواب السماء فترجع، فإن كان الملعون مستحقا لها، وإلا ردت على صاحبها.
وفيه أن العناية بفهم منهج أهل السنة فيه نجاة للعبد من الخلل والشطط والزلل، فهنا يقال: إن هذه الألفاظ تكفير، الناس فيه أيضا على أطراف ثلاثة: قسم يكفر بمجرد أي شيء دون التحقق، وقسم يمنع التكفير بل لا يسمي الكافر كافرا والعياذ بالله، الآخر أو الناس أو الطرف الآخر، والقسم حب التناهي غلط خير الأمور الوسط، من قامت عليه الحجة والمحجة، وعلى قواعد أهل العلم أن من يَكْفُر يكفَّر، أما أن يطلق الإنسان لسانه، كما نسمع الآن هذا كاتب علماني، هذا كذا، ولو قلت لمتكلم أما تتقي الله الآن كفرته، بأي ذنب قتلت، بأي ذنب كفرته، قال: قال كذا، هلا سألته، هلا تأكدت أن قوله هذا صريح الكفر؟
ولهذا كان أهل العلم يشددون في هذه المسألة، التكفير إخراج الناس من دينهم، يذكرون قد ينسى الإنسان قد يغفل قد يكون للتأول له مخرج، اللهم أنت عبدي وأنا ربك، أخطأ من شدة الفرح، فالقصد من هذا أن أمور التكفير وضوابط التكفير من الأهمية بمكان، فالحذر كل الحذر أن تولج نفسك بابا لا تدري ما وراءه.
............................................................................. ـــــــــــــــ(1/104)
لهذا يُنهَى بعض المتسرعين عن إطلاق هذه الألقاب فلان كذا فلان علماني، فلان يعني كافر، فلان كذا، ولو سألتَه لماذا؟ وجدت أنه لم يسأل في هذا إطلاق هذا الحكم، أو سأل من لا علم عنده، فالحذر أيها الأكارم، سأل الشوكاني شيخا له عن تكفير أحدهم فيما أذكر أنه الشوكاني يقول، فيما أذكر الآن والعهد بها بعيد، يقول: ألححت على شيخ لي عن كفر أحد، فلما أضجرته قال: يا بني، إن إخراج رجل من الملة ليس بالشيء الهين، فالحذر أيها الأكارم. نعم يا شيخ فهد.
الحديث الثالث والثلاثون: لن يزال المؤمن في فسحة من دينه ما لم يصب دما حراما
وعن عبد الله بن عمر -رضي الله تعالى عنهما- قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - " لن يزال المؤمن في فسحة من دينه ما لم يصب دما حراما " أخرجه البخاري.
ـــــــــــــــ
فيه شمولية الإسلام وسماحته، وأن دين الإسلام فيه فسحة، كله سماحة ويسر، لكن يضيق الأمر على صاحبه، إذا تلوث بأمور منها الدم الحرام، وفيه الوعيد لمن أضر بغيره بغير حق، ويختلف الإثم والوعيد بحسب الضرر، وفيه أن المعصية تضيق الفسيح على صاحبها؛ ولهذا ذكر الله عن بعض الصحابة رضي الله عنهم { وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ } (1) وهذا من قوة إيمانهم وكمال طهارتهم رضي الله عنهم وأرضاهم، من حرصهم ضاقت الأرض عليهم، لشعورهم بما أصابهم، ولهذا تجد أن الذي يضعف إيمانه لا يبالي بالذنب يمشي وكأن شيئا ما كان.
أما صاحب الذنب الذي تلبَّس بالمعصية وشعر بالندم تضيق الأرض عليه، تضيق الفسيحة عليه، وفيه أيضا خطورة أمور الدماء، أمور الدماء، جاء الحديث أو جاءت قواعد الإسلام بل القواعد الكلية الخمس، تسمى الضروريات الخمس التي اتفقت عليها جميع الأديان السماوية: حفظ الدين، وحفظ العقل، وحفظ النفس، وحفظ المال، وحفظ العرض، جميع الأديان السماوية تقرر هذه الأمور.
__________
(1) - سورة التوبة آية : 25.(1/105)
وقد ذكر أهل العلم في أمور الدماء أن قتل البهيمة وهي بهيمة بغير حق يأثم صاحبه، القاتل، كما أنه إذا رحم البهيمة يؤجر، والشاة إن رحمتها يرحمك الله، ما بالك بقتلها بغير حق، ما بالك بقتل الكافر المعاهد بغير حق، من قتل معاهدا لم يرح رائحة الجنة.
يقول ابن القيم: وهذا في الكافر لأن له عهدا وذمة، فكيف بقتل مسلم عياذا بالله، فنعوذ بالله أن تتلوث دم مسلم بدم حرام، يشاركه في هذا من أيَّده وأعانه ودفع له وستر عليه، لمَ؟ لأن من قواعد أهل العلم في الذنوب، أن الذنب قد يشترك فيه جماعة، كما أن الخير قد يؤجر فيه جماعة، لعن الله في
............................................................................. ـــــــــــــــ
الخمر عشرا: شاربها وعاصرها ومشتريها وبائعها وحاملها والمحمولة إليه ... إلى آخر العشرة، كلهم مشتركون.
كذلك في القتل -نعوذ بالله- من أيَدَه، من ستر عليه، من حسن فعله، ولهذا لما قتل رجل في صنعاء قتلته جاريته، وخدن لها في خلافة عمر، تمالئوا عليه ثلاثة أو أربعة فقتلوه، فأرسل الوالي إلى عمر، قال: اشترك فيه أربعة، قال لو تمالأ عليه أهل صنعاء لقتلتهم اقتلهم به كلهم، اقتلهم جميعا. نعم يا شيخ فهد.
الحديث الرابع والثلاثون: من يطع الله ورسوله فقد رشد
وعن عدي بن حاتم رضي الله تعالى عنه " أن رجلا خطب عند النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعصهما فقد غوى، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - " بئس الخطيب أنت قل: ومن يعص الله ورسوله " أخرجه مسلم.
ـــــــــــــــ(1/106)
قوله: أن رجلا خطب عند النبي عليه السلام، فيه جواز تكلم المفضول بحضرة الفاضل، إن أذن له أو إن أذن فالسكوت ماذا، إقرار، وقوله: بئس الخطيب فيه المبادرة إلى تنبيه المتكلم أمام الناس إذا أخطأ، ينظر إذا أمكن الانتظار حتى ينتهي ثم يبين أو خشي المتنبه الخطأ أن يتفرق الناس ينبهه في الوقت نفسه، حتى لا يتفرق الناس على هذا الخطأ.
وفيه أيضا أن على من أراد الكلام في مجامع الناس أن يتجنب غوامض الألفاظ، وأن يكون واضحا في كلامه، بعض الناس يحب أن يظهر نفسه بالعبارات البليغة، لكن هذا لا يفيد الناس، أو أكثر الناس، لا يفيد أكثر الناس، كان النبي -عليه الصلاة والسلام- كلامه سهلا، والبلاغة كما يقولون البلاغة أن يفهم كلامك كل أحد.
وفيه أيضا أن على الخطيب قبول ما يرشد إليه من أهل العلم، بعض الناس قد يأنف، فعليك يا طالب العلم إذا كنت خطيبا أو إماما أو المهم أيا كنت عليك أن تتقبل ما يقال من التنبيه وأن تفرح لأن من نبهك أحسن إليك، وفيه أن على من يرتقي المنابر أن يعنى أمامك الناس تحتك الناس، جاءوا متطهرين متطيبين يجب عليهم الاستماع لك شرعا يأثم من تكلم وأنت تتكلم، فحاول واجتهد أن تفيد نفسك والناس.
فالمنبر وسيلة إعلامية عظيمة، يقول أحد المنصرين: لو اجتمع عليَّ الناس كاجتماعهم المسلمين في الجمعة لنصَّرت الدنيا كلها، كذب وهو الكذوب، عظم شأن الجمعة، أو شأن إنصات الناس للخطيب، ولهذا بعض الخطباء لا يحترم عقول الناس ولا يؤدي الذي اؤتمن أمانته هو يصعد المنبر ولا يلقي بالا لخطبة الجمعة، بل لا يعنى بالخطبة إلا على المنبر، حتى أن بعضهم يقلب الأوراق على المنبر، لتوه يتفرغ للناس، هذا من الجهل.
............................................................................. ـــــــــــــــ(1/107)
وقوله قل ومن يعص الله ورسوله، يقول بعض العلماء: جمع الضمير أو جمع لفظ الجلالة والرسول - صلى الله عليه وسلم - في ضمير واحد يوهم الاشتراك، فأراد الرسول - صلى الله عليه وسلم - الفصل بين الضميرين، لكن جاء في حديث حتى يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما، قال الشراح، إذا كان الذي جمع الرسول - صلى الله عليه وسلم - فهو أدرى بشأنه مع ربه - عز وجل - لكن من باب عدم الجمع حتى لا يلتبس الأمر على الناس. نعم يا شيخ فهد.
الحديث الخامس والثلاثون: يوشك الأمم أن تداعى عليكم كما تداعى الأكلة إلى قصعتها
عن ثوبان -رضي الله تعالى عنه- قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - " يوشك الأمم أن تداعى عليكم كما تداعى الأكلة إلى قصعتها، فقال قائل: ومن قلة نحن يومئذ، قال: بل أنتم يومئذ كثير ولكنكم غثاء كغثاء السيل، ولينزعن الله من صدور عدوكم المهابة منكم، وليقذفن الله في قلوبكم الوهن، فقال قائل: يا رسول الله وما الوهن، قال: حب الدنيا وكراهية الموت " أخرجه أبو داود.
ـــــــــــــــ
يوشك مثل كاد، عند اللغويين من أفعال المقاربة، دنت وقربت، يوشك أن تداعى، أو يوشك الأمم أن تداعى عليكم، فيه كمال شفقة النبي - صلى الله عليه وسلم - على أمته، وفيه أن ذلك من علامات نبوة النبي - صلى الله عليه وسلم - من إخباره بالمغيبات التي وقعت، وفيه أن أعداء الإسلام وإن اختلفوا بينهم فهم متفقون على ماذا؟ على العداء للإسلام، يرمونه بقوس واحدة اسمها العداء للإسلام.
وقوله من كل أفق، فيه أن غاية أعداء الإسلام واحدة، وإن تباعدت أقطارهم، واختلفت ألوانهم، وقوله عليه الصلاة والسلام: " كما تداعى الأكلة إلى قصعتها " فيه بلاغة النبي - صلى الله عليه وسلم - وفيه ضرب الأمثال للتقريب، كما يقال: بالمثال يتضح المقال، فعلى داعي الخير وطالب العلم إذا تكلم أن يضرب الأمثلة للناس حتى تتضح الصورة، فبالمثال يتضح المقال وتقرب الصورة في الأذهان.(1/108)
وقوله "الأكلة" فيه عظيم حرص أعداء المسلمين على عدائهم للإسلام وبغضهم للإسلام، الأكلة الجائع بشراهة، أكلة مبالغة يأكل بشراهة، لجوع شديد، كما أن أعداء الإسلام يتمنون البطش لعدائهم للإسلام، قال قائل منهم: ومن قلة نحن يومئذ أيضا فيه حرص الصحابة -رضي الله تعالى عنهم- على كل ما يشكل عليهم.
وقوله عليه السلام، " بل أنتم يومئذ كثير " فيه أن الكثرة لا تغني عن أصحابها شيئا، وفيه أن على طالب العلم أن لا يغتر بالكثرة، وأن لا يمدح الناس بالكثرة بل بصفاء هذه الكثرة، ولهذا ذم الله
............................................................................. ـــــــــــــــ
الكثرة في غير موضع { وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ } (1) { أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعَامِ } (2) { وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ الْخُلَطَاءِ لَيَبْغِي بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ } (3) { وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (187) } (4) { لَا يَعْقِلُونَ } (5) { كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً } (6) { وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ } (7) .
لكن القلة مدحت { وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ (13) } (8) { وَقَلِيلٌ مَا هُمْ } (9) فالكثرة لا تمدح إلا بصفات الصدق والاتباع، وقوله " ولكنكم غثاء، كغثاء السيل " أيضا فيه البلاغة النبوية وضرب الأمثال من باب شحذ الهمم والتحذير.
__________
(1) - سورة الأنعام آية : 116.
(2) - سورة الفرقان آية : 44.
(3) - سورة ص آية : 24.
(4) - سورة الأعراف آية : 187.
(5) - سورة البقرة آية : 170.
(6) - سورة البقرة آية : 249.
(7) - سورة التوبة آية : 25.
(8) - سورة سبأ آية : 13.
(9) - سورة ص آية : 24.(1/109)
وقوله عليه الصلاة والسلام: " ولينزعن الله من صدور عدوكم المهابة منكم " فيه كمال عدل الله، وأن الله لا يظلم الناس شيئا وأن الناس أنفسهم يظلمون، وقوله: " وليقذفن الله في قلوبكم الوهن " حب الدنيا، فيه أن حب الدنيا من أسباب الضعف، الحسي والمعنوي، وفيه أن محبة الدنيا
............................................................................. ـــــــــــــــ
مذمومة إذا ألهت عن الدين أما إذا لم تلهِ فالمال والبنون زينة الحياة الدنيا لكن في الوقت نفسه { إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ } (1) .
وفيه أيضا أن كراهية الموت ليست مذمومة، إلا إذا كان الكراهية من أجل البقاء أو حب الدنيا وحب المال، أما إذا الإنسان كره الموت كراهة طبيعية يكره الموت، إذا الإنسان تمنى التكثر من الخير البقاء للخير فهو مأجور، وفيه أيضا أن على دعاة الخير الحذر من التكالب على الدنيا، هم أولى الناس بالبعد إذا كان هم أولى الناس بالعلم بهذه الأمور فهم أولى الناس بالعمل بها والبعد عنها، أي البعد عن التكالب على الدنيا، وليس معنى هذا أن ينسى نصيبه، لا، لكن أن يكون شغوفا جموعا في ليله ونهاره لا هم له إلا المال فهذا لا شك حرمان من الخير.
حذرت من الغراب، فأوقعني الغراب في شراكه، كنت أريد أن أختم اليوم لكن لم ينفعني حرصي لشدة حذر صاحبي وقبل الجواب في جملة مرت في الثالث والعشرين عندكم، أحد الإخوة أشكلت عليه في الحديث الثالث والعشرين في السطر الثاني فقرأه النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: كيف هذه العبارة، قصده طبعا بأن النبي -عليه الصلاة والسلام- لا يقرأ ولا يكتب، فكيف يقول هنا: قرأ.
__________
(1) - سورة التغابن آية : 15.(1/110)
في أساليب العرب يصدق أن يقرأ له فيقال قرأ، لأنه هو الآمر، ولهذا لما جاءت مسألة، هل باشر النبي -عليه الصلاة والسلام- الأذان بنفسه، جاء في حديث عند الترمذي قال الصحابي: " كنا في يوم وحل فأذن النبي - صلى الله عليه وسلم - " فقالوا وفي هذا أنه باشر الأذان بنفسه الشريفة.
ابن حجر -رحمه الله- يقول جاء عند الإمام أحمد -رحمه الله- في المسند أنه أمر بلالا أو أمر فلانا أن يؤذن فأذن، وهذا سائغ في لسان العرب أن يقال أذن بمعنى هو الذي أمر وباشر، مثل ما جاء في
............................................................................. ـــــــــــــــ
سورة أيضا ما ذكروا في سورة النمل { وَإِنِّي مُرْسِلَةٌ إِلَيْهِمْ بِهَدِيَّةٍ فَنَاظِرَةٌ بِمَ يَرْجِعُ الْمُرْسَلُونَ (35) فَلَمَّا جَاءَ سُلَيْمَانَ } (1) فلما جاء رسول بلقيس سليمان، واحد يتكلم بلسانها.
كما يقال فتح القائد بلاد كذا، قد يكون القائد في عاصمته لكن فتحه الجند، الجيش بأمره وولايته عليهم شرعا، قوله: فقرأه النبي عليه الصلاة والسلام من هذا القبيل، قد ذكر بعض أهل العلم، أن من قرأ كلمة واحدة لا يسمى قارئا، كما أن من قال بيتا من الشعر لا يسمى شاعرا، فقد يقرأ الإنسان، يعرف رسم كلمة مثلا، أو يعرف .. لهذا ترى بعض العامة الآن يكتب اسمه عند التوقيع مثلا، ولا يعرف سوى هذا الاسم.
__________
(1) - سورة النمل آية : 35-36.(1/111)
قد جاء في البخاري " أن النبي -عليه السلام- لما كتب علي - رضي الله عنه - من محمد رسول الله، قالوا: لا نقبل، فأمره بمسحها فأبى علي أن يمسحها - رضي الله عنه - وأرضاه، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أرني إياها فمسحها " في بعضها فكتب قيل: إنه أمر، وقيل: إن كتابة الشخص لكلمة واحدة لا تسمى كتابة، ولهذا يرى بعض المالكية كالباجي، قال: إن المعجزة الإلهية كانت قبل اكتمال الوحي، كانت قريش ستقول لو كان يقرأ ويكتب هذه كتابات وديانات، كما يقول بعض المستشرقين إن محمدا أخذ هذه الأحكام من قوانين الروم، والرد عليهم أنه ما كان يقرأ ولا يكتب، فالشاهد فقرأه يعني إما فأمر بقراءته أو قراءة كلمة لا تجعل الإنسان قارئا، فقرّأه، الذي عندي في اللفظ هنا فقرَأه.
لا تجعل الإنسان قارئا "فقرَّأه" الذي عندي في اللفظ هنا "فقرَأه" لكن بالتشديد ما أسمعها.
يقول: تكررت في سياق الحديث عبارة "الأديان السماوية" فهل هناك دين سماوي سوى الإسلام؟
الإسلام هو الدين الناسخ لجميع ما قبله: " لا يسمع بي يهودي ولا نصراني ثم لا يؤمن بي إلا أدخله الله النار " لكنها أديان سماوية حقة، مات عليها أناس، وبعث الله بها رسلا، ومن تعبيرات الأصوليين: "جميع الأديان أمرت بهذه القواعد الخمس: حفظ العرض، الدين، النسل، المال، العقل ."
............................................................................. ـــــــــــــــ
هل الذي يقرأ القرآن يدخل في حديث "اقرأ ورتل"؟
القراءة أنواع: تارة تكون القراءة هذًّا، وتارة تكون بتدبر، فيقول شيخ الإسلام أو سئل شيخ الإسلام: أيهما أفضل القراءة بتدبر بشيء يسير؛ يعني آيات قليلة، أو القراءة بكثرة بغير تدبر.
فقال: هذان كرجلين حصلا جواهر، أحدهما حصل جواهر كثيرة لكن أجرها يسير، والآخر حصل جوهرة واحدة لكن أجرها عظيم.
يقول هل صحيح أن الشيخ ابن باز -رحمه الله- أمي لا يقرأ ولا يكتب؟(1/112)
الشيخ كف رحمه الله، بعد سبع أو ثماني عشر سنة، وما أعلم الآن أنه كان يقرأ ويكتب، ولكن الله ذهب ببصره وعوضه ببصيرةٍ.
ما الحكم في العمل في عيادة بيطرية تقوم بعلاج الكلاب والقطط؟
ذكر غير واحد من المؤرخين بأنه كان للإسلام أوقاف -في بعض دول الإسلام أوقاف- خاصة للنفقة على البهائم التي أضاعها أهلها، أو مرضت تحتاج إلى علاج وعجز أهلها عن علاجها، وهو ما يسمى الآن بالطب البيطري.
أما علاج الكلاب والقطط فلا يحضرني الآن حكمه، أو لا يحضرني الآن فتوى من أحد مشائخي فأرجئ السؤال، لكني أتذكر أن شابا سألني عن أنه دهس قطة، وجاء ندمان وخائف يدل على خيرية في نفسه، وكان يقول بأنه لما دهسها ورآها في الخلف بالمرآة أصابه ذعر وخوف، وهو الآن يشعر بحرقة وذنب عظيم، فقلت له: هل عزيت أهلها، قال لا والله، قلت: لماذا؟ ارجع وابحث. قال: إن شاء الله. وإذا عزيتهم ماذا أفعل؟ قلت: هل دفنتها؟ قبرتها؟ قال: أبدا أعوذ بالله، أذهب الآن؟ قلت: نعم، لا تتأخر.
فلما قام قلت له: تعالى يا بني تعالى، أنت تفهم ما أقول؟ إنه من الدعابة.
تعمدت قتلها؟ قال: لا. فقلت: أنت على خير إن شاء الله. وقتلها عمدا حرام لا يجوز، لكن إذا قدر للإنسان لسهو في قيادة السيارة، أو يعني كما يقال: أغلق عليها بابا بدون عمد فلا يضر إن شاء الله.
............................................................................. ـــــــــــــــ
وأنا أقول لإخواني: البهائم نؤجر فيها ونؤزر؛ دخلت النار امرأة في هرة، وقد يكون تعذيبها سببا في العذاب في الدنيا والآخرة، أذكر أن امرأة سألتني ثاني عيد الفطر قبل بضع سنين، قالت: استيقظنا من النوم وكان لي أخت صغيرة -نحن أربع أخوات- وجدنا شعرها مقطع في غرفة، وكانت فزعة، فقلت: أعطنيها أكلمها، فلم تستطع أن تتكلم؛ البنت.
فقلت لأختها الكبيرة: هل في الدار شيء... خادمة أو كذا؟ قالت: أبدا ما عندنا خادمة.(1/113)
البنت مريضة؟ قالت: أبدا. شعرها فيه بلاء؟ قالت: أبدا.
قالت: لكننا وجدنا البارحة قطة أغلق عليها في بيت الدرج، فماتت جوعا وعطشا، وهي قطة كنا نطعمها ونسقيها. فقلت: احمدي الله أن القتل لم يكن عمدا؛ لأنكِ تعلمي أن الجن قد يتلبسون بهذه الأمور.
يقول: نرجو إعادة الدليل على خيرية أهل القرآن في البرزخ؟
حديث تقديم الموتى في غزوة أحد " كان النبي عليه الصلاة والسلام، يؤتى بالموتى له، لما شق عليهم دفن الرجل في قبر، فإذا أتي بالموتى قال: أي هؤلاء أكثر أخذا للقرآن؟ فإذا أشير على أحدهم قدمه على صاحبه " .
إذا قلت لبعض الناس: إنه من علامات أهل السنة الدعاء للولاة، فإنه يرد عليك بأن هؤلاء كفرة؟
المشكلة أن يأتي بعض الناس وقد جعل في نفسه وقناعته الذاتية المسبقة أن من دعا للولاة فهو مداهن، ففي دينه خلل، فهو ضعف، وخور، فإذا قلت: يا عبد الله يا هداك الله اقرأ ما كتب أهل السنة، بل انظر إلى ما ذكروا في فتنة الإمام أحمد -ويا حبذا أن بعضكم يجتهد فيجمع كلام أهل العلم- ولعل الشيخ عبد الرزاق يفرد لنا مصنفا في المواقف العقدية، والسلوكية، والتربوية، والتعبدية في فتنة الإمام أحمد، وابن الجوزي في المناقب ذكر أشياء عجيبة.
الإمام أحمد من أعلم الناس بالسنة في وقته، تعاقب عليه ثلاثة من الولاة، حتى رفع الله الفتنة بالمتوكل، ومع هذا أهل بغداد أهل العراق كلهم يعظمون هذا الرجل، وما حرك ساكنا على الولاة، بل جعلهم في حل؛ لعلمه أن الخروج عليهم أو التحريش أشد ضررا.
............................................................................. ـــــــــــــــ
والسخاوي في "الإعلان بالتوبيخ لمن ذم التاريخ" قال في الكتاب؛ في المقدمة وفي ثنايا الكتاب: وقد تركت ما يتعلق بالسلاطين، لأنه إن كان كذبا فهو بهتان وغيبة، وإن كان حقا فهو للتحريش عليهم.(1/114)
فلا تظن هذا الظن السوء، صلاح السلطان صلاح للدين والدنيا، لكن بعض الناس عنده حماسة، أذكر من الطرائف أن ابن الملقن ذكروا في ترجمته ما أذكر الآن: كانت الحلقة مزدحمة فجاء السلطان فقال: أفسحوا له -سلطان البلد؛ أنزلوا الناس منازلهم- فأفسح له، فكأن بعض -لكل زمان رجال- الطلاب وجد في نفسه، فخاطبه، فقال: يا بني إنما هي إفساحة والقوم سلطان البلد، يقول: فأتى هذا التلميذ بعد أيام يشتكي إلى شيخه ابن الملقن لأن أحد الجند سرق متاعه، فذهب ابن الملقن إلى السلطان فأمر بإحضار رئيس الجند، وقال: الساعة ائتني بمن كان في السوق الفلاني -الشاهد- فأتى واعترف فجلده السلطان، ثم قال: احمل متاع التلميذ على ظهرك وسر خلف الشيخ، فأنزل المتاع في المسجد أو في الدار، فنادى ابن الملقن التلميذ قال: يا بني خذ متاعك، فتشكر، قال: من أين لك بهذه؟ قال: تلك الإفساحة، أي إكرام السلطان إكرام لنا.
وانظر في العالم الإسلامي، كيف تكون الدعوات التي تهيج على الحكام، جنينا عواقبها، ما النتيجة؟ بكينا، فقدنا خيرات كثيرة، ترملت نساء، تيتم أطفال، ومع ذلك لا نرى الشر إلا يزداد؛ لأن من خالف منهج النبوة لن يفلح، أبدا، ولو حسنه المحسنون، والمشكلة أن بعض الناس عنده قناعة أن من قرر غير العداء لهم فهو مداهن منافق إلى آخره.
مشائخنا الأجلاء أئمة الديانة المقدمون، الشيخ ابن باز، ابن عثيمين من ذهب إلى ربه الأموات، دع عنك الأحياء، ما عودونا هذا الأمر ولا التحريش، بل كانوا يدعون لهم وهم أدرى الناس بأحوالهم وما عندهم، وأشد منا غيرة وحبا للإسلام، وحبا للنصيحة، ومع هذا ما ثاروا ولا ماجوا ولا هاجوا، بل كانوا يحذرون، وحتى من المعاصرين مشائخ: الشيخ ابن فوزان، الشيخ ابن جبرين، وجميع مشائخنا.(1/115)
وانظر في كلام أهل السنة، والعجيب أن تجد بعض الناس لا يقع إلا على أثر أو على رأي أو على مسألة أو على قول فيه من الضعف -وإن كان السند صحيحا- لكن يتشبث بهذا يعني الأثر
............................................................................. ـــــــــــــــ
وينسف جميع الأصول، والإنصاف عزيز على النفس، ولهذا قلت لك في أول الكلام: الناس في الحكام ثلاثة: قادح، ومادح. لا هم له إلا القدح، والآخر المدح والاعتذار وجعل الخطأ صوابا.
وحب التناهي غلط ... خير الأمور الوسط
لكن المنهج الشرعي، يعني لا يلزم من الدعاء لهم الإقرار على الخطأ، بالعكس الدعاء لهم إنكار الخطأ والسعي في النصيحة، لكن التحريش والتهييج، هذا لا يأتي بخير.
إذا ورد فيه دعاء وكان الحديث ضعيفا، هل الدعاء يكون صحيحا؟
يقول أهل العلم، في مسألة الأذكار والدعاء والأذكار عموما: "لفظه وعدده وهيئته ووقته وزمانه لا بد من دليل ".
أختم بهذا السؤال، مثلا بعض القراء -هداهم الله- يقول لمرضاه: عليك أن تقرأ سورة النساء فجر يوم الثلاثاء مرتين، ما شاء الله.
تحديد يوم الثلاثاء هذا زمان، تحديد الفجر، أو تحديد السورة، تحديد العدد، أين الدليل؟ لا بد من دليل، قل له اقرأ القرآن الكريم عموما، لكن لاحظ لو لم نؤمر بقراءة آية الكرسي دبر كل صلاة ونحث بها ما قرأناها، لو لم نحث على قراءة المعوذتين والإخلاص عند النوم وفي أذكار الصباح والصلاة لقرأنا أي سورة؛ جاءت بعض السور ثلاث مرات، بعض الأدعية ضع جنبك الأيمن يمينك تحت خدك الأيمن، بعضها إذا دخلت المسجد دعاء معين، إذا خرجت دعاء معين وهلم جرا، الله ربي وربكم أسأله التوفيق والسداد وصلى الله وسلم على رسول الله.
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، الحمد لله رب العالمين وصلى الله وسلم وبارك على رسول الله.(1/116)
أما بعد: فقد انتهينا جميعا من الكلام عن الحديث الخامس والثلاثين، ونسمع قراءة -الآن إن شاء الله- للحديث السادس والثلاثين.
الحديث السادس والثلاثون: من سمع بالدجال فلينأ عنه
بسم الله الرحمن الرحيم. الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، قال المؤلف -حفظه الله تعالى-:
عن عمران بن حصين، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - " من سمع بالدجال فلينأ عنه، فوالله إن الرجل ليأتيه وهو يحسب أنه مؤمن فيتبعه مما يبعث به من الشبهات، أو لما يبعث به من الشبهات " أخرجه أبو داود وأحمد والحاكم في المستدرك والطبراني في الكبير.
ـــــــــــــــ
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على رسول الله.
الدجال من علامات الساعة العظيمة، وقد بين النبي - صلى الله عليه وسلم - خطره وصفته، وأموره جميعا أتم بيان وأبلغه، بل من شدة خطره أنه " ما من نبي إلا وأنذر أمته المسيح الدجال " .
والدجال حق لا مرية فيه، وهو خارج قطعا نؤمن بذلك ونصدقه، كما أخبرنا نبينا - صلى الله عليه وسلم - وقد ذكر أهل العلم مسائل كثيرة في أمر الدجال، فمن ناحية ثبوت خبره، تواترت الأخبار بخروج الدجال، بل أفرد بعض أهل العلم مصنفات مستقلة في فتنة الدجال وعظيم أمره.
وقد أثار بعضهم مسألة، قال: لِمَ لَمْ يذكر الدجال في القرآن مع شدة خطره؟ وقد أجاب أهل العلم عن هذه المسألة بإجابات منها:
أن المسلم المؤمن يؤمن بما جاء في الكتاب والسنة، فالكتاب والسنة المصدران للتشريع { كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ (7) } (1) هذا أمر.
............................................................................. ـــــــــــــــ
__________
(1) - سورة آل عمران آية : 7.(1/117)
الأمر الثاني: أن الدجال قد ذكر في القرآن الكريم تضمنا لا نصا، ففي قوله تعالى في سورة الأنعام { يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آَيَاتِ رَبِّكَ } (1) جاء في حديث عند الترمذي أن النبي عليه الصلاة والسلام ذكر بعض الآيات ثم قال: " والدجال شر غائب ينتظر " .
وأثر عن بعض الصحابة عند قوله تعالى: { لَخَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ } (2) قال بعضهم: إن المراد بالناس الدجال لعظيم شأنه وأمره.
وبكل حال ذكر في القرآن الكريم أو لم يذكر؛ جاءت به السنة، وما جاء في القرآن جاء في السنة أو لم تأت به السنة، فهما المصدران، ومنهما نستقي ونتقرب إلى الله بذلك.
والمسيح مسيحان: مسيح هدى هو عيسى عليه الصلاة والسلام، ومسيح ضلالة وهو الدجال. ومن أسباب التسمية بالمسيح؛ لأنه يمسح الأرض مشيا ودعوة، والدجال أو الدجاجلة كثر، ولهذا قال عليه الصلاة والسلام: " يخرج في أمتي ثلاثون دجالون كذابون كلهم يزعم أنه رسول الله، منهم أربع نسوة " والدجالون من الجن والإنس، إلا أن الدجال الأكبر هو ما ينصرف الذهن إليه عند ذكر أشراط الساعة.
في هذا الحديث قوله - صلى الله عليه وسلم - " من سمع بالدجال فلينأ عنه " "ينأ" يبتعد ولا يقترب من ذلك المكان.
فيه: البعد عن دعاة الشبهات، فلا يقرأ لهم، ولا يسمع لهم، ولا يحضر مجالسهم، لأنهم من أتباع الدجال في شبههم وتلونهم وتحريف النصوص، حتى إن شيخ الإسلام كان إذا رأى أهل الاتحاد والحلول، قال: ما أرى هؤلاء إلا من أصحاب الدجال لو بعث.
إذًا عليك عبد الله بالبعد عن دعاة الشبهات، فإياك والجلوس معهم، وإياك والقراءة في كتبهم، وإياك وسماع كلامهم، لم؟ لأن ذلك قد يوقع اللبس في نفسك.
............................................................................. ـــــــــــــــ
__________
(1) - سورة الأنعام آية : 158.
(2) - سورة غافر آية : 57.(1/118)
قوله - صلى الله عليه وسلم - " وهو يحسِب -أو يحسَب- أنه مؤمن " فيه التحذير من العجب بالنفس، وخطورة من زكى نفسه وهو يعلم من نفسه أنه أقل من ذلك، أو من زكى نفسه وغامر مع كل أحد، فالدجال يأتيه العبد وهو واثق من نفسه في زعمه، ولكن يبتلى بفتنته، وقد يكون تابعا له مدافعا عنه؛ لأن عند الدجال من الآيات ما أقدره الله عليها ابتلاء وامتحانا وتمحيصا.
قس على هذا دعاة الضلال من دجالي البشر، من دجالي البشر، عندهم من لحن القول، ومن زخرف القول، كما يقول شيخ الإسلام ما قد يفتن الآخرين.
وقوله: " فيتبعه مما يبعث به من الشبهات " فيه: أن " القلوب بين أصبعين من أصابع الرحمن يقلبها كيف يشاء " " يمسي الرجل مؤمنا ويصبح كافرا، ويصبح مؤمنا ويمسي كافرا " فإياك عبد الله والتلاعب بأمر دينك، تحرز على دينك، احفظ دينك من أن تدخل في متاهات من الشبهات.
وقوله - صلى الله عليه وسلم - أيضا: " فيتبعه مما يبعث به من الشبهات " فيه أيضا: خطر مرض الشبهات، وسرعة تأثر المرء به، فيتبعه، لاحظ قوله: "فيتبعه" الفاء هنا يباشر الترتيب والتعقيب
والواو للترتيب بانفصال ... والفاء للترتيب باتصال
فالحذر من التساهل بهذه الفتن، والدخول مع أهلها. ومن الخلل في المفاهيم: أن تعظم فتن الشهوات، وأن تهمش فتن الشبهات، هذا ناتج من قلة العلم والبصيرة. رأى بعض السلف ولدا من أولاده يماشي زاهدا من أهل البدعة، فقال: أي بني والله لو صاحبت فاسقا من أهل السنة لكان أهون علي، مع أن هذا زاهد، لم؟ لأن مرض الشبهات أعظم وأنكى للجراح من مرض الشهوات.
وفيه: تجنب الأسباب المفضية إلى المحاذير الشرعية، من فتن الشبهات أولا، ومن فتن الشهوات ثانيا. نعم يا شيخ.
الحديث السابع والثلاثون: خط لنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خطا ثم قال هذا سبيل الله(1/119)
وعن عبد الله بن مسعود - رضي الله تعالى عنه - قال: " خط لنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خطا، ثم قال: " هذا سبيل الله، ثم خط خطوطا عن يمينه وعن شماله، ثم قال: هذه سبل، قال يزيد: متفرقة على كل سبيل منها شيطان يدعو إليه، ثم قرأ: { وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ } (1)" أخرجه أحمد.
ـــــــــــــــ
قوله: " خط لنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خطا ثم قال: هذا سبيل الله، ثم خط خطوطا " فيه: تنوع وسائل إيضاح العلم للمتعلمين؛ ولهذا كان النبي - صلى الله عليه وسلم - مرة يشير بأصابعه: " أنا وكافل اليتيم كهاتين، وأشار بالسبابة والتي تليها " ومرة خط خطوطا، ومرة أشار إلى سمعه وبصره، عند قوله تعالى: { كَانَ سَمِيعًا بَصِيرًا (58) } (2) لا من باب التشبيه، لكن من باب تحقيق أن الصفة حقيقية، وهكذا المتعلم يسلك مع المتعلمين أسهل الأساليب التي تعينهم على فهم العلم وعلى احتواء ما يقال لهم.
وقوله - صلى الله عليه وسلم - " ثم قال هذا سبيل الله " فيه: أن سبيل الحق واحد لا يتعدد، سبيل الحق واحد، ولهذا لاحظ التعبير أو لاحظ اللفظ: { قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي
............................................................................. ـــــــــــــــ
} (3) أيضا { وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ } (4) جمع، سبل الضلال { وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي } (5) واحد لا يتعدد.
__________
(1) - سورة الأنعام آية : 153.
(2) - سورة النساء آية : 58.
(3) - سورة يوسف آية : 108.
(4) - سورة الأنعام آية : 153.
(5) - سورة الأنعام آية : 153.(1/120)
وأيضا فيه: أن أحكام الشريعة ثابتة على اختلاف الأعصار وتباعد الأمصار، تلاحظون القوانين الوضعية البشرية، في كل فترة نسمع تغيير مادة، حذف مادة، تقديم مادة، تأخير مادة، تعديل، تعليق مادة؛ أحكام بشر، يأتي فلان -هذا الرئيس- فيستحسن بحكومته أن يسن كذا، ثم تأتي حكومة أخرى فتغير القانون، وهكذا. أما أحكام الشريعة فمنذ أن بعث الله محمدا - صلى الله عليه وسلم - إلى أن تقوم الساعة: { وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا (82) } (1) .
وفيه: أن معرفة الحق مردها إلى الكتاب والسنة، إلى الدليل، لا تنظر إلى كلام الناس، وانظر إلى كلام رب الناس وكلام رسول الناس؛ ولهذا كان الرعيل الأول على حذر وعلى بصيرة من رد كل ما خالف، ومن عرض كل ما يأتي على الكتاب والسنة.
تذكر أن رجلا أتى إلى سفيان فيما أذكر أو غيره، وقال: يا إمام لقد رأينا رجلا يسير على الماء ويمشي في الهواء، وهو من أولياء الله. قال: دعك عن هذا، أعرضت عمله على الكتاب والسنة لتعلم؟ لاحظ مع أن ظاهر ذلك أنه من الكرامات، ولكن المرد إلى الكتاب والسنة، عرض الخبر على الشافعي، فأيد قول ذلك المتكلم الذي قال: اعرضوا عليه اعرضوا على منهج الكتاب والسنة، وقال الشافعي نظما:
............................................................................. ـــــــــــــــ
إذا رأيت إنسانا يطير ... أو فوق ماء البحر قد يسير
ولم يقف عند نصوص الشرع ... فاعلم أنه مستدرج وبدعي
إذا عرض كل شيء، ورد كل شيء إلى كتاب الله وسنة نبيه عليه السلام، على منهج السلف الصالح الصحابة، على منهج التابعين ومن بعدهم، فهم أدرى الناس بوقائع التنزيل وبمراد النبي عليه الصلاة والسلام.
وقوله: " ثم خط خطوطا عن يمينه وعن شماله، ثم قال: هذه سبل " فيه: كثرة سبل الضلال كما تقدم، وفيه اتفاق سبل الضلال على معاداة ومصادمة سبيل الحق.
__________
(1) - سورة النساء آية : 82.(1/121)
وقوله - صلى الله عليه وسلم - " على كل سبيل منها شيطان يدعو إليه " فيه: كثرة دعاة الباطل، في كل مكان، في كل بلد، في كل زمان، في كل مجتمع، كثرتهم؛ لأن الباطل يوافق الهوى، يوافق شهوات النفوس، والحق مر وثقيل، إلا من وفق لقبوله بقلب صادق.
وفيه أيضا: أن دعاة الباطل هم دجاجلة الناس، وهم أتباع الدجال الأكبر، وفيه أيضا: الحث على دعاة الخير أن يتبصروا في أمرهم فلا يحسنوا ولا يقبحوا، ولا يوالوا ولا يعادوا، ولا يخالفوا ولا يوافقوا، إلا ما كان من منطلق الدليل الشرعي على منهج السلف الصالح، أحبب صاحب الحق ولو كان بعيدا، وأنكر على صاحب الباطل ولو كان قريبا.
فما قربت أشباه قوم أباعدا ... ولا باعدت أشباه قوم أقاربا
العبرة بالحق. نعم يا شيخ.
الحديث الثامن والثلاثون: إن الله لا ينزع العلم بعد أن أعطاكموه انتزاعا
وعن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما قال: سمعت النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول: " إن الله لا ينزع العلم بعد أن أعطاكموه انتزاعا، ولكن ينتزعه منهم مع قبض العلماء بعلمهم، فيبقى ناس جهال يستفتون فيفتون برأيهم فيضلون ويضلون " أخرجه البخاري.
ـــــــــــــــ
قوله - صلى الله عليه وسلم - " إن الله لا ينزع العلم بعد أن أعطاكموه انتزاعا " فيه: عظيم نعمة العلم، فصاحب العلم غني بعلمه، بضاعة العلم لا تقوم بثمن، المال يذهب والعلم يبقى، المال يتلذذ به صاحبه في حياته، والعلم يبقى أثره في حياة العبد يتنعم به في حياته وفي قبره، وفي آخرته.(1/122)
وقوله: " ولكن ينتزعه منهم مع قبض العلماء بعلمهم " فيه: عظيم منزلة العلماء بين الناس، وأن ذهابهم نذير شر وفتنة، وفيه: أن قبض العلماء من أعظم المصائب، موت العالِمِ موتٌ للعاَلَم؛ لأن العالم حياة، جعله الله حياة كالقمر يضيء للناس، ولهذا ذكر بعض المفسرين عند قوله تعالى: { أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ نَنْقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا } (1) قال بعضهم: بقبض علمائها، ولما ترجم الذهبي في السير لأحد العلماء قال: وفي هذا العام مات فلان وفلان وفلان في بلد واحد، وموت علماء ثلاثة في بلد يظهر في تلك البلد أثر النقص، هذا واضح، موت العالم ليس بالشيء الهين؛ لأن العالم يحتاجه كل أحد حتى الحيوانات ينفعها، ولهذا أتى في الحديث الصحيح: " وإن العالم ليستغفر له من في السماوات ومن في الأرض -حتى ماذا- حتى الحيتان " قال بعض الشراح: لأن العالم يعلِّم الناس أحكام الحيوان أحكام الذبح، أحكام الصيد.
وقوله - صلى الله عليه وسلم - " فيبقى ناس جهال يستفتون فيفتون " فيه: حرص أهل الجهل، وأهل الضلال على التصدر، يحرص أولئك على التصدر والبروز للناس في مجامعهم.
............................................................................. ـــــــــــــــ
__________
(1) - سورة الرعد آية : 41.(1/123)
وقوله: "يستفتون" فيه: حاجة الناس إلى الفتيا، فيه حاجة الناس إلى العلم، حاجة الناس إلى أهل العلم، وفيه أيضا: حرص أهل الضلال على الظهور بمظهر العلماء. الناس يحبون الخير في الغالب في كل مجتمع، يحبون الخير، مجتمعات المسلمين تحب الخير، وتحسن الظن، بمن عليه سيما أهل العلم، فتسأل من سماه الناس عالما، وتسأل من كان عليه سمات أهل العلم، ودعاة الضلال والشبهات، بعضهم يعلم لا سبيل إلى رواج مذهبه وضلالته، إلا بأن يلبس ثياب العلماء، ويتصدر في مجالس العلماء؛ ولهذا من عظيم خطرهم، قوله - صلى الله عليه وسلم - " فيَضِلون ويُضلون " أضلوا أنفسهم وأضلوا غيرهم، فيه: عظيم ضرر القول على الله تعالى بلا علم، عظيم من أفتى الناس بالجهالة، لِم؟
أولا: لما يحصل من الفساد والإفساد.
وثانيا: لأنه يتحمل آثام من تبعه لا ينقص من آثامهم شيئا.
ومن فوائد عموم الحديث: أن من رام إصلاح أحوال الناس بغير العلم الشرعي على منهج السلف، فهو يفسد ولا يصلح، ويهدم ولا يبني، ويفرق ولا يجمع، وهو يحسب أنه يحسن صنعا، وفيه: أن على دعاة الخير الحرص على نشر العلم، حتى لا يزاحم الجهال مجالس الناس، ولا يتولى الجهال أمر الناس، وفيه: أن على دعاة الخير الحذر من التعالم، والتصدر وهو لم يصل إلى ذلك.
وفيه: عظيم إثم أيضا من زهد الناس في العلماء، انظر كيف أثر العلماء إذا ماتوا، إذا من زهَّد الناس في العلماء فكأنه أمات العلماء وهم أحياء؛ بهجران الناس لذواتهم، لفتاواهم، لسماع كلامهم، لقراءة كتبهم، فالحذر كل الحذر، وفيه: أن من أعظم أسباب انتشار الضلالات والبدع في المجتمعات الإسلامية خلوها من العلماء؛ أن من أعظم أسباب البدع خلو تلك المجتمعات من العلماء، وهذا واضح.(1/124)
ولذا حري بكم يا طلبة العلم أن تعوا هذه الأمانة، وأن يجتهد كل منا في التحصيل، ينفع بيته، ومسجده، وأهله، ومجتمعه، والأمة كلها، وبخاصة يتأكد هذا في حق من خليت بلادهم من أهل العلم، أهل العقيدة السليمة عقيدة السلف الصالح. نعم يا شيخ.
الحديث التاسع والثلاثون: سابق رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بين الخيل التي قد أضمرت
عن ابن عمر - رضي الله تعالى عنهما - قال: " سابق رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بين الخيل التي قد أضمرت، فأرسلها من الحفياء، وكان أمدها ثنية الوداع، فقلت لموسى: فكم كان بين ذلك، قال: ستة أميال أو سبعة، وسابق بين الخيل التي لم تضمر، فأرسلها من ثنية الوداع، وكان أمدها مسجد بني زريق " متفق عليه، وزاد الترمذي قول ابن عمر: وكنت فيمن أجرى، فوثب بي فرسي جدارا. أخرجه الترمذي.
ـــــــــــــــ
في هذا الحديث أولا: الخيل التي ضمرت والخيل التي لم تضمر. الخيالة وسائسو الخيول يقللون تعليف الخيل، ثم تدخل في مكان تجلل فيه بأقمشة أو بخرق معلومة ليجف عرقها، ويقوى لحمها، فيكون عند تلك الخيل تحمل لقطع المسافة الطويلة؛ ولهذا كان من كمال شفقة النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه جعل الخيل التي ضمرت جعل مسافتها أطول من مسافة الخيل التي لم تضمر.
وفي قوله: " سابق رسول الله - صلى الله عليه وسلم - " فيه مباشرة النبي - صلى الله عليه وسلم - لنفسه أمر السباق، وإدخال السرور على المسلمين، نستفيد أن طالب العلم لا يمنع أن يشارك المسلمين في الترفيه المشروع، فقد كان عليه الصلاة والسلام يشارك المسلمين في النظر، وفي يعني إدخال السرور عليهم والجلوس معهم بتحديد المسافة البدء والنهاية، كما في هذا الحديث، وفيه: أن مشاركة أهل العلم ودعاة الخير في مجامع الترويح عن الناس لا تخرم مروءتهم شريطة أن يكونوا على منهج النبي عليه الصلاة والسلام، لا يكون في ذلك كذب، ولا خروج عن الأخلاق، ولا إسفاف بهيئة أهل العلم.(1/125)
وفيه أيضا: أن مشاركة دعاة الخير للمسلمين فيما يروح عنهم، يزيد المسلمين حبا لأولئك الدعاة لطلبة العلم؛ لأن المسلمين إذا رأوك تضاحكهم في حدود لا تخل بمروءتك ولا تقدح في عدالتك، فلا شك أن هذا من تحبيب الخير لهم، وبخاصة أن ذلك من هدي الإسلام، فقد كان نبينا عليه الصلاة والسلام، من أعظم الناس في ذلك.
............................................................................. ـــــــــــــــ
وفي قوله: "بين الخيل التي ضمرت، ولم تضمر" يعني في التفريق بين المسافتين، فيه: مراعاة الإسلام لحق الحيوان، وقد تقدم لكم في هذا المجلس أو في هذا الدرس بعضُ عظم عناية الإسلام بشأن الحيوان، والرد على جمعيات الرفق بالحيوان الجائعة.
وفيه -في الحديث-: قبح ما يقوم به بعض الناس، من المسابقة بين الحيوانات من أجل تعذيب الحيوان، كما يفعل بمناقرة الديوك، أو مصارعة الثيران، أو مصارعة -أجلكم الله- الكلاب من باب الضحك والسخرية، مع ما يحصل للحيوان من أذى وتعب.
وفيه أيضا: التنافس على عمل الخير، والحرص أن يكون الإنسان صاحب همة، ليفوز، لا رياء ولا سمعة، ولكن لأن النفوس تهوى هذا، ومما يلحظ بل وينتقد على بعضهم في مجال الترويح: أن يكون الترويح أن تشتد المنافسة حتى تصل العداوة، والضرب والسب والشتم، وهذا من الجهالة بمكان. لابن القيم كلام قيم في كتابه القيم "الفروسية" يقول فيما معناه: على رامي السهام إذا أراد الذهاب للمرمى -مكان الرمي- أن يكون عليه إخبات وخشوع، ويذكر الله؛ قصده -رحمه الله- أنه ذاهب ليتقوى بهذا الرمي على الطاعة، فإذا أصاب الرمية حمد الله، وإذا لم يصب حمد الله، ولا يعيِّر أخاه، ولا ينظر له شزرا، ولا يتفرح بخطأ أخيه، هذه أخلاق رياضية كاملة حث عليها الإسلام، لكن لما خرجت الرياضة عن هذا الحد دخلت المحاذير الشرعية.(1/126)
فدعاة الخير أولى الناس ببيان أمور الترويح للناس لتسلية الناس، ولإدخال السرور عليهم، بل ذكر بعض أهل العلم أن التنافس ليس فقط في مجال الترويح، حتى في العلم قال: لو تنافس متنافسان وبينهما جعل على أن من وصل إلى بحث هذه المسألة يأخذ تلك الجائزة، هذا جائز لأنه يعين على طاعة الله، فإذا كان يجوز السباق على الخيل والجمال والأقدام والرمي، فمن باب أولى ما تحيى به القلوب، ولعلي أسألكم بعد الفراغ أسئلة يكون عليها جائزة أو جائزتان، نعم يا شيخ.
الحديث الأربعون: العبادة في الهرج كهجرة إلي
عن معقل بن يسار -رضي الله تعالى عنه- قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - " العبادة في الهرج كهجرة إلي " أخرجه مسلم.
ـــــــــــــــ
المراد بالهرج: القتل واختلاط الأمور، وكثرة الفتن، وفي قوله - صلى الله عليه وسلم - في هذا الحديث " العبادة في الهرج كهجرة إلي " فضل العبادة عموما، وفضلها خصوصا في المواطن التي يغفل الناس عنها، يقول بعض أهل العلم من الشراح: العبادة التي تفعل في وقت غفلة الناس أعظم أجرا، مثلوا بحديث السوق عند من صححه: " من دخل السوق فقال: لا إله إلا الله، وحده لا شريك له -الحديث- كتب الله له ألف ألف حسنة، وحط عنه ألف ألف خطيئة " يقول بعض الشراح: وإنما عظم الأجر في هذا الدعاء؛ لأن الناس في السوق يغلب عليهم الغفلة، بل أيضا مع هذا بل أعظم من هذا أن في السوق أيمانا كاذبة، فيه الأيمان الكاذبة واللغو والكذب، فكان الذاكر لله -جل وعلا- في هذا الموطن يستحضر بقلبه فضل الذكر ومراقبة الله -جل وعلا- فعظم أجره؛ وارتفعت درجته.(1/127)
وفيه أيضا: ذهول الناس عن العبادة في أوقات الفتن. وفيه: مضاعفة أجر من لزم أمرا قد أهمله الناس. وفيه: عظيم شأن الهجرة، فضل المهاجرين، بما حظوا به من الأجر العظيم. وفيه: أن لزوم التعبد والتعلق بالله - عز وجل - في أوقات الفتن وفي غيرها؛ لزوم التعبد والتعلق بالله من أعظم الأسباب في ثبات العبد وزيادة إيمانه وفي النجاة من الفتن عند نزولها وحلولها.
وفيه: أن على دعاة الخير العناية بأمر التعبد، وألا تشغلهم الأمور -أمور الحياة- عن التعبد لله -جل وعلا- والجمع؛ بعضهم يتعذر فيقول: أنا أطلب العلم فكيف أتعبد؟! يقال: كان نبينا عليه الصلاة والسلام أكثر الناس مشاغل الأمة، في نصحه دعوته جهاده، زيارته، عيادته، تشييعه؛ عيادته للمرضى تشييعه للجنائز، ومع ذلك كان أعبد الناس.
والعلماء إذا قرأت في سيرهم، تقرأ: "فصل" في تعبدهم في عبادتهم؛ فطالب العلم حري به أن يعنى بهذا الأمر، وأن يحرص على جانب التعبد؛ فالتعبد هو من ثمرة العلم، يفتح لطالب العلم خيرا، ويزيده حبا للخير.
............................................................................. ـــــــــــــــ
هذا بعض ما يسر الله، والله أسأل التوفيق للجميع والسداد، إنه تعالى سميع مجيب كريم، وصلى الله وسلم وبارك على رسول الله.
يقول: هل هناك نية لوضع شرح مفصل على كتاب الأربعين؟
إن شاء الله أحد أهل الخير تبرع بقيمة طباعة الشرح لحساب مكتبة شيخ الإسلام ابن القيم رحمه الله تعالى، وإن شاء الله العلم يصل للشيخ فهد إن شاء الله.
يقول: نرجو التكرم بحث الطلاب الذين أمامكم على الاستمرار في الطلب؟(1/128)
كان شيخنا الشيخ عبد الله بن حميد رحمه الله تعالى، قبل يسافر للطائف؛ +البدو يسافرون للطائف في الصيفية كما في كل عام، فكان في آخر درس، يقول: أيها الطلاب العلم لا ينتهي بانتهاء الحلقة أو بانتهاء الدرس، قس على هذا بانتهاء الدورة العلمية، أو بانتهاء المنشط العلمي، العلم لا ينتهي؛ قال عليه الصلاة والسلام: " منهومان لا يشبعان: طالب علم، وطالب دنيا " طالب الدنيا ما يشبع " لو كان لابن آدم واد من ذهب لتمنى ثانيا " وهلم جرا، كذا طالب العلم لا يشبع من العلم يتلذذ بكل فائدة.
قيل للشافعي رحمه الله تعالى: "كيف شهوتك للعلم؟ قال: كشهوة المرأة التي أضلت ولدها ليس لها إلا هو، ثم لقيته، وكشهوة الرجل العطشان في ظمأ الهواجر للماء الزلال، ووالله لوددت أن كل جوارحي تسمع حتى تتلذذ بالعلم كما تتلذذ أذناي." فطالب العلم لا ينتهي أمده، ولا تنتهي همته، بل يزداد مضاعفة في الطلب.
يقول: بعض الشباب -يقولون-: زمن الجرح والتعديل قد ذهب في زمن القرون الماضية وليس هذا اليوم؟
نعم صحيح. الجرح والتعديل جرح الرواة انتهى، كتب الجرح والتعديل موجودة ومطبوعة، وطالب العلم ينظر فيها والحمد لله، مطولات: الكمال، تهذيب الكمال، تهذيب التهذيب، تعجيل المنفعة، ميزان الاعتدال، لسان الميزان، تقريب التهذيب، الكامل لابن عدي، الضعفاء للعقيلي، وهلم جرا، كلها موجودة هذه، وطالب العلم ينظر فيها ويوازن بين أقوال أهل العلم، فهذا لا إشكال فيه.
............................................................................. ـــــــــــــــ(1/129)
أما مسألة الجرح والتعديل في المعاصرين لا بد من ذلك، قد يسألك شخص عن إنسان فتخبره بما فيه من العيب، أمانة؛ ولذا قال الشوكاني وغيره: الذم ليس بغيبة في ستة: المتظلم، والمستفتي، والسائل عن من تقدم لخطبة ابنته وهلم جرا؛ ولهذا من الجهالة أن يتورع بعض الناس عن الإخبار عن شخص تعلم أن في السؤال مصلحة، لعلي أذكر لكم جهالة بعض الناس، ذكر الخطيب البغدادي أن رجلا دخل على يحيى بن معين -رحمه الله تعالى- وكان عند يحيى شاعر، فقال الرجل: يا يحيى اتق الله في أبي، قال: ما لأبيك؟ قال: ترك العراقيون حديثه، قال: ولم؟ قال: لأنك جرحته -إن صحت القصة طبعا-. فتأثر يحيى، ومن كلامه عن أبيه. كان عند يحيى شاعر فقال بجهل بلا علم قال:
ولابن معين في الرجال مقالة ... ....................................
الشاعر يزعم الآن أنه الآن ينصح يبين الحق:
ولابن معين في الرجال مقالة ... سيسأل عنها والمليك شهيد
فإن تك حقا فهي في الحكم غيبة ... وإن تك زورا فالقصاص شديد
طبعا تأثر يحيى، نقل القصة الشوكاني رحمه الله وغيره، فقال -بعدما خطأ الشاعر الجاهل- قال:
ولابن معين في الذي قال أسوة ... ورأي مصيب للصواب سديد
وأجر به يعلي الإله محله ... وينزله في الخلد حيث يريد
............................................................................. ـــــــــــــــ
الجرح والتعديل، جاءك رجل فقال: تقدم فلان لابنتي، ما قولك فيه؟ وأنت تعلم أن به خلل، وأنت تعلم أنه: " لا يؤمن أحدكم لأخيه ما يحب لنفسه " جاءت فاطمة بنت قيس قالت: يا رسول الله تقدم لي أبو الجهم عامر بن حذيفة، ومعاوية، قال: " أما أبو الجهم فضراب للنساء -يعني كثير الضرب والعقاب وفي لفظ آخر: "أما أبو الجهم فلا يضع العصى عن عاتقه" كثير السفر- وأما معاوية فصعلوق -فقير رضي الله عنه وأرضاه ما عنده مال- انكحي أسامة " .(1/130)
فبين لها ما في هذا وذاك، ودلها على من يصلح لها، فأنت إذا علمت شخصا فيه خير قدح فيه تدفع عنه، وإذا لبس على الناس رجل فيه شر وخبث وضلال، تبين للناس خطأه وضلالته وأنت تتقرب إلى الله، كان يقول بعض المحدثين للآخر: "قم نغتاب الناس" الغيبة لغة لكنها قربة.
يقول: عند قراءتي للقرآن أتحرك ذات اليمين وذات الشمال دون شعور؟
كأن القرطبي ذكر في مقدمة التفسير أن هذا مما لا ينبغي؛ التمايل هذا، بل البعض يتكلف، وهناك الخشوع والإخبات، ذكر الشاطبي في الاعتصام لابن سيرين أن بعضهم إذا قرئ عليه سقط على ظهره، فقال ابن سيرين -يعني يبين للناس أنهم ليسوا على هدي؛ فقال له قائل: لكنهم يسقطون على ظهورهم من الخشوع، فقال ابن سيرين: ليرق على حائط ثم اقرءوا عليه، إن سقط فهو صادق" اجعلوه على حائط رفيع واقرءوا القرآن عليه فإن سقط من الحائط فهو صادق. لن يسقط.
إذا أنكرنا على أهل البدع بالقيام بالمولد يردون علينا بأننا نقيم مسابقة القرآن؟
ليس هناك وجه تطابق كلي، هم يرون هذا المولد قربة في ليلة معينة، والمسابقة قد تتقدم وتتأخر، هم يوالون على المولد أنه سنة وقربة، ولكن المسابقة قد تختلف.
ما حدود الكذب بين الزوجين؟
طبعا في حديث معروف " لم يرخص في الكذب إلا في ثلاث...... وكذب الرجل على امرأته " لكن في رواية " وكذب المرأة على زوجها " .
نرجو منكم ذكر أفضل أسماء الإناث، إن كان ورد نص شرعي بذلك.
هذا من فرنسا، ما أعرف فضل في أسماء الإناث، لكن ورد في أسماء الرجال عبد الله وعبد الرحمن، لكن الإناث ما أدري.
............................................................................. ـــــــــــــــ
هل جميع الأحاديث في "الأربعون في التربية" صحيحة؟
فيه حديثان في الحقيقة -يعني- يستأنس بتحسين بعض أهل العلم لهم أو ثلاثة، وأما البقية فالحمد لله صحيحة.
ما حكم النكت في حدود؟
النكت لا تكون كذبا أو سخرية.
حدود المزاح الشرعي؟(1/131)
ما لم يخرج إلى العداء أدخلنا المحاذير القولية والفعلية.
أنا تذكرت طرفة في الحقيقة لما سأل عن أسماء الإناث، فإن أذن لي الشيخ فهد ذكرتها، يقول لي أحد المشايخ: كنا في مجلس، فقال أحدهم: لماذا أنتم لا تخرجون أسماء نساءكم، فقال: ليس من باب الحرام، لكن العرف درج وجرى على أن اسم المرأة لا يخرج، يقال ابن فلان، ولا يندر عندنا في المجتمع أن يسمي الإنسان اسم أمه أو زوجته أو اسم أخته أو اسم ابنته.
يقول الشيخ: وكان معي رجل كبير السن، فصاحبي اللي حدثني يقول -هم ثلاثة نسميهم ألف وباء وجيم- ألف يقول لباء: لماذا لا تخرجون أسماء أمهاتكم، فقال باء: نحن لا نخرج أسماء أمهاتنا، فقال ألف: أنا اسم أمي فلانة لا حرج فاطمة بنت محمد، زينب، فقال باء: أنت بالخيار، فألف توجه إلى -كان من قطر آخر طبعا ألف- قال أنت يا جيم يا ولدي اسم أمك ماذا؟ قال: اقطع واخسأ، قال: اسم طيب بس طويل، فليس حراما لكن درج العرف على عدم تسمية الأمهات، أجلكم الله.
فيه أسئلة عن التكفير وعن كذا... أنا أنصحكم لله وأنصح نفسي، لا تلوث لسانك بتكفير المسلمين، أو بتأييد الخروج على الحكام، عندك مشايخ تثق في ديانتهم ارتضاهم الناس لدينهم، فتاواهم مكتوبة، فأشوف بعض الإخوان عنده نوع من الحرص، قد ذكرت لك أمس أن الناس على أقسام: قسم يغلو في رمي الناس بالكفر، وقسم يدافع؛ قسم يرمي الناس بالضلال وقسم يدافع، وأهل السنة وسط، وسط في الصحابة بين الشيعة الرافضة والناصبة، وسط في أسماء الله -جل وعلا- وصفاته بين المعطلة والمشبهة، وسط في أحكام الدين في إطلاق الألفاظ، بين المرجئة والخوارج، وانظر كلام شيخ الإسلام في الواسطية ترى العجب، من مذهب أهل السنة، وكمال هذا المذهب العظيم.
............................................................................. ـــــــــــــــ
إذا انتسب طالب علم السنة منهج السلف يقول: إنه سلفي أو فلان سلفي فهل في هذا محظور؟(1/132)
أبدا، هذا شرف؛ شريطة أن تتأدب بأدب السلف الصالح، تتأدب بآدابهم، تلزم منهجهم، في الاعتقاد، في التعامل مع الناس، أما أن تقول بأنك سلفي مثلا أو متبع للسنة وتخالف هذا لا؛ أنت تسيء إلى السلف، نسأل الله أن يجعلنا من أهل السلف الصالح.
هل الدجال من البشر؟
نعم. من البشر، وقد ورد في الحديث " أنه يخرج من أرض أصبهان، يتبعه سبعون ألفا ويسيح في الأرض " وعليك بقراءة كتاب النهاية لابن الأثير رحمه الله ترى فيه العجب العجاب، وللفائدة: للشيخ المحدث الألباني رحمه الله تعالى رسالة خرجت بعد موته عن أحاديث الدجال، جمع الروايات وتكلم عنها.
ما معنى شزرا؟
النظر بتغيظ أو بغضب.
يقول: بعض البرامج في القنوات تكون للضحك فقط؟
الضحك مباح والترويح لكن كما قلت لك: لا يخرج إلى الإسفاف، والتجريح والسخرية أو قتل الأوقات في ذلك.
نحن مجموعة ممن يقومون ببعض الأعمال الخيرية ونجتمع كل ليلة في مقر خاص بهذا العمل ونؤدي الصلاة في هذا المقر، ونحن أكثر من خمسة، علما بأننا نسمع الأذان؟
لو كنتم أكثر من خمسة ملايين؛ " من سمع النداء ولم يجب... " قدوة للناس، إذا صليت أنت وأنت قدوة، ومعك أربعة في مكان هذا العمل، بجانبك مسجد، تسمع النداء، إن كان في العمل مسجد كالوزارات فنعم. أما كما بعض الناس يكون في مؤسسة تجارية أو في مكان حكومي فيه عشرة أو عشرون موظفون، والمسجد مجاور لهم، بس من باب العجز والضعف يصلون في مكتبهم، مع أن المسجد كله جدار واحد، فخاصة بخاصة طالب العلم قدوة الخير للناس عليه أن يلزم عدم أو أن يحذر من التفريط في الصلاة في المسجد.
هل هناك فرق بين الإثم والحرام؟
............................................................................. ـــــــــــــــ
الإثم عام، عموما لكن يتفاوت الإثم من نوع إلى آخر قد يكون كبيرة قد يكون صغيرة.
لماذا ختم المصنف كتابه بهذا الحديث هل فيه مقصد؟(1/133)
نعم. هو من باب أن كل ما يتقادم الزمن كلما كثر الشر لا نيأس، وأيضا يغفل في أوقات الفتن عن العبادة.
ما حكم لبس اللباس التي فيها صليب؟
أولا: ما الصليب هل يعتبر كل خطين متقاطعين من الصليب؟ ينبغي التثبت في هذا الأمر؛ يعني علامة الزائد بعضهم يتحرج منها، علامة حرف الـ"تي" ليس الكابتل بل المشبوك، بعضهم يسميه الصليب، ينظر في هذا الأمر، الصليب يقولون: ما كان رأسه نصف جانبيه، وما كان أسفله ضعف جانبيه.
الأناشيد الإسلامية سماعها؟
الأناشيد حقيقة توسع الشباب فيها هداهم الله، وبالذات ما يرخم الأصوات ويجملها، وأكثروا سماعها، وأكثروا إصدارها، حتى أصبح بعض الناس صباح مساء الأناشيد، الشيء بقدر، شيخنا الشيخ ابن جبرين، كان يشدد ولا يزال في الإيغال في هذا الأمر، وحد علمي لا يرى جوازها؛ قد نهى وكتب، فلا ينبغي أيها الشباب الإكثار، حتى أن بعض الناس يتذمر يضيق ذرعا إذا لم يكن في سيارته شريط فيه أناشيد، بل يحفظ القصيدة، أو النشيد من قائله؟ من لحنه؟ متى ألقي؟ من عارضه؟ هذا لا شك أنه لو أنفق في غير هذا لكان أفضل له.
ما تكملة البيت الذي يقول فيه الشاعر:
فحسبك خمسة يبكى عليهم ... وباقي الناس تخفيف ورحمة
والله ما أذكر البيت، لكن مفاد البيت إنما الشعراء أربعة، شاعر يجري ولا يجرى معه، إلى أن قال: ورابع يستحق أن تصفعه، لكني ما أذكر والله البيت الآن.
............................................................................. ـــــــــــــــ
طيب أنا قبل آتي امرأة صالحة أعطتني مائتي ريال قالت أعطها طالب علم يشتري بها كتبا، بما أنكم جماعة سألقي عليكم سؤالا من باب الجعل، يقول أهل العلم: لا مانع أن يجعل الإنسان جعلا مالا أو رزقا أو كذا، ويجعل صاحبه فيتنافسان وبينهما الجعلان، فمن فاز أخذ، والآن الجعل من هذه المرأة الصالحة.(1/134)
لمحت من بعض الشبيبة حدة في التصرف مع إخوانه وفي حجز المكان وفي الدفع؛ الغضب، طيب يقول الشيخ فهد لو قسمت المبلغ على أربعة، نقسمه على اثنين أحسن، أنا سأذكر لكم خطوات الغضب، ست خطوات فيما أعلم لن أعيدها إطلاقا سأقولها مرة واحدة، لا يكتب أحد، لا يكتب أحد يا إخوان، سأعيدها للفائدة، لا يكتب أحد ليس قصد العلم، العلم والعمل، وأنا أخذت على نفسي عهدا في كل درس نروح على أنفسنا من باب الترويح الشرعي إن شاء الله.
خطوات الغضب ست على حد علمي، ولكل دليل، أولها: الاستعاذة بالله من الشيطان الرجيم، ثانيها: الصمت، الثالث: اجلس إذا كنت قائما، الرابع: اضطجع إذا كنت جالسا، الخامس: الوضوء، السادس صلاة ركعتين.
من يعيدها؟
طيب. ما في مانع، أنا سأعطي الشيخ فهد الجائزة مائتين ريال، لكن إذا أصاب يأخذ مائة ريال، الجائزة من سؤالين، يأخذ مائة ريال، أما إذا أخطأ فلي أنا شرط أحرمه من العشاء الليلة , وأحرم اثنين معه، من يعيدها، أنت عرفت الشرط إذا فزت لك مائة ريال، إذا أخطأت أنت ما تتعشى والشيخ فهد الحميد المؤذن وفهد غراب، استعن بالله، أحسن حتى يشهد عذابهما طائفة من المؤمنين.
بسم الله، والحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله. أول المراتب هو الاستعاذة بالله من الشيطان الرجيم. نعم، والثاني: الصمت، والثالث: الجلوس إن كان قائما، والرابع: الاضطجاع إن كان جالسا، والخامس الوضوء، والسادس: صلاة ركعتين.
لا. أنا نيتي صراحة تعيدها بالعكس. نعم. صلاة ركعتين، وقبلها الوضوء، وقبلها الاضطجاع إن كان جالسا، وقبله الجلوس إن كان قائما، وقبله الصمت، وقبله الاستعاذة بالله من الشيطان الرجيم.
ماشي. الحمد لله رب العالمين. لكن أنا أقول إنا لله وإنا إليه راجعون.
............................................................................. ـــــــــــــــ(1/135)
السؤال الثاني: ذكرت أمس وصار لبس عندكم في تغيير المنكر، أحوال المنكَر باعتبار المنكِر، وباعتبار المنكَر؛ باعتبار المنكِر بيده، ثم بلسانه، ثم بقلبه، باعتبار ماذا؟ المنكِر.
باعتبار المنكَر: إما أن يزول المنكر بالكلية ولا يخلفه شيء، أو أن يزول المنكر ويخلفه أقل منه، هذا يجوز الأول يجب، وهذا أو يجب -عفوا- الثالث أن يزول المنكر ويخلفه أعظم وهذا -ماذا- يحرم، الرابع أن يزول المنكر ويخلفه مثله، وهذه موضع اجتهاد المنكِر إذا كان عنده علم، من يعيدها؟
ترى الشرط نفس الشرط أنت والشيخ فهد، وفهد، أنا مرة واحدة يا شيخ، لا لا مرتين وثلاثة إن شاء الله نعم.
ذكرت حفظكم الله أنواع المنكر في اتباع المنكِر ثلاثة: التغيير باليد، والتغيير باللسان، والتغيير بالقلب. يعني إنكاره.
باعتبار المنكَر، باعتبار المنكَر، إذا كان يزول المنكر بالكلية فهذا إنكاره واجب، الثاني إن كان يزول بعضه فمثل هذا يجوز، -ممنوع الوحي يا إخوة نعم- الثالث: إن كان يزول ويخلفه أفسد منه، فمثل هذا محرم، الرابع -أعصابك شوية نعم - الرابع: إن كان لا يزول -لا لا دعوه رفقا بالأقداح- إذا خلفه مثله، نعم هذا طبعا محرم ... ما تعشى لن تدرك لا مبيت ولا عشاء، لكن قد أدركت بعض العشا، طيب يكفي هذا.
طيب نقول سؤال ثالث ويعاد؟ تأذن يا شيخ فهد؟(1/136)
طيب يا إخوان نسأل الله التوفيق للجميع، والله ربي وربكم أسأل أن يجعلنا وإياكم ممن يستمع القول فيتبع أحسنه، ونوصي الإخوان جميعا بما أوصانا به مشائخنا الأكارم بالاستمرار في طلب العلم، والعمل بالعلم، ونشر العلم، وتحمل دعوة الناس، وأيضا الحذر من المزالق، والحذر من دعاة الشبهات، ولزوم منهج السلف الصالح ففيه النجاة في الدين والدنيا والبرزخ والآخرة، وأيضا أيها الأكارم الدعاء والتضرع، وكثرة التعبد لله -جل وعلا- عدم التحاسد بيننا، عدم التنافس غير المحمود؛ الأقران بينهم من العداء، هذا يزول بالدعاء والزيارة والتبسم والهدية، عدم الرضا بأن يغتاب مسلم في حضورك لغير مصلحة، عدم القطيعة والتدابر، ومحاولة بل التناصح بيننا، فالمؤمن مرآة أخيه والدين النصيحة، والمحبة تقتضي أن ينصح المسلم أخاه إذا رأى فيه تقصيرا.
............................................................................. ـــــــــــــــ
أشكر الله -جل وعلا- ثم أشكركم، وأشكر الشيخ فهد على هذا المنشط العلمي، سائلا المولى - عز وجل - أن يجمعنا في الدنيا على أحسن حال، وفي الآخرة على أحسن مآل، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.(1/137)