المقدمة
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله الذي أرسل رسوله بالهدى و كفى بالله شهيدا ، و أشهد ألا إله إلا الله إقراراً به و توحيدا ، و أشهد أن محمد عبده و رسوله صلى الله عليه و على آله و صحبه و سلّم تسليماً مزيدا.
أما بعد:
فقد شرح شيخنا العلامة/صالح بن عبد العزيز آل الشيخ - حفظه الله - متن الأربعين النووية و ذلك ضمن أحد الدورات العلمية التي تقام بجامع شيخ للإسلام ابن تيميّة - رحمه الله - و قد فرغ المسؤولون عن هذه الدورة هذه الدروس ووضعوها في موقع الجامع http://www.taimiah.com و جعلوا كل حديث في ملف مستقل.
و قد منّ الله علي بأن جمعت ما فرّغوه في ملف واحد و أعدت تنسيق بعض ما لزم تنسيقه و جعلت له فهرساً في نهاته.
و أسأل الله أن يتقبل عملي هذا و أن يثيب شيخنا العلامة صالحاً خير الجزاء و أن يثيب المسؤولين على جامع شيخ الإسلام ابن تيميّة على إقامة هذه الدورة و على قيامهم بتفريغ الدروس.
و صلى الله على نبينا محمد و على آله و صحبه أجمعين.
أبو عبد الله أحمد الأثري
مقدمة الشارح
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله حق حمده، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، تعظيمًا لمجده، وأشهد أن محمدا عبد الله ورسوله، صلى الله عليه، وعلى آله وصحبه وسلم تسليمًا كثيرًا إلى يوم الدين.
أما بعد:
فأسأل الله الكريم بأسمائه الحسنى، وصفاته العلا، أن يجعلني وإياكم ممن يتحرك لله، ويعمل لله، ويطلب العلم لله، ويتكلم ويعمل لله -جل جلاله- فـ ( إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى ( وما من شك أن ( طلب العلم فريضة على كل مسلم ( كما ثبت ذلك عن المصطفى- صلى الله عليه وسلم-.(1/1)
وطلب العلم له أصوله، وله رتبه، فمن فاته طلب العلم على رتبه وأصوله، فإنه يحرم الوصول، وهذه مسألة كثيرًا ما نكررها رغبة في أن تقر في قلوب طلبة العلم ومحبي العلم، ألا وهي أن يطلب العلم شيئًا فشيئًا على مر الأيام والليالي، كما قال ذلك ابن شهاب الزهري -الإمام المعروف- إذ قال: "من رام العلم جملة ذهب عنه جملة، وإنما يطلب العلم على مر الأيام والليالي".
وهذا كما تدرس صغيرًا أصول الكتابة، أو أصول نطق الكلمات، فإنه لا بد أن يأخذه شيئًا فشيئًا، ثم إذا استمر على ذلك أحكم الكتابة، وأحكم النطق حتى تمكن من ذلك، والعلم كذلك، فالعلم منه صغار، ومنه كبار باعتبار الفهم كبار العمل.
وباعتبار كون العلم من الله -جل جلاله- وعن رسوله ( فإنه ليس في العلم شيء سهل، كما قال مالك -رحمه الله تعالى- إذ قيل له: هذا من العلم السهل، قال: ليس في علم القرآن والسنة شيء سهل، وإنما كما قال الله -جل وعلا-: ( ((((( ((((((((( (((((((( (((((( ((((((( ( (1) .
فالعلم من أخذه على أنه ثقيل صعب أدركه، وأما من أخذ المسائل على أنها سهلة، وهذه سهلة، وهذه متصورة، وهذه مفهومة، ويمر عليها مرور السريع، فإن هذا يفوته شيء كثير.
فإذًا لا بد لنا في طلب العلم من تدرج فيه على أصوله، وعلى منهجية واضحة ،ولا بد لنا أن نأخذ العلم على أنه ليس فيه شيء سهل؛ بل كله ثقيل من حيث فهمه، ومن حيث تثبيته، ومن حيث استمراره مع طالب العلم، فهو ثقيل لا بد له من مواصلة ومتابعة، فالعلم ينسى إذا ترك، وإذا تواصل معه طالب العلم فإنه يبقى، وهذا يعظم التبعة على طالب العلم في ألا يتساهل في طلبه للعلم.(1/2)
فلا يقولن قائل مثلا: هذا الكتاب سهل، وهذا المتن لم يشرح؛ لأنه سهل واضح، أحاديث معروفة، فإن هذا يؤتى من هذه الجهة، حيث استسهل الأصول وعقد العلم، وقد قال طائفة من أهل العلم: "العلم عقد وملح، فمن أحكم العقد سهل عليه العلم، ومن فاته حل العقد فاته العلم" وهذا إنما يكون بإحكام أصول العلوم.
وإذا ضبط طالب العلم المتون المعروفة في الحديث، وفي العلوم المختلفة، فإنه يكون مهيئًا للانتقال إلى درجات أعلى بفهم وتأسيس لما سبق؛ فلهذا أحض جميع الإخوة، وجميع طلاب العلم ممن يسمعون كلامي هذا أحضهم على أن يأخذوا العلم بحزم، وألا يأخذوه على أن هذه المسألة مفهومة، وهذه سهلة، وهذه واضحة؛ بل إنه يكرر الواضح ليزداد وضوحًا، ويكرر المعلوم ليزداد به علما وهكذا.
ونسأل الله -جل وعلا- أن يجعل هذا الشرح الذي نبتدئه هذه الليلة، أسأله -جل وعلا- أن يجعله شرحًا تامًّا مكملًا، وأن ينفع به الملقي والسامع، وأن يجعلنا فيه من المبتصرين، والذين يقولون بعلم لا برأي أو هوى.
ثم إن هذا الكتاب الذي سنعاني شرحه هو الأحاديث المختارة المعروفة بالأربعين النووية جمعها العلامة يحيى بن شرف النووي، ويقال: النواوي أيضًا، وهو من علماء الشافعية البارزين، وممن شرح كتبًا في الحديث، وكتبًا في الفقه، وأيضًا في لغة الفقهاء، وغير ذلك من العلوم.
وأصل كتابه "الأربعون النووية" أن ابن الصلاح -رحمه الله تعالى- جمع في مجلس من مجالس تدريسه للحديث، جمع الأحاديث الكلية التي يدور عليها علم الشريعة، فجعلها ستة وعشرين حديثًا، فنظر فيها العلامة النووي -رحمه الله- فزادها ستة عشر حديثًا، فصارت الأحاديث التي اختارها النووي ثنتين أو اثنين وأربعين حديثًا، فسميت بالأربعين النووية تجوزًا.(1/3)
ثم زاد عليها الحافظ الإمام عبد الرحمن بن أحمد بن رجب الحنبلي ثمانية أحاديث كلية أيضًا، وعليها مدار فهم بعض الشريعة، فصارت خمسين حديثًا، وهي التي شرحها في كتابه المسمى "جامع العلوم والحكم في شرح خمسين حديثًا من جوامع الكلم".
وأصل هذه الأحاديث في اختيارها على أنها جوامع كلم تدور عليها أمور الدين، فمنها ما يتصل بالإخلاص، ومنها ما هو في بيان الإسلام وأركانه، والإيمان وأركانه، ومنها ما هو في بيان الحلال والحرام، ومنها ما هو في بيان الآداب العامة، ومنها ما هو في بيان بعض صفات الله -جل وعلا- وهكذا في موضوعات الشريعة جميعًا.
فهذه الأحاديث الأربعون، وما يزيد عليها أيضًا، فيها علم الدين كله، فما من مسألة من مسائل الدين إلا وهي موجودة في هذه الأحاديث من العقيدة، أو من الفقه، وهذا يتبين لمن طالع "الشرح العجاب" شرح ابن رجب -رحمه الله- على الأربعين النووية، وعلى الأحاديث التي زادها ثم شرحها.
فالعناية بها مهمة؛ لأن في فهمها فهم أصول الشريعة بعامة، وقواعد الدين، فإن منها الأحاديث التي تدور عليها الأحكام كما سيأتي بيانه -إن شاء الله تعالى- مفصلًا.
الحديث الأول
إنما الأعمال بالنيات
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
قال المصنف -رحمه الله تعالى-: وعن أمير المؤمنين أبي حفص عمر بن الخطاب ( قال: سمعت رسول الله ( يقول: ( إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى، فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله، ومن كانت هجرته لدنيا يصيبها أو امرأة ينكحها فهجرته إلى ما هاجر إليه ( .
رواه إماما المحدثين أبو عبد الله محمد بن إسماعيل بن إبراهيم بن المغيرة بن بردذبه البخاري، وأبو الحسين مسلم بن الحجاج بن مسلم القشيري النيسابوري في صحيحيهما الذين هما أصح الكتب المصنفة.(1/4)
هذا هو الحديث الأول؛ حديث عمر ( أنه سمع النبي ( يقول: ( إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى ( وهذا الحديث حديث عظيم حتى قال طائفة من السلف، ومن علماء الملة: ينبغي أن يكون هذا الحديث في أول كل كتاب من كتب العلم؛ ولهذا بدأ به البخاري -رحمه الله- صحيحه، فجعله أول حديث فيه حديث ( إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى ( بحسب اللفظ الذي أورده في أوله.
وهذا الحديث أصل من أصول الدين، وقد قال الإمام أحمد: ثلاثة أحاديث يدور عليها الإسلام:
حديث عمر: ( إنما الأعمال بالنيات ( .
وحديث عائشة: ( من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد ( .
وحديث النعمان بن بشير: ( الحلال بين والحرام بين ( .
وهذا الكلام من إمام أهل السنة متين للغاية؛ ولذلك أن عمل المكلف دائر على امتثال الأمر، واجتناب النهي، وامتثال الأمر، واجتناب النهي هذا هو الحلال والحرام، وهناك بين الحلال والحرام مشبهات، وهو القسم الثالث.
وهذه الثلاث هي التي وردت في حديث النعمان بن بشير ( ( الحلال بين والحرام بين وبينهما أمور مشتبهات ( وفي رواية: "مشبهات" والعمل لمن أراد أن يعمل، أو فعل الأمر واجتناب النهي لا بد أن يكون بنية حتى يكون صالحًا.
فرجع تصحيح ذلك العمل، وهو الإتيان بما فرض الله، أو الانتهاء عما حرم الله إلى وجود النية التي تجعل هذا العمل صالحًا مقبولًا، ثم إن ما فرض الله -جل وعلا- من الواجبات، أو من المستحبات، وما فرض الله -جل وعلا- من الواجبات، أو ما شرع من المستحبات، لا بد فيه من ميزان ظاهر حتى يصلح العمل، وهذا يحكمه حديث ( من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد ( كما في رواية مسلم للحديث.(1/5)
فإذًا هذا الحديث؛ حديث الأعمال ( إنما الأعمال بالنيات ( يحتاج إليه في كل شيء؛ يحتاج إليه في امتثال الأوامر، وفي اجتناب النواهي، وفي ترك المشتبهات، وبهذا يعظم وقع هذا الحديث؛ لأن المرء المكلف في أي حالة يكون عليها ما بين أمر يأتيه؛ إما أمر إيجاب، أو استحباب، وما بين نهي ينتهي عنه؛ نهي تحريم، أو نهي كراهة، أو يكون الأمر مشتبهًا، فيتركه، وكل ذلك لا يكون صالحًا إلا بإرادة وجه الله -جل وعلا- به وهي النية.
قوله -عليه الصلاة والسلام-: ( إنما الأعمال بالنيات ( روي أيضًا، في الصحيح ( إنما العمل بالنية ( وروي ( إنما الأعمال بالنية ( بألفاظ مختلفة والمعنى واحد، فإنه إذا أفرد العمل أو النية أريد بها الجنس، فتتفق رواية الإفراد مع رواية الجمع.
وقوله -عليه الصلاة والسلام-: ( إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى ( هذا فيه حصر؛ لأن لفظ "إنما" من ألفاظ الحصر عند علماء المعاني، والحصر يقتضي أن تكون الأعمال محصورة في النيات، ولهذا نظر العلماء ما المقصود بقوله: ( إنما الأعمال بالنيات ( ؟ لأنه حصر الأعمال بالنيات، فقال طائفة من أهل العلم وهو القول الأول: إن قوله -عليه الصلاة والسلام-: ( إنما الأعمال بالنيات ( يعني: إنما الأعمال، وقوعها مقبولة، أو صحيحة بالنية.
و ( إنما لامرئ ما نوى ( يعني: وإنما يثاب المرء على العمل الذي عمله بما نواه، فتكون الجملة الأولى متعلقة بصحة العمل، والجملة الثانية يراد بها الثواب على العمل ( إنما الأعمال بالنيات ( الباء هنا للسببية، يعني: إنما الأعمال تقبل، أو تقع صحيحة بسبب النية، فيكون تأصيلًا لقاعدة عامة.
قال: ( وإنما لكل امرئ ما نوى ( اللام هذه لام الملكية، يعني: مثل التي جاءت في قوله -تعالى-: ( ((((( (((((( (((((((((( (((( ((( (((((( ( (2) ( وإنما لكل امرئ ما نوى ( يعني: من ثواب عمله ما نواه، هذا قول طائفة من أهل العلم.(1/6)
والقول الثاني: أن قوله -عليه الصلاة والسلام-: ( إنما الأعمال بالنيات ( هذا راجع إلى أن الباء سببية أيضًا، والمقصود بها سبب العمل لا سبب قبوله، قالوا: لأننا لا نحتاج مع هذا إلى تقدير، فقوله: ( إنما الأعمال بالنيات ( يعني: إنما الأعمال بسبب النيات، فما من عمل يعمله أحد إلا وله إرادة وقصد فيه وهي النية.
فمنشأ الأعمال؛ سواء كانت صالحة أو فاسدة، طاعة أو غير طاعة، إنما منشؤها إرادة القلب لهذا العمل، وإذا أراد القلب عملًا، وكانت القدرة على إنفاذه تامة، فإن العمل يقع فيكون قوله -عليه الصلاة والسلام- على هذا: ( إنما الأعمال بالنيات ( يعني: إنما الأعمال صدورها وحصولها بسبب نية من أصدرها، بسبب إرادة قلبه وقصده لهذا العمل.
( وإنما لكل امرئ ما نوى ( هذا فيه أن ما يحصل للمرء من عمله ما نواه نية صحيحة، يعني: إذا كانت النية صالحة صار ذلك العمل صالحًا، فصار له ذلك العمل.
والقول الأول أصح؛ وذلك لأن تقريب مبعث الأعمال، وأنها راجعة لعمل القلب، هذا ليس هو المراد بالحديث، كما هو ظاهر من سياقه، وإنما المراد اشتراط النية للعمل، وأن النية هي المصححة للعمل، وهذا فيه وضوح؛ لأن قوله -عليه الصلاة والسلام- ( إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى ( بيان لما تطلبه الشريعة، لا لما هو موجود في الواقع.
فلهذا نقول: الراجح من التفسيرين أن قوله -عليه الصلاة والسلام- ( إنما الأعمال بالنيات ( يعني: إنما الأعمال صحة وقبولًا أو فسادًا بسبب النيات، وإنما لامرئ من عمله ثوابًا وأجرًا ما نواه.
إذا تقرر هذا فالأعمال ما هي؟
الأعمال جمع عمل، والمقصود به هنا ما يصدر عن المكلف، ويدخل فيه الأقوال فليس المقصود بالعمل قسيم القول، القول والعمل والاعتقاد قسيم القول والاعتقاد، وإنما الأعمال هنا كل ما يصدر عن المكلف من أقوال وأعمال، قول القلب، وعمل القلب، وقول اللسان، وعمل الجوارح.(1/7)
فيدخل في قوله: ( إنما الأعمال بالنيات ( كل ما يتعلق بالإيمان؛ لأن الإيمان قول وعمل، قول اللسان، وقول القلب وعمل القلب وعمل الجوارح، فقوله: ( إنما الأعمال بالنيات ( يدخل فيها جميع أنواع ما يصدر من المكلف.
طبعًا هذا العموم عموم مراد به إلى الخصوص؛ لأن العموم عند الأصوليين على ثلاثة أقسام: عام باق على عمومه، وعام دخله التخصيص، وعام مراد به إلى الخصوص، يعني: أن يكون اللفظ عامًا، ويراد به بعض الأفراد.
وهنا لا يدخل في الأعمال في قوله: ( إنما الأعمال بالنيات ( لا يدخل فيها الأعمال التي لا تشترط لها النية مثل أنواع التروك، وإرجاع المظالم، وأشباه ذلك، تطهير النجاسة، وأمثال ذلك، يعني: مما لا يشترط له النية؛ لأنه ترك ونحوه، والنية التي عليها مدار هذا الحديث، النية: قصد القلب وإرادته.
وإذا قلنا: النية قصد القلب وإرادته علقناها بالقلب، فالنية إذًا ليس محلها اللسان ولا الجوارح، وإنما محلها القلب نوى يعني: قصد بقلبه وأراد بقلبه هذا الشيء.
فالأعمال مشروطة بإرادة القلب وقصده، فأي إرادة وقصد هذه المقصود بها إرادة وجه الله -جل وعلا- بذلك؛ ولهذا في القرآن يأتي معنى النية بلفظ الإرادة والابتغاء وأشباه ذلك، كما في قوله: ( (((((((((( (((((( (((( ( ( (3) وكما في قوله: ( (((((((((( ((((((((( ( ( (4) ( (((((((((( (((((((( (((( ((((((((( ((((((((( ((((((( (((((((((((((( ((((((((((((( (((((((((( ((((((((( ( ( (5) ونحو ذلك ( ((( ((((( ((((((( (((((( (((((((((( (((((( ((((( ((( ((((((((( ( ( (6) يريد يعني: ينوي يطلب ويقصد، هذه هي النية ( (((((( ((((((( (((((((((( (((((((( ((((( ((((((((( ( (7) هذه النية.(1/8)
أو لفظ الابتغاء كقوله -جل وعلا-: ( (((( (((((((((((( (((((( ((((((( (((((((((( ( (8) وكما في قوله -جل وعلا-: ( ( (( (((((( ((( ((((((( (((( ((((((((((( (((( (((( (((((( (((((((((( (((( ((((((((( (((( ((((((((( (((((( (((((((( ( ((((( (((((((( ((((((( (((((((((((( ((((((((( (((( (((((((( ((((((((( ((((((( (((((((( ( (9) .
فإذًا في النصوص يكثر ورود النية بلفظ أولًا: الإرادة إرادة القلب، ثانيًا: بلفظ الابتغاء، أو بلفظ الإسلام؛ إسلام القلب والوجه لله -جل وعلا- والنية في كلام الله -جل وعلا- أو في الشريعة بعامة يراد بها أحد معنيين: المعنى الأول: نية متجهة للعبادة، والمعنى الثانى: نية متجهة للمعبود.
فالنية قسمان:
نية متعلقة بالعبادة، ونية متعلقة بالمعبود، فأما المتعلقة بالعبادة فهي التي يستعملها الفقهاء في الأحكام حين يأتون إلى الشروط، الشرط الأول: النية، يقصدون بذلك النية المتوجه للعبادة، وهي تمييز العبادات بعضها عن بعض.
تمييز الصلاة عن الصيام، تمييز الصلاة المفروضة عن النفل، يعني: أن يميز القلب فيما يأتي ما بين عبادة وعبادة، أتى المسجد وأراد أن يركع ركعتين، ميز قلبه هاتين الركعتين هل هي ركعتا تحية المسجد، أو هي ركعتا راتبة؟ أو هل هي ركعتا استخارة؟ إلى آخره... فتمييز القلب ما بين عبادة وعبادة هذه هي النية التي يتكلم عنها الفقهاء في الكتب الفقهية وهي النية المتوجه للعبادة.
القسم الثانى: النية المتوجه للمعبود، وهذه هي التي يتحدث عنها باسم الإخلاص: إخلاص القلب، إخلاص النية، إخلاص العمل لله -جل وعلا- وهي التي تستعمل كثيرًا بلفظ النية والإخلاص والقصد.
فإذًا هذا الحديث شمل نوعي النية: النية التي توجهت للمعبود، والنية التي توجهت للعبادة، فـ ( إنما الأعمال بالنيات ( يعني: إنما العبادات تقع صحيحة، أو مقبولة بسبب النية، يعني: النية التي تميز العبادة بعضها عن بعض أولا.(1/9)
والنية التي هي إخلاص العبادة للمعبود، وهو الله -جل جلاله- فلهذا لا يصلح أن نقول: النية هنا هي النية التي بمعنى الإخلاص، ونقول: إن كلام الفقهاء في النيات لم يدخل فيه الإخلاص، ولا القسم الثاني، فإن تحقيق المقام انقسام النية إلى هذين النوعين -كما أوضحت لكم-.
قال -عليه الصلاة والسلام-: ( وإنما لكل امرئ ما نوى ( يعني: هذا حصر أيضًا، وإنما لكل امرئ من عمله ثوابًا وأجرًا لما نواه بعمله، فإن كان نوى بعمله الله والدار الآخرة، يعني: أخلص لله -جل وعلا- مريدا وجه الله -جل وعلا- فعمله صالح، وإن كان عمله للدنيا فعمله فاسد؛ لأنه للدنيا.
وهذا كما جاء في آيات كثيرة إخلاص الدين لله -جل علا-: ( (((((( (((((((((( (((( ((((((((((((( (((( ((((((((((( (((( ((((((((( ( (10) يعني: الدين يقع على نية الإخلاص، كما في قوله -جل وعلا-: ( (((( (( ((((((((( ((((((((((( ( ( (11) .
وقد جاء في أحاديث كثيرة بيان إخلاص العمل لله -جل وعلا- كقوله -عليه الصلاة والسلام- في الحديث الذي رواه مسلم في الصحيح: ( أنا أغنى الشركاء عن الشرك، من عمل عملًا أشرك فيه معي غيري تركته وشركه ( وفي لفظ آخر قال -عليه الصلاة والسلام- في هذا الحديث القدسي: ( فهو للذي أشرك، وأنا منه بريء ( .
وهذا يدل على أن العمل لا بد أن يكون خالصًا لله -جل وعلا- حتى يكون مقبولًا، ويؤجر عليه العبد، إذا وصلنا إلى هذا فمعناه أن من عمل عملًا، ودخل في ذلك العمل نية غير الله -جل وعلا- بذلك العمل، فإن العمل باطل لقوله: ( من عمل عملًا أشرك فيه معي غيري تركته وشركه ( ( فهو للذي أشرك ( ( إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى ( .
وهذه يحتمل أن يكون المراد بذلك العملِ العملَ الذي يكون في أصل العبادة، أو في أثناء العبادة، أو غيَّر نيته بعد العبادة، يحتمل هذا، أو تكون العبادة أيضا في بعضها لله، وفي بعضها لغير الله، فما المراد؟(1/10)
قال العلماء: تحقيق هذا المقام أن العمل إذا خالتطه نية فاسدة، يعني: رياء نوى للخلق، أو سمعة، فإنه إن أنشأ العبادة للخلق فهي باطلة، يعني: صلى دخل في الصلاة، لا لإرادة الصلاة؛ ولكن يريد أن يراه فلان، فهذه الصلاة باطلة.
وهو مشرك كما جاء في الحديث: ( من صلى يرائي فقد أشرك، ومن صام يرائي فقد أشرك، ومن تصدق يرائي فقد أشرك ( يعني: حين أنشأ الصلاة الواحدة أنشأها يرائي، وإلا فإن إنشاء المسلم عباداته جميعًا على الرياء هذا غير متصور، وإنما يقع الرياء ربما في بعض عبادات المسلم؛ إما في أولها، وإما في أثنائها.
وأما الرياء التام في جميع الأعمال فإن هذا لا يتصور من مسلم، وإنما يكون من الكفار والمنافقين، كما قال -جل وعلا- في وصفهم: ( ((((((((((( (((((((( (((( ((((((((((( (((( (((( ((((((( ( (12) وقوله في وصف الكفار: ( (((((((( (((((((( ( (13) يعني: بهذا أن القسم الأول نية ابتدأ بها العبادة لغير الله، فهذه العبادة تكون باطلة: صلاته باطلة، صيامه باطل، وصدقته باطلة، نوى بالعمل غير وجه الله -جل وعلا-.
القسم الثاني: أن يحدث تغيير النية في أثناء العبادة، وهذا له حالان : الحال الأولى: أن يبطل نيته الأصلية، ويجعل العبادة لهذا المخلوق، فهذا حكمه كالأول من أن العبادة فسدت؛ لأنه أبطل نيتها، وجعلها للمخلوق، فنوى في أثناء الصلاة أن الصلاة هذه لفلان، فتبطل الصلاة.
الحال الثانية: من هذا القسم أن يزيد في الصلاة من لأجل رؤية أحد الناس، يعني: يراه أحد طلبة العلم، أو يراه والده، أو يراه كبير القوم، أو يراه إمام المسجد، فبدل أن يسبح ثلاث تسبيحات أطال في الركوع، والركوع عبادة لله -جل وعلا- فأطال على خلاف عادته لأجل رؤية هذا الرائي.(1/11)
فهذا العمل الزائد الذي نوى به المخلوق يبطل؛ لأن نيته فيه لغير الله، و ( إنما الأعمال بالنيات ( لكن أصل العمل صالح؛ لأن هذه النية ما عرضت لأصل العمل، وإنما عرضت لزيادة في بعضه أطال الصلاة، أو إمام أطال القراءة؛ لأن حسن صوته لرؤية إلى الخلق، أو لأن وراءه فلان، أو نحو ذلك من الأعمال، فلا يبطل أصل العمل، وإنما ما زاد فيه لأجل الخلق يكون فيه مشركًا الشرك الأصغر، وهو الرياء -والعياذ بالله-، هذه الحالة الثانية من القسم الثاني.
والحالة الثالثة: أن يعرض له حب الثناء، وحب الذكر بعد تمام العبادة، عمل العبادة لله، صلى لله، حفظ القرآن لله، وصام لله، صام النوافل لله -جل وعلا- مخلصًا، وبعد ذلك رأى من يثني عليه، فسره ذلك، ورغب في المزيد في داخله، فهذا لا يخرم أصل العمل؛ لأنه نواه لله، ولم يكن في أثنائه فيكون شركا، إنما وقع بعد تمامه، فهذا كما جاء في الحديث ( تلك عاجل بشرى المؤمن أن يسمع ثناء الناس عليه لعبادته وهو لم يقصد في العمل الذي عمله أن يثني عليه الناس ( هذه ثلاثة أحوال.
وإذا تقرر هذا فالأعمال التي يتعلق بها نية مع نيتها لله -جل وعلا- على قسمين أيضا، الأول: أعمال يجب ألا يريد بها، وألا يعرض لقلبه فيها ثواب الدنيا أصلا، وهذه أكثر العبادات، وأكثر الأعمال الشرعية.
والقسم الثاني: عبادات حض عليها الشارع بذكر ثوابها في الدنيا، مثل صلة الرحم حض عليها الشارع بذكر ثواب الدنيا، فقال -عليه الصلاة والسلام-: ( من سره أن يبسط له في رزقه، وينسأ له في أثره، فليصل رحمه ( فحض على صلة الرحم بذكر ثواب الدنيا: النسأ في الأثر، والبسط في الرزق.(1/12)
أو كقوله في الجهاد: ( من قتل قتيلا فله سلبه ( يعني: ما عليه من السلاح، وما معه من المال أو كذا، يسلبه ويكون لهذا القاتل، فهذا حض على القتل بذكر ثواب دنيوي، فمن أراد الثواب الدنيوي هنا -في هذا القسم- مستحضرا ما حض الشارع من العمل، يعني: من هذه العبادة، وذكر فيه الثواب الدنيوي فإنه جائز له ذلك؛ لأن الشارع ما حض بذكر الدنيا إلا إذن منه بأن يكون ذلك مطلوبا.
فإذًا من وصل الرحم يريد وجه الله -جل وعلا- ولكن يريد أيضا أن يثاب في الدنيا بكثرة الأرزاق، وبالنسأ في الأثر، يعني: طول العمر، فهذا له ذلك، ولأجل أن الشارع حض على ذلك.
جاهد في سبيل الله يريد أيضا مغنما، ونيته خالصة لله -جل وعلا- لتكون كلمة الله هي العليا؛ ولكن يريد شيئا حض عليه، أو ذكره الشارع في ذلك، هذا قصده ليس من الشرك في النية؛ لأن الشارع هو الذي ذكر الثواب الدنيوي في ذلك.
فإذًا تنقسم الأعمال إلى عبادات ذكر الشارع الثواب الدنيوي عليها، وإلى عبادات لم يذكر الشارع الثواب الدنيوي عليها، وهذا كما جاء في قول الله -جل وعلا-: ( ((( ((((( ((((((( (((((((((((( (((((((((( (((((((((((( ((((((( (((((((((( ((((((((((((( (((((( (((((( (((((( (( ((((((((((( ( (14) الآية.
فهذه المسألة مهمة، فإذا تقرر أنه لا يكون مشركًا بذلك، فهل من نوى الدنيا بصلة الرحم مثلا مع نيته لله مساوٍ لمن لم ينو الدنيا، وإنما جعلها خالصة لله لا يختلف الأجر؛ لكن لا يكون مرائيًا، ولا مشركًا بذلك.
فمن كانت نيته خالصة لله -جل وعلا- فأجره أعظم، لهذا لما سئل عدد من الأئمة من السلف والإمام أحمد وجماعة عمن جاهد للمغنم ونيته خالصة لله؟ قال: أجره على قدر نيته، لم يبطل عمله أصلًا، لم يبطل السلف العمل أصلًا، وإنما جعلوا التفاوت بقدر النيات.(1/13)
فكلما عظمت النية لله في الأعمال التي فيها ذكر الدنيا، وذكر الشارع عليه ثواب الدنيا فإنه كلما عظمت النية الخالصة كلماعظم أجره، وكلما نوى الدنيا مع صحة أصل نيته قل أجره يعني: عن غيره.
هنا قال -عليه الصلاة والسلام-: ( فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله، فهجرته إلى الله ورسوله ( طبعًا الحديث تفاصيل الكلام في النية، ودخول النية في أبواب كثيرة من العبادات، هذا يطول عليه الكلام جدًّا، وصنفت مصنفات في هذا، وشروح كتب الأحاديث أطالت في شرح هذا الحديث، وإنما نذكر في شرحنا لهذه الأربعين النووية قواعد وتأصيلات متعلقة بشرح الحديث، كما هي العادة في مثل هذه الشروح المختصرة لهذه الكتب المهمة.
قال: ( فمن كانت هجرته ( الفاء هذه تفصيلية، تفصيل لمثال من الأعمال التي تكون لله وتكون لغير الله، ذكر مثالا للهجرة قال: ( من كانت هجرته إلى الله ورسوله، فهجرته إلى الله ورسوله، ومن كانت هجرته لدنيا يصيبها أو امرأة ينكحها، فهجرته إلى ما هاجر إليه ( .
الهجرة معناها: الترك، هجر يعني: ترك، وأصل الهجرة هجرة إلى الله -جل وعلا- وإلى رسوله ( هجرة إلى الله -جل وعلا- بالإخلاص، وابتغاء ما عنده، والهجرة إلى النبي ( باتباعه -عليه الصلاة والسلام- والرغبة فيما جاء به -عليه الصلاة والسلام-.
ومن آثار ذلك، الهجرة إلى الخاصة التي هي ترك بلد الشرك إلى بلد الإسلام، فقال -عليه الصلاة والسلام-: ( فمن كانت هجرته ( يعني: من كان تركه لبلد الشرك إلى بلد الإسلام لله ورسوله إلى الله ورسوله، فهجرته إلى الله ورسوله، هذا فيه تكرير للجملة. من كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته لله ورسوله.
والمتقرر في علوم العربية أن الجمل إذا تكررت في ترتب الفعل والجزاء فإن شرط الفعل يختلف عن شرط الجزاء؛ فلهذا نقول: فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله نية وقصدا فهجرته إلى الله ورسوله ثوابًا وأجرًا، فما تعلق بالفعل النية والقصد، وما تعلق بالجواب الأجر والثواب.(1/14)
وهذا فيه نوع من أنواع البلاغة، وهو أن عمله جليل عظيم بحيث يستغنى لبيان جلالته وعظمه يستغنى عن ذكره؛ لأنه من الوضوح والبيان بحيث لا يحتاج إلى ذكره، فقال -عليه الصلاة والسلام-: ( فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله ( هذا تعظيم، ورفع لهذا العمل، وهو أن تكون الهجرة إلى الله ورسوله، يعني: نية وقصدًا وتعظيما للثواب والأجر بقوله: ( فهجرته إلى الله ورسوله ( ثوابًا وأجرًا، يعني: حدث عن ثوابه وعظم ذلك.
ثم بين الصنف الثاني فقال: ( ومن كانت هجرته لدنيا يصيبها، أو امرأة يتزوجها ( ( لدنيا يصيبها ( هذا حال التاجر الذي هاجر لكي يكسب مالًا، أو هاجر ليكسب زوجة أو امرأة، فهذا هجرته إلى ما هاجر إليه.
وقوله -عليه الصلاة والسلام-: ( فمن كانت هجرته لدنيا ( هذه النية يعني: هاجر العمل الظاهر يشارك فيه، من هاجر إلى الله ورسوله؛ لكن نيته أنه في هجرته يريد التجارة، أو يريد أن يتزوج امرأة فنيته فاسدة، قال: ( فهجرته إلى ما هاجر إليه ( يعني: من حيث أنه لا ثواب له فيها ولا أجر، وقد يكون عليه فيها وزر.
والهجرة هي ترك -كما ذكرت لك ترك- بلد الشرك إلى بلد الإسلام، أو ترك بلد تظهر فيه البدعة إلى بلد لا تظهر فيه البدعة، وإنما تظهر فيه السنة، أو القسم الثالث: ترك بلد تظهر فيه الفواحش والمنكرات إلى بلد تقل فيه الفواحش والمنكرات ظهورًا، وهذه كل واحدة منها لها أحكام مذكورة في كتب الفقه بالتفصيل.
الحديث الثاني
مجيء جبريل ليعلم المسلمين أمر دينهم
وعن عمر ( أيضا قال: ( بينما نحن جلوس عند رسول الله ( ذات يوم، إذ طلع علينا رجل شديد بياض الثياب، شديد سواد الشعر، لا يرى عليه أثر السفر، ولا يعرفه منا أحد حتى جلس إلى النبي ( فأسند ركبتيه إلى ركبتيه، ووضع كفيه على فخذيه.(1/15)
فقال: يا محمد أخبرني عن الإسلام، قال: الإسلام أن تشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله، وتقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة، وتصوم رمضان، وتحج البيت إن استطعت إليه سبيلا. قال: صدقت، فعجبنا له يسأله ويصدقه!
فقال: فأخبرني عن الإيمان، قال: أن تؤمن بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله، واليوم الآخر، وتؤمن بالقدر خيره وشره. قال: صدقت.
قال: فأخبرني عن الإحسان، قال: أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك.
قال: فأخبرني عن الساعة، قال: ما المسئول عنها بأعلم من السائل.
قال: فأخبرني عن أماراتها، قال: أن تلد الأمة ربتها، وأن ترى الحفاة العراة العالة رعاء الشاة يتطاولون في البنيان.
ثم انطلق فلبثت مليًّا، ثم قال: يا عمر أتدري من السائل؟ قلت: الله ورسوله أعلم، قال: هذا جبريل أتاكم يعلمكم دينكم ( رواه مسلم.
هذا الحديث حديث عظيم أيضًا، سماه بعض أهل العلم أم السنة، سمى هذا الحديث أم السنة، يعني: كما في القرآن أم القرآن، فهذا الحديث أم السنة؛ لأن جميع السنة تعود إلى هذا الحديث.
فإن الحديث فيه بيان العقيدة، والعقيدة مبنية على أركان الإيمان الستة، وفيه بيان الشريعة، وذلك بذكر أركان الإسلام الخمسة، وفيه ذكر الغيبيات والأمارات؛ بل قبل ذلك فيه ذكر آداب السلوك، والعبادة، وصلاح توجيه القلب، والوجه إلى الله -جل وعلا- بذكر الإحسان، وفيه ذكر الساعة وأمارتها، وهذا نوع من ذكر الأمور الغيبية ودلالات ذلك.
فهذا الحديث يعود إليه جل السنة، كما أن قول الله -جل وعلا- في آية النحل: ( ( (((( (((( (((((((( (((((((((((( ((((((((((((( ((((((((((( ((( (((((((((((( (((((((((( (((( (((((((((((((( ((((((((((((( (((((((((((( ( (((((((((( (((((((((( ((((((((((( ( (15) .(1/16)
قال طائفة من مفسري السلف: دخل في هذه الآية جميع أحكام الدين، جميع الدين في هذه الآية، وجميع أصول الأحاديث النبوية في هذا الحديث، وهذا الحديث معروف بحديث جبريل، وروايته على هذا الطول عن عمر ( وروي أيضًا، مقطعًا ببعض الاختصار في الصحيحين من حديث أبي هريرة ( .
وهذا الحديث فيه ذكر الإسلام والإيمان والإحسان، وفيه أن هذه الثلاثة هي الدين؛ لأنه في آخرها قال -عليه الصلاة والسلام-: ( أتاكم يعلمكم دينكم ( فإذًا الدين الذي هو الإسلام منقسم إلى ثلاث مراتب: الإسلام، والإيمان، والإحسان.
وهذا نخلص منه إلى قاعدة مهمة وهي أن الاسم العام قد يندرج عنه، قد يندرج فيه أنواع منها الاسم العام؛ لأن الإسلام هو الدين فجمع هذه الثلاثة: الإسلام والإيمان والإحسان؛ فالإسلام منه الإسلام، وهذا مهم في فهم الشريعة بعامة؛ لأن من الألفاظ ما يكون القسم هو اللفظ ذاته، يعني: أحد الأقسام هو اللفظ ذاته، وله نظائر إذا وجد هذا، فالاسم العام غير الاسم الخاص.
ولهذا نقول: الاسم العام للإسلام يشمل الإسلام والإيمان والإحسان، وليس هو الاسم الخاص إذا جاء مع الإيمان ومع الإحسان؛ لهذا لم يلحظ هذا الأمر طائفة من أهل العلم، فجعلوا الإسلام والإيمان واحدا، ولم يفرقوا بين الإسلام والإيمان حتى عزا بعضهم هذا القول لجمهور السلف، وهذا ليس بصحيح، فإن السلف فرقوا ما بين الإسلام والإيمان إذا كان هذا في مورد وهذا في مورد، إذا كان الإسلام والإيمان في مورد واحد.
وأما إذا كان الإسلام في مورد والإيمان في مورد، يعني: هذا في سياق وهذا في سياق، هذا في حديث وهذا في حديث، فالإسلام يشمل الدين جميعًا، والإيمان يشمل الدين جميعًا، فإذًا هذا الحديث فيه بيان الإسلام بمراتبه الثلاث.(1/17)
( إذ طلع علينا رجل شديد بياض الثياب شديد سواد الشعر ( في هذا مدح لهذه الصفة وإحداهما مكتسبة والأخرى جبلية، أما شدة سواد الشعر، فهذه جبلية لا تكتسب، ولا يجوز أن يصبغ بالسواد لمن ليس بذي سواد، وأما شدة بياض الثياب، فسياق هذا الحديث يقتضي مدح من كان على هذه الصفة، ولهذا كان النبي ( يحب الثياب البيض، وكان يلبسها، وأمر بتكفين الموتى فيها -عليه الصلاة والسلام-.
قال: ( ولا يرى عليه أثر السفر ( يعني: أنه لا يعرفونه في المدينة، وأتى بهذه الصفة الجميلة شدة سواد الشعر "ليس عليه" يعني: فيه أثر غبار أو تراب، وعادة المسافر أن يكون كذلك، وأيضا ( شديد بياض الثياب ( كأنه خرج من بيته في نظافة أهله الساعة، فكيف يكون ذلك؟
فإذًا في قوله: ( ولا يرى عليه أثر السفر ( إشعار بأنه مستغرب أن يكون على هذه الصفة؛ لهذا قال بعدها: ( ولا يعرفه منا أحد ( وقد جاء في بعض الروايات أن جبريل -عليه السلام- كان ربما أتاهم على صورة دحية الكلبي أحد الصحابة، فيسأل النبي ( فيجيب، وهذا غير مراد هنا؛ لأنه لا يتوافق مع قوله: ( ولا يعرفه منا أحد ( خلافًا لمن قال غير ذلك.
وهذا فيه التعليم، فإن جبريل -عليه السلام- أتى متعلمًا ومعلمًا، متعلمًا من جهة الهيئة والسؤال والأدب، ومعلمًا حيث سأل لأجل أن يستفيد الصحابة -رضوان الله عليهم- وتستفيد الأمة من بعدهم.
قال: ( فأسند ركبتيه إلى ركبتيه، ووضع كفيه على فخذيه ( ( أسند ركبتيه إلى ركبتيه ( الضمير الأول يرجع إلى جبريل، والثاني إلى النبي ( وهذا فيه القرب من العالم، القرب من المسئول حتى يكون أبلغ في أداء السؤال بدون رعونة صوت ولا إيذاء، وأفهم للجواب.
( ووضع كفيه على فخذيه ( هذه قيل: فيها تفسيران: ( ووضع كفيه ( يعني: جبريل على فخذيه، يعني: على فخذي النبي ( قالوا ذلك لأجل أن تكون الضمائر راجعة على نحو ما رجعت عليه الجملة الأولى ؛ لأن توافق الرجوع أولى من تعارضه بلا قرينة.(1/18)
وقال آخرون: لا، وضع كفيه على فخذيه هذه على فخذي جبريل أيضًا، يعني: وضع كفي نفسه على فخذي نفسه، وهذا أدب منه أمام مقام النبي ( .
في هذا أن طالب العلم ينبغي له أن يكون مهيئا نفسه، ومهيئا المسئول للإجابة على سؤاله في حسن الجلسة، وفي حسن وضع الجوارح، وفي القرب منه، وهذا نوع من الأدب المهم، فإن سؤال طالب العلم للعالم، أو سؤال المتعلم لطالب العلم له أثر في قبول العالم للسؤال، وفي انفتاحه للجواب.
قد ذكر في آداب طلب العلم، وفي الكلام عليه أن بعض العلماء من علماء السلف كانوا ينشطون لبعض تلاميذهم فيعطونه، وبعضهم لا ينشطون له فيعطونه بعض الكلام الذي يكون عامًّا، أو لا يكون مكتملًا من كل جهاته، وذلك راجع إلى حسن أدب طالب العلم أو المتعلم.
فإنه كلما كان المتعلم أكثر أدبًا في جلسته، وأكثر أدبًا في لفظه، وفي سؤاله كان أوقع في نفس المسئول؛ فيحرص ويتهيأ نفسيًّا لجوابه؛ لأنه مَن احْتَرَم احْتُرِم، ومن أقبل أقبل عليه فهذا فيه أن نتأدب جميعًا بهذا الأدب.
فمثلًا: ألحظ على بعض طلاب العلم، أو بعض المتعلمين أنه إذا أتى يسأل العالم يسأله بِنِدِّية لا يسأله على أنه يستفيد، فيجلس جلسة العالم نفسه، أو يجلس جلسة المستغني، ويداه في وضع ليس في وضع أدب، واحدة هنا، والأخرى هناك، وجسمه أيضًا يعني: في استرخاء تام، ليس فيه الاستجماع ونحو ذلك، مما يدل على أنه غير متأدب مع العالم، أو طالب العلم الذي سيستفيد منه.(1/19)
وهذه الآداب لها أثر على نفسية العالم أو المجيب، فإنك تريد أن تأخذ منه العلم، وكلما كنت أذل على الوجه الشرعي في أخذ العلم كلما كان العالم أكثر إقبالًا عليك؛ ولهذا تجد أن من... بل أكثر أهل العلم لهم خواص، هذا من خاصته، هذه الخصوصية راجعة إلى إيه؟ راجعة إلى أن هذا المتعلم كان متأدبًا في لفظه، وفي تعامله، وفي كلامه، وفي حركته مع شيخه مما جعل شيخه يثق فيه، ويقبل عليه في العلم، ويعطيه من العلم ما لا يعطيه غيره، ويعطيه من تجاربه في الحياة، وتجاربه مع العلم ومع العلماء، وفي الأمور، وفي الواقع بما لا يفيده غير المتأدب معه.
فهذه نأخذها من حديث جبريل -عليه السلام- هذا، ونأخذها أيضًا، من قصة إلى الخضر مع موسى في سورة الكهف، وهي حرية بالتأمل في آداب طلب العلم.
قال: ( يا محمد، أخبرني عن الإسلام ( ( أخبرني عن الإسلام ( هذا سؤال عن نوع من أنواع الدين ألا وهو الإسلام المتعلق بالأعمال الظاهرة، فسأل عن الإسلام، ثم سأل عن الإيمان، ثم سأل عن الإحسان... إلى آخره.
فقال: ( يا محمد، أخبرني عن الإسلام ( وفي قوله: "أخبرني" فيه دلالة على أن النبي ( مخبر، يعني: أنه ينقل أيضًا الخبر عن الإسلام، وهذا موافق لما هو متواتر في الشريعة أن النبي ( إنما هو مبلغ للدين عن الله -جل وعلا-.
( قال: أخبرني ( يعني: اجعل كلامك لي خبرا، فأخبرني بذلك، والنبي ( أيضًا مخبر عن ربه -جل وعلا- في ذلك، كما جاء في بعض الأحاديث القدسية، قد قال -عليه الصلاة والسلام- فيما يخبر به عن ربه -جل وعلا-.(1/20)
( قال: الإسلام أن تشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله ( إلى آخره، هذا التفسير للإسلام تفسير للأركان الخمسة المعروفة التي سيأتي -إن شاء الله- بعض بيانها في حديث ابن عمر الثالث الذي نشرحه غدا -إن شاء الله- فـ ( قال: الإسلام أن تشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله ( وهذا ركن واحد ( وتقيم الصلاة وتؤتي الزكاة وتصوم رمضان وتحج البيت إن استطعت إليه سبيلا. فقال: صدقت ( .
الإسلام هنا فسره النبي ( بالأعمال الظاهرة، ولم يجعل فيه الأعمال الباطنة، أو بعض الأعمال الباطنة، ومعنى هذا أن الإسلام استسلام ظاهر، وهذا الاستسلام الظاهر يخبر عنه بالشهادتين، وبإقامة الأركان العملية الأربعة، والشهادة في نفسها لفظ فيه الاعتقاد، والتحدث، والإخبار الذي هو الإعلام.
وعلى هذا فسر السلف كلمة شهد، فقوله -جل وعلا-: ( (((((( (((( ((((((( (( ((((((( (((( (((( (((((((((((((((((( ((((((((((( (((((((((( ((((((((( (((((((((((( ( ( (16) شهد الله ما معناه هل الله يشهد بمعنى أي شيء؟ يشهد بمعنى يعلم ويخبر.
فإذًا شهادة المسلم بأن لا إله إلا الله لا تستقيم مع كتمانه هذه الشهادة، فمن شهد ذلك بقلبه ولم يظهر هذه الشهادة دون عذر شرعي فإنه لا شهادة له؛ بل لا بد في الشهادة من حيث اللفظ الذي دلت عليه اللغة، وأيضًا من حيث الدليل الشرعي لا بد فيها من الإظهار، وهو الموافق لمعنى الإسلام الذي هو الأعمال الظاهرة.
فإذًا دخول الشهادتين في الإسلام الذي هو الأعمال الظاهرة راجع لمعنى الشهادة، وهو أن معنى الشهادة الإظهار، يعني: بعد الاعتقاد الإظهار والإعلام والإخبار، وهنا يأتي الاعتقاد؛ اعتقاد الشهادتين يرجع إليه؛ لأنه في معنى شهد، يرجع إليه أركان الإيمان جميعًا.(1/21)
ولهذا نقول: الإسلام هو الأعمال الظاهرة، ولا يصح إلا بقدر مصحح له من الإيمان، وهو الإيمان الواجب بالأركان الستة؛ فالإيمان الواجب يعني: أقل قدر من الإيمان به يصبح المرء مسلمًا، هذا مشمول في قوله: ( أن تشهد أن لا إله إلا الله ( لأن الشهادة معناها الاعتقاد والنطق والإخبار والإعلام، فتشمل هذه الأمور الثلاثة، فالاعتقاد يرجع إليه أركان الإيمان الستة.
فنخلص من هذا إلى أن الإسلام، وإن قال أهل العلم فيه: إن المراد به هنا الأعمال الظاهرة، فإنه لا يصح الإسلام إلا بقدر من الإيمان مصحح له، وهذا القدر من الإيمان دلنا على اشتراطه لفظ أن تشهد؛ لأن لفظ الشهادة في اللغة والشرع متعلق بالباطن والظاهر.
والاعتقاد في الشهادتين بأن لا إله إلا الله، هذا هو الإيمان بالله، وبأن محمدًا رسول الله، يرجع إليه الإيمان بالنبي ( وبما أخبر به -عليه الصلاة والسلام- من الإيمان بالملائكة، والكتب، والرسل، والإيمان باليوم الآخر، والقدر خيره وشره.
الإيمان فسره النبي ( لجبريل بالاعتقادات الباطنة، وهذا الفرق بين المقامين لأجل وردوهما في حديث واحد، فالإسلام إذا اقترن مع الإيمان رجع الإسلام إلى الأعمال الظاهرة ومنها الشهادتان، ورجع الإيمان إلى الأعمال الباطنة، وإذا أفرد الإسلام فإنه يراد به الدين كله، وهو الذي منه قسم الإسلام هذا، وإذا أفرد الإيمان فإنه يراد به الدين كله بما فيه الأعمال.(1/22)
ولهذا أجمع السلف والأئمة على أن الإيمان قول وعمل واعتقاد، وعلى أن الإيمان قول وعمل يعني: قول وعمل واعتقاد، يعني: إذا أفرد، وهذا هو الذي عليه عامة أهل العلم من أهل السنة والجماعة في أن الإسلام غير الإيمان، وأن الإيمان إذا جاء مستقلًا عن الإسلام فإنه يعنى به الدين كله؛ يعنى به الإسلام والإيمان والإحسان، وإذا أتى الإسلام في سياق مستقل عن الإيمان يعنى به الدين كله، وأن الإسلام والإيمان إذا اجتمعا افترقا من حيث الدلالة، فجعل الإسلام للأعمال الظاهرة، وجعل الإيمان للاعتقادات الباطنة.
من أهل العلم من السلف أيضًا، من رأى أن الإسلام والإيمان واحد، وهذا -كما ذكرت لك- غير صحيح، ومنهم أيضًا رأى أن الإسلام والإيمان يختلفان، ولو تفرقا أيضًا، ولكن الصحيح أن الإسلام إذا اجتمع مع الإيمان صار الإسلام -كما ذكرت لكم- للأعمال الظاهرة والإيمان للاعتقادات الباطنة، كما دل عليه حديث جبريل هذا.
نقول: الإيمان عند أهل السنة والجماعة يزيد وينقص مع أنه متعلق بالاعتقادات، والإسلام عند أهل السنة والجماعة لا يطلقون العبارة أنه يزيد وينقص مع أنه متعلق بالعمل الظاهر، فكيف يكون هذا؟ وضح الإشكال؟
الإيمان يعلقونه بالاعتقادات الباطنة، ويقولون: يزيد وينقص، والإسلام في الأعمال الظاهرة ولا يقولون فيه: إنه يزيد وينقص.
والجواب عند هذا الإشكال أن الإيمان إذا أريد به عامة أمور الدين، كما جاء في حديث -مثلا- وفد عبد القيس حيث قال لهم -عليه الصلاة والسلام-: ( آمركم بالإيمان بالله وحده، أتدرون ما الإيمان بالله وحده؟ ( ثم ذكر أمور الإيمان، وقال: ( أن تؤدوا الخُمُس من المغنم ( وهذا نوع من الأعمال.(1/23)
فإذًا الأعمال باتفاق السلف داخلة -يعني: من أهل السنة داخلة- في مسمى الإيمان، وإذا كان كذلك، فإذا قالوا: الإيمان يزيد وينقص، فإنه يرجع في هذه الزيادة إلى الاعتقاد، ويرجع إلى الأعمال الظاهرة، وهذا يعني: أن الإسلام يزيد وينقص؛ لأن الإيمان الذي يزيد وينقص إيمان القلب وإيمان الجوارح.
وإيمان القلب اعتقاده بقوة إيمانك بالله وملائكته وكتبه ورسله، هذا الناس ليسوا فيه سواء بل يختلفون: منهم من إيمانه كأمثال الجبال، ومنهم من هو أقل من ذلك، وهو يزيد بالطاعة وينقص بالمعصية، والأعمال الظاهرة التي هي من الإيمان تزيد أيضًا وتنقص، فكلما زادت زاد إيمان العبد، وكلما نقصت نقص إيمان العبد، وينقص الإيمان بالمعصية أيضًا، ويزيد بترك المعصية.
بعض أهل العلم أيضا يقول: الإسلام أيضًا يزيد وينقص، على اعتبار أن الإسلام هو الإيمان في دلالته على الاعتقاد والعمل، أو في دلالته على الأعمال الظاهرة، فإن الأعمال الظاهرة أيضًا، يزيد معها الإسلام ويزيد معها الإيمان، كيف يزيد معها الإسلام؟ لأن الإسلام استسلام.
ما الإسلام؟ الإسلام هو الاستسلام لله بالتوحيد، والانقياد له بالطاعة، والبراءة من الشرك وأهله، فالإسلام فيه استسلام لله بالتوحيد، وهذا داخل في الشهادتين، أو تدخل فيه الشهادتان، فهذا إذًا يزيد الناس فيه وينقص استسلامهم لله بالتوحيد مختلف يتفاوتون فيه، والانقياد بالطاعة أيضًا يتفاوتون فيه.
إذًا من أطلق هذا القول فلا يغلط، وقد أطلقه مرة شيخ الإسلام ابن تيمية؛ ولكن القول المعتمد عند السلف أنهم يعبرون في الزيادة والنقصان عن الإيمان دون الإسلام؛ لأن في ذلك مخالفة للمرجئة الذين يجعلون الإيمان الناس في أصله سواء، يعني: في اعتقاده القلب، وإنما يتفاوت الناس عندهم في الأعمال الظاهرة.(1/24)
فتقيد السلف بلفظ الإيمان يزيد وينقص، خلافًا للمرجئة الذين جعلوا الزيادة والنقصان في الأعمال الظاهرة دون اعتقاد القلب، وعندهم اعتقاد القلب الناس فيه سواء، كما يعبرون عنه بقولهم وأهله في أصله سواء.
فيعبرون عن الإيمان بأنه هو الذي يزيد وينقص دون الإسلام، لهذا فتأخذ بتعبيرهم، ولا تطلق العبارة الأخرى؛ لأنها غير مستعملة عندهم مع أنها إن أطلقت فهي صحيحة إن احتيج إليها.
( قال: صدقت ( يعني: في جوابه عن مسألة الإسلام، وهذا فيه عجب أن يسأل ويصدق، وهذا فيه لفت الانتباه؛ انتباه الصحابة إلى هذه المسائل، كيف يسأل ويصدق؟ فالمتعلم إذا أتى بأسلوب في السؤال يلفت النظر ليستفيد البقية مع علم المسئول فإن هذا حسن ليستفيد منه الآخرون؛ لأن النبي ( يعرف أن هذا جبريل، وتصديقه له دال على هذا بوضوح.
ففي هذا أن المتعلم يأتي للعالم بمعرفته بما يسأل لإفادة غيره، وأن هذا أسلوب حسن من أساليب التعليم الشرعية، قال: ( فعجبنا له يسأله ويصدقه! قال: فأخبرني عن الإيمان، قال: أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر وأن تؤمن بالقدر خيره وشره ( ذكر أركان الإيمان الستة.
وهذه الأركان جاءت في القرآن أيضًا، منها خمسة متتابعة جاءت في قول الله -جل وعلا- ( ((((((( (((((((((( (((((( ((((((( (((((((( ((( (((((((( ((((((((((((((((( ( (((( ((((((( (((((( ((((((((((((((((( ((((((((((( ((((((((((( ( (17) هذه أربعة.(1/25)
وقوله: ( ((((((((( (((((((( (((( ((((((( (((((( (((((((((((( (((((((( (((((((((((((((((( ((((((((((((( ((((((((((((((( ( (18) وكما في قوله: ( ((((((((((( ((((((((( ((((((((((( (((((((((( (((((( (((((((((((( ((((((((((((( ((((((( (((((( (((((( (((((((((( ((((((((((((( (((((((( ((((((( ((( (((((( ( ((((( (((((((( (((((( ((((((((((((((((( ((((((((((( ((((((((((( (((((((((((( (((((((( (((((( (((( ((((((( (((((((( ( (19) وفي القدر جاء قوله -جل وعلا-: ( ((((( (((( (((((( ((((((((((( (((((((( ( (20) يعني: أن أصول هذه الأركان هذه جاءت أيضًا في القرآن.
وهذه الأركان الستة هي التي عبر عنها بأركان الإيمان، والخمسة التي قبلها بأركان الإسلام، أركان الإيمان ما معنى كونها أركانا؟.
نلحظ مسألة مهمة ينبغي لكم أن تنتبهوا لها أن لفظ أركان الإسلام، ولفظ أركان الإيمان لم يرد في شيء من النصوص، لم يرد أن للإيمان أركانا، ولا أن للإسلام أركانا، وإنما عبر العلماء بلفظ الركن اجتهادًا من عندهم، وإذا كان كذلك فينبغي أن تفهم النصوص على ضوء هذا الأصل، وهو أن التعبير عن هذه بالأركان إنما هو فهم لأهل العلم في أن هذه هي الأركان، وفهمهم صحيح بلا شك؛ لأن الركن هو ما تقوم عليه ماهية الشيء.
فالشيء لا يتصور قيامه إلا بوجود أركانه، فمعنى ذلك أنه إذا تخلف ركن من الأركان ما قام البناء، فإذا اختلف الإيمان بالقدر ما قام بناء الإيمان أصلًا، إذا تخلف ركن الإيمان باليوم الآخر ما قام البناء؛ لأن الركن في التعريف الاصطلاحي هو ما تقوم عليه ماهية الشيء، فإذا تخلف ركن لم يقم الشيء أصلًا، يعني: لم يقم الشيء وجودا شرعيًّا؛ لأن قيامه مبني على تكامل أركانه.(1/26)
وهذا يورد علينا إشكالا وهو أنه في الإسلام قيل: هذه هي أركان الإسلام الخمسة، والعلماء لم يتفقوا على أن من ترك الحج والصيام جميعًا من أركان الإسلام أنه ليس بمسلم، واتفقوا على أنه من ترك ركنًا من أركان الإيمان فإنه ليس بمؤمن أصلًا، وهذا يرجع إلى أن اصطلاح الركن اصطلاح حاجز.
فينبغي أن تفهم -خاصة في مسائل الإيمان والإسلام والتكفير وما يتعلق به، وما يتعلق بها- أن العلماء أتوا بألفاظ للإفهام، فهذه الألفاظ التي للإفهام لا تحكم على النصوص، وإنما النصوص التي تحكم على ما أتى العلماء به من اصطلاحات، يعني: أن نفهم الاصطلاحات على ضوء النصوص، وأن نفهم النصوص على ضوء الاصطلاحات.
فإذا صار الاصطلاح صحيحًا من جهة الدليل الشرعي رجعنا في فهم الدليل الشرعي للاصطلاح ففهمنا ذلك، وهذا يتضح ببيان أركان الإسلام، فإنه لو تخلف ركنان من أركان الإسلام، تخلف الحج -مثلا- والصيام، فإن أهل السنة والجماعة ما اتفقوا على أن من لم يأت بالحج والصيام فإنه ليس بمسلم؛ بل قالوا: هو مسلم؛ لأنه شهد أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله؛ ولأنه أقام الصلاة -مثلا- واختلفوا فيما عدا ذلك من الأركان فيما إذا تركها، يعني: ولم يأت بها دون جهد لها مع أنه تخلف عنه ركن أو أكثر.
وهذا يعني: أنه في فهم أركان الإسلام، نجعل هذه الأركان تختلف في تعريف الركن عن فهم أركان الإيمان، فنقول في أركان الإسلام: يكتفى في الإسلام بوجود الشهادتين والصلاة، وفي غيرهما خلاف، وأما في أركان الإيمان فمن تخلف منه ركن من هذه الأركان فإنه ليس بمؤمن هذا من حيث التأصيل.(1/27)
فإذًا نقول: يمكن أن يسمى مسلمًا ولو تخلف عنه بعض أركان الإسلام، ولا يصح أن يسمى مؤمنًا إن تخلف عنه ركن من أركان الإيمان، إذا تقرر هذا فأركان الإيمان الستة هذه فيها قدر واجب لا يصح إسلام بدونه، قدر واجب على كل مكلف، من لم يأت به فليس بمؤمن، وهناك قدر زائد على هذا تبعا للعلم، أو تبعا لما يصله من الدليل.
فما هو القدر المجزئ وهو الذي من لم يأت به صار كافرًا؟ فهذا هناك قدر مجزئ في الإيمان بالله، قدر مجزئ في الإيمان بالرسل، قدر مجزئ في الإيمان بالكتب، وقدر مجزئ في الإيمان باليوم الآخر والقدر... إلى آخره.
أما الإيمان بالله فهو ثلاثة أقسام: إيمان بالله بأنه واحد في ربوبيته، وإيمان بالله بأنه واحد في ألوهيته، يعني: في استحقاقه العبادة، وإيمان بالله يعني: بأنه واحد في أسمائه وصفاته لا مثيل له -سبحانه وتعالى- ( (((((( ((((((((((( (((((( ( (((((( (((((((((( ((((((((((( ( (21) .
القدر المجزئ من الأول أن يعتقد أن الله -جل جلاله- هو رب هذا الوجود، يعني: أنه هو إلى الخالق له، المدبر له، المتصرف فيه، خالق له، مدبر له، ومتصرف فيه كيف يشاء، هذه الربوبية، بالإلهية بأنه لا أحد يستحق العبادة، أو شيئا من أنواع العبادة، لا أحد يستحق شيئا من أنواع العبادة من الخلق؛ بل الذي يستحق هو الله -جل جلاله- وحده.
والثالث: أن يؤمن بأن الله -جل وعلا- له الأسماء الحسنى والصفات العلا دون تمثيل لها بصفات المخلوقين، ودون تعطيل له عن أسمائه وصفاته بالكلية، أو جحد لشيء من أسمائه وصفاته بعد وضوح الحجة فيها له، هذا القدر المجزئ من الإيمان بالله.
الإيمان بالملائكة القدر المجزئ أن يؤمن بأن الله -جل وعلا- له خلق من خلقه اسمهم الملائكة، عباد يأتمرون بأمر الله -جل وعلا- مربوبون لا يستحقون شيئًا، وأن منهم من يأت بالوحي للأنبياء، هذا القدر هو الواجب.(1/28)
فإذا قال: لا أنا أنكر وجود ملائكة -ما شفت أحد- فهذا انتفى عنه أصل، انتفى عنه هذا الركن وهو الإيمان بالملائكة؛ لكن لو قال: أنا ما أعلم ميكال هذا، فإنه لا يقدح في إيمانه بالملائكة؛ لأنه يقول: أنا مؤمن بوجود هذا الخلق من خلق الله -جل وعلا- ملائكة؛ لكن ميكال ما أعرف هذا ميكال، فيبلغ بالحجة فيه في آية البقرة ( ((( ((((( ((((((( (( ( (22) الآية التي فيها ذكر ميكال، ويبلغ بما جاء فيه، فإن علم أنها آية ثم لم يؤمن كان جاحدًا لهذا الركن من الأركان.
( ((( ((((( ((((((( (( ( (23) ... الآية التي فيها ذكر "مِيكَالَ" ويُبَلِّغُ بما جاء فيه، فإن علم أنها آية ثم لم يؤمن، كان جاحداً لهذا الركن من الأركان.
فإذًا فيه قدر مجزئ: وهو الذي يجب على كل أحد، وقدر يتفاضل فيه الناس واجب -أيضاً- مع العلم.
فكلما علم شيئاً من ذلك وجب عليه الإيمان به ... إلخ، وهذا واسع وكلما علم شيئاً واجب من ذلك زاد أجره وثوابه وإيمانه ويقينه .
الإيمان بالكتب: القدر المجزئ منها أن يعلم ... أن يعتقد الاعتقاد الجازم الذي لا شك فيه بأن الله -جل وعلا- أنزل على من شاء من رسله كتباً هي كلامه -جل وعلا- وأن منها القرآن الذي هو كلامه -جل وعلا- وهذا هو القدر المجزئ من ذلك.
وما بعد ذلك أن يؤمن بالتوراة، قد يقول: أنا لا أعرف التوراة، فإذا عُرِّف وجب عليه، وهكذا في تفاصيل ذلك.
فمن علِم شيئا بدليله، بنصه وجب عليه أن يؤمن به، لكن أول ما يدخل في الدين يجب عليه أن يؤمن بهذا القدر المجزئ، وهو الذي يصح معه إيمان المسلم.(1/29)
وكتبه ورسله الإيمان : وهو الاعتقاد الجازم الذي لا ريب فيه، ولا تردد بأن الله -جل وعلا- أرسل رسلاً لخلقه، وأن هؤلاء الرسل موحى إليهم من الله -جل وعلا-، وأن خاتمهم محمد -عليه الصلاة والسلام- فيؤمن به -عليه الصلاة والسلام- ويتبعه، فهذا هو القدر المجزئ، وما بعد ذلك -أيضا- يكون واجبا بقدر ما يصله من العلم، وفيها أشياء -أيضاً- مستحبة في تفاصيله .
طبعاً هذا الحديث قد نُدخل فيه العقيدة كلها، ويطول الكلام، لكن ننبهك على أصول في فهم هذه الأحاديث .
واليوم الآخر : القدر المجزئ منه، الذي يتحقق به قيام الركن -أن يؤمن بأن الله -جل وعلا- جعل يوماً يحاسب فيه الناس، يعودون إليه ويبعثهم من قبورهم ويلقون ربهم ويجازي المحسن بإحسانه والمسيء بإساءته، وأن المحسن يدخل الجنة وأن المسيء- يعني: الكفار- يدخل النار، وأن المسلم يدخل الجنة، هذا القدر واجب، ركن، وما بعد ذلك يكون بحسب العلم .
والقَدَر: يؤمن بالقدر: خيره وشره من الله -تعالى- بأن يؤمن ... هذا هو القدْر المجزئ، بأنه ما من شيء يكون إلا وقد قدَّره الله -جل وعلا.
بمعنى: أنه -سبحانه- علِم هذا الشيء قبل وقوعه، وعِلْمُه بذلك أوَّل، وأنه كتب ذلك عنده -سبحانه وتعالى-.
ويغني عن اعتقاده الكتابة قبل العلم بدليلها أن يؤمن بالقدَر السابق، يعني: أن القدَر سابق، فيشمل ذلك ... يشمل اعتقاده أن القدر سابق العلم: علم الله -جل وعلا-، والكتابة؛ لأن الأقسام الآتية مقارَنة أو لاحقة، وليست سابقة .
ويؤمن -أيضاً- بأن ما شاء الله -جل وعلا- كان وما لم يشأ لم يكن، وأنه ما من شيء إلا والله -جل وعلا- هو الذي يخلقه -سبحانه- فيخلق -جل وعلا- جميع الأشياء كما قال: ( (((( ((((((( ((((( (((((( ( (24) .
فإذًا الإيمان بالقدر ... إيمانٌ بالقدَر السابق وبمشيئة الله وقدرته وخلقه؛ لإنفاذ القدَر السابق.
هذا قدر واجب لا يصح الإيمان بدونه، وهو الركن فيه أن يؤمن بسبق القدر.(1/30)
وفيما يتعلق بالمقدور الواقع، يعني: بالقضاء الواقع، يعتقد أنه بمشيئة الله وخلقه لهذا الفعل يعلم مراتب القدر الأربعة، وتفاصيل ذلك، هذا بحسب ما يصل إليه من العلم فمنه واجب، ومنه مستحب.
إذا تقرر هذا فالإيمان الشرعي المراد به في هذا الموطن: الذي يكون قريناً للإسلام -كما فسرت لك-، يراد به: الاعتقاد الباطن.
فإذا قرن بين الإسلام والإيمان انصرف الإسلام إلى عمل اللسان وعمل الجوارح، والإيمان إلى الاعتقادات الباطنة؛ فلهذا نقول إذًا: لا يُتصور أن يوجد إسلام بلا إيمان، ولا أن يوجد إيمان بلا إسلام.
فكل مسلم لا بد أن يكون معه من الإيمان قدرٌ هو الذي ذكرنا صحَّح به إسلامه، ولو لم يكن عنده ذلك القدر ما سُمي مسلماً أصلاً، فلا يُتصور مسلم بلا إيمان، فكل مسلم عنده قدر من الإيمان، وهذا القدر هو القدر المجزئ الذي ذكرت لك.
وكل مؤمن عنده قدر من الإسلام مصحِّح لإيمانه، فإنه لا يُقبل من أحد إيمان بلا إسلام، كما أنه لا يقبل من أحد إسلام بلا إيمان.
فإذا قلنا: هذا مسلم، فمعناه: أنه وجد إسلامه الظاهر مع أصل الإيمان الباطن، وهو القدر المجزئ.
إذا تقرر هذا فنقول: الإيمان يتفاوت أهله فيه، ولتفاوت أهله فيه صار الإيمان أعلى مرتبة من الإسلام، وصار المؤمن أعلى مرتبة من المسلم؛ لأن الإيمان في المرتبة التي هي أعلى من مرتبة الإسلام قد حقق فيها الإسلام، وما معه من القدر المجزئ من الإيمان، وزاد على ذلك فيكون إذًا إيمانه أرفع رتبة من إسلامه؛ لأنه اشتمل على الإسلام وزيادة.
ولهذا قال العلماء: كل مؤمن مسلم، وليس كل مسلم مؤمنا؛ ولهذا جاء في الحديث الصحيح أن النبي ( قال له أحد الصحابة: ( أعطِ فلانا فإنه -يا رسول الله- مؤمن، فقال -عليه الصلاة والسلام-: أو مسلم، فأعادها عليه الصحابي، فقال -علية الصلاة والسلام-: أو مسلم ( .(1/31)
فهذا قوله: "أو مسلم" فيها دليل على تفريق ما بين المسلم والمؤمن، فإن مرتبة المؤمن أعلى من مرتبة المسلم، كما دلت عليها آية الحجرات: ( ( ((((((( ((((((((((( (((((((( ( ((( (((( ((((((((((( (((((((( ((((((((( ((((((((((( ((((((( (((((((( (((((((((( ((( ((((((((((( ( ( (25) فدل على أنهم لم يبلغوا مرتبة الإيمان الذي هي أعلى من مرتبة الإسلام .
فإذًا نخلص من هذا إلى أن الإيمان الذي هو تحقيق هذه الأركان الستة بالقدر المجزئ منه، ليس هو المراد بذكر هذه المراتب؛ لأنه داخل في قوله: أن تشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله.
فتحقيق مرتبة الإيمان يكون بالقدر المجزئ، وما هو أعلى من ذلك؛ لأن الإيمان أعلى رتبة من الإسلام، والمؤمن أعلى رتبة من المسلم .
السَّلفُ تنوعت عباراتهم في الإيمان وأنواعه، فقالت طائفة منهم: الإيمان قول وعمل، وقالت طائفة: الإيمان قول وعمل واعتقاد، وقال آخرون: الإيمان قول وعمل ونِيّة .
وهذا مَصِير منهم إلى شيء واحد وهو أن الإيمان إذا أُطلق، أو جاء على صفة المدح لأهله في النصوص أو في الاستعمال فإنه يراد به الإيمان الذي يشمل الإسلام .
الْحَظْ هذا! إذا أُطلق ... قلنا: الإيمان ولم نذكر الإسلام، أو جاء في مورد فيه المدح له، ولو كان مع الإسلام؛ فإنه يشمل الإسلام -أيضاً- لدخول العمل فيه، فنقول: هنا تنوعت عباراتهم، فقال بعضهم: الإيمان قول وعمل، من قال هذا فإنه يعني بالقول: قول القلب وقول اللسان، والعمل عمل القلب وعمل الجوارح.
وقول القلب: هو اعتقاده، وعمل القلب وعمل الجوارح: هذا هو العمل، وقول اللسان: هو القول رجع إلى أنه قول وعمل واعتقاد؛ لأن الاعتقاد داخل في قول من قال: قول وعمل، فالاعتقاد داخل في القول؛ لأن المراد به قول القلب، وقول اللسان، وقول القلب: هو اعتقاده .(1/32)
من قال -وهم كثير- من السلف: قول وعمل ونية، يريد بالنية: ما يصح به الإيمان، فزاد هذا القيد تنبيها على أهميته، لقول الله -جل وعلا-: ( (((( (((((( (((((((( (((( (((((( (((( ((((((( (((((( (((((((( ( (26) مَنْ عمِل وهو مؤمن صار القول والعمل مع النية، يعني: النية في القول والعمل، وهذا راجع أيضاً إلى الاعتقاد؛ لأن النية هي توجه القلب وإرادة القلب وقصد القلب.
فإذًا إذا اختلفت العبارات فالمعنى واحد، والإيمان عندهم -كما ذكرت لك- يزيد وينقص؛ يزيد بالطاعة وينقص بشيئين؛ بنقص الطاعات الواجبة أو ارتكاب المحرمات .
قوله هنا: "بالقدَرِ خيره وشرِّه"، الشر هنا من باب إضافة القدر إلى العامل، أما فعل الله -جل وعلا- فليس فيه شر كما جاء في الحديث: ( والشر ليس إليك ( .
( قال: صدقت. قال: فأخبرني عن الإحسان. قال: أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك ( .
قال العلماء: الإحسان هنا ركن واحد، والإحسان جاء في القرآن مقرونًا بأشياء أيضًا، مقرونًا بالتقوى: ( (((( (((( (((( ((((((((( ((((((((( ((((((((((( ((( ((((((((((( ( (27) ومقرونا -أيضاً- بالعمل الصالح، ومقرونا بأشياء .
وأيضاً أتى الإحسان مستقلاً كقوله -جل وعلا-: ( ( (((((((((( ((((((((((( (((((((((((( ((((((((((( ( ( (28) ويراد بالإحسان: إحسان العمل.
وقوله هنا في بيان ركنه: ( أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك ( هذا ركن به يحصل الإحسان؛ لأن الإحسان مِن أحسن العمل إذا جعله حسنًا.
وإحسان العمل يتفاوت فيه الناس، ومنه قدر مجزئ يصح معه أن يكون العمل حسنًا، وأن يكون فاعله حسنًا، فكل مسلم عنده قدر -أيضاً- من الإحسان لا يصح عمله بدونه، ثم هناك القدر الواجب أو المستحب الآخر ليتفاوت الناس فيه بحسب الحال الذي يتحقق به هذه المرتبة.(1/33)
فأما القدر المجزئ فأن يكون العمل حسنًا، بمعنى: أن يكون خالصاً ثوابه، يعني: أن تكون النية فيه صحيحة، وأن يكون على وفق السنة، وأما القدر المستحب فأن يكون قائماً في عمله على مقام المراقبة، أو مقام المشاهدة.
فمقام المراقبة هذا أقل، ومقام المشاهدة هذا أعظم المراتب التي يصير إليها العبد المؤمن، وهو أن يكون عنده الأشياء حق اليقين .
فأما المرتبة الأولى مرتبة المراقبة: فهي في قول النبي ( ( أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك ( ذكر مقام المراقبة في قوله: ( فإن لم تكن تراه فإنه يراك ( وهي مقام أكثر الناس، فإنهم إذا وصلوا لهذه المرتبة فإنهم يعبدونه -جل وعلا- على مقام المراقبة.
فإذا راقب الله دخل في الصلاة بمراقبته لله، يعلم أن الله -جل وعلا- مطَّلع عليه، وأنه بين يدي الله -جل وعلا- كما قال -سبحانه- في سورة يونس: ( ((((( ((((((( ((( (((((( ((((( ((((((((( (((((( ((( ((((((((( (((( ((((((((((( (((( (((((( (((( ((((( (((((((((( (((((((( (((( (((((((((( ((((( ( ( (29) .
فهذا مقام الإحسان بمراقبة الله -جل وعلا- للعبد، صلِّ صلاة مُوَدِّع لتعلم أن الله -جل وعلا- مراقبك، وأنه -جل وعلا- مطلع عليك، وما تفيض في شيء إلا وهو يعلمه -سبحانه- يعلم ذلك ويراه ويبصره منك -سبحانه وتعالى-.
فهذا مقام المراقبة، وكلما عظمت هذه رجعت إلى إحسان العمل. فإذا -مثلاً- المرء تحرك في صلاته فاستحضر مقام مراقبة الله -جل وعلا- له واطلاعه عليه فإنه مباشرة سيخشع لاستحضاره هذا المقام.(1/34)
مقام المراقبة أعلى منه لأهل العلم مقام المشاهدة، وهو الذي أخبر به النبي ( بقوله: ( أن تعبد الله كأنك تراه ( وهذه المشاهدة المقصود بها مشاهدة الصفات لا مشاهدة الذات؛ لأن الصوفية والضُّلال هم الذين جعلوا ذلك مدخلا لمشاهدة الذات كما يزعمون، وهذا من أعظم الباطل والبهتان، وإنما يمكن مشاهدة الصفات، ويُعْنَى بها مشاهدة آثار صفات الله -جل وعلا- في خلقه.
فإن العبد المؤمن كلما عظم عِلمه وعظم يقينه بصفات الله -جل وعلا- وبأسمائه أرجعَ كل شيء يحصل في ملكوت الله إلى اسم من أسماء الله -جل وعلا- أو إلى صفة من صفاته.
فإذا رأى حسنًا أمامه أرجعه إلى صفة من صفات الله وإلى أثر من آثار أسمائه الحسنى في ملكوته، وإذا رأى سيئًا أرجعه إلى صفة من صفات الله، وإذا رأى خلقا فيه كذا أرجعه إلى صفة من صفات الله، وإذا رأى طاعة أرجعها إلى صفة، وإذا رأى معصية، وإذا رأى مصيبة، وإذا رأى حربًا، وإذا رأى قتالا، وإذا رأى علمًا، أي حالة من الحالات يراها في السماء أو في الأرض فإن مقام مشاهدته لصفات الله تقتضي أنه يرجع كل شيء يراه إلى آثار أسماء الله -جل وعلا- وصفاته في خلقه.
وبهذا يحصل هذا المقام لمن عظم علمه بأسماء الله ( وبصفاته وبأثرها في ملكوته، فيأتي لعظم علمه بذلك حتى يشهد صفة إحاطة الله -جل وعلا- بالعبد، وأن الله -جل وعلا- رقيب عليه وأنه محيط به، وأنه شاهد عليه فيعظم ذلك في نفسه حتى يستحيي أن يكشف عورته في خلوة لا يراه إلا هو كما جاء في الحديث، قال في كشف العورة: ( إن الله أحق أن يستحيى منه ( ؛ هذا لأجل مقام المشاهدة العظيم.
فإذًا أهل السنة الذين يتكلمون في الزهد وفى إصلاح أعمال القلوب على منهج أهل السنة يجعلون هذا على مقامين: مقام المشاهدة والمراقبة.(1/35)
والمشاهدة -كما ذكرت لك- في وصفها، وكل هذا راجع إلى الإحسان، إحسان العمل: ( (((((((((((((( (((((((( (((((((( (((((( ( ( (30) وكلما عظم مقام المشاهدة أو المراقبة زاد إحسان العمل .
قال: ( فأخبرني عن الساعة. قال: ما المسئول عنها بأعلم من السائل ( ؛ لأن علم الساعة عند الله -جل وعلا-: ( ((((((((((((( (((( (((((((((( ((((((( (((((((((( ( (((( ((((((( ((((((((( ((((( (((((( ( (( ((((((((((( (((((((((((( (((( (((( ( (((((((( ((( ((((((((((((( (((((((((( ( (( ((((((((((( (((( (((((((( ( ( (31) كما في آية الأعراف.
قال: ( فأخبرني عن أماراتها ( الساعة لها أمارات، وهي الدلائل والعلامات، والأمارات يعني: الأشراط كما جاء في آية سورة محمد قال -جل وعلا-: ( (((((( (((((( (((((((((((( ( ( (32) يعني: أشراط الساعة، وهي علاماتها، جمع شرط وهو العلامة البيِّنة الواضحة التي تدل على الشيء
قال: ( فأخبرني عن أماراتها ( .
أمارات الساعة قسمها العلماء إلى قسمين: أشراط وأمارات صغرى، وأشراط وأمارات كبرى، وهذا المذكور هنا هي الأمارات الصغرى، ذكر منها: ( أن تلد الأمَةُ ربَّتها ( .
والمقصود بالأشراط الصغرى أو الأمارات الصغرى: هي التي تحصل قبل خروج المسيح الدجال، فما كان قبل خروج المسيح الدجال مما أخبر النبي ( أنه من علامات الساعة، فإن هذا من الأشراط الصغرى.(1/36)
ثم ما بعد ذلك من الأشراط الكبرى، وهي عشر تحصل تباعا في ذلك فمثلا قوله: ( لا تقوم الساعة حتى تقاتلون قوما كذا ( هذا من الأشراط الصغرى، ( لا تقوم الساعة حتى تخرج نار من المدينة تضيء لها أعناق الإبل بالبصرة ( هذا من الأمارات الصغرى، ( لا تقوم الساعة حتى يفتح بيت المقدس ( أو اعْدُدْ سِتًّا كما في حديث عون بن مالك المعروف: ( اعْدُدْ سِتًّا بين يدي الساعة: موتي، وفتحُ بيت المقدس، ثم مُوتَانٌ يخرج فيكم كقُعَاصِ الغنم، ثم استفاضة المال ( ... إلخ، هذه جميعاً أشراط صغرى.
وهذه الأشراط الصغرى ذِكْرُها لا يدل على مدح أو على ذم، فقد يذكر الشيء على أنه علامة من علامات الساعة وليس هذا دليلاً على أنه محمود أو مذموم، أو على أنه منهي عنه في الشريعة.
فقد يكون الشيء من الأشراط وهو من الأمور المحمودة في الشريعة، كما قال -عليه الصلاة والسلام- في الحديث الذي ذكرتُ لك حديث عوف بن مالك قال: ( اعدد ستا بين يدي الساعة: موتي، ثم فتح بيت المقدس ( وهو من الأمور المحمودة، وقد يكون من الأمور المذمومة.
فإذًا وصف الشيء بأنه من أشراط الساعة الصغرى أو الكبرى لا يدل بنفسه، يعني: بكونه شرطاً لا يدل على مدحه أو ذمه بل هذا له اعتبار آخر.
قال هنا: ( فأخبرني عن أماراتها ( يعني: الأمارات الصغرى، قال: ( أن تلد الأمة ربتها ( ربتها يعني: سيدتها، فالأمة إذا ولَدت فإن مولودها الذكر أو الأنثى هو سيد كمالك الأمَة.
فإذًا الأمة هذه التي وَلدت هذا الولد أصبحت مَسُودَة له فهو سيِّد على أمِّه، والبنت سيدة على الأَمَة باعتبار أن الأب سيد؛ لهذا تعتق أم الولد بعد موت السيد؛ ولا تعتق بمجرد ولادتها منه بل بعد موته لأجل الولادة؛ فلذلك قال هنا: ( أن تلد الأمة ربتها ( .(1/37)
الربة هنا بمعنى: السيدة تلد سيدتها؛ لأن البنت المولودة حرة وسيدة، وقال أهل العلم في هذا: هذا كناية أو إخبار عن كثرة الرقيق حيث يكثر هذا، وإلا فإنه موجود في العصور الأولى، في عهد الإسلام الأول، موجود فيما قبله وُلود الأمة لسيدها أو لسيدتها، وهذا غير المقصود به هذا الخبر بأنه من أمارات الساعة.
لكن المقصود به: أن يكثر ذلك بحيث يكون ظاهراً فيكون علامة، وقد حصل هذا، فقد حصل لما كثرت الفتوح صار الرجل يأخذ إماء كثيرة ويصير له عشر أو عشرون من الإماء، فيطأ هذه ويطأ هذه، فكل واحدة تنجب فيصبح الأولاد أسيادا على الأمهات لكثرة الرقيق .
قال: ( وأن ترى الحُفَاة العُراة العالة رِعَاءَ الشاة يتطاولون في البنيان ( يعني: أن ترى الفقراء الذين ليسوا بأهل للغنى، وليسوا بأهل للتطاول لِما جعلهم الله -جل وعلا- عليه مِن رعي للشاة أو تتبع للجِمال أو نحو ذلك، جعلهم الله -جل وعلا- على هذا، فمن العلامات أنهم يتركون هذا الذي هو لهم، ويتجهون للتطاول في البنيان.
والتطاول في البنيان جاء في ذمِّه أحاديث كثيرة معروفة، فقد كان الصحابة -رضوان الله عليهم- لا يتطاولون في البنيان، بل كانت منازلهم قصيرة -رضوان الله عليهم- ففي هذا ذمٌّ للذين يتطاولون في البنيان، وهم ليسوا أصلاً بأهل لذلك.
وهذا فيه تغير الناس وكثرة المال، وأن يكون المال في أيدي مَن ليس له بأهل .
قال: ( ثم انطلق، فلبثت مليًّا ( انطلق يعني: جبريل، "فلبثتُ": ذلك عمر ( مليًّا: جاءت في بعض الروايات أنها ثلاثة أيام، ثم قال النبي ( ( يا عمرُ أتدري من السائل؟ قلت: الله ورسوله أعلم. قال: فإنه جبريل أتاكم يعلمكم دينكم ( .
أخبره -عليه الصلاة والسلام- بذلك مع علمه -عليه الصلاة والسلام- به، أخبره حتى يعظم وقع هذه الأسئلة، وجواب هذه الأسئلة .(1/38)
هذا الحديث -أيضًا- يطول الكلام عليه، وطال بنا الوقت أيضًا، فعذرًا لأجل طول هذا الحديث والكلام على تفاريعه ... تفاريع الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله يطول أيضا، وتفاريع الكلام عن الإحسان، وإخلاص العمل، وكيف يكون ذلك يطول الكلام عليه.
وإنما نقصد من هذا الشرح إلى ذكر أصول عامة في فهم هذه الأحاديث ينبني عليها، أي: على تلك الأصول فهم العلم في فروعه، فهم الحديث والسنة والفقه والعقيدة فيما نرجو، ونسأل الله -جل وعلا- أن ييسره لي ولكم، وأستغفر الله العظيم، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد .
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. أما بعد:
فأسأل الله -جل وعلا- لي ولكم العلم النافع والعمل الصالح والقلب الخاشع والدعاء المسموع، ربنا لا تكلنا لأنفسنا طرفة عين، وخذ بأيدينا إلى ما تحب وترضى.
ثم إننا -إن شاء الله تعالى- سننتهي من هذا الدرس تقريباً في كل ليلة حوالي الساعة العاشرة قد تزيد دقائق أو نحو ذلك، ونروم -إن شاء الله- أن ننهي هذا الجمع من الأحاديث، يعني: هذا المتن المبارك أن ننهيه -إن شاء الله تعالى- في هذه الدورة.
ولا شك أن إنهاءه في هذه المدة الوجيزة يتطلب أن يكون العرض مختصراً، وأن يكون البحث في الأحاديث وذكر ما فيها من الفوائد والشرع والأحكام على وجه الاقتضاب والتنبيه، لا على وجه الاستيعاب .
ومعلوم أن هذا الكتاب وهو "الأربعون النووية" شُرِح شروحاً كثيرة، فننبه في شرح هذه الأحاديث إلى أصول المعاني، وما يمكن أن يكون: كالضوابط والقواعد في فهم تلك الأحاديث وما دلت عليه .
ونسأل الله الإعانة والسلامة في القول والعمل .
الحديث الثالث
بني الإسلام على خمس
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف المرسلين نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين .(1/39)
قال المصنف -رحمه الله تعالى-: وعن أبي عبد الرحمن عبد الله بن عمر بن الخطاب -رضي الله عنهما-، قال: سمعت رسول الله ( يقول: ( بني الإسلام على خمس: شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وحج البيت، وصوم رمضان ( رواه البخاري ومسلم.
هذا الحديث فيه ذكر دعائم الإسلام ومبانيه العظام، وهي الخمس المعروفة: شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، وهذه واحدة باعتبار أن كلا من شقيها شهادة، والثاني: إقام الصلاة، والثالث: إيتاء الزكاة، والرابع: الحج، والخامس: صوم رمضان .
وهذا الحديث من الأحاديث التي استدل بها على أن أركان الإسلام خمسة، وهذا الاستدلال صحيح؛ لأن قول النبي ( ( بني الإسلام على خمس ( يدل على أن البناء يقوم على هذه الخمس، وغير هذه الخمس مكملات للبناء، ومعلوم أن البناء يحسن السكنى فيه، ويكون جيدا، وفيه العبد سعيداً إذا كان تاماً .
وكلما كان أتم كان العبد فيه أسعد، والإسلام إذا أتى العبد بمبانيه الخمس هذه فقد حقق الإسلام، وكان له عهد عند الله -جل وعلا- أن يدخله الجنة .
قال في أوله -عليه الصلاة والسلام-: ( بني الإسلام على خمس ( ولفظ "بُني" يقتضي أن هناك من بناه على هذه الخمس، فلم يذكر الباني على هذه الخمس، والمقصود بالباني: الشرع أو المُشَرِّع .
فالذي بنى الإسلام على هذه الخمس هو الله -جل جلاله- وهو الشارع -جل وعلا- والنبي ( مبلغ عن ربه -جل وعلا- وليس هو شارعاً على جهة الاستقلال، وإنما هو -عليه الصلاة والسلام- مبلغ أو مشرِّع على جهة التبليغ .(1/40)
على الصحيح من أقوال أهل العلم في هذه المسألة فإن النبي ( ذكر لنا هنا أن الإسلام بني على هذه الخمس، والمقصود بالإسلام هنا: الدين؛ لأن الدين هو الإسلام كما قال -جل وعلا-: ( (((( ((((((((( ((((( (((( ((((((((((( ( ( (33) والإسلام في قوله: ( بني الإسلام على خمس ( المقصود منه: الإسلام الخاص الذي بعث به محمد بن عبد الله -عليه الصلاة والسلام .
والإسلام في القرآن وفي السنة له إطلاقان:
الإطلاق الأول: الإسلام العام الذي لا يخرج عنه شيء من مخلوقات الله -جل وعلا- إما اختيارا، وإما اضطرارا، قال -جل وعلا-: ( (((((((( (((((((( ((( ((( ((((((((((((( (((((((((( ((((((( ((((((((( ( (34) وقال -جل وعلا-: ( (((((((((( ((((( (((( ((((((((( (((((((( (((((((( ( (35) إلخ الآية ، وقال -جل وعلا-: ( ((((( (((((((( (((((( ((((((((((( (((((( ((((( (((((((( (((((( (((((( ((( (((((((((( (((( (((((((((((((( ( (36) وقال -جل وعلا- عن إبراهيم -عليه السلام-: ( ((( ((((( (((((((((((( (((((((((( (((( (((((((((((( (((((((( ((((( (((((((( ((((((((( ( (37) وقال -جل وعلا-: ( (((( ((((((((( ((((((((((((((( ((( (((((( ((((( (((((( ( (38) .
فالمقصود: أن لفظ الإسلام هذا هو الذي يقبله الله -جل وعلا- من العباد المكلفين ديناً، فآدم عليه السلام مسلم وكل الأنبياء وأتباع الأنبياء والرسل جميعاً على دين الإسلام الذي هو الإسلام العام، وهذا الإسلام العام هو الذي يفسر بأنه: الاستسلام لله بالتوحيد، والانقياد له بالطاعة، والبراءة من الشرك وأهله، فهذا هو ملة إبراهيم وهو الذي دانَ به جميع الأنبياء والمرسلين ومَن تبعهم .(1/41)
أما الإسلام الخاص فيراد به: الإسلام الذي بعث به محمد بن عبد الله -عليه الصلاة والسلام- وهو الذي إذا أطلق الإسلام لم يعن به إلا هذا على وجه الخصوص؛ لأن الخاص مقدم على العام في الدلالة؛ ولأن هذا الاسم خصت به هذه الأمة، وخص به النبي -عليه الصلاة والسلام- فجعل دين المصطفى ( الإسلام.
فإذًا المقصود هنا بقوله: ( بني الإسلام ( يعني: الإسلام الذي جاء به نبينا محمد بن عبد الله -عليه الصلاة والسلام- .
أما الإسلام الذي كان عليه الأنبياء والمرسلون فهو من حيث التوحيد والعقيدة كالإسلام الذي بعث به النبي ( محمد في أصوله وأكثر فروع الاعتقاد والتوحيد.
وأما من حيث الشريعة فإنه يختلف؛ فإن شريعة الإسلام غير شريعة اليهود غير شريعة عيسى -عليه السلام- غير شريعة موسى ... إلى آخر الشرائع .
وقد جاء في الصحيح أن النبي ( قال: ( الأنبياء أخوة لعلات الدين واحد والشرائع شتى ( فقوله هنا -عليه الصلاة والسلام-: ( بني الإسلام ( يعني: الذي جاء به محمد -عليه الصلاة والسلام- فلا يتصور من هذا أنه يعم ما كان عليه الأنبياء من قبل- فالأنبياء ليس عندهم هذه الشريعة من جهة إقامة الصلاة على هذا النحو، أو إيتاء الزكاة على هذا النحو أو صيام رمضان ... إلخ، فهذا بقيوده مما اختصت به هذه الأمة .
قال: ( على خمس: شهادةِ أن لا إله إلا الله ( ويجوز في شهادةِ ونظائرها أن تكون مجرورةً على أنها بدل بعض من كل، يعني: تقول: على خمسٍ شهادةِ، فخمس شُمول، وشهادة بعض هذا الشمول، فتكون بدل بعض من كل.
ويجوز أن تستأنفها، فتقول: على خمسٍ: شهادةُ أن لا إله إلا الله على القطع كما قال -جل وعلا - : ( (((((((( (((( (((((( (((((((((( (((((((((((( (((((((( ( (39) رجلين أحدُهما، وهذا شائع كثير، وإذا ذكرت نظائرها فيجوز فيها الوجهان: الجرّ على البدلية، والرفع على القطع والاستئناف.(1/42)
( شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله ( الشهادة مأخوذة من شهد يشهد شهودًا وشهادة إذا علم ذلك بقلبه فأخبر به بلسانه وأعلم به غيره، ولا تكون شهادة حتى يجتمع فيها هذه الثلاث: أن يعتقد، ويعلم بقلبه، وأن يتلفظ ... يقول بلسانه معلما بها الغير، طبعاً إذا لم يكن ثمة عذر شرعي عن الإعلام -إعلام الغير- كالإكراه أو اختفاء أو ما أشبه ذلك مما تجوز فيه التَّقِيَّة .
فإذًا قوله: ( شهادة أن لا إله إلا الله ( يعني: العلم بأن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، والنطق بذلك والإعلام به.
وكل شهادة هي بهذا المعنى، والشاهد عند القاضي لا يُسمى شاهداً حتى يكون علِم ثم نطق ... تكلم بذلك فأعلَمَ به القاضي؛ سمي شاهداً لأجل ذلك . وقد يتوسع فيقال في المعاني: إنها شواهد لأجل تنزيلها في النهاية منزلة الشهادة الأصلية .
( شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله ( أنْ لا إله إلا الله "أنْ" هذه هي التفسيرية، وضابطها أنها تأتي بعد كلمة فيها معنى القول دون حروف القول . وقد يجوز أن تكون مخففة من الثقيلة أيضا، يعني: شهادة أنه لا إله إلا الله .
"لا إله إلا الله": هي كلمة التوحيد، و"لا إله": نفي ، و"إلا الله": إثبات، والمنفي استحقاق أحد العبادة؛ لأن الإله هو المألوه ... هو المعبود، وإلا الله: هذا إثبات، يعني: إثبات استحقاق العبادة لله -جل وعلا- دونما سواه، ونفي هذا الاستحقاق عما سواه.
فإذا قلنا: كلمة التوحيد نفي وإثبات، فهذا معناه أنها تنفي استحقاق العبادة عما سوى الله، وتثبت استحقاق العبادة لله -جل وعلا- وحده
فمن شهد أن لا إله إلا الله يكون اعتقد وأخبر بأنه لا أحد يستحق شيئا من أنواع العبادة إلا الله وحده لا شريك له.
وفى ضمن ذلك أن مَن توجه بالعبادة إلى غيره فهو ظالم متعدٍّ باغٍ على حق الله -جل جلاله.(1/43)
( وأن محمداً رسول الله ( يعني: أن يعتقد ويخبر ويعلن بأن محمداً هو محمد بن عبد الله القرشي المكي أنه رسول من عند الله حقا، وأنه نزَل عليه الوحي؛ فأخبره بما تكلم الله ( به، وأنه إنما يبلغ عن الله -جل وعلا- وهذا واضح من كلمة رسول فإن الرسول مبلغ .
والرسل البشريون مبلغون ... من لفظ الرسالة، كما أن الملائكة رسل من لفظ الملائكة، فالرسول يأخذ من الله -جل وعلا- ويبلغ الناس ما أخذه عن الله -جل وعلا.
معلوم أن الرسل من البشر لم يجعل الله لهم -عليهم الصلاة والسلام- لم يجعل الله لهم خاصية أن يأخذوا الوحي منه مباشرة ، وأن يسمعوا الكلام منه، يعني: في عامة الوحي، وقد يسمعون بما أذِنَ الله -جل وعلا- لهم في بعض الرسل .
فالمَلَك رسول فيلقي الخبر على هذا الرسول، فاعتقاداً أن محمدا رسول الله اعتقاد أنه مُبَلَّغٌ ومُبَلِّغٌ، هو رسول من الله -جل وعلا- لم يلكمه الله -جل وعلا- بكل الوحي مباشرة، وإنما أوحى إليه عن طريق جبريل -عليه السلام- واعتقاد -أيضاً- أنه خاتم المرسلين، وأن محمدا رسول الله أنه خاتم الرسل -عليه الصلاة والسلام .
وهذا معنى الشهادة من اعتقاد أنه موحَى إليه من الله، وأنه رسول حق وأنه خاتم الرسل، تمت له هذه الشهادة.
وهذه الشهادة بأن محمد رسول الله لها مقتضى، وهذا المقتضى: هو طاعته -عليه الصلاة والسلام- فيما أمر، وتصديقه فيما أخبر، واجتناب ما عنه نهي وزجر، وألا يعبد الله إلا بما شرعه رسوله -صلى الله عليه وسلم .
قال: ( وإقام الصلاة ( التعبير عن الصلاة بلفظ "إقام الصلاة" هذا لأجل مجيئها في القرآن هكذا: ( (((((( ((((((((((( ((((((((( ((((((((( (((((( (((((( (((((((( ( (40) ( (((((((((((( ((((((((((( (((((((((( ((((((((((( ( (41) ( ((((((((( (((((((((( ((((((((((( ( (42) ... ونحو ذلك من الآيات.(1/44)
ففي القرآن أن الصلاة تُقام، ومعنى كونها تقام يعني: أن تكون على صفة ... تكون قائمة بإيمان العبد، وهذا هو معنى قول الله -جل وعلا- : ( (((((((( ((((((((((( ( (((( ((((((((((( (((((((( (((( (((((((((((((( ((((((((((((( ( ( (43) .
فمن لم يقم الصلاة لم تَنْهَهُ الصلاة عن الفحشاء والمُنكر .
( وإيتاء الزكاة ( أيضاً لفظ الإيتاء المقصود به ... أو قيل فيه: إيتاء؛ لأجل مجيئه في القرآن.
( وحج البيت ( كذلك "وصوم رمضان" كذلك، يعني: اختيرت هذه الألفاظ بلَّغها النبي ( هكذا لموافقتها لما جاء في القرآن فيها، فلو قيل في الزكاة: إعطاء الزكاة لجاز، ولو قيل في الصلاة: تأْدِيَة الصلاة لجاز ذلك ولكن إتباع ما جاء في القرآن أولى في هذا الأمر. هذا من جهة ألفاظ الحديث.
هذا الحديث دل على أن هذه الخمسَ أركانٌ، وقد ذكرت لك البارحة أن التعبير عن هذه الخمس بالأركان إنما هو مصطلح حادث عند الفقهاء؛ لأنهم عرَّفوا الركن بأنه: ما تقوم عليه ماهية الشيء، وأن الشيء لا يُتصور أن يقوم بلا ركنه.
فمثلاً يقولون: البيع أركانه ... ما تقوم عليه ماهية البيع ... لا يمكن أن تتصور بيعاً موجوداً إلا أن يكون هناك: بائع، ومشتري، وهناك سلعة تُباع وتُشترى، يعني: سلعة يقوم عليها ذلك، وهناك صيغة ... يعني: واحد يقول: خذ وهات، أو بِعْتُ، والثاني يقول: اشتريتُ، أو ما أشبه ذلك.
فإذًا الأركان كيف نستنتجها؟ ما تقوم عليها حقيقة الشيء ... تتصور شيئا ... كيف يوجد؟ دعائمُ وجوده هي الأركان .
النكاح -مثلاً- أركان النكاح ما هي؟ ما يقوم عليها النكاح، ما يُتصور أن يوجد نكاح إلا بزوجين، أليس كذلك؟ وبصيغة. زوج يعني: رجل وامرأة، وصيغة. هذا حقيقته -يعني من حيث هو.
يأتي هناك أشياء شرعية لتصحيح هذه الأركان، يقال: يشترط في الزوج المواصفات كذا وكذا، يشترط في المرأة أن يعقد لها وليها، يشترط في الصيغة أن تكون كذا وكذا ... إلى آخره، فغيرُها تكون شروطاً .(1/45)
فإذًا الركن عندهم: ما تقوم عليه ماهية الشيء أو حقيقة الشيء، فهذه الخمس سميت أركانا، أو قيل عنها: أركان الإسلام.
وهذه التسمية يشكل عليها ... أو هذا الإطلاق أنها أركان الإسلام يشكل عليها أن أهل السُّنة قالوا: إن من شهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله، وأدى الصلاة المفروضة وترك بقية الأركان تهاوناً وكسلاً فإنه يطلق عليه لفظ المسلم، ولا يسلب عنه اسم الإسلام بتركه ثلاثة أركان تهاوناً وكسلاً.
وهذا متّفق مع قولهم في الإيمان : الإيمان قول وعمل واعتقاد، ويعنون بالعمل جنس العمل، ويمثله في أركان الإسلام الصلاة .
فإذًا نقول: مرادهم بهذا ما دلت عليه الأدلة الشرعية، ودلت عليه قواعد أهل السنة من أن هذه الأركان ليس معنى كونها أركاناً أنه إن فقد منها ركن لم تقم حقيقة الإسلام، كما أنه إذا فقد من البيع ركن لم تقم حقيقة البيع، لا يتصور أن هناك بيع بلا بائع، أليس كذلك؟ ولا نكاح بلا زوج؟
أما الإسلام فيتصور أن يوجد الإسلام شرعاً بلا أداء للحج، يعني: لو تُرك الحج تهاوناً؛ فإنه يقال عنه: مسلم، أو ترك تأدية الزكاة تهاوناً لا جحدًا؛ فإنه يقال عنه: مسلم ، وهكذا في صيام رمضان.
الصلاة اختلفوا فيها. اختلف فيها أهل السنة: هل ترْكُ الصلاة تهاوناً وكسلاً يسلب عنه اسم الإسلام أو لا؟ فقالت طائفة من أهل السنة: إنَّ تَرْكَ الصلاة تهاوناً وكسلاً لا يسلب عن المسلم الذي شهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله ... لا يسلب عنه اسم الإسلام، وإنما يكون على كبيرة، وهو في كفر أصغر، وهذا قول طائفة قليلة من علماء أهل السنة.
وقال جمهور أهل السنة: إنَّ تَرْكَ الصلاة تهاوناً وكسلاً كُفْرٌ، وأنه مَن ترَكَ الصلاة فليس له إسلام، يعني: ولو أتى بتأدية الزكاة وصيام رمضان والحج، وهذا هو الصحيح لدلالة الكتاب والسنة والإجماع على ذلك.(1/46)
والصحابة أجمعوا على أن الأعمال جميعاً المأمور بها تركُها ليس بكفر إلا الصلاة، كما قال شقيق بن عبد الله فيما رواه الترمذي وغيره: ( كانوا -أي الصحابة- لا يرون من الأعمال شيئا تركُه كُفر ( .
والصلاة يُجمع على أن تركَها كفر، وهو الذي دل عليه قول الله -جل وعلا-: ( ((( (((((((((( ((( (((((( (((( (((((((( (((( (((( (((( (((((((((((((( ( (44) إلخ الآيات وكذلك قول النبي ( في صحيح مسلم: ( بين الرجل وبين الشرك -أو قال: الكفر- ترك الصلاة ( وفى السنن الأربعة وفى المُسنَد وفي غيرها بإسناد صحيح من حديث بريده ( مرفوعا: ( العهد الذي بيننا وبينهم الصلاة فمن تركها فقد كفر ( وقوله -عليه الصلاة والسلام-: ( بين الرجل وبين الشرك -أو قال: الكفر- ترك الصلاة ( دلنا على أن ترك الصلاة كفرٌ أكبر.
وذلك أن القاعدة أن لفظ الكفر إذا جاء في النصوص فإنه يأتي على وجهين:
الوجه الأول : يأتي مُعرَّفًا، والوجه الثاني يأتي منكراً بلا تعريف، فإذا أتى منكراً فإنه يكون معناه الكفر الأصغر، وإذا أتى معرفا فتكون (ال) فيه إما للعهد: عهد الكفر الأكبر ... العهد الشرعي في ذلك ، وإما أن تكون للاستغراق، يعني: استغراق أنواع الكفر .
مثلاً- في الكفر المنكَّر قال -عليه الصلاة والسلام-: ( ثنتان في الناس هما بهم كُفْرٌ: الطعن في الأنساب، والنياحة على الميت ( ( ثنتان في أمتي من أمر الجاهلية لا يتركونهن ( هذا حديث آخر .
قال أيضاً -عليه الصلاة والسلام-: ( لا ترجعوا بعدي كفاراً يضرب بعضكم أعناق بعض ( وأشباه ذلك مِن ذكر كلمة الكفر مُنَكَّرَة (كفر) .
فإذا قيل في الكفر: كفر، فهذا الأصل فيه أنه كفر أصغر؛ لأن الشارع جعله منكراً في الإثبات، وإذا كان منكرا في الإثبات فإنه لا يعم، كما هو معلوم في قواعد الأصول، أما إذا أتى معرَّفاً فإن المقصود به الكفر الأكبر.(1/47)
فإذًا نقول: الصحيح أن ترك الصلاة تهاوناً وكسلاً كفر أكبر، لكن كفره باطن وليس كفره ظاهرا، وليس بباطن وظاهر جميعاً حتى يثبت عند القاضي؛ لأنه قد يكون له شبهة من خلاف أو فهم أو نحو ذلك.
ولهذا لا يحكم بردة من ترك الصلاة بمجرد تركه، وإنما يطلق على الجنس أن مَن ترك الصلاة فهو كافر الكفر الأكبر، وأما المعيَّن فإن الحكم عليه بالكفر وتنزيل أحكام الكفر كلها عليه هذا لا بد فيه من حكم قاضٍ يدرأ عنه الشبهة ويستتيبه حتى يؤدي ذلك.
وهذا هو المعتمد عند جمهور أهل السنة -كما ذكرت لك-، وغير الصلاة الأمر على عكس ما ذكرت .
جمهور أهل السنة على أن مَن ترك الزكاة تهاوناً وكسلاً أو من ترك الصيام أو من ترك الحج فإنه لا يكفر بتركها تهاوناً وكسلاً؛ لأنه ما دل الدليل على ذلك
وقالت طائفة من أهل العلم من الصحابة ومن بعدهم: إن من ترك بعض هذه أنه كافر على خلاف بينهم في ذلك.
فعمر ( ظاهر قوله: أن ترك الحج مع القدرة عليه ووجود الاستطاعة المالية والبدنية أنه كفر، حيث قال لعماله في الأمصار: أن يكتبوا له مَن وجد سعة من المسلمين ثم لم يحجوا أن تضرب عليهم الجزية، قال: ما هم بمسلمين ... ما هم بمسلمين.
وكَفَّر -أيضاً- بعض الصحابة كابن مسعود مَن ترك الزكاة تهاوناً وكسلاً، وهذا خلاف ما عليه الجمهور -جمهور الصحابة- ومن بعدهم في أن من تركها بلا امتناع وإنما ترك الزكاة أو ترك الصيام أو ترك الحج تهاوناً منه أنه لا يكفر، ومنهم من قال بكفره يعني: على عكس مسألة الصلاة .
فنقول: إذًا مسألة الصلاة الجمهور -جمهور أهل السنة- على تكفير من تركها تهاوناً وكسلاً .
وهناك من أهل السنة من لم يكفِّر من تركها تهاوناً وكسلاً ، وبقية الثلاثة الأركان العملية جمهور أهل السنة على أنه لا يكفر وهناك من كفَّره.
هذه الأركان منقسمة إلى ثلاثة أقسام، وخصت بالذكر لعظم مقامها في هذه الشريعة وعظم أثرها على العبد.(1/48)
فالشهادتان نصيب القلب والإيمان، فبهما يتحقق الإيمان الذي هو أصل الاعتقاد والعمل، والصلاة عبادة بدنية محضة، والزكاة عبادة مالية محضة، والحج مركب من العبادة المالية والعبادة البدنية، وصوم رمضان عبادة بدنية محضة.
لهذا قال طائفة من المحققين من أهل العلم: إنه جاء في هذه الرواية تقديم الحج على الصوم فقال: ( وإيتاء الزكاة وحج البيت وصوم رمضان ( وصوم رمضان في بقية الروايات قدم على الحج فقال: ( وإيتاء الزكاة وصوم رمضان وحج البيت من استطاع إليه سبيلاً ( .
وسبب تقديم الحج على الصيام: أن الأمر على ما ذكرت لك من أن الصوم من حيث جنس دلالته مُمَثَّلٌ في الصلاة، فالصلاة حق البدن المحض يعني: عبادة وجبت وتعلقت بالبدن محضة، والزكاة عبادة تعلقت بالمال محضة، والحج عبادة تركبت من المال والبدن فصارت قسماً ثالثاً مستقلاً، وأما الصوم فهو من حيث هذا الاعتبار مكرر للصلاة، وعلى هذا الفهم بنى البخاري -رحمه الله تعالى- صحيحه فجعل كتاب الحج مقدما على كتاب الصوم؛ لأجل أن الحج عبادة مركبة من المال والبدن؛ فهي جنس من حيث هذا الاعتبار جديد، والصيام جنس سبق مثله وهو إقام الصلاة .
الحديث الرابع
إن أحدكم يجمع في بطن أمه أربعين يوماً نطفة
وعن أبي عبد الرحمن عبد الله بن مسعود ( قال حدثنا رسول الله ( وهو الصادق المصدوق: ( إن أحدكم يُجمع خلقه في بطن أمه أربعين يوماً نطفة، ثم يكون علقة مثل ذلك، ثم يكون مضغة مثل ذلك، ثم يرسل إليه الملك فينفخ فيه الروح، ويؤمر بأربع كلمات: بكتْبِ رزقه، وأجله، وعمله، وشقي أو سعيد، فوالله الذي لا إله إلا غيره إن أحدكم ليعمل بعمل أهل الجنة حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل النار فيدخلها، وإن أحدكم ليعمل بعمل أهل النار حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل الجنة فيدخلها ( رواه البخاري ومسلم(1/49)
هذا الحديث هو الرابع من هذه الأحاديث المباركة، وهو حديث ابن مسعود ( فيه ذكر القدر وذكر جمع الخلق في رحم الأم.
وهذا الحديث أصل في باب القدر والعناية بذلك، والخوف من السوابق والخوف من الخواتيم، وكما قيل: قلوب الأبرار معلقة بالخواتيم، يقولون: ماذا يختم لنا، وقلوب السابقين أو المقربين معلقة بالسوابق يقولون: ماذا سبق لنا.
وهذا وهو الإيمان بالقدر والخوف من الكتاب السابق والخوف من الخاتمة، هذا من آثار الإيمان بالقدر خيره وشره، فإن هذا الحديث دل على أن هناك تقديرًا عمريًا لكل إنسان، وهذا التقدير العمري يكتبه المَلك بأمر الله -جل وعلا- كما جاء في هذا الحديث .
إذًا هذا الحديث مَسُوقٌ لبيان التقدير العمري لكل إنسان؛ وليخاف المرء السوابق والخواتيم؛ وليؤمن بأن ما أصابه لم يكن ليخطئه وما أخطأه لم يكن ليصيبه، والسوابق في عمل العبد والخواتيم متصلة كما قيل: الخواتيم ميراث السوابق.
فالخاتمة ترثها لأجل السوابق، فما من خاتمة إلا وسببها بلطف الله -جل وعلا- ورحمته أو بعدله وحكمته. سوابق المرء في عمله وهي جميعاً متعلقة بسوابق القدر.
هذا الحديث قال فيه ابن مسعود ( "حدثنا رسول الله ( وهو الصادق المصدوق": قوله: حدثنا رسول الله -صلى الله عليه وسلم هذا فيه استعمال لفظ التحديث من ابن مسعود ( وهو أحد ألفاظ التَّحَمُّل المعروفة عند المحدثين؛ ولهذا استعملها العلماء كثيراً في صيغ التحديث، واستعملوا -أيضاً- لفظ أخبرنا، وقد رواه الصحابة عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم.
فالمحدثون اختاروا من ألفاظ التحمل "حدثنا" وهي أعلاها؛ لأجل قول الصحابة حدثنا رسول الله ( وهذا الحديث مثال لذلك، واختاروا "أخبرنا" -أيضاً- لقول الصحابة أخبرنا رسول الله ( أو أخبرني النبي ( بكذا وزادوا عليها ألفاظاً من ألفاظ التحمل .(1/50)
قوله: "وهو الصادق المصدوق": هو الصادق: يعني الذي يأتي بالصدق والصدق، حقيقته الإخبار بما هو موافق للواقع، والكذب ضده وهو الإخبار بما يخالف الواقع، والمصدوق: هو المصدَّق يعني الذي لا يقول شيئاً إلا صُدِّقَه.
وقول ابن مسعود هنا "وهو الصادق المصدوق" هذه تهيئة ... هذه فيها أدب للمعلم أن يهيئ العلم لمن يعلمه ومن يخبره بالعلم؛ لأن هذا الحديث فيه شيء غيبي لا يدرك لا بالحس ولا بالتجربة، وإنما يُدرك بالتسليم والعلم بالخبر لصدق المخبِر به -عليه الصلاة والسلام- ففيه ذكر تنوع الحَمْل.
ومعلوم أن الصحابة في ذلك الوقت لم يكونوا يعلمون ذلك الزمان لم يكونوا يعلمون تطور هذه المراحل بعلم تجريبي أو برؤية أو بنحو ذلك، وإنما هو الخبر الذي يصدقونه، فكانوا علماء لا بالتجريب وإنما بخبر الوحي على النبي -صلوات الله عليه وسلامه .
قال: "وهو الصادق المصدوق" يعني: الذي لا يخبر بشيء على خلاف الواقع، وهو الذي إذا أخبر بشيء صُدِّقه مهما كان، وهذا من جراء التسليم له -عليه الصلاة والسلام- بالرسالة.
قال: ( إن أحدكم يجمع خلقه في بطن أمه أربعين يوماً نطفة ( لفظ "يُجمع" كأنه كان قبل ذلك متفرقاً فجُمع نطفة، والنطفة معروفة، وهي: ماء الرجل وماء المرأة، أو ما شابه ذلك قبل أن يتحول إلى دم، والعلقة قطعة الدم التي تعلق بالشيء وهي تعلق بالرحم، والمضغة هي قطعة اللحم.
قال ابن مسعود ( هنا أن النبي ( حدثهم: ( إن أحدكم يجمع خلقه في بطن أمه أربعين يوماً نطفة ( يعني: أنه يكون ماء لمدة أربعين يوماً لا يتحول إلى دم هذا المدة -يعني- من حيث من بداية وضع النطفة في الرحم تستمر أربعين يوماً على هذا النحو.(1/51)
وهل يعني استمرارها هذه المدة أنها في هذه المدة لا يكون فيها أي نوع من التصوير أو الخلق أو نحو ذلك؟ لا يدل هذا الحديث على ذلك وإنما يدل على أن هذه المدة تكون نطفة، أما مسألة التصوير، ومتى تكون فهذه لم يعرض لها في هذا الحديث، وإنما في أحاديث أخرى.
قال: ( ثم يكون علقة مثل ذلك ( يعني: يكون دماً متجمداً في رحم الأم أربعين يوماً أخرى.
قال: ( ثم يكون مضغة مثل ذلك ( يعني: يتحول إلى مضغة، وهي قطعة اللحم -أيضاً- أربعين يوماً أخرى، وهذه -تحوُّل من الدم إلى اللحم ... إلى آخره- قال فيها -عليه الصلاة والسلام-: "ثم يكون" وكلمة "ثم" هذه تفيد التراخي والتراخي -كما هو معلوم -في كل شيء بحسبه، والتصوير يكون في أثناء هذه المدة.
وقد جاء في صحيح مسلم من حديث حذيفة بن أسيل ( أن النبي ( قال: ( إذا بلغت النطفة ثِنتين وأربعين ليلة أرسل إليها الملك فيأمره الله -جل وعلا- بتصويرها، ثم يقول: أي ربي، أذكر أم أنثى؟ فيأمر الله ما شاء ويكتب الملَك، ثم يقول: أي ربي، شقي أم سعيد؟ فيقول الله أو يأمر الله بما شاء ثم يكتب المَلَك ، ثم يقول: أي ربي، رزقه؟ فيقول الله ما شاء ثم يكتب الملك ( .
فهذا يدل على أن التصوير سابق لتمام هذه المدة، وأن التصوير يكون بعد ثنتين وأربعين ليلة، وقد قال -جل وعلا- : ( (((( ((((( ((((((( ((( (((((( (((((((( ( (45) وهذا التصوير معناه التخطيط، فإن هناك ثلاثة ألفاظ ، ألفاظ التكوين: تكوين المخلوق وهي التصوير، والخلق، والبَرْء: ( (((( (((( ((((((((((( ((((((((((( ((((((((((((( ( ( (46) .
فالمصور معناه: الذي يجعل الشيء على هيئة صورة مخططة، الخالق أو خلق الشيء ... خلق الجنين: أن يجعل لها مقاديرها من الأطراف والأعضاء ونحو ذلك، والبرء: أن تتم وتكون تامة، يعني: أن يبرأ ما سبق وهذا في الجنين واضح، فإن الجنين يصور -أولاً- قبل أن تخلق له الأعضاء.(1/52)
فلو رُئي الجنين ... بعض الأجنة إذا سقط في تسعين يوماً أو في أكثر من ثمانين يوماً ونُظر إليه إذا أسقطته الأم ونظر إليه وُجد أنه كلوحة عليها خطوط، يعني: العين مرسومة رسمًا ( ((((((((((( (((( (((((((( (((((((((((((( ( (47) .
وتجد أنه كالتخطيط في شيء شفاف، وهذا لم تتكون الأعضاء، وإنما هذا التصوير، وهذا كما جاء في حديث حذيفة يفعله الملك بأمر الله -جل جلاله.
والملائكة موكلون بما يريد الله -جل وعلا- منهم كما قال -سبحانه-: ( ( (((( (((((((((((( (((((( (((((((((( ((((((( ((((((( (((((( ( (48) فالملائكة موكلون بما شاء الله -جل وعلا- أن يفعلوه ( (( ((((((((( (((( (((( (((((((((( ((((((((((((( ((( ((((((((((( ( (49) .
نستفيد -أيضاً- من هذا أن في هذه المدة يكتب: هل هو ذكر أم أنثى؟ كما جاء في حديث حذيفة الذي ذكرت لك في مسلم أنه بعد الثنتين والأربعين ليلة يسأل الملَك فيقول: ( أي ربي، ذكر أم أنثى؟ فيقول الله -جل وعلا- أو يأمر الله -جل وعلا- بما شاء فيكتب الملك ( .
قال طائفة من المحققين من أهل العلم: إنه بذلك يعني بعد الثنتين والأربعين يخرج علم نوع الجنين من كونه ذكرا أو أنثى عن اختصاص الله -جل وعلا- به؛ لأن الله -جل وعلا- اختص بخمسة من علم الغيب اختص بخمسة لا يعلمها إلا الله، ومنها: أنه -جل وعلا- ( (((((((((( ((( ((( ((((((((((( ( ( (50) .
وما في الأرحام كثيرة ... ما في الأرحام يشمل: مَن في الرحم، ويشمل ما في الرحم ( (((( (((((((( ((( (((((((( (((( ((((((( ((((( ((((((( ((((((((((( ((((( ((((((((( ( (((((( (((((( (((((((( ((((((((((( ( (51) وهذا العلم الشمولي بتطور الجنين في بطن أمه لحظة بلحظة لا أحد يعلمها إلا الله -جل جلاله-.(1/53)
أما العلم بكون الجنين ذكرا أو أنثى فهذا من اختصاص علم الله -جل وعلا- قبل الثنتين والأربعين ليلة، فإذا أعْلَم الملَك بذلك دل الحديث على خروجه عن العلم الذي لا يعلمه إلا الله -جل وعلا.
ولهذا في بعض الأعصر المتقدمة كان بعض أهل التجريب كما ذكر ذلك ابن العربي في تفسيره "أحكام القرآن" بعض أهل التجريب كان ينظر إلى رحم المرأة ... ينظر إلى المرأة الحامل، ويقول: في بطنها ذكر أم أنثى، يعني: إذا عظم بطنها.
وذكر العلماء: أن هذا ليس فيه ادعاء علم الغيب؛ لأن الاختصاص فيما قبل ذلك، منهم من يقيِّد الاختصاص بما قبل نفخ الروح، فيهم وهو الصحيح أن يقيد الاختصاص بما قبل الثنتين وأربعين ليلة كما دل عليه الحديث الصحيح الذي ذكرت لك .
وفى الزمن هذا يعرف -أيضاً- هل هو ذكر أم أنثى بالوسائل الحديثة وليس في هذا ادعاء علم الغيب؛ لأنهم لا يعلمون قطعاً ولا يستطيعون أن يعلموه إلا بعد هذه المدة التي ذكرنا، وأما قبلها فإنها من اختصاص علم الله -جل وعلا- مع أنهم لا يعلمونها إلا بعد أن تنفصل أو تتميز آلة الذكر من الأنثى، يعني: فرج الذكر من فرج الأنثى وهذا يكون بعد مدة .
قال -عليه الصلاة والسلام- هنا: ( يكون علقة مثل ذلك ثم يكون مضغة مثل ذلك ( وهذه مائة وعشرون يوماً، يعني: أربعة أشهر.
قال: ( ثم يرسل إليه الملك ( هذا ملك آخر ملَك موكَّل بنفخ الروح أو هو الملك الأول ولكن هذا إرسال آخر، قال: ( فينفخ فيه الروح ويأمر بأربع كلمات: بكتب رزقه، وأجله، وعمله، وشقي أو سعيد ( .
هنا نظر العلماء في ذلك فقالوا: هذا الحديث يدل على أن نفخ الروح لا يكون إلا بعد أربعة أشهر، وعلى هذا بنى الإمام أحمد وجماعة من أهل العلم قولهم: إن الجنين إذا سقط لأربعة أشهر غُسِّل وصلي عليه؛ لأنه قد نفخ فيه الروح بدلالة هذا الحديث وأحاديث أُخَر دلت على أنه يكتب رزقه وأجله كما ذكرنا وشقي أو سعيد قبل ذلك .(1/54)
فكيف نوفق بين الأحاديث التي فيها ذكر الكتابة قبل هذه المدة، وذكر الكتابة بعد تمام المائة وعشرين يوماً أي بعد تمام الأربعة أشهر .
للعلماء أقول في ذلك وأفضلها: أن هذا الذي جاء في هذا الحديث على وجه التقديم والتأخير، وذلك أن إدخال الكتابة في أثناء ذكر تدرج الحمل هذا من حيث اللغة غير مناسب، بل المراد أولاً أن يذكر التدرج ثم بعد ذلك ذكر نفخ الروح؛ لتعلقه بما قبله، وأما الكتابة فإنها وإن كانت في أثناء تلك المائة وعشرين يوماً فأخرت لأجل أنه لا يناسب إدخالها لترتيب تلك الأطوار بعضها على بعض .
يعني: أن اللغة يقتضي حسنها أن لا تدخل الكتابة بين هذه الأطوار فالمقصود هنا ذكر هذه الأطوار الثلاثة: النطفة، ثم العلقة، ثم المضغة، فذِكر الكتابة في أثنائها يقطع الوصل، وهذا له نظائر في اللغة، ومنه قول الله -جل وعلا- في سورة السجدة: ( (((((((( (((((( (((((((((( ((( ((((( ((( (((( (((((( ((((((((( ((( ((((((((( (((( (((((( ((((((( ((( (((( ((((((( (((((((( ((((( ((( (((((((( ( ( (52) ... إلخ الآية .
فهنا كان الترتيب: ( (((((((( (((((( (((((((((( ((( ((((( ((( (((( (((((( ((((((((( ((( ((((((((( (((( (((((( ((((((( ( (53) مع أن النسل هذا ليس بأول هنا، يعني: نفخ الروح سبق وجود النسل، بدأ خلق الإنسان من طين ثم نفخت الروح ثم جُعل النسل من ماء مهين.
فهنا أخَّر نفخ الروح مع أنه بينهما؛ لأجل أن يتناسب الطين مع الماء، قال: ( (((((((( (((((( (((((((((( ((( ((((( ((( (((( (((((( ((((((((( ((( ((((((((( (((( (((((( ((((((( ( (54) .
وبهذا تتفق الأحاديث ولا يحسن في مثل هذه المجالس المختصرة أن نعرض اختلاف الرواية في هذا وكثرة الاعتراضات أو الإشكالات فيها لكن هذا هو أولى الأقوال في هذه المسألة وأقربها من حيث اللغة ومن حيث جمع الأحاديث.(1/55)
إذا تقرر هذا فنفخ الروح هل هو متعلق بالكتابة أو هو بعد المائة والعشرين يوماً ؟ اختلف العلماء -أيضاً -في ذلك فقالت طائفة من أهل العلم: لا يكون نفخ الروح إلا بعد الأربعة أشهر؛ لأنه قال هنا: "ثم يرسل إليه الملك فينفخ فيه الروح" و"ثم" تقتضي التراخي الزمني؛ ولهذا قال طائفة من الصحابة واختاره الإمام أحمد وجماعة: أنه ينفخ فيه الروح في العشرة أيام التي تلي الأربعة أشهر.
وقال آخرون من أهل العلم: إنه ينفخ فيه الروح بعد تمام أربعة أشهر وعشرة الروايات رويت عن الصحابة في ذلك .
وقال آخرون: أن نفخ الروح هنا عُلِّق أو جعل مقترنا به الكتابة، فقال -عليه الصلاة والسلام-: ( ثم يرسل إليه الملك فينفخ فيه الروح ويؤمر بأربع كلمات ( فجعل الأمر بأربع كلمات تابعا مع نفخ الروح، ونعلم بالأحاديث الأُخَر أن الكتابة -كتابة هذه الكلمات- كانت قبل ذلك، وأحاديث النبي ( لا تتعارض بل تتفق؛ لأن الحق لا يعارض الحق وكلها يصدق بعضها بعضاً؛ فلهذا قالوا: هذا بناء على الأغلب.
وقد تنفخ الروح وتوجد الحركة قبل ذلك؛ لأنه هنا قرن نفخ الروح بالكتابة، والكتابة دلت أحاديث على سبقها، فمعنى ذلك: أنه يمكن أن يكون نفخ الروح في أثناء المائة وعشرين يوماً . هل تكون الكتابة بعد نفخ الروح ؟ .
هذا الحديث ليس فيه دلالة وإنما فيه ترتب الكتابة على الروح بالواو فقال: ( ثم يرسل إليه الملك ... ويؤمر بأربع كلمات ( والواو لا تقتضي ترتيباً، وإنما تقتضي اشتراكاً، فمعنى ذلك أنه قد تتقدم الكتابة، وقد يتقدم نفخ الروح والأظهر تقدم الكتابة على نفخ الروح كما دلت عليه أحاديث كثيرة.(1/56)
فإذًا نخلص من هذا ... فيه خلاف طويل لأهل العلم، لكن ذكرت لكم لبه، وخلاصته أن الغالب أن يكون نفخ الروح كما جاء في هذا الحديث بعد مائة وعشرين يوماً، وقد يتحرك الجنين وينفخ قبل ذلك، وهذا مشاهد؛ فإنه كثير ما تحصل الحركة والإحساس بالجنين من قِبَل الأم وتنقله في رحمها قبل تمام الأربعة أشهر.
والنبي ( ( ((((( ((((((( (((( (((((((((( ((( (((( (((( (((( (((((( ((((((( ( (55) وكلماته وأحاديثه يصدِّق بعضها بعضا .
قال هنا: ( ويؤمر بأربع كلمات ( قال: ( فينفخ فيه الروح ( قبل ذلك فينفخ فيه الروح: الروح مخلوق من مخلوقات الله -جل وعلا- لا نعلم كيفية هذا النفخ، ولا كيف تتلبس الروح بالبدن، والروح أضيفت إلى الله -جل وعلا- تشريفاً لها وتعظيماً .
والروح أُضِيفَتْ إلى الله -جل وعلا- تشريفا لها وتعظيما لشأنها.
قال -جل وعلا- : ( ((((((( ((((((((((( (((((((((( ((((( ((( (((((( ( (56) الإضافة هنا إضافة خلق، وإضافة تشريف، ليست هي صفة لله -جل وعلا-.
والروح هي سر الحياة -كما هو معلوم-، وتعلُّق الروح ببدن الجنين في رحم الأم تعلق ضعيف؛ لأن الروح لم تكتسب شيئا، ولم تقوَ، فتبدأ الروح بالقوة في تعلقها بالبدن كلما تقدم بالجنين الزمن في رحم الأم، حتى إذا خرج صار التعلق تعلقا آخر.
يقول العلماء: إن تعلق الروح بالبدن أربعة أنواع : -
تعلق في رحم الأم : هذا النوع الأول، وهو تعلق ضعيف، الحياة فيه للبدن، والروح تعلقها بالبدن ضعيف.
والثاني: في الحياة الدنيا، والحياة فيها للبدن، والروح تبع، وتعلقها بالبدن تعلُّقٌ مناسب لبقاء البدن في الدنيا .
النوع الثالث من التعلق: بعد الموت، والحياة فيه للروح، والبدن تبع.
والنوع الرابع: تعلق الروح بالبدن بعد قيام الناس لرب العالمين يوم القيامة، وهذا التعلق أكمل التعلقات، فتكون الحياة للبدن وللروح جميعا هي أعظم أنواع التعلق.(1/57)
قال : ( ويؤمر بأربع كلمات: بكتب رزقه، وأجله، وعمله، وشقي أم سعيد ( .
هذه الكتابة تُسمَّى القدر العمري أو التقدير العمري، والتقديرات أنواع: منها القدر اليومي، ومنها القدر السنوي، أرفع منه، ومنها القدر والتقدير العمري، ومنها التقدير أو القدر السابق الذي في اللوح المحفوظ.
والقدر السابق الذي في اللوح المحفوظ، هذا الذي يعم الخلائق جميعا، كما جاء ذلك في قول الله -جل وعلا-: ( (((((( (((((((( (((( (((( (((((((( ((( ((( ((((((((((( (((((((((( ( (((( ((((((( ((( ((((((( ( (((( ((((((( ((((( (((( ((((((( ( (57) .
( ((((( (((( (((((( ((((((((((( (((((((( ( (58) .
قال -عليه الصلاة والسلام- : ( قَدَّرَ الله مقادير الخلائق قبل أن يخلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة، وكان عرشه على الماء ( .
( قدَّر مقادير الخلائق ( يعني: كتبها، أما العلم فإنه أول ليس مقصورا بقبل خلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة.
فتحصَّل من هذا أن هذا التقدير اسمه التقدير العمري، وهو بعض القدر السابق، يعني: أنك إذا تصورت التقدير العمري للناس جميعا، فإن هذا يوافق التقدير الذي في اللوح المحفوظ، كل أحد بحسبه.
فالتقدير الذي في اللوح المحفوظ عام وخاص أيضا، وأما هذا التقدير فهو تقدير عمري يخص كل إنسان.
وهذا القدر ليس معناه أنه إجبار؛ يعني: يؤمر الملك بكتب أربع كلمات، يؤمر بكتب رزقه، وأجله، وعمله، وشقي أو سعيد.
هذه الأربع كلمات ليست إجبارا، يعني: لا يكون العبد بها مجبرا؛ وإنما هي إخبار للملك بأنْ يكتب ما كتبه الله -جل وعلا- ليظهر موافقة علم الله -جل وعلا- في العباد ، ليظهر علم الله فيهم -جل وعلا-، وهذا التقدير لا يمكن لأحد أن يخالفه.
من كُتِبَ عليه أنه شقي فإنه سيكون شقيا؛ لأن علم الله -جل وعلا- نافذ، بمعنى أن الله -جل وعلا- يعلم ما سيكون عليه العباد، وسيكون عليه ما خلق إلى قيام الساعة، وما بعد ذلك أيضا.(1/58)
فهذا التقدير العمري كتابة، فتكون بيد الملك، وهو يختلف عن التقدير الذي في اللوح المحفوظ بشيء، وهو أنه يقبل التغيير، وأما الذي في اللوح المحفوظ فإنه لا يقبل التغيير، بمعنى: أن ما كتبه الله -جل وعلا- في أم الكتب لا يقبل المَحْو ولا التغيير، وغيره من أنواع التقديرات -يعني: السنوية أو العمرية- فإنها تقبل التغيير.
قال -جل وعلا- : ( ((((((((( (((( ((( (((((((( (((((((((( ( ((((((((((( (((( ((((((((((( ( (59) .
قال ابن عباس: ( ((((((((( (((( ((( (((((((( (((((((((( ( ( (60) يعني: فيما في صحف الملائكة. ( ((((((((((( (((( ((((((((((( ( (61) عنده اللوح المحفوظ، لا يتغير ولا يتبدل.
ولهذا كان عمر ( يقول في دعائه: "اللهم إن كنت كتبتني شقيا فاكتبني سعيدا".
وهذا يعني به الكتابة في صحف الملائكة، لا الذي في اللوح المحفوظ؛ فإن الذي في اللوح المحفوظ لا يتغير ولا يتبدل، وهذا له حكمة بالغة، وهو أن ينشط العبد فيما فيه صلاحه، وأن يعظم الرغب إلى الله -جل وعلا- ، وأن الله -سبحانه- يعلم ما العباد عاملون، ومما يعلم دعاؤهم ورجاؤهم بالله -جل وعلا- ووسائلهم إليه -سبحانه- في تحقيق ما به صلاحهم في الآخرة.
( بكتب رزقه، وأجله، وعمله، وشقي أو سعيد ( كما ذكرت لك هذه ليس فيها إجبار، والعبد عندنا -أهل السنة- العبد مُخَيَّر، وفي اختياره لا يخرج عن قدر الله -جل وعلا- السابق، وليس بمجبر على ما يفعل، وليس -أيضا- خالقا لفعل نفسه؛ بل الله -جل وعلا- هو الذي يخلق فعل العبد .
هنا قال : ( فوالله الذي لا إله غيره ( هذه الكلمة مُدْرَجَة من كلمات ابن مسعود ( كتعليق على ما سبق من كلام النبي ( قال : ( فوالله الذي لا إله غيره إن أحدكم ليعمل بعمل أهل الجنة حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل النار فيدخلها ( ؛(1/59)
لأن الكتاب فيما ذكر الخاتمة، شقي أو سعيد، وهذا باعتبار الخاتمة، سار طول عمره في طاعة، ثم بعد ذك اختار الشقاء، فوافق ما كتبه الملك أنه شقي، وليس معنى ذلك أنه مجبر، ولكن وافق ذلك.
وكما قلت لك: قال جماعة من السلف : "الخواتيم ميراث السوابق". فلهذا يبعث هذا الحديث -وكلام ابن مسعود هذا- يبعث على الخوف الشديد من الخاتمة؛ لأن العبد لا يدري بما يُخْتَم له، والسوابق هي التي تكون وسائل للخواتيم، والعبد بين خوف عظيم في أمر خاتمته، وما بين رجاء عظيم، وإذا جاهد في الله حق الجهاد، واستقام على الطاعة، فإنه يُرْجَى له أن يُخْتَم له بخاتمة السعادة .
قال : ( إن أحدكم ليعمل بعمل أهل الجنة حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع ( .
يعني: عن القرب، أن الأجل قريب، لكن يسبق عليه الكتاب، فيكون أمره في آخر أمره على الردة -والعياذ بالله-.
وعمله بعمل أهل الجنة، هذا فيما يظهر للناس، وفي قلبه الله أعلم به، ما ندري ماذا كان في قلوب الذين زاغوا فأزاغ الله قلوبهم، لكن نعلم -على اليقين- أن الله -جل وعلا- حَكَمٌ عَدْل، لا يظلم الناس شيئا، ولكن الناس أنفسهم يظلمون.
قال : ( وإن أحدكم ليعمل بعمل أهل النار، حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع، فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل الجنة فيدخلها ( رواه البخاري ومسلم .
وهذا من فضل الله العظيم على بعض عباده أن يختم له بخاتمة السعادة، هذا الحديث -كما ذكرت لك، وكلام ابن مسعود في آخره- يبعث على الخوف الشديد من الخواتيم، ويبدأ المرء يفكر فيما سبق له، وإن المرء -أحيانا- لينظر إلى السوابق، فلا يدري ماذا كتب له فيبكي.
كما قال بعض السلف من الأئمة، قال : "ما أبكَى العيون ما أبكاها الكتاب السابق".(1/60)
فالمرء ينظر ويتأمل، ويود أنه لو اطلع على ما كتبه الملك، هل الملك كتبه شقيا أم كتبه سعيدا ؟ فإن كان كتبه سعيدا فهي سعادة له وطمأنينة، وإن كان كتبه شقيا فيعمل بعمل أهل الجنة حتى يُكْتَب من الأتقياء، ولكن الله -جل وعلا- بحكمته غَيَّبَ هذا عن العباد ليبقى الجد في العمل، ولتبقى حكمة التكليف، وأن يكون الناس متفاضلين في البر والتقوى، فليسا سواء حازم ومضيع، ليسا سواء من هو مجاهد يجاهد نفسه ويجاهد عدوه إبليس، ومن هو مضيع ويتبع نفسه هواها.
قال: "ما أبكَى العيون ما أبكَاها الكتاب السابق".
وقال بعضهم: قلوب الأبرار معلقة بالخواتيم، يقولون : بماذا يُختم لنا، وقلوب السابقين -أو قال المقربين- معلقة بالسوابق يقولون: ماذا سبق لنا".
وهذا مثال للخوف الشديد الذي يكون في قلوب أهل الإيمان، وإذا كان هذا الخوف فإنه لا يعني أن يكون مترددا ليس على طاعة، ولكنه يبعثه هذا الخوف على الأخذ بالحزم، وأن يعد العدة للقاء الله -جل وعلا-، فالإيمان بالقدر له ثمراته العظيمة في العمل واليقين، وصلاح قلوب العباد.
فالأتقياء هم الذين آمنوا بالقدر، والمضيعون هم الذين اعترضوا على القدر، ولكلٍّ درجات عند الله -جل وعلا- من الفضل والنعمة، يعني: من المقربين والسابقين، وأصحاب اليمين إلى آخره ، ولأهل الشقاء دركات في النار، نعوذ بالله من الخذلان .
نكتفي بهذا القدر، وأول الأحاديث، -يعني- إلى ثماني أو عشرة أحاديث، هذه جوامع تحتاج إلى طول، ثم بعد ذلك نمشي -إن شاء الله- لأن ما بعدها يكون قد سبق فيما قبل أو يكون الكلام عليه قليلا .
بارك الله فيكم ، ونفعني -وإياكم-، وثبتنا -وإياكم- على الحق والعلم والهدى ، وصلى الله وسلم على نبينا محمد .
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله حق الحمد وأوفاه، وأشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله ومصطفاه، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليما كثيرا إلى يوم الدين.(1/61)
أما بعد، فإن الاهتمام بشرح الأحاديث يثري طلاب العلم في مادته، وفي فهمه للشريعة عامة، والأحاديث منها ما يشتمل على أصول وقواعد، فهمها يريح طالب العلم في فهم مسائل كثيرة إذا اشتبهت عليه ردها إلى هذه الأصول الواضحات، فاتضح له علم ما ربما أشكل أو خفي في بعض المواضع.
فعلم الحديث وفهم كلام العلماء على الأحاديث ينبغي أن يكون متسلسلا بحسب أهمية تلك الأحاديث، فكما ذكرت لكم سالفا أن هذه الأربعين النووية مهمة؛ لأن في شرحها بيان كثير من الأصول الشرعية، التي إذا استوعبها طالب العلم رَدَّ إليها ما أشكل عليه.
تجد -مثلا- أن العالم أو طالب العلم إذا وردت عليه مسألة مشكلة، ربما لم يطلع فيها على كلام لأهل العلم، وهي مشكلة، فيرد ذلك المشكل إلى ما يعلمه من الأصول الشرعية التي دلت عليها أدلة الكتاب أو أدلة السنة، فيتضح له الإشكال؛ لأن مما يميز أهل العلم أنهم يردون المتشابه إلى المحكم.
فإذا ضبط طالب العلم المحكمات من الأدلة الواضحات البينات، وتبَيَّن له كلام أهل العلم الراسخين عليها، فإنه يستطيع -بفضل الله ونعمته ورحمته- أن يرد ما يشكل فيما يقرأ، أو فيما يسمع، أو ربما فيما يُورد عليه من سؤال، أو في مجلس من حديث، أو نحو ذلك، يرد ما أَشْكَل إلى ما اتضح له أو يتوقف فيه .
وهذا هو الفرق ما بين طالب العلم المُؤَصَّل وطالب العلم الذي يقرأ فقط؛ فطالب العلم المؤصل يكون عنده بناء المحكمات شيئا فشيئا في العقيدة والحديث والفقه، فلا تجد أنه يضطرب عند إيراد المشكلات، أو أنه يغير رأيه تارة هنا وتارة هناك، كما قال الإمام مالك -رحمه الله-: "من جعل دينه عرضة للخصومات أكثر التنقل". لأنه لا يكون عند كل أحد من العلم بالشريعة وفهم أصولها وفروعها والمحكمات ما يمكنه أن يرد الشبه، أو يرد الإشكالات إلى ما أُحْكِمَ من أدلة هذه الشريعة العظيمة.(1/62)
لهذا لا بد من أن يؤخذ العلم شيئا فشيئا، وأن تُفْهَمَ شروح أهل العلم على الأحاديث على مر الأيام والليالي، فيتحصل طالب العلم على حصيلة علمية متينة يكون معها -إن شاء الله تعالى- وضوح الشريعة، وفهم الأدلة، وهكذا كان يسير العلماء، فيحرصون على فهم الأولويات، فهم الأشياء، أو الأحاديث التي هي مختصرة أو جوامع أو كليات، ثم ينتقلون إلى المطولات بحسب الحاجة .
الحديث الخامس
من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين
قال المصنف -رحمه الله تعالى-: وعن أم المؤمنين أم عبد الله عائشة -رضي الله عنها- قالت : قال رسول الله ( ( من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد ( رواه البخاري ومسلم.
وفي رواية لمسلم : ( من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد (
هذا الحديث حديث عظيم جدا، وعَظَّمَه العلماء، وقالوا: إنه أصل في رد كل المحدثات والبدع والأوضاع المخالفة للشريعة.
فهو أصل في رد البدع في العبادات، وفي رد العقود المحرمة، وفي رد الأوصاع المحدثة على خلاف الشريعة في المعاملات، وفي عقود النكاح، وما أشبه ذلك.
ولهذا جعل كثير من أهل العلم هذا الحديث مستمسكا في رد كل محدثة، كل بدعة من البدع التي أحدثت في الدين، ولهذا ينبغي لطالب العلم أن يحرص على هذا الحديث حرصا عظيما، وأن يحتج به في كل مورد يحتاج إليه فيه في رد البدع والمحدثات، في الأقوال والأعمال والاعتقادات؛ فإنه أصل في هذا كله.
قال -رحمه الله تعالى- : "عن أم المؤمنين أم عبد الله عائشة -رضي الله عنها- قالت : قال رسول الله ( ( من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد ( .
وفي رواية لمسلم -وقد علقها البخاري في الصحيح أيضا-: ( من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد ( .
قال -عليه الصلاة والسلام-: ( من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد ( .(1/63)
قال: ( من أحدث ( ولفظ "من" هذا للاشتراك، وجوابه ( فهو رد ( والحدث في قوله: ( أحدث ( هو كل ما لم يكن على وصف الشريعة، على وصف ما جاء به المصطفى ( لهذا قال فيه: ( من أحدث في أمرنا ( .
والأمر هنا هو الدين، كقوله -جل وعلا- : ( (((((((((((( ((((((((( (((((((((((( (((( (((((((((( ((( ((((((((((( (((((((( (((( ((((((((((( ((((((( ((((((( ( (62) .
فمن أحدث في الدين ما ليس منه فهو مردود عليه، وقوله هنا: ( ما ليس منه ( لأنه قد يُحْدِث شيئا باعتبار الناس، ولكنه سنة مهجورة، هجرها الناس، فهو قد سَنَّ سنة من الدين، وذَكَّر بها الناس، كما جاء في الحديث أنه -عليه الصلاة والسلام- قال : ( ومن سَنَّ في الإسلام سنة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها إلى يوم القيامة ( .
فإذن قوله أولا : ( من أحدث ( هذا فيه المحدثات في الدين، ودل عليها قوله: ( في أمرنا هذا ( يعني: في ديننا هذا، وما عليه أمر النبي ( وهو شريعته.
قال: ( ما ليس منه ( وهذه هي الرواية المشتهرة في الصحيحين وفي غيرهما، وروي في بعض كتب الحديث: ( ما ليس فيه فهو رد ( يعني: ما ليس في أمرنا، فهذا يدل يعني هذه الرواية تدل على اشتراط العمل بذلك الشيء، ولا يُكْتَفَى فيه بالكليات في الدلالة .
قال : ( فهو رد ( يعني: فهو مردود عليه كما قال علماء اللغة: رد هنا بمعنى مردود، كسد بمعنى مسدود، ففعل تأتي بمعنى مفعول، يعني: من أتى بشيء محدث في الدين لم يكن عليه النبي ( فهو مردود عليه كائنا من كان، وهذا فسرته الرواية الأخرى : ( من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد ( .
فأرجعه إلى الأعمال، والعمل هنا المراد به الدين أيضا، يعني: من عملا عملا يتدين به من الأقوال أو الأعمال أو الاعتقادات ليس عليه أمرنا فهو رد، يعني: مردودا عليه.(1/64)
وهذا فيه إبطال كل المحدثات، وإبطال كل البدع، وذم ذلك، وأنها مردودة على أصحابها، وهذا الحديث -كما ذكرت لك- أصلٌ في رد البدع في الدين، والأعمال التي في الدين -يعني أمور الدين- منقسمة إلى عبادات وإلى معاملات، والمحدثات تكون في العبادات وتكون في المعاملات.
فهذا الحديث دَلَّ على إبطال المحدثات وإبطال البدع؛ لأن كل محدثة بدعة، يعني: كل محدثة في الدين بدعة، والعلماء والعلماء تكلموا كثيرًا عن البدع والمحدثات، وجعلوا هذا الحديث دليلا على رد المحدثات والبدع.
فالبدع مذمومة في الدين، وهي شر من كبائر الذنوب العملية؛ لأن صاحبها يستحسنها، ويستقيم عليها تقربا إلى الله -جل وعلا.
إذا تبين هذا الشرح العام للحديث، فما المراد بالبدع والمحدثات ؟
هذه مما اختلف العلماء في تفسيرها، والمحدثات والبدع منقسمة إلى: محدثات وبدع لغوية، وإلى محدثات وبدع في الشرع.
أما المحدث في اللغة: فهو كل ما كان أُحْدِثَ، سواء أكان في الدين، أو لم يكن في الدين، وإذا لم يكن في الدين فإن هذا معناه أنه لا يدخل في هذا الحديث ، وكذلك البدع.
ولهذا قسم بعض أهل العلم المحدثات إلى قسمين: محدثات ليست في الدين، وهذه لا تُذَم، ومحدثات في الدين، وهذه تذم.
مثل المحدثات التي ليست من الدين: مثل ما حصل من تغير في طرقات المدينة، وتوسعة عمر الطرقات، أو تجصيص البيوت، أو استخدام أنواع من البسط فيها، واتخاذ القصور في المزارع، وما أشبه ذلك مما كان في زمن الصحابة وما بعده، أو اتخاذ الدواوين، أو ما أشبه ذلك، فهذه أحدثت في حياة الناس فهي محدثة، ولكنها ليست بمذمومة؛ لأنها لم تتعلق بالدين.
كذلك البدع، منها بدع في اللغة يصح أن تسمى بدعة، باعتبار أنها ليس لها مثال سابق عليها في حال من وصفها بالبدعة، وبدع في الدين، وهذه البدع التي في الدين كان الحال على خلافها، ثم أُحْدِثَتْ.(1/65)
مثاله: قول عمر ( لما جمع الناس على إمام واحد، وكانوا يصلون أشتاتا في رمضان، جمعهم في التراويح على إمام واحد قال: ( نعمت البدعة هذه ( .
فسماها بدعة باعتبار اللغة؛ لأنها في عهده بدعة، يعني: لم يكن لها مثال سابق في عهد عمر، فتعلقت باللغة أولا، ثم بالمتكلم ثانيا .
إذا تبين هذا فالمقصود بهذا الحديث المحدثات والبدع في الدين، والبدعة في الدين دَلَّ الحديث على ردها، ودل على ذلك آيات كثيرة وأحاديث كثيرة، كما قال -جل وعلا- : ( (((( (((((( (((((((((((( ((((((((( ((((( ((((( ((((((((( ((( (((( (((((((( (((( (((( ( ( (63) .
فسماهم شركاء؛ لأنهم شرعوا من الدين شيئا لم يأتِ به محمد -عليه الصلاة والسلام-، لم يأذن الله به شرعا.
وقد قال -جل وعلا- : ( (((((((((( (((((((((( (((((( ((((((((( (((((((((((( (((((((((( ((((((((( ((((((((( (((((( ((((((((((( (((((( ( ( (64) .
وقال -جل وعلا- : ( (((( ((( ((((((( ((((((((( (((( (((((((((((((( (((((((((((( (((( ( (65) .
والآيات في هذا المعنى كثيرة، ويصلح أن يكون منها قوله -جل وعلا- : ( (((((( (((((((((( (((((((((( ((((((((( ((((( ((((((((( (((((( (((((((((((( ( ( (66) .
وقد جاء -أيضا- في الأحاديث ذم البدع والمحدثات، كما كان -عليه الصلاة والسلام- يقول في الجمعة وفي غيرها : ( ألا إن كل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار ( .
وقد جاء -أيضا- في السنن من حديث العرباض بن سارية ( أنه قال : ( وعظنا رسول الله ( ذات يوم موعظة بليغة، وَجِلَتْ منها القلوب، وذرفت منها العيون، فقلنا: يا رسول الله، كأنها موعظة مودع ... ( الحديث.
وفيه قال -عليه الصلاة والسلام- : ( إنه من يَعِشْ منكم فسيرى اختلافا كثيرا، فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي، تمسكوا بها، وعضوا عليها بالنواجذ ؛ فإن كل محدثة بدعة ( .(1/66)
والعلماء -علماء السلف- أجمعوا على إبطال البدع، فكل بدعة في الدين أُجْمِعَ على إبطالها إذا صارت بدعة في الدين، دخل العلماء في تعريف البدعة، ما هي التي يحكم عليها بأنها رَدّ ؟ لأن هذا الحديث دل على أن كل محدثة رد ( من أحدث في أمرنا ما ليس منه فهو رد ( .
فالبدعة في الدين عُرِّفَتْ بعدة تعريفات، يهمنا منها تعريفان لضيق المقام :
أولها : التعريف المشهور الذي ذكره الشاطبي في الاعتصام، وهذا التعريف جيد؛ لأنه جعل البدعة طريقة ملتزمة، وأن المقصود من السلوك عليها مضاهاة الطريقة الشرعية، وشرح التعريف والكلام عليه يطول، فتراجعونه في مكانه.
لكن يهمنا من التعريف هذا شيئين:
الأول : أن البدعة ملتزم بها؛ لأنه قال طريق في الدين، والطريقة هي الملتزم بها، يعني: أصبحت طريقة يطرقها الأول والثاني والثالث، أو تتكرر، فهذه الطريقة يعني ما التُزِم به من هذا الأمر .
والثاني: أنها مُخْتَرَعة، يعني: أنها لم تكن على عهد النبي -صلى الله عليه وسلم.
والثالث: أن هذه الطريقة تُضَاهَى الطريقة الشرعية من حيث إن الطريقة الشرعية لها وصف ولها أثر، أما الوصف فمن جهة الزمان والمكان والعدد، وأما الأثر فهو طلب الأجر من الله -جل وعلا.
فتحصل لنا أن خلاصة ما يتصل بتعريف الشاطبي للبدعة يتعلق بثلاثة أشياء:
أن البدعة يُلْتَزَم بها ، الثاني: أنها مخترعة، لم يكن عليها عمل سابق، وهذه توافق الرواية الثانية : ( من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد ( والثالث : أنه تُضَاهَى بها الطريقة الشرعية، من حيث الزمان والمكان والوصف والأثر، يعني: العدد الذي هو الوصف مع الزمان والمكان، والأثر وهو طلب الأجر من الله -جل وعلا- بذلك العمل .
وعرَّفَه غيره بتعريف أوضح، وهو تعريف السمني، حيث قال: إن البدعة ما أُحْدِثَ على خلاف الحق المُتَلَقَّى عن رسول الله ( من قول أو عمل أو اعتقاد، وجُعِلَ ذلك دينا قويما وصراطا مستقيما.(1/67)
وهذا التعريف -أيضا- صحيح، ويتضح لنا منه أن البدعة أحدثت على خلاف الحق، فهي باطل، وأنها تكون في الأقوال، وفي الأعمال، وفي الاعتقادات، وأنها مُلْتَزَمٌ بها؛ لأنه قال في آخره: جعل ذلك دينا قويما وصراطا مستقيما.
إذا تقرر ذلك فمن المهمات في معرفة البدعة أن البدعة تكون في الأقول والأعمال والاعتقادات، إذا كان القول على غير وصف الشريعة، يعني: جُعِلَ للقول طريقة من حيث الزمان والمكان، أو من حيث العدد، تُعُبِّدَ بقول ليس وصف الشريعة، وجُعِلَ له وصف من حيث الزمان أو المكان أو العدد، وطُلِبَ به الأجر من الله -جل وعلا.
أو الأعمال، يُحْدِثُ أعمالا يتقرب بها إلى الله -جل وعلا- ويجعل لها صفة تُضَاهَى بها الصفة الشرعية على نحو ما ذكرنا، أو يعتقد اعتقادات على خلاف الحق المُتَلَقَّى عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم.
فهذه كلها من أحدثها -بمعنى: من أنشأها- فهي مردودة عليه، ومن تبعه على ذلك فهو -أيضا- عمله مردود عليه، ولو كان تابعا؛ لأن التابع -أيضا- محدث بالنسبة لأهل زمانه، وذاك محدث بالنسبة لأهل زمانه، فكل من عمل ببدعة فهو محدث لها.
لهذا يتقرر من هذا التأصيل أن البدعة مُلْتَزَمٌ بها، في الأقوال أو الأعمال أو الاعتقادات، فلا يقال إنه من أخطأ مرة في اعتقاد ولم يلتزم به أنه مبتدع، ولا يدخل فيمن فعل فعلا على خلاف السنة إنه مبتدع، إذا فعله مرة، أو مرتين أو نحو ذلك، ولم يلتزمه.
فوصف الالتزام ضابط مهم كما ذكر شيخ الإسلام ابن تيمية في بعض كلامه أن ضابط الالتزام مهم في الفرق بين البدعة ومخالفة السنة، فنقول: خالف السنة في عمله، ولا نقول إنه مبتدع، إلا إذا إلتزم مخالفة السنة، وجعل ذلك دينا يلتزمه.
فإذن من أخطأ في عمل من الأعمال في العبادات، وخالف السنة فيه، فإنه -إن كان يتقرب به إلى الله- فنقول له: هذا الفعل منك مخالف للسنة.(1/68)
فإن التزمه بعد البيان، أو كان ملتزما له، دائما يفعل هذا الشيء، فهذا يدخل في حيز البدع، وهذا ضابط مهم في الفرق بين البدعة ومخالفة السنة .
مما يتصل -أيضا- بهذا الحديث، والكلام على البدع والمحدثات يطول، لكن ننبه على أصول فيها، مما يتصل به من الفرق بين مُحْدَث ومُحْدَث، أن هناك محدثات لم يجعلها الصحابة -رضوان الله عليهم- من البدع؛ بل أقروها، وجعلوها سائغة، وعُمِلَ بها، وهذه هي التي سماها العلماء -فيما بعد- المصالح المرسلة، والمصالح المرسلة للعلماء فيها وجهان من حيث التفسير، ومعنى المصالح المرسلة أن هذا العمل أرسل الشارع حكمه باعتبار المصلحة، فإذا رأى أهل العلم أن فيه مصلحة فإن لهم أن يأذنوا به لأجل أن الشارع ما عَلَّق به حكما، وهذا يأتي بيان صفاته .
قال العلماء : المصالح المرسلة تكون في أمور الدنيا، لا أمور العبادات، وفي أمور الدنيا، في الوسائل منها التي يُحَقَّقُ بها أحد الضروريات الخمس، يعني: أن الشريعة قامت على حفظ ضروريات خمس معلومة لديكم: الدين، والنفس، والمال، والنسل، والعقل.
هذه الخمس وسائل حفظها -هذه من المصالح المرسلة- وسائل حفظ الدين مصلحة مرسلة، لك أن تُحْدِثَ فيها ما يحفظ دين الناس، مثل تأليف الكتب ، تأليف الكتب لم يكن على عهد النبي ( فأُحْدِثَ تأليف الكتب، تأليف الردود، جمع الحديث ما كان، نهى النبي ( أن يُكْتَب حديثه، ونهى عمر أن يُكْتَب حديث النبي ( ثم كُتِب.
هذا وسيلة لم يكن المُقْتَضِي لها في هذا الوقت قائما، ثم قام المقتضي لها، فصارت وسيلة لحفظ الدين، صارت مصلحة مرسلة، وليست بدعة.
فإذن من المهمات في هذا الباب أن تُفَرِّق ما بين البدعة، وما بين المصلحة المرسلة؛ فالبدعة في الدين، متجهة إلى الغاية، وأما المصلحة المرسلة فهي متجهة إلى وسائل تحقيق الغايات، هذا واحد.(1/69)
الثاني: أن البدعة قام المقتضي لفعلها في زمن المصطفى ( ولم تُفْعَل، والمصلحة المُرْسَلَة لم يقمْ المقتضي لفعلها في زمن النبي -صلى الله عليه وسلم.
فإذن إذا نظرنا -مثلا- إلى جمع القرآن، جَمْعُ القرآن جُمِعَ بعد النبي -عليه الصلاة والسلام-، في عهده -عليه الصلاة والسلام- لم يُجْمَع، فهل نقول جمع القرآن بدعة؟
العلماء أجمعوا -من الصحابة ومن بعدهم- أن جمع القرآن من الواجبات العظيمة التي يجب أن تقوم بها الأمة، هنا في عهد النبي ( ما قام المقتضي للفعل؛ لأن الوحي يتنزل، فلو نُسِخَ القرآن كاملا لكان هناك إدخال للآيات في الهوامش أو بين السطور، وهذا عرضة لأشياء غير محمودة.
فكان من حكمة الله -جل وعلا- أنه ما أمر نبيه بجمع القرآن في كتاب واحد في حياته -عليه الصلاة والسلام- ؛ وإنما لما انتهى الوحي بوفاة المصطفى -عليه الصلاة والسلام- جمعه أبو بكر، ثم جُمِعَ بعد ذلك .
وفي أشياء شتى من إنشاء دواوين الجند، ومن استخدام الآلات، ومن تحديث العلوم، ومن الاهتمام بعلوم مختلفة، وأشباه ذلك من فتح الطرقات، وتكوين البلديات والوزارات، وأشباه هذا في عهد عمر ( وفي عهد أمراء المؤمنين فيما بعد ذلك .
إذن فالحاصل من هذا أن المصلحة المرسلة مُحْدَثَة، ولكن لا ينطبق عليها هذا الحديث: ( من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد ( لأن هذه ليست في الأمر؛ وإنما هي في وسيلة تحديث الأمر، فخرجت عن شمول هذا الحديث من هذه الجهة.
ومن جهة ثانية أنها إحداث ليس في الدين؛ وإنما هو في الدنيا لمصلحة شرعية تعلقت بهذا العمل.
سمَّاها العلماء مصالح مرسلة، وجُعِلَتْ مطلوبة من باب تحقيق الوسائل؛ لأن الوسائل لها أحكام الغايات، فهي واجبة ولا بد من عملها؛ لأن لها حكم الغايات.
العبادات قسم من الشريعة، والمعاملات قسم من الشريعة، فالعبادات إحداث أمر في عبادة على خلاف سنة المصطفى ( محدث وبدعة في الدين.(1/70)
وكذلك في المعاملات، إحداث أوضاع في المعاملات على خلاف ما أمر به النبي ( فهو أيضا مردود؛ لأنه مُحْدَثٌ في الدين.
مثاله: أن يُحَوِّلَ -مثلا- عقد الربا من كونه عقدا محرما إلى عقد جائز، فهذا تبديل للحكم، أو إحداث لتحليل عقد حَرَّمه الشارع، أو يبطل شرطا من الشروط الشرعية التي دَلَّ عليها الدليل، فإبطاله لهذا الشرط مُحْدَثٌ أيضا، فيعود عليه بالرد.
أو أن يُحَوِّلَ -مثلا- عقوبة الزنا من كونها رجما للمُحْصَن، أو الجلد والتغريب لغير المحصن، إلى عقوبة مالية، فهذا رد على صاحبه، ولو كانت في المعاملات؛ لأنها إحداث في الدين ما ليس منه، وهذا يختلف عن القاعدة المعروفة أن: الأصل في العبادات التوقيف، والأصل في المعاملات الإباحة وعدم التوقيف.
هذا -يعني- فيما يكون في معاملات الناس، أما إذا كان هناك شرط شرعي أو عقد، شرط شرعه الشارع، وأمر به واشترطه، أو عقد أبطله الشارع، فلا يدخل فيه جواز التغيير؛ وإنما جواز التغيير، أو التجديد في المعاملات، وأنها مبنية على الإباحة والسعة، هذا فيما لم يدل الدليل على شرطيته، أو على عقده، أو على إبطال ذلك العقد، وما شابه ذلك.
وعلى هذا قال -عليه الصلاة والسلام- في حديث بريرة المشهور : ( كل شرط ليس في كتاب الله فهو باطل، وإن كان مائة شرط ( .
فهذا الحديث يأتي في جميع أبواب الدين، يأتي في الطهارة، وفي الصلاة، وفي الزكاة، والصيام، والحج، وفي البيوع والشركات، والقرض، والصرف، والإجارة إلى آخره ، النكاح والطلاق، وجميع أبواب الشريعة، كما هو معروف في مواضعه من تفصيل الكلام عليه.
الحديث السادس
إن الحلال بين وإن الحرام بين(1/71)
وعن أبي عبد الله النعمان بن البشير ( قال: سمعت رسول الله ( يقول : ( إن الحلال بَيِّن وإن الحرام بَيِّن، وبينهما أمور مشتبهات، لا يعلمهن كثير من الناس، فمن اتقى الشبهات فقد استبرأ لدينه وعرضه، ومن وقع في الشبهات وقع في الحرام، كالراعي يرعى حول الحمى يوشك أن يرتع فيه، ألا وإن لكل ملك حمى، ألا وإن حمى الله محارمه، ألا وإن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله، ألا وهي القلب ( رواه البخاري ومسلم.
هذا الحديث -حديث النعمان بن بشير ( عَدَّه العلماء ثلث الدين أو ربع الدين ؛ فإن الإمام أحمد قال: أحاديث الإسلام تدور على ثلاثة أحاديث: حديث عمر: ( إنما الأعمال بالنيات ( وحديث عائشة السابق: ( من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد ( وحديث النعمان بن بشير.
وذلك أن حديث النعمان دَلَّ على أن الأشياء منقسمة إلى حلال بَيِّن، وإلى حرام بَيِّن ، وإلى مشتبه.
فالحلال البَيِّن والحرام البَيِّن واضح الحكم، والمشتبه جاء حكمه في هذا الحديث، والحلال يحتاج إلى نية، وإلى متابعة، وعدم إحداث فيه من أمور العبادات والمعاملات ، وكذلك الحرام يحتاج إلى نية في تركه حتى يؤجر عليه، إلى آخر ذلك .
فصار هذا الحديث ثلث الإسلام.
وأبو داود صاحب السنن جعل الأحاديث أربعة، وزاد عليها حديث: ( الدين النصيحة ( الحديث الذي سيأتي بعد هذا -إن شاء الله تعالى.
هذا يدل على أن هذا الحديث موضعه عظيم في الشريعة؛ فهو ثلث الدين لمن فهمه، ففيه أن الأحكام ثلاثة: حلال بَيِّن واضح لا اشتباه فيه، وحرام بَيِّن واضح لا اشتباه فيه، وثالث مشتبه لا يعلمه كثير من الناس، ولكن يعلمه بعضهم.
فالحلال البَيِّن الواضح من أتاه فهذا على بينة، بين للناس، والحرام البين الواضح أيضا بَيِّن للناس، لا اشتباه فيه، فمن انتهى عنه فهو مأجور، ومن وقع فيه فهو مأزور.(1/72)
وهناك ما هو مشتبه، ومن أجل هذا المشتبه جاء هذا الحديث من الرءوف الرحيم -عليه الصلاة والسلام-، فقال : ( الحلال بَيِّنٌ، والحرام بَيِّنٌ، وبينهما أمور مشتبهات ( .
الحلال البين مثاله أنواع المأكولات المباحة، تأكل اللحم والخبز، وتشرب الماء إلى آخره ، أنواع العلاقات المالية المباحة، البيع الواضح، الصرف الواضح إلى آخره، أنواع الإجارة الواضحة ، الزواج الواضح، وأشباه ذلك مما اكتملت فيه الشروط ولا شبهة فيه، فهذا بين يعلمه الناس، وأيضا هو درجات.
والحرام بين -أيضا- واضح مثل حرمة الخمر، وحرمة السرقة، وحرمة الزنا، وحرمة قذف الغافلات المؤمنات، وحرمة الرشوة، وأشباه ذلك مما الكلام فيها واضح لا اشتباه فيه .
القسم الثالث: قال: ( وبينهما أمور مشتبهات ( قال -عليه الصلاة والسلام-: "وبينهما" فجعل هذا القسم بين الحلال والحرام؛ وذلك لأنه يجتذبه الحلال تارة، ويجتذبه الحرام تارة عند من اشتبه عليه، فالذي اشتبه عليه هذا الأمر يكون عنده بين الحلال والحرام، لا يدري هل هو حرام أو هو حلال، إن نظر فيه من جهة قال هو حلال، وإن نظر فيه من جهة جعله حراما، وهذا عند كثير من الناس، وأما الراسخون في العلم فيعلمونه، يعلمون حكمه، هل هو حلال أو حرام؟.
فقال -عليه الصلاة والسلام-: ( وبينهما أمور مشتبهات لا يعلمهن كثير من الناس ( فدل قوله: ( لا يعلمهن كثير ( على أن هناك كثيرا من الناس يعلمون الحكم.
هذه المشتبهات اختلف العلماء في تفسيرها، ما هي المشبهات؟ في أقوال كثيرة جدا، وصُنِّفَتْ فيها مصنفات، وشروح هذا الحديث في الكتب المطولة طويل أيضا في تفسير المشتبهات، ووضوحها ينبني على فهم معنى المشتبه في اللغة وفي القرآن أيضا.(1/73)
أما في اللغة، فاشتبه الشيء: بمعنى اختلط، يعني: صار يتنازعه أشياء متعددة جعلته مختلطا على الناظر أو على السامع، اشتبهت الأشياء عند عينه، بمعنى اختلطت، ما يميز هذا من هذا، اشتبهت الأصوات عليه، يعني: تداخلت، فلم يميز هذا من هذا.
فالمشتبهات في اللغة لا يتضح منها الأمر عند كثير من الناس لضعف قوته، كما أن الناظر -لضعف بصره- اشتبه عليه، والسامع -لضعف سمعه- اشتبه عليه، فكذلك المسائل التي تُدْرَك بالقلب تدرك بالبصيرة، تشتبه من جهة ضعف البصيرة ضعف العلم.
أما في القرآن فجعل الله -جل وعلا- المشتبهات أو المتشابهات فيما يقابل المحكمات، في آية سورة "آل عمران"، وهي قوله -جل وعلا-: ( (((( (((((((( ((((((( (((((((( ((((((((((( (((((( (((((((( ((((((((((( (((( (((( ((((((((((( (((((((( (((((((((((((( ( ((((((( ((((((((( ((( ((((((((((( (((((( ((((((((((((( ((( ((((((((( (((((( (((((((((((( (((((((((((( (((((((((((((( (((((((((((( ( ((((( (((((((( ((((((((((((( (((( (((( ( ((((((((((((((( ((( (((((((((( (((((((((( (((((((( ((((( (((( ((((( ((((( (((((((( ( ( (67) .
فدلت الآية على أن المحكم ما كان واضحا بَيّنًا، والمشتبه ما يشتبه علمه على الناظر فيه .
وما في الحديث غير ما في الآية، من جهة أن ما في الآية من جهة المعاني -معاني الآيات- لأنه قال: ( (((( (((((((( ((((((( (((((((( ((((((((((( (((((( (((((((( ((((((((((( (((( (((( ((((((((((( (((((((( (((((((((((((( ( ( (68) .
فمعنى الآية يشتبه، والحديث من جهة العمل، من جهة الحكم، هل هذه من الحلال، أو هي من الحرام ؟(1/74)
فإذن من جهة الاشتباه الأمر واحد، أن المشتبه فيما دلت عليه آية "آل عمران" هو غير الواضح، وهذا نستمسك به في تفسير المشتبه في هذا الحديث؛ لأن الكلمة إذا اشتبه معناها، أو اختلف العلماء في معناها، فإرجاعها إلى عُرْفِ الشارع، في كلامه، يعني إلى ما كان عليه استعمال الشارع في القرآن، فهذا يريحنا من إشكال تفسير الكلمة، فإذا نظرنا في هذه الكلمة مشتبهات، فجعلها بعض العلماء اختلاط المال المباح مع المال الحرام، جعلها بعضهم فيما اختلف فيه العلماء في أقوال ربما يأتي بعضها.
فتفسيرها الصحيح أن نجعلها مثل آية "آل عمران"، يعني: ما اتضح ما لم يتضح للمرء، ما لم يتضح حكمه فهو مشتبه، وما اتضح حكمه من الحلال فهو حلال، وما اتضح حكمه من الحرام فهو حرام، وهذه محكمات، وما اشتبه حكمه فهو من غير الواضح، من المتشابهات، أو المشتبهات، أو المشبهات كما هي روايات في هذا الحديث .
الإمام أحمد -رحمه الله- وإسحاق وجماعة من أهل العلم فسروا المشتبهات بما اختلف الصحابة في حله وحرمته، أو اختلف العلماء في حله وحرمته، فقالوا -مثلا- أكل الضب اختلفوا فيه، فيكون من قبيل المشتبه، وقالوا: إن أكل ذي الناب من السباع اختلف فيه العلماء، فيكون من قبيل المشتبه، أو لبس بعض الملابس اختلفوا فيها، فيكون من قبيل المشتبه، وجعلوا اختلاف المال حلال وحرام، هذا من قبيل المشتبه في أشياء، وشرب ما يسكر كثيره من قبيل المشتبه، من جهة الناظر فيه، وهذا -في الحقيقة- ليس واضحا، وهذه إذا جُعِلَتْ من المشتبهات فهذا من جهة التأويل، لا من جهة كونها مشتبهات بينة.(1/75)
فالإمام أحمد وإسحاق وجماعة إذا قالوا عن هذه الأشياء: إنها مشتبهات، فيعنون أنه ينبغي لمن ذهب إلى القول المبيح أن يستبرئ، من ذهب إلى القول المبيح في المُسْكِر لا بد له أن يستبرئ لدينه ويذهب إلى القول الآخر، في أكل الضب السنة فيه واضحة، فينبغي أن يترك رأيه إلى السنة للأمر الواضح، يعني: قالوا إنها من المشتبهات باعتبار الخلاف، وهذا ليس هو المقصود بالحديث؛ وإنما هم نظروا في اختلاف العلماء في ذلك.
والذي ينبغي حمل الأحاديث عليه ما ذكرت لك من أن المشبهات، أو المشتبهات، أو المتشابهات هي ما اشتبه علمه، ما اشتبه حكمه على من يحتاج إليه، فإذا اشتبه عليه حكم هذا البيع فاستبراؤه له حماية لعلمه، حماية لدينه ، إذا اشتبه عليه حكم هذه المرأة، هل هي مباحة له أم غير مباحة؟ فالاستبراء أن يتوقف حتى يأتيه إما أن تكون حلالا بينا أو حراما بينا .
إذا تقرر ذلك فإنه، إن المشتبهات هذه لها حالان:
الحال الأولى: ما يتوقف فيه العلماء، فيتوقف العالم في حكم المسألة، يقول: أنا متوقف فيها. والعلماء توقفوا في شيء مثل بعض المسائل الحادثة الآن، تأتي مسألة -مثلا- من مسائل البيوعات أو مسائل المال الجديدة التي يحدثها الناس، والعلماء حتى ينظروا فيها لا بد أن يتوقفوا.
في بعض المسائل الطبية -مثلا- توقف العلماء، والعلماء توقفهم ليس عن عجز، ولكن حماية لدينهم هم؛ لأنهم سيفتون الأمة، وإذا أفتوا الأمة فالحلال الذي صار في الأمة حلالا منسوب إليهم، وهم وقعوا عن رب العالمين -جل وعلا- يعني: أفتوا عن الله -سبحانه- ، فينبغي أن يتوقفوا حتى تتبين لهم، فإذا توقف العلماء في مسألة فإذن هي من المشتبهات حتى يتبين حكمها للعالم، هذا النوع الأول.(1/76)
والنوع الثاني من المشتبهات: ما تشتبه على غير العالم، فينبغي أن لا يواقعها حتى يردها إلى العالم، ينبغي: يعني وجوبا؛ لأنه -عليه الصلاة والسلام- قال: "وبينهما" يعني: بين الحلال والحرام. ( أمور مشتبهات لا يعلمهن كثير من الناس ( .
في قوله: ( لا يعلمهن كثير من الناس ( إرشاد إلى أن هناك من يعلم، فتسأل من يعلم عن حكم هذه المسألة.
قال: ( فمن اتقى الشبهات ( يعني: قبل أن يصل إليه العلم، أو في المسألة التي توقف فيها أهل العلم.
( فمن اتقى الشبهات فقد استبرأ لدينه وعرضه ( أما استبراء الدين فهو من جهة الله -جل وعلا-؛ حيث إنه إذا استبرأ فقد أتى ما يجب عليه، متوقف فيها فأنا لا أقدم عليها؛ لأنها ربما كانت حراما، والمؤمن مُكَلَّف، فينبغي عليه وجوبا ألا يأتي شيئا وهو يعلم أنه حلال، وإذا أراد أن يُقْدِم على شيء، يقدم على شيء يعلم أنه غير حرام.
فمن توقف عن الحلال المشتبه أو عن الحرام المشتبه فقد استبرأ للدين؛ لأنه ربما واقع، فصار حراما، وهو لا يدري.
هل يقال هنا: هو لا يدري معذور ؟ لا، غير معذور؛ لأنه يجب عليه أن يتوقف حتى يتبين له حكم هذه المسألة، يأتيها على أي أساس؟ هو مكلف، لا يعمل عمل إلا بأمر من الشرع، فلهذا قال: ( فقد استبرأ لدينه ( .
قال: "وعرضه" وعرضه لأنه -في أهل الإيمان- من أقدم على الأمور المشتبهات فإنه قد يُوقَع فيه، قد يُتَكَلَّم فيه بأنه قليل الديانة؛ لأنه لم يستبرئ لدينه، فإنه إذا ترك مواقعة المشتبهات استبرأ لعرضه، وفي هذا حث على أن المرء لا يأتي ما يُعاب عليه في عرضه، فالمؤمن يرعى حال إخوانه المؤمنين، ونظرة إخوانه المؤمنين إليه، ولا يأتي بشيء يقول: أنا لا أهتم بقول أهل الإيمان، لا أهتم بقول أهل العلم، لا أهتم بقول طلبة العلم؛ فإن استبراء العرض حتى لا يوقع فيه هذا أمر مطلوب.(1/77)
وقد جاء في الأثر: "إياك وما يشار إليه بالأصابع". يعني: من أهل الإيمان، حيث ينتقدون على العامل عمله فيما لم يوافق فيه الشريعة .
قال: ( ومن وقع في الشبهات وقع في الحرام ( هنا "وقع في الحرام" فُسِّرَتْ بتفسيرين: الحرام الذي هو أحد الجانبين الذي الشبهات فيما بينهما؛ لأن جانب حلال، وجانب حرام، فمن وقع في الشبهات وقع في الحرام الذي هو أحد الجهتين، وفُسِّرَ الحرام بأنه وقع في أمر مُحَرَّم؛ حيث لم يستبرئ لدينه، حيث وقع في شيء لم يعلم حكمه، شيء مسألة واقعتها بلا علم منك أنه جائز، فلا شك أن هذا إقدام على أمر دون حجة.
( فمن وقع في الشبهات وقع في الحرام ( وهذا في المسائل التي تتنازعها الأمور بوضوح، هناك مسائل من الورع يستحب تركها، ليست هي المقصودة بهذه الكلمة؛ لأنه قال: ( ومن وقع في الشبهات وقع في الحرام ( .
ثم مَثَّلَ ذلك -عليه الصلاة والسلام- بقوله: ( كالراعي يرعى حول الحمى يوشك أن يرتع فيه ( الراعي يكون معه شيء من الماشية، الماشية من طبيعتها أنها -في بعض الأحيان- تخرج عن مجموع الماشية وتذهب بعيدا، فإذا قارب حمى محمية، مثلا: أرض محمية للصدقة، أو محمية في ملك فلان، أو ما أشبه ذلك، فإن مقاربته بماشيته للحمى لا بد أن يحصل منها بعضها منهم، ويأخذ من حق غيره.
وهذا تمثيل عظيم في أن ( حِمَى الله محارمه ( وما هو داخل هذا الحمى هو الدين، وهذه المحارم حمى، فمن قارب فلا بد أن يحصل منه مرة أن يتوسع، فيدخل في الحرام، حتى في الأمور التي يكون عنده فيها بعض التردد، لا كل التردد.
فلهذا مَثَّلَ -عليه الصلاة والسلام- بهذا المثال العظيم، فقال: ( كالراعي يرعى حول الحمى يوشك أن يرتع فيه ( لأنه قَارَب.
قال: ( ألا وإن لكل ملك حمى، ألا وإن حمى الله محارمه ( فحمى الله محارمه، بها يقوَى دين المرء.(1/78)
فهذا الحديث واضح الدلالة في أن من قارب الحمى ، من قارب المحارم ، من قارب الحرمات فإنه يوشك أن يقع في المحرم من جرّاء تساهله .
نفهم من هذا الحديث أن الحلال البَيِّن واضح، والحرام البين واضح، والمشبهات المشتبهات عرفنا تعريفها، وحكمها، وتقسيمات الكلام عليها، وأنه يجب على صاحب الدين، يجب على المسلم ألا يأتي شيئا إلا وهو يعلم حكمه، إذا لم يعلم فليسأل، فتكون إذن المسألة مشتبهة عليه، ويزول الاشتباه بسؤال أهل العلم، فإن بقيت مشتبهة على أهل العلم، فإنه -يعني حتى يحكموا فيها- فإنه يتوقف معهم حتى يعمل ذلك.
هناك مسائل ليست مشتبهة -يعني في الأحكام- لكونها تبع الأصل جريان القواعد عليها، دخولها ضمن الدليل، فإذن المسائل التي اختلف العلماء فيها لا تدخل ضمن هذا الحديث من جهة كونها مشتبهة؛ بل نقول: هذه مسألة اختلف فيها العلماء، فإذن يخرج منها بتاتا على جهة أن من وقع فيها وقع في الحرام، لا ؛ ولكن هذا على وجه الاستحباب.
وهذا هو الذي فهمه العلماء من الحديث: أن الخروج من خلاف العلماء مستحب، يعني: أن العلماء إذا اختلفوا في مسألة، فالخروج من خلافهم إلى متيقن، هذا مستحب، وهذا صحيح باعتبارات، وفي بعض تطبيقاته قد لا يكون صحيحا في تفاصيل معلومة.
مثاله -مثلا-: قصر الصلاة في السفر، جمهور العلماء -يعني جمهور الأئمة الأربعة- مالك والشافعي وأحمد حَدّوا المدة بنية إقامة أربعة أيام فصاعدا، في أنه إذا نوَى إقامة أربعة أيام فصاعدا لم يترخص برخصة السفر، وهناك قول ثانٍ للحنفية بأن له أن يترخص ما لم يُزْمِع إقامة أكثر من خمسة عشر يوما، وهناك قول ثالث لشيخ الإسلام ابن تيمية وجماعة من أهل العلم: بأن له أن يترخص حتى يرجع إلى بلده.(1/79)
فهذه أقوال ثلاثة: القول الأول -وهو كونها أربعة أيام- رُجِّحَ على غيرها من جهة أن المسألة من حيث الدليل مشتبهة، وإذا كان كذلك فالأخذ فيها باليقين استبراء للدين؛ لأن الصلاة ركن الإسلام الثاني، فأَخْذُ اليقين في أمر الصلاة هذا مما دَلَّ عليه هذا الحديث، لأنه استبراء للدين؛ لأن الأربعة أيام هذه بالاتفاق أنه يترخص فيها، وأما ما عداها فهو مختلف فيه، فإذا كان كذلك فالخروج من الخلاف هنا مستحب، فنأخذ بالأحوط.
ولهذا رجح كثير من المحققين هذا القول باعتبار الاستبراء، وأن في الأخذ به اليقين في أمر الصلاة، التي هي الركن الثاني من أركان الإسلام، وأعظم الأركان العملية.
من المسائل التي -أيضا- يتعرض لها العلماء في هذا الحديث الأكل من مال من اختلط في ماله الحلال الحرام، أعني رجلا مثلا في ماله حرام، نعلم أنه يكتسب من مكاسب محرمة؛ إما أنه يرتشي، أو عنده مكاسب من الربا، أو ما أشبه ذلك، وعنده مكاسب حلال، فما الحكم في شأنه؟
جعله بعض العلماء داخلا في هذا الحديث، وأن الورع الترك على سبيل الاستحباب؛ لأنه استبراء.
وطائفة من أهل العلم قالوا: بحسب ما يغلب، فإن كان الغالب عليه الحرام فإنه يُسْتَبْرَأ، وإن كان الغالب عليه الحلال فإنه يجوز أن تأكل منه، ما لم تعلم أن عَيْن ما قُدِّمَ لك من الحرام .
وقال آخرون -منهم ابن مسعود ( لك أن تأكل، والحرام عليه، لتَغَيُّر الجهة، فهو اكتسبه من حرام، وحين قدم لك قدمه على أنه هدية، أو على أنه إضافة أو هبة، أو ما أشبه ذلك، وتَغَيُّر الجهة يغير الحكم كما في حديث بريرة: قالوا: يا رسول الله، في اللحم إنه تصدق به على بريرة ، والنبي ( لا يأكل الصدقة ، فقال -عليه الصلاة والسلام-: ( هو عليها صدقة، ولنا هدية ( .
لاختلاف الجهة، مع أنه عين المُهْدَى وهو اللحم، فقال جماعة من الصحابة ومن أهل العلم: إنه يأكل والحرام على صاحبه، على من قدمه، وأما هذا فقدمه على أنه هدية، فلا بأس بذلك.(1/80)
وقال آخرون في هذه المسألة: إنه يأكل منه ما لم يعلم أن هذا المال بعينه حرام، يعني: أن عين ما قَدَّم حرام، فإذا علم أن عين ما قدم حرام فلا يجوز له أكل هذا المعين، ويجوز أكل ما سواه، واستدلوا على ذلك بأن اليهود كانوا يقدمون الطعام للنبي -عليه الصلاة والسلام- ، وكانوا يأكلون الربا ، وكان -عليه الصلاة والسلام- ربما أكل من طعامهم.
فيه تفاصيل، المقصود من هذا -كمثال- لاختلاف العلماء في تنازعٍ في هذه المسألة، هل تدخل في هذا الحديث أم لا ؟ وجملتهم على دخوله من جهة الورع، وليس على دخوله من جهة أنه من أكل فقد أكل حراما، مع أن عددا من المحققين رَجَّحوا قول ابن مسعود، وهو ترجيح ظاهر من حيث الدليل، كابن عبد البر في "التمهيد"، وكغيره من أهل العلم في تفاصيل يطول الكلام عليها.
قال -عليه الصلاة والسلام- : ( ألا وإن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله؛ ألا وهي القلب ( .
فهذا فيه أن صلاح القلب -الذي هو معدن الإيمان- به يكون التورع، به يكون التوقف عن الشبهات، به يكون الإقدام على المحرمات، هذا راجع إلى القلب، والقلب إذا صلح، صلح الجسد كله في تصرفاته، وإذا فسد فسد، الجسد كله.
تعليق هذا بالقلب، قال: ( ألا وإن في الجسد مضغة ( والقلب -من حيث إدراك المعلومات- هو الذي يدرك، فعند المحققين من أهل العلم، والذي تدل عليه نصوص الكتاب والسنة أن هذا معلق بالقلب، يعني: حصول الإدراكات، وحصول العلوم، والصلاح والفساد والنيات ..إلى آخره، هذا معلق بالقلب.
إذا كان كذلك، فما وظيفة الدماغ أو المخ ؟
وظيفته الإمداد ، هذا على قول المحققين من أهل العلم، فاختلفوا في العقل؛ هل هو في القلب أم في الرأس؟ والصحيح أنه في القلب، والعقل ليس جرما؛ وإنما المقصود به إدراك المعقولات، والدماغ وما في الرأس هذه وسيلة تمد القلب بالإدراكات.
القلب هل يدرك من جهة كونه مضغة ؟(1/81)
لا ، يدرك من جهة كونه بيت الروح ، والله أعلم ، وصلى الله وسلم على نبينا محمد .
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن اهتدى بهداه.
أما بعد .. سبق في الكلام على حديث النعمان بن بشير في قوله -عليه الصلاة والسلام- : ( ومن وقع في الشبهات وقع في الحرام ( ونزيد المسألة بيانا بأن قوله -عليه الصلاة والسلام-: ( من وقع في الشبهات وقع في الحرام ( أنه لشدة مقاربته للحرام، فإنه صُوِّرَ كأنه واقع فيه، فإن الذي يقع في الشبهات يؤدي به ذلك إلى مواقعة الحرام، كما مَثَّلَ له -عليه الصلاة والسلام- بقوله: ( كالراعي يرعى حول الحمى يوشك أن يرتع فيه ( .
والقول الثاني: أن الوقوع في الحرام، أنه لاشتباه الأمر عليه، وعدم دخوله فيه بحجة أنه ربما وقع في الحرام، يعني: في أن هذا الأمر حكمه الحرمة، فوقع فيه من غير علم، وكان وقوعه فيه نتيجة لعدم استبرائه وبعده عن المشتبهات.
وهذان توجيهان وَجَّه بهما جماعة من الشُّرَّاح، وقد ذكرت لكم -أيضا- بالأمس توجيهان لأهل العلم تدخل في هذين.
الحديث السابع
الدين النصيحة
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين .
قال المصنف -رحمه الله تعالى-: وعن أبي رقية تميم بن أوس الداري ( قال: إن رسول الله ( قال: ( الدين النصيحة. قلنا لمن ؟ قال: لله، ولكتابه، ولرسوله، ولأئمة المسلمين وعامتهم ( رواه مسلم .
هذا الحديث -حديث تميم الداري- من الأحاديث الكلية العظيمة التي اشتملت على الدين كله، على حقوق الله، وحقوق رسوله ( وعلى حقوق عباده، فليس ثَمَّ أجمع في بيان تلك الحقوق من لفظ النصيحة.
والنصيحة -هذه فعيلة- من النصح، وأصل النصح في لغة العرب فُسِّرَ بأحد تفسيرين:
الأول : أن النصح بمعنى الخلوص من الشوائب والشركة، فيقال: عسل ناصح أو نصوح، إذا لم يَشُبْهُ شيء.(1/82)
وفُسِّرَ -وهو الثاني- فُسِّرَتْ النصيحة بأنها التئام شيئين بحيث لا يكون ثَمَّ تنافر بينهما، فيُعْطَى هذا الصلة بهذا حتى يكون التئام يوافق ما بين هذا وهذا.
قالوا: ومنه قيل للخياط: ناصح؛ لأنه ينصح الطرفين، إذ يجمعهما بالخياطة.
والنصيحة عُرِّفَتْ -يعني: في هذا الحديث- بأنها: إرادة الخير للمنصوح له، وهذا يتعلق بنصح أئمة المسلمين وعامتهم.
أما في الثلاثة الأول، فإن النصيحة -كما ذكرنا- أن تكون الصلة بين الذاتين على التئام، بحيث يكون هذا قد أعطى حق هذا، فلم يكن بينهما تنافر.
ومعلوم أن العبد في صلته بربه أن عليه حقوقا كثيرة واجبة ومستحبة، وكذلك في حق القرآن، وكذلك في حق المصطفى -عليه الصلاة والسلام.
فقال -عليه الصلاة والسلام-: ( الدين النصيحة ( وجعل الدينَ كلَّه النصيحة؛ لأنه -كما سيأتي تفصيله- لأن النصيحة تجمع الدين كله بواجباته ومستحباته، ففسرها بعد ذلك بقوله: ( قلنا: لمن يا رسول الله ؟ ( ... إلى آخر الحديث.
قال بعض العلماء: ( الدين النصيحة ( يعني: أن معظم الدين وجُلّ الدين النصيحة، وهذا على أخذ نظائره، كقوله: ( الدعاء هو العبادة ( و ( الحج عرفة ( وأشباه ذلك.
لكن إذا تأملت في كون هذه الأشياء لها النصيحة رأيت أنها جمعت الدين كله، في العقائد، وفي العبادات والمعاملات، وفي حقوق الخلق، وحقوق من له الحق بجميع صوره.
( قالوا: لمن يا رسول الله ؟ ( واللام هنا في قولهم: لمن، يعني: للاستحقاق، النصيحة لله، يعني مستحقة، قالوا: لمن؟ يعني: من يستحقها في الدين؟
فأجابهم النبي -عليه الصلاة والسلام- بقوله ، قال: ( لله ولكتابه ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم ( .
فاشتملت على أشياء، على أمور:(1/83)
الأول: النصيحة لله: وهي كلمة جامعة لأداء حق الله -جل وعلا- الواجب والمستحب، فحق الله الواجب هو الإيمان به، بربوبيته وإلهيته، وبأسمائه وصفاته، إيمان بأنه هو الرب المتصرف في هذا الملكوت وحده، لا شريك له في ربوبيته، ولا في تدبيره للأمر، ما شاء كان، وما لم يشأ لم يكن، يحكم ما يشاء، ويفعل ما يريد سبحانه وتعالى.
والنصيحة لله في ألوهيته أن يُعْطَى الحق الذي له في ألوهيته، وهو أن يُعْبَد وحده بجميع أنواع العبادات، وألا يُتَوَجَّه لأحد بشيء من العبادات إلا له -سبحانه وتعالى-، كل عبادة تُوُجِّه بها إلى غير الله -جل وعلا- فهي خروج عن النصيحة لله -جل وعلا-، يعني عن أداء الحق الذي له سبحانه وتعالى.
وفي الأسماء والصفات النصيحة لله -جل وعلا- أن نؤمن بأنه -سبحانه- له الأسماء الحسنى، والصفات العلا، وأنه لا سَمِي له، ولا ند له، ولا كفوَ له، كما قال -جل وعلا- : ( (((( (((((((( ((((( ((((((( ( (69) .
وكما قال -جل وعلا-: ( (((((( ((((( ((((( ((((((( (((((( ( (70) .
وكما قال -جل وعلا-: ( (((((( ((((((((((( (((((( ( (((((( (((((((((( ((((((((((( ( (71) إلى غير ذلك من الآيات .
فيعتقد المسلم أن الله -جل وعلا- له ما أثبت لنفسه من الأسماء الحسنى، ومن الصفات العلا، وأنه في أسمائه وفي صفاته ليس له مثيل، كما أخبر عن نفسه بقوله: ( (((((( ((((((((((( (((((( ( (((((( (((((((((( ((((((((((( ( (72) .
فالغلو في الصفات بالتجسيم ترك للنصيحة الواجبة، والتفريط فيها، والجفاء بالتعطيل ترك للنصيحة الواجبة، والنصيحة بالتئام ما بينك وبين الله -جل وعلا- في شأن أسمائه وصفاته أن تثبت له الأسماء الحسنى، والصفات العلا، من غير تمثيل ولا تعطيل، ومن غير تحريف ولا تأويل يصرفها عن حقائقها اللائقة بالله جل وعلا .(1/84)
أيضا من النصيحة لله -جل وعلا- أن يُحَبَّ -جل وعلا- ، وأن يُتَّبَع أمره، وأن تتبع شريعته -جل وعلا-، وأن يصدق خبره -جل وعلا-، وأن يقبل عليه المرء بقلبه مخلصا له الدين.
فالإخلاص في الأقوال والأعمال حق الله -جل وعلا-، والذي يقع في قلبه غير الله في الأعمال -من جهة الرياء أو من جهة التسميع- ما أدى الذي لله -جل وعلا-.
وهناك -أيضا- أشياء مستحبة لله -جل وعلا- من مثل أن -يعني في حق الله -جل وعلا- من مثل ألا يقوم بالقلب غيره -جل وعلا-، فيُزْدَرَى الخلق في جنب الله -جل جلاله-، وأن يراقب الله -جل وعلا- دائما في السر والعلن، فيما يأتي وما يذر من الأمور المستحبة، وأن يستحضر مقامه بين يدي الله -جل وعلا- دائما في الآخرة، ونحو ذلك مما يدخل في المستحبات؛ فإن النصيحة فيه لله -جل وعلا- مستحبة، فهي منقسمة إلى ما أوجبه الشرع في حق الله، فيكون واجبا، وما كان مستحبا، فيكون من النصيحة المستحبة.
قال: ( وكتابه ( يعني: النصيحة مستحقة للكتاب، وهو القرآن، ومعنى ذلك أن يُعْطَى القرآن حقه، وهو أن يُوقن بأنه كلام الله -جل وعلا-.
قال : "وكتابه" يعني: النصيحة مستحقة للكتاب، وهو القرآن، ومعنى ذلك أن يُعْطَى القرآن حقه، وهو أن يُوقَن بأن كلام الله -جل وعلا-، تكلم به -سبحانه وتعالى-، وأنه آية عظيمة ، وأعظم الآيات التي أوتيها الأنبياء، وأنه الحجة البالغة إلى قيام الساعة.
وأن هذا القرآن فيه الهدى والنور ( (((( (((((( ((((((((((((( ((((((( ((((((( (((( (((((((( ( (73) .
وأن حكمه واجب الإنفاذ، ما أمر الله به في القرآن وجب إنفاذه، وما نهى عنه وجب الانتهاء عنه، وما أخبر به -سبحانه- فيه وجب تصديقه، وعدم التردد فيه، إلى غير ذلك ممَّا يستحقه القرآن.
وأيضا من الحقوق المستحبَّة والنصيحة المستحبة للقرآن أن يُكثر من تلاوته، وألا يهجره في تلاوته وتدبره، وفي العلاج به، وأشباه ذلك مما جاءت به السنة في حق القرآن.(1/85)
فهذا من التواصل ما بين ذي النصيحة -وهو العبد المكلَّف- وما بين القرآن ؛ فإن النصيحة التحام واجتماع فيما بين هذا وهذا، ولا يكون الاهتمام إلا بأداء الحق، وهذا الحق على العبد للقرآن على نحو المعنى الذي أسلفت.
كذلك النصيحة للرسول ( تكون بطاعته -عليه الصلاة والسلام- فيما أمر، وتصديقه فيما أخبر، واجتناب ما عنه نَهَى -عليه الصلاة والسلام- وزجر، وألا يُعْبَد الله إلا بما شرع رسوله ( وأن يؤمن العبد بأنه -عليه الصلاة والسلام- هو خاتم الأنبياء والمرسلين، وأن كل دعوة للرسالة بعده -عليه الصلاة والسلام- كذب وزور وباطل وطغيان، وأنه -عليه الصلاة والسلام- هو الذي يطاع ( (((((( (((((((((( (((((((((( ((((((((( ((((( ((((((((( (((((( (((((((((((( ( ( (74) .
وأنه يُحَب -عليه الصلاة والسلام- لأمر الله -جل وعلا- بذلك، ولما يستحقه -عليه الصلاة والسلام- من المحبة الواجبة، وأن تُقَدَّمَ مَحَابُّه على مَحَابّ العبد ، ونحو ذلك من النصيحة التي هي -أيضا- منقسمة إلى واجبة ومستحبة .
قال : ( ولأئمة المسلمين وعامتهم ( والنصيحة لأئمة المسلمين أن يُعْطَوا حقهم الذي أعطاهم الله -جل وعلا-، وبينه -تعالى- في الكتاب، وبينه رسول الله ( في السنة؛ من طاعتهم في المعروف، وعدم طاعتهم في المعصية ، وأن يجتمع معهم على الحق والهدى، وعلى ما لم نعلم فيه معصية، وأن تؤلف القلوب لهم، وأن يُجْتَمع عليهم، وأن يُدْعَى لهم، وهذا يشمل الحق الواجب والحق المستحب.(1/86)
وأن يُتْرَك الخروج عليهم بالسيف طاعة لله -جلَّ وعلا- وطاعة لرسوله ( وأن يبايع ولي الأمر المسلم، وألا يموت المرء، وثمَّ والٍ مسلم، وليس في عنقه بيعة له، وأن يأتمر إذا أمره بما ليس بمعصية، وأن ينتهي إذا نهاه عن غير الطاعة، يعني: ما كان من قبيل الواجبات، فإن أمره بخلافها لا يُطاع فيه، وإذا أمر بمعصية لا يُطاع فيه، وما كان من قبيل المستحبات والاجتهادات -يعني ما يدخله الاجتهاد- فإنه يُتْرَك الرأي لما يراه الإمام المسلم؛ لأن في ذلك مصالح العباد والبلاد، كما قرره أهل العلم في هذا الموضع.
أيضًا من النصيحة لهم أن تبذل النصح لهم، بمعنى النصح الذي يعلمه الناس، بأن تنبههم على ما يخطئون فيه، وما يتجاوزون فيه الشرعية لمن وصل له، وهذه المرتبة -كما قال ابن دقيق العيد في شرحه وغيره-: هذه فرض كفاية تسقط بفعل البعض من أهل العلم ونحوهم.
فحق ولي الأمر المسلم أن يُنْصَح، بمعنى أن يُؤْتَى إليه، وأن يُبَيَّن له الحق، وأن يُبَصَّر به، وأن يوضح له ما أمر الله ( به، وما أمر به الرسول ( وأن يُعان على الطاعة، ويسدد فيها، ويُبَيَّن له ما قد يقع فيه من عصيان أو مخالفة للأمر.
وهذه النصيحة الخاصة لولاة الأمر جاءت لها شروط وضوابط معلومة في شروح الأحاديث، ومن أمثل من تكلم عليها في هذا الموضع ابن رجب -رحمه الله- في "جامع العلوم والحكم"، وساق عن ابن عباس وعن غيره أنواعا من الآداب والشروط، التي ينبغي للناصح أن يتحلى بها إذا نصح ولي الأمر المسلم .
فمن ذلك أن تكون النصيحة برفقٍ، وسهولة لفظ؛ لأن حال ولي الأمر -في الغالب- أنه تعزّ عليه النصيحة، إلا إذا كانت بلفظ حسن ، وهذا ربما كان في غالب الناس أنهم لا ينتصحون -يعني: لا يقبلون النصيحة- إلا إذا كانت بلفظ حسن. وقد قال -جل وعلا- لموسى وهارون : ( ((((((( ((((( (((((( (((((((( ((((((((( (((((((((( (((( (((((((( ( (75) .(1/87)
فمن الآداب والشروط في ذلك أن تكون النصيحة بلفظ حسن؛ لأنه ربما كان اللفظ خشنا، فأداه ذلك إلى رفض الحق، ومعلوم أن الناصح يريد الخير للمنصوح له .
كما قال أهل العلم في تفسير النصيحة: أنها إرادة الخير للمنصوح له. فكلما كان السبيل لإرادة الخير للمنصوح له فإنه يؤتى.
ومن الشروط في ذلك أن تكون النصيحة لولي الأمر سرًّا وليست بعلن؛ لأن الأصل في النصيحة بعامة -لولي الأمر ولغيره- أن تكون سرا، بخلاف الإنكار كما سيأتي عند شرح أبي سعيد الخدري: ( من رأى منكم منكرا فليغيره بيده ( فإن الأصل في الإنكار أن يكون علنا، وأن الأصل في النصح أن يكون سرا.
فالنصيحة لولي الأمر يجب ويشترط لكونها شرعية أن تكون سرا، بمعنى: أنه لا يعلم بها من جهة الناصح إلا هو، وألا يتحدث بها بأنه نصح وعمل وكذا؛ لأنه ربما أفسد المراد من النصيحة بذكره ، وصعب قبول النصيحة بعد اشتهار أن ولي الأمر نُصِح، وأشباه ذلك.
وعلى هذا جاء الحديث المعروف الذي صحَّحه بعض أهل العلم، وهو قوله -عليه الصلاة والسلام-: ( من أراد أن ينصح لذي سلطان فلا يبده علانية، ولكن ليخْلُ به، وليدْنُ منه، فإن قبل منه فذاك، وإلا فقد أدَّى الذي عليه ( .
وقد سئل ابن عباس -رضي الله عنهما- هل أُنْكِر على الإمام علنا؟ فقال : لا ، بل دَارِهِ بذلك سرا .
وفي صحيح البخاري -أيضا-: ( أن أسامة بن زيد جاءه جماعة، وقالوا له: ألا تنصح لعثمان؟ ألا ترى ما نحن فيه؟ فقال: أما إني لا أكون فاتح باب فتنة وقد بذلته له سرا ( أو كما جاء عن أسامة بن زيد في صحيح البخاري .
فدل ذلك على اشتراط أن تكون النصيحة سرا، وهذا من حقه، إلى غير ذلك من الشروط التي ذكرها أهل العلم في هذا الموضع .
والنصيحة لعامة المسلمين ( لأئمة المسلمين وعامتهم ( العامة: هم غير الأئمة، والأئمة إذا أطلقت فإنه يراد بهم الأئمة في الأمر العام، وليس الأئمة في العلم؛ لأن على هذا جرى الاصطلاح .(1/88)
أما لفظ "ولي الأمر" فإنه في الأصل أن ولي الأمر يُعْنَى به الإمام العام للمسلمين؛ لأن ولاة الأمر في عهد الخلفاء الراشدين، وفي عهد معاوية ، لأن ولاة الأمر في ذاك الزمان كانوا يجمعون بين فهم الدنيا وفهم الشريعة .
وأما بعد ذلك فقد قال العلماء: إن ولاة الأمر كلًّا فيما يخصه، هم العلماء والأمراء؛ الأمراء في الأمر العام الذي يتعلق بأمور المسلمين العامة، والعلماء في أمر دين الناس، فهذا حصل تفسير بأن ولاة الأمر يُعنَى بهم هذا وهذا؛ لأنه صار الأمر فيما بعد أنه تولى الأمر مَن ليس بعالم لما شاع الملك في عهد بن أمية، ثم في عهد بني العباس، فما بعد ذلك.
فالنصيحة الأئمة المسلمين المقصود بهم في الحديث الأئمة الذين يلون الأمر العام ، أما أئمة الدين فإنهم -أيضا- لهم نصيحة، ولهم الحق، والنصيحة لهم -يعني العلماء- أن تحبهم لأجل ما هم عليه من الدين، وما يبذلون للناس من العلم والخير، وأن يُنصَروا فيما يقولونه من أمر الشريعة، وفيما يبلغونه عن الله -جل وعلا-، وأن يُذَبَّ عنهم ، وعن أعراضهم، وأن يحبوا أكثر من محبة غيرهم من المؤمنين؛ لأن الله -جل وعلا- عقد الولاية بين المؤمنين بقوله : ( ((((((((((((((((( ((((((((((((((((( (((((((((( (((((((((((( (((((( ( ( (76) .
يعني: بعضهم يحب بعضا، وينصر بعضا، ومن المعلوم أن أعلى المؤمن إيمانا هم الراسخون في العلم، أو هم أهل العلم العاملون به، كما قال -جل وعلا- : ( (((((((( (((( ((((((((( (((((((((( ((((((( ((((((((((( (((((((( (((((((((( ((((((((( ( ( (77) .(1/89)
فالنصيحة لأهل العلم أن يُحَبُّوا، وأن يذب عن أعراضهم، وأن يؤخذ ما ينقلونه من العلم، وأن ينصروا فيما نصروا فيه الشريعة ، وأن تُحْفَظ لهم مكانتهم وسابقتهم، ونشرهم للعلم، ونشرهم للدين، وهذه كلها حقوق واجبة لهم؛ لأن لهم في الملة مقاما عظيما، وإذا طُعِنَ في أهل العلم، أو لم تُبْذَل لهم النصيحة الواجبة بهذا المعنى، فإن ذلك يعني أن الشريعة تضعف في الهيبة في نفوس الناس؛ فإنه إذا نِيلَ من العالم، أو لم يُنْصَر، ولم يُحْتَرم فإن الشريعة تضعف في نفوس الناس، فإنه إنما ينقلها أهل العلم.
وأما النصيحة لعامة المسلمين فهي إرشادهم لما فيه صلاحهم في الدنيا والآخرة، لما فيه صلاحهم في دنياهم وفي آخرتهم.
هذا جماع النصيحة للمؤمنين، بأن يحبوا في الله، وأن ينصروا في الحق، وأن يتعاون معهم على الخير والهدى، وألا يتعاون معهم على الإثم والعدوان، وأن يُبيَّن لهم الحق، وينصحوا فيه، ويرشدوا إلى ما فيه صلاحهم في دنياهم وآخرتهم، بأنواع النصح بالقول والعمل، وأن ينكر عليهم المنكر إذا واقعوه لحق الله -جل وعلا- وأنهم إذا رئي أنهم يحتاجون إلى عقاب شرعي أو تعزير -يعني بحد أو تعزير- فإنه يرحمهم بذلك، فإن هذه الأمور مبناها على الرحمة.
فالنصيحة لعامة المسلمين أن تَبْذُل وتحكم فيهم بشرع الله، وأن تعطيهم حقهم، وأن تلزمهم بأمر الله -جل وعلا- إذا كانوا تحت يدك، وهذا على قدر الاستطاعة.
ثم إنه إذا حصل منهم ضدُّ ذلك فيُسْعَى فيهم بما يصلحهم، وما فيه سعادتهم وإرشادهم بالبيان، أو بالإلزام بحسب الأحوال .(1/90)
وكل حق للمسلم على المسلم يدخل في النصيحة لعامة المسلمين، فكلمة النصيحة إذن -كما ترى- كلمة جامعة دخلت فيها جميع الحقوق الشرعية لله، وللكتاب، ولرسوله ( ولأئمة المسلمين ولعامتهم ، فهي كلمة عظيمة جامعة، جمعت الحقوق جميعا لما فيه خير الدنيا والآخرة للناصح، يعني للذي قام بالنصيحة، فكل مفرط في أمر من أمر الله فقد فرط في شيء من النصيحة الواجبة. والله المستعان .
الحديث الثامن
أمرت أن أقاتل الناس
وعن ابن عمر -رضي الله عنهما- أن رسول الله ( قال: ( أُمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله، وأنَّ محمدًا رسول الله، ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة، فإذا فعلوا ذلك عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحق الإسلام، وحسابهم على الله -تعالى- ( رواه البخاري ومسلم
هذا الحديث -حديث ابن عمر -رضي الله عنهما- أن رسول الله ( قال : ( أُمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله، وأنَّ محمدًا رسول الله، ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة ( .
قوله: ( أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا ( يعني: أن شهادة ألا إله إلا الله، وأن محمدًا رسول الله، وما يلزم عنها من إقام الصلاة وإيتاء الزكاة، هذه لا بد من مطالبة الناس بها جميعا، المؤمن والكافر، وللناس جميعا أُرْسِلَ إليهم المصطفى -عليه الصلاة والسلام-، وأُمِرَ أن يقاتلهم بقول الله -جل وعلا- : ( (((((((((((( ((((((((((((((( (((((((( ((((( (((((((((((((((( (((((((( ( ( (78) وبقوله : ( (((((((((( ((((((((( (( ((((((((((( (((((( (((( (((((((((((( (((((((( (((( (((((((((((( ((( (((((( (((( (((((((((((( (((( (((((((((( ((((( ((((((((( (((( ((((((((( (((((((( ((((((((((( ( (79) ... الآية.
( (((((( ((((((((( (((((((((((( ((( (((( (((((( (((((((((( ( (80) .(1/91)
فأمر الله -جل وعلا- بالقتال حتى تُلْتَزم الشريعة، وهذا لا يعني أنه يُبْتَدأ بالقتال؛ بل هذا يكون بعد البيان، وبعد الإنذار، فقد كان -عليه الصلاة السلام- لا يغزو قوما حتى يؤذنهم، يعني: حتى يأتيهم البلاغ بالدين، فقد أرسل -عليه الصلاة والسلام- الرسائل المعروفة إلى عظماء أهل البلاد فيما حوله، يبلغهم دين الله -جل وعلا-، ويأمرهم بالإسلام، أو فالقتال، وهذا ذائع مشهور.
إذن فقوله -عليه الصلاة والسلام-: ( أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا ( يعني بعد البيان والإعذار، فهو يقاتلهم حتى يلتزموا بالدين، وهل هذا يعني أنه هو الخيار الوحيد؟
الجواب: هذا في حق المشركين؛ ولهذا حمل طائفة من أهل العلم أن الناس هنا هم المشركون الذين لا تُقْبَل منهم الجزية، ولا يقرون على الشرك.
أما أهل الكتاب، أو من له شبهة كتاب، فإنه يُخيَّر، أهل تلك الملل ما بين المقاتلة -يعني: بين القتال- أو أن يُعطُوا الجزية، حتى يكونوا في حماية أهل الإسلام، يعني: أنهم تدخل البلد، ويكون هؤلاء رعايا لدولة الإسلام، وبذلك لا يقتلون.
وهذا في حق أهل الكتاب واضح؛ فإن أهل الكتاب مخيَّرون بين ثلاثة أشياء:
إمَّا أن يسلموا، فتُعْصَم دماؤهم وأموالهم.
وإما أن يُقَاتَلُوا حتى يظهر دين الله.
وإما أن يرضوا بدفع الجزية، وهي ضريبة على الرءوس، مال على كل رأس، فيبقوا رعايا في دولة الإسلام، ويسمون أهل الذمة.
قوله -عليه الصلاة والسلام- : ( أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله ( .(1/92)
المقصود بالشهادة هنا شهادة لا إله إلا الله، يعني: أن يقولوا: لا إله إلا الله، فأول الأمر أنه يُكَفّ عن قتالهم بأن يقولوا هذه الكلمة، وقد يكون قالها تعوذا، فتعصمه هذه الكلمة حتى يُنْظر عمله، ومعلوم في الصحيح قصة أسامة، وقصة خالد، حيث قتل من قال لا إله إلا الله، فلما سأل النبي ( القاتل، قال: ( أقتلته بعدما قال: لا إله إلا الله؟ قال: يا رسول الله، إنما قالها تعوذا -يعني: من القتل- قال: فكيف تفعل بها إذا جاء يحاج بها يوم القيامة؟ ( فندم، وود أنه لم يفعل ذلك، فهذا يُكتفى فيه بالقول.
فإذن قوله -عليه الصلاة والسلام-: ( حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله ( المقصود به هنا -يعني في مبدأ الأمر- أن يقول الكافر: أشهد أن لا إله إلا الله ، أو أن يقول: لا إله إلا الله، محمد رسول الله.
ومن هنا اختلف العلماء: لم أضاف إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة بعدها؟
قال : ( حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله، وأن محمدًا رسول الله، ويقيموا الصلاة، ويؤتوا الزكاة ( .
ومن المعلوم أنه لا يشترط -يعني بالإجماع- أنه لا يشترط في الكف عن قتال الكافر أن يقيم الصلاة وأن يؤتي الزكاة، فقالوا: هذا باعتبار المآل، يعني: قالت طائفة: هذا باعتبار المآل، يعني: يُكْتَفَى منه بالشهادتين، فيكف عنى دمه، ثم يطالب بحقها، وأعظم حقوقها الظاهرة إقامة الصلاة، وإيتاء الزكاة، حتى يكون دخل في الدين بصدق، كما قال- جل وعلا- : ( ((((( (((((((( (((((((((((( ((((((((((( ((((((((((( ((((((((((( ((((((((((((((( ((( ((((((((( ( ( (81) .
فتبين بهذا أن قوله: ( ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة ( ليست على ظاهرها، من أنه لا يُكَفّ عنه حتى تجتمع الثلاثة: الشهادة، والصلاة، والزكاة.(1/93)
معلوم أنه قد يشهد قبل حلول الصلاة، ووقت الصلاة ربما ، والصلاة تحتاج إلى طهارة، وإلى غسل، إلى غير ذلك، والزكاة تحتاج إلى شروط، من دوران الحول، وشروط أُخَر معروفة لوجوبها.
قال طائفة من أهل العلم : إن المقصود هنا ( ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة ( أي: يلتزموا بها، يعني: أن يقول: لا إله إلا الله، محمد رسول الله ، ويلتزم بجميع شعائر الإسلام، وأعظمها حقّ البدن ، وحقّ الله -جل وعلا- المتعلق بالبدن، وهو الصلاة، وحق الله -جل وعلا- المتعلق بالمال وهو الزكاة .
ومعنى الالتزام أن يقول : أنا مخاطب بهذه، فمعناها أنه دخل في العقيدة، وفي الشريعة، فإنه قد يقول: لا إله إلا الله. ولا يؤدي بعض الواجبات، لا يؤدي الصلاة، ولا يؤدي الزكاة، ويقول: أنا لم أدخل إلا في التوحيد، ما التزمت بهذه الأعمال .
فقالوا : دل قوله: ( ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة ( على وجوب الالتزام بالعبادات، يعني: أن يعتقد أنه مخاطب بكل حكم شرعي، وأنه لا يخرج عن الأحكام الشرعية؛ لأن هناك من العرب من قبلوا بشرط ألا يُخَاطبوا بترك شرب الخمر، أو ألا يكونوا مخاطبين بعدم نكاح المحارم، وأشباه ذلك.
فالالتزام بالشريعة معناه: أن يكون معتقدا دخوله في الخطاب بكل حكم من أحكام الشريعة، وهذا -كما هو معلوم- مقترن بالشهادتين.
لهذا قال العلماء : تُقاتَل الطائفة الممتنعة عن أداء شريعةٍ من شعائر الله ، قالوا : تقاتل الطائفة الممتنعة عن أداء التزام شعيرة من شعائر الإسلام، واجبة أو مستحبة ، ومعنى قولهم : "تقاتل الطائفة الممتنعة": أنه لو اجتمع أناس فقالوا: نحن نلتزم بأحكام الإسلام، لكن لا نلتزم بالأذان، بمعنى أن الأذان ليس لنا، وإنما لطائفة من الأمة أخرى.(1/94)
أو يقولون: نلتزم إلا أن بالزكاة، فالزكاة لسنا مخاطبين بأن نعطيها الإمام ، يعني: أنهم يعتقدون أن شيئا من الشريعة ليسوا داخلين فيه، هذا الذي يسمى "الامتناع"، الطائفة الممتنعة يعني: التي تقول هذا الحكم ليس لي، وإنما لكم ، مثل مانعي الزكاة في عهد أبي بكر، يعني بعض مانعي الزكاة الذين ارتدوا، ومثل الذين يزعمون سقوط التكاليف عنهم، وأنهم غير مخاطبين بالصلاة والزكاة، وأنهم غير مخاطبين بتحريم الزنا وأشباه ذلك .
فيه تفاصيل لهذا، المقصود أن قوله -عليه الصلاة والسلام- : ( أن أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله، وأن محمدًا رسول الله، ويقيموا الصلاة، ويؤتوا الزكاة ( أن هذا لأداء حقوق كلمة التوحيد "لا إله إلا الله محمد رسول الله".
اختلف العلماء في الفرد الذي يمتنع عن أداء الصلاة ، يمتنع يعني يقول: لا أؤديها. أما الذي لا يلتزم، بمعنى يقول: أنا غير مخاطب. فسواء كان فرد أو جماعة، فإنه كافر، ليس له حق، ولا يُعْصَم ماله ولا دمه.
لكن الذي يمتنع عن الأداء، مع التزامه بذلك، فاختلفوا: هل يُقْتَل تارك الصلاة؟ والصحيح فيها أن لا يُقْتَل حتى يستتيبه إمام أو نائبه، ويتضايق وقت الثانية عنها، ويؤمر بها ثلاثا، ثم بعد ذلك يقتل مرتدا على الصحيح.
فاختلفوا أيضا في المانع للزكاة هل يُقْتَل ؟ على روايتين عند الإمام أحمد، وعلى قولين -أيضا- عند بقية العلماء، يعني قوله: أنه يقتل، والثاني لا يقتل في الفرد الذي يمتنع عن أداء الزكاة .
وهكذا في سائر الأحكام والصوم والحج، ثَمَّ خلاف بين أهل العلم فيمن تركه، هل يُقْتَل ؟ يعني: وأصر على الترك، ودعاه الإمام وقال: افعل، هل يقتل أو لا يقتل؟ اختلفوا في هذا كله بما هو مبسوط في كتب الفروع، ومعروفة.
قال -عليه الصلاة والسلام- بعد ذلك: ( فإذا فعلوا ذلك عصموا مني دماءهم وأموالهم ( .(1/95)
دَلَّ على أن الكافر مباح المال، ومباح الدم، وأن ماله -وهو الحربي- أن ماله مباح ، يعني: لا شيء في سرقة مال الحربي، وهو من بينك وبينه حرب، تحاربه، فوجدت شيئا من ماله، فلا له لا يحرم ماله؛ لأنه قد أُبِيحَ دمه، وأبيح ماله بالتبع، بخلاف المعاهد والمستأمن، أو من خانك؛ فإنه لا يجوز أن تعتدي على شيء من أموالهم، حتى ولو كان غير مسلم، إلا إذا كان حربيا.
يعني: أن المستأمن والمعاهد والذِّمي -ولو خانوا في المال- فإنه لا يجوز التعدي على أموالهم، وإذا لم يخونوا من باب أولى؛ لأنهم لم يُبَحْ مالهم، وقد جاء في الحديث : ( أدِّ الأمانة إلى من ائتمنك، ولا تخن من خانك ( لأنك تعاملهم لحق الله -جل وعلا-، فلا تستبيح مالهم لأجل ما هم عليه؛ بل تؤدي فيهم حق الله -جل وعلا.
أما مَن ليس كذلك -يعني المشرك الذي أبَى أن يشهد ألا إله إلا الله، وأن يقيم الصلاة، وأن يؤتي الزكاة- فهذا لا يحرم ماله ودمه؛ بل يباح منه الدم، فيقتل على الكفر؛ لأنه أصر على ذلك، يعني بعد إقامة الحجة عليه، أو بعد الإعذار؛ لأن هذه هو الأصل .
وجاء في صحيح مسلم ما هو بخلاف الأصل، أن النبي ( حديث ابن عباس المعروف: ( أن النبي ( غزا قوما وهم غارُّون ( يعني: بدون أن يؤذنهم . وهذا كالاستثناء من الأصل، وله بعض أحكامه مما هو استثناء من القاعدة، فالأصل أن النبي -عليه الصلاة والسلام- لا يقاتل قوما حتى يؤذنهم ، حتى يبلغهم، وربما فعل غير ذلك في قصة بني المصطلق المعروفة ، أنه غزاهم وهم غارُّون، في تفاصيل ذلك .
قال : ( عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحق الإسلام وحسابهم على الله جل وعلا ( .(1/96)
حق الإسلام: يعني ما جاء في الإسلام التشريع به، من إباحة الدم، أو إباحة المال، فإذا شهدوا الشهادتين، وأقاموا الصلاة، وآتوا الزكاة ، فإنهم إخواننا، فتحرم دماؤهم وأموالهم إلا بحق الإسلام، يعني : إلا بما أباح الإسلام ، أو شرع الله -جل وعلا- في هذه الشريعة أن دمهم مباح ، مثل الثيب الزاني ، والنفس بالنفس، وما أشبه ذلك مما هو معروف، وسيأتي بعضه في الحديث: ( لا يحل دم امرئ مسلم إلا بإحدى الثلاث ( .
قال: ( وحسابهم على الله ( ( .
هذا لما تقدم من أنه قد يشهد، ويقيم الصلاة، ويؤتي الزكاة ظاهرا ، فنقول: نقبل منه الظاهر، ونَكِلُ سريرته إلى الله -جل وعلا- كحال المنافقين ، المنافقون نعلم أنهم كفار، لكن نعصم دمهم ومالهم بما أظهروه، وحسابهم على الله -جل وعلا.
بهذا نقول: الكفر كفران:
كفر رِدّة : تترتب عليه الأحكام، من إباحة المال والدم.
وكفر نفاق: نعلم أنه كافر، ويُحْكَم عليه بأنه كافر، لكن لا تترتب عليه أحكام الكفر؛ لأنه ملحق بالمنافقين، وهذا معروف في تفاصيله في كلام أهل العلم .
الحديث التاسع
ما نهيتكم عنه فاجتنبوه
وعن أبي هريرة عبد الرحمن بن صخر ( قال: سمعت رسول الله ( يقول: ( ما نهيتكم عنه فاجتنبوه، وما أمرتكم به فأتوا منه ما استطعتم؛ فإنما أهلك الذين من قبلكم كثرة مسائلهم واختلافهم على أنبيائهم ( رواه البخاري ومسلم .
هذا الحديث هو الحديث التاسع من هذه الأربعين النووية، وهو حديث أبي هريرة عبد الرحمن بن صخر الدوسي أن النبي -عليه الصلاة والسلام- قال : ( ما نهيتكم عنه فاجتنبوه، وما أمرتكم به فأتوا منه ما استطعتم ( .
قال -عليه الصلاة والسلام-: ( ما نهيتكم عنه فاجتنبوه ( فما نهى عنه فإنه يُجتَنَب، وهذا عام في كل منهي عنه، والمنهي عنه قسمان: منهي عنه للتحريم، ومنهي عنه للأفضلية، يعني: يكون النهي فيه للكراهة ، وما كان للتحريم يجب فيه الاجتناب، وما كان للكراهية يستحب فيه الاجتناب.(1/97)
إذن قوله -عليه الصلاة والسلام- : ( ما نهيتكم عنه فاجتنبوه ( هذا كقول الله -جل وعلا- : ( (((((( (((((((((( (((((((((( ((((((((( ((((( ((((((((( (((((( (((((((((((( ( ( (82) .
فالذي نهى عنه -عليه الصلاة والسلام- نحن مأمورون بالانتهاء عنه، فإن كان محرما فالأمر بالانتهاء عنه أمر إيجاب، وإن كان مكروها فالأمر بالانتهاء عنه أمر استحباب.
إذا تقرر هذا، فالمنهي عنه خلاف الأصل؛ لأن الأصل في الشريعة ليس هو النهي، وإنما الأصل فيها الأمر، والمنهيات بالنسبة للأوامر قليلة، وما نُهِيَ عنه لأجل أنه خلاف الأصل لم يجعل الله -جل وعلا- النفوس محتاجة إليه في حياتها؛ بل هي مستغنية عما نُهِيَ عنه.
فإذا نظرت في باب الأطعمة فإن ما أُهِلَّ به لغير الله ليس محتاجا إليه، الميتة ليس محتاجا إليها ، والأشربة المسكرة ليس المرء محتاجا إليها، والألبسة المحرمة ليس المرء محتاجا إليها؛ وإنما في الحلال كثير كثير غُنْيَة عن هذه المحرمات، فتكون هذه المحرمات في كل باب كالاستثناء من ذلك الباب، فالمحرمات من الأشربة استثناء مما أُبِيحَ وهو الكثرة في باب الأشربة، والمحرمات من الأطعمة استثناء مما أُبِيحَ وهو الكثرة في باب الأطعمة .
وهكذا في باب الألبسة، وهكذا في البيوعات والعقود، وأشباه ذلك.
وهذا من لطف الله -جل وعلا- بالعباد؛ فإنه -جل وعلا- ما جعل شيئا منهيًّا عنه فيه إقامة الحياة، بل كل المنهيات عنها إنما ابتلَى الله -جل وعلا- العباد بها.
وما لم يُنْهَ عنه فإنه، أو ما أُمِرَ به فإنه خير، سواء أَفَعَلَه المرء رغبة في الأجر بإخلاص، أو فعله لغير مرضاة الله، هذا التفصيل يذكره العلماء عند قول الله -جل وعلا- في سورة "النساء" : ( ( (( (((((( ((( ((((((( (((( ((((((((((( (((( (((( (((((( (((((((((( (((( ((((((((( (((( ((((((((( (((((( (((((((( ( ( (83) .(1/98)
فقال: ( ( (( (((((( ((( ((((((( (((( ((((((((((( (((( (((( (((((( (((((((((( (((( ((((((((( (((( ((((((((( (((((( (((((((( ( ( (84) هذه المأمورات فيها خير، ولو فعلها بغير نية صالحة؛ لأنها متعدية النفع، متعدية الأثر، وإن فعلها بنية صالحة فإنه يؤجر مع بقاء الخير، وإن فعلها بغير نية فإنه لا يؤجر عليها مع بقاء خيرية هذه الأفعال، ولهذا وصفها بالخيرية.
وبعد ذاك قال: ( ((((( (((((((( ((((((( (((((((((((( ((((((((( (((( (((((((( ((((((((( ((((((( (((((((( ( (85) .
فمن أمر بصدقة أو معروف، أو إصلاح بين الناس بلا نية، فقد أتى خيرا، ولو كانت نيته غير صالحة؛ لأن هذه الأفعال متعدية، وإذا أتاها بنية صالحة فإنه يؤجر عليها.
بخلاف المحرمات؛ فما حُرِّم ونُهي عنه فإنه يجب اجتنابه، فلا خير فيه ألبتة، يعني من حيث تعدي الخير أو تعدي المصلحة، وقد يكون فيه منفعة دنيوية، لكنها مقابلة بالمضرة، كما قال -جل وعلا- في الخمر والميسر : ( ( ((((((((((((( (((( (((((((((( (((((((((((((( ( (((( ((((((((( (((((( ((((((( ((((((((((( (((((((( (((((((((((((( (((((((( ((( ((((((((((( ( ( (86) .
ففيها نفع باعتبار المُعَيَّن، لكن باعتبار الضرر فيها إثم كبير، وهذا بخلاف الأوامر التي فيها خير.
إذا تقرر هذا فنقول: قوله -عليه الصلاة والسلام-: ( ما نهيتكم عنه فاجتنبوه ( هذا عامٌّ في كل منهي، وجواب الشرط "فاجتنبوه" .
والمنهي عنه إما أن يكون محرما، وإما أن يكون مكروها كما ذكرت لكم، والأصل في المنهيات -يعني فيما نهى عنه عليه الصلاة والسلام- إذا كان في أمور العبادات أنه للتحريم، وإذا كان في أمور الآداب أنه للكراهية، يعني: إذا جاء النهي في أمر من العبادات فهو للتحريم؛ لأن الأصل في العبادات التوقيف، وإذا جاء النهي في أدب من الآداب، فالأصل فيه أن يكون للكراهة.(1/99)
بهذا أجمع العلماء على أن النهي الوارد في بعض الآداب، والأمر الوارد في بعض الآداب، أنه للاستحباب في الأوامر، وللكراهة في النواهي، ومنه أخذ طائفة من أهل العلم أن النهي في الآداب للكراهة -يعني الأصل فيه للكراهة- إلا إذا جاءت قرينة تدل على أن الأصل فيه للتحريم.
مثلا: قال -عليه الصلاة والسلام- ، أو جاء في -مثلا- في الحديث ، الحديث الذي رواه البخاري: ( وألا أكف ثوبا ولا شعرا في الصلاة ( هل هذا متصل في العبادة ؟
يعنى: هو عبادة، أو هو أدب لشرط من شرائط العبادة وهو اللباس؟
هو أدب، ألا يكف ثوبا ، ألا يكف شعرا هذا أدب، ولهذا ذهب عامة أهل العلم -إلا عدد قليل- ذهبوا إلى أن النهي هنا للكراهة، فلو صلَّى وهو كافٌّ ثوبه، أو وهو عاقص شعره، فالصلاة صحيحة، ولا إثم عليه، ولو كان النهي للتحريم لصارت الصلاة فاسدة كنظائرها.
مثل الأوامر: ( سَمِّ الله، وكُلْ بيمينك، وكُلْ مما يليك ( .
( كل بيمينك ( عامة أهل العلم على أن الأكل باليمين مستحب، والأكل بالشمال مكروه، وهناك من قال بالتحريم، وفي كل المسائل هذه خلاف بتعارض الأصل فيما بين أهل العلم.
لكن الجمهور هنا قالوا: هذا أدب، كل بيمينك، فلما كان أدب صار الأصل فيه أنه للاستحباب، و"كل مما يليك" الأصل فيه أنه للاستحباب.
ولهذا ترى في كثير من كتب أهل العلم يقول: النهي هذا للكراهة؛ لأنه من الآداب، والأمر للاستحباب؛ لأنه من الآداب، فيجعلون من الصوارف كون الشيء من الآداب، وهذا مهم.
قال -عليه الصلاة والسلام- هنا : ( ما نهيتكم عنه فاجتنبوه ( ولم يقيد بالاستطاعة، بل أوجب الاجتناب، بل قيد -كما قلنا- لأن الانتهاء من المنهيات ليس فيه تحميل فوق الطاقة؛ بل المنهيات لا حاجة للعبد بها، يعني: لا تقوم حياته بها، بل إذا استغنى عنها تقوم حياته، فليس محتاجا ولا مضطرا إليها، وأما إذا احتاج لبعض المنهيات فهنا الحاجة يكون لها ترخيص بحسبها.(1/100)
قال: ( وما أمرتكم به فأتوا منه ما استطعتم ( .
ما أمرتكم به فأتوا منه ما استطعتم؛ لأن الأوامر كثيرة، ليست مثل المنهيات، ومنها ما قد لا يستطيعه العبد، ولهذا جاءت القواعد -بناء على هذا الحديث-: "لا واجب مع العجز".
يعني: أن المرء إذا عجز عن الشيء فلا يجب عليه، كما جاء في حديث عمران: ( صلِّ قائما، فإن لم تستطع فقاعدا، فإن لم تستطع فعلى جنب ( .
فهنا يأتي ما استطاع ، وقد قال -جل وعلا- : ( (( ((((((((( (((( ((((((( (((( ((((((((( ( ((((( ((( (((((((( ((((((((((( ((( (((((((((((( ( ((((((( (( ((((((((((((( ((( ((((((((( (((( ((((((((((( ( ((((((( (((( (((((((( (((((((((( ((((((( ((((( ((((((((((( ((((( ((((((((( ((( ((((((((( ( ((((((( (((( (((((((((((( ((( (( ((((((( ((((( ((((( ( ( (87) .
وقال -جل وعلا-: ( ((((((((((( (((( ((( (((((((((((((( ( (88) .
وقال -جل وعلا- : ( ((((( (((((( (((((((((( ((( ((((((((( (((( (((((( ( ( (89) إلى آخر الأدلة على تعليق الوجوب بالقدرة والاستطاعة.
إذن دلنا قوله -عليه الصلاة والسلام- : ( وما أمرتكم به فأتوا منه ما استطعتم ( أن الأوامر كثيرة ، وأنه لا واجب إلا مع القدرة ، تجب إذا قدرت عليها، وإذا كنت عاجزا وغير مستطيع فلا يجب عليك ذلك بنص النبي عليه الصلاة والسلام .
هنا اختلف العلماء في مسألة يطول الكلام عليها: هل منزلة النهي أعظم، أو منزلة الأمر؟ يعني: هل الانتهاء عن المنهيات أفضل، أم فعل الأوامر والإتيان بها الأفضل؟
تنازع العلماء في هذا على قولين :-
القول الأول : أن الانتهاء عن المنهيات أفضل من فعل الأوامر، واستدلوا عليه بأدلة منها هذا الحديث ، بأنه أمر بالانتهاء مطلقا ، وقالوا: الانتهاء فيه كلفة؛ لأنها أشياء تتعلق بشهوة المرء، و ( حُفَّتْ الجنة بالمكاره، وحفت النار بالشهوات ( فالانتهاء عن المنهيات أفضل .(1/101)
وقال جماعة: بل الأمر أفضل، يعني: امتثال الأمر أفضل وأعظم منزلة، واستدلوا عليه بأدلة منها : أن آدم -عليه السلام- أُمِرَتْ الملائكة بالسجود له، فلم يسجد إبليس، يعني: لم يمتثل الأمر، فخسر الدنيا والآخرة، فصار ملعونا إلى يوم يبعثون، وثم هو في النار أبد الآبدين، وهذا لعظم الأمر.
قالوا : وآدم أكل من الشجرة التي نهي عنها، فغُفِرَ له بذلك ، فهذا أمر بالأمر فلم يمتثل فخسر، ذاك فعل المنهي عنه ثم أعقبته توبة.
وهذا القول الثاني هو الأرجح والأظهر في أن فعل الأوامر أعظم درجة، وأما المنهيات ارتكابها فإنه على رجاء الغفران ، أما التفريط في الأوامر -يعني الواجبات الشرعية، الفرائض والأركان ونحو ذلك- فهذا أعظم وأعظم مما نهى الله -جل وعلا- عنه ، مع ارتباط عظيم بين هذا وهذا.
وهذا يفيدنا في تعظيم مسألة الأمر، وأن الأمر في تعليق العباد به أعظم من تعليقهم بترك المنهي، خلاف ما عليه كثيرون -مثلا- من الدعاة وغيرهم والوعاظ، في أنهم يعظمون جانب المنهي عنه في النفوس الناس، وينهونهم عنه، ويفصلون في ذلك، ولا يفصلون لهم في المأمورات، ولا يحضونهم عليها ، وهذا ليس بجيد؛ بل أمر الناس بما أمر الله -جل وعلا- به وحضهم على ذلك هذا أولى -يعني أرفع درجة- مع وجوب كلٍّ من الأمرين في البيان على الكفاية.
قال : ( فإنما أهلك مَن قبلكم كثرة مسائلهم واختلافهم على أنبيائهم ( .
( أهلك مَن كان قبلكم ( أو الذين من قبلكم ( كثرة مسائلهم واختلافهم على أنبيائهم ( هذا لأن السؤال عن الأشياء لم تحرم لزيادة معرفةٍ، أو لتنطع، أو ما أشبه ذلك، هذا محرم، فما أمر به النبي ( نأتي منه ما استطعنا، وفي وقت التشريع، في وقت نزول الوحي نُهِيَ الصحابة أن يسألوا النبي ( عن مسائل؛ لأنه ربما حُرِّمَ عليهم بسبب المسألة.
قد جاء في الحديث : ( إن الله فرض فرائض فلا تضيعوها، وحَدَّ حدودا فلا تعتدوها، وسكت عن أشياء رحمة بكم غير نسيان فلا تسألوا عنها ( .(1/102)
جاء -أيضا- في صحيح مسلم أنه -عليه الصلاة والسلام- قال : ( إن أعظم المسلمين في المسلمين جرما رجل سأل عن شيء لم يُحَرَّم فَحُرِّمَ لأجل مسألته ( .
فكثرة المسألة لا تجوز ، قد كان الصحابة -رضوان الله عليهم- لا يسألون النبي -عليه الصلاة والسلام- ، وكانت مسألتهم قليلة كلها في الفرائض، وكانوا يفرحون بالرجل يأتي من البادية ليسأل وليستفيدوا.
وهذا من الأدب المهم الذي يُلْتَزَم به؛ فإن كثرة المسائل ليست دالة على دِين، ولا على ورع، ولا على طلب علم؛ وإنما ينبغي على طالب الحق، وصاحب الدِّين والخير أن يُقلَّ المسائل ما استطاع، وقد قال -جل وعلا- : ( ((((((((((( ((((((((( (((((((((( (( ((((((((((( (((( (((((((((( ((( (((((( (((((( (((((((((( ((((( ((((((((((( ((((((( ((((( (((((((( ((((((((((((( (((((( (((((( ((((( (((( ((((((( ( ( (90) .
فالسؤال عن أشياء لم يأتِ فيها تنزيل هذا ليس من فعل أهل الاتباع، بل يُسأل عمَّا جاء به التنزيل؛ لأن الله -جل وعلا- في هذه الآية قال: ( (( ((((((((((( (((( (((((((((( ((( (((((( (((((( (((((((((( ((((( ((((((((((( ((((((( ((((( (((((((( ((((((((((((( (((((( (((((( ( (91) .
فدلَّ على أن السؤال -إذا كان متعلقا بفهم القرآن، ويتبعه فهم السنة- فإن هذا لا بأس به ، أما أن تكثر المسائل في أمور ليس وراءها طائل، فهذا مما ينبغي تركه واجتنابه.
وقد قال هنا -عليه الصلاة والسلام- : ( فإنما أهلك الذين من قبلكم كثرةُ مسائلهم، واختلافهم على أنبيائهم ( .
وأنت تلحظ هذا، الذين يكثرون السؤال يكثر عندهم الخلاف، ولو أخذوا بما عليه العمل، وما تعلموه وعملوا به ، وازدادوا علما بفقه الكتاب والسنة لحصلوا خيرا عظيما ، أما كثرة الأسئلة تؤدي إلى كثرة الخلاف.(1/103)
فلهذا ما يُسْكَت عنه ينبغي أن يظل مسكوتا عنه، وألا يُحَرَّك، إلا فيما كان فيه نص، أو تتعلق به مصلحة عظيمة للمسلمين، فيُسْكَت لا يُحَرَّك عن شيء؛ لأنه ربما لو حُرِّكَ بالسؤال لاختلف الناس ووقعت مصيبة الاختلاف والافتراق، وهذا ظاهر لكم في بعض الأحوال والوقائع، في التاريخ القديم والحديث .
نقف عند هذا، وأسأل الله الكريم لي ولكم العلم النافع، والعمل الصالح، نعوذ بالله أن نَزِلّ أو نُزَل، أو نضل أو نضل، أو نجهل أو يُجْهل علينا، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد .
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن اهتدى بهداه ، أما بعد:
فنتم شرحنا لأحاديث الأربعين النووية، وهذا هو الأسبوع الثاني من هذه الدورة المباركة -إن شاء الله تعالى- على من شارك فيها إلقاءً وسماعًا .
الحديث العاشر
إن الله تعالى طيب لا يقبل إلا طيبا
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين .
قال المصنف -رحمه الله تعالى-: وعن أبي هريرة ( قال : قال رسول الله ( ( إن الله -تعالى- طيب لا يقبل إلا طيبا، وإن الله أمر المؤمنين بما أمر به المرسلين، فقال تعالى : ( ((((((((((( ((((((((( ((((((( (((( ((((((((((((( ((((((((((((( (((((((( ( ( (92) .
وقال تعالى : ( ((((((((((( ((((((((( (((((((((( ((((((( ((( (((((((((( ((( ((((((((((((( ( (93) .
ثم ذكر الرجل يطيل السفر، أشعث أغبر، يمد يديه إلى السماء: يا رب، يا رب. ومطعمه ومشربه حرام، وملبسه حرام، وغُذيَ بالحرام، فأنَّى يستجاب له ( رواه مسلم .
هذا الحديث -أيضا- من الأحاديث التي قيل فيها: إنها أصل من أصول الدين، يعني: أن كثيرا من الأحكام تدور عليها.(1/104)
وهذا الحديث فيه الأمر بالأكل من الطيب، وأنه سمة المرسلين، وسمة المؤمنين بالمرسلين، وأثر ذلك الأكل الطيب من الحلال على عبادة المرء، وعلى دعائه، وعلى قبول الله -جل وعلا- لعمله، فقال -رحمه الله تعالى- وعن أبي هريرة ( قال : قال رسول الله ( ( إن الله طيب لا يقبل إلا طيبا ( .
وقوله: ( إن الله طيب ( يعني: أنه -جل وعلا- منزَّه عن النقائص والعيوب، وأنه -جل وعلا- له أنواع الكمالات في القول والفعل، فكلامه -جل وعلا- أطيب الكلام، وأفعاله -جل وعلا- كلها أفعال خير وحكمة، والشر ليس إلى الله جل وعلا .
فالله -سبحانه- طيب بما يرجع إلى ذاته، وإلى أسمائه، وإلى صفاته -جل وعلا- ومن أوجه كونه طيبا أنه -جل وعلا- هو المستحق للعبادة وحده دونما سواه، وهو المستحق لأنْ يسلم المرء وجهه وقلبه إليه -سبحانه- دونما سواه.
ولكونه -جل وعلا- طيبا لا يقبل إلا طيب، فقال -عليه الصلاة والسلام-: ( إن الله طيب لا يقبل إلا طيبا ( .
ومعنى قوله: ( لا يقبل ( يعني: لا يرضى، ولا يحب إلا الطيب، وأيضا يعني: لا يثيب، ولا يأجر إلا على الطيب؛ فإن كلمة "لا يقبل" هذه -في نظائرها مما جاء في السنة- قد تتوجه إلى إبطال العمل، وقد تتوجه إلى إبطال الثواب، وقد تتوجه إلى إبطال الرضا بالعمل، وهو مستلزِم في الغالب لإبطال الثواب والأجر.
يعني: أن العمل قد يقع مُجْزئًا ولا يكون مقبولا، كما جاء في الحديث: ( لا يقبل الله صلاة عبد إذا أبق حتى يرجع ( .
و ( من أتى كاهنا أو عرافا لم تقبل له صلاة أربعين ليلة ( وأشباه ذلك .
فتقرر أن كلمة "لا يقبل" هذه تتجه إلى نفي أصل العمل، يعني: إلى إبطاله ، كما في قوله: ( لا يقبل الله صلاة حائض إلا بالخمار ( .
( لا يقبل الله صلاة أحدكم إذا أحدث حتى يتوضأ ( .
هذه فيه إبطال العمل إلا بهذا الشرط، وقد تتجه إلى إبطال الرضا به، أو الثواب عليه، فهذه ثلاثة أقسام.(1/105)
هنا ( إن الله طيب لا يقبل إلا طيبا ( تحتمل بحسب العمل، أن يكون المنفي الإجزاء، أو أن يكون المنفي الأجر والثواب، أو أن يكون المنفي الرضا به والمحبة له، يعني: لهذا العبد حين عمل هذا العمل.
فقال : ( لا يقبل إلا طيبا ( يعني الذي يوصف بأنه مجزئ، وأنه مرضي عنه عند الله -جل وعلا- وأنه يثاب عليه العبد هو الطيب، وأما غير الطيب فليس كذلك، فقد يكون غير مرضي، أو غير مثاب عليه، وقد يكون غير مجزئ أصلا، بحسب تفاصيل ذلك في الفروع الفقهية.
إذا تقرر هذا فقوله -عليه الصلاة والسلام- هنا: ( لا يقبل إلا طيبا ( هذا فيه أن الله -جل وعلا- إنما يقبل الطيب على الحصر.
و"الطيب" جاءت النصوص ببيان أن الطيب يرجع إلى الأقوال، وإلى الأعمال، وإلى الاعتقادات.
فحصل أن الله -جل وعلا- من آثار أنه طيب أنه لا يقبل من الأقوال إلا الطيب، ولا يقبل من الأعمال إلا الطيب، ولا يقبل من الاعتقادات إلا الطيب.
ما هو القول الطيب، والعمل الطيب، والاعتقاد الطيب؟
فسرنا الطيب -أولا- بأنه هو المبرأ من النقائص والعيوب ، وكذلك القول والعمل والاعتقاد هو المبرأ من النقص والعيب، يعني: الذي صار بريئا من خلاف الشريعة.
فالطيب هو الذي وُوفِق فيه الشرع، فالقول والطيب هو الذي كان على منهاج الشريعة، والعمل الطيب هو الذي كان على منهاج المصطفى ( والاعتقاد الطيب ما كان عليه الدليل من الكتاب ومن السنة.
فهذا هو الطيب من الأقوال والأعمال والاعتقادات.
وإذا صار قول المرء طيبا فإنه لا يكون خبيثا، والخبيث لا يستوي والطيب، كما في آية "المائدة": ( ((( (( ((((((((( ((((((((((( (((((((((((( (((((( (((((((((( (((((((( ((((((((((( ( ( (94) .(1/106)
وكذلك في الأعمال والاعتقادات، فنتج من ذلك أن العبد -إذا تحقق بالطِيبِ في قوله وعمله واعتقاده- صار طيبا في ذاته، والطيب له دار الطيبين ، كما قال -جل وعلا- : ( ((((((((( ((((((((((((( (((((((((((((((( (((((((((( ( ( (95) .
ومن صار عنده خبث في بدنه وروحه، نتيجة لخبث قوله، أو خبث عمله، أو خبث اعتقاد، ولم يغفر الله -جل وعلا- له، فإنه يُطَهَّر بالنار حتى يدخل الجنة طيبا؛ لأن الجنة طيبة لا يصلح لها إلا الطيب.
وهذا -في الحقيقة- فيه تحذير شديد، ووعيد وتخويف من كل قول أو عمل أو اعتقاد خبيث، يعني: لم يكن على وفق الشريعة، فالطيب هو المبرأ من النقص، وأعظم النقص في العمل، أو من أعظم ما ينقص العمل أن يتوجه به إلى غير الله -جل وعلا-، وأن تُقْصَد به الدنيا.
فتَحَصَّل هنا أن قوله : ( إن الله طيب لا يقبل إلا طيبا ( يعني: لا يقبل من العمل والقول والاعتقاد إلا ما كان على وفق الشريعة، وأُرِيدَ به وجهه -جل وعلا-، هذا حاصل تعريف الطيب؛ لأن العلماء نظروا في كلمة "طيب" في وصف الله -جل وعلا- وفيما ما يقابلها، وتنوعت أقوالهم، والذي يحقق المقام هو ما ذكرته لك.
قال -عليه الصلاة والسلام-: ( وإن الله أمر المؤمنين بما أمر به المرسلين ( .
المرسلون أُمِرُوا وأتباع المرسلين -الذين هم المؤمنون- أُمروا -أيضا- بما أُمر به المرسلون، فقال -جل وعلا- في قوله : ( ((((((((((( ((((((((( ((((((( (((( ((((((((((((( ((((((((((((( (((((((( ( ( (96) في آية "المؤمنون".
وقال -جل وعلا- في وصف المؤمنين، أو في أمره للمؤمنين في آية "البقرة" : ( ((((((((((( ((((((((( (((((((((( ((((((( ((( (((((((((( ((( ((((((((((((( ( (97) .(1/107)
فأمر المؤمنين بأن يأكلوا من الطيبات، وأمر المرسلين بأن يأكلوا من الطيبات، وأمر الجميع بأن يعملوا صالحا، وهذا يدل على أثر أكل الطيبات في العمل الصالح؛ لأن الاقتران في قوله : ( ((((((((((( ((((((((( ((((((( (((( ((((((((((((( ((((((((((((( (((((((( ( ( (98) لأن الاقتران يدل على أن بينهما صلة، والصلة ما بين أكل الطيب والعمل الصالح هي تأثير الأكل الطيب في العمل الصالح.
ولهذا قال كثير من أهل العلم : إن العمل لا يكون صالحا حتى يكون من مال طيب. فالصلاة لا تكون صلاة صالحة مقبولة حتى يكون فيها الطيب من الأقوال، ويكون لباس المرء طيبا، ويكون تخلص من الخبيث من النجاسات وغيرها، إلى آخر ذلك .
والزكاة لا تكون مقبولة حتى تكون طيبة، بأن تكون عن نفس طيبة، وألا يراد بها رياء ولا سمعة إلى آخر ذلك.
والحج كذلك؛ فمن حج من مال حرام لم يُقْبَل حجه؛ لأن الله -جل وعلا- لا يقبل إلا الطيب.
ثم ذكر -عليه الصلاة والسلام- مثالا من أمثلة تأثير الأكل الطيب في بعض الأعمال الصالحة، وأثر أكل الحرام في بعض الأعمال الصالحة، فقال أبو هريرة ( ثم ذكر -يعني النبي عليه الصلاة والسلام- : ( الرجل يطيل السفر أشعث أغبر، يمد يديه إلى السماء: يا ربِ يا ربِ، أو يا رب يا رب. ومطعمه حرام، ومشربه حرام، ومأكله حرام، وغُذِيَ بالحرام، فأنَّى يستجاب لذلك ( .
قال: ( ثم ذكر الرجل يطيل السفر، أشعث أغبر، يمد يديه إلى السماء ( .
ذكر هذه الصفات؛ لأن هذه الصفات مظنة الإجابة؛ فالسفر من أسباب إجابة الدعاء .
قد جاء في الحديث الحسن أن النبي ( قال: ( ثلاث يستجاب لهم ( وذكر منهم المسافر.
فالسفر من أسباب الإجابة، وهذا قد تعرَّض لسبب من أسباب الإجابة وهو السفر.(1/108)
ووصفه بقوله: ( يطيل السفر ( وإطالة السفر تعطي كثيرا من الاغتراب، وفيه انكسار النفس، وحاجة النفس إلى الله -جل وعلا- إذا كان السفر للحاجة، قد يطيل السفر -يعني من حاجته- يحتاج إلى السفر في معيشته ، يحتاج إلى السفر في أموره، وإلا فإن المرء لا يختار إطالة السفر إلا لحاجة.
قال : ( يطيل السفر أشعث أغبر ( وهاتان الصفتان تدلان على ذلته، وعلى استكانته، وهذه يحبها الله -جل وعلا-، وكان بعض السلف إذا أراد أن يدعو لبس شيئا خلقا، ولم يتزين، وإنما صار أشعث، ثم توجه في خلوة، ودعا الله -جل وعلا- وقال: إنه أقرب للإجابة؛ لما في هذه الصفة من انتفاء الكبر، وقرب التذلل والاستكانة، وهذه يكون معها الاضطرار والرغب، وعدم الاستغناء .
فذكر -عليه الصلاة والسلام- هذه الصفة، فقال : ( أشعث أغبر يمدُّ يديه إلى السماء ( وهذه صفة -أيضا- ثالثة، في أنه يمد يديه إلى السماء في رغب أن يكون أتى بما يُجَابُ معه دعاء، ورفع اليدين في الدعاء سنة، كما سيأتي بيان بعض ذلك.
يقول: ( يمد يديه إلى السماء: يا رب، يا رب ( وذكره هنا "يا رب" مكررة، ويجوز أن تقول: يا ربِ على حذف الياء، أو يا ربُ على القطع، في تكريرها ذكر لصفة الربوبية، ومعلوم أن إجابة الدعاء من آثار ربوبية الله -جل وعلا- على خلقه.
ولهذا لم تكن إجابة الدعاء للمؤمن دون الكافر ، بل قد يجاب للكافر، ويجاب للمارد ، وقد أجيب لإبليس؛ وذلك لأن إجابة الدعاء من آثار الربوبية، كرزق الله -جل وعلا- لعباده، وكإعطاءه لهم، وكإصحاحه إياهم، وإمدادهم بالمطر، وأشباه ذلك مما قد يحتاجون إليه.
فقد يدعو النصراني ويستجاب له، وقد يدعو المشرك ويستجاب له، إلى آخر ذلك.
وتكون هنا الاستجابة لا لأنه متأهل لها؛ ولكن لأنه قام بقلبه الاضطرار والاحتياج لربه -جل وعلا-، والربوبية عامة للمؤمن وللكافر.(1/109)
ذكر هنا: "يا رب، يا رب" وهذا من آداب الدعاء العام كما سيأتي، وذكر هذا بلفظ الربوبية -أيضا- من أسباب إجابة الدعاء .
قال في وصف حاله -مع أنه تعرض لهذه الأنواع مما يجاب معه الدعاء- قال في وصف حاله: ( ومطعمه حرام، ومشربه حرام، وملبسه حرام، وغُذِي ( -بالتخفيف، فغلط من يقولها بالتشديد غُذِّيَ، لا، هي غُذِيَ من الغذاء، ( غذي بالحرام، فأنى يستجاب لذلك ( .
يعني: فبعيد ويتعجب أن يستجاب لذلك وهو على هذه الحال.
فمن كان ذا مطعم حرام، وذا مشرب حرام، وذا ملبس حرام، وغذي بالحرام، فهذه يستبعد أن يستجاب له.
وقد جاء في معجم الطبرانى بإسناد ضعيف: ( أن النبي ( قال له سعد بن أبي وقاص: يا رسول الله، ادع الله لى أن أكون مجاب الدعاء. قال: يا سعد، أَطِبْ مطعمك تكن مستجاب الدعوة ( .
وهذا في معنى هذا الحديث، فإن إطابة المطعم من أسباب الإجابة ، فهذا تعرض لأنواع كثيرة من أسباب الإجابة، ولكنه لم يأكل طيبا؛ بل أكل حراما، فمُنِعَ الإجابة، واستُغْرِب أن يجاب له.
وقد جاء -أيضا- في بعض الآثار الإلهية أن موسى -عليه السلام- طلب من ربه أن يجيب لقومه دعاءهم، فقال: يا موسى، إنهم يرفعون أيديهم، وقد سفكوا بها الدم الحرام، وأكلوا بها الحرام، واستعملوها في حرام، فكيف يجابون؟
وهذا لا شك أنه مما يخيف المؤمن؛ لأن حاجته للدعاء أعظم حاجة، فدل هذا على أن إطابة المطعم من أعظم أسباب إجابة الدعاء، وأنه إذا تخلف هذا السبب -ولو وُجدت الأسباب الأخر- فإنها لا تجاب الدعوة غالبا لقوله : ( فأنى يستجاب لذلك ( .(1/110)
هذا الحديث دَلَّنَا في آخره على آداب من آداب الدعاء، فذكر منها السفر -يعني من أسباب إجابة الدعاء- فالسفر يُتَحَرَّى فيه الدعاء، والإتيان للدعاء بتذلل واستكانة في الظاهر والباطن، هذا -أيضا- من أسباب إجابة الدعاء، ورفع اليدين إلى السماء في الدعاء، هذا أيضا من أسباب إجابة الدعاء، ورفع اليدين إلى السماء له ثلاث صفات في ثلاثة أحوال دلت عليها السنة:
أما الأول : فهو بالنسبة للخطيب القائم، فإنه إذا دعا يشير بإصبعه فقط، بإصبعه السبابة، وهذا دليل دعائه وتوحيده، ولا يُشْرع له أن يرفع يديه إذا خطب قائما على المنبر أو على غيره، إلا إذا استسقى، فإنه يرفع يديه، ويرفع الناس معه أيديهم، كما جاء في حديث أنس وغيره في البخاري والنسائى وغيرهما ، هذه الحالة الأولى، رفع اليدين بالاكتفاء برفع الإصبع.
والثانى: أن يرفع يديه إلى السماء رفعا شديدا، بحيث يُرَى بياض الإبطين، يعني شديد جدا هكذا، وهذا إنما يكون في الاستسقاء، وفي الأمر الذي يصيب المرء معه كرب شديد، بما فيه استجارة عظيمة، وكرب شديد، فهذا يرفع يديه إلى السماء بشدة، وهذه لها صفتان: إما أن تكون اليدان بطنهما إلى السماء، وإما أن تكون اليدان ظهرهما إلى السماء، ورد هذا عن النبي -عليه الصلاة والسلام-، وورد هذا ، وتفاصيل هذا -يعني- تحتاج إلى وقت.
الثالث: أن يرفع يديه مبسوطة الكفين إلى الصدر، يعني: إلى موازاة ثديي الرجل والمرء، وهذا هو أغلب دعاء النبي -عليه الصلاة والسلام-، بل كان دعاؤه في عرفه هكذا، يرفع يديه إلى الثديين، ويمدهما كهيئة المستطعم، لا يجعلهما إلى الوجه هكذا، ولا بعيدة عنه بحيث ما تكون إلى الثديين، بل يبسطها كهيئة المستطعم المسكين، يعني: كهيئة المسكين الذي يريد أن يُعْطَى شيئا في يديه .(1/111)
وقد ثبت بالسنن من حديث سلمان الفارسي ( أن النبي ( قال: ( إن الله حَييٌّ كريم، يستحيي من عبده أن يمد إليه يديه، يطلب فيها خيرا، فيردهما صفرا خائبتين ( .
وهذا من أعظم الآداب، فإذن نخلص من ذلك إلى أن آداب الدعاء كثيرة ، وهذا مثل قاله -عليه الصلاة والسلام- يعني مثل أثر الحلال الطيب في العبادة ذكر الدعاء ، كذلك له أثر في الصلاة، ، له أثر في العبادات، في الذكر، إلى آخره.
فالله -جل وعلا- لا يقبل إلا طيبا، فمن أكل حراما فيتحرك بجسده في حرام، فقد تجزئه صلاته، لكن لا يكون بتحركه في بدنه بحرام مرضيا عند الله -جل وعلا-، ولو كانت صلاته خاشعة؛ بل أعظم ما يُبَرّ به البدن أن يكون البدن طيبا بالأكل، فلا يأكل إلا ما يعلم أنه حلال، بما يعلم أنه طيب، فهذا له أثر في رضا الله -جل وعلا- عن العبد، وقبوله لصلاته وصيامه، وقبوله لأعماله كلها.
قوله في آخره : ( فأنى يستجاب لذلك ( "أنى يستجاب لذلك": يعني عجيب وبعيد أن يستجاب له، وقد يستجاب له، قد يستجاب له لعارض آخر، ، صادفه اضطرار، وشدة إلحاح، وحاجة ماسة، فهذه يُعْطَى معها حتى الكافر ( ((((((( ((((((((( ((( (((((((((( (((((((( (((( ((((((((((( (((( ((((((((( ((((((( ((((((((( ((((( ((((((((( ((((( (((( ((((((((((( ( (99) .
فالمشرك قد يستجاب له، وكذلك المؤمن العاصي الذي أكل الحرام قد يستجاب له، لكن في حالات قليلة، وذلك إذا كان معها حالة اضطرار، أو شفع له غيره، وكان مع مُجاب الدعوة فأَمَّنَ عليه، أو ما شابه ذلك من الاستثناءات التي ذكرها أهل العلم .
الحديث الحادي عشر
دع ما يريبك إلى ما لا يريبك
وعن أبي محمد الحسن بن علي بن أبي طالب سبط رسول الله ( وريحانته -رضي الله عنهما- قال: حفظت من رسول الله ( ( دع ما يريبك إلى ما لا يريبك ( رواه الترمذي والنسائي، وقال الترمذي: حديث حسن صحيح .(1/112)
هذا الحديث عظيم أيضا، وهو في المعنى قريب من قوله -عليه الصلاة والسلام- في حديث النعمان بن بشير: ( فمن ترك الشبهات فقد استبرأ لدينه وعرضه، ومن وقع في الشبهات وقع في الحرام ( .
فهذا الحديث قال فيه الحسن ( حفظت من رسول الله ( ( دع ما يَريبك إلى ما لا يريبك ( .
وهذا أمر، وقوله : ( يَريبك ( بفتح الياء، ويجوز يُريبك بالضم، لكن الفتح أفصح وأشهر.
( دع ما يريبك ( يعني: ما تشك فيه، ولا تطمئن له، وتخاف منه؛ لأن الرَّيب هو الشك وعدم الطمأنينة، وما يخاف منه من يأتيه فلا يدري هل هو له أم عليه؟.
( دع ما يريبك ( يعني: إذا أتاك أمر فيه عدم طمأنينة لك، أو أنت إذا أقبلت عليه، أو إذا أردت عمله، استربت منه، وصرت في خوف أن يكون حراما، فدعه إلى شيء لا يريبك؛ لأن الاستبراء مأمور به، فترك المشتبهات إلى اليقين هذا أصل عام، وهذا الحديث دل على هذه القاعدة العظيمة: أن المرء يبحث عن اليقين؛ لأن فيه الطمأنينة، وإذا حصل له اليقين سيدع ما شك فيه.
فمثلا: إذا اشتبه عليه في أمر مسألة ما، هل هي حلال أم حرام؟ فإنه يتركها إلى اليقين، وهو أن يستبرئ لدينه، فيترك المسألة، أو إلى ما هو حلال بيقين عنده، أو مال اشتبه عليه، فيدع ما يريبه منه، ويأتي ما لا يريبه .
وكذلك في العبادات، وإذا قلنا: العبادات، فنعني بها الشعائر؛ لأن العلماء إذا قالوا: العبادة -بالإفراد- أرادوا منها ما يدخل في تعريف العبادة: "اسم جامع لكل ما يحبه الله ويرضاه .. " إلى آخره.
وإذا قيل: العبادات -بالجمع- فيريدون بها الشعائر: الصلاة، والزكاة، والصيام، والحج، والجهاد، وأشباه ذلك. ففرق ما بين الإفراد والجمع، كما فرقوا بين السماء والسماوات، ونظائر ذلك.
في العبادات -أيضا- يأتي اليقين، وإذا طرأ الشك عليه فلا يدع هذا اليقين لشك طرأ؛ لأن اليقين لا يريبه، وما وقع فيه من الشك هذا يريبه، ولا يطمئن إليه.(1/113)
فإذا اشتبه عليه -مثلا- في الصلاة هل أحدث ، أم لم يحدث ؟ هل خرج من شيء، أم لم يخرج منه شيء ؟ فيبني على الأصل، وهو ما لا يريبه، وهو أنه دخل الصلاة على طهارة، متيقن منها، فيبني على الأصل، ويدع ما طرأ عليه من الشك إلى اليقين، كان متطهرا فشكَّ هل أحدث أم لا؟ يبني على الأصل، ويدع الشك.
وهذا أصل عظيم -كما ذكرنا- هذا الحديث أصل عظيم من أصول الشريعة كما مَرَّ معنا في حديث النعمان بن البشير، فيدخل فيه ترك جميع ما يريب المسلم إلى شيء يتيقن من جوازه، وألا يلحقه به، وأنه لا يلحقه به إثم، أو شيء في دينه أو عرضه.
لهذا جاء هذا المعنى في أحاديث كثيرة، وقال ابن مسعود -رحمه الله-: "دَعْ الواحد الذي يريبك -يعني: الشيء الواحد الذي يريبك- إلى أربعة آلاف لا تريبك".
يعني ابن مسعود -رحمه الله- أن الذي يريب قليل، والذي لا يريب المرء -سواء في الأقوال أو في الأعمال أو في الاعتقادات- هذا كثير ولله الحمد، فالذي يريب اتركه، الذي يريبك من العلم، الذي يريبك من القول، الذي يريبك من الأعمال، الذي يريبك من العلاقات، الذي يريبك من الظن.
كل ما يريبك، تخاف منه، ولا تطمئن إليه، فدعه واتركه إلى أمر لا يريبك، وهو كثير ولله الحمد .
فهذا فيه طلب براءة الذمة إلى الأشياء المتيقنة، وإذا تقرر هذا فالحديث له تكملة، وهو قوله -عليه الصلاة والسلام-: ( فإن الخير طمأنينة، وإن الكذب ريبة ( .
( فإن الصدق طمأنينة، أو إن الخير طمأنينة، وإن الكذب ريبة ( يعني: في تكملة في بعض الروايات.
وهذا يدل على أن كل ما فيه خير تطمئن له نفس المؤمن، فأنت تأتي إلى ما تتلفظ به من أقوال، فتزنها بهذا الميزان، ما تأتيه من أعمال فتزنها بهذا الميزان، والعجب ممن يتكلم بشيء وهو بداخله غير مرتاح له، ومع ذلك يغشاه، فهذا مخالف لهذا الأمر العظيم.(1/114)
كذلك أعمال لا يرتاح لها، أو صحبة لا يرتاح لها، ومع ذلك يأتيها وهو غير مطمئن لذلك، وهذا -لا شك- أنه مخالفة لهذه الوصية العظيمة: ( دع ما يريبك إلى ما لا يريبك ( وهذا توجيه نبوي عظيم الفائدة عظيم العائدة ، وقد كان الصحابة -رضوان الله عليهم- يستعملون هذا.
وهذا الحديث أصلٌ في الورع ، أصلٌ في ترك المشتبهات، أصل في التَخَوُّف من أي نوع من الحرام.
والورع سهل، قد قال بعض السلف -أظنه حسان بن أبي سنان- قال: "إذا أتاني أمر وفيه ريبة تركته، وما أسهلها على النفس".
وهذا -ولا شك- عند نفس المؤمن الذي أخبت لربه، فإنه إذا أتاه ما يريبه يتركه، ويكون في ذلك راحة النفس وطمأنينة القلب، وهذا أمر واضح في الشريعة .
الحديث الثاني عشر
مِن حُسْنِ إسلام المرء تركه ما لا يَعنيه
وعن أبي هريرة ( عن النبي ( قال : ( مِن حُسْنِ إسلام المرء تركه ما لا يَعنيه ( حديث حسن ، رواه الترمذي وغيره هكذا.
هذا الحديث -أيضا- من الأحاديث الأربعة التي قال فيها طائفة من أهل العلم -منهم ابن أبي زيد القيرواني المالكي المعروف-: إنه أحد أحاديث أربعة هي أصول الأدب في السنة؛ فهذا الحديث أصل من الأصول في الآداب، كما ذكرنا لكم في أول هذه الدروس أن النووي -رحمه الله- اختار هذه الأحاديث كلية في أبواب مختلفة، في كل باب أصل من الأصول فيه.
قال هنا، قال رسول الله ( ( من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه ( .
( من حسن إسلام المرء ( "من" هنا: تبعيضية، يعني: ترك ما لا يعني، وبعض ما يحصل به إحسان الإسلام.
بسم الله الرحمن الرحيم
( من حسن إسلام المرء ( من هنا تبعيضية ، يعني: أن ترك ما لا يعني: هو بعض ما يحصل به إحسان الإسلام ، وحسن الإسلام يعني : ( من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه ( بعض ما به حُسْن إسلام المرء ترك ما لا يعني ، وهذا ظاهر من اللغة .(1/115)
وقوله -عليه الصلاة والسلام- هنا : ( حسن إسلام المرء ( حسن الإسلام جاء هذا اللفظ ومشتقاته في أحاديث متعددة منها -مثلا- قول النبي -عليه الصلاة والسلام- : ( إذا أحسن أحدكم إسلامه كان له بكل حسنة يعملها عشر حسنات إلى سبعمائة ضعف ، وإذا عمل بالسيئة كانت السيئة بمثلها ( وله ألفاظ أُخَر ، فدل هذا وغيره على أن إحسان الإسلام مرتبة عظيمة ، وفيها فضل عظيم .
وإحسان الإسلام مما اختلف فيه أهل العلم : -
فقالت طائفة : إحسان الإسلام : أن يأتي بالواجبات ، وأن ينتهي عن المحرمات ، وهي مرتبة المقتصدين ، يعني: الذين جاءوا بقول الله -جل وعلا- : ( (((( ((((((((((( ((((((((((( ((((((((( ((((((((((((( (((( (((((((((( ( (((((((((( ((((((( (((((((((((( ((((((((( (((((((((( (((((((((( ((((((( ((((((((((((((( (((((((( (((( ( ( (100) فالمقتصد هو : الذي يأتي بالواجبات ، ويترك المحرمات ، ويجعل مع الواجبات بعض النوافل ، فقالوا : المحسن لإسلامه هم أهل هذه الصفة ، يعني: الذين يأتون بالواجبات وبعض النوافل ، ويدعون المحرمات جميعا ، فمن كان كذلك فقد حسن إسلامه .
والقول الثاني : إن إحسان الإسلام معناه : أن يكون على رتبة الإحسان في العبادة التي جاءت في حديث جبريل المعروف ( قال : فأخبرني عن الإحسان قال : أن تعبد الله كأنك تراه ، فإن لم تكن تراه فإنه يراك ( فالذي يحسن إسلامه هو الذي وصل إلى مرتبة الإحسان ، إما على درجتها الأولى : درجة المراقبة ، أو على كمالها وهو : درجة المشاهدة .
وهذا القول الثاني ظاهر في الكمال ، ولكنه ليس ظاهرا في كل المراتب ؛ ولهذا قالت طائفة -أيضا- من أهل العلم : إن إحسان الإسلام ليس مرتبة واحدة بل الناس مختلفون فيها ، فبقدر إحسان الإسلام يكون له الفضل والثواب الذي أعطيه من أحسن إسلامه .(1/116)
فمثلا: في قوله -عليه الصلاة والسلام- : ( إذا أحسن أحدكم إسلامه كان له بكل حسنة يعملها عشر حسنات إلى سبعمائة ضعف ( قالوا هنا : عشر حسنات إلى سبعمائة ضعف ، عشر حسنات لكل من أحسن الإسلام ، يعني: لمن كان له الإسلام ، وحسن منه فإنه يبدأ من عشر أضعاف للحسنة يعني تكتب له الحسنة بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف ، هذا بحسب درجته في إحسان الإسلام .
فدل تنوع الثواب على تنوع الإحسان ، يعني أن درجة الإحسان تختلف ، وأهل إحسان الإسلام فيه متفاوتون لتفاوت الفضل والمرتبة والأجر على ذلك فقال : "إلى سبعمائة ضعف" ، فمن أسباب مزيدها إلى سبعمائة ضعف أن يكون إحسانه للإسلام عظيما ؛ ولهذا قال ابن عباس وغيره من المفسرين : إن الحسنة بعشر أمثالها لكل أحد . يعني: لكل مسلم في قوله -جل وعلا- في آخر الأنعام : ( ((( (((((( (((((((((((((( ((((((( (((((( (((((((((((( ( ( (101) قال : هذا لكل أحد ، أما من أحسن إسلامه فإنه في قول الله -جل وعلا- : ( ((((( (((( (((((((( (((((((((((( (((((((( ((( (((((((( ((((((( (((((((( ( (102) وهذا تقرير صحيح ، فإن الناس في إحسان الإسلام مراتب .
وهذه المسألة مشكلة ، يعني: لو راجعت في الشروح ، وكلام أهل العلم مشكلة ، لكن كلام أهل التحقيق الذين قرروا هذه المسألة بينوا أن إحسان الإسلام له مراتب ، يعني: ليس مرتبة واحدة ، وأن أهل المعصية ، يعني: من ظلم نفسه ، ليس من أهل إحسان الإسلام فقال : ( من حسن إسلام المرء ( يعني: هذا الفعل ، وهو ترك ما لا يعني من حسن إسلامه ، وهذا ظاهر في المرتبتين جميعا، فإن الذي يأتي الطاعات ، ويبتعد عن المحرمات فإنه منشغل بطاعة ربه عن أن يتكلف ما لا يعنيه.
وأما أهل الإحسان في مقام المراقبة ، أو ما هو أعظم منها ، وهو مشاهدة آثار العصمة والصفات في خليقة الله -جل وعلا- فهؤلاء منشغلون بإحسان العمل الظاهر والباطن عن أن يكون لهم هم فيما لا يعنيهم .(1/117)
إذا تقرر هذا فما معنى قوله : ( ما لا يعنيه ( ؟ ما هو الذي يعني والذي لا يعني ؟ العناية في اللغة : شدة الاهتمام بالشيء ، أو الشيء المهم الذي يُهْتَم به ، والذي لا يعني وليس لي به عناية هو الشيء الذي لا ينفع المعتني به ، يعني: لا ينفع المتوجه إليه ، وليس له به مصلحة ، ومعلوم أن أمور الشرع المسلم له بها عناية ، وأن فقه الكتاب والسنة له به لكل مسلم به عناية ، يعني: فيشتد اهتمامه بها .
فإذاً الاهتمام بما فيه فقه للنصوص هذا مما يدل على حسن إسلام المرء ، قال : ( من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه ( بالمفهوم أن من حسن إسلام المرء الاهتمام بما يعنيه ، ما لا يعني المرء المسلم من الأقوال التي ليس لها نفع له في دينه ، ولا في دنياه أو في آخرته أو في أولاه ، فإن تركها من حسن إسلام المرء ، وهذا عام يشمل ما يتصل بفضول العلوم التي لا تنفعه ، وبفضول المعاملات ، وبفضول العلاقات ، ونحو ذلك فتركه ما لا يعنيه في دينه فإنه هذا دليل حسن إسلامه.
يعني: دليل رغبته في الخير؛ لأن التوسع ، أو إتيان ما لا يعني في العلاقات ، أو في الأقوال أو في السمع ... إلخ هذا زريعة لأن يرتكب شيئا محرما ، أو أن يفرط في واجب ، تفوته رتبة المقتصدين التي هي أقل رتب أهل حسن الإسلام.
أدخل الشراح أيضا وهذا واضح وبَيِّن ، وقد جاء في بعض الأحاديث أن مما لا يعني المرء الكلام أو السماع ، الكلام نطقا أو سماع الكلام ، يعني: أن من حسن إسلام المرء ترك ما لا يعنيه من الكلام ، سماعا أو نطقا ، وهذا ظاهر بين ؛ لأن اللسان هو مورد الزلل ، والأذن أيضا هي مورد الزلل ، فاللسان نطقا محاسب عليه العبد ( ((( (((((((( ((( (((((( (((( (((((((( ((((((( ((((((( ( (103) وهذه الآية عامة ، فإن الملك يكتب كل شيء حتى الأشياء التي لا تؤاخذ بها .(1/118)
قال بعض السلف: يكتب حتى أنين المريض ، يعني: حتى ما لا يؤاخذ به فإنه يكتبه ، وهذا هو الراجح في أنه يكتب كل شيء ، ولا تختص كتابته بما فيه الثواب والعقاب ، وذلك لدليلين :
الأول : أن قوله: "من قول" هذه نكرة في سياق النفي ، وسبقتها من ، وهذا يدل على التنصيص الصريح في العموم يعني: الذي لا يتخلف معه شيء من أفراده ألبته ( ((( (((((((( ((( (((((( ( (104) فأي قول لفظ فإنه يكتب .
الدليل الثاني : أن تقسيم ما يكتبه الملك إلى أنه يكتب ما فيه الثواب والعقاب ، هذا يُحتاج له ، أن يُثبت أن الملك الذي يكتب عنده التمييز في الأعمال ما بين ما فيه الثواب ، وما لا ثواب فيه ، والتمييز في النيات وأعمال القلب والأقوال التي تصدر عن أعمال القلوب ... وإلخ .
قال شيخ الإسلام ابن تيمية في كتاب الإيمان : وهذا لا دليل عليه ، يعني: أن الملك يعلم ما يثاب عليه من الأقوال ، وما لا يثاب عليه ، وإنما الملك كاتب ، كما قال -جل وعلا- : ( (((( ((((((((((( ((((( (( (((((((( (((((((( (((((((((((( ( (((((( ((((((((((( (((((((((( ((((((((((( ( (105) ( (((((((( (((((((((( ( (106) إلخ . دل هذا على أن ترك ما لا يعني في الأقوال في القول لفظا أو سماعا أن هذا مما تعظم به درجة العبد .
( ( (( (((((( ((( ((((((( (((( ((((((((((( (((( (((( (((((( (((((((((( (((( ((((((((( (((( ((((((((( (((((( (((((((( ( ( (107) فلهذا يظهر من الحديث عند كثيرين أن المراد به -كما ذكرت- القول أو السماع ، فيدخل فيه إذن البحث عن أحوال لا تخصك ، أو لا تعنيك في دينك ، أو الحرص على معرفة الأخبار ، أخبار فلان ، وأيش عمل ، وأيش سوَّى وقال وفعل ، وخبره مع فلان ، وأيش عندك من الأخبار ، وأيش قال فلان ، والناس أيش عملوا ، ونحو ذلك .(1/119)
فالاهتمام بهذه الأشياء بما لا يعني هذا مخالف لما يدل عليه حسن الإسلام ، فمن أدلة حسن الإسلام ترك ما لا يعني من فضول الأقوال ، وفضول ما يسمع .
فإذاً هذا الحديث من أحاديث الآداب العظيمة فينبغي لنا -وجوبا- أن نحرص على حسن الإسلام ؛ لأن فيه من الفضل العظيم ما فيه ، ومن حسن الإسلام أن نترك ما لا يعني من الكلام أو السماع ، الكلام ، الأسئلة التي ليس لها داع ، يأتي يستفصل وتارة مع من هو أكبر منه ، أو من قد يحرج باستفصاله ، وتدقيق في الأسئلة ، تجميع الأخبار عن الناس ، وهذا فعل ، وهذا ترك ، وهذا ذهب ، وهذا جاء ... إلخ .
والتحدث بها ، وتوسيع ذلك هذا كله مذموم ، ويسلب عن العبد حسن الإسلام إذا غلب عليه ، ولهذا نقول : في هذا الحديث وصية عظيمة في هذا الأدب العظيم من المصطفى -عليه الصلاة والسلام- فإن من حسن إسلام المرء أن يترك ما لا يعنيه ، ما لا يعنيه في دينه ، ما لا يعنيه في أمر دنياه ، ما لا يعنيه من الأقوال ، ومما يسمع أو مما لا يسمع ، وأشباه ذلك .
فإن في هذا الأثر الصالح له في صلاح قلبه ، وصلاح عمله ، والناس يؤتون من كثرة ما يسمعون أو يتكلمون ، ولهذا قال بعض السلف في أناس يكثرون الكلام والحديث مع بعضهم قال : هؤلاء خف عليهم العمل ، فأكثروا الكلام ، وهذا مذموم أن نكثر الكلام بلا عمل ، نجلس مجالس طويلة ساعة ، ساعتين ، ثلاث في كلام مكرر ، وضار لا نفع فيه والواجبات لو تأملها كثيرة ، تجد أنه يتوسع في مباح ، وربما كان معه بعض الحرام في الأقوال والأعمال ويترك واجبات كثيرة ، وهذا ليس من صفة طلاب العلم ، فطالب العلم يتحرى أن يكون عمله دائما فيما فيه نفع له ، يعني فيما يعنيه مما أمر به في الشريعة أو حُث عليه ، وأن يترك ما لا يعنيه من الأقوال والأعمال الظاهرة والباطنة .
هذا الحديث قال عنه النووي في آخره : حديث حسن رواه الترمذي وغيره هكذا ، وتحسينه من جهة كثرة طرقه ، من كثرة شواهده .(1/120)
والراجح عند علماء العلل أنه مرسل ، فقد قال أحمد ويحيى بن معين وجماعة : إن الصواب فيه أنه مرسل ، ولكن له شواهد كثيرة قريبة من لفظه ؛ ولهذا حسنه النووي -رحمه الله- وقال : حديث حسن ، رواه الترمذي وغيره هكذا ، فالصواب أنه حسن لغيره لشواهده.
الحديث الثالث عشر
لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحبه لنفسه
وعن أبي حمزة أنس بن مالك ( خادم رسول الله ( عن النبي ( أنه قال : ( لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحبه لنفسه ( رواه البخاري ومسلم.
هذا حديث أنس ( وهو الحديث الثالث عشر من هذه الأحاديث النووية . قال : عن أبي حمزة أنس بن مالك ( خادم رسول الله ( عن النبي ( قال : ( لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه ( .
"لا يؤمن أحدكم" : هذه الكلمة تدل على أن ما بعدها مأمور به في الشريعة ، إما أمر إيجاب أو أمر استحباب ، ونفي الإيمان هنا قال فيه شيخ الإسلام ابن تيمية في كتاب الإيمان -كما أحضرنيه بعض الأخوة- : ( لا يؤمن أحدكم ( إن هذا نفي لكمال الإيمان الواجب ، فإذا نُفِي الإيمان بفعل دل على وجوبه ، يعني: على وجوب ما نفي الإيمان لأجله.
( لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه ( دل على أن محبة المرء لأخيه ما يحب لنفسه واجبة ، قال : لأن نفي الإيمان لا يكون لنفي شيء مستحب ، فمن ترك مستحبا لا ينفي عنه الإيمان ، فنفي الإيمان دال على أن هذا الأمر واجب ، فيكون إذاً نفي الإيمان نفي لكماله الواجب ، فيدل على أن الأمر المذكور ، والمعلق به النفي يدل على أنه واجب .
إذا تقرر هذا فقوله هنا : ( لا يؤمن أحدكم حتى ... ( له نظائر كثيرة في الشريعة يعني: في السنة : ( لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من والده وولده والناس أجمعين ( ( لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه ( ( لا يؤمن من لا يأمن جاره بوائقه ( وهكذا إذا تقرر ذلك فإن نفي الإيمان فيها على باب واحد ، وهو أنه ينفي كمال الإيمان الواجب .(1/121)
ثم قوله -عليه الصلاة والسلام- : ( حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه ( هذا يشمل الاعتقاد والقول والعمل ، يعني: يشمل جميع الأعمال الصالحة من الأقوال والاعتقادات والأفعال ، فقوله : ( حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه ( يشمل أن يحب لأخيه أن يعتقد الاعتقاد الحسن كاعتقاده ، وهذا واجب ، ويشمل أن يحب لأخيه أن يكون مصليا كفعله .
فلو أحب لأخيه أن يكون على غير الهداية فإنه ارتكب محرما فانتفى عنه كمال الإيمان الواجب ، لو أحب أن يكون فلان من الناس على غير الاعتقاد الصحيح الموافق للسنة ، يعني: على اعتقاد بدعي فإنه كذلك ينفي عنه كمال الإيمان الواجب ، وهكذا في سائر العبادات ، وفي سائر أنواع اجتناب المحرمات ، فإذا أحب لنفسه أن يترك الرشوة ، وأحب لأخيه أن يقع في الرشوة حتى يبرز هو كان منفيا عنه كمال الإيمان الواجب ، وهكذا في نظائرهما .
وقد جاء في النسائي -يعني: في سنن النسائي- وفي غيره تقييد ما يحب هنا بما هو معلوم ، وهو قوله : ( حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه من الخير ( وهذا ظاهر غير بين ، ولكن التنصيص عليه واضح .
أما أمور الدنيا فإن محبة الخير لأخيه كما يحب لنفسه هذا مستحب ؛ لأن الإيثار بها مستحب ، وليس بواجب ، فيحب لأخيه أن يكون ذا مال مثل ما يحب لنفسه هذا مستحب ، يحب لأخيه أن يكون ذا وجاهة مثل ما له هذا مستحب ، يعني: لو فرط فيه لم يكن منفيا عنه ، لم يكن كمال الإيمان الواجب منفيا عنه ؛ لأن هذه الأفعال مستحبة ، فإذا صار المقام هنا على درجتين ، إذا كان ما يحبه لنفسه متعلقا بأمور الدين فهذا واجب أن يحب لإخوانه ما يحب لنفسه ، وهذا هو الذي تسلط نفي الإيمان عليه .(1/122)
( لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه ( يعني: من أمور الدين أو من الأمور التي يرغب فيها الشارع وأمر بها أمر إيجاب أو أمر استحباب وكذلك ما نهى عنه الشارع ، فيحب لأخيه أن ينتهي عن المحرمات ويحب لأخيه أن يأتي الواجبات ، هذا لو لم يحب لأنتفى عنه كمال الإيمان الواجب ، أما أمور الدنيا -كما ذكرنا- فإنها على الاستحباب يحب لأخيه أن يكون ذا سعة في الرزق فهذا مستحب ، يحب أن يكون لأخيه مثل ما له من الجاه مثلا أو من المال أو من حسن الترتيب أو من الكتب أو... إلخ فهذا كله راجع إلى الاستحباب.
ويتفرع عن هذا مسألة الإيثار ، والإيثار منقسم إلى قسمين : إيثار بالقرب ، وإيثار بأمور الدنيا ...، أما الإيثار بالقرب فإنه مكروه لأنه يخالف ما أمرنا به من المسابقة في الخيرات والمسارعة في أبواب الطاعات ( ((((((((((( (((((( (((((((((( (((( ((((((((( ( (108) ( ( ((((((((((((( (((((( ( (109) فالمسارعة والمسابقة تقتضي أن كل باب من أبواب الخير يسارع إليه المسلم ويسبق أخاه إليه ( ((((( ((((((( ((((((((((((((( (((((((((((((((((( ( (110) .
والقسم الثاني الإيثار في أمور الدنيا يعني: في الطعام في الملبس في المركب في التصدر في مجلس أو ما أشبه ذلك فهذا مستحب أن يؤثر أخاه في أمور الدنيا كما قال -جل وعلا- في وصف خاصة المؤمنين : ( ((((((((((((( (((((( ((((((((((( (((((( ((((( (((((( ((((((((( ( ((((( ((((( (((( ((((((((( (((((((((((((( (((( ((((((((((((((( ( (111) فدلت الآية على أن الإيثار بأمور الدنيا من صفات المؤمنين وهذا يدل على استحبابه ،
صلة هذا بالحديث ، قال : ( لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه ( يحب للأخ ما يحب للنفس ، قد يقتضي هذا أن يقدمه ، فهل إذا كان في أمور الدنيا يقدمه على ما ذكرنا ؟(1/123)
إن الإيثار بالقرب مكروه ، الإيثار في أمور الدنيا مستحب فحبه لأخيه ما يحب لنفسه من أمور الدنيا مستحب هنا أيضا ، يستحب أن يقدم أخاه على نفسه في أمور الدنيا .
هذا خلاصة ما في الحديث من البحث ، وبهذا يظهر ضابط قوله : ( لا يؤمن أحدكم ( وما يتصل بها من الفعل ( حتى يحب لأخيه ( ( حتى أكون أحب إليه من ولده ، ووالده والناس أجمعين ( إن هذا أمر مطلوب شرعا ، ( من لا يأمن جاره بوائقه ( إلخ .
نكتفي بهذا القدر .
وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد .
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله ، والصلاة والسلام على رسول الله ، وعلى آله وصحبه ومن اهتدى بهداه.
أما بعد:
فكثر السؤال بعد درس البارحة عن معنى "الإيثار بالقُرَب" ، وأنا ظننت أنها واضحة عند الجميع فنقررها لمن لم تتضح له .
الإيثار بالقرب معناه : أن المسألة إذا كانت قربة إلى الله -جل وعلا- فإن الإيثار -إيثار أخيك- بها مكروه ؛ لأن هذا ينافي المسابقة التي ذكرنا لكم أدلتها والمسارعة في الخيرات والمنافسة .
فمثلا: أن يكون هناك فرجة في الصف الأول ، أو مكان متقدم خلف الإمام فتقف أنت وأخوك المسلم فتقول له : تقدم ، تفضل ، فيقول لك : لا ، تقدم فتقول : تقدم ، فمثل هذا لا ينبغي ؛ لأنه مكروه بل ينبغي المسارعة في تحصيل هذه القربة ، وهي فضيلة الصف الأول .
مثلا: أتى رجل محتاج إلى مبلغ من المال يسد عوزه ، خمسين ، مائة ريال ، أكثر ، فأنت مقتدر وأخوك أيضا المسلم مقتدر فتقول له : ساعده أنا معطيك الفرصة ، تفضل ساعده ، وهذا يقول : لا أنت تفضل من باب المحبة ، يعني: أن كل واحد يقدم أخاه ، فمثل هذا -أيضا- مكروه لا ينبغي ؛ لأن في هذا الباب المسارعة والمسابقة في الخيرات .(1/124)
كذلك من جهة القراءة ، قراءة العلم على الأشياخ ، وأخذ الفرص لنيل الطاعات ، والجهاد وأشباه هذا ، فمثل هذه المسائل تسمى قُرَبا يعني طاعات ، فالإيثار في الطاعات يعني: بالقرب لا ينبغي ، مكروه ؛ لأنه كما ذكرنا ينافي الأمر بالمسارعة والمسابقة ، والتنافس في الخير .
الحديث الرابع عشر
لا يحل دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين .
قال المصنف -رحمه الله- تعالى- : وعن ابن مسعود ( قال : قال رسول الله ( ( لا يحل دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث : الثيب الزاني ، والنفس بالنفس ، والتارك لدينه المفارق للجماعة ( رواه البخاري ومسلم .
هذا الحديث حديث ابن مسعود ( فيه ذكر ما به يحل دم المرء المسلم ، فإنه تقدم لنا قول النبي ( ( أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله ، وأن محمدا رسول الله ، ويقيموا الصلاة ، ويؤتوا الزكاة ، فإن فعلوا ذلك فقد عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحق الإسلام ، وحسابهم على الله ( ( .
فهذا الحديث فيه أن دم المسلم معصوم ، وأنه إذا شهد لا إله إلا الله ، وأقام الصلاة وآتى الزكاة ، يعني: أدى حقوق التوحيد فإنه معصوم الدم ، وحرام المال ، هذا الحديث حديث ابن مسعود فيه الأحوال التي يباح بها دم المسلم الموحد ، الذي شهد أن لا إله إلا الله ، وأن محمدا رسول الله ، وأتى بحقوق ذلك ، فقال -عليه الصلاة والسلام- : ( لا يحل دم امرئ مسلم ... ( وقوله : "لا يحل" يعني: يحرم ، وهو كبيرة من الكبائر أن يباح دم مسلم بغير حق ؛ ولهذا ثبت عنه -عليه الصلاة والسلام- أنه قال : ( لا ترجعوا بعدي كفارا يضرب بعضكم أعناق بعض ( فجعل ضرب المسلم أخاه المسلم ، وقتله بغير حق من خصال أهل الكفر .(1/125)
وثبت عنه أيضا -عليه الصلاة والسلام- أنه قال : ( إذا التقى المسلمان بسيفيهما فالقاتل والمقتول في النار ، قالوا : يا رسول الله ! هذا القاتل فما بال المقتول ؟ قال : إنه كان حريصا على قتل صاحبه ( وهذا يدل على أن من سعى في قتل المسلم ، وأتى بالأسباب التي بها يقتل المسلم فإنه في النار ، قال : ( فالقاتل والمقتول في النار ( وهذا لا ينافي عدم المؤاخذة ، مؤاخذة المسلم بهمه .
وما جاء في الحديث ( إذا هم عبدي بالسيئة فلا تكتبوها عليه ( والحديث الآخر -أيضا- الذي في الصحيح ( إن الله تجاوز لأمتي ما حدثت به أنفسها ، ما لم تعمل أو تتكلم ( ؛ لأن هذا الحديث الذي هو ( القاتل والمقتول في النار ( المقتول وإن لم يفعل فهو في النار ؛ لأنه قد سعى في الأسباب ، وعدم الحصول لم يكن لإرادته عدم الحصول ، وإنما لتخلف ذلك عنه بأمر قدري ، فيدل هذا على أن من سعى في أسباب القتل ، أو في أسباب المحرم ، وتمكن منها لكن تخلفت عنه لسبب ليس إليه فإنه يعتبر كفاعلها من جهة الإثم ، بل إن الذي يرضى بالذنب كالذي فعله يعني: من جهة الإثم وهذا ظاهر من الأدلة .
فقوله -عليه الصلاة والسلام- هنا : ( لا يحل دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث ( يدل على تعظيم حرمة دم المرء المسلم ، وقوله : ( دم امرئ مسلم ( هنا قال : مسلم ، والمقصود بالمسلم هو : الذي حقق الإسلام ، يعني: أصبح مسلما على الحقيقة ، لا على الدعوة ، يعني: من شهد أن لا إله إلا الله ، وأن محمدا رسول الله ، وأتى بالتوحيد .
أما المشرك -الشرك الأكبر- والمبتدع -البدعة المكفرة المخرجة من الدين- وأشباه ذلك فلا يدخلوا في وصف الإسلام في هذا الحديث ، ولا في غيره ؛ لأن المسلم هو من حقق الإسلام بتحقيق التوحيد يعني: بإتيانه بالشهادتين ومقتضى ذلك ، وكونه لم يرتكب مكفرا ، ولا شركا أكبر .. قال : ( إلا بإحدى ثلاث ( وهذا استثناء أو يسمى حصرا ؛ لأنه استثناء بعد النفي .(1/126)
والاستثناء بعد النفي يدل على الحصر ، وقوله -عليه الصلاة والسلام- في أولها : "لا يحل" أتى على النفي ، ومجيء النفي يدل على النهي ، بل مجيء النفي أبلغ من مجرد النهي ، يعني: كأنه صار حقيقة ماضية ، أنه لا يحل ، بحيث إن النهي عنه قد تقرر ، وإنما ينفي وجوده في الشريعة أصلا ، وله نظائر كقوله : ( (( (((((((((( (((( ((((((((((((((( ( (112) وأشباه ذلك مما يعدل فيه من النهي إلى النفي للمبالغة في النهي ، وهذه قاعدة معروفة في اللغة وفي أصول الفقه .
قال : ( إلا بإحدى ثلاث ( هذه الثلاث أصول ، قال فيها : الثيب الزاني ، والزاني له حالات : إما أن يكون ثيبا ، يعني: أنه قد ذاق العسيلة من قبل ، يعني: أنه سبق له أن أحصن -أن تزوج- بعقد شرعي صحيح ، فهذا يقال له : ثيب ، إذا كان كذلك فإنه لا يكون ثيبا بزنا ، ولا يكون ثيبا بعقد فاسد باطل ، ولا يكون ثيبا بعقد متعة ، متعة زواج وأشباه ذلك ، لا يكون محصنا ثيبا في الشريعة إلا إذا تزوج ، نكح نكاحا صحيحا مستوفيا للشروط .
فالثيب إذا زنى فإنه يحل دمه ، وقد كان فيما أنزل ونسخ لفظه وبقى حكمه قوله -جل وعلا- : "والشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما ألبتة نكالا من الله والله عزيز حكيم"، وفيما بقي لفظا وحكما قول الله -جل وعلا- : ( (((((((((((( ((((((((((( ((((((((((((( (((( ((((((( (((((((((( (((((((( (((((((( ( ( (113) فدلت الآية على عموم أن الزاني يجلد مائة ، ودلت الآية التي نسخ لفظها وبقي حكمها أنه يرجم .
وكذلك السنة دلت على الرجم ، ودلت أيضا على الجمع بين الجلد والرجم ؛ ولهذا اختلف العلماء في الزاني الثيب هل يجمع له بين الجلد والرجم ؟ يعني: هل يجلد أولا ثم يرجم ؟ أم يكتفى فيه بالرجم ؟ والنبي -عليه الصلاة والسلام- رجم أو أمر برجم ماعز والغامدية ، وأمر برجم اليهودي واليهودية ، وأشباه ذلك في حوادث تدل على أن الرجم فعل من غير جلد .(1/127)
وقد قال بعض أهل العلم من الصحابة فمن بعدهم كعلي ( إنه يجلد ثم يرجم، كما ثبت في صحيح البخاري -رحمه الله- ( أن عليا جلد زانيا ثيبا ثم رجمه فقال : جلدته بكتاب الله ورجمته بسنة رسول الله ( ( يريد ( أنه جلده بعموم قوله -جل وعلا- : ( ((((((((((((( (((( ((((((( (((((((((( (((((((( (((((((( ( ( (114) لأن الآية ليس فيها تفصيل هل هو محصن أم غير محصن ؟ هل هو ثيب أم بكر ؟
والسنة فيها الرجم ، فدل هذا عنده ( على الجمع بين الجلد والرجم ، وهو رواية عن الإمام أحمد ، وكثير من أهل العلم على الاكتفاء بالرجم ؛ لأن النبي ( اكتفى بالرجم في حوادث كثيرة ، أو في حوادث متعددة ، حيث رجم ماعزا والغامدية ، واليهودي واليهودية دون جلد -كما هو معروف- .
فقال بعضهم : الجمع بين الجلد والرجم راجع إلى الإمام فيما يراه من جهة كثرة النكال ، والمبالغة فيه .
المقصود من هذا : أن الثيب إذا زنى ، وتحققت شروط الزنا كاملة ، بما هو معروف بشهادة أربعة ، أو باعترافه على نفسه اعترافا محققا ، لا يرجع فيه أنه يرجم ، وذلك حتى يموت ، قال هنا : ( الثيب الزاني ( يعني: يحل دمه ، يحل دم الثيب إذا زنى ، قال : ( والنفس بالنفس ( النفس بالنفس هذه كما قال -جل وعلا- في القرآن : ( ((((((((((( (((((((((( ((((((( (((( ((((((((( ((((((((((( ( (115) وقال -جل وعلا- أيضا : ( (((((( (((((((((( ((((((((((( ((( ((((((((((( ( (((((((( ((((((((((( (((((((((((( (((((((((((( ((((((((((( ((((((((((( ( ( (116) الآية فدل ذلك على أن النفس تقتل بالنفس ، فإذا اعتدى أحد على نفس معصومة فإنه يقتل ، إذا كان اعتداؤه بالقتل عمدا .
ثم نظر أهل العلم في قوله : ( النفس بالنفس ( هل هذا عام لا تخصيص فيه ؟ أو هو عام مخصوص ؟ أو هو مقيد في أقوال لهم ؟(1/128)
والذي عليه جهور أهل العلم أن قوله : ( النفس بالنفس ( هذا يقيد بأن النفس تكون مكافئة للنفس بدلالة السنة على ذلك ، كما قال -جل وعلا- : ( (((((((( ((((((((((( (((((((((((( (((((((((((( ((((((((((( ((((((((((( ( ( (117) .
والسنة دلت على أن المسلم لا يقتل بكافر ، وعلى أن الحر لا يقتل بعبد ، حتى في القصاص في الأطراف بين الحر والعبد لا توجد المكافأة وهكذا .
فإذن لا بد من وجود المكافأة من جهة الدين ، ومن جهة الحرية فقوله -عليه الصلاة والسلام- هنا : "النفس بالنفس" يعني فيما دلت عليه الآية -آية البقرة- ودلت عليه مواضعها من السنة أن النفس المكافئة للنفس .
أما قتل كل نفس بكل نفس فهذا خلاف السنة ، وذهب أبو حنيفة الإمام المعروف -رحمه الله- وأصحابه إلى أن المسلم يقتل بالكافر لعموم الآية ( ((((((((((( (((((((((( ((((((( (((( ((((((((( ((((((((((( ( (118) ولعموم الحديث ، وعلى أن الحر يقتل بالعبد ، والجمهور على إعمال الأحاديث الأُخَر في هذا الباب من أن النفس بالنفس تقيد بما جاء في الأحاديث ، فيكون هذا من العام المخصوص .
قال : ( والتارك لدينه المفارق للجماعة ( .
"التارك لدينه" فسرت بتفسيرين :
الأول : التارك لدينه يعني : المرتد الذي ترك دينه كله فارتد عن الدين ، فيباح دمه .
والتفسير الثاني : أن التارك للدين هو : من ترك بعض الدين ، مما فيه مفارقة للجماعة ، يعني: ترك بعض أمر الدين ، مما فيه المفارقة للجماعة ، قالوا : ولهذا عطف ( المفارق للجماعة ( على ( التارك لدينه ( فقال : ( والتارك لدينه المفارق للجماعة ( فجعل مفارقة الجماعة عطفا لبيان ترك الدين ، فدل هذا على أن إباحة الدم في ترك الدين يكون بترك الجماعة ، وترك الجماعة يراد بها ترك الجماعة التي اجتمعت على الدين الحق بمفارقته للدين ، وتركه للدين بما يكفره .(1/129)
والثاني : يعني: مفارق للجماعة ، جماعة الدين أو الاجتماع في الدين، والثاني : أن المفارقة للجماعة يعني بالخروج على الإمام ، أو البغي ، فيكون المفارقة للجماعة المقصود بها الاجتماع بالأبدان .
وهنا تكلم العلماء في كثير من المسائل التي تدخل تحت ترك الدين ، فجعلوا باب الردة فيه ، أو باب حكم المرتد فيه مسائل كثيرة ، فيها يخرج المرء من الدين ، ويكون مرتدا بذلك ، فكل مسألة حكم العلماء فيها على أنها من أسباب الردة ، أو بها يرتد المسلم ، فإنه بعد اكتمال الشروط ، وانتفاء الموانع يحل دمه ، يعني: يحل دم المرتد ، وكذلك المفارق للجماعة بالأبدان يحل دمه لقوله -عليه الصلاة والسلام- : ( من أتاكم وأمركم جميع على رجل واحد يريد أن يشق عصاكم فاقتلوه كائنا من كان ( .
فدل هذا على أن ترك الجماعة ، ومفارقة الجماعة يحصل بترك الدين ، بالردة عن الدين ، وبمفارقة الاجتماع على الإمام ، وهذا ظاهر بين في تعلية ترك الدين بمفارقة الجماعة ، ولهذا جعل أهل العلم في ترك الدين هذا كل المسائل التي يقتل بها .
إذا تقرر هذا فإن إحلال الدم هذا متوجه إلى الامام -إمام المسلمين- فإنه لا يجوز لأحد أن يستبيح دم أحد ؛ لأنه عنده قد أتى بشيء من هذه الثلاث . فإذا قال : أنا رأيت هذا يزني رأيته بعيني فاستبحت دمه لذلك فإنه يقتل ، ولا يجوز له ؛ لأن الله -جل وعلا- جعل ثبوت الزنا منوطا بشهادة أربع .
ولو شهد ثلاثة من أعظم المسلمين صلاحا على حصول الزنا ، وأنهم رأوا ذلك بأعينهم لَدُرِئَ الحدُّ ، ولأقيم على هؤلاء الصلحاء حد القذف ؛ لأنهم قذفوه ، ولم يكمل أربعة من الشهداء ، كما هو بين لكم في أوائل سورة النور .
كذلك من قال : هذا ارتد عن دينه فأنا أقيم عليه الحد وأقتله ، وأبيح دمه لأجل هذا الحديث فإن هذا افتئات وتعد ، ولا يباح له أن يفعل ذلك ، ودمه لا يحل لكل أحد .(1/130)
فإذن قوله -عليه الصلاة والسلام- : ( لا يحل دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث ( إحلاله لولي الأمر أو لنوابه ممن جعل الله -جل وعلا- إليهم إنفاذ الحدود وقتل من يستحق القتل ، أما لو جعل هذا لكل أحد لصار في ذلك استباحة عظيمة للدماء ؛ إذ المختلفون كثيرا ما يكفر أحدهم الآخر إذا لم يكونوا من أهل السنة والاعتدال ، فإذا قيل بظاهره -ولا قائل به- فإنه يعني أن من حكم على الآخر بأنه كافر فإنه ينفذ ذلك .
ثم ها هنا مسألة متعلقة بذلك : إذا كان في بلد لا يوجد إمام أو ولي أمر ينفذ الأحكام ، فهل للمسلم إذا ثبت عنده شيء من ذلك أن ينفذ الأحكام ؟ والجواب : لا ، كما هو قول عامة أهل العلم ، إذ يشترط لإنفاذ الأحكام التي فيها استباحة للدم أو المال أو الأعراض ، أو ما أشبه ذلك ، هذا إنما يكون للإمام ، فإذا لم يوجد لم يجز لأحد أن ينفذ هذا إلا في حالة واحدة وهي : أن يأتي أحد إلى من يرى فيه العلم أو الصلاح ويقول : أنا ارتكبت حدا -فيما دون القتل- يعني ارتكبت زنا ، وكان غير محصن أو قال : شربت الخمر أو قذفت فلانا فطهرني بالجلد يعني: بما دون القتل فهذا لا بأس به عند كثير من أهل العلم ؛ لأن إرادة التطهير له ، وإذا جلد فإن هذا له ، وليس فيه استباحة الدم .
أما استباحة الدم ، أو تطبيق الحدود في غير حال من يرضى بتطبيقها عليه فإنه لا يجوز بقول عامة أهل العلم ، فتلخص من هذا أن إقامة هذه الأشياء راجعة إلى الإمام ولي الأمر المسلم ، أو من ينيبه .
والثاني : أنه في بلد لا يوجد فيها من ينفذ أحكام الله -جل وعلا- فلا يجوز إنفاذ أحكام القتل ؛ لأن هذه معلقة بولي الأمر المسلم ، والنبي ( في مكة ، والصحابة في بعض البلاد التي لا يقام لم يقيموا فيها ذلك ، وكذلك العلماء في بعض البلاد كما كان في الدولة العبيدية ، وأشباه ذلك فإن العلماء لم يقيموا الحدود بالقتل ، وأشباه ذلك .(1/131)
الحالة الثالثة : فيما دون القتل ، يعني فيما فيه تطهير بجلد ونحوه :
إذا اختار المسلم عالما وقال : طهرني بالجلد من ذلك فإن ذلك جائز ؛ لأن هذا فيه حق له ، ويريد التطهير ولا يتعدى ضرره ، وهذا عند بعض أهل العلم .
وآخرون يشترطون في الجميع إذن الإمام ، أو وجود ولي الأمر المسلم .
الحديث الخامس عشر
من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيرا أو ليصمت
وعن أبي هريرة ( قال : قال رسول الله ( ( من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيرا أو ليصمت ، ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم جاره ، ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم ضيفه ( رواه البخاري ومسلم .
هذا الحديث أدب من الآداب العظيمة ، وهو صنو حديث : ( من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه ( من جهة أنه أصل في الآداب العامة ، وهذا الحديث دل على أن من صفات المؤمن بالله وباليوم الآخر ، الذي يخاف الله ويتقيه ، ويخاف ما يحصل له في اليوم الآخر ، ويرجو أن يكون ناجيا في اليوم الآخر ، أن من صفاته أنه يقول الخير أو يصمت .
ومن صفاته أنه يكرم الجار .
ومن صفاته أنه يكرم الضيف .
ومن صفاته أنه يكرم الجار ، هذا بعموم ما دل عليه الحديث ، الحديث دل على أن الحقوق منقسمة إلى : حقوق لله ، وحقوق للعباد.
وحقوق الله -جل وعلا- مدارها على مراقبته ، ومراقبة الحق -جل وعلا- أعسر شيء أن تكون في اللسان ، ولهذا نبه بقوله : ( من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيرا أو ليصمت ( على حقوق الله -جل وعلا- ، والتي من أعسرها من حيث العمل والتطبيق : حفظ اللسان ، وهنا أمره بأن يقول خيرا أو أن يصمت ، فدل على أن الصمت متراخ في المرتبة عن قول الخير ؛ لأنه ابتدأ الأمر بقول الخير فقال : ( فليقل خيرا ( فهذا هو الاختيار ، هو المقدم أن يسعى في أن يقول الخير .(1/132)
والمرتبة الثانية : أنه إذا لم يجد خيرا يقوله أن يختار الصمت ؛ وهذا لأن الإنسان محاسب على ما يتكلم به ، وقد قال -جل وعلا- : ( ( (( (((((( ((( ((((((( (((( ((((((((((( (((( (((( (((((( (((((((((( (((( ((((((((( (((( ((((((((( (((((( (((((((( ( ( (119) .
فهذا الحديث فيه : ( فليقل خيرا ( وعلق هذا بالإيمان بالله واليوم الآخر ، وقول الخير متعلق بالثلاثة التي في آية النساء قال : ( (((( (((( (((((( (((((((((( (((( ((((((((( (((( ((((((((( (((((( (((((((( ( ( (120) فالصدقة واضحة والإصلاح أيضا واضح ، والمعروف هو ما عرف حسنه في الشريعة ، ويدخل في ذلك جميع الأمر بالواجبات والمستحبات ، وجميع النهي عن المحرمات والمكروهات ، وتعليم العلم والأمر بالمعروف ، والنهي عن المنكر ... إلخ .
فإذن قوله -عليه الصلاة والسلام- : ( فليقل خيرا ( يعني : فليقل أمرا بالصدقة ، فليقل أمرا بالمعروف ، فليقل بما فيه إصلاح بين الناس ، وغير هذه ليس فيها خير ، ما خرج عن هذه فإنه ليس فيها خير ، وقد تكون من المباحة ، وقد تكون من المكروهة ، وإذا كان كذلك فالاختيار أن يصمت ، وخاصة إذا كان في ذلك إحداث لإصلاح ذات البين ، يعني أن يكون ما بينه وبين الناس صالحا على جهة الاستقامة بين المؤمنين الأخوة .(1/133)
قال -عليه الصلاة والسلام- هنا : ( من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيرا أو ليصمت ( يعني أن حفظ اللسان من الفضول بقول الخير ، أو بالصمت إن لم تجد خيرا أن هذا من علامات الإيمان بالله واليوم الآخر ؛ لأن أشد شيء على الإنسان أن يحفظه لسانه ، لهذا جاء في حديث معاذ المعروف أنه سأل النبي ( لما قال له -عليه الصلاة والسلام- : ( وكف عليك هذا ( فاستعجب معاذ ( فقال : يا رسول الله أوإنا مؤاخذون بما نقول ؟ فقال: ثكلتك أمك يا معاذ وهل يكب الناس في النار على مناخرهم -أو قال : على وجوههم- إلا حصائد ألسنتهم ( فدل على أن اللسان خطير تحركه ، إذا لم يكن تحركه في خير فإنه عليك لا لك .
والتوسع في الكلام المباح قد يؤدي إلى الاستئناس بكلام مكروه أو كلام محرم كما هو مجرب في الوقع ، فإن الذين توسعوا في الكلام ، وأكثروا منه في غير الثلاثة المذكورة في الآية جرهم ذلك إلى أن يدخلوا في أمور محرمة من غيبة أو نميمة أو بهتان أو مداهنة ، أو ما أشبه ذلك مما لا يحل .
فإذن الإيمان بالله واليوم الآخر يحض على حفظ اللسان ، وفي حفظ اللسان الإشارة لحفظ جميع الجوارح الأُخر ؛ لأن حفظ اللسان أشد ذلك ، وقد جاء في الحديث الصحيح أن النبي -عليه الصلاة والسلام- قال : ( من ضمن لي ما بين لَحيَيْهِ وما بين فخذيه ضمنت له الجنة ( .
ثم قال -عليه الصلاة والسلام- ( ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم جاره ( وإكرام الجار يعني : أن يكون معه على صفة الكرم ، والكرم هو : اشتمال الصفات المحمودة التي يحسن اجتماعها في الشيء فيقال : هذا كريم ؛ لأنه ذو صفات محمودة ، وفي أسماء الله -جل وعلا- الكريم ، والكريم في أسماء الله -جل وعلا- هو : الذي تفرد بصفات الكمال ، والأسماء الحسنى فاجتمع له -جل وعلا- الحسن الأعظم في الأسماء ، والعلو في الصفات ، والحكمة في الأفعال .(1/134)
فالكريم : من فاق -يعني في اللغة- من فاق جنسه في صفات الكمال. فالإكرام هو : أن تسعى في تحقق صفات الكمال ، أو في تحقيقها ، فإكرام الجار : أن تسعى في تحقيق صفات الكمال التي تتطلبها المجاورة .
وإكرام الضيف : أن تسعى في تحقيق صفات الكمال التي تتطلبها الضيافة.
وقوله : "فليكرم جاره" على هذا ، يدخل فيه إكرام الجار بالألفاظ الحسنة ، إكرام الجار بحفظ الجار في أهله ، حفظ الجار في عرضه ، في الاطلاع على مسكنه .
ويدخل في هذا حفظ الجار في أداء الحقوق العامة له ، في الجدار الذي بينهما ، أو النوافذ التي تطل على الجار ، أو في موقف السيارات -مثلا- أو في غذاء الأطفال ، أو ما أشبه ذلك ، فيدخل هذا جميعا في إكرام الجار ، ويدخل فيه -أيضا- أن يكرم الجار في المطعم والملبس ، وأشباه ذلك يعني أنه إذا كان عنده طعام فإنه يطعم جاره منه .
وقد كان -عليه الصلاة والسلام- ربما طها في بيته بعض اللحم فقال : ( أرسلوا لجارنا اليهودي من مرقة هذا اللحم ( وهذا في حق الجار الكافر ، ولهذا رأى طائفة من أهل العلم كأحمد في رواية ، وكغيره أن إكرام الجار في هذا الحديث عام يدخل فيه إكرام الجار المسلم ، وإكرام الجار الكافر .
وإكرام الجار المسلم له حقان : لإسلامه ولجواره ، فإذا إكرام الجار كلمة عامة يدخل فيها أداء ما له من الحقوق ، وكف الأذى عنه ، وبسط اليد له بالطعام وما يحتاجه ، وهذا -أيضا- مع قول الله -جل وعلا- : ( ((((((((( (((( ((((((((((( ((( ((((((((((((( (((((((((((( ( (121) والماعون هو : ما يحتاج إليه في الإعارة .
( ((((((((((((( (((((((((((( ( (122) يعني : يمنعون ما يحتاج إليه المسلمون في الإعارة ، فإذا احتاج جارك إلى أن تعيره شيئا من أدوات الطهي أو شيئا من أدوات المنزل ، أو من الأثاث ، أو ما أشبه ذلك فإن من إكرامه أن تعطيه ذلك .(1/135)
أما إذا كان يتعدى على أشيائك ، ويتلف المال فهذا لا يكون له الحق في إكرامه بذلك ؛ لأنه مظنة التعدي .
الجار هنا قسمان : جار قريب ، وجار بعيد ، وفي القسمين جاء قول الله -جل وعلا- في سورة النساء : ( ((((((((((( ((( (((((((((((( ((((((((((( (((((((((( (((((((((((( (((((((((((( ( (123) فقوله : ( ((((((((((( ((( (((((((((((( ( (124) فسرت بتفسيرين :
الأول : أن الجار ذي القربى هو من له جوار وقرابة فقدمه على الجار الجنب يعني الذي ليس له قرابة ، التفسير الثاني : أن الجار ذا القربى في قوله : ( ((((((((((( ((( (((((((((((( ( (125) أنه الجار القريب والجار الجنب أنه الجار البعيد ؛ لأن كلمة "جنب" في اللغة تعني : البعيد ، ومنه سميت "الجنابة" جنابة ، وفلان جنب لأنه من البعد ، فدل هذا على أن إكرام الجار يدخل فيه الجار القريب والجار البعيد .
ما حد الجار البعيد ؟ بعضهم حده بسبعة يعني سبعة بيوت ، وبعضهم حده بأربعين بيتا من يمين وشمال ، وأمام وخلف ، وهذه كلها تقديرات لم يصح فيها شيء عن المصطفى -عليه الصلاة والسلام- ، وهذا محكوم بالعرف فما كان فيه العرف أنه قريب فهو قريب ، وما كان فيه العرف أنه جار بعيد فيدخل في ذلك ، وهذا يتنوع بتنوع البلاد والأعراف ، فيه تفاصيل أُخر تقرءونها في المطولات -إن شاء الله- .
قال : ( ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم ضيفه ( إكرام الضيف أن تبذل للضيف من الصفات المحمودة ما به يحصل له الحق ، والصفات المحمودة التي تعطى للضيف ، وبشاشة الوجه ، وانطلاق الأسارير ، والكرم باللسان يعني أن يضاف بألفاظ حسنة ، ومنها أيضا من إكرام الضيف أن تطعمه ، وهو المقصود ؛ لأن الأضياف يحتاجون لذلك ، وقوله هنا : ( فليكرم جاره ( ( فليكرم ضيفه ( ( فليقل خيرا ( كلها أوامر ، وهي على الوجوب .(1/136)
وإكرام الضيف واجب كما دل عليه الحديث بإطعامه ، وهذا فيه تفصيل وهو أنه يجب أن يضاف الضيف بالإطعام يوما وليلة ، كما جاء في الحديث أنها جائزة الضيف يوم وليلة ، وتمام الضيافة ثلاثة أيام بلياليها، يعني يومين بعد اليوم والليلة الأولى ، فيجب أن تكرم الضيف يوما وليلة ، يعني بأن تعطيه ما يحتاجه .
قال العلماء : هذا في حق أهل القرى الذين ليس ثم مكان يمكن الضيف أن يستأجر له ، أما في المدن الكبار الذي يوجد فيها الخان ، ويوجد فيها الدور التي تؤجر فإنه لا تجب الضيافة ؛ لأنه لا يضيف مع ذلك إلا إذا كان محتاجا لها ، ولا مكان له يؤويه فإنه يجب على الكفاية أن يعطيه كفايته ، وأن يضيفه يوما وليلة ، وتمام الثلاثة مستحب ، يعني في مكان لا يوجد فيه دار يمكنه أن يستأجرها .
أما مثل الآن في مدننا الكبار هذه فإنها لا تجب ، وإنما تستحب ، في القرى في الأطراف ، وأهل الخيام ، ونحو ذلك إذا نزل بهم الأضياف فإنه يجب عليه أن يقريهم يوما وليلة ، وتمام الضيافة ثلاثة أيام بلياليها .
إذا تقرر هذا فما الذي يقدمه ؟ الذي يقدمه للضيف ما تيسر له ، يعني ما يطعمه هو وأهله ، ولا يجب عليه أن يتكلف له في ذبح ، أو تكلف طعام كثير ، أو ما أشبه ذلك ، فالذي يجب ما يطعمه به ، ويسد عوزة هذا الضيف ، أو ما يسد جوعه يعني من الطعام المعتاد الذي يأكله .
وقد جاء في الأثر : أن قوما من أهل الكتاب أرسلوا لعمر ( عمر بن الخطاب فقالوا له : إن المسلمين إذا مروا بنا كلفونا ذبح الدجاج لهم ، وإن هذا لا نطيقه ، فأرسل إليهم عمر بما حاصله أن أطعموهم مما تأكلون ولا تتكلفوا لهم .
وهذا ظاهر من حيث الأصول في أن الإكرام لا يعني التكلف ، وهذا الوجوب في حق من عنده فضل في ماله ، يفيض ويزيد عن حاجته الضرورية ، وحاجة من يعوله ، أما إذا كان محتاجا هو ومن يعوله محتاج لهذا الطعام ، فإن من يعوله أولى من الضيف في الشرع .
الحديث السادس عشر
لا تغضب(1/137)
وعن أبي هريرة ( قال : ( إن رجلا قال للنبي ( أوصني. قال : لا تغضب. فردد مرارا قال : لا تغضب ( رواه البخاري .
هذا أيضا من أحاديث الآداب العظيمة حيث قال النبي ( لرجل سأله ( أوصني. قال : لا تغضب ( والسؤال بالوصية حصل مرارا من عدد من الصحابة -رضوان الله عليهم- يسألون المصطفى ( فيقولون له : أوصنا ، أوصني واختلف جوابه -عليه الصلاة والسلام- فمرة قال مثل ما هنا : ( لا تغضب ( وقال لرجل ( قال له : أوصني . قال : لا يزال لسانك رطبا من ذكر الله ( وقال له رجل : أوصني. فقال له كذا ، وتكرر هذا ، واختلفت الإجابة .
قال العلماء : اختلاف الإجابة يحمل على أحد تفسيرين الأول : أنه -عليه الصلاة والسلام- نوّع الإجابة بحسب ما يعلمه عن السائل ، فالسائل الذي يحتاج إلى الذكر أرشده للذكر ، والذي يحتاج إلى أن لا يغضب أرشده إلى عدم الغضب.
والقول الثاني : أنه نوّع الإجابة لتتنوع خصال الخير في الوصايا للأمة . لأن كل واحد سينقل ما أوصى به النبي -عليه الصلاة والسلام- فتتنوع الإجابة ، وكل من قال: أوصني محتاج لكل جواب.
لكن لم يكثر النبي -عليه الصلاة والسلام- الوصايا بأن ( قال : لا تغضب ( ( ولا يزال لسانك رطبا بذكر الله ( وكذا وكذا حتى لا تكثر عليه المسائل .
فإفادة من طلب الوصية بشيء واحد أدعى للاهتمام ، ولتطبيقه لتلك الوصية ، قال هنا : "أوصني" ، والوصية : الدلالة على الخير ، يعني: دلني على كلام تخصني به من الخير ، الذي هو خير لي في عاجل أمري وآجله. ( قال : لا تغضب ( وقوله هنا -عليه الصلاة والسلام- : ( لا تغضب ( دل على أن من طلب منه الوصية أن يجتهد في الوصية الجامعة ، وفيما يحتاجه الموصى ، وألا يتخلف عن الجواب ، وهذا يناسب أن يكون المعلم أو المربي أن يكون مستحضرا لوصايا النبي -عليه الصلاة والسلام- ولوصايا أهل العلم حتى يعطيها متى ما سنحت الحاجة في طلب الوصية ، وأشباه ذلك .(1/138)
وقوله -عليه الصلاة والسلام- : ( لا تغضب ( هذا -أيضا- له مرتبتان : المرتبة الأولى : لا تغضب إذا أتت دواعي الغضب فاكظم غضبك ، واكظم غيظك ، وهذا جاءت فيه آيات ، ومنها قول الله -جل وعلا- : ( (((((((((((((((( (((((((((( (((((((((((((( (((( (((((((( ( ( (126) وكظم الغيظ من صفات عباد الله المؤمنين المحسنين ، الذين يكظمون الغضب عند ثورته .
وجاء -أيضا- في الحديث الصحيح أن النبي ( قال : ( من كظم غيظا ، وهو يقدر على إنفاذه ، دعي يوم القيامة على رءوس الخلائق إلى الجنة ( أو كما قال -عليه الصلاة والسلام- والحديث في السنن ، وهو حديث صحيح .
فكظم الغيظ ومَسْك الغضب هذا هو الحالة الأولى التي دل عليها قوله : ( لا تغضب ( وكظم الغيظ ، وإمساك الغضب هذا من الصفات المحمودة ، ويأتي تفصيل الكلام على كونه من الصفات المحمودة .
الثاني -التفسير الثاني-: لا تَسْعَ فيما يغضبك ؛ لأنه من المتقرر أن الوسائل تؤدي إلى الغايات ، فإذا كنت تعلم أن هذا الشيء يؤدي بك إلى غاية تغضبك فلا تَسْعَ إلى وسائلها ، ولهذا كان كثير من السلف يمدحون التغافل ، وقال رجل للإمام أحمد : كان وكيع يقول ، أو أحد الأئمة غير وكيع -النسيان مني-: الخير تسعة أعشاره في التغافل .
وقال الإمام أحمد : أخطأ ، الخير كله في التغافل يعني: أن إحقاق الأمور إلى آخرها في كل شيء هذا غير ممكن ؛ لأن النفوس مطبوعة على التساهل ومطبوعة على التوسع ، وعندها ما عندها ، فتغافل المرء عما يحدث له الغضب ، ويحدث له ما لا يرضيه ، تغافله عن ذلك من أبواب الخير العظيمة ، بل قال : الخير كله في التغافل ، التغافل عن الإساءة ، التغافل عن الكلام فيما لا يحمد .(1/139)
التغافل -أيضا- عن بعض التصرفات بعدم متابعتها ولحوقها إلى آخرها إلى آخر ذلك فالتغافل أمر محمود وهذا مبني أيضا على النهي عن التحسس والتجسس ، قوله أيضا هنا : ( لا تغضب ( بمعنى: لا تدخل في وسائل الغضب في أنواعها ، فكل وسيلة من الوسائل التي تؤدي إلى الغضب فمنهي عن اتباعها ، فإذا رأيت الشيء ، وأنت تعلم من نفسك أنه يؤدي بك إلى الغضب ، فالحديث دل على أن تنتهي عنه من أوله ، ولا تتبع نفسك هذا الشيء ، وتتمارى فيه أو تتمادى فيه حتى يغضبك ثم بعد ذلك قد لا تستطيع أن تكظم الغضب أو الغيظ .
إذا تقرر هذا ، وأن الحديث له معنيان ، وأن النهي عن الغضب يشمل النهي عن إنفاذ الغضب بكتمان الغضب ، ويشمل -أيضا- النهي عن غشيان وسائل الغضب ، إذا تقرر هذا فإن الغضب من الصفات المذمومة التي هي من وسائل إبليس ، فالغضب دائما يكون معه الشر .
فكثير من حوادث القتل والاعتداءات كانت من نتائج الغضب ، كثير من الكلام السيئ الذي ربما لو أراد الإنسان أن يرجع فيه لرجع ، لكنه أنفذه من جراء الغضب .
كثير من العلاقات السيئة بين الرجل وبين أهله ، وحوادث الطلاق ، وأشباه ذلك كان منشأها الغضب ، وكثير من قطع صلة الرحم ، وتقطيع الأواصر التي أمر الله -جل وعلا- بوصلها كان سببَ القطيعةِ الغضبُ ، ومجاراة الكلام ، وتبادل الكلام والغضب إلى أن يخرجه عما يعقل ، ثم بعد ذلك "لات ساعة إصلاح" .
وهكذا في أشياء كثيرة ، فالغضب مذموم ، وهو من الشيطان ، ومن وسائل الشيطان لإحداث الفرقة بين المؤمنين ، وإشاعة الفحشاء والمحرمات فيما بينهم .
علاج الغضب :
جاء في السنة أحاديث كثيرة في علاج الغضب ، نجملها في الآتي :
أولا : أن الغضب يعالج بالوضوء ؛ لأنه فيه ثورة ، والوضوء فيه تبريد ؛ ولأن الغضب من الشيطان ، والوضوء فيه استكانة لله -جل وعلا- وتعبد لله ، فهو يُسكّن الغضب ، فمن غضب فيشرع له الوضوء .(1/140)
كذلك مما جاء في السنة : أنه إذا غضب وكان قائما أن يقعد ، وهذا من علاج آثار الغضب ؛ لأنه يسكن نفسه ، ومن -أيضا- علاج الغضب أن يسعى في كونه وإبداله بالكلام الحسن ، لمن قدر على ذلك .
ومن المعلوم أن الإنسان يبتلى ، وابتلاؤه يكون مع درجاته وأجره وثوابه ، فإذا ابتلى بما يغضبه فكظم ذلك ، وامتثل أمر النبي ( وما حث الله -جل وعلا- عليه بقوله : ( (((((((((((((((( (((((((((( ( (127) وكظم غيظه ، وهو يقدر على إنفاذه ، كان حريا بكل فضل مما جاء في الأحاديث ، بأن يدعى على رءوس الخلائق إلى الجنة ، وأشباه ذلك .
فهذا الحديث دل على هذا الأدب العظيم ، فحرى بطالب العلم ، وبكل مستقيم على أمر الله أن يوطن نفسه على ترك الغضب ، وترك الغضب لا بد له من صفة تحمل عليه ، والصفة التي تحمل عليه : الحلم والأناة ، ومن اتصف بالحلم والأناة كان حكيما؛ ولهذا الغضوب لا يصلح أن يكون معالجا للأمور ، بل يحتاج إلى أن يهدأ حتى يكون حكيما .
وكان للغضب بعض الآثار السيئة في قصص متنوعة ، ولهذا نقول : قوله -عليه الصلاة والسلام- : ( لا تغضب ( ينبغي أن يكون بين أعيننا دائما في علاقاتنا مع إخواننا ، ومع أهلينا ومع الصغار ، ومع الكبار فكلما كان المرء أحلم وأحكم في لفظه وفعله كلما كان أقرب إلى الله -جل وعلا- ، وهذا من صفات خاصة عباد الله .
الحديث السابع عشر
إن الله كتب الإحسان على كل شيء
وعن أبي يعلى شداد بن أوس ( أن رسول الله ( قال : ( إن الله كتب الإحسان على كل شيء ، فإذا قتلتم فأحسنوا القتلة ، وإذا ذبحتم فأحسنوا الذبحة ، وليحد أحدكم شفرته ، وليرح ذبيحته ( رواه مسلم .(1/141)
هذا الحديث في باب آخر ، وهو باب الإحسان ، فقال فيه -عليه الصلاة والسلام-: ( إن الله كتب الإحسان على كل شيء ( فلفظ كتب يدلنا على أن الإحسان واجب ؛ لأن لفظ : كتب -عند الأصوليين- من الألفاظ التي يستفاد بها الوجوب ، وما تصرف منها ، يعني: ما تصرف من الكتابة ، قال الله -جل وعلا- مثلا: ( (((( ((((((((((( ((((((( ((((( ((((((((((((((( (((((((( (((((((((( ( (128) فدل على وجوبها أشياء منها : أنه وصفها بأنها كتاب فقال -جل وعلا- : ( (((((( (((((((((( ((((((((((( ( (129) وقال -جل وعلا- : ( (((((( (((((((((( ((((( (((((( (((((((((( (((((((((( ( (130) وقال -جل وعلا- : ( ((((((( (((( (((((((((( ( ( (131) وقال -جل وعلا- : ( ((((((((((( (((((((((( ((((((( (((( ((((((((( ((((((((((( ( (132) في آيات كثيرة فيها لفظ الكتاب .
فلفظ "كتب" وما تصرف منه يدل على أنه واجب ، يعني يدل على أن المكتوب واجب ، ومنه الإحسان ، ( إن الله كتب الإحسان على كل شيء ( وقوله هنا : ( كتب الإحسان على كل شيء ( كلمة "على" هنا فيها احتمال أن تكون كتابته الإحسان على كل شيء كتابة قدرية ، يعني أنه كتبها قدرا بأن الأشياء تمشي على الإحسان ، وأن الله -جل وعلا- ألهم مخلوقاته الإحسان .(1/142)
ويحتمل أن تكون الكتابة هنا شرعية ، فيكون معنى قوله : ( كتب الإحسان على كل شيء ( أن تكون "على" هنا بمعنى "في" ، يعني :كتب الإحسان في كل شيء ، يعني: لكل شيء ، وهذا يتجه إذا كانت الكتابة شرعية يتجه الخطاب للمكلفين ، فلهذا مثل بمثال يتعلق بالمكلفين ، وهذا الثاني أظهر ، يعني :أن تكون الكتابة شرعية ، وأن يكون معنى ( كتب الإحسان على كل شيء ( يعني: في كل شيء ، أو لكل شيء ، فـ"على" هنا بمعنى "في" كقوله -عليه الصلاة والسلام- حيث سئل : ( أي الأعمال أحب إلى الله ؟ فقال : الصلاة على وقتها ( يعني : في وقتها ، فيما هو معلوم في مجيء "على" بمعنى "في" في مواضع ، ومجيء "في" بمعنى "على" في مواضع .
فقوله -عليه الصلاة والسلام- حيث سئل ( أي الأعمال أحب إلى الله ؟ فقال : الصلاة على وقتها ( يعني: في وقتها ، فيما هو معلوم في مجيء "على" بمعنى "في" في مواضع ، ومجيء "في" بمعنى "على" -أيضا- في مواضع .
إذا تقرر هذا فالإحسان الذي كتب على المكلف بكل شيء ، ما هو الإحسان ؟ مصدر أحسن الشيء يحسنه إحسانا ، وإذا كان كذلك فالإحسان يختلف باختلاف الشيء ، فإذا كان الشيء هذا عبادة صار الإحسان فيها ، يعني: الإحسان الواجب بتكميل ما به يكون أجزاؤها ، وصحتها وحصول الثواب بها ، يعني: تكميل الأركان والواجبات والشرائط ، فيخرج عن ذلك المستحبات ؛ لأنها مما لم يكتب ، مع أنه يكون بها الإحسان ، لكن الإحسان المستحب .
فالشيء هنا ( كتب الإحسان على كل شيء ( يعني: في كل شيء ، الشيء هنا أخذنا منه العبادات ، وعرفنا الكلام فيها ، هنا كتب الإحسان في كل شيء ، يعني: فيما تزاوله من أمرك في حياتك ، وهذا الإحسان مطلوب منك دائما ، هو أن تحسن في تعاملك مع نفسك ؛ بأن تمتثل الواجبات ، وأن تنتهي عن المحرمات؛ لأن من لم يحسن هذا الإحسان كان ظالما لنفسه والظالم لنفسه من ارتكب بعض المنهيات ، أو فرط في بعض الواجبات .(1/143)
لهذا أمر الله -جل وعلا- في سورة النحل بالإحسان فقال -جل وعلا- ( ( (((( (((( (((((((( (((((((((((( ((((((((((((( ((((((((((( ((( (((((((((((( ( (133) هذا يشمل جميع الشريعة.
الإحسان في التعامل مع الخلق ، وهذا يكون بأداء الحقوق التي لهم ، وعدم ظلمهم فيما لهم ، والخلق متنوعون ، أصناف شتى فكل أحد من الخلق له حق ، فأعلى الخلق مقاما مما له حق النبي -عليه الصلاة والسلام- فالإحسان المتعلق بالمصطفى -عليه الصلاة والسلام- أن تحسن في الشهادة له بالرسالة ، بأن تصدقه -عليه الصلاة والسلام- فيما أخبر ، وأن تعبد الله على ما جاء به المصطفى ( وأن تقدم مراده -عليه الصلاة والسلام- في الدين على ما تشتهيه أنت من الأهواء والبدع ، فهذا إحسان في حق المصطفى ( .
إحسان في حق الوالدين ، أمر الله -جل وعلا- به في قوله : ( ((((((((((((((((((( (((((((((( ( (134) ( ( (((((((( (((((( (((( (((((((((((( (((( ((((((( ((((((((((((((((((( (((((((((( ( ( (135) فهذا إحسان في حق الوالدين بإعطاء الوالدين الحقوق الواجبة التي لهم ، إحسان في حق المؤمنين بعامة ، إحسان في حق العصاة ، إحسان في حق العلماء ، إحسان في حق ولاة الأمر ، إحسان في حق الكافر -أيضا- .
وهكذا فكل نوع من أنواع الخلق يتعلق به نوع من أنواع الإحسان ، جاءت الشريعة بتفصيله ، حتى الحيوان من الخلق تعلق الإحسان به ، بما مثل به المصطفى ( بقوله ( فإذا قتلتم فأحسنوا القتلة ( هذا تمثيل لنوع من أنواع الإحسان ، تعلق بنوع من أنواع المخلوقات ، فذكرنا أن الإحسان على كل المخلوقات يعني: في كل المخلوقات التي تعاشرها ، ومن هذه المخلوقات الحيوانات ، فالحيوان كيف تحسن ؟(1/144)
مثَّلَ المصطفى ( بالحيوان تمثيلا وتنبيها للإحسان في غيره ، فقال -عليه الصلاة والسلام- ( فإذا قتلتم فأحسنوا القتلة ، وإذا ذبحتم فأحسنوا الذبحة ، وليحد أحدكم شفرته وليرح ذبيحته ( يعني: أن تسعى في القتل بأحسن الطرائق ، وفي الذبح بأحسن الطرائق ، وقوله : ( فإذا قتلتم فأحسنوا القتلة ( هذا يشمل قتل من يستحق القتل من بني آدم ، أو من الحيوانات ، والظاهر من السياق أن المقصود به الحيوان ، وحتى الإنسان مأمور بأن تحسن قتلته ، فيضرب بالسيف ضربة واحدة على رأسه ، يعني: بما يكون ، يعني: على رقبته بما يكون أسرع في إزهاق روحه .
حتى الكفار أمر النبي ( ألا يمثل بهم ( لا تمثلوا بهم ( وألا يقتل شيخ ، وألا يقتل امرأة ، ولا طفل إلى آخر ما جاء في السنة في ذلك .
قال : ( وإذا ذبحتم فأحسنوا الذبحة ( أحسنوا يعني: ابحثوا عن أحسن طريق للذبح فاذبحوا ، ( وليحد أحدكم شفرته ( يعني: بحيث لا يتألم المذبوح حين الذبح ، ليحد أحدكم شفرته ؛ بحيث يكون إمرارها مسرعا في إزهاق الروح ؛ بحيث لا يأتي يحاول ويحاول فيكون مع ذلك إتعاب الحيوان في إزهاق روحه ، وهذا يدل على استخدام الآلات الجيدة في إزهاق الروح في الحيوان ، فيخالف الإحسان ما قد يفعله بعضهم من أنه لا يحسن الذبح ، ويذهب يتعلم كيف يذبح ، يذهب يتعلم فيأتي عشر دقائق أو خمس دقائق ، وهو يعالج هذه الذبيحة ، وربما فرت منه أو يعني: جمزت من يديه ، وقامت والدم يتناثر ، ونحو ذلك مما قد يجرب بعضهم الذبح ، وهذا مخالف للأمر بالإحسان .
الأمر بالإحسان ؛ إحسان القتلة ، وإحسان الذبحة أن يكون مسرعا في إزهاق الروح في الحيوان بإحداد الشفرة ، وأن تكون يده -أيضا- محسنة لاستعمال الشفرة في ذلك ، وهذا من الإحسان الذي أمرنا به .(1/145)
حتى جاء من الإحسان الذي أمرنا به ألا تذبح بهيمة عند بهيمة ؛ حتى لا تتأذى برؤية دم أختها وهي تذبح ، فهذا أمر عام بالإحسان في كل شيء ، إحسان في العبادة ، إحسان في التعامل مع نفسه ، ومع الخلق ، ومع الحيوان ، حتى مع النبات فيه إحسان ، حتى مع الجن ، حتى مع الملائكة ، إلى آخر ذلك ، حتى مع مخلوقات الله في كل شيء إحسان بحسبه .
وهذا مقام عظيم أمر الله -جل وعلا- به : ( ( (((( (((( (((((((( (((((((((((( ((((((((((((( ( (136) فعلى طلاب العلم أن يحسنوا في أقوالهم ، وفي أعمالهم ، وفي تعاملهم مع ربهم -جل وعلا- ، وفي تعاملهم مع الخلق بأنواعه المكلفين وغير المكلفين ، الجبال والنبات والشجر والدواب ، إلى آخر ذلك .
فالله -جل وعلا- كتب الإحسان على كل شيء .
وبهذا القدر الكفاية ، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد .
بسم الله الرحمن الرحيم .
الحمد لله ، والصلاة والسلام على رسول الله ، وعلى آله وصحبه ومن اهتدى بهداه .
أما بعد ، فنكمل شرح الأحاديث النووية الأربعين ، وقد وقفنا على الحديث الثامن عشر .
الحديث الثامن عشر
اتق الله حيثما كنت
بسم الله الرحمن الرحيم .
الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين نبينا محمد ، وعلى آله وصحبه أجمعين .
قال المصنف -رحمه الله تعالى- : وعن أبي ذر جندب بن جنادة ، وأبي عبد الرحمن معاذ بن جبل -رضي الله عنهما- أن رسول الله ( قال : ( اتق الله حيثما كنت ، وأتبع السيئة الحسنة تمحها ، وخالق الناس بخلق حسن ( رواه الترمذي ، وقال : حديث حسن ، وفي بعض النسخ حسن صحيح
هذا الحديث حديث أبي ذر ، ومعاذ بن جبل -رضي الله عنهما- عن رسول الله ( قال : ( اتق الله حيثما كنت ، وأتبع السيئة الحسنة تمحها ، وخالق الناس بخلق حسن ( .(1/146)
قوله : ( اتق الله حيثما كنت ( هذا أمر بالتقوى ، وحيثما هذه متعلقة بالأزمنة والأمكنة ، يعني: في أي زمان كنت ، وفي أي مكان كنت؛ لأن كلمة "حيث" قد تتوجه إلى الأمكنة ، وقد تتوجه إلى الأزمنة ، يعني: قد تكون ظرف مكان ، وقد تكون ظرف زمان ، وهي هنا محتملة للأمرين ( اتق الله حيثما كنت ( يعني: اتق الله في أي مكان أو في أي زمان كنت .
والأمر بتقوى الله -جل وعلا- هنا على الوجوب؛ لأن التقوى أصل عظيم من أصول الدين ، وقد أمر الله -جل وعلا- نبيه ( بأن يتقي الله ، فقال -جل وعلا- : ( ((((((((((( ((((((((( (((((( (((( ( (137) وأمر المؤمنين بأن يتقوا الله حق تقاته : ( ((((((((((( ((((((((( (((((((((( ((((((((( (((( (((( (((((((((( ( (138) وأمرهم بتقوى الله بعامة : ( ((((((((((( ((((((((( (((((((((( ((((((((( (((( (((((((((( (((((( (((((((( ( (139) ( ((((((((((( ((((((((( (((((((((( ((((((((( (((( ((((((((((( (((((( ((( (((((((( (((((( ( ( (140) وأشباه ذلك .
وتقوى الله -جل وعلا- جاءت في القرآن في مواضع كثيرة ، وأتت التقوى في مواضع أُخر بتقوى عذاب الله -جل وعلا- ، وبأن يتقي النار ، وأن يتقي يوم القيامة كما قال -جل وعلا- : ( ((((((((((( ((((((( ((((((((((( ((((( ((((( (((( ( ( (141) وقال -جل وعلا- : ( ((((((((((( (((((((( ( (142) وهكذا في آيات أُخر .(1/147)
فهذان إذن نوعان ، فإذا توجهت التقوى ، وصارَ مفعولُها لفظَ الجلالةِ : ( ((((((((((( ((((((((( (((((((((( ((((((((( (((( ( (143) فمعنى تقوى الله -جل وعلا- هنا : أن تجعل بينك وبين عذاب الله وسخطه وأليم عقابه في الدنيا وفي الآخرة وقاية تقيك منه ، وهذه الوقاية بالتوحيد ، ونبذ الشرك ، وهذه هي التقوى التي أُمر الناس جميعا بها؛ لأن تقوى الله -كما ذكرت لك من معناها- راجعة إلى المعنى اللغوي ، وهي أن التقوى أصلها "وَقْوَى" فالتاء فيها منقلبة عن واو ، وهي من الوقاية ، وقاه يقيه وقاية .
فالمتقي هو : من جعل بينه وبين ما يكره وقاية ، بينه وبين سخط الله وعذابه وأليم عقابه وقاية ، وهي في القرآن أي: في الأمر بتقوى الله على ثلاث مراتب :-
الأولى : تقوى أمر بها الناس جميعا ، ( ((((((((((( (((((((( ((((((((( (((((((( ( (144) في آيات ، وهذا معناه أن يسلموا أن يحققوا التوحيد ، ويتبرءوا من الشرك ، فمن أتى بالتوحيد ، وسلم من الشرك فقد اتقى الله -جل وعلا- أعظم أنواع التقوى .
ولهذا قال جماعة من المفسرين في قوله -جل وعلا- : ( ((((((( (((((((((( (((( (((( ((((((((((((( ( (145) يعني: من الموحدين .
والمرتبة الثانية ، أو النوع الثاني : تقوى أمر بها المؤمنين فقال -جل وعلا- ( ((((((((((( ((((((((( (((((((((( ((((((((( (((( ( (146) وهذه التقوى للمؤمن تكون بعد تحصيله -كما هو معلوم- بعد تحصيله التوحيد ، وترك الشرك فيكون التقوى في حقه أن يعمل بطاعة الله على نور من الله ، وأن يترك معصية الله على نور من الله -جل وعلا- ، وأن يترك المحرمات ، ويمتثل الواجبات ، وأن يبتعد عما فيه سخط الله -جل وعلا- ، والتعرض لعذابه .(1/148)
وهذه التقوى للمؤمنين -أيضا- على مراتب أعلاها أن يدع ما لا بأس به حذرا مما به بأس ، حتى قال بعض السلف : ما سُموا متقين إلا لتركهم ما لا بأس به حذرا مما به بأس ، وهذا في أعلى مراتب التقوى ؛ لأنه اتقى ما لا ينفعه في الآخرة ، وهذه مرتبة أهل الزهد والورع والصلاح .
والنوع الثالث من التقوى -في القرآن- : تقوى أُمر بها من هو آت بها ، وذلك قول الله -جل وعلا- : ( ((((((((((( ((((((((( (((((( (((( ( (147) ومن أُمر بشيء هو محصله ، فإن معنى الأمر أن يثبت عليه ، وعلى دواعيه ، فمعنى قول الله -جل وعلا- : ( ((((((((((( ((((((((( (((((( (((( (((( (((((( (((((((((((((( (((((((((((((((((( ( ( (148) يعني: : اثْبُتْ على مقتضيات التقوى ، ( (((( (((((( (((((((((((((( (((((((((((((((((( ( ( (149) وذلك قوله -جل وعلا- : ( ((((((((((( ((((((((( ((((((((((( (((((((((( (((((( ( (150) الآية في سورة النساء ، فناداهم باسم الإيمان ، ثم أمرهم بالإيمان ، وهذا معناه : أن يثبتوا على كمال الإيمان ، أو أن يكملوا مقامات الإيمان بحسب الحال؛ لأن لفظ ( ((((((((((( ((((((((( (((((((((( ( (151) الإيمان له درجات .
فقول النبي ( هنا : ( اتق الله حيثما كنت ( هذا خطاب موجه لأهل الإيمان ، يعني: لأهل النوع الثاني ، فالمقصود منه أن يأتي بتقوى الله -جل وعلا- في أي مكان ، أو زمان كان ، فهو أن يعمل بالطاعات ، وأن يجتنب المحرمات ، كما قال طلق بن حبيب -رحمه الله- : "تقوى الله: أن تعمل بطاعة الله على نور من الله ترجو ثواب الله ، وأن تترك معصية الله على نور من الله تخشى عقاب الله".
قال ابن مسعود وغيره في رجل سأله عن التقوى فقال : ألم تمش على طريق فيه شوك ؟ فقال بلى . قال فما صنعت ؟ قال شمرت واتقيت ، قال فتلك التقوى" ، وهي مروية -أيضا- عن عمر ( ونظمها ابن المعتز الشاعر المعروف بقوله :
خل الذنوب صغيرها
وكبيرها ذاك التقى(1/149)
واصنع كماشٍ فوق أر
ضِ الشوك يحذر ما يرى
لا تحقرن صغيرة
إن الجبال من الحصى
وهذا بعامة يخاطب به أهل الإيمان ، فإذن تقوى الله -جل وعلا- أن تخاف من أثر معصية الله -جل وعلا- ، أن تخاف من الله -جل وعلا- فيما تأتي ، وفيما تذر ، وهي في كل مقام بحسبه .
التقوى في كل مقام بحسبه ، ففي وقت الصلاة هنا تخاطب بالتقوى ، وفي وقت الزكاة تخاطب بالتقوى ، في هذا المقام ، وفي وقت الإتيان بسنة تخاطب بالتقوى ، وفي وقت المخاطبة بواجب تخاطب بالتقوى ، وفي وقت أن يعرض عليك مُحرَّم من النساء أو المال ، أو الخمور ، أو ما أشبه ذلك من الأنواع ، أو محرمات اللسان ، أو أفعال القلوب من العجب والكبر ، أو الازدراء وسوء الظن ، إلى آخره ، في كل مقام يأتيك هناك تقوى تخصه .
فإذن تتعلق التقوى بالأزمنة وبالأمكنة ؛ ولهذا قال -عليه الصلاة والسلام- : ( اتق الله حيثما كنت ( ؛ لأنه ما من مكان تكون فيه أو زمان تكون فيه إلا وثم أمر أو نهي من الله -جل وعلا- يتوجه للعبد.
والوصية بالتقوى هي أعظم الوصايا ، ( (((((((( ((((((((( ((((((((( (((((((( ((((((((((( ((( (((((((((( ((((((((((( (((( ((((((((( (((( ( ( (152) وكان الصحابة -رضوان الله عليهم- كثيرا ما يوصي بعضهم بعضا بتقوى الله ، فهم يعلمون معنى هذه الوصية العظيمة .
قال -عليه الصلاة والسلام- : ( وأتبع السيئة الحسنة تمحها ( .
أتبع الفاعل أنت ، والسيئة هي المتبوعة ، والحسنة هي التابعة ، يعني: اجعل الحسنة وراء السيئة -بعد السيئة-، إذا عملت سيئة فأتبعها بحسنة ؛ فإن الحسنات يذهبن السيئات ، كما قال -جل وعلا- : ( (((((((( ((((((((((( (((((((( (((((((((( ((((((((( ((((( (((((((( ( (((( ((((((((((((( (((((((((( ((((((((((((( ( ((((((( (((((((( ((((((((((((( ( (153) .(1/150)
وفي الصحيح ، صحيح البخاري -رحمه الله- وغيره ( أن رجلا من الصحابة نال من امرأة قُبلة فأتي النبي ( وأخبره بالخبر مستعظما لما فعل ، فيسأله عن كفارة ذلك ، فنزل قول الله -جل وعلا- : ( (((((((( ((((((((((( (((((((( (((((((((( ((((((((( ((((( (((((((( ( (((( ((((((((((((( (((((((((( ((((((((((((( ( ((((((( (((((((( ((((((((((((( ( (154) فقال له -عليه الصلاة والسلام- هل صليت معنا في هذا المسجد؟ قال : نعم . قال : فهي كفارة ما أتيت ( .
وهذا يدل على أن المؤمن يجب عليه أن يستغفر من السيئات ، وأن يسعى في زوالها ، وذلك بأن يأتي بالحسنات ، فالإتيان بالحسنات يمحو الله -جل وعلا- به أنواع السيئات .
وكل سيئة لها ما يقابلها ، فليس كل سيئة تمحوها أي حسنة فإذا عظمت السيئة وكبرت فلا يمحوها إلا الحسنات العظام؛ لأن كل سيئة لها ما يقابلها من الحسنات .
ولهذا جاء أن الرجل إذا غلط أو جرى على لسانه كلمة : والكعبة أو أقسم بغير الله فإن كفارة ذلك من الحلف بالآباء وأشباه ذلك أن يقول لا إله إلا الله؛ لأن ذاك شرك ، وكفارة الشرك أن يأتي بالتوحيد ، وكلمة لا إله إلا الله هي من الحسنات العظام ، كلمة التوحيد من الحسنات العظام .
إذن فالسيئات لها حسنات يمحو الله -جل وعلا- بها السيئات ، وهذا يدل على أن السيئة تمحى ، ولا تدخل في الموازنة ، وظاهر الحديث : أن هذا فيمن أتبعها يعني: أنه إذا أتى بسيئة أتبعها بحسنة بقصد أن يمحو الله -جل وعلا- منه السيئات ؛ لأنه قال ( وأتبع السيئة الحسنة تمحها ( فإذا فعل سيئة سعى في حسنة لكي تمحى عنه تلك السيئة .(1/151)
والحديث الذي ذكرنا ، وعموم الآية : ( (((((((( ((((((((((( (((((((( (((((((((( ((((((((( ((((( (((((((( ( (((( ((((((((((((( (((((((((( ((((((((((((( ( ( (155) يدل على عدم القصد ، فالحديث هذا دل على القصد ، يعني: أن يتبعها قاصدا ، والآية والحديث ؛ آية هود وحديث ابن مسعود الذي في البخاري تدل على عدم اعتبار القصد ، فهل هذا في كل الأعمال؟ أم أنه يحتاج إلى أن يتبع السيئة الحسنة حتى يمحوها الله -جل وعلا- عنه بقصد الإتباع ؟
هذا ظاهر في أثره ، فأعظم ما يمحو الله -جل وعلا- به السيئات أن يأتي بالحسنة بقصد التكفير ، فهذا يمحو الله -جل وعلا- به الخطيئة ؛ لأنه جمع بين الفعل والنية ، والنية فيها التوبة والندم على تلك السيئة ، والرغبة إلى الله -جل وعلا- في أن يمحوها الله -جل وعلا- عنه .
إذن فهي مرتبتان :-
المرتبة الأولى : أن يقصد -وهي العليا- أن يقصد إذهاب السيئة بالحسنة التي يعملها ، وهذا معه أن القلب يتبرأ من هذا الذنب ، ويرغب في ذهابه ، ويتقرب إلى الله -جل وعلا- بالحسنات حتى يرضى الله -جل وعلا- عنه ففي القلب أنواع من العبوديات ساقته إلى أن يعمل بالحسنة ؛ ليمحو الله -جل وعلا- عنه بفعله الحسنة ما فعله من السيئات .
والمرتبة الثانية : أن يعمل بالخير مطلقا ، والحسنات يذهبن السيئات بعامة ، كل حسنة بما يقابلها من السيئة ، فالله -جل وعلا- ذو الفضل العظيم .
إذا تقرر ذلك فالحسنة : المقصود بها الحسنة في الشرع ، والسيئة هي : السيئة في الشرع ، والحسنة في الشرع : ما يثاب عليه ، والسيئة في الشرع : ما ورد الدليل بأنه يعاقب عليه .
إذن فالسيئات هي المحرمات من الصغائر والكبائر ، والحسنات هي الطاعات من النوافل والواجبات .(1/152)
قال -عليه الصلاة والسلام- بعد ذلك : ( وخالق الناس بخلق حسن ( والناس هنا يراد بهم المؤمنون في جماع الخُلق الحسن بأن يحسن إليهم ، ويراد بهم -أيضا- غير المؤمنين في معاملتهم بالعدل ، والخُلق الحسن يشمل : ما يجب على المرء من أنواع التعامل بالعدل لأهل العدل ، والإحسان لمن له حق الإحسان ، قال -عليه الصلاة والسلام- هنا : ( خالق الناس بخلق حسن ( .
والخلق الحسن فسر بتفسيرات منها أنه : بذل الندى وكف الأذى ، يعني: أن تبذل الخير للناس ، وأن تكف أذاك عنهم .
وقال آخرون : إن الخلق الحسن : أن يحسن للناس بأنواع الإحسان ، ولو أساءوا إليه ، كما جاء الأمر بمخالقة الناس بالخلق الحسن ، والحث على ذلك ، وبيان فضيلته في أحاديث كثيرة .
ومما جاء في بيان فضيلته قوله -عليه الصلاة والسلام- : ( إن أدناكم مني مجلسا يوم القيامة أحاسنكم أخلاقا ، الموطئون أكنافا الذين يألفون ويؤلفون ( .
وثبت عنه -أيضا عليه الصلاة والسلام- أنه قال : ( إن الرجل ليبلغ بحسن خلقه درجة الصائم القائم ( يعني: : المتنفل بالصيام ، والمتنفل بالقيام فحسن الخلق الذي يبذله دائما طاعة من طاعات الله -جل وعلا- ، فإذا كان دائم إحسان الأخلاق على النحو الذي وصفت ، فإنه يكون في عبادة دائمة ، إذا فعل ذلك طاعة لله -جل وعلا- .
وحسن الخلق تارة يكون "طبعا" ، وتارة يكون "حملا" يعني: طاعة لله -جل وعلا- لا طبعا في المرء ، وما كان من حسن الخلق على امتثال الطاعة ، وإلزام النفس بذلك فهو أعظم أجرا ممن يفعله على وفق الطبيعة ، يعني: لا يتكلف فيه؛ لأن القاعدة المقررة عند العلماء أن : الأمر إذا أمر به في الشرع ، يعني: أن المسألة إذا أمر بها في الشرع ، فإذا امتثلها اثنان فإن من كان أكلف في امتثال ما أمر به كان أعظم أجرا في الإتيان بالواجبات .(1/153)
كما ثبت في الصحيحين أنه -عليه الصلاة والسلام- قال لعائشة ( إن أجركِ على قدر نَصَبِك ( وهذا محمول على شيئين ، يعني: مشروط بشرطين :-
الأول : أن يكون من الواجبات .
والثاني : أن يكون مما توجه الأمر للعبد به فيكون أجره على قدر مشقته في امتثال الأمر .
أما النوافل فلا لحديث الذي يقرأ القرآن فيه تفاصيل القاعدة المعروفة عند أهل العلم.
الحديث التاسع عشر
يا غلام إني أعلمك كلمات
وعن أبي العباس عبد الله بن عباس -رضي الله عنهما- قال ( كنت خلف النبي ( يوما فقال : يا غلام إني أعلمك كلمات : احفظ الله يحفظك ، احفظ الله تجده تجاهك ، إذا سألت فاسأل الله ، وإذا استعنت فاستعن بالله ، واعلم أن الأمة لو اجتمعت على أن ينفعوك بشيء لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك ، وإن اجتمعوا على أن يضروك بشيء لم يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك ، رفعت الأقلام ، وجفت الصحف ( رواه الترمذي ، وقال حديث حسن صحيح ، وفي رواية غير الترمذي ( احفظ الله تجده أمامك ، تعرّف إلى الله في الرخاء يعرفك في الشدة ، واعلم أن ما أخطأك لم يكن ليصيبك ، وما أصابك لم يكن ليخطئك ، واعلم أن النصر مع الصبر ، وأن الفرج مع الكرب ، وأن مع العسر يسرا (
هذا حديث عظيم جدا من وصايا المصطفى -عليه الصلاة والسلام- خص بها ابن عمه عبد الله بن عباس -رضي الله عنهما- وهذه الوصية جمعت خيري الدنيا والآخرة ؛ فالنبي ( أوصى عبد الله بن عباس ، وأمره بقوله ( يا غلام إني أعلمك كلمات ( وهذا اللفظ فيه تودد المعلم والأب والكبير إلى الصغار ، وإلى من يريد أن يوجه بالألفاظ الحسنة ، فهو استعمل -عليه الصلاة والسلام- لفظ التعليم : ( إني أعلمك كلمات ( وهي أوامر ، فلم يقل له -عليه الصلاة والسلام- : إني آمرك بكذا وكذا، وإنما ذكر لفظ التعليم ؛ لأنه من المعلوم أن العاقل يحب أن يستفيد علما .(1/154)
النبي ( قال له : ( يا غلام إني أعلمك كلمات ( والكلمات : جمع كلمة والمقصود بها هنا : الجمل؛ لأن الكلمة في الكتاب والسنة غير الكلمة عند النحاة ، الكلمة عند النحاة : اسم أو فعل أو حرف ، أما في الكتاب والسنة فالكلمة : هي الجملة ، كما قال -جل وعلا- : ( (((( ( ((((((( (((((((( (((( ((((((((((( ( ( (156) يريد بها ما جاء في الآية قبلها : ( ((((( ((((((((((( ( (157) .
وثبت -أيضا- في مسلم أنه -عليه الصلاة والسلام- قال : ( أصدق كلمة قالها شاعر قول لبيد :
ألا كل شيء ما خلا الله باطلُ ( قال : ( أصدق كلمة ( فإذن الكلمة يُعنى بها : الجمل ، فقوله -عليه الصلاة والسلام- : ( إني أعلمك كلمات ( يعني: إني أعلمك جملا ووصايا ، فأرعها سمعك .
قال -عليه الصلاة والسلام- بعدها : ( احفظ الله يحفظك ، احفظ الله تجده تجاهك ( .
هذه هي الوصية الأولى : ( احفظ الله يحفظك ( فهنا أمره بأن يحفظ الله ، ورتب عليه أن الله -جل وعلا- يحفظه ، وحفظ العبد ربه -جل وعلا- المراد منه : أن يحفظه في حقوقه -جل وعلا- .
وحقوق الله -جل جلاله- نوعان :
حقوق واجبة ، وحقوق مستحبة ، فحفظ العبد ربه يعني: أن يمتثل ( احفظ الله ( أن يأتي بالحقوق الواجبة ، والحقوق المستحبة ، ونعبر بالحقوق تجوزا بالمقابلة ، يعني: الحقوق الواجبة والمستحبة ، فمن أتى بالواجبات والمستحبات فقد حفظ الله -جل وعلا- ؛ لأنه يكون من السابقين بالخيرات ، والمقتصد -أيضا- قد حفظ الله -جل وعلا- إذ امتثل الأمر الواجب ، وانتهى عن المُحَرَّم .
فأدنى درجات حفظ الله -جل وعلا- أن يحفظ الله -سبحانه وتعالى- بعد إتيانه بالتوحيد بامتثال الأمر ، واجتناب النهي ، والدرجة التي بعدها المستحبات ، هذه يتنوع فيها الناس ، وتتفاوت درجاتهم .
قال : ( احفظ الله يحفظك ( .
وحفظ الله -جل وعلا- للعبد على درجتين -أيضا- :-(1/155)
أما الأولى : فهو أن يحفظه في دنياه ، أن يحفظ له مصالحه في بدنه بأن يصحه ، وفي رزقه بأن يعطيه حاجته ، أو أن يوسع عليه في رزقه ، وفي أهله بأن يحفظ له أهله وولده ، وأنواع الحفظ لمصالح العبد في الدنيا ، فكل ما للعبد فيه مصلحة في الدنيا فإنه موعود بأن تحفظ له إذا حفظ الله -جل وعلا- بأداء حقوق الله -جل جلاله- والاجتناب عن المحرمات .
والدرجة الثانية من حفظ الله -جل وعلا- للعبد ، وهي أعظم الدرجتين وأرفعهما وأبلغهما عند أهل الإيمان ، وفي قلوب أهل العرفان ، هي : أن يحفظ الله -جل وعلا- العبد في دينه ، بأن يسلم له دينه بإخلاء القلب من تأثير الشبهات فيه ، وإخلاء الجوارح من تأثير الشهوات فيها ، وأن يكون القلب معلقا بالرب -جل وعلا- ، وأن يكون أُنسه بالله ، ورغبه في الله ، وإنابته إليه ، وخلوته المحبوبة بالله -جل جلاله-.
كما جاء في حديث "الولي" المعروف، الذي رواه البخاري في الصحيح وغيره -أيضا- قال -عليه الصلاة والسلام- : قال الله -تعالى- في جمل ابتدأ بها الحديث ، ثم قال : ( ولا يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه ، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به ، وبصره الذي يبصر به ، ويده التي يبطش بها ، ورجله التي يمشي بها ، ولئن سألني لأعطينه ، ولئن استعاذني لأعيذنه ، وما ترددت في شيء أنا فاعله ترددي في قبض نفس عبدي المؤمن ، يكره الموت وأكره مساءته ، ولا بد له من ذلك ( .
فحفظ الله -جل وعلا- العبد في الدين هذا أعظم المطالب ، ولهذا كان -عليه الصلاة والسلام- يدعو الله كثيرا أن يُحفَظَ من الفتن وأن يحفظه الله -جل وعلا- من تقليب القلب ، ( يا مقلب القلوب ثبت قلبي على طاعتك ( ( يا مصرف القلوب صرف قلوبنا إلى طاعتك ( ونحو ذلك .(1/156)
وكان كثيرا ما يقسم ( لا ومقلب القلوب ( فالعبد أعظم المطالب التي يحرص عليها أن يسلم له دينه ، والله -جل وعلا- قد يبتلي العبد بخلل في دينه ، وشبهات تطرأ عليه لتفريطه في بعض ما يجب أن يُحفظ اللهُ -جل وعلا- فيه ؛ فلهذا العبد إذا حصل له إخلال في الدين ، فإنه قد أخل بحفظ الله -جل وعلا- ، وقد يعاقب بأن يُجعل غافلا ، وقد يُعاقب بحرمانه البصيرة في العلم ، وقد يُعاقب بأن تأتيه الشبهة ولا يحسن كيف يتعامل معها ، ولا كيف يردها .
وقد يُعاقب بأنه تأتيه الشبهة فتتمكن منه ، كما قال -جل وعلا- : ( ((((((( ((((((((( ((((((( (((( ((((((((((( ( ( (158) وكما قال : ( ((((((( (((( (((((((((((( ( ( (159) وكما قال -جل وعلا- ( ((((((( ((((((((( ((( ((((((((((( (((((( ((((((((((((( ((( ((((((((( (((((( (((((((((((( (((((((((((( (((((((((((((( (((((((((((( ( ( (160) وكما قال -جل وعلا- ( (((( (((( (((( (((((((((( (((((( ((((( ((( (((((((( ((((((((( ((( (((((((( ( ((((( ((((((((( ( (161) الآية في الأعراف .
وهكذا في آيات أخر دلت على أن العبد قد يخذل ، وخذلانه في أمر الدين هو أعظم الخذلان ، ولهذا ينبغي للعبد أن يحرص تمام الحرص على أن يحفظ الله -جل وعلا- في أمره سبحانه ، وإن فاته الامتثال فلا يفته الاستغفار ، والإنابة واعتقاد الحق ، وعدم التردد والسرعة باتباع السيئة بالحسنة لعلها أن تُمحى .(1/157)
لهذا فإن حفظ الله -جل وعلا- للعبد بأن يكون الحفظ في الدين أعظم من أن يحفظ في أمر دنياه ، ولهذا في قول الله -جل وعلا- في سورة المائدة ( ((((((( ((((((((( ((((((((((((( ((((((((((( ((((((((((( ((((((((((( ((((((((( ( (((((((((((( (((((((((( ((( (((((((((((( ( ((((((((( ((((( (((((( (((((((((( ((((( ( (((( ((((((( (((((((( (((((( (((((((((( ((((((((( (((( ((((((( ((((((((( ( (((((((( (((((((( (((((((((( ( (((( (((( (((((( ((((((((((((((( (((( (((((( ((((((((( ((((((((( ((((( ((((((((( ((((((((( (((((((((((( ((((((((( ((((( (((((( (((((((((( ((((( ((((((((((((( (((((((((( ((((((((((((( (((((((((((((((( (((((( (((((( ((((((((((((( ( (((((((( ((((((((((((( (((( ((((( (((((((( ((((((((((( ( (162) قال -جل وعلا- : ( ((((((((( ((((( (((((( (((((((((( ((((( ( (((( ((((((( (((((((( (((((( (((((((((( ((((((((( (((( ((((((( ((((((((( ( (((((((( (((((((( (((((((((( ( (((( (((( (((((( ((((((((((((((( (((( (((((( ((((((((( ((((((((( ((((( ((((((((( ((((((((( (((((((((((( ((((((((( ((((( (((((( (((((((((( ((((( ((((((((((((( (((((((((( ((((((((((((( (((((((((((((((( (((((( (((((( ((((((((((((( ( (163) قوله : ( ِ ((((((((( ((((( (((((( (((((((((( ((((( ( ( (164) يعني: تركوا نصيبا مما أُمروا به ، تركوه عن عمد وعن علم ، فلما علموه تركوه عن بصيرة فعوقبوا بالفرقة ، ( ((((((((((((( (((((((((( ((((((((((((( (((((((((((((((( (((((( (((((( ((((((((((((( ( ( (165) .(1/158)
وهذا من أنواع العقوبات التي يبتلي الله -جل وعلا- بها العباد ، ويعاقب بها المؤمنين ؛ حيث يعاقبهم بالفرقة ؛ لأنهم تركوا ما أوجب الله -جل وعلا- عليهم من مقتضى العلم ، وهذا نوع من أنواع ترك حفظ الله -جل وعلا- للعبد ، فالعبد بحاجة أن يحفظه الله -سبحانه وتعالى- بتوفيقه له ، ومعيته له ، وتسديده إياه .
حفظ الله -جل وعلا- للعبد في الدين ، أو في الدنيا -أيضا- راجع إلى معية الله -سبحانه وتعالى- والمراد بها : المعية الخاصة التي مقتضاها : التوفيق والإلهام والتسديد والنصر والإعانة .
قال : ( احفظ الله تجده تجاهك ( يعني: : احفظ الله على نحو ما وصفنا تجده دائما على ما طلبت ، تجده دائما قريبا منك ، يعطيك ما سألت ، كما ذكرت لك في حديث "الولي" ( ولئن سألني لأعطينه ، ولئن استعاذني لأعيذنه ( .
قال -عليه الصلاة والسلام- بعد ذلك ، ( إذا سألت فاسأل الله ، وإذا استعنت فاستعن بالله ( هذا مأخوذ من قول الله -جل وعلا- ( ((((((( (((((((( ((((((((( ((((((((((( ( (166) وفيه إفراد الله -جل وعلا- بالاستعانة وبالسؤال ، وهذه على مرتبتين:-
الأولى : واجبة ، وهي التوحيد بأن يستعين بالله -جل جلاله- وحده دون ما سواه فيما لا يقدر عليه إلا الله -جل وعلا- ، فهذا واجب أن يُفرد الله -جل وعلا- بالاستعانة ، وكذلك أن يسأل الله -جل وعلا- وحده فيما لا يقدر عليه إلا الله -جل وعلا- ، هذا هو المعروف عندكم في التوحيد فيما يكون من الدعاء صرفه لغير الله -جل وعلا- شرك ، وكذلك في الاستعانة التي يكون صرفها لغير الله -جل وعلا- شركا .
المرتبة الثانية : المستحبة ، وهو أنه إذا أمكنه أن يقوم بالعمل ، فإنه لا يسأل أحدا من الناس شيئا ، والنبي ( قد أخذ العهد على عدد من الصحابة ألا يسألوا الناس شيئا ، قال الراوي : ( فكان أحدهم يسقط سوطه فلا يسأل أحدا أن يناوله إياه ( وهذا من المراتب التي يتفاوت فيها الناس .(1/159)
فإذا أمكنك أن تقوم بالشيء بنفسك فالأفضل والمستحب ألا تسأل أحدا من الخلق في ذلك ، إذا أمكنك يعني: بلا كلفة ، ولا مشقة ، ومن كانت عادته دائما أن يطلب الأشياء فهذا مكروه، وينبغي للعبد أن يوطن نفسه ، وأن يعمل بنفسه ما يحتاجه كثيرا، وإذا سأل في أثناء ذلك ، فإنه لا يقدح حتى في الدرجة المستحبة ؛ لأنه -عليه الصلاة والسلام- ربما أمر من يأتيه بالشيء ، وربما طلب من يفعل له الشيء ، وهذا على بعض الأحوال .
قال : ( إذا سألت فاسأل الله ، وإذا استعنت فاستعن بالله ( ظاهر في الوجوب ( إذا سألت فاسأل الله ، وإذا استعنت فاستعن بالله ( على القيد الذي ذكرنا لكم ؛ من أن هذا يتناول المرتبة الأولى على الوجوب ، والمرتبة الثانية على الاستحباب.
قال -عليه الصلاة والسلام- بعد ذلك : ( واعلم أن الأمة لو اجتمعت على أن ينفعوك بشيء لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك ، وإن اجتمعوا على أن يضروك بشيء لم يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك ، رفعت الأقلام ، وجفت الصحف ( .
هذا فيه بيان القدر الثابت ، وأن العباد لن يغيروا من قدر الله -جل وعلا- الماضي شيئا ، وأما مَن عظم توكله بالله -جل وعلا- ، فإنه لن يضره الخلق ، ولو اجتمعوا عليه ، كما قال -جل وعلا- لنبيه -عليه الصلاة والسلام-: ( (((((( (((((((((( (((( (((((((( ( ( (167) .
وجاء في عدد من الأحاديث بيان هذا الفضل ، في أن العبد إذا أحسن توكله على الله -جل وعلا- ، وطاعته لله ، فإن الله يجعل له مخرجا ، ولو كاده من في السماوات ، ومن في الأرض لجعل الله -جل وعلا- له من بينهن مخرجا .
والتوكل على الله -جل وعلا- ظاهر من هذه الوصية ؛ حيث قال : ( واعلم أن الأمة لو اجتمعت على أن ينفعوك ( ثم قال : ( واعلم أن الأمة لو اجتمعت على أن يضروك ... ( إلى آخر الجملتين ، وهذا فيه إعظام التوكل على الله -جل وعلا- .(1/160)
والتوكل على الله -سبحانه وتعالى- من أعظم المقامات ؛ مقامات الإيمان ، بل هو مقام الأنبياء والمرسلين في تحقيق عبوديتهم العظيمة للرب -جل وعلا- .
والتوكل على الله معناه : أن يفعل السبب الذي أُمر به ، ثم يفوض أمره إلى الله -جل وعلا- في الانتفاع بالأسباب ، وإذا كان ما لديه من الأمر لا يملك أن يفعل له سببا فإنه يفوض أمره إلى الله -جل وعلا- كما قال سبحانه في ذكر مؤمن آل فرعون : ( ((((((((((( (((((((( ((((( (((( ( (((( (((( ((((((( ((((((((((((( ( (168) وهذا التفويض إلى الله -جل وعلا- عمل القلب خاصة ، يعني: أن يلتجئ بقلبه ، وأن يعتمد بقلبه على الله -جل وعلا- في تحصيل مراده ، أو دفع الشر الذي يخشاه ، والعباد إذا تعامل معهم فإنما يتعامل معهم على أنهم أسباب ، والسبب قد ينفع ، وقد لا ينفع ، فإذا تعلق القلب بالخلق أوتي من هذه الجهة ، ولم يكن كاملا في توكله .
فتعلق القلب بالخلق مذموم ، والذي ينبغي : أن يتوكل على الله ، وأن يعلق قلبه بالله -جل وعلا- ، وألا يتعلق بالخلق ، حتى ولو كانوا أسبابا ، فينظر إليهم على أنهم أسباب ، والنافع والذي يجعل السبب سببا ، وينفع به هو الله -جل وعلا- .
إذا قام هذا في القلب فإن العبد يكون مع ربه -جل وعلا- ، ويعلم أنه لن يكون له إلا ما قدره الله -جل وعلا- له ، ولن يمضي عليه إلا ما كتبه الله -جل وعلا- عليه .
قال -عليه الصلاة والسلام- ( رفعت الأقلام ، وجفت الصحف ( يعني: أن الأمر مضى وانتهى ، وهذا لا يدل ، كما ذكرته لكم فيما سبق ، لا يدل على أن الأمر على الإجبار ، بل إن القدر ماض ، والعبد يمضي فيما قدره الله -جل وعلا- ؛ لأجل التوكل عليه ، وحسن الظن به ، وتفويض الأمر إليه ، وهو إخلاء القلب من رؤية الخلق .
قال : وفي رواية غير الترمذي : ( احفظ الله تجده أمامك ، تعرف إلى الله في الرخاء يعرفك في الشدة ، واعلم أن ما أخطأك لم يكن ليصيبك ، وما أصابك لم يكن ليخطئك ( .(1/161)
قوله : ( تعرف إلى الله في الرخاء يعرفك في الشدة ( تعرُّف العبد إلى ربه هو : علمه بما يستحقه -جل وعلا- ، ( تعرف إلى الله في الرخاء ( يعني: : تعلم ما يستحقه -جل وعلا- عليك ، ما يستحقه -جل وعلا- منك ؛ توحيده في ربوبيته ، وإلهيته ، وفي أسمائه وصفاته ، ما يستحقه -جل وعلا- من طاعته في أوامره ، وطاعته فيما نهى عنه باجتناب المنهيات ، وما يستحقه -جل وعلا- من إقبال القلب عليه ، وإنابة القلب إليه ، والتوكل عليه ، والرغب فيما عنده ، وإخلاء القلب من الأغيار ، يعني: من غيره -جل وعلا- ، واتباع ما يحب ويرضى من أعمال القلوب .
( تعرف إلى الله في الرخاء ( يعني: : إذا كنت في رخاء من أمرك ، بحيث قد يأتي لبعض النفوس أنها غير محتاجة لأحد ، هنا ( تعرف إلى الله في الرخاء ( واطلب ما عنده ، وتعلم ما يستحقه -جل وعلا- ، واتبع ذلك بالامتثال ، فإن هذا من أفضل الأعمال الصالحة ، بل هو لب الدين وعماده ، العلم بما يستحقه -جل وعلا- ، ثم العمل بذلك ، إذا حصل منك التعرف إلى الله ، والتعرف على الله -جل وعلا- عرفك الله في الشدة ، قال : ( يعرفك في الشدة ( وكلمة : "يعرفك" هذه جاءت على جهة الفعل ، ومعلوم في باب الصفات أن باب الأفعال أوسع من باب الأسماء ، وباب الإخبار أوسع من باب الصفات .(1/162)
فهذا إذن لا يقتضي أن يكون من صفاته -جل وعلا- المعرفة ، فإنه لا يوصف الله -جل وعلا- بأنه ذو معرفة ، بل يقيد هذا على جهة المقابلة ، كما قال النبي ( هنا : ( تعرف إلى الله في الرخاء يعرفك في الشدة ( فيجوز أن تستعمل لفظ "يعرف" على الفعلية ، وفي مقابلةِ لفظِ يعرف آخر ، كما في نظائره كقوله -عليه الصلاة والسلام- : ( إن الله لا يمل حتى تملوا ( وكما في قول الله -جل وعلا- : ( ((((((((((((( (((((((((( (((( ( ( (169) وفي قوله : ( ((((((((((((((( (((( (((( (((((((((((( (((((( ( (170) ( (((((((((((( (((( (((((( ((((((((((( ( (171) وأشباه ذلك من الألفاظ التي جاءت بصيغة الفعل ، ومجيئها بلفظ الفعل لا يدل على إطلاقها صفة ؛ لأنها جاءت على لفظ المقابلة .
ومجيء بعض الصفات ، يعني: على جهة الأفعال بالمقابلة هذا يدل على الكمال ، ومعلوم أن المعرفة غير العلم ، العلم كمال ، وأما المعرفة فإنها قد تشوبها شائبة النقص؛ لأن لفظ المعرفة ، وصفة المعرفة هذه قد يسبقها جهل ، يعني: عرف الشيء يعني: : تعرف إليه بصفاته ، وهذا يقتضي أنه كان -ربما- جاهلا به غير عالم به .
أما العلم فهو صفة لا تقتضي ، ولا يلزم منها سبق عدم علم ، أو سبق جهل ، وأشباه ذلك ، ولهذا كان من أسماء الله الحسنى : "العليم" ، ولم يكن من أسمائه -جل وعلا- العارف ، وأشباه ذلك.
إذا تقرر هذا فلفظ المعرفة جاء في القرآن على جهة الذم قال -جل وعلا-: ( ((((((((((( (((((((( (((( (((( ((((((((((((( ( (172) وقال -جل وعلا- : ( ((((((((( (((((((((((((( ((((((((((( (((((((((((((( ((((( ((((((((((( (((((((((((((( ( ((((((((( (((((((((( ((((((((((( (((((( (( ((((((((((( ( (173) والآية الأخرى -أيضا- في الأنعام ، والآية الأخرى -أيضا- في البقرة في هذا .
فلفظ المعرفة جاء على جهة الذم في غالب ما جاء في الكتاب والسنة ، وقد يكون يأتي على معنى العلم ، كما في هذا الحديث .(1/163)
فإذن قوله : ( تعرف إلى الله في الرخاء يعرفك في الشدة ( من جهة الصفات هذا بحثه ما معناه معرفة الله للعبد في الشدة ، قال العلماء : هذه معناها المعية ، ومعرفة الله -جل وعلا- للعبد في الشدة يعني: : أن يكون معه بمعية النصر والتأييد والتوفيق : وأشباه ذلك .
قال : ( واعلم أن ما أخطأك لم يكن ليصيبك ، وما أصابك لم يكن ليخطئك ( وهذا في القدر ومن قرأ بحثه ، قال : ( واعلم أن النصر مع الصبر ، وأن الفرج مع الكرب ، وأن مع العسر يسرا ( هذا فيه الأمر بالصبر ، وأن مع الكرب يأتي الفرج ، وأن مع العسر يأتي اليسر ، كما قال -جل وعلا- : ( (((((( (((( (((((((((( ((((((( ((( (((( (((( (((((((((( ((((((( ( (174) .
وثبت عنه ( أنه قال : ( لن يغلب عسر يسرين ( وهذا من فضل الله -جل وعلا- قد قال الشاعر:
اشتدي أزمة تنفرجي
قد آذن ليلك بالبلج
في القصيدة المسماة بـ"المنفرجة" ، وهذا يدل على أن العبد إذا اشتد عليه الأمر ، وأحسن الصبر ، وأحسن الظن بالله -جل وعلا- فإنه يؤذن له بأن ينفرج كربه ، وأن ييسر له عسره ، والصبر أمر به هنا في قوله : ( واعلم أن النصر مع الصبر ( والنصر مطلوب ، فصار الصبر مطلوبا ، والصبر مرتبة واجبة ، وإذا حصل كرب ومصيبة ، كما قال : ( ما أخطأك لم يكن ليصيبك ، وما أصابك لم يكن ليخطئك ( إذا حصلت مصيبة فإن الصبر واجب يعني: الصبر أمر الله به ، وهو واجب على كل أحد ، ومعنى الصبر الواجب : أن يحبس اللسان عن الشكوى ، ويحبس القلب عن التسخط ، ويحبس الجوارح عن التصرف بما لا يجوز من شق أو نياحة أو لطم ، وأشباه ذلك من الأفعال في غير مصيبة الموت .
فإذن الصبر فيه حبس اللسان عن التشكي ، كما هو تعريف الصبر، قيل للإمام أحمد -رحمه الله تعالى-: هذا رجل ظلمه السلطان فأخذ يدعو عليه ، قال أحمد : هذا خلاف الصبر الذي أمر به النبي ( مع السلطان ، لا يدعى عليه .(1/164)
وهذا له مأخذ آخر من جهة أن الكرب الذي ربما أتى من السلطان إذا تشكى المؤمن منه فإنه يخالف حبس اللسان عن التشكي ، ولهذا لما جاء أحد الصحابة إلى النبي ( وذكر له ما يلقى من المشركين من الشدة غضب النبي -عليه الصلاة والسلام- لأجل أنهم لم يصبروا ، وقال : ( إنه كان من كان قبلكم يؤتى بالرجل فينشر بالمنشار نصفين ما بين جلده وعظمه لا يرده ذلك عن دينه ، فوالله ليتمن الله هذا الأمر ... ( الحديث ، فدل هذا على أن الصبر واجب في جميع الحالات .
والصبر حبس للسان عن التشكي ، وحبس للقلب عن التسخط ، وحبس للجوارح عن التصرف في غير ما يرضي الله -جل وعلا- ؛ ولهذا أمر الله نبيه أن يصبر كما صبر أولوا العزم من الرسل ، ( (((((((((( ((((( (((((( ((((((((( (((((((((( (((( ((((((((( ( (175) وكل مخالفة لهذا الواجب يأتي لها أضدادها في حياة العبد ، إما الخاصة أو العامة .
المرتبة الثانية المستحبة هي : الرضا.
الرضا بما قدر الله -جل وعلا- ، فالصبر واجب ، وأما الرضا فمستحب ، الرضا بالمصيبة مستحب ، ومعنى الرضا بالمصيبة : أن يستأنس لها ، ويعلم أنها خير له ، فيقول: هي خير لي ، ويرضى بها في داخله ، ويسلم لها ، ولا يجد في قلبه تسخطا عليها ، أو لا يجد في قلبه رغبة في أن لا تكون جاءته ، بل يقول : الخير في هذه ، وهذه مرتبة خاصة .
وهناك فرق ما بين الرضا الواجب ، والرضا المستحب في المصيبة ، فإن المصيبة إذا وقعت تعلق بها نوعان من الرضا : رضا واجب ورضا مستحب ، والرضا الواجب هو : الرضا بفعل الله -جل وعلا- ، والرضا المستحب هو : الرضا بالمصيبة ، يعني: الرضا بفعل الله هذا واجب ؛ لأنه لا يجوز للعبد ألا يرضى بتصرف الله -جل وعلا- في ملكوته ، بل يرضى بما فعل الله -جل وعلا- في ملكوته ، ولا يكون في نفسه معارضة لله -جل وعلا- في تصرفه في ملكوته ، هذا القدر واجب .(1/165)
وأما المستحب فهو الرضا بالمصيبة يعني: الرضا بالمقضي ، فهناك فرق ما بين الرضا بالقضاء ، والرضا بالمقضي ، فالرضا بالقضاء الذي هو فعل الله -جل وعلا- هذا واجب ، والرضا بالمقضي هذا مستحب ، ونقف عند هذا ، وأنبه إلى أني لن أتمكن من الحضور للدرس من يوم غد إلى ليلة الأحد ، وألتقي بكم -إن شاء الله- ليلة الاثنين بإذنه تعالى ، وذلك لطارئ طرأ ، وسنكمل -إن شاء الله- هذا الشرح ، ولو أخذنا وقتا بعد الفجر أو بعد العصر -إن شاء الله- نعدكم بإكماله ، إكمال شرح هذه الأربعين .
أسأل الله لي ولكم العون والتوفيق والسداد
أما بعد فهذه صله لما تقدم من شرح الأحاديث الأربعين النووية ، وقد وقفنا عند الحديث العشرين .
الحديث العشرون
إذا لم تستح فاصنع ما شئت
بسم الله الرحمن الرحيم ، الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين ، نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين .
قال المصنف -رحمه الله- تعالى وعن أبي مسعود عقبة بن عامر الأنصاري البدري ( قال: قال رسول الله ( ( إن مما أدرك الناس من كلام النبوة الأولى إذا لم تستح فاصنع ما شئت ( رواه البخاري.
بسم الله الرحمن الرحيم ، الحمد لله والصلاة ، والسلام على رسول الله ، وعلى آله وصحبه ومن اهتدى بهداه.
هذا الحديث فيه الكلام على شعبة من شعب الإيمان ألا وهي الحياء ، فقد أُسند الكلام هنا إلى ما بقي للناس من النبوة الأولى فقد قال -عليه الصلاة والسلام- هنا : ( إن مما أدرك الناس من كلام النبوة الأولى إذا لم تستح فاصنع ما شئت ( .
فقوله -عليه الصلاة والسلام- هنا : ( إن مما أدرك الناس من كلام النبوة الأولى ( يقتضي أن هناك كلاما أدركه الناس من كلام الأنبياء ، ومعنى الإدراك : أنه فشا في الناس ، وتناقلوه عن الأنبياء .(1/166)
وقوله : ( مما أدرك الناس ( من هنا تبعيضيه فيكون هذا القول وهو : ( إذا لم تستح فاصنع ما شئت ( يكون بعض ما أُدرك من كلام النبوة الأولى ، فقال -عليه الصلاة والسلام- : ( إن مما أدرك الناس من كلام النبوة الأولى ( والنبوة الأولى المقصود بها : النبوات المتقدمة ، يعني: أوائل الرسل والأنبياء كنوح -عليه السلام- ، وإبراهيم -عليه السلام- وهكذا .
فإن نوحا -عليه السلام- له كلام فشا في أتباعه فيما بعده ، وإبراهيم -عليه السلام- كذلك في كلام له ، وكذلك مما أعطاه الله -جل وعلا- وأوحاه إليه فيما في صحفه .
فالنبوة الأولى المقصود بها : النبوات السابقة البعيدة عن إرث الناس لذلك الكلام ، فيكون مقتضى النبوة الأولى أن هناك نبوات متأخرة ، وهذا صحيح ؛ لأنه إذا أُطلق النبوات الأولى فإنما يُعنَى به الرسل والأنبياء المتقدمون ، أما موسى -عليه السلام- ، وعيسى -عليه السلام- ، وهكذا أنبياء بني إسرائيل، داود وغيره هؤلاء من النبوات المتأخرة ، يعني: من الأنبياء والرسل المتأخرين.
وقوله -عليه الصلاة والسلام- : ( مما أدرك الناس من كلام النبوة الأولى ( هذا يعني: أن هذا الكلام كلام أنبياء ، وله تشريعه ، وله فائدته العظيمة ، فهذا فيه لفت النظر إلى الاهتمام بهذا الكلام .
قال : ( إذا لم تستح فاصنع ما شئت ( تستحي يعني: الحاء هنا؛ لأن الفعل استحى يستحي فهنا تستحي فجزم لم أثَّرَ في الفعل بحذف الياء؛ لأن هناك يائين ، وتظهر هذه في قول الله -جل وعلا- : ( ( (((( (((( (( (((((((((((( ( (176) فثم ياءان ، هنا لما أتت لم حذفت الياء التي هي من الفعل ، وبقيت الياء الأخرى الداخلة ، وإذا قيل لم تستحِ على كسر الحاء إشارة إلى حذف الياء فلا بأس في نظائرها المعروفة في النحو .(1/167)
قوله هنا : ( لم تستح فاصنع ما شئت ( هذا فيه ذكر الحياء ، والحياء كما جاء في الحديث الآخر شعبة من الإيمان ، وهو ملكة باطنة ، والحياء هذا يأتي تارة بالجبلة والخلق المطبوع عليه الإنسان ، وتارة يأتي بالاكتساب ، أما بالجبلة والطبع فهذا يكون بعض الناس حييا .
كما جاء في الصحيح ( أن رجلا من الأنصار كان يعظ أخاه في الحياء -يعني: يقول له : لماذا تستحي ؟ لماذا أنت كذا وكذا فقال له النبي -عليه الصلاة والسلام- : دعه فإن الحياء لا يأتي إلا بخير ( فالحياء شعبة باطنة ، ويكون جبليا طبعيا ، ويكون مكتسبا ، والمكتسب مأمور به ، وهو أن يكون مستحيا من الله -جل وعلا- وأن يكون مبتعدا عن المحرمات ، وما يشينه عند ربه -جل وعلا- ، ممتثلا للأوامر مقبلا عليها؛ لأن الله -جل وعلا- يحب ذلك ويرضاه ، فالحياء المكتسب ما يكون في القلب من الخُلق الذي يجعله آنفا أن يغشى الحرام ، أو أن يترك الواجب ، وهذا يكون بملازمة الإيمان ، وبالعلم والعمل الصالح حتى يكون ذلك ملكة .
وقوله -عليه الصلاة والسلام- : ( إذا لم تستح فاصنع ما شئت ( فسر بتفسيرين ، يعني: العلماء اختلفوا فيه على قولين : ومجمل هذين القولين : أن هذا إما أمر ، وإما ليس بأمر ، ومن قال : إنه أمر قال : معنى الحديث إذا كان الأمر الذي تريد إتيانه مما لا يستحيا منه فاصنع ما شئت من تلك الأمور التي لا يستحيا منها عند المؤمنين .
يعني: إذا كان الأمر ليس حراما ، وليس مما يخرم مكارم الأخلاق والمروءات ، ولم يكن فيه تفريط بواجب ، ولم يكن مما يستحي منه في الشرع فاصنعه ولا تبال؛ لأن هذا دليل أنه لا بأس به ، وهذا قول جماعة من أهل العلم ، منهم إسحاق وأحمد ، وجماعة كثيرون .
والقول الثاني : أنه ليس بأمر ، وأهل العلم في هذا -أيضا- لهم توجيهان :-(1/168)
الأول : قالوا: إنه خرج عن معنى الأمر الذي هو الإلزام بالفعل إلى التهديد فمعنى ( إذا لم تستح فاصنع ما شئت ( يعني: إذا لم يكن لك حياء يمنعك من مقارفة الحرام والمنكر ، والتفريط في الواجبات فاصنع ما شئت ، فإن من لا حياء له لا خير فيه ، وهذا يكون خرج للتهديد ؛ لأن صيغة "افعل" عند الأصوليين ، وعند أهل اللغة تأتي ويراد بها التهديد ، كما في قوله -جل وعلا- : ( ((((((((((( ((( (((((((( ( ( (177) في سورة فصلت ( ((((((((((( ((( (((((((( ( ( (178) وهذا مخاطب به المشركون ، يعني: اعملوا ما شئتم من الأعمال ، وليس هذا تخييرا لهم ، ولكنه تهديد ، ( (((( (((((( ((((( ((((((((((( ((((((((((( ( (179) هذا توبيخ ليس فيه الأمر الذي هو يوجب الامتثال ، ولكن هذا من باب التهكم والتوبيخ والتخويف وهكذا .
فإذن صيغة "افعل" تخرج عن مرادها من أنه إلزام بالفعل إلى صيغ أخرى بلاغية منها : التهديد والتوبيخ ، وأشباه ذلك ، فهنا في قوله : ( فاصنع ما شئت ( هذا على جهة التهديد ، إذا لم يكن لك مانع من الحياء يمنعك عن مقارفة المنكر فإنه افعل ما شئت ، وستلقى الحساب وستلقى سوء هذا الفعل الذي لم يمنعك عنه الحياء .
والوجه الثاني لهذا القول : أن طائفة من أهل العلم قالوا: هذا خرج مخرج الخبر ، يعني: أن ما لا يستحيا منه فإن الناس يصنعونه ، وهذا خبر عن الناس ، وعما يفعلونه ، وهو أن الأمور التي لا يستحيون منها يصنعونها ، إذا لم تستح من ذلك الفعل فلك صنعه ، أو فالناس يفعلونه ، فهو أمر في ظاهرة خبر في باطنه.
وهذان القولان ظاهران ، في الأول ، وفي الثاني ، يعني: أنه أمر أو أنه ليس بأمر خرج على التهديد ، أو على الخبر ، كل هذا قريب ، والحديث يحتمل القول الأول ، ويحتمل القول الثاني .
الحديث الحادي والعشرون
قل : آمنت بالله ثم استقم(1/169)
وعن أبي عمرو ، وقيل : أبي عمرة سفيان بن عبد الله ( قال : ( قلت : يا رسول الله قل لي في الإسلام قولا لا أسال عنه أحدا غيرك ؟ قال : قل : آمنت بالله ثم استقم ( رواه مسلم .
هذا الحديث -أيضا- من أحاديث الوصايا، وهو الحديث الواحد والعشرون ، حديث سفيان بن عبد الله ( أنه قال : ( قلت : يا رسول الله قل لي في الإسلام قولا لا أسال عنه أحدا غيرك ؟ قال : قل : آمنت بالله ثم استقم ( هذا طلب وصية ، طلب من الرسول ( أن يوصيه .
وقوله : ( قل لي في الإسلام ( يعني: قل لي وصية في شأن الإسلام ، ( قل لي في الإسلام قولا ( يعني: أوصني في أمر في الإسلام ، في دين الإسلام لا يحوجني معه أن أسأل أحدا عن أمر آخر ، فقال -عليه الصلاة والسلام- وهو من جوامع كلمه -عليه الصلاة والسلام- قال : ( قل : آمنت بالله ثم استقم ( وهذا مأخوذ من قول الله -جل وعلا-: ( (((( ((((((((( (((((((( ((((((( (((( (((( (((((((((((((( (((((((((( (((((((((( (((((((((((((((( (((( (((((((((( (((( ((((((((((( ( (180) الآية ، فقوله في الآية -جل وعلا- : ( (((( ((((((((( (((((((( ((((((( (((( (((( (((((((((((((( ( (181) هو كقوله -عليه الصلاة والسلام- هنا : ( قل : آمنت بالله ثم استقم ( .
وفي رواية ( قل آمنت بالله فاستقم ( وهذا الحديث في معنى الآية ، ومعنى الإيمان بالله هو معنى أن تقول : ربي الله؛ لأن قول العبد : ربي الله معناها معبودي الله وحده لا شريك له ، ؛ لأن الابتلاء في القبر يكون بمسألة العبودية التوحيد الذي هو توحيد الإلهية ويأتي بصيغة الربوبية؛ لأن العبد يُسأل في قبره من ربك ؟ من نبيك ؟ ما دينك ؟ فمن ربك يعني: من معبودك ؟ الرب يطلق ويراد به المعبود؛ لأن المعبود يعني: توحيد المعبود لازم عن توحيد الرب ، فتوحيد الإلهية لازم لتوحيد الربوبية، فمن أيقن بتوحيد الربوبية لزم عنه أن يوحد الله في الإلهية ، وفي أسمائه وصفاته .(1/170)
بهذا كان الاحتجاج في القرآن على المشركين كثيرا في توحيد الربوبية ، الاحتجاج عليهم بتوحيد الربوبية في توحيد الإلهية ، كما في قوله -جل وعلا- : ( (((( ((( ((((((((((( ((((( ((((((((((( (((((((((( ((((( (((((((( ((((((((( ((((((((((((( ((((( (((((((( (((((((( (((( ((((((((((( (((((((((( ((((((((((( (((( ((((((((( ((((( ((((((((( (((((((( ( (((((((((((((( (((( ( (((((( (((((( ((((((((( (((( ((((((((((( (((( (((((((( (((((((( ( (((((((( (((((( ((((((((( (((( (((((((((( ( ( (182) .
وكقوله : ( ((((((( ((((((((((( (((( (((((((((( ((((((((((( (((( ( ( (183) وكقوله : ( ((((((( ((((((((((( (((( (((((( ((((((((((((( (((((((((( ((((((((((( (((((((((( ((((((((((( ((((((((((( ( (184) .
والآيات في هذا كثيرة ، فطريقة القرآن أنه يحتج على المشركين بما يقرون به ، وهو توحيد الربوبية على ما ينكرونه وهو توحيد الإلهية .
إذن فقوله : ( آمنت بالله ( قول قائل : آمنت بالله ، أو قوله: ربي الله هو التوحيد الذي يشمل توحيد الربوبية والإلهية والأسماء والصفات؛ لأن أحد هذه الأشياء يلزم منه البقية ، أو أن بعضها يتضمن البعض الأخر .
قوله -عليه الصلاة والسلام- هنا : ( قل آمنت بالله ( كما تقدم معنا أن الإيمان قول وعمل واعتقاد ، فإذا قال : آمنت بالله ، يعني: أنه اعتقد الاعتقاد الصحيح ، وعمل العمل الصحيح الصالح الذي وافق فيه السُنة ، وكان مخلصا فيه لله -جل وعلا- و-أيضا- تكلم وتلفظ بما يحب الله -جل وعلا- ويرضى .(1/171)
فإذن قوله : ( قل : آمنت بالله ( هذا يشمل الأقوال والأعمال والاعتقادات ، فدخل في هذه الوصية الدين كله ؛ لأنه قال : ( قل لي في الإسلام قولا لا أسأل عنه أحدا غيرك ( وفي لفظ ( لا أسأل عنه أحدا بعدك ( فقال : ( قل : آمنت بالله ( وقوله : ( آمنت بالله ( المقصود به الإيمان الشرعي ؛ لأنه هو الذي يتعدى بالباء ، فالإيمان إذا تعدى بالباء في نصوص الكتاب والسنة فيعنى به الإيمان الشرعي ، الذي هو قول وعمل واعتقاد.
وكما ذكرنا لكم سلفا في شرح حديث جبريل أن الإيمان مشتق من الأمن ، وأصله أن من آمن بشيء أمن الغائلة ، يعني: من صدق به تصديقا جازما ، وعمل بما يقتضيه ذلك التصديق فإنه يأمن غائلة التكذيب؛ لأن تكذيب المخبر له غائلة يعني: له أثر سيئ على المكذِب ، فمن كذَب لم يأمن فالإيمان والأمن متلازمان من حيث الأثر .
والإيمان مشتق من الأمن ، يعني: من جهة الاشتقاق اللغوي البعيد ، والإيمان معناه : التصديق الجازم الذي لا ريب معه ، ولا تردد فيه .
( ثم استقم ( ثم هذه لتراخي الجمل ، وإلا فإن الاستقامة من الإيمان ، فلا يفصل بين الاستقامة والإيمان ، كما تقول : آمن بالله ثم اعمل من الصالحات فهذا تراخي جملة عن جملة ، وتراخي الجمل بـ "ثم" له فائدة من جهة علم المعاني في البلاغة محل الكلام عليها هناك .
وقوله : ( ثم استقم ( فيه الأمر بالاستقامة ، والاستقامة لفظها استفعل ، استقام فيها معنى الطلب ، ولكن هذا ليس بظاهر؛ لأن الفعل استفعل أو هذه الصيغة استفعل تأتي ويراد بها الطلب ، وتأتي ويراد بها لزوم الشيء ، وكثرة الاتصاف به .
فمن الأول ؛ وهو أن استفعل تأتي ويراد بها الطلب كقولك : استسقى فلان يعني: طلب السقيا ، واستغاث طلب الإغاثة ، واستعان طلب الإعانة ، وهكذا في أشباهها .(1/172)
ومن الثاني ؛ وهو أن استفعل تأتي ويراد منها لزوم الوصف ، وكثرة الاتصاف به ، وعظم الاتصاف به كقوله -جل وعلا- مثلا : ( ((((((((((((( (((( ( ( (185) في سورة التغابن ، ( ((((((((((((( (((( ( ( (186) يعني: غني استغنى ليس معناها طلب الغنى ، ولكنه غني بغنى لازم لذاته ، وكثر وعظم جدا .
فإذن "استفعل" هذه إذا تغيرت ، أو إذا لم تستعمل في الطلب فيعنى بها لزوم الصفة للذات ، وكثرة الاتصاف ، وعظم الاتصاف بها بحسب ما يناسب الذات ، فإذن استقام يعني: ( (((( ((((((((( (((((((( ((((((( (((( (((( (((((((((((((( ( (187) ( (((((((((((( (((((( (((((((( ((((( ((((( (((((( ( (188) ( ((((((((((((((((( (((((((( ((((((((((((((((( ( ( (189) وهكذا .
استقيموا ليس معناها طلب الشيء ، ولكن معناه الإقامة على هذا الدين ، الإقامة على الإيمان ، وأن تعظم الأوصاف أن يعظم وصف الالتزام به ، وأن يعظم وصف الإقامة عليه ، ولهذا كلمة "الاستقامة" تشمل كما فسرها طائفة من أهل العلم الثبات على الدين ، استقام يعني: ثبت على الدين ، واستقام قالوا : بمعنى عمل الطاعات ، وابتعد عن مساخط الله ، وعن المحرمات ، وهذا معناه : الأخذ بوسائل الثبات .
الاستقامة بالجهاد بأنواعه ، وهذا وسيلة من الوسائل ، الاستقامة بلزوم السنة ، والإخلاص لله -جل وعلا- ، وهذا هو حقيقة الدين .
إذن فلفظ "استقام" يعني: صار له وصف الإقامة مبالغا فيه ، يعني: كثيرا ، بحيث إنه لزمه ، ولم يتغير عنه ، ولم يتبدل عنه ، وهذا هو المقصود هنا .
إذن قوله -عليه الصلاة والسلام- : ( قل : آمنت بالله ثم استقم ( يعني: لتكن إقامتك بعد الإيمان بالله على هذا الإيمان عظيمة بحيث يكون وصف الإقامة لك ملازما.
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله.(1/173)
إذن قوله -عليه الصلاة والسلام-: ( قل: آمنت بالله، ثم استقم ( يعني: لتكن إقامتك بعد الإيمان بالله على هذا الإيمان عظيمة، بحيث يكون وصف الإقامة لك ملازما، وهذا تعظم معه هذه الوصية؛ لهذا أثنى الله -جل وعلا- على عباده المستقيمين بقوله -جل وعلا-: ( (((( ((((((((( (((((((( ((((((( (((( (((( (((((((((((((( (((((((((( (((((((((( (((((((((((((((( (((( (((((((((( (((( ((((((((((( ((((((((((((( (((((((((((( ((((((( ((((((( (((((((((( ( (190) .
فإذن هذا الحديث شمل أمور الاعتقاد وأمور الظاهر والباطن، أعمال الجوارح وأعمال القلوب، وشمل الحث على الثبات على هذه الطاعات، فهذه الوصية صارت إذن وصية جامعة، وما أعظمها من وصية: ( قل آمنت بالله ثم استقم ( يعني: على الإيمان بتعظيم أمر الإقامة عليه، والازدياد من خلال الإيمان.
الحديث الثاني والعشرون
أرأيت إذا صليت المكتوبات وصمت رمضان
وعن أبي عبد الله جابر بن عبد الله -رضي الله عنهما-: ( أن رجلا سأل رسول الله ( فقال: أرأيت إذا صليت المكتوبات، وصمت رمضان، وأحللت الحلال، وحرمت الحرام، ولم أزد على ذلك شيئا، أأدخل الجنة؟ قال: نعم ( رواه مسلم .
حديث جابر بن عبد الله ( وهو الحديث الثاني والعشرون من هذه الأحاديث النووية، قال ( ( أن رجلا سئل رسول الله ( فقال: أرأيت إذا صليت المكتوبات، وصمت رمضان، وأحللت الحلال، وحرمت الحرام، ولم أزد على ذلك شيئا، أأدخل الجنة؟ قال: نعم ( .(1/174)
في هذا الحديث ذكر بعض العبادات وهي: عبادة الصلاة والصيام، وإحلال الحلال وتحريم الحرام. وقد جاء في روايات أخر قد تكون هي أصل هذا الحديث: ( أن رجلا من الأعراب جاء إلى النبي ( فسأله عن أمور الإسلام، فقال الرجل للنبي -عليه الصلاة والسلام-: أتانا رسولك يزعم أنك تزعم أن الله أرسلك، آلله أرسلك؟ قال النبي -عليه الصلاة والسلام-: نعم. فقال: أتانا رسولك يزعم أنك تزعم أن الله افترض علينا خمس صلوات... ( إلى آخره.
في آخره: ( قال الرجل للنبي -عليه الصلاة والسلام-: والذي بعثك بالحق لا أزيد على هذا شيئا. فقال النبي -عليه الصلاة والسلام-: دخل الجنة إن صدق ( وفي رواية: ( من سره أن ينظر إلى رجل من أهل الجنة فلينظر إلى هذا ( وهناك روايات أخر في مجيء أعرابي للنبي ( في ذكر الفرائض: الصلاة والصيام والزكاة والحج.
وهذه الأحاديث تدل على أن من فعل هذه الواجبات ممتثلا متقربا بها إلى الله -جل وعلا- فصلى الصلوات المكتوبة مطيعا لله -جل وعلا-، وصام وزكى مطيعا لله، وحج مطيعا لله، وأحل الحلال مطيعا لله، وحرم الحرام مطيعا لله، أنه من أهل الجنة.
والأحاديث متعددة في ذلك: بعضها يرتب ثواب الجنة على كلمة التوحيد، وبعضها يرتب ثواب الجنة على الصلاة، وبعضها يرتب ثواب الجنة على الصيام، في ألفاظ مختلفة وروايات متعددة.
الحاصل: أن هذه الروايات التي فيها ترتيب دخول الجنة على بعض الأعمال الصالحة -المقصود بها أنها إذا فعلت مع اجتماع الشروط، وانتفاء الموانع، أو إذا فعلت هذه الأفعال مع الإتيان بالتوحيد. فهذان احتمالان -كما ذكرت لك- الأول: أنها مع اجتماع الشروط وانتفاء الموانع، والثاني: أنه مع الإتيان بالتوحيد؛ لأنه به تصح الصلاة، وتقبل الزكاة، ويصح الصيام... إلى آخره.(1/175)
وهذا معناه: أن قوله -عليه الصلاة والسلام-: "نعم" أو ( دخل الجنة إن صدق ( أن دخول الجنة متنوع، وهذا الظاهر دلت عليه الأدلة الأخرى، فما جاءت النصوص في ترتب دخول الجنة على بعض الأعمال فهو حق على ظاهره، وأن من أتى بالتوحيد وعمل بالأعمال الصالحة -بأي عمل- فإنه موعود بالجنة، والله -جل وعلا- وعده: ( (((((( (((((((( (((( (((( (((((((( ( (191) .
ودخول الجنة في النصوص: تارة يراد به الدخول الأوَّلي، وتارة يراد به الدخول المآلي، وهذا في الإثبات، يعني: إذا قيل دخل الجنة فقد يراد بالنص أنه يدخلها أولا -يعني: مع من يدخلها أولا- ولا يكون عليه عذاب قبل ذلك فيغفر له إن كان من أهل الوعيد، أو يكفر الله -جل وعلا- عنه خطاياه... إلى آخر ذلك.
أو يكون المقصود بـ "دخل الجنة" أن الدخول مآلي، بمعنى: أنه سيئول إلى دخول الجنة كقوله -عليه الصلاة والسلام-: ( من قال: لا إله إلا الله دخل الجنة ( ( من كان آخر كلامه لا إله إلا الله دخل الجنة ( ( من صلى الصلوات المكتوبات كان له عند الله عهد أن يدخله الجنة ( ( يدعى الصائمون يوم القيامة من باب الريان ( .
وهكذا في أحاديث -كما ذكرت لك- متنوعة؛ فإذن الأحاديث التي فيها دخول الجنة بالإثبات: تارة يراد منها الدخول الأولي، وتارة يراد منها الدخول المآلي، ويترتب على هذا النفي، فإذا نفي دخول الجنة عن عمل من الأعمال يراد به نفي الدخول الأولي، أو نفي الدخول المآلي، والذي ينفى عنه الدخول الأولي هم أهل التوحيد الذين لهم ذنوب يطهرون منها إن لم يغفر الله -جل وعلا- لهم.
وأما الذين ينفى عنهم الدخول المآلي -يعني: لا يدخلونها أولا ولا مآلا، لا يؤولون إلى الجنة أصلا- فهؤلاء هم أهل الكفر في الأول: مثلا قوله -عليه الصلاة والسلام-: ( لا يدخل الجنة قتات ( ( لا يدخل الجنة قاطع رحم ( ( لا يدخل الجنة نمام ( وأشباه ذلك.(1/176)
فهذه فيها أنه لا يدخل الجنة، هل معناه أنه لا يدخلها أبدا؟ لا، لا يدخلها أولا، وفي بعض النصوص نفي دخول الجنة الدخول المآلي، يعني: أنهم لا يئولون إلى الجنة أصلا بل مأواهم النار خالدين فيها، كقوله -جل وعلا-: ( (((( ((((((((((( (((((((((( (((((( (((((( (((((((((( ((( ((((( ((((((((((( ( ( (192) وكما في قوله -جل وعلا-: ( (((((( (((((( (((( (((((((( (((((((((( ((((((((((( (((((((( ( ((((( ((((((((((((( (((( (((((((( ( (193) .
إذن فتحصل لنا كقاعدة عامة من قواعد أهل السنة في فهم آيات وأحاديث الوعيد: أن الآية أو الحديث إذا كان فيه إثبات دخول الجنة على فعل من الأفعال فإن هذا الإثبات ينقسم إلى: دخول أولي، بمعنى: أنه يغفر له فلا يؤاخذ، أو أنه ليس من أهل الحساب، أو أن الله -جل وعلا- خفف عنه فيدخلها أولا، أو أنه ليس من أهل الدخول المآلي، أو أنه من أهل الدخول المآلي.
وهكذا عكسها أنه لا يدخلها أولا، أو لا يدخلها أولا ومآلا على حد سواء، وهذا من القواعد المهمة عند أهل السنة التي خالفوا بها الخوارج والمعتزلة ... إلى آخره.
إذا تقررت هذه القاعدة فهذا الحديث فيه ذكر دخول الجنة على أنه لا يزيد على هذه شيئا، ولم يذكر في ذلك أنه فعل الزكاة، ولا أنه أتى بالحج، ومن ترك الزكاة فهو من أهل الوعيد، ومن ترك الحج فهو من أهل الوعيد... وهكذا.
فإذا تقرر هذا فقوله: ( ولم أزد على ذلك شيئا، أأدخل الجنة؟ قال: نعم ( محمول على أحد توجيهين:
الأول : أنه في قوله: ( لم أزد على ذلك شيئا ( يعني: أنه فعل الواجبات التي أوجب الله -جل وعلا- فتدخل الواجبات في قوله: "حرمت الحرام"؛ لأن ترك الواجبات حرام، فهو إذا حرم ترك المحرمات، معناه: أنه فعلها.(1/177)
والتوجيه الثاني: أن هذا الحديث يفهم مع غيره من الأحاديث كقاعدة أهل السنة في نصوص الوعد والوعيد، وأننا لا نفهم نصا من نصوص الوعد أو من نصوص الوعيد على حدته، بل نضمه إلى أشباهه فيتضح المقام، فيكون إذن دخوله الجنة مع وجود الشروط وانتفاء الموانع.
أو يقال: دخول الجنة هنا مع الاقتصار على ما ذكر دخولا مآليا، وإذا أتم فإنه يدخل دخولا أوليا، ولا بد أنه إذا كان على ذلك النحو فإنه من أهل الجنة؛ لأن الله -جل وعلا- هو الذي وعده بذلك وبلغه رسوله -عليه الصلاة والسلام- قوله: ( إذا صليت المكتوبات ( تدل على تعلق ذلك بالصلوات الخمس، وهذا يخرج النوافل.
كذلك قوله: ( صمت رمضان ( تعلقه بالشهر الواجب، وهذا يخرج النوافل، وقوله: ( وأحللت الحلال ( هذا اختلف فيها العلماء على قولين: القول الأول: هو الذي ذكره النووي في آخر ذكره للحديث حيث قال: "ومعنى أحللت الحلال: فعلته معتقدا حله" فهذا وجه عند أهل العلم؛ لأن معنى أحللت الحلال أنه اعتقد وفعل.
والوجه الثاني: أنه اعتقد ولم يفعل، فمعنى قوله: ( أحللت الحلال ( يعني: اعتقدت حل كل ما أحله الله -جل وعلا- وليس في نفسي اعتراض على ما أحل الله -جل وعلا-، وهذا أحد المعنيين.
والمعنى الأول الذي ذكره النووي: أن إحلال الحلال يقتضي أن تفعل، أو أن تعمل، أو أن تأتي الحلال الذي أحله الله -جل وعلا- لك، وألا تستنكف عنه -بمعنى: أن من حرم على نفسه شيئا من الحلال مطلقا فإنه لم يحل الحلال فعلا-؛ وهذا المعنى ليس بجيد عندي؛ لأن فعل كل حلال ممتنع قد لا يستطيعه كل أحد؛ لأن الحلال -ولله الحمد- كثير جدا والمباحات كثيرة، فإتيانه فعله باعتقاد حله هذا صعب، ومثل هذا الرجل السائل لا يعلق بكل شيء، وهذا أيضا مما يكون في غير الاستطاعة.(1/178)
والوجه الثاني الذي ذكرناه من أن قوله: "أحللت الحلال" -يعني: اعتقدت حله- فلم يأت في نفسي ريب من أن ما أحل الله جل وعلا فهو حلال، فهذا ظاهر طيب -يعني: ظاهر من الحديث حسن- وهو أولى؛ لأنه لا يلزم عنه لوازم غير جيدة.
أما قول الرجل: ( حرمت الحرام ولم أزد على ذلك شيئا أأدخل الجنة ؟ فقال: نعم ( فتحريم الحرام يشمل المرتبتين: يشمل الاعتقاد والترك: فتحريم الحرام أن تعتقد حرمته، والثانية: أن تفعل ما اعتقدته من ترك المحرمات. فمن اعتقد حرمة الحرام وفعل فهو من أهل الوعيد -يعني: من أهل العصيان-، وأما من لم يعتقد حرمة الحرام فهو كافر ؛ لأنه ما صدق الله -جل وعلا- في خبره، أو لأنه اعتقد غير ما أمر الله -جل وعلا- باعتقاده.
فإن الاعتقاد بتحريم المحرمات فرض من الفرائض، وعقيدة لا بد منها؛ لأن معناه الالتزام بأمر الله -جل وعلا-، وأمر رسوله ( والنهي نهي الله ونهي رسول الله ( .
الحديث الثالث والعشرون
الطهور شطر الإيمان
وعن أبي مالك الحارث بن عاصم الأشعري ( أن رسول الله ( قال: ( الطهور شطر الإيمان، والحمد لله تملأ الميزان، وسبحان الله والحمد لله تملآن أو تملأ ما بين السماوات والأرض، والصلاة نور، والصدقة برهان، والصبر ضياء، والقرآن حجة لك أو عليك، كل الناس يغدو، فبائع نفسه فمعتقها أو موبقها ( رواه مسلم
هذا الحديث -وهو الحديث الثالث والعشرون- حديث عظيم جدا، وألفاظه جوامع كلم للمصطفى ( وهو من الأحاديث التي تهز النفس، وتدخل القلب بلا استئذان -يعني: أن فيه ما يرقق القلب، ويحمل على الطاعة بتأثيره على كل نفس- وألفاظه تدل عليه.
فقد قال ( فيه: ( الطهور شطر الإيمان، والحمد لله تملأ الميزان، وسبحان الله والحمد لله تملآن أو قال تملأ ما بين السماء والأرض، والصلاة نور، والصدقة برهان، والصبر ضياء، والقرآن حجة لك أو عليك، كل الناس يغدو فبائع نفسه فمعتقها أو موبقها ( .(1/179)
وهذه ألفاظ عظيمة للغاية، واشتملت على أحكام كثيرة ووصايا عظيمة دخلت في أبواب كثيرة من أبواب الدين، فقوله في أوله -عليه الصلاة والسلام-: ( الطُهور شطر الإيمان ( الطهور المقصود به الطهارة، التطهر؛ فإن صيغة فعول المقصود منها الفعل -يعني: ما يفعل- فالطهور هو التطهر كما أن الفطور هو فعل الإفطار، والسحور هو الفعل نفسه... وهكذا.
بخلاف الطَهور -بالفتح-: فإنه ما يتطهر به -يعني: الماء يسمى طهور-، وأكلة السحر تسمى سَحور -بالفتح- ، والفطور يسمى فَطور -بالفتح- إذا كان المراد الذي يؤكل، أما الفعل نفسه فهو طهور للطهارة، وسحور للتسحر وهكذا، فقوله عليه الصلاة والسلام هنا: الطُهور يعني: التطهر.
وهذا اختلف فيه العلماء على قولين:
الأول : أن المراد بالطهور هنا: التطهر من النجاسات المعنوية، أو مما ينجس القلب والروح والجوارح من الشرك والرياء، وفعل المحرمات وترك الواجبات وأشباه ذلك. وهذا أخذوه من قول الله -جل وعلا-: ( ((((((((((( ((((((((( ( (194) على أحد تفسيرين، فإن التطهير هنا فسر بأن المقصود به التطهير من الشرك والنجاسات المعنوية.
وفسر أيضا قوله -جل وعلا-: ( (((((((( ((((((( ((((((((((((( ( (195) بالامتناع عن فعل الفاحشة، وهذا التفسير له مأخذه من القرآن، وظاهر دليله من أن الطهارة هنا المقصود منها: طهارة القلب، وطهارة الجوارح واللسان من المحرمات، أو من ترك الواجبات.
وكونها على هذا المعنى شطر الإيمان؛ لأن الطهارة ترك والإيمان قسمان: فعل وترك، فصارت الطهارة بالمعنى هذا شطر الإيمان -يعني: نصفه-؛ لأنه إما أن تترك أو تفعل، فإذا طهرت نفسك وجوارحك -يعني: جعلتها طاهرة مما حرم الله -جل وعلا- في القلب واللسان والجوارح- فقد أتيت بما هو نصف الإيمان وهو الترك فيبقى الأمر.(1/180)
وهنا نقول: لماذا نبه على الترك ولم ينبه على الفعل وهو الإتيان بالواجبات؟ الجواب: أن الترك أعظم؛ فإن ترك المحرمات أعظم من الإتيان بالواجبات لهذا؛ تجد أن كثيرين يأتون بالواجبات، ولا يصبرون عن المحرمات -نسأل الله العافية والسلامة-، ومن يترك المحرمات فإنه يسهل عليه أن يأتي بالواجبات.
الوجه الثاني من كلام أهل العلم -يعني: التفسير الثاني-: أن الطهور هنا المقصود به الطهارة بالماء أو بما هو بدل الماء، والطهارة تكون: طهارة كبرى ، أو صغرى -يعني: غسل الجنابة أو غسل المرأة من الحيض والنفاس، أو الطهارة الصغرى بالتطهر للصلاة، وهنا جعلها شطر الإيمان؛ لأن الله -جل وعلا- جعل الصلاة إيمانا فقال: جل وعلا: ( ((((( ((((( (((( ((((((((( (((((((((((( ( ( (196) يعني: صلاتكم .
حين توجهوا إلى القبلة بعد بيت المقدس، فقال طائفة من المسلمين كيف: بأمر الذين صلوا إلى بيت المقدس، ولم يدركوا الصلاة إلى الكعبة ؟ فأنزل الله -جل وعلا- قوله: ( ((((( ((((( (((( ((((((((( (((((((((((( ( ( (197) يعني: صلاتكم، والصلاة مفتاحها التطهر؛ فإنها لا تصح إلا بالطهارة، فلها شروط قبلها، ولها واجبات وأركان فيها -يعني: في الصلاة- فما قبلها أعظمه في فعل العبد الطهارة؛ فصارت شطرا بهذا الاعتبار.
فيكون إذن قوله: ( الطهور شطر الإيمان ( يعني: التطهر شطر الإيمان الذي هو الصلاة؛ لأن الصلاة رأس أعمال الإيمان.
وهناك تفسيرات أخر لأهل العلم -يعني: اختلفوا في هذا اختلافا كثيرا- لكن هذان قولان مشهوران في هذا المقام ، قال -عليه الصلاة والسلام-: ( والحمد لله تملأ الميزان ( "الحمد لله" الحمد هذه كلمة فيها إثبات الكمالات؛ لأن حمد بمعنى أثنى على غيره بما فيه من صفات الكمال، فحمد لفلان صنيعه يعني: أثنى عليه بصفات كمل فيها بما يناسب البشر؛ لأجل صنيعه، ومنه يدخل في الحمد بهذا الاعتبار أنه يثني عليه شاكرا له، يعني: باللسان.(1/181)
فالحمد لله معناها الثناء على الله -جل وعلا- بإثبات صفات الكمال له -جل جلاله-، فالحمد على هذا يدخل فيه حمد الله وهو الثناء عليه، على ما اتصف به من صفات الكمال والجلال والجمال، حمد لله على ربوبيته -يعني: على اسمه الرب-، وعلى وصف الربوبية له، وحمد لله -جل وعلا- على إلهيته، وعلى أنه الإله، وحمد لله -جل وعلا- على أسمائه وصفاته ونعوت جلاله وكماله، وحمد لله -جل وعلا- على القرآن على كلامه، وحمد لله -جل وعلا- على أمره الكوني والقدري وحكمه في بريته، وحمد لله -جل وعلا- على أمره الشرعي.
فالحمد في نصوص الكتاب والسنة تكتنفه هذه الأنواع الخمسة التي ذكرنا؛ ولهذا تجد أنه في القرآن يأتي الحمد متعلقا بأحدها -بأحد هذه الخمسة لا غير- انظر مثلا: ( (((((((((( (( ((((( (((((((((((((( ( (198) تعلق بالربوبية: ( (((((((((( (( ((((((( (((((( ((((((((((((( (((((((((( (((((((( (((((((((((( (((((((((( ( ( (199) فهذا أيضا في الربوبية، ( (((((((((( (( (((((((( ((((((( (((((( (((((((( ((((((((((( (((((( ((((((( ((((( ((((((( ( ( (200) ( (((((((((( (( ((((((( ((((((((((((( (((((((((( ( (201) ( ((((((((((( ((((((((((( (((( ((((((((( ( (((((((((( (( ((((( (((((((((((((( ( (202) وهكذا في نصوص كثيرة في الكتاب والسنة.
فإذن الحمد إثبات الكمالات إثبات نعوت الجلال والكمال، وهذا مستغرق فيه جميع الأنواع لله -جل وعلا-؛ لأن كلمة "ال" هذه الحمد لله "ال" التي تسبق "حمد" هذه للاستغراق، استغراق جميع أنواع الحمد؛ لأنها دخلت على مصدر حمد يحمد حمدا، فقوله -جل وعلا-: ( (((((((((( (( ((((( (((((((((((((( ( (203) يعني: جميع أنواع المحامد مستحقة لله -جل وعلا-.(1/182)
واللام هنا في قوله لله: ( (((((((((( (( ( (204) يعني: الحمد المستحق لله -جل وعلا- الذي أُثني به على الله -جل وعلا- يملأ الميزان، فإذا قال العبد: الحمد لله فإن هذه تملأ الميزان، كما جاء في حديث أبي هريرة الذي رواه البخاري وغيره، أنه -عليه الصلاة والسلام- قال: ( كلمتان خفيفتان على اللسان، ثقيلتان في الميزان، حبيبتان إلى الرحمن: سبحان الله وبحمده، سبحان الله العظيم ( .
فالحمد إثبات، وكما سيأتي في: "سبحان الله والحمد لله" أن الحمد والتسبيح متلازمان، وقوله هنا -عليه الصلاة والسلام-: ( تملأ الميزان ( على قاعدتنا: أن الملء هنا على ظاهره حسي وليس ملئا معنويا، كما قاله طائفة، وهذا نوع من التأويل؛ لأن الدخول في الأمور الغيبية بما لا يوافق ظاهر اللفظ هذا نوع من التأويل المذموم.
فإذن نقول: ( الحمد لله تملأ الميزان ( على ظاهرها، وهو أن الله -جل وعلا- يأتي بهذه الكلمة فيملأ بها الميزان، والله -جل وعلا- يوم القيامة يجعل في الميزان الأعمال فيزنها، فتكون الأعمال التي هي أقوال واعتقادات وحركات تكون في الميزان، فيثقل بها ويخف بها ميزان آخرين، فإذن على ظاهرها أن "الحمد لله" هذه تملأ الميزان.
وهنا نظر أهل العلم في قوله: ( تملأ الميزان ( لماذا صارت تملأ على تفسيرين:
الأول : أن تملأ نفهم منه أنها لا توضع أولا، يعني: لا يؤتى بالحمد أولا فتوضع في الميزان، وإنما الذي يؤتى الأعمال يؤتى بالأعمال فتوضع في الميزان، فيؤتى بالحمد فتملأ الميزان، هذا تفسير.
والتفسير الثاني: أن الإيمان والدين نصفان، نصف تنزيه ونصف إثبات الكمالات، والتنزيه فيه التسبيح، التنزيه تنزيه الرب -جل وعلا- عن النقص في ربوبيته، أو في إلهيته، أو في أسمائه وصفاته... إلى آخره.(1/183)
هذا فيه إبعاد عن النقائص، والحمد إثبات للكمالات، فإذا وضعت "سبحان الله" أولا -فالحمد لله تأتي ثانيا فتملأ الميزان، ونفهم من قوله -عليه الصلاة والسلام-: ( ثقيلتان في الميزان سبحان الله وبحمده سبحان الله العظيم ( أن التسبيح أكثر من جهة وضعه في الميزان؛ فيكون الحمد تتمة لذلك.
وقد يتأيد هذا بشيء، وهو أن التسبيح -المعاني يطول ذكرها، لكن نذكر بعض فائدة- يختلف عن الحمد، وهو أن التسبيح فيه تخلية، ومعلوم أن التخلية بلا شيء يوضع محلها أنها ليست محمودة، بمعنى: أنه إذا قال أحد: أنا سأخلي هذا المسجد مما فيه من الأشياء، والدواليب والفرش ونحو ذلك. لم يكن محمودا بفعله إلا إذا قال وآتي بغيره مما هو أحسن منه فأضعه فيه.
فالتسبيح تنزيه، والتنزيه قد يكون ناتجا عن قصور في إثبات الكمالات لله -جل وعلا- فيقول: إن الله -جل وعلا- منزه عن كذا، ومنزه عن كذا، ومنزه عن كذا، ثم لا يصفه -جل وعلا- بشيء؛ فلهذا كان التسبيح والحمد متكاملان، فالتسبيح تخلية، والحمد بالنسبة للقلب تحلية، والتخلية تسبق التحلية كما هو مقرر في علوم البلاغة.
فإذن جاء التسبيح في نصوص كثيرة مضافا إلى الله -جل وعلا- بمعنى: سلب النقائص ونفي النقائص عن الله -جل وعلا- في ربوبيته وإلهيته، وأسمائه وصفاته ، وفي قدره وأمره الكوني ، وفي شرعه وحكمه الديني ، في هذه الخمسة تقابل بها الخمسة التي فيها إثبات الكمالات في الحمد، فكل واحدة منها نزهت عن الله -جل وعلا- جاء الحمد بإثبات الكمال اللائق بالله -جل وعلا- محلها.(1/184)
وهذا لو فقهه العبد لكان: ( سبحان الله والحمد لله ( في لسانه أعظم من أي شيء يشتغل به عنها من غير ذكر الله -جل وعلا- والقرآن العظيم، فإذن هذه الكلمة خفيفة: ( سبحان الله والحمد لله ( لكنها عظيمة؛ لأن فيها الاعتقاد الصحيح في الله -جل وعلا- بجميع الجهات: ففيها الربوبية والإلهية، والأسماء والصفات، وفيها إثبات تحليل الحلال وتحريم الحرام، وفيها الاعتقاد الحسن في القدر، وفيها الاعتقاد الحسن فيما يتصرف الله -جل وعلا- به في ملكوته... إلى آخر ذلك من المعاني.
لهذا قوله -عليه الصلاة والسلام-: ( والحمد لله تملأ الميزان ( يكون هنا الملء بعد التنزيه وهو التسبيح، قال: ( وسبحان الله والحمد لله تملآن أو تملأ ما بين السماء والأرض ( سبحان الله يعني: تنزيها لله -جل وعلا- عن النقائص في ربوبيته وإلهيته، وأسمائه وصفاته، وشرعه ودينه، وعن أمره الكوني وقدره، والحمد لله إثبات الكمالات لله -جل وعلا- فهما متكاملان.
قال: ( تملأ أو قال تملآن ما بين السماء والأرض ( إذا كان اللفظ "تملآن" فكل واحدة على اعتبار، وإذا كان اللفظ المحفوظ "تملأ" وهو الأظهر: ( تملأ ما بين السماء والأرض ( فإن "سبحان الله والحمد لله" كلمة واحدة؛ لأن مدلولها واحد، وهو كما ذكرنا التنزيه والإثبات.
قوله: ( تملأ ما بين السماء والأرض ( ما المقصود بذلك ؟ إذا أطلق لفظ السماء هنا فالمقصود به السماء الدنيا ، والسماء تطلق في النصوص ويراد بها العلو بعامة: ( (((((( (((( (((((( (((((( (((( (((((( (((((((( ((((((((( (((((((((( ((((((((( ((((((((( ((((((( ((((((((((( ((( ((((((((((( ( (205) يعني: في العلو: ( (((((((((( ((( ((( ((((((((((( ( (206) يعني: من في العلو... وهكذا.(1/185)
فإذا أطلق لفظ "السماء" وحده -يعني: بلا السماوات مفرد- فإنه قد يراد به العلو، وقد يراد به واحدة السماوات وهي السماء الدنيا، وخاصة إذا جعل أو قوبل بالأرض، فقوله هنا: ( تملأ ما بين السماء والأرض ( يعني: أنها تملأ هذا الفراغ الكبير الذي بين الأرض وما بين السماء؛ لما لعظم هذه الكلمة، ولمحبة الله -جل وعلا- لها، ولحمل الملائكة لها تقربا إلى الله -جل وعلا-.
قال: ( والصلاة نور، والصدقة برهان، والصبر ضياء ( هذه الثلاثة: الصبر، والصدقة، والصلاة، اقترنت هنا بثلاثة أنواع من أنواع النور والضياء والبرهان، فدرجات النور -يعني: درجات ما تحسه العين من الأنوار- ثلاث: نور، وبرهان، وضياء، فأولها النور، ويليها البرهان، والثالث الضياء.
فالقمر نور: ( (((((((( (((((((((( ((((((( (((((( (((((((( ((((((((( (((((((( ( (207) ( (((((((((((( (((((( ( (208) فالقمر يوصف بأنه نور وهو: الذي يعطي الإضاءة بلا إشعاع -يعني: بلا إشعاع محسوس-، والبرهان: أشعة بلا حرارة، أعظم درجة من النور، وأقل درجة من الضياء، وأما الضياء: فهو النور الشديد، نور مسلط شديد يكون معه حرارة.
فهذه ثلاث مراتب من أنواع الأضواء، وإذا نظرت لذلك وجدت قوله -عليه الصلاة والسلام- هنا: ( والصلاة نور والصدقة برهان والصبر ضياء ( مرتب على أجمل ما يكون من الترتيب، فإن الصلاة سبقت الصدقة؛ ولهذا سبق النور البرهان، والصبر لا بد منه للصلاة وللصدقة ولكل الطاعات، ولكن الصبر محرق كشدة حرارة الضياء، فالضياء نور قوي فيه حرارة ونوع إحراق.
فلهذا جعل الصبر ضياء، ولم يجعل الصلاة ضياء، لكن الصلاة نور؛ لأنه فيها إعطاء ما تحتاجونه براحة وطمأنينة، والصدقة جعلها برهانا؛ لأن البرهان وهو: الضياء الذي يكون معه أشعة تنعكس في العين، الصدقة فيها إخراج المال، وهو محبوب للنفس، وهذا يحتاج إلى شيء من المعاناة، والصبر: فهو ضياء كما قال -عليه الصلاة والسلام-؛ لأن معه المعاناة.(1/186)
وتذكرون في قول الله -جل وعلا- في وصف القرآن بأنه نور، وصف الله -جل وعلا- القرآن بأنه نور: ( (((( ((((((((( ((((( (((( ((((( ((((((((( ((((((( ( (209) فوصف القرآن أيضا في آيات أخر بأنه نور، والتوراة مثلا وصفها الله -جل وعلا- بأنها ضياء.
وتعلمون، الحق كلام المفسرين على ذلك حيث قالوا: إن التوراة فيها آصار وأغلال على بني إسرائيل؛ ولهذا سماها الله -جل وعلا- ضياء مناسبة ما بين الضياء ووجود التكاليف العظام على بني إسرائيل: ( (((((((((( ((((( ((((((((( (((((((( ((((((((( (((((((((( (((((((((( (((((((( (((((( ((((((((((((( ((( ((((((( (((( (((((((( ( (210) الآيات في آخر سورة النساء .
فقال -جل وعلا-: ( (((((((( (((((((((( ((((((( (((((((((( ((((((((((((( (((((((((( ( (211) فجعل التوراة ضياء؛ لأن فيها هذه الشدة، فالصبر ضياء؛ لأن من تحمل شدة الصبر فإنه يقوى معه الضياء، فالصبر مشبه بالضياء، وأيضا أثره أنه يكون معك الضياء، وهذه الثلاثة أنت محتاج إليها يوم القيامة أشد الحاجة، حين تكون الظلمة دون الجسر ويعبر الناس على الصراط، حيث اليوم العصيب والأمر المخيف.
فمعك الصلاة وهي نور، ومعك الصدقة وهي برهان، ومعك الصبر وهو ضياء، تنقل به إلى رؤية الأمكنة البعيدة أو المسافات البعيدة -أعاننا الله -جل وعلا- على قربانه يوم القيامة- بهذا يظهر لك عظم قول المصطفى ( وجوامع كلمه -عليه الصلاة والسلام-.
والصبر -كما هو معلوم- ثلاثة أنواع: صبر على الطاعة، وصبر على المعصية، وصبر على أقدار الله المؤلمة، والصبر: هو الحبس -يعني: حبس الجوارح والقلب على الطاعات، وحبسها عن المعاصي، وحبسها على الرضا بأقدار الله -جل وعلا- المؤلمة.
والكلام في تفاصيل الصبر تأخذونه من شرح "باب التوحيد" أو من مظانه، قد ذكرناه مرارا؛ لأن فيه تفاصيل يطول المقام ببسطها.(1/187)
قال : ( والقرآن حجة لك أو حجة عليك ( القرآن حجة لك إذا تلوته حق تلاوته -بمعنى: تلوته فآمنت بمتشابهه وعملت بمحكمه، وأحللت حلاله وحرمت حرامه-، أو عليك: حيث يقودك القرآن يوم القيامة، فيزج بمن قرأه فخالف ما دل عليه من حق الله -جل وعلا- إن لم يغفر الله -جل وعلا- ويصفح، فيزج بصاحبه إلى النار.
القرآن إما لك أو عليك، فطوبى لمن كان القرآن حجة له، وقوله -عليه الصلاة والسلام-: ( حجة لك ( أي: يحاج لك، وهذا جاء في أحاديث أخر كقوله -عليه الصلاة والسلام-: ( يؤتى بالقرآن يوم القيامة تقدمه سورة البقرة وآل عمران كأنهما غمامتان -أو قال: غيايتان أو فرقان من طير صواف- تحاجان عن صاحبها ( .
فالقرآن حجة لك أو عليك؛ فلهذا يعظم القرآن عند من عمل به، ويضعف القرآن عند من تركه تلاوة وعملا.
( كل الناس يغدو ( الغدو: هو السير في أول الصباح، والرواح: الرجوع في آخر النهار، قال: ( كل الناس يغدو -يعني: صباحا- فبائع نفسه فمعتقها ( بائع نفسه فمعتقها يعني: لله -جل وعلا- باع نفسه فلم يسلط عليها الهوى ولم يعبدها للشيطان بل جعلها على ما يحب الله -جل وعلا- ويرضى، فأعتقها ذلك اليوم.
قال: ( أو موبقها ( بأنه غدا فعمل بما لم يرض الله -جل وعلا- فخسر ذلك.
نختم بهذا الحديث، وأسأل الله -جل وعلا- أن يعلمني وإياكم العلم النافع، وأن يمن علينا بالعمل الصالح، وأن يهيئ لنا من أمرنا رشدا، وإن شاء الله تلتزمون معنا لنكمل هذه الأربعين النووية، غدا نطيل -إن شاء الله- قليلا، يعني: ربع ساعة زيادة، أو شيء حتى ننهيها -إن شاء الله-.
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن اهتدى بهداه، اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا، اللهم علمنا ما ينفعنا وانفعنا بما علمتنا، وزدنا علما وعملا يا أرحم الراحمين.
الحديث الرابع والعشرون
يا عبادي إني حرمت الظلم على نفسي
بسم الله الرحمن الرحيم(1/188)
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
قال المصنف رحمه الله تعالى:
وعن أبي ذر الغفاري ( قال عن رسول الله ( فيما يرويه عن ربه ( ( يا عبادي، إني حرمت الظلم على نفسي وجعلته بينكم محرما فلا تظالموا، يا عبادي، كلكم ضال إلا من هديته فاستهدوني أهدكم، يا عبادي، كلكم جائع إلا من أطعمته فاستطعموني أطعمكم، يا عبادي، كلكم عار إلا من كسوته فاستكسوني أكسكم، يا عبادي، إنكم تخطئون بالليل والنهار وأنا أغفر الذنوب جميعا فاستغفروني أغفر لكم، يا عبادي، إنكم لن تبلغوا ضري فتضروني، ولن تبلغوا نفعي فتنفعوني.
يا عبادي، لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم كانوا على أتقى قلب رجل واحد منكم ما زاد ذلك في ملكي شيئا، يا عبادي، لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم كانوا على أفجر قلب رجل واحد منكم ما نقص ذلك في ملكي شيئا، يا عبادي، لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم قاموا في صعيد واحد فسألوني فأعطيت كل واحد مسألته ما نقص ذلك مما عندي شيئا إلا كما ينقص المخيط إذا أدخل البحر، يا عبادي، إنما هي أعمالكم أحصيها لكم ثم أوفيكم إياها، فمن وجد خيرا فليحمد الله، ومن وجد غير ذلك فلا يلومن إلا نفسه ( رواه مسلم
هذا الحديث هو الحديث الرابع والعشرون من هذه الأحاديث الأربعين النووية، وهو عن أبي ذر الغفاري -رضي الله تعالى عنه- عن النبي ( فيما يرويه عن ربه ( أنه قال: ( يا عبادي، إني حرمت الظلم على نفسي وجعلته بينكم محرما فلا تظالموا ( ... الحديث هذا الحديث حديث عظيم في بيان حاجة العبد وافتقاره إلى ربه -جل وعلا- وما يحبه الله -جل وعلا- من العبد وما يكرهه.(1/189)
وهذا من الأحاديث القدسية؛ لأنه صدر بقوله فيما يرويه عن ربه ( والذي يروي عن الله -جل وعلا- هو المصطفى ( وهذا يعني أن الحديث القدسي يرويه النبي ( عن ربه -جل وعلا- بهذا اللفظ؛ لأنها رواية، والرواية تكون باللفظ لأنه هو الأصل؛ ولهذا فالحديث القدسي الذي ينمى إلى الرب -جل وعلا- من الكلام وليس من القرآن، يعني: فيما يقول فيه المصطفى ( قال الله -تعالى-، قال ربكم ( ... وأشباه ذلك.
وليس من القرآن فيسمى حديثا قدسيا، ومعنى كونه قدسيا يعني: أنه جاء من القدوس -جل وعلا- يعني: أنه حديث مطهر عال على كلام الخلق، وهذا في معناه العام.
أما الحديث القدسي من حيث الاصطلاح فقد اختلف فيه العلماء، وعباراتهم متنوعة، والذي يتفق مع اعتقاد أهل السنة والجماعة أن الحديث القدسي من حيث اللفظ هو من الله -جل وعلا-، وأن النبي ( يرويه رواية بلفظه، وليس له -عليه الصلاة والسلام- أن يغير معناه، وبعض أهل العلم: ليس له أن يغير لفظه.
وبعض أهل العلم قالوا: إن معناه من الله -جل وعلا- ولفظه من المصطفى ( أبيح له أن يغير في لفظه، وهذا القول لا دليل عليه؛ لأنه جاء ذلك بالنقل: قال الله -تعالى-، قال ربكم. والصحابة يقولون: فيما ينميه إلى ربه، فيما يبلغه عن ربه، فيما يرويه عن ربه.
وهذه كلها من ألفاظ الأداء في الرواية، وليس ثَمَّ ما يدل على أن المعنى من الله -جل وعلا- وأن النبي ( يتصرف في الألفاظ بما يؤدي به المعنى؛ إذ لا دليل عليه كما ذكرنا، ولا حاجة له -عليه الصلاة والسلام- في ذلك.
وأيضا هذا القول -وهو: أنه من حيث اللفظ من النبي ( والمعنى من الله جل وعلا- يتفق مع قول الأشاعرة والماتريدية وأشباه هؤلاء في أن الله -جل وعلا- كلامه كلام نفسي، بمعنى: أنه يلقي في روع جبريل المعاني، أو يلقي في روع المصطفى ( المعاني، ويعبر عنها جبريل بما يراه، ويعبر عنها المصطفى ( بما يراه.(1/190)
ولهذا عندهم القرآن عبارة عن كلام الله -جل وعلا- وليس هو بكلام الله -جل وعلا- الذي خرج منه -جل وعلا- وبدأ منه -سبحانه وتعالى- بكلماته وحروفه ومعانيه، فإذن الذي يتفق مع عقيدة أهل السنة والجماعة في كلام الله -جل وعلا- أن الحديث القدسي لفظه ومعناه من الله -جل وعلا-، ولم يتعبد بتلاوته،
فيصح أن نعرف الحديث القدسي بأنه: ما رواه المصطفى ( عن الله -جل وعلا- بلفظه ومعناه ولم يتعبد بتلاوته، يعني: لم يكن بين دفتي المصحف.
هذا هو الحديث القدسي وغيره مما يجعل اللفظ من المصطفى ( لا يتفق مع عقائد أهل السنة والجماعة، قال هنا أبو ذر فيما يرويه عن ربه ( أنه قال -يعني الله جل وعلا- قال الله: "يا عبادي" فالمتكلم بهذا هو الرب -جل جلاله- ( يا عبادي، إني حرمت الظلم على نفسي وجعلته بينكم محرما فلا تظالموا ( وهذا النداء بـ ( يا عبادي ( فيه التودد للعباد ولفت النظر إلى هذا الأمر العظيم، وهذه الوصية العظيمة.
قال -جل وعلا-: ( يا عبادي، إني حرمت الظلم على نفسي ( والتحريم عند أهل السنة والجماعة أن يحرم الله -جل وعلا- ما شاء على نفسه أو على خلقه، فالوجوب والتحريم والحق يصح عندهم أن يجعلها الله -جل وعلا- على نفسه، فيحق حقا على نفسه، ويوجب واجبا على نفسه، ويحرم أشياء على نفسه، وهذه كلها جاءت بها الأدلة.
فالله -جل وعلا- أحق حقا على نفسه في بعض الأشياء: حق العباد على الله ألا يعذب من مات لا يشرك بالله شيئا، وحرم أشياء على نفسه، ومنها الظلم كما في هذا الحديث، وهذا هو الذي يقرر في مذهب أهل السنة والجماعة، أما غيرهم فإنهم يجعلون الله -جل وعلا- منزها عن أن يحرم عليه شيء، أو أن يجب عليه شيء.(1/191)
والذي حرم على الله هو الله -جل وعلا-، وهو -سبحانه- يحق من الحق على نفسه ما شاء، ويوجب على نفسه ما شاء، ويحرم على نفسه ما شاء، وهذا بما يوافق صفات المولى -جل وعلا- ويوافق حكمته، وما يشاؤه في بريته، فالله -سبحانه- حرم الظلم على نفسه، ومعنى كونه حرم الظلم على نفسه أي: منع نفسه -جل وعلا- من أن يظلم أحدا شيئا.
وفي القرآن نصوص كثيرة فيها أن الله -سبحانه وتعالى- لا يظلم الناس شيئا، وأنه -جل وعلا- لم يرد الظلم، ولم يختر الظلم على العباد كما قال -سبحانه-: ( ((((( (((((( ((((((((( (((((((((((( ( (212) وقال -جل وعلا-: ( ((((( (((( ((((((( ((((((( (((((((((((( ( (213) وقال -سبحانه-: ( ((((( (((( ((((((( ((((((( ((((((((((((((( ( (214) وقال -جل وعلا- أيضا: ( (((( ((((((( ((((((( (((( ((((((( ( (215) والآيات في هذا كثيرة متنوعة: ( (((( (((( (( (((((((( (((((((( ((((((( ((((((((( (((((((( ((((((((((( ((((((((((( ( (216) وهكذا.
فالله -جل وعلا- وصف نفسه بأنه لا يظلم أحدا شيئا، وأن الظلم ليس إليه، وأنه لا يريد الظلم -سبحانه وتعالى-، والظلم المنفي عن الله -جل وعلا- هو الظلم الذي يفسر بأنه: وضع الأمور في غير مواضعها؛ لأن الظلم في اللغة بأن يوضع الشيء في غير موضعه.
ولهذا قيل للحليب الذي خلط بلبن حتى يروب، فخلط قبل أن يبلغ ما يصلح به قيل له: ظليم، يعني: أنه ظلم حيث وضع الخلط في غير موضعه وقبل أوانه، مثل ما قال الشاعر:
وقائلة ظلمت لكم سقائي
وهل يخفى على العكب الظليم
ومنه أيضا سميت الأرض التي حفرت لاستخراج ماء وليست بذات ماء قيل لها: مظلومة، كقول الشاعر وهو من شواهد النحو المعروفة:
إلَّا الأَواري لأْيًا ما أُبَيِّنُها
والنُؤي كالحَوضِ في المظلومةِ الجَلد(1/192)
المقصود: أن هذه المادة في اللغة دائرة على وضع الشيء في غير موضعه اللائق به، وغير هذا التفسير كثير، فالمعتزلة يفسرون الظلم بأنواع، والأشاعرة يفسرون الظلم بأنواع، وعند أهل السنة هذا هو تعريف الظلم، فقد قال بعضهم: إن الظلم هو التصرف في ملك الغير أو في اختصاصه بغير إذنه.
وهذا نوع من وضع الشيء في غير موضعه، وليس هو بتعريف للظلم؛ ولهذا يورد عليه أشياء في بحث معروف في القدر في مبحث الظلم وفي اللغة.
المقصود من هذا أن الله -جل وعلا- قال: ( إني حرمت الظلم على نفسي ( يعني: حرمت أن أضع شيئا في غير موضعه اللائق به، ( على نفسي ( منعت نفسي من ذلك. وهذا يدل على أن الله -جل وعلا- لو أراد إنفاد وضع الشيء في غير موضعه لكان له ذلك -سبحانه- وكان قادرا عليه؛ لأن الله قال: ( ((((( (((( ((((((( ((((((( ( (217) فهو -سبحانه- لم يرد ذلك.
وهذا الحديث أيضا دال على أنه قادر على أن يفعل، ولكنه حرم ذلك على نفسه، ومنع نفسه من ذلك، وهذا من كرمه -جل وعلا- وإحسانه وفضله وإنعامه ومزيد منته على عباده، قال -جل وعلا- هنا: ( إني حرمت الظلم على نفسي وجعلته بينكم محرما فلا تظالموا ( .
الله -جل وعلا- حرم الظلم على نفسه، وجعل الظلم بين العباد محرما؛ لأنه سبحانه يحب العدل وقد أقام السماوات والأرض على العدل، كما قرر أهل العلم أن السماوات والأرض قامت بالعدل، ولا يصلح لها إلا العدل، والعدل هو ضد الظلم؛ لأن العدل وضع الشيء في موضعه، والظلم وضع الشيء في غير موضعه.
فالله -سبحانه- أجرى ملكوته وأجرى خلقه على العدل، وهو وضع الأشياء في مواضعها وعلى الحكمة وهي: وضع الأشياء في مواضعها اللائقة بها، الموافقة للغايات المحمودة منها. فتحصل من هذا أن الله -جل وعلا- يحب العدل ويأمر به كما قال -سبحانه-: ( ( (((( (((( (((((((( (((((((((((( ((((((((((((( ((((((((((( ((( (((((((((((( ( (218) .(1/193)
والله -سبحانه- حرم الظلم كما في هذا الحديث، وفي آيات كثيرة مر معك بعضها، فإذا تبين ذلك فإن الله -سبحانه- جعل الظلم بين العباد محرما فقال: ( فلا تظالموا ( وهنا نظر أهل العلم في سبب قوله: ( إني حرمت الظلم على نفسي ( لأنه جعل بعدها: ( وجعلته بينكم محرما فلا تظالموا ( وهذا فيه بحث واسع في أثر أسماء الله -جل وعلا- وصفاته التي اتصف بها -سبحانه- على بريته.
فالأسماء والصفات لها آثار في الملكوت، آثار في الشريعة،آثار في أفعال الله -جل وعلا- في بريته، وهذا نوع من هذه الآثار وهو أنه -سبحانه- لما أقام ملكه على العدل ، وحرم الظلم على نفسه -أمر عباده بالعدل ، وحرم الظلم فيما بينهم ، والعباد مكلفون فإذا وقع منهم ظلم كانوا غير ممثلين لمراد الله الشرعي ، وإن كانوا غير خارجين على مراد الله الكوني ؛ فلهذا يكون الله -جل وعلا- قد توعدهم إذ ظلموا، وقد نهاهم عن الظلم.
فإذن الظلم بأنواعه محرم، والظلم درجات يجمعها مرتبتان: الأولى: ظلم النفس، وظلم النفس قسمان: ظلم النفس بالشرك، وهو ظلم في حق الله -جل وعلا-؛ لأنه وضع العبادة في غير موضعها، في غير من تصلح له، المشرك، فكل مشرك ظالم لنفسه كما قال -جل وعلا- : ( ((((((((( (((((((((( (((((( (((((((((((( ((((((((((( (((((((( (((((((((((( (((((( (((((((( ((((( ((((((((((( ( (219) .
والقسم الثاني: من ظلم النفس أن يظلم النفس، بأن يعرضها من العذاب والبلاء بما لا يصلح لها، وهذا ظلم من العبد لنفسه بأي شيء؟ بارتكاب الحرام والتفريط فيما أوجب الله -جل وعلا- وعدم أداء الحقوق، فهذا ظلم للنفس لما ؟ لأن من حق نفسك عليك أن تسعدها في الدنيا والآخرة، فإذا عرضتها للمعصية فقد ظلمتها؛ لأنك لم تجعلها سعيدة بل جعلتها معرضة لعذاب الله -جل جلاله-.(1/194)
والمرتبة الثانية: ظلم العباد، وظلم العباد معناه التفريط، أو تضييع حقوقهم بعدم أداء الحق الذي أوجبه الله -جل وعلا- لهم، فمن فرط في حق والديه فقد ظلمهم، ومن فرط في حق أهله فقد ظلمهم ، يعني: لم يكن معهم على الأمر الشرعي، بل ارتكب محرما أو فرط في واجب فقد ظلمهم، ومن اعتدى على أموال الناس أو على أعراضهم أو على أنفسهم أو على ما يختصون به فقد ظلمهم، وهذا كله محرم.
فإذن الظلم بأنواعه حرام، ولا يجوز شيء من الظلم -يعني: أن يظلم أحدُ أحدا شيئا- وإنما يأخذ الحق الذي له، قال -جل وعلا- بعد ذلك: ( فلا تظالموا ( -يعني: لا يظلم بعضكم بعضا-
( يا عبادي، كلكم ضال إلا من هديته فاستهدوني أهدكم ( كلكم ضال يعني: أن الأصل في الإنسان أنه على الضلالة، الأصل في الإنسان من حيث الجنس أنه ظلوم وجهول، وهما سببا الضلال، قال -جل وعلا-: ( ((((( ((((((((( ((((((((((( ((((( ((((((((((((( (((((((((( ((((((((((((( (((((((((( ((( ((((((((((((( (((((((((((( ((((((( ((((((((((( (((((((((( ( ((((((( ((((( (((((((( ((((((( ( (220) .
فالأمانة هي أمانة التكليف، ولما كان الإنسان ظلوما جهولا كان الأكثر فيه أن يكون ضالا؛ ولهذا أكثر الناس ضالون، وهذا جاء في القرآن في نصوص كثيرة، قوله هنا: ( كلكم ضال إلا من هديته ( يدل على أن الأمر الغالب في عباد الله أنهم ضالون إلا من من الله -جل وعلا- عليه بالهداية، وهذه الهداية تطلب من الله -جل وعلا- قال: ( فاستهدوني أهدكم ( يعني: اطلبوا مني الهداية أهدكم إليها.(1/195)
وهذا يدل على رغبة ابن آدم في الهداية إن طلبها من الله -جل وعلا- فلا بد من ابن آدم أن يسعى في أسباب الهداية، فإذا رغب فيها وفقه الله -جل وعلا-، وهذا مرتبط بمسألة عظيمة من مسائل القدر، وهي أن الله -جل وعلا- يعامل عباده بالعدل، وخص طائفة منهم بالتوفيق، وهو أنه يعينهم على ما فيه رضاه -سبحانه وتعالى-: ( كلكم ضال ( ( (((((((((( (((((( (((((((( ( (221) يعني: كان قبل البعثة ضال فهداه إلى الطريق: ( كلكم ضال إلا من هديته فاستهدوني أهدكم ( يعني: اطلبوا مني الهداية أهدكم إليها.
الهداية يطلبها كل أحد: الكامل -يعني: السابق بالخيرات-، والمقتصد، والظالم لنفسه، كل ينبغي عليه بل يجب عليه أن يطلب الهداية من الله -جل وعلا-؛ لهذا فرض الله -جل وعلا- في الصلاة سورة الفاتحة، ومن أعظم ما فيها قوله يعني: من الدعاء قوله -جل وعلا-: ( ((((((((( ((((((((((( ((((((((((((((( ( (222) فطلب الهداية للصراط المستقيم.
هذا من أعظم المسائل وأجلها، يعني: أعظم ما تطلبه من الله -جل وعلا- أن تطلب منه الهداية إلى الصراط المستقيم، والهداية مرتبتان: هداية إلى الطريق، بمعنى الإرشاد إليه والتوفيق له، والهداية بمعنى الإرشاد منها شيء قد جاء به الرسول عليه الصلاة والسلام.
فهداية الدلالة والإرشاد تمت وقامت، ومنها الهداية: هداية الدلالة والإرشاد التي تسأل الله -جل وعلا- أن يعطيك إياها، أن تكون مرشدا إليها؛ لأن الالتفات إلى الإرشاد نوع من الاهتداء، فهداية النبي ( والهداية التي في القرآن موجودة بين ظهراني المسلمين لم يفقد منها شيء ولله الحمد، لكن من يوفق إلى أن يرشد إلى هذه الهداية؟
فإذن المرتبة الأولى: هداية الدلالة والإرشاد، وليست هي الهداية التي بمعنى أن تهدي غيرك، هذه الهداية التي هي طلب الهداية مرتبتان: هداية الدلالة والإرشاد، يعني: أن تطلب من الله -جل وعلا- أن يدلك ويرشدك على أنواع الهداية التي جاء بها المصطفى ( .(1/196)
ومنه أيضا التوفيق لها، فإذا دللت عليها فتسأل الله أن يوفقك لاتباعها، هذه واحدة، ويدخل في ذلك قصد الإسلام، ويدخل في ذلك الهداية إلى شيء معين منه.
والنوع الثاني أو المرتبة الثانية: الهداية إلى تفاصيل الإيمان والإسلام، وما يحب الله -جل وعلا- ويرضى؛ لأن تفاصيل الإيمان كثيرة، ولأن تفاصيل الإسلام كثيرة؛ ولأن تفاصيل ما يحب الله -جل وعلا- ويرضاه، وتفاصيل ما يسخطه الله -جل وعلا ويأباه كثيرة متنوعة.
فكونك تسأل الرب -جل وعلا- أن يهديك هذا خروج من نوع من أنواع الضلالة؛ لأن عدم المعرفة عدم العلم بما يحب الله وما به الهداية هذا نوع من البعد عن الصراط، المقصود أن هذا النوع من الهداية تطلب الله -جل وعلا- أن يهديك إلى تفاصيل الصراط ، تفاصيل الإيمان، تفاصيل الإسلام، تفاصيل الاعتقاد؛ حتى تعلمه فتعمل به فتكون مرتبتك عند الله -جل وعلا- أعلى، قال -جل وعلا-: ( يا عبادي، كلكم ضال إلا من هديته فاستهدوني أهدكم ( وهذا من أعظم المطالب، نسأل الله -جل وعلا- أن يهدينا سواء السبيل.
قال: ( يا عبادي، كلكم جائع إلا من أطعمته فاستطعموني أطعمكم ( الرزاق هو الله -سبحانه وتعالى- والرزق منه، والأرزاق بيده يصرفها كيف يشاء، فهو الذي إذا فتح رحمة فلا ممسك لها كما قال في فاتحة سورة فاطر: ( ((( (((((((( (((( (((((((( ((( (((((((( (((( (((((((( ((((( ( ((((( (((((((( (((( (((((((( ((((( (((( ((((((((( ( ( (223) .
ومن ذلك الأرزاق التي تسد بها الجوارح، فقال -جل وعلا-: ( كلكم جائع إلا من أطعمته فاستطعموني أطعمكم ( وإطعام الجائع ورزق الفقير وأشباه ذلك هذه من سأل الله -جل وعلا- إياها فإن الله -سبحانه- يعطيه، سواء أكان كافرا أم كان مسلما، أكان عاصيا أم كان صالحا؛ لأن ذلك من أنواع الربوبية، من آثار الربوبية.(1/197)
وربوبية الله -جل وعلا- غير خاصة بالمسلم دون الكافر، أو بالصالح دون الطالح، فالجميع سواء في تعرضهم لآثار عطاء الله -جل وعلا- بإفراد ربوبيته، فيرزق -سبحانه وتعالى- الجميع ويهب الأولاد للجميع، ويجيب دعوة المضطر من الجميع، وهكذا في إفراد الربوية، فقوله -سبحانه-: ( يا عبادي، كلكم جائع إلا من أطعمته فاستطعموني أطعمكم ( من استطعم الله -جل وعلا- وسأله الطعام ، سأله الرزق فإن الله -جل وعلا- قد يجيب دعاءه.
قال: ( يا عبادي، كلكم عار إلا من كسوته فاستكسوني أكسكم ( وهذا على نحو ما سبق، ( يا عبادي، إنكم تخطئون بالليل والنهار وأنا أغفر الذنوب جميعا فاستغفروني أغفر لكم ( إنكم تخطئون بالليل والنهار، الخطأ هنا بمعنى الإثم؛ لأن الخطأ الذي هو بمعنى الخطأ، أو عدم التعمد هذا معفو عنه، وهنا قال: ( إنكم تخطئون بالليل والنهار وأنا أغفر الذنوب جميعا ( .
فالخطيئة المقصود بـ "تخطئون" أي: تعملون بالخطايا، تعملون الخطيئة، وهذا معناه العمل بالإثم، وهذا يغفر بالاستغفار والتوبة والإنابة، فليس المراد طبعا الخطأ؛ لأن الله -جل وعلا- عفا عن هذه الأمة الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه، كما قال -سبحانه- في آخر سورة البقرة: ( ((((((( (( ((((((((((((( ((( ((((((((( (((( ((((((((((( ( ( (224) .
قال: فاستغفروني وأنا أغفر الذنوب جميعا. هذا مقيد بما هو غير الشرك، أما الشرك فإن الله -جل وعلا- لا يغفره إلا لمن تاب وأسلم، أما غير الشرك مما هو دونه فإن الله -جل وعلا- يغفره -سبحانه وتعالى- إذا شاء أو لمن تاب.(1/198)
قال -سبحانه- في آخر سورة الزمر: ( ( (((( (((((((((((( ((((((((( ((((((((((( (((((( ((((((((((( (( ((((((((((( ((( (((((((( (((( ( (((( (((( (((((((( (((((((((( (((((((( ( ( (225) أجمع المفسرون من الصحابة ومن بعدهم أنها في التائبين، فـ: ( (((( (((( (((((((( (((((((((( (((((((( ( ( (226) لمن تاب ، وقوله في سورة النساء: ( (((( (((( (( (((((((( ((( (((((((( ((((( (((((((((( ((( ((((( ((((((( ((((( (((((((( ( ( (227) "لا يغفر أن يشرك به الشرك" غير داخل في المغفرة، ( ((( ((((( ((((((( ((((( (((((((( ( ( (228) يعني: في حق غير التائب.
فحصل لنا أن من تاب تاب الله عليه، فيغفر الله ذنبه أيا كان الشرك أو ما دونه، ومن لم يتب فإن كان مشركا فإن الله لا يغفر الشرك، وإن كان ذنبه ما دون الشرك فإنه تحت المشيئة، إن شاء غفر له وإن شاء عذبه بذنبه، فإذن قوله هنا: ( وأنا أغفر الذنوب جميعا ( مقيد بما ذكرت لك.
( فاستغفروني أغفر لكم ( يعني: اطلبوا مني المغفرة فأنا أغفر ذلك لكم، الحقيقة الحديث طويل، وكل كلمة تحتاج إلى بيان وإلى تفصيل، فلعلي أجمل فيما يأتي: ( يا عبادي، إنكم لن تبلغوا ضري فتضروني، ولن تبلغوا نفعي فتنفعوني ( وهذا لأجل كمال الغنى، كمال غنى المولى -جل وعلا- فإن الله -سبحانه- ذو الكمال في أسمائه وصفاته، ومن أسمائه الغني، ومن صفاته الغنى، فهو -سبحانه- غني عن العباد ولن يبلغوا نفعه ولن يبلغوا ضره -سبحانه وتعالى- بل هو الغني عن خلقه أجمعين.
وكما قال هنا: ( إنكم لن تبلغوا نفعي فتنفعوني، ولن تبلغوا ضري فتضروني ( بل هو -سبحانه- أجل وأعظم من أن يؤثر العباد فيه نفعا أو ضرا، بل هم المحتاجون إليه المفتقرون إليه من جميع الجهات.(1/199)
قال: ( يا عبادي لو أن أولكم وآخركم، وإنسكم وجنكم، كانوا على أتقى قلب رجل واحد منكم -ما زاد ذلك في ملكي شيئا ( يعني: أن تقوى العباد ليس المنتفع منها الرب -جل وعلا- بل هم المنتفعون، فهم المحتاجون أن يتقوا الله -سبحانه وتعالى- وهم المحتاجون أن يطيعوا ربهم -سبحانه- وهم المحتاجون أن يتقربوا إليه، وأن يتذللوا بين يديه، وأن يُروا الله -جل وعلا- من أنفسهم خيرا.
وأما الله -سبحانه وتعالى- فهو الغني عن عباده الذي لا يحتاج إليهم؛ إن الله -سبحانه وتعالى- هو الكامل في صفاته، الكامل في أسمائه الذي لا يحتاج إلى أحد من خلقه، تعالى الله وتقدس عما يقول الظالمون علوا كبيرا.
قال: ( يا عبادي، لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم، كانوا على أفجر قلب رجل واحد منكم -ما نقص ذلك من ملكي شيئا ( الذي يعصي الله -جل وعلا- لا يضر إلا نفسه، ولا يحتاج الله -جل وعلا- إلى طاعته، ولا يضره أن يعصيه -سبحانه وتعالى- وهذا يعظم به العبد الرغب في الله -جل وعلا-؛ لأنه -سبحانه- هو ذو الفضل والإحسان، وذو المنة والإكرام، والعباد هم المحتاجون إليه.
قال: ( يا عبادي، لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم، قاموا في صعيد واحد فسألوني، فأعطيت كل واحد منهم مسألته -ما نقص ذلك مما عندي إلا كما ينقص المخيط إذا أدخل البحر ( المخيط المراد به: الإبرة السميكة إذا أدخلت في البحر ثم أخرجت فإنها لا تأخذ من ماء البحر شيئا.
فلو أن أول العباد وآخرهم وإنسهم وجنهم سألوا الله -جل وعلا- في صعيد واحد سأل كل واحد مسألته، فأعطى الله كل واحد ما سأل -ما نقص ذلك من ملك الله -جل وعلا- شيئا إلا كما ينقص المخيط، كما تنقص الإبرة من الحديد إذا أدخلت في البحر، ثم خرجت -فإنها لا تنقص من البحر شيئا يذكر، وهكذا؛ لأن ملك الله -جل وعلا- واسع، ولأن ملكوته عظيم، وحاجات العباد ليست بشيء في جنب ملكوت الله -جل وعلا-.(1/200)
فإنهم يعطون مما في الأرض -يعني: بعض ما في الأرض يكفي العباد أجمعين- وملك الله -جل وعلا- واسع، وما الأرض والسماوات السبع في كرسي الرحمن إلا كدراهم ألقيت في ترس -يعني: أنها صغيرة جدا-، فحاجات العباد متعلقة بالأرض وما حولها -يعني: والسماء التي تقرب منهم- وهذا إذا أعطي كل أحد ما سأل فإنه يعطى مما في الأرض، وهذا شيء يسير جدا بالنسبة لما في الأرض، فكيف بالنسبة إلى ملكوت الله جل وعلا.
قال -جل وعلا- بعد ذلك: ( يا عبادي، إنما هي أعمالكم أحصيها لكم ثم أوفيكم إياها ( إنما هي أعمالكم -يعني: أن المقصود من إيجادكم الابتلاء والتكليف- فإنما الأمر راجع إلى أعمالكم، لم يخلق الله -جل وعلا- الخلق لأنهم سينفعوه، أو لأنه يخشى منهم أن يضروه، أو لأنه -سبحانه- محتاج أن يعطيهم، بل إنما هو الابتلاء، ابتلاؤهم بهذا التكليف بهذا الأمر العظيم، وهو عبادته سبحانه.
كما قال: ( ((((( ((((((((( ((((((((((( ((((( ((((((((((((( (((((((((( ((((((((((((( (((((((((( ((( ((((((((((((( (((((((((((( ((((((( ((((((((((( (((((((((( ( ( (229) وكما قال -جل وعلا-: ( ((((( (((((((( (((((((( ((((((((( (((( ((((((((((((( (((( (((( ((((((( ((((((( (((( ((((((( (((((( ((((((( ((( ((((((((((( (((( (((( (((( (((( (((((((((( ((( (((((((((( ((((((((((( ( (230) .
فغنى الله -سبحانه وتعالى- عن عباده أعظم الغنى، وهم محتاجون إليه، والابتلاء حصل بخلقهم، فابتلى الله العباد بحياتهم، ونتيجة هذا الابتلاء أن أعمالهم ستحصى: ( إنما هي أعمالكم أحصيها لكم ( وقوله -جل وعلا-: "أحصيها" الإحصاء بمعنى العد التفصيلي والحفظ؛ لأن الإحصاء له مراتب: فمنها العد التفصيلي، ومنها الحفظ وعدم التضييع، كما قال -جل وعلا-: ( (((((( ((((((((((( (((((((((( ((((( (((( (((((((((( (((((((( (((((( ((((((((((((( ((((((( ( (231) .(1/201)
وكما قال -جل وعلا-: ( (((((((((( (((( (((((( ((((((( ( (232) والإحصاء يشمل معرفة التفاصيل وكتابة ذلك، ويشمل أيضا الحفظ وعدم التضييع: ( فإنما هي أعمالكم أحصيها ( يعني تكتب عليكم بتفاصيلها، وأعرفكم إياها بتفاصيلها، وأحفظها لكم فلا تضيع
( ثم أوفيكم إياها ( الحسنات بالحسنات، والسيئات بما يحكم الله -جل وعلا- فيه، فمن فعل السيئات فهو على خطر عظيم، ومن فعل الحسنات فهو على رجاء أن يكون من الناجين.
قال: ( فمن وجد خيرا فليحمد الله ومن وجد غير ذلك فلا يلومن إلا نفسه ( لأن العبد هو الحسيب على نفسه: ( (((( (((((( ((((( (((((((( ((((((((( ( (233) كل نفس تعلم ما تعمل وصوابها وخطأها، ولو ألقت المعاذير: ( (((( (((((((((( (((((( ((((((((( ((((((((( (((( (((((( (((((((( ((((((((((((( ( (234) قال: ( فمن وجد خيرا فليحمد الله ( يعني: فليثن على الله -جل وعلا- بذلك؛ لأنه هو الذي أعانه.
ومن وجد غير ذلك فلا يلومن إلا نفسه؛ لأن العبد هو الذي جنى على نفسه، والله -سبحانه- أقام الحجة وبين المحجة، وسلك بنا السبيل الأقوم، فالأمر واضح والعباد هم الذين يجنون على نفسهم.
( اللهم، اهدنا فيمن هديت، وعافنا فيمن عافيت، وتولنا فيمن توليت ( .
الحديث الخامس والعشرون
ذهب أهل الدثور بالأجور
عن أبي ذر -رضي الله عنه أيضا-: ( أن ناسا من أصحاب رسول الله ( قالوا: يا رسول الله، ذهب أهل الدثور بالأجور: يصلون كما نصلي، ويصومون كما نصوم، ويتصدقون بفضول أموالهم. قال رسول الله ( أوليس قد جعل الله لكم ما تصدقون: إن بكل تسبيحة صدقة، وكل تكبيرة صدقة، وكل تحميدة صدقة، وكل تهليلة صدقة، وأمر بمعروف صدقة، ونهي عن منكر صدقة، وفي بضع أحدكم صدقة، فقالوا: يا رسول الله، أيأتي أحدنا شهوته، ويكون له فيها أجر؟! قال: أرأيتم لو وضعها في حرام، أكان عليه وزر؟ كذلك لو وضعها في الحلال كان له أجر ( رواه مسلم .(1/202)
وهذا الحديث عن أبي ذر أيضا: ( أن ناسا من أصحاب رسول الله ( قالوا للنبي -عليه الصلاة والسلام-: يا رسول الله، ذهب أهل الدثور بالأجور ( ذهب أهل الدثور يعني: أن أهل الغنى ذهبوا بالأجر عند الله -جل وعلا-؛ لأن لهم أموالا يتصدقون بها، والصدقة أمرها عظيم.
( قالوا ذهب أهل الدثور بالأجور: يصلون كما نصلي، ويصومون كما نصوم، ويتصدقون بفضول أموالهم ( يعني: أن الله -جل وعلا- ميزهم بأنهم يتصدقون، فيصلون كما نصلي، ويصومون كما نصوم، لكن تميزوا عنا بالصدقة، فذهب أهل الدثور بأجور الصدقة.
فالنبي ( بين لهم أن معنى الصدقة واسع، فقال -عليه الصلاة والسلام-: ( أوليس قد جعل الله لكم ما تصدقون به ( وهذا فيه الحث على سماع ما جعل الله -جل وعلا- للفقراء، بل ولعامة المسلمين الأغنياء والفقراء جميعا من أنواع الصدقات التي لا تدخل في الصدقات المالية.
وهذا مبني على معنى الصدقة في الشريعة؛ فإن الصدقة في الشريعة ليست هي الصدقة بالمال، والصدقة بالمال نوع من أنواع الصدقة، فالصدقة إيصال الخير، تعريف الصدقة: إيصال الخير والنفع للغير؛ ولهذا يوصف الله -جل وعلا- بأنه متصدق على عباده.
كما ثبت في صحيح مسلم بن الحجاج -رحمه الله- أن النبي ( لما سألوه عن مسألة القصر في السفر قال: ( صدقة من الله ( ( قالوا: يا رسول الله، هانحن قد أمنا، والله -جل وعلا- يقول في سورة النساء: ( (((((((( (((((((((( ((((((( ((( ((((((((((( (((( ((((((((((( (((( (((((((( ((( (((((((((((( ((((((((( (((((((((( ( ( (235) وقد أمنا. فقال -عليه الصلاة والسلام-: صدقة من الله عليكم، فاقبلوا صدقته ( .
فالله -جل وعلا- يتصدق على عباده، بمعنى: يوصل الخير وما ينفعهم لهم، فالصدقة: إيصال الخير للغير، وقد يكون هذا الإيصال متعديا، وقد يكون لازما، يعني: قد يكون العبد يوصل الخير لنفسه فيكون متصدقا، ويوصل الخير لغيره فيكون متصدقا على غيره.(1/203)
فالصدقة معناها في الشريعة عام، ومنها الصدقة بالمال؛ فإنها إيصال الخير والنفع للغير، قال -عليه الصلاة والسلام-: ( أوليس قد جعل الله لكم ما تصدقون ( لأن معنى الصدقة عام: ( إن بكل تسبيحة صدقة، وكل تكبيرة صدقة، وكل تحميدة صدقة، وكل تهليلة صدقة ( .
مثل -عليه الصلاة والسلام- بهذه الأربع لأمرين:
الأول: أنها من أنواع الذكر اللساني، فمثل بها على أنواع الذكر الأخرى؛ لأن هذه أفضل الذكر، كما ثبت في الصحيح أنه -عليه الصلاة والسلام- قال: ( أحب الكلام إلى الله أربع: سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر ( .
فهذه الأربع هي أحب الكلام إلى الله، فهي أعظم ما تتقرب به إلى الله -جل وعلا- من الذكر، وتتصدق به على نفسك، فقال: ( إن بكل تسبيحة صدقة ( لأن فيها الأجر العظيم، فتصل بالتسبيحة نفسك بأنواع الخير والأجر.
كذلك التحميد والتهليل والتكبير، ثم انتقل -عليه الصلاة والسلام- إلى نوع من الصدقة متعد، فقال: ( وأمر بمعروف صدقة، ونهي عن منكر صدقة ( هذا تمثيل لأنواع الصدقات التي فيها التعدي النفع، فذكر الأمر بالمعروف، والمعروف: هو ما علم حسنه، والأمر به في الشريعة، فما عرف في الشريعة حسنه، فهو معروف.
والمنكر -ضده-: ما عرف في الشريعة سوءه ونكارته، فمن أمر بما عرف في الشريعة حسنه فقد أمر بالمعروف، وأعلاه التوحيد، ومن نهى عن المنكر -وهو ما أنكر في الشريعة- وأعلاه الشرك بالله -جل وعلا- فقد نهى عن المنكر، فإذن كل أمر بمعروف صدقة لك، وكل نهي عن المنكر صدقة.
وتعليم العلم يدخل في ذلك، فهو من أنواع الصدقات، فمن لازم العلم تعلما وتعليما فإنه يتصدق في كل لحظة تمر عليه على نفسه، وكذلك على غيره؛ ولهذا أهل العلم أعظم الناس أجورا إن صلحت نياتهم.(1/204)
قال: ( وفي بضع أحدكم صدقة ( البضع المراد به في اللغة بعض الشيء؛ لأن البضع والبعض فيها قلب "ب ض ع"، و"ب ع ض" يعني: البعض، والبضع مقلوبة هذه عن الأخرى، فمعنى البضع البعض، ولكنهم كنوا به عن بعض ابن آدم، وهو فرجه، وهذا من شريف الكلام؛ حيث يذكر ما يستحيا عن ذكره ولا يحسن ذكره في كلمات تدل عليه، ولا يكون لها وقع ينافي الأدب في السمع.
قال -عليه الصلاة والسلام-: ( وفي بضع أحدكم صدقة ( يعني: فيما يأتيه المرء بفرجه -وهو ذكر الرجل- صدقة، فاستغربوا؛ قالوا: ( يا رسول الله أيأتي أحدنا شهوته، ويكون له فيها أجر؟! ( .
المراد بالشهوة هنا الماء، يعني: ماء الرجل الذي ينزله، يعني: المراد تمام الشهوة، ( ويكون له فيها أجر؟! ( يعني: المرء يأتي شهوته، وينزل ماءه، ويكون له بذلك أجر؟! فقال -عليه الصلاة والسلام-: ( أرأيتم لو وضعها -يعني: لو وضع الشهوة- في حرام ( .
والذي يوضع هو ماء؛ لهذا فسرت الشهوة هنا بأنها الماء، قال: ( أرأيتم لو وضعها في حرام ( وهذا يسمى استدلال العكس، أو قياس العكس.
( لو وضعها في حرام أكان عليه وزر قالوا: بلى، فكذلك إذا وضعها في حلال كان له أجر ( وهذا -يعني: أن ما يفعله المرء من هذه الأفعال التي هي من قبيل الشهوات- إذا أتى بها الحلال، وابتلى الله -جل وعلا- العبد بهذه الشهوة، فجعلها في الحلال، وباعد نفسه عن وضعها في الحرام -أنه يؤجر على ذلك، وهذا هو الظاهر.
واختلف أهل العلم في هذه المسألة: هل يؤجر بإتيانه الحلال بلا نية، أم يؤجر بإتيانه الحلال بنية؟ فقالت طائفة: هذه الشهوات التي ابتلى الله بها العبد إذا جعلها في الحلال فإنه يؤجر عليها بلا نية، على ظاهر هذا الحديث، وتنفعه النية العامة، وهي نية الطاعة نية الإسلام، فإنه بالإسلام يحصل له نية الطاعة لله -جل وعلا- فيما يأتي، وفيما يذر النية العامة، وهذا قول طائفة من أهل العلم.(1/205)
وقال آخرون: هذا الحديث محمول على غيره من الأحاديث، وهو أنه يؤجر إذا صرف نفسه عن الحرام إلى الحلال بنية، فإذا صرف نفسه عن مواقعة الزنا إلى مواقعة الحلال بنية -فإنه يؤجر على ذلك؛ لأن الأحاديث الأخر، والقواعد العامة، وكذلك بعض الأيات -تدل على أنه إنما يؤجر على ما يبتغى به وجه الله -جل وعلا-.
قد ثبت في الصحيح أن النبي ( قال: ( إنك لن تنفق نفقة تبتغى بها وجه الله إلا أجرت عليها ( وأيضا في أية النساء قال -جل وعلا-: ( ( (( (((((( ((( ((((((( (((( ((((((((((( (((( (((( (((((( (((((((((( (((( ((((((((( (((( ((((((((( (((((( (((((((( ( ((((( (((((((( ((((((( (((((((((((( ((((((((( (((( (((((((( ((((((((( ((((((( (((((((( ( (236) فدل في الآية على إشتراط ابتغاء مرضاة الله، ودل في الحديث أيضا على أن النفقة إذا ابتغي بها وجه الله -فإنه يؤجر عليها في العبد.
فحمل أكثر أهل العلم هذا الظاهر من الحديث على غيره من النصوص مما يكون العبد به منصرفا عن الحرام إلى الحلال بنية، فإذا قام في قلبه أنه لن يأتي الحرام، بأن الله أباح له الحلال ليقتصر على الحلال دون الحرام -فإنه يؤجر على ما يأتي من الحلال، ويؤجر علي شهوته في هذه النية، وإنما الأعمال بالنيات.
الحديث السادس والعشرون
كل سلامى من الناس عليه صدقة
وعن أبي هريرة ( أن النبي ( قال: ( كل سلامى من الناس عليه صدقة، وكل يوم تطلع فيه الشمس تعدل بين اثنين صدقة، وتعين الرجل في دابته فتحمله عليها، أو ترفع له متاعه عليها صدقة، والكلمة الطيبة صدقة، وبكل خطوة تمشيها إلى الصلاة صدقة، وتميط الأذى عن الطريق صدقة ( رواه البخاري ومسلم.(1/206)
هذا الحديث من حيث تفاصيل الصدقات يكفي عنه ما مر معنا في الحديث السابق؛ لأن هذه التي ذكرت بعضها من الصدقات الذاتية، وبعضها من الصدقات المتعدية، لكن الذي يظن منه قوله -عليه الصلاة والسلام-: ( كل سلامى من الناس عليه صدقة ( سلامى هذه المقصود منها العظام أو المفاصل.
من أهل العلم من قال: العظام، ومنهم من قال: مفاصل العظام، يعني: الصلات بين العظم والعظم، أو العظام أنفسها، فعظام الإنسان كثيرة، والله -جل وعلا- من عليه بهذه، فخلقك في أحسن تقويم، وجعلك في تصرفك في عظامك، وما ابتلاك به في شكر هذه النعمة، جعلك في محط الابتلاء، فهل تشكر أم لا تشكر؟.
فقال -عليه الصلاة والسلام-: ( كل -هنا- سلامى من الناس ( يعني: كل عظم من أعظم ابن آدم، أو كل عظم أو كل مفصل من مفاصل جسد ابن آدم عليه صدقة، فقوله: "عليه" نعلم من الأصول أنها من ألفاظ الوجوب، فيدل على أن شكر هذه النعمة واجب: فشكر نعمة البدن، نعمة العظام، نعمة المفاصل... واجب.
دل على الوجوب قوله: "عليه صدقة": ( كل سلامى من الناس عليه صدقة ( يعني: يجب عليه على كل مفصل أن يتصدق بصدقة تقابل تلك النعمة، وتكون شكرا لها، هذه التي ذكرت أمثال لبعض الصدقات، والصدقة الواجبة التي بها يخلص المرء من الإثم في عدم شكر نعمة البدن -ألا يستعمل هذه المفاصل في معصية الله جل وعلا.
فإذا كان يوم من الأيام سلم في ذلك اليوم من المحرمات التي فعلها بهذه المفاصل، أو سلم من ترك أداء الواجبات، واستعمل المفاصل في أداء الواجبات، فقد أدى الشكر الواجب في ذلك اليوم، فكل مقتصد -يعني: فاعل للواجب تارك المحرم في يوم قد أدى شكر ذلك اليوم الواجب الذى يجب عليه لنعمة البدن.(1/207)
ثم هناك شكر مستحب، وهو أن يأتي بأنواع الصدقات المستحبة: القولية، والعملية، والمالية، وأن يأتي بنوافل العبادات المتنوعة، فإذن الصدقات نوعان: واجبة، ومستحبة، فالواجبة: هي أن تستعمل الآلات في الطاعة، وأن تبتعد بها عن الحرام، فإذا فعلت ذلك فقد أديت شكر تلك الآلات.
قال -عليه الصلاة والسلام-: ( كل يوم تطلع فيه الشمس تعدل بين اثنين صدقة ( ( كل يوم تطلع فيه الشمس ( كلمة "يوم" قد تأتي في النصوص وفي اللغة ويراد بها أكثر من يوم، فيكون عدة أيام إذا كان يجمعها شيء واحد، كما أنه يقال: ساعة، وقد تكون ساعات كثيرة، وهذا له فوائده المعروفة في اللغة، والبلاغة.
المقصود: قال هنا: ( كل يوم تطلع فيه الشمس ( فلما قيده بـ ( تطلع فيه الشمس ( علمنا أن الوجوب يوما، يعني: كل يوم من طلوع الشمس إلى طلوعها المرة الأخرى، يعني: كما نقول في كل أربع وعشرين ساعة يجب عليك تجاه هذه النعمة، وهي نعمة البدن: المفاصل، العظام -أن تشكر الله -جل وعلا- عليها .
فمثل -عليه الصلاة والسلام- بقوله: ( تعدل بين اثنين صدقة ( "تعدل" يدخل في العدل الحكم بينهما بالعدل، يدخل في ذلك الصلح فيما يصلح به كما قال: ( (((( ((((((((( (((((( (((((((( ( ( (237) وأشباه ذلك من الأعمال الخيرة.
قال: ( وتعين الرجل في دابته فتحمله عليها، أو ترفع له عليها متاعه صدقة ( الإعانة في كل ما يحتاج إليه هذا من أنواع الصدقات: تعينه في سيارته، تعينه في إصلاح شيء فيها، تعينه في الإركاب، تساعد كبير السن أو المحتاج... إلى آخره، كل هذا من أنواع الصدقات التي يحصل بها شيء من شكر نعمة المفاصل والعظام.
قال: ( والكلمة الطيبة صدقة، وبكل خطوة تمشيها إلى الصلاة صدقة ( وهذا واضح ( وتميط الأذى عن الطريق صدقة ( هذه أمثلة متنوعة للصدقات اللازمة والمتعدية، وجاء في رواية، ويجزئ من ذلك في الصحيح: ( ويجزئ من ذلك ركعتان يركعهما المرء من الضحى ((1/208)
فإذا استعملت هذه المفاصل في ركعتين تركعهما من الضحى -فقد أديت الشكر المستحب لهذه المفاصل.
الحديث السابع والعشرون
البر حسن الخلق
وعن النواس بن سمعان ( قال: قال رسول الله ( ( البر حسن الخلق، والإثم ما حاك في نفسك، وكرهت أن يطلع عليه الناس ( رواه مسلم
وعن، وابصة بن معبد ( قال: ( أتيت النبي ( فقال: جئت تسأل عن البر. قلت: نعم. قال: استفت قلبك، البر: ما اطمئنت إليه النفس، واطمئن إليه القلب، والإثم ما حاك في النفس، وتردد في الصدر، وإن أفتاك الناس وأفتوك ( حديث حسن، رويناه في مسندي الإمامين: أحمد بن حنبل، والدارمي بإسناد حسن.
هذا الحديث من الأحاديث الجوامع، وهو حديث النواس -رضي الله تعالى عنه-، عن النبي ( قال: ( البر حسن الخلق ( "البر حسن الخلق" البر أنواع: فيكون البر فيما بين العبد وبين ربه -جل وعلا-، ويكون البر فيما بين العبد وبين الناس.
فالبر الذي بين العبد وبين ربه -جل وعلا- هو بالإيمان، وإتيان أوامر الله -جل وعلا- المختلفة، وامتثال الأمر، واجتناب النهي كما قال -جل وعلا- في سورة البقرة: ( ((((((((( (((((((( (((( ((((((( (((((( (((((((((((( (((((((( (((((((((((((((((( ((((((((((((( ((((((((((((((( (((((((( ((((((((( (((((( (((((((( ((((( (((((((((((( ((((((((((((((( (((((((((((((((( (((((((( (((((((((( (((((((((((((((( ((((( ((((((((((( ((((((((( ((((((((((( (((((((( ((((((((((( ( (238) الآية.
فذكر البر الذي يجب على العبد لله -جل وعلا-، فهذا النوع من البر يأتي في القرآن كثيرا، والله -جل وعلا- هو الذي جعل هذا برا، فالعبد من أهل البر إذا قام بما جاء في هذه الآية، فيقال: هذا من الأبرار إذا امتثل ما في هذه الآية، وابتعد عما يكرهه الله جل وعلا.(1/209)
والقسم الثاني من البر: البر مع الخلق، وهذا جماعه حسن الخلق؛ ولهذا قال -عليه الصلاة والسلام-: ( البر حسن الخلق ( فجمع البر في عبارة وجيزة وهي: ( حسن الخلق ( وحسن الخلق -كما ذكرنا لك- يجمعه أنه بذل الندى، وكف الأذى، وأن تحسن إلى الخلق، وأن تجزي بالسيئة الحسنة، وأن تعامل الناس بما فيه عفو عن المسيء، وكظم للغيظ، وإحسان للخلق.
فمن كان باذلا للندى، غير منتصر لنفسه، كافا الأذى، مقدما المعروف للخلق -فهو من ذوي حسن الخلق فيما بين الناس، فإن جمع إليك ما يستحب من ذلك، وما يجب من حقوق العباد -كان حسن الخلق عنده شرعيا.
فإذا حسن الخلق الذي يكون فيه امتثال لما جاء في الشرع من صفات عباد الله المؤدين لحقوقه وحقوق عباده، هذا يكون معه البر، فالبر إذن درجات؛ لأن الإيمان بالله والملائكة واليوم الآخر... إلى آخره، وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة... إلى آخره، هذا درجات، ومعاملة الخلق درجات.
فتحصل من هذا أن قوله -عليه الصلاة والسلام-: ( البر حسن الخلق ( أن درجة البر تختلف بإختلاف حسن الخلق، والبر إذا أردته فهو حسن الخلق؛ لأنه بذلك تؤدي حقوق الخلق الواجبة والمستحبة.
قال: ( والإثم ما حاك في نفسك وكرهت أن يطلع عليه الناس ( عرف الإثم -وهو ما يقابل البر- بشيئين: شيء ظاهر، وشيء باطن. وهذا من الميزان الذي يمكن تطبيقه، وهو -عليه الصلاة والسلام- ممن...، بل هو -عليه الصلاة والسلام- الرؤوف الرحيم بهذه الأمة، فقال لك: ( الإثم ما حاك في نفسك ( هذا أمر باطن، ( وكرهت أن يطلع عليه الناس ( وهو الأمر الظاهر.
فإذا أتيت إلى شيء مشتبه عليك فحاك في نفسك، هل هذا من الإثم أم من البر، وترددت فيه ولم تعلم أنه من البر، وانضم إلى ذلك الظاهر أنك لو فعلته كرهت أن يطلع عليه الناس -فهذا هو الإثم.(1/210)
فالإثم يجمعه شيئان: شيء باطن متعلق بالقلب، وهو أنه يحوك في النفس، وتتردد في فعله النفس، وفي الظاهر يكره أنه لو عمله أن يطلع عليه الناس، فهذا يدل على أنه إثم، وهذا وصف عظيم منه -عليه الصلاة والسلام- للبر والإثم، فالبر: حسن الخلق ببذل الندى، وكف الأذى، والعفو عن المسيء، والصفح عن المخطئ في حقه.
والإثم: ما حاك في نفسك وجهه، وكرهت أن يطلع عليه الناس فيما لو فعلته ظاهرا.
في الرواية الأخرى: وعن وابصة بن معبد قال: ( أتيت رسول الله ( فقال: جئت تسأل عن البر. فقلت: نعم. قال: استفت قلبك، البر: ما اطمئنت إليه النفس، واطمئن إليه القلب، والإثم: ما حاك في النفس، وتردد في الصدر ( .
ذكرت لكم أن البر نوعان: بر متعلق بحق الله، وبر متعلق بحق العباد. فالحديث الأول ذكر فيه -عليه الصلاة والسلام- البر المتعلق بحق الناس فقال: ( البر حسن الخلق ( وهنا ذكر البر بعامة ( فقال: استفت قلبك ( يعني: عن البر، هل هذا الشئ من البر أم ليس من البر، هل هو من الطاعة أم ليس من الطاعة ؟
( استفت قلبك، البر: ما اطمئنت إليه النفس، واطمئن إليه القلب ( يعني: أنه لم يصر في القلب تردد من هذا الشئ المعين، ولا يكره أن يطلع عليه الناس، وهذا يعم جميع أنواع الطاعات، وقابله بالإثم حيث قال: ( والإثم ما حاك في النفس، وتردد في الصدر، وإن أفتاك الناس وأفتوك ( .
فعرف الإثم أو جعل -عليه الصلاة والسلام- علامة للإثم بأنه: ( ما حاك في النفس، وتردد في الصدر ( على نحو ما ذكرنا، ( وإن أفتاك الناس وأفتوك ( ولهذا يدخل في ذلك جميع الأنواع المشتبهة التي تدخل في المتشابهات التي ذكرناها في حديث النعمان بن بشير.(1/211)
فالإثم تفرغ منه إذا كان الشئ يحوك في الصدر، ولا تطمئن إليه النفس؛ لأن المسلم بإيمانه ودينه وتقواه تطمئن نفسه إلى ما فيه الطاعة، وأما ما فيه شبهة أو ما فيه حرام فيجد أنه خائف منه، أو أنه متردد فيه، ولا يستأنس بشئ فيه تعريض لمحرم أو اشتباه؛ لأنه قد يقع في الحرام.
فقال -عليه الصلاة والسلام-: ( والإثم ما حاك في النفس، وتردد في الصدر، وإن أفتاك الناس وأفتوك ( هنا قال: ( وإن أفتاك الناس ( يعني: قد تذهب إلى مفتٍ تستفتيه في شأنك، ويفتيك بأن هذا لا بأس به، ولكن يبقى في صدرك التردد.
والمفتي إنما يتكلم بحسب الظاهر -يفتي بحسب ما يظهر له من السؤال- وقد يكون عند السائل أشياء في نفسه لم يبدها، أو لم يستطع أن يبديها بوضوح فيبقى هو الحكم على نفسه، والتكليف معلق به، وإماطة الثواب والعقاب معلقة بعمله هو، فإذا بقي في نفسه تردد ولم تطمئن نفسه إلى إباحة من أباح له الفعل -فعليه أن يأخذ بما بما جاء في نفسه، من جهة أنه يمتنع عن المشتبهات أو عما تردد في الصدر.
وهنا يبحث العلماء بحثا معلوما يطول، وهو بحث أصولي وكذلك فقهي، في أن ما يتردد في الصدر ويحيك فيه، ولا يطمئن إليه القلب، هل هو إثم بإطلاق، أم أن بعض أنواعه إثم؟ والتحقيق في هذا أن المسألة فيها تفصيل.
فإذا كان يعني الحالة الأولى : أن يكون التردد الذي في النفس واقعا عن جهل من صاحبه في الحكم الشرعي أو بالسنة، فهذا لو تردد في شيء جاء النص بحسنه أو بإباحته أو بالأمر به -فإنه يكون عاصيا لو لم يفعل، أو يكون ملوما لو لم يمتثل للسنة.
وقد جاء في الحديث الصحيح "صحيح مسلم": ( أن النبي ( أمر ناسا بالإفطار في السفر، فبقي منهم بقية لم يفطروا، فقيل للنبي -عليه الصلاة والسلام-: إن أناسا لم يفطروا. فقال: أولئك العصاة أولئك العصاة ( .(1/212)
فهذا يدل أن الأمر إذا كان من السنة بوضوح، فإن تركه لتردد في الصدر أن هذا من الشيطان، فلا اعتبار لهذا النوع: يكون في سفر يقول: أنا لن أقصر، في نفسي شيء من أن أقصر مع توافر الشروط بما دلت عليه السنة بوضوح، فإن هذا تردد لا وجه له.
كذلك شيء دل القرآن الكريم، أو دلت السنة على مشروعيته، ثم هو يبقى في نفسه تردد، فهذا لم يستسلم أو لم يعلم حكم الله -جل وعلا-، فلا قيمة لهذا النوع.
الحالة الثانية: أن يقع التردد من جهة اختلاف المفتين، اختلاف المجتهدين في مسألة، فاختلف المجتهدون في تنزيل واقعة هذا المستفتي على النصوص: فمنهم من أفتاه بكذا، ومنهم من أفتاه بكذا، فهذا ليس الإثم في حقه أن يبقى مع تردد نفسه، ليس الإثم في حقه أن يزيل تردد نفسه.
وليس البر في حقه أن يعمل بما اطمئنت إليه نفسه خارجا عن القولين، بل البر في حقه ما اطمئنت إليه نفسه من أحد القولين؛ لأنه لا يجوز للعامي أن يأخذ بقول نفسه مع وجود عالم يستفتيه، بل إذا استفتى عالما، وأوضح له أمره وأفتاه -فإن عليه أن يفعل ما أفتاه العالم به، فإذا اختلف المفتون فإنه يأخذ بفتوى الأعلم الأفقه بحاله.
الحالة الثالثة: وهي التي ينزل عليها هذا الحديث، وهي أنه يفتي الناس، وهي أنه يستفتي المفتي فيفتى بشئ لا تطمئن نفسه لصوابه فيما يتعلق بحالته، فيبقى مترددا يخشى أنه لم يفهم، يقول: هذا أفتاني لكن المسألة فيها أشياء أخر لم يستبنها، يقول: المفتي لم يستفصل مني، يقول: حالة المفتي أنه ما استوعب المسألة من جهاتها.
فإفتاء المفتي للمكلف لا يرفع التكليف عنه في مثل هذه الحالة، وإنما ينجو بالفتوى إذا أوضح مراده بدون التباس فوفي، فإنه يكون قد أدى الذي عليه بسؤال أهل العلم امتثالا لقول الله -جل وعلا-: ( (((((((((((( (((((( (((((((((( ((( ((((((( (( ((((((((((( ( (239) .(1/213)
وأما إذا لم يفصل أو لم يستفصل المسئول المفتي، أو لم يحسن فهم المسألة فاستجعل وأفتى، وبقي في قلب المستفتي شيء من الريب من جهة أن المفتي لم يفهم كلامه، أو لم يفهم حاله أو أن هناك من حاله ما لا يصلح أن يبين، أو ما لم يستطع بيانه -فإن هذا يدخل في هذا الحديث بوضوح: ( فالإثم ما حاك في النفس، وتردد في الصدر، وإن أفتاك الناس وأفتوك ( .
فإذن الأحوال كما قال أهل العلم ثلاثة: اثنان منها لا تدخل في ذلك، وهي الأولى نعيدها باختصار، الأولى: ما ورد النص به؛ فإنه لا يجوز أن يبقى في النفس تردد مع ورود النص: من الكتاب، أو السنة، أو إجماع أهل العلم في المسألة، أو إجماع أهل السنة في المسألة.
والثاني: أن يختلف المفتون، وقد أوضح لهم حاله، فإن عليه أن يأخذ بفتوى الأعلم الأفقه منهم، أو من تطمئن نفسه لفتواه.
والحالة الثالثة: أنه لم يحسن إبداء المسألة، أو لم يستفصل المفتي، فرجع الأمر فيما بينه وبين المفتي إلى عدم وضوح في موافقة حكم الله في المسألة، فإنه يترك الأمر ويخلو من الخلاف استبراء لدينه، ورغبة في دوام تعرضه للإثم.
ونكتفي بهذا القدر، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد.
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله حق الحمد وأوفاه، وأشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمدا عبده، ورسوله ومصطفاه، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه، وسلم تسليما كثيرا إلى يوم الدين:
معنا الحديث الثامن والعشرون حديث أبي نجيح العرباض بن سارية ( .
الحديث الثامن والعشرون
أوصيكم بتقوى الله والسمع والطاعة
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.(1/214)
قال المصنف -رحمه الله تعالى-: وعن أبي نجيح العرباض بن سارية ( قال: ( وعظنا رسول الله ( موعظة، وجلت منها القلوب، وزرفت منها العيون، فقلنا: يا رسول الله، كأنها موعظة مودع، فأوصنا. قال: أوصيكم بتقوى الله، والسمع والطاعة، وإن تأمر عليكم عبد، فإنه من يعش منكم فسيرى اختلافا كثيرا، فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين عضوا عليها بالنواجذ، وإياكم ومحدثات الأمور، فإن كل بدعة ضلالة ( رواه أبو داود والترمذي وقال: حديث حسن صحيح.
هذا الحديث أصل في بابه في بيان الاستمساك بتقوى الله -جل وعلا- والوصية بذلك، والاستمساك بالسمع والطاعة، وبالسنة وبطريقة الخلفاء الراشدين المهديين من بعد النبي عليه الصلاة والسلام
قال العرباض بن سارية ( ( وعظنا رسول الله ( موعظة وجلت منها القلوب، وزرفت منها العيون ( "وعظنا رسول الله ( موعظة" الوعظ هو التذكير بالأمر والنهي، وبحقوق الله -جل وعلا- في الأمر والنهي -يعني: فيما أمر به ونهى عنه-، وهذا يكون معه غالبا التخويف.
فالموعظة قد تكون بترغيب، وقد تكون بترهيب، والغالب عليها أن يكون معها التخويف من عدم امتثال الأمر أو بإرتكاب النهي، قد جاء ذكر الموعظة في القرآن في عدد من المواضع، والمفسرون فسروها بإتباع الأمر، أو بالتذكير بإتباع الأمر، والتذكير بإجتناب النهي، قالوا: إن لفظ "وعظ" بمعنى: جعل غيره في عظة.
والعظة: نوع مما يحصل به الاعتبار، وذلك من آثار الاستجابة للتخويف أو التهديد أو الإنذار أو الإعلام وما شابه ذلك؛ فلهذا فسرت الموعظة فيما جاء في القرآن بأنها كما ذكرت لك امتثال الأوامر، واجتناب النواهي، وإلقاء ذلك بشيء من التخويف منهما، وعمم الموعظة أمور الترغيب والترهيب، فيقال: هذه موعظة إذا ذكر بالله وبالآخرة، وبأمر الله ونهيه، وبعقوبة المنتهي عن الأمر، أو المرتكب للمنهي حين يذكر بعقوبته في الآخرة أو في الدنيا صار واعظا.(1/215)
المقصود من هذا أن قوله هنا: ( وعظنا رسول الله ( موعظة وجلت منها القلوب، وزرفت منها العيون ( سبب الوجل، وجل القلوب، وسبب أن العيون زرفت أنها اشتملت على أشياء منها: التخويف والوعيد، ومنها أنه نبههم أنه سيفارقهم.
فجمع -عليه الصلاة والسلام- لهم ما بين الإشعار بمفارقته لهم-عليه الصلاة والسلام- وما بين تذكيرهم بأمر الله -جل وعلا-، وبحدوده وأوامره، والتخويف من مخالفة ذلك، فقال ( ( وجلت منها القلوب، وزرفت منها العيون ( .
والوجل -وجل القلوب- أعظم من خوفها؛ لأن الوجل خوف وزيادة ، وهو الخوف الذي معه +اغترار وتردد في هذا الأمر-يعني: أنه خاف منه مع كون القلب راغبا راهبا في هذا الأمر- فهناك درجات فيه: الرهبة، والخوف، والوجل، فكلها داخلة في معنى الخوف، لكن كل واحدة لها مرتبتها.
قال: ( فقلنا: يا رسول الله، كأنها موعظة مودع ( يعني لما اشتملت عليه من الإشارات، ولما كانت عليه من أنها جامعة فاستشفوا أنها موعظة مودع لهم، فكأنه -عليه الصلاة والسلام- جمع لهم ما يحتاجون، وأرشدهم بذلك بأنه ربما فارقهم ؛ لأنه جمع أشياء كثيرة في مكان واحد.
قال: "فأوصنا" ومر معنا معنى الوصية، قال -عليه الصلاة والسلام-: ( أوصيكم بتقوى الله ( ( والتقوى: هي وصية الله للأولين والآخرين، وقد ذكرنا لكم أن معنى التقوى أن تجعل بينك وبين عذاب الله وسخطه وعقابه في الدنيا الآخرة وقاية، وهذه الوقاية بامتثال أوامره واجتناب مناهيه، والعمل بسنة المصطفى ( والتقوى في كل مقام بحسبه.
فقد فسرت التقوى بعدة تفسيرات ذكرناها لكم، ومن أحسنها قول طلق بن حبيب -رحمه الله تعالى- أن التقوى: هي أن تعمل بطاعة الله على نور من الله ترجو ثواب الله، وأن تترك معصية الله على نور من الله تخشى عقاب الله.(1/216)
فجمع في هذا التعريف بين الترك والعلم والنية، وهذا هو حقيقة التقوى في الأوامر والنواهي، قال: ( أوصيكم بتقوى الله ( والسمع والطاعة، وإن تأمر عليكم عبد فإنه من يعش منكم فسيرى اختلافا كثيرا ( قال: ( والسمع والطاعة ( والسمع والطاعة حقان للإمام أو للأمير، وهما من ثمرات البيعة؛ لأن البيعة عقد وعهد على السمع والطاعة، فتحصل بالمباشرة وتحصل بالإنابة.
فالسمع والطاعة من ثمرات البيعة، فالإمام المسلم إذا بايعه طائفة من أهل العلم، ومن يسار إليهم في الحل والعقد - فإن في بيعتهم له على السمع والطاعة، وعهدهم له أن يسمعوا ويطيعوا -في ذلك مبايعة بقية المسلمين، وعلى هذا جرت سنة المصطفى ( وسنة الخلفاء الراشدين .
فالسمع والطاعة -كما ذكرت لك- لا فرق بينه وبين البيعة، ومن فرق بين البيعة وبين السمع والطاعة في الحقوق التي للإمام المسلم أو للأمير المسلم، فلا دليل له من سنة المصطفى ( ولا من عمل الصحابة والتابعين، ولا من قول أهل السنة والجماعة، وأتباع السلف الصالح من عقائدهم.
فالسمع والطاعة للأمير المسلم حق من حقوقه؛ لقول الله -جل وعلا-: ( (((((((((( (((( (((((((((((( (((((((((( ((((((((( (((((((( ((((((( ( ( (240) لكن السمع والطاعة له لا تجب له حقا له استقلالا، وإنما هي على وجه التبع -يعني أنها تبع لطاعة الله وطاعة رسوله؛ ولهذا جاء في الأحاديث بيان أن ( الطاعة إنما هي في المعروف ( .
والمعروف هو ما ليس بمعصية -يعني: ما عرف في الشرع حسنه- وهو ما ليس بمعصية؛ ولهذا جاء في أحاديث أخر بيان أن الطاعة تكون في غير المعصية، وعلى هذا اعتقاد أهل السنة والجماعة في امتثالهم لهذه الوصية العظيمة منه -عليه الصلاة والسلام-: ( أوصيكم بتقوى الله ( والسمع والطاعة ( .(1/217)
السمع والطاعة -كما ذكرت لك- يعني في غير المعصية، فإذا كان في الواجبات فالسمع والطاعة لأمر الله -جل وعلا-، ولحق الله -جل وعلا- لا لحق الأمير، وإذا كان في المبيحات أو فيما يكون فيه الاجتهاد، فهنا يتوجه السمع والطاعة لحق الإمام أو لحق الأمير.
يعني أن المسائل ثلاث: ما وجب بأصل الشرع فإنه يطاع فيه الأمير لأمر الله -جل وعلا- لذلك، وليست الطاعة هنا في الواجب من حقوقه، بل هو يطاع لحق الله -جل وعلا- في طاعته فيما أوجب جل وعلا.
والحالة الثانية: أن يأمر أو ينهى عن مباح، أو فيما فيه اجتهاد، أو عن مكروه أو ما أشبه ذلك، فإنه يطاع هنا لحقه هو؛ لأن الله -جل وعلا- جعل له السمع والطاعة.
الحالة الثالثة: أن يكون أمره بمعصية أو نهيه عن واجب، فهنا لا طاعة له؛ لأن طاعة الله -جل وعلا- حق مقدم على طاعة غيره ممن جعل الله -جل وعلا- له الحق، فمثلا: الوالدان، والمرأة لزوجها، والإمام، وأشباه ذلك ممن جعل الله -جل وعلا- لهم حقا في السمع والطاعة، فإنهم يطاعون في غير المعصية، يعني: فيما جاء في الشريعة أنه غير محرم.
قال: ( وإن تأمر عليكم عبد ( "وإن تأمر عليكم عبد" في قوله: "تأمر" معنى تغلب، ( وإن تأمر عليكم عبد ( يعني: غلب عبد على الإمارة، فدعا لمبياعته أو دعا لأن يسمع له ويطاع، فهنا يجب أن يسمع له ويطاع؛ فلهذا قال العلماء: الولايات الشرعية العامة تكون بإحدى طريقين:
الطريق الأول: طريق الاختيار: أن يختار الإمام العام، أو أن يختار الأمير، والاختيار، ولاية الاختيار لها شروطها إذا كانت لأهل الحل والعقد، فإنهم يختارون من اجتمعت فيه الشروط الشرعية التى جاءت في الأحاديث، ومنها: أن يكون الإمام قرشيا، ومنها أن يكون عالما، ومنها أن يكون يحسن سياسة الأمور، وأشباه ذلك مما اشترطه أهل العلم في ولاية الاختيار.(1/218)
والقسم الثاني: ولاية التغلب: وهو أن يغلب الإمام، أن يغلب أحد أميرٌ أو غيره ممن لا تتوفر فيه الشروط، أو بعض الشروط، أو تكون تتوفر فيه لكنه غلب إماما آخر قبله فإنه هنا إذا غلبه فيبايع، ويسمع له، ويطاع؛ لأن البيعة هنا أصبحت بيعة تغلب، والولاية ولاية غلبة وسيف.
فهذا كما أوصى هنا -عليه الصلاة والسلام- أن يسمع ويطاع لمن لم تتوفر فيه الشروط التي تكون في ولاية الاختيار؛ حيث قال هنا -عليه الصلاة والسلام-: ( وإن تأمر ( ونفهم من التأمر أنه لم يكن ثم اختيار، فهذه ولاية التغلب، وقال: ( إن تأمر عليكم عبد ( ومعلوم أن العبد لا يختار بيدي أمور المسلمين.
فدل هذا على أن ولاية الغلبة يجب لمن غلب فتولى، يجب له السمع والطاعة، كما تجب للإمام الذى يختار اختيارا، لا فرق بينهما في حقوق البيعة والسمع والطاعة؛ وذلك لأجل المصلحة العامة من المسلمين.
وإذا نظرت فإن الاختيار وقع في تاريخ هذه الأمة على الخلفاء الراشدين الأربعة، وعلى معاوية بن أبي سفيان ( ومن بعد معاوية من عهد يزيد إلى زماننا هذا، فالولايات ولايات تغلب؛ لأنها تكونت الدويلات، وهذا يعارض هذا إلى آخره، فكلها لم تنشأ كتواتر أو كتتابع لأصل الخلافة الراشدة، وإنما صارت ولاية تغلب.
وهذا هو الذى جاء في الحديث الصحيح أنه -عليه الصلاة والسلام- قال: ( تكون خلافة النبوة ثلاثين عاما ( أو قال: ( ثلاثون عاما خلافة النبوة ( ثم يكون ملكا عاضا وهكذا، يعني: أن الخلافة التي على منهاج النبوة تكون في هذه الأمة فقط لمدة ثلاثين عاما بعده -عليه الصلاة والسلام-، وهي التي انتهت بمقتل علي ( .
وولاية معاوية -كما هو معلوم- ولاية اختيار؛ لأن الحسن بن علي تنازل له عن الخلافة، فاجتمع عليه الناس، وسمي ذلك العام عام الجماعة؛ لاجتماعهم على معاوية ( وما بعده أصبحت ولاية تغلب.(1/219)
وأهل السنة والجماعة أجمعوا لما صنفوا عقائدهم من القرن الثاني إلى زماننا هذا -على أن البيعة منعقدة لمن تغلب، ودعا الناس إلى إمامته، مع أن الذى يشترط للإمام غير متوفر فيه أو هو متوفر فيه، فالأمر سيان من جهة حقوقه، حقوق الطاعة والسمع والبيعة، وما يترتب على ذلك من الجهاد معه والتجميع عليه، وعدم التنفير عنه، وسائر الحقوق التي جاءت في الأئمة والأمراء.
قال هنا -عليه الصلاة والسلام-: ( وإن تأمر عليكم عبد ( فإن الفاء هذه تعليلية ( فإنه من يعش منكم فسيرى اختلافا كثيرا ( يعني: سيرى اختلافا على الأمراء، فوصيته -عليه الصلاة والسلام- له أنه من عاش فرأى الاختلاف، فعليه بالسمع والطاعة وإن تأمر عليه عبد.
وجاء في أحاديث أخر بيان بعض هذا الاختلاف، وما يحصل من الفرقة وأشباه ذلك يجمعها أن الاختلاف اختلاف على الدين، أو اختلاف على الأمير، فمن رأى الاختلاف الكثير فإن عليه أن يلزم التقوى، وعليه أن يلزم السمع والطاعة، فهذه وصيته -عليه الصلاة والسلام- إذ قال: ( فإنه من يعش منكم فسيرى اختلافا كثيرا ( .
والاختلاف الكثير يعني: عما كانت عليه سنته -عليه الصلاة والسلام- فأوصى فقال: ( فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين ( عليكم بسنتي يعني: الزموا سنتي، ابحثوا عنها والزموها، فما أوصيت فيه في سنتي فالزموه، وهذا هو الواجب على العباد حين الاختلاف.
إذا اختلفوا في العقائد فعليهم أن يبحثوا في سنة المصطفى ( إذا اختلفوا في الشرائع وفي الأحكام فعليهم أن يبحثوا في سنة المصطفى ( إذا كثر الاختلاف بينهم في أمور الفتن والآراء إلى آخره فعليهم أن يرجعوا إلى سنة المصطفى ( وسنة الخلفاء الراشدين؛ فإن فيها النجاة.(1/220)
ولم نر مسألة من المسائل التي من أجلها اختلف الناس في تاريخ الإسلام كله، من أوله إلى يومنا هذا إلا وفي السنة بيانها، لكن يؤتى الناس من جهة أنهم لا يرغبون في السنة، لا يرغبون في امتثال وصية المصطفى ( وأمره ونهيه وبيانه -عليه الصلاة والسلام-؛ لهذا أوصى -عليه الصلاة والسلام- هذه الوصية العظيمة، فقال: ( فعليكم بسنتي ( .
والسنة المقصود هنا بها الهدي والطريقة التي كان عليها -عليه الصلاة والسلام-، والسنة بيان للقرآن، فما كان من كلامه -عليه الصلاة والسلام-، وما كان من أفعاله -فإن في ذلك السنة، وهي الطريقة والهدي الذي كان عليه -عليه الصلاة والسلام-.
وهذا فيه بيان واضح لمعنى القرآن، حيث قال -جل وعلا-: ( ((((((((((((( (((((((( (((((((((( ((((((((((( (((((((( ((( ((((((( (((((((((( (((((((((((( ((((((((((((( ( (241) في سورة النحل، فقوله: ( ((((((((((((( (((((((( (((((((((( ( (242) الذكر هنا هو سنة المصطفى ( قال: ( وسنة الخلفاء الراشدين المهديين ( الخلفاء: هم الذين خلفوا المصطفى ( في ولاية الأمر على طريقته عليه الصلاة والسلام.
والخلفاء الراشدون من بعده -عليه الصلاة والسلام- أربعة: أبو بكر، ثم عمر، ثم عثمان، ثم علي -رضي الله عنهم أجمعين-، ووصفوا بأنهم راشدون؛ لأنهم قاموا بالرشد، والرشد: هو العلم بالحق والعمل به. فسموا راشدين؛ لأنهم كانوا علماء في الحق عملوا به، وليست هذه الصفة إلا لهؤلاء الأربعة.
وفي عمر بن عبد العزيز -رحمه الله- خلاف، هل يعد من الخلفاء الراشدين أم لا يعد من الخلفاء الراشدين؟ والذي عليه نص كثير من أهل العلم كأحمد وغيره أنه من الخلفاء الراشدين؛ لأنه علم الحق فعمل به، وعامة الولاة ليسوا على ذلك بل منهم من لا يعلم الحق أصلا، ومنهم من يعلم الحق فيخالفه لأهواء وشهوات، ونوازع مختلفة.(1/221)
فالذين وصفوا بأنهم خلفاء راشدون هؤلاء هم الأربعة أصحاب محمد بن عبد الله - عليه الصلاة والسلام-، وعمر بن عبد العزيز كذلك خليفة راشد، وهنا تنبيه على مقالة ربما ترد على ألسنة بعض الكتاب، وهي غير سليمة من جهة مكانة الصحابة -رضوان الله عليهم-، غير متفقة بالجملة مع عقائد أهل السنة والجماعة فيما نفهم من عقائدهم، وهي قولهم عن عمر بن عبد العزيز -رحمه الله-: إنه خامس الخلفاء الراشدين.
وهذا ليس بسديد؛ لأن معاوية ( أعظم منزلة من عمر بن عبد العزيز -رحمه الله تعالى-، وإذا كان ثم خامس للخلفاء الراشدين فهو معاوية؛ لأنه أحق بهذا الوصف من عمر بن عبد العزيز، لكن عمر وصفه جماعة من أهل العلم بأنه خليفة راشد، ومعاوية بحسب الاعتبار أنه اجتمع عليه؛ فإنه خليفة راشد.
لكن لما جعل الأمر ملكا في بنيه -ملكا في يزيد- كان أهل العلم يعبرون عنه بأنه ملك راشد، وخير ملوك المسلمين على الإطلاق، وهو خليفة؛ لأنه خلف ما بعده بالحق، وليس ثم خامس للأربعة الخلفاء، فإذا قيل: إن عمر بن عبد العزيز -رحمه الله- خليفة راشد هذا حق، ولكن لا يقال: هو خامس الخلفاء الراشدين؛ لأن معاوية أحق منه بهذا الوصف، لو كان هذا الوصف سائغا.
أما الخلفاء فهم أربعة؛ لقوله -عليه الصلاة والسلام-: ( ثلاثون سنة خلافة نبوة ( فما بعد ذلك إنما هو وصف لأجل التحبيب في خلال الأمراء وأوصاف الولاة.
قال -عليه الصلاة والسلام-: "المهديين" يعني: الذين من الله عليهم فهداهم للحق فعملوا به، قال: ( عضوا عليها بالنواجذ ( "بالنواخذ" وهي الأضراس، وأشد ما يكون الاستمساك إذا أراد المرء أن يستمسك بشيء بأسنانه أن يعض عليه بأضراسه؛ لأنها أشد الأسنان.(1/222)
فقال -عليه الصلاة والسلام-: ( عضوا عليها بالنواجذ ( يعني: كونوا مستمسكين بها على أشد ما يكون الاستمساك بسنته عند الاختلاف، وسنة الخلفاء الراشدين عند الاختلاف، والتقوى والسمع والطاعة؛ فإن في هذا النجاة، وهذا مجرب في كل ما مر في تاريخ الإسلام من تقلبات وفتن، فإن من أخذ بهذه الوصية نجا في دينه ودنياه.
قال -عليه الصلاة والسلام-: ( وإياكم ومحدثات الأمور؛ فإن كل بدعة ضلالة ( "إياكم" هذا تحذير ونهي، ومن الصيغ التي يفهم منها النهي أو يعبر بها عن النهي صيغة إياك، وكذا كما قرره علماء الأصول، فقوله: ( وإياكم ومحدثات الأمور ( هذا في معنى قوله: لا تقربوا أو لا تأتوا محدثات الأمور، فهو نهي عن محدثات الأمور.
والمحدثات جمع محدثة، وهي: كل ما أحدث بعده -عليه الصلاة والسلام- على غير مثال سابق له، وهذه المحدثات التي أحدثت على قسمين: منها محدثات من قبيل المصالح المرسلة التي أوضحنا لكم معناها وضوابطها في أوائل هذا الشرح، فهذه لا تدخل في المحدثات المذمومة؛ لأنها محدثة لغة، ولكنها ليست بمحدثة شرعا؛ لأن لها الدليل في الشرع الذي دل على اعتبارها، وهو كونها من المصالح المرسلة، وأشباه ذلك على الضوابط التي ذكرنها في ذلك المقام.
والقسم الثاني: المحدثات التي هي في الدين بما أحدث مع قيام المقتضي لفعله في عهده ( وترك، فما ترك في عهده من العبادات أو مما يتقرب به إلى الله -جل وعلا- مع قيام المقتضي بفعله ولم يفعل، فهو محدثة في الدين، فهو بدعة.
وهذا القسم هو الذي يتوجه إليه قوله ( ( وإياكم ومحدثات الأمور؛ فإن كل بدعة ضلالة ( وهذا يعني أن نعكس الأمر، فيكون المنهي عنه هي الضلالات من البدع، وهي البدع في الشريعة البدع في الدين.(1/223)
وأما البدع من حيث هي في اللغة فإنها قد تكون، ولا ينهى عنها في الشرع كما قال عمر حين جمع الناس، أو حين جمع الناس على إمام واحد، فقال: "نعمت البدعة هذه" فجعلها بدعة -يعني: في اللغة- فليست كل بدعة في اللغة بدعة في الشرع؛ لأنها قد تكون بدعة لغة، ولا تكون بدعة شرعا لدخولها في تعريف المصالح المرسلة، أو في العفو العام أو ما أشبه ذلك.
أما ما يتقرب إلى الله به من العبادات، وقد قام المقتضى بفعله في عهده -عليه الصلاة والسلام-، ولم يفعل -فإنه من البدع المحدثات، ومن البدع الضلالة، فقال: ( فإن كل بدعة ضلالة ( وهذه الكلية من صيغ العموم، وهذا يدل على إبطال قول من قال: إن من البدع في الدين ما ليس بضلالة.
وهو ما أحدثه العز بن عبد السلام في الأمة من تقسيم البدعة إلى خمسة أقسام: واجبة، ومستحبة، ومباحة، ومكروهة، ومحرمة. فتبعه الناس على ذلك، وانتشرت البدع على هذا التعريف أو هذا التقسيم بقوله: إن من البدع ما هو واجب، ومن البدع ما هو مستحب، وأشباه ذلك، وهذا مصادم لهذا النص، وقولهم بالرأي، والقول بالرأي مذموم إذا كان في مقابلة النص ومصادمته.
فالنبي -عليه الصلاة والسلام- قال لنا: ( فإن كل بدعة ضلالة ( فهذه الكلية، فمن قال: "إن ثم من البدع ما ليس بضلالة" فهو مخالف لقوله -عليه الصلاة والسلام-: ( إن كل بدعة ضلالة ( فما من بدعة في الدين إلا وهي ضلالة، كما قال عليه الصلاة والسلام.
على تعريف البدعة الذي ذكرناه يخرج من ذلك المصالح المرسلة؛ لأنها لا تدخل في البدع، كما هو معروف من تعريف البدع، وتعريف المصلحة المرسلة؛ حيث ذكرنا لك ذلك مفصلا في موضعه.
الحديث التاسع والعشرون
تعبد الله ولا تشرك به شيئا(1/224)
وعن معاذ بن جبل ( قال: ( قلت: يا رسول الله، أخبرني بعمل يدخلني الجنة، ويباعدني عن النار. قال: لقد سألت عن عظيم، وإنه ليسير على من يسره الله -تعالى- عليه: تعبد الله ولا تشرك به شيئا، وتقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة، وتصوم رمضان، وتحج البيت.
ثم قال رسول الله ( ألا أدلك على أبواب الخير؟ الصوم جنة، والصدقة تطفئ الخطيئة كما يطفئ الماء النار، وصلاة الرجل في جوف الليل، ثم تلا قوله -تعالى-: ( تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ َ ( (243) حتى بلغ: ( ((((((((((( ( (244) .
ثم قال: ألا أخبرك برأس الأمر وعموده وذروة سنامه؟ قلت: بلى يا رسول الله. قال: رأس الأمر الإسلام، وعموده الصلاة، وذروة سنامه الجهاد في سبيل الله، ثم قال: ألا أخبرك بملاك ذلك كله؟ قلت: بلى يا رسول الله.
فأخذ بلسانه وقال: كف عليك هذا. قلت: يا نبي الله، وإنا لمؤاخذون بما نتكلم به؟ قال: ثكلتك أمك يا معاذ، وهل يكب الناس في النار على وجوههم، أو قال: على مناخرهم إلا حصائد ألسنتهم ( رواه الترمذي، وقال: حديث حسن صحيح.
هذا الحديث فيه ذكر أشياء من أبواب الخير، وهو من الأحاديث العظيمة التي في كل جملة منها شاهد، لكل جملة منه شواهد كثيرة؛ ولهذا هو حديث حسن بمجموع شواهده لجمله المختلفة.
قال معاذ بن جبل ( ( قلت: يا رسول الله أخبرني بعمل يدخلني الجنة، ويباعدني عن النار ( هذا فيه ما ينبغي التأدب به على ما ينبغي التأدب به لأهل العلم؛ لأن معاذ بن جبل -رضي الله عنه، ورحمه- من أعلم هذه الأمة بالحلال والحرام، بل هو أعلم الأمة بالحلال والحرام.(1/225)
فهو من أهل العلم، وهذا يدل على أن طالب العلم ينبغي عليه أن يكون حريصا على ما يقربه من الجنة، ويباعده عن النار، قال معاذ: ( يا رسول الله، أخبرني بعمل يدخلني الجنة، ويباعدني عن النار ( وهذا مما ينبغي لكل طالب علم أن يحرص عليه: ما يقربه إلى الجنة، وما يباعده من النار.
لأن العلم له شهوة، والعلم له عنفوان، وقد يصرف صاحبه عن السعي في الغاية من العلم، وهو ما يقرب من الجنة، وما يباعد عن النار، وقد قال عبد الله بن المبارك -رحمه الله تعالى-: إن للعلم طغيانا كطغيان الماء، فالعلم يطغي إذا لم يكن صاحبه يسعى فيما يقربه إلى الجنة، ويباعده عن النار.
فالعلم له مقتضيات كثيرة، وأصحاب العلم وأهل العلم وطلبة العلم ينبغي لهم أن يكونوا ألين الناس في غير تفريط، وأن يكونوا أبصر الناس، وأحق الناس بالحكمة والأخذ بما يقربهم إلى الله -جل وعلا-؛ فهم القدوة، وهم البصراء في العلم والعمل.
لهذا سئل معاذ هذا السؤال، وذلك من حكمة الله -جل وعلا- أن يسأل ليبصر أهل العلم جميعا بما ينبغي أن يكونوا عليه، قال: ( أخبرني بعمل يدخلني الجنة، ويباعدني عن النار. قال -عليه الصلاة والسلام-: لقد سألت عن عظيم، وإنه ليسير على من يسره الله -تعالى- عليه ( .
هذا السؤال العظيم ما يقرب إلى الجنة، ويبعد عن النار، سؤال عظيم، وهو شاق من حيث الامتثال، لكنه يسير على من يسره الله عليه، فإذن نفهم من هذا أن ثم كلفة في أن يمتثل المرء بمقتضى العلم، ولكنه يسير على من يسره الله عليه.
والله -جل وعلا- إذا أقبل العبد يسر عليه الأمر، كما قال -جل وعلا-: ( ((((((( (((( (((((((( (((((((((( ((( (((((((( (((((((((((((( ((( (((((((((((((((( (((((((((((( ( (245) فتيسير الله -جل وعلا- أمور الخير للعبد هذا يكون بشيء يبذله العبد: ( ((((((( (((( (((((((( (((((((((( ((( (((((((( (((((((((((((( ((( (((((((((((((((( (((((((((((( ( (246) .(1/226)
قال -عليه الصلاة والسلام- هنا: ( وإنه ليسير على من يسره الله تعالى عليه ( ثم فصل فقال: ( تعبد الله لا تشرك به شيئا ( "تعبد الله" يعني: أن تتوجه بجميع أنواع العبادات إلى الله -جل وعلا- وحده، فإذا دعوت دعوت الله، وإذا سألت سألت الله، وإذا صليت صليت لله، وإذا استغثت استغثت بالله، وإذا أعظمت الرجاء أعظمته بالله.
وكل العبادات القلبية، واللسانية، والعملية بالجوارح كلها تكون لله -جل وعلا- وحده، ولا يكون لمخلوق فيها نصيب، قال: ( تعبد الله لا تشرك به شيئا ( يعني: كبير الشرك وصغيره وخفيه؛ لأن كلمة شيئا نكرة جاءت في سياق النفي فتعم كل ما كان في معناها.
فلا يشرك بأي شيء: لا يشرك بالهوى، لا يشرك بالمخلوق البشر، لا يشرك بالملائكة، لا يشرك بعظيم، لا يشرك بصالح، لا يشرك بجني، بإنسي، بشجر، بحجر، بأي نوع مما خلق الله -جل وعلا-، وهذا لا شك أنه عظيم، ولكنه يسير على من يسره الله عليه.
فعبادة الله -جل وعلا- وحده دون ما سواه هذه غاية إرسال المرسلين، ونفي الشرك ونبذه والتخلص منه، أيضا مما جاء به المرسلون وأقاموا رسالاتهم عليه، وهذا يتنوع، فما كان من قبيل الشرك الأكبر فظاهر وجوب اجتنابه، وأن من فعله فهو مشرك كافر تارك للدين مع اجتماع الشروط وانتفاع الموانع.
وما هو أقل من ذلك الشرك الأصغر والخفي، ينبغي على العبد أن يسعى في تجنبه -يعني: ينبغي وجوبا- يجب عليه أن يسعى في تجنبه، وأن يجاهد نفسه، والشرك الأصغر يدخل فيه الرياء -يسير الرياء-، والشرك الخفي أيضا يدخل فيها أشياء، والشهوة الخفية، والتسميع والمقاصد، وأن يكون قصد المرء الدنيا فيما يأتي ويذر، وفي الأمور الدينية وطلب العلم وأشباه ذلك مما يراد لله.
فإذن عبادة الله وحده لا شريك له، هذا حاصل -إن شاء الله- عند الموحد، لكن يخاف على الموحد من أنواع الشرك الأصغر والخفي، مما يكون من يسير الرياء والتوجه لغير الله في ذلك، فهذه عظيمة:(1/227)
فإن تنجُ منها تنجُ من ذي عظيمة
وإني لا أخالك ناجيا
يعني: أن هذا الأمر شديد، ويجب أن توطن نفسك على إخراج المخلوق من قلبك، وأن يكون القلب خالصا لله متوجها لله: في تحركه، في سكناته، في أمره، في نهيه، في تصرفك مع أهلك، مع أقاربك، مع الأمور العامة، مع الأمور الخاصة، إذا كان كل شيء لله تم الإخلاص.
قال: ( وتقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة، وتصوم رمضان، وتحج البيت ( وهذه الأربعة مر بيانها.
ثم قال: ( ألا أدلك على أبواب الخير؟ الصوم جنة، والصدقة تطفئ الخطيئة ( الصوم يريد به صوم النفل؛ لأنه قدم صيام رمضان، ثم قال: ( ألا أدلك على أبواب الخير؟ الصوم جنة ( جنة يعني: وقاية يقي العبد مما يسخطه الله -جل وعلا-؛ لأن الصيام فيه تذكير بحقوق الله -جل وعلا- وحقوق عباده، فهو جنة من نفوذ الشيطان إلى العبد.
وكما جاء في الحديث أنه -عليه الصلاة والسلام- قال: ( إذا دخل رمضان -أو قال إذا جاء رمضان- فتحت أبواب الجنة، وغلقت أبواب النار، وصفدت الشياطين ( وقال -عليه الصلاة والسلام- في حق من لم يجد طولا للنكاح: ( ومن لم يستطع فعليه بالصوم؛ فإنه له وجاء ( .
فالصيام جنة -يعني: يكون به الاجتنان؛ لأن الجنة والاجتنان هو: الحاجز الذي يقي. فالغطاء هو الجنة، ومنه قيل للجنين: جنين؛ لأنه في غطاء في استتار، وللمجن مجن لذلك... إلى آخره.
قال: ( والصدقة تطفئ الخطيئة كما يطفئ الماء النار ( الصدقة بأنواعها تطفئ الخطايا؛ الصدقة بالقول وبالعمل، الواجبة والمستحبة، والصدقة بالمال، كل هذه تطفئ الخطايا؛ لأنها حسنات، والله -جل وعلا- قال: ( (((( ((((((((((((( (((((((((( ((((((((((((( ( ( (247) .(1/228)
وقد مر معنا قوله -عليه الصلاة والسلام-: ( اتق الله حيثما كنت، وأتبع السيئة الحسنة تمحها، وخالق الناس بخلق حسن ( فإذا فهمت معنى الصدقة العام الشامل الذي ذكرناه لك في درس مضى، فإنه كلما حصلت منك خطية فعليك بكثرة الصدقات، والخطايا لا تحصى؛ لأنه ما من حال تكون فيه إلا ولله -جل وعلا- أمر ونهي في ذلك، وقل من يكون ممتثلا للأمر والنهي في كل حالة.
فإذن لا بد من الإكثار من الصدقات؛ فهي أبواب الخير، قال: ( تطفئ الخطيئة كما يطفئ الماء النار ( النار إذا شبت لا يطفئها إلا الماء، فإنك تأتي بالماء فتنطفئ، وهذا مثال الحسنات بعد السيئات.
قال: ( وصلاة الرجل في جوف الليل ( صلاة الرجل في جوف الليل، يعني: أن يقوم الليل القيام المستحب، وقيام الليل على درجات، وأعلاه أن يكون كقيام المصطفى ( الذي جاء في آخر سورة المزمل: ( ( (((( (((((( (((((((( (((((( ((((((( (((((((( ((( (((((((( (((((((( ((((((((((( ((((((((((( (((((((((((( ((((( ((((((((( (((((( ( ( (248) .
فأفضله ما كان بعد نصف الليل إلى الفجر، وبعده من أول ثلث الليل الآخر إلى الفجر، ثم هكذا مراتب بما يتيسر للعبد، فصلاة الرجل في جوف الليل هذه من أعظم أبواب الخير، وبها يحصل للمرء من النور في قلبه، وحسن تعامله مع ربه، وخشيته له، والتنقب عن دار الدنيا، والرغب في الآخرة ما لا يدخل تحت وصف.
أعاننا الله وإياكم على ذلك، فإن صلاة الرجل والمرأة في جوف الليل هذه يكون معها التدبر للقرآن، وحسن منجاة الله، والدمعة التي تسيل من خشية الله -جل وعلا- إذ يكون المرء في ذلك على يقين من أنه إنما قام لله -جل وعلا- وحده، فتعظم الصلة، ويعظم التعلق، ويعظم إخبات القلب، ويعظم الرجاء، وتعظم الرهبة، ويعظم الخوف، ويؤثر القرآن في القلوب تأثيرا عظيما.(1/229)
فأصحاب الليل هم أهل التقوى، قال -جل وعلا-: ( ((((((((((( ((((((((((( (((( ((((((((((((( ( (249) يعني: في وصف عباده المخبتين المنيبين في سورة الم السجدة: ( ((((((((((( ((((((((((( (((( ((((((((((((( ((((((((( (((((((( ((((((( ((((((((( ((((((( ((((((((((((( (((((((((( (((( (((( (((((((( (((((( (((( (((((((( ((((( (((( (((((( (((((((( (((((((( ((((( (((((((( ((((((((((( ( (250) وهذا من فضل الله -جل وعلا- عليهم.
قال: ( ثم قال: ألا أخبرك برأس الأمر وعموده وذروة سنامه؟ قلت: بلى، يا رسول الله. قال: رأس الأمر الإسلام ( لأن الأمر الذي هو الدين رأسه الإسلام، فإذا صدع الرأس فلا حياة، فإذا ذهب الإسلام فلا حياة للمرء في الدين، فقال: ( رأس الأمر الإسلام ( وهو الاستسلام لله -جل وعلا- بالتوحيد والانقياد له بالطاعة، والبراءة من الشرك وأهله.
قال: ( وعموده الصلاة ( العمود هو ما يقوم عليه البناء، فإذا كان ثم أشياء يقوم عليها البناء فإن بالصلاة يقوم البناء؛ بهذا قال: ( وعموده الصلاة ( فعمود الأمر عمود الدين الصلاة، وقال: "عموده"؛ لأن الصلاة هي الركن العملي الذي به يحصل الامتثال لمقتضيات الإيمان العملية، يعني: بركن الإيمان الذي هو العملي.
فالإيمان: قول واعتقاد وعمل، والعمل عموده الصلاة، فإذا ذهبت الصلاة فلا قيام في ذلك؛ لهذا قال عمر ( "ولا حظ في الإسلام لمن ترك الصلاة" وثبت عنه -عليه الصلاة والسلام- أنه قال: ( العهد الذي بيننا وبينهم الصلاة، فمن تركها فقد كفر ( .(1/230)
قال -عليه الصلاة والسلام- بعد ذلك: ( وذروة سنامه الجهاد ( ( ذروة سنامه ( تشبيه للأمر بالجمل، والجمل أعلاه ذروة السنام، والجمل متحرك، والجهاد أيضا يبعث على الانتشار؛ فهو سبب انتشار الإسلام، وامتداد الدخول في الدين، فمثله -عليه الصلاة والسلام- -يعني: مثل الدين بالراحلة بالجمل-، وجعل الجهاد من هذه الراحلة ذروة السنام؛ لأنه بارز بين متميز.
فالإسلام تميز من بين الأديان كتميز الجمل بذروة سنامه بالجهاد، فالجمل متميز بذروة السنام -يعني: بالسنام بعامة وبذروة السنام- وهذا الإسلام تميز بالجهاد في سبيل الله، والجهاد أنواع، والمراد به هنا -الجهاد- جهاد الأعداء، وهو -كما هو معلوم- على مرتبتين: واجبة، ومستحبة، والواجب أيضا على قسمين: واجب عيني، وواجب كفائي، كما هو معلوم في مكانه من الفقه.
قال: ( ثم قال: ألا أخبرك بملاك ذلك كله؟ قلت: بلى، يا رسول الله. فأخذ بلسانه وقال: كف عليك هذا ( فاللسان هو أعظم الأعضاء جرما؛ لأنه سهل الحركة، كثير الخطايا، فباللسان يحصل الاعتقاد الزائف باللسان يقول المرء الكلمة لا يلقي لها بالا تهوي به في النار سبعين خريفا، باللسان تحصل العداوات.
باللسان تحصل العداوات ، وقد قال -جل وعلا -: ( ((((( ((((((((((( (((((((((( ((((((( (((( (((((((( ( (((( (((((((((((( ((((((( (((((((((( ( ( (251) وباللسان يحصل الوقوع في المؤمنين والإيذاء بغير حق، قد قال -جل وعلا - ( ((((((((((( ((((((((( ((((((((((((((( ((((((((((((((((( (((((((( ((( ((((((((((((( (((((( ((((((((((((( (((((((((( ((((((((( (((((((( ( (252) والإيذاء أعظم أنواعه ما كان باللسان، وقد أوذيت عائشة -رضى الله عنها وأرضاها- باللسان بما بلغ بها المبلغ الذي تعلمون في قصة الإفك، باللسان يحصل نشر الخير وباللسان يحصل نشر الشر.(1/231)
فإذا حاسب المرء نفسه على لسانه، حصل له ملاك هذا الأمر، وهو أنه ملك عليه دينه، وأما إذا أطلق لسانه في كل شيء، فإنه يضر نفسه ضررا بالغا ولا يملك على نفسه دينه، واللسان قد جاءت الأحاديث الكثيرة في بيان شأنه، ومر معنا في حديث مضى بعض ذلك فقال: ( كف عليك هذا ( يعني: أمسك، فالكلمة إذا لم تعلم أنها من الحق الذي تؤجر عليه، فاتركها؛ لأنها عليك، وليست لك، قال : ( قلت: يا نبي الله وإنا لمؤاخذون بما نتكلم به؟ فقال: ثكلتك أمك ( ؛ لأنه لا يتوقع من معاذ، وهو العالم بالحلال والحرام الفقيه أن يسأل هذا السؤال، فقال : ( ثكلتك أمك ( يعني: استغراب من هذا السؤال الذي لم يتوقع من معاذ أن يسأله فقال: ( ثكلتك أمك، وهل يكب الناس في النار على وجوههم، أو قال مناخرهم إلا حصائد ألسنتهم ( .
يستنكف كثير من الناس، يعني: من المسلمين أن يعمل عملا محرما من الكبائر بجوارحه، تجد أنه يستنكف أن يأكل الربا، ويستنكف أن يشرب الخمر، يستنكف أن يأتي كبيرة الزنا، يستنكف أن يأتي كبيرة السحر، يستنكف أن يأتي كبيرة قذف المحصنات الغافلات، يستنكف أن يأتي كذا وكذا من الكبائر، ولكنه في كبائر اللسان يقع فيها بلا مبالاة، فيقع في النميمة من دون أن يشعر، فينقل كلاما، وبه يفرق بين المرء وبين أخيه، يقول: فلان سمعته يقول فيك كذا وكذا، وهذه نميمة أن تنقل كلاما يوقع الضغينة والشر في نفس مسلم على أخيه المسلم، وهي كبيرة من الكبائر، وهي الحالقة، ويغتاب، والغيبة محرمة، وهي عند كثير من أهل العلم كبيرة، ومدارها على اللسان، وقد قال -جل وعلا -: ( (((( ((((((( ((((((((( ((((((( ( (((((((( (((((((((( ((( (((((((( (((((( ((((((( ((((((( ((((((((((((((( ( ( (253) .
قال طائفة من أهل العلم: لما شبه الغيبة بأكل لحم الميت دل على أنها من الكبائر؛ لأن المشبه به كبيرة، فيأخذ المشبه حكم المشبه به، فدل على أنها من الكبائر.(1/232)
وهكذا في أصناف شتى، فما وجدت العداوات والبغضاء إلا باللسان، وما تفرقت الأمة إلا باللسان قبل الأعمال، فاللسان هو مدار الأمر؛ ولهذا قال -عليه الصلاة والسلام- : ( ألا أخبرك بملاك ذلك كله ؟ ( يعني: برأس الأمر وعموده وذروة سنامه، ( قال: بلى، يا رسول الله، قال : كف عليك هذا ( فهذه وصية عظيمة، وسبب التعذيب، تعذيب كثيرين في النار، أنهم لم يكفوا ألسنتهم عما لا يحل لهم؛ فلهذا علينا أن نحذر اللسان أعظم الحذر، فنوصي بهذه الوصية التي أوصى بها المصطفى -عليه الصلاة والسلام- بقوله: ( كف عليك هذا ( .
فأوصي نفسي وإياكم بأن نكف ألسنتنا، إلا عن شيء علمنا حسنه، فإذا خاطبنا إخواننا، فلنخاطبهم بالتي هي أحسن ( ((((( ((((((((((( (((((((((( ((((((( (((( (((((((( ( ( (254) أحسن ما تجد من اللفظ قله لوالدك، لوالدتك، لإخوانك، لأخواتك، لأهلك، لإخوانك المؤمنين؛ لأنه بهذا تبعد مدخل الشيطان في التفريق ما بين أهل الإيمان.
وما حصل، ما حصل في تاريخ الإسلام، وفي زماننا هذا من أمور منكرة إلا بسبب إطلاق اللسان فيما لا يعلم أنه من الحق، وكل يتكلم بما شاء، فحصل ما لم يحمد، نسأل الله -جل وعلا -أن يلهمني وإياكم ما فيه صلاحنا في قلوبنا وألسنتنا وجوارحنا.
الحديث الثلاثون
إن الله فرض فرائض فلا تضيعوها
وعن أبي ثعلبة الخشني -جرثوم بن ناشر، رضى الله عنه- قال : قال رسول الله ( ( إن الله فرض فرائض، فلا تضيعوها، وحد حدودا فلا تعتدوها، وحرم أشياء، فلا تنتهكوها، وسكت عن أشياء لكم غير نسيان، فلا تبحثوا عنها ( حديث حسن، رواه الدارقطني وغيره .
هذا الحديث -أيضا- من الأحاديث الأصول العظيمة.(1/233)
عن أبي ثعلبة الخشني -جرثوم بن ناشر- جرثوم، وجرثومة معناها الأصل الذي يرجع إليه، هذه بالمناسبة، فجرثوم، يعني: كلمة، اسم له دلالته القوية في اللغة، يعني: هو أصل لغيره، والجرثومة هي الأصل، وليست هي كلمة ذم، وإنما هي في اللغة ما يدل على أنه أصل لغيره، قال جرثوم بن ناشر -رضى الله عنه- : قال رسول الله ( ( إن الله -تعالى- فرض فرائض فلا تضيعوها، وحد حدودا فلا تعتدوها ( الحديث .
قوله -عليه الصلاة والسلام - ( إن الله تعالى فرض فرائض، فلا تضيعوها ( يعني: هنا بالفرائض ما جاء إيجابه في القرآن، قال : ( إن الله فرض فرائض فلا تضيعوها ( .
"فرض" : يعني: أوجب واجبات فلا تضيعوها، ومن المعلوم أن كلمة "فرض" في القرآن قليلة، والفرض قليل في الكتاب والسنة؛ ولهذا ما دل القرآن على وجوبه، فهو فرض، فقوله -عليه الصلاة والسلام- هنا : ( إن الله فرض فرائض فلا تضيعوها ( يعني: ما أوجبه الله -جلا وعلا- في القران، فما ثبت في القرآن وجوبه، فيسمى فرض بهذا الحديث؛ ولهذا ذهب جماعة من أهل العلم، منهم الإمام أحمد على أن الفرض أعظم من الواجب من جهة أن ما أوجب الله -جل وعلا -يقال له فرض، وما دلت السنة على وجوبه يقال له: واجب إلا إذا أتى بصيغة الفرض، ففرق أحمد وجماعة من أهل العلم بين الفرض والواجب من جهة الدليل، لا من جهة المرتبة.
فهما من حيث الحكم التكليفي واحد، حكمهما الوجوب، الفرض واجب، والواجب فرض، لكن ما كان من جهة الدليل من القرآن سمي فرضا، وما كان من جهة الدليل من السنة سمي واجبا، وقال بعض أهل العلم :إن الفرض أرفع درجة من الواجب، وهو المعروف من مذهب أبي حنيفة -رحمه الله- فإن الفرض عنده ما ثبت بدليل قطعي، والواجب ما ثبت بدليل غير قطعي، فحصل عنده أنه فرق بين الفرض والواجب من جهة الدليل عليه، ومن جهة مرتبته، فالفرض عنده أرفع من الواجب، والقول الأول: لا، الفرض الواجب من حيث المرتبة واحد، لكن من حيث الثبوت مختلف.(1/234)
وقالت طائفة من أهل العلم -وهو قول الجمهور- : إن الفرض والواجب واحد من حيث الدليل عليهما، ومن حيث المرتبة، فيقال : الصلوات الخمس فرائض، ويقال : هي واجبة، ويقال صوم رمضان واجب، ويقال : فرض، يقال الحج واجب وفرض، يقال : بر الوالدين واجب وفرض، وهكذا على القول الثالث، وهو القول المعروف المشهور؛ لأن الفرائض والواجبات معناهما واحد، فالفرض معناه الواجب؛ ولهذا نقول: إن قوله -عليه الصلاة والسلام- : ( إن الله تعالى فرض فرائض، فلا تضيعوها ( يعني ما أوجبه الله -جل وعلا -في القرآن فلا نضيعه، نهى -عليه الصلاة والسلام- عن تضييعه، وما أمر به المصطفى ( فهو من حيث اللزوم والإلزام بعدم تضييعه بدليل خارج عن هذا الدليل، وهو بدليل قول الله -جل وعلا -: ( (((((( (((((((((( (((((((((( ((((((((( ((((( ((((((((( (((((( (((((((((((( ( ( (255) وبقوله -جل وعلا : - ( (((((((((((( (((( (((((((((((( (((((((((( ((((((((((( ( (256) والآيات كثيرة في هذا الباب، وبقوله -عليه الصلاة والسلام-: ( ألا وإني أوتيت الكتاب، ومثله معه ( إلى أن قال: ( ألا وإن ما حرم رسول الله ( مثل ما حرم الله ( في الحديث المعروف، حديث تحريم الخمر في خيبر إلى آخره .
المقصود أن قوله: ( فلا تضيعوها ( يعني: امتثلوا وأدوا هذه الفرائض، ولا تضيعوها بعدم الامتثال، فإن الله ما فرضها إلا ليمتثل، وهذا دليل على أن من ضيع أثم؛ لأنه نهى عن التضييع، وهذا داخل ضمن القاعدة أن ترك الواجب محرم.
قال : ( وحد حدودا فلا تعتدوها ( هذا اللفظ ( حد حدودا فلا تعتدوها ( يدخل فيه البحث من جهات كثيرة، لكن ألخص لك ذلك بتقرير قاعدة عامة في فهم نصوص الكتاب والسنة، التي جاء فيها لفظ الحد والحدود، وهي أنها جاءت على ثلاثة أنواع من الاستعمال:(1/235)
الأول: أن يؤتى بلفظ الحدود بإطلاق، يعني: بلا أمر أو نهي بعدها، كقوله -تعالى- في سورة النساء : ( (((((( ((((((( (((( ( ((((( (((((( (((( (((((((((((( ( (257) أو تأتي، ويكون بعدها النهي عن الاعتداء، كقوله -جل وعلا -: ( (((((((( ((((((( (((( ( ((((( (((((((( ((((((( (((( (((((( (((((( ((((((((( ( ( (258) وكقوله: ( (((((( ((((((( (((( (((( (((((((((((( ( ( (259) .
والثالث: أن يكون بعد ذكر الحدود النهي عن المقاربة، فلا تقربوها في آية البقرة التي فيها ذكر الصيام والاعتكاف ( (((((( ((((((( (((( (((( (((((((((((( ( ( (260) فهذه ثلاثة أنواع في القرآن .
وفي السنة أتى الحد -أيضا- ويراد به العقوبات المقدرة، أو يراد به الذنوب التي عليها عقوبات، يعني: المحرمات التي يجب في حق من اقتحمها أن يعاقب.(1/236)
إذا تقرر ذلك، فنرجع إلى تأصيل هذا في أن الحدود لفظ استعمل في الكتاب والسنة، واستعمل في كلام الفقهاء، وكلامي -السالف- في التقسيم إلى الأنواع، هذا إنما هو لنصوص الكتاب والسنة، وأما التعبير بالحدود في كتب أهل العلم وأهل الفقه، فهذا استعمال اصطلاحي، ليس هو استعمال الحدود في نصوص الكتاب والسنة. إذا تبين هذا، فالنوع الأول - ذكرنا لكم ثلاثة أنواع- النوع الأول: كقوله: ( (((((( ((((((( (((( ( ((((( (((((( (((( (((((((((((( ( (261) أو كقوله: ( (((((((( ((((((( (((( ( ((((( (((((((( ((((((( (((( ( (262) وكقوله: ( (((((( ((((((( (((( (((( (((((((((((( ( ( (263) فإذا ذكر الحدود بلا كلمة بعدها، يعني: نهي عن الاعتداء، أو ذكر بعدها النهي عن الاعتداء، فإن المراد بالحدود هنا الفرائض يعني: ما أذن به، الفرائض، أو ما أذن به، فما أذن به فرضا كان، أو مستحبا، أو مباحا، فالحدود هنا المراد بها هذه الأشياء؛ ولهذا جاء بعدها ( (((( (((((((((((( ( ( (264) فالذي يخرج من دائرة المأذون به إلى خارج عن المأذون به، فقد تعدى الحد، وقد خرج عنه، وهذا الحد، هو حد المأذون به، فهذا نوع.
( (((((( ((((((( (((( ( (265) جاءت بعد بيان ما فرض الله -جل وعلا -في التركات ( (((((((((( (((( (((( ((((((((((((( ( ( (266) الآيات في سورة النساء، لما أتمها في آيتين قال : ( (((((( ((((((( (((( ( ((((( (((((( (((( (((((((((((( ( (267) يعني: هذا ما أمر الله -جل وعلا -به وشرعه، وهذا معناه أن هذه حدود المأمور؛ ولهذا عقبها بالطاعة، قال : ( ((((( (((((( (((( (((((((((((( ( (268) ( (((((((( ((((((( (((( ( ((((( (((((((( ((((((( (((( (((((( (((((( ((((((((( ( ( (269) هذه الحدود هي ما أذن به، وأمر به، هذا هو النوع الأول، فالحدود هنا ليست هي المحرمات، الحدود هي ما أذن به، يدخل فيها الواجبات والمستحبات والمباحات.(1/237)
الحدود بالمعنى الثاني إذا جعلت للمحرمات فلها ضابطان:
الأول: أن يكون بعدها ( (((( (((((((((((( ( ( (270) وأن يكون بعدها، أو معها ذكر العقوبة، وهذا يعني: أن الحدود هنا هي المحرمات؛ لهذا ناسب أن يكون معها النهي عن القربان، النهي عن الاقتراب ( (((((( ((((((( (((( (((( (((((((((((( ( ( (271) يعني: المحرمات لا تقرب، ولا يقترب منها، فهذا نوع؛ ولأجل هذا النوع قيل في العقوبات التي شرعت لمن انتهك، تطهيرا لمن انتهك المحرمات، قيل لها حدود، من قبيل رؤية هذا النوع دون غيره، وهذا شائع كثير في اللغة وفي الشريعة، فإذن العقوبات التي شرعت لمن ارتكب محرما فقارب، أو انتهك حدود الله قيل للعقوبة حد؛ لأنه دخل في الحد، وقيل لها: حدود؛ لأنه اقتحم الحدود.
وأما النوع الثالث، وهو العقوبات التي جاءت في بعض الأحاديث، فهذه المراد منها ما جعل في الشرع له عقاب بعينه، فيقال: حد السرقة، حد الخمر ... إلى آخره، كما قال -عليه الصلاة والسلام- : ( لا يجلد فوق عشرة أسواط إلا في حد من حدود الله ( في حد من حدود الله، يعني: إلا في معصية جاءت الشريعة بالعقوبة فيها، ويدخل في هذا الحدود عند الفقهاء والتعزيرات عند الفقهاء، وقوله -عليه الصلاة والسلام- في هذا القسم الثالث : ( لا يجلد فوق عشرة أسواط ( يعني: تأديبا.
فلا يحل لأحد أن يؤدب من أبيح له تأديبه فوق عشرة أسواط، إلا في حد من حدود الله، يعني: إلا في عقوبة جاء الشرع بها، إما أن تكون حدا على اصطلاح الفقهاء، أو أن تكون تعزيرا، وهذا بحث طويل في كتاب الحدود، ومعرفة الحدود والتعزيرات في الفقه، لكن ضبطت لك هذا على نحو ما ذكرت لك من التبسيط؛ ليجتمع لك شمل ما أراد به الفقهاء اصطلاحهم الحدود، وما جاءت النصوص بكلمة الحدود .
إذا تقررت هذه القاعدة، وهذا التحقيق في فهم هذه الكلمة التي أشكلت على كثير من العلماء؛ ولعدم فهمها ذهبوا إلى مذاهب شتى.(1/238)
قال -عليه الصلاة والسلام- "نقول هنا": ( وحد حدودا فلا تعتدوها ( هنا الحدود على ما ذكرنا: هي ما أذن به، الواجبات والمستحبات وما أشبه ذلك؛ لهذا قال: ( حد حدودا فلا تعتدوها ( يعني: لا تعتد ما أذن لك، فكن في دائرة الواجب والمستحب والمباح، ولا تنتقل منه إلى غيره، فالأول: ( فرض فرائض فلا تضيعوها ( يعني: امتثل الفرائض، أد الواجبات، والثاني: كن في دائرة المستحب والمباح، ولا تتعده إلى غيره.
ثم قال: ( وحرم أشياء فلا تنتهكوها ( وهذا من العطف المغاير؛ لأن التحريم غير تعدي الحدود -كما ذكرنا لك-، من بيان فهم نصوص الكتاب والسنة في هذه المسألة المهمة، فما حرم الله -جل وعلا -نهانا -عليه الصلاة والسلام- أن تنتهكه، والتعبير بالانتهاك -أيضا- يفيد الاعتداء وعدم المبالاة ممن انتهك المحرمات، قال : ( وحرم أشياء فلا تنتهكوها ( وقوله -عليه الصلاة والسلام-: ( حرم أشياء ( يفيد أن هذه الأشياء المحرمة قليلة؛ ولهذا تجد أن أصول المحرمات في الأطعمة قليلة ( ((( (( (((((( ((( (((( ((((((( (((((( ((((((((( (((((( ((((((( (((((((((((( (((( ((( ((((((( (((((((( ( (272) ... إلى آخر الآية، أو المحرمات بعامة ( ( (((( ((((((((((( (((((( ((( (((((( (((((((( (((((((((( ( (((( ((((((((((( ((((( ((((((( ( ( (273) الآيات المعروفة في الوصايا العشر في آخر سورة الأنعام، أو محرمات في اللباس، فهي محدودة بالنسبة للرجال وبالنسبة للنساء، أو محرمات في الأشربة فهي -أيضا- محدودة، أو محرمات في المنازل، فهي محدودة، ومحرمات في المراكب، فهي محدودة.(1/239)
لهذا المحرمات أشياء قليلة بالنسبة لغير المحرمات؛ لأن دائرة المباح -ولله الحمد- أوسع؛ لهذا قال : ( وحرم أشياء ( وهذه الأشياء قليلة، فعجيب أن تنتهك، فقال : ( فلا تنتهكوها ( فيكون هذا المنتهك لهذه المحرمات شيء في نفسه جعله ينتهك هذا القليل، ويغرى بهذا القليل؛ ولهذا لم يحرم الشرع شيئا فيه لابن آدم منفعة، في حياته حاجية أو تحسينية أو ضرورية، بل كل المحرمات يمكنه الاستغناء عنها، ولا تؤثر عليه في حياته.
فما حرم الله -جل وعلا -أو حرمه رسوله ( من أشياء، فإنه لا حاجة لابن آدم إليه في إقامة حياته، أو التلذذ بحياته، فالمباحات والمستحبات يمكنه أن يتلذذ فيها بأشياء كثيرة تغنيه عن الحرام.
قال : ( وسكت عن أشياء رحمة لكم غير نسيان فلا تبحثوا عنها ( .
"سكت عن أشياء": يعني: أن الله سكت، وهذا السكوت الذي وصف الله -جل وعلا -به ليس هو السكوت المقابل للكلام، يقال: تكلم وسكت، وإنما هذا سكوت يقابل به إظهار الحكم، فالله -جل وعلا -سكت عن التحريم، بمعنى لم يحرم، لم يظهر لنا أن هذا حرام، فالسكوت هنا من قبيل الحكم، سكوت عن الحكم، ليس سكوتا عن الكلام، فغلط على هذا من قال: إن هذه الكلمة يستدل بها على إثبات صفة السكوت لله -جل وعلا -، وهذا مما لم يأت في نصوص السلف في الصفات، وهذا الحديث وأمثاله لا يدل على أن السكوت صفة؛ لأن السكوت قسمان: سكوت عن الكلام، وهذا لا يوصف الله -جل وعلا -به، بل يوصف الله -سبحانه وتعالى- بأنه متكلم، ويتكلم كيف شاء، وإذا شاء، متى شاء، وأما صفة السكوت عن الكلام، فهذه لم تأت في الكتاب ولا في السنة، فنقف على ما وقفنا عليه، يعني: على ما أوقفنا الشارع عليه، فلا نتعدى ذلك.(1/240)
والقسم الثاني: من السكوت، السكوت عن إظهار الحكم، أو عن إظهار الخبر وأشباه ذلك، فلو فرض -مثلا- أن أنا أمامكم الآن، وأتكلم باسترسال، سكت عن أشياء، وأنا مسترسل في الكلام، بمعنى أني لم أظهر لكم أشياء أعلمها، تتعلق بالأحاديث التي نشرحها، وسكوتي في أثناء الشرح عن أشياء لم أظهرها لكم، أوصف فيه بالسكوت؟
فتقول -مثلا-: فلان سكت في شرحه عن أشياء كثيرة، لم يبدها لأجل أن المقام لا يتسع لها، مع أني متواصل الكلام، فإذاً لا يدل السكوت، يعني: في هذا، يعني: السكوت عن إظهار الحكم عن السكوت الذي هو صفة، والله -جل وعلا -له المثل الأعلى، فنصفه بما وصف به نفسه، أو وصفه به رسوله ( .
لا نتجاوز القرآن والحديث، فنصفه بالكلام، ولا نصفه بالسكوت الذي هو يقابل به الكلام، وإنما يجوز أن تقول: إن الله -جل وعلا -سكت عن أشياء، بمعنى لم يظهر لنا حكمها، إذا تقرر هذا من جهة البحث العقدي، فنرجع إلى قوله: ( سكت عن أشياء ( بما يدل على أن هذه الأشياء قليلة.
( رحمة بكم، أو رحمة لكم غير نسيان ( السكوت بعدم إظهار بعض أحكام القضايا، رحمة لا نسيان، والله -جل وعلا -ليس بنسيٍّ، كما قال -سبحانه- : ( ((((( ((((( (((((( ((((((( ( (274) ( ((( ((((((( ( (( (((((( (((((( (((( (((((( ( (275) فالله -سبحانه- ليس بذي نسيان، بل هو الحفيظ العليم الكامل في صفاته وأسمائه، سبحانه وتعالى، وجل وتقدس ربنا.
فإذا هناك أشياء لم يبين لنا حكمها، فالسكوت عنها رحمة غير نسيان، أمرنا -عليه الصلاة والسلام- ألا نبحث عنها فقال: ( فلا تبحثوا عنها ( .
إذا تقرر هذا، فالأشياء المسكوت عنها أنواع:
النوع الأول : ما لم يأت التنصيص عليه من المسائل، لكنها داخلة في عموم نصوص الكتاب والسنة، داخلة في العموم، داخلة في الإطلاق، وداخلة في مفهوم الموافقة، أو مفهوم المخالفة، أو في المنطوق، أو أشباه ذلك، مما هو من مقتضيات علم أصول الفقه.(1/241)
فهذا النوع، مما دلت عليه النصوص بنوع من أنواع الدلالات المعروفة في أصول الفقه، هذا لا يقال عنه: إنه مسكوت عنه؛ لأن الشريعة جاءت ببيان الأحكام من أدلتها بالكتاب والسنة، بأنواع الدلالات، فهذا النوع لا يصح أن يقال: إنه مسكوت عنه؛ ولهذا العلماء أدخلوا أشياء حدثت في عمومات النصوص، ففهموا منها الحكم، أو في الإطلاق، أو في المفهوم وأشباه ذلك، وإذا أردنا أن نسرد الأمثلة، فهي كثيرة يضيق المقام عنها تراجعونها في المطولات.
النوع الثاني: أشياء مسكوت عنها، لكن داخلة ضمن الأقيسة، يعني: يمكن أن يقاس المسكوت عنه على المنصوص عليه، وقد ذهب جمهور علماء الأمة إلى القول بالقياس، إذا كانت العلة واضحة، اجتمعت فيها الشروط، ومنصوصا عليها، فإذا كان القياس صحيحا، فإن المسألة لا تعد مسكوتا عنها.
الحالة الثالثة: أن تكون المسألة مسكوتا عنها، بمعنى أنه لا يظهر إدخالها ضمن دليل، فكانت في عهده -عليه الصلاة والسلام- هذا نوع، ولم ينص على حكمها، ولم تدخل ضمن دليل عام، فسكت عنها، فهذا يدل أنها على الإباحة؛ لأن الإيجاب أو التحريم نقل عن الأصل، فالأصل أن لا تكليف، ثم جاء التكليف بنقل أشياء عن الأصل، فلا بد للوجوب من دليل، ولا بد للتحريم من دليل، فما سكت عنه، فلا نعلم له دليلا من النص، من الكتاب والسنة، ولا يدخل في العمومات، وليس له قياس، فهذا يدل على أنه ليس بواجب، ولا يجوز البحث عنه، ولهذا أنكر النبي -عليه الصلاة والسلام - على من سأله عن الحج فقال الرجل : ( يا رسول الله، أفي كل عام ؟ ( هذه مسألة مسكوت عنها، وتوجه الخطاب للرجل بألا يبحث عن هذا، فسكت عن وجوب الحج، هل يتكرر أم لا يتكرر؟ والأصل أنه يحصل الامتثال بفعله مرة واحدة، فقال النبي -عليه الصلاة والسلام- :(1/242)
( لو قلت: نعم؛ لوجبت. زروني ما تركتكم ( يعني: إذا تركت البيان، فاسكتوا عن ذلك، قد ثبت في صحيح مسلم أنه -عليه الصلاة والسلام- قال : ( إن أشد المسلمين -في المسلمين- جرما رجل سأل عن شيء، فحرم لأجل مسألته ( .
قد قال -جل وعلا -: ( ((((((((((( ((((((((( (((((((((( (( ((((((((((( (((( (((((((((( ((( (((((( (((((( (((((((((( ((((( ((((((((((( ((((((( ((((( (((((((( ((((((((((((( (((((( (((((( ((((( (((( ((((((( ( ( (276) فإذا هذا النوع مما سكت عنه، فلا يسوغ لنا أن نبحث، ونتكلف الدليل عليها، تلحظ -أحيانا- من بعض الأدلة التي يقيمها بعض أهل العلم أن فيها تكلفا للاستدلال لحكم المسألة، فإذا كان الدليل لا يدخل فيها بوضوح، فإنها تبقى علي الأصل.
( وسكت عن أشياء رحمة بكم غير نسيان، فلا تبحثوا عنها ( وهذا من رحمة الله -جل وعلا -بعباده.
أسأل الله الكريم بأسمائه الحسنى وصفاته العليا، أن يلهمني وإياكم الرشد والسداد، وأن يعلمنا ما ينفعنا، وأن يثبت العلم في قلوبنا، ويرزقنا زكاته والعمل به، وتعليمه، والإحسان في ذلك كله.
بقي عندنا اثنا عشر حديثا، وبقي عندنا جلستان غدا بعد العشاء، ويوم الخميس عصرا نكمل -إن شاء الله تعالى- البقية؛ لأن الأحاديث الباقية قصيرة، وليست بطويلة، وأحاديث اليوم وما قبل كانت طويلة في ألفاظها، وإلى لقاء -إن شاء الله تعالى- وأثابكم الله.
نعم ...
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله حق الحمد وأوفاه، وأشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمدا عبده ورسوله ومصطفاه، صلى الله عليه، وعلى آله وصحبه وسلم تسليما كثيرا إلى يوم الدين.
أما بعد:
فهذه صلة للشرح، ووقفنا عند الحديث الحادي والثلاثين من الأربعين النووية.
اقرأ ...
الحديث الحادي والثلاثون
ازهد في الدنيا يحبك الله(1/243)
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. قال المؤلف -رحمه الله تعالى-: وعن سهل بن سعد الساعدي -رضى الله عنه- قال : ( جاء رجل إلى النبي ( فقال يا رسول الله : دلني على عمل إذا عملته، أحبني الله، وأحبني الناس، قال: ازهد في الدنيا يحبك الله، وازهد فيما عند الناس يحبك الناس ( حديث حسن، رواه ابن ماجه، وغيره بأسانيد حسنة
هذا الحديث فيه ذكر الزهد، الزهد في الدنيا، والزهد فيما في أيدي الناس، وهو حديث أصل في بيان كيف يكون المرء محبوبا عند الله -جل وعلا -وعند الناس.
وهو -أيضا- من أحاديث الوصايا؛ لأن النبي ( أجاب عن سؤال مضمونه طلب الوصية، قال سهل بن سعد -رضى الله عنه- : ( جاء رجل إلى النبي ( فقال يا رسول الله: دلني على عمل إذا عملته أحبني الله، وأحبني الناس ( وهذا السؤال يدل على علو الهمة؛ لأن محبة الله -جل وعلا -غاية المطالب ومحبة الناس للمرء، أو للعبد معناها أداء حقوقهم، والدين قائم على أداء حقوق الله وأداء حقوق العباد، فمن أدى حق الله -جل وعلا -أحبه الله، ومن أدى حقوق العباد وعاملهم بالعدل والإحسان، فإنه يثوب بمحبة الناس له، وهذا الذي يجمع بين الطرفين هو الصالح من عباد الله؛ لأن الصالح هو الذي يقوم بحق الله وحق العباد، والصلاح هو القيام بحقوق الله وحقوق الناس.(1/244)
فهذا الحديث فيه ما يحصل به محبة الرب -جل وعلا -للعبد فقال : ( دلني على عمل إذا عملته أحبني الله ( وهذا فيه تنبيه إلى أصل، وهو أن همة المرء ينبغي أن تكون مصروفة لما به يحب الله العبد، وليس أن تكون مصروفه لمحبته هو لله -جل وعلا -، فالعباد كثيرون منهم من يحبون الله -جل وعلا -، بل كل متدين بالباطل أو بالحق، فإنه ما تدين إلا لمحبة الله -جل وعلا -، وليس هذا هو الذي يميز الناس، وإنما الذي يميز الناس عند الله -جل وعلا -هو من الذي يحبه الله، -جل وعلا -.
وقد قال بعض أئمة السلف -رحمهم الله-: ليس الشأن أن تحِب، ولكن الشأن كل الشأن أن تُحَب، يريد أن محبة العبد لربه -جل وعلا -هذه تحصل إما بموافقة مراد الله، أو بمخالفة مراد الله، فالنصارى يحبون الله، وعباد اليهود يحبون الله، وعباد الملل يحبون الله، وعباد جهلة المسلمين يحبون الله، ولكن ليس هؤلاء بمحبوبين لله -جل وعلا -إلا إذا كانوا على ما يحبه الله -جل وعلا -ويرضاه من الأقوال والأعمال.
إذاً فحصل من ذلك أن السعي في محبة الله للعبد هذا هو المطلب، وهذا إنما بالرغب في العلم ومعرفة ما يحبه الله -جل وعلا -ويرضاه، فإذا عرفت كيف يحب الله العبد، أو إذا عرفت بما يحب الله -جل وعلا -العبد، حصل لك السعي في محبة الله -جل وعلا -.(1/245)
وقد قال -تعالى- : ( (((( ((( ((((((( ((((((((( (((( (((((((((((((( (((((((((((( (((( (((((((((( (((((( ((((((((((( ( ( (277) فصرفهم عن الدعوة إلى البرهان، قال هنا : ( دلني على عمل إذا عملته أحبني الله ( وفي قوله: ( دلني على عمل ( ما يشعر أن الصحابي فقه أن محبة الله -جل وعلا -للعبد تكون بالعمل، وهذا خلاف ما يدعيه بعضهم أنه يكتفي بما يقوم في القلب، وإن كانت الأعمال مخالفة لذلك ، بل إنما يحصل حب الله -جل وعلا -للعبد بعمل قلبي وعمل بدني من العباد ، وقد قال -جل وعلا -: ( (((((((( ((((((( (((( (((((((( (((((((((( ((((((((((((((( (((((((( ((((( ((((((((((((((( (((((((( ((((( (((((((((((((( (((((((((((( ((( ((((((( (((( ( (278) ... الآية.
قال : ( دلني على عمل إذا عملته أحبني الله وأحبني الناس ( فقال : ( ازهد في الدنيا يحبك الله ( يحب هذه مجزومة، ولكن لأجل التقاء الساكنين صارت مفتوحة، ولا تقرؤها بالضم ؛ لأن المعنى يتغير، كما تقول لم يحب فلان كذا؛ لأنها إذا كان الحرف مشددا، فإنه إذا دخل عليه جازم يصبح مفتوحا؛ لأجل التقاء الساكنين، وكما هو معلوم في النحو، ويحبك مجزوم جواب الطلب، أو جواب الأمر، قال : ( ازهد في الدنيا يحبك الله، وازهد فيما عند الناس يحبك الناس ( الوصية جمعت الزهد.(1/246)
والزهد في اللغة: هو الأمر القليل الذي لا يؤبه له، وكذلك زهد في الشيء يعني: إذا جعله شيئا قليلا لا يؤبه له، وسعر زهيد، إذا كان قليلا ليس مثله مما يلتفت إليه، وهكذا، فالزهد في الدنيا أن تكون الدنيا في القلب غير مرفوع بها الرأس، يعني: ألا تكون الدنيا في القلب، واختلفت عبارات العلماء كثيرا في تفسير الزهد، ففسره طائفة بأن الزهد هو أن تكون فيما في يدي الله -جل وعلا -وبعطاء الله أوثق مما في يدك، يعني: أن يصح اليقين بأن ما عند الله -جل وعلا -أو ثق مما في يديك، وهذا تفسير روي عن بعض الصحابة، وروي مرفوعا -أيضا- إلى النبي ( لكن الصحيح أنه عن بعض الصحابة، هو عن أبي صبيح الخولاني قال فيه :
"إن الزهد أن تكون فيما في يدي الله أوثق مما في يدك"، وهذا يعني أن ما عند الله -جل وعلا -في الدنيا مما وعد به عباده، وما عنده في الآخرة، تكون الثقة به أعظم مما تمارسه في الدنيا، وهذا ينشأ عن قلب عظم يقينه بربه -جل وعلا -وعظم يقينه وتصديقه بوعده ووعيده، وعظم توكله على الله -جل وعلا -وهذا حقيقه الزهد، وأيضا فسر الزهد بأنه الإعراض عن الحرام، والاكتفاء بالحلال، وهذا طريقة من قال: إن كل مقتصد من عباد الله زاهد.
يعني: كل من ابتعد عن الحرام، وأقبل على الحلال، فاقتصر عليه، فإنه زاهد، وهذا عندهم زهد في المحرم، فيصح الوصف بأنه زاهد إذا زهد في المحرم، وهذا النوع من الزهد، وليس هو الزهد في نصوص الشريعة، ومنهم من فسر الزهد بعامة بأن الزهد ترك الدنيا والإقبال على الآخرة، ترك الدنيا بفضول مباحاتها، والإقبال على الآخرة والتعبد.(1/247)
فالزاهد: هو الذي ترك الدنيا، وأقبل على الآخرة، وهذا -أيضا- من التعاريف المعروفة، لكنه ليس بصحيح؛ لأن الصحابة -رضوان الله عليهم- هم سادة الزهاد، ولم يتركوا الدنيا، فلم يستعملوا المباحات، بل عملوا بما يحب الله -جل وعلا -ويرضاه وأخذوا نصيبهم من الدنيا، كما قال -جل وعلا -: ( (((((((((( ((((((( (((((((( (((( (((((((( (((((((((( ( (((( ((((( ((((((((( (((( (((((((((( ( ( (279) وأيضا فسر الزهد بتفسيرات كثيرة متعددة نصل إلى آخرها، وهو قول شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله تعالى- وهو أصح ما قيل في الزهد؛ لصحة اجتماعه مع ما جاء في الأحاديث، وكذلك ما دلت الآيات، وكذلك ما كان عليه حال الصحابة وحال السلف الصالح -رضوان الله عليهم- قال:
الزهد: هو ترك ما لا ينفع في الآخرة، فمن كان بقلبه الرغبة في الآخرة، وأنه لا يعمل العمل إلا إذا كان نافعا له في الآخرة، وإذا لم يكن نافعا له في الآخرة، فإنه يتركه، فهذا هو الزاهد، فعلى هذا يكون الزاهد غنيا، وعلى هذا يكون الزاهد مشتغلا ببعض المباحات، إذا كان اشتغاله بها مما ينفعه في الآخرة؛ ولهذا قال -عليه الصلاة والسلام- : ( روحوا عن القلوب ساعة بعد ساعة ( فمن استعان بشيء من اللهو المباح على قوته في الحق، فهذا لا يخرج عن وصف الزهادة؛ لأنه لم يفعل ما لا ينفعه في الآخرة، وهذا حاصله أن إقباله على الآخرة فقط، فلا يتأثر بمدح الناس، ولا يتأثر بذمهم، ولا بثنائهم ولا بترك الثناء، وإنما هو يعمل ما ينفعه في الآخرة.(1/248)
ويترك الاشتغال بكل المباحات، لأن الاشتغال بكل المباحات لا يستقيم مع ترك الرغبة في الدنيا، وكل المباحات لا تنفع في الآخرة ، وإنما الذي ينفع بعض المباحات؛ ولهذا ذهب قائل هذا القول وهو الشيخ تقي الدين ابن تيمية -رحمه الله- : إلى أن الاشتغال بفضول بالمباحات والإكثار منها لا يجوز ، يعني: أنه كلما أقبل عليه مباح غشيه دون مواربة، فقال : هذا لا يجوز وهو من اختيارات الشيخ ابن تيمية، رحمه الله تعالى.
واستدل بقوله -تعالى-: ( (((( (((((((( (((((((((( (((((( ((( ((((((((( (((((( (((((((((( ((((((((( (((((((( (((((((((((( (((((((((( (((((((((((((( ((((( ( (((((((( ((((((( (((((( (((((((((( ( (280) والاستدلال ظاهر، حيث نهي -عليه الصلاة والسلام- والنهي لأمته على وجه التبع، أن يمد المرء عينيه إلى ما متع به الخلق من زهرة الحياة الدنيا، ومن مد عينيه إلى ما متع به الخلق من زهرة الحياة الدنيا، فإنه يفوته الزهد في الدنيا؛ لأنه لا بد وأن يحصل بالقلب نوع تعلق بالدنيا، وهذا خلاف الزهادة، فتحصل من ذلك أن الزهد ليس معناه الفقر، وليس معناه ترك المال، وإنما الزهد حقيقة في القلب بتعلقه بالآخرة، وتجانبه وابتعاده عن الدنيا، من حيث التعلق، فيتعامل بأمور الدنيا على أنها في يده، وليست في قلبه، فتخلص قصده، ونيته في كل عمل يعمله في أن يكون نافعا له في الآخرة.
فإذا عامل -مثلا- بالبيع والشراء، فإنه يستعين به على الحق، وعلى ما ينفعه في الآخرة، وقد قال رجل للإمام أحمد -رحمه الله تعالى-: هل يكون الغنى زاهدا ؟ قال: نعم، إذا لم يأس على ما فاته من الدنيا، ولم يفرح بما كثر عنده منها.(1/249)
قد يكون الرجل عنده مال وفير جدا، ولكنه إن نقص ما تأثر، وإن زاد ما فرح به، فهذا عنده وجوده يعني: زيادته، ونقصه واحد لإقباله على الآخرة، وإنما حصل هذا بيده، فيستعمله فيما ينفعه في الآخرة، وهذا من الأمر العظيم الذي فات إدراكه على كثير من الناس في هذه الأمة، فظنوا أن الزهادة الإعراض عن المال، والإعراض عما يحصل للمرء به نفع في الآخرة، وسئل الحسن فقيل له: -الحسن، أو غيره- فقيل له: من الزاهد ؟ فقال: الزاهد هو الذي إذا رأى غيره ظن أنه خير منه.
وهذا من عظيم المعاني، التي اخترعها الحسن -رحمه الله- حيث قال: إن الزاهد هو الذي يفضل غيره عليه، يعني: إذا رأى أحدا من المسلمين ظن أنه خير منه، يعني: عند الله -جل وعلا -.
وهذا يعني: أنه غير متعلق بالدنيا مزدر نفسه في جنب الله -جل وعلا -غير مترفع على الخلق، وهذا إنما يحصل لمن من الله عليه، فعمر قلبه بالرغبة في الآخرة، وبالبعد عن التعلق بالدنيا، والكلام على تاريخ الزهد كثير.
إذا تقرر هذا، فنرجع إلى قوله -عليه الصلاة والسلام-: ( ازهد في الدنيا يحبك الله ( .
والزهد في الدنيا معناه: أن تكون الدنيا قليلة حقيرة في قلبك فلا ترفع، فلا ترفع بها رأسك، يعني أنه إذا تصرف لا يتصرف للدنيا، إذا فعل لا يفعل للدنيا، وإنما يكون لله -جل وعلا -، فينقلب حامده وذامه من الناس سواء، رضي عنه الناس، أو لم يرضوا عنه، فإنه يعامل ربه -جل وعلا -بما أمر الله -جل وعلا -به من التصرفات والأعمال، فإذا: ( ازهد في الدنيا يحبك الله ( يعني: ليكن تعلقك بالآخرة، وأخرج الدنيا من قلبك، أو قللها من قلبك؛ لأن "ازهد" معناه: قلل، وإذا كان كذلك حصلت لك محبة الله؛ لأنه إذا اجتمع في القلب الرغبة في الآخرة، فإنه يكون مع الإقبال على الله -جل وعلا -والابتعاد عن دار الغرور.(1/250)
قال: ( يحبك الله ( وحب الله -جل وعلا -صفة من صفاته، التي يتبعها أهل السنة والجماعة له على الوجه الذي يليق بجلال الله -جل وعلا -وعظمته ، وقد جاء إثباتها في القرآن في آيات كثيرة، وكذلك في السنة، فهو -جل وعلا -يحب كما يليق بجلاله وعظمته، يحب لا حاجة لمحبوبه، أو لضعفه مع محبوبه، وإنما يحب -جل وعلا -لخير يسوقه إلى من يحب، فحبه -جل وعلا -كمال لا لحاجة، بل هو عن كمال غني، وعن كمال اقتدار فيحب عبده؛ لتقرب العبد منه، وحب -جل وعلا -للعبد من ثمراته أن يكون مع العبد المعية الخاصة، قال -عليه الصلاة والسلام- : ( وازهد فيما عند الناس يحبك الناس ( .
( ازهد فيما عند الناس ( يعني: لا يكن قلبك متعلقا فيما في أيدي الناس، فإذا فعلت ذلك، فأخرجت ما في أيدي الناس من التعلق ومن الاهتمام، وكان ما عند الناس في قلبك لا قيمة له، سواء أعظم أم قل، فإنه بذلك يحبك الناس؛ لأن الناس يرون فيه أنك غير متعلق بما في أيديهم، لا تنظر إلى ما أنعم الله به عليهم نظر رغبة، ولا نظر طلب، وإنما تسأل الله -جل وعلا -لهم التخفيف من الحساب، وتحمد الله -جل وعلا -على ما أعطاك، وما أنت فيه، فهذا إخراج ما في أيدي الناس من القلب، هذه حقيقة الزهادة فيما عند الناس، وإذا فعل ذلك المرء أحبه الناس؛ لأن الناس جبلوا على أنهم لا يحبون من نازعهم ما يختصون به، مما يملكون، أو ما يكون في أيديهم حتى إذا دخلت بيت أحد، ورأيت شيئا يعجبك، وظهر عند ذلك أنك أعجبت بكذا، فإنه يكون في نفس ذاك الآخر بعض الشيء. وهذا يعكر صفو المحبة، فوطن نفسك أن ما عند الناس في قلبك شيء قليل لا قيمة له، حقير لا قيمة له، حقير قيمة له مهما بلغ، وهذا في الحقيقة لا يكون إلا لقلب زاهد متعلق بالآخرة ، لا ينظر إلى الدنيا أما من ينظر إلى الدنيا، فإنه يكون متعلقا بما في أيدي الناس.(1/251)
فإذا نظر إلى ملك هذا تعلق به، وإذا نظر إلى ملك هذا تعلق به، ولا يزال يسأل، أو ينظر إليه، أو يتمتع به حتى لا يكون محبوبا عند الناس، فإذن هذه الوصية جمعت ما يكون فيه أداء حق الله -جل وعلا -والتخلص من حقوق الناس، فحق الله -جل وعلا -عظيم وطريقه أن تزهد فيما ابتلي به الخلق من الدنيا، أن تقلل الدنيا في قلبك وكذلك أن تقلل شأن ما في أيدي الناس، فتكون معلقا بالآخرة .
فهذه هي حقيقة هذه الوصية العظيمة، ولا شك أننا بحاجة إلى ذلك، خاصة في هذا الزمن الذي صار أكثر الخلق معلقين بالدنيا في قلوبهم، وينظرون إذا نظروا على جهة المحبة للدنيا، وهذا مما يضعف قلب المرء في تعلقه بالآخرة، وتعلقه بما يحب الله -جل وعلا -ويرضى.
فعظموا الآخرة وقللوا من شأن الدنيا، فبذلك يكون الزهد الحقيقي، والإقبال على الآخرة، والتجانف عن دار الغرور.
الحديث الثاني والثلاثون
لا ضرر ولا ضرار
وعن أبي سعيد الخدري -رضي الله عنه- أن النبي ( قال : ( لا ضرر ولا ضرار ( حديث حسن رواه ابن ماجة، والدارقطني مسندا، ورواه مالك في الموطأ مرسلا، عن عمرو بن يحيى، عن أبيه، عن النبي ( فأسقط أبا سعيد، وله طرق يقوي بعضها بعضا
هذا الحديث، وهو الحديث الثاني والثلاثون من الأحاديث الجامعة، من الأحاديث الجامعة التي جمعت أحكاما كثيرة، وقاعدة من قواعد الدين عظيمة، ومن جهة ثبوته تنازع العلماء فيه، هل الصواب فيه الوصل أم الإرسال ؟ وقد أشار -رحمه الله -إلى بعض هذا الاختلاف. والصواب أنه حديث حسن، كما قال النووي -رحمه الله تعالى- لكثرة شواهده، والإرسال فيه لا يعل الوصل؛ لأن لكل منهما جهة كما هو معروف في علل الحديث .(1/252)
وليس من شرط هذا الشرح التعرض لتحقيق مثل هذه المسائل، قال أبو سعيد الخدري -رضي الله عنه- قال رسول الله ( ( لا ضرر ولا ضرار ( وقوله: ( لا ضرر ( لا هنا نافية للجنس، ومن المعلوم أن النفي لا بد أن يكون متسلطا على شيء، وقد تسلط هنا على الضرر والضرار، لكن أين الخبر ؟ لا النافية للجنس تطلب خبرا كما هو معلوم، وقد يحذف خبرها، وشاع ذلك كثيرا، إذا كان خبرها معلوما، يعني: إذا كان يدرك، فلا يذكر اختصارا للكلام، كما في قول النبي ( في عدة أحاديث كقوله -مثلا -: ( لا عدوى، ولا طيرة، ولا هامة، ولا صفر، ولا نوء، ولا غول ( كل هذه أين أخبارها ؟ الخبر غير مذكور، لا إله إلا الله، خبر لا النافية للجنس غير مذكور، وهذا معروف في اللغة شاع إسقاط الخبر، كما قال ابن مالك في الألفية، في آخر باب لا النافية للجنس.
وشاع في ذا الباب إسقاط الخبر
إذا المراد مع سقوطه ظهر
فهنا يشيع إسقاط خبر لا النافية للجنس، إذا كان المراد معلوما، إذا تقرر هذا فما المراد هنا ؟ المراد أنه لا ضرر في الشرع، لا ضرر كائن في الشريعة، وهذا النفي منصب على جهتين: جهة العبادات، وجهة المعاملات وما بعدها، أما جهة العبادات، فإن الشريعة لم يأت فيها عبادة يحصل بها للمرء ضرر.
فإذا لا ضرر في الشرع يعني: أن الضرر منتفٍ شرعا فيما شرع في هذه الشريعة، ففي العبادات لم يشرع لنا شيء فيه ضرر على العبد، ولا مضارة على العبد، فمثلا إذا نظرت: المريض يصلي قائما، فإن تضرر بالقيام صلى قاعدا. يتطهر بالماء، فإن كان الماء يضره، ينتقل منه إلى التراب، وهكذا في أشياء متنوعة، فإذن هذا القسم الأول أن الضرر منتفٍ شرعا، وانتقاؤه في العبادات بأنه لم تشرع عبادة، فيها ضرر بالعبد بل إذا وجد الضرر جاء التخفيف.(1/253)
والقسم الثاني: نفى الضرر شرعا في أمور المعاملات والأمور الاجتماعية، يعني: من النكاح، وتوابعه إلى آخره، وهذه كلها -أيضا- في تشريعات الإسلام نفى فيها الضرر، يعني من جهة التشريع، فقال -جل وعلا -مثلا، في بيان العلاقة الزوجية، قال : ( (((( ((((((((((((( (((((((( (((((((((((((( ( ( (281) وقال في الرضاعة : ( (( (((((((( ((((((((( ((((((((((( (((( ((((((((( ((((( ((((((((((( ( ( (282) وقال -جل وعلا -في الوصية ( (((( (((((( (((((((( ((((((( (((((( (((( (((((( (((((( ((((((((( ( ( (283) فإذن في أحكام الشريعة جاء نفي الضرر في نفس الأحكام، وهذا من جهة الشارع.
القسم الثاني، أو النوع الثاني من القسم الثاني: يعني: في المعاملات، أنه طلب بهذا النص نفي الضرر والضرار من العباد، يعني: أن العبد -أيضا- إذ نفي وجود الضرر والضرار شرعا، فهم -أيضا- لا يجوز لهم أن يسعوا في الضرر، ولا في الضرار؛ لأن هذا منفي؛ لأن هذا منفي شرعا، فتحصل لنا أن دخول هذا النفي ( لا ضرر ولا ضرار ( في المعاملات رجع إلى جهتين، الجهة الأولى: جهة التشريع، والجهة الثانية جهة المكلف، فالمكلف لا يسعى في شيء فيه ضرر ولا ضرار؛ لأن الله -جل وعلا -نفى وجود الضرر شرعا، بقول المصطفى ( ( لا ضرر ولا ضرار ( إذا تبين هذا فما معنى الضرر؟ وما معنى الضرار؟ اختلفت عبارات العلماء في ذلك، وفي الفرق ما بين الضرر والضرار، فمنهم من قال:
إن الضرر والضرار واحد، لكن كرر للتأكيد، فالضرر والضرار بمعنى واحد، وهو إيصال الأذى للغير.(1/254)
وقال آخرون من أهل العلم: الضرر والضرار مختلفان، فالضرر هو الاسم، والضرار هو الفعل يعني: نفي وجود الضرر، ونفي فعل الضرر، فيكون على هذا القول، الأول: متجه إلى الشرع بعض الضرر في الشريعة، والثاني: متجه إلى المكلف، فلا فعل للضرر والإضرار مأذون به شرعا، ويؤيد هذا بأنه جاء في بعض الروايات ( لا ضرر ولا إضرار ( يعني: بالغير، وقال آخرون من أهل العلم -وهو القول الثالث-: إن الضرر هو إيصال الأذى للغير، بما فيه منفعة للموصل، والضرار إيصال الأذى للغير بما ليس لموصل الأذى نفع فيه، يعني: أن الضرر على هذا القول، هو أن تضر بأحد لكي تنتفع، فإذا وصله ضرر: أذى معين، انتفعت أنت بذلك إما في الأمور المالية، أو غيرها،
والنوع الثاني: الذي هو الضرار أن توصل الأذى - نسأل الله العافية - دون فائدة لك ولا مصلحة، وهذا قول عدد من المحققين منهم العلامة ابن الصلاح، وقبله ابن عبد البر وجماعة من أهل العلم، وهذا التعريف أولى وأظهر لعدة أمور:
منها: أن فيه تفريقا بين الضرر والضرار، والأصل في الكلام التأسيس لا التأكيد، والثاني: أن لفظ الضرر يختلف عن لفظ الضرار، في أن الضرر ظاهر منه أن الموصل لهذا الضرر منتفع به، وأما المضار بالشيء، فإنه غير منتفع به لمعنى المفاعلة في ذلك، وهذا -أيضا- يعني: من جهة اللغة بين، ومنها -أيضا- يعني: مما يترجح به هذا المعنى أن الأفعال مختلفة، لا ضرر ولا ضرار إذا انتفى في الشرع، يعني: أنه لن يصل الأذى إلى المكلف، أو نفي إيصال الأذى للمكلف هذا يشمل الحالات التي ذكرنا جميعا، وهذا يتضح مع تقسيم يأتي، وكما ذكرنا لكم في أول الكلام:(1/255)
أن نفي الضرر راجع إلى جهة الشرع في العبادات، وإلى الشرع والمكلف في المعاملات وما بعدها، وإذا قلنا: إنه لا ضرر يعني: في الشريعة، ففي الشريعة لا يصل أذى لأحد لنفي انتفاع المؤذي، فإن الله -جل وعلا -لا ينتفع بأذى عباده، بل هو -سبحانه- يبتليهم لحكمة يعلمها -جل وعلا -، فالضرر منفي في التشريع، وكذلك الإضرار منفي -أيضا- في التشريع إذا تقرر هذا، فإن الضرر والضرار يعني: في عدم اعتباره فيما يدخل في فعل المكلف على قسمين:
الأول : أن المكلف يدخل الضرر على غيره، وهو لا ينتفع بهذا الإدخال، يعني: يكون مضارا على التعريف هذا، وهذا بإجماع أهل العلم، إنه لا يجوز ومحرم يعني: أن يضر غيره بما لا نفع له فيه، وهو المضارة على تعريفنا، وهو الضرار، هذا له أمثلة كثيرة في الفقه معلومة.
الثاني : أن يدخل الضرر على مكلف آخر على وجه ينتفع هو منه، وهذا اختلف فيه العلماء، هل يسوغ مثل هذا ؟ أم لا يسوغ ؟ فمنهم من قال: إن الحديث دل على أنه لا ضرار ولا ضرر، فلا يجوز الضرر، فإذا أدخل على غيره ضررا على وجه ينتفع هو منه، فإنه دل الحديث على انتقائه، فيعني أن هذا غير معتبر، وهذا مذهب جماعة من أهل العلم، منهم أبو حنيفة -رحمه الله- والشافعي -رحمه الله- قالوا :(1/256)
إن إدخال الضرر على أي مسلم، ولو لك فيه انتفاع، فإنه هذا لا يجوز، ويجب إزالة الضرر، ووجود الضمان لو حصل ما يوجبه، مثاله : مثلا أن يحتاج إلى فتح نوافذ لتهوية بيته على جهة بيت جاره، والجار يتضرر من فتح هذه النوافذ؛ لأنه بها يطلع الجار على حرمات جاره، فهذا عند أبي حنيفة والشافعي ممنوع؛ لأنه لا ضرر ، وقد دخل الضرر على الغير، مثلا يحتاج إلى أن يعمل شيئا في بيته، يشب نارا في بيته لغرض من الأغراض، يتأذى بها جاره، فهذا ضرر دخل على الجار، وصل إليه، وأذى، وهو منتفع بذلك، عند هؤلاء هذا الضرر منتفٍ، يجب رفعه وإذا اشتكوا، إذا اشتكى الجار جاره عند القاضي، أمره بإزالة ما يلحقه من أذى.
والقول الثاني في هذا ، وهو قول الإمام أحمد ووافقه مالك في بعض المسائل، أن إيصال الضرر للغير ينقسم إلى قسمين:
الأول: أن يكون معتادا، والمصلحة فيه ظاهرة، والثاني: ألا يكون معتادا، والمصلحة فيه غير ظاهرة، فإن كان معتادا، والمصلحة فيه ظاهرة، فيجوز أن يفعله؛ لأن الناس لا يمكن أن يفعلوا فيما بينهم أشياء إلا وثم أذى يصيب الآخر منه، يبني لا بد أنه يشب نارا، ويعمل أشياء، يصل لو رائحة كريهة إليك، لكن هذا شيء معتاد لا بد منه، يريد أن يعمر -مثلا- بجانب جاره لا بد من الصباح، وهم يضربون حتى يتأذى الجار، لا يستطيع الجار أن يلومه، مع أنه لا ينام صباحا من جراء العمل، فهذا عمل معتاد ومثل هذا، ولو وصل الضرر عند الإمام أحمد، فإن مثل هذا غير منفي؛ لأنه لا تصلح أمور الناس إلا بهذا، وأما إذا كان إيصال الضرر غير معتاد في أمر لا مصلحة فيه، وغير معتاد، فإنه يجب إزالته، في أشياء كثيرة، من الأمثلة:(1/257)
يعني: مثل المثال الذي ذكرنا سالفا مثل أبواب وشبابيك على الجار، عند الإمام أحمد هذا مما جرت العادة به؛ لأن الغرف تحتاج إلى تهوية إلى آخره، فلا يمنع منه، وهو المعمول به عندنا في ضوابط معلومة، وأما إذا عمل عملا يوصل إليه الضرر بشيء غير معتاد، فإنه لا يقر عليه، مثل أن يحفر قليبا بجنب قليب صاحبه فسحبت الماء عليه، والماء لمن سبق؛ فلهذا يؤمر المتأخر بأن يزيل هذا الضرر؛ لأنه غير معتاد، ولا مصلحة فيه ظاهرة له؛ لأن مصلحة الأول متقدمة عليه.
مثال آخر: لو أراد أن يحفر في بيته، أو يبني، يذهب يأتي بديناميت -مثلا- ولا بأشياء، يتضرر معها بيت المجاور بتهدم بعضه، أو بخلل في أركانه، أو في أسسه، أو أشبه ذلك، فهذا مما لا يكون معتادا، فيمنع منه، وهذا القول قول الإمام أحمد هو التحقيق، وهو الصواب؛ لأن العمل جرى عليه؛ ولأن مصلحة الناس لا تتم إلا بهذا، فإذا سيحصل لنا من هذا -والبحث في هذا الحديث يطول؛ لأنه قاعدة عظيمة، يدخل فيها كثير من أبواب المعاملات والأمور الاجتماعية: النكاح والوصية والطلاق وإلى آخره- تحصل لنا من هذا أن الضرر والضرار مختلفان وأن هذا له معنى، وهذا له معنى، وأنه منتف الضرر والضرار شرعا، يعني: في التشريع.
وكذلك يجب على العباد أن لا يضر بعضهم بعضا، وأن الضرر منه ما هو للعبد فيه مصلحة، فهذا لا يجوز باتفاق، والضرار الذي لا مصلحة للعبد فيه، ولم تجر العادة فهذا أيضا منفي، وأما ما يحصل به نوع أذى مع بقاء المصلحة، وجريان العادة في ذلك، فإنه لا ينفى شرعا، ولا يجب به إزالة الضرار، هذا ملخص ما في هذا الحديث من مباحث.
وهو يستدعي أطول من هذا بكثير من جهة التقسيمات والأمثلة؛ لأنه داخل -أيضا- ضمن قاعدة فقيهة، وهي: الضرر يزال، ولها تفريعات كثيرة، ربما مر معكم بعضها.
الحديث الثالث والثلاثون
البينة على المدعي واليمين على من أنكر(1/258)
وعن ابن عباس -رضي الله عنهما- أن النبي ( قال : ( لو يعطى الناس بدعواهم، لادعى رجال أموال قوم ودماءهم، ولكن البينة على المدعي واليمين على من أنكر ( حديث حسن رواه البيهقي وغيره، هكذا وبعضه في الصحيحين.
هذا الحديث أصل في باب القضاء والبينات والخصومات، قال: عن ابن عباس -رضى الله عنهما- أن رسول الله ( قال : ( لو يعطى الناس بدعواهم، لادعى رجال أموال قوم ودماءهم ( .
( لو يعطى الناس بدعواهم ( يعني أنه لو كانت المسألة في الحكم مبنية على مجرد الدعوى، فإنه سيأتي لأجل البغضاء والشحناء بين الناس، يأتي من يدعي مال غيره، بل، ويدعي دمه، إذا مات بأي طريقة، ادعي أن فلانا هو القاتل. لو أعطي الناس -بمجرد الدعوى، بلا بينة- لحصل خلل كثير في الأمة وفي الناس؛ لأن نفوس الناس مبنية على المشاحة وعلى البغضاء وعلى الكراهة، فقد ينتج من ذلك أن يدعي أناس أموال قوم ودماءهم، فقال -عليه الصلاة والسلام-: ( لو يعطى الناس بدعواهم ( يعني: بلا بينة على ما ادعوا، لادعى رجال أموال قوم ودماءهم .
وهذا الادعاء بلا بينة مرفوض؛ ولهذا كان لزاما على المدعي أن يأتي بالبينة، وعقب عليه كتفسير لذلك فقال -عليه الصلاة والسلام- ولكن البينة على المدعي، واليمين على من أنكر، قوله: ( البينة على المدعي ( البينة اسم لكل ما يبين الحق، ويظهره على الصحيح المختار، فالبينات إذا كثيرة، فالشهود من البينات، والإقرار من البينات، والقرائن الدالة على المسألة من البينات، وفهم القاضي باختبار -أيضا- من البينات، فهم القاضي للمسألة باختبار، يختبر به الخصمين، فيظهر به له وجه الحق هذا من البينات.(1/259)
فإذا البينات على الصحيح ليست منحصرة في أوجه من أوجه الثبوت، بل هي عامة في كل ما يبين الحق، ويظهره، وهذه تستجد مع الأزمان، وكل زمن له بينات تختلف أيضا، وتزيد عن الزمن الذي قبله، أو تختلف، فلا بد إذا في البينات من رعاية الحال ورعاية البلاد ورعاية أعراف الناس إلى آخره، فإذا تقرر هذا، فالبينة في اللغة: اسم للبيان، وما يبين به الشيء، يقال له: بينة، وأرفع منها البرهان، وأرفع من البرهان الآية ، وقد قال -جل وعلا - ( ((( ((((((((( ((((((((((( ((((( (((((( ((((((((((( (((((((((((( ((( (((((((( ( (284) .
يعني: ما جئتنا بشيء يبين أنك صادق في ذلك، يعني: في دعوى النبوة، ودعوى الرسالة، وما نحن بتاركي آلهتنا عن قولك، وقال -جل وعلا -: ( (((( (((((( ((((((((( ((((((((( (((( (((((( ((((((((((( ((((((((((((((((( ((((((((((( (((((( (((((((((((( ((((((((((((( ((( ((((((( ((((( (((( ((((((((( ((((((( (((((((((( ( (285) فجعل البينة هي الرسول، وفي الآية الأولى البينة يؤتاها الرسول، فتنوعت البينة؛ لأن البينة اسم لما يظهر الحق، ويدل عليه؛ فلهذا قيل للرسول إنه بينة، وللكتاب إنه بينة، وللشاهد إنه بينة، وهكذا.
فالبينة إذن على التحقيق أنها اسم عام جامع لكل ما يبين الحق، ويظهره، قال : ولكن البينة على المدعي، واليمين على من أنكر، والعلماء يعبرون عن ذلك بقولهم: البينة على المدعي واليمين على المدعى عليه، وهذا من باب التصرف في العبارة، وذكر -أيضا- وروي -أيضا- في بعض روايات هذا الحديث، وأجمع أهل العلم على ما دل عليه هذا الحديث: من أن البينة على المدعي، وأن المدعي لا تؤخذ دعواه، ولا يلتفت لها من حيث مطالبته بشيء، حتى يأتي ببينة تثبت له هذا الحق.(1/260)
والمدعِي والمدعَى عليه اختلفت فيهما عبارات أهل العلم، لكن التحقيق فيهما، أو الصواب أن المدعِي من إذا سكت ترك، والمدعى عليه من إذا سكت لم يترك، ويعبر طائفة من أهل العلم في كتب الفقه، في القضاء في آخره، عن المدعي والمدعى عليه بالداخل والخارج، المقصود أن المدعي في قوله : ( ولكن البينة على المدعي ( أن المدعي، هو من إذا سكت عن القضية ترك؛ لأنه هو صاحبها، فيدعي على غيره شيئا، فلو قال: سكت عن هذه الدعوى، ترك إذ لا مطالب له بشيء.
وقد ينقلب المدعي مدعى عليه إذا كان الخصم لا يسكت عنه، فإذا سكت أحد الخصمين، وبسكوته يترك، صار مدعيا، وإذا سكت وبسكوته لم يترك صار مدعى عليه، وقد ينقلب -كما ذكرت لك- المدعي إلى مدعى عليه في بعض الحالات.
قال : ( البينة على المدعي ( يعني: إذا أتى أحد وقال: أنا أدعي على فلان بأنه أخذ أرضي، أو أخذ سيارتي، أو أنه أخذ من مالي كذا وكذا، أو أني أقرضته كذا وكذا، وأطالبه برده فيقال: أين البينة التي تثبت ذلك ؟ هل عندك شهود ؟ هذا نوع من البينات، هل عندك ورقة مشهود عليها ؟ أو أشباه ذلك تثبت ذلك، ما دليلك، أو ما بينتك على هذا ؟
فيأتي بالبينة، فلا ينظر إلى دعواه مجردة حتى يأتي ببينة، هناك بعض الحالات لا يكون ثَمَّ بينة للمدعي، فيتوجه فيها، وهي الأمور المالية، يتوجه فيها اليمين على المدعى عليه، يعني: أنه يقول: هذا خصمي، فيأتي فيقول: هذا ليس له عندي شيء، فهنا ينكر المدعى عليه أحقية المدعي بشيء، ولا بينة للمدعي على ذلك، فيرى القاضي أن تتوجه اليمين إلى المنكر، يعني: إلى المدعى عليه الذي يقول: ليس له عندي شيء.
وهذا معنى قوله : ( واليمين على من أنكر ( أو اليمين على المدعى عليه، يعني: من أنكر حقا طولب به، ولا بينة ثابتة تدل عليه بينة واضحة، وإنما هناك نوع بينة ولكنها لم تكمل، أو ما يرى القاضي فيه، أن فيه حاجة لطلب اليمين، فإنه تتوجه اليمين للمدعى عليه؛ لأنه منكر.(1/261)
نفهم من هذا أن المدعي لا يطالب باليمين؛ لأنه هو صاحب الدعوى، فإنما عليه البينة، كذلك المدعى عليه إذا أنكر، فإنما عليه اليمين، ويبرأ طبعا.
إذا كان المدعى عليه عنده بينات أخرى فيدلي بها، وتكون بينة أقوى من بينة خصمه.
المقصود من هذا الحديث أن الشريعة جاءت في القضاء بإقامة العدل، وإقامة الحق، وأن هذا إنما يكون باجتماع القرائن والدلائل والبينات على ثبوت الحق لأحد الخصمين، وأن الحاكم لا يحكم بمجرد رأيه ولا يعلمه.
فلا يجوز للحاكم يعني: للقاضي أن يحكم بعلمه، وإنما يحكم بما دلت عليه الدلائل، فلو أتاه رجل من أصدق الناس وأصلحهم وقال أنا عندي، أنا لي على فلان كذا وكذا ولا بينة، فإنه لا يحكم بعلمه في ذلك، ولو كان هو يعلم بعض ما في المسألة من الأمور، فلا بد من البينة من المدعي ، ولا بد من إثبات ذلك فيحكم له، أو اليمين على من أنكر في بعض المسائل .
وقد ثبت في الصحيح أن النبي ( قال -في الخصومة وإدلاء كل بحجة - ( فلعل بعضكم أن يكون ألحن بحجته من خصمه، فأقضي له ، فإنما أقضي على نحو ما أسمع، فمن قضيت له من حق أخيه بشيء، فإنما هو قطعة من النار، فليأخذ أو ليدع ( فحكم القاضي لا يجعل لمن ليس له الحق، يجعل المسألة حقا له، وهذا عند بعض العامة.
والناس يظنون أن القاضي إذا حكم، فمعناه أن من حكم له، فله الحق مطلقا، ولو كان مبطلا في نفس الأمر، وهذا باطل؛ لأنه -عليه الصلاة والسلام- قال هنا : ( فمن قضيت له من حق أخيه، فإنما هو قطعة من النار، فليأخذ، أو فليدع ( وهذا يعني: أن المرء لا يحصل له الحق بمجرد حكم القاضي، بل لا بد أن يعلم هو أن هذا حق في نفسه، أو أن المسألة مترددة يحتاج فيها إلى حكم القاضي، أما إذا كان مبطلا، فلا يجوز له أن يستحل الأمر بحكم القاضي، فإنما هي قطعة من النار يأخذها، وما أعظم ذلك ! .
الحديث الرابع والثلاثون
من رأى منكم منكرا فليغيره بيده(1/262)
وعن أبي سعيد الخدري -رضي الله عنه- قال : سمعت رسول الله ( يقول : ( من رأى منكم منكرا، فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان ( رواه مسلم .
هذا الحديث حديث عظيم -أيضا- في بيان وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وهو حديث معلوم لديكم بتفاصيل الكلام عليه؛ لأنه كثر بيانه، وبيان ما فيه، لكن نختصر المقام، عن أبي سعيد الخدري -رضي الله عنه- قال: سمعت رسول الله ( يقول : ( من رأى منكم منكرا، فليغيره بيده ( المنكر : اسم لما عرف في الشريعة قبحه والنهي عنه، فلا يكون منكرا حتى يكون محرما في الشريعة، وهنا قال: ( من رأى منكم منكرا، فليغيره بيده ( فهنا شرط، أما جواب الشرط، فهو الأمر بالتغيير باليد، وهذا الأمر على الوجوب مع القدرة، وأما فعل الشرط فهو قوله : ( من رأى منكم منكرا ( والفعل رأى هو الذي تعلق به الحكم، وهو وجوب الإنكار، ورأى هنا بصرية؛ لأنها تعدت إلى مفعول واحد، فحصل لنا بذلك أن معنى الحديث من رأى منكم منكرا بعينه، فليغيره بيده، وهذا تقييد لوجوب الإنكار بما إذا رؤي بالعين، وأما العلم بالمنكر، فلا يكتفى به في وجوب الإنكار، كما دل عليه ظاهر هذا الحديث.
قال العلماء : ظاهر الحديث على أنه لا يجب حتى يرى بالعين، وينزل السمع المحقق منزلة الرأي بالعين، فإذا سمع منكرا سماعا محققا، سمع صوت رجل وامرأة في خلوة محرمة سماعا محققا، يعرف بيقين أن هذا محرم، وأنه لا يفعل.... أن هذا في كلامه إنما هو مع أجنبية وأشبه ذلك، فإنه يجب عليه الإنكار؛ لتنزيل السماع المحقق منزلة النظر.(1/263)
كذلك إذا سمع أصوات معازف، أو أصوات ملاهٍ، أو أشباه ذلك بسماع محقق، فإنه يجب عليه هنا الإنكار، وأما غير ذلك، فلا يدخل في الحديث، فإذا علم بمنكر، فإنه هنا لا يدخل في الإنكار، وإنما يدخل في النصيحة؛ لأن الإنكار علق بالرؤية في هذا الحديث، وينزل -كما قال العلماء- السماع المحقق -فقط- منزلة الرؤية قال : ( من رأى منكم منكرا ( وفي قوله: "منكرا" يظهر تعليق الأمر بالمنكر، دون الواقع فيه، فالحكم بالأمر بالتغيير باليد هذا راجع إلى المنكر، أما الواقع في المنكر، فهذا له بحث آخر.
قال: "فليغيره" يعني: فليغير المنكر، فلا يدخل في الحديث عقاب فاعل المنكر؛ لأن فاعل المنكر تكتنفه أبحاث، أو أحوال متعددة، فقد يكون الواجب معه الدعوة بالتي هي أحسن، وقد يكون التنبيه، وقد يكون الحيلولة بينه وبين المنكر والاكتفاء بزجره بكلام، ونحوه ، وقد يكون بالتعزير ، وقد يكون .. إلى آخر أحوال ذلك المعروفة، في كل مقام بحسب ذلك المقام، وما جاء فيه من الأحكام.
المقصود: أن الحديث دل بظاهره على تعليق وجوب الإنكار، ووجوب التغيير باليد بالرؤية، وما يقوم مقامها.
والثاني: بالمنكر نفسه، فتغيير المنكر، يعني -مثلا-: رجل أمامه زجاجة خمر، أو أمامه شيء من الملهيات المحرمة، فإنكار المنكر ليس هو التعنيف للفاعل، وإنما هو تغيير هذا المنكر من الخمر، أو من الملاهي المحرمة، أو من الصور المحرمة، أو أشباه ذلك بتغييره باليد مع القدرة .
تغييره باليد مع القدرة ، وأما الفاعل له فهذا له حكم آخر.(1/264)
قال: ( فليغيره بيده ( والتغيير هنا أوجب التغيير باليد، وهذا مقيد بما إذا كان التغيير باليد مقدورا عليه، وأما إذا كان غير مقدور عليه، فإنه لا يجب، ومن أمثلة كونه مقدورا عليه: أن يكون في بيتك الذي لك الولاية عليه يعني: في زوجك وأبنائك وأشباه ذلك، أو في أيتام لك الولاية عليهم، أو في مكان أنت مسئول عنه، وأنت الولي عليه، هذا نوع من أنواع الاقتدار، فيجب عليك هنا أن تزيله، وإذا لم تغيره بيدك فتأثم، أما إذا كان في ولاية غيرك، فإنه لا تدخل القدرة هنا، أو لا توجد القدرة عليه؛ لأن المقتدر: هو من له الولاية فيكون هنا باب النصيحة لمن هذا تحت ولايته،ليغيره من هو تحت ولايته والتغيير في الشرع ليس بمعنى الإزالة.
التغيير: اسم يشمل الإزالة، ويشمل الإنكار باللسان بلا إزالة، يعني أن يقال: هذا حرام، وهذا لا يجوز، ويشمل -أيضا- الاعتقاد أن هذا منكر و محرم؛ ولهذا جاء في هذا الحديث بيان هذه المعاني الثلاث، فقال عليه -الصلاة والسلام:- ( فإن لم يستطع - التغيير بيده - فبلسانه ( يعني: فليغيره بلسانه، ومن المعلوم أن اللسان لا يزيل المنكر دائما، بل قد يزول معه بحسب اختيار الفاعل للمنكر، وقد لا يزول معه المنكر، تقول مثلا لفلان: هذا حرام، وهذا منكر لا يجوز لك، قد ينتهي وقد لا ينتهي، فإذا أخبرت الخلق، أو المكلف الواقع في هذا المنكر، إذا أخبرته بأنه منكر وحرام فقد غيرت، وإذا سكت، فإنك لم تغير.(1/265)
وإن كنت لا تستطيع باللسان، فتغيره بالقلب تغييرا لازما لك لا ينفك عنك، ولا تعذر بالتخلف عنه، وهو اعتقاد أنه منكر ومحرم ، والبراءة من الفعل يعني: بعدم الرضا به؛ لهذا جاء في سنن أبي داود أنه عليه -الصلاة والسلام- قال: ( إذا عملت الخطيئة كان من غاب عنها ورضيها كمن عملها، وكان من غاب عنها وكان ممن شهدها، فلم يفعلها كمن فعلها ( وهذا يعني: أن الراضي بالشيء كفاعله؛ لأن المنكر لا يجوز أن يقر، يعني: أن يقره المرء، ولو من جهة الرضا، وهذا ظاهر في قوله -جل وعلا-: ( (((( ((((((((((( (((((((( (((((( (((((((((( ((( ((((((( (((((((((( ( (((((((( ((((( ((((((((((( ( ( (286) وفي الآية الأخرى : ( (((( (((((((( (((((( (((((((((((( (((( (((((((((( ((((((((((((( ( (287) .
فمن جلس في مكان يستهزأ فيه بآيات الله، وهو جالس لا يفارق هذا المكان، فهو في حكم الفاعل من جهة رضاه بذلك؛ لأن الراضي بالذنب كفاعله كما قال العلماء، إذا تبين ذلك، فها هنا مسائل تتعلق بهذا الحديث، وهي أن الإنكار - وجوب الإنكار - متعلق بالقدرة بالإجماع، ومتعلق بظن الانتفاع عند كثير من أهل العلم.
قال طائفة من العلماء: إنما يجب الإنكار إذا غلب على ظنه أن ينتفع المنكر، يعني: باللسان، بما لا يدخل تحت ولايته، أما إذا غلب على ظنه أنه لا ينتفع، فإنه لا يجب الإنكار؛ وذلك لظاهر قول الله -جل وعلا:- ( ((((((((( ((( (((((((( (((((((((((( ( (288) فأوجب التذكير بشرط الانتفاع، وهذا ذهب إليه جماعة من أهل العلم منهم شيخ الإسلام ابن تيمية وغيره، ودل عليه عمل عدد من الصحابة -رضوان الله عليهم- كابن عمر وابن عباس وغيرهما، لما دخلوا على الولاة وأمراء المؤمنين في بيوتهم، وكان عندهم بعض المنكرات في مجالسهم، فلم ينكروها؛ وذلك لغلبة الظن أنهم لا ينتفعون بذلك؛ لأنها من الأمور التي أقروها وصارت فيما بينهم، وهذا خلاف قول الجمهور.(1/266)
والجمهور على أنه يجب مطلقا، سواء غلب على الظن، أو لم يغلب الظن؛ لأن إيجاب الإنكار لحق الله -جل وعلا- وهذا لا يدخل فيه غلبة الظن، والقول الثاني، وهو قول شيخ الإسلام ابن تيمية -كما ذكرت لكم- وجماعة، من أنه يجب مع غلبة الظن هذا أوجه من جهة نصوص الشريعة؛ لأن أعمال المكلفين مبنية على ما يغلب على ظنهم، والنبي ( قال: ( من رأى منكم منكرا فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه ( وعدم الاستطاعة هذه تشمل عدة أحوال، ويدخل فيها غلبة الظن ألا ينتفع الخصم، مثلا: إذا قابلت حليقا للحية، أو قابلت امرأة سفرت وجهها، ونحو ذلك، في بعض الأمكنة نجد حرجا هل ننكر أم لا ننكر؟
يغلب على ظننا في بعض الأحوال، أننا لو أنكرنا لما انتفع أولئك بذلك؛ لعلمهم بهذه المسألة، فيكتفى هنا بالإنكار بالقلب من جهة الوجوب، ويبقى الاستحباب في أنه يستحب أن تبقى هذه الشعيرة، وأن يفعلها من أراد فعل المستحب، وكما ذكرت لك هذا خلاف قول الجمهور، لكنه يتأيد بمعرفة حال الصحابة -رضوان الله عليهم- من أنهم إنما أنكروا ما غلب على ظنهم الانتفاع به، وإلا للزم منه أن يأثموا في ترك كثير من الواجبات في أحوال كثيرة ومعلومة.
قال في آخره: ( فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان ( ( فإن لم يستطع فبقلبه ( يعني: ينكر بقلبه، والإنكار بالقلب، يعني: بغض المنكر، وكراهته واعتقاد أنه منكر وأنه محرم ( وذلك أضعف الإيمان ( يعني: هذا أقل درجات الإيمان؛ لأنه هو الذي يجب على كل أحد، كل أحد يجب عليه هذا ( وليس وراء ذلك من الإيمان حبة خردل ( لأن المنكر المجمع عليه إذا لم يعتقد حرمته، ولم يبغضه مع اعتقاد حرمته، فإنه على خطر عظيم في إيمانه.(1/267)
هذا الحديث يدخل في بحثه الإنكار على الولاة، والإنكار على عامة الناس، ويدخل -أيضا- مراتب الإنكار، والقواعد التي تحكم ذلك، وهي كثيرة، يعني: مباحثه، أعني: مباحثه وفروعه كثيرة يطول المقام بذكرها، لكن أنبه على مسألة مهمة ذكرتها عدة مرات، وهي أن هناك فرقا ما بين النصيحة والإنكار في الشريعة، وذلك أن الإنكار أضيق من النصيحة، فالنصيحة اسم عام يشمل أشياء كثيرة، كما مر معنا في حديث ( الدين النصيحة ( ومنها الإنكار، فالإنكار حال من أحوال النصيحة؛ ولهذا كان مقيدا بقيود وله ضوابطه، فمن ضوابطه: أن الإنكار الأصل فيه أن يكون علنا؛ لقوله: ( من رأى منكم فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه ( وهذا بشرط رؤية المنكر.
وهنا ندخل في بحث مسألة بحثناها مرارا، وهي أن الولاة ينكر عليهم إذا فعلوا المنكر بأنفسهم، ورآه من فعل أمامه ذلك الشيء، وعلى هذا يحمل هدي السلف في ذلك.
وكل الأحاديث التي جاءت، وهي كثيرة، أكثر من عشرة، أو اثني عشر حديثا في هذا الباب، فيها إنكار طائفة من السلف على الأمير، أو على الوالي، كلها على هذا الضابط، وهو أنهم أنكروا شيئا رأوه من الأمير أمامهم، ولم يكن هدي السلف أن ينكروا على الوالي شيئا أجراه في ولايته؛ ولهذا لما حصل من عثمان ( بعض الاجتهادات وقيل لأسامة بن زيد - رضي الله عنهما- : ألا تنصح لعثمان؟ ألا ترى إلى ما فعل؟ قال: أما إني بذلته له سرا، لا أكون فاتح باب فتنة.(1/268)
ففرق السلف في المنكر الذي يفعل أمام الناس كحال الأمير الذي قدم خطبتي العيد على الصلاة، وكالذي أتى للناس وقد لبس ثوبين، وأحوال كثيرة في هذا، فرقوا ما بين حصول المنكر منه أمام الناس علنا، وما بين ما يجريه في ولايته، فجعلوا ما يجريه في ولايته بابا من أبواب النصيحة، وما يفعله علنا يأتي هذا الحديث: ( من رأى منكم منكرا فليغيره بيده ( مع الحكمة في ذلك؛ ولهذا قال رجل لابن عباس - رضي الله عنهما -: ألا آتي الأمير، فآمره وأنهاه ؟ قال: لا تفعل، فإن كان ففيما بينك وبينه. قال: أرأيت إن أمرني بمعصية؟ قال: أما إن كان ذاك فعليك إذن.
فدل هذا على أن الأمر والنهي المتعلق بالولي إنما يكون فيما بين المرء وبينه، فيما يكون في ولايته، وأما إذا كان يفعل الشيء أمام الناس، فإن هذا يجب أن ينكر من رآه بحسب القدرة وبحسب القواعد التي تحكم ذلك، إذا تكرر هذا، فثم مسألة متصلة بهذه، وهي: أن قاعدة الإنكار مبنية على قاعدة أخرى ذكرها شيخ الإسلام ابن تيمية وابن القيم، وهي أنه لا يجوز إنكار منكر حتى تتيقن أنه لن ينتقل المنكر عليه إلى منكر أشد منه، قال شيخ الإسلام:
ومن أنكر ظانا أنه ينتقل، فإنه يأثم، حتى يتيقن أن إنكاره سينقل المنكر عليه إلى ما هو أفضل.
وقد قال بعض أهل العلم: إن هذا مجمع عليه، ومثل لهذا ابن القيم بمسائل كثيرة في كتابه "إعلام الموقعين" فقال مثلا: لو أتيت إلى أناس يلعبون لعبا محرما، أو يشتغلون بكتب مجون، فإن أنكرت عليهم ذلك، فإنه يكتنفه أحوال: الأول: أن ينتقلوا من هذا المنكر إلى ما هو أنكر منه، فهذا حرام بالإجماع يعني: يخرج من لهوه بالكتب إلى الاتصال بالنساء مباشرة، أو إلى رؤية النساء مباشرة، أو ما أشبه ذلك، فهذا منكر أشد منه، فبقاؤه على الأول أقل خطرا في الشريعة من انتقاله إلى المنكر الثاني.
الحال الثانية: أن ينتقل إلى ما هو خير ودين، فهذا هو الذي يجب معه الإنكار.(1/269)
والثالث: أن ينتقل منه إلى منكر يساويه، فهذا محل اجتهاد.
والرابع: أن ينتقل منه إلى منكر آخر.
ذكر أربعة: منكر أشد منه، ومنكر آخر، ومنكر مساويه، وإلى خير، هذه أربعة أقسام، وإلى منكر آخر، فهذا -أيضا- لا يجوز، وإذا كان إلى منكر مساويه، فهذا محل اجتهاد، وإلى خير فهذا واجب، وإلى منكر أشد منه فهذا لا يجوز، فتحصل منه أن ثم حالتين يحرم فيهما الإنكار، وهي: إذا انتقل من منكر إلى منكر آخر غير مساوٍ، وإلى منكر - يعني: إنك ما تدري إنه مساوٍ - وإلى منكر أشد منه بيقينك، فهذه حرام بالإجماع.
والثالث: أن ينتقل إلى منكر مساوٍ فهذا فيه محل اجتهاد.
والرابع: أن ينتقل إلى خير، فهذا يجب معه الإنكار، وذكر قصة لشيخ الإسلام ابن تيمية أنه مر وطائفة من أصحابه على قوم من التتر يلعبون بالشطرنج، ويشربون الخمر في شارع من شوارع دمشق علنا، فقال أحد أصحاب شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله -: ألا ننكر على هؤلاء ؟ فقال شيخ الإسلام: دعهم، فإن انشغالهم بذلك أهون من أن يعيثوا في المسلمين، أو أن يعتدوا عليهم، وهذا من الفقه العظيم؛ لأن هذا منكر ومحرم لكنه قاصر، ولإنكاره عليهم قد يكون معه أن ينتقلوا إلى منكر متعدٍ على بعض المسلمين، ومعلوم أن المنكر القاصر أهون من المنكر المتعدي.
هذه بعض المباحث التي يحسن ذكرها عند هذا الحديث.
نعم.
نقف عند هذا ، بقي عندنا سبعة أحاديث ننهيها غدا -إن شاء الله-.
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن اهتدى بهداه، معنا الحديث الخامس والثلاثون من الأربعين النووية.
اقرأ.
الحديث الخامس والثلاثون
لا تحاسدوا ولا تناجشوا ولا تباغضوا(1/270)
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، قال المصنف رحمه الله تعالى: وعن أبي هريرة ( قال: رسول الله ( ( لا تحاسدوا، ولا تناجشوا ، ولا تباغضوا، ولا تدابروا ، ولا يبع بعضكم على بيع بعض، وكونوا عباد الله إخوانا، المسلم أخو المسلم، لا يظلمه، ولا يخذله، ولا يكذبه، ولا يحقره، التقوى ها هنا، ويشير إلى صدره ثلاث مرات، بحسب امرئ من الشر أن يحقر أخاه المسلم، كل المسلم على المسلم حرام دمه وماله وعرضه ( رواه مسلم
هذا الحديث أصل في حق المسلم على المسلم، وفيما ينبغي أن يكون بين المسلمين من أنواع التعامل، قال فيه -عليه الصلاة والسلام-: ( لا تحاسدوا، ولا تناجشوا، ولا تباغضوا، ولا تدابروا ( .
الحديث.
قوله: ( لا تحاسدوا، ولا تناجشوا ( ...إلى آخره هذا نهي، وكما هو معلوم أن النهي يفيد التحريم في مثل هذا، فقوله -عليه الصلاة والسلام-: ( لا تحاسدوا ( يعني: أن الحسد محرم، وقد جاءت أحاديث كثيرة فيها بيان تحريم الحسد، وأنه يأكل الحسنات كما تأكل النار الحطب، وكذلك التناجش محرم، وقد نهى النبي ( عن النجش في غير ما حديث، وكذلك التباغض والتدابر وأشباه هذا مما يزيل المحبة، أو يزيل الألفة بين المسلمين، فإنه ممنوع منع تحريم.(1/271)
قوله -عليه الصلاة والسلام-: ( لا تحاسدوا ( الحسد: فسر بعدة تفسيرات، ومنها: أن الحسد: تمني زوال النعمة عن الغير، وأيضا من الحسد أن يعتقد أن هذا الذي أنعم الله عليه ليس بأهل لهذه النعمة، ولا يستحق فضل الله -جل وعلا- ولهذا فحقيقة الحسد اعتراض على قضاء الله -جل وعلا- وعلى قدره ونعمته؛ فلهذا كان ( الحسد يأكل الحسنات كما تأكل النار الحطب ( فليس الحسد مقتصرا على أنه يأثم به صاحبه فقط، بل يذهب بعض حسنات صاحبه؛ لأنه ينطوي على اعتقاد خبيث وعلى ظن سوء بالله -جل وعلا- حيث قام في قلبه أن هذا ليس بأهل لفضل الله -جل وعلا- ونعمته، ونحو هذا ما يستعمله بعض العامة حيث يقول بعضهم: هذا حرام أن يعطى كذا وكذا، هذا حرام أن تكون عنده هذه النعمة، هذا حرام أن يكون عنده المال، وأشباه ذلك مما فيه ظن سوء بالله -جل وعلا- واعتراض على قدر الله، وعلى نعمته، وعلى رزقه الذي يصرفه كيف يشاء.
فالواجب إذن على المسلم أن يفرح لأخيه المسلم بما أنعم الله عليه، وقد مر معنا في الحديث: ( لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه ( والحسد بضد ذلك، فإن الحاسد لا يحب لأخيه ما يحب لنفسه، بل إما أن يتمنى زوال النعمة عن أخيه، أو أنه يعتقد، ويظن أن أخاه ليس بأهل لما أعطاه الله -جل وعلا-.
قال: ( ولا تناجشوا ( وهذا -أيضا- يدل على تحريم النجش، وقد تقرر في الأصول أن النهي إذا تسلط على المضارع، فإنه يعم أنواع المصدر؛ لأن المضارع عبارة عن حدث وزمن، فتسلط النفي على الحدث تسلط النفي أو النهي على الحدث، والحدث نكرة فعم أنواعا.(1/272)
إذن نقول هنا: في قوله: ( لا تحاسدوا ( يعم جميع أنواع الحسد، وقوله: ( لا تناجشوا ( يعم جميع أنواع النجش بالسكون، أو النجش بالتحريك، والنجش، أو النجش فسر بعدة تفسيرات، وأعمها التفسير اللغوي، وهو أن النجش: أن يسعى في إبطال الشيء بمكر واحتيال وخديعة، أو هو السعي بالمكر والخداع والحيلة، وهذا عام يشمل جميع أنواع التعامل مع المسلمين، فإذن قوله: ( ولا تناجشوا ( أي: لا يسعى بعضكم مع بعض بالخداع والحيلة والمواربة وأشباه ذلك من الصفات المذمومة، ويدخل في هذا النجش الخاص، وهو المستعمل في البيع بأن يزيد في السلعة من لا يرغب في شرائها؛ لأن هذا سعي في ازدياد السعر بمكر وحيلة وخداع، فهو سمى ذلك بالنجش، أو النجش؛ لأنه فيه المكر والخداع والحيلة، فيمنع.
ويحرم أن يسعى المسلم مع إخوانه المسلمين بالحيلة والخداع والمكر بأي نوع، بل المسلم مع إخوانه يسير على نية طيبة، وعلى أن يحب لهم ما يحب لنفسه، وألا يخدعهم، ولا يغرر بهم، بل يكون معهم كما ينبغي، أو كما يحب أن يكونوا معه، وزيادة المرء في السعر، وهو لا يريد الشراء حين السوم على السلعة هذا من أنواع الحيلة والخداع؛ ولهذا فهو منهي عنه ومحرم يأثم به صاحبه إثم المحرمات.
قال: ( ولا تباغضوا ( والتباغض هنا -أيضا- عام في كل ما يكون سببا لحدوث البغضاء من الأقوال والأعمال، فكل قول يؤدي إلى البغض، فأنت منهي عنه، وكل فعل يؤدي إلى التباغض، فأنت منهي عنه، فالمؤمن مأمور بأن يسعى بما فيه المحبة بين إخوانه المؤمنين، وأما ما فيه من التباغض، فهو حرام أن يسعى فيه بقوله، أو قلمه، أو كلامه ، أو عمله، أو تصرفاته، أو إشاراته، أو لحظه حتى إن الرجل لا ينبغي له أن يبغض، بل لا يسوغ له أن يبغض أي مسلم كان؛ لأنه قد أحبه لما معه من الإسلام والتوحيد، وهذا يجبر غيره، وإن أبغضه بغضا دينيا فهذا لا حرج، لكن البغض الدنيوي هو الذي نهى عنه هنا.(1/273)
فسبب البغض إذا كان دينيا مشروعا، فهذا مطلوب، ولا بأس به، لكن بالنسبة للمسلم فإنه لا يبغض بالجملة، بل يجتمع في حق المؤمن، أو في حق المسلم ما يكون معه الحب له، وهو ما معه من الإيمان والتوحيد والطاعة، وما يكون معه البغض له، وهو ما قد يكون يقترفه من الإثم والعصيان .
فإذن في المؤمن والمسلم يجتمع الموجبان في الدين الحب والبغض، والنبي ( هنا قال: ( لا تباغضوا ( قال العلماء: هذا في السعي فيما فيه التباغض في أمر الدنيا، أما إذا كان لأمر شرعي وديني، فإن هذا مطلوب، ولا يدخل في هذا النهي، والسعي في البغضاء بأنواع كثيرة، وحتى الرجل مع أهله ينبغي له أن يسعى فيما فيه المودة والمحبة وألا يبغض، وإذا حصلت البغضاء، فإنه ينظر كما قال النبي ( ( لا يفرك مؤمن مؤمنة، إن سخط منها خلقا رضي منها خلقا آخر ( يعني: لا يبغض مؤمن مؤمنة.
وهكذا قاعدة عامة أن المؤمن لا يسوغ له أن يبغض مؤمنا، يعني: بعامة، بل ينظر إليه إن حصل في قلبه بغضاء، فينظر إلى أخيه المؤمن، وينظر ما معه من الخير والإيمان والطاعة، فيعظم جانب طاعته لله على نصيب نفسه، وحظ نفسه، فتنقلب البغضاء عنده هونا ما، ولا يكون بغيضا له بغضا تاما، أو ما يوجب المقاطعة، أو المدابرة.
قال بعدها -عليه الصلاة والسلام-: ( ولا تدابروا ( يعني: لا تسعوا في قول، أو عمل تكونوا معه متقاطعين؛ لأن التدابر أن يفترق الناس كل يولي الآخر دبره، وهذا يعني: القطيعة والهجران، وهجر المسلم وقطعه حرام إذا كان لأمر دنيوي، فالهجر ينقسم إلى قسمين: هجر لأمر الدين، وهذا له أحكامه المختصة، وضابطها: أنه يجوز هجر المسلم لأجل الدين إذا كان فيه مصلحة لذلك الهجر، وهذا كما هجر النبي ( المخلفين الثلاثة في غزوة تبوك وأمثال ذلك.(1/274)
والقسم الثاني: الهجر لغرض دنيوي أن يهجر المسلم أخاه لغرض له للدنيا؛ لإيذاء... أذاه، أو لشيء وقع في قلبه عليه، فالهجر إذا كان للدنيا فللمسلم أن يهجر أخاه للدنيا إلى ثلاثة أيام وما بعدها، فحرام عليه أن يهجره، وقد ثبت عنه -عليه الصلاة والسلام- أنه قال: ( لا يهجر مسلم أخاه فوق ثلاث، يلتقيان فيعرض هذا، ويعرض هذا، وخيرهما الذي يبدأ بالسلام ( .
قال العلماء: الهجران إلى ثلاث مأذون به في أمر الدنيا، يعني: إذا كان لك هذا لحظ نفسك ، أما... هذا لحظ نفسك إلى ثلاثة أيام وما بعدها، فحرام أن تهجر أخاك فوقها، وخير الرجلين الذي يبدأ بالسلام، أما أمور الدين فهذه بحسب المصلحة -كما ذكرنا في القسم الأول-، قد يكون هجرانا إلى أسبوع، أو إلى شهر، أو يوم بحسب ما تقضي به مصلحة المهجور.
قال : ( ولا يبع بعضكم على بيع بعض ( وهو -مثلا- أن يقول... لمن أراد أن يشتري سلعة بعشرة أن يعطيك مثلها بتسعة، أو لمن أراد أن يبيع سلعة بعشرة: أنا آخذها منك بإحدى عشر، وأشباه ذلك يعني: أنه يغريه بألا يشتري من أخيه، أو أن يبيع عليه، ففي هاتين الصورتين حصل بيع على بيع المسلم، وهنا حرم النبي ( ذلك بقوله: ( ولا يبع بعضكم على بيع بعض ( وهذا مشروط بأن الذي يعرض الشراء من هذا الذي يريد أن يبيع شيئا، أو يعرض البيع لهذا الذي يريد أن يشتري شيئا بأكثر في الأول، وأقل في الثاني، هذا مشروط بأنه حصل بين الأول، ومن يريد أن يبيعه، أو أن يشتري منه انفصال وتراض.(1/275)
مثلا: يأتي إلى صاحب دكان ويقول: أنا أريد أن أشتري هذه، فيتفاصلان على أنه سيشتريها بكذا، وهذا راض، سيشتريها فيأتي أحد ويقول: تعال، أنا أعطيك مثلها بكذا وكذا بأنقص، أو أشباه ذلك، فإذا كان هناك رضا من البائع للسلعة على من يبيع عليه، أو رضا ممن يشتري، وتفاصل بينه وبين من أراد الشراء منه، أو البيع عليه، فإنه هنا يحرم أن يدخل أحد، فيتدخل في هذا المبيع إذا تفاصلا وتراضيا، وهنا يعني: تمت مقدمات العقد بالاتفاق على الثمن، والعزم على الشراء، فإنه لا يجوز لأحد أن يدخل، ونفهم من هذا أنه لو تدخل قبل أن يعقد هذا، وهذا يعني: ما دام أنه بفترة النظر انتقل من دكان إلى دكان وأشباه ذلك، فهذا لا بأس به.
فيشترط لتحريم البيع على بيع أخيه بما كان فيه تفارق بالقول، أو انفصال في القول بالعزم على الشراء، أو العزم على البيع إذا حصل العزم وأجابه البائع، أو المشتري، فإنه لا يجوز التدخل في ذلك، في أمثالها، مثل: ( لا يخطب أحدكم على خطبة أخيه ( فإن المرء إذا تقدم إلى أحد خاطبا، وسمع به فلان من الناس، سمع أن فلانا خطب، فإن ردوا عليه بالرضا، فإنه لا يجوز لأحد أن يأتي ويقول: أنا أريد ابنتكم، ممن علم أنهم أجابوه ورضوا به، لكن قبل أن يجيبوه بالرضا له أن يدخل كخاطب من الخطاب، وهكذا في هذه المسألة في قوله : ( لا يبع بعضكم على بيع بعض ( .
قال -عليه الصلاة والسلام- بعدها: ( وكونوا عباد الله إخوانا ( حققوا أخوة الدين، إذ قال -جل وعلا- : ( ((((((((((((((((( ((((((((((((((((( (((((((((( (((((((((((( (((((( ( ( (289) وقال -جل وعلا-: ( ((((((( ((((((((((((((( (((((((( ( (290) ( المسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يخذله ولا يكذبه ولا يحقره ( .(1/276)
( لا يظلمه ( يعني: لا يظلمه في ماله، ولا يظلمه في عرضه، ولا يظلمه في أهله، ولا يظلمه في أي أمر اختص به، بل يعدل معه، ويكون خليفته في ماله وأهله وعرضه؛ ولهذا جاءت الشريعة، وهذا من محاسنها العظيمة في أن يتحلل المرء إخوانه فيما وقع منه عليهم من المظالم.
وقد ثبت في الصحيح، صحيح أبي عبد الله البخاري أنه -عليه الصلاة والسلام- قال: ( من كانت عنده لأخيه مظلمة - بكسر اللام - في مال، أو عرض، فليتحلله منه اليوم قبل أن يكون يوم لا درهم فيه ولا دينار ( يعني: من اغتاب، أو من وقع في عرض إخوانه، أو من اعتدى على بعض... فعليه أن يرد هذه المظالم، فإن كان في ردها مشقة عليه، فيوسط أحدا ...إلى آخره.
المقصود أنه يجب أن يرد المظالم، وفي الغيبة تفصيل للعلماء من أنه إذا ذكر لمن اغتابه، أنه قد اغتابه، وهذا يؤدي إلى حصول منازعة ومشاقة في إخباره بغيبته إياه وطلبه تحليله، فإنه يترك هذا الإخبار، ويكتفي منه بالاستغفار له، وكثرة الدعاء له، لعلها أن تشفع في تكفير غيبته أو النيل منه.
وهذا من السنن التي ينبغي لنا أن نتعاهدها في أن يحلل بعضنا بعضا، وإذا سأل أحد أخاه أن يحلله، فيستحب له أن يقول: حللك الله، وأنت في حل مني، وأشباه ذلك دون سؤال له ماذا قلت؟ وماذا فعلت؟ وبأي شيء اعتديت علي؟ وأشباه ذلك كما قرر العلماء.
قال: ( ولا يخذله ( لا يخذله، الخذلان: ترك الإعانة والنصرة، والمسلم ولي المسلم، يعني: محب له، يعني: أن المسلم محب للمسلم، ناصر له، وخذل المسلم للمسلم... وخذلانه له ينافي عقد المولاة الذي بينهما؛ ولهذا تضمن عقد المولاة في قوله: ( ((((((((((((((((( ((((((((((((((((( (((((((((( (((((((((((( (((((( ( ( (291) أن خذل المسلم للمسلم لا يجوز، إذا كان في مقدرته أن يعينه، وأن ينصره ولو بالدعاء.(1/277)
قال: ( ولا يكذبه ( يعني: لا يقول له: أنت كاذب، وكلما أخبره بخبر قال: هذا كاذب، وأنت كاذب؛ لأن الأصل في المسلم أنه لا يكذب، وقد ثبت عنه -عليه الصلاة والسلام- أنه قيل له: ( أيزني المؤمن؟ قال: نعم، قيل له: أيسرق المؤمن؟ قال: نعم. قال له: أيكذب المؤمن؟ قال: لا ( لأن الكذب خصلة تستحكم من صاحبها، وتستمر معه، فيكون معه خصلة من خصال النفاق، وأما ما يقع من زنا الشهوة، ومن سرقة الشهوة وأشباه ذلك، فإنها عارض يعرض، ويزول، ويرتفع معه الإيمان حتى يكون فوق صاحبه كالظلة، ثم إذا فارق المعصية عاد إليه، وأما الكذب، فإنه إذا استمر بصاحبه، فإنه يدل ويهدي إلى الفجور، والفجور يهدي إلى النار، فقوله هنا -عليه الصلاة والسلام- : ( ولا يكذبه ( يدخل فيه أن يكذب في الحديث .
قال: ( ولا يحقره ( يعني: لا يحتقر المسلم أخاه المسلم بأن يعتقد، أو أن يأتي في خاطره أن هذا وضيع، وأن هذا أقل قدرا منه، وأن هذا مرذول ، إما لأجل نسب، أو لأجل صناعة، أو لأجل بلد، أو لأجل معنى من المعاني، ، بل الإسلام هو الذي رفع المسلم، وجعله مكرما مخصوصا من بين المخلوقات؛ ولهذا فإن المسلم عند الله -جل وعلا- كريم عزيز، وتحقير المسلم يخالف أصل احترام المسلم لما معه من التوحيد والإيمان، فهذا البدن الذي أمامك -بدن المسلم- يحمل عقيدة التوحيد، وحسن ظن بالله، ومعرفة بالله وعلم بالله بحسب ما عنده من الإسلام والإيمان والعلم، وهذا ينبغي معه ألا يحتقر، بل يحترم لما معه من الإيمان والصلاح.
وهذه يتفاوت الناس فيها كلما كان الإيمان والصلاح والإسلام والتوحيد والطاعة، والسنة أعظم في المرء المسلم، كان أولى بأن يكرم، ويعز وأن يبتعد عن احتقاره، ويقابله المشرك، فإنه مهما كان من ذوي المال، أو ذوي الجاه، أو ذوي الرفعة، فإن جسده فيه روح خبيثة حملت الشرك بالله، والاستهزاء بالله ومسبة الله جل وعلا.(1/278)
والمحب لله -جل وعلا- يكره، ويحتقر هذا الذي معه الاستهزاء بالله والنيل من الله -جل وعلا- وادعاء الشريك معه، فإذا يعظم المسلم أخاه المسلم، ويحترمه، ولا يحتقره بما معه من الإيمان والتوحيد.
قال: ( التقوى ها هنا، ويشير إلى صدره ثلاث مرات ( التقوى محلها القلب، وهذا معنى إشارة النبي ( إلى صدره ثلاث مرات.
ونختصر بالكلام؛ لأن الوقت يمضي سريعا.
قال: ( بحسب امرئ من الشر أن يحقر أخاه المسلم، كل المسلم على المسلم حرام دمه وماله وعرضه ( دم المسلم حرام أن يسفك بغير حق، وكذلك ماله حرام أن يؤخذ بغير حق، وكذلك عرضه حرام أن ينال منه بغير حق، فالنيل من الأعراض بالغيبة والنميمة، أو أن ينال من أهل الرجل، أو من أسرته، أو أن يتصرف في ماله بغير إذنه، أو أن يأخذ ماله، أو أن يعتدي على شئ من أملاكه، وكذلك أن يعتدي على دمه، وهذا أعظمه، هذا كله حرام.
والشريعة جاءت بتحقيق هذا الأمر فيما بين المسلمين، وفي مجتمع الإسلام بأن تكون الدماء حراما، والأموال حراما، والأعراض حراما، وقد ثبت في الصحيح من حديث أبي بكرة ( أنه -عليه الصلاة والسلام- قال في خطبته يوم عرفة: ( ألا إن دماءكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حرام، كحرمة يومكم هذا، في بلدكم هذا، في شهركم هذا ( .
الحديث السادس والثلاثون
من نفس عن مؤمن كربة
وعن أبي هريرة ( قال: قال رسول الله ( ( من نفس عن مؤمن كربة من كرب الدنيا، نفس الله عنه كربة من كرب يوم القيامة، ومن يسر على معسر، يسر الله عليه في الدنيا والآخرة، ومن ستر مؤمنا ستره الله في الدين والآخرة، والله في عون العبد ما كان العبد في عون أخيه، ومن سلك طريقا يلتمس فيه علما، سهل الله له به طريقا إلى الجنة، وما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله، ويتدارسونه بينهم إلا نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة، وحفتهم الملائكة، وذكرهم الله فيمن عنده، ومن بطئ به عمله لم يسرع به نسبه ( رواه مسلم.(1/279)
قال -عليه الصلاة والسلام-: ( من نفس عن مؤمن كربة من كرب الدنيا، نفس الله عنه كربة من كرب يوم القيامة ( الكربة: ما يكون معه الضيق والضنك والشدة على المسلم؛ ولهذا ناسب معها تنفيس؛ لأنها تستحكم من جميع الجوانب من جهة نفس المؤمن، وقلبه وما يجول فيه، ومن جهة يده ومن جهة ما حوله، فتستحكم عليه حتى تضيق به الأرض الواسعة؛ فهنا إذا نفس عنه فبقدر ذلك التنفيس يكون الثواب.
قال -عليه الصلاة والسلام-: ( من نفس عن مؤمن كربة ( وهذا فيه إطلاق، يعني: أي كربة من كرب الدنيا، فيدخل في ذلك الكرب النفسية والكرب العملية، وما يدخل في تنفيسه في الكلمة الطيبة، وما يدخل تنفيسه في المال، وما يدخل تنفيسه في بذل الجاه، فتنفيس الكربة عام إلى آخره.
والكرب هنا -أيضا- عامة ، فمن نفس عن مؤمن كربة بأن يسر له السبيل إلى التخلص منها، أو خفف عليه من وطأة الكربة والشدة والضيق الذي أصابه، كان جزاؤه عند الله -جل وعلا- من جنس عمله لكن في يوم هو أحوج إلى هذا التنفيس من الدنيا؛ ولهذا كان الثواب في الآخرة، فقال -عليه الصلاة والسلام-: ( نفس الله عنه كربة من كرب يوم القيامة ( .
قال: ( ومن يسر على معسر يسر الله عليه في الدنيا والآخرة ( المعسر هو الذى عليه حق لغيره لا يستطيع أداؤه، والتيسير على المعسر يكون بأشياء منها أن يعطيه مالا؛ ليفك به إعساره، أو أن يكون الحق له فيضعه عن المعسر، فيخفف عنه، وقد قال -جل وعلا-: ( وإن كان ذو عسرة فنظرة إلى ميسرة ( فالتيسير على المعسر من الأمور المستحبة، ومن فضائل الأعمال، ومن الصدقات العظيمة، قال هنا -عليه الصلاة والسلام- : ( ومن يسر على معسر ( يعني: خفف عنه شأن إعساره بإعطائه مالا ، أو بإسقاط بعض المال الذي عليه، أو بإسقاط المال كله، +أو في التخلص من الإعسار، ( يسر الله عليه ( جزاء وفاقا على ما يسر، يسر الله عليه في الدنيا والآخرة.(1/280)
وهذا من الثواب الذي جعل في الدنيا والآخرة، فلا بأس من أن يقصده المسلم في أن ييسر على إخوانه رغبة فيما عند الله -جل وعلا- ورغبة في أن ييسر عليه في الدنيا والآخرة؛ لأن هذا كما ذكرنا في شرح حديث: ( إنما الأعمال بالنيات ( .
لا ينافي الإخلاص، فإن العمل إذا رتب عليه الثواب في الدنيا، أو في الدنيا والآخرة، وجاءت الشريعة بذلك، فإن قصده مع ابتغاء وجه الله -جل وعلا- والإخلاص له لا حرج فيه، قال: ( ومن ستر مسلما، ستره الله في الدنيا والآخرة ( ( من ستر مسلما ( مسلم : هنا -أيضا- تعم جميع المسلمين سواء أكانوا مطيعين صالحين، أم كانوا فسقة، فإن الستر على المسلم من فضائل الأعمال، بل جعله طائفة من أهل العلم واجبا، فإن المسلم الذي ليس له ولاية في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، يجب عليه أن يستر أخاه المسلم ، أو يتأكد عليه أن يستر، فإذا علم منه معصية كتمها، وإذا علم منه قبيحا كتمه، وسعى في مناصحته وتخليصه منه.
وأما أهل الحسبة، أهل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فإنهم يجوز لهم أن يعلموا هذا فيما بينهم، لكن لا يجوز لهم أن يتحدثوا بما قد يقترفه بعض المسلمين من الذنوب والآثام والقاذورات والمعاصي؛ لأن هذا -أيضا- داخل في عموم الستر ( من ستر مسلما، ستره الله في الدنيا والآخرة ( لكن الحاجة إلى تأديبه قائمة، فهؤلاء لهم أن يتداولوا أمره بحسب الحاجة الشرعية، وهذا ينبغي التنبيه عليه كثيرا لمن يلي مثل هذه الأمور، في أنهم قد يتوسعون في الحديث عن أهل العصيان، وعمن يقبضون عليه ممن يرتكب جرما، أو يرتكب ذنبا، أو معصية في تأديبه، رحمة به+، فمثل هؤلاء ينبغي لهم أن يكتموا القضايا التي يتداولونها فيما بينهم، وألا يذكروا شيئا منها إلا لمحتاج إلى ذلك لحاجة الشرع.(1/281)
قال -عليه الصلاة والسلام-: ( والله في عون العبد ما كان العبد في عون أخيه ( هذا فيه حث على أن يعين المرء أخاه بأعظم حث، حيث جعل أن العبد إذا أعان أخاه، فإن الله في عونه، فإذا كنت في حاجة أخيك كان الله في حاجتك، وإذا أعنت إخوانك المسلمين، واحتجت إلى الإعانة، فإن الله يعينك، وهذا من أعظم الفضل والثواب.
قال: ( ومن سلك طريقا يلتمس فيه علما، سهل الله له به طريقا إلى الجنة ( وهذا فيه الحث والترغيب على سلوك طريق العلم، والرغبة فيه، فأي طريق من طرق العلم سلكته، فإن الله -جل وعلا- يسهل لك به طريقا إلى الجنة، مع شرط إخلاصك في طلب العلم؛ لأن العلم باب من أبواب الجنة، والجنة لا تصلح إلا لمن علم حق الله، جل وعلا.
فمن طلب العلم، ورغب فيه مخلصا لله -جل وعلا- سهل الله له به طريقا إلى الجنة، قال: ( وما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله، ويتدارسونه فيما بينهم إلا نزلت عليهم السكينة... ( الحديث، قوله: ( وما اجتمع قوم ( استدل به على أن هذا لا يخص به قوم من قوم، فيصلح أن يكون هؤلاء المجتمعون من العلماء، أو من طلبة العلم، أو من العامة، أو من العباد، أو من غيرهم، فالمساجد تصلح للاجتماع فيها لتلاوة كتاب الله، ولتدارسه، فإذا اجتمع أي قوم، أي فئة لأجل تلاوة كتاب الله وتدارسه، فإنهم يتعرضون لهذا الفضل العظيمز
قال: ( وما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله ( والمراد بذلك المسجد، والمسجد بيت الله، إضافة تشريف للمسجد؛ لأنه بيت يطلب فيه رضا الله ، جل جلاله.
قال: ( يتلون كتاب الله ( هذا حال أولئك الذين يتلون كتاب الله، والمقصود بذلك أن يتلو واحد منهم، والبقية يسمعون كما كان عليه هدي السلف، أما التلاوة الجماعية، فهي محدثة، ولا تقر، وإنما الذي كان عليه عمل الصحابة، وما بعدهم أنهم يجعلون قارئا يقرأ القرآن، ثم يستمع البقية، وقد يتناوبون القراءة فيما بينهم، ويتدارسون كلام الله، جل وعلا.(1/282)
قال: ( إلا نزلت عليهم السكينة ( السكينة: هذه هي الطمأنينة، والروح والرحمة التي تكون من الله -جل وعلا- ( نزلت عليهم السكينة ( نفهم من ذلك أنها من عند الله -جل وعلا- لأنه قال: "نزلت عليهم " وهذا فيه تعظيم لها.
قال: ( وغشيتهم الرحمة ( وقوله: ( غشيتهم الرحمة ( هذا فيه أن الرحمة صارت لهم غشاء، يعني: أنها اكتنفت هؤلاء من جميع جهاتهم، فلا يتسلط عليهم شيطان، يعني: وهم على تلك الحال، بل الرحمة اكتنفتهم من جميع الجهات، فصارت عليهم كالغشاء، وهذا من فضل الله العظيم عليهم، حيث تعرضوا للرحمة، فصارت غشاء عليهم، لا ينفذ إليهم غيرها.
قال: ( وحفتهم الملائكة ( وأيضا كلمة ( حفتهم الملائكة ( يعني: أحدقت بهم بتراص، حيث لا ينفذ إليهم من الخارج، وهذا كما قال -جل وعلا-: ( ((((((( (((((((((((((((( (((((((((( (((( (((((( (((((((((( (((((((((((( (((((((( ((((((((( ( ( (292) فحف الملائكة بالشيء، يعني: بالعرش، أو بهؤلاء الذين يتلون، يعني: أنهم أحدقوا بهم من جميع الجهات ، وتراصوا بحيث كانوا حافين بهم، وهذا يدل على أن هؤلاء تعرضوا لفضل عظيم، لا يتسلط عليهم - وهم إذ ذاك- شيطان إلا ما كان من هوى أنفسهم.(1/283)
والقرينة، قال: ( وذكرهم الله فيمن عنده ( والذكر هنا معناه الثناء، يعني: أثنى الله عليهم فيمن عنده، ومن عنده؟ هم الملائكة المقربون، كما قال -جل وعلا-: ( ((( ((((((((((( ((((((((((( ((( ((((((( ((((((( (( (((( (((((((((((((((( ((((((((((((((( ( ( (293) فالملائكة المقربون هم الذين عند الله -جل وعلا- ( (((((( (((((((( (( ((((((((((((((( (((( (((((((((((( (((( ((((((((((((((( ( (294) وقال بعده: ( ومن بطأ به عمله، لم يسرع به نسبه ( فيه أن التفاخر بالأنساب، والظن أنه لأجل النسب يكون المرء محبوبا عند الله -جل وعلا- هذا جاءت الشريعة بإبطاله، والأمر على التقوى والعمل ( ((((( (((((((((((( (((( (((((( ((((((((( ((((((((((((((( (((((((( (((((((((((( ((((((((((((((( ( (((( (((((((((((( ((((( (((( ((((((((((( ( ( (295) فالتقوى هي مدار التفضيل، ومدار التفاضل بين الناس.
الحديث السابع والثلاثون
إن الله كتب الحسنات والسيئات
وعن ابن عباس -رضي الله عنهما- عن رسول الله ( فيما يرويه عن ربه تبارك وتعالى قال: ( إن الله ( كتب الحسنات والسيئات، ثم بين ذلك، فمن هم بحسنة، فلم يعملها كتبها الله عنده حسنة كاملة، وإن هم بها، فعملها كتبها الله عنده عشر حسنات إلى سبعمائة ضعف إلى أضعاف كثيرة، وإن هم بسيئة، فلم يعملها كتبها الله عنده حسنة كاملة، وإن هم بها، فعملها كتبها الله سيئة واحدة ( رواه البخاري ومسلم بهذه الحروف.(1/284)
قوله هنا: "فيما يرويه عن ربه تبارك وتعالى" يعني: أن هذا حديث قدسي قال: ( إن الله كتب الحسنات والسيئات، ثم بين ذلك ( يعني: كتبها عنده، فبينها في القرآن، بين ما تكون به الحسنة، وبين ما تكون به السيئة، يعني: بين العمل الذي يكتب للمرء به حسنة، وبين العمل الذي يكتب للمرء به سيئة، قال: ( فمن هم بحسنة فلم يعملها ( إلى آخره استدل به على أن الملكين اللذين يكتبان ما يصدر عن العبد، دل على أنهما يعلمان ما يجول في قلبه، الهم معلوم للملك، وهذا بإقدار الله -جل وعلا- لهم إطلاعه إياهم وإذنه بذلك.
قد كان بعض الأنبياء يعلم ما في نفس الذي أمامه، والنبي -صلى الله عليه- وسلم أخبر رجلا بما في نفسه، وهكذا حصل من عدد من الأنبياء، فهذا من أنواع الغيب الذي يطلع الله -جل وعلا- إياه من شاء من عباده، فالملائكة أطلعهم الله -جل وعلا- على ذلك كما قال سبحانه: ( ((((((( (((((((((( (((( (((((((( (((((( (((((((((( ((((((( (((( (((( (((( (((((((((( ((( ((((((( ( (296) .
والرسول هنا يدخل فيه الرسول الملكي، والرسول البشري، قال: ( فمن هم بحسنة فلم يعملها كتبها الله عنده حسنة كاملة ( لأن الهم نوع من الإرادة، وإرادته للحسنة طاعة، فيكتبها الله -جل وعلا- له من رحمته ومنه وكرمه، يكتبها له حسنة.(1/285)
قال: ( فإن هم بها، فعملها كتبها الله عنده عشر حسنات إلى سبعمائة ضعف ( يعني: أنه إن هم بالحسنة فعملها، فأقل ما يكتب له عشر حسنات، وقد يصل ذلك إلى سبعمائة ضعف بحسب الحال، وقد ذكرنا لكم تفاصيل ذلك في أوائل هذا الشرح، فإن المسلمين يتفاوتون في ثواب الحسنة، منهم من إذا عملها كتبت له عشر أضعاف، ومنهم من إذا عملها كتبت له سبعمائة ضعف، ومنهم مائتا ضعف، ومنهم من تكتب له أكثر من ذلك إلى سبعمائة ضعف، بل إلى أضعاف كثيرة، وهذا يختلف كما ذكرنا باختلاف العلم وتوقير الله -جل وعلا- والرغب في الآخرة؛ ولهذا كان الصحابة - رضوان الله عليهم - أعظم هذه الأمة أجورا، وكانوا أعظم هذه الأمة منزلة.
وقد ثبت عنه -عليه الصلاة والسلام- أنه قال: ( والذي نفسي بيده لو أنفق أحدكم مثل أحد ذهبا ما بلغ مد أحدهم، ولا نصيفه ( يعني: أنهم مع قلة ما ينفقون وما عملوا، فإنهم أعظم مما لو أنفق أحدكم، وهؤلاء في متأخري الإسلام ، فكيف بمن بعدهم؟ لو أنفقوا مثل أحد ذهبا، وهذا يختلف باختلاف حسن الإسلام وحسن اليقين إلى آخره.
قال: ( وإن هم بسيئة، ولم يعملها كتبها الله عنده حسنة كاملة ( "إن هم بسيئة" يعني: أراد سيئة، فلم يعملها، فهذا فيه تفصيل: إن تركها من جراء الله -جل وعلا- يعني: خشية لله ورغبا فيما عنده، فإنه تكتب له حسنة كما ذكر في هذا الحديث، وقد جاء في حديث آخر أنه -عليه الصلاة والسلام- قال: ( فإنما تركها من جرائي ( فإذا ترك السيئة التي هم بها، فتركها: يعني فلم ينفذها عملا لله -جل وعلا- فهذا تكتب له حسنة؛ لأن إخلاصه قلب تلك الإرادة السيئة إلى إرادة حسنة، والإرادة الحسنة والهم بالحسن يكتب له به حسنة.(1/286)
والحال الثانية: أن يهم بالسيئة فلا يعملها؛ لأجل عدم تمكنه منها، والنفس باقية في رغبتها بعمل السيئة، فهذا وإن لم يعمل، فإنه لا تكتب له حسنة في ذلك، بل إن سعى في أسباب المعصية، فإنه تكتب عليه سيئة، كما جاء في الحديث: ( إذا التقى المسلمان بسيفيهما فالقاتل والمقتول في النار، قالوا يا رسول الله: هذا القاتل فما بال المقتول ؟ قال: إنه كان حريصا على قتل صاحبه ( .
قال العلماء: إذا تمكن المرء من أسباب المعصية، وصرفه صارف عنها، خارج عن إرادته، فإنه يجزى على همه بالسيئة سيئة، ويكون مؤاخذا بها بدلالة حديث: ( القاتل والمقتول في النار ( .
قال: ( وإن هم بها، فعملها كتبها الله سيئة واحدة ( وهذا من عظيم رحمة الله -جل وعلا- بعباده المؤمنين أنهم إذا عملوا سيئة لا تضاعف عليهم، بل إنما يكتبها الله -جل وعلا- عليهم سيئة واحدة، وأما الحسنات فتضاعف عليهم؛ ولهذا لا يهلك على الله يوم القيامة إلا هالك، لا ترجح سيئات أحد على حسناته إلا هالك؛ لأن الحسنات تضاعف بأضعاف كثيرة، وحتى الهم بالسيئة إذا تركه تقلب له حسنة، والسيئة تكتب بمثلها، فلا يظهر بذلك أن يزيد ميزان السيئات لعبد على ميزان الحسنات إلا، وهو خاسر، وقد سعى في كثير من السيئات، وابتعد عن الحسنات.
بهذا نشكر الله -جل وعلا- ونحمدك ربي على إحسانك وفضلك ونعمتك على هذا الكرم، وعلى هذه النعمة العظيمة، اللهم لا تؤاخذنا بما فعل السفهاء منا.
الحديث الثامن والثلاثون
من عاد لي وليا فقد آذنته بالحرب
وعن أبي هريرة ( قال: قال رسول الله: ( إن الله تعالى قال: من عاد لي وليا، فقد آذنته بالحرب، وما تقرب إلى عبدي بشيء أحب إلي مما افترضته عليه، ولا يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته، كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي بها، ولئن سألني لأعطينه، ولئن استعاذني لأعيذنه ( رواه البخاري.(1/287)
هذا حديث -أيضا- عظيم قال فيه -عليه الصلاة والسلام-: إن الله تعالى قال - وهو حديث قدسي- ( من عاد لي وليا فقد آذنته بالحرب ( عادى: يعني: اتخذ الولي عدوا، وهذا معناه أنه أبغضه، قال العلماء: إن أبغض الولي؛ لما هو علي من الدين، فهذا ظاهر دخوله في الحديث، وأما إن عاداه لأجل الدنيا، وحصل بينه وبينه خصومات؛ لأجل الدنيا فهذا فيه تفصيل، إن صار معه خصومات بغضاء وكره، فإن يخشى عليه أن يدخل في هذا الحديث، وأما إن كانت الخصومات بدون بغضاء، فإنه لا يدخل في هذا الحديث، يعني: لا يكون مؤذنا بالحرب، وذلك لأن سادات الأولياء من هذه الأمة قد وقعت بينهم خصومات، فتخاصم عمر وأبو بكر في عدة مجالس، وتخاصم ابن عباس، بل العباس وعلي وحصل بينهم خصومة، وتراجعا إلى القاضي، وهكذا في عدد من الأحوال.
فوقوع الخصومة بلا بغضاء لولي من أولياء الله -جل وعلا- فهذا لا يدخل في ا هذا الحديث، وأما إذا أبغض وليا من أوليا الله -جل وعلا- فإنه مؤذن بالحرب، يعني: قد أذنه الله -جل وعلا- بحرب من عنده، وإيذانه بالحرب معناه: أنه أعلم وأنظر بأنه سيعاقب من الله -جل وعلا- إذ حرب الله -جل وعلا- إيصال عذابه ونكاله لعباده، قال: ( من عاد لي وليا ( والولي عند أهل السنة والجماعة عرف بأنه: يعني عرفه بعض العلماء بأنه: كل مؤمن تقي ليس بنبي، هذا الولي في الاصطلاح عند أهل السنة والجماعة، يعني: أن الولي كل من عنده إيمان وتقوى.(1/288)
والإيمان والتقوى يتفاضلا، فتكون الولاية، يعني محبة الله -جل وعلا- لعبده ونصرته لعبده تكون تلك الولاية متفاضلة، وإنما يقصد بالولي من كمل بحسب استطاعته الإيمان والتقوى، وغلب عليه في أ حواله الإيمان والتقوى، وذلك لقول الله -جل وعلا-: ( (((( (((( (((((((((((( (((( (( (((((( (((((((((( (((( (((( ((((((((((( (((( ((((((((( (((((((((( (((((((((( ((((((((( ( (297) فجعل الأولياء هم المؤمنين المتقين، إذن فمن عاد مؤمنا متقيا قد سعى في تكميل إيمانه وتقواه بحسب قدرته، ولم يعرف عنه ما يخدش كمال إيمانه، وكمال تقواه، فإنه مؤذن بحرب من الله، يعني: معلم ومهدد بإيصال عقوبة الله -جل وعلا- له؛ لأن هذا الولي محبوب لله -جل وعلا- منصور من الله -جل وعلا- والواجب أن تحب المرء لمحبة الله -جل وعل-ا له.
قال: ( وما تقرب إلي عبدي بشيء أحب إلي مما افترضته عليه ( يعني: أن أحب القربات إلى الله -جل وعلا- أن يتقرب إليه بها العبد أن يتقرب العبد بالفرائض، هذه أحب القربات إلى الله -جل وعلا-: الصلوات الخمس، حيث تصلى وتقام، والزكاة المفروضة، والصيام المفروض، والحج المفروض ، والأمور الواجبة، وكل أمر افترضه الله -جل وعلا- عليه فالتقرب إليه به.
وأحب الأشياء إليه -جل وعلا- وهذا خلاف ما يأتي لبعض النفوس، في أنهم يحصل عندهم خشوع و تذلل في النوافل ما لا يحصل في الفرائض، بل ويرجون بالنوافل ما لا يرجون بالفرائض، وهذا خلاف العلم، والله -جل جلاله- كما جاء في هذا الحديث القدسي : إنما يحب بل أحب ما يتقرب إليه به -جل وعلا- ما افترضه سبحانه.
فافترض الله -جل وعلا- الفرائض؛ لأنه يحب أن يتعبد بها(1/289)
قال: ( ولا يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه ( يعني: لا يزال يتقرب بالنوافل: نوافل العبادات بعد الفرائض؛ حتى يحبه الله -جل وعلا- وهذا يعني: أنه صار له كثرة النوافل وصفا، بحيث كثر منه إتيانه بنوافل العبادات من صلاة وصيام وصدقات وحج وعمرة وأشباه ذلك.
قال: ( حتى أحبه ( وهذا يدل على أن محبة الله -جل وعلا -تجلب بالسعي في طاعته بأداء النوافل، والسعي فيها بعد أداء الفرائض، والتقرب إلى الله -جل وعلا- بها.
قال: ( فإذا أحببته ( لمحبة الله -جل وعلا - لعبده أثر، فما هذا الأثر؟ قال: ( فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به... ( إلى آخره ، هذا فسره علماء الحديث وعلماء السنة بقوله: ( كنت سمعه الذي يسمع به ( يعني: أوفقه وأسدده في سمعه وفي بصره، وفي ما يعمل بيده، وفيما يمشي إليه برجله، فمعنى قوله: ( كنت سمعه ( يعني: أوفقه في سمعه، وهذا ليس من التأويل؛ لأن القاطع الشرعي النصي أن الله -جل وعلا - لا يكون بذاته سمعا، ولا يكون بذاته بصرا، ولا يكون بذاته يدا، ولا يكون بذاته رجلا -جل وعلا - وتقدس وتعاظم ربنا، فدل على القاطع الشرعي على أن قوله: ( كنت سمعه الذي يسمع به ( يعني: أنه يوفق في سمعه، ويسدد فلا يسمع إلا ما يحب الله -جل وعلا - أن يسمع، ولا يبصر إلا ما يحب الله -جل وعلا - أن يبصر، ولا يعمل بيده ولا يبطش بيده إلا بما يحب الله -جل وعلا - أن يعمل باليد، أو يبطش بها، وكذلك في الرجل التي يمشي بها، وغلاة الصوفية استدلوا بهذا على مسألة الحلول، وهناك رواية موضوعة زادوها في هذا الحديث بعد قوله: ( ورجله التي يمشي بها ( قال: " وحتى يقول للشيء كن فيكون "، وهذا من جراء عقيدة الحلول، وهذه مروية لكنها بأسانيد منكرة، وحكم عليها طائفة من أهل العلم بالوضع.(1/290)
قال: ( ولئن سألني لأعطينه، ولئن استعاذني لأعيذنه ( يعني: والله لئن سألني لأعطينه؛ لأن اللام في قوله " لئن " هذه واقعة في جواب القسم، ويكون قبلها قسم، ( لئن سألني لأعطينه ( يعني: والله لئن سألني لأعطينه، ما سأل يعني: أن يكون مجاب الدعوة ( ولئن استعاذني لأعيذنه ( وهذا فرع من الجملة قبلها، جعلني الله وإياكم من خاصة عباده وأوليائه.
الحديث التاسع والثلاثون
إن الله تجاوز لي عن أمتي الخطأ والنسيان
وعن ابن عباس - رضي الله عنهما - قال: قال رسول الله ( ( إن الله تجاوز لي عن أمتي الخطأ والنسيان، وما استكرهوا عليه ( حديث حسن، رواه ابن ماجه والبيهقي وغيرهما.
هذا الحديث -أيضا- فيه بيان فضل الله -جل وعلا - ورحمته بالمؤمنين، قال فيه -عليه الصلاة والسلام-: ( إن الله تجاوز لي عن أمتي الخطأ والنسيان، وما استكرهوا عليه ( ففي قوله: ( إن الله تجاوز لي ( ما يفهم أن هذا من خصائص هذه الأمة، فغيرنا من الأمم إذا هم بالعبد بحسنة لم تكتب له حسنة، وإذا هم بسيئة فتركها لم تكتب له حسنة، وكذلك في خصائص كثيرة ومنها: التجاوز عن الخطأ والنسيان، فرحم الله -جل وعلا - هذه الأمة بنبيها ( وتجاوز لها عن الخطأ والنسيان.(1/291)
ولما نزل قول الله -جل وعلا - في آخر سورة البقرة: ( ((((( ((((((((( ((( (((( ((((((((((( (((( ((((((((( (((((((((((( (((( (((( ( (((((((((( ((((( (((((((( ((((((((((( ((( (((((((( ( ( (298) شق ذلك على الصحابة - رضوان الله عليهم - جدا حتى نزلت الآية الأخرى، وهي قوله -جل وعلا -: ( (( ((((((((( (((( ((((((( (((( ((((((((( ( ((((( ((( (((((((( ((((((((((( ((( (((((((((((( ( ((((((( (( ((((((((((((( ((( ((((((((( (((( ((((((((((( ( ( (299) فدعا بها الصحابة - رضوان الله عليهم - قال الله -جل وعلا-: قد فعلت، فقوله -تعالى-: ( ((((((( (( ((((((((((((( ((( ((((((((( (((( ((((((((((( ( ( (300) وقوله -جل وعلا -: قد فعلت، في معنى هذا الحديث، بل هذا الحديث في معنى الآية، فدل ذلك على أن من أخطأ، فإنه لا إثم عليه، ومن نسي فلا إثم عليه، لكن هذا مختص بالحكم التكليفي.(1/292)
أما الحكم الوضعي، فإنه يؤاخذ بخطئه وبنسيانه، يعني: ما يتعلق بالضمانات، فإذا أخطأ، فقتل مؤمنا خطأ، فإنه يؤاخذ بالحكم الوضعي عليه بالدية، وما يتبع ذلك، وأما الإثم، فإنه لا إثم عليه؛ لأنه أخطأ، وكذلك إذا أخطأ، فاعتدى على أحد في ماله، أو في جسمه، أو في أشباه ذلك، فإنه لا إثم عليه من جهة حق الله -جل وعلا -، أما حق العباد في الحكم الوضعي، فإنهم مؤاخذون به، يعني أن الآية، والحديث دلا على التجاوز فيما كان في حق الله؛ لأن الله هو الذي تجاوز، وتجاوزه -جل وعلا - عن حقه -سبحانه وتعالى- وهذا هو المتعلق بالحكم التكليفي، كما هو معروف في بحثه في موضوعه، في علم أصول الفقه، والخطأ غير النسيان، وكذلك الإكراه ما يكره عليه -أيضا- يختلف عنهما، فالخطأ إرادة الشيء وحصول غيره من غير قصد لذلك، والنسيان الذهول عن الشيء، والإكراه، أو قوله: ( ما استكرهوا عليه ( يعني: ما أكرهوا عليه، فعملوا شيئا على جهة الإكراه، والله -جل وعلا - قال: ( (((( (((( (((((((( ((((((((((( (((((((((( (((((((((((( (((((((( ((( (((((( (((((((((((( ((((((( (((((((((((( (((((( ((((( (((( ( (301) الآية في سورة النحل، وهذا فيه من حيث التفريعات الفقهية مباحث كثيرة نطويها؛ طلبا للاختصار.
الحديث الأربعون
كن في الدنيا كأنك غريب أو عابر سبيل
وعن ابن عمر - رضي الله عنهما- قال: ( أخذ رسول الله ( بمنكبي فقال: كن في الدنيا كأنك غريب، أو عابر سبيل وكان ابن عمر - رضي الله عنهما - يقول: إذا أمسيت فلا تنتظر الصباح، وإذا أصبحت فلا تنتظر المساء، وخذ من صحتك لمرضك، ومن حياتك لموتك. ( رواه البخاري.
هذا الحديث، حديث ابن عمر ( ووصية النبي ( له به حياة القلوب؛ لأن به الابتعاد عن الاغترار بهذه الدنيا بشباب المرء، أو بصحته، أو بعمره، أو بما حوله.(1/293)
قال ابن عمر - رضي الله عنهما - : ( أخذ رسول الله ( بمنكبي ( وهذا يدل على الاهتمام بابن عمر، وكان إذ ذاك شابا صغيرا في العشر الثانية من عمره، قال: أخذ بمنكبي، فقال: ( كن في الدنيا كأنك غريب، أو عابر سبيل ( وهذه من أعظم الوصية المطابقة للواقع لو عقل الناس، فإن الإنسان ابتدأ حياته في الجنة ونزل إلى هذه الأرض ابتلاء، فهو فيها غريب ، أو عابر سبيل، فزيارته للدنيا - زيارة الجنس البشري - بأجمعه للدنيا هذه زيارة غريب، وإلا فإن مكان آدم ومن تبعه على إيمانه وتقواه وتوحيد الله -جل وعلا - والإخلاص له، فالمنزل هو الجنة، وإنما أخرج آدم من الجنة ابتلاء وجزاء على معصيته، وهذا إذا تأملته وجدت أن المرء المسلم حقيق أن يوطن نفسه، وأن يربيها على أن منزله الجنة، وليس هي هذه الدنيا، وهو في هذه الدنيا في دار ابتلاء، وإنما هو غريب، أو عابر سبيل كما قال المصطفى، ( .
وما أحسن استشهاد ابن القيم - رحمه الله تعالى - إذا ذكر أن حنين المسلم للجنة، وأن حبه للجنة ورغبه فيها هو بسبب أنها موطنه الأول، وأنه هو الآن سبي للعدو، ورحل عن أوطانه بسبب سبي إبليس لأبينا آدم، وهل ترى أن يرجع إلى داره الأولى أم لا؛ ولهذا ما أحسن قول الشاعر:
نقل فؤادك حيث شئت من الهوى
ما الحب إلا للحبيب الأول
وهو الله -جلا جلاله-:
كم منزل في الأرض يألفه الفتى
وحنينه أبدا لأول منزل
وهي الجنة.(1/294)
وهذا إنما يخلص له قلب المنيبين إلى الله -جل وعلا - دائما، المخبتين له، الذين تعلقت قلوبهم بالله حبا ورغبا ورهبا وطاعة، وتعلقت قلوبهم بدار الكرامة بالجنة، ويعملون لها وكأنها بين أعينهم، فهم في الدنيا كأنهم غرباء، أو كأنهم عابرو سبيل، ومن كان على هذه الحال غريب، أو عابر سبيل، فإنه لا يأنس بمقامه؛ لأن الغريب لا يأنس إلا بين أهله، وعابر السبيل دائما على عجل من أمره، وهذه حقيقة الدنيا، فإنه لو عاش ابن آدم ما عاش، عاش نوح ألف سنة منها تسعمائة وخمسون سنة في قومه: ( (((((((( ((((((( (((((( (((((( (((( ((((((((( (((((( ( (302) ثم مضت وانتهت، وعاش أقوام مئات السنين ومضوا وانتهوا، وعاش قوم مائة سنة وثمانين، وأربعين وخمسين.
فالحقيقة أنهم غرباء وعابرو سبيل، مروا بهذه الدنيا وذهبوا، والموت يصبح المرء ويمسيه، فيجب على المرء أن ينتبه إلى نفسه، وأعظم ما يصاب به العبد أن يصاب بالغفلة عن هذه الحقيقة ، الغفلة عن حقيقة الدنيا ما هي، فإذا من الله عليك بمعرفة حقيقة الدنيا، وأنها دار غربة، وأنها دار ابتلاء، دار اختبار، دار ممر وليست دار مقر، فإنه يصحو قلبه، وأما إذا غفل عن هذه الحقيقة، فإنه يصاب قلبه من مقاتله، أيقظنا الله وإياكم من أنواع الغفلات.
ابن عمر ( كان يوصي بمقتضى الوصية، فيقول: ( إذا أمسيت فلا تنتظر الصباح، وإذا أصبحت فلا تنتظر المساء ( يعني: كن على حذر دائما من الموت أن يفاجأك، فكن على استعداد، وقد قيل في عدد من علماء السلف علماء الحديث: كان فلان لو قيل له: إنك تموت الليلة لما استطاع أن يزيد في عمله.(1/295)
لو قيل له : إنك تموت الليلة لما استطاع أن يزيد في عمله، وهذا يكون باستحضار حق الله -جل وعلا - دائما، وأنه إذا تعبد، فإنه يستحضر ذلك، ويخلص فيه لربه، وإذا خالف أهله يكون على الإخلاص وامتثال الشريعة ، وإذا باع، أو اشترى يكون على الإخلاص، ويكون على الرغب في إتيان الحلال، وهكذا في كل أمر يأتيه، فإنه يكون على علم، وهذا فضل أهل العلم أنهم إذا تحركوا وعملوا، ففي كل حال يكونون فيه يستحضرون الحكم الشرعي فيه، فيمتثلون، أو يفعلون، وإن غلطوا، أو إن أذنبوا فسرعان ما يستغفرون، فيكونون بعد الاستغفار أمثل مما هم قبله، وهذه مقامات؛ ولهذا قال: ( وخذ من صحتك لمرضك، ومن حياتك لموتك ( رواه البخاري.
الحديث الحادي والأربعون
لا يؤمن أحدكم حتى يكون هواه تبعا لما جئت به
وعن أبي محمد عبد الله بن عمرو بن العاص -رضي الله عنهما - قال: قال رسول الله ( ( لا يؤمن أحدكم حتى يكون هواه تبعا لما جئت به ( حديث صحيح، رويناه في كتاب الحجة بإسناد صحيح.
هذا الحديث حديث مشهور؛ وذلك لكونه في كتاب التوحيد، قال -عليه الصلاة والسلام-: ( لا يؤمن أحدكم، حتى يكون هواه تبعا لما جئت به ( وهذا حديث حسن، كما حسنه هنا النووي، بل قال: حديث حسن صحيح، وسبب تحسينه أنه في معنى الآية، وهي قوله -جل وعلا -: ( (((( ((((((((( (( ((((((((((( (((((( (((((((((((( (((((( (((((( (((((((((( (((( (( ((((((((( (((( ((((((((((( ((((((( (((((( (((((((( (((((((((((((( (((((((((( ( (303) وتحسين الحديث، بمجيء آية فيها معناه.
مذهب كثير من المتقدمين من أهل العلم كابن جرير الطبري ، وجماعة من حذاق الأئمة والمحدثين.(1/296)
وقوله هنا: ( لا يؤمن أحدكم حتى يكون هواه تبعا لما جئت به ( يعني: الإيمان الكامل لا يكون، حتى يكون هوى المرء ورغبة المرء تبعا لما جاء به المصطفى ( يعني: أن يجعل مراد الرسول ( مقدما على مراده، وأن يكون شرع النبي ( مقدما على هواه ، وهكذا، فإذا تعارض رغبه وما جاء به، جاءت به السنة، فإنه يقدم ما جاءت به السنة، وهذا جاء بيانه في آيات كثيرة، وفي أحاديث كثيرة ، كقول الله -جل وعلا -: ( (((( ((( ((((( ((((((((((((( (((((((((((((((( ( (304) ... الآية إلى أن قال: ( (((((( ((((((((( ((((( (((( (((((((((((( ((((((((( ((( (((((((((( ((((((((((((( (((((( (((((((( (((( ((((((((((( ( ( (305) فالواجب أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما، وإذا كان كذلك فسيكون هوى المرء تبعا لما جاء به المصطفى ( .
إذاً في قوله: ( لا يؤمن أحدكم ( هذا فيه نفي لكمال الإيمان الواجب، وهذا ظاهر من القاعدة التي سبق أن ذكرناها لكم، وتتمة الكلام على شرح الأحاديث فيما قدمناه من شرحنا على كتاب التوحيد.
الحديث الثاني والأربعون
يا ابن آدم إنك ما دعوتني ورجوتني
وعن أنس بن مالك ( قال: قال رسول الله ( ( قال الله -تعالى- : يا ابن آدم إنك ما دعوتني ورجوتني، غفرت لك على ما كان منك ولا أبالي، يا ابن آدم لو بلغت ذنوبك عنان السماء، ثم استغفرتني غفرت لك، يا ابن آدم لو أتيتني بقراب الأرض خطايا، ثم لقيتني لا تشرك بي شيئا، لأتيتك بقرابها مغفرة ( رواه الترمذي، وقال: حديث حسن، والله أعلم وصلى الله على محمد
عن أنس ( قال: سمعت رسول الله ( يقول: قال الله -تعالى-: ( يا ابن آدم إنك ما دعوتني ورجوتني غفرت لك على ما كان منك ولا أبالي ( المقصود بابن آدم هنا المسلم الذي اتبع رسالة الرسول الذي أرسل إليه، فمن اتبع رسالة موسى -عليه السلام- في زمنه كان منادى بهذا النداء، من اتبع رسالة عيسى في زمنه كان منادى بهذا النداء.(1/297)
وبعد بعثة محمد ( من يحظى على هذا الأجر وعلى هذا الفضل والثواب هو من اتبع المصطفى ( وأقر له بختم الرسالة، وشهد له بالنبوة والرسالة، واتبعه على ما جاء به.
قال -جلا وعلا- : ( يا ابن آدم إنك ما دعوتني ورجوتني، غفرت لك على ما كان منك ولا أبالي ( وهذه الجملة في معنى قول الله -جل وعلا -: ( ( (((( (((((((((((( ((((((((( ((((((((((( (((((( ((((((((((( (( ((((((((((( ((( (((((((( (((( ( (((( (((( (((((((( (((((((((( (((((((( ( ( (306) فالعبد إذا أذنب وسارع إلى التوبة، ودعا الله -جل وعلا - أن يغفر له، ورجى ما عند الله -جل وعلا - فإنه يغفر له على ما كان منه من الذنوب مهما كانت بالتوبة ( التوبة تجب ما قبلها ( .
وقوله -جل وعلا - هنا: ( إنك ما دعوتني ورجوتني ( فيه أن الدعاء مع الرجاء موجبان لمغفرة الله -جل وعلا - وهناك من يدعو، وهو ضعيف الظن بربه، لا يحسن الظن بربه، وقد ثبت عنه - عليه الصلاة والسلام - أنه قال: قال الله -تعالى-: ( أنا عند ظن عبدي بي، فليظن بي ما شاء ( والعبد إذا دعا الله -جل وعلا - مستغفرا لذنبه يدعو مستغفرا ومستحضرا أن فضل الله عظيم، وأنه يرجو الله أن يغفر، وأن الله سيغفر له.
فإذا عظم الرجاء بالله، وأيقن أن الله -جل وعلا - سيغفر له، وعظم ذلك في قلبه، حصل له مطلوبه؛ لأن في ذلك إحسان الظن بالله، وإعظام الرغبة بالله -جل وعلا - وهناك عبادات قلبية كثيرة تجتمع على العبد المذنب حين طلبه الاستغفار وقبول التوبة، حين طلبه المغفرة وقبول التوبة، تجتمع عليه عبادات قلبية كثيرة توجب مغفرة الذنوب فضلا من الله -جل وعلا - وتكرما.(1/298)
قال: ( غفرت لك ( والمغفرة: ستر الذنب وستر أثر الذنب في الدنيا والآخرة، والمغفرة غير التوبة؛ لأن المغفرة ستر، غفر الشيء بمعنى ستره، والمقصود من ستر الذنب أن يستر الله -جل وعلا - أثره في الدنيا والآخرة، وأثر الذنب في الدنيا العقوبة عليه، وأثر الذنب في الآخرة العقوبة عليه، فمن استغفر الله -جل وعلا - غفر الله له يعني: من طلب ستر الله عليه في أثر ذنبه في الدنيا والآخرة؛ ستر الله عليه، محا أو ستر أثر الذنب بحجب أثر الذنب من العقوبة في الدنيا والآخرة.
قال: ( يا ابن آدم لو بلغت ذنوبك عنان السماء ( يعني: من كثرتها بلغت عنان السماء: السحاب العالي، من كثرتها وتراكمها.
قال: ( ثم استغفرتني غفرت لك ( وهذا مما يجعل العبد المنيب يحب ربه -جل وعلا - أعظم محبة؛ لأن الله العظيم الذي له صفات الجلال والجمال والكمال، والذي له هذا الملكوت كله، وهو الذي على كل شيء قدير، وعلى كل شئ وكيل، وهو الذي من صفاته كذا وكذا، من عظيم صفاته وجليل النعوت والأسماء، يتودد إلى عبده بهذا التودد لا شك أن هذا يجعل القلب محبا لربه -جل وعلا - متذللا بين يديه، مؤثرا مرضاة الله على مرضاة غيره -سبحانه وتعالى-.
قال الله -جل وعلا - ( يا ابن آدم لو بلغت ذنوبك عنان السماء، ثم استغفرتني غفرت لك ( وهذا فيه الحث على طلب المغفرة، فإنك إذا أذنبت فاستغفر، فإنه ما أصر من استغفر، ولو عاد في اليوم سبعين مرة كما جاء في الأثر، فمع الاستغفار والندم يمحو الله -جل وعلا - الخطايا.(1/299)
قال: ( يا ابن آدم لو آتيتني بقراب الأرض خطايا، ثم لقيتني لا تشرك بي شيئا لآتيتك بقرابها مغفرة ( يعني: لو جاء ابن آدم بملء الأرض خطايا، ثم لقي الله -جل وعلا - مخلصا له الدين لا يشرك به شيئا، لا جليل الشرك ولا صغيره ولا خفيه، بل قلبه مخلص لله -جل وعلا - ليس فيه سوى الله -جل وعلا - وليس فيه رغب إلا إلى الله -جل وعلا - وليس فيه رجاء إلا رجاء الله -جل وعلا - لا يشرك به شيئا، بأي نوع من أنواع الشرك ، فإن الله -جل وعلا - يغفر الذنوب جميعا.
قال -سبحانه- : ( ثم لقيتني لا تشرك بي شيئا لآتيتك بقرابها مغفرة ( يعني: بملء الأرض مغفرة، وهذا من عظيم رحمة الله -جل جلاله- بعباده، وإحسانه لهم.
اللهم لك الحمد على أسمائك وصفاتك، اللهم لك الحمد على ما أنعمت به علينا من شريعة الإسلام، اللهم لك الحمد على ما أنعمت به علينا من بعثة نبيك محمد عليه الصلاة والسلام، اللهم لك الحمد على ما مننت به علينا من سلوك طريق سلفنا الصالح، اللهم لك الحمد على ما مننت به علينا من مغفرة للذنوب، ومن كسب للحسنات ومن محو للسيئات، اللهم لك الحمد على آلائك العظيمة، اللهم لك الحمد، وأنت للحمد أهل.
الفهرس
المقدمة…- 1 -
مقدمة الشارح…- 2 -
الحديث الأول…- 6 -
الحديث الثاني…- 20 -
الحديث الثالث…- 49 -
الحديث الرابع…- 62 -
الحديث الخامس…- 80 -
الحديث السادس…- 92 -
الحديث السابع…- 105 -
الحديث الثامن…- 116 -
الحديث التاسع…- 124 -
الحديث العاشر…- 134 -
الحديث الحادي عشر…- 145 -
الحديث الثاني عشر…- 149 -
الحديث الثالث عشر…- 157 -
الحديث الرابع عشر…- 162 -
الحديث الخامس عشر…- 171 -
الحديث السادس عشر…- 178 -
الحديث السابع عشر…- 183 -
الحديث الثامن عشر…- 189 -
الحديث التاسع عشر…- 199 -
الحديث العشرون…- 214 -
الحديث الحادي والعشرون…- 219 -
الحديث الثاني والعشرون…- 225 -
الحديث الثالث والعشرون…- 231 -
الحديث الرابع والعشرون…- 243 -(1/300)
الحديث الخامس والعشرون…- 261 -
الحديث السادس والعشرون…- 268 -
الحديث السابع والعشرون…- 271 -
الحديث الثامن والعشرون…- 279 -
الحديث التاسع والعشرون…- 292 -
الحديث الثلاثون…- 303 -
الحديث الحادي والثلاثون…- 315 -
الحديث الثاني والثلاثون…- 324 -
الحديث الثالث والثلاثون…- 331 -
الحديث الرابع والثلاثون…- 336 -
الحديث الخامس والثلاثون…- 345 -
الحديث السادس والثلاثون…- 355 -
الحديث السابع والثلاثون…- 361 -
الحديث الثامن والثلاثون…- 365 -
الحديث التاسع والثلاثون…- 369 -
الحديث الأربعون…- 371 -
الحديث الحادي والأربعون…- 375 -
الحديث الثاني والأربعون…- 377 -
1 - سورة المزمل آية : 5.
2 - سورة النجم آية : 39.
3 - سورة الروم آية : 38.
4 - سورة الأنعام آية : 52.
5 - سورة الكهف آية : 28.
6 - سورة الشورى آية : 20.
7 - سورة الإسراء آية : 19.
8 - سورة الليل آية : 20.
9 - سورة النساء آية : 114.
10 - سورة البينة آية : 5.
11 - سورة الزمر آية : 3.
12 - سورة النساء آية : 142.
13 - سورة البقرة آية : 264.
14 - سورة هود آية : 15.
15 - سورة النحل آية : 90.
16 - سورة آل عمران آية : 18.
17 - سورة البقرة آية : 285.
18 - سورة البقرة آية : 177.
19 - سورة النساء آية : 136.
20 - سورة القمر آية : 49.
21 - سورة الشورى آية : 11.
22 - سورة البقرة آية : 98.
23 - سورة البقرة آية : 98.
24 - سورة الرعد آية : 16.
25 - سورة الحجرات آية : 14.
26 - سورة النحل آية : 97.
27 - سورة النحل آية : 128.
28 - سورة يونس آية : 26.
29 - سورة يونس آية : 61.
30 - سورة هود آية : 7.
31 - سورة الأعراف آية : 187.
32 - سورة محمد آية : 18.
33 - سورة آل عمران آية : 19.
34 - سورة آل عمران آية : 83.
35 - سورة آل عمران آية : 83.
36 - سورة آل عمران آية : 85.
37 - سورة آل عمران آية : 67.
38 - سورة الحج آية : 78.
39 - سورة النحل آية : 76.(1/301)
40 - سورة الإسراء آية : 78.
41 - سورة البقرة آية : 43.
42 - سورة المائدة آية : 55.
43 - سورة العنكبوت آية : 45.
44 - سورة المدثر آية : 42-43.
45 - سورة الانفطار آية : 8.
46 - سورة الحشر آية : 24.
47 - سورة المؤمنون آية : 14.
48 - سورة السجدة آية : 11.
49 - سورة التحريم آية : 6.
50 - سورة لقمان آية : 34.
51 - سورة الرعد آية : 8.
52 - سورة السجدة آية : 7-9.
53 - سورة السجدة آية : 7-8.
54 - سورة السجدة آية : 7-8.
55 - سورة النجم آية : 3-4.
56 - سورة الحجر آية : 29.
57 - سورة الحج آية : 70.
58 - سورة القمر آية : 49.
59 - سورة الرعد آية : 39.
60 - سورة الرعد آية : 39.
61 - سورة الرعد آية : 39.
62 - سورة النور آية : 63.
63 - سورة الشورى آية : 21.
64 - سورة المائدة آية : 3.
65 - سورة آل عمران آية : 31.
66 - سورة الحشر آية : 7.
67 - سورة آل عمران آية : 7.
68 - سورة آل عمران آية : 7.
69 - سورة مريم آية : 65.
70 - سورة الإخلاص آية : 4.
71 - سورة الشورى آية : 11.
72 - سورة الشورى آية : 11.
73 - سورة الإسراء آية : 9.
74 - سورة الحشر آية : 7.
75 - سورة طه آية : 44.
76 - سورة التوبة آية : 71.
77 - سورة المجادلة آية : 11.
78 - سورة التوبة آية : 36.
79 - سورة التوبة آية : 29.
80 - سورة التوبة آية : 29.
81 - سورة التوبة آية : 11.
82 - سورة الحشر آية : 7.
83 - سورة النساء آية : 114.
84 - سورة النساء آية : 114.
85 - سورة النساء آية : 114.
86 - سورة البقرة آية : 219.
87 - سورة البقرة آية : 286.
88 - سورة التغابن آية : 16.
89 - سورة الحج آية : 78.
90 - سورة المائدة آية : 101.
91 - سورة المائدة آية : 101.
92 - سورة المؤمنون آية : 51.
93 - سورة البقرة آية : 172.
94 - سورة المائدة آية : 100.
95 - سورة النحل آية : 32.
96 - سورة المؤمنون آية : 51.
97 - سورة البقرة آية : 172.(1/302)
98 - سورة المؤمنون آية : 51.
99 - سورة العنكبوت آية : 65.
100 - سورة فاطر آية : 32.
101 - سورة الأنعام آية : 160.
102 - سورة النساء آية : 40.
103 - سورة ق آية : 18.
104 - سورة ق آية : 18.
105 - سورة الزخرف آية : 80.
106 - سورة الانفطار آية : 11.
107 - سورة النساء آية : 114.
108 - سورة الحديد آية : 21.
109 - سورة آل عمران آية : 133.
110 - سورة المطففين آية : 26.
111 - سورة الحشر آية : 9.
112 - سورة الواقعة آية : 79.
113 - سورة النور آية : 2.
114 - سورة النور آية : 2.
115 - سورة المائدة آية : 45.
116 - سورة البقرة آية : 178.
117 - سورة البقرة آية : 178.
118 - سورة المائدة آية : 45.
119 - سورة النساء آية : 114.
120 - سورة النساء آية : 114.
121 - سورة الماعون آية : 6-7.
122 - سورة الماعون آية : 7.
123 - سورة النساء آية : 36.
124 - سورة النساء آية : 36.
125 - سورة النساء آية : 36.
126 - سورة آل عمران آية : 134.
127 - سورة آل عمران آية : 134.
128 - سورة النساء آية : 103.
129 - سورة البقرة آية : 183.
130 - سورة البقرة آية : 180.
131 - سورة النساء آية : 24.
132 - سورة المائدة آية : 45.
133 - سورة النحل آية : 90.
134 - سورة البقرة آية : 83.
135 - سورة الإسراء آية : 23.
136 - سورة النحل آية : 90.
137 - سورة الأحزاب آية : 1.
138 - سورة آل عمران آية : 102.
139 - سورة الأحزاب آية : 70.
140 - سورة الحشر آية : 18.
141 - سورة البقرة آية : 281.
142 - سورة آل عمران آية : 131.
143 - سورة البقرة آية : 278.
144 - سورة النساء آية : 1.
145 - سورة المائدة آية : 27.
146 - سورة البقرة آية : 278.
147 - سورة الأحزاب آية : 1.
148 - سورة الأحزاب آية : 1.
149 - سورة الأحزاب آية : 1.
150 - سورة النساء آية : 136.
151 - سورة البقرة آية : 104.
152 - سورة النساء آية : 131.
153 - سورة هود آية : 114.(1/303)
154 - سورة هود آية : 114.
155 - سورة هود آية : 114.
156 - سورة المؤمنون آية : 100.
157 - سورة المؤمنون آية : 99.
158 - سورة الصف آية : 5.
159 - سورة التوبة آية : 67.
160 - سورة آل عمران آية : 7.
161 - سورة الأعراف آية : 155.
162 - سورة المائدة آية : 13-14.
163 - سورة المائدة آية : 13-14.
164 - سورة المائدة آية : 13.
165 - سورة المائدة آية : 14.
166 - سورة الفاتحة آية : 5.
167 - سورة المائدة آية : 67.
168 - سورة غافر آية : 44.
169 - سورة الأنفال آية : 30.
170 - سورة البقرة آية : 14-15.
171 - سورة النساء آية : 142.
172 - سورة النحل آية : 83.
173 - سورة الأنعام آية : 20.
174 - سورة الشرح آية : 5-6.
175 - سورة الأحقاف آية : 35.
176 - سورة البقرة آية : 26.
177 - سورة فصلت آية : 40.
178 - سورة فصلت آية : 40.
179 - سورة الدخان آية : 49.
180 - سورة فصلت آية : 30.
181 - سورة فصلت آية : 30.
182 - سورة يونس آية : 31-32.
183 - سورة الزخرف آية : 87.
184 - سورة الزخرف آية : 9.
185 - سورة التغابن آية : 6.
186 - سورة التغابن آية : 6.
187 - سورة فصلت آية : 30.
188 - سورة هود آية : 112.
189 - سورة فصلت آية : 6.
190 - سورة فصلت آية : 30.
191 - سورة النساء آية : 87.
192 - سورة الأعراف آية : 40.
193 - سورة المائدة آية : 72.
194 - سورة المدثر آية : 4.
195 - سورة الأعراف آية : 82.
196 - سورة البقرة آية : 143.
197 - سورة البقرة آية : 143.
198 - سورة الفاتحة آية : 2.
199 - سورة الأنعام آية : 1.
200 - سورة الكهف آية : 1.
201 - سورة فاطر آية : 1.
202 - سورة غافر آية : 65.
203 - سورة غافر آية : 65.
204 - سورة غافر آية : 65.
205 - سورة إبراهيم آية : 24.
206 - سورة الملك آية : 16.
207 - سورة نوح آية : 16.
208 - سورة يونس آية : 5.
209 - سورة المائدة آية : 15.
210 - سورة النساء آية : 160.(1/304)
211 - سورة الأنبياء آية : 48.
212 - سورة فصلت آية : 46.
213 - سورة غافر آية : 31.
214 - سورة آل عمران آية : 108.
215 - سورة طه آية : 112.
216 - سورة يونس آية : 44.
217 - سورة آل عمران آية : 108.
218 - سورة النحل آية : 90.
219 - سورة الأنعام آية : 82.
220 - سورة الأحزاب آية : 72.
221 - سورة الضحى آية : 7.
222 - سورة الفاتحة آية : 6.
223 - سورة فاطر آية : 2.
224 - سورة البقرة آية : 286.
225 - سورة الزمر آية : 53.
226 - سورة الزمر آية : 53.
227 - سورة النساء آية : 48.
228 - سورة النساء آية : 48.
229 - سورة الأحزاب آية : 72.
230 - سورة الذاريات آية : 56-58.
231 - سورة مريم آية : 94-95.
232 - سورة الجن آية : 28.
233 - سورة المدثر آية : 38.
234 - سورة القيامة آية : 14-15.
235 - سورة النساء آية : 101.
236 - سورة النساء آية : 114.
237 - سورة النساء آية : 114.
238 - سورة البقرة آية : 177.
239 - سورة النحل آية : 43.
240 - سورة النساء آية : 59.
241 - سورة النحل آية : 44.
242 - سورة النحل آية : 44.
243 - سورة السجدة آية : 16-17.
244 - سورة البقرة آية : 96.
245 - سورة الليل آية : 5-7.
246 - سورة الليل آية : 5-7.
247 - سورة هود آية : 114.
248 - سورة المزمل آية : 20.
249 - سورة السجدة آية : 16.
250 - سورة السجدة آية : 16-17.
251 - سورة الإسراء آية : 53.
252 - سورة الأحزاب آية : 58.
253 - سورة الحجرات آية : 12.
254 - سورة الإسراء آية : 53.
255 - سورة الحشر آية : 7.
256 - سورة آل عمران آية : 132.
257 - سورة النساء آية : 13.
258 - سورة الطلاق آية : 1.
259 - سورة البقرة آية : 229.
260 - سورة البقرة آية : 187.
261 - سورة النساء آية : 13.
262 - سورة الطلاق آية : 1.
263 - سورة البقرة آية : 229.
264 - سورة البقرة آية : 229.
265 - سورة البقرة آية : 187.
266 - سورة النساء آية : 11.(1/305)
267 - سورة النساء آية : 13.
268 - سورة النساء آية : 13.
269 - سورة الطلاق آية : 1.
270 - سورة البقرة آية : 187.
271 - سورة البقرة آية : 187.
272 - سورة الأنعام آية : 145.
273 - سورة الأنعام آية : 151.
274 - سورة مريم آية : 64.
275 - سورة طه آية : 52.
276 - سورة المائدة آية : 101.
277 - سورة آل عمران آية : 31.
278 - سورة المائدة آية : 54.
279 - سورة القصص آية : 77.
280 - سورة طه آية : 131.
281 - سورة البقرة آية : 231.
282 - سورة البقرة آية : 233.
283 - سورة النساء آية : 12.
284 - سورة هود آية : 53.
285 - سورة البينة آية : 1-2.
286 - سورة النساء آية : 140.
287 - سورة الأنعام آية : 68.
288 - سورة الأعلى آية : 9.
289 - سورة التوبة آية : 71.
290 - سورة الحجرات آية : 10.
291 - سورة التوبة آية : 71.
292 - سورة الزمر آية : 75.
293 - سورة النساء آية : 172.
294 - سورة الأنبياء آية : 19.
295 - سورة الحجرات آية : 13.
296 - سورة الجن آية : 26-27.
297 - سورة يونس آية : 62-63.
298 - سورة البقرة آية : 284.
299 - سورة البقرة آية : 286.
300 - سورة البقرة آية : 286.
301 - سورة النحل آية : 106.
302 - سورة العنكبوت آية : 14.
303 - سورة النساء آية : 65.
304 - سورة التوبة آية : 24.
305 - سورة التوبة آية : 24.
306 - سورة الزمر آية : 53.
??
??
??
??
رح متن الأربعين النووية
شرح الأربعين النووية
لمعالي الشيخ العلامة/ صالح بن عبد العزيز بن محمد آل الشيخ
4
- 12 -(1/306)