بسم الله الرحمن الرحيم
شرح
الأربعين النووية
للإمام النووي رحمه الله
بقلم
سليمان بن محمد اللهيميد
السعودية – رفحاء
الموقع على الإنترنت
www.almotaqeen.net
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين ،والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين ،
أما بعد :
فإن كتاب ( الأربعين النووية ) للإمام النووي رحمه الله يعتبر من الكتب المهمة التي كتب الله لها القبول والانتشار ، لأنه ضمنها الأحاديث التي هي من أصول الإسلام وقواعده .
ولأهمية هذه الأحاديث التي جمعها النووي رحمه الله ، فقد قمت بشرحها مستعيناً - بعد عون الله – بكلام العلماء .
سائلاً المولى عز وجل أن يرزقنا العلم النافع والعمل الصالح .
وصلى الله وسلم على نبينا محمد
أخوكم
سليمان بن محمد اللهيميد
السعودية – رفحاء
الموقع على الانترنت
www.almotaqeen.net
البريد الألكتروني
Smr898@hotmail.com
فهرس المواضيع المهمة
م ... الموضوع ... رقم الصفحة ... م ... الموضوع ... رقم الصفحة
1 ... من أقوال السلف في الإخلاص ... 5 ... 28 ... فضل العدل بين الناس ... 70
2 ... نماذج من إخلاص السلف ... 5 ... 29 ... فضائل التعاون ... 71
3 ... من أقوال السلف في الدنيا ... 6 ... 30 ... فضائل إماطة الأذى عن الطريق ... 71
4 ... شروط لا إله إلا الله ... 13 ، 14 ... 31 ... مباحث الموعظة ... 75
5 ... مسائل القلب ... 22 ... 32 ... فضائل البكاء من خشية الله ... 76
6 ... من أقوال السلف في القلب ... 22 ، 23 ... 33 ... مباحث الشرك ... 79
7 ... من أقوال السلف عن النصيحة ... 25 ... 34 ... فضائل الصوم ... 80
8 ... فضائل الورع ... 31 ... 35 ... فضائل قيام الليل ... 80
9 ... من أقوال السلف عن الورع ... 31 ... 36 ... فضائل الجهاد في سبيل الله ... 81
10 ... فضائل الصدق ... 31 ، 32 ... 37 ... من أقوال السلف في حفظ اللسان ... 82(1/1)
11 ... من أقوال السلف في ترك ما لا يعني ... 33 ... 38 ... مباحث في ذم الدنيا ... 86
12 ... فضائل حسن الجوار ... 38 ... 39 ... من أقوال السلف في ذم الدنيا ... 86
13 ... آثار إيذاء الجار ... 38 ، 39 ... 40 ... ثمرات الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ... 92
14 ... علاج الغضب ... 40 ... 41 ... خطر ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ... 93
15 ... فضائل الإحسان ... 43 ... 42 ... مباحث الحسد ... 96
16 ... ثمرات التقوى ... 44 ، 45 ... 43 ... خطر التهاجر ... 98
17 ... فضائل حسن الخلق ... 45 ، 46 ... 44 ... من أقوال السلف في الغيبة ... 100
18 ... أمثلة لحفظ الله لمن حفظه ... 47 ، 48 ... 45 ... أسباب النجاة من كرب يوم القيامة ... 101
19 ... أمثلة الجزاء من جنس العمل ... 48 ... 46 ... فضائل طلب العلم ... 103
20 ... فضائل الصبر ... 50 ... 47 ... من أقوال السلف في طلب العلم ... 104
21 ... فضائل الحياء ... 52 ... 48 ... أسباب تجلب محبة الله ... 109
22 ... من أقوال السلف في الحياء ... 53 ... 49 ... قصر الأمل ... 114
23 ... فضائل الاستقامة ... 54 ... 50 ... مباحث الموت ... 115
24 ... مباحث الميزان ... 59 ... 51 ... من أقوال السلف في الموت ... 115
25 ... فضائل الصدق ... 60 ... 52 ... أضرار اتباع الهوى ... 117
26 ... وجوب الاستغفار ... 64 ... 53 ... فوائد الاستغفار ... 120
27 ... حزن السلف على فوات الطاعة ... 64 ... 54 ... فضائل التوحيد ... 121
الحديث الأول
عن أمير المؤمنين أبي حفص عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - قال : سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول : ( إنما الأعمال بالنيات ، وإنما لكل امرئ ما نوى ، فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله ، ومن كانت هجرته لدنيا يصيبها أو امرأة ينكحها فهجرته إلى ما هاجر إليه ) . رواه البخاري ومسلم(1/2)
---------------------------------------------------------
معاني الكلمات :
إنما : أداة حصر يؤتى بها للحصر . بالنيات : جمع نية : وهي عزم القلب على فعل الشيء .
هجرته : الهجرة الانتقال من بلد الشرك إلى بلد الإسلام . دنيا : حقيقتها ما على الأرض من الهواء والجو مما قبل قيام الساعة .
الفوائد :
هذا الحديث من الأحاديث الهامة التي عليها مدار الإسلام .
قال أبو عبد الله : ” ليس في أخبار النبي - صلى الله عليه وسلم - أجمع وأغنى فائدة من هذا الحديث “ .
وقال الشافعي : ” يدخل في سبعين باباً من أبواب العلم “ .
ولأهميته ابتدأ به الإمام البخاري صحيحه .
وبدأ به الإمام النووي في كتبه :
الأذكار __ ورياض الصالحين ___ والأربعين نووية .
اختلف العلماء في معنى : ( إنما الأعمال بالنيات ، وإنما لكل امرئ ما نوى ) . هل هما جملتان بمعنى واحد أو مختلفتان ؟
والراجح أن الأولى غير الثانية :
الأولى ( إنما الأعمال بالنيات ) سبب ، بيّن النبي - صلى الله عليه وسلم - فيها أن كل عمل لا بد فيه من نية ، كل عمل يعمله الإنسان وهو عاقل مختار لا بد فيه من نية ، ولا يمكن لأي عاقل مختار أن يعمل عملاً بغير نية .
الثانية ( وإنما لكل امرىء ما نوى ) نتيجة هذا العمل :
إذا نويت هذا العمل لله والدار الآخرة حصل لك ذلك ، وإذا نويت الدنيا فليس لك إلا ما نويت .
وجوب إخلاص النية لله ، لأنه ليس له من عمله إلا ما كان خالصاً لله .
وقد جاءت نصوص تبين أن العمل لا يقبل إلا ما كان لله .
قال تعالى : ? وما أمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين حنفاء .. ? .
قال - صلى الله عليه وسلم - : ( إن الله لا يقبل من العمل إلا ما كان خالصاً ) رواه النسائي .
وقال - صلى الله عليه وسلم - : ( بشر هذه الأمة بالتمكين والرفعة ، من عمل منهم عمل الآخرة للدنيا لم يكن له في الآخرة من نصيب ) . رواه أحمد
والإخلاص : تصفية العمل عن ملاحظة المخلوقين .(1/3)
من أقوال السلف في الإخلاص
قال بعض السلف : ” المخلص من يكتم حسناته كما يكتم سيئاته “ .
قال سهل بن عبد الله : ” ليس على النفس شيء أشق من الإخلاص لأنه ليس لها فيه نصيب “ .
وقال يوسف بن الحسين : ” أعز شيء في الدنيا الإخلاص وكم أجتهد في إسقاط الرياء عن قلبي وكأنه ينبت فيه على لون آخر “ .
وقال الربيع بن خثيم : كل ما لا يراد به وجه الله يضمحل .
وقال أبو سليمان الداراني : إذا أخلص العبد ، انقطعت عنه كثرة الوساوس والرياء .
وقال نعيم بن حماد : ضرب السياط أهون علينا من النية الصالحة .
وقال يحيي بن أبي كثير : تعلموا النية فإنها أبلغ من العمل .
وقال يوسف بن أسباط : تخليص النية من فسادها أشد على العاملين من طول الاجتهاد .
وقال مكحول : ما أخلص عبد قط أربعين يوماً إلا ظهرت ينابيع الحكمة من قلبه ولسانه .
وقال ابن القيم : العمل بغير إخلاص ولا اقتداء كالمسافر يملأ جرابه رملاً يثقله ولا ينفعه .
نماذج من إخلاص السلف
ما رئي الربيع متطوعاً في مسجد قومه إلا مرة واحدة .
وكان منصور بن المعتمر إذا صلى الغداة أظهر النشاط لأصحابه فيحدثهم ويكثر إليهم ، ولعله إنما بات قائماً على أطرافه ، وكل ذلك ليخفي عليهم العمل .
وكان عبد الرحمن بن أبي ليلى يصلي فإذا دخل عليه الداخل نام على فراشه .
وحسان بن أبي سنان تقول عنه زوجته : كان يجيء فيدخل في فراشي ، ثم يخادعني كما تخادع المرأة صبيها ، فإذا علم أني نمت سل نفسه فخرج ، ثم يقوم فيصلي .
قال أبو حمزة الثمالي : كان علي بن الحسين يحمل جراب الخبز على ظهره بالليل ، فيتصدق به ويقول : إن صدقة السر تطفىء غضب الرب عز وجل .
وعن محمد بن إسحاق : كان ناس من أهل المدينة يعيشون ، لا يدرون من أين كان معاشهم ، فلما مات علي بن الحسين فقدوا ما كانوا يؤتون به في الليل .
وأقام عمرو بن قيس عشرين سنة صائماً ، ما يعلم به أهله .(1/4)
قال ابن الجوزي : كان إبراهيم النخعي إذا قرأ في المصحف فدخل داخل غطاه .
وقال محمد بن واسع : إن كان الرجل ليبكي عشرين سنة وامرأته لا تعلم به .
وقال الشافعي : وددت أن الخلق تعلموا هذا العلم _ يقصد علمه _ على أن لا ينسب إليّ حرف منه
أن الإخلاص شرط لقبول العمل ، فالعمل لا يقبل إلا بشرطين :
الأول : أن يكون خالصاً .
لحديث الباب : ( ... وإنما لكل امرىء ما نوى ... ) .
الثاني : أن يكون موافقاً للسنة .
لحديث عائشة ( من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد ) .
والنية محلها القلب والتلفظ بها بدعة .
قال ابن تيمية : ” التلفظ بالنية بدعة لم يفعله الرسول ولا أصحابه “ .
قال بعض العلماء :
حديث ( إنما الأعمال بالنيات ........ ) ميزان للأعمال الباطنة .
وحديث ( من أحدث في أمرنا ....... ) ميزان للأعمال الظاهرة .
ضرب النبي - صلى الله عليه وسلم - مثالاً للعمل الذي يراد به وجه الله والذي يراد به غير الله ، وذلك بالهجرة :
ــ بعض الناس يهاجر ويدع بلده لله تعالى وابتغاء مرضاته فهذا هجرته لله ويؤجر عليها كاملاً . ويكون أدرك ما نوى .
ــ وبعض الناس يهاجر لأغراض دنيوية ، كمن هاجر من بلد الكفر إلى بلد الإسلام من أجل المال ، أو من أجل امرأة يتزوجها ، فهذا هاجر لكنه لم يهاجر لله ، ولهذا قال الرسول : فهجرته إلى ما هاجر إليه .
والهجرة : الانتقال من بلد الشرك إلى بلد الإسلام .
وحكمها ينقسم إلى قسمين :
واجبة : إذا كان الشخص لا يستطيع أن يقيم دينه .
مستحبة : إذا كان الشخص يستطيع أن يقيم دينه .
وهي باقية إلى قيام الساعة :
قال - صلى الله عليه وسلم - : ( لا تنقطع الهجرة حتى تنقطع التوبة ، ولا تنقطع التوبة حتى تطلع الشمس من مغربها ) . رواه أبو داود
وقعت الهجرة في الإسلام على أنواع :
الأولى : الانتقال من بلد الشرك إلى بلد الإسلام .
كما في الهجرة من مكة إلى المدينة .
الثانية : الانتقال من بلد الخوف إلى بلد الأمن .(1/5)
كما في الهجرة إلى الحبشة .
الثالثة : ترك ما نهى الله عنه .
كما في الحديث ( المهاجر من هجر ما نهى الله عنه ) . رواه البخاري
التحذير من الدنيا وفتنتها .
قال تعالى : ? يا أيها الناس إن وعد الله حق فلا تغرنكم الحياة الدنيا ? .
وقال - صلى الله عليه وسلم - : ( إن مما أخاف عليكم من بعدي ما يفتح عليكم من زهرة الدنيا ) . متفق عليه
قال ابن الحنفية : من كرمت عليه نفسه هانت عليه الدنيا .
قيل لعلي : صف لنا الدنيا ؟ فقال : ما أصف من دار ؟ أولها عناء ، وآخرها فناء ، حلالها حساب ، وحرامها عقاب ، من استغنى فيها فتن ، ومن افتقر فيها حَزن .
قال ابن القيم : الدنيا كامرأة بغي لا تثبت مع زوج ، إنما تخطب الأزواج ليستحسنوا إليها ، فلا ترضى إلا بالدياثة
وقال : الدنيا لا تساوي نقل أقدامك إليها ، فكيف تعدو خلفها .
وقال : على قدر رغبة العبد في الدنيا ورضاه بها يكون تثاقله عن طاعة الله وطلب الآخرة .
وقال بعض الزهاد : دع الدنيا لأهلها كما تركوا هم الآخرة لأهلها .
وقال الحسن البصري : من نافسك في دينك فنافسه ، ومن نافسك في دنياك فألقها في نحره .
قال الشاعر في وصف الدنيا :
أحلامُ نومٍ أو كظلٍ زائلٍ إن اللبيبَ بمثلها لا يخدع .
وقال آخر :
الدنيا ساعهْ فاجعلها طاعهْ
والنفس طماعهْ عوّدها القناعهْ .
التحذير من فتنة النساء لقوله ( أو امرأة .. ) وخصها بالذكر لشدة الافتتان بها .
كما في الحديث : ( .... فاتقوا الدنيا واتقوا النساء فإن أول فتنة بني إسرائيل كانت في النساء ) . رواه مسلم
التحذير من إرادة الدنيا بعمل الآخرة .
التحذير من السفر إلى بلاد الكفر .
الحديث الثاني(1/6)
عن عمر - رضي الله عنه - أيضاً قال : ( بينما نحن جلوس عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ذات يوم ، إذ طلع علينا رجل شديد بياض الثياب ، شديد سواد الشعر ، لا يرى عليه أثر السفر ولا يعرفه منا أحد . حتى جلس إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - ، فأسند ركبتيه إلى ركبتيه ، ووضع كفيه على فخذيه ، وقال : يا محمد أخبرني عن الإسلام . فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : ” الإسلام أن تشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله ، وتقيم الصلاة ، وتؤتي الزكاة ، وتصوم رمضان ، وتحج البيت إن استطعت إليه سبيلاً “ . قال : صدقت . فعجبنا له يسأله ويصدقه !
قال : فأخبرني عن الإيمان .
قال : ” أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر وتؤمن بالقدر خيره وشره “ .
قال : صدقت .
قال : فأخبرني عن الإحسان .
قال : ” أن تعبد الله كأنك تراه ، فإن لم تكن تراه فإنه يراك “ .
قال : فأخبرني عن الساعة .
قال : ” ما المسؤول عنها بأعلم من السائل “ .
قال : فأخبرني عن أماراتها .
قال : ” أن تلد الأمة ربتها ، وأن ترى الحفاة العراة العالة رعاء الشاء يتطاولون في البنيان “ .
ثم انطلق ، فلبثت ملياً ، ثم قال : ” يا عمر أتدري من السائل ؟ “ .
قلت : الله ورسوله أعلم .
قال : ” فإنه جبريل أتاكم يعلمكم دينكم “ . رواه مسلم
---------------------------------------------------------
معاني الكلمات
طلع علينا : أي ظهر علينا .
رجل : هو جبريل أتى إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - بصورة رجل لا يعرفونه .
لا يرى عليه أثر السفر : أي لا يرى عليه علامة السفر وهيئته .
لا يعرفه منّا أحد : أي معاشر الصحابة .
أخبرني عن الإسلام : أي ما هو الإسلام .
ووضع كفيه على فخذيه : أي فخذي نفسه كهيئة المنادي .
فعجبنا له يسأله ويصدقه : أي أصابنا العجب من حاله ، وهو يسأل سؤال العارف المحقق المصدق .
أخبرني عن الساعة : أي أخبرني عن وقت مجيء يوم القيامة .(1/7)
أماراتها : علاماتها .
الحفاة : جمع حاف ، وهو من لا نعل له في رجليه .
العراة : جمع عار ، وهو من لا ثياب على جسده .
العالة : جمع عائل ، وهو الفقير .
رعاء الشاء : جمع راع ، وهو الحافظ ، والشاء : جمع شاة ، وهي واحدة الضأن .
أن تلد الأمة ربتها : قال النووي : ” جاء في رواية : ربها ، وفي أخرى : بعلها ، قال الأكثرون من العلمكاء : هو إخبار عن كثرة السراري وأولادهن ، فإن ولدها من سيدها بمنزلة سيدها “ .
الفوائد :
استحباب السؤال في العلم .
وقد قال تعالى : { فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون } .
وقد قيل : السؤال نصف العلم .
وجاء في بعض روايات هذا الحديث في أوله :" كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يجلس بين أصحابه فيجيء الغريب فلا يدري أيهم هو , فطلبنا إليه أن نجعل له مجلساً يعرفه الغريب إذا أتاه , قال : فبنينا له دكاناً من طين كان يجلس عليه ".
استنبط منه الإمام القرطبي استحباب جلوس العالم بمكان يختص به ويكون مرتفعاً إذا احتاج لذلك لضرورة تعليم ونحوه .
السؤال عن العلم النافع في الدنيا والآخرة ، وترك السؤال عما لا فائدة فيه .
ينبغي لمن حضر مجلس علم، ورأى أن الحاضرين بحاجة إلى معرفة مسألة ما، ولم يسأل عنها أحد، أن يسأل هو عنها ـ وإن كان هو يعلمها ـ لينتفع أهل المجلس بالجواب.
فقد كان غرض جبريلَ - عليه السلام - من أسئلته هذه أن يتعلم المسلمون ، وهذا ما بينه النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - بقوله : “ فَإِنَّهُ جِبْرِيلُ أتاكم يُعَلِّمُكُمْ دِينَكُمْ ” .
وفي رواية أبي هريرة عند البخاري ومسلم: “ هَذَا جِبْرِيلُ أَرَادَ أَنْ تَعَلَّمُوا إِذْ لَمْ تَسْأَلُوا ” .
قال النووي : ” وينبغى للسائل حسن الأدب بين يدي معلمه ، وأن يرفق في سؤاله “ .(1/8)
و يشهد لهذا ما في رواية عطاء بن السائب عن يحيى بن يعمر فقال أدنو يا رسول الله قال نعم فدنا ثم قام فتعجبنا لتوقيره رسول الله ثم قال أدنو يا رسول الله قال نعم فدنا حتى وضع فخذه على فخذ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - .
وفي رواية علقمة بن مرثد عن سليمان بن بريدة عن ابن عمر عند أحمد ما رأينا رجلاً أشد توقيراً لرسول الله من هذا .
الحديث دليل على أن الإسلام غير الإيمان .
فالإسلام هو الأعمال الظاهرة .
والإيمان هو الأعمال الباطنة .
استحباب الدنو من العالم والقرب منه .
أن حسن السؤال من أسباب تحصيل العلم .
قيل لابن عباس : ” بما بلغت العلم ؟ قال : بلسان سؤول ، وقلب عقول “ .
وقال الزهري : ” العلم خزانة مفتاحها المسألة “ .
وسئل الأصمعي : ” بما نلت ما نلت ؟ قال : بكثرة سؤالي ، وتلقفي الحكمة الشرود “ .
بيان نوع من أنواع الوحي ، ومن أنواع الوحي :
الرؤيا الصادقة – الإلقاء في الروع – أن يراه على صورته التي خلق عليها – أن يكلمه من وراء حجاب .
مشروعية الرحلة في طلب الحديث .
ورحل جابر بن عبد الله شهراً كاملاً في مسألة .
وكان سعيد بن المسيب يقول : ” إن كنت لأسهر الليالي والأيام في طلب الحديث الواحد .
استدل بهذا الحديث جمهور العلماء على أن الإسلام غير الإيمان .
والصحيح في هذه المسألة : ما ذكره الشيخ ابن عثيمين رحمه الله : حيث قال :
” إذا قرن الإسلام بالإيمان فإن الإسلام يكون الأعمال الظاهرة من نطق اللسان وعمل الجوارح ، والإيمان الأعمال الباطنة من العقيدة وأعمال القلوب ، ويدل لهذا التفريق قوله تعالى ( قالت الأعراب آمنا قل لم تؤمنوا ولكن قولوا أسلمنا ولما يدخل الإيمان في قلوبكم ، ويدل لذلك أيضاً حديث عمر بن الخطاب .. ثم ذكر حديث الباب “ .
وجوب الإيمان بالملائكة .
والملائكة : عالم غيبي خلقوا من نور ، جعلهم الله طائعين له متذللين له .
وعددهم كثير :
قال تعالى : { وما يعلم جنود ربك إلا هو } .(1/9)
وقال - صلى الله عليه وسلم - : ( ... فإذا البيت المعمور وإذا يدخله سبعون ألف ملك لا يعودون عن آخرهم ) .
وقال - صلى الله عليه وسلم - : ( أطت السماء وحق لها أن تئط ، ما فيها موضع شبر إلا ملك ساجد أو راكع ) .
أطت : صاحت
خلقوا من نور :
قال - صلى الله عليه وسلم - : ( خلقت الملائكة من نور ) . رواه مسلم
ولكل ملك وظيفة :
فجبريل موكل بالوحي .
وإسرافيل موكل بنفخ الصور .
وميكائيل موكل بالقطر والنبات .
ومالك خازن النار .
ورضوان قال ابن كثير : ” وخازن الجنة ملك يقال له رضوان ، جاء مصرحاً به في بعض الأحاديث .
وهم أجساد :
قال تعالى : { جاعل الملائكة رسلاً أولي أجنحة مثنى } .
وجوب الإيمان بالرسل .
والرسول : هو من أوحي إليه بشرع وأمر بتبليغه .
والإيمان بالرسل يتضمن :
أنهم صادقون في ما قالوه من الرسالة ، ونؤمن بأسماء من علمنا اسمه منهم ، ومن لم نعرف اسمه فنؤمن به إجمالاً ، قال تعالى : { منهم من قصصنا عليك ومنهم من لم نقصص عليك } .
أولهم نوح : قال تعالى : { إنا أوحينا إليك كما أوحينا إلى نوح والنبيين من بعده } .
وآخرهم محمد : قال تعالى : { ما كان محمد أبا أحد من رجالكم ولكن رسول الله وخاتم النبيين } .
من كفر برسول كفر بجميع الرسل : قال تعالى : { كذبت قوم نوح المرسلين } مع أن قومه لم يأتهم إلا نبي واحد .
فإن قيل : كيف الجمع بين كون محمد - صلى الله عليه وسلم - خاتم النبيين وبين نزول عيسى في آخر الزمان ؟
الجواب : أن عيسى لا ينزل على أنه رسول ، ولا يأتي بشرع جديد ، ولكنه يجدد شرع النبي - صلى الله عليه وسلم - .
وجوب الإيمان بالكتب ، وما من رسول إلا أنزل الله معه كتاباً .
قال تعالى : { لقد أرسلنا رسلنا بالبينات وأنزلنا معهم الكتاب والميزان } .
والكتب التي علمنا اسمها ، منها : القرآن ، والتوراة ، والإنجيل ، والزبور .
وجوب الإيمان باليوم الآخر ، وسمي بذلك لأنه لا يوم بعده .(1/10)
ويشمل كل ما يكون بعد موت الإنسان من البعث والنشور وتطاير الصحف والقبر والجنة والنار .
وجوب مراقبة الله تعالى .
قال تعالى { واعلموا أن الله يعلم ما في أنفسكم فاحذروه }.
وقال جل ثناؤه : { إن الله كان عليكم رقيبا }.
وقال تقدست أسماؤه { وَمَا تَكُونُ فِي شَأْنٍ وَمَا تَتْلُو مِنْهُ مِنْ قُرْءَانٍ وَلا تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلا كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُودًا إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ وَمَا يَعْزُبُ عَنْ رَبِّكَ مِنْ مِثْقَالِ ذَرَّةٍ فِي الأَرْضِ وَلا فِي السَّمَاءِ وَلا أَصْغَرَ مِنْ ذَلِكَ وَلا أَكْبَرَ إِلا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ } .
أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لا يعلم الغيب .
وفيه إجابة السائل بأكثر مما سأل .
فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - لما أجاب السائل عن الساعة ؟ بجواب جامع " ما المسؤول عنها بأعلم من السائل " لم يكتف بذلك وإنما زاده أن بين له بعض أماراتها ، فقال " وَسَأُخْبِرُكَ عَنْ أَشْرَاطِهَا إِذَا وَلَدَتْ الأَمَةُ رَبَّتهَا ، وَإِذَا تَطَاوَلَ رُعَاةُ الإِبِلِ الْبُهْمُ فِي الْبُنْيَانِ ، فِي خَمْسٍ لا يَعْلَمُهُنَّ إِلاَّ اللَّهُ "، ثُمَّ تَلا النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - : { إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ } الآيَةَ .
أنه لا يدري أحد متى الساعة ، وقد استأثر الله بعلمها ، فلم يطلع على ذلك ملكاً مقرباً ولا نبياً مرسلاً.
قال تعالى : { يسألونك عن الساعة قل إنما علمها عند ربي لا يجليها لوقتها إلا هو ثقلت في السموات والأرض لا تأتيكم إلا بغتة يسألونك كأنك حفي عنها قل إنما علمها عند الله } .
وقال تعالى : { يسألونك عن الساعة أيان مرساها . فيم أنت من ذكراها . إلى ربك منتهاها } .
قال ابن كثير : ” أي ليس علمها إليك ، ولا إلى أحد من الخلق ، بل مردها ومرجعها إلى الله ، فهو الذي يعلم وقتها على التعيين “ .
لكن هي قريبة :(1/11)
قال تعالى : { اقترب للناس حسابهم وهم في غفلة معرضون } .
وقال تعالى : { اقتربت الساعة وانشق القمر } .
أن للساعة علامات تدل على قربها ، وقد ذكر النبي - صلى الله عليه وسلم - في الحديث علامتان من هذه العلامات :
الأولى : أن تلد الأمة ربتها . ( وسبق تفسيرها ) .
الثانية : أن ترى أسافل الناس يصيرون رؤساء وتكثر أموالهم ويشيدون المباني العالية مباهاة وتفاخراً على عباد الله .
قال القرطبي : ” المقصود الإخبار عن تبدل الحال ، فاستولى أهل البادية على الأمر ، وتملكوا البلاد بالقهر ، فتكثر أموالهم وتنصرف همومهم إلى تشييد البنيان والتفاخر به ، وقد شاهدنا ذلك في هذه الأزمان “ .
ذم تشييد المباني على وجه المباهاة والتفاخر .
قال - صلى الله عليه وسلم - : ( أما إن كل بناء وبال على صاحبه إلا ما لابد منه ) . رواه أبو داود
دلالة على فساد الزمن بين يدي الساعة ، حيث تضعف الأخلاق، ويكثر عقوق الأولاد ومخالفتهم لآبائهم فيعاملونهم معاملة السيد لعبيده .
وتنعكس الأمور وتختلط ، حتى يصبح أسافل الناس ملوك الأمة ورؤساءها، وتسند الأمور لغير أهلها، ويكثر المال في أيدي الناس، ويكثر البذخ والسَّرف، ويتباهى الناس بعلو البنيان، وكثرة المتاع والأثاث، ويُتعالى على الخلق ويملك أمرهم من كانوا في فقر وبؤس، يعيشون على إحسان الغير من البدو والرعاة وأشباههم.
وفيه بيان قدرة الملك على التمثل بالصورة البشرية ، وفيه أيضا جواز رؤية الملك أو سماع كلامه .
قال الحافظ ابن حجر :" وفيه أن الملك يجوز أن يتمثل لغير النبي - صلى الله عليه وسلم - فيراه ويتكلم بحضرته وهو يسمع , وقد ثبت عن عمران بن حصين أنه كان يسمع كلام الملائكة ".
قال البيهقي : ” وروينا عن جماعة من الصحابة أن كل واحد رأى جبريل - عليه السلام - في صورة دحية الكلبي “ .
أن العالم إذا سئل عن شيء ولم يعلمه أن يقول : الله أعلم ، وهذا دليل على الورع والدين .(1/12)
وقد سئل - صلى الله عليه وسلم - أي البقاع أفضل ؟ فقال : ( لا أدري حتى أسأل جبريل ... ) . رواه ابن حبان
وقال ابن مسعود : ” أيها الناس ، من علم منكم شيئاً فليقل ، ومن لم يعلم فليقل لما لا يعلم : الله أعلم “.
وقال ابن عجلان : ” إذا أخطأ العالم لا أدري أصيبت مقاتلة “ .
قوله - صلى الله عليه وسلم - " أتاكم يعلمكم دينكم " فيه أن الإيمان والإسلام والإحسان تسمى كلها ديناً .
استحباب حضور مجالس العلم على أحسن هيئة وأكملها ، فقد جاء وصف السائل بكونه " شديد بياض الثياب شديد سواد الشعر ، لا يرى عليه أثر السفر "، ووصفه في رواية البيهقي " أحسن الناس وجها وأطيب الناس ريحاً ، كأن ثيابه لم يمسّها دنس "؛ وهذا دليل النظافة وحسن الهيئة
فيه أن ليس للإمام أو نوابه ، ولا للعالم أن يحتجبوا دون حاجات الناس ومصالحهم ؛ لقوله : ( كان النبي - صلى الله عليه وسلم - بارزاً يوماً للناس ) .
دليل صدق النبي - صلى الله عليه وسلم - في قوله " أوتيت جوامع الكلم " فإن هذا الحديث على وجازته اشتمل على فوائد كثيرة ، وعوائد وفيرة ، حتى اعتبر أصلاً لعلوم الشريعة .
قال القرطبي : ” هذا الحديث يصلح أن يقال له أم السنة , لما تضمنه من جمل علم السنة “ .
الحديث الثالث
عن أبي عبد الرحمن عبد الله بن عمر بن الخطاب ـ رضي الله عنهما ـ قال : سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول : ( بني الإسلام على خمس : شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله ، وإقام الصلاة ، وإيتاء الزكاة ، وحج البيت ، وصوم رمضان ) .
-----------------------------------------------------
معاني الكلمات :
بني : أقيم . خمس : أي دعائم . الإسلام : المراد هنا الدين . إقامة الصلاة : الإتيان بها والمداومة عليها .
الفوائد :
أن الإسلام بني على هذه الأركان الخمس ، فمن أنكر واحداً منها فليس بمسلم .(1/13)
ومعنى الحديث : أن الإسلام بني على هذه الخمس ، خمس كالأركان والدعائم لبنيانه ، والمقصود تمثيل الإسلام ببنيانه ، ودعائمه هذه الخمس ، فلا يثبت البنيان بدونها .
المقصود بالإسلام هنا الإسلام الخاص الذي بعث به محمد - صلى الله عليه وسلم - .
لأن الإسلام في الكتاب والسنة له إطلاقان :
الإطلاق الأول : الإسلام العام .
كما قال تعالى : { وله أسلم من في السموات والأرض طوعاً وكرهاً } .
وقال تعالى : { ما كان إبراهيم يهودياً ولا نصرانياً ولكن كان حنيفاً مسلماً } .
وقال سبحانه : { هو سماكم المسلمين من قبل وفي هذا } .
فالمقصود بالإسلام هنا الإسلام العام الذي يفسر بأنه : الاستسلام لله بالتوحيد والانقياد له بالطاعة والبراءة من الشرك وأهله .
الإطلاق الثاني : الإسلام الخاص .
وهو الذي بعث به محمد - صلى الله عليه وسلم - ، وهو الذي إذا أطلق لم يقصد إلا هو على وجه الخصوص .
فالمقصود بقوله ( بني الإسلام .. ) يعني الإسلام الخاص الذي جاء به نبينا محمد - صلى الله عليه وسلم - .
أن أركان الإسلام ترتيبها بالأهمية على حسب ترتيب النبي - صلى الله عليه وسلم - لها في هذا الحديث .
أن الشهادتين أهم أركان الإسلام .
معنى شهادة أن لا إله إلا الله : أي لا معبود بحق إلا الله .
ومعنى شهادة أن محمداً رسول الله : طاعته فيما أمر ، وتصديقه فيما أخبر ، واجتناب ما نهى عنه وزجر ، وألا يعبد الله إلا بما شرع .
أن الإنسان لا يدخل بالإسلام إلا بالشهادتين .
ولذلك قال - صلى الله عليه وسلم - لمعاذ لما بعثه إلى اليمن ( ... فليكن أول ما تدعوهم إليه شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله فإن هم أطاعوك فأعلمهم أن الله افترض عليهم خمس صلوات في اليوم والليلة .. ) .
وهذه الشهادة لا تنفع قائلها إلا بسبعة شروط :
قال الشيخ عبد الرحمن بن حسن : لا بد في شهادة أن لا إله إلا الله من سبعة شروط ، لا تنفع قائلها إلا باجتماعها ، وهي :(1/14)
- العلم المنافي للجهل ، والدليل قوله تعالى : ? إلا من شهد بالحق وهم يعلمون ? أي : بـ لا إله إلا الله ـ وهم يعلمون بقلوبهم .
وقال النبي - صلى الله عليه وسلم - : ( من مات وهو يعلم أن لا إله إلا الله دخل الجنة ) . رواه مسلم عن عثمان
- اليقين المنافي للشك ، قال تعالى : ? إنما المؤمنون الذين آمنوا بالله ورسوله ثم لم يرتابوا ? .
وقال - عليه السلام - : ( أشهد أن لا إله إلا الله ، وأني رسول الله ، لا يلقى الله بهما عبد غير شاك فيهما إلا دخل الجنة ) . رواه مسلم
وقال - عليه السلام - لأبي هريرة : ( من لقيت وراء هذا الحائط يشهد أن لا إله إلا الله مستيقناً بها قلبه بشره بالجنة ) . رواه مسلم
- الانقياد لها المنافي للترك ، قال تعالى : ? ومن يسلم وجهه إلى الله وهو محسن فقد استمسك بالعروة الوثقى ? .
- القبول المنافي للرد ، قال تعالى : ? احشروا الذين كفروا وأزواجهم وما كانوا يعبدون ـ إلى قوله ـ إنهم كانوا إذا قيل لهم لا إله إلا الله يستكبرون ? .
- الإخلاص المنافي للشرك ، قال تعالى : ? ألا له الدين الخالص ? .
وقال النبي - صلى الله عليه وسلم - : ( إن الله حرم على النار من قال لا إله إلا الله يبتغي بذلك وجه الله ) . رواه البخاري ومسلم
وقال - عليه السلام - : ( أسعد الناس بشفاعتي من قال لا إله إلا الله خالصاً من قلبه ) . رواه البخاري
- الصدق المنافي للكذب ، قال تعالى : ? ألم ، أحسب الناس أن يتركوا أن يقولوا آمنا وهم لا يفتنون ، ولقد فتنّا الذين من قبلهم فليعلمنّ الله الذين صدقوا وليعلمن الكاذبين ? .
وقال النبي - صلى الله عليه وسلم - : ( ما من أحد يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله من قلبه إلا حرمه الله على النار ) . رواه البخاري
- .المحبة لها ولأهلها ، والمعاداة لأجلها ، قال تعالى : ? يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء ? .(1/15)
وقال تعالى : ? لا تجد قوماً يؤمنون بالله واليوم الآخر يوادون من حاد الله ورسوله ? .
أن الصلاة أعظم أركان الإسلام بعد الشهادتين ولذلك قال - صلى الله عليه وسلم - لمعاذ كما في الحديث السابق ( .. فإن هم أطاعوك لذلك فأعلمهم أن الله افترض عليهم خمس صلوات في اليوم والليلة ) .
وهي عمود الدين كما قال - صلى الله عليه وسلم - : ( رأس الأمر الإسلام وعموده الصلاة ) .
وقد اتفق الصحابة على كفر تاركها .
قال - صلى الله عليه وسلم - : ( بين الرجل وبين الشرك والكفر ترك الصلاة ) . رواه مسلم
وقال - صلى الله عليه وسلم - : ( العهد الذي بيننا وبينهم الصلاة فمن تركها فقد كفر ) . رواه الترمذي
وجوب إيتاء الزكاة لمستحقها ، وأن ذلك من أركان الإسلام . والزكاة قرينة الصلاة في كثير من المواضع :
قال تعالى : { وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة } .
وقال تعالى : { وما أمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين حنفاء ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة }
وقال النبي - صلى الله عليه وسلم - لمعاذ : ( ... فإن هم أطاعوك لذلك فأعلمهم أن الله افترض عليهم خمس صلوات ... فإن هم أطاعوك لذلك فأعلمهم أن الله افترض عليهم صدقة تؤخذ ... ) .
وجوب صوم رمضان وأنه ركن من أركان الإسلام .
كما قال تعالى : { يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم } .
وجوب حج بيت الله الحرام لمن كان مستطيعاً .
كما قال تعالى : { ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلاً } .
سؤال : لماذا لم يذكر الجهاد مع أن الجهاد من أفضل الأعمال ؟
الجواب :
لأنه فرض كفاية ولا يتعين إلا في بعض الأحوال .
فائدة :
فرضت الزكاة وأنصبتها في السنة الثانية للهجرة .
فائدة :
فرض صوم رمضان في السنة الثانية للهجرة .
فائدة :
سمي شهر رمضان بذلك :
قيل : لأن الذنوب ترمض فيه ، أي تحترق ، وقيل : لأن فرضه كان في يوم حار .
الحديث الرابع(1/16)
عن أبي عبد الرحمن عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه - قال : حدثنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - - وهو الصادق المصدوق : ” إن أحدكم يجمع خلقه في بطن أمه أربعين يوماً نطفة ، ثم يكون علقة مثل ذلك ، ثم يكون مضغة مثل ذلك ، ثم يرسل إليه الملك ، فينفخ فيه الروح ، ويؤمر بأربع كلمات : بكتب رزقه ، وأجله ، وعمله ، وشقي أم سعيد ، فوالله الذي لا إله غيره إن أحدكم ليعمل بعمل أهل الجنة حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل النار فيدخلها ، وإن أحدكم ليعمل بعمل أهل النار حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل الجنة فيدخلها “ . رواه البخاري ومسلم
---------------------------------------------------------
معاني الكلمات :
الصادق : في جميع أقواله .
المصدوق : فيما أوحي إليه .
يجمع : يضم .
خلقه : أي تكوينه .
نطفة : أصل النطفة الماء الصافي ، والمراد هنا : منياً .
ثم يكون علقة مثل ذلك : هذا الطور الثاني الذي يمر به الجنين ، والعلقة هي الدم الجامد الغليظ .
مضغة : هذا الطور الثالث الذي يمر به الجنين ، والمضغة هي مضغة من لحم ، وسميت بذلك لأنها قدر ما يمضغ الماضغ.
الفوائد :
في هذا ذكر النبي - صلى الله عليه وسلم - أطوار الجنين في بطن أمه ، وأنه يتقلب في بطن أمه مائة وعشرون يوماً في ثلاثة أطوار ، فيكون في الأربعين الأولى نطفة ، ثم في الأربعين الثانية علقة ، ثم في الأربعين الثالثة مضغة .
قال تعالى في كتابه : { يا أيها الناس إن كنتم في ريب من البعث فإنا خلقناكم من تراب ثم من نطفة ثم من علقة ثم من مضغة } .
أن نفخ الروح يكون بعد تمام أربعة أشهر ، لقوله : ” ثم يرسل إليه الملك ... “ .
وينبني على هذا :
أنه إذا سقط بعد نفخ الروح فيه فإنه يغسل ويكفن ويصلى عليه ويدفن في مقابر المسلمين .
أنه يحرم إسقاطه .(1/17)
أن من الملائكة من هو موكل بالنفخ في الأجنة . والملائكة كثيرون ، وكل له عمل خاص به :
جبريل : موكل بالوحي .
وإسرافيل : موكل بالنفخ .
وميكائيل : موكل بالمطر .
ومالك : خازن الجنة .
وهناك ملائكة سياحة لمجالس الذكر ، وملائكة لسؤال الميت في قبره .
أن الملائكة عبيد يؤمرون وينهون ، لقوله : ” فيؤمر بأربع كلمات ... “ .
والملائكة عملهم عبادة الله وطاعته :
قال تعالى : { يسبحون الليل والنهار لا يفترون } .
وقال تعالى : { ومن عنده لا يستكبرون عن عبادته ولا يستحسرون } .
وقال تعالى : { لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون } .
وجوب الإيمان بالقضاء والقدر ، لقوله تعالى : ” ويؤمر بكتب أربع كلمات : بكتب رزقه ... “ .
فكل شيء مكتوب ومفروغ منه .
والإيمان بالقضاء والقدر يتضمن أربع مراتب :
أولاً : العلم : أن تعلم أن الله يعلم كل شيء .
قال تعالى : { إن الله كان عليماً حكيماً } .
ثانياً : الكتابة : أن الله كتب في اللوح المحفوظ مقادير كل شيء .
قال تعالى : { إن ذلك في كتاب إن ذلك على الله يسير } .
وقال - صلى الله عليه وسلم - : ” إن الله قدر مقادير الخلق قبل أن يخلق السموات والأرض بخمسين ألف سنة “ . رواه مسلم
ثالثاً : الإرادة : فلا يكون شيء في السموات والأرض إلا بإرادته .
قال تعالى : { إنا كل شيء خلقناه بقدر } .
رابعاً : الخلق : أن كل شيء في السموات والأرض مخلوق لله .
قال تعالى : { وخلق كل شيء فقدره تقديراً } .
قوله ( ويؤمر بكتب أربع كلمات ... ) هذه الكتابة تسمى التقدير العمري .
وأقسام التقدير أربع :
الأول : التقدير العام لجميع الأشياء في اللوح المحفوظ .
قال تعالى : { ألم تعلم أن الله يعلم ما في السماء والأرض إن ذلك في كتاب إن ذلك على الله يسير } .
وقال تعالى : { إنا كل شيء خلقناه بقدر } .
وقال - صلى الله عليه وسلم - : ( إن الله كتب مقادير السموات والأرض قبل أن يخلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة ) .(1/18)
الثاني : التقدير العمري .
كما في حديث الباب .
( وهذا التقدير يختلف عن التقدير الذي في اللوح المحفوظ بأن التقدير العمري يقبل التغيير والمحو ، وأما الذي في اللوح المحفوظ فإنه لا يقبل التغيير ، بمعنى أن ما كتبه الله في اللوح المحفوظ لا يقبل المحو ولا التغيير ) .
قال تعالى : { يمحو الله ما يشاء ويثبت وعنده أم الكتاب } .
قال الشيخ السعدي : ” { يمحو الله ما يشاء ويثبت } يمحو الله ما يشاء من الأقدار ويثبت ما يشاء منها ، وهذا المحو والتغيير في غير ما سبق به علمه ، وكتبه قلمه ، فإن هذا لا يقع فيه تبديل ولا تغيير ، لأن ذلك محال على الله أن يقع في علمه نقص أو خلل ، ولهذا قال { وعنده أم الكتاب } أي اللوح المحفوظ الذي ترجع إليه سائر الأشياء ، فهو أصلها ، وهي فروع وشعب ، فالتغيير والتبديل يقع في الفروع والشعب “ .
ولهذا كان عمر يقول : اللهم إن كنت كتبتني شقياً فامحني واكتبني سعيداً .
وهذا يعني به الكتابة في صحف الملائكة لا الذي في اللوح المحفوظ .
الثالث : التقدير السنوي وذلك يكون في ليلة القدر .
كما قال تعالى : { فيها يفرق كل أمر حكيم } .
الرابع : التقدير اليومي .
ويدل عليه قوله تعالى : { كل يوم هو في شأن } .
الحث على العلم الصالح والإكثار منه ، لأن الإنسان لا يدري متى يأتيه الموت .
قال تعالى : { وسارعوا إلى مغفرة من ربكم وجنة عرضها السموات والأرض } .
وقال تعالى : { سابقوا إلى مغفرة من ربكم } .
التوكل على الله ، وعدم الخوف من الفقر ، لأن الرزق مكتوب .
أن الناس ينقسمون إلى قسمين لا ثالث لهما : شقي ، أو سعيد .
قال تعالى : { فريق في الجنة وفريق في السعير } .
وقال تعالى : { فأما الذين شقوا ففي النار لهم فيها زفير وشهيق ... } .
وقال سبحانه : { وأما الذين سعدوا ففي الجنة خالدين فيها ... } .
التحذير من سوء الخاتمة .
وقد كان السلف رحمهم الله يخافون من سوء الخاتمة .(1/19)
كان مالك بن دينار ، يقوم طول ليله قابضاً على لحيته ، ويقول : يا رب ، قد علمت ساكن الجنة من ساكن النار ، ففي أي الدارين منزل مالك .
وبكى بعض الصحابة عند موته ، فسئل عن ذلك فقال : سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول : ( إن الله تعالى قبض خلقه قبضتين فقال : هؤلاء في الجنة ، وهؤلاء في النار ) ولا أدري في أي القبضتين كنت .
قال ابن رجب : ” إن خاتمة السوء تكون بسبب دسيسة باطنة للعبد لا يطلع عليها الناس ، إما من جهة عمل سيء ونحو ذلك ، فتلك الخصلة الخفية توجب سوء الخاتمة عند الموت “.
أن العبرة بالأعمال بالخواتيم .
وقد قال - صلى الله عليه وسلم - : ( إنما الأعمال بالخواتيم ) .
في قوله - صلى الله عليه وسلم - : ( إن أحدك يعمل بعمل أهل الجنة حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل النار فيدخلها ) جاء في رواية تبين معنى الحديث ، وهي : ( إن أحدكم ليعمل بعمل أهل الجنة فيما يبدو للناس ، وهو من أهل النار ) .
يجب على المسلم أن يحرص أن يطهر باطنه ، كما يحرص أن يطهر ظاهره .
التحذير من المعاصي والذنوب ، وخاصة الخفية .
الحذر من أن يغتر الإنسان بعمله الصالح .
قرب الجنة والنار من العبد .
وقال - صلى الله عليه وسلم - : ( إن الجنة أقرب إلى أحدكم من شراك نعله ، والنار مثل ذلك ) .
الحديث الخامس
عن أم المؤمنين أم عبد الله عائشة – رضي اله عنها – قالت : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : ” من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد “ . رواه البخاري ومسلم
---------------------------------------------------------
معاني الكلمات :
من أحدث : أي ابتدع واخترع شيئاً ليس له أصل .
في أمرنا : أي ديننا وشريعتنا .
ما ليس منه : مما ينافيه ويناقضه .
فهو رد : أي مردود على صاحبه وعليه إثمه .
الفوائد :
هذا الحديث أصل في رد البدع المستحدثة في دين الإسلام .(1/20)
قال النووي : ” هذا الحديث مما ينبغي حفظه ، واستعماله في إبطال المنكرات ، وإشاعة الاستدلال به “.
وقال الشيخ الألباني : ” هذا الحديث قاعدة عظيمة من قواعد الإسلام ، وهو من جوامع كلمه - صلى الله عليه وسلم - ، فإنه صريح في رد إبطال كل البدع والمحدثات “.
تحريم إحداث شيء في دين الله ولو عن حسن نية .
أن من أحدث شيئاً في دين الله فعمله هذا مردود عليه .
وقد ذكر العلماء أن العمل والعبادة لا يقبل إلا بشرطين :
الأول : الإخلاص .
لحديث : ( إنما الأعمال بالنيات ).
الثاني : المتابعة للرسول - صلى الله عليه وسلم - .
لحديث الباب .
خطر البدع والإحداث في الدين .
لأن البدع تستلزم أن الشريعة غير كاملة ، وأنها لم تتم والعياذ بالله ، وهذا تكذيب للقرآن .
قال تعالى : { اليوم أكملت لكم دينكم ... } فهذه الآية الكريمة تدل على تمام الشريعة وكمالها ، وكفايتها لكل ما يحتاجه الخلق .
قال ابن كثير : ” هذه أكبر نعم الله على هذه الأمة ، حيث أكمل تعالى لهم دينهم ، فلا يحتاجون إلى دين غيره “.
أن ديننا كامل فلا يحتاج إلى من يكمله .
قال تعالى : { اليوم أكملت لكم دينكم ... } .
وعن أبي ذر قال : ( تركنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ما طائر يقلب جناحيه في الهواء إلا وهو يذكر لنا فيه علماً ، قال - صلى الله عليه وسلم - : ما بقي شيء يقرب إلى الجنة ويباعد من النار إلا وقد بين لكم ). رواه الطبراني
قال ابن الماجشون : ” سمعت مالكاً يقول : من ابتدع في الإسلام بدعة يراها حسنة ، فقد زعم أن محمداً خان الرسالة ، لأن الله يقول : اليوم أكملت لكم دينكم ، فما لم يكن يؤمئذ ديناً ، فلا يكون اليوم ديناً “.
جاءت نصوص كثيرة في التحذير من البدع وأنها ضلال .
كحديث الباب .
وقوله : ( إياكم ومحدثات الأمور ، فإن كل بدعة ضلالة ، وكل ضلالة في النار ). رواه أبو داود
وجوب معرفته البدع للتحذير منها والتنفير .
قال الشاعر :(1/21)
عرفت الشر لا للشر لكن لتوقيه
ومن لا يعرف الخير من الشر يقع فيه
أن البدع أحب إلى إبليس من المعصية .
قال شيخ الإسلام ابن تيمية : ” إن أهل البدع شر من أهل المعاصي الشهوانية بالسنة والإجماع “ .
الحديث السادس
عن أبي عبد الله النعمان بن بشير ـ رضي الله عنهما ـ قال : سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول ( إن الحلال بين وإن الحرام بين وبينهما أمور مشتبهات لا يعلمهن كثير من الناس ، فمن اتقى الشبهات فقد استبرأ لدينه وعرضه ، ومن وقع في الشبهات وقع في الحرام كالراعي يرعى حول الحمى يوشك أن يرتع فيه ، ألا إن لكل ملك حمى ، ألا إن حمى الله محارمه ، ألا إن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله ، وإذا فسدت فسد الجسد كله : ألا وهي القلب ) .
-----------------------------------------------------
معاني الكلمات :
بيّن : ظاهر . مشتبهات : جمع مشتبه ، وهي المشكل لما فيه من عدم الوضوح في الحل أو الحرمة .
لا يعلمهن : لا يعلم حكمها . اتقى الشبهات : ابتعد عنها .
لدينه : أي عن النقص . الحمى : المحمي .
يرتع : أي تأكل ماشيته منه . محارمه : المعاصي .
الفوائد :
قسم النبي عليه الصلاة والسلام الأمور إلى ثلاثة أقسام :
القسم الأول : حلال واضح لا يخفى حله . ...
كأكل الخبز ، والمشي .
القسم الثاني : حرام واضح .
كالخمر والزنا والغيبة .
القسم الثالث : مشتبه : يعني ليست بواضحة الحل أو الحرمة .
فهذه لا يعرفها كثير من الناس ، أما العلماء فيعرفون حكمها بنص أو قياس .
فهذه الأفضل والورع تركها والابتعاد عنها ، لماذا ؟
لأن ذلك أسلم وابرأ لدينه من النقص ، وعرضه من الكلام فيه .
أن من يقع في الشبهات يقع في الحرام لقوله - صلى الله عليه وسلم - : ( من وقع في الشبهات وقع في الحرام ) .
أي من أقدم على ما هو مشتبه عنده ، لا يدري أهو حلال أو حرام ، فإنه لا يأمن أن يكون حراماً في نفس الأمر فيصادف الحرام وهو لا يدري أنه حرام .(1/22)
شبه النبي - صلى الله عليه وسلم - الذي يقع في الشبهات بالراعي يرعى بغنمه وإبله حول الحمى ، أي حول المكان المحمي ، يوشك ويقرب أن يقع فيه ، لأن البهائم إذا رأت الأرض المحمية مخضرة مملوءة من العشب فسوف تدخل هذه القطعة المحمية ، كذلك المشتبهات إذا حام حولها العبد فإنه يصعب عليه أن يمنع نفسه عنها .
من أسباب النجاة من الوقوع في الحرام الورع والابتعاد عن الشبهات .
قال أبو الدرداء : ” تمام التقوى أن يتقي العبد ربه ، حتى يتقيه من مثقال ذرة “ .
وقال الحسن البصري : ” ما زالت التقوى بالمتقين حتى تركوا كثيراً من الحلال مخافة الوقوع بالحرام “.
وقال الثوري : ” إنما سموا متقين ، لأنهم اتقوا ما لا يتقى “ .
فضل الورع .
الاحتياط براءة للدين والعرض .
حكمة الله في ذكر المشتبهات حتى يتبين من كان حريصاً على طلب العلم ومن ليس بحريص .
أنه لا يمكن أن يكون في الشريعة ما لا يعلمه الناس كلهم .
حسن تعليم النبي - صلى الله عليه وسلم - بضرب الأمثال المحسوسة ليتبين بها المعاني المعقولة .
يجب على الإنسان أن يهتم بقلبه ، لأن مدار الصلاح والفساد عليه ، فإذا صلح صلح سائر الجسد وإذا فسد فسد سائر الجسد .
وسمي القلب قلباً : لتقلبه في الأمور ، أو لأنه خالص ما في البدن .
مسائل القلب :
أولاً : يجب دعاء الله بإصلاحه وتثبيته .
وقد كان - صلى الله عليه وسلم - يدعو : يا مقلب القلوب ثبت قلبي على طاعتك .
وكان قسم النبي - صلى الله عليه وسلم - : لا ، ومقلب القلوب .
ثانياً : التحذير من التساهل في أمر القلب .
قال - صلى الله عليه وسلم - : ( إن القلوب بين إصبعين من أصابع الرحمن يقلبها كيف يشاء ) رواه مسلم .
ثالثاً : لا ينفع يوم القيامة إلا القلب السليم .
قال تعالى : { يوم لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم } .
القلب السليم : هو السالم من الشرك والبدعة والآفات والمكروهات ، وليس فيه إلا محبة الله وخشيته .(1/23)
رابعاً : استحباب الدعاء بسلامة القلب .
كان - صلى الله عليه وسلم - يقول ( اللهم إني أسألك قلباً سليماً .. ) رواه أحمد .
خامساً : أهم سبب لحياة القلب الاستجابة لله ولرسوله .
قال تعالى : { يا أيها الذين آمنوا استجيبوا لله وللرسول إذا دعاكم لما يحييكم واعلموا أن الله يحول بين المرء وقلبه } .
سادساً : من أسباب لين القلب ذكر الله .
قال تعالى : { ألا بذكر الله تطمئن القلوب } .
سابعاً : ومن أسباب لين القلب العطف على المسكين .
فقد جاء رجل إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - يشكو قسوة قلبه ؟ فقال له الرسول - صلى الله عليه وسلم - : ( إذا أحببت أن يلين قلبك فامسح راس اليتيم وأطعم المسكين ) رواه أحمد .
ثامناً : ومن أسباب رقة القلب زيارة المقابر .
قال - صلى الله عليه وسلم - : ( كنت نهيتكم عن زيارة القبور فزوروها فإنها تذكر الآخرة ، وترق القلب ) رواه أحمد .
تاسعاً : التحذير من قسوة القلب .
قال تعالى : { فويل للقاسية قلوبهم من ذكر الله } .
عاشراً : إذا صلح القلب صلح الجسد .
كما في حديث الباب .
من أقوال السلف :
قال بعض السلف : ” خصلتنا تقسيان القلب : كثرة الكلام ، وكثرة الأكل “.
وقال بعضهم : ” البدن إذا عري رق ، وكذلك القلب إذا قلت خطاياه أسرعت دمعته “ .
قال ابن القيم : ” مفسدات القلب : كثرة النوم ، والتمني ، والتعلق بغير الله ، والشبع ، والمنام “ .
قال بعض العلماء : ” صلاح القلب بخمسة أشياء : قراءة القرآن بتدبر ، وخلاء البطن ، وقيام الليل ، والتضرع بالسحر ، ومجالسة الصالحين ، وأكل الحلال “ .
الحديث السابع
عن أبي رقية تميم بن أوس الداري - رضي الله عنه - ، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : “ الدين النصيحة ” .
قلنا : لمن ؟
قال : “ لله ، ولكتابه ، ولرسوله ، ولأئمة المسلمين وعامتهم ” . رواه مسلم 55
---------------------------------------------------------
معاني الكلمات :(1/24)
النصيحة : كلمة يعبر بها عن إرادة الخير للمنصوح له .
أئمة المسلمين : حكامهم .
عامتهم : سائر المسلمين غير الحكام .
الفوائد .
أهمية النصيحة في ديننا الإسلامي .
فضيلة النصيحة وأنها الدين .
وللنصيحة فضائل :
أولاً : أنها مهمة الرسل .
قال تعالى إخباراً عن نوح : { أبلغكم رسالات ربي وأنصح لكم } .
ثانياً : أن منزلتها عظيمة .
كما في حديث الباب .
ثالثاً : أنها من علامات كمال الإيمان .
كما قال - صلى الله عليه وسلم - : ( لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه ) .
رابعاً : أنها من حقوق المسلم على أخيه المسلم .
قال - صلى الله عليه وسلم - : ( للمؤمن على المؤمن ست خصال : ... وينصح له إذا غاب أو شهد ) .
النصيحة تكون لله ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم .
فالنصيحة لله : تكون بالإيمان به ، ونفي الشريك عنه ، وترك الإلحاد في صفاته ، ووصفه بصفات الكمال والجلال كلها ، وتنزيهه سبحانه وتعالى عن جميع النقائص ، والقيام بطاعته ، واجتناب معاصيه .
والنصيحة لرسوله : تكون بتصديق رسالته ، والإيمان بجميع ما جاء به ، وطاعته في أمره ونهيه ، ونصرته حياً وميتاً ، ومعاداة من عاداه ، وموالاة من والاه ، وإعظام حقه وتوقيره ، وإحياء طريقته وسنته ، وبث دعوته ونشر شريعته .
والنصيحة لأئمة المسلمين : تكون بمعاونتهم على الحق وطاعتهم فيه ، وأمرهم به وتذكيرهم برفق ولطف ، وإعلامهم بما غفلوا عنه ، وترك الخروج عليهم ، وتألف قلوب الناس لطاعتهم ، وأن يدعى لهم بالصلاح .
والنصيحة لعامة المسلمين : تكون بإرشادهم لمصالحهم في آخرتهم ودنياهم ، وكف الأذى عنهم ، وتعليم ما يجهلونه من دينهم ، ويعينهم عليه بالقول والفعل ، وستر عوراتهم ، وسد خلاتهم ، ودفع المضار عنهم ، وجلب المنافع لهم ، وأمرهم بالمعروف ونهيهم عن المنكر برفق وإخلاص ، والشفقة عليهم ، وأن يحب لهم ما يحب لنفسه من الخير ، ويكره لهم ما يكره لنفسه من المكروه .(1/25)
ينبغي أن تسود النصيحة بين المسلمين ، فإنها من أعظم مكملات الإيمان .
سئل ابن المبارك : أي الأعمال أفضل ؟ قال : النصح لله .
وقال الفضيل : ” المؤمن يستر وينصح والفاجر يهتك ويعير “ .
وقال أيضاً : ” ما أدرك عندنا من أدرك بكثرة الصلاة والصيام ، وإنما أدرك عندنا بسخاء الأنفس ، وسلامة الصدور ، والنصح للأمة “ .
قال أبو بكر المزني : ” ما فاق أبو بكر أصحاب رسول الله بصوم ولا بصلاة ، ولكن بشيء كان في قلبه . . قال ابن علية : الذي كان في قلبه الحب لله عز وجل والنصيحة في خلقه “ .
وقال أبو الدرداء : ” إن شئتم لأنصحن لكم : إن أحب عباد الله إلى الله ، الذين يحبّبون الله تعالى إلى عباده ويعملون في الأرض نصحاً “ .
وقال حكيم : ” ودّك من نصحك “ .
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية : ” فإن المؤمن للمؤمن كاليدين تغسل إحداهما الأخرى “ .
لقد طبق الصحابة رضوان الله عليهم هذا الحديث وعملوا به .
ذكر النووي في شرح مسلم : ” أن جريراً أمر مولاه أن يشتري له فرساً ، فاشترى له فرساً بثلاثمائة درهم وجاء به وبصاحبه لينقده الثمن ، فقال جرير لصاحب الفرس : فرسك خير من ثلاثمائة درهم ، أتبيعه بأربعمائة درهم ؟ قال : ذلك إليك يا أبا عبد الله . فقال : فرسك خير من ذلك أتبيعه بخمسمائة درهم ؟ ثم لم يزل يزيد مائة فمائة وصاحبه يرضى وجرير يقول فرسك خير إلى أن بلغ ثمانمائة درهم فاشتراه بها . فقيل له بذلك فقال : إني بايعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على النصح لكل مسلم “ .
هكذا يفعل صحابة الرسول - صلى الله عليه وسلم - في النصح للمسلمين في أمور دينهم ودنياهم ولنا فيهم أسوة { لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِيهِمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَمَنْ يَتَوَلَّ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ } . (الممتحنة:6)
ومن أعظم النصح أن ينصح لمن استشاره في أمره .(1/26)
كما قال - صلى الله عليه وسلم - : ( إذا استنصح أحدكم أخاه فلينصحه ) .
وكذلك النصح في الدين .
قال شيخ الإسلام ابن تيمية : ” ثبت في الصحيح أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قالت له فاطمة بنت قيس : قد خطبني أبو جهم ومعاوية ، فقال لها : أما أبو جهم فرجل ضراب للنساء ، وأما معاوية فصعلوك لا مال له ، فبين النبي - صلى الله عليه وسلم - حال الخاطبين للمرأة ، فإن النصح في الدين أعظم من النصح في الدنيا ، فإذا كان النبي - صلى الله عليه وسلم - نصح المرأة في دنياها فالنصيحة في الدين أعظم “ .
ينبغي أن تكون النصيحة برفق وأن تكون سراً .
قال الشافعي : ” من وعظ أخاه سراً فقد نصحه وزانه ، ومن وعظه علانية فقد فضحه وشانه “ .
قال الشاعر :
تغمدني بنصحك في انفرادي وجنّبي النصيحة َ في الجماعة
فإن النصحَ بين الناسِ نوعٌ من التوبيخِ لا أرضى استماعه
الحديث الثامن
عن ابن عمر ـ رضي الله عنهما ـ أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال :( أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله ، ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة ، فإذا فعلوا ذلك عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحق الإسلام وحسابهم على الله )
-----------------------------------------------------
معاني الكلمات :
أمرت : أمرني الله . الناس : عبدة الأوثان والمشركين . حتى يشهدوا : حتى يسلموا أو يدفعوا الجزية .
يؤتوا الزكاة : يدفعوها إلى ستحقيها . عصموا : حفظوا ومنعوا . وحسابهم على الله : أي يعاملون بالظاهر وأما الباطن فإلى الله .
الفوائد :
وجوب مقاتلة الكفار حتى يسلموا وينطقوا بالشهادتين .
أن الواجب قتال الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله ، وحتى لا يبقى شرك .
قال تعالى : { وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة ويكون الدين كله لله } .
لا تكون فتنة : أي يبقى شرك ، لأن الدين لا يكون كله لله ما دام في الأرض مشرك .(1/27)
ولقوله - صلى الله عليه وسلم - : ( أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا .. ) .
أن أول واجب على المكلف هو النطق بالشهادتين لا النظر والاستدلال .
وقد قال - صلى الله عليه وسلم - لمعاذ لما بعثه إلى اليمن : ( فليكن أول ما تدعوهم إليه شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله ) .
عظم التوحيد وأنه سبب لحقن الدم .
فضل الجهاد في سبيل الله وقتال الكفار .
وأن الجهاد ينقسم إلى قسمين :
قسم طلب – وقسم دفاع .
بين - صلى الله عليه وسلم - العاصم للدماء من الهدر :
أولاً : النطق بالشهادتين .
ثانياً : إقامة الصلاة .
ثالثاً : إيتاء الزكاة .
أن الأحكام تجري على الظاهر والله يتولى السرائر لقوله - صلى الله عليه وسلم - : ( وحسابهم على الله ) فمن أظهر لنا الإسلام وقام بما يجب عليه عصم دمه وماله وعومل معاملة المسلمين .
قوله : ( إلا بحقها ) كأن يرتكب ما يبيح دم المسلم : كالقتل – أو الزنا للمحصن – أو الردة .
أهمية الصلاة وأنها تأتي بالمرتبة الثانية بعد الشهادتين .
أهمية الزكاة ، وأنها تأتي بالمرتبة الثالثة بعد الصلاة .
الحديث التاسع
عن أبي هريرة عبد الرحمن بن صخر الدوسي - رضي الله عنه - قال : سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول : ” ما نهيتكم عنه فاجتنبوه ، وما أمرتكم به فأتوا منه ما استطعتم ، فإنما أهلك الذين من قبلكم كثرة مسائلهم واختلافهم على أنبيائهم “ . ( البخاري 7288 ، ومسلم 1337 )
---------------------------------------------------------
معاني الكلمات :
ما نهيتكم : النهي طلب الكف على وجه الاستعلاء .
اجتنبوه : ابتعدوا عنه .
وما أمرتكم : الأمر طلب الفعل على وجه الاستعلاء .
ما استطعتم : ما قدرتم عليه .
أهلك : صار سبب الهلاك .
كثرة مسائلهم : أي كثرة أسئلتهم التي كانوا يسألونها وليس وجه شرعي .
الفوائد :
وجوب الكف عما نهى عنه النبي - صلى الله عليه وسلم - .
وهذا النهي ينقسم إلى قسمين :(1/28)
القسم الأول : نهي تحريم .
كالشرك ، وقتل النفس ، والربا ، وشرب الخمر ، والغيبة ، والنميمة ، وغيرها .
فهذا يجب اجتنابه والابتعاد عنه .
القسم الثاني : نهي كراهة .
وذلك أن الشارع نهى عن تصرفات ، لكن قامت الأدلة على أن هذا النهي للكراهة وليس للتحريم .
فهذا الأفضل اجتنابه وتركه .
أن ما نهى عنه الشرع يجب اجتنابه والابتعاد عنه جملة وتفصيلاً ، ولا يجوز للمكلف فعل شيء منه .
فالربا يجب اجتناب قليله وكثيره .
يجوز فعل المحرم للضرورة ، لأن القاعدة [ لا محرم مع الضرورة ] ، لقوله تعالى : { وقد فصل لكم ما حرم عليكم إلا ما اضطررتم إليه } .
ومعنى الضرورة إلى المحرم : أن لا يجد سوى هذا المحرم ، وتندفع به الضرورة .
مثال : يجوز الأكل من الميتة للمضطر .
ينبغي فعل ما أمرنا به النبي - صلى الله عليه وسلم - على قدر الاستطاعة .
وما أمرنا به ينقسم إلى قسمين :
القسم الأول : واجبات ، فهذا يثاب فاعله ويعاقب تاركه .
كالصلاة ، والزكاة ، والصيام .
القسم الثاني : مستحبات ، فهذه يثاب فاعلها ولا يعاقب تاركها .
كالسنن الرواتب ، والسواك .
فالواجبات : يجب على المسلم أن يؤديها كما أمر ، فإن لم يستطع فعلى قدر استطاعته { لا يكلف الله نفساً إلا وسعها } .
مثال : القيام في الصلاة الفريضة ركن ، فإذا عجز عنه الإنسان فإنه يصلي جالساً .
وأما المستحبات : فالأفضل للمسلم أن يحرص عليها وأن يجتهد في الإكثار منها على حسب استطاعته .
مثال : قيام الليل : فالأفضل أن يصلي من الليل ولو شيئاً قليلاً .
يجب طاعة الرسول والانقياد لأمره .
قال تعالى : { يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول .... } .
أن من أسباب هلاك الأمم كثرة مسائلهم .
والأسئلة التي هي سبب للهلاك :
السؤال تعنتاً وتعمقاً .
السؤال بما لا فائدة منه ولا حاجة له .
السؤال على وجه الاستهزاء والسخرية والعبث .
كثرة السؤال في المسائل التي لم تقع .(1/29)
السؤال عما أخفاه الله عن خلقه لحكمة يعلمها سبحانه ، مثل السؤال عن سر القضاء والقدر ، وعن قيام الساعة .
وأما السؤال للعلم والعمل وبما يهم الإنسان فهذا مطلوب ومحمود .
قال تعالى : { فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون } .
وقال - صلى الله عليه وسلم - : ( نعم النساء نساء الأنصار ، لم يمنعهن الحياء من التفقه في الدين ) .
ولما سئل ابن عباس ، كيف نلت العلم ؟ قال : ” بلسان سؤول ، وقلب عقول ، وجسم غير ملول “ .
وقيل : السؤال نصف العلم .
وقال الزهري : ” العلم خزانة ، مفتاحها المسألة “ .
الحديث العاشر
عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : “ إن الله تعالى طيب لا يقبل إلا طيباً ، وإن الله أمر المؤمنين بما أمر به المرسلين ، فقال تعالى : { يا أيها الرسل كلوا من الطيبات واعملوا صالحاً ، وقال تعالى : { يا أيها الذين آمنوا كلوا من طيبات ما رزقناكم } ، ثم ذكر الرجل يطيل السفر أشعث أغبر يمد يديه إلى السماء : يا رب ! يا رب ! ومطعمه حرام ، ومشربه حرام ، وملبسه حرام ، وغذي بالحرام ، فأنى يستجاب له ؟ “ . رواه مسلم 1015
---------------------------------------------------------
معاني الكلمات :
طيب : اسم من أسماء الله ومعناه المنزه عن النقائص .
لا يقبل إلا طيباً : أي من الأعمال إلا أطيبها وأخلصها .
أغبر : غير الغبار لون شعره لطول سفره .
الفوائد :
إثبات اسم من أسماء الله وهو الطيب ، ومعناه المنزه عن العيوب والنقائص .
أن الله لا يقبل من الأعمال والأقوال والأموال إلا الطيب .
في الأعمال والأقوال :
قال تعالى : { إليه يصعد الكلم الطيب والعمل الصالح يرفعه } .
وفي الصدقات :
قال - صلى الله عليه وسلم - : ( من تصدق بعدل تمرة من كسب طيب – ولا يقبل الله إلا الطيب – فإن الله يقبلها ... ) .
كيف يكون العمل طيباً ؟
بإخلاص العمل لله ، وأكل الحلال وعدم أكل الحرام .(1/30)
أن العمل غير الطيب لا يقبله الله .
وجوب اتباع الرسل .
الأمر بالأكل من الطيبات .
قال تعالى : { كلوا من طيبات ما رزقناكم } .
وقال تعالى : { يا أيها الذين آمنوا كلوا من طيبات ما رزقناكم } .
وقال سبحانه : { كلوا من طيبات ما رزقناكم ولا تطغوا فيه } .
الحث على العمل الصالح .
والعمل الصالح أمر الله وحث عليه .
قال تعالى : { وسارعوا إلى مغفرة من ربكم وجنة عرضها السموات والأرض .. } .
والعمل الصالح هو الذي يدخل مع الإنسان في قبره .
قال - صلى الله عليه وسلم - : ( يتبع الميت ثلاثة : أهله وماله وعمله ، فيرجع اثنان ويبقى واحد ، يرجع أهله وماله ويبقى عمله ) متفق عليه .
والعمل الصالح هو الحسب الحقيقي .
قال - صلى الله عليه وسلم - : ( من بطأ به عمله لم يسرع به نسبه ) رواه مسلم .
والعمل الصالح هو ما يتمناه المحتضر .
قال تعالى : { حتى إذا جاء أحدهم الموت قال رب ارجعون لعلي أعمل صالحاً فيما تركت .. } .
ويتمناه أيضاً أهل النار .
قال تعالى : { وهم يصطرخون فيها ربنا أخرجنا نعمل صالحاً غير الذي كنا نعمل } .
أن شكر النعم يكون بالقول والعمل ، وليس بالقول فقط .
وقد كان - صلى الله عليه وسلم - يقوم الليل حتى تتفطر قدماه ، فتقول له عائشة : قد غفر لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر ؟ فيقول : أفلا أكون عبداً شكوراً .
في هذا الحديث ذكر بعض أسباب إجابة الدعاء :
طول السفر :
وقد قال - صلى الله عليه وسلم - : ( ثلاث دعوات مستجابات : ... وذكر منها : دعوة المسافر ) .
الأشعث الأغبر .
وقال - صلى الله عليه وسلم - : ( رب أشعث مدفوع بالأبواب لو أقسم على الله لأبره ) .
رفع اليدين .
قال - صلى الله عليه وسلم - : ( إن الله ليستحي من عبده إذا رفع يديه إلى السماء أن يردهما صفراً ) .
ذكر في الحديث مانعاً من موانع إجابة الدعاء وهو أكل الحرام .
وقد قال - صلى الله عليه وسلم - : ( يا سعد أطب مطعمك تكن مستجاب الدعوة ) .
إثبات علو الله .(1/31)
وهو ينقسم إلى قسمين :
الأول : علو صفة : وهذا متفق عليه بين جميع أهل القبلة .
فصفات الله كلها عليا وحسنى .
الثاني : علو ذات . وهذا متفق عليه عند أهل السنة .
وقد دل على ذلك الكتاب والسنة والإجماع :
قال تعالى : { وهو العلي العظيم } .
وقال تعالى : { وهو العلي الكبير } .
وقال تعالى : { يخافون ربهم من فوقهم } .
وقال سبحانه : { وهو القاهر فوق عباده } .
وقال سبحانه: { إليه يصعد الكلم الطيب } .
وقال سبحانه : { إنا نحن نزلنا الذكر ... } .
وقال - صلى الله عليه وسلم - : ( ألا تأمنوني وأنا أمين من في السماء ) .
الحديث الحادي عشر
عن أبي محمد الحسن بن علي بن أبي طالب – سبط رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وريحانته – قال : حفظت من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : ( دع ما يريبك إلى ما لا يريبك ، فإن الصدق طمأنينة والكذب ريبة ) . رواه الترمذي والنسائي .
---------------------------------------------------------
معاني الكلمات :
سبط : السبط هو ولد الولد سواء ذكراً أو أنثى .
دع : اترك .
ما يريبك : أي ما تشك فيه ولا تطمئن إليه .
إلى ما لا يريبك : أي إلى الشيء الذي لا ريب فيه .
الفوائد :
هذا الحديث قاعدة عظيمة من قواعد الدين ، واصل في الورع الذي عليه مدار اليقين ، ومنج من ظلم الشكوك والأوهام المانعة من نور اليقين .
للورع فضائل :
أولاً : أنه سبب لاستبراء العرض والدين .
كما في حديث : ( من اتقى الشبهات فقد استبرأ لدينه وعرضه ) .
ثانياً : أنه خير خصال الدين :
قال - صلى الله عليه وسلم - : ( وخير دينكم الورع ) رواه الحاكم .
ثالثاً : من علامات العبادة .
قال - صلى الله عليه وسلم - : ( كن ورعاً تكن أعبد الناس ) رواه الترمذي .
رابعاً : أنه من هدي النبي - صلى الله عليه وسلم - وخلقه .
عن أنس : ( أن النبي - صلى الله عليه وسلم - وجد تمرة في الطريق فقال : لولا أني أخاف أن تكون من الصدقة لأكلتها ) متفق عليه .(1/32)
خامساً : أنه سبب للنجاة .
كما في حديث الباب ( دع ما يريبك إلى ما لا يريبك ) .
من أقوال السلف في الورع :
قال الحسن : ” ما زالت التقوى بالمتقين حتى تركوا كثيراً من الحلال مخافة الحرام “ .
وقال حسان بن أبي سنان : ” ما من شيء أهون من الورع ، إذا رابك شيء فدعه “ .
وقال عمر : ” كنا نترك تسعة أعشار الحلال مخافة أن نقع في الحرام “ .
وقال العسكري : ” لو تأمل الحذاق في هذا الحديث لتيقنوا أنه قد استوعب كل ما قيل في تجنب الشبهات “ .
وقال شيخ الإسلام : ” الورع من قواعد الدين “ .
وقال ابن المبارك : ” ترك فلس من حرام أفضل من مائة ألف فلس أتصدق بها “ .
فضل اتقاء الشبهات .
فضل الصدق وأنه سبب للطمأنينة . فضائل الصدق :
أولاً : أنه سبب للطمأنينة .
كما في حديث الباب : ( فإن الصدق طمأنينة ) .
ثانياً : هو المميز بين المؤمن والمنافق .
قال - صلى الله عليه وسلم - : ( آية المنافق ثلاث : ... وإذا حدث كذب ... ) .
ثالثاً : لا ينفع يوم القيامة إلا الصدق :
قال تعالى : { هذا يوم ينفع الصادقين صدقهم } .
رابعاً : الصدق أصل كل بر .
قال - صلى الله عليه وسلم - : ( إن الصدق يهدي إلى البر ) متفق عليه .
خامساً : أن مجاهدة النفس على تحري الصدق توصلها إلى مرتبة الصديقية .
قال - صلى الله عليه وسلم - : ( .. ولا يزال الرجل يصدق ويتحرى الصدق حتى يكتب عند الله صديقاً ) .
فائدة :
والصدق يشمل :
الصدق في الأقوال – والصدق في الأعمال – والصدق في النية [ أن تكون خالصة لله ] .
قال شيخ الإسلام ابن تيمية : ” والصدق أساس الحسنات وجماعها ، والكذب أساس السيئات ونظامها “ .
علامات الصدق :
أولاً : أنه يورث السكينة والطمأنينة .
ثانياً : الزهد في الدنيا والتأهب للقاء الله .
ثالثاً : سلامة القلب ، فان المؤمن الصادق لا يحمل في قلبه غشاً للمسلمين ولا شراً .
رابعاً : الزهد في ثناء الناس ومدحهم بل وكراهة ذلك .(1/33)
قال ابن القيم : ” لا يجتمع الإخلاص في القلب ومحبة المدح والثناء إلا كما يجتمع الماء والنار “ .
خامساً : الشعور بالتقصير والانشغال بإصلاح النفس عن غيرها .
الحديث الثاني عشر
عن أبي هريرة . قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ( من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه ) رواه الترمذي وابن ماجه بإسناد صحيح .
---------------------------------------------------------
معاني الكلمات :
من حسن : أي من كمال وجمال .
إسلام المرء : أي استسلامه وانقياده .
تركه : يشمل الأقوال والأعمال .
ما لا يعنيه : أي ما لا تتعلق به عنايته ويهتم به .
الفوائد :
أن الدين الإسلامي كله محاسن .
أن من حسن وكمال إيمان الإنسان تركه ما لا يهمه في دنياه وآخرته من أقوال أو أعمال .
قال ابن رجب رحمه الله :
” فمن عبد الله عن استحضار قربه ومشاهدته بقلبه أو على استحضار قرب الله منه واطلاعه عليه ، فقد حسن إسلامه ولزم من ذلك أن يترك كل ما لا يعنيه في الإسلام ، ويشتغل بما يعنيه فيه ، فإنه يتولد من هذين المقامين الاستحياء من الله ، وترك كل ما يستحيى منه “ .
ينبغي للمسلم أن يحرص على تحسين إسلامه .
أن عدم ترك الإنسان لما لا يعنيه يدل على أن إسلامه ليس بحسن .
قال الغزالي : ” علاج ترك ما لا يعني أن يعلم أن الموت بين يديه ، وأنه مسؤول عن كل كلمة تكلم بها ، وأن أنفاسه رأس ماله ، وأن لسانه شبكته يقدر على أن يقتنص _ أي يصطاد _ بها الحور العين ، فإهماله وتضييعه فيما لا يعنيه خسران مبين “ .
وقال الحسن : ” من علامة إعراض الله عن العبد أن يجعل شغله فيما لا يعنيه “ .
وقال معروف الكرخي : ” كلام العبد فيما لا يعنيه خذلان من الله تعالى “ .
وقال مالك بن دينار : ” إذا رأيت قساوة في قلبك ، وضعفاً في بدنك ، وحرماناً في رزقك ، فاعلم أنك قد تكلمت فيما لا يعنيك “ .(1/34)
وقيل للقمان : ” ما بلغ بك ما نرى ؟ قال : صدق الحديث ، وأداء الأمانة ، وترك ما لا يعنيني “ .
وقال يونس بن عبيد : ” ترك كلمة فيما لا يعني أفضل من صوم يوم “ .
وقال الشافعي : ” ثلاثة تزيد في العقل : مجالسة العلماء ، ومجالسة الصالحين ، وترك الكلام فيما لا يعني “ .
وقال أيضاً : ” من أراد أن ينور الله قلبه فليترك الكلام فيما لا يعنيه “ .
نماذج مما لا يعني المسلم :
حفظ اللسان من لغو الكلام ومما لا فائدة فيه .
قال بعض العارفين : ” إذا تكلمت فاذكر سمع الله لك ، وإذا سكت فاذكر نظره إليه “ .
وقال عمر بن عبد العزيز : ” من عدّ كلامه من عمله ، قلّ كلامه إلا فيما يعنيه “ .
وقد نفى الله الخير عن كثير مما يتناجى به الناس بينهم ، فقال : { لا خير في كثير من نجواهم إلا من أمر بصدقة أو معروف أو إصلاح بين الناس } .
أنواع اللهو واللعب التي تصد عن ذكر الله .
كثير من الهوايات المضيعة للوقت والمال .
قراءة القصص والروايات والمقالات الرديئة التي تثير الغرائز بالطرق المحرمة .
التدخل في خصوصيات الآخرين وشؤونهم مما لا يصادم الشريعة الإسلامية ، وليس مجالاً للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر .
ولما عرف السلف حدود السؤال والتدخل ، ارتقت حياتهم الاجتماعية إلى مستويات لم يعرفها العالم من قبل .
فهذا سعيد بن المسيب – رحمه الله – لما زوج ابنته الجميلة الفقيهة من تلميذه الفقير ، ثم سأله كيف وجدت أهلك
[ سؤال عام ] فقال : بخير على ما يحب الصديق ويكره العدو ، ولم يتدخل سعيد أكثر من ذلك .
والتدخل في شؤون الغير له أحوال :
يكون واجباً : مثل التدخل لتغيير المنكر ، ويأثم لو لم يتدخل وهو يستطيع .
يكون مستحباً : مثل التدخل لتحسين وضع أخيك في طريقة كلامه مثلاً .
ويكون مباحاً : كسؤال إنسان هل سافر أم لا .
ويكون مكروهاً : مثل سؤال رجل يتحرج في الجواب في أمر خاص به .
ويكون محرماً ، مثل التجسس على المسلم .(1/35)
ينبغي للمسلم أن ينشغل بما يعنيه وينفعه .
اغتنام الحياة بالعمل الصالح .
أن الإيمان يزيد وينقص .
الحديث الثالث عشر
وعن أنس - رضي الله عنه - قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : ( لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه ) .
---------------------------------------------------------
معاني الكلمات :
لا يؤمن أحدكم : الإيمان الكامل . ما يحب لنفسه : من الخير .
الفوائد :
من علامات الإيمان الكامل أن يحب الإنسان لأخيه المسلم ما يحب لنفسه من الخير .
وقد جاء في الحديث عن يزيد بن أسد : قال : قال لي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : ( أتحب الجنة ؟ قلت : نعم ، قال : فأحب لأخيك ما تحب لنفسك ) رواه أحمد .
أمثلة :
عن أبي ذر . قال : قال لي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : ( يا أبا ذر إني أراك ضعيفاً وإني أحب لك ما أحب لنفسي ، لا تأمرن على اثنين ، ولا تولين على اثنين ) رواه مسلم .
قال ابن رجب : ” وإنما نهاه عن ذلك لما رأى من ضعفه وهو - صلى الله عليه وسلم - يحب هذا لكل ضعيف “ .
قال الشافعي : ” وددت أن الناس تعلموا هذا العلم ولم ينسب إليّ منه شيء “ .
فقوله [ وددت ] دليل على محبته الخير للناس .
قال ابن عباس : ” إني لأمر على الآية من كتاب الله فأود أن الناس كلهم يعلمون منها ما أعلم “ .
وحكي أن بعضهم شكا كثرة الفأر في بيته ، فقيل له : اقتني هرة ، فقال : أخشى أن يسمع الفأر صوت الهرة فيهرب إلى دور الجيران فأكون قد أحببتُ لهم ما لا أحبه لنفسي .
وفي كلام بعضهم : ارضَ للناس ما لنفسك ترضى .
قيل للأحنف وكان أحلم الناس ، ممن تعلمت الحلم ؟ قال : من نفسي ، قيل له : وكيف ذلك ؟ قال : كنت إذا كرهت شيئاً من غيري لم أفعل بأحد مثله .
وأيضاً يكره لأخيه ما يكره لنفسه من الشر .
أن من كره لأخيه الخير فليس بمؤمن الإيمان الكامل .(1/36)
المؤمن مع المؤمن كالنفس الواحدة ، فيحب لها ما يحب لنفسه من حيث أنها نفس واحدة ، كقوله - صلى الله عليه وسلم - :
( المسلمون كالجسد الواحد ) .
الحث على التواضع ومحاسن الأخلاق ، حيث بحبه لأخيه الخير كما يحب لنفسه دليل على تواضعه ، وأنه لا يحب أن يكون أفضل من غيره .
الحث على ترك البغضاء والغل .
الترغيب في محبة المسلمين بعضهم بعضاً وائتلافهم ، لأن ذلك يؤدي إلى التعاضد والتناصر .
الحرص على الأعمال التي تؤدي إلى زيادة الإيمان كحب الخير للمسلمين .
التحذير من الأعمال التي تؤدي إلى نقصان الإيمان كعدم محبة الخير للمسلمين .
ذم الأنانية والحسد والكراهية .
العمل بمضمون الحديث يؤدي إلى نشر المحبة بين أفراد المجتمع الإسلامي ، ويؤدي أيضاً إلى تماسكه .
الحديث الرابع عشر
عن أبي مسعود . قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : ( لا يحل دم امرىء مسلم يشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله إلا بإحدى ثلاث : الثيب الزاني ، والنفس بالنفس ، والتارك لدينه المفارق للجماعة ) .
---------------------------------------------------------
معاني الكلمات :
لا يحل : أي يحرم .
الثيب : هو المحصن وهو الذي جامع وهو حر مكلف في نكاح سواء كان رجلاً أو امرأة .
النفس بالنفس : المراد به القصاص ، أي إذا قتل إنسان إنساناً عمداً قتل به بالشروط المعروفة .
التارك لدينه : المراد المرتد .
الفوائد :
تحريم قتل المسلم بغير حق ، وقد جاءت نصوص كثيرة في تحريم ذلك .
أولاً : لعنه الله وغضب عليه وله عذاب أليم .
قال تعالى : { ومن يقتل مؤمناً متعمداً فجزاؤه جهنم خالداً فيها وغضب الله عليه ولعنه وأعد له عذاباً عظيماً } .
ثانياً : القتل من الموبقات .
قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : ( اجتنبوا السبع الموبقات : .. وذكر منها : وقتل النفس التي حرم الله إلا بالحق ) .
ثالثاً : أن من قتل نفساً بغير حق فكأنما قتل جميع الناس .(1/37)
قال تعالى : { ومن قتل نفساً بغير نفس أو فساد في الأرض فكأنما قتل الناس جميعاً } .
رابعاً : هو أعظم ذنب بعد الشرك .
وقد سئل النبي - صلى الله عليه وسلم - أي الذنب أعظم ؟ فقال : ( أن تجعل لله نداً وهو خلقك ، قال : ثم أي ؟ قال : أن تقتل ولدك خشية أن يطعم معك ) متفق عليه .
خامساً : أن قتل المؤمن أعظم عند الله من زوال الدنيا .
قال - صلى الله عليه وسلم - : ( لقتل مؤمن أعظم عند الله من زوال الدنيا ) رواه النسائي .
يقتل المسلم في إحدى هذه الأمور الثلاثة :
أولاً : الزاني المتزوج بنكاح صحيح .
وطريقة قتله : الرجم حتى الموت كما ثبت بذلك الأحاديث الكثيرة .
فقد رجم النبي - صلى الله عليه وسلم - الغامدية لما زنت .
ورجم ماعز لما اعترف بالزنا .
وقال - صلى الله عليه وسلم - : ( واغْد يا أنيْس إلى امرأة هذا ، فإن اعترفت فارجمها ) .
ثانياً : قتل العمد .
فقد أجمع المسلمون على أن من قتل مسلماً عمداً استحق القتل .
لقوله تعالى : { وكتبنا عليهم فيها أن النفس بالنفس } .
وقال تعالى : { ولكم في القصاص حياة يا أولي الألباب } .
ويقتل قاتل العمد سواء كان القاتل أو المقتول ذكراً أم أنثى .
يسقط القصاص إذا عفا أولياء المقتول .
يستثنى من القصاص :
أولاً : الوالد إذا قتل ولده ، فإنه لا يقتل به عند جمهور العلماء .
لقوله - صلى الله عليه وسلم - : ( لا يقتل والد بولده ) رواه الترمذي .
ثانياً : المسلم إذا قتل كافراً .
لقوله - صلى الله عليه وسلم - : ( لا يقتل مسلم بكافر ) متفق عليه .
ثالثاً : الحر إذا قتل عبداً فإنه لا يقتل ، عند جمهور العلماء .
المرتد يقتل .
لحديث الباب .
ولقوله - صلى الله عليه وسلم - : ( من بدل دينه فاقتلوه ) رواه البخاري .
يستتاب فإن تاب وإلا قتل .
لا فرق بين الرجل والمرأة ، فإذا ارتدت المرأة وجب قتلها .
يقتل المسلم في غير هذه الأمور الثلاثة :(1/38)
كاللوطي على قول بعض العلماء – والساحر – وتارك الصلاة على قول بعض العلماء .
تحريم هذه الأشياء الثلاثة ، وهي : الزنا – والقتل – والردة .
أن قتل القاتل والزاني بعد إحصانه والمرتد فيه مصالح عامة ، من حفظ النفوس والأنساب والأديان .
أن من أتى بالشهادتين وأتى بما تقتضيانه وابتعد عما يناقضهما فهو المسلم ، محرّم الدم والمال والعرض ، له ما للمسلمين وعليه ما عليهم .
لا بد في صحة إسلام المرء من النطق بالشهادتين .
قوله : ( الثيب الزاني ) دليل على أن البكر ليس حده الرجم ، فقد جاء النص أن حده الجلد والتغريب .
الحديث الخامس عشر
وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : ( من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فيقل خيراً أو ليصمت ، ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم جاره ، ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم ضيفه ) .
----------------------------------
معاني الكلمات :
من كان يؤمن : أي إيماناً كاملاً . ليصمت : ليسكت . اليوم الآخر : أي يوم القيامة وسمي بذلك لأنه لا يوم بعده .
الفوائد :
أن الكلام الصادر من الإنسان ينقسم إلى أقسام :
الأول : أن يكون خيراً ، فإنه يقوله بعد تفكر وتأمل .
الثاني : أن يكون شراً ، فإنه لا يقوله .
الثالث : أن يكون مباحاً ، فالصمت أفضل ، لأنه قد يجر الكلام المباح إلى حرام .
من علامات الإيمان بالله واليوم الآخر أن يقول خيراً أو ليسكت .
ينبغي على العبد مراقبة لسانه ، فإنه كما قال - صلى الله عليه وسلم - : ( ... وهل يكب الناس على مناخرهم في النار إلا حصائد ألسنتهم ) .
قال ابن عباس : ” رحم الله عبداً قال خيراً فغنم ، أو سكت عن شر فسلم “ .
الحث على إكرام الجار .
قال العلماء : الجيران ثلاثة :
الأول : جار قريب مسلم ، فهذا له حق الجوار والقرابة والإسلام .
الثاني : جار مسلم غير قريب ، فهذا له حق الجوار والإسلام .(1/39)
الثالث : جار كافر ، فهذا له حق الجوار ، وإن كان قريباً فله حق القرابة أيضاً .
أثار وفضائل حسن الجوار .
أولاً : الوصية بالإحسان إليه .
قال - صلى الله عليه وسلم - : ( ما زال جبريل يوصيني بالجار حتى ظننت أنه سيورثه ) .
ثانياً : أن حسن الجوار يطول في العمر .
قال - صلى الله عليه وسلم - : ( حسن الأخلاق وحسن الجوار يزيدان في الأعمار ) . رواه أحمد
ثالثاً : الجار الصالح من السعادة .
قال - صلى الله عليه وسلم - : ( أربع من السعادة : ........ وذكر منها : الجار الصالح ، .. ) . رواه ابن حبان
رابعاً : الأمر بتعاهد الجيران بالطعام .
قال - صلى الله عليه وسلم - : ( يا أبا ذر ! إذا طبخت مرقة فأكثر ماءها وتعاهد جيرانك ) . رواه مسلم
آثار إيذاء الجار :
أولاً : أن إيذاء الجار ليس من الإيمان .
لحديث : ( والله لا يؤمن من لا يأمن جاره بوائقه ) .
ثانياً : أن عدم إيذاء الجار من الإيمان .
قال - صلى الله عليه وسلم - : ( من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يؤذ جاره ) . متفق عليه
ثالثاً : أن أذى الجار سبب في دخول النار .
عن أبي هريرة . قال ( قال رجل : يا رسول الله ! إن فلانة تكثر من صلاتها وصيامها غير أنها تؤذي جيرانها بلسانها ؟ قال : هي في النار ) . رواه أحمد
الحث على إكرام الضيف .
وقد اختلف العلماء في حكم الضيافة :
القول الأول : أنها واجبة .
وبه قال الليث مطلقاً .
قال النووي : ” واحتج بحديث : ( ليلة الضيف حق واجب على كل مسلم ) وبحديث عقبة بن عامر قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : ( إن نزلتم بقوم فأمر لكم بما ينبغي للضيف فاقبلوا ، فإن لم تفعلوا فخذوا منهم حق الضيف ) “ . رواه البخاري
القول الثاني : واجب في حق أهل البوادي دون القرى .
قال ابن حجر : ” وخصه أحمد بأهل البوادي دون القرى “ .
قال النووي : ” وقد جاء في حديث : ( الضيافة على أهل الوبر وليست على أهل المدر ) لكنه حديث موضوع “ .(1/40)
قال : ” ولأن المسافر يجد في الحضر المنازل في الفنادق ومواضع النزول “ .
القول الثالث : أنها سنة مؤكدة غير واجبة .
قال النووي : ” وهو قول عامة الفقهاء “ .
وقال ابن حجر : ” وقال الجمهور الضيافة سنة مؤكدة “ .
وأجاب الجمهور عن حديث عقبة :
حمله على المضطرين .
أن ذلك كان في أول الإسلام إذ كانت المواساة واجبة .
ورجح هذا النووي .
أن هذا خاص بالعمال المبعوثين لمقتضى الصدقات من جهة الإمام .
أن هذا خاص بأهل الذمة .
والراجح أنها واجبة ، لأمر النبي - صلى الله عليه وسلم - : ( فليكرم ... ) .
وجوب الضيافة مقيد بيوم وليلة ، لقوله - صلى الله عليه وسلم - ( من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم ضيفه جائزته ، قالوا : وما جائزته ؟ قال : يوم وليلة ) . رواه مسلم
الحديث السادس عشر
عن أبي هريرة . ( أن رجلاً قال للنبي - صلى الله عليه وسلم - أوصني ، قال : لا تغضب ، فردد مراراً ، قال : لا تغضب ) رواه البخاري .
---------------------------------------------------------
معاني الكلمات :
أوصني : أي اعهد لي بوصية جامعة .
لا تغضب : الغضب جمرة يلقيها الشيطان في قلب ابن آدم فيغلي القلب .
الفوائد :
حرص الصحابة على السؤال والفائدة .
التحذير من الغضب .
علاج الغضب يكون بأمور :
أولاً : الاستعاذة بالله من الشيطان الرجيم .
عن سليمان بن صرد قال ( استب رجلان عند النبي - صلى الله عليه وسلم - فجعل أحدهما تحمر عيناه وتنتفخ أوداجه ، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : إني لأعلم كلمة لو قالها لذهب عنه الذي يجد ، أعوذ بالله من الشيطان الرجيم ) متفق عليه .
ثانياً : تغيير الهيئة .
عن أبي ذر . قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : ( إذا غضب أحدكم وهو قائم فليجلس ، فإن ذهب عنه الغضب وإلا فليضطجع ) رواه أبو داود .
ثالثاً : الوضوء .(1/41)
قال - صلى الله عليه وسلم - : ( إن الغضب من الشيطان ، وإن الشيطان خلق من النار ، وإنما تطفأ النار بالماء ، فإذا غضب أحدكم فليتوضأ ) رواه أبو داود .
رابعاً : السكوت .
عن ابن عباس . قال : قال - صلى الله عليه وسلم - : ( علموا وبشرو ا ، وإذا غضبت فاسكت ، وإذا غضبت فاسكت ، وإذا غضبت فاسكت ) رواه أحمد .
خامساً : من كتم غضبه فله الجنة .
فقد جاء في رواية عند الطبراني لهذا الحديث ( ... لا تغضب ولك الجنة ) .
سادساً : معرفة فضل من كتم غيظه .
قال تعالى : { ... والكاظمين الغيظ والعافين عن الناس والله يحب المحسنين } .
وقال - صلى الله عليه وسلم - : ( ليس الشديد بالصرعة ، ولكن الشديد الذي يملك نفسه عند الغضب ) متفق عليه .
وقال - صلى الله عليه وسلم - : ( ما تجرع عبد جرعة أفضل عند الله من جرعة غيظ يكظمها ابتغاء وجه الله تبارك وتعالى ) رواه ابن ماجه
الغضب ينقسم إلى قسمين :
القسم الأول : مذموم ، وهو الغضب الدنيوي الذي حذرنا منه النبي - صلى الله عليه وسلم - كما في حديث الباب .
القسم الثاني : وهو محمود ، ما كان لله وللحق .
قالت عائشة ( وما انتقم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لنفسه إلا أن تنتهك حرمات الله ) متفق عليه .
قال الشيخ السعدي رحمه الله : ” قوله : لا تغضب يتضمن أمرين :
أحدهما : الأمر بفعل الأسباب والتمرن على حسن الخلق والحلم والصبر .
الثاني : الأمر _ بعد الغضب _ أن لا ينفذ غضبه ، فإن الغضب غالباً لا يتمكن الإنسان من دفعه ورده ، ولكنه يتمكن من عدم تنفيذه “ .
نماذج من كتم الغيظ وعدم الغضب :
- حكي أن جارية تصب الماء لعلي بن الحسين ، فسقط الإبريق من يدها على وجهه فشجه ، أي جرحه ، فرفع رأسه إليها ، فقالت له : إن الله يقول : { والكاظمين الغيظ } فقال لها : قد كظمت غيظي ، قالت : { والعافين عن الناس } قال لها : قد عفوت عنك ، قالت : { والله يحب المحسنين ، قال : اذهبي فأنت حرة لوجه الله .(1/42)
- روي أن رجلاً قال لعمر : إنك لا تقضي بالعدل ، ولا تعطي الحق . فغضب واحمر وجهه ، قيل له : يا أمير المؤمنين ، ألم تسمع أن الله يقول : { خذ العفو وأمر بالعرف وأعرض عن الجاهلين } وهذا جاهل ، فقال : صدقت ، فكأنما كان ناراً فأطفئت .
- وحكي أن الفضيل بن عياض كان إذا قيل له : إن فلاناً يقع في عرضك ، يقول : والله لأغيظن من أمره ، يعني : إبليس ، ثم يقول : اللهم إن كان صادقاً فاغفر لي ، وإن كان كاذباً فاغفر له .
الحديث السابع عشر .
عن أبي يعلى سداد بن أوس عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال ( إن الله كتب الإحسان على كل شيء ، فإذا قتلتم فأحسنوا القتلة ، وإذا ذبحتم فأحسنوا الذبحة ، وليحدّ أحدكم شفرته ، وليرح ذبيحته ) رواه مسلم .
---------------------------------------------------------
معاني الكلمات :
كتب : فرض .
الإحسان على كل شيء : أي في كل شيء تعملونه .
فإذا قتلتم : أي أردتم قتل من يجوز قتله .
فأحسنوا القتلة : أي هيئة القتل ، وإحسانها : اختيار أسهل الطرق وأخفها إيلاماً .
وإذا ذبحتم : أي أردتم ذبح ما يحل ذبحه من الحيوان .
فأحسنوا الذبحة : أي هيئة الذبح ، بأن يكون بسكين حادة ، وأن يعجل إمرارها .
وليحد : أي ليسن .
شفرته : أي السكين .
الفوائد :
الأمر بالإحسان في كل شيء .
كما قال تعالى : { وأحسنوا إن الله يحب المحسنين } .
وقال تعالى : { إن الله يأمر بالعدل والإحسان } .
وهذا الأمر بالإحسان قد يكون واجباً : كالإحسان إلى الوالدين والأرحام .
وقد يكون مستحباً : كصدقة التطوع .
الإحسان هو بذل جميع المنافع من أي نوع كان لأي مخلوق يكون ، ولكنه يتفاوت بتفاوت المحسَن إليهم ، وحقهم ومقامهم ، وبحسب الإحسان ، وعظم موقعه ، وعظيم نفعه ، وبحسب إيمان المحسن وإخلاصه ، والسبب الداعي إلى ذلك .
ذكر النبي - صلى الله عليه وسلم - مثالاً للإحسان :
أولاً : الإحسان بالقتل :(1/43)
فإذا قتلت شيئاً يباح قتله فأحسن القتلة ، فلو أن شخصاً آذاه كلب من الكلاب وأراد أن يقتله ، فهناك طرق لقتله ، لكن عليه أن يختار أسهلها وأيسرها كالصعق الكهربائي .
أيضاً من استحق القتل ، قتل بضرب عنقه بالسيف من دون تمثيل .
ثانياً : الإحسان بالذبح :
وذلك بأن نذبحها على الوجه المشروع ومن ذلك :
حد الشفرة لأن ذلك أسهل للذبيحة . فلا يجوز أن يذبحها بآلة كالة [ أي ليست بجيدة ] .
ولا يحد الشفرة أمام الذبيحة ، لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - أمر أن تحد الشفار ، وأن توارى عن البهائم .
وجوب إراحة الذبيحة .
من أجل أنواع الإحسان : الإحسان إلى من أساء إليك بقول أو فعل .
قال تعالى : { ولا تستوي الحسنة ولا السيئة ، ادفع بالتي هي أحسن فإذا الذي بينك وبينه عداوة كأنه ولي حميم ، وما يلقاها إلا الذين صبروا وما يلقاها إلا ذو حظ عظيم } .
فضائل الإحسان :
أولاً : أن من أحسن إلى الناس أحسن الله إليه .
قال تعالى : { هل جزاء الإحسان إلا الإحسان } .
ثانياً : لهم في الدنيا حسنة .
قال تعالى : { للذين أحسنوا في هذه الدنيا حسنة } .
ثالثاً : رحمة الله قريبة من المحسنين .
قال تعالى : { إن رحمت الله قريب من المحسنين } .
رابعاً : لهم الجنة ونعيمها .
قال تعالى : { للذين أحسنوا الحسنى وزيادة } .
خامساً : تبشير المحسنين .
قال تعالى : { وبشر المحسنين } .
سادساً : أن الله معهم .
قال تعالى : { وإن الله لمع المحسنين } .
سابعاً : إن الله يحب المحسنين .
قال تعالى : ( وأحسنوا إن الله يحب المحسنين } .
ثامناً : إن الله لا يضيع أجر المحسنين .
قال تعالى : { إن الله لا يضيع أجر المحسنين } .
تاسعاً : الإحسان سبب في دخول الجنة .
قال تعالى : { .. آخذين ما أتاهم ربهم إنهم كانوا قبل ذلك محسنين } .
عاشراً : الكافر إذا رأى العذاب تمنى أن لو أحسن في الدنيا .
قال تعالى : { .. أو تقول حين ترى العذاب لو أن لي كرة فأكون من المحسنين } .(1/44)
الحث والرحمة والشفقة بالحيوان .
وقد قال - صلى الله عليه وسلم - : ( والشاة إن رحمتها رحمك الله ) .
النهي عن المثلة بالإنسان بعد قتله .
حسن التعامل مع المخلوقات .
الحديث الثامن عشر
عن أبي ذر جندب بن جنادة وأبي عبد الرحمن معاذ بن جبل عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال ( اتق الله حيثما كنت ، وأتبع السيئة الحسنة تمحها ، وخالق الناس بخلق حسن ) رواه الترمذي وقال حديث حسن .
---------------------------------------------------------
معاني الكلمات :
اتق الله : أي اجعل بينك وبين عذاب الله وقاية بفعل أوامره واجتناب نواهيه .
حيثما كنت : أي في أي مكان وأي زمان كنت فيه .
خالق الناس : أي عامل الناس .
بخلق حسن : الخلق الحسن هو فعل الفضائل وترك القبائح .
الفوائد :
وجوب تقوى الله عز وجل لقوله : اتق الله .
والتقوى : أن تجعل بينك وبين عذاب الله وقاية بفعل أوامره واجتناب نواهيه .
وقال علي : وقد سئل عن التقوى فقال : ” هي الخوف من الجليل ، والعمل بالتنزيل ، والقناعة بالقليل ، والاستعداد ليوم الرحيل “ .
وقال بعضهم : تقوى الله تعالى ألا يراك حيث نهاك ولا يفقدك حيث أمرك .
وجوب تقوى الله في السر والعلن لقوله : اتق الله حيثما كنت ، حيث يراه الناس وحيث لا يرونه .
وكان النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول في دعائه : ( أسألك خشيتك في الغيب والشهادة ) .
وخشية الله في الغيب والشهادة من المنجيات ، كما قال - صلى الله عليه وسلم -( ثلاث منجيات ، وذكر منها : خشية الله في السر والعلن ) .
وقال الشافعي : ” أعز ثلاثة : الجود من قلة ، والورع في خلوة ، وكلمة الحق عند من يرجى أو يخاف “ .
وكان الإمام أحمد ينشد :
إذا ما خلوت الدهر يوماً فلا تقل خلوتُ ولكنْ قل عليّ رقيب .
ولا تحسبنّ اللهَ يغفلُ ساعةً ولا أن ما يخفى عليه يغيبُ .
قال ابن رجب رحمه الله :(1/45)
” وفي الجملة ، فتقوى الله في السر هو علامة كمال الإيمان ، وله تأثير عظيم في إلقاء الله لصاحبه الثناء في قلوب المؤمنين “ .
فضائل وثمرات التقوى :
أولاً : أنها سبب لتيسير الأمور .
قال تعالى : { ومن يتق الله يجعل له من أمره يسراً } .
ثانياً : أنها سبب لإكرام الله .
قال تعالى : { إن أكرمكم عند الله أتقاكم } .
ثالثاً : العاقبة لأهل التقوى .
قال تعالى : { والعاقبة للمتقين } .
رابعاً : أنها سبب في دخول الجنة .
قال تعالى : { وأزلفت الجنة للمتقين } .
خامساً : أنها سبب لتكفير السيئات .
قال تعالى : { ومن يتق الله يكفر عنه سيئاته ويعظم له أجراً } .
سادساً : أنها سبب لحصول البشرى لهم .
قال تعالى : { الذين آمنوا وكانوا يتقون لهم البشرى في الحياة الدنيا } .
سابعاً : أنها سبب للفوز والهداية .
قال تعالى : { ومن يطع الله ورسوله ويخش الله ويتقه فأولئك هم الفائزون } .
ثامناً : أنها سبب للنجاة يوم القيامة .
قال تعالى : { ثم ننجي الذين اتقوا ونذر الظالمين فيها جثياً } .
تاسعاً : أنها سبب لتفتيح البركات من السماء والأرض .
قال تعالى : { ولو أن أهل القرى آمنوا واتقوا لفتحنا عليهم بركات من السماء والأرض } .
عاشراً : أنها سبب للخروج من المأزق .
قال تعالى : { ومن يتق الله يجعل له مخرجاً ويرزقه من حيث لا يحتسب } .
الحادي عشر : أنها سبب لمحبة الله .
قال تعالى : { إن الله يحب المتقين } .
أن الحسنات يذهبن السيئات لقوله : وأتبع السيئة الحسنة تمحها .
وقد قال تعالى : { إن الحسنات يذهبن السيئات } .
وقد ذكر شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله الأسباب العشر التي تندفع بها عقوبة السيئات فقال :
” والمؤمن إذا فعل سيئة فإن عقوبتها تندفع عنه بعشرة أسباب :(1/46)
أن يتوب فيتوب الله عليه ، فإن التائب من الذنب كمن لا ذنب له _ أو يستغفر فيغفر له _ أو يعمل حسنات تمحوها فإن الحسنات يذهبن السيئات _ أو يدعو له إخوانه المؤمنون ويستغفرون له حياً وميتاً _ أو يهدون له من ثواب أعمالهم ما ينفعه الله به _ أو يشفع فيه نبيه محمد عليه الصلاة والسلام _ أو يبتليه الله تعالى في الدنيا بمصائب تكفر عنه _ أو يبتليه في البرزخ بالصعقة فيكفر بها عنه _ أو يبتليه في عرصات القيامة من أهوالها بما يكفر عنه ، أو يرحمه أرحم الراحمين ، فمن أخطأته هذه العشر فلا يلومنّ إلا نفسه “ .
الحث على مخالقة الناس بخلق حسن .
قال ابن رجب رحمه الله : ” هذا من خصال التقوى ، ولا تتم التقوى إلا به ، وإنما أفرد بالذكر للحاجة إلى بيانه ، فإن كثيراً من الناس يظن أن التقوى هي القيام بحق الله دون حقوق عباده ...... إلى أن قال : والجمع بين القيام بحقوق الله وحقوق عباده عزيز جداً ، ولا يقوى عليه إلا الكمل من الأنبياء والصديقين “ .
فضائل حسن الخلق :
أولاً : أنه من أسباب دخول الجنة .
فقد سئل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن أكثر ما يدخل الجنة فقال : ( تقوى الله وحسن الخلق ) . رواه الترمذي
ثانياً : أنه أثقل شيء في الميزان .
قال - صلى الله عليه وسلم - : ( ما من شيء أثقل في الميزان يوم القيامة من حسن الخلق ) . رواه الترمذي
ثالثاً : أن حسن الخلق من كمال الإيمان .
قال - صلى الله عليه وسلم - : ( أكمل المؤمنين إيماناً أحسنهم خلقاً ) . رواه أحمد
رابعاً : أن النبي - صلى الله عليه وسلم - حصر دعوته في حسن الخلق .
قال - صلى الله عليه وسلم - : ( إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق ) . رواه أحمد
خامساً : يدرك المؤمن بحسن خلقه درجة الصائم القائم .
قال - صلى الله عليه وسلم - : ( إن المؤمن ليدرك بحسن خلقه درجة الصائم القائم ) . رواه أبو داود
سادساً : بيت في أعلى الجنة لمن حسن خلقه .(1/47)
قال - صلى الله عليه وسلم - : ( أنا زعيم بيت في أعلى الجنة لمن حسن خلقه ) . رواه أبو داود
زعيم : ضامن .
سابعاً : أقرب الناس إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صاحب الخلق الحسن .
قال - صلى الله عليه وسلم - : ( إن من أحبكم إلي وأقربكم مني مجلساً يوم القيامة ، أحاسنكم أخلاقاً ) . رواه الترمذي
ثامناً : جعله من خصال التقوى .
قال تعالى : { ... أعدت للمتقين الذين ينفقون في السراء والضراء والكاظمين الغيظ والعافين عن الناس والله يحب المحسنين } .
قال الحسن : ” حسن الخلق : الكرم ، والبذلة ، والاحتمال “ .
وقال ابن المبارك : ” هو بسط الوجه ، وبذل المعروف ، وكف الأذى “ .
وسئل سلام بن أبي مطيع عن حسن الخلق فأنشد شعراً فقال :
تراه إذا ما جئتَه متهللاً كأنك تعطيه الذي أنت سائله .
ولو لم يكن في كفه غيرُ روحهِ لجاد بها فليتق اللهَ سائلُه .
هو البحرُ من أي النواحي أتيتَه فلجته المعروفُ والجودُ ساحلُه .
الحديث التاسع عشر
عن أبي العباس عبد الله بن عباس قال ( كنت خلف النبي - صلى الله عليه وسلم - يوماً فقال لي : يا غلام ! إني أعلمك كلمات ، احفظ الله يحفظك احفظ الله تجده تجاهك ، إذا سألت فاسأل الله ، وإذا استعنت فاستعن بالله ، واعلم أن الأمة لو اجتمعت على أن ينفعوك بشيء لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله تعالى لك ، وإن اجتمعوا على أن يضروك بشيء لم يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك ، رفعت الأقلام وجفت الصحف ) رواه الترمذي وقال حديث حسن صحيح .
وفي رواية غير الترمذي ( احفظ الله تجده أمامك ، تعرف إلى الله في الرخاء يعرفك في الشدة ، واعلم أن ما أخطأك لم يكن ليصيبك ، وما أصابك لم يكن ليخطئك ، واعلم أن النصر مع الصبر ، وأن الفرج مع الكرب ، وأن مع العسر يسراً ) .
---------------------------------------------------------
معاني الكلمات :(1/48)
احفظ الله : أي احفظ حدوده وحقوقه وأوامره ونواهيه . وذلك بامتثال الأوامر واجتناب النواهي .
يحفظك : حفظ الله للعبد في دنياه كحفظه في بدنه وولده وأهله وحفظه أيضاً في إيمانه ودينه .
تجده تجاهك : أي من حفظ حدود الله وجد الله معه ينصره ويحفظه ويوفقه ويسدده .
الفوائد :
حسن تعليم النبي - صلى الله عليه وسلم - وتربيته .
تواضع النبي - صلى الله عليه وسلم - .
جواز الإرداف على الدابة ، لكن بشرط أن تطيق ذلك .
الاهتمام بالناشئة وتعليمهم أمور دينهم .
أن من حفظ الله وذلك بإقامة أوامره وترك نواهيه حفظه الله في الدنيا والآخرة .
أمثلة لحفظ الله لمن حفظه :
- كان العبد الصالح أبو الطيب الطبري رحمه الله ، قد جاوز المائة ، وهو متمتع بعقله وقوته وكافة حواسه ، حتى أنه سافر ذات مرة مع رفقة له ، فلما اقتربت السفينة من الشاطىء وثب منها إلى الأرض وثبة شديدة ، عجز عنها بقية الذين كانوا معه على السفينة ، فاستغرب بعضهم هذه القوة الجسدية التي منحها الله إياه مع كبر سنه وشيخوخته ، فقال لهم الطبري : هذه جوارح حفظناها عن المعاصي في الصغر ، فحفظها الله علينا في الكبر .
- قال محمد بن المنكدر : ” إن الله ليحفظ بالرجل الصالح ولده وولد ولده وقريته التي هو فيها ، والدويرات التي حولها ، فما يزالون في حفظ الله وستر “ .
- كان العبد الصالح شيبان الراعي رحمه الله ، يرعى غنماً له في البرية ، فإذا جاءت الجمعة خط عليها خطاً ، ثم ذهب وشهد الجمعة والخطبة مع جماعة المسلمين ، ثم عاد إليها ، فيجدها كما هي لم تتحرك منها شيء ، ولم تجاوز الخط منها أي غنمة ، فسبحان الحافظ المعين .
- قال عروة بن الزبير : ” بلغت أسماء بنت أبي بكر مائة سنة لم يسقط لها سن ولم ينكر لها عقل “ .(1/49)
- قال ابن رجب : ” ومن عجيب حفظ الله لمن حفظه أن يجعل الحيوانات المؤذية بالطبع حافظة له من الأذى ، كما جرى لسفينة مولى النبي - صلى الله عليه وسلم - حيث كسر به المركب وخرج إلى جزيرة فرأى الأسد ، فجعل يمشي معه حتى دله على الطريق ، فلما أوقفه عليها جعل يهمهم كأنه يودعه ثم رجع عنه “ .
- كان العبد الصالح إبراهيم بن أدهم نائماً ذات مرة في بستان ، فجاءته حية في فمها نرجس ، فما زالت تذب عنه الحيات التي تريد به سوءاً وتدافع عنه ، حتى استيقظ من نومه .
من أقوال السلف :
قال مسروق بن الأجدع : ” من راقب الله في خطرات قلبه ، عصمه الله في حركات جوارحه “ .
وقال سعيد بن المسيب لابنه : ” لأزيدن في صلاتي من أجلك رجاء أن أحفظ فيك ، ثم تلا هذه الآية : وكان أبوهما صالحاً “ .
وقال بعض السلف : ” من حفظ الله فقد حفظ نفسه “ .
أن من لم يحفظ الله لم يحفظه الله .
قال تعالى : { ولا تكونوا كالذين نسوا الله فأنساهم أنفسهم } .
ومن أعظم ما يجب حفظه من أوامر الله :
أولاً : الصلاة .
قال تعالى : { حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى } .
ثانياً : الطهارة .
قال - صلى الله عليه وسلم - : ( ولا يحافظ على الوضوء إلا مؤمن ) رواه أحمد .
ثالثاً : الأيْمان .
قال تعالى : { واحفظوا أيمانكم } .
رابعاً : حفظ الرأس والبطن .
قال - صلى الله عليه وسلم - : ( الاستحياء من الله حق الحياء أن تحفظ الرأس وما وعى ، وتحفظ البطن وما حوى ) رواه الترمذي .
خامساً : حفظ الفرج .
قال تعالى : { قل للمؤمنين يغضوا من أبصارهم ويحفظوا فروجهم } .
أن الجزاء من جنس العمل ، فمن حفظ الله حفظه الله ، وهذه قاعدة شرعية جاءت نصوص كثيرة تدل عليها :
قال تعالى : { إن تنصروا الله ينصركم } .
وقال تعالى : { فاذكروني أذكركم } .
وقال تعالى : { وأوفوا بعهدي أوف بعهدكم } .
وقال - صلى الله عليه وسلم - : ( من ستر مسلماً ستره الله في الدنيا والآخرة ) رواه مسلم .(1/50)
وقال - صلى الله عليه وسلم - : ( من بنى لله مسجداً بنى الله له بيتاً في الجنة ) رواه مسلم .
وقال - صلى الله عليه وسلم - : ( احفظ الله يحفظك ) .
وقال - صلى الله عليه وسلم - : ( والشاة إن رحمتها رحمك الله ) رواه أحمد .
وقال - صلى الله عليه وسلم - : ( إنما يرحم الله من عباده الرحماء ) متفق عليه .
وقال - صلى الله عليه وسلم - : ( من وصل صفاً وصله الله ) رواه أبو داود .
وقال - صلى الله عليه وسلم - : ( ارحموا من في الأرض يرحمكم من في السماء ) رواه أبو داود .
وقال - صلى الله عليه وسلم - : ( من كان له وجهان في الدنيا ، كان له لسانان من نار يوم القيامة ) رواه أبو داود .
أن من حفظ الله كان الله معه ، يحفظه وينصره .
قال تعالى : { إن الله مع الذين اتقوا والذين هم محسنون } .
قال قتادة : ” من يتق الله يكن معه ، ومن يكن الله معه فمعه الفئة التي لا تغلب ، والحارس الذي لا ينام ، والهادي الذي لا يضل “ .
وهذه المعية الخاصة هي المذكورة في قوله تعالى لموسى وهارون : { لا تخافا إنني معكما أسمع وأرى } وقول موسى { كلا إن معي ربي سيهدين } ، وفي قول النبي - صلى الله عليه وسلم - لأبي بكر وهما في الغار ( ما ظنك باثنين الله ثالثهما ؟ ) “ .
أن من عرف الله حال رخائه وصحته وغناه عرفه الله عندما تحل به الشدة والضيق والفقر والمرض .
قال - صلى الله عليه وسلم - : ( من سره أن يستجيب الله له عند الشدائد فليكثر الدعاء في الرخاء ) رواه الترمذي .
ويونس عليه السلام عرف ربه حال الرخاء فعرفه في بطن الحوت ونجاه وثبته ونصره .
أن الإنسان يجب عليه أن يسأل الله ويستعين به ولا يسأل غيره .
فلا يدعى إلا الله ، ولا يستعان إلا به كما قال تعالى : { إياك نعبد وإياك نستعين } .(1/51)
قال تعالى ? وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَنْ لا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَهُمْ عَنْ دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ . وَإِذَا حُشِرَ النَّاسُ كَانُوا لَهُمْ أَعْدَاءً وَكَانُوا بِعِبَادَتِهِمْ كَافِرِينَ ? .
نفى سبحانه أن يكون أحد أضل ممن يدعو غيره ، وأخبر أنه لا يستجيب له ما طلب منه إلى يوم القيامة .
والاستفهام فيه إنكار أن يكون في الضلال أبلغ ضلالاً ممن عبد غير الله ودعاه ، حيث يتركون السميع المجيب القادر على تحصيل بُغيه ويدعون من دونه من لا يستجيب لهم .
وقال تعالى : { واسألوا الله من فضله } .
وقال - صلى الله عليه وسلم - : ( من لا يسال الله يغضب عليه ) رواه ابن ماجه .
لكن يجوز للإنسان أن يستعين بمخلوق فيما يقدر عليه هذا المخلوق ، لقوله - صلى الله عليه وسلم - : ( وتعين الرجل في دابته فتحمله عليها أو ترفع له عليها متاعه صدقة ) متفق عليه .
وجوب الإيمان بالقضاء والقدر ، وان كل شيء مكتوب ومنتهي .
قال تعالى : { ما أصاب من مصيبة في الأرض ولا في أنفسكم إلا في كتاب من قبل أن نبراها إن ذلك على الله يسير } .
قال - صلى الله عليه وسلم - : ( إن الله كتب مقادير الخلق قبل أن يخلق السموات والأرض بخمسين ألف سنة ) رواه مسلم .
وعن عبادة بن الصامت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : ( إن أول ما خلق الله القلم ، ثم قال : اكتب ، فكتب في تلك الساعة ما هو كائن إلى يوم القيامة ) رواه أحمد .
ويتفرع على هذه الفائدة :
عدم جزع الإنسان واطمئنان قلبه ، لأن كل شيء مكتوب ومقدر .
أنه لن يصيب العبد إلا ما كتب له ، فلن يستطيع أحد أن ينفعه بشيء لم يكتب له ، ولا يستطيع أحد أن يضره بشيء لم يكتب له .
كما قال تعالى : { قل لن يصيبنا إلا ما كتب الله لنا } .
وقال تعالى : { ما أصاب من مصيبة في الأرض ولا في أنفسكم إلا في كتاب من قبل أن نبرأها } .(1/52)
وقال سبحانه : { قل لو كنتم في بيوتكم لبرز الذين كتب عليهم القتل إلى مضاجعهم } .
قال ابن رجب رحمه الله :
” واعلم أن مدار هذه الوصية على هذا الأصل ، وما ذكر قبله وبعده فهو متفرع عليه وراجع إليه ، فإن العبد إذا علم أنه لن يصيبه إلا ما كتب الله له من خير وشر ونفع وضر ، وأن اجتهاد الخلق كلهم على خلاف المقدور غير مفيد البتة ، علم حينئذ أن الله وحده هو الضار النافع ، المعطي المانع ، فأوجب ذلك للعبد توحيد ربه عز وجل ، وإفراده بالطاعة وحفظ حدوده “ .
فضل الصبر وأنه من أسباب النصر ، وهذا يشمل الجهادين : جهاد العدو الظاهر ، وجهاد العدو الباطن ، فمن صبر فيهما نصر وظفر بعدوه , ومن لم يصبر فيهما وجزع قهر وصار أسيراً لعدوه أو قتيلاً له .
قال تعالى : { قال الذين يظنون أنهم ملا قوا ربهم كم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة بإذن الله والله مع الصابرين } .
قال بعض السلف : ” كلنا يكره الموت ، وألم الجراح ، ولكن نتفاضل بالصبر “ .
وقال بعض العلماء : ” الشجاعة صبر ساعة “ .
قال أبو الطيب المكي : ” اعلم أن الصبر سبب دخول الجنة ، وسبب النجاة من النار ، لأنه جاء في الخبر [ حفت الجنة بالمكاره ، وحفت النار بالشهوات ] فيحتاج المؤمن إلى صبر على المكاره ليدخل الجنة ، وإلى صبر عن الشهوات لينجو من النار “ .
وقال في مقام آخر : ” واعلم أن كثرة معاصي العباد في شيئين : قلة الصبر عما يحبون ، وقلة الصبر على ما يكرهون “
وللصبر فضائل عظيمة :
أولاً : معية الله للصابرين .
قال تعالى : { إن الله مع الصابرين } .
ثايناً : محبة الله لهم .
قال تعالى : { والله يحب الصابرين } .
ثالثاً : إطلاق البشرى لهم .
قال تعالى : { وبشر الصابرين } .
رابعاً : إيجاب الجزاء على أحسن أعمالهم .
قال تعالى : { ولنجزين الذين صبروا أجرهم بأحسن ما كانوا يعملون } .
خامساً : ضمان المدد والنصرة لهم .(1/53)
قال تعالى : { بلى إن تصبروا وتتقوا ويأتوكم من فورهم هذا يمددكم ربكم بخمسة ألاف من الملائكة ... } .
سادساً : استحقاقهم دخول الجنة وتسليم الملائكة عليهم .
قال تعالى : { وجزاهم بما صبروا جنة وحريراً } .
وقال تعالى : { والملائكة يدخلون عليهم من كل باب سلام عليكم بما صبرتم فنعم عقبى الدار } .
سابعاً : حفظهم من كيد الأعداء .
قال تعالى : { وإن تصبروا وتتقوا لا يضركم كيدهم شيئاً } .
ثامناً : الحصول على درجة الإمامة في الدين .
قال ابن تيمية : ” بالصبر واليقين تنال الإمامة في الدين . ثم تلا هذه الآية { وجعلنا منهم أئمة يهدون بأمرنا لما صبروا وكانوا بآياننا يوقنون } “ .
تاسعاً : أنه من أسباب النصر .
كما في حديث الباب : ( واعلم أن النصر مع الصبر ) .
البشارة العظيمة بأن تفريج الكربات وإزالة الشدائد مقرون بالكرب ، فكلما كرب الإنسان فرج الله عنه . ويشهد لهذا :
قوله تعالى : { هو الذي ينزل الغيث من بعد ما قنطوا } .
وقوله تعالى : { حتى إذا استياس الرسل وظنوا أنهم قد كذبوا جاءهم نصرنا } .
وقوله تعالى : { حتى يقول الرسول والذين آمنوا معه متى نصر الله ألا إن نصر الله قريب } .
قال ابن رجب رحمه الله :
”وكم قص سبحانه من قصص تفريج كربات أنبيائه عند تناهي الكرب ، كإنجاء نوح ومن معه في الفلك ، وإنجاء إبراهيم من النار ، وفدائه لولده الذي أمر بذبحه ، وإنجاء موسى وقومه من اليم ، وإغراق عدوهم “.
انه إذا تعسر الأمر فلينتظر المسلم وليستبشر بقدوم اليسر .
ويشهد لهذا :
قوله تعالى : { سيجعل الله بعد عسر يسراً }
وقوله تعالى : { فإن مع العسر يسراً . إن مع العسر يسراً } .
تحريم اليأس والقنوط .
الحديث العشرون
عن أبي مسعود البدري . قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : ( إن مما أدرك الناس من كلام النبوة الأولى إذا لم تستح : فاصنع ما شئت ) رواه البخاري .(1/54)
---------------------------------------------------------
معاني الكلمات :
إن مما أدرك الناس من كلام النبوة الأولى : أي أن هذا مأثور عن الأنبياء المتقدمين ، وأن الناس تداولوه بينهم ، وتوارثوه عنهم قرناً بعد قرن .
الحياء : خلق يبعث على فعل الجميل وترك القبيح .
إذا لم تستح فاصنع ما شئت : قال ابن القيم : ” في معناه قولان :
أحدهما : أنه أمر تهديد ، ومعناه الخبر : أي من لم يستح صنعَ ما شاء .
والثاني : أنه أمر إباحة ، أي انظر إلى الفعل الذي تريد أن تفعله ، فإن كان مما لا يستحيَى منه فافعله ، والأول أصح وهو قول الأكثرين “ .
الفوائد :
اتفاق النبوات على فعل الخير .
فضل التخلق بأخلاق الأنبياء .
الحث على الحياء ، وأن كله خير .
فضائل الحياء :
أولاً : أنه من علامات الإيمان .
قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : ( .. والحياء شعبة من الإيمان ) متفق عليه .
وعن ابن عمر : ( أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مرّ على رجل من الأنصار وهو يعظ أخاه في الحياء فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : دعه فإن الحياء من الإيمان ) . متفق عليه
ثانياً : الحياء أبهى زينة .
عن أنس - رضي الله عنه - قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : ( ما كان الفحش في شيء قط إلا شانه ، ولا كان الحياء في شيء قط إلا زانه )
ثالثاً : الحياء من صفات الرب .
عن يعلى بن أمية قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : ( إن الله تعالى حيي ستير يحب الحياء والستر ) . رواه أبو داود
رابعاً : الحياء خلق يحبه الله .
للحديث السابق .
خامساً : الحياء خلق الإسلام .
عن زيد بن طلحة قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : ( إن لكل دين خلقاً ، وخلق الإسلام الحياء ) . رواه مالك
فائدة :
هناك بعض الأمور يكون الحياء فيها مذموماً ، وهي :
أولاً : الحياء في طلب العلم .(1/55)
قالت عائشة : ( نعم النساء نساء الأنصار ، لم يمنعهن الحياء أن يتفقهن في الدين ) . رواه مسلم
وقال مجاهد : ” لا ينال العلم مستحي ولا مستكبر “ .
ثانياً : عدم قول الحق والجهر به .
قال تعالى : ? إن الله لا يستحي من الحق ? .
قال ابن حجر : ” ولا يقال رب حياء يمنع من الحق ، أو فعل الحق ، لأن ذلك ليس شرعياً “ .
قال ابن رجب رحمه الله : ” إن الحياء الممدوح في كلام النبي - صلى الله عليه وسلم - إنما يريد به الخلق الذي يحث على فعل الجميل وترك القبيح ، فأما الضعف والعجز الذي يوجب التقصير في شيء من حقوق الله أو حقوق عباده فليس هو من الحياء فإنما هو ضعف وخور وعجز ومهانة “ .
والحياء نوعان :
أحدهما : ما كان خلقاً وجبلة غير مكتسب ، فهذا من أجل الأخلاق التي يمنحها الله العبد ويجبله عليها .
ولهذا قال النبي - صلى الله عليه وسلم - : ( الحياء لا يأتي إلا بخير ) فإنه يكف عن ارتكاب القبائح ودناءة الأخلاق ويحث على استعمال مكارم الأخلاق ومعاليها .
الثاني : ما كان مكتسباً من معرفة الله ومعرفة عظمته وقربه من عباده واطلاعه عليهم ، فهذا من أعلى خصال الإيمان ، بل هو من أعلى درجات الإحسان .
من أقوال السلف في الحياء :
قال الفضيل : ” خمس من علامات الشقوة : القسوة في القلب ، وجمود العين ، وقلة الحياء ، والرغبة في الدنيا ، وطول الأمل “ .
قال سليمان : ” إذا أراد الله بعبد هلاكاً نزع منه الحياء ، فإذا نزع منه الحياء لم تلقه إلا مقيتاً ممقتاً “ .
وقال أبو موسى : ” إني لأغتسل في البيت المظلم فما أقيم صلبي حتى آخذ ثوبي حياء من ربي “ .
أن من نزع منه الحياء فعل ما يشاء .
قال الشاعر :
إذا قلّ ماء الوجه قل حياؤه فلا خير في وجه إذا قل ماؤه
حياءك فاحفظه عليك فإنما يدل على وجه الكريم حياؤه
أن الحياء مانع من الأفعال القبيحة .
الإسلام يدعو إلى الفضائل ويمنع من الرذائل .(1/56)
من فوائد الحديث على القول الأول : أن ما لا يستحيى منه فالإنسان حل في فعله .
فائدة : قال ابن القيم رحمه الله :
” وقد قُسّم الحياء على عشرة أوجه :
حياء الجناية : ومنه حياء آدم لما فر هارباً من الجنة .
وحياء التقصير : كحياء الملائكة الذين يسبحون الليل والنهار لا يفترون ، فإذا كان يوم القيامة قالوا : سبحانك ! ما عبدناك حق عبادتك .
وحياء الإجلال : وهو حياء المعرفة ، وعلى حسب معرفة العبد بربه يكون حياؤه منه .
وحياء الكرم : كحياء النبي - صلى الله عليه وسلم - من القوم الذين دعاهم إلى وليمة زينب وطولوا الجلوس عنده ، فقام واستحيى أن يقول لهم : انصرفوا .
وحياء الحشمة : كحياء علي بن أبي طالب أن يسال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن المذي لمكان ابنته منه .
وحياء الاستحقار واستصغار النفس : كحياء العبد من ربه حين يسأله حوائجه ، احتقاراً لشأن نفسه “ .
الحديث الحادي والعشرون
عن سفيان بن عبد الله قال . قلت : يا رسول الله ! قل لي في الإسلام قولاً لا أسأل عنه أحداً غيرك ؟ قال : قل آمنت بالله ثم استقم ) رواه مسلم .
---------------------------------------------------------
معاني الكلمات :
قل لي في الإسلام قولاً : أي قولاً جامعاً لمعاني الدين .
آمنت بالله : أي الإيمان الكامل الذي يشمل اعتقاد القلب وقول اللسان وعمل الجوارح .
استقم : الاستقامة هي المداومة على فعل ما ينبغي فعله وترك ما ينبغي تركه .
الفوائد :
وجوب الإيمان بالله تعالى .
أن أول واجب على الإنسان هو الإيمان بالله تعالى .
فضل من آمن ثم استقام على طاعة الله واستمر على ذلك .
فضائل الاستقامة بعد الإيمان :
أولاً : تتنزل عليهم الملائكة وتبشرهم بالجنة وعدم الخوف .
قال تعالى : { إن الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا تتنزل عليهم الملائكة ألا تخافوا ولا تحزنوا وأبشروا بالجنة التي كنتم توعدون } .
قوله [ تتنزل عليهم الملائكة ] :(1/57)
قيل : عند الاحتضار ، وقيل : يوم خروجهم من قبورهم ، وقيل : يبشرونه عند موته وفي قبره وحين يبعث ، واختار هذا القول ابن كثير وقال : ” وهذا القول يجمع الأقوال كلها وهو حسن جداً “ .
ثانياً : الاستقامة سبب لبسط الرزق .
قال تعالى : { وألوا استقاموا على الطريقة لأسقيناهم ماء غدقاً } .
قال القرطبي : ” أي لو آمن هؤلاء الكفار لوسعنا عليهم في الدنيا وبسطنا لهم في الرزق “ .
ثالثاً : أن الله أمر نبيه بالاستقامة .
قال تعالى : { فاستقم كما أمرت ... } .
كان الحسن يقول : ” اللهم أنت ربنا فارزقنا الاستقامة “ .
لا يلزم من الاستقامة عدم الوقوع بشيء من المعاصي فقد قال تعالى ( فاستقيموا إليه واستغفروه ) .
قال ابن رجب : ” فيه إشارة إلى أنه لا بد من التقصير في الاستقامة المأمور بها ، فيجبر ذلك الاستغفار المقتضي للتوبة والرجوع إلى الاستقامة ، فهو كما قال النبي - صلى الله عليه وسلم - لمعاذ ( اتق الله حيثما كنت وأتبع السيئة الحسنة تمحها ) ، وقد أخبر النبي - صلى الله عليه وسلم - أن الناس لن يستطيعوا الاستقامة حق الاستقامة ، ففي الصحيحين عن أبي هريرة . عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال ( سددوا وقاربوا ) فالسداد هو حقيقة الاستقامة ، وهو الإصابة في جميع الأقوال والأعمال والمقاصد ، والمقاربة أن يصيب ما قرب من الغرض إذا لم يصب الغرض نفسه ، ولكن بشرط أن يكون مصمماً على قصد السداد وإصابة الغرض ، فتكون مقاربته عن عمد “ .
وأعظم ما ينبغي مراعاته في الاستقامة استقامة القلب ، فهو ملك الأعضاء وهي جنوده ، فإذا استقام الملك استقامت جنوده ورعاياه .
وكذلك مما ينبغي مراعاة استقامته بعد القلب اللسان ، فإنه ترجمان القلب .
ولذلك قال - صلى الله عليه وسلم - ( إذا أصبح ابن آدم فإن الأعضاء كلها تكفر اللسان ، تقول : إن استقمت استقمنا ، وإن اعوججت اعوججنا ) رواه الترمذي .(1/58)
وجاء في حديث الباب في رواية للترمذي : قلت يا رسول الله ! ما أخوف ما تخاف علي ؟ فأخذ بلسان نفسه .
وقد جاء في مسند الإمام أحمد عن أنس . أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال ( لا يستقيم إيمان عبد حتى يستقيم قلبه ، ولا يستقيم قلبه حتى يستقيم لسانه ) .
أسباب الاستقامة :
أولاً : دعاء الله بالثبات .
كان - صلى الله عليه وسلم - يقول : ( يا مقلب القلوب ثبت قلبي على طاعتك ) .
ثانياً : قراءة القرآن وتدبره .
قال تعالى { .. لنثبت به فؤادك ورتلناه ترتيلاً } .
أن من استقام في هذه الدار على الهداية ، وفقه الله تعالى للهداية يوم القيامة .
قال ابن القيم رحمه الله :
” فمن هدي في هذه الدار إلى صراط الله المستقيم ، الذي أرسل به رسله ، وأنزل به كتبه ، هدي هناك إلى الصراط المستقيم ، الموصل إلى جنته ودار ثوابه ، وعلى قدر ثبوت قدم العبد على هذا الصراط الذي نصبه الله لعباده في هذه الدار ، يكون ثبوت قَدَمه على الصراط المنصوب على متن جهنم ، وعلى قدر سيره على هذه الصراط يكون سيره على ذاك الصراط “ .
أنه لا خوف ولا حزن على المستقيم .
الحث على مجالسة ومصاحبة أهل الاستقامة .
وجوب المداومة على العمل الصالح وأن ذلك من أسباب الاستقامة .
وأفضل العمل ما داوم عليه صاحبه .
قال - صلى الله عليه وسلم - ( أحب الأعمال إلى الله أدومها وإن قل ) .
وهذا كان هدي النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا عمل عملاً أثبته .
قالت عائشة ( كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا عمل عملاً أثبته) رواه مسلم .
قال النووي : ” وإنما كان القليل الدائم خيراً من الكثير المنقطع لأن بدوام القليل تدوم الطاعة والذكر والمراقبة والنية والإخلاص والإقبال على الخالق سبحانه وتعالى ويثمر القليل الدائم بحيث يزيد على الكثير المنقطع أضعافاً كثيرة “ .
وللمداومة على العمل الصالح آثار :
أولاً : دوام اتصال القلب بخالقه مما يعطيه قوة وثباتاً واستقامة .(1/59)
ثانياً : تعهد النفس عن الغفلة وترويضها على لزوم الخيرات حتى تسهل عليها .
ثالثاً : أن المداومة على العمل الصالح سبب للنجاة من الشدائد .
قال - صلى الله عليه وسلم - ( من سره أن يستجيب الله له عند الشدائد فليكثر الدعاء في الرخاء ) رواه الترمذي .
الحديث الثاني والعشرون
عن أبي عبد الله جابر بن عبد الله الأنصاري . ( أن رجلاً سأل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال : أرأيت إذا صليت الصلوات المكتوبات ، وصمت رمضان ، وأحللت الحلال ، وحرمت الحرام ، ولم أزد على ذلك شيئاً ، أأدخل الجنة ؟ قال : نعم ) رواه مسلم .
ومعنى حرمت الحرام : اجتنبته ، ومعنى أحللت الحلال : فعلته متعمداً حله .
---------------------------------------------------------
معاني الكلمات :
أن رجلاً : قيل هو النعمان بن قوقل الخزاعي ، وقيل غيره .
أرأيت : أخبرني .
الحرام : هو ما يثاب تاركه امتثالاً ويعاقب فاعله .
الفوائد :
السؤال عن العلم سبب من أسباب تحصيله .
الحرص على السؤال عن كل شيء يؤدي إلى الجنة .
أن الجنة هي الهدف لكل مسلم .
أن من أدى الواجبات وترك المحرمات فإن ذلك سبب لدخول الجنة . وقد جاءت أحاديث كثيرة بهذا المعنى
ففي الصحيحين عن طلحة بن عبيد الله ( أن أعرابياً جاء إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ثائر الرأس ، فقال : يا رسول الله ! أخبرني ماذا فرض الله عليّ من الصلاة ، فقال : الصلوات الخمس إلا أن تطوع ، فقال : أخبرني بما فرض الله عليّ من الصيام ؟ فقال : شهر رمضان إلا أن تطوع ، فقال : أخبرني بما فرض الله علي من الزكاة ؟ فأخبره رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بشرائع الإسلام ، فقال : والذي أكرمك بالحق لا أتطوع شيئاً ولا أنقص مما فرض الله عليّ شيئاً ، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : دخل الجنة إن صدق ) متفق عليه .(1/60)
وفي الصحيحين أيضاً عن أبي هريرة . ( أن أعرابياً قال يا رسول الله ! دلني على عمل إذا عملته دخلت الجنة ؟ قال : تعبد الله لا تشرك به شيئاً ، وتقيم الصلاة المكتوبة ، وتؤدي الزكاة المفروضة ، وتصوم رمضان ، قال : والذي بعثك بالحق ، لا أزيد على هذا شيئاً أبداً ولا أنقص منه ، فلما ولى ، قال النبي - صلى الله عليه وسلم - : من سره أن ينظر إلى رجل من أهل الجنة فلينظر إلى هذا ) .
وخرج الترمذي من حديث أبي أمامة . قال سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يخطب في حجة الوداع يقول ( أيها الناس ! اتقوا الله ، وصلوا خمسكم ، وصوموا شهركم ، وأدوا زكاة أموالكم ، وأطيعوا ذا أمركم ، تدخلوا جنة ربكم ) .
لكن قد يوجد موانع من دخول الجنة :
كقوله - صلى الله عليه وسلم - ( لا يدخل الجنة قاطع رحم ) متفق عليه .
وقوله ( لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال ذرة من كبر ) رواه مسلم .
أن الإنسان إذا اقتصر على الأركان ولم يفعل المستحبات فلا لوم عليه .
عظم منزلة هذه العبادات : الصلاة ، والصيام .
وقال - صلى الله عليه وسلم - ( قال تعالى : وما تقرب إليّ عبدي بشيء أحب إليّ مما افترضته عليه ) رواه البخاري
أن الفرائض أفضل من النوافل كما يدل عليه الحديث السابق .
لم يذكر النبي - صلى الله عليه وسلم - في هذا الحديث الزكاة ولا الحج ؟
والجواب :
لم يذكر الزكاة ، لعل النبي - صلى الله عليه وسلم - علم من حاله أنه فقير ولا يستطيع عليها .
وأما الحج ، فلعله لم يفرض بعد .
أن فعل الواجب وترك المحرم وقاية من النار .
حكمة الله في التشريع ، حيث أن من الأعمال ما هو واجب ومنها ما هو مستحب .
وجوب امتثال أمر الله والانتهاء عن نهيه .
أن التحليل والتحريم حق من حقوق الله تعالى .
على المسلم أن يسأل أهل العلم عن أمور دينه التي يجهلها .
الحديث الثالث والعشرون(1/61)
عن أبي مالك الأشعري قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ( الطهور شطر الإيمان ، والحمد لله تملأ الميزان ، وسبحان الله والحمد لله تملآن _ أو تملآ _ ما بين السماء والأرض ، والصلاة نور ، والصدقة برهان ، والصبر ضياء ، والقرآن حجة لك أو عليك ، كل الناس يغدو فبائع نفسه فمعتقها أو موبقها ) .
---------------------------------------------------------
معاني الكلمات :
الطهور : بالضم الفعل وبالفتح الماء ، والمراد به الوضوء ، سمي طهوراً لأنه يطهر الأعضاء .
شطر : نصف .
الإيمان : قيل : المراد به الصلاة كما قال تعالى ( وما كان الله ليضيع إيمانكم ) وقيل : المراد به الوضوء المعروف .
الحمد لله : الثناء على الله مع المحبة والتعظيم .
سبحان الله : التسبيح تنزيه الله عن النقائص والعيوب ومشابهة المخلوقين .
يغدو : يذهب باكراً .
معتقها : مخلصها .
موبقها : مهلكها .
الفوائد :
فضل الوضوء ، وقد جاءت أحاديث كثيرة في فضله :
عن عثمان . قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ( من توضأ فأحسن الوضوء خرجت خطاياه من جسده حتى تخرج من تحت أظفاره ) رواه مسلم .
وللنسائي ( من أتم الوضوء كما أمره الله ، فالصلوات كفارات لما بينهن ) .
وعن أبي هريرة . قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ( إذا توضأ العبد المسلم أو المؤمن فغسل وجهه خرج من وجهه كل خطيئة نظر إليها بعينيه مع الماء أو مع آخر قطر الماء ، فإذا غسل يديه خرج من يديه كل خطيئة كان بطشتها يداه مع الماء أو مع آخر قطر الماء .. ) رواه مسلم .
وعن عقبة بن عامر . قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ( ما من مسلم يتوضأ فيحسن وضوءه ثم يقوم فيصلي ركعتين يقبل عليهما بقلبه ووجهه إلا وجبت له الجنة ) رواه مسلم .
فضل كلمة [ الحمد لله ] حيث أنها تملأ الميزان .
وقد اختلف في معنى [ تملأ الميزان ] :(1/62)
فقيل : أنه ضرب مثل ، وأن المعنى لو كان الحمد جسماً لملأ الميزان .
وقيل : بل الله عز وجل يمثل أعمال بني آدم وأقوالهم صوراً ترى يوم القيامة وتوزن .
فضل قول : سبحان الله والحمد لله حيث أنهما تملآن ما بين السماء والأرض . وقد وردت أحاديث كثيرة في فضل هذه الكلمات :
قال - صلى الله عليه وسلم - ( كلمتان خفيفتان على اللسان ثقيلتان في الميزان حبيبتان إلى الرحمن : سبحان الله العظيم ، سبحان الله وبحمده ) متفق عليه .
وقال - صلى الله عليه وسلم - ( لأن أقول سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر أحب إلي مما طلعت عليه الشمس ) رواه مسلم
وقال - صلى الله عليه وسلم - ( أحب الكلام إلى الله أربع : سبحان الله ، والحمد لله ، ولا إله إلا الله ، والله أكبر ، لا يضرك بأيهن بدأت ) رواه أحمد .
وقال - صلى الله عليه وسلم - ( لقيت إبراهيم ليلة أسري بي ، فقال يا محمد : أقرىء أمتك مني السلام ... وأنها قيعان ، وأن الجنة طيبة التربة .. وأن غراسها سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر ) رواه الترمذي .
إثبات الميزان ، وفيه مباحث :
أولاً : تعريفه : هو ميزان حقيقي له كفتان .
ثانياً : أدلة ثبوته :
قال تعالى : { ونضع الموازين القسط ليوم القيامة } .
وقال تعالى : { فمن ثقلت موازينه فأولئك هم المفلحون } .
وحديث الباب ( .. تملأ الميزان .. ) .
والحديث السابق ( كلمتان ثقيلتان في الميزان ... ) .
ثالثاً : ما الذي يوزن ؟
وردت نصوص تدل على أن الذي يوزن هو العمل :
كحديث الباب ( والحمد الله تملأ الميزان ) .
وحديث ( كلمتان ثقيلتان في الميزان .. ) .
ووردت نصوص تدل على أن الذي يوزن هو العامل .
كقوله - صلى الله عليه وسلم - في ابن مسعود ( إن ساقيه أثقل من جبل أحد في الميزان ) رواه أحمد .
وقوله - صلى الله عليه وسلم - ( إنه ليأتي الرجل السمين يوم القيامة لا يزن عند الله جناح بعوضة ) متفق عليه .(1/63)
وورد أن الذي يوزن هي الصحائف :
كحديث البطاقة وفيه ( .... وتوضع السجلات في كفة والبطاقة في كفة ، فطاشت السجلات وثقلت البطاقة ، فلا يثقل مع اسم الله شيء ) رواه الترمذي .
والراجح أن الذي يوزن العمل ، وقد يوزن معه الصحف أو العامل .
رابعاً : هل هو ميزان واحد أم متعدد ؟
وردت نصوص تدل على أنه متعدد :
كقوله تعلى ( ونضع الموازين القسط ... ) وقوله تعالى ( فمن ثقلت موازينه ) .
ووردت نصوص بالإفراد :
كقوله - صلى الله عليه وسلم - ( كلمتان ثقيلتان في الميزان ) .
والراجح أنه ميزان واحد ، لكنه متعدد باعتبار الموزون .
خامساً : قال القرطبي : ” قال العلماء : إذا انقضى الحساب كان بعده وزن الأعمال ، لأن الوزن للجزاء ، فينبغي أن يكون بعد المحاسبة ، فإن المحاسبة لتقرير الأعمال ، والوزن لإظهار مقاديره ليكون الجزاء بحسبها “ .
فضل الصلاة وأنها نور .
قال تعالى { إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر } .
فهي نور في الدنيا كما قال تعالى { سيماهم في وجوههم من أثر السجود } .
وهي نور يوم القيامة ، قال - صلى الله عليه وسلم - ( من حافظ عليها [ أي الصلاة ] كانت له نوراً وبرهاناً ونجاة يوم القيامة ، ومن لم يحافظ عليها لم تكن له نوراً ولا برهاناً ولا نجاة وكان يوم القيامة مع قارون وفرعون وهامان وأبي بن خلف ) رواه أبو داود .
أن الصدقة دليل وبرهان على صحة إيمان صاحبها ، والسبب في ذلك أن المال محبوب للنفوس ، فإذا أنفقت منه فهذا دليل على صحة إيمانها بالله وتصديقها بوعده ووعيده .
وللصدقة فضائل كثيرة منها :
أولاً : أنها برهان على صحة الإيمان .
كما في حديث الباب .
ثانياً : أنها تطهير للنفس .
قال تعالى { خذ من أموالهم صدقة تطهرهم وتزكيهم بها وصل عليهم إن صلاتك سكن لهم } .
ثالثاً : أنها مضاعفة للحسنات .
قال تعالى { مثل الذين ينفقون أموالهم في سبيل الله كمثل حبة أنبتت سبع سنابل في كل سنبلة مائة حبة والله يضاعف لمن يشاء } .(1/64)
رابعاً : أنها تغفر الذنوب .
قال - صلى الله عليه وسلم - ( والصدقة تطفىء الخطيئة كما يطفىء الماء النار ) رواه الترمذي .
خامساً : درجة الجنة لا تنال إلا بالإنفاق .
قال تعالى { لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون } .
سادساً : أنها أمان من الخوف يوم الفزع الأكبر .
قال تعالى { الذين ينفقون أموالهم بالليل والنهار سراُ وعلانية فلهم أجرهم عند ربهم ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون } .
سابعاً : صاحب الصدقة موعود بالأجر الكبير .
قال تعالى { فالذين آمنوا وأنفقوا لهم أجر كبير } .
ثامناً : أن الله يخلف الصدقة .
قال تعالى { وما أنفقتم من شيء فهو يخلفه } .
تاسعاً : أن الصدقة تزيد المال .
قال - صلى الله عليه وسلم - ( ما نقصت صدقة من مال ) رواه مسلم .
عاشراً : أنها تظلل صاحبها يوم القيامة .
قال - صلى الله عليه وسلم - ( العبد في ظل صدقته يوم القيامة ) رواه أحمد .
ذم البخل .
فضل الصبر .
قال ابن رجب : ” ولما كان الصبر شاقاً على النفوس ، يحتاج إلى مجاهدة النفس ، وحبسها وكفها عما تهواه ، كان ضياء ، فلا نجاح في الدنيا ولا فلاح في الآخرة إلا بالصبر “ .
قال الغزالي : ” فلنسمِ هذه الصفة التي بها فارق الإنسانَ البهائم في قمع الشهوات وقهرها [ باعثاً دينياً ] ولنسمِ مطالبة الشهوات بمقتضياتها [ باعث الهوى ] وليفهم أن القتال قائم بين باعث الدين وباعث الهوى ، والحرب بينهما سجال ، ومعركة هذا القتال قلب العبد ، ومدد باعث الدين من الملائكة الناصرين لحزب الله تعالى ، ومدد باعث الشهوات من الشياطين الناصرين لأعداء الله تعالى ، فالصبر عبارة عن ثبات باعث الدين في مقابلة باعث الشهوة ، فإن ثبت حتى قهره واستمر على مخالفة الشهوة فقد نصر حزب الله ، والتحق بالصابرين ، وإن تخاذل وضعف حتى غلبته الشهوة ولم يصبر في دفعها التحق بأتباع الشياطين “ .
والصبر ثلاثة أنواع :(1/65)
صبر على الطاعات – وصبر عن معاصي الله – وصبر على أقدار الله المؤلمة .
والصبر على الطاعات وعن المحرمات أفضل من الصبر على الأقدار المؤلمة .
أن القرآن إما أن يكون حجة للإنسان أو حجة عليه .
يكون حجة للإنسان : إذا اتبع أوامره وانتهى عند نواهيه وعمل به وأقام حدوده .
ويكون حجة على الإنسان : إذا ترك أمره ووقع في نواهيه وأعرض عنه .
قال تعالى { وننزل من القرآن ما هو شفاء ورحمة للمؤمنين ولا يزيد الظالمين إلا خساراً } .
قال ابن مسعود : ” القرآن شافع ومشفع ، فمن جعله أمامه قاده إلى الجنة ، ومن جعله خلف ظهره قاده إلى النار “ .
التحذير من الإعراض عن القرآن .
أن كل إنسان إما ساعٍ في هلاك نفسه أو فكاكها .
فمن سعى في طاعة الله فقد باع نفسه لله ، وأعتقها من عذابه ، ومن سعى في معصية الله فقد باع نفسه بالهوان وأوبقها بالآثام الموجبة لغضب الله وعقابه .
قال الحسن : ” المؤمن في الدنيا كالأسير يسعى في فكاك رقبته ، لا يأمن شيئاً حتى يلقى الله “ .
وقال : ” ابن آدم ! إنك تغدو وتروح في طلب الأرباح ، فليكن همك نفسك ، فإنك لن تربح مثلها أبداً “ .
وقال أبو بكر بن عياش : ” قال لي رجل مرة وأنا شاب : خلّص رقبتك ما استطعت في الدنيا من رق الآخرة ، فإن أسير الآخرة غير مفكوك أبداً ، قال : فوالله ما نسيتها بعد “ .
وكان بعض السلف يبكي ويقول : ” ليس لي نفسان ، إنما لي نفس واحدة ، إذا ذهبت لم أجد أخرى “ .
مجاهدة النفس على العمل الصالح .
التحذير من الأعمال السيئة .
الحديث الرابع والعشرون(1/66)
عن أبي ذر الغفاري . عن النبي - صلى الله عليه وسلم - فيما يرويه عن ربه عز وجل أنه قال ( يا عبادي إني حرَّمت الظلم على نفسي ، وجعلته بينكم محرماً فلا تَظالموا ، يا عبادي كلكم ضالٌ إلا من هديته فاستهدوني أهدكم ، يا عبادي كلكم جائعٌ إلا من أطعمته فاستطعموني أطعمكم ، يا عبادي كلكم عارٍ إلا من كسوته ، فاستكسوني أكسكم ، يا عبادي إنكم تخطئون بالليل والنهار وأنا أغفر الذنوب جميعاً فاستغفروني أغفر لكم . يا عبادي لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنَّكم كانوا على أتقى على قلب رجلٍ واحدٍ منكم ما زاد في ملكي شيئاً ، ولو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم كانوا على أفجر قلب رجلٍ واحدٍ منكم ما نقص في ملكي شيئاً ، ولو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم وقفوا على صعيدٍ واحد وسألني كل واحدٍ منكم مسألته ما نقص ذلك في ملكي إلا كما ينقص المخيط إذا أدخل في ماء البحر، فمن وجد خيراً فليحمد الله ، ومن وجد غير ذلك فلا يلومن إلا نفسه ) . رواه مسلم
---------------------------------------------------------
معاني الكلمات :
الظلم : وضع الشيء في غير موضعه .
فاستهدوني : اطلبوا مني الهداية .
صعيد واحد : أرض واحدة .
المخيط : الإبرة .
أحصيها لكم : أضبطها لكم .
الفوائد :
عظيم رحمة الله بعباده ورفقه بهم حيث ناداهم بهذا اللفظ [ يا عبادي ] المشعر بالرحمة والرفق والحث .
أن لفظ [ يا عبادي ] فيه تذكير للعباد بالحكمة التي من أجلها خلقوا وهي عبادة الله .
قال تعالى { وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون } .
وقال تعالى { ولقد بعثنا في كل أمة رسولاً أن اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت } .
وقد امتدح ربنا جل وعلا نبيه - صلى الله عليه وسلم - وأثنى عليه ووصفه في أشرف مقاماته بوصف العبودية :
فقال سبحانه في الإسراء :
{ سبحان الذي أسرى بعبده ليلاً من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى } .
وفي مقام الدعوة قال سبحانه :(1/67)
{ وأنه لما قام عبد الله يدعوه كادوا يكونون عليه لبداً } .
وفي مقام التحدي قال سبحانه :
{ وإن كنتم في ريب مما نزلنا على عبدنا فأتوا بسورة من مثله } .
تحريم الظلم على الله ، مع قدرته سبحانه وتعالى عليه .
قال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله : ” وإنما قلنا مع قدرته عليه ، لأنه لو كان ممتنعاً على الله لم يكن ذلك مدحاً ولا ثناءً إذ لا يثنى على الفاعل إلا إذا كان يمكنه أن يفعل أو لا يفعل “ .
أن الله لا يظلم لكمال عدله ، وهكذا كل نفي يأتي في صفات الله تعالى في الكتاب والسنة إنما هو لثبوت ضده .
كقوله تعالى { ولا يظلم ربك أحداً } لكمال عدله .
وقوله { لا يعزب عنه مثقال ذرة في السموات ولا في الأرض } لكمال علمه .
لا يعزب : لا يغيب .
وقوله { لا تأخذه سنة ولا نوم } لكمال قيوميته وحياته .
جاءت نصوص كثيرة تبين أن الله حرم على نفسه الظلم :
قال تعالى { وما أنا بظلام للعبيد } .
وقال تعالى { وما الله يريد ظلماً للعباد } .
وقال سبحانه { وما ربك بظلام للعبيد } .
وقال سبحانه { وما الله يريد ظلماً للعالمين } .
وقال سبحانه { إن الله لا يظلم الناس شيئاً } .
يجب على المسلم أن ينزه الله عن الظلم .
تحريم الظلم بين الناس لقوله ( فلا تظالموا ) .
والظلم ينقسم إلى أقسام :
القسم الأول : ظلم أكبر وهو الشرك .
قال تعالى عن لقمان { إن الشرك لظلم عظيم } .
القسم الثاني : ظلم العبد نفسه بالمعاصي .
القسم الثالث : ظلم العباد بعضهم بعضاً .
وهذا القسم هو المقصود بالحديث لقوله ( فلا تظالموا ) .
وقد جاءت نصوص كثيرة تبين تحريم الظلم :
قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : ( إن الظلم ظلمات يوم القيامة ) متفق عليه .
وقال - صلى الله عليه وسلم - ( من ظلم قيد شبر من الأرض طوقه من سبع أرضين ) متفق عليه .(1/68)
وقال- صلى الله عليه وسلم - ( من كانت عنده مظلمة لأخيه فليتحلل منها ، فإنه ليس ثم دينار ولا درهم من قبل أن يأخذ لأخيه من حسناته ، فإن لم يكن له حسنات أخذ من سيئات أخيه ، فطرحت عليه ) رواه البخاري .
والظلم ينقسم إلى قسمين :
أحدهما : منع ما يجب لهم من الحقوق وهو التفريط .
الثاني : فعل ما يضر به وهو العدوان .
وجوب العدل في جميع الأمور ، ( وللعدل فضائل ستأتي قريباً إن شاء الله ) .
أن الإنسان ضال إلا من هداه الله .
يجب سؤال الله الهداية ، وقد أمرنا الله أن نسأله إياها في أعظم سورة .
قال تعالى { اهدنا الصراط المستقيم } .
وكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول : ( اللهم إني أسألك الهدى والتقى والعفاف والغنى ) رواه مسلم .
وكان يقول أيضاً ( اهدني لما اختلف فيه من الحق بإذنك إنك تهدي من تشاء إلى صراط مستقيم ) .
وعلم الحسن أن يقول في قنوت الوتر ( اللهم اهدني فيمن هديت ) .
وأمر علياً أن يسأل الله السداد والهدى .
قال ابن القيم : ” فسؤال الهداية متضمن لحصول كل خير والسلامة من كل شر “ .
يجب على المسلم أن يعمل بأسباب الهداية وأن يحرص عليها .
قال ابن القيم : ” ولما كان سؤال الله الهداية إلى الصراط المستقيم أجل المطالب ، ونيله أشرف المواهب ، علّم الله عباده سؤاله ، وأمرهم أن يقدموا بين يده حمده والثناء عليه ، وتمجيده ، ثم ذكر عبوديتهم وتوحيدهم ، فهاتان وسيلتان إلى مطلوبهم “ .
الحذر من الأسباب التي تعيق الإنسان عن الهداية .
قال ابن القيم : ” ولينظر إلى الشبهات والشهوات التي تعوقه عن سيره على هذا الصراط ، فإنها الكلاليب التي بجنبتي ذاك الصراط ، تخطفه وتعوقه عن المرور عليه “ .
بطلان قول من يقول : إذا كنا مهتدين ، فكيف نسأل الهداية ؟(1/69)
لأن المجهول لنا من الحق أضعاف المعلوم ، وما لا نريد فعله تهاوناً وكسلاً مثل ما نريده أو أكثر منه أو دونه ، وما لا نقدر عليه – مما نريده – كذلك ، وما نعرف جملته ولا نهتدي لتفاصيله ، أمر يفوق الحصر .
غنى الله سبحانه وتعالى ، وأن العباد كلهم مفتقرون إلى الله في جلب مصالحهم ودفع مضارهم في أمور دينهم ودنياهم .
قال تعالى { ما يفتح الله للناس من رحمة فلا مممسك لها وما يمسك فلا مرسل له من بعده وهو العزيز الحكيم } .
وقال تعالى { وما من دابة في الأرض إلا على الله رزقها } .
وقال تعالى { الله الذي خلقكم ثم رزقكم ثم يميتكم ثم يحييكم هل من شركائكم من يفعل من ذلكم من شيء سبحانه وتعالى عما يشركون } .
إثبات غنى الله سبحانه وتعالى .
أن ابن آدم كثير الخطأ .
كما قال تعالى { وحملها الإنسان إنه كان ظلوماً جهولاً } .
وقال - صلى الله عليه وسلم - ( كل ابن آدم خطاء ، وخير الخطائين التوابون ) رواه الترمذي .
وفي حديث الباب ( .. إنكم تخطئون بالليل والنهار .. ) .
كرم الله وإحسانه حيث دعا عباده _ مع ظلمهم بالمعاصي والذنوب _ إلى عفوه وغفرانه .
فقال تعالى { نبىء عبادي أني أنا الغفور الرحيم } .
وقال سبحانه { قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله إن الله يغفر الذنوب جميعاً } .
وقال سبحانه { والذين إذا فعلوا فاحشة أو ظلموا أنفسهم ذكروا الله فاستغفروا لذنوبهم ومن يغفر الذنوب إلى الله ولم يصروا على ما فعلوا وهم يعلمون } .
وجوب الاستغفار من الذنوب كلها .
لقوله ( فاستغفروني أغفر لكم ) .
وقال تعالى { واستغفر لذنبك } .
وقال تعالى { واستغفر الله إن الله كان غفوراً رحيماً } .
وقال سبحانه { فسبح بحمد ربك واستغفره إنه كان تواباً } .
وقال - صلى الله عليه وسلم - ( أني لأستغفر الله في اليوم مائة مرة ) رواه مسلم .(1/70)
وقال - صلى الله عليه وسلم - ( والله إني لأستغفر الله وأتوب إليه في اليوم أكثر من سبعين مرة ) رواه البخاري .
والاستغفار يكون على وجهين :
الوجه الأول : طلب المغفرة بلفظ : اللهم اغفر لي ، أو أستغفر الله .
الوجه الثاني : طلب المغفرة بالأعمال الصالحة التي تكون سبباً لذلك .
كمال سلطان الله وغناه عن خلقه لقوله عز وجل ( إنكم لن تبلغوا ضري ... ولن تبلغوا نفعي ) .
قال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله ” وذلك لكمال سلطانه عز وجل وكمال غناه ، فكأنه تعالى قال : إنما طلبت منكم الاستغفار من الذنوب لا لحاجتي لذلك ولا لتضرري بمعاصيكم ولكن المصلحة لكم “ .
قال ابن رجب رحمه الله : ” يعني أن العباد لا يقدرون أن يوصلوا إلى الله نفعاً ولا ضراً ، فإن الله تعالى في نفسه غني حميد ، لا حاجة له بطاعات العباد ، ولا يعود نفعها إليه ، وإنما هم ينتفعون بها ، ولا يتضرر بمعاصيهم وإنما هم يتضررون بها “ .
قال تعالى : { ولا يحزنك الذين يسارعون في الكفر إنهم لن يضروا الله شيئاً } .
وقال تعالى { ومن ينقلب على عقبيه فلن يضر الله شيئاً } .
وقال تعالى { وإن تكفروا فإن لله ما في السماوات وما في الأرض وكان الله غنياً حميداً } .
وقال حاكياً عن موسى { ومن كفر فإن الله غني عن العالمين } .
والمعنى أنه تعالى يحب من عباده أن يتقوه ويطيعوه كما أنه يكره منهم أن يعصوه ، ولهذا يفرح بتوبة التائبين أشد من فرح من ضلت راحلته التي عليها طعامه وشرابه بفلاة من الأرض ، وطلبها حتى أعيى وأيس منها ، واستسلم للموت ، وأيس من الحياة ، ثم غلبته عينه فنام ، واستيقظ وهي قائمة عنده ، وهذا أعلى ما يتصوره المخلوق من الفرح ، هذا كله مع غناه عن طاعات عباده وتوباتهم إليه ، وإنه إنما يعود نفعها إليهم دونه ، ولكن هذا من كمال جوده وإحسانه إلى عباده ، ومحبته لنفعهم ودفع الضر عنهم .(1/71)
أن ملك الله لا يزيد بطاعة الخلق ، ولو كانوا كلهم بررة أتقياء قلوبهم على أتقى رجل منهم ، ولا ينقص ملكه بمعصية العاصين ، ولو كان الجن والإنس كلهم عصاة فجرة قلوبهم على أفجر رجل منهم .
كمال ملك الله وكمال قدرته ، وأن ملكه وخزائنه لا تنفذ بالعطاء ، ولو أعطى الأولين والآخرين من الجن والإنس جميع ما سألوه في مقام واحد .
ففي الصحيحين عن أبي هريرة . عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال ( يد الله ملأى لا تغيضها نفقة سحاء الليل والنهار ، أفرأيتم ما أنفق ربكم منذ خلق السموات والأرض ، فإنه لن يغيض ما في يمينه ) .
وقال تعالى { ما عندكم ينفد وما عند الله باق } .
أن الله يحصي أعمال العباد ويضبطها ، فلا يظلم عنده أحد .
قال تعالى { ما يلفظ من قول إلا لديه رقيب عتيد } .
وقال تعالى { فمن يعمل مثقال ذرة خيراً يره ، ومن يعمل مثقال ذرة شراً يره } .
وقال تعالى { ووجدوا ما عملوا حاضراً ولا يظلم ربك أحداً } .
وقال سبحانه { يوم يبعثهم جميعاً فينبئهم بما عملوا أحصاه الله ونسوه } .
وقال سبحانه { من عمل صالحاً فلنفسه ومن أساء فعليها } .
أن الله يوفي عباده يوم القيامة على حسب أعمالهم فلا يظلم عنده أحداً .
قال تعالى { إنما توفون أجوركم يوم القيامة } .
وقال تعالى { ومن يعمل سوءاً يجز به } .
وجوب حمد الله على من وجد خيراً ، لأن الله يسرها عليه ، ثم أثابه عليها .
التحذير ممن تخلف عن العمل الصالح .
أن الجن مكلفون .
أهمية القلب ، لأن الأصل في التقوى والفجور القلوب .
طلب الرزق من الله الذي في السماء .
أن الاستغفار من أسباب المغفرة .
حفظ الله للأعمال .
الجزاء من جنس العمل .
محاسبة النفس على التفريط .
الحديث الخامس والعشرون(1/72)
عن أبي ذر ( أن ناساً من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قالوا للنبي - صلى الله عليه وسلم - : يا رسول الله ! ذهب أهل الدثور بالأجور ، يصلون كما نصلي ، ويصومون كما نصوم ، ويتصدقون بفضول أموالهم ، قال : أوَ ليس قد جعل الله لكم ما تصَّدَّقون ؟ إن لكم بكل تسبيحة صدقة وكل تكبيرة صدقة ، وكل تحميدة صدقة ، وكل تهليلة صدقة ، وأمر بالمعروف صدقة ، ونهي عن منكر صدقة ، وفي بضع أحدكم صدقة . قالوا : يا رسول الله ، أيأتي أحدنا شهوته ويكون له فيها أجر ؟ قال : أرأيتم لو وضعها في حرام ، أكان عليه وزر ؟ فكذلك إذا وضعها في الحلال كان له أجر ) رواه مسلم .
---------------------------------------------------------
معاني الكلمات :
الدثور : الأموال .
بفضول أموالهم : أي أموالهم الزائدة عن كفايتهم وحاجتهم .
بضع : البضع الجماع .
الفوائد :
رغبة الصحابة رضي الله عنهم الشديدة في الخير ، وتنافسهم بالأعمال الصالحة ، ففي هذا الحديث أن الفقراء جاءوا إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - وبينوا له أن إخوانهم الأغنياء قد سبقوهم ببعض الأعمال الصالحة ، وذلك أن عندهم فضل من مال ، فيحجون ويعتمرون ويتصدقون ويجاهدون ، وهم لا يستطيعون ذلك ، فما السبيل للحاق بهم ؟
وهذا هو التنافس الشريف .
قال تعالى { وفي ذلك فليتنافس المتنافسون } .
وقال تعالى { لمثل هذا فليعمل العاملون } .
قال ابن القيم : ” ...... كما كان أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يتنافسون في الخير ويفرح بعضهم ببعض باشتراكهم فيه ، بل يحض بعضهم بعضاً ، وهي نوع من المسابقة ، وقد قال تعالى : { سابقوا إلى مغفرة من ربكم وجنة عرضها السموات والأرض } “ .
الحزن على ما فات من الأعمال الصالحة ، وهذا كان دأب الصحابة رضوان الله عليهم .
أمثلة تدل على ذلك :
أولاً : ما جاء في حديث الباب : حيث كان الفقراء يحزنون على ما يتعذر عليهم فعله من الخير مما يقدر عليه غيرهم .(1/73)
ثانياً : الحزن على التخلف عن الخروج في الجهاد لعدم القدرة على آلته .
كما قال تعالى { ولا على الذين إذا ما أتوك لتحملهم قلت لا أجد ما أحملكم عليه تولوا وأعينهم تفيض من الدمع حزناً ألا يجدوا ما ينفقون } .
ثالثاً : التأسف على فعل الطاعة .
فإن ابن عمر لما بلغه حديث ( من شهد الجنازة حتى تدفن فله قيراط ، ومن شهدها حتى يصلى عليها فله قيراطان ) قال : لقد فرطنا في قراريط كثيرة .
ينبغي على المسلم المسارعة إلى الخيرات والأعمال الصالحات .
كما قال تعالى { وسارعوا إلى مغفرة من ربكم وجنة عرضها السموات والأرض } .
وقال تعالى { فاستبقوا الخيرات } .
وقال تعالى { يسارعون في الخيرات وهم لها سابقون } .
وقال - صلى الله عليه وسلم - ( إذا قامت الساعة وفي يد أحدكم فسيلة فإن استطاع أن لا يقوم حتى يغرسها فليغرسها ) رواه أحمد .
الحث على علو الهمة .
قال - صلى الله عليه وسلم - ( إن الله يحب معالي الأمور ويكره سفسافها ) رواه الطبراني .
وقال - صلى الله عليه وسلم - ( لو يعلم الناس ما في النداء والصف الأول ثم لم يجدوا إلا أن يستهموا عليه لاستهموا ) متفق عليه .
وقال - صلى الله عليه وسلم - ( إذا سأل أحدكم فليكثر ، فإنما يسأل ربه ) رواه ابن حبان .
وقال - صلى الله عليه وسلم - ( إذا سألتم الله فاسألوه الفردوس الأعلى ) رواه البخاري .
وقال - صلى الله عليه وسلم - ( لأعطين الراية غداً رجلاً يحب الله ورسوله ويحبه الله ورسوله ، يفتح الله على يديه ، قال عمر : ما أحببت الإمارة إلا يومئذ ) رواه البخاري .
وعن ربيعة بن كعب قال ( كنت أبيت مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأتيته بوضوئه وحاجته ، فقال لي : سلني ، فقلت : أسألك مرافقتك في الجنة ، قال : فأعني على نفسك بكثرة السجود ) رواه مسلم .
استدل بحديث الباب من قال إن الغني الشاكر أفضل من الفقير الصابر ، وهذه مسألة اختلف فيها العلماء على قولين :(1/74)
القول الأول : أن الغني الشاكر أفضل من الفقير الصابر .
لحديث الباب حيث قال ( ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء ) .
القول الثاني : الفقير الصابر .
لقوله - صلى الله عليه وسلم - ( يدخل الفقراء قبل الأغنياء بخمسمائة عام ) .
ولقوله - صلى الله عليه وسلم - ( اطلعت في الجنة فرأيت أكثر أهلها الفقراء ) رواه مسلم .
واختار شيخ الإسلام ابن تيمية أن من كان تقياً فهو أفضل .
سعة فضل الله ورحمته حيث جعل أبواب الخير كثيرة .
فضل الصدقة بالمال .
أن العمل الصالح صدقة ، وقد قال - صلى الله عليه وسلم - ( كل معروف صدقة ) .
وجاء في روايات للحديث ( تبسمك في وجه أخيك صدقة ، وأمرك بالمعروف ونهيك عن المنكر صدقة ، وإرشادك الرجل في أرض الضلال لك صدقة ، وإماطتك الحجر والشوك والعظم عن الطريق لك صدقة ، وإفراغك من دلو أخيك لك صدقة ) .
وعند ابن حبان ( ليس من نفس ابن آدم إلا عليها صدقة ، في كل يوم طلعت فيه الشمس ، قيل : يا رسول الله : ومن أين لنا صدقة نتصدق بها ؟ قال : إن أبواب الجنة لكثيرة ، التسبيح والتحميد والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وتميط الأذى عن الطريق ، وتسمع الأصم ، وتهدي الأعمى ، وتدل المستدل على حاجته ، وتسعى بشدة ساقيك مع اللهفان المستغيث ، وتحمل بشدة ذراعيك مع الضعيف ، فهذا كله صدقة منك على نفسك ) .
قال ابن رجب رحمه الله : ” والصدقة بغير المال نوعان :
أحدهما : ما فيه تعدية الإحسان إلى الخلق فتكون صدقة عليهم ، وربما كان أفضل من الصدقة بالمال .
وهذا كالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، فإنه دعا إلى طاعة الله ، وكف عن معاصيه ، وذلك خير من النفع بالمال ، وكذلك تعليم العلم النافع ، وإقراء القرآن ، وإزالة الأذى عن الطريق ، والسعي في جلب النفع للناس ، ودفع الأذى عنهم .
الثاني : من الصدقة التي ليست مالية ما نفعه قاصر على فاعله ، كأنواع الذكر من التكبير والتحميد والتهليل والاستغفار “ .(1/75)
فضل ذكر الله وأنه صدقة على النفس .
فضل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ( وستأتي مباحثه إن شاء الله ) .
تحريم الزنا .
أن إتيان الحلال استغناء عن الحرام يجعل الحلال قربة وصدقة .
قال النووي رحمه الله : ” وفي هذا دليل على أن المباحات تصير طاعات بالنيات الصادقات ، فالجماع يكون عبادة إذا نوى به قضاء حق الزوجة ومعاشرتها بالمعروف الذي أمر الله به ، أو طلب ولد صالح ، أو إعفاف نفسه ، أو إعفاف الزوجة ومنعهما جميعاً من النظر إلى الحرام أو الفكر فيه ، أو الهم به أو غير ذلك من المقاصد الصالحة “ .
جواز القياس .
الحث على السؤال عما ينتفع به المسلم ويترقى به في مراتب الكمال .
الحديث السادس والعشرون
عن أبي هريرة . قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ( كل سلامى من الناس عليه صدقة ، كل يوم تطلع فيه الشمس تعدل بين اثنين صدقة ، وتعين الرجل في دابته فتحمله عليها أو ترفع له متاعه صدقة ، والكلمة الطيبة صدقة ، وبكل خطوة تمشيها إلى الصلاة صدقة ، وتميط الأذى عن الطريق صدقة ) رواه البخاري ومسلم .
---------------------------------------------------------
معاني الكلمات :
سلامى : السلام : عظام الكف والأصابع والأرجل ، والمراد في هذا الحديث جميع أعضاء جسم الإنسان ومفاصله ، وهي ثلاثمائة وستون مفصلاً ، كما قال - صلى الله عليه وسلم - ( خلق الإنسان على ستين وثلاثمائة مفصل ) .
الناس : أي البشر ، وسموا ناساً من الإيناس أو النسيان .
صدقة : أجر .
الفوائد :
أن على الإنسان كل يوم تطلع فيه الشمس عن كل عضو من أعضائه صدقة .
وهذا سهل ، فإنه يستطيع أن يأتي بهذا الديْن بالتسبيح والتهليل والتكبير ، وجاء في رواية ( ويجزىء من ذلك ركعتان من الضحى ) .
فضيلة العدل بين الناس . والعدل له فضائل :
أولاً : أن الله أمر به .
فقال تعالى { إن الله يأمر بالعدل والإحسان .... } .
ثانياً : أن الله يحب أهله .(1/76)
قال سبحانه { وأقسطوا إن الله يحب المقسطين } .
ثالثاً : على منابر من نور .
قال - صلى الله عليه وسلم - ( إن المقسطين عند الله على منابر من نور الذين يعدلون في حكمهم وأهليهم وما ولوا ) رواه مسلم .
رابعاً : في ظل الله يوم القيامة .
قال - صلى الله عليه وسلم - ( سبعة يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله : إمام عادل ... ) متفق عليه .
فضيلة الصلح بين الناس ، وأنه من أعظم الأعمال .
قال تعالى { والصلح خير } .
وقال تعالى { لا خير في كثير من نجواهم إلا من أمر بصدقة أو معروف أو إصلاح بين الناس } .
وقال - صلى الله عليه وسلم - ( ألا أخبركم بأفضل من درجة الصلاة والصيام والصدقة ؟ قالوا : بلى ؟ قال : إصلاح ذات البين ) رواه أحمد .
وقال تعالى { واتقوا الله وأصلحوا ذات بينكم } .
وقال تعالى { وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا بينهما } .
وعن سهل بن سعد . ( أن أهل قباء اقتتلوا حتى تراموا بالحجارة ، فأخبر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بذلك فقال : اذهبوا بنا نصلح بينهم ) رواه البخاري .
من أقوال السلف :
قال أنس : ” من أصلح بين اثنين أعطاه الله بكل كلمة عتق رقبة “ .
وقال أبو أمامة : ” امش ميلاً وعد مريضاً ، وامش ميلين وزر أخاً في الله ، وامش ثلاثة أميال وأصلح بين اثنين “ .
وقال بعض العلماء : ” من أراد فضل العابدين فليصلح بين الناس ، ولا يوقع بينهم العداوة والبغضاء “ .
الحث على معاونة الإنسان لأخيه المسلم ، فيعينه في دابته فيحمله عليها أو يرفع له عليها متاعه .
وهذا مثال ذكره النبي - صلى الله عليه وسلم - ، والأمثلة كثيرة جداً .
قال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله : ” لو وجدت إنساناً على الطريق وطلب منك أن تحمله إلى البلد وحملته ، فإنه يدخل من باب أولى “ .
ولكن هل يجب عليك أن تحمله أو لا يجب ؟(1/77)
الجواب : إن كان في مهلكة وأمنت منه وجب عليك أن تحمله وجوباً لإنقاذه من الهلكة ، فإن لم تأمن من هذا الرجل فلا يلزمك أن تحمله ، مثل تخاف أن يغتالك .
وللتعاون فضائل :
أولاً : حث الله عليه .
قال تعالى { وتعاونوا على البر والتقوى } .
ثانياً : أنه سبب للقوة .
قال تعالى { ولا تنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحكم } .
ثالثاً : أنه سبب لمعونة الله للعبد .
قال - صلى الله عليه وسلم - ( من كان في حاجة أخيه كان الله في حاجته ) رواه مسلم .
فضل الكلمة الطيبة وأنها صدقة .
كالسلام – ورد السلام – وتشميت العاطس – وذكر الله – والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وغيرها .
والكلام الطيب هو الذي يقبل عند الله ، كما قال تعالى { إليه يصعد الكلم الطيب والعمل الصالح يرفعه } .
فضل المشي إلى المساجد ، ففي كل خطوة صدقة .
والمشي إلى المساجد فضله عظيم .
أولاً : أن كل خطوة إلى المسجد صدقة .
كما في حديث الباب .
ثانياً : أنه من أسباب محو الخطايا .
قال - صلى الله عليه وسلم - ( ألا أدلكم على ما يمحو الله به الخطايا ويرفع به الدرجات ، قالوا : بلى ، قال : إسباغ الوضوء على المكاره ، وكثرة الخطا إلى المساجد ، وانتظار الصلاة بعد الصلاة ) رواه مسلم .
ثالثاً : أن كل خطوة تمحو سيئة وأخرى تكتب حسنة .
قال - صلى الله عليه وسلم - ( من راح إلى مسجد الجماعة فخطوة تمحو سيئة ، وخطوة تكتب له حسنة ) رواه النسائي .
وفي رواية ( فرجل تكتب له حسنة ، ورجل تحط عنه سيئة حتى يرجع ) .
فضل إماطة الأذى عن الطريق ، وأنه صدقة . ولإماطة الأذى فضائل :
أولاً : أنه صدقة .
لحديث الباب .
ثانياً : من علامات الإيمان .
قال - صلى الله عليه وسلم - ( الإيمان بضع وسبعون شعبة ، فأفضلها قول : لا إله إلا الله ، وأدناها إماطة الأذى عن الطريق ) رواه مسلم .
ثالثاً : أنه من أسباب دخول الجنة .(1/78)
عن أبي هريرة . قال : قال - صلى الله عليه وسلم - ( لقد رأيت رجلاً يتقلب في الجنة ، في شجرة قطعها من ظهر الطريق كانت تؤذي المسلمين ) رواه مسلم .
رابعاً : من أسباب المغفرة .
قال - صلى الله عليه وسلم - ( بينما رجل يمشي بطريق وجد غصن شوك على الطريق ، فأخره فشكر الله له ، فغفر له ) متفق عليه .
فضل صلاة الجماعة .
كثرة طرق الخير .
التحذير من الكلام غير الطيب .
الحرص على خدمة المسلمين .
الحديث السابع والعشرون
عن النواس بن سمعان عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال ( البر حسن الخلق ، والإثم ما حاك في نفسك وكرهت أن يطلع عليه الناس ) رواه مسلم
وعن وابصة بن معبد قال ( أتيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال : أجئت تسأل عن البر والإثم ؟ قلت : نعم ، قال : استفت قلبك ، البر ما اطمأنت إليه النفس ، واطمأن إليه القلب ، والإثم ما حاك في النفس وتردد في الصدر وإن أفتاك الناس وأفتوك ) .رواه أحمد والدارمي .
---------------------------------------------------------
معاني الكلمات :
البر : اسم جامع للخير .
حسن الخلق : التحلي بالفضائل وترك الرذائل .
الإثم : الذنب .
ما حاك في نفسك : أي لم يسكن إليه القلب .
الفوائد :
الحث على حسن الخلق ، وأنه من أعظم خصال البر .
في الحديث بعض علامات الإثم :
أولاً : قلق القلب واضطرابه ، لقوله ( والإثم ما حاك في صدرك ) .
ثانياً : كراهة اطلاع الناس عليه ، لقوله ( وكرهت أن يطلع عليه الناس ) .
قال ابن رجب : في قوله ( الإثم ما حاك في .... ) :
” إشارة إلى أن الإثم ما أثر في الصدر حرجاً وضيقاً وقلقاً واضطراباً فلم ينشرح له الصدر ، ومع هذا فهو عند الناس مستنكر بحيث ينكرونه عند اطلاعهم عليه ، وهذا أعلى مراتب معرفة الإثم عند الاشتباه ، وهو ما استنكر الناس فاعله وغير فاعله “ .
أن صاحب القلب السليم ، يضطرب قلبه ويخاف عند فعل الحرام أو الشك به .(1/79)
قال ابن رجب : ” فدل حديث وابصة وما في معناه على الرجوع إلى القلوب عند الاشتباه مما سكن إليه القلب ، وانشرح إليه الصدر ، فهو البر والحلال ، وما كان خلاف ذلك فهو الإثم والحرام “ .
أن الله فطر عباده على معرفة الحق والسكون إليه .
أن ما حاك في صدر الإنسان فهو إثم وإن أفتاه غيره بأنه ليس بإثم .
قال ابن رجب رحمه الله : ” وهذه مرتبة ثانية ، وهو أن يكون الشيء مستنكراً عند فاعله دون غيره وقد جعله أيضاً إثماً ، وهذا إنما يكون إذا كان صاحبه ممن شرح صدره للإيمان ، وكان المفتي يفتي له بمجرد ظن أو ميل إلى هوى من غير دليل شرعي ، أما إذا كان فتوى المفتي تستند إلى دليل شرعي فيجب على المرء أن يتقيد بها وإن لم يطمئن قلبه ، قال تعالى { فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجاً مما قضيت ويسلموا تسليماً } “ .
معجزة الرسول - صلى الله عليه وسلم - ، حيث أخبر وابصة بما في نفسه قبل أن يتكلم به .
أن الدين وازع ومراقب داخلي .
أن الدين يمنع من اقتراف الإثم .
طمأنينة القلب السليم للخير .
نفور القلب السليم من الشر .
بلاغة النبي - صلى الله عليه وسلم - .
الحديث الثامن والعشرون
عن أبي نجيح العرباض بن سارية قال ( وعظنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - موعظة وجلت منها القلوب ، وذرفت منها العيون ، فقلنا : يا رسول الله ! كأنها موعظة مودع فأوصنا . قال : أوصيكم بتقوى الله عز وجل ، والسمع والطاعة ، وإن تأمر عليكم عبد ، فإنه من يعش منكم فسيرى اختلافاً كثيراً ، فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي ، عضوا عليها بالنواجذ ، وإياكم ومحدثات الأمور ، فإن كل بدعة ضلالة ) رواه أبو داود والترمذي .
-----------------------------------------------------
معاني الكلمات :
وعظنا : الموعظة التذكير المقرون بالتخويف .
وجلت : خافت .
وذرفت : سالت .
بالنواجذ : أقصى الأضراس .
الفوائد :(1/80)
مشروعية الموعظة . والموعظة فيها مباحث :
أولاً : مشروعيتها .
لقوله تعالى { وعظهم وقل لهم في أنفسهم قولاً بليغاً } .
وقوله تعالى { ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة } .
ولحديث الباب ( وعظنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ) .
وعن جابر قال ( شهدت مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - العيد ، فبدأ بالصلاة قبل الخطبة ، ثم قام متوكئاً على بلال ، فأمر بتقوى الله ، وأمر بطاعته ، ووعظ الناس وذكرهم ) متفق عليه .
ثانياً : أن لا يديم الموعظة بل يتخولهم .
عن ابن مسعود قال ( كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يتخولنا بالموعظة في الأيام مخافة السآمة علينا ) رواه البخاري .
يتخولنا : يتعاهدنا .
والمعنى : كان يراعي الأوقات في تذكيرنا ، ولا يفعل ذلك كل يوم لئلا نمل .
ثالثاً : أن لا يطيل في الموعظة .
قال - صلى الله عليه وسلم - ( إن طول صلاة الرجل وقصر خطبته مئنة من فقهه ) رواه مسلم .
وعند أبي داود ( كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لا يطيل الموعظة يوم الجمعة ، إنما هي كلمات يسيرات ) .
مئنة : دليل وعلامة .
رابعاً : أن تكون بليغة .
لقوله في الحديث ( وعظنا موعظة بليغة .. ) .
قال ابن رجب : ” والبلاغة هي التوصل إلى إفهام المعاني المقصودة ، واتصالها إلى قلوب السامعين بأحسن صورة من الألفاظ الدالة عليها وأفصحها وأحلاها للأسماع وأوقعها في القلوب “ .
أن من صفات المؤمنين عند سماع المواعظ ، البكاء والخوف .
قال ابن رجب رحمه الله : ” هذان الوصفان بهما مدح الله المؤمنين عند سماع الذكر “ .
كما قال تعالى { إنما المؤمنون الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم وإذا تليت عليهم آياته زادتهم إيماناً } .
وقال سبحانه { ألم يأن للذين آمنوا أن تخشع قلوبهم لذكر الله وما نزل من الحق } .
وقال تعالى { الله نزل أحسن الحديث كتاباً متشابهاً مثاني تقشعر منه جلود الذين يخشون ربهم ثم تلين جلودهم وقلوبهم إلى ذكر الله } .(1/81)
وقال تعالى { وإذا سمعوا ما أنزل إلى الرسول ترى أعينهم تفيض من الدمع مما عرفوا من الحق } .
فضل البكاء من خشية الله . وللبكاء من خشية الله فضائل :
أولاً : سبب للنجاة من النار .
قال - صلى الله عليه وسلم - ( لن يلج النار رجل بكى من خشية الله حتى يعود اللبن في الضرع ) رواه الترمذي .
وقال - صلى الله عليه وسلم - ( عينان لا تمسهما النار : عين بكت من خشية الله ، وعين باتت تحرس في سبيل الله ) رواه الترمذي .
ثانياً : البكاء مع الذكر سبب لإظلال الله للعبد .
قال - صلى الله عليه وسلم - ( سبعة يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله : .. ورجل ذكر الله خالياً ففاضت عيناه ) متفق عليه .
ثالثاً : أن البكاء من خشية الله سمة من سمات الصحابة .
كما في حديث الباب .
ولحديث أنس قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ( لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلاً ولبكيتم كثيراً ، قال : فغطى أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وجوههم ولهم خنين ) متفق عليه .
أمثلة على بكاء الصحابة :
ثبت في ترجمة عمر بن الخطاب أنه كان في وجهه خطان أسودان .
وكان عثمان إذا وقف على قبر يبكي حتى تبتل لحيته من البكاء .
ثبت عن ابن عمر أنه ما قرأ قول الله { ألم يأن للذين آمنوا أن تخشع قلوبهم لذكر الله } إلا بكى حتى يغلبه البكاء
فائدة .
قال أبو سليمان الداراني : ” لكل شيء علم ، وعلم الخذلان ترك البكاء من خشية الله “ .
تأثر الصحابة بالموعظة وشدة خوفهم من الله .
أن وصية المودع غالباً تكون أبلغ .
قال ابن رجب رحمه الله : ” فإن المودِّع يستقصي ما لم يستقص غيره في القول والفعل ، ولذلك أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يصلي صلاة مودع ، لأنه من استشعر أنه مودِع بصلاته أتقنها على أكمل وجوهها “ .
أن أهم وصية يوصي بها الإنسان هي تقوى الله ، لأنه هي سبب سعادة الدنيا والآخرة .(1/82)
والتقوى هي وصية الله للأولين والآخرين كما قال تعالى { ولقد وصينا الذين أوتوا الكتاب من قبلكم وإياكم أن اتقوا الله } .
وقال - صلى الله عليه وسلم - لمعاذ ( اتق الله حيثما كنت ) . [ وقد سبقت فضائل التقوى في حديث : 18 ] .
وجوب السمع والطاعة لولي الأمر ما لم يأمروا بمعصية ، وهذا واجب بالكتاب والسنة والإجماع .
قال تعالى { يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم } .
وقال - صلى الله عليه وسلم - ( من أطاعني فقد أطاع الله ، ومن عصاني فقد عصى الله ، ومن أطاع أميري فقد أطاعني ، ومن عصا أميري فقد عصاني ) رواه البخاري .
وعن أبي ذر قال ( إن خليلي أوصاني أن أسمع وأطيع وإن كان عبداً حبشياً مجدع الأطراف ) متفق عليه .
وفي الصحيحين قال - صلى الله عليه وسلم - ( على المرء المسلم السمع والطاعة فيما أحب وكره ، إلا أن يؤمر بمعصية ، فإن أمر بمعصية فلا سمع ولا طاعة ) .
وقال - صلى الله عليه وسلم - ( من رأى من أميره شيئاً يكرهه فليصبر ، فإنه من فارق الجماعة شبراً فمات ، فميتة جاهلية ) .
قال شارح الطحاوية : ” أما لزوم طاعتهم وإن جاروا ، فلأنه يترتب على الخروج عن طاعتهم من المفاسد أضعاف ما يحصل من جورهم ، بل في الصبر على جورهم تكفير السيئات ، ومضاعفة الأجور ، فإن الله تعالى ما سلطهم علينا إلا لفساد أعمالنا ، والجزاء من جنس العمل “ .
وقال ابن رجب : ” وأما السمع والطاعة لولاة أمور المسلمين ، ففيها سعادة الدنيا ، وبها تنتظم مصالح العباد في معاشهم ، وبها يستعينون على إظهار دينهم وطاعة ربهم “ .
معجزة للنبي - صلى الله عليه وسلم - حيث وقع ما أخبر به من الاختلاف والفرقة .
وهذا مصداق لقوله - صلى الله عليه وسلم - ( ستفترق هذه الأمة على ثلاث وسبعين فرقة ) رواه أبو داود .
العلاج عند الاختلاف ، وهو التمسك بالسنة لقوله ( فعليكم بسنتي ) .(1/83)
قال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله : ” أنه يجب على الإنسان أن يتعلم سنة النبي - صلى الله عليه وسلم - ، وجه ذلك : أنه لا يمكن لزومها إلا بعد علمها وإلا فلا يمكن “ .
أن للخلفاء الراشدين سنة متبعة .
لقوله ( وسنة الخلفاء الراشدين ) .
ولقوله - صلى الله عليه وسلم - أيضاً ( اقتدوا بالذين من بعدي أبي بكر وعمر ) رواه الترمذي .
والخلفاء الراشدون الذين أمرنا بالاقتداء بهم هم : أبو بكر ، وعمر ، وعثمان ، وعلي .
قال ابن رجب : ” وإنما وصف الخلفاء بالراشدين لأنهم عرفوا الحق وقضوا به “ .
التحذير من البدع . ( وقد سبق ما يتعلق بالبدع في الحديث رقم : 5 ) .
أن جميع البدع ضلالة .
قال ابن رجب رحمه الله : ” هذا من جوامع الكلم ، لا يخرج عنه شيء ، وهو أصل عظيم من أصول الدين ، وهو شبيه بقوله - صلى الله عليه وسلم - ( من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد ) ، فكل من أحدث شيئاً ونسبه إلى الدين ولم يكن له أصل من الدين يرجع إليه فهو ضلالة والدين برىء منه ، وسواء في ذلك مسائل الاعتقادات ، أو الأعمال ، أو الأقوال الظاهرة والباطنة “ .
الحديث التاسع والعشرون(1/84)
عن معاذ بن جبل قال ( قلت يا رسول الله أخبرني بعمل يدخلني الجنة ويباعدني من النار ، قال : لقد سألت عن عظيم ، وإنه ليسير على من يسره الله تعالى عليه ، تعبد الله لا تشرك به شيئاً ، وتقيم الصلاة ، وتؤتي الزكاة ، وتصوم رمضان ، وتحج البيت ، ثم قال : ألا أدلك على أبواب الخير ؟ الصوم جنة ، والصدقة تطفىء الخطيئة كما يطفىء الماء النار وصلاة الرجل في جوف الليل ثم تلا { تتجافى جنوبهم عن المضاجع .. حتى بلغ .. يعملون } ثم قال : ألا أخبرك برأس الأمر وعموده وذروة سنامه ؟ قلت : بلى يا رسول الله ، قال : رأس الأمر الإسلام ، وعموده الصلاة ، وذروة سنامه الجهاد ، ثم قال : ألا أخبرك بملاك ذلك كله ؟ قلت : بلى يا رسول الله ، فأخذ بلسانه وقال : كف عليك هذا ، قلت : يا نبي الله ! وإنا لمؤاخذون بما نتكلم به ؟ فقال : ثكلتك أمك يا معاذ ، وهل يكب الناسَ في النار على وجوههم أو قال على مناخرهم إلا حصائد ألسنتهم ) رواه الترمذي وقال حديث حسن صحيح .
-----------------------------------------------------
معاني الكلمات :
جنة : وقاية .
جوف الليل : وسطه .
تتجافى : تبتعد .
يكب : يلقى .
الفوائد :
شدة اهتمام معاذ بالأعمال الصالحة .
أن الأعمال سبب لدخول الجنة ، كما قال تعالى { وتلك الجنة التي أورثتموها بما كنتم تعملون } .
لكن ما الجواب عن قوله - صلى الله عليه وسلم - ( لن يدخل أحد منكم الجنة بعمله ) ؟
الجواب : قيل : النجاة من النار بعفو الله ، ودخول الجنة برحمته ، واقتسام المنازل والدرجات بالأعمال .
حرص الصحابة على السؤال عما يفيدهم وينفعهم . وهذا من علو همتهم ورفعتهم .
وهناك أمثلة كثيرة تدل على حرص الصحابة على السؤال الذي ينتفعون به :
فقد سأله صحابي : أي الإسلام خير ؟
وسأله آخر : أي العمل أفضل ؟
وسأله آخر : أي العمل أحب إلى الله ؟
وسأله آخر : أي الصلاة أفضل ؟
وقال له آخر : علمني دعاء أدعو به في صلاتي ؟(1/85)
وكانوا يسألون ليستفيدوا ويطبقوا ويعملوا ، بخلاف كثير من الناس في هذه الأزمان .
أن أعظم ما يسأل عنه هو أسباب دخول الجنة ، وأسباب الابتعاد عن النار ، لأن من دخل الجنة ونجا من النار فقد فاز الفوز العظيم .
قال تعالى { فمن زحزح عن النار وأدخل الجنة فقد فاز } .
وقد قال تعالى في صفات عباد الرحمن { والذين يقولون ربنا اصرف عنا عذاب جهنم إن عذابها كان غراماً } .
وكان أكثر دعاء النبي - صلى الله عليه وسلم - ( ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار ) .
وكان - صلى الله عليه وسلم - يدعو ( اللهم إني أعوذ بك من عذاب جهنم ) .
أن هذا السؤال يعتبر سؤال عظيم .
قال ابن رجب رحمه الله : ” وذلك لأن دخول الجنة والنجاة من النار أمر عظيم جداً ، ولأجله أنزل الله الكتب وأرسل الرسل ، وقال النبي - صلى الله عليه وسلم - لرجل : كيف تقول إذا صليت ؟ قال : أسأل الله الجنة ، وأعوذ به من النار ، ولا أحسن دندنتك ولا دندنة معاذ ، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - : حولها ندندن “ .
أن التوفيق كله بيد الله ، فمن يسر الله عليه الهداية اهتدى ، ومن لم ييسر عليه لم ييسر له .
قال تعالى { فأما من أعطى واتقى وصدق بالحسنى فسنيسره لليسرى . وأما من بخل واستغنى وكذب بالحسنى فسنيسره للعسرى } .
أنه ينبغي للإنسان أن يسأل الله أن ييسر له العمل الصالح .
وقد أخبر الله عن نبيه موسى أنه قال { رب اشرح لي صدري ويسر لي أمري } .
وأن يجتهد في تحصيل أسباب الهداية ، ومن اجتهد فقد وعد الله له بالهداية كما قال تعالى { والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا } .
قال ابن القيم : ” علق سبحانه الهداية بالجهاد ، فأكمل الناس هداية أعظمهم جهاداً ، وأفرض الجهاد جهاد النفس وجهاد الهوى ، وجهاد الشيطان ، وجهاد الدنيا “ .
أن أول الواجبات وأعظمها هو عبادة الله تعالى .
كما قال تعالى { يا أيها الناس اعبدوا ربكم الذي خلقكم } .(1/86)
وقال تعالى { وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون } .
وقال تعالى { ولقد بعثنا في كل أمة رسولاً أن اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت } .
وقال - صلى الله عليه وسلم - ( وحق الله على العباد : أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئاً ) .
أن أعظم الذنوب ، وأكبر الكبائر الشرك .
مباحث الشرك :
أولاُ : تعريفه : هو تسوية غير الله بالله فيما هو من خصائص الله . ( وهذا هو الشرك الأكبر ) .
وهو صرف شيء من أنواع العبادة لغير الله ، كدعاء غير الله والتقرب بالذبائح والنذور لغير الله من القبور والجن والشياطين ، والخوف من الموتى أو الجن أو الشياطين أن يضروه أو يمرضوه .
ثانياً : هو أعظم الظلم .
قال تعالى { إن الشرك لظلم عظيم } .
والظلم وضع الشيء في غير موضعه ، فمن عبد غير الله فقد وضع العبادة في غير موضعها وصرفها لغير مستحقها وذلك أعظم الظلم .
ثالثاً : أنه محبط للعمل .
قال تعالى { ولو أشركوا لحبط عنهم ما كانوا يعملون } .
رابعاً : لا يغفر الله لصاحبه إذا مات عليه .
قال تعالى { إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء } .
خامساً : أن الجنة حرام على المشرك .
قال تعالى { إنه من يشرك فقد حرم الله عليه الجنة ومأواه النار } .
أن القيام بأركان الدين سبب لدخول الجنة ( وقد سبق الكلام على أركان الإسلام في حديث رقم : 3 ) .
ينبغي للمسلم أن يحرص على معرفة أبواب الخير لكي يكثر منها .
قال ابن رجب رحمه الله : ” لما رتب دخول الجنة على واجبات الإسلام دله بعد ذلك على أبواب الخير من النوافل ، فإن أفضل أولياء المقربين الذين يتقربون إليه بالنوافل بعد أداء الفرائض“ .
فضل الصوم وأنه سبب للنجاة من النار . وللصوم فضائل :
أولاً : من أسباب النجاة من النار .
كما في حديث الباب .
وقال - صلى الله عليه وسلم - ( الصيام جنة ) متفق عليه ، وللنسائي ( جنة من النار ) .
وفي رواية للنسائي ( الصيام جنة كجنة أحدكم من القتال ) .(1/87)
ولأحمد ( جنة وحصن حصين من النار ) . والجنة : بضم الجيم الوقاية والستر .
وقال - صلى الله عليه وسلم - ( من صام يوماً في سبيل الله باعد الله وجهه عن النار سبعين خريفاً ) متفق عليه .
ثانياً : الصيام طريق إلى الجنة .
عن أبي أمامة . قال ( قلت : يا رسول الله ! دلني على عمل أدخل به الجنة ؟ قال : عليك بالصوم فإنه لا مثل له ) رواه النسائي .
ثالثاً : الصوم فضله عظيم اختص الله به .
عن أبي هريرة . قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ( قال الله تعالى : كل عمل ابن آدم له إلا الصوم فإنه لي وأنا أجزي به ) متفق عليه .
اختلف ما المراد بقوله ( إلا الصوم فإنه لي وأنا أجزي به ) مع أن الأعمال كلها له وهو الذي يجزي بها ؟
فقيل : إن الصوم لا يقع فيه الرياء كما يقع في غيره ، وقيل : وأنا أجزي به ، أي أتفرد بعلم مقدار ثوابه وتضعيف حسناته .
رابعاً : الصوم يشفع لصاحبه .
عن عبد الله بن عمرو . قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ( الصيام والقرآن يشفعان للعبد يوم القيامة ، يقول الصيام : أي رب ، منعته الطعام والشهوات بالنهار فشفعني فيه ) رواه أحمد .
فضل الصدقة وأنها سبب لمحو الخطايا ( وقد سبقت فضائل الصدقة في حديث رقم : 23 )
فضل صلاة الليل وأنها تطفىء الخطيئة كالصدقة . ولقيام الليل فضائل :
أولاً : أن الله مدح أهله .
قال تعالى { تتجافى جنوبهم عن المضاجع يدعون ربهم خوفاً وطمعاً } .
ثانياً : أنه أفضل الصلاة بعد الفريضة .
قال - صلى الله عليه وسلم - ( أفضل الصلاة بعد الفريضة صلاة الليل ) رواه مسلم .
ثالثاً : من علامات المتقين .
قال تعالى { إن المتقين في جنات وعيون آخذين ما آتاهم ربهم إنهم كانوا قبل ذلك محسنين . كانوا قليلاً من الليل ما يهجعون . وبالأسحار هم يستغفرون } .
رابعاً : من أسباب دخول الجنة .(1/88)
قال - صلى الله عليه وسلم - ( أيها الناس ! أطعموا الطعام ، وصلوا الأرحام ، وصلوا بالليل والناس نيام تدخلوا الجنة بسلام ) رواه الترمذي .
خامساً : أنه شرف للمؤمن .
قال - صلى الله عليه وسلم - ( جاءني جبريل ! فقال يا محمد ! اعمل ما شئت فإنك مجزي به ، ... واعلم أن شرف المؤمن قيامه بالليل ، وعزه استغناؤه عن الناس ) رواه الطبراني .
سادساً : لهم غرف في الجنة .
قال - صلى الله عليه وسلم - ( إن في الجنة غرفاً يرى ظاهرها من باطنها ، وباطنها من ظاهرها ، أعدها الله لمن أطعم الطعام ، وأفشى السلام ، وصلى بالليل والناس نيام ) رواه أبو داود .
من أقوال السلف :
قال محمد بن المنكدر : ” ما بقي من لذات الدنيا إلا ثلاث : قيام الليل ، ولقاء الإخوان ، والصلاة في جماعة “ .
وقال الحسن : ” ما نعلم عملاً أشد من مكابدة الليل ونفقة هذا المال ، وإن الرجل ليذنب الذنب فيحرم به قيام الليل “ .
وقال الفضيل بن عياض : ” إذا لم تقدر على قيام الليل وصيام النهار فاعلم أنك محروم وقد كثرت خطيئتك “ .
وقال أبو سليمان الداراني : ” أهل الليل في ليلهم ألذ من أهل اللهو في لهوهم ، ولولا الليل ما أحببت البقاء في الدنيا “ .
أن رأس الأمر الإسلام ، قال ابن رجب رحمه الله :
” فأما رأس الأمر ، فيعني بـ[ الأمر ] الدين الذي بعث به ، وهو الإسلام ، وقد جاء تفسيره في رواية أخرى بالشهادتين ، فمن لم يُقِرُّ بهما باطناً وظاهراً فليس من الإسلام في شيء “ .
أهمية الصلاة في الإسلام وأنها عموده . كما يقوم الفسطاط على عموده .
أهمية الجهاد في سبيل الله ، فهو ذروة سنام الإسلام ، وهو أعلى ما فيه وأرفعه ، لأن فيه إعلاء لكلمة الله .
وللجهاد في سبيل الله فضائل :
أولاً : أنه ذروة سنام الإسلام .
لحديث الباب .
ثانياً : أن الروحة أو الغدوة في سبيل الله خير من الدنيا .(1/89)
قال - صلى الله عليه وسلم - ( لغدوة في سبيل الله أو روحة خير من الدنيا وما فيها ) متفق عليه .
ومعنى الحديث : أن هذا القدر من الثواب خير من الثواب الذي يحصل لمن لو حصلت له الدنيا كلها لأنفقها في طاعة الله .
ثالثاً : أنه من أفضل الأعمال .
عن أبي ذر . قال ( قلت يا رسول الله ! أي العمل أفضل ؟ قال : الإيمان بالله ، والجهاد في سبيل الله ) متفق عليه .
رابعاً : أن المجاهد أفضل الناس .
عن أبي سعيد قال ( أتى رجل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال : أي الناس أفضل ؟ قال : مؤمن يجاهد بنفسه وماله في سبيل الله ) متفق عليه .
خامساً : الجهاد لا يعدله شيء .
عن أبي هريرة . قال ( قيل يا رسول الله ، ما يعدل الجهاد في سبيل الله ؟ قال : لا تستطيعونه ، فأعادوا مرتين أو ثلاثاً ، كل ذلك يقول : لا تستطيعونه ، ثم قال : مثل المجاهد في سبيل الله كمثل الصائم القائم ، القانت بآيات الله ، لا يفتر من صيام ولا صلاة حتى يرجع المجاهد في سبيل الله ) متفق عليه .
سادساً : للمجاهدين مائة درجة في الجنة .
قال - صلى الله عليه وسلم - ( إن في الجنة مائة درجة أعدها الله للمجاهدين في سبيل الله ، ما بين الدرجتين كما بين السماء والأرض ) رواه البخاري .
سابعاً : الجهاد سبب للنجاة من النار .
قال - صلى الله عليه وسلم - ( ما اغبرت قدما عبد في سبيل الله فتمسه النار ) رواه البخاري .
قال الحافظ ابن حجر : ” وفي ذلك إشارة إلى عظم قدر التصرف في سبيل الله ، فإذا كان مجرد مس الغبار للقدم يحرم عليها النار فكيف بمن سعى وبذل جهده واستنفذ وسعه ؟ “ .
ثامناً : من أسباب دخول الجنة .
قال تعالى { إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة يقاتلون في سبيل الله فيقتلون ويقتلون وعداً عليه حقاً في التوراة والإنجيل والقرآن } .
تاسعاً : المجاهد يكون الله في عونه .(1/90)
قال - صلى الله عليه وسلم - ( ثلاثة حق على الله عونهم : المجاهد في سبيل الله ، والمكاتب الذي يريد الأداء ، والناكح الذي يريد العفاف ) رواه أحمد .
عاشراً : الجهاد سبب لمغفرة الذنوب .
قال تعالى { يا أيها الذين آمنوا هل أدلكم على تجارة تنجيكم من عذاب أليم . تؤمنون بالله وتجاهدون في سبيل الله بأموالكم وأنفسكم ذلك خير لكم إن كنتم تعلمون . يغفر لكم ذنوبكم ويدخلكم جنات تجري من تحتها الأنهار ومساكن طيبة في جنات عدن } .
أن حفظ اللسان وضبطه أصل لكل خير ، وأن من ملك لسانه فقد ملك أمره وأحكمه وأضبطه .
قال ابن رجب رحمه الله : ” والمراد بحصائد الألسنة جزاء الكلام المحرم وعقوباته ، فإن الإنسان يزرع بقوله وعمله الحسنات والسيئات ، ثم يحصد يوم القيامة ما زرع ، فمن زرع خيراً من قول أو عمل حصد الكرامة ، ومن زرع شراً من قول أو عمل حصد غداً الندامة “ .
فاللسان إن تكلم به الكلام المحرم من الغيبة أو النميمة أو السب أو الشتم فإن ذلك من أسباب دخول النار ، ويدل لذلك :
حديث الباب ( وهل يكب الناس في النار إلا حصائد ألسنتهم ) .
وقوله - صلى الله عليه وسلم - ( من وقاه الله شر ما بين لحييه ، وشر ما بين رجليه دخل الجنة ) رواه الترمذي .
وقوله - صلى الله عليه وسلم - ( إن العبد ليتكلم بالكلمة من سخط الله تعالى لا يلقي لها بالاً يهوي بها في نار جهنم ) رواه البخار ي .
وفي رواية ( إن العبد ليتكلم بالكلمة ما يتبين فيها يزل بها إلى النار أبعد مما بين المشرق والمغرب ) متفق عليه .
من أقوال السلف في حفظ اللسان :
قال يونس بن عبيد : ” خصلتان إذا صلحتا من العبد صلح ما سواهما : صلاته ولسانه “ .
وقال الحسن بن صالح : ” فتشت الورع ، فلم أجده في شيء أقل من اللسان “ .
وقال الحسن : ” اللسان أمير البدن ، فإذا جنى على الأعضاء شيئاً جنت ، وإذا عفا عفت “ .(1/91)
وقال عمرو بن العاص : ” الكلام كالدواء ، إن أقللت منه نفع ، وإن أكثرت منه قتل “ .
وقيل : الكلمة أسيرة في وثاق الرجل ، فإذا تكلم بها صار في وثاقها .
قال الشاعر :
احفظ لسانك أيها الإنسان لا يلدغنك إنه ثعبان .
كم في المقابر من قتيلِ لسانه كانت تهاب لقاءه الشجعان .
الحديث الثلاثون
عن أبي ثعلبة الخشني جرثوم بن ناشر . عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال ( إن الله فرض فرائض فلا تضيعوها ، وحد حدوداً فلا تعتدوها ، وحرم أشياء فلا تنتهكوها ، وسكت عن أشياء رحمة لكم غير نسيان فلا تبحثوا عنها ) حديث حسن رواه الدارقطني وغيره .
-----------------------------------------------------
معاني الكلمات :
فرض فرائض : أي أوجبها على عباده .
فلا تضيعوها : أي فلا تتركوها أو تتهاونوا بها .
وحد حدوداً : الحد لغة المنع ، واصطلاحاً : عقوبة مقدرة شرعاً تزجر وتمنع من المعصية .
فلا تنتهكوها : فلا تفعلوها .
الفوائد :
الحديث قسم الأحكام إلى أربعة أقسام :
القسم الأول : الفرائض .
( كالصلاة ، والصيام ، والزكاة ، وجميع الواجبات التي أمر الله بها ) .
وهذه يجب المحافظة عليها .
والفرض تعريفه : ما ذم تاركه شرعاً .
وحكمه : يثاب فاعله امتثالاً ويعاقب تاركه .
والفرض والواجب بمعنى واحد عند كثير من العلماء .
وله صيغ :
منها : فعل الأمر ، كقوله تعالى { وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة } .
ومنها : الفعل المضارع المجزوم بلام الأمر ، كقوله تعالى { وليطوفوا بالبيت العتيق } .
ومنها : التصريح من الشارع بلفظ الأمر ، كقوله تعالى { إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها } .
ومنها : التصريح بلفظ الإيجاب أو الفرض أو الكتب ، كقوله تعالى { فريضة من الله } وقوله { كتب عليكم الصيام } .
والفرض ينقسم إلى قسمين : فرض عين – وفرض كفاية .
الفرض العيني : وهو ما يتحتم أداؤه على كل مكلف بعينه .(1/92)
والفرض الكفائي : وهو ما يتحتم أداؤه على جماعة من المكلفين ، لا من كل فرد منهم ، بحيث إذا قام به بعض المكلفين فقد أدِيَ الواجب ، وسقط الإثم والحرج عن الباقين .
فرض العين أفضل من فرض الكفاية .
لأن فرض العين مفروض حقاً للنفس ، فهو أهم عندها من فرض الكفاية وأكثر مشقة ، بخلاف فرض الكفاية فإنه مفروض حقاً للكفاية ، والأمر إذا عمّ خف ، وإذا خص ثقل .
الفرض أفضل من النفل .
لقوله - صلى الله عليه وسلم - ( قال تعالى : وما تقرب إلي عبدي بشيء أحب إليّ مما افترضته عليه ) رواه البخاري
القسم الثاني : الحدود التي حَدَّها الشرع .
كحد الزنا وحد السرقة وحد شرب الخمر ، فهذه يجب الوقوف عندها بلا زيادة ولا نقصان .
الحكمة من هذه الحدود : المنع والزجر عن الوقوع في المعاصي ، وتمنع المعاودة في مثل ذلك الذنب وتمنع غيره أن يسلك مسلكه .
وإقامة حدود الله في الأرض فيه خير عظيم .
قال - صلى الله عليه وسلم - ( حد يقام في أرض الله خير من أن تمطروا أربعين عاماً ) رواه ابن ماجه .
يحرم الشفاعة لإسقاطها .
قال - صلى الله عليه وسلم - لأسامة بن زيد حين كلمه في المرأة المخزومية التي سرقت ( أتشفع في حد من حدود الله ، وأيم الله ! لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها ) متفق عليه .
القسم الثالث : المحرمات التي حرمها الشارع .
فهذه يحرم فعلها .
( كالشرك ، والقتل بغير الحق ، وشرب الخمر ، والزنا ، وغيرها مما حرمها الشرع ) .
تعريف المحرم : لغة : الممنوع ، واصطلاحاً : ما ذم فاعله شرعاً .
وحكمه : يثاب تاركه امتثالاً ، ويعاقب فاعله .
وله صيغ يأتي بها :
منها : لفظ التحريم ومشتقاتها ، كقوله تعالى { حرمت عليكم الميتة } .
ومنها : صيغ النهي المطلق ، كقوله تعالى { ولا تقربوا الزنى } .
ومنها : التصريح بعدم الحل ، كقوله - صلى الله عليه وسلم - ( لا يحل دم امرىء ... ) .(1/93)
ومنها : أن يرتب الشارع على فعل شيء عقوبة ، كقوله تعالى { والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما ... } .
يجب ترك المحرمات والمنهيات كلها .
قال - صلى الله عليه وسلم - ( ما نهيتكم عنه فانتهوا ) متفق عليه .
القسم الرابع : المسكوت عنه .
وهذا حكمه : حلال .
قال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله : ” لكن هذا في غير العبادات ، أما في العبادات فقد حرم الله أن يشرع أحد من الناس عبادة لم يأذن بها الله “ .
وجه الدلالة من الحديث على أن ما سكت عنه فهو عفو :
أنه - صلى الله عليه وسلم - بين أن ما سكت الله عنه بعد الشرع إنما هو مباح رحمة بنا وتخفيفاً عنا ، فلا نبحث عن السؤال عنه ، وهذا دليل على إباحته .
ومعنى كون السكوت رحمة ، لأنها لم تحرم فيعاقب على فعلها ، ولم تجب فيعاقب على تركها ، بل هي عفو لا حرج في فعلها ولا في تركها .
لا ينبغي البحث والسؤال عما سكت عنه .
لأنه على الأصل ، ولذلك كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يكره السؤال وينهى عنه خوفاً أن يفرض على الأمة ، وإنما نهى عن كثرة السؤال خشية أن يرد تكاليف بسبب السؤال قد يشق على بعض الناس امتثالها والإتيان بها .
انتفاء النسيان عن الله تعالى .
قال تعالى { لا يضل ربي ولا ينسى } .
وقال تعالى { وما كان ربك نسياً } .
وأما قوله تعالى { نسوا الله فنسيهم } فالمراد : هنا الترك ، أي تركوا الله فتركهم .
الحديث الحادي والثلاثون .
عن أبي العباس – سهل بن سعد الساعدي – قال ( جاء رجل إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال : يا رسول الله ، دلني على عمل إذا عملته أحبني الله وأحبني الناس ، فقال : ازهد في الدنيا يحبك الله ، وازهد فيما عند الناس يحبك الناس ) رواه ابن ماجه .
-----------------------------------------------------
معاني الكلمات :
دلني : أرشدني
ازهد : الزهد ترك ما لا ينفع في الآخرة .
الدنيا : سميت بذلك لدناءتها ، أو لدنوها قبل الآخرة .
الفوائد :(1/94)
علو همة الصحابة ، حيث كانوا يسألون عن الأمور العظيمة التي تقربهم إلى الله .
فضل الزهد في الدنيا ، وقد كثر في القرآن مدح الزهد في الدنيا وذم الرغبة فيها .
فأخبر سبحانه أنها متاع قليل .
فقال تعالى { وما الحياة الدنيا إلا متاع } .
وقال سبحانه { قل متاع الدنيا قليل والآخرة خير لمن اتقى ولا تظلمون فتيلاً } .
قال القرطبي : ” متاع الدنيا منفعتها والاستمتاع بلذاتها ، وسماه قليلاً لأنه لا بقاء له “ .
وتوعد سبحانه لمن رضي بالدنيا واطمأن بها وغفل عن آياته .
فقال تعالى { إن الذين لا يرجون لقاءنا ورضوا بالحياة الدنيا واطمأنوا بها والذين هم عن آياتنا غافلون . أولئك مأواهم النار بما كانوا يكسبون } .
وعير سبحانه من رضي بالدنيا من المؤمنين .
فقال سبحانه { يا أيها الذين آمنوا ما لكم إذا قيل لكم انفروا في سبيل الله اثاقلتم إلى الأرض أرضيتم بالحياة الدنيا من الآخرة فما متاع الحياة الدنيا في الآخرة إلا قليل } .
وأخبر سبحانه عن خسة الدنيا وزهد فيها ودعا إلى دار السلام .
فقال تعالى { إنما مثل الحياة الدنيا كماء أنزلناه من السماء فاختلط به نبات الأرض مما يأكل الناس والأنعام حتى إذا أخذت الأرض زخرفها وازينت وظن أهلها أنهم قادرون عليها أتاها أمرنا ليلاً أو نهاراً فجعلناها حصيداً كأن لم تغن بالأمس كذلك نفصل الآيات لقوم يتفكرون . والله يدعو إلى دار السلام ويهدي من يشاء إلى صراط مستقيم } .
وأخبر سبحانه أن الدنيا زائلة والآخرة خير وأبقى .
فقال تعالى { بل تؤثرون الحياة الدنيا والآخرة خير وأبقى } .
قال ابن كثير : ” أي تقدمونها على أمر الآخرة وتبدونها على ما فيه نفعكم وصلاحكم في معاشكم ومعادكم “ .
وقال - صلى الله عليه وسلم - ( إن الدنيا حلوة وإن الله مستخلفكم فيها فينظر كيف تعملون ، فاتقوا الدنيا ) رواه مسلم .(1/95)
وقال - صلى الله عليه وسلم - ( ما مثلي ومثل الدنيا إلا كراكب استظل تحت شجرة ثم راح وتركها ) رواه الترمذي .
وقال - صلى الله عليه وسلم - ( لو كانت الدنيا تزن عند الله جناح بعوضة ما سقى منها كافراً شربة ماء ) رواه الترمذي .
من أقوال السلف :
قال علي : ” من زهد في الدنيا هانت عليه المصيبات “ .
وقال الحسن : ” الزهد في الدنيا يريح القلب والبدن “ .
وقال جندب بن عبد الله : ” حب الدنيا رأس كل خطيئة “ .
وقال الحسن : ” من أحب الدنيا وسرته ، خرج حب الآخرة من قلبه “ .
وقال عمرو بن العاص : ” ما أبعد هديكم من هدي نبيكم - صلى الله عليه وسلم - ، إنه كان أزهد الناس في الدنيا ، وأنتم أرغب الناس فيها “ .
وقال ابن مسعود : ” من أراد الآخرة أضر بالدنيا ، ومن أراد الدنيا أضر بالآخرة ، يا قوم فأضروا بالفاني للباقي “ .
وعنه قال : ” أنتم أطول صلاة وأكثر اجتهاداً من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهم كانوا أفضل منكم ؟ قيل له : بأي شيء ؟ قال : إنهم كانوا أزهد في الدنيا وأرغب في الآخرة منكم “ .
قال ابن رجب رحمه الله : ” وليس الذم راجعاً إلى مكان الدنيا الذي هو الأرض التي جعلها الله لبني آدم مهاداً وسكناً ، ولا إلى ما أودعه الله فيها من الجبال والبحار والأنهار والمعادن ، ولا إلى ما أنبته فيها من الشجر والزرع ، فإن ذلك كله من نعمة الله على عباده بما لهم فيه من المنافع ، ولهم به من الاعتبار والاستدلال على وحدانية صانعه وقدرته وعظمته ، وإنما الذم راجع إلى أفعال بني آدم الواقعة في الدنيا ، لأن غالبها واقع على غير الوجه الذي تُحمد عاقبته ، بل يقع على ما تضر عاقبته ، أو لا تنفع “ .
أن من أسباب محبة الله الزهد في الدنيا ، لأن الإنسان لا يزهد في الدنيا حقيقة إلا من أيقن بالجنة .
وقد ذكر العلماء أموراً تعين على الزهد في الدنيا :
أولاً : النظر في الدنيا وسرعة زوالها وفنائها واضمحلالها ونقصها وخستها .(1/96)
ثانياً : النظر في الآخرة ، وإقبالها ومجيئها ولا بد ، ودوامها وبقائها ، وشرف ما فيها من الخيرات والمسرات .
ثالثاً : أن ذلك سبب لراحة البدن والقلب .
كما قال الحسن : ” الزهد في الدنيا يريح البدن والقلب “ .
فضل الاستغناء عما في أيدي الناس ، لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - جعله سبباً لمحبة الناس لك .
لأنهم منهمكون على محبتها بالطبع ، فمن زاحمهم عليها أبغضوه ، ومن زهد فيها وتركها لهم أحبوه .
وقد جاء في حديث سهل بن سعد مرفوعاً ( شرف المؤمن قيامه بالليل ، وعزه استغناؤه عن الناس ) رواه الطبراني وحسنه الألباني .
وقال الحسن : ” لا تزال كريماً على الناس ، أو لا يزال الناس يكرمونك ما لم تعاط ما في أيديهم ، فإذا فعلت ذلك استخفوا بك ، وكرهوا حديثك وأبغضوك “ .
وقال أيوب السختياني : ” لا ينبل الرجل حتى يكون فيه خصلتان : العفة عما في أيدي الناس ، والتجاوز عما يكون منهم “ .
وكان عمر يقول في خطبته : ” إن الطمع فقر ، وإن اليأس غنى ، وإن الإنسان إذا أيس من الشيء استغنى عنه “ .
وقال أعرابي لأهل البصرة ، ” من سيد أهل هذه القرية ؟ قالوا : الحسن ، قال : بما سادهم ؟ قالوا : احتاج الناس إلى علمه ، واستغنى هو عن دنياهم “ .
قال ابن رجب رحمه الله : ” وقد تكاثرت الأحاديث عن النبي - صلى الله عليه وسلم - بالأمر بالاستعفاف عن مسألة الناس والاستغناء عنهم ، فمن سأل الناس ما بأيديهم ، كرهوه وأبغضوه ، لأن المال محبوب لنفوس بني آدم ، فمن طلب منهم ما يحبونه ، كرهوه لذلك “ .
الحديث الثاني والثلاثون
عن أبي سعيد سعد بن مالك بن سنان الخدري . أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال ( لا ضرر ولا ضرار ) حديث حسن رواه ابن ماجه والدارقطني وغيرهما مسنداً ، ورواه مالك في الموطأ عن عمرو بن يحيي عن أبيه ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - مرسلاً ، فأسقط أبا سعيد ، وله طرق يقوي بعضها بعضاً .(1/97)
-----------------------------------------------------
معاني الكلمات :
لا ضرر : الضرر ضد النفع ، أي لا يضر الرجل أخاه ابتداء .
ولا ضرار : الضرار هو أن يضر بالغير .
الفوائد :
تحريم إلحاق الضرر بالغير ، وهو ينقسم إلى قسمين :
القسم الأول : أن يكون الغرض من ذلك الضرر .
فهذا لا ريب في قبحه وتحريمه ، وقد ورد في القرآن النهي عن المضارة في مواضع :
منها : في الوصية .
قال تعالى { من بعد وصية يوصي بها أو دين غير مضار } .
والإضرار في الوصية تارة يكون بأن يخص بعض الورثة بزيادة على فرضه الذي فرضه الله ، فيتضرر بقية الورثة بتخصيصه .
وتارة بأن يوصي لأجنبي بزيادة على الثلث فينقص حقوق الورثة .
ومتى وصى لوارث أو لأجنبي بزيادة على الثلث لم ينفذ ما وصى به إلا بإجازة الورثة .
ومنها : الرجعة في النكاح .
قال تعالى { فأمسكوهن بمعروف أو سرحوهن بمعروف . { ولا تمسكوهن ضراراً لتعتدوا } . { ومن يفعل ذلك فقد ظلم نفسه } . { وبعولتهن أحق بردهن في ذلك إن أرادوا إصلاحاً } .
فدل ذلك على أن من كان قصده بالرجعة المضارة فإنه آثم بذلك ، وهذا كما كانوا في أول الإسلام قبل حصر الطلاق في ثلاث : يطلق الرجل امرأته ثم يتركها حتى يقارب انقضاء عدتها ثم يراجعها ثم يطلقها ، ويفعل ذلك أبداً بغير نهاية ، فيدع امرأته لا مطلقة ولا ممسكة ، فأبطل الله ذلك وحصر الطلاق في ثلاث مرات .
القسم الثاني : أن يكون الضرر من غير قصد . كأن يتصرف في ملكه بما يتعدى ضرره إلى غيره ، وهذا على نوعين :
النوع الأول : أن يتصرف على وجه غير معتاد ولا مألوف ، فلا يسمح له به .
كأن يؤجج ناراً في أرضه في يوم عاصف ، فيحترق ما يليه .
النوع الثاني : أن يتصرف على الوجه المعتاد ، وهذه تختلف وجهات نظر العلماء .(1/98)
يدخل في عموم قوله - صلى الله عليه وسلم - ( لا ضرر ) أن الله لم يكلف عباده فعل ما يضرهم البتة ، فإن ما يأمرهم به هو عين صلاح دينهم ودنياهم ، وما نهاهم عنه هو عين فساد دينهم ودنياهم ، لكنه لم يأمر عباده بشيء هو ضار لهم في أبدانهم أيضاً .
ولهذا أسقط الطهارة بالماء عن المريض ، وقال { ما يريد الله ليجعل عليكم من حرج } .
وأسقط الصيام عن المريض والمسافر ، وقال { يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر } .
وأسقط اجتناب محظورات الإحرام كالحلق ونحوه عمن كان مريضاً أو به أذى من رأسه وأمر بالفدية .
الحذر من ظلم الغير .
الدين حماية للنفس والمال .
الحديث الثالث والثلاثون
عن ابن عباس – رضي الله عنهما – أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال ( لو يعطى الناس بدعواهم لادعى رجال أموال قوم ودماءهم ، لكن البينة على المدعي واليمين على من أنكر ) حديث حسن ، رواه البيهقي وغيره وبعضه في الصحيحين .
-----------------------------------------------------
معاني الكلمات :
لو يعطى الناس : ما ادعوا أنه حقهم وطالبوا به .
بدعواهم : أي بمجرد قولهم وطلبهم دون ما يثبت ذلك .
لادعى رجال : أي لاستباح وتجرأ بعض الناس دماء غيرهم وأموالهم .
البينة : كل ما يبين الحق من الشهود وغيرهم .
الفوائد :
حرص الإسلام على حفظ الحقوق .
قال الشيخ السعدي رحمه الله : ” هذا الحديث عظيم القدر ، وهو أصل من أصول القضايا والأحكام ، فإن القضاء بين الناس إنما يكون عند التنازع ، هذا يدعي على هذا حقاً من الحقوق ، فينكره ، وهذا يدعي براءته من الحق الذي كان ثابتاً عليه ، فبين - صلى الله عليه وسلم - أصلاً بفض نزاعهم ، ويتضح به المحق من المبطل ، فمن ادعى عيناً من الأعيان ، أو ديناً ، أو حقاً من الحقوق وتوابعها على غيره ، وأنكره ذلك الغير ، فالأصل مع المنكر .(1/99)
فهذا المدعي إن أتى ببينة تثبت ذلك الحق ، ثبت له ، وحُكمَ له به ، وإن لم يأت ببينة ، فليس له على الآخر إلا اليمين “ .
أن البينة على المدعي ، أي يقيم المطالب الدليل على صدقه ويُظهر الحجة ، ومن البينة الشهود ، الذين يشهدون على صدقه .
ويشترط في الشهود :
البلوغ – والعقل – والكلام – والإسلام – والعدالة .
ويكون في الزنا : أربعة رجال ولا يقبل فيها النساء .
وفي النكاح والطلاق والرجعة وبقية الحدود : اثنان .
وفي الأموال وما يقصد به المال كالبيع والأجل : رجلان أو رجل وامرأتان .
الرضاع والولادة والبكارة ، ومثل هذه الأمور التي لا يطلع عليها الرجال ، تقبل شهادة امرأة واحدة .
والحكمة في كون البينة على المدعي :
لأنه يدعي أمراً خفياً بحاجة إلى إظهار ، والبينة دليل قوي لإظهار ذلك .
أنه إذا لم يجد المدعي بينة ولا شهوداً ، فإن القاضي يطلب من المدعَى عليه أن يحلف أن ما ادعاه عليه المدعي غير صحيح ويكون الحكم له بيمينه .
ويجب الحذر من الأيمان الكاذبة ، فقد جاء الوعيد في ذلك :
قال - صلى الله عليه وسلم - ( من اقتطع حق امرىء مسلم بيمينه فقد أوجب الله له النار وحرم عليه الجنة ، قيل : يا رسول الله وإن كان شيئاً يسيراً ، قال : وإن كان قضيباً من أراك ) متفق عليه .
بين - صلى الله عليه وسلم - في هذا الحديث الحكم ، وبين الحكمة في هذه الشريعة الكلية ، وأنها عين صلاح العباد في دينهم ودنياهم ، وأنه لو يعطى الناس بدعواهم لكثر الشر والفساد ، ولادعى رجال دماء قوم وأموالهم .
البدء بالمدعي في الحكم .
أن الشريعة جاءت لحماية أموال الناس ودماءهم .
حب النفوس للمال .
يجب على القاضي أن يحكم بالعدل .
الحديث الرابع والثلاثون
عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه . قال : سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول ( من رأى منكم منكراً فليغيره بيده ، فإن لم يستطع فبلسانه ، فإن لم يستطع فبقلبه ، وذلك أضعف الإيمان ) رواه مسلم .(1/100)
-----------------------------------------------------
معاني الكلمات :
منكراً : كل ما نهى عنه الله ورسوله .
فليغيره : فليزله .
الفوائد :
الأمر بتغيير المنكر .
وقد اختلف العلماء في حكم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر على قولين :
القول الأول : أنه واجب .
لحديث الباب ( فليغيره .. ) وهذا أمر ، والأمر يدل على الوجوب .
القول الثاني : أنه فرض كفاية .
وهذا مذهب أكثر العلماء .
لقوله تعالى { ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر وأولئك هم المفلحون } .
قالوا : إن [ من ] في قوله ( منكم ) للتبعيض .
قال ابن قدامة : ” في هذه الآية بيان أنه فرض على الكفاية لا فرض عين ، لأنه قال [ ولتكن منكم ] ولم يقل كونوا كلكم آمرين بالمعروف “ .
وهذا القول هو الصحيح .
لكن هناك أحوال يكون الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فرض عين :
أولاً : التعيين من قبل السلطان .
ثانياً : التفرد بالعلم بأن معروفاً قد ترك ، أو منكراً قد ارتكب .
قال النووي : ” إن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فرض كفاية ، ثم إنه قد يتعين إذا كان في موضع لا يعلم به إلا هو “ .
ثالثاً : انحصار القدرة في أشخاص محددين .
قال شيخ الإسلام ابن تيمية : ” ويصير فرض عين على القادر الذي لم يقم به غيره “ .
وللأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فضائل وثمرات كثيرة ، منها :
أولاً : مهمة الرسل .
قال تعالى { ولقد بعثنا في كل أمة رسولاً أن اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت } .
ثانياً : من صفات المؤمنين .
قال تعالى { والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض ، يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ويقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة ويطيعون الله ورسوله .. } .
ثالثاً : أن خيرية الأمة مناطة بهذه الشعيرة .
قال تعالى { كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتؤمنون بالله } .
رابعاً : من أوصاف سيد المرسلين .(1/101)
قال تعالى { الذين يتبعون الرسول النبي الأمي الذي يجدونه مكتوباً عندهم في التوراة يأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر ويحل لهم الطيبات ويحرم عليهم الخبائث } .
خامساً : من خصال الصالحين .
قال تعالى { ليسوا سواء من أهل الكتاب أمة قائمة يتلون آيات الله آناء الليل وهم يسجدون . يؤمنون بالله واليوم الآخر ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ويسارعون في الخيرات وأولئك من الصالحين } .
سادساً : من أسباب النصر .
قال تعالى { ولينصرن الله من ينصره إن الله لقوي عزيز . الذين إن مكناهم في الأرض أقاموا الصلاة وآتوا الزكاة وأمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر ولله عاقبة الأمور } .
سابعاً : من أسباب النجاة .
قال تعالى { أنجينا الذين ينهون عن السوء } .
خطر ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر .
أولاً : أن ذلك من صفات المنافقين .
قال تعالى { المنافقون والمنافقات بعضهم من بعض يأمرون بالمنكر وينهون عن المعروف ويقبضون أيديهم نسوا الله فنسيهم } .
ثانياً : نزول البلاء والعذاب .
قال - صلى الله عليه وسلم - ( إن الناس إذا رأوا الظالم فلم يأخذوا على يديه أوشك أن يعمهم الله بعقاب منه ) رواه أبو داود .
ثالثاً : عدم استجابة الدعاء .
قال - صلى الله عليه وسلم - ( لتأمرن بالمعروف ولتنهون عن المنكر أو ليسلطن الله عليكم عقاباً منه فتدعونه فلا يستجيب لكم ) رواه الترمذي .
رابعاً : اللعن والإبعاد من رحمة الله .
قال تعالى { لعن الذين كفروا من بني إسرائيل على لسان داود وعيسى ابن مريم ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون . كانوا لا يتناهون عن منكر فعلوه لبئس ما كانوا يفعلون } .
من أقوال السلف :
قال الثوري : ” إذا أمرت بالمعروف شددت ظهر المؤمن ، وإذا نهيت عن المنكر أرغمت أنف المنافقين “ .(1/102)
وقال علي : ” أول ما تغلبون عليه من الجهاد الجهاد بأيديكم ، ثم الجهاد بألسنتكم ، ثم الجهاد بقلوبكم ، فإذا لم يعرف القلب المعروف ولم ينكر المنكر نكِّس ، فجعل أعلاه أسفله “ .
وقال أبو الدرداء : ” لتأمرن بالمعروف ولتنهن عن المنكر أو ليسلطن الله عليكم سلطاناً ظالماً لا يجل كبيركم ، ولا يرحم صغيركم “ .
وقال حذيفة عندما سئل عن ميت الأحياء : ” الذي لا ينكر المنكر بيده ولا بلسانه ولا بقلبه “ .
وقال سفيان : ” إني لأرى المنكر فلا أتكلم فأبول دماً “ .
وقال إسماعيل بن عمر : ” من ترك الأمر بالمعروف خوف المخلوقين ، نزعت منه الهيبة ، فلو أمر ولده لا ستخف به “ .
في هذا الحديث بيان كيفية تغيير المنكر ودرجاته :
أولاً : التغيير باليد .
ويشترط للتغيير باليد أن يكون مستطيعاً ، فإن لم يستطع كأن يخاف أن يترتب على ذلك منكراً أعظم أو مفسدة كبرى ، فإنه لا يغير بيده .
بدأ بتغيير المنكر باليد ، لأنه أقوى درجات الإنكار ، لأنه إزالة للمنكر بالكلية وزجر عنه .
ثانياً : التغيير باللسان .
كالتذكير والترغيب والترهيب والوعظ .
إذا لم يستطع التغيير باللسان لوجود مانع ، فإنه لا يغير بلسانه .
ثالثاً : التغيير بالقلب .
وهذه واجبة على الجميع .
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله : ” فأما القلب فيجب بكل حال ، إذ لا ضرر في فعله ، ومن لم يفعله فليس هو بمؤمن ، كما قال النبي - صلى الله عليه وسلم - ( وذلك أدنى أو أضعف الإيمان ) ، وقال ( ليس وراء ذلك من الإيمان حبة خردل ) “ .
وقيل لا بن مسعود : ” من ميت الأحياء ؟ فقال : الذي لا يعرف معروفاً ولا ينكر منكراً “ .
أن من شروط الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر الاستطاعة .
وهذا الشرط مأخوذ من قواعد الشريعة العامة ، من عدم تكليف المسلم ما لا يطيق .
قال تعالى { لا يكلف الله نفساً إلا وسعها } .(1/103)
قال ابن كثير : ” أي لا يكلف أحداً فوق طاقته وهذا من لطفه بخلقه ورأفته بهم وإحسانه إليهم “ .
وقال تعالى { فاتقوا الله ما استطعتم } .
وفي حديث الباب ( من رأى منكم منكراً فليغيره بيده فإن لم يستطع ... ) .
من شروط الآمر بالمعروف الناهي عن المنكر :
أولاً : أن يكون بعلم .
فلا بد من العلم بالمنكر والمعروف ، ولا بد من العلم بحال المأمور وحال المنهي .
قال عمر بن عبد العزيز : ” من عبد الله بغير علم كان ما يفسد أكثر مما يصلح “ .
ثانياً : أن يكون رفيقاً .
كما قال - صلى الله عليه وسلم - ( ما كان الرفق في شيء إلا زانه ) رواه مسلم .
ثالثاً : أن يكون حليماً صبوراً على الأذى ، فإنه لا بد أن يحصل له أذى .
كما قال لقمان لابنه { وأمر بالمعروف وانه عن المنكر واصبر على ما أصابك إن ذلك من عزم الأمور } .
وقال تعالى { واصبر على ما يقولون } .
وقال تعالى { فاصبر كما صبر أولوا العزم من الرسل } .
وهل يشترط أن يكون عدلاً ؟ اختلف العلماء في ذلك على قولين :
القول الأول : يشترط ذلك .واستدلوا :
بقوله تعالى { أتأمرون الناس بالبر وتنسون أنفسكم وأنتم تتلون الكتاب } .
وهذه الآية ذم لهم .
وبقوله تعالى { يا أيها الذين آمنوا لم تقولون ما لا تفعلون } .
وبحديث أنس . قال : قال - صلى الله عليه وسلم - ( رأيت ليلة أسري بي رجالاً تقرض شفاههم بمقاريض من نار ، قال : فقلت من هؤلاء : قال : هؤلاء خطباء أمتك الذين يأمرون الناس بالبر وينسون أنفسهم ) رواه أحمد .
القول الثاني : لا يشترط ذلك . واستدلوا :
بقوله - صلى الله عليه وسلم - ( إن الله يؤيد هذا الدين بالرجل الفاجر ) متفق عليه .
وبعموم الآيات والأحاديث الواردة في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر .
ولأن اشتراط العدالة سد لباب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر .
قال سعيد بن جبير : ” إن لم يأمر بالمعروف ولم ينه عن المنكر إلا من لا يكون فيه شيء لم يأمر أحد بشيء “ .(1/104)
وهذا القول هو الصحيح .
فائدة :
قال ابن القيم رحمه الله :
” إنكار المنكر له أربع درجات :
الأولى : أن يزول ويخلفه ضده .
الثانية : أن يقل وإن لم يزل من جملته .
الثالثة : أن يخلفه ما هو مثله .
الرابعة : أن يخلفه ما هو شر منه .
فالدرجتان الأوليان مشروعتان ، والثالثة موضع اجتهاد ، والرابعة محرمة “ .
الحديث الخامس والثلاثون
عن أبي هريرة رضي الله عنه . قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ( لا تحاسدوا ، ولا تناجشوا ، ولا تباغضوا ، ولا تدابروا ، ولا يبع بعضكم على بيع بعض ، وكونوا عباد الله إخواناً ، المسلم أخو المسلم ، لا يظلمه ، ولا يخذله ، ولا يكذبه ، ولا يحقره ، التقوى ها هنا ، ويشير إلى صدره ثلاث مرات ، بحسْب امرىءٍ من الشر أن يحقر أخاه المسلم ، كل المسلم على المسلم حرام ، دمه ، وماله ، وعرضه ) رواه مسلم .
-----------------------------------------------------
معاني الكلمات :
لا تحاسدوا : الحسد تمني زوال النعمة عن الغير .
ولا تناجشوا : النجش هو أن يزيد في السلعة من لا يريد شراءها .
ولا تدابروا : التدابر هو التهاجر والتقاطع .
ولا يخذله : أي لا يترك نصره .
لا يكذبه : لا يخبره بالكذب .
ولا يحقره : أي لا يستصغره .
بحسب امرىء من الشر : يكفيه من الشر أن يحقر أخاه ، يعني يكفي فاعله عقوبة هذا الذنب .
الفوائد :
تحريم الحسد . والحسد فيه مباحث :
المبحث ألأول : هو حرام بالكتاب والسنة والإجماع .
قال تعالى { أم يحسدون الناس على ما آتاهم الله من فضله } .
ومن السنة حديث الباب ( لا تحاسدوا ) .
وأجمع العلماء على تحريمه .
المبحث الثاني : تعريفه : هو تمني زوال النعمة عن الغير .
المبحث الثالث : خطورة الحسد :
أولاً : من صفات اليهود .
قال تعالى { ود كثير من أهل الكتاب لو يردونكم من بعد إيمانكم كفاراً حسداً من عند أنفسهم } .
ثانياً : فيه أذى للمسلمين .(1/105)
قال تعالى { والذين يؤذون المؤمنين والمؤمنات بغير ما اكتسبوا فقد احتملوا بهتاناً وإثماً مبيناً } .
ثالثاً : أمر الله بالاستعاذة منه .
قال تعالى { من شر حاسد إذا حسد } .
رابعاً : أن فيه اعتراض على قدر الله وهذا سوء أدب .
قال الشاعر :
ألا قل لمن كان حاسداً أتدري على من أسأت الأدبْ
أسأت على الله في فعله لأنك لم ترضَ لي ما وهبْ
المبحث الرابع : الحسد أضر شيء على الحاسد ، لأنه يصل إلى الحاسد خمس عقوبات قبل أن يصل إلى المحسود مكروه :
أولاً : غم لا ينقطعه . ثانياً : مصيبة لا يؤجر عليها . ثالثاً : مذمة لا يحمد بها . رابعاً : يسخط عليه الرب . خامساً : تغلق عليه أبواب التوفيق .
المبحث الخامس : من أقوال السلف .
روي عن معاوية أنه قال لابنه : ” يا بني إياك والحسد ، فإنه يتبين فيك قبل أن يتبين في عدوك “ .
وعن سفيان بن دينار قال : ” قلت لأبي بشر : أخبرني عن أعمال من كان قبلنا ؟ قال : كانوا يعملون يسيراً ويؤجرون كثيراً ، قلت : ولم ذاك ؟ قال : لسلامة صدورهم “ .
وشتم رجل ابن عباس ، فقال له : ” إنك لتشتمني وفيّ ثلاث خصال : إني لآتي على الآية في كتاب الله فلوددت أن جميع الناس يعلمون منها ما أعلم ، وإني لأسمع بالحاكم من حكام المسلمين يعدل في حكمه فأفرح به ، ولعلي لا أقاضي إليه أبداً ، وإني لأسمع أن الغيث قد أصاب بلداً من بلدان المسلمين فأفرح به ، وما لي به من سائمة “ .
وقال علي : ” لا راحة لحسود ، ولا إخاء لملول ، ولا محبَّ لسيء الخلق “ .
وقال معاوية : ” كل الناس أقدر على رضاه إلا حاسد نعمة ، فإنه لا يرضيه إلا زوالها “ .
وقال بعض الحكماء : ” ما رأيت ظالماً أشبه بالمظلوم من الحاسد “ .
وقال بعضهم : ” إن المؤمن يغبط ولا يحسد ، والمنافق يحسد ولا يغبط “ .
المبحث السادس : الحسد سبب لكثير من البلايا .
- فهو سبب امتناع إبليس من السجود لآدم .(1/106)
- وهو من أسباب امتناع القرشيين من الإيمان بالرسول - صلى الله عليه وسلم - .
- وسبب لامتناع اليهود من الإيمان بمحمد - صلى الله عليه وسلم - .
- وإخوة يوسف لما حسدوه باعوه .
تحريم النجش ، وهو أن يزيد في السلعة وهو لا يريد شراءها .
وغالباً من يفعل ذلك :
إما للإضرار بالمشتري ، أو لنفع البائع ، أو للأمرين .
والناجش آثم ، وإذا وقع البيع فهو صحيح عند الجمهور .
تحريم التباغض بين المسلمين ، لقوله ( ولا تباغضوا ) .
ويمكن أن يجتنب التباغض بين المسلمين بأمرين :
الأمر الأول : التباعد عن كل أمر يؤدي إلى التباغض .
- فقد حرم الله الخمر لأنه يوقع بين المسلمين العداوة والبغضاء ، قال تعالى { إنما يريد الشيطان أن يوقع بينكم العداوة والبغضاء في الخمر والميسر ويصدكم عن ذكر الله وعن الصلاة فهل أنتم منتهون } .
- وحرم المشي بالنميمة لما فيها من إيقاع العداوة والبغضاء .
- وحرم بيع المسلم على بيع أخيه لنفس العلة .
الأمر الثاني : القيام بالأسباب التي تؤدي إلى التحاب بين المسلمين .
ومنها : معرفة أن التحاب من علامة الإيمان .
قال - صلى الله عليه وسلم - ( والذي نفسي بيده لا تدخلوا الجنة حتى تؤمنوا ، ولا تؤمنوا حتى تحابوا ، ..) رواه مسلم .
ومنها : الهدية .
قال - صلى الله عليه وسلم - ( تهادوا تحابوا ) رواه الحاكم .
ومنها : إفشاء السلام .
كما في الحديث السابق ( لا تدخلوا الجنة حتى تؤمنوا ، .........أفشوا السلام بينكم ) .
ومنها : أن الله امتن على عباده بالتأليف بين قلوبهم .
كما قال تعالى { واذكروا نعمة الله عليكم إذ كنتم أعداء فألف بين قلوبكم فأصبحتم بنعمته إخواناً } .
أن البغض في الله من أوثق عرى الإيمان .
تحريم التدابر ، وهو الهجران والتقاطع .
ويمكن للمسلم أن يتجنب الهجران بمعرفة خطورته :
أولاً : أنه حرام .
لحديث الباب ( ولا تدابروا ) .
وللحديث السابق ( لا يحل لمسلم أن يهجر أخاه فوق ثلاث ) .(1/107)
ثانياً : خطر من هجر أخاه سنة .
قال - صلى الله عليه وسلم - ( من هجر أخاه سنة فهو كسفك دمه ) رواه أبو داود .
ثالثاً : أن التهاجر والتقاطع يفرح الشيطان .
قال - صلى الله عليه وسلم - ( إن إبليس يضع عرشه على الماء ثم يبعث سراياه ، فأدناهم منه منزلة أعظمهم فتنة ، يجيء أحدهم فيقول : فعلت كذا وكذا ، فيقول : ما صنعت شيئاً ، ثم يجيء أحدهم فيقول : ما تركته حتى فرقت بينه وبين امرأته ، قال : فيدنيه منه ويقول : نعم أنت ) .
وقال - صلى الله عليه وسلم - ( إن الشيطان قد يئس أن يعبده المصلون في جزيرة العرب ، ولكن في التحريش بينهم ) رواه مسلم .
رابعاً : لا ترفع أعمال المتهاجرين .
قال - صلى الله عليه وسلم - ( تعرض الأعمال في كل اثنين وخميس ، فيغفر الله لكل امرىء لا يشرك بالله شيئاً ، إلا امرءاً كانت بينه وبين أخيه شحناء ، فيقول : أنظروا هذين حتى يصطلحا ) رواه مسلم .
خامساً : معرفة فضل من بدأ منهما بالسلام .
قال - صلى الله عليه وسلم - ( وخيرهما الذي يبدأ بالسلام ) .
فائدة :
والهجر لا يجوز مطلقاً في الأمور الدنيوية ، أما لأجل الدين فيجوز إذا كان لمصلحة وفيه منفعة ، وقد هجر النبي - صلى الله عليه وسلم - الثلاثة الذين خلفوا ، وأمر بهجرهم .
تحريم بيع المسلم على بيع أخيه .
أولاً : تحريم أن يبيع الإنسان على بيع إنسان آخر .
لقوله - صلى الله عليه وسلم - : ( ولا يبع بعضكم على بيع بعض ).
مثال ذلك : أن يشتري شخص من إنسان سلعة بعشرة ، فيأتيه آخر ويقول : أعطيك مثلها بتسعة ، أو يقول : أعطيك أحسن منها بعشرة .
فهذا حرام ولا يجوز .
ثانياً : ومثله الشراء على شراء أخيه .
مثال ذلك : علمتُ أن زيداً باع على عمر بيته بـ 100 ، فذهبت إلى زيد وقلت له : يا فلان ، أنت بعت بيتك على عمر بـ 100 ، أنا سأعطيك 120 .
ثالثاً : هل يجوز البيع على بيع الكافر ؟ اختلف العلماء على قولين :
القول الأول : يجوز .(1/108)
لقوله - صلى الله عليه وسلم - : ( ولا يبع الرجل على بيع أخيه ) والكافر ليس أخاً .
القول الثاني : لا يجوز .
وهذا مذهب جماهير العلماء .
قالوا : وأما قوله : ( لا يبع الرجل على بيع أخيه ) فهذا قيد أغلبي لا مفهوم له .
رابعاً : الحكمة من النهي :
قطع العدوان على الغير ، واجتناب ما يؤدي إلى العداوة والبغضاء .
خامساً : ما حكم هذا البيع ؟ اختلف العلماء :
القول الأول : أنه صحيح مع الإثم .
وهذا مذهب الجمهور كما ذكر ذلك الشوكاني .
القول الثاني : أنه باطل .
وهذا مذهب المالكية والحنابلة ورجحه ابن حزم .
وجوب أن نكون إخواناً في الله ، لقوله { وكونوا عباد الله إخوانا } .
قال ابن رجب رحمه الله : ” هذا ذكره النبي - صلى الله عليه وسلم - كالتعليل لما تقدم ، وفيه إشارة إلى أنهم إذا تركوا التحاسد والتناجش والتباغض والتدابر وبيع بعضهم على بعض كانوا إخواناً “ .
س- وكيف نحقق الإخوة ؟
أن نفعل كل ما يقوي الإخوة كالسلام ، وتشيت العاطس ، وعيادة المريض ، وتشييع الجنازة ، وإجابة الدعوة ، والنصح بالغيب .
ونبتعد عن كل ما يضعف الإخوة أو يزيلها كالتباغض ، والحسد ، والغش .
وقد جاءت نصوص تدل على أن المؤمنين إخوة :
قال تعالى { إنما المؤمنون إخوة } .
وقال - صلى الله عليه وسلم - ( المسلم أخو المسلم ) .
من مقتضيات الإخوة : عدم الظلم ، وعدم الخذلان ، وعدم الكذب ، وعدم الاحتقار .
عدم الظلم : سبق في حديث ( فلا تظالموا ) .
عدم الخذلان : لقوله - صلى الله عليه وسلم - ( انصر أخاك ظالماً أو مظلوماً ، قالوا يا رسول الله : أنصره مظلوماً ، فكيف أنصره ظالماً ؟ قال : تمنعه من الظلم فذلك نصرك إياه ) متفق عليه .
عدم الكذب : فلا يجوز أن يكذب على أخيه المسلم ، بل لا يحدثه إلا صدقاً .
والكذب محرم وهو من قبائح الذنوب .
قال تعالى { ولا تقف ما ليس لك به علم } .
وقال تعالى { ما يلفظ من قول إلا لديه رقيب عتيد } .(1/109)
وقال - صلى الله عليه وسلم - ( إن الكذب يهدي إلى الفجور ، وإن الفجور يهدي إلى النار ، وإن الرجل ليكذب حتى يكتب عند الله كذاباً ) متفق عليه .
وقال - صلى الله عليه وسلم - ( آية المنافق ثلاث : إذا حدث كذب ، .. ) متفق عليه .
وقال - صلى الله عليه وسلم - ( ويل للذي يحدث فيكذب ، ليضحك القوم ، ويل له ويل له ) رواه أبو داود .
عدم الاحتقار : فلا يجوز للمسلم أن يحتقر وأن يستصغر أخاه المسلم .
وهو ناشىء عن الكبر ، كما قال النبي - صلى الله عليه وسلم - ( الكبر بطر الحق وغمط الناس ) رواه مسلم .
وغمط الناس : الطعن عليهم وازرداؤهم .
وقال تعالى { يا أيها الذين آمنوا لا يسخر قوم من قوم عسى أن يكونوا خيراً منهم ولا نساء من نساء عسى أن يكن خيراً منهن } .
وقال - صلى الله عليه وسلم - كما في هذا الحديث ( بحسب امرىء من الشر أن يحقر أخاه المسلم ) يعني يكفيه من الشر احتقاره أخاه المسلم ، فإنه إنما يحقر أخاه المسلم لتكبره عليه ، والكبر من أعظم خصال الشر .
أن المسلم على المسلم حرام : دمه ، وماله ، وعرضه .
دمه : سبقت الأدلة على تحريم قتل المسلم بغير حق .
ماله : لا يجوز أخذ مال المسلم بغير حق .
قال تعالى { ولا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل } .
وقال - صلى الله عليه وسلم - ( لا يحل مال امرىء مسلم إلا بطيب نفس منه ) رواه البخاري .
عرضه : فلا يجوز أن يغتابه .
والغيبة حرام بالكتاب والسنة والإجماع .
قال تعالى { ولا يغتب بعضكم بعضاً أيحب أحدكم أن يأكل لحم أخيه ميتاً فكرهتموه } .
وقال - صلى الله عليه وسلم - ( إن دماءكم وأموالكم وأعراضكم حرام عليكم كحرمة يومكم هذا ) متفق عليه .
وعن أنس . قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ( لما عرج بي مررت بقوم لهم أظفار من نحاس يخمشون وجوههم وصدورهم فقلت : من هؤلاء يا جبريل ؟ قال : هؤلاء الذين يأكلون لحوم الناس ويقعون في أعراضهم ) رواه أبو داود .(1/110)
وعن عائشة قالت : ( قلت للنبي - صلى الله عليه وسلم - : حسبك من صفية كذا وكذا [ قال بعض الرواة : تعني قصيرة ] فقال : لقد قلت كلمة لو مزجت بماء البحر لمزجته ) رواه أبو داود .
قال النووي : ” هذا الحديث من أبلغ الزواجر عن الغيبة “ .
من أقوال السلف :
قال البخاري : ” ما اغتبت أحداً منذ علمت أن الغيبة حرام “ .
قال يحيي بن معاذ : ” ليكن حظ المؤمن منك ثلاثاً : إن لم تنفعه فلا تضره ، وإن لم تفرحه فلا تغمه ، وإن لم تمدحه فلا تذمه “ .
واغتاب رجل عند معروف الكرخي فقال له : ” اذكر القطن إذا وضع على عينيك “ .
وقيل للربيع بن خثيم : ” ما نراك تعيب أحداً ؟ فقال : لست عن نفسي راضياً فأتفرغ لذم الناس “ .
وقال ابن المبارك : ” لو كنت مغتاباً أحداً لاغتبت والديّ لأنهما أحق بحسناتي “ .
الحديث السادس والثلاثون
عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال ( من نفس عن مؤمن كربة من كرب الدنيا نفس الله عنه كربة من كرب يوم القيامة ، ومن يسر على معسر يسر الله عليه في الدنيا والآخرة ، والله في عون العبد ما كان العبد في عون أخيه ، وما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله ، يتلون كتاب الله ويتدارسونه بينهم ، إلا نزلت عليهم السكينة ، وغشيتهم الرحمة ، وحفتهم الملائكة ، وذكرهم الله فيمن عنده ، ومن بطأ به عمله لم يسرع به نسبه ) رواه مسلم .
-----------------------------------------------------
معاني الكلمات :
نفس : فرج .
كربة : الشدة العظيمة .
يسر : سهل .
معسر : المعسر من أثقلته الديون وعجز عن وفائها .
عون العبد : إعانته وتسديده .
ما كان العبد : ما دام .
سلك طريقاً : يشمل الطريق الحسي والمعنوي .
السكينة : الطمأنينة .
حفتهم : أحاطت بهم .
الملائكة : عالم غيبي خلقوا من نور عملهم عبادة الله .
بطأ : أخر .
الفوائد :
فضل تنفيس الكرب عن المؤمنين ، وهذا يشكل كل كربة سواء في البدن أو في المال .(1/111)
كإقراضه مال ، أو فك أسره ، أو الوقوف معه في محنته .
أن التنفيس والتفريج عن المسلمين من أسباب التنفيس والنجاة من كرب يوم القيامة .
وأسباب النجاة من كرب يوم القيامة كثيرة :
منها : التنفيس عن المسلمين .
لحديث الباب ( من نفس عن مؤمن كربة ..... ) ..
ومنها : إنظار المعسر أو الوضع عنه .
قال - صلى الله عليه وسلم - ( من سره أن ينجيه الله من كرب يوم القيامة فلينظر معسر أو يضع عنه ) رواه مسلم
ومنها : الوفاء بالنذر ، وإطعام الطعام لله .
قال تعالى { يوفون بالنذر ويخافون يوماً كان شره مستطيراً ، ويطعمون الطعام على حبه مسكيناً ويتيماً وأسيراً . إنما نطعكم لوجه الله لا نريد منكم جزاء ولا شكوراً . إنا نخاف من ربنا يوماً عبوساً قمطريراً . فوقاهم الله شر ذلك اليوم .. } .
أن الجزاء من جنس العمل ، فكما نفس عن مسلم في الدنيا ، جزاه الله أن نفس عنه كربة من كرب يوم القيامة .
وهذه قاعدة عظيمة في الشرع وهي أن الجزاء من جنس العمل .
قال - صلى الله عليه وسلم - ( ارحموا من في الأرض يرحمكم من في السماء ) .
وقال - صلى الله عليه وسلم - ( من ستر مسلماً ستره الله في الدنيا والآخرة ) .
إثبات يوم القيامة ، وسمي بذلك :
أولاً : لأن الناس يقومون من قبورهم .
قال تعالى { يوم يقوم الناس لرب العالمين } .
ثانياً : ولقيام الأشهاد .
لقوله تعالى { ويوم يقوم الأشهاد } .
ثالثاً : ولقيام الملائكة .
لقوله تعالى { يوم يقوم الروح والملائكة صفاً } .
أن في يوم القيامة كرباً عظيمة .
قال تعالى { وكان يوماً على الكافرين عسيراً } .
وقال تعالى { على الكافرين غير يسير } .
وقال سبحانه { يقول الكافرون هذا يوم عسر } .
وقال - صلى الله عليه وسلم - ( يعرق الناس يوم القيامة حتى يذهب عرقهم في الأرض سبعين ذراعاً ، ويلجمهم حتى يبلغ آذانهم ) رواه مسلم .
قال القحطاني رحمه الله :
يوم القيامة لو علمتَ بهوله لفررت من أهلٍ ومن أوطانِ(1/112)
يومٌ تشققت السماء لهوله وتشيب منه مفارق الولدان
يوم عبوس قمطريرٌ شرهُ في الخلقِ منتشرٌ عظيم الشأنِ
فضل التيسير على المسلمين ، وخاصة المعسرين . وأن من يسر على معسر جازاه الله بأمرين :
التيسير في الدنيا – والتيسير في الآخرة .
والتيسير على المعسر الذي لا يملك شيئاً واجب ، ولا يجوز مطالبته .
لقوله تعالى { وإن كان ذو عسرة فنظرة إلى ميسرة } .
فضل الستر على المسلم .
وقد قال - صلى الله عليه وسلم - ( من ستر عورة أخيه المسلم ستر الله عورته يوم القيامة ، ومن كشف عورة أخيه المسلم كشف الله عورته حتى يفضحه بها في بيته ) رواه ابن ماجه .
وقال - صلى الله عليه وسلم - ( يا معشر من آمن بلسانه ولم يدخل الإيمان في قلبه ، لا تغتابوا المسلمين ، ولا تتبعوا عوراتهم ، فإنه من اتبع عوراتهم تتبع الله عورته ، ومن تتبع الله عورته يفضحه في بيته ) رواه أبو داود .
قال الإمام مالك : ” أدركت بهذه البلدة _ يعني المدينة _ أقواماً ليس لهم عيوب ، فعابوا الناس فصارت لهم عيوب ، وأدركت بهذه البلدة أقواماً كانت لهم عيوب ، فسكتوا عن عيوب الناس فنسيتْ عيوبهم “ .
قال ابن رجب رحمه الله : ” واعلم أن الناس على ضربين :
أحدهما : من كان مستوراً لا يعرف بشيء من المعاصي ، فإذا وقعت منه هفوة أو زلة ، فإنه لا يجوز هتكها ولا كشفها ولا التحدث بها ، لأن ذلك غيبة محرمة ، وهذا هو الذي وردت فيه النصوص .
ومثل هذا لو جاء تائباً نادماً ، وأقر بحده ، لم يفسره ولم يستفسره ، بل يؤمر بأن يرجع ويستر نفسه ، كما أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - ماعزاً والغامدية .
والثاني : من كان مشتهراً بالمعاصي معلناً بها ، ولا يبالي بما ارتكب منها ، ولا بما قيل له ، هذا هو الفاجر المعلن ، ومثل هذا لا بأس بالبحث عن أمره ، لتقام عليه الحدود ، ومثل هذا لا يشفع له إذا أخذ ولو لم يبلغ السلطان ، بل يترك حتى يقام عليه الحد ، ليكشف ستره ، ويرتدع به أمثاله “ .(1/113)
عون الله لمن أعان مسلماً ، لكن هذا مقيد بما إذا كان على البر والتقوى لقوله تعالى { وتعاونوا على البر والتقوى } وأما إذا كان على إثم فحرام ، لقوله تعالى { ولا تعاونوا على الإثم والعدوان } . وأما إذا كان على أمر مباح فهذا من الإحسان لقوله تعالى { وأحسنوا إن الله يحب المحسنين } .
أن سلوك طريق العلم مؤد إلى الجنة ، وهذا الطريق يدخل فيه سلوك الطريق الحقيقي ، وهو المشي بالأقدام إلى مجالس العلماء ، ويدخل فيه سلوك الطرق المعنوية إلى حصول العلم ، مثل : حفظه ، ومدارسته ، ومذاكرته ، ومطالعته ، وكتابته .
فضل طلب العلم ، وأنه من أسباب دخول الجنة ، وللعلم فضائل كثيرة :
أولاً : أنه من أسباب دخول الجنة .
لحديث الباب .
ثانياً : من أسباب الرفعة .
قال تعالى { يرفع الله الذين آمنوا منكم والذين أوتوا العلم درجات } .
ثالثاً : أن الله لم يأمر نبيه بالاستزادة إلا من العلم .
قال تعالى { وقل رب زدني علماً } .
قال ابن القيم : ” وكفى بهذا شرفاً للعلم أن أمر نبيه أن يسأله المزيد منه “ .
رابعاً : أن الله استشهدهم وقرن شهادتهم بشهادته وشهادة الملائكة .
قال تعالى { شهد الله أنه لا إله إلا هو والملائكة وأولو العلم قائماً بالقسط } .
قال القرطبي : ” هذه الآية دليل على فضل العلم وشرف العلماء ، فإنه لو كان أحد أشرف من العلماء لقرنهم الله باسمه واسم ملائكته كما قرن العلماء “ .
خامساً : أن العلم دليل على الخير .
قال - صلى الله عليه وسلم - ( من يرد الله به خيراً يفقهه في الدين ) متفق عليه .
قال الحافظ ابن حجر : ” يفقهه : أي يفهمه ، ومفهوم الحديث أن من لم يتفقه في الدين _ أي يتعلم قواعد الإسلام وما يتصل بها من الفروع _ فقد حرم الخير “ .
سادساً : أن الملائكة تضع أجنحتها لطالب العلم .
قال - صلى الله عليه وسلم - ( وإن الملائكة لتضع أجنحتها لطالب العلم رضاً بما يصنع ) رواه أبو داود .(1/114)
قال ابن القيم : ” ووضع الملائكة أجنحتها له تواضعاً له وتوقيراً وإكراماً لما يحمله من ميراث النبوة “ .
قال الخطابي : ” وفي معنى وضعها أجنحتها ثلاثة أقوال :
أحدها : أنه بسط الأجنحة . الثاني : أنه بمعنى التواضع تعظيماً لطالب العلم . الثالث : أنه المراد به النزول عند مجالس العلم وترك الطيران “ .
سابعاً : العلماء ورثة الأنبياء .
قال - صلى الله عليه وسلم - ( وإن العلماء ورثة الأنبياء ) رواه أبو داود .
ثامناً : فضل العلم أفضل من فضل العبادة .
قال - صلى الله عليه وسلم - ( فضل العلم خير من فضل العبادة ) رواه الطبراني .
من أقوال السلف .
قال علي : ” كفى بالعلم شرفاً أن يدعيه من لا يحسنه ويفرح به إذا نسب إليه “ .
وقال معاذ : ” تعلموا العلم فإن تعلمه لله خشية وطلبه عبادة ومدارسته تسبيح “ .
وقال الشافعي : ” ليس شيء بعد الفرائض أفضل من طلب العلم “ .
وقال : ” من أراد الدنيا فعليه بالعلم ، ومن أراد الآخرة فعليه بالعلم “ .
وقال سهل بن عبد الله : ” من أراد النظر إلى مجالس الأنبياء فلينظر إلى مجالس العلماء “ .
وقال الزهري : ” ما عبد الله بمثل الفقه “ .
وقال الثوري : ” ما من عملٍ أفضل من طلب العلم إذا صحت النية “ .
فضل الاجتماع على ذكر الله ومدارسة القرآن .
قال ابن رجب رحمه الله : ” هذا يدل على استحباب الجلوس في المساجد لتلاوة القرآن ومدارسته ، وهذا إن حمل على تعلم القرآن وتعليمه فلا خلاف في استحبابه “ .
وفي صحيح البخاري عن عثمان عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ( خيركم من تعلم القرآن وعلمه ) .
وقال أبو عبد الرحمن السلمي : ” فذلك الذي أقعدني في مقعدي هذا “ .
وكان قد علم القرآن في زمن عثمان بن عفان حتى بلغ الحجاج بن يوسف .
وكان النبي - صلى الله عليه وسلم - أحياناً يأمر من يقرأ القرآن ليسمع قراءته ، كما كان ابن مسعود يقرأ عليه ، وقال : ( إني أحب أن أسمعه من غيري ) .(1/115)
وكان عمر يأمر من يقرأ عليه وعلى أصحابه وهم يستمعون ، فتارة يأمر أبا موسى ، وتارة يأمر عقبة بن عامر .
وجاءت أحاديث تدل على فضل الإجتماع على ذكر الله مطلقاً :
ففي الصحيحين عن أبي هريرة . عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال ( إن لله ملائكة يطوفون في الطرق يلتمسون حلق الذكر ، فإذا وجدوا قوماً يذكرون الله تنادوا هلموا إلى حاجتكم ، فيحفونهم بأجنحتهم إلى السماء الدنيا .. الحديث وفيه : فيقول الله : أشهدكم أني غفرت لهم ) .
وفي صحيح مسلم عن معاوية ( أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خرج على حلقة من أصحابه ، فقال : ما أجلسكم ؟ قالوا : جلسنا نذكر الله ونحمده لما هدانا للإسلام ومنّ علينا به ، فقال : آلله ما أجلسكم إلا ذلك ، قالوا : آلله ما أجلسنا إلا ذلك ، قال : أما إني لم أستحلفكم تهمة لكم ، ولكن أتاني جبريل فأخبرني أن الله يباهي بكم الملائكة )
قال ابن القيم رحمه الله : ” أن مجالس الذكر مجالس الملائكة ، فليس من مجالس الدنيا لهم مجلس إلا مجلس يذكر الله تعالى فيه “ ، ثم ذكر حديث ( إن لله ملائكة سيارة ) .
وقال : ” فهذا من بركتهم على نفوسهم وعلى جليسهم ، فلهم نصيب من قوله : وجعلني مباركاً أينما كنت ، فهكذا المؤمن مبارك أين حل ، والفاجر مشؤوم أين حل “ .
أن من جلس في بيت من بيوت الله لذكر الله وقراءة القرآن ، فإنه يحصل على أربع مزايا :
الأولى : تتنزل عليهم السكينة .
ففي الصحيحين عن البراء بن عازب قال ( كان رجل يقرأ سورة الكهف وعنده فرس ، فتغشته سحابة فجعلت تدور وتدنو ، وجعل فرسه ينفر منها ، فلما أصبح أتى النبي - صلى الله عليه وسلم - فذكر ذلك له ، فقال : تلك السكينة تنزل للقرآن ) .
الثانية : غشيان الرحمة .
الثالثة : أن الملائكة تحف بهم .
الرابعة : أن الله يذكرهم فيمن عنده .(1/116)
قال ابن رجب رحمه الله : ” وهذه الأربع لكل مجتمعين على ذكر الله ، كما في صحيح مسلم عن أبي هريرة وأبي سعيد كلاهما عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : إن لأهل الذكر تعالى أربعاً : تنزل عليهم السكينة ، وتغشاهم الرحمة ، وتحف بهم الملائكة ، ويذكرهم الرب فيمن عنده ) “ .
أن من ذكر الله ذكره الله .
كما قال تعالى { فاذكروني أذكركم } .
وقال - صلى الله عليه وسلم - ( قال تعالى : من ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي ، ومن ذكرني في ملأ ذكرته في ملأ خير منه ) متفق عليه .
الحث على تدبر القرآن وتفهمه .
قال ابن تيمية : ” المطلوب من القرآن هو فهم معانيه والعمل به ، فإن لم تكن هذه همته لم يكن من أهل العلم والدين “ .
قال ابن القيم : ” فلا شيء أنفع للقلب من قراءة القرآن بالتدبر والتفكر “ .
وقال النووي : ” وينبغي للقارئ أن يكون شأنه الخشوع والتدبر والخضوع ، فهذا هو المقصود المطلوب ، وبه تنشرح الصدور ، وتستنير القلوب “ .
وقال الحسن البصري : ” يا ابن آدم كيف يرق قلبك ، وإنما همتك في آخر السورة “ .
وقال إبراهيم الخواص : ” دواء القلوب في خمسة : ... وذكر منها : قراءة القرآن بالتدبر “ .
وقد ذم النبي - صلى الله عليه وسلم - الخوارج بقوله : ( يقرؤون القرآن لا يجاوز حناجرهم ) أي أنهم يأخذون أنفسهم بقراءة القرآن وإقرائه وهم لا يتفقهون فيه ولا يعرفون مقاصده .
أن العبرة بالإيمان والعمل الصالح لا الأحساب والأنساب ، فالله رتب الجزاء على الأعمال لا على الأنساب .
قال تعالى { من عمل صالحاً فلنفسه ومن أساء فعليها } .
وقال تعالى { إن أكرمكم عند الله أتقاكم } .
وقال - صلى الله عليه وسلم - ( من بطأ به عمله لم يسرع به نسبه ) .
وقال - صلى الله عليه وسلم - ( إن الله لا ينظر إلى صوركم ولا إلى أجسادكم ولكن ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم ) رواه مسلم .(1/117)
وعن أبي هريرة . قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حين أنزل عليه { وأنذر عشيرتك الأقربين } : ( يا معشر قريش ! اشتروا أنفسكم من الله ، فإني لا أغني عنكم من الله شيئاً ، .... ، يا فاطمة بنت محمد ، سليني ما شئت ، لا أغني عنك من الله شيئاً ) متفق عليه .
الحديث السابع والثلاثون
عن ابن عباس رضي الله عنهما . عن النبي - صلى الله عليه وسلم - فيما يرويه عن ربه تبارك وتعالى قال ( إن الله كتب الحسنات والسيئات ، ثم بيّن ذلك ، فمن همّ بحسنة فلم يعملها كتبها الله عنده حسنة كاملة ، وإن هم بها فعملها ، كتبها عنده عشر حسنات إلى سبعمائة ضعف إلى أضعاف كثيرة ، وإن هم بسيئة فلم يعملها كتبها الله عنده حسنة كاملة ، وإن هم بها فعملها كتبها الله سيئة واحدة ) رواه البخاري ومسلم .
-----------------------------------------------------
معاني الكلمات :
إن الله كتب الحسنات والسيئات : الكتابة بمعنى التدوين والإحصاء ، والمراد أنها مكتوبة على العبد في الأزل .
ثم بين ذلك : أي فصله .
فمن هم : الهم هو الإرادة والقصد .
الفوائد :
في هذا الحديث بيان كتابة الحسنات والسيئات والهم بالحسنة والسيئة ، وأنها تنقسم إلى أنواع :
النوع الأول : أن يعمل الحسنة .
فهذا يضاعفها الله له إلى عشر حسنات .
كما قال تعالى { من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها } .
وقد يضاعفها إلى سبعمائة ضعف إلى أضعاف كثيرة .
كما قال تعالى { مثل الذين ينفقون أموالهم في سبيل الله كمثل حبة أنبتت سبع سنابل في كل سنبلة مائة حبة والله يضاعف لمن يشاء والله واسع عليم } .
وعن ابن مسعود قال ( جاء رجل بناقة مخطومة ، فقال : يا رسول الله ! هذه في سبيل الله ، فقال : لك بها يوم القيامة سبعمائة ناقة ) رواه مسلم .
وفي حديث الصيام ( إلا الصيام ، فإنه لي وأنا أجزي به ) متفق عليه .(1/118)
قال ابن رجب رحمه الله : ” أن مضاعفة الحسنات زيادة على العشر تكون بحسب حسن الإسلام ، ويكون بحسب كمال الإخلاص ، وبحسب فضل ذلك العمل في نفسه ، وبحسب الحاجة إليه “ .
وقال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله :
” ( إلى سبعمائة ضعف ) وهذا تحت مشيئة الله تعالى ، فإن شاء ضاعف هذا ، وإن شاء لم يضاعف “ .
النوع الثاني : الهم بالحسنة فلم يعملها فإنها تكتب له حسنة كاملة من غير تضعيف .
كما في حديث الباب .
وفي رواية ( إذا تحدث عبدي بأن يعمل حسنة ، فأنا أكتبها له حسنة ) .
والمراد بالهم العزم المصمم الذي يوجد معه الحرص على العمل لا مجرد الخاطر .
مثال : أراد أن يذهب لمجلس علم ، فمرض أحد أهله فانشغل به .
وكمن أراد أن يتصدق بصدقة فلم يجد معه دراهم ، وكان يظن وجودها .
النوع الثالث : أن يعمل السيئة ، فهذا تكتب عليه سيئة واحدة من غير مضاعفة .
كما في حديث الباب ( وإن هم بسيئة فعملها كتبها الله سيئة واحدة ) .
وقال تعالى { ومن جاء بالسيئة فلا يجزى إلا مثلها وهم لا يظلمون } .
النوع الرابع : الهم بالسيئة ثم يتركها خوفاً من الله ، فهذا تكتب له حسنة .
كما في حديث الباب ( وإن هم بسيئة فلم يعملها كتبها الله عنده حسنة كاملة ) .
وقد جاء في رواية ( إنما تركها من أجلي أو من جرائي ) .
مثل قصة الذي همّ بابنة عمه بسوء فتركها لله ، فأجاب الله دعاءه وفرج همه فانفرجت الصخرة .
قال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله : ” من هم بالسيئة وسعى في تحصيلها لكن عجز عنها ، فهذا يكتب عليه وزر السيئة كاملاً ، دليل ذلك ، قول النبي - صلى الله عليه وسلم - : إذا التقى المسلمان بسيفيهما فالقاتل والمقتول في النار ، قالوا : يا رسول الله ! هذا القاتل ، فما بال المقتول ؟ قال : لأنه كان حريصاً على قتل صاحبه “ .
عظم فضل الله ورحمته بعباده .
فمن رحمته : أن الحسنة مضاعفة ، والسيئة لا تضاعف .
ومن رحمته : جعل أبواب الجنة ثمانية وأبواب النار سبعة .(1/119)
ومن رحمته : ما جاء في قوله - صلى الله عليه وسلم - ( إن الله تجاوز لي عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه ) .
ومن رحمته : ما جاء في حديث ( وجعلت لي الأرض مسجداً وطهوراً فأيما رجل من أمتي أدركته الصلاة فليصل ، وأحلت لي الغنائم ولم تحل لأحد قبلي ) .
ومن رحمته : أن أمة الإسلام هي أقل الأمم عملاً ، وأكثرهم أجراً .
جاء في رواية في آخر الحديث ( ولا يهلك على الله هالك ) ، قال ابن رجب رحمه الله : ” يعني بعد هذا الفضل العظيم من الله والرحمة الواسعة منه بمضاعفة الحسنات والتجاوز عن السيئات ، لا يهلك على الله إلا من هلك ، وألقى بيده إلى التهلكة ، وتجرأ على السيئات ، ورغب عن الحسنات ، وأعرض عنها “ .
أسلوب الترغيب والترهيب من أفضل أساليب التربية .
اطلاع الملائكة على ما يهم به الإنسان .
على المسلم أن ينوي فعل الخير دائماً وأبداً ، لعله يكتب له أجره وثوابه .
الإيمان باللوح المحفوظ .
إحصاء الحسنات والسيئات على الإنسان .
واختلف العلماء هل تكتب الملائكة المباح ؟
فقيل : تكتب ما فيه ثواب وعقاب .
وقيل : تكتب كل شيء من الكلام ، ورجحه ابن كثير .
لعموم قوله تعالى { ما يلفظ من قول إلا لديه رقيب عتيد } .
ولقوله - صلى الله عليه وسلم - ( إن الرجل ليتكلم بالكلمة من سخط الله ما يظن أن تبلغ ما بلغت ، يكتب الله عليه بها سخطه إلى يوم يلقاه ) رواه أحمد .
الحث على العمل الصالح والمسارعة فيه .
أعظم التجارة العمل الصالح .
الحديث الثامن والثلاثون(1/120)
عن أبي هريرة - رضي الله عنه - . قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ( إن الله تعالى قال : من عادى لي ولياً فقد آذنته بالحرب ، وما تقرب إلي عبدي بشيء أحب إليّ مما افترضته عليه ، ولا يزال عبدي يتقرب إليّ بالنوافل حتى أحبه ، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به ، وبصره الذي يبصر به ، ويده التي يبطش بها ، ورجله التي يمشي بها ، ولئن سألني لأعطينه ، ولئن استعاذني لأعيذنه ) رواه البخاري .
-----------------------------------------------------
معاني الكلمات :
عادى : أي آذى .
ولياً : الولي : هو المؤمن التقي كما بينه الله بقوله { ألا إن أولياء الله لا خوف عليهم ولا هم يحزنون الذين آمنوا وكانوا يتقون } .
آذنته : أعلمته .
كنت سمعه الذي يسمع به : أي أن الله يسدده في هذه الجوارح فلا يستعملها إلا في طاعته .
الفوائد :
فضيلة أن يكون الإنسان ولياً من أولياء الله .
وولاية الله ليست بالدعاوى والكلمات وإنما بالعمل وبشروطها :
أولاُ : الإيمان بالله .
ثانياً : تقوى الله .
قال تعالى { ألا إن أولياء الله لا خوف عليهم ولا هم يحزنون الذين آمنوا وكانوا يتقون } .
وجوب محبة الله .
قال تعالى { إنما وليكم الله ورسوله والذين آمنوا الذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة وهم راكعون ، ومن يتول الله ورسوله والذين آمنوا فإن حزب الله هم الغالبون } .
من صفات أولياء الله :
أشداء على الكفار – رحماء بينهم . قال تعالى { محمد رسول الله والذين معه أشداء على الكفار رحماء بينهم } .
تحريم معاداة أولياء الله .
وجوب معاداة أعداء الله وعدم محبتهم .
قال تعالى { لا تتخذوا عدوي وعدوكم أولياء } .
أن أفضل ما يتقرب العبد لربه بالفرائض .
الصلاة الفرض أفضل من الصلاة النفل .
والصوم الفرض أفضل من الصوم النفل وهكذا .(1/121)
وأفضل فرائض البدن التي تقرب إلى الله الصلاة ، كما قال تعالى { واسجد واقترب } وقال - صلى الله عليه وسلم - ( أقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد ) .
قال عمر بن الخطاب : ” أفضل الأعمال أداء ما افترض الله ، والورع عما حرم الله ، وصدق النية فيما عند الله “ .
الأعمال الصالحة تتفاضل من حيث الجنس ومن حيث النوع .
فمن حيث الجنس : الفرائض أحب إلى الله من النوافل .
ومن حيث النوع : الصلاة أحب إلى الله مما دونها من الفرائض .
إثبات المحبة الله ، محبة تليق بجلاله من غير تحريف ولا تعطيل ، ولا تشبيه ولا تمثيل .
قال تعالى { إن الله يحب المحسنين } .
وقال تعالى { إن الله يحب المتقين } .
وقال - صلى الله عليه وسلم - ( لأعطين الراية غداً رجلاً يحب الله ورسوله ويحبه الله ورسوله ) .
أن من أسباب محبة الله كثرة النوافل لقوله ( ولا يزال يتقرب إليّ بالنوافل حتى أحبه ) .
وهناك أسباب تجلب محبة الله :
منها : كثرة النوافل .
كما في حديث الباب .
قال ابن القيم : ” التقرب إلى الله بالنوافل بعد الفرائض ، فإنها توصله إلى درجة المحبوبية بعد المحبة “ .
ومنها : متابعة الرسول .
قال تعالى { قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله } .
قال أبو سليمان الداراني : ” لما ادّعت القلوب محبة الله ، أنزل آية المحنة { قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله } “ .
ومنها : الذلة على المؤمنين .
ومنها : العزة على الكافرين .
ومنها : الجهاد في سبيل الله .
ومنها : لا يخافون لومة لائم .
قال تعالى { يا أيها الذين آمنوا من يرتد منكم عن دينه فسوف يأتي الله بقوم يحبهم ويحبونه أذلة على المؤمنين أعزة على الكافرين يجاهدون في سبيل الله ولا يخافون لومة لا ئم ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله واسع عليم } .
قال ابن القيم : ” فذكر لهم أربع علامات :
أحدها : أذلة على المؤمنين ، قيل معناه أرقاء ، وقيل : رحماء مشفقين عليهم ، عاطفين عليهم .(1/122)
العلامة الثانية : أعزة على الكافرين ، قال عطاء : للمؤمنين كالوالد لولده ، والعبد لسيده ، وعلى الكافرين كالأسد على فريسته ( أشداء على الكفار رحماء بينهم ) .
العلامة الثالثة : الجهاد في سبيل الله بالنفس واليد ، واللسان ، والمال ، وذلك تحقيق دعوى المحبة .
العلامة الرابعة : أنهم لا تأخذهم في الله لومة لائم ، وهذا علامة صحة المحبة “ .
ومنها : كثرة ذكره سبحانه ، لأنه من أحب شيئاً أكثر من ذكره .
ومنها : قراءة القرآن بالتدبر والتفهم .
لأنه ما تقرب المتقربون بمثل ما خرج من الله ، وهو القرآن .
قال خباب : ” تقرب إلى الله ما استطعت ، واعلم أنك لن تتقرب إليه بشيء هو أحب إليه من كلامه .
لا شيء عند المحبين أحلى من كلام محبوبهم ، فهو لذة قلوبهم وغاية مطلوبهم “ .
كان بعضهم يكثر تلاوة القرآن ، ثم اشتغل بغيره ، فرأى في المنام قائلاً يقول :
إن كنتَ تزعمُ حبي فلم جفوتَ كتابي
أما تأملت ما فيه من لطيف عتابي
فضل المداومة والاستمرار على العمل الصالح ، لقوله ( ولا يزال عبدي يتقرب .. ) فلا يعتبر الإنسان متقرباً إلى الله بالنوافل محافظاً عليها إلا باستمراره على هذه الطاعة ، وإلا فلا يعتبر متقرباً إلى الله بالنوافل .
فالعمل الصالح المستمر مهم لأمرين :
أولاً : أن هذا هو هدي النبي - صلى الله عليه وسلم - .
عن عائشة . قالت ( كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا عمل عملاً أثبته) رواه مسلم .
ثانياً : أن الأعمال المداوم عليها أحب إلى الله .
قال - صلى الله عليه وسلم - : ( أحب الأعمال إلى الله أدومها وإن قل ) متفق عليه .
وإذا كان العمل الصالح مداوماً عليه ، فإنه يكون له آثاراً إيجابية :
منها : دوام اتصال القلب بالله .
ومنها : سبب لمحبة الله .
ومنها : سبب للنجاة من الشدائد .
كما قال - صلى الله عليه وسلم - : ( من سره أن يستجيب الله له عند الشدائد فليكثر الدعاء في الرخاء ) رواه الترمذي .(1/123)
أن الله إذا أحب إنساناً وفقه وسدده ، ففي بصره فلا يرى إلا خيراً ، وفي سمعه فلا يسمع إلا خيراً ، وفي يده فلا يبطش إلا على حق . وفي رجله فلا يمشي إلا إلى خير . وإذا سأله أعطاه وأجاب دعاءه ، وأعاذه مما يكره .
وقد كان كثير من الصحابة مجابوا الدعوة : مثل سعد بن وقاص ، وسعيد بن زيد .
ــ عن جابر بن سمرة قال : ( شكا أهل الكوفة سعداً إلى عمر رضي الله عنه، فعزله واستعمل عليهم عماراً ، فشكوا حتى ذكروا أنه لا يحسن يصلي ، فأرسل إليه فقال: يا أبا إسحاق إن هؤلاء يزعمون انك لا تحسن تصلي ؟ قال أبو إسحاق: أما أنا ، والله فإني كنت أصلي بهم صلاة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ما أخرم عنها ، أصلي صلاة العشاء ، فأركد في الأوليين ، وأخف في الأخريين. قال : ذاك الظن بك يا أبا إسحاق. فأرسل معه رجلاً ، أو رجالاً ، إلى الكوفة ، فسأل عنه أهل الكوفة ، ولم يدع مسجداً إلا سأل عنه ، ويثنون معروفاً ، حتى دخل مسجداً لبني عبس ، فقام رجل منهم ، يقال له أسامة بن قتادة ، يكنى أبا سعدة ، قال : أما إذ نشدتنا ، فإن سعداً كان لا يسير بالسرية ، ولا يقسم بالسوية ، ولا يعدل في القضية. قال سعد: أما والله لأدعون بثلاث : اللهم إن كان عبدك هذا كاذباً ، قام رياءً وسمعةً ، فأطل عمره ، وأطل فقره ، وعرضه بالفتن . وكان بعد إذا سئل يقول : شيخ كبير مفتون ، أصابتني دعوة سعد. قال عبد الملك : فأنا رأيته بعد ، قد سقط حاجباه على عينيه من الكبر ، وإنه ليتعرض للجواري في الطرق يغمزهن ) . رواه البخاري(1/124)
ــ عن عروة : ( أن أروى بنت أويس ادعت على سعيد بن زيد أنه أخذ شيئاً من أرضها ، فخاصمته إلى مروان بن الحكم ، فقال سعيد : أنا كنت آخذ من أرضها شيئاً بعد الذي سمعت من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ؟ قال : وما سمعت من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ؟ قال : سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول : ” من أخذ شبراً من الأرض ظلماً طوقه إلى سبع أرضين “ فقال له مروان : لا أسألك بينة بعد هذا ، فقال : اللهم إن كانت كاذبة فعمّ بصرها ، واقتلها في أرضها . قال : فما ماتت حتى ذهب بصرها ، ثم بينما هي تمشي في أرضها إذ وقعت في حفرة فماتت ) . رواه مسلم
الحديث التاسع والثلاثون
عن ابن عباس رضي الله عنهما أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال ( إن الله تجاوز لي عن أمتي الخطأ والنسيان ، وما استكرهوا عليه ) حديث حسن رواه ابن ماجه والبيهقي وغيرهما .
-----------------------------------------------------
معاني الكلمات :
تجاوز : عفا .
أمتي : أمة الإجابة .
الخطأ : وهو ضد العمد وهو أن يفعل الشيء يظن صوابه فيتبين ضد قصده .
والنسيان : الذهول عن الشيء .
وما استكرهوا عليه : الإكراه : هو إلزام الشخص بما لا يريد .
الفوائد :
سعة رحمة الله بعباده ، حيث رفع الإثم عنهم إذا صدرت المخالفة نسياناً أو خطأ أو إكراهاً .
أن جميع المحرمات إذا فعلها الإنسان جاهلاً أو ناسياً أو مكرهاً فلا شيء عليه فيما يتعلق بحق الله ، أما حق الآدمي فلا يعفى عنه من حيث الضمان .
أمثلة :
- رجل قص شعره وهو محرم جاهلاً ، فلا شيء عليه .
- رجل تكلم بالصلاة ناسياً ، فصلاته صحيحة ولا شيء عليه .
- رجل قتل شخص آخر عمداً ، فلا إثم عليه ، وإن كان هذا لا يعفيه من المطالبة بالدية والكفارة .
- رجل أكره على الأكل والشرب في نهار رمضان ، فصومه صحيح ولا شيء عليه .
- رجل أكل في نهار رمضان ناسياً ، فصومه صحيح ولا شيء عليه .(1/125)
- رجل نسي صلاة ، فلا إثم عليه ويقضيها .
أن هذه الأمور الثلاثة : الخطأ ، والنسيان ، والإكراه سبب للتخفيف ومنع التكليف :
الأول : النسيان :
وهو ذهول القلب عن الشيء وعدم تذكره .
والدليل على أنه سبب للتخيف ومانع من موانع التكليف .
قوله تعالى { ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا } ، قال الله تعالى كما في صحيح مسلم ( قد فعلت ) .
ولحديث الباب .
الثاني : الخطأ .
وهو ضد العمد .
والدليل على أنه سبب للتخفيف ومانع من موانع التكليف .
قوله تعالى { ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا } .
وقوله تعالى { ولا جناح عليكم فيما أخطأتم به ولكن ما تعمدت قلوبكم } .
حديث الباب .
الثالث : الإكراه .
وهو : حمل الغير على أمر لا يرضاه لو خلي ونفسه ، بارتكاب النهي أو ترك الأمر .
والدليل على أنه سبب للتخفيف ومانع من موانع التكليف .
قوله تعالى { إلا من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان } .
ولحديث الباب .
فمن أكره على طلاق زوجته ، فإنها لا تطلق .
من أكره على الكفر ، وقلبه مطمئن بالإيمان ، فلا شيء عليه .
شروط الإكراه ليكون سبباً للتخفيف :
أولاً : أن يكون المكرِه قادر على إيقاع ما هدد به .
ثانياً : أن يكون المكرَه عاجزاً عن دفع هذا المكرِه .
ثالثاً : أن يكون هذا الإكراه مما يشق على المكرِه تحمله .
رابعاً : أن يظن أو يعلم المكرَه أن المكرِه سيوقع ما هدد به .
هذه الموانع سبب للتخفيف في حقوق الله ، لأنه مبني على العفو والرحمة ، وأما في حقوق الآدميين فلا تمنع من ضمان ما يجب ضمانه إذا لم يرض صاحب الحق بسقوطه .
فائدة :
لا يكون الإكراه سبباً للتخفيف في حالة واحدة ، وهي إذا أكره على قتل شخص ، فليس له أن يقتله حتى لو أدى إلى قتله ، وحكى بعض العلماء الإجماع على ذلك ، لأن قتله له افتداء لنفسه فيكون باختياره .
بيان رحمة الله ، حيث لا يكلف نفساً إلا وسعها . أي إلا طاقتها .
شرف هذه الأمة على غيرها .
النسيان من صفات الإنسان .(1/126)
الحديث الأربعون
عن ابن عمر رضي الله عنه . قال : ( أخذ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بمنكبيّ فقال : كن في الدنيا كأنك غريب أو عابر سبيل ) .
وكان ابن عمر يقول : إذا أمسيت فلا تنتظر الصباح ، وإذا أصبحت فلا تنتظر المساء ، وخذ من صحتك لمرضك ، ومن حياتك لموتك . رواه البخاري .
-----------------------------------------------------
معاني الكلمات :
أخذ : أمسك .
بمنكبي ّ : المنكب : مجتمع رأس العضد والكتف .
كأنك غريب : أي مثل الغريب ، والغريب هو البعيد عن وطنه .
أو عابر سبيل : قيل : أو للتخير والأحسن ، وقيل بمعنى : بل .
الفوائد :
قال النووي في شرح الحديث : ” معناه : لا تركن إلى الدنيا ولا تتخذها وطناً ، ولا تحدث نفسك بطول البقاء فيها ، ولا بالاعتناء بها ، ولا تتعلق منها إلا بماء يتعلق به الغريب في غير وطنه ، ولا تشتغل فيها بما لا يشتغل به الغريب الذي يريد الذهاب إلى أهله “ .
التزهيد في الدنيا ، وأنه لا ينبغي للإنسان أن يتخذها وطناً يركن إليها ، وهذا الحديث أصل في قصر الأمل في الدنيا ، وأن المؤمن ينبغي أن يكون فيها كأنه على جناح سفر .
قال - صلى الله عليه وسلم - ( ما مثلي ومثل الدنيا إلا كراكب استظل تحت شجرة ثم راح وتركها ) رواه الترمذي .
- قال بعض العلماء : فتأمل هذا المثال ، ومطابقته للواقع سواء ، فإنها في خضرتها كشجرة ، وفي سرعة انقضائها وقبضها شيئاً فشيئاً كالظل ، والعبد مسافر إلى ربه ، والمسافر إذا رأى شجرة في يوم صائف لا يحسن به أن يبني تحتها داراً ، ولا يتخذها قراراً ، بل يستظل بها بقدر الحاجة ، ومتى زاد على ذلك انقطع عن الرفاق .
- وقال تعالى { اعلموا أنما الحياة الدنيا لعب ولهو وزينة وتفاخر بينكم وتكاثر في الأموال والأولاد كمثل غيث أعجب الكفار نباته ثم يهيج فتراه مصفراً ثم يكون حطاماً وفي الآخرة عذاب شديد ومغفرة من الله ورضوان وما الحياة الدنيا إلا متاع الغرور } .(1/127)
بين الله تعالى في هذه الآية حال الدنيا التي افتتن الناس بها الذين قصر نظرهم ، وبيّن أنها من محقرات الأمور التي لا يركن إليها العقلاء ، فضلاً عن الافتتان بها والانهماك في طلبها وقتل الوقت في تحصيلها بأنها لعب لا ثمرة فيه سوى التعب ، ولهو تشغل صاحبها وتلهيه عما ينفعه في آخرته ، وزينة لا تفيد المفتون بها شرفاً ذاتياً ، ثم أشار سبحانه وتعالى إلى أنها مع ذلك سريعة الزوال ، قريبة الاضمحلال ، كمثل غيث راقَ الزراع نباته الناشيء به ، ثم يهيج ويتحرك وينمو ، فسرعان ما تراه مصفراً متغيراً ذابلاً بعدما رأيته أخضر ناضراً ، ثم يصير من اليبس هشيماً متكسراً .
من أقوال السلف :
- قال عيسى ابن مريم : ” من ذا الذي يبني على موج البحار داراً ، تلكم الدنيا فلا تتخذوها قراراً “ .
- وقال موسى عليه الصلاة والسلام : ” اعبروها ولا تعمروها “ .
- وقال أبو الدرداء لأهل الشام : ” يا أهل الشام ! ما لي أراكم تبنون ما لا تسكنون ، وتجمعون ما لا تأكلون ، وتًؤمّلون ما لا تدركون ، إن الذين قبلكم بنوا مشيداً وأملوا بعيداً وجمعوا عتيداً ، فأصبح أملهم غروراً ، ومساكنهم قبوراً “ .
- قال عمر بن عبد العزيز : ” ألا إن الدنيا بقاؤها قليل ، وعزيزها ذليل ، وغنيها فقير ، وشابها يهرم ، وحيها يموت ، فلا يغرنكم إقبالها مع معرفتكم بسرعة إدبارها ، فالمغرور من اغتر بها “ .
وقال علي : ” ارتحلت الدنيا مدبرة ، وارتحلت الآخرة مقبلة ، ولكل واحد منهما بنون ، فكونوا من أبناء الآخرة ولا تكونوا من أبناء الدنيا ، فإن اليوم عمل ولا حساب وغداً حساب ولا عمل “ .
وقال ابن السماك : ” إن الموتى لم يبكوا من الموت ، ولكنهم يبكون من حسرة الفوات ، فاتتهم والله دار لم يتزودوا منها ، ودخلوا داراً لم يتزودوا لها “ .
وقال بعض العلماء : ” أيها الإنسان إنما أنت نازل من الدنيا في منزل تعمره أيام عمرك ، ثم تخليه عند موتك لمن ينزله بعدك “ .
قال الشاعر :(1/128)
إن لله عباداً فطنا طلقوا الدنيا وخافوا الفتنا
نظروا إليها فلما علموا أنها ليست لحي وطنا
جعلوها لجة واتخذوا صالح الأعمال فيها سفنا
أحسن علاج للزهد في الدنيا وعدم الركون إليها هو قصر الأمل .
قال ابن القيم : ” قصر الأمل : هو العلم بقرب الرحيل ، وسرعة انقضاء مدة الحياة ، وهو من أنفع الأمور للقلب ، فإنه يبعثه على معافصة الأيام ، وانتهاز الفرص التي تمر مر السحاب ، ومبادرة طيء صحائف الأعمال ، ويثير ساكن عزماته إلى دار البقاء ، ويحثه على قضاء جهاز سفره ، وتدارك الفارط ، ويزهده في الدنيا ، ويرغبه في الآخرة ، فيقوم بقلبه _ إذا داوم مطالعة قصر الأمل _ شاهد من شواهد اليقين ، يريه فناء الدنيا ، وسرعة انقضائها ، وقلة ما بقي منها ، وأنها قد ترحلت مدبرة ، ولم يبق منها إلا صبابة كصبابة الإناء يتصابها صاحبها ، وأنها لم يبق منها إلا كما بقي من يوم صارت شمسه على روؤس الجبال ، ويريه بقاء الآخرة ودوامها ، وأنها قد ترحلت مقبلة ، وقد جاء أشراطها وعلاماتها ، وأنها مع لقائها كمسافر قد خرج صاحبه يتلقاه ، فكل منهما يسير إلى الآخر ، فيوشك أن يلتقيا سريعاً “ .
إلى أن قال رحمه الله :
” ويكفي في قصر الأمل :
قوله تعالى { أفرأيت إن متعناهم سنين ثم جاءهم ما كانوا يوعدون ما أغنى عنهم ما كانوا يمتعون } .
وقوله تعالى { ويوم يحشرهم كأن لم يلبثوا إلا ساعة من النهار يتعارفون بينهم } .
وقوله تعالى { كأنهم يوم يرونها لم يلبثوا إلا عشية أو ضحاها } .
وقوله تعالى { قالوا لبثنا يوماً أو بعض يوم فاسأل العادين قال إن لبثتم إلا قليلاً لو أنكم كنتم تعلمون } .
وقوله تعالى { كأنهم يوم يرون ما يوعدون لم يلبثوا إلا ساعة من نهار بلاغ فهل يهلك إلا القوم الفاسقون } .
وخطب النبي - صلى الله عليه وسلم - أصحابه يوماً والشمس على روؤس الجبال فقال : إنه لم يبق من الدنيا فيما مضى منها إلا كما بقي من يومكم هذا فيما مضى منه “ .(1/129)
ثم قال رحمه الله :
” وقصر الأمل بناؤه على أمرين :
تيقن زوال الدنيا ومفارقتها .
وتيقن لقاء الآخرة وبقائها ودوامها “ .
كان علي رضي الله عنه ، يشتد خوفه من اثنتين : طول الأمل ، واتباع الهوى ، قال : ” فأما طول الأمل فينسي الآخرة ، وأما اتباع الهوى فيصد عن الحق “ .
وحكي في قصر الأمل أن امرأة حبيب أبي محمد قالت : ” كان يقول لي – تعني أبا محمد – إن مت اليوم فأرسلي إلى فلان يغسلني ويفعل كذا وكذا ، واصنعي كذا ، فقيل لها : أرى رؤيا ؟ قالت : هكذا يقول كل يوم “ .
وعن إبراهيم بن سبط قال : ” قال لي أبو زرعة : لأقولن لك قولاً ما قلته لأحد سواك : ما خرجت من المسجد منذ عشرين سنة ، فحدثتني نفسي أن أرجع من ذلك “ .
ينبغي على المسلم أن يبادر بالأعمال الصالحات قبل هجوم هاذم اللذات ، فإنه لا يدري متى يأتيه .
فكل أحد سيموت .
قال تعالى { كل نفس ذائقة الموت } .
وقال تعالى { أينما تكونوا يدركم الموت } .
ولا يعرف أحد متى سيموت .
قال تعالى { وما تدري نفس ماذا تكسب غداً وما تدري نفس بأي أرض تموت } .
ويستحب الإكثار من ذكر الموت .
قال - صلى الله عليه وسلم - ( أكثروا ذكر هاذم اللذات ) رواه الترمذي .
فوائد ذكر الموت :
يردع عن المعاصي _ ويلين القلب القاسي _ ويذهب السرور بالدنيا _ ويزهد فيها _ ويهون المصائب _ ويبعث على الجد والاجتهاد في العمل للآخرة .
فالمقصود الأعظم من ذكر الموت الاستعداد له بالعمل الصالح .
قال تعالى { حتى إذا جاء أحدهم الموت قال رب ارجعون لعلي أعمل صالحاً فيما تركت كلا إنها كلمة هو قائلها ومن ورائهم برزخ إلى يوم يبعثون } .
وقال تعالى { وأنفقوا مما رزقناكم من قبل أن يأتي أحدكم الموت فيقول رب لولا أخرتني إلى أجل قريب فأصدق وأكن من الصالحين ولن يؤخر الله نفساً إذا جاء أجلها والله خبير بما تعملون } .
بالموت ينقطع عمل الإنسان .(1/130)
قال - صلى الله عليه وسلم - ( إذا مات الإنسان انقطع عمله إلا من ثلاث .... ) رواه مسلم .
من أقوال السلف :
قال الحسن : ” فضح الموت الدنيا فلم يترك لذي عقل عقلاً “ .
وقال بعض العلماء : ” من ذكر الموت هانت عليه مصائب الدنيا “ .
وقال آخر يوصي أخاً له : ” يا أخي احذر الموت في هذه الدار من قبل أن تصير إلى دار تتمنى بها الموت فلا تجده “ .
وقال شميط بن عجلان : ” من جعل الموت نصب عينيه لم يبال بضيق الدنيا ولا بسعتها “ .
وقال أبو الدرداء : ” إذا ذكر الموتى فعد نفسك كأحدهم “ .
أن الإنسان ينبغي أن يستغل عمره في طاعة الله قبل حلول الآفات ، ولهذا قال ابن عمر : ” خذ من صحتك لمرضك ، ومن حياتك لموتك “ ، يعني : اغتنم الأعمال الصالحة ، قبل أن يحول بينك وبينها السقم ، وفي الحياة قبل أن يحول بينك وبينها الموت .
وقد جاءت نصوص في الحث على العمل والمبادرة إليه :
ففي صحيح البخاري عن ابن عباس قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ( نعمتان مغبون فيهما كثير من الناس : الصحة والفراغ ) رواه البخاري .
وقال - صلى الله عليه وسلم - ( اغتنم خمساً قبل خمس : شبابك قبل هرمك ، وصحتك قبل سقمك ، وغناك قبل فقرك ، وفراغك قبل شغلك ، وحياتك قبل موتك ) رواه الحاكم .
قال ابن رجب رحمه الله : ” والمراد من هذا أن هذه الأشياء كلها تعوق عن الأعمال ، فبعضها يشغل عنه ، إما في خاصة الإنسان ، كفقره ، وغناه ، ومرضه ، وهرمه ، وموته ، وبعضها عام كقيام الساعة وخروج الدجال ، وكذلك الفتن المزعجة ، كما جاء في الحديث : بادروا بالأعمال فتناً كقطع الليل المظلم “ .
وقال عمر : ” التؤدة في كل شيء خير إلا ما كان من أمر الآخرة “ .
وكان الحسن يقول : ” عجباً لقوم أمروا بالزاد ، ونودي فيهم بالرحيل ، وحبس أولهم على آخرهم ، وهم قعود يلعبون “ .
وقال أبو حازم : ” إن بضاعة الآخرة كاسدة ، يوشك أن تنفق فلا يوصل منها إلى قليل ولا كثير “ .(1/131)
وكانوا يبادرون بالأعمال غاية ما يمكن :
فكان ابن عمر يقوم في الليل فيتوضأ ويصلي ، ثم يغفي إغفاء الطير ، ثم يقوم فيتوضأ ويصلي ، ثم يغفي إغفاء الطير ، ثم يقوم يصلي ، يفعل ذلك مراراً .
وكان عمير بن هانى يسبح كل يوم مائة ألف تسبيحة .
وقال أبو بكر بن عياش : ” ختمت القرآن في هذه الزاوية ثمانية عشر ألف ختمة “ .
إن الإنسان إذا لم يستغل حياته وصحته فإنه يندم حين لا ينفع الدم ، ويتمنى الرجوع فلا يستطيع .
قال تعالى { أن تقول نفس يا حسرتى على ما فرطت في جنب الله وإن كنت لمن الساخرين أو تقول لو أن الله هداني لكنت من المتقين أو تقول حين ترى العذاب لو أن لي كرة فأكون من المحسنين } .
وقال تعالى { حتى إذا جاء أحدهم الموت قال رب ارجعون لعلي أعمل صالحاً فيما تركت كلا إنها كلمة هو قائلها ومن ورائهم برزخ إلى يوم يبعثون } .
قال سعيد بن جبير : ” كل يوم يعيشه المؤمن غنيمة “ .
امتثل ابن عمر وصية رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قولاً وعملاُ .
أما قولاً ، فإنه كان يقول : ” إذا أصبحت فلا تنتظر المساء ، وإذا أمسيت فلا تنتظر الصباح ، وخذ من صحتك لمرضك ومن حياتك لموتك “ .
وأما في الفعل : فقد كان - رضي الله عنه - على جانب كبير من الزهد فيها والقناعة منها باليسير الذي يقيم صلبه ويستر بدنه ، وما سوى ذلك يقدمه لغده .
قال جابر بن عبد الله : ” ما رأينا أحداً إلا قد مالت به الدنيا أو مال بها إلا عبد الله بن عمر “ .
وقالت عاشة : ” ما رأيت أحداً ألزم للأمر الأول من ابن عمر “ .
الحديث الحادي والأربعون
عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما . قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ( لا يؤمن أحدكم حتى يكون هواه تبعاً لما جئت به ) حديث صحيح رويناه في كتاب الحجة بإسناد صحيح .
-----------------------------------------------------
معاني الكلمات :
لا يؤمن أحدكم : أي الإيمان الكامل .(1/132)
هواه : ما يهواه ويقصده ويحبه ، وسمي الهوى هوى لأنه يهوي بصاحبه .
تبعاً : أي تابعاً .
لما جئت به : أي من الشريعة .
الفوائد :
لا يكمل إيمان أحد حتى يكون هواه وميله إلى الشريعة وتحكيمها .
أن من كان هواه وميله لما جاءت به الشريعة فهو كامل الإيمان .
التحذير من اتباع الهوى .
وقد حذر الله من اتباع الهوى .
فقال تعالى { يا داود إنا جعلناك خليفة في الأرض فاحكم بين الناس بالحق ولا تتبع الهوى فيضلك عن سبيل الله }
واتباع الهوى هو منشأ المعاصي .
قال تعالى { فإن لم يستجيبوا لك فاعلم أنما يتبعون أهواءهم ومن أضل ممن اتبع هواه بغير هدى من الله } .
ومتبع الهوى ليس أهلاً أن يطاع .
قال تعالى { بل اتبع الذين ظلموا أهواءهم بغير علم } .
واتباع الهوى من المهلكات .
قال - صلى الله عليه وسلم - ( ثلاث منجيات وثلاث مهلكات : فأما المهلكات : فهوى متبع ، وشح مطاع ، وإعجاب المرء بنفسه ) .
الهوى حظار جهنم المحيط بها ، فمن وقع فيه وقع .
قال - صلى الله عليه وسلم - ( حفت الجنة بالمكاره ، وحفت النار بالشهوات ) متفق عليه .
أن الله سبحانه جعل متبع الهوى بمنزلة عابد الوثن .
قال تعالى { أرءيت من اتخذ إلهه هواه } .
كيفية التخلص من الهوى المذموم :
أولاً : جرعة صبر يصبر نفسه على مرارتها تلك الساعة .
ثانياً : فرحه بغلبة عدوه وقهره له ورده خاسئاً بغيظه وغمه وهمه حيث لم ينل منه أمنيته .
ثالثاً : أن مخالفة الهوى تورث قوة في بدنه وقلبه ولسانه .
قال بعض السلف : الغالب لهواه أشد من الذي يفتح المدينة وحده .
وفي الحديث ( ليس الشديد بالصرعة ، ولكن الشديد الذي يملك نفسه عند الغضب ) متفق عليه .
رابعاً : أن جهاد الهوى من أعظم الجهاد .
قال ابن القيم : ” سمعت شيخنا يقول : جهاد النفس والهوى أصل جهاد الكفار والمنافقين ، فإنه لا يقدر على جهادهم حتى يجاهد نفسه وهواه أولاً حتى يخرج إليهم “ .
وجوب الاستسلام والانقياد لأوامر الله تعالى .(1/133)
قال تعالى { فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم } .
أن الشريعة كاملة .
الإيمان يزيد وينقص لقوله ( لا يؤمن أحدكم .. ) أي الإيمان الكامل .
وعقيدة أهل السنة والجماعة أن الإيمان يزيد وينقص ، يزيد بالطاعات وينقص بالعصيان .
قال تعالى { وإذا تليت عليهم آياته زادتهم إيماناً } .
وقال تعالى { ليزدادوا إيماناً } .
وقال تعالى { ويزداد الذين آمنوا إيماناً } .
وقال تعالى { ليزدادوا لإيماناً مع إيمانهم } .
ووصف النبي - صلى الله عليه وسلم - النساء بنقصان العقل والدين .
وكان عمر يقول : ” هلموا نزدد إيماناً “ .
وكان ابن مسعود يقول : ” اللهم زدنا إيماناً ويقيناً وفقهاً “ .
وكان معاذ بن جبل يقول لرجل : ” اجلس بنا نؤمن ساعة “ .
الحديث الثاني والأربعون
عن انس – رضي الله عنه – قال : سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول ( قال الله تعالى : يا ابن آدم إنك ما دعوتني ورجوتني غفرت لك ما كان منك ولا أبالي ، يا ابن آدم لو بلغت ذنوبك عنان السماء ثم استغفرتني غفرت لك ، يا ابن آدم إنك لو أتيتني بقراب الأرض خطايا ثم لقيتني لا تشرك بي شيئاً ، لأتيتك بقرابها مغفرة ) رواه الترمذي وقال حديث حسن .
-----------------------------------------------------
معاني الكلمات :
لا أبالي : لا أهتم .
عنان : العنان هو السحاب .
بقراب : بضم القاف أي ما يقارب ملء الأرض ذنوباً .
الفوائد :
في هذا الحديث الأسباب التي تحصل بها المغفرة ، وهي ثلاثة :
السبب الأول
الدعاء مع الرجاء
فإن الدعاء مأمور به ، وموعود عليه بالإجابة .
قال تعالى { وقال ربكم ادعوني أستجب لكم } .
والدعاء عبادة .
قال - صلى الله عليه وسلم - ( الدعاء هو العبادة ) رواه أبو داود .
والله يغضب إن لم يسأل .
قال - صلى الله عليه وسلم - ( من لم يسأل الله يغضب عليه ) رواه ابن ماجه .
وينبغي حضور القلب ورجاء الإجابة .(1/134)
وقد روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال ( ادعوا الله وأنتم موقنون بالإجابة ، فإن الله لا يقبل دعاء من قلب غافل لاه ) .
ولا يستعجل الإجابة .
قال - صلى الله عليه وسلم - ( يستجاب لأحدكم ما لم يعجل يقول دعوت فلم يستجب لي ) متفق عليه .
وأن يعزم المسألة .
قال - صلى الله عليه وسلم - ( لا يقولن أحدكم اللهم اغفر لي إن شئت ، ولكن ليعزم المسألة ، فإن الله لا يتعاظمه شيء ) متفق عليه .
وللداعي إحدى ثلاث :
قال - صلى الله عليه وسلم - ( ما من مسلم يدعو بدعوة ليس له فيها إثم أو قطيعة رحم ، إلا أعطاه الله بها إحدى ثلاث : إما أن يعجل له دعوته ، وإما أن يدخرها له في الآخرة ، وإما أن يكشف عنه من السوء مثلها ) رواه أحمد .
السبب الثاني
وهو الاستغفار .
وهو طلب المغفرة ، والمغفرة هي وقاية شر الذنوب مع سترها .
وقد أمر الله به .
قال تعالى { واستغفر الله إن الله كان غفوراً رحيماً } .
وقال تعالى { واستغفر لذنبك } .
ومن أسماء الله : الغفور ، والغفار .
قال تعالى { نبيء عبادي أني أنا الغفور الرحيم } .
وقال تعالى { ألا هو العزيز الغفار } .
مهما عظمت ذنوب الإنسان فإن الله يغفرها لمن تاب .
قال تعالى { إن ربك واسع المغفرة } .
والأنبياء وأهل الفضل يطلبون المغفرة من الله .
قال تعالى عن نوح { رب اغفر لي ولوالدي ولمن دخل بيتي مؤمناً وللمؤمنين والمؤمنات } .
وقال الخليل { والذي أطمع أن يغفر لي خطيئتي يوم الدين } .
وقال موسى { قال رب إني ظلمت نفسي فاغفر لي فغفر له } .
ومدح المستغفرين .
فقال تعالى { والمستغفرين بالأسحار } .
والنبي - صلى الله عليه وسلم - كان يكثر من الاستغفار .
قال - صلى الله عليه وسلم - ( والله إني لأستغفر الله وأتوب إليه في اليوم أكثر من سبعين مرة ) رواه البخاري .
وللاستغفار فوائد :
أولاً : تكفير السيئات ورفع الدرجات .(1/135)
قال تعالى { ومن يعمل سوءاً أو يظلم نفسه ثم يستغفر الله يجد الله غفوراً رحيماً } .
وفي الحديث القدسي ( قال الله : من يستغفرني فأغفر له .. ) متفق عليه .
وتقدم قوله تعالى في الحديث القدسي ( فاستغفروني أغفر لكم ) رواه مسلم .
ثانياً : سبب لسعة الرزق والإمداد بالمال والبنين .
قال تعالى عن نوح أنه قال لقومه { فقلت استغفروا ربكم إنه كان غفاراً يرسل السماء عليكم مدراراً ويمددكم بأموال وبنين ويجعل لكم جنات ويجعل أنهاراً } .
ثالثاً : سبب لحصول القوة في البدن .
قال هود لقومه { ويا قوم استغفروا ربكم ثم توبوا إليه يرسل السماء عليكم مدراراً ويزدكم قوة إلى قوتكم ولا تتولوا مجرمين } .
رابعاً : سبب لدفع المصائب ورفع البلايا .
قال تعالى { وما كان الله معذبهم وهم يستغفرون } .
خامساً : سبب لبياض القلب .
قال - صلى الله عليه وسلم - ( إن المؤمن إذا أذنب كانت نكتة سوداء في قلبه ، فإن تاب ونزع واستغفر صقل قلبه ) . رواه أحمد
من أقوال السلف :
قال بعض العلماء : ” طوبى لمن وجد في صحيفته استغفاراً كثيراً “ .
وكان ابن عمر : يطلب من الصبيان الاستغفار ويقول : إنكم لم تذنبوا .
وقال قتادة : ” إن هذا القرآن يدلكم على دائكم ودوائكم ، فأما داؤكم فالذنوب ، وأما دواؤكم فالاستغفار “ .
وللاستغفار صيغ منها :
- ( سيد الاستغفار : اللهم أنت ربي لا إله إلا أنت خلقتني وأنا عبدك ، وأنا على عهدك ووعدك ما استطعت ، أعوذ بك من شر ما صنعت ، أبوء لك بنعمتك عليّ وأبوء لك بذنبي فاغفر لي ، فإنه لا يغفر الذنوب إلا أنت ) رواه البخاري .
- ( رب اغفر لي خطيئتي وجهلي وإسرافي في أمري كله ، وما أنت أعلم به مني ، اللهم اغفر لي خطاياي وعمدي وجهلي وجدي ، وكل ذلك عندي ، اللهم اغفر لي ما قدمت وما أخرت وما أسررت وما أعلنت ، أنت المقدم وأنت المؤخر وأنت على كل شيء قدير ) متفق عليه .
- ( رب اغفر لي وتب عليّ إنك أنت التواب الرحيم ) .
السبب الثالث(1/136)
التوحيد ، وهو السبب الأعظم .
قال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله : ” الإنسان إذا أذنب ذنوباً عظيمة ثم لقي الله لا يشرك به شيئاً غفر الله له ، ولكن هذا ليس على عمومه لقوله تعالى { إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء } ، فقوله هنا في الحديث ( لأتيتك بقرابها مغفرة ) هذا إذا شاء ، وأما إذا لم يشأ فإنه يعاقب بذنبه “ .
فضائل التوحيد :
أولاً : سبب لمغفرة الذنوب .
كما في حديث الباب .
ثانياً : سبب للنجاة من الشدائد .
قال تعالى { فإذا ركبوا في الفلك دعوا الله مخلصين له الدين فلما نجاهم إلى البر إذا هم يشركون } .
ثالثاً : سبب لدخول الجنة .
قال - صلى الله عليه وسلم - ( من لقي الله لا يشرك به شيئاً دخل الجنة ) رواه مسلم .
رابعاً : لأهل التوحيد الأمن والاهتداء .
قال تعالى { الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم أولئك لهم الأمن وهم مهتدون } .
لم يلبسوا : لم يخلطوا . إيمانهم : توحيدهم .
بظلم : المراد به الشرك كما فسره النبي - صلى الله عليه وسلم - بذلك .
التحذير من الشرك ( وقد سبقت خطورته في الحديث ) .
أنه لا يسلم أحد من الذنوب .
وجوب الإيمان بلقاء الله ، لقوله ( لقيتني ) .
وقد قال تعالى { فمن كان يرجو لقاء الله فليعمل عملاً صالحاً ولا يشرك بعبادة ربه أحداً } .
وقال تعالى { يا أيها الإنسان إنك كادح إلى ربك كدحاً فملاقيه } .
فملاقيه : أي ملاقي ربك ، وقيل : ملاقي عملك .
تم الشرح ولله الحمد والمنة(1/137)