زبدة الكلام في
شرح كتاب الصيام من عمدة الأحكام
للحافظ عبد الغني المقدسي
خالد بن سعود البليهد
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين وبعد:
فهذا شرح مختصر لكتاب الصيام من عمدة الأحكام لعبد الغني المقدسي قصدت فيه بيان فقه الأحاديث وأحكام الصيام على سبيل الاختصار مع التنبيه على شيء من العلل والمقاصد الشرعية والإشارة إلى طرف من اختلاف الفقهاء في المسائل الكبار بإيجاز مع ذكر القول الراجح لدي ولم أتوسع في ذكر أقوال الفقهاء ودلائلهم لأن المقام لا يقتضي ذلك مراعاة للوقت وطبيعة الدرس ومستوى الطلاب. والباعث على شرحه أنه طلب مني بعض الإخوان إلقاء دورة علمية على شبكة الانترنت فاستحسنت ذلك وأجبته. والله اسأل أن ينفع بهذا الشرح مع ضعفه وقلة بضاعته ممليه وسامعه وقارئه وأن يبارك فيمن سعى فيه وشارك بأي وجه من الوجوه.
خالد بن سعود البليهد
عضو الجمعية العلمية السعودية للسنة
binbulihed@gmail.com
28ا/8/1430
بسم الله الرحمن الرحيم
الصيام لغة: الإمساك، ومنه قوله تعالى عن مريم: (إني نذرت للرحمن صوما).
واصطلاحاً :التعبد لله تعالى بالإمساك عن المفطرات من طلوع الفجر الصادق إلى غروب الشمس. فلا يكون الإمساك صوما شرعا إلا إذ قصد به التقرب لله أما إذا أمسك الانسان لقصد التداوي أو الاسترواح أو غيره فعادة لا يثاب عليه.(1/1)
وهو أحد أركان الإسلام العظام وقد دل على وجوبه الكتاب في قوله تعالى: (يا أيها الذين أمنوا كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم لعلكم تتقون).والسنة في قول النبي صلى الله عليه وسلم :(بني الإسلام على خمس، وذكر منها :صيام رمضان). و أجمعت الأمة على فرضيته، وذكر أهل السير أن الصيام فُرض في السنة الثانية من الهجرة. وكان مشروعا في الأمم السابقة إلا أن الإسلام هذبه وخص الأمة بأحكام تميزها عن غيرها فيه. وأول ما فرض على الأمة صيام عاشوراء فصامه الرسول صلى الله عليه وسلم في مكة وأمر بصومه لما هاجر إلى المدينة ثم نسخ حكمه إلى التخيير ونزل فرض صوم رمضان. ويجب الصوم على كل مسلم عاقل قادر مقيم. ويصح من المميز. ومن جحده كفر بالإجماع أما من تركه متعمدا من غير جحود فلا يكفر عند عامة أهل العلم مع كونه ارتكب جرما عظيما مستحق للوعيد.
1- عَنْ أبي هُريرة رضي الله عَنْهُ قال: قَال رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم: (لا تَقَدَّمُوا رَمَضَان بِصَومْ يوم أوْ يَوْمَئن، إِلا رَجلاً كانَ يَصُومُ صَوماً فَلْيَصُمْهُ).(1/2)
دل هذا الحديث على نهي المسلم عن التطوع بصوم النافلة قبل دخول رمضان بيوم أو يومين يعني اليوم التاسع والعشرين والثلاثين من شعبان إلا من كانت عادته صيام أيام معينة كالاثنين والخميس فوافقت عادته هذين اليومين فيجوز له الصوم لانتفاء العلة عنه. وهذا النهي على سبيل الكراهة لأن الشيء إذا نهي عنه من وجه ورخص فيه من وجه آخر كان دليلا على الكراهة وهو مذهب الجمهور. والعلة في النهي عن ذلك تمييز النافلة عن الفرض كما نهى عن وصل الفرض بالنفل في الصلاة وسد العمل بالاحتياط في ذلك لأنه من الغلو والتنطع. ومفهوم الحديث يدل على جواز التطوع بعد منتصف شعبان في النصف الأخير وهذا ظاهر فعل النبي صلى الله عليه وسلم وما ورد في النهي عن ذلك فشاذ أنكره ابن مهدي وأحمد وغيرهم من أئمة العلل فلا يصح العمل به. فلا حرج على المسلم بالتطوع بعد منتصف شعبان ولو لم تكن له عادة في الصوم.
2- عَنْ عَبْدِ الله بْنِ عُمَرَ رَضي الله عنهُمَا قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم يقول : (إذا رَأَيْتمُوه فَصُومُوا، وَإذا رَأَيْتُمُوه فَأفْطِروُا، فَإنْ غُمَّ عَليْكم فاقْدُرُوا لَهُ).
هذا الحديث يبين طرق دخول شهر رمضان وشرط ثبوته بأحد طريقين:
الأول: ثبوت الرؤية المعتبرة للهلال واعتماد الحاكم لها فإذا ثبت رؤية هلال رمضان وجب صومه. واختلف الفقهاء هل يشترط لكل أهل بلد رؤية خاصة أم تكفي ثبوت الرؤية لسائر بلاد المسلمين والصحيح أن لكل أهل بلد ومن وافقهم في المطالع رؤية خاصة بهم ولا يلزم غيرهم العمل بها وهذا مذهب الشافعي لحديث ابن عباس المخرج في صحيح مسلم. والصحيح أن الرؤية تثبت برؤية العدل الواحد إذا اعتبرها الإمام لحديث ابن عمر الثابت في سنن أبي داود.(1/3)
الثاني: إكمال عدة شعبان ثلاثين يوما عند عدم ثبوت الرؤية فإذا استكمل شهر شعبان تمامه كان دليلا على دخول رمضان في اليوم الذي يليه. وهذا هو المعنى الصحيح في قوله (فاقدروا له). للروايات الصحيحة المصرحة كقوله: (فأكملوا عدة شعبان ثلاثين). رواه البخاري. والصحيح أنه يحرم صوم يوم الشك وهو يوم الثلاثين من شعبان إذا منعت من الرؤية سحاب أو غبار فلا يصام من باب الاحتياط على أنه من رمضان لحديث عمار بن ياسر المخرج في السنن وهو مذهب الجمهور.
3- عَنْ أنس ْبنِ مَالِكٍ رَضي الله عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسول اللهِ صلى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمْ : (تَسَحًرُوا فَإن في السَّحُور بَرَكَةً).
يرشد النبي صلى الله عليه وسلم أمته إلى أدب من آداب الصيام وهو أكلة السحور آخر الليل ليتقوى بها الصائم على صومه فهي أكلة مباركة من خصائص هذه الأمة. والسحور هو الأكلة لتي تطعم وقت السحر قبيل طلوع الفجر فلا يسمى الطعام سحورا إلا إذا أكل آخر الليل أما ما يطعم أول الليل وأوسطه فليس بسحور. فيستحب للمسلم أن يتسحر بأي شيء ولو ماء ولا حرج عليه لو ترك ذلك لأن أهل العلم أجمعوا على استحبابه لكن يفوته الخير والبركة وإنما شرع السحور اتباعا للسنة ومخالفة لأهل الكتاب الذين لا يتسحرون كما جاء في صحيح مسلم: (فصل ما بين صيامِنا وصيامِ أهل الكتاب أكلة السحر).
4- عَنْ انس بْنِ مَالِكٍ عَنْ زيْد بْن ثَابِتٍ رَضَي الله عَنْهُمَا قال: تَسَحَّرْنَا مَع رَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم ثُمَّ قَامَ إلى الصَّلاةِ. قال أنس: قُلْتُ لِزيْدٍ : كَمْ كَانَ بَيْنَ الأذَانِ وَالسُّحُورِ؟ قال: قَدْرُ خَمْسِينَ آيةٍ.(1/4)
في هذا الحديث دليل على بيان وقت السحور واستحباب تأخيره قبيل طلوع الفجر بوقت يسير ففعل النبي صلى الله عليه وسلم يدل على سنية ذلك لأن الصحابي وصف الزمن الذي بين السحور والأذان بكونه يسيرا قدر خمسين آية وهذا على سبيل التقريب لا التحديد وهو بمعنى ما ورد في الصحيحين من قول النبي صلى الله عليه وسلم: (إن بلالا يؤذن بليل فكلوا واشربوا حتى يؤذن ابن أم مكتوم . قال : ولم يكن بينهما إلا أن ينزل هذا ويرقى هذا). وفيه أيضا استحباب تقديم صلاة الصبح بعد دخول الوقت بزمن يسير يكفي لصلاة السنة وعدم تأخيرها. وفيه أيضا أن الإمساك عن الصوم يكون عند طلوع الفجر الصادق لقوله تعالى: (وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ). ولا يشرع الإمساك بوقت قبل طلوع الفجر من باب الاحتياط لأن ذلك تكلف لم يرد في الشرع فالشارع جعل كل الليل فسحة في تناول المفطرات حتى يتيقن المكلف من دخول الصبح فلا ينبغي التشديد والتحوط في ذلك.
5- عَنْ عَائِشَةَ وَأمُّ سَلَمَةَ رَضْيَ الله عَنْهُمَا: أنً رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - كَانَ يُدْركُهُ الْفَجْرُ وَهُوَ جُنٌبٌ مِنْ أهلِهِ. ثُمَّ يَغتَسِلُ وَيصُومُ.(1/5)
هذا الحديث يبين حكما مهما من أحكام الصوم وهو أنه لا يشترط لصحة الصوم الطهارة من الحدثين الأكبر والأصغر لفعله صلى الله عليه وسلم فيصح صوم الجنب والمحدث وقد حكي الإجماع في هذا فإذا أصبح الجنب صائما أتم صومه ولا شيء عليه. وكذلك الحائض إذا طهرت قبل طلوع الصبح وأخرت الغسل بعده صح صومها. ولا فرق في هذا بين صوم الفرض وصوم النفل. وفيه إباحة الجماع إلى آخر لحظة من الليل وعدم وجوب الغسل قبل الصبح وهذا من باب التوسعة على الصائم الجنب. لكن إذا أصبح وجب عليه الغسل لأداء الفريضة. وفيه أنه لا كراهة للإنسان أن ينام جنبا بلا غسل ويؤجله بعد الاستيقاظ لكن السنة أن يتوضأ قبل نومه.
6- عَنْ أَبِي هُرَيْرَة رضي الله عَنْهُ: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : (مَنْ نَسيَ وهُوَ صَاِئمٌ فَأكَلَ أوْ شَرِبَ فَلْيُتِمَّ صَوْمَهُ فإنَّمَا أطعَمَهُ الله وَسَقَاهُ).
الحديث دليل على أن الصائم إذا أكل أو شرب ناسيا فلا إثم عليه ولا يبطل صومه بذلك لأنه وقع في المفطرات حالة النسيان والنسيان عذر شرعي يرفع المؤاخذة لقوله تعالى: (رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا). ويتم صومه سواء كان ذلك فرضا أو نفلا. وأخذ الجمهور بهذا الحكم عملا بالظاهر وخالف بعضهم والصواب مع الجمهور. والخطأ عذر كالنسيان لا يؤثر على صحة الصوم وكذلك الجهل أيضا يعفى عنه. واختلفوا في شمول الحكم لغير الأكل والشرب كالجماع والصحيح أن العذر عام في جميع المفطرات لعموم العلة والدلالة فإذا جامع ناسيا أتم صومه وصومه صحيح وهذا مذهب الجمهور. وهذا التيسير لأن الصائم لم يفعل هذا باختياره إنما قدره الله عليه بغير قصد منه فلم يؤاخذ به. أما إذا تناول مفطرا عامدا عالما ذاكرا بطل صومه وكان آثما وعليه القضاء. والصحيح أنه من رأى صائما ناسيا وجب عليه تذكيره.(1/6)
7- عَنْ أبي هُريرة رضي الله عَنْهُ قَال : بَينماَ نَحن جُلُوسْ عِنْدَ النبي صلى الله عليه وسلم إذ جَاءه رَجلٌ فقَالَ: يَا رَسولَ الله، هَلَكتُ. فقال: "ما أهلَكَكَ؟" أو مَالكً؟. قال: وَقَعْتُ على امْرَأْتِي، وأنا صائمٌ " وفي رواية: أصبتُ أهلي في رَمَضَانَ". فقالَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم :"هَلْ تَجِدُ رَقَبَةً تعتقها؟" قال: لا. قال: "فهل تستطِعُ أن تصوم شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعْين؟" قال: لا . قال : "فهل تجد إطعام ستين مسكيناً؟" قال : لا.قال: فَسَكَتَ النبي صلى الله عليه وسلم . فبينما نَحْنُ على ذلك إذْ أُتي النبي صلى الله عليه وسلم بِعَرَق فيهِ تَمرٌ" والعرق: المَكْتَلُ.قال: "أَيْنَ السَّائِلُ؟" قالَ: أنا. قال: " خُذْ هذَا فتصَدَّق بِهِ، فقال: أعلى أفقَرَ منِّي يَا رَسُولَ اللّه؟ فَوَ الله مَا بَيْنَ لا بَتَيْها ـ يريد الحَرَّتَيْنِ ـ أهْلُ بَيْتٍ أفْقَر مِنْ أهل بَيْتي. فَضَحِكَ النَّبِي صلى الله عليه وسلم حتى بَدَتْ أنيابُهُ، ثمَّ قَالَ: "أطْعِمْهُ أهْلَكَ" .
الحَرَّةُ: الأرْضُ، َتَرْكَبُهَا حجارة سود.(1/7)
هذا الحديث في بيان حكم من جامع في نهار رمضان عامدا وأن عليه الكفارة. فدل الحديث على أن من وطئ امرأته في الفرج نهار رمضان كان مرتكبا لذنب عظيم وآثم لفعله ووجب عليه ثلاثة أمور التوبة والكفارة المغلظة وهي على الترتيب لا التخيير لدلالة السياق وهو مذهب الجمهور وهي عتق رقية مؤمنة سليمة من العيوب فإن لم يجدها صام شهرين متتابعين فإن ابتدأ مع ابتداء الشهر أتم شهرين سواء كان الشهر ناقصا أو تاما لأن الشهر قد يكون تسعا وعشرين وقد يكون ثلاثين. وإن لم يراعي ذلك صام ستين يوما ويشترط التتابع فلا يفصل بينهما بشيء. فإن وافق عيدا أو مرضا يبيح الفطر فلا ينقطع التتابع حينئذ. فإن فصل عامدا استأنف من جديد. فإن عجز عن الصوم لمرض أو مشقة أو غلبة شهوة ونحوها من الأعذار المعتبرة انتقل إلى الإطعام عن كل يوم مسكينا ستين مسكينا يطعمه طعام يشبعه عرفا من أرز أو قمح ونحوه فإن أدمه بمرق ولحم كان أطيب ولا يلزمه ذلك. فإن عجز عن ذلك لعسره وفقره لم يلزمه في الحال لكن هل يلزمه في المستقبل إذا اغتنى فيه خلاف والأظهر أنه يلزمه لأنه دين في ذمته لا يسقط بالإعسار كسائر الديون. واختلفوا في القضاء لأنه لم يذكر في الحديث والصحيح أنه واجب ولا تبرأ ذمته إلا به لأنه مستفاد من أدلة أخرى ولأنه لم يذكره لاحتمال أن الحكم ظاهر للرجل لا يحتاج لذكره. وفيه دليل على جواز إعطاء المجامع في رمضان من الكفارة إذا كفرها غيره عنه لفقره وكونه عاجزا عن بذل الكفارة. وفيه رفق النبي صلى الله عليه وسلم بمن جاءه تائبا مسترشدا ممن ألم بكبيرة وفسق وهذا له شواهد في السنة فلم يعنفه الرسول ويوبخه أمام الصحابة بل أرشده لفكاك نفسه من النار. وفيه جواز بيان الإنسان لحاله من الفقر والحاجة للحاكم وغيره عند دعاء الحاجة لذلك من غير كذب وتزيد.(1/8)
وهذا الحكم خاص بمن يلزمه الصوم في رمضان أما المريض والمسافر فلا شيء عليه إذا جامع لأن الفطر مباح له وسواء أفطر بالجماع أو بغيره. وكذلك يختص الحكم بالجماع في رمضان لحرمته أما لو جامع في صوم واجب في غير رمضان فلا كفارة فيه. والصحيح أن الكفارة خاصة بالرجل لأنه المخاطب شرعا بذلك وهو الطالب والمرأة ليس عليها كفارة ولو كانت مطاوعة لكن تأثم ويلزمها القضاء إن تعمدت الجماع وإن كانت مكرهة لا كفارة عليها من غير خلاف وذهب الشافعي إلى إنها إذا أكرهت بالفعل لم تفطر وصومها صحيح.
بَاب الصَّوم في السَّفر
ذكر المصنف رحمه الله في هذا الباب الأحاديث التي تبين أحكام الصوم المتعلقة بالسفر لأن المسلم له حالان حال الإقامة وحال السفر والسفر غالبا يعرض فيه الحرج والمشقة والكلفة ويختلف أحوال الناس فيه ولذلك بين الشارع حكمه وخفف فيه وجعله عذرا للفطر.
8- عَنْ عَائِشَةَ رَضْيَ الله عَنْهَا: أنَ حَمْزَةَ بْنَ عَمْرو الأسلمي، قال للنبي صلى الله عليه وسلم : أأصُوْمُ في السًفَرِ (وكان كثير الصيام). قال : (إِنْ شِئْتَ فَصُمْ، وَإنْ شِئْتَ فَأَفْطِر).(1/9)
الحديث يدل على الرخصة في الفطر حال السفر لأن الرسول صلى الله عليه وسلم خير حمزة في الصوم وتركه وهذا عام في الفرض والنفل. وفيه دليل ظاهر على أن المرء مخير حال السفر إن شاء صام وإن شاء أفطر كل على حسب حاله وقد بينت الرواية الأخرى أن حمزة كان كثير الأسفار ويصادف ذلك رمضان فخيره الرسول صلى الله عليه وسلم وأذن له بالصوم مما يدل على أنه لا يجب على المسافر الفطر حال السفر ومن أوجبه من الظاهرية فقوله شاذ مخالف لكثير من النصوص ولا حجة له في ظاهر الآية: (وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ). لأنها محمولة عند عامة الفقهاء على من أفطر في السفر ومن صام فصومه صحيح يعتد به ولا يلزمه القضاء. ولذلك ذهب الأئمة الأربعة وغيرهم إلى القول بالتخيير لهذا الحديث وغيره وهو الصواب.
9- عَنْ أنَس بْنِ مَالِكٍ رضي الله عَنْهُ قال:كُنَّا نُسَافِرُ مَعَ رَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم فَلَمْ يَعِبِ الصَّائِمُ عَلَى المُفطِرِ، وَلا الْمُفطِرُ عَلَى الصًائِمِ .
وهذا الحديث في معنى الحديث السابق وهو يدل على إباحة الفطر في السفر وأنه عذر في ترك الصوم وهذا لا يعرف فيه خلاف بين أهل العلم. فالنبي صلى الله عليه وسلم أقر الصائم على صومه وأقر المفطر على فطره وهذا يدل على التوسعة في ذلك وأنه من اختلاف التنوع الذي تحتمله الأدلة ويسوغ فيه الاجتهاد. وفيه ائتلاف الصحابة فيما بينهم مع اختلافهم في فروع المسائل مراعاة لأصل الإخوة والمحبة وجمع الكلمة وهذا الأصل دل عليه كثير من الشواهد.
10- عَنْ أبِي الدَّرْدَاءِ رضيَ الله عَنْهُ قال:خَرَجْنَا مَعَ رَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم في شَهْرِ رَمضَانَ في حَرِّ شَدِيدٍ ، حَتَّى إنْ كَانَ أحَدُنَا لَيَضَعُ يَدَه عَلَى رَأسِهِ مِنْ شِدَّةِ الْحَرِّ، ومَا فِيْنَا صَائِمٌ إلا رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم، وعبْدُ الله بْنُ رَوَاحَة.(1/10)
هذا الحديث أيضا في معنى الأحاديث السابقة في إباحة في الصوم حال السفر وأنه لا حرج على الانسان في صومه. وقد دل على أن رسول الله صلى الله عليه وسلم وابن رواحة كانا صائمين في اليوم الحار مع فطر الصحابة وهذا فيه دليل صريح على أنه لا يكره للإنسان الصوم في السفر فضلا عن تحريمه إذا كان يطيق ذلك ولا يشق عليه. وهذا فيه رد على من منع الصوم في السفر وأوجب الفطر وهو مذهب ضعيف مخالف للأدلة وقاعدة الشارع في الرخص في تخيير المكلف في أخذها وتركها ولا ملامة في تركها فمن ترك الرخصة في المشقة فقد أخذ بالعزيمة وفعله صحيح مع مخالفة الأولى ومن تركها لعدم المشقة كان فعله موافقا للشرع.
11- عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَه رَضْيَ الله عَنْهُ قال:كانَ رَسُوْلُ الله صلى الله عليه وسلم فِي سَفَرٍ، فرَأى زِحَاماً، ورَجُلاً قَدْ ظُلِّل عَلَيْهِ، فَقَالَ:"ما هذا؟" قالوا: صائم. قال: لَيْسَ مِنَ البِرِّ الصيامُ في السَّفَرِ". وفي لفظٍ لمسلم "عَلَيْكُم بِرُخْصَةِ الله الَّتي رَخَصَ لَكُمْ".(1/11)
هذا الحديث في بيان الرخصة في الفطر حال السفر والحث عليه إذا كان المقام يستدعي ذلك والغالب في الأسفار حصول المشقة في الصوم ولذلك قال الرسول صلى الله عليه وسلم ليس من البر الصوم في السفر يعني ليس من كمال الخير فعل ذلك. وقد تمسك بظاهر الحديث من قال إن الفطر أفضل وهذا موضع اختلاف بين الفقهاء في الأفضلية مع إباحة الأمرين فمن الفقهاء من ذهب إلى أن الفطر أفضل مطلقا سواء كان الصوم يشق أم لا وهذا مذهب أحمد أخذا بالرخصة. وذهب الجمهور إلى أن الصوم أفضل لمن كان لا يشق عليه الصوم لأنه أبرأ للذمة وأعجل في أداء الفرض ومن المسابقة للخيرات وهذا القول هو الصحيح الذي تأتلف به الأدلة وتجتمع بحيث تحمل أحاديث صوم النبي على عدم المشقة وتحمل أحاديث الرخصة عند حصول المشقة والناس يختلفون في هذا وهذا الحديث قاله الرسول صلى الله عليه وسلم في مناسبة خاصة لما رأى الرجل مغشيا عليه. وكذلك يستحب لمن كان قدوة له رأي في الناس الفطر إذا رأى المشقة في أصحابه واشتبه عليهم وكان في فطره مصلحة لفعل النبي صلى الله عليه وسلم كما قصة كراع الغميم. وفيه أيضا مشروعية الأخذ بالرخص الشرعية عند المشقة في السفر والحضر سواء كانت الرخص عامة أو خاصة وأن ذلك محبوب إلى الله كما أن الأخذ بالعزيمة محبوب إلى الله وهذا المسلك من الفقه فينبغي للمؤمن أن يسلكه إذا دعت الحاجة إلى ذلك وكان في الأمر حرج ومشقة وليس النسك والورع دائما هو الأخذ بالعزيمة والاحتياط بل ترك الترخص حال المشقة من التعمق والتكلف المنهي عنه شرعا.(1/12)
12- عَن أنَسِ بْنِ مَالِكٍ رَضْي الله عَنْهُ قال: كُنَّا مَعَ رَسُول الله صلى الله عليه وسلم في سَفر،فمِنَا الصَّائِمُ وَمِنَا الْمُفْطِرُ. قال: فَنَزَلْنَا مَنْزِلاً في يَوْمٍ حَارٍّ وَأكْثَرُنَا ظِلاَّ صَاحِبُ الكساء وَمِنًا مَنْ يَتقى الشَّمْسَ بِيَدِه. قال: فَسَقَطَ الصُّوَّمُ وَقَامَ الْمُفْطِرُون، فَضَرَبوُا الأَبْنَيَة وَسَقُوا الركابَ. فَقَال رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم: " ذَهَبَ المفْطِرُون اليوْمَ بالأجر".
هذا الحديث في معنى ما سبق من الأحاديث إلا أن فيه زيادة مهمة وهي أنه إذا كان الفطر يترتب عليه نفعا متعديا للمسلمين كان أولى من الصوم للمصلحة الراجحة فيه ولذلك أثنى الرسول صلى الله عليه وسلم على المفطرين وأخبر أنهم ذهبوا بكمال الأجر الزائد على أجر الصائمين وهذا يختلف بحسب اختلاف الأحوال والأشخاص ولذلك كان النبي صلى الله عليه وسلم يرشد أصحابه للفطر حين لقاء العدو ليتقووا على القتال. وكذلك في باب التطوع إذا كان الصوم يفوت على الإنسان مصلحة راجحة كان فطره أولى. ويجب الفطر إذا كان فيه إنقاذ معصوم من الهلاك. ويؤخذ من الحديث استنباطا أن الاشتغال بالعبادة المتعدي نفعها أفضل من العبادة اللازمة لصاحبها في الجملة مالم يرد تفضيل مخصوص من قبل الشرع في زمان أو حالة مخصوصة فالتفرغ لتعليم الخلق وإرشادهم وقضاء حوائجهم وإغاثة الملهوف أفضل من الانقطاع للعبادة والتفرغ لها.
13- عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عَنْهَا قَالَتْ: كانَ يَكُونُ عَلَيَّ الْصَّوْمُ في رَمَضَان فَمَا أسْتَطِيعُ أَنْ أقْضِيَ إلا في شَعْبَانَ.(1/13)
هذا الحديث في بيان حكم تأخير القضاء وذلك أن من أفطر لعذر أو غيره وجب عليه القضاء قضاء موسعا في العام كله وتأخير عائشة رضي الله عنها يدل على أنه لا حرج على الانسان في التأخير لشغله وظروفه لأن عائشة كانت تؤخره لاشتغالها بخدمة الرسول صلى الله عليه وسلم كما جاء مفسرا في رواية مسلم: (وذلك لمكان رسول الله صلى الله عليه وسلم). ولكن الأفضل للمرء المبادرة بالقضاء ما لم يمنعه مانع. وتأخيرها إلى شعبان يدل على أن آخر أمد في القضاء هو شعبان ولا يجوز التأخير إلى بلوغ رمضان الآتي إذا لو كان جائزا لأخرته إليه. وإذا كان التأخير لرمضان الثاني لعذر لم يؤاخذ الانسان بذلك ولزمه القضاء فقط. أما من أخره متعمدا لغير عذر كان آثما ووجب عليه القضاء مع التوبة وقضى الصحابة بالكفارة إطعام مسكين عن كل يوم أخره وذهب إليه أحمد رحمه الله. ولا يشترط التتابع في القضاء فلو قضاها متفرقة أجزأ ذلك لقول ابن عباس: (لا بأس أن يفرق لقوله تعالى: (فعدة من أيام أخر). وقد دلت السنة على منع المرأة من التطوع بالصوم إلا بإذن زوجها إذا كان حاضرا.
14- عَنْ عَاِئشَةَ رضي الله عَنْهَا: أنَّ رَسُوْلَ الله قال : (مَنَ مَاتَ وَعَلَيْهِ صِيَام صَامَ عَنْه وَلِيُّه). وأخرجه أبو داود وقال: هذَا في النًذْر خاصَّة، وهو قول أحمد بن حنبل.(1/14)
هذا الحديث يتناول حكم قضاء الصوم الواجب عن الميت إذا مات وعليه صوم في ذمته. والذي يظهر أن هذا الحكم يختص بمن كان مفرطا في القضاء وأخر الصوم بلا عذر أما من مات قبل أن يتمكن من القضاء لمرض وإغماء وسفر ونحو ذلك فهذا لا يقضى عنه ولا يطعم عنه كما هو مذهب أكثر الفقهاء فيما حكاه ابن قدامة لأنه لم يفرط في أداء الفرض. وقوله صام عنه وليه يدل على أنه يستحب لولي الميت من الورثة أن يقضي عن ميته الصوم الواجب ولا يجب عليه ذلك إلا إذا ترك الميت مالا أطعم عنه كفارة لصومه. واختلف الفقهاء في حكم قضاء الصوم عن الميت فذهب الأئمة الثلاثة إلى عدم مشروعية ذلك مطلقا لأنه من باب العبادات البدنية ولا تدخل فيها النيابة وفرق أحمد فذهب إلى مشروعية القضاء في النذر أما الصوم الواجب بأصل الشرع فلا يقضى عنه جريا على الأصل وذهب بعض المحدثين إلى قضاء الصوم مطلقا سواء كان واجب بالشرع أم بالنذر أخذا بعموم اللفظ والأظهر قول أحمد لأن الأصل في العبادات البدنية ارتباطها ببدن العبد وعدم دخول النيابة فيها كما جاء في الحديث: (لا يُصَلِّ أحد عن أحد، ولا يصم أحد عن أحد). ولذلك لا يقضى الصلاة عن الميت بالإتفاق. أما النذر فليس واجبا في الأصل لكن أوجبه الانسان على نفسه فيكون بمنزلة الدين الذي يقضى فأمره أخف فتدخله النيابة ولذلك شبهه النبي صلى الله عليه وسلم بالدين كما يأتي في حديث ابن عباس فعلى هذا يكون المراد بالصوم هنا هو صوم النذر لا صوم الفرض وقد وردت آثار عن الصحابة كعمر وابن عباس تؤيد هذا وهو مقتضى القياس الصحيح.(1/15)
15- عَنْ عَبْدِ الله بِنِ عَبَّاس رَضْيَ الله عَنْهُمَا قال: جَاءَ رَجُلٌ إلى النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم فقالَ: يَا رَسُولَ الله، إِنَّ أمي مَاتَت وَعَلَنهَا صَوْمُ شَهْرٍ: أفأَقضِيهِ عَنْهَا؟قال: " لَوْ كانَ عَلَى أُمِّكَ دَيْن أَكُنْتَ قَاضِيَهُ عَنْهَا؟". قال: نعم: قال: " فَدَيْنُ الله أحَقُّ أنْ يُقْضَى". وفي رواية: جَاءَتْ امْرَأة إلى النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ الله، إن أُمِّي مَاتَت وَعَلَيْهَا صَوْمُ نَذرٍ، أَفَأَصُوْمُ عَنْهَا؟ قال: "أَفَرَأَيْتِ لَوْ كَانَ عَلَى أُمِّكِ دَيْنٌ فَقَضَيْتيِهِ، أَكَانَ يُؤَدَّى ذَلِكَ عَنْهَا؟ قالت: نعم. قال: " فَصُومِي عَنْ أُمِّك".
هذا الحديث في قضاء صوم النذر عن الميت. والرواية الأولى مطلقة في الصوم الواجب والرواية الثانية مقيدة في صوم النذر ولذلك اختلف نظر أهل العلم في الروايتين فمنهم من قال إن القصة واحدة وحمل المطلقة على المقيدة ففسر الصوم بصوم النذر وهذا مسلك أحمد وجماعة ومنهم من قال بتعدد القصتين وقال تبقى الأولى على إطلاقها ولا تقيد بالرواية الثانية لأن كلا الحادثتين مستقلة لا علاقة بينهما فالأولى تدل على كل صوم واجب والثانية تدل على صوم النذر وهذا مسلك طائفة من أهل الحديث. ولعل القول الأول أقرب لأن مخرج الحديث واحد وهو الأصل ولا يعدل عنه بالرأي وما وقع من الاختلاف في تعيين الرجل والمرأة محتمل من الرواة وهو كثير في باب الرواية . وفي الحديث مشروعية العمل بأصل القياس الصحيح وأنه يعتمد عليه في الاستدلال. وفيه العناية بأداء حقوق الله المالية وغيرها وعدم التفريط بها.
16- عَنْ سَهْلِ بِنْ سَعْدٍ السَّاعِدِي رَضْيَ الله عَنْهُ: أنَّ رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم قال: " لا يَزَالُ النَّاسُ بَخَيْر مَا عَجَّلُوْا الفِطْرَ وَأَخَّرُّوا السُّحُوْر".(1/16)
الحديث في بيان شيء من آداب الصوم وآداب الصوم منها ما هو واجب كالكف عن قول الزور والعمل به ومنها ما هو مستحب كالمذكور في الحديث. فقد دل الحديث على استحباب تعجيل الفطر عند غروب الشمس فرحا برخصة الله وطاعة لرسول الله صلى الله عليه وسلم وعدم تأخير الفطر كعادة أهل الكتاب في تأخيرهم الفطر إلى اشتباك النجوم لقول النبي صلى الله عليه وسلم: (لا يزال الدين ظاهرا ما عجل الناس الفطر إن اليهود والنصارى يؤخرون). رواه أحمد. وقد صارت هذه عادة الرافضة المخالفين للسنة. فيستحب للصائم الفطر برطبات قبل الصلاة فإن لم يجد فتمرات فإن لم يجد حسا حسوات من ماء كما روي في السنة. ومن الآداب المستحبة للصائم تأخير السحور آخر الليل وقد سبق بيان ذلك.
17- عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَابِ رَضْيَ الله عَنْهُ قال: قال رَسُولُ الله : "إذَا أَقْبَلَ الْلَيْلُ مِنْ ههُنَا، وَأَدْبَرَ الْنَّهَارُ مِنْ هَهُنَا، فَقَدْ أَفْطَرَ الصَّائِمُ".(1/17)
يبين النبي صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث الحد الذي ينتهي فيه وقت الصوم ويدخل فيه وقت الفطر الشرعي وهو دخول الليل وخروج النهار كما جاء في الآية: (ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ). قال ابن عبد البر : (أجمع العلماء على أنه إذا حلت صلاة المغرب فقد حل الفطر للصائم فرضا وتطوعا وأجمعوا أن صلاة المغرب مِن صلاة الليل والله عز وجل يقول : (ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ)). وقد بينت السنة الصريحة كما في حديث بريدة وغيره أن الليل يبتدأ بغروب الشمس في الأفق وهو وقت صلاة المغرب فإذا غربت الشمس أفطر الصائم ولا عبرة بالضوء الأحمر والشعاع الذي يبقى في السماء إنما العبرة بتحقق غروب قرص الشمس ويستدل الصائم على ذلك بالرؤية أو بخبر العدل الثقة كأذان المؤذن. وقوله (فقد أفطر الصائم) يعني فقد دخل وقت الإفطار لرواية البخاري: (فقد حلَّ الإفطار). فلا يتحقق الفطر إلا بالفعل بحيث يطعم شيئا ولو ماء فإن لم يجد نوى الفطر فيكون مفطرا حكما.
بَابُ أفضَل الصِّيامِ وَغَيرِه
ذكر المصنف رحمه الله في هذا الباب الأحاديث التي تتعلق بصوم التطوع وما يتبع ذلك من الأحكام والمسائل. والمشروع للمسلم أن يتحرى موافقة الشرع ظاهرا وباطنا في باب التنفل بالصوم وغيره من العبادات فالخير والبركة في موافقة محبوبات الله ومرضاته لا الاعتماد فقط على نية إرادة الخير. والتنفل في الصوم قسمان:
1- سنة مؤكدة يتأكد المواظبة عليها كصيام يوم عرفة وعاشوراء والأيام البيض وست من شوال ونحوه. 2- تنفل مطلق لا يتأكد المواظبة عليه كصيام أي يوم لم يخصه الشرع بثواب وفضل خاص.
18- عَنْ عَبْدِ الله بْنِ عُمَرَ رضي الله عَنْهُمَا قال: نَهَى رَسُولُ الله عَن الْوِصَالِ، قَالُوا: يَا رَسُولَ الله إنَكَ تُوَاصِلُ. قال: "إنِّي لَسْتُ كهَيْئَتِكُمْ، إنِّي أُطْعَمُ وَأُسْقَى". ورواه أبو هريرة، وعائشة، وأنس بن مالك رضي الله عنهم.(1/18)
ولـ"مسلم" عن أبي سعيد الخُدْرِيِّ رضي الله عَنْهُ: " فأَيُّكُمْ أرادَ أَنْ يُواصِلَ فَلْيُوَاصِل إلَى السَّحَرِ".
هذا الحديث في حكم الوصال في الصوم والوصال هو أن يصل الصائم صومه باليوم الثاني والثالث وهكذا من غير فطر في الليل. وقد دل الحديث على كراهة الوصال لأكثر من يوم لجميع الأمة لأن فيه مشقة وكلفة ولأنه يؤدي إلى الملل والانقطاع عن العبادة والمشروع للمسلم الاقتصاد في باب العبادة والاعتدال. ويجوز للإنسان إذا أراد الوصال واحتاج لذلك أن يواصل إلى السحر ثم يفطر في السحر يعني يوما وليلة ولا تشرع الزيادة على ذلك وهذا هو مذهب أحمد. وذهب الجمهور إلى تحريم الوصال لظاهر النهي. وقد ورد عن بعض الصحابة رضي الله عنهم الوصال ليالي وأياما كثيرة وهذا محمول على اجتهاد منهم بجوازه عند القدرة ولا يتابعون عليه لمخالفته للأحاديث الصحاح. وفيه دليل على أن الوصال مشروع للنبي صلى الله عليه وسلم فهو من خصائصه وإنما شرع له لأن الله يمده بقوة وقدرة إيمانية ونفسية وروحانية تامة تيسر له الوصال ولعل الحكمة في هذا والله أعلم حتى تقوى نفسه على حمل أعباء الوحي وتبليغ الشريعة ولذلك وجب في حقه خصائص لم تشرع لغيره كقيام الليل. وليس معنى الحديث أن الله يطعمه طعاما وشرابا حقيقيا لأن هذا ينافي حقيقة الصوم والحكمة منه ومن فهم ذلك فقد وهم. وفي الحديث مشروعية تعزير الإمام والعالم الرعية بالفعل من باب التعليم والتوجيه. وفيه دليل على أن الأصل في أفعال الرسول صلى الله عليه وسلم في باب العبادة والتقرب الاقتداء بها والتأسي لجميع الأمة لإتباع الصحابة ومتابعتهم للرسول في أفعاله ما لم يدل الدليل على التخصيص.(1/19)
19- عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ رضي الله عنهما قَالَ : أُخْبِرَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَنِّي أَقُولُ : وَاَللَّهِ لأَصُومَنَّ النَّهَارَ , وَلأَقُومَنَّ اللَّيْلَ مَا عِشْتُ . فَقَالَ له رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم : أنت الذي تقول ذلك ؟ فَقُلْتُ لَهُ : قَدْ قُلْتُهُ , بِأَبِي أَنْتَ وَأُمِّي . فَقَالَ : فَإِنَّكَ لا تَسْتَطِيعُ ذَلِكَ . فَصُمْ وَأَفْطِرْ , وَقُمْ وَنَمْ . وَصُمْ مِنْ الشَّهْرِ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ ، فَإِنَّ الْحَسَنَةَ بِعَشْرِ أَمْثَالِهَا . وَذَلِكَ مِثْلُ صِيَامِ الدَّهْرِ . قُلْتُ : فَإِنِّي أُطِيقُ أَفْضَلَ مِنْ ذَلِكَ . قَالَ : فَصُمْ يَوْماً وَأَفْطِرْ يَوْمَيْنِ . قُلْتُ : أُطِيقُ أَفْضَلَ مِنْ ذَلِكَ . قَالَ : فَصُمْ يَوْماً وَأَفْطِرْ يَوْما . فَذَلِكَ مِثْلُ صِيَامِ دَاوُد عليه الصلاة والسلام . وَهُوَ أَفْضَلُ الصِّيَامِ . فَقُلْتُ : إنِّي أُطِيقُ أَفْضَلَ مِنْ ذَلِكَ . قَالَ : لا أَفْضَلَ مِنْ ذَلِكَ . وَفِي رِوَايَةٍ : لا صَوْمَ فَوْقَ صَوْمِ أَخِي دَاوُد – شَطْرَ الدَّهْرِ – صُمْ يَوْما وَأَفْطِرْ يوما. وعَنْه قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم : إنَّ أَحَبَّ الصِّيَامِ إلَى اللَّهِ صِيَامُ دَاوُد . وَأَحَبَّ الصَّلاةِ إلَى اللَّهِ صَلاةُ دَاوُد . كَانَ يَنَامُ نِصْفَ اللَّيْلِ , وَيَقُومُ ثُلُثَهُ . وَيَنَامُ سُدُسَهُ . وَكَانَ يَصُومُ يَوْما وَيُفْطِرُ يَوْما.(1/20)
في هذا الحديث بين النبي صلى الله عليه وسلم المنهج النبوي في التنسك والتطوع بالصوم وهو الاقتصاد والتوسط في العبادة فلا إعراض وانقطاع عنها بالكلية ولا مغالاة وتشديد ومبالغة في فعلها لأن التشديد في العبادة يورث الملل الذي يحمل صاحبه على الانقطاع والنفور عن الخير ويترتب عليه أيضا تفويت الحقوق الواجبة حق النفس والأهل والضيف وغيره ولذلك قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (عليكم بما تطيقون فوالله لا يمل الله حتى تملوا). متفق عليه. وقد فتح على الصحابي عبدالله في باب العبادة فأقسم على الله بالاجتهاد فيها ليلا نهارا وشكي إلى الرسول صلى الله عليه وسلم حاله وتقصيره في زوجه فأرشده الرسول صلى الله عليه وسلم بداية إلى صوم ثلاثة أيام وبين له أن فضلها وأجرها كأجر السنة لأن صوم اليوم يعدل أجر عشرة أيام ثم رد عليه عبدالله أنه يقوى على أشد فأرشده إلى صوم يوم وفطر يومين فرد عليه أنه يقوى على أشد ثم أرشده صلى الله عليه وسلم إلى صوم يوم وفطر يوم وهو صوم داود عليه السلام ثم طلب منه عبد الله أشد سرد الصوم بلا فطر فبين له أنه لا صوم أعلى وأفضل في باب التطوع من هذا الصوم فأخذ عبد الله بصوم داود ولم يقبل برخصة رسول الله لظنه أنه يقوى على الزيادة ثم لما كبرت سنه وضعف بدنه ندم على ذلك ندما شديدا وقال ليتني قبلت رخصة رسول الله صلى الله عليه وسلم. وفي الحديث النهي عن صوم الدهر وهو سرد الصوم بلا فطر لما ورد: (لا صام من صام الدهر). رواه البخاري. وقد اختلف في حكمه والتفصيل الحسن أن يقال من صام جميع السنة بالأيام المنهي عنها الخمسة العيدان وأيام التشريق فهذا محرم. ومن سرد الصوم مع الفطر في الأيام المنهي عنها كان صومه مكروها والأفضل صوم يوم وفطر يوم.(1/21)
والمتأمل في هدي رسول الله في صوم التطوع يجد أنه كان يسرد الصوم فترة فراغه ويسرد الفطر فترة شغله ويواظب على الأيام الفاضلة مما يدل على أن الأفضل لمن كان له نفع متعدي في العلم والدعوة وبذل الخير والإصلاح أن يقتصد ويتوسط أما من لم تكن حاله كذلك ولا يترتب على استكثاره فوات مصلحة أو مفسدة فليصم يوما ويفطر يوما.
20- عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ : أَوْصَانِي خَلِيلِي صلى الله عليه وسلم بِثَلاثٍ : صِيَامِ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ مِنْ كُلِّ شَهْرٍ , وَرَكْعَتَيْ الضُّحَى , وَأَنْ أُوتِرَ قَبْلَ أَنْ أَنَامَ .(1/22)
الحديث في صوم ثلاثة أيام من كل شهر. ففي هذا الحديث يوصي النبي صلى الله عليه وسلم أبا هريرة ويخصه مراعاة لحاله في انصرافه للعلم وتفرغه لذلك بثلاثة أعمال جليلة من التطوع الفاضل. فيدل على استحباب صوم ثلاثة أيام من كل شهر وهي بمنزلة صوم الشهر كله لأن الحسنة بعشر أمثالها وقد اختلف في تعيينها والصحيح الذي تدل عليه مجموع الروايات أنها تستحب من جميع الشهر من أوله وأوسطه وآخره لكن تتأكد كونها في أيام البيض الثالث عشر والرابع وعشر والخامس عشر كما روي في السنة في عدة أحاديث لا تخلو في الجملة من مقال لكن تعضدها آثار الصحابة فمن صام ثلاثة أيام من أي موضع من الشهر أصاب السنة ونال الثواب ولكن الأفضل أن يجعلها في الأيام البيض. وقد وردت أحاديث في الصحاح تدل على فضيلة أيام أخرى كيوم عاشوراء وعرفة والاثنين والخميس وست من شوال. ويدل الحديث على استحباب صلاة الضحى ضحوة أول النهار وأفضل وقتها حين يشتد الحر وأقلها ركعتان والصواب أن النبي صلى الله عليه وسلم صلاها ولم يكن يواظب عليها فهي سنة لكن ليست من السنن الرواتب ومن نفاها من الصحابة قاله اجتهادا منه على حسب علمه وخفيت عليه هذه السنة. ويدل الحديث على مشروعية صلاة الوتر ركعة فأكثر مما كان عدده وترا والذي دلت عليه النصوص أنه سنة مؤكدة ليس بفرض وهو مذهب الجمهور وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يواظب عليه حضرا وسفرا. وفيه دليل على أن الأفضل أن يكون وقته أول الليل لمن كان لا يقوم آخره لاشتغال بعلم ونحوه أما من كان يقوم آخر الليل فتأخيره أفضل كما دلت السنة على ذلك.
21- عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَبَّادِ بْنِ جَعْفَرٍ قَالَ : سَأَلْتُ جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ : أَنَهَى النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم عَنْ صَوْمِ يَوْمِ الْجُمُعَةِ ؟ قَالَ : نَعَمْ . وَزَادَ مُسْلِمٌ : وَرَبِّ الْكَعْبَةِ.(1/23)
22- وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ : سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ : لا يَصُومَنَّ أَحَدُكُمْ يَوْمَ الْجُمُعَةِ , إلاَّ أَنْ يَصُومَ يَوْما قَبْلَهُ , أَوْ يَوْما بَعْدَهُ .
الحديثان واردان في صوم يوم الجمعة. وقد دلا على النهي عن إفراد يوم الجمعة بالصوم وقد اختلف الفقهاء في حكم إفراده فذهب أبو حنيفة ومالك إلى جوازه بلا كراهة وذهب الشافعي وأحمد إلى القول بالكراهة وهو الصحيح اتباعا للحديث ولا معارض يقوى على دفعه. ودل الحديث على جوار صومه إذا قرن بيوم قبله أو بعده فإذا صام الانسان الخميس مع الجمعة أو السبت معه زالت الكراهة. وهذا النهي خاص بمن أفرد الصوم بقصد تخصيص الجمعة بهذه العبادة فنهي عن ذلك لأن الجمعة سيد الأيام وعيد الأسبوع فلا يشرع تخصيصها لسد ذريعة التشبه بيوم العيد الأكبر الذي يحرم صومه. فلا يخصص يوم الجمعة وليلتها بعبادة خاصة إلا ما ورد في الشرع. أما من وافق صومه يوم الجمعة بغير قصد منه كأن يصوم يوما ويفطر يوما أو يصوم عاشوراء أو عرفة ونحوه فيوافق ذلك يوم الجمعة فلا كراهة في صومه حينئذ لحديث أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعا : (ولا تخصوا يوم الجمعة بصيام من بين الأيام إلا أن يكون في صوم يصومه أحدكم). رواه مسلم. ولا يصح النهي عن إفراد يوم من أيام الأسبوع غير يوم الجمعة وما روي في هذا الباب فإما ضعيف لا يعمل به أو منسوخ على مذهب الجمهور.
23- عَنْ أَبِي عُبَيْدٍ مَوْلَى ابْنِ أَزْهَرَ وَاسْمُهُ سَعْدُ بْنُ عُبَيْدٍ - قَالَ : شَهِدْت الْعِيدَ مَعَ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رضي الله عنه فَقَالَ : هَذَانِ يَوْمَانِ نَهَى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَنْ صِيَامِهِمَا : يَوْمُ فِطْرِكُمْ مِنْ صِيَامِكُمْ , وَالْيَوْمُ الآخَرُ تَأْكُلُونَ فِيهِ مِنْ نُسُكِكُمْ .(1/24)
الحديث في حكم صوم يومي العيد. فقد نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن صوم عيد الفطر وعيد الأضحى. وهذا النهي على سبيل التحريم بإجماع الفقهاء حكاه ابن قدامة وغيره. والنهي عام يشمل صوم القضاء والنذر والتطوع والكفارة فلا يجوز للمسلم أن يصومهما مطلقا. ومن صام العيد لم ينعقد صومه لأن النهي يقتضي الفساد وكان آثما وعليه التوبة لوقوعه في النهي. وإنما نهي عن صوم عيد الفطر لأنه يوم تحلل من صيام رمضان ليتميز الفرض عن النفل ولا يشتبه به. ونهي عن صوم الأضحى لأن المشروع في هذا اليوم النسك وذبح الأضاحي والأكل والشرب والصوم فيه ينافي مقصود الشارع. والشريعة جاءت بإظهار الفرح والسرور والتوسعة في الطيبات في الأعياد فلا يناسب الصوم في هذا المقام لأنه مقام شكر لله على إتمام العبادة وإظهار النعمة والصوم من مقام الصبر. وهذا الحكم خاص بيوم العيد فقط ويباح الصوم في الأيام الأخرى التي بعد الفطر أما أيام التشريق التي بعد الأضحى فيحرم صومها إلا لمن لم يجد الهدي لما ثبت في الصحيح.
24- عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رضي الله عنه قَالَ : نَهَى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَنْ صَوْمِ يَوْمَيْنِ : الْفِطْرِ وَالنَّحْرِ . وَعَنْ الصَّمَّاءِ , وَأَنْ يَحْتَبِيَ الرَّجُلُ فِي ثوْبِ وَاحِدِ , وَعَنْ الصَّلاةِ بَعْدَ الصُّبْحِ وَالْعَصْرِ . أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ بِتَمَامِهِ . وَأَخْرَجَ الْبُخَارِيُّ الصَّوْمَ فَقَطْ.(1/25)
هذا الحديث في معنى الحديث السابق من تحريم صوم يومي العيد. ودل الحديث أيضا على تحريم لبستين وصلاتين. أما اللبستان فالأولى هي لبسة اشتمال الصماء وقد اختلف اللغويون والفقهاء في تفسيره وقد فسره الفقهاء بأن يشتمل الانسان بثوب واحد ليس عليه غيره ثم يرفعه من أحد جانبيه فيضعه على منكبيه فيبدو منه فرجه كهيئة الاضطباع في رداء الإحرام وقد جاء ذلك مفسرا في عدة أحاديث صحيحة. أما اللغويون ففسروه بأن يلبس ثوبا مغلقا من جميع الجوانب من غير أكمام فإذا أراد أن يخرج يده انكشفت عورته والأول أصح لأن الفقهاء أعرف من غيرهم بدلالة النصوص. وقد نهي عن ذلك لأنه يكون سببا في انكشاف العورة ولذلك رخص الفقهاء في الاشتمال إذا كان تحته إزار لستر العورة. وقد نبه النووي إلى أن حكم الاشتمال على تفسير أهل اللغة يكره وعلى تفسير الفقهاء يحرم. واللبسة الثانية الاحتباء وهي أن يجلس الرجل على إليتيه وينصب ساقيه إلى الأمام ثم يلف على نفسه ثوبا وكانت هذه اللبسة مشهورة في الجاهلية وقد نهي عن ذلك خشية انكشاف العورة فإن كان لابسا سروالا أو إزارا تحته فلا حرج في هذه اللبسة لأن علة التكشف زالت والحكم يدور مع علته وجودا وعدما. وأما الصلاتان المنهي عنهما فالأولى التطوع بعد صلاة الصبح إلى أن ترتفع الشمس قيد رمح والثانية التطوع بعد صلاة العصر إلى أن تغرب الشمس. والصحيح أنه يستثنى من ذلك صلاة ذوات الأسباب كسنة الوضوء وتحية المسجد وركعتي الطواف والقضاء ونحوها من الصلوات التي وجد سبب خاص لمشروعيتها فعلى هذا يكون النهي هنا مقصورا على التطوع المطلق بلا سبب.
25- عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رضي الله عنه قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم : مَنْ صَامَ يَوْماً فِي سَبِيلِ اللَّهِ بَعَّدَ اللَّهُ وَجْهَهُ عَنْ النَّارِ سَبْعِينَ خَرِيفًا.(1/26)
هذا الحديث في فضل الصوم في سبيل الله. وقد اختلف أهل العلم في تفسير سبيل الله على قولين: فمنهم من قال المراد من صام يوما طاعة لله وابتغاء مرضاته فجعل المعنى عاما. ومنهم من قال إن المراد في سبيل الله هنا الجهاد في سبيل الله فيكون المعنى من صام يوما في الجهاد فجعل المعنى خاصا وهذا قول الأكثر. قال ابن رشد في بداية المجتهد: (إذا أطلقت كلمة في سبيل الله تعني الجهاد). قال ابن دقيق العيد: (العرف الأكثر استعماله في الجهاد). وهو الصواب لأن سبيل الله الأصل فيه إذا أطلق في النصوص انصرف لمعنى الجهاد والقتال في سبيل الله كما في قوله تعالى: (إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاء وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللّهِ وَابْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِّنَ اللّهِ وَاللّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ). ولذلك أكثر القرآن استعمال هذا المصطلح في عبادة الجهاد والقتال إلا إذا دلت قرينة على إرادة المعنى العام فتحمل عليه كما في قوله تعالى: (مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ). قال سعيد بن جبير: (يعني في طاعة الله). وهذا الثواب العظيم معناه باعد الله بين الصائم وبين النار سبعين سنة فيدل على المعافاة عن النار والسلامة من حرها. والتعبير بالخريف في الحديث فيه نكتة وهو أن الخريف أطيب الفصول وتجنى فيه الثمار. وإنما عظم الله الثواب لمشقة الصوم في أرض الجهاد لأجل أن العبد جمع في هذه الحال بين عبادتين عظيميتين يتجلى فيهما مقام الصبر فكان الثواب على قدر المشقة. وهذا الفضل الوارد في صوم الجهاد ينبغي أن يراعى فيه ضابطا مهما وهو أن لا يكون الصوم يؤدي إلى الوهن والضعف أمام الأعداء فإن كان كذلك كان الفطر أولى ولذلك جاء في وصف صوم داود عليه الصلاة والسلام: (كان يصوم يوما ويفطر يوما ولا يفر إذا لاقى). متفق عليه.(1/27)
بابُ ليلةِ القَدرِ
لما كانت ليلة القدر من أشرف الليالي وأعظمها قدر في السنة ذكر المصنف الأحاديث المتعلقة بتعيينها وفضل التماسها. وسميت بذلك لعظم قدرها وكثرة ثوابها ولما فيها من الخصائص الشريفة من كونها خير من ألف شهر وفيها نزل القرآن وفيها تقدر آجال السنة وتنزل الخيرات والبركات والملائكة وفيها تغفر الزلات وتكفر الخطايا وترفع الدرجات لمن قامها محتسبا كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من قام ليلة القدر إيمانا واحتسابا غفر ما تقدم من ذنبه). متفق عليه. وقد ذكر العلماء علامات كثيرة لتمييز ليلة القدر لكن لا يثبت منها حين التأمل في النصوص إلا علامتان:
الأولى- أن تخرج الشمس في صبيحتها صافية لا شعاع لها كالطست قال صلى الله عليه وسلم ( وأمارتها أن تطلع الشمس في صبيحة يومها بيضاء لا شعاع لها ) رواه مسلم.
الثانية- أن تكون معتدلة كما روي : (ليلة القدر ليلة طلقة ، لا حارة ولا باردة ، تُصبح الشمس يومها حمراء ضعيفة ) رواه ابن خزيمة.
26- عَنْ عَبْدِ اللّه بْنِ عمَرَ رَضْيَ اللَه عَنْهُمَا: أنً رِجَالاً مِنْ أصْحَابِ النَّبِي صلى الله عليه وسلم أُرُوا لَيْلَةَ القَدْرِ في المنام. في السْبعِ الأوَاخِرِ. فقال رَسُوْلُ الله صلى الله عليه وسلم : (أرَى رُؤْيَاكُمْ قَدْ تَوَاطَأًتْ في السَّبْعِ الأوَاخِرِ، فمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مُتَحَرِّيَها فَلْيَتَحَرًهَا في السَّبْع الأوَاخِرِ).(1/28)
هذا الحديث في تحري ليلة القدر. وقد كانت ليلة القدر معلومة للنبي صلى الله عليه وسلم ثم أخفاها الله عز وجل عن عباده لحكم كثيرة منها اجتهاد المسلمين في العبادة حتى يدركوها ولو عينها لهم لاتكلوا عليها وتركوا العمل.كما أخفى ساعة الجمعة والآجال ليجتهد المسلم في سائر الأوقات والليالي. ودل الحديث أن رؤيا الصحابة اتفقت على كونها في السبع الأواخر ثم صدق رسول الله صلى الله عليه وسلم رؤياهم وأمرهم بتحري الليلة في هذه الليالي وهي من ليلة ثلاث وعشرين إلى تسع وعشرين. وتحريها يكون بالاجتهاد فيها بالطاعة من ذكر ودعاء وقران وغيره وقد ورد فيها دعاء مشروع لما روت عائشة أنها قالت : قلت : يا رسول الله أرأيت أن وافقت ليلة القدر ما أقول ؟ قال : قولي : ( اللهم إنك عفو كريم تحب العفو فاعف عني ) رواه الإمام أحمد. فيستحب للمسلم أن يكثر من هذا الدعاء سائر الليالي ويجتهد في المواظبة على صلاة التراويح. ومن اجتهد في جميع العشر فهو مدرك ليلة القدر لا محالة وفضل الله واسع.
27- عَنْ عَائِشَةَ رَضيَ الله عَنْهَا: أَنَّ رَسُوْلَ الله صلى الله عليه وسلم قال: (تَحَّرَُوْا ليْلَةََ الْقَدْرِ فَي الوِتْرِ مِنَ الْعَشْرِ الأوَاخِرِ).(1/29)
هذا الحديث في معنى ما سبق. وهو يدل على استحباب تحري ليلة القدر في العشر الأواخر في رمضان. وهو دليل ظاهر على أن ليلة القدر خاصة في العشر وعليه جمهور الفقهاء المالكية والشافعية والحنابلة في الجملة خلافا لمن جعلها في جميع شهر رمضان وهو قول مرجوح وأضعف منه من جعلها سائر ليالي السنة وهناك أقوال شاذة أخرى يحسن السكوت عنها. وقد اختلف أهل العلم في تعيين ليلة القدر على أقوال كثيرة لاختلاف الروايات في هذا الباب لأنه ورد تحريها في السبع الأواخر وورد في الخمس وورد في الثلاث الأواخر وورد في العشر الأواخر وورد في أوتار العشر وورد أنها ليلة إحدى وعشرين وثلاث وعشرين وسبع وعشرين وغير ذلك والصحيح الذي تأتلف به الروايات وتجتمع ولا يرد شيء منها أن ليلة القدر تكون خاصة في العشر الأواخر مبهمة وتتأكد في الأوتار وآكدها السبع الأواخر وآكدها جميعا ليلة سبع وعشرين. وقد نص بعض الفقهاء أن ليلة القدر لا تكون ليلة الثلاثين آخر الشهر.
28- عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَعْتَكِفُ فِي الْعَشْرِ الأَوْسَطِ مِنْ رَمَضَانَ . فَاعْتَكَفَ عَامًا , حَتَّى إذَا كَانَتْ لَيْلَةُ إحْدَى وَعِشْرِينَ - وَهِيَ اللَّيْلَةُ الَّتِي يَخْرُجُ مِنْ صَبِيحَتِهَا مِنْ اعْتِكَافِهِ - قَالَ : مَنْ اعْتَكَفَ مَعِي فَلْيَعْتَكِفْ الْعَشْرَ الأَوَاخِرَ فَقَدْ أُرِيتُ هَذِهِ اللَّيْلَةَ . ثُمَّ أُنْسِيتُهَا , وَقَدْ رَأَيْتُنِي أَسْجُدُ فِي مَاءٍ وَطِينٍ مِنْ صَبِيحَتِهَا . فَالْتَمِسُوهَا فِي الْعَشْرِ الأَوَاخِرِ . وَالْتَمِسُوهَا فِي كُلِّ وِتْرٍ .(1/30)
فَمَطَرَتِ السَّمَاءُ تِلْكَ اللَّيْلَةِ . وَكَانَ الْمَسْجِدُ عَلَى عَرِيشٍ . فَوَكَفَ الْمَسْجِدُ , فَأَبْصَرَتْ عَيْنَايَ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَعَلَى جَبْهَتِهِ أَثَرُ الْمَاءِ وَالطِّينِ مِنْ صُبْحِ إحْدَى وَعِشْرِينَ.
هذا الحديث كذلك في تحري ليلة القدر. فقد كان رسول الله يعتكف العشر الأواسط طلبا لليلة القدر ثم لما أراد الخروج من صبيحة ليلة إحدى وعشرين قال لأصحابه من اعتكف معي طلبا لموافقة ليلة القدر فليمكث ويتم اعتكافه العشر الأواخر لأني رأيت في المنام أنها تكون في ليلة منها ولكن أنساني الله تحديدها ولكن رأيت فيها علامة ظاهرة وهي أني اسجد على ماء وطين من جراء نزول المطر في تلك الليلة يعني أنها ليلة مطيرة فتحققت رؤياه ونزل المطر في تلك الليلة فخر من السقف وسجد الرسول على طين. ففي هذا الحديث دليل على جواز الاستدلال بالرؤيا الحق على تعيين ليلة القدر فلا حرج في الاستئناس بها وليس ذلك من باب الاحتجاج بها على حكم شرعي مستقل فلا يصح بالإجماع. وفيه دليل ظاهر على أن ليلة القدر تنتقل بين الليالي خاصة الأوتار من عام لآخر لأن ظاهر الخبر أنها كانت في العشر الأواسط ثم انتقلت وقد استقرت في الأواخر. وقال بعض أهل العلم إنها ثابتة في ليلة لا تتغير لكن السنة على خلافه. ثم اختلفوا في تحديدها فاختار الشافعي أنها إحدى وعشرين وأهل المدينة اختاروا ثلاث وعشرين واختار أهل البصرة أربع وعشرين وأهل الكوفة سبع وعشرين وهكذا ولا يصح الاستدلال لأي قول منهم لأن كلا أخذ بحديث وترك الآخر والحديث حق لكنه وافق في تلك السنة تلك الليلة لكنها انتقلت إلى ليلة أخرى في السنة الأخرى كما ثبت في الصحاح فكلها أحاديث وآثار ثابتة فلا سبيل للعمل بها جميعا إلا بالجمع الذي يقتضي القول بأنها تنتقل بين الليالي وأحراها الأوتار.(1/31)
وقال النووي: (وقال المحققون إنها تنتقل فتكون سنة في ليلة سبع وعشرين، وفي سنة ليلة ثلاث وعشرين، وسنة إحدى وعشرين، وهذا أظهر، وفيه جمع بين الأحاديث المختلفة فيها، ثم نقل عن القاضي عياض أن هذا قول مالك والثوري وأحمد وإسحاق وأبي ثور وغيرهم).
بَاب الاعتِكَاف
لما فرغ المصنف من ذكر أحاديث الصيام ذكر أحاديث الاعتكاف لأن الاعتكاف يشرع مع الصيام غالبا ولأن وقته المشروع شهر رمضان ولذلك جرت عادة الفقهاء إلحاقه بكتاب الصيام. والاعتكاف لغة المكث وملازمة الشيء. لقوله تعالى: (سَوَاءً الْعَاكِفُ فِيهِ وَالْبَادِ). واصطلاحا: لزوم مسجد لطاعة الله وذكره. إذن فحقيقة الاعتكاف المكث في المسجد بنية التقرب لله والتلاوة والذكر والدعاء أمر زائد لا يشترط في صحته. قال ابن رجب: (فمعنى الاعتكاف قطع العلائق عن الخلائق للاتصال بخدمة الخالق وكلما قويت المعرفة بالله والمحبة له والأنس به أورثت صاحبها الانقطاع إلى الله تعالى بالكلية على كل حال). وأجمع الفقهاء على استحبابه وعدم وجوبه. قال ابن المنذر : (أجمع أهل العلم على أن الاعتكاف سنة لا يجب على الناس فرضا إلا أن يوجب المرء على نفسه الاعتكاف نذرا فيحب عليه). ويجوز سائر السنة إلا أنه في رمضان أفضل ويتأكد في العشر الأواخر. والصحيح أنه لا يشترط الصوم في لاعتكاف .والصحيح أنه لا يشترط أن يكون في الجامع وإن كان أفضل ولا يشترط أيضا كونه في المساجد الثلاث المسجد الحرام ومسجد الرسول صلى الله عليه وسلم ومسجد الأقصى وما روي في ذلك لا يصح معلول بالوقف على حذيفة ومتنه مخالف لظاهر الآية التي تشترط المسجد فقط. قال تعالى: (وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ). والمسجد يشمل كل موضع يدخل فيما وقف له فيصح الاعتكاف في الرحبة والمرافق والمنارة وغيرها مما يدخل في سور المسجد. ويبطل الاعتكاف بمباشرة المرأة والردة والحيض والاشتغال بالدنيا والخروج بلا حاجة وقطع النية.(1/32)
ومن أبطل اعتكافه فلا شيء عليه ولا يلزمه شيء لأنه سنة في الأصل إلا أن يكون نذرا فيجب قضاؤه.
29- عَنْ عَائِشَةَ رَضيَ الله عَنْهَا: أنَّ رَسُولَ اللَه صلى الله عليه وسلم كَانَ يَعْتَكِفُ في الْعَشْرِ الأَوَاخِرِ مِنْ رَمَضَانَ حَتًى تَوَفَّاهُ الله تَعَالى. ثُمَّ اعْتَكَفَ أَزْوَاجُهُ مِنْ بَعْدَهُ. وفي لفظٍ : "كَانَ رَسُولُ الله يَعْتَكِفُ في كلِّ رَمَضَانَ، فَإذَا صلَّى الْغَدَاةَ، جَاءَ مَكَانَهُ الَّذِي اعْتَكَفَ فِيْهِ".(1/33)
هذا الحديث في وقت الاعتكاف. فقد دل الحديث أنه صلى الله عليه وسلم كان يعتكف في العشر الأواخر وقد روي في السنة أنه كان يعتكف في العشر الأوائل ثم اعتكف العشر الأواسط ثم اعتكف العشر الأواخر وهو الذي استقر عمله عليه وكان آخر أمره كما أشارت عائشة لذلك مما يدل على أن السنة المؤكدة في وقت الاعتكاف هو العشر الأواخر. وقد ثبت أنه اعتكف في شوال قضاء لما فاته من اعتكاف رمضان. وقد حكى ابن البر الإجماع على جواز الاعتكاف سائر السنة إلا الأيام المحرم صومها. فلا حرج على المسلم لاعتكاف في أي يوم من السنة إلا أن الأفضل أن يجعل ذلك في العشر الأواخر من رمضان. وفي الحديث دليل على جواز اعتكاف المرأة في المسجد إذا خلا الطريق من الفتنة والفساد وكان على المسجد قيم مؤتمن ويشترط أن يكون بإذن الزوج ممن كانت ذا زوج ولا يترتب على اعتكافها تضييع حق من والد وولد أو التقصير في واجب عليها للغير. وقد رخص بعض الفقهاء في اعتكافها في بيتها ولكن هذا لا يصح منها لأن الاعتكاف يشترط في صحته أن يكون في المسجد فهو من خصائص المسجد. ودل الحديث على أنه يستحب للمعتكف أن يدخل معتكفه بعد صلاة الصبح وقد اختلف أهل العلم في ابتداء وقت الاعتكاف على قولين فمنهم من قال إنه يبتدأ من بعد صلاة الصبح أخذا بظاهر الحديث ومنهم من قال أن الاعتكاف يبتدأ من غروب ليلة اليوم وينتهي بغروبه وهذا هو الصحيح لأن الليلة تابعة لليوم الذي يليه ولأن ليلة إحدى وعشرين داخلة في ليالي العشر فيشملها النص أما هذا الحديث فالمراد أنه صلى الله عليه وسلم دخل المكان الذي أعده للاعتكاف وليس المراد ابتدأ الاعتكاف وهذا مذهب أحمد. وقد كانت عادته صلى الله عليه وسلم إذا أراد أن يعتكف أمر فضرب له خباء وهذا يدل على أنه يجوز للمعتكف أن يحتجز موضعا لاعتكافه.(1/34)
30- عَنْ عَائِشَةَ رَضيَ الله عَنْهَا: أنَّها كَانَتْ ترَجِّلُ النَّبِي صلى الله عليه وسلم وَهِيَ حَائِضٌ، وَهُوَ مُعْتَكِفٌ فِي الْمَسْجِدِ، وهِيَ فِي حُجْرَتِهَا، يُنَاوِلُهَا رَأسَهُ. وفي رواية: "وَكَانَ لا يَدْخُلُ الْبَيْتَ إلاَّ لِحَاجَةِ الإنْسَانِ". وفي رواية: " أنَ عَائِشَةَ قَالَتْ: إني كُنْت لا أدْخُلُ الْبَيْتَ إلاَّ لِلْحَاجَةِ والْمَرِيضُ فِيهِ، فَمَا أَسْأَلُ عَنْهُ إلاَّ وَأَنَا مَارَّة.(1/35)
الحديث في أحكام الاعتكاف. فقد دل الحديث على أن المعتكف منهي عن خروجه من المسجد بلا حاجة مهمة لأن ذلك ينافي حقيقة الاعتكاف أما إخراج بعض الجسد من رأس ويد ورجل فجائز ولو كان من غير حاجة مهمة لأنه لم يتحقق خروجه كاملا فوسع فيه الشرع. فلا حرج على الانسان إخراج بعض جسده لغرض معين ولا يبطل اعتكافه بهذا. وفيه دليل على طهارة بدن الحائض وأن نجاسة حيضتها لا تتعدى إلى سائر بدنها ولا ينجس ما لامسته ببدنها وثوبها. وفيه مشروعية خدمة الزوجة لزوجها في طهارته وزينته وحسن هيئته كما كانت عائشة تسرح شعر رسول الله وتنظفه وهذا من كمال دين المرأة وعقلها ولا ينتقص من قدرها ولا يغض من مكانتها. وفيه دليل على جواز مس المعتكف امرأته من غير شهوة وأن ذلك لا يبطل الاعتكاف فالنهي خاص بمسها ومباشرتها لشهوة. أما إذا مسها لشهوة كتقبيل وضم فيحرم ولكن لا يبطل الاعتكاف إلا بالجماع في الفرج على الصحيح. قال ابن عباس: (إذا جامع المعتكف بطل اعتكافه واستأنف). وكذلك يبطل أيضا بمباشرته إذا حصل منه إنزال بإتفاق الفقهاء. وفيه دليل على إباحة الاغتسال والتطهر للمعتكف فلا يمنع من الترفه. ودل الحديث على جواز خروج المعتكف من المسجد إلى بيته لغرض حاجته التي ليس له منها بد من طعام وشراب ودواء وقضاء حاجة وهذا مجمع عليه بين الفقهاء في الجملة. قال ابن المنذر: (أجمع أهل العلم على أن للمعتكف أن يخرج من معتكفه للغائط والبول). فإن كانت حاجته تحصل في ناحية المسجد أو ملحقاته لم يجز له الخروج من المسجد. وفي قول عائشة رضي الله عنها دليل ظاهر على عدم جواز اشتغال المعتكف بعبادة أخرى خارج المسجد من عيادة مريض وتشييع جنازة وإجابة دعوة ونحو ذلك من العبادات الاجتماعية لأن ذلك يقطع الاعتكاف وينافي حقيقته الشرعية ويرخص في ذلك إذا كان في طريق المعتكف للمسجد وكان يسيرا.(1/36)
ولذلك قالت عائشة: (السنة على المعتكف أن لا يعود مريضا ولا يشهد جنازة ولا يمس امرأة ولا يباشرها). رواه أبو داود. ورخص أحمد للمعتكف في اشتراط عيادة المريض وشهود الجنازة ونحوه عند اعتكافه فإذا اشترط خرج لذلك ولم يبطل اعتكافه والأظهر أنه لا يصح والشرط لغو لا يثبت به الاستثناء ولا يؤثر في الحكم لأنه هذا الشرط لم يرد في السنة ولأنه ينافي معنى الاعتكاف وحقيقته ولأن لاعتكاف ورد في الشرع على صفة مخصوصة لزوم المسجد من غير استثناء وقت معين وهذا مذهب مالك وغيره.
31- عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رضي الله عنه قَالَ : قُلْتُ : يَا رَسُولَ اللَّهِ , إنِّي كُنْتُ نَذَرْتُ فِي الْجَاهِلِيَّةِ أَنْ أَعْتَكِفَ لَيْلَةً - وَفِي رِوَايَةٍ : يَوْماً - فِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ . قَالَ : فَأَوْفِ بِنَذْرِكَ . وَلَمْ يَذْكُرْ بَعْضُ الرُّوَاةِ يَوْماً ولا لَيْلَةً.(1/37)
هذا الحديث في الوفاء بنذر الاعتكاف. فقد دل الحديث على أن الانسان إذا نذر أن يعتكف وجب عليه الوفاء بالنذر وصار حكم الاعتكاف حينئذ واجبا ولزمه أن يعتكف على حسب نذره في الزمان فإن نذر يوما أو أكثر لزمه ذلك والتتابع على حسب نيته ولفظه. وإذا نذر الاعتكاف في مسجد معين لم يلزمه ذلك إلا أن يكون هذا المسجد له فضيلة في الشرع فيجب ولا يجزئه الاعتكاف في مسجد دونه في الفضل ولذلك أمر النبي صلى الله عليه وسلم عمرا بالوفاء في المسجد الحرام. فيجوز الانتقال في النذر من المفضول إلى الفاضل ولا يجوز من الفاضل إلى المفضول فإن نذر في الأقصى جاز في مسجد الرسول أو المسجد الحرام ولا يصح العكس. أما مساجد المدن فلا يلزم النذر فيها لأنها لا خصيصة لها ولا مزية فلا معنى لتخصيصها. وفي الحديث دليل على صحة النذر حال الكفر ومشروعية الوفاء به بعد الإسلام وقد حمل الجمهور قوله صلى الله عليه وسلم لعمر أوف بنذرك على الاستحباب . وفيه دليل أيضا على عدم اشتراط الصوم في النذر لأنه لو كان واجبا لذكر في الحديث ولأن المحفوظ في هذا الحديث ذكر ليلة وذكر اليوم شاذ كما نبه ابن حجر على هذا فيكون الاعتكاف ليلا بلا صوم. ولا يصح دليل في اشتراط ذلك وما روي في سنن أبي داود من حديث عائشة: (ولا اعتكاف إلا بصوم). لا يثبت رفعه بل هو موقوف على عائشة أو من دونها من الرواة. وقد ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم اعتكف في شوال ولم يذكر أنه كان صائما وهذا مذهب الشافعي وأحمد. وفي الحديث دليل على صحة الاعتكاف زمن ليلة فقط وقد اختلف الفقهاء في أقل زمن يصح فيه الاعتكاف على قولين فذهب مالك وأبو حنيفة إلى أن أقله يوم وليلة وذهب الشافعي وأحمد إلى أنه يصح ساعة من ليل أو نهار ولا يشترط فيه يوم وليلة ولعل هذا أقرب لأنه لم يرد دليل على التوقيت ولأن الاعتكاف يصدق على الساعة ونحوها لتحقق المكث في المسجد.(1/38)
32- عَنْ صَفِيَّةَ بِنْتِ حُيَيٍّ رضي الله عنها قَالَتْ : كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم مُعْتَكِفًا . فَأَتَيْتُهُ أَزُورُهُ لَيْلاً . فَحَدَّثْتُهُ , ثُمَّ قُمْتُ لأَنْقَلِبَ , فَقَامَ مَعِي لِيَقْلِبَنِي - وَكَانَ مَسْكَنُهَا فِي دَارِ أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ - فَمَرَّ رَجُلانِ مِنْ الأَنْصَارِ ، فَلَمَّا رَأَيَا رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَسْرَعَا . فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم : عَلَى رِسْلِكُمَا . إنَّهَا صَفِيَّةُ بِنْتُ حُيَيٍّ . فَقَالا : سُبْحَانَ اللَّهِ يَا رَسُولَ اللَّهِ . فَقَالَ : إنَّ الشَّيْطَانَ يَجْرِي مِنْ ابْنِ آدَمَ مَجْرَى الدَّمِ . وَإِنِّي خَشِيتُ أَنْ يَقْذِفَ فِي قُلُوبِكُمَا شَرًّا - أَوْ قَالَ شَيْئًا . وَفِي رِوَايَةٍ : أَنَّهَا جَاءَتْ تَزُورُهُ فِي اعْتِكَافِهِ فِي الْمَسْجِدِ فِي الْعَشْرِ الأَوَاخِرِ مِنْ رَمَضَانَ . فَتَحَدَّثَتْ عِنْدَهُ سَاعَةً . ثُمَّ قَامَتْ تَنْقَلِبُ . فَقَامَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم مَعَهَا يَقْلِبُهَا , حَتَّى إذَا بَلَغَتْ بَابَ الْمَسْجِدِ عِنْدَ بَابِ أُمِّ سَلَمَةَ . ثُمَّ ذَكَرَهُ بِمَعْنَاهُ.(1/39)
هذا الحديث في حكم زيارة المعتكف. فقد دل الحديث على إباحة زيارة المعتكف في معتكفه خاصة من قبل زوجه وأهله ولا حرج للمعتكف في الجلوس مع الزائر والحديث معه في الأمور المباحة. ولكن ينبغي أن تكون الزيارة على قدر الحاجة ويكره التطويل في الحديث والمسامرة لأن ذلك يؤثر على الاعتكاف ويذهب فائدته المرجوة والمشروع للمعتكف الاشتغال بالذكر والتلاوة والدعاء والتفكر والخلوة بربه والانجماع عليه بكليته والانقطاع عن الخلق إلا فيما يحتاج إليه من الكلام العارض. قال ابن رجب: (ولهذا ذهب الإمام أحمد إلى أن المعتكف لا يستحب له مخالطة الناس حتى ولا لتعليم علم وإقراء قرآن بل الأفضل له الإنفراد بنفسه والتخلي بمناجاة ربه وذكره ودعائه). قلت: وبهذا يتبين أن عمل كثير من الناس اليوم في اعتكافهم من إضاعة الوقت بالحديث والمؤانسة والمزاح فيه ضعف بصيرة وقلة فقه لمقصد الاعتكاف وتضييع لحق الله والله المستعان. وفيه حسن أدب النبي صلى الله عليه وسلم مع زوجه بالمشي معها عند الخروج خلافا لعادة المتكبرين الغلاظ. وفيه دليل على أن المشروع للإنسان البعد كل البعد عن مواطن الشبهة والريبة التي تجلب له التهمة وكلام الناس في عرضه خاصة إذا كان ممن يقتدى به لتحرز النبي صلى الله عليه وسلم في هذه القصة من سوء ظن الرجلين بيان الواقع فإذا خشي المرء سوء الظن في حالة فليبين موقفه وسبب وجوده ليدرأ عن نفسه. وفيه أن الشيطان يتسلط على الناس ويؤثر عليهم في مواطن الضعف من فرح وحزن وغضب وشهوة وشبهة فلذلك يجب على المؤمن الحذر من كيده وهمزه ولمزه وخطواته ويتحرز بالذكر واتباع الشرع والأخذ بالحيطة.
وبهذا ينتهي ما أردناه من بيان كتاب الصيام من عمدة الأحكام.
والحمد لله أولا وآخرا وظاهرا وباطنا والحمد لله الذي تتم بنعمته الصالحات وأصلي وأسلم على البشير النذير محمد وآله وصحبه أجمعين.(1/40)