مِنْ شَرَابِهِ، وَمَنْ لَمْ يُجِبْهُ عَاقَبَهُ، أو قال عَذّبَهُ. ثُمّ ارْتَفَعُوا وَاسْتَيْقَظَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم عِنْدَ ذَلِكَ، فقال: سَمِعْتُ مَا قَالَ هَؤُلاءِ. وَهَلْ تَدْرِي مَنْ هَؤُلاءِ؟ قلت: الله وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ، قال: هُمُ المَلاَئِكَةُ، فَتَدْرِي مَا المَثَلُ الّذِي ضَرَبُوهُ؟ قلت: الله وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ، قال: المَثَلُ الّذِي ضَرَبُوهُ: الرّحْمَنُ تبارك وتعالى بَنَى الْجَنّةَ وَدَعَى إِلَيْهَا عِبَادَهُ، فَمَنْ أَجَابَهُ دَخَلَ الْجَنّةَ، وَمَنْ لَمْ يُجِبُهُ عَاقَبَهُ أَو عَذّبَهُ".
هذا حديثٌ حسنٌ صحيحٌ غريبٌ من هذا الْوَجْهِ.
وأبو تَمِيمَةَ هو الهجيميّ اسْمُهُ طَرِيفُ بن مُجَالِدٍ، وأبو عثمانَ النّهْدِيّ اسْمُهُ عَبْدِ الرّحْمَنِ بنُ ملٍ، وَسُلَيْمَانُ التّيْطيّ قد روى هذا الحديث عند معتمرو هو سليمان ابن طَرْحَانَ، وإنما كَانَ يَنْزلُ بَنِي تَيمٍ فَنُسِبَ إِلَيْهِمْ. قال عَلِيٌ قال يَحْيَىَ بنُ سَعِيدٍ: ما رَأَيْتُ أَخْوَفَ لله تعالى مِنْ سُلَيْمَانَ التّيْمِيّ.
ـــــــ
المصابيح على أنه غير منصرف، يعني فلا يفوته شيء مما تقول "مثل سيد" أي مثله مثل سيد.
قوله: "هذا حديث حسن غريب صحيح" وأخرجه أحمد وابن خزيمة وصححه "وأبو عثمان النهدي اسمه عبد الرحمن بن مل" بلام ثقيلة والميم مثلثة "وسليمان التيمي هو ابن طرخان الخ" ليس لسلمان التيمي ذكر في هذا الباب أصلاً، فإيراد الترمذي ترجمته ههنا لا يظهر له وجه فتأمل.(8/158)
باب ماجاء في مثل النبي والأنبياء صلى الله عليه وعليهم أجمعين
...
2- باب مَا جَاءَ في مَثَلُ النبيّ صلى الله عليه وسلم والأَنْبِيَاءِ صلى الله عليهم أجمعين وسلم
3022- حدثنا مُحمّدُ بن إسْمَاعِيلَ، أخبرنا مُحمّدُ بنُ سِنَانٍ، أخبرنا
ـــــــ
باب مَا جَاءَ في مَثَلُ النبيّ صلى الله عليه وسلم والأَنْبِيَاءِ صلى الله عليهم أجمعين وسلم
قوله: "حدثنا محمد بن إسماعيل" هو الإمام البخاري رحمه الله "أخبرنا محمد(8/158)
سَلِيمُ بنُ حَيّانٍ بصري، أخبرنا سَعِيدُ بنُ مِينَاءٍ، عن جابرِ بنِ عَبْدِ الله قالَ: قالَ النبيّ صلى الله عليه وسلم: "إِنّمَا مَثَلي وَمَثَلُ الأَنْبِيَاءِ قبلي كَرَجُلٍ بَنَى دَاراً فَأَكْمَلَهَا وَأَحْسَنَهَا إِلاّ مَوْضِعَ لَبِنَةٍ، فَجَعَلَ النّاسُ يَدْخُلُونَهَا وَيَتَعَجّبُونَ مِنْهَا ويَقُولُونَ: لَوْلاَ مَوْضِعُ الِلّبِنَةِ" . وفي البابِ عن أَبي هُرَيْرَةَ وَأُبيّ
ـــــــ
ابن سنان" الباهلي أبو بكر البصري العوفي بفتح المهملة والواو بعدها فاء، ثقة ثبت من كبار العاشرة "أخبرنا سليم" بفتح أوله "ابن حيان" بحاء مهملة وتحتانية ثقيلة الهذلي البصري ثقة من السابعة "أخبرنا سعيد بن ميناء" بكسر الميم ومد النون مولى البختري ابن أبي ذباب الحجازي، مكي أو مدني، يكنى أبا الوليد، ثقة من الثالثة.
قوله: "إنما مثلي ومثل الأنبياء كرجل بنى داراً" قيل المشبه به واحد والمشبه جماعة فكيف صح التشبيه؟ وجوابه أنه جعل الأنبياء كرجل واحد لأنه لا يتم ما أراد من التشبيه إلا باعتبار الكل، وكذلك الدار لا تتم إلا باجتماع البنيان، ويحتمل أن يكون من التشبيه التمثيلي وهو أن يؤخذ وصف من أوصاف المشبه ويشبه بمثله من أحوال المشبه به فكأنه، شبه الأنبياء وما بعثوا به من إرشاد الناس ببيت أسست قواعده ورفع بنيانه، وبقي منه موضع به يتم صلاح ذلك البيت. وزعم ابن العربي أن اللبنة المشار إليها كانت في رأس الدار المذكورة وأنها لولا وضعها لانقضت تلك الدار، قال وبهذا يتم المراد من التشبيه المذكور انتهى. وهذا إن كان منقولاً فهو حسن وإلا فليس بلازم. نعم ظاهر السياق أن تكون اللبنة في مكان يظهر عدم الكمال في الدار بفقدها، وقد وقع في رواية همام عند مسلم: إلا موضع لبنة من زاوية من زواياها، فيظهر أن المراد أنها مكملة محسنة وإلا لاستلزم أن يكون الأمر بدونها كان ناقصاً وليس كذلك، فإن شريعة كل نبي بالنسبة إليه كاملة فالمراد هنا النظر إلى الأكمل بالنسبة إلى الشريعة المحمدية مع ما مضى من الشرائع الكاملة "لولا موضع اللبنة" بفتح اللام وكسر الموحدة بعدها(8/159)
ابنِ كَعبٍ. هذا حديثٌ حسنٌ صحيحٌ غريبٌ من هذا الوَجْهِ.
ـــــــ
نون وبكسر اللام وسكون الموحدة أيضاً هي القطعة من الطين تعجن وتجعل وتعد للبناء، ويقال لها ما لم تحرق لبنة، فإذا أحرقت فهي آجرة، وقوله موضع اللبنة بالرفع على أنه مبتدأ وخبره محذوف، أي لولا موضع اللبنة يوهم النقص لكان بناء الدار كاملاً، ويحتمل أن يكون لولا تحضيضة وفعلها محذوف تقديره: لولا أكمل وضع اللبنة. ووقع في رواية همام عند أحمد: ألا وضعت ههنا لبنة فيتم بنيانك وفي الحديث ضرب الأمثال للتقريب للأفهام وفضل النبي صلى الله عليه وسلم على سائر النبيين، وأن الله ختم به المرسلين وأكمل به شرائع الدين.
قوله: "وفي الباب عن أبي هريرة وأبي بن كعب" أما حديث أبي هريرة فأخرجه الشيخان والنسائي، وأما حديث أبي بن كعب فأخرجه الترمذي في أوائل المناقب.
قوله: "هذا حديث حسن غريب صحيح" وأخرجه الشيخان.(8/160)
باب ما جاء مثل الصلاة والصيم والصدقة
...
3- باب ما جَاءَ مَثَلُ الصّلاَةِ وَالصّيَامِ وَالصّدَقَة
3023- حدثنا مُحمّدُ بن إسْمَاعِيلَ، أخبرنا مُوسَى بنُ إسْمَاعِيلَ، أخبرنا أَبَانُ بنُ يَزِيدَ، أخبرنا يَحْيَىَ بنُ أَبي كَثِيرٍ، عن زَيدِ بنِ سَلاّمٍ: أَنّ أَبَا سَلاّمٍ حَدّثَهُ أَنّ الْحَارِثَ الاشْعَرِيّ حَدّثَهُ أَنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم
ـــــــ
باب ما جَاءَ مَثَلُ الصّلاَةِ وَالصّيَامِ وَالصّدَقَة
قوله: "حدثنا محمد بن إسماعيل" هو الإمام البخاري "أخبرنا موسى بن إسماعيل" هو المنقري "أخبرنا أبان بن يزيد" هو العطار البصري "أخبرنا يحيى بن أبي كثير" هو الطائي "عن زيد بن سلام" بن أبي سلام ممطور الحبشي بالمهملة والموحدة والمعجمة ثقة من السادسة كذا في التقريب. وقال صاحب مجمع البحار في المغني. الحبشي بمهملة وموحدة مفتوحتين ومعجمة منسوب إلى الحبش، أي الجبل الأسود وإلى حبش حي من اليمن، منهم أبو سلام ممطور الأعرج ومعاوية ابن سلام قال الأصيلي: الحبشي بضم الحاء وسكون موحدة انتهى "أن أبا سلام" بتشديد اللام واسمه ممطور هو جد زيد بن سلام "أن الحارث الأشعري" قال في(8/160)
قالَ: "إِنّ الله أَمَرَ يَحْيىَ بنَ زَكَرِيّا بِخَمْسِ كَلِمَاتٍ أَنْ يَعْمَلَ بِهَا وَيأْمُرَ بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنْ يَعْمَلُوا بِهَا، وَإِنّهُ كَادَ أَنْ يبطئ بِهَا. فقالَ عِيسَى: إِنّ الله أَمَرَكَ بِخَمْسِ كَلِمَاتٍ لِتَعْمَلَ بهَا وَتَأْمُرَ بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنْ يَعْمَلُوا بهَا. فَإِمّا أَنْ تَأْمُرَهُمْ وَإِمّا أَنْ آمُرَهُمْ، فَقَالَ يَحْيىَ أَخْشَى إِنْ سَبَقْتَنِي بِهَا أَنْ يُخْسَفَ بي أَوْ أُعَذّبَ. فَجَمَعَ النّاسَ في بَيْتِ المَقْدِسِ فَامْتَلأ المَسْجِدُ وَقَعَدُوا عَلَى الشّرَفِ، فَقَالَ: إِنّ الله أَمَرَني بِخَمْسِ كَلِمَاتٍ أَنْ أَعْمَلَ بِهِنّ وآمُرَكُمْ أَنْ تَعْمَلُوا بِهِنّ: أَوّلَهُنّ أَنْ تَعْبُدُوا الله وَلاَ تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئَاً. وَإِنّ مَثَلَ مَنْ أَشْرَكَ بِالله كَمَثَلِ رَجُلٍ اشْتَرَى عَبْداً مِنْ خَالِصِ مَالِهِ بِذِهَبٍ أَوْ وَرِقٍ فَقَالَ: هَذِهِ دَارِي وَهَذَا عَمَلِي فَاعْمَلْ وَأَدّ إِلَىّ، فَكَانَ يَعْمَلُ وَيُؤَدّي إلى غَيْر سَيّدِهِ. فَأَيّكُمْ يَرْضَى أَنْ يَكُونَ عَبْدُهُ كَذَلِكَ؟ وَإِنّ الله أَمَرَكُمْ بِالصّلاَةِ فَإِذَا صَلَيْتُمْ فَلاَ تَلْتَفِتُوا فَإِنّ الله يَنْصُبُ وَجْهَهَ لِوَجْهِ عَبْدِهِ
ـــــــ
التقريب الحارث بن الحارث الأشعري الشامي صحابي، يكنى أبا مالك تفرد بالرواية عنه أبو سلام وفي الصحابة أبو مالك الأشعري اثنان غير هذا.
قوله: "إن الله أمر يحيى بن زكريا" أي أوحى إليه كما في رواية ابن خزيمة "وإنه كاد أن يبطئ بها" من الإبطاء وهو ضد الإسراع، وفي رواية ابن خزيمة: فكأنه أبطأ بهن "فقال يحيى أخشى إن سبقتني بها الخ" وفي رواية ابن خزيمة: فقال يا أخي لا تفعل فإني أخاف إن سبقتني بهن الخ "فجمع الناس" أي بنى إسرائيل كما في رواية ابن خزيمة "فامتلأ" وفي بعض النسخ فامتلأ المسجد "وقعدوا على الشرف" بضم الشين المعجمة وفتح الراء جمع شرفة. قال في القاموس: شرفة القصر بالضم معروف والجمع شرف. وقال في الصراح: شرفة بالضم كنكرة "فأيكم يرضى أن يكون عبده كذلك" زاد في رواية ابن خزيمة: فإن الله خلقكم ورزقكم فلا تشركوا به شيئاً "فإن الله ينصب وجهه لوجه عبده" وفي رواية(8/161)
في صَلاَتِهِ مَالَمْ يَلْتَفِتْ. وَآمَرَكُمْ بالصّيَامِ، فَإِنّ مَثَلَ ذَلِكَ كَمَثلِ رَجُلِ في عصَابَةٍ مَعَهُ صُرّةٌ فِيهَا مِسْكٌ فَكُلّهُمُ يُعْجَبُ أَوْ يُعْجِبُهُ رِيحُهَا وَإِنّ رِيحَ الصّائِمِ أَطْيَبُ عِنْدَ الله مِنْ رِيحِ المِسْكِ. وَآمَرَكُمْ بالصّدَقَةِ، فَإِنّ مَثَلَ ذَلِكَ كَمَثلِ رَجُلٍ أَسَرَهُ الْعَدُوّ فَأَوْثَقُوا يَدَهُ إلى عُنْقِهِ وَقَدّمُوهُ لِيَضْرِبُوا عُنُقَهُ، فَقَالَ أَنَا أَفْدِيِه مِنْكُمْ بالقَلِيلِ وَالكَثِيرِ فَفَدا نَفْسَهُ مِنْهُمْ. وآمَرَكُمْ أَنْ تَذْكُرُوا الله فَإِنّ مَثَلَ ذَلِكَ كَمَثَلِ رَجُلٍ خَرَجَ العَدُوّ في أَثَرِهِ سِرَاعاً حَتّى إِذَا أَتَى عَلَى حِصْنٍ حَصِينٍ فَأَحْرَزَ نَفْسَهُ مِنْهُمْ كَذَلِكَ العَبْدُ لاَ يُحْرِزُ نَفْسَهُ مِنَ الشّيْطَانِ إِلاّ بِذِكْرِ الله. قالَ النبيّ صلى الله عليه وسلم: "وَأَنَا آمُرُكُمْ بِخَمْسٍ الله أَمَرَنِي بِهِنّ: السّمْعِ وَالطَاعَةِ وَالْجِهَاد وَالْهِجْرَةِ وَالْجَمَاعَةِ، فَإِنّهُ مَنْ فَارَقَ الْجَمَاعَةَ قِيْدَ شِبْرٍ، فَقَدْ خَلَعَ رِبْقَةَ الإِسْلاَمِ
.ـــــــ
ابن خزيمة: فإن الله يقبل بوجه إلى وجه عبده "في عصابة" بكسر العين أي جماعة "معه صرة" بضم الصاد وشدة الراء المهملتين. قال في القاموس: هي شرح الدراهم ونحوها "فكلهم يعجب أو يعجبه ريحها" أو للشك من الراوي وفي رواية ابن خزيمة كلهم يحب أن يجد ريحها "أنا أفديه" من الفداء وهو فكاك الأسير أي أفك عنقي "بالقليل والكثير" أي بجميع مالي "خرج العدو في أثره" قال في القاموس: خرج في أثره وإثره أي بعده "سراعاً" بكسر السين حال من العدو أي مسرعين "حتى إذا أتى على حصن حصين" الحصن بالكسر: كل مكان محمى منيع لا يوصل إلى جوفه، والحصين من الأماكن المنيع، يقال درع حصين: أي محكمة وحصن حصين للمبالغة "فأحرز نفسه منهم" أي حفظها منهم "السمع والطاعة" أي للأمير في غير المعصية "والجهاد" أي في سبيل الله لإعلاء كلمته "والهجرة" أي الانتقال من مكة إلى المدينة قبل فتح مكة، ومن دار الكفر إلى دار الإسلام ومن دار البدعة إلى دار السنة، ومن المعصية إلى التوبة لقوله صلى الله عليه وسلم: "المهاجر من هجر ما نهى الله عنه" "والجماعة" قال الطيبي: المراد بالجماعة الصحابة ومن(8/162)
مِنْ عُنُقِهِ إِلاّ أَنْ يرَجِعَ. وَمَنْ ادّعَى دَعْوَى الْجَاهِلّيةِ، فَإِنّهُ مِنْ جُثَى جَهَنّمَ، فَقَالَ رَجُلٌ يَا رَسُولُ الله وَإِنْ صَلّى وَصَامَ؟ فَقَالَ وَإِنْ صَلّى وَصَامَ. فَادْعُوا بِدَعْوَى الله الّذِي سَمَاكُم المُسْلِمِينَ المُؤْمِنينَ عِبَادَ الله" .
ـــــــ
بعدهم من التابعين وتابعي التابعين من السلف الصالحين، أي أمركم بالتمسك بهديهم وسيرتهم والانخراط في زمرتهم "فإنه" قال الطيبي: اسم إن ضمير الشأن والجملة بعده تفسيره وهو كالتعليل للأمر بالتمسك بعرى الجماعة "قيد شبر" بكسر القاف وسكون التحتية أي قدره وأصله القود من القود وهو المماثلة والقصاص، والمعنى من فارق ما عليه الجماعة بترك السنة واتباع البدعة ونزع اليد عن الطاعة ولو كان بشيء يسير يقدر في الشاهد بقدر شبر "فقد خلع" أي نزع "ربقة الإسلام" بكسر الراء وسكون الموحدة وهي في الأصل عروة في حبل يجعل في عنق البهيمة أو يدها تمسكها فاستعارها للإسلام، يعني ما شد المسلم به نفسه من عرى الإسلام أي حدوده وأحكامه وأوامره ونواهيه. وقال بعضهم: المعنى فقد نبذ عهد الله وأخفر ذمته التي لزمت أعناق العباد لزوم الربقة بالكسر وهي واحدة الربق وهو حبل فيه عدة عرى يشد به البهم، أي أولاد الضأن، والواحدة من تلك العرى ربقة "ومن ادعى دعوى الجاهلية" قال الطيبي: عطف على الجملة التي وقعت مفسرة لضمير الشأن للإيذان بأن التمسك بالجماعة وعدم الخروج عن زمرتهم من شأن المؤمنين، والخروج من زمرتهم من هجيرى الجاهلية، كما قال صلى الله عليه وسلم: "من خلع يداً من طاعة لقي الله يوم القيامة ولا حجة له، ومن مات وليس في عنقه بيعة مات ميتة جاهلية". فعلى هذا ينبغي أن يفسر دعوى الجاهلية بسننها على الإطلاق لأنها تدعو إليها وهو أحد وجهي ما قال القاضي، والوجه الآخر الدعوى تطلق على الدعاء وهو النداء، والمعنى من نادى في الإسلام بنداء الجاهلية وهو أن الرجل منهم إذا غلب عليه خصمه نادى بأعلى صوته قومه: يا آل فلان فيبتدرون إلى نصره ظالماً كان أو مظلوماً جهلا منهم وعصبية.
وحاصل هذا الوجه يرجع أيضاً إلى الوجه السابق "فإنه" أي الداعي المذكور "من جثى جهنم" بضم الجيم مقصور أي من جماعاتها جمع جثوة بالحركات(8/163)
هذا حديثٌ حسنٌ صحيحٌ غريبٌ.
قالَ مُحمّدُ بنُ إسْمَاعِيلَ: الْحَارثُ الأَشْعَرِيّ لَهُ صُحْبَةٌ وَلَهُ غَيْرُ هَذَا الْحَديثِ.
3024- حدثنا مُحمّدُ بنُ بَشّارٍ، أخبرنا أَبُو داوُدَ الطّيَالِسِيّ، أخبرنا أَبَانُ بنُ يَزِيدَ عن يَحْيَى بنِ أَبي كَثِيرٍ عن زَيْدِ بنِ سَلاّمٍ عن أَبي سَلاّمٍ عن الْحَارِثِ الأَشْعَريّ عن النبيّ صلى الله عليه وسلم نَحْوَهُ بِمَعْنَاهُ.
هذا حديثٌ حسنٌ صحيحٌ غريبٌ. وَأَبُو سَلاّمٍ الحبشي اسْمُهُ مَمْطُورٌ.
وقد رَوَاهُ عَلِيّ بنُ المُبَارَكِ عن يَحْيىَ بنِ أَبي كَثِيرٍ.
ـــــــ
الثلاث، وهي الحجارة المجموعة، وروى من جثى بتشديد الياء وضم الجيم جمع جاث من جثى على ركبتيه يجثو ويجثى وكسر الجيم جائز لما بعدها من الكسرة وقرئ بهما في قوله تعالى: {وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيهَا جِثِيّاً} "وإن صلى وصام" أي ولو صلى وصام.
قوله: "هذا حديث حسن صحيح غريب" وأخرجه ابن خزيمة وابن حبان في صحيحهما والحاكم وقال: صحيح على شرط البخاري ومسلم وأخرجه النسائي ببعضه.(8/164)
4- باب ما جاءَ مَثَلِ المُؤْمِنِ القَارِيءِ لِلْقُرْآنِ وَغَيْرِ الْقَارِيء
3025- حدثنا قُتَيْبَةُ، أخبرنا أَبُو عَوَانَةَ عن قَتَادَةَ عن أَنَسٍ عن أَبي مُوسَى الأَشْعَرِيّ قال: قالَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم: "مَثَلُ المُؤْمِنِ الذِي يَقْرَأُ القُرْآنَ كَمَثَلِ الأُتْرجّة رِيحُهَا طَيّبٌ وَطَعْمُهَا طَيّبٌ، وَمَثَلُ
ـــــــ
باب ما جاءَ مَثَلِ المُؤْمِنِ القَارِيءِ لِلْقُرْآنِ وَغَيْرِ الْقَارِيء
قوله: "مثل المؤمن الذي يقرأ القرآن" عبر بالمضارع لإفادة تكريره لها ومداومته عليها حتى صارت دأبه وعادته، كفلان يقري الضيف، ويحمي الحريم(8/164)
المُؤمِنِ الذِي لا يَقْرَأُ الْقُرْآنَ كَمَثَلِ التّمْرَةِ لاَ رِيحَ لَهَا وَطَعْمُهَا حُلْوٌ، وَمَثَلُ المُنَافِقِ الذِي يَقْرَأُ القُرْآنَ كَمَثَلِ الرّيْحَانَةِ رِيحُهَا طَيّبٌ وَطَعْمُهَا مُرٌ، وَمَثَلُ المُنَافِقِ الذِي لا يَقْرَأُ القُرْآنَ كَمَثَلِ الْحَنْظَلَةِ رِيْحُهَا مُرٌ وَطَعْمُهَا مُرٌ" .
ـــــــ
يعطي وفي رواية يقرأ القرآن ويعمل به "كمثل الأترنجة" بضم الهمزة وسكون الفوقانية وضم الراء وسكون النون وبتخفيف الجيم وفيه لغات قال في القاموس: الأترج والاترجة والترنجة والترنج معروف وهي أحسن الثمار الشجرية وأنفسها عند العرب انتهى. ووجه التشبيه بالأترنجة لأنها أفضل ما يوجد من الثمار في سائر البلدان وأجدى لأسباب كثيرة جامعة للصفات المطلوبة منها والخواص الموجودة فيها فمن ذلك كبر جرمها وحسن منظرها وطيب مطعمها ولين ملمسها تأخذ الأبصار صبغة ولوناً، فاقع لونها تسر الناظرين، تتوق إليها النفس قبل التناول تفيد آكلها بعد الالتذاذ بذوقها، طيب نكهة ودباغ معدة، وهضم واشتراك الحواس الأربع، البصر والذوق والشم واللمس في الاحتظاء بها "ومثل المؤمن الذي لا يقرأ القرآن" أي ويعمل به كما في رواية شعبة عن قتادة عند البخاري، قال الطيبي: التمثيل في الحقيقة وصف لموصوف اشتمل على معنى معقول صرف لا يبرزه عن سكنونة إلا تصويره بالمحسوس المشاهد، ثم إن كلام الله تعالى له تأثير في باطن العبد وظاهره وإن العباد متفاوتون في ذلك فمنهم من له النصيب الأوفر من ذلك التأثير وهو المؤمن القارئ، ومنهم من لا نصيب له البتة وهو المنافق الحقيقي، ومنهم من تأثر ظاهره دون باطنه وهو المراثي أو بالعكس وهو المؤمن الذي لا يقرأه، وإبراز هذه المعاني وتصويرها إلى المحسوسات ما هو مذكور في الحديث ولم يوجد ما يوافقها ويلائمها أقرب ولا أحسن ولا أجمع من ذلك لأن المشبهات والمشبه بها واردة على تقسيم الحاصل لأن الناس إما مؤمن أو غير مؤمن، والثاني إما منافق صرف أو ملحق به، والأول إما مواظب على القراءة أو غير مواظب عليها وعلى هذا فقس الأثمار المشبه بها، ووجه الشبه في المذكورات منتزع من أمرين محسوسين طعم وريح وليس بمفرق كما في قوله أمرئ القيس:
كأن قلوب الطير رطباً ويابساً ... لدى وكرها العناب والحشف البالي
"كمثل الريحانة " هي كل نبت طيب الريح من أنواع المشموم "كمثل الحنظلة"(8/165)
هذا حديثٌ حسنٌ صحيحٌ. وقد رَوَاهُ شُعْبَةُ عن قَتَادَةَ أَيْضَاً.
3026- حدثنا الْحَسَنُ بنُ عَلِيٍ الْخَلاّلُ وَغَيْرُ وَاحِدٍ قَالُوا، أخبرنا عَبْدُ الرّزّاقِ، أخبرنا مَعْمَرٌ عن الزّهْرِيّ عن سَعِيدِ بنِ المسيّبِ عن أَبي هرَيْرَةَ، قالَ: قالَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم: "مَثَلُ المؤْمِنِ كَمَثَلِ الزّرْعِ لاَ تَزَالُ الرّيَاحُ تُفَيّئُهُ وَلاَ يَزَالُ المؤْمِنُ يُصِيبهُ بَلاَءٌ، وَمَثَلُ المنَافِقِ كَمَثَلِ شَجَرَةِ الأُرْزِ لاَ تَهْتَزّ حَتّى تُسْتَحْصَدَ" . هذا حديثٌ حسنٌ صحيحٌ.
ـــــــ
الحنظل نبات يمتد على الأرض كالبطيخ وثمره يشبه ثمر البطيخ لكنه أصغر منه جداً ويضرب المثل بمرارته "ريحها مر وطعمها مر" وفي رواية البخاري كمثل الحنظلة طعمها مر ولا ريح لها، قال العيني: قيل الذي عند البخاري أحسن لأن الريح لا طعم له إذ المرارة عرض والريح عرض والعرض لا يقوم بالعرض، ووجه هذا بأن ريحها لما كان كريحها استعير للكراهة لفظ المراره لما بينهما من الكراهة المشتركة انتهى.
قوله: "هذا حديث حسن صحيح" أخرجه الجماعة.
قوله: "لا تزال الرياح تفيئه" بضم الفوقية وفتح الفاء وتشديد التحتية أي تحركه وتميله يميناً وشمالاً "ولا يزال المؤمن يصيبه بلاء" قال الطيبي: التشبيه إما مفرق فيقدر للمشبه معان بإزاء ما للمشبه به وفيه إشارة إلى أن المؤمن ينبغي أن يرى نفسه عارية معزولة عن استيفاء اللذات والشهوات معروضة للحوادث والمصيبات مخلوقة للاَخرة لأنها دار خلود "كمثل شجرة الأرز" قال في القاموس الأرز ويضم شجر الصنوبر، وقال في النهاية الأرزة بسكون الراء وفتحها شجرة الأرزن وهو خشب معروف وقيل هو الصنوبر "لا تهتز" أي لا تتحرك "حتى تستحصد" على بناء المفعول وقال ابن الملك بصيغة الفاعل أي يدخل وقت حصادها فتقطع انتهى، فكذلك المنافق يقل بلاؤه في الدنيا لئلا يخف عذابه في العقبى قال الطيبي: شبه قلع شجرة الصنوبر والأرزن في سهولته بحصاد الزرع فدل على سوء خاتمة الكافر.
قوله: "هذا حديث حسن صحيح" وأخرجه الشيخان.(8/166)
3027- حدثنا إِسْحَاقُ بنُ مُوسَى الأنصاري، أخبرنا مَعْنٌ، أخبرنا مَالِكٌ عن عَبْدِ الله بنِ دِينَارٍ عن ابنِ عُمَرَ أَنّ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم قالَ: "إِنّ مِنَ الشّجَرِ شَجَرَةً لاَ يَسْقُطَ وَرَقُهَا وَهِيَ مَثَلُ المُؤْمِنُ. حَدّثُونِي مَا هِيَ؟" قالَ عَبْدُ الله: فَوَقَعُ النّاسُ في شَجَرِ البَوَادِي وَوَقَعَ في نَفْسِي
ـــــــ
قوله: "حدثنا إسحاق بن موسى" الأنصاري "أخبرنا معن" هو ابن عيسى القزاز "أخبرنا مالك" إمام دار الهجرة.
قوله: "إن من الشجر شجرة" زاد في رواية مجاهد عند البخاري في باب الفهم في العلم: قال صحبت ابن عمر إلى المدينة فقال كنا عند النبي صلى الله عليه وسلم فأتى بجمار فقال إن من الشجر، وله عنه في البيوع: كنت عن النبي صلى الله عليه وسلم وهو يأكل جماراً "لا يسقط ورقها وهي مثل المؤمن" بكسر الميم وسكون المثلثة أو بفتح الميم والمثلثة وهما بمعنى، قال الجوهر مثله ومثله كلمة تسوية كما يقال شبهه وشبهه بمعنى، قال والمثل بالتحريك أيضاً ما يضرب من الأمثال انتهى. ووجه الشبه بين النخلة والمؤمن من جهة عدم سقوط الورق ما رواه الحرث بن أسامة في هذا الحديث من وجه آخر عن ابن عمر ولفظه: قال كنا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم فقال: "إن مثل المؤمن كمثل شجرة لا تسقط لها أنملة أتدرون ما هي"؟ قالوا لا. قال "هي النخلة لا تسقط لها أنملة ولا تسقط لمؤمن دعوة"، ووقع عند البخاري في الأطعمة من طريق الأعمش قال حدثني مجاهد عن ابن عمر قال: بينا نحن عند النبي صلى الله عليه وسلم إذ أتى بجمار فقال "إن من الشجر لما بركته كبركة المسلم"، وهذا أعم من الذي قبله، وبركة النخل موجودة في جميع أجزائها مستمر في جميع أحوالها، فمن حين تطلع إلى أن تيبس تؤكل أنواعاً ثم بعد ذلك ينتفع بجميع أجزائها حتى النوى في علف الدواب والليف في الحبال وغير ذلك مما لا يخفي، وكذلك بركة المؤمن عامة في جميع الأحوال ونفعه مستمر له ولغيره حتى بعد موته "حدثوني" أي أخبروني "فوقع الناس" أي ذهبت أفكارهم في أشجار البادية فجعل كل منهم يفسرها بنوع من الأنواع وذهلوا عن النخلة يقال وقع الطائر على الشجرة إذ نزل عليها "ووقع في نفسي" بين أبو عوانة في صحيحه(8/167)
أَنّهَا النّخْلَةُ. فَقَالَ النبيّ صلى الله عليه وسلم "هِيَ النّخْلَةُ" ، فَاسْتَحْيَيْتُ يَعْنِي أَنْ أَقُولَ، قالَ عَبْدُ الله فَحَدّثْتُ عُمَرَ بِالّذِي وَقَعَ فِي نَفْسِي فَقَالَ لاَنْ تَكُونَ قُلْتَهَا أَحَبّ إِلَيّ مِنْ أَنْ يَكُونَ لِي كَذَا وَكَذَا".
هذا حديثٌ حسنٌ صحيحٌ. وفي البابِ عن أَبي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه.
ـــــــ
من طريق مجاهد عن ابن عمر وجه ذلك قال فظننت أنها النخلة من أجل الجمار الذي أتى به، وفيه إشارة إلى أن الملغز له ينبغي أن يتفطن لقرائن الأحوال الواقعة عند السؤال، وأن الملغز ينبغي له أن لا يبالغ في التعمية بحيث لا يجعل للملغز بابا يدخل منه بل كلما قربه كان أوقع في نفس سامعه "فاستحييت" وفي رواية البخاري في باب الفهم في العلم فأردت أن أقول هي النخلة فإذا أنا أصغر القوم "أحب إلى من أن يكون لي كذا وكذا" زاد ابن حبان في صحيحه: أحسبه قال حمر النعم وفي هذا الحديث إمتحان العالم أذهان الطلبة بما لا يخفي مع بيانه لهم إن لم يفهموه، وأما ما رواه أبو داود من حديث معاوية عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه نهى عن الأغلوطات قال الأوزاعي أحد رواته هي صعاب المسائل فإن ذلك محمول على ما لا نفع فيه أو ما خرج على سبيل تعنت المسئول أو تعجيزه.
قوله: "هذا حديث حسن صحيح" وأخرجه الشيخان.
قوله: "وفي الباب عن أبي هريرة" قال الحافظ في الفتح بعد نقل كلام الترمذي هذا ما لفظه: أشار بذلك إلى حديث مختصرة لأبي هريرة أورده عبد بن حميد في تفسير لفظه: مثل المؤمن مثل النخلة.(8/168)
5- باب مَا جَاءَ مَثَلُ الصّلَوات الْخَمْس
3028- حدثنا قُتَيْبَةُ، أخبرنا الّليْثُ عن ابنِ الْهَادِ عن مُحمّدِ بنِ
ـــــــ
باب مَا جَاءَ مَثَلُ الصّلَوات الْخَمْس
قوله: "حدثنا الليث" هو ابن سعد "عن ابن الهاد" اسمه يزيد بن عبد الله(8/168)
إِبْرَاهِيمَ عن أَبي سَلَمَةَ بنِ عَبْد الرّحْمَنِ عن أَبي هُرَيْرَةَ أَنّ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم قالَ: "أَرَأَيْتُمْ لَوْ أَنّ نَهْراً بِبَابِ أَحَدِكُمْ يَغْتَسِلُ منهِ كُلّ يَوْمٍ خَمْسَ مَرّاتٍ هَلْ يَبْقَى مِنْ دَرَنِهِ شَيْءٌ؟ قالوا لاَ يَبْقَى مِنْ دَرَنِهِ شَيْءٌ، قالَ فَذَلِكَ مَثَلُ الصّلَوَاتِ الْخَمْسِ يَمْحُو الله بِهنّ الْخَطَايَا" .
ـــــــ
"عن محمد بن إبراهيم" هو ابن الحارث.
قوله: "أرأيتم" أي أخبروني هو استفهام تقرير متعلق بالاستخبار أي أخبروني هل يبقى "لو أن نهراً" قال الطيبي: لفظ لو يقتضي أن يدخل على الفعل وأن يجاب لكنه وضع الاستفهام موضعه تأكيداً وتقريراً، والتقدير لو ثبت نهر صفته كذا لما بقي والنهر بفتح الهاء وسكونها ما بين جنبي الوادي سمي بذلك لسعته وكذلك سمي النهار لسعة ضوئه قاله الحافظ "هل يبقى" بفتح التحتانية "من درنه" بفتح الدال والراء أي وسخه يعني هل يبقى على جسده شيء من درنه "قال" أي رسول الله صلى الله عليه وسلم "فذلك" أي النهر المذكور قاله ابن الملك. قال القاري: والأظهر أن الإشارة إلى ما ذكر من الغسل في النهر خمس مرات. قال الطيبي: الفاء جزاء شرط أي إذا أقررتم بذلك وصح عندكم فذلك "مثل الصلوات الخمس" عكس في التشبيه حيث أن الأصل تشبيه المعقول بالمحسوس مبالغة كقوله تعالى: {قَالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبا} "يمحو الله بهن" أي بالصلوات "الخطايا" أي الصغائر. قال ابن العربي: وجه التمثيل أن المرء كما يتدنس بالأقذار المحسوسة في بدنه وثيابه ويطهره الماء الكثير فكذلك الصلوات تطهر العبد عن أقذار الذنوب حتى لا تبقي له ذنباً إلا أسقطته انتهى. قال الحافظ: وظاهره أن المراد بالخطايا في الحديث ما هو أعم من الصغيرة والكبيرة لكن روى مسلم قبله حديث العلاء عن أبيه عن أبي هريرة مرفوعاً: "الصلوات الخمس كفارة لما بينها ما اجتنبت الكبائر". فعلى هذا المقيد يحمل المطلق في غيره.
فائدة: قال ابن بزبزة في شرح الأحكام: يتوجه على حديث العلاء إشكال يصعب التخلص منه. وذلك أن الصغائر بنص القرآن مكفرة باجتناب الكبائر وإذا كان كذلك فما الذي تكفر الصلوات الخمس انتهى قال الحافظ: وقد أجاب(8/169)
وفي البابِ عن جَابِرٍ. هذا حديثٌ حسنٌ صحيحٌ.
3029- حدثنا قُتَيْبَةُ، أخبرنا بَكْرُ بنُ مُضْرَ القُرَشِيّ عن ابنِ الْهَادِ نَحْوَهُ.
ـــــــ
عنه شيخنا الإمام البلقيني بأن السؤال غير وارد لأن مراد الله أن تجتنبوا أي في جميع العمر ومعناه الموافاة على هذه الحالة من وقت الإيمان أو التكليف إلى الموت، والذي في الحديث أن الصلوات الخمس تكفر ما بينها أي في يومها إذا اجتنبت الكبائر في ذلك اليوم، فعلى هذا لا تعارض بين الآية والحديث انتهى وعلى تقدير ورود السؤال فالتخلص منه بحمد الله سهل وذلك أنه لا يتم اجتناب الكبائر إلا بفعل الصلوات الخمس، فمن لم يفعلها لم يعد مجتنباً للكبائر لأن تركها من الكبائر فوقف التكفير على فعلها انتهى.
قوله: "وفي الباب عن جابر" أخرجه مسلم.
قوله: "هذا حديث حسن صحيح" وأخرجه الشيخان والنسائي.
ـــــــ
1 وقال الشيخ الحق الدهلوي في أشعة اللمعات ما لفظه: بدا نسكه مدلول ظاهرين حديث شك وتردد وعدم جزم وقطع أسكت أنكه أول أست بتر وفاضل ترست باآخران =(8/170)
6- باب
3030- حدثنا قُتَيْبَةُ، أخبرنا حَمّادُ بنُ يَحْيىَ الأَبَحّ عن ثَابِتٍ الْبُنَانِيّ عن أَنَسٍ قالَ: قالَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم: "مَثَلُ أُمّتِي مَثَلُ المَطَرِ لاَ يُدْرَى أَوّلُهُ خَيْرٌ أَمْ آخِرَهُ" .
ـــــــ
"باب"
قوله: "أخبرنا حماد بن يحيى الأبح" بفتح الهمزة والموحدة بعدها مهملة أبو بكر السلمي البصري صدوق يخطئ من الثامنة.
قوله: "مثل أمتي مثل المطر" أي في حكم إبهام أفراد الجنس "لا يدري" بصيغة المجهول "أوله" أي أوائل المطر أو المطر الأول "خير" أي أنفع "أم آخره" أي أواخره أو المطر الآخر قال التوربشتي1: لا يحمل هذا الحديث على
ـــــــ
1 وقال الشيخ الحق الدهلوي في أشعة اللمعات ما لفظه: بدا نسكه مدلول ظاهرين حديث شك وتردد وعدم جزم وقطع أسكت أنكه أول أست بتر وفاضل ترست باآخران =(8/170)
ـــــــ
التردد في فضل الأول على الآخر فإن القرن الأول هم المفضلون على سائر القرون من غير شبهة ثم الذين يلونهم وفي الرابع اشتباه من قبل الراوي، وإنما المراد بهم نفعهم في بث الشريعة والذب عن الحقيقة. قال القاضي: نفي تعلق العلم بتفاوت طبقات الأمة في الخيرية وأراد به نفي التفاوت كما قال تعالى: {قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللَّهَ بِمَا لا يَعْلَمُ فِي السَّمَاوَاتِ وَلا فِي الْأَرْضِ} أي بما ليس فيهن كأنه قال لو كان لعلم لأنه أمر لا يخفي ولكن لا يعلم لاختصاص كل طبقة منهم بخاصية وفضيلة توجب خيريتها كما أن كل نوبة من نوب المطر لها فائدة في النشو والنماء لا يمكنك إنكارها والحكم بعدم نفعها، فإن الأولين آمنوا بما شاهدوا من المعجزات وتلقوا دعوة الرسول الله صلى الله عليه وسلم بالإجابة والإيمان و الآخرين آمنوا بالغيب لما تواتر عندهم من الاَيات واتبعوا من قبلهم بالإحسان، وكما أن المتقدمين اجتهدوا في التأسيس والتمهيد فالمتأخرون بذلوا وسعهم في التلخيص والتجريد وصرفوا عمرهم في التقرير والتأكيد، فكل ذنبهم مغفور وسعيهم مشكور وأجرهم موفور انتهى. قال الطيبي: وتمثيل الأمة بالمطر إنما يكون بالهدى والعلم كما أن تمثيله صلى الله عليه وسلم الغيث بالهدى والعلم فتختص هذه الأمة المشبهة بالمطر بالعلماء الكاملين منهم المكملين لغيرهم فيستدعي هذا التفسير أن يراد بالخير النفع فلا يلزم من هذا المساواة في الأفضلية، ولو ذهب إلى الخيرية فالمراد وصف الأمة قاطبة سابقها ولا حقها وأولها وآخرها بالخير وأنها ملتحمة بعضها مع بعض مرصوصة بالبنيان مفرغة كالحلقة التي لا يدري أين طرفاها. وفي أسلوب هذا الكلام قول الأنمارية: هم كالحلقة المفرغة لا يدري أين طرفاها تريد المكملة، ويلمح إلى هذا المعنى قول الشاعر:
ـــــــ
= وأينجا اين معنى مقصود ينست بلكه كناية است ازبودن همه امت خير خيانكه مطر اهمه خير ونافع است ليس مفهوم ميشودكه همه برابراند دخيرت ونافعيت ليس خير بمعنى اسم تفضيل نباشددردين ليس سابقان صحبت داشتتد باحضرت رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا حقان نكا كامدا انشنند وتفويت نمودند آنزا وتمام كردانيدند اثار آنرادا كان آنراد وبلند كردند بنار آنراو شائع كردا يندند أنوار آنرا وظاهر كردانيدند اثار آنرادا كرحمل بر معنى اسم تفضيل نماينديز درست أيد باشار تعدد وجوه خيريت وبالجملة اين حديث ناظر ست يتساوى ياتفاضل بوجوه متعددة مختلفة ومتقرر نثرو جمهور آنست كه فضل كي ثابت ست من صحابة راداين منافاة نداريه نبوة فضل بوجوه جزئية مرديكر أنرا مراد دارشته اند بفضل كل أكثريت ثواب را عند الله، أنتهى.(8/171)
وفي البابِ عن عَمّارٍ وَعَبْدِ الله بنِ عَمْرٍو وَابنِ عُمَرَ. وهذا حديثٌ حسنٌ غريبٌ مِنْ هذا الْوَجْهِ. وَروَى عن عَبْد الرّحْمَنِ بنِ مَهْدِيٍ أَنّهُ كَانَ يُثَبّتُ حَمّادَ بنَ يَحْيىَ الأبَحّ، وَكَانَ يَقُولُ هُوَ مِنْ شُيُوخِنَا.
ـــــــ
إن الخيار من القبائل واحد ... وبنو حنيفة كلهم أخيار
فالحاصل أن الأمة مرتبط بعضها مع بعض في الخيرية بحيث أبهم أمرها فيها وارتفع التمييز بينها وإن كان بعضها أفضل من بعض في نفس الأمر وهو قريب من سوق المعلوم مساق غيره وفي معناه أنشد مروان بن أبي حفصة.
تشابه يوماه علينا فأشكلا ... فما نحن ندري أي يوميه أفضل
يوم بداء العمر أم يوم يأس ... وما منهما إلا أغر محجل
ومن المعلوم علماً جلياً أن يوم بداءة العمر أفضل من يوم يأسه، لكن البدء لما يكن يكمل ويستتب إلا باليأس أشكل عليه الأمر فقال ما قال وكذا أمر المطر والأمة انتهى.
قوله: "وفي الباب عن عمار وعبد الله بن عمرو وابن عمر" أما حديث عمار وهو ابن ياسر فأخرجه أحمد، وأما حديث عبد الله بن عمرو فأخرجه الطبراني وأما حديث ابن عمر فلينظر من أخرجه.
قوله: "هذا حديث حسن غريب" قال الحافظ في الفتح بعد ذكر هذا الحديث وهو حديث حسن له طرق قد يرتقي بها إلى الصحة، وأغرب النووي فعزاه في فتاواه إلى مسند أبي يعلى من حديث أنس بإسناد ضعيف مع أنه عند الترمذي بإسناد أقوى منه من حديث أنس، وصححه ابن حبان من حديث عمار.(8/172)
باب ماجاء في مثل ابن ىدم وأجله أمله
...
7- باب ما جاءَ في مَثَلُ ابنِ آدَمَ وَأَجَلِهِ وَأَمَلِه
3031- حدثنا مُحمّدُ بنُ إسْمَاعِيلَ، أخبرنا خَلاّدُ بنُ يَحْيىَ، أخبرنا
ـــــــ
باب ما جاءَ في مَثَلُ ابنِ آدَمَ وَأَجَلِهِ وَأَمَلِه
قوله: "حدثنا محمد بن إسماعيل" هو الإمام البخاري "أخبرنا خلاد بن يحيى"(8/172)
بَشِيرُ بنُ المُهَاجِرِ، أخبرنا عَبْدُ الله بنُ بُرَيْدَةَ عن أَبِيهِ. قالَ: قالَ النبيّ صلى الله عليه وسلم: "هَلْ تَدْرُونَ مَا مَثَلُ هَذِهِ وَهَذِهِ؟ وَرَمَى بحَصَاتَيْنِ". قَالُوا الله وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ. قالَ: "هَذَاكَ الأمَلُ وَهَذَاكَ الأجَلُ" .
هذا حديثٌ حسنٌ غريبٌ مِنْ هذا الْوَجْهِ.
3032- حدثنا الْحَسَنُ بنُ عَلِيٍ الْخَلاّلُ وَغَيْرُ وَاحِدٍ قالُوا، أخبرنا عبدُ الرّزّاقِ، أخبرنا مَعْمَرٌ عن الزّهْرِيّ عن سَالِمٍ عن ابنِ عُمَرَ. قالَ: قالَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم: "إِنّمَا النّاسُ كَإِبِلٍ مِائَةٍ لاَ يَجِدُ الرّجُلُ فِيهَا رَاحِلَةً" .
ـــــــ
ابن صفوان السلمى أبو محمد الكوفى نزيل مكة صدوق رمي بالإرجاء وهو من كبار شيوخ البخاري من التاسعة "أخبرنا بشير بن المهاجر" الكوفي الغنوي بالمعجمة والنون صدوق لين الحديث رمي بالإرجاء من الخامسة.
قوله: "ما مثل هذه وهذه" أي هذه الحصاة وهذه الحصاة "ورمى بحصاتين" أي إحداهما قريبة و الآخرى بعيدة والجملة حالية "هذاك" أصله ذا فزيدت الهاء في أوله والكاف في آخره أي هذا الحصاء المرمى بعيداً "الأمل" أي مرجوه ومأموله الذي يظن أنه يدركه قبل حلول أجله "وهذاك" أي الحصاء المرمي قريباً "الأجل" أي موته فيشتغل الإنسان بما يأمله ويريد أن يحصله فيلحقه الموت قبل أن يصله.
قوله: "هذا حديث حسن غريب" ذكره المنذري في الترغيب وذكر تحسين الترمذي وأقره.
قوله: "إنما الناس" أي في اختلاف حالاتهم وتغير صفاتهم "كإبل مائة" وفي رواية البخاري: كالإبل المائة. قال الخطابي: العرب تقول للمائة من الإبل إبل، يقولون لفلان إبل أي مائة بغير ولفلان إبلان أي مائتان انتهى. قال(8/173)
هذا حديثٌ حسنٌ صحيحٌ.
3033- حدثنا سعيد بن عبد الرحمن المخزومي، أخبرنا سفيان بن عيينة عن الزهري بهذا الإسناد نحوه وقال لا تجد فيها راحلة أو قال لا تجد فيها إلا راحلة
3034- حدثنا قُتَيْبَةُ بنُ سَعِيدٍ، أخبرنا المُغِيرَةُ بنُ عَبْد الرّحْمَن عن أَبي الزّنَادِ عن الأَعْرَجِ عن أَبي هُرَيْرَةَ أَنّ رَسُولُ الله صلى الله عليه
ـــــــ
الحافظ: فعلى هذا فالرواية التي بغير ألف ولام يكون قوله مائة تفسيراً لقوله إبل لأن قوله كإبل أي كمائة بعير. ولما كان مجرد لفظ إبل ليس مشهور الاستعمال في المائة ذكر المائة توضيحاً ورفعاً للإلباس، وأما على رواية البخاري فاللام للجنس "لا يجد الرجل فيها" أي في مائة من الإبل راحلة أي ناقة شابة قوية مرتاضة تصلح المركوب. فكذلك لا تجد في مائة من الناس من يصلح للصحبة وحمل المودة وركوب المحبة فيعاون صاحبه ويلين له جانبه قاله القارى. وقال النووي في شرح مسلم: قالوا الراحلة هي البعير الكامل الأوصاف الحسن المنظر القوي على الأحمال والأسفار سميت راحلة لأنها ترحل أي يجعل عليها الرحل فهي فاعلة بمعنى مفعولة كعيشة راصية أي مرضية ونظائره، والمعنى المرضي الأحوال من الناس الكامل الأوصاف قليل فيهم جداً كقلة الراحلة في الإبل انتهى. وقال الجزري في النهاية: الراحلة من الإبل البعير القوي على الأسفار والأحمال والذكر والأنثى فيه سواء والهاء فيها للمبالغة وهي التي يختارها الرجل لمركبه ورحله على النجابة وتمام الخلق وحسن المنظر فإذا كانت في جماعة الإبل عرفت.
قوله: "هذا حديث حسن صحيح" وأخرجه الشيخان.
قوله: "عن سالم عن ابن عمر الخ" هذا بيان لقوله بهذا الإسناد نحوه.
قوله: "حدثنا المغيرة بن عبد الرحمن" الحزامي المدني.(8/174)
وسلم قالَ: "إِنّمَا مَثَلِي وَمَثَلُ أُمّتِي كَمَثَلِ رَجُلٍ اسْتَوقَدَ نَاراً فَجَعَلَتِ الدّوَابّ وَالفَرَاشُ يَقَعْنَ فِيهَا وَأنا آخِذٌ بِحُجَزِكُمْ وَأَنْتُمْ تَقَحّمُونَ فِيهَا" .
هذا حديثٌ حسنٌ صحيحٌ
3035- حدثنا إِسْحَاقُ بنُ مُوسَى الأَنْصَارِيّ، أخبرنا مَعْنٌ، أخبرنا مَالِكٌ عن عَبْدِ الله بنِ دِينَارٍ عن ابنِ عُمَرَ أَنّ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم قالَ: "إِنّمَا أَجَلَكُمْ فِيمَا خَلاَ مِنَ الأُمَمِ كَمَا بَيْنَ صَلاَةِ الْعَصْرِ
ـــــــ
قوله: "إنما مثلى" أي صفتي العجيبة الشأن معكم أيها الأمة أو مع الناس "كمثل رجل استوقد" أي أوقد وزيدت السين للتأكيد "ناراً" أي عظيمة "فجعلت" أي شرعت "الدّواب" جمع دابة والمراد من الدواب التي تقع في النار إذا أضاءت "والفراش" هو بفتح الفاء دويبة طير تتساقط في النار يقال بالفارسي يروانه "فأنا آخذ" قال النووي: يروى على وجهين أحدهما اسم فاعل بكسر الخاء وتنوين الدار، والثاني فعل مضارع بضم الخاء والأول أشهر وهما صحيحان "بحجزكم" بضم الحاء وفتح الجيم بعدها زاي جمع الحجزة وهي معقد الإزار ومن السراويل موضع التكة. قال الأبهري: ويجوز ضم الجيم في الجمع "وأنتم تقحمون فيها" من باب التفعل بحذف إحدى التائين أي تدخلون فيها بشدة ومزاحمة. قيل التقحم هو الدخول في الشيء من غير روية ويعبر به عن الهلاك وإلقاء النفس في الهلاك. وقال الطيبي: التقحم الإقدام والوقوع في أمر شاق. قال النووي: ومقصود الحديث أنه صلى الله عليه وسلم شبه تساقط الجاهلين والمخالفين بمعاصيهم وشهواتهم في نار الآخرة وحرصهم على الوقوع في ذلك مع منعه إياهم وقبضه على مواضع المنع منهم بتساقط الفراش في نار الدنيا لهواه وضعف تمييزة فكلاهما حريص على هلاك نفسه ساع في ذلك لجهله.
قوله: "هذا حديث حسن صحيح" وأخرجه الشيخان.
قوله: "إنما أجلكم" قال الطيبي: الأجل المدة المضروبة للشيء، قال تعالى {وَلِتَبْلُغُوا أَجَلاً مُسَمّىً} ويقال للمدة المضروبة لحياة الإنسان أجل فيقال دنا(8/175)
إلى مَغَارِبِ الشّمْسِ، وَإِنّمَا مَثَلَكُمْ وَمَثَلُ الْيَهُودِ والنّصَارَى كَرَجُلِ اسْتَعْمَلَ عُمّالاً، فَقَالَ مَنْ يَعْمَلُ لِي إلى نِصْفِ النّهَارِ عَلَى قيرَاطٍ قِيرَاطٍ فَعَمِلَتِ اليَهُودُ عَلَى قِيرَاطٍ قِيرَاطٍ، ثمّ قالَ مَنْ يَعْمَلُ لِي مِنْ نِصْفِ النّهَارِ إلى صَلاَةِ الْعَصْرِ عَلَى قِيراطٍ قيراطٍ، فَعَمِلَتِ النّصَارَى عَلى قيراطٍ قيراطٍ، ثمّ أَنْتُمْ تَعْمَلُونَ مِنْ صَلاَةِ الْعَصْرِ إلى مَغَارِبِ الشّمْسِ عَلَى قِيرَاطَيْنِ قِرَاطَيْنِ، فَغَضِبَتْ الْيَهُودُ والنّصَارَى وَقَالُوا نَحْنُ أَكْثَرُ عَمَلاً وَأَقَلّ عَطَاءً؟
ـــــــ
أجله وهو عبارة من دنو الموت وأصله استيفاء الأجل أي مدة الحياة، والمعنى ما أجلكم في أجل من مضى من الأمم السابقة في الطول والقصر إلا مقدار ما بين صلاة العصر إلى صلاة المغرب من الزمان "فيما خلا من الأمم كما بين صلاة العصر إلى مغارب الشمس" وفي رواية للبخاري: إنما بقاؤكم فيما سلف قبلكم من الأمم كما بين صلاة العصر إلى غروب الشمس قال الحافظ: ظاهره أن بقاء هذه الأمة وقع في زمان الأمم السالفة وليس ذلك المراد قطعاً وإنما معناه أن نسبة مدة هذه الأمة إلى مدة من تقدم من الأمم مثل ما بين صلاة العصر وغروب الشمس إلى بقية النهار فكأنه قال إنما بقاؤكم بالنسبة إلى ما سلف إلى آخره، وحاصله أن في بمعنى إلى وحذف المضاف وهو لفظ نسبة "وإنما مثلكم ومثل اليهود والنصارى" أي مع الرب سبحانه وتعالى "كرجل استعمل عمالاً" بضم فتشديد جمع عامل أي طلب منهم العمل "فقال" أي على طريق الاستفهام "من يعمل لي إلى نصف النهار" وهو من طلوع الشمس إلى زوالها، فالمراد بالنهار العرفي لأنه عرف عمل العمال "على قيراط قيراط" أي نصف دانق على ما في الصحاح، وقيل القيراط جزء من أجزاء الدينار وهو نصف عشرة في أكثر البلاد والياء فيه بدل من الراء كما أنها بدل من النون في الدينار ويدل عليه جمعهما على دنانير وقراريط، وكرر قيراط الدلالة على أن الأجر لكل واحد منهم قيراط لا أن مجموع الطائفة قيراط "ثم قال" أي الرجل المستعمل للعمال "فغضبت اليهود والنصارى وقالوا نحن أكثر عملاً وأقل عطاء" أي قال أهل الكتاب ربنا(8/176)
فَقَالَ هَلْ ظَلَمْتُكُمْ مِنْ حَقّكُمْ شَيْئَاً، قَالُوا لاَ، قالَ فَإِنّهُ فَضْلِي أُوتِيهِ مَنْ أَشَاءُ" .
هذا حديثٌ حسنٌ صحيحٌ.
ـــــــ
أعطيب أمة محمد ثواباً كثيراً مع قلة أعمالهم. وأعطيتنا ثواباً قليلاً مع كثرة أعمالنا، ولعلهم يقولون ذلك يوم القيامة وقد حكي عن النبي صلى الله عليه وسلم بصيغة الماضي لتحقق ذلك أو صدر عنهم مثل ذلك لما اطلعوا على فضائل هذه الأمة في كتبهم أو على ألسنة رسلهم، وعلى كل تقدير ففي الحديث دليل على أن الثواب للأعمال ليس على قدر التعب، ولا على جهة الاستحقاق لأن العبد لا يستحق على مولاه لخدمته أجرة بل المولى يعطيه من فضله، وله أن يتفضل على من يشاء من العبيد على وجه المزيد. فإنه يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد. قال الطيبي: لعل هذا تخييل وتصوير لا أن ثمة مقاولة ومكالمة حقيقية اللهم الا أن يحمل ذلك على حصولها عند إخراج الذر فيكون حقيقة انتهى كذا في المرقاة "فقال هل ظلمتكم" أي هل نقصتكم "شيئاً" مفعول به أو مطلق "قالوا" أي أهل الكتاب "فإنه" أي الشأن "فضلي" أي عطائي الزائد "أوتيه من أشاء" أو التقدير فإن العطاء الكثير المدلول عليه بالسياق فضلي.
وقد استدل الحنفية بهذا الحديث لقول أبي حنيفة رحمه الله إن أوله العصر بصيرورة ظل كل شيء مثليه. وقد تقدم في باب تأخير صلاة العصر جوابهم وجوه مفصلاً.
قوله: "هذا حديث حسن صحيح" وأخرجه البخاري.(8/177)
أبواب فضائل القرآن عن رسول الله صلى الله عليه وسلم
باب ما جاء في فضل فاتحة الكتاب
...
باب ما جَاءَ في فَضْلِ فَاتِحةِ الْكِتَاب
3036- حدثنا قُتَيْبَةُ أخبرنا عَبْدُ الْعَزِيزِ بنُ مُحمّدٍ عن الْعَلاءِ بنِ عَبْد الرّحْمَنِ عن أَبِيهِ عن أَبي هُرَيْرَةَ: "أَنّ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم خَرَجَ عَلَى أُبَيّ بنِ كَعْبٍ، فَقَالَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم: يَا أُبيّ - وَهُوَ يُصَلّي - فَالتَفَتَ أُبيٌ فَلَمْ يُجِبْهُ، وَصَلّى أُبيٌ فَخّفَفَ. ثُمّ انْصَرَفَ إلى رَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ: السّلاَمُ عَلَيْكَ يَا رَسُولَ الله، فَقَالَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم: وَعَلَيْكَ السّلاَمُ مَا مَنَعَكَ يَا أُبي أَنْ تُجِيبَنِي إِذْ دَعَوْتَكَ؟ فَقَالَ يَا رَسُولَ الله: إِني كُنْتُ في الصّلاَةِ، قالَ: أَفَلَمْ تَجِدْ فِيمَا أَوْحَى الله إِليّ {أَنْ اسْتَجِيبُوا لله وَالرّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ} قال:
ـــــــ
باب ما جَاءَ في فَضْلِ فَاتِحةِ الْكِتَاب
قوله: "عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج على أبي بن كعب الخ" وقد أخرج البخاري في صحيحه عن أبي سعيد بن المعلي قال: كنت أصلي في المسجد فدعاني رسول الله صلى الله عليه وسلم الخ. قال الحافظ في الفتح: جمع البيهقي بأن القصة وقعت لأبي بن كعب ولأبي سعيد بن المعلى، قال ويتعين المصير إلى ذلك لاختلاف مخرج الحديثين واختلاف سياقهما "والتفت أبي فلم يجبه" أي لم يأته وفي رواية عند البخاري من حديث أبي سعيد بن المعلي: فلم آته حتى صلبت ثم أتيته "أفلم تجد فيما أوحى الله إلي أن {اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ} أي إلى ما يحييكم من أمر الدين لأنه سبب الحياة الأبدية. قال الطيبي(8/178)
بَلَى وَلاَ أَعُودُ إِنْ شَاءَ الله. قالَ: أَتُحِبّ أَنْ أُعَلّمَكَ سُورَةً لَمْ يُنزَلُ فِي التّوْرَاةِ وَلاَ في الإِنْجِيلِ وَلاَ في الزّبُورٍ وَلاَ في القُرْآنِ مِثْلُهَا؟ قال نَعَمْ يَا رَسُولُ الله، فَقَالَ رَسُولُ الله "كَيْفَ تَقْرَأ في الصّلاَةِ؟" قالَ: فَقَرَأَ أُمّ القُرْآنِ، فَقَالَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم: "وَالّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ مَا أُنْزِلَتْ فِي التّوْرَاةِ، وَلاَ فِي الإِنْجِيلِ، وَلاَ في الزّبُورِ، وَلاَ في الفُرقَانِ مِثْلُهَا. وَإِنّهَا سَبْعٌ مِنَ المَثَاني، وَالقُرْآنُ الْعَظِيمُ الّذِي أُعْطِيْتُهُ" .
ـــــــ
وغيره من الشافعية: دل الحديث على أن إجابة الرسول لا تبطل الصلاة كما أن خطابه بقولك السلام عليك أيها النبي لا تقطعها قال الحافظ في الفتح: فيه بحث لاحتماله أن تكون إجابته واجبة مطلقاً سواء كان المخاطب مصلياً أو غير مصل أما كونه يخرج بالإجابة من الصلاة أو لا يخرج فليس من الحديث ما يستلزمه فيحتمل أن تجب الإجابة ولو خرج المصلي من الصلاة وإلى ذلك جنح بعض الشافعية انتهى "ولا في القرآن" أي في بقية القرآن "مثلها" أي سورة مثلها "كيف تقرأ في الصلاة؟ قال فقرأ أم القرآن" يعني الفاتحة وسميت بها لاحتوائها واشتمالها على ما في القرآن إجمالاً أو المراد بالأم الأصل فهي أصل قواعد القرآن ويدور عليها أحكام الإيمان. قال الطيبي، فإن قلت كيف طابق هذا جواباً عن السؤال بقوله كيف تقرأ لأنه سؤال عن حالة القراءة لا نفسها؟ قلت: يحتمل أن يقدر فقرأ أم القرآن مرتلاً ومجوداً، ويحتمل أنه عليه الصلاة والسلام سأل عن حال ما يقرأه في الصلاة أهي سورة جامعة حاوية لمعاني القرآن أم لا، فلذلك بأم القرآن وخصها بالذكر أي هي جامعة لمعاني القرآن وأصل لها "وإنها سبع من المثاني" يحتمل أن تكون من بيانية أو تبعيضية، وفي هذا تصريح بأن المراد بقوله تعالى: {وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعاً مِنَ الْمَثَانِي} هي الفاتحة، وقد روى النسائي بإسناد صحيح عن ابن عباس أن السبع المثاني هي السبع الطوال أي السور من أول البقرة إلى آخر الأعراف ثم براءة وقيل يونس، وعلى الأول فالمراد بالسبع الاَي لأن الفاتحة سبع آيات وهو قول سعيد بن جبير، واختلف في تسميتها مثاني(8/179)
هذا حديثٌ حسنٌ صحيحٌ. وفي البابِ عن أَنَسِ بنِ مَالِكٍ.
ـــــــ
فقيل لأنها تثنى في كل ركعة أي تعاد، وقيل لأنها يثنى بها على الله تعالى، وقيل لأنها استثنيت لهذه الأمة لم تنزل على من قبلها، ويأتي بقية الكلام في هذا في تفسير سورة الحجر "والقرآن العظيم الذي أعطيته" قيل هو من إطلاق الكل على الجزء للمبالغة. قال الخطابي: فيه دلالة على أن الفاتحة هي القرآن العظيم وأن الواو ليست بالعاطفة التي تفصل بين الشيئين وإنما هي التي تجيء بمعنى التفصيل كقوله تعالى: {فَاكِهَةٌ وَنَخْلٌ وَرُمَّانٌ} وقوله {وَمَلائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ} انتهى. قال الحافظ: وفيه بحث لاحتمال أن يكون قوله والقرآن العظيم محذوف الخبر، والتقدير ما بعد الفاتحة مثلاً فيكون وصف الفاتحة انتهى بقوله هي السبع المثاني ثم عطف قوله والقرآن العظيم أي ما زاد على الفاتحة، وذكر ذلك رعاية لنظم الآية، ويكون التقدير والقرآن العظيم هو الذي أوتيته زيادة على الفاتحة.
قوله: "هذا حديث حسن صحيح" وأخرجه الدارمي من قوله "ما أنزلت" ولم يذكر أبي بن كعب. كذا في المشكاة وقال المنذري في الترغيب: ورواه ابن خزيمة وابن حبان في صحيحهما والحاكم باختصار عن أبي هريرة عن أبي وقال الحاكم صحيح على شرط مسلم.
قوله: "وفي الباب عن أنس" أخرجه ابن حبان في صحيحه. والحاكم وقال صحيح على شرط مسلم وفيه: ألا أخبرك بأفضل القرآن قال بلى فتلا "الحمد لله رب العالمين".(8/180)
باب ما جَاءَ في سُورَة الْبقَرَةِ وَآيَةِ الكُرْسِي
3037- حدثنا قُتَيْبَةُ، أخبرنا عَبْدُ الْعَزِيزِ بنُ مُحمّد عن سُهَيْلِ بنِ أَبي صَالحٍ عن أَبِيهِ عن أَبي هُرَيْرَةَ أَنّ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم قالَ: "لاَ تَجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ مَقَابِرَ، وَإِنّ الْبَيْتَ الّذِي تُقْرَأُ الْبَقَرَةُ فيه
ـــــــ
باب ما جَاءَ في سُورَة الْبقَرَةِ وَآيَةِ الكُرْسِي
قوله: "لا تجعلوا بيوتكم مقابر" أي خالية عن الذكر والطاعة فتكون كالمقابر(8/180)
لاَ يَدْخُلُهُ الشّيْطَانُ". هذا حديثٌ حسنٌ صحيحٌ.
3038- حدثنا مَحْمُودُ بنُ غَيْلاَنَ، أخبرنا حُسَيْنُ الْجُعْفِيّ عن زَائِدَةَ عن حَكِيمِ بنِ جُبَيْرٍ عن أَبي صَالحٍ عن أَبي هُرَيْرَةَ. قالَ قالَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم: "لِكُلّ شَيْءٍ سَنَامٌ وَإِنّ سَنَامَ القُرْآنِ سُورَةُ البَقَرَةِ. وَفِيهَا آية هِيَ سَيّدَةُ آيِ القُرْآنِ هي آية الكُرْسِيّ" .
ـــــــ
وتكونون كالموتى فيها أو معناه لا تدفنوا موتاكم فيها، ويدل على المعنى الأول قوله "وإن البيت الذي تقرأ البقرة فيه لا يدخله الشيطان" وفي رواية مسلم: "إن الشيطان ينفر من البيت الذي يقرأ فيه سورة البقرة". وفي حديث سهل بن سعد عن ابن حبان من قرأها يعني سورة البقرة ليلاً لم يدخل الشيطان بيته ثلاث ليال ومن قرأها نهاراً لم يدخل الشيطان ثلاثة أيام، وخص سورة البقرة بذلك لطولها وكثرة أسماء الله تعالى والأحكام فيها، وقد قيل فيها ألف أمر وألف نهي وألف حكم وألف خبر كذا في المرقاة.
قوله: "هذا حديث حسن صحيح" وأخرجه أحمد ومسلم والنسائي.
قوله: "لكل شيء سنام" بفتح السين أي رفعة وعلو استعير من سنام الجمل ثم كثر استعماله فيها حتى صار مثلاً ومنه سميت البقرة سنام القرآن قاله الطيبي.
وقال الجزري في النهاية: سنام كل شيء أعلاه، وفي شعر حسان:
وإن سنام المجد من آل هاشم ... بنو بنت مخزوم ووالدك العبد
أي أعلى المجد "وإن سنام القرآن سورة البقرة" إما لطولها واحتوائها على أحكام كثيرة أو لما فيها من الأمر بالجهاد وبه الرفعة الكبيرة "هي سيدة آي القرآن" جمع آية "آية الكرسي" بالرفع أي هي آية الكرسي وفيه إثبات السيادة لهذه الآية على جميع آيات القرآن، وذلك شرف عظيم فإن سيد القوم لا يكون إلا أشرفهم خصالاً وأكملهم حالاً وأكثرهم جلالاً.(8/181)
هذا حديثٌ غريبٌ لاَ نَعْرِفهُ إِلاّ مِنْ حَدِيثِ حَكِيمِ بنِ جُبَيْرٍ. وقد تَكَلّمَ شُعْبَةُ في حكم بن جبير وَضَعّفَهُ.
3039- حدثنا يَحْيىَ بنُ المغِيرَةِ أَبُو سَلَمَةَ المَخْزُومِيّ المَدِنِيّ أخبرنا ابن أَبي فُدَيْك عن عَبْد الرّحْمَن بن أبي بكر المُلَيْكِيّ عن زُرَارَةَ بنِ مُصْعَبٍ عن أَبي سَلَمَةَ عن أَبي هُرَيْرَةَ قالَ: قالَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم: "مَنْ قَرَأَ حَم المُؤْمِن - إلى - إِلَيْهِ المَصِيرُ وَآيَةَ الكُرْسِيّ حِينَ يُصْبِحُ حُفِظَ بِهِمَا حَتّى يُمْسِيَ، وَمَنْ قَرَأَهُمَا حِينَ يُمْسِي حُفِظَ بِهِمَا حَتّى يُصْبِحَ" .
ـــــــ
قوله: "هذا حديث غريب لا نعرفه إلا من حديث حكيم بن جبير" وأخرجه ابن حبان في صحيحه من هذا الوجه بهذا اللفظ وأخرجه الحاكم من هذه الطريق ولفظه: "سورة البقرة فيها آية سيدة آي القرآن، لا تقرأ في بيت وفيه شيطان إلا خرج منه" وقال صحيح الإسناد "وقد تكلم فيه شعبة وضعفه" وأيضاً ضعفه أحمد وابن معين وأبو حاتم وغيرهم، وقال الحافظ في التقريب: ضعيف رمى بالتشيع.
قوله: "حدثنا يحيى بن المغيرة أبو سلمة المخزومي المدينى" قال الحافظ صدوق روى عن محمد بن إسماعيل بن أبي فديك وآخرين وعنه الترمذي وأبو حاتم وغيرهما. قال أبو حاتم صدوق ثقة وذكره ابن حبان في الثقات، مات سنة ثلاث وخمسين ومائتين "أخبرنا ابن أبي فديك" اسمه محمد بن إسماعيل بن مسلم بن أبي فديك "عن عبد الرحمن المليكى" بضم الميم وفتح اللام وسكون التحتية، هو عبد الرحمن بن أبي بكر بن عبيد الله بن أبي مليكة المدني ضعيف "عن زرارة" بضم الزاي وفتح الراء "بن مصعب" بن عبد الرحمن بن عوف الزهري المدني ثقة من أوساط التابعين.
قوله: "من قرأ حم المؤمن" أي من قرأ سورة حم التي يقال لها المؤمن "إلى إليه المصير" يعني {حم تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ غَافِرِ الذَّنْبِ وَقَابِلِ التَّوْبِ شَدِيدِ الْعِقَابِ ذِي الطَّوْلِ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ إِلَيْهِ الْمَصِيرُ} "وآية الكرسي"(8/182)
هذا حديثٌ غريبٌ. وَقَدْ تَكَلّمَ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ فِي عَبْد الرّحْمَن بنِ أَبي بَكْرِ بنِ أَبي مُلَيْكَةَ المُلَيْكّي مِنْ قِبَلِ حِفْظِهِ.
3040- حدثنا مُحمّدُ بنُ بَشّارٍ، أخبرنا أَبُو أَحْمَدَ، أخبرنا سُفْيَانُ، عن ابنِ أَبي لَيْلَى عن أَخِيهِ عيسى عن عَبْد الرّحْمَن بنِ أَبي لَيْلَى عن أَبي أَيّوبَ
ـــــــ
الواو لمطلق الجمع، فيجوز تقديمها وتأخيرها، ويدل على ذلك تقديم آية الكرسي في الحصن، قاله القاري "حين يصبح" أي قبل صلاة الصبح أو بعدها، وهو ظرف يقرأ "حفظ بهما" أي بقراءتهما وبركتهما "حتى يمسي" أي يدخل الليل، لأن الإمساء ضد الإصباح، كما أن المساء ضد الصباح على ما في القاموس والصحاح.
قوله: "هذا حديث غريب" وأخرجه الدارمي.
قوله: "أخبرنا سفيان" هو الثوري "عن ابن أبي ليلى" هو محمد بن عبد الرحمن ابن أبي ليلى الأنصاري الكوفي القاضي أبو عبد الرحمن صدوق سيء الحفظ جداً "عن أخيه" هو عيسى بن عبد الرحمن بن أبي ليلى الأنصاري الكوفي ثقة "عن عبد الرحمن بن أبي ليلى" الأنصاري المدني ثم الكوفي ثقة من كبار التابعين.
فائدة: ابن أبي ليلى إذا أطلق في كتب الفقه فالمراد به محمد بن عبد الرحمن ابن يسار الكوفي، وإذا أطلق في كتب الحديث فالمراد به أبوه كذا في جامع الأصول لابن الأثير الجزري.
فائدة أخرى: يطلق ابن أبي ليلى على أربعة رجال.
الأول: محمد بن عبد الرحمن بن أبي ليلى الكوفي القاضي المذكور، وكان قاضي الكوفة: مات سنة ثمان وأربعين ومائة وكان على القضاء، وجعل أبو جعفر المنصور ابن أخيه مكانه ذكره ابن قتيبة، وفي طبقات القراء للذهبي: محمد بن عبد الرحمن بن أبي ليلى قاضي الكوفة قرأ على أخيه عيسى وغيره وقرأ عليه حمزة الزيات وهو حسن الحديث كبير القدر من نظراء أبي حنيفة في الفقه، يكنى أبا عبد الرحمن وفي الكاشف الذهبي: ابن أبي ليلى أبو عبد الرحمن الأنصاري القاضي عن الشعبي وخلق، وعنه شعبة ووكيع وأبو نعيم وخلق. قال أحمد سيء الحفظ، انتهى.(8/183)
الأَنْصَارِيّ: "أَنّهُ كَانَتْ لَهُ سَهْوَةٌ فِيهَا تَمْرٌ، فَكَانَتْ تَجِيءُ الغُولُ، فَتَأْخُذَ مِنْهُ، فَشَكَى ذَلِكَ إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ: "اذْهَبْ فإِذَا رَأَيْتَهَا" فَقلْ: بِسْمِ الله أَجِيبِي رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم، قالَ: فَأَخَذَهَا فَحَلَفَتْ أَنْ لاَ تَعُودَ فَأَرْسَلَهَا، فَجَاءَ إلى النبيّ صلى الله عليه
ـــــــ
والثاني: أخوه عيسى بن عبد الرحمن بن أبي ليلى المذكور.
والثالث: ابن أخيه، أعني ابن عيسى بن عبد الرحمن واسمه عبد الله.
والرابع: عبد الرحمن بن أبي ليلى المذكور. أعني والد محمد وعيسى المذكورين.
قوله: "أنه كانت له سهوة" قال المنذري في الترغيب: السهوة بفتح السين المهملة هي الطاق في الحائط يوضع فيها الشيء، وقيل هي الصفة، وقيل المخدع بين البيتين، وقيل هو شيء شبيه بالرف، وقيل بيت صغير كالخزانة الصغيرة، قال: كل أحد من هؤلاء يسمى السهوة، ولفظ الحديث يحتمل الكل، ولكن ورد في بعض طرق هذا الحديث ما يرجح الأول، انتهى. وقال الجزري في النهاية: السهوة بيت صغير منحدر في الأرض قليلاً شبيه بالمخدع والخزانة، وقيل هو كالصفة تكون بين يدي البيت، وقيل شبيه بالرف أو الطابق يوضع فيه الشيء، انتهى "فكانت تجيء الغول" قال المنذري: بضم الغين المعجمة هو شيطان يأكل الناس، وقيل هو من يتلون من الجن، انتهى. وقال الجزري: الغول أحد الغيلان وهي جنس من الجن والشياطين كانت العرب تزعم أن الغول في الفلاة تتراءى للناس فتتغول تغولاً، أي تتولن تلوناً في صور شتى، وتغولهم، أي تضلهم عن الطريق وتهلكهم، فنفاه النبي صلى الله عليه وسلم وأبطله، يعني بقوله: لا غول ولا صفر، وقيل قوله لا غول ليس نفياً لعين الغول ووجوده، وإنما فيه إبطال زعم العرب في تلونه بالصور المختلفة واغتياله. فيكون المعنى بقوله لا غول أنها لا تستطيع أن تضل أحداً، ثم ذكر الجزري حديث: إذا تغولت الغيلان فبادروا بالأذان. وقال: أي ادفعوا شرها بذكر الله، وهذا يدل على أنها لم يرد بنفيها عدمها، ثم ذكر حديث أبي أيوب: كان لي تمر في سهوة فكانت الغول تجيء فتأخذ. انتهى.(8/184)
وسلم فَقَالَ: "مَا فَعَلَ أَسِيرُكَ" ؟ قَالَ: حَلَفَتْ أَنْ لاَ تَعُودَ قالَ: كَذَبَتْ وَهِيَ مُعَاوِدَةٌ لِلكَذِبِ، قَالَ: فَأَخَذَهَا مَرّةً أُخْرَى، فَحَلَفَتْ أَنْ لاَ تَعُودَ، فَأَرْسَلَهَا فَجَاءَ إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ: مَا فَعَلَ أَسِيرُكَ؟ قَالَ: حَلَفَتْ أَنْ لاَ تَعُودَ، فَقَالَ: "كَذَبَتْ، وَهِيَ مُعَاوِدَةٌ لِلْكَذِبِ". فَأَخَذَهَا فَقَالَ: مَا أَنَا بِتَاركِكِ، حَتّى أَذْهَبَ بِكَ إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَتْ إِنّي ذَاكِرَةٌ لَكَ شَيْئَاً. آية الكُرْسِيّ اقْرَأْهَا فِي بَيْتِكَ، فَلاَ يَقْرَبُكَ شَيْطَانٌ، وَلاَ غَيْرُهُ، قال فَجَاءَ إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: "مَا فَعَلَ أَسِيرُكَ؟" قالَ: فَأَخْبَرَهُ بِمَا قَالَتْ. قالَ: صَدَقَتْ وَهِيَ كَذُوبٌ" .
هذا حديثٌ حسنٌ غريبٌ.
ـــــــ
قلت: الأمر كما قال الجزري لا شك في أنه ليس المراد بقوله: لا غول، نفي وجودها، بل نفي ما زعمت العرب مما لم يثبت من الشرع "وهي معاودة للكذب" أي معتادة له ومواظبة عليه. قال في القاموس: تعوده وعاوده معاودة وعواداً واعتاده واستعاده، جعله من عادته، والمعاود: المواظب، انتهى "آية الكرسي" بالنصب بدل من شيئاً "ولا غيره" أي مما يضرك "صدقت وهي كذوب" هو من التتميم البليغ، لأنه لما أوهم مدحها بوصفه الصدق في قوله صدقت استدرك نفي الصدق عنها بصيغة مبالغة، والمعنى صدقت في هذا القول مع أنها عادتها الكذب المستمر، وهو كقولهم: قد يصدق الكذوب. وقد وقع أيضاً لأبي هريرة عند البخاري، وأبي بن كعب عند النسائي، وأبي أسيد الأنصاري عند الطبراني، وزيد ابن ثابت عند أبي الدنيا. قصص في ذلك، وهو محمول على التعدد.
قوله: "هذا حديث حسن غريب" ذكره المنذري في ترغيبه وذكر تحسين الترمذي وأقره.(8/185)
3041- حدثنا الْحَسَنُ بنُ عَلِيٍ الْحلواني أَبُو أُسَامَةَ أخبرنا عَبْدُ الْحَمِيدِ بنُ جَعْفَرٍ عن سَعِيدٍ المُقْبُرِيّ عن عَطَاءٍ مَوْلَى أَبي أَحْمَدَ عن أَبي هُرَيْرَةَ قالَ: "بَعَثَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم بَعَثْاً وَهُمْ ذَوو عَدَدٍ فَاسْتَقْرَأَهُمْ فَاسْتَقْرَأَ كُلّ رَجُلٍ مِنْهُمْ - يَعْنِي مَا مَعَهُ مِنَ القُرْآنِ - فَأَتَى عَلَى رَجُلٍ منْهُمْ مِنْ أَحْدَثهِمْ سِناً، فَقَالَ: "مَا مَعَكَ يَا فُلاَنُ؟ فَقَالَ: مَعِي كَذَا وَكَذَا وَسُورَةُ البَقَرَةِ، فَقَالَ: أَمَعَكَ سُورَةُ البَقَرَةِ؟ فَقَالَ: نَعَمْ، قالَ: فاذْهَبْ فَأَنْتَ أَمِيرُهُمْ، فَقَالَ رَجُلٌ مِنْ أَشْرَافِهِمْ: وَالله يا رسول الله مَا مَنَعَنِي أَنْ أَتَعَلّمَ سورة البَقَرَة إِلاّ خَشْيَةَ أَنْ لاَ أَقُومَ بِهَا، فَقَالَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم: "تَعَلّمُوا القُرْآنَ، فَاقْرَأُوهُ فَإِنّ مَثَلَ القُرْآنِ لِمَنْ تَعَلمَهُ فَقَرَأَهُ وَقَامَ بِهِ
ـــــــ
قوله: "عن عطاء مولى أبي أحمد" قال الحافظ في تهذيب التهذيب: عطاء مولى أبي أحمد أو ابن أبي أحمد بن جحش حجازي روى عن أبي هريرة حديث: "تعلموا القرآن وقوموا به". الحديث، وعنه سعيد المقبري ذكره ابن حبان في الثقات أخرجوا له هذا الحديث الواحد وحسنه الترمذي. قال الحافظ: قرأت بخط الذهبي لا يعرف، انتهى.
قوله: "بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم بعثاً" أي أراد أن يرسل جيشاً، والبعث بمعنى المبعوث، والمراد به الجيش "وهم" أي الجيش المبعوث "فاستقرأهم" أي طلب منهم أن يقرأوا "فاستقرأ كل رجل منهم" أي واحداً واحداً منهم "فأتى" أي النبي صلى الله عليه وسلم "أن لا أقوم بها" أي في صلاة الليل "تعلموا القرآن" أي لفظه ومعناه. قال أبو محمد الجويني: تعلم القرآن وتعليمه فرض كفاية لئلا ينقطع عدد التواتر فيه فلا يتطرق إليه تبديل وتحريف. قال الزركشي: وإذا لم يكن في البلد أو القرية من يتلو القرآن أثموا بأسرهم "وأقرأوه" وفي رواية فاقرأوه بالفاء. قال الطيبي: الفاء في قوله فاقرأوه كما في قوله تعالى: {اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ} أي تعلموا القرآن وداوموا تلاوته والعمل بمقتضاه، يدل(8/186)
كَمَثَلِ جِرَابٍ مَحْشُو مِسْكاً يَفُوحُ برِيحُهُ فِي كُلّ مَكَانٍ، وَمَثَلُ مَنْ تَعَلّمَهُ فَيَرْقُدُ وَهُوَ فِي جَوْفِهِ كَمَثَلِ جِرَابٍ أُوكَى عَلَى مِسْكٍ" .
هذا حديثٌ حسنٌ. وقد رواه الليث بن سعد وَقَدْ رُوِى هَذَا الْحَدِيثُ عن سَعِيدٍ المَقْبُرِيّ عن طَاءِ مَوْلَى أَبِي أَحْمَدَ عن النبيّ صلى الله عليه وسلم مُرْسَلاً نحوه.
ـــــــ
عليه التعليل بقوله "فإن مثل القرآن لمن تعلمه فقرأه وقام به" أي داوم على قراءته أو عمل به "كمثل جراب" بالكسر والعامة تفتحه، قيل لا تفتح الجراب ولا تكسر القنديل، وخص الجراب هنا بالذكر احتراماً لأنه من أوعيه المسك. قال الطيبي: التقدير فإن ضرب المثل لأجل من تعلمه، كضرب المثل للجراب، فمثل مبتدأ والمضاف محذوف واللام في لمن تعلم متعلق بمحذوف والخبر قوله كمثل على تقدير المضاف أيضاً، والتشبيه إما مفرد، وإما مركب "محشو" أي مملوء ملأ شديداً بأن حشي به حتى لم يبق فيه متسع لغيره "مسكاً" نصبه على التمييز "يفوح ريحه" أي يظهر ويصل رائحته "في كل مكان" قال ابن الملك: يعني صدر القارئ كجراب والقرآن فيه كالمسك. فإنه إذا قرأ وصلت بركته إلى تاليه وسامعيه، انتهى. قال القاري: ولعل إطلاق المكان للمبالغة ونظيره قوله تعالى: {تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ} {وَأُوتِينَا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ} مع أن التدمير والإيتاء خاص "ومثل من تعلمه" بالرفع والنصب، أي مثل ريح من تعلمه "فيرقد" أي ينوم عن القيام ويغفل عن القراءة أو كناية عن ترك العمل "وهو" أي القرآن "في جوفه" أي في قلبه "أوكى" بصيغة المجهول أي ربط "على مسك". قال الطيبي: أي شد بالوكاء وهو الخيط الذي يشد به الأوعية. قال المظهر: فإن من قرأ يصل بركته منه إلى بيته وإلى السامعين، ويحصل استراحة وثواب إلى حيث يصل صوته فهو كجراب مملوء من المسك إذا فتح رأسه تصل رائحته إلى كل مكان حوله، ومن تعلم القرآن ولم يقرأ لم يصل بركته منه لا إلى نفسه ولا إلى غيره فيكون كجراب مشدود رأسه وفيه مسك فلا يصل رائحته منه إلى أحد.
قوله: "هذا حديث حسن" وأخرجه النسائي وابن ماجه وابن حبان في صحيحه.(8/187)
3042- حدثنا بِذَلِكَ قُتَيْبَةُ أخبرنا الّليثُ بنُ سَعْدٍ عن سَعِيدٍ المَقْبُرِيّ عن عَطَاءٍ مَوْلَى أَبي أَحْمَدَ عن النبيّ صلى الله عليه وسلم مُرْسَلاً نَحْوَهُ بِمَعْنَاهُ، وَلَمْ يَذْكُرْ فِيهِ عن أَبي هُرَيْرَةَ. وفي البابِ عن أُبيّ بنِ كَعْبٍ.
ـــــــ
قوله: "وفي الباب عن أبي بن كعب" أخرجه مسلم عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يا أبا المنذر أتدري أي آية من كتاب الله تعالى معك أعظم" قلت: الله ورسوله أعلم، قال "يا أبا المنذر أتدري أي آية من كتاب الله تعالى معك أعظم" قلت: الله لا إله إلا هو الحي القيوم، قال "فضرب في صدري قال ليهنك العلم يا أبا المنذر".(8/188)
باب ماجاء في آخر سورة البقرة
...
باب مَا جَاءَ في آخِرِ سُورَةِ البَقَرَة
3043- حدثنا أَحْمَدُ بنُ مَنِيعٍ أخبرنا جَرِيرُ بنُ عَبْدِ الْحَمِيدِ عن مَنْصُورِ بنِ الْمُعْتَمِرِ عن إِبْرَاهِيمَ بنِ يَزِيدَ عن عَبْد الرّحْمَن بنِ يَزِيدَ عن أَبي مَسْعُودٍ الأَنْصَارِيّ قالَ: قالَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم: "مَنْ قَرَأَ الآيتين مِنْ آخِرِ سُورَةِ البَقَرَةِ فِي لَيْلَةٍ كَفَتَاهُ" .
ـــــــ
باب مَا جَاءَ في آخِرِ سُورَةِ البَقَرَة
قوله: "عن إبراهيم بن يزيد عن عبد الرحمن بن يزيد" هما النخعيان.
قوله: "من قرأ الآيتين من آخر سوره البقرة" أي آمن الرسول إلى آخره "في ليلة" وقد أخرج علي بن سعيد العسكري بلفظ من قرأهما بعد العشاء الآخرة أجزأنا آمن الرسول إلى آخر السورة. ذكره الحافظ "كفتاه" أي أجزأتا عنه من قيام الليل، وقيل أجزأتا عنه من قراءة القرآن مطلقاً سواء كان داخل الصلاة أم خارجها. وقيل معناه أجزأتاه فيما يتعلق بالاعتقاد لما اشتملتا عليه من الإيمان والأعمال إجمالاً، وقيل معناه كفتاه كل سوء، وقيل كفتاه شر الشيطان، وقيل(8/188)
هذا حديثٌ حسنٌ صحيحٌ.
3044- حدثنا محمد بن بشار أخبرنا عَبْد الرّحْمَن بنُ مَهْدِيٍ أخبرنا حَمّادُ بنُ سَلَمَةَ عن أَشْعَثَ بنِ عَبْد الرّحْمَن الْجَرْمِيّ عن أَبي قِلاَبَةَ عن أَبي الأَشْعَثِ الْجَرْمِيّ عن النّعْمَانِ بنِ بَشِيرٍ عن النبيّ صلى الله عليه وسلم قالَ:
ـــــــ
دفعتا عنه شر الإنس والجن، وقيل معناه كفتاه ما حصل له بسببهما من الثواب عن طلب شيء آخر، وكأنهما اختصتا بذلك من الثناء على الصحابة بجميل انقيادهم إلى الله تعالى وابتهالهم ورجوعهم إليه وما حصل لهم من الإجابة إلى مطلوبهم قال الحافظ بعد ذكر هذه الوجوه: والوجه الأول ورد صريحاً من طريق عاصم عن علقمة عن أبي مسعود رفعه: من قرأ خاتمة البقرة أجزأت عنه قيام ليلة. قال ويؤيد الرابع حديث النعمان بن بشير يعني الذي أخرجه الترمذي في هذا الباب وقال الشوكاني بعد ذكر هذه الوجوه: ولا مانع من إرادة هذه الأمور جميعها ويؤيد ذلك ما تقرر في علم المعاني والبيان من أن أحذف المتعلق مشعر بالتعميم فكأنه قال كفتاه من كل شر ومن كل ما يخاف، وفضل الله واسع.
قوله: "هذا حديث حسن صحيح" أخرجه الجماعة.
قوله: "عن أشعث بن عبد الرحمن الجرمي" روى عن أبيه وعن أبي قلابة وعنه حماد بن سلمة. قال أحمد ما به باس، وقال ابن معين ثقة، وقال أبو حاتم شيخ، وذكره ابن حبان في الثقات وأخرج حديثه في صحيحة كذا في تهذيب التهذيب "عن أبي الأشعث الجرمي" قال الحافظ في تهذيب التهذيب: صوابه الصنعاني لم يقل فيه الجرمي غير الترمذي انتهى قلت: قال الترمذي أيضاً الصنعاني في إسناد حديث مرة بن كعب في مناقب عثمان رضي الله عنه وفي إسناد حديث شداد بن أوس في باب النهي عن المثلة من أبواب الديات. وأبو الأشعث الصنعاني هذا اسمه شراحيل بن آدة بمد الهمزة وتخفيف الدال ويقال آدة جد أبيه وهو ابن شراحيل بن كلب ثقة من الثانية شهد فتح دمشق.(8/189)
"إِنّ الله كَتَبَ كِتَابَاً قَبْلَ أَنْ يَخْلُقَ السّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ بِأَلْفَي عَامٍ أَنْزَلَ مِنْهُ آيَتَيْنِ خَتَمَ بِهِمَا سُورَةَ البَقَرَةِ، وَلاَ يُقْرَآنِ في دَارٍ ثَلاَثَ لَيَالٍ فَيَقْرَبُهَا شَيْطَانٌ" . هذا حديثٌ غريبٌ.
ـــــــ
قوله: "إن الله كتب كتاباً" أي أجرى القلم على اللوح وأثبت فيه مقادير الخلائق على وفق ما تعلقت به الإرادة "قبل أن يخلق السموات والأرض بألفي عام" كنى به عن طول المدة وتمادى ما بين التقدير والخلق من الزمن فلا ينافي عدم تحقق الأعوام قبل السماء، والمراد مجرد الكثرة وعدم النهاية قاله المناوي. وقال الطيبي: كتابة مقادير الخلق قبل خلقها بخمسين ألف سنة كما ورد، لا تنافي كتابة الكتاب المذكور بألفي عام، لجواز اختلاف أوقات الكتابة في اللوح ولجواز أن لا يراد به التجديد بل مجرد السبق الدال على الشرف. انتهى.
قال بعضهم: ولجواز مغايرة الكتابين وهو الأظهر انتهى. "أنزل" أي الله سبحانه وتعالى "منه" أي من جملة ما في ذلك الكتاب المذكور "آيتين" هما: {آمَنَ الرَّسُولُ} إلى آخره "ختم بهما سورة البقرة" أي جعلهما خاتمتها.
قال الطيبي: ولعل الخلاصة أن الكوائن كتبت في اللوح المحفوظ قبل خلق السموات بخمسين ألف عام. ومن جملتها القرآن. ثم خلق الله خلقاً من الملائكة وغيرهم، فأظهر كتابة القرآن عليهم قبل أن يخلق السموات والأرض بألفي عام، وخص من ذلك هاتان الآيتان وأنزلهما مختوماً بهما أولى الزهراوين "ولا يقرأن في دار" أي في مكان في بيت وغيره "ثلاث ليال" أي في كل ليلة منها "فيقربها شيطان" فضلاً عن أن يدخلها، فعبر بنفي القرب ليفيد نفي الدخول بالأولى. قال الطيبي: لا توجد قراءة يعقبها قربان، يعني أن الفاء للتعقيب عطفاً على النفي، والنفي سلط على المجموع، وقيل: يحتمل أن تكون للجمعية، أي لا تجتمع القراءة وقرب الشيطان. كذا في المرقاة.
قوله: "هذا حديث غريب" وأخرجه النسائي والدارمي وابن حبان في صحيحه والحاكم، إلا أن عنده: ولا يقرآن في بيت فيقربه شيطان ثلاث ليال وقال صحيح على شرط مسلم، كذا في الترغيب للمنذري.(8/190)
ـــــــ
واعلم أنه وقع في النسخ الحاضرة. هذا حديث غريب، ولكن قال المنذري في الترغيب بعد ذكر هذا الحديث: رواه الترمذي، وقال حديث حسن غريب. انتهى.(8/191)
باب مَا جَاءَ في سورة آلِ عِمْرَان
3045- حدثنا مُحمّدُ بنُ إسْمَاعِيلَ أخبرنا هِشَامُ بنُ إسْمَاعِيلَ أَبُو عَبْدِ المَلِكِ العَطّارُ أخبرنا مُحمّدُ بنُ شُعَيْبٍ أخبرنا إِبْرَاهِيمُ بنُ سُلَيْمَانَ عن الْوَلِيدِ بنِ عَبْد الرّحْمَن أَنّهُ حَدّثَهُمْ عن جُبَيْرِ بنِ نُفَيْرٍ عن نوّاسِ بنِ سِمْعَانَ عن النبيّ صلى الله عليه وسلم قالَ: "يَأْتِي القُرْآنُ، وَأَهْلُهُ الّذِينَ يَعْمَلُونَ بِهِ فِي الدّنْيَا تَقْدُمُهُ سُورَةُ البَقَرَةِ، وَآلِ عُمْرَانَ"، قالَ
ـــــــ
باب مَا جَاءَ في سورة آلِ عِمْرَان
قوله: "حدثنا محمد بن إسماعيل" هو الإمام البخاري رحمه الله "أخبرنا هشام بن إسماعيل" بن يحيى بن سليمان "أبو عبد الملك العطا" الدمشقي ثقة فقيه عابد من العاشرة "أخبرنا محمد بن شعيب" بن شابور بالمعجمة والموحدة الأموي مولاهم الدمشقي نزيل بيروت صدوق صحيح الكتاب من كبار التاسعة. "أخبرنا إبراهيم بن سليمان" الأفطس الدمشقي ثقة ثبت إلا أنه يرسل من الثامنة "عن الوليد بن عبد الرحمن" الجرشي، بضم الجيم وبالشين المعجمة الحمصي الزجاج ثقة من الرابعة.
قوله: "يأتي القرآن" أي يوم القيامة "وأهله" عطف على القرآن "الذين يعملون به" دل على من قرأ ولم يعمل به لم يكن من أهل القرآن، ولا يكون شفيعاً لهم، بل يكون القرآن حجة عليهم "تقدمه" أي تتقدم أهله أو القرآن. "سورة البقرة وآل عمران" بالجر وقيل بالرفع. قال الطيبي: الضمير في تقدمه للقرآن. أي يقدم ثوابهما ثواب القرآن. وقال النووي. قال العلماء. المراد أن ثوابهما يأتي كغمامتين انتهى. وقيل يصور الكل بحيث يراه الناس، كما يصور(8/191)
نَوّاسٌ: وَضَرَبَ لَهُمَا رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم ثَلاَثَةَ أَمْثَالٍ مَا نُسِيتُهُنّ بَعْدُ. قالَ: "تَأْتِيَانِ كَأَنّهُمَا غَيَابَتَانِ وَبَيْنَهُمَا شَرْقٌ، أَوَ كَأَنّهُمَا غَمَامَتَانِ سَوْدَاوَانِ، أَوْ كَأَنّهُمَا ظُلّةٌ مِنْ طَيْرٍ صَوَافٍ تَجَادِلاَنِ عَنْ صَاحِبهِمَا" .
وفي البابِ عن بُرَيْدَةَ وَأَبِي أُمَامَةَ.
هذا حديثٌ حسنٌ غريبٌ من هذا الوجه وَمَعْنَى هَذَا الْحَدِيثِ عِنْدَ أَهْلِ الْعِلْمِ أَنّهُ يَجِيءُ ثَوَابُ قِرَاءَتِهِ. كَذَا فَسّرَ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ هَذَا الْحَدِيثَ، وَمَا يُشْبِهُ
ـــــــ
الأعمال للوزن في الميزان، ومثل ذلك يجب اعتقاده إيماناً فإن العقل يعجز عن أمثاله "وضرب لهما" أي بين لهما "غيايتان" الغياية كل ما أظل الإنسان من فوق رأسه كالسحابة ونحوها. كذا في القاموس "إبراهيم وبينهما شرق" بفتح الشين المعجمة وسكون الراء بعدها قاف. وقد روي بفتح الراء والأول أشهر أي ضوء ونور. قال في النهاية: الشرق ههنا الضوء وهو الشمس والشق أيضاً انتهى. وقيل أراد بالشرق الشق وهو الانفراج، أي بينهما فرجة وفصل كتميزهما بالبسملة في المصحف والأول أشبه "أو" للتنويع لا لشك الراوي "غمامتان" أي سحابتان "سوداوان" لكثافتهما وارتكام البعض منهما على بعض "أوكأنهما ظلة" بالضم، وهي كل ما أظلك من شجر وغيره "من طير صواف" جمع صافة أي باسطات أجنحتها في الطيران "تجادلان عن صاحبهما" أي تحاجان عنه كما هو في رواية، والمحاجة المخاصمة وإظهار الحجة، وصاحبهما هو المستكثر من قراءتهما وظاهر الحديث أنهما يتجسمان حتى يكونا كأحد هذه الثلاثة التي شبهها بها صلى الله عليه وسلم ثم يقدرهما الله سبحانه وتعالى على النطق بالحجة، وذلك غير مستبعد من قدرة القادر القوي الذي يقول للشيء كن فيكون.
قوله: "وفي الباب عن بريدة وأبي أمامة" أما حديث بريدة فأخرجه أحمد والدارمي، أما حديث أبي أمامة فأخرجه مسلم.
قوله: "هذا حديث حسن غريب" وأخرجه مسلم.(8/192)
هَذَا مِنَ الأَحَادِيثِ أَنّهُ يَجِيءُ ثَوَابُ قِرَاءةِ القُرْآنِ. وَفِي حَدِيثِ النَوّاسِ بنِ سِمْعَانَ عن النبيّ صلى الله عليه وسلم مَا يَدُلّ عَلَى مَا فَسّرُوا إِذْ قالَ النبيّ صلى الله عليه وسلم: "وَأَهْلُهُ الّذِينَ يَعْمَلُونَ بِهِ في الدّنْيَا" . فَفِي هَذَا دَلاَلَةُ أَنّهُ يَجِيءُ ثَوَابُ الْعَمَلِ. وَأَخْبَرَنِي مُحمّدُ بنُ إسْمَاعِيلُ أخبرنا الْحُميْدِيّ، قالَ: قالَ سُفْيَانُ بنُ عُيَيْنَةَ فِي تَفْسِيرِ حَدِيثِ عَبْدِ الله بنِ مَسْعُودٍ قال: مَا خَلَقَ الله مِنْ سَمَاءٍ، وَلاَ أَرْضٍ أَعْظَمَ مِنْ آية الكُرْسِيّ. قالَ سُفْيَانُ: لأَنّ آية الكُرْسِيّ هُوَ كَلاَمُ الله وَكَلاَمُ الله أَعْظَمُ مِنْ خَلْقِ الله مِنَ السّمَاءِ وَالأَرْضِ.
ـــــــ
ففي هذا دلالة على أنه يجيء ثواب العمل في هذه الدلالة خفاء كما لا يخفي.
قوله: "وأخبرني محمد بن إسماعيل" هو الإمام البخاري رحمه الله.
قوله: "ما خلق الله من سماء ولا أرض أعظم من آية الكرسي" فإنها جمعت أصول الأسماء والصفات من الإلهية والوحدانية والحياة والعلم والقيومة والملك والقدرة والإرادة، فهذه أصول الأسماء والصفات "قال سفيان لأن آية الكرسي هو كلام الله، وكلام الله أعظم من خلق الله من السماء والأرض" وفي قول سفيان هذا نظر فإنه يلزم على هذا أن لا تكون هذه الفضيلة مختصة بآية الكرسي بل تعم كل آية من آي القرآن لأن كلا منها كلام الله تعالى.(8/193)
باب ماجاء في فضل سورة الكهف
...
باب ما جَاءَ في فضل سُورَة الكَهْف
3046- حدثنا مَحْمُودُ بنُ غَيْلاَنَ أخبرنا أَبُو دَاوُدَ أَنْبَأَنَا شُعْبَةُ عن أَبِي إِسْحَاقَ، قالَ سَمِعْتُ البَرَاءَ يَقُولُ: "بَيْنَمَا رَجُلٌ يَقْرَأُ الكَهْفِ
ـــــــ
باب ما جَاءَ في سُورَة الكَهْف
قوله: "حدثنا أبو داود" هو الطيالسي "عن أبي إسحاق" هو السبيعي.(8/193)
إِذْ رَأَى دَابّتَهُ تَرْكُضُ فَنَظَرَ، فَإِذَا مِثْلُ الْغَمَامَةِ أَوْ السّحَابَةِ فَأَتى رَسُولُ الله فَذَكَرَ ذَلِكَ لَهُ فَقَالَ النبيّ صلى الله عليه وسلم: "تِلْكَ السّكِينَةُ نَزَلَتْ مَعَ القُرْآنِ أَوْ نَزَلَتْ عَلَى القُرْآنِ" .
هذا حديثٌ حسنٌ صحيحٌ. وفي البابِ عن أُسَيدِ بنِ حُضَيْرٍ.
ـــــــ
قوله: "إذ رأى دابته" أي فرسه "تركض" من الركض وهو تحريك. الرجل، ومنه أركض برجلك "فنظر" أي الرجل "فإذا مثل الغمامة أو السحابة" الظاهر أن أو للشك من الراوي "فذكر ذلك له" وفي رواية البخاري: كان رجل يقرأ سورة الكهف وإلى جانبه حصان مربوط بشطنين فتغشته سحابة فجعلت تدنو وتدنو وجعل فرسه ينفر، فلما أصبح أتى النبي صلى الله عليه وسلم فذكر ذلك له فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم "تلك السكينة" قال القاري: أي السكون والطمأنينة التي يطمئن إليها القلب، ويسكن بها عن الرعب. قال الطيبي: فإن المؤمن تزداد طمأنينه بأمثال هذه الاَيات إذا كوشف بها. وقيل هي الرحمة، وقيل الوقار، وقيل ملائكة الرحمة انتهى. وقال النووي: المختار أنها شيء من المخلوقات فيه طمأنينة ورحمة ومعه الملائكة "نزلت مع القرآن أو نزلت على القرآن" وفي رواية البخاري: تنزلت بالقرآن.
قوله: "هذا حديث حسن صحيح" وأخرجه الشيخان.
قوله: "وفي الباب عن أسيد بن حضير" أخرجه الشيخان عنه قال: بينما هو يقرأ من الليل سورة البقرة وفرسه مربوطة عنده إذ جالت الفرس فسكت فسكنت الحديث. قال الحافظ في شرح حديث البراء المذكور. قوله: كان رجل قيل هو أسيد بن حضير كما سيأتي من حديثه نفسه بعد ثلاثة أبواب لكن فيه أنه كان يقرأ سورة البقرة وفي هذا أنه كان يقرأ سورة الكهف وهذا ظاهره التعدد، وقد وقع قريب من القصة التي لأسيد لثابت بن قيس بن شماس لكن في سورة البقرة أيضاً، وأخرج أبو داود من طريق مرسلة قال: للنبي صلى الله عليه وسلم ألم تر ثابت بن قيس، لم تزل داره البارحة تزهر بمصابيح. قال: "فلعله قرأ سورة البقرة"(8/194)
3047- حدثنا مُحمّدُ بنُ بَشّارٍ، أخبرنا مُحمّدُ بنُ جَعْفَرٍ، أخبرنا شُعْبَةُ، عن قَتَادَةَ، عن سَالِمِ بنِ أَبي الْجَعْدِ، عن مَعْدَانَ بنِ أَبي طَلْحَةَ، عن أَبي الدّرْدَاءِ، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم قالَ: "مَنْ قَرَأَ ثَلاَثَ آيَاتٍ مِنْ أَوّلِ الكَهْفِ عُصِمَ مِنْ فِتْنَةِ الدّجّالِ" . قالَ مُحمّدُ بَشّارٍ، أخبرنا مَعَاذُ بنُ هِشَارٍ أخبرني أبي عن أَبي قَتَادَةَ بِهَذَا الإِسْنَادِ نَحْوَهُ.
ـــــــ
فسئل قال قرأت سورة القرة. ويحتمل أن يكون قرأ سورة البقرة وسورة الكهف جميعاً أو من كل منهما انتهى.
قوله: "حدثنا محمد بن جعفر" المعروف بغندر.
قوله: "من قرأ ثلاث آيات من أول الكهف عصم من فتنة الدجال" أي حفظ عن فتنته وشره. قال النووي: قيل سبب ذلك ما في أولها من العجائب والاَيات فمن تدبرها لم يفتتن بالدجال وكذا في آخرها قوله تعالى: {أَفَحَسِبَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ يَتَّخِذُوا} انتهى وقال السيوطي في مرقاة الصعود: قال القرطبي: اختلف المتأولون في سبب ذلك فقيل لنا في قصة أصحاب الكهف من العجائب والاَيات فمن وقف عليها لم يستغرب أمر الدجال ولم يهله ذلك فلم يفتن به وقيل لقوله تعالى: {لِيُنْذِرَ بَأْساً شَدِيداً مِنْ لَدُنْهُ} تمسكاً بتخصيص البأس بالشدة واللدنية وهو مناسب لما يكون من الدجال من دعوى الإلهية واستيلائه وعظم فتنته، ولذلك عظم صلى الله عليه وسلم أمره وحذر عنه وتعوذ من فتنته، فيكون معنى الحديث أن من قرأ هذه الاَيات وتدبرها ووقف على معناها حذره فأمن منه، وقيل ذلك من خصائص هذه السورة كلها فقد روي: من حفظ سورة الكهف ثم أدركه الدجال لم يسلط عليه. وعلى هذا يجتمع رواية من روى أول سورة الكهف مع من روى من آخرها ويكون ذكر العشر على جهة الاستدراج في حفظها كلها انتهى.
تنبيهان: الأول - وقع في رواية الترمذي هذه من قرأ ثلاث أيات، ووقع في رواية مسلم من حفظ عشر آيات، فقيل وجه الجمع بين الثلاث وبين العشر(8/195)
هذا حديثٌ حسنٌ صحيحٌ.
ـــــــ
أن حديث العشر متأخر ومن عمل بالعشر فقد عمل بالثلاث، وقيل حديث الثلاث متأخر ومن عصم بثلاث فلا حاجة إلى العشر وهذا أقرب إلى أحكام النسخ. قال ميرك: بمجرد الاحتمال لا يحكم بالنسخ. قال القاري: النسخ لا يدخل في الأخبار وقيل حديث العشر في الحفظ وحديث الثلاث في القراءة فمن حفظ العشر وقرأ الثلاث كفى وعصم من فتنة الدجال انتهى.
الثاني: قد اختلف أصحاب قتادة في رواية هذا الحديث، ففي رواية شعبة عند الترمذي عن قتادة عن سالم عن معدان عن أبي الدرداء من أول الكهف وفي روايته عند مسلم وأبي داود عن قتادة بهذا الإسناد من آخر الكهف، وفي رواية هشام عند مسلم عن قتادة بهذا الإسناد من أول سورة الكهف، وفي روايته عند أبي داود عن قتادة بهذا الإسناد من خواتيم سورة الكهف، وفي رواية همام عند مسلم وأبي داود عن قتادة بهذا الإسناد من أول سورة الكهف، وقد تقدم وجه الجمع في كلام السيوطي المذكور.
قوله: "هذا حديث حسن صحيح" وأخرجه مسلم وأبو داود والنسائي.(8/196)
باب ماجاء في سورة يس
...
باب مَا جَاءَ في يَس
3048- حدثنا قُتَيْبَةُ وَسُفْيَانُ بنُ وَكِيعِ، قالاَ: أخبرنا حُمَيْدُ بنُ عَبْدِ الرّحْمَنِ الرّؤَاسِيّ عن الْحَسَنِ بنِ صَالحٍ عن هَارُونَ أَبي محمدٍ عن مُقَاتِلِ بنِ حَيّانَ عن قَتَادَةَ عن أَنَسٍ، قالَ: قالَ النبيّ صلى الله عليه وسلم:
ـــــــ
باب مَا جَاءَ في يَس
قوله: "وسفيان بن وكيع" هو الرؤاسي الكوفي "أخبرنا حميد بن عبد الرحمن" ابن حميد بن عبد الرحمن "الرؤاسي" بضم الراء بعدها همزة خفيفة أبو عوف الكوفي ثقة من الثامنة "عن الحسن بن صالح" قال في التقريب: الحسن بن صالح بن صالح بن حي وهو حيان بن شفي بضم المعجمة وبالفاء مصغراً الهمداني بسكون الميم الثوري ثقة فقيه عابد رمي بالتشيع من السابعة "عن هارون أبي محمد" مجهول.(8/196)
"إِنّ لِكُلّ شَيْءِ قَلْباً وَقَلْبُ القُرْآنِ يَس، وَمَنْ قَرَأَ يَس كَتَبَ الله لَهُ بِقِرَاءَتِهَا قِرَاءَةَ القُرْآنِ عَشْرَ مَرّاتٍ" .
هذا حديثٌ حسنٌ غريبٌ لاَ نَعْرِفُهُ إِلاّ مِنْ حَدِيثِ حُمَيْدِ بنِ عَبْد الرّحْمَنِ. وَبِالبَصْرَةِ لاَ يَعْرِفُونَ مِنْ حَدِيثِ قَتَادَةَ إِلاّ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ. وَهَارُونُ أَبُو مُحمّدٍ شَيْخٌ مَجْهُولٌ.
3049- حدثنا أَبُو مُوسَى مُحمّدُ بنُ المُثَنّى، أخبرنا أَحْمَدُ بنُ سُعِيدٍ الدّارِمِيّ، أخبرنا قُتَيْبَةُ عن حُمَيْدِ بنِ عَبْد الرّحْمَنِ بِهَذَا.
ـــــــ
قوله: "وقلب القرآن يس" أي لبه وخالصه سورة يس. قال الغزالي: إن الإيمان صحته بالاعتراف بالحشر والنشر وهو مقرر فيها بأبلغ وجه فكانت قلب القرآن لذلك واستحسنه الفخر الرازي. قال الطيبي: إنه لاحتوائها مع قصرها على البراهين الساطعة والاَيات القاطعة والعلوم المكنونة والمعاني الدقيقة والمواعيد الفائقة والزواجر البالغة "كتب الله له بقراءتها قراءة القرآن" أي ثوابها "عشر مرات" أي من غيرها ولله تعالى أن يخص ما شاء من الأشياء بما أراد من مزيد الفضل كليلة القدر من الأزمنة والحرم من الأمكنة.
قوله: "هذا حديث حسن غريب" وأخرجه الدارمي "وبالبصرة لا يعرفون من حديث قتادة إلا من هذا الوجه" لعل مقصود الترمذي بهذا الكلام أن أهل العلم بالحديث بالبصرة لا يعرفون من حديث قتادة عن صحابي إلا من هذا الوجه أي إلا عن أنس لأن قتادة لم يسمع من صحابي غير أنس. قال الحافظ في تهذيب التهذيب: وقال الحاكم في علوم الحديث لم يسمع قتادة من صحابي غير أنس. وقال ابن أبي حاتم في كتاب المراسيل أنبأ حرب بن إسماعيل فيما كتب إلى، قال: قال أحمد بن حنبل: ما أعلم قتادة روى عن أحد من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم إلا عن أنس رضي الله عنه، قيل فابن سرجس فكأنه لم يره سماعاً انتهى والله تعالى أعلم.(8/197)
وفي البابِ عن أَبي بَكْرَ الصّدّيقِ. وَلاَ يَصِحّ حَدِيثُ أَبي بَكْرٍ مِنْ قِبَلِ إِسْنَادِهِ وَإِسْنَادُهُ ضَعِيفٌ. وفي البابِ عن أَبي هُرَيْرَةَ.
ـــــــ
قوله: "وفي الباب عن أبي بكر الصديق الخ" قال الحافظ ابن كثير في تفسيره بعد نقل كلام الترمذي هذا: أما حديث الصديق رضي الله عنه فرواه الحكيم الترمذي في كتابه نوادر الأصول، وأما حديث أبي هريرة رضي الله عنه فقال أبو بكر البزار حدثنا عبد الرحمن بن الفضل فذكره بإسناده بلفظ: "إن لكل شيء قلباً وقلب القرآن يس" .(8/199)
باب مَا جَاءَ في سُورَة الْمُلْك
3052- حدثنا مُحمّدُ بنُ عَبْدِ المَلِكِ بنِ أَبي الشّوَارِبِ، أخبرنا يَحْيىَ بنُ عَمْرِو بنِ مالِكِ النّكَرِيّ عن أَبِيهِ عن أَبي الْجَوْزَاءِ عن ابنِ عَبّاسٍ قالَ ضَرَبَ بَعْضُ أَصْحَابِ النبيّ صلى الله عليه وسلم خِبَآءَهُ عَلَى قَبْرٍ وَهُوَ
ـــــــ
باب مَا جَاءَ في سُورَة الْمُلْك
قوله: "أخبرنا يحيى بن عمرو بن مالك النكري" بضم النون البصري ضعيف ويقال إن حماد بن زيد كذبه من السابعة "عن أبيه" هو عمرو بن مالك النكري أبو يحيى أو أبو مالك البصري صدوق له أوهام من السابعة "عن أبي الجوزاء" بالجيم والزاي اسمه أوس بن عبد الله الربعي بفتح الموحدة بصري يرسل كثيراً ثقة من الثالثة.
قوله: "ضرب بعض أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم خباءه" بكسر الخاء المعجمة والمد أي خيمته. قال الطيبي: الخباء أحد بيوت العرب من وبر أو صوف(8/199)
لا يَحْسَبُ أَنّهُ قَبْرٌ، فَإِذَا فيه قَبْرُ إِنْسَانٍ يَقْرَأُ سُورَةَ المُلْكِ حَتّى خَتَمَهَا، فَأَتَى النبيّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: يَا رَسُولُ الله إني ضَرَبْتُ خِبَائِي وَأَنَا لاَ أَحْسَبُ أَنّهُ قَبْرٌ فَإِذَا فِيهِ إِنْسَانٌ يَقْرَأُ سُورَةَ المُلْكِ حَتّى خَتَمَهَا. فَقَالَ النبيّ صلى الله عليه وسلم: "هِيَ المَانِعَةُ هِيَ المنْجِيَةُ تُنْجِيهِ مِنْ عَذَابِ الْقَبْرِ" .
هذا حديث حسنٌ غريبٌ من هذا الوجه وفي البابِ عن أَبي هُرَيْرَةَ.
3053- حدثنا مُحمّدُ بنُ بَشّارٍ، أخبرنا مُحمّدُ بنُ جَعْفَرٍ، أخبرنا شُعْبَةُ عن قَتَادَةَ عن عَبَاسٍ الْجُشَمِيّ عن أَبي هُرَيْرَةَ عن النبيّ صلى الله عليه وسلم قالَ: "إِنّ سُورَةً مِنَ القُرْآنِ ثَلاَثُونَ آية شَفَعَتْ لِرَجُلٍ حَتّى
ـــــــ
ولا يكون من شعر ويكون على عمودين أو ثلاثة "على قبر" أي على موضع قبر "وهو" أي الصحابي "لا يحسب" بفتح السين وكسرها أي لا يظن "أنه قبر" أي أن ذلك المكان موضع قبر "فإذا" للمفاجأة "قبر إنسان" أي مكانه "فأتى النبي صلى الله عليه وسلم" أي صاحب الخيمة فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "هي" أي سورة الملك "المانعة" أي تمنع من عذاب القبر أو من المعاصي التي توجب عذاب القبر "هي المنجية" يحتمل أن تكون مؤكدة لقوله هي المانعة وأن تكون مفسرة ومن ثمة عقب بقوله تنجيه من عذاب القبر.
قوله: "هذا حديث غريب" في سنده يحيى بن عمرو بن مالك وهو ضعيف كما عرفت.
قوله: "وفي الباب عن أبي هريرة" أخرجه الترمذي بعد هذا.
قوله: "عن عباس الجشمي" بضم الجيم وفتح المعجمة يقال اسم أبيه عبد الله مقبول من الثالثة.
قوله: "قال إن سورة" أي عظيمة "من القرآن" أي كائنة من القرآن "ثلاثون آية " خبر مبتدأ محذوف أي هي ثلاثون والجملة صفة لاسم إن "شفعت" بالتخفيف خبر إن وقيل خبر إن هو ثلاثون وقوله شفعت خبر ثان "لرجل حتى(8/200)
غُفِرَ لَهُ وَهِيَ سورة تَبَارَكَ الّذِي بِيَدِهِ المُلْكُ". هذا حديثٌ حسنٌ.
3054- حدثنا هُرَيْمُ بنُ مِسْعَرٍ، أخبرنا الفُضَيْلُ بنُ عِيَاضٍ عن لَيْثٍ عن أَبي الزبَيْرِ عن جَابِرٍ: "أَنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم كَانَ لا يَنَامُ حَتّى يَقْرَأَ، أَلَمْ تَنْزِيلُ، وَتَبَارَكَ الّذِي بِيَدِهِ المُلْكُ". هذا حديثٌ رَوَاهُ غَيْرُ وَاحِدٍ عن لَيْثِ بنِ أَبي سُلَيْمٍ مِثْلَ هَذَا. وَرَوَاهُ مُغِيرَةُ بنُ مُسْلِمٍ عن أَبي الزّبَيْرِ عن جَابِرٍ عن النبيّ صلى الله عليه وسلم نَحْوَ هَذَا. وَرَوَى زُهَيْرٌ قالَ: قُلْتُ لأَبِي الزّبَيْرِ سَمِعْتُ مِنْ جَابِرٍ يَذْكُرُ هَذَا الْحَدِيثَ؟ فَقَالَ أَبُو الزّبَيْرِ:
ـــــــ
غفر له" متعلق بشفعت وهو يحتمل أن يكون بمعنى المضي في الخبر يعني كان رجل يقرؤها ويعظم قدرها فلما مات شفعت له حتى دفع عنه عذابه، ويحتمل أن يكون بمعنى المستقبل أي تشفع لمن يقرؤها في القبر أو يوم القيامة "وهي تبارك الذي بيده الملك" أي إلى آخرها. وقد استدل بهذا الحديث من قال البسملة ليست من السورة وآية تامة منها لأن كونها ثلاثين آية إنما يصح على تقدير كونها آية تامة منها والحال أنها ثلاثون من غير كونها آية تامة منها. فهي إما ليست بآية منها كمذهب أبي حنيفة ومالك والأكثرين وإما ليست بآية تامة بل هي جزء من الآية الأولى كرواية في مذهب الشافعي.
قوله: "هذا حديث حسن" وأخرجه أحمد وأبو داود والنسائي وابن ماجه وابن حبان في صحيحه والحاكم وقال صحيح الإسناد.
قوله: "أخبرنا الفضل بن عياض" هو ابن مسعود التميمي الزاهد "عن ليث" هو ابن أبي سليم.
قوله: "كان لا ينام الخ" يأتي هذا الحديث مع شرحه في الباب الذي بعد باب ما جاء فيمن يقرأ من القرآن عند المنام من أبواب الدعوات "ورواه مغيرة بن مسلم" القسملي بقاف وميم مفتوحتين بينهما مهملة ساكنة أبو سلمة السراج(8/201)
إِنمَا أَخْبَرَنِيهُ صَفْوَانُ أَوْ ابنُ صَفْوَانَ وَكَأَنّ زُهَيْراً أَنْكَرَ أَنْ يَكُونَ هَذَا الْحَدِيثُ عن أَبي الزّبَيْرِ عن جَابِرٍ.
3055- حدثنا هَنّادٌ، أخبرنا أَبُو الأَحْوَصِ عن لَيْثٍ عن أَبي الزّبَيْرِ عن جَابِرِ عن النبيّ صلى الله عليه وسلم نَحْوَهُ.
3056- قال: حدثنا هُرَيْمٌ بنُ مِسْعَرٍ، أخبرنا فُضَيْلُ عن لَيْثٍ عن طَاوُسٍ قالَ: تَفْضُلاَنِ عَلَى كُلّ سُورَةٍ في القُرْآنِ بِسَبْعِينَ حَسَنَة.
ـــــــ
بتشديد الراء المدائني أصله من مرو صدوق من السادسة "إنما أخبرنيه صفوان أو ابن صفوان" أو للشك أي قال أخبرني صفوان أو قال أخبرني ابن صفوان وصفوان هذا هو صفوان بن عبد الله بن صفوان بن أمية القرشي ثقة من الثالثة، والمراد من ابن صفوان هو صفوان هذا. قال في التقريب: ابن صفوان شيخ أبي الزبير هو صفوان بن عبد الله بن صفوان نسب لجده.
قوله: "قال تفضلان" أي سورة ألم تنزيل وسورة تبارك الذي بيده الملك "على كل سورة من القرآن بسبعين حسنة" قال القاري: هذا لا ينافي الخبر الصحيح أن البقرة أفضل سور القرآن بعد الفاتحة إذ قد يكون في المفضول مزية لا توجد في الفاضل أوله خصوصية بزمان أو حال كما لا يخفى على أرباب الكمال أما ترى أن قراءة سبح والكافرون والإخلاص في الوتر أفضل من غيرها وكذا سورة السجدة والدهر بخصوص فجر الجمعة أفضل من غيرهما فلا يحتاج في الجواب إلى ما قاله ابن حجر إن ذاك حديث صحيح. وهذا ليس كذلك انتهى كلام القاري. قلت: ما ذكره القاري من وجه الجمع بين هذين الحديثين لا ينفي الاحتياج إلى ما ذكر ابن حجر فتفكر، وأثر طاوس هذا أخرجه الدارمي بلفظ فضلتا على كل سورة في القرآن بستين حسنة.(8/202)
باب ماجاء في إذا زلزلت
...
باب مَا جَاءَ فِي إِذَا زُلْزلَت
3057- حدثنا مُحمّدُ بنُ مُوسَى الْجُرَشِيّ البَصْرِيّ، أخبرنا الْحَسَنُ بنُ سَلْمٍ بنِ صَالحٍ العِجْلِيّ، أخبرنا ثَابِتٌ البُنَانِيّ عن أَنَسٍ بنِ مَالِكٍ، قالَ: قالَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم: "مَنْ قَرَأَ: إِذَا زُلْزِلَتْ عُدِلَتْ لَهُ بِنِصْفِ القُرْآنِ. وَمَنْ قَرَأَ: قُلْ يَا أَيّهَا الْكَافِرُونَ. عُدِلَتْ لَهُ بِرُبُعِ القُرْآنِ، وَمَنْ قَرَأَ: قُلْ هُوَ الله أَحَدٌ. عُدِلَتْ لَهُ بِثُلُثِ القُرْآنِ" .
ـــــــ
باب مَا جَاءَ فِي إِذَا زُلْزلَت
قوله: "حدثنا محمد بن موسى الجرشي" كذا في النسخ الموجودة بالجيم والراء والشين المعجمة. وكذا في ميزان الاعتدال ووقع في الخلاصة بالحاء والراء والسين المهملات وضبطه الخزرجي بفتح المهملتين، ووقع في تهذيب التهذيب والتقريب بالحاء والراء المهملتين وبالشين المعجمة، وضبطه الحافظ في التقريب بقوله بفتح المهملة والراء ثم شين معجمة، ومحمد بن موسى هذا هو ابن نفيع "أخبرنا الحسن ابن سلم بن صالح العجلي" ويقال اسم أبيه سيار وقد ينسب إلى جده مجهول من الثامنة كذا في التقريب. وقال في تهذيب التهذيب: وهو شيخ مجهول له حديث واحد في فضل إذا زلزلت رواه عن ثابت البناني وعنه محمد بن موسى الجرشي أخرجه الترمذي واستغربه وكذا فعل الحاكم أبو أحمد انتهى.
قوله: "من قرأ إذا زلزلت عدلت له بنصف القرآن الخ" قال الطيبي: يحتمل أن يقال المقصود الأعظم بالذات من القرآن بيان المبدأ والمعاد وإذا زلزلت مقصورة على ذكر المعاد مستقلة ببيان أحواله فيعادل نصفه، وما جاء أنها ربع القرآن فتقريره أن يقال القرآن يشتمل على تقرير التوحيد والنبوات وبيان أحكام المعاش وأحوال المعاد وهذه السورة مشتملة على القسم الأخير من الأربع، وقل يا أيها الكافرون محتوية على القسم الأولى منها لأن البراءة عن الشرك إثبات للتوحيد ليكون كل واحدة منها كأنها ربع القرآن، وهذا تلخيص كلام الشيخ التوربشتي.(8/203)
هذا حديثٌ غريبٌ لا نَعْرِفُهُ إِلاّ مِنْ حَدِيثِ هَذَا الشّيْخِ الْحَسَنِ بن سَلْمٍ. وفي البابِ عن ابن عَبّاسٍ.
3058- حدثنا عُقْبةُ بن مُكْرَمٍ العَمّيّ البَصْرِيّ، حدثني ابنُ أَبي فُدَيْكٍ، أخبرنا سَلَمَةُ بنُ وَرْدَانَ عن أَنَسٍ بنِ مَالِكٍ أَنّ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم قالَ لِرَجُلٍ مِنْ أَصْحَابِهِ: "هَلْ تَزَوّجْتَ يَا فُلاَنُ؟" قالَ لاَ والله يَا رَسُولَ الله وَلاَ عِنْدِي مَا أَتَزَوّجُ به. قالَ: "أَلَيْسَ مَعَكَ قُلْ هُوَ الله أَحَدٌ" قالَ بَلَى. قالَ: "ثُلُثُ القُرْآنِ" . قالَ "أَلَيْسَ مَعَكَ إِذَا جَاءَ نَصْرُ الله وَالفَتْحُ؟" قالَ بَلَى. قالَ: "رُبُعُ القُرْآنِ، قالَ أَلَيْسَ مَعَكَ قُلْ يَا أَيّهَا الْكَافِرُونَ؟" قالَ بَلَى. قالَ رُبُعُ القُرْانِ، قالَ "أَلَيْسَ مَعَكَ إِذَا زُلْزِلَتِ الأَرْضُ؟" قالَ بَلَى، قالَ "رُبُعُ القُرْآنِ. قالَ تَزَوّجْ تَزَوّجْ" .
ـــــــ
فإن قلت: هلا حملوا المعادلة على التسوية في الثواب على المقدار المنصوص عليه، قلت: منعهم من ذلك لزوم فضل إذا زلزلت على سورة الإخلاص، والقول الجامع فيه ما ذكره الشيخ التوربشتي من قوله: نحن وإن سلكنا هذا المسلك بمبلغ علمنا نعتقد ونعترف أن بيان ذلك على الحقيقة إنما يتلقى من قبل الرسول الله صلى الله عليه وسلم فإنه هو الذي ينتهي إليه في معرفة حقائق الأشياء والكشف عن خفيات العلوم، فأما القول الذي نحن بصدده ونحوم حوله على مقدار فهمنا وإن سلم من الخلل والزلل لا يتعدى عن ضرب من الاحتمال انتهى.
قوله: "هذا حديث غريب لا نعرفه إلا من حديث هذا الشيخ الحسن بن سلم" وهو مجهول كما عرفت، والحديث أخرجه أيضاً ابن مردويه والبيهقي.
قوله: "وفي الباب عن ابن عباس" أخرجه الترمذي في الباب الآتي:
قوله: "تزوج تزوج" أي تزوج بما معك من السور المذكورة كما في حديث سهل بن سعد الساعدي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم جاءته امرأة فقالت(8/204)
هذا حديثٌ حسنٌ.
ـــــــ
إني وهبت نفسي لك فقامت طويلاً، فقال رجل يا رسول الله زوجنيها إن لم يكن لك بها حاجة، فقال هل عندك من شيء تصدقها الحديث، وفيه فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم "هل معك من القرآن شيء" ، قال نعم سورة كذا وسور كذا لسور سماها، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم "زوجتكها بما معك من القرآن" ، أخرجه الجماعة.
قوله: "هذا حديث حسن" وأخرجه ابن أبي شيبة وذكره الحافظ في الفتح في كتاب النكاح وعزاه للترمذي وابن أبي شيبة وسكت عنه وذكره في فضائل القرآن وعزاه للترمذي وابن أبي شيبة وأبي الشيخ، قال وزاد ابن شيبة وأبي الشيخ: وآية الكرسي تعدل ربع القرآن ثم قال وهو حديث ضعيف لضعف سلمة بن وردان وإن حسنه الترمذي فلعله تساهل فيه لكونه من فضائل الأعمال انتهى.(8/205)
باب ماجاء في سورة الإخلاص وسورة الزلزلة
...
باب مَا جَاءَ في سُورَةِ الإِخْلاَص وفي سورة إذا زلزلت
3059- حدثنا عَلِيّ بنُ حُجْرٍ، أخبرنا يَزِيدُ بنُ هَارُونَ، أخبرنا يَمَانُ بنُ المُغِيرَةِ العَنَزِيّ، أخبرنا عَطَاءٌ عن ابنِ عَبّاسٍ، قالَ: قالَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم: "إِذَا زُلْزِلَتْ تَعْدِلُ نِصْفَ القُرْآنِ، وَقُلْ هُوَ الله أَحَدٌ تَعْدِلُ ثُلُثَ القُرْآنِ، وَقُلْ يَا أَيّهَا الْكَافِرونَ تَعْدِلُ ربعَ
ـــــــ
باب مَا جَاءَ في سُورَةِ الإِخْلاَص وفي سورة إذا زلزلت
قوله: "أخبرنا يمان بن المغيرة العنزي" البصري أبو حذيفة ضعيف من السادسة "أخبرنا عطاء" هو ابن أبي رباح.
قوله: "إذا زلزلت" أي سورة إذا زلزلت "تعدل" أي تماثل "نصف القرآن" تقدم توجيهه في الباب السابق "وقل هو الله أحد تعدل ثلث القرآن" لأن علوم القرآن ثلاثة: علم التوحيد وعلم الشرائع وعلم تهذيب الأخلاق. وهي مشتملة على(8/205)
القرآن" . هذا حديث غريب لا نعرفه إلا من حديث يمان بن المغيرة.
ـــــــ
الأول "وقل يا أيها الكافرون تعدل ربع القرآن" لأن القرآن يشتمل على أحكام الشهادتين وأحوال النشأتين فهي لتضمنها البراءة من الشرك ربع.
قوله: "هذا حديث غريب" وأخرجه الحاكم والبيهقي في شعب الإيمان، قال المناوي: هذا حديث منكر وتصحيح الحاكم مردود انتهى. وذكر الحافظ هذا الحديث في الفتح في فضائل القرآن وعزاه للترمذي والحاكم وأبي الشيخ وقال صححه الحاكم وفي سنده يمان بن المغيرة وهو ضعيف عندهم انتهى. لا نعرفه إلا من حديث يمان بن المغيرة قال البخاري وأبو حاتم: وهو منكر الحديث يروي المناكير التي لا أصول لها فاستحق الترك كذا في تهذيب التهذيب.(8/206)
باب ماجاء في سورة الإخلاص
...
باب مَا جَاءَ في سُورَةِ الإِخْلاَص
3060- حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ وَمُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ قَالَا أخبرنا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مَهْدِيٍّ حَدَّثَنَا زَائِدَةُ عَنْ مَنْصُورٍ عَنْ هِلَالِ بْنِ يَسَافٍ عَنْ رَبِيعِ بْنِ خُثَيْمٍ عَنْ عَمْرِو بْنِ مَيْمُونٍ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي لَيْلَى عَنْ امْرَأَةِ أَبِي أَيُّوبَ عَنْ أَبِي أَيُّوبَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " أَيَعْجِزُ أَحَدُكُمْ أَنْ يَقْرَأَ فِي لَيْلَةٍ ثُلُثَ الْقُرْآنِ مَنْ قَرَأَ اللَّهُ الْوَاحِدُ الصَّمَدُ فَقَدْ قَرَأَ ثُلُثَ الْقُرْآنِ"
ـــــــ
باب مَا جَاءَ في سُورَةِ الإِخْلاَص
قوله: "أخبرنا زائدة" هو ابن قدامة "عن منصور" هو ابن المعتمر "عن عمرو بن ميمون" هو الأودي "عن امرأة أبي أيوب" هي أم أيوب الأنصارية صحابية "عن أبي أيوب" الأنصاري اسمه خالد بن زيد.
قوله: "أيعجز أحدكم أن يقرأ في ليلة ثلث القرآن" وكذا رواه البخاري عن أبي سعيد الخدري وزاد: فشق ذلك عليهم فسألوا أينا يطيق ذلك يا رسول الله "من قرأ الله الواحد الصمد" وفي بعض النسخ: من قرأ قل هو الله أحد، الله الصمد. وقد وقع في حديث أبي سعيد الخدري المذكور فقال الله الواحد الصمد(8/206)
ـــــــ
ثلث القرآن قال الحافظ في الفتح عند الاسماعيلي من رواية أبي خالد الأحمر عن الأعمش فقال يقرأ قل هو الله أحد فهي ثلث القرآن فكأن رواية الباب بالمعنى، ويحتمل أن يكون سمى السورة بهذا الاسم لاشتمالها على الصفتين المذكورتين أو يكون بعض رواته كان يقرأها كذلك. فقد جاء عن عمر أنه كان يقرأ الله أحد الله الصمد بغير قل في أولها "فقد قرأ ثلث القرآن" كذا في رواية أبي أيوب: فقد قرأ ثلث القرآن وفي حديث أي سعيد المذكور فقال الله الواحد الصمد ثلث القرآن كما عرفت. قال الحافظ: حمله بعض العلماء على ظاهره فقال هي ثلث باعتبار معاني القرآن لأنه أحكام وأخبار وتوحيد. وقد اشتملت هي على القسم الثالث فكانت ثلثاً بهذا الاعتبار، ويستأنس لهذا بما أخرجه أبو عبيدة من حديث أبي الدرداء قال: جزأ النبي صلى الله عليه وسلم القرآن ثلاثة أجزاء فجعل قل هو الله أحد جزءاً من أجزاء القرآن. وقال القرطبي: اشتملت هذه السورة على اسمين من أسماء الله تعالى يتضمنان جميع أوصاف الكمال لم يوجدا في غيرها من السور وهما الأحد الصمد لأنهما يدلان على أحدية الذات المقدسة الموصوفة بجميع أوصاف الكمال وبيان ذلك أن الأحد يشعر بوجوده الخاص الذي لا يشاركه فيه غيره، والصمد يشعر بجميع أوصاف الكمال لأنه الذي انتهى إليه سؤدده فكان مرجع الطلب منه وإليه، ولا يتم ذلك على وجه التحقيق إلا لمن جاز جميع خصال الكمال وذلك لا يصلح إلا لله تعالى، فلما اشتملت هذه السورة على معرفة الذات المقدسة كانت بالنسبة إلى تمام المعرفة بصفات الذات وصفات الفعل ثلثاً انتهى. ومنهم من حمل المثلية على تحصيل الثواب فقال معنى كونها ثلث القرآن أن ثواب قراءتها يحصل للقارى مثل ثواب من قرأ ثلث القرآن وقيل مثله بغير تضعيف. وهي دعوى بغير دليل ويؤيد الإطلاق ما أخرجه مسلم من حديث أبي الدرداء فذكر نحو حديث أبي سعيد الأخير وقال فيه: قل هو الله تعدل ثلث القرآن. ولمسلم أيضاً من حديث أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "احشدوا فإني سأقرأ عليكم ثلث القرآن فخرج فقرأ قل هو الله أحد ثم قال ألا إنها تعدل ثلث القرآن". ولأبي عبيد من حديث أبي بن كعب: من قرأ قل هو الله أحد فكأنما قرأ ثلث القرآن. وإذا حمل ذلك على ظاهره فهل ذلك لثلث من القرآن معين أو لأي ثلث فرض منه فيه نظر، ويلزم على الثاني أن من(8/207)
وَفِي الْبَاب عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ وَأَبِي سَعِيدٍ وَقَتَادَةَ بْنِ النُّعْمَانِ وَأَبِي هُرَيْرَةَ وَأَنَسٍ وَابْنِ عُمَرَ وَأَبِي مَسْعُودٍ
هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ وَلَا نَعْرِفُ أَحَدًا رَوَى هَذَا الْحَدِيثَ أَحْسَنَ مِنْ رِوَايَةِ زَائِدَةَ وَتَابَعَهُ عَلَى رِوَايَتِهِ إِسْرَائِيلُ وَالْفُضَيْلُ بْنُ عِيَاضٍ
ـــــــ
قرأها ثلاثاً كان كمن قرأ ختمة كاملة، وقيل المراد من عمل بما تضمنته من الإخلاص والتوحيد كان كمن قرأ ثلث القرآن. وادعى بعضهم أن قوله تعدل ثلث القرآن يختص بصاحب الواقعة لأنه لما رددها في ليلته كان كمن قرأ ثلث القرآن بغير ترديد قال القابسي: ولعل الرجل الذي جرى له ذلك لم يكن يحفظ غيرها فلذلك استقل عمله فقال له الشارع ذلك ترغيباً له في عمل الخير وإن قل. وقال ابن عبد البر: من لم يتأول هذا الحديث أخلص ممن أجاب فيه بالرأي.
قلت: حديث أبي أيوب المذكور بلفظ: من قرأ قل هو الله أحد فقد قرأ ثلث القرآن صريح في أن قراءة سورة قل هو الله أحد تعدل قراءة ثلث القرآن، وكذا حديث أبي الدرداء الذي أشار إليه الترمذي وحديث أبي هريرة الآتي في هذا الباب يدلان على ذلك، وقوله صلى الله عليه وسلم: قل هو الله أحد تعدل ثلث القرآن يحمل على أن قراءتها تعدل قراءة ثلث القرآن ويحصل لقارئها ثواب قراءة ثلث القرآن، فالروايات بعضها يفسر بعضاً هذا ما عندي والله تعالى أعلم.
قوله: "وفي الباب عن أبي الدرداء وأبي سعيد الخ" أما حديث أبي الدرداء فأخرجه مسلم بلفظ: أيعجز أحدكم أن يقرأ في ليلة ثلث القرآن؟ قالوا وكيف يقرأ ثلث القرآن؟ قال قل هو الله أحد تعدل ثلث القرآن. وأما حديث أبي سعيد وحديث قتادة بن النعمان فأخرجهما البخاري، وأما حديث أبي هريرة وحديث أنس فأخرجهما الترمذي في هذا الباب، وأما حديث ابن عمر فأخرجه أبو الشيخ عنه مرفوعاً: "من قرأ قل هو الله أحد عشية عرفة ألف مرة أعطاه الله ما سأل". وأما حديث أبي مسعود فأخرجه أحمد والنسائي وابن ماجه.
قوله: "هذا حديث حسن" وأخرجه أحمد والنسائي وذكره المنذري في(8/208)
وَقَدْ رَوَى شُعْبَةُ وَغَيْرُ وَاحِدٍ مِنْ الثِّقَاتِ هَذَا الْحَدِيثَ عَنْ مَنْصُورٍ وَاضْطَرَبُوا فِيهِ.
3061- حدثنا أَبُو كُرَيْبٍ أخبرنا إِسحَاقُ بنُ سُلَيْمَانَ عن مالِكٍ بنِ أَنَسٍ عن عُبَيْدِ الله بنِ عَبْد الرّحْمَن عن أبي حُنَيْنٍ مَوْلَى لاَلِ زَيْدٍ بن الْخَطّابِ أَوْ مَوْلَى زَيْدِ بن الخَطّابِ عن أَبي هُرَيْرَةَ قالَ: "أَقْبَلْتُ مَعَ النبيّ صلى الله عليه وسلم فَسَمِعَ رَجُلاً يَقْرَأُ قُلْ هُوَ الله أَحَدٌ الله الصمد. فَقَالَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم: "وَجَبَتْ" . قلت: ومَا وَجَبَتْ؟ قال: "الْجَنّةَ" . هذا حديثٌ حسنٌ صحيحٌ غريبٌ لاَ نَعْرِفُهُ إِلاّ مِنْ حَدِيثِ مَالِكِ بن أَنَسٍ. وابو حُنَيْنٍ هُوَ عُبَيْدُ بنُ حُنَيْنٍ.
ـــــــ
ترغيبه ونقل تحسين الترمذي وأقره.
قوله: "أخبرنا إسحاق بن سليمان" الرازي أبو يحيى "عن عبيد الله بن عبد الرحمن" يقال اسم جده السائب بن عمير صدوق من السادسة "عن ابن حنين" اسمه عبيد كما صرح به الترمذي فيما بعد وصرح مالك أيضاً في روايته حيث قال عن عبيد الله بن عبد الرحمن عن عبيد بن حنين مولى آل زيد بن الخطاب الخ. وقال الحافظ في التقريب: عبيد بن حنين بنونين مصغراً المدني أبو عبد الله ثقة قليل الحديث من الثالثة. ووقع في النسخة الأحمدية عن أبي حنين وهو غلط لأنه ليس في الكتب الستة راو كنيته أبو حنين.
قوله: "وجبت" أي له "قلت ما وجبت" أي ما معنى قولك جزاء لقراءته وجبت أو ما فاعل وجبت "قال الجنة" أي بمقتضى وعد الله وفضله الذي لا يخلفه كما قال الله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لا يُخْلِفُ الْمِيعَادَ} .
قوله: "هذا حديث حسن صحيح غريب" وأخرجه مالك والنسائي والحاكم وقال صحيح الإسناد "وابن حنين هو الخ" وقع في النسخة الأحمدية أبو حنين مكان ابن حنين وهو غلط كما عرفت.(8/209)
3062- حدثنا محمدُ بنُ مَرْزُوقٍ البَصْرِيّ أخبرنا حَاتِمُ بنُ مَيْمُونٍ أَبُو سَهْلٍ عن ثَابِتٍ الْبُنَانِيّ عن أَنَسِ بنِ مَالِكٍ عن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال: "مَنْ قَرَأَ كلّ يَوْمٍ مَائَتَيْ مَرّةٍ: قُلْ هُوَ الله أَحَدٌ. مُحيَ عَنْهُ ذُنُوبُ خَمْسِينَ سَنَةً إِلاّ أَنْ يَكُونَ عَلَيْهِ دَيْنٌ" وبهذا الإِسْنَادِ عن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال: "مَنْ أَرَادَ أَنْ يَنَامَ عَلَى فِرَاشِهِ فَنَامَ عَلَى يَمِينِهِ ثمّ قَرَاً قُلْ هُوَ الله أَحَدٌ. مائة مَرّةٍ إِذا كَانَ يَوْمُ القِيَامَةِ يَقُولُ لَهُ الرّبّ تَبَارَكَ وَتَعَالَى يَا عَبْدِي ادْخُل عَلَى يَمِينِكَ الْجَنّةَ" .
ـــــــ
قوله: "حدثنا محمد بن مرزوق" نسب إلى جده واسم أبيه محمد قال في التقريب: محمد بن محمد بن مرزوق الباهلي البصري ابن بنت مهدي وقد ينسب لجده مرزوق صدوق له أوهام من الحادية عشرة "أخبرنا حاتم بن ميمون أبو سهل" الكلابي البصري صاحب السقط بفتح المهملة والقاف ضعيف من الثامنة.
قوله: "من قرأ كل يوم مائتي مرة قل هو الله أحد" أي إلى آخره أو هذه السورة "محى عنه" أي عن كتاب أعماله "إلا أن يكون عليه دين" قال الشيخ عبد الحق ما محصله: إن لهذا الاستثناء معنيين: الأول أن هذا الذنب أي الدين لا يمحى عنه ولا يغفر، وجعل الدين من جنس الذنوب تهويلاً لأمره، والثاني أنه محى عنه ذنوبه إذا كان عليه الدين ولا تؤثر قراءة هذه السورة في محوها.
قوله: "من أراد أن ينام على فراشه فنام" قال الطيبي: الفاء للتعقيب وجزاء الشرط شرط مع جزائه أي قوله فإذا كان يوم القيامة ولم يعمل الشرط الثاني في جزائه أعني يقول لأن الشرط ماض فلم يعمل فيه إذا فلا يعمل في الجزاء كما في قول الشاعر:
وإن أتاه خليل يوم مسغبة ... يقول لا غائب مالي ولا حرم
"على يمينه" أي على وجه السنة "أدخل على يمينك الجنة" قال الطيبي: قوله على يمينك حال من فاعل أدخل فطابق هذا قوله فنام على يمينه يعني إذا أطعت(8/210)
هذا حديثٌ غريبٌ من حديثِ ثَابِتٍ عن أَنَسٍ وَقَدْ رُوِيَ هَذَا الْحَدِيثُ مِنْ غَيْرِ هَذَا الْوَجْهِ أَيْضَاً عَنْ ثَابِتٍ.
3063- حدثنا محمدُ بنُ بَشّار أخبرنا يَحْيىَ بنُ سَعِيد أخبرنا يَزِيدُ بْنُ كَيْسَانَ حدثني أَبُو حَازِم عن أَبي هُرَيْرَةَ قالَ: قالَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم: "احْشُدُوا فَإِنّي سَأَقْرأُ عَلَيْكُمْ ثُلُثَ القُرْآنِ ، قالَ فَحَشَدَ مَنْ حَشَدَ ثمّ خَرَجَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم فَقَرَأَ: قُلْ هُوَ الله أَحَدٌ . ثمّ دَخَلَ فَقَالَ بَعْضُنَا لِبَعْض قَالَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم فَإِنّي سَأَقْرَأُ عَلَيْكُمْ ثُلُثَ القُرْآنِ، إِنّي لأَرَى هَذَا خَبَرٌ جَاءَهُ مِنَ السّمَاءِ ثمّ خَرَجَ نبيّ الله صلى الله عليه وسلم فقال: إِنّي قُلْتُ سَأَقْرَأُ عَلَيْكُمْ ثُلُثَ القُرْآنِ أَلاَ وَإِنّهَا تُعْدَلُ بِثُلُثِ القُرْآنِ" .
ـــــــ
رسولي واضطجعت على يمينك وقرأت السورة التي فيها صفاتي فأنت اليوم من أصحاب اليمين فاذهب من جانب يمينك إلى الجنة.
قوله: "هذا حديث غريب" في سنده حاتم بن ميمون وهو ضعيف كما عرفت.
قوله: "أخبرنا يحيى بن سعيد" هو القطان "أخبرنا يزيد بن كيسان" اليشكري أبو إسماعيل أو أبو منين بنون مصغراً الكوفي صدوق يخطئ من السادسة.
قوله: "أحشدوا" أي اجتمعوا واستحضروا الناس، والحشد الجماعة واحتشد القوم لفلان تجمعوا له وتأهبوا كذا في النهاية. وقال في الصراح: الحشد من باب ضرب يضرب ونصر ينصر وحشدوا أي اجتمعوا واحتشدوا وتحشدوا كذلك انتهى "ثم خرج" أي من الحجرة الشريفة "إني لأرى" بفتح اللام وضم الهمزة وفتح الراء أي لأظن "هذا خبراً جاءه من السماء" زاد في رواية مسلم فذلك الذي أدخله.(8/211)
هذا حديثٌ حسنٌ صحيحٌ غريبٌ من هذا الوجهِ وَأَبُو حَازِمٍ الأَشْجَعِيّ اسْمُهُ سَلْمَانُ.
3064- حدثنا الْعَبّاسُ بنُ محمد الدّوْرِيّ أخبرنا خَالِدُ بْنُ مَخْلَدٍ أخبرنا سُلَيْمَانُ بنُ بِلاَلٍ حدثني سُهَيْلُ بنُ أَبِي صَالحٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ أَبي هُرَيْرَةَ قالَ: قالَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم: "قُلْ هُوَ الله أَحَدٌ تَعْدِلُ ثُلُثَ القُرْآنِ" . هذا حديثٌ حسنٌ صحيحٌ.
3065- حدثنا محمدُ بنُ إسْمَاعِيلَ أخبرنا إسْمَاعِيلَ بنُ أَبي أُوَيْسٍ حدثني عَبْدُ الْعَزِيز بنُ محمدٍ عنْ عُبَيْدِ الله بنِ عُمَرَ عن ثَابِتٍ البُنَانِيّ عن أَنَسِ بنِ مالِكٍ قال: "كَانَ رَجُلٌ مِنَ الانْصَارِ يَؤُمّهُمْ في مَسْجِدِ قِبَاءَ فَكَانَ كلّمَا افْتَتَحَ سُورَةً فَقْرَأُ لَهُمْ في الصّلاَةِ يَقْرأُ بهَا افْتَتَحَ بِقُلْ هُوَ الله أَحَدٌ. حَتّى يَفْرُغَ مِنْهَا ثمّ يَقْرَأُ بسُورَةَ أُخْرَى مَعَهَا وَكَانَ يَصْنَعُ ذَلِكَ
ـــــــ
قوله: "هذا حديث حسن صحيح غريب" وأخرجه مسلم.
قوله: "أخبرنا خالد بن مخلد" القطواني بفتح القاف والطاء أبو الهيثم البجلي مولاهم الكوفي صدوق يتشبع وله أفراد من كبار العاشرة.
قوله: "هذا حديث حسن صحيح" وأخرجه ابن ماجه.
قوله: "حدثنا محمد بن إسماعيل" هو الإمام البخاري رحمه الله "حدثني عبد العزيز بن محمد" هو الدراوردي "عن عبيد الله بن عمر" هو العمري.
قوله: "فكان كلما افتتح سورة يقرأ لهم في الصلاة يقرأ بها افتتح بقل هو الله أحد" وفي رواية البخاري: وكان كلما افتتح سورة يقرأ بها لهم في الصلاة مما يقرأ به افتتح بقل هو الله أحد. قال الحافظ: قوله مما يقرأ به أي من السورة بعد الفاتحة، فلفظ البخاري هذا معناه واضح وأما لفظ الترمذي فالظاهر أن في(8/212)
في كُلّ رَكْعَةٍ، فَكَلّمَهُ أَصحَابُهُ فَقَالُوا إِنّكَ تَقْرَأُ بِهَذَهِ السّورَةِ ثمّ لاَ تَرَى أَنّهَا تُجْزِئُكَ حَتّى تَقْرَأَ بِسُورَةٍ أُخْرَى فَإِمّا أَنْ تَقْرَأُ بِهَا وَإِمّا أَنْ تَدَعَهَا وَتَقْرَأَ بِسُورَةٍ أُخْرَى، قالَ: مَا أَنَا بِتَارِكِهَا إِنْ أَحْبَبْتُمْ أَنْ أَؤُمّكُمْ بِهَا فَعَلْتُ وَإِنْ كَرِهْتُمْ تَرَكْتُكُمْ. وَكَانُوا يَرَوْنَهُ أَفْضَلَهُمْ وَكَرِهُوا أَنْ يَؤُمّهُمْ غَيْرُهُ، فَلَمّا أَتَاهُم النبيّ صلى الله عليه وسلم أَخْبَرُوهُ الْخَبَرَ فَقَالَ: "يَا فَلاَنُ مَا يَمْنَعُكَ ممّا يَامُرُ بِهِ أَصْحَابُكَ، وَمَا يَحْمِلُكَ أَنْ تَقْرَأَ هَذِهِ السّورَةَ في كُلّ رَكْعَةٍ؟" فقال يَا رَسُولَ الله إِنّي أُحِبّهَا، فقال رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم: إِنّ حُبّهَا أَدْخَلَكَ الْجَنّة" .
هذا حديثٌ حسنٌ غريبٌ صحيحٌ مِن هَذَا الْوَجْهِ مِنْ حَدِيثِ عُبَيْدِ الله بنِ عُمَرَ عَنْ ثَابِتٍ البُنَانِيّ. وقد روى مُبَارَكُ بْنُ فَضَالَةَ عن ثَابِتٍ البُنَانِيّ
ـــــــ
قوله يقرأ بها تكراراً فتفكر "فكلمه أصحابه" يظهر منه أن صنيعه ذلك خلاف ما ألفوه من النبي صلى الله عليه وسلم "فقالوا إنك تقرأ بهذه السورة" أي سورة قل هو الله أحد "مما يأمر به أصحابك" أي يقولون لك ولم يرد الأمر بالصيغة المعروفة لكنه لازم من التخيير الذي ذكروه كأنهم قالوا له افعل كذا وكذا "وما يحملك أن تقرأ هذه السورة في كل ركعة" وفي رواية البخاري: وما يحملك على لزوم هذه السورة في كل ركعة. قال الحافظ: سأله عن أمرين فأجابه بقوله إني أحبها وهو جواب عن الثاني مستلزم للأول بانضمام شيء آخر وهو إقامته السنة المعهودة في الصلاة فالمانع مركب من المحبة والأمر المعهود والحامل على الفعل المحبة وحدها "إن حبها أدخلك الجنة" دل تبشيره له بالجنة على الرضا بفعله، وعبر بالفعل الماضي في قوله أدخلك وإن كان دخول الجنة مستقبلاً تحقيقاً لوقوع ذلك.
قوله: "هذا حديث حسن غريب" وأخرجه البخاري معلقاً والبزار والبيهقي.
تنبيه: روى الشيخان عن عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم بعث رجلاً على(8/213)
عن أَنَسٍ "أَنّ رَجُلا قالَ يَا رَسُولُ الله إِنّي أُحِبّ هَذِهِ السُورَةَ قُلْ هُوَ الله أَحَدٌ، فقال: إِنّ حُبّكَ إِيّاهَا يُدْخِلُكَ الْجَنّة" .
ـــــــ
سرية وكان يقرأ لأصحابه في صلاتهم فيختم بقل هو الله أحد، فلما رجعوا ذكروا ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم فقال: "سلوه لأي شيء يصنع ذلك" فسألوه فقال: لأنها صفة الرحمن، وأنا أحب أن أقرأها، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "أخبروه أن الله يحبه" ، والظاهر أن قصة حديث عائشة هذا وقصة حديث أنس رضي الله عنه المذكور في الباب قصتان متغايرتان لا أنهما قصة واحدة، ويدل على تغايرهما أن في حديث الباب: أنه كان يبدأ بقل هو الله أحد. وفي حديث عائشة، أن أمير السرية كان يختم بها، وفي هذا أنه كان يصنع ذلك في كل ركعة، ولم يصرح بذلك في قصة الآخر، وفي هذا أن النبي صلى الله عليه وسلم سأله، وفي حديث عائشة أنه صلى الله عليه وسلم أمرهم أن يسألوا أميرهم، وفي هذا أنه قال إنه يحبها فبشره بالجنة، وأمير السرية قال: إنها صفة الرحمن فبشره بأن الله يحبه، والله تعالى أعلم.(8/214)
12- باب مَا جَاءَ في المَعوّذَتَين
3066- حدثنا محمد بن بشار أخبرنا يَحْيىَ بن سَعِيدٍ أخبرنا إسْمَاعِيلُ بنُ أَبي خَالِدٍ أَخْبَرَنِي قَيْسُ بنُ أَبي حَازِمٍ عن عُقْبَةَ بنِ عَامِرٍ الْجُهَنِيّ عن النبيّ صلى الله عليه وسلم قالَ: "قَدْ أَنْزَلَ الله عَلَيّ آيَاتٍ لَمْ يُرَ مِثْلُهُنّ،
ـــــــ
باب مَا جَاءَ في المَعوّذَتَين
بكسر الواو المشددة أي قل أعوذ برب القلق وقل أعوذ برب الناس
قوله: "حدثنا يحيى بن سعيد" هو القطان.
قوله: "لم ير مثلهن" بصيغة المجهول وبرفع مثلهن أي في بابها وهو التعوذ، يعني لم يكن آيات سورة كلهن تعويذاً للقارئ غير هاتين السورتين، ولذلك كان صلى الله عليه وسلم يتعوذ من عين الجان وعين الإنسان فلما نزلت المعوذتان أخذهما وترك ما سواهما، ولما سحر استشفى بهما. وإنما كان كذلك لأنهما من(8/214)
{قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ} إلى آخِرِ السّورَةِ، و {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ} إلى آخِرِ السّورَةِ". هذا حديثٌ حسنٌ صحيحٌ.
3067- حدثنا قُتَيْبَةُ أخبرنا ابنُ لَهِيْعَةَ عن يَزِيدَ بنِ أَبي حَبِيبٍ عن عَلِيّ بنِ رَبَاحٍ عن عُقْبَةَ بنِ عَامِرٍ قالَ: "أَمَرَنِي رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم أَنْ أَقْرَأَ بِالمُعَوّذَتَيْنِ فِي دُبُرِ كُلّ صَلاَةِ" . هذا حديثٌ حسنٌ غريبٌ.
ـــــــ
الجوامع في هذا الباب "قل أعوذ برب الناس إلى آخر السورة الخ" خبر مبتدأ أي هي قل أعوذ برب الناس الخ وفي الحديث بيان عظم فضل هاتين السورتين وفيه دليل واضح على كونهما من القرآن، وفيه أن لفظة قل من القرآن ثابتة من أول السورتين بعد البسلمة، وقد اجتمعت الأمة على هذا كله.
قوله: "هذا حديث حسن صحيح" وأخرجه أحمد ومسلم والنسائي.
قوله: "عن علي بن رباح" بفتح العين مكبراً والمشهور بضم العين مصغراً وكان يغضب منها "في دبر كل صلاة" بضم الدال والموحدة أي في عقب كل صلاة.
قوله: "هذا حديث غريب" وفي بعض النسخ حسن غريب وأخرجه أحمد وأبو داود والنسائي والبيهقي في الدعوات الكبير.(8/215)
باب ما جاء في فضل قلريء القرآن
...
13- باب ما جَاءَ فِي فَضْلِ قارئ الْقُرْآن
3068- حدثنا مَحمُودُ بنُ غَيْلاَنَ أخبرنا أَبُو دَاودَ الطّيَالِسِي أخبرنا شُعْبَةُ وَهِشَامٌ عن قَتَادَةَ عن زُرَارَةَ بنِ أَوْفَى عن سَعْدِ بنِ هِشَامٍ عن عَائِشَةَ
ـــــــ
باب ما جَاءَ فِي فَضْلِ قارئ الْقُرْآن
قوله: "وهشام" هو الدستوائي.(8/215)
قَالَتْ: قالَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم: "الّذِي يَقْرَأُ القُرْآنَ وَهُوَ مَاهِرٌ بِهِ مَعَ السّفَرَةِ الكِرَامِ الْبَرَرةِ، وَالّذِي يَقْرَأُهُ - قَالَ هِشَامٌ - وَهُوَ شَدِيدٌ عَلَيْهِ - قالَ شُعْبَةُ - وَهُوَ عَلَيْهِ شَاقٌ له أَجْرَانِ" .
هذا حديثٌ حسنٌ صحيحٌ.
ـــــــ
قوله: "الذي يقرأ القرآن وهو ماهر به" وفي رواية البخاري: مثل الذي يقرأ القرآن وهو حافظ له. قال النووي: الماهر الحاذق الكامل الحفظ الذي لا يتوقف ولا يشق عليه القراءة لجودة حفظه وإتقانه "مع السفرة الكرام البررة" السفرة جمع سافر ككاتب وكتبة والسافر الرسول والسفرة الرسل لأنهم يسفرون إلى الناس برسالات الله وقيل السفرة الكتبة والكرام جمع الكريم أي المكرمين على الله المقربين عنده لعصمتهم ونزاهتهم عن دنس المعصية والمخالفة، والبررة جمع البار وهم المطيعون من البر وهو الطاعة قال القاضي. يحتمل أن يكون معنى كونه مع الملائكة أن له في الآخرة منازل يكون فيها رفيقاً للملائكة السفرة لاتصافه بصفتهم من حمل كتاب الله تعالى، قال ويحتمل أن يراد أنه عامل بعملهم وسالك مسلكهم "والذي يقرأه قال هشام" أي في روايته "وهو شديد عليه" أي يصيبه شدة ومشقة "قال شعبة" أي في روايته "وهو عليه شاق" وفي رواية مسلم: "والذي يقرأ القرآن ويتتعتع فيه وهو عليه شاق". قال النووي: وأما الذي يتتعتع فيه فهو الذي يتردد في تلاوته لضعف حفظه "فله أجران" أجر القراءة وأجر بتعتعته في تلاوته ومشقته، قال القاضي وغيره من العلماء: وليس معناه أن الذي يتتعتع عليه له من الأجر أكثر من الماهر به، بل الماهر أفضل وأكثر أجراً لأنه مع السفرة وله أجور كثيرة، ولم يذكر هذه المنزلة لغيره، وكيف يلحق به من لم يعتن بكتاب الله تعالى وحفظه وإتقانه وكثرة تلاوته ودرايته، كاعتنائه حتى مهر فيه.
قوله: "هذا حديث حسن صحيح" وأخرجه الشيخان وأبو داود والنسائي وابن ماجه.(8/216)
3069- حدثنا عَلِيّ بنُ حُجْرٍ أخبرنا حَفْصُ بنُ سُلَيْمَانَ عن كَثِيرِ بنِ زَاذَانَ عن عَاصِمِ بنِ ضَمْرَةَ عن عَلِيّ بنِ أَبي طَالِبٍ قالَ: قالَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم: "مَنْ قَرَأَ القُرْآنَ واستظهره فَأَحَلّ حَلاَلَهُ، وَحَرّمَ حَرَامَهُ أَدْخَلَهُ الله بِهِ الْجَنّةَ، وَشَفّعَهُ فِي عَشْرَةٍ مِنْ أَهْلِ بَيْتِهِ كُلّهُمْ وَجَبَتْ لَهُ النّارُ" .
هذا حديثٌ غريبٌ لاَ نَعْرِفُهُ إِلاّ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ، وَلَيْسَ إِسْنَادَهُ بصحيحٌ. وَحَفْصُ بنُ سُلَيْمَانَ أَبُو عُمَرَ بَزَازٌ كُوفيٌ يُضَعّفُ فِي الْحَدِيثِ.
ـــــــ
قوله: "عن كثير بن زادان" النخعي الكوفي مجهول من السابعة.
قوله: "من قرأ القرآن فاستظهره" أي حفظه، تقول: قرأت القرآن عن ظهرٍ قلبي، أي قرأته من حفظي. قاله الجزري "فأحل حلاله وحرم حرامه" أي اعتقد حلاله حلالا وحرامه حراماً "أدخله الله به الجنة" أي في أول الوهلة "وشفعه" بالتشديد، أي قبل شفاعته "في عشرة من أهل بيته كلهم" أي كل العشرة "قد وجبت له النار" إفراد الضمير للفظ الكل. قال الطيبي: فيه رد على من زعم أن الشفاعة إنما تكون في رفع المنزلة دون حط الوزر بناء على ما افتروه أن مرتكب الكبيرة، يجب خلوده في النار ولا يمكن العفو عنه والوجوب هنا على سبيل المواعدة.
قوله: "هذا حديث غريب" وأخرجه أحمد وابن ماجه والدارمي "وحفص ابن سليمان الخ" قال في التقريب: حفص بن سلمان الأسدي أبو عمر البزار الكوفي الغاضري بمعجمتين. وهو حفص بن أبي داود القارى صاحب عاصم، ويقال له حفيص متروك الحديث مع إمامته في القراءة من الثامنة.(8/217)
14- باب مَا جَاءَ فِي فَضْلِ القُرآن
3070- حدثنا عَبْدُ بنُ حُمَيْدٍ أخبرنا حُسَيْنُ بنُ عَلِيّ الجُعْفيّ أخبرنا حَمْزَةُ الزّيّاتُ عن أَبي المُخْتَارِ الطّائِيّ عن ابنِ أَخي الْحَارِثِ الأَعْوَرِ عن الحارِثِ الاعْوَرِ قالَ: مَرَرْتُ فِي المَسْجِدِ فَإِذَا النّاسُ يَخُوضُونَ فِي الأَحَادِيثِ فَدَخَلْتُ عَلَى عَلِي، فَقلت: يَا أَمِيرَ المُؤْمِنِينَ أَلاَ تَرَى النّاسَ قَدْ خَاضُوا فِي الاحَادِيثِ؟ قالَ: وقد فَعَلُوهَا؟ قلت: نَعَمْ، قالَ: أَمَا إِني قد سَمِعْتُ رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: "أَلاَ إِنّهَا سَتَكُونُ فِتْنَةٌ،
ـــــــ
باب مَا جَاءَ فِي فَضْلِ القُرآن
قوله: "عن أبي المختار الطائي" قيل اسمه سعد مجهول من السادسة "عن ابن أخي حارث الأعور" مجهول من السادسة. قال في تهذيب التهذيب: ابن أخي الحارث الأعور روى عن الحارث عن علي، وروى عنه أبو المختار الطائي لم يسم لا هو ولا أبوه.
قوله: "مررت في المسجد"، قال الطيبي: في المسجد ظرف والمرور به محذوف يدل عليه قوله: "فإذا الناس يخوضون في الأحاديث"، أي أحاديث الناس وأباطيلهم من الأخبار والحكايات والقصص ويتركون تلاوة القرآن وما يقتضيه من الأذكار والآثار، والخوض أصله الشروع في الماء والمرور فيه ويستعار الشروع في الأمور وأكثر ما ورد في القرآن، ورد فيما يذم الشروع فيه نحو قوله تعالى: {ذَرْهُمْ فِي خَوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ} "وقد فعلوها؟".
قال الطيبي: أي ارتكبوا هذه الشنيعة وخاضوا في الأباطيل، فإن الهمزة والواو العاطفة يستدعيان فعلاً منكراً معطوفاً عليه، أي فعلوا هذه الفعلة الشنيعة وقال القارى: أي أتركوا القرآن وقد فعلوها، أي وخاضوا في الأحاديث "أما" للتنبيه "ألا" للتنبيه أيضاً "إنها" الضمير للقصة "ستكون فتنة" أي عظيمة. قال ابن الملك: يريد بالفتنة ما وقع بين الصحابة أو خروج التتار أو الدجال أو(8/218)
فَقلت: مَا المَخْرَجُ مِنْهَا يَا رَسُولَ الله؟ قالَ: كِتَابُ الله فِيهِ نَبَأُ مَا كان قَبْلَكُمْ، وَخَبَرُ مَا بَعْدَكُمْ وَحُكْمُ مَا بَيْنَكُمْ، وَهُوَ الفَصْلُ لَيْسَ بِالْهَزْلِ مَنْ تَرَكَهُ مِنْ جَبّارٍ قَصَمَهُ الله، وَمَنْ ابَتَغَى الهُدَى فِي غَيْرِهِ أَضَلّهُ الله، وَهُوَ حَبْلُ الله
ـــــــ
دابة الأرض انتهى. قال القاري: وغير الأول لا يناسب المقام كما لا يخفى "فقلت ما المخرج منها" بفتح الميم، اسم ظرف أو مصدر ميمي، أي ما طريق الخروج والخلاص من الفتنة يا رسول الله. قال الطيبي: أي موضع الخروج أو السبب الذي يتوصل به إلى الخروج عن الفتنة "قال كتاب الله" أي طريق الخروج منها تمسك كتاب الله على تقدير مضاف "فيه نبأ ما قبلكم" أي من أحوال الأمم الماضية "وخبر ما بعدكم" وهي الأمور الآتية من أشراط الساعة وأحوال القيامة وفي العبارة تفنن "وحكم بينكم" بضم الحاء وسكون الكاف، أي حاكم ما وقع أو يقع بينكم من الكفر والإيمان والطاعة والعصيان. والحلال والحرام وسائر شرئع الاسلام "وهو الفصل" أي الفاصل بين الحق والباطل أو المفصول والمميز فيه الخطأ والصواب، وما يترتب عليه الثواب والعذاب، وصف بالمصدر مبالغة "ليس بالهزل" أي جد كله، وحق جميعه لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه. والهزل في الأصل القول المعرى عن المعنى المرضي، واشتقاقه من الهزال ضد السمن، والحديث مقتبس من قوله تعالى {إِنَّهُ لَقَوْلٌ فَصْلٌ وَمَا هُوَ بِالْهَزْلِ} "من تركه " أي القرآن إيماناً وعملاً " من جبار" بين التارك بمن جبار ليدل على أن الحامل له على الترك إنما هو التجبر والحماقة.
قال الطيبي: من ترك العمل بآية أو بكلمة من القرآن مما يجب العمل به أو ترك قراءتها من التكبر كفر، ومن ترك عجزاً أو كسلاً أو ضعفاً مع اعتقاد تعظيمه فلا إثم عليه، أي بترك القراءة ولكنه محروم، كذا في المرقاة "قصمه" أي أهلكه أو كسر عنقه، وأصل القصم الكسر والإبانة "ومن ابتغى الهدى" أي طلب الهداية من الضلالة "في غيره" من الكتب والعلوم التي غير مأخوذة منه ولا موافقة معه "أضله الله" أي عن طريق الهدى وأوقعه في سبيل الردى(8/219)
المَتِينُ، وَهُوَ الذّكْرُ الْحَكِيمُ، وَهُوَ الصّرَاطُ المُسْتَقِيمُ، هُوَ الّذِي لاَ تَزِيعُ بِهِ الأَهْوَاءُ، وَلاَ تَلْتَبِسُ بِهِ الالْسِنَةُ، وَلاَ يَشْبَعُ مِنْهُ الْعُلَمَاءُ، وَلاَ يَخْلُقُ عَلى كَثْرَةِ الرّدّ، وَلاَ تَنْقَضَي عَجَائِبُهُ، هُوَ الّذِي لَمْ تَنْتَهِ الْجِنّ إِذْ سَمِعَتْهُ
ـــــــ
"وهو" أي القرآن "حبل الله المتين" أي الحكم القوي، والحبل مستعار للوصل ولكل ما يتوصل به إلى شيء، أي الوسيلة القوية إلى معرفة ربه وسعادة قربه "وهو الذكر" أي ما يذكر به الحق تعالى، أو ما يتذكر به الخلق، أي يتعظ، "الحكيم" أي ذو الحكمة "هو الذي لا تزيغ" بالتأنيث والتذكير أي لا تميل عن الحق "به" أي باتباعه "الأهواء" أي الهوى إذا وافق هذا الهدى حفظ من الردى، وقيل: معناه لا يصير به مبتدعاً وضالاً، يعني لا يميل بسببه أهل الأهواء والاَراء. وقال الطيبي: أي لا يقدر أهل الأهواء على تبديله وتغييره وإمالته، وذلك إشارة إلى وقوع تحريف الغالين وانتحال المبطلين وتأويل الجاهلين، فالباء للتعدية، وقيل الرواية من الإزاغة بمعنى الإمالة والباء لتأكيد التعدية، أي لا تميله الأهواء المضلة عن نهج الاستقامة إلى الإعوجاج وعدم الإقامة، كفعل اليهود بالتوراة حين حرفوا الكلم عن مواضعه لأنه تعالى تكفل بحفظه، قال تعالى: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} "ولا تلتبس به الألسنة" أي لا تتعسر عليه ألسنة المؤمنين ولو كانوا من غير العرب قال تعالى: {فَإِنَّمَا يَسَّرْنَاهُ بِلِسَانِكَ} {وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ} وقيل لا يختلط غيره بحيث يشتبه الأمر، ويلتبس الحق بالباطل فإن الله تعالى يحفظه، أو يشتبه كلام الرب بكلام غيره لكونه كلاماً معصوماً دالاً على الإعجاز "ولا يشبع منه العلماء" أي لا يصلون إلى الإحاطة بكنهه حتى يقفوا عن طلبه وقوف من يشبع من مطعوم بل كلما اطلعوا على شيء من حقائقه اشتاقوا إلى آخر أكثر من الأول، وهكذا فلا شبع ولا سآمة "ولا يخلق" بفتح الياء وضم اللام، وبضم الياء وكسر اللام من خلق الثوب إذا بلى، وكذلك أخلق "عن كثرة الرد" ، أي لا تزول لذة قراءته وطراوة تلاوته، واستماع أذكاره وأخباره من كثرة تكراره.
قال القاري: وعن على بابها، أي لا يصدر الخلق من كثرة تكراره كما هو(8/220)
حَتّى قالُوا {إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآناً عَجَباً يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآمَنَّا بِهِ} ، مَنْ قالَ بِهِ صَدَقَ، وَمَنْ عَمِلَ بِهِ أُجِرَ، وَمَنْ حَكَمَ بِهِ عَدَلَ، وَمَنْ دَعَا إِلَيْهِ هُدِيَ إلى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ" خُذْهَا إِلَيْكَ يَا أَعْوَرُ.
هذا حديثٌ غريبٌ لاَ نَعْرِفُهُ إِلا مِنْ هذا الوجه، وَإِسْنَادُهُ مَجْهُولٌ. وَفي حَدِيثِ الْحَارِثِ مَقَالٌ.
ـــــــ
شأن كلام غيره تعالى، وهذا أولى مما قاله ابن حجر، من أن عن بمعنى مع انتهى. قلت: قد وقع في بعض نسخ الترمذي على مكان عن، وهو يؤيد ما قاله ابن حجر "ولا تنقضي عجائبه" أي لا ينتهي غرائبه التي يتعجب منها، قيل كالعطف التفسيري للقرينتين السابقتين ذكره الطيبي "هو الذي لم تنته الجن" أي لم يقفوا ولم يلبثوا "إذ سمعته" أي القرآن "حتى قالوا" أي لم يتوقفوا ولم يمكثوا وقت سماعهم له عنه بل أقبلوا عليه لما بهرهم من شأنه، فبادروا إلى الإيمان على سبيل البداهة لحصول العلم الضروري، وبالغوا في مدحه حتى قالوا " إنا سمعنا قرآناً عجبا " أي شأنه من حيثية جزالة المبني، وغزارة المعنى "يهدي إلى الرشد" أي يدل على سبيل الصواب أو يهدي الله به الناس إلى طريق الحق "فآمناً به" أي بأنه عن عبد الله ويلزم منه الإيمان برسول الله "من قال به" من أخبر به "صدق" أي في خبره، أو من قال قولاً ملتبساً به، بأن يكون على قواعده، ووفق قوانينه وضوابطه صدق "ومن عمل به" أي بما دل عليه "أجر" أي أثيب في عمله أجراً عظيماً وثواباً جسيماً، لأنه لا يحث إلا على مكارم الأخلاق والأعمال ومحاسن الاَداب "ومن حكم به" أي بين الناس "عدل" أي في حكمه لأنه لا يكون إلا بالحق "ومن دعا إليه هدي إلى صراط مستقيم" قال في اللمعات: روى مجهولاً أي من دعا الناس إلى القرآن وفق للهداية، وروى معروفاً كأن المعنى من دعا الناس إليه هداهم انتهى "خذها" أي هذه الكلمات الطيبات واحفظها "يا أعور" هو الحارث الأعور.
قوله: "هذا حديث غريب" وأخرجه الدارمي "وإسناده مجهول" لجهالة أبي المختار الطائي وابن أخي الحارث الأعور "وفي حديث الحارث مقال" قال الحافظ في ترجمته كذبه الشعبي في رأيه ورمى بالرفض، وفي حديثه ضعف.(8/221)
باب ماجاء في تعليم القرآن
...
15- باب مَا جَاءَ في تَعْلِيمِ القُرْآن
3071- حدثنا مَحمُودُ بنُ غَيْلاَنَ أخبرنا أَبُو دَاودَ أنْبَأَنَا شُعْبَةُ أَخْبَرَنِي عَلْقَمَةُ بنُ مَرْثَدٍ، قالَ: سَمِعْتُ سَعْدَ بنَ عُبَيْدَةَ يُحَدّثُ عن أَبي عَبْد الرّحْمَن عن عُثْمَانَ بنِ عَفّانَ أَنّ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم قالَ: "خَيْرُكُمْ مَنْ تَعَلّمَ القُرْآنَ وَعَلّمَهُ" قالَ أَبُو عَبْد الرّحْمَن فَذَاكَ
ـــــــ
باب مَا جَاءَ في تَعْلِيمِ القُرْآن
قوله: "أخبرنا أبو داود" هو الطيالسي "قال سمعت سعد بن عبيدة" بضم العين مصغراً السلمي. "يحدث عن أبي عبد الرحمن السلمي" اسمه عبد الله ابن حبيب.
قوله: "خيركم من تعلم القرآن وعلمه" قال الطيبي: أي خير الناس باعتبار التعلم والتعليم، من تعلم القرآن وعلمه انتهى. قال القارى في المرقاة: ولا يتوهم أن العمل خارج عنهما لأن العلم إذا لم يكن مؤرثاً للعمل ليس علماً في الشريعة إذ أجمعوا على أن من عصى الله فهو جاهل انتهى. قال الحافظ: فإن قيل يلزم أن يكون المقرئ أفضل من الفقيه، قلنا لا لأن المخاطبين بذلك كانوا فقهاء النفوس لأنهم كانوا أهل اللسان، فكانوا يدرون معاني القرآن بالسليقة أكثر مما يدريها من بعدهم بالاكتساب، فكان الفقه لهم سجية، فمن كان في مثل شأنهم شاركهم في ذلك لا من كان قارئاً أو مقرئاً محضاً لا يفهم شيئاً من معاني ما يقرأه أو يقرئه، فإن قيل فيلزم أن يكون المقرئ أفضل ممن هو أعظم عناء في الإسلام بالمجاهدة والرباط والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر مثلاً، قلنا حرف المسألة يدور على النفع المتعدي، فمن كان حصوله عنده أكثر كان أفضل، فلعل من مضمرة في الخبر، ويحتمل أن تكون الخيرية وإن أطلقت لكنها مقيدة بناس مخصوصين خوطبوا بذلك، كان اللائق بحالهم ذلك، أو المراد خير المتعلمين من يعلم غيره لا من يقتصر على نفسه. انتهى.(8/222)
الّذِي أَقْعَدَنِي مَقْعَدِي هَذَا، وَعَلّمَ الْقُرْآنَ فِي زمن عُثْمَانَ حَتّى بَلَغَ الْحَجّاجَ بنَ يُوسُفَ. هذا حديثٌ حسنٌ صحيحٌ.
3072- حدثنا مَحمُودُ بنُ غَيْلاَنَ أخبرنا بشْرُ بنُ السّرِيّ أخبرنا سُفْيَانُ عن عَلْقَمَةَ بنِ مَرْثدٍ عن أَبي عَبْد الرّحْمَنِ السلمي عن عُثْمَانَ بنِ عفّان قالَ: قالَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم: "خَيْرُكُمْ أوْ أَفْضَلُكُمْ مَنْ تَعَلّمَ القُرْآنَ وَعلّمَهُ" .
هذا حديثٌ حسنٌ صحيحٌ. هَكَذَا رَوَى عَبْد الرّحْمَن بنُ مَهْدِي، وَغَيْرُ واحِدٍ عن سُفْيَانَ الثّوْرِيّ عن عَلْقَمَةَ بنِ مَرْثَدٍ عن أَبي عَبْد الرّحْمَنِ
ـــــــ
قوله: "قال أبو عبد الرحمن: فذاك الذي أقعدني مقعدي هذا" أي هذا الحديث الذي حدثني به عثمان هو الذي أجلسني مجلسي هذا. يعني هو الذي حملني على جلوسي مجلسي هذا للإقراء "وعلم" أي أبو عبد الرحمن "في زمان عثمان حتى بلغ الحجاج" وفي رواية البخاري: وأقرأ أبو عبد الرحمن في أمرة عثمان حتى كان الحجاج قال الحافظ: أي حتى ولى الحجاج على العراق، قال بين أول خلافة عثمان وآخر ولاية الحجاج اثنتان وسبعون سنة إلا ثلاثة أشهر، وبين آخر خلافة عثمان وأول ولاية الحجاج العراق ثمان وثلاثون سنة ولم أقف على تعيين إبتداء إقراء أبي عبد الرحمن وآخره فالله أعلم بمقدار ذلك، ويعرف من الذي ذكرته أقصى المدة وأدناها، والقائل وأقرأ إلخ. هو سعد بن عبيدة انتهى كلام الحافظ.
قوله: "هذا حديث حسن صحيح" وأخرجه البخاري وأبو داود والنسائي وابن ماجه وغيرهم.
قوله: "أخبرنا سفيان" هو الثوري "عن علقمة بن مرثد عن أبي عبد الرحمن" لم يذكر سفيان سعد بن عبيدة بين علقمة وأبي عبد الرحمن.
قوله: "خيركم أو أفضلكم" شك من بعض الرواة.(8/223)
عن عُثْمَانَ عن النبيّ صلى الله عليه وسلم، وَسُفْيَانُ لاَ يَذْكُرُ فِيهِ عن سَعْدِ بنِ عُبَيْدَةَ. وَقَدْ رَوَى يَحْيىَ بنُ سَعِيدٍ القَطّانُ هَذَا الْحَدِيثَ عن سُفْيَانَ، وَشُعْبَةُ عن عَلْقَمَةَ بنِ مَرْثَدٍ عن سَعْدِ بنِ عُبَيْدَةَ عن أَبي عَبْد الرّحْمَنِ عن عُثْمَانَ عن النبيّ صلى الله عليه وسلم.
3073- حدثنا بِذَلِكَ مُحمّدُ بنُ بَشّارٍ أخبرنا يَحْيىَ بنُ سَعِيدٍ عن سُفْيانَ وَشُعْبَةَ، قالَ مُحمّدُ بنُ بَشّارٍ، وَهَكَذَا ذَكَرَهُ يَحْيىَ بنُ سَعِيدٍ عن سُفْيَانَ وَ شُعْبَةَ غَيْرَ مَرّةٍ عن عَلْقَمَةَ بنِ مَرْثَدٍ عن سَعْدِ بنِ عُبَيْدَةَ عن أَبي عَبْد الرّحْمَن عن عُثْمَانَ عن النبيّ صلى الله عليه وسلم، قالَ مُحمّدُ بنُ بَشّارَ: وأَصْحَابُ سُفْيَانَ لاَ يَذْكرُونَ فِيهِ عن سُفْيَانَ عن سَعْدِ بنِ عُبَيْدَةَ. قالَ مُحمّدُ بنُ بَشّارٍ وَهُوَ أَصَحّ.
قال أبو عيسى: وَقَدْ زَادَ شُعْبَةُ في إِسْنَادِ هَذَا الْحَدِيثِ سَعْدَ بنَ عُبَيْدَةَ، وَكَأَنّ حَدِيثَ سُفْيَانَ. قَالَ عَلِيّ بنُ عَبْدِ الله، قالَ يَحْيىَ
ـــــــ
قوله: "هذا حديث حسن صحيح" وأخرجه البخاري.
قوله: "قال محمد بن بشار وأصحاب سفيان لا يذكرون فيه عن سفيان عن سعد بن عبيدة. قال محمد بن بشار وهو أصح" وهكذا حكم علي بن المديني على يحيى القطان فيه بالوهم. وقال بن عدي. جمع يحيى القطان بين شعبة وسفيان، فالثوري لا يذكر في إسناده سعد بن عبيدة، وهذا مما عد في خطأ يحيى القطان على الثوري قال ابن عدي إن يحيى القطان لم يخطئ قط إلا في هذا الحديث، كذا في الفتح. "قال أبو عيسى: "وقد زاد شعبة في إسناد هذا الحديث سعد بن عبيدة، وكأن حديث سفيان أشبه" والبخاري أخرج الطريقين، فكأنه ترجح عنده أنهما جميعاً محفوظان، فيحمل على أن علقمة سمعه أولاً من سعد، ثم لقي أبا عبد الرحمن فحدثه به أو سمعه مع سعد من أبي عبد الرحمن فثبته فيه سعد قاله الحافظ.(8/224)
ابنُ سَعِيدٍ: مَا أَحَدٌ يَعْدِلُ عِنْدِي شُعْبَةَ، وَإِذَا خَالَفَهُ سُفْيَانُ أَخَذْتُ بِقَوْلِ سُفْيَانَ، سَمِعْتُ أَبَا عَمّارٍ يَذْكُرُ عن وَكِيعٍ، قال: قالَ شُعْبَةُ: سُفْيَانُ أَحْفَظُ مِنّي، وَمَاَ حَدّثَنِي سُفْيَانُ عن أَحَدٍ بِشَيء فَسَأَلَتُهُ إِلاّ وَجَدْتُهُ كَمَا حَدّثَنِي. وفي البابِ عن عَلِيّ وَسَعْدٍ.
3074- حدثنا قُتَيْبَةُ أخبرنا عَبْدُ الْوَاحِدِ بنُ زِيَادٍ عن عَبْد الرّحْمَنِ بنِ إِسْحَاقَ عن النّعْمَانِ بنِ سَعْدٍ عن عَلِيّ بَنِ أَبِي طَالِبٍ قَالَ: قالَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم: "خَيْرُكُمْ مَنْ تَعَلّمَ القُرْآنَ وَعَلّمَهُ" .
ـــــــ
قوله: "قال علي بن عبد الله هو ابن المديني" "قال يحيى بن سعيد" هو القطان "ما أحد يعدل عندي شعبة" أي ليس عندي أحد يساوي شعبة في الحفظ والإتقان "وإذا خالفه سفيان أخذت بقول سفيان" لأن سفيان أحفظ وأتقن من شعبة، وقد اعترف به شعبة نفسه كما بينه الترمذي بقوله "سمعت أبا عمار يذكر عن وكيع الخ" "وما حدثني سفيان عن أحد بشيء فسألته إلا وجدته كما حدثني" هذا دليل شعبة على أن سفيان أحفظ منه يعني لم يحدثني سفيان بشيء عن رجل فسألت ذلك الرجل عن ذلك الشيء إلا وجدت ذلك الشيء عن ذلك الرجل كما حدثني به سفيان فبطل قول بعض الجهلة إن قول شعبة سفيان أحفظ مني محمول على أنه قاله هضماً لنفسه.
قوله: "وفي الباب عن علي وسعد" أما حديث علي فأخرجه الترمذي في هذا الباب، وأما حديث سعد فأخرجه ابن ماجه والدارمي.
قوله: "أخبرنا عبد الواحد بن زياد" العبدي مولاهم البصري ثقة في حديثه عن الأعمش وحده مقال "عن عبد الرحمن بن إسحاق" ابن الحارث الواسطي يكنى بأبي شيبة. قال الحافظ في التقريب ضعيف. وقال في تهذيب التهذيب: قال البخاري فيه نظر. وقال عبد الله بن أحمد عن أبيه: ليس بذاك، وهو الذي يحدث عن النعمان بن سعد أحاديث مناكير، انتهى "عن النعمان بن سعد" الأنصاري الكوفي، روى عن علي وغيره، وعنه ابن أخته أبو شيبة عبد الرحمن(8/225)
وهذا حديثٌ لاَ نَعْرِفُهُ مِنْ حَدِيثِ عَلِيّ عن النبيّ صلى الله عليه وسلم إِلاّ مِنْ حَدِيثِ عَبْد الرّحْمَن بنِ إِسْحَاقَ.
ـــــــ
بن إسحاق الكوفي ولم يرو عنه غيره فيما قال أبو حاتم وذكره بن حبان في الثقات قال الحافظ في تهذيب التهذيب: والراوي عنه ضعيف فلا يحتج بخبره، انتهى.
قوله: "هذا حديث لا نعرفه الخ" لم يحكم الترمذي على هذا الحديث بشيء من الضعف أو الصحة، وهو حديث ضعيف لضعف عبد الرحمن بن إسحاق الواسطي.(8/226)
16- باب مَا جَاءَ في مَنْ قَرَأَ حَرْفاً مِنْ القُرْآنِ مالَهُ مِنَ الأَجر
3075- حدثنا مُحمّدُ بنُ بَشّارٍ أخبرنا أَبُو بَكْرٍ الْحَنَفِيّ أخبرنا الضّحاكُ بنُ عُثْمَانَ عن أَيّوبَ بنِ مُوسَى، قَالَ: سَمِعْتُ مُحمّدَ بنَ كَعْبٍ القُرَظِيّ يَقُولُ. سَمِعْتُ عَبْدَ الله بنَ مَسْعُودٍ يَقُولُ: قالَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم: "مَنْ قَرَأَ حَرْفَاً مِنْ كِتَابِ الله فَلَهُ بِهِ حَسَنَةٌ وَالْحَسَنَةُ بِعَشْرِ أَمْثَالِهَا لاَ أَقُولُ آلم حَرْفٌ، وَلَكِنْ أَلِفٌ حَرْف ولامٌ حَرْفٌ وَميمٌ حَرْفٌ" .
ـــــــ
باب مَا جَاءَ في مَنْ قَرَأَ حَرْفاً مِنْ القُرْآنِ مالَهُ مِنَ الأَجر
قوله: "أخبرنا أبو بكر الحنفي" اسمه عبد الكبير بن عبد المجيد وهو أبو بكر الحنفي الصغير.
قوله: "من قرأ حرفاً من كتاب الله" أي القرآن "والحسنة بعشر أمثالها" أي مضاعفة بالعشر، وهو أقل التضاعف الموعود بقوله تعالى: {مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا} {وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ} والحرف يطلق على حرف الهجاء والمعاني والجملة المفيدة والكلمة المختلف في قراءتها، وعلى مطلق الكلمة. ولذا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا أقول ألم حرف ولكن ألف حرف ولام حرف وميم حرف" وفي رواية ابن أبي شيبة والطبراني: " من قرأ حرفاً من(8/226)
هذا حديثٌ حسنٌ صحيحٌ غريب مِنْ هَذَا الْوَجْهِ. سَمِعْتُ قُتَيْبَةَ بنَ سَعِيدٍ، يَقُولُ: بَلَغَنِي أَنّ مُحمّدَ بنَ كَعْبٍ القُرَظِيّ وُلِدَ في حَيَاةِ النبيّ صلى الله عليه وسلم، وَيُرْوَى هَذَا الْحَدِيثُ مِنْ غَيْرِ هَذَا الْوَجْهِ عن ابنِ مَسْعُودٍ رَوَاهُ أَبُو الأَحْوَصِ عن عَبْدِ الله بنِ مَسْعُودٍ، وَرَفَعَهُ بَعْضُهُمْ، ووَقَفَهُ بَعْضُهُمْ عن ابنِ مَسْعُودٍ. ومحمد بن كعب القرظي يكنّى أبا حمزة.
3076- حدثنا نَصْرُ بنُ عَلِيّ الْجُهْضَمِيّ أخبرنا عَبْدُ الصّمَدِ بنُ عَبْدِ الوَارِثِ أخبرنا شُعْبَةُ عن عَاصِمٍ عن صَالِحٍ عن أَبي هُرَيْرَةَ عن النبيّ صلى الله عليه وسلم قالَ: "يَجِيءُ صَاحِبُ القُرْآنِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ
ـــــــ
القرآن كتب له به حسنة، لا أقول ألم ذلك الكتاب، ولكن الألف واللام والميم والذال واللام والكاف، وفي رواية للبيهقي: "لا أقول بسم الله ولكن باء وسين وميم ولا أقول ألم، ولكن الألف واللام والميم" .
قوله: "هذا حديث حسن صحيح غريب من هذا الوجه" وأخرجه الدارمي.
قوله: "سمعت قتيبة بن سعيد" يقول: بلغني أن محمد بن كعب القرظي ولد في حياة النبي صلى الله عليه وسلم. قال الحافظ في تهذيب التهذيب: لا حقيقة له وإنما الذي ولد في عهده هو أبوه، فقد ذكروا أنه كان من سبي قريظة ممن لم يحتلم ولم ينبت فخلوا سبيله حكى ذلك البخاري في ترجمة محمد انتهى "ومحمد بن كعب القرظي يكنى أبا حمزة" وقيل يكنى أبا عبد الله مدني من حلفاء الأوس، وكان أبوه من سبي قريظة سكن الكوفة ثم المدينة. قال ابن سعد: كان ثقة عالماً كثير الحديث ورعاً. قال العجلي: مدني تابعي ثقة رجل صالح عالم بالقرآن. وقال عون بن عبد الله: ما رأيت أحداً أعلم بتأويل القرآن منه. وقال ابن حبان: كان من أفاضل أهل المدينة علماً وفقهاً، وكان يقص في المسجد فسقط عليه وعلى أصحابه سقف فمات هو وجماعة معه تحت الهدم سنة ثمان عشرة.
قوله: "عن عاصم" ابن بهدلة وهو ابن أبي النجود.(8/227)
فَيَقُولُ: يَا رَبّ حَلّهِ فَيُلْبَسَ تَاجُ الكَرَامَةِ، ثُمّ يَقُولُ: يَا رَبّ زِدْهُ، فَيُلْبَسَ حُلَةُ الكَرَامَةِ، ثُمّ يَقُولُ: يَا رَبّ أَرْضَ عَنْهُ، فيرضى عنه فَيُقَالُ له اقْرَأْ وارق وَيُزَادُ بِكُلّ آية حَسَنَةٌ".
هذا حديثٌ حسنٌ صحيحٌ.
3077- حدثنا مُحمّدُ بنُ بَشّارٍ أخبرنا مُحمّدُ بنُ جَعْفَرٍ أخبرنا شُعْبَةُ عن عَاصِمِ بنِ بَهْدَلَةَ عن أَبي صَالِحِ أَبي هُرَيْرَةَ نَحْوَهُ، وَلَمْ يَرْفَعْهُ. وَهَذَا أَصَحّ عِنْدَنَا مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ الصّمَدِ عن شُعْبَةَ.
ـــــــ
قوله: "يا رب حَلّه" الظاهر أنه أمر من التحلية، يقال حَليتُه، أحليه تحليه إذا البسته الحلية. والمعنى يا رب زينه "إقرأ" أمر من القراءة أي أتل "وارق" أمر من رَقأ يرقاً رقاً أي اصعد. قال في القاموس. رقأ في الدرجة صعد وهي المرقأة وتكسر. أي يقال لصاحب القرآن اقرأ القرآن واصعد على درجات الجنة وسيأتي توضيحه عن قريب في شرح حديث عبد الله بن عمرو.
قوله: "هذا حديث حسن" وأخرجه ابن خزيمة والحاكم. وقال صحيح الإسناد كذا في الترغيب للمنذري.
قوله: "وهذا أصح عندنا من حديث عبد الصمد عن شعبة" أي هذا الحديث الموقوف الذي روى محمد بن جعفر أصح من حديث عبد الصمد عن شعبة المرفوع المذكور وذلك لأن عبد الصمد وإن كان ثقة في شعبة لكن محمد بن جعفر المدني البصري المعروف بغندر أوثق وأتقن منه في شعبة. قال الحافظ في تهذيب التهذيب: محمد بن جعفر المعروف بغندر صاحب الكرابيس روى عن شعبة فأكثر وجالسه نحواً من عشرين سنة وكان ربيبه. وقال العجلي: بصري ثقة، وكان من أثبت الناس في حديث شعبة. وقال ابن المبارك: إذا اختلف الناس في حديث شعبة فكتاب غندر حكم بينهم.(8/228)
17- باب
3078- حدثنا أَحْمَدُ بنُ مَنِيعٍ أخبرنا أَبُو النّضْرِ أخبرنا بَكْرُ بنُ خُنَيْسٍ عن لَيْثِ بنِ أَبي سُلَيْمٍ عن زَيْدٍ بنِ أَرْطَأةَ عن أَبي أُمَامَةَ قالَ: قالَ النبيّ صلى الله عليه وسلم: "مَا أَذِنَ الله لِعَبْدٍ في شَيءٍ أَفْضَلَ مِنْ رَكْعَتَيْنٍ يُصَلّيهِمَا، وَإِنّ البِرّ لَيُذَرّ عَلَى رَأْسِ الْعَبْدِ مَا دَامَ فِي صَلاَتِهِ، وَمَا تَقَرّبَ الْعِبَادُ إلى الله عزّ وَجَلّ بِمِثْلِ مَا خَرَجَ مِنْهُ" ، قالَ أَبُو النّضْرِ:
ـــــــ
"باب"
قوله: "أخبرنا أبو النضر" اسمه هاشم بن القاسم الليثي. "أخبرنا بكر بن خنيس" بالخاء المعجمة وبالنون مصغراً كوفي عابد سكن بغداد صدوق له أغلاط أفرط فيه ابن حبان قاله الحافظ في التقريب.
قوله: "ما أذن الله" أي ما أصغى وما استمع. قال في القاموس: أذن إليه وله كفرح استمع. قال الطيبي: وههنا أذن عبارة عن الإقبال من الله بالرأفة والرحمة على العبد وذلك أن العبد إذا كان في الصلاة وقد فرغ من الشواغل متوجهاً إلى مولاه مناجياً له بقلبه ولسانه، فالله سبحانه أيضاً يقبل عليه بلطفه وإحسانه إقبالاً لا يقبل في غيره من العبادات "لعبد في شيء" أي في شيء من العبادات "أفضل من ركعتين يصليهما" يعني أفضل العبادات الصلاة، كما ورد في الصحيح: "الصلاة خير موضوع" . أي خير من كل ما وضعه الله لعباده ليتقربوا إليه "وإن البر ليذر" بالذال المعجمة والراء المشددة على يناء المجهول أي ينثر ويفرق من قولهم، ذررت الحب والملح أي فرقته "على رأس العبد" أي ينزل الرحمة والثواب الذي هو أثر البر على المصلي "وما تقرب العباد إلى الله عز وجل بمثل ما خرج منه" قال في مجمع البحار: أي ما ظهر من الله ونزل على نبيه، وقيل ما خرج من العبد بوجوده على لسانه محفوظاً في صدره مكتوباً بيده، وقيل ما ظهر من شرائعه وكلامه، أو خرج من كتابه المبين وما استفهامية الإنكار ويجوز كونها نافية، وهو أقرب أي ما تقرب بشيء مثل انتهى ما في المجمع. "قال أبو النضر"(8/229)
يَعْنِي القُرْآنَ" وَقَدْ رُوِيَ هَذَا الْحَدِيثُ عن زَيْدٍ بنِ أَرْطَأةَ عن جُبَيْر بنُ نُفَيْرٍ عن النبيّ صلى الله عليه وسلم مرْسَلٌ.
3079- حدثنا بِذَلِكَ إِسْحَاقُ بنُ مَنْصُورٍ حدثنا عَبْدُ الرّحْمَنِ بنُ مَهْدِي عن مُعَاوِيَةَ عن الْعَلاَءِ بنِ الْحَارِثِ عن زَيْدِ بنِ أَرْطَأةَ عن جُبَيْرِ بنِ نُفَيْرٍ قالَ: قالَ النبيّ صلى الله عليه وسلم: "إِنّكُمْ لَنْ تَرْجِعُوا إلى الله بِأَفْضَلَ مِمّا خَرَجَ مِنْهُ يَعْنِي القُرْآنَ1" .
هذا حديثٌ غريبٌ لاَ نَعْرِفُهُ إِلاّ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ. وَبَكْرُ بنُ خُنَيْسٍ قَدْ تَكَلّمَ فِيهِ ابنُ المُبَارَكِ وَتَرَكَهُ فِي آخِرِ أَمْرِهِ.
ـــــــ
الراوي عن بكر بن خنيس "يعني القرآن" هذا تفسير من أبي النضر لقوله ما خرج منه. وهذا التفسير أولى عندي يعني ضمير منه يرجع إلى الله. والمراد بما خرج منه ما أنزل الله تعالى على نبيه صلى الله عليه وسلم وهو القرآن.
قوله: "هذا حديث غريب" وأخرجه أحمد، وفي سندهما بكر بن خنيس وهو متكلم فيه، وليث بن أبي سليم وقد اختلط أخيراً ولم يتميز حديثه فترك.
قوله: "وبكر بن خنيس قد تكلم فيه ابن المبارك وتركه في آخر أمره" قال ابن معين: ليس بشيء، وقال مرة ضعيف، وقال مرة شيخ صالح لا بأس به، وقال النسائي وغيره: ضعيف، وقال الدارقطني متروك، وقال أبو حاتم صالح غزاء ليس بالقوى وقال ابن حبان يروي عن البصريين والكوفيين أشياء موضوعة يسبق إلى القلب أنه المتعمد لها. كذا في الميزان. وإلى قول ابن حبان هذا أشار الحافظ بقوله: أفرط فيه ابن حبان.
ـــــــ
1 قال في هامش النسخة الأحمدية: وذكره في الأطراف ثم قال: هذا الحديث في رواية أبي حامد أحمد بن عبد الله بن داود الناجي المروزي ولم يذكره أبو القاسم.(8/230)
18- باب
3080- حدثنا أَحْمَدُ بنُ مَنِيع أخبرنا جَرِيرٌ عن قَابُوسَ بنِ أَبي ظَبْيَانَ عن أَبِيِه عن ابنِ عَبّاسٍ قالَ: قالَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: "إنّ الّذِي ليس فِي جَوْفِهِ شَيْءٌ مِنَ القُرْآنِ كَالْبَيْتِ الْخَرِبِ" .
هذا حديثٌ حسنٌ صحيحٌ.
ـــــــ
"باب"
قوله: "أخبرنا جرير" هو ابن عبد الحميد "عن قابوس بن أبي ظبيان" الجنبي الكوفي. قال في التقريب فيه لين. وقال في تهذيب التهذيب: روى عن أبيه حصين بن جندب وآخرين، وعنه جرير بن عبد الحميد وآخرون "عن أبيه" أبي ظبيان واسمه حصين بن جندب الكوفي ثقة.
قوله: "إن الذي ليس في جوفه" أي قلبه "شيء من القرآن كالبيت الخرب" بفتح الخاء المعجمة وكسر الراء أي الخراب لأن عمارة القلوب بالإيمان وقراءة القرآن وزينة الباطن بالاعتقادات الحقة والتفكر في نعماء الله تعالى. وقال الطيبي أطلق الجوف وأريد به القلب إطلاقاً لاسم المحل على الحال، وقد استعمل على حقيقته في قوله تعالى: {مَا جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ} واحتيج لذكره ليتم التشبيه له بالبيت الخرب بجامع أن القرآن إذا كان في الجوف يكون عامراً مزيناً بحسب قلة ما فيه وكثرته، وإذا خلا عما لا بد منه من التصديق والاعتقاد الحق والتفكير في آلاء الله ومحبته وصفاته يكون كالبيت الخرب الخالي عما يعمره من الأثاث والتجمل انتهى. قال القاري: بعد نقل كلام الطيبي هذا ما لفظه: وكأنه عدل عن ظاهر المقابلة المتبادر إلى الفهم، وإذا خلا عن القرآن لعدم ظهور إطلاق الخراب عليه انتهى.
قوله: "هذا حديث حسن صحيح" وأخرجه أحمد والدارمي والحاكم، وقال صحيح الإسناد.(8/231)
3081- حدثنا مَحمُودُ بنُ غَيْلاَنَ أخبرنا أَبُو دَاودَ اَلْحفَرِيّ، وَأَبُو نُعَيْمٍ عن سُفْيَانَ عن عَاصِمِ بنِ أَبي النّجُودِ عن زِرٍ عن عَبْدِ الله بن عَمْرٍو عن النبيّ صلى الله عليه وسلم قالَ: "يُقَالُ - يَعْنِي لٍصَاحِبِ الْقُرْآنِ اقْرَأْ وَارْقَ وَرَتّلْ كَمَا كنْتَ تُرَتّلُ فِي الدّنْيَا، فَإنّ مَنْزِلَتَكَ عِنْدَ آخِرِ آية تَقْرَأُ بِهَا" . هذا حديثٌ حسنٌ صحيحٌ.
3082- حدثنا محمدُ بنُ بَشّارٍ أخبرنا عَبْد الرّحْمَن بنُ مَهْدِيٍ عن سُفْيَانَ عن عاصِمٍ بهَذَا الإْسْنَادِ نَحْوَهُ.
ـــــــ
قوله: "أخبرنا أبو داود الحفري" بفتح الحاء المهملة، والفاء نسبة إلى حفر موضع بالكوفة ثقة عابد. "وأبو نعيم" اسمه الفضل بن دكين "عن زر" هو ابن حبيش.
قوله: "يقال" أي عند دخول الجنة "لصاحب القرآن" أي من يلازمه بالتلاوة والعمل "وأرق" أمر من رقي يرقي أي أصعد إلى درجات الحنة، يقال رقي الجبل وفيه وإليه رقياً ورقياً أي صعد، وفي رواية أبي داود: إقرأ وارتق "ورتل" أي اقرأ بالترتيل ولا تستعجل بالقراءة "كما كنت ترتل في الدنيا" من تجويد الحروف ومعرفة الوقوف "فإن منزلتك عند آخر آية تقرأها" قال المنذري في الترغيب: قال الخطابي: جاء في الأثر أن عدد آي القرآن على قدر درج الجنة في الآخرة، فيقال للقاري أرق في الدرج على قدر ما كنت تقرأ من آي القرآن، فمن استوفى قراءة جميع القرآن استولى على أقصى درج الجنة في الآخرة، ومن قرأ جزءاً منه كان رقيه في الدرج على قدر ذلك، فيكون منتهى الثواب عند منتهى القراءة.
قوله: "هذا حديث حسن صحيح" وأخرجه أحمد وأبو داود والنسائي وابن ماجه وابن حبان في صحيحه.(8/232)
19- باب
3083- حدثنا عبدُ الْوَهّابِ الْوَرّاقُ البَغْدَادِيّ أخبرنا عبدُ المَجِيدِ بنُ عبدِ الْعَزِيزِ عن ابنِ جُرَيْج عَنِ المُطّلِبِ بنِ عبدِ الله بنِ حَنْطَبِ عن أْنسِ بنِ مَالكٍ قالَ: قالَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم: "عُرِضَتْ عَلَيّ أُجُورُ أُمّتِي حَتّى الْقَذَاةُ يُخْرِجُهَا الرّجُلُ مِنَ المَسْجِدِ، وَعُرِضَتْ عَلَيّ ذُنُوبُ أُمّتِي فلَمْ أَرَ ذَنْباً أَعْظَمَ مِنْ سُورَةٍ مِنَ الْقُرْآنِ أَوْ آية أُوتِيَهَا رَجُلٌ ثمّ نَسِيَهَا" .
ـــــــ
"باب"
قوله: "أخبرنا عبد المجيد بن عبد العزيز" بن أبي رواد بفتح الراء وتشديد الواو صدوق يخطئ وكان مرجئاً أفرط ابن حبان فقال متروك من التاسعة "عن المطلب عن عبد الله بن حنطب" قال في التقريب: المطلب بن عبد الله بن المطلب بن حنطب بن الحارث المخزومي صدوق كثير التدليس والإرسال من الرابعة.
قوله: "عرضت علي" الظاهر أنه في ليلة المعراج "أجور أمتي" أي ثواب أعمالهم "حتى القذاة" بالرفع أو الجر وهي بفتح القاف. قال الطيبي: القذاة هي ما يقع في العين من تراب أو تبن أو وسخ ولا بد في الكلام من تقدير مضاف أي أجور أعمال أمتي وأجر القذاة أي أجر إخراج القذاة إما بالجر وحتى بمعنى إلى والتقدير إلى إخراج القذاة وعلى هذا قوله يخرجها الرجل من المسجد جملة مستأنفة للبيان وإما بالرفع عطفاً على أجور فالقذاة مبتدأ ويخرجها خبره "فلم أر ذنياً" أي يترتب على نسيان "أعظم من سورة" أي من ذنب نسيان سورة كائنة "من القرآن" قال القاري في المرقاة: فإن قلت هذا مناف لما مر في باب الكبائر، قلت إن سلم أن أعظم وأكبر مترادفان، فالوعيد على النسيان لأجل أن مدار هذه الشريعة على القرآن فنسيانه كالسعي في الإخلال بها، فإن قلت النسيان(8/233)
هذا حديثٌ غريبٌ لاَ نَعْرِفُهُ إِلاّ مِنْ هَذَا الوَجْهِ قال: وَذَاكَرْتُ بِهِ مُحَمّدَ بنَ إسْمَاعِيلَ فَلَمْ يَعْرِفْهُ وَاسْتَغْرَبَهُ. قال محمدُ وَلاَ أَعْرِفُ للْمُطّلِبِ بنِ عَبْدِ الله بن حَنْطَبِ سَمَاعاً مَن أَحَدٍ مِن أَصْحاَبِ النبيّ صلى الله عليه وسلم إِلاّ قَوْلَهُ حدثني مَنْ شَهِدَ خُطْبَةَ النبيّ صلى الله عليه وسلم قال: وَسَمِعْتُ عَبْدَ الله بنَ عَبْد الرّحْمَن يَقُولُ لاَ نَعْرِفُ للمُطّلِبِ سَمَاعاً مِنْ أَحَدٍ مِنْ أَصحاَبِ النبيّ صلى الله عليه وسلم. قال عَبْدُ الله: وَأَنْكَرَ عَلِيّ بنُ المَدِينِيّ أَنْ يَكُونَ المُطّلِبُ سَمِعَ مِنْ أَنسٍ.
ـــــــ
لا يؤاخذ به، قلت المراد تركها عمداً إلى أن يفضي إلى النسيان. وقيل المعنى أعظم من الذنوب الصغائر إن لم تكن عن استخفاف وقلة تعظيم، كذا نقله ميرك عن الأزهار انتهى "أو آية أوتيهاً" أي تعلمها وأو للتنويع وإنما قال أوتيها دون حفظها إشعاراً بأنها كانت نعمة جسيمة أولاها الله ليشكرها فلما نسيها فقد كفر تلك النعمة "ثم نسيها" قال الطيبي: فلما عد إخراج القذاة التي لا يؤبه لها من الأجور تعظيماً لبيت الله، عد أيضاً النسيان من أعظم الجرم تعظيماً لكلام الله سبحانه، فكأن فاعل ذلك عد الحقير عظيماً بالنسبة إلى العظيم فأزاله عنه وصاحب هذا عد العظيم حقيراً فأزاله عن قلبه.
قوله: "هذا حديث غريب" وأخرجه أبو داود وابن خزيمة في صحيحه وسكت عنه أبو داود وقال المنذري: وفي إسناده عبد المجيد بن عبد العزيز بن أبي رواد الأزدي مولاهم المكي وثقه يحيى بن معين وتكلم فيه غير واحد.(8/234)
20- باب
3084- حدثنا محمودُ بنُ غَيْلاَنَ أخبرنا أَبُو أَحْمَدَ أخبرنا سُفْيَانُ عن الأعْمَشِ عن خَيْثَمَةَ عن الحَسَنِ عن عُمْرَانَ بنِ حُصَيْنٍ أَنّهُ مَرّ عَلَى قارئ
ـــــــ
"باب"
قوله: "أخبرنا أبو أحمد" هو الزبيري "عن الحسن" هو البصري.(8/234)
يَقْرَأُ ثمّ سَأَلَ فَاسْتَرْجَعَ ثمّ قال سمِعْتُ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم يَقُولُ "مَنْ قَرَأَ الْقُرْآنَ فَلْيَسْأَل الله بِهِ فَإِنّهُ سَيَجِيءُ أَقْوَامٌ يَقْرَأُونَ الْقرْآنَ يَسْأَلُونَ بِهِ النّاسَ" . وَقال محمودٌ وهَذَا: خَيْثَمَةُ الْبَصْرِيّ الّذِي رَوَى عَنْهُ جَابرٌ الجُعْفِيّ وَلَيْسَ هُوَ خَيْثَمَةَ بنَ عَبْد الرّحْمَن.
هذا حديثٌ حسنٌ وَخَيْثَمَةُ هَذَا شَيْخٌ بَصْرِيّ يُكْنَى أَبَا نَصْرٍ قَدْ رَوَى عن أَنَسِ بنِ مالكٍ أَحَادِيثَ، وَقَدْ رَوَى جَابِرٌ الْجُعْفِيّ عَنْ خَيْثَمَةَ هَذَا أَيْضاً.
ـــــــ
قوله: "مر على قارئ يقرأ" أي القرآن "ثم سأل" أي طلب من الناس شيئاً من الرزق "فاسترجع" أي قال عمران: إنا لله وإنا إليه راجعون. لابتلاء القارئ بهذه المصيبة التي هي السؤال عن الناس بالقرآن أو لابتلاء عمران بمشاهدة هذه الحالة الشنيعة وهي مصيبة "من قرأ القرآن فليسأل الله به" أي فليطلب من الله تعالى بالقرآن ما شاء من أمور الدنيا و الآخرة، أو المراد أنه إذا مر بأية رحمة فليسألها من الله تعالى أو بآية عقوبة فيتعوذ إليه بها منها وإما أن يدعو الله عقيب القراءة بالأدعية المأثورة وينبغي أن يكون الدعاء في أمر الآخرة وإصلاح المسلمين في معاشهم ومعادهم "وقال محمود" أي ابن غيلان "هذا" أي خيثمة المذكور في الإسناد "خيثمة البصري الذي روى عنه جابر الجعفي" قال الحافظ في تهذيب التهذيب: خيثمة بن أبي خيثمة واسمه عبد الرحمن فيما يقال أبو نصر البصري روى عن أنس والحسن البصري روى عنه الأعمش ومنصور وجابر الجعفي وغيرهم. قال عباس عن ابن معين: ليس بشيء، وذكره ابن حبان في الثقات وقال في التقريب هو لين الحديث "وليس هو خيثمة بن عبد الرحمن" يعني خيثمة المذكور في الإسناد غير خيثمة بن عبد الرحمن قال في التقريب: خيثمة بن عبد الرحمن ابن أبي سبرة بفتح المهملة وسكون الموحدة الجعفي الكوفي ثقة وكان يرسل من الثالثة.
قوله: "هذا حديث حسن" وأخرجه أحمد "وقد روى جابر الجعفي عن خيثمة هذا أيضاً" يعني أن جابراً الجعفي أيضاً من أصحاب خيثمة هذا وروى عنه كما أن الأعمش من أصحابه.(8/235)
3085- حدثنا محمدُ بنُ إسْمَاعِيلَ الْوَاسِطِيّ أخبرنا وَكِيعٌ أخبرنا أَبُو فَرْوَةَ يَزِيدُ بنُ سِنَانٍ عَن أَبي المُبَارَكِ عَن صُهَيْبٍ قالَ: قال رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم: "مَا آمَنَ بالْقُرْآنِ مَنِ اسْتَحَلّ مَحَارِمَهُ" . وَقَدْ رَوَى محمدُ بْنُ سِنَانٍ عن أَبِيهِ هَذَا الحَدِيثَ فَزَادَ في هَذَا الإسْنَادٍ عَنْ مُجَاهِدٍ عن سَعِيدِ بنِ المُسَيّبِ عَنْ صُهَيْبٍ وَلاَ يُتَابَعُ محمدُ بنُ يَزِيدَ عَلَى رِوَايَتِهِ وَهُوَ ضَعِيفٌ وَ أَبُو المُبَارَكِ رَجُلٌ مَجْهُولٌ.
هذا حديثٌ لَيْسَ إِسْنَادُهُ بالقوي. وَقَدْ خُولِفَ وَكِيعٌ في رِوَايَتِهِ. وقالَ محمدٌ: أَبُو فَرْوَةَ يَزِيدُ بْنُ سِنَانٍ الرّهَاوِيّ لَيْسَ بِحَدِيِثِه بَأْس إِلاّ رِوَايَةَ ابْنِهِ محمدٍ عَنْهُ فَإِنّهُ يَرْوِي عَنْهُ مَنَاكِيرَ.
ـــــــ
قوله: "حدثنا محمد بن إسماعيل الواسطي" قال في التقريب: محمد بن إسماعيل ابن البختري بفتح الموحدة والمثناة بينهما خاء معجمة ساكنة الحساني بمهملتين أبو عبد الله نزيل بغداد صدوق من الحادية عشرة "عن صهيب" هو ابن سنان أبو يحيى الرومي صحابي شهير.
قوله: "ما آمن بالقرآن من استحل محارمه" جمع محرم بمعنى الحرام الذي هو المحرم والضمير للقرآن، والمراد فرد من هذا الجنس قال الطيبي: من استحل ما حرمه الله تعالى في القرآن فقد كفر مطلقاً وخص ذكر القرآن لعظمته وجلالته.
قوله: "وقد روى محمد بن يزيد بن سنان" الجزري أبو عبد الله بن أبي فروه ليس بالقوى من التاسعة "عن أبيه" هو أبو فروة يزيد بن سنان المذكور في الإسناد "ولا يتابع" بصيغة المجهول أي لا يتابع أحد "وأبو المبارك رجل مجهول" قال في التقريب: أبو المبارك عن عطاء مجهول من السادسة وروايته عن صهيب مرسلة "وقال محمد" يعني البخاري "أبو فروة يزيد بن سنان الرهاوي ليس بحديثه بأس" قال الحافظ في تهذيب التهذيب في ترجمته: وقال البخاري مقارب(8/236)
3086- حدثنا الْحَسَنُ بنُ عَرَفَةَ أخبرنا إسْمَاعِيلُ بنُ عَيّاشٍ عَنْ بَجيرِ بن سَعْدٍ عن خالدِ بنَ مَعْدَان عن كثِيرٍ بنِ مُرّةَ الْحَضْرَمِيّ عن عُقْبَةَ بن عَامِرٍ قال: سَمِعْتُ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: "الْجَاهِرُ بالْقُرْآنِ كاَلْجَاهِرِ بالصّدَقَةِ وَالمُسِرّ بالْقُرْآنِ كَالمُسِرّ بالصّدَقَةِ" .
هذا حديثٌ حسنٌ غريبٌ. وَمَعْنَى هَذَا الحَدِيثِ أَنّ الّذِي يُسِرّ بِقِرَاءَةِ القُرْآنِ أَفْضَلُ مِنَ الّذِي يَجْهَرُ بِقِرَاءَةِ القُرْآنِ لأنّ صَدَقَةَ السّرّ أَفْضَلُ عِنْدَ أَهْلِ الْعِلْمِ مِنْ صَدَقَةِ الْعَلاَنِيَةِ. وَإِنمَا مَعْنَى هَذَا عِنْدَ أَهْلِ الْعِلْمِ لِكَيْ يأْمَنَ الرّجُلُ مِنَ الْعُجْبِ لأَنّ الّذِي يُسِرّ الْعَمَلِ لاَ يُخَافُ عَلَيْهِ الْعُجْبِ مَا يُخَافُ عَلَيْهِ الْعُجْبِ ما يُخَافُ عَلَيْهِ في العلانية.
ـــــــ
الحديث إلا أن ابنه محمداً يروي عنه مناكير وقال في التقريب هو ضعيف.
قوله: "الجاهر بالقرآن" أي المعلن بقراءته "كالجاهر بالصدقة" أي كالمعلن باعطائها "والمسر بالقرآن" أي المخفي بقراءته.
قوله: "هذا حديث حسن غريب" وأخرجه أبو داود والنسائي وسكت عنه أبو داود وقال المنذري: في إسناده إسماعيل بن عياش وفيه مقال ومنهم من يصحح حديثه عن الشاميين وهذا الحديث شامي الإسناد انتهى.
قوله: "ومعنى هذا الحديث أن الذي يسر بقراءة القرآن أفضل الخ" قال الطيبي: جاء آثار بفضيلة الجهر بالقرآن وآثار بفضيلة الإسرار به والجمع بأن يقال الإسرار أفضل لمن يخاف الرياء، والجهر أفضل لمن لا يخافه بشرط أن لا يؤذي غيره من مصل أو نائم أو غيرهما، وذلك لأن العمل في الجهر يتعدى نفعه إلى غيره أي من استماع أو تعلم أو ذوق أو كونه شعاراً للدين ولأنه يوقظ قلب القارئ ويجمع همه ويطرد النوم عنه وينشط غيره للعبادة فمتى حضره شيء من هذه النيات فالجهر أفضل.(8/237)
21- باب
3087- حدثنا صَالِحُ بنُ عَبْدِ الله أخبرنا حَمّادُ بنُ زَيْدٍ عَنْ أَبي لُبَابةَ قال: قالت عائِشَةُ: "كَانَ النبيّ صلى الله عليه وسلم لاَ يَنَامُ حَتّى يَقْرَأَ بَنِي إسْرَائِيلَ وَالزّمُرَ" .
هذا حديثٌ حسنٌ غريبٌ. وَأَبُو لُبَابةَ شَيْخٌ بَصْرِيّ قَدْ رَوَى عَنْهُ حَمّادُ بنُ زَيْدٍ غَيْرَ حَدِيثٍ وَيُقَالُ اسمُهُ مَرْوَانُ.
3088- حدثنا بِذَلِكَ مُحمدُ بنُ إسْمَاعِيلَ في كِتَابِ التّارِيخِ.
3089- حدثنا عَلِيّ بنُ حُجْرَ أخبرنا بَقِيّةُ بنُ الْوَلِيدِ عَنْ بَجيرِ بنِ سَعْدٍ عن خَالِدِ بن مَعْدَانَ عن عَبْدِ الله بنِ أَبي بلاَل عن عِرْبَاضِ بنِ سَارِيَةَ أَنّهُ حَدّثَهُ أَنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَقْرَأُ الُمسَبّحَاتِ قَبْلَ أَنْ يَرْقُدَ ويَقُولُ: "إِنّ فِيِهِنّ آية خَيْرٌ مِنْ أَلفِ آية " .
ـــــــ
"باب"
قوله: "عن أبي لبابة" اسمه مروان الوراق البصري ثقة من الرابعه يقال أنه مولى عائشة أو هند بنت المهلب أو عبد الرحمن بن زياد.
قوله: "لا ينام حتى يقرأ بني إسرائيل والزمر" أي لم يكن عادته النوم قبل قراءتهما.
قوله: "هذا حديث حسن" وأخرجه أحمد والنسائي والحاكم "قد روى عنه حماد بن زيد غير حديث" يعني روى عنه حماد بن زيد أحاديث متعددة.
قوله: "عن عبد الله بن أبي بلال" الخزاعي الشامي مقبول من الرابعة.
قوله: "كان يقرأ المسبحات" بكسر الباء نسبة مجازية وهي السور التي في أوائلها سبحان أو سبح بالماضي أو يسبح أو سبح بالأمر وهي سبعة: سبحان الذي أسرى والحديد والحشر والصف والجمعة والتغابن والأعلى "قبل أن يرقد"(8/238)
هذا حديثٌ حسنٌ غريبٌ.
ـــــــ
أي ينام "يقول" استئناف لبيان الحامل له على قراءة تلك السور كل ليلة قبل أن ينام "إن فيهن" أي في المسبحات "آية" أي عظيمة "خير" أي هي خير "من ألف آية " قيل هي لو أنزلنا هذا القرآن وهذا مثل اسم الأعظم من بين سائر الأسماء في الفضيلة فعلى هذا فيهن أي في مجموعهن. وعن الحافظ ابن كثير أنها هو الأول و الآخر والظاهر والباطن وهو بكل شيء عليم انتهى. قال القارى: والأظهر أنها هي الآية التي صدرت بالتسبيح، وفيهن بمعنى جميعهن والخيرية لمعنى الصفة التنزيهية الملتزمة للنعوت الإثباتية. وقال الطيبي: أخفى الآية فيها كإخفاء ليلة القدر في الليالي وإخفاء ساعة الإجابة في يوم الجمعة محافظة على قراءة الكل لئلا تشذ تلك الآية.
قوله: "هذا حديث حسن غريب" وأخرجه أبو داود والنسائي قال المنذري بعد نقل تحسين الترمذي: وفي إسناده بقية بن الوليد عن بحير بن سعد وبقية فيه مقال، وأخرجه النسائي من حديث معاوية بن صالح عن بحير بن سعد مرسلاً انتهى.
قلت: وبقية كثير التدليس وروى هذا الحديث عن بحير بالعنعنة.(8/239)
22- باب
3090- حدثنا محمودُ بنُ غَيْلاَنَ أخبرنا أَبُو أَحْمَدَ الزّبَيْرِيّ أخبرنا خَالِدُ بنُ طَهْمَانَ أَبُو الْعَلاَءِ الخَفّافُ حدثني نَافِعُ بنُ أَبي نَافِعٍ عن مَعْقِلِ بنِ يَسَارٍ عن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال: "مَنْ قَالَ حِينَ يُصْبِحُ ثَلاَثَ مرّاتٍ: أَعُوذُ بالله السّمِيعِ الْعَلِيمِ مِنَ الشّيْطَانِ الرّجِيمِ. وَقَرَأَ ثَلاَثَ آيَاتٍ
ـــــــ
"باب"
قوله: "من قال حين يصبح" أي يدخل في الصباح "ثلاث مرات أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم" التكرار للإلحاح في الدعاء فإنه خبر لفظاً، دعاء معنى. أو التثليث لمناسبة الاَيات الثلاث حتى لا يمنع القارئ عن قراءتها(8/239)
مِنّ آخِرِ سُورَةِ الحَشْرِ وَكّلَ الله بهِ سَبعْينَ أَلْفَ مَلَكٍ يُصَلّونَ عَلَيْهِ حَتّى يُمْسِىَ، وَإِنْ مَاتَ في ذَلِكَ الْيَوْمِ مَاتَ شَهِيداً، وَمَنْ قَالَهَا حِينَ يُمْسِى كانَ بِتْلكَ المَنْزِلَةِ" . هذا حديثٌ حسنٌ غريبٌ لاَ نَعْرِفُهُ إِلا من هذا الوجْهِ.
ـــــــ
والتدبر في معانيها والتخلق بأخلاق ما فيها "وقرأ ثلاث آيات من آخر سورة الحشر" أي من قوله {هُوَ اللَّهُ الَّذِي لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَالِمُ الْغَيْبِ} إلى آخر السورة فإنها مشتملة على الاسم الأعظم عند كثيرين "يصلون عليه" أي يدعون له بتوفيق الخير ودفع الشر أو يستغفرون لذنوبه "ومن قالها" أي الكلمات المذكورة "كان بتلك المنزلة" أي بالرتبة المسطورة، والظاهر أن هذا نقل بالمعنى اقتصاراً من بعض الرواة.
قوله: "هذا حديث حسن غريب" وأخرجه الدارمي وفي سندهما خالد بن طهمان وكان قد خلط قبل موته بعشر سنين.(8/240)
باب ماجاء كيف كانت قراءة النبي صلى الله عليه وسلم
...
23- باب ما جَاءَ كَيْفَ كَانَتْ قِراءَةُ النبيّ صلى الله عليه وسلم
3091- حدثنا قُتَيْبَةُ أخبرنا اللّيْثُ عن عَبْدِ الله بنِ عُبِيْدِ الله بنِ أَبي مُلَيْكَةَ عن يَعْلَى بنِ مَمْلَكٍ: أَنّهُ سَأَلَ أُمّ سَلَمَةَ زَوْجَ النبيّ صلى الله عليه وسلم عن قِرَاءَةِ النبيّ صلى الله عليه وسلم وَصَلاَتِهِ، فَقَالَتْ: "مَا لَكُمْ وَصَلاَتَهُ؟ كَانَ يُصَلّي ثُمّ يَنَامُ قَدْرَ مَا صَلّى، ثُمّ يُصَلّي قَدْرَ مَا نَامَ، ثُمّ
ـــــــ
باب ما جَاءَ كَيْفَ كَانَتْ قِراءَةُ النبيّ صلى الله عليه وسلم
قوله: "عن عبد الله بن عبيد الله بن أبي مليكة" بالتصغير ابن عبد الله بن جدعان يقال اسم أبي مليكة زهير التيمي المدني أدرك ثلاثين من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ثقة فقيه من الثالثة.
قوله: "ومالكم وصلاته" بالنصب أي ما تصنعون بصلاته والمعنى أنكم(8/240)
ينَامُ قَدْرَ مَا صَلّى حَتّى يُصْبِحَ، ثُمّ نَعَتَتْ قِرَاءَتَهُ، فَإِذَا هِىَ تَنْعَتُ قِرَاءَةً مُفَسّرَةً حَرْفاً حَرْفاً" .
هذا حديثٌ حسنٌ صحيحٌ غريبٌ لاَ نَعْرِفُهُ إلاّ مِنْ حَدِيثِ لَيْثِ بنِ سَعْدٍ عن ابنِ أَبي مُلَيْكَةَ عن يَعْلَى بنِ مَمْلَكٍ عن أُمّ سَلَمَةَ.
وَقَدْ رَوَى ابنُ جُرَيْجٍ هَذَا الْحَدِيثَ عن ابنِ أَبي مُلَيْكَةَ عن أُمّ سَلَمَةَ: " أَن النبيّ صلى الله عليه وسلم كَانَ يُقَطّعُ قِرَاءَتَهُ" وَحَدِيثُ اللّيْث أَصَحّ.
3092- حدثنا قُتَيْبَةُ أخبرنا اللّيْثُ عن مُعَاوِيَةَ بنِ صَالِحٍ عن عَبْدِ الله بنِ أَبي قَيْسٍ قالَ: "سَأَلْتُ عَائِشَةَ عن وِتْرِ رَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم كَيْفَ كَانَ يوترُ، مِنْ أَوّلِ اللّيْلِ أو مِنْ آخِرِهِ؟ فَقَالَتْ: كُلّ ذَلِكَ قَدْ كَانَ يِصْنَعُ رُبّمَا أُوْتَرَ مِنْ أَوّلِ اللّيْلِ، وَرُبّمَا أَوْتَرَ مِنْ آخِرِهِ،
ـــــــ
لا تستطيعون أن تصلوا صلاته "ثم نعتت" أي وصفت " قراءة مفسرة" أي مبينة "حرفاً حرفاً" أي كان يقرأ بحيث يمكن عد حروف ما يقرأ والمراد حسن الترتيل والتلاوة على نعت التجويد. قال الطيبي: يحتمل وجهين: الأول أن تقول كانت قراءته كيت وكيت، والثاني: أن تقرأ مرتلة كقراءة النبي صلى الله عليه وسلم قال ابن عباس: لأن أقرأ سورة أرتلها أحب إلي من أن أقرأ القرآن كله بغير ترتيل.
قوله: "هذا حديث حسن صحيح غريب" وأخرجه أبو داود والنسائي "وقد روى ابن جريج هذا الحديث الخ" كذا ذكره الترمذي ههنا معلقاً ووصله في أبواب القراءات وسيأتي الكلام عليه هناك.
قوله: "كل ذلك" بالنصب على أنه مفعول مقدم لقوله قد كان يصنع "ربما أوتر من أول الليل وربما أوتر من آخره" وفي رواية مسروق أوتر أول الليل(8/241)
فقلت: الْحَمْدُ لله الّذِي جَعَلَ في الأمْرِ سَعَةً. فَقلت: كَيْفَ كَانَتْ قِرَاءَتُهُ أَكَانَ يُسِرّ بِالقِرَاءَةِ أُمْ يَجْهَرُ؟ قَالَتْ كُلّ ذَلِكَ قد كَانَ يَفْعَلُ قَدْ كَانَ رُبّمَا أَسَرّ، وَرُبّمَا جَهَرَ، قالَ فَقلت: الْحَمْدُ لله الّذِي جَعَلَ فِي الأمْرِ سَعَةً. قالَ: قلت: فَكَيْفَ كانَ يَصْنَعُ فِي الْجَنَابَةِ؟ أَكَانَ يَغْتَسِلُ قَبْلَ أَنْ يَنَامَ أَمْ يَنَامُ قَبْلَ أَنْ يَغْتَسِلَ؟ قَالَتْ: كُلّ ذَلِكَ قَدْ كَانَ يَفْعَلُ رُبّمَا اغْتَسَلَ فَنَامَ، وَرُبّمَا تَوَضّأَ فَنَامَ . قلت: الْحَمْدُ لله الّذِي جَعَلَ فِي الأَمْرِ سَعَةً".
هذا حديثٌ حسنٌ غريبٌ مِنْ هَذَا الْوَجْه.
3093- حدثنا مُحَمّدُ بنُ إسْمَاعِيلَ أخبرنا مُحَمّدُ بنُ كَثِيرٍ أخبرنا إسْرَائِيلُ أخبرنا عُثْمَانُ بنُ المُغِيرَةِ عن سَالِمِ بنِ أَبي الْجَعْدِ عن جَابِرِ بنِ عَبْدِ الله قالَ: "كان النبيّ صلى الله عليه وسلم قَدْ يَعْرِضُ نَفْسَهُ بَالمَوْقِفِ،
ـــــــ
ووسطه وآخره ولكن انتهى وتره حين مات إلى السحر "الحمد لله الذي جعل في الأمر" أي في أمر الشرع "سعة" بالفتح أي وسعة وتسهيلاً وتيسيراً. قال الطيبي: دل على أن السعة من الله تعالى في التكاليف نعمة يجب تلقيها بالشكر "قد كان ربما أسر وربما جهر" فيه دليل على أن المرء مخير في صلاة الليل يجهر بالقراءة أو يسر.
قوله: "هذا حديث حسن غريب" وأخرجه مسلم وأبو داود.
قوله: "حدثنا محمد بن إسماعيل" هو الإمام البخاري "أخبرنا محمد بن كثير" العبدي البصري ثقة لم يصب من ضعفه من كبار العاشرة "أخبرنا إسرائيل" هو ابن يونس.
قوله: "كان النبي صلى الله عليه وسلم قد يعرض نفسه" أي على الناس(8/242)
فَقَال: أَلاَ رَجُلٌ يَحْمِلُنِي إلى قَوْمِهِ، فَإِنّ قُرَيْشاً قَدْ مَنَعُونِي أَن أُبَلّغَ كَلاَمَ رَبّي" .
ـــــــ
"بالموقف" أي بالموسم "يحملني إلى قومه" أي لأبلغ كلام ربي "فإن قريشاً قد منعوني أن أبلغ كلام ربي" زاد في رواية غير الترمذي فأتاه رجل من همدان فأجابه ثم خشى أن لا يتبعه قومه فجاء إليه فقال آتى قومي فاخبرهم ثم آتيك من العام المقبل قال نعم فانطلق الرجل. قال الحافظ في الفتح: ذكر ابن إسحاق وغيره أن النبي صلى الله عليه وسلم كان بعد موت أبي طالب قد خرج إلى ثقيف بالطائف يدعوهم إلى نصره فلما امتنعوا منه رجع إلى مكة فكان يعرض نفسه على قبائل العرب في مواسم الحج، وذكر بأسانيد متفرقة أنه أتى كندة وبني كعب وبني حذيفة وبني عامر بن صعصعة وغيرهم فلم يجبه أحد منهم إلى ما سأل. وقال موسى بن عقبة عن الزهرى: فكان في تلك السنين أي التي قبل الهجرة يعرض نفسه على القبائل ويكلم كل شريف قوم لا يسألهم إلا أن يؤووه ويمنعوه، ويقول لا أكره أحداً منكم على شيء بل أريد أن تمنعوا من يؤذيني حتى أبلغ رسالة ربي فلا يقبله أحد بل يقولون قوم الرجل أعلم به، ثم ذكر حديث جابر هذا ثم قال: وجاء وفد الأنصار في رجب. وقد أخرج الحاكم وأبو نعيم والبيهقي في الدلائل بإسناد حسن عن ابن عباس: حدثني علي بن أبي طالب قال لما أمر الله نبيه أن يعرض نفسه على قبائل العرب خرج وأنا معه وأبو بكر إلى منى حتى دفعنا إلى مجلس من مجالس العرب وتقدم أبو بكر - وكان نسابة - فقال من القوم؟ فقالوا من ربيعة. فقال من أي ربيعة أنتم؟ قالوا من ذهل، فذكروا حديثاً طويلاً في مراجعتهم وتوقفهم أخيراً عن الإجابة. قال ثم دفعنا إلى مجلس الأوس والخزرج وهم الذين سماهم رسول الله صلى الله عليه وسلم الأنصار لكونهم أجابوه إلى إيوائه ونصره، قال فما نهضوا حتى بايعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم انتهى. ومناسبة هذا الحديث بالباب بأنه صلى الله عليه وسلم إذا بلغ قوماً القرآن يقرأه عليهم بالترتيل والتقطيع. وتكون قراءته عليهم مفسرة حرفاً حرفاً ليتدبروا فيه ويتعظوا به.(8/243)
هذا حديثٌ حسنٌ صحيحٌ غريبٌ.
ـــــــ
قوله: "هذا حديث حسن صحيح غريب" قال الحافظ في الفتح: أخرجه أحمد وأصحاب السنن وصححه الحاكم.(8/244)
24- باب
3094- حدثنا مُحَمّدُ بنُ إسْمَاعِيلَ أخبرنا شِهَابُ بنُ عَبّادٍ العَبْدِيّ أخبرنا مُحمّدُ ابنُ الْحَسَنِ بنِ أَبي يَزِيدَ الْهَمْدَانيّ عن عَمْرِو بنِ قَيْس عن أَبي سَعِيدٍ قالَ: قالَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم: "يَقُولُ الرّبّ عز وجل: مَنْ شَغَلَهُ القُرْآنُ عن ذِكْرِى، مَسْألَتِي أَعْطَيْتُهُ أَفْضَلَ مَا أُعْطِى السّائِلِينَ، وَفَضْلُ كَلاَمِ الله عَلَى سَائِرِ الكَلاَمِ كَفَضْلِ الله عَلَى خَلْقِهِ" .
ـــــــ
"باب"
قوله: "حدثنا محمد بن إسماعيل" هو الإمام البخاري "أخبرنا شهاب بن عباد العبدي" أبو عمر الكوفي ثقة من العاشرة "أخبرنا محمد بن الحسن بن أبي يزيد الهمداني" بالسكون أبو الحسن الكوفي نزيل واسط ضعيف من التاسعة "عن عطية" هو العوفي.
قوله: "من شغله القرآن عن ذكرى ومسألتي أعطيته أفضل ما أعطي السائلين" أي من اشتغل بقراءة القرآن ولم يفرغ إلى ذكر ودعاء أعطى الله مقصوده ومراده أكثر وأحسن مما يعطي الذين يطلبون حوائجهم "وفضل كلام الله على سائر الكلام كفضل الله على خلقه" قال ميرك: يحتمل أن تكون هذه الجملة من تتمة قول الله عز وجل فحينئذ فيه التفات كما لا يخفي، ويحتمل أن تكون من كلام النبي صلى الله عليه وسلم وهذا أظهر لئلا يحتاج إلى ارتكاب الالتفات انتهى. وقال الشوكاني في تحفة الذاكرين: هذه الكلمة لعلها خارجة مخرج التعليل لما تقدمها من أنه يعطي المشتغل(8/244)
هذا حديثٌ حسنٌ غريبٌ.
ـــــــ
بالقرآن أفضل ما يعطي الله السائلين، ووجه التعليل أنه لما كان كلام الرب سبحانه وتعالى فائقاً على كل كلام كان أجر المشتغل فوق كل أجر. والحديث لولا أن فيه ضعفاً لكان دليلاً على أن الاشتغال بالتلاوة عن الذكر وعن الدعاء يكون لصاحبه هذا الأجر العظيم.
قوله: "هذا حديث غريب" قال الحافظ في الفتح بعد ذكر هذا الحديث: رجاله ثقات إلا عطية العوفي ففيه ضعف انتهى. قلت: وفي سنده محمد بن الحسن ابن أبي يزيد الهمداني وهو أيضاً ضعيف. قال الحافظ في تهذيب التهذيب في ترجمته: قال الذهبي حسن الترمذي حديثه فلم يحسن انتهى. والحديث أخرجه أيضاً الدارمي والبيهقي في شعب الإيمان.(8/245)
أبواب القراءات عن رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم
أبواب القراءات عن رسول الله صلى الله عليه وسلم
...
أبواب القراءات عن رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم
1- بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
3095- حدثنا عَلِيّ بنُ حُجْرٍ أخبرنا يَحْيَى بنُ سَعِيدٍ الأمَويّ عن ابنِ جُرَيْجٍ عن ابنِ أَبي مُلَيْكَةَ عن أُمّ سَلَمَةَ قَالَتْ: "كَانَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم يُقَطّعُ قِرَاءَتَهُ يَقْرَأُ: الْحَمْدُ لله رَبّ الْعَالِمِينَ. ثُمّ يَقِفُ. الرّحمَنِ الرّحِيمِ. ثُمّ يقِفُ. وَكَانَ يَقْرَأُهَا: مَلِكِ يَوْمِ الدّينِ" .
هذا حديثٌ غريبٌ. وَبِهِ يقرأ أَبُو عُبَيْدٍ وَيَخْتَارُهُ، هَكَذَا رَوَى يَحْيَى بنُ سَعِيدٍ الأمَويّ، وَغَيْرُهُ عن ابنِ جُرَيْجٍ عن ابنِ أَبي مُلَيْكَةَ عن
ـــــــ
أبواب القراءات عن رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم
قوله: "يقطع قراءته" زاد في رواية أبي داود آية آيه أي يقف عند كل آية "يقرأ الحمد لله رب العالمين ثم يقف الرحمن الرحيم ثم يقف" هذا بيان لقوله يقطع قراءته "وكان يقرؤها" في بعض النسخ يقرأ بحذفها "ملك يوم الدين" على وزن كتف.
قوله: "هذا حديث غريب" وأخرجه أبو داود وسكت عنه وزاد بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ قبل الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، وقال بعد روايته وسمعت أحمد يقول القراءة القديمة مالك يوم الدين انتهى.
قوله: "وبه يقرأ أبو عبيد ويختاره" أبو عبيد هذا اسمه القاسم بن سلام بتشديد اللام البغدادي الإمام المشهور ثقة فاضل مصنف قاله الحافظ في التقريب. وقال: ولم أر له في الكتب حديثاً مسنداً بل أقواله في شرح الغريب انتهى. وذكر في تهذيب التهذيب ترجمته مبسوطة. وقال السيوطي في الإتقان: أول من صنف(8/246)
أُمّ سَلَمَةَ، وَلَيْسَ إِسْنَادُهُ بِمُتّصِلٍ لأنّ اللّيْثَ بنَ سَعْدٍ رَوَى هَذَا الْحَدِيثَ عن ابن أَبي مُلَيْكَةَ عن يَعْلَى بن مَمْلَكٍ عن أُمّ سَلَمَةَ أَنّهَا وَصَفَتْ قِرَاءَةَ النبيّ صلى الله عليه وسلم حَرْفاً حَرْفاً. وَحَدِيثُ اللّيْثِ أَصَحّ وَلَيْسَ فِي حَدِيثِ اللّيْثِ، وَكَانَ يَقْرَأُ {مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ} .
ـــــــ
في القراءة أبو عبيد القاسم بن سلام انتهى. وقال الحافظ بن كثير في تفسيره: قرأ بعض القراء ملك يوم الدين وقرأ آخرون مالك وكلاهما صحيح متواتر في السبع ويقال ملك بكسر اللام وبإسكانها، ويقال مليك أيضاً، وأشبع نافع كسرة الكاف فقرأ ملكي يوم الدين، وقد رجح كلا من القراءتين مرجحون من حيث المعنى وكلاهما صحيحة حسنة. ورجح الزمخشري ملك لأنها قراءة أهل الحرمين، ولقوله {لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ} وقوله {الْحَقُّ وَلَهُ الْمُلْكُ} وحكى عن أبي حنيفة أنه قرأ: ملك يوم الدين، على أنه فعل وفاعل ومفعول وهذا شاذ غريب جداً وقد روى أبو بكر بن أبي داود في ذلك شيئاً غريباً حيث قال حدثنا أبو عبد الرحمن الأزدي حدثنا عبد الوهاب بن عدي بن الفضل عن أبي المطرف عن ابن شهاب أنه بلغه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبا بكر وعمر وعثمان ومعاوية وابنة يزيد ابن معاوية كانوا يقرؤون مالك يوم الدين. قال ابن شهاب وأول من أحدث ملك مروان. قلت: مروان عنده علم بصحة ما قرأه لم يطلع عليه ابن شهاب والله أعلم. وقد روى من طرق متعددة أوردها ابن مردويه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقرؤها: مالك يوم الدين انتهى كلام الحافظ ابن كثير. وقال البغوي: قرأ عاصم والكسائي ويعقوب مالك وقرأ الآخرون ملك، قال قوم معناهما واحد مثل فرهين وفارهين وحذرين وحاذرين انتهى.
قوله: "وليس إسناده بمتصل لأن الليث بن سعد روى هذا الحديث عن ابن أبي مليكة عن يعلى بن مملك عن أم سلمة" فزاد الليث بين ابن أبي مليكة وأم سلمة يعلى بن مملك فعلم أن حديث يحيى بن سعيد الأموي وغيره بدون ذكر يعلى بن مملك بينهما منقطع "وحديث الليث أصح" أي من حديث يحيى بن سعيد الأموي وغيره عن ابن جريج عن ابن أبي مليكة عن أم سلمة. قلت: صرح(8/247)
3096- حدثنا أَبُو بَكْرٍ مُحمّدُ بنُ أَبَانَ أخبرنا أَيّوبُ ابنُ سُوَيْدٍ الرّمْلِيّ عن يُونُسَ بن يَزِيدَ عن الزّهْرِيّ عن أَنَسٍ: "أن النبيّ صلى الله عليه وسلم وَأَبَا بَكْرٍ وَعُمَرَ، وَأُرَاهُ قَالَ: وَعُثْمَانَ كَانُوا يَقْرَؤُونَ: مَالِكٍ يَوْمِ الدّينِ" .
هذا حديثٌ غريبٌ لاَ نَعْرِفُهُ مِنْ حَدِيثِ الزّهْرِيّ عن أَنَسٍ بنِ مَالِكٍ إلا مِنْ حَدِيثِ هَذَا الشّيْخِ أَيّوبَ بنِ سُوَيْدٍ الرّمْلِيّ. وَقَدْ رَوَى بَعْضُ أَصْحَابِ الزّهْرِيّ هَذَا الْحَدِيثَ عن الزّهْرِيّ: "أنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم، وَأَبَا بَكْرٍ وَعُمَرَ كَانُوا يَقْرَأُونَ مَالِكِ يَوْمِ الدّينِ" وقد رَوَى عَبْدُ الرّزّاق عن مَعْمَرٍ عن الزّهْرِيّ عن سَعِيدِ بنِ المُسَيّبِ: "أَن النبيّ صلى الله عليه وسلم وَأَبَا بَكْرٍ وَعُمَرَ كاَنُوا يَقْرَؤُونَ: مَالِكِ يَوْمِ الدّينِ" .
ـــــــ
الحافظ في تهذيب التهذيب أن ابن أبي مليكة روى عن أسماء وعائشة وأم سلمة، وفي البخاري قال ابن أبي مليكة أدركت ثلاثين من الصحابة فيجوز أن ابن أبي مليكة كان يروي الحديث أولاً عن يعلى عن أم سلمة ثم لقيها فسمعه منها فروى عنها بلا واسطة والله تعالى أعلم.
قوله: "أخبرنا أيوب بن سويد الرملي أبو مسعود الحميري الشيباني صدوق يخطئ كذا في التقريب. وقال المنذري وأيوب بن سويد هذا قال عبد الله بن المبارك أرم به وضعفه غير واحد انتهى.
قوله: كانوا يقرؤون {مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ} أي بالألف بعد الميم على وزن فاعل.
قوله: "هذا حديث غريب" في سنده أيوب بن سويد وضعفه غير واحد كما عرفت. وقال البخاري يتكلمون فيه "وقد روى بعض أصحاب الزهرى هذا الحديث عن الزهري أن النبي صلى الله عليه وسلم الخ" يعني رواه بعض أصحاب الزهري مرسلاً "وروى عبد الرزاق عن معمر عن الزهري عن سعيد بن المسيب أن النبي الخ" هذا أيضاً مرسل وهذا المرسل أخرجه أبو داود في سننه ثم قال(8/248)
3097- حدثنا أَبُو كُرَيْبٍ أخبرنا بنُ المُبَارَكِ عن يُونُسَ بنِ يَزِيدَ عن أَبي عَلِيّ بنِ يَزِيدَ عن الزّهْرِيّ عن أَنَسٍ بنِ مَالِكٍ: "أن النبيّ صلى الله عليه وسلم قَرَأَ {أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ} . قال سُوَيْدُ ابنُ نَصْرٍ أخبرنا عبد الله ابنُ المُبَارَكِ عن يُونُسَ بنِ يَزِيدَ بِهَذَا الإسْنَادِ نَحْوَهُ.
ـــــــ
هذا أصح من حديث الزهري عن أنس والزهري عن سالم عن أبيه انتهى يعني حديث الزهري المرسل أصح من حديث الزهري عن أنس المتصل ومن حديث الزهري عن سالم عن أبيه المتصل، وحديث الزهري عن سالم عن أبيه أخرجه الدارقطني في الإفراد قاله المنذري. وفي الدر المنثور وأخرج سعيد بن منصور وابن أبي داود في المصاحف من طريق سالم عن أبيه أن النبي صلى الله عليه وسلم وأبا بكر وعمر وعثمان كانوا يقرؤون مالك يوم الدين، وأخرج الطبراني في معجمه الكبير عن ابن مسعود أنه قال قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم مالك يوم الدين بالألف. وأخرج وكيع والفريابي وأبو عبيد وسعيد بن منصور وعبد بن حميد وابن المنذر من طرق عن عمر بن الخطاب أنه كان يقرأ مالك يوم الدين بالألف. وأخرج وكيع والفريابي وعبد بن حميد وابن أبي داود عن أبي هريرة أنه كان يقرؤها مالك يوم الدين بالألف.
قوله: "عن أبي علي بن يزيد" الأيلي هو أخو يونس بن يزيد قال في تهذيب التهذيب: ذكره ابن حبان في الثقات، وقال أبو حاتم مجهول انتهى.
قوله: "والعين بالعين" أي بالرفع عطف على محل أن النفس. قال البيضاوي في تفسيره: رفعها الكسائي على أنها جمل معطوفة على أن وما في حيزها باعتبار المعنى انتهى. وقال البغوي في المعالم: وقرأ الكسائي والعين وما بعدها بالرفع، وقرأ ابن كثير وابن عامر وأبو جعفر وعمرو والجروح بالرفع فقط، وقرأها الآخرون كلها بالنصب كالنفس انتهى.
قوله: "قال سويد بن نصر" المروزي أبو الفضل المعروف بالشاه.(8/249)
3098- حدثنا سويد بن نصر أخبرنا ابن المبارك عن يونس بن يزيد بهذا الإسناد نحوه. وَأَبُو عَليّ بن يَزيدَ هُوَ أَخُو يُونُسَ. بنِ يَزِيدَ وَهذا حديثٌ حسنٌ غريبٌ. قالَ مُحّمدٌ: تَفَرّدَ ابنُ المُبَارَكِ بِهَذَا الْحَدِيثِ عن يُونُسَ بنِ يَزِيدَ، وَهَكَذَا قَرَأَ أَبُو عُبَيْدٍ "الْعَيْنُ بالْعَيْنِ" اتباَعاً لِهَذَا الْحدِيثِ.
3099- حدثنا أَبُو كُرَيْبٍ أخبرنا رِشْدِينُ بنُ سَعْدٍ عن عَبْدِ الرّحْمَنِ بنِ زِيَادِ بنِ أَنْعَمَ عن عُتْبَةَ بنِ حُمَيْدٍ عن عُبَادَةَ بنِ نُسَىٍ عن عَبْد الرّحْمَن بنِ غَنْمٍ عن مُعَاذِ بنِ جَبَلٍ: "أنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم قَرَأَ: هَلْ تستطيع رَبّكَ".
هذا حديثٌ غريبٌ لاَ نَعْرِفُهُ إلاّ مِنْ حَدِيثِ رِشْدِينَ بنِ سَعْدٍ، وَلَيْسَ إِسْنَادُهُ بِالْقَوِيّ. وَرِشْدِينُ بنُ سَعْدٍ، وَعَبْد الرّحْمَن بنُ زِيَادِ ابن أَنْعَمَ الإفْرِيقيّ يُضَعّفَانِ فِي الْحَدِيثِ.
ـــــــ
"حدثنا سويد بن نصر أخبرنا ابن المبارك عن يونس بن يزيد بهذا الإسناد نحوه" هذه العبارة لم توجد في بعض النسخ ووجدت في بعضها وحذفها هو الظاهر.
قوله: "وهذا حديث حسن غريب" وأخرجه أحمد وأبو داود وسكت عنه هو والمنذري "قال محمد" يعني البخاري "تفرد ابن المبارك بهذا الحديث عن يونس بن يزيد" وقال الطبراني في الأوسط: لم يروه عن الزهري إلا أبو علي ولا عنه إلا يونس تفرد به ابن المبارك كذا في تهذيب التهذيب.
قوله: "أن النبي صلى الله عليه وسلم قرأ هل يستطيع ربك" بالتاء ونصب باء ربك أي هل تستطيع أن تسأل ربك هذه قراءة الكسائي وقراءة غيره هل يستطيع ربك بالياء ورفع باء ربك. والاَية بتمامها هكذا {إِذْ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ أَنْ يُنَزِّلَ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِنَ السَّمَاءِ قَالَ اتَّقُوا اللَّهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} .(8/250)
4000- حدثنا حُسَيْنُ بنُ مُحمّدٍ الْبَصْرِيّ أخبرنا عَبْدِ الله بنُ حَفْصٍ أخبرنا ثَابِتٌ البُنَانيّ عن شَهْرِ بنِ حَوْشَبٍ عن أُمّ سَلَمَةَ: "أَنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَقْرَؤهَا {إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ} .
هذا حديثٌ قَدْ رَوَاهُ غَيْرُ وَاحِدٍ عن ثَابِتٍ البُنَانِيّ نَحْوَ هَذَا، وَهُوَ حَدِيثُ ثَابِتٍ البُنَانيّ. وقد رُوِيَ هَذَا الْحَدِيثُ أَيْضاً عن شَهْرِ بنِ حَوْشَبٍ عن أَسْمَاءَ بِنْتِ يَزِيدَ قال وَسَمِعْتُ عَبْدَ بنَ حُمَيْد، يَقُولُ: أَسْمَاءُ
ـــــــ
قوله: "حدثنا حسين بن محمد البصري" السعدي الذارع "أخبرنا عبد الله ابن حفص" الأرطباني بمهملتين وموحدة أبو حفص البصري روى عن ثابت البناني قال أحمد ما أرى به بأساً كذا في الخلاصة، وقال في التقريب صدوق "عن أم سلمة" اسمها أسماء بنت يزيد بن السكن الأنصارية الأشهلية روت عن النبي صلى الله عليه وسلم وعنها شهر بن حوشب وغيره بايعت النبي صلى الله عليه وسلم وشهدت اليرموك.
قوله: "أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقرؤها" أي الآية: إنه عَمَلٌ غيرُ صالح "إنه عَمِلَ غيرَ صالح" بصيغة الماضي ونصب راء غير، وفي رواية لأبي داود عن شهر بن حوشب قال سألت أم سلمة كيف كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ هذه الآية "إنه عمل غير صالح"؟ فقالت قرأها "إنه عمل غير صالح" قال الخازن: قرأ الكسائي ويعقوب عمل بكسر الميم وفتح اللام وغير بفتح الراء على عود ضمير الفعل على الابن ومعناه إنه عمل الشرك والكفر والتكذيب، وكل هذا غير صالح، وقرأ الباقون من القراء عمل بفتح الميم ورفع اللام مع التنوين وغير بضم الراء ومعناه أن سؤالك إياي أن أنجيه من الغرق عمل غير صالح لأن طلب نجاة الكافر بعدما حكم عليه بالهلاك بعيد انتهى.
قوله: "هذا حديث قد رواه غير واحد عن ثابت البناني" والحديث أخرجه أبو داود وسكت عنه، وقال المنذري وشهر بن حوشب قد تكلم فيه غير واحد ووثقه الإمام أحمد ويحيى بن معين "وقد روى هذا الحديث عن شهر بن حوشب عن أسماء بنت يزيد" أخرجه أبو داود "وسمعت عبد بن حميد" صاحب المسند(8/251)
بِنْتُ يَزِيدَ هِيَ أُمّ سَلَمَةَ الأَنْصَارِيّةُ، كِلاَ الحَدِيثَيْنِ عِنْدِي وَاحِدٌ، وَقَدْ رَوَى شَهْرُ بنُ حَوْشَبٍ غَيْرَ حَدِيثٍ عن أُمّ سَلَمَةَ الأنْصَارِيّةِ، وَهِيَ أَسْمَاءُ بِنْتُ يَزيِدَ، وَقَدْ رُوِيَ عن عَائِشَةَ عن النبيّ صلى الله عليه وسلم نَحْوَ هَذَا.
4001- حدثنا يَحْيَ بنُ مُوسَى حدثنا وَكيعٌ وَحَبّانُ بن هِلاَلٍ، قالا: حدثنا هَارُونُ النّحْويّ عن ثَابِتٍ البُنَانيّ عن شَهْرٍ حَوْشَبٍ عن أُمّ سَلَمَةَ: "أَنّ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم قَرَأَ هَذَهِ الآية {إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ1} .
4002- حدثنا أَبُو بَكْرِ بنِ نَافِعٍ البَصْرِيّ أخبرنا أُمَيّةُ بنُ خَالِدٍ أخبرنا أَبُو الْجَارِيَةِ العَبْدِيّ عن شُعْبَةَ عن أَبي إسْحَاقَ عن سَعِيدٍ بنِ جُبَيْرٍ عن ابنِ عَبّاسٍ عن أُبَيّ بنِ كَعْبٍ عن النبيّ صلى الله عليه وسلم أَنّهُ قَرَأَ : {قَدْ بَلَغْتَ مِنْ لَدُنِّي عُذْراً} مُثَقّلَةً .
ـــــــ
ثقة حافظ روى عنه مسلم والترمذي وخلق "كلا الحديثين عندي واحد" هذا قول الترمذي "وقد روى شهر بن حوشب غير حديث" أي أحاديث عديدة "عن أم سلمة الأنصارية وهي أسماء بنت يزيد" قال المنذري: وكانت أم سلمة هذه خطيبة النساء، وقد روى شهر بن حوشب أيضاً عن أم سلمة بنت أبي أمية زوج النبي صلى الله عليه وسلم عدة أحاديث انتهى.
قوله: "حدثنا أبو بكر بن نافع البصري" اسمه محمد بن أحمد بن نافع العبدي "أخبرنا أمية بن خالد" بن الأسود القيسي بالقاف ثم تحتانية أخو هدية يكنى أبا عبد الله البصري صدوق "أخبرنا أبو الجارية العبدي" قال الحافظ مجهول "عن أبي إسحاق" هو عمرو بن عبد الله السبيعي.
قوله: "أنه قرأ قد بلغت من لدني عذراً مثقلة" أي قرأ النون في لدني مثقلة
ـــــــ
1 ذكره في الأطراف كذا في هامش النسخة الأحمدية(8/252)
هذا حديثٌ غريبٌ لاَ نَعْرِفُهُ إلاّ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ، وَأُمَيّةُ بنُ خَالِدٍ ثِقَةٌ، وَأَبُو الْجَارِيَةِ العَبْدِيّ شَيْخٌ مَجْهُولٌ لا أدري من هو وَلاَ نعرف اسْمَهُ.
4003- حدثنا يَحْيَى بنُ مُوسَى أخبرنا مُعَلّى بنُ مَنْصُورٍ حدثنا مُحمّدٍ بنِ دِينَارٍ عن سَعْدِ بنٍ أَوْسٍ عن مِصْدَعٍ أَبي يَحْيَى عن ابنِ عَبّاسٍ عن أُبيّ بن كَعْب: "أَنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم قَرَأَ {فِي عَيْنٍ حَمِئَةٍ}" .
ـــــــ
يعني مشددة وفي رواية أبي داود أنه قرأ قد بلغت من لدني وثقلها فقراءة الأكثر بضم الدال وتشديد النون، قال البغوي قرأ أبو جعفر ونافع وأبو بكر من لدني خفيفة النون وقرأ الآخرون بتشديدها انتهى. وقال البيضاوي في تفسيره: وقرأ نافع لدني بتحرك النون والاكتفاء بها عن نون الوقاية وقرأ أبو بكر لدني بتحريك النون وإسكان الدال انتهى.
قوله: "هذا حديث غريب الخ" وأخرجه أبو داود.
قوله: "أخبرنا معلى بن منصور" الرازي أبو يعلى نزيل بغداد ثقة سني ففيه طلب للقضاء فامتنع أخطأ من زعم أن أحمد رماه بالكذب "عن محمد بن دينار" الأزدي ثم الطاحي بمهملتين البصري صدوق سيء الحفظ رمي بالقدر تغير قبل موته "عن سعد بن أوس" العدوي البصري روى عن مصدع أبو يحيى وعنه محمد بن دينار الطاحي وثقة ابن حبان وضعفه ابن معين كذا في الخلاصة، وقال في التقريب صدوق له أغاليط "عن مصدع" على وزن منبر "أبي يحيى" الأعرج المعرقب مقبول قاله الحافظ. وقال الخزرجي مصدع الأعرج أبو يحيى المعرقب بفتح القاف عرقبه بشر بن مروان موثق.
قوله: "أن النبي صلى الله عليه وسلم قرأ في عين حمئة" بفتح الحاء وكسر الميم بعدها همزة مفتوحة وفي رواية أبو داود أقرأني أبي بن كعب كما أقرأه رسول الله صلى الله عليه وسلم في عين حمئة مخففة أي بحذف الألف بعد الحاء يعني لا حامية بإثبات الألف كما في قراءة. قال البغوي قرأ أبو جعفر وأبو عامر وحمزة والكسائي وأبو بكر حامية بالألف غير مهموزة أي حارة، وقرأ الآخرون(8/253)
هذا حديثٌ غريبٌ لاَ نَعْرِفُهُ إلاّ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ. وَالصّحِيحُ مَا رُوِيَ عن ابنِ عَبّاس قِرَاءَتُهُ، وَيُرْوَى أَنّ ابنَ عَبّاسٍ وَعَمْرَو بنَ الْعَاصِ اخْتَلَفَا فِي قِرَاءَةِ هَذِهِ الآية وَارْتَفَعَا إلى كَعْبِ الأحْبَارِ فِي ذَلِكَ. فَلَوْ كَانَتْ
ـــــــ
حمئة مهموزاً بغير الألف أي ذات حمأه وهي الطينة السوداء. وقال بعضهم يجوز أن يكون معنى قوله في عين حمئة أي عندها عين حمئة أو في رأي العين وذلك أنه بلغ موضعاً من المغرب لم يبق بعده شيء من العمران فوجد الشمس كأنها تغرب في وهدة مظلمة كما أن راكب البحريرى الشمس كأنها تغيب في البحر، وقد جاء في قراءة في عين حامية حديث مرفوع أخرج أبو داود في سننه عن أبي ذر قال كنت رديف رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو على حمار والشمس عند غروبها فقال "هل تدري أين تغرب هذه"؟ قلت الله ورسوله أعلم. قال "فإنها تغرب في عين حامية". والحديث سكت عنه أبو داود والمنذري. وقال ابن جرير: والصواب أنهما منافاة بين معنيهما إذ قد تكون حارة لمجاورتها وهج الشمس عند غروبها وملاقاتها الشعاع بلا حائل وحمئة في ماء وطين أسود كما قال كعب الأخبار وغيره انتهى.
قوله: "هذا حديث غريب لا نعرفه إلا من هذا الوجه" وأخرجه أبو داود "والصحيح ما روى ابن عباس قراءته" يعني الصحيح أن هذا الحديث موقوف على ابن عباس وهو قرأ في عين حمئة لا النبي صلى الله عليه وسلم "ويروى أن ابن عباس وعمر وبن العاص اختلفا في قراءة هذه الآية وارتفعا إلى كعب الأحبار في ذلك" أخرج سعيد بن منصور وابن المنذر من طريق عطاء عن ابن عباس قال: خالفت عمرو بن العاص عند معاوية في حمئة وحامية قرأتها في عين حمئة فقال عمرو حامية فسألنا كعباً فقال إنها في كتاب الله المنزل تغرب في طين سوداء. كذا في الدر المنثور وفيه: وأخرج عبد الرزاق وسعيد بن منصور وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم من طريق عثمان بن أبي حاضر أن ابن عباس ذكر له أن معاوية بن أبي سفيان قرأ الآية التي في سورة الكهف: تغرب في عين حامية(8/254)
عِنْدَهُ رِوَايَةٌ عن النبيّ صلى الله عليه وسلم لاسْتَغْنَى بِرِوَايَتِهِ، وَلَمْ يَحْتَجْ إلى كَعْبٍ.
4004- حدثنا نَصْرُ بنُ عَلِيّ الْجَهْضَمِيّ أخبرنا المُعْتَمِرُ بنُ سُلَيْمَانَ عن أَبيه عن سُلَيْمَانَ الأعَمشِ عن عَطيّةَ عن أَبي سَعِيدٍ قالَ: "لَمّا كَانَ يَوْمُ بَدْرٍ ظَهَرَتِ الرّومُ عَلَى فَارِسَ فَأَعَجبَ ذَلِكَ المؤْمِنِينَ فَنَزَلَتْ {آلم غُلِبَتِ الرُّومُ} إلى قَوْلِهِ {يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ} قال يفرح المُؤْمِنُونَ بظُهُورٍ الرّومِ عَلَى فَارِسَ".
ـــــــ
قال ابن عباس فقلت لمعاوية ما نقرؤها إلا حمئة فسأل معاوية عبد الله بن عمرو كيف تقرؤها؟ فقال عبد الله كما قرأتها، قال ابن عباس فقلت لمعاوية في بيتي نزل القرآن فأرسل إلى كعب فقال له أين تجد الشمس تغرب في التوراة؟ فقال له كعب سل أهل العربية فأنهم أعلم بها وأما أنا فأني أجد الشمس تغرب في التوراة في ماء وطين. وأشار بيده إلى المغرب "فلو كانت عنده" أي عند ابن عباس "رواية عن النبي صلى الله عليه وسلم لاستغنى بروايته ولم يحتج" من الاحتياج "إلى كعب" فعلم أن الصحيح ما روى عن ابن عباس قراءته.
قوله: "عن أبيه" هو سليمان بن طرخان "عن عطية" هو ابن سعد بن جنادة العوفي.
قوله: "ظهرت الروم على فارس" أي غلبوا عليهم "فنزلت ألم غلبت الروم إلى قوله يفرح المؤمنون" أي فقرئت لأن نزول هذه الآية كان بمكة. قال في تفسير الجلالين "ألم غلبت الروم" وهم أهل كتاب غلبتها فارس وليسوا أهل كتاب بل يعبدون الأوثان ففرح كفار مكة بذلك وقالوا للمسلمين نحن نغلبكم كما غلبت فارس الروم في أدنى الأرض أي أقرب أرض الروم إلى فارس بالجزيرة فالتقى فيما الجيشان والبادي بالفوز الفارس "وهم" أي الروم "من بعد غلبهم" أضيف المصدر إلى المفعول أي غلبة فارس إياهم سيغلبون فارس في بضع سنين هو ما بين الثلاث إلى التسع أو العشر فالتقى الجيشان في السنة السابعة من الالتقاء(8/255)
هذا حديثٌ حسنٌ غريبٌ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ وَيُقْرَأُ: غَلَبَتْ، وَغُلِبَتْ، يَقُولُ: كَانَتْ غَلَبَتْ ثُمّ غَلَبَتْ. هَكَذَا قَرَأَ نَصْرُ بنُ عَلِيّ غَلَبَتْ.
ـــــــ
الأول وغلبت الروم فارس "لله الأمر من قبل ومن بعد" أي من قبل غلب الروم ومن بعده، والمعنى أن غلبة فارس أولاً وغلبة الروم ثانياً بأمر الله أي إرادته "ويومئذ" أي يوم تغلب الروم ويفرح المؤمنون بنصر الله، إياهم على فارس وقد فرحوا بذلك وعلموا به يوم وقوعه يوم بدر بنزول جبرئيل بذلك فيه مع فرحهم بنصرهم على المشركين فيه "ينصر من يشاء وهو العزيز" الغالب "الرحيم" بالمؤمنين. قال ابن جرير رحمه الله قوله: غلبت الروم في أدنى الأرض اختلفت القراء في قراءته، فقرأته عامة قراء الأمصار. غلبت الروم بضم الغين بمعنى أن فارس غلبت الروم، وقرأ غلبت الروم بفتح الغين، والذين قرأوا بفتح الغين قالوا: نزلت هذه الآية خبراً من الله نبيه صلى الله عليه وسلم عن غلبة الروم قال والصواب من القراءة في ذلك عندنا الذي لا يجوز غيره ألم غلبت الروم بضم الغين لإجماع الحجة من القراء عليه، فإذا كان ذلك كذلك فتأويلي الكلام غلبت فارس الروم في أدنى الأرض من أرض الشام إلى أرض فارس، وهم من بعد غلبهم، يقول والروم من بعد غلبة فارس إياهم سيغلبون فارس في بضع سنين، لله الأمر من قبل غلبتهم فارس، ومن بعد غلبتهم إياها، يقضي في خلقه ما يشاء ويحكم ما يريد ويظهر من شاء منهم على من أحب إظهاره عليه، ويومئذ يفرح المؤمنون بنصر الله، يقول: ويوم يغلب الروم فارس يفرح المؤمنون بالله ورسوله بنصر الله إياهم على المشركين ونصرة الروم على فارس ينصر الله تعالى من يشاء من خلقه على من يشاء، وهو نصرة المؤمنين على المشركين ببدر قال وأما قوله سيغلبون فإن القراء أجمعين على فتح الياء فيها. والواجب على قراءة من قرأ: ألم غلبت الروم بفتح الغين أن يقرأ قوله سيغلبون بضم الياء فيكون معناه. وهم من غلبتهم فارس سيغلبهم المسلمون حتى يصح معنى الكلام، وإلا لم يكن للكلام كبير معنى إن فتحت الياء لأن الخبر عما قد كان يصير إلى الخبر عن أنه سيكون وذلك إفساد أحد الخبرين ب الآخر انتهى كلامه ملخصاً.
قوله: "هذا حديث حسن غريب من هذا الوجه" وأخرجه بن جرير وابن(8/256)
4005- حدثنا مُحمّدُ بنُ حُميْدٍ الرازِيّ أخبرنا محمد بنُ مَيسّر النّحْويّ عن فُضَيْلِ بنِ مَرْزُوقٍ عن عَطِيّةَ العَوْفِيّ عن ابن عُمَرَ: "أَنّهُ قَرَأَ عَلَى النبيّ صلى الله عليه وسلم {خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ} فَقَالَ: مِنْ ضُعْفٍ" .
ـــــــ
أبي حاتم والبزار وفي إسناده عطية بن سعد العوفي تقدم ترجمته من التقريب. وقال الذهبي في الميزان تابعي شهير ضعيف، قال أبو حاتم يكتب حديثه ضعيف وقال ابن معين صالح، وقال أحمد ضعيف الحديث، وقال بلغني أن عطيه كان يأتي الكلبي فيأخذ عنه التفسير وكان يكنيه بأبي سعيد فيقول: قال أبو سعيد، قال الذهبي يعني يوهم أنه الخدري. وقال النسائي وجماعة ضعيف انتهى، وقد بسط الحافظ ترجمته في تهذيب التهذيب. وقال فيه قال أحمد وحدثنا أبو أحمد الزبير سمعت الكلبي يقول: كناني عطية أبو سعيد انتهى.
قلت: وفي عطية ثلاثة أشياء: الأول أنه مدلس، والثاني أنه عند أكثر الأئمة ضعيف، والثالث أنه كان يأخذ التفسير عن الكلبي ويكتبه بأبي سعيد، فيقول عن أبي سعيد يوهم أنه أبو سعيد الخدري رضي الله عنه فحديثه هذا ضعيف غير مقبول وفي قول الترمذي "هذا حديث حسن" نظر "ويقرأ غلبت" أي بفتح الغين واللام على بناء الفاعل. قال البيضاوي: وقرئ غلبت بالفتح وسيغلبون بالضم ومعناه أن الروم غلبوا على ريف الشام والمسلمون سيغلبونهم، وفي السنة التاسعة من نزوله غزاهم المسلمون، وفتحوا بعض بلادهم، وعلى هذا يكون إضافة الغلب إلى الفاعل انتهى "وغلبت" أي بضم الغين وكسر اللام على بناء المفعول "يقول كانت غلبت" بضم الغين وكسر اللام "ثم غلبت" بفتح الغين واللام "هكذا قرأ نصر بن علي غلبت" أي بفتح الغين واللام ونصر بن علي هذا هو الجهضمي شيخ الترمذي.
قوله: "أخبرنا محمد بن ميسرة النحوي" الكوفي نزل الري يكنى أبا عمر صدوق من الثامنة.
قوله: {خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ} أي بفتح الضاد المعجمة. والمعنى بدأكم وأنشأكم على ضعف، وقيل من ماء ضعيف، وقيل هو إشارة إلى أحوال الإنسان، كان جنيناً ثم طفلاً مولوداً ومفطوماً فهذه أحوال غاية الضعف "فقال" أي النبي صلى(8/257)
4006- حدثنا عَبْدُ بنُ حُمَيْدٍ أخبرنا يَزِيدُ بنُ هَارُونَ عن فُضَيْل بنِ مَرْزُوقٍ عن عَطِيّةَ عن ابنِ عُمَرَ عن النبيّ صلى الله عليه وسلم نَحْوَهُ.
هذا حديثٌ حسنٌ غريبٌ لاَ نَعْرِفهُ إلا مِنْ حَدِيثِ فُضَيْلِ بنِ مَرْزُوقٍ عن عطية عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم.
4007- حدثنا مَحمُودُ بنُ غَيْلاَنَ أخبرنا أَبُو أَحْمَدَ الزّبَيْرِيّ أخبرنا سُفْيَانُ عن أَبي إِسْحَاقَ عن الأسْودِ بنِ يَزِيدَ عن عَبْدِ الله بنِ مَسْعُودٍ: "أَنّ رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم كَانَ يَقْرَأُ {فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ} .
ـــــــ
الله عليه وسلم يعني بالضم، وفي رواية أبي داود عن عطية العوفي قال: قرأت عند عبد الله بن عمر {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ} فقال من ضعف قرأتها على رسول الله صلى الله عليه وسلم كما قرأتها علي فأخذ علي كما أخذت عليك قال البغوي: قرئ بضم الضاد وفتحها فالضم لغة قريش والفتح لغة تميم انتهى. وقال النسفي: فتح الضاد عاصم وحمزة وضم غيرهما وهو اختيار حفص وهما لغتان، والضم أقوى في القراءة لما روى عن ابن عمر قال قرأتها على رسول الله صلى الله عليه وسلم من ضعف فأقرني من ضعف انتهى.
قوله: "هذا حديث حسن غريب" وأخرجه أحمد وأبو داود، ومدار هذا الحديث على عطية العوفي قال المنذري: لا يحتج بحديثه.
قوله: "كان يقرأ فهل من مذكر" بالدال المهملة كما هو قراءة حفص وسبب ذكر ذلك أن بعض السلف قرأها بالمعجمة، وهو منقول أيضاً عن قتادة، وأصل مذكر مذتكر بمثناة بعد ذال معجمة فأبدلت التاء دالاً مهملة ثم أهملت المعجمة لمقاربتها ثم أدغمت، وفي رواية للبخاري عن عبد الله قال: قرأت على النبي صلى الله عليه وسلم فهل من مذكر، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "فهل من مدكر"، وفي رواية أخرى له قال: وسمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقرأها "فهل من مذكر" دالاً.(8/258)
هذا حديثٌ حسنٌ صحيحٌ.
4008- حدثنا بِشْرُ بنُ هِلاَلِ الصّوّافُ البَصْرِيّ أخبرنا جَعْفَرُ بنُ سُلَيْمَانَ الضّبعَيّ عن هَارُونَ الأعْوَرِ عن بُدَيْلٍ بن ميسرة عن عَبْدِ الله بن شَقِيقٍ عن عَائِشَةَ: "أنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَقْرَأُ {فَرَوْحٌ وَرَيْحَانٌ وَجَنَّتُ نَعِيمٍ} .
هذا حديثٌ حسنٌ غريبٌ لاَ نَعْرِفُهُ إلاّ مِنْ حَديثِ هَارُونَ الأَعْوَرِ.
4009- حدثنا هنّادٌ أخبرنا أَبُو مُعَاوِيَةَ عن الأعْمَشِ عن إبْرَاهِيمَ عن عَلْقَمَةَ قالَ: قَدِمْنَا الشّامَ فَأَتَانَا أَبُو الدّرَدَاءِ، فَقَالَ: أَفِيكُمْ أَحَدُ يَقْرَأُ عَلَيّ قِرَاءَةَ عَبْد الله؟ قالَ فَأَشَارُوا إِليّ، فَقلت: نَعَمْ، قالَ: كَيْفَ
ـــــــ
قوله: "هذا حديث حسن صحيح" وأخرجه الشيخان وأبو داود والنسائي.
قوله: "عن هارون الأعور" هو هارون بن موسى الأزدي العتكي مولاهم النحوي البصري ثقة مقرئ إلا أنه رمي بالقدر من السابعة "عن بديل" بالتصغير هو ابن ميسرة.
قوله: كان يقرأ "فروح" أي بضم الراء قاله السيوطي، والقراءة المشهورة بفتح الراء، قال البغوي: قرأ يعقوب بضم الراء والباقون بفتحها، فمن قرأ بالضم قال الحسن معناه يخرج روحه في الريحان، وقال قتادة الروح الرحمة، أي له الرحمة وقيل معناه فحياة وبقاء لهم، ومن قرأ بالفتح معناه: فله روح. وهو الراحة، وهو قول مجاهد، وقال سعيد بن جبير فرح، وقال الضحاك مغفرة ورحمة انتهى "وريحان" أي رزق.
قوله: "هذا حديث حسن غريب" وأخرجه أبو داود والنسائي.
قوله: "قدمنا الشأم فأتانا أبو الدرداء" وفي رواية البخاري من طريق حفص عن الأعمش قدم أصحاب عبد الله على أبي الدرداء "أفيكم أحد يقرأ على قراءة عبد الله" أي ابن مسعود رضي الله عنه "قال فأشاروا إلي فقلت نعم"(8/259)
سَمِعْتَ عَبْدَ الله يَقْرَأُ هَذِهِ الآية: {وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى} قالَ: قُلْتُ سَمِعْتُهُ يَقْرَؤهَا وَاللّيْلِ إِذَا يَغْشَى وَالذّكَرِ وَالأُنْثى، فَقَالَ: أَبُو الدّرْدَاءِ، وَأَنَا وَالله هَكَذَا سَمِعْتُ رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم وَهُوَ يَقْرَؤُهَا، وَهَؤُلاَءِ يُرِيدُونَنِي أَنْ أَقْرَأَهَا: وَمَا خَلَقَ. فَلاَ أُتَابِعُهُمْ".
هذا حديثٌ حسنٌ صحيحٌ. وَهَكَذَا قِرَاءَةُ عَبْدِ الله بنِ مَسْعُودٍ وَاللّيْلِ إِذَا يَغْشَى وَالنّهَارِ إذَا تَجَلّى وَالذّكَرِ وَالأُنْثَى.
ـــــــ
أي أنا أقرأ على قراءة عبد الله. وفي رواية للبخاري: فقال أيكم يقرأ على قراءة عبد الله، قال كلنا، قال: فأيكم أحفظ فأشاروا إلى علقمة "كيف سمعت عبد الله يقرأ هذه الآية والليل إذ يغشى" قال قلت: سمعته يقرأها "والليل إذا يغشى والذكر والأنثى" وفي رواية البخاري من طريق سفيان عن الأعمش فقرأت: والليل إذا يغشى والنهار إذا تجلى والذكر والأنثى. قال أأنت سمعت من في صاحبك قلت نعم، قال الحافظ: هذا صريح في أن ابن مسعود كان يقرأها كذلك. وفي رواية إسرائيل عن مغيرة في المناقب. والليل إذا يغشى والذكر والأنثى، بحذف "والنهار إذا تجلى" كذا في رواية أبي ذر وأثبتها الباقون.
قوله: "هذا حديث حسن صحيح" وأخرجه الشيخان وهكذا قراءة عبد الله بن مسعود "والليل إذا يغشى والنهار إذا تجلى والذكر والأنثى" قال الحافظ: هذا القراءة لم تنقل إلا عمن ذكر هنا ومن عداهم قرأوا "وما خلق الذكر والأنثى" وعليها استقر الأمر مع قوة إسناد ذلك إلى أبي الدرداء ومن ذكر معه. والعجب من نقل الحفاظ من الكوفيين هذه القراءة عن علقمة وابن مسعود وإليهما تنتهي القراءة بالكوفة ثم لم يقرأ بها أحد منهم، وكذا أهل الشام حملوا القراءة عن أبي الدرداء ولم يقرأ أحد منهم بهذا فهذا مما يقوي أن التلاوة بها نسخت.(8/260)
4010- حدثنا عَبْدُ بنُ حُمَيْدٍ أخبرنا عُبَيْدُ الله بن موسى عن إِسْرَائِيلَ عن أبي إسْحَاقَ عن عَبْد الرّحْمَن بنِ يَزِيدَ عن عَبْد الله بن مَسْعُودٍ قالَ: "أَقْرَأَنِي رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم: إنّي أنَا الرّزّاقُ ذُو القُوّةِ المُتِينُ" .
هذا حديثٌ حسنٌ صحيحٌ.
4011- حدثنا أَبُو زُرْعَةَ وَ الفَضْلُ بنُ أَبي طَالِبٍ وَغَيْرُ وَاحِدٍ، قَالُوا: أخبرنا الْحَسَنُ بنُ بِشْرٍ عن الْحَكَمِ بنِ عَبْدِ المَلِكِ عن قَتَادَةَ عن عِمْرَانَ بنِ حُصَيْنٍ: "أَنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم قَرَأَ {وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى} ".
ـــــــ
قوله: "أخبرنا عبيد الله" هو ابن موسى "عن اسرائيل" هو ابن يونس "عن أبي اسحاق" هو السبيعي "عن عبد الرحمن بن يزيد" هو ابن قيس النخعي.
قوله: "إني أنا الرزاق ذو القوة المتين" هذه قراءة بن مسعود والقراءة المتواترة {إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ}.
قوله: "هذا حديث حسن صحيح" وأخرجه أبو داود والنسائي.
قوله: "حدثنا أبو زرعة" اسمه عبيد الله بن عبد الكريم الرازي "والفضل ابن أبي طالب" قال في التقريب الفضل بن جعفر بن عبد الله البغدادي أبو سهل ابن أبي طالب أخو يحيى بن أبي طالب أخو يحيى بن أبي طالب واسطي الأصل ثقة من الحادية عشرة "أخبرنا الحسن بن بشر" بن سلم بفتح المهملة وسكون اللام الهمداني البجلي أبو علي الكوفي صدوق يخطئ من العاشرة "عن الحكم عن عبد الملك" القرشي البصري نزيل الكوفة ضعيف من السابعة.
قوله: {وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى} بضم المهملة وفتح الكاف وهي القراء المتواترة وقرأ حمزة والكسائي سكرى كعطشى.(8/261)
هذا حديثٌ حسنٌ، وهَكَذَا رَوَى الْحَكَمُ بنُ عَبْدِ المَلِكِ عن قَتَادَةَ وَلاَ نَعْرِفُ لِقَتَادَةَ سَمَاعاً مِنْ أَحَدٍ مِنْ أَصْحَابِ النبيّ صلى الله عليه وسلم إِلاّ مِنْ أَنَسِ. وأَبو الطّفَيْلٍ، هو عِنْدِي حديث مُخْتَصَرٌ إِنّما يُرْوَى عن قَتَادَة عن الْحَسَن عن عِمْرَانَ بنِ حُصَيْنٍ قالَ: "كُنّا مَعَ النبيّ صلى الله عليه وسلم في السَفَر فَقَرأ {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ} الْحَدِيثَ بطولِهِ، وَحَدِيثُ الْحَكَمِ بنِ عَبْدِ المَلِكِ عِنْدِي مخْتَصَرٌ مِنْ هَذَا الْحَدِيثِ.
4012- حدثنا مَحمود بنُ غَيْلاَنَ أخبرنا أَبُو دَاوُدَ قال أَنْبَأَنَا شُعْبَةُ عن مَنْصُورٍ، سَمِعْتُ أَبَا وَائِلٍ عن عَبْد الله عن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال: "بِئْسَمَا لأَحَدِهِمْ أَوْ لأَحَدِكُمْ أنْ يَقُولَ: نَسِيتُ آية كَيْتَ وَكَيْتَ بَلْ هُوَ نُسّيَ فَاسْتَذْكِرُوا القُرْآنَ، فَوَالّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَهُوَ أَشَدّ تَقَصّياً
ـــــــ
قوله: "هذا حديث حسن" في سنده الحكم بن عبد الملك وهو ضعيف وفيه انقطاع كما أشار إليه الترمذي بقوله ولا نعرف لقتادة سماعاً الخ.
قوله: "الحديث بطوله" بالنصب أي أقرأ الحديث بطوله وأتمه، وهذا الحديث الطويل أخرجه الترمذي في تفسير سورة الحج وأخرجه أيضاً أحمد في مسنده.
قوله: "أخبرنا أبو داود" هو الطيالسي "عن منصور" هو ابن المعتمر "سمعت أبا وائل" اسمه شقيق بن سلمة "عن عبد الله" أي ابن مسعود.
قوله: "بئسما لأحدهم" ما نكرة موصوفة وقوله "أن يقول" مخصوص بالذم كقوله تعالى {بِئْسَمَا اشْتَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ أَنْ يَكْفُرُوا بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ} أي بئس شيئاً كائنا للرجل قوله "نسيت" بفتح النون وكسر السين المخففة "آية كيت وكيت" أي آية كذا وكذا وهو بفتح التاء على المشهور وحكى الجوهري فتحها وكسرها عن أبي عبيدة "بل هو نسي" بضم النون وكسر السين المشددة. وقال النووي فيه كراهة قول نسيت آية كذا وهي كراهة تنزيه وأنه لا يكره قوله أنسيتها(8/262)
مِنْ صُدُورِ الرّجَالِ مِنَ النّعَمِ مِنْ عُقُلِهِ" . هذا حديثٌ حسنٌ صحيحٌ.
ـــــــ
وإنما نهى عن نسيتها لأنه يتضمن التساهل فيها والتغافل عنها، وقال الله تعالى {أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا} وقال القاضي عياض: أولى ما يتأول عليه الحديث أن معناه ذم الحال لازم القول أي بئست الحالة حالة من حفظ القرآن فغفل عنه حتى نسيه انتهى "فاستذكروا القرآن" أي واظبوا على تلاوته واطلبوا من أنفسكم المذاكرة به واستحضروه في القلب "لهو أشد تفصياً" بفتح الفوقانية والفاء وكسر الصاد المهملة الثقيلة بعدها تحتانية خفيفة أي تفلتا وتخلصا وهو منصوب على التمييز "من صدور الرجال" متعلق بتفصياً وتخصيص الرجال بالذكر لأن حفظ القرآن من شأنهم "من النعم" بفتحتين قال النووي: النعم أصلها الإبل والبقر والغنم والمراد هنا الإبل خاصة لأنها التي تعقل انتهى. وهو متعلق بأشد أي أشد من تفصي النعم المعقلة "من عقله" بضم العين والقاف جمع عقال ككتب جمع كتاب وهو الحبل الذي يشد به ذراع البعير.
قوله: "هذا حديث حسن صحيح" وأخرجه الشيخان والنسائي.(8/263)
باب ماجاء أن القرآن أنزل على سبعة أحرف
...
2- باب ما جَاءَ أنّ القُرْآنَ أُنْزِلَ عَلَى سَبْعَةِ أَحْرُف
4013- حدثنا أَحْمَدُ بنُ مَنِيع أخبرنا الْحَسَنُ بنُ مُوسَى أخبرنا شَيْبَانُ عن عَاصِمٍ عن زِرّ بنِ حُبَيْشٍ عن أُبيّ بنِ كَعْبٍ قالَ: "لَقِيَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم جِبْرَيلَ، فَقَالَ: "يَا جِبْرَيلُ إِنّي بُعِثْتُ إلى
ـــــــ
باب ما جَاءَ أنّ القُرْآنَ أُنْزِلَ عَلَى سَبْعَةِ أَحْرُف
قوله: "أخبرنا الحسن بن موسى" الأشيب أبو علي البغدادي قاضي الموصل وغيرها ثقة. قال ابن عمار الحافظ. كان في الموصل بيعة للنصارى فجمعوا له مائة ألف على أن يحكم بأن تبنى فردها وحكم بأن لا تبنى، مات بالري سنة تسع ومائتين "أخبرنا شيبان" بن عبد الرحمن التميمي مولاهم النحوي "عن عاصم" بن بهدلة وهو ابن أبي النجود.(8/263)
أُمّةٍ أُمّيينَ مِنْهُمْ العَجُوزُ وَالشّيْخُ الكَبِيرُ وَالغلاَمُ وَالْجَارِيَةُ وَالرّجُلُ الّذِي لَمْ يَقْرَأْ كِتَاباً قَطّ،" قالَ: يَا مُحمّدُ إِنّ القُرآنَ أُنْزِلَ عَلَى سَبْعَةِ أَحْرُفٍ" .
وفي البابِ عن عُمَرَ وَحُذَيْفَةَ بنِ اليَمَانِ. وأَبي هُرَيْرَةَ وَأُمّ أَيّوبَ وَهِيَ امْرَأَةُ أَبي أَيّوبَ الأَنْصَارِيّ وَسَمُرَةَ، وَابنِ عبّاسٍ وَأَبي جُهَيْمِ بنِ الْحَارِثِ بنِ الصّمّةِ
ـــــــ
قوله: "إني بعثت إلى أمة أميين" قال الله تعالى {هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِنْهُمْ} والأمي من لا يكتب ولا يقرأ كتاباً. وقال صلى الله عليه وسلم: "إنا أمة أمية لا نكتب ولا نحسب" ، أراد أنهم على أصل ولادة أمهم لم يتعلموا الكتابة والحساب فهم على جبلتهم الأولى "منهم العجوز والشيخ الكبير" وهما عاجزان عن التعلم للكبر "والغلام والجارية" وهما غير متمكنين من القراءة المصغر1 "والرجل الذي لم يقرأ كتاباً قط" المعنى أني بعثت إلى أمة أميين منهم هؤلاء المذكورون فلو أقرأتهم على قراءة واحدة لا يقدرون عليها "قال يا محمد إن القرآن أنزل على سبعة أحرف" أي على سبعة أوجه يجوز أن يقرأ بكل وجه منها، وليس المراد أن كل كلمة ولا جملة منه تقرأ على سبعة أوجه بل المراد أن غاية ما انتهى إليه عدد القراءات في الكلمة الواحدة إلى سبعة فإن قيل فإنا نجد بعض الكلمات يقرأ على أكثر من سبعة أوجه، فالجواب أن غالب ذلك إما لا يثبت الزيادة وإما أن يكون من قبيل الاختلاف في كيفية الأداء كما في المد والإمالة ونحوهما. وقيل ليس المراد بالسبعة حقيقة العدد بل المراد التسهيل والتيسير ولفظ السبعة يطلق على إرادة الكثرة في الاَحاد كما يطلق السبعين في العشرات والسبع مائة في المئين ولا يراد العدد المعين، وإلى هذا جنح عياض ومن تبعه. وذكر القرطبي عن ابن حبان أنه بلغ الاختلاف في معنى الأحرف السبعة إلى خمسة وثلاثين قولاً وقال المنذري أكثرها غير مختار كذا في فتح الباري. قلت: وقد أطال الحافظ ابن جرير في أول تفسيره الكلام في بيان معنى قوله صلى الله عليه وسلم أنزل القرآن على سبعة أحرف وكذا الحافظ ابن حجر في الفتح فعليك أن تطالعهما.
قوله: "وفي الباب عن عمر وحذيفة بن اليمان الخ" أما حديث عمر فأخرجه
ـــــــ
1 هكذا بالأصل وفيها تصحيف ولعلها "من الصغر" المصحح.(8/264)
هذا حديثٌ حسنٌ صحيحٌ وقدْ رُوِي عن أُبيّ بنِ كَعْبٍ مِنْ غَيْرِ وَجْهٍ.
4014- حدثنا الْحَسَنُ بنُ عَلِيٍ الْطخَلاّلُ وَغَيْرُ وَاحِدٍ، قَالُوا: أخبرنا عَبْدُ الرّزّاقِ أخبرنا مَعْمرٌ عن الزّهْرِيّ عن عُرْوَةَ بنِ الزّبَيْرِ عن المِسْورِ بنِ مَخْرمَةَ وَعَبْدِ الرّحْمَنِ بن عَبْدٍ القَارّيّ أَخْبَرَاهُ أَنّهُمَا سَمِعاَ عُمَرَ بنَ الْخَطّابِ يَقُولُ: "مَرَرْتُ بِهِشَامِ بنِ حَكَيمِ بنِ حِزَامٍ، وَهُوَ يَقْرَأُ سُورَةَ الفُرْقَانِ في حَيَاةِ رَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم فَاسْتَمَعْتُ قِرَاءَتَهُ، فَإِذَا هُوَ يَقْرَأُ عَلَي حُرُوفٍ كَثِيَرةٍ لَمْ يُقْرِئْنيهَا رَسُولُ الله صلى الله عليه
ـــــــ
الترمذي بعد هذا، وأما حديث حذيفة بن اليمان فأخرجه البخاري، وأما حديث أبي هريرة فأخرجه أحمد، في مسنده عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "أنزل القرآن على سبعة أحرف عليماً حكيماً غفوراً رحيماً". وأما حديث أم أيوب وحديث سمرة فأخرجها أحمد في مسنده. وأما حديث ابن عباس فأخرجه البخاري ومسلم وأما حديث أبي جهيم فأخرجه أحمد وأبو عبيد والطبري.
قوله: "هذا حديث حسن صحيح" وأخرجه أحمد ومسلم وأبو داود والنسائي.
قوله: "عن المسور بن مخرمة" بن نوفل له ولأبيه صحبة "وعبد الرحمن ابن عبد" بالتنوين بغير إضافة "القاري" تشديد الياء التحتانية نسبة إلى القارة بطن من خزيمة بن مدركة "مررت بهشام بن حكيم بن حزام" بن خويلد بن أسد القرشي الأسدي صحابي ابن صحابي وكان اسلامهما يوم الفتح "فكدت أساوره بالسين المهملة أي أخذ برأسه قاله الجرجاني" وقال غيره: أواثبه وهو أشبه. قال النابغة:
فبت كأني ساورتني ضئيلة
من الرقش في أنيابها السم نافع
أي: واثبتي، وفي بانت سعاد:
إذا يساور قرناً لا يحق له
أن يترك القرن إلا وهو مجدول(8/265)
وسلم فَكِدْتُ أُسَاوِرُهُ فِي الصّلاَةِ فَنَظَرْتُ حَتّى سَلّمَ، فَلَمّا سلّمَ لَبّبْتُهُ بِرِدَائِهِ، فَقلت: مَنْ أَقْرَأَكَ هَذِهِ السّورَةَ الّتِي سَمِعْتُكَ تَقْرَؤُهَا؟ فَقَالَ: أَقْرَأَنِيهَا رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم قلْتُ لَهُ: كَذَبْتَ وَالله إِنّ رَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم لَهُوَ أَقْرَأَنِي هَذِهِ السّورَةَ الّتِي تَقْرَؤهَا، فَانْطَلَقْتُ أَقَودُه إلى رَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم، فَقلت: يَا رَسُولَ الله إِنّي سَمِعْتُ هَذَا يَقْرَأُ سُورَةَ الفُرْقَانِ عَلَى حُرُوفٍ لَمْ تُقْرئينهَا، وَأَنْتَ أَقْرَأْتَنِي سُورَةَ الفُرْقَانِ، فَقَالَ النّبِيّ صلى الله عليه وسلم :" أَرْسِلْهُ يَا عُمَرُ اقْرَأْ يَا هِشَامُ" فَقَرَأَ عَلَيْهِ الْقِرَاءَةَ الّتِي سَمِعْتُ، فَقَالَ النبيّ صلى الله عليه وسلم "هَكَذَا أُنْزِلَتْ" . ثُمّ قالَ لِيَ النبيّ صلى الله عليه وسلم "اقرَأْ يَا عُمَرُ" . فَقَرَأْتُ بالقِرَاءَةِ الّتِي أَقْرَأَنِي النبيّ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ النبيّ صلى الله عليه وسلم: "هَكَذَا أُنْزِلَتْ، ثُمّ قَالَ النبيّ صلى الله عليه وسلم: "إنّ هَذَا القُرْآنَ أُنْزِلَ عَلَى سَبْعَةِ أَحْرُفٍ فَاقْرَأُوا مَا تَيَسر مِنْهُ" .
ـــــــ
كذا في الفتح "فنظرت حتى سلم" وفي رواية البخاري: فتصبرت حتى سلم، وفي رواية مالك: ثم أمهلته حتى انصرف أي من الصلاة "لببته بردائه" من التلبيب، قال الحافظ أي جمعت عليه ثيابه عند لبته لئلا يتفلت مني، وكان عمر شديداً بالأمر بالمعروف وفعل ذلك عن اجتهاد منه لظنه أن هشاماً خالف الصواب ولهذا لم ينكر عليه النبي صلى الله عليه وسلم بل قال له أرسله انتهى. وقال في القاموس: لببه تلبيباً جمع ثيابه عند نحره في الخصومة ثم جره انتهى. وقال في النهاية: يقال لببت الرجل ولببته إذا جعلت في عنقه ثوباً أو غيره وجررته به "قلت له كذبت" فيه إطلاق ذلك على غلبة الظن أو المراد بقوله كذبت أي أخطأت لأن أهل الحجاز يطلقون الكذب في موضع الخطأ، قاله الحافظ "إن(8/266)
هذا حديثٌ حسنٌ صحيحٌ.
وَقَدْ روى مَالِكُ بنُ أَنَسٍ عن الزّهْرِيّ بِهَذَا الإسْنَادِ نَحْوَهُ إلاّ أَنّهُ لَمْ يَذْكُرْ فيهِ المِسْورَ بنَ مَخْرَمَةَ.
ـــــــ
هذا القرآن أنزل على سبعة أحرف" أوردة النبي صلى الله عليه وسلم تطميناً لعمر لئلا ينكر تصويب الشيئين المختلفين "فاقرؤا ما تيسر منه" أي من المنزل.
قوله: "هذا حديث صحيح" وأخرجه الشيخان وأبو داود النسائي.(8/267)
3- باب
4015- حدثنا مَحْمُودُ بنُ غَيْلاَنَ أخبرنا أَبُو أُسَامَةَ أخبرنا الأعْمَشُ عن أَبي صَالِحٍ عن أَبي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم "مَنْ نَفّسَ عَنْ أَخِيهِ كُرْبَةً مَنْ كُرَبِ الدّنْيَا نَفّسَ الله عَنْهُ كُرْبَةً مِنْ كُرَبِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَمِنْ سَتَرَ مُسْلِمَاً سَتَرَهُ الله فِي الدّنْيَا وَالآخرةٍ، وَمَنْ
ـــــــ
"باب"
قوله: "من نفس" من التنفيس "عن أخيه كربة من كرب الدنيا" أي أزالها وفرجها. قال الطيبي: كأنه فتح مداخل الأنفاس فهو مأخوذ من قولهم أنت في نفس أي سعة، كأن في كربة سد عنه مداخل الأنفاس فإذا فرج عنه فتحت، والمراد من أخيه أخوة في الإيمان، وفي رواية مسلم: من نفس عن مؤمن "نفس الله عنه كربة من كرب يوم القيامة" لما كان الخلق كلهم عيال الله وتنفيس الكرب إحسان فجزاه الله جزاء وفاقاً لقوله تعالى {هَلْ جَزَاءُ الْأِحْسَانِ إِلَّا الْأِحْسَانُ} "ومن ستر مسلماً" أي في قبيح يفعله فلا يفضحه أو كساه ثوباً "ستره الله" أي عيوبه أو عورته. قال النووي في شرح قوله صلى الله عليه وسلم: "ومن ستر مسلماً ستره الله يوم القيامة" . رواه مسلم في حديث ابن عمر. وأما الستر المندوب إليه هنا فالمراد به الستر على ذوي الهيئات ونحوهم ممن ليس هو معروفاً(8/267)
يَسّر عَلَى مُعْسِرٍ، يَسّرَ الله عَلَيْهِ فِي الدّنْيَا والآخرة، والله فِي عَوْنِ العَبْدِ مَا كَانَ العَبْدُ في عَوْنِ أَخِيِه، وَمَنْ سَلَكَ طَريقاً يَلْتَمِسُ فِيهِ عِلْماً، سَهّلَ الله لَهُ طَرِيقاً إلى الْجَنّةِ، وَمَا قَعَدَ قَوْمٌ فِي مَسْجِدٍ يَتْلُونَ كِتَابَ الله، وَيتدَارَسُونَهُ بَيْنَهُمْ، إلاّ نَزَلَتْ عَلَيْهِمْ السّكِينَةُ، وَغَشِيتْهُمْ الرّحْمَةُ،
ـــــــ
بالأذى والفساد، فأما المعروف بذلك فيستحب أن لا يستر عليه بل يرفع قضيته إلى ولي الأمر إن لم يخف من ذلك مفسدة، لأن الستر على هذا يطمعه في الإيذاء والفساد وإنتهاك الحرمات وجسارة غيره على مثل فعله، هذا كله في ستر معصية وقعت وانقضت أما معصية رآه عليها وهو بعد متلبس بها فتجب المبادرة بإنكارها عليه ومنعه منها على من قدر على ذلك ولا يحل تأخيرها فإن عجز لزم رفعها إلى ولي الأمر إذا لم تترب على ذلك مفسدة انتهى "ومن يسر على معسر" أي سهل على فقير وهو يشمل المؤمن والكافر أي من كان له دين على فقير فسهل عليه بإمهال أو بترك بعضه أو كله "يسر الله عليه" بدل تيسيره على عبده مجازاة يجنسه "والله في عون العبد" الواو للاستئناف وهو تذييل للكلام السابق "ما كان العبد" أي ما دام كان "في عون أخيه" أي في قضاء حاجته "ومن سلك" أي دخل أو مشى "طريقاً" أي قريباً أو بعيداً قيل التنوين للتعميم إذ النكرة في الإثبات قد تفيد العموم "يلتمس فيه" حال أو صفة "علماً" نكرة ليشمل كل نوع من أنواع علوم الدين قليلة أو كثيرة "سهل الله له" زاد في رواية مسلم: به. أي بذلك السلوك أو الالتماس "طريقاً إلى الجنة" أي طريقاً موصلاً إلى الجنة مع قطع العقبات الشاقة دونها يوم القيامة "وما قعد قوم في مسجد" وفي رواية مسلم: في بيت من بيوت الله "يتلون" حال من قوم "كتاب الله" أي القرآن "ويتدارسونه بينهم" التدارس قراءة بعضهم على بعض تصحيحاً لألفاظه أو كشفاً لمعانيه قال ابن الملك. وقال الجزري في النهاية: تدارسوا القرآن أي اقرؤه وتعهدوه لئلا تنسوه يقال درس يدرس ودراسة وأصل الدراسة الرياضة والتعهد للشيء انتهى. وقال القارى في المرقاة: ويمكن أن يكون المراد بالتدارس المدارسة المعروفة بأن يقرأ بعضهم عشراً مثلاً وبعضهم عشراً اخر وهكذا فيكون(8/268)
وَحَفّتْهُمْ المَلاَئِكَةُ، وَمَنْ أَبْطأَ بِهِ عَمَلُهُ لَمْ يُسْرِعْ بِهِ نَسَبُهُ" .
ـــــــ
أخص من التلاوة أو مقابلاً لها والأظهر أنه شامل لجميع ما يناط بالقرآن من التعليم والتعلم انتهى "إلا نزلت عليهم السكينة" يجوز في مثل هذا التركيب كسر الهاء وضم الميم وهو الأكثر وضمهما وكسرهما قيل المراد بالسكينة ههنا الرحمة وهو الذي اختاره القاضي عياض وهو ضعيف لعطف الرحمة عليه، وقيل الطمأنينة والوقار وهو أحسن. قاله النووي "وحفظتهم الملائكة" أي أحاطوا بهم، وزاد في رواية مسلم وذكرهم الله فيمن عنده "ومن أبطأ به عمله" من الإبطاء وفي رواية مسلم: من بطأ به عمل من التبطئة وهما ضد التعجل والبطوء نقيض السرعة والباء للتعدية والمعنى من أخره عمل عن بلوغ درجة السعادة "لم يسرع به نسبه" من الإسراع أي لم يقدمه نسبه، يعني لم يجبر نقيصته لكونه نسيباً في قومه إذ لا يحصل التقرب إلى الله تعالى بالنسب بل بالأعمال الصالحه. قال تعالى: {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} ، وشاهد ذلك أن أكثر علماء السلف والخلف لا أنساب لهم يتفاخر بها، بل كثير من علماء السلف موال، ومع ذلك هم سادات الأمة وينابيع الرحمة، وذوو الأنساب العلية الذين ليسوا كذلك في مواطن جهلهم نسياً منسياً، ولذلك قال عليه الصلاة والسلام: "إن الله يرفع بهذا الدين أقواماً ويضع به آخرين" كذا قال القارى في المرقاة وقد صدق القاري.
قال ابن الصلاح في مقدمته روينا عن الزهري قال: قدمت على عبد الملك بن مروان فقال: من أين قدمت يا زهري؟ قلت من مكة. قال فمن خلفت بها يسود أهلها؟ قلت: عطاء بن أبي رباح، قال: فمن العرب أم من الموالي؟ قال قلت من الموالي؟ قلت: من الموالي، قال وبم سادهم؟ قلت بالديانة والرواية. قال إن أهل الديانة والرواية لينبغي أن يسودوا. قال فمن يسود أهل اليمن؟ قال قلت. طاؤوس ابن كيسان، قال فمن العرب أم من الموالي؟ قال قلت من الموالي، قال وبم سادهم؟ قلت بما سادهم به عطاء، قال إنه لينبغي. قال فمن يسود أهل مصر؟ قال قلت يزيد بن أبي حبيب، قال فمن العرب أم من الموالي؟ قال قلت: من الموالي، قال فمن يسود أهل الشأم؟ قال قلت مكحول، قال فمن العرب أم من الموالي؟ قال قلت من الموالي عبد نوبي أعتقته امرأة من هذيل؟ قال فمن يسود أهل الجزيرة؟ قلت ميمون بن مهران، قال فمن العرب أم من الموالي؟ قال قلت من الموالي.(8/269)
هَكَذَا رَوَى غَيْرُ وَاحِدٍ عن الأعْمَشِ عن أَبي صَالِحٍ عن أَبي هُرَيْرَةَ عن النبيّ صلى الله عليه وسلم مِثْلَ هَذَا الْحَدِيثِ، وَرَوَى أَسْبَاطُ بنُ مُحمّدٍ عن الأعمَشِ، قَالَ: حُدّثْثُ عن أَبي صَالِحٍ عن أَبي هُرَيْرَةَ عن النبيّ صلى الله عليه وسلم فَذَكَرَ بَعْضَ هَذَا الْحَدِيثِ.
ـــــــ
قال فمن يسود أهل خراسان؟ قال قلت الضحاك بن مزاهم، قال فمن العرب أم الموالي؟ قال قلت من الموالي. قال فمن يسود أهل البصرة؟ قال قلت الحسن بن أبي الحسن، قال فمن العرب أم من الموالي؟ قال قلت من الموالي. قال فمن يسود أهل الكوفة؟ قال قلت: إبراهيم النخعي، قال فمن العرب أم الموالي؟ قال قلت من العرب. قال: ويلك يا زهري فرجت عني، والله ليسودن الموالي على العرب حتى يخطب لها على المنابر والعرب تحتها. قال قلت: يا أمير المأمنين إذاً هو أمر الله ودينه، من حفظة ساده ومن ضيعه سقط. انتهى.
قوله: "هكذا روى غير واحد عن الأعمش عن أبي صالح الخ" أي متصلاً "وروى أسباط بن محمد عن الأعمش قال حدثت" بصيغة المجهول من التحديث "عن أبي صالح الخ" ففي رواية أسباط هذه انقطاع بين الأعمش وأبي صالح، فإن الأعمش لم يذكر من حديثه عن أبي صالح، وحديثه عن أبي هريرة المذكور أخرجه الترمذي مختصراً في أبواب الحدود، وفي أبواب البر والصلة، وفي أبواب العلم.(8/270)
4- باب
4016- حدثنا عُبَيْدُ بنُ أَسْبَاطِ بنِ مُحمّدٍ الْقُرَشِيّ قال: حدثني أَبي عن مُطَرّفٍ عن أَبي إسْحَاقَ عن أَبي بُرْدَةَ عن عَبْدِ الله بنِ عَمْرٍو قالَ:
ـــــــ
"باب"
قوله: "عن مطرف" بضم أوله وفتح ثانيه وتشديد الراء المكسورة هو ابن طريف الكوفي "عن أبي إسحاق" هو عمرو بن عبد الله السبيعي.(8/270)
"قُلْتُ يَا رَسُولَ الله في كَم أَقْرَأُ القُرْآنَ؟ قالَ: "اخْتِمْهُ في شَهْر" ، قُلْتُ إنّي أُطِيقُ أَفْضَلَ مِنْ ذَلِكَ، قالَ: "اخْتِمْهُ فِي عِشْرِينَ" ، قُلْتُ إنّي أُطِيقُ أَفْضَلَ مِنْ ذَلِكَ، قالَ: "اخْتِمْهُ في خَمْسَةَ عَشَرَ" ، قلت: إِنّي أُطِيقُ أَفْضَلَ مِنْ ذَلِكَ قالَ: "اخْتِمْهُ في عَشْرٍ" ، قُلْتُ إِني أُطِيقُ أَفْضَلَ مِنْ ذَلِكَ، قالَ: "اخْتِمْهُ فِي خَمْسٍ" ، قُلْتُ إِني أُطِيقُ أَفْضَلَ مِنْ ذَلَكَ، قَالَ فَمَا رَخّص ليِ".
هذا حديثٌ حسنٌ صحيحٌ غريبٌ هذا الوجه يُسْتَغْرَبُ مِنْ حَدِيثِ أَبي بُرْدَةَ عن عَبدِ الله بنِ عَمْرٍو.
وَقد رُوِي هَذَا الْحَدِيثُ مِنْ غَيْرِ وَجْهٍ عن عَبْدِ الله بنِ عَمْرٍو وَرُوِيَ عن عَبْدِ الله بنِ عَمْرٍو عن النبيّ صلى الله عليه وسلم قالَ: "لَمْ يَفْقَهْ مَنْ
ـــــــ
قوله: "إني أطيق أفضل من ذلك" أي أكثر من ذلك المذكور "فما رخص لي" أي في أقل من الخمس. وفي مسند الدارمي من طريق أبي فروة عن عبد الله بن عمرو. قال قلت يا رسول الله في كم أختم القرآن؟ قال اختمه في شهر . قلت إني أطيق، قال "اختمه في خمسة عشر" الحديث. وفي آخره قال: "اختمه في خمس" . قلت إني أطيق، قال "لا" . وفي رواية للبخاري. قال اقرأ القرآن في شهر قلت إني أجد قوة، حتى قال "فاقرأه في سبع ولا تزد على ذلك" . قال الحافظ: أي لا تغير الحال المذكور إلى حالة أخرى فأطلق الزيادة، والمراد النقص والزيادة هنا بطريق التدلي أي لا تقرأه في أقل من سبع انتهى وسيأتي وجه الجمع.
قوله: "هذا حديث حسن صحيح غريب" وأخرجه الشيخان من وجوه أخرى بألفاظ "وروى عن عبد الله بن عمرو عن النبي صلى الله عليه وسلم" قال "لم يفقه من قرأ القرآن في أقل من ثلاث" وصله الترمذي في آخر هذا الباب. قال الحافظ في الفتح: وشاهده عند سعيد بن منصور بإسناد صحيح من وجه آخر عن ابن مسعود: "إقرأوا القرآن في سبع ولا تقرأوه في أقل من ثلاث" ، ولأبي عبيد من طريق الطيب بن سليمان عن عمرة عن عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم كان(8/271)
قَرَأَ الْقُرْآنَ فِي أَقَلّ مِنْ ثَلاَثٍ" وَرُوِيَ عن عَبْدِ الله بنِ عَمْرٍو أَنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم قالَ لَهُ: "اقْرَأْ الْقُرْآنَ في أَرْبَعينَ" وَقَالَ إسْحَاقُ بنُ إبْرَاهِيم: وَلاَ نُحبّ لِلّرجُلِ أَنْ يَأْتيَ عَلَيْهِ أَكْثَرُ مِنْ أَرْبَعِينَ يَوماً. وَلَمْ يَقْرَأْ الْقُرْآنَ لِهَذَا الْحَدِيثِ. وَقالَ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ: لاَ يَقْرَأُ الْقُرْآنَ في أَقَلّ مِنْ ثَلاثٍ. لِلْحَدِيثِ الْذِي رُوِيَ عن النبيّ صلى الله عليه وسلم وَرَخّصَ فِيهِ بَعْضُ أَهْلِ الَعِلْمِ. وَرُوِيَ عن عُثمانَ بنِ عَفّانَ أَنّهُ كَانَ يَقْرَأُ القُرْآنَ في رَكْعَةِ يُوتِرُ بِهَا. وَرُوِيَ عن سَعِيدِ بنِ جُبَيْرٍ أَنّهُ قَرَأَ الْقُرْآنَ في رَكْعَةٍ
ـــــــ
لا يختم القرآن في أقل من ثلاث، وهذا اختيار أحمد. وأبي عبيد وإسحاق بن راهويه وغيرهم، وثبت عن كثير من السلف أنهم قرأوا القرآن في دون ذلك قال النووي: والاختيار أن ذلك يختلف بالأشخاص فمن كان من أهل الفهم وتدقيق الفكر استحب له أن يقتصر على القدر الذي لا يختل بالمقصود من التدبر وإخراج المعاني، وكذا من كان له شغل بالعلم أو غيره من مهمات الدين ومصالح المسلمين العامة يستحب له أن يقتصر منه على القدر الذي لا يخل بما هو فيه، ومن لم يكن كذلك فالأولى له الاستكثار ما أمكنه من غير خروج إلى الملل ولا يقرأه هذرمة. انتهى ما في الفتح.
وروى عن عبد الله بن عمرو أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له: "إقرأ القرآن" أي كله "في أربعين" أي يوماً أو ليلة ووصله الترمذي فيما بعد "وقال إسحاق بن إبراهيم" هو إسحاق بن راهويه "ولم يقرأ القرآن" أي كله "وقال بعض أهل العلم لا يقرأ القرآن في أقل من ثلاث" تقدم أسماؤهم "ورخص فيه بعض أهل العلم" أي رخص بعضهم في أن يقرأ القرآن في أقل من ثلاث. قال محمد بن نصر في قيام الليل: وكان سعيد بن المسيب يختم القرآن في ليلتين، وكان ثابت البناني يقرأ القرآن في يوم وليلة ويصوم الدهر. وكان أبو حرة يختم القرآن كل يوم وليلة، وكان عطاء بن السائب يختم القرآن في كل ليلتين.
"وروى عن عثمان بن عفان أنه كان يقرأ القرآن في ركعة يوتر بها" رواه محمد بن نصر في قيام الليل، وروى الطحاوي بإسناده عن ابن سيرين قال: كان(8/272)
في الْكَعْبَةِ. وَالتّرْتيلُ في الْقِرَاءَةِ أَحَبّ إلى أَهْلِ الْعِلْمِ.
4017- حدثنا أَبُو بَكْرِ بنُ أبي النّضْرِ البَغْدَادِيّ، أخبرنا عَلِيّ بنُ الْحَسَنِ وهو ابن شقيق عن عَبْدِ الله بنِ المُبَارَكِ عن مَعْمَرٍ عن سِمَاكِ بنِ الْفَضْلِ عن وَهْبِ بن مُنَبّهٍ عن عَبْدِ الله بن عَمْرو أَنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم قالَ لهُ: "اقْرَأْ القُرْآنَ في أرْبَعيِنَ" .
ـــــــ
تميم الداري يحيى الليل كله بالقرآن كله في ركعة، عن عبد الله بن الزبير أنه قرأ القرآن في ركعة، وعن سعيد بن جبير أنه قرأ القرآن في ركعة في البيت، وقال محمد بن نصر في قيام الليل: وخرج صالح بن كيسان إلى الحج فربما ختم القرآن مرتين في ليلة بين شعبتي رحله، وكان منصور بن زادان خفيف القراءة، وكان يقرأ القرآن كله في صلاة الضحى، وكان يختم القرآن بين الأولى والعصر ويختم في يوم مرتين، وكان يصلي الليل كله، وكان إذا جاء شهر رمضان ختم القرآن بين المغرب والعشاء ختمتين ثم يقرأ إلى الطواسين قبل أن تقام الصلاة. وكانوا إذ ذاك يؤخرون العشاء لشهر رمضان إلى أن يذهب ربع الليل انتهى ما في قيام الليل بقدر الحاجة، ولو تتبعت تراجم أئمة الحديث لوجدت كثيراً منهم أنهم كانوا يقرأون القرآن في أقل من ثلاث، فالظاهر أن هؤلاء الأعلام لم يحملوا النهي عن قراءة القرآن في أقل من ثلاث على التحريم، والمختار عندي ما ذهب إليه الإمام أحمد وإسحاق بن راهويه وغيرهما والله تعالى أعلم "والترتيل في القراءة أحب إلى أهل العلم" لأنه صلى الله عليه وسلم كان يقرأ القرآن بالترتيل، وكانت قراءته مفسرة حرفاً حرفاً باتباعه صلى الله عليه وسلم أحب وأولى.
قوله: "أخبرنا علي بن الحسن" هو ابن شقيق المروزي "عن سماك بن الفضل" الخولاني اليماني ثقة من السادسة.
قوله: "قال له إقرأ القرآن في أربعين" كذا رواه الترمذي مختصراً، ورواه أبو داود بلفظ: أنه سأل النبي صلى الله عليه وسلم، في كم يقرأ القرآن؟ قال: "في أربعين يوماً، ثم قال في شهر، ثم قال في عشرين، ثم قال في خمس عشرة، ثم(8/273)
هذا حديثٌ حسنٌ غريبٌ. وروى بَعْضَهُمُ عن مَعْمَرٍ عن سِمَاكِ بنِ الفَضْلِ عن وَهْبِ بن مُنَبّهٍ "أَنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم أَمَرَ عَبْدَ الله بنَ عَمْرٍو أَنْ يَقْرأَ الْقُرْآنَ فِي أَرْبَعِينَ".
4018- حدثنانَصْرُ بنُ عَلِيّ الْجَهْضَمِيّ، أخبرنا الْهَيْثَمُ بنُ الرّبيع حدثنا صَالِحُ الْمرّيّ عن قَتَادَةَ عن زُرَارَةَ بنِ أَوْفَي عن ابنِ عَبّاسٍ قالَ: "قالَ رَجُلٌ يَا رَسُولُ الله أَيّ الْعَمَلِ أَحَبّ إلى الله؟ قالَ: "الْحَالّ المُرْتَحِلُ" قال: وما الحال المُرتحِلُ؟ قال: "الذي يضرب من أول القرآن إلى آخره كلما حَلّ ارتحل" .
ـــــــ
قال في عشر، ثم قال في سبع، لم ينزل من سبع". قال الحافظ في الفتح بعد ذكر هذا الحديث: وعزوه لأبو داود والترمذي والنسائي ما لفظه، وهذا إن كان محفوظاً احتمل في الجمع بينه وبين رواية أبي فروة، يعني التي رواها الدارمي. وقد تقدمت تعدد القصة فلا مانع أن يتعدد قول النبي صلى الله عليه وسلم لعبد الله بن عمرو ذلك تأكيداً ويؤيده الاختلاف الواقع في السباق وكأن النهي عن الزيادة ليس على التحريم كما أن الأمر في جميع ذلك ليس للوجوب وعرف ذلك من قرائن الحال التي أرشد إليها السياق، وهو النظر إلى عجزه عن سوى ذلك في الحال أو في المآل انتهى.
قوله: "أخبرنا الهيثم بن الربيع العقيلي أبو المثنى البصري أو الواسطي ضعيف من السابعة".
قوله: "الحال المرتحل" قال الجزري في النهاية هو الذي يختم القرآن بتلاوته ثم يفتتح التلاوة من أوله شبهة بالمسافر يبلغ المنزل فيُحل فيه، ثم يفتتح سيره أي يبتدئه وكذلك قراء مكة إذا ختموا القرآن ابتدأوا وقرأوا الفاتحة وخمس آيات من أول البقرة إلى "وأولئك هم الفلحون"، ثم يقطعون القراءة ويسمون فاعل ذلك الحال المرتحل، أي ختم القرآن، وابتدأ بأوله ولم يفصل بينهما بزمان، وقيل أراد بالحال المرتحل الغازي الذي لا يقفل من غزو إلا عقبه بآخر انتهى.
وقال ابن القيم في الاعلام "ص 289 ج 2" بعد ذكر هذا الحديث ما لفظه: فهم من هذا بعضهم أنه إذا فرغ من ختم القرآن قرأ فاتحة الكتاب وثلاث آيات من سورة البقرة لأنه حل بالفراغ وارتحل بالشروع، وهذا لم يفعله أحد من(8/274)
هذا حديثٌ غريبٌ لاَ نَعْرِفُهُ من حديث ابنِ عَبّاسٍ إلاّ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ
4019- حدثنا مُحمّدُ بنُ بَشّارٍ، أخبرنا مُسْلِمُ بنُ إِبْرَاهِيمَ، أخبرنا صَالِحٌ المُرّيّ عن قَتَادَةَ عن زُرَارَةَ بنِ أَوْفَي عن النبيّ صلى الله عليه وسلم نَحْوَهُ وَلَمْ يَذْكُرْ فِيهِ عن ابنِ عَبّاسٍ وَهذَا عِنْدِي أَصَحّ من
ـــــــ
الصحابة ولا التابعين ولا استحبه أحد من الأئمة، والمراد بالحديث الذي كلما حل من غزاة ارتحل في أخرى، أو كلما حل من عمل ارتحل إلى غيره تكملاً له كما كمل الأول، وأما هذا الذي يفعله بعض القراء فليس مراد الحديث قطعاً وبالله التوفيق. وقد جاء تفسير الحديث متصلاً به أن يضرب من أول القرآن إلى آخره كلما حل ارتحل، وهذا له معنيان. أحدهما أنه كلما حل من سورة أو جزء ارتحل في غيره والثاني أنه كلما حل من ختمة ارتحل في أخرى انتهى.
قلت: قد وقع في بعض نسخ الترمذي التفسير الذي أشار إليه ابن القيم متصلاً بهذا الحديث بلفظ، قال: وما الحال المرتحل؟ قال الذي يضرب من أول القرآن إلى آخره، كلما حل ارتحل، وحديث ابن عباس هذا رواه محمد بن نصر في قيام الليل بلفظ: قام رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال يا رسول الله أي العمل أفضل، أو قال: أي العمل أحب إلى الله؟ قال: "الحال المرتحل" ، قال يا رسول الله، وما الحال المرتحل؟ قال "فتح القرآن وختمه من أوله إلى آخره ومن آخره إلى أوله كلما حل ارتحل"، قال بعض العلماء: المقصود من الحديث السير دائماً لا يفتر كما يشعر به، كلمة من أوله إلى آخره، ومن آخره إلى أوله، فقارئ خمس آيات ونحوها عند الختم لم يحصل تلك الفضيلة، وليس المراد الارتحال لفور الحلول، فالمسافر السائر لا بد أن ينزل فيقيم ليلة أو بعض ليلة أو بعض يوم أو يعرس انتهى.
قلت: الأمر عندي كما قال والله تعالى أعلم.
قوله: "هذا حديث غريب إلخ" وأخرجه محمد بن نصر في قيام الليل كما عرفت، وفي سندهما صالح المزي وهو ضعيف.
قوله: "أخبرنا مسلم بن إبراهيم" هو الأزدي "وهذا عندي أصح" أي(8/275)
النبيّ صلى الله عليه وسلم قالَ: "مَنْ صَلّى صَلاَةً لَمْ يَقرَأْ فِيهَا بِأُمّ القُرْآنِ فَهِي خِدَاجٌ فَهِي خِدَاجٌ غَيْرُ تَمَامٍ" وَلَيْسَ فِي حَدِيثِ إسْمَاعِيلَ بنِ أَبي أُوَيْس أَكْثَرُ مِنْ هَذَا. وَسأَلْتُ أَبَا زُرْعَةَ عن هَذَا الْحَدِيثِ، فَقَالَ: كلاَ الْحَدِيثَيْنِ صحيحٌ واحْتَجّ بِحَدِيثِ ابنِ أَبي أُوَيْسٍ عن أَبِيِه عن العَلاَءِ.
4029- حدثنا عَبْدُ بنُ حُمَيْدٍ، أخبرنا عَبْد الرّحْمَن بنُ سَعْدٍ، أخبرنا عَمْرُو بنُ أَبي قَيْسٍ عن سِمَاكِ بنِ حَرْبٍ عن عَبّادِ بنِ حُبَيْشٍ عن عَدِيّ بنِ حَاتِمٍ قالَ: "أَتَيْتُ رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم وَهُوَ جَالِسٌ
ـــــــ
"وأبو السائب مولى هشام بن زهرة" قال في التقريب: أبو السائب الأنصاري المدني مولى ابن زهرة، يقال اسمه عبد الله بن السائب ثقة من الثالثة.
قوله: "وسألت أبا زرعة عن هذا الحديث" أي سألته عن أن حديث من قال عن العلاء عن أبيه عن أبي هريرة صحيح، أو حديث من قال عن العلاء عن أبي السائب عن أبي هريرة "فقال" أي أبو زرعة "كلا الحديثين صحيح" أي حديث من قال عن العلاء عن أبيه عن أبي هريرة، وحديث من قال عن العلاء عن أبي السائب عن أبي هريرة كلاهما صحيح "واحتج بحديث ابن أبي أويس عن أبيه عن العلاء" أي احتج أبو زرعة على قوله كلا الحديثين صحيح برواية ابن أبي أويس، فإنه قال عن أبيه عن العلاء بن عبد الرحمن، قال حدثني أبي وأبو السائب عن أبي هريرة، فظهر من روايته أن العلاء أخذ هذا الحديث عن أبيه عبد الرحمن وأبي السائب كليهما.
قوله: "أخبرنا عبد الرحمن بن سعد" هو عبد الرحمن بن عبد الله بن سعد بن عثمان الدشتكي "عن عباد" بفتح العين المهملة وتشديد الموحدة "بن حبيش" بمهملة وموحدة ومعجمة مصغراً الكوفي مقبول من الثالثة "عن عدي بن حاتم" ابن عبد الله بن سعد بن الحشرج بفتح المهملة وسكون المعجمة آخره جيم الطائي صحابي شهير وكان ممن ثبت على الإسلام في الردة وحضر فتوح العراق وحروب علي.(8/276)
أبواب تفسير القرآن عن رسول الله صلى الله عليه وسلم
باب ما جاء في الذي يفسر القرآن برأيه
...
باب ما جاء في الّذِي يُفَسّرُ القُرْآنَ بِرَأْيِه
4022- حدثنا مَحمُودُ بنُ غَيْلاَنِ، أخبرنا بِشْرُ بنُ السّرّي، أخبرنا سُفْيَانُ عن عَبْدِ الأعْلَى عن سَعِيدِ بنِ جُبَيْرٍ عن ابنِ عَبّاس. قالَ: قالَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم: "مَنْ قالَ فِي الْقُرْآنِ بِغَيْرِ عِلْمٍ فَلْيَتَبَوّأْ
ـــــــ
أبواب تفسير القرآن عن رَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم
التفسير تفعيل من الفسر وهو البيان، تقول: فسرت الشيء بالتخفيف أفسره فسراً وفسرته بالتشديد، أفسره تفسيراً إذا بينته، وأصل الفسر نظر الطبيب إلى الماء ليعرف العلة، واختلفوا في التفسير والتأويل. قال أبو عبيدة وطائفة: هما بمعنى وفرق بينهما آخرون، فقال أبو عبيد الهروي: التأويل رد أحد المحتملين إلى ما يطابق الظاهر، والتفسير كشف المراد عن اللفظ المشكل. وحكى صاحب النهاية أن التأويل نقل ظاهر اللفظ عن وضعه الأصلي إلى ما يحتاج إلى دليل لولاه ما ترك ظاهر اللفظ، وقيل التأويل إبداء احتمال اللفظ معتضد بدليل خارج عنه، ومثل بعضهم بقوله تعالى: {لا رَيْبَ فِيهِ} قال من قال لا شك فيه فهو التفسير ومن قال لأنه حق في نفسه لا يقبل الشك فهو التأويل كذا في الفتح
باب ما جاء في الّذِي يُفَسّرُ القُرْآنَ بِرَأْيِه
قوله: "أخبرنا سفيان" هو الثوري "عن عبد الأعلى" هو ابن عامر.
قوله: "من قال في القرآن بغير علم" أي بغير دليل يقيني أو ظني نقلي أو عقلي مطابق للشرعي، قاله القاري. وقال المناوي أي قولاً يعلم أن الحق غيره(8/277)
مَقْعَدَهُ مِنَ النّارِ" . هذا حديثٌ حسنٌ صحيحٌ.
4023- حدثنا سُفْيَانُ بنُ وَكِيَعٍ، أخبرنا سُوَيْدُ بنُ عَمْرٍو الْكَلْبِيّ، أخبرنا أَبُو عَوَانَةَ عن عَبْدِ الأعْلَى عن سَعِيدِ بنِ جُبَيْرٍ عن ابنِ عَبّاسٍ عن النبيّ صلى الله عليه وسلم قالَ: "اتّقُوا الْحَديثَ عَنّي إلاّ مَا عَلِمْتُمْ فَمَنْ كَذَبَ عَلَىّ مُتَعَمّداً فَلْيَتَبَوّأْ مَقْعَدَهُ مِنَ النّارِ، وَمَنْ قالَ فِي الْقُرْآنِ بِرَأْيِهِ فَلْيَتَبَوّأْ مَقْعَدَهُ مِنَ النّارِ" .
ـــــــ
وقال في مشكله بما لا يعرف "فليتبوأ مقعده من النار" أي ليهييء مكانه من النار قيل الأمر للتهديد والوعيد، وقيل الأمر بمعنى الخبر. قال ابن حجر: وأحق الناس بما فيه من الوعيد، قوم من أهل البدع سلبوا لفظ القرآن ما دل عليه، وأريد به أو حملوه على ما لم يدل عليه ولم يرد به في كلا الأمرين مما قصدوا نفيه أو إثباته من المعنى فهم مخطئون في الدليل والمدلول مثل تفسير عبد الرحمن بن كيسان الأصم والجبائي وعبد الجبار والهاني والزمخشري وأمثالهم. ومن هؤلاء من يدس البدع والتفاسير الباطلة في كلامهم الجذل فيروج على أكثر أهل السنة كصاحب الكشاف، ويقرب من هؤلاء تفسير ابن عطية، بل كان الإمام ابن العرفة المالكي يبالغ في الحط عليه ويقول إنه أقبح من صاحب الكشاف لأن كل أحد يعلم اعتزال ذلك فيجتنبه، بخلاف هذا فإنه يوهم الناس أنه من أهل السنة.
قوله: "هذا حديث حسن صحيح" وأخرجه أحمد والنسائي وابن جرير.
قوله: "اتقوا الحديث" أي أحذروا روايته "عني" والمعنى لا تحدثوا عني "إلا ما علمتم" أي أنه من حديثي. قال القاري: والظاهر أن العلم هنا يشتمل الظن فأنهم إذا جوز الشهادة به مع أنها أضيق من الرواية اتفاقاً فلأن تجوز به الرواية أولى، ويؤيده أنه يجوز في الرواية أولى، ويؤيده أنه يجوز في الرواية الاعتماد على الخط بخلاف الشهادة عند الجمهور "ومن قال" أي من تكلم "في القرآن" أي في معناه أو قراءته "برأيه" أي من تلقاء نفسه من غير تتبع أقوال الأئمة من أهل اللغة والعربية المطابقة للقواعد(8/278)
هذا حديثٌ حسنٌ.
4024- حدثنا عَبْدُ بنُ حُمَيْدٍ حدثني حَبّانُ بنُ هِلاَلٍ أخبرنا سُهَيْلُ بنُ عَبْدِ الله وَهُوَ ابنُ أَبي حَزْمٍ أَخُو حَزْمٍ القُطَعِيّ حدثنا أَبُو عِمْرَانَ الْجَوْنِيّ عن جُنْدُبِ بنِ عَبْدِ الله قالَ: قالَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم "مَنْ قالَ في القُرْآنِ بِرَأْيِه فَأَصَابَ فَقَدْ أَخْطَأَ" .
ـــــــ
الشرعية بل بحسب ما يقتضيه عقله وهو مما يتوقف على النقل بأنه لا مجال للعقل فيه كأسباب النزول والناسخ والمنسوخ وما يتعلق بالقصص والأحكام أو بحسب ما يقتضيه ظاهر النقل وهو مما يتوقف على العقل كالمتشابهات التي أخذ المجسمة بظواهرها وأعرضوا عن استحالة ذلك في العقول أو بحسب ما يقتضيه بعض العلوم الإلهية مع عدم معرفته ببقيتها وبالعلوم الشرعية فيها يحتاج لذلك، ولذا قال البيهقي المراد رأي غلب من غير دليل قام عليه أما ما يشده برهان فلا محذور فيه، فعلم أن علم التفسير إنما يتلقى من النقل أو من أقوال الأئمة أو من المقاييس العربية أو القواعد الأصولية المبحوث عنها في علم أصول الفقة أو أصول الدين.
قوله: "هذا حديث حسن" وأخرجه أحمد من وجه آخر.
قوله: "حدثني حبان" بفتح الحاء المهملة وتشديد الموحدة "وهو" أي سهيل ابن عبد الله "ابن أبي حزم" فأبو حزم كنية والدسهيل وعبد الله اسمه ويقال له مهران أيضاً "أخو حزم" بدل من ابن أبي حزم أي سهيل بن أبي حزم هو أخو حزم "القطعي" بضم القاف وفتح الطاء. قال الحافظ في تهذيب التهذيب: سهيل ابن أبي حزم واسمه مهران ويقال عبد الله أبو بكر البصري روى عن أبي عمران الجوني وغيره وعنه حبان بن هلال وغيره. وقال في التقريب ضعيف من السابعة "عن جندب بن عبد الله" بضم الجيم والدال تفتح وتضم ابن سفيان البجلي.
قوله: "من قال في القرآن" أي في لفظه أو معناه "برأيه" أي بعقله المجرد "فأصاب" أي ولو صار مصيباً بحسب الاتفاق "فقد أخطأ" أي فهو مخطئ بحسب الحكم الشرعي. قال ابن حجر: أي أخطأ طريق الاستقامة بخوضه في(8/279)
ـــــــ
كتاب الله بالتخمين والحدس لتعديه بهذا الخوض مع عدم استجماعه لشروطه فكان إثماً به مطلقاً ولم يعتد بموافقته للصواب لأنها ليست عن قصد ولا تحر بخلاف من كملت فيه آلات التفسير وهي خمسة عشر علماً اللغة والنحو والتصريف والاشتقاق لأن الاسم إذا كان اشتقاقه من مادتين اختلف المعنى باختلافهما كالمسيح هل هو من السياحة أو المسح والمعاني والبيان والبديع والقراءات والأصلين وأسباب النزول والقصص والناسخ والمنسوخ والفقه والأحاديث المبينة لتفسير المجمل والمبهم وعلم الموهبة وهو علم يورثه الله لمن عمل بما علم، وبعض هذه العلوم كان موجوداً عند السلف بالفعل وبعضها بالطبع من غير تعلم فإنه مأجور بخوضه فيه وإن أخطأ لأنه لا تعدى منه فكان مأجوراً أجرين كما في رواية أو عشرة أجور كما في أخرى إن أصاب، وأجراً إن أخطأ كالمجتهد في الأحكام لأنه بذل وسعه في طلب الحق واضطره الدليل إلى ما رآه فلم يكن منه تقصير بوجه.
وقد أخطأ الباطنية الذين يعتقدون أن للقرآن ظهراً وبطناً وأن المراد باطنه دون ظاهره. ومن هذا ما يسلكه بعض الصوفية من تفسيرهم فرعون بالنفس، وموسى بالقلب إن زعموا أن ذلك مراد بالاَية لا إشارات ومناسبات للاَيات وقد صرح الغزالي وغيره بأنه يحرم صرف شيء من الكتاب والسنة عن ظاهره من غير اعتصام فيه بنقل من الشارع ومن غير ضرورة تدعو إليه من دليل عقلي، ونقل الطيبي عن التوربشتي: أن المراد بالرأي ما لا يكون مؤسساً على علوم الكتاب والسنه بل يكون قولاً تقوله برأيه على ما يقتضيه عقله، وعلم التفسير يؤخذ من أفواه الرجال، كأسباب النزول والناسخ والمنسوخ، ومن أقوال الأئمة وتأويلاتهم بالمقاييس العربية كالحقيقة والمجاز والمجمل والمفصل والعام والخاص ثم يتكلم على حسب ما يقتضيه أصول الدين، فيأول القسم المحتاج إلى التأويل على وجه يشهد بصحته ظاهر التنزيل، فمن لم يستجمع هذه الشرائط كان قوله مهجوراً وحسبه من الزاجر أنه مخطئ عند الإصابة، فيابعد ما بين المجتهد والمتكلف، فالمجتهد مأجور على الخطأ والتكلف مأخوذ بالصواب، كذا في المرقاة. وقال النيسابوري في تفسيره: ذكر العلماء أن النهي عن تفسير القرآن بالرأي لا يخلو: إما أن يكون المراد به الاقتصار على النقل والمسموع وترك الاستنباط، أو المراد به أمر آخر وباطل أن يكون المراد به أن لا يتكلم أحد في القرآن إلا بما سمعه فإن الصحابة(8/280)
هذا حديثٌ غريبٌ. وَقَدْ تَكَلّمَ بَعْضُ أَهْلِ الْحَدِيثِ في سُهيْلِ بنِ أَبي حَزْمٍ. وهَكَذَا رُويَ عن بَعْضِ أَهْلِ الْعِلْمِ مِنْ أَصْحَابِ النبيّ صلى
ـــــــ
رضي الله عنهم قد فسروا القرآن واختلفوا في تفسيره على وجوه وليس كل ما قالوه سمعوه، كيف وقد دعا النبي صلى الله عليه وسلم لابن عباس: "اللهم فقهه في الدين وعلمه التأويل" فإن كان التأويل مسموعاً كالتنزيل فما فائدة تخصيصه بذلك وإنما النهي يحمل على وجهين: أحدهما أن يكون له في الشيء رأي وإليه ميل من طبعه وهواه فيأول القرآن على وفق هواه ليحتج على تصحيح غرضه ولو لم يكن له ذلك الرأي والهوى، لا يلوح له من القرآن ذلك المعنى، وهذا قد يكون مع العلم بأن المراد من الآية ليس ذلك ولكن يلبس على خصمه وقد يكون مع الجهل وذلك إذا كانت الآية محتملة فيميل فهمه إلى الوجه الذي يوافق غرضه ويترجح ذلك الجانب برأيه وهواه، ولولا رأيه لما كان يترجح عنده ذلك الوجه، وقد يكون له غرض صحيح فيطلب له دليلاً من القرآن ويستدل عليه بما يعلم أنه ما أريد به كمن يدعو إلى مجاهدة القلب القاسي فيقول المراد بفرعون في قوله تعالى {اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى} هو النفس.
الوجه الثاني: أن يتسارع إلى تفسير القرآن بظاهر العربية من غير استظهار بالسماع والنقل فيما يتعلق بغريب القرآن وما فيه من الألفاظ المبهمة والاختصار والحذف والإضمار والتقديم والتأخير، فالنقل والسماع لا بد منه في ظاهر التفسير أولاً ليتقي به مواضع الغلط، ثم بعد ذلك يتسع للتفهيم والاستنباط. والغرائب التي لا تفهم إلا بالسماع كثيرة، كقوله تعالى: {وَآتَيْنَا ثَمُودَ النَّاقَةَ مُبْصِرَةً فَظَلَمُوا بِهَا} معناه آية مبصرة فظلموا أنفسهم بقتلها، فالناظر إلى ظاهر العربية بظن المراد أن الناقة كانت مبصرة ولم تكن عمياء وما يدري بما ظلموا وأنهم ظلموا غيرهم أو أنفسهم. وما عدا هذين الوجهين فلا يتطرق النهي إليه ما دام على قوانين العلوم العربية والقواعد الأصلية والفرعية، انتهى.
قوله: "هذا حديث غريب" وأخرجه أبو داود والنسائي وابن جرير "وقد تكلم بعض أهل الحديث في سهيل بن أبي حزم" قال المنذري: وقد تكلم(8/281)
الله عليه وسلم وَغَيْرِهِمْ أَنّهُمْ شَدّدُوا فِي هَذَا فِي أَنْ يُفَسّرَ القُرْآنُ بِغَيْرِ عِلْمٍ، وَأَمّا الذِي رُوِيَ عن مُجَاهِدٍ وَقَتَادَةَ وَغَيْرِهِماَ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ أَنّهُمْ فَسّرُوا القُرْآنَ فَلَيْسَ الظّنّ بِهِمْ أَنَهُمْ قَالُوا فِي القُرْآنِ أَوْ فَسّرُوهُ بِغَيْرٍ عِلْمٍ أَو مِنْ قِبَلِ أَنْفُسِهِمْ، وَقَدْ رُوِيَ عَنْهُمْ مَا يَدُلّ عَلَى مَا قُلْنا، أَنّهُمْ لَمْ يَقُولُوا مِنْ قِبَلِ أَنْفُسِهِمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ.
4025- حدثنا الحُسَيْنُ بنُ مَهْدِيّ البَصْرِيّ أخبرنا عَبْدُ الرّزّاقِ عن مَعْمَرٍ عن قَتادَةَ قالَ: مَا فِي القُرْآنِ آية إلاّ وَقَدْ سَمِعْتُ فِيهَا بشيءٍ.
4026- حدثنا ابنُ أَبي عُمَرَ أخبرنا سُفْيَانُ بنُ عُيَيْنَةَ عن الأَعمشِ قالَ: قالَ مُجاهِدٌ لَوْ كُنْتُ قَرَأْتُ قِرَاءَةَ ابنِ مَسْعُودٍ لَمْ أَحْتَجْ إلى أَن أَسْأَلَ ابنَ عَبّاسٍ عن كَثِيرٍ مِنَ القُرْآنِ مِمّا سَألْتُ.
ـــــــ
فيه الإمام أحمد والبخاري والنسائي وغيرهم "وهكذا روي عن بعض أهل العلم من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وغيرهم أنهم شددوا في هذا" قد ذكر الحافظ ابن كثير في أوائل تفسيره آثاراً عديدة عن الصحابة والتابعين في التحرج عن تفسير ما لا علم لهم به "في أن يفسر القرآن بغير علم" هذا بيان لقوله في هذا.
قوله: "حدثنا الحسين بن مهدي البصري" قال في التقريب: الحسين بن مهدي ابن مالك الأبلي بضم الهمزة والموحدة، أبو سعيد صدوق من الحادية عشرة، قال في لب اللباب: الأبلي بضم الهمزة وفتح الباء الموحدة وتشديد اللام نسبة إلى أبلة بلدة على أربعة فراسخ من البصرة.
قوله: "لو كنت قرأت قراءة ابن مسعود لم أحتج أن أسأل ابن عباس الخ" أي لما وقع في قراءته من تفسير كثير من القرآن.(8/282)
ومن سُورةِ فَاتِحَةِ الكِتاب
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
4027- حدثنا قُتَيْبَةُ أخبرنا عَبْدُ العزيز بنُ مُحمّد عن العَلاَءِ بنِ عَبْد الرّحْمَن عن أَبِيِهِ عن أَبي هُرَيْرَةَ أَنّ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم قالَ: "مَنْ صَلّى صَلاَةً لَمْ يَقْرَأْ فِيهَا بِأَمّ القُرْآنِ فَهِي خِدَاجٌ وهي خِدَاجٌ غَيْرُ تَمَامٍ" قالَ: قُلْتُ يَا أَبَا هُرَيْرَةَ إنّي أَحْيَاناً أَكُونُ وَرَاءَ الإِماَم
ـــــــ
ومن سُورةِ فَاتِحَةِ الكِتاب
هي مكية في قوله الأكثر، وقيل مدنية، وقيل نزلت مرتين مرة بمكة ومرة بالمدينة. قال ابن كثير: والأول أشبه، وهي سبع آيات بالاتفاق
قوله: "من صلى" إماماً كان أو مقتدياً أو منفرداً "صلاة " جهرية كانت أو سرية، فريضة أو نافلة "لم يقرأ فيها بأم القرآن" أي بفاتحة الكتاب. قال النووي: أم القرآن اسم الفاتحة، وسميت أم القرآن لأنها فاتحته كما سميت مكة أم القرى لأنها أصلها "فهي خداج" أي ناقص نقص فساد وبطلان، وقد تقدم معنى الخداج في باب ما جاء أنه لا صلاة إلا بفاتحة الكتاب "غير تمام" بيان خداج أو بدل منه. قال القاري في المرقاة: هو صريح فيما ذهب إليه علماؤنا من نقصان صلاته، فهو مبين لقوله عليه السلام: "لا صلاة" ، أن المراد بها نفي الكمال لا نفي الصحة، فبطل قول ابن حجر، والمراد بهذا الحديث أنها غير صحيحة وبنفي لا صلاة نفي صحتها لأنها موضوعة، ثم قال: ودليل ذلك أحاديث لا تقبل تأويلاً، منها خبر ابن خزيمة وابن حبان والحاكم في صحاحهم بإسناد صحيح: لا تجزئ صلاة لا يقرأ فيها بفاتحة الكتاب، ورواه الدارقطني بإسناد حسن، وقال النووي: رواته كلهم ثقات، وفيه أنه محمول على الإجزاء الكامل، انتهى ما في المرقاة.
قلت: حديث ابن خزيمة وابن حبان والحاكم بلفظ: لا تجزئ صلاة لا يقرأ فيها بفاتحة الكتاب، دليل صحيح صريح واضح على أن المراد بالخداج في حديث(8/283)
قالَ: يَا ابنَ الفَارِسِيّ فَاقْرَأْهَا فِي نَفْسِكَ، فَإِنّي سَمِعْتُ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم عليه وسلم يَقُولُ: "قال الله تَعَالَى: قَسَمْتُ الصّلاَةَ بَيْنِي وَبَيْنَ عَبْدِي نِصْفَيْنِ فَنِصْفُهَا لِي وَنِصْفُهَا لِعَبْدِي وَلِعَبْدي مَا سأَلَ، يقرأ العَبْدُ فَيَقُولُ الْحَمْدُ لله رَبّ الْعَالَمِينَ، فَيقُولُ الله تَبَارَكَ وتَعالَى: حَمِدَني عَبْدِي، فَيَقُولُ: الرّحْمَنِ الرّحِيمِ. فَيَقُولُ الله أَثْنَى عَلَيّ عَبْدي، فَيَقُولُ: مَالِكِ يَوْمِ الدّينِ، فَيَقُولُ مَجّدَني عَبْدِي، وَهَذَا لِي، وَبَيْنِي وَبَيْنَ عَبْدِي إيّاكَ نَعْبُدُ، وَإيّاكَ نَستْعيِنُ. وَآخِرُ السّورَةِ لِعَبْدِي وَلِعَبْدِي مَا سَأَلَ، يَقُولُ:
ـــــــ
أبي هريرة نقصان الذات، أعني نقصان الفساد والبطلان، وأن المراد بقوله صلى الله عليه وسلم لا صلاة نفي الصحة، وأما قول القاري إنه محمول على الإجزاء الكامل فغلط مردود عليه فإنه ليس بعد الإجزاء إلا الفساد والبطلان، فماذا بعد الحق إلا الضلال. وقد سبق تحقيق هذه المسألة في محلها، وبسطنا الكلام فيها في كتابنا "أبكار المنن في نقد آثار السنن" "إني أحياناً أكون وراء الإمام" أي فهل أقرأ أم لا "قال يا ابن الفارسي" لعله كان فارسي النسل "فأقرأها في نفسك" أي سراً غير جهر "قسمت الصلاة بيني وبين عبدي نصفين" قال العلماء: المراد بالصلاة هنا الفاتحة سميت بذلك لأنها لا تصح إلا بها، كقوله صلى الله عليه وسلم: "الحج عرفة" ، ففيه دليل على وجوبها بعينها في الصلاة. قال العلماء: والمراد قسمتها من جهة المعنى، لأن نصفها الأول تحميد لله تعالى وتمجيد وثناء عليه وتفويض إليه، والنصف الثاني سؤال وطلب وتضرع وافتقار "حمدني عبدي" قال النووي: قوله تعالى: حمدني عبدي وأثنى علي ومجدني إنما قاله لأن التحميد الثناء بجميل الفعال، والتمجيد الثناء بصفات الجلال، ويقال أثنى عليه في ذلك كله، ولهذا جاء جواباً للرحمن الرحيم لاشتمال اللفظين على الصفات الذاتية والفعلية "وبيني وبين عبدي إياك نعبد وإياك نستعين" قال القرطبي: إنما قال الله تعالى هذا لأن في ذلك تذلل العبد لله تعالى وطلبه الاستعانة منه، وذلك يتضمن تعظيم الله وقدرته على ما طلب منه "وآخر السورة لعبدي" يعني من قوله: اهدنا(8/284)
اهْدِنَا الصّرَاطَ المُسْتَقِيمَ صِرَاطَ الّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ المَغْضُوبِ عَلَيهِمْ وَلاَ الضّالّينَ" .
هذا حديثٌ حسنٌ. وَقَدْ رَوَى شُعْبَةُ وَإسْمَاعِيلُ بنُ جَعْفَرٍ وَغَيْرُ وَاحِدٍ عن العَلاَء بنِ عَبْد الرّحْمَن عن أَبيه عن أَبي هُرَيْرَةَ عن النبيّ صلى الله عليه وسلم نَحْوَ هَذَا الْحَدِيثِ. وَرَوَى ابنُ جُرَيْجٍ وَمَالِكُ بنُ أَنَسٍ عن العَلاَء بن عَبْد الرّحْمَن عن أَبي السّائِبِ مَوْلَى هِشَامِ بنِ زُهْرَةَ عن أَبي هُرَيْرَةَ عن النبيّ صلى الله عليه وسلم نَحْوَ هذا وَرَوَى ابنُ أَبي أُوَيْسٍ عن أَبِيهِ عن العَلاَءِ بنِ عَبْد الرّحْمَن قالَ حدثني أبي وَأَبُو السّائِبِ عن أَبي هُرَيْرَةَ عن النبيّ صلى الله عليه وسلم نَحْوَ هَذَا.
4028- حدثنا بِذَلِكَ مُحمّدُ بنُ يَحْيى وَيَعْقُوبُ بنُ سُفْيَانَ الفَارِسِيّ قالاَ حدثنا إسْمَاعِيلَ ابنُ أَبي أُوَيْسٍ عن أَبِيهِ عن العَلاَء بنِ عَبْد الرّحْمَن قال حدثني أَبي وَأَبُو السّائِبِ مَوْلَى هِشَامِ بنِ زُهْرَةَ وَكَانَا جَليسَيْنِ لأبي هُرَيْرَةَ عن
ـــــــ
الصراط المستقيم الخ "ولعبدي ما سأل" أي غير هذا "يقول اهدنا الصراط المستقيم" أي ثبتنا على دين الإسلام أو طريق متابعة الحبيب عليه الصلاة والسلام "صراط الذين أنعمت عليهم" من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين "غير المغضوب عليهم" أي اليهود "ولا الضالين" أي النصارى:
قوله: "هذا حديث حسن" وأخرجه مسلم وأبو داود والنسائي وابن ماجه.
قوله: "حدثنا بذلك محمد بن يحيى" هو الذهلي "ويعقوب بن سفيان الفارسي" أبو يوسف الفسوي ثقة حافظ من الحادية عشرة "حدثنا ابن أبي أويس" اسمه إسماعيل بن أبي أويس "عن أبيه" هو عبد الله بن عبد الله بن أويس بن مالك بن أبي عامر الأصبحي أبو أويس المدني قريب مالك وصهره صدوق يهم من السابعة(8/285)
النبيّ صلى الله عليه وسلم قالَ: "مَنْ صَلّى صَلاَةً لَمْ يَقرَأْ فِيهَا بِأُمّ القُرْآنِ فَهِي خِدَاجٌ فَهِي خِدَاجٌ غَيْرُ تَمَامٍ" وَلَيْسَ فِي حَدِيثِ إسْمَاعِيلَ بنِ أَبي أُوَيْس أَكْثَرُ مِنْ هَذَا. وَسأَلْتُ أَبَا زُرْعَةَ عن هَذَا الْحَدِيثِ، فَقَالَ: كلاَ الْحَدِيثَيْنِ صحيحٌ واحْتَجّ بِحَدِيثِ ابنِ أَبي أُوَيْسٍ عن أَبِيِه عن العَلاَءِ.
4029- حدثنا عَبْدُ بنُ حُمَيْدٍ، أخبرنا عَبْد الرّحْمَن بنُ سَعْدٍ، أخبرنا عَمْرُو بنُ أَبي قَيْسٍ عن سِمَاكِ بنِ حَرْبٍ عن عَبّادِ بنِ حُبَيْشٍ عن عَدِيّ بنِ حَاتِمٍ قالَ: "أَتَيْتُ رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم وَهُوَ جَالِسٌ
ـــــــ
"وأبو السائب مولى هشام بن زهرة" قال في التقريب: أبو السائب الأنصاري المدني مولى ابن زهرة، يقال اسمه عبد الله بن السائب ثقة من الثالثة.
قوله: "وسألت أبا زرعة عن هذا الحديث" أي سألته عن أن حديث من قال عن العلاء عن أبيه عن أبي هريرة صحيح، أو حديث من قال عن العلاء عن أبي السائب عن أبي هريرة "فقال" أي أبو زرعة "كلا الحديثين صحيح" أي حديث من قال عن العلاء عن أبيه عن أبي هريرة، وحديث من قال عن العلاء عن أبي السائب عن أبي هريرة كلاهما صحيح "واحتج بحديث ابن أبي أويس عن أبيه عن العلاء" أي احتج أبو زرعة على قوله كلا الحديثين صحيح برواية ابن أبي أويس، فإنه قال عن أبيه عن العلاء بن عبد الرحمن، قال حدثني أبي وأبو السائب عن أبي هريرة، فظهر من روايته أن العلاء أخذ هذا الحديث عن أبيه عبد الرحمن وأبي السائب كليهما.
قوله: "أخبرنا عبد الرحمن بن سعد" هو عبد الرحمن بن عبد الله بن سعد بن عثمان الدشتكي "عن عباد" بفتح العين المهملة وتشديد الموحدة "بن حبيش" بمهملة وموحدة ومعجمة مصغراً الكوفي مقبول من الثالثة "عن عدي بن حاتم" ابن عبد الله بن سعد بن الحشرج بفتح المهملة وسكون المعجمة آخره جيم الطائي صحابي شهير وكان ممن ثبت على الإسلام في الردة وحضر فتوح العراق وحروب علي.(8/286)
فِي المَسْجِدِ فَقَالَ الْقَوْمُ: هَذَا عَدِيّ بنُ حَاتِمٍ، وَجِئْتُ بِغَيْرِ أَمَانٍ وَلاَ كِتَابٍ. فَلَمّا دُفِعْتُ إِلَيْهِ أَخَذَ بِيَدي وَقَدْ كَانَ قالَ قَبْلَ ذَلِكَ: "إِنّي لأرْجُو أَنْ يَجْعَلَ الله يَدَهُ فِي يَدِي"، قالَ فَقَامَ بِي فَلَقِيَتْهُ امْرَأَةٌ وَصَبِيّ مَعَهَا فَقَالاَ: إِنّ لَنَا عَلَيْكَ حاَجَةً. فَقَامَ مَعَهُمَا حَتّى قَضَى حَاجَتَهُمَا، ثمّ أَخَذَ بِيَدِي حَتّى أَتَى بِي دَارَهُ فَأَلْقَتْ لَهُ الْوَلِيدَةُ وِسَادَةً فَجَلَسَ عَلَيْهَا وَجَلَسْتُ بَيْنَ يَدَيْهِ فَحَمِدَ الله وَأَثْنَى عَلَيْهِ، ثمّ قالَ: "مَا يُفِرّكَ أَنْ تَقُولَ لا إِلَهَ إِلاّ الله فَهَلْ تَعْلَمُ مِنْ إِلَهٍ سِوَى الله؟ قالَ: قُلْتُ لاَ. قالَ: ثمّ تَكَلّمَ سَاعَةً ثمّ قالَ: "إِنّمَا تَفِرّ أَنْ تَقُولَ الله أَكْبَرُ. وَتَعْلَمُ أنّ شَيْئاً أَكْبَرَ مِنَ الله؟" قالَ: قُلْتُ لاَ، قالَ "فَإِنّ الْيَهُودَ مَغْضُوبٌ عَلَيْهِمْ وَإِنّ
ـــــــ
قوله: "فلما دفعت" بصيغة المجهول أي أحضرت وأتى القوم بي "إليه" أي النبي صلى الله عليه وسلم "وقد كان قال" أي النبي صلى الله عليه وسلم "فألقت له الوليدة" أي الجارية "ما يفرك" بضم الياء وكسر الفاء يقال أفررته أفره أي فعلت به ما يفر منه ويهرب أي ما يحملك على القرار وكثير من المحدثين يقولون بفتح الياء وضم الفاء والصحيح الأول. قاله الجزري "إنما تفر" من الفرار أي تهرب "وتعلم" أي هل تعلم "فإن اليهود مغضوب عليهم وإن النصارى ضلال" بضم الضاد جمع ضال وفيه أن المراد بقوله تعالى المغضوب عليهم اليهود بالضالين النصارى. قال الحافظ في الفتح: روى أحمد وابن حبان من حديث عدي بن حاتم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال {الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ} اليهود { وَلا الضَّالِّينَ} النصارى، هكذا ورده مختصراً وهو عند الترمذي في حديث طويل وأخرجه ابن مردويه بإسناد حسن عن أبي ذر وأخرجه أحمد من طريق عبد الله بن شقيق أنه أخبره من سمع النبي صلى الله عليه وسلم نحوه، وقال ابن أبي حاتم: لا أعلم بين المفسرين في ذلك اختلافاً. قال السهيلي: وشاهد ذلك قوله تعالى في اليهود: { فَبَاءُوا بِغَضَبٍ عَلَى غَضَبٍ} وفي النصارى: {قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ وَأَضَلُّوا كَثِيراً}(8/287)
النّصَارَى ضُلاّلٌ"، قالَ: قلت: فَإنّي حَنِيفٌ مُسْلِمٌ. قالَ: فَرَأَيْتُ وَجْهَهُ تَبَسّطَ فَرَحاً. قالَ: ثمّ أَمَرَ بي فَأُنْزِلْتُ عِنْدَ رَجُلٍ مِنَ الأنْصَارِ جَعَلْتُ أَغْشَاهُ طَرَفَىْ النّهَارِ، قالَ فَبَينْمَاَ أَنَا عِنْدَهُ عَشِيّةً إذْ جَاءَهُ قَوْمٌ فِي ثِيَابٍ مِنَ الصّوفِ مِنْ هَذِهِ النّمَارِ. قالَ: فَصَلّى وَقامَ فَحَثّ عَلَيْهِمْ. ثمّ قالَ: "وَلَوْ صَاعٌ وَلَوْ بِنِصْفِ صِاعٍ وَلَوْ بقُبْضَةٌ وَلَوْ بِبِعْضِ قُبْضَةٍ يَقِي أَحَدُكُمْ وَجْهَهُ حَرّ جَهَنّمَ أَوْ النّارَ وَلَوْ بِتَمْرَةِ وَلَوْ بِشِقّ تَمّرَةٍ فإِنّ أَحَدَكُمْ لاَ قِيَ الله وَقائِلُ لَهُ مَا أَقُولُ لَكُمْ، أَلَمْ أَجْعَلْ لَكَ سَمْعاً وَبَصَرَاً فَيَقُولُ بَلَى. فَيَقُولُ أَلَمْ أَجْعَلْ لَكَ مَالاً وَوَلَداً؟ فَيَقُولُ بَلَى، فَيَقُولُ أَيْنَ مَا قَدّمْتَ لِنَفْسِكَ؟ فَيَنْظُرُ قُدّامَهُ وَبَعْدَهُ وَعَنْ يَمِينِهِ وَعَنْ شِمَالِهِ. ثمّ لاَ يَجِدُ شَيئاً يَقي بِهِ وَجْهَهُ حَرّ جَهَنّمَ. لِيَقِ أَحَدُكُمْ وَجْهَهُ النّارَ وَلَوْ بِشِقّ تَمْرَةٍ، فَإِنْ لَمْ يَجِدْ فَبِكَلِمَةٍ طَيّبَةٍ فَإِنّي لاَ أَخَافُ عَلَيْكُمْ الفَاقَةَ فَإِنّ الله نَاصِرُكُمْ وَمُعْطِيكُمْ حَتّى تَسِيرَ
ـــــــ
"فإني حنيف مسلم" أي ماثل عن كل الأديان إلى الإسلام "تبسط" بصيغة الماضي المعلوم من التبسط، أي انبسط "فرحاً" بفتح الفاء والراء، أي سروراً منصوب على التمييز "فأنزلت" بصيغة المجهول من الإنزال "جعلت أغشاه" أي آتي النبي صلى الله عليه وسلم، من غشيه يغشاه إذا جاءه "عنده" أي عند النبي صلى الله عليه وسلم "من هذه النمار" بكسر النون، جمع نمرة بالفتح، وهي كل شملة مخططة من مآزر الأعراب كأنها أخذت من لون النمر لما فيها من السواد والبياض، وهي من الصفات الغالبة، أي جاءه قوم لابسي أزر مخططة من صوف "فحث عليهم" أي فحث الناس على أن يتصدقوا عليهم بما تيسر لهم "ولو صاع" أي ولو تيسر لهم صاع "ولو بنصف صاع" أي ولو كان تصدقهم بنصف صاع "ولو قبضة" القبضة من الشيء ملء الكف منه، وهي بضم القاف وربما بفتح "وقائل له" أي وهو قائل له وضمير قائل لله وضمير له لأحدكم والجملة حالية "ما أقول لكم" هو مفعول(8/288)
الظعِينَةُ فِيمَا بَيْنَ يَثْرِبَ وَالْحَيْرَةِ أو أَكْثَرَ، مَا تَخَافُ عَلَى مَطِيّتَهَا السَرّقُ، قال: فَجَعَلْتُ أَقُولُ فِي نَفْسِي فَأَيْنَ لُصُوصُ طَيّئ".
هذا حديثٌ حسنٌ غريبٌ لاَ نَعْرِفُهُ إِلاّ مِنْ حَدِيِثِ سَماكِ بنِ حَرْبٍ وَرَوَى شُعْبَةُ عن سَماكِ بنِ حَرْبٍ عن عَبّادِ بنِ حُبَيْشٍ عن عَدِيّ بنِ حَاتِمٍ عن النبيّ صلى الله عليه وسلم الْحَدِيثَ بِطُولِه.
4030- حدثنا مُحمّدُ بنُ المُثَنّى وَمُحمّدُ بنُ بَشّارٍ قالاَ: أخبرنا مُحمّدُ بنُ جَعْفَرٍ، أخبرنا شُعْبَةُ عن سِمَاكِ بنِ حَرْبٍ عن عَبّادِ بنِ حُبَيْشٍ عن
ـــــــ
لقوله قائل "ألم أجعل لك" بدل من قوله ما أقول لكم "وبعده" أي خلفه "حتى تسير الظعينة" بفتح الظاء المعجمة وكسر العين المهملة، المرأة في الهودج، وهو في الأصل اسم للهودج "يثرب" أي المدينة المنورة "والحيرة" بكسر المهملة وسكون التحتانية وفتح الراء، كانت بلد ملوك العرب الذين تحت حكم آل فارس، وكان ملكهم يومئذ إياس بن قبيصة الطائي وليها من تحت يد كسرى بعد قتل النعمان بن المنذر "أكثر ما يخاف على مطيتها السرق" كذا في النسخة الأحمدية وقد سقط عنها لفظة أو قبل أكثر، تدل على ذلك رواية أحمد، ففيها: حتى تسير الظعينة بين الحيرة ويثرب أو أكثر ما تخاف السرق على ظعينتها، وكلمة ما في قوله ما يخاف نافية ويخاف على بناء المجهول والسرق بالرفع على أنه نائب الفاعل وهو بفتحتين بمعنى السرقة. والمعنى: حتى تسير الظعينة فيما بين يثرب والحيرة أو في أكثر من ذلك لا يخاف على راحلها السرق "فأين لصوص طيء" اللصوص جمع لص بكسر اللام ويفتح ويضم وهو السارق والمراد قطاع الطريق، وطيء قبيلة مشهورة منها عدى بن حاتم المذكور، وبلادهم ما بين العراق والحجاز، وكانوا يقطعون الطريق على من مر عليهم بغير جوار، ولذلك تعجب عدي كيف تمر المرأة عليهم وهي غير خائفة.
قوله: "هذا حديث حسن غريب" وأخرج نحوه أحمد في مسنده. قال(8/289)
عَدِيّ بنِ حَاتِمٍ عن النبيّ صلى الله عليه وسلم قالَ: "الْيَهُودُ مَغْضُوبٌ عَلَيْهمْ والنّصَارَى ضُلاّلٌ". فَذَكَرَ الْحَدِيثَ بِطُولِه.
ـــــــ
الحافظ ابن كثير في تفسيره: وقد روى حديث عدي هذا من طرق وله ألفاظ كثيرة يطول ذكرها.(8/290)
ومن سُورةِ البَقَرَة
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
4031- حدثنا مُحمّدُ بنُ بَشّارٍ أخبرنا يَحْيَى بنُ سَعِيدٍ وَابنُ أَبي عَدِيّ وَمُحمّدُ بنُ جَعْفَرِ وَعَبْدُ الْوَهَابِ قَالُوا: أخبرنا عَوْفُ بنُ أَبي جَمِيْلَةَ الأعْرَابيّ عن قَساَمَةَ بنِ زُهَيْرٍ عن أَبي مُوسَى الأشْعَرِيّ قالَ: قالَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم: "إِنّ الله تعالى خَلَقَ آدَمَ مِنْ قُبْضَةٍ قَبَضَهَا مِنْ جَمِيعِ الأرْض، فَجَاءَ بَنُو آدَمَ عَلَى قَدْرِ الأرْضِ، فَجَاءَ مِنْهُمْ الأحْمَرُ وَالأبْيَضُ وَالأسْوَدُ وَبَيْنَ ذَلِكَ وَالسّهْلُ وَالْحَزْنُ وَالْخَبِيثُ وَالطّيّبُ".
ـــــــ
ومن سُورةِ البَقَرَة
هي مدنية بلا خلاف ومائتان وست أو سبع وثمانون آية
قوله: "أخبرنا يحيى بن سعيد" هو القطان "وابن أبي عدي" اسمه محمد بن إبراهيم "ومحمد بن جعفر" المعروف بغندر "وعبد الوهاب" هو الثقفي "عن قسامة ابن زهير" بفتح القاف وخفة السين المهملة المازني البصري ثقة من الثالثة.
قوله: "إن الله خلق آدم من قبضة" بالضم ملء الكف وربما جاء بفتح القاف، ومن ابتدائية متعلقة بخلق، أو بيانية حال من آدم "قبضها" أي أمر الملك بقبضها "من جميع الأرض" يعني وجهها "فجاء بنو آدم على قدر الأرض" أي مبلغها من الألوان والطباع "فجاء منهم الأحمر والأبيض والأسود" بحسب ترابهم، وهذه الثلاثة هي أصول الألوان وما عداها مركب منها وهو المراد بقوله(8/290)
قال أبو عيسى: هذا حديثٌ حسنٌ صحيحٌ.
4032- حدثنا عَبْدُ بنُ حُمَيْدٍ أَخبرنا عَبْدُ الرّزّاقِ عن مَعْمَرٍ عن هَمّامٍ بن مُنَبّهٍ عن أَبي هُرَيْرَةَ قَالَ: قالَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم في قَوْلَه تَعَالَى: {ادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّداً} قالَ: "دَخَلُوا مُتَزَحّفِينَ عَلَى أَوْرَاكِهِمْ " أَيْ مُنْحَرِفِينَ" وَبِهَذَا الإسْنَادِ عن النبيّ صلى الله عليه وسلم {فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا قَوْلاً غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ} قالَ: "قَالُوا حَبّةٌ في شَعيرةٍ" .
ـــــــ
"وبين ذلك" أي بين الأحمر والأبيض والأسود باعتبار أجزاء أرضه "والسهل" أي ومنهم السهل، أي اللين "والحزن" بفتح الحاء وسكون الزاي، أي الغليظ "والخبيث" أي خبيث الخصال "والطيب" على طبع أرضهم، وكل ذلك بتقدير الله تعالى لوناً وطبعاً وخلقاً. قال الطيبي: لما كانت الأوصاف الأربعة ظاهرة في الإنسان والأرض أجريت على حقيقتها وأولت الأربعة الأخيرة لأنها من الأخلاق الباطنة، فإن المعنى بالسهل الرفق واللين. وبالحزن الخرق والعنف، وبالطيب الذي يعني به الأرض العذبة المؤمن الذي هو نفع كله، وبالخبيث الذي يراد به الأرض السبخة الكافر الذي هو ضر كله.
قوله: "هذا حديث حسن صحيح" وأخرجه أحمد وأبو داود والحاكم والبيهقي.
قوله: {ادْخُلُوا الْبَابَ} أراد به باب القرية التي ذكرها الله تعالى في قوله: {وَإِذْ قُلْنَا ادْخُلُوا هَذِهِ الْقَرْيَةَ} {سُجَّداً} أي ساجدين لله تعالى شكراً على إخراجهم من التيه، وقال ابن عباس: منحنين ركوعاً، وقيل خشوعاً وخضوعاً "قال: دخلوا متزحفين على أوراكهم" أي متمشين، والأوراك جميع ورك. قال في القاموس: الورك بالفتح والكسر وككتف ما فوق الفخذ، وفي رواية البخاري: فدخلوا يزحفون على أستاههم "أي منحرفين" هذا تفسير من بعض الرواة، أي منحرفين ومائلين عما أمروا به من الدخول سجداً {فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا قَوْلاً غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ} التقدير: فبدل الذين ظلموا بالذي قيل لهم قولاً غير الذي قيل(8/291)
هذا حديثٌ حسنٌ صحيحٌ.
4033- حدثنا مَحمُودُ بنُ غَيْلاَنَ أخبرنا وَكِيعٌ أخبرنا أَشْعَثُ السّمّانُ عن عَاصِمٍ بنِ عُبَيْدِ الله عن عَبْدِ الله بنِ عَامِرِ بنِ رَبِيعَةَ عن أَبِيِه قالَ: "كُنّا مَعَ النبيّ صلى الله عليه وسلم فِي سَفَره فِي لَيْلَةٍ مُظْلِمَةٍ فَلَمْ نَدْرِ أَيْنَ الْقِبْلَةُ فَصَلّى كُلّ رَجُلٍ مِنّا عَلَى حِيَالِهِ، فَلَمّا أَصْبَحْنَا ذَكَرْنَا ذَلِك للنبي صلى الله عليه وسلم فَنَزَلَتْ {فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ} .
هذا حديثٌ حسنٌ غريبٌ لاَ نَعْرِفُه إلا مِنْ حَدِيثِ أَشْعَثَ السّمّانِ أَبي الرّبِيعِ عن عَاصِمِ بنِ عُبَيْدِ الله، وَأَشْعَثُ يُضَعّفُ فِي الْحَدِيثِ.
4034- حدثنا عَبْدُ بنُ حُمَيْدٍ أخبرنا يَزِيدُ بنُ هَارُونَ أخبرنا عَبُدُ المَلِكِ بنُ أَبي سُلَيْمَانَ، قَالَ: سَمِعْتُ سَعِيدَ بنَ جُبَيْرٍ يُحَدّثُ عن ابنِ عُمَرَ، قالَ "كَان النبيّ صلى الله عليه وسلم يُصَلّي عَلَى رَاحِلَتِهِ تَطَوّعاً حيثما
ـــــــ
لهم، ويحتمل أن يكون ضمن بدل معنى، قال يعني قيل لهم قولوا حطة أي مسألتنا أن تحط عنا خطايانا، فبدلوه قائلين حبة في شعيرة، وهو كلام مهمل وغرضهم به مخالفة ما أمروا به "قال: قالوا: حبة في شعرة" وفي بعض النسخ شعرة بفتحتين مكان شعيرة، والحاصل أنهم خالفوا ما أمروا به من الفعل والقول، فإنهم أمروا بالسجود عند انتهائهم شكراً لله تعالى وبقولهم حطة، فبدلوا السجود بالزحف وقالوا حبة في شعيرة بدل حطة، وهذا في غاية ما يكون من المخالفة والمعاندة.
قوله: "هذا حديث حسن صحيح" وأخرجه البخاري ومسلم والنسائي.
قوله: "قال كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم في سفر الخ" تقدم هذا الحديث بإسناده ومتنه في باب الرجل يصلي لغير القبلة في الغيم، وتقدم شرحه هناك.
قوله: "كان النبي صلى الله عليه وسلم يصلي على راحلته تطوعاً حيثما(8/292)
تَوَجّهَتْ بِهِ وَهْوَ جَاء مِنْ مَكّةَ إلى المَدِينَةِ، ثمّ قَرَأَ ابنُ عَمَر هَذِهِ الآية {وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ} الآية. فقال ابنُ عُمَرَ في هَذه أُنْزِلَتْ هَذِهِ الاَيَةُ".
ـــــــ
توجهت به" فيه دليل على جواز التطوع على الراحلة للمسافر قبل جهة مقصده لكن لا بد من الاستقبال حال تكبير "الإحرام ثم لا يضره الخروج بعد ذلك عن سمت القبلة، وهو إجماع كما قال النووي والحافظ والعراقي وغيرهم، وقد تقدم الكلام في هذه المسألة في باب الصلاة على الدابة حيث ما توجهت به "وقال ابن عمر في هذا أنزلت هذه الآية" ذهب إلى هذا بعض أهل العلم وقالوا إن الآية نزلت في المسافر يصلي النوافل حيث تتوجه به راحلته، فمعنى الآية: فأينما تولوا وجوهكم لنوافلكم في أسفاركم فثم وجه الله، أي فقد صادفتم المطلوب إن الله واسع الفضل غني، فمن سعة فضله وغناه رخص لكم في ذلك لأنه لو كلفكم استقبال القبلة في مثل هذه الحال لزم أحد الضررين: إما ترك النوافل، وإما النزول عن الراحلة والتخلف عن الرفقة بخلاف الفرائض فإنها صلوات معدودة محصورة، فتكليف النزول عن الراحلة عند أدائها واستقبال القبلة فيها لا يفضي إلى الحرج، بخلاف النوافل فإنها غير محصورة، فتكليف الاستقبال يفضي إلى الحرج.
وقال بعض أهل العلم: إن هذه الآية نزلت في قوم عميت عليهم القبلة فلم يعرفوا شطرها فصلوا على أنحاء مختلفة، فقال الله تعالى: {بِرَبِّ الْمَشَارِقِ وَالْمَغَارِبِ} فأين وليتم وجوهكم فهنالك وجهي وهو قبلتكم، فيعلمكم بذلك أن صلاتكم ماضية. وقد استدلوا على ذلك بحديث عامر بن ربيعة المذكور، وهو حديث ضعيف، لكن قال الشوكاني في النيل: وهذا الحديث وإن كان فيه مقال عند المحدثين ولكن له شواهد تقويه فذكرها وقال بعد ذكرها: وهذه الأحاديث يقوي بعضها بعضاً فتصلح للاحتجاج بها، انتهى. وقال الحافظ ابن كثير في تفسيره: وهذه الأسانيد فيها ضعف ولعله يشد بعضها بعضاً، انتهى.
وقال آخرون: بل أنزل هذه الآية قبل أن يفرض التوجه إلى الكعبة، وإنما أنزلها ليعلم نبيه صلى الله عليه وسلم وأصحابه أن لهم التوجه بوجوههم للصلاة حيث(8/293)
هذا حديثٌ حسنٌ صحيحٌ. وَيُرْوَى عن قَتَادَةَ أَنّهُ قالَ في هَذِهِ الآية: {وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ} قال قتادة هِيَ مَنْسُوخَةٌ نسخها قوله: {فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} أَي تِلْقَاءَهُ.
4035- حدثنا بذلك مُحمّدُ بنُ عَبْدِ المَلكِ بن أَبي الشوَارِبِ أخبرنا يَزيدُ بنُ زُرَيْعٍ عن سَعِيدٍ عن قَتَادَةَ. وَيُرْوَى عن مُجَاهِدٍ في هَذِهِ الآية {فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ} قال: فَثَمّ قبْلَةُ الله.
4036- حدثنا بِذَلِكَ أَبُو كُرَيْبٍ مُحمّدُ بنُ العَلاّء أخبرنا وَكِيعٌ
ـــــــ
شاءوا من نواحي المشرق والمغرب، لأنهم لا يوجهون وجوههم وجهاً من ذلك وناحية إلا كان جل ثناؤه في ذلك الوجه وتلك الناحية، لأن له تعالى المشارق والمغارب، وأنه لا يخلو منه مكان، كما قال تعالى: {وَلا أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ وَلا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا} قالوا: ثم نسخ ذلك بالفرض الذي فرض التوجه إلى المسجد الحرام، قاله ابن جرير. قال ابن كثير: وفي قوله وأنه تعالى لا يخلو منه مكان إن أراد علمه تعالى فصحيح، فإن علمه تعالى محيط بجميع المعلومات، وأما ذاته تعالى فلا تكون محصورة في شيء من خلقه، تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً انتهى. وقد قال بهذا القول قتادة رحمه الله، كما ذكره الترمذي بقوله: ويروي عن قتادة أنه قال الخ. وفي سبب نزول هذه الآية أقوال أخرى ذكرها الرازي في تفسيره.
قوله: "هذا حديث حسن صحيح" وأخرجه الشيخان وغيرهما.
قوله: "أخبرنا يزيد بن زريع" بتقديم الزاي مصغراً، البصري أبو معاوية ثقة ثبت من الثامنة "عن سعيد" هو ابن أبي عروبة.
قوله: "ويروى عن مجاهد في هذه الآية: {فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ} فثم قبلة الله قال الحافظ ابن كثير في تفسيره: قال مجاهد: فأينما تولوا فثم وجه الله حيثما كنتم فلكم قبلة تستقبلونها الكعبة، انتهى. والظاهر أن قول مجاهد هذا بيان لقوله الذي(8/294)
عن النّضْرِ بنِ عَرَبِيّ عن مُجَاهِدٍ بِهَذَا.
4037- حدثنا عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ أخبرنا الْحَجّاجُ بن مِنْهَالٍ أخبرنا حَمّادُ بنُ سَلَمَةَ عن حُمَيْدٍ عن أَنَسٍ "أَنّ عُمَرَ بْنَ الْخَطّابِ قَالَ يا رَسُولُ الله لَوْ صَلّيْنَا خَلْفَ المَقَامِ، فَنَزَلَتْ {وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلّىً}" . هذا حديثٌ حسنٌ صحيحٌ.
4038- حدثنا أَحْمَدُ بْنُ مَنيَعٍ أخبرنا هُشَيْمٌ أخبرنا حُمَيْدٌ الطّويلُ عن أَنَسٍ قال: قال عُمَرُ بْنُ الْخَطّابِ رضي الله عنه: قُلْتُ يا رَسُولُ الله: لَو اتّخَذْتَ مِنْ مَقَامِ إبْرَاهِيمَ مُصَلّى فَنَزَلَتْ {وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلّىً}" .
هذا حديثٌ حسنٌ صحيح وفي الباب عنِ ابنِ عُمَر.
ـــــــ
ذكره الترمذي "عن النضر بن عربي" الباهلي مولاهم أبي روح، ويقال أبو عمر الحراني لا بأس به من السادسة.
قوله: "لو صلينا خلف المقام" أي لكان حسناً أو لو للتمني، والمراد من الصلاة خلف المقام صلاة الركعتين بعد الطواف فنزلت {وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلّىً} المراد بالمقام هو الحجر الذي كان إبراهيم عليه السلام يقوم عليه لبناء الكعبة، لما ارتفع الجدار أتاه إسماعيل عليه السلام به ليقوم فوقه ويناوله الحجارة فيضعها بيده لرفع الجدار.
قوله: "هذا حديث حسن صحيح" وأخرجه الشيخان مطولاً.
قوله: "أخبرنا هشيم" بالتصغير ابن بشير بوزن عظيم ابن القاسم بن دينار السلمي.
قوله: "وفي الباب عن ابن عمر" أخرجه أبو نعيم في الدلائل عنه أخذ النبي صلى الله عليه وسلم بيد عمر فمر به على المقام فقال له: "هذا مقام إبراهيم"، قال: يا نبي الله ألا تتخذه مصلي؟ فنزلت.(8/295)
4039- حدثنا أَحْمَدُ بنُ مَنِيعٍ أخبرنا أَبُو مُعَاوِيَةَ أخبرنا الأَعْمَشُ عن أَبِي صَالحٍ عن أَبي سَعِيدٍ عن النبيّ صلى الله عليه وسلم في قَوْلِهِ {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً} قَالَ عَدْلاَ".
هذا حديثٌ صحيحٌ.
ـــــــ
قوله: "أخبرنا أبو معاوية" اسمه محمد بن خازم "عن أبي صالح" هو السمان واسمه ذكوان.
قوله: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً} الكاف في قوله وكذلك كاف التشبيه جاء لشبه به، وفيه وجوه، أحدها: أنه معطوف على ما تقدم من قوله في حق إبراهيم: {وَلَقَدِ اصْطَفَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا} وكذلك جعلناكم أمة وسطاً. الثاني: أنه معطوف على قوله {يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} ، وكذلك هديناكم وجعلناكم أمة وسطاً. الثالث قيل معناه: كما جعلنا قبلتكم وسطاً بين المشرق والمغرب كذلك جعلناكم أمة وسطاً، يعني عدولاً خياراً "قال عدلاً" أي قال النبي صلى الله عليه وسلم في تفسير قوله تعالى {وَسَطاً} عدلا. وروى البخاري في صحيحه هذا الحديث مطولاً، وكذا الترمذي بعد هذا وفي آخر حديثهما، والوسط: العدل.
قال الحافظ في الفتح: هو مرفوع من نفس الخبر وليس بمدرج من قول بعض الرواة كما وهم فيه بعضهم، وسيأتي في الاعتصام بلفظ: وكذلك جعلناكم أمة وسطاً عدلا. وأخرج الإسماعيلي من طريق حفص بن غياث عن الأعمش بهذا السند في قوله وسطاً قال عدلاً، كذا أورده مختصراً مرفوعاً، وأخرجه الطبراني من هذا الوجه مختصراً مرفوعاً، ومن طريق وكيع عن الأعمش بلفظ والوسط العدل مختصراً مرفوعاً، ومن طريق أبي معاوية عن الأعمش مثله، قال الطبري: الوسط في كلام العرب الخيار، يقولون فلان وسط في قومه وواسط إذا أرادوا الرفع في حسبه، قال: والذي أرى أن معنى الوسط في الآية الجزء الذي بين الطرفين، والمعنى أنهم وسط لتوسطهم في الدين، فلم يغلوا كغلو النصارى، ولم يقصروا كتقصير اليهود، ولكنهم أهل وسط واعتدال.
قال الحافظ: لا يلزم من كون الوسط في الآية صالحاً لمعنى التوسط أن(8/296)
4040- حدثنا عَبْدُ بنُ حُمَيْدٍ أخبرنا جَعْفَرُ بْنُ عَوْنٍ أخبرنا الأعمَشُ عن أَبي صَالحٍ عن أَبي سَعيدٍ قَالَ: قالَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم "يُدْعَى نُوحٌ فَيُقَالُ هَلْ بَلّغْتَ؟ فَيَقُولُ نَعَمْ، فَيُدْعَى قَوْمُهُ فَيُقَالُ: هَلْ بَلّغَكُمْ؟ فَيَقُولُونَ: مَا أَتَانَا مِنْ نَذِيرٍ وَمَا أَتَانَا مِنْ أَحَدٍ. فَيُقَالُ: مَنْ شُهُودُكَ؟ فيقولُ: محمّدٌ وَأمّتُهُ، قالَ فَيُؤْتَى بكُمْ تَشْهَدُونَ أَنّهُ قَدْ بَلّغَ
ـــــــ
لا يكون أريد به معناه الآخر كما نص عليه الحديث، فلا مغايرة بين الحديث وبين ما دل عليه معنى الآية، انتهى.
قوله: "يدعى نوح" وفي رواية: بحاء بنوح يوم القيامة "فيقال" أي لنوح "فيقول نعم" وهذا لا ينافي قوله تعالى: {يَوْمَ يَجْمَعُ اللَّهُ الرُّسُلَ فَيَقُولُ مَاذَا أُجِبْتُمْ قَالُوا لا عِلْمَ لَنَا إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ} لأن الإجابة غير التبليغ، وهي تحتاج إلى تفصيل لا يحيط بكنهه إلا علمه سبحانه، بخلاف نفس التبلغ لأن من العلوم الضرورية البديهية "ما أتانا من نذير" أي منذر لا هو ولا غيره مبالغة في الإنكار توهماً أنه ينفعهم الكذب في ذلك اليوم عن الخلاص من النار، ونظيره قول جماعة من الكفار: {وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ} "وما أتانا من أحد" أي غير النذير للتبليغ "فيقال" أي لنوح "من شهودك" وإنما طلب الله من نوح شهداء على تبليغه الرسالة أمته وهو أعلم به إقامة الحجة وإناقة لمنزلة أكابر هذه الأمة "فيقول محمد وأمته" والمعنى أن أمته شهداء وهو مزك لهم وقدم في الذكر للتعظيم ولا يبعد أنه صلى الله عليه وسلم يشهد لنوح عليه الصلاة والسلام أيضاً لأنه محل النصرة، وقد قال تعالى: {وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ} إلى قوله: {لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ} "فيؤتي بكم تشهدون" قال الحافظ: وقد روى هذا الحديث أبو معاوية عن الأعمش بهذا الإسناد أتم من سياق غيره وأشمل ولفظه: يجيء النبي يوم القيامة ومعه الرجل ويجيء النبي ومعه الرجلان ويجيء النبي ومعه أكثر من ذلك، قال: فيقال لهم: أبلغكم هذا؟ فيقولون: لا، فيقال للنبي: أبلغتهم، فيقول: نعم، فيقال لهم: من يشهد لك، الحديث أخرجه أحمد عنه والنسائي وابن ماجه "أنه(8/297)
فَذَلِكَ قَوْلُ الله تَبَارَكَ وَتَعَالَى {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً} وَالْوَسُطُ الْعَدْلُ". هذا حديثٌ حسنٌ صحيحٌ.
4041- حدثنا محمّدُ بْنُ بَشّارٍ، أخبرنا جَعْفَرُ بْنُ عَوْنٍ عنِ الأعَمشِ نَحْوَهُ.
4042- حدثنا هَنّادٌ حدثنا وَكِيعٌ عن إسْرَائِيلَ عن أبي إِسْحَاقَ عن الْبَرَاءِ بن عازبٍ قالَ: "لمّا قَدِمَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم المَدِينَةَ صَلّى نَحْوَ بَيْتِ المَقْدِسِ سِتّةَ أَوْ سَبْعَةَ عَشْرَ شَهْرًا، وَكَانَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم
ـــــــ
قد بلغ" قال الحافظ: زاد أبو معاوية فيقال وما علمكم فيقولون أخبرنا نبينا أن الرسل قد بلغوا فصدقناه ويؤخذ من حديث أبي بن كعب تعميم ذلك، فأخرج ابن أبي حاتم بسند جيد عن أبي العالية عن أبي بن كعب في هذه الآية قال لتكونوا شهداء وكانوا شهداء على الناس يوم القيامة كانوا شهداء على قوم نوح وقوم هود وقوم صالح وقوم شعيب وغيرهم أن رسلهم بلغتهم وأنهم كذبوا رسلهم. قال أبو العالية وهي قراءة أبي: لتكونوا شهداء على الناس يوم القيامة ومن حديث جابر عن النبي صلى الله عليه وسلم: ما من رجل من الأمم إلا ود أنه منا أيتها الأمة، ما من نبي كذبه قومه إلا ونحن شهداؤه يوم القيامة أن قد بلغ رسالة الله ونصح لهم "لتكنوا شهداء على الناس" أي على من قبلكم من الكفار أن رسلهم بلغتهم "ويكون الرسول" أي رسولكم واللام للعوض أو اللام للعهد والمراد به محمد صلى الله عليه وسلم "عليكم شهيداً" أنه بلغكم "والوسط العدل" هو مرفوع من نفس الخبر وليس بمدرج من قول بعض الرواة كما تقدم.
قوله: "هذا حديث حسن صحيح" وأخرجه أحمد والبخاري والنسائي وغيرهم.
قوله: "ستة أو سبعة عشر شهراً" كذا وقع في هذه الرواية بالشك، وترفع في بعض الروايات ستة عشر بغير شك، ووقع في بعضها سبعة عشر بغير(8/298)
يُحِبّ أن يُوَجّهَ إلى الْكَعْبَةِ فَأَنْزَلَ الله عَزّ وَجَلّ {قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} فَوُجّهَ نَحْوَ الّكَعْبَةِ وَكانَ يُحِبّ ذَلِكَ، فَصَلّى رَجُلُ مَعَهُ الْعَصْرَ قالَ ثمّ مَرّ عَلَى قَوْمٍ مِنَ الأنْصَارِ وَهُمْ رُكُوعٌ في صَلاَةِ الْعَصْرِ نَحْوَ بَيْتِ المَقْدِسِ فَقَالَ هُوَ يَشْهَدُ أَنّهُ صَلّى مَعَ رَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم وَأَنّهُ قَدْ وُجّهَ إلى الْكَعْبَةِ، قالَ فَانْحَرَفُوا وَهُمْ رُكُوعٌ".
ـــــــ
شك. قال الحافظ: والجمع بين الروايتين سهل بأن يكون من جزم بستة عشر نفق من شهر القدوم وشهر التحويل شهراً وألغى الزائد، ومن جزم بسبعة عشر عدهما معاً. ومن شك تردد في ذلك. وذلك أن القدوم كان في شهر ربيع الأول بلا خلاف وكان التحويل في نصف شهر رجب من السنة الثانية على الصحيح وبه جزم الجمهور "وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحب أن يوجه إلى الكعبة" جاء بيان ذلك فيما أخرجه الطبري وغيره من طريق علي بن أبي طلحة عن ابن عباس قال: لما هاجر النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة واليهود أكثر أهلها يستقبلون بيت المقدس أمره الله أن يستقبل بيت المقدس ففرحت اليهود فاستقبلها سبعة عشر شهراً وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحب أن يستقبل قبلة إبراهيم فكان يدعو ويظهر إلى السماء فنزلت. ومن طريق مجاهد قال إنما كان يحب أن يتحول إلى الكعبة لأن اليهود قالوا يخالفنا محمد ويتبع قبلتنا فنزلت. وظاهر حديث ابن عباس هذا أن استقبال بيت المقدس إنما وقع بعد الهجرة إلى المدينة لكن أخرج أحمد من وجه آخر عن ابن عباس: كان النبي صلى الله عليه وسلم يصلي بمكة نحو بيت المقدس والكعبة بين يديه والجمع بينهما ممكن بأن يكون أمر صلى الله عليه وسلم لما هاجر أن يستمر على الصلاة ببيت المقدس، وأخرج الطبراني من طريق ابن جريج قال: صلى النبي صلى الله عليه وسلم أول ما صلى إلى الكعبة ثم صرف إلى بيت المقدس وهو بمكة فصلى ثلاث حجج ثم هاجر فصلى إليه بعد قدومه إلى المدينة ستة عشر شهراً ثم وجهه الله إلى الكعبة. فقوله في(8/299)
هذا حديثٌ حسنٌ صحيحٌ. وقد رواه سُفْيَانُ الثّوْرِيّ عن أبي إسْحَاقَ.
4043- حدثنا هَنّادٌ أخبرنا وَكِيعٌ عن سُفْيَانَ عن عَبْدِ الله بنِ دِينَارٍ عن ابنِ عُمَرَ قَالَ "كَانُوا رُكُوعاً في صَلاَةِ الْفَجْرِ".
وفي الباب عن عَمْرِو بنِ عَوْفٍ المُزنِيّ وَابنِ عُمَرَ وَعُمَارَةَ بنِ أَوْسٍ وَأَنَس بنِ مالِكٍ. حديثُ ابن عُمَرَ حَدِيثٌ حسنٌ صحيحٌ.
4044- حدثنا هَنّادٌ وَأَبُو عَمّارٍ قَالاَ حدثنا وَكِيعٌ عن إِسْرَائِيلَ عن سِمَاكٍ عن عِكْرِمَةَ عن ابنِ عبّاسٍ قالَ: "لمّا وُجّهَ النبيّ صلى الله عليه وسلم إلى الْكَعْبَةِ قَالُوا: يا رَسُولَ الله كَيْفَ بِإِخْوَانِنَا مَاتُوا وَهُمْ يُصَلّونَ إلى بَيْتِ المَقْدِسِ؟ فأَنْزَلَ الله تَعَالَى {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ} الاَيَةَ".
ـــــــ
حديث ابن عبس الأول أمره، الله يرد قول من قال إنه صلى إلى بيت المقدس باجتهاد، وقد أخرجه الطبري عن عبد الرحمن بن زيد بن أسلم وهو ضعيف وعن أبي العالية أنه صلى الله عليه وسلم صلى إلى بيت المقدس يتألف أهل الكتاب وهذا لا ينفي أن يكون يتوقيف. وحديث البراء هذا قد تقدم بإسناده ومتنه في باب ابتداء القبلة من أبواب الصلاة "وقد رواه سفيان الثوري عن أبي إسحاق" كما في رواية الشيخين.
قوله: "قال كانوا ركوعاً في صلاة الفجر" تقدم هذا الحديث مع شرحه أيضاً في الباب المذكور.
قوله: "وفي الباب عن عمرو بن عوف المزني الخ" تقدم تخريج أحاديث هؤلاء الصحابة رضي الله عنهم في الباب المذكور.
قوله: "لما وجه" بصيغة المجهول من التوجيه أي أمر بالتوجه إلى الكعبة "كيف بإخواننا الذي ماتوا" أي كيف حالهم هل صلاتهم ضائعة أم مقبولة "وهم يصلون إلى بيت المقدس" جملة حالية {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ} أي(8/300)
حديثٌ حسنٌ صحيحٌ.
4045- حدثنا ابنُ أَبي عُمَرَ أخبرنا سُفْيَانُ قَالَ سَمِعْتُ الزّهْرِيّ يُحَدّثُ عن عُرْوَةَ قَالَ "قُلْتُ لِعَاَئِشَةَ مَا أَرَى عَلَى أَحَدٍ لَمْ يَطُفْ بَيْنَ الصّفَا وَالمَرْوَةِ شَيْئاً وَمَا أُبَالِي أَنْ لاَ أَطُوفَ بَيْنَهُمَا، فَقَالَتْ بِئْسَ ما قُلْتَ يَا ابْنَ أُخْتِي، طَافَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم وَطَاف المُسْلِمُونَ، وَإنّمَا كَانَ مَنْ أَهَلّ لِمَنَاةَ الطّاغِيَةِ الّتِي بالمُشَلّلِ لا يَطُوفُونَ بَيْنَ الصّفَا وَالمَرْوَةِ فَأَنْزَلَ
ـــــــ
صلاتكم إلى بيت المقدس بل يثيبكم عليه أطلق الإيمان على الصلاة لأنها أعظم آثار الإيمان وأشرف نتائجه، وإنما خوطبوا تغليباً للأحياء.
قوله: "هذا حديث حسن صحيح" وأخرجه أبو داود وابن حبان والحاكم وابن جرير.
قوله: "ما أرى على أحد لم يطف بين الصفا والمروة شيئاً" أي من الجناح "وما أبالي أن لا أطوف بينهما" يعني أن السعي بين الصفا والمروة ليس بواجب عندي إذ مفهوم قوله تعالى: {فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا} عدم وجوب السعي لأنه دل على رفع الجناح وهو الإثم عن فاعله وذلك يدل على إباحته ولو كان واجباً لما قيل فيه مثل ذلك "طاف رسول الله صلى الله عليه وسلم وطاف المسلمون" أي بالصفا والمروة، وفي رواية للبخاري: وقد سن رسول الله صلى الله عليه وسلم الطواف بينهما فليس لأحد أن يترك الطواف بينهما "وإنما كان من أهل" أي حج من الأنصار قبل أن يسلموا "لمناة" بفتح الميم وتخفيف النون وبعد الألف تاء مثناة من فوق وهو اسم صنم كان في الجاهلية، وقال ابن الكلبي كانت صخرة نصبها عمرو بن لحي بجهة البحر فكانوا يعبدونها، وقيل هي صخرة لهذيل بقديد، وسميت مناة لأن النسائك كانت تمنى بها أي تراق. وقال الحازمي: هي على سبعة أميال من المدينة وإليها نسبوا زيد مناة "الطاغية" صفه لمناة إسلامية وهي على زنة فاعلة من الطغيان ولو روى لمناة الطاغية بالإضافة ويكون الطاغية صفة للفرقة وهم الكفار لجاز "التي بالشلل" بضم الميم وفتح(8/301)
الله تَبَارَكَ وَتَعَالَى {فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا} وَلَوْ كَانَتْ كما تَقُولُ لَكَانَتْ: فَلاَ جُنَاحَ علَيْهِ أنْ لاَ يَطّوَفَ بهما.
ـــــــ
الشين المعجمة وتشديد اللام الأولى المفتوحة اسم وضع قريب من قديد من جهة البحر، ويقال هو الجبل الذي يهبط منه إلى قديد من ناحية البحر وقال البكري: هي ثنية مشرفة على قديد. وفي رواية لمسلم بالمشلل من قديد، وفي رواية للبخاري في تفسير سورة البقرة: كانوا يهلون لمناة فكانت مناة حذو قديد أي مقابلة. وقديد بقاف مصغر قرية جامعة بين مكة والمدينة كثيرة المياة قاله أبو عبيد البكري، وكان لمن لا يهل لمناة صنمان بالصفا إساف بكسر الهمزة وتخفيف السين المهملة وبالمروة نائلة، وقيل إنهما كانا رجلاً وامرأة فزنيا داخل الكعبة فمسخهما الله حجرين فنصبا عند الكعبة وقيل على الصفا والمروة ليعتبر الناس بهما ويتعظوا ثم حولهما قصي بن كلاب فجعل أحدهما ملاصق للكعبة و الآخر بزمزم ونحر عندهما وأمر بعبادتهما فلما فتح النبي صلى الله عليه وسلم مكة كسرهما "لا يطوفون بين الصفا والمروة" كراهية لذينك الصنمين وحبهم صنمهم الذي بالشلل وكان ذلك سنة في آبائهم. من أحرم لمناة لم يطف بين الصفا والمروة "فلا جناح عليه" أي فلا إثم عليه "أن يطوف" بتشديد الطاء أصله يتطوف فأبدلت التاء طاء لقرب مخرجهما، وادغمت الطاء طاء "بهما" أي بأن يسعى بينهما سبعاً "ولو كانت" أي هذه الآية "كما تقول" أي كما تأولها عليه من الإباحة "لكانت فلا جناح عليه أن لا يطوف بهما" بزيادة لا بعد أن فإنها كانت حينئذ تدل على رفع الإثم عن تاركه وذلك حقيقة المباح فلم يكن في الآية نص على الوجوب ولا عدمه. قال النووي: قال العلماء هذا من دقيق علمها وفهمها الثاقب وكبير معرفتها بدقائق الألفاظ لأن الآية الكريمة إنما دل لفظها على رفع الجناح عمن يطوف بهما وليس فيه دلالة على عدم وجوب السعي ولا على وجوبه فأخبرته عائشة أن الآية ليست فيها دلالة للوجوب ولا لعدمه وبينت السبب في نزولها والحكمة في نظمها وأنها نزلت في الأنصار حين تحرجوا من السعي بين الصفا والمروة في الإسلام، وأنها لو كانت كما يقول عروة لكانت فلا جناح عليه أن لا يطوف بهما، وقد يكون الفعل واجباً ويعتقد إنسان أنه(8/302)
قالَ الزّهْرِيّ: فَذَكَرْتُ ذَلِكَ لأبي بَكْرِ بنِ عَبْد الرّحْمَن بنِ الْحَارِثِ بْنِ هِشَامٍ فأَعْجَبَهُ ذَلِكَ وَقَالَ إِنّ هَذَا لَعِلمٌ، وَلَقَدْ سَمِعْتُ رِجَالاً مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ يَقُولُونَ إِنّمَا كَانَ مَنْ لاَ يَطُوفُ بَيْنَ الصّفَا وَالمَرْوَةِ مِنَ الْعَرَبِ يَقُولُونَ إِنّ طَوَافَنَا بَيْنَ هَذَيْنِ الْحَجَرَيْنِ مِنْ أَمْرِ الْجَاهِليّة، وَقَال آخَرُونَ مِنَ الأنْصَارِ: إِنّمَا أُمِرْنَا بالطّوَافِ بالْبَيْتِ وَلَمْ نُؤْمَرْ بِهِ بين الصّفَا وَالمَرْوَةِ فَأَنْزَلَ الله تَعَالَى {إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ} قالَ أَبُو بَكْرِ بن عَبْدِ الرّحْمَنِ فأُرَاهَا قَدْ نَزَلَتْ في هَؤُلاَء وَهَؤُلاَء".
ـــــــ
يمنع إيقاعه على صفة مخصوصة وذلك كمن عليه صلاة الظهر وظن أنه لا يجوز فعلها عند غروب الشمس فسأل عن ذلك فيقال في جوابه لا جناح عليك إن صليتها في هذا الوقت فيكون جواباً صحيحاً ولا يقتضي نفي وجوب صلاة الظهر انتهى "فذكرت ذلك لأبي بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام" بن المغيرة المخزومي المدني قيل اسمه محمد وقيل المغيرة وقيل أبو بكر اسمه وكنيته أبو عبد الرحمن وقيل اسمه كنيته ثقة فقيه عابد من الثالثة "فأعجبه ذلك" أي كلام عائشة "إن هذا لعلم" بفتح اللام التي هي التأكيد وبالتنوين على أنه الخبر أي إن هذا لعلم عظيم "إنما كان من لا يطوف" أي في الإسلام "وقال آخرون من الأنصار" الذين كانوا يتحرجون أن يطوفوا في الجاهلية بالصفا والمروة "وقال أبو بكر بن عبد الرحمن فأراها" بضم الهمزة أي أظنها "قد نزلت في هؤلاء وهؤلاء" وفي رواية البخاري في كتاب الحج قال أبو بكر فاسمع هذه الآية نزلت في الفريقين كليهما في الذين كانوا يتحرجون أن يطوفوا في الجاهلية بالصفا والمروة والذين يطوفون ثم تحرجوا أن يطوفوا بهما في الإسلام من أجل أن الله أمر بالطواف بالبيت ولم يذكر الصفا حتى ذكر ذلك بعد ما ذكر الطواف بالبيت. قال الحافظ: وحاصله أن سبب نزول الآية على هذا الأسلوب كان للرد على الفريقين الذين تحرجوا أن يطوفوا بينهما لكونه عندهم من أفعال الجاهلية والذين امتنعوا من الطواف بينهما لكونها لم يذكرا انتهى.(8/303)
هذا حديثٌ حسنٌ صحيحٌ.
4046- حدثنا عَبْدُ بنُ حُمَيْدٍ، أخبرنا يَزِيدُ بنُ أَبي حَكِيمٍ عن سُفْيَانَ عن عَاصِمٍ الأحْوَلِ قالَ: "سَأَلْتُ أَنَسَ بنَ مَالِكٍ عن الصّفَا وَالمَرْوَةِ فَقَالَ: كَانَا مِنْ شَعَائِرِ الجَاهِلِيّةِ، قالَ: فَلَمّا كَانَ الإسْلاَمُ أَمْسَكْنَا عَنْهُمَا فَأَنْزَلَ الله تَبَارَكَ وَتَعَالَى {إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا} قالَ: هُمَا تَطَوّعٌ {وَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْراً فَإِنَّ اللَّهَ شَاكِرٌ عَلِيمٌ} ".
ـــــــ
قوله: "هذا حديث حسن صحيح" وأخرجه الشيخان.
قوله: "أخبرنا يزيد بن أبي حكيم" العدني أبو عبد الله صدوق من التاسعة.
قوله: "سألت أنس بن مالك عن الصفاء والمروة" وفي رواية البخاري قلت لأنس بن مالك أكنتم تكرهون السعي بين الصفا والمروة قال نعم "كانا من شعائر الجاهلية" أي من العلامات التي كانوا يتعبدون بها "أمسكنا عنهما" أي عن السعي بينهما "قال" أي أنس "هما تطوع" أي السعي بينهما ليس بواجب، وهذا هو قول أنس. واختلف أهل العلم في هذه المسألة قال العيني: قال شيخنا زين الدين في شرحه للترمذي: اختلفوا في السعي بين الصفا والمروة للحاج على ثلاثة أقوال: أحدها: أنه ركن لا يصح الحج إلا به وهو قول ابن عمر وعائشة وجابر، وبه قال الشافعي ومالك في المشهور عنه وأحمد في أصح الروايتين عنه وإسحاق وأبو ثور لقوله صلى الله عليه وسلم: "اسعوا فإن الله كتب عليكم السعي" . رواه أحمد والدارقطني والبيهقي من رواية صفية بنت شيبة عن حبيبة بنت أبي تجرأة بإسناد حسن وقال عبد العظيم إنه حديث حسن. قال العيني: قال ابن حزم في المحلى إن حبيبة بنت أبي تجرأة مجهولة، وقال شيخنا هو مردود لأنها صحابية وكذلك صفية بنت شيبة صحابية. والقول الثاني: أنه واجب يجبر بدم، وبه قال الثوري وأبو حنيفة ومالك في العتبية كما حكاه ابن العربي. والقول الثالث: أنه(8/304)
هذا حديثٌ حسنٌ صحيحٌ.
4047- حدثنا ابنُ أَبي عُمَرَ، أخبرنا سُفْيَانُ عن جَعْفَرِ بنِ مُحمّدٍ عن أَبِيهِ عن جَابِرِ بنِ عَبْد الله قالَ: "سَمِعْتُ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم حِينَ قَدِمَ مَكّةَ طَافَ بالْبَيْتِ سَبْعاً فَقَرَأَ {وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلّىً} فَصَلّى خَلْفَ المَقَامِ، ثُمّ أَتَى الْحَجَرَ فَاسْتَلَمَهُ، ثُمّ قالَ نَبْدَأُ بِمَا بَدَأَ الله بِهِ وَقَرَأَ {إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ} ".
هذا حديثٌ حسنٌ صحيحٌ.
4048- حدثنا عَبْدُ بنُ حُمَيْدٍ، أخبرنا عُبَيْدُ الله بنُ مُوسَى عن إسْرَائيلَ بن يُونُسَ عن أَبي إسْحَاقَ عن البَرَاءِ قالَ: "كَانَ أَصْحَابُ النبيّ صلى الله عليه وسلم إِذَا كَانَ الرّجُلُ صَائِماً فَحَضَرَ الإفْطَارُ فَنَامَ قَبْلَ أَنْ
ـــــــ
ليس بركن ولا واجب بل هو سنة ومستحب، وهو قول ابن عباس وابن سيرين وعطاء ومجاهد وأحمد في رواية: ومن طاف فقد حل انتهى.
قوله: "هذا حديث حسن صحيح" وأخرجه الشيخان والنسائي.
قوله: "عن جعفر بن محمد" المعروف بالصادق "عن أبيه" هو محمد بن علي ابن الحسين أبو جعفر الباقر "عن جابر بن عبد الله قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم حين قدم مكة الخ" تقدم هذا الحديث مع شرحه في باب ما جاء أنه يبدأ بالصفا قبل المروة.
قوله: "أخبرنا عبيد الله بن موسى" العبسي الكوفي "عن أبي إسحاق" هو السبيعي.
قوله: "كان أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم" أي في أول افتراض الصيام "فنام قبل أن يفطر الخ" قال الحافظ في رواية زهير: كان إذا نام قبل أن يتعشى لم يحل له أن يأكل شيئاً ولا يشرب ليله ويومه حتى تغرب ولأبي الشيخ من(8/305)
يُفْطِرَ لَمْ يَأَكُلْ لَيْلَتهُ وَلاَ يَوْمَهُ حَتّى يُمْسِىَ، وَإِنّ قَيْسَ بنَ صِرْمَةٍ الأَنْصَارِيّ كَانَ صَائِماً فَلَمّا حَضَرَهُ الإفْطَارُ أَتَى امْرَأَتَهُ فَقَالَ هَلْ عِنْدَكِ طَعَامٌ؟ قَالَتّ؟ لاَ وَلَكِنْ أَنْطَلِقُ فَأَطْلُبُ لَكَ - وَكَانَ يَوْمَهُ يَعْمَلُ - فَغَلَبَتْهُ
ـــــــ
طريق زكريا بن أبي زائدة عن أبي إسحاق كان المسلمون إذا أفطروا يأكلون ويشربون ويأتون النساء ما لم يناموا. فإذا ناموا لم يفعلوا شيئاً من ذلك إلى مثلها. فاتفقت الروايات في حديث البراء على أن المنع من ذلك كان مقيداً بالنوم وهذا هو المشهور في حديث غيره، وقيد المنع من ذلك في حديث ابن عباس بصلاة العتمة أخرجه أبو داود بلفظ: كان الناس على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا صلوا العتمة حرم عليهم الطعام والشراب والنساء وصاموا إلى القابلة، وهذا أخص من حديث البراء من وجه آخر. ويحتمل أن يكون ذكر صلاة العشاء لكون ما بعدها مظنة النوم غالباً والتقييد في الحقيقة إنما هو بالنوم كما في سائر الأحاديث انتهى.
قلت: ومراد الحافظ بقوله وهذا أخص من حديث البراء من وجه آخر يعني أن بينهما عموماً وخصوصاً من وجه "وإن قيس بن صرمة" بكسر الصاد المهملة وسكون الراء، قال في الإصابة: ووقع عند أبي داود من هذا الوجه صرمة ابن قيس، وفي رواية النسائي أبو قيس بن عمرو فإن حمل هذا الاختلاف على تعدد أسماء من وقع له ذلك وإلا فيمكن الجمع برد جميع الروايات إلى واحد فإنه قيل فيه صرمة بن قيس وصرمة بن مالك وصرمة بن أنس وصرمة بن أبي أنس وقيل فيه قيس بن صرمة وأبو قيس بن صرمة وأبو قيس بن عمرو فيمكن أن يقال إن كان اسمه صرمة بن قيس فمن قال قيس بن صرمة قلبه وإنما اسمه صرمة وكنيته أبو قيس أو العكس، وأما أبوه فاسمه قيس أو صرمة على ما تقرر من القلب وكنيته أبو أنس ومن قال فيه أنس حذف أداة الكنية ومن قال فيه ابن مالك نسبه إلى جد له والعلم عند الله تعالى قاله القسطلاني "هل عندك" بكسر الكاف "طعام فقالت لا ولكن انطلق أطلب لك" ظاهره أنه لم يجيء معه بشيء لكن في مرسل السدي: أنه أتاها بتمر فقال استبدلي به طحيناً واجعليه سخيناً فإن(8/306)
عَيْنُهُ وَجَاءَتْهُ امْرَأَتُهُ فَلَمّا رَأَتْهُ قَالَتْ خَيْبَةً لَكَ، فَلَمّا انْتَصَفَ النّهَارُ غُشِيَ عَلَيْهِ فَذَكَرَ ذَلِكَ للنبيّ صلى الله عليه وسلم فَنَزَلَتْ هَذِهِ الآية: {أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ} فَفَرِحُوا بِهاَ فَرَحاً شَدِيداً {وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتّى يَتَبَيّنَ لَكُمْ الْخَيْطُ الأبْيَضُ مِنَ الْخَيطِ الأسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ} ".
ـــــــ
التمر أحرق جوفي وفيه لعلي آكله سخناً وأنها استبدلته له وصنعته "وكان يومه" بالنصب "يعمل" أي في أرضه وصرح بها أبو داود وفي روايته وفي مرسل السدي: كان يعمل في حيطان المدينة بالأجرة. فعلى هذا فقوله في أرضه إضافة اختصاص "فغلبته عينه" أي نام "قالت خيبة لك" بالنصب وهو مفعول مطلق محذوف العامل وقيل إذا كان بغير لام يجب نصبه وإلا جاز والخيبة الحرمان يقال خاب يخيب إذا لم ينل ما طلب "فذكر ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم" زاد في رواية زكريا عند أبي الشيخ: وأتى عمر أمرأته وقد نامت فذكر ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم فنزلت هذه الآية {أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ} ففرحوا بها فرحاً شديداً {وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ} كذا في هذه الرواية وشرح الكرماني على ظاهرها فقال لما صار الرفث وهو الجماع هنا حلالاً بعد أن كان حراماً كان الأكل والشرب بطريق الأولى، فلذلك فرحوا بنزولها وفهموا منها الرخصة، هذا وجه مطابقة ذلك لقصة أبي قيس. قال ثم لما كان حلهما بطريق المفهوم نزل بعد ذلك {وَكُلُوا وَاشْرَبُوا} ليعلم بالمنطوق تسهيل الأمر عليهم صريحاً، ثم قال أو المراد من الآية هي بتمامها. قال الحافظ: وهذا هو المعتمد وبه جزم السهيلي وقال إن الآية بتمامها نزلت في الأمرين معاً وقدم ما يتعلق بعمر لفضله قال الحافظ: قد وقع في رواية أبي داود فنزلت {حِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ} إلى قوله {مِنَ الْفَجْرِ} فهذا يبين أن محل قوله ففرحوا بها بعد قوله الخيط الأسود وقع ذلك صريحاً في رواية زكريا بن أبي زائدة ولفظه فنزلت {أُحِلَّ لَكُمْ} إلى قوله {مِنَ الْفَجْرِ} ففرح المسلمون بذلك.(8/307)
هذا حديثٌ حسنٌ صحيحٌ.
4049- حدثنا هَنّادٌ، أخبرنا أَبُو مُعَاوِيَةَ عن الأعْمَشِ عن ذَرّ عن يُسَيعٍ الكِنْدِيّ عن النّعْمَانِ بنِ بَشِيرٍ عن النبيّ صلى الله عليه وسلم فِي قَوْلِهِ "{وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ} قالَ: "الدّعَاءُ هُوَ العِبَادَةُ وَقَرَأَ {وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ - إلى قَوْلِهِ - دَاخِرِينَ} ". هذا حديثٌ حسنٌ صحيحٌ.
4050- حدثنا أَحْمَدُ بنُ مَنِيعٍ، أخبرنا هُشَيْمٌ، أخبرنا حُصَيْنٌ
ـــــــ
قوله: "هذا حديث حسن صحيح" وأخرجه أحمد والبخاري وأبو داود والنسائي.
قوله: "عن ذر" بفتح الذال المعجمة وشدة راء هو ابن عبد الله المرهبي بضم الميم وسكون الراء ثقة عابد رمي بالإرجاء من السادسة "عن يسيع الكندي" قال في التقريب يسيع بن معدان الحضرمي الكوفي ويقال له أسبع ثقة من الثالثة انتهى. قلت: يسيع هذا بضم التحتانية وفتح السين المهملة مصغراً ويقال له أسيع بضم الهمزة بدل التحتانية.
قوله: "هو العبادة" أي هو العبادة الحقيقية التي تستأهل أن تسمى عبادة لدلالته على الإقبال على الله والإعراض عما سواه بحيث لا يرجو ولا يخاف إلا إياه "وقرأ" أي النبي صلى الله عليه وسلم {وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ} - إلى قوله – {دَاخِرِينَ} هذه الآية في سورة المؤمن لكن لما ورد تفسيرها عنه صلى الله عليه وسلم وكانت مثل قوله تعالى {أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي} الذي في سورة البقرة أوردها ههنا بهذه المناسبة. وقد أخرج الترمذي هذا الحديث في أوائل الدعوات أيضاً ويأتي هناك بقية الكلام عليه وأخرجه أيضاً في تفسير سورة المؤمن.
قوله: "أخبرنا هشيم" هو ابن بشير بن القاسم بن دينار "أخبرنا حصين" هو ابن عبد الرحمن السلمي.(8/308)
عن الشّعبِيّ، أخبرنا عَدِيّ بنُ حَاتِمٍ. قالَ: لَمّا نَزَلَتْ {حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ} قالَ لِيَ النبيّ صلى الله عليه وسلم: "إنّمَا ذَلِكَ بَيَاضُ النّهَارِ مِنْ سَوَادِ الّليْلِ" .
ـــــــ
قوله: "لما نزلت {حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ} " زاد مسلم في روايته: قال له عدي يا رسول الله إني أجعل تحت وسادتي عقالين عقالاً أبيض وعقالاً أسود أعرف الليل من النهار فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم إن وسادك لعريض "قال لي النبي صلى الله عليه وسلم الخ" قال الحافظ: ظاهره أن عدياً كان حاضراً لما نزلت هذه الآية وهو يقتضي تقدم إسلامه وليس كذلك لأن نزول فرض الصوم كان متقدماً في أوائل الهجرة وإسلام عدي كان في التاسعة أو العاشرة كما ذكره ابن إسحاق وغيره من أهل المغازي، فإما أن يقال إن الآية التي في حديث الباب تأخر نزولها عن نزول فرض الصوم وهو بعيد جداً وإما أن يأول قول عدي هذا على أن المراد بقوله لما نزلت أي لما تليت علي عند إسلامي أو لما بلغني نزول الآية أو في السياق حذف تقديره لما نزلت الآية ثم قدمت فأسلمت وتعلمت الشرائع قال لي "إنما ذلك" أي الخيط الأبيض من الخيط الأسود "بياض النهار من سواد الليل" وفي رواية مسلم إنما هو سواد الليل وبياض النهار. فإن قلت: الظاهر أن قوله من الفجر كان نزل حين سمع عدي بن حاتم هذه الآية وهو بيان لقوله الخيط الأبيض من الخيط الأسود فكيف خفي عليه معناه.
قلت: كان عدياً لم يكن في لغة قومه استعارة الخيط للصبح وحمل قوله من الفجر على السببية فظن أن الغاية تنتهي إلى أن يظهر تمييز أحد الخيطين من الآخر بضياء الفجر أو نسي قوله من الفجر حتى ذكره بها النبي صلى الله عليه وسلم وهذه الاستعارة معروفة عند بعض العرب. قال الشاعر:
ولما تبدت لنا سدفة
ولاح من الصبح خيط أنارا.
فإن قلت: حديث عدي هذا يقتضي أن قوله من الفجر نزل متصلاً بقوله من الخيط الأسود وروى الشيخان عن سهل بن سعد قال أنزلت: {كُلُوا وَاشْرَبُوا(8/309)
هذا حديثٌ حسنٌ صحيحٌ.
4051- حدثنا أَحْمَدُ بنُ مَنِيعٍ، أخبرنا هُشَيْمٌ، أخبرنا مُجَالِدٌ عن الشّعْبَِ عن عَدِيّ بنِ حَاتِمٍ عن النبيّ صلى الله عليه وسلم مِثْلَ ذَلِكَ.
4052- حدثنا ابنُ أَبي عُمَرَ، أخبرنا سُفْيَانُ عن مُجَالِدٍ عن الشّعْبيّ عن عَدِيّ بنِ حَاتِمٍ قالَ: "سَأَلْتُ رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم عن الصّوْمِ فَقَالَ {حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ} قَالَ فَأَخَذْتُ عِقَالَيْنِ أَحَدُهُمَا أَبْيَضُ وَ الآخر أَسْوَدُ فَجَعَلْتُ أَنْظُرُ إلَيْهِمَا، فَقَالَ لِي
ـــــــ
حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ} ولم ينزل من الفجر فكان رجال إذاً أرادوا الصوم ربط أحدهم في رجليه الخيط الأبيض والخيط الأسود ولا يزال يأكل حتى يتبين له رؤيتهما فأنزل الله بعد {مِنَ الْفَجْرِ} فعلموا إنما يعني الليل والنهار. فحديث سهل بن سعد هذا ظاهر في أن قوله {مِنَ الْفَجْرِ} نزل بعد ذلك لرفع ما وقع لهم من الإشكال فما وجه الجمع ما بين هذين الحديثين.
قلت: الجمع بينهما أن حديث عدي متأخر من حديث سهل فكأن عدياً لم يبلغه ما جرى في حديث سهل وإنما سمع الآية مجردة ففهمها على ما وقع له، فبين له النبي صلى الله عليه وسلم أن المراد بقوله {مِنَ الْفَجْرِ} أن ينفصل أحد الخيطين عن الآخر، وأن قوله من الفجر متعلق بقوله "يتبين"، ويحتمل أن تكون القصتان في حالة واحدة وأن بعض الرواة في قصة عدي تلا الآية تامة كما ثبت في القرآن وإن كان حال النزول إنما نزلت مفرقة كما ثبت في حديث سهل. قال الحافظ: وهذا الثاني ضعيف لأن قصة عدي متأخرة لتأخر إسلامه.
قوله: "هذا حديث حسن صحيح" وأخرجه الشيخان وأبو داود.
قوله: "عن مجالد" بن سعيد بن عمير الهمداني الكوفي ليس بالقوي وقد تغير في آخر عمره من صغار السادسة.
قوله: "فأخذت عقالين" بكسر العين المهملة أي حبلين وفي رواية خيطين(8/310)
رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم شَيْئاً لَمْ يَحْفَظهُ سُفْيَانُ، قَالَ إنّمَا هُوَ اللّيْلُ وَالنّهارُ". هذا حديثٌ حسنٌ صحيحٌ.
4053- حدثنا عَبْدُ بنُ حُمَيْدٍ، أخبرنا الضّحّاكُ بنُ مَخْلَدٍ أَبُو عَاصِمٍ النّبِيلُ عن حَيْوَةَ بنِ شُرَيْحٍ عن يَزِيدَ بنِ أَبي حَبِيبٍ عن أَسْلَمَ أَبي عِمْرَان التّجِيبيّ قالَ: "كُنّا بِمَدِينَةِ الروّمِ فَأَخْرَجُوا إِلَيْنَا صَفّاً عَظِيماً مِنَ الروّمِ فَخَرَجَ إلَيْهِمْ مِنَ المُسْلِمِينَ مِثْلُهُمْ أَوْ أَكْثَرُ، وَعَلَى أَهْلِ مِصْرَ عُقْبَةُ بنُ عَامِرٍ وَعَلى الْجَمَاعَةِ فَضَالَةُ بنُ عُبَيْدٍ فَحَمَلَ رَجُلٌ مِنَ المسْلمِينَ عَلَى صَفّ الروّمِ حَتّى دَخَلَ عَلَيهِمْ فَصَاحَ النّاسُ وَقَالُوا سُبْحَانَ الله يُلْقِي بِيَدَيْهِ إلى التّهْلُكَةِ، فَقَامَ أَبُو أَيّوبَ الأنْصَارِيّ فَقَالَ: يَا أَيّهَا النّاسُ إِنّكُمْ لَتُأَوّلُونَ هَذِهِ الآية هَذَا التّأْوِيلُ، وَإنّمَا نَزَلَتْ هَذِهِ الآية فِينَا مَعْشَرَ الأنْصَارِ لَمّا أَعَزّ الله الإسْلاَمَ وَكَثُرَ نَاصِرُوهُ. فَقَالَ بَعْضُنَا لِبَعْضِ سِرّا دُونَ رَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم: إنّ أَمْوَالَناَ قَدْ ضَاعَتْ وَإنّ الله قَدْ أَعَزّ
ـ
ـــــــ
من شعر "شيئاً لم يحفظه سفيان" وحفظه غيره وهو قوله صلى الله عليه وسلم: إن وسادك لعرض. كما في رواية مسلم المتقدمة "فقال" أي النبي صلى الله عليه وسلم "إنما هو الليل والنهار" يعني أن المراد بالخيط الأسود الليل وبالخيط الأبيض النهار والمعنى حتى يظهر الفجر.
قوله: "هذا حديث حسن صحيح" في سنده مجالد وهو ضعيف فتصحيح الترمذي له لأنه قد جاء بأسانيد صحيحة من غير طريق مجالد.
قوله: "عن أسلم" بن يزيد "أبي عمران التجيبي" المصري ثقة من الثالثة.
قوله: "كنا بمدينة الروم فأخرجوا إلينا صفاً عظيماً من الروم" وفي رواية أبي داود قال غزونا من المدينة نريد القسطنطينية وعلى الجماعة عبد الرحمن بن خالد بن الوليد والروم ملصقوا ظهورهم بحائط المدينة "وعلى الجماعة" أي أميرهم(8/311)
الإسْلاَمَ وَكَثُرَ نَاصِرُوهُ فَلَوْ أَقَمْنَا فِي أَمْوَالِنَا فأَصْلَحْنَا مَا ضَاع مِنْهَا، فَأَنْزَلَ الله تَبَارَكَ وَتَعَالَى عَلَى نَبِيّهِ صلى الله عليه وسلم يَرُدْ عَلَيْنَا مَا قُلْنَا {وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ} فَكَانَتْ التّهْلُكَةُ الإقَامَةَ عَلَى الأمْوَالِ وَإصْلاَحَهَا وَتَرْكَنَا الغَزْوَ. فَمَا زَالَ أَبُو أَيّوبَ شَاخِصاً في سَبِيلِ الله حَتّى دُفِنَ بِأَرْضِ الرّمِ".
ـــــــ
"معشر الأنصار" بالنصب على الاختصاص "فما زال أبو أيوب شاخصاً" قال الجزري في النهاية شخوص المسافر خروجه عن منزله، ومنه حديث عثمان رضي الله عنه إنما يقصر الصلاة من كان شاخصاً أو بحضرة عدو أي مسافراً، ومنه حديث أبي أيوب فلم يزل شاخصاً في سبيل الله تعالى انتهى. والحديث يدل على أن المراد بإلقاء الأيدي إلى التهلكة هو الإقامة في الأهل والمال وترك الجهاد، وقيل هو البخل وترك الإنفاق في الجهاد. روى البخاري في صحيحه عن حذيفة {وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ} قال نزلت في النفقة. قال الحافظ في الفتح: قوله في النفقة أي في ترك النفقة في سبيل الله عز وجل وهذا الذي قاله حذيفة جاء مفسراً في حديث أبي أيوب فذكره بتمامه ثم قال: وصح عن ابن عباس وجماعة من التابعين نحو ذلك في تأويل الآية. وروى ابن أبي حاتم من طريق زيد بن أسلم أنها كانت نزلت في ناس كانوا يغزون بغير نفقة. فيلزم على قوله اختلاف المأمورين، فالذين قيل لهم أنفقوا وأحسنوا أصحاب الأموال، والذين قيل لهم ولا تلقوا الغزاة بغير نفقة ولا يخفي ما فيه، ومن طريق الضحاك بن أبي جبيرة: كان الأنصار يتصدقون فأصابتهم سنة فأمسكوا فنزلت، وروى ابن جرير وابن المنذر بإسناد صحيح عن مدرك بن عوف قال: إني لعند عمر فقلت إن لي جاراً رمى بنفسه في الحرب فقتل فقال ناس ألقى بيده إلى التهلكة. فقال عمر: كذبوا لكنه اشترى الآخرة بالدنيا وجاء عن البراء ابن عازب في الآية تأويل آخر أخرجه ابن جرير وابن المنذر وغيرهما عنه بإسناد صحيح عن أبي إسحاق قال: قلت للبراء أرأيت قول الله عز وجل {وَلا تُلْقُوا(8/312)
هذا حديثٌ حسنٌ صحيحٌ غريبٌ.
4054- حدثنا عَلِيّ بنُ حُجْرٍ، أخبرنا هُشَيْمٌ، أخبرنا مُغِيرَةُ عن مُجَاهَدٍ. قالَ: قالَ كَعْبُ بنُ عُجْرَةَ: "وَالّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَفِيّ أُنْزِلَتْ هَذِهِ الآية وَلإِيّايَ عَنَى بِهَا {فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ بِهِ أَذىً مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ} قالَ كُنّا مَعَ النبيّ صلى الله عليه وسلم بالحُدَيْبِيّة وَنَحْنُ مُحْرِمُونَ. وَقَدْ حَصَرَنَا المُشْرِكُونَ وَكَانَتْ لِيَ وَفْرَةٌ فَجَعَلَتِ الْهَوَامّ تَسَاقَطُ عَلَى وَجْهِي فَمَرّ بِيَ النبيّ صلى الله عليه وسلم
ـــــــ
بِأَيْدِيكُمْ} هو الرجل يحمل على الكتيبة فيها ألف؟ قال لا ولكنه الرجل يذنب فيلقي بيده فيقول، لا توبة لي وعن النعمان بن بشير نحوه والأول أظهر لتصدير الآية بذكر النفقة فهو المعتمد في نزولها، وأما قصرها عليه ففيه نظر لأن العبرة بعموم اللفظ.
أما مسألة حمل الواحد على العدد الكثير من العدد فصرح الجمهور بأنه إن كان لفرط شجاعته وظنه أنه يرهب العدو بذلك أو يجرأ المسلمين عليهم أو نحو ذلك من المقاصد الصحيحة فهو حسن، ومتى كان مجرد تهور فممنوع ولاسيما إن ترتب على ذلك وهن في المسلمين.
قوله: "هذا حديث حسن غريب صحيح"، وأخرجه أبو داود والنسائي وابن جرير وأبو يعلى في مسنده، وابن حبان في صحيحه والحاكم، وقال على شرط الشيخين ولم يخرجاه.
قوله: "أخبرنا هشيم" بن بشير بن القاسم "أخبرنا مغيرة" بن مقسم بكسر الميم الضبي مولاهم أبو هشام الكوفي الأعمى ثقة متقن، إلا أنه كان يدلس ولا سيما عن إبراهيم من السادسة "قال كعب بن عجرة الخ" قد سبق حديث كعب بن عجرة هذا في باب المحرم يحلق رأسه في إحرامه ما عليه من أبواب الحج.
قوله: "لفي" بشدة الياء، أي في شأني "ولإياي عني بها" اللام للتأكيد وإياي مفعول مقدم لعني "وكانت لي وفرة" هي شعر الرأس إذا وصل إلى(8/313)
فقَالَ: "كأنّ هَوَامّ رَأسِكَ تُؤْذِيكَ" قالَ قُلْتُ نَعَمْ قالَ: "فَاحْلِقْ". وَنَزَلَتْ هَذِهِ الآية. قالَ مُجَاهِدٌ: الصّيَامُ ثَلاَثَةُ أَيّامٍ وَالطّعَامُ لِسِتّةِ مَسَاكِينَ وَالنّسُكُ شَاةٌ فَصَاعداً".
4055- حدثنا عَلِيّ بنُ حُجْرٍ، أخبرنا هُشَيْمٌ عن أبي بِشْر عن مُجَاهِدٍ عن عَبْدِ الرّحْمَنِ بنِ أَبي لَيْلَى عن كَعْبِ بنِ عُجْرَةَ عن النبيّ صلى الله عليه وسلم بِنَحْوِ ذَلِكَ.
هذا حديثٌ حسنٌ صحيحٌ.
4056- حدثنا عَلِيّ بنُ حُجْرٍ، أخبرنا هُشَيْمٌ عن أَشْعَثَ بنِ سَوّارٍ عن الشّعْبيّ عن عَبْد الله بنِ مَعْقِلٍ عن كَعْبِ بنِ عُجْرَةَ عن النّبيّ صلى الله عليه وسلم بِنَحْوِ هذا.
ـــــــ
شحمة الأذن "فجعلت الهوام" بتشديد الميم، جمع هامة وهي ما يدب من الأخفاش والمراد بها ما يلازم جسد الإنسان عالباً إذا طال عهده بالتنظيف، وقد عين في كثير من الروايات، إنها القمل "تساقط" بحذف إحدى التائين.
قوله: "عن أبي بشر" اسمه جعفر بن إياس.
قوله: "هذا حديث حسن صحيح" وأخرجه الشيخان.
قوله: "عن عبد الله بن معقل" بفتح الميم، وسكون العين المهملة بعدها قاف مكسورة، ابن مقرن المزني الكوفي ثقة من كبار الثالثة "أيضاً" أي كما روى عبد الرحمن بن أبي ليلى، عن كعب بن عجرة. قال الحافظ في الفتح: ونقل ابن عبد البر عن أحمد بن صالح المصري قال: حديث كعب بن عجرة في الفدية سنة معمول بها، لم يروها من الصحابة غيره، ولا رواها عنه إلا ابن أبي ليلى وابن معقل، قال وهي سنة أخذها أهل المدينة عن أهل الكوفة. قال الزهري: سألت عنها علماءنا كلهم حتى سعيد بن المسيب فلم يبينوا كم عدد المساكين.(8/314)
هذا حديثٌ حسنٌ صحيحٌ.
وَقد رواه عَبْدُ الرّحْمَنِ بنُ الاصْبَهَانِيّ عن عَبْدِ الله بنِ مَعْقِلٍ نَحْوَ هَذَا.
4057- حدثنا عَلِيّ بنُ حُجْرٍ، أخبرنا إِسْمَاعِيلُ بنُ إبْرِاهِيمَ، عن أَيّوبَ عن مُجَاهِدٍ عن عَبْد الرّحْمَن بن أَبي لَيْلَى عن كَعْبِ بنِ عُجْرَةَ قالَ: "أَتَي عَلَىّ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم وَأَنَا أُوقِدُ تَحْتَ قِدْرٍ وَالْقَمْلُ يَتَنَاثَرُ عَلَى جَبْهَتيِ أو قالَ حَاجِبِي، فَقَالَ: "أَتؤذيك هوامّكَ؟" قال: قُلْتُ نَعَمْ، قالَ "فَاحْلِقْ رَأسَكَ وَانْسُكْ نَسِيكَةً أَوْ صُمْ ثَلاَثَةَ أَيّامٍ أو أَطْعِمْ سِتّةَ مَسَاكِينَ" قالَ أَيّوبُ لاَ أَدْرِي بأَيّتِهِنّ بَدَأَ.
ـــــــ
قال الحافظ: فيما أطلقه ابن صالح نظر فقد جاءت هذه السنة من رواية جماعة من الصحابة غير كعب. ورواه عن كعب بن عجرة غير عبد الرحمن بن أبي ليلى، وعبد الله بن معقل. وقد أورد البخاري حديث كعب هذا في أربعة أبواب متوالية وأورده أيضاً في المغازي والطب، وكفارات الأيمان من طرق أخرى مدار الجميع على ابن أبي ليلى، وابن معقل فيقيد إطلاق أحمد بن صالح بالصحة فإن بقية الطرق لا تخلو عن مقال إلا طريق أبي وائل عند النسائي انتهى ملخصاً.
قوله: "هذا حديث حسن صحيح" وأخرجه البخاري ومسلم، "وقد روى عبد الرحمن بن الأصبهاني"، هو عبد الرحمن بن عبد الله بن الأصبهاني.
قوله: "أخبرنا إسماعيل بن إبراهيم" المعروف بابن علية.
قوله: "يتناثر"، من النثر أي يتساقط "وأنسك نسيكة"، أي اذبح ذبيحة وفي رواية للبخاري: أنسك بشاة.
قال النووي في شرح مسلم: روايات الباب كلها متفقة في المعنى، ومقصودها أن من احتاج إلى حلق الرأس لضرر من قمل أو مرض أو نحوهما فله حلقه في الإحرام، وعليه الفدية، قال الله تعالى: {فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ بِهِ أَذىً مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ} وبين النبي صلى الله عليه وسلم: أن(8/315)
هذا حديثٌ حسن صحيحٌ.
4058- حدثنا ابنُ أَبي عُمَرَ، أخبرنا سُفْيَانُ بنُ عُيَيْنَةَ عن سُفْيَانَ الثّوْرِيّ عن بُكَيْرِ بنِ عَطَاءٍ عن عَبْد الرّحْمَن بن يَعْمَرَ. قالَ: قالَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم: "الْحَجّ عَرَفَاتٌ، الْحَجّ عَرَفَاتٌ، الْحَجّ عَرَفَاتٌ. أَيّامُ مِنًى ثَلاَثٌ {فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ وَمَنْ تَأَخَّرَ
ـــــــ
الصيام ثلاثة أيام، والصدقة ثلاثة أصع لستة مساكين لكل مسكين نصف صاع والنسك شاة، وهي شاة تجزئ في الأضحية، ثم أن الآية الكريمة والأحاديث متفقة على أنه مخير بين هذه الأنواع الثلاثة. وهكذا الحكم عند العلماء أنه مخير بين الثلاثة. وأما قوله في رواية: هل عندك نسك. قال ما أقدر عليه فأمره أن يصوم ثلاثة أيام، فليس المراد به أن الصوم لا يجزئ إلا لعادم الهدي. بل هو محمول على أنه سأل عن النسك فإن وجده أخبره بأنه مخير بينه وبين الصيام والإطعام وإن عدمه فهو مخير بين الصيام والإطعام، واتفق العلماء على القول بظاهر هذا الحديث إلا ما حكي عن أبي حنيفة والثوري، أن نصف الصاع لكل مسكين إنما هو في الحنطة، فأما التمر والشعير وغيرهما فيجب صاع لكل مسكين، وهذا خلاف نصه صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث: "ثلاثة أصع من تمر"، وعن أحمد بن حنبل رواية أنه لكل مسكين مد من حنطة أو نصف صاع من غيره، وعن الحسن البصري وبعض السلف أنه يجب إطعام عشرة مساكين أو صوم عشرة أيام، وهذا ضعيف منابذ للسنة مردود. انتهى.
قوله: "عن بكير بن عطاء" بضم الياء الموحدة وفتح الكاف مصغراً الليثي الكوفي ثقة من الرابعة، "عن عبد الرحمن بن يعمر" بفتح التحتانية وسكون المهملة وفتح الميم الديلي بكسر الدال وسكون التحتانية صحابي. نزل الكوفة ويقال مات بخراسان
قوله: "الحج عرفات" أي ملاك الحج، ومعظم أركانه وقوف عرفات لأنه يفوت بفواته. قال في القاموس: يوم عرفة التاسع من ذي الحجة، وعرفات(8/316)
فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ} وَمَنْ أَدْرَكَ عَرَفَةَ قَبْلَ أَنْ يُطْلُعَ الفَجْرُ فَقَدْ أَدْرَكَ الْحَجّ" . قالَ ابنُ أَبي عُمَرَ: قالَ سُفْيَانُ بنُ عُيَيْنَةَ: وَهَذَا أَجْوَدُ حَدِيثٍ رَوَاهُ الثّوْرِيّ.
هذا حديثٌ حسنٌ صحيحٌ.
ـــــــ
موقف الحاج، وذلك على اثني عشر ميلاً من مكة، وغلط الجوهري فقال موضع بمنى، سميت لأن آدم وحواء تعارفا بها، أو لقول جبريل لإبراهيم عليهما السلام لما علمه المناسك، أعرفت، قال عرفت اسم في لفظه الجمع فلا تجمع معرفة وإن كانت جمعاً لأن الأماكن لا تزول فصارت كالشيء الواحد معروفة لأن التاء بمنزلة الياء والواو في مسلمين ومسلمون والنسبة عرفي. "أيام منى ثلاث" أراد بها أيام التشريق. وهي الأيام المعدودات، وأيام رمي الجمار وهي الثلاثة التي بعد يوم النحر، وليس يوم النحر منها لإجماع الناس على أنه لا يجوز النفر يوم ثاني النحر ولو كان يوم النحر من الثلاث لجاز أن ينفر من شاء في ثانية. قاله الشوكاني: "فمن تعجل" أي استعجل بالنفر أي الخروج من منى "في يومين" أي اليومين الأخيرين من أيام التشريق فنفر في اليوم الثاني منها بعد رمي جماره "فلا إثم عليه" بالتعجيل "ومن تأخر" أي عن النفر في اليوم الثاني من أيام التشريق إلى اليوم الثالث حتى بات ليلة الثالث ورمى يوم الثالث جماره، وقيل المعنى: ومن تأخر عن الثالث إلى الرابع ولم ينفر مع العامة. قاله الشوكاني "فلا إثم عليه" وهو أفضل لكون العمل فيه أكمل لعمله صلى الله عليه وسلم.
وقد ذكر أهل التفسير أن أهل الجاهلية كانوا فئتين، إحداهما ترى المتعجل إثماً، وأخرى ترى المتأخر إثماً، فورد التنزيل بنفي الحرج عنهما ودل فعله عليه الصلاة والسلام على بيان الأفضل منهما "ومن أدرك عرفة" أي أدرك الوقوف بعرفة "قبل أن يطلع الفجر" أي من ليلة جمع. وفي رواية أبي داود: من جاء قبل صلاة الصبح من ليلة جمع فتم حجة "فقد أدرك الحج" فيه رد على من زعم أن الوقوف يفوت بغروب الشمس يوم عرفة. ومن زعم أن وقته يمتد إلى ما بعد الفجر إلى طلوع الشمس.
قوله: "هذا حديث حسن صحيح" وأخرجه أحمد وأبو داود والنسائي وابن ماجه والدارمي.(8/317)
وَرَوَاهُ شُعْبَةُ عن بُكَيْرِ بنِ عَطَاءٍ وَلاَ نَعْرِفُهِ إِلاّ مِنْ حدِيثِ بُكَيْر بن عَطَاءٍ.
4059- حدثنا ابنُ أَبِي عُمَرَ، أخبرنا سُفْيَانُ عن ابنِ جُرَيْجٍ عن ابنِ أَبي مُلَيْكَةَ عن عَائِشَةَ قالَتْ قالَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم: "أَبْغَضُ الرّجَالِ إلى الله الألَدّ الْخَصِمُ" . هذا حديثٌ حسنٌ.
4060- حدثنا عَبْدُ بنُ حُمَيْدٍ، حدثني سُلَيْمانُ بنُ حَرْبٍ، أخبرنا حَمّادُ بنُ سَلَمَةَ عن ثَابِتٍ عن أَنَسٍ، قالَ "كَانَتْ الْيَهُودُ إِذَا حَاضَتْ
ـــــــ
قوله: "أبغض الرجال إلى الله" قال الكرماني: الأبغض هو الكافر، فمعنى الحديث. أبغض الرجال الكفار الكافر المعاند. أو أبغض الرجال المخاصمين قال الحافظ بن حجر: والثاني هو المعتمد، وهو أعم من أن يكون كافراً أو مسلما فإن كان كافراً فأفعل التفضيل في حقه على حقيقتها في العموم، وإن كان مسلماً فسبب البغض أن كثرة المخاصمة تقضي غالباً إلى ما يذم صاحبه أو يخص في حق المسلمين بمن خاصم في باطل، ويشهد للأول حديث: "كفى بك إثماً أن تكون مخاصماً". أخرجه الطبراني عن أبي أمامة بسند ضعيف. وورد في الترغيب في ترك المخاصمة فعند أبي داود من طريق سليمان بن حبيب عن أبي أمامة رفعه: "أنا زعيم ببيت في ربض الجنة لمن ترك المراء" وإن كان محقاً وله شاهد عند الطبراني من حديث معاذ بن جبل، والربض بفتح الراء والموحدة بعدها ضاد معجمة الأسفل انتهى. "الألد" أفعل تفضيل من اللدد وهو شدة الخصومة "الخصم" بفتح الخاء المعجمة وكسر الصاد أي الشديد اللدد والكثير الخصومة.
قوله: "هذا حديث حسن" وأخرجه الشيخان.
قوله: "حدثني سليمان بن حرب" الأزدي الواشحي بمعجمة ثم مهملة البصري القاضي بمكة ثقة، إمام حافظ من التاسعة.
قوله: "كانت اليهود" جمع يهودي، كروم ورومي والظاهر أن اليهود قبيلة(8/318)
امْرَأَةٌ مِنْهُمْ لَمْ يؤَاكِلُوهَا وَلَمْ يُشَارِبُوهَا وَلَمْ يُجَامِعُوهَا فِي الْبُيُوتِ، فُسُئلَ النبيّ صلى الله عليه وسلم عن ذَلِكَ فَأَنْزَلَ الله تَبَارَكَ وَتَعَالَى {وَيَسْأَلونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذىً} فَأَمَرَهُمْ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم أَنْ يُؤَاكِلُوهُنّ وَيُشَارِبُوهُنّ وَأَنْ يَكُونُوا مَعَهُنّ فِي الْبُيُوتِ وَأَنْ يَفْعَلُوا كُلّ شَيْءٍ مَا خَلاَ النّكَاحَ. فَقَالَتْ الْيَهُودُ: مَا يُرِيدُ أَنْ يَدَعَ شَيْئاً مِنْ أَمْرِنَا إلاّ
ـــــــ
سميت باسم جدها يهودا أخي يوسف الصديق، واليهودي منسوب إليهم بمعنى واحد منهم. وقال النووي: يهود غير مصروف لأن المراد قبيلة، فامتنع صرفه للتأنيث والعلمية، "لم يؤاكلوها" بالهمز ويبدل واواً، "ولم يجامعوها" أي لم يساكنوها ولم يخالطوها فأنزل الله تبارك وتعالى. {وَيَسْأَلونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذىً} وتتمة الآية {فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ وَلا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ فَإِذَا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ} قال القاري في المرقاة: قال في الأزهار: المحيض الأول في الآية هو الدم بالاتفاق لقوله تعالى: {قُلْ هُوَ أَذىً} وفي الثاني ثلاثة أقوال: أحدها: الدم، والثاني: زمان الحيض، والثالث: مكانه وهو الفرج، وهو قول جمهور المفسرين، وأزواج النبي صلى الله عليه وسلم ثم الأذى ما يتأذى به الإنسان. قيل: سمي بذلك لأن له لوناً كريهاً ورائحة منتنة ونجاسة مؤذية مانعة عن العبادة قال الخطابي والبغوي: التنكير هنا للقلة، أي أذىً يسير لا يتعدى ولا يتجاوز إلى غير محله وحرمه فتجتنب وتخرج من البيت كفعل اليهود والمجوس نقله السيد، يعني الحيض أذى يتأذى معه الزوج من مجامعتها فقط دون المؤاكلة والمجالسة والافتراش، أي فابعدوا عنهن بالمحيض، أي في مكان الحيض وهو الفرج أو حوله مما بين السرة والركبة احتياطاً. انتهى ما في المرقاة "وأن يفعلوا كل شيء" من الملامسة والمضاجعة "ما خلا النكاح"، أي الجماع وهو حقيقة في الوطء. وقيل في العقد فيكون إطلاقاً لاسم السبب على السبب، وهذا تفسير للاَية وبيان لقوله: "فاعتزلوا" فإن الاعتزال شامل للمجانبة عن المؤاكلة والمضاجعة، والحديث بظاهره يدل على جواز الانتفاع بما تحت الإزر وهو(8/319)
خَالَفَنَا فِيهِ. قالَ فَجَاءَ عَبّادُ بنُ بِشْرٍ وَأُسَيْدُ بنُ حُضَيْرٍ إلى رَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم فَأَخْبَرَاهُ بِذَلِكَ. وَقالاَ: يَا رَسُولَ الله أَفَلاَ نَنْكِحُهُنّ فِي المَحِيض فَتَعَمّر وَجْهُ رَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم حَتّى ظَنَنّا أَنّهُ قَدْ غَضِبَ عَلَيْهِمَا،
ـــــــ
قول أحمد وأبي يوسف ومحمد بن الحسن والشافعي في قوله القديم وبعض المالكية "ما يريد" أي النبي صلى الله عليه وسلم "أن يدع" أي يترك "من أمرنا" أي من أمور ديننا "شيئاً" من الإشياء في حال من الأحوال "إلا خالفنا" بفتح الفاء "فيه" إلا حال مخالفته إيانا فيه، يعني لا يترك أمراً من أمورنا إلا مقروناً بالمخالفة، كقوله تعالى: {لا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا} "فجاء عباد ابن بشر" من بني عبد الأشهل من الأنصار أسلم بالمدينة على يد مصعب بن عمير قبل سعد بن معاذ وشهد بدراً وأُحداً، والمشاهد كلها ووقع في بعض النسخ عباد ابن بشير وهو غلط "وأسيد بن حضير" بالتصغير فيهما أنصاري أوسي أسلم قبل سعد بن معاذ على يد مصعب بن عمير أيضاً، وكان ممن شهد العقبة الثانية وشهد بدراً وما بعدها من المشاهد، "أفلا ننكحهن في المحيض" أي أفلا نباشرهن بالوطء في الفرج أيضاً لكي تحصل المخالفة التامة معهم "فتمعر وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم" أي تغير، لأن تحصيل المخالفة بارتكاب المعصية لا يجوز. قال الخطابي: معناه تغير، والأصل في التمعر قلة النضارة وعدم إشراق اللون ومنه مكان معر وهو الجدب الذي ليس فيه خصب انتهى.
قال محشي النسخة الأحمدية ما لفظه: ووقع في رواية مسلم، أفلا نجامعهن كما هو في المشكاة أيضاً مكان أفلا ننكحهن، وفسره القاري في المرقاة والشيخ عبد الحق الدهلوي في اللمعات. أفلا نجامعهن في البيوت، وفي الأكل والشرب لمرافقتهم أو خوف ترتب الضرر الذي يذكرونه، انتهى مجموع عبارتهما. ولا يخفي أن قوله أفلا ننكحهن كما وقع في هذا الكتاب، وكذا في سنن أبي داود يرد توجيه الشارحين في شرحي المشكاة، ثم رأيت شرح مسلم للنووي وشرح المشكاة للطيبي وحاشية السيد فلم أجد أحداً منهم متصدياً لبيانه انتهى.
قلت: الأمر كما قال المحشي "حتى ظننا" أي نحن، ووقع في بعض النسخ ظناً(8/320)
فَقَامَا فاسْتَقْبَلَتْهُمَا هَدِيّةٌ مِنْ لَبَنٍ فَأَرْسَلَ النبيّ صلى الله عليه وسلم فِي أَثَرِهِمَا فَسَقَاها فَعَلِمْنَا أَنّهُ لَمْ يَغْضَبْ عَلَيْهِمَا".
هذا حديثٌ حسنٌ صحيحٌ.
4061- حدثنا مُحمّدُ بنُ عَبْدِ الأعْلَى أخبرنا عَبْد الرّحْمَن بنُ مَهْدِيٍ عن حَمّادِ بنِ سَلَمَةَ عن ثابت أنس نَحْوَهُ بِمَعْنَاهُ.
4062- حدثنا ابنُ أَبي عُمَرَ أخبرنا سُفْيَانُ عَنِ ابنِ المُنْكَدِرِ سَمِعَ جَابِرًا يَقُولُ: "كَانَت الْيَهُودُ تقُولُ مَنْ أَتَى امْرَأَتَهُ في قُبُلِهَا مِنْ دُبُرِهَا كَانَ الْوَلَدُ أَحْوَلَ، فَنَزَلَتْ {نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ
ـــــــ
أي هما، قال الخطابي يريد علمنا، فالظن الأول حسبان و الآخر علم ويقين. والعرب تجعل الظن مرة حسباناً ومرة علماً ويقيناً، وذلك لاتصال طرفيهما فمبدأ العلم ظن وآخره علم ويقين. قال الله عز وجل {الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاقُو رَبِّهِمْ} معناه يوقنون "فاستقبلتهما هدية من لبن" أي استقبل الرجلين شخص معه هدية يهديها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم والإسناد مجازي. "في أثرهما"، بفتحتين أي عقبهما "فعلمنا أنه لم يغضب عليهما" أي لم يغضب غضباً شديداً باقياً بل زال غضبه سريعاً.
قوله: "هذا حديث حسن صحيح" وأخرجه مسلم وأبو داود والنسائي وابن ماجه.
قوله: "كانت اليهود تقول من أتى امرأة في قبلها من دبرها" قال ابن الملك كان يقف من خلفها ويولج في قبلها، فإن الوطء في الدبر محرم في جميع الأديان، "كان الولد" أي الحاصل بذلك الجماع "أحول" لتحول الواطئ عن الحال الجماع المتعارف، وهو الإقبال من القدام إلى القبل، وبهذا سمي قبلاً إلى حال خلاف ذلك من الدبر، فكأنه راعى الجانبين ورأى الجهتين فانتج إن جاء أحول وهو أفعل من الحول، وهو أن تميل إحدى الحدقتين إلى الأنف الآخرى إلى الصدغ،(8/321)
أَنَّى شِئْتُمْ } . هذا حديثٌ حسنٌ صحيحٌ.
4063- حدثنا محمدُ بنُ بَشّارٍ أخبرنا عَبْدُ الرّحْمَنِ بنُ مَهْدِيّ أخبرنا سُفْيَانُ عن ابنِ خُثَيْمٍ عن ابنِ سَابطٍ عن حَفْصَةَ بِنْتِ عَبْد الرّحْمَن عن أُمّ سَلَمَةَ عن النبيّ صلى الله عليه وسلم في قوله: {نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ} يَعْنِي صِمَاماً وَاحِداً".
ـــــــ
يقال حولت عينه يحول حولاً كان بها حول فهو أحول وهي حولاء "فنزلت" أي رداً عليهم فيما تخايل لهم "نساؤكم" أي منكوحاتكم ومملوكاتكم {حَرْثٌ لَكُمْ} أي مواضع زراعة أولادكم، يعني هن لكم بمنزلة الأرض المعدة للزراعة ومحله القبل، فإن الدبر موضع الفرث لا محل الحرث. {فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ} أي كيف شئتم من قيام أو قعود أو اضطجاع أو من الدبر في فرجها، والمعنى على أي هيئة كانت فهي مباحة لكم مفوضة إليكم، ولا يترتب منها ضرر عليكم في شرح السنة اتفقوا على أنه يجوز للرجل إتيان الزوجة في قبلها من جانب دبرها وعلى آية صفة كانت. وعلية دل قوله تعالى: {نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ} أي هن لكم بمنزلة أرض تزرع ومحل الحرث هو القبل.
قوله: "هذا حديث حسن صحيح" وأخرجه الشيخان.
قوله: "يعني صماماً واحداً" بكسر الصاد المهملة، أي ثقباً واحداً، والمراد القبل. قال النووي: قال العلماء وقوله تعالى {فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ} أي موضع الزرع من المرأة وهو قبلها الذي يزرع فيه المني لابتغاء الولد، ففيه إباحة وطئها في قبلها، إن شاء من بين يديها، وإن شاء من ورائها، وإن شاء مكبوبة. وأما الدبر فليس هو بحرث ولا موضع زرع، ومعنى قوله: {أَنَّى شِئْتُمْ} أي كيف شئتم.
واتفق العلماء الذين يعتد بهم على تحريم وطء المرأة في دبرها حائضاً كانت أو طاهر؟ لأحاديث كثيرة مشهورة كحديث: ملعون من أتى امرأة في دبرها قال أصحابنا. لا يحل الوطء في الدبر في شيء من الآدميين ولا غيرهم من الحيوان في حال من الأحوال انتهى كلام النووي رحمه الله.(8/322)
هذا حديثٌ حسنٌ صحيحٌ. وَابْنُ خُثَيْمٍ هُوَ عَبْدُ الله بنُ عُثْمانَ بنِ خُثَيْمٍ. وَابْنُ سَابِطٍ هُوَ عَبْد الرّحْمَن بنُ عبدِ الله بنِ سَابِطٍ الْجُمَحِيّ المَكّيّ وَحَفْصَةُ هِيَ بِنْتُ عَبْد الرّحْمَن بنِ أَبي بَكْرٍ الصّدّيقِ، وَيُرْوَى في سِمَامٍ وَاحِدٍ.
4064- حدثنا عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ أخبرنا الْحَسَنُ بْنُ مُوسَى أخبرنا يَعْقُوبُ بنُ عَبْدِ الله الأشْعَرِيّ عن جَعْفَر بن أَبي المُغِيرَةِ عن سَعِيدِ بنِ جُبَيْرٍ عن ابنِ عَبّاسٍ قالَ: جَاءَ عُمَرُ إلى رَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: يَا رَسُولَ الله هَلَكْتُ، قالَ: "وَمَا أَهْلَكَكَ؟" قالَ: حَوّلْتُ رَحْلِيَ الّلْيلَة،
ـــــــ
قوله: "هذا حديث حسن صحيح" وأخرجه أحمد.
قوله: "وابن خثيم هو عبد الله بن عثمان بن خثيم" بضم الخاء المعجمة وفتح المثلثة مصغراً القاري المكي وثقه ابن معين والعجلي "وابن سابط هو عبد الرحمن ابن عبد الله بن سابط" بكسر الموحدة وبالطاء المهملة "الجمحي" بضم الجيم المعجمة وفتح الميم "وحفصة هي بنت عبد الرحمن بن أبي بكر الصديق" ثقة من الثالثة. "ويروى في سمام واحد" بكسر السين المهملة أي في ثقب واحد. قال في النهاية في الحديث، فأتوا حرثكم أنى شئتم سماماً واحداً، أي مأتى واحداً، وهو من سمام الإبرة ثقبها وانتصب على الظرف، أي في سمام واحد لكنه ظرف محدود أجرى مُجرى المبهم.
قوله: "أخبرنا يعقوب بن عبد الله" بن سعد الأشعري أبو الحسن القمي بضم القاف وتشديد الميم صدوق يهم من الثامنة "عن جعفر بن أبي المغيرة" الخزاعي القمي. قيل اسم أبي المغيرة دينار صدوق بهم، من الخامسة.
قوله: "حولت رحلي الليلة" ، كنى برحله عن زوجته أراد به غشيانها في قبلها من جهة ظهرها لأن المجامع يعلو المرأة ويركبها مما يلي وجهها فحيث ركبها من جهة ظهرها، كنى عنه بتحويل رحله، إما نقلاً من الرحل بمعنى المنزل أو من(8/323)
قالَ: فَلَمْ يَرُدّ عَلَيْهِ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم شَيْئاً، قالَ فأَوحى عَلَى رَسولِ الله صلى الله عليه وسلم هَذِهِ الآية {نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ} أَقْبِلْ وَأَدْبِرْ وَاتّقِ الدّبُرَ وَالْحيْضَةَ" . هذا حديثٌ حسنٌ غريبٌ، وَيَعْقُوبُ بنُ عَبْدِ الله الأشْعَرِيّ هُوَ يَعْقُوبُ الْقُمّيّ.
4065- حدثنا عَبْدُ بنِ حُمَيْدٍ أخبرنا الهاشم بْنُ الْقَاسِمِ عن المُبَارَكِ بْنِ فَضَالَةَ عن الْحَسَنِ عن مَعْقِلِ بْنِ يَسَارٍ "أَنّهُ زَوّجَ أُخْتَهُ رَجُلاَ مِنَ المُسْلِمِينَ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم فَكَانَتْ عِنْدَهُ مَا كَانَتْ، ثمّ طَلّقَهَا تَطْلِيقَةً لَمْ يُرَاجِعْها حَتّى انْقَضَت الْعِدّةُ فَهَوِيَها وَهَوِيَتْهُ، ثمّ خَطَبَهَا مَعَ الْخُطّابِ فقالَ لهُ: يا لَكَعُ أَكْرَمْتُكَ بِهَا وَزَوّجْتُكَهَا فَطَلّقْتَهَا
ـــــــ
الرحل بمعنى الكور وهو للبعير كالسرج للفرس كذا في المجمع. "أقبل" أي جامع من جانب القبل "وأدبر" أي أولج في القبل من جانب الدبر "واتق الدبر" أي إيلاجه فيه قال الطيبي رحمه الله: تفسير لقوله تعالى جل جلاله {فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ} فإن الحرث يدل على إتقاء الدبر وأنى شئتم على إباحة الإقبال والإدبار والخطاب في التفسير خطاب عام وأن كل من يتأتى منه الإقبال والإدبار فهو مأمور بهما "والحيضة" بكسر الحاء اسم من الحيض والحال التي تلزم الحائض من التجنب والتحيض كالجلسة والقعدة من الجلوس. كذا في النهاية. والمعنى اتق المجامعة في زمانها.
قوله: "هذا حديث حسن غريب" وأخرجه أحمد وأبو داود وابن ماجه.
قوله: "أخبرنا هاشم بن القاسم" ابن مسلم الليثي مولاهم البغدادي أبو النضر مشهور بكنيته ولقبه قيصر ثقة ثبت من التاسعة "عن الحسن" هو البصري.
قوله: "أنه زوج أخته" اسمها جميل بالجيم مصغراً بنت يسار وقيل اسمها ليلى وقيل فاطمة "رجلاً" قيل هو أبو البداح بن عاصم الأنصاري، وقيل هو عبد الله بن رواحة "ثم طلقها تطليقة" وفي رواية أبي داود ثم طلقها طلاقاً له(8/324)
والله لاَ تَرْجِعُ إلَيْكَ أَبداً آخِرُ مَا عَلَيْكَ، قال فَعَلِمَ الله حَاجَتَهُ إلَيْهَا وَحَاجَتَهَا إلى بَعْلِهَا، فأْنْزَلَ الله تبَارَك وتَعَالَى: {وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ - إلى قَوْلِهِ - وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ} فَلَمّا سَمِعَهَا مَعْقِلُ قَالَ سَمْعاً لرَبّي وَطَاعَةٌ، ثمّ دَعَاهُ فَقَالَ: أُزَوّجُكَ وَأُكْرِمُكَ".
هذا حديثٌ حسنٌ صحيحٌ. وَقَدْ رُوِيَ مِنْ غَيْرِ وَجْهٍ عن الْحَسَنِ وَفي هَذَا الْحَدِيثِ دَلاَلَةٌ عَلَى أَنّهُ لاَ يَجُوزُ النّكَاحُ بِغَيْرِ وَليّ لأنّ أُخْتَ مَعْقِلِ بنِ يَسَارٍ كانَتْ ثَيّباً، فَلَوْ كَانَ الأمْرُ إِلَيْهَا دُونَ وَليّهَا لَزَوّجَتْ نَفْسَهَا وَلَمْ تحتج إلى وَلِيّهَا مَعْقِلِ بْنِ يَسَارِ. وَإِنّمَا خَاطَبَ الله في هذه الآية الأوْلِياءَ فقال: {فَلا تَعْضُلُوهُنَّ أَنْ يَنْكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ} ففي هذه الآية دَلاَلَةٌ عَلَى أنّ الأمْرَ إلى الأوْليَاءِ في التّزْويِجِ مَعَ رِضَاهُنّ.
ـــــــ
رجعة "فهويها" قال في القاموس: هويه كرضيه أحبه "يالكع" بضم اللام وفتح الكاف كصُرد اللئيم والعبد والأحمق "لا ترجع إليك أبداً" وفي رواية لا أزوجك أبداً "آخر ما عليك" بالرفع. أي ذلك آخر ما عليك من نكاحك إياها، وهذا كقوله صلى الله عليه وسلم: "إذا خرجوا لم يعودوا آخر ما عليهم". قال في المجمع بالرفع أي ذلك آخر ما عليهم من دخولهم "إلى قوله الخ" تتمة الآية {فَلا تَعْضُلُوهُنَّ أَنْ يَنْكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ إِذَا تَرَاضَوْا بَيْنَهُمْ بِالْمَعْرُوفِ ذَلِكَ يُوعَظُ بِهِ مَنْ كَانَ مِنْكُمْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكُمْ أَزْكَى لَكُمْ وَأَطْهَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ} "فلما سمعها" أي هذه الآية. "قال سمع لربي وطاعة" أي على سمع لربي وطاعة. "ثم دعاه فقال: أزوجك وأكرمك" وفي رواية أبي داود قال: فكفرت عن يميني فأنكحتها إياه.
قوله: "هذا حديث حسن صحيح" وأخرجه البخاري وأبو داود والنسائي وابن ماجه وابن جرير "وفي هذا الحديث دلالة على أنه لا يجوز النكاح بغير ولي" إلى قوله "ففي هذه الآية دلالة على أن الأمر إلى الأولياء في التزويج مع رضاهن"(8/325)
4065- حدثنا قُتَيْبَةُ عن مالِكِ بن أَنَسٍ قال: وحدثنا الأنْصَارِيّ أخبرنا مَعْنُ أخبرنا مالِكٌ عن زَيْدِ بنِ أَسْلَمَ عن القَعْقَاعِ بنِ حَكِيمٍ عن أبي يُونسَ مَوُلَى عَائِشَةَ قالَ: "أَمَرَتْني عَائِشَةُ رضي الله عنها أَنْ أَكْتُبَ لَهَا مُصْحَفاً فَقَالَتْ:
ـــــــ
قال ابن جرير في هذه الآية الدلالة الواضحة على صحة قول من قال: لا نكاح إلا بولي من العصبة، وذلك أن الله تعالى منع الولي من عضل المرأة إن أرادت النكاح ونهاه عن ذلك. فلو كان للمرأة إنكاح نفسها بغير إنكاح وليها إياها أو كان لها تولية من أرادت توليته في إنكاحها، لم يكن لنهي وليها عن عضلها معنى مفهوم، إذ كان لا سبيل له إلى عضلها، وذلك أنها إن كانت متى أرادت النكاح جاز لها إنكاح نفسها أو إنكاح من توكله إنكاحها، فلا عضل هنالك لها من أحد فينهي عاضلها عن عضلها وفي فساد القول بأن لا معنى لنهي الله عما نهى عنه صحة القول بأن لولي المرأة في تزويجها حقاً لا يصح عقده إلا به انتهى.
قلت: هذا مبني على أن الخطاب في {فَلا تَعْضُلُوهُنَّ} للأولياء واعترض عليه بأنه يلزم تفكك نظم كلام الله لو قيل وإذا طلقتم النساء أيها الأزواج فلا تعضلوهن أيها الأولياء لأنه لا يبق بين الشرط والجزاء نسبة.
وأجيب بأن الخطاب في لا تعضلوهن. وكذا في قوله: {وَإِذَا طَلَّقْتُمُ} للناس أي وإذا وقع بينكم الطلاق فلا يوجد فيما بينكم العضل لأنه إذا وجد بينهم العضل من جهة الأولياء وهم راضون كانوا في حكم العاضلين. وتمسك الحنفية بقوله تعالى: {أَنْ يَنْكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ} على أن النكاح بغير ولي جائز، وذلك أنه تعالى أضاف النكاح إليها إضافة الفعل إلى فاعله والتصرف إلى مباشره، ونهى الولي عن منعها من ذلك، ولو كان ذلك التصرف فاسداً لما نهى الولي عن منعها منه، ويتأكد هذا النص بقوله {حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ} .
وأجيب بأن الفعل كما يضاف إلى المباشر فقد يضاف أيضاً إلى السبب مثل بنى بالأمير داراً. قال الرازي في تفسيره بعد ذكر هذا الجواب: وهذا وإن كان مجازاً إلا أنه يجب المصير إليه لدلالة الأحاديث على بطلان هذا النكاح.
قوله: "عن أبي يونس مولى عائشة" ثقة من الثالثة.(8/326)
إذَا بَلَغْتَ هَذهِ الآية فَآذِنّي { حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلاةِ الْوُسْطَى} فَلَمّا بَلَغْتُها آذَنْتُهَا فأَمْلَتْ عَلَيّ: حَافِظوا عَلَى الصّلَوَاتِ وَالصّلاَةِ الْوُسُطَى وَصَلاَة الْعَصْرِ وَقُومُوا لله قَانِتِين. وَقَالَتْ: سَمِعْتُهَا مِنْ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم".
ـــــــ
قوله: "فآذني" بمد الهمزة وكسر الذال المعجمة وتشديد النون، أي أعلمني "فأملت علي" بفتح الهمزة وسكون الميم وفتح اللام الخفيفة من أملي وبفتح الميم واللام مشددة من أملل يملل أي ألقت عليّ، فالأولى: لغة الحجاز وبني أسد، والثانية: لغة بني تميم وقيس "وصلاة العصر" بالواو الفاصلة وهي تدل على أن الوسطى غير العصر لأن العطف يقتضي المغايرة وأجيب بوجوه أحدها: أن هذه القراءة شاذة ليست بحجة ولا يكون له حكم الخبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم لأن ناقلها لم ينقلها إلا على أنها قرآن، والقرآن لا يثبت إلا بالتواتر بالإجماع. وإذا لم يثبت قرآناً لا يثبت خبراً قاله النووي وثانيها: أن يجعل العطف تفسيرياً فيكون الجمع بين الروايات. وثالثها: أن تكون الواو فيه زائدة ويؤيده ما رواه أبو عبيد بإسناد صحيح عن أبي بن كعب أنه كان يقرأها "والصلاة الوسطى صلاة العصر" بغير واو قال الحافظ في الفتح: قد اختلف السلف في المراد بالصلاة الوسطى وجمع الدمياطي في ذلك جزءاً مشهوراً سماه: كشف الغطا عن الصلاة الوسطى فبلغ تسعة عشر قولاً، ثم ذكر الحافظ هذه الأقوال ورجح قول من قال إن الصلاة الوسطى هي صلاة العصر، فقال: كونها صلاة العصر هو المعتمد، وبه قال: ابن مسعود وأبو هريرة: وهو الصحيح من مذهب أبي حنيفة، وقول أحمد والذي صار إليه معظم الشافعية لصحة الحديث فيه قال الترمذي: هو قول أكثر علماء الصحابة. وقال الماوردي هو قول جمهور التابعي، وقال ابن عبد البر: هو قول أكثر أهل الأثر وبه قال من المالكية: ابن حبيب وابن العربي وابن عطية انتهى.
قلت: لا شك في أن القول الراجح المعول عليه هو قول من قال إنها صلاة العصر، وقد تقدم بقية الكلام في هذه المسألة في باب ما جاء في الصلاة الوسطى أنها العصر {قَانِتِينَ} قبل معناه مطيعين وقيل ساكتين أي عن كلام الناس لا مطلق(8/327)
وَفي الباب عَن حَفْصَةَ. هذا حديثٌ حسنٌ صحيحٌ.
4067- حدثنا حُمَيْدُ بنُ مَسْعَدَةَ حدثنا يَزِيدُ بْنُ زُرَيْعٍ عن سَعِيدٍ عن قَتَادَةَ أخبرنا الْحَسَنُ عن سُمُرَةَ بْنُ جُنْدُبٍ أَنّ نَبِيّ الله صلى الله عليه وسلم قال: "صَلاَةُ الْوُسْطَى صَلاَةُ الْعَصْرِ" . هذا حديثٌ حسنٌ صحيحٌ.
4068- حدثنا هَنّادٌ أخبرنا عَبْدَةُ عن سَعِيدِ بنِ أَبي عَرُوبَةَ عن قَتَادَةَ عن أبي حَسّانَ الأعْرَجِ عن عَبِيدَةَ السّلْمَانِيّ أَنّ عَلِيّاً حَدّثَهُ أَنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم قالَ يَوْمَ الأحزَابِ: "اللّهُمّ امْلأ قُبُورَهُمْ وَبُيُوتَهُمْ نَاراً كمَا شَغَلُونَا عن صَلاَةِ الْوُسْطَى حَتّى غَابَتِ الشّمْسُ" .
ـــــــ
الصمت لأن الصلاة لا صمت فيها بل جميعها قرآن وذكر "وقال سمعتها من رسول الله صلى الله عليه وسلم". قال الباجي: يحتمل أنها سمعتها على أنها قرآن ثم نسخت كما في حديث البراء الذي رواه مسلم، فلعل عائشة لم تعلم بنسخها أو اعتقدت أنها مما نسخ حكمه وبقي رسمه، ويحتمل أنه ذكرها صلى الله عليه وسلم على أنها من غير القرآن لتأكيد فضيلتها فظنتها قرآناً فأرادت إثباتها في المصحف. لذلك قاله الزرقاني في شرح الموطأ.
قوله: "وفي الباب عن حفصة" أخرجه مالك في موطإه.
قوله: "هذا حديث حسن صحيح" وأخرجه أحمد ومسلم وأبو داود والنسائي.
قوله: "قال صلاة الوسطى صلاة العصر" تقدم هذا الحديث وما يتعلق به في باب ما جاء في الصلاة الوسطى أنها العصر.
قوله: "قال يوم الأحزاب" هي الغزوة المشهورة يقال لها الأحزاب والخندق وكانت سنة أربع من الهجرة وقيل سنة خمس "كما شغلونا عن صلاة الوسطى" بإضافة الصلاة إلى الوسطى وهو من باب قول الله تعالى: {وَمَا كُنْتَ بِجَانِبِ الْغَرْبِيِّ} وفيه المذهبان المعروفان مذهب الكوفيين جواز إضافة الموصوف إلى صفته ومذهب البصريين منعه ويقدرون فيه محذوفاً وتقديره هنا عن صلاة(8/328)
هذا حديثٌ حسنٌ صحيحٌ. وَقَدْ رُوِيَ مِنْ غَيْرِ وَجْهٍ عن عَلِيّ. وَأَبُو حَسّانَ الأعْرَجِ اسْمُهُ مُسْلِمٌ.
4069- حدثنا مَحْمُودُ بْنُ غَيْلاَنَ أخبرنا أَبُو النّضْرِ وَأَبُو دَاوُدَ عن محمّدِ بْنِ طَلْحَةَ بنِ مُصَرّفٍ عن زُبَيْدٍ عن مُرّةَ عن عَبْدِ الله بنِ مَسْعُودٍ قال: قالَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم: "صَلاَةُ الْوُسْطَى صَلاَةُ الْعَصْر" .
وفي البابِ عَن زَيْدٍ بنِ ثَابِتٍ وَأَبي هَاشِمِ بنِ عُتْبَةَ وَأَبي هُرَيْرَةَ.
هذا حديثٌ حسنٌ صحيحٌ.
ـــــــ
الصلاة الوسطى أي عن فعل الصلاة الوسطى قاله النووي "حتى غابت الشمس" وفي رواية لمسلم: شغلونا عن الصلاة الوسطى صلاة العصر ملأ الله بيوتهم وقبورهم ناراً. ثم صلاها بين العشائين بين المغرب والعشاء. وحديث علي هذا نص صريح في أن الصلاة الوسطى هي صلاة العصر وهو أصح الأقوال في هذا الباب.
قوله: "هذا حديث حسن صحيح" وأخرجه أحمد والشيخان وأبو داود وغيرهم.
قوله: "أخبرنا أبو النضر" اسمه هاشم بن القاسم "وأبو داود" هو الطيالسي "عن زبيد" بموحدة مصغراً هو ابن الحارث اليامي.
قوله: "صلاة الوسطى صلاة العصر" هذا الحديث أيضاً نص صريح في أن الصلاة الوسطى هي صلاة العصر.
قوله: "وفي الباب عن زيد بن ثابت وأبي هاشم بن عتبة وأبي هريرة" أما حديث زيد بن ثابت فأخرجه أحمد وأبو داود. وأما حديث أبي هاشم فأخرج ابن جرير من طريق كهيل بن حرملة: سئل أبو هريرة عن الصلاة الوسطى فقال اختلفنا فيها ونحن بفناء بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وفينا أبو هاشم بن عتبة فقال أنا أعلم لكم فقال فاستأذن على رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم خرج إلينا. فقال أخبرنا أنها صلاة العصر. وأما حديث أبي هريرة فأخرجه أيضاً ابن جرير عنه مرفوعاً: الصلاة الوسطى صلاة العصر.
قوله: "هذا حديث حسن صحيح" وأخرجه مسلم.(8/329)
4070- حدثنا أَحْمَدُ بنُ مَنِيعٍ أخبرنا مَرْوَانُ بنُ مُعَاوِيَةَ وَيَزِيدُ بنُ هَارُونَ وَمُحمّدُ بنُ عُبَيْدٍ عن إسْمَاعِيلَ بنِ أبي خَالِدٍ عن الْحَارِثِ بنِ شُبَيْل عن أبي عَمْرٍو الشّيْبَانيّ عن زَيْدٍ بنِ أَرْقَمَ قَال: "كُنّا نَتَكَلّمُ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم في الصّلاَةِ فَنَزَلَتْ {وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ} فأُمِرْنَا بالسّكُوت".
4071- حدثنا أَحْمَدُ بن مَنِيعٍ أخبرنا هُشَيْمٌ أخبرنا إسْمَاعِيلُ بنُ أَبي خَالِد نَحْوَهُ وَزَادَ فِيهِ "وَنُهِينَا عنِ الْكلاَمِ".
هذا حديثٌ حسنٌ صحيحٌ. وَأَبُو عَمْرٍو الشيْبَانيّ اسْمُهُ سَعْدُ بنُ إيَاسٍ.
4072- حدثنا عَبْد الله بنُ عَبْد الرّحْمَن أخبرنا عُبَيْدُ الله بنُ مُوسَى عن إسْرَائِيلَ عن السّدّيّ عن أَبي مَالِكٍ عن البَرَاءِ: " {وَلا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ} قَالَ: نَزَلَتْ فِينَا مَعْشَرَ الأنْصَارِ كُنّا أَصْحَابَ نَخْلٍ، فَكَانَ الرّجُلُ يَأْتِي مِنْ نَخْلِهِ عَلَى قَدْرٍ كَثْرَتِهِ وَقِلّتِهِ وَكَانَ الرّجُلُ يَأْتي بالْقِنْوِ وَالقِنْوِينِ فَيُعَلّقُهُ فِي المَسْجِدِ، وَكَانَ أَهْلُ الصّفّةِ لَيْسَ لَهُمْ طَعَامٌ
ـــــــ
قوله: "ومحمد بن عبيد" بن أبي أمية الطنافسي.
قوله: "كنا نتكلم الخ" تقدم هذا الحديث مع شرحه في باب نسخ الكلام في الصلاة.
قوله: "عن إسرائيل" هو ابن يونس "عن السدي" بضم السين المهملة وتشديد الدال هو إسماعيل بن عبد الرحمن وهو السدي الكبير "عن أبي مالك" اسمه غزوان الغفاري الكوفي مشهور بكنيته ثقة من الثالثة.
قوله: "معشر الأنصار" بالنصب على الاختصاص "يأتي بالقنو" بكسر القاف وسكون النون هو العذق بما فيه من الرطب يقال له بالفارسية خوشه(8/330)
فَكَانَ أَحَدُهُمْ إذَا جَاءَ أَتَى القِنْوَ فَضَرَبَهُ بِعَصَاهُ فَيَسْقُط من البُسْرُ وَالتّمْرُ فَيَأْكُلُ، وَكَانَ نَاسٌ مِمّنْ لاَ يَرْغَبُ فِي الْخَيْرِ يَأْتي الرّجُلُ بالقِنْوِفِيه الشّيْصُ وَالْحشَفُ وَبالْقِنْوِ قَدْ انْكَسَرَ فَيُعَلّقُهُ، فَأَنْزَلَ الله تَبَارَك تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَلا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ وَلَسْتُمْ بِآخِذِيهِ إِلَّا أَنْ تُغْمِضُوا فِيهِ} قالوا: لَوْ أَنّ أَحَدَكُمْ أُهْدِىِ إلَيْهِ مِثْلَ مَا أَعْطَى لَمْ يَأْخْذهُ إلاّ عَلَى إغْمَاضٍ أوْحَيَاءٍ. قَالَ: فَكُنّا بَعْدَ ذَلِكَ يأْتِي أَحَدُنَا بِصَالِحِ مَا عِنْدَهُ".
ـــــــ
خرما "فيسقط البسر والتمر" البسر بضم الموحدة وسكون السين المهملة مرتبة من مراتب ثمر النخل. قال في الصراح: أول ما بدأ من النخل طلع ثم خلال ثم بلح بالتحريك ثم بسر ثم رطب ثم تمر "فيه الشيص والحشف" الشيص بالكسر التمر الذي لا يشتد نواه ويقوى وقد لا يكون له نوى أصلاً كذا في النهاية.
والحشف بفتح الحاء المهملة والشين المعجمة هو أردأ التمر أو الضعيف لا نوى له أو اليابس الفاسد {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ} أي من جياد ما كسبتم {وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ} من الحبوب والثمار {وَلا تَيَمَّمُوا} أي لا تقصدوا {الْخَبِيثَ} أي الرديء {مِنْهُ} أي المذكور {تُنْفِقُونَ} حال من ضمير تيمموا {لَسْتُمْ بِآخِذِيهِ} أي الخبيث لو أعطيتموه في حقوقكم {إِلَّا أَنْ تُغْمِضُوا فِيهِ} بالتساهل وغض البصر فكيف تؤدون منه حق الله قال أي النبي صلى الله عليه وسلم "أهدى" بصيغة المجهول من الإهداء "إلا على إغماض" أي مساهلة ومسامحة، يقال: أغمض في البيع يغمض إذا استزاده من المبيع واستحطه من الثمن فوافقه عليه.(8/331)
هذا حديثٌ حسنٌ غريبٌ صيحيحٌ. وَأَبو مَالِكٍ هُوَ الغِفَارِيّ وَيُقَالُ اسْمُهُ غَزَوَانُ وَقَدْ رَوى سفيان الثّوْرِيّ عن السّدّيّ شَيْئاً مِنْ هَذَا.
4073- حدثنا هَنّادٌ أخبرنا أَبُو الأحْوَصِ عن عَطَاءِ بنِ السّائِبِ عن مُرّةَ الْهَمْدَانيّ عَن عَبْدِ الله بنِ مَسْعُودٍ قالَ: قالَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: "إِنّ لِلشّيْطَانِ لَمّةً بابنِ آدَمَ وَلِلْمُلَكِ لَمّةً فَأَمّا لَمّةُ الشّيْطَانِ فَإِيعَادٌ بالشّرّ وَتَكْذِيبٌ بِالْحَقّ، وَأَمّا لَمّةُ المَلَكِ فَإِيعَادٌ بالْخَيْرِ وَتَصْدِيقٌ
ـــــــ
قوله: "هذا حديث حسن صحيح غريب" وأخرجه ابن ماجه وابن جرير وابن أبي حاتم والحاكم.
قوله: "إن للشيطان" أي إبليس أو بعض جنده "لمة" بفتح اللام وشدة الميم من الإلمام ومعناه النزول والقرب والإصابة، والمراد بها ما يقع في القلب بواسطة الشيطان أو الملك "بابن آدم" أي بهذا الجنس فالمراد به الإنسان "وللملك لمة" فلمة الشيطان تسمى وسوسة ولمة الملك إلهاماً "فأما لمة الشيطان1 فإيعاد بالشر" كالكفر والفسق والظلم "تكذيب بالحق" أي في حق الله أو حق الخلق أو بالأمر الثابت كالتوحيد والنبوة والبعث والقيامة والنار والجنة "وأما لمة الملك فإيعاد بالخير" كالصلاة والصوم "وتصديق بالحق" ككتب الله ورسوله والإيعاد في اللمتين من باب الأفعال، والوعيد في الاشتقاق كالوعد إلا أن الإيعاد اختص بالشر عرفاً يقال أوعد إذا وعد بشر إلا أنه استعمله في الخير للازدواج والأمن عن الاشتباه بذكر الخير بعده كذا قالوا، والظاهر أن هذا التفصيل عند الإطلاق كما قال الشاعر:
ـــــــ
1 قال في أشعة اللمعات: فأما لمة الشيطن فإيعاد بالشر فأما كار شيطان ترسانيدن ست به بدى وكفتن كه اكراين كارخير كردي به بدي كرفتاد خواهي آمد جنانكه اكر توكا برخدا كردي وخودر بعبادت وي كذا شتى بفقر وخواري بتلا خواهي شد وتكذيب بالحق ونبت بدروغ كردن بحق ست. وأما لمة الملك فإيعاد بالخير وتصيق بالحق وأما كار فرشت تؤيد داون است بدنيكى ونبت راستى كردن است بحق داند اختى يقين ست دردل.(8/332)
بالْحَقّ، فَمَنْ وَجَدَ ذَلِكَ فَلْيَعْلَمْ أَنّهُ مِنَ الله فَلْيَحْمَدِ الله، وَمَنْ وَجَدَ الآخرى فَلْيَتَعَوّذْ بالله مِنَ الشّيْطَانِ الرجيم ثمّ قَرَأَ: {الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشَاءِ} " الآية.
هذا حديثٌ حسنٌ غريبٌ. وَهُوَ حَدِيثُ أبي الأحْوَصِ لاَ نعلمه مَرْفُوعاً إلاّ مِنْ حَدِيثِ أبي الأحْوَصِ.
4074- حدثنا عبد بنُ حُمَيْدٍ أخبرنا أبُو نُعَيْمٍ أخبرنا فُضَيْلُ بنُ مَرْزُوقٍ عن عَدِيّ بنِ ثَابِتٍ عن أبي حَازِمٍ عن أبي هُرَيْرَةَ قالَ: قالَ رَسولُ الله صلى الله عليه وسلم: "يَا أَيّهَا النّاسُ إنّ الله طَيّبٌ ولاَ يَقْبَلُ إلاّ طَيّباً، وَإِنّ الله أمَرَ المُؤْمِنِينَ بِمَا أمَرَ بِهِ المُرْسَلِينَ، فَقَالَ: {يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ
ـــــــ
وإني إن أوعدته أو وعدته ... لمخلف إيعادي ومنجز موعدي
وأما عند التقييد فالأولى أن يقال بالتجريد فيهما أو بأصل اللغة واختيار الزيادة لاختيار المبالغة "فمن وجد" أي في نفسه أو أدرك وعرف "ذلك" أي لمة الملك على تأويل الإلمام أو المذكور "فليعلم أنه من الله" أي منة جسيمة ونعمة عظيمة واصلة إليه ونازلة عليه إذ أمر الملك بأن يلهمه "فليحمد الله" أي على هذه النعمة الجليلة حيث أهله لهداية الملك ودلالته على ذلك الخير "ومن وجد الآخرى" أي لمة الشيطان "ثم قرأ" أي النبي صلى الله عليه وسلم استشهاداً {الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ} أي يخوفكم به {وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشَاءِ} الاَية معناه الشيطان يعدكم الفقر ليمنعكم عن الإنفاق في وجوه الخيرات ويخوفكم الحاجة لكم أو لأولادكم في ثاني الحال سيما في كبر السن وكثرة العيال، ويأمركم بالفحشاء أي المعاصي، وهذا الوعد والأمر هما المرادان بالشر في الحديث.
قوله: "هذا حديث حسن غريب" وأخرجه النسائي وابن حبان في صحيحه وابن أبي حاتم.
قوله: "يا أيها الناس إن الله طيب ولا يقبل إلا طيباً" قال القاضي رحمه الله(8/333)
كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحاً إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ} وَقالَ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ} قَالَ: وَذَكَرَ الرّجُلُ يُطِيلُ السّفَرَ أشْعَثَ أغْبَرَ يَمُدّ يَدَهُ إلى السّمَاءِ يَا رَبّ يَا رَبّ وَمَطْعَمُهُ حَرَامُ، وَمَشْرَبَهُ حَرَامٌ. وَمَلْبَسُهُ حَرَامٌ وَغُذِيَ بِالْحَرَامِ فَانّى يُسْتَجَابُ لِذَلِكَ" .
ـــــــ
الطيب ضد الخبيث فإذا وصفه به تعالى أريد به أنه منزه عن النقائص مقدس عن الاَفات، وإذا وصف به العبد مطلقاً أريد به أنه المتعري عن رذائل الأخلاق وقبائح الأعمال والمتحلي بأضداد ذلك، وإذا وصف به الأموال أريد به كونه حلالاً من خيار الأموال. ومعنى الحديث أنه تعالى منزه عن العيوب فلا يقبل ولا ينبغي أن يتقرب إليه إلا بما يناسبه في هذا المعنى. وهو خيار أموالكم الحلال كما قال تعالى: {لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ} "وإن الله أمر المؤمنين بما أمر به المرسلين" ما موصولة والمراد بها أكل الحل وتحسين الأموال فقال: {يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحاً إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ} هذا النداء خطاب لجميع الأنبياء لا على أنهم خوطبوا بذلك دفعة واحدة لأنهم أرسلوا في أزمنة مختلفة بل على أن كلا منهم خوطب به في زمان، ويمكن أن يكون هذا النداء يوم الميثاق لخصوص الأنبياء "وذكر" أي النبي صلى الله عليه وسلم "الرجل" بالنصب على المفعولية "يطيل السفر" أي في وجوه الطاعات كحج وزيارة مستحبة وصلة رحم وغير ذلك قاله النووي "أشعث أغبر" حالان متداخلان أو مترادفان، وكذا قوله "يمد يده" وفي رواية مسلم: يديه بالتثنية أي ماداً يديه رافعاً بهما "يا رب يا رب" أي قائلاً يا رب يا رب "ومطعمه حرام" مصدر ميمي بمعنى مفعول أي مطعومه حرام والجملة حال أيضاً وكذا قوله "ومشربه حرام وملبسه حرام" أي مشروبه حرام وملبوسه حرام "وغذي" بضم الغين وتخفيف الذال المعجمة المكسورة "بالحرام" أي ربي بالحرام. قال الأشرف: ذكر قوله وغذي بالحرام بعد قوله ومطعمه حرام إما لأنه لا يلزم من كون المطعم حراماً التغذية به، وإما تنبيهاً به على استواء حاليه أعني كونه منفقاً في حال كبره ومنفقاً عليه في حال صغره في وصول الحرام إلى باطنه، فأشار بقوله مطعمه حرام إلى(8/334)
هذا حديثٌ حسنٌ غريبٌ. وَإِنّمَا نَعْرِفُهُ مِنْ حَدِيثِ فُضَيْلِ بنِ مَرْزُوقٍ. وَأَبُو حَازِمٍ هُوَ الأشْجَعِيّ اسْمُهُ سَلْمَانُ مَوْلَى عَزّةَ الأشْجَعِيّةِ.
4074- حدثنا عبدُ بنُ حُمَيْدٍ أخبرنا عُبَيدُ الله بنُ مُوسَى عن إسْرَائِيلَ عن السّدّيّ، قالَ: حدثني مَنْ سَمِعَ عَلِيّا يَقُولُ: "لَمّا نَزَلَتْ هَذِهِ الآية: {وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَو تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ} الآية أَحْزَنَتَنَا. قالَ: قُلْنَا يُحَدّثُ أحَدُنَا نَفْسَه فَيُحَاسَبُ بِهِ لاَ نَدْرِي مَا يُغْفَرُ مِنْهُ وَمَا لا يُغْفَرُ مِنْهُ فَنَزَلَتْ هَذِهِ الآية بَعْدَهَا فَنَسَخَتْهَا: {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ} .
ـــــــ
حال كبره وبقوله وغذي بالحرام إلى حال صغره، وهذا دال على أن لا ترتيب في الواو. قال القاري: وذهب المظهر إلى الوجه الثاني ورجح الطيبي رحمه الله الوجه الأول ولا منع من الجمع فيكون إشارة إلى أن عدم إجابة الدعوة إنما هو لكونه مصراً على تلبس الحرام انتهى "فأنى يستجاب لذلك" أي من أين يستجاب لمن هذه صفته وكيف يستجاب له. وفي الحديث الحث على الإنفاق من الحلال والنهي عن الإنفاق من غيره. وفيه أن المشروب والمأكول والملبوس ونحوها ينبغي أن يكون حلالاً خالصاً لا شبهة فيه، وأن من أراد الدعاء كان أولى بالاعتناء بذلك من غيره.
قوله: "هذا حديث حسن غريب" وأخرجه مسلم.
قوله: "احزنتنا" جواب لما أي جعلتنا محزونين "قال قلنا" أي قال على قلنا معشر الصحابة "لاندري" بالنون وفي بعض النسخ لا يدري بالتحتية "فنزلت هذه الآية" أي {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَهَا} "بعدها" أي بعد نزول آية {وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَو تُخْفُوهُ} الخ "فنسختها" قال الحافظ: المراد بقوله نسختها أي أزالت ما تضمنته من الشدة بينت أنه وإن وقعت المحاسبة به لكنها لا تقع المؤاخذة به، أشار إلى ذلك الطبري فراراً من إثبات دخول النسخ في(8/335)
4075- حدثنا عَبْدُ بنُ حُمَيْدٍ أخبرنا الحَسَنُ بنُ مُوسَى ورَوْحُ بنُ عُبَادَةَ عن حَمّادِ بنِ سَلَمَةَ عن عَلِيّ بنِ زَيْدٍ عن أُمَيّةَ أنّهَا سَأَلَتْ عَائِشَةَ عن قَوْلِ الله تَبَارَكَ وَتَعَالَى: {وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَو تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ} وَعن قوله: {مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ} فَقَالَتْ: "مَا سَأَلَنِي
ـــــــ
الأخبار، وأجيب بأنه وإن كان خبراً لكنه يتضمن حكماً ومنهما كان من الأخبار يتضمن الأحكام أمكن دخول النسخ فيه كسائر الأحكام وإنما الذي لا يدخله النسخ من الأخبار ما كان خبراً محضاً لا يتضمن حكماً كالإخبار عما مضى من أحاديث الأمم ونحو ذلك، ويحتمل أن يكون المراد بالنسخ في حديث التخصيص فإن المتقدمين يطلقون لفظ النسخ عليه كثيراً، والمراد بالمحاسبة بما يخفي الإنسان ما يصمم عليه ويشرع فيه دون ما يخطر له ولا يستمر عليه انتهى {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَهَا} هذا بيان لقوله هذه الآية، ومعنى وسعها أي ما تسعه قدرتها {لَهَا مَا كَسَبَتْ} من الخير أي ثوابه {وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ} من الشر أي وزره ولا يؤاخذ أحد بذنب أحد. ولا بما لم يكسبه مما وسوست به نفسه. وفي حديث علي رضي الله عنه هذا رجل مجهول وهو شيخ السدي.
قوله: "عن علي بن زيد" هو ابن جدعان "عن أميه" بالتصغير ويقال لها أمينة من الثالثة. قال في تهذيب التهذيب أمية بنت عبد الله عن عائشة وعنها ربيبها علي بن زيد بن جدعان، وقيل عن علي عن أم محمد وهي امرأة أبيه واسمها أمينة ووقع في بعض النسخ من الترمذي عن علي بن زيد بن جدعان عن أمه وهو غلط، فقد روى علي بن زيد عن امرأة أبيه أم محمد عدة أحاديث انتهى. قلت: ذكر الذهبي في الميزان أمية هذه في فصل المجهولات.
قوله: {إِنْ تُبْدُوا} أي إن تظهروا {مَا فِي أَنْفُسِكُمْ} أي في قلوبكم من السوء بالقول أو الفعل {أَو تُخْفُوهُ} أي تضمروه مع الإصرار عليه إذ لا عبرة بخطور الخواطر {يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ} أي يجازيكم بسركم وعلنكم أو يخبركم بما أسررتم وما أعلنتم وعن قوله: {مَنْ يَعْمَلْ} أي ظاهراً وباطناً {سُوءاً} أي صغيراً أو كبيراً {يُجْزَ بِهِ} أي في الدنيا أو العقبي إلا ما شاء ممن شاء "فقالت" أي عائشة(8/336)
عَنْهَا أحَدٌ مُنْذُ سَأَلْتُ رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم فَقَالَ "هَذِهِ مُعَاتَبَةُ الله العَبْدَ فيمَا يُصِيبُهُ مِنْ الحُمّى وَالنّكْبَةِ حَتّى البِضَاَعَةِ يَضَعُهَا فِي يَدِ قَمِيْصِهِ فَيَفْقِدُهَا فَيَفْزَعُ لَهَا حَتّى إنّ العَبْدَ لَيَخْرُجُ مِنْ ذنُوبِهِ كَمَا يَخْرُجُ التّبْرُ الأحْمَرُ مِنْ الكِيْرِ" .
ـــــــ
"ما سألني عنها" أي عن هذه المسألة "منذ سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم" أي عنها "فقال هذه" إشارة إلى مفهوم الآيتين المسؤول عنهما أي محاسبة العباد أو مجازاتهم بما يبدون وما يخفون من الأعمال "معاتبة الله العبد" أي مؤاخذته العبد بما اقترف من الذنب "بما يصيبه" أي في الدنيا وهو صلة معاتبة ويصح كون الباء سببية "من الحمى" وغيرها مؤاخذة المعاتب وإنما خصت الحمى بالذكر لأنها من أشد الأمراض وأخطرها. قال في المفاتيح: العتاب أن يظهر أحد الخليلين من نفسه الغضب على خليله لسوء أدب ظهر منه مع أن في قلبه محبته يعني ليس معنى الآية أن يعذب الله المؤمنين بجميع ذنوبهم يوم القيامة بل معناها أنه يلحقهم بالجوع والعطش والمرض والحزن وغير ذلك من المكاره حتى إذا خرجوا من الدنيا صاروا مطهرين من الذنوب. قال الطيبي: كأنها فهمت أن هذه مؤاخذة عقاب أخروي فأجابها بأنها مؤاخذة عتاب في الدنيا عناية ورحمة انتهى "والنكبة" بفتح النون أي المحنة وما يصيب الإنسان من حوادث الدهر "حتى البضاعة" بالجر عطف على ما قبلها وبالرفع على الابتداء وهي بالكسر طائفة من مال الرجل "يضعها في يد قميصه" أي كمه سمي باسم ما يحمل فيه ووقع في بعض النسخ في كم قميصه "فيفقدها" أي يتفقدها ويطلبها فلم يجدها لسقوطها أو أخذ سارق لها منه "فيفزع لها" أي يحزن لضياع البضاعة فيكون كفارة، كذا قاله ابن الملك. وقال الطيبي: يعني إذا وضع بضاعة في كمه ووهم أنها غابت فطلبها وفزع كفرت عنه ذنوبه وفيه من المبالغة ما لا يخفي "حتى" أي لا يزال يكرر عليه تلك الأحوال حتى "إن العبد" قال القاري: بكسر الهمزة وفي نسخة يعني في المشكاة بالفتح وأظهر العبد موضع ضميره إظهاراً لكمال العبودية المقتضى للصبر والرضا بأحكام الربوبية "ليخرج من ذنوبه" بسبب الابتلاء بالبلاء "كما يخرج التبر الأحمر" التبر بالكسر أي الذهب والفضة قبل أن يضربا دراهم(8/337)
هذا حديثٌ حسنٌ غريبٌ مِنْ حَدِيثِ عَائِشَةَ لاَ نَعْرِفُهُ إلاّ مِنْ حَدِيثِ حَمّادِ بنِ سَلَمَةَ.
3076- حدثنا مَحْمُودُ بنُ غَيْلاَنَ أخبرنا وَكِيعُ أخبرنا سُفْيَانُ عن آدَمَ بنِ سُلَيْمَانَ عن سَعِيدِ بنِ جُبَيْرٍ عن ابنِ عَبّاسٍ قالَ: "لَمّا نَزَلَتْ هَذِهِ الآية: {وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَو تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ} قال: دَخَلَ قُلُوبَهُمْ مِنْهُ شَيْءٌ لَمْ يَدْخُلْ مِنْ شَيْء، فَقَالُوا للنّبيّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: "قُولُوا سَمِعْنَا وَأطَعْنَا" فَأَلْقَى الله الإيمَانَ فِي قُلُوبِهِم فَأَنْزَلَ الله تَبَارَكَ وَتَعَالَى: {آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ} الآية {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ رَبَّنَا
ـــــــ
ودنانير فإذا ضربا كانا عيناً "من الكير" بكسر الكاف متعلق بخرج.
قوله: "هذا حديث حسن غريب" وأخرجه ابن جرير وابن أبي حاتم.
قوله: "عن آدم بن سليمان" القرشى الكوفي والد يحيى صدوق من السابعة.
قوله: "دخل قلوبهم" بالنصب "منه" أي من قوله تعالى هذا وفي رواية مسلم منها أي من هذه الآية "شيء" بالرفع فاعل دخل أي شيء عظيم من الحزن "لم يدخل" أي قلوبهم والضمير المرفوع لشيء والجملة صفة له "من شيء" أي من الأشياء المحزنة "فقالوا للنبي صلى الله عليه وسلم" أي ذكروا له ما دخل قلوبهم من هذه الآية "سمعنا" أي ما أمرتنا به سماع قبول "فألقى الله الإيمان في قلوبهم" أي أحكمه وأرسخه فيها واندفع ما كان دخلها {آمَنَ} أي صدق {الرَّسُولُ} أي محمد صلى الله عليه وسلم {بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ} أي القرآن {وَالْمُؤْمِنُونَ} عطف على الرسول "الاَية" بالنصب أي أتم الآية وتمامها {كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ} {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَهَا} أي ما تسعه قدرتها {لَهَا مَا كَسَبَتْ} من الخير أي ثوابه {وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ} من الشر أي زوره(8/338)
لا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا} قَالَ قَدْ فَعَلْتُ {رَبَّنَا وَلا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْراً كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا} قَالَ قَدْ فَعَلْتُ {رَبَّنَا وَلا تُحَمِّلْنَا مَا لا طَاقَةَ لَنَا بِهِ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا} الآية، قالَ: "قَدْ فَعَلْتُ".
هذا حديثٌ حسنٌ. وقَدْ رُوِي هَذَا مِنْ غَيْرِ هَذَا الْوَجْهِ عن ابن عَبّاسٍ.
ـــــــ
{رَبَّنَا لا تُؤَاخِذْنَا} بالعقاب أي قولوا ربنا لا تؤاخذنا {إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا} أي تركنا الصواب لا عن عمد كما أخذت به من قبلنا، وقد رفع الله ذلك عن هذه الأمة كما ورد في الحديث فسؤاله اعتراف بنعمة الله "قال قد فعلت" أي لا أؤاخذكم {وَلا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْراً} يثقل علينا حمله {كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا} أي بني إسرائيل من قتل النفس في التوبة وإخراج ربع المال في الزكاة، وقرض موضع النجاسة "قال قد فعلت" أي لا أحمل عليكم {رَبَّنَا وَلا تُحَمِّلْنَا مَا لا طَاقَةَ لَنَا بِهِ} أي لا تكلفنا من الأعمال ما لا نطيق القيام به لثقل حمله علينا. وتكليف ما لا يطاق على وجهين أحدهما ما ليس في قدرة العبد احتماله كتكليف الأعمى النظر والزمن العدو فهذا النوع من التكليف الذي لا يكلف الله به عبده بحال. الوجه الثاني من تكليف مالا يطاق هو ما في قدرة العبد احتماله مع المشقة الشديدة والكلفة العظيمة كتكليف الأعمال الشاقة والفرائض الثقيلة كما كان في ابتداء الإسلام صلاة الليل واجبة ونحوه، فهذا الذي سأل المؤمنون ربهم لا يحملهم ما لا طاقة لهم به "الاَية" تمامها {مَوْلانَا فَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ} "قال قد فعلت" أي عفوت عنكم وغفرت لكم ورحمتكم ونصرتكم على القوم الكافرين.
قوله: "هذا حديث حسن صحيح" وأخرجه مسلم "وقد روى هذا من غير هذا الوجه عن ابن عباس" أخرجه أحمد من غير هذا الوجه وكذا الطبري كما في الفتح.(8/339)
وفي البابِ عن أبي هُرَيْرَةَ. وَآدَمُ بنُ سُلَيْمَانَ يُقالُ هُوَ وَالِدُ يَحْيَى بنِ آدَمَ.
ـــــــ
قوله: "وفي الباب عن أبي هريرة أخرجه مسلم وفيه" فلما فعلوا ذلك نسخها الله تعالى فأنزل الله {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَهَا} الخ.(8/340)
وَمِنْ سُورةِ آلِ عِمْرَان
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
4077- حدثنا عَبْدُ بنُ حُمَيْدٍ أخبرنا أبُو الوليد أخبرنا يَزِيدُ بنُ إبْرَاهِيمَ حدثنا ابنُ أبي مُلَيْكَةَ عن الْقَاسِمِ بنِ مُحَمّدٍ عن عَائِشَةَ قالَتْ: "سُئِلَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم عن هَذِهِ الآية: {هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ} إلى آخِرِ الآية فَقَالَ
ـــــــ
وَمِنْ سُورةِ آلِ عِمْرَان
هي مدنية قال القرطبي بالإجماع وهي مائتا آية
قوله: "أخبرنا أبو داود الطيالسي" اسمه هشام بن عبد الملك الطيالسي "حدثنا يزيد بن إبراهيم" التستري بضم المثناة الأولى وسكون المهملة وفتح المثناة الثانية ثم راء نزيل البصرة أبو سعيد ثقة ثبت إلا في روايته عن قتادة ففيها لين من كبار السابعة.
قوله: "عن هذه الآية" {هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ} إلى آخر الآية بقية الآية {هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ} قال الحافظ: قيل المحكم من القرآن ما وضح معناه والمتشابه نقيضه، وسمي المحكم بذلك لوضوح مفردات كلامه وإتقان تركيبه بخلاف المتشابه، وقيل المحكم(8/340)
رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم: إذا رَأَيْتُمْ الّذِينَ يَتّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ،
ـــــــ
ما عرف المراد منه إما بالظهور وإما بالتأويل والمتشابه ما استأثر الله بعلمه كقيام الساعة وخروج الدجال والحروف المقطعة في أوائل السور، وقيل في تفسير المحكم والمتشابه أقوال أخر غير هذه نحو العشرة ليس هذا موضع بسطها وما ذكرته أشهرها وأقربها إلى الصواب، وذكر الأستاذ أبو منصور البغدادي أن الاَخير هو الصحيح عندنا وابن السمعاني أنه أحسن الأقوال والمختار على طريقة أهل السنة، وعلى القول الأول جرى المتأخرون انتهى. وقوله تعالى: {هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ} أي هن أصل الكتاب الذي يعول عليه في الأحكام ويعمل به في الحلال والحرام. فإن قيل كيف قال هن أم الكتاب ولم يقل هن أمهات الكتاب، يقال لأن الاَيات في اجتماعها وتكاملها كالاَية الواحدة وكلام الله كله شيء واحد، وقيل إن كل آية منهن أم الكتاب كما قال {وَجَعَلْنَا ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ آيَةً} يعني أن كل واحد منهما آية. فإن قيل قد جعل الله الكتاب هنا محكماً ومتشابهاً وجعله في موضع آخر كله محكماً فقال في أول هود: {الر كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ} وجعله موضع آخر كله متشابهاً فقال تعالى في الزمر: {اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَاباً مُتَشَابِهاً} فكيف الجمع بين هذه الاَيات؟ يقال حيث جعله كله محكماً أراد أنه كله حق وصدق ليس فيه عبث ولا هزل، وحيث جعله كله متشابهاً أراد أن بعضه يشبه بعضاً في الحسن والحق والصدق، وقوله فأما الذين في قلوبهم زيغ أي ميل عن الحق وقيل الزيغ الشك، وقوله فيتبعون ما تشابه منه أي إنما يأخذون منه بالمتشابه الذي يمكنهم أن يحرفوه إلى مقاصدهم الفاسدة وينزلوه عليها لاحتمال لفظه لما يصرفونه، فأما المحكم فلا نصيب لهم فيه لأنه دافع لهم وحجة عليهم، ولهذا قال تعالى: {ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ} أي الإضلال لأتباعهم لأنهم يحتجون على بدعتهم بالقرآن وهو حجة عليهم لأنهم كما قالوا احتج النصارى بأن القرآن قد نطق بأن عيسى روح الله وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه وتركوا الاحتجاج بقوله: {إِنْ هُوَ إِلَّا عَبْدٌ أَنْعَمْنَا عَلَيْهِ} وبقوله {إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} وغير ذلك من الاَيات المحكمة المصرحة بأنه خلق من مخلوقات الله وعبد ورسول من رسل الله. وقوله تعالى:(8/341)
فَأَوَلئِكَ الّذِينَ سَمّاهُمْ الله فَاحْذَرُوهُمْ" .
ـــــــ
{وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ} أي تحريفه على ما يريدون. وقوله تعالى: {وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ} اختلف القراء في الوقف ههنا فقيل على الجلالة وهو قول ابن عباس ويروى هذا القول عن عائشة وعروة وأبي الشعثاء وأبي نهيك وغيرهم واختار ابن جرير هذا القول، ومنهم من يقف على قوله والراسخون في العلم، وتبعهم كثير من المفسرين وأهل الأصول وقالوا الخطاب بما لا يفهم بعيد. ومن العلماء من فصل في هذا المقام وقال التأويل يطلق ويراد به في القرآن معنيان أحدهما التأويل بمعنى حقيقة الشيء وما يؤول أمره إليه ومنه قوله تعالى: {وَقَالَ يَا أَبَتِ هَذَا تَأْوِيلُ رُؤْيايَ مِنْ قَبْلُ} فإن أريد بالتأويل هذا فالوقف على الجلالة لأن حقائق الأمور وكنهها لا يعلمه على الجلية إلا الله عز وجل، ويكون قوله {وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ} مبتدأ {يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ} خبره. وأما إن أريد بالتأويل المعنى الآخر وهو التفسير والبيان والتعبير عن الشيء كقوله {نَبِّئْنَا بِتَأْوِيلِهِ} أي بتفسيره فإن أريد به المعنى فالوقف على {وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ} لأنهم يعلمون ويفهمون ما خوطبوا به بهذا الاعتبار وإن لم يحيطوا علماً بحقائق الأشياء على كنه ما هي عليه. وعلى هذا فيكون قوله {يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ} حال منهم وساغ هذا وأن يكون من المعطوف دون المعطوف عليه كقوله تعالى: {وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفّاً صَفّاً} أي وجاء الملائكة صفوفاً صفوفاً، وقوله إخباراً عنهم أنهم يقولون آمناً به أي المتشابه. وقوله {كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا} أي الجميع من المحكم والمتشابه حق وصدق وكل منهما يصدق الآخر ويشهد له لأن الجميع من عند الله وليس شيء من عند الله بمختلف ولا متضاد "فأولئك الذين سماهم الله" أي أهل الزيغ أو زائغين بقوله في قلوبهم زيغ "فاحذروهم" أي لا تجالسوهم ولا تكالموهم أيها المسلمون. والمقصود التحذير من الإصغاء إلى الذين يتبعون المتشابه من القرآن. وأول ما ظهر ذلك من اليهود كما ذكره ابن إسحاق في تأويلهم الحروف المقطعة وأن عددها بالجمل مقدار مدة هذه الأمة، ثم أول ما ظهر في الإسلام من الخوارج حتى جاء عن ابن عباس أنه فسر بهم الآية، وقصة عمر في إنكاره على ضبيع لما بلغه أنه يتبع المتشابه فضربه على رأسه حتى أدماه أخرجها الدارمي وغيره.(8/342)
هذا حديثٌ حسنٌ صحيحٌ. ورُوِيَ عن أيّوبَ عن ابنِ أبي مُلَيْكَةَ عن عَائِشَةَ.
4078- حدثنا مُحَمّدُ بنُ بَشّارٍ أخبرنا أبُو دَاودَ الطّيَالِسِيّ أخبرنا أبُو عَامِرٍ وَهُوَ الْخَزّازُ ويَزِيدُ بنُ إبْرَاهِيمَ كِلاَهُمَا عن ابنِ أبي مُلَيْكَةَ، قَالَ يَزِيدُ عن ابنِ أبي مُلَيْكَةَ عن القَاسِمِ بنِ مُحَمّدٍ عن عَائِشَةَ، وَلمْ يُذْكُرْ أبُو عَامِرٍ القَاسِمَ قالَتْ: "سَأَلْتُ رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم عن قَوْلِهِ {فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ} قَالَ: "فَإِذَا رَأَيْتيهِمْ فَاعْرِفِيهِمْ" ، وَقَالَ يَزِيدُ: فَإِذَا رَأَيْتُمُوهُمْ فَاعْرِفُوهُمْ، قَالَهَا مَرّتَيْنِ أوْ ثَلاَثاً" .
هذا حديثٌ حسنٌ صحيحٌ. هَكَذَا رَوَى غَيْرُ وَاحِدٍ هَذَا الحَدِيثَ عن ابنِ أبي مُلَيكَةَ عن عَائِشَةَ، وَلَمْ يُذْكُرُوا فِيهِ عن القَاسِمِ بنِ محَمّدٍ وَإِنّمَا ذَكَرَ يَزِيدُ بنُ إبْرَاهِيمَ التستري عن الْقَاسِمِ بنِ مُحمّدٍ في هذا الْحَدِيثِ.
ـــــــ
قوله: "هذا حديث حسن صحيح" وأخرجه أحمد والبخاري ومسلم وأبو داود وابن ماجه.
قوله: "أخبرنا أبو عامر وهو الخزّاز" بمعجمات اسمه صالح بن رستم "ويزيد ابن إبراهيم" هو التستري
قوله: "فإذا رأيتيهم فاعرفيهم" أي واحذريهم خطاب لأم المؤمنين عائشة رضي الله عنها "وقال يزيد" أي في روايته "فإذا رأيتموهم فاعرفوهم" أي بصيغة الجمع المذكر المخاطب "قالها" أي قال رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه الكلمة.
قوله: "وإنما ذكره يزيد بن إبراهيم عن القاسم بن محمد في هذا الحديث"(8/343)
وَابْنُ أبي مُلَيْكَةَ هُوَ عَبْدُ الله بنُ عُبَيْدِ الله بنِ أبي مُلَيْكَةَ سَمِعَ مِنْ عَائِشَةَ أيْضاً.
4079- حدثنا مَحمُودُ بنُ غَيْلاَنَ حدثنا أبُو أحْمَدَ أخبرنا سُفْيَانُ عن أبِيهِ عن أبي الضّحَى عن مَسْروقٍ عن عَبْدِ الله قالَ: قَالَ رَسولُ الله صلى الله عليه وسلم: "إنّ لِكُلّ نَبِيّ وُلاَةً مِنَ النّبِييّنَ، وَإِنّ وَليّي أبي وخَلِيلُ رَبّي، ثمّ قَرَأَ {إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهَذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ} " .
ـــــــ
قال الحافظ في الفتح بعد نقل كلام الترمذي هذا: قد أخرجه ابن أبي حاتم من طريق أبي الوليد الطيالسي عن يزيد بن إبراهيم وحماد بن سلمة جميعاً عن ابن أبي مليكة عن القاسم فلم ينفرد يزيد بزيادة القاسم انتهى.
قوله: "أخبرنا أبو أحمد" هو الزبيري "أخبرنا سفيان" هو الثوري "عن أبيه" اسمه سعيد بن مسروق "عن أبي الضحى" اسمه مسلم بن صبيح بالتصغير الهمداني الكوفي العطار مشهور بكنيته ثقة فاضل من الرابعة "عن عبد الله" أي ابن مسعود.
قوله: "إن لكل نبي ولاة" بضم الواو جمع ولي. قال التوربشتي أي أحباء وقرناءهم أولى به من غيرهم "من النبيين" حال من الولاة أي كائنين من النبيين "وإن ولي أبي" يعني إبراهيم عليه السلام وقد بينه بقوله "وخليل ربي" خبر بعد خبر لأن "ثم قرأ" أي استشهاداً {إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ} أي أحقهم به {لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ} أي في زمانه {وَهَذَا النَّبِيُّ} محمد لموافقته له في أكثر شرعه {وَالَّذِينَ آمَنُوا} أي من أمته فهم الذين ينبغي أن يقولوا نحن على دينه لا أنتم {وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ} أي ناصرهم وحافظهم.
فإن قلت: لزم من قوله: لكل نبي ولاة أن يكون لكل واحد منهم أولياء متعددة.(8/344)
4080- حدثنا مَحمودُ أخبرنا أبو نُعَيْمِ أخبرنا سُفْيَانُ عن أبِيهِ عن أبي الضّحَى عن عبدِ الله عَن النبيّ صلى الله عليه وسلم مِثْلَهُ وَلَمْ يَقُلْ فِيهِ عن مَسْروق. هذا أصَحّ مِنْ حَدِيثِ أبي الضّحَى عَن مَسرُوقٍ. وَأَبُو الضّحَى اسْمُهُ مُسْلِمُ بْنُ صُبَيْحٍ.
4081- حدثنا أبُو كُرَيْبِ أخبرنا وَكِيعٌ عَن سُفْيَانَ عَن أبِيهِ عَن أبي الضّحَى عَن عَبْدِ الله عَن النّبيّ صلى الله عليه وسلم نَحْوَ حَدِيثِ أبي نُعَيْمٍ وَلَيْسَ فِيهِ عن مَسْرُوق.
4082- حدثنا هَنّادٌ أخبرنا أبو مُعَاوِيَةَ عن الأعْمَشِ عَن شَقِيقِ بنِ سَلَمَةَ عن عَبْدِ الله قالَ: قالَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم: "مَنْ حَلَفَ عَلَى يَمِينِ وَهُوَ فِيهَا فَاجِرٌ لِيَقْتَطِعَ بِهَا مَالَ امرئ مُسْلِمٍ، لَقِيَ الله وَهُوَ عَلَيْهِ غَضْبَانُ" فَقَالَ الأشْعَثُ بنُ قَيْسٍ: فِيّ والله كَانَ ذَلِكَ، كَانَ بَيْنِي
ـــــــ
قلت: لا لأن النكرة إذا وقعت في مكان الجمع أفادت الاستغراق أي أن لكل نبي واحد واحد واحداً واحداً.
قوله: "أخبرنا أبو نعيم" اسمه الفضل بن دكين. وحديث أبي الضحى عن عبد الله هذا أخرجه أيضاً أحمد والبزار.
قوله: "عن عبد الله" أي ابن مسعود رضي الله عنه "من حلف على يمين" المراد باليمين هنا المحلوف عليه مجازاً "وهو فيها فاجر" أي كاذب والجملة حالية "ليقتطع بها مال امرئ مسلم" أي ليفصل قطعة من ماله ويأخذها بتلك اليمين "لقي الله" أي يوم القيامة "وهو عليه غضبان" أي يعرض عنه ولا ينظر إليه بعين الرحمة والعناية وغضبان غير منصرف وهو صيغة مبالغة قاله القاري.
قلت: لا حاجة إلى هذا التأويل والصحيح أن لفظ غضبان محمول على ظاهره وكيفية غضبه تعالى موكولة إليه "في" بتشديد الياء المفتوحة أي في شأني وحالي(8/345)
وَبَيْنَ رَجُلٍ مِنَ اليَهُودِ أرْضٌ فَجَحَدَنِي فَقَدّمْتُهُ إلى النّبيّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ لِي رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم: "أَلَكَ بَيّنَةٌ؟" قلت: لاَ، فَقَالَ لِلْيَهُودِيّ: "احْلِفْ" ، فَقلت: يَا رَسُولَ الله، إذَنْ يَحْلِفُ فَيَذْهَبُ بِمَالي، فَأَنْزَلَ الله تَبَارَكَ وَتَعَالَى: {إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَناً قَلِيلاً} إلى آخِرِ الآية".
هذا حديثٌ حسنٌ صحيحٌ. وفي البابِ عن ابن أبي أوْفَى.
ـــــــ
"كان ذلك" أي قوله صلى الله عليه وسلم من حلف على يمين الخ "كان بيني وبين رجل من اليهود أرض" أي متنازع فيها "فجحدني" أي أنكر على "فقدمته" بالتشديد أي جئت به ورفعت أمره "ألك بينة" أي شهود "فقال لليهودي احلف" في شرح السنة فيه دليل على أن الكافر يحلف في الخصومات كما يحلف المسلم "وإذن" بالنون "يحلف" بالنصب فأنزل الله تبارك وتعالى {إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَناً قَلِيلاً} إلى آخر الآية قال الطيبي: فإن قلت كيف يطابق نزول هذه الآية قوله: إذن يحلف فيذهب بمالي؟ قلت: فيه وجهان: أحدهما - كأنه قيل للأشعث: ليس لك عليه إلا الحلف فإن كذب فعليه وباله. وثانيهما - لعل الآية تذكار لليهودي بمثلها في التوراة من الوعيد. والاَية بتمامها مع تفسيرها هكذا إن الذين يشترون يستبد لون بعهد الله إليهم بالإيمان بالنبي صلى الله عليه وسلم وأداء الأمانة وأيمانهم حلفهم به تعالى كاذباً ثمناً قليلاً من الدنيا أولئك لا خلاق نصيب لهم في الآخرة ولا يكلمهم الله غضباً عليهم ولا ينظر إليهم يرحمهم يوم القيامة ولا يزكيهم يطهرهم ولهم عذاب أليم مؤلم.
قوله: "هذا حديث صحيح" وأخرجه أحمد والشيخان وأبو داود والنسائي وابن ماجه.
قوله: "وفي الباب عن ابن أبي أوفى" أخرجه البخاري عنه أن رجلاً أقام سلعة في السوق فحلف بها لقد أعطى بها ما لم يعطه ليوقع فيها رجلاً من المسلمين فنزلت {إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَناً قَلِيلاً} إلى آخر الآية.(8/346)
4083- حدثنا إسْحَاقُ بنُ مَنْصُورٍ أخبرنا عَبْدُ الله بنُ بَكْرٍ السّهْمِيّ أخبرنا حُمَيْدٌ عن أنَسٍ قالَ: "لَمّا نَزَلَتْ هَذِهِ الآية {لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ} أوْ {مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً} قالَ أبُو طَلْحَةَ، وَكَانَ لَهُ حَائِطٌ: فقال يَا رَسُولَ الله حَائِطي لله وَلَوْ اسْتَطَعْتُ أنْ أُسِرّهُ لَمْ أُعْلِنْهُ، فَقَالَ: "اجْعَلْهُ فِي قَرَبَتِكَ أو أقْرَابِيْكَ" .
هذا حديثٌ حسنٌ صحيحٌ. وَقَدْ رَوَاهُ مَالِكُ بنُ أنَسٍ عن إسْحَاقَ بنِ عَبْدِ الله بنِ أبي طَلْحَةَ عن أنَسِ بنِ مَالِكٍ.
ـــــــ
قال الحافظ: لا منافاة بين حديث عبد الله بن أبي أوفى وحديث عبد الله بن مسعود ويحمل على أن النزول كان بالسببين جميعاً ولفظ الآية أعم من ذلك، ولهذا وقع في صدر حديث عبد الله بن مسعود ما يقتضي ذلك.
قوله: "حدثنا إسحاق بن منصور" هو الكوسج "أخبرنا عبد الله بن بكر السهمي" الباهلي أبو وهب البصري نزيل بغداد امتنع من القضاء ثقة حافظ من التاسعة.
قوله: {لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ} أي ثوابه وهو الجنة {حَتَّى تُنْفِقُوا} أي تصدقوا {مِمَّا تُحِبُّونَ} من أموالكم أو للشك من الراوي {مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ} بإنفاق ماله في سبيل الله {قَرْضاً حَسَناً} بأنه ينفقه لله تعالى عن طيب قلب "وكان له حائط" جملة حالية والحائط البستان من النخيل إذا كان عليه حائط وهو الجدار، وكان اسم هذا الحائط بيرحاء وكان هو من أحب أمواله إليه "حائطي لله" أي وقف لله أو صدقة لله "ولو استطعت أن أسره" من الإسرار أي لو قدرت على إخفاء هذا التصدق "لم أعلنه" أي لم أظهره "فقال اجعله في قرابتك أو أقربيك" الظاهر أن أو للشك، وفي رواية الشيخين: وإني أرى أن تجعلها في الأقربين.
قوله: "هذا حديث حسن صحيح" وأخرجه مالك وأحمد والشيخان وأبو داود والنسائي وغيرهم.(8/347)
4084- حدثنا عَبْدُ بنُ حُمَيْدٍ أخبرنا عَبْدُ الرّزّاقِ أخبرنا إبْرَاهِيمُ بنُ يَزِيدَ قالَ: سَمِعْتُ محمّدَ بنَ عَبّادِ بنِ جَعْفَرٍ المخزومي يُحَدّثُ عن ابنِ عُمَرَ قالَ: "قَامَ رَجُلٌ إلى النّبيّ صلى الله عليه وسلم، فقَالَ: مَنْ الحَاجّ يَا رَسُولَ الله؟ قالَ: "الشّعِثُ التّفِلُ" ، فَقَامَ رَجُلٌ آخَرُ، فَقَالَ: أيّ الْحَجّ أفْضَلُ يَا رَسُول الله؟ قالَ: "العَجّ وَالثّجّ،" فَقَامَ رَجُلٌ آخَرُ، فَقَالَ: مَا السّبِيلُ يَا رَسُولَ الله؟ قالَ: "الزّادُ والرَاحِلَةُ" .
ـــــــ
قوله: "أخبرنا إبراهيم بن يزيد" الخوزي بضم المعجمة وبالزاي أبو إسماعيل المكي مولى بني أمية مبروك الحديث من السابعة "سمعت محمد بن عباد بن جعفر" هو المخزومي.
قوله: "قام رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال من الحاج" أي الكامل "قال الشعث" بفتح الشين المعجمة وكسر العين المهملة أي المغبر الرأس من عدم الغسل مفرق الشعر من عدم المشط وحاصله تارك الزينة "التفل" بفتح الفوقية وكسر الفاء أي تارك الطيب فيوجد منه رائحة كريهة من تفل الشيء من فيه إذاً رمى به متكرهاً له "فقام رجل آخر فقال أي الحج" أي أعماله أو خصاله بعد أركانه "أفضل" أي أكثر ثواباً "قال العج والثج" بتشديد الجيم فيهما والأول رفع الصوت بالتلبية والثاني سيلان دماء الهدي وقيل دماء الأضاحي. قال الطيبي رحمه الله: ويحتمل أن يكون السؤال عن نفس الحج ويكون المراد ما فيه العج والثج، وقيل على هذا يراد بهما الاستيعاب لأنه ذكر أوله الذي هو الإحرام وآخره الذي هو التحلل بإراقة الدم اقتصاراً بالمبدأ والمنتهي عن سائر الأفعال أي الذي استوعب جميع أعماله من الأركان والمندوبات "فقام رجل آخر فقال ما السبيل" أي المذكور في قوله تعالى: {مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً} "قال الزاد والراحلة" أي بحسب ما يليقان بكل أحد والظاهر أن المعتبر هو الوسط بالنسبة إلى حال الحاج.(8/348)
هذا حديثٌ لاَ نَعْرِفُهُ من حديث ابن عمر إلاّ من حَدِيثِ إبْرَاهِيمَ بنِ يَزِيدَ الخُوْزِيّ المَكيّ. وَقَدْ تَكَلّمَ بَعْضُ أهْلِ الْعِلْمِ فِي إبْرَاهِيمَ بنِ يَزِيدَ مِنْ قِبَلِ حِفْظِهِ.
4085- حدثنا قُتَيْبَةُ أخبرنا حَاتِمُ بنُ إسْمَاعِيلَ عن بُكَيْرِ بنِ مِسْمارٍ هو مدنيّ ثقة عن عَامِرِ بنِ سَعْدٍ بن أبي وقاص عن أبِيهِ قالَ: "لَمّا أنزل إليه هَذِهِ الآية {تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ} الآية دَعَا رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم عَلِيّا وَفَاطِمَةَ وَحَسَناً وَحُسَيْناً، فَقَالَ: "اللّهُمّ هَؤُلاَءِ أهْلِي" .
ـــــــ
قوله: "قوله هذا حديث الخ" وأخرجه البغوي في شرح السنة وابن ماجه في سننه إلا أنه لم يذكر الفصل الأخير، كذا في المشكاة. وقد أخرج الترمذي الفصل الأخير من هذا الحديث من طريق إبراهيم بن يزيد في كتاب الحج وتقدم الكلام عليه هناك مبسوطاً.
قوله: "عن بكير" بضم الموحدة مصغراً "بن مسمار" بكسر الميم وسكون السين المهملة الزهري المدني كنيته أبو محمد صدوق من الرابعة "عن أبيه" هو سعد بن أبي وقاص.
قوله: "قال لما نزلت هذه الآية" أي المسماة بآية المباهلة {نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ} الخ الآية بتمامها مع تفسيرها هكذا فمن حاجك فيه أي فمن جادلك في عيسى وقيل في الحق {بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ} يعني بأن عيسى عبد الله ورسوله { فَقُلْ تَعَالَوْا} أي هلموا ندع أبناءنا وأبناءكم أي يدع كل منا ومنكم أبناءه ونساءنا ونساءكم وأنفسنا وأنفسكم ثم نبتهل أي نتضرع في الدعاء فنجعل لعنة الله على الكاذبين بأن تقول اللهم العن الكاذب في شأن عيسى "دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم علياً" فنزله منزلة نفسه لما بينهما من القرابة والأخوة "وفاطمة" أي لأنها أخص النساء. من أقاربه "وحسناً وحسيناً" فنزلهما بمنزلة ابنيه صلى الله عليه وسلم "فقال اللهم هؤلاء أهلي".(8/349)
هذا حديثٌ حسنٌ غريبٌ صحيحٌ.
ـــــــ
قال المفسرون: لما أورد رسول الله صلى الله عليه وسلم الدلائل على نصارى نجران ثم أنهم أصروا على جهلهم قال صلى الله عليه وسلم: "إن الله أمرني إن لم تقبلوا الحجة أن أباهلكم. فقالوا يا أبا القاسم بل نرجع فننظر في أمرنا ثم نأتيك، فلما رجعوا قالوا للعاقب. وكان ذا رأيهم يا عبد المسيح ما ترى؟ قال: والله لقد عرفتم يا معشر النصارى أن محمداً نبي مرسل، ولقد جاءكم بالكلام الفصل من أمر صاحبكم، والله ما باهل قوم نبياً قط فعاش كبيرهم، ولا نبت صغيرهم، ولئن فعلتم لكان الاستئصال، فإن أبيتم إلا الإصرار على دينكم والإقامة على ما أنتم عليه فوادعوا الرجل وانصرفوا إلى بلادكم، فأتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد خرج وعليه صلى الله عليه وسلم مرط من شعر أسود، وكان صلى الله عليه وسلم قد احتضن الحسين وأخذ بيد الحسن وفاطمة تمشي خلفه صلى الله عليه وسلم وعلى رضي الله عنه خلفها وهو يقول: إذا دعوت فأمنوا. فقال أسقف نجران يا معشر النصارى إني لأرى وجوهاً لو دعت الله أن يزيل جبلاً من مكانه لأزاله بها فلا تباهلوا فتهلكوا ولا نبقى على وجه الأرض نصراني إلى يوم القيامة. ثم قالوا يا أبا القاسم: رأينا أن لا نباهلك، وأن نقرك على دينك، فقال صلى الله عليه وسلم: فإذا أبيتم المباهلة فأسلموا يكن لكم ما للمسلمين وعليكم ما على المسلمين، فأبو فقال صلى الله عليه وسلم فإني أناجزكم فقالوا ما لنا بحرب العرب المسلمين طاقة، ولكن نصالحك أن لا تغزونا ولا تردنا عن ديننا على أن نؤدي إليك كل عام ألفي حلة، ألفاً في صفر، وألفاً في رجب، وثلاثين درعاً عادية من حديد، فصالحهم على ذلك. قال صلى الله عليه وسلم. والذي نفسي بيده إن الهلاك قد تدلى على أهل نجران ولو لاعنوا لمسخوا قردة وخنازير ولأُضطرم عليهم الوادي ناراً ولاستأصل الله نجران وأهله حتى الطير على رؤوس الشجر ولما حال الحول على النصارى كلهم حتى يهلكوا.
قوله: "هذا حديث حسن غريب صحيح" وأخرجه مسلم مطولاً، وكذا أخرجه الترمذي مطولاً في مناقب علي.(8/350)
4086- حدثنا أبُو كُرَيبِ أخبرنا وَكِيعٌ عن الرَبِيعٍ بنُ صَبِيحٍ وَحَمّادُ بنُ سَلَمَةَ عن أبي غَالِبٍ، قالَ: رأى أبُو أُمَامَةَ رُؤُوساً مَنْصُوبَةً عَلَى دَرَجِ مسجد دِمَشْقَ، فَقَالَ أَبُو أُمَامَةَ: كِلاَبُ النّارِ شَرّ قَتْلَى تَحْتَ أدِيمِ السّمَاءِ خَيْرُ قَتْلَى مَنْ قَتَلُوهُ، ثمّ قَرَأَ: {يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ} إلى آخِرِ الآية. قُلْتُ لأبِي أُمَامَةَ: أنْتَ سمِعْتَهُ مِنْ رَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم؟ قالَ: لَوْ لَمْ أسْمَعْهُ إلاّ مَرّةً أوْ مَرّتَيْنِ أوْ ثَلاَثاً أوْ أرْبَعَا حَتّى عَدّ سَبْعاً مَا حَدّثْتُكُمُوهُ".
ـــــــ
قوله: "وهو ابن صبيح" بفتح الصاد المهملة. السعدي البصري صدوق سيء الحفظ، وكان عابداً مجاهداً.
قوله: "رأى أبو أمامة رؤوساً" جمع رأس "منصوبة على درج دمشق" أي على درج مسجد دمشق، الدرج الطريق وجمعه الأدراج، والدرجة المرقاة وجمعه الدرج، وهو المراد هنا. أي رأى أبو أمامة رؤوس المقتولين من الخوارج رفعت على درج دمشق "كلاب النار" خبر مبتدأ محذوف، أي أصحاب هذا الرؤوس كلاب النار "شر قتلى تحت أديم السماء" خبر آخر للمبتدأ المحذوف وخبر قتلى مبتدأ "وقتلوه" خبره والضمير المرفوع في قتلوه راجع إلى أصحاب الرؤوس، والمنصوب إلى من "ثم قرأ" أي أبو أمامة {يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ} إلى آخر الآية، أي {فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ أَكَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ وَأَمَّا الَّذِينَ ابْيَضَّتْ وُجُوهُهُمْ فَفِي رَحْمَةِ اللَّهِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} .
قال في المجمع: أراد بالاَية "فأما الذين أسودت وجوههم وأراد به الخوارج وقيل هم المرتدون. وقيل المبتدعون".
قلت: قائله أبو غالب "أنت سمعته" بتقدير حرف الاستفهام، أي هل أنت سمعته "ما حدثتكموه" أي بل سمعته أكثر من سبع مرات وليس لي في سماعه منه صلى الله عليه وسلم شك أصلاً فلذلك حدثتكموه.(8/351)
هذا حديثٌ حسنٌ. وَأَبُو غَالِبٍ يقال اسْمُهُ حَزّورُ. وَأَبُو أُمَامَةَ الْبَاهِلِيّ اسْمُهُ صُدَيّ بنُ عَجْلاَنَ وَهُوَ سَيّدُ بَاهِلةَ.
4087- حدثنا عَبْدُ بنُ حُمَيْدٍ أخبرنا عَبْدُ الرّزّاقِ عن مَعْمَرٍ عن بَهْزِ بنِ حَكِيمٍ عن أبِيهِ عن جَدّهِ: "أنّهُ سَمِعَ النبيّ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ} قالَ إنّكُمْ تُتِمّونَ سَبْعِينَ أُمّةً أَنْتُمْ خَيْرُهَا وَأَكْرَمُهَا عَلَى الله" .
ـــــــ
قوله: "هذا حديث حسن" وأخرجه أحمد وابن ماجه ولفظ ابن ماجه، هكذا شر قتلى قتلوا تحت أديم السماء، وخير قتلى من قتلوا كلاب النار، قد كان هؤلاء مسلمين فصاروا كفاراً. قلت: يا أبا أمامة هذا شيء تقوله؟ قال بل سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولفظ أحمد: لما أتى برؤوس الأزارقة فنصبت على درج دمشق جاء أبو أمامة فلما رآهم دمعت عيناه، فقال كلاب النار ثلاث مرات هؤلاء شر قتلى قتلوا تحت أديم السماء، وخير قتلى قتلوا تحت أديم السماء الذين قتلهم هؤلاء، قال فقلت: فما شأنك دمعت عيناك، قال رحمة لهم إنهم كانوا من أهل الإسلام الحديث والأزارقة من الخوارج نسبوا إلى نافع بن الأزرق كذا في القاموس وفي رواية لأحمد، جيء برؤوس من قبل العراق فنصبت عند باب المسجد وجاء أبو أمامة فدخل المسجد فركع ركعتين ثم خرج إليهم فنظر إليهم فرفع رأسه، فقال: شر قتلى الحديث "وأبو غالب اسمه حزور" بفتح الحاء المهملة والزاي وتشديد الواو وآخره راء "وأبو أمامة الباهلي اسمه صدي" بالتصغير صحابي مشهور سكن الشام ومات بها سنة ست وثمانين.
قوله: "في قوله تعالى" أي في تفسير قوله تعالى: {كُنْتُمْ} يا أمة محمد في علم الله تعالى: {خَيْرَ أُمَّةٍ} أي خير الأمم {أُخْرِجَتْ} ، أي أظهرت "قال"، أي النبي صلى الله عليه وسلم "إنكم تتمون" بضم فكسر فتشديد من الإتمام، أي تكملون "سبعين أمة" أي يتم العدد بكم سبعين، ويحتمل أنه للتكثير قاله المناوي، فقال الطيبي: المراد بسبعين التكثير لا التحديد ليناسب إضافة الخير إلى المفرد النكرة(8/352)
هذا حديثٌ حسنٌ. وَقَدْ رَوَى غَيْرُ وَاحِدٍ هَذَا الْحَدِيثَ عن بَهْزِ بنِ حَكِيمٍ نَحْوَ هَذَا وَلَمْ يَذْكُرُوا فِيهِ {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنّاسِ} ".
ـــــــ
لأنه لاستغراق الأمم الفائتة للحصر باعتبار أفرادها، أي إذا نقصت أمة أمة من الأمم كنتم خيرها وتتمون علة للخيرية لأن المراد به الختم، فكما أن نبيكم خاتم الأنبياء أنتم خاتم الأمم انتهى. وفي الحديث دلالة على أن المراد بقوله تعالى: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ} أمة النبي صلى الله عليه وسلم عامة.
قال الحافظ ابن كثير: يخبر تعالى عن هذه الأمة المحمدية بأنهم خير الأمم. فقال تعالى {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنّاسِ} روى البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنّاسِ} قال: خير الناس للناس تأتون بهم في السلاسل في أعناقهم حتى يدخلوا في الإسلام. وهكذا قال ابن عباس ومجاهد وعطيه العوفي وعكرمة وعطاء الربيع بن أنس {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ} يعني خير الناس للناس، والمعنى أنهم خير الأمم وأنفع الناس للناس، ولهذا قال: {تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ} وروى أحمد، في مسنده والنسائي في سننه، والحاكم في مستدركه عن ابن عباس في قوله تعالى: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ} قال هم الذين هاجروا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم من مكة إلى المدينة. والصحيح أن هذه الآية عامة في جميع الأمة كل قرن بحسبه وخير قرونهم الذين بعث فيهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم كما قال في الآية الآخرى {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً} أي خياراً {لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ} الآية إنما حازت هذه الأمة قصب السبق إلى الخيرات بنبيها محمد صلوات الله عليه وسلامه، فإنه أشرف خلق الله وأكرم الرسل على الله، وبعثه الله بشرع كامل عظيم لم يعطه نبي قبله ولا رسول من الرسل فالعمل على منهاجه وسبيله يقوم القليل منه ما لا يقوم العمل الكثير من أعمال غيرهم مقامه، انتهى كلام الحافظ ابن كثير ملخصاً.
قوله: "هذا حديث حسن" وأخرجه أحمد وابن ماجه والدارمي والطبراني والحاكم. قال الحافظ: هو حديث مشهور وقد حسنه الترمذي، ويروى من حديث معاذ بن جبل وأبي سعيد نحوه.(8/353)
4088- حدثنا أَحْمَدُ بنُ مَنِيعٍ أخبرنا هُشَيْمٌ أخبرنا حُمَيْدٌ عن أنَسٍ "أنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم كُسِرَتْ رَبَاعِيتُهُ يَوْمَ أُحُدٍ وَشُجّ وَجْهُهُ شَجّةً فِي جَبْهَتِهِ حَتّى سَالَ الدّمُ عَلَى وَجْهِهِ، فَقَالَ: "كَيْفَ يُفْلِحُ قَوْمُ فَعَلُوا هَذَا بَنَبِيّهِمْ وَهُوَ يَدْعُوهُمْ إلى الله؟ فَنَزَلَتْ: {لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ} إلى آخِرِهَا.
ـــــــ
قوله: "كسرت" بصيغة المجهول "رباعيته" قال في القاموس الرباعية كثمانية السن التي بين الثنية والناب. وقال الحافظ في الفتح: المراد بكسر الرباعية وهي السن التي بين الثنية والناب، أنها كسرت فذهب منها فلقة ولم تقلع من أصلها "وشج" على البناء للمفعول، والشج ضرب الرأس خاصة وجرحه وشقه، ثم استعمل في غيره "وهو يدعوهم إلى الله" جملة حالية "فنزلت ليس لك الخ" هذا الحديث يدل على أن هذه الآية نزلت يوم أحد، حين شج وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم. وقال كيف يفلح قوم فعلوا هذا بنبيهم. وروى البخاري وغيره عن ابن عمر. أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم، إذا رفع رأسه من الركوع من الركعة الآخرة من الفجر يقول: " اللهم العن فلاناً فلاناً وفلان" بعد ما يقول سمع الله لمن حمده ربنا ولك الحمد، فأنزل الله "ليس لك إلخ" وحديث ابن عمر هذا يدل على أن الآية نزلت في منع اللعن على الكفار في قنوت الفجر.
قال الحافظ: يحتمل أن تكون نزلت في الأمرين جميعاً فإنهما كانا في قصة واحدة، قال ووقع في رواية يونس عن الزهري عن سعيد وأبي سلمة عن أبي هريرة نحو حديث ابن عمر لكن فيه، اللهم العن لحيان ورعلا وذكوان وعصية قال: ثم بلغنا أنه ترك ذلك لما نزلت {لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ} قال وهذا إن كان محفوظاً احتمل أن يكون نزول الآية تراخى عن قصة أحد لأن قصة رعل وذكوان كانت بعدها وفيه بعد، والصواب أنها نزلت في شأن الذين دعا عليهم بسبب قصة أحد انتهى كلام الحافظ. وقوله تعالى: {لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ} أي لست تملك إصلاحهم ولا تعذيبهم بل ذلك ملك الله فاصبر {أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ} بالإسلام {أَوْ يُعَذِّبَهُمْ} بالقتل والأسر والنهب {فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ} بالكفر. والمعنى(8/354)
هذا حديثٌ حسنٌ صحيحٌ.
4089- حدثنا أحْمدُ بنُ مَنِيعٍ وَعَبْدُ بن حُمَيْدٍ قالاَ أخبرنا يَزِيدُ بنُ هَارُونَ أخبرنا حُمَيْدٌ عن أنَسٍ "أنّ رَسولَ الله صلى الله عليه وسلم شُجّ في وَجْهِهِ وَكُسِرَتْ رَبَاعِيّتُهُ وَرُمِيَ رَمْيَةً عَلَى كَتِفِهِ فَجَعَلَ الدّمُ يَسِيلُ عَلَى وَجْهِهِ وَهُوَ يَمْسَحُهُ وَيَقُولُ "كَيْفَ تُفْلِحُ أُمّةٌ فَعَلُوا هَذَا بِنَبِيّهِمْ وَهُوَ يَدْعُوهُمْ إلى الله؟ " فَأَنَزَلُ الله تَبَارَكَ وَتَعَالَى {لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ} . سَمِعْتُ عَبْدَ بنَ حُمَيْدٍ يَقُولُ: غَلَطَ يَزِيدُ بنُ هَارُونَ فِي هَذَا.
هذا حديثٌ حسنٌ صحيحٌ.
4090- حدثنا أبُو السّائِبِ سَلْمُ بنُ جُنَادَةَ بنِ سَلْمٍ الكُوفِيّ أخبرنا أحْمَدُ بنُ بَشِيرٍ عن عُمَرَ بنِ حَمْزَةَ عن سَالِمِ بنِ عَبْدِ الله بنِ عُمَرَ عن أبِيهِ
ـــــــ
أن الله مالك أمرهم يضنع بهم ما يشاء من الإهلاك أو الهزيمة أو التوبة إن أسلموا أو العذاب إن أصروا على الكفر. قال الفراء: أو بمعنى إلا والمعنى إلا أن يتوب عليهم فتفرح بذلك أو يعذبهم فتشتفي بهم. وقال السيوطي أو بمعنى إلى أن يعني غاية في الصبر، أي إلى أن يتوب عليهم.
قوله: "هذا حديث حسن صحيح" وأخرجه أحمد ومسلم والنسائي.
قوله: "سمعت عبد بن حميد يقول: غلط يزيد بن هارون في هذا" أي في هذا الحديث، والظاهر أنه غلط في قوله: ورمى رمية على كتفه.
قوله: "أخبرنا أحمد بشير" المخزومي مولى عمرو بن حريث أبو بكر الكوفي ووقع في النسخة الأحمدية أحمد بن بشر وهو غلط "عن عمر بن حمزة بن عبد الله ابن عمر بن الخطاب العمري المدني ضعيف من السادسة".(8/355)
قالَ: قالَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم يَوْمَ أُحُدٍ "اللّهُمّ الْعَنْ أبَا سُفْيَانَ اللّهُمّ الْعَنْ الْحَارِثَ بنَ هِشَامٍ، اللّهُمّ الْعَنْ صَفْوَانَ بنَ أُمَيّةَ، قالَ فَنَزَلَتْ {لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ} فَتَابَ الله عَلَيْهِمْ فَأَسْلَمُوا فَحَسُنَ إسْلاَمُهُمْ".
هذا حديثٌ حسنٌ غريبٌ يُسْتَغْرَبُ مِنْ حَدِيثِ عُمَرَ بنِ حَمْزَةَ عن سَالِمٍ وكذا رَوَاهُ الزّهْرِيّ عن سَالِمٍ عن أبِيهِ.
4091- حدثنا يَحْيى بنُ حَبِيبِ بنِ عَرَبيّ البَصْرِيّ أخبرنا خَالِدُ بنُ الْحَارِثِ عن مُحَمّدِ بنِ عَجْلاَنَ عن نَافِعٍ عن عَبْدِ الله بنِ عُمَرَ: "أنّ رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم كَانَ يَدْعُوا عَلَى أرْبَعَةِ نَفَرٍ فَأَنْزَلَ الله تَبَارَكَ
ـــــــ
قوله: "اللهم العن أبا سفيان" اسمه صخر بن حرب بن أمية بن عبد شمس بن عبد مناف الأموي والد معاوية وأخوته، كان رئيس المشركين يوم أحد ورئيس الأحزاب يوم الخندق، أسلم زمن الفتح ولقي النبي صلى الله عليه وسلم بالطريق قبل دخول مكة وشهد حنيناً والطائف "اللهم العن الحارث بن هشام" بن المغيرة القرشي المخزومي شهد بدراً كافراً مع أخيه شقيقه أبي جهل وفر حينئذ وقتل أخوه. ثم غزا أحداً مع المشركين أيضاً، ثم أسلم يوم الفتح وحسن إسلامه. وكان من فضلاء الصحابة وخيارهم، ثم خرج إلى الشام مجاهداً ولم يزل في الجهاد حتى مات في طاعون عمواس سنة ثماني عشر. " اللهم العن صفوان بن أمية" بن خلف الجمحي القرشي هرب يوم الفتح، ثم رجع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فشهد معه حنيناً والطائف وهو كافر، ثم أسلم بعد ذلك، وكان من المؤلفة، وشهد اليرموك.
قوله: "هذا حديث حسن غريب" وأخرجه أحمد في مسنده وكذا رواه الزهري عن سالم عن أبيه وقع في بعض نسخ الترمذي بعد هذا هذه العبارة: لم يعرفه محمد بن إسماعيل من حديث عمر بن حمزة وعرفه من حديث الزهري.(8/356)
وَتَعَالَى: {لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ} فَهَدَاهُمْ الله لِلاْسْلاَمِ".
هذا حديثٌ حسنٌ غريبٌ صحيحٌ يُسْتَغْرَبُ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ مِنْ حَدِيثِ نَافِعٍ عن ابنِ عُمَرَ. وَرَوَاهُ يَحْيَى بنُ أَيّوبَ عن ابنِ عَجْلاَنَ.
4092- حدثنا قُتَيْبَةُ أخبرنا أَبُو عَوَانَةَ عن عُثْمَانَ بنِ المُغِيرَةِ عن عَلِيّ بنِ رَبِيعَةَ عن أَسْمَاءَ بنِ الْحَكَمِ الفَزَارِيّ قالَ: "سَمِعْتُ عَلِيّا يقول: إِنّي كُنْتُ رَجُلاً إِذَا سَمِعْتُ مِنْ رَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم حَدِيثاً نَفَعَنِي الله مِنْهُ بِمَا شَاءَ أنْ يَنْفَعَنِي، وَإِذَا حَدّثَنِي رَجُلٌ مِنْ أَصْحَابِهِ اسْتَحْلَفْتُهُ فَإِذَا حَلَفَ لِي صَدّقْتُهُ وَإِنّهُ حَدّثَنِي أَبُو بَكْرٍ وَصَدَقَ أَبُو بَكْرٍ قالَ سَمِعْتُ رَسولَ الله صلى الله عليه وسلم يَقُولُ " مَا مِنْ رَجُلٍ يُذْنِبُ ذنباً، ثُمّ يَقُومُ فَيَتَطَهّرُ، ثُمّ يُصَلّي ثُمّ يَسْتَغْفِرُ الله إلاّ غَفَرَ لَهُ، ثُمّ قَرَأَ هَذِهِ الآية: {وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ} إلى آخِرِ الآية". هذا حديثٌ قَدْ رَواهُ شُعْبَةُ وَغَيْرُ وَاحِدٍ عن عُثْمانَ بنِ المُغِيرَةِ فَرَفَعُوهُ وَرَوَاهُ مِسْعَرٌ وَسُفْيَانُ عن عُثْمانَ بنِ المُغِيرَةِ فَلَمْ يَرْفَعَاهُ، وَلاَ نَعَرِفُ لأَسْماءَ إلاّ هَذَا الحديث.
ـــــــ
قوله: "هذا حديث حسن غريب صحيح" حديث محمد بن عجلان عن نافع عن ابن عمر هذا أخرجه أيضاً أحمد في مسنده.
قوله: "يقول إني كنت رجلاً إذا سمعت من رسول الله صلى الله عليه وسلم حديثاً إلخ" تقدم هذا الحديث بإسناده ومتنه في باب الصلاة عند التوبة وتقدم شرحه هناك.(8/357)
4093- حدثنا عَبْدُ بنُ حُمَيْدٍ أخبرنا رَوْحُ بنُ عُبَادَةَ عن حَمّادِ بنِ سَلَمَةَ عن ثَابِتٍ عن أَنَسٍ عن أَبي طَلْحَةَ قالَ: "رَفَعْتُ رَأْسِي يَوْمَ أُحُدٍ فَجَعَلْتُ أَنْظُرُ، وَمَا مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ أَحَدٌ إلاّ يَمِيدُ تَحْتَ حَجَفَتِهِ مِنَ النّعَاسِ فَذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: {ثُمَّ أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ بَعْدِ الْغَمِّ أَمَنَةً نُعَاساً} .
هذا حديثٌ حسنٌ صحيحٌ.
4094- حدثنا عَبْدُ بنُ حُمَيْدٍ أخبرنا رَوْحُ بنُ عُبَادَةَ عن حَمّادٍ بنِ سَلَمَةَ عن هِشَامِ بنِ عُرْوَةَ عن أبِيهِ عن أبى الزّبَيْرِ مِثْلَهُ.
هذا حديثٌ حسنٌ صحيحٌ.
4095- حدثنا يُوسُفُ بنُ حَمّادٍ أخبرنا عَبْدُ الأعْلَى بن عبد الأَعْلَى عن سَعِيدٍ عن قَتَادَةَ عن أَنَسٍ أَنّ أَبَا طَلْحَةَ قالَ: "غُشِيْنَا وَنَحْنُ فِي مَصَافّنَا يَوْمَ
ـــــــ
قوله: "إلا يميد" أي يميل من ماد يميد ميداً وميداناً إذا تحرك وزاغ "تحت حجفته" بفتح الحاء المهملة والجيم أي ترسه. قال في القاموس الحجف محركة التروس من جلود بلا خشب ولا عقب واحدتها حَجَفة "من النعاس" بضم النون، وهو الوسن أو فترة في الحواس {ثُمَّ أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ بَعْدِ الْغَمِّ} أراد به الغم الذي حصل لهم عند الأنهزام "أمنة" الأمنة والأمن سواء، وقيل الأمنة إنما تكون مع بقاء أسباب الخوف والأمن مع عدمه. وكان سبب الخوف بعد باقياً "نعاساً" وهو أخف من النوم بدل كل أو اشتمال.
قوله: "هذا حديث حسن صحيح" وأخرجه النسائي والحاكم.
قوله: "عن أبي الزبير" كذا في النسخة الأحمدية وهو غلط والصحيح عن الزبير بحذف لفظة أبي.
قوله: "هذا حديث حسن صحيح" وأخرجه النسائي.
قوله: "ونحن في مصافنا" المصاف بتشديد الفاء جمع مصف وهو الموقف(8/358)
أُحُدٍ حَدّثَ أَنّهُ كَانَ فِيمَنْ غَشِيَهُ النّعَاسُ يَوْمَئِذٍ قالَ: فَجَعَلَ سَيْفِي يَسْقُطُ مِنْ يَدِي وَآخُذُهُ وَيَسْقُطُ مِنْ يَدِي وَآخُذُهُ وَالطّائِفَةُ الآخرى الْمنَافِقُونَ لَيْسَ لَهُمْ هَمّ إِلاّ أَنْفُسَهُمْ أَجْبَنَ قَوْمٍ وَأَرْغَبَهُ وَأَخْذَلَهُ لِلْحَقّ".
هذا حديثٌ حسنٌ صحيحٌ.
4096- حدثنا قُتَيْبَةُ أخبرنا عَبْدُ الْوَاحِدِ بنُ زِيَادٍ عن خُصَيْفٍ أخبرنا مِقْسَمٌ قالَ: قالَ ابنُ عَبّاسٍ: "نَزَلَتْ هَذِهِ الآية: {وَمَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ} فِي قَطْيفَةٍ حَمْرَاءَ افْتُقِدَتْ يَوْمَ بَدْرِ، فَقَالَ: بَعْضُ النّاسِ لَعَلّ رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم أَخَذَها فَأَنْزَلَ الله تَبَارَكَ وَتَعَالَى: {وَمَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ} إلى آخِرِ الآية".
ـــــــ
في الحرب "حدث" أي أبو طلحة "أجبن قوم" من الجبن وهو ضد الشجاعة "وأرعبه" من الرعب وهو الخوف والفزع "وأخذله" من الخذل وهو ترك الإعانة والنصرة.
قوله: "هذا حديث حسن صحيح" وأخرجه البخاري.
قوله: "في قطيفة" هي كساء له خمل "افتقدت" بصيغة المجهول أي طلبت بعد غيبتها. قال في القاموس افتقده وتفقده طلبه عند غيبته "فقال بعض الناس" روى ابن مردويه من طريق أبي عمرو بن العلاء عن مجاهد عن ابن عباس قال اتهم المنافقون رسول الله صلى الله عليه وسلم بشيء فقد فأنزل الله تعالى: {وَمَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ} "وما كان لنبي أن يغل" أي ما ينبغي لنبي أن يخون في الغنائم فإن النبوة تنافي الخيانة، يقال غل شيئاً من المغنم يغل غلولاً وأغل إغلالاً إذا أخذه خفية.(8/359)
هذا حديثٌ حسنٌ غريبٌ. وَقَدْ رَوَى عَبْدُ السّلاَمِ بنُ حَرْبٍ عن خُصَيْفٍ نَحْوَ هَذَا. وَرَوَى بَعْضُهُمْ هَذَا الْحَدِيثَ عن خُصَيْفٍ عن مِقْسَم، وَلَمْ يَذْكُرْ فِيهِ عن ابنِ عَبّاسٍ.
4097- حدثنا يَحْيَى بنُ حَبِيبٍ بن عَرَبِيّ أخبرنا مُوسَى بنُ إِبْرَاهِيمَ بنِ كَثِيرٍ الأنْصَارِيّ، قالَ: سَمِعْتُ طَلْحَةَ بنَ خِرَاشٍ، قالَ: سَمِعْتُ جَابِرَ بنَ عَبْدِ الله، يَقُولُ: "لَقِيَنِي رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم فَقَالَ لِي "يَا جَابِرُ ماَلِي أَرَاكَ مُنْكَسِراً؟" قُلْتُ يَا رَسُولَ الله اسْتُشْهِدَ أَبي وَتَرَكَ عِيَالاً وَدَيْناً، قالَ: قال: "أَفلاَ أَبَشّرُكَ بِمَا لَقِيَ الله بِهِ أَبَاكَ؟" قالَ: بَلَى يَا رَسُولَ الله، قَالَ: "مَا كَلّمَ الله أَحَداً قَطّ إِلاّ مِنْ وَرَاءِ حِجَابِهِ وَأَحْيَى أَبَاكَ فَكَلّمَهُ كِفَاحاً، فَقَالَ: تَمَنّ عَلَيّ أُعْطِيكَ، قالَ: يَا رَبّ تُحْيِينِي فَأُقْتَلُ فِيكَ ثَانِيَةً، قالَ الرّبُ عز وجل إِنّهُ قَدْ سَبَقَ مِنّي {أَنَّهُمْ لا يَرْجِعُونَ} قالَ: وَأُنْزِلَتْ هَذِهِ الآية: {وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتاً} الآية".
ـــــــ
قوله: "هذا حديث حسن غريب" وأخرجه أبو داود وعبد بن حميد وابن جرير وابن أبي حاتم.
قوله: "أخبرنا موسى بن إبراهيم بن كثير الأنصاري" الحرامي بفتح المهملة والراء المدني صدوق يخطئ من الثامنة "سمعت طلحة بن خراش" بكسر المعجمة بعدها راء ابن عبد الرحمن الأنصاري المدني صدوق من الرابعة.
قوله: "ما لي أراك منكسراً" وفي رواية بن مردويه مهتماً "فكلمه كفاحاً" أي مواجهة ليس بينهما حجاب ولا رسول "تحييني" من الإحياء مضارع بمعنى الأمر أي أحيني "ثانية" أي مرة ثانية "قال الرب تبارك وتعالى: إنه قد سبق مني أنهم لا يرجعون" زاد في رواية ابن مردويه قال أي رب فأبلغ من ورائي.(8/360)
هذا حديثٌ حسنٌ غريبٌ مِنْ هَذَا الْوَجهِ لاَ نَعْرِفُهُ إِلاّ مِنْ حَدِيثِ مُوسَى بنِ إِبْرَاهِيمَ. وَرَوَاهُ عَلِيّ بنُ عَبْدِ الله بنِ المَدِينيّ وَغَيْرُ وَاحِدٍ مِنْ كِبَارِ أَهْلِ الْحَدِيثِ هَكَذَا عن مُوسَى بنُ إبْرَاهِيمَ. وَقدْ رَوَى عَبْدُ الله بنُ مُحَمّدِ بنِ عَقِيلٍ عن جَابِرٍ شَيْئاً مِنْ هَذَا.
4098- حدثنا ابنُ أَبي عُمَرَ أخبرنا سُفْيَانُ عن الأعْمَشِ عن عَبْدِ الله بنِ مُرّةَ عن مَسْرُوقٍ عن عَبْدِ الله بنِ مَسْعُودٍ: "أَنّهُ سُئِلَ عن قوله: {وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتاً بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ} فَقَالَ: أَمَا إِنّا قَدْ سَأَلْنَا عن ذَلِكَ فَأُخْبِرْنَا أَنّ أَرْوَاحَهُمْ فِي طَيْرٍ خُضْرٍ تَسْرَحُ في
ـــــــ
قوله: "هذا حديث حسن غريب" وأخرجه ابن مردويه "هكذا عن موسى بن إبراهيم" أي مطولاً "وقد روى عبد الله بن محمد بن عقيل عن جابر شيئاً من هذا" أي مختصراً ورواية عبد الله بن محمد بن عقيل هذه وصلها أحمد في مسنده.
قوله: "عن عبد الله بن مرة" هو الهمداني.
قوله: "فقال" أي ابن مسعود "أما" بالتخفيف للتنبيه "إنا قد سألنا" أي رسول الله صلى الله عليه وسلم "عن ذلك" أي عن معنى هذه الآية "فأخبرنا" وفي رواية مسلم فقال. قال النووي: هذا الحديث مرفوع لقوله إنا قد سألنا عن ذلك فقال يعني النبي صلى الله عليه وسلم، وقال القاضي المسئول والمجيب هو الرسول صلوات الله عليه وسلامه وفي فقال ضمير له ويدل عليه قرينة الحال فإن ظاهر حال الصحابي أن يكون سؤاله واستكشافه من الرسول صلى الله عليه وسلم لاسيما في تأويل آية هي من المتشابهات وما هو من أحوال المعاد فإنه غيب صرف لا يمكن معرفته إلا بالوحي ولكونه بهذه المثابة من التعين أضمر من غير أن يسبق ذكره "أن أرواحهم في طير خضر" وفي رواية مسلم في جوف طير خضر أي يخلق لأرواحهم بعدما فارقت أبدانهم هياكل على تلك الهيئة تتعلق بها(8/361)
الْجَنّةِ حَيْثُ شَاءَتْ وَتَأْوِي إلى قَنَادِيلَ مُعَلّقَةٍ بالْعَرْشِ فَاطّلَعَ إِلَيْهِمْ ربُكَ اطّلاَعَةً، فَقَالَ هَلْ تَسْتَزِيدُونَ شَيْئاً فَأَزِيدَكُمْ؟ قَالُوا: رَبّنَا، وَمَا نَسْتَزِيدُ وَنَحْنُ فِي الْجَنّةِ نَسْرَحُ حَيْثُ شِئْنَا؟ ثمّ اطّلَعَ عَلَيْهِمْ الثّانِيةَ، فَقَالَ: هَلْ تَسْتَزِيدُونَ شَيْئاً فَأَزِيدَكُمْ؟ فَلَمّا رَأَوْا أَنّهُمْ لم يُتْرَكُوا قالوا: تعيد أرْوَاحَنَا فِي أَجْسَادِنَا حَتّى نَرْجِعَ إلى الدّنْيَا فنقتل فِي سَبِيلِكَ مَرّةً أُخْرَى".
هذا حديثٌ حسنٌ صحيحٌ.
4099- حدثنا ابنُ أبي عُمَرَ أخبرنا سُفْيَانُ عن عَطَاءِ بنِ السّائِبِ
ـــــــ
وتكون خلفاً عن أبدانهم وإليه الإشارة بقوله تعالى : {أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ} فيتوسلون بها إلى نيل ما يشتهون من اللذائذ الحسية، وإليه يرشد قوله تعالى: {يُرْزَقُونَ فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ} والطير جمع طائر ويطلق على الواحد، وخضر بضم فسكون جمع أخضر "تسرح" أي ترعى "وتأوى" أي ترجع "إلى قناديل معلقة بالعرش" فهي بمنزلة أوكار الطير "فاطلع" بتشديد الطاء أي أنظري "اطلاعة" إنما قال اطلاعة ليدل على أنه ليس من جنس اطلاعنا على الأشياء. قال القاضي: وعداه بإلى وحقه أن يعدى بعلى لتضمنه معنى الانتهاء "فقال" أي الرب تعالى "وما نستزيد" أي أيّ شيء نستزيد "ونحن في الجنة نسرح حيث شئنا" يعني وفيها ما تشتهيه الأنفس وتلذ الأعين "فلما رأوا أنهم لا يتركون" أي من أن يسئلوا "قالوا تعيد" من الإعادة أي ترد "فنقتل" بصيغة المجهول في سبيلك مرة أخرى زاد مسلم: فلما رأى أن ليس لهم حاجة تركوا أي من سؤال هل تستزيدون.
قوله: "هذا حديث حسن صحيح" وأخرجه مسلم والنسائي وابن ماجه.(8/362)
عن أبي عُبَيْدَةَ عن ابنِ مَسْعُودٍ مِثْلَهُ وَزَادَ فِيهِ: "وَتُقْرِئُ نَبِيّنَا السّلاَمَ وَتُخْبِرُهُ عَنا أَنّا قَدْ رَضِيْنَا وَرُضِيَ عَنّا". هذا حديثٌ حسنٌ.
5000- حدثنا ابنُ أبي عُمَرَ أخبرنا سُفْيَانُ عن جَامِعٍ، وَهُوَ ابنُ أَبي رَاشِدٍ وَعبْدُ المَلِكَ بنُ أَعْيَنَ عن أَبي وَائِلٍ عن عَبْدِ الله بن مسعود يَبْلُغُ بِهِ النّبيّ صلى الله عليه وسلم قالَ: "مَا مِنْ رَجُلٍ لاَ يُؤَدّي زَكَاةَ مَالِهِ إلاّ جَعَلَ الله يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِي عُنُقِهِ شُجَاعاً، ثُمّ قَرَأَ عَلَيْنَا مِصْدَاقَهُ مِنْ كِتَابِ الله عز وجل {وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ} الآية، وَقَالَ مَرّةً
ـــــــ
قوله: "عن أبي عبيدة" هو ابن عبد الله بن مسعود مشهور بكنيته "وزاد" أي أبو عبيدة في روايته "وتقرئ" أي يا رب "نبينا" بالنصب أي عليه صلى الله عليه وسلم "السلام" مفعول ثان لتقرئ "وتخبره" أي النبي صلى الله عليه وسلم "أن قد رضينا" أي بالله تعالى "ورضي عنا" بصيغة المجهول أي رضي الله تعالى عنا.
قوله: "هذا حديث حسن" قد صرح الترمذي بعدم سماع أبي عبيدة من أبيه عبد الله بن مسعود في باب الاستنجاء بالحجرين فتحسينه لهذا الحديث لمجيئه من السند المتقدم.
قوله: "عن جامع وهو ابن أبي راشد" الكاهلي الصيرفي الكوفي ثقة فاضل من الخامسة "وعبد الملك بن أعين" الكوفي مولى بني شيبان صدوق شيعي له في الصحيحين حديث واحد متابعة من السادسة "عن أبي وائل" هو شقيق ابن سلمة.
قوله: "إلا جعل الله يوم القيامة في عنقه شجاعاً" بالضم والكسر الحية الذكر وقيل الحية مطلقاً "مصداقه" أي ما يصدقه ويوافقه "من كتاب الله" الظاهر أنه حال من مصداقه أو من بيان له وما بعده بدل بعض من الكل {وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ} الآية بتمامها مع تفسيرها(8/363)
قَرَأَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم مِصْدَاقَهُ {سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} وَمَنْ اقْتَطَعَ مَالَ أَخِيهِ المسْلِمِ بِيَمِينٍ لَقِيَ الله وَهُوَ عَلَيْهِ غَضْبَانُ، ثُمّ قَرَأَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم مِصْدَاقَهُ مِنْ كِتَابِ الله {إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ} الاَيَةَ".
هذا حديثٌ حسنٌ صحيحٌ وَمَعْنَى قَوْلِهِ شُجَاعاً أَقْرَعَ يَعْنِي حَيّةً.
5001- حدثنا عَبْدُ بنُ حُمَيْدٍ أخبرنا يَزِيدُ بنُ هَارُونَ وَسَعِيدُ بنُ عَامِرٍ عن مُحمّدِ بنِ عَمرٍو عن أبي سَلَمَةَ عن أَبي هُرَيْرَةَ قالَ: قالَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم: "إنّ مَوْضِعَ سَوْطٍ فِي الْجَنّةِ خَيْرٌ مِنَ الدّنْيَا وَمَا فِيهَا
ـــــــ
هكذا ولا تحسبن بالتاء والياء "الذين يبخلون بما آتاهم الله من فضله" أي بركاته هو أي بخلهم خيراً لهم مفعول ثان والضمير للفصل والأول بخلهم مقدراً قبل الموصول على الفوقانية وقبل الضمير على التحتانية بل هو شر لهم {سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُوا بِهِ} أي بزكاته من المال {يَوْمَ الْقِيَامَةِ} بأن يجعل حية في عنقه تنهشه {وَلِلَّهِ مِيرَاثُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} يرثهما بعد فناء أهلهما والله بما تعملون خبير، فيجاوزيكم به "وقال مرة" أي قال عبد الله بن مسعود مرة "ومن اقتطع مال أخيه" أي أخذه بغير حق "بيمين أي كاذب.
قوله: "هذا حديث حسن صحيح" وأخرجه أحمد والنسائي وابن ماجه "ومعنى قوله شجاعاً أقرع يعني حية" لم يقع في رواية الترمذي المذكورة أقرع، نعم وقع في حديث أبي هريرة عند البخاري وغيره ومعناه الذي لا شعر على رأسه لكثرة سمه وطول عمره.
قوله: "وسعيد بن عامر" هو الضبعي "عن محمد بن عمرو" هو ابن علقمة "عن أبي سلمة" هو ابن عبد الرحمن.
قوله: "إن موضع سوط في الجنة" أريد به قدر قليل منها أو مقدار موضعه فيها "خير من الدنيا وما فيها" لأن الجنة مع نعيمها باقية والدنيا وما فيها(8/364)
اقْرَأُوا إنْ شِئْتُمْ {فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ}".
هذا حديثٌ حسنٌ صحيحٌ.
5002- حدثنا الْحَسَنُ بنُ مُحمّدٍ الزّعْفَرَانيّ أخبرنا الحَجّاجُ بنُ محمدٍ قالَ: قالَ ابنُ جُرَيْجٍ أَخْبَرَنِي ابنُ أبي مُلَيْكَةَ أَنّ حُمَيْدَ بنَ عَبْدِ الرّحْمَنِ بنِ عَوْفٍ أَخْبَرَهُ أَنّ مَرْوَانَ بنَ الْحَكَمِ قَالَ: "اذْهَبْ يَا رَافِعُ - لَبوّابِهِ - إلى ابنِ عَبّاسٍ، فَقُلْ لَهُ لَئِنْ كَانَ كُلّ امرئ فَرِحَ بِمَا أُوْتِيَ وَأَحَبّ أَنْ يُحْمَدَ بِمَا لَمْ يَفْعَلْ مُعَذّباً لَنُعَذّبَنّ أَجْمَعونَ، فَقَالَ
ـــــــ
فانية "فمن زحزح" أي بعد "عن النار وأدخل الجنة فقد فاز" نال غاية مطلوبه "وما الحياة الدنيا" العيش فيها "إلا متاع الغرور" الباطل يتمتع به قليلاً ثم يفنى.
قوله: "هذا حديث حسن صحيح" وأخرجه ابن أبي حاتم. قال ابن كثير: هذا الحديث ثابت في الصحيحين بدون هذه الزيادة أي زيادة "اقرأوا إن شئتم الخ" وقد رواه بدون هذه الزيادة أبو حاتم وابن حبان في صحيحه والحاكم في مستدركه من حديث محمد بن عمرو هذا.
قوله: "أخبرنا حجاج بن محمد" هو المصيصي الأعور "أن حميد بن عبد الرحمن بن عوف" الزهري المدني ثقة من الثانية وقيل إن روايته عن عمر مرسلة "أن مروان بن الحكم قال اذهب يا رافع لبوابه" وفي رواية البخاري أن مروان قال لبوابه اذهب يا رافع. قال الحافظ وكان مروان يومئذ أميراً على المدينة من قبل معاوية ثم ولي الخلافة، قال ورافع هذا لم أر له ذكراً في كتاب الرواة إلا بما جاء في هذا الحديث، والذي يظهر من سياق الحديث أنه توجه إلى ابن عباس فبلغه الرسالة ورجع إلى مروان بالجواب فلولا أنه معتمد عند مروان ما قنع برسالته "وأحب أن يحمد" بضم التحتية على صيغة المجهول "معذباً"(8/365)
ابنُ عَبّاسٍ مَا لَكُمْ وَلِهَذِهِ الآية إِنّمَا أُنْزِلَتْ هَذِهِ فِي أَهْلِ الكِتَابِ، ثُمّ تَلاَ ابنُ عَبّاسٍ {وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلا تَكْتُمُونَهُ} وَتَلاَ {لا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِمَا أَتَوْا وَيُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا بِمَا لَمْ يَفْعَلُوا} . قالَ ابنُ عَبّاسٍ: سَأَلَهُمْ النّبيّ صلى الله عليه وسلم عن شَيْء فَكَتَمُوهُ وَأَخْبَرُوهُ بِغَيْرِهِ، فَخَرَجُوا وَقَدْ أَرَوْهُ أَنْ قَدْ أَخْبَرُوهُ بِمَا قد سَأَلَهُمْ
ـــــــ
خبر كان "لنعذبن" بصيغة المجهول وهو جواب قوله لئن أي لأن كلنا يفرح بما أوتي ويحب أن يحمد بما لم يفعل "أجمعون" بالواو على أنه تأكيد للضمير الذي في لنعذبن، ووقع في رواية أجمعين بالياء على أنه منصوب على الحال أي لنعذبن مجتمعين "فقال ابن عباس مالكم ولهذه الآية" إنكار من ابن عباس عن السؤال بهذه المسألة على الوجه المذكور "ثم تلا ابن عباس: وإذ أخذ الله ميثاق الذين اوتوا الكتاب" أي العهد عليهم في التوراة "لتبيننه" أي الكتاب للناس ولا تكتمونه فنبذوه أي طرحوا الميثاق وراء ظهورهم فلم يعملوا به واشتروا به أخذوا بدله ثمناً قليلاً من الدنيا من سفلتهم برياستهم في العلم فكتموه خوف فوته عليهم "فبئس ما تشترون" شراءهم هذا. وفي تلاوة ابن عباس هذه الآية التي قبلها وأن الله ذمهم بكتمان العلم الذي أمرهم أن لا يكتموه وتوعدهم بالعذاب على ذلك "بما أتو" بفتح الهمزة والفوقية أي بما جاءوا يعني بالذي فعلوه "ويحبون أن يحمدوا بما لم يفعلوا" أي ويحبون أن يحمدهم الناس على شيء لم يفعلوه "سألهم النبي صلى الله عليه وسلم عن شيء فكتموه وأخبروه بغيره" قال الحافظ: الشيء الذي سأل النبي صلى الله عليه وسلم عنه اليهود لم أره مفسراً، وقد قيل إنه سألهم عن صفته عندهم بأمر واضح فأخبروا عنه بأمر مجمل. وروى عبد الرزاق من طريق سعيد بن جبير في قوله "لنبيننه للناس ولا تكتمونه" قال محمد وفي قوله يفرحون بما أتوا قال بكتمانهم محمداً، وفي قوله: أن يحمدوا بما لم يفعلوا. قال قولهم نحن على دين إبراهيم "وقد أروه" بفتح الهمزة والراء من الإراءة(8/366)
عَنْهُ فَاسْتَحْمَدُوا بِذَلِكَ إِلَيْهِ وفَرِحُوا بِمَا أُوتُوا مِنْ كِتَابِهِمْ، وَمَا سَأَلَهُمْ عَنْهُ". هذا حديثٌ حسنٌ غريبٌ صحيحٌ.
ـــــــ
والضمير المنصوب للنبي صلى الله عليه وسلم "واستحمدوا" بفتح الفوقية مبيناً الفاعل أي طلبوا أن يحمدهم قال في الأساس: استحمد الله إلى خلقه بإحسانه إليهم وإنعامه عليهم قاله القسطلاني. وقال العيني: واستحمدوا على صيغة المجهول من استحمد فلان عند فلان أي صار محموداً عنده والسين فيه للصيرورة انتهى "بما أوتوا من كتابهم" بصيغة المجهول من الإتيان أي أعطوا، وفي رواية أحمد بما أتوا من كتمانهم ما سألهم عنه، وفي رواية البخاري بما أتوا من كتمانهم. قال الحافظ قوله بما أتوا كذا للأكثر بالقصر بمعنى جاءوا أي بالذي فعلوه، وللحموي بما أوتوا بضم الهمزة بعدها واو أي أعطوا أي من العلم الذي كتموه كما قال تعالى: {فَرِحُوا بِمَا عِنْدَهُمْ مِنَ الْعِلْمِ} والأول أولى لموافقته التلاوة المشهورة انتهى "وما سألهم عنه" عطف على ما أوتوا والضمير المرفوع في سأل يرجع إلى النبي صلى الله عليه وسلم والضمير المجرور في قوله عنه إلى ما.
تنبيه: قد ورد في سبب نزول هذه الآية حديثان صحيحان أحدهما حديث ابن عباس هذا والثاني ما رواه البخاري في صحيحه عن أبي سعيد الخدري: أن رجالاً من المنافقين على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الغزو وتخلفوا عنه وفرحوا بمقعدهم خلاف رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإذا قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم اعتذروا إليه وحلفوا وأحبوا أن يحمدوا بما لم يفعلوا فنزلت {لا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ} الآية. قال الحافظ: ويمكن الجمع بأن تكون الآية نزلت في الفريقين معاً، وبهذا أجاب القرطبي وغيره.
قوله: "هذا حديث حسن غريب صحيح" وأخرجه أحمد والشيخان والنسائي.(8/367)
وَمِنْ سُورةِ النّسَاء
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
5003- حدثنا عَبْدُ بنُ حُمَيْدٍ أخبرنا يَحْيَى بنُ آدَمَ أخبرنا ابنُ عُيَيْنَةَ عن مُحَمّدِ بنِ المُنْكَدِرِ قالَ: سَمِعْتُ جَابِرَ بنَ عَبْدِ الله، يَقُولُ: "مَرِضْتُ فَأَتَانِي رَسولُ الله صلى الله عليه وسلم يَعُودُنِي وَقَدْ أُغْمِيَ عَلَيّ، فَلَمّا أَفَقْتُ، قلت: كَيْفَ أَقْضِي فِي مَالِي؟ فَسَكَتَ عنّي حتّى نَزَلَتْ {يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ} " .
ـــــــ
وَمِنْ سُورةِ النّسَاء
هي مدنية ومائة وخمس أو ست أو سبع وسبعون آية
قوله: "يقول مرضت فأتاني رسول الله صلى الله عليه وسلم يعودني" تقدم هذا الحديث في الفرائض وتقدم هناك شرحه حتى نزلت {يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ} كذا وقع في رواية الترمذي هذه، أعني من طريق يحيى بن آدم عن طريق ابن عيينة عن محمد بن المنكدر وكذا وقع في رواية البخاري عن طريق هشام عن ابن جريج عن ابن منكدر.
قال الحافظ في الفتح: قوله فنزلت {يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ} ، هكذا وقع في رواية ابن جريج وقيل إنه وهم في ذلك وأن الصواب أن الآية التي نزلت في قصة جابر هذه الآية الأخيرة من النساء وهي {يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلالَةِ} لأن جابراً يومئذ لم يكن له ولد ولا والد والكلالة من لا ولد له ولا والد، وقد أخرجه مسلم عن عمرو الناقد والنسائي عن محمد بن منصور كلاهما عن ابن عيينة عن ابن المنكدر فقال في هذا الحديث حتى نزلت عليه آية الميراث {يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلالَةِ} ولمسلم أيضاً من طريق شعبة عن ابن المنكدر قال في آخر هذا الحديث فنزلت آية الميراث فقلت لمحمد بن المنكدر {يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلالَةِ} قال هكذا أنزلت، وقد أطال الحافظ الكلام ههنا في الفتح فعليك أن تراجعه. وقد ذكر الحافظ ابن كثير في تفسير هذه الآية حديث(8/368)
هذا حديثٌ حسنٌ صحيحٌ. وَقَدْ روى غَيْرُ وَاحِدٍ عن مُحمّدِ بنِ المُنْكَدِرِ.
5004- حدثنا الفَضْلُ بنُ الصَبّاحِ الْبَغْدَادِيّ أخبرنا سُفْيَانُ بنُ عَيُيْنَةَ عن مُحَمّدِ بنِ المُنْكَدِرِ عن جَابِرِ بنِ عَبْدِ الله عن النبيّ صلى الله عليه وسلم نَحْوَهُ. وَفِي حَدِيثِ الفَضْلِ بنِ الصَبّاحِ كَلاَمٌ أَكْثَرُ مِنْ هَذَا.
5005- حدثنا عَبْدُ بنُ حُمَيْدِ أخبرنا حَبّانُ بنُ هِلاَلٍ أخبرنا هَمّامُ بنُ يَحْيى أخبرنا قَتَادَةُ عن أبي الْخَلِيلِ عن أَبي عَلْقَمَةَ الْهَاشِمِيّ عن أَبي سَعِيدٍ الخُدْرِيّ قالَ: "لَمّا كَانَ يَوْمُ أَوْطَاسَ أَصَبْنَا نِسَاءً لَهُنّ أَزْوَاجٌ فِي المُشْرِكِينَ فَكَرِهَهُنّ رِجَالٌ مِنْهُمْ فَأَنْزَلَ الله تَعَالَى {الْمُحْصَنَاتِ
ـــــــ
جابر المذكور عن صحيح البخاري من طريق هشام عن ابن جريج عن ابن المنكدر ثم ذكر حديث جابر من طريق عبيد الله بن عمرو الرقي عن عبد الله بن محمد بن عقيل عنه قال: جاءت امرأة سعد بن الربيع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت يا رسول الله هاتان ابنتا سعد بن الربيع، قتل أبوهما معك في يوم أحد شهيداً الحديث أخرجه الترمذي وغيره ثم قال: والظاهر أن حديث جابر الأول إنما نزل بسببه الآية الأخيرة من هذه السورة فإنه إنما كان له إذ ذاك أخوات ولم يكن له بنات وإنما كان يورث كلالة ولكن ذكرنا الحديث ههنا تبعاً للبخاري فإنه ذكر ههنا، والحديث الثاني عن جابر أشبه بنزول هذه الآية انتهى.
قوله: "وفي حديث الفضل بن صباح كلام أكثر من هذا" أي حديث الفضل بن صباح أطول من حديث يحيى بن آدم المذكور، وحديث الفضل بن صباح هذا تقدم في باب ميراث الأخوات.
قوله: "أخبرنا قتادة" بن دعامة "عن أبي علقمة الهاشمي" الفارسي المصري مولى بني هاشم ويقال حليف الأنصار ثقة، وكان قاضي إفريقية من كبار الثالثة.
قوله: "لما كان يوم أوطاس" اسم موضع أو بقعة في الطائف يصرف ولا يصرف "لهن أزواج في المشركين" صفة لنساء "فكرههن" أي كره(8/369)
مِنَ النِّسَاءِ إِلَّا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} . هذا حديثٌ حسنٌ.
ـــــــ
وطئهن من أجل أنهن مزوجات والمزوجة لا تحل لغير زوجها "منهم" أي من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، وفي بعض النسخ منا وهو الظاهر. وروى مسلم هذا الحديث بلفظ: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم حنين بعث جيشاً إلى أوطاس فلقوا عدواً فقاتلوهم فظهروا عليهم وأصابوا لهم سبايا، فكأن ناساً من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم تحرجوا من غشيانهن من أجل أزواجهن من المشركين فأنزل الله تعالى: {وَالْمُحْصَنَاتُ} بفتح الصاد باتفاق القراء وهو معطوف على أمهاتكم، أي وحرمت عليكم المحصنات، أي ذوات الأزواج لأنهن أحصن فروجهن بالتزويج {إِلَّا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} أي أيمانكم: أي ما أخذتم من نساء الكفار بالسبي وزوجها في دار الحرب لوقوع الفرقة بتباين الدارين فتحل للغانم بملك اليمين بعد الاستبراء.
قال النووي: اعلم أن مذهب الشافعي ومن قال بقوله من العلماء أن المسبية من عبدة الأوثان وغيرهم من الكفار الذين لا كتاب لهم لا يحل وطؤها بملك اليمين حتى تسلم، فما دامت على دينها فهي محرمة، وهؤلاء المسبيات كن من مشركي العرب عبدة الأوثان، فيتأول هذا الحديث وشبهه على أنهن أسلمن، وهذا التأويل لا بد منه انتهى. وقال الشوكاني في النيل في باب استبراء الأمة إذا ملكت ما لفظه: ظاهر أحاديث الباب أنه لا يشترط في جواز وطء المسبية الإسلام ولو كان شرط البينة صلى الله عليه وسلم ولم يبينه، ولا يجوز تأخير البيان عن وقت الحاجة وذلك وقتها، ولا سيما وفي المسلمين في يوم حنين وغيره من هو حديث عهد بالإسلام يخفى عليهم مثل هذا الحكم، وتجويز حصول الإسلام من جميع السبايا وهن في غاية الكثرة بعيد جداً فإن إسلام مثل عدد المسبيات في أوطاس دفعة واحدة من غير إكراه لا يقول بأنه يصح تجويزه عاقل. ومن أعظم المؤيدات لبقاء المسبيات على دينهن ما ثبت من رده صلى الله عليه وسلم لهن بعد أن جاء إليه جماعة من هوازن وسألوه أن يرد إليهم ما أخذ عليهم منهم من الغنيمة فرد إليهم السبي فقط، وقد ذهب إلى جواز وطء المسبيات الكافرات بعد الاستبراء المشروع جماعة منهم طاوس وهو الظاهر لما سلف انتهى.
"هذا حديث حسن" وأخرجه أحمد ومسلم وأبو داود والنسائي وابن ماجه.(8/370)
النّبيّ صلى الله عليه وسلم قال فِي الكَبَائِرِ: "الشّرْكُ بالله وَعُقُوقُ الْوَالِدِيْنِ وَقَتْلُ النّفْسِ وَقَوْلُ الزّورِ" .
هذا حديثٌ حسنٌ غريبٌ صحيحٌ. وَرَوَاهُ رَوْحُ بنُ عُبَادَةَ عن شُعْبَةَ وَقالَ عن عَبْدِ الله بنِ أبي بَكْرٍ وَلاَ يَصِحّ.
5008- حدثنا حُمَيْدُ بنُ مَسْعَدَةَ بصري أخبرنا بِشْرُ بنُ المُفَضّلِ أخبرنا الْجُرَيْرِيّ عن عَبْدِ الرّحْمَنِ بنِ أَبي بَكْرَةَ عن أبِيهِ قالَ: قالَ رَسولُ الله صلى الله عليه وسلم: "أَلاَ أُحَدّثُكُمْ بأَكْبَرِ الكَبَائِرِ؟" قَالُوا: بَلَى يَا رَسُولَ الله قالَ: "الاْشْرَاكُ بالله وَعُقُوقُ الوَالِدَيْنِ،" قالَ: وَجَلَسَ وَكَانَ مُتكئِاً قالَ: "وَشَهَادَةُ الزّوْرِ أَوْ قال قَوْلُ الزّورِ،" قالَ فَمَا زَالَ رَسولُ الله صلى الله عليه وسلم يَقُولُهَا حَتّى قُلْنَا لَيْتَهُ سَكَتَ". هذا حديثٌ حسنٌ صحيحٌ غريبٌ.
ـــــــ
قوله: "وعقوق الوالدين" أي قطع صلتهما، مأخوذ من العق وهو الشق والقطع، والمراد عقوق أحدهما. قيل هو إيذاء لا يتحمل مثله من الولد عادة، وقيل عقوقهما مخالفة أمرهما فيما لم يكن معصية، وفي معناهما الأجداد والجدات "وقتل النفس" أي بغير حق "وقول الزور" ، وفي رواية الشيخين وشهادة الزور، والمراد من الزور الكذب، وسمى زوراً لميلانه عن جهة الحق.
قوله: "هذا حديث حسن غريب صحيح" وأخرجه الشيخان.
قوله: "وقال عن عبد الله بن أبي بكر" أي بالتكبير "ولا يصح" بل الصحيح عبيد الله بن أبي بكر بالتصغير. قال في تهذيب التهذيب: عبيد الله بن أبي بكر عن أنس بن مالك أبو معاذ الأنصاري، روى عن جده، وقيل عن أبيه عن جده وعنه شعبة وغيره. قال أحمد وابن معين وأبو داود والنسائي ثقة.
قوله: "ألا أحدثكم بأكبر الكبائر الخ" تقدم هذا الحديث بإسناده ومتنه في باب عقوق الوالدين من أبواب البر والصلة وفي الشهادات.(8/372)
5009- حدثنا عَبْدُ بنُ حُمَيْدٍ أخبرنا يُونُسُ بنُ مُحمّدٍ أخبرنا اللَيْثُ بنُ سَعْدٍ عن هِشَامِ بنِ سَعْدٍ عن مُحَمّدِ بنِ زَيْدِ بنِ مُهَاجِرِ بنِ قُنْفُذٍ التّيْمِيّ عن أبي أُمَامَةَ الأَنْصَارِيّ عن عَبْدِ الله بنِ أُنَيْسٍ الْجُهَنِيّ قالَ: قالَ رَسولُ الله صلى الله عليه وسلم: "إنّ مِنْ أْكْبَرِ الكَبَائِرِ الشّرْكُ بالله وَعُقُوقُ الْوَالِدَيْنِ وَالْيمِينُ الغَمُوسُ، وَمَا حَلَفَ حَالِفٌ بالله يَمِينَ صَبْرٍ،
ـــــــ
قوله: "عن محمد بن زيد بن مهاجر بن قنفذ" بضم القاف والفاء بينهما نون ساكنة المدني، ثقة من الخامسة "عن أبي أمامة الأنصاري" البكري حليف بني حارثة اسمه إياس، وقيل عبد الله بن ثعلبة، وقيل ثعلبة بن عبد الله بن سهل صحابي له أحاديث "عن عبد الله بن أنيس" بالتصغير الأنصاري المدني كنيته أبو يحيى حليف الأنصار صحابي.
قوله: "إن من أكبر الكبائر الشرك بالله" أي الإشراك به، فنفي الصانع أولى أو المراد به مطلق الكفر، إلا أنه عبر عنه به لأنه الغالب في الكفرة، ومن زائدة على مذهب من يجوزه في الإثبات كالأخفش أو دخول من باعتبار مجموع المعطوف والمعطوف عليه وإلا فالشرك هو أكبر الكبائر لا من جملته "واليمين الغموس" قال في النهاية: هو اليمين الكاذبة الفاجرة كالتي يقتطع بها الحالف مال غيره، سميت غموساً لأنها تغمس صاحبها في الإثم ثم في النار، وفعول للمبالغة "وما حلف حالف بالله يمين صبر" في النهاية: الحلف هو اليمين فخالف بين اللفظين تأكيداً. قال النووي: يمين صبر بالإضافة، أي ألزم بها وحبس عليها، وكانت لازمة لصاحبها من جهة الحكم، وقيل لها مصبورة وإن كان صاحبها في الحقيقة هو المصبور لأنه إنما صبر من أجلها، أي حبس فوصفت بالصبر وأضيفت إليه مجازاً انتهى. وتوضيحه ما قاله ابن الملك، الصبر الحبس والمراد بيمين الصبر أن يحبس السلطان الرجل حتى يحلف بها، وهي لازمة لصاحبها من جهة الحكم. وقيل يمين الصبر هي التي يكون فيها متعمداً للكذب قاصداً لإذهاب مال المسلم كأنه يصبر النفس على تلك اليمين، أي يحبسها عليها، كذا في المرقاة. وقال في(8/373)
فَأَدْخَلَ فِيهَا مِثْلَ جَنَاحِ بَعُوْضَةٍ إلاّ جُعِلَتْ نُكْتَةً فِي قَلْبِهِ إلى يَوْمِ الْقِيَامَةِ" . هذا حديثٌ حسنٌ غريبٌ وَأَبُو أُمَامَةَ الأنْصَارِيّ هُوَ ابنُ ثَعْلَبَةَ وَلاَ نَعْرِفُ اسْمَهُ وَقَدْ رَوَى عن النبيّ صلى الله عليه وسلم أَحَادِيثَ.
5010- حدثنا مُحَمّدُ بنُ بَشّارٍ أخبرنا مُحَمّدُ بنُ جَعْفَرٍ أخبرنا شُعْبَةُ عن فِرَاسٍ عن الشّعْبِيّ عن عَبْدِ الله بنِ عَمْرٍو عن النبيّ صلى الله عليه وسلم قالَ: "الكَبَائِرُ الإشْرَاكُ بالله وَعُقُوقُ الْوَالِدَيْنِ أوْ قالَ اليَمِينُ الغَمُوسُ" شَكّ شُعْبَةُ.
هذا حديثٌ حسنٌ صحيحٌ.
ـــــــ
المجمع: يمين صبر بالإضافة أي ألزم بها، وحبس لها شرعاً ولو حلف بغير إحلاف لم يكن صبراً "فأدخل" أي الحالف "فيها" أي في تلك اليمين "مثل جناح بعوضة" بفتح الجيم أي ريشها. والمراد أقل قليل. والمعنى شيئاً يسيراً من الكذب والخيانة، ومما يخالف ظاهره باطنه لأن اليمين على نية المستحلف "إلا جعلت " أي تلك اليمين "نكتة" أي سوداء، أي أثراً قليلاً كالنقطة تشبه الوسخ في نحر المرأة والسيف "إلى يوم القيامة" .
قال الطيبي: معنى الانتهاء أن أثر تلك النكتة التي هي من الرين يبقى أثرها إلى يوم القيامة، ثم بعد ذلك يترتب عليها وبالها والعقاب عليها، فكيف إذا كان كذباً محضاً.
قوله: "هذا حديث حسن غريب" وأخرجه أحمد والحاكم وابن أبي حاتم.
قوله: "عن فراس" بكسر الفاء وبالراء هو ابن يحيى الهمداني.
قوله: "هذا حديث حسن صحيح" وأخرجه أحمد والبخاري والنسائي.
تنبيه: اعلم أن هذه الأحاديث الأربعة أعني أحاديث أنس وأبي بكرة وعبد الله بن أنيس وعبد الله بن عمرو ذكرها الترمذي في تفسير قوله تعالى: {إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُمْ مُدْخَلاً كَرِيماً} وقد(8/374)
5011- حدثنا ابنُ أبي عُمَرَ أخبرنا سُفْيَانُ عن ابنِ أبي نَجِيحٍ عن مُجَاهِدٍ عن أُمّ سَلَمَةَ أنّهَا قَالَتْ: "يَغْزُو الرّجَالُ، وَلاَ تَغْزُو النّسَاءُ، وَإِنّمَا لَنَا نِصْفُ المِيرَاثِ، فَأَنْزَلَ الله تَبَارَكَ وَتَعَالى {وَلا تَتَمَنَّوْا مَا فَضَّلَ اللَّهُ
ـــــــ
أطال الحافظ ابن كثير الكلام في تفسير هذا القول. فذكر أحاديث كثيرة تتعلق به ثم ذكر أقوال الصحابة والتابعين في ذلك ثم قال: وقد اختلف علماء الأصول والفروع في حد الكبيرة، فمن قائل هي ما عليه حد في الشرع، ومنهم من قال هي ما عليه وعيد مخصوص من الكتاب والسنة، وقيل غير ذلك: قال أبو القاسم عبد الكريم ابن محمد الرافعي في كتابه الشرح الكبير الشهير في كتاب الشهادات منه: ثم اختلف الصحابة رضي الله تعالى عنهم فمن بعدهم في الكبائر، وفي الفرق بينها وبين الصغائر ولبعض الأصحاب في تفسير الكبيرة وجوه، أحدها: أنها المعصية الموجبة للحد، والثاني أنها المعصية التي يلحق صاحبها الوعيد الشديد بنص كتاب أو سنة وهذا أكثر ما يوجد لهم، وإلى الأول أميل لكن الثاني أوفق لما ذكروه عند تفسير الكبائر، والثالث قال إمام الحرمين في الإرشاد وغيره، كل جريمة تنبئ بقلة اكتراث مرتكبها بالدين ورقة الديانة فهي مبطلة للعدالة، والرابع ذكر القاضي أبو سعيد الهروي: أن الكبيرة كل فعل نص الكتاب على تحريمه، وكل معصية توجب في جنسها حداً من قتل أو غيره وترك كل فريضة مأمور بها على الفور، والكذب والشهادة والرواية واليمين، هذا ما ذكروه على سبيل الضبط، ثم ذكر في تفصيل الكبائر أقوال بعض أهل العلم.
قال الحافظ ابن كثير: وقدصنف الناس في الكبائر مصنفات، منها ما جمعه شيخنا أبو عبد الله الذهبي بلغ نحواً من سبعين كبيرة. وإذا قيل إن الكبيرة ما توعد عليها الشارع بالنار بخصوصها كما قال ابن عباس وغيره، ولا يتبع ذلك اجتمع منه شيئ كثير، وإذا قيل كل ما نهى الله عنه فكثير جداً انتهى. وقد تقدم شيئ من في حد الكبيرة في باب عقوق الوالدين.
قوله: "يغزو الرجال ولا تغزو النساء"، وفي رواية أحمد في مسنده يا رسول الله يغزو الرجال ولا تغزو النساء فأنزل الله تبارك وتعالى {وَلا تَتَمَنَّوْا(8/375)
بِهِ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ} قَالَ مُجَاهِدٌ: فَأنْزَلَ فِيهَا {إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ} وَكَانَتْ أُمّ سَلَمَةَ أوّلَ ظَعِيْنَةٍ قَدِمَتْ المَدِينَةَ مُهَاجِرَةً".
ـــــــ
مَا فَضَّلَ اللَّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ} من جهة الدنيا أو الدين لئلا يؤدي إلى التحاسد والتباغض.
قال الحافظ ابن كثير: قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس في الآية قال: ولا يتمنى الرجل فيقول، لو أن لي مال فلان وأهله فنهى الله عن ذلك، ولكن يسأل الله من فضله. وقال الحسن ومحمد بن سيرين وعطاء والضحاك نحو هذا وهو الظاهر من الآية، ولا يرد على هذا ما ثبت في الصحيح "لا حسد إلا في اثنتين رجل آتاه الله مالاً فسلطه على هلكته في الحق فيقول رجل لو أن لي مثل ما لفلان لعملت مثله فهما في الأجر سواء"، فإن هذا شيء غير ما نهت عنه الآية، وذلك أن الحديث حض على تمني مثل نعمة هذا والاَية نهت عن تمني عين نعمة هذا، يقول: ولا تتمنوا ما فضل الله به بعضكم على بعض، أي في الأمور الدنيوية وكذا الدينية.
قوله: "قال مجاهد" هذا موصول بالسند المتقدم "وأنزل فيها" أي في أم سلمة "إن المسلمين والمسلمات" تمام الآية {وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَالْقَانِتِينَ وَالْقَانِتَاتِ وَالصَّادِقِينَ وَالصَّادِقَاتِ وَالصَّابِرِينَ وَالصَّابِرَاتِ وَالْخَاشِعِينَ وَالْخَاشِعَاتِ وَالْمُتَصَدِّقِينَ وَالْمُتَصَدِّقَاتِ وَالصَّائِمِينَ وَالصَّائِمَاتِ وَالْحَافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَالْحَافِظَاتِ وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيراً وَالذَّاكِرَاتِ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً} ورواية مجاهد هذه مختصرة. وفي رواية النسائي من طريق محمد بن عمرو عن أبي سلمة عن أم سلمة أنها قالت للنبي صلى الله عليه وسلم يا نبي الله ما لي أسمع الرجال يذكرون في القرآن والنساء لا يذكرون فأنزل الله تعالى {إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ} "أول ظعينة" قيل المرأة ظعينة لأنها تظعن مع الزوج حيث ما ظعن، أو تحمل على الراحلة إذا ظعنت، وقيل هي المرأة في الهودج ثم قيل للمرأة وحدها والهودج وحده من ظعن ظعناً بالحركة والسكون إذا سار.(8/376)
هذا حديثٌ مُرْسَل وَرَوَاهُ بَعْضُهمْ عن ابن أبي نَجِيحٍ عن مُجَاهِدٍ مُرْسلاً أنّ أُمّ سَلَمَةَ قَالَتْ كَذَا وَكَذَا.
5012- حدثنا ابنُ أبي عُمَرَ أخبرنا سُفْيَانُ عن عَمْرِو بنِ دِينَارٍ عن رَجُلٍ مِنْ وَلَدِ أُمّ سَلَمَةَ عن أم سلمة قَالَتْ: "يَا رَسُولَ الله لاَ أَسْمَعُ الله ذَكَرَ النّسَاءَ فِي الْهِجْرَةِ، فَأَنْزَلَ الله تَبَارَكَ وَتَعَالَى {أَنِّي لا أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ} ".
ـــــــ
قوله: "هذا حديث مرسل" أي منقطع وأخرجه أحمد.
قوله: "عن رجل من ولد أم سلمة" اسم هذا الرجل سلمة. قال في تهذيب التهذيب: سلمة بن عبد الله بن عمر بن أبي سلمة بن عبد الأسد المخزومي، روى عن جدة أبيه أم سلمة عن جده عمر بن أبي سلمة وله صحبة، روى عنه عطاء بن أبي رباح فنسبه إلى جد أبيه، فقال عن سلمة بن أبي سلمة. وعنه عمرو بن دينار فنسبه إلى جده، فقال عن سلمة بن عمر بن أبي سلمة. وقد روى له الترمذي في التفسير حديثاً ولم يسمه أخرجه عن ابن أبي عمر عن سفيان عن عمرو بن دينار عن رجل من ولد أم سلمة عن أم سلمة أنها قالت لا أسمع الله ذكر النساء في الهجرة بشيء الحديث. وسماه الحاكم في المستدرك في هذا الحديث من طريق يعقوب ابن حميد بن كاسب عن سفيان بن عيينة عن عمرو عن سلمة بن عمر بن أبي سلمة عن أم سلمة، وتابعه قتيبة عن سفيان بن عيينة. وقال في التقريب في ترجمته: مقبول من الثالثة.
قوله: {أَنِّي لا أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِنْكُمْ} يعني لا أحبط عملكم أيها المؤمنون بل أثيبكم عليه {مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى} يعني لا أضيع عمل عامل منكم ذكراً كان أو أنثى {بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ} يعني في الدين والنصرة والموالاة، وقيل كلكم من آدم وحواء، وقيل من بمعنى الكاف أي بعضكم كبعض في الثواب على الطاعة والعقاب على المعصية فهو كما يقال فلان مني يعني على خلقي وسيرتي، وقيل إن الرجال والنساء في الطاعة على شكل واحد كذا في تفسير الخازن. والحديث أخرجه أيضاً سعيد(8/377)
5013- حدثنا هَنّادٌ أخبرنا أبُو الأحْوَصِ عن الأعْمَشِ عن إِبْرَاهِيمَ عن عَلْقَمَةَ قالَ: قالَ عَبْدُ الله: "أَمَرَنِي رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم أنْ أَقْرَأَ عَلَيْهِ وَهُوَ عَلَى المِنْبرِ، فَقَرَأْتُ عَلَيْهِ مِنْ سُورَةِ النّسَاءِ حَتّى إذَا بَلَغَتُ {فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلاءِ شَهِيداً} غَمَزَني رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم بِيَدِهِ فَنَظَرْتُ إِلَيْهِ وَعَينَاهُ تَدْمَعَانِ". هَكَذَا رَوَى أبُو الأحْوَصِ عن الأعْمَشِ عن إِبْرَاهِيمَ عن عَلْقَمَة عن عَبْدِ الله. وَإِنّمَا هُوَ إِبْرَاهِيمُ عن عُبَيْدَةَ عن عَبْدِ الله.
ـــــــ
ابن منصور وابن جرير والحاكم في مستدركه ثم قال صحيح على شرط البخاري ولم يخرجاه. وقد روى ابن أبي نجيح عن مجاهد عن أم سلمة قالت آخر آية نزلت هذه الآية {فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لا أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ} إلى آخرها رواه ابن مردويه.
قوله: "أخبرنا أبو الأحوص" اسمه سلام بن سليم الحنفي "قال عبد الله" هو ابن مسعود رضي الله عنه "وهو على المنبر" جملة حالية "فكيف" أي حال الكفار "إذا جئنا من كل أمة بشهيد" يشهد عليها بعملها وهو نبيها "وجئنا بك" يا محمد "على هؤلاء" أي أمتك "شهيداً" حال أي شاهداً على من آمن بالإيمان وعلى من كفر بالكفر وعلى من نافق بالنفاق. ووقع في رواية محمد بن فضالة الظفري أن ذلك كان وهو صلى الله عليه وسلم كان في بني ظفر أخرجه ابن أبي حاتم والطبراني وغيرهما من طريق يونس بن محمد بن فضالة عن أبيه أن النبي صلى الله عليه وسلم أتاهم في بني ظفر ومعه ابن مسعود وناس من أصحابه فأمر قارئاً فقرأ، فأتى على هذه الآية {فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلاءِ شَهِيداً} فبكى حتى ضرب لحياه ووجنتاه فقال يا رب هذا على من أنا بين ظهريه فكيف بمن لم أره. وأخرج ابن المبارك في الزهد من طريق سعيد بن المسيب قال ليس من يوم إلا يعرض على النبي صلى الله عليه وسلم أمته غدوة وعشية فيعرفهم بسيماهم وأعمالهم فلذلك يشهد عليهم ففي هذا المرسل ما يرفع الإشكال الذي(8/378)
5014- حدثنا مَحْمُودُ بن غَيلاَنَ أخبرنا مُعاوِيَةُ بنُ هِشَامٍ أخبرنا سُفْيَانُ الثوري عن الأعْمَشِ عن إبْرَاهِيمَ عن عُبَيْد الله عن عَبْدِ الله قالَ: قالَ لي رَسولُ الله صلى الله عليه وسلم: "اقْرَأْ عَلَيّ . فَقلت: يَا رَسُولَ الله اقْرَأُ عَلَيْكَ وَعَلَيْكَ أُنْزِلَ؟ قالَ: "إِنّي أُحِبّ أَنْ أَسْمَعَهُ مِنْ غَيْرِي، فَقَرَأْتُ سُورَةَ النّسَاءِ حَتّى إذا بَلَغْتُ {وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلاءِ شَهِيداً} قالَ: فَرَأَيْتُ عَيْنَيْ النّبيّ صلى الله عليه وسلم تَهْمُلاَنِ".
ـــــــ
تضمنه حديث ابن فضالة كذا في الفتح "غمزني" الغمز العصر: والكبس باليد أي أشار باليد لأن يمتنع عن القراءة، وفي رواية الشيخين قال حسبك الآن "وعيناه تدمعان" وفي رواية الشيخين تذرفان أي تسيلان دمعاً. قال ابن بطال: إنما بكى صلى الله عليه وسلم عند تلاوته هذه الآية لأنه مثل لنفسه أهوال يوم القيامة وشدة الحال الداعية له إلى شهادته لأمته بالتصديق وسؤاله الشفاعة لأهل الموقف وهو أمر يحق له طول البكاء انتهى.
قال الحافظ: والذي يظهر أنه بكى رحمة لأمته لأنه علم أنه لا بد أن يشهد عليهم بعملهم، وعملهم قد لا يكون مستقيماً فقد يفضي إلى تعذيبهم. قال الغزالي يستحب البكاء مع القراءة وعندها وطريق تحصيله أن يحضر قلبه الحزن والخوف بتأمل ما فيه من التهديد والوعيد الشديد والوثائق والعهود ثم ينظر تقصيره في ذلك فإن لم يحضره حزن فليبك على فقد ذلك وأنه من أعظم المصائب.
قوله: "عن عبيدة" بفتح أوله هو ابن عمرو السلماني المرادي.
قوله: "أقرأ عليك" أي أأقرأ عليك "إني أحب أن أسمعه من غيري" قال ابن بطال: يحتمل أن يكون أحب أن يسمعه من غيره ليكون عرض القرآن سنة، ويحتمل أن يكون لكي يتدبره ويتفهمه وذلك أن المستمع أقوى على التدبر ونفسه أخلى وأنشط لذلك من القارئ لاشتغاله بالقراءة وأحكامها، وهذا بخلاف قراءته هو صلى الله عليه وسلم على أبي بن كعب فإنه أراد أن يعلمه كيفية أداء القراءة وخرج نحو ذلك "تهملان" أي تدمعان وتفيضان. قال في القاموس:(8/379)
هذا أَصَحّ مِنْ حَدِيثِ أبي الأحْوَصِ.
5015- حدثنا سُوَيْدُ بنُ نَصْرٍ، أخبرنا ابنُ المُبَارَكِ، عن سُفْيَانَ عن الأعْمَشِ نَحْوَ حَدِيثِ مُعَاوِيَةَ بنِ هِشَامٍ.
5016- حدثنا عَبْدُ بنُ حُمَيْدٍ أخبرنا عَبْدُ الرّحْمَنِ بنُ سَعْدٍ، عن أبي جَعْفَرٍ الرّازِيّ، عن عَطَاءِ بنِ السّائِبِ عن أبي عَبْدِ الرّحْمنِ السّلَميّ، عن عَلَيّ بنِ أبي طَالِبٍ قالَ: "صَنَعَ لَنَا عَبْدُ الرّحْمَنِ بنُ عَوْفٍ طَعَاماً فَدَعَانَا وَسَقَانَا مِنَ الْخَمْرِ، فَأَخَذَتْ الْخَمْرُ مِنّا وَحَضَرَتِ الصّلاَةُ، فَقَدّمُوني فَقَرَأْتُ: قُلْ يَا أَيّهَا الكَافِرُونَ لاَ أعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ وَنَحْنُ نَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ قال: فَأَنْزَلَ الله تعالى {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ} . هذا حديثٌ حسنٌ صحيحٌ غريبٌ.
ـــــــ
هملت عينه تهمل وتهمل هملاً وهملاناً وهمولاً: فاضت.
قوله: "هذا أصح من حديث أبي الأحوص" أي حديث سفيان عن الأعمش عن إبراهيم عن عبيدة عن عبد الله أصح من حديث أبي الأحوص عن الأعمش عن إبراهيم عن علقمة عن عبد الله، لأن عبد الواحد وحفص بن غياث وغيرهما قد تابعوا سفيان في روايته عن الأعمش عن إبراهيم عن عبيدة عن عبد الله عند الشيخين وغيرهما. وحديث عبد الله بن مسعود هذا أخرجه أيضاً الشيخان وأبو داود والنسائي.
قوله: "وسقانا من الخمر" أي قبل أن تحرم كما في رواية أبي داود "فأخذت الخمر منا" أي أخذت عقولنا {لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ} أي لا تصلوا {وَأَنْتُمْ سُكَارَى} جمع سكران والجملة حالية {حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ} بأن تصحوا.
قوله: "هذا حديث حسن غريب صحيح" وأخرجه أبو داود والنسائي. قال المنذري: وفي إسناده عطاء بن السائب لا يعرف إلا من حديثه وقد قال يحيى بن(8/380)
5017- حدثنا قُتَيْبَةُ، أخبرنا اللّيْثُ بن سعد عن ابنِ شِهَابٍ عن عُرْوَةَ بنِ الزّبَيْرِ، أَنّهُ حَدّثَهُ أَنّ عَبْدَ الله بنَ الزّبَيْرِ حَدّثَهُ: "أَنّ رَجُلاً مِنَ الأنْصَارِ خَاصَمَ الزّبَيْرَ فِي شِرَاجِ الْحَرّةِ الّتِي يَسْقُونَ بِهَا النّخْلَ، فَقَالَ الأنْصَارِيّ سَرّحِ المَاءَ يَمُرّ، فَأَبَى عَلَيْهِ، فَاخْتَصَمُوا إلى رَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم للزّبَيْرِ: "اسْقِ يَا زُبَيْرُ وَأَرْسِلِ الْمَاءَ إلى جَارِكَ"، فَغَضِبَ الأنْصَارِيّ، وَقَالَ: يَا رَسُولَ الله أَنْ كَانَ ابنَ عَمّتِكَ؟ فَتَغَيّرَ وَجْهُ رَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم ثمّ قالَ: "ياَ زُبَيْرُ اسْقِ وَاحْبِسِ الْمَاءَ حَتّى يَرْجِعَ إلى الْجُدُرِ،" فَقَالَ الزّبَيْرُ: والله إني لأحْسَبُ هَذِهِ الآية نَزَلَتْ فِي ذَلِكَ {فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ}" الآية.
ـــــــ
معين: لا يحتج بحديثه، وفرق مرة بين حديثه القديم وحديثه الحديث ووافقه على التفرقة الإمام أحمد. وقال أبو بكر البزار: هذا الحديث لا نعلمه يروى عن علي رضي الله عنه متصل الإسناد إلا من حديث عطاء بن السائب عن أبي عبد الرحمن يعني السلمي وإنما كان ذلك قبل أن يحرم الخمر فحرمت من أجل ذلك، هذا آخر كلامه. وقد اختلف في إسناده ومتنه، فأما الاختلاف في إسناده فرواه سفيان الثوري وأبو جعفر الرازي عن عطاء بن السائب فأرسلوه، وأما الاختلاف في متنه ففي كتاب أبي داود الترمذي ما قدمناه، وفي كتاب النسائي وأبي جعفر النحاس أن المصلي بهم عبد الرحمن بن عوف، وفي كتاب أبي بكر البزار: أمروا رجلاً فصلى بهم ولم يسمه، وفي حديث غيره فتقدم بعض القوم انتهى كلام المنذري.
قوله: "أن رجلاً من الأنصار خاصم الزبير الخ" تقدم هذا الحديث بإسناده ومتنه في باب الرجلين يكون أحدهما أسفل من الآخر في الماء من أبواب الأحكام وتقدم هناك شرحه.(8/381)
5018- سَمِعْتُ مُحَمّداً يَقُولُ قَدْ رَوَى ابنُ وَهْبٍ هَذَا الْحَدِيثَ عن اللّيْثِ بنِ سَعْدٍ، وَيُونُسَ عن الزّهْرِيّ عن عُرْوَةَ عن عَبْدِ الله بنِ الزّبَيْرِ نَحْوَ هَذَا الْحَدِيثِ. وَرَوَى شُعَيْبُ بنُ أبي حَمْزَةَ عن الزّهْرِيّ عن عُرْوَةَ عن الزّبَيْرِ وَلَمْ يَذْكُرْ عن عَبْدِ الله بنِ الزّبَيْرِ.
5019- حدثنا مُحَمّدُ بنُ بَشّارٍ، أخبرنا مُحمّدُ بنُ جَعْفَرٍ، أخبرنا شُعْبَةُ عن عَدِيّ بنِ ثَابِتٍ، قالَ: سَمِعْتُ عبدَ الله بنَ يَزِيدَ يُحَدّثُ عن زَيْدِ بنِ ثَابِتٍ أنّهُ قالَ فِي هَذِهِ الآية: {فَمَا لَكُمْ فِي الْمُنَافِقِينَ فِئَتَيْنِ} قالَ: "رَجَعَ نَاسٌ مِنْ أصْحَابِ النّبيّ صلى الله عليه وسلم يَوْمَ أُحُدٍ فَكَانَ النّاسُ فِيهِمْ فَرِيْقَيْنِ فَرِيقٌ مِنْهُمْ، يَقُولُ: اقْتُلْهُمْ، وَفَرِيقٌ يَقُولُ: لاَ. فَنَزَلَتْ هَذِهِ الآية: {فَمَا لَكُمْ فِي المُنَافِقِينَ فِئَتَيْنِ} فَقَالَ: إنّهَا طِيبَةٌ، وَقَالَ:
ـــــــ
قوله: "قال سمعت عبد الله بن يزيد" والخطمي، صحابي صغير.
قوله: "رجع ناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم يوم أحد" يعني عبد الله بن أبي وأصحابه، وقد ورد ذلك صريحاً في رواية موسى بن عقبة في المغازي وأن عبد الله بن أبي كان وافق رأيه رأى النبي صلى الله عليه وسلم على الإقامة بالمدينة فلما أشار غيره بالخروج وأجابهم النبي صلى الله عليه وسلم فخرج، قال عبد الله بن أبي لأصحابه: أطاعهم وعصاني علام نقتل أنفسنا فرجع بثلث الناس. قال ابن إسحاق في روايته فأتبعهم عبد الله بن عمرو بن حرام وهو والد جابر وكان خزرجياً كعبد الله بن أبي فناشدهم أن يرجعوا فأبوا، فقال أبعدكم الله "فكان الناس فيهم" أي في الحكم في من انصرف مع عبد الله بن أبي "فنزلت هذه الآية الخ" هذا هو الصحيح في سبب نزولها.
وأخرج ابن أبي حاتم من طريق زيد بن أسلم عن أبي سعيد بن معاذ قال: نزلت هذه الآية في الأنصار خطب رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: "من لي بمن يؤذيني، فذكر منازعة سعد بن معاذ وسعد بن عبادة وأسيد بن خضير ومحمد بن مسلمة" فأنزل الله هذه الآية.(8/382)
إنّهَا تَنْفِي الْخَبَثَ كَمَا تَنْفِي النّارُ خَبَثَ الْحَدِيدِ ".
ـــــــ
وفي سبب نزولها قول آخر أخرجه أحمد من طريق أبي سلمة بن عبد الرحمن عن أبيه أن قوماً أتوا المدينة فأسلموا فأصابهم الوباء فرجعوا فاستقبلهم ناس من الصحابة فأخبروهم، فقال بعضهم نافقوا، وقال بعضهم لا فنزلت.
وأخرجه ابن أبي حاتم من وجه آخر عن أبي سلمة مرسلاً، فإن كان محفوظاً احتمل أن تكون نزلت في الأمرين جميعاً كذا في الفتح قال الحافظ ابن جرير بعد ذكر عدة أقوال في سبب نزول هذه الآية ما لفظه: وأولى هذه الأقوال بالصواب في ذلك قول من قال نزلت هذه الآية في اختلاف أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم في قوم كانوا ارتدوا عن الإسلام بعد إسلامهم من أهل مكة، وإنما قلنا ذلك أولى بالصواب لأن اختلاف أهل التأويل في ذلك إنما هو على أحد قولين: أحدهما: أنهم قوم كانوا من أهل مكة على ما قد ذكرنا الرواية عنهم، و الآخر: أنهم قوم كانوا من أهل المدينة. وفي قول الله تعالى ذكره {فَلا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ أَوْلِيَاءَ حَتَّى يُهَاجِرُوا} أوضح الدليل على أنهم كانوا من غير أهل المدينة، لأن الهجرة كانت على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى داره ومدينته من سائر أرض الكفر، فأما من كان بالمدينة في دار الهجرة مقيماً من المنافقين وأهل الشرك فلم يكن عليه فرض هجرة لأنه في دار الهجرة كان وطنه ومقامه انتهى "إنها" أي المدينة "طيبة" هذا أحد أسماء المدينة، ويقال لها طابة أيضاً. روى مسلم من حديث جابر بن سمرة مرفوعاً: "إن الله سمى المدينة طابة" ورواه أبو داود الطيالسي في مسنده عن شعبة عن سماك بلفظ: كانوا يسمون المدينة يثرب فسماها النبي صلى الله عليه وسلم طابة. وأخرجه أبو عوانة والطاب والطيب لغتان بمعنى واشتقاقهما من الشيء الطيب "إنها تنفي الخبث" بفتح الخاء المعجمة والموحدة بعدها مثلثة أي الوسخ "كما تنفي النار خبث الحديد" أي وسخه الذي تخرجه النار.
والمراد أنها لا تترك فيها من في قلبه دغل، بل تميزه عن القلوب الصادقة، وتخرجه كما يميز الحداد رديء الحديد من جيده.(8/383)
هذا حديثٌ حسنٌ صحيحٌ.
5020- حدثنا الْحَسَنُ بنُ مُحمّدٍ الزّعْفَرَانِيّ، أخبرنا شَبَابَةُ أخبرنا وَرْقَاءُ بنُ عُمَرَ، عن عَمْرِو بنِ دِينَارٍ، عن ابنِ عَبّاسٍ، عن النّبيّ صلى الله عليه وسلم قالَ: "يَجِيءُ المَقْتُولُ بِالْقَاتِلِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ نَاصِيَتُهُ وَرَأْسُهُ بِيَدِهِ وَأَوْدَاجُهُ تَشْخَبُ دَمَاً يَقُولُ: يَا رَبّ قَتَلَنِي هذا حَتّى يُدْنِيَهُ مِنَ العَرْشِ" ، قَالَ: فَذَكَرُوا لابنِ عَبّاسٍ التّوْبَةَ فَتَلاَ هَذِهِ الآية: {وَمَنْ
ـــــــ
قال الخازن: معنى الآية فما لكم يا معشر المؤمنين في المنافقين فئتين أي صرتم في أمرهم فرقتين، فرقة تذب عنهم وفرقة تباينهم وتعاديهم، فنهى الله الفرقة الذين يذبون عنهم وأمر المؤمنين جميعاً أن يكونوا على منهاج واحد في التباين لهم والتبرئ منهم والله أركسهم: يعني نكسهم في كفرهم وارتدادهم وردهم إلى أحكام الكفار بماكسبوا: أي بسبب ما اكتسبوا من أعمالهم الخبيثة، وقيل بما أظهروا من الارتداد بعد ما كانوا على النفاق.
قوله: "هذا حديث حسن صحيح" وأخرجه الشيخان.
قوله: "أخبرنا ورقاء بن عمر" اليشكري وأبو بشر الكوفي نزيل المدائن، صدوق في حديثه عن منصور، لين من السابعة.
قوله: "يجيء المقتول بالقاتل" الباء للتعدية أي يحضره ويأتي به "ناصيته" أي شعر مقدم رأس القاتل "ورأسه" أي بقيته "بيده" أي بيد المقتول، والجملة حال من الفاعل، ويحتمل من المفعول على بعد وقد اكتفى فيها بالضمير. قال الطيبي: ويجوز أن يكون استئنافاً على تقدير السؤال عن كيفية المجيء به "وأوداجه" في النهاية هي ما أحاط بالعنق من العروق التي يقطعها الذابح واحدها ودج بالتحريك، وقيل الودجان عرقان غليظان عن جانبي نقرة النحر، وقيل عبر عن المثنى بصيغة الجمع للأمن من الالتباس كقوله تعالى: {فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا} "تشخب" بضم الخاء المعجمة وبفتحها، أي تسيل "دماً" تمييز محول عن الفاعل أي دمهما "يقول يا رب قتلني هذا" أي ويكرره "حتى يدنيه من العرش" من الإدناء: أي يقرب(8/384)
وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ} وقَالَ وَمَا نُسِخَتْ هَذِهِ الآية وَلاَ بُدّلَتْ وَأَنى لَهُ التّوْبَةُ".
هذا حديثٌ حسنٌ غريبٌ. وَقَدْ رَوَى بَعَضُهُمْ هَذَا الْحَدِيثَ عن عَمْرِو بنِ دِينَارٍ، عن ابنِ عَبّاسٍ نَحْوَهُ وَلَمْ يَرْفَعْهُ.
ـــــــ
المقتول القاتل من العرش وكأنه كناية عن استقصاء المقتول في طلب ثأره وعن المبالغة في إرضاء الله إياه بعدله "فذكروا لابن عباس التوبة" يعني قالوا له هل للقاتل توبة أم لا فتلا هذه الآية {وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ} تمام الآية: {خَالِداً فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَاباً عَظِيماً} "قال" أي ابن عباس "ما نسخت" بصيغة مجهول وكذا ما بدلت "وأنى له التوبة" أي لا تقبل توبته.
قال النووي: هذا هو المشهور عن ابن عباس رضي الله عنهما، وروى عنه أن له توبة وجواز المغفرة له لقوله تعالى {وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءاً أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ يَجِدِ اللَّهَ غَفُوراً رَحِيماً} وهذه الرواية الثانية هي مذهب جميع أهل السنة والصحابة والتابعين ومن بعدهم. وما روي عن بعض السلف مما يخالف هذا محمول على التغليظ والتحذير من القتل، وليس في هذه الآية التي احتج بها ابن عباس تصريح بأنه يخلد "وإنما فيها أنه جزاؤه ولا يلزم منه أن يجازى انتهى.
وقال الحافظ ابن جرير: وأولى القول في ذلك بالصواب قول من قال معناه: ومن يقتل مؤمناً متعمداً فجزاؤه أن جزاءه جهنم خالداً فيها ولكنه يعفو ويتفضل على أهل الإيمان به وبرسوله فلا يجازيهم بالخلود فيها، ولكنه عز ذكره إما أن يعفو بفضله فلا يدخله النار، وإما أن يدخله إياها ثم يخرجه منها بفضل رحمته لما سلف من وعده عباده المؤمنين بقوله: {يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً} فإن ظن ظان أن القاتل إن وجب أن يكون داخلاً في هذه الآية فقد يجب أن يكون المشرك داخلاً فيها، لأن الشرك من الذنوب، فإن الله عز ذكره قد أخبر أنه غير غافر الشرك لأحد بقوله: {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} والقتل دون الشرك انتهى.
قوله: "هذا حديث حسن" وأخرجه النسائي وابن ماجه.(8/385)
5021- حدثنا عَبْدُ بنُ حُمَيْدٍ، أخبرنا عَبْدُ العَزِيزِ بنُ أبي رِزْمَةَ عن إِسْرَائِيلَ، عن سِمَاكِ بنِ حَرْبٍ، عن عِكْرِمَةَ، عن ابنِ عَبّاسٍ قالَ: "مَرّ رَجُلٌ مِنْ بَنِي سُلَيْمٍ عَلَى نَفَرٍ مِنْ أصْحَابِ رَسولِ الله صلى الله عليه وسلم وَمَعَهُ غَنَمٌ لَهُ، فَسَلّمَ عَلَيْهِمْ، قَالُوا مَا سَلّمَ عَلَيْكُمْ إِلاّ لِيَتَعَوّذَ مِنْكُمْ، فَقَامُوا وَقَتَلُوهُ، وَأَخَذُوا غَنَمَهُ، فَأَتَوا بِهَا رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم، فَأَنْزَلَ الله تَعَالَى {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَتَبَيَّنُوا وَلا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلامَ لَسْتَ مُؤْمِناً} ".
هذا حديثٌ حسنٌ. وفي البابِ عن أُسَامَةَ بن زَيْدٍ.
ـــــــ
قوله: "حدثنا عبد العزيز بن أبي رزمة" بكسر الراء وسكون الزاي.
قوله: "فسلم عليهم" وفي رواية البراء فقال: أشهد أن لا إله إلا الله، وفي بعض الروايات قال: لا إله إلا الله محمد رسول الله السلام عليكم "ما سلم عليكم إلا ليتعوذ منكم" قال الجزري في النهاية في باب عوذ ومنه الحديث إنما قالها تعوذاً أي إنما أقر بالشهادة لاجئاً إليها ومعتصماً بها ليدفع عنه القتل وليس بمخلص في إسلامه {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ} يعني سافرتم إلى الجهاد {فَتَبَيَّنُوا} من البيان، يقال تبينت الأمر إذا تأملته قبل الإقدام عليه. وقرئ فتثبتوا من التثبت وهو خلاف العجلة. والمعنى فقفوا وتثبتوا حتى تعرفوا المؤمن من الكافر وتعرفوا حقيقة الأمر الذي تقدمون عليه {وَلا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلامَ} يعين التحية، يعني لا تقولوا لمن حياكم بهذه التحية إنه إنما قالها تعوذاً فتقدموا عليه بالسيف لتأخذوا ماله، ولكن كفوا عنه واقبلوا منه ما أظهره لكم {لَسْتَ مُؤْمِناً} يعني لست من أهل الإيمان فتقتلوه بذلك.
قوله: "هذا حديث حسن" وأخرجه البخاري في التفسير ومسلم في آخر الكتاب وأبو داود في الحروف والنسائي في السير وفي التفسير.
قوله: "وفي الباب عن أسامة بن زيد" أخرجه أحمد.(8/386)
5022- حدثنا مَحْمُودُ بنُ غَيْلاَنَ، أخبرنا وَكِيعٌ، أخبرنا سُفْيَانُ عن أبي إسْحَاقَ عن الَبَرَاءِ بنِ عَازِبٍ قالَ: "لَمّا نَزَلَتْ {لا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} الآية جَاءِ عَمْرُو بنُ أُمّ مَكْتُومٍ إلى النّبيّ صلى الله عليه وسلم قال: وَكَانَ ضَرِيرَ البَصَرِ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ الله مَا تَأْمُرُنِي إني ضَرِيرُ البَصَرِ، فَأَنْزَلَ الله تعالى هَذِهِ الآية {غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ} الآية، فَقَالَ النّبيّ صلى الله عليه وسلم: "إيتُوني بالكَتِفِ وَالدّوَاةِ أَوْ اللّوْحِ وَالدّوَاةِ" .
ـــــــ
قوله: "عن أبي إسحاق" هو السبيعي.
قوله: "جاء عمر بن أم مكتوم" هو المعروف بابن أم مكتوم الأعمى مؤذن النبي صلى الله عليه وسلم. وفي رواية البخاري أنه كان خلف النبي صلى الله عليه وسلم، فيجمع بأن معنى قوله جاء أنه قام من مقامه خلف النبي صلى الله عليه وسلم حتى جاء مواجهة فخاطبه "وكان ضرير البصر" في القاموس، الضرير الذاهب البصر جمعه أضراء فأنزل هذه الآية {غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ} الاَية وفي البخاري فنزلت مكانها {لا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ} قال ابن المنير: لم يقتصر الراوي في الحال الثاني على ذكر الكلمة الزائدة وهي غير أولي الضرر، فإن كان الوحي نزل بزيادة قوله غير أولي الضرر فقط، فكأنه رأى إعادة الآية من أولها حتى يتصل الاستثناء بالمستثنى منه، وإن كان الوحي نزل بإعادة الآية بالزيادة بعد أن نزل بدونها، فقد حكى الراوي صورة الحال. قال الحافظ: الأول أظهر فإن في رواية سهل بن سعد: فأنزل الله غير أولي الضرر، وأوضح من ذلك رواية خارجة بن زيد عن أبيه ففيها ثم سري عنه، فقال اقرأ، فقرأت عليه {لا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} فقال النبي صلى الله عليه وسلم غير أولي الضرر وفي حديث الفلتان بن عاصم في هذه القصة، قال فقال الأعمى: ما ذنبنا؟ فأنزل الله فقلنا له إنه يوحى إليه، فخاف أن ينزل في أمره شيء، فجعل يقول أتوب إلى الله فقال النبي صلى الله عليه وسلم للكاتب: أكتب غير أولي الضرر، أخرجه البزار والطبراني وصححه ابن حبان "إيتوني بالكتف والدواة" الكتف بفتح الكاف(8/387)
هذا حديثٌ حسنٌ صحيحٌ. وَيُقَالُ عَمْرُو بنُ أُمّ مَكْتُومٍ، وَيُقَالُ عَبْدُ الله بنُ أُمّ مَكْتُومٍ وَهُوَ عَبْدُ الله بنُ زَائِدَةَ وَأُمّ مَكْتُومٍ أُمّهُ.
5023- حدثنا الْحَسَنُ بنُ مُحمّدٍ الزّعْفَرَانِيّ، أخبرنا الْحَجّاجُ بنُ مُحمّدٍ، عن ابنِ جُرَيْجٍ، قال: أخْبَرَنِي عَبْدُ الكَرِيمِ، سَمِعَ مِقْسَماً مَوْلَى عَبْدِ الله بنِ الْحَارِثِ يُحَدّثُ، عن ابنِ عَبّاسٍ أنّهُ قَالَ: {لا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ} - عن بَدْرٍ - وَالخَارِجُونَ إلى بَدْرٍ لَمّا نَزَلَتْ غَزْوَةُ بَدْرٍ قَالَ عَبْدُ الله بنُ جَحْشٍ وَابنُ أُمّ مَكْتُومٍ: إنّا
ـــــــ
وكسر التاء: وهو عظم عريض يكون في أصل كتف الحيوان من الناس والدواب كانوا يكتبون فيه لقلة القراطيس عندهم.
قوله: "هذا حديث حسن صحيح" وأخرجه الشيخان.
قوله: "ويقال عمرو بن أم مكتوم الخ" قال في التقريب: عمرو بن زائدة أو ابن قيس بن زائدة، ويقال زياد القرشي العامري ابن أم مكتوم الأعمى الصحابي المشهور قديم الإسلام، ويقال اسمه عبد الله، ويقال الحصين، كان النبي صلى الله عليه وسلم استخلفه على المدينة، مات في آخر خلافة عمر. وقال في تهذيب التهذيب: أسلم قديماً وهاجر قبل مقدم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة واستخلفه النبي صلى الله عليه وسلم على المدينة ثلاث عشرة مرة، وشهد القادسية وقتل بها شهيداً، وكان معه اللواء يومئذ.
قوله: "أخبرني عبد الكريم" هو ابن مالك الجزري، بينه أبو نعيم في المستخرج من طريق يحيى بن سعيد الأموي عن ابن جريج قال حدثني عبد الكريم الجزري كذا في الفتح "سمع مقسماً مولى عبد الله بن الحارث" بكسر الميم، ويقال له مولى ابن عباس للزومه له.
قوله: "عن بدر والخارجون إلى بدر" هذا تفسير من ابن عباس رضي الله عنه، يعني أن المراد من قوله القاعدون، القاعدون عن غزوة بدر ومن قوله المجاهدون الخارجون إلى غزوة بدر ولكن العبرة لعموم اللفظ لا لخصوص السبب "قال(8/388)
أَعْمَيَانِ يَا رَسُولَ الله فَهَلْ لَنَا رُخْصَةٌ؟ فَنَزَلَتْ {لا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ} و {فَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ} {عَلَى القَاعِدِينَ دَرَجَةً} فَهُؤَلاَءِ القَاعِدُونَ غَيْرُ أُولِي الضّرَرِ {وَفَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ عَلَى الْقَاعِدِينَ أَجْراً عَظِيماً} دَرَجَاتٍ مِنْهُ عَلَى القَاعِدِينَ مِنَ المُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولي الضّرَرِ".
ـــــــ
عبد الله بن جحش" قال العيني في شرح البخاري: قوله عبد الله بن جحش: قيل أبو أحمد بن جحش كما ذكره الطبري في روايته من طريق الحجاج نحو ما أخرجه الترمذي، وذلك لأن عبد الله بن جحش هو أخو أبي أحمد بن جحش واسم أبي أحمد عبد بدون إضافة وهو مشهور بكنيته، وأيضاً أن عبد الله بن جحش لم ينقل أن له عذراً إنما المعذور أخوه أبو أحمد بن جحش. وذكر الثعلبي عن الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس أنه ابن جحش وليس بالأسدي، وكان أعمى، وأنه جاء هو وابن أم مكتوم فذكرا رغبتهما في الجهاد مع ضررهما فنزلت غير أولي الضرر، فجعل لهما من الأجر ما للمجاهدين انتهى.
اعلم أن الحافظ قد نقل في الفتح حديث ابن عباس هذا عن الترمذي بتمامه من أوله إلى آخره ثم قال: هكذا أورده الترمذي سياقاً واحداً، ومن قوله درجة الخ، مدرج في الخبر من كلام ابن جريج بينه الطبري، فأخرج من طريق حجاج نحو ما أخرجه الترمذي إلى قوله درجة ووقع عنده، فقال عبد الله بن أم مكتوم وأبو أحمد بن جحش وهو الصواب في ابن جحش، فإن عبد الله أخوه، وأما هو فاسمه عبد بغير إضافة وهو مشهور بكنيته ثم أخرجه بالسند المذكور عن ابن جريج قال {وَفَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ عَلَى الْقَاعِدِينَ أَجْراً عَظِيماً دَرَجَاتٍ مِنْهُ} درجات منه قال علي: القاعدين من المؤمنين غير أولي الضرر. وحاصل تفسير ابن جريج أن المفضل عليه غير أولى الضرر، أما أولو الضرر فملحقون في الفضل بأهل الجهاد إذا صدقت نياتهم كما تقدم في المغازي من حديث أنس: "إن بالمدينة لأقواماً ما سرتم من مسير ولا قطعتم من واد إلا وهم معكم حبسهم العذر".
ويحتمل أن يكون المراد بقوله: {فَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ} {عَلَى الْقَاعِدِينَ دَرَجَةً} أي من أولي الضرر وغيرهم. وقوله: {وَفَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ عَلَى الْقَاعِدِينَ أَجْراً(8/389)
هذا حديثٌ حسنٌ غريبٌ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ من حَدِيثِ ابنِ عَبّاسٍ. وَمِقْسَمٌ يُقَالُ هو مَوْلَى عَبْدِ الله بنِ الْحَارِثِ ويُقَالُ هو مَوْلَى عَبْدِ الله بنِ عَبّاسٍ وَمِقْسَمٌ يُكْنَى أَبَا القَاسِمِ.
5024- حدثنا عَبْدُ بنُ حُمَيْدٍ، حدثني يَعْقُوبُ بنُ إبْرَاهِيمَ بنِ سَعْدٍ عن أبيه عن صَالِحِ بنِ كَيْسَانَ، عن ابنِ شِهَابٍ: حدثني سَهْلُ بنُ سَعْدٍ
ـــــــ
عَظِيماً دَرَجَاتٍ مِنْهُ} أي على القاعدين من غير أولي الضرر، ولا ينافي ذلك الحديث المذكور عن أنس ولا ما دلت عليه الآية من استواء أولي الضرر مع المجاهدين لأنها استثنت أولي الضرر من عدم الاستواء فأفهمت إدخالهم في الاستواء إذا لا اسطة بين الاستواء وعدمه، لأن المراد منه استواؤهم في أصل الثواب لا في المضاعفة لأنها تتعلق بالفعل انتهى كلام الحافظ. وفي تفسير الجلالين لا يستوي القاعدون من المؤمنين عن الجهاد غير أولي الضرر بالرفع صفة والنصب استثناء من زمانة أو عمى ونحوه، والمجاهدون في سبيل الله بأموالهم وأنفسهم فضل الله المجاهدين بأموالهم وأنفسهم على القاعدين لضرر، درجة فضيلة لاستوائهما في النية وزيادة المجاهد بالمباشرة وكلاً من الفريقين وعدالله الحسنى الجنة، وفضل الله المجاهدين على القاعدين لغير ضرر أجراً عظيماً ويبدل منه درجات منه منازل بعضها فوق بعض من الكرامة ومغفرة ورحمة منصوبتان بفعلهما المقدر وكان الله غفوراً لأوليائه رحيماً بأهل طاعته انتهى. قال في الكمالين: فعلى هذا قوله تعالى {وَفَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ عَلَى الْقَاعِدِينَ أَجْراً عَظِيماً} الخ فيمن قعد بغير عذر والذي قبله فيمن قعد بعذر، والأكثرون على أن القولين كليهما فيمن قعد بغير عذر وإنما كرر وأوجب في الأول درجة، وفي الثاني درجات، لأن المراد بالدرجة الظفر والغنيمة والذكر الجميل في الدنيا، وبالدرجات ثواب الآخرة. بينت بالإفراد في الأول والجمع في الثاني لأن ثواب الدنيا في جنب ثواب الآخرة يسير انتهى ملخصاً.
قوله: "هذا حديث حسن غريب" وأخرجه البخاري في صحيحه إلى قوله والخارجون إلى بدر.
قوله: "عن صالح بن كيسان" المدني أبو محمد، أو أبو الحارث مؤدب ولد(8/390)
السّاعِدِيّ قَالَ: "رَأَيْتُ مَرْوَانَ بنَ الحَكَمِ جَالِساً فِي المَسْجِدِ فَأَقْبَلتُ حتّى جَلَسْتُ إلى جَنْبِهِ، فَأَخْبَرَنَا أنّ زَيْدَ بنَ ثَابِتٍ أخبَرَهُ أَنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم أمْلَى عَلَيْهِ {لا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} {وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ} ، قالَ: فَجاءَهُ ابنُ أُمّ مَكْتُومٍ، وَهُوَ يُمِلّهَا عَلَيّ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ الله، وَالله لَوْ أَسْتَطِيعُ الْجِهَادَ لَجَاهَدْتُ، وَكَانَ رَجُلاً أَعْمَى، فَأَنْزَلَ الله عَلَى رَسُولِهِ صلى الله عليه وسلم - وَفَخِذُهُ عَلَى فَخِذِي - فَثَقُلَتْ حَتّى هَمّتْ تَرُضّ فَخِذِي، ثُمّ سُرّي عَنْهُ فَأَنْزَلَ الله عَلَيْهِ {غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ} ".
هذا حديثٌ حسنٌ صحيحٌ. هكذا روى غير واحد عن الزهري عن سهل بن سعد نحو هذا أو روى معمر عن الزهري هذا الحديث عن قبيصة بن رؤيب عن زيد بن ثابت. وَفِي الْحَدِيثِ رِوَايَةُ رَجُلٍ مِنْ أصحَابِ النّبيّ صلى الله عليه وسلم عن رَجُلٍ مِنَ التّابِعِينَ. رواه سَهْلُ بنُ سَعْدٍ الأنْصَارِيّ عن مَرْوانَ بنِالْحَكَمِ. وَمَرْوانُ لَمْ يَسْمَعْ مِنَ النّبِيّ صلى الله عليه وسلم وَهُوَ مِنَ التّابِعِينَ.
ـــــــ
عمر بن عبد العزيز، ثقة ثبت فقيه من الرابعة "رأيت مروان بن الحكم" أي ابن أبي العاص أمير المدينة الذي صار بعد ذلك خليفة.
قوله: "أملي عليه" يقال أمليت الكتاب وأمللته: إذا ألقيته على الكاتب ليكتب "وهو يملها" بضم أوله وكسر الميم وتشديد اللام وهو مثل يمليها يملي ويملل بمعنى، ولعل الياء منقلبة من إحدى اللامين "والله لو أستطيع الجهاد" أي لو استطعته وعبر بالمضارع إشارة إلى الاستمرار واستحضاراً لصورة الحال "وفخذه على فخذي" الواو للحال "حتى همت" أي قربت "ترض فخذي" بصيغة المعلوم أي تدق فخذه صلى الله عليه وسلم فخذي، أو بصيغة المجهول أي تدق "ثم سري عنه" بالتخفيف والتشديد أي كشف وأزيل.
قوله: "هذا حديث حسن صحيح" وأخرجه البخاري.
قوله: "وفي هذا الحديث رواية رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم" هو سهل بن سعد رضي الله عنه "عن رجل من التابعين" هو مروان بن الحكم(8/391)
5025- حدثنا عَبْدُ بنُ حُمَيْدٍ، أخبرنا عَبْدُ الرّازّاقِ، أخبرنا ابنُ جُرَيْجٍ قَالَ: سَمِعْتُ عَبْدَ الرّحمَنِ بنَ عَبْدِ الله بنِ أبي عَمّارٍ يُحَدّثُ عن عَبْدِ الله بنِ بَابَاه عن يَعْلَى بنِ أُمَيّةَ قالَ: "قُلْتُ لَعُمَرَ بن الخطاب إنّمَا قَالَ الله {أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ} وَقَدْ أَمِنَ النّاسُ، فَقَالَ عُمَرُ: عَجِبْتُ مِمّا عَجِبْتَ مِنْهُ، فَذَكَرْتُ ذَلِكَ لِرَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ: "صَدَقَةٌ تَصَدّقَ الله بِهَا عَلَيْكُمْ فَاقْبَلُو صَدَقَتَهُ" .
ـــــــ
"روى سهل بن سعد الأنصاري عن مروان بن الحكم" بيان لما قبله "ومروان لم يسمع من النبي صلى الله عليه وسلم وهو من التابعين" قال الحافظ في الفتح بعد نقل كلام الترمذي هذا ما لفظه: لا يلزم من عدم السماع عدم الصحبة والأولى ما قال فيه البخاري لم ير صلى الله عليه وسلم. وقد ذكره ابن عبد البر في الصحابة لأنه ولد في عهد النبي صلى الله عليه وسلم قبل عام أحد، وقيل عام الخندق، وثبت عن مروان أنه قال لما طلب الخلافة فذكروا له ابن عمر. فقال ليس ابن عمر بأفقه مني ولكنه أسن مني وكانت له صحبة. فهذا اعتراف منه بعدم صحبته وإنما لم يسمع من النبي صلى الله عليه وسلم وإن كان سماعه ممكناً لأن النبي صلى الله عليه وسلم نفى أباه إلى الطائف فلم يرده إلا عثمان لما استخلف.
قوله: "سمعت عبد الرحمن بن عبد الله بن أبي عمار" المكي حليف بني جمح الملقب بالقس بفتح القاف وتشديد السين المهملة، ثقة عابد من الثالثة، ولقب بالقس لعبادته "عن يعلى بن أمية" بن أبي عبيدة بن همام التميمي حليف قريش وهو يعلى بن منية بضم الميم وسكون النون بعدها تحتانية مفتوحة وهي أمة، صحابي مشهور، مات سنة بضع وأربعين "يحدث عن عبد الله بن باباه" بموحدتين بينهما ألف ساكنة.
قوله: "قلت لعمر" أي ابن الخطاب "إنما قال الله أن تقصروا" أي وإذا ضربتم في الأرض أي سافرتم فليس عليكم جناح أن تقصروا "وقد أمن الناس" أي وذهب الخوف فما وجه القصر "فقال صدقة" أي قصر الصلاة في السفر صدقة "تصدق الله" أي تفضل "بها عليكم" أي توسعة ورحمة "فاقبلوا صدقته"(8/392)
هذا حديثٌ حسنٌ صحيحٌ.
5026- حدثنا مَحمُودُ بنُ غَيْلاَنَ أخبرنا عَبْدُ الصّمَدِ بنُ عَبْدِ الْوَارِثِ أخبرنا سَعِيدُ بنُ عبد الْهُنَانيّ، أخبرنا عَبْدُ الله بنُ شَقِيقٍ: أخبرنا أبُو هُرَيْرَةَ "أنّ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم نَزَلَ بَيْنَ ضُجْنَانَ وَعُسْفَانَ، فَقَالَ المُشْرِكُونَ إنّ لِهَؤُلاَءِ صَلاَةً هِيَ أَحَبّ إِلَيْهِمْ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَبْنَائِهمْ، وَهِيَ العَصْرُ فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ فَمِيلُوا عَلَيْهمْ مَيْلَةً وَاحِدَةً وَأَنّ جِبْرَيلَ أتى النّبيّ صلى الله عليه وسلم فَأَمَرَهُ أنْ يَقْسِمَ أصْحَابَهُ شَطْرَيْنِ فَيُصَلّيَ بِهِمْ،
ـــــــ
أي سواء حصل الخوف أم لا. قال النووي: في هذا الحديث جواز القصر في غير الخوف، وفيه إن المفضول إذا رأى الفاضل يعمل شيئاً يشكل عليه دليله يسأله عنه انتهى. وقد استدل بقوله: فاقبلوا صدقته، من قال بوجوب قصر الصلاة في السفر وقد تقدم الكلام في هذه المسألة، في باب التقصير في السفر من أبواب الصلاة.
قوله: "هذا حديث حسن صحيح" وأخرجه أحمد ومسلم وأبو داود والنسائي وابن ماجه.
قوله: "أخبرنا سعيد بن عبيد الهنائي" بضم الهاء وتخفيف النون، البصري لا بأس به من السادسة.
قوله: "نزل بين ضجنان" بالضاد المعجمة والجيم والنون. قال في النهاية هو موضع أو جبل بين مكة والمدينة "وعسفان" كعثمان موضع على مرحلتين من مكة كذا في القاموس. وقال في النهاية: هي قرية جامعة بين مكة والمدينة "فقال المشركون" أي بعضهم لبعض "إن لهؤلاء" أي للمسلمين "وهي العصر" لما وقع في تأكيد المحافظة على مراعاتها في قوله تعالى: {حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلاةِ الْوُسْطَى} {فَأَجْمِعُوا} بفتح الهمزة وكسر الميم {أَمْرَكُمْ} أي أمر القتال، والمعنى فاعزموا عليه "فميلوا عليهم ميلة واحدة" أي فاحملوا عليهم حملة واحدة "وأن جبرئيل أتى النبي صلى الله عليه وسلم" قال الطيبي: حال من قوله(8/393)
وَتَقُومَ طَائِفَةٌ أُخْرَى وَرَاءَهُمْ وَلْيَأخُذُوا حِذْرَهُمْ وَأَسْلِحَتَهُمْ، ثُمّ يَأتي الآخرون وَيُصَلّونَ مَعَهُ رَكْعَةً وَاحِدَةً ثُمّ يَأْخُذُ هَؤلاَءِ حِذْرَهُمْ وَأَسْلِحَتَهُمْ فَتَكُونُ لَهُمْ رَكْعَة رَكْعَة وَلِرَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم رَكْعَتَانِ".
هذا حديثٌ حسنٌ غريبٌ مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ الله بنِ شَقِيقٍ، عن أبي هُرَيْرَةَ.
وفي البابِ عن عَبْدِ الله بنِ مَسْعُودٍ وَزَيْدِ بنِ ثَابِتٍ، وَابنِ عَبّاسٍ وَجَابِرٍ وَأَبي عَيّاشٍ الزّرَقِيّ وَابنِ عُمَرَ وَحُذَيْفَةَ وَأَبي بَكْرَةَ وَسَهْلِ بنِ أبي حَثْمَةَ. وَأَبُو عَيّاشِ الزّرَقِيّ اسْمُهُ زَيْدُ بنُ الصّامِتِ.
ـــــــ
فقال المشركون على نحو جاء زيد والشمس طالعة، فأمره أن يقسم أصحابه شطرين أي نصفين وفي رواية النسائي بصفين "فيصلي" بالنصب "بهم" وفي رواية النسائي فيصلي بطائفة منهم "وتقوم" بالنصب "طائفة أخرى وراءهم ليأخذوا حذرهم وأسلحتهم" وفي رواية النسائي: وطائفة مقبلون على عدوهم قد أخذوا حذرهم وأسلحتهم. قال الطيبي: أي ما فيه الحذر، وفي الكشاف: جعل الحذر وهو التحزر والتيقظ آلة يستعملها الغازي فلذلك جمع بينه وبي الأسلحة في الأخذ دلالة على التيقظ التام والحذر الكامل ومن ثم قدمه على أخذ الأسلحة "ثم يأتي الآخرون ويصلون معه ركعة واحدة" وفي رواية النسائي ثم يتأخر هؤلاء ويتقدم أولئك فيصلي بهم ركعة "ثم يأخذ هؤلاء" أي الطائفة الأولى "فتكون لهم ركعة ركعة" أي معه صلى الله عليه وسلم وتصلي كل طائفة منهما ركعة أخرى لأنفسهم لتكون لكل منهما ركعتان، وقال قوم: هو محمول على ظاهره وعدوه من خصائص صلاة الخوف.
قوله: "هذا حديث حسن غريب صحيح" وأخرجه النسائي.
قوله: "وفي الباب عن عبد الله بن مسعود وزيد بن ثابت الخ" تقدم تخريج أحاديث هؤلاء الصحابة رضي الله عنهم في باب صلاة الخوف.(8/394)
5027- حدثنا الْحَسَنُ بنُ أَحْمَدَ بنِ أبي شُعَيْبٍ أبُو مُسْلِم الْحَرّانيّ، أخبرنا مُحَمّدُ بنُ سَلَمَةَ الْحَرّانيّ، أخبرنا مُحمّدُ بنُ إسْحَاقَ عن عَاصِمِ بنِ عُمَرَ ابنِ قَتَادَةَ عن أبِيهِ عن جَدّهِ قَتَادَةَ بنِ النّعْمَانِ، قالَ: "كَانَ أهْلُ بَيْتٍ مِنّا يُقَالَ لَهُمْ بَنُو أُبَيْرِقٍ بِشْرٌ وَبُشَيْرٍ وَمُبَشّرٌ، وَكَانَ بُشَيْرٌ رَجُلاً مِنَافِقَاً، يَقُولُ الشّعْرَ يَهْجُو بِهِ أصْحَابَ النّبيّ صلى الله عليه وسلم ثُمّ يَنْحَلُهُ بَعْضَ العَرَبِ، ثُمّ يَقُولُ: قالَ فَلاَنٌ كَذَا وَكَذَا، فَإِذَا سَمِعَ أصْحَابُ رَسولِ الله صلى الله عليه وسلم ذَلِكَ الشّعْرَ، قالُوا: والله مَا يَقُولُ هَذَا الشّعْرَ إِلاّ هَذَا الْخَبِيثُ أوْ كَمَا قالَ الرّجُلُ وَقَالُوا: ابنُ الابَيْرِقِ قَالَهَا. قَالَ وَكَانُوا أهْلَ بَيْتِ حَاجَةٍ وَفَاقَةٍ فِي الْجَاهِلِيّةِ وَالإِسْلاَمِ، وَكَانَ النّاسُ إنّمَا طَعَامُهُمْ بِالمَدِينَةِ التّمْرُ وَالشّعِيرُ، وَكَانَ الرّجُلُ إذَا كَانَ لَهُ يَسَارٌ فَقَدِمَتْ ضَافِطَةٌ مِنَ الشّامِ مِنَ الدّرْمَكِ ابْتَاعَ الرجُلُ مِنْهَا فَخَصّ بِهَا نَفْسَهُ،
ـــــــ
قوله: "حدثنا الحسن بن أحمد بن أبي شعيب أبو مسلم الحراني"، بفتح حاء مهملة وشدة راء وبنون، نزيل بغداد ثقة يغرب من الحادية عشرة "أخبرنا محمد ابن سلمة" بن عبد الله الباهلي مولاهم، ثقة من الحادية عشرة "أخبرنا محمد بن إسحاق" هو صاحب المغازي "عن أبيه" أي عمر بن قتادة الظفري الأنصاري المدني، مقبول من الثالثة.
قوله: "يقال لهم بنو أبيرق" بضم الهمزة وفتح الموحدة مصغراً "ثم ينحله بعض العرب" أي ينسبه إليهم من النحلة وهي النسبة بالباطل كذا في النهاية. وقال في القاموس: نحله القول كمنعه نسبه إليه "قال فلان، كذا وكذا" وقعت هذه الجملة في بعض النسخ مكررة هكذا قال فلان وكذا وكذا، وقال فلان كذا وكذا "أو كما قال الرجل" أو للشك من الراوي، أي قال لفظ الخبيث. أو قال لفظ الرجل "وقال ابن الأبيرق قالها" أي هذه الأشعار "وكانوا" أي(8/395)
وَأَمّا الْعِيَالُ فَإِنّمَا طَعَامُهُمْ التّمْرُ وَالشّعِيرُ، فَقَدِمَتْ ضَافِطَةٌ مِنَ الشّامِ فَابْتَاعَ عَمّي رِفَاعَةُ بنُ زَيْدِ حِمْلاً مِنَ الدّرْمَكِ فَجَعَلَهُ فِي مَشْرَبَةٍ لَهُ وَفِي المَشْرَبَةِ سِلاَحٌ، دِرْعٌ وَسَيْفٌ، فَعُدِيَ عَلَيْهِ مِنْ تَحْتِ الْبَيْتِ، فَنُقبَتْ المَشْرَبَةُ وَأُخِذَ الطّعَامُ وَالسّلاَحُ. فَلَمّا أَصْبَحَ أتَانِي عَمّي رِفَاعَةُ، فَقَالَ: يَا ابنَ أخي إنّهُ قَدْ عُدِيَ عَلَيْنَا فِي لَيْلَتِنَا هَذِهِ، فَنُقبَتْ مَشْرَبَتُنَا وَذُهِبَ بِطَعَامِنَا وَسِلاحِنَا، قَالَ: فَتَحَسّسْنَا فِي الدّارِ وَسَأَلْنَا فَقِيلَ لَنَا قَدْ رَأَيْنَا بَنِي أُبَيْرِقٍ اسْتَوْقَدُوا فِي هَذِهِ اللّيْلَةِ، وَلاَ نَرَى فِيمَا نَرَى إلاّ عَلَى بَعْضِ طَعَامِكُمْ، قالَ: وَكَانَ بَنُو أُبَيْرِقٍ، قالُوا - وَنَحْنُ نَسَأَلُ فِي الدّارِ - وَالله ما نُرَى صَاحِبكُمْ إلاّ لَبِيدَ بنَ سَهْلٍ "رَجُلٌ مِنّا، لَهُ صَلاَحٌ وَإِسْلاَمٌ" فَلَمّا سَمِعَ
ـــــــ
بنو أبيرق "إذا كان له يسار" أي غنى "فقدمت ضافطة من الشام" قال في النهاية: الضافط والضفاط: من يجلب الميرة والمتاع إلى المدن، والمكاري: الذي يكري الأحمال وكانوا يومئذ قوماً من الأنباط يحملون إلى المدينة الدقيق والزيت وغيرهما "من الدرمك" بوزن جعفر، هو الدقيق الحواري "فجعله" أي فوضعه "في مشربة" في القاموس: المشربة وقد تضم الراء: الغرفة والعلية "سلاح" بكسر السين وهو اسم جامع لاَلات الحرب والقتال يذكر ويؤنث "درع وسيف" بيان لسلاح "فعدي عليه" بصيغة المجهول أي سرق ماله وظلم، يقال عدى عليه: أي ظلمه "فنقبت" من التنقيب أو النقب "فتحسسنا" من التحسس بالحاء المهملة: قال في النهاية التجسس بالجيم: التفتيش عن بواطن الأمور، وأكثر ما يقال في الشر، وقيل التجسس بالجيم: أن يطلبه لغيره، وبالحاء: أن يطلبه لنفسه، وقيل بالجيم: البحث عن العورات، وبالحاء: الاستماع. وقيل معناهما واحد في تطلب معرفة الأخبار، وفي القاموس: التحسس الاستماع لحديث القوم وطلب خبرهم في الخير "في الدار" أي في المحلة "ونحن نسأل في الدار" جملة حالية "والله ما نرى صاحبكم إلا لبيد بن سهل" هذا مقول قالوا "رجل منا" أي هو رجل منا "له(8/396)
لَبِيدٌ اخْتَرَطَ سَيْفَهُ، وَقَالَ: أنَا أَسْرِقُ؟ فَوَالله لَيُخَالِطَنّكُمْ هَذَا السّيْفُ أوْ لَتُبَيّنُنّ هَذِهِ السّرِقَةَ. قَالُوا: إلَيْكَ عَنّا أَيّهَا الرّجُلُ فَمَا أَنْتَ بِصَاحِبهَا فَسَأَلْنَا فِي الدّارِ حَتّى لَمْ نَشُكّ أنّهُمْ أصْحَابُهَا، فَقَالَ لِي عَمّي يَا ابْنَ أخِي لَوْ أتَيْتَ رَسولَ الله صلى الله عليه وسلم فَذَكرْتَ ذَلِكَ لَهُ. قالَ قَتَادَةُ فَأَتَيْتُ رَسولَ الله صلى الله عليه وسلم فَقُلْتُ إنّ أهْلَ بَيْتِ مِنّا أهْلَ جَفَاءٍ عَمَدُوا إلى عَمّي رِفَاعَةَ بنِ زَيْدٍ فَنَقّبُوا مَشْرَبَةً لَهُ وَأَخَذُوا سِلاَحَهُ وَطَعَامَهُ فَلْيَرُدّوا عَلَيْنَا سِلاَحَنَا، فَأَمّا الطّعَامُ فَلاَ حَاجَةَ لَنَا فِيهِ، فَقَالَ النّبيّ صلى الله عليه وسلم: "سَآمُرُ فِي ذَلِكَ" فَلَمّا سَمِعَ بَنُو أُبَيْرِقٍ أَتَوْا رَجُلاً مِنْهُمْ، يُقَالُ لَهُ: أُسَيْرُ بنُ عُرْوَةَ فَكَلّمُوهُ فِي ذَلِكَ فَاجْتَمَعَ فِي ذَلِكَ نَاسٌ مِنْ أهْلِ الّدارِ، فَقَالُوا: يَا رَسُولَ الله إنّ قَتَادَةَ بنَ النّعْمَانِ وَعَمّهُ عَمَدَا إلى أهْلِ بَيْتٍ مِنّا أهْلِ إِسْلاَمٍ وَصَلاَحٍ يَرْمُونَهُمْ بِالسّرِقَةِ مِنْ غَيْرِ بَيّنَةٍ، وَلاَ ثَبْتٍ. قَالَ قَتَادَةَ: فَأَتَيْتُ رَسولَ الله صلى الله عليه وسلم فَكَلّمْتُهُ فَقَالَ: "عَمِدْتَ إلى أهْلِ بَيْتٍ ذُكِرَ مِنْهُمْ إِسْلاَمٌ وَصَلاَحٌ تَرْمِيِهمْ بِالسّرِقَةِ عَلَى غَيْرِ ثَبْتٍ وَبَيّنَةٍ". قَالَ فَرَجَعْتُ وَلَوَدِدْتُ أنّي خَرَجْتُ مِنَ بَعْضِ مَالِي وَلَمْ أُكَلّمْ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم فِي ذَلِكَ، فَأَتَانِي عَمّي رِفَاعَةُ، فَقَالَ: يَا ابنَ أخِي مَا صَنَعْتَ، فَأَخْبَرْتُهُ بِمَا قَالَ لِي رسولُ الله صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ الله المُسْتَعَانُ، فَلَمْ يَلْبَثْ أنْ نَزَلَ القْرْآنُ: {إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ
ـــــــ
صلاح وإسلام" صفة لرجل "اخترط سيفه" أي استله "إليك عنا" أي تنح عنا "فما أنت بصاحبها" أي لست بصاحب السرقة "حتى لم نشك أنهم" أي بني أبيرق "أهل جفاء" بالنصب صفة لأهل بيت، والجفاء بالمد: ترك البر والصلة.(8/397)
الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ وَلا تَكُنْ لِلْخَائِنِينَ خَصِيماً} بَنِي أُبَيْرِقٍ {وَاسْتَغْفِرِ اللَّهَ} أي مِمّا قُلْتَ لِقَتَادَةَ {إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُوراً رَحِيماً وَلا تُجَادِلْ عَنِ الَّذِينَ يَخْتَانُونَ أَنْفُسَهُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ مَنْ كَانَ خَوَّاناً أَثِيماً. يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ وَلا يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللَّهِ وَهُوَ مَعَهُمْ} - إلى قَوْلِهِ {رَحِيماً} أيْ لَوْ اسْتَغْفَرُوا الله لَغَفَرَ لَهُمْ {وَمَنْ يَكْسِبْ إِثْماً فَإِنَّمَا يَكْسِبُهُ عَلَى نَفْسِهِ} إلى قَوْلِهِ {إِثْماً مُبِيناً} قَوْلَهُمْ لِلَبِيدٍ {وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ وَرَحْمَتُهُ} إلى قَوْلِهِ {فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً} فَلَمّا نَزَلَ القُرآنُ أُتِيَ رَسولُ الله صلى الله عليه وسلم بِالسّلاَحِ فَرَدّهُ إلى رِفَاعَةَ. فَقَالَ قَتَادَةُ: لَمّا أَتَيْتُ عَمّي بِالسّلاَحِ، وَكَانَ شَيْخاً قَدْ عَشَا أوْ عَسَا - الشّكّ مِنْ أبي عِيسَى - فِي الْجَاهِلِيّةِ، وَكُنْتُ أُرَى إسْلاَمَهُ مَدْخْولاً، فَلَمّا أتَيْتُهُ قَالَ يَا ابنَ أخِي هُوَ فِي سَبِيلِ الله، فَعَرَفْتُ أنّ إسْلاَمَهُ كَانَ صَحِيحاً، فَلَمّا نَزَلَ
ـــــــ
"ولا تكن للخائنين خصيماً بني أبيرق"، قوله بني أبيرق تفسير وبيان للخائنين "مما قلت لقتادة"، هذا تفسير وبيان لما أمر الله نبيه بالاستغفار منه "أي لو استغفروا الله لغفر لهم" هذا تفسير يتعلق بقوله تعالى في الآية، {وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءاً أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ يَجِدِ اللَّهَ غَفُوراً رَحِيماً} ، "قولهم للبيد" هذا تفسير لقوله تعالى في الآية، ثم يرم به بريئاً. "وكان شيخنا قد عشا أو عسا" هو بالسين المهملة، أي كبر وأسن من عسا القضيب إذا يبس وبالمعجمة أي قل بصره وضعف كذا في النهاية. وقال في القاموس: عسا الشيخ يعسو عسْواً وعُسواً وعسياً وعساء، وعسى عسًى كبر، والنبات عسا وعُسواً، غلظ ويبس، والعشاء مقصورة: سوء البصر بالليل والنهار كالعشاوة أو العمى عشى كرضي، ودعا عشاً "في الجاهلية" متعلق بعشا "وكنت أرى" بضم الهمزة أي أظن "مدخولاً".
قال في النهاية: الدخل بالتحريك: العيب والغش والفساد، يعني أن إيمانه كان(8/398)
القُرْآنُ لَحِقَ بُشَيْرٌ بِالمُشْرِكِينَ، فَنَزَل عَلَى سُلاَفَةَ بِنْتِ سَعْدِ بنِ سُمَيّةَ، فَأَنْزَلَ الله تَعَالَى: {وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيراً إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً بَعِيداً} فَلَمّا نَزَلَ عَلَى سُلاَفَةَ رَمَاهَا حَسّانُ بنُ ثَابِتٍ بأَبْيَاتٍ مِنْ شَعْره، فَأَخَذْتُ رَحْلَهُ فَوَضَعْتُهُ عَلَى رَأْسِهَا، ثُمّ خَرَجَتْ بِهِ فَرَمَتْ بِهِ فِي اْلأبْطَحِ، ثُمّ قَالَتْ: أهْدَيْتَ لِي شِعْرَ حَسّانَ مَا كُنْت تَأْتِينِي بخَيْرِ".
هذا حديثٌ غريبٌ لاَ نَعْلَمُ أحَداً أسْنَدَهُ غَيْرَ مُحمّدِ بنِ سَلَمَةَ الْحَرّانِيّ. وَرَوَى يُونُسُ بنُ بُكَيْرٍ وَغَيْرُ وَاحِدٍ هَذَا الْحَدِيثَ، عن مُحمّدِ بنِ إسحْاقَ، عن عَاصِمِ بنِ عُمَرَ بنِ قَتَادَةَ مُرْسل لَمْ يَذْكُرُوا فِيهِ عن أبِيهِ عن جَدّهِ. وَقَتَادَةُ بنُ النّعْمَانِ هوَ أخُو أبي سَعِيدٍ الْخُدْرِيّ لأُمّةِ. وَأَبُو سَعِيدٍ الخدريّ اسْمُهُ سَعْدُ بنُ مَالِكِ بنِ سِنَانٍ.
5028- حدثنا خَلاّدُ بنُ أَسْلَمَ البَغْدَادِيّ، أخبرنا النّضْرُ بنُ شُمَيْلٍ عن إِسْرَائِيلَ عن ثُوَيْرٍ وَهُوَ ابنُ أَبي فَاخِتَةَ عن أبِيهِ عن عَلَيّ بنِ أبي طَالِبٍ
ـــــــ
متزلزلاً فيه نفاق "فنزل على سلافة" بضم سين مهملة وخفة لام وبفاء.
قوله: "هذا حديث غريب" وأخرجه ابن جرير وابن المنذر وأبو الشيخ الأصبهاني والحاكم في مستدركه. وقال: هذا حديث صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه.
قوله: "عن أبيه" أي أبي فاختة، واسمه سعيد بن علاقة الهاشمي، مولاهم الكوفي مشهور بكنيته، ثقة من الثالثة.(8/399)
قالَ: "مَا فِي القُرَآنِ آية أَحَبّ الَيّ مِنْ هَذِهِ الآية: {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} .
وهذا حديثٌ حسنٌ غريبٌ. وأَبُو فَاخِتَةَ اسْمُهُ سَعِيدُ بنُ عِلاَقَةَ وَثُوَيْرٌ يُكْنَى أَبَا جَهْمٍ، وَهُو كُوفِيّ رَجُلٌ من التابعين، وَقَدْ سَمِعَ مِنْ ابنِ عُمَرَ، وَابنِ الزّبَيْرِ وَابنِ مَهْدِيّ كَانَ يَغْمِزُه قَلِيلاً.
5029- حدثنا محمد بن يحيى بنُ أبي عُمَرَ وَعَبْدُ الله بنُ أبي زِيَادٍ، المَعْنَى وَاحِدٌ قالاَ أخبرنا سُفْيَانُ بنُ عُيَيْنَةَ، عن ابنِ أبي مُحَيْصِنٍ، عن مُحمّدٍ بنِ قَيْسٍ بنِ مَخْرَمَةَ عن أبي هُرَيْرَةَ قالَ: "لَمّا نَزَلَتْ {مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ} ، شَقّ
ـــــــ
قوله: "ما في القرآن آية أحب إلى من هذه الآية إلخ"، لأنها حجة على الخوارج الذين زعموا أن كل ذنب شرك، وأن صاحبه خالد في النار، كذا في تفسير البيضاوي {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ} أي الإشراك به، وهذا نص صريح بأن الشرك غير مغفور إذا مات صاحبه عليه لأنه قد ثبت أن المشرك إذا تاب من شركه وآمن قبلت توبته وصح إيمانه وغفرت ذنوبه كلها التي عملها في حال الشرك {وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ} أي ما سوى الإشراك من الذنوب {لِمَنْ يَشَاءُ} . يعني من يشاء من أهل التوحيد.
قال العلماء: لما أخبر الله أنه يغفر الشرك بالإيمان والتوبة، علمنا أنه يغفر ما دون الشرك بالتوبة وهذه المشيئة في من لم يتب من ذنوبه من أهل التوحيد، فإذا مات صاحب الكبيرة أو الصغيرة من غير توبة فهو على خطر المشيئة، إن شاء غفر له وأدخله الجنة بفضله ورحمته، وإن شاء عذبه ثم يدخله الجنة بعد ذلك.
قوله: "وابن مهدي كان يغمزه قليلاً" أي يطعن فيه قليلاً. قال الحافظ في تهذيب التهذيب: قال عمرو بن علي، كان يحيى وعبد الرحمن لا يحدثان عنه، وقال في التقريب: ضعيف ورمي بالرفض.
قوله: "عن محمد بن قيس بن مخرمة" بن المطلب بن عبد مناف المطلبي، قال(8/400)
ذَلِكَ عَلَى المُسْلِمِينَ فَشَكَوْا ذَلِكَ إلى النّبيّ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ: "قَارِبُوا وَسَدّدُوا. وَفِي كلّ مَا يُصِيبُ المُؤْمِنَ كَفّارَةٌ حَتّى الشّوْكَةِ يُشَاكُهَا وَالنَكْبَةِ يُنْكَبُهَا" .
هذا حديثٌ حسنٌ غريبٌ. ابنُ مُحَيْصِنٍ هو عُمَرُ بنُ عَبْدِ الرّحْمَنِ بنُ مُحَيْصِنٍ.
5030- حدثنا يَحْيَى بنُ مُوسَى وَعَبْدُ بنُ حُمَيْدٍ قالاَ: أخبرنا رَوْحُ بنُ عُبَادَةَ، عن مُوسَى بنِ عُبَيْدَةَ: أخبرني مَوْلَى ابنِ سِبَاعٍ قالَ: سَمِعْتُ عَبْدَ الله بنَ عُمَرَ يُحَدّثُ عن أبي بَكْرٍ الصّدّيقِ قالَ: "كُنْتُ
ـــــــ
أبو داود ثقة، وذكره ابن حبان في الثقات، وذكر العسكري أنه أدرك النبي صلى الله عليه وسلم وهو صغير، كذا في تهذيب التهذيب.
قوله: {مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ} إما في الآخرة أو في الدنيا بالبلاء والمحن كما في هذا الحديث "قاربوا" أي اقتصدوا فلا تغلوا ولا تقصروا بل توسطوا "وسددوا" أي اقصدوا السداد وهو الصواب "حتى الشوكة" بالجر على أن حتى جارة، ويجوز الرفع على أنها ابتدائية والنصب بتقدير حتى تجد "يشاكها" بصيغة المجهول، أي يشاك المؤمن تلك الشوكة "أو النكبة" هي ما يصيب الإنسان من الحوادث "ينكبها" على بناء المجهول والضمير المرفوع المؤمن والبارز للنكبة.
قوله: "هذا حديث حسن غريب" وأخرجه أحمد ومسلم والنسائي.
قوله: "وابن محيصن اسمه عمر بن عبد الرحمن بن محيصن" بمهملتين مصغراً وآخره نون، السهمي أبو حفص قارئ أهل مكة مقبول من الخامسة، كذا في التقريب. وقال في تهذيب التهذيب. ذكره ابن حبان في الثقات. وقال صاحب الكمال في القراءات: كان قرين ابن كثير قرأ على مجاهد وغيره، وكان مجاهد يقول ابن محيصن يبني ويرص، يعني أنه عالم بالعربية والأثر، روي له عندهم حديث واحد: كل ما يصاب به المؤمن كفارة.
قوله: "حدثنا يحيى بن موسى" البلخي.(8/401)
عِنْدَ النّبيّ صلى الله عليه وسلم فَأُنْزِلَتْ عَلَيْهِ هَذِهِ الآية: {مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ وَلا يَجِدْ لَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيّاً وَلا نَصِيراً} فَقَالَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: "يَا أبَا بَكْرٍ أَلاَ أُقْرِئُكَ آية أُنْزِلَتْ عَلَيّ؟" قلت: بَلَى يَا رَسُولَ الله: قالَ: فَأَقْرَأَنيهَا فَلاَ أَعْلَمُ إِلاّ أَني قد كنت وَجَدْتُ انقصاماً فِي ظِهْرِي فَتَمَطّأْتُ لَهَا، فَقَالَ رَسولُ الله صلى الله عليه وسلم " "مَا شَأْنُكَ يَا أَبَا بَكْرٍ؟" قُلْتُ يَا رَسُولَ الله بأَبي أَنْتَ وَأُمّي وَأَيّنَا لَمْ يَعْمَلْ سُوءًا وَإِنّا لَمجْزِيّونَ بِمَا عَمِلْنَا؟ فَقَالَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم: "أَمّا أَنْتَ يَا أَبَا بَكْرٍ وَالمُؤْمِنُونَ، فَتُجْزَوْنَ بِذَلِكَ في الدّنْيَا حَتّى تَلْقُوا الله، وَلَيْسَ لَكُمْ ذُنُوبٌ، وَأَمّا الآخرون فَيَجْتَمِعُ ذَلِكَ لَهُمْ، حَتّى يُجْزَوْا بِهِ يَوْمَ القِيَامَةِ" .
هذا حديثٌ غريبٌ. وَفي إِسْنَادِهِ مَقَالٌ، وَمُوسَى بنُ عُبَيْدَةَ يُضَعّفُ فِي الْحَدِيثِ ضَعّفَهُ، يَحْيَى بنُ سَعِيدٍ وَأَحْمَدُ بنُ حَنْبَلٍ، وَمَوْلَى ابنِ سِبَاعٍ مَجْهُولٌ. وَقَدْ رُوَيَ هَذَا الْحَدِيثُ مِنْ غَيْرِ هَذَا الْوَجْهِ عن أَبي بَكْرٍ،
ـــــــ
قوله: "إلا أني وجدت في ظهري اقتصاماً" بالقاف من باب الافتعال أي انكساراً في بعض النسخ انقساماً من باب الانفعال. قال في القاموس: قصمه يقصمه: كسره وأبانه أو كسره وإن لم يبن فانقصم وتقصم. قال في النهاية: ويروي انقصاماً بالفاء: أي انصداعاً "وأما الآخرون" أي الكافرون "فيجمع ذلك" أي أعمالهم السيئة.
قوله: "هذا حديث غريب" وأخرجه أبو بكر بن مردويه في تفسيره "وموسى بن عبيدة" بضم العين وفتح الموحدة مصغراً ابن نشيط الربذي المدني "وقد روي هذا الحديث من غير هذا الوجه" رواه أحمد وابن جرير كلاهما بروايات وألفاظ(8/402)
وَلَيْسَ لَهُ إِسْنَادٌ صَحيحٌ أيْضاً. وفي البابِ عن عَائِشَةَ.
5031- حدثنا محمد بنُ المُثَنّى أخبرنا أبُو دَاوُدَ الطّيَالِسِي، أخبرنا سُلَيْمَانُ بنُ مُعَاذٍ عن سِمَاكٍ، عن عِكْرَمَةَ عن ابنِ عَبّاسٍ قَالَ: "خَشِيَتْ سَوْدَةُ أَنْ يُطَلّقَهَا النّبيّ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَتْ: لاَ تُطَلّقْنِي وَأَمْسِكْنِي وَاجْعَلْ يَوْمِي لِعَائِشَةَ، فَفَعَلَ فَنَزَلَتْ {فَلا جُنَاحَ عَلَيهِمَا أَنْ يُصْلِحَا بَيْنَهُمَا صُلْحاً وَالصُّلْحُ خَيْرٌ} فَمَا اصْطَلَحَا عَلَيْهِ مِنْ شَيْء فَهُوَ جَائِزٌ".
ـــــــ
وفي رواية لأحمد: أن أبا بكر قال يا رسول الله كيف الصلاح بعد هذه الآية {لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ} فكل سوء عملنا جزينا به، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: غفر الله يا أبا بكر ألست تمرض، ألست تنصب، ألست تحزن. ألست تصيبك اللأواء؟ قال بلى، قال فهو ما تجزون به.
قوله: "وفي الباب عن عائشة" أخرجه ابن أبي داود الطيالسي وغيره.
قوله: "أخبرنا سليمان بن معاذ" هو سليمان بن قرم بفتح القاف وسكون الراء الراء، ابن معاذ البصري النحوي، ومنهم من ينسبه إلى جده، سيء الحفظ يتشيع من السابعة.
قوله: "خشيت سودة" بنت زمعة بن قيس القرشية العامرية، تزوجها رسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة بعد موت خديجة ودخل عليها بها، وكان دخوله بها قبل دخوله على عائشة بالاتفاق، وهاجرت معه. وتوفيت في آخر خلافة عمر ابن الخطاب "أن يطلقها النبي صلى الله عليه وسلم فقالت إلخ".
قال الحافظ في الفتح بعد نقل هذا الحديث عن الترمذي: وله شاهد في الصحيحين من حديث عائشة بدون ذكر نزول الآية انتهى.
قلت: روى الشيخان عن عائشة أن سودة بنت زمعة وهبت يومها لعائشة، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يقسم لعائشة بيومها ويوم سودة. قال الحافظ في الفتح: ووقع في رواية مسلم من طريق عقبة بن خالد عن هشام. لما أن كبرت سودة(8/403)
ـــــــ
وهبت وأخرج أبو داود هذا الحديث وزاد فيه بيان سببه أوضح من رواية مسلم فروى، عن أحمد بن يونس عن عبد الرحمن بن أبي الزناد، عن هشام بن عروة بالسند المذكور. وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يفضل بعضنا على بعض في القسم الحديث وفيه: ولقد قالت سودة بنت زمعة حين أسنت وخافت أن يفارقها رسول الله صلى الله عليه وسلم، يا رسول الله يومي لعائشة، فقبل ذلك منها، ففيها وأشباهها نزلت {وَإِنِ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِنْ بَعْلِهَا نُشُوزاً} الآية "إلى أن قال" فتواردت هذه الروايات على أنها خشيت الطلاق فوهبت. وأخرج ابن سعد بسند رجاله ثقات من رواية القاسم بن أبي بزة مرسلاً أن النبي صلى الله عليه وسلم طلقها فقعدت على طريقه فقالت: والذي بعثك بالحق، مالي في الرجال حاجة ولكن أحب أن أبعث مع نسائك يوم القيامة فأنشدك بالذي أنزل عليك الكتاب هل طلقتني لموجدة وجدتها عليّ؟ قال: لا، قالت فأنشدك لما راجعتني فراجعها، قالت: فإني قد جعلت يومي وليلتي لعائشة حبة رسول الله صلى الله عليه وسلم انتهى.
قلت: رواية ابن سعد هذه مرسلة فهي لا تقاوم حديث ابن عباس وما وافقه في أن سودة خشيت الطلاق فوهبت {فَلا جُنَاحَ عَلَيهِمَا أَنْ يُصْلِحَا} من الإصلاح وهي قراءة الكوفيين، وفي بعض النسخ: أن يصالحا من التصالح وهي قراءة الجمهور والاَية بتمامها مع تفسيرها هكذا، وإن امرأة: مرفوع بفعل يفسره خافت: توقعت من بعلها: زوجها، نشوزاً: ترفعاً عليها بترك مضاجعتها والتقصير في نفقتها لبغضها وطموح عينيه إلى أجمل منها أو إعراضاً عنها بوجهه: فلا جناح عليهما أن يصالحا: فيه إدغام التاء في الأصل في الصاد، وفي قراءة يصلحا من أصلح بينهما صلحاً في القسم والنفقة، بأن يترك لها شيئاً لبقاء الصحبة فإن رضيت بذلك وإلا فعلى الزوج أن يوفيها حقها أو يفارقها، والصلح خير: من الفرقة والنشوز والإعراض. قال تعالى في بيان ما جبل عليه الإنسان: {وَأُحْضِرَتِ الْأَنْفُسُ} الح: شدة البخل، أي جبلت عليه فكأنها حاضرته لا تغيب عنه. المعنى أن المرأة لا تكاد تسمح بنصيبها من زوجها، والرجل لا يكاد يسمح عليها بنفسه إذا أحب غيرها، وإن تحسنوا: عشرة النساء، وتتقوا: الجور عليهن، فإن الله كان بما تعلمون خبيراً: فيجازيكم به، كذا في الجلالين، فما اصطلحا عليه من شيء فهو جائز. وفي رواية أبو داود(8/404)
هذا حديثٌ حسنٌ صحيحٌ غريبٌ.
5032- حدثنا عَبْدُ بنُ حُمَيْدٍ، أخبرنا أَبُو نُعَيْمٍ، أخبرنا مَالِكُ بنُ مِغْوَلٍ عن أبي السّفَرِ عن البَرَاءِ قالَ: "آخِرُ آية أُنْزِلَتْ أَوْ آخِرُ شَيْء أُنْزِلَ {يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلالَةِ} ".
ـــــــ
الطيالسي في مسنده. قال ابن عباس فما اصطلحا عليه من شيء فهو جائز.
قوله: "هذا حديث حسن صحيح غريب" وأخرجه ابن المنذر والطبراني والبيهقي.
قوله: "قال آخر آية أنزلت أو آخر شيء أنزل" الشك من الراوي {يَسْتَفْتُونَكَ} أي عن مواريث الكلالة وحذف لدلالة السياق عليه في قوله تعالى {قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلالَةِ} . تقدم تفسير الكلالة وما فيه من الاختلاف في باب ميراث الأخوات من أبواب الفرائض. والاَية بتمامها مع تفسيرها هكذا يستفتونك: أي يسألونك عن ميراث الكلالة يا محمد، قل الله يفتيكم: يعني أن الله يخبركم عما سألتم عنه، إن امرؤ: مرفوع بفعل يفسره هلك: أي مات ليس له ولد: أي ولا والد وهو الكلالة.
قال الحافظ ابن كثير: تمسك به من ذهب إلى أنه ليس من شرط الكلالة انتفاء الوالد بل يكفي وجود الكلالة انتفاء الولد وهو رواية عن عمر بن الخطاب رواها ابن جرير عنه بإسناد صحيح إليه، ولكن الذي يرجع إليه قول الجمهور. وقضى الصديق أنه الذي لا ولد له ولا والد، ويدل على ذلك قوله: وله أخت فلها نصف ما ترك: ولو كان معها أب لم ترث شيئاً لأنه يحجبها بالإجماع، فدل على أنه من لا ولد له بنص القرآن، ولا والد بالنص عند التأمل أيضاً لأن الأخت لا يفرض لها النصف مع الوالد بل ليس لها ميراث بالكلية. وقد نقل ابن جرير وغيره عن ابن عباس وابن الزبير أنهما كانا يقولان في الميت ترك بنتاً وأختاً أنه لا شيء للأخت لقوله: {إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَهُ أُخْتٌ فَلَهَا نِصْفُ مَا تَرَكَ} . قال فإذا ترك بنتاً وقد ترك ولداً فلا شيء للأخت، وخالفه الجمهور فقالوا في هذه المسألة للبنت النصف بالفرض وللأخت النصف الآخر بالنصيب، بدليل غير هذه الآية، وله أخت: أي لأب وأم أو لأب، فلها نصف ما ترك: أي الميت، وهو: أي الأخ لأب وأم أو لأب، يرثها: أي يرث جميع تركة الأخت، إن لم يكن لها ولد:(8/405)
هذا حديثٌ حسنٌ. وَأَبُو السّفَرِ اسْمِهُ سَعِيدُ بنُ أَحْمَدَ، وَيُقَالُ ابنُ يُحْمِدَ الثّوْرِيّ.
5033- حدثنا عَبْدُ بنَ حُمَيْدٍ، أخبرنا أحْمَدُ بنُ يُونُسَ، عن أبي بَكْرِ بنِ عَيّاشٍ عن أبي إسْحَاقَ عن البَرَاءِ قَالَ: "جَاءَ رَجُلٌ إلى رسولِ الله صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: يَا رَسُولَ الله {يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلالَةِ} فَقَالَ لهُ النّبيّ صلى الله عليه وسلم: "تُجْزِئُك آية الصّيْفِ".
ـــــــ
أي ذكر، يعني أن الأخت إذا ماتت وتركت أخاً من الأب والأم أو من الأب فإنه يستغرق جميع ميراث الأخت إذا انفرد ولم يكن للأخت ولد، فإن كان لها ولد: ذكر فلا شيء له أو انثى فله ما فضل عن نصيبها، ولو كانت الأخت أو الأخ من أم ففرضه السدس، فلو كانتا أي الأختان اثنتين: أي فصاعداً فلهما الثلثان مما ترك أي الأخ وإن كانوا: أي الورثة إخوة رجالاً ونساء: أي ذكوراً ونساء فللذكر منهم، مثل حظ الأنثيين يبين الله لكم: شرائع دينكم أن تضلوا: أي مخافة أن تضلوا والله بكل شيء عليم ومنه الميراث.
تنبيه: حديث البراء المذكور يدل على أن آخر آية نزلت {يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ} إلخ وروى البخاري عن ابن عباس قال: آخر آية نزلت على النبي صلى الله عليه وسلم آية الربا، ويجمع بينهما بأن الآخر ية في حديث البراء مفيدة بما يتعلق بالمواريث بخلاف حديث ابن عباس ويحتمل عكسه.
قوله: "هذا حديث حسن" وأخرجه البخاري ومسلم وأبو داود والنسائي.
قوله: "ويقال ابن يحمد" بضم التحتية وكسر الميم.
قوله: "أخبرنا أحمد بن يونس" هو أحمد بن عبد الله بن يونس بن عبد الله ابن قيس الكوفي التميمي اليربوعي نسب إلى جده ثقة حافظ من كبار العاشرة.
قوله: "جاء رجل" قال الخطابي: روي أن هذا الرجل هو عمر بن الخطاب ويشبه أن يكون إنما لم يفته عن مسألته ووكل الأمر في ذلك إلى بيان الآية اعتماداً على علمه وفهمه انتهى ملخصاً، "فقال يا رسول الله يستفتونك قل الله يفتيكم في(8/406)
ـــــــ
الكلالة" زاد أبو داود في روايته فما الكلالة. وفي رواية أحمد: جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فسأله عن الكلالة "تجزئك" أي تكفيك "آية الصيف" أي التي في آخر سورة النساء وهي قوله تعالى: { يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلالَةِ} الآية قال الخطابي: أنزل الله في الكلالة آيتين أحدهما في الشتاء وهي الآية التي في سورة النساء وفيها إجمال وإبهام لا يكاد يتبين هذا المعنى من ظاهرها، ثم أنزل الآية الآخرى في الصيف وهي التي في آخر سورة النساء وفيها من زيادة البيان ما ليس في آية الشتاء، فأحال السائل عليها ليتبين المراد بالكلالة المذكورة فيها انتهى. قال أبو داود بعد رواية هذا الحديث: قلت لأبي إسحاق هو من مات ولم يدع ولداً ولا والداً، قال كذلك ظنوا أنه كذلك انتهى.
قال الخطابي: اختلفوا في الكلالة من هو؟ فقال أكثر الصحابة: هو من لا ولد له ولا والد. وروى عن عمر بن الخطاب مثل قولهم، وروي عنه أنه قال: هو من لا ولد له، ويقال إن هذا آخر قوليه. وحديث البراء هذا أخرجه أيضاً أحمد وأبو داود وسكت عنه هو والمنذري.(8/407)
وَمنْ سُورةِ الْمَائِدَة
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
5034- حدثنا ابنُ أبي عُمَرَ، أخبرنا سُفْيَانُ، عن مِسْعَرٍ وَغَيْرِهِ، عن قَيْسِ بنِ مُسْلِمٍ، عن طَارِقِ بنِ شِهَابٍ قالَ: "قالَ رَجُلٌ مِنَ اليَهُودِ لِعُمَرَ بنِ الْخَطّابِ يَا أَمِيرَ المُؤْمِنِينَ لَوْ عَلَيْنَا أُنْزِلَتْ هَذِهِ الآية: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْأِسْلامَ
ـــــــ
وَمنْ سُورةِ الْمَائِدَة
هي مائة وثلاث وعشرون آية. قال القرطبي هي مدنية بالإجماع
قوله: "قال رجل من اليهود" هذا الرجل هو كعب الأحبار، بين ذلك مسدد في مسنده والطبري في تفسيره، والطبراني في الأوسط، وللبخاري في المغازي(8/407)
دِيناً} لاَتّخَذْنَا ذَلِكَ اليَوْمَ عِيداً، فَقَالَ له عُمَرُ بن الخطابِ إِنّي لأعْلَمُ أَيّ يَوْمٍ أُنْزِلَتْ هَذهِ الآية أُنْزِلَتْ يَوْمَ عَرَفَةَ فِي يَوْمِ جُمُعَةِ".
هذا حديثٌ حسنٌ صحيحٌ.
5035- حدثنا عَبْدُ بنُ حُمَيْدٍ، أخبرنا يَزِيدُ بنُ هَارُونَ، أخبرنا حَمّادُ بنُ سَلَمَةَ، عن عَمّارِ بنِ أبي عَمّارٍ قالَ: "قَرَأَ ابنُ عَبّاسٍ {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْأِسْلامَ
ـــــــ
من طريق الثوري عن قيس بن مسلم. أن ناساً من اليهود، وله في التفسير من هذا الوجه بلفظ: قالت اليهود، فيحمل على أنهم كانوا حين سؤال كعب عن ذلك جماعة وتكلم كعب على لسانهم "لاتخذنا ذلك اليوم عيداً" أي لعظمناه وجعلناه عيداً لنا في كل سنة لعظم ما حصل فيه من إكمال الدين "فقال عمر إني لأعلم أي يوم أنزلت هذه الآية، أنزلت يوم عرفة في يوم الجمعة".
فإن قيل: كيف طابق الجواب السؤال لأنه قال: لاتخذناه عيداً، وأجاب عمر رضي الله عنه بمعرفة الوقت والمكان ولم يقل جعلناه عيداً.
والجواب: أن هذه الرواية اكتفى فيها بالإشارة، وإلا فرواية إسحاق قد نصت على المراد ولفظه، نزلت يوم الجمعة يوم عرفة وكلاهما بحمد الله لنا عيد، لفظ الطبري والطبراني وهما لنا عيدان، وكذا عند الترمذي من حديث ابن عباس أن يهودياً سأله عن ذلك فقال: نزلت في يوم عيدين: يوم جمعة ويوم عرفة، فظهر أن الجواب تضمن أنهم اتخذوا ذلك اليوم عيداً وهو يوم الجمعة، واتخذوا يوم عرفة لأنه ليلة العيد، وهذا كما جاء في الحديث شهرا عيد لا ينقصان، رمضان وذو الحجة. فسمى رمضان عيداً لأنه يعقبه العيد قاله الحافظ.
قوله: "هذا حديث حسن صحيح" وأخرجه البخاري في الإيمان والتفسير وغيرهما، ومسلم في آخر الكتاب، والنسائي في الحج والإيمان.
قوله: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ} أحكامه وفرائضه فلم ينزل بعدها حلال ولا حرام {وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي} بإكماله، وقيل بدخول مكة آمنين {وَرَضِيتُ}(8/408)
دِيناً} وَعِنْدَهُ يَهُودِيّ فَقَالَ: لَوْ أُنْزِلَتْ هَذِهِ الآية عَلَيْنَا لاَتّخَذْنَا يَوْمَهَا عِيداً، قال ابنُ عَبّاسٍ: فَإِنّهَا نَزَلَتْ في يَوْمِ عِيدَيْنِ: في يَوْمِ الْجُمُعَةِ وَيَوْمِ عَرَفَةَ". هذا حديثٌ حسنٌ غريبٌ مِنْ حَدِيثِ ابنِ عَبّاسٍ.
5036- حدثنا أَحْمَدُ بنُ مِنِيعٍ، أخبرنا يَزِيدُ بنُ هَارُونَ، أخبرنا مُحمّدُ بنُ إسْحَاقَ، عن أبي الزّنَادِ عن الأعْرَجِ عن أبي هُرَيْرَةَ قالَ: قالَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم: "يَمِينُ الرّحْمَنِ مَلأى سَحّاءُ لاَ يَغِيضُهَا اللّيْلُ وَالنّهَارَ، قَالَ: أَرَأَيْتُمْ مَا أنْفَقَ مُنْذُ خَلَقَ السّمَاوَاتِ والأرض، فَإِنّهُ لَمْ يَغِضْ مَا فِي يَمِينِهِ وَعَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ وَبِيَدِهِ الأخرى المِيزَانُ يَخْفِضُ وَيَرْفَعُ".
ـــــــ
اخترت {لَكُمُ الْأِسْلامَ دِيناً} حال، أي اخترته لكم من بين الأديان وآذنتكم بأنه هو الدين المرضي وحده وأخرجه ابن جرير في تفسيره.
قوله: "يمين الرحمن ملأى" بفتح الميم وسكون اللام وهمزة مع القصر تأنيث ملاَن. قال الحافظ: المراد من قوله ملأى لازمه وهو أنه في غاية الغنى وعنده من الرزق ما لا نهاية له في علم الخلائق "سحاء" بفتح المهملتين مثقل ممدود، أي دائمة الصب. يقال سح بفتح أوله مثقل، يسح بكسر السين في المضارع ويجوز ضمها، "لا يغيضها" بالمعجمتين بفتح أوله أي لا ينقصها لازم ومتعد. يقال غاض الماء يغيض إذا نقص، وغضته أنا أغيضه: أي لا يغيضها نفقة، كما في رواية الشيخين، أو لا يغيضها شيء كما في رواية لمسلم "الليل والنهار" بالنصب على الظرف: أي فيهما "أرأيتم" أي أخبروني، وقيل أعلمتم وأبصرتم "ما أنفق" ما مصدرية أي إنفاق الله، وقيل ما موصولة متضمنة معنى الشرط أي الذي أنفقه "منذ خلق السماوات" زاد البخاري وغيره والأرض أي من يوم خلق السماوات فإنه أي الإنفاق أو الذي أنفق "لم يغض" أي لم ينقص "ما في يمينه" أي الذي في يمينه "وعرشه على الماء" حال من ضمير خلق ومناسبة ذكر العرض هنا، أن السامع هنا يتطلع من قوله خلق السماوات والأرض ما كان قبل ذلك، فذكر ما يدل على أن عرشه(8/409)
هذا حديثٌ حسنٌ صحيحٌ. وهَذَا الْحَدِيثُ في تَفْسِيرِ هَذِهِ الآية {وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ} الآية وَهَذَا حديث قال الأئمة يُؤْمَنُ بِهِ كَمَا جَاءَ مِنْ غَيْرِ أَنْ يُفَسّرَ أَوْ يُتَوَهّمَ هَكَذَا. قالَهُ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنْ الأئمة مِنْهُمْ سُفْيَانُ الثّوْرِيّ وَمَالِكُ بنُ أَنَسٍ وَابنُ عُيَيْنَةَ وَابنُ المُبَارَكِ أَنّهُ تُرْوَى هَذِهِ الأشْيَاءُ وَيُؤْمَنُ بِهَا، فلا يُقَالُ كَيْفَ.
5037- حدثنا عَبْدُ بنُ حُمَيْدٍ، أخبرنا مُسْلِمُ بنُ إِبْرَاهِيمَ،
ـــــــ
قبل خلق السماوات والأرض كان على الماء، كما وقع في حديث عمران بن حصين بلفظ: "كان الله ولم يكن شيء قبله وكان عرشه على الماء ثم خلق السماوات والأرض" "وبيده الآخرى الميزان" قال الخطابي: الميزان هنا مثل وإنما هو قسمته بالعدل بين الخلق "يخفض ويرفع" أي يوسع الرزق على من يشاء ويقتر كما يصنعه الوزان عند الوزن يرفع مرة ويخفض أخرى، وأئمة السنة على وجوب الإيمان بهذا وأشباهه من غير تفسير بل يجري على ظاهره ولا يقال كيف، قاله العيني.
قوله: "هذا حديث حسن صحيح" وأخرجه الشيخان.
قوله: "وهذا الحديث في تفسير هذه الآية" {وَقَالَتِ الْيَهُودُ} لما ضيق عليهم بتكذيبهم النبي صلى الله عليه وسلم بعد أن كانوا أكثر الناس مالاً {يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ} مقبوضة عن إدرار الأرزاق علينا كنوابه عن البخل تعالى عن ذلك، قال تعالى: {غُلَّتْ} أمسكت {أَيْدِيهِمْ} عن فعل الخيرات دعاء عليهم، وبقية الآية مع تفسيرها هكذا، ولعنوا بما قالوا: أي طردوا عن رحمة الله بسبب ما قالوا، بل يداه مبسوطتان: مبالغة في الوصف بالجود، وثنى اليد لإفادة الكثرة، إذ غاية ما يبذله السخي من ماله أن يعطي بيده، ينفق كيف يشاء من توسع وتضييق لا اعتراض عليه.
قوله: "وهذا الحديث قال الأئمة يؤمن به كما جاء الخ" تقدم الكلام في هذه المسألة في باب فضل الصدقة من أبواب الزكاة.(8/410)
أخبرنا الْحَارِثُ بنُ عُبَيْدٍ عن سَعِيدٍ الْجُرَيْرِيّ عن عَبْدِ الله بنِ شَقِيقٍ، عن عَائِشَةَ قَالَتْ: "كَانَ النّبيّ صلى الله عليه وسلم يُحْرَسُ حَتّى نَزَلَتْ هَذِهِ الآية: {وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ} فَأَخْرَجَ رَسولُ الله صلى الله عليه وسلم رَأْسَهُ مِنَ القُبّةِ، فَقَالَ لَهُمْ: "يَا أَيّهَا النّاسُ انْصَرِفُوا، فَقَدْ عَصَمَنِي الله" .
هذا حديثٌ غريبٌ.
وَرَوَى بَعْضُهُمْ هَذَا الْحَدِيثَ عن الْجُرَيْرِيّ عن عَبْدِ الله بنِ شَقِيقٍ، قالَ: كَانَ النّبيّ صلى الله عليه وسلم يُحْرَسُ، وَلَمْ يَذْكُرُوا فِيهِ عن عَائِشَةَ.
ـــــــ
قوله: "أخبرنا الحارث بن عبيد" الإيادي بكسر الهمزة بعدها تحتانية، أبو قدامة البصري صدوق يخطئ من الثامنة.
قوله: "يحرس" بصيغة المجهول من الحراسة، أي يحفظه الصحابة رضي الله تعالى عنهم عن الكفار {وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ} أي يحفظك يا محمد ويمنعك منهم، والمراد بالناس هنا الكفار.
فإن قيل: أليس قد شج رأسه وكسرت رباعيته يوم أحد وقد أوذي بضروب من الأذى، فكيف يجمع بين ذلك وبين قوله {وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ} .
قلت: المراد منه أنه يعصمه من القتل فلا يقدر عليه أحد أراده بالقتل، وقيل في الجواب عن هذا إن هذه الآية نزلت بعد ما شج رأسه في يوم أحد لأن سورة المائدة من آخر القرآن نزولاً.
قوله: "هذا حديث غريب" قال الحافظ في الفتح بعد ذكر هذا الحديث: وإسناده حسن واختلف في وصله وإرساله، والحديث أخرجه أيضاً ابن أبي حاتم وابن جرير والحاكم في مستدركه. وقال صحيح الإسناد ولم يخرجاه "وروى بعضهم هذا الحديث عن الجريري عن عبد الله بن شقيق قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم يحرس ولم يذكروا فيه عن عائشة" قال الحافظ ابن كثير بعد نقل كلام الترمذي هذا: هكذا رواه ابن جرير من طريق إسماعيل بن علية وابن مردويه من طريق وهيب، كلاهما عن الجريري عن عبد الله بن شقيق مرسلاً.(8/411)
5038- حدثنا عَبْدُ الله بنُ عَبْدِ الرّحْمنِ، أخبرنا يَزِيدُ بنُ هَارُونَ أخبرنا شَرِيكٍ، عن عَلِيّ بنِ بَذِيْمَةَ، عن أبي عُبَيْدَةَ، عن عَبْدِ الله بنِ مَسْعُودٍ قَالَ: قالَ رَسولُ الله صلى الله عليه وسلم: "لَمّا وَقَعَتْ بَنُو إِسْرَائِيلَ في المَعَاصِي نَهَتْهُمْ عُلَمَاؤُهُمْ، فَلَمْ يَنْتَهُوا فَجَالَسُوهُمْ فِي مَجَالِسِهِمْ وَوَاكَلُوهُمْ وَشَارَبُوهُمْ، فَضَرَبَ الله قُلُوبَ بَعْضِهِمْ بِبَعْضٍ وَلَعَنَهُمُ عَلَى لِسَانِ دَاوُدَ وَعِيسَى بنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ. قَالَ: فَجَلَسَ رَسُولُ الله
ـــــــ
قوله: "عن علي بن بذيمة" بفتح الموحدة وكسر المعجمة الخفيفة بعدها تحتانية ساكنة الجزري، كنيته أبو عبد الله مولى جابر بن سمرة السوائي كوفي الأصل ثقة رمي بالتشييع من السادسة "عن أبي عبيدة" بن عبد الله بن مسعود.
قوله: "في المعاصي" أي من الزنا وصيد يوم السبت وغيرهما "فنهتهم علماؤهم" أي أولاً "فلم ينتهوا" أي فلم يقبلوا النهي ولم يتركوا المنهى "فجالسوهم" أي العلماء "في مجالسهم" أي مجالس بني إسرائيل العصاة ومساكنهم "وواكلوهم" من المواكلة مفاعلة للمشاركة في الأكل، وكذا قوله وشاربوهم "فضرب الله قلوب بعضهم على بعض" وفي الراوية الآتية ببعض. قال القاري: أي خلط قلوب بعضهم ببعض، يقال ضرب اللبن بعضه ببعض: أي خلطه، ذكره الراغب. وقال ابن الملك: الباء للسببية، أي سود الله قلب من لم يعص بشؤم من عصى، فصارت قلوب جميعهم قاسية بعيدة عن قبول الحق والخير أو الرحمة بسبب المعاصي ومخالطة بعضهم بعضاً. انتهى.
قال القاري: وقوله قلب من لم يعص، ليس على إطلاقه، لأن مواكلتهم ومشاربتهم من إكراه وإلجاء بعد عدم انتهائهم عن معاصيهم معصية ظاهرة، لأن مقتضى البغض في الله أن يبعدوا عنهم ويهاجروهم ويقاطعوهم ولم يواصلوهم "ولعنهم" أي العاصين والساكتين المصاحبين "على لسان داود" بأن دعا عليهم فمسخوا قردة وهم أصحاب أيلة "وعيسى بن مريم" بأن دعا عليهم فمسخوا خنازير وهم أصحاب المائدة "ذلك" أي اللعن "بما عصوا" أي بسبب عصيانهم مباشرة ومعاشرة "وكانوا يعتدون" أي يتجاوزون عن الحد "قال" أي ابن مسعود "فجلس رسول الله(8/412)
صلى الله عليه وسلم، وَكَانَ مُتَكِئاً، فَقَالَ: "لاَ وَالذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، حَتّى تَأْطِرُوهُمْ على الحق أطْراً" قالَ عَبْدُ الله بنُ عَبْدِ الرّحْمَنِ قالَ يَزِيدُ: وَكَانَ سُفْيَانُ الثّوْرِيّ لاَ يَقُولُ فِيهِ عن عَبْدِ الله. هذا حديثٌ حسنٌ غريبٌ.
وَقَدْ رُوِيَ هَذَا الْحَدِيثُ عن مُحَمّدِ بنُ مُسْلِمِ بنِ أبي الوَضّاحِ، عن عَلِيّ بنِ بَذِيْمَةَ عن أبي عُبَيْدَةَ عن عَبْدِ الله بنِ مَسْعُودٍ عن النّبيّ صلى الله عليه وسلم نَحْوَ هَذَا، وَبَعْضُهُمْ يَقُولُ عن أبي عُبَيْدَةَ عن النّبيّ صلى الله عليه وسلم مُرْسَلٌ.
ـــــــ
صلى الله عليه وسلم وكان متكئاً" أي على أحد شقيه أو مستنداً إلى ظهره قبل ذلك فجلس مستوياً للاهتمام بإتمام الكلام "فقال لا" أي لا تعذرون أو لا تنجون من العذاب، أنتم أيها الأمة خلف أهل تلك الأمة "والذي نفسي بيده حتى تأطروهم" بهمزة ساكنة ويبدل وبكسر الطاء "أطراً" بفتح الهمزة مفعول مطلق للتأكيد أي حتى تمنعوا أمثالهم من أهل المعصية. قال في المجمع: أي لا تنجون من العذاب حتى تميلوهم من جانب إلى جانب من أطرت القوس آطرها بكسر طاء أطراً بسكونها إذا حنيتها، أي تمنعوهم من الظلم وتميلوهم عن الباطل إلى الحق. وقال الطيبي: حتى متعلقة بلا كأن قائلاً قال له عند ذكر مظالم بي إسرائيل هل يعذر في تخلية الظالمين وشأنهم، فقال لا حتى تأطروهم وتأخذوا على أيديهم. والمعنى لا تعذرون حتى تجبروا الظالم على الإذعان للحق وإعطاء النصفة للمظلوم. واليمين معترضة بين لا وحتى وليست لا هذه بتلك التي يجيء بها المقسم تأكيداً لقسمه انتهى.
قوله: "قال يزيد" هو ابن هارون "وكان سفيان الثوري لا يقول فيه عن عبد الله" كما ذكره الترمذي فيما بعد بقوله حدثنا محمد بن بشار، أخبرنا عبد الرحمن ابن مهدي، أخبرنا سفيان إلخ. ورواه أيضاً ابن ماجه بهذا السند مرسلاً.
قوله: "هذا حديث حسن غريب" وأخرجه أحمد وأبو داود وابن ماجه، قال المنذري وأبو عبيدة بن عبد الله بن مسعود لم يسمع من أبيه فهو منقطع.
قوله: "وقد روي هذا الحديث عن محمد بن مسلم بن أبي الوضاح عن علي بن(8/413)
5039- حدثنا مُحمّدُ بنُ بَشّارٍ، أخبرنا عَبْدُ الرّحْمَنِ بنُ مَهْدِيّ، أخبرنا سُفْيَانُ، عن عَلِيّ بنِ بَذِيمَةَ، عن أبي عُبْيَدَةَ قالَ: قالَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم: "إنّ بَنِي إِسْرَائِيلَ لَمّا وَقَعَ فِيهِمْ النّقْصُ كَانَ الرّجُلُ فِيهِمْ يَرَى أخَاهُ يَقَعُ عَلَى الذّنْبِ فَيَنْهَاهُ عَنْهُ، فَإِذَا كَانَ الغَدُ لَمْ يَمْنَعْهُ مَا رَأَى مِنْهُ أنْ يَكُونَ أَكِيلَهُ وَشَرِيبَهُ وَخَلِيطَهُ، فَضَرَبَ الله قُلُوبَ بَعْضِهِمْ بِبَعْضٍ وَنَزَلَ فِيِهمْ القُرْآنُ فَقَال : {لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرائيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُدَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ} وَقَرَأَ حَتّى بَلَغَ {وَلَوْ كَانُوا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالنَّبِيِّ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَا اتَّخَذُوهُمْ أَوْلِيَاءَ وَلَكِنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ فَاسِقُونَ} قَالَ: وَكَانَ نبيّ الله صلى الله عليه وسلم مُتّكِئاً فَجَلَسَ، فَقَالَ: "لاَ حَتّى تَأْخُذُوا عَلَى يَدِ الظّالِمِ فَتَأطِرُوهُ عَلَى الْحَقّ أطْراً" .
5040- حدثنا مُحمّدُ بنُ بَشّارٍ، أخبرنا أبُو دَاوُدَ الطيالسيّ وَأَمْلاَهُ عَلَيّ، أخبرنا مُحمّدُ بنُ مُسْلِمِ بنِ أبي الْوَضاحِ عن عَلِيّ بنِ بَذِيْمَةَ عن أبي عُبَيْدَةَ عن عَبْدِ الله عن النّبيّ صلى الله عليه وسلم بمثله.
ـــــــ
بذيمة الخ" وصله الترمذي فيما بعد بقوله: حدثنا محمد بن بشار، أخبرنا أبو داود وأملاه علي، أخبرنا محمد بن مسلم بن أبي الوضاح إلخ.
قوله: "لم يمنعه ما رأى منه" أي لم يمنع الناهي ما رأى هو من المذنب من وقوعه على الذنب "أن يكون" أي من أن يكون الناهي "أكيله وشريبه" أي مواكل المذنب ومشاربه ومخالطه. ولفظ أبي داود أن أول ما دخل النقص على بني إسرائيل. كان الرجل يلقى الرجل، فيقول يا هذا اتق الله ودع ما تصنع فإنه لا يحل لك ثم يلقاه من الغد فلا يمنعه ذلك أن يكون أكيله وشريبه وقعيده.
قوله: "وأملاه علي" أي ألقى على الحديث فكتبته.(8/414)
5041- حدثنا أبُو حَفْصٍ عَمْرُو بنُ عَلِيّ أخبرنا أبُو عَاصِمٍ أخبرنا عُثْمانُ بنُ سَعْدٍ، أخبرنا عِكْرِمَةُ عن ابنِ عَبّاسٍ: "أنّ رَجُلاً أتَى النّبيّ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ: يَا رَسُولَ الله إِنّي إِذَا أَصْبَتُ اللّحْمَ انْتَشَرْتُ لِلنّسَاءِ وَأَخَذَتْنِي شَهْوَتِي فَحَرّمْتُ عَلَيّ اللّحْمَ، فَأَنْزَلَ الله {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ وَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ حَلالاً طَيِّباً}" .
هذا حديثٌ حسنٌ غريبٌ. وَرَواهُ بَعْضُهُمْ عن عُثْمَانَ بنِ سَعْدٍ مُرْسَلاً لَيْسَ فِيهِ عن ابنِ عَبّاسٍ، وَرَوَاهُ خَالِدٌ الْحَذّاءِ عن عِكْرِمَةَ مُرْسَلاَ.
5042- حدثنا عَبْدُ الله بنُ عَبِدِ الرّحْمَنِ أخبرنا مُحمّدُ بنُ يُوسُفَ أخبرنا إسرائيل، أخبرنا أبُو إسْحَاقَ عن عَمْرِو بنِ شُرَحْبِيلَ عن عُمَرَ
ـــــــ
قوله: "أخبرنا أبو عاصم" اسمه الضحاك بن مخلد النبيل "أخبرنا عثمان بن سعد" الكاتب المعلم.
قوله: "فأنزل الله يا أيها الذين آمنوا لا تحرموا طيبات ما أحل الله لكم" أي ما طاب ولذ من الحلال. ومعنى لا تحرموا لا تمنعوها أنفسكم كمنع التحريم، أو لا تقولوا حرمناها على أنفسنا مبالغة منكم في العزم على تركها تزهداً منكم وتقشفاً {وَلا تَعْتَدُوا} أي ولا تجاوزوا الحد الذي حد عليكم في تحليل أو تحريم، أو ولا تتعدوا حدود ما أحل لكم إلى ما حرم عليكم، أو ولا تسرفوا في تناول الطيبات {إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ} حدوده {وَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ حَلالاً طَيِّباً} حلالاً حال ما رزقكم الله.
قوله "هذا حديث غريب" وأخرجه ابن أبي حاتم وابن جرير.
قوله: "أخبرنا محمد بن يوسف" هو الضبي الفريابي، "أخبرنا أبو إسحاق" هو السبيعي "عن عمرو بن شرحبيل" الهمداني أبي ميسرة الكوفي ثقة عابد مخضرم.(8/415)
ابنِ الْخَطّابِ أَنّهُ قالَ: "اللّهُمّ بَيّنْ لَنَا فِي الْخَمْرِ بيان شِفَاءٍ فَنَزَلَتْ الّتِي في البَقْرَةِ {يَسْأَلونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ} الآية فَدُعِيَ عُمَرُ فَقُرِئَتْ عَلَيْهِ، فَقَالَ: اللّهمّ بَيّنْ لَنَا في الْخَمْرِ بَيَانَ شِفَاء، فَنَزَلَتْ الّتي في النّسَاءِ {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى} فَدُعِيَ عُمَرُ فَقِرئَتْ عَلَيْهِ، ثُمّ قالَ: اللّهِمّ بَيّنْ لَنا في الْخَمْرِ بَيَانَ شِفَاءٍ، فَنَزَلَتْ الّتِي في المَائِدَةِ: {إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ - إِلَى قَولهِ - فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ} فَدُعِيَ عُمَرُ فَقُرِئَتْ عَلَيْهِ، فَقَالَ: انْتَهَيْنَا انْتَهَيْنَا".
ـــــــ
قوله: "بيان شفاء" بالإضافة أي بياناً شافياً {يَسْأَلونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ} أي القمار يعني ما حكمهما {قُلْ} لهم {فِيهِمَا} أي في تعاطيهما {إِثْمٌ كَبِيرٌ} أي عظيم لما يحصل بسببهما من المخاصمة والمشاتمة وقول الفحش الآية، أي ومنافع للناس باللذة والفرح في الخمر وإصابة المال بلا كد في الميسر {وَإِثْمُهُمَا} أي ما ينشأ عنهما من المفاسد {أَكْبَرُ} أعظم {مِنْ نَفْعِهِمَا} لأن أصحاب الشرب والقمار يقترفون فيهما الآثام من وجوه كثيرة "فقرئت عليه" أي الآية المذكورة {إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ} وبعده {وَيَصُدَّكُمْ} : عن ذكر الله وعن الصلاة فهل أنتم منتهون "فقال" أي عمر "انتهينا انتهينا" أي عن إتيانهما أو عن طلب البيان الشافي والظاهر هو الأول. وفي رواية أبي داود فنزلت هذه الآية {فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ} .
قال الطيبي: فنزلت هذه الآية يعني قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ} الآيتين وفيهما دلائل سبعة على تحريم الخمر: أحدها قوله: {رِجْسٌ} والرجس هو النجس وكل نجس حرام، والثاني قوله: {مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ} وما هو. من عمله حرام. والثالث: قوله: {فَاجْتَنِبُوهُ} وما أمر الله تعالى باجتنابه فهو حرام. والرابع: قوله: {لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} وما علق رجاء الفلاح باجتنابه فالإتيان به حرام(8/416)
وَقَدْ رُوِيَ عن إِسْرَائِيلَ هذا الحديث مُرْسلاً.
5043- حدثنا مُحمّدُ بنُ الْعَلاَءِ، أخبرنا وَكِيعٌ عن إِسْرَائِيلَ عن أبي إِسحَقَ عن أبي مَيْسَرَةَ: "أنّ عُمَرَ بنَ الْخَطّابِ، قَالَ: اللّهُمّ بَيّنْ لَنَا فِي الخَمْرِ بَيَانَ شِفَاءٍ".
فَذَكَرَ نَحْوَهُ وَهَذَا أصَحّ مِنْ حَدِيثِ مُحمّدِ بنِ يُوسُفَ.
5044- حدثنا عَبْدُ بنُ حُمَيْدٍ، أخبرنا عُبَيْدُ الله بنُ مُوسَى، عن
ـــــــ
والخامس قوله: {يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ} وما هو سبب وقوع العداوة والبغضاء بين المسلمين فهو حرام. والسادس قوله "يصدكم عن ذكر الله وعن الصلاة" وما يصد به الشيطان عن ذكر الله وعن الصلاة فهو حرام: والسابع قوله: "فهل أنتم منتهون" معناه انتهوا وما أمر الله عباده بالانتهاء عنه فالإتيان به حرام انتهى.
قوله: "وقد روي عن إسرائيل مرسلاً" أي روي عنه عن أبي إسحاق عن عمرو بن شرحبيل بلفظ: أن عمر بن الخطاب قال اللهم إلخ، كما بينه الترمذي بعد هذا.
"حدثنا محمد بن العلاء" كنيته أبو كريب وهو مشهور بها "عن أبي ميسرة" هو كنيته عمرو بن شرحبيل المذكور في الإسناد المتقدم "وهذا أصح من حديث محمد بن يوسف" أي حديث وكيع عن إسرائيل عن أبي إسحاق عن عمرو بن شرحبيل بلفظ أن عمر بن الخطاب قال أصح من حديث محمد بن يوسف عن أبي إسحاق عن عمر، وبلفظ عن عمر بن الخطاب أنه قال، لأن وكيعاً أحفظ من محمد بن يوسف.
قلت: فيه أن محمد بن يوسف لم ينفرد بلفظ عن عمر بل قد تابعه على هذا اللفظ إسماعيل بن جعفر عند أبي داود وخلف بن الوليد عند أحمد. وحديث عمر هذا أخرجه أيضاً أحمد وأبو داود والنسائي. وقال الحافظ في الفتح بعد ذكر هذا الحديث صححه علي بن المديني والترمذي وكذا قال الحافظ ابن كثير في تفسيره.(8/417)
إِسْرَائِيلَ عن أبي إسْحَاقَ عن البَرَاءِ قالَ: "مَاتَ رِجَالٌ مِنْ أصْحَابِ النبيّ صلى الله عليه وسلم قَبْلَ أنْ تُحَرّمَ الْخَمْرُ، فَلَمّا حُرّمَتْ الْخَمْرُ، قالَ: رِجَالٌ كَيْفَ بِأَصْحَابِنَا وَقَدْ مَاتُوا يَشْرَبُونَ الْخَمْرَ؟ فَنَزَلَتْ: {لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا إِذَا مَا اتَّقَوْا وَآمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} ". هذا حديثٌ حسنٌ صحيحٌ. وقد رَوَاهُ شُعْبَةُ عن أبي إسْحَاقَ عن الْبَرَاءِ أيضاً.
ـــــــ
قوله: "فلما حرمت" قال الحافظ: والذي يظهر أن تحريمها كان عام الفتح سنة ثمان. وذكر روايات تدل على ذلك {لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا} أي لا حرج عليهم ولا إثم عليهم فيما شربوا من الخمر وأكلوا من مال القمار في وقت الإباحة قبل التحريم.
قال ابن قتيبة: يقال لم أطعم خبزا ولا ماء ولا نوماً. قال الشاعر:
فإن شئت حرمت النساء سواكمو ... وإن شئت لم أطعم نقاخاً ولا برداً
النقاخ الماء، والبرد النوم {إِذَا مَا اتَّقَوْا} أي إذا ما اتقوا الشرك، وقيل اتقوا ما حرم الله عليهم {وَآمَنُوا} يعني بالله ورسوله {وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} أي ازدادوا من عمل الصالحات {ثُمَّ اتَّقَوْا وَآمَنُوا} أي اتقوا الخمر والميسر بعد التحريم. فعلى هذا تكون الأولى إخباراً عن حال من مات وهو يشربها قبل التحريم أنه لا جناح عليه، والثانية خطاب من بقي بعد التحريم أمروا باتقائها والإيمان بتحريمها. {ثُمَّ اتَّقَوْا} : أي ما حرم عليهم في المستقبل، {وَأَحْسَنُوا} : أي العمل، وقيل المراد بالاتقاء الأول فعل التقوى، وبالثاني المداومة عليها، وبالثالث اتقاء الظلم مع ضم الإحسان إليه. وقيل إن المقصود من التكرير التأكيد والمبالغة في الحث على الإيمان والتقوى وضم الإحسان إليهما، والله يحب المحسنين: أي أنه تعالى يحب المتقربين إليه بالإيمان والأعمال الصالحة والتقوى والإحسان.
قوله: "هذا حديث حسن صحيح" وأخرجه أبو داود والطيالسي. وقد رواه(8/418)
5045- حدثنا بِذَلِكَ مُحمّدُ بنُ بَشّارٍ، أخبرنا مُحمّدُ بنُ جَعْفَرٍ، أخبرنا شُعْبَةَ عن أبي إسْحَاقَ بهذا قال: قالَ الْبَرَاءُ بنُ عَازِبٍ: "ماتَ نَاسٌ مِنْ أصْحَابِ النّبِيّ صلى الله عليه وسلم وَهُمْ يَشْرَبُونَ الْخَمْرَ، فَلَمّا نَزَلَ تَحْرِيمُهَا قال نَاسٌ مِنْ أصْحَابِ النّبيّ صلى الله عليه وسلم: فَكَيْفَ بِأَصْحَابِنَا الّذِينَ مَاتُوا وَهُمْ يَشْرَبُونَهَا؟ فَنَزَلَتْ: {لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا} الاَية". هذا حديثٌ حسنٌ صحيحٌ.
5046- حدثنا عَبْدُ بنُ حُمَيْدٍ، أخبرنا عَبْدُ الْعَزِيزِ بنُ أبي رِزْمَةَ عن إِسْرَائِيلَ عن سِمَاكٍ عن عِكْرِمَةَ عن ابنِ عَبّاسٍ قال قالُوا: "يا رسولَ الله أَرَأَيْتَ الّذِينَ مَاتُوا وَهُمْ يَشْرَبُونَ الْخَمْرَ لَمّا نَزَلَ تَحْرِيمُ الْخَمْرِ؟ فَنَزلَتْ: {لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا إِذَا مَا اتَّقَوْا وَآمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} ". هذا حديثٌ حسنٌ صحيحٌ.
5047- حدثنا سُفْيَانُ بنُ وَكِيعٍ، أخبرنا خَالِدُ بنُ مَخْلَدٍ عن عَلِيّ بنِ مِسْهَرٍ عن الأعْمَشِ عن إبْرَاهِيمَ عن عَلْقَمَةَ عن عَبْدِ الله قالَ: لَمّا نَزَلَتْ:
ـــــــ
شعبة عن أبي إسحاق عن البراء أيضاً، أي كما أن إسرائيل روى هذا الحديث عن أبي إسحاق عن البراء كذلك رواه شعبة أيضاً عن أبي إسحاق عن البراء.
قوله: "أرأيت" أي أخبرني "وهم يشربون الخمر" جملة حالية، لما نزل تحريم الخمر ظرف بقوله، قالوا: أي قالوا حين نزل تحريم الخمر. قال في القاموس: لما تكون بمعنى حين ولم الجازمة وإلا.
قوله: "هذا حديث حسن صحيح" وأخرجه أحمد وزاد في آخره: ولما حولت القبلة قال ناس يا رسول الله إخواننا الذين ماتوا وهم يصلون إلى بيت المقدس، فأنزل الله: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ} .(8/419)
{لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا إِذَا مَا اتَّقَوْا وَآمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} قال لِي رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم: "أنْتَ مِنْهُمْ". هذا حديثٌ حسنٌ صحيحٌ.
5048- حدثنا أَبُو سَعِيدٍ الأشَجّ، أخبرنا مَنْصُورُ بنُ وَرْدَانَ عن عَلِيّ بنِ عَبْدِ الأعْلَى عن أبِيهِ عن أبي الْبَخْتِرِيّ عن عَلِيّ قال: "لَمّا نَزَلَتْ: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً} قالُوا: يَا رَسُولَ الله في كُلّ عامٍ؟ فَسَكَتَ، فقالُوا: يَا رَسُولَ الله، في كُلّ عامٍ؟ قال: "لاَ، ولوْ قُلْتُ نَعَمْ لَوَجَبَتْ" ، وَأَنْزَلَ الله عَزّ وَجلّ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَسْأَلوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ} .
ـــــــ
قوله: "قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم قيل لي" "أنت منهم" قال النووي معناه أن ابن مسعود منهم انتهى. وقال الخازن معناه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قيل له إن ابن مسعود منهم يعني من الذين آمنوا وعملوا الصالحات إلخ.
قوله: "هذا حديث حسن صحيح" وأخرجه أحمد والنسائي.
قوله: "أخبرنا منصور بن وردان" الأسدي العطار الكوفي مقبول من التاسعة "عن أبيه" هو عبد الأعلى بن عامر الثعلبي بالمثلثة والمهملة، الكوفي صدوق، يهم من السادسة.
قوله: "في كل عام" بحذف همزة الاستفهام "ولو قلت نعم لوجبت" استدل بظاهره على أن الإيجاب كان مفوضاً إليه صلى الله عليه وسلم كما ذهب إليه بعضهم، ورد بأن قوله: لو قلت، أعم من أن يكون من تلقاء نفسه أو بوحي نازل أو رأي يراه إن جوزنا له الاجتهاد، والدال على الأعم لا يدل على الأخص، قاله الطيبي وغيره {لا تَسْأَلوا عَنْ أَشْيَاءَ} قال الخليل وسيبويه وجمهور البصريين أصله شيئاء بهمزتين بينهما ألف وهي فعلاء من لفظ شيء وهمزتها الثانية للتأنيث، ولذا لم تنصرف كحمراء وهي مفردة لفظ جمع معنى، ولما استثقلت الهمزتان المجتمعتان(8/420)
هذا حديثٌ حسنٌ غريبٌ من حديثِ عَلِي.
وفي البابِ عن أبي هُرَيْرَةَ وَابْنِ عَبَاسٍ.
5049- حدثنا مُحمّدُ بنُ مَعْمَرٍ أَبُو عَبْدِ الله الْبَصْرِيّ، أخبرنا رَوْحُ بنُ عُبَادَةَ، أخبرنا شُعْبَةُ، أخبرني مُوسَى بنُ أَنَسٍ قال: "سَمِعْتُ أَنَسَ بنَ مَالِكٍ يقولُ: قال رَجلٌ: يَا رَسُولَ الله مَنْ أَبِي؟ قال: "أَبُوكَ فُلاَنٌ" ، قال:
ـــــــ
قدمت الأولى التي هي لام الكلمة فجعلت قبل الشين، فصار وزنها لفعاء {إِنْ تُبْدَ لَكُمْ} أي تظهر لكم {تَسُؤْكُمْ} لما فيها من المشقة، {وَإِنْ تَسْأَلوا عَنْهَا حِينَ يُنَزَّلُ الْقُرْآنُ} : أي في زمن النبي صلى الله عليه وسلم تبدلكم. المعنى إذا سألتم عن أشياء في زمنه ينزل القرآن بإبدائها ومتى أبدأها ساءتكم فلا تسألوا عنها.
قوله: "هذا حديث حسن غريب" وأخرجه أحمد وابن ماجه، وقد تقدم هذا الحديث بإسناده ومتنه في باب: كم فرض الحج، وبينت هناك أن هذا الحديث منقطع.
قوله: "وفي الباب عن أبي هريرة وابن عباس" تقدم تخريج حديثهما في الباب المذكور.
قوله: "حدثنا محمد بن معمر" بن ربعي القيسي "أبو عبد الله البصري" البحراني بالموحدة والمهملة، صدوق من كبار الحادية عشرة "أخبرني موسى بن أنس" بن مالك الأنصاري قاضي البصرة، ثقة من الرابعة.
قوله: "قال رجل" هو عبد الله بن حذافة القرشي السهمي، وفي رواية البخاري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج، فقام عبد الله بن حذافة فقال: من أبي "من أبي" جملة من المبتدأ والخبر مقول القول.
فإن قلت: لم سأله عن ذلك؟
قلت: لأنه كان ينسب إلى غير أبيه إذا لاحى أحداً فنسبه عليه الصلاة والسلام إلى أبيه.
فإن قلت: من أين عرف رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه ابنه؟(8/421)
فَنَزَلَتْ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَسْأَلوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ} ". هذا حديثٌ حسنٌ صحيحٌ غريبٌ.
5050- حدثنا أَحْمَدُ بنُ مَنِيعٍ، أخبرنا يَزِيدُ بنُ هَارُونَ، أخبرنا إِسْمَاعِيلُ بنُ أبي خالِدٍ عن قَيْسِ بنِ أبي حَازِمٍ عن أبي بَكْرٍ الصّدّيقِ أَنّهُ قال: "يا أَيّهَا النّاسُ إِنّكُمْ تَقْرَؤنَ هَذِهِ الآية: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ} وإني سَمِعْتُ رسولَ الله
ـــــــ
قلت: إما بالوحي وهو الظاهر أو بحكم الفراسة، قاله العيني "لا تسألوا عن أشياء الخ" قال الحافظ: قد تعلق بهذا النهي من كره السؤال عما لم يقع وقد أسنده الدارمي في مقدمة كتابه عن جماعة من الصحابة والتابعين. وقال ابن العربي: اعتقد قوم من الغافلين منع أسئلة النوازل حتى تقع تعلقاً بهذه الآية وليس كذلك لأنها مصرحة بأن المنهي عنه ما تقع المسألة في جوابه، ومسائل النوازل ليست كذلك وهو كما قال إلا أنه أساء في قوله الغافلين على عادته كما نبه عليه القرطبي. وقد روى مسلم عن سعد بن أبي وقاص رفعه: أعظم المسلمين بالمسلمين جرماً من سأل عن شيء لم يحرم فحرم من أجل مسألته، وهذا يبين المراد من الآية وليس مما أشار إليه ابن العربي في شيء انتهى.
قوله: "هذا حديث حسن صحيح غريب" وأخرجه أحمد والبخاري ومسلم والنسائي.
قوله: "أنه قال يا أيها الناس" وفي رواية أحمد: قام أبو بكر الصديق رضي الله عنه فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: يا أيها الناس "إنكم تقرؤون هذه الآية" زاد أبو داود في روايته وتضعونها على غير مواضعها، يعني تجرونها على عمومها وتمتنعون عن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر مطلقاً وليس كذلك {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ} انتصب أنفسكم بعليكم وهو من أسماء الأفعال، أي الزموا إصلاح أنفسكم واحفظوها عن المعاصي، والكاف والميم في عليكم في موضع جر لأن اسم الفعل هو الجار والمجرور لا على وحدها {لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا(8/422)
صلى الله عليه وسلم يقولُ: "إنّ النّاسَ إِذَا رَأَوْا ظَالِماً فَلَمْ يَأخُذُوا عَلَى يَدَيْهِ أَوْشَكَ أَنْ يَعُمّهُمُ الله بِعِقَابٍ مِنْهُ".
هذا حديثٌ حسنٌ صحيحٌ. وقد رَوَاهُ غيرُ وَاحِدٍ، عن إسْمَاعِيلَ بنِ أبي خَالِدٍ نحْوَ هذا الحديثِ مرفوعاً. وَرَوَى بعضهم عن إسماعِيلَ عن قَيْسٍ عن أبي بَكْرٍ قَوْلَهُ وَلَمْ يَرْفَعُوهُ.
5051- حدثنا سَعِيدُ بنُ يَعْقُوبَ الطّالَقَانيّ، حدثنا عَبْدُ الله بنُ المُبَارَكِ، أخبرنا عُتْبَةُ بنُ أبي حَكِيمٍ، أخبرنا عَمْرُو بنُ جَارِيَةَ اللّخْمِيّ
ـــــــ
اهْتَدَيْتُمْ} أي فإذا ألزمتم إصلاح أنفسكم وحفظتموها، لم يضركم إذا عجزتم عن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ضلال من ضل بارتكاب المناهي إذا اهتديتم اجتنابها. وليس في هذه الآية دليل على ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر إذا كان فعل ذلك ممكناً "فلم يأخذوا على يديه" أي لم يمنعوه عن ظلمه مع القدرة على منعه أن يعمهم الله بعقاب منه، أي بنوع من العذاب.
قوله: "هذا حديث حسن صحيح" وأخرجه أحمد وأبو داود والنسائي وابن ماجه. وقد تقدم هذا الحديث في باب نزول العذاب إذ لم يغير المنكر من أبواب الفتن.
قوله: "وقد رواه غير واحد عن إسماعيل بن أبي خالد نحو هذا الحديث مرفوعاً الخ" قال الحافظ ابن كثير في تفسيره بعد ذكر هذا الحديث: قد روى هذا الحديث أصحاب السنن الأربعة وابن حبان في صحيحه وغيرهم من طرق كثيرة عن جماعة كثيرة عن إسماعيل بن أبي خالد به متصلاً مرفوعاً، ومنهم من رواه عنه به موقوفاً على الصديق، وقد رجح رفعه الدارقطني وغيره.
قوله: "أخبرنا عتبة بن أبي حكيم" الهمداني بسكون الميم أبو العباس الأردني بضم الهمزة والدال بينهما راء ساكنة وتشديد النون، صدوق يخطي كثيراً من السادسة "أخبرنا عمرو بن جارية" بالجيم اللخمي شامي مقبول. وقال في تهذيب(8/423)
عن أبي أُمَيّةَ الشّعْبَانِيّ قال: أَتيْتُ أَبَا ثَعْلَبَةَ الْخُشَنِيّ فَقُلْتُ لَهُ: كَيْفَ تَصْنَعُ في هَذِهِ الآية؟قال: آية آية؟ قلت: قَوْلُهُ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ} قال: "أَمَا والله لَقَدْ سَأَلْتَ عَنْهَا خَبِيراً، سَأَلْتُ عَنْهَا رسولَ الله صلى الله عليه وسلم فقال: "بَلْ ائْتَمِرُوا بِالمَعْرُوفِ، وَتَنَاهَوْا عَنِ المُنْكَرِ، حَتّى إِذَا رَأَيْتَ شُحّا مُطَاعاً،
ـــــــ
التهذيب في ترجمته: يقال إنه عم عتبة بن أبي حكيم، ذكره ابن حبان في الثقات له عندهم حديث واحد من رواية أبي أمية عن أبي ثعلبة: إذا رأيت شحاً مطاعاً الحديث "عن أبي أمية الشعباني" الدمشقي اسمه يحمد بضم التحتانية وسكون المهملة وكسر الميم، وقيل بفتح أوله والميم، وقيل اسمه عبد الله مقبول من الثانية.
قوله: "فقلت له كيف تصنع في هذه الآية" وفي رواية أبي داود: كيف تقول في هذه الآية، يعني ما معنى هذه الآية وما تقول فيها، فإن ظاهرها يدل على أنه لا حاجة إلى الأمر والنهي بل على كل مسلم إصلاح نفسه "أما" بالتخفيف حرف التنبيه "لقد سألت" بفتح التاء بصيغة الخطاب "خبيراً" أي عارفاً وعالماً بمعنى هذه الآية "سألت" بضم التاء بصيغة المتكلم "بل ائتمروا" أي امتثلوا "بالمعروف" أي ومنه الأمر به "وتناهوا" أي انتهوا واجتنبوا "عن المنكر" ومنه الامتناع عن نهيه أو الائتمار بمعنى التآمر، كالاختصام بمعنى التخاصم، ويؤيده التناهي. والمعنى ليأمر بعضكم بالمعروف، وتنه طائفة منكم طائفة عن المنكر.
وقال الطيبي رحمه الله: قوله بل ائتمروا إضراب عن مقدر، أي سألت عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم وقلت أما نترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بناء على ظاهر الآية؟ فقال عليه الصلاة والسلام: لا تتركوا بل ائتمروا بالمعروف الخ "حتى إذا رأيت" أي أيها المخاطب خطاباً عاماً. والمعنى إذا علمت الغالب على الناس "شحاً مطاعاً" أي بخلاً مطاعاً بأن أطاعته نفسك وطاوعه غيرك قاله القاري.(8/424)
وَهَوًى مُتّبَعاً، وَدُنْيَا مُؤْثَرَةً، وَإِعْجَابَ كُلّ ذِي رَأْيٍ بِرَأْيِهِ، فَعَلَيْكَ بِخَاصّةِ نَفْسِكَ وَدَعِ الْعَوَامّ، فَإِنّ مِنْ وَرَائِكُمْ أَيّاماً الصّبْرُ فِيهِنّ مِثْلُ الْقَبْضِ عَلَى الْجَمْرِ، لِلعَامِلِ فِيهِنّ مِثْلُ أَجْرِ خَمْسِينَ رَجُلاً يَعْمَلُونَ مِثْلَ عَمَلِكُمْ". قال عَبْدُ الله بنُ المُبَارَكِ: وَزَادَني غيرُ عُتْبَةَ قِيلَ: يَا رَسُولَ الله أجْرُ خَمْسِينَ رَجُلاً مِنّا أوْ مِنْهُمْ؟ قال: "لاَ، بَلْ أَجْرُ خَمْسِينَ رَجُلاً مِنْكُمْ".
ـــــــ
وفي النهاية: هو أشد البخل، وقيل البخل مع الحرص، وقيل البخل في أفراد الأمور وآحادها، والشح عام، وقيل البخل بالمال والشح بالمال وبالمعروف "وهوى متبعاً" بصيغة المفعول، أي وهوى للنفس متبوعاً. وحاصله أن كلا يتبع هواه "ودنيا" بالقصر وهي عبارة عن المال والجاه في الدار الدنية "موثرة" أي مختارة على أمور الدين "وإعجاب كل ذي رأي برأيه" أي من غير نظر إلى الكتاب والسنة، والإعجاب بكسر الهمزة: هو وجدان الشيء حسناً ورؤيته مستحسناً بحيث يصير صاحبه به معجباً وعن قبول كلام الغير مجنباً وإن كان قبيحاً في نفس الأمر "فعليك نفسك" منصوب وقيل مرفوع، أي فالواجب أو فيجب عليك حفظها من المعاصي. لكن يؤيد الأول وهو أن يكون للإغراء بمعنى الزم خاصة نفسك قوله "ودع العوام" أي اترك أمر عامة الناس الخارجين عن طريق الخواص "فإن من وراءكم أياماً" أي قدامكم من الأزمان الآتية "الصبر فيهن مثل القبض على الجمر" يعني يلحقه المشقة بالصبر في تلك الأيام كمشقة الصابر على قبض الجمر بيده "يعملون مثل عملكم".
وفي رواية أبي داود: يعملون مثل عمله، أي في غير زمانه "قال لا بل أجر خمسين رجلاً منكم" قال في اللمعات: يدل على فضل هؤلاء في الأجر على الصحابة من هذه الحيثية، وقد جاء أمثال هذا أحاديث أخر، وتوجيهه كما ذكروا أن الفضل الجزئي لا ينافي الفضل الكلي.
وقد تكلم ابن عبد البر في هذه المسألة وقال: يمكن أن يجيء بعد الصحابة من هو في درجة بعض منهم أو أفضل ومختار العلماء خلافه انتهى.(8/425)
هذا حديثٌ حسنٌ غريبٌ.
5052- حدثنا الْحَسَنُ بنُ أَحْمَدَ بنِ أبي شُعَيْبٍ الْحَرّانِيّ، أخبرنا مُحمّدُ بنُ سَلَمَةَ الْحَرّانِيّ، أخبرنا مُحمّدُ بنُ إسْحَاقَ عن أبي النّضْرِ عن بَاذَانَ مَوْلَى أُمّ هانئ عن ابنِ عَبّاسٍ عن تَمِيمٍ الدّارِيّ في هَذِهِ الآية: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ
ـــــــ
وقال الشيخ عز الدين بن عبد السلام: ليس هذا على إطلاقه بل هو مبني على قاعدتين:
أحديهما: أن الأعمال تشرف بثمراتها، والثانية أن الغريب في آخر الإسلام كالغريب في أوله وبالعكس، لقوله عليه السلام: "بدأ الإسلام غريباً وسيعود غريباً كما بدأ فطوبي للغرباء من أمتي" ، يريد المنفردين عن أهل زمانهم.
إذا تقرر ذلك فنقول: الإنفاق في أول الإسلام أفضل لقوله عليه السلام لخالد بن الوليد رضي الله عنه: "لو أنفق أحدكم مثل أحد ذهباً ما بلغ مد أحدهم ولا نصيفه" ، أي مد الحنطة. والسبب فيه أن تلك النفقة أثمرت في فتح الإسلام وإعلاء كلمة الله ما لا يثمر غيرها، وكذلك الجهاد بالنفوس لا يصل المتأخرون فيه إلى فضل المتقدمين لقلة عدد المتقدمين وقلة أنصارهم، فكان جهادهم أفضل، ولأن بذل النفس مع النصرة ورجاء الحياة ليس كبذلها مع عدمها، ولذلك قال عليه السلام يكون القابض على دينه كالقابض على الجمر لا يستطيع دوام ذلك لمزيد المشقة فكذلك المتأخر في حفظ دينه، وأما المتقدمون فليسوا كذلك لكثرة المعين وعدم المنكر. فعلى هذا يترك الحديث انتهى، كذا في مرقاة الصعود.
قوله: "هذا حديث حسن غريب" وأخرجه أبو داود وابن ماجه وابن جرير وابن أبي حاتم والحاكم والبيهقي في شعب الإيمان.
قوله: "عن أبي النضر" اسمه محمد بن السائب بن بشر الكلبي الكوفي النسابة المفسر، متهم بالكذب ورمي بالرفض من السادسة "عن باذان" قال في التقريب: باذام بالذال المعجمة. ويقال آخره نون، أبو صالح، مولى أم هانئ، ضعيف مدلس من الثالثة "عن تميم الداري" صحابي مشهور.(8/426)
آمَنُوا شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ} قال: بَرِئ منها النّاسُ غَيْرِي، وَغَيْرَ عَدِيّ بنِ بَدّاءٍ، وكَانَا نَصْرَانِيّيْنِ يَخْتَلِفَانِ إلى الشّامِ قَبْلَ الإسْلاَمِ، فَأَتَيَا الشّامَ لِتَجَارَتِهمَا، وَقَدِمَ عَلَيْهِمَا مَوْلَى لِبَنِي سَهْمٍ يُقَالُ لَهُ بُدَيْلُ بنُ أبي مَرْيَمَ بِتِجَارَةٍ وَمَعَهُ جامٌ مِنْ فِضّةِ يُرِيدُ بِهِ المَلكَ وَهُوَ عُظْمُ تِجَارَتِهِ فَمَرِضَ، فَأَوْصَى إِلَيْهِمَا وَأَمَرَهُمَا أَنْ يُبَلّغَا مَا تَرَكَ أَهْلَهُ.
قال تَمِيمٌ: فَلَمّا مَاتَ أَخَذْنَا ذَلِكَ الْجَامَ فَبِعْنَاهُ بِأَلْفِ دِرْهَمٍ، ثُمّ اقْتَسَمْنَاهُ أَنَا وَعَدِيّ بنُ بَدّاء، فَلَمّا أَتَيْنَا إلى أَهْلِهِ دَفَعْنَا إِلَيْهِمْ مَا كَانَ مَعَنَا وفَقَدُوا الْجَامَ، فَسَأَلُونَا عَنْهُ، فَقُلْنَا: مَا تَرَكَ غَيْرَ هَذَا وَمَا دَفَعَ إِلَيْنَا غَيْرَهُ.
قال تَمِيمٌ: فَلَمّا أَسْلَمْتُ بَعْدَ قُدُومِ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم
ـــــــ
قوله: "قال برئ الناس منها" أي من هذه الآية "غيري وغير عدي بن بداء" بفتح الموحدة وتشديد المهملة مع المد ووقع عند الواقدي: أن عدي بن بداء كان أخا تميم الداري، فإن ثبت فلعله أخوه لأمه أو من الرضاعة لكن في تفسير مقاتل بن حيان أن رجلين نصرانيين من أهل دارين أحدهما تميم و الآخر يماني قاله الحافظ "يختلفان إلى الشام" أي يترددان إليه للتجارة "يقال له بديل ابن أبي مريم" بضم الموحدة وفتح الدال المهملة مصغراً. ووقع في رواية ابن جريج أنه كان مسلماً، وكذا أخرجه بسنده في تفسيره "ومعه جام" بالجيم وتخفيف الميم: أي إناء "يريد به الملك" أي ليبيعه منه "وهو عظم تجارته" بضم العين المهملة وسكون الظاء المعجمة، أي معظم أموال تجارته أو بكسر العين المهملة وفتح الظاء المعجمة. وعظم الشيء كبره "فمرض" أي بديل السهمي "فأوصى إليهما" أي إلى تميم وعدي.
وفي رواية أن السهمي المذكور مرض، فكتب وصيته بيده ثم دسها في متاعه ثم أوصى إليهما "أن يبلغا" من الإبلاغ، أي يوصلا "ما ترك" مفعول أول ليبلغا "أهله" مفعول ثان "فلما مات" أي بديل "وفقدوا الجام" أي(8/427)
المَدِينَةَ تَأَثّمْتُ مِنْ ذَلِكَ، فَأَتَيْتُ أَهْلَهُ، فَأَخْبَرْتُهُمْ الْخَبَرَ، وَأَدّيْت إِلَيْهِمْ خَمْسَمِائَةِ دِرْهَمٍ، وأَخْبَرْتُهُمْ أَنّ عِنْدَ صَاحِبي مِثْلُهَا، فَأَتَوْا بِهِ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم، فَسَأَلَهُمْ الْبَيّنَةَ، فَلَمْ يَجِدُوا، فَأَمَرَهُمْ أَنْ يَسْتَخلِفُوهُ بِمَا يَعْظُمُ بِهِ علَى أَهْلِ دِينِهِ، فَحَلَفَ، فَأَنْزَلَ الله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ - إلى قوله - أَوْ يَخَافُوا أَنْ تُرَدَّ أَيْمَانٌ بَعْدَ أَيْمَانِهِمْ} .
ـــــــ
فقد أهل بديل الجام المذكور ولم يجدوه في متاعه "تأثمت من ذلك" أي تحرجت منه قال في النهاية: يقال تأثم فلان إذا فعل فعلاً خرج به من الإثم، كما يقال تحرج إذا فعل ما يخرج به من الحرج "عند صاحبي" أي عدي بن بداء "فأتوا" أي أهل بديل "به" أي بعدي بن بداء "فسألهم البينة" أي طلب النبي صلى الله عليه وسلم من أهل بديل البينة على ما أدعوه "فلم يجدوا" أي البينة "أن يستحلفوه" أي عدياً "فحلف" أي عدي.
قوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ} الخ الآية بتمامها مع تفسيرها هكذا {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ حِينَ الْوَصِيَّةِ اثْنَانِ} ارتفع اثنان لأنه خبر المبتدأ بتقدير المضاف أي شهادة بينكم حينئذ شهادة اثنين أو فاعل شهادة بينكم على أن خبرها محذوف أي فيما نزل عليكم أن يشهد بينكم اثنان. وأضاف الشهادة إلى البين توسعاً لأنها جارية بينهم، { وَإِذَا حَضَرَ} : ظرف للشهادة، وحين الوصية: بدل منه، {ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ} : يعني من أهل دينكم وملتكم يا معشر المؤمنين. وقيل معناه من أقاربكم وهما صفتان لاثنان.
واختلفوا في هذين الاثنين، فقيل هما الشاهدان اللذان يشهدان على وصية الموصي، وقيل هما الوصيان لأن الآية نزلت فيهما ولأنه قال تعالى: فيقسمان بالله. والشاهد لا يلزمه يمين وجعل الوصي اثنين تأكيداً، فعلى هذا تكون الشهادة بمعنى الحضور كقولك شهدت وصية فلان بمعنى حضرت، أو آخران: كائنان من غيركم يعني من غير أهل دينكم وملتكم وهم الكفار، وقيل من غير عشيرتكم وقبيلتكم(8/428)
ـــــــ
وهم مسلمون، والأول هو الأنسب بسياق الآية، وبه قال أبو موسى الأشعري وابن عباس وغيرهما، فيكون في الآية دليل على جواز شهادة أهل الذمة على المسلمين في السفر في خصوص الوصايا كما يفيده النظم القرآني. ويشهد له السبب للنزول، فإذا لم يكن مع الموصي من يشهد على وصيته فليشهد رجلان من أهل الكفر فإذا قدما وأديا الشهادة على وصيته حلفا بعد الصلاة أنهما ما كذبا ولا بدلا وأن ما شهد به حق فيحكم حينئذ بشهادتهما فإن عثر: بعد ذلك: على أنهما، كذبا أو خانا حلف رجلان من أولياء الموصي وغرم الشاهدان الكافران ما ظهر عليهما من خيانة أو نحوها، هذا معنى الآية عند من تقدم ذكره. وبه قال سعيد بن المسيب ويحيى بن يعمر وسعيد بن جبير وأبو مجلز والنخعي وشريح وعبيدة السلماني وابن سيرين ومجاهد وقتادة والسدي والثوري وأبو عبيدة وأحمد بن حنبل، وذهب إلى الثاني أعني تفسير ضمير منكم بالقرابة أو العشيرة.
وتفسير غيركم بالأجانب الزهري والحسن وعكرمة، وذهب مالك والشافعي وأبو حنيفة وغيرهم من الفقهاء إلى أن الآية منسوخة، واحتجوا بقوله {مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ} وقوله {وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ} والكفار ليسوا بمرضيين ولا عدول، وخالفهم الجمهور فقالوا الآية محكمة وهو الحق لعدم وجود دليل صحيح على النسخ.
وأما قوله تعالى: {مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ} وقوله: {وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ} وفهما عامان في الأشخاص والأزمان والأحوال، وهذه الآية خاصة بحالة الضرب في الأرض والوصية وبحالة عدم الشهود المسلمين، ولا تعارض بين خاص وعام {إِنْ أَنْتُمْ ضَرَبْتُمْ} أي سافرتم، والظاهر أن هذا الشرط قيد في قوله آخران من غيركم فقط. والمعنى ينبغي أن يشهد اثنان منكم فإن تعذر كما في السفر فمن غيركم وقيل هو قيد في أصل شهادة وذلك أنسب على تقدير تفسير الآية باتخاذ الوصيين في الأرض {فَأَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةُ الْمَوْتِ} يعني فنزل بكم أسباب الموت فأوصيتم إليهما ودفعتم ما لكم إليهما، ثم ذهبا إلى ورثتكم بوصيتكم وبما تركتم فارتابوا في أمرهما وادعوا عليهما خيانة، فالحكم فيه أنكم تحبسونهما: أي توقفونهما وهو استئناف كلام أو صفة لقوله أو آخران من غيركم أي وآخران من غيركم محبوسان(8/429)
ـــــــ
والشرط بجوابه المحذوف المدلول عليه وآخران من غيركم اعتراض بين الصفة والموصوف من بعد الصلاة أي من بعد صلاة العصر، وبه قال عامة المفسرين. ووجهه ذلك أن هذا الوقت كان معروفاً عندهم بالتحليف بعدها فالتقييد بالمعروف المشهور أغنى عن التقييد باللفظ مع ما عند أهل الكفر بالله من تعظيم ذلك الوقت وذلك لقربه من غروب الشمس، فيقسمان: أي الشاهدان على الوصية أو الوصيان بالله إن ارتبتم أي إن شككتم في شأنهما واتهمتموهما فحلفوهما، وبهذا يحتج من يقول الآية نازلة في إشهاد الكفار لأن تحليف الشاهد المسلم غير مشروع.
ومن قال الآية نازلة في حق المسلم قال إنها منسوخة، وقوله إن ارتبتم: اعتراض بين يقسمان وجوابه وهو لا نشتري به أي بالقسم ثمناً: أي لا نعتاض عنه بعوض قليل من الدنيا الفانية الزائلة، ولو كان ذا قربى: أي ولو كان المشهود له أو المقسم له ذا قرابة منا، ولا نكتم شهادة الله: إنما أضاف الشهادة إلى الله سبحانه لأنه أمر بإقامتها ونهى عن كتمانها {إِنَّا إِذاً لَمِنَ الْآثِمِينَ} يعني إن كتمنا الشهادة أو خنا فيها، {فَإِنْ عُثِرَ}: يقال عثر على كذا اطلع عليه ويقال عثرت منه على خيانة أي اطلعت وأعثرت غيري عليه ومنه قوله تعالى: {وَكَذَلِكَ أَعْثَرْنَا عَلَيْهِمْ} وأصل العثور: الوقوع والسقوط على الشيء، وقيل الهجوم على شيء لم يهجم عليه غيره وكل من اطلع على أمر كان قد خفي عليه قيل له قد عثر عليه. والمعنى أنه إذا اطلع وظهر بعد التحليف على أنهما أي الشاهدين أو الوصيين على الخلاف في أن الاثنين وصيان أو شاهدان على الوصية استحقا إثماً: أي فعلاً ما يوجبه من خيانة أو كذب في الشهادة بأن وجد عندهما مثلاً ما اتهما به وادعيا أنهما ابتاعاه من الميت أو أوصى لهما به، فآخران أي فشاهدان آخران أو فحالفان آخران من أولياء الميت، يقومان مقامهما: أي مقام الذين عثر على أنهما استحقا إثماً: فيشهدان أو يحلفان على ما هو الحق، من الذين استحق عليهم: على البناء للفاعل قراءة علي وابن عباس وأبي رضي الله عنهم، أي من أهل الميت الذين استحق عليهم الأوليان من بينهم أي الأقربان إلى الميت الوارثان له الأحقان بالشهادة ومفعول استحق محذوف، أي استحقا عليهم أن يجردوهما للقيام بالشهادة لأنها حقهما ويظهروا بها كذب الكاذبين، وهما في الحقيقة الآخران القائمان مقام الأولين على وضع المظهر مقام المضمر، وقرئ على البناء للمفعول وهو الأظهر أي من الذين استحق عليهم(8/430)
فَقَامَ عَمْرُو بنُ الْعَاصِ وَرَجُلٌ آخَرُ فَحَلَفَا، فَنُزِعَتْ الْخَمْسُمِائَةِ دِرْهَمٍ منْ عَدِيّ بنِ بَدّاءٍ.
هذا حديثٌ غريبٌ وليس إسْنَادُهُ بصَحِيحٍ. وأبو النّضْرِ الذي رَوَى عَنْهُ مُحمّدُ بنُ إسْحَاقَ هذا الحديثَ هُوَ عِنْدِي مُحمّدُ بنُ السّائِبِ الْكَلْبيّ يُكْنَى أَبَا النّضْرِ، وقد تَرَكَهُ أَهْلُ الْعِلْمِ بالحديثِ، وَهُوَ صَاحِبُ التّفْسِيرِ، سَمَعْتُ مُحمّدَ بنَ إسْمَاعِيلَ يقولُ: مُحمّدُ بنُ سَائِبٍ الْكَلْبِيّ يُكْنَى أَبَا النّضْرِ ولا نَعْرِفُ لِسَالِمِ أبي النّضْرِ المَدِنِيّ رِوَايَةً عن أبي صالحٍ مَوْلَى أُمّ هانئ.
ـــــــ
الإثم أي جنى عليهم وهم أهل الميت وعشيرته. فالأوليان مرفوع على أنه خبر لمبتدأ محذوف كأنه قيل ومنهما فقيل الأوليان أو هو بدل من الضمير في يقومان أو من آخران، {فَيُقْسِمَانِ بِاللَّهِ}: أي فيحلفان على خيانة الشاهدين ويقولان، {لَشَهَادَتُنَا أَحَقُّ مِنْ شَهَادَتِهِمَا} : يعني أيماننا أحق وأصدق من أيمانهما، وما اعتدينا: أي ما تجاوزنا الحق في أيماننا، وقولنا إن شهادتنا أحق من شهادة هذين الوصيين الخائنين، {إِنَّا إِذاً لَمِنَ الظَّالِمِينَ}: أي إن حلفنا كاذبين، ذلك أدنى أن يأتوا بالشهادة على وجهها: يعني ذلك الذي حكمنا به من رد اليمين على أولياء الميت بعد أيمانهم أقرب أن يأتوا بالشهادة على وجهها، يعني أن يأتي الوصيان وسائر الناس بالشهادة على وجهها الذي تحملوها عليه من غير تحريف ولا خيانة، {أَوْ يَخَافُوا أَنْ تُرَدَّ أَيْمَانٌ بَعْدَ أَيْمَانِهِمْ} : أي وأقرب أن يخافوا أن ترد الأيمان على أولياء الميت فيحلفوا على خيانتهم وكذبهم فيفتضحوا أو يغرموا فربما لا يحلفون كاذبين إذا خافوا هذا الحكم، {وَاتَّقُوا اللَّهَ} : بترك الخيانة والكذب، {وَاسْمَعُوا} : ما تؤمرون به سماع قبول، {وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ} : الخارجين عن طاعته إلى سبيل الخير "فقام عمرو بن العاص ورجل آخر" سمي مقاتل بن سليمان في تفسيره الآخر المطلب بن أبي وداعة، وهو سهمى أيضاً.
قوله: "هذا حديث غريب" وأخرجه ابن أبي حاتم وابن جرير "ولا نعرف لسالم أبي النضر المديني رواية عن أبي صالح مولى أم هانئ" مقصود(8/431)
وقد رُوِيَ عن ابنِ عَبّاسٍ شَيْءٌ من هذا عَلَى الاخْتِصَارِ من غيرِ هذا الْوَجْهِ.
5053- حدثنا سُفْيَانُ بنُ وَكِيعٍ، أخبرنا يَحْيَى بنُ آدَمَ، عن ابنِ أبي زَائِدَةَ، عن مُحمّدِ بنِ أبي الْقَاسِمِ، عن عبدِ المَلِكِ بنِ سَعِيدِ بنِ جُبَيْرٍ عن أبِيهِ عن ابنِ عَبّاسٍ قال: "خَرَجَ رَجُلٌ مِنْ بَنِي سَهْمٍ مَعَ تَمِيمَ الّدارِيّ وَعَدِيّ بنِ بَدّاءٍ، فَمَاتَ السّهْمِيّ بِأَرْضِ لَيْسَ فِيهَا مُسْلِمٌ، فَلَمّا قَدِمَا بِتَرِكَتِهِ فَقَدُوا جاماً مِنْ فِضّةٍ مُخَوّصاً بِالذَهَبِ، فَأَحْلَفَهُمَا رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم، ثُمّ وَجَدُوا الْجَامَ بِمَكّةَ، فَقِيلَ: اشْتَرَيْنَاهُ مِنْ تَمِيمٍ وَعَدِيَ، فَقَامَ رَجُلاَنِ مِنْ أَوْلِيَاءِ السّهْمِيّ فَحَلَفَا بالله لَشَهَادَتُنَا أَحْقّ مِنْ شِهَادَتِهِمَا، وَإِنّ الْجَامَ لِصَاحِبِهِمْ. قال: وَفِيهِمْ نَزَلَتْ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهَادَةُ
ـــــــ
الترمذي أن أبا النضر الذي وقع في إسناد هذا الحديث هو محمد بن السائب الكلبي، فإن روايته عن باذان أبي صالح معروفة، وليس أبو النضر هذا سالماً أبا النضر المديني لأنه لا يعرف له رواية عن باذان أبي صالح مولى أم هاني.
قوله: "عن ابن أبي زائدة" هو يحيى بن زكريا "عن محمد بن أبي القاسم" الطويل الكوفي، ثقة من السادسة.
قوله: "خرج رجل من بني سهم" هو بديل بن أبي مريم، المذكور في الحديث المتقدم "مع تميم الدارمي" يعني قبل أن يسلم هو كما تقدم، وعلى هذا فهو من مرسل الصحابي، لأن ابن عباس لم يحضر هذه القصة وفي الرواية المتقدمة أنه رواها عن تميم نفسه. ويحتمل أن تكون القصة وقعت قبل الإسلام ثم تأخرت المحاكمة حتى أسلموا كلهم، فإن في القصة ما يشعر بأن الجميع تحاكموا إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فلعلها كانت بمكة سنة الفتح "مخوصاً" بضم الميم وفتح الخاء المعجمة والواو المشددة وفي آخر وصاد مهملة. قال ابن الجوزي: صيغت فيه صفائح مثل الخوص من الذهب معناه منقوشاً فيه خطوط دقاق طوال كالخوص وهو ورق النخل "من أولياء السهمي" أي من أولياء السهمي المذكور الذي مات.(8/432)
بَيْنِكُمْ} ". هذا حديثٌ حسنٌ غريبٌ، وَهُوَ حديثُ ابنُ أبي زَائِدَةَ.
5054- حدثنا الْحَسَنُ بنُ قَزَعَةَ الْبَصْرِيّ، أخبرنا سُفْيَانُ بنُ حَبِيبٍ، حدثنا سَعِيدٌ عن قَتَادَةَ، عن خِلاَسِ بنِ عَمْرٍو عن عَمّارِ بنِ يَاسِرٍ قال: قال رَسولُ الله صلى الله عليه وسلم: "أُنْزِلَتْ الْمَائِدَةُ مِنْ السّماءِ خُبْزاً وَلَحْماً، وَأُمِرُوا أَنْ لا يَخُونُوا ولا يَدّخِرُوا لِغَدٍ، فَخَانُوا وَادّخَرُوا وَرَفَعُوا لِغَدٍ، فَمُسِخُوا قِرَدَةً وَخَنَازِيرَ" .
ـــــــ
قوله: "هذا حديث حسن غريب" وأخرجه أبو داود في القضايا، وأخرجه البخاري في صحيحه فقال: وقال لي علي بن عبد الله: يعني ابن المديني فذكره، قال الحافظ: أخرجه المصنف يعني البخاري في التاريخ فقال حدثنا علي بن المديني وهذا مما يقوي ما قررته غير مرة من أنه يعبر بقوله وقال لي في الأحاديث التي سمعها، لكن حيث يكون في إسنادها عنده نظر أو حيث تكون موقوفة وأما من زعم أنه يعبر بها فيما أخذه في المذاكرة أو بالمناولة فليس عليه دليل.
قوله: "حدثنا الحسن بن قزعة" بفتح قاف وسكون زاي وفتحها وبعين مهملة: ابن عبيد الهاشمي أبو علي البصري صدوق من العاشرة "أخبرنا سفيان بن حبيب البصري البزاز أبو محمد"، وقيل غير ذلك ثقة من التاسعة "حدثنا سعيد" هو ابن أبي عروبة "عن خلاس بن عمرو" بكسر الخاء المعجمة وتخفيف اللام ثقة، وقد صح أنه سمع من عمار.
قوله: "أنزلت المائدة" قال الراغب: المائدة الطبق الذي عليه الطعام ويقال لكل منهما مائدة، أي على الحقيقة المشتركة أو على أحدهما مجازاً باعتبار المجاورة أو بذكر المحل وإرادة الحال "خبزاً ولحماً" تمييز "وأمروا" بصيغة المجهول "ولا يدخروا" بتشديد الدال المهملة المبدلة من الذال المعجمة من باب الافتعال من الذخيرة وهو التخبية "لغد" أي ليوم عقب يوم نزول المائدة أو لوقت مستقبل بعده "فمسخوا" أي فغير الله صورهم الإنسانية بعد تغيير سيرتهم الإنسية "قردة وخنازير" منصوبان على أنهما مفعول ثان على ما يستفاد من القاموس حيث قال(8/433)
هذا حديثٌ غريبٌ. وَرَوَاهُ أَبُو عَاصِمٍ وغيرُ وَاحِدٍ عن سَعِيدِ بنِ أبي عَرُوبَةَ، عن قَتَادَةَ عن خِلاَسٍ، عن عَمّارِ بن ياسر موقوفاً، ولا نَعْرِفُهُ مرفوعاً إِلاّ من حديثِ الْحَسَنِ بنِ قَزَعَةَ.
5055- حدثنا حُمَيْدُ بنُ مَسْعَدَةَ أخبرنا سُفْيَانُ بنُ حَبِيبٍ، عن سَعِيدِ بنِ أبي عَرُوبَةَ نحْوَهُ ولم يَرْفَعْهُ. وهذا أَصَحّ من حديثِ الْحَسَنِ بنِ قَزَعَةَ، ولا نَعْلَمُ للحديثِ المرفوعِ أصْلاً.
ـــــــ
مسخه كمنعه حول صورته إلى أخرى أقبح ومسخه الله قرداً فهو مسخ ومسيخ. وقال الطيبي حالان مقدرتان كقوله تعالى {وَتَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتاً} قيل الظاهر أن شبابهم مسخوا قردة وشيوخهم خنازير.
قوله: "هذا حديث غريب" وأخرجه ابن أبي حاتم وابن جرير "رواه أبو عاصم" اسمه الضحاك بن مخلد النبيل.
تنبيه: ذكر الترمذي حديث عمار المذكور في تفسير قوله تعالى {قَالَ اللَّهُ إِنِّي مُنَزِّلُهَا عَلَيْكُمْ فَمَنْ يَكْفُرْ بَعْدُ مِنْكُمْ فَإِنِّي أُعَذِّبُهُ عَذَاباً لا أُعَذِّبُهُ أَحَداً مِنَ الْعَالَمِينَ} .
قال الحافظ ابن كثير في تفسيره بعد ذكر عدة آثار عن ابن عباس وغيره رضي الله عنهم ما لفظه: وكل هذه الآثار دالة على أن المائدة نزلت على بني إسرائيل أيام عيسى ابن مريم إجابة من الله لدعوته، وكما دل على ذلك ظاهر هذا السياق من القرآن العظيم. قال الله إني منزلها عليكم الآية.
وقال قائلون: إنها لم تنزل فروى ليث بن أبي سليم عن مجاهد في قوله: {أَنْزِلْ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِنَ السَّمَاءِ} قال هو مثل ضربه الله ولم ينزل شيء رواه ابن أبي حاتم وابن جرير. وقال حدثنا ابن المثنى، حدثنا محمد بن جعفر، حدثنا شعبة عن منصور بن زاذان عن الحسن أنه قال في المائدة إنها لم تنزل، وهذه أسانيد صحيحة إلى مجاهد والحسن. وقد يتقوى ذلك بأن خبر المائدة لا تعرفه النصارى وليس هو في كتابهم، ولو كانت قد نزلت لكان ذلك مما يتوفر الدواعي على نقله وكان يكون موجوداً في كتابهم متواتراً، ولا أقل من الآحاد، ولكن الجمهور على أنها(8/434)
5056- حدثنا ابنُ أبي عُمَرَ، أخبرنا سُفْيَانُ بن عيينة عن عَمْرِو بنِ دِينَارٍ عن طَاوُسٍ عن أبي هُرَيْرَةَ قال: "يُلَقّى عِيسَى حُجّتَهُ فَلَقّاهُ الله في قوله: {وَإِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ} قال أبو هُرَيْرَةَ عن النّبيّ صلى الله عليه وسلم، فَلَقّاهُ الله:
ـــــــ
نزلت، وهو الذي اختاره ابن جرير قال لأن الله تعالى أخبر نزولها في قوله تعالى: {إِنِّي مُنَزِّلُهَا عَلَيْكُمْ فَمَنْ يَكْفُرْ بَعْدُ مِنْكُمْ فَإِنِّي أُعَذِّبُهُ عَذَاباً لا أُعَذِّبُهُ أَحَداً مِنَ الْعَالَمِينَ} قال ووعد الله ووعيده حق وصدق، وهذا القول والله أعلم هو الصواب كما دلت عليه الأخبار والآثار عن السلف وغيرهم: انتهى كلامه باختصار يسير.
قوله: "يلقى عيسى حجته" أي يعلم وينبه عليها {وَإِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ} اختلف المفسرون في وقت هذا القول، فقال السدي، قال الله يا عيسى هذا القول حين رفعه إلى السماء بدليل أن حرف إذ يكون للماضي. وقال سائر المفسرين: إنما يقول الله له هذا القول يوم القيامة بدليل قوله {يَوْمَ يَجْمَعُ اللَّهُ الرُّسُلَ} وذلك يوم القيامة وبدليل قوله {هَذَا يَوْمُ يَنْفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ} وذلك يوم القيامة. وأجيب عن حرف إذ، بأنها قد تجيء بمعنى إذا كقوله {وَلَوْ تَرَى إِذْ فَزِعُوا} يعني إذا فزعوا وقال الراجز:
ثم جزاك الله عني إذ جزى ... جنات عدن في السموات العلى
{أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ} استفهام ومعناه الإنكار والتوبيخ لمن ادعى ذلك على عيسى عليه السلام من النصارى، لأن عيسى عليه السلام لم يقل هذه المقالة، فإن قلت: إذا كان عيسى عليه السلام لم يقلها فما وجه هذا السؤال له مع علمه بأنه لم يقله؟
قلت: وجه هذا السؤال تثبيت الحجة على قومه وإكذاب لهم في إدعائهم ذلك عليه وأنه أمرهم به فهو كما يقول القائل الآخر، أفعلت كذا وهو يعلم أنه لم يفعله وإنما أراد تعظيم ذلك الفعل فنفى عن نفسه هذه المقالة وقال: {مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلَّا مَا أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ} فاعترف بالعبودية وأنه ليس بإله كما زعمت وادعت فيه النصاري.(8/435)
{سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ} " الآية كلّهَا.
هذا حديثٌ حسنٌ صحيحٌ.
5057- حدثنا قُتَيْبَةُ، أخبرنا عَبْدُ الله بنُ وَهْبٍ، عن حُيَيّ، عن أبي عَبْدِ الرّحْمَنِ الْحُبُلِيّ عن عَبْدِ الله بنِ عَمْرٍو قال: "آخِرُ سُورَةٍ أُنْزِلَتْ سُورَةُ الْمَائِدَةِ "وَالْفَتْحُ".
ـــــــ
"قال أبو هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم" أي قال رواية عنه صلى الله عليه وسلم "فلقاه الله" أي علمه الله {سُبْحَانَكَ} أي تنزيهاً لك عما لا يليق بك من الشريك وغيره {مَا يَكُونُ لِي} أي ما ينبغي لي { أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ} أي أن أقول قولاً لا يحق لي أن أقول "الآية كلها" بالنصب أي أتمها كلها وبقية الآية مع تفسيرها هكذا {إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ} أي إن صح أني قلته فيما مضى فقد علمته. والمعنى أني لا احتاج إلى الإعتذار لأنك تعلم أني لم أقله ولو قلته علمته، لأنك {تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ} . أي تعلم ما أخفيه في نفسي ولا أعلم ما تخفيه من معلوماتك إنك أنت علام الغيوب، تقرير للجملتين معاً لأن ما انطوت عليه النفوس من جملة الغيوب ولأن ما يعلم علام الغيوب لا ينتهي إليه علم أحد.
قوله: "هذا حديث حسن صحيح" وأخرجه ابن أبي حاتم.
قوله: "عن حيى" بضم الحاء المهملة وياءين من تحت الأولى مفتوحة هو ابن عبد الله بن شريح المعافري المصري، صدوق يهم من السادسة.
قوله: "آخر سورة أنزلت سورة المائدة والفتح" قال السيوطي في الإتقان يعني إذا جاء نصر الله ويدل على ذلك قول ابن عباس الآتي آخر سورة أنزلت {إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ} .
فإن قلت: ما وجه التوفيق بين حديث عبد الله بن عمرو هذا وبين ما رواه الشيخان عن البراء بن عازب قال: آخر آية نزلت {يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلالَةِ} ، وآخر سورة نزلت براءة.
قلت: قال البيهقي يجمع بين هذه الاختلافات بأن كل واحد أجاب بما عنده.(8/436)
هذا حديثٌ حسنٌ غريبٌ. ورُوِيَ عن ابنِ عَبّاسٍ أَنّهُ قال: "آخِرُ سُورَةٍ أُنْزِلَتْ {إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ} .
ـــــــ
وقال القاضي أبو بكر في الانتصار: هذه الأقوال ليس فيها شيء مرفوع إلى النبي صلى الله عليه وسلم وكل قاله بضرب من الاجتهاد وغلبة الظن.
قوله: "هذا حديث حسن صحيح" وأخرجه الحاكم "وقد روي عن ابن عباس أنه قال الخ" وصله مسلم.(8/437)
وَمِنْ سُورةِ الأنعام
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
5058- حدثنا أَبُو كُرَيْبٍ أخبرنا مُعَاوِيَةُ بنُ هِشَامٍ، عن سُفْيَانَ عن أبي إِسْحَاقَ، عن نَاجِيَةَ بنِ كَعْبٍ، عن عَلِي أَنّ أَبَا جَهْلٍ قال لِلنّبِيّ صلى الله عليه وسلم: إِنّا لا نُكَذّبُكَ وَلَكِنْ نكَذّبُ بِمَا جِئْتَ بِهِ، فأَنْزَلَ الله تَعَالَى: {فَإِنَّهُمْ لا يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ} .
ـــــــ
وَمِنْ سُورةِ الأنعام
هي مكية إلا ست آيات نزلت بالمدينة هي: {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ} إلى آخر ثلاث آيات {قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ} إلى آخر ثلاث آيات وهي مائة وخمس أو ست وستون آية
قوله: "عن ناجية بن كعب" الأسدي ثقة من الثالثة.
قوله: "إنا لا نكذبك بل نكذب بما جئت به" أي لا نكذبك لأنك صادق ولكن نحسدك فبسببه نجحد بآيات الله: كذا في المجمع، فأنزل الله تعالى {فَإِنَّهُمْ لا يُكَذِّبُونَكَ} وقبله {قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ} قال في تفسير الجلالين قد للتحقيق، نعلم أنه: أي الشأن ليحزنك الذي يقولون لك من التكذيب فإنهم لا يكذبونك في السر لعلمهم أنك صادق، وفي قراءة بالتخفيف، أي لا ينسبونك(8/437)
5059- حدثنا إسْحَاقُ بنُ مَنْصُورٍ، أخبرنا عبدُ الرّحمَنِ بنُ مَهْدِيّ عن سُفْيَانَ عن أبي إسْحَاقَ عن نَاجِيَةَ، أَنّ أَبَا جَهْلٍ قال لِلنّبيّ صلى الله عليه وسلم، فَذَكَرَ نَحْوَهُ، ولَمْ يَذْكُرْ فِيهِ عن عَلِيّ، وهذا أَصَحّ.
5060- حدثنا ابنُ أبي عُمَرَ، أخبرنا سُفْيَانُ عن عَمْرِو بنِ دِينَارٍ سَمِعَ جابِرَ بنَ عَبدِ الله يقولُ: "لَمّا أُنْزِلَتْ هَذِهِ الآية: {قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَاباً مِنْ فَوْقِكُمْ أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ} ، قال النّبيّ صلى الله عليه وسلم: "أَعُوذُ بِوَجْهِكَ" ، فَلَمّا نَزَلَتْ: {أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعاً وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ} قال النّبيّ صلى الله عليه وسلم: هَاتَانَ أَهْونُ، أَوْ هَاتَانِ أَيْسَرُ". هذا حديثٌ حسنٌ صحيحٌ.
ـــــــ
إلى الكذب {وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ} وضعه موضع الضمير {بِآيَاتِ اللَّهِ} أي القرآن، {يَجْحَدُونَ} يكذبون.
قوله: "وهذا أصح" أي الإسناد الثاني بترك ذكر على أصح من الإسناد الأول. وحديث علي هذا أخرجه الحاكم أيضاً. وقال صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه.
قوله: {عَذَاباً مِنْ فَوْقِكُمْ} أي من السماء كالحجارة والصيحة {أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ} كالخسف والرجفة. "أعوذ بوجهك" وفي رواية: أعوذ بوجهك الكريم. فلما نزلت {يَلْبِسَكُمْ شِيَعاً} أي يخلطكم فرقاً مختلفة الأهواء {وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ} أي بالقتال "هاتان" أي خصلة الالتباس وخصلة إذاقة بعضهم بأس بعض "أهون" من بعث العذاب من الفوق أو من التحت "أو هاتان أيسر" شك من الراوي.
قوله: "هذا حديث حسن صحيح" وأخرجه البخاري والنسائي وابن حبان وابن جرير وابن مردويه.(8/438)
5061- حدثنا الْحَسَنُ بنُ عَرَفَةَ، عن إسماعِيلَ بنِ عَيّاشٍ، عن أبي بَكْرٍ بنِ أبي مَرْيَمَ الْغَسّانيّ عن رَاشِدِ بنِ سَعْدٍ عن سَعْدِ بنِ أبي وَقّاصٍ عن النّبيّ صلى الله عليه وسلم في هَذِهِ الآية: {قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَاباً مِنْ فَوْقِكُمْ أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ} ، فقالَ النّبيّ صلى الله عليه وسلم: "أَمَا إِنّها كَائِنَةٌ وَلَمْ يَأْتِ تَأْوِيلُهَا بَعْدُ" .
ـــــــ
قوله: "عن راشد بن سعد" المقرئ بفتح الميم وسكون القاف وفتح الراء بعدها همزة ثم ياء النسب الحمصي، ثقة كثير الإرسال من الثالثة.
قوله: "أما" بالتخفيف حرف التنبيه "إنها" أي الخصلة المذكورة من بعث العذاب من الفوق أو التحت "كائنة" واقعة فيما بعد "ولم يأت تأويلها" أي عاقبة ما فيها من الوعيد "بعد" بالبناء على الضم يعني إلى الاَن.
فإن قيل هذا الحديث صريح في أن الرجم والخسف كائنان في هذه الأمة، وحديث جابر المذكور يستفاد منه أنهما لا يقعان لأن النبي صلى الله عليه وسلم استعاذ منهما. وقد روى ابن مردويه عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "دعوت الله أن يرفع عن أمتي أربعاً، فرفع عنهم ثنتين وأبى أن يرفع عنهم اثنتين، دعوت الله أن يرفع عنهم الرجم من السماء والخسف من الأرض وأن لا يلبسهم شيعاً ولا يذيق بعضهم بأس بعض فرفع الله عنهم الخسف والرجم، وأبي أن يرفع عنهم الآخريين"، فما وجه التوفيق.
يقال: إن الإعاذة المذكورة في حديث جابر وغيره مقيدة بزمان مخصوص وهو وجود الصحابة والقرون الفاضلة، وأما بعد ذلك فيجوز وقوع ذلك فيهم ويحتمل في طريق الجمع أن يكون المراد أن ذلك لا يقع لجميعهم وإن وقع لأفراد منهم غير مقيدة بزمان كما في خصلة العدو الكافر والسنة العامة، فإنه ثبت في صحيح مسلم من حديث ثوبان رفعه في حديث: "إن الله زوى لي مشارق الأرض ومغاربها وسيبلغ ملك أمتي ما زوى لي منها الحديث وفيه: وإني سألت ربي أن لا يهلك أمتي بسنة عامة وأن لا يسلط عليهم عدواً من غير أنفسهم وأن لا يلبسهم شيعاً ويذيق بعضهم بأس بعض فقال يا محمد: إني إذا قضيت قضاء فإنه لا يرد، وإني أعطيتك(8/439)
هذا حديثٌ حسنٌ غريبٌ.
5062- حدثنا عَلِيّ بنُ خَشْرَمٍ، أخبرنا عَيِسَى بنُ يُونُسَ، عن الأعمَشِ، عن إِبراهِيمَ، عن عَلْقَمَةَ، عن عبدِ الله قال: "لَمّا نَزَلَتْ: {الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ} شَقّ ذَلِكَ عَلَى المُسْلِمِينَ فَقَالُوا: يَا رَسُولَ الله وَأَيّنَا لا يَظْلِمُ نَفْسَهُ؟ قال: "لَيْسَ ذَلِكَ، إِنّمَا هو الشّرْكُ، أَلَمْ تَسْمَعُوا
ـــــــ
لأمتك أن لا أهلكهم بسنة عامة، وأن لا أسلط عليهم عدواً من غيرهم يستبيح بيضتهم حتى يكون بعضهم يهلك بعضاً". وأخرج الطبري من حديث شداد نحوه بإسناد صحيح، فلما كان تسليط العدو الكافر قد يقع على بعض المؤمنين لكنه لا يقع عموماً فكذلك الخسف والقذف، هذا تلخيص ما في الفتح.
قوله: "هذا حديث حسن غريب" وأخرجه أحمد.
قوله: "عن إبراهيم" هو النخعي "عن علقمة" هو ابن قيس "عن عبد الله" هو ابن مسعود.
قوله: "لما نزلت" بالتأنيث لكون ما بعده من فاعله آية، والتقدير لما أنزلت آية {الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا} بكسر الموحدة، أي لم يخلطوا، تقول لبست الأمر بالتخفيف ألبسه بالفتح في الماضي والكسر في المستقبل، أي خالطته. وتقول لبست الثوب ألبسه بالكسر في الماضي والفتح في المستقبل والمصدر من الأول لبس بفتح اللام، ومن الثاني لبس بالضم {إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ} أي لم يخلطوه بالشرك. قال محمد بن إسماعيل التيمي في شرحه: خلط الإيمان بالشرك لا يتصور، فالمراد أنهم لم تحصل لهم الصفتان: كفر متأخر عن إيمان متقدم أي لم يرتدوا أو يحتمل أن يراد أنهم لم يجمعوا بينهما ظاهراً أو باطناً، أي لم ينافقوا، وهذا أوجه كذا في الفتح "شق ذلك على المسلمين" أي الصحابة رضي الله عنهم، ظناً منهم أن المراد بالظلم مطلق المعاصي كما يتبادر إلى الفهم لا سيما من التنكير الذي يفيد العموم "وأينا" كلام إضاف مبتدأ وقوله "لا يظلم نفسه" خبره "قال" أي رسول الله صلى الله عليه وسلم "ليس ذلك" أي ليس معناه كما فهمتم "إنما هو" أي الظلم(8/440)
مَا قَالَ لُقْمَانُ لاِبْنِهِ: {يَا بُنَيَّ لا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} .
هذا حديثٌ حسنٌ صحيحٌ.
5063- حدثنا أَحْمَدُ بنُ مَنِيعٍ أخبرنا إسْحَاقُ بنُ يُوسُفَ الأزْرَقُ، أخبرنا دَاوُدُ ابنُ أبي هِنْدٍ، عن الشّعْبِيّ عن مَسْرُوقٍ قال: "كُنْتُ مُتّكِئاً عِنْدَ عائِشَةَ، فقالَتْ: يَا أَبَا عائِشَةَ، ثَلاَثٌ مَنْ تَكَلّمَ بِوَاحِدَةٍ مِنْهُنّ فَقَدْ أعْظَمَ الْفِرْيَةَ عَلَى الله: مَنْ زَعَمَ أَنّ مُحمّداً رَأَى رَبّهُ فَقَدْ أَعْظَمَ الِفِرْيَةَ عَلَى الله، والله يقولُ: {لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ وَهُوَ
ـــــــ
"الشرك" ففي التنكير إشارة إلى أن المراد أي نوع من الكفر أو أريد به التعظيم أي بظلم عظيم "ألم تسمعوا ما قاله لقمان لابنه إلخ" ظاهر هذا أن الآية التي في لقمان كانت معلومة عندهم ولذلك نبههم عليها، ووقع في رواية للبخاري فأنزل الله عز وجل {إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} . قال الحافظ: يحتمل أن يكون نزولها وقع في الحال فتلاها عليهم ثم نبههم فتلتئم الروايتان.
قوله: "هذا حديث حسن صحيح" وأخرجه الشيخان.
قوله: "فقالت يا أبا عائشة" هو كنية مسروق "ثلاث" أي ثلاث كلمات "فقد أعظم الفرية" بكسر الفاء وسكون الراء، أي الكذب، يقال فرى الشيء يفريه فرياً، وافتراه يفتريه افتراء: إذا اختلفه، وجمع الفرية فرى "من زعم أن محمداً رأى ربه أي ليلة الإسراء فقد أعظم الفرية على الله" هذا هو مذهب عائشة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم ير الله سبحانه وتعالى ليلة الإسراء.
قال الحافظ: قد اختلف السلف في رؤية النبي صلى الله عليه وسلم ربه، فذهبت عائشة وابن مسعود إلى إنكارها واختلف عن أبي ذر، وذهب جماعة إلى إثباتها وحكى عبد الرزاق عن معمر عن الحسن أنه حلف أن محمداً رأى ربه. وأخرج ابن خزيمة عن عروة بن الزبير إثباتها وكان يشتد عليه إذا ذكر له إنكار عائشة وبه قال سائر أصحاب ابن عباس، وجزم به كعب الأخبار والزهري وصاحبه معمر(8/441)
ـــــــ
وآخرون وهو قول الأشعري وغالب أتباعه ثم اختلفوا. هل رآه بعينه أو بقلبه؟ وعن أحمد كالقولين.
قال الحافظ: جاءت عن ابن عباس أخبار مطلقة وأخرى مقيدة، فيجب حمل مطلقها على مقيدها فمن ذلك ما أخرجه النسائي بإسناد صحيح وصححه الحاكم أيضاً من طريق عكرمة عن ابن عباس قال: أتعجبون أن تكون الخلة لإبراهيم والكلام لموسى والرؤية لمحمد. وأخرجه ابن خزيمة بلفظ: إن الله اصطفى إبراهيم بالخلة الحديث. وأخرج ابن إسحاق من طريق عبد الله بن أبي سلمة أن ابن عمر أرسل إلى ابن عباس: هل رأى محمد ربه، فأرسل إليه أن نعم. ومنها ما أخرجه مسلم من طريق أبي العالية عن ابن عباس في قوله تعالى {مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى} قال رأى ربه بفؤاده مرتين، وله من طريق عطاء عن ابن عباس قال: رآه بقلبه. وأصرح من ذلك ما أخرجه ابن مردويه من طريق عطاء أيضاً عن ابن عباس قال: لم يره رسول الله صلى الله عليه وسلم بعينه إنما رآه بقلبه.
وعلى هذا فيمكن الجمع بين إثبات ابن عباس ونفي عائشة بأن يحمل نفيها على رؤية البصر وإثباته على رؤية القلب، ثم المراد برؤية الفؤاد رؤية القلب لا مجرد حصول العلم لأنه صلى الله عليه وسلم كان عالماً بالله على الدوام بل مراد من أثبت له أنه رآه بقلبه أن الرؤية التي حصلت له خلقت في قلبه كما يخلق الرؤية بالعين لغيره، والرؤية لا يشترط لها شيء مخصوص عقلاً ولا جرت العادة بخلقها في العين.
وروى ابن خزيمة بإسناد قوي عن أنس قال: رأى محمد ربه. وعند مسلم من حديث أبي ذر أنه سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك فقال: نور أني أراه، ولأحمد عنه قال: رأيت نوراً، ولابن خزيمة عنه قال: رآه بقلبه ولم يره بعينه. وبهذا يتبين مراد أبي ذر بذكره النور، أي أن النور حال بين رؤيته له ببصره وقد رجح القرطبي في المفهم قول الوقف في هذه المسألة وعزاه لجماعة من المحققين وقواه بأنه ليس في الباب دليل قاطع. وغاية ما استدل به للطائفتين ظواهر متعارضة قابلة للتأويل، قال: وليست المسألة من العمليات فيكتفي فيها بالأدلة الظنية وإنما هي من المعتقدات فلا يكتفي فيها إلا بالدليل القطعي، وجنح ابن خزيمة في كتاب التوحيد إلى ترجيح الإثبات وأطنب في الاستدلال له بما يطول ذكره، وحمل ما ورد عن ابن عباس على أن الرؤيا وقعت مرتين: مرة(8/442)
اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ} {وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْياً أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ}
ـــــــ
بقلبه، وفيما أوردته من ذلك مقنع، وممن أثبت الرؤية لنبينا صلى الله عليه وسلم الإمام أحمد، فروى الخلال في كتاب السنة عن المروزي.
قلت لأحمد: إنهم يقولون إن عائشة قالت من زعم أن محمداً رأى ربه فقد أعظم على الله الفرية، فبأي شيء يدفع قولها بقول النبي صلى الله عليه وسلم رأيت ربي قول النبي صلى الله عليه وسلم.......1 أكبر من قولها. وقد أنكر صاحب الهدى على من زعم أن أحمد قال رأى ربه بعيني رأسه قال وإنما قال: مرة رأى محمد ربه، وقال مرة بفؤاده، وحكى عنه بعض المتأخرين رآه بعيني رأسه، وهذا من تصرف الحاكي فإن نصوصه موجودة انتهى كلام الحافظ. والله يقول: {لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ} وجه الاستدلال بها أن الله عز وجل نفى أن تدركه الأبصار، وعدم الإدراك يقتضي نفي الرؤية، وأجاب مثبتو الرؤية بأن المراد بالإدراك الإحاطة وهم يقولون بهذا أيضاً وعدم الإحاطة لا يستلزم نفي الرؤية. وقال النووي: لم تنف عائشة الرؤية بحديث مرفوع ولو كان معها فيه حديث لذكرته وإنما اعتمدت الاستنباط على ما ذكرت من ظاهر الآية، وقد خالفها غيرها من الصحابة، والصحابي إذا قال قولاً وخالفه غيره منهم لم يكن ذلك القول حجة اتفاقاً. قال الحافظ: جزم النووي بأن عائشة لم تنف الرؤية بحديث مرفوع عجيب فقد ثبت ذلك عنها في صحيح مسلم الذي شرحه الشيخ فعنده من طريق داود بن أبي هند عن الشعبي عن مسروق، قال مسروق: وكنت متكئاً فجلست فقلت: ألم يقل الله {وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى} فقالت: أنا أول هذه الأمة. سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك فقال: "إنما هو جبريل". وأخرجه ابن مردويه من طريق أخرى عن داود بهذا الإسناد، فقالت: أنا أول من سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن هذا فقلت يا رسول الله، هل رأيت ربك؟ فقال: لا إنما رأيت جبريل منهبطاً {وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْياً أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ} تمام الآية: {أَوْ يُرْسِلَ رَسُولاً فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاءُ إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ} ووجه الاستدلال بها أن الله تعالى حصر تكليمه لغيره في ثلاثة أوجه: وهي الوحي بأن يلقى في روعه ما يشاء أو يكلمه بغير واسطة من وراء حجاب أو يرسل رسولاً فيبلغه عنه فيستلزم ذلك
ـــــــ
1 بياض بالأصل(8/443)
وَكُنْتَ مُتّكِئاً فَجَلَسْتُ فَقلت: يَا أُمّ المُؤْمِنِينَ، انْظِرِينِي ولا تُعْجِلِينِي، أَلَيْسَ الله تَعَالَى يقولُ: {وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى} {وَلَقَدْ رَآهُ بِالْأُفُقِ الْمُبِينِ} قالَتْ: أَنَا والله أَوّلُ مَنْ سَأَلَ رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم عَنْ هَذَا، قال: "إِنّمَا ذَلِكَ جِبْرِيلُ، مَا رَأَيْتُهُ في الصّورَةِ الّتِي خُلِقَ فِيهَا غَيْرَ هَاتَيْنِ المَرّتَيْنِ رَأَيْتُهُ مُنْهَبِطاً مِنَ السّمَاءِ سَادّاً عُظْمُ خَلْقِهِ مَا بَيْنَ السّمَاءِ وَالأرْضِ" ، وَمَنْ زَعَمَ أَنّ مُحمّداً كَتَمَ شَيْئاً مِمّا أَنْزَلَ الله عَلَيْهِ فَقَدْ أَعْظَمَ الْفِرْيَةَ عَلَى الله، يقولُ الله: {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ} ، وَمَنْ زَعَمَ أَنّهُ يَعْلَمُ مَا فِي غَدٍ أَعْظَمَ الْفِرْيَةَ عَلَى الله، والله يقولُ: { قُلْ لا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ} .
ـــــــ
انتفاء الرؤية عنه حالة التكلم، وأجابوا عنه بأن ذلك لا يستلزم نفي الرؤية مطلقاً وغاية ما يقتضي نفي تكليم الله على غيره الأحوال الثلاثة. فيجوز أن التكليم لم يقع حالة الرؤية "أنظريني" من الإنظار، أي أمهليني "لا تعجليني" أي لا تسبقيني. قال في القاموس: أعجله سبقه كاستعجله وعجله {وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى} ، {وَلَقَدْ رَآهُ بِالْأُفُقِ الْمُبِينِ} ظن مسروق أن الضمير المنصوب في قوله: {وَلَقَدْ رَآهُ} في هاتين الآيتين راجع إلى الله سبحانه وتعالى فاعترض على عائشة رضي الله عنها "قال" أي رسول الله صلى الله عليه وسلم "إنما ذلك جبريل" أي هذا المرئي هو جبريل لا الله سبحانه وتعالى "غير هاتين المرتين" أي مرة في الأرض بالأفق الأعلى، ومرة في السماء عند سدرة المنتهي "ساداً" بتشديد الدال المهملة أي مالئاً "عظم خلقه" بالرفع فاعل ساداً والعظم بضم العين وسكون الظاء، وبكسر العين وفتح الظاء: وهو ضد الصغر "ومن زعم أن محمداً كتم شيئاً مما أنزل الله الخ" هذا هو الثاني من الثلاث المذكورة "ومن زعم أنه يعلم ما في غد الخ" هذا هو الثالث من الثلاث المذكورة.(8/444)
هذا حديثٌ حسنٌ صحيحٌ. وَمَسْرُوقُ بنُ الأجْدَعِ يُكْنَى أبا عَائِشَةَ وهو مسروقُ بن عبدِ الرحمنِ، وكذا كان اسمه في الديوان.
5064- حدثنا مُحمّدُ بنُ مُوسَى الْبَصْرِيّ الْحَرَشِيّ، أخبرنا زِيَادُ بنُ عبدِ الله الْبَكّائِيّ، أخبرنا عَطَاءُ بنُ السّائِبِ، عن سَعِيدِ بنِ جُبَيْرٍ، عن عبدِ الله بنِ عَبّاسٍ قال: "أَتَى نَاسٌ النّبيّ صلى الله عليه وسلم فقالوا: يَا رَسُولَ الله أَنَأْكُلُ مَا نَقْتُلُ ولا نَأْكُلُ مَا يَقْتُلُ الله؟ فأَنْزَلَ الله: {فَكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ إِنْ كُنْتُمْ بِآياتِهِ مُؤْمِنِينَ - إلى قَوْلِهِ - وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ}" .
ـــــــ
قوله: "هذا حديث حسن صحيح" وأخرجه الشيخان والنسائي.
قوله: "الحرشي" بفتح المهملة والراء ثم شين معجمة "البكائي" بفتح الموحدة وتشديد الكاف.
قوله: "أتى ناس" وفي رواية أبي داود قال: جاءت اليهود إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا إنا نأكل مما قتلنا ولا نأكل مما قتل الله الخ، قال الحافظ ابن كثير في تفسيره بعد ذكر رواية أبي داود هذه ما لفظه: وهذا فيه نظر من وجوه ثلاثة: أحدها أن اليهود لا يرون إباحة الميتة حتى يجادلوا. الثاني أن الآية من الأنعام وهي مكية. الثالث أن هذا الحديث رواه الترمذي بلفظ أتى ناس النبي صلى الله عليه وسلم وقال حسن غريب، تم ذكر رواية الطبراني عن ابن عباس قال: لما نزلت {وَلا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ} أرسلت فارس إلى قريش أن خاصموا محمداً وقولوا له لما تذبح أنت بيدك بسكين فهو حلال وما ذبح الله عز وجل بشمشير من ذهب يعني الميتة فهو حرام فنزلت هذه الآية {وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ} أي وإن الشياطين من فارس ليوحون إلى أوليائهم من قريش.
ثم قال وروى ابن جرير من طرق متعددة عن ابن عباس وليس فيه ذكر اليهود فهذا هو المحفوظ لأن الآية مكية واليهود لا يحبون الميتة انتهى "أنأكل ما نقتل" أي نذبح "ولا نأكل ما يقتل الله" يعنون الميتة {فَكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ(8/445)
هذا حديثٌ حسنٌ غريبٌ. وقد رُوِيَ هذا الحديثُ من غيرِ هذا الْوَجْهِ عن ابنِ عَبّاسٍ أيْضاً، وَرَوَاهُ بَعْضُهُمْ عن عَطَاءِ بنِ السّائِبِ عن سَعِيدِ بنِ جُبَيْرٍ عن النّبيّ صلى الله عليه وسلم مُرْسَلاً.
5065- حدثنا الْفَضْلُ بنُ الصّبّاحِ الْبَغْدَادِيّ، أخبرنا مُحمّدُ بنُ فُضَيْلٍ عن دَاوُدَ الأوْدِيّ عن الشّعْبِيّ عن عَلْقَمَةَ عن عبدِ الله قال: "مَنْ سَرّهُ أَنْ يَنْظُرَ إلى الصّحِيفَةِ الّتِي عَلَيْهَا خَاتَمُ مُحمّدٍ صلى الله عليه وسلم فَلْيَقْرَأْ
ـــــــ
اللَّهِ عَلَيْهِ} أي ما ذبح على اسمه لا ما ذبح على اسم غيره أو مات حتف أنفه. قال الخازن: هذا جواب لقول المشركين حيث قالوا للمسلمين أتأكلون مما قتلتم ولا تأكلون مما قتل ربكم. فقال الله تعالى للمسلمين فكلوا أنتم مما ذكر اسم الله عليه من الذبائح. وعند ابن أبي حاتم عن ابن عباس قال: يوحي الشيطان إلى أوليائهم من المشركين أن يقولوا: تأكلون ما قتلتم ولا تأكلون ما قتل الله. فقال إن الذي قتلتم يذكر اسم الله عليه وإن الذي مات لم يذكر اسم الله عليه {إِنْ كُنْتُمْ بِآياتِهِ مُؤْمِنِينَ} فإن الإيمان بها يقتضي استباحة ما أحل الله واجتناب ما حرمه.
قوله: "هذا حديث حسن غريب" وأخرجه أبو داود، قال المنذري بعد ذكر تحسين الترمذي عطاء بن السائب: اختلفوا في الاحتجاج بحديثه وأخرج له البخاري مقروناً بأبي بشر جعفر بن أبي وحشية وفي إسناده عمران بن عيينة أخو سفيان بن عيينة، قال أبو حاتم الرازي: لا يحتج بحديثه فإنه يأتي بالمناكير.
قوله: "وقد روى هذا الحديث من غير هذا الوجه عن ابن عباس أيضاً" رواه أبو داود وابن ماجه وابن أبي حاتم وغيرهم وصحح الحافظ ابن كثير إسناده "ورواه بعضهم عن عطاء بن السائب عن سعيد بن جبير عن النبي صلى الله عليه وسلم مرسلاً" رواه ابن أبي حاتم.
قوله: "عن داود الأودي" الظاهر أن داود هذا هو داود بن عبد الله الأودي الزعافري، بالزاي والمهملة وبالفاء، أو العلاء الكوفي ثقة من السادسة وهو غيرهم عبد الله بن إدريس "عن عبد الله" هو ابن مسعود.
قوله: "من سره أن ينظر إلى الصحيفة التي عليها خاتم محمد صلى الله عليه(8/446)
هَؤُلاَءِ الاَيَاتِ: {قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ} الآية إلى قَوْلِه - {لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} .
ـــــــ
وسلم فليقرأ هؤلاء الاَيات" كناية عن أن هذه الآيات محكمات غير منسوخات. وقال ابن عباس: هذه الآيات محكمات في جميع الكتب لم ينسخهن شيء وهن محرمات على بني آدم كلهم وهن أم الكتاب من عمل بهن دخل الجنة ومن تركهن دخل النار ذكره الخازن، وروى نحوه الحاكم في المستدرك {قُلْ} يا محمد {تَعَالَوْا} أي هلموا وأقبلوا {أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ} أي أقرأ وأقص عليكم وأخبركم بما حرم ربكم عليكم حقاً لا تخرصاً ولا ظناً بل وحياً منه وأمراً من عنده، وبقية الآيات مع تفسيرها هكذا {أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً} كأن في الكلام محذوفاً دل عليه السياق وتقديره: وأوصاكم أن لا تشكركوا به شيئاً. ولهذا قال في آخر الآية {ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} وقال النيسابوري في تفسيره: فإن قيل قوله {أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً} كالتفصيل لما أجمله في قوله ما حرم فيلزم أن يكون ترك الشرك والإحسان إلى الوالدين محرماً، فالجواب أن المراد من التحريم البيان المضبوط أو الكلام تم عند قوله {مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ} ثم ابتدأ فقال: عليكم أن لا تشركوا أو أن مفسرة أي ذلك التحريم هو قوله لا تشركوا وهذا في النواهي واضح وأما الأوامر فيعلم بالقرينة أن التحريم راجع إلى أضدادها وهي الإساءة إلى الوالدين وبخس الكيل والميزان وترك العدل في القول ونكث عهد الله، ولا يجوز أن يجعل ناصبة وإلا لزم عطف الطلب أعني الأمر على الخبر انتهى {وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً} أي أوصاكم وأمركم بالوالدين إحساناً {وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ} بالوأد {مِنْ إِمْلاقٍ} أي من أجل فقر تخافونه وذلك أنهم كانوا يقتلون البنات خشية العار وربما قتلوا بعض الذكور خشية الافتقار {نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ وَلا تَقْرَبُوا الْفَوَاحِشَ} أي الكبائر كالزنا ما ظهر منها وما بطن أي علانيتها وسرها {وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ} إنما أفرده بالذكر تعظيماً لأمر القتل وأنه من أعظم الفواحش والكبائر، وقيل إنما أفرده بالذكر لأنه تعالى أراد أن يستثنى منه ولا يمكن ذلك الاستثناء من جملة الفواحش إلا بالإفراد فلذلك قال: ولا تقتلوا النفس التي حرم الله إلا بالحق. كالقود وحد الردة ورجم المحصن ذلكم أي المذكور {وَصَّاكُمْ بِهِ} يعني(8/447)
هذا حديثٌ حسنٌ غريبٌ.
5066- حدثنا سُفْيَانُ بنُ وَكِيعٍ، أخبرنا أبي عن ابنِ أبي لَيْلَى عن عَطِيّةَ عن أبي سَعِيدٍ عن النّبيّ صلى الله عليه وسلم في قَوْلِ الله تعالى:
ـــــــ
أمركم به وأوجبه عليكم، {لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} أي لكي تفهموا وتتدبروا ما في هذه التكاليف من الفوائد والمنافع تعلموا بها {وَلا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي} أي بالخصلة التي {هِيَ أَحْسَنُ} وهي ما فيه صلاحه وتثميره وتحصيل الربح له {حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ} بأن يحتمل.
قال في القاموس: حتى يبلغ أشده ويضم أوله أي قوته وهو ما بين ثماني عشرة سنة إلى ثلاثين واحد جاء على بناء الجمع كأنك ولا نظير لهما أو جمع لا واحد له من لفظه أو واحده شدة بالكسر مع أن فعلة لا تجمع على أفعل أو شد لكلب وأكلب أو شد كذئب وأذؤب وما هما بمسموعين بل قياس انتهى. واختلف المفسرون في تفسير الأشد، فقيل عشرون سنة وقيل ثلاثون سنة وقيل ثلاث وثلاثون سنة. قال الخازن هذه الأقوال التي نقلت عن المفسرين في هذه الآية إنما هي نهاية الأشد لا ابتداؤه والمراد بالأشد في هذه الآية هي ابتداء بلوغ الحلم مع إيناس الرشد وهذا هو المختار في هذه الآية {وَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ} أي بالعدل وترك البخس {لا نُكَلِّفُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَهَا} أي طاقتها وما يسعها في إيفاء الكيل والميزان وإتمامه يعني من اجتهد في أداء الحق وأخذه فإن أخطأ بعد استفراغ وسعه وبذل جهده فلا حرج عليه {وَإِذَا قُلْتُمْ} فيحكم ألا غيره {فَاعْدِلُوا} بالصدق والحق ولو كان أي المقول له أو عليه {ذَا قُرْبَى} أي ذا قرابة لكم، {وَبِعَهْدِ اللَّهِ أَوْفُوا} يعني ما عهد إلى عباده ووصاهم به وأوجبه عليهم ذلكم أي الذي ذكر في هذه الآيات وصاكم به {لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} : أي لعلكم تتعظون وتتذكرون فتأخذون ما أمرتكم به وأن بالفتح على تقدير اللام والكسر استينافاً هذا أي الذي وصيتكم به صراطي مستقيماً حال {فَاتَّبِعُوهُ} ولا تتبعوا السبل الطرق المخالفة له فتفرق فيه حذف إحدى التاءين أي فتميل، بكم عن سبيله أي دينه، {ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} أي الطرق المختلفة والسبل المضلة.
قوله: "أخبرنا أبي" أي حدثنا والدي وهو وكيع بن الجراح "عن ابن أبي ليلى" هو محمد بن عبد الرحمن بن أبي ليلى الأنصاري "عن عطيه" هو العوفي.(8/448)
{أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ} قال: طُلُوعُ الشّمْسِ مِنْ مَغْرِبِهَا".
هذا حديثٌ غريبٌ، وَرَوَاهُ بَعْضُهُمْ ولم يَرْفَعْهُ.
5067- حدثنا عَبْدُ بنُ حُمَيْدٍ، أخبرنا يَعْلَى بنُ عُبَيْدٍ، عن فُضَيْلِ بنِ غَزَوَانَ، عن أبي حَازِمٍ، عن أبي هُرَيْرَةَ، عن النّبيّ صلى الله عليه وسلم قال: "ثَلاَثٌ إذَا خَرَجْنَ {لا يَنْفَعُ نَفْساً إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ} الاَيَةِ. الدّجّالُ وَالدّابّةُ وَطُلُوعُ الشّمْسِ مِنْ مَغْرِبِهَا أوْ مِنْ المَغْرِبِ" .
ـــــــ
قوله: "قال طلوع الشمس من مغربها" أي قال رسول الله صلى الله عليه وسلم إن المراد بقوله بعض آيات ربك هو طلوع الشمس من مغربها.
قوله: "هذا حديث غريب" وأخرجه أحمد وعبد بن حميد وأبو يعلى وابن أبي حاتم وأبو الشيخ وابن مردويه.
قوله: "عن يعلى بن عبيد" بن أبي أمية الكوفي كنيته أبو يوسف الطنافسي ثقة إلا في حديثه عن الثوري ففيه لين من كبار التاسعة "عن أبي حازم" هو الأشجعي.
قوله: "ثلاث" أي ثلاث آيات "إذا خرجن" فيه تغليب أو معناه ظهرن والمراد هذه الثلاث بأسرها "لم ينفع نفساً إيمانها لم تكن آمنت من قبل الآية" كذا في النسخ الحاضرة بلفظ لم ينفع وفي رواية مسلم: لا ينفع وهو الظاهر فإنه ليس في هذه الآية لم ينفع بل فيها لا ينفع، والاَية بتمامها مع تفسيرها هكذا: {هَلْ يَنْظُرُونَ} أي ما ينتظرون المكذبون {إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلائِكَةُ} ، أي لقبض أرواحهم، {أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ} أي أمره بمعنى عذابه {أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ} ، أي بعض علاماته الدالة على الساعة وهو طلوع الشمس من مغربها {يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ لا يَنْفَعُ نَفْساً إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ} من قبل الجملة صفة نفس أو نفساً لم تكن كسبت في إيمانها خيراً أي طاعة أي لا تنفعها قرابتها، قل انتظرا. أحد هذه الأشياء، إنا منتظرون ذلك.
قوله: "والدابة" وفي رواية مسلم دابة الأرض.(8/449)
هذا حديثٌ حسنٌ صحيحٌ.
5068- حدثنا ابنُ أبي عُمَرَ، أخبرنا سُفْيَانُ عن أبي الزّنَادِ، عن الأعْرَجِ، عن أبي هُرَيْرَةَ، أنّ رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم قال: "قال الله عز وجل وَقَوْلُهُ الْحَقّ: إذَا هَمّ عَبْدِي بِحَسَنَةٍ فَاكْتُبُوهَا لَهُ حَسَنَةً، فَإِنْ عَمِلَهَا فَاكْتُبُوهَا لَهُ بِعَشْرِ أَمْثَالِهَا، وَإِذَا هَمّ بِسَيّئَةٍ فَلاَ تَكْتُبُوهَا،
ـــــــ
قوله: "هذا حديث حسن صحيح" وأخرجه مسلم وأحمد وابن جرير.
قوله: "وقوله الحق" جملة حالية "إذا هم" أي أراد كما في بعض روايات الشيخين.
قال الحافظ: ورد ما يدل على أن مطلق الهم والإرادة لا يكفي، فعند أحمد وصححه ابن حبان والحاكم من حديث خريم بن فاتك رفعه: ومن هم بحسنة يعلم الله أنه قد أشعر بها قلبه وحرص عليها. وقد تمسك به ابن حبان فقال بعد إيراد حديث الباب في صحيحه: المراد بالهم هنا العزم ثم قال ويحتمل أن الله يكتب الحسنة بمجرد الهم بها وإن لم يعزم عليها زيادة في الفضل "فاكتبوها له" أي الذي هم بالحسنة. وفيه دليل على أن الملك يطلع على ما في قلب الآدمي إما باطلاع الله إياه أو بأن يخلق له علماً يدرك به ذلك. ويؤيد الأول ما أخرجه ابن أبي الدنيا عن أبي عمران الجوني قال: ينادي الملك اكتب لفلان كذا وكذا فيقول يا رب إنه لم يعلمه. فيقول إنه نواه، وقيل بل يجد الملك للهم بالسيئة رائحة خبيثة وبالحسنة رائحة طيبة. وأخرج ذلك الطبري عن أبي معشر المدني وجاء مثله عن سفيان بن عيينة قال الحافظ ورأيت في شرح مغلطاني أنه ورد مرفوعاً قال الطوفي: إنما كتبت الحسنة بمجرد الإرادة، لأن إرادة الخير سبب إلى العمل، وإرادة الخير خير لأن إرادة الخير من عمل القلب. واستشكل بأنه إذا كان كذلك فكيف لا تضاعف لعموم قوله {مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا} وأجيب بحمل الآية على عمل الجوارح والحديث على الهم المجرد "فإن عملها فاكتبوها له بعشر أمثالها"(8/450)
فَإِنْ عَمِلَهَا فَاكْتُبُوهَا بِمِثْلِهَا، فَإِنْ تَرَكَهَا، وَرُبّمَا قال: فَإِنْ لَمْ يَعْمَلْ بِهَا، فَاكْتُبُوهَا لَهُ حَسَنَةً، ثُمّ قَرَأَ: {مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا} ".
هذا حديثٌ حسنٌ صحيحٌ.
ـــــــ
وفي حديث ابن عباس عند البخاري من طريق عبد الرزاق عن جعد عن أبي رجاء العطاردي: فإن هو هم بها فعملها كتبها الله له بها عنده عشر حسنات.
قال الحافظ يؤخذ منه رفع توهم أن حسنة الإرادة تضاف إلى عشرة التضعيف فتكون الجملة إحدى عشرة على ما هو ظاهر رواية جعفر بن سليمان عند مسلم ولفظه: فإن عملها كتبت له عشر أمثالها، وكذا في حديث أبي هريرة وفي بعض طرقه احتمال. ورواية عبد الوراث في الباب ظاهرة فيما قلته وهو المعتمد انتهى "فإن تركها" زاد البخاري في رواية في التوحيد من أجلي.
قوله: "هذا حديث حسن صحيح" وأخرجه الشيخان.(8/451)
وَمِنْ سُورةِ الأعراف
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
5069- حدثنا عَبْدُ الله بنُ عَبْدِ الرّحمَنِ، أخبرنا سُلَيْمانُ بنُ حَرْبٍ أخبرنا حَمّادُ بنُ سَلَمَةَ، عن ثَابِتٍ عن أَنَسٍ، "أَنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم قَرَأَ هَذِهِ الآية: " {فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكّاً} قال حَمّادٌ: هَكَذَا، وَأَمْسَكَ سُليْمانُ بِطَرَفِ إِبْهَامِهِ عَلَى أَنْمُلَةِ إصْبَعِهِ الْيُمْنَى، قال:
ـــــــ
وَمِنْ سُورةِ الأعراف
مكية إلا {وَاسْأَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ} الثمان أو الخمس آيات، وهي مائتان وخمس أو ست آيات
قوله: {فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ} أي ظهر نور ربه للجبل {جَعَلَهُ دَكّاً} أي مدكوكاً مستوياً بالأرض "قال حماد" هو ابن سلمة "هكذا" أي أشار حماد بن سلمة لبيان قلة التجلي، هكذا يعني وضع طرف إبهامه على أنملة إصبعه اليمنى "وأمسك(8/451)
فَسَاخَ الْجَبَلُ {وَخَرَّ مُوسَى صَعِقاً} ". هذا حديثٌ حسنٌ صحيحٌ غريبٌ لا نَعْرِفُهُ إلاّ من حديثِ حَمّادِ بنِ سَلَمَةَ.
5070- حدثنا عَبْدُ الْوَهّابِ الْوَرّاقُ الْبَغْدَادِيّ، أخبرنا مُعَاذُ بنُ مُعَاذٍ، عن حَمّادِ بنِ سَلَمَةَ، عن ثَابِتٍ عن أنَسٍ عن النّبيّ صلى الله عليه وسلم نحْوَهُ. هذا حديثٌ حسنٌ.
5071- حدثنا الأنْصَارِيّ، أخبرنا مَعْنٌ، أخبرنا مَالِكُ بنُ أنَسٍ عن زَيْدِ بنِ أبي أُنَيْسَةَ عن عَبْدِ الْحَمِيدِ بنِ عبدِ الرّحْمَنِ بنِ زَيْدِ بنِ الْخَطّابِ عن مُسْلِمِ بنِ يَسَارٍ الْجُهَنِيّ، أَنّ عُمَرَ بنَ الْخَطّابِ سُئِلَ عَنْ هَذِهِ الآية:
ـــــــ
سليمان إلخ" أي لبيان قوله هكذا. وروى الحافظ ابن جرير من طريق حماد عن ليث عن أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم قرأ هذه الآية "فلما تجلى ربه للجبل جعله دكا" قال هكذا بإصبعه، وضع النبي صلى الله عليه وسلم إصبعه الإبهام على المفصل الأعلى من الخنصر فساخ الجبل.
قال الحافظ ابن كثير: هكذا وقع في هذه الرواية حماد بن سلمة عن ليث عن أنس، والمشهور حماد بن سلمة عن ثابت عن أنس انتهى "قال" أي النبي صلى الله عليه وسلم "فساخ الجبل" أي غاص في الأرض وغاب فيها "وخر موسى صعقاً" أي مغشياً عليه لهول ما رأى.
قوله: "هذا حديث حسن صحيح غريب" وأخرجه أحمد والحاكم في المستدرك وابن جرير.
قوله: "أخبرنا معاذ بن معاذ" بن نصر بن حسان العنبري أبو المثنى البصري القاضي ثقة متقن من كبار التاسعة.
قوله: "عن زيد بن أبي أنيسة" بضم الهمزة وفتح النون وسكون الياء هو أبو أسامة الجزري "عن عبد الحميد بن عبد الرحمن بن زيد بن الخطاب" العدوي أبي عمر المدني، ثقة من الرابعة، توفي بحران في خلافة هشام "عن مسلم بن يسار الجهني" مقبول من الثالثة.(8/452)
{وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ} فَقَالَ عُمَرُ بنُ الْخَطّابِ سَمِعْتُ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم سُئِلَ عَنْهَا، فَقالَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: "إنّ الله خَلَقَ آدَمَ ثُمّ مَسَحَ ظَهْرَهُ بِيَمِينِهِ فَاسْتَخْرَجَ مِنْهُ ذُرّيَةً، فقال: خَلَقْتُ هَؤَلاَءِ لِلْجَنّةِ
ـــــــ
قوله: "أن عمر بن الخطاب سئل عن هذه الآية" أي عن كيفية أخذ الله ذرية بني آدم من ظهورهم المذكور في الآية {وَإِذْ} أي اذكر يا محمد حين {أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ} بدل اشتمال مما قبله بإعادة الجار، وقيل بدل بعض { ذُرِّيَّتَهُمْ} بأن أخرج بعضهم من صلب بعض من صلب آدم، نسلاً بعد نسل كنحو ما يتوالدون كالذر بنعمان يوم عرفة، ونصب لهم دلائل على ربوبيته وركب فيهم عقلاً {وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ} قال {أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى} أنت ربنا {شَهِدْنَا} بذلك {أَنْ تَقُولُوا} أي لئلا تقولوا {يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا} أي التوحيد {غَافِلِينَ} لا نعرفه "سئل" بصيغة المجهول والجملة حالية "عنها" أي عن هذه الآية "ثم مسح ظهره" أي ظهر آدم "بيمينه".
قال الطيبي: ينسب الخير إلى اليمين، ففيه تنبيه على تخصيص آدم بالكرامة، وقيل بيد بعض ملائكته وهو الملك الموكل على تصوير الأجنة أسند إليه تعالى للتشريف، أو لأنه الاَمر والمتصرف، كما أسند إليه التوفي في قوله تعالى: {اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ} وقال تعالى: {الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ} ويحتمل أن يكون الماسح هو الله تعالى والمسح من باب التصوير والتمثيل كذا في المرقاة.
قلت: هذه تأويلات لا حاجة إليها قد مر مراراً أن مذهب السلف الصالحين رضي الله عنهم، في أمثال هذه الأحاديث إمرارها على ظواهرها من غير تأويل وتكييف "فاستخرج منه ذرية" قيل قبل دخول آدم الجنة بين مكة والطائف، وقيل ببطن نعمان وأنه بقرب عرفة، وقيل في الجنة، وقيل بعد النزول منها بأرض الهند. وروي عن ابن عباس رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "أخذ(8/453)
ـــــــ
الله الميثاق من ظهر آدم بنعمان يعني عرفة فأخرج من صلبه كل ذرية ذرأها فنثرهم بين يديه كالذر ثم كلمهم قبلاً قال؟ ألست بربكم قالوا بلى شهدنا". ونقل السيد السند عن الأزهار أنه قيل شق ظهره واستخرجهم منه، وقيل: إنه استخرجهم من ثقوب رأسه، والأقرب أنه استخرجهم من مسام شعرات ظهره، ذكره القارئ في المرقاة.
قلت: حديث ابن عباس الذي ذكره بقوله وروي عن ابن عباس الخ أخرجه أحمد في مسنده والنسائي في كتاب التفسير من سننه، وابن جرير وابن أبي حاتم والحاكم في مستدركه. وقال صحيح الإسناد ولم يخرجاه، وقد روى هذا الحديث موقوفاً على ابن عباس.
قال الحافظ ابن كثير: وهذا أي كونه موقوفاً علي ابن عباس أكثر وأثبت انتهى. قال الإمام الرازي: أطبقت المعتزلة على أنه لا يجوز تفسيره هذه الآية بهذا الحديث لأن قوله من ظهورهم بدل من بني آدم. فالمعنى وإذ أخذ ربك من ظهور بني آدم فلم يذكر أنه أخذ من ظهر آدم شيئاً، وما كان المراد الأخذ من ظهر آدم لقيل من ظهره وأجاب بأن ظاهر الآية يدل على أنه تعالى أخرج الذرية من ظهور بني آدم، وأما أنه أخرج تلك الذرية من ظهر آدم فلا تدل الآية على إثباته ونفيه والخبر، قد دل على ثبوته فوجب القول بهما معاً بأن بعض الذر من ظهر بعض الذر والكل من ظهر آدم صوناً للاَية، والحديث عن الاختلاف انتهى. وقال التوربشتي: هذا الحديث يعني حديث ابن عباس المذكور لا يحتمل من التأويل ما يحتمله حديث عمر رضي الله تعالى عنه ولا أرى المعتزلة يقابلون هذه الحجة إلا بقولهم حديث ابن عباس، هذا من الاَحاد فلا نترك به ظاهر الكتاب، وإنما هربوا عن القول في معنى الآية بما يقتضيه ظاهر الحديث لمكان قوله تعالى: {أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ} فقالوا: إن كان هذا الإقرار عن اضطرار حيث كوشفوا بحقيقة الأمر وشاهدوه عين اليقين فلهم يوم القيامة أن يقولوا شهدنا يومئذ فلما زال عنا علمنا علم الضرورة ووكلنا إلى آرائنا، كان منا من أصاب ومنا من أخطأ، وإن كان عن استدلال ولكنهم عصموا عنده من الخطأ فلهم أن يقولوا أيدنا يوم الإقرار بالتوفيق والعصمة وحرمناهما من بعد، ولو مددنا بهما لكانت شهادتنا في كل حين كشهادتنا في اليوم الأول. فقد تبين أن الميثاق ما ركز الله فيهم(8/454)
وبِعَمَلِ أهْلِ الْجَنّةِ يَعْمَلُونَ، ثُمّ مَسَحَ ظَهْرَهُ فَاسْتَخْرَجَ مِنْهُ ذُرّيَةً، فقالَ: خَلَقْتُ هَؤلاءِ لِلنّارِ، وبِعَمَلِ أهْلِ النّارِ يَعْمَلُونَ" . فقالَ رجُلُ: فَفِيمَ الْعَمَلُ يَا رَسُولَ الله؟ قال فقالَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم: إِنّ الله إذَا خَلَقَ الْعَبْدَ لِلْجَنّةِ اسْتَعْمَلَهُ بِعَمَلِ أهْلِ الْجَنّةِ حَتّى يَمُوتَ عَلَى عَمَلٍ مِنْ أعْمَالِ أهْلِ الْجَنّةِ فَيُدْخِلَهُ الله الْجَنّةِ، وَإِذَا خَلَقَ الْعَبْدَ لِلنّارِ اسْتَعْمَلَهُ بِعَمَلِ أهْلِ النّارِ حَتّى يَمُوتَ عَلَى عَمَلٍ مِنْ أَعْمَالِ أهْلِ النّارِ فَيُدْخِلَهُ الله النّارَ" .
ـــــــ
من العقول وآتاهم وآباءهم من البصائر لأنها هي الحجة الباقية المانعة لهم أن يقولوا إنا كنا عن هذا غافلين، لأن الله تعالى جعل هذا الإقرار حجة عليهم في الإشراك كما جعل بعث الرسل حجة عليهم في الإيمان بما أخبروا به من الغيوب.
قال الطيبي: وخلاصة ما قالوه أنه يلزم أن يكونوا محتجين يوم القيامة بأنه زال عنا علم الضرورة ووكلنا إلى آرائنا فيقال لهم كذبتم بل أرسلنا رسلنا تترى يوقظونكم من سنة الغفلة، وأما قوله حرمنا عن التوفيق والعصمة من بعد ذلك فجوابه: أن هذا مشترك الإلزام إذ لهم أن يقولوا لا منفعة لنا في العقول والبصائر حيث حرمنا عن التوفيق والعصمة. والحق أن تحمل الأحاديث الواردة على ظواهرها ولا يقدم على الطعن فيها بأنها آحاد لمخالفتها لمعتقد أحد، ومن أقدم على ذلك فقد حرم خيراً كثيراً وخالف طريقة السلف الصالحين لأنهم كانوا يثبتون خبر واحد عن واحد عن النبي صلى الله عليه وسلم ويجعلونه سنة، حمد من تبعها وعيب من خالفها انتهى. "وبعمل أهل الجنة" أي من الطاعات "يعملون" إما في جميع عمرهم أو في خاتمة أمرهم "ففيم العمل يا رسول الله" أي إذا كان كما ذكرت يا رسول الله من سبق القدر، ففي أي شيء يفيد العمل؟ أو بأي شيء يتعلق العمل أو فلأي شيء أمرنا بالعمل "استعمله بعمل أهل الجنة" أي جعله عاملاً بعمل أهل الجنة ووفقه للعمل به، "حتى يموت على عمل من أعمال أهل الجنة" فيه إشارة إلى أن المدار على عمل مقارن بالموت.(8/455)
هذا حديثٌ حسنٌ. وَمُسْلِمُ بنُ يَسَارٍ لم يَسْمَعْ مِنْ عُمَرَ. وقد ذَكَرَ بَعْضُهُمْ في هذا الإسنادِ بَيْنَ مُسْلِمِ بنِ يَسَارٍ وبَيْنَ عُمَرَ رَجُلاً.
ـــــــ
قوله: "هذا حديث حسن" وأخرجه مالك في الموطإ وأحمد والنسائي وابن أبي حاتم وابن جرير وابن حبان في صحيحه وغيرهم "ومسلم بن يسار لم يسمع من عمر الخ".
قال الحافظ ابن كثير: وكذا قاله أبو حاتم وأبو زرعة زاد أبو حاتم وبينهما نعيم بن ربيعة. وهذا الذي قاله أبو حاتم رواه أبو داود في سننه عن محمد بن مصفي، عن بقية عن عمر بن جعثم القرشي عن زيد بن أبي أنيسة عن عبد الحميد بن عبد الرحمن عن مسلم بن يسار عن نعيم بن ربيعة، قال: كنت عند عمر بن الخطاب وقد سئل عن هذه الآية {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ} فذكر وقال الحافظ الدارقطني: وقد تابع عمر بن جعثم يزيد بن سنان أبو فروة الرهاوي وقولهما أولى بالصواب من قول مالك.
قال ابن كثير: الظاهر أن الإمام مالكاً إنما أسقط ذكر نعيم بن ربيعة عمداً لما جهل حال نعيم ولم يعرفه فإنه غير معروف إلا في هذا الحديث ولذلك يسقط ذكر جماعة ممن لا يرتضيهم ولهذا يرسل كثيراً من المرفوعات ويقطع كثيراً من الموصولات انتهى. وقال المنذري: قال أبو عمر النمري: هذا حديث منقطع بهذا الإسناد لأن مسلم بن يسار هذا لم يلق عمر بن الخطاب وبينهما في هذا الحديث نعيم ابن ربيعة، وهذا أيضاً مع الإسناد لا تقوم به حجة، ومسلم بن يسار هذا مجهول، قيل إنه مدني وليس بمسلم بن يسار البصري، وقال أيضاً: وجملة القول في هذا الحديث أنه حديث ليس إسناده بالقائم لأن مسلم بن يسار ونعيم بن ربيعة جميعاً غير معروفين بحمل العلم، ولكن معنى هذا الحديث قد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم من وجوه ثابتة كثيرة يطول ذكرها من حديث عمر بن الخطاب وغيره انتهى.
قلت: مسلم بن يسار هذا وثقة ابن حبان، وقال العجلى تابعي ثقة، ونعيم بن ربيعة وثقه أيضاً ابن حبان، وقال الحافظ هو مقبول(8/456)
5072- حدثنا عَبْدُ بنُ حُمَيْدٍ أخبرنا أبُو نُعَيْمٍ، أخبرنا هِشامُ بنُ سَعْدٍ، عن زَيْدِ ابْنِ أَسْلَمَ، عن أبي صالحٍ، عن أبي هُرَيْرَةَ قال: قال رَسولُ الله صلى الله عليه وسلم: "لَمّا خَلَقَ الله آدَمَ مَسَحَ ظَهْرَهُ فَسَقَطَ مِنْ ظَهْرِهِ كُلّ نَسَمَةٍ هُوَ خَالِقُهَا مِنْ ذُرّيّتِهِ إلى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَجَعَلَ بَيْنَ عَيْنَي كُلّ إِنْسَانٍ مِنْهُمْ وَبِيصاً مِنْ نُورٍ، ثُمّ عَرَضَهُمْ عَلَى آدَمَ فَقَالَ: أَيْ رَبّ، مَنْ هَؤُلاءِ؟ قال: هَؤُلاَءِ ذُرّيّتُكَ، فَرَأَى رَجُلاً مِنْهُمْ فَأَعْجَبَهُ وَبِيصُ ما بَيْنَ عَينَيْهِ، فقال: أيْ رَبّ، مَنْ هَذَا؟ فقال: هَذَا رَجُلٌ مِنْ آخِرِ الاْمَمِ مِن ذُرّيَتِكَ يُقَالُ لَهُ دَاوُدِ، قال: رَبّ وَكَمْ جَعَلْتَ عُمْرَهُ؟ قال: سِتّينَ سَنَةً، قال: أيْ رَبّ، زِدْهُ مِنْ عُمْرِي أرْبَعِينَ سَنَةً، فَلَمّا
ـــــــ
قوله: "فسقط من ظهره" أي خرج منه " كل نسمة" أي ذي روح وقيل كل ذي نفس مأخوذة من النسيم قاله الطيبي "هو خالقها من ذريته" الجملة صفة نسمة ومن بيانية، وفي الحديث دليل بين على أن إخراج الذرية كان حقيقياً "وبيصاً" أي بريقاً ولمعاناً "من نور" في ذكره إشارة إلى الفطرة السليمة وفي قوله: بين عيني كل إنسان إيذان بأن الذرية كانت على صورة الإنسان على مقدار الذر "فأعجبه وبيص ما بين عينيه" أي سره "هذا رجل من آخر الأمم" جمع أمة، و الآخر ية إضافية لا حقيقية، فإن الآخر ية الحقيقية ثابتة لأمة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم ومن المعلوم أن داود عليه السلام ليس منهم "يقال له داود" قيل تخصيص التعجب من وبيص داود إظهار لكرامته ومدح له فلا يلزم تفضيله على سائر الأنبياء لأن المفضول قد يكون له مزية بل مزايا ليست في الفاضل، ولعل وجه الملاءمة بينهما اشتراك نسبة الخلافة "قال" أي آدم "رب" بحذف حرف النداء "وكم جعلت عمره" بضم العين والميم وقد تسكن، وكم مفعول لما بعده، وقدم لما له الصدر، أي كم سنة جعلت عمره "زده من عمري" يعني من جملة الألف، ومن عمري صفة أربعين قدمت فعادت حالاً "أربعين سنة" مفعول ثان لقوله زده، كقوله تعالى: {رَبِّ زِدْنِي عِلْماً} .(8/457)
انْقَضَى عُمْرُ آدَمَ جَاءَهُ مَلَكُ المَوْتِ فقال: أَوَلَمْ يَبْقَ مِنْ عُمْرِي أرْبَعُونَ سَنَةً؟ قال: أَوَلَمْ تُعْطِهَا لاِبْنِكَ دَاوُدَ؟ قال: أو لم تعطها ابنك داود قال: فَجَحَدَ آدَمُ فَجَحَدَتْ ذرّيّتُهُ وَنَسِيَ آدَمُ فَنَسِيَتْ ذُرّيّتهُ، وَخَطِيءَ آدَمُ فَخَطِئَتْ ذرّيّتُهُ" .
ـــــــ
قال أبو البقاء: زاد يستعمل لازماً كقولك، زاد الماء، ويستعمل متعدياً إلى مفعولين، كقوله زدته درهماً، وعلى هذا جاء قوله تعالى {فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضاً} "أو لم يبق من عمري أربعون سنة" بهمزة الاستفهام الإنكاري المنصب على نفي البقاء فيفيد إثباته وقدمت على الواو لصدارتها، والواو استئنافية لمجرد الربط بين ما قبلها وما بعدها "قال" أي ملك الموت "أو لم تعطها" أي أتقول ذلك ولم تعط الأربعين "فجحد آدم" أي ذلك لأن كان في عالم الذر فلم يستحضره حالة مجيء ملك الموت له "فجحدت ذريته" لأن الولد سر أبيه "فنسى آدم فنسيت ذريته" كذا في النسخ الموجودة. ووقع في المشكاة ونسي آدم فأكل من الشجرة فنسيت ذريته.
قال القاري: قيل نسي أن النهي عن جنس الشجرة أو الشجرة بعينها، فأكل من غير المعينة، وكان النهي عن الجنس "وخطئ" بكسر الطاء من باب سمع يسمع أي أذنب وعصى.
تنبيه: قد أخرج الترمذي حديث أبي هريرة هذا في آخر كتاب التفسير وفيه قال. يا رب من هذا. قال هذا ابنك داود وقد كتبت له عمر أربعين سنة قال يا رب زده في عمره. قال ذاك الذي كتب له. قال أي ربي فإني قد جعلت له من عمري ستين سنة. قال أنت وذاك، ثم أسكن الجنة ما شاء الله. ثم اهبط منها وكان آدم يعد لنفسه. قال فأتاه ملك الموت فقال له آدم: قد عجلت قد كتب لي ألف سنة. قال بلى، ولكنك جعلت لابنك داود ستين سنة، فهذه الرواية التي في آخر كتاب التفسير مخالفة لهذه الرواية التي في سورة الأعراف مخالفة ظاهرة.
قال القاري: ويمكن الجمع بأنه جعل له من عمره أولاً أربعين ثم زاد عشرين فصار ستين، ونظيره قوله تعالى {وَإِذْ وَاعَدْنَا مُوسَى أَرْبَعِينَ لَيْلَةً} وقوله تعالى: {وَوَاعَدْنَا مُوسَى ثَلاثِينَ لَيْلَةً وَأَتْمَمْنَاهَا بِعَشْرٍ فَتَمَّ مِيقَاتُ رَبِّهِ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً} . ولا يبعد أن يتكرر مأتى عزرائيل عليه السلام للامتحان بأن جاء وبقي من عمره(8/458)
هذا حديثٌ حسنٌ صحيحٌ. وقد رُوِيَ من غيرِ وَجْهٍ عن أبي هُرَيْرَةَ عن النّبيّ صلى الله عليه وسلم.
5073- حدثنا محمّدُ بنُ المثَنّى، أخبرنا عبدُ الصّمَدِ بنُ عبدِ الْوَارِثِ أخبرنا عُمرُ بنُ إبْرَاهِيمَ عن قَتَادَةَ، عن الْحَسَنِ عن سَمُرَةَ بنِ جُنْدُبٍ، عن
ـــــــ
ستون، فلما جحده رجع إليه بعد بقاء أربعين على رجا أنه تذكر بعد ما تفكر فجحد ثانياً، وهذا أبلغ من باب النسيان والله المستعان. والأظهر أنه وقع شك للراوي وتردد في كون العدد أربعين أو ستين فعبر عنه تارة بالأربعين وأخرى بالستين، ومثل هذا وقع من المحدثين، وأجاب عنه بما ذكرنا بعد المحققين، ومهما أمكن الجمع فلا يجوز القول بالوهم والغلط في رواية الحفاظ المتقنين.
وأما ما قيل من أن ساعات أيام عمر آدم كانت أطول من زمان داود فموقوف على صحة النقل وإلا فبظاهره يأباه العقل كما حقق في دوران الفلك عند أهل الفضل انتهى كلام القاري بلفظه. ثم قال والحديث السابق يعني الذي في تفسير سورة الأعراف أرجح، وكذا أوفق لسائر الأحاديث الواردة كما في الدر المنثور والجامع الكبير للسيوطي رحمه الله تعالى.
قلت: كل ما ذكره القارى من وجوه الجمع مخدوش إلا الوجه الأخير، وهو أن الحديث الذي في تفسير سوره الأعراف رجح من الحديث الذي في آخر كتاب التفسير فهو المعتمد. ووجه كون الأول أرجح من الثاني ظاهر من كلام الترمذي فإنه قال بعد رواية الأول: هذا حديث حسن صحيح. وقال بعد رواية الثاني: هذا حديث حسن غريب وأيضاً في سند الثاني سعيد بن أبي سعيد المقبري وكان قد تغير قبل موته بأربع سنين، هذا ما عندي والله تعالى أعلم.
قوله: "هذا حديث حسن صحيح" وأخرجه الحاكم في مستدركه وقال صحيح على شرط مسلم، ولم يخرجاه، وأخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره.
قوله: "عن عمر بن إبراهيم" العبدي البصري صاحب الهروي، صدوق في حديثه عن قتادة، ضعف من السادسة، كذا في التقريب. وقال في تهذيب.(8/459)
النّبيّ صلى الله عليه وسلم قال: "لَمّا حَمَلَتْ حَوّاء طَافَ بِها إِبْلِيسُ وكَانَ لا يَعِيشُ لَها وَلَدٌ، فقال: سَمّيهِ عَبْدُ الْحَارِثِ، فَسَمّتْهُ عَبْدَ الْحَارِثِ، فَعَاشَ ذلك وكَانَ ومِنْ وَحْيِ الشّيْطَانِ وَأَمْرِهِ" .
هذا حديثٌ حسنٌ غريبٌ لا نَعْرِفهُ إلا من حديثِ عُمَرَ بنِ إبراهِيمَ عن قَتَادَةَ، وَرَوَاهُ بَعْضُهُمْ عن عَبْدِ الصّمَدِ ولم يَرْفَعْهُ.
ـــــــ
التهذيب: قال أحمد وهو يروي عن قتادة أحاديث مناكير يخالف وقال ابن عدي: يروي عن قتادة أشياء لا يوافق عليها وحديثه خاصة عن قتادة مضطرب انتهى.
قوله: "طاف بها إبليس" أي جاءها "وكان لا يعيش لها ولد" من العيش وهو الحياة، أي لا يحيى لها ولد ولا يبقى، بل كان يموت "فقال" أي إبليس "سميه عبد الحارث" قال كثير من المفسرين: إنه جاء إبليس إلى حواء وقال لها: إن ولدت ولداً فسميه باسمي، فقالت ما اسمك؟ قال الحارث، ولو سمى لها نفسه لعرفته، فسمته عبد الحارث، فكان هذا شركاً في التسمية ولم يكن شركاً في العبادة. وقد روى هذا بطريق وألفاظ عن جماعة من الصحابة ومن بعدهم، كذا في تفسير فتح البيان والدين الخالص "وكان ذلك من وحي الشيطان وأمره" أي من وسوسته وحديثه.
قوله: "هذا حديث حسن غريب" وأخرجه أحمد في مسنده والحاكم في مستدركه وابن أبي حاتم وغيرهم.
قال الحافظ ابن كثير: هذا الحديث معلول من ثلاثة أوجه، أحدها: أن عمر ابن إبراهيم هذا هو البصري، وقد وثقه ابن معين، ولكن قال أبو حاتم الرازي: لا يحتج به، ولكن رواه ابن مردويه من حديث المعتمر عن أبيه عن الحسن عن سمرة مرفوعاً فالله أعلم. الثاني: أنه قد روي من قول سمرة نفسه ليس مرفوعاً. الثالث: أن الحسن نفسه فسر الآية بغير هذا: فلو كان هذا عنده عن سمرة مرفوعاً لما عدل عنه. انتهى.
قلت: عمر بن إبراهيم المذكور وثقه غير واحد من أئمه الحديث، لكنه(8/460)
ـــــــ
ضعيف في رواية الحديث عن قتادة كما عرفت، وهذا الحديث رواه عن قتادة، وفي سماع الحسن من سمرة كلام معروف.
تنبيه: أورد الترمذي حديث سمرة المذكور هنا في تفسير قوله تعالى: {هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا لِيَسْكُنَ إِلَيْهَا فَلَمَّا تَغَشَّاهَا حَمَلَتْ حَمْلاً خَفِيفاً فَمَرَّتْ بِهِ فَلَمَّا أَثْقَلَتْ دَعَوَا اللَّهَ رَبَّهُمَا لَئِنْ آتَيْتَنَا صَالِحاً لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ فَلَمَّا آتَاهُمَا صَالِحاً جَعَلا لَهُ شُرَكَاءَ فِيمَا آتَاهُمَا فَتَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ} قال صاحب فتح البيان: قد استشكل هذه الآية جمع من أهل العلم، لأن ظاهرها صريح في وقوع الإشراك من آدم عليه السلام، والأنبياء معصومون عن الشرك، ثم اضطروا إلى التفصي من هذا الإشكال. فذهب كل إلى مذهب، واختلفت أقوالهم في تأويلها اختلافاً كثيراً حتى أنكر هذه القصة جماعة من المفسرين منهم الرازي وأبو السعود وغيرهما. وقال الحسن: هذا في الكفار يدعون الله، فإذا آتاهما صالحاً هودوا أو نصروا. وقال ابن كيسان: هم الكفار سموا أولادهم بعبد العزى وعبد الشمس وعبد الدار ونحو ذلك.
قال الحسن: كان هذا في بعض أهل الملل وليس بآدم، وقيل هذا خطاب لقريش الذين كانوا في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهم آل قصي، وحسنه الزمخشري وقال: هذا تفسير حسن لا إشكال فيه. وقيل معناها على حذف المضاف، أي جعل أولادهما شركاء، ويدل له ضمير الجمع في قوله الآتي عما يشركون وإياه ذكر النسفي والقفال وارتضاه الرازي وقال: هذا جواب في غاية الصحة والسداد وبه قال جماعة من المفسرين. وقيل معنى من نفس واحدة: من هيئة واحدة وشكل واحد، فجعل منها أي من جنسها زوجها، فلما تغشاها يعني جنس الذكر جنس الأنثى، وعلى هذا لا يكون لاَدم ولا حواء ذكر في الآية، وتكون ضمائر التثنية راجعة إلى الجنسين. وهذه الأقوال كلها متقاربة في المعنى متخالفة في المبنى، ولا يخلو كل واحد منها من بعد وضعف وتكلف بوجوه: الأول أن الحديث المرفوع المتقدم، يعني حديث سمرة المذكور يدفعه وليس في واحد في تلك الأقوال قول مرفوع حتى يعتمد عليه ويصار إليه، بل هي تفاسير بالاَراء المنهى عنها المتوعد عليها. الثاني أن فيه انخرام لنظم القرآن سياقاً وسياقاً،(8/461)
ـــــــ
الثالث: أن الحديث صرح بأن صاحبة القصة هي حواء، وقوله جعل منها زوجها إنما هو لحواء دون غيرها، فالقصة ثابتة لا وجه لإنكارها بالرأي المحض.
والحاصل: أن ما وقع إنما وقع من حواء لا من آدم عليه السلام، ولم يشرك آدم قط، وقوله جعلا له شركاء: بصيغة التثنية لا ينافي ذلك لأنه قد يسند فعل الواحد إلى الاثنين بل إلى جماعة، وهو شائع في كلام العرب. وعلى هذا فليس في الآية إشكال، والذهاب إلى ما ذكرناه متعين تبعاً للكتاب والحديث، وصوناً لجانب النبوة عن الشرك بالله تعالى، والذي ذكروه في تأويل هذه الآية الكريمة يرده كله ظاهر الكتاب والسنة. انتهى مختصراً.
قلت: لو كان حديث سمرة المذكور صحيحاً ثابتاً صالحاً للاحتجاج لكان كلام صاحب فتح البيان هذا حسناً جيداً ولكنك قد عرفت أنه حديث معلول لا يصلح للاحتجاج، فلا بد لدفع الإشكال المذكور أن يختار من هذه الأقوال التي ذكروها في تأويل الآية ما هو الأصح والأقوى، وأصحها عندي هو ما اختاره الرازي وابن جرير وابن كثير.
قال الرازي في تفسيره المروي عن ابن عباس: هو الذي خلقكم من نفس واحدة وهي نفس آدم، وجعل منها زوجها أي حواء خلقها الله من ضلع آدم عليه السلام من غير أذى، فلما تغشاها: آدم، حملت حملاً خفيفاً فلما أثقلت أي ثقل الولد في بطنها أتاها إبليس في صورة رجل، قال: ما هذا يا حواء إني أخاف أن يكون كلباً أو بهيمة، وما يدريك من أين يخرج، أمن دبرك فيقتلك، أو ينشق بطنك، فخافت حواء وذكرت ذلك لاَدم عليه السلام، فلم يزالا في هم من ذلك، ثم أتاها، وقال: إن سألت الله أن يجعله صالحاً سوياً مثلك، ويسهل خروجه من بطنك تسميه عبد الحارث، وكان اسم إبليس في الملائكة الحارث، فذلك قوله: {فَلَمَّا آتَاهُمَا صَالِحاً جَعَلا لَهُ شُرَكَاءَ فِيمَا آتَاهُمَا} : أي لما آتاهما الله ولداً سوياً صالحاً، جعلا له شريكاً: أي جعل آدم وحواء له شريكاً، والمراد به الحارث، هذا تمام القصة.
واعلم أن هذا التأويل فاسد ويدل عليه وجوه:
الأول: أنه تعالى قال: {فَتَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ} . وذلك يدل على أن الذين أتوا بهذا الشرك جماعة.(8/462)
ـــــــ
الثاني: أنه تعالى قال بعده: {أَيُشْرِكُونَ مَا لا يَخْلُقُ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ} ، وهذا يدل أن المقصود من هذه الآية الرد على من جعل الأصنام شركاء لله تعالى، وما جرى لإبليس اللعين في هذه الآية ذكر.
الثالث: لو كان المراد إبليس لقال: أيشركون من لا يخلق شيئاً، ولم يقل ما لا يخلق شيئاً، لأن العاقل إنما يذكر بصيغة من لا بصيغة ما.
الرابع: أن آدم عليه السلام كان من أشد الناس معرفة بإبليس، وكان عالماً بجميع الأسماء كما قال تعالى: {وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا} فكان لا بد وأن يكون قد علم أن اسم إبليس هو الحارث، فمع العداوة الشديدة التي بينه وبين آدم، ومع علمه بأن اسمه هو الحارث؟ كيف سمى ولد نفسه بعبد الحارث؟ وكيف ضاقت عليه الأسماء حتى إنه لم يجد سوى هذا الاسم.
الخامس: أن الواحد لو حصل له ولد يرجو منه الخير والصلاح، فجاءه إنسان ودعاه أن يسميه بمثل هذه الأسماء لزجره، وأنكر عليه أشد الإنكار، فآدم عليه السلام مع نبوته وعلمه الكثير الذي حصل من قوله {وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا} وتجاربه الكثيرة التي حصلت له بسبب الزلة التي وقع فيها لأجل وسوسة إبليس، كيف لم يتنبه لهذا القدر، وكيف لم يعرف أن ذلك من الأفعال المنكرة التي يجب على العاقل الاحتراز منها.
السادس: أن بتقدير أن آدم عليه السلام سماه بعبد الحارث، فلا يخلو إما أن يقال: إنه جعل هذا اللفظ اسم علم له، أو جعله صفة له، بمعنى أنه أخبر بهذا اللفظ أنه عبد الحارث ومخلوق من قبله، فإن كان الأول لم يكن هذا شركاً بالله، لأن أسماء الأعلام والألقاب لا تفيد في المسميات فائدة، فلم يلزم من التسمية بهذا اللفظ حصول الإشراك، وإن كان الثاني كان هذا قولاً بأن آدم عليه السلام اعتقد أن لله شريكاً في الخلق والإيجاد والتكوين، وذلك يوجب الجزم بتكفير آدم وذلك لا يقوله عاقل. فثبت بهذه الوجوه أن هذا القول فاسد. ويجب على العاقل المسلم أن لا يلتفت إليه.
إذا عرفت هذا فتقول في تأويل الآية وجوه صحيحة سليمة خالية عن هذه المفاسد، التأويل الأول ما ذكره القفال فقال: إنه تعالى ذكر هذه القصة على(8/463)
ـــــــ
تمثيل ضرب المثل، وبيان أن هذه الحالة صورة حالة هؤلاء المشركين في جهلهم وقولهم بالشرك وتقرير هذا الكلام كأنه تعالى بقول: هو الذي خلق كل واحد منكم من نفس واحدة وجعل من جنسها زوجها إنساناً يساويه في الإنسانية، فلما تغشى الزوج الزوجة وظهر الحمل دعا الزوج والزوجة ربهما لئن آتيتنا ولداً صالحاً سوياً لنكونن من الشاكرين لاَلائك ونعماتك فلما آتاهما الله ولداً صالحاً سوياً جعل الزوج والزوجة شركاء فيما آتاهما لأنهم تارة ينسبون ذلك للطبائع كما هو قول الطبائعيين وتارة إلى الكواكب كما هو قول المنجمين، وتارة إلى الأصنام والأوثان كما هو قول عبدة الأصنام، ثم قال تعالى: {فَتَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ} ، أي تنزه الله عن ذلك الشرك، وهذا جواب في غاية الصحة والسداد.
ثم ذكر باقي التأويلات من شاء الوقوف عليها فليراجع تفسيره. وقال الحافظ: ابن كيثر في تفسيره: قال ابن جرير، حدثنا ابن وكيع، حدثنا سهل بن يوسف عن عمرو عن الحسن: جعلا له شركاء فيما آتاهما قال: كان هذا في بعض أهل الملل ولم يكن بآدم.
وحدثنا محمد بن عبد الأعلى. حدثنا محمد بن ثور عن معمر قال: قال الحسن عنى بها ذرية آدم ومن أشرك منهم بعده يعني جعلا له شركاء فيما آتاهما، وحدثنا بشر حدثنا يزيد حدثنا سعيد عن قتادة: كان الحسن يقول: هم اليهود والنصارى رزقهم الله أولاداً فهودوا ونصروا، وهذه أسانيد صحيحة عن الحسن رضي الله تعالى عنه أنه فسر الآية بذلك، وهو من أحسن التفاسير وأولى ما حملت عليه الآية، ولو كان هذا الحديث يعني حديث سمرة المذكور عنده محفوظاً عن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما عدل عنه هو ولا غيره لا سيما مع تقواه لله وورعه، فهذا يدلك على أنه موقوف على الصحابي، ويحتمل أنه تلقاه من بعض أهل الكتاب من آمن منهم مثل: كعب ووهب بن منبه وغيرهما، إلا إنما برئنا من عهدة المرفوع، انتهى.
أما أثر ابن عباس الذي ذكره الرازي فهو مروي من طرق متعددة بألفاظ مختلفة، وهو يحتمل أن يكون مأخوذاً من الإسرائيليات، قال الحافظ ابن كثير بعد ذكره من الطرق المتعددة بالألفاظ المختلفة ما لفظه: وقد تلقى هذا الأثر عن(8/464)
ابن عباس جماعة من أصحابه كمجاهد وسعيد بن جبير وعكرمة. ومن الطبقة الثانية قتادة والسدي وغير واحد من السلف وجماعة من الخلف، ومن المفسربين من المتأخرين جماعات لا يحصون كثرة، وكأنه أصله مأخوذ من أهل الكتاب، فإن ابن عباس رواه عن أبي بن كعب كما رواه ابن أبي حاتم: حدثنا أبي حدثنا أبو الجماهر، حدثنا سعيد يعني ابن بشير، عن عقبة، عن قتادة عن مجاهد عن ابن عباس عن أبي بن كعب قال: لما حملت حواء أتاها الشيطان فقال لها: أتطيعيني ويسلم لك ولدك، سميه عبد الحارث، فلم تفعل فولدت فمات، ثم حملت فقال لها مثل ذلك، فلم تفعل، ثم حملت الثالثة فجاءها فقال إن تطيعيني يسلم وإلا فإنه يكون بهيمة فهيبهما فأطاعا.
وهذه الآثار يظهر عليها أنها من آثار أهل الكتاب، وقد صح الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: "إذا حدثكم أهل الكتاب فلا تصدقوهم ولا تكذبوهم" ثم أخبارهم على ثلاثة أقسام: فمنها ما علمنا صحته بما دل عليه الدليل من كتاب الله أو سنة رسوله ومنها ما علمنا كذبه بما دل على خلافه من الكتاب والسنة أيضاً، ومنها ما هو مسكوت عنه فهو المأذون في روايته بقوله عليه السلام: "حدثوا عن بني إسرائيل ولا حرج"، وهو الذي لا يصدق ولا يكذب لقوله "فلا تصدقوهم ولا تكذبوهم". وهذا الأثر هو من القسم الثاني أن الثالث فيه نظر، فأما من حدث به من صحابي أو تابعي فإنه يراه من القسم الثالث. وأما نحن فعلى مذهب الحسن البصري رحمه الله في هذا، وأنه ليس المراد من هذا السياق آدم وحواء وإنما المراد من ذلك المشركون من ذريته، ولهذا قال الله: {فَتَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ} ثم قال. فذكره آدم وحواء أولاً كالتوطئة لما بعدهما من الوالدين وهو كالاستطراد من ذكر الشخص إلى الجنس. انتهى كلام الحافظ ابن كثير.(8/465)
وَمَنْ سُورَةِ الأنْفَال
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
5074- حدثنا أبو كُرَيْبٍ، أخبرنا أبُو بَكْرٍ بنِ عَيّاشٍ عن عاصِمِ بنِ بَهْدَلَةَ عن مُصْعَبِ بنِ سَعْدٍ عن أبِيهِ قال: "لَمّا كَانَ يَوْمُ بَدْرٍ جِئْتُ بِسَيْفٍ فَقلت: يَا رَسُولَ الله، إنّ الله قَد شَفَى صَدْرِي مِنَ المُشْرِكِينَ أوْ نَحْوَ هَذا هَبْ لِي هَذا السّيْفَ، فقالَ: "هَذَا لَيْسَ لِي وَلاَ لَكَ"، فَقلت: عَسَى أنْ يُعْطَى هَذَا مَنْ لاَ يُبْلِي بَلاَئِي، فجاءَ الرّسُولُ فَقَالَ "إنّكَ سَأَلْتَنِي وَلَيْسَ لِي وَإِنّهُ قَدْ صَارَ لِي وَهُوَ لَكَ" ، قالَ: فَنَزَلَتْ: {يَسْأَلونَكَ عَنِ الْأَنْفَالِ} . الآية.
ـــــــ
ومن سورة الأنفال
هي مدنية خمس أو ست أو سبع وسبعون آية
قوله: "إن الله شفى صدري من المشركين أو نحو هذا" أو للشك من الراوي، يعني قال هذا اللفظ، أو قال لفظاً آخر نحو "هب لي" أي أعطني "هذا ليس لي ولا لك" لأنه من أموال الغنيمة التي لم تقسم "عسى أن يعطى" بصيغة المجهول "هذا" أي السيف وهو نائب الفاعل ليعطي "من لا يبلي بلائي" مفعول ثان ليعطي.
قال في النهاية: أي لا يعمل مثل عملي في الحرب، كأنه يريد أفعل فعلاً أختبر فيه ويظهر به خيري وشري انتهى. وفي رواية أبي داود: من لم يبل بلائي. قال السندي: أي لم يعمل مثل عملي في الحرب، كأنه أراد أن في الحرب يختبر الرجل فيظهر حاله، وقد اختبرت أنا فظهر مني ما ظهر فأنا أحق بهذا السيف من الذي لم يختبر مثل اختباري انتهى، "فجاءني الرسول" أي رسول الله صلى الله عليه وسلم "وليس لي" جملة حالية، أي سألتني السيف، والحال أنه لم يكن لي "وإنه قد صار إليّ" أي الآن "فنزلت يسألونك عن الأنفال".(8/466)
ـــــــ
قال البخاري في صحيحه: قال ابن عباس: الأنفال المغانم. وروي عن سعيد ابن جبير، قلت لابن عباس سورة الأنفال قال: نزلت في بدر "الاَية" قال في الجلالين في تفسير هذه الآية: لما اختلف المسلمون في غنائم بدر، فقال الشبان: هي لنا لأنا باشرنا القتال، وقال الشيوخ: كنا ردءاً لكم تحت الرايات، ولو انكشفتم لفئتم إلينا فلا تستأثروا بها. نزل يسألونك: يا محمد، عن الأنفال: الغنائم لمن هي، قل لهم: الأنفال لله والرسول: يجعلانها حيث شاءا. فقسمها صلى الله عليه وسلم بينهم بالسواء. رواه الحاكم في المستدرك، {فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ} : أي حقيقة ما بينكم بالمودة وترك النزاع، {وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} : حقاً. وقال في المدارك: وأصلحوا ذات بينكم: أي أحوال بينكم، يعني ما بينكم من الأحوال حتى تكون أحوال ألفة ومحبة واتفاق. وقال الزجاج: معنى ذات بينكم: حقيقة وصلكم، والبين: الوصل، أي فاتقوا الله وكونوا مجتمعين على ما أمر الله ورسوله به.
قلت: ما ذكر في الجلالين من سبب نزول هذه الآية، فهو مروي عن ابن عباس عند أبي داود والنسائي وابن جرير وابن مردويه وابن حبان والحاكم ونحوه عن عبادة بن الصامت كما أشار إليه الترمذي، وسيجيء لفظه، قال الخازن: قوله سبحانه وتعالى: {يَسْأَلونَكَ عَنِ الْأَنْفَالِ} . استفتاء، يعني يسألك أصحابك يا محمد عن حكم الأنفال وعلمها، وهو سؤال استفتاء لا سؤال طلب. قال الضحاك وعكرمة: هو سؤال طلب، وقوله عن الأنفال: أي من الأنفال. وعن بمعنى من أو قيل عن صلة: أي يسألونك الأنفال انتهى.
قلت: حديث سعد بن أبي وقاص يقتضي أنه سؤال طلب، وحديث ابن عباس، وحديث عبادة يقتضيان أنه سؤال استفتاء وهو الراجح عندي. وقال صاحب فيح البيان: ذهب جماعة من الصحابة والتابعين إلى أن الأنفال كانت لرسول الله صلى الله عليه وسلم خاصة ليس لأحد فيها شيء حتى نزل قوله تعالى: {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ} فهي على هذا منسوخة، وبه قال مجاهد وعكرمة والسدي. وقال ابن زيد: محكمة مجملة، وقد بين الله مصارفها في آية الخمس، وللإمام أن ينفل من شاء من الجيش ما شاء قبل التخميس انتهى.(8/467)
هذا حديثٌ حسنٌ صحيحٌ. وقد رَوَاهُ سِماك بن حرب عن مُصعَبِ بنِ سَعدٍ أيضاً. وفي البابِ عن عُبَادَةَ بن الصّامِتِ.
5075- حدثنا مُحمّدُ بنُ بَشّارٍ، أخبرنا عُمَرُ بنُ يُونسَ الْيَمَامِيّ، أخبرنا عِكْرِمَةُ بنُ عَمّارٍ أخبرنا أبو زُمَيْلٍ، حدثني عَبْدُ الله بنُ عَبّاسٍ،
ـــــــ
قلت: والظاهر الراجح عندي أنها ليست بمنسوخة، بل هي محكمة والله تعالى أعلم.
قوله: "هذا حديث حسن صحيح" وأخرجه مسلم وأبو داود والنسائي.
قوله: "وفي الباب" أي في شأن نزول هذه الآية "عن عبادة بن الصامت" أخرجه أحمد عنه قال: خرجت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فشهدت معه بدراً، فالتقى الناس فهزم الله العدو، فانطلقت طائفة في إثرهم يهزمون ويقتلون، وأكبت طائفة على الغنائم يحوونه ويجمعونه وأحدقت طائفة برسول الله صلى الله عليه وسلملا يصيب العدو منهم غرة. حتى إذا كان الليل وفاء الناس بعضهم إلى بعض قال الذين جمعوا الغنائم: نحن حويناها وجمعناها فليس لأحد فيها نصيب، وقال الذين خرجوا في طلب العدو لستم بأحق بها منا نحن نفينا عنها العدو وهزمناهم. وقال الذين أحدقوا برسول الله صلى الله عليه وسلم لستم بأحق منا، نحن أحدقنا برسول الله صلى الله عليه وسلم وخفنا أن يصيب العدو منه غرة فاشتغلنا به فنزلت {يَسْأَلونَكَ عَنِ الْأَنْفَالِ قُلِ الْأَنْفَالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ} فقسمها رسول الله صلى الله عليه وسلم على فواق بين المسلمين، وفي لفظ مختصر فينا أصحاب بدر نزلت حين اختلفنا في النفل وساءت فيه أخلاقنا، فنزعه الله من أيدينا فجعله إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقسمه فينا على بواء، يقول على السواء.
قال الشوكاني في النيل: حديث عبادة قال في مجمع الزوائد رجال أحمد ثقات، وأخرجه أيضاً الطبراني، وأخرج نحوه الحاكم عنه.
قوله: "أخبرنا أبو زميل" بضم الزاي مصغراً اسمه سِمَاك بن الوليد الحنفي "حدثني عبد الله بن عباس" بن عبد المطلب بن هاشم بن عبد مناف ابن عم رسول(8/468)
حدثني عُمَرُ بنُ الْخَطّابِ قال: "نَظَرَ نَبِيّ الله صلى الله عليه وسلم إلى المشْرِكِينَ وَهُمْ ألْفٌ وَأَصْحَابُهُ ثَلاَثُمَائَةٍ وَبِضْعَةُ عَشَرَ رَجُلاً، فَاسْتَقْبَلَ نَبِيّ الله صلى الله عليه وسلم الْقِبْلَةَ ثمّ مَدّ يَدَيْهِ وَجَعَلَ يَهْتِفُ بِرَبّهِ: "اللّهُمّ انْجِزْ لِي مَا وَعَدْتَني، اللّهُمّ أتني ما وعدتني اللّهُمّ إِنّكَ إنْ تَهْلِكْ هَذِهِ الْعِصَابَةُ مِنْ أهْلِ الإسْلاَمِ لا تُعْبَدُ
ـــــــ
الله صلى الله عليه وسلم ولد قبل الهجرة بثلاث سنين ودعا له رسول الله صلى الله عليه وسلم بالفهم في القرآن، فكان يسمى البحر والحبر لسعة علمه، وقال عمر: لو أدرك ابن عباس أسناننا ما عثره منا أحد، مات سنة ثمان وستين بالطائف، وهو أحد المكثرين من الصحابة، وأحد العبادلة من فقهاء الصحابة.
قوله: "نطر نبي الله صلى الله عليه وسلم إلى المشركين" وفي رواية مسلم لما كان يوم بدر نظر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المشركين.
قال النووي: بدر هو موضع الغزوة العظمى المشهورة وهو ماء معروف وقرية عامرة على أربع مراحل من المدينة بينها وبين مكة.
قال ابن قتيبة: بدر بئر كانت لرجل يسمى بدراً فسميت باسمه.
قال أبو اليقظان: كان لرجل من بني غفار، وكانت غزوة بدر يوم الجمعة لسبع عشرة خلت من شهر رمضان في السنة الثانية من الهجرة "ثم مد يديه" أي رفعهما "وجعل يهتف" بفتح أوله وكسر التاء المثناة بعد الهاء، ومعناه يصيح ويستغيث بالله بالدعاء، وفيه استحباب استقبال القبلة في الدعاء ورفع اليدين فيه، وأنه لا بأس برفع الصوت في الدعاء "اللهم أنجز لي ما وعدتني" من الإنجاز: أي أحضر لي ما وعدتني، يقال: انجز وعده إذا أحضره "اللهم إنك إن تهلك هذه العصابة" .
قال النووي: ضبطوا تهلك بفتح التاء وضمها، فعلى الأول ترفع العصابة على أنها فاعل، وعلى الثاني تنصب وتكون مفعوله، والعصابة: الجماعة انتهى.
قال الحافظ في الفتح: إنما قال ذلك لأنه علم أنه خاتم النبيين، فلو هلك هو ومن معه حينئذ لم يبعث أحد ممن يدعو إلى الإيمان ولا ستمر المشركون يعبدون(8/469)
في الأرْضِ"، فَمَا زَالَ يَهْتِفُ بِرَبّهِ مادّاً يَدَيْهِ مُسْتَقْبِلَ الْقِبْلَةِ حَتّى سَقَطَ رِدَاؤُهُ مِنْ مَنْكِبَيْهِ، فَأَتَاهُ أبُو بَكْرٍ فَأَخَذَ رِدَاءَهُ فأَلْقَاهُ عَلَى مَنْكِبَيْهِ ثمّ الْتَزَمَهُ مِنْ وَرَائِهِ وقال: يَا نَبِيّ الله، كَفَاكَ مُنَاشَدَتَكَ رَبّكَ فَإِنّهُ سَيُنْجِزُ لَكَ مَا وَعَدَكَ، فأَنْزَلَ الله تَبَارَكَ وَتَعَالَى {إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُرْدِفِينَ} فأَمَدّهُمُ الله بِالمَلاَئِكَةِ.
ـــــــ
غير الله، فالمعنى لا يعبد في الأرض بهذه الشريعة "كفاك". وفي بعض النسخ كذاك بالذال، وفي رواية البخاري حسبك وكله بمعنى، كما صرح به الجزري والنووي "مناشدتك ربك" المناشدة: السؤال مأخوذة من النشيد، وهو رفع الصوت وضبطوا مناشدتك بالرفع والنصب وهو الأشهر. قال القاضي: من رفعه جعله فاعلاً لكفاك، ومن نصبه فعلى المفعول لما في حسبك وكفاك، وكذاك من معنى الفعل من الكف.
قال العلماء: هذه المناشدة إنما فعلها النبي صلى الله عليه وسلم ليراه أصحابه بتلك الحال فتقوى قلوبهم بدعائه وتضرعه مع أن الدعاء عبادة. وقد كان وعده الله تعالى إحدى الطائفتين، إما العير وإما الجيش، وكانت العير قد ذهبت وفاتت، فكان على ثقة من حصول الآخرى ولكن سأل تعجيل ذلك وتنجيزه من غير أذى يلحق المسلمين "فإنه سينجز لك ما وعدك".
قال الخطابي: لا يجوز أن يتوهم أحد أن أبا بكر كان أوثق بربه من النبي صلى الله عليه وسلم في تلك الحال. بل الحامل للنبي صلى الله عليه وسلم على ذلك شفقته على أصحابه وتقوية قلوبهم، لأنه كان أول مشهد شهده فبالغ في التوجه والدعاء والابتهال لتسكن نفوسهم عند ذلك لأنهم كانوا يعلمون أن وسيلته مستجابة، فلما قال أبو بكر ما قال، كف عن ذلك وعلم أنه استجيب له لما وجد أبو بكر في نفسه من القوة والطمأنينة، فلهذا عقب بقوله سيهزم الجمع {إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ} أي تطالبون منه الغوث بالنصر عليهم { فَاسْتَجَابَ لَكُمْ} أي فأجاب دعاءكم {أَنِّي مُمِدُّكُمْ} أي بأني معينكم {بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُرْدِفِينَ} أي متتابعين يردف بعضهم بعضاً.(8/470)
هذا حديثٌ حسنٌ صحيحٌ غريبٌ، لا نَعْرِفُهُ من حديثِ عُمَرَ إلاّ من حديثِ عِكْرِمَةَ بنِ عَمّارٍ عن أبي زُمَيْلٍ. وأبو زُمَيْلٍ اسْمُهُ سِمَاكُ الْحَنَفِيّ، وَإِنّمَا كَانَ هَذَا يَوْمُ بَدْرٍ.
5076- حدثنا عَبْدُ بنُ حُمَيْدٍ، أخبرنا عَبْدُ الرّزّاقِ عن إسْرَائِيلَ عن سِمَاكٍ عن عِكْرِمَةَ عن ابنِ عَبّاسٍ قال: "لَمّا فَرَغَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم مِنْ بَدْرٍ قيلَ لَهُ: عَلَيْكَ الْعِيرُ لَيْسَ دُونَهَا شَيْءٌ. قال: فَنَادَاهُ الْعَبّاسُ - وَهُوَ في وَثَاقِهِ - لا يَصْلُحُ وقال: لأَنّ الله تَعَالَى وَعَدَكَ إحْدَى الطّائِفَتَيْنِ وَقَدْ أعْطَاكَ مَا وَعَدَكَ. قال: "صَدَقْتَ" .
ـــــــ
قوله: "هذا حديث حسن صحيح غريب" وأخرجه أحمد ومسلم وأبو داود وأخرجه البخاري مختصراً.
قال الحافظ: هذا من مراسيل الصحابة، فإن ابن عباس لم يحضر ذلك ولعله أخذه عن عمر أو عن أبي بكر "وقال وإنما كان هذا يوم بدر" الظاهر أن ضمير قال راجع إلى الترمذي.
قوله: "عليك العير" أي عير أبي سفيان التي كان رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج بالمسلمين من المدينة يريدها، فبلغ ذلك أهل مكة فأسرعوا إليها وسبقت العير المسلمين، فلما فاتهم العير نزل النبي صلى الله عليه وسلم بالمسلمين بدراً فوقع القتال، وهذه العير يقال كانت ألف بعير، وكان المال خمسين ألف دينار، وكان فيها ثلاثون رجلاً من قريش، وقيل أربعون، وقيل ستون "ليس دونها شيء" أي ليس دون العير شيء يزاحمك "فناداه العباس" أي ابن عبد المطلب "وهو في وثاقه" وفي رواية أحمد وهو أسير في وثاقه، والوثاق بفتح الواو وكسرها ما يشد به من قيد وجل ونحوهما "لا يصلح" أي لا ينبغي لك "لأن الله وعدك إحدى الطائفتين" المراد بالطائفتين العير والنفير، فكان في العير أبو سفيان ومن معه كعمرو بن العاص، ومخرمة بن نوفل وما معه من الأموال. وكان في النفير(8/471)
هذا حديثٌ حسنٌ.
5077- حدثنا سُفْيَانُ بنُ وَكِيعٍ، أخبرنا ابنُ نُمَيْرٍ عن إسماعِيلَ بنِ إبْرَاهِيمَ بنِ مُهَاجِرٍ، عن عَبّادِ بنِ يُوسُفَ عن أبي بُرْدَةَ بنِ أبي مُوسَى عن أبِيهِ قال: قال رَسولُ الله صلى الله عليه وسلم: "أَنْزَلَ الله عَلَيّ أَمَانَيْنِ لأُمّتِي : {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ} فإذا مَضَيْتُ تَرَكْتُ فِيهِمْ الاسْتِغْفَارَ إلى يَوْمِ الْقِيَامَةِ" .
ـــــــ
أبو جهل وعتبة بن ربيعة وغيرهما من رؤساء قريش "قال" أي النبي صلى الله عليه وسلم "صدقت" أي فيما قلت.
قوله: "هذا حديث حسن صحيح" وأخرجه أحمد.
قوله: "أخبرنا ابن نمير" هو عبد الله بن نمير "عن عباد بن يوسف" قال في التقريب: عباد بن يوسف ويقال بن سعيد كوفي عن أبي بردة مجهول من السادسة ويقال اسمه عبادة "أنزل الله على أمانين" أي في القرآن {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ} إلخ قبله، وإذ قالوا {اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ هَذَا} أي الذي يقرأه محمد، {هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ} أي المنزل من عندك {فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِنَ السَّمَاءِ أَوِ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} أي مؤلم على إنكاره قاله النضر وغيره، استهزاء وإيهاماً أنه على بصيرة وجزم ببطلانه "وأنت فيهم" أي مقيم بمكة بين أظهرهم حتى بخرجوك لأن العذاب إذا نزل عم ولم تعذب أمة إلا بعد خروج نبيها والمؤمنون منها. {وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ} حيث يقولون في طوافهم: غفرانك غفرانك، وقيل هم المؤمنون المستضعفون فيهم، كما قال تعالى: {لَوْ تَزَيَّلُوا لَعَذَّبْنَا الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَاباً أَلِيماً} وبعده { وَمَا لَهُمْ أَلَّا يُعَذِّبَهُمُ اللَّهُ} أي بالسيف بعد خروجك والمستضعفين، وعلى القول الأول هي ناسخة لما قبلها، وقد عذبهم ببدر وغيرهم {وَهُمْ يَصُدُّونَ} أي يمنعون النبي صلى الله عليه وسلم والمسلمين عن المسجد الحرام أن يطوفوا به { وَمَا كَانُوا أَوْلِيَاءَهُ} - كما زعموا - إن أولياؤهم إلا المتقون ولكن أكثرهم لا يعلمون أن لا ولاية لهم عليه "فإذا مضيت" أي ذهبت "تركت فيهم" أي بعدى "الاستغفار إلى يوم القيامة" فما داموا يستغفرون لم يعذبوا.(8/472)
هذا حديثٌ غريبٌ.
وإسماعِيلُ بنُ إبراهِيمَ بنِ مُهَاجِرٍ يُضَعّفُ في الحديثِ.
5078- حدثنا أَحْمَدُ بنُ مَنَِعٍ، أخبرنا وَكِيعٌ عن أُسَامَةَ بنِ زَيْدٍ عن صَالحِ بنِ كَيْسَانَ عن رَجُلٍ لَمْ يُسَمّهِ عن عُقْبَةَ بنِ عَامِرٍ، "أَنّ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم قَرَأَ هَذِهِ الآية عَلَى المِنْبَرِ: {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ} قال: "أَلاَ إنّ القُوّةَ الرّمْيُ - ثَلاَثَ مَرّاتٍ - أَلاَ إنّ الله سَيَفْتَحُ لَكُمْ الأرْضَ وَسَتُكْفَوْنَ المَؤنَةَ، فَلاَ يَعْجِزَنّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَلْهُوَ
ـــــــ
وروى ابن أبي حاتم عن ابن عباس أن الله جعل في هذه الأمة أمانين لا تزالون معصومين مجارين من طوارق العذاب ما دام بين أظهرهم فأمان قبضه الله إليه وأمان بقي فيكم قوله: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ} .
وروى أحمد عن فضالة بن عبيد عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "العبد آمن من عذاب الله ما استغفر الله عز وجل" .
قوله: "وإسماعيل بن إبراهيم بن مهاجر يضعف في الحديث" قال في التقريب: إسماعيل بن إبراهيم بن مهاجر بن جابر البجلي الكوفي ضعيف من السابعة.
قوله: "عن أسامة بن زيد" هو الليثي.
قوله: {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ} إلخ ما موصولة والعائد محذوف ومن قوة بيان له، فالمراد هنا نفس القوة. وفي هذا البيان والمبين إشارة إلى أن هذه العدة لا تستتب بدون المعالجة والإدمان الطويل، وليس شيء من عدة الحرب وأداتها أحوج إلى المعالجة والإدمان عليها مثل القوس والرمي بها، ولذلك كرر صلوات الله وسلامه عليه تفسير القوة بالرمي بقوله "ألا" للتنبيه "إن القوة الرمي" أي هو العمدة "ثلاث مرات" كررها ثلاثاً لزيادة التأكيد أو إشارة إلى الأحوال الثلاث من القلة والكثرة وبينهما فإنها نافية في جميعها "وستكفون المؤنة"(8/473)
بِأَسْهُمِهِ". وقد رَوَى بعضُهم هذا الحديثَ عن أُسَامَةَ بنِ زَيْدٍ عن صالحِ بنِ كَيْسَانَ رواه أبو أسامة وغير واحد عن عُقْبَةَ بنِ عَامِرٍ. وحديثُ وَكِيعٍ أَصَحّ. وصالحُ بنُ كَيْسَانَ لم يُدْرِكْ عُقْبَةَ بنَ عامرٍ، وقد أَدْرَكَ ابنَ عُمَرَ.
5079- حدثنا عَبْدُ بنُ حُمَيْدٍ، أخبرني مُعاوِيَةُ بنُ عَمْرٍو، عن زَائِدَة عن الأعمَشِ عن أبي صالحٍ عن أبي هُرَيْرَةَ عن النّبيّ صلى الله عليه وسلم قال: "لَمْ تَحِلّ الْغَنَائِمُ لأحَدِ سُودِ الرّؤوسِ مِنْ قَبْلِكُمْ كانَتْ تَنْزِلُ نَارٌ مِنَ السّمَاءِ فَتَأَكُلُهَا" . قال سُلَيْمانُ الأعمَشُ: فَمَنْ يقولُ هَذَا إلاّ أَبُو
ـــــــ
بصيغة المجهول: أي سيكفيكم الله مؤنة القتال بما فتح عليكم، وفي رواية مسلم يكفيكم الله.
قال القاري: أي شرهم بقوته وقهره لكن ثوابكم وأجركم مترتب على سعيكم وتعبكم "فلا يعجزن" بكسر الجيم على المشهور وبفتحها على لغة، ومعناه الندب إلى الرمي.
قال النووي في شرح مسلم: فيه وفي الأحاديث بعد فضيلة الرمي والمناضلة والاعتناء بذلك بنية الجهاد في سبيل الله تعالى، وكذلك المشاحفة وسائر أنواع استعمال السلاح. وكذا المسابقة بالخيل وغيرها، والمراد بهذا كله التمرن على القتال والتدرب والتحذق فيه، ورياضة الأعضاء بذلك "أن يلهو" أي يشتغل يلعب "بأسهمه" جمع السهم أي مع قسيها بنية الجهاد وحديث عقبة هذا أخرجه أيضاً مسلم من وجه آخر.
قوله: "أخبرني معاوية بن عمرو" بن المهلب. ابن عمرو الأزدي المعني بفتح الميم وسكون المهملة وكسر النون، أبو عمرو البغدادي ويعرف بابن الكرماني ثقة من صغار التاسعة "عن زائدة" هو ابن قدامة.
قوله: "لأحد سود الرؤوس" بإضافة أحد إلى سود، والمراد بسود الرؤوس(8/474)
هُرَيْرَةَ الآنَ. فَلَمّا كَانَ يَوْمُ بَدْرٍ وَقَعُوا في الْغَنَائِمِ قَبْلَ أَنْ تَحِلّ لَهُمْ، فَأَنْزَلَ الله تعالى {لَوْلا كِتَابٌ مِنَ اللَّهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيمَا أَخَذْتُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} .
هذا حديثٌ حسنٌ صحيحٌ.
ـــــــ
بنو آدم لأن رؤوسهم سود "قال سليمان الأعمش: فمن يقول هذا إلا أبو هريرة الآن" لم يظهر لي أن الأعمش ما أراد بقوله فمن يقول هذا الخ، اللهم إلا أن يقال إن مراده به أنه لا يقول أحد الآن في هذا الحديث لفظ سود الرؤوس إلا أبو هريرة، يعني لم يرد هذا اللفظ إلا في حديثه، ولكن يخدشه لفظ الآن، فليتأمل {لَوْلا كِتَابٌ مِنَ اللَّهِ سَبَقَ} بإحلال الغنائم والأسرى لكم {لَمَسَّكُمْ} أي لنالكم وأصابكم {فِيمَا أَخَذْتُمْ} من الفداء. وروى الشيخان عن أبي هريرة: غزا نبي من الأنبياء الحديث، وفي آخره: ثم أحل الله لنا الغنائم، ثم رأى ضعفنا وعجزنا فأحلها لنا. قال الحافظ في الفتح: فيه اختصاص هذه الأمة بحل الغنيمة وكان ابتداء ذلك من غزوة بدر، وفيها نزل قوله تعالى: {فَكُلُوا مِمَّا غَنِمْتُمْ حَلالاً طَيِّباً} فأحل الله لهم الغنيمة.
وقد ثبت ذلك في الصحيح من حديث ابن عباس، وقد قدمت في أوائل فرض الخمس، أن أول غنيمة خمست غنيمة السرية التي خرج فيها عبد الله بن جحش، وذلك قبل بدر بشهرين، ويمكن الجمع بما ذكر ابن سعد أنه صلى الله عليه وسلم أخر غنيمة تلك السرية حتى رجع من بدر فقسمها مع غنائم بدر. وفيه أن من مضى كانوا يغزون ويأخذون أموال أعدائهم وأسلابهم لكن لا يتصرفون فيها بل بجمعونها وعلامة قبول غزوهم ذلك أن تنزل النار من السماء فتأكلها، وعلامة عدم قبوله أن لا تنزل. ومن أسباب عدم القبول أن يقع فيهم الغلول، وقد من الله على هذه الأمة ورحمها لشرف نبيها عنده فأحل لهم الغنيمة وستر عليهم الغلول، فطوى عنهم فضيحة أمر عدم القبول، فلله الحمد على نعمة تترى، ودخل في عموم أكل النار الغنيمة السبي وفيه بعد، لأن مقتضاه إهلاك الذرية ومن لم يقاتل من النساء، ويمكن أن يستثنوا من ذلك ويلزم استثناؤهم من تحريم الغنائم عليهم، ويؤيده أنهم كانت لهم عبيد وإماء فلو لم يجز لهم السبي(8/475)
5080- حدثنا هَنّادٌ، أخبرنا أبو مُعَاوِيَةَ، عن الأعمَشِ، عن عَمْرِو بنِ مُرّةَ، عن أبي عُبَيْدَةَ بنِ عَبْدِ الله، عن عَبْدِ الله بنِ مَسْعُودٍ قال: لَمّا كَانَ يَوْمُ بَدْرٍ وَجِيءَ بِالأُسَارَى قال رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم: "مَا تَقُولُونَ في هَؤُلاَءِ الاْسَارَى" ، فَذَكَرَ في الْحَدِيثِ قِصّةً، فقال رَسولُ الله صلى الله عليه وسلم: "لا يَنْفَلِتَنّ أَحَدٌ مِنْهُمْ إِلاّ بِفِدَاءٍ أَوْ ضَرْبِ عُنُقٍ" ، فقال عبدُ الله بنُ مَسْعُودٍ فَقلت: يَا رَسُولَ الله، إلاّ سُهَيْلَ بنَ بَيْضَاءَ فَإِنّي سَمِعْتُهُ يَذْكُرُ الإسْلاَمَ. قالَ: فَسَكَتَ رَسولُ الله صلى الله عليه وسلم. قال: فَمَا رَأَيْتُنِي في يَوْمِ أَخْوفَ أَنْ تَقَعَ عَلَيّ حِجَارَةٌ مِنَ السّمَاءِ مِنّي في ذَلِكَ الْيَوْمِ، قال حَتّى قال رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم: "إِلاّ سُهَيْلَ بنَ بَيْضَاءِ" . قال: وَنَزَلَ الْقُرْآنُ بِقَوْلِ عُمَرَ: {مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ} . إلى آخِرِ الآياتِ.
ـــــــ
لما كان لهم أرقاء، ويشكل على الحظر أنه كان السارق يسترق كما في قصة يوسف ولم أر من صرح بذلك انتهى.
قوله: "عن عمرو بن مرة" هو ابن عبد الله بن طارق الجعلي.
قوله: "فذكر في الحديث قصة" قد ذكرنا هذه القصة بطولها في باب المشورة من أبواب الجهاد "لا ينفلتن أحد" أي لا يتخلصن "منهم" أي من الأساري "ونزل القرآن بقول عمر" أي نزل القرآن موافقاً لقول عمر {مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى} أي ما كان ينبغي لنبي، وقال أبو عبيدة: معناه لم يكن لنبي ذلك فلا يكون لك يا محمد. والمعنى ما كان لنبي أن يحبس كافراً قدر عليه وسار في يده أسيراً للفداء والمن. والأسرى جمع أسير وأساري جمع الجمع {حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ} الإثخان في كل شيء: عبارة عن قوته وشدته، يقال أثخنه المرض إذا اشتدت قوته عليه، والمعنى حتى يبالغ في قتال المشركين ويغلبهم(8/476)
هذا حديثٌ حسنٌ. وأبو عُبَيْدَةَ بنُ عبدِ الله لم يَسْمَعْ مِنْ أبِيهِ.
ـــــــ
ويقهرهم، فإذا حصل ذلك فله أن يقدم على الأسر فيأسر الأساري وبقية الآية مع تفسيرها هكذا تريدون عرض الدنيا. يعني تريدون أيها المؤمنون عرض الدنيا بأخذكم الفداء من المشركين، وإنما سمى منافع الدنيا عرضاً لأنه لا ثبات لها ولا دوام، فكأنها تعرض ثم تزول بخلاف منافع الآخرة فإنها دائمة لا انقطاع لها والله يريد لكم الآخرة، أي ثوابها بقتل المشركين وقهرهم ونصركم الدين لأنها دائمة بلا زوال ولا انقطاع، والله عزيز: لا يقهر ولا يغلب، حكيم: في تدبير مصالح عباده.
واعلم أن حديث علي الذي قد مر في باب قتل الأسرى والفداء من أبواب السير، ظاهره يخالف حديث عبد الله بن مسعود هذا وظاهر هذه الآية، وقد تقدم وجه الجمع هناك فعليك أن تراجعه.
قوله: "هذا حديث حسن" وأخرجه أحمد.(8/477)
وَمِنْ سُوَرةِ التّوْبَة
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
5081- حدثنا مُحمّدُ بنُ بَشّارٍ أخبرنا يَحْيَى بنُ سَعِيدٍ وَمُحمّدُ بنُ جَعْفَرٍ وَابنُ أبي عَدِيّ وَسَهْلُ بنُ يُوسُفَ، قالوا: أخبرنا عَوْفُ بنُ أبي جَمِيلَةَ، حدثني يَزِيدُ الْفَارِسِيّ، حدثني ابنُ عَبّاسٍ قال: "قلْتُ لِعُثْمانَ بنِ
ـــــــ
وَمِنْ سُوَرةِ التّوْبَة
هي مدنية بإجماعهم قال ابن الجوزي: سوى آيتين في آخرها: "لقد جاءكم رسول من أنفسكم" فإنهما نزلتا بمكة وهي مائة وتسع وعشرون آية وقيل مائة وثلاثون آية
قوله: "وسهل بن يوسف" الأنماطي البصري، ثقة، رمي بالقدر، من كبار التاسعة.
"حدثني يزيد الفارسي" البصري مقبول من الرابعة.(8/477)
عَفّانَ: مَا حَمَلَكُمْ أَنْ عَمَدْتُمْ إلى الاْنْفَالِ وَهِيَ مِنَ المَثَانِي، وَإِلَى بَرَاءَةَ وَهِيَ مِنَ الْمِئِينَ، فَقَرَنْتُمْ بَيْنَهُمَا وَلَمْ تَكْتُبُوا بَيْنَهُمَا سَطْرَ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، وَوَضَعْتُمُوهَا في السّبْعِ الطّوَلِ، مَا حَمَلَكُمْ عَلَى ذَلِكَ؟ فَقَالَ عُثْمانُ: كَانَ رَسولُ الله صلى الله عليه وسلم مِمّا يَأْتِي عَلَيْهِ الزّمَانُ وَهُوَ يُنْزَلُ عَلَيْهِ السّوَرُ ذَوَاتُ الْعَدَدِ، فَكَانَ إِذَا نَزَلَ عَلَيْهِ الشّيْءُ دَعَا بَعْضَ مَنْ كَانَ يَكْتُبُ، فيقولُ: ضَعُوا هَؤُلاءِ الآيات في السّورَةِ التِي يُذْكَرُ فِيهَا كَذَا وَكَذَا، وَإِذَا نَزَلَتْ عَلَيْهِ الآية فيقولُ: ضَعُوا هَذِهِ الآية
ـــــــ
قوله: "ما حملكم" أي ما الباعث والسبب لكم "أن عمدتم" بفتح الميم أي على أن قصدتم "وهي من المثاني".
قال في المجمع: يقال المثاني على كل سورة أقل من المئين، ومنه عمدتم إلى الأنفال وهي من المثاني انتهى. وقال في النهاية: المثاني السورة التي تقصر عن المئين وتزيد على المفصل كأن المئين جعلت مبادئ والتي تليها مثاني "وإلى براءة" هي سورة التوبة وهي أشهر أسمائها، ولها أسماء أخرى تزيد على العشرة، قاله الحافظ في الفتح "وهي من المئين" أي ذوات مائة آية.
قال في المجمع: أول القرآن السبع الطول، ثم ذوات المئين، أي ذوات مائة آية، ثم المثاني، ثم المفصل انتهى. والمثين جمع المائة، وأصل المائة مائ كمعنى والهاء عوضاً عن الواو، وإذا جمعت المائة قلت مئون، ولو قلت مئات جاز "في السبع الطول" بضم ففتح "ما حملكم على ذلك" تقرير للتأكيد وتوجيه السؤال أن الأنفال ليس من السبع الطول لقصرها عن المئين لأنها سبع وسبعون آية وليست غيرها لعدم الفصل بينها وبين براءة "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم مما يأتي عليه الزمان" أي الزمان الطويل ولا ينزل عليه شيء، وربما يأتي عليه الزمان "وهو" أي النبي صلى الله عليه وسلم والواو للحال "ينزل عليه" بصيغة المجهول "فكان إذا نزل عليه الشيء" يعني من القرآن "دعا بعض من كان يكتب" أي الوحي، كزيد بن ثابت ومعاوية وغيرهما "فإذا نزلت عليه الآية فيقول(8/478)
في السّورَةِ الّتِي يُذكَرُ فِيهَا كَذَا وَكَذَا، وَكَانَتْ الأنْفَالُ مِنْ أَوَائِلِ مَا أنَزِلَتْ بالمَدِينَةِ، وَكاَنَتْ بَرَاءَةُ مِنْ آخِرِ الْقُرْآنِ، وَكَانَتْ قِصّتُهَا شَبِيهَةً بِقِصّتِهَا، فَظَنَنْتُ أَنّهَا مِنْهَا، فَقُبِضَ رَسولُ الله صلى الله عليه وسلم وَلمْ يُبَيّنْ لَنَا أَنّهَا مِنْهَا، فَمِنْ أَجْلِ ذَلِكَ قَرَنْتُ بينهما وَلَمْ أَكْتُبْ بَيْنَهُمَا سَطْرَ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، فَوَضَعْتُهَا في السّبْعِ الطّوَلِ".
ـــــــ
ضعوا هذه الآية في السورة التي يذكر فيها كذا وكذا" هذا زيادة جواب تبرع به رضي الله تعالى عنه للدلالة على أن ترتيب الاَيات توقيفي وعليه الإجماع والنصوص المرادفة. وأما ترتيب السور فمختلف فيه كما في الإتقان "وكانت براءة من آخر القرآن" أي نزولاً كما في رواية أي فهي مدنية أيضاً، وبينهما النسبة الترتيبية بالأولية و الآخر ية، فهذا أحد وجوه الجمع بينهما "وكانت قصتها" أي الأنفال "شبيهة بقصتها" أي براءة ويجوز العكس، ووجه كون قصتها شبيهة بقصتها أن في الأنفال ذكر العهود، وفي براءة نبذها فضمت إليها "فظننت أنها" أي التوبة "منها" أي الأنفال، وكأن هذا مستند من قال: أنهما سورة واحدة، وهو ما أخرجه أبو الشيخ عن دوق1 وأبو يعلى عن مجاهد ابن أبي حاتم عن سفيان وابن لهيعة، كانوا يقولون: إن براءة من الأنفال، ولهذا لم تكتب البسملة بينهما مع اشتباه طرقهما، ورد بتسمية النبي صلى الله عليه وسلم كل منهما باسم مستقل.
قال القشيري. إن الصحيح أن التسمية لم تكن فيها لأن جبريل عليه الصلاة والسلام لم ينزل بها فيها، وعن ابن عباس: لم تكتب البسملة في براءة لأنها أمان وبراءة نزلت بالسيف. وعن مالك: أن أولها لما سقط سقطت معه البسملة، فقد ثبت أنها كانت تعدل البقرة لطولها، وقيل إنها ثابتة أولها في مصحف ابن مسعود ولا يعول على ذلك، كذا في المرقاة "ولم يبين لنا أنها منها" أي لم يبين لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن التوبة من الأنفال أو ليست منها "فمن أجل ذلك" أي لما ذكر من عدم تنبيه ووجود ما ظهر لنا من المناسبة بينهما "قرنت بينهما ولم أكتب بينهما سطر بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ" أي لعدم العلم بأنها سورة مستقلة،
ـــــــ
1 كذا في الأصل(8/479)
هذا حديثٌ حسنٌ صحيحٌ لاَ نَعْرِفُهُ إِلاّ من حديثِ عَوفٍ عن يَزِيدَ الْفَارِسيّ عن ابنِ عَبّاسٍ. وَيَزِيدُ الْفَارِسيّ قد روى عن ابن عباس غير حديثُ يَزِيدُ بنُ أبان الرّقَاشِيّ هُوَ مِنْ أَهْلِ الْبَصْرَةِ إِنّمَا يَرْوِي عن أَنسِ بنِ مَالِكٍ.
5082- حدثنا الْحَسَنُ بنُ عَلِيّ الْخَلاّلُ، أخبرنا حُسَيْنُ بنُ عَلِيّ الْجُعْفِيّ عن زَائِدَةَ عن شَبِيبِ بن غَرْقَدَةَ عن سُلَيْمانُ بنِ عَمْرِو بن الأحْوَصِ قال: حدثني أبي أَنّهُ شَهِدَ حَجّةَ الْوَدَاعِ مَعَ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم فَحَمِدَ الله وَأَثْنَى عَلَيْهِ وَذَكَرَ وَوَعَظَ ثُمّ قال: "أَيّ يَوْمٍ أَحْرَمُ، أَيّ يَوْمٍ
ـــــــ
لأن البسملة كانت تنزل عليه صلى الله عليه وسلم للفصل ولم تنزل ولم أكتب ووضعتها في السبع الطول.
قال الطيبي: دل هذا الكلام على أنهما نزلتا منزلة سورة واحدة وكمل السبع الطول بها، ثم قيل السبع الطول: هي البقرة وبراءة وما بينهما وهو المشهور، لكن روى النسائي والحاكم عن ابن عباس أنها البقرة والأعراف وما بينهما.
قال الرواي: وذكر السابعة فنسيتها، وهو يحتمل أن تكون الفاتحة فإنها من السبع المثاني، أو هي السبع المثاني، ونزلت سبعتها منزلة المثين، ويحتمل أن تكون الأنفال بانفرادها أو بانضمام ما بعدها إليها. وصح عن ابن جبير أنها يونس، وجاء مثله عن ابن عباس، ولعل وجهه أن الأنفال وما بعدها مختلف في كونها من المثاني وأن كلا منهما سورة أو هما سورة.
"هذا حديث حسن" وأخرجه أحمد وأبو داود والنسائي وابن حبان والحاكم، وقال صحيح ولم يخرجاه.
قوله: "عن زائدة" هو ابن قدامة.
قوله: "أنه شهد" أي حضر "وذكر" من التذكير "ثم(8/480)
أَحْرَمُ، أَيّ يَوْمٍ أَحْرَمُ" ؟ قالَ فقالَ النّاسُ: يَوْمُ الْحَجّ الأكْبَرِ يَا رَسُولَ الله. قال: فَإِنّ دِمَاءَكُمْ وَأَمْوَالَكُمْ وَأَعْرَاضَكُمْ عَلَيْكُمْ حَرَامٌ كَحُرْمَةِ يَوْمِكُمْ هَذَا، في بَلَدِكُمْ هَذَا، في شَهْرِكُمْ هَذَا، أَلاَ لاَ يَجْنِي جَانٍ إِلاّ عَلَى نَفْسِهِ، ولا يَجْنِي وَالِدٌ عَلَى وَلَدِهِ، ولا وَلَدٌ عَلَى وَالِدِهِ، أَلاَ إِنّ المُسْلِمَ أَخُو المُسْلِمِ، فَلَيْسَ يَحِلّ لِمُسْلِمٍ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ إِلاّ مَا أَحَلّ مِنْ نَفْسِهِ، أَلاَ وَإِنّ كُلّ رِباً في الْجَاهِلِيّةِ مَوْضُوعٌ، لَكُمْ رؤوسُ أَمْوَالِكُمْ لا تَظْلِمُونَ وَلا تُظْلَمُونَ غَيْرِ رِبَا الْعَبّاسِ بنِ عَبْدِ المُطّلِبِ فَإِنّهُ مَوضُوعٌ كُلّهُ، أَلاَ وَإِنّ كُلّ دَمٍ
ـــــــ
قال" أي النبي صلى الله عليه وسلم للناس "أي يوم أحرم" أي أعظم حرمة كما في حديث جابر بن عبد الله عند أحمد "فقال الناس يوم الحج الأكبر" قيل هو يوم عرفة وقيل يوم النحر، ويأتي الكلام فيه في شرح حديث علي رضي الله عنه "فإن دماءكم وأموالكم وأعراضكم" أي تعرضها "عليكم حرام" أي محرم ليس لبعضكم أن يتعرض لبعض فيريق دمه أو يسلب ماله، أو ينال من عرضه "كحرمة يومكم هذا" يعني تعرض بعضكم دماء بعض وأمواله وأعراضه في غير هذه الأيام كحرمة التعرض لها في هذا اليوم "في بلدكم هذا" أي مكة أو الحرم المحترم "في شهركم هذا" أي ذي الحجة "ألا لا يجني جان إلا على نفسه" تقدم شرحه في باب تحريم الدماء والأموال من أبواب الفتن "ألا" حرف التنبيه "إن المسلم أخو المسلم" أي في الدين "فليس يحل لمسلم" أي لا يجوز ولا يباح له "إلا ما أحل من نفسه" أي ما أباح له أخوه من نفسه "وإن كل رباً في الجاهلية موضوع" أي كالشيء الموضوع تحت القدم، وهو مجاز عن إبطاله "لكم رؤوس" أي أصول "أموالكم لا تظلمون" بزيادة "ولا تظلمون" بنقص "غير ربا العباس بن عبد المطلب فإنه موضوع كله" كذا وقع عند الترمذي في حديث عمرو بن الأحوص، ولم يظهر لي معنى الاستثناء ووقع عند ابن أبي حاتم من طريق شيبان عن شبيب بن غرقدة، عن سليمان بن الأحوص عن أبيه قال: خطب رسول الله صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع فقال ألا إن كل رباً كان في الجاهلية موضوع عنكم كله لكم رؤوس أموالكم لا تظلمون(8/481)
كَانَ في الْجَاهِلَيّةِ مَوْضُوعٌ، وَأَوّلُ دَمٍ أَضَعُ مِنْ دَمِ الْجَاهِليّةِ دَم الْحَارِثِ بنِ عَبْدِ المُطّلِبِ، كَانَ مُسْتَرْضَعاً في بَنِي لَيْثٍ فَقَتَلَتْهُ هُذَيْلٌ، أَلاَ وَاسْتَوْصُوا بالنّسَاءِ خَيْراً، فإِنّمَا هُنّ عَوَانٌ عِنْدَكُمْ، لَيْسَ تَمْلِكُونَ مِنْهِنّ شَيْئاً غَيْرَ
ـــــــ
ولا تظلمون، وأول رباً موضوع رباً العباس بن عبد المطلب موضوع كله.
وفي حديث جابر عند مسلم: وربا الجاهلية موضوعة وأول ما أضع رباً ربا العباس بن عبد المطلب فإنه موضوع كله.
قال النووي: قوله صلى الله عليه وسلم في الربا إنه موضوع كله، معناه الزائد على رأس المال، كما قال الله تعالى: {وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُؤُوسُ أَمْوَالِكُمْ} وهذا الذي ذكرته إيضاح، وإلا فالمقصود مفهوم من نفس لفظ الحديث، لأن الربا هو الزيادة فإذا وضع الربا فمعناه وضع الزيادة، والمراد بالوضع: الرد والإبطال انتهى. "وإن كل دم كان في الجاهلية موضوع" أي متروك لا قصاص ولا دية ولا كفارة "وأول دم أضع" أي أضعه وأبطله "دم الحارث بن عبد المطلب" وفي حديث جابر عند مسلم: وإن أول دم أضع من دمائنا دم بن ربيعة بن الحارث.
قال النووي: قال المحققون والجمهور اسم هذا الابن إياس بن ربيعة بن الحارث بن عبد المطلب، وقيل اسمه حارثة، وقيل آدم.
قال الدارقطني: وهو تصحيف، وقيل اسمه تمام، وممن سماه آدم الزبير بن بكار. قال القاضي عياض: ورواه بعض رواة مسلم دم ربيعة بن الحارث قال وكذا رواه أبو داود، وقيل وهو وهم، والصواب بن ربيعة لأن ربيعة عاش بعد النبي صلى الله عليه وسلم إلى زمن عمر بن الخطاب، وتأويله أبو عبيد فقال: دم ربيعة لأنه ولي الدم فنسبه إليه، قالوا وكان هذا الابن المقتول طفلاً صغيراً يحبو بين البيوت، فأصابه حجر في حرب كانت بين بني سعد وبين ليث بن بكر. قاله الزبير بن بكار انتهى "كان مسترضعاً" على بناء المجهول أي كان له ظئر ترضعه في بني ليث "ألا" بالتخفيف للتنبيه "فاستوصوا بالنساء خيراً" الاستيصاء: قبول الوصية، أي أوصيكم بهن خيراً فاقبلوا وصيتي فيهن.
وقال الطيبي: الأظهر أن السين للطلب، أي اطلبوا الوصية من أنفسكم في(8/482)
ذَلِكَ إِلاّ أَنْ يَأتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيّنَةٍ، فَإِنْ فَعَلْنَ فَاهْجُرُوهُنّ في المَضَاجِعِ وَاضْرِبُوهُنّ ضَرْبَاً غَيْرَ مُبَرّحٍ، فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلاَ تَبْغُوا عَلَيْهِنّ سَبِيلاً. أَلاَ وَإِنّ لَكُمْ عَلَى نِسَائِكُمْ حَقّا، وَلِنِسَائِكُمْ عَلَيْكُمْ حَقّا، فأَمّا حَقّكُمْ عَلَى نِسَائِكُمْ فَلاَ يُوْطِئْنَ فُرُشَكُمْ من تَكْرَهُونَ، وَلا يَأْذَنّ في بُيُوتِكُمْ لِمَنْ تَكْرَهُونَ. أَلاَ وَإِنّ حَقّهُنّ عَلَيْكُمْ أَنْ تُحْسِنُوا إِلَيْهنّ في كِسْوَتِهِنّ وَطَعَامِهِنّ" .
ـــــــ
أنفسهن بخير أو يطلب بعضكم من بعض بالإحسان في حقهن، وقيل الاستيصاء بمعنى الإيصاء " فإنما هن عوان عندكم" جمع عانية، أي أسراء كالأسراء، شبهن بهن عند الرجال لتحكمهن فيهن.
قال في النهاية: العاني الأسير، وكل من ذل واستكان وخضع، فقد عنا يعنو، أو هو عان والمرأة عانية وجمعها عوان "ليس تملكون منهن شيئاً" أي شيئاً من الملك أو شيئاً من الهجران والضرب "غير ذلك" أي غير الاستيصاء بهن الخير {إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ} الفاحشة كل ما يشتد قبحه من الذنوب والمعاصي، وكثيراً ما ترد بمعنى الزنا، وكل خصلة قبيحة فهي فاحشة من الأقوال والأفعال "فإن فعلن" أي أتين بفاحشة "فاهجروهن في المضاجع" قال ابن عباس: هو أن يوليها ظهره في الفراش ولا يكلمها، وقيل هو أن يعتزل عنها إلى فراش آخر "واضربوهن ضرباً غير مبرح" بضم الميم وفتح الموحدة وتشديد الراء المكسورة، قال النووي: الضرب المبرح هو الضرب الشديد الشاق، ومعناه اضربوهن ضرباً ليس بشديد ولا شاق، والبرح: المشقة {فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ} أي فيما يراد منهن {فَلا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلاً} أي فلا تطلبوا عليهن طريقاً إلى هجرانهن وضربهن ظلماً "فلا يوطئن" بهمزة أو بإبدالها من باب الأفعال "فرشكم" بالنصب مفعول أول "من تكرهون" مفعول ثان أي من تكرهونه رجلاً كان أو امرأة. قال النووي: المختار أن معناه أن لا يأذن لأحد تكرهونه في دخول بيوتكم والجلوس في منازلكم. سواء كان المأذون له رجلاً أجنبياً أو امرأة أو أحداً من محارم(8/483)
هذا حديثٌ حسنٌ صحيحٌ. وَقد رَوَاهُ أبو الأحْوَصِ عن شَبِيبِ بنِ غَرْقَدَةَ.
5083- حدثنا عَبْدُ الْوَارِثِ بنُ عَبْدِ الصّمَدِ بنِ عَبْدِ الْوَارِثِ، أخبرنا أبي عن أبِيهِ عن مُحمّدِ بنِ إسْحَاقَ عن أبي إسْحَاقَ عن الْحَارِثِ عن عَلِيّ قال: سَأَلْتُ رَسولَ الله صلى الله عليه وسلم عَنْ يَوْمِ الْحَجّ الأكْبَرِ فقالَ: "يَوْمُ النّحْرِ" .
5084- حدثنا ابنُ أبي عُمَرَ، أخبرنا سُفْيَانُ عن أبي إسْحَاقَ عن الْحَارِثِ عن عَلِيّ قال: "يَوْمُ الْحَجّ الأكْبَرِ يَوْمُ النّحْرِ" .
هذا الحديث أَصَحّ من حديثِ مُحمّد بنِ إسْحَاقَ، لأَنّهُ رَوَى من غيرِ وَجْهٍ هذا الحديث عن أبي إسْحَاقَ عن الحارِثِ عن عَلِيّ موقوفاً، ولا نَعْلَمُ أَحَداً رَفَعَهُ إِلاّ مَا رُوِيَ عن مُحمّدِ بنِ إسْحَاقَ.
ـــــــ
الزوجة، فالنهي يتناول جميع ذلك "ولا يأذن في بيوتكم لمن تكرهون" هذا كالتفسير لما قبله وهو عام "ألا وإن حقهن عليكم أن تحسنوا إليهن في كسوتهن أو طعامهن" وفي حديث جابر عند مسلم: ولهن عليكم رزقهن وكسوتهن بالمعروف.
قوله: "هذا حديث حسن صحيح" وأخرجه ابن ماجه من طريق أبي الأحوص، عن شبيب بن غرقدة، وأخرجه الترمذي أيضاً من هذا الطريق في باب تحريم الدماء والأموال.
قوله: "حدثنا عبد الوارث بن عبد الصمد بن عبد الوارث" بن سعيد بن ذكوان العنبري البصري، صدوق من الحادية عشرة.
قوله: "سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن يوم الحج الأكبر فقال: يوم النحر" فيه دليل لمن يقول إن يوم الحج الأكبر هو يوم النحر. ولحديث على هذا شاهد من حديث ابن عمر عند أبي داود وابن ماجه، وذكره البخاري(8/484)
5085- حدثنا محمد بن بشّار بُنْدَارٌ، أخبرنا عَفّانُ بنُ مُسْلِمٍ وَعَبْدُ الصّمَدِ بن عبد الوارث قالا أخبرنا حَمّادُ بنُ سَلَمَةَ عن سِمَاكِ بن حَرْبٍ عن أَنَسِ بنِ مَالِكٍ قال: "بَعَثَ النّبيّ صلى الله عليه وسلم بِبراءَةَ مَعَ أبي بَكْرٍ، ثمّ دَعَاهُ فَقَالَ: "لا يَنْبَغِي لأحَدٍ أَنْ يُبَلّغَ هَذَا إِلاّ رجُلٌ مِنْ أهْلِي، فَدَعَا عَلِيّا فَأَعْطَاهُ إِيّاهَا" .
هذا حديثٌ حسنٌ غريبٌ من حديث أنَسٍ.
5086- حدثنا مُحمّدُ بنُ إسماعِيلَ، أخبرنا سَعِيدُ بنُ سُلَيْمانَ، أخبرنا عَبّادُ بنُ الْعَوّامِ، أخبرنا سُفْيَانُ بنُ حُسَيْنِ عن الْحَكَمِ بنِ عُتْيْبَةَ
ـــــــ
تعليقاً. وقد وردت في ذلك أحاديث أخرى ذكرها الحافظ ابن كثير وغيره.
واختاره ابن جرير وهو قول مالك والشافعي والجمهور. وقال آخرون منهم عمرو ابن عباس وطاوس: إنه يوم غرفة والأول أرجح. وحديث علي هذا قد تقدم مرفوعاً وموقوفاً في أواخر أبواب الحج وأخرجه أيضاً ابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه.
قوله: "وعبد الصمد" بن عبد الوارث.
قوله: "بعث النبي صلى الله عليه وسلم ببراءة" يجوز فيه التنوين بالرفع على الحكاية وبالجر ويجوز أن يكون علامة الجر فتحة وهو الثابت في الروايات "مع أبي بكر" وكان بعثه قبل حجة الوداع بسنة، وكانت الحجة الوداع في السنة العاشرة من الهجرة "ثم دعاه" أي ثم دعا النبي صلى الله عليه وسلم أبا بكر "فقال لا ينبغي لأحد أن يبلغ هذا إلا رجل من أهلي فدعا علياً" قال العلماء: إن الحكمة في إرسال علي بعد أبي بكر أن عادة العرب جرت بأن لا ينقض العهد إلا من عقده، أو من هو منه بسبيل من أِل بيته فأجراهم في ذلك على عادتهم، ولهذا قال: لا يبلغ هذا إلا أنا أو رجل من أهلي "فأعطاه إياه" أي فاعط علياً براءة.
قوله: "هذا حديث حسن غريب" وأخرجه أحمد.
قوله: "حدثنا محمد بن إسماعيل" هو الإمام البخاري رحمه الله "أخبرنا سعيد بن(8/485)
عن مِقْسَمٍ عن ابنِ عَبّاسٍ قال: "بَعَثَ النّبيّ صلى الله عليه وسلم أبَا بَكْر وَأَمَرَهُ أَنْ يُنادِي بهَؤُلاَءِ الْكَلِمَاتِ، ثُمّ أَتْبَعَهُ عَلِيّا. فَبَيْنَا أَبُو بَكْرٍ في بَعْضِ الطّرِيقِ إِذْ سَمِعَ رُغاءَ نَاقَةِ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم الْقَصْوَى فَخَرَجَ أَبُو بَكْر فَزِعَاً، فَظَنّ أَنّهُ رَسولُ الله صلى الله عليه وسلم، فَإِذَا هو عَلِيّ، فَدَفَعَ إِلَيْهِ كِتَابَ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم وَأَمَرَ عَلِيّا أَنْ يُنَادِيَ بهَؤُلاءِ الْكَلِمَاتِ، فَانْطَلَقَا، فَحَجّا، فَقَامَ عَلِيّ أَيّامَ التّشْرِيقِ
ـــــــ
سليمان" الضبي أبو عثمان الواسطي، نزيل بغداد البزاز لقبه سعدويه ثقة حافظ من كبار العاشرة.
قوله: "بعث النبي صلى الله عليه وسلم أبا بكر" وروى الطبري عن ابن عباس قال: بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم أبا بكر أميراً على الحج وأمره أن يقيم للناس حجهم، فخرج أبو بكر "وأمره أن ينادي بهؤلاء الكلمات" أي أمر النبي صلى الله عليه وسلم أبا بكر أن ينادي بها. وعند أحمد من حديث علي: لما نزلت عشر آيات من براءة بعث بها النبي صلى الله عليه وسلم مع أبي بكر ليقرأها على أهل مكة، ثم دعاني فقال: أدرك أبا بكر فحيثما لقيته فخذ منه الكتاب، فرجع أبو بكر فقال يا رسول الله نزل في شيء فقال: لا: إلا أنه لن يؤدي أو لكن جبريل قال لا يؤدي عنك إلا أنت أو رجل منك.
قال ابن كثير: ليس المراد أن أبا بكر رضي الله عنه رجع من فوره بل بعد قضائه للمناسك التي أمره عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال الحافظ في الفتح: ولا مانع من حمله على ظاهره لقرب المسافة، وأما قوله عشر آيات: فالمراد أولها {إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ} "ثم أتبعه علياً" أي أتبع رسول الله صلى الله عليه وسلم أباً بكر علياً رضي الله تعالى عنها "إذ سمع رغاء ناقة رسول الله صلى الله عليه وسلم" بضم الراء وبالمد صوت ذوات الخف، وقد رغا البعير يرغو رغاء بالضم والمد: أي ضج "القصوى" هو لقب ناقة رسول الله صلى الله عليه وسلم "فدفع إليه كتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم" أي دفع أبو بكر إلى علي كتابه(8/486)
فَنَادَى: ذِمّةُ الله وَرَسُولِهِ بَرِيئَةٌ مِنْ كُلّ مُشْرِكٍ، فَسِيحُوا في الأرْضِ أرْبَعَةَ أشْهُرٍ، ولا يَحُجّنّ بَعْدَ الْعَامِ مُشْرِكٌ، ولا يَطُوفَنّ بالْبَيْتِ عُرْيَانُ، ولا يَدْخُلُ الْجَنّةَ إِلاّ مُؤْمِن. وكَانَ عَلِيّ يُنَادِي، فَإِذَا عَيِيَ قامَ أبو بَكْرٍ فَنَادَى بها. وهذا حديثٌ حسنٌ غريبٌ من هذا الْوَجْهِ من حديثِ ابن عَبّاسٍ.
ـــــــ
صلى الله عليه وسلم "فسيحوا" سيروا آمنين أيها المشركون "في الأرض أربعة أشهر" يأتي الكلام عليه في شرح حديث علي الاَني بعد هذا "ولا يحجن بعد العام" أي بعد الزمان الذي وقع فيه الإعلام بذلك "فإذا عيى" بكسر التحتية الأولى. يقال عيى يعيى عيا وعياء بأمره وعن أمره: عجز عنه ولم يطق أحكامه أو لم يهتد لوجه مراده وعيى يعيى عياً في المنطق: حصر.
تنبيه: قال الخازن قد يتوهم متوهم أن في بعث علي بن أبي طالب بقراءة أول براءة عزل أبي بكر عن الإمارة وتفضيله على أبي بكر وذلك جهل من هذا الموهم، ويدل على أن أبا بكر لم يزل أميراً على الموسم في تلك السنة حديث أبي هخريرة عند الشيخين أن أبا بكر بعثه في الحجة التي أمره رسول اصلى الله عليه وسلم عليها قبل حجة الوداع في رهط يؤذنون في الناس الحديث، وفي لفظ أبي داود والنسائي قال: بعثني أبو بكر فيمن يؤذن في يوم النحر بمنى أن لا يحج بعد العام مشرك ولا يطوف بالبيت عريان، فقوله بعثني أبو بكر: فيه دليل على أن أبا بكر كان هو الأمير على الناس، وهو الذي أقام للناس حجهم وعلمهم مناسكهم وأجاب العلماء عن بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم علياً ليؤذن في الناس ببراءة بأن عادة العرب جرت أن لا يتولى تقرير العهد ونقضه إلا سيد القبيلة وكبيرها، أو رجل من أقاربه، وكان علي بن أبي طالب أقرب إلى النبي صلى الله عليه وسلم من أبي بكر لأنه ابن عمه ومن رهطه، فبعثه النبي صلى الله عليه وسلم ليؤذن عنه ببراءة إزاحة لهذه العلة لئلا يقولوا هذا على خلاف ما نعرفه عن عادتنا في عقد العهود ونقضها. وقيل: لما خص أبا بكر لتوليته على الموسم خص علياً بتبليغ هذه الرسالة تطييباً(8/487)
5087- حدثنا ابنُ أبي عُمَرَ، أخبرنا سُفْيَانُ عن أبي إسْحَاقَ عن زَيْدِ بنِ يُثَيّعٍ قال: "سَأَلْنَا عَلِيّا بِأَيّ شَيْء بُعِثْتَ في الْحَجّةِ؟ قال: بُعِثْتُ بِأَرْبَعِ: لا يَطُوفَنّ بالْبَيْتِ عُرْيَانُ، وَمَنْ كَانَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ النّبِيّ صلى الله عليه وسلم عَهْدٌ فَهُوَ إلى مُدّتِهِ، وَمَنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ عَهْدٌ فَأَجَلُهُ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ، وَلا يَدْخُلُ الْجَنّةَ إِلاّ نَفْسٌ مُؤْمِنَةٌ، ولا يَجْتَمِعُ المُشْرِكُونَ وَالمُسْلِمُونَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا".
ـــــــ
لقلبه ورعاية لجانبه، وقيل إنما بعث علياً في هذه الرسالة حتى يصلي خلف أبي بكر ويكون جارياً مجرى التنبيه على إمامة أبي بكر بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم، لأن النبي صلى الله عليه وسلم بعث أبا بكر أميراً على الحاج وولاه الموسم وبعث علياً خلفه ليقرأ على الناس ببراءة، فكان أبو بكر الإمام وعلى المؤتم، وكان أبو بكر رضي الله عنه الخطيب، وعلى المستمع. وكان أبو بكر المتولي أمر الموسم والأمير على الناس ولم يكن ذلك لعلي، فدل ذلك على تقديم أبي بكر علي علي وفضله عليه انتهى.
قلت: ومما يدل على أن أبا بكر لم يزل أميراً على الموسم في تلك السنة حديث جابر عند الطبري وإسحاق في مسنده والنسائي والدارمي وابن خزيمة وابن حبان أن النبي صلى الله عليه وسلم حين رجع من عمرة الجعرانة بعث أبا بكر على الحج فأقبلنا معه حتى إذا كنا بالعرج ثوب بالصبح فسمع رغوة ناقة النبي صلى الله عليه وسلم، فإذا على عليها، فقال له: أمير أو رسول فقال: بل أرسلني رسول الله صلى الله عليه وسلم ببراءة أقرؤها على الناس الحديث.
قوله: "ومن كان بينه وبين النبي عهد فهو إلى مدنه. ومن لم يكن له عهد فأجله أربعة أشهر". قال الحافظ: أستدل بهذا على أن قوله تعالى: {فَسِيحُوا فِي الْأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ} يختص بمن لم يكن له عهد مؤقت أو لم يكن له عهد أصلاً، وأما من له عهد مؤقت فهو إلى مدته. فروى الطبري من طريق ابن إسحاق قال: هم صنفان: صنف كن له عهد دون أربعة أشهر فأمهل إلى تمام أربعة أشهر، وصنف كانت له مدة عهده بغير أجل فقصرت على أربعة أشهر. وروى أيضاً(8/488)
هذا حديثٌ حسنٌ صحيحٌ، وَهُوَ حديثُ سفيان بن عُيَيْنَةَ عن أبي إسْحَاقَ وَرَوَاهُ سُفْيَانُ الثّوْرِيّ، عن أبي إسْحَاقَ، عن بَعْضِ أصْحَابِهِ، عن عَلِيّ، وفي الباب عن أبي هُرَيْرَةَ.
5088- حدثنا نَصْرُ بنُ عَلِيّ وَغَيْرُ وَاحِدٍ قالوا أخبرنا سُفْيانُ بنُ عُيَيْنَةَ عن أبي إِسْحَاقَ عن زَيْدِ بنِ يُثَيّعٍ عن علِيّ نحْوَهُ.
5089- حدثنا علِيّ بنُ خَشْرَمٍ، أخبرنا سُفْيَانُ بنُ عُيَيْنَةَ عن أَبي إِسْحَاقَ عن زَيْدِ بنِ أُثَيْعٍ عن علِيّ نحْوَهُ. قال أبو عيسى: وقد رُوِيَ عن
ـــــــ
من طريق علي بن أبي طلحة عن ابن عباس: أن الأربعة الأشهر أجل من كان له عهد مؤقت بقدرها أو يزيد عليها، وأما من ليس له عهد فانقضاؤه إلى سلخ المحرم لقوله تعالى: {فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ} ومن طريق عبيدة ابن سلمان: سمعت "عن" الضحاك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم عاهد ناساً من المشركين من أهل مكة وغيرهم فنزلت براءة فنبذ إلى كل أحد عهده وأجلهم أربعة أشهر، ومن لا عهد له فأجله إلى انقضاء الأشهر الحرم. ومن طريق السدي نحوه، ومن طريق معمر عن الزهري قال: كان أول الأربعة أشهر عند نزول براءة في شوال، فكان آخرها آخر المحرم، فبذلك يجمع بين ذكر الأربعة أشهر، وبين قوله: {فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ} واستبعد الطبري ذلك من حيث أن بلوغهم الخبر إنما كان عندما وقع به النداء به في ذي الحجة، فكيف يقال لهم: سبحوا أربعة أشهر ولم يبق منها إلا دون الشهرين؟ ثم أسند عن السدي وغير واحد التصريح بأن تمام الأربعة الأشهر في ربيع الآخر انتهى.
قوله: "وفيه عن أبي هريرة" أي وفي الباب عن أبي هريرة، وكذا قال الترمذي في باب كراهية الطواف عرياناً بعد رواية حديث زيد بن يثيع المذكور وتقدم تخريجه هناك.
قوله: "حدثنا نصر بن علي وغير واحد الخ" هذه العبارة من هنا إلى قوله ولا يتابع عليه، وقد وقعت في بعض النسخ وسقطت في بعضها "عن ابن أثيع(8/489)
عُيَيْنَةَ كِلْتَا الرّوَايَتَيْنِ عن ابنِ أُثَيْعٍ وعن ابنِ يُثَيّعٍ. وَالصّحِيحُ هو زَيْدُ بنُ يُثَيّعِ. وقد رَوَى شُعْبَةُ عن أبي إِسْحَاقَ عن زَيد غيرَ هذا الحديثِ فَوَهِمَ فيه، وقال زَيْدُ بنُ أُثَيْلٍ، ولا يُتَابَعُ عليه وفي الباب عن أَبي هريرة.
5090- حدثنا أَبُو كُرَيْبٍ أخبرنا رِشْدينُ بنُ سَعْدٍ عن عَمْرِو بن الحارِثِ، عن دَرّاجٍ عن أبي الهَيْثَمِ، عن أبي سَعِيدٍ قال: قال رَسولُ الله صلى الله عليه وسلم: "إِذَا رَأَيْتُمْ الرّجُلَ يَعْتَادُ المَسْجِدَ فَاشْهَدُوا لَهُ بالإيْمَانِ، قال الله تَعَالَى: {إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ} ".
5091- حدثنا ابن أبي عُمَرَ، أخبرنا عَبْدُ الله بنُ وَهْبٍ عن عَمْرِو بن الْحَارِثِ، عن دَرّاجٍ عن أبي الْهَيْثَمِ، عن أبي سَعِيدٍ عن النّبيّ صلى الله عليه وسلم نحْوَهُ إِلاّ أَنّهُ قال: "يَتَعَاهَدُ المَسْجِدَ" .
ـــــــ
وعن ابن يثيع" هذا بيان لقوله كلتا الروايتين "والصحيح زيد بن يثيع" أي بالتحتانية. قال في تهذيب التهذيب: قال الأثرم عن أحمد المحفوظ بالياء "وقال زيد بن أثيل" أي باللام مكان العين "ولا يتابع عليه" أي لا يتابع شعبة على لفظ أثيل. قال الدورى عن ابن معين قال شعبة عن أبي إسحاق عن زيد بن أثيل قال ابن معين: والصواب: يثبع وليس أحد يقول أثيل إلا شعبة وحده، كذا في تهذيب التهذيب.
قوله: "إذا رأيتم الرجل يعتاد المسجد" وفي الرواية الآتية يتعاهد، قال في المجمع: أي يتجافظ، وروى يعتاد وهو أقوى سنداً وأوفق معنى لشموله جميع ما يناط بالمسجد من العمارة واعتياد الصلاة وغيرها، وتقدم هذا الحديث مع شرحه في باب حرمة الصلاة من أبواب الإيمان.
قوله: "أخبرنا عبد الله بن وهب" بن مسلم القرشي "عن عمرو بن الحارث"(8/490)
هذا حديثٌ حسنٌ غريبٌ. وأبو الهَيْثَمِ اسْمُهُ سُلَيْمانُ بنُ عَمْرِو بنِ عَبْدِ الْعُتْوَارِيّ، وَكَانَ يَتِيماً في حِجْرِ أَبي سَعِيدٍ الْخُدْرِيّ.
5092- حدثنا عَبْدُ بنُ حُمَيْدٍ، أخبرنا عُبَيْدُ الله بنُ مُوسَى، عن إِسْرَائِيلَ عن مَنْصُورٍ عن سَالِمِ بن أبي الْجَعْدِ عن ثَوْبَانَ قال: "لَمّا نَزَلَتْ: {وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ} قال: كُنّا مَعَ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم في بَعْضِ أَسْفَارِهِ، فقال بَعْضُ أَصْحَابِهِ: أُنْزِلَ في الذّهَبِ وَالْفِضّةِ ما أنزل لَوْ عَلِمْنَا أَيّ الْمَالِ خَيْرٌ فَنَتّخِذَهُ. فقال: "أَفْضَلُهُ لِسَانُ ذَاكِرٌ وَقَلْبٌ شَاكِرٌ وَزَوْجَةٌ مُؤْمِنَةٌ تُعِينُهُ عَلَى إِيْمانِهِ" .
ـــــــ
الأنصاري المصري "العتواري" بضم العين المهملة وسكون المثناة الفوقية وبراء نسبة إلى عتورة بطن من كنانة.
قوله: "حدثنا عبيد الله بن موسى" العبسى الكوفي "عن ثوبان" الهاشمي مولى النبي صلى الله عليه وسلم.
قوله: "فقال بعض أصحابه أنزلت في الذهب والفضة" أي هذه الآية، وعرفنا حكمهما ومذمتهما "لو علمنا" لو للتمني "أي المال خير" مبتدأ وخبر والجملة سدت مسد المفعولين لعلمنا تعليقاً "فتتخذه" منصوب بإضمار أن بعد الفاء جواباً للتمني، قيل السؤال، وإن كان من تعيين المال ظاهراً لكنهم أراد، وما ينتفع به عند تراكم الحوائج، فذلك أجاب عنه بما أجاب، ففيه شائبة عن الجواب عن أسلوب الحكيم "فقال أفضله" أي أفضل المال أو أفضل ما يتخذه الإنسان قنية "لسان ذاكر" أي بتمجيد الله تعالى وتقديسه وتسبيحه وتهليله والثناء عليه بجميع محامده وتلاوة القرآن "وقلب شاكر" أي على إنعامه وإحسانه "وزوجة مؤمنة تعينه على إيمانه" أي على دينه بأن تذكره الصلاة والصوم وغيرهما من العبادات وتمنعه من الزنا وسائر المحرمات.(8/491)
هذا حديثٌ حسنٌ. سأَلْتُ مُحمّدَ بنَ إِسماعِيلَ فَقُلْتُ لَهُ: سَالِمُ بنُ أبي الْجَعْدِ سَمِعَ مِنْ ثَوْبَانَ؟ فقال: لاَ، فقلت لَهُ: مِمّنْ سَمِعَ مِنْ أصْحَابِ النّبِيّ صلى الله عليه وسلم؟ قال: سَمِعَ مِنْ جَابِرِ بنِ عَبْدِ الله وَأَنَسِ بنِ مَالِكٍ، وَذَكَرَ غيرَ وَاحِدٍ مِنْ أَصْحَابِ النّبيّ صلى الله عليه وسلم.
5093- حدثنا الحُسَيْنُ بنُ يَزِيدَ الْكُوفِيّ، أخبرنا عَبْدُ السّلاَمِ بنُ حَرْبٍ عن غُطَيْفِ بنِ أَعيَنَ عن مُصْعَبِ بنِ سَعْدٍ عن عَدِيّ بنِ حَاتِمٍ قال: "أَتَيْتُ النّبيّ صلى الله عليه وسلم وَفي عُنُقِي صَلِيبٌ مِنْ ذَهَبٍ، فقال: يَا عَدِيّ اطْرَحْ عَنْكَ هَذَا الْوَثَنَ، وَسَمِعْتُهُ يَقْرَأُ في سُورَةِ بَرَاءَةَ: {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ} ، قال: أمَا إِنّهُمْ لَمْ يَكُونُوا
ـــــــ
قوله: "هذا حديث حسن" وأخرجه أحمد وابن ماجه.
قوله: "عن غطيف بن أعين" الشيباني الجزري، ويقال بالضاد المعجمة، ضعيف من السابعة كذا في التقريب، وقال في تهذيب التهذيب في ترجمته: روى له الترمذي حديثاً واحداً وقال ليس بمعروف في الحديث.
قوله: "وفي عنقي صليب" هو كل ما كان على شكل خطين متقاطعين.
وقال في المجمع: هو المربع من الخشب للنصاري يدعون أن عيسى عليه السلام صلب على خشبة على تلك الصورة "إطرح عنك" أي ألق عن عنتك "هذا الوثن" هو كل ماله جثة معمولة من جواهر الأرض أو من الخشب والحجارة، كصورة الاَدمي، والصنم: الصورة بلا جثة، وقيل هما سواء، وقد يطلق الوثن على غير الصورة، ومنه حديث عدي قدمت عليه صلى الله عليه وسلم وفي عنقي صليب من ذهب فقال: ألق هذا الوثن عنك، قاله في المجمع {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ} أي علماء اليهود {وَرُهْبَانَهُمْ} أي عباد النصاري {أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ} حيث اتبعوهم في تحليل ما حرم الله وتحريم ما أحل الله. قال أي النبي صلى الله عليه وسلم "أما"(8/492)
يَعْبُدُونَهُمْ، وَلَكِنّهُمْ كَانُوا إِذَا أَحَلّوا لَهُمْ شَيْئاً اسْتَحَلّوهُ، وَإِذَا حَرّمُوا عَلَيْهِمْ شَيْئاً حَرّمُوهُ" .
ـــــــ
بالتخفيف حرف التنبيه "إذا أحلوا لهم شيئاً" أي جعلوا لهم حلالاً وهو مما حرمه الله تعالى "استحلوه" أي اعتقدوه حلالاً "وإذا حرموا عليهم شيئاً" أي وهو مما أحله الله "حرموه" أي اعتقدوه حراماً.
قال في فتح البيان: في هذه الآية ما يزجر من كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد، عن التقليد في دين الله، وتأثير ما يقوله الأسلاف على ما في الكتاب العزيز والسنة المطهرة، فإن طاعة المتمذهب لمن يقتدي بقوله ويستن بسنته من علماء هذه الأمة، مع مخالفته لما جاءت به النصوص وقامت به حجج الله وبراهينه هو كاتخاذ اليهود والنصارى للأحبار والرهبان أرباباً من دون الله للقطع بأنهم لم يعبدوهم بل أطاعوهم وحرموا ما حرموا وحللوا ما حللوا، وهذا هو صنيع المقلدين من هذه الأمة، وهو أشبه به من شبه البيضة بالبيضة، والتمرة بالتمرة، والماء بالماء.
فياعباد الله ما بالكم تركتم الكتاب والسنة جانباً وعمدتم إلى رجال هم مثلكم في تعبد الله لهم بهما، وطلبه للعمل منهم بما دلا عليه وأفاداه فعملتم بما جاءوا به من الاَراء التي لم تعمد بعماد الحق، ولم تعضد بعضد الدين ونصوص الكتاب والسنة، تنادي بأبلغ نداء، وتصوت بأعلى صوت بما يخالف ذلك ويباينه، فأعرتموها آذاناً صماً، وقلوباً غلفاً، وأذهاناً كليلة، وخواطر عليلة، وأنشدتم بلسان الحال:
وما أنا إلا من غزية إن غوت ... غويت وإن ترشد غزية أرشد.
انتهى. وقال الرازي في تفسيره: قال شيخنا ومولانا خاتمة المحققين والمجتهدين رضي الله عنه: قد شاهدت جماعة من مقلدة الفقهاء قرأت عليهم آيات كثيرة من كتاب الله تعالى في بعض المسائل فكانت مذاهبهم بخلاف تلك الاَيات، فلم يقبلوا تلك الاَيات ولم يلتفتوا إليها وبقوا ينظرون إلى كالمتعجب، يعني كيف يمكن العمل بظواهر هذه الاَيات مع أن الرواية عن سلفنا وردت إلى خلافها، ولو تأملت حق التأمل وجدت هذا الداء سارياً في عروق الأكثرين من أهلي الدنيا انتهى.(8/493)
هذا حديثٌ غريبٌ لا نَعْرِفُهُ إِلاّ مِن حديثِ عبدِ السّلاَمِ بنِ حَرْبٍ. وَغُطَيْفُ بنُ أَعْيَنَ لَيْس بمَعْرُوفٍ في الحديثِ.
5094- حدثنا زِيَادُ بنُ أَيّوبَ الْبَغْدَاديّ، أخبرنا عَفّانُ بنُ مُسْلِمٍ، أخبرنا هَمّامٌ، أخبرنا ثابتٌ عن أَنَسٍ، أَنّ أبَا بَكْرٍ حَدّثَهُ قال: "قُلْتُ للنّبيّ صلى الله عليه وسلم ونحْنُ في الْغَارِ: لَوْ أَنّ أَحَدَهُمْ يَنْظُرُ إلى قَدَمَيْهِ لأبْصَرَنَا تَحْتَ قَدَمَيْهِ. فقالَ: "يَا أَبا بَكْرٍ مَا ظَنّكَ بِاثْنَيْنِ الله ثَالِثُهُمَا؟" .
ـــــــ
قوله: "هذا حديث حسن غريب" وأخرجه وأحمد ابن جرير وابن سعد وعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ وابن مردويه والبيهقي في سننه.
قوله: "حدثنا همام" هو ابن يحيى الأزدي العوذي "حدثنا ثابت" هو البناني:
قوله: "قلت للنبي صلى الله عليه وسلم ونحن في الغار" وفي رواية للبخاري فرفعت رأسي فإذا أنا بأقدام القوم "لو أن أحدهم ينظر إلى قدميه لأبصرنا" فيه مجيء لو الشرطية للاستقبال خلافاً للأكثر، واستدل من جوزه بمجيء الفعل المضارع بعدها كقوله تعالى: {لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْأَمْرِ لَعَنِتُّمْ} وعلى هذا فيكون قاله حالة وقوفهم على الغار، وعلى قول الأكثر يكون قاله بعد مضيهم شكراً لله تعالى على صيانتهما منهم، ووقع في مغازي عروة بن الزبير في قصة الهجرة قال: وأتى المشركون على الجبل الذي فيه الغار الذي فيه النبي صلى الله عليه وسلم حتى طلعوا فوقه، وسمع أبو بكر أصواتهم فأقبل عليه الهم والخوف، فعند ذلك يقول له النبي صلى الله عليه وسلم: لا تحزن إن الله معنا، ودعا رسول الله صلى الله عليه وسلم فنزلت عليه السكينة، وفي ذلك يقول عز وجل: "إذ يقول لصاحبه لا تحزن إن الله معنا الاَية" وهذا يقوى أنه قال: ما في حديث الباب حينئذ، ولذلك أجابه بقوله: لا تحزن. فقال يا أبا بكر: ما ظنك باثنين الله ثالثهما.
قال الحافظ في رواية موسى: فقال اسكت يا أبا بكر اثنان الله ثالثهما، وقوله(8/494)
هذا حديثٌ حسنٌ صحيحٌ غريبٌ، إِنما يُعرفُ من حديثِ هَمّامٍ. تفرد به وقد رَوَى هذا الحديثَ حَبّانُ بنُ هَلالٍ وغيرُ وَاحِدٍ عن هَمّامٍ نحْوَ هذا.
5095- حدثنا عَبْدُ بنُ حُمَيْدٍ قال: حدثني يَعْقُوبُ بنُ إِبراهِيمَ بنِ سَعْدٍ عن أبِيهِ عن مُحمّدِ بنِ إِسْحَاقَ عن الزّهْرِيّ عن عُبَيْدِ الله بنِ عبدِ الله بنِ عُتَبَةَ عن ابنِ عَبّاسٍ قال: سَمِعْتُ عُمَرَ بنَ الْخَطّابِ يقولُ: "لَمّا تُوُفّيَ عبدُ الله بنُ أُبَيّ دُعِيَ رَسولُ الله صلى الله عليه وسلم لِلصّلاةِ عَلَيْهِ، فَقَامَ إِلَيْهِ، فَلَمّا وَقَفَ عَلَيْهِ يُرِيدُ الصّلاةَ تَحَوّلْتُ حَتّى قُمْتُ في صَدْرِهِ فَقلت: يَا رَسُولَ الله، أَعَلَى عَدُوّ الله عَبْدِ الله بنِ أُبَيّ الْقَائِلِ يَوْمَ كَذَا وَكَذَا كَذَا وَكَذَا - يَعُدّ أَيّامَهُ - قالَ ورَسولُ الله صلى الله عليه وسلم يَتَبَسّمُ،
ـــــــ
اثنان خبر مبتدأ محذوف تقديره نحن اثنان، ومعنى ثالثهما: ناصرهما ومعينهما وإلا فالله ثالث كل اثنين بعلمه انتهى.
وقال النووي: معناه ثالثهما بالنصر والمعونة والحفظ والتسديد، وهو داخل في قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ} وفيه بيان عظيم توكل النبي صلى الله عليه وسلم حتى في هذا المقام، وفيه فضيلة لأبي بكر رضي الله عنه، وهي من أجل مناقبه، والفضيلة من أوجه: منها بذلة نفسه ومفارقته أهله وماله ورياسته في طاعة الله ورسوله وملازمة النبي صلى الله عليه وسلم ومعاداة الناس فيه، ومنها جعله نفسه وقاية عنه وغير ذلك انتهى.
قوله: "هذا حديث حسن صحيح غريب" وأخرجه الشيخان.
قوله: "لما توفي عبد الله بن أبي" بن سلول بفتح المهملة وضم اللام وسكون الواو بعدها لام، هو اسم امرأة وهي والدة عبد الله المذكور وهي خزاعية، وأما هو فمن الخزرج أحد قبيلتي الأنصار، وابن سلول يقرأ بالرفع لأنه صفة عبد الله لا صفة أبيه "أعلى عدو الله" أي أتصلي على عدو الله "القائل يوم كذا وكذا كذا وكذا بعد أيامه" يشير بذلك إلى مثل قوله: {لا تُنْفِقُوا عَلَى مَنْ عِنْدَ رَسُولِ(8/495)
حَتّى إِذَا أَكْثَرْتُ عَلَيْهِ قال: "أَخّرْ عَنّي يَا عُمَرُ، إِنّي قَدْ خَيّرْتُ فَاخْتَرْتُ، قَدْ قِيلَ لِي {اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ} لَوْ أَعْلَمُ أَنّي لَوْ زِدْتُ عَلَى السّبْعِينَ غَفَرَ لَهُ لَزِدْتُ. قال: ثُمّ صَلّى عَلَيْهِ وَمَشَى مَعَهُ، فَقَامَ عَلَى قَبْرِهِ حَتّى فُرِغَ مِنْهُ". قال: فَعَجَبٌ لِي وَجُرْأَتِي عَلَى رَسولِ الله صلى الله عليه وسلم، وَالله وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ، فَوَالله مَا كَانَ إِلاّ يَسِيراً حَتّى نَزَلَتْ هَاتَانِ الآيتان: {وَلا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ
ـــــــ
اللَّهِ حَتَّى يَنْفَضُّوا} إلى مثل قوله {لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ } ورسول الله صلى الله عليه وسلم يتبسم استشكل تبسمه صلى الله عليه وسلم في تلك الحالة مع ما ثبت أن ضحكه صلى الله عليه وسلم كان تبسماً ولم يكن عند شهود الجنائز يستعمل ذلك، وجوابه أنه عبر عن طلاقة وجهه بذلك تأنيساً لعمر وتطييباً لقلبه كالمعتذر عن ترك قبول كلامه ومشورته "قال أخر عني" أي كلامك "قد خيرت" أي بين الاستغفار وعدمه {اسْتَغْفِرْ} يا محمد لهم {أَوْ لا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ} تخيير له في الاستغفار وتركه {إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ} قيل المراد بالسبعين المبالغة في كثرة الاستغفار، وقيل المراد العدد المخصوص لقوله صلى الله عليه وسلم: وسأزيده على السبعين، فبين له حسم المغفرة بآية: {سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ} كما في رواية البخاري "فعجب لي وجرأتي" بضم الجيم وسكون الراء بعدها همزة، أي إقدامي عليه.
وفي رواية البخاري: فعجبت بعد من جرأتي على رسول الله صلى الله عليه وسلم.
تنبيه: قوله صلى الله عليه وسلم "قد خيرت فاخترت" يدل على أنه صلى الله عليه وسلم فهم من الآية التخيير. واستشكل فهم التخيير منها حتى أقدم جماعة من الأكابر على الطعن في صحة هذا الحديث مع كثرة طرقه واتفاق الشيخين وسائر الذين خرجوا الصحيح على تصحيحه، وذلك ينادي على منكري صحته بعدم معرفة الحديث وقلة الاطلاع على طرقه.(8/496)
مِنْهُمْ مَاتَ أَبَداً وَلا تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ} إلى آخِرِ الآية. قال: فما صَلّى رسولُ
ـــــــ
قال الحافظ: والسبب في إنكارهم صحته ما تقرر عندهم مما قدمناه وهو الذي فهمه عمر رضي الله عنه من حمل أو على التسوية لما يقتضيه ساق القصة وحمل السبعين على المبالغة.
قال ابن المنير: ليس عند البيان تردد أن التخصيص بالعدد في هذا السياق غير مراد.
قال وقد أجاب بعض المتأخرين عن ذلك بأنه إنما قال سأزيد على السبعين استماله لقلوب عشيرته لأنه أراد إن زاد على السبعين يغفر له، ويؤيده تردده في ثاني حديثي الباب حيث قال: لو اعلم أني إن زدت على السبعين يغفر له لزدت، لكن قدمنا أن الرواية ثبتت بقوله سأزيد ووعده صادق ولا سيما وقد ثبت قوله.
وأجاب بعضهم: باحتمال أن يكون فعل ذلك استصحاباً للحال لأن جواز المغفرة بالزيادة كان ثابتاً قبل مجيء الآية فجاز أن يكون باقياً على أصله في الجواز. وهذا جواب حسن. وحاصله أن العمل بالبقاء على حكم الأصل مع فهم المبالغة لا يتنافيان، فكأنه جوز أن المغفرة تحصل بالزيادة على السبعين لا أنه جازم بذلك ولا يخفي ما فيه. قال ووقع في أصل هذه القصة إشكال آخر، وذلك أنه صلى الله عليه وسلم أطلق أنه خير بين الاستغفار لهم وعدمه بقوله تعالى: {اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ} وأخذ بمفهوم العدد من السبعين، فقال: سأزيد عليها مع أنه قد سبق قبل ذلك بمدة طويلة نزول قوله تعالى: {مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُولِي قُرْبَى} فإن هذه الآية نزلت في قصة أبي طالب حين قال صلى الله عليه وسلم: لأستغفرن لك ما لم أنه عنك، فنزلت وكانت وفاة أبي طالب بمكة قبل الهجرة اتفاقاً، وقصة عبد الله بن أبي هذه في السنة التاسعة من الهجرة فكيف يجوز مع ذلك الاستغفار للمنافقين مع الحزم بكفرهم في نفس الآية. وقد وقفت على جواب لبعضهم عن هذا حاصله: أن المنهي عنه استغفار ترجى إجابته حتى يكون مقصده تحصيل المغفرة لهم كما في قصة أبي طالب، بخلاف الاستغفار لمثل عبد الله بن أبي فإنه استغفار لقصد تطييب قلوب من بقي منهم، وهذا الجواب ليس بمرضى عندي ونحوه قول الزمخشري، فإنه قال:(8/497)
الله صلى الله عليه وسلم بَعْدَهُ عَلَى مُنَافِقٍ وَلاَ قَامَ عَلَى قَبْرِهِ حَتّى قَبَضَهُ الله".
ـــــــ
فإن قلت: كيف خفي على أفصح الخلق وأخيرهم بأساليب الكلام وتمثيلاته أن المراد بهذا العدد أن الاستغفار ولو كثر لا يجدي، ولا سيما وقد تلاه قوله: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ} الآية فبين الصارف عن المغفرة لهم.
قلت: لم يخف عليه ذلك، ولكنه فعل ما فعل وقال ما قال إظهاراً لغاية رحمته ورأفته على من بعث إليه، وهو كقول إبراهيم عليه السلام: {وَمَنْ عَصَانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} وفي إظهار النبي صلى الله عليه وسلم الرأفة المذكورة، لطف بأمته، وباعث على رحمة بعضهم بعضاً انتهى.
ومنهم من قال: إن النهي عن الاستغفار لمن مات مشركاً لا يستلزم النهي لمن مات مظهراً للإسلام لاحتمال أن يكون معتقده صحيحاً، وهذا جواب جيد. وقد قدمت البحث في هذه الآية في كتاب الجنائز، والترجيح أن نزولها كان متراخياً عن قصة أبي طالب جيداً، وأن الذي نزل في قصته: {إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ} وحررت دليل ذلك هنا، إلا أن في بقية هذه الآية من التصريح بأنهم كفروا بالله ورسوله ما يدل على أن نزول ذلك وقع متراخياً عن القصة، ولعل الذي نزل أولاً وتمسك النبي صلى الله عليه وسلم به قوله تعالى: {اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ} إلى هنا خاصة، ولذلك اختصر في جواب عمر على التخيير وعلى ذكر السبعين، فلما وقعت القصة المذكورة كشف الله عنهم الغطاء وفضحهم على رؤوس الملأ ونادى عليهم بأنهم كفروا بالله ورسوله، وإذا تأمل المتأمل المنصف وجد الحامل على من رد الحديث أو تعسف في التأويل ظنه بأن قوله: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ} نزل مع قوله: {اسْتَغْفِرْ لَهُمْ} أي نزلت الآية كاملة، لأنه لو فرض نزولها كاملة لاقترن بالنهي العلة، وهي صريحة في أن قليل الاستغفار وكثيره لا يجدي، وإلا فإذا فرض ما حررته أن هذا القدر نزل متراخياً عن صدر الآية لارتفع الاشكال، وإذا كان الأمر كذلك فحجة المتمسك من القصة بمفهوم العدد صحيح وكون ذلك وقع للنبي صلى الله عليه وسلم متمسكاً بالظاهر على ما هو المشروع في الأحكام إلى أن يقوم الدليل الصارف عن ذلك لا إشكال فيه انتهى.(8/498)
هذا حديثٌ حسنٌ صحيحٌ غريبٌ.
5096- حدثنا محمد بن بشار، أخبرنا يَحْيَى بنُ سَعِيدٍ، حدثنا عُبَيْدُ الله أخبرنا نَافِعٌ عن ابنِ عُمَرَ قال: "جاءَ عبدُ الله بنُ عبدِ الله بنِ أُبَيّ إلى رسولِ الله صلى الله عليه وسلم حِينَ مَاتَ أَبُوهُ فقال: أَعْطِنِي قَمِيصَكَ فيه أُكَفّنْهُ وَصَلّ عَلَيْهِ وَاسْتَغْفِرْ لَهُ، فَأَعْطَاهُ قَمِيصَهُ وقال: "إِذَا فَرَغْتُمْ فآذِنُوني" ، فلَمّا
ـــــــ
قوله: "هذا حديث حسن غريب صحيح" وأخرجه البخاري والنسائي.
قوله: "جاء عبد الله بن عبد الله بن أبي" كان عبد الله بن عبد الله بن أبي هذا من فضلاء الصحابة وشهد بدراً وما بعدها واستشهد في خلافة أبي بكر الصديق، ومن مناقبه أنه بلغه بعض مقالات أبيه فجاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم يستأذنه في قتله، قال بل أحسن صحبته، أخرجه بن مندة من حديث أبي هريرة بإسناد حسن، وكأنه كان يحمل أمر أبيه على ظاهر الإسلام فلذلك التمس من النبي صلى الله عليه وسلم أن يحضر عنده ويصلي عليه، ولا سيما وقد ورد ما يدل على أنه فعل ذلك بعهد من أبيه، ويؤيد ذلك ما أخرجه عبد الرزاق عن معمر والطبري من طريق سعيد كلاهما عن قتادة، قال: أرسل عبد الله بن أبي إلى النبي صلى الله عليه وسلم فلما دخل عليه قال أهلكك حب يهود فقال يا رسول الله إنما أرسلت إليك لي ولم أرسل إليك لتوبخني، ثم سأله أن يعطيه قميصة يكفن فيه، وهذا مرسل مع ثقة رجاله. ويعضده ما أخرجه الطبراني من طريق الحكم بن أبان عن عكرمة عن ابن عباس قال: لما مرض عبد الله بن أبي جاءه النبي صلى الله عليه وسلم فكلمه، فقال: قد فهمت ما تقول، فامنن عليّ فكفني في قميصك وصل عليّ ففعل، وكان عبد الله ابن أبي أراد بذلك دفع العار عن ولده وعشيرته بعد موته، فأظهر الرغبة في صلاة النبي صلى الله عليه وسلم، ووقعت إجابته إلى سؤاله بحسب ما ظهر من حاله، إلى أن كشف الله الغطاء عن ذلك، وهذا من أحسن الأجوبة فيا يتعلق بهذه القصة كذا في الفتح "فقال أعطني قميصك أكفنه" إلى قوله: "فأعطاه قميصه" هذا(8/499)
أَرَادَ أَنْ يُصَلّيَ جَذَبَهُ عُمَرُ وقال: أَلَيْسَ قَدْ نَهَى الله أَنْ تُصَلّي عَلَى المُنَافِقِينَ؟
ـــــــ
مخالف لحديث جابر عند البخاري. قال: أتى النبي صلى الله عليه وسلم عبد الله بن أبي بعد ما دفن، فأخرجه فنفث فيه من ريقه وألبسه قميصه.
قال الحافظ: قد جمع بينهما بأن معنى قوله في حديث ابن عمر فأعطاه، أي أنعم له بذلك، فأطلق على العدة اسم العطية مجازاً لتحقق وقوعها. وكذا قوله في حديث جابر بعد ما دفن عبد الله بن أبي، أي دلى في حفرته. وكان أهل عبد الله ابن أبي خشوا على النبي صلى الله عليه وسلم المشقة في حضوره، فبادروا إلى تجهيزه قبل وصول النبي صلى الله عليه وسلم، فلما وصل وجدهم قد دلوه في حفرته، فأمر بإخراجه إنجازاً لوعده في تكفينه في القميص والصلاة عليه. ووجه إعطاء النبي صلى الله عليه وسلم قميصه لعبد الله بن أبي، مبين في حديث جابر.
قال: لما كان يوم بدر أتى بأساري وأتى بالعباس ولم يكن عليه ثوب، فنظر النبي صلى الله عليه وسلم له قميصاً فوجدوا قميص عبد الله بن أبي يقدر عليه. فكساه النبي صلى الله عليه وسلم إياه، فلذلك نزع النبي صلى الله عليه وسلم قميصه الذي ألبسه.
قال ابن عيينة: كانت له عند النبي صلى الله عليه وسلم يد فأحب أن يكافئه، رواه البخاري "فآذنوني" من الإيذان أي أعلموني "أليس قد نهى الله أن تصلي على المنافقين" وفي رواية البخاري: فقال يا رسول الله تصلي عليه وقد نهاك ربك أن تصلي عليه.
قال الحافظ كذا في هذه الرواية: إطلاق النهي عن الصلاة. وقد استشكل جداً حتى أقدم بعضهم فقال: هذا وهم من بعض رواته، وعاكسه غيره فزعم أن عمر اطلع على نهي خاص في ذلك.
وقال القرطبي: لعل ذلك وقع في خاطر عمر، فيكون من قبيل الإلهام. ويحتمل أن يكون فهم ذلك من قوله "ما كان للنبي والذين آمنوا أن يستغفروا للمشركين".
قال الثاني: يعني ما قاله القرطبي أقرب من الأول، لأنه لم يتقدم النهي عن الصلاة على المنافقين بدليل أنه قال في آخر هذا الحديث: قال فأنزل الله: {وَلا تُصَلِّ عَلَى(8/500)
ـــــــ
أَحَدٍ مِنْهُمْ} والذي يظهر أن في رواية الباب تجوزاً بينته الرواية التي في الباب بعده من وجه آخر، عن عبيد الله بن عمر بلفظ: فقال تصلي عليه وقد نهاك الله أن تستغفر لهم.
وروى عبد بن حميد والطبري من طريق الشعبي عن ابن عمر عن عمر قال: أراد رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يصلي على عبد الله بن أبي، فأخذت بثوبه فقلت: والله ما أمرك الله بهذا، لقد قال: {إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ} ووقع عند ابن مردويه من طريق سعيد بن جبير عن ابن عباس فقال عمر: أتصلي عليه وقد نهاك الله أن تصلي عليه؟ قال أين قال: وقال: استغفر الآية. وهذا مثل رواية الباب، فكأن عمر قد فهم من الآية المذكورة ما هو الأكثر الأغلب من لسان العرب، من أن أو ليست للتخيير بل للتسوية في علم الوصف المذكور، أي أن الاستغفار لهم وعدم الاستغفار سواء، وهو كقوله تعالى: {سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ} لكن الثانية أصرح. ولهذا ورد أنها نزلت بعد هذا القصة. وفهم عمر أيضاً من قوله سبعين مرة أنها للمبالغة، وأن العدد المعين لا مفهوم له، بل المراد نفي المغفرة لهم ولو كثر الاستغفار. فيحصل من من ذلك النهي عن الاستغفار فأطلقه. وفهم أيضاً أن المقصود الأعظم من الصلاة على الميت طلب المغفرة للميت والشفاعة له، فلذلك استلزم عند النهي عن الاستغفار ترك الصلاة، فلذلك جاء عنه في هذه الرواية إطلاق النهي عن الصلاة، ولهذه الأمور استنكر إرادة الصلاة على عبد الله بن أبي.
هذا تقرير ما صدر عن عمر مع ما عرف من شدة صلابته في الدين، وكثرة بغضه للكفار والمنافقين، وهوا لقائل في حق حاطب بن أبي بلتعة مع ما كان له من الفضل كشهوده بدراً وغير ذلك، لكونه كاتب قريش قبل الفتح. دعني يا رسول الله أضرب عنقه فقد نافق، فلذلك أقدم على كلامه للنبي صلى الله عليه وسلم بما قال، ولم يلتفت إلى احتمال إجراء الكلام على ظاهره لما غلب عليه من الصلابة المذكورة.
قال الزين بن المنير: وإنما قال ذلك عمر حرصاً على النبي صلى الله عليه وسلم ومشورة لا إلزاماً، وله عوائد بذلك.
تنبيه: قال الخطابي: إنما فعل النبي صلى الله عليه وسلم مع عبد الله بن أبي(8/501)
فقال. أَنَا بَيْنَ خِيرَتَيْنِ {اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ} " فَصَلّى عَلَيْهِ، فَأَنْزَلَ الله: {وَلا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَداً وَلا تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ} ، فَتَرَكَ الصّلاَةَ عَلَيْهِمْ.
هذا حديثٌ حسنٌ صحيحٌ.
5097- حدثنا قُتَيْبَةُ، أخبرنا اللّيْثُ، عن عِمْرَانَ بنِ أبي أَنَسٍ، عن عبدِ الرّحمَنِ بنِ أبي سَعِيدٍ عن أبي سَعِيدٍ الْخُدْرِيّ أَنّهُ قال: "تَمَارَى رَجُلاَنِ في المَسْجِدِ الّذِي أُسّسَ عَلَى التّقْوَى مِنْ أَوّلِ يَوْمٍ، فقالَ رَجُلٌ:
ـــــــ
ما فعل، لكمال شفقته على من تعلق بطرف من الدين. ولتطييب قلب ولده عبد الله الرجل الصالح، ولتألف قومه من الخزرج لرياسته فيهم، فلو لم يجب سؤال ابنه وترك الصلاة عليه قبل ورود النهي الصريح، لكان سبة على ابنه وعاراً على قومه، واستعمل أحسن الأمرين في السياسة إلى أن نهى فانتهى.
وقد أخرج الطيري من طريق سعيد عن قتادة في هذه القصة قال: فأنزل الله تعالى: {وَلا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَداً وَلا تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ} قال فذكر لنا أن نبي الله صلى الله عليه وسلم قال: وما يغني عنه قميصى من الله، وإني لأرجو أن يسلم بذلك ألف من قومه "أنا بين خيرتين" تثنية خيرة كعنبة، أي أنا مخير بين الاستغفار وتركه فأنزل الله {وَلا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَداً وَلا تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ} لدفن أو زيارة، أي لا تقف عليه ولا نتول دفنه من قولهم: قام فلان بأمر فلان إذا كفاه أمره وناب عنه فيه، وتمام الآية: { إِنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَمَاتُوا وَهُمْ فَاسِقُونَ} وهذا تعليل لسبب المنع من الصلاة عليه والقيام على قبره.
قوله: "هذا حديث حسن صحيح" وأخرجه الشيخان والنسائي وابن ماجه.
قوله: "عن عمران بن أبي أنس" القرشى العامري المدني، نزل الإسكندرية ثقة من الخامسة "عن أبي سعيد الخدري أنه قال: ثماري رجلان في المسجد الذي(8/502)
هُوَ مَسْجِدُ قُبَاءٍ، وقال الآخر: هُوَ مَسْجِدُ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم، فقال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: "هُوَ مَسْجِدِي هَذَا" .
هذا حديثٌ حسنٌ صحيحٌ. وقد رُوِيَ هذا عن أبي سَعِيدٍ من غيرِ هذا الوَجْهِ، ورَوَاهُ أُنَيْسُ بنُ أبي يَحْيَى عن أبِيهِ عن أبي سَعِيدٍ.
5098- حدثنا محمد بن العلاء أبو كُرَيْبٍ أخبرنا مُعَاوِيَة بنُ هِشَامٍ، أخبرنا يُونُسُ بنُ الْحَارِثِ، عن إبراهِيمَ بنِ أبي مَيْمُونَةَ، عن أبي صالحٍ، عن أبي هُرَيْرَةَ عن النّبيّ صلى الله عليه وسلم قال: "نَزَلَتْ هَذِهِ الآية في أهْلِ قُبَاء: {فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ} . قال: كَانُوا يَسْتَنْجُونَ بِالْمَاءَ فَنَزَلَتْ هَذِهِ الآية فِيهِمْ".
هذا حديثٌ غريبٌ من هذا الْوَجْهِ.
ـــــــ
أسس" على التقوى إلخ تقدم هذا الحديث مع شرحه في باب المسجد الذي أسس على التقوى من أبواب الصلاة.
قوله: "أخبرنا يونس بن الحارث" الثقفي الطائفي، نزيل الكوفة، ضعيف من السادسة "عن إبراهيم بن أبي ميمونة" الحجازي ذكره بن حبان في الثقات. وقال ابن القطان الفاسي مجهول الحال.
قوله: "نزلت هذه الآية" والمسار إليها فيما بعد، وهو قوله تعالى: {فِيهِ رِجَالٌ} الآية "في أهل قباء" أي في ساكنيه، وقباء بضم القاف وخفة الموحدة والممدودة مصروفة، وفيه لغة بالقصر وعدم الصرف، موضع بميلين أو ثلاثة من المدينة. قال ابن الأثير: هو بمد وصرف على الصحيح {يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا} أي يحبون الطهارة بالماء في غسل الأدبار "قال" أي أبو هريرة "كانوا" أي أهل قباء.
قوله: "هذا حديث غريب" وأخرجه أبو داود وابن ماجه.(8/503)
وفي البابِ عن أبي أَيّوبَ وَأَنَسِ بنِ مَالِكٍ وَمُحمّدِ بنِ عبدِ الله بنِ سَلاَمٍ.
ـــــــ
قال الحافظ في التلخيص: سنده ضعيف.
قوله: "وفي الباب عن أبي أيوب وأنس بن مالك ومحمد بن عبد الله بن سلام" أما حديث أبي أيوب وأنس بن مالك: فأخرجه ابن ماجه والحاكم من طريق أبي سفيان طلحة بن نافع، قال أخبرني أبو أيوب وجابر بن عبد الله وأنس بن مالك وإسناده ضعيف قاله الحافظ.
وأما حديث محمد بن عبد الله بن سلام، فأخرجه أحمد عنه قال: لقد قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم، يعني قباء فقال: إن الله عز وجل قد أثنى عليكم في الطهور خيراً أفلا تخبروني يعني قوله: {فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا} فقالوا يا رسول الله: إنا نجده مكتوباً علينا في التوراة الاستنجاء بالماء. وأخرجه أيضاً ابن أبي شيبة وابن قانع، وفي سنده شهر بن حوشب. وحكى أبو نعيم في معرفة الصحابة: الخلاف فيه على شهر بن حوشب.
تنبيه: روى البزار في مسنده قال: حدثنا عبد الله بن شبيب حدثنا أحمد ابن محمد بن عبد العزيز: وجدت في كتاب أبي عن الزهري عن عبيد الله بن عبد الله عن ابن عباس قال: نزلت هذه الآية في أهل قباء: {رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ} فسألهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا: إنا نتبع الحجارة الماء.
قال البزار: لا نعلم أحداً رواه عن الزهري إلا محمد بن عبد العزيز، ولا عنه إلا ابنه انتهى. ومحمد بن عبد العزيز ضعفه أبو حاتم فقال: ليس له ولا لأخويه، عمران وعبد الله حديث مستقيم. وعبد الله بن شبيب ضعيف أيضاً.
وقد روى الحاكم من حديث مجاهد عن ابن عباس أصل هذا الحديث وليس فيه إلا ذكر الاستنجاء بالماء فحسب. ولهذا قال النووي في شرح المهذب. المعروف في طرق الحديث أنهم كانوا يستنجون بالماء وليس فيها أنهم كانوا يجمعون بين الماء والأحجار، وتبعه ابن الرفعة فقال: لا يوجد هذا في كتب الحديث، وكذا قال المحب الطبري نحوه، ورواية البزار واردة عليهم وإن كانت ضعيفة، كذا في التلخيص.(8/504)
5099- حدثنا مَحْمُودُ بنُ غَيْلاَنَ، أخبرنا وَكِيعٌ، أخبرنا سُفْيَانُ عن أبي إسْحَاقَ، عن أبي الْخَلِيلِ كوفيّ، عن عَلِيّ قال: "سَمِعْتُ رَجُلاً يَسْتَغْفِرُ لأبَوَيْهِ وَهُمَا مُشْرِكَانِ، فَقُلْتُ لَهُ: أَتَسْتَغْفِرُ لأبَوَيْكَ وَهُمَا مُشِركَانِ؟ فقال: أَوَلَيْسَ اسْتَغْفَرَ إبراهِيمُ لأبِيهِ وَهُوَ مُشْرِكٌ، فَذَكَرْتُ ذَلِكَ لِلنّبيّ صلى الله عليه وسلم، فَنَزَلَتْ: {مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ} . هذا حديثٌ حسنٌ.
وفي البابِ عن سَعِيدِ بنِ المُسَيّبِ عن أبِيهِ.
ـــــــ
قوله: "عن أبي إسحاق" هو السبيعي "عن أبي الخليل" اسمه عبد الله بن الخليل أو ابن أبي الخليل الحضرمي أبو الخليل الكوفي، مقبول من الثانية. وفرق البخاري وابن حبان بين الراوي عن علي فقال فيه ابن أبي الخليل، والراوي عن زيد بن أرقم فقال: فيه ابن الخليل.
قوله: "وهما مشركان" جملة حالية "أو ليس استغفر إبراهيم لأبيه" أي أتقول هذا وليس استغفر الخ {مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ} أي لا يصح ولا يجوز لهم أن يستغفروا للمشركين، وتمام الآية مع تفسيرها هكذا ولو كانوا: أي المشركون، أولي القربى: أي ذوي قرابة، من بعد ما تبين لهم أنهم أصحاب الجحيم: أي النار، بأن ماتوا على الكفر. وما كان استغفار إبراهيم لأبيه إلا عن موعدة وعدها إياه: بقوله سأستغفرك لك ربي، رجاء أن يسلم فلما تبين له أنه عدو لله بموته على الكفر، تبرأ منه: وترك الاستغفار له، إن إبراهيم لأواه: كثير التضرع والدعاء. حليم: صبور على الأذى.
قوله: "هذا حديث حسن" وأخرجه أحمد والنسائي.
قوله: "وفي الباب عن سعيد بن المسيب عن أبيه" أخرجه أحمد والشيخان عنه: أنه لما حضرت أبا طالب الوفاة جاءه رسول الله صلى الله عليه وسلم فوجد عنده أبا جهل بن هشام وعبد الله بن أبي أمية بن المغيرة، فقال رسول الله صلى(8/505)
5100- حدثنا عَبْدُ بنُ حُمَيْدٍ، أخبرنا عَبْدُ الرّزّاقِ، أخبرنا مَعْمَرٌ عن الزّهْرِيّ عن عَبْدِ الرّحْمنِ بنِ كَعْبٍ بنِ مَالِكٍ عن أبِيهِ قال: "لَمْ أَتَخَلّفْ عن النّبيّ صلى الله عليه وسلم في غَزْوَةٍ غَزَاهَا حَتّى كَانَتْ غَزْوَةُ تَبُوكٍ إِلاّ بَدْراً، وَلَمْ يُعَاتِبْ النّبيّ صلى الله عليه وسلم أَحَداً تَخَلّفَ عَنْ بَدْرٍ، إِنّمَا خَرَجَ يُرِيدُ الْعِيرَ، فَخَرَجَتْ قُرَيْشٌ مُغِيثِينَ لِعِيرِهِمْ، فالْتَقَوْا عَنْ غَيْرِ
ـــــــ
الله عليه وسلم لأبي طالب، أي عم: قل لا إله إلا الله أحاج لك بها عند الله، فقال أبو جهل وعبد الله بن أبي أمية يا أبا طالب: أترغب عن ملة عبد المطلب، فقال النبي صلى الله عليه وسلم لأستغفرن لك ما لم أنه عنك، فنزلت {مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُولِي قُرْبَى مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ} .
قال صاحب فتح البيان: وقد روى في سبب نزول الآية استغفار النبي صلى الله عليه وسلم لأبي طالب من طرق كثيرة وأصله في الصحيحن، وما فيهما مقدم على ما لم يكن فيهما على فرض أنه صحيح، فكيف وهو ضعيف غالبه، ولا ينافي هذا ما ثبت عنه صلى الله عليه وسلم في الصحيح أنه قال يوم أحد حين كسر المشركون رباعيته وشحواً وجهه: اللهم اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون، لأنه يمكن أن يكون ذلك قبل أن يبلغه تحريم الاستغفار لهم، وعلى فرض أنه قد كان بلغه كما يفيده سبب النزول، فإنه قبل أحد بمدة طويلة. فصدور هذا الاستغفار منه إنما كان على سبيل الحكاية عمن تقدمه من الأنبياء كما في صحيح مسلم عن عبد الله قال: كأني أنظر إلى النبي صلى الله عليه وسلم وآله وسمل يحكى نبياً من الأنبياء ضربه قومه ويمسح الدم عن وجهه ويقول: "رب إغفر لقومي فإنهم لا يعلمون" انتهى.
قوله: "عن عبد الرحمن بن كعب بن مالك" الأنصاري كنيته أبو الخطاب المدني، ثقة من كبار التابعين، ويقال ولد في عهد النبي صلى الله عليه وسلم.
قوله: "حتى كانت غزوة تبوك" مكان معروف هو نصف طريق المدينة إلى دمشق، ويقال بين المدينة وبينها أربع عشرة مرحلة، والمشهور فيها عدم الصرف للتأنيث والعلمية، ومن صرفها أراد الموضع، وكانت هذه الغزوة في شهر(8/506)
مَوْعِدٍ كَمَا قَالَ الله عز وجل، وَلَعَمْرِي إِنّ أَشْرَفَ مَشَاهِدِ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم في النّاسِ لَبَدْر، وَمَا أُحِبّ أَنّي كُنْتُ شَهِدْتُهَا مَكَانَ بَيْعَتِي لَيْلَةَ الْعَقَبَةِ حَيْثُ تَوَاثَقْنَا عَلى الاْسْلاَمِ، ثُمّ لَمْ أَتَخَلّفْ بَعْدُ عَنْ النّبيّ صلى الله عليه وسلم حَتّى كانَتْ غَزْوَةُ تَبُوكٍ وَهِيَ آخِرُ غَزْوَةٍ غَزَاهَا، وَآذَنَ النّبيّ صلى الله عليه وسلم النّاسَ بِالرّحِيلِ، فَذَكَرَ الحديثَ بِطُولِهِ. قال: فانْطلَقْتُ إلى النّبيّ صلى الله عليه وسلم فَإِذَا هُوَ جَالِسٌ في المَسْجِدِ وَحَوْلَهُ
ـــــــ
رجب من سنة تسع قبل حجة الوداع بلا خلاف "مغيثين لغيرهم" أي معينين لغيرهم من الإغاثة بمعنى الإعانة. وفي بعض النسخ مغوثين.
قال في النهاية: جاء به على الأصل ولم يعله، كاستحوذ واستنوق، ولو روى مغوثين بالتشديد من غوث بمعنى أغاث لكان وجهاً، والغير بكسر العين: الإبل بأجمالها، وقيل هي قافلة الحمير، فكثرت حتى سميت بها كل قافلة "كما قال الله تعالى" يعني قوله تعالى: {إِذْ أَنْتُمْ بِالْعُدْوَةِ الدُّنْيَا وَهُمْ بِالْعُدْوَةِ الْقُصْوَى وَالرَّكْبُ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَلَوْ تَوَاعَدْتُمْ لَاخْتَلَفْتُمْ فِي الْمِيعَادِ وَلَكِنْ لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْراً كَانَ مَفْعُولاً} "وما أحب أني كنت شهدتها مكان بيعتي ليلة العقبة" أي بدل بيعتي ليلة العقبة لأن هذه البيعة كانت أول الإسلام ومنشأة، وليلة العقبة ليلة بايع صلى الله عليه وسلم فيها الأنصار على الإسلام والنصر، وذلك أنه صلى الله عليه وسلم كان يعرض نفسه على القبائل في كل موسم ليؤمنوا به ويؤووه، فلقي رهطاً من الخزرج فأجابوه فجاء في العام المقبل اثنا عشر إلى الموسم فبايعوه عند العقبة، وهي بيعة العقبة الأولى، فخرج في العام الآخر سبعون إلى الحج فاجتمعوا عند العقبة وأخرجوا من كل فرقة نقيباً فبايعوه وهي البيعة الثانية "حيث تواثقنا على الإسلام" بمثلثة وقاف أي أخذ بعضنا على بعض الميثاق لما تبايعنا على الإسلام والجهاد. والميثاق العهد وأصله: قيد أو حبل يشد به الأسير أو الدابة "بعد" بضم الدال، أي بعد غزوة بدر "غزاها" الضمير المرفوع للنبي صلى الله عليه وسلم "وآذن" من الإيذان: أي أعلم، فذكر الحديث بطوله.(8/507)
المُسْلِمُونَ وَهُوَ يَسْتَنِيرُ كَاسْتِنَارَةِ الْقَمَرِ، وَكَانَ إِذَا سُرّ بِالأمرِ اسْتَنَارَ، فَجِئْتُ فَجَلَسْتُ بَيْنَ يَدَيْهِ، فقال: "أَبْشِرْ يَا كَعْبُ بنُ مَالِكٍ بِخَيْرِ يَوْمٍ أَتَى عَلَيْكَ مُنْذُ وَلَدَتْكَ أُمّكَ" . فَقلت: يَا نَبيّ الله، أَمِنْ عِنْدِ الله أَمْ مِنْ عِنْدِكَ؟ فقال: "بَلْ مِنْ عِنْدِ الله، تم تَلاَ هَؤلاءِ الاَيَاتِ: {لَقَدْ تَابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي سَاعَةِ الْعُسْرَةِ مِنْ بَعْدِ
ـــــــ
روى البخاري هذا الحديث بطوله في باب غزوة تبوك "أبشر يا كعب بن مالك بخير يوم أتى عليك منذ ولدتك أمك" استشكل هذا الإطلاق بيوم إسلامه، فإنه مر عليه بعد أن ولدته أمه وهو خير أيامه، فقيل هو مستثنى تقديراً وإن لم ينطق به لعدم خفائه، والأحسن في الجواب أن يوم توبته مكمل ليوم إسلامه، فيوم إسلامه بداية سعادته ويوم توبته مكمل لها فهو خير جميع أيامه، وإن كان يوم إسلامه خيرها، فيوم توبته المضاف إلى إسلامه خير من يوم إسلامه المجرد عنها {لَقَدْ تَابَ اللَّهُ} : أي أدام توبته {عَلَى النَّبِيِّ} فيما وقع منه صلى الله عليه وسلم من الإذن في التخلف أو فيما وقع منه من الاستغفار للمشركين. وليس من لازم التوبة أن يسبق الذنب ممن وقعت منه أوله، لأن كل العبادة محتاج إلى التوبة والاستغفار، وقد تكون التوبة منه على النبي من باب أنه ترك ما هو الأولى والأليق كما في قوله: {عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ} ، ويجوز أن يكون ذكر النبي صلى الله عليه وسلم لأجل التعريض للمذنبين بأن يتجنبوا الذنوب ويتوبوا عما قد لابسوه منها. قال أهل المعاني هو مفتاح كلام للتبرك وفيه تشريف لهم في ضم توبتهم إلى توبة النبي صلى الله عليه وسلم كما ضم اسم الرسول إلى اسم الله في قوله: {فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ} فهو تشريف له "و" كذلك تاب الله سبحانه على "المهاجرين والأنصار" فيما قد اقترفوه من الذنوب ومن هذا القبيل ماصح عنه صلى الله عليه وسلم من قوله: إن الله اطلع على أهل بدر فقال أعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم.
والإنسان لا يخلو من زلات وتبعات في مدة عمره، إما من باب الصغائر وإما من باب ترك الأفضل، ثم وصف سبحانه المهاجرين والأنصار بأنهم {الَّذِينَ(8/508)
مَا كَادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِنْهُمْ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ إِنَّهُ بِهِمْ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ}
ـــــــ
اتَّبَعُوهُ} أي النبي صلى الله عليه وسلم فلم يتخلفوا عنه "في ساعة العسرة" هي غزوة تبوك، فإنهم كانوا فيها في عسرة شديدة وتسمى غزوة العسرة، والجيش الذي سار يسمى جيش العسرة، لأنه كان عليهم عسرة في الزاد والظهر والماء.
وأخرج ابن حبان والحاكم وصححه والبيهقي وغيرهم عن ابن عباس: أنه قال لعمر بن الخطاب: حدثنا من شأن ساعة العسرة، فقال: خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى تبوك في قيظ شديد، فنزلنا منزلاً فأصابنا فيه عطش حتى ظننا أن رقابنا ستنقطع، حتى إن الرجل لينحر بغيره فيعصر فرثه فيشربه ويجعل ما بقي على كيده، فقال أبو بكر الصديق: يا رسول الله، إن الله قد عودك في الدعاء خيراً فادع لنا، فرفع يديه فلم يرجعهما حتى قالت السماء فأهطلت ثم سكبت، فملأ وأما معهم، ثم ذهبنا ننظر فلم نجدها جاوزت العسكر {مِنْ بَعْدِ مَا كَادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِنْهُمْ} في كاد ضمير الشأن بيان لتناهي الشدة وبلوغها النهاية ومعنى يزيغ يتلف بالجهد والمشقة والشدة، وقيل معناه: يميل عن الحق ويترك المناصرة والممانعة، وقيل معناه يهم بالتخلف عن الغزو لما هم فيه من الشدة العظيمة. وفي قراءة ابن مسعود من بعد ما زاغت: وهم المتخلفون على هذه القراءة، وفي تكرير التوبة عليهم بقوله: {ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ} تأكيد ظاهر واعتناء بشأنها، هذا إن كان الضمير راجعاً إلى من تقدم ذكر التوبة عنهم، وإن كان الضمير إلى الفريق الثاني، فلا تكرار، وذكر التوبة إو لا قبل ذكر الذنب تفضلاً منه وتطبيباً لقلوبهم، ثم ذكر الذنب بعد ذلك وأردفه بذكر التوبة مرة أخرى تعظيماً لشأنهم، وليعلموا أنه تعالى قد قبل توبتهم وعفا عنهم، ثم أتبعه بقوله: {إِنَّهُ بِهِمْ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ} تأكيداً لذلك، أي رفيق بعباده، لأنه لم يحملهم ما لا يطيقون من العبادات، وبين الرؤف والرحيم فرق لطيف، وإن تقاربا في المعنى.
قال الخطابي: قد تكون الرحمة مع الكراهة ولا تكاد الرأفة تكون معها، وقيل: الرأفة عبارة عن السعي في إزالة الضرر، والحرمة عبارة عن السعي في إيصال النفع. هذه الآية هي الأولى من الاَيات التي تلاها رسول الله صلى الله(8/509)
قال: وَفِينَا أُنْزِلَتْ أَيْضاً: {اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ} . قال قلت: يَا نَبيّ الله، إنّ مِنْ تَوْبَتِي أَنْ لاَ أُحَدّثَ إِلاّ صِدْقاً، وَأَنْ أَنْخَلِعَ مِنْ مَالِي كُلّهِ صَدَقَةً إلى الله وَإِلَى رَسُولِهِ. فقال النّبيّ صلى الله عليه وسلم:
ـــــــ
عليه وسلم، والاَية الثانية مع تفسيرها هكذا، وعلى الثلاثة الذين خلفوا: أي أخروا ولم تقبل توبتهم في الحال كما قبلت توبة أولئك المتخلفين المتقدم ذكرهم، وهؤلاء الثلاثة هم: كعب بن مالك، ومرارة بن الربيع أو ابن ربيعة العامري، وهلال بن أمية الواقفي، وكلهم من الأنصار، لم يقبل النبي صلى الله عليه وسلم وآله وسلم توبتهم حتى نزل القرآن بأن الله قد تاب عليهم، حتى ضاقت عليهم الأرض بما رحبت: كناية عن شدة التحير وعدم الاطمئنان، يعني أنهم أخروا عن قبول التوبة إلى هذه الغاية وهي وقت أن ضاقت عليهم الأرض برحبها لإعراض الناس عنهم، وعدم مكالمتهم من كل أحد: لأن النبي صلى الله عليه وسلم نهى الناس أن يكالموهم، وضاقت عليهم أنفسهم: أي أنها ضاقت صدورهم بما نالهم من الوحشة وبما حصل لهم من الجفوة وشدة الغم والحزن، وظنوا: أي علموا وأيقنوا، أن لا ملجأ من الله: أي من عذابه أو من سخطه، إلا إليه: أي بالتوبة والاستغفار، ثم تاب: أي رجع عليهم بالقبول والرحمة، وأنزل في القرآن التوبة عليهم: ليستقيموا، أو وفقهم للتوبة فيما يستقبل من الزمان إن فرطت منهم خطيئة، ليتوبوا: عنها ويرجعوا فيها إلى الله ويندموا على ما وقع منهم، ويحصلوا التوبة وينشئوها فحصل التغاير وصح التعليل، إن الله هو التواب: أي الكثير القبول لتوبة التائبين، الرحيم: أي الكثير الرحمة لمن طلبها من عباده.
"قال" أي كعب بن مالك "وفينا" أي في الثلاثة الذين خلفوا "أنزلت أيضاً": {اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ}: يعني مع من صدق النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه في الغزوات، ولا تكونوا مع المتخلفين من المنافقين الذين قعدوا في البيوت وتركوا الغزو "إن من توبتي" أي من شكر توبتي "أن لا أحدث إلا صدقاً" زاد البخاري: ما بقيت "وأن أنخلع من مالي كله": أي أخرج من جميع مالي "صدقة" هو مصدر في موضع الحال أي متصدقاً، أو ضمن الخلع معنى(8/510)
"أَمْسِكْ عَلَيْكَ بَعْضَ مَالِكَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكَ" . فَقلت: فإِني أُمْسِكُ سَهْمِي الّذِي بِخَيْبَرَ. قال: فَمَا أَنْعَمَ الله عَليّ نِعْمَةً بَعْدَ الإسلام أَعْظَمَ في نَفْسِي مِنْ صِدْقِي رسولَ الله صلى الله عليه وسلم حِينَ صَدَقْتُهُ أَنَا وَصَاحِبَايَ وَلاَ نَكُونُ كَذَبْنَا فَهَلَكْنَا كَمَا هَلَكُوا، وإني لأَرْجُو أَنْ لا يَكُونَ الله أَبْلَى أَحَداً في الصّدْقِ مِثْلَ الذي أَبْلاَنِي مَا تَعَمّدْتُ لِكَذِبَةٍ بَعْدُ، وإني لأرْجُو أَنْ يَحْفَظَنِي الله فِيمَا بَقِيَ".
قال: وقد رُوِيَ عن الزّهْرِيّ هذا الحديثُ بِخِلاَفِ هذا الإسنادِ، وقد قِيلَ عن عبدِ الرّحمَنِ بنِ عبدِ الله بنِ كَعْبِ بنِ مَالِكٍ عن عمه عبيد الله عن كَعْبٍ، وقد قِيلَ غيرُ هذا. وَرَوَى يُونُسُ بنُ يَزِيدَ هذا الحديثَ عن الزّهْرِيّ عن عبدِ الرّحمَنِ بنِ عبدِ الله بن كعب بن مالك أَنّ أَبَاهُ حَدّثَهُ عن كَعْبِ بنِ مَالِكٍ.
5101- حدثنا مُحمّدُ بنُ بَشّارٍ، أخبرنا عبدُ الرّحمَنِ بنُ مَهْدِيّ، أخبرنا إبراهِيمُ بنُ سَعْدٍ عن الزّهْرِيّ عن عُبَيْدِ بنِ السّبّاقِ، أَنّ زَيْدَ بنَ ثَابِتٍ حَدّثَهُ قال: "بَعَثَ إِلَيّ أبو بَكْرٍ الصّدّيقُ - مَقْتَلَ أهْلِ الْيَمامَةِ - فَإِذَا
ـــــــ
أتصدق وهو مصدر أيضاً "أبلى أحداً" أي أنعم على أحد. وحديث كعب بن مالك هذا أخرجه البخاري في عشرة مواضع مطولاً ومختصراً في الوصايا وفي الجهاد وفي صفة النبي صلى الله عليه وسلم وفي وفود الأنصار، وفي موضعين من المغازي، وفي موضعين من التفسير، وفي الاستئذان، وفي الأحكام. وأخرجه مسلم في التوبة، وأخرجه أبو داود والنسائي في الطلاق.
قوله: "بعث إلى أبو بكر الصديق" أي أرسل إلى رجلاً. قال الحافظ: لم أقف على اسم الرسول إليه بذلك "مقتل أهل اليمامة" نصب على الظرفية، أي عقب قتل أهل اليمامة، واليمامة بفتح التحتية وخفة الميم: اسم مدينة باليمن1، وكان مقتلهم
ـــــــ
1 هي بلاد جنوب نجد.(8/511)
عُمَرُ بنُ الْخَطّابِ عِنْدَهُ، فقال: إنّ عُمَرَ قَدْ أَتَاني فقال: إنّ الْقَتْلَ قَدْ اسْتَحَرّ بِقُرّاءِ الْقُرْآنِ يَوْمَ الْيَمَامَةِ، وإني لأخْشَى أَنْ يَسْتَحِرّ الْقَتْلُ بالْقُرّاءِ في المَوَاطِنِ كُلّهَا فَيَذْهَبَ قُرآنٌ كَثِيرٌ، وإني أَرَى أَنْ تَأْمُرَ بِجَمْعِ الْقُرْآنِ. قال أبو بَكْرٍ لِعُمَرَ: كَيْفَ أَفْعَلُ شَيْئاً لَمْ يَفْعَلْهُ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم؟ فقال عُمَرُ: هُوَ وَالله خَيْرٌ. فلَمْ يَزَلْ يُرَاجِعُنِي في ذَلِكَ حَتّى شَرَحَ الله صَدْرِي للّذِي شَرَحَ لَهُ صَدْرَ عُمَرَ، وَرَأَيْتُ فِيهِ الّذِي رَأَى.
ـــــــ
سنة إحدى عشرة من الهجرة، والمراد بأهل اليمامة هنا من قتل بها من الصحابة في الوقعة مع مسيلمة الكذاب، وكان من شأنها أن مسيلمة أدعى النبوة وقوى أمره بعد موت النبي صلى الله عليه وسلم بارتداد كثير من العرب، فجهز إليه أبو بكر الصديق خالد بن الوليد في جمع كثير من الصحابة فحاربوه أشد محاربة، إلى أن خذله الله وقتله، وقتل في غضون ذلك من الصحابة جماعة كثيرة، قيل سبعمائة، وقيل أكثر "فإذا عمر" كلمة إذا للمفاجأة "عنده" أي عند أبي بكر رضي الله عنه "قد استحر" بسين مهملة ساكنة ومثناة مفتوحة بعدها حاء مهملة مفتوحة، ثم راء ثقيلة: أي اشتد وكثر وهو استفعل من الحر، لأن المكروه غالباً يضاف إلى الحر، كما أن المحبوب يضاف إلى البرد يقولون: أسخن الله عينه، وأقرعينه "وإني لأخشى" بصيغة المتكلم المؤكدة بلام التأكيد، أي لأخاف "أن يستحر" بفتح الهمزة "في المواطن كلها" أي الأماكن التي يقع فيها القتال مع الكفار "فيذهب قرآن كثير" بالنصب عطف على يستحر.
قال الحافظ: هذا يدل على أن كثيراً ممن قتل في وقعه اليمامة كان قد حفظ القرآن، لكن يمكن أن يكون المراد أن مجموعهم جمعه لا أن كل فرد فرد جمعه "كيف أفعل شيئاً لم يفعله رسول الله صلى الله عليه وسلم".
قال الخطابي وغيره: يحتمل أن يكون صلى الله عليه وسلم إنمالم يجمع القرآن في المصحف لما كان يترقبه من ورود ناسخ لبعض أحكامه ألأ تلاوته، فلما انقضى نزوله بوفاته صلى الله عليه وسلم، ألهم الله الخلفاء الراشدين ذلك وفاء لوعده(8/512)
قال زَيْدٌ: قال أبو بكْرٍ: إنّكَ شَابّ عاقِلٌ لانَتّهِمُكَ، قَدْ كُنْتَ تَكْتُبُ لِرَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم الْوَحْيَ فَتَتَبّعْ الْقُرْآنَ. قال: فَوَالله لَوْ
ـــــــ
الصادق بضمان حفظه على هذه الأمة المحمدية، زادها الله شرفاً، فكان ابتداء ذلك على يد الصديق رضي الله عنه بمشورة عمر.
ويؤيده ما أخرجه ابن أبي داود في المصاحف بإسناد حسن عن عبد خير قال: سمعت علياً يقول أعظم الناس في المصاحف أجراً، أبو بكر رحمه الله، على أبي بكر هو أول من جمع كتاب الله. وأما ما أخرجه مسلم من حديث أبي سعيد قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا تكتبوا عني شيئاً غير القرآن" الحديث. فلا ينافي ذلك، لأن الكلام في كتابة مخصوصة على صفة مخصوصة. وقد كان القرآن كله كتب في عهد النبي صلى الله عليه وسلم لكن غير مجموع في موضع واحد ولا مرتب السور. وأما ما أخرجه ابن أبي داود وفي المصاحف من طريق ابن سيرين، قال قال علي: لما مات رسول الله صلى الله عليه وسلم آليت أن آخذ على ردائي إلا لصلاة جمعة حتى أجمع القرآن فجمعه، فإسناده ضعيف لانقطاعه. وعلى تقدير أن يكون محفوظاً فمراده بجمعه حفظه في صدره. قال والذي وقع في بعض طرقه حتى جمعته بين اللوحين وهم من راوية.
قال الحافظ: ورواية عبد خير عن علي، يعني التي تقدمت آنفاً، أصبح فهو المعتمد. ووقع عند ابن أبي داود أيضاً بيان السبب في إشارة عمر بن الخطاب بذلك. فأخرج من طريق الحسن: أن عمر سأل عن آية من كتاب الله، فقيل: كانت مع فلان فقتل يوم اليمامة، فقال إنالله، وأمر بجمع القرآن، فكان أول من جمعه في المصحف، وهذا منقطع، فإن كان محفوظاً حمل على أن المراد بقوله: فكان أول من جمعه، أي أشار بجمعه في خلافه أبي بكر، فنسب الجمع إليه لذلك "قال أبو بكر إنك شاب غافل لا نتهمك قد كنت تكتب لرسول الله صلى الله عليه وسلم الوحي" ذكر له أربع صفات مقتضية خصوصيته بذلك: كونه شاباً، فيكون أنشط لما يطلب منه. وكونه عاقلاً، فيكون أوعى له. وكونه لا يتهم، فتركن النفس إليه. وكونه كان يكتب الوحي، فيكون أكثر ممارسة له، وهذه الصفات التي اجتمعت له قد توجد في غيره لكن مفرقة "فوالله لو(8/513)
كَلّفُوني نَقْلَ جَبَلٍ مِنَ الْجِبَالِ ما كَانَ أَثْقَلَ عَلَيّ مِنْ ذَلِكَ. قال قلت: كَيْفَ تَفْعَلُونَ شَيْئاً لَمْ يَفْعَلْهُ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم؟ فقال أبو بَكْرٍ: هُوَ والله خَيْرٌ. فلَمْ يَزَلْ يُرَاجِعُنِي في ذَلِكَ أبو بَكْرٍ وَعُمَرُ حَتّى شَرَحَ الله صَدْرِي لِلّذي شَرَحَ لَهُ صَدْرَهُما: صَدْرَ أبي بَكْرٍ وَعُمَرَ، فَتَتَبّعْتُ الْقُرْآنَ أَجْمَعُهُ مِنَ الرّقَاعِ وَالْعُسُبِ وَاللّخَافِ - يَعْنِي الْحِجَارَةَ وَالرّقَاقَ وَصُدُورَ
ـــــــ
كلفوني نقل جبل من الجبال ما كان أثقل عليّ من ذلك" أي مما أمرني به من جمع القرآن، كما في رواية البخاري.
قال الحافظ: كأنه جمع أولاً باعتبار أبي بكر ومن وافقه، وأفرد باعتبار أنه الاَمر وحده بذلك، وإنما قال زيد بن ثابت ذلك لما خشيه من التقصير في إحصاء ما أمر بجمعه، لكن الله تعالى يسر له ذلك "فتتبعت القرآن أجمعه" حال من الفاعل أو المفعول، أي من الأشياء التي عندي وعند غيري "من الرقاع" جمع رقعة، وقد تكون من جلد أو ورق أو كاغد. وفي رواية: وقطع الأديم "والعسب" بضم المهملتين ثم موحدة جمع عسيب وهو جريد النخل، كانوا يكشطون الخوص ويكتبون في الظرف العريض، وقيل العسيب طرف الجريدة العريض، وقيل العسيب طرف الجريدة العريض الذي لم ينبت عليه الخوص، والذي ينبت عليه الخوص هو السعق "واللخاف" بكسر الللام ثم حاء معجمة خفيفة وآخره فاء: وهي الحجارة البيض الرقاق واحدتها لخفة بفتح الللام وسكون المعجمة وعند ابن أبي داود في المصاحف من طريق يحيى بن عبد الرحمن بن حاطب قال: قام عمر فقال: من كان تلقى من رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئاً من القرآن فليأت، به وكانوا يكتبون ذلك في الصحف والألواح والعسب، قال وكان لا يقبل من أحد شيئاً حتى يشهد شاهدان. وهذا يدل على أن زيداً كان لا يكتفي بمجرد وجدانه مكتوباً حتى يشهد به من تلقاه سماعاً، مع كون زيد كان يحفظه، وكان يفعل ذلك مبالغة في الاحتياط. وعند ابن أبي داود أيضاً من طريق هشام بن عروة عن أبيه: أن أبا بكر قال لعمرو ولزيد: اقعدا على باب المسجد، فمن جاءكما بشاهدين(8/514)
الرّجالِ - فَوَجَدْتُ آخِرَ سُورَةِ بَرَاءَةَ مَعَ خُزَيْمَةَ بنِ ثَابِتٍ: {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ
ـــــــ
على شيء من كتاب الله فاكتباه، ورجاله ثقات مع انقطاعه، وكأن المراد بالشاهدين الحفظ والكتاب، والمراد أنهما يشهدان على أن ذلك المكتوب كتب بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم، أو المراد أنهما يشهدان على أن ذلك من الوجوه التي نزل بها القرآن، وكان غرضهم أن لا يكتب إلا من عين ما كتب بين يدي النبي صلى الله عليه وسلم لا من مجرد الحفظ "وصدور الرجال" أي الحفاظ منهم، أي حيث لا أجد ذلك مكتوباً أو الواو بمعنى مع، أي اكتبه من المكتوب الموافق للمحفوظ في الصدور "فوجدت آخر سورة براءة مع خزيمة ابن ثابت" وفي رواية البخاري في فضائل القرآن: من طريق إبراهيم بن سعد، عن الزهري، عن عبيد بن السباق، عن زيد بن ثابت: حتى وجدت آخر سورة التوبة مع أبي خزيمة الأنصاري.
قال الحافظ: وقع في رواية عبد الرحمن بن مهدي عن إبراهيم بن سعد مع خزيمة بن ثابت، أخرجه أحمد والترمذي. ووقع في رواية شعيب عن الزهري كما تقدم في سورة التوبة مع خزيمة الأنصاري. وقد أخرجه الطبراني في مسند الشاميين من طريق أبي اليمان عن شعيب فقال فيه: خزيمة بن ثابت الأنصاري. وكذا أخرجه ابن أبي داود من طريق يونس بن يزيد، عن ابن شهاب، وقول من قال عن إبراهيم بن سعد مع أبي خزيمة أصح. وقد تقدم البحث فيه في تفسير سورة التوبة، وأن الذي وجد معه آخر سورة النوبة غير الذي وجد معه الآية التي في الأحزاب. فالأول اختلف الرواة فيه على الزهرى: فمن قائل مع خزيمة، ومن قائل مع أبي خزيمة، ومن شاك فيه يقول خزيمة أو أبي خزيمة. والأرجح أن الذي وجد معه آخر سورة التوبة أبو خزيمة بالكنية، والذي وجد معه الآية من الأحزاب خزيمة وأبو خزيمة، قيل هو ابن أوس بن يزيد بن أصرم، مشهور بكنيته دون اسمه، وقيل هو الحرث بن خزيمة وأما خزيمة فهو ابن ثابت ذو الشهادتين، كما تقدم صريحاً في سورة الأحزاب انتهى {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ} : أي من جنسكم في كونه عربياً قرشياً مثلكم تعرفون نسبه وحسبه،(8/515)
رَؤُوفٌ رَحِيمٌ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَهُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ} ". هذا حديثٌ حسنٌ صحيحٌ.
5102- حدثنا مُحمّدُ بنُ بَشّارٍ، أخبرنا عَبْدُ الرّحْمَنِ بنُ مَهْدِيّ، أخبرنا إِبراهِيمُ بنُ سَعْدٍ عن الزّهْرِيّ عن أَنَسٍ، أَنّ حُذَيْفَةَ قَدِمَ عَلَى عُثْمانَ بْنِ عَفّانَ، وكَانَ يُغَازِي أهْلَ الشّامِ فِي فَتْحِ أَرْمِينِيّةَ وَأَذَرْبِيجَانَ مَعَ أَهْلِ الْعِراقِ، فَرَأَى حُذَيْفَةُ اخْتِلاَفَهُمْ في الْقُرْآنِ، فقال لِعُثْمانَ بْنِ عَفّانَ:
ـــــــ
وأنه من ولد إسماعيل لا من العجم ولا من الجن ولا من الملك. والخطاب للعرب عند جمهور المفسرين.
وقال الزجاج: هي خطاب لجمع العالم {عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ} : ما مصدرية، والعنت: التعب والمشقة. والمعنى شديد وشاق عليه عنتكم ومشقتكم ولقاءكم المكروه {حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ} : أي على إيمانكم وهدايتكم {بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ} : أي شديد الرحمة {فَإِنْ تَوَلَّوْا} : أي أعرضوا عن الإيمان بك {فَقُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ} : أي يكفيني وينصرني {لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ} : أي المتفرد بالألوهية، وهذه الجملة الحالية كالدليل لما قبلها {عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ} : أي به وثقت لا بغيره {وَهُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ} وصفه بالعظم لأنه أعظم المخلوقات، قرأ الجمهور بالجر على أنه صفة العرش، وقرئ بالرفع صفة لرب، ورويت هذه القراءة عن ابن كثير. قال أبو بكر الأصم: وهذه القراءة أعجب إلي، لأن جعل العظيم صفة للرب أولى من جعله صفة للعرش، قال ابن عباس: إنما سمى العرش عرشاً لارتفاعه.
قوله: "هذا حديث حسن صحيح" وأخرجه أحمد والبخاري والنسائي.
قوله: "أن حذيفة" هو ابن اليمان "وكان يغازي أهل الشام في فتح أرمينية وأذربيجان مع أهل العراق" أي كان عثمان يجهز أهل الشام وأهل العراق لغزو أرمينية وأذربيجان وفتحهما.
قال الحافظ: إن أرمينية فتحت في خلافه عثمان، وكان أميراً لعسكر من أهل العراق سلمان بن ربيعة الباهلي، وكان عثمان أمر أهل الشام وأهل العراق(8/516)
ـــــــ
أن يجتمعوا على ذلك، وكان أمير أهل الشام على ذلك العسكر حبيب بن مسلمة الفهري، وكان حذيفة من جملة من غزا معهم، وكان هو على أهل المدائن وهي من جملة أعمال العراق انتهى. وإرمينية بكسر الهمزة وسكون الراء وكسر الميم بعدوها تحتانية ساكنة ثم نون مكسورة ثم تحتانية مفتوحة خفيفة، وقد تثقل.
وقال ابن السمعاني: بفتح الهمزة، وقال أبو عبيد: هي بلد معروف يضم كوراً كثيرة. وقال الرشاطي: افتتحت سنة أربع وعشرين في خلافة عثمان رضي الله عنه على يد سلمان بن ربيعة. وأذربيجان بفتح الهمزة والذال المعجمة وسكون الراء، وقيل بسكون الذال وفتح الراء وبكسر الموحدة بعدها تحتانية ساكنة ثم جيم خفيفة وآخره نون. وحكى ابن مكي: كسر أوله، وضبطها صاحب المطالع، ونقله عن ابن الأعرابي، بسكون الذال وفتح الراء: بلد كبير من نواحي جبال العراق وهي الآن تبريز وقصباتها، وهي تلي أرمينية من جهة غربيها واتفق غزوهما في سنة واحدة، واجتمع في غزوة كل منهما أهل الشام وأهل العراق، والمذكور في ضبط أذربيجان هو المشهور، وقد تمد الهمزة، وقد تحذف وقد تفتح الموحدة، وقيل في ضبطها غير ذلك "فرأى حذيفة اختلافهم في القرآن" وفي رواية البخاري: فأفزع حذيفة اختلافهم في القراءة. وذكر الحافظ ههنا روايات توضح ما كان فيهم من الاختلاف في القراءة، ففي رواية يتنازعون في القرآن حتى سمع حذيفة من اختلافهم ما ذعره.
وفي رواية: فتذاكروا القرآن فاختلفوا فيه حتى كان يكون بينهم فتنة. وفي رواية: أن حذيفة قدم من غزوة فلم يدخل بيته حتى أتى عثمان، فقال يا أمير المؤمنين: أدرك الناس، قال: وما ذاك؟ قال: غزوت فرج أرمينية فإذا أهل الشام يقرءون بقراءة أبي بن كعب فيأتون بما لم يسمع أهل العراق، وإذا أهل العراق يقرءون بقراءة عبد الله بن مسعود، فيأتون بما لم يسمع أهل الشام فيكفر بعضهم بعضاً.
وفي رواية: أنه سمع رجلاً يقول: قراءة عبد الله بن مسعود، وسمع آخر يقول: قراءة أبي موسى الأشعري، فغضب، ثم قام فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: هكذا كان من قبلكم اختلفوا، والله لأركبن إلى أمير المؤمنين. وفي رواية أن اثنين اختلفا في آية من سورة البقرة قرأ هذا: وأتموا الحج والعمرة لله، وقرأ(8/517)
يَا أَمِيرَ المُؤْمِنينَ، أَدْرِكْ هَذِهِ الاْمّةَ قَبْلَ أَنْ يَخْتَلِفُوا في الْكِتَابِ كَمَا اخْتَلَفَتِ الْيَهُودُ وَالنّصَارَى، فَأَرْسَلَ إلى حَفْصَةَ أَنْ أَرْسِلِي إِلَيْنَا بِالصّحُفِ نَنْسَخُهَا في المَصَاحِفِ ثمّ نَرُدّهَا إِلَيْكِ، فَأَرْسَلَتْ حَفْصَةُ إلى عُثْمانَ بْنِ عَفّانَ بِالصّحُفِ، فَأَرْسَلَ عُثْمانُ إلى زَيْدِ بنِ ثَابِتٍ وَسَعِيدِ بنِ الْعَاصِ وَعَبْدِ الرّحْمَنِ بنِ الْحَارِثِ بنِ هِشَامٍ وَعَبْدِ الله بنِ الزّبَيْرِ، أَنْ انْسَخُوا الصّحُفَ في المَصَاحِفِ، وقال لِلرّهْطِ الْقُرَشِيّينَ الثّلاَثَةِ: ما اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ
ـــــــ
هذا: وأنموا الحج والعمرة للبيت، فغضب حذيفة واحمرت عيناه. وفي رواية: قال حذيفة: يقول أهل الكوفة قراءة ابن مسعود، ويقول أهل البصرة: قراءة أبي موسى، والله لئن قدمت على أمير المؤمنين لأمرته أن يجعلها قراءة واحدة "أدرك هذه الأمة" أمر من الإدراك، يمعنى التدارك "فأرسل" أي عثمان "إلى حفصة أن أرسلي النبأ بالصحف" وكانت الصحف بعد ما جمع القران أبو بكر عنده حتى توفاه الله، ثم عند عمر حياته، ثم عند حفصة بنت عمر "ننسخها في المصاحف ثم نردها إليك" أي ننقلها، والمصاحف جمع المصحف: بضم الميم.
قال الحافظ: الفرق بين الصحف والمصحف أن الصحف الأوراق المجردة التي جمع فيها القرآن في عهد أبي بكر كانت سوراً مفرقة كل سورة مرتبة بآياتها على حدة، ولكن لم يرتب بعضها إثر بعض، فلما نسخت ورتب بعضها إثر بعض، صارت مصحفاً انتهى. "فأرسل عثمان إلى زيد بن ثابت وسعيد بن العاص وعبد الرحمن بن الحارث بن هشام وعبد الله بن الزبير: أن انسخوا الصحف" أي انقلوا ما فيها.
وفي رواية البخاري: فأمر، مكان فأرسل. وقد جاء عن عثمان أنه إنما فعل ذلك بعد أن استشار الصحابة، فأخرج ابن أبي داود بإسناد صحيح من طريق سويد ابن غفلة.
قال علي: لا تقولوا في عثمان إلا خيراً، فوالله ما فعل الذي فعل في المصاحف(8/518)
أَنْتُمْ وَزَيْدُ بنُ ثَابِتٍ فاكْتُبُوهُ بِلِسَانِ قُرَيْشٍ، فَإِنّمَا نَزَلَ بِلِسَانِهِمْ حَتّى نَسَخُوا الصّحُفَ في المَصَاحِفِ، بَعَثَ عُثْمانَ إلى كلّ أُفُقِ بِمُصْحَفٍ مِنْ تِلْكَ المَصَاحِفِ الّتِي نَسَخُوا.
ـــــــ
إلا عن ملأ منا، قال ما تقولون في هذه القراءة، فقد بلغني أن بعضهم يقول إن قراءتي خير من قراءتك، وهذا يكاد أن يكون كفراً.
قلنا: فما ترى؟ قال: نرى أن نجمع الناس على مصحف واحد، فلا تكون فرقة ولا اختلاف. قلنا: فنعم ما رأيت "وقال" أي عثمان "للرهط القرشيين الثلاثة" يعني سعيداً وعبد الرحمن وعبد الله، لأن سعيداً أموي، وعبد الرحمَن مخزومي، وعبد الله أسدي، وكلها من بطون قريش "فإنما نزل بلسانهم" أي بلسان قريش.
قال القاضي بن أبو بكر بن ال باقلاني: معنى قول عثمان نزل القرآن بلسان قريش أي معظمه، وأنه لم تقم دلالة قاطعة على أن جميعه بلسان قريش، فإن ظاهر قوله تعالى: {إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآناً عَرَبِيّاً} أنه نزل بجميع ألسنة العرب، ومن زعم أنه أراد مضر درن ربيعة، أو هما دون اليمن، أو قريشاً دون غيرهم، فعليه البيان، لأن اسم العرب يتناول الجميع تناولاً واحداً، ولو ساغت هذه الدعوى لساغ للآخران. ويقول: نزل بلسان بني هاشم مثلاً، لأنهم أقرب إلى النبي صلى الله عليه وسلم نسباً من سائر قريش "إلى كل أفق" بضمتين: أي طرف من أطراف الآفاق "بمصحف من تلك المصاحف التي نسخوا" زاد البخاري: وأمر بما سواه من القرآن في كل صحيفة أو مصحف أن يحرق.
قال ابن بطال: في هذا الحديث جواز تحريق الكتب التي فيها اسم الله بالنار وأن ذلك إكرام لها وصون عن وطئها بالأقدام. وقد أخرج عبد الرزاق من طريق طاوس: أنه كان يحرق الرسائل التي فيها البسملة إذا اجتمعت، وكذا فعل عروة، وكرهه إبراهيم. وقال ابن عطية: الرواية بالحاء المهملة أصح، وهذا الحكم هو الذي وقع في ذلك الوقت. وأما الآن: فالغسل أولى لما دعت الحاجة إلى إزالته، هكذا في الفتح. وقال العيني: قال أصحابنا الحنفية: إن المصحف إذا(8/519)
قال الزّهْرِيّ: وحدثني خارِجَةُ بنُ زَيْد بن ثابت أَنّ زَيْدَ بنَ ثَابِتٍ قال: فَقَدْتُ آية مِنْ سُورَةِ الأحْزَابِ كُنْتُ أَسْمَعُ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم يَقْرَؤُهَا {مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ} ، فَالْتَمَسْتُهَا فَوَجَدْتُهَا مَعَ خُزَيْمَةَ بنِ ثَابِتٍ أَوْ أبي خُزَيْمَةَ فَأَلْحَقْتُهَا في سُورَتِهَا.
قال الزّهْرِيّ: فَاخْتَلَفُوا يَوْمَئِذٍ في التّابُوتِ وَالتّابُوهِ، فقال الْقُرَشِيّونَ: التّابُوتُ، وقال زَيْدٌ: التّابُوهُ، فَرُفِعَ اخْتِلاَفُهُمْ إلى عُثْمانَ، فقال: اكْتُبُوهُ التّابُوتَ، فإِنّهُ نَزَلَ بِلِسَانِ قُرَيْشٍ.
ـــــــ
بلى بحيث لا ينتفع به، يدفن في مكان طاهر بعيد عن وطئ الناس.
قلت: لو تأملت عرفت أن الاحتياط هو في الإحراق دون الدفن، ولهذا اختار عثمان رضي الله عنه ذلك دون هذا والله تعالى أعلم.
قوله: "قال الزهرى وحدثني خارجة بن زيد الخ" هذا موصول إلى الزهرى بالإسناد المذكور.
قوله: {مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ} من الثبات مع النبي صلى الله عليه وسلم {فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ} مات أو قتل في سبيل الله {وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ} ذلك "فوجدتها مع خزيمة بن ثابت، أو أبي خزيمة" كذا في هذا الكتاب بالشك.
وفي رواية البخاري: لم أجدها مع أحد إلا مع خزيمة الأنصاري بغير شك "فألحقتها في سورتها" فيه إشكال لأن ظاهره أنه اكتفى بخزيمة وحده، والقرآن إنما يثبت بالتواتر، والذي يظهر في الجواب أن الذي أشار إليه أن فقده فقد وجودها مكتوبة، لا فقد وجودها محفوظة، بل كانت محفوظة عنده وعند غيره. ويدل على هذا قوله في حديث جمع القرآن: فأخذت أتتبعه من الرقاع والعسب.
قوله: "قال الزهري فاختلفوا يومئذ في التابوت والتابوه" أي هل هو بالتاء أو بالهاء "فقال القرشيون التابوت" أي بالتاء "وقال زيد التابوه" أي بالهاء(8/520)
قال الزّهْرِيّ: فَأَخْبَرَنِي عُبَيْدُ الله بنُ عَبْدِ الله بنِ عُتْبَةَ أَنّ عَبْدَ الله بنَ مَسْعُودٍ كَرِهَ لِزَيْدِ بنِ ثَابِتٍ نَسْخَ المَصَاحِفِ، وقال: يَا مَعْشَرَ المُسْلِمِينَ أُعْزَلُ عَنْ نَسْخِ كِتَابَةِ المصحف وَيَتَوّلاَهَا رَجُلٌ، والله لَقَدْ أَسْلَمْتُ وَإِنّهُ لَفِي صُلْبِ رَجُلٍ كَافِر - يُريدُ زَيْدَ بن ثَابِتٍ، وَلِذَلِكَ قال عَبْدُ الله بنُ مَسْعُودٍ: يا أَهْلَ الْعِراقِ اكْتُمُوا المَصَاحِفَ الّتِي عِنْدَكُمْ وَغُلّوهَا، فَإِنّ الله يقولُ: {وَمَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِمَا غَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} فَالْقُوا الله بِالمَصَاحِفِ.
قال الزّهْرِيّ: فَبَلَغَنِي أَنّ ذَلِكَ كُرِهَ مِنْ مَقَالَةِ ابنِ مَسْعُودٍ رِجَالٌ مِنْ أَفَاضِلِ أَصْحَابِ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم".
ـــــــ
"اكتبوه التابوت" أي بالتاء.
قوله: "إن عبد الله بن مسعود ذكره لزيد بن ثابت نسخ المصاحف الخ" العذر لعثمان رضي الله عنه في ذلك أنه فعله بالمدينة وعبد الله بالكوفة، ولم يؤخر ما عزم عليه من ذلك إلى أن يرسل إليه ويحضر. وأيضاً فإن عثمان أراد نسخ الصحف التي كانت جمعت في عهد أبي بكر، وأن يجعلها مصحفاً واحداً، وكان الذي نسخ ذلك في عهد أبي بكر هو زيد بن ثابت لكونه كاتب الوحي، فكانت له في ذلك أولية ليست لغيره "أعزل عن نسخ كتابة المصاحف" بصيغة المجهول، أي أنحى عن نسخ المصاحف المكتوبة "ويقولاها" أي كتابة المصاحف "اكتموا المصاحف التي عندكم وغلوها الخ" أي اخفوها واستروها.
قال النووي: معناه أن ابن مسعود كان مصحفه يخالف مصحف الجمهور، وكانت مصاحف أصحابه كمصحفه، فأنكر عليه الناس وأمروه بترك مصحفه وبموافقة مصحف الجمهور، وطلبوا مصحفه أن يحرقوه كما فعلوا بغيره فامتنع، وقال لأصحابه: فلوا مصاحفكم، أي اكتموها {وَمَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِمَا غَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} يعني فإذا غللتموها جئتم بها يوم القيامة، وكفى لكم بذلك شرفاً. ثم قال على سبيل الإنكار: ومن هو الذي تأمرونني أن آخذ بقراءته وأترك مصحفي الذي أخذته من في رسول الله صلى الله عليه وسلم "فالقوا القول" أمر من اللقاء "فبلغني أن(8/521)
هذا حديثٌ حسنٌ صحيحٌ، وَهُوَ حديثُ الزّهْرِيّ، لا نَعْرِفُهُ إلاّ مِنْ حَدِيثِهِ.
ـــــــ
ذلك كره إلخ" يعني أن رجالاً من أفاضل الصحابة قد كرهوا قول ابن مسعود المذكور، وقوله من مقالة ابن مسعود رضي الله عنه بيان لقوله ذلك.
تنبيه: قال ابن التين وغيره: الفرق بين جمع أبي بكر وبين جمع عثمان، أن جمع أبي بكر كان لخشية أن يذهب من القرآن شيء بذهاب حملته، لأنه لم يكن مجموعاً في موضع واحد، فجمعه في صحائف مرتباً لاَيات سوره على ما وقفهم عليه النبي صلى الله عليه وسلم، وجمع عثمان كان لما كثر الاختلاف في وجوه القرآن حين قرأوه بلغاتهم على اتساع اللغات، فأدى ذلك بعضهم إلى تخطئة بعض، فخشى من تفاقم الأمر في ذلك، فنسخ تلك الصحف في مصحف واحد مرتباً لسوره، واقتصر من سائر اللغات على لغة قريش، محتجاً بأنه نزل بلغتهم، وإن كان قد وسع في قراءته رفعاً للحرج والمشقة في ابتداء الأمر، فرأى أن الحاجة إلى ذلك انتهت فاقتصر على لغة واحدة، أو كان لغة قريش أرجح اللغات فاقتصر عليها.
قوله: "هذا حديث حسن صحيح" وأخرجه البخاري.(8/522)
وَمِنْ سُورَةِ يُونُس
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
5103- حدثنا مُحمّدُ بنُ بَشّارٍ، أخبرنا عَبْدُ الرّحمَنِ بنُ مَهْدِيّ، أخبرنا حَمّادُ بنُ سَلَمَةَ عن ثَابِتٍ الْبُنَانيّ عن عَبْدِ الرّحمَنِ بنِ أبي لَيْلَى عن صُهَيْبٍ عن النّبيّ صلى الله عليه وسلم في قَوْلِ الله عز وجل: {لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى
ـــــــ
وَمِنْ سُورَةِ يُونُس
نزلت بمكة إلا {فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ} الآيتين أو الثلاث أو {وَمِنْهُمْ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ} الآية وهي مائة وتسع أو عشر آيات
قوله: "عن صهيب" بالتصغير: هو ابن سنان الرومي.
قوله: "وفي قوله تعالى" أي في تفسيره {لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا} أي بالإيمان(8/522)
وَزِيَادَةٌ} قال: "إذَا دَخَلَ أهْلُ الجَنّةِ الْجَنّةَ نَادَى مُنَادٍ: إنّ لَكُمْ عِنْدَ الله مَوْعِداً وَيُرِيدُ أَنْ يَنْجِزَكُمُوهُ" . قالوا: أَلَمْ يُبَيّضْ وُجُوهَنَا وَيُنَجّيَنَا مِنَ النّارِ وَيُدْخِلَنَا الْجَنّةَ؟ قال فَيُكْشَفُ الْحِجَابُ. قال: "فَوَالله ما أَعْطَاهُمْ الله شَيْئاً أَحَبّ إِلَيْهِمْ مِنَ النّظَرِ إِلَيْهِ" .
حديثُ حَمّادِ بنِ سَلَمَةَ. هَكَذَا روى غيرُ وَاحِدٍ عن حَمّادِ بنِ سَلَمَةَ مرفوعاً. وَرَوَى سُلَيْمانُ بنُ المُغِيرَةِ هذا الحديثَ عن ثَابِتٍ عن عَبْدِ الرّحمَنِ بنِ أبي لَيْلَى قَوْلَهُ ولم يَذْكُرْ فيه عن صُهَيْبٍ عن النّبيّ صلى الله عليه وسلم.
5104- حدثنا ابن أبي عُمَرَ، أخبرنا سُفْيَانُ، عن ابنِ المُنْكَدِرِ، عن عَطَاءِ بنِ يَسَارٍ، عن رَجُلٍ مِنْ أهْلِ مِصْرَ قال: سَأَلْتُ أبَا الدّرْدَاءِ عَنْ هَذِهِ الآية: {لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} ، قال: ما سَأَلَنِي عَنْهَا أَحَد مُنْذُ سَأَلْتُ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم عَنْهَا، فقال: "ما سَأَلَني عَنْهَا أَحَد
ـــــــ
{الْحُسْنَى} أي الجنة {وَزِيَادَةٌ} هي النظر إليه تعالى "إن لكم عند الله موعداً" أي بقي شيء زائد مما وعده الله لكم من النعم والحسنى "وينجينا من النار" كذا في النسخ الحاضرة بالتحتانية. وقد تقدم هذا الحديث في باب رؤية الرب تبارك وتعالى من أبواب صفة الجنة، ووقع هناك ينجينا بحذف التحتانية، وهو الظاهر. وأما على تقدير ثيوب التحتانية فقيل عطف على ما دل عليه الجملة الاستفهامية المتقدمة وفيه ما فيه.
قوله: {لَهُمُ} أي لأولياء الله المذكورين في الآية التي قبلها {الْبُشْرَى فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} تمام الآية {وَفِي الْآخِرَةِ لا تَبْدِيلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} واختلفوا في هذه البشرى: فقيل هي الرؤيا الصالحة، ويدل على ذلك حديث أبي الدراداء هذا، وحديث عبادة بن الصامت الذي أشار إليه الترمذي، وقيل المراد البشرى في الحياة الدنيا هي الثناء الحسن، وفي الآخرة الجنة. ويدل على ذلك(8/523)
غَيْرُكَ مُنْذُ أُنْزِلَتْ، هِيَ الرّؤْيَا الصّالِحَةُ يَرَاهَا المُسْلِمُ أَوْ تُرَى لَهُ" .
5105- حدثنا ابن أبي عُمَرَ، أخبرنا سُفْيَانُ، عن عَبْدِ الْعَزِيزِ بنِ رُفَيْعٍ، عن أبي صالحٍ السّمّانِ، عن عَطَاءِ بنِ يَسَارٍ، عن رَجُلٍ مِنْ أهْلِ مصْرَ، عن أبي الدّرْدَاءِ، فَذَكَرَ نحْوَهُ.
5106- حدثنا أَحْمَدُ بنُ عَبْدَةَ الضّبّيّ، أخبرنا حَمّادُ بنُ زَيْدٍ عن عاصِمِ بنِ بَهْدَلَةَ عن أبي صَالِحٍ عن أبي الدّرْدَاءِ عن النّبيّ صلى الله عليه وسلم نحْوَهُ، وَلَيْسَ فِيهِ عن عَطَاءِ بنِ يَسَارٍ.
ـــــــ
ما روي عن أبي ذر قال: قيل لرسول الله صلى الله عليه وسلم: أرأيت الرجل يعمل العمل من الخير ويحمده الناس عليه؟ قال تلك عاجل بشرى المؤمن، أخرجه مسلم.
وقال الزهري وقتادة في تفسير البشرى: هي نزول الملائكة بالبشارة من الله عند الموت، ويدل عليه قوله سبحانه وتعالى: {تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ} .
وقال عطاء عن ابن عباس: البشرى في الدنيا عند الموت تأتيهم الملائكة بالبشارة وفي الآخرة بعد خروج نفس المؤمن يعرج بها إلى الله تعالى ويبشر برضوان الله تعالى.
وقال الحسن: هي ما بشر الله بها المؤمنين في كتابه من جنته وكريم ثوابه، ويدل عليه قوله تعالى: {لا تَبْدِيلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} "هي الرؤيا الصالحة" أي الحسنة أو الصادقة وهي ما فيه بشارة أو تنبيه عن غفلة وأمثال ذلك "يراها المسلم" أي لنفسه "أو ترى" بصيغة المجهول: أي يراها مسلم آخر "له" أي لأجله، وقد تقدم هذا الحديث في أوائل أبواب الرؤيا، وتقدم تخريجه هناك.(8/524)
وفي البابِ عن عُبَادَةَ بنِ الصّامِتِ.
5107- حدثنا عَبْدُ بنُ حُمَيْدٍ، أخبرنا الحَجّاجُ بنُ مِنْهَالٍ، أخبرنا حَمّادُ بنُ سَلَمَةَ عن عَلِيّ بنِ زَيْدٍ، عن يُوسُفَ بنِ مَهْرَانَ عن ابنِ عَبّاسٍ، أَن النّبيّ صلى الله عليه وسلم قال: "لَمّا أَغْرَقَ الله فِرْعَوْنَ قال آمَنْتُ أَنّهُ لا إِلَهَ إِلاّ الّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ. فقال جِبْرَيلُ: يَا محمّدُ لَوْ رَأَيْتَني وَأَنَا آخُذُ مِنْ حَالِ الْبَحْرِ وَأَدُسّهُ في فِيهِ مَخَافَةَ أَنْ تُدْرِكَهُ الرّحْمَةُ" .
هذا حديثٌ حسنٌ.
5108- حدثنا مُحمّدُ بنُ عَبْدِ الأعْلَى الصّنْعَانِيّ، أخبرنا خالِدُ بنُ
ـــــــ
قوله: "وفي الباب عن عبادة بن الصامت" أخرجه الترمذي في أوائل أبواب الرؤيا.
قوله: "عن علي بن زيد" هو ابن جدعان "عن يوسف بن مهران" البصري وليس هو يوسف بن ماهك، ذاك ثقة، وهذا لم يرو عنه إلا ابن جدعان، هو لين الحديث من الرابعة.
قوله: "لما أغرق الله فرعون قال" أي فرعون {آمَنْتُ أَنَّهُ} أي بأنه، وفي قراءة بالكسر استينافاً {لا إِلَهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرائيلَ} .
قال ابن عباس: لم يقبل الله إيمانه عند نزول العذاب به، وقد كان في مهل.
قال العلماء: إيمانه غير مقبول. وذلك أن الإيمان والتوبة عند معاينة الملائكة والعذاب غير مقبولين "وأنا آخذ من حال البحر" أي طينه الأسود "وأدسه في فيه" أي أدخله في فمه "مخافة أن تدركه الرحمة" أي خشية أن يقول لا إله إلا الله فتناله رحمة الله.
قوله: "هذا حديث حسن" وأخرجه أحمد في مسنده وابن جرير وابن أبي حاتم في تفسيرهما، كلهم من حديث حماد بن سلمة عن علي بن زيد عن يوسف ابن مهران عن ابن عباس.(8/525)
الْحَارِثِ، أخبرنا شُعْبَةُ، قال أخبرني عَدِيّ بنُ ثَابِتٍ وَعَطَاءُ بنُ السّائِبِ عن سَعِيدِ بنِ جُبَيْرٍ عن ابنِ عَبّاسٍ، ذَكَرَ أَحَدُهُمَا عن النّبيّ صلى الله عليه وسلم: " أَنّهُ ذَكَرَ أَنّ جِبْرَيلَ جَعَلَ يَدُسّ في فِرْعَوْنَ الطّينَ خَشْيَةَ أَنْ يقولَ لاَ إِلَهَ إِلاّ الله فَيَرْحَمَهُ الله، أوْ خَشْيَةَ أنْ يَرْحَمَهُ الله" .
هذا حديثٌ حسنٌ غريبٌ صحيحٌ.
ـــــــ
قوله: "ذكر أحدهما عن النبي صلى الله عليه وسلم" يعني رواه أحدهما مرفوعاً ولم يرفعه الآخر وضميرهما راجع إلى عدي بن ثابت وعطاء بن السائب "في في فرعون" أي في فمه، أو خشية أن يرحمه أو للشك من الراوي.
قوله: "هذا حديث حسن غريب صحيح" وأخرجه أبو داود الطيالسي وابن جرير، كلاهما من طريق شعبة عن عدي بن ثابت وعطاء بن السائب، عن سعيد ابن جبير عن ابن عباس.
تنبيه: اعلم أن الخازن ذكر في تفسيره ههنا فصلين لدفع الإشكال الذي يرد على حديث ابن عباس المذكور، فلنا أن نذكرهما قال: فصل في الكلام على هذا الحديث، لأنه في الظاهر مشكل فيحتاج إلى بيان وإيضاح فنقول: قد ورد هذا الحديث على طريقين مختلفين عن ابن عباس، ففي الطريق الأول: عن ابن زيد بن جدعان، وهو وإن كان قد ضعفه يحيى بن معين وغيره، فإنه كان شيخاً نبيلاً صدوقاً، وكلنه كان شيء الحفظ ويغلط، وقد احتمل الناس حديثه. وإنما يخشى من حديثه إذا لم يتابع عليه، أو خالفه فيه الثقات وكلاهما منتف في هذا الحديث، لأن في الطريق الآخر شعبة عن عدي بن ثابت عن سعيد بن جبير. وهذا الحديث على شرط البخاري، ورواه أيضاً شعبة عن عطاء بن السائب عن سعيد بن جبير وعطاء بن السائب ثقة قد أخرج له مسلم، فهو على شرط مسلم، وإن كان عطاء وقد تكلم فيه من قبل اخلاطه فإنما يخاف ما انفرد به أو خولف فيه، وكلاهما منتف، فقد علم بهذا أن لهذا الحديث أصلاً وأن رواته ثقات ليس فيهم متهم، وإن كان فيهم من هو سيء الحفظ، فقد تابعه عليه غيره.(8/526)
ـــــــ
فإن قلت: ففي الحديث الثاني شك في رفعه لأنه قال فيه: ذكر أحدهما عن النبي صلى الله عليه وسلم.
قلت: ليس بشك في رفعه إنما هو جزم بأن أحد الرجلين رفعه وشك شعبة في تعيينه، هل عطاء بن السائب أو عدي بن ثابت وكلاهما ثقة، فإذا رفعه أحدهما وشك في تعيينه، لم يكن هذا علة في الحديث.
"فصل" ووجه إشكاله ما اعترض به الإمام فخر الدين الرازي في تفسيره فقال: هل يصح أن جبريل أخذ يملأ فمه بالطين لئلا يتوب غضباً عليه.
والجواب: الأقرب أنه لا يصح لأن في تلك الحالة إما أن يقال التكليف هل كان ثابتاً أم لا، فإن كان ثابتاً لا يجوز لجبريل أن يمنعه من التوبة، بل يجب عليه أن يعينه على التوبة وعلى كل طاعة، وإن كان التكليف زائلاً عن فرعون في ذلك الوقت، فحينئذ لا يبقى لهذا الذي نسب إلى جبريل فائدة.
وأيضاً لو منعه من التوبة لكان قد رضي ببقائه على الكفر، والرضى بالكفر كفر وأيضاً فكيف يليق بجلال الله أن يأمر جبريل بأن يمنعه من الإيمان، ولو قيل إن جبريل فعل ذلك من عند نفسه لا بأمر الله، فهذا يبطله قول جبريل "وما نتنزل إلا بأمر ربك" فهذا وجه الإشكال الذي أورده الإمام على هذا الحديث في كلام أكثر من هذا.
والجواب عن هذا الاعتراض: أن الحديث قد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم فلا اعتراض عليه لأحد، وأما قول الإمام: إن التكليف هل كان ثابتاً في تلك الحالة أم لا؟ فإن كان ثابتاً لم يجز لجبريل أن يمنعه من التوبة، فإن هذا القول لا يستقيم على أصل المثبتين للقدر القائلين بخلق الأفعال لله، وأن الله يضل من يشاء ويهدي من يشاء "وهذا قول أهل السنة المثبتين للقدر" فإنهم يقولون إن الله يحول بين الكافر والإيمان، ويدل على ذلك قوله تعالى: {وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ} وقوله تعالى: { وَقَوْلِهِمْ قُلُوبُنَا غُلْفٌ بَلْ طَبَعَ اللَّهُ عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ} . وقال تعالى: {وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ} فأخبر الله تعالى أنه قلب أفئدتهم مثل تركهم الإيمان أول مرة. وهكذا فعل بفرعون منعه من الإيمان جزاء على تركه الإيمان أولا فدس الطين في فم فرعون من جنس الطبع(8/527)
باب من سورة هود
...
باب وَمِنْ سُورَةِ هُود
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
5109- حدثنا أَحْمَدُ بنُ مَنِيعٍ، أخبرنا يَزِيدُ بنُ هَارُونَ، أخبرنا
ـــــــ
والختم على القلب ومنع الإيمان وصون الكافر عنه وذلك جزاء على كفره السابق. وهذا قول طائفة من المثبتين للقدر القائلين بخلق الأفعال لله ومن المنكرين لخلق الأفعال من اعترف أيضاً أن الله سبحانه وتعالى يفعل هذا عقوبة للعبد على كفره السابق، فيحسن منه أن يضله ويطبع على قلبه ويمنعه من الإيمان.
فأما قصة جبريل عليه السلام: فإنها من هذا الباب، فإن غاية ما يقال فيه، إن الله سبحانه وتعالى منع فرعون من الإيمان وحال بينه وبينه عقوبة له على كفره السابق ورده الإيمان لما جاءه، وأما فعل جبريل من دس الطين فإنما فعل ذلك بأمر الله لا من تلقاء نفسه. فأما قول الإما لم يجز لجبريل أن يمنعه من التوبة بل يجب عليه أن يعينه عليه وعلى كل طاعة. هذا إذا كان تكليف جبريل كتكليفنا، يجب عليه ما يجب علينا، وأما إذا كان جبريل إنما يفعل ما أمره الله به، والله سبحانه وتعالى هو الذي منع فرعون من الإيمان وجبريل منفذ لأمر الله، فكيف لا يجوز له منع من منعه الله من النوبة، وكيف يجب عليه إعانة من لم يعنه الله، بل قد حكم عليه وأخبر عنه أنه لا يؤمن حتى يرى العذاب الأليم حين لا ينفعه الإيمان.
وقد يقال: إن جبريل عليه السلام إما أن يتصرف بأمر الله فلا يفعل إلا ما أمر الله به، وإما يفعل ما يشاء من تلقاء نفسه لا بأمر الله، وعلى هذين التقديرين فلا يجب عليه إعانة فرعون على التوبة، ولا يحرم عليه منعه منها، لأنه إنما يجب عليه فعل ما أمر به، ويحرم عليه فعل ما نهى عنه والله سبحانه وتعالى لم يخبر أنه أمره بإعانة فرعون ولا حرم عليه منعه من التوبة وليست الملائكة مكلفين كتكليفنا انتهى.
وقد أطال الخازن الكلام في دفع الإشكال الذي أورده الرازي، فعليك أن تطالع بقية كلامه.
وَمِنْ سُورَةِ هُود
هي مكية إلا {وَأَقِمِ الصَّلاةَ} الاَية أو إلا {فَلَعَلَّكَ تَارِكٌ} الاَية و {أُولَئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ(8/528)
حَمّادُ بنُ سَلَمَةَ عن يَعْلَى بنِ عَطَاءٍ عن وَكِيعٍ بنِ حدس عن عَمّهِ أبي رَزِين قال: "قلت: يَا رَسُولَ الله، أَيْنَ كَانَ رَبّنَا قَبْلَ أَنْ يَخْلُقَ خَلْقَهُ؟ قال: "كَانَ في عَمَاء ما تَحْتَهُ هَواءٌ وما فَوْقَهُ هَواءٌ وَخَلَقَ عَرْشَهُ عَلَى الْمَاءِ" .
ـــــــ
بِهِ} الاَية وهي مائة وثنتان أو ثلاث وعشرون آية
قوله: "عن وكيع بن حدس" بالحاء والدال المهملتين المضمومتين، وقد يقال بالعين بدل الحاء.
قوله: "قبل أن يخلق خلقه" وفي رواية لأحمد: قبل أن يخلق السماوات والأرض "كان في عماء الخ".
قال الخازن في تفسيره: قال أبو بكر البيهقي في كتاب الأسماء والصفات له قوله صلى الله عليه وسلم: كان الله ولم يكن شيء قبله، يعني لا الماء ولا العرض ولا غيرهما، وقوله: {وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ} يعني خلق الماء وخلق العرش على الماء ثم كتب في الذكر كل شيء، وقوله في عماء: وجدته في كتاب عماء مقيداً بالمد، فإن كان في الأصل ممدوداً فمعناه سحاب رقيق. ويريد بقوله: في عماء أي فوق سحاب مدبراً له وعالياً عليه كما قال سبحانه وتعالى: {أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ} يعني من فوق السماء وقوله تعالى {وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ} يعني على جذوعها، وقوله ما فوقه هواء أي ما فوق السحاب هواء، وكذلك قوله "ما تحته هواء" أي ما تحت السحاب هواء وقد قيل إن ذلك العمى مقصور، والعمى إذا كان مقصوراً فمعناه لا شيء ثابت لأنه مما عمى عن الخلق لكونه غير شيء. فكأنه قال في جوابه: كان قبل أن يخلق خلقه ولم يكن شيء غيره، ثم قال ما فوقه هواء وما تحته هواء: أي ليس فوق العمى الذي هو لا شيء موجود هواء ولا تحته هواء، لأن ذلك إذا كان غير شيء فليس يثبت له هواه بوجه.
وقال الهروي صاحب الغريبين: قال بعض أهل العلم معناه أين كان عرش ربنا فخذف المضاف اختصاراً، كقوله: {وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ} ويدل على ذلك قوله سبحانه وتعالى: {وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ} هذا آخر كلام البيهقي.
وقال ابن الأثير: العماء في اللغة: السحاب الرقيق، وقيل الكثيف، وقيل(8/529)
قال أَحْمَدُ بن منيع: قال يَزِيدُ بن هارون: الْعَمَاءُ، أيْ لَيْسَ مَعَهُ شَيْءٌ. هَكَذَا يقول
ـــــــ
هو الضباب، ولا بد في الحديث من حذف مضاف تقديره: أين كان عرش ربنا فخذف ويدل على هذا المحذرف قوله تعالى: {وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ} وحكى عن بعضهم في العمى المقصور. أنه هو كل أمر لا يدركه الفطن.
وقال الأزهري قال أبو عبيد: إنما تأولنا هذا الحديث على كلام العرب المعقول عنهم، وإلا فلا تدري كيف كان ذلك العماء.
قال الأزهري: فنحن نؤمن به ولا نكيف صفته، انتهى كلام الخازن.
وقال السيوطي في مصباح الزجاجة: قال القاضي ناصر الدين بن المنير، وجه الإشكال في الحديث الظرفية والفوقية والتحتية، قال والجواب أن في معنى علي، وعلي بمعنى الاستيلاء، أي كان مستولياً على هذا السحاب الذي خلق منه المخلوقات كلها والضمير في فوقه يعود إلى السحاب، وكذلك تحته، أي كان مستولياً على هذا السحاب الذي فوقه الهواء وتحته الهواء، وروى بلفظ القصر في العمى. والمعنى عدم ما سواه كأنه قال: كان ولم يكن معه شيء، بل كل شيء كان عدماً عمى لا موجوداً ولا مدركاً، والهواء الفراغ أيضاً العدم كأنه قال: كان ولا شيء معه ولا فوق ولا تحت انتهى.
قلت: إن صحت الرواية عمى بالقصر فلا إشكال في هذا الحديث، وهو حينئذ في معنى حديث "كان الله ولم يكن شيء غيره وكان عرشه على الماء" رواه البخاري وغيره عن عمران بن حصين، وإن صحت الرواية عماء باملد، فلا حاجة إلى تأويل بل يقال نحن نؤمن به ولا نكيفه بصفة، أي نجري اللفظ على ما جاء عليه من غير تأويل كما قال الأزهري "وخلق عرشه على الماء" وفي رواية أحمد: ثم خلق عرشه على الماء.
قال الحافظ: قد روى أحمد والترمذي وصححه من حديث أبي رزين العقلي مرفوعاً: إن الماء خلق قبل العرش. وروى السدي في تفسيره بأسانيد متعددة: إن الله لم يخلق شيئاً مما خلق قبل الماء. وأما ما رواه أحمد والترمذي وصححه من حديث عبادة بن الصامت مرفوعاً، أول ما خلق الله القلم، ثم قال أكتب فجرى بما هو كائن إلى يوم القيامة فيجمع بينه وبين ما قبله بأن ألألية القلم بالنسبة إلى ما عدا الماء والعرش، أو بالنسبة إلى ما صدر منه من الكتابة، أي أنه قيل له أكتب أول ما خلق انتهى.
قوله: "قال أحمد" أي ابن منيع "قال يزيد" أي ابن هارون في تفسير(8/530)
حَمّادُ بنُ سَلَمَةَ: وَكِيعُ بنُ حدسٍ، ويقولُ شُعْبَةُ وأبو عَوانَةَ وَهُشَيْمٌ: وَكِيعُ بنُ عدسٍ وهو أصح وأبو رزين اسمه لقيط بن عامرٍ. قال: وهذا حديثٌ حسنٌ.
5110- حدثنا أبو كُرَيْبٍ، أخبرنا أبو مُعَاوِيَةَ عن بُرَيْدِ بنِ عبدِ الله عن أبي بُرْدَةَ عن أبي مُوسَى، أنّ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم قال: "إنّ الله تَبَارَكَ وَتَعَالَى يُمْلِي، وَرُبّمَا قال يُمْهِلُ الظّالِمَ حَتّى إذَا أخَذَهُ لَمْ يُفْلِتْهُ، ثُمّ قَرَأَ: {وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ} الاَية".
هذا حديثٌ حسنٌ صحيحٌ غريبٌ.
وقد رواه أبو أُسَامَةَ عن بُرَيْدٍ نَحْوَهُ، وقال: يمْلِى.
ـــــــ
العماء المذكور في الحديث "العماء أي ليس معه شيء" كذا فسر يزيد العماء بأنه ليس معه شيء، وقد عرفت أن العماء بالمد هو السحاب الرقيق، والعمى بالقصر بمعنى ليس معه شيء.
قوله: "هذا حديث حسن" وأخرجه أحمد وابن ماجه.
قوله: "إن الله تبارك وتعالى يملي" من الإملاء. قال في القاموس: أملاه الله أمهله "حتى إذا أخذه لم يفلته" بضم ألأله من الإفلات، أي لم يخلصه، أن إذا أهلكه لم يرفع عنه الهلاك، وهذا على تفسير الظلم بالشرك على إطلاقه، وإن فسر بما هو أعم. فيحمل كل على ما يليق به {وَكَذَلِكَ} أي مثل ذلك الأخذ {أَخْذُ رَبِّكَ} قرئ على أنه فعل، وعلى أنه مصدر {إِذَا أَخَذَ الْقُرَى} أريد أهلها. والمعنى وكما أهلكنا أولئك القرون الظالمة، كذلك نفعل بأشباههم {وَهِيَ ظَالِمَةٌ} بالذنوب. أي فلا يغني عنهم من أخذه شيء.
قوله: "هذا حديث حسن صحيح غريب" وأخرجه البخاري ومسلم والنسائي وابن ماجه.
قوله: "وقال يملي" أي بلا شك.(8/531)
5111- حدثنا إبْراهِيمُ بنُ سَعِيدٍ الْجَوْهَرِيّ، عن أبي أُسَامَةَ، عن بُرَيْدِ بنِ عَبْدِ الله بن أبي بُردة عن جَدّهِ أبي بُرْدَةَ عن أبي مُوسَى عن النّبيّ صلى الله عليه وسلم نحْوَهُ، وقال: يُمْلِي، ولم يَشُكّ فيه.
5112- حدثنا محمد بن بشار بندار، أخبرنا أبو عامِر الْعَقَدِيّ، هُوَ عَبْدُ المَلِكِ بنُ عَمْرٍو، أخبرنا سُلَيْمانُ بن سُفْيَانَ عن عَبْدِ الله بنِ دِينَار عن ابنِ عُمَرَ عن عُمَرَ بنِ الْخَطّابِ قال: "لَمّا نَزَلَتْ هَذِهِ الآية: {فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ} سَأَلْتُ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم، فَقلت: يَا نَبِيّ الله، فَعَلَى مَا نَعْمَلُ عَلَى شَيْءٍ قَدْ فُرِغَ مِنْهُ، أَوْ عَلَى شَيْء لَمْ يُفْرَغْ مِنْهُ؟ قال: بَلْ عَلَى شَيْء قَدْ فُرِغَ مِنْهُ وَجَرَتْ بِهِ الأقْلاَمُ يَا عُمَرُ وَلَكِنْ كُلّ مُيَسّرٌ لِمَا خُلِقَ لَهُ" . هذا حديثٌ حسنٌ غريب من هذا الْوَجْهِ لا نَعْرِفُهُ إلاّ من حديثِ عَبْدِ المَلِكِ بنِ عَمْرِو.
ـــــــ
قوله: "قال يملي ولم يشك فيه" قال الحافظ: قد رواه مسلم وابن ماجه والنسائي من طرق عن أبي معاوية يملي ولم يشك.
قوله: {فَمِنْهُمْ} أي فمن أهل الموقف وإن لم يذكروا. قال الزمخشري: لأن ذلك معلوم {شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ} الشقي: من سبقت له الشقاوة في الأزل، والسعيد من سبقت له السعادة في الأزل "على شيء قد فرغ منه أو على شيء لم يفرغ منه" بالبناء للمفعول للفعلين، أي أتعمل على شيء قد فرغ الله تعالى عن قضائه، وقدره، وجرى به القلم، أو نعمل على شيء قد فرغ الله تعالى عن قضائه، وقدره، وجرى به القلم، أو نعلم على شيء لم يفرغ الله تعالى عن قضائه وقدره "ولكن كل ميسر لما خلق له" أي موفق ومهيأ لما خلق له أي لأمر قدر ذلك الأمر له من الخير والشر والتنوين عوض عن الماضف إليه.
قوله: "هذا حديث حسن غريب" وأخرجه أبو يعلى في مسنده وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ وابن مردوبه. وأخرجه الترمذي نحوه في باب الشقاء والسعادة.(8/532)
5113- حدثنا قُتَيْبَةُ، أخبرنا أبو الأحْوَصِ عن سِمَاكِ بنِ حَرْبٍ عن إِبراهِيمَ عن عَلْقَمَةَ وَالأسْوَدِ عن عَبْدِ الله قال: "جاءَ رَجُلٌ إلى النّبيّ صلى الله عليه وسلم فقال: إنّي عالَجْتُ امْرَأَةً في أَقْصَى المَدِينَةِ وَإِنّي أَصَبْتُ مِنْهَا مَا دُونَ أَنْ أَمَسّهَا وَأَنَا هَذَا. فَاقْضِ فِيّ ما شِئْتَ، فقال لَهُ عُمَرُ: لَقَدْ سَتَرَكَ الله لَوْ سَتَرْتَ عَلَى نَفْسكَ، فلَمْ يَرُدّ عَلَيْهِ رَسولُ الله صلى الله عليه وسلم شَيْئاً، فانْطَلَقَ الرّجُلُ، فَأَتْبَعَهُ رَسولُ الله صلى الله عليه وسلم رَجُلاً فَدَعَاهُ، فَتَلاَ عَلَيْهِ: {وَأَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفاً مِنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ} إلى آخِرِ الآية. فقال رَجُلٌ
ـــــــ
قوله: "إن عالجت امرأة" أي داعبتها وناولت منها ما يكون بين الرجل والمرأة غير أني ما جامعتها "في أقصى المدينة" أي أسفلها وأبعدها عن المسجد "ما دون أن أمسها" ما موصوله، أي أصبت منها ما يجاوز المس، أي المجامعة "وأنا هذا" أي أنا موجود وحاضر بين يديك ومنقاد لحكمك "ناقض في" أي فاحكم في حقي "ما شئت" أي أردته مما يجب عليّ كناية عن غاية التسليم والانقياد إلى حكم الله ورسوله "لو سترت على نفسك" أي لكان حسناف "فلم يرد عليه" أي على الرجل، أو على عمر "شيئاً" من الكلام انتظاراً لقضاء الله فيه رجاء أن يخفف من عقوبته "فانطلق الرجل" أي فذهب ظناً منه لسكوته عليه الصلاة والسلام أن الله سينزل فيه شيئاً، وأنه لا بد أن يبلغه، فإن كان عفواً شكر، وإلا عاد ليستوفي منه "فأتبعه رسول الله صلى الله عليه وسلم" أي أرسل عقبه "رجلاً" ليدعوه "فتلا عليه" أي فقرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم على الرجل {وَأَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ} الغداة والعشي، أي الصبح والظهر والعصر {وَزُلَفاً} جمع زلفة، أي طائفة {مِنَ اللَّيْلِ} أي المغرب والعشاء {إِنَّ الْحَسَنَاتِ} كالصلوات الخمس {يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ} أي الذنوب الصغائر {ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ} عظة للمتعظين، كذا في الجلالين. وقال الرازي في تفسيره: كثرت المذاهب في تفسير طرفى النهار هي الفجر(8/533)
مِنَ الْقَوْمِ: هَذَا لَهُ خاصّةً؟ قال: "لا، بَلْ لِلنّاسِ كَافّةً ".
هذا حديثٌ حسنٌ صحيحٌ. وهكذا رَوَى إسْرَائِيلُ، عن سِمَاكٍ، عن
ـــــــ
والعصر، وذلك لأن أحد طرفي النهار هو طلوع الشمس، والطرف الثاني منه غروبها. فالطرف الأول هو صلاة الفجر، والطرف الثاني لا يجوز أن يكون صلاة المغرب لأنها داخلة تحت قوله تعالى: {وَزُلَفاً مِنَ اللَّيْلِ} فوجب حمل الطرف الثاني على صلاة العصر انتهى.
وقال مجاهد: طرفى النهار ويعني صلاة الصبح والظهر والعصر، وزلفاً من الليل: يعني صلاة المغرب والعشاء.
وقال مقاتل: صلاة الصبح والظهر طرف، وصلاة العصر والمغرب طرف وزلفاً من الليل يعني صلاة العشاء.
وقال الحسن: طرفى النهار الصبح والعصر، وزلفاً من الليل المغرب والعشاء وقال ابن عباس: طرفى النهار الغداة والعشي يعني صلاة الصبح والمغرب كذا في الخازن.
وقال في المدارك: {وَأَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ} غدوة وعشية {وَزُلَفاً مِنَ اللَّيْلِ} وساعات من الليل جمع زلفة، وهي ساعاته القريبة من آخر النهار، من أزلفه إذا قربه، وصلاة الغدوة الفجر، وصلاة العشية الظهر والعصر. لأن ما عبد الزوال عشى، وصلاة الزلف المغرب: والعشاء انتهى.
وقال في القاموس: الزلفة بالضم: الطائفة من الليل والزلف ساعات الليل الاَخذة من النهار، وساعات النهار الاَخذة من الليل انتهى.
قلت: والأقرب عندي والله تعالى أعلم، ما اختاره في تفسير الجلالين والمدارك وهو قول مجاهد "فقال رجل من القوم" قيل هو عمر بن الخطاب، وقيل هو معاذ ابن جبل "هذا له" أي هذا الحكم للسائل "خاصة" أي يخصه خصوصاً، أم للناس عامة "قال بل للناس كافة" هكذا تستعمل كافة" حالاً، أي كلهم ولا يضاف فيقال كافة الناس، ولا الكافة بالألف واللام وهو معدود في تصحيف العوام ومن أشبههم، قاله النووي.
قوله: "هذا حديث حسن صحيح" قال الحافظ أخرجه مسلم وأصحاب السنن.(8/534)
إبراهِيمَ، عن عَلْقَمَةَ وَالأَسْوَدِ، عن عَبْدِ الله، عن النّبيّ صلى الله عليه وسلم نحْوَهُ. وَرَوَى شُعْبَةُ عن سِمَاكٍ بن ح. رب عن إبراهِيمَ عن الأسْوَدِ عن عَبْدِ الله عن النّبيّ صلى الله عليه وسلم نحْوَهُ. وَرَوَى سُفْيَانُ الثّوْرِيّ عن سِمَاكٍ عن إبراهِيمَ عن عَبْدِ الرّحمَنِ بنِ يَزِيدَ عن عَبْدِ الله عن النّبيّ صلى الله عليه وسلم مِثْلَهُ. وَرِوَايَةُ هَؤُلاَءِ أَصَحّ مِنْ رِوَايَةِ الثّوْرِيّ.
5114- حدثنا مُحمّدُ بنُ يَحْيَى النّيْسَابُورِيّ، أخبرنا مُحمّدُ بنُ يُوسُفَ عن سُفْيَانَ الثّوْرِيّ عن الأعمَشِ. وَسِمَاكٌ عن إبراهِيمَ عن عَبْدِ الرّحْمَنِ بنِ يَزِيدَ عن عَبْدِ الله عن النّبيّ صلى الله عليه وسلم نحْوَهُ بِمَعْنَاهُ.
5115- حدثنا مَحْمُودُ بنُ غَيْلاَنَ، أخبرنا الْفَضْلُ بنُ مُوسَى، عن سُفْيَانَ عن سِمَاكٍ عن إبراهِيمَ عن عَبْدِ الرّحْمَنِ بنِ يَزِيدَ عن عَبْدِ الله بنِ مَسْعُودِ، عن النّبيّ صلى الله عليه وسلم نحْوَهُ بِمَعْنَاهُ، ولم يَذْكُرْ فيه عن الأعمَشِ. وقد رَوَى سُلَيْمانُ التّيْمِيّ هذا الحديثَ عن أبي عُثْمانَ النّهْدِيّ عن ابنِ مَسْعُودٍ عن النّبيّ صلى الله عليه وسلم.
5116- حدثنا مُحمّدُ بنُ بَشّارٍ، أخبرنا يَحْيَى بن سَعِيدٍ عن سُلَيْمانَ التّيْمِيّ عن أبي عُثمانَ عن ابنِ مَسْعُودٍ "أَنّ رَجُلاً أَصَابَ مِنَ امْرأَةٍ قُبْلَةً حَرَامٍ، فأَتى النّبيّ صلى الله عليه وسلم فَسَأَلَهُ عَنْ كَفّارَتِهَا، فَنَزَلَتْ: {وَأَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفاً مِنَ اللَّيْلِ} الآية، فقال الرّجُلُ: أَلِي هَذِهِ
ـــــــ
قوله: "ورواية هؤلاء أصح من رواية الثوري" أي رواية أبي الأحوص وإسرائيل، وشعبة أصح من رواية سفيان الثوري.
قوله: "فقال الرجل ألي هذه؟" أي الآية، يعني خاصة بي بأن صلاتي مذهبة(8/535)
يَا رَسُولَ الله؟ فقال: "لَكَ وَلِمَنْ عَمِلَ بها مِنْ أُمّتِي" . هذا حديثٌ حسنٌ صحيحٌ.
5117- حدثنا عَبْدُ بنُ حُمَيْدٍ، أخبرنا حُسَيْنُ بنُ عَلِيّ الْجُعَفِيّ عن زَائِدَةَ عن عَبْدِ المَلِكِ بنِ عُمَيْرٍ، عن عَبْدِ الرّحْمَنِ بنِ أبي لَيْلَى عن مُعَاذِ بنِ جَبَلٍ قال: "أَتى النّبيّ صلى الله عليه وسلم رَجُلٌ فقال: يَا رَسُولَ الله،
ـــــــ
لمعصيتي؟ فظاهر هذا أن صاحب القصة هو السائل عن ذلك. ولأحمد والطبراني من حديث ابن عباس قال يا رسول الله: ألي خاصة أم للناس عامة؟ فضرب عمر صدره وقال: لا، ولا نعمة عين بل للناس عامة، فقال النبي صلى الله عليه وسلم صدق عمر. وفي حديث أبي اليسر: فقال إنسان يا رسول الله: له خاصة. وفي رواية إبراهيم النخعي عند مسلم فقال معاذ يا رسول الله أله وحده أم للناس كافة. وللدارقطني مثله من حديث معاذ نفسه. ويحمل على تعدد السائلين عن ذلك "فقال لك ولمن عمل بها" أي بهذه الآية بأن فعل حسنة بعد سيئة. وفي رواية للبخاري قال: لجميع أمتي كلهم.
وتمسك بظاهر قوله تعالى: {إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ} المرجئة، وقالوا: إن الحسنات تكفر كل سيئة كبيرة كانت أو صغير.
وحمل الجمهور هذا المطلق على القيد في الحديث الصحيح أن الصلاة إلى الصلاة كفارة لما بينهما ما اجتنبت الكبائر. فقال طائفة: إن اجتنبت الكبائر كان الحسنات كفارة لما عدا الكبائر من الذنوب، وإن لم تجتنب الكبائر لم تحط الحسنات شيئاً.
وقال آخرون: إن لم تجتنب الكبائر لم تحط الحسنات شيئاً منها وتحط الصغائر وقيل المراد إن الحسنات تكون سبباً في ترك السيئات كقوله تعالى: {إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ} لا أنها تكفر شيئاً حقيقة، وهذا قول بعض المعتزلة.
قوله: "هذا حديث حسن صحيح" وأخرجه الشيخان.
قوله: "عن زائدة" هو ابن قدامة(8/536)
أَرَأَيْتَ رَجُلاً لَقِيَ امْرَأَةً وَلَيْسَ بَيْنَهُمَا مَعْرِفَةٌ، فَلَيْسَ يَأْتِي الرّجُلُ شَيْئاً إلى امْرَأَتِهِ إلاّ قَدْ أتى هُوَ إلَيْهَا، إلاّ أَنّهُ لَمْ يُجَامِعْهَا؟ قال: فأَنْزَلَ الله: {وَأَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفاً مِنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ} فَأَمَرَهُ أَنْ يَتَوَضّأَ وَيُصَلّيَ. قال مُعَاذٌ: فَقلت: يَا رَسُولَ الله، أَهِيَ لَهُ خَاصّةً أَمْ لِلْمُؤْمِنِينَ عامّةً؟ قال: "بَلْ لِلْمُؤْمِنِينَ عامّةً" .
هذا حديثٌ لَيْسَ إسنادُهُ بِمُتّصِلٍ. عَبْدُ الرّحْمَنِ بنُ أبي لَيْلَى لَمْ يَسْمَعْ مِنْ مُعَاذِ بنِ جَبَلٍ، وَمُعَاذُ بنُ جَبَلٍ مَاتَ في خِلاَفَةِ عُمَرَ وَقُتِلَ عُمَرُ وَعَبْدُ الرّحْمَنِ بنُ أبي لَيْلَى غُلامٌ صَغِيرٌ ابنُ سِتّ سِنِينَ. وقد رَوَى عن عُمَرَ. وَرَوَى شُعْبَةُ هذا الحديثَ عن عَبْدِ المَلِكِ بنِ عُمَيْرٍ عن عَبْدِ الرّحْمَنِ بنِ أبي لَيْلَى عن النّبيّ صلى الله عليه وسلم مُرْسَلاً.
ـــــــ
قوله: "أرأيت رجلاً" أي أخبرني عن رجل "فليس يأتي الرجل إلى امرأته شيئاً إلا قد أتى هو إليها" يعني أنه استمتع بها بالقبلة والمعانقة وغيرهما من جميع أنواع الاستمتاع إلا الجماع.
قوله: "هذا حديث ليس إسناد بمتصل الخ" وأخرجه أحمد. "وقد روى عن عمر ورآه".
قال الحافظ في تهذيب التهذيب: قال ابن أبي حاتم قلت لأبي: يصح لابن أبي ليلى سماع من عمر؟ قال لا. قال أبو حاتم: روى عن عبد الرحمن أنه رأى عمر وبعض أهل العلم يدخل بينه وبين عمر البراء بن عازب وبعضهم كعب بن عجرة.
وقال الاَجري عن أبي داود: رأى عمر ولا أدري بصح أم لا.
وقال أبو خيثمة في مسنده حدثنا يزيد بن هارون أخبرنا سفيان الثوري عن زبيد وهو الإيامي عن عبد الرحمن بن أبي ليلى: سمعت عمر يقول صلاة الأضحى ركعتين(8/537)
5118- حدثنا عَبْدُ الله بنُ عَبْدِ الرّحْمَنِ، أخبرنا يَزِيدُ بنُ هَارُونَ أخبرنا قَيْسُ بن الرّبيعِ عن عُثمانَ بنِ عَبْدِ الله بنِ مَوْهِبٍ عن مُوسَى بنِ طَلْحَةَ عن أبي الْيَسَرِ قال: "أَتَتْنِي امْرَأَةٌ تَبْتَاعُ تَمْراً، فَقلت: إنّ في الْبَيْتِ تَمْراً أَطَيب مِنْهُ. فَدَخَلَتْ مَعِي في الْبَيْتِ، فَأَهْوَيْتُ إِلَيْهَا فَقَبّلْتُهَا، فَأَتَيْتُ أبَا بَكْرٍ، فَذَكَرْتُ ذَلِكَ لَهُ، فقال: اسْتُرْ عَلَى نَفْسِكَ وَتُبْ وَلاَ تُخْبِرْ أحَداً فَلَمْ أصْبِرْ. فأَتَيْتُ عُمَرَ فَذَكَرْتُ ذَلِكَ لَهُ. فقال: اسْتُرْ علَى نَفِسِكَ وَتُبْ ولاَ تُخْبِرْ أَحْداً فَلَمْ أَصْبِرْ. فأَتَيْتُ النّبيّ صلى الله عليه وسلم فَذَكَرْتُ ذَلِكَ لَهُ. فقال لَهُ: "أَخَلَفْتَ غَازِياً في سَبِيلِ الله في أهْلِهِ بِمِثْلِ هَذَا، حَتّى تَمَنّى أَنّهُ لَمْ يَكُنْ أَسْلَمَ إِلاّ تِلْكَ السّاعَةَ، حَتّى ظَنّ
ـــــــ
والفطر ركعتين الحديث. قال أبو خيثمة تفرد به يزيد بن هارون هكذا ولم يقل أحد سمعت عمر غيره، ورواه يحيى بن سعيد وغير واحد عن سفيان عن زبيد عن عبد الرحمن عن الثقة عن عمر، ورواه شريك عن زبيد عن عبد الرحمن عن عمر ولم يقل سمعت. وقال ابن أبي خيثمة في تاريخه، وقد روى سماعه من عمر من طرق وليست بصحيح.
وقال الخليلي في الإرشاد: الحفاظ لا يثبتون سماعه من عمر. وقال ابن المديني كان شعبة ينكر أن يكون سمع من عمر.
قال ابن المديني: لم يسمع من معاذ بن جبل، وكذا قال الترمذي في العلل وابن خزيمة. وقال يعقوب بن شيبة: قال ابن معين: لم يسمع من عمر ولا من عثمان، وسمع من علي انتهى.
قوله: "تبتاع تمراً" أي تشتري "فأهويت إليها" أي ملت إليها "أخلفت غازياً في سبيل الله في أهله بمثل هذا" قال الجزري في النهاية: يقال خلفت الرجل في أهله: إذا أقمت بعده فيهم وقمت عنه بما يفعله، والهمزة فيه للاستفهام انتهى.
وفي رواية: أنه أتته امرأة وزوجها قد بعثه رسول الله صلى الله عليه وسلم(8/538)
أَنّهُ مِنْ أهْلِ النّارِ". قال: وَأَطْرَقَ رَسولُ الله صلى الله عليه وسلم طَوِيلاً حَتّى أوحى الله إِلَيْهِ: {وَأَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفاً مِنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ} . قال أبو الْيَسَرِ: فَأَتَيْتُهُ، فَقَرأَهَا عَلَيّ رَسولُ الله صلى الله عليه وسلم، فقال أَصْحَابُهُ: يَا رَسُولَ الله، أَلِهَذَا خَاصّةً أَمْ لِلنّاسِ عَامّةً؟ قال: "بَلْ لِلنّاسِ عامّةً" .
هذا حديثٌ حسنٌ صحيحٌ غريبٌ. وَقَيْسُ بنُ الرّبِيعِ ضَعّفَهُ وَكِيعٌ وغيرُهُ. وأبو اليسر هو كعب بن عمرو قال: وَرَوَى شَرِيكٌ عن عُثْمَانَ بنِ عَبْدِ الله هذا الحديثَ مِثْلَ رِوَايَةِ قَيْسِ بنِ الرّبِيعِ.
وفي البابِ عن أبي أُمَامَةَ وَوَاثِلَةَ بنِ الأسْقَعِ وَأَنَسِ بنِ مَالِكٍ.
وأبو اليسر اسمه بن عمروا.
ـــــــ
في بعث إلخ "حتى تمنى أنه لم يكن أسلم إلا تلك الساعة" لأن الإسلام يهدم ما قبله وأطرق رسول الله صلى الله عليه وسلم.
قال في النهاية: الإطراق أن يقبل ببصره إلى صدره ويسكت ساكناً طويلاً أي إطراقاً طويلاً أو زماناً طويلاً.
قوله: "هذا حديث حسن صحيح غريب" وأخرجه النسائي والبزار كما في الفتح.
قوله: "وفي الباب عن أبي أمامة ووائلة بن الأسقع وأنس بن مالك" أما حديث أبي أمامة فأخرجه أحمد ومسلم وغيرهما، وأما حديث وائلة بن الأسقع فلينظر من أخرجه، وأما حديث أنس بن مالك فأخرجه الشيخان.
قوله: "وأبو اليسر" بفتح التحتية والسين المهملة "اسمه كعب بن عمرو" ابن عباد السلمي بالفتح، الأنصاري صحابي بدرى جليل.(8/539)
وَمِنْ سُورةِ يُوسُف
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
5119- حدثنا الْحُسَيْنُ بنُ حُرَيْثٍ الْخُزَاعِيّ المروزي، أخبرنا الْفَضْلُ بنُ مُوسَى عن مُحمّدِ بنِ عَمْرٍو عن أبي سَلَمَةَ عن أبي هُرَيْرَةَ قال قال رَسولُ الله صلى الله عليه وسلم: "إنّ الْكَرِيمَ ابْنَ الْكَرِيمِ بْنِ الْكَرِيمِ بْنِ الْكَرِيمِ يُوسُفُ بنَ يَعْقُوبَ بنِ إسْحَاقَ بنِ إبراهِيمَ. قال1: وَلَوْ لَبَثْتُ في السّجْنِ ما لَبِثَ يُوسُفُ، ثُمّ جاءَنِي الرّسُولُ أَجَبْتُ، ثُمّ قَرَأَ {فَلَمَّا جَاءَهُ الرَّسُولُ
ـــــــ
وَمِنْ سُورةِ يُوسُف
هي مكية مائة وإحدى عشرة آية
قوله: "يوسف" مرفوع لأنه حبر إن، واسمها الكريم وهو ضد اللئيم، وكل نفس كريم هو متناول للصالح الجيد ديناً ودنيا.
قال النووي: وأصل الكرم كثرة الخير، وقد جمع يوسف عليه الصلاة والسلام مكارم الأخلاق مع شرف النبوة. وكونه ابناً لثلاثة أنبياء متناسلين، ومع شرف رياسة الدنيا ملكها بالعدل والإحسان، وكون قوله صلى الله عليه وسلم الكريم بن الكريم إلى آخره موزوناً مقفى لا ينافي "ما علمناه الشعر" إذ لم يكن هذا بالقصد بل وقع بالاتفاق، والمراد صنعة الشعر "ولمو لبثت في السجن ما لبث يوسف ثم جاءني الرسول أجبت" أي لأسرعت الإجابة في الخروج من السجن ولما قدمت طلب البراءة، فوصف بشدة الصبر حيث لم يبادر بالخروج، وإنما قاله صلى الله عليه وسلم تواضعاً، والتواضع لا يحط مرتبة الكبير بل يزيده رفعة وجلالاً، وقيل هو من جنس قوله: لا تفضلوني على يونس.
وقد قيل إنه قاله قبل أن يعلم أنه أفضل من الجميع {فَلَمَّا جَاءَهُ} أي يوسف
ـــــــ
1 هكذا ورد بالأصل، ويرجح سقوط عبارة "رحم الله يوسف".(8/540)
قَالَ ارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ فاسْأَلْهُ مَا بَالُ النِّسْوَةِ اللَّاتِي قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ} قال: وَرَحْمَةُ الله عَلَى لُوطٍ إنْ كَانَ لَيَأْوِي إلى رُكْنٍ شَدِيدٍ فما بَعَثَ الله مِنْ بَعْدِهِ نَبِيّا إِلاّ في ذِرْوَةٍ مِنْ قَوْمِهِ".
5120- حدثنا أبو كُرَيْبٍ حدثنا عَبْدَةُ وَعَبْدُ الرّحِيمِ عن مُحَمّدِ بنِ
ـــــــ
"الرَّسُولُ" وطلبه للخروج "قَالَ" أي يوسف قاصداً إظهار براءته {ارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ} أي إلى سيدك وهو الملك {فاسْأَلْهُ} أن يسأل {مَا بَالُ} حال {النِّسْوَةِ اللَّاتِي قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ} لم يصرح بذكر امرأة العزيز أدباً واحتراماً لها "ورحمة الله على لوط إن كان ليأوى إلى ركن شديد" أي إلى الله سبحانه وتعالى، يشير صلى الله عليه وسلم إلى قوله تعالى: {لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً أَوْ آوِي إِلَى رُكْنٍ شَدِيدٍ} ويقال إن قوم لوط لم يكن فيهم أحد يجتمع معه في نسبه، لأنهم من سدوم وهي من الشام، وأصل إبراهيم ولوط من العرق، فلما هاجر إبراهيم إلى الشام هاجر معه لوط، فبعث الله لوط إلى أهل سدوم، فقال لو أن لي منعة وأقارب وعشيرة، لكنت استنصر بهم عليكم ليدفعوا عن ضيفاني، ولهذا جاء في بعض طرق هذا الحديث، كما أخرجه أحمد، قال لوط {لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً أَوْ آوِي إِلَى رُكْنٍ شَدِيدٍ} قال: فإنه كان يأوى إلى ركن شديد، ولكنه عني عشيرته، فما بعث الله نبياً إلا في ذروة من قومه زاد ابن مردويه: ألم تر إلى قول قوم شعيب: {وَلَوْلا رَهْطُكَ لَرَجَمْنَاكَ} وقيل معنى قوله: لقد كان يأوى إلى ركن شديد: أي إلى عشيرته لكنه لم يأو إليهم وآوى إلى الله انتهى، والأول أظهر.
وقال الجزري في النهاية: في الحديث أنه قال رحم الله لوطاً إنه كان يأوى إلى ركن شديد: أي إلى الله تعالى الذي هو أشد الأركان وأقواها. وإنما ترحم عليه لسهوه حين ضاق صدره من قومه حتى قال: أو آوى إلى ركن شديد، أراد عز العشيرة الذين يستند إليهم كما يستند إلى الركن من الحائط "فما بعث الله من بعده" أي بعد لوط عليه السلام "إلا في ذروة من قومه" بضم الذال وكسرها، أي أعلا نسب قومه.
قوله: "أخبرنا عبدة" بن سليمان الكلابي "وعبد الرحيم" بن سليمان الأشل.(8/541)
عَمْرٍو نَحْوَ حَدِيثِ الْفَضْلِ بنِ مُوسَى، إِلاّ أَنّهُ قال: "ما بَعَثَ الله بَعْدَهُ نَبِيّا إِلاّ في ثَرْوَةٍ مِنْ قَوْمِهِ".
قال مُحمّدُ بنُ عَمْرٍو: والثّرْوَةُ: الْكَثْرَةُ وَالمَنْعَةُ. وهذا أصَحّ مِنْ رِوَايَةِ الْفَضْلِ بنِ مُوسَى. وهذا حديثٌ حسنٌ.
ـــــــ
قوله: "في ثروة من قومه" بفتح المثلثة وسكون الراء: في عدد كثير من قومه.
قال في النهاية: الثروة العدد الكثير، وإنما خص لوطاً لقوله: "لو أدلى بكم قوة أو آوى إلى ركن شديد".
قوله: "الثروة الكثرة والمنعة" يقال فلان في عز ومنعة بفتحتين وقد تسكن النون، وقيل المنعة جمع مانع مثل كافر وكفرة، أي هو في عز ومن يمنعه من عشيرته "وهذا حديث حسن" وأصله في الصحيحين.(8/542)
وَمِنْ سُورةِ الرّعْد
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
5121- حدثنا عَبْدُ الله بنُ عَبْدِ الرّحْمَنِ، أخبرنا أبو نُعَيْمٍ، عن عَبْدِ الله بنِ الْوَلِيدِ، وكَانَ يَكُونُ في بَنِي عِجْلٍ، عن بُكَيْرٍ بنِ شِهَاب، عن سَعِيدِ بنِ جُبَيْرٍ عن ابنِ عَبّاسٍ قال: "أَقْبَلْتْ يَهُودُ إلى النّبيّ صلى الله
ـــــــ
وَمِنْ سُورةِ الرّعْد
مكية إلا {وَلا يَزَالُ الَّذِينَ كَفَرُوا} الآية {وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَسْتَ مُرْسَلاً} الآية أو مدنية إلا {وَلَوْ أَنَّ قُرْآناً} الآيتين ثلاث أو أربع أو خمس أو ست وأربعون آية
قوله: "عن عبد الله بن الوليد وكان يكون في بني عجل" أي كان يسكن فيهم ولذلك يقال له العجلى وعبد الله بن الوليد، وهذا هو ابن عبد الله بن معقل بن مقرن المزني الكوفي. روى عن بكير بن شهاب وعيره، وعنه أبو نعيم وغيره، ثقة من السابعة "عن بكير بن شهاب" الكوفي مقبول من السادسة.(8/542)
عليه وسلم فقالوا: يَا أَبا الْقَاسِمِ، أَخْبِرْنَا عَنْ الرّعْدِ مَا هُوَ؟ قال: "مَلَكٌ مِنَ المَلاَئكةِ مُوَكّلٌ بِالسّحَابِ، مَعَهُ مَخَارِيقُ مِنْ نَارٍ يَسُوقُ بها السّحَابِ حَيْثُ شَاءَ الله" . فقالُوا: فَمَا هَذَا الصّوْتُ الّذِي نَسْمَعُ؟ قال: "زَجْرَهُ بالسّحَابِ إذا زَجَرَهُ حَتّى يَنْتَهِي إلى حَيثُ أُمِرَ" . قالُوا: صَدَقْتَ. فقالُوا: فَأَخْبِرْنَا عَمّا حَرّمَ إسْرَائِيلُ عَلَى نَفْسِهِ. قال: "اشْتَكَى عِرْقَ النّسَا فلَمْ يَجِدْ شَيْئاً يُلائِمُهُ إِلاّ لُحُومَ الاْبِلِ وَأَلْبَانَهَا، فَلِذَلِكَ حَرّمَهَا. قالُوا: صَدَقْتَ".
ـــــــ
قوله: "فقالوا يا أبا القاسم" هو كنية النبي صلى الله عليه وسلم "معه مخاريق" جمع مخراق. وهو في الأصل ثوب يلف ويضرب به الصبيان بعضهم بعضاً، وأراد به هنا آلة تزجر بها الملائكة السحاب "يسوق" أي الملك الموكل بالسحاب "بها" أي بتلك المخاريق "زجرة" أي هو زجره "إذا زجرة" أي إذا ساقه. قال الله تعالى: {فَالزَّاجِرَاتِ زَجْراً} يعني الملائكة تزجر السحاب، أي تسوقه "حتى ينتهي" أي يصل السحاب "إلى حيث أمر" بصيغة المجهول "عما حرم إسرائيل" هو يعقوب علي وعلى نبينا الصلاة والسلام "قال اشتكي" أي يعقوب "عرق النساء" بفتح النون والألف المقصورة: هو وجع يبتديء من مفصل الورك وينزل من جانب الوحشى على الفخذ، وربما امتد إلى الركبة وإلى الكعب، وسمى المرض باسم المحل، لأن النسا بالفتح والقصر: وريد يمتد على الفخذ من الوحشى إلى الكعب. وجرى العادة بأن يسمى وجع النسا بعرق النسا، وتقدير الكلام: وجع العرق الذي هو النسا "فلم يجد شيئاً" أي من المأكولات والمشروبات "يلائمه" أي يوافقه، صفة لقوله شيئاً "حرمها" أي لحوم الإبل وألبانها، وفي رواية الترمذي هذه، إجمال توضحه رواية أحمد من طريق هاشم ابن القاسم عن عبد الحميد عن شهر عن ابن عباس قال: حضرت عصابة من اليهود نبي الله صلى الله عليه وسلم، فقالوا: حدثنا عن خلال نسألك عنهن لا يعلمهن إلا نبي. الحديث، وفيه: فقال أنشدكم بالذي أنزل التوراة على موسى هل تعلمون أن إسرائيل مرض مرضاً شديداً وطال سقمه، فنذر لله نذراً لئن شفاه الله من(8/543)
هذا حديثٌ حسنٌ صحيح غريبٌ.
5122- حدثنا مَحمُودُ بنُ خِدَاشٍ الْبَغْدَادِيّ، أخبرنا سَيْفُ بنُ مُحمّدٍ الثّوْرِيّ عن الأعمَشِ عن أبي صَالحٍ عن أبي هُرَيْرَةَ عن النّبيّ صلى الله عليه وسلم في قوله: {وَنُفَضِّلُ بَعْضَهَا عَلَى بَعْضٍ فِي الْأُكُلِ} قال الدّقَلُ وَالْفارِسِيّ وَالْحُلْوُ وَالْحَامِضُ.
هذا حديثٌ حسنٌ غريبٌ. وقد رَوَاهُ زَيْدُ بنُ أبي أُنَيْسَةَ عن الأعمَشِ
ـــــــ
سقمه ليحر من أحب الطعام والشراب إليه، وكان أحب الطعام إليه لحم الإبل، وأحب الشراب إليه ألبانها، فقالوا: اللهم نعم.
قوله: "هذا حديث حسن صحيح غريب" وأخرجه أحمد والنسائي.
قوله: "أخبرنا سيف بن محمد الثوري" الكوفي ابن أخت سفيان الثوري، نزل بغداد كذبوه من صغار الثامنة.
قوله: {وَنُفَضِّلُ بَعْضَهَا عَلَى بَعْضٍ فِي الْأُكُلِ} بضم الهمزة والكاف: أي في الطعم "قال" أي النبي صلى الله عليه وسلم "الدقل" بفتحتين، رديء التمر ويابسه "والفارسي" نوع من التمر والاَية بتمامها مع تفسيرها هكذا، وفي الأرض قطع: بقاع مختلفة، متجاورات: متلاصقات، فمنها طيب وسبخ، وقليل الريع وكثيره، وهو من دلائل قدرته تعالى، وجنات: بساتين من أعناب. وزرع: بالرفع عطفاً على جنات والجر على أعناب، وكذا قوله: ونخيل صنوان: جمع صنو، وهي النخلات يجمعها أصل واحد وتتشعب فروعها، وغير صنوان: منفردة، يسقى: بالتاء أي الجنا وما فيها والياء أي المذكور، بماء واحد ونفضل: بالنون والياء، بعضها على بعض في الأكل: بضم الكاف وسكونها، فمن حلو وحامض، وهو من دلائل قدرته تعالى: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} يتدبرون.
قوله: "هذا حديث حسن غريب" وأخرجه البزار وابن جرير وابن المنذر.(8/544)
نحْوَ هَذا. وَسَيْفُ بنُ مُحمّدِ هُوَ أخُو عَمّارِ بنِ مُحمّدٍ. وَعَمّارٌ أَثْبَتَ مِنْهُ، وَهُوَ ابنُ أُخْتِ سُفْيَانَ الثّوْرِيّ.
ـــــــ
قأن قلت: في سنده سيف بن محمد وقد كذبوه، فكيف حسنه الترمذي.
قلت: لم ينفرد هو برواية هذا الحديث بل تابعه زيد بن أبي أنيسة، كما صرح به الترمذي بقوله، وقد رواه زيد بن أبي أنيسة عن الأعمش "وعمار أثبت منه".
قال في التقريب: عمار بن محمد الثوري أبو اليقظان الكوفي ابن أخت سفيان الثوري، سكن بغداد صدوق يخطئ وكان عابداً من الثامنة.(8/545)
ومن سورإبراهيم
...
سُورَةِ إبراهِيم
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
5123- حدثنا عَبْدُ بنُ حُمَيْدٍ، أخبرنا أبو الْوَلِيدِ، أخبرنا حَمّادُ بنُ سَلَمَةَ عن شُعَيْبِ بنِ الْحَبْحَابِ عن أَنَسِ بنِ مَالِكٍ قال: "أُتِيَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم بِقِنَاعٍ عَلَيْهِ رُطَب فقال: {مَثَلاً كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا}
ـــــــ
قأن قلت: في سنده سيف بن محمد وقد كذبوه، فكيف حسنه الترمذي.
قلت: لم ينفرد هو برواية هذا الحديث بل تابعه زيد بن أبي أنيسة، كما صرح به الترمذي بقوله، وقد رواه زيد بن أبي أنيسة عن الأعمش "وعمار أثبت منه".
قال في التقريب: عمار بن محمد الثوري أبو اليقظان الكوفي ابن أخت سفيان الثوري، سكن بغداد صدوق يخطئ وكان عابداً من الثامنة.
سُورَةِ إبراهِيم
هي مكية سوى آيتين وهما قوله سبحانه وتعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَتَ اللَّهِ كُفْراً} إلى آخر الآيتين، وهي إحدى، وقيل اثنتان وخمسون آية
قوله: "أخبرنا أبو الوليد" هو الطيالسي "عن شعيب بن الحبحاب" الأزدي مولاهم، كنيته أبو صالح البصري ثقة من الرابعة.
قوله: "أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم بقناع" بكسر القاف وخفة النون هو الطبق الذي يؤكل عليه {مَثَلاً كَلِمَةً طَيِّبَةً} أي لا إله إلا الله {كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ} أي في الأرض {وَفَرْعُهَا} أي أعلاها ورأسها {فِي السَّمَاءِ} أي ذاهبة في السماء {تُؤْتِي} أي تعطي {أُكُلَهَا} أي ثمرها {كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا} أي بأمر ربها. والحين في اللغة: الوقت، يطلق على القليل والكثير. واختلفوا في(8/545)
قال: هِيَ النّخْلَة. {وَمَثَلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ اجْتُثَّتْ مِنْ فَوْقِ الْأَرْضِ مَا لَهَا مِنْ قَرَارٍ} . قال: "هِيَ الْحَنْظَلَةُ" . قال: فأَخْبَرْتُ بِذَلِكَ أَبَا الْعَالِيَةِ. فقال: صَدَقَ وَأَحْسَنَ.
5124- حدثنا قُتَيْبَةُ، أخبرنا أبو بَكْرٍ بنِ شُعَيْبِ بنِ الْحَبْحَابِ عن أبِيهِ عن أَنَسِ بنِ مَالِكٍ نَحْوَهُ بِمَعْنَاهُ، ولم يَرْفَعْهُ، ولم يَذْكُرْ قَوْلَ
ـــــــ
مقداره ههنا، فقال مجاهد وعكرمة: الحين هنا سنة كاملة، لأن النخلة تثمر في كل سنة مرة واحدة. وقال سعيد بن جبير وقتادة والحسن ستة أشهر، يعني من وقت طلعها إلى حين صرامها، وروي ذلك عن ابن عباس أيضاً.
وقال علي بن أبي طالب: ثمانية أشهر، يعني أن مدة حملها باطناً وظاهراً ثمانية أشهر، وقيل أربعة أشهر من حين ظهور حملها إلى إدراكها. وقال سعيد بن المسيب: شهران، يعني من وقت أن يؤكل منها إلى صرامها. وقال الربيع بن أنس: كل حين يعني غدوة وعشية، لأن ثمر النخل يؤكل أبداً ليلاً ونهاراً وصيفاً وشتاءاً فيؤكل منها الجمار والطلع والبلح والخلال والبسر والمنصف والرطب، وبعد ذلك يؤكل التمر اليابس إلى حين الطري الرطب. فأكلها دائم في كل وقت. كذا في الخازن "قال" أي النبي صلى الله عليه وسلم {وَمَثَلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ} أي كلمة الكفر والشرك {اجْتُثَّتْ} يعني استؤصلت وقطعت {مَا لَهَا مِنْ قَرَارٍ} أي ما لهذه الشجرة من ثبات في الأرض، لأنها ليس لها أصل ثابت في الأرض ولا فرع صاعد إلى السماء "قال" أي النبي صلى الله عليه وسلم "هي" أي الشجرة الخبيثة "الحنظلة" هي نبات يمتد على الأرض كالبطيخ وثمره يشبه ثمر البطيخ لكنه أصغر منه جداً ويضرب المثل بمرارته "قال فأخبرت بذلك" أي قال شعيب بن الحجاب فأخبرت أنس هذا "فقال" أي أبو العالية "صدق" أي أنس وحديث أنس هذا رواه أبو يعلى في مسنده نحو رواية. الترمذي، وفيه كذلك كنا نسمع مكان صدق وأحسن.
قوله: "أخبرنا أبو بكر بن شعيب بن الحبحاب" الأزدي البصري، قيل. اسمه عبد الله، ثقة من السابعة.(8/546)
أبي الْعَالِيَةِ. وهذا أصَحّ من حديثِ حَمّادِ بنِ سَلَمَةَ. وَرَوَى غيرُ وَاحِدٍ مِثْلَ هذا مَوقُوفاً. ولا نَعْلَمُ أَحَداً رَفَعَهُ غيرَ حَمّادِ بنِ سَلَمَةَ. وَرَوَاهُ مَعْمَرٌ وَحَمّادُ بنُ زَيْدٍ وغيرُ وَاحِدٍ ولم يَرْفَعُوهُ.
5125- حدثنا أَحْمَدُ بنُ عَبْدَةَ الضّبّيّ، حدثنا حَمّادُ بنُ زَيْدٍ عن شُعَيْبِ بنِ الْحَبْحَابِ عن أَنَسِ بنِ مَالِكٍ نحْوَ حَدِيثِ قتيبة ولم يَرْفعَهُ.
5126- حدثنا مَحْمُودُ بنُ غَيْلاَنَ، أخبرنا أبو دَاوُدَ، أخبرنا شُعْبَةُ أخبرني عَلْقَمَةُ بنُ مَرْثَدٍ، قال سَمِعْتُ سَعد بنَ عُبَيْدَةَ يُحَدّثُ عن الْبَرَاءِ، عن النّبيّ صلى الله عليه وسلم في قوله: {يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ} قال: "في الْقَبْرِ إذَا قِيلَ لَهُ: مَنْ رَبّكَ وَمَا دِينُكَ وَمَنْ نَبِيّكَ؟" .
ـــــــ
قوله: "في قوله يثبت الله" أي في تفسير قوله تعالى: {يُثَبِّتُ اللَّهُ} إلخ {بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ} هو كلمة التوحيد، وهي شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله {فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} بأن لا يزالوا عنه إذا فتنوا في دينهم، ولم يرتابوا بالشبهات وإن ألقوا في النار، كما ثبت الذين فتنهم أصحاب الأخدود وغيرهم {وَفِي الْآخِرَةِ} أي في القبر، بتلقين الجواب وتمكين الصواب، وهو قول الجمهور. ويدل عليه قوله "قال في القبر" أي قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: نزلت هذه الآية في عذاب القبر، ففي رواية الشيخين: نزلت في عذاب القبر.
قال الكرماني: ليس في الآية ذكر عذاب القبر، فلعله سمى أحوال العبد في قبره عذاب القبر تغليباً لفتنة الكافر على فتنة المؤمن لأجل التخويف، ولأن القبر مقام الهول والوحشة. ولأن ملاقاة الملائكة مما يهاب منه ابن آدم في العادة "إذا قيل له" أي لصاحب القبر "من ربك وما دينك ومن تبيك" فإن كان مؤمناً(8/547)
هذا حديثٌ حسنٌ صحيحٌ.
5127- حدثنا ابنُ أبي عُمَرَ، أخبرنا سُفْيَانُ عن دَاوُدَ بنِ أبي هِنْدٍ عن الشّعْبِيّ عن مَسْرُوقٍ قال: "تَلَتْ عائِشَةُ هَذِه الآية: {يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ} قالَتْ: يَا رَسُولَ الله فَأَيْنَ يَكُونُ النّاسُ؟ قال: "عَلَى الصّرَاطِ" .
ـــــــ
أزال الله الخوف عنه، وثبت لسانه في جواب الملكين فيقول: ربي الله وديني الإسلام ونبي محمد.
قوله: "هذا حديث حسن صحيح" أخرجه الجماعة.
قوله: {يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ} قال صاحب فتح البيان في تفسير هذه الآية {يَوْمَ} أي اذكر وارتقب يوم {تُبَدَّلُ الْأَرْضُ} المشاهدة {غَيْرَ الْأَرْضِ} ولتبديل قد يكون في الذات كما في بدلت الدراهم بالدنانير، وقد يكون في الصفات كما في بدلت الحلقة خاتمك، والاَية تحتمل الأمرين، وبالثاني قال الأكثر والسماوات: أي وتبدل السماوات غير السماوات لدلالة ما قبله عليه على الاختلاف الذي مر، وتقديم تبديل الأرض لقربانها ولكون تبديلها أعظم أثراً بالنسبة إلينا.
أخرج مسلم وغيره من حديث ثوبان. قال: جاء رجل من اليهود إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم: فقال: أين يكون الناس يوم تبدل الأرض غير الأرض؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: في الظلمة دون الجسر . وأخرج مسلم وغيره أيضاً من حديث عائشة قالت: أنا أول من سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم وآله وسلم عن هذه الآية، قلت: أين الناس يومئذ؟ قال على الصراط. والصحيح على هذا إزالة عين هذه الأرض. وأخرج البزار وابن المنذر والطبراني في في الأوسط، والبيهقي وابن عساكر وابن مردويه عن ابن مسعود قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في قول الله: يوم تبدل الأرض غير الأرض. قال: أرض بيضاء كأنها فضة لم يسفك فيها دم حرام ولم يعمل بها خطيئة. قال البيهقي: والموقوف أصح. وفي الباب روايات وقد روى نحو ذلك عن جماعة من الصحابة(8/548)
هذا حديثٌ حسنٌ صحيحٌ. وقد رُوِيَ من غيرِ هذا الْوَجْهِ عن عائِشَةَ.
ـــــــ
وثبت في الصحيحين من حديث سهل بن سعد قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم وآله وسلم يقول: يحشر الناس يوم القيامة على أرض بيضاء عفراء كقرصة نقي وفيهما أيضاً من حديث أبي سعيد قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: تكون الأرض يوم القيامة خبزة واحدة يتكفؤها الجبار بيده. الحديث.
وقد أطال القرطبي في بيان ذلك في تفسيره وفي تذكرته: وحاصله أن هذه الأحاديث نص في أن الأرض والسماوات تبدل وتزال ويخلق الله أرضاً أخرى تكون عليها الناس بعد كونهم على الجسر وهو الصراط لا كما قال كثير من الناس: إن تبديل الأرض عبارة عن تغيير صفاتها وتسوية آكامها ونسف جبالها ومد أرضها، ثم قال وذكر شبيب بن إبراهيم في كتاب الإفصاح أنه لا تعارض بين هذه الآثار وأنهما تبدلان كرتين إحداهما، هذه الأولى قبل نفخة الصعق، والثانية إذا وقفوا في المحشر وهي أرض عفراء من فضة لم يسفك عليها دم حرام ولا جرى عليها ظلم، ويقوم الناس على الصراط على متن جهنم، ثم ذكر في موضع آخر من التذكرة ما يقتضي أن الخلائق وقت تبديل الأرض تكون في أيدى الملائكة، رافعين لهم عنها قال في لجمل: فتحصل من مجموعة كلامه أن تبديل هذه الأرض بأرض أخرى من فضة يكون قبل الصراط، وتكون الخلائق إذ ذاك مرفوعة في أيدي الملائكة، وأن تبديل الأرض بأرض من خبز يكون بعد الصراط، وتكون الخلائق إذا ذاك على الصراط، وهذه الأرض خاصة بالمؤمنين عند دخولهم الجنة انتهى ما في فتح البيان "فأين يكون الناس قال على الصراط" وعند مسلم من حديث ثوبان مرفوعاً: يكونون في الظلمة دون الجسر، وجمع بينهما البيهقي بأن المراد بالجسر الصراط. وأن في قوله على الصراط مجازاً لكونهم يجاوزونه، لأن في حديث ثوبان زيادة يتعين المصير إليها لثبوتها، وكأن ذلك عند الزجرة التي تقع عند نقلهم من أرض الدنيا إلى أرض الموقف، ويشير إلى ذلك قوله تعالى: {كَلَّا إِذَا دُكَّتِ الْأَرْضُ دَكّاً دَكّاً وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفّاً صَفّاً وَجِيءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ} كذا في الفتح.
قوله: "هذا حديث حسن صحيح" وأخرجه أحمد ومسلم وابن ماجه.(8/549)
من سورة الحجر
...
سُورَةُ الْحِجْر
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
5128- حدثنا قُتَيْبَةُ، حدثنا نُوحُ بنُ قَيْسٍ الْحُذامِيّ عن عَمْرِو بنِ مَالِكٍ عن أبي الْجَوْزَاءِ عن ابنِ عَبّاسٍ قال: "كَانَتْ امْرَأَةٌ تُصَلّي خَلْفَ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم حَسْنَاء مِنْ أَحْسَنِ النّاسِ، وَكَانَ بَعْضُ الْقَوْمِ يَتَقَدّمُ حَتّى يَكُونَ في الصّفّ الأوّلِ لئلا يَرَاهَا، وَيَسْتَأْخِرُ بَعْضُهُمْ حَتّى يَكُونَ في الصّفّ المُؤَخّرِ، فَإِذَا رَكَعَ نَظَرَ مِنْ تَحْتِ إِبْطَيْهِ، فَأَنْزَلَ الله تَعَالَى: {وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَقْدِمِينَ مِنْكُمْ وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَأْخِرِينَ} .
ـــــــ
سُورَةُ الْحِجْر
هي مكية بأجماعهم، وهي تسع وتسعون آية
قوله: "حدثنا نوح بن قيس الحداني" بضم المهملة الأولى وتشديد الثانية آخره نون قبل ياء النسبة "عن عمرو بن مالك" هو النكري.
قوله: فأنزل الله تعالى: {وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَقْدِمِينَ مِنْكُمْ وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَأْخِرِينَ} قال ابن جرير رحمه الله في تفسيره: اختلف أهل التأويل في ذلك، فقال بعضهم معنى ذلك: ولقد علمنا من مضى من الأمم فتقدم هلاكهم، ومن قد خلق وهو حي، ومن لم يخلق بعد ممن سيخلق، ثم ذكر أسماء من قال بهذا القول من الأئمة. ثم قال وقال آخرون: عني بالمستقدمين الذين قد هلكوا، ومن قد خلق وهو حيى، ومن لم يخلق بعد ممن سيخلق، ثم ذكر أسماء من قال بهذا القول من الأئمة. ثم قال(8/550)
وَرَوَى جَعْفَرُ بنُ سُلَيْمانَ هذا الحديثَ عن عَمْرِو بنِ مالِكٍ عن أبي الْجَوْزَاءِ نحْوَهُ، ولم يَذْكُرْ فيه عن ابنِ عَبّاسٍ. وهذا أَشْبَهُ أَنْ يَكُونَ أَصَحّ مِنْ حَدِيثِ نُوحٍ.
5129- حدثنا عَبْدُ بنُ حُمَيْدٍ، أخبرنا عُثْمانُ بنُ عُمَرَ عن مالِكِ بنِ
ـــــــ
وقال آخرون: عني بالمستقدمين الذين قد هلكوا، والمستأجرين: الأحياء، الذين لم يهلكوا ثم ذكر أسماء من قال بهذا القول ثم قال: وقال آخرون بل معناه ولقد علمنا المستقدمين في أول الخلق والمستأخرين في آخرهم. وذكر أسماء القائلين بهذا القول، ثم قال: وقال آخرون بل معنى ذلك: ولقد علمنا المستقدمين من الأمم، والمستأخرين: من أمة محمد صلى الله عليه وسلم، ثم ذكر أسماء من قال بهذا القول، ثم قال: وقال آخرون بل معناه: ولقد علمنا المستقدمين منكم: في الخير. والمستأخرين: عنه، ثم ذكر أسماء من قال بهذا القول، ثم قال: وأولى الأقوال عندي في ذلك بالصحة قول من قال: معنى ذلك، ولقد علمنا الأموات منكم يا بني آدم فتقدم موته، ولقد علمنا المستأخرين الذين استأخر موتهم ممن هو حيى ومن هو حادث منكم ممن لم يحدث بعد. لدلالة ما قبله من الكلام وهو قوله: {وَإِنَّا لَنَحْنُ نُحْيِي وَنُمِيتُ وَنَحْنُ الْوَارِثُونَ} وما بعده وهو قوله: {وَإِنَّ رَبَّكَ هُوَ يَحْشُرُهُمْ} على أن ذلك كذلك، إذ كان بين هذين الخبرين ولم يجر قبل ذلك من الكلام ما يدل على خلافه ولا جاء بعد، وجائز أن تكون نزلت في شأن المستقدمين في الصف لشأن النساء والمستأخرين فيه. لذلك انتهى كلام ابن جرير ملخصاً.
قلت: لو صح حديث ابن عباس هذا لكان هو أولى الأقوال لكن الأشبه أنه قول أبي الجوزاء كما صرح به الترمذي. قال الحافظ ابن كثير في تفسيره بعد ذكر حديث ابن عباس هذا ما لفظه: وهذا فيه نكارة شديدة، وكذا رواه أحمد وابن أبي حاتم في تفسيره، ورواه الترمذي والنسائي في كتاب التفسير من سنيهما وابن ماجه من طرق عن نوح بن قيس الحداني وقد وثقه أحمد وأبو داود وغيرهما. وحكى عن ابن معين تضعيفه، وأخرج له مسلم وأهل السنن، وهذا الحديث فيه نكارة شديدة. وقد رواه عبد الرزاق عن جعفر بن سليمان عن عمرو ابن مالك وهو النكرى، أنه سمع أبا الجوزاء يقول في قوله: {وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَقْدِمِينَ مِنْكُمْ} في الصفوف في الصلاة والمستأخرين، والظاهر أنه من كلام أبي الجوزاء فقط ليس فيه لابن عباس ذكر. وقد قال الترمذي: هذا أشبه من رواية نوح ابن قيس.(8/551)
مِغْوَلٍ عن حُمَيْدٍ عن ابنِ عُمَرَ، عن النّبيّ صلى الله عليه وسلم قَال: "لِجَهَنّمَ سَبْعَةُ أَبْوَابٍ: بَابٌ مِنْهَا لِمَنْ سَلّ السّيْفَ عَلَى أُمّتِي، أَوْ قَالَ عَلَى أُمّةِ مُحمّدٍ" .
هذا حديثٌ غريبٌ لا نَعْرِفُهُ إِلاّ من حديثِ مالِكِ بنِ مِغْوَلٍ.
5130- حدثنا عَبْدُ بنُ حُمَيْدٍ، أخبرنا أَبو عَلِيّ الْحَنَفِيّ عن ابنِ أبي ذِئْبٍ عن المَقْبُرِيّ عن أَبي هُرَيْرَةَ قال: قال رَسولُ الله صلى الله عليه وسلم: "الْحَمْدُ لله أُمّ الْقُرْآنِ وَأُمّ الْكِتَابِ وَالسّبْعُ المَثَاني" .
ـــــــ
قوله: "عن جنيد عن ابن عمر" قال في التقريب: جنيد عن ابن عمر قيل ولم يسمع منه، مستور من الخامسة. وفي تهذيب التهذيب: جنيد غير منسوب. قال أبو حاتم: حديثه عن ابن عمر مرسل وذكره ابن حبان في الثقات.
قوله: "لمن سل السيف" أي حمله عليها، وأصل السل انتزاعك الشيء وإخراجه في رفق، وأورد الترمذي هذا الحديث في تفسير قوله تعالى: {لَهَا سَبْعَةُ أَبْوَابٍ لِكُلِّ بَابٍ مِنْهُمْ جُزْءٌ مَقْسُومٌ} .
قوله: "هذا حديث غريب" وأخرجه البخاري في تاريخه.
قوله: "حدثنا أبو علي الحنفي" اسمه عبيد الله بن عبد المجيد البصري، صدوق من التاسعة.
قوله: "الحمد لله أم القرآن وأم الكتاب والسبع المثاني" قال الإمام البخاري في صحيحه: باب ما جاء في فاتحة الكتاب وسميت أم الكتاب، لأنه يبدأ بكتابتها في المصاحف ويبدأ بقراءتها في الصلاة.
قال الحافظ: هو كلام أبي عبيدة في أول مجاز القرآن لكن لفظه: ولسور القرآن أسماء، منها أن الحمد لله تسمى أم الكتاب لأنه يبدأ بها في أول القرآن وتعاد قراءتها فيقرأ بها في كل ركعة قبل السورة، ويقال لها فاتحة الكتاب لأنه يفتتح بها في المصاحف فتكتب قبل الجميع انتهى. وبهذا تبين المراد مما اختصره المصنف. وقال غيره: سميت أم الكتاب لأن أم الشيء ابتداؤه وأصله، ومنه سميت مكة أم القرى، لأن الأرض دحيت من تحتها. وقال بعض الشراح: التعليل بأنها يبدأ(8/552)
هذا حديثٌ حسنٌ صحيحٌ.
5131 - حدثنا الْحُسَيْنُ بنُ حُرَيْثٍ، أخبرنا الْفَضْلُ بنُ مُوسَى عن عَبْدِ الْحَمِيدِ بنِ جَعْفَرٍ، عن الْعَلاَءِ بنِ عَبْدِ الرّحْمَنِ، عن أبِيهِ، عن أبي هُرَيْرَةَ عن أُبَيّ بنِ كَعْبٍ قال: قال رَسولُ الله صلى الله عليه وسلم: "ما أَنْزَلَ الله في التّوْرَاةِ وَالإِنْجِيلِ، مِثْلَ أُمّ الْقُرْآنِ، وَهِيَ السّبْعُ المَثَاني، وَهِيَ مَقْسُومَةٌ بَيْنِي وَبَيْنَ عَبْدِي، وَلِعَبْدِي ما سَأَلَ" .
ـــــــ
بها يناسب تسميتها فاتحة الكتاب لا أم للكتاب. والجواب: أنه يتجه ما قال بالنظر إلى أن اللام مبدأ الولد وقيل سميت أم القرآن. لاشتمالها على المعاني التي في القرآن من الثناء على الله والتعبد بالأمر والنهي والوعد والوعيد، وعلى ما فيها من ذكر الذات والصفات والفعل، واشتمالها على ذكر المبدأ أو المعاد والمعاش انتهى. وإنما سميت الفاتحة بالسبع المثاني، لأنها سبع آيات. واختلف في تسميتها بالمثاني. فقيل لأنها تثنى في كل ركعة، أي تعاد. وقيل لأنها يثنى بها على الله تعالى. وقيل لأنها استثنت لهذه الأمة لم تنزل على من قبلها.
قوله "هذا حديث حسن صحيح" وأخرجه البخاري وأبو داود.
قوله: "وهي السبع المثاني" جمع مثناة من التثنية، أو جمنع مثنية فإنها تثنى في كل صلاة "وهي مقسومة بيني وبين عبدي" قال العلماء: المراد قسمتها من جهة المعنى، لأن نصفها الأول: تحميد لله تعالى وتمجيد، وثناء عليه وتفويض إليه. والنصف الثاني: سؤال وطلب وتضرع وافتقار "ولعبدي ما سأل" أي بعينه إن كان وقوعه معلقاً على السؤال وإلا فمثله من رفع درجة ودفع مضرة ونحوهما.
وأورد الترمذي هذين الحديثين في تفسير قوله تعالى: {وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعاً مِنَ الْمَثَانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ} ، ومن هذه تحتمل أن تكون للتبيين، ويدل على ذلك الحديثان المذكوران، ويحتمل أن تكون للتبعيض. وعلى هذا المراد من المثاني القرآن كله، فيكون معنى الكلام: ولقد آتيناك سبع آيات مما يثنى بعض آية بعضاً، وإذا كان ذلك كذلك كانت المثاني جمع مثناة، وتكون آي القرآن موصوفة(8/553)
5132- حدثنا قُتَيْبَةُ، أخبرنا عَبْدُ الْعَزِيزِ بنِ مُحمّدٍ عن الْعَلاَءِ بنِ عَبْدِ الرّحْمَنِ عن أبِيهِ عن أبي هُرَيْرَةَ "أَنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم خَرَجَ عَلَى أُبَيّ وَهُوَ يُصَلّي فَذَكَرَ نَحْوَهُ بِمَعْنَاهُ.
حديثُ عَبْدِ الْعَزِيزِ بنِ مُحمّدٍ أَطْوَلُ وَأَتَمّ. وهذا أَصَحّ من حديثِ عَبْدِ الْحَمِيدِ بنِ جَعْفَرٍ. وهكَذا رَوَى غيرُ وَاحِدٍ عن الْعَلاَءِ بنِ عَبْدِ الرّحمَنِ.
5133- حدثنا مُحمّدُ بنُ إِسماعِيلَ، أخبرنا أَحْمَدُ بنُ أَبي الطّيّبِ،
ـــــــ
بذلك لأن بعضها تثنى بعضاً، وبعضها يتلو بعضاً بفصول تفصل بينها، فيعرف إنقضاء الآية وابتداء التي تليها كما وصفها به الله تعالى فقال: {اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَاباً مُتَشَابِهاً مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ} . وقد يجوز أن يكون معناها كما قال ابن عباس والضحاك ومن قال ذلك: إن القرآن إنما قيل له مثاني لأنه القصص والأخبار كررت فيه مرة بعد أخرى.
قوله: "أخبرنا عبد العزيز بن محمد" هو الدراوردي "حديث عبد العزيز ابن محمد أطول وأتم" حديث عبد العزيز بل محمد هذا تقدم بطوله وتمامه في باب فضل فاتحة الكتاب "وهذا أصح من حديث عبد الحميد بن جعفر".
قال الحافظ في الفتح: قد اختلف فيه على العلاء أخرجه الترمذي من طريق الدراوردي، والنسائي من طريق روح بن القاسم، وأحمد من طريق عبد الرحمن ابن إبراهيم، وابن خزيمة من طريق حفص بن ميسرة، كلهم عن العلاء عن أبيه عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: خرج النبي صلى الله عليه وسلم على أبيّ بن كعب فذكر الحديث، وأخرجه الترمذي وابن خزيمة من طريق عبد الحميد بن جعفر، والحاكم من طريق شعبة كلاهما عن العلاء مثله، لكن قال عن أبي هريرة عن أبي ابن كعب، ورجح الترمذي كونه من مسند أبي هريرة. وقد أخرج الحاكم أيضاً من طريق الأعرج عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم نادى أبي بن كعب، وهو مما يقوى ما رجحه الترمذي انتهى.
قوله: "حدثنا محمد بن إسماعيل" هو الإمام البخاري رحمه الله "أخبرنا أحمد(8/554)
أخبرنا مُصْعَبُ بنُ سَلاّمٍ، عن عَمْرِو بنِ قَيْسٍ، عن عَطَيّةَ عن أبي سَعِيدٍ الْخُدْرِيّ قال: قال: رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: "اتّقُوا فِرَاسَةَ المُؤْمِنِ، فإِنّهُ يَنْظُرُ بِنُورِ الله، ثُمّ قَرَأَ: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآياتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ} " .
ـــــــ
ابن أبي الطيب" البغدادي، أبو سليمان المعروف بالمروزي، صدوق حافظ له أغلاط، ضعفه بسببها أبو حاتم، وماله في البخاري سوى حديث واحد متابعة وهو من العاشرة "أخبرنا مصعب بن سلام" بتشديد الللام التميمي الكوفي نزيل بغداد صدوق له أوهام من الثامنة "عن عمرو بن قيس" الملائي الكوفي "عن عطية" هو ابن سعد العوفي.
قوله: "اتقوا فراسة المؤمن" الفراسة بالكسر، اسم من قولك: تفرست في فلان الخير، وهي على نوعين، أحدهما: ما دل عليه ظاهر الحديث، وهو ما يوقعه الله في قلوب أوليائه فيعلمون بذلك أحوال الناس بنوع من الكرامات وإصابة الحدس والنظر والظن والتثبت. والنوع الثاني: ما يحصل بدلائل التجارب والخلق والأخلاق تعرف بذلك أحوال الناس أيضاً. وللناس في علم الفراسة تصانيف قديمة وحديثه، كذا في النهاية والخازن. وقال المناوي: اتقوا فراسة المؤمن، أي اطلاعه على ما في الضمائر بسواطع أنوار أشرقت على قلبه، فتجلت له بها الحقائق "فإنه ينظر بنور الله" أي يبصر بعين قلبه المشرق بنور الله تعالى. وأصل الفراسة: أن بصر الروح متصل ببصر العقل في عيني الإنسان فالعين جارحة والبصر من الروح، وإدراك الأشياء من بينهما، فإذا تفرغ العقل والروح من أشغال النفس أبصر الروح وأدرك العقل ما أبصر الروح، وإنما عجز العامة عن هذا الشغل أرواحهم بالنفوس واشتباك الشهوات بها فشغل بصر الروح عن درك الأشياء الباطنة ومن أكب على شهواته وتاغل عن العبودية حتى خلط على نفسه الأمور وتراكمت عليه الظلمات، كيف يبصر شيئاً غاب عنه "ثم قرأ" رسول الله صلى الله عليه وسلم {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآياتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ} قال ابن عباس: للناظرين، وقال قتادة: للمعترين، وقال مقاتل: للمتفكرين، وقال مجاهد: للمتفرسين.(8/555)
هذا حديثٌ غريبٌ إنما نَعْرِفُهُ من هذا الْوَجْهِ. وقد رُوِيَ عن بَعْضِ أَهْلِ الْعِلْمِ وتَفْسِيرِ هذه الآية: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآياتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ} ، قال: لِلْمُتَفَرّسِينَ.
ـــــــ
قال الخازن: ويعضد هذا للتأويل ما روى عن أبي سعيد الخدري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: اتقوا فراسة المؤمن الخ.
قوله: "هذا حديث غريب" وأخرجه البخاري في التاريخ وابن جرير وابن أبي حاتم وابن السني وأبو نعيم وابن مردويه والخطيب. وأخرجه الحكيم الترمذي والطبراني وابن عدي عن أبي أمامة وأخرجه ابن جرير في تفسيره عن ابن عمر، وأخرجه أيضاً ابن جرير عن ثوبان، وأخرجه أيضاً ابن جرير والبزار عن أنس مرفوعاً بلفظ: إن لله عباداً يعرفون الناس بالتوسم.
قوله: "وقد روى عن بعض أهل العلم في تفسير هذه الآية الخ" روى ابن جرير في تفسيره بإسناده عن مجاهد: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآياتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ} قال: للمتفرسين انتهى. وأصل التوسم: التثبت والتفكر، تفعل مأخوذ من الوسم وهو التأثير بحديدة في جلد البعير ألأ البقر، وقيل أصله الاستقصاء التعرف، يقال توسمت: أي تعرفت مستقصياً وجوه التعرف، وقيل هو من الوسم بمعنى العلامة، ولأهل العلم والفضل في الفراسة أخبار وحكايات معروفة، فمنها ما ذكره الحافظ في توالي التأسيس، قال الساجي: حدثنا أبو داود السجستاني، حدثنا قتيبة، حدثني عبد الحميد قال: خرجت أنا والشافعي من مكة فلقينا رجلاً يالأبطح، فقلت للشافعي اركن ما للرجل، فقال نجار أو خياط، قال فلحقته فقال كنت نجاراً وأنا خياط: وأخرج الحاكم من وجه آخر عن قتيبة قال: رأيت محمد بن الحسن والشافعي قاعدين بفناء الكعبة، فمر رجل فقال أحدهما لصاحبه: تعال حتى نركن على هذا الاَتي، أي حرفة معه؟ فقال أحدهما: خياط، وقال الآخر: نجار، فبعثا إليه فسألاه فقال: كنت خياطاً وأنا اليوم نجاراً.
قال الحافظ: وسند كل من القصتين صحيح، فيحمل على التعدد، والركن: الفراسة وأخرج البيهقي من طريق المزني قال: كنت مع الشافعي في الجامع إذا(8/556)
5134- حدثنا أَحْمَدُ بنُ عَبْدَةَ الضّبّيّ، أخبرنا المُعْتَمِرُ بن سليمان عن لَيْثِ بنِ أبي سُلَيْمٍ عن بِشْرٍ عن أَنَسِ بنِ مَالِكٍ عن النّبيّ صلى الله عليه وسلم في قوله: {لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ} قال: "عَنْ قَوْلِ لا إِلَهَ إِلاّ الله".
ـــــــ
دخل رجل يدور على النيام، فقال الشافعي للربيع: قم فقل له ذهب لك عبد أسود مصاب بإحدى عينيه؟ قال الربيع: فقمت إليه، فقلت له، فقال نعم، فقلت تعال. فجاء إلى الشافعي فقال أين عبدي؟ فقال: مر تجده في الحبس، فذهب الرجل فوجده في الحبس، قال المزني فقلت له: أخبرنا فقد حيرتنا، فقال نعم، رأيت رجلاً دخل من باب المسجد يدور بين النيام، فقلت يطلب هارباً، ورأيته يجيء إلى السودان دون البيض، فقلت: هرب له عبد أسود، ورأيته يجيء إلى ما يلي العين اليسرى، فقلت: مصاب بإحدى عينيه، قلنا: فما يدريك أنه في الحبس؟ قال: الحديث في العبيد إن جاعوا سرقوا وإن شبعوا زنوا فتأولت أنه فعل أحدهما، فكان كذلك.
قوله: "عن بشر عن أنس" قال في التقريب: بشر عن أنس، قيل هو ابن دينار، مجهول من السادسة. وقال في تهذيب التهذيب: بشر غير منسوب عن أنس في قوله: {لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ} وغير ذلك، وعنه ليث بن أبي سليم، قيل إنه بشر بن دينار، قال الحافظ: كذا قال ابن حبان في الثقات، وزاد في الرواة عنه محمد بن عثمان: وقد اختلف فيه على ليث اختلافاً كثيراً.
قوله: في قوله {لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ} قبله: فوربك قال الخازن: أقسم الله بنفسه أنه يسأل هؤلاء المقتسمين الذين جعلوا القرآن عضين {عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ} يعني عما كانوا يقولونه في القرآن، وقيل عما كانوا يعملون من الكفر والمعاصي، وقيل يرجع الضمير في {لَنَسْأَلَنَّهُمْ} إلى جميع الخلق المؤمن والكافر، لأن اللفظ عام فحمله على العموم أولى، انتهى كلام الخازن "قال" أي النبي صلى الله عليه وسلم "عن قول لا إليه إلا الله" وبه قال جماعة من أهل العلم، ولكن هذا الحديث ضعيف.(8/557)
هذا حديثٌ غريبٌ إنما نَعْرِفُهُ من حديثِ لَيْثِ بنِ أبي سُلَيْمٍ. وقد رَوَاهُ عَبْدُ الله بنُ إِدْرِيسَ عن لَيْثِ بنِ أبي سُلَيْمٍ، عن بِشْرٍ عن أَنَسِ بنِ مالِكٍ نحْوَهُ ولم يَرْفَعْهُ.
ـــــــ
قوله: "هذا حديث غريب" وأخرجه أبو يعلى وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم "وقد رواه عبد الله بن إدريس عن ليث ابن أبي سليم الخ" وصل هذه الطريقة الموقوفة ابن جرير في تفسيره.(8/558)
وَمِنْ سُورَةِ النّحْل
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
5135- حدثنا عَبْدُ بنُ حُمَيْدٍ، أخبرنا عَلِيّ بنُ عاصِمٍ، عن يَحْيَى الْبَكّاء، حدثني عبْدُ الله بنُ عُمَرَ، قال: سَمِعْتُ عُمَرَ بنَ الْخَطّابِ يقولُ: قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: "أَرْبَعٌ قَبْلَ الظّهْرِ بَعْدَ الزّوَالِ تُحْسَبُ بِمِثْلِهنّ مِنْ صَلاَةِ السّحَرِ . قال رَسولُ الله صلى الله عليه وسلم: وَلَيْسَ مِنْ
ـــــــ
وَمِنْ سُورَةِ النّحْل
مكية إلا {وَإِنْ عَاقَبْتُمْ} إلى آخرها وهي مائة وثمان وعشرون آية
قوله: "أربع" أي من الركعات "قبل الظهر بعد الزوال" صفة لأربع والموصوف مع الصفة مبتدأ وخبره قوله "تحسب" بصيغة المجهول "بمثلهن من صلاة السحر" أي بمثل أربع ركعات كائنة من صلاة السحر، يعني توازي أربعاً من الفجر من السنة والفريضة لموافقة المصلي بعد الزوال سائر الكائنات في الخضوع والدخور لبارئها، فأن الشمس أعلى وأعظم منظوراً في الكائنات، وعند زوالها يظهر هبوطها وانحطاطها وسائر ما يتفيأ بها ظلاله عن اليمين والشمائل، قاله الطيبي. وقيل: لا يظهر وجه العدول عن الظاهر، وهو حمل السحر على حقيقته، وتشبيه هذه الأربع بأربع من صلاة الصيح إلا باعتبار كون المشبه به(8/558)
شَيْء إِلاّ وَهُوَ يُسَبّحُ الله تِلْكَ السّاعَةَ، ثُمّ قَرَأَ: {يَتَفَيَّأُ ظِلالُهُ عَنِ الْيَمِينِ وَالشَّمَائِلِ سُجَّداً لِلَّهِ وَهُمْ دَاخِرُونَ} الآية كُلّهَا".
هذا حديثٌ غريبٌ لا نَعْرِفُهُ إلاّ من حديثِ عَلِيّ بنِ عاصِمٍ.
5136- حدثنا أبو عَمّارٍ الْحُسَيْنُ بنُ حُرَيْثٍ، أخبرنا الْفَضْلُ بنُ مُوسَى، عن عِيسَى بنِ عُبَيْدٍ عن الرّبيعِ بنِ أَنَسٍ عن أبي الْعَالِيَةِ، قال حدثني أُبَيّ بنُ كَعْبٍ قال: "لَمّا كَانَ يَوْمُ أُحُدٍ أُصِيبَ مِنَ الأنْصَارِ أَرْبَعَةٌ وَسِتّونَ رَجُلاً، وَمِنَ المُهَاجِرِينَ سِتّةٌ مِنْهُمْ حَمْزَةُ، فَمَثّلُوا بِهِمْ، فقالَتْ
ـــــــ
مشهوداً بمزيد الفضل انتهى، يعني قوله تعالى: {إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُوداً} وفيه إشارة إلى أن العدول إنما هو ليكون المشبه به أقوى، إذ ليس التهجد أفضل من سنة الظهر. قال القارى: والأظهر حمل السحر على حقيقته، وهو السدس الأخير من الليل، ويوجه كون المشبه به أقوى بأن العبادة فيه أشق وأتعب، والحمل على الحقيقة مهما أمكن فهو أولى وأحسن "وليس من شيء إلا وهو يسبح الله تلك الساعة" أي يسبحه تسبيحاً خاصاً تلك الساعة، فلا ينافي قوله تعالى: {وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ} المقتضي لكونه كذلك في سائر الأوقات "ثم قرأ" أي النبي صلى الله عليه وسلم أو عمر، قاله القارى: والظاهر هو الأول {يَتَفَيَّأُ ظِلالُهُ} الخ الآية بتمامها مع تفسيرها هكذا {أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى مَا خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ} له ظل كشجر وجبل {يَتَفَيَّأُ} أي يميل {ظِلالُهُ عَنِ الْيَمِينِ وَالشَّمَائِلِ} جمع شمل أي عن جانبيها أول النهار وآخره {سُجَّداً لِلَّهِ} حال، أي خاضعين بما يراد منهم {وَهُمْ} أي الظلال {دَاخِرُونَ} أي صاغرون. نزلوا منزلة العقلاء.
قوله: "هذا حديث غريب" وأخرجه البيهقي في شعب الإيمان، وفي سنده يحيى البكاء وهو ضعيف.
قوله: "عن عيسى بن عبيد" بن مالك الكندي أبي المنيب صدوق من الثامنة.
قوله: "فمثلوا بهم" أي الكفار بالذين أصيبوا من الأنصار والمهاجرين،(8/559)
الأنْصَارُ: لَئِنْ أَصَبْنَا مِنْهُمْ يَوْماً مِثْلَ هَذَا لَنُرْبِيَنّ عَلَيْهِمْ. قال: فَلَمّا كَانَ يَوْمُ فَتْحِ مَكّةَ، فَأَنْزَلَ الله تَعَالَى: {وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ} فقال رَجُلٌ: لا قُرَيْشَ بَعْدَ الْيَوْمِ. فقال رَسولُ الله صلى الله عليه وسلم: كُفّوا عَنِ الْقَوْمِ إِلاّ أَرْبَعَةً" .
هذا حديثٌ حسنٌ غريبٌ من حديثِ أُبَيّ بنِ كَعْبٍ.
ـــــــ
يقال مثلث، بالحيوان أمثل به مثلاً: إذا قطعت أطرافه وشوهت به، ومثلت بالقتيل: إذا جدعت أنفه أو أذنه أو مذاكيره أو شيئاً من أطرافه، والاسم المثلة. فأما مثل بالتشديد فهو للمبالغة كذا في النهاية "لتربين عليهم" من الأرباء: أي لنزيدن ولنضاعفن عليهم في التمثيل {وَإِنْ عَاقَبْتُمْ} الخ قال الحافظ ابن جرير في تفسيره: يقول تعالى ذكره للمؤمنين: وإن عاقبتم أيها المؤمنون من ظلمكم واعتدى عليكم، فعاقبوه بمثل الذي نالكم به طالكم من العقوبة، ولئن صبرتم عن عقوبته واحتسبتم عند الله ما نالكم به من الظلم ووكلتم أمره إليه حتى يكون هو المتولي عقوبته لهو خير للصابرين، يقول للصبر عن عقوبته لذلك خير لأهل الصبر احتساباً وابتغاء ثواب الله لأن الله يعوضه من الذي أراد أن يناله بانتقامه من ظالمه عن ظلمه إياه من لذة الانتصار وهو من قوله: {لَهُوَ} كناية عن الصبر وحسن ذلك، وأن لم يكن ذكر قبل ذلك الصبر لدلالة قوله {وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ} عليه انتهى "كفوا عن القوم إلا أربعة" ، وفي حديث سعد عند النسائي قال: لما كان يوم فتح مكة أمن رسول الله صلى الله عليه وسلم الناس إلا أربعة نفر وامرأتين، وقال: "اقتلوهم وإن وجدتموهم متعلقين بأستار الكعبة : عكرمة بن أبي جهل، وعبد الله بن خطل، ومقيس بن صبابة، وعبد الله بن سعد بن أبي السرح" الحديث.
قوله: "هذا حديث حسن غريب" وأخرجه النسائي وابن حبان والطبراني والحاكم وصححه والبيهقي وغيرهم.(8/560)
وَمِنْ سُورَةِ بَنِي إِسْرَائِيل
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
5137- حدثنا مَحْمُودُ بنُ غَيْلاَنَ، أخبرنا عَبْدُ الرّزّاقِ، أخبرنا مَعْمَرٌ عن الزّهْرِيّ، أخبرني سَعِيدُ بنُ المُسَيّبِ عن أبي هُرَيْرَةَ قال: قال النّبيّ صلى الله عليه وسلم: "حِينَ أُسْرِيَ بِي لَقِيتُ مُوسَى - قال فَنَعَتَهُ - فإِذَا رَجُلٌ، قال حَسِبْتُهُ قال مُضْطَرِب رجلِ الرّأْسِ، كأَنّهُ مِنْ رِجَالِ شَنُوءَةَ، قال وَلَقِيتُ عِيسَى - قال فَنَعَتَهُ - قال رَبْعَةً أَحْمَرَ كأَنّهُ خَرَجَ مِنْ
ـــــــ
وَمِنْ سُورَةِ بَنِي إِسْرَائِيل
مكية إلا {وَإِنْ كَادُوا لَيَفْتِنُونَكَ} الاَيات الثمان ومائة وعشر آيات أو إحدى عشرة آية
قوله: "قال" أي أبو هريرة "فنعته" أي وصف النبي صلى الله عليه وسلم موسى "فإذا رجل قال حسبته قال مضطرب" وعند البخاري: فإذا رجل حسبته، قال مضطرب بحذف قال قبل حسبته، وكذلك في بعض نسخ الترمذي قال الحافظ في الفتح: القائل حسبته هو عبد الرزاق، والمضطرب الطويل غير الشديد، وقيل الخفيف اللحم. وتقدم في رواية هشام بلفظ ضرب وفسر بالنحيف ولا منافاة بينهما انتهى "الرجل الرأس" بفتح الراء وكسر الجيم، دهين الشعر مسترسله. وقال ابن السكيت: شعر رجل: أي غير جعد "كأنه من رجال شنوءة" بفتح المعجمة وضم النون وسكون الواو بعدها همزة ثم هاء تأنيث حي من اليمن ينسبون إلى شنوءة، وهو عبد الله بن كعب بن عبد الله بن مالك بن نصر ابن الأزد، ولقب شنوءة لشنئان كان بينه وبين أهله، والنسبة إليه شنوئي بالهمز بعد الواو، وبالهمزة بغير وا.
وقال الداودي: رجال الأزد معروفون بالطول "قال ربعة" بفتح الراء وسكون الموحدة ويجوز فتحها وهو المرفوع، والمراد أنه ليس بطويل جداً(8/561)
دِيمَاسٍ، يَعْني الْحَمّامَ، وَرَأَيْتُ إبراهِيمَ، قال: وَأَنَا أَشْبَهُ وَلَدِهِ بِهِ، قال: وَأُتِيتُ بِإِنَائَيْنِ أحدهما لَبَنٌ وَ الآخر فِيهِ خَمْرٌ، فَقِيلَ لِي خُذْ أَيّهُمَا شِئْتَ، فَأَخَذْتُ اللّبَنَ فَشَرِبْتُهُ، فَقِيلَ لِي: هُدِيتَ لِلْفِطْرَةِ، أَوْ أَصَبْتَ الْفِطْرَةَ،
ـــــــ
ولا قصير جداً بل وسط "من ديماس" بكسر المهملة وسكون التحتانية وآخره مهملة "يعني الحمام" هو تفسير عبد الرزاق كما في الفتح، والديماس في اللغة. السرب، ويطلق أيضاً على الكن والحمام من جملة الكن. والمراد من ذلك وصفه بصفاء اللون ونضارة الجسم وكثرة ماء الوجه حتى كأنه كان في موضع كن فخرج منه وهو عرقان.
وفي رواية ابن عمر عند البخاري: ينطف رأسه ماء. وهو محتمل لأن يراد الحقيقة وأنه عرق حتى قطر الماء من رأسه، ويحتمل أن يكون كناية عن مزيد نضارة وجهه. ويؤيده أن في رواية عبد الرحمن بن آد عن أبي هريرة عند أحمد وأبي داود: يقطر رأسه ماء وإن لم يصبه بلل "قال وأنا أشبه ولده به" أي قال النبي صلى الله عليه وسلم أنا أشبه أولاد إبراهيم عليه الصلاة والسلام به صورة، ومعنى "وأتيت بإنائين أحدهما لبن" قيل ولم يقل فيه لبن كأنه جعله لبناً كله تغليباً للبن على الإناء لكثرته وتكثيراً لما اختاره، ولما كان الخمر منهياً عنه قلله فقال "و الآخر فيه خمر" أي خمر قليل.
اعلم أنه قد اختلفت الروايات في عدد الآنية، ففي بعضها أتيت بإنائين أحدهما لبن و الآخر فيه خمر كان في هذه الرواية، وفي بعض روايات البخاري: ثم رفع لي البيت المعمور ثم أتيت بإناء من خمر وإناء من لبن وإناء من عسل.
وفي حديث أبي سعيد عند ابن إسحاق في قصة الإسراء فصلى بهم يعني الأنبياء ثم أتي بثلاثة آنية: إناء فيه لبن، وإناء فيه خمر، وإناء فيه ماء، فأخذت اللبن.
واختلفت الروايات أيضاً في مكان عرض الآنية، ففي رواية مسلم عن أنس: ثم دخلت المسجد فصليت فيه ركعتين ثم خرجت فجاء جبريل بإناء من خمر وإناء من لبن فأخذت اللبن. وفي بعض روايات البخاري: أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة أسري به بإيلياء بإناء فيه خمر وإناء فيه لبن، فنظر إليهما فأخذ(8/562)
أَمَا إِنّكَ لَوْ أَخَذْتَ الْخَمْرَ غَوَتْ أُمّتُكَ" . هذا حديثٌ حسنٌ صحيحٌ.
5138- حدثنا إسْحَاقُ بنُ مَنْصُورٍ، أخبرنا عَبْدُ الرّزّاقِ، أخبرنا
ـــــــ
اللبن. فهاتان الروايتان تدلان على أن عرض الآنية كان في بيت المقدس. وفي بعض روايات البخاري المذكورة: أنه كان في السماء.
قال الحافظ بعد ذكر هذه الروايات وغيرها: يجمع بين هذا الاختلاف إما بحمل ثم على غير بابها من الترتيب، وإنما هي بمعنى الواو هنا، وإما بوقوع عرض الآنية مرتين، مرة عند فراغه من الصلاة ببيت المقدس، وسببه ما وقع له من العطش كما في حديث شداد: فصليت من المسجد حيث شاء الله وأخذني من العطش أشد ما أخذني، فأتيت بإناءين أحدهما لبن و الآخر عسل الخ، ومرة عند وصوله إلى سدرة المنتهى، ورؤية الأنهار الأربعة وأما الاختلاف في عدد الآنية وما فيها فيحمل على أن بعض الرواة ذكر ما لم يذكره الآخر، ومجموعها أربعة آنية فيها أربعة أشياء من الأنهار الأربعة التي رآها تخرج من أصل سدرة المنتهى. ووقع في حديث أبي هريرة عند الطبري لما ذكر سدرة المنتهى: يخرج من أصلها أنهار من ماء غير آسن، ومن لبن لم يتغير طعمه، ومن خمر لذة للشاربين، ومن عسل مصفى، فلعله عرض عليه من كل نهر إناء انتهى "هديت للفطرة أو أصبت الفطرة" شك من الراوي، والأول بصيغة الخطاب مجهولاً، والثاني معلوماً.
قال القرطبي: يحتمل أن يكون سبب تسمية اللبن فطرة لأنه أول شيء يدخل بطن المولود ويشق أمعاءه، والسر في ميل النبي صلى الله عليه وسلم إليه دون غيره لكونه كان مألوفاً له ولأنه لا ينشأ عن جنسه مفسدة "أما" بالتخفيف حرف التنبيه "إنك لو أخذت الخمر غوت أمتك" أي ضلت نوعاً من الغواية المترتبة على شربها، بناء على أنه لو شربها لأحل للأمة شربها فوقعوا في ضررها وشرها، وفيه إيماء إلى أن استقامة المقتدي من النبي والعالم والسلطان ونحوهم سبب لاستقامة أتباعهم لأنهم بمنزلة القلب للأعضاء كذا في المرقاة.
قوله: "هذا حديث حسن صحيح" وأخرجه الشيخان.(8/563)
مَعْمَرٌ عن قَتَادَةَ عن أنَسٍ "أَنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم أُتِيَ بِالْبُرَاقِ لَيْلَةَ أُسْرِيَ بِهِ مُلْجَماً مُسْرَجاً، فَاسْتَصْعَبَ عَلَيْهِ، فَقَالَ لَهُ جِبْرِيلُ: أَبِمُحَمّدٍ تَفْعَلُ هَذَا، فَمَا رَكِبَكَ أَحَداٌ أَكْرَمُ عَلَى الله مِنْهُ. قال: فَارْفَضّ عَرَقاً".
هذا حديثٌ حسنٌ غريبٌ ولا نَعْرِفُهُ إلاّ من حديثِ عَبْدِ الرّزّاقِ.
ـــــــ
قوله: "أتى بالبراق" بضم الموحدة وتخفيف الراء، مشتق من البريق، فقد جاء في لونه أنه أبيض أو من البرق لأنه وصفه بسرعة السير، أو من قولهم شاة برقاء إذا كان خلال صوفها الأبيض طاقات سود، ولا ينافية وصفه في بعض الأحاديث بأن البراق أبيض، لأن البرقاء من الغنم معدودة في البياض "ليلة أسرى" بصيغة الماضي المجهول من الإسراء "به" أي بالنبي صلى الله عليه وسلم "ملجماً" اسم مفعول من الإلجام قال في القاموس: ألجم الدابة ألبسها اللجام وهو ككتاب، فارسي معرب "مسرجاً" اسم مفعول من الإسراج، يقال أسرجت الدابة: إذا شددت عليها السرج "فاستصعب عليه" أي صار البراق صعباً على النبي صلى الله عليه وسلم "أبمحمد" صلى الله عليه وسلم والهمزة للإنكار "تفعل هذا" أي الاستصعاب "فما ركبك أحد أكرم على الله منه" أي من محمد صلى الله عليه وسلم "فارفض عرقاً" أي جرى عرقه وسال، ثم سكن وانقاد وترك الاستصعاب.
قوله: "هذا حديث حسن غريب" قال الحافظ: وصححه ابن حبان، وذكر ابن إسحاق عن قتادة أنه لما شمس وضع جبرئيل يده على معرفته، فقال أما تستحي، فذكر نحوه مرسلاً لم يذكر أنساً. وللنسائي وابن مردويه من طريق يزيد بن أبي مالك عن أنس نحوه موصولا؟ وزاد وكانت تسخر للأنبياء قبله، ونحوه في حديث أبي سعيد عند ابن إسحاق، وفيه دلالة على أن البراق كان معداً لركوب الأنبياء خلافاً لمن نفي ذلك كابن دحية، وأول قول جبريل فما ركبك أكرم على الله منه: أي ما ركبك أحد قط، فكيف يركبك أكرم منه.
وقد جزم السهيلي: أن البراق إنما استصعب عليه لبعد عهده بركوب الأنبياء قبله قال النووي قال الزبيدي في مختصر العين وتبعه صاحب التحرير: كان الأنبياء(8/564)
5139- حدثنا يعقُوبُ بنُ إبراهِيمَ الدّوْرَقِيّ، أخبرنا أبو ثُمَيلَةَ عن الزّبَيْرِ بنِ جُنَادَةَ، عن ابنِ بُرَيْدَةَ، عن أبِيهِ قال: قال رَسولُ الله صلى الله عليه وسلم: "لَمّا انْتَهَيْنَا إلى بَيْتِ المَقْدِسِ قال جِبْرَيلُ بَأَصْبُعِهِ فَخَرَقَ بِهِ الْحَجَرَ وَشَدّ بِهِ الْبُرَاقَ" .
هذا حديثٌ غريبٌ.
ـــــــ
يركبون البراق، قال وهذا يحتاج إلى نقل صحيح. قال الحافظ: قد ذكرت النقل بذلك ثم ذكر الحافظ آثاراً تشهد لذلك.
قوله: "عن الزبير بن جنادة" بمضمومة وخفة نون وإهمال دال، الهجرى كنيته أبو عبد الله الكوفي، روى عن عبد الله بن يريدة عطاء بن أبي رباح، وعنه عيسى بن يونس وأبو تميلة يحيى بن واضح وغيرهما. قال أبو حاتم: شيخ ليس بالمشهور، وذكره ابن حبان في الثقات، وقال فيه جنادة المعلم: سكن مرو، له عند الترمذي حديث واحد في ربط البراق.
قلت: وقال الحاكم في المستدرك مروزي ثقة "عن ابن بريدة" اسمه عبد الله "لما انتهيا إلى بيت المقدس" أي وصلنا إليه "قال جبرئيل بأصبعه" أي أشار بها. قال في النهاية: العرب تجعل القول عبارة عن جميع الأفعال وتطلقه على غير الكلام واللسان، فتقول قال بيده: أي أخذ، وقال برجله: أي مشى قال الشاعر:
وقالت له العينان سمعاً وطاعة.
أي أومأت. وقال بالماء على يده: أي قلب، وقال بثوبه: أي رفعه، وكل ذلك على المجاز والاتساع "فخرق به الحجر" وفي البزار: لما كان ليله أسرى به فأتى جبريل الصخرة التي يبيت المقدس فوضع أصبعه فيها فخرقها فشد بها البراق. وفي حديث أنس عند مسلم: فركبته حتى بيت المقدس، قال فربطته بالحلقة التي يربط بها الأنبياء.
قوله: "هذا حديث غريب" وأخرجه البزار.(8/565)
5140- حدثنا قُتَيْبَةُ، أخبرنا اللّيْثُ عن عُقَيْلٍ عن الزّهْرِيّ عن أبي سَلَمَةَ عن جَابِرِ بنِ عَبْدِ الله، أَنّ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم قال: "لَمّا كَذّبْتَنِي قُرَيْشٌ قُمْتُ في الْحِجْرِ فَجَلّى الله لِي بَيْتَ المَقْدِسِ، فَطَفِقْتُ أُخْبِرُهُمْ عَنْ آيَاتِهِ وَأَنَا أَنْظُرُ إِلَيْهِ" .
هذا حديثٌ حسنٌ صحيحٌ. وفي البابِ عن مالِكِ بنِ صَعْصَعَةَ وأبي سَعِيدٍ وابنِ عَبّاسٍ وأبي ذَرّ وابنِ مَسْعُودٍ.
ـــــــ
قوله: "لما كذبتني قريش" أي نسبوني إلى الكذب فيما ذكرت من قضية الإسراء وطلبوا مني علامات بيت المقدس "قمت في الحجر" بالكسر: اسم الحائط المستدير إلى جانب الكعبة الشمالي "فجلى الله لي بيت المقدس" بتشديد اللام من النجلية: أي أظهره لي قال الحافظ: قيل معناه كشف الحجب بيني وبينه حتى رأيته، ووقع في رواية عبد الله بن الفضل عن أم سلمة عند مسلم قال: فسألوني عن أشياء لم أثبتها، فكربت كرباً لم أكرب مثله قط، فرفع الله لي بيت المقدس أنظر إليه ما يسألوني عن شيء إلا نبأتهم به. ويحتمل أنه حمل إلى أن وضع بحيث يراه ثم أعيد.
وفي حديث ابن عباس عند أحمد والبزار: بإسناد حسن: فجيء بالمسجد وأنا أنظر إليه حتى وضع عند دار عقيل، فنعته وأنا أنظر إليه، وهذا أبلغ في المعجزة ولا استحالة فيه، فقد أحضر عرش بلفيس في طرفة عين لسليمان وهو يقتضي أنه أزيل من مكانه حتى أحضر إليه وما ذاك في قدرة الله بعزيز انتهى "فطفقت" بكسر الفاء قيل القاف: أي فشرعت "أخبرهم عن آياته" أي علامات بيت المقدس ودلالاته "وأنا أنظر إليه" جملة حالية.
قوله: "هذا حديث حسن صحيح" وأخرجه الشيخان.
قوله: "وفي الباب عن مالك بن صعصعة وأبي سعيد وابن عباس وأبي ذر وابن مسعود" أما حديث مالك بن صعصعة فأخرجه الترمذي في تفسير سورة ألم نشرح مختصراً، وأخرجه الشيخان مطولاً. وأما حديث أبي سعيد فأخرجه البيهقي وابن(8/566)
5141- حدثنا ابنُ أبي عُمَرَ، أخبرنا سُفْيَانُ عن عَمْرِو بنِ دِينَارٍ عن عِكْرِمَةَ عن ابنِ عَبّاسٍ في قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤْيا الَّتِي أَرَيْنَاكَ إِلَّا فِتْنَةً لِلنَّاسِ} قال: "هِيَ رؤْيَا عَيْنٍ أُرِيَهَا النّبيّ صلى الله عليه وسلم
ـــــــ
جرير وابن أبي حاتم وأما حديث ابن عباس فأخرجه الشيخان. وأما حديث ابن مسعود فأخرجه مسلم.
تنبيه: اعلم أن الترمذي ذكر هذه الأحاديث في تفسير قوله تعالى: {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} وقد اختلف أهل العلم هل كان الإسراء بجسده صلى الله عليه وسلم مع روحه أو بروحه فقط، فذهب معظم السلف والخلف إلى إلى الأول، وذهب إلى الثاني طائفة من أهل العلم، منهم: عائشة ومعاوية والحسن وابن اسحاق. وحكاه ابن جرير عن حذيفة بن اليمان، وذهبت طائفة إلى التفصيل فقالوا: كان الإسراء بجسده يقظة إلى بيت المقدس، وإلى السماء بالروح، واستدلوا على هذا التفصيل بقوله: {إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى} فجعله غاية للإسراء بذاته صلى الله عليه وسلم، فلو كان الإسراء من بيت المقدس إلى السماء وقع بذاته لذكره، والذي دلت عليه الأحاديث الصحيحة الكثيرة، هو ما ذهب إليه معظم السلف والخلف من الإسراء بجسده وروحه يقظة إلى بيت المقدس، ثم السماوات وهو الحق، والصواب لا يجوز العدول عنه ولا حاجة إلى التأويل وصرف هذا النظم القرآني وما يماثله من ألفاظ الأحاديث إلى ما بخالف الحقيقة، ولا مقتضى لذلك إلا مجرد الاستبعاد وتحكيم محض العقول القاصرة عن فهم ما هو معلوم من أنه لا يستحيل عليه سبحانه شيء. ولو كان ذلك مجرد رؤيا كما يقوله من زعم أن الإسراء كان بالروح فقط وأن رؤيا الأنبياء حق لم يقع التكذيب من الكفرة للنبي صلى الله عليه وسلم عند إخباره لهم بذلك حتى ارتد من ارتد ممن لم يشرح بالإيمان صدراً، فإن الإنسان قد يرى في نومه ما هو مستبعد بل هو محال ولا ينكر ذلك أحد، والكلام في هذه المسألة مبسوط في المطولات.
قوله: في قوله تعالى: {وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤْيا الَّتِي أَرَيْنَاكَ إِلَّا فِتْنَةً لِلنَّاسِ} قال(8/567)
لَيْلَةَ أُسْرِيَ بِهِ إلى بَيْتِ المَقْدِسِ {وَالشَّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ فِي الْقُرْآنِ} قال هِيَ
ـــــــ
الحافظ ابن جرير في تفسيره: اختلف أهل التأويل في ذلك: فقال بعضهم هو رؤيا عين، وهي ما رأى النبي صلى الله عليه وسلم لما أسرى به من مكة إلى بيت المقدس ثم ذكر من قال ذلك تم قال. وقال آخرون: هي رؤياه التي رأى أنه يدخل مكة فروى بإسناده عن ابن عباس قوله: {وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤْيا الَّتِي أَرَيْنَاكَ إِلَّا فِتْنَةً لِلنَّاسِ} قال يقال إن رسول الله صلى الله عليه وسلم أرى أنه دخل مكة هو وأصحابه وهو يومئذ بالمدينة فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم السير إلى مكة قبل الأجل فرده المشركون، فقالت أناس: قد رد رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد كان حدثنا أنه سيدخلها، فكانت رجعته فتنتهم ثم قال: وقال آخرون ممن قال: هي رؤيا منام إنما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم رأى في منامه قوماً يعلون منبره فذكر من قال ذلك، قال وأولى الأقوال في ذلك بالصواب، قول من قال عني به الرؤيا رسول الله صلى الله عليه وسلم ما رأى من الاَيات والعبر في طريقه إلى بيت المقدس ويبيت المقدس ليلة أسري به، وإنما قلنا ذلك أولى بالصواب لإجماع الحجة من أهل التأويل على أن هذه الآية إنما نزلت في ذلك، وإياه عني الله عز وجل بها. فإذا كان ذلك كذلك فتأويل الكلام وما جعلنا رؤياك التي أريناك ليلة أسرينا بك من مكة إلى بيت المقدس، إلا فتنة للناس، يقول الإبلاء للناس الذين ارتدوا عن الإسلام لما أخبروا بالرؤيا التي رآها عليه الصلاة والسلام، وللمشركين من أهل مكة الذين ازدادوا بسماعهم ذلك من رسول الله صلى الله عليه وسلم تمادياً في غيهم وكفراً إلى كفرهم انتهى "قال هي رؤيا عين أريها النبي صلى الله عليه وسلم ليلة أسري به" أريها بضم الهمزة وكسر الراء من الإرادة ولم يصرح بالمرئي، وعند سعيد بن منصور من طريق أبي مالك قال: هو ما أرى في طريقه إلى بيت المقدس، وزاد عن سفيان في آخر الحديث: وليست رؤيا منام، واستدل به على إطلاق لفظ الرؤيا على ما يرى بالعين في اليقظة وقد أنكره الحريري تبعاً لغيره وقالوا: إنما يقال رؤيا في المنام، وأما التي في اليقظة فيقال رؤية، وممن استعمل الرؤيا في اليقظة المتنبي في قوله.
ورؤياك أحلى في العيون من الغمض(8/568)
شَجَرَةُ الزّقُومِ". هذا حديثٌ حسنٌ صحيحٌ.
5142- حدثنا عُبَيْدُ بنُ أَسْبَاط بنِ مُحمّدٍ الْقُرَشِيّ الْكُوفِيّ، أخبرنا أبي عن الأعمَشِ عن أبي صَالحٍ عن أبي هُرَيْرَةَ عن النّبيّ صلى الله عليه وسلم في قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُوداً} قال: تَشْهَدُ مَلاَئِكَةُ اللّيْلِ وَمَلاَئِكَةُ النّهَارِ".
ـــــــ
وهذا التفسير يرد على من خطأه كذا في الفتح {وَالشَّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ} بالنصب عطف على الرؤيا تقديره: {وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤْيا الَّتِي أَرَيْنَاكَ إِلَّا فِتْنَةً لِلنَّاسِ وَالشَّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ فِي الْقُرْآنِ} "قال هي شجرة الزقوم" هذا هو الصحيح. وذكره ابن أبي حاتم عن بضعة عشر نفساً من التابعين. وأما الزقوم، فقال أبو حنيفة الدينوري في كتاب النبات: الزقرم شجرة وغبراء تنبت في السهل صغير الورق مدورته لا شوك لها، زفرة مرة ولها نور أبيض ضعيف تجرسه النحل ورؤوسها قباح جداً وروى عبد الرزاق عن معمر عن قتادة قال قال: المشركون يخبرنا محمد أن في النار شجرة والنار تأكل الشجرة فكان ذلك فتنة لهم.
فإن قلت: أين لعنت شجرة الزقوم في القرآن.
قلت لعنت حيث لعن الكفار الذين يأكلونها، لأن الشجرة لا ذنب لها حتى تلعن، وإنما وصفت بلعن أصحابها على المجاز. وقيل وصفها الله تعالى باللعن لأن اللعن الإبعاد من الرحمة وهي في أصل جهنم في أبعد مكان من الرحمة.
قوله: "هذا حديث حسن صحيح" وأخرجه البخاري والنسائي.
قوله: "وقرآن الفجر" قبله أقم الصلاة لدلوك الشمس إلى غسق الليل، فقوله وقرآن الفجر، عطف على الصلاة والمراد من قرآن الفجر صلاة الفجر سميت الصلاة قرآناً لأنها لا نجوز إلا بالقرآن "تشهده" أي تحضر قرآن الفجر، يعني صلاته. قال الحافظ ابن كثير في تفسير هذه الآية: يقول تبارك وتعالى لرسوله صلى الله عليه وسلم آمراً له بإقامة الصلوات المكتوبات في أوقاتها: أقم الصلاة لدلوك الشمس قيل لغروبها قاله ابن مسعود ومجاهد وابن زيد. وقال هشيم عن مغيرة عن الشعبي عن ابن عباس دلوكها زوالها، ورواه نافع عن ابن عمر، ورواه(8/569)
هذا حديثٌ حسنٌ صحيحٌ. وروى عَلِيّ بنُ مُسْهِرٍ عن الأعمَشِ عن أبي صَالِحٍ عن أبي هُرَيْرَةَ وَأَبي سَعِيدٍ عن النّبيّ صلى الله عليه وسلم.
5143- حدثنا بِذَلِكَ عَلِيّ بنُ حُجْرٍ، حدثنا عَلِيّ بنُ مُسْهِرٍ عن الأعْمَشِ فَذَكَرَ نَحْوَهُ.
5144- حدثنا عَبْدُ الله بنُ عَبْدِ الرّحْمَنِ، أخبرنا عُبَيْدُ الله بنُ مُوسَى عن إسْرَائِيلَ عن السّدّيّ عن أبِيهِ عن أبي هُرَيْرَةَ عن النّبيّ صلى الله عليه وسلم في قَوْلِ الله تَعَالَى: {يَوْمَ نَدْعُو كُلَّ أُنَاسٍ بِإِمَامِهِمْ} قال: يُدْعَى
ـــــــ
مالك في تفسيره عن الزهري عن ابن عمر، وقاله أبو برزة الأسلمي وهو رواية أيضاً عن ابن مسعود ومجاهد، وبه قال الحسن والضحاك وأبو جعفر الباقر وقتادة واختاره ابن جرير ومما استشهد عليه ما رواه بإسناده عن جابر بن عبد الله قال: دعوت رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن شاء من أصحابه فطعموا عندي ثم خرجوا حين زالت الشمس فخرج النبي صلى الله عليه وسلم فقال: أخرج يا أبا بكر. فهذا حين دلكت الشمس، فعلى هذا تكون هذه الآية دخل فيها أوقات الصلوات الخمس، فمن قوله لدلوك الشمس إلى غسق الليل وهو ظلامه وقيل غروب الشمس أخذ منه الظهر والعصر والمغرب والعشاء وقوله وقرآن الفجر يعني صلاة الفجر. وقد بينت السنة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم تواتراً من أقواله وأفعاله تفاصيل هذه الأوقات على ما عليه أهل الإسلام اليوم مما تلقوه خلفاً عن سلف وقرناً بعد قرن كما هو مقرر في مواضعه انتهى.
قوله: "هذا حديث حسن صحيح" وأخرجه أحمد والنسائي وابن ماجه.
قوله: "حدثنا عبد الله بن عبد الرحمن" هو الإمام الدارمي "أخبرنا عبيد الله بن موسى" العبسى الكوفي "عن إسرائيل بن يونس".
قوله: {يَوْمَ نَدْعُو كُلَّ أُنَاسٍ بِإِمَامِهِمْ} قال الحافظ ابن كثير في تفسيره: يخبر تبارك وتعالي عن يوم القيامة أنه يحاسب كل أمة بإمامهم واختلفوا في ذلك فقال مجاهد وقتادة أي نبهم وهذا كقوله تعالى: {وَلِكُلِّ أُمَّةٍ رَسُولٌ فَإِذَا جَاءَ رَسُولُهُمْ(8/570)
أَحَدُهُمْ، فَيُعْطَى كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ، وَيُمَدّ لَهُ في جِسْمِهِ سِتّونَ ذِرَاعاً، وَبُبَيّضُ وَجْهُهُ، وَيَجْعَلُ عَلَى رَأْسِهِ تَاجٌ مِنْ لُؤْلُؤٍ يَتَلأْلأُ، فَيَنْطَلِقُ إلى أَصْحَابِهِ، فَيَرَوْنَهُ مِنْ بعيدٍ، فَيَقُولُونَ: اللّهُمّ ائْتِنَا بِهَذَا، وَبَارِكْ لَنَا في هَذَا، حَتّى يَأْتِيهُمْ، فَيَقُولُ لَهُمْ: أَبْشِرُوا، لِكُلّ رَجُلٍ مِنْكُمْ مِثْلُ هَذَا، قال: وَأَمّا الْكَافِرُ فَيُسوّدُ وَجْهُهُ، وَيُمَدّ لَهُ في جِسْمِهِ سِتّونَ ذِرَاعاً عَلَى صُورَةِ آدَمَ، وَيُلْبَسُ تَاجاً، فَيَرَاهُ أَصْحَابُهُ، فَيَقُولُونَ: نَعُوذُ بالله مِنْ شَرّ هَذَا، اللّهُمّ لا تَأْتِنَا بِهَذَا. قال: فَيَأْتِيهِمْ، فَيَقُولُونَ: اللّهُمّ أَخْزِهِ، فَيَقُولُ: أَبْعَدَكُم الله، فَإِنّ لِكُلّ رَجُلٌ مِنْكُمْ مِثْلَ هَذَا".
ـــــــ
قُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ} الآية. وقال بعض السلف هذا أكبر شرف لأصحاب الحديث لأن إمامهم النبي صلى الله عليه وسلم وقال ابن زيد بكتابهم الذي أنزل على نبيهم من التشريع واختاره ابن جرير، وروى عن ابن أبي نجيح عن مجاهد أنه قال بكتبهم فيحتمل أن يكون أراد هذا وأن يكون أراد ما رواه العوفي عن ابن عباس في قوله: {يَوْمَ نَدْعُو كُلَّ أُنَاسٍ بِإِمَامِهِمْ} ، أي بكتاب أعمالهم. وكذا قال أبو العالية والحسن والضحاك، وهذا القول هو الأرجح لقوله تعالى {وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْنَاهُ فِي إِمَامٍ مُبِينٍ} وقال تعالى: {وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ} الآية وهذا لا ينافي أن يجاء بالنبي إذا حكم الله بين أمته فإنه لا بد أن يكون شاهداً على أمته بأعمالها ولكن المراد ههنا بالإمام هو كتاب الأعمال، ولهذا قال تعالى: {يَوْمَ نَدْعُو كُلَّ أُنَاسٍ بِإِمَامِهِمْ فَمَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَأُولَئِكَ يَقْرَأُونَ كِتَابَهُمْ} الخ انتهى.
قلت: ويؤيد القول الأرجح حديث أبي هريرة هذا، فإنه نص صريح في أن المراد بقوله بإمامهم كتاب أعمالهم "فيعطى كتابه" أي كتاب أعماله "ويمد له في جسمه" أي يوسع له فيه "اللهم أخزه" بفتح الهمزة من الإخزاء، بمعنى الإذلال والإهانة.(8/572)
5146- حدثنا ابنُ أَبي عُمَرَ، أخبرنا سُفْيَانُ، عن ابنِ أبي نَجِيحٍ عن مُجَاهِدٍ عن أبي مَعْمَرٍ عن ابنِ مَسْعُودٍ قال: "دَخَلَ رَسولُ الله صلى الله عليه وسلم مَكّةَ عامَ الْفَتْحِ وَحَوْلَ الْكَعْبَةِ ثَلاَثُمَائَةٍ وَسِتّون نُصُباً، فَجَعَلَ النّبيّ صلى الله عليه وسلم يَطْعَنُهَا بِمِخْصَرَةٍ في يَدِهِ، وَرُبّمَا قال بِعُودٍ، ويقولُ: جاء الْحَقّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقاً جاء الْحَقّ وَمَا يُبْدِئُ الْبَاطِلُ وَما يُعِيدُ" .
ـــــــ
قوله: "حدثنا سفيان" هو ابن عيينة "عن ابن أبي نجيح" هو عبد الله، واسم أبي نجيح يسار "وعن أبي معمر" هو عبد الله بن سخبرة.
قوله: "ثلاثمائة وستون نصباً" بضم النون والصاد المهملة وقد تسكن بعدها موحدة: هي واحدة الأنصاب، وهو ما ينصب للعبادة من دون الله تعالى. ووقع في رواية ابن أبي شيبة عن ابن عيينة ضماً بدل نصباً، ويطلق النصب ويراد به الحجارة التي كانوا يذبحون عليها للأصنام وليست مرادة هنا، وتطلق الأنصاب على أعلام الطريق وليست مرادة هنا ولا في الآية "فجعل النبي صلى الله عليه وسلم يطعنها" بضم العين وبفتحها والأول أشهر "بمخصرة" كمكنسة مما يتوكأ عليه كالعصا ونحوه. وما يأخذه الملك، يشير به إذا خاطب، والخطيب إذا خطب "وربما قال بعود".
وفي حديث أبي هريرة عند مسلم: يطعن في عينيه بسية القوس. وفي حديث ابن عمر عند الفاكهي وصححه ابن حبان: فيسقط الصنم ولا يمسه، وللفاكهي والطبراني من حديث ابن عباس فلم يبق وثن استقبله إلا سقط على قفاه مع أنها كانت ثابتة بالأرض، وقد شد لهم إبليس أقدامها بالرصاص، وفعل النبي صلى الله عليه وسلم ذلك لإذلال الأصنام وعابديها، ولإظهار أنها لا تنفع ولا تضر ولا تدفع عن نفسها شيئاً. كذا في الفتح {جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ} أي جاء الإسلام وبطل الكفر {إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقاً} أي مضمحلاً زائلاً {جَاءَ الْحَقُّ وَمَا يُبْدِئُ الْبَاطِلُ وَمَا يُعِيدُ} أي زال الباطل وهلك، لأن الإبداء والإعادة من صفة الحيى فعدمهما عبارة عن(8/573)
هذا حديثٌ حسنٌ صحيحٌ. وَفِيهِ عن ابن عُمَرَ.
5147- حدثنا أَحْمَدُ بنُ مَنِيعٍ، أخبرنا جَرِيرٌ، عن قَابُوسَ بنِ أَبي ظَبْيَانُ عن أبِيهِ، عن ابنِ عَبّاسٍ قال: "كَانَ النّبيّ صلى الله عليه وسلم بِمَكّةَ، ثُمّ أُمِرَ بِالْهِجْرَةِ، فَنَزَلَتْ عَلَيْهِ: {وَقُلْ رَبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ وَأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ وَاجْعَلْ لِي مِنْ لَدُنْكَ سُلْطَاناً نَصِيراً} .
ـــــــ
الهلاك والمعنى جاء الحق وهلك الباطل. وقيل الباطل الأصنام. وقيل إبليس لأنه صاحب الباطل، أو لأنه هالك، كما قيل له الشيطان من شاط، إذا هلك، أي لا يخلق الشيطان ولا الصنم أحداً ولا يبعثه، فالمنشئ والباعث هو الله تعالى لا شريك له، وهذه الاَءَة أعني {جَاءَ الْحَقُّ وَمَا يُبْدِئُ الْبَاطِلُ وَمَا يُعِيدُ} في سورة سبأ.
قوله: "هذا حديث حسن صحيح" وأخرجه الشيخان.
قوله: "وفيه عن ابن عمر" أخرجه الفاكهي وصححه ابن حبان كما تقدم في عبارة الفتح.
قوله: "حدثنا جرير" هو ابن عبد الحميد "عن أبيه" اسمه حصين بن جندب ابن الحارث الجنبي الكوفي، ثقة من الثانية.
قوله: {وَقُلْ رَبِّ أَدْخِلْنِي} أي المدينة {مُدْخَلَ صِدْقٍ} أي إدخالاً مرضياً لا أرى فيه ما أكره {وَأَخْرِجْنِي} أي من مكة {مُخْرَجَ صِدْقٍ} أي إخراجاً لا ألتفت بقلبي إليها {وَاجْعَلْ لِي مِنْ لَدُنْكَ سُلْطَاناً نَصِيراً} أي قوة تنصرني بها على أعدائك.
قال الحسن البصري في تفسير هذه الآية: إن كفار أهل مكة لما ائتمروا برسول الله صلى الله عليه وسلم ليقتلوه أو يطردون أو يوثقوه، فأراد قتال أهل مكة، أمره أن يخرج إلى المدينة، فهو الذي قال الله عز وجل: {وَقُلْ رَبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ وَأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ} الآية.
وقال قتادة: {وَقُلْ رَبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ} : يعني المدينة، وأخرجني مخرج صدق: يعني مكة، وكذا قال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم. وهذا القول هو أشهر الأقوال.(8/574)
هذا حديثٌ حسنٌ صحيحٌ.
5148- حدثنا قُتَيْبَةُ، أخبرنا يَحْيَى بنُ زَكَرِيّا بنِ أبي زَائِدَةَ عن دَاوُدَ بنِ أبي هِنْدٍ عن عِكْرِمَةَ، عن ابنِ عَبّاسٍ قال: "قالَتْ قُرَيْشٌ لِيَهُودَ: أَعْطُونَا شَيْئاً نَسْأَلُ عَنْهَ هَذَا الرّجُلَ. فقال: سَلُوهُ عَنِ الرّوْحِ. فَسَأَلُوهُ عَنِ الرّوحِ، فَأَنْزَلَ الله تَعَالَى: {وَيَسْأَلونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ
ـــــــ
وقال العوفي: عن ابن عباس: أدخلني مدخل صدق: يعني الموت وأخرجني مخرج صدق يعني الحياة بعد الموت، وقيل غير ذلك من الأقوال، والأول أصح وهو اختبار ابن جرير، كذا في تفسير ابن كثير.
قوله: "هذا حديث حسن صحيح" وأخرجه أحمد.
قوله: "نسأل عنه هذا الرجل" أي النبي صلى الله عليه وسلم "فقال سلوه" كذا في النسخ الحاضرة عندنا بلفظ الواحد ونقل الحافظ هذا الحديث في الفتح عن الترمذي، وفيه: فقالوا بلفظ الجمع وهو الظاهر.
وقد روى الإمام أحمد هذا الحديث في مسنده بسند الترمذي وفيه أيضاً: فقالوا بصيغة الجمع فأنزل الله تعالى {وَيَسْأَلونَكَ عَنِ الرُّوحِ} حديث ابن عباس هذا يدل على أن هذه الآية نزلت بمكة. وفي حديث ابن مسعود الآتي قال كنت أمشي مع النبي صلى الله عليه وسلم في حرث بالمدينة وهو يتوكأ على عسيب، فمر بنفر من اليهود إلخ. وأخرجه البخاري في كتاب العلم من صحيحه وفيه: بينا أنا أمشي مع النبي صلى الله عليه وسلم في خرب المدينة إلخ، وهو صريح في أن هذه الآية نزلت بالمدينة.
قال الحافظ: ويمكن الجمع بأن يتعدد النزول بحمل سكونه في المرة الثانية على توقع مزيد بيان في ذلك وإن ساغ هذا، وإلا فما في الصحيح أصح، قال والأكثر على أنهم سألوه عن حقيقة الروح الذي في الحيوان، وقيل عن جبريل، وقيل عن عيسى، وقيل عن القرآن، وقيل عن خلق عظيم روحاني، وقيل غير ذلك. وجنح ابن القيم في كتاب الروح: إلى ترجيح أن المراد بالروح المسئول عنها في الآية ما وقع في قوله تعالى: {يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلائِكَةُ صَفّاً} قال وأما(8/575)
مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلاً} ، قَالُوا: أُوتِينَا عِلْماً كَبِيراً، أُوْتِينَا التّوْرَاةَ، وَمَنْ أُوتِيَ التّوْرَاةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً، فَأُنْزِلَتْ: {قُلْ لَوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَاداً لِكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ} إلى آخِرِ الآية".
هذا حديثٌ حسنٌ صحيحٌ غريبٌ من هذا الْوَجْهِ.
ـــــــ
أرواح بني آدم فلم يقع تسميتها في القرآن إلا نفساً، كذا قال، ولا دلالة في ذلك لما رجحه بل الراجح الأول يعني روح الإنسان. فقد أخرج الطبري من طريق العوفي عن ابن عباس في هذه القصة أنهم قالوا عن الروح: وكيف يعذب الروح الذي في الجسد وإنما الروح من الله؟ فنزلت الآية، هذا تلخيص كلام الحافظ {قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي} .
قال الخازن: تكلم قوم في ماهية الروح، فقال بعضهم: هو الدم، ألا ترى أن الإنسان إذا مات لا يفوت منه شيء إلا الدم، وقال قوم: هو نفس الحيوان، بدليل أنه يموت باحتباس النفس، وقال قوم: هو عرض، وقال قوم: هو جسم لطيف يحيى به الإنسان، وقيل: الروح معنى اجتمع فيه النور والطب والعلم والعلو والبقاء، ألا ترى أنه إذا كان موجوداً يكون الإنسان موصوفاً بجميع هذه الصفات، وإذا خرج منه ذهب الكل.
وأقاويل الحكماء والصوفية في ماهية الروح كثيرة، وأولى الأقاويل أن يوكل علمه إلى الله عز وجل وهو قول أهل السنة.
قال عبد الله بن بريدة: إن الله لم يطلع على الروح ملكاً مقرباً ولا نبياً مرسلاً بدليل قوله: {قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي} أي من علم ربي الذي استأثر به "قالوا" أي لليهود "أوتينا علماً كبيراً" وفي بعض النسخ: كثيراً مكان كبيراً. {قُلْ لَوْ كَانَ الْبَحْرُ} أي ماؤه {مِدَاداً} هو ما يكتب به {لِكَلِمَاتِ رَبِّي} الدالة على حكمه وعجائبه بأن تكتب به {لَنَفِدَ الْبَحْرُ} في كتابتها، وبقية الآية: {قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ} . بالتاء والياء تفرغ {كَلِمَاتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ} أي البحر {مَدَداً} أي زيادة ولم تفرغ هي ونصبه على التمييز.
قوله: "هذا حديث حسن صحيح" وأخرجه أحمد.(8/576)
5149- حدثنا عَلِيّ بنُ خَشْرَمٍ، أخبرنا عِيسَى بنُ يُونُسَ، عن الأعمَشِ عن إبراهِيمَ، عن عَلْقَمَةَ عن عَبْدِ الله قال: "كُنْتُ أَمْشِي مَعَ النّبيّ صلى الله عليه وسلم في حَرْثٍ بِالمَدِينَةِ وَهُوَ يَتَوَكّأُ عَلَى عَسِيبٍ، فَمَرّ بِنَفَرٍ مِنَ الْيَهُودِ، فقال بَعْضُهُمْ: لَوْ سَأَلْتُمُوهُ، فقال بَعْضُهُمْ: لا تَسْأَلُوهُ فَإِنّهُ يُسْمِعُكُمْ ما تَكْرَهُونَ، فقالُوا له: يَا أَبَا الْقَاسِمِ حَدّثْنا عَنِ الرّوحِ، فَقامَ النّبيّ صلى الله عليه وسلم سَاعَةً وَرَفَعَ رَأْسَهُ إلى السّماءِ، فَعَرَفْتُ أَنّهُ يُوحَى إِلَيْهِ حَتّى صَعَدَ الْوَحْيُ، ثُمّ قال: {الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلاً} ".
ـــــــ
قال الحافظ في الفتح بعد ذكر هذا الحديث: رجاله رجال مسلم وهو عند ابن إسحاق من وجه آخر عن ابن عباس نحوه.
قوله: "عن عبد الله" هو ابن مسعود.
قوله: "في حرث" بفتح المهملة وسكون الراء بعدها مثلثة "وهو يتوكأ" أي تعتمد "على عسيب" بمهملتين وآخره موحدة بوزن عظيم، وهي الجريدة التي لا خوص فيها، ووقع في رواية ابن حبان ومعه جريدة.
قال ابن فارس: العسبان من النخل كالقضبان من غيرها "بنفر من اليهود" هذا اللفظ معرفة تدخله الللام تارة وتارة يتجرد وحذفوا منه ياء النسبة ففرقوا بين مفرده وجمعه كما قالوا: زنج وزنجي "حتى صعد الوحي" أي حامله "ثم قال الروح من أمر ربي".
قال الرازي في تفسيره: المختار أنهم سألوه عن الروح الذي هو سبب الحياة، وأن الجواب وقع على أحسن الوجوه، وبيانه أن السؤال عن الروح يحتمل عن ماهيته، وهل هي متحيزة أم لا؟ وهل هي حالة في متحيز أم لا؟ وهل هي قديمة أو حادثة؟ وهي تبقى بعد انفصالها من الجسد أو تفني؟ وما حقيقة تعذيبها وتنعيمها وغير ذلك من متعلقاتها، قال: وليس في السؤال ما يخصص أحد هذه(8/577)
هذا حديثٌ حسنٌ صحيحٌ.
5150- حدثنا عَبْدُ بنُ حُمَيْدٍ، أخبرنا الْحَسَنُ بنُ مُوسَى وَسُلَيْمانُ بنُ حَرْبٍ، قال أخبرنا حَمّادُ بنُ سَلَمَةَ، عن عَلِيّ بنِ زَيْدٍ، عن أَوْسِ بنِ خَالِدٍ عن أبي هُرَيْرَةَ قال: قال رَسولُ الله صلى الله عليه وسلم: "يُحْشَرُ النّاسُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ثَلاَثَةَ أَصْنَافٍ: صِنْفاً مُشَاةً وَصِنْفاً رُكْبَاناً وَصِنْفاً عَلى
ـــــــ
المعاني إلا أن الأظهر أنهم سألوه عن الماهية وهل الروح قديمة أو حادثة.
والجواب: يدل على أنها شيء موجود مغاير للطبائع والأخلاط وتركيبها فهو جوهر بسيط مجرد لا يحدث إلا بمحدث، وهو قوله تعالى: {كُنْ} فكأنه قال: هي موجودة محدثة بأمر الله وتكوينه، ولها تأثير في إفادة الحياة للجسد، ولا يلزم من عدم العلم بكيفيتها المخصوصة نفيه. قال ويحتمل أن يكون المراد بالأمر في قوله: {مِنْ أَمْرِ رَبِّي} الفعل، كقوله: {وَمَا أَمْرُ فِرْعَوْنَ بِرَشِيدٍ} ، أي فعله.
فيكون الجواب: الروح من فعل ربي إن كان السؤال هل هي قديمة أو حادثة فيكون الجواب: أنها حادثة، إلى أن قال: وقد سكت السلف عن البحث في هذه الأشياء والتعمق فيها انتهى {وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلاً} أي بالنسبة إلى علمه تعالى.
قوله: "هذا حديث حسن صحيح" وأخرجه أحمد والشيخان.
قوله: "عن علي بن زيد" هو ابن جدعان "عن أوس بن خالد" قال في التقريب: أوس بن أبي أوس، واسم أبي أوس خالد الحجازي، يكنى أبا خالد مجهول، وقيل إنه أبو الجوزاء، فإن صح فلعل له كنيتين.
قوله: "صنفاً مشاة" بضم الميم جمع ماش، وهم المؤمنون الذين خلطوا صالح أعمالهم بسيئها "وصنفاً ركباناً" أي على النوق، وهو بضم الراء وهم السابقون الكاملون الإيمان، وإنما بدأ بالمشاة جبراً لخاطرهم كما قيل في قوله تعالى: {فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ} وفي قوله سبحانه وتعالى: {يَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ إِنَاثاً} أو لأنهم المحتاجون إلى المغفرة أولاً، أو لإرادة الترقي وهو ظاهر.(8/578)
وُجُوهِهِمْ ". قِيلَ: يَا رَسُولَ الله وَكَيْفَ يَمْشُونَ عَلَى وُجُوهِهِمْ؟ قال: إنّ الّذي أَمْشَاهُمْ عَلَى أَقْدَامِهِمْ قَادِرٌ عَلَى أَنْ يُمْشِيهِمْ عَلَى وُجُوهِهمْ، أَمَا إِنّهُمْ يَتّقُونَ بِوُجُوهِهِمْ كُلّ حَدَبٍ وشوكة" .
هذا حديثٌ حسنٌ. وقد رَوَى وَهِيبٌ عن ابنِ طَاوُسٍ عن أبِيهِ عن أبي هُرَيْرَةَ عن النّبيّ صلى الله عليه وسلم شَيْئاً من هذا.
5151- حدثنا أَحْمَدُ بنُ مَنِيعٍ أخبرنا يَزِيدُ بنُ هَارُونَ، أخبرنا بَهْزُ بنُ حَكِيمٍ عن أبِيهِ عن جَدّهِ قالَ: قال رَسولُ الله صلى الله عليه وسلم: "إنّكُمْ مَحْشُورُنَ رِجَالاً وَرُكْبَاناً وَتجرّونَ عَلَى وُجُوهِهمْ" .
ـــــــ
وقال التوربشتي رحمه الله: فإن قيل لم بدأ بالمشاة بالذكر قبل أولى السابقة؟
قلنا: لأنهم هم الأكثرون من أهل الإيمان "وصنفاً على وجوههم" أي يمشون عليها وهم الكفار "قيل يا رسول الله وكيف يمشون على وجوههم" أي والعادة أن يمشى على الأرجل "قال" إن الذي أمشاهم على أقدامهم قادر على أن يمشيهم على وجوههم يعني وقد أخبر في كتابه بقوله: {وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى وُجُوهِهِمْ عُمْياً وَبُكْماً وَصُمّاً} وإخباره حق ووعده صدق وهو على كل شيء قدير، فلا ينبغي أن يستعد مثل ذلك "أما" بالتخفيف للتنبيه "إنهم" أي الكفار "يتقون" أي يحترزون ويدفعون "كل حدب" أي مكان مرتفع "وشوكة" واحدة الشوك، وهي بالفارسية خار.
قال القاضي رحمه الله: يتقون بوجوههم، يريد به بيان هوانهم واضطرارهم إلى حد جعلوا وجوههم مكان الأيدي والأرجل في التوقي عن مؤذيات الطرق والمشي إلى المقصد لما لم يجعلوها ساجدة لمن خلقها وصورها.
قوله: "هذا حديث حسن" وأخرجه ابن جرير وابن مردويه والبيهقي "وقد روى وهيب" بن خالد "عن ابن طاوس" اسمه عبد الله "عن أبيه" هو كيسان ابن سعيد.
قوله: "إنكم محشورون رجالاً" بكسر الراء جمع راجل بمعنى ماش "وتجرون(8/579)
هذا حديثٌ حسنٌ.
5152- حدثنا مَحْمُودُ بنُ غَيْلاَنَ، أخبرنا يَزِيدُ بنُ هَارُونَ وَأبو دَاوُدَ وَأبو الْوَلِيدِ - وَاللّفْظُ لَفْظُ يَزِيدَ وَالمَعْنَى وَاحِدٌ - عن شُعْبَةَ عن عَمْرِو بنِ مُرّةَ عن عَبْدِ الله بنِ سَلَمَةَ عن صَفْوَانَ بنِ عَسّالٍ المُرَادِيّ "أَنّ يَهُودِيّيْنِ قَالَ أَحَدُهُمَا لِصَاحِبِهِ: اذْهَبْ بِنَا إلى هَذَا النّبيّ نَسْأَلُهُ. فقال: لا تَقُلْ لَهُ نَبِيّ، فإِنّهُ إنْ يَسْمَعْهَا تَقُولُ لَهُ نَبِيّ كَانَتْ لَهُ أَرْبَعَةُ أَعْيُنٍ. فأَتَيَا النّبِيّ فَسَأَلاَهُ عَنْ قَوْلِ الله عز وجل: {وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى تِسْعَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ} ، فقال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: لا تُشْرِكُوا بالله شَيْئاً، ولا تَزْنُوا، ولا تَقْتُلُوا النّفْسَ الّتِي حَرّمَ الله إلاّ بِالْحَقّ، ولا تَسْرِقُوا، ولا تَسْحَرُوا، ولا تَمْشُوا بِبَرِيء إلى سُلْطَانٍ فَيْقْتُلَهُ، ولا تأْكُلُوا الرّبَا، ولا تَقْذِفُوا مُحْصَنَةً، ولا تَفِرّوا مِنَ الزّحْفِ - شَكّ شُعْبَة - وَعلَيْكُمْ يا معشر الْيَهُودَ خاصّةً، أَلاّ تَعْتَدُوا في السّبْتِ. فَقَبّلاَ يَدَيْهِ وَرِجْلَيْهِ وَقَالاَ: نَشْهَدُ أَنّكَ نِبيّ. قال: فمَا يَمْنَعُكُمَا أَنْ تُسْلِمَا؟ قالا: إنّ دَاوُدَ دَعا الله أَنْ لا يَزَالَ في ذُرّيّتِهِ نَبِيّ، وَإِنّا نَخَافُ إِنْ أَسْلَمْنَا أَنْ تَقْتُلَنَا الْيَهُودُ".
هذا حديثٌ حسنٌ صحيحٌ.
ـــــــ
على وجوهكم بصيغة المجهول من الجر أي تسحبون.
قوله: "هذا حديث حسن" تقدم هذا الحديث في باب شأن الحشر من أبواب صفة القيامة وتقدم هناك تخريجه.
قوله: "إن يهوديين قال أحدهما لصاحبه اذهب بنا الخ" تقدم هذا الحديث مع شرحه في باب قبلة اليد والرجل من أبواب الاستئذان والأدب.(8/580)
5153- حدثنا عَبْدُ بنُ حُمَيْدٍ، أخبرنا سُلَيْمانُ بنُ دَاوُدَ عن شُعْبَةَ عن أبي بِشْرٍ عن سَعِيدِ بنِ جُبَيْرٍ، ولم يَذْكُرْ عن ابنِ عَبّاسٍ وَهُشَيْمٍ، عن أبي بِشْرٍ عن سَعِيدِ بنِ جُبَيْرٍ عن ابنِ عَبّاسٍ {وَلا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ وَلا تُخَافِتْ بِهَا} قال: نَزَلَتْ بِمَكّةَ، كَانَ رَسولُ الله صلى الله عليه وسلم إذَا رَفَعَ صَوْتَهُ بالْقُرْآنِ سَبّهُ المُشْرِكُونَ وَمَنْ أَنْزَلَهُ وَمَنْ جَاءَ بِهِ، فأَنْزَلَ الله: {وَلا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ} فَيُسبوا الْقُرْآنُ وَمَنْ أَنْزَلَهُ وَمَنْ جاءَ بِهِ، وَلاَ تُخَافِتْ بها عَنْ أَصْحَابِكَ بِأَنْ تُسْمِعَهُمْ حَتّى يَأْخُذُوا عَنْكَ الْقُرْآنَ".
هذا حديثٌ حسنٌ صحيح.
5154- حدثنا أَحْمَدُ بنُ مَنِيعٍ، أخبرنا هُشَيْمٌ، أخبرنا أبو بِشْرٍ عن سَعِيدِ بنِ جُبَيْرٍ عن ابنِ عَبّاسٍ في قوله: {وَلا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ وَلا تُخَافِتْ بِهَا وَابْتَغِ بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلاً} قال: نَزَلَتْ ورَسولُ الله صلى الله عليه وسلم
ـــــــ
قوله: "حدثنا سليمان بن داود" هو أبو داود الطيالسي "عن أبي بشر" هو جعفر بن إياس "وهشيم" بالجر عطف على شعبة "قال نزلت" أي هذه الآية "سبه المشركون" الضمير المنصوب للقرآن "ومن أنزله" عطف على الضمير المنصوب وكذلك قوله "ومن جاء به" أي سبوا القرآن والله سبحانه وجبريل {وَلا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ} أي لا تعلن بقراءة القرآن إعلاناً شديداً فيسمعك المشركون "فيسب بصيغة المجهول وهو منصوب بتقدير أن بعد الفاء "القرآن" نائب الفاعل {وَلا تُخَافِتْ بِهَا} أي لا تخفض صوتك بالقراءة "بأن تسمعهم حتى يأخذوا عنك القرآن" يعني أقرأ القرآن بحيث يسمعه أصحابك ويأخذونه عنك ولا يسمعه المشركون فيسبونه.
قوله: "هذا حديث حسن صحيح" وأخرجه أحمد والشيخان من طريق هشيم عن أبي بشر عن سعيد بن جبير عن ابن عباس موصولاً.(8/581)
مُخْتَفٍ بِمَكّةَ، وكَانَ إذَا صَلّى بِأَصْحَابِهِ رَفَعَ صوته بِالْقُرْآنِ، فَكَانَ المُشْرِكُونَ إذَا سَمِعُوا شَتَمُوا الْقُرْآنَ وَمَنْ أَنْزَلَهُ وَمَنْ جَاءَ بِهِ، فقال الله تَعَالَى لِنَبِيّهِ: {وَلا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ} أيْ بِقِرَاءَتِكَ، فَيَسْمَعُ المُشْرِكُونَ فَيُسبوا الْقُرْآنُ {وَلا تُخَافِتْ بِهَا} عَنْ أصْحَابِكَ {وَابْتَغِ بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلاً} .
هذا حديثٌ حسنٌ صحيحٌ.
5155- حدثنا ابنُ أبي عُمَرَ، أخبرنا سُفْيَانُ عن مِسْعَرٍ عن عاصِمِ بنِ أبي النّجُودِ عن زِرّ بنِ حُبَيْشٍ قال: "قُلْتُ لِحُذَيْفَةَ بنِ الْيَمانِ: أَصَلّى رَسولُ الله صلى الله عليه وسلم في بَيْتِ المَقْدِسِ؟ قال: لاَ. قلت: بَلَى. قال: أَنْتَ تَقُولُ ذَلِكَ يَا أَصْلَعُ، بِمَ تَقُولُ ذَلِكَ؟ قلت: بِالْقُرْآنِ. بَيْنِي وبَيْنَكَ الْقُرْآنُ. فقال حُذَيْفَةُ: مَنْ احْتَجّ بالْقُرْآنِ فَقَدْ أَفْلَحَ. قال سُفْيَانُ: يقولُ قَدْ احْتَجّ، وَرُبّمَا قال: قَدْ فَلَجَ. فقال: {سُبْحَانَ الَّذِي
ـــــــ
قوله: "ورسول الله صلى الله عليه وسلم مختف بمكة" يعني في أول الإسلام {وَلا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ} أي بقراءتك وهو من باب إطلاق الكل وإرادة الجزء {وَابْتَغِ} أي طلب {بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلاً} أي طريقاً وسطاً بين الجهر والإخفاء.
قوله: "عن مسعر" هو ابن كدام "قال لا" أي قال حذيفة لم يصل رسول الله صلى الله عليه وسلم في بيت المقدس، وقوله هذا مبني على أنه لم يبلغه أحاديث صلاته صلى الله عليه وسلم فيه "قلت بلى" أي قد صلى فيه "يا أصلع" هو الذي انحسر الشعر عن رأسه. قاله الجزري، وقال في القاموس: الصلع محركة انحسار شعر مقدم الرأس لنقصان مادة الشعر في تلك البقعة وقصورها عنها واستيلاء الجفاف عليها "بم تقول ذلك" أي بأي دليل تقول إنه صلى الله عليه وسلم صلى فيه "قلت بالقرآن" أي أقول بالقرآن "بيني وبينك القرآن" أي بحكم بيني وبينك القرآن ويفصل "من احتج بالقرآن فقد أفلح" أي فاز بمرامه "قال سفيان" أي(8/582)
أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى} . قال: أَفَتُرَاهُ صَلى فِيهِ؟ قلت: لاَ. قال: لَوْ صَلّى فِيهِ لَكُتِبَتْ عَلَيْكُمْ الصّلاَةُ فِيهِ كَمَا كُتِبَتْ الصّلاَةُ في المَسْجِدِ الْحَرامِ. قال حُذَيْفَةُ: قَدْ أُتِيَ رَسولُ الله صلى الله عليه وسلم بِدَابّةٍ طَوِيلَةِ الظّهْرِ مَمْدُودَةٍ هَكَذَا. خَطْوُهُ مَدّ بَصَرِهِ،
ـــــــ
في بيان مراد حذيفة بقوله أفلح "يقول" أي حذيفة، يعني يريد "قد احتج" أي أني بالحجة الصحيحة "وربما قال" أي سفيان "قد فلج" من الفلج: بفتح الفاء وسكون الللام، وبالجيم، وهو الظفر والفوز، وفلج على خصمه من باب نصر كذا في مختار الصحاح، وفي بعض النسخ: أفلح من باب الأفعال وهو بمعنى الفلج. قال في القاموس: الفلج والظفر والفوز كالإفلاج "فقال" أي زر بن حبيش {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى} يعني إذا أسرى به صلى الله عليه وسلم إلى المسجد الأقصى ودخله.
فالظاهر أنه قد صلى فيه "قال" أي حذيفة "أفتراه صلى فيه" يعني في هذه الآية تصريح لصلاته صلى الله عليه وسلم "قلت لا" يعني ليس فيها تصريح لكن الظاهر من الآية أنه صلى فيه "قال لو صلى فيه لكنبت الصلاة عليكم فيه كما كتبت الصلاة في المسجد الحرام" قد أجاب الحافظ في الفتح عن قول حذيفة هذا فقال: "والجواب عنه منع التلازم في الصلاة إن كان أراد بقوله كتب عليكم الفرض، وإن أراد التشريع فنلتزمه وقد شرع النبي صلى الله عليه وسلم الصلاة في بيت المقدس فقرنه بالمسجد الحرام ومسجده في شد الرحال، وذكر فضيلة الصلاة فيه في غير ما حديث. وفي حديث أبي سعيد عند البيهقي: حتى أتيت بيت المقدس فأوثقت دابتي بالحلقة التي كانت الأنبياء تربط بها، وفيه: فدخلت أنا وجبريل بيت المقدس فصلى كل واحد منا ركعتين، وفي رواية أبي عبيدة بن عبد الله بن مسعود عن أبيه نحوه، وزاد: ثم دخلت المسجد فعرفت النبيين من بين قائم وراكع وساجد، تم أقيمت الصلاة فأممتهم. وفي حديث ابن مسعود عند مسلم: وحانت الصلاة فأمتهم انتهى كلام الحافظ مختصراً "بدابة" هي البراق "طويلة الظهر ممدودة هكذا" أي أشار حذيفة لطول ظهرها ومد بيده "خطوة" في القاموس: خطا خطواً مشى،(8/583)
فمَا زَايَلاَ ظَهْرَ الْبُرَاقِ حَتّى رَأَيَا الْجَنّةَ وَالنّارَ وَوَعْد الآخرة أَجْمَعَ، ثُمّ رَجَعَا عَوْدَهُما عَلَى بَدْئِهِمَا. قال: وَيَتَحَدّثُونَ أَنّهُ رَبَطَهُ لِمَا أيفرّ مِنْهُ وَإِنّمَا سَخّرَهُ لَهُ عالِمُ الْغَيْبِ وَالشّهَادَةِ".
هذا حديثٌ حسنٌ صحيحٌ.
ـــــــ
والخطوة ويفتح: ما بين القدمين "مد بصره" أي منتهى بصره "فما زايلها ظهر البرق" أي ما فارق النبي صلى الله عليه وسلم وجبريل ظهره، في القاموس: زايله مزايلة وزيالاً: فارقه انتهى. وفيه دليل على أن جبريل عليه السلام كان راكباً مع النبي صلى الله عليه وسلم على البراق.
وفي صحيح ابن حبان من حديث ابن مسعود: أن جبريل حمله على البراق رديفاً له، وفي رواية الحرث في مسنده: أتى بالبراق فركب خلف جبريل فسار بهما، فهذا صريح في ركوبه معه.
فهذه الروايات حجة على من أنكر ركوب جبريل مع النبي صلى الله عليه وسلم على البراق "ثم رجعا عودهما على بدئهما" قال في القاموس: رجع عوداً على بدء وعوده على بدئه: أي لم يقطع ذهابه حتى وصله برجوعه "ويتحدثون أنه ربطه لما ليفر منه الخ" قد أجاب البيهقي عن قول حذيفة هذا وقوله المتقدم فقال: المثبت مقدم على النافي.
قال الحافظ: بعد ذكر كلام البيهقي هذا يعني من أثبت ربط البراق والصلاة في بيت المقدس معه زيادة علم على من نفى ذلك فهو أولى بالقبول ووقع في رواية بريدة عند البزار لما كان ليلة أسري به فأتى جبريل الصخرة التي ببيت المقدس فوضع إصبعه فيها فخرقها فشد بها البراق، ونحوه للترمذي انتهى. وقوله لما يعني: لأي شيء ربط البراق، ثم قال على وجه الإنكار ليفر منه: أي هل ربطه لخوف فراره منه، ثم قال: إنما سخره الخ يعني لا يمكن منه الفرار، لأنه مسخر من الله تعالى فلا حاجة إلى ربطه.
قوله: "هذا حديث حسن صحيح" وأخرجه أحمد والنسائي.(8/584)
5156- حدثنا ابنُ أبي عُمَرَ، أخبرنا سُفْيَانُ عن عَلِيّ بنِ زَيْدِ بنِ جُدْعَانَ عن أبي نَضْرَةَ عن أبي سَعِيدٍ الْخُدْرِيّ قال: قال رَسولُ الله صلى الله عليه وسلم: "أَنَا سَيّدُ وَلَدِ آدَمَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلاَ فَخْرَ، وَبِيَدِي لِوَاءُ الْحَمْدِ وَلاَ فَخْرَ، وَمَا مِنْ نَبِيّ يَوْمَئِذٍ، آدَمَ فَمَنْ سِوَاهُ إلاّ تَحْتَ لِوَائِي، وَأَنَا
ـــــــ
قوله: "عن أبي نضرة" اسمه المنذر بن مالك بن قطنة العبدي.
قوله: "أنا سيد ولد آدم" قاله إخباراً عما أكرمه الله تعالى من الفضل والسؤدد، وتحدثاً بنعمة الله تعالى عنده وإعلاماً منه لأمته ليكون إيمانهم به على حسبه وموجبه، ولهذا أتبعه بقوله "ولا فخر" أي أن هذه الفضيلة التي نلتها كرامة من الله لم أنلها من قبل نفسي ولا بلغتها بقوتي فليس لي أن أفتخر بها، قاله الجزري. وقال النووي: فيه وجهان: أحدهما قاله امتثالاً لأمر الله تعالى: {وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ} وثانيهما. أنه من البيان الذي يجب عليه تبليغه إلى أمته ليعرفوه ويعتقدوه ويعملوا بمقتضاه في توقيره صلى الله عليه وسلم كما أمرهم الله تعالى به انتهى "لواء الحمد" اللواء بالكسر وبالمد: الرراية، ولا يمسكها إلا صاحب الجيش، قاله الجزري في النهاية.
قال الطيبي: لواء الحمد عبارة عن الشهرة وانفراده بالحمد على رؤوس الخلائق ويحتمل أن يكون لحمده لواء يوم القيامة حقيقة يسمى لواء الحمد. وقال التوربشتي: لا مقام من مقامات عباد الله الصالحين أرفع وأعلى من مقام الحمد، ودونه تنتهي سائر المقامات، ولما كان نبينا سيد المرسلين، أحمد الخلائق في الدنيا و الآخرة أعطى لواء الحمد ليأوى إلى لوائه الأولون و الآخرون، وإليه الإشارة بقوله صلى الله عليه وسلم: آدم ومن دونه تحت لوائي انتهى.
قلت: حمل لواء الحمد على معناه البيهقي هو الظاهر بل هو المتعين، لأنه لا يصار إلى المجاز مع إمكان الحقيقة "وما يومئذ آدم فمن سواه إلا تحت لوائي" قال الطيبي: نبي نكرة وقعت في سياق النفي وأدخل عليه من الاستغراقية، فيفيد استغراق الجنس، وقوله آدم فمن: إما أو بدل من محله، ومن فيه موصولة وسواه صلته، وصح لأنه ظرف، وأوثر الفاء التفصيلية في فمن سواه على الواو(8/585)
أَوّلُ مَنْ تَنْشَقّ عَنْهُ الأرْضُ وَلاَ فَخْرَ" .
قال: فَيَفْزَعُ النّاسُ ثَلاَثَ فَزَعاتٍ، فَيَأْتُونَ آدَمَ فَيَقُولُونَ: أَنْتَ أبُونَا آدَمُ فَاشْفَعَ لَنَا إلى رَبّكَ، فَيقولُ: إنّي أَذْنَبْتُ ذَنْباً أُهْبِطْتُ مِنْهُ إلى الأرْضِ، وَلَكِنْ ائْتُوا نُوحاً، فَيَأْتُونَ نُوحاً فَيَقُولُ: إني دَعَوْتُ عَلَى أهْلِ الأرْضِ دَعْوَةً فَأُهْلِكُوا، وَلَكِنْ اذْهَبُوا إلى إبراهِيمَ، فَيَأْتُونَ إبراهِيمَ فيقولُ: إنّي كَذَبْتُ ثَلاَثَ كَذِباتٍ. ثمّ قال رَسولُ الله صلى الله عليه
ـــــــ
للترتيب، على منوال قولهم: الأمثل فالأمثل "وأنا أول من ينشق عنه الأرض" أي للبعث فلا يتقدم أحد عليه بعثاً فهو من خصائصه "فيفزع الناس ثلاث فزعات".
قال القرطبي: كأن ذلك يقع إذا جيء بجهنم، فإذا زفرت فزع الناس حينئذ وجثوا على ركبهم "إني أذنبت ذنباً" يعني أكله من الشجرة وقد نهى عنها "أهبطت منه" بسببه والجملة صفة لقوله ذنباً "فيقول إني دعوت دعوة على أهل الأرض دعوة فأهلكوا" وفي رواية: إني دعوت بدعوة أغرقت أهل الأرض، والمارد بهذه الدعوة قوله: {رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّاراً} وفي رواية قال: إنه لو كانت لي دعوة دعوت بها على قومي، وفي رواية: ويذكر سؤال ربه ما ليس له به علم.
قال الحافظ: ويجمع بينه اعتذر بأمرين، أحدهما: نهى الله تعالى له أن يسأل ما ليس له به علم، فخشى أن تكون شفاعته لأهل الموقف من ذلك، ثانيهما: أن له دعوة واحدة محققة الإجابة، وقد استوفاها بدعائه على أهل الأرض، فخشى أن يطلب فلا يجاب "فيقول إني كذبت ثلاث كذبات" يأتي بيان هذه الكذبات في تفسير سورة الأنبياء، قال البيضاوي: الحق أن الكلمات الثلاث إنما هي من معاريض الكلام لكن لما كانت صورتها صورة الكذب أشفق منها ساتصغاراً لنفسه عن الشفاعة مع وقوعها، لأن من كان أعرف بالله وأقرب(8/586)
وسلم: مَا مِنْهَا كَذِبَةٌ إلاّ مَا حَلّ بها عَنْ دِينِ الله، وَلَكِنْ ائْتُوا مُوسَى، فَيَأْتُونَ مُوسَى فيقولُ: إني قَدْ قَتَلْتُ نَفْساً، وَلَكِنْ ائْتُوا عِيسَى، فيأتونَ عِيسَى فيقولُ: إني عُبِدْتُ مِنْ دُونِ الله، وَلَكِنْ ائْتُوا مُحمّداً صلى الله عليه وسلم. قَالَ: فيأتونّي فَأَنْطَلِقُ مَعَهُمْ" .
قال ابنُ جُدْعانَ: قال أَنَسٌ: "فَكَأَنّي أَنْظُرُ إلى رسولِ الله صلى الله عليه وسلم. قال: فَآخُذُ بِحَلْقَةِ بَابِ الْجَنّةِ فَأُقْعَقِعُهَا فَيُقَالُ: مَنْ هَذَا؟ فَيُقَالُ: مُحمّدٌ، فَيَفْتَحُونَ لِي وَيرَحّبُونَ بي، فَيَقُولُونَ: مَرْحَباً، فَأَخِرّ سَاجِداً، فَيُلْهِمُني الله مِنَ الثّنَاءِ وَالْحَمْدِ، فَيُقَالُ لِي: ارْفَعْ رَأْسَكَ وَسَلْ تَعْطَ، وَاشْفَعْ تُشَفّعْ، وَقُلْ يُسْمَعْ لِقَوْلِكَ، وَهُوَ المَقَامُ المَحمُودُ الّذِي قَالَ
ـــــــ
إليه منزلة كان أعظم خوفاً "إلا ما حل بها" بالحاء المهملة. قال في النهاية: أي دفع وجادل من المحال بالكسر وهو الكيد، وقيل المكر، وقيل القوة والشدة وميمه أصلية، ورجل محل أي ذو كيد "فيقول إني قد قتلت نفساً" وفي رواية عند سعيد بن منصور: إني قتلت نفساً بغير نفس وإن يغفر لي اليوم حسبي "فيقول إني عبدت من دون الله" وفي رواية أحمد والنسائي من حديث ابن عباس: إني اتخذت إلهاً من دون الله، وفي رواية عند سعيد بن منصور ونحوه، وزاد: وإن يغفر لي اليوم حسبي "قال ابن جدعان، قال أنس: فكأني أنظر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: فآخذ بحلقة باب الجنة فأقعقعقها" أخذ ابن جدعان هذا القدر من حديث أنس لا من حديث أبي سعيد ولذا صرح به، وأما قوله: فيقال من هذا فيقال محمد إلى آخر الحديث، فهو من حديث أبي سعيد لا من حديث أنس كما صرح به سفيان بقوله ليس عن أنس إلا هذه الكلمة فآخذ بحلقة باب الجنة فأقعقعها "فأقعقعها" أي أحركها لتصوت والقعقعة حكاية حركة الشيء يسمع له صوت "فيقولون مرحباً" هذا بيان لقوله يرحبون بي "واشفع تشفع" بصيغة المجهول من التفعيل، أي تقبل شفاعتك.(8/587)
الله: {عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَاماً مَحْمُوداً} قال سُفْيَانُ: لَيْسَ عَنْ أَنَسٍ إلاّ هَذِهِ الْكَلِمَةَ. فَآخُذُ بِحَلَقَةِ بَابِ الْجَنّةِ فَأُقَعْقِعُهَا".
هذا حديثٌ حسنٌ صحيحٌ. وقد رَوَى بَعْضُهُمْ هذا الحديثَ عن أبي نَضْرَةَ عن ابنِ عَبّاسٍ الحديثَ بِطُولِهِ.
لَيْسَ بِمُوسَى صَاحِبِ الْخَضِرِ. قال:
ـــــــ
قوله: "هذا حديث حسن" وأخرجه أحمد وابن ماجه مختصراً، وأخرجه أيضاً الترمذي في أوائل المناقب مختصراً.
قوله: "وقد روى بعضهم هذا الحديث عن أبي نضرة عن ابن عباس الحديث بطوله" أخرجه أحمد.(8/588)
ومن الكهف
...
سورَةَ الْكَهْف
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
5157- حدثنا ابنُ أبي عُمَرَ، أخبرنا سُفْيَانُ عن عَمْرِو بنِ دِينَارٍ عن سَعِيدِ بنِ جُبَيْرٍ قال: "قُلْتُ لاِبنِ عَبّاسٍ: إنّ نَوْفاً الْبِكَالِيّ يَزْعُمُ أَنّ مُوسَى صَاحِبَ بَنِي إسْرَائِيلَ لَيْسَ بِمُوسَى صَاحِبِ الْخَضِرِ. قال:
ـــــــ
قوله: "هذا حديث حسن" وأخرجه أحمد وابن ماجه مختصراً، وأخرجه أيضاً الترمذي في أوائل المناقب مختصراً.
قوله: "وقد روى بعضهم هذا الحديث عن أبي نضرة عن ابن عباس الحديث بطوله" أخرجه أحمد.
سورَةَ الْكَهْف
مكية وهي مائة وإحدى عشرة آية "إن نوفاً" بفتح النون وسكون الواو بعدها فاء: هو ابن فضالة "البكالى" بكسر الموحدة وبالكاف مخففاً وبعد الألف لام وهو منسوب إلى بني بكال بن دعمي بن دسعد بن عوف بطن من حمير، ويقال إنه ابن امرأة كعب الأحبار، وقيل ابن أخيه، وهو تابعي صدوق "يزعم أن موسى صاحب بني إسرائيل ليس بموسى صاحب الخضر" وفي رواية ابن إسحاق عن سعيد بن جبير عند النسائي قال: كنت عند ابن عباس وعنده قوم من أهل الكتاب، فقال بعضهم يا ابن عباس: إن نوفاً يزعم عن كعب الأحبار(8/588)
كَذَبَ عَدُوّ الله، سَمِعْتُ أُبَيّ بنَ كَعْبٍ يقولُ: سَمِعْتُ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم يقولُ: قَامَ مُوسَى خَطِيباً في بَنِي إسْرَائِيلَ، فَسُئِلَ: أَيّ النّاسِ أَعْلَمُ؟ قال: أَنَا أَعْلَمُ . فَعَتِبَ الله عَلَيْهِ، إذْ لَمْ يَرُدّ الْعِلْمَ إِلَيْهِ، فَأَوْحَى الله إِلَيْهِ أَنّ عَبْداً مِنْ عِبَادِي بِمَجْمَعِ الْبَحْرَيْنِ هُوَ أَعْلَمُ مِنكَ. قال مُوسَى: أَي رَبّ، فَكَيْفَ لِي بِهِ؟ فقالَ لهُ: احْمِلْ حُوتاً في مِكْتَلٍ، فَحَيْثُ تَفْقِدُ
ـــــــ
أن موسى الذي طلب العلم إنما هو موسى بن ميشا أي ابن إفراثيم بن يوسف عليه السلام، فقال ابن عباس: أسمعت ذلك منه يا سعيد؟ قلت نعم، قال: كذب نوف.
قال ابن إسحاق: في المبتدأ كان موسى بن ميشاقيل موسى بن عمران نبياً في بني إسرائيل، ويزعم أهل الكتاب أنه الذي صحب الخضر كذا في الفتح "قال كذب عدو الله" هذان اللفظان محمولان على إرادة المبالغة في الزجر والتنفير عن تصديق تلك المقابلة. قال ابن التين: لم يرد بان عباس إخراج نوف عن ولاية الله، ولكن قلوب العلماء تتنفر إذا سمعت غير الحق فيطلقون أمثال هذا الكلام لقصد الزجر وحقيقته غير مرادة "فعتب الله عليه" العتب من الله تعالى محمول على ما يليق به لا على معناه العرفي في الآدميين كنظائره "أن عبداً من عبادي بمجمع البحرين" اختلف في مكان مجمع البحرين، فروى عبد الرزاق عن معمر عن قتادة قال: بحر فارس والروم، وقيل غير ذلك، وذكر الحافظ في الفتح: أقوال مختلفة فيه ثم قال هذا اختلاف شديد "أي رب" أصله ربي حذفت ياء المتكلم للتخفيف اكتفاء بالكسر "فكيف لي به" أي كيف الالتقاء لي بذلك العبد "أحمل حوتاً في مكتل" بكسر الميم وفتح المثناة من فوق قال في القاموس: هو زنبيل خمسة عشر صاعاً. وفي رواية أبي إسحاق عند مسلم: فقيل له تزود حوتاً مالحاً.
قال الحافظ: يستفاد من هذه الرواية أن الحوت كان ميتاً، لأنه لا يملح(8/589)
هذا حديثٌ حسنٌ غريبٌ لا نَعْرِفُهُ إلاّ من حديثِ مُحمّدِ بنِ بَكْرٍ.
5162- حدثنا جَعْفَرُ بنُ مُحمّدٍ بنِ فُضَيْلٍ الْجَزَرِيّ وغيرُ وَاحِدٍ، قالُوا أخبرنا صَفْوَانُ بنُ صَالِحٍ، أخبرنا الْوَلِيدُ بنُ مُسْلِمٍ عن يَزِيدَ بنِ يُوسُفَ الصّنْعَانِيّ عن مَكْحُولٍ عن أُمّ الدّرْدَاءِ عن أبي الدّرْدَاءِ عن النّبيّ صلى الله عليه وسلم في قوله: {وَكَانَ تَحْتَهُ كَنْزٌ لَهُمَا} قال: ذَهَبٌ وَفِضّةٌ" .
5163- حدثنا الْحَسَنُ بنُ عَلِيّ الْخَلاّلُ، أخبرنا صَفْوَانُ بنُ صَالِحٍ، أخبرنا الْوَلِيدُ بنُ مُسْلِمٍ عن يَزِيدَ بنِ يُوسُفَ الصّنْعَانِيّ عن يَزِيدَ بنِ يَزِيدَ بنِ جَابِرٍ عن مَكْحُولٍ بهَذَا الإسْنَادِ نحْوَهُ.
ـــــــ
إلا ما كان خالصاً لوجهه وابتغاء لمرضاته، فاسم المصدر الذي هو الشرك مستعمل في معنى المفعول. وهذا الحديث أورده الترمذي ههنا في تفسير قوله تعالى: {فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحاً وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَداً} .
قوله: "هذا حديث غريب" وأخرجه أحمد وابن ماجه وابن حبان في صحيحة والبيهقي.
قوله: "حدثنا جعفر بن محمد بن فضيل الجزري" الرسعني أبو الفضل، ويقال له الراسبي، صدوق حافظ من الحادية عشرة "أخبرنا صفوان بن صالح" الثقفي مولاهم أبو عبد الملك الدمشقي ثقة، وكان يدلس تدليس التسوية من العاشرة "عن يزيد بن يوسف" الرحبي "الصنعاني" صنعاء دمشق، ضعيف، من التاسعة.
قوله: {وَكَانَ تَحْتَهُ كَنْزٌ لَهُمَا} ذهب وفضة فيه دلالة على أن ذلك الكنز كان ذهباً وفضة، واختلف أهل العلم فيه فقال قتادة وعكرمة وغير واحد: كان تحته مال مدفون لهما وهذا ظاهر السياق من الآية، وهو اختيار ابن جرير رحمه الله تعالى. وقال العوفي عن ابن عباس: كان تحته كنز علم، كذا قال سعيد بن جبير، وقال مجاهد: صحف فيها علم.
قلت: لا شك أن قول عكرمة وقتادة هو الظاهر، ويؤيده حديث أبي الدرداء .(8/600)
ـــــــ
هذا، وفي سنده يزيد بن يوسف وهو ضعيف، أخرجه أيضاً البخاري في تاريخه والطبراني والحاكم وصححه.(8/601)
وَمِنْ سُورَةِ مَرْيَم
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
5164- حدثنا أَبُو سَعِيدٍ الأشَجّ وَأَبُو مُوسَى مُحمّدُ بنُ المُثَنّى، قالا: أخبرنا ابنُ إِدْرِيسَ عن أبِيهِ عن سِمَاكِ بنِ حَرْبٍ عن عَلْقَمَةَ بنِ وَائِلٍ عن المُغِيرَةِ بنِ شُعْبَةَ قال: "بَعَثَنِي رَسولُ الله صلى الله عليه وسلم إلى نَجْرَانَ، فقالُوا لِي: أَلَسْتُمْ تَقْرَأُونَ: {يَا أُخْتَ هَارُونَ} وَقَدْ كَانَ بَيْنَ مُوسَى
ـــــــ
وَمِنْ سُورَةِ مَرْيَم
مكية أو إلا سجدتها فمدنية أو إلا { فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ} آيتين فمدنيتان وهي ثمان أو تسع وتسعون آية
قوله: "أخبرنا ابن إدريس" اسمه عبد الله بن إدريس بن يزيد بن عبد الرحمن.
قوله: "إلى نجران" قال في النهاية: هو موضع معروف بين الحجاز والشام واليمن انتهى. وقال في القاموس: نجران موضع باليمن، فتح سنة عشر، سمي بنجران بن زيدان بن سبا، وموضع بالبحرين، موضع بحوران قرب دمشق، وموضع بين الكوفة وواسط انتهى "فقالوا" أي أهل نجران "ألستم تقرأون" أي في القرآن في سورة مريم {يَا أُخْتَ هَارُونَ} وبعده ما كان أبوك امرأ سوء وما كانت أمك بغياً. قال ابن كثير: أي يا شبيهة هارون في العبادة أنت من بيت طيب طاهر معروف بالصلاح والعبادة والزهادة فكيف صدر هذا منك قال علي ابن أبي طلحة والسدي قيل لها أخت هارون أي أخي موسى وكانت من نسله، كما يقال للتميمي يا أخا تميم، والمضري يا أخا مضر، وقيل: نسبت إلى رجل صالح كان فيهم اسمه هارون فكانت تتأسى به في الزهادة والعبادة انتهى "وقد كان بين موسى(8/601)
وعَيسَى مَا كَانَ؟ فلَمْ أَدْرِ مَا أُجِيبُهُمْ. فَرَجَعْتُ إلى النّبيّ صلى الله عليه وسلم فَأَخْبَرْتُهُ، فقال: "أَلا أَخْبَرْتَهُمْ أَنّهُمْ كَانُوا يُسَمّونَ بِأَنْبِيَائِهِمْ وَالصّالِحِينَ قَبْلَهُمْ" .
هذا حديثٌ حسنٌ صحيحٌ غريبٌ لا نَعْرِفهُ إلاّ من حديثِ ابنِ إدْرِيسَ.
5165- حدثنا أَحْمَدُ بنُ مَنِيعٍ، أخبرنا النّضْرُ بنُ إسماعِيلَ أبُو المُغِيرَةِ، عن الأعمَشِ. عن أبي صَالِحٍ، عن أبي سَعِيدٍ الْخُدْرِيّ رضي الله عنه قال: "قَرَأَ
ـــــــ
وعيسى ما كان" أي من طول الزمان مالا يمكن أن تكون مريم عليها السلام أختاً لهارون أخي موسى عليهما الصلاة والسلام "ألا" بفتح الهمزة وتشديد اللام حرف التحضيض أي هلا "أخبرتهم أنهم كانوا يسمون بأنبيائهم والصالحين قبلهم" يعني أن هارون المذكور في قوله تعالى: {يَا أُخْتَ هَارُونَ} ليس هو هارون النبي أخا موسى عليهما الصلاة والسلام، بل المراد بهارون هذا رجل آخر مسمى بهارون لأنهم كانوا يسمون أولادهم بأسماء الأنبياء والصالحين قبلهم. قال ابن جرير: اختلف أهل التأويل في السبب الذي قيل لها يا أخت هارون، ومن كان هارون هذا الذي ذكره الله وأخبر أنهم نسبوا مريم إلى أنها أخته، فقال بعضهم: قيل لها هارون نسبة منهم لها إلى الصلاح، لأن أهل الصلاح فيهم كانوا يسمون هارون وليس بهارون أخي موسى. ثم ذكر من قال بهذا القول ثم قال، وقال بعضهم عني به هارون أخو موسى، ونسبت مريم إلى أنها أخته لأنها من ولده، يقال للتميمي يا أخا تميم، وللمضري يا أخا مضر. ثم ذكر من قال بهذا القول، ثم قال وقال آخرون: بل كان ذلك رجلاً منهم فاسقاً معلن الفسق فنسبوها إليه ثم قال: والصواب من القول في ذلك ما جاء به الخبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم "يعني حديث المغيرة بن شعبة هذا" وإنها نسبت إلى رجل من قومها انتهى ملخصاً.
قوله: "هذا حديث حسن صحيح غريب" وأخرجه أحمد ومسلم والنسائي.(8/602)
رَسولُ الله صلى الله عليه وسلم: {وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ} ، قال: "يُؤْتَى بالمَوْتِ كأَنّهُ كَبْشٌ أَمْلَحُ حَتّى يُوقَفَ عَلَى السّورِ بَيْنَ الْجَنّةِ وَالنّارِ، فَيُقَالُ: يَا أَهْلَ الْجَنّةِ، فَيَشْرَئِبّونَ، وَيُقَالُ: يَا أَهْلَ النّارِ، فَيَشْرَئِبّونَ، فَيُقَالُ: هَلْ تَعْرِفُونَ هَذَا؟ فيقولُونَ: نَعَمْ هَذَا المَوْتُ، فَيُضْجَعُ فَيُذْبَحُ، فَلَوْلاَ أنّ الله قَضَى لأهْلِ الْجَنّةِ الْحَيَاةَ فيها وَالْبَقَاءَ لَمَاتُوا فَرَحاً، وَلَوْلاَ أَنّ الله قَضَى لأهْلِ النّارِ الْحَيَاةَ فِيهَا والْبَقَاءَ لَمَاتُوا تَرَحاً" .
هذا حديثٌ حسنٌ صحيحٌ.
5166- حدثنا أَحْمَدُ بنُ مَنِيعٍ، أخبرنا الحُسَيْنُ بنُ مُحمّدٍ أخبرنا شَيْبَانُ عن قَتَادَةَ في قوله: {وَرَفَعْنَاهُ مَكَاناً عَلِيّاً} قال: حدثنا أَنَسُ بنُ
ـــــــ
قوله: {وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ} يعني خوف يا محمد الخلائق يوم الحسرة، سمي بذلك لأن المسيء يتحسر هلا أحسن العمل، والمحسن هلا زاد في الإحسان "يؤتى بالموت كأنه كبش أملح" تقدم شرحه في باب خلود أهل الجنة وأهل النار "حتى يوقف على السور" أي سور الأعراف "فيشرئبون" بمعجمة وراء مفتوحة ثم همزة مكسورة ثم موحدة ثقيلة مضمومة من الأشريباب، أي يمدون أعناقهم ويرفعون رؤوسهم للنظر "الحياة والبقاء" أي الخلود "فرحاً محركة أي سروراً "فيها" أي في النار "ترحاً" بفتحتين ضد الفرح أي هماً وحزناً.
قوله: "هذا حديث حسن صحيح" وأخرجه أحمد والشيخان والنسائي.
قوله: "حدثنا الحسين بن محمد" بن بهرام التميمي "حدثنا شيبان" هو ابن عبد الرحمن النحوي.
قوله: {وَرَفَعْنَاهُ} أي إدريس {مَكَاناً عَلِيّاً} وهو السماء الرابعة، ولا شك في كونها مكاناً علياً. واستشكل بأن غيره من الأنبياء أرفع مكاناً منه، وهذا الاستشكال ليس بشيء لأنه لم يذكر أنه أعلى من كل أحد. وأجاب بعضهم بأن المراد أنه لم يرفع إلى السماء من هو حي غيره.(8/603)
مالِكٍ أَنّ نَبِيّ الله صلى الله عليه وسلم قال: "لَمّا عُرِجَ بِي رَأَيْتُ إِدْرِيسَ في السّمَاءِ الرّابِعَةِ" .
هذا حديثٌ حسنٌ صحيحٌ.
وفي البابِ عن أبي سَعِيدٍ عن النّبيّ صلى الله عليه وسلم.
وقد رَوَى سَعِيدُ بنُ أبي عَرُوبَةَ وَهَمّامٌ وغيرُ وَاحِدٍ عن قَتَادَةَ عن أنَسٍ بنِ مَالِكٍ، عن مَالِكٍ بنِ صَعْصَعَةَ، عن النّبيّ صلى الله عليه وسلم حَدِيثَ المِعْرَاجِ بِطُولِهِ، وَهَذَا عِنْدِنا مُخْتَصَرٌ مِنْ ذاك.
5167- حدثنا عَبْدُ بنُ حُمَيْدٍ، أخبرنا يَعْلَى بنُ عُبَيْدٍ، أخبرنا عُمَرُ بنُ ذَرّ عن أبِيهِ، عن سَعِيدِ بنِ جُبَيْرٍ، عن ابنِ عبّاسٍ قال: قال
ـــــــ
ورد بأن عيسى عليه الصلاة والسلام أيضاً قد رفع وهو حي على الصحيح.
قال الحافظ: وكون إدريس رفع وهو حي لم يثبت من طريق مرفوعة قوية "لما عرج بين رأيت إدريس في السماء الرابعة" هذا نص صريح في أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رأى إدريس في السماء الرابعة وهو الصحيح.
قوله: "هذا حديث حسن صحيح" وأخرجه مسلم مطولاً.
قوله: "وفي الباب عن أبي سعيد" أخرجه ابن مردويه نحو حديث أنس المذكور.
قوله: "وقد روى سعيد بن أبي عروبة وهمام وغير واحد عن قتادة عن أنس بن مالك عن مالك بن صعصعة إلخ" أخرجه الشيخان "وهذا عندي مختصر من ذلك" أي حديث أنس المذكور في الباب مختصر من حديث أنس عن مالك ابن صعصعة الطويل.
قوله: "حدثنا عمر بن ذر" الهمداني المرهبي "عن أبيه" هو ذر بن عبد الله المرهبي الهمداني.(8/604)
رَسولُ الله صلى الله عليه وسلم لِجِبْريلُ: "ما يَمْنَعَكَ أَنْ تَزُورَنَا أَكْثَرَ مِمّا تَزُورَنَا؟ قال: فَنَزَلَتْ هَذِهِ الآية: {وَمَا نَتَنَزَّلُ إِلَّا بِأَمْرِ رَبِّكَ لَهُ مَا بَيْنَ أَيْدِينَا وَمَا خَلْفَنَا} إلى آخِرِ الآية".
هذا حديثٌ حسنٌ غريبٌ.
5168- حدثنا عَبْدُ بنُ حُمَيْدٍ، أخبرنا عُبَيْدُ الله بنُ مُوسَى عن إسْرَائِيلَ عن السّدّيّ قال: "سَأَلْتُ مُرّةَ الْهَمْدَانِيّ عَنْ قَوْلِ الله عز وجل: {وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا} ، فحدّثَني أَنّ عَبْدَ الله بنَ مَسْعُودٍ حَدّثَهُمْ قال: قال:
ـــــــ
قوله: "ما يمنعك أن تزورنا" أي تجيئنا وتتنزل علينا {وَمَا نَتَنَزَّلُ إِلَّا بِأَمْرِ رَبِّكَ} أي قال الله سبحانه، قل يا جبريل: ما نتنزل وقتاً غب وقت، إلا بإذن الله على ما تقتضيه حكمته {لَهُ مَا بَيْنَ أَيْدِينَا} أي أمامنا من أمور الآخرة {وَمَا خَلْفَنَا} من أمور الدنيا، وتمام الآية: وما بين ذلك، أي ما يكون من هذا الوقت إلى قيام الساعة. أي له علم ذكل جميعه، وما كان ربك نسياً: أي ناسياً يعني تاركاً لك بتأخير الوحي عنك كذا في الجلالين.
وقال الحافظ ابن كثير في تفسيره: قيل المراد بما بين أيدينا: أمر الدنيا وما خلفنا: أمر الآخرة، وما بين ذلك: ما بين النفختين، هذا قول أبي العالية وعكرمة ومجاهد وسعيد بن جبير وقتادة في رواية عنهما، والسدي والربيع بن أنس، وقيل ما بين أيدينا: ما يستقبل من أمر الآخرة، وما خلفنا: أي ما مضى من الدنيا، وما بين ذلك: أي ما بين الدنيا و الآخرة، يروي نحوه عن ابن عباس وسعيد بن جبير والضحاك وقتادة وابن جريج والثوري، واختاره ابن جرير أيضاً انتهى.
قوله: "هذا حديث حسن غريب" وأخرجه أحمد البخاري والنسائي في التفسير.
قوله: "عن قول الله" {وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا} .(8/605)
رَسولُ الله صلى الله عليه وسلم: يَرِدُ النّاسُ النّارَ، ثُمّ يَصْدُرُونَ عَنْهَا
ـــــــ
قال الحافظ في الفتح: اختلف السلف في المراد بالورود في الآية، فقيل هو الدخول، روى عبد الرزاق عن ابن عيينة عن عمرو بن دينار أخبرني من سمع من ابن عباس فذكره، وروى أحمد والنسائي والحاكم من حديث جابر مرفوعاً: الورود الدخول لا يبقى بر ولا فاجر إلا دخلها فتكون على المؤمنين برداً وسلاماً.
وروى الترمذي وابن أبي حاتم من طريق السدي: سمعت مرة يحدث عن عبد الله بن مسعود قال: بردونها أو يلجونها ثم يصدرون عنها بأعمالهم، وقيل المراد بالورود الممر عليها. رواه الطبري وغيره من طريق بشر بن سعيد عن أبي هريرة، ومن طريق أبي الأحوص عن عبد الله بن مسعود، ومن طريق معمر وسعيد عن قتادة، ومن طريق كعب الأحبار وزاد: يستوون كلهم على متنها، ثم ينادي مناد أمسكي أصحابك ودعي أصحابي، فيخرج المؤمنون ندية أبدانهم، وهذان القولان أصح ما ورد في ذلك ولا تنافي بينهما، لأن من عبر بالدخول تجوز به عن المرور، ووجهه أن المار عليها فوق الصراط في معنى من دخلها، لكن تختلف أحوال المارة باختلاف أعمالهم، فأعلاهم درجة من يمر كلمح البرق ويؤيد صحة هذا التأويل ما رواه مسلم من حديث أم مبشر أن حفصة قالت للنبي صلى الله عليه وسلم لما قال: لا يدخل أحد شهد الحديبية النار، أليس يقول الله {ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا} الآية. وفي هذا بيان ضعف قول من قال الورود مختص بالكفار، ومن قال معنى الورود الدنو منها، ومن قال معناه الإشراف عليها، ومن قال معنى ورودها: ما يصيب المؤمن في الدنيا من الحمى. على أن هذا الأخير ليس ببعيد، ولا ينافيه بقية الأحاديث انتهى "يرد الناس النار" يرد على وزن يعد مضارع من الورود بمعنى الحضور، يقال وردت ماء كذا، أي حضرته وإنما سماه وروداً لأن المارة على الصراط يشاهدون النار ويحضرونها.
قال التوربشتي: الورود لغة قصد الماء ثم يستعمل في غير، والمراد منه ههنا الجواز على جسر جهنم "ثم يصدرون عنها" بضم الدار أي ينصرفون عنها، فإن الصدر إذا عدى بعن اقتضى الانصراف، وهذا على الاتساع ومعناه النجاة، إذ(8/606)
بِأَعْمَالِهِمْ، فَأَوّلُهُمْ كَلَمْحِ الْبَرْقِ، ثمّ كالرّيحِ، ثمّ كَحضْرِ الْفَرَسِ، ثمّ كالرّاكِبِ في رَحْلِهِ، ثمّ كَشّدّ الرّجُلِ، ثُمّ كَمَشْيِهِ" .
هذا حديثٌ حسنٌ وَرَوَاهُ شُعْبَةُ عن السّدّيّ فلم يَرْفَعَهُ.
5169- حدثنا مُحمّدُ بنُ يحيى أخبرنا يَحْيَى بنُ سَعِيدِ، أخبرنا شُعْبَةُ عن السّدّيّ عن مُرّةَ عن عَبْدِ الله: {وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا} قال: يَرِدُونَهَا ثمّ يَصْدُرُونَ بِأَعْمَالِهِمْ.
ـــــــ
ليس هناك انصراف وإنما هو المرور عليها، فوضع الصدر موضع النجاة للمناسبة التي بين الصدور والورود.
قال الطيبي: ثم في ثم يصدرون مثلها في قوله تعالى: {ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا} في أنها للتراخي في الرتبة لا الزمان، بين الله تعالى التفاوت بين ورود الناس النار وبين نجاة المتقين منها، فكذلك بين رسول الله صلى الله عليه وسلم، التفاوت بين ورود الناس النار وبين صدورهم منها، على أن المراد بالصدور الانصراف انتهى.
قال القاري: الحاصل أن الخلق بعد شروعهم في الورود يتخلصون من خوف النار ومشاهدة رؤيتها وملاصقة لهبها ودخانهما وتعلق شوكها وأمثالها على مراتب شتى في سرعة المجاوزة وإبطائها. "بأعمالهم" أي بحسب مراتب أعمالهم الصالحة "فأولهم" أي أسبقهم "كلمح البرق" أي كسرعة مروره "ثم كحضر الفرس" أي جريه، وهو بضم الحار وسكون الضاد العدو الشديد "ثم كالراكب في رحله" أي على راحلته وعداه بفي لتمكنه من السير. كذا قاله الطيبي، وقيل أراد الراكب في منزلة ومأواه فإنه يكون حينئذ السير والسرعة أشد "ثم كشد الرجل" أي عدوه "ثم كمشيه" أي كمشى الرجل على هيئته.
قوله: "هذا حديث حسن" وأخرجه أحمد والحاكم وصححه، والبيهقي والدارمي وابن أبي حاتم.(8/607)
5170- حدثنا مُحمّدُ بنُ بَشّارٍ أخبرنا عَبْدُ الرّحْمَنِ عن شُعْبَةَ عن السّدّيّ بِمِثْلِهِ. قال عَبْدُ الرّحْمَنِ قُلْتُ لِشُعْبَةَ: إن إِسْرَائِيلَ حدثني عن السّدّيّ عن مُرّةَ عن عَبْدِ الله عن النّبيّ صلى الله عليه وسلم، قال شُعْبَةُ: وقد سَمِعْتُهُ مِنَ السّدّيّ مرفوعاً، وَلَكِنّي أَدَعُهُ عَمْداً.
5171- حدثنا قُتَيْبَةُ، أخبرنا عَبْدُ الْعَزِيزِ بنُ مُحمّدٍ، عن سُهَيْلٍ بنِ أبي صَالِحٍ عن أبِيهِ عن أبي هُرَيْرَةَ، أَنّ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم قال: "إذَا أَحَبّ الله عَبْداً نَادَى جِبْرِيلَ: إني قَدْ أَحْبَبْتُ فَلاَناً فَأَحِبّهُ .
ـــــــ
قوله: "حدثنا عبد الرحمن" هو ابن مهدي.
قوله: "ولكني أدعه عمداً" أي اتركه، يعني أترك روايته عنه مرفوعاً ولم يذكر وجه الترك فليتأمل.
تنبيه: ذكر أهل العلم في فائدة دخول المؤمنين النار وجوهاً، أحدها: أن ذلك مما يزيدهم سروراً إذا علموا الخلاص منه. وثانيها: أن فيه مزيدهم على أهل النار حيث يرون المؤمنين يتخلصون منها وهم باقون فيها. وثالثها: أنهم إذا شاهدوا ذلك العذاب على الكفار صار ذلك سبباً لمزيد التذاذهم بنعيم الجنة، ولا نقول صريحاً إن الأنبياء يدخلون النار أدباً معهم، ولكن نقول: إن الخلق جميعاً يردونها كما دلت عليه أحاديث الباب. فالعصاة يدخلونها بجرائمهم، والأولياء والسعداء يدخلونها لشفاعتهم، فبين الداخلين بون.
قوله: "حدثنا عبد العزيز بن محمد" هو الدراوردي.
قوله: "إذا أحب الله عبداً نادى جبرئيل" بالنصب على المغعولية إني قد أحببت فلاناً فأحبه بفتح الموحدة المشددة، أمر من الإحباب، أي أحبه أنت أيضاً.
قال النووي: قال العلماء: محبة الله تعالى لعبده هي إرادته الخير له وهدايته وإنعامه عليه ورحمته وبعضه إرادة عقابه أو شقاوته، ونحوه، وحب جبرئيل(8/608)
قال: فَيُنَادِي في السّمَاءِ، ثُمّ تُنْزَلُ لَهُ المَحَبّةُ في أهْلِ الأرْضِ، فَذَلِكَ قَوْلُ الله: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَنُ وُدّاً} وَإِذَا أَبْغَضَ الله عَبْداً نَادَى جِبْرِيلَ: إني قَدْ أَبْغَضْتُ فُلاَناً، فَيُنَادِي في السّماءِ، ثمّ تُنْزَلُ لَهُ الْبَغْضَاءُ في الأرضِ" .
هذا حديثٌ حسنٌ صحيحٌ. وقد رُوِيَ عن عَبْدِ الرّحْمَنِ بنِ عَبْدِ الله بنِ دِينَارٍ عن أبِيهِ، عن أبي صَالِحٍ، عن أبي هُرَيْرَةَ عن النّبيّ صلى الله عليه وسلم نحْوُ هَذَا.
ـــــــ
والملائكة يحتمل وجهين. أحدهما: استغفارهم له وثناؤهم عليه ودعاؤهم، والثاني: أن محبتهم على ظاهرها المعروف من المخلوقين وهو ميل القلب إليه واشتياق إلى لقائه وسبب حبهم إياه كونه مطبعاً لله تعالى محبوباً له انتهى.
وقال الحافظ: وقع في بعض طرق الحديث بيان سبب هذه المحبة والمراد بها، ففي حديث ثوبان أن العبد ليلتمس مرضاة الله تعالى، فلا يزال كذلك حتى يقول: يا جبريل إن عبدي فلاناً يلتمس أن يرضيني ألا وإن رحمتي غلبت عليه. الحديث، أخرجه أحمد والطبراني، ويشهد له حديث أبي هريرة الآتي في الرقاق، ففيه: ولا يزال عبدي يتقرب إليّ بالنوافل حتى أحبه. الحديث انتهى "قال" أي رسول الله صلى الله عليه وسلم "فينادي" أي جبرئيل "في السماء" وفي حديث ثوبان: أهل السماوات السبع، وفي رواية للشيخين: فينادي جبريل في أهل السماء إن الله يحب فلاناً فأحبوه، فيحبه أهل السماء "ثم تنزل له المحبة في أهل الأرض" وفي رواية للشيخين ثم يوضع له القبول في الأرض.
قال النووي: أي الحب في قلوب الناس ورضاهم عنه تميل إليه القلوب وترضى عنه "فذلك قوله الله {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَنُ وُدّاً} " .
قال ابن كثير في تفسيره يخبر تعالى أنه يغرس لعباده المؤمنين الذين يعملون الصالحات، وهي الأعمال التي ترضى الله لمتابعتها الشريعة المحمدية يغرس لهم في قلوب عباده الصالحين محبة ومودة وهذا أمر لا بد منه ولا محيد عنه انتهى.
قوله: "هذا حديث حسن صحيح" وأخرجه أحمد والشيخان.(8/609)
5172- حدثنا ابنُ أَبي عُمَرَ، أخبرنا سُفْيَانُ عن الأعمَشِ عن أبي الضّحَى عن مَسْرُوقٍ قال: سَمِعْتُ خَبّابَ بن الأرَتّ يقولُ: "جِئْتُ الْعاصَ بنَ وَائِلٍ السّهْمِيّ أَتَقَاضَاهُ حَقّا لِي عِنْدَهُ. فقال: لا أُعْطِيكَ حَتّى تَكْفُرَ بِمُحَمّدٍ. فَقلت: لاَ حَتّى تَمُوتَ ثمّ تُبْعَثَ. قال: وإني لَمَيّتٌ ثُمّ مَبْعُوثٌ؟ فَقلت: نَعَمْ. فقال: إنّ لِي هُنَاكَ مَالاً وَوَلَداً فأَقْضِيكَ، فَنَزلَتْ: {أَفَرَأَيْتَ الَّذِي كَفَرَ بِآياتِنَا وَقَالَ لَأُوتَيَنَّ مَالاً وَوَلَداً} الآية".
ـــــــ
قوله: "حدثنا سفيان" هو الثوري "عن أبي الضحى" هو مسلم بن صبيح.
قوله: "جئت العاص" بفتح الصاد وكسرها أجوفاً وناقصاً قاله الكرماني "ابن وائل السهمي" هو والد عمرو بن العاص الصحابي المشهور: وكان له قدر في الجاهلية ولم يرفق للإسلام "أتقاضاه حقاً لي عنده".
وفي رواية للبخاري قال: كنت قيناً بمكة فعملت للعاص بن وائل سيفاً فجئت أنقاضاه وفي رواية لأحمد: فاجتمعت لي عند العاص بن وائل دراهم "فقلت لا" أي لا أكفر "حتى تموت ثم تبعث" مفهومه أنه يكفر حينئذ لكنه لم يرد ذلك لأن الكفر حينئذ لا يتصور، فكأنه قال لا أكفر أبداً، والنكتة في تعبيره بالبعث تعيير العاص بأنه لا يؤمن به "أفرأيت" لما كان مشاهدة الأشياء ورؤيتها طريقاً إلى الإحاطة بها علماً وإلى صحة الخبر عنها استعملوا أرأيت في معنى أخبر والفاء جاءت لإفادة معناها الذي هو التعقيب كأنه قال: أخبر أيضاً بقصة هذا الكافر، وأذكر حديثه عقيب حديث أولئك والفاء بعد همزة الاستفهام عاطفة على مقدر، أي أنظرت فرأيت {الَّذِي كَفَرَ} يعني العاص بن وائل {بِآياتِنَا} أي بالقرآن {وَقَالَ لَأُوتَيَنَّ} أي لأعطين {مَالاً وَوَلَداً} يعني في الجنة بعد البعث وبعده {أَطَّلَعَ الْغَيْبَ} أي أعلمه، وأن يؤتي ما قله، واستغنى بهمزة الاستفهام عن همزة الوصل فخذفت {أَمِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمَنِ عَهْداً} بأن يؤتي ما قاله {كَلَّا} أي لا يؤتي ذلك {سَنَكْتُبُ} فأمر بكتب {مَا يَقُولُ وَنَمُدُّ لَهُ مِنَ الْعَذَابِ مَدّاً} أي نزيده بذلك عذاباً فوق عذاب كفره.(8/610)
5173- حدثنا هَنّادٌ، أخبرنا أبو مُعَاوِيَةَ عن الأعمَشِ نحْوَهُ.
هذا حديثٌ حسنٌ صحيحٌ.
ـــــــ
قوله: "هذا حديث حسن صحيح وأخرجه أحمد والبخاري ومسلم والنسائي.(8/611)
وَمِنْ سُورَةِ طَه
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
5174- حدثنا مَحْمُودُ بنُ غَيْلاَنَ، أخبرنا النّضْرُ بنُ شُمَيْلٍ، أخبرنا صَالحُ بنُ أبي الأخْضَرِ عن الزّهْرِيّ عن سَعِيدِ بنِ المُسَيّبِ عن أبي هُرَيْرَةَ قال: "لَمّا قَفَلَ رَسولُ الله صلى الله عليه وسلم مِنْ خَيْبَرَ أَسْرَى لَيْلَةً حَتّى أَدْرَكَهُ الْكَرَى أَنَاخَ فَعَرّسَ ثمّ قال: "يَا بِلاَلُ اكْلأْ لَنَا اللّيْلَة" . قال: فَصَلّى بِلاَلٌ، ثمّ تَسَانَدَ إلى رَاحِلَتِهِ مُسْتَقْبِلَ الْفَجْرِ، فَغَلَبَتْهُ عَيْنَاهُ فَنَامَ
ـــــــ
وَمِنْ سُورَةِ طَه
مكية وهي مائة وخمس وثلاثون أو أربعون أو وثنتان آية
قوله: "لما قفل" أي رجع من القفول "من خيبر" أي من غزوة خيبر كما في رواية مسلم وكانت هذه الغزوة في المحرم سنة سبع أقام عليه السلام يحاصرها بضع عشرة ليلة عشرة إلى أن فتح الله عليه وهي من المدينة على ثلاثة أبراد "أسرى ليلة" أي سار ليلة "حتى أدركه الكرى" بفتحتين، هو النعاس. وقيل النوم "أناخ" يقال أنخت الجمل فاستناخ، أي أبركته فبرك "فعرس" من التعريس: أي نزل آخر الليل للاستراحة. قال النووي: التعريس نزول المسافرين آخر الليل للنوم والاستراحة، هكذا قاله الخليل والجمهور. وقال أبو زيد: هو النزول أي وقت كان من ليل أو نهار. وفي الحديث: معرسون في نحر الظهيرة "أكلأ" بهمز آخره: أي أراقب وأحفظ واحرس، ومصدره الكلاء بكسر الكاف والمد "لنا الليلة أي آخرها لإدراك الصبح فصلى بلال" وفي رواية مسلم: فصلى بلال(8/611)
فلَمْ يَسْتَيْقِظْ أَحَدٌ مِنْهُمْ، وكَانَ أُوّلَهُمْ اسْتِيْقَاظاً النّبيّ صلى الله عليه وسلم فقال: "أيْ بِلاَلُ" ، فقال بِلاَلٌ: بِأَبي أَنْتَ يَا رَسُولَ الله، أَخَذَ بِنَفْسِي الذِي أَخَذَ بِنَفْسِكَ، فقال رَسولُ الله صلى الله عليه وسلم: اقْتَادُوا ، ثُمّ أَنَاخَ فَتَوَضّأَ فَأَقَامَ الصّلاَةَ، ثمّ صَلّى مِثْلَ صَلاَتِهِ في الْوَقْتِ في تَمَكّثٍ، ثمّ قال: {وَأَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْرِي} .
ـــــــ
وما قدر له "ثم تساند إلى راحلته" أي استند إليها "مستقبل الفجر" أي ليراقبه حتى يوقظهم عقب طلوعه "فغلبته عيناه" قال الطيبي: هذا عبارة عن النوم، كان عينيه غالبتاه فغلبتا على النوم انتهى.
وحاصله: أنه نام من غير اختيار "فقال أي بلال" والعتاب محذوف أو مقدر، أي لم نمت حتى فأتتنا الصلاة؟ "فقال بلال" أي معتذراً "أخذ بنفسي الذي أخذ بنفسك" يعني غلب على نفسي ما غلب على نفسك من النوم "فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم اقتادوا" أمر من الاقتياد، يقال: فاد البعير واقتاده: إذا جر حبله أي سوقوا رواحلكم من هذا الموضع. وفي رواية لمسلم: فقال النبي صلى الله عليه وسلم ليأخذ كل رجل برأس راحلته، فإن هذا منزل حضرنا فيه الشيطان. "ثم أناخ" أي بعد ما اقتادوا "فأقام الصلاة" وفي رواية مسلم: ثم توضأ رسول الله صلى الله عليه وسلم وأمر بلالا فأقام الصلاة "ثم صلى" أي بهم الصبح "مثل صلاته في الوقت في تمكث" أي غير مستعجل "ثم قال" أي قرأ {وَأَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْرِي} أي لتذكرني فيها، وقيل لذكرى خاصة لا تشوبه بذكر غيري، وقيل الإخلاص ذكرى وطلب وجهي ولا ترائي فيها ولا تقصد بها غرضاً آخر، وقيل معناه إذا تركت صلاة ثم ذكرتها فأقمتها، كذا في الخازن.
قلت: يؤيد المعنى الأخير حديث أبي هريرة هذا ويؤيده أيضاً حديث أنس ابن مالك مرفوعاً: إذا رقد أحدكم عن الصلاة أو غفل عنها فليصلها إذا ذكرها فإن الله عز وجل يقول: أقم الصلاة لذكرى رواه أحمد ومسلم.(8/612)
هذا حديث غير محفوظٍ، رواه غَيْرُ واحِدٍ من الحُفَاظِ عن الزّهريّ عن سعيد بن المسيَبِ أن النبيّ صلى الله عليه وسلم ولم يذكروا فيه عن أبي هريرة. وصالح بن أبي الأخضر يُضَعّفُ في الحديثِ، ضَعّفَهُ يَحْيَ بنُ سعيِد القَطان وغيرهُ من قيل حفظهِ.
ـــــــ
فإن قيل: كيف نام النبي صلى الله عليه وسلم عن الصلاة حتى طلعت الشمس، مع قوله صلى الله عليه وسلم: إن عيني تنامان ولا ينام قلبي.
فجوابه من وجهين: أصحهما وأشهرهما، أنه لا منافاة بينهما. لأن القلب إنما يدرك الحسيات المتعلقة به كالحدث والألم ونحوهما، ولا يدرك طلوع الفجر وغيره مما يتعلق بالعين، وإنما يدرك ذلك بالعين والعين نائمة، وإن كان القلب يقظان. والثاني أنه كان له حالان: أحدهما ينام فيه القلب وصادف هذا الموضع، والثاني: لا ينام وهذا هو الغالب من أحواله، وهذا التأويل ضعيف، والصحيح المعتمد هو الأول.
قوله: "ولم يذكروا فيه عن أبي هريرة وصالح بن أبي الأخضر يضعف في الحديث" ولكنه لم يتفرد به بل تابعه يونس، ففي صحيح مسلم: حدثني حرملة ابن يحيى التجيبي، قال أخبرنا ابن وهب، قال أخبرني يونس عن ابن شهاب عن سعيد بن المسيب عن أبي هريرة: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حين قفل من غزوة خيبر، الحديث وتابعه أيضاً معمر عند أبي داود. وصالح بن أبي الأخضر هذا هو اليمامي مولى هشام بن عبد الملك نزل البصرة، ضعيف يعتبر به من السابعة.(8/613)
المجلد التاسع
تابع لأبواب تفسير القرآن عن رسول الله صلى الله عليه وسلم
سورة الأنبياء
...
ومن سورة الأنبياء
بسم الله الرحمن الرحيم
3212 ـ حدثنا مُجَاهِدُ بنُ مُوسَى البَغْدَادِيّ و الفَضْلُ بنُ سَهْلٍ الأعْرَجُ وغَيْر واحِدٍ قَالوُا: أخبرنا عَبْدُ الرْحمَنِ بنُ غَزْوَانَ أبُو نُوحٍ أخبرنا اللّيْثُ بنُ سَعدٍ عَن مَالِك بنِ أَنَسٍ عَن الزّهْرِيَ عَن عُروَةَ عَن عَائِشَةَ أَنّ رَجُلاً قَعَدَ بَيْنَ يَدَيْ رَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم فَقَالَ يَا رَسُولَ الله: إنّ لِي مَمْلُوكِينَ يَكْذِبُونَنِي وَيَخُونُونَنِي ويَعْصُونَنِي وَأَشْتِمُهُم وَأَضْرِبُهُمْ فَكَيْفَ أَنَا مِنْهُمْ؟ قَالَ: "يُحْسَبُ مَا خَانُوكَ وَعَصَوْكَ وكَذّبُوكَ وعِقَابكَ إيّاهُم فَإِنْ كَانَ عِقَابُكَ إيّاهُمْ بِقَدْرِ ذُنُوبِهمْ كَانَ كَفَافاً لاَ لَكَ وَلاَ عَلَيْكَ، وإنْ كَانَ عِقَابُكَ إيّاهُمْ دُونَ ذُنُوبهم كَانَ فَضْلاً لَكَ، وإنْ كَانَ عِقَابُكَ إيّاهُمْ فَوْقَ ذُنُوبهم اقْتُصّ لَهُمْ مِنْكَ الفَضْلُ، قَالَ فَتَنَحّى الرّجُلُ فَجَعَلَ يَبْكِي ويَهْتِفُ،
ـــــــ
ومن سورة الأنبياء
مكية وهي مائة وإحدى أو اثنتا عشرة آية
قوله: "حدثنا مجاهد بن موسى" الخوارزمي الختلي أو علي نزيل بغداد ثقة من العاشرة "حدثنا عبد الرحمن بن غزوان" بمعجمة مفتوحة وزاي ساكنة أبو نوح الضبي المعروف بقراد ثقة له أفراد من التاسعة. قوله "أن رجلاً قعد بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم" أي قدامه "إن لي مملوكين" بكسر الكاف أي مماليك "يكذبونني" أي يكذبون في إخبارهم لي "ويخونونني" أي في مال "ويعصونني" أي في أمري ونهى "وأشتمهم" بكسر التاء ويضم أي أسبهم "فكيف أنا منهم" أي كيف يكون حالي من أجلهم وبسببهم عند الله تعالى "قال" أي رسول الله صلى الله عليه وسلم وسلم "يحسب" بصيغة المجهول(9/3)
فَقَالَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم: أَمَا تَقْرَأُ كِتَابَ الله {وَنَضَعْ الموَازِينَ القِسْطَ لِيَوْمِ القِيَامةِ فَلاَ تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً} الآية فَقَالَ الرّجُلُ: والله يَا رَسُولَ الله مَا أَجِدُ لِي ولهم شَيْئاً خَيْراً مِنْ مُفَارَقَتِهم أُشْهِدُكَ أَنّهُمْ أَحْرَارٌ كُلّهُمْ". هذا حَدِيثٌ غَرِيبٌ لاَ نَعْرِفُهُ إلاّ مِنْ حدِيثِ عَبْد الرّحمَنِ بنِ غَزْوَانَ وقَدْ رَوَى أَحْمَدُ بنُ حَنْبَلٍ عَنْ عَبْدِ الرّحمَنِ بنِ غَزْوَانَ هَذَا الحَدِيثَ.
ـــــــ
"ما خانوك وعصوك وكذبوك" أي مقدارها "وعقابك" عطف على ما خانوك أي ويحسب أيضاً قدر شتمك وضربك إياهم "كان" أي أمرك "كفافاً" بفتح الكاف في القاموس كفاف الشيء كسحاب مثله ومن الرزق ما كف عن الناس وأغنى وفي النهاية: الكفاف الذي لا يفضل عن الشيء ويكون بقدر الحاجة إليه "لا لك ولا عليك" أي ليس لك فيه ثواب ولا عليك فيه عقاب "دون ذنوبهم" أي أقل منها "كان فضلاً لك" أي عليهم، قيل فإن قصدت الثواب تجز به وإلا فلا. قاله القاري "فوق ذنوبهم" أي أكثر منها "اقتص لهم" بصيغة المجهول أي أخذ بمثله لأجلهم "منك الفضل" أي الزيادة "فتنحى الرجل" أي بعد عن المجلس "فجعل يبكي ويهتف" بكسر التاء أي شرع يبكي ويصيح {وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ} أي ذوات العدل {لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ} أي فيه {فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً} من نقص حسنة أو زيادة سيئة، وبقية الآية {وَإِنْ كَانَ} أي العمل {مِثْقَالَ} زنة {حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا} أي أحضرناها {وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ} إذ لا مزيد على علمنا ووعدنا "ما أجد لي ولهم شيئاً" أي مخلصاً والجار والمجرور هو المفعول الثاني "خيراً" صفة لما قبله "من مفارقتهم" أي من مفارقتي إياهم لأن المحافظة على مراعاة المحاسبة والمطالبة عسر جداً "أشهدك" بصيغة المضارع المتكلم من الإشهاد "كلهم" بالنصب على التأكيد. قوله: "هذا حديث غريب" وأخرجه بن جرير في تهذيبه والبيهقي "وقد روى أحمد ابن حنبل عن عبد الرحمن بن غزوان هذا الحديث" قال الإمام أحمد في مسنده حدثنا أبو نوح قراد أنبأنا ليث بن سعد عن مالك بن أنس عن الزهري عن(9/4)
3213 ـ حدثنا عَبْدُ بنُ حُمَيْدٍ، أخبرنا الحَسَنُ بنُ مُوسَى، أخبرنا ابنُ لَهِيعَةَ عَنْ دَرّاجٍ عَن أَبِي الهَيْثَمِ عَن أَبِي سَعيدٍ عَن النبيّ صلى الله عليه وسلم قَالَ "ويل وَادٍ في جَهَنّمَ يَهْوِي فيهِ الكافِرُ أَرْبَعِينَ خَرِيفاً قَبْلَ أَنْ يَبْلُغَ قَعرَهُ". هَذا حديثٌ غَرِيبٌ لاَ نَعْرِفُهُ مَرْفُوعاً إلاّ مِنْ حَدِيثِ ابنِ لَهَيعَةَ.
3214 ـ حدثنا سَعِيدُ بنُ يَحْيَى بنِ سَعيِدٍ الأَمَوِيّ حدثني أَبِي حدثنا مُحمّدُ بنُ اسْحَاقَ عَن أَبي الزّنَادِ عَن عَبْدِ الرّحمَنِ الأعْرجِ عَن أَبِي هُرَيْرَةَ
ـــــــ
عروة عن عائشة أن رجلاً من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم جلس بين يديه فقال يا رسول الله إن لي مملوكين الحديث. وأبو نوح قراد هو عبد الرحمن ابن غزوان.
قوله: " أخبرنا الحسن بن موسى" وقع في بعض النسخ الحسين بن موسى بالتصغير وهو غلط لأنه ليس في شيوخ عبد بن حميد ولا في أصحاب ابن لهيعة من اسمه الحسين بن موسى ولأن الترمذي قد أخرج في باب صفة قعر جهنم حديث أبي سعيد: "الصعود جبل من نار يتصعد فيه الكافر سبعين خريفاً ويهوى فيه كذلك أبداً". بعين هذا السند وفيه الحسن بن موسى بالتكبير قوله "الويل واد" أي اسم واد "يهوى" أي يسقط قال في مختار الصحاح: هوى يهوى كرمي يرمي هوياً بالفتح سقط إلى أسفل "أربعين خريفاً" أي عاماً. قال الخازن: الويل كلمة تقولها العرب لكل من وقع في هلكة وأصلها في اللغة العذاب والهلاك. وقال ابن عباس: الويل شدة العذاب ثم ذكر حديث أبي سعيد هذا. قلت: إن ثبت هذا الحديث فهو مغن عن جميع ما ذكروه في معنى الويل. قوله "هذا حديث غريب" وأخرجه أحمد وابن حبان في صحيحه والحاكم وأخرجه ابن أبي حاتم من طريق يونس بن عبد الأعلى عن ابن وهب عن عمرو بن الحارث عن دراج "لا نعرفه مرفوعاً إلا من حديث ابن لهيعة" قال الحافظ ابن كثير لم يتفرد به ابن لهيعة بل تابعه عمرو بن الحارث ولكن الآفة ممن بعده، وهذا الحديث بهذا الإسناد مرفوعاً، منكر انتهى.(9/5)
قَالَ: قَالَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم "لَمْ يَكْذِبْ إبْرَاهيمُ عَلَيهِ السّلاَمُ في شَيءٍ قَطّ إِلا في ثَلاَثٍ: قَوْلِهِ {إنّي سَقِيمٌ} وَلَمْ يَكُنْ سَقِيمَا، وَقوله: لِسَارّةَ أُخْتِي، وَقوله: {بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا} . هذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صحيحٌ.
ـــــــ
قوله: "لم يكذب إبراهيم عليه السلام في شيء قط إلا في ثلاث قوله إني سقيم ولم يكن سقيماً" يجر قوله على أنه بدل من ثلاث ويجوز الرفع والنصب وذلك عندما طلبوا منه عليه الصلاة والسلام أن يخرج معهم إلى عيدهم فأراد أن يتخلف عنهم للأمر الذي هم به فنظر نظرة في النجوم فقال إني سقيم، وفيه إيهام منه أنه استدل بأمارة علم النجوم على أنه سيسقم ليتركوه فيفعل بالأصنام ما أراد أن يفعل أو سقيم القلب لما فيه من الغيظ باتخاذكم النجوم آلهة أو بعبادتكم الأصنام "وقوله لسارة أختي" بالوجوه الثلاثة وذلك أنه قدم أرض جبار ومعه سارة وكانت أحسن الناس فقال لها من هذا الجبار إن يعلم أنك امرأتي يغلبني عليك فإن سألك فأخبريه أنك أختي في الإسلام "وقوله بل فعله كبيرهم هذا" قال ذلك حين كسر عليه الصلاة والسلام أصنامهم إلا كبيرها وعلق الفأس في عنقه. قال النووي: قال الماذري: أما الكذب فيما طريقه البلاغ عن الله تعالى فالأنبياء معصومون منه سواء كثيره وقليله، وأما ما لا يتعلق بالبلاغ ويعد من الصغائر كالكذبة الواحدة في حقير من أمور الدنيا ففي إمكان وقوعه منهم وعصمتهم منه القولان المشهوران للسلف والخلف. قال القاضي عياض: الصحيح أن الكذب فيما يتعلق بالبلاغ لا يتصور وقوعه منهم سواء جوزنا الصغائر منهم وعصمتهم منها أم لا، وسواء قل الكذب أم كثر لأن منصب النبوة يرتفع عنه وتجويزه يرفع الوثوق بأقوالهم، وأما قوله صلى الله عليه وسلم: "ثنتين في ذات الله وواحدة في شأن سارة" . فمعناه أن الكذبات المذكورة إنما هي بالنسبة إلى فهم المخاطب والسامع وأما في نفس الأمر فليست كذباً مذموماً لوجهين: أحدهما ـ أنه ورى بها فقال في سارة أختي في الإسلام وهو صحيح في باطن الأمور. والوجه الثاني ـ أنه لو كان كذباً لا تورية فيه لكان(9/6)
3215 ـ حدثنا مَحْمُودُ بنُ غَيْلاَنَ، أخبرنا وَكِيعٌ وَ وَهْبُ بنُ جَرِيرٍ وَ أَبُو دَاوُدَ قَالُوا: أخبرنا شُعْبَةُ عَن المُغِيرةِ بن النّعْمَانِ عَن سَعِيدِ بن جُبَيْرِ عَن ابنِ عَبّاسٍ قَالَ: "قَامَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم بالمَوْعِظَةِ فَقَالَ يَا أَيّهَا النّاسُ إِنّكُمْ مَحْشُورُونَ إلى الله عُرَاةً غُرْلاً، ثُمّ قَرَأَ {كَمَا بَدَأْنَا أَوّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ وعداً علينا} إلى آخِرِ الآيةِ. قَالَ: أَوّلُ مَنْ يُكْسَى يَوْمَ القيامةِ إِبْرَاهيمُ، وإنّهُ سَيُئْوتَى بِرِجَالٍ مِنْ أُمّتِي فَيُؤْخَذُ بِهِمْ ذَاتَ الشّمَالِ فَأَقُولُ رَبّ أَصحْابِي فَيُقَالُ: إِنّكَ لا تَدْرِي مَا أَحْدَثُوا بَعْدَكَ، فَأَقُول: كمَا قَالَ العَبْدُ الصّالِحُ {وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً مَا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمّا تَوَفّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنْتَ عَلَى
ـــــــ
جائزاً في دفع الظالمين. قال الماذري: وقد تأول بعضهم هذه الكلمات وأخرجها عن كونها كذباً ولا معنى لامتناع من إطلاق لفظ أطلقه رسول الله صلى الله عليه وسلم قال النووي: أما إطلاق لفظ الكذب عليها فلا يمتنع لورود الحديث به وأما تأويلها فصحيح لا مانع منه وقد جاء ذلك مفسراً في غير مسلم فقال: ما فيها كذبة إلا بها عن الإسلام أي يجادل ويدافع انتهى ملخصاً. قوله "هذا حديث حسن صحيح" وأخرجه الشيخان قوله "وأبو داود"، هو الطيالسي.
قوله: "إنكم محشورون" أي ستبعثون "عراة" بضم العين جمع عار وهو من لا ستر له "غرلا" بضم المعجمة وسكون الراء جمع أغرل وهو الأقلف وزنه ومعناه وهو من بقيت غرلته وهي الجلدة التي يقطعها الخاتن من الذكر {كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ} الكاف متعلق بمحذوف دل عليه نعيده أي نعيد الخلق إعادة مثل الأول، والمعنى بدأناهم في بطون أمهاتهم حفاة عراة غرلا نعيدهم يوم القيامة وبقية الآية {وَعْداً عَلَيْنَا} منصوب بوعدنا مقدر قبله وهو مؤكد لمضمون ما قبله {إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ} أي ما وعدناه قال "أول من يكسى يوم القيامة إبراهيم" تقدم الكلام عليه مبسوطاً في باب شأن الحشر من أبواب صفة القيامة وتقدم(9/7)
كلّ شَيْءٍ شَهِيدٌ إِنْ تُعَذّبُهُمْ فَإنّهُمْ عِبَادُكَ وإن تَغْفِرْ لَهُمْ} إلى آخر الآية، فَيُقَالُ هَؤُلاء لَمْ يَزَالُوا مُرْتَدّينَ عَلَى أَعْقَابِهِمْ مُنْذُ فَارَقْتَهُمْ".
3216 ـ حَدّثنَا مُحمّدُ بنُ بَشّارِ أخبرنا مُحمّدُ بنُ جَعْفَرٍ أخبرنا شُعْبَةُ عن المِغيرَةِ بنِ النّعْمَانِ نَحْوَهُ.
هَذا حديثٌ حَسَنٌ صحيحٌ. وَرَوَاهُ سُفْيَانُ الثّوْرِيّ عَن المُغَيِرَةِ بنِ النّعْمَانِ نَحْوَهُ.
ـــــــ
فيه بقية الكلام على قوله عراة "وأنه سيؤتى برجال من أمتي" أي جماعة منهم والتنكير للتقليل "فيؤخذ بهم ذات الشمال" أي إلى جهة النار "فأقول رب أصحابي" خبر مبتدأ محذوف تقديره هؤلاء "إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك" المراد من الإحداث الارتداد عن الإسلام كما يدل عليه قوله الآتي "فيقال هؤلاء لم يزالوا مرتدين على أعقابهم منذ فارقتهم" وفي حديث عن أبي هريرة عند البخاري من طريق عطاء بن يسار عنه "أنهم ارتدوا على أدبارهم القهقرى" قال القاضي يريد بهم من ارتد من الأعراب الذين أسلموا في أيامه كأصحاب مسيلمة والأسود وأضرابهم، فإن أصحابه وإن شاع عرفا فيمن يلازمه من المهاجرين والأنصار شاع استعماله لغة في كل من تبعه أو أدرك حضرته ووفد عليه ولو مرة، وقيل أراد بالارتداد إساءة السيرة والرجوع عما كانوا عليه من الإخلاص وصدق النية والإعراض عن الدنيا انتهى "فأقول كما قال العبد الصالح" هو عيسى عليه الصلاة والسلام {وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ} أي على أمتي {شهيداً} أي مطلعاً رقيباً حافظاً {مَا دُمْتُ فِيهِمْ} أي موجوداً {فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي} أي قبضتني بالرفع إلى السماء {كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ} الحفيظ لأعمالهم {وَأَنْتَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ} من قولي وقولهم بعدي وغير ذلك {شَهِيدٌ} أي مطلع عالم به {إِنْ تُعَذِّبْهُمْ} أي من أقام على الكفر منهم {فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ} أنت مالكهم تتصرف فيهم كيف شئت لا اعتراض عليك {وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ} أي لمن آمن منهم، وتمام الآية: {فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ} الغالب على أمره {الْحَكِيمُ} في صنعه "فيقال هؤلاء لم يزالوا مرتدين على أعقابهم منذ فارقتهم" هذا يؤيد قول من قال إن المراد من الإحداث في قوله: إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك هو الارتداد عن الإسلام.(9/8)
ومن سورة الحج
بسم الله الرحمن الرحيم
3217 ـ حدثنا ابنُ أَبِي عُمَرَ أخبرنا سُفيَانُ بنُ عُيَيْنَةَ عَن ابنِ جُدْعَان عَن الحَسَنِ عَن عِمْرَانَ بن حُصَيْنٍ أَنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم قَالَ "لمّا نَزَلَتْ {يا أَيّهَا النّاسُ اتّقُوا رَبّكُمْ إنّ زَلْزَلَةَ السّاعَةِ شَيءٌ عَظِيمٌ} إلى قَوْلِهِ {وَلَكِنّ عَذَابَ الله شَدِيدٌ} " قَالَ: أُنْزِلَتْ عَلَيه هذه الآية وَهُوَ في سَفَرٍ قَالَ: "أَتَدْرُونَ أَيّ
ـــــــ
"ومن سورة الحج"
مكية إلاّ {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ} الآيتين أو إلا {هَذَانِ خَصْمَانِ} ... الست آيات فمدينات، وهي أربع أو خمس أو ست أو سبع أو ثمان وسبعون آية
قوله: "عن الحسن" هو البصري. قوله {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ} أي احذروا عقابه واعملوا بطاعته {إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ} الزلزلة شدة الحركة على الحال الهائلة ووصفها بالعظم ولا شيء أعظم مما عظمه الله تعالى قيل هي من أشراط الساعة قبل قيامها وقال ابن عباس: زلزلة الساعة قيامها فتكون معها واختاره ابن جرير في تفسير وبعده {يَوْمَ تَرَوْنَهَا} أي الساعة وقيل الزلزلة {تَذْهَلُ} قال ابن عباس تشغل وقيل تنسى {كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ} أي كل امرأة معها ولد ترضعه {كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ} أي تسقط من هول ذلك اليوم كل حامل حملها. قال الحسن: تذهل المرضعة عن ولدها غير فطام وتضع الحامل ما في بطنها غير تمام، فعلى هذا القول تكون الزلزلة في الدنيا لأن بعد البعث لا يكون حبل ومن قال تكون الزلزلة في القيامة قال هذا على وجه تعظيم الأمر وتهويله لا على حقيقته كما تقول أصابنا أمر يشيب فيه الوليد تريد به شدته {وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى} على التشبيه {وَمَا هُمْ بِسُكَارَى} على التحقيق ولكن ما رهقهم من خوف عذاب الله هو الذي أذهب عقولهم وأزال تمييزهم،(9/9)
يَوْمٍ ذَلكَ؟ فقَالُوا الله وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ. قَالَ ذَلك يَوْم يَقُولُ الله لاَدَمَ ابْعَثْ بَعْثَ النّارِ، فقَالَ يَا رَبّ ومَابَعَثُ النّارِ؟ قَالَ تِسْعُمَائَةٍ وتِسْعَةٌ وتِسْعُونَ.
ـــــــ
وقيل سكارى من الخوف وما هم بسكارى من الشراب {وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ} أي فهم يخافونه "قال" أي عمران بن حصين "وهو في سفر" جملة حالية والضمير لرسول الله صلى الله عليه وسلم "ابعث بعث النار" وفي حديث أبي سعيد عند البخاري: أخرج بعث النار وفي حديث أبي هريرة عنده: أخرج بعث جهنم من ذريتك. قال الحافظ البعث بمعنى المبعوث وأصلها في السرايا التي يبعثها الأمير إلى جهة من الجهات للحرب وغيرها ومعناها هنا: ميز أهل النار من غيرهم وإنما خص بذلك آدم لكونه والد الجميع ولكونه كان قد عرف أهل السعادة من أهل الشقاء. فقد رآه النبي صلى الله عليه وسلم ليلة الإسراء وعن يمينه أسودة وعن شماله أسودة الحديث "وما بعث النار" الواو عاطفة على شيء محذوف تقديره سمعت وأطعت وما بعث النار أي وما مقدار مبعوث النار، وفي حديث أبي هريرة "فيقول يا رب كم أخرج" "قال تسعمائة وتسعة وتسعون في النار وواحد إلى الجنة" وفي حديث أبي سعيد "من كل ألف تسعمائة وتسعة وتسعون" ، وفي حديث أبي هريرة "أخرج من كل مائة تسعة وتسعين" ، فحديث أبي هريرة مخالف لحديث عمران بن حصين وأبي سعيد مخالفة ظاهرة، وأجاب الكرماني بأن مفهوم العدد لا اعتبار له فالتخصيص بصدد لا يدل على نفي الزائد والمقصود من العددين واحد وهو تقليل عدد المؤمنين وتكثير عدد الكافرين. قال الحافظ: ومقتضى كلامه الأول تقديم حديث أبي هريرة على حديث أبي سعيد فإنه يشتمل على زيادة. فإن حديث أبي سعيد يدل على أن نصيب أهل الجنة من كل ألف واحد. وحديث أبي هريرة يدل على أنه عشرة. فالحكم للزائد ومقتضى كلامه الأخير أن لا ينظر إلى العدد أصلاً بل القدر المشترك بينهما ما ذكره من تقليل العدد، قال وقد فتح الله تعالى في ذلك بأجوبة أخر. وهو حمل حديث أبي سعيد ومن وافقه على جميع ذرية آدم فيكون من كل ألف واحد، وحمل حديث أبي هريرة ومن وافقه على من عدا يأجوج ومأجوج فيكون من كل ألف عشرة، ويقرب ذلك أن يأجوج ومأجوج ذكروا في حديث أبي سعيد دون حديث أبي هريرة، ويحتمل(9/10)
في النّارِ وَوَاحِدٌ إلى الجَنّةِ، قال: فَأَنْشَأَ المُسْلِمُونَ يَبْكُونَ، فَقَالَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم: قَارِبُوا وَسَدّدُوا فإِنّهَا لَمْ تَكُنْ نُبُوّةٌ قَطّ إلاّ كَانَ بَيْنَ يَدَيْهَا جَاهِلِيّةٌ. قَالَ فَيُؤْخَذُ العَدَدُ مِنَ الجاهِليّةِ فَإِنْ تَمّتْ وإلاّ كَمُلَتْ مِنَ المُنَافِقِينَ. وَمَا مَثَلُكُمْ والأُمَمِ إِلاّ كَمَثَلِ الرّقْمَةِ في ذِرَاعِ الدّابّةِ أَو كالشّامَةِ في جَنْبِ البَعِير ثُمّ قَالَ: إِنّي لأَرْجُو أَنْ تَكُونُوا رُبْعَ أَهْلِ الجَنّةِ فَكَبّروا
ـــــــ
أن يكون الأول يتعلق بالخلق أجمعين والثاني بخصوص هذه الأمة. ويقربه قوله في حديث أبي هريرة: "إذا أخذ منا" . لكن في حديث ابن عباس: "وإنما أمتي جزء من ألف" ، ويحتمل أن تقع القسمة مرتين مرة من جميع الأمم قبل هذه الأمة فقط فيكون من كل ألف واحد، ومرة من هذه الأمة فقط فيكون من كل ألف عشرة، ويحتمل أن يكون المراد ببعث النار الكفار ومن يدخلها من العصاة فيكون من كل ألف تسعمائة وتسعة وتسعون كافراً ومن كل مائة تسعة وتسعون عاصياً انتهى "فأنشأ المسلمون يبكون" قال في النهاية أنشأ يفعل كذا ويقول كذا أي ابتدأ يفعل ويقول "قاربوا" أي اقتصدوا في الأمور كلها واتركوا الغلو فيها والتقصير يقال قارب فلان في أموره إذا اقتصد "وسددوا" أي اطلبوا بأعمالكم السداد والاستقامة وهو القصد في الأمر والعدل فيه "فإنها لم تكن نبوة قط" قال في القاموس ما رأيته قط ويضم ويخفقان وقط مشددة مجرورة بمعنى الدهر مخصوص بالماضي أي في ما مضى من الزمان انتهى "إلا كان بين يديها جاهلية" قال في النهاية الجاهلية هي الحال التي كانت عليها العرب قبل الإسلام من الجهل بالله ورسوله وشرائع الدين والمفاخرة بالأنساب والكبر والتجبر وغير ذلك انتهى. والمراد بالجاهلية هنا الحال التي كان عليها الناس قبل بعثة نبيهم "فيؤخذ العدد" أي عدد بعث النار "فإن تمت" أي هذه العدة من الجاهلية "إلا كمثل الرقمة في ذراع الدابة" قال في النهاية الرقمة هنا الهنة الناتئة في ذراع الدابة من داخل وهما رقمتان في ذراعيها انتهى. وفي القاموس الرقمتان هنتان شبه ظفرين في قوائم الدابة. وقال النووي في شرح مسلم الرقمة بفتح(9/11)
ثُمّ قَالَ إِنّي لأرْجُو أَنْ تَكُونُوا ثُلُثَ أَهْلِ الجَنّةِ فَكَبّروا، ثُمّ قَالَ إِنّي لأَرْجُو أَنْ تَكُونُوا نِصْفَ أَهْلِ الجَنّةِ فَكَبّروا، قَالَ لاَ أَدْرِي قَالَ الثّلُثَيْنِ أَمْ لاَ؟" . هذَا حَديثٌ حَسَنٌ صحيحٌ، وقَدْ رُوِيَ مِنْ غَيرِ وَجْهٍ عَن عِمْرَانَ بن حُصَيْنٍ عَن النبيّ صلى الله عليه وسلم.
3218 ـ حدثنا مُحَمّدُ بنُ بَشّارٍ أخبرنا يَحْيَى بنُ سَعِيدٍ أخبرنا هِشَامُ بنُ عَبْدِ الله عَن قَتَادَة عَن الحَسَنِ عَن عِمْرَانَ بنِ حُصَيْنٍ قَالَ: "كُنّا مَعَ النبيّ صلى الله عليه وسلم فِي سَفَرٍ فَتَفَاوَتَ بَيْنَ أَصحْابِهِ فِي السّيْرِ، فَرَفَعَ رَسُول الله صلى الله عليه وسلم صَوْتَهُ بِهَاتَيْنِ الاَيَتَيْنِ {يا أيّها النّاس اتّقُوا
ـــــــ
الراء وإسكان القاف قال أهل اللغة الرقمتان في الحمار هما الأثران في باطن عضديه وقيل هي الدائرة في ذراعيه وقيل هي الهنة الناتئة في ذراع الدابة من داخل انتهى "أو كالشامة" أي الخال في الجسد معروفة "فكبروا" تكبيرهم لسرورهم بهذه البشارة العظيمة ولم يقل أولاً نصف أهل الجنة لفائدة حسنة وهي أن ذلك أوقع في نفوسهم وأبلغ في إكرامهم فإن إعطاء الإنسان مرة بعد أخرى دليل على الاعتناء به ودوام ملاحظته، وفيه فائدة أخرى هي تكرار البشارة مرة بعد أخرى، وفيه أيضاً حملهم على تجديد شكر الله تعالى وتكبيرة وحمده على كثرة نعمه. ثم إنه وقع في هذا الحديث: "نصف أهل الجنة" . وقد ثبت في حديث بريدة أن "أهل الجنة عشرون ومائة صف ثمانون منها من هذه الأمة وأربعون من سائر الأمم" . أخرجه الترمذي في باب كم صف أهل الجنة. فهذا دليل على أنهم يكونون ثلثي أهل الجنة فيكون النبي صلى الله عليه وسلم أخبر أولاً بحديث النصف ثم تفضل الله سبحانه بالزيادة فأعمله بحديث الصفوف فأخبر به النبي صلى الله عليه وسلم بعد ذلك ولهذا نظائر كثيرة في الحديث معروفة. قوله "هذا حديث صحيح" وأخرجه أحمد.
قوله "أخبرنا يحيى بن سعيد" هو القطان "أخبرنا هشام بن أبي عبد الله"(9/12)
رَبّكُمْ إِنّ زَلزَلَةَ السّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيم} ، إِلى قَوْلِهِ {وَلَكنّ عَذَابَ الله شَدِيدٌ} فَلَمّا سَمِعَ ذَلِكَ أَصْحَابُهُ حَثّوا المُطِيّ وَعَرَفُوا أَنّهُ عِنْدَ قَوْلٍ يَقُولُه. فَقَالَ هَلْ تَدْرُون أَيّ يَوْمٍ ذَلِكَ؟ قَالُوا الله وَرَسُولُهُ أَعْلَم. قَالَ: ذَلِكَ يَوْمُ يُنَادِي الله فيهِ آدَمَ فَيُنَادِيهُ رَبّهُ فَيَقُولُ يا آدَمُ ابْعَثْ بَعْثَ النَار فَيَقُولُ يا رَبّ وما بعثُ النّارِ؟ فَيقُولُ مِنْ كلّ أَلْفٍ تِسْعُمَائَةٍ وتِسْعَةٌ وتِسْعُونَ إلى النّارِ وَوَاحِدٌ إلى الجَنّةِ، فَيئِسَ القَوْمُ حَتّى مَا أَبْدَوْا بضَاحِكَةٍ. فَلَمّا رَأَى رَسُول الله صلى الله عليه وسلم الّذِي بأَصْحَابِهِ قَالَ اعْمَلُوا وَأَبْشِروا فَوَالّذِي نَفْسُ مُحَمّدٍ بِيَدِهِ إِنّكُمْ لَمَعَ خَليقَتَيْنِ مَا كَانَتَا مَعَ شيْءٍ إِلاّ كَثّرَتَاهُ: يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ ومَنْ مَاتَ مِنْ بَنِي آدَمَ وَبنِي إِبْليسَ. قَالَ فَسُرّيَ عَن القَوْمِ بَعْضُ الّذْي يَجدُونَ، فقَالَ اعْمَلُوا وَأَبْشِرُوا فَوَالّذِي نَفْسُ مُحَمّدٍ بِيَدِه مَا أَنْتُمْ في النّاس إِلا كالشّامَةِ في جَنْبِ البَعِيرِ أَو كَالرّقْمَةِ في ذِرَاعِ الدّابّةِ" . هذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صحيحٌ.
ـــــــ
هو الدستوائي. قوله "فتفاوت بين أصحابه في السير" أي وقع التفاوت والبعد "حثوا المطى" أي حضوها والمطى جمع المطية وهي الدابة تمطو في سيرها أي تجد وتسرع في سيرها "وعرفوا أنه" أي رسول الله صلى الله عليه وسلم "عند قوله يقوله" أي يريد أن يقول قولاً "حتى ما أبدوا بضاحكة" أي ما تبسموا والضواحك الأسنان التي تظهر عند التبسم "الذي بأصحابه" أي من اليأس وعدم التبسم "إنكم لمع خليقتين" أي مخلوقين "إلا كثرتاه" من التكثير "يأجوج ومأجوج" بدل من خليقتين ويجوز الرفع أي هما يأجوج ومأجوج "ومن مات" عطف على يأجوج "فسرى" أي كشف وأزيل يقال سروت الثوب وسريته إذا خلعته والتشديد فيه المبالغة "وأبشروا" من باب سمع يسمع أو من باب الأفعال، قال في مختار الصحاح يقال بشره بكذا بالتخفيف فأبشر(9/13)
3219 ـ حدثنا مُحَمّدُ بنُ إِسْمَاعِيلَ وَغَيْرُ وَاحِدٍ قَالُوا أخبرنا عَبْدُ الله بنُ صَالحٍ قَالَ حدثني اللّيْثُ عَن عَبْدِ الرّحمنِ بنِ خَالِدٍ عَن ابنِ شِهَابٍ عَن مُحَمّدِ بنِ عُرْوَةَ بنِ الزبير عن عبد الله بنِ الزّبَيْرِ قَالَ: "قَالَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم إِنّمَا سُمّيَ البَيْتُ العَتِيقَ لأَنّهُ لَمْ يَظْهَرْ عَلَيه جَبّارٌ" . هذا حَدِيثٌ حَسَنٌ غرِيب وقد رُوِيَ هذا الحديث عَن الزّهْرِيّ عَن النبيّ صلى الله عليه وسلم مُرْسَلاً.
3220 ـ حدثنا قُتَيْبَةُ حدثنا اللّيْثُ عَن عُقَيْلٍ عَن الزّهْرِيّ عَن النبيّ صلى الله عليه وسلم نَحْوَهُ.
ـــــــ
إبشاراً وتقول أبشر بخير بقطع الألف ومنه قوله تعالى {وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ} وبشر بكذا استبشر به وبابه طرب انتهى. قوله هذا حديث حسن صحيح وأخرجه أحمد والنسائي والحاكم.
قوله "حدثنا محمد بن إسماعيل" بن يوسف السلمي أبو إسماعيل الترمذي نزيل بغداد ثقة حافظ من الحادية عشرة "أخبرنا عبد الله بن صالح" هو الجهني أبو صالح المصري كاتب الليث "حدثني الليث" هو بن سعد "عن عبد الرحمن بن خالد" بن مسافر الفهمي أمير مصر صدوق من السابعة "عن محمد بن عروة بن الزبير" بن العوام الأسدي صدوق من الرابعة قوله "إنما سمي البيت" الذي هو الكعبة "العتيق" بالنصب على أنه مفعول ثان لمسمى "لأنه لم يظهر عليه جبار" أي لم يغلب عليه والجبار هو الذي يقتل على الغضب، وفي رواية لأن الله أعتقه من الجبابرة فلم يظهر عليه جبار قط قال المناوي أراد بنفي الظهور نفي الغلبة والاستيلاء من الكفار وقصة الفيل مشهورة وقال قتادة عن الحسن البصري في قوله {وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ} قال لأنه أول بيت وضع، وكذا قال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم، وعن عكرمة أنه قال إنما سمي البيت العتيق لأنه أعتق يوم الغرق زمان نوح وقيل غير ذلك، وما في حديث الباب هو المعتمد.(9/14)
3221 ـ حدثنا سُفْيَانُ بنُ وَكِيع أخبرنا أَبِي وإسْحَاقُ بنُ يُوسُفَ الأَزْرَقُ عَن سُفيانَ الثّوْرِيّ عَن الأَعْمَشِ عَن مُسْلِم البَطِينِ عَن سَعِيدِ بنِ جُبَيْرٍ عَن ابن عَبّاسٍ قَالَ "لَمّا أُخْرِجَ النبيّ صلى الله عليه وسلم مِنْ مَكّةَ قَالَ أَبُو بَكْرٍ أَخْرَجُوا نَبِيّهُمْ لِيَهْلِكُنّ. فَأَنْزَلَ الله تَعَالى: {أُذِنَ لِلّذِينَ يُقَاتَلَوُنَ بِأَنّهُمْ ظُلِمُوا وإنّ الله عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِير} الآية، فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ لَقَدْ عَلِمْتُ أَنّهُ سَيَكُونُ قِتَالٌ". هَذا حديثٌ حَسَنٌ وَقَدْ رَوَاهُ عَبْدُ الرّحمَنِ بنُ مَهْدِيّ وَغَيْرُهُ عَنْ سفيانَ عَنْ الأَعْمَشِ عَنْ مُسْلِمٍ البَطِينِ عَنْ سَعِيدِ بنِ جُبَيْرٍ عن النبي صلى الله عليه وسلم فِيهِ عنْ ابنِ عَبّاسٍ وقد رواه غير واحد عن سفيان عَنْ الأَعْمَشِ عَن مُسْلِمِ البَطِينِ عَن سَعِيدِ بنِ جُبَيْرٍ مُرْسَلاً لَيْسَ فيه عَن ابنِ عَبّاسِ
ـــــــ
قوله "هذا حديث حسن غريب" وأخرجه الحاكم في مستدركه والبيهقي في شعب الإيمان وقال الحاكم على شرط مسلم وأقروه قاله المناوي.
قوله: "ليهلكن" بالبناء المفعول من الإهلاك أو للفاعل من الهلاك {أُذِنَ} أي رخص وقرئ على البناء للفاعل أي أذن الله تعالى {لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ} أي يقاتلهم المشركون والمأذون فيه محذوف لدلالة المذكور عليه فإن مقاتلة المشركين إياهم دالة على مقاتلتهم إياهم دلالة نيرة، وقرئ على صغية المبنى للفاعل أي يريدون أن يقاتلوا المشركين فيما سيأتي ويحرصون عليه فدلالته على المحذوف أظهر وهي أول آية نزلت في الجهاد {بِأَنَّهُمْ} أي بسبب أنهم {ظُلِمُوا} أي بظلم الكافرين إياهم {وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ} أي هو قادر على نصر عباده المؤمنين من غير قتال ولكن هو يريد من عباده أن يبلوا جهدهم في طاعته قوله "هذا حديث حسن" وأخرجه أحمد والنسائي وابن جرير وأبن أبي حاتم.(9/15)
ومن سورة المؤمنين
بسم الله الرحمن الرحيم
3222 ـ حدثنا يَحْيَى بنُ مُوسَى وَعَبْدُ بنُ حُمَيْدٍ وَغيرُ وَاحِدٍ المَعْنَى وَاحِدٌ قَالُوا: حدثنا عَبْدُ الرّزّاقِ عَن يُونُسَ بنِ سُلَيْمٍ عَن الزّهْرِيّ عَن عُروةَ بنِ الزّبَيْرِ عَن عَبْدِ الرّحْمَنِ بنِ عَبدٍ القَارِيّ قَالَ: "سَمِعْتُ عُمَر بنَ الخَطّاب رضي الله عنه يَقُولُ كَانَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم إِذَا أَنْزَلَ عَلَيه الوَحْيُ سُمِعَ عِنْدَ وَجْهِهِ كَدَوِيّ النّحْلِ فأُنْزِلَ عَلَيه يَوْماً فمَكَثْنا سَاعَةً فسُرّيَ عَنْهُ فاسْتَقْبَلَ القِبْلَة وَرَفَعَ يَدَيهِ وَقَال اللّهُمّ زِدْنَا وَلاَ تُنْقِصْنَا وَأَكْرِمْنَا وَلاَ تُهِنّا وَأَعطِنَا
ـــــــ
"ومن سورة المؤمن"
مكية وهي مائة وثماني أو تسع عشرة آية
قوله: "سمع" على بناء المجهول "عند وجهه" أي عند قرب وجهه بحذف المضاف "كدوي النحل" بفتح الدال وكسر الواو وتشديد الياء أي سمع عند وجهه دوي مثل دوي النحل، والدوي صوت لا يفهم منه شيء وهذا الصوت هو صوت جبريل عليه الصلاة السلام يبلغ إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم الوحي ولا يفهم الحاضرون من صوته شيئاً. وقال الطيبى رح أي سمع من جانب وجهه وجهته صوت خفي كأن الوحي كان يؤثر فيهم وينكشف لهم انكشافاً غير تام فصاروا كمن يسمع دوي صوت ولا يفهمه أو أراد لهما سمعوه من غطيطه وشدة تنفسه عند نزول الوحي انتهى. وقال في اللمعات: وهذا الدوي إما صوت الوحي أو ما كانوا يسمعونه من النبي صلى الله عليه وسلم من شدة تنفسه من ثقل الوحي والأول أظهر لأنه قد وصف الوحي بأنه كان تارة مثل صلصلة الجرس انتهى "يوماً" أي نهاراً أو وقتاً "فمكثنا" بفتح(9/16)
وَلاَ تَحْرِمُنا وآثِرْنَا وَلاَ تُؤْثِرْ عَلَيْنَا وَأَرْضِنَا وَارْضَ عَنّا ثُمّ قَالَ صلى الله عليه وسلم: أُنْزلَ عَلَيّ عَشْرُ آياتٍ مَنْ أَقَامَهُنّ دَخَلَ الجَنّةَ ثُمّ قَرَأَ {قَدْ أَفْلَحَ المُؤْمِنُونَ} حَتّى خَتَمَ عَشَرَ آيَاتٍ.
3223 ـ حدثنا مُحَمّدُ بنُ أَبَان أخبرنا عَبْدُ الرّزّاقِ عَن يُونسَ بنِ سُليْمٍ عَن يُونُسَ بنِ يَزِيدَ عَن الزّهْرِيّ بِهَذَا الإِسْنَادِ نَحْوَهُ بمَعْنَاهُ. هَذَا أَصَحّ مِنْ الحَديثِ الأَوّلِ سَمِعْتُ إِسْحَاقَ بنَ مَنْصُورٍ يَقُولُ رَوَى أَحْمَدُ بنُ حَنْبَلٍ
ـــــــ
الكاف وضمها أي لبثنا "ساعة" أي زمناً يسيراً ننتظر الكشف عنه "فسرى" عنه بصيغة المجهول من التسرية وهو الكشف والإزالة أي كشف عنه وأزيل ما اعتراه من برحاء الوحي وشدته "اللهم زدنا" أي من الخير والترقي أو كثرنا "ولا تنقصنا" أي خيرنا ومرتبتنا وعددنا. قال الطيبي رح عطفت هذه النواهي على الأوامر للمبالغة والتأكيد وحذف المفعولات للتعميم "وأكرمنا" بقضاء مآربنا في الدنيا ورفع منازلنا في العقبى "ولا تهنا" من الإهانة أي لا تذلنا "ولا تحرمنا" بفتح التاء أي لا تمنعنا أو لا تجعلنا محرومين "وآثرنا" من الإيثار أي اخترنا برحمتك وإكرامك وعنايتك "لا تؤثر علينا" أي غيرنا بلطفك وحمايتك وقيل لا تغلب علينا أعداءنا "وأرضنا" من الإرضاء أي بما قضيت لنا أو علينا بإعطاء الصبر وتوفيق الشكر وتحمل الطاعة والتقنع بما قسمت لنا "وأرض علينا" أي بالطاعة اليسيرة الحقيرة التي في جهدنا ولا تؤاخذنا بسوء أعمالنا ثم قال "أنزل على" أي آنفاً "من أقامهن" أي حافظ وداوم عليهن وعمل بهن "دخل الجنة" أي دخولاً أولياً.
قوله "حدثنا محمد بن أبان" هو أبو بكر البلخي "عن يونس بن يزيد" هو ابن أبي النجاد الأيلي وحديث عمر بن الخطاب هذا أخرجه أيضاً أحمد والنسائي وفي سنده يونس بن سليم الصنعاني قال في الميزان في ترجمته حدث عنه عبد الرزاق وتكلم فيه ولم يعتمد في الرواية ومشاه غيره، وقال العقيلي: لا يتابع على حديثه ولا يعرف إلا به انتهى. وقال في تهذيب التهذيب: قال النسائي(9/17)
وَعَليّ بنُ المَدِينِيّ وَإِسْحَاقُ بنُ إِبْرَاهِيمَ عَن عَبْد الرّزّاقِ عَن يُونسَ بن سُلَيْمٍ عَن يُونُسَ بنِ يَزِيدَ عَن الزّهْريّ هَذَا الحديثَ. وَمَنْ سَمِعَ مِنْ عَبْد الرّزّاقِ قَدِيماً فإِنّهُم إِنّما يَذْكُرُونَ فِيهِ عَن يُونُسَ بنِ يَزِيدَ وَبَعْضُهُمْ لاَ يَذُكُرُ فِيهِ عَنْ يُونُسَ بنِ يَزِيدَ وَمَنْ ذَكَرَ فِيهِ عَن يُونُسَ بنِ يَزيدَ فَهُوَ أَصَحّ وَكَانَ عَبْدُ الرّزّاقِ رُبّمَا ذَكَرَ في هَذَا الحَدِيثِ يُونُسَ بنَ يَزيدَ وَرُبّمَا لَمْ يَذْكُرْهُ.
3224 ـ حدثنا عَبْدُ بنُ حُمَيْدٍ أخبرنا رَوْحُ بنُ عُبَادَةَ عنْ سَعيِدٍ عَن قَتَادَةَ عَن أَنَسِ بنَ مَالِكِ "أَنّ الرّبَيّعَ بِنْتَ النّضْرِ أَتَتْ النبيّ صلى الله عليه وسلم وَكَانَ ابْنُهَا حَارِثَةُ بنُ سُرَاقَةَ أُصِيبَ يَوْمَ بَدْرٍ أَصَابَهُ سَهْمٌ غَرْبٌ فأتَتْ رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم فقَالَتْ أَخْبِرْنِي عَن حَارِثَةَ لئِنْ كَانَ أَصَابَ خَيْراً احْتَسَبْتُ وَصَبَرْتُ وَإِنْ لَمْ يُصِب الخَيْرَ اجْتَهَدْتُ في الدّعَاءِ، فَقَالَ النَبِيّ صلى الله عليه وسلم: يَا أُمّ حَارِثَةَ إِنّها جِنَةٌ في جَنّةٍ وإنّ ابْنَكِ أَصَابَ الفِرْدَوْسَ الأَعْلَى. والفِرْدَوْس رَبْوَةُ الجَنّةِ وَأَوْسَطُهَا وَأَفْضَلُهَا" . هَذا حديثٌ حَسَنٌ صحيحٌ غريب من حديث أنس.
ـــــــ
هذا حديث منكر لا نعلم أحداً رواه غير يونس. ويونس لا نعرفه وذكره ابن حبان في الثقات.
قوله "عن سعيد" ابن أبي عروبة "أن الربيع بنت النضر" الأنصارية الخزرجية عمة أنس بن مالك صحابية "كان أصيب" أي قتل "أصابه سهم غرب" أي لا يعرف راميه أو لا يعرف من أين أتى أو جاء على غير قصد من راميه، قاله الحافظ وقال الطيبي أي لا يعرف راميه وهو بفتح الراء وسكونها(9/18)
3225 ـ حدثنا ابنُ أَبِي عُمَر أخبرنا سُفْيَانُ أخبرنا مَالِكُ بنُ مُغَوّلٍ عَن عبدِ الرّحْمَنِ بنِ سَعِيدِ بنِ وَهْبٍ أيْ الهَمْدَانِيّ أَنّ عَائِشَةَ زَوْجَ النبيّ صلى الله عليه وسلم قَالَتْ "سَأَلْتُ رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم عَن هَذِهِ الآية {وَالّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وَقُلُوبُهُم وَجِلَةٌ} قَالَتْ عَائِشَةُ: أَهُم الّذِينَ يَشْرَبُونَ الخَمْرَ
ـــــــ
وبالإضافة والوصف وقيل بالسكون إذا أتاه من حيث لا يدري وبالفتح إذا رماه فأصاب غيره انتهى "لئن كان أصاب خيراً احتسبت وصبرت" وفي رواية البخاري فإن كان في الجنة صبرت "وإن لم يصب الخير اجتهدت في الدعاء" وفي رواية البخاري وإن كان غير ذلك اجتهدت عليه في البكاء. قال الخطابي أقرها النبي صلى الله عليه وسلم هذا أي فيؤخذ منه الجواز. قال الحافظ: كان ذلك قبل تحريم النوح فلا دلالة فيه فإن تحريمه كان عقب غزوة أحد وهذه القصة كانت عقب غزوة بدر، ووقع في رواية سعيد بن أبي عروبة اجتهدت في الدعاء بدل قوله في البكاء وهو خطأ ووقع ذلك في بعض النسخ دون بعض ووقع في رواية حميد الآتية في صفة الجنة من الرقاق، وعند النسائي فإن كان في الجنة لم أبك عليه وهو دال على صحة الرواية بلفظ البكاء. وقال في رواية حميد هذه: وإلا فسترى ما أصنع ونحوه في رواية حماد عن ثابت عند أحمد "إنها جنان في جنة" وفي رواية أبان عند أحمد إنها جنان كثيرة في جنة. وفي رواية حميد: "إنها جنان كثيرة" . والضمير في قوله إنها جنان يفسره ما بعده وهو كقولهم هي العرب تقول ما شاءت والقصد بذلك التفخيم والتعظيم. وقال الطيبي: ويجوز أن يكون الضمير للشأن وجنان مبتدأ والتنكير فيه للتعظيم. والمراد بالجنان الدرجات فيها لما ورد أن في الجنة مائة درجة ما بين كل درجتين كما بين السماء والأرض والفردوس أعلاها "والفردوس ربوة الجنة" أي أرفعها، والربوة بالضم والفتح ما ارتفع من الأرض "وأوسطها وأفضلها" المراد بالأوسط هنا الأعدل والأفضل كقوله تعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً} فعطف الأفضل عليه للتأكيد. قوله "هذا حديث حسن صحيح غريب" وأخرجه البخاري والنسائي وابن خزيمة.
قوله: "عن عبدالرحمن بن وهب" هو عبدالرحمن بن سعيد بن وهب الهمداني الخيراني ثقة من الرابعة ولم يدرك عائشة. قوله: {وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ} أي يعطون(9/19)
ويَسْرِقُونَ؟ قال: لا يا بنْتَ الصّدّيقِ. وَلكَنّهُم الّذِينَ يَصُومُونَ وَيُصَلّونَ وَيَتَصَدّقُونَ وَهُمْ يَخَافُونَ أن لا يُقْبَلَ مِنْهُم: أُولَئِكَ الّذِينَ يُسَارِعُونَ في الخَيْراتِ وَهُمْ لَهَا سَابقُونَ". وقد رُوِيَ هَذَا الحَدِيثُ عَن عَبْد الرْحمَنِ بن سَعِيدٍ عَن أَبِي حَازمٍ عَن أَبي هُرَيْرَةَ عَن النبيّ صلى الله عليه وسلم نَحْوَ هَذَا.
3226 ـ حدثنا سُوَيْدُ بنُ نَصْرٍ، أخبرنا عَبْدُ الله بن المبارك عَن سَعِيدِ بنِ يَزيدَ أَبِي شُجَاعٍ عَن أَبِي السّمْحِ عَن أَبِي الهَيْثَمِ عَن أَبي سَعِيدٍ الخُدْرِيّ عَن النبيّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: {وَهُمْ فيها كَالحُونَ} قَال تَشْوِيهِ النّارُ فَتَقَلّصُ شَفَتُهُ العالية حَتّى تَبْلُغَ وَسَطَ رَأْسِهِ، وَتَسْتَرْخِيَ شَفَتُهُ السّفْلَى حَتّى تَضْرِبَ سُرّتَهُ". هذَا حديثٌ حَسَنٌ غريبٌ صحيحٌ.
ـــــــ
{مَا آتَوْا} أي ما أعطوا من الصدقة والأعمال الصالحة {وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ} أي خائفة أن لا تقبل منهم وبعده {أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ} أي لأنهم يوقنون أنهم إلى الله صائرون "أولئك الذين يسارعون في الخيرات" كذا في هذه الرواية، وفي القرآن {أُولَئِكَ يُسَارِعُونَ} أي يبادرون إلى الأعمال الصالحة {وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ} أي في علم الله وفيل أي لأجل الخيرات سابقون إلى الجنات أو لأجلها سبقوا الناس. وقال ابن عباس: سبقت لهم من الله السعادة وحديث عائشة هذا أخرجه أيضاً أحمد وابن أبي حاتم. قوله: "وروى هذا الحديث عن عبد الرحمن ابن سعيد" هو عبد الرحمن بن وهب المذكور في الإِسناد السابق "عن أبي حازم" اسمه سلمان الأشجعي.
قوله: "أخبرنا عبد الله" هو ابن المبارك "عن أبي السمح" اسمه دراج بن سمعان السهمي "عن أبي الهيثم" اسمه سليمان بن عمرو العتواري. قوله: {وَهُمْ فِيهَا كَالِحُونَ} أي عابسون وقد بدت أسنانهم وتقلصت شفاههم كالرأس المشوي على النار قال في القاموس كلح: كمنح كلوحا وكلاحاً بضمهما تكشر في عبوس أوله(9/20)
سورة النور
بسم الله الرحمن الرحيم
3227 ـ حدثنا عَبْدُ بنُ حُمَيْدٍ، أخبرنا رَوْحَ بنُ عُبَادَةَ عَن عُبيْدِ الله بنِ الأَخْنَسِ قَالَ: أَخْبَرَنِي عَمْروُ بنُ شُعَيْبٍ عَن أَبيهِ عَن جَدّهِ قَالَ "كَانَ رَجُلٌ يُقَالُ لَهُ مَرْثَدُ بنُ أَبي مَرْثَدٍ وكَانَ رَجُلاً يَحْمِلُ الأَسْرَى مِنْ مَكّةَ حَتّى يَأْتي بِهمْ المَدِينَةَ. قَالَ وكَانَت امْرَأَةٌ بَغِيّ بِمَكّةَ يُقَالُ لَهَا عَنَاقُ وكَانَتْ صَدِيقَةً لَهُ، وَأَنّهُ كَان وَعَدَ رَجُلاً مِنْ أسَارَى مَكّةَ يَحْتمِلُهُ، قَالَ فَجِئْتُ
ـــــــ
{تَلْفَحُ وُجُوهَهُمُ النَّارُ} أي تحرقها "تشويه" بفتح أوله من باب رمي يرمي أي تحرق الكافر "فتقلص" بحذف إحدى التائين أي تنقبض "حتى تبلغ" أي تصل شفته "وتسترخي" أي تسترسل "شفته السفلى" تأنيث الأسفل كالعليا تأنيث الأعلى "حتى تضرب سرته" أي تقرب شفته سرته. قوله: "هذا حديث حسن صحيح" وأخرجه أحمد والحاكم وصححه.
سورة النور
مدنية وهي ثنتان أو أربع وسبعون آية
قوله: "عن عبيد الله بن الأخنس" النخعي كنيته أبو مالك الخزاز صدوق، قال ابن حبان كان يخطئ من السابعة.
قوله: "كان رجل يقال له مرثد بن أبي المرثد" بفتح الميم وسكون الراء المهملة وفتح الثاء المثلثة وبعدها دال مهملة الغنوى بفتح الغين المعجمة وبعدها نون مفتوحة صحابي بدرى استشهد في عهد النبي صلى الله عليه وسلم سنة ثلاث أو أربع "وكان" أي مرثد "يحمل الأسرى" جمع الأسير "بغى" أي فاجرة وجمعها البغايا "وكانت صديقة له" أي حبيبة لمرثد "يحمله" أي أن يحمله "في(9/21)
حَتّى انْتَهَيْتُ إلى ظِلّ حَائِطٍ مِنْ حَوَائِطِ مَكّةَ في لَيْلَةٍ مُقْمِرةٍ، قَالَ فَجَاءَتْ عَنَاقُ فأَبْصَرَتْ سَوَادَ ظِلّي بِجَنْبِ الحَائِطِ فَلَمّا انْتَهَتْ إليّ عَرَفَتْه، فَقَالَتْ مَرْثَدٌ؟ فَقُلْتُ مَرْثَدٌ. فَقَالتْ مَرْحَباً وَأَهْلاً هَلُمّ فبِتْ عِنْدَنَا اللّيْلَةَ، قُلْتُ يا عَنَاقُ حَرّمَ الله الزّنَا. قَالَتْ يَا أَهْلَ الخِيَامِ هَذَا الرّجُلُ يَحْمِلُ أُسْرَاكُم قَالَ فَتَبعَنِيَ ثَمَانِيَةٌ وسَلَكْتُ الخَنْدَمَةَ فانتهَيْتُ إلى غَارٍ أَوْ كَهفٍ فَدَخَلْتُ فَجَاؤوا حَتّى قَامُوا عَلَى رَأْسِي فبَالُوا فَظَلّ بَوْلُهمْ عَلَى رَأسِي وَأَعمّاهُم الله عَنّي قَالَ ثُمّ رَجَعُوا وَرَجَعْتُ إلى صَاحبي فَحَمَلْتُهُ وكَانَ رَجُلاً ثَقِيلاً حَتّى انْتَهيْتُ إلى الإذْخِر فَفَكَكْتُ عَنُهُ أكْبُلَهُ فَجَعَلْتُ أَحْمِلُه ويعينني حَتّى قَدِمتُ المَدِينَةَ فأَتَيْتُ رَسُول الله صلى الله عليه وسلم فَقُلْتُ يا رَسُولَ الله أَنْكِحُ
ـــــــ
ليلة مقمرة" أي مضيئة "سواد ظلى" أي شخصه "فلما انتهت إلى" أي بلغت إلى "عرفت" أي عرفتني "فقالت مرثد" أي أنت مرثد "فقلت مرثد" أي نعم أنا مرثد "هلم" أي تعالى "فبت" أمر من بات يبيت بيتوتة "حرم الله الزنا" أي فلا يجوز لي أن أبيت عندك "يا أهل الخيام" بكسر الخاء المعجمة جمع الخيمة "هذا الرجل يحمل أسراءكم" بضم الهمزة وفتح السين جمع أسير والمعنى تنبهوا يا أهل الخيام وخذوا هذا الرجل الذي يذهب بأساراكم "سلكت الخندمة" بفتح الخاء المعجمة وسكون النون جبل معروف عند مكة "إلى غار أو كهف" الكهف كالبيت المنقور في الجبل جمعه كهوف أو كالغار في الجبل إلا أنه واسع فإذا صغر فغار "فظل بولهم على رأسي" أي صار ووقع عليه "وعماهم الله" من التعمية أي صيرهم عمياناً "إلى صاحبي" أي الذي كنت وعدت أن أحمله "حتى انتهيت إلى الأذخر" وفي رواية النسائي: فلما انتهت به إلى الأراك والظاهر أن المراد بالأذخر والأراك هنا مكان خارج مكة ينبت فيه الأراك والأذخر ويحتمل أن يكون المراد بالأذخر أذاخر وهو موضع قرب مكة كما في القاموس "ففككت" أي أطلقت "أكبله" جمع قلة للكبل وهو قيد(9/22)
عَنَاقاً مَرّتْينِ فأَمْسَكَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم وَلَم يَرُدّ عَلَيّ شَيْئاً حَتّى نَزَلَتْ {الزّاني لاَ يَنْكِحُ إِلاّ زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً وَالزّانيَةُ لاَ يَنْكِحُهَا إِلاَ زَانٍ أَوْ مُشركٌ وحرّم ذلك على المؤمنين} فَقَال رسُول الله صلى الله عليه وسلم: يَا مَرْثَدُ الزّاني لاَ يَنْكِحُ إِلاَ زَانِيَةً أَوْ مُشركَةً وَالزانِيَةُ لاَ يَنْكِحُهَا إِلاّ زَانٍ أَوْ مُشركٌ فَلاَ تَنْكِحْهَا". هَذا حديثٌ حَسَنٌ غَرِيب لاَ نَعْرِفُه إِلاّ مِنْ هَذَا الوَجْهِ.
ـــــــ
ضخم "ويعيينى" من الأعياء أي يكلني "أنكح عناقاً" بحذف همزة الاستفهام "فأمسك رسول الله صلى الله عليه وسلم" وفي رواية أبي داود: فسكت عني "فلا تنكحها" فيه دليل على أنه لا يحل للرجل أن يتزوج بالزواني، ويدل على ذلك الآية المذكورة في الحديث لأن في آخرها: وحرم ذلك على المؤمنين. فإنه صريح في التحريم. قال ابن القيم: وأما نكاح الزانية فقد صرح الله بتحريمه في سورة النور وأخبر أن من نكحها فهو زان أو مشرك فهو إما أن يلتزم حكمه تعالى ويعتقد وجوبه عليه أو لا فإن لم يعتقده فهو مشرك، وإن التزمه واعتقد وجوبه وخالفه فهو زان، ثم صرح بتحريمه فقال {وَحُرِّمَ ذَلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ} وأما جعل الإشارة في قوله {وَحُرِّمَ ذَلِكَ} إلى الزنا فضعيف جداً إذ يصير معنى الآية الزاني لا يزنى إلا بزانية أو مشركة والزانية لا يزنى بها إلا زانٍ أو مشرك وهذا مما ينبغي أن يصان عنه القرآن ولا يعارض ذلك حديث ابن عباس قال: "جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم" فقال: "إن امرأتي لا تمنع يد لامس قال غربها قال أخاف أن تتبعها نفسي قال فاستمتع بها" ، فإنه في الاستمرار على نكاح الزوجة الزانية والآية في ابتداء النكاح، فيجوز للرجل أن يستمر على نكاح من زنت وهي تحته ويحرم عليه أن يتزوج بالزانية. انتهى.
وقال المنذري: وللعلماء في الآية خمسة أقوال: أحدها ـ أنها منسوخة قاله سعيد بن المسيب. قال الشافعي في الآية القول فيها كما قال سعيد بن المسيب إن شاء الله أنها منسوخة، وقال غيره الناسخ لها {وَأَنْكِحُوا الْأَيَامَى مِنْكُمْ} فدخلت الزانية في أيامى المسلمين وعلى هذا أكثر العلماء يقولون من زنى بامرأة فله أن يتزوجها(9/23)
3228 ـ حدثنا هَنّادٌ، أخبرنا عَبْدَةُ بنُ سُلَيْمَانَ عَن عَبْدِ المَلِكِ بنِ أَبي سُلَيْمَانَ عَن سَعِيدِ بنِ جُبَيْرٍ قَالَ: "سُئِلْتُ عَن المُتَلاَعِنَيْنِ في إمَارَةِ مُصْعَبِ بنِ الزّبَيْرِ أَيفَرّقُ بَيْنَهُمَا فَمَا دَرَيْتُ مَا أَقُولُ، فَقُمْتُ مِنْ مَكاني إلى مَنْزِلِ عَبْدِ الله بنِ عُمَر فاسْتَأْذَنْتُ عَلَيهِ فَقيلَ لِي إنّهُ قَائِلٌ فَسَمِعَ كَلاَمِيَ
ـــــــ
ولغيره أن يتزوجها. والثاني ـ أن النكاح ههنا الوطء والمراد أن الزاني لا يطاوعه على فعله ويشاركه في مراده إلا زانية أو مشركة. والثالث ـ أن الزاني المجلود لا ينكح إلا زانية مجلودة أو مشركة وكذا الزانية. والرابع ـ أن هذا كان في نسوة كان الرجل يتزوج إحداهن على أن تنفق عليه مما كسبته من الزنا. واحتج بأن الآية نزلت في ذلك والخامس ـ أنه عام في تحريم نكاح الزانية على العفيف والعفيف على الزانية. انتهى.
قلت: هذا القول الخامس هو الظاهر الراجح وبه قال الإمام أحمد وغيره قال الحافظ ابن كثير: قال الإمام أحمد لا يصح العقد من الرجل العفيف على المرأة البغى ما دامت كذلك حتى تستتاب فإن تابت صح العقد عليها وإلا فلا، وكذلك لا يصح تزويج المرأة الحرة العفيفة بالرجل الفاجر المسافح حتى يتوب توبة صحيحة لقوله تعالى: {وَحُرِّمَ ذَلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ} . انتهى. وقد بسط صاحب فتح البيان في هذه المسألة وقال في آخر البحث: وقد اختلف في جواز تزوج الرجل بامرأة قد زنى هو بها فقال الشافعي وأبو حنيفة بجواز ذلك. وروى عن ابن عباس وعمر وابن مسعود وجابر أنه لا يجوز. قال ابن مسعود إذا زنى الرجل بالمرأة ثم نكحها بعد ذلك فهما زانيان أبداً وبه قال مالك. انتهى.
قوله: "هذا حديث حسن غريب" وأخرجه أبو داود والنسائي والحاكم وصححه والبيهقي وغيرهم.
قوله: "سئلت عن المتلاعنين في إمارة مصعب بن الزبير أيفرق بينهما إلخ".(9/24)
فَقَالَ لِي: ابنَ جُبَيْرٍ؟ ادْخُلْ مَا جَاءَ بِكَ إلاّ حَاجَة، قَالَ فَدَخَلْتُ فإِذَا هُوَ مُفْترِشٌ بَرْدَعَةَ رَحْلٍ لَهُ. فَقُلْتُ يَا أَبا عَبْدِ الرّحْمَنِ المُتَلاعِنَانِ أَيُفَرّقُ بَيْنَهُما؟ فَقَالَ سُبْحَانَ لله نَعَمْ إِنّ أَوّلَ مَنْ سَأَلَ عَن ذَلِكَ فُلاَنُ بنُ فُلاَنٍ أَتى النبيّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ يَا رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم أَرَأَيْتَ لَوْ أَنّ أَحَدَنَا رَأَى امْرَأَتَهُ عَلَى فَاحِشَةٍ كَيْفَ يَصْنَعُ؟ إنْ تكلم تكلّمَ بأَمْرٍ عَظِيمٍ وَإنْ سَكَتَ سَكَتَ عَلَى أَمْرٍ عَظِيمٍ. قال: فَسَكَتَ النبيّ صلى الله عليه وسلم فَلَمْ يُجبْهُ فَلَمّا كَانَ بَعْدَ ذَلِكَ أتى النبيّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: إِنّ الّذي سَأَلْتُكَ عَنْهُ قَد ابْتُلِيتُ بِهِ فَأَنْزَلَ الله هذه الآيات في سُورَةِ النّورِ {والّذِينَ يَرمُونَ أَزْوَاجَهُمْ وَلَمْ يَكُن لَهُمْ شُهَدَاءُ إِلاّ أَنْفُسُهُم فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهَادَاتٍ بالله} حَتّى خَتَمَ الآيات. قَال فَدَعَا الرّجُل فَتَلاَهُنّ عَليهِ وَوَعَظَهُ وَذَكَرَهُ وَأَخْبَرَهُ أَنّ عَذَابَ الدّنْيَا أَهْوَنُ مِنْ عَذَابِ الآخرةِ. فَقَالَ لاَ والّذِي بَعَثَكَ بالحَقّ مَا كَذَبْتُ عَلَيْهَا. ثُمّ ثَنّى بالمرأةِ وَوَعَظهَا وَذَكّرَهَا وأَخْبَرَها أَنّ عَذَابَ الدّنْيَا أَهْوَنُ مِنْ عَذَابِ الآخرةِ فَقَالَتْ لاَ والّذِي بَعَثَكَ بالحَقّ مَا صَدَقَ، فَبَدأَ بالرّجُلِ فَشَهِدَ أَرْبَعَ شَهَادَاتٍ بالله إِنَهُ لِمَنَ الصّادِقينَ والخَامِسَةَ أَنّ لَعْنَةَ الله عَلَيْه إِنْ كَانَ مِنَ الكَاذِبينَ، ثُمّ ثنّى بالمرأَةِ فَشَهِدَتْ أَرْبَع شَهَادَاتٍ بالله إِنّهُ لِمَنَ الكَاذِبينَ والخَامِسَةَ أَنّ غَضَبَ الله عَلَيْهَا إنْ كَانَ مِنَ الصّادِقِينَ ثُمّ فَرّقَ بَيْنَهُمَا" . وفي البابِ عَن سَهْلِ بنِ سَعْدٍ. وهَذا حديثٌ حَسَنٌ صحيحٌ.
ـــــــ
تقدم هذا الحديث بإسناده ومتنه في باب اللعان وتقدم هناك شرحه.(9/25)
3229 ـ حدثنا محمد بن بشار، أخبرنا مُحَمّدُ بنُ أَبي عَدِيّ، أخبرنا هِشَامُ بنُ حَسّانَ قال: حدثني عِكْرمَةُ عَن ابنِ عَبّاسٍ "أَنّ هِلاَلَ بنَ أُمَيّةَ قَذَفَ امْرَأَتَهُ عِنْدَ النبيّ صلى الله عليه وسلم بِشَرِيكِ بنِ سَحْماءَ فَقَالَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم البَيّنَةَ وَإِلاّ حَدّ في ظَهْرِكَ، قَالَ فَقَالَ هِلاَلٌ: يَا رَسُولَ الله إِذَا رَأَى أَحَدُنَا رَجُلاً عَلَى امْرَأَتِهِ أَيَلْتَمِسُ البَيّنَةَ، فَجَعَلَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: البَيّنَةَ وَالا حَدّ في ظَهْرِكَ، قَالَ فقَالَ هِلاَلٌ وَالّذِي بَعثَكَ بالحَقّ إني لَصَادِقٌ وَلْيُنْزِلَنّ فِي أَمْرِي مَا يُبَرّئُ ظَهْرِي مِنَ الحَدّ فَنَزَلَ {وَالّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُم ولَمْ يَكُنْ لَهمْ شُهَدَاءُ إِلاّ أَنْفُسُهُم فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهَادَاتٍ بالله إِنّهُ لِمَنَ الصّادِقِين} فَقَرَأَ حتى بَلَغَ {والخَامِسَةَ أَنّ غَضَبَ الله عَلَيْهَا إنْ كانَ مِنَ الصّادِقِينَ} قَالَ فانْصَرَفَ النبيّ صلى الله عليه وسلم فَأَرْسَلَ إليْهِمَا فَجَاءَا فَقَامَ هِلاَلُ بنُ أُمَيّةَ فَشَهَد والنبيّ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: إنّ الله يَعْلَمُ أَنّ أحدكما كاذِبٌ فَهَلْ مِنْكُمَا تَائِبٌ
ـــــــ
قوله: "حدثنا محمد بن أبي عدي" هو محمد بن إبراهيم بن أبي عدي قوله "إن هلال بن أمية" بضم الهمزة وفتح الميم وشدة الياء "قذف امرأته" أي نسبها إلى الزنا "البينة" بالنصب أي أقم البينة "وإلا" أي وإن لم تقم البينة "حد في ظهرك" أي يثبت حد في ظهرك "أيلتمس البينة" الهمزة للاستبعاد "إنه" أي هلال وفي بعض النسخ: إني. وهو الظاهر وكذلك في رواية البخاري "الصادق" أي في القذف "ولينزلن" بسكون اللام وضم التحتية وكسر الزاي المخففة وفي آخره نون مشددة للتأكيد من الإنزال وهو أمر بمعنى الدعاء والضمير يرجع إلى قوله الذي يحتمل أن يكون بفتح التحتية من النزول وفاعله ما يبرئ وفي رواية البخاري فلينزلن الله "ما يبرئ" بتشديد الراء المكسوره من التبرئة أي ما يدفع ويمنع "فأرسل" أي النبي صلى الله عليه وسلم "إليهما" أي إلى هلال(9/26)
ثُمّ قَامَتْ فَشَهِدَتْ فَلَمّا كانَتْ عِنْدَ الخَامِسَةِ أَنّ غَضَبَ الله عَلَيْها إنْ كانَ مِنَ الصّادِقِينَ. قَالُوا لَهَا إنّهَا مُوجِبَةٌ، فَقَال ابنُ عَبّاسٍ فَتَلَكّأَتْ وَنَكَسَتْ حَتّى ظَنَنّا أَنْ سَتَرْجِع فَقَالَتْ لاَ أَفْضَحُ قَوْمِي سَائِرَ اليَوْمِ، فَقَالَ النبيّ صلى الله عليه وسلم أَبْصروهَا. فإِنْ جَاءَتْ بِهِ اكْحَلَ العَيْنَينِ سَابِغَ الأَلْيَتَيْنِ خَدَلّجَ السّاقَيْنِ فَهُوَ لِشَرِيكِ بنِ سَحْمَاءَ فَجَاءَتْ به كَذَلِكَ، فَقَالَ
ـــــــ
بن أمية وزوجته "فشهد" أي لاعن والنبي صلى الله عليه وسلم يقول "إن الله يعلم أن أحدكما كاذب فهل منكما تائب" ظاهره أن ذلك كان قبل صدور اللعان بينهما "فشهدت" أي لاعنت {أن غضب الله عليها} جعل الغضب في جانبها لأن النساء يستعملن اللعن كثير كما ورد الحديث فربما يجترئن على الإقدام لكثرة جري اللعن على ألسنتهن وسقوط وقوعه عن قلوبهن فذكر الغضب في جانبهن ليكون رادعاً لهن "إنها" أي الخامسة "موجبة" أي للعذاب الأليم إن كانت كاذبة "فتلكأت" بتشديد الكاف أي توفقت يقال تلكأ في الأمر إذا تبطأ عنه وتوقف فيه "ونكست" أي خفضت رأسها وطأطأت إلى الأرض، وفي رواية البخاري: نكصت بالصاد المهملة أي رجعت وتأخرت. والمعنى أنها سكتت بعد الكلمة الرابعة "أن" مخففة من الثقيلة أي أنها "سترجع" أي عن مقالها في تكذيب الزوج ودعوى البراءة عما رماها به "سائر اليوم" أي في جميع الأيام وأبد الدهر أو فيما بقى من الأيام بالأعراض عن اللعان والرجوع إلى تصديق الزوج، وأريد اليوم الجنس ولذلك أجراه مجرى العام والسائر كما يطلق للباقي يطلق للجميع "أبصروها" بفتح الهمزة وسكون الموحدة وكسر المهملة من الأبصار أي انظروا وتأملوا فيما تأتي به من ولدها "به" أي بالولد "أكحل العينين" أي الذي يعلو جفون عينه سواد مثل الكحل من غير اكتحال "وسابغ الأليتين" تثنية الألية بفتح الهمزة وسكون اللام وهي العجيزة أو ما ركب العجز من شحم أو لحم أي تامهما وعظيمها من سبوغ النعمة والثوب "خدلج الساقين" بمعجمة ومهملة ولام مشددة مفتوحات وبالجيم أي عظيمها "فهو" أي الولد "فجاءت به كذلك" قال الطيبي في إتيان الولد على الوصف(9/27)
النبيّ صلى الله عليه وسلم: لَوْلاَ مَا مَضَى مِنْ كِتابِ الله عز وجلّ لَكانَ لَنَا وَلهَا شَأْنٌ" .
هَذا حديثٌ حَسَنٌ غريب وهَكَذَا رَوَى عَبّادُ بنُ مَنْصُورٍ هَذَا الحَدِيثَ عَنْ عِكْرِمَةَ عَن ابنِ عَبّاسٍ عَن النبيّ صلى الله عليه وسلم، وَرَوَاهُ أَيّوبُ عَن عِكْرِمَةَ مرسلاً ولَمْ يَذْكُرْ فيه عَن ابنِ عَبّاسٍ.
ـــــــ
الذي ذكره صلوات الله عليه هنا وفي قصة عويمر بأحد الوصفين المذكورين مع جواز أن يكون على خلاف ذلك معجزة وإخبار بالغيب "ولولا ما مضى من كتاب الله" من بيان لما أي لولا ما سبق من حكمه بدرء الحد عن المرأة بلعانها "لكان لنا ولها شأن" أي في إقامة الحد عليها إثر المعنى لولا أن القرآن حكم بعدم الحد على المتلاعنين وعدم التغرير لفعلت بها ما يكون عبرة للناظرين وتذكرة للسامعين.
تنبيه ـ اعلم أن حديث ابن عباس هذا يدل على أن آية اللعان نزلت في قصة هلال بن أمية وحديث سهل بن سعد الذي أشار إليه الترمذي يدل على أنها نزلت في قصة عويمر العجلاني ولفظه "فجاء عويمر فقال يا رسول الله رجل وجد مع امرأته رجلاً أيقتله فتقتلونه أم كيف يصنع؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أنزل الله فيك وفي صاحبتك فأمرهما رسول الله صلى الله عليه وسلم بالامعنة" . قال الحافظ قد اختلف الأئمة في هذا الموضع فمنهم من رجح أنها نزلت في شأن عويمر ومنهم من رجح أنها نزلت في شأن هلال، ومنهم من جمع بينهما بأن أول من وقع له ذلك هلال وصادف مجيء عويمر أيضاً فنزلت في شأنهما معاً في وقت واحد، وقد جنح النووي إلى هذا وسبقه الخطيب فقال لعلهما اتفق كونهما جاءا في وقت واحد ولا مانع أن تتعدى القصص ويتحد النزول، ويحتمل أن النزول سبق بسبب هلال فلما جاء عويمر ولم يكن علم بما وقع لهلال أعلمه النبي صلى الله عليه وسلم بالحكم ولهذا قال في قصة هلال فنزل جبريل وفي قصة عويمر "قد أنزل الله فيك" فيأول قوله: "قد أنزل الله فيك" أي وفيمن كان مثلك وبهذا أجاب ابن صباغ في الشامل وجنح القرطي إلى تجويز نزول الآية(9/28)
3230 ـ حدثنا مَحْمُودُ بن غَيْلاَن أَخبرنا أَبُو أُسَامَة عَنَ هِشَامِ بن عُرْوَةَ قال أَخْبَرني أَبِي عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ "لَمّا ذُكِرَ مِنْ شَأْنِي الّذِي ذُكِرَ وَمَا عَلِمْتُ بِه قَامَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم فيّ خَطِيباً فَتَشَهّدَ فَحَمَدَ الله وأَثْنَى عَلَيهِ بِما هُوَ أَهْلُهُ ثُمّ قَال "أَمّا بَعْدُ أَشِيروا عَليّ في أُنَاسٍ أَبَنُوا أَهْلي والله مَا عَلمْتُ عَلَى أَهْلي مِنْ سُوءٍ قَطّ، وَأَبَنُوا بمَنْ والله مَا عَلِمْتُ عَلَيهِ مِنْ سُوءٍ قَطّ وَلاَ دَخَلَ بَيْتي قَطّ إِلاّ وَأَنَا حَاضِرٌ ولاَ غِبْتُ في سَفر إِلاّ غَابَ مَعيِ، فَقَامَ سَعْدُ بُن مُعَاذٍ رضي الله عنه فَقَال: ائْذَنْ لِي يَا رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم أَنْ أخرب أَعْنَاقَهُمْ، وقَامَ رَجُلٌ مِنَ الْخَزرَجِ وكَانَتْ أُمّ حَسّانَ بنِ ثَابِتٍ مِنْ رَهْطٍ ذَلِكَ الرّجُل فَقَالَ كذَبْتَ أَمَا وَالله أَن لوْ كَانُوا مِنَ الأوْسِ مَا أَحَبَبْت
ـــــــ
مرتين قال وهذه الاحتمالات وإن بعدت أولى من تغليط الرواة الحفاظ انتهى كلام الحافظ ملخصاً. قوله "هذا حديث حسن غريب" وأخرجه البخاري وأبو داود وابن ماجه "وهكذا روى عباد بن منصور هذا الحديث إلخ" أخرجه أحمد أحمد وأبو داود.
قوله "لما ذكر" بصيغة المجهول "من شأني" بيان مقدم لقوله "الذي ذكر" وهو نائب الفاعل "وما علمت به" ما نافية والواو للحال "في" بتشديد الياء أي في شأني "أشيروا علي" من الإشارة "أبنوا أهلي" من باب نصر وضرب من الابن بفتحتين وهو التهمة أي اتهموا أهلي ورموا بالقبيح "وأبنوا بمن والله ما علمت عليه من سوء قط" هو صفوان بن المعطل السلمي "فقام سعد بن معاذ فقال ائذن يا رسول الله" استشكل ذكر سعد بن معاذ هنا بأن حديث الإفك كان سنة ست في غزوة المريسيع وسعد مات من الرمية التي رميها بالخندق سنة أربع، وأجيب بأنه اختلف في المريسيع ففي البخاري عن موسى بن عقبة أنها سنة أربع وكذلك الخندق وقد جزم ابن إسحاق بأن(9/29)
أَنْ تَضْرِبَ أَعْنَاقَهُمْ حَتّى كَادَ أَنْ يَكُونَ بَين الأَوْسِ والْخَزرَجِ شَرّ في المَسْجِدِ، ومَا عَلِمْتُ بِه، فَلَمّا كانَ مَسَاءُ ذَلِكَ اليَوْمِ خَرَجْتُ لِبَعْضِ حَاجَتِي وَمَعِي أُمّ مِسْطَحٍ فَعَثَرتْ فَقَالَت تَعِسَ مِسْطَحٌ فَقُلْتُ لَهَا أَيْ أُم تَسُبّينَ ابْنَكِ فَسكَتَتْ ثُمَ عَثَرَت الثّانِيَةَ فَقَالَتْ تَعِسَ مِسْطَحٌ فَقُلْتُ لَهَا أي أَم تَسُبّينَ ابْنَكِ فَسكَتَتْ ثُمّ عَثَرَت الثّالِثَةَ فَقَالَتْ تَعِسَ مِسْطَحٌ فَأْنَتَهَرْتُهَا فَقُلْتُ لَهَا أَي أَم تَسُبّينَ ابْنَكِ فَقَالَتْ والله مَا أَسُبّهُ إِلاّ فِيكِ فَقُلْتُ في أَيّ شَأْنِي؟ قَالَتْ فَبَقَرتْ لي الْحَدِيثَ قُلْتُ قَدْ كَانَ هَذَا؟ قَالَتْ نَعَمْ والله لقَدْ رَجَعْتُ إِلى بَيْتِي وَكَأَنّ الّذِي خَرَجْتُ لَهُ لَمْ أَخرُجْ. لاَ أَجِدُ
ـــــــ
المريسيع كانت في شعبان والخندق في شوال وإن كانتا في سنة فلا يمتنع أن يشهدها ابن معاذ. لكن الصحيح في النقل عن موسى بن عقبة أن المريسيع سنة خمس. فالذي في البخاري حملوه على أنه سبق قلم والراجح أيضاً أن الخندق أيضاً سنة خمس فيصبح الجواب "أن تضرب أعناقهم" وفي رواية البخاري من طريق الزهري: إن كان من الأوس ضربت عنقة وإن كان من إخواننا من الخزرج أمرتنا ففعلنا أمرك. قال الحافظ في شرح الجملة الأولى: إنما قال ذلك سعد لأنه كان سيد الأوس فجزم بأن حكمه فيهم نافذ "وقام رجل من الخزرج" وفي رواية البخاري فقام سعد بن عبادة وهو سيد الخزرج "وكانت أم حسان بن ثابت من رهط ذلك الرجل" اسم أم حسان الفريعة بنت خالد بن خنيس وكانت بنت عم سعد بن عباده من فخذه "أما" بالتخفيف للتنبيه "إن لو كانوا" كلمة إن زائدة "حتى كاد أن يكون بين الأوس و الخزرج شر في المسجد" وفي رواية البخاري فتشاور الحيان الأوس والخزرج حتى هموا أن يقتتلوا ورسول الله صلى الله عليه وسلم قائم على المنبر "وما علمت به" أي بما جرى في المسجد "ومعي أم مسطح" بكسر الميم وسكون السين وفتح الطاء وبعدها حاء مهملات واسمها سلمى وهي بنت أبي رهم بن عبد المطلب بن(9/30)
مِنهُ قَليلاً وَلاَ كَثِيراً وَوُعِكْتُ فَقُلْتُ لِرَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم أَرسِلْني إِلى بَيْتِ أَبِي فأَرْسَلَ مَعِي الغُلاَمَ فَدَخَلْت الدّارَ فَوَجَدْتُ أُمّ رُومَانَ في السفْلِ وَأَبُو بَكْرِ فوْقَ البَيْتِ يَقْرأُ، فَقَالَتْ أُمّي مَا جَاءَ بِكِ يَا بُنَيّةُ قَالَتْ فأَخْبَرْتُها وَذَكَرْتُ لَهَا الْحَدِيثَ فإِذَا هُوَ لَمْ يَبْلُغْ مِنْهَا مَا بَلَغَ مِنيّ فَقَالَتْ يَا بُنَيّةُ خَفّفِي عَلَيْكِ الشّأْنَ فإِنّهُ والله لَقلّمَا كَانَت امْرأَةٌ حَسْنَاءُ عِنْدَ رَجُلٍ يُحِبّهَا لَهَا ضَرَائِرُ إِلاّ حَسَدْنَهَا وقِيلَ فِيهَا فإِذَا هِيَ لَمْ يَبْلُغْ مِنْهَا مَا بَلَغَ مِنّي، قَالَتْ قُلْتُ وقَدْ عَلِمَ بِهِ أَبي قَالَتْ نَعَمْ قُلْتُ وَرَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم؟ قَالت نَعَمْ، واسْتَعبَرْتُ وَبَكَيْتُ فَسَمِعَ أَبُو بَكْرٍ صَوْتي وَهُو فَوْقَ
ـــــــ
عبد مناف واسم أبي رهم أنيس "فعثرت" بالفاء والعين والراء المفتوحات من العثرة وهي الزلة يقال عثر في ثوبه يعثر بالضم عثاراً بالكسر وفي رواية البخاري فعثرت أم سطح في مرطها "تعس مسطح" بفتح المثناة وكسر العين المهملة وبفتحها أيضاً بعدها سين مهملة أي كب لوجهه أو هلك أو لزمه الشر أو بعد أقوال "أي أم تسبين ابنك" بحذف همزة الاستفهام وفي رواية البخاري أتسبين رجلاً بدراً "فقالت والله ما أسبه إلا فيك" أي إلا لأجلك "فقالت" أي أم مسطح "فبقرت" بفتح الموحدة والقاف والراء أي فتحت وكشفت، وفي رواية البخاري أو لم تسمعي ما قال؟ قلت وما قال؟ قالت كذا وكذا فأخبرتني بقول أهل الإفك "قلت وقد كان هذا؟" بحذف همزة الاستفهام وكان تامة "كأن الذي خرجت له لم أخرج" أي كأن الحاجة التي خرجت لها لم أخرج لها "لا أجد منه قليلاً ولا كثيراً" علة لما قبلها قال العيني معناه إني دهشت بحيث ما عرفت لأي أمر خرجت من البيت "ووعكت" بصيغة المجهول من الوعك أي صرت محمومة "فقلت لرسول الله صلى الله عليه وسلم" أي لما دخل علي "فأرسل معي الغلام" قال الحافظ لم أقف على اسم هذا الغلام "فوجدت أم رومان" تعني أمها، قال الكروماني(9/31)
البَيْتِ يَقْرَأُ فَنَزَلَ فَقَالَ لأُمّي مَا شَأْنُهَا قَالَتْ أَبْلِغْهَا الّذِي ذُكِرَ مِنْ شَأْنِهَا، فَفَاضَتْ عَيْنَاهُ فَقَالَ أَقْسَمْتُ عَلَيْكِ يَا بُنيّةُ إلاّ رَجَعْتِ إلى بَيْتِكِ فَرَجَعْتُ، وَلَقَدْ جَاءَ رَسُول الله صلى الله عليه وسلم إلى بَيْتِي وَسَأَلَ عَنّي خَادِمَتِي فَقَالَتْ لاَ وَالله مَا عَلِمْتُ عَلَيْهَا عَيْباً إلاّ أَنّها كانَتْ تَرْقُدُ حَتّى تَدْخُلَ الشّاةُ فَتَأْكلَ خَمِيرَتَهَا أَوْ عَجِينَتَهَا، وانْتَهَرَهَا بَعْضُ أَصْحَابِهِ فَقَالَ أصْدقِي رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم حَتّى أَسْقَطُوا لهَا بِهِ فَقَالَتْ سُبْحَانَ الله والله مَا عَلِمْتُ عَلَيْهَا إلاّ مَا يَعْلَمُ الصّائِغُ عَلَى تِبْرِ الذَهَب الأَحْمَرِ فَبَلَغَ الأَمرَ ذَلِكَ الرّجُلَ الّذي قِيلَ لَهُ، فَقَالَ سُبْحَانَ الله والله مَا كَشْفتُ كَنَفَ أُنْثَى قَطّ، قَالَتْ عَائِشَةُ فَقُتِلَ شَهِيداً في سَبِيلِ الله قَالتَ وأَصْبَحَ
ـــــــ
واسمها زينب "في السفل" من البيت وهو بكسر السين وبضمها "فإذا هو" أي الحديث "لم يبلغ منها ما بلغ مني" أي لم يؤثر فيها مثل ما أثر في "خففي عليك الشأن" وفي رواية البخاري هوني عليك، وفي رواية له خفضي بالضاد المعجمة "لها ضرائر" جمع ضرة وقيل للزوجات ضرائر لأن كل واحدة يحصل لها الضرر من الأخرى بالغيرة "وقيل فيها" أي ما يشينها "فإذا هي" أي أم رومان "لم يبلغ منها" أي لم يؤثر الحديث فيها "ما بلغ مني" أي مثل ما أثر في "استعبرت" أي جرى دمعي. قال في القاموس: العبرة الدمعة واستعبر جرت عبرته وحزن "الذي ذكر" بالبناء للمفعول "أقسمت عليك يا بنية إلا رجعت إلى بيتك" هذا مثل قولهم نشدتك بالله إلا فعلت أي ما أطلب منك إلا رجوعك إلى بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم "وسأل عني خادمتي" المراد بها بريرة وفي رواية البخاري فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم بريرة فقال: "أي بريرة هل رأيت من شيء يريبك؟" قال القسطلاني واستشكل هنا قوله "بريرة" بأن قصة الإِفك قبل شراء بريرة وعتقها لأنه كان بعد فتح مكة وهو قبله لأن حديث الإفك كان في سنة ست أو ربع وعتق بريرة كان بعد فتح مكة(9/32)
أَبَوَايَ عِنْدِي فَلَمْ يَزَالاَ عِنْدِي حَتّى دَخَلَ عَلَيّ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم وقَدْ صَلّى العَصْرَ ثُمّ دَخَلَ وقَدْ اكتَنَفنى أَبَوَايَ عَن يَمينِي وَشِمالِي فَتَشَهّدَ النبيّ صلى الله عليه وسلم فحَمِدَ الله وَأَثْنى عَلَيْهِ بمَا هُوَ أَهْلُه.
ـــــــ
في السنة التاسعة أو العاشرة وأجاب الشيخ تقي الدين السبكي بأجوبة أحسنها احتمال أنها كانت تخدم عائشة قبل شرائها وهذا أولى من دعوى الإدراج وتغليظ الحفاظ انتهى كلامه مختصراً "إلا أنها كانت ترقد حتى تدخل الشاة فتأكل خميرتها أو عجينتها" شك من الراوي، وفي رواية البخاري: إن رأيت عليها أمراً أغمصه عليها أكثر من أنها جارية حديثة السن تنام عن عجين أهلها فتأتي الداجن فتأكله.
وفي رواية مقسم عند أبي عوانة والطبراني ما رأيت مذ كنت عندها إلا أني عجنت عجيناً لي فقلت احفظي هذه العجينة حتى اقتبس ناراً لأخبزها فغفلت فجاءت الشاة فأكلتها "وانتهرها بعض أصحابه" أي زجرها، وفي رواية أبي أويس عند أبي عوانة والطبراني أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لعلي: شأنك بالجارية فسألها علي وتوعدها فلم تخبره إلا بخير ثم ضربها وسألها فقالت والله ما علمت على عائشة سوءًا "حتى أسقطوا لها به" أي سبوها وقالوا لها من سقط الكلام وهو رديئه... بسبب حديث الإِفك كذا في النهاية "فقالت" أي الخادمة "سبحان الله" قالتها استعظاماً أو تعجباً "والله ما علمت عليها إلا ما يعلم الصائغ على تبر الذهب الأحمر" أي كما لا يعلم الصائغ من الذهب الأحمر إلا الخلوص من العيب فكذلك أنا لا أعلم منها إلا الخلوص من العيب والتبر بكسر الفوقية وسكون الموحدة ما كان من الذهب غير مضروب فإذا ضرب دنانير فهو عين ولا يقال تبر إلا للذهب وبعضهم يقوله للفضة أيضاً "فبلغ الأمر" أي أمر الإِفك "ذلك الرجل" وهو صفوان "الذي قيل له" أي عنه من الإفك ما قيل، فاللام هنا بمعنى عن كما هي في قوله تعالى {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا لَوْ كَانَ خَيْراً مَا سَبَقُونَا إِلَيْهِ} أي عن الذين آمنوا أو بمعنى في، أي قيل فيه فهي كقوله {يَا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَيَاتِي} أي في حياتي "والله ما كشفت(9/33)
ثُمّ قَالَ: أَمّا بَعْدُ يَا عَائِشَةُ إنْ كُنْتِ قَارفْتِ سُوءاً أو ظَلَمْتِ فَتُوبي إلى الله فإنّ الله يَقْبَلُ التّوْبَةَ عَن عبَادِهِ، قَالتْ وَقَدْ جَاءَت امْرأَةٌ مِنَ الأَنْصَارِ وَهِيَ جَالِسَةٌ بالبَابِ فَقُلْتُ أَلاَ تَسْتَحْيي مِنْ هَذِهِ المرأَةِ أَنْ تَذْكُرَ شَيْئاً. وَوَعَظَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم فَالْتَفتّ إلى أَبي فَقُلتُ أَجِبْهُ. قَالَ: فَمَاذَا أَقُولُ؟ فَالْتَفَتّ إِلَى أُمّي فقُلْتُ أَجيبيهِ قَالتْ أَقُولُ مَاذَا؟ قَالتْ فَلَمّا لمْ يُجيبَا تَشَهّدْتُ فَحَمِدْتُ الله وَأَثْنَيتُ عَلَيْهِ بِمَا هُوَ أَهْلُهُ ثُمّ قُلْتُ أَمَا وَالله لئِنْ قُلْتُ لَكُمْ إنّي لمْ أَفْعَلْ وَالله يَشْهَدُ إنّي لَصَادِقَةٌ مَا ذَاكَ بِنَافِعي عِنْدَكُمْ لِي لَقَدْ تَكَلّمْتُم وَأُشْرِبتْ قُلُوبُكُمْ وَلَئِنْ قُلْتُ إنّي قَدْ فَعَلْتُ وَالله يَعْلَمُ أَنّي لمْ أَفْعَلْ لَتَقُولُنّ إِنّهَا قَدْ بَاءَتْ بِهَا عَلَى نَفْسِهَا. وَإِنّي وَالله مَا أَجِدُ لِي وَلَكُمْ مَثَلاً قَالتْ وَالْتَمسْتُ اسْمَ يَعْقُوبَ فَلَمْ أَقْدِرْ عَلَيْهِ إلاّ أَبَا يُوسُفَ حينَ قَال: {فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَالله الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ} قَالتْ وَأُنْزِلَ عَلَى رَسُول الله صلى الله عليه وسلم مِنْ سَاعَتِهِ فَسَكَتْنَا فَرُفِعَ عَنْهُ وَإني لأَتَبَينُ السّرورَ في وَجْهِهِ وَهُوَ يَمْسَحُ جَبِينَهُ: وَيَقولُ أَبْشرِي يَا عَائِشَةُ فقَدْ أَنْزَلَ الله بَرَاءَتَكِ، قَالتْ فَكنْتُ أَشَدّ مَا كُنْتَ غَضَباً
ـــــــ
كنف أنثى قط" الكنف بفتح الكاف والنون وهو الجانب وأراد به الثوب يعني ما جامعتها في حرام وكان حصوراً "فقتل" أي صفوان "شهيداً في سبيل الله" في غزوة أرمينية سنة تسع عشرة في خلافة عمر كما قاله ابن إسحاق "أكتنف أبواي" قال في القاموس اكتنفوا فلاناً أحاطوا به "إن كنت قارفت سوءًا" من المقارفة أي كسبته "أو ظلمت" نفسك "فقلت" أي لرسول الله صلى الله عليه وسلم "من هذه المرأة" أي الأنصارية "أن تذكر شيئاً" أي على حسب فهمها لا يليق بجلال حرمتك "فقلت أجبه" أي أجب رسول الله(9/34)
فَقَال لِيَ أَبَوَايَ قُومِي إلَيْهِ فَقْلتُ لاَ وَالله لاَ أَقُومُ إليْهِ وَلاَ أَحْمَدُهُ وَلاَ أَحْمَدُكُما وَلكِنْ أَحْمَدُ الله الّذِي أَنْزَلَ بَرَاءَتي، لَقَدْ سَمِعْتُمُوهُ فَمَا أَنْكَرْتُمُوهُ وَلاَ غَيّرتُمُوهُ. وكانَتْ عَائِشَةُ تَقُولُ أَمّا زَيْنَبُ بنت جَحْشٍ فَعَصَمَهَا الله بِدِينِهَا فَلَمْ تَقلْ إلاّ خَيْراً وَأَمَا أُخْتُها حَمْنَةُ فَهلَكَتْ فيمَنْ هَلَكَ وكانَ الّذِي يَتَكَلّمُ فِيهِ مِسْطَحٌ وحَسّانُ بنُ ثَابِتٍ والمُنَافِقُ عَبْدُ الله بنُ أُبيّ بن سلول وهو الذي كانَ يَسْتَوْشِيهِ وَيَجمَعُهُ وهُوَ الّذِي تَوَلّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ هو
ـــــــ
صلى الله عليه وسلم عني "قالت أقول ماذا" قال ابن مالك فيه شاهد على أن ما الاستفهامية إذا ركبت مع ذا لا يجب تصديرها فيعمل فيها ما قبلها رفعاً ونصباً "إني لم أفعل" أي ما قيل في شأني "والله يشهد إني لصادقة" في ما أقول من براءتي "ما ذاك بنافعي" بالإضافة إلى ياء المتكلم، وفي بعض النسخ بنافع بغير الإضافة وهو الظاهر "لقد تكلمتم" وفي رواية البخاري: لقد تكلمتم به أي بالإفك "وأشربت" على صيغة المجهول وفي رواية البخاري: وأشربته، قال القسطلاني الضمير المنصوب يرجع إلى الإفك "قلوبكم" مرفوع بأشربت "قد باءت" أي أقرت واعترفت بها "أى بقصة الإفك" وفي بعض النسخ به أي بأمر الإفك "والتمست" من الالتماس أي طلبت "اسم يعقوب" عليه السلام حين قال: {فَصَبْرٌ جَمِيلٌ} أي هو أجمل وهو الذي لا شكوى فيه إلى الخلق {عَلَى مَا تَصِفُونَ} أي على احتمال ما تصفونه "وإن لأتبين السرور" أي أعرفه "وهو يمسح جبينه" أي من العرق "وأبشري" بقطع الهمزة "قل أنزل الله براءتك" وفي رواية فليح عند البخاري في الشهادات: "يا عائشة أحمدي الله فقد برأك الله" "فكنت أشد" بالنصب خبر كان "ما كنت غضباً أي فكنت حين أخبر صلى الله عليه وسلم ببراءتي أقوى ما كنت غضباً" من غضبي قبل ذلك "أما زينب ابنة جحش" أم المؤمنين "فعصمها الله" أي حفظها ومنعها "بدينها" أي المحافظة على دينها ومجانبة ما تخشى سوء عاقبته "فلم تقل" أي في "فهلكت فيمن هلك" أي حدت فيمن حد: أو أثمت مع من أثم لخوضها في حديث الإفك لتخفض(9/35)
وحَمْنَةُ. قَالتْ فَحَلَفَ أَبُو بَكْرٍ أنْ لاَ يَنْفَعَ مِسْطَحاً بِنَافِعَةٍ أَبَداً، فأَنْزَلَ الله تَعالَى هَذِهِ الآية {وَلاَ يَأْتَلِ أُولُوا الفَضْلِ مِنْكُمْ والسّعَةِ} إلى آخر الآية يَعْنِيَ أَبَا بَكْرٍ {أَنْ يُؤتُوا أُولِي القُرْبَى والمَسَاكِينَ والمُهَاجِرينَ في سَبِيلِ الله} يَعْنِي مِسْطَحاً إلى قَوْلِهِ {أَلاَ تُحِبّونَ أَنْ يَغْفِرَ الله لَكُمْ والله غَفُورٌ رَحيمٌ} قَالَ أَبُو بَكْرٍ: بَلَى وَالله يَا رَبّنَا إنّا لنُحِبّ أَنْ تَغْفِرَ لَنَا وعَادَ لَهُ بمَا كانَ يَصْنَعُ" . هَذا حديثٌ حَسَنٌ صحيحٌ غَرِيبٌ مِنْ حَديثَ هِشَامِ بنِ عُرْوَةَ. وَقَدْ رَوَاه يُونُسُ بنُ يَزِيدَ ومَعْمَرٌ وغَيْرُ وَاحدٍ عَن الزّهْرِيّ عَنْ عُرْوَةَ بنِ الزّبَيْرِ وَسعيدِ بنِ المسَيّبِ وَعَلْقَمَةَ بنِ وَقّاصٍ اللّيْثِيّ وعُبَيْدِ الله بنِ عَبْدِ الله عَنْ عَائِشَةَ هَذَا الحَدِيثَ أَطْوَلَ مِنْ حديثِ هِشَامِ بنِ عُرْوَةَ وَأَتَمّ.
ـــــــ
منزلة عائشة وترفع منزلة أختها زينب "وكان الذي يتكلم فيه" أي الإفك "وكان يستوشيه" أي يستخرج الحديث بالبحث عنه ثم يفتشه ويشيعه، ولا يدعه يخمد "وهو الذي تولى كبره" أي تحمل معظمه فبدأ بالخوض فيه "ينافق أبداً" أي بعد الذي قال عن عائشة {وَلا يَأْتَلِ} أي لا يحلف من الألية وهي القسم { أُولُو الْفَضْلِ مِنْكُمْ} أي في الدين وهو أبو بكر {وَالسَّعَةِ} يعني في المال {أَنْ يُؤْتُوا} ألا يؤتوا {أُولِي الْقُرْبَى وَالْمَسَاكِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ} صفات لموصوف واحد وهو مسطح لأنه كان مسكيناً مهاجراً بدرياً {وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا} أي عن خوض مسطح في أمر عائشة {أَلا تُحِبُّونَ} خطاب لأبي بكر {أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ} على عفوكم وصفحكم وإحسانكم إلى من أساء إليكم {وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} فتخلقوا بأخلاقه تعالى "قال أبو بكر" أي لما قرأ عليه النبي صلى الله عليه وسلم هذه الآية "وعاد" أي أبو بكر "له" أي لمسطح "لما كان يصنع" أي إلى مسطح من الإنفاق عليه. قوله "هذا حديث حسن(9/36)
3231 ـ حدثنا بندار، أخبرنا ابنُ أَبي عَدِيّ عَن مُحَمّدِ بنِ اسْحَاقَ عَن عبْد الله بنِ أَبي بَكْرٍ عَن عَمْرَةَ عَن عائِشَةَ قَالَتْ: "لَمّا نَزَلَ عُذْرِي قَامَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم عَلَى المِنْبَرِ فَذَكَرَ ذَلِك وَتَلاَ القُرآنَ فَلَمّا نَزَلَ أَمَرَ برَجُلَيْنِ وَامْرَأَةٍ فَضُرِبُوا حَدّهُمْ" . هذَا حديثٌ حسنٌ غريبٌ لاَ نَعْرِفُهُ إلاّ مِنْ حديثِ مُحَمّدِ بنِ إِسْحَاقَ
ـــــــ
صحيح غريب" وأخرجه أحمد والبخاري معلقاً وأخرجه مسلم مختصراً "وقد روى يونس بن يزيد ومعمر وغير واحد عن الزهري عن عروة بن الزبير إلخ" أخرجه أحمد والبخاري ومسلم والنسائي.
قوله "عن عبد الله بن أبي بكر" بن محمد بن عمرو بن حزم الأنصاري قوله "لما نزل عذرى" أي الآيات الدالة على براءتها شبهتها بالعذر الذي يبرئ المعذور من الجرم "قام رسول الله صلى الله عليه وسلم" أي خطيباً "فذكر ذلك" أي عذرى "وتلا القرآن" تعني قوله تعالى {إِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالْأِفْكِ} إلى آخر الآيات "فلما نزل" أي رسول الله صلى الله عليه وسلم من المنبر "أمر برجلين" أي بحدهما أو بإحضارهما وهما حسان بن ثابت ومسطح بن أثاثة "وامرأة" بالجر عطف على رجلين وهي حمنة بنت جحش "فضربوا" مبنى للمفعول "حدهم" أي حد القاذفين هو مفعول مطلق أي فحدوا حدهم.
اعلم أنه لم يذكر عبد الله بن أبي فيمن أقيم عليه الحد في هذا الحديث وكذا لم يذكر في حديث أبي هريرة عند البزار، وبنى على ذلك صاحب الهدى فأبدى الحكمة في ترك الحد على عبد الله بن أبي وفاته أنه ورد أنه ذكر أيضاً فيمن أقيم عليه الحد، ووقع ذلك في رواية أبي أويس وعن حسن بن زيد عن عبد الله بن أبي بكر. أخرجه الحاكم في الإكليل، وفيه رد على الماوردي حيث صحح أنه لم يحدهم مستنداً إلى أن الحد لا يثبت إلا ببينة أو إقرار ثم قال وقيل إنه حدهم وما ضعفه هو الصحيح المعتمد قاله الحافظ في الفتح. قوله "هذا حديث حسن غريب" وأخرجه أحمد وأبو داود والنسائي وابن ماجه.(9/37)
ومن سورة الفرقان
بسم الله الرحمن الرحيم
3232 ـ حدثنا بندار، أخبرنا عَبْدُ الرّحْمَنِ بن مَهْدِيّ، أخبرنا سُفْيَانُ عن وَاصِلٍ عَن أَبي وَائِلٍ عَن عَمْرو بنِ شُرَحْبِيلَ عَن عَبْدِ الله قَال: "قُلْتُ يَا رَسُولَ الله أَيّ الذّنْبِ أَعْظَمُ؟ قَالَ: أَنْ تَجْعَلَ لله نِدّا وَهُو خَلَقَكَ. قَالَ: قُلْتُ ثُمّ مَاذَا؟ قَالَ: أَنْ تَقْتُلَ وَلَدَكَ خَشْيَةَ أَنْ يَطْعَمَ مَعَكَ، قَالَ قُلْتُ ثُمّ مَاذَا؟ قَالَ: أَنْ تَزْنِيَ بِحَلِيلَةِ جَارِكَ" . هَذا حديثٌ حَسَنٌ.
ـــــــ
"ومن سورة الفرقان"
مكية إلا {وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ} إلى {رَحِيماً} فمدني وهي سبع وسبعون آية.
قوله "أخبرنا سفيان" هو الثوري "عن واصل" بن حيان الأحدب الأسدي الكوفي بياع السابري ثقة ثبت من السادسة "عن أبي وائل" هو شقيق ابن سلمة "عن عمرو بن شرحبيل" هو الهمداني "عن عبد الله" هو ابن مسعود قوله "أي الذنب أعظم" وفي رواية البخاري في تفسير سورة الفرقان أي الذنب عند الله أكبر "نداً" بكسر النون وتشديد الدال أي مثلاً ونظيراً "وهو خلقك" الجملة حال من الله أو من فاعل أن تجعل وفيه إشارة إلى ما استحق به تعالى أن تتخذه رباً وتعبده فإنه خلقك أو إلى ما به امتيازه تعالى عن غيره في كونه إلهاً أو إلى ضعف الند أي أن تجعل له نداً وقد خلقك غيره وهو لا يقدر على خلق شيء "أن تقتل ولدك خشية أن يطعم معك" أي من جهة إيثار نفسه عليه عند عدم ما يكفي أو من جهة البخل مع(9/38)
3233 ـ حدثنا بندار، أخبرنا عَبْدُ الرّحْمَنِ، أخبرنا سُفْيَانُ عَن مَنْصُورٍ والأَعْمَشِ عَن أَبي وَائل عَن عَمْرِو بنِ شُرَحْبِيلَ عَن عَبْدِ الله عَن النبيّ صلى الله عليه وسلم بمثلِهِ. هَذا حديثٌ حَسَنٌ صحيحٌ.
3234 ـ حدثنا عَبدُ بنُ حُمَيْدِ أخبرنا سَعِيدُ بنُ الرّبيع أَبُو زَيْدٍ أخبرنا شُعْبَةُ عَن وَاصِلٍ الأَحْدَبِ عَن أَبي وَائِلٍ عَن عَبْدِ الله قَالَ: "سأَلْتُ رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم أَيّ الذّنْبِ أَعْظَمُ؟ قَالَ: أَنْ تَجْعَلَ لله نِدّا وَهُوَ خَلَقَكَ، وَأَنْ تَقْتُل وَلَدَكَ مِنْ أَجْلِ أَنْ يَأَكُلَ مَعَكَ أَوْ مِنْ طَعَامِكَ، وَأَنْ تَزْنيَ بِحليلة جَارِكَ. قَالَ وَتَلاَ هَذِهِ الآية {وَالّذينَ لاَ يَدْعُونَ مَعَ الله إلهَا آخَرَ وَلاَ يَقْتُلُونَ النّفْسَ الّتِي حَرّمَ الله إلاّ بالحَقّ وَلاَ يَزْنُوَنَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَاماً يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ القيامَةِ ويَخْلُدْ فِيهِ مُهَاناً} . حدِيثُ سفيَانَ عَن مَنْصُورٍ والأَعْمَشِ أَصَحّ مِنْ حَدِيثِ
ـــــــ
الوجدان "أن تزني بحليلة جارك" أي بزوجته من حل يحل بالكسر إذ كل منهما حلال للاَخر أو من حل يحل بالضم لأنها تحل معه ويحل معها.
قوله "حدثنا عبد الرحمن" هو ابن مهدي. قوله "هذا حديث حسن صحيح" وأخرجه الشيخان. قوله "قال" أي ابن مسعود "وتلا" أي قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم {وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ} أي لا يقتلون النفس التي هي معصومة في الأصل إلا محقين في قتلها {وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ} أي واحداً من الثلاثة {يَلْقَ أَثَاماً} قيل معناه جزاء إثمه وهو قول الخليل وسيبويه وأبي عمرو الشيباني وغيرهم وقيل معناه عقوبة. قاله يونس وأبو عبيد وقيل معناه جزاء قاله ابن عباس والسدي، وقال أكثر المفسرين أو كثيرون(9/39)
شعْبَةَ عَن وَاصِلٍ لأنّهُ زَادَ في إسْنَادِهِ رَجُلاً.
3235 ـ حدثنا مَحَمّدُ بنُ المَثَنّى، أخبرنا مُحَمّدُ بنُ جَعْفَرٍ عَن شُعْبَةَ عَن وَاصِلٍ عَن أَبي وَائِلٍ، عَن عَبْدِ الله عَن النبيّ صلى الله عليه وسلم نَحْوَهُ. قال: وهَكذَا رَوَى شُعْبَةُ عَن وَاصِلٍ عَن أَبي وَائِلٍ عَن عَبْدِ الله وَلَمْ يَذْكُر فيه عَمْرِو بنِ شُرَحْبِيل.
ـــــــ
منهم: هو واد في جهنم عافانا الله منها قاله النووي {يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ} أي يكرر عليه ويغلظ {وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَاناً} حال أي حقيراً ذليلاً، وفي رواية البخاري ونزلت هذه الآية تصديقاً لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال الحافظ هكذا قال ابن مسعود: والقتل والزنا في الآية مطلقان وفي الحديث مقيدان أما القتل فبالولد خشية الأكل معه وأما الزنا فبزوجة الجار والاستدلال لذلك بالآية سائغ لأنها وإن وردت في مطلق الزنا والقتل لكن قتل هذا والزنا بهذه أكبر وأفحش. قوله "لأنه زاد" أي سفيان وهو أحفظ من شعبة "رجلاً" وهو عمرو بن شرحبيل وأما شعبة فأسقطه ولكن لم يتفرد شعبة بالإسقاط بل تابعه على ذلك غيره كما يظهر من كلام الحافظ في شرح هذا الحديث في تفسير سورة الفرقان.(9/40)
سورة الشعراء
بسم الله الرحمن الرحيم
3236 ـ حدثنا أَبُو الأَشْعَثِ أَحْمَدُ بنُ الْمِقدَامِ العجِليّ، أخبرنا مُحَمّد بنُ عَبْدِ الرحْمَنِ الطّفَاوِيّ، حدثنا هِشَامُ بنُ عُرْوَةَ عَن أَبِيهِ عَن عَائِشَةَ
ـــــــ
"سورة الشعراء"
مكية إلا "والشعراء.." إلى آخرها. فمدني، وهي مائتان وسبع وعشرون آية(9/40)
قالت "لَمّا نَزَلَتْ هَذِهِ الآية {وَأَنْذرِ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبينَ} قَالَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم: يا صَفِيّةُ بِنْتَ عَبْدِ المُطّلِبِ. يا فَاطِمَةُ بِنْتَ مُحَمّدٍ. يا بَنِي عَبْدِ المُطّلِبِ إنّي لاَ أَمْلِكُ لَكُمْ مِنَ الله شَيْئاً سَلُونِي مِنْ مَالِي مَا شِئْتُم" . هَذا حديثٌ حَسَنٌ صحيحٌ وهَكَذَا رَوَى وَكِيعُ وَغيرُ واحدٍ هَذَا الحدِيثَ عَن هِشَامِ بنِ عُرْوَةَ عَن أَبيهِ عَن عَائِشةَ نَحْوَ حَدِيث محمدِ بنِ عَبْدِ الرحْمَنِ الطّفَاوِي. وَرَوَى بَعْضُهُم عَن هِشَامِ بن عُرْوَةَ عَن أَبيهِ عَن النبيّ صلى الله عليه وسلم مُرْسلاً ولَمْ يَذْكرْ فِيهِ عَن عَائِشَةَ. وفي البابِ عَن عَلِيّ وابنِ عَبّاسٍ.
3237 ـ حدثنا عَبْدُ بنُ حُمَيْدٍ، قَالَ أخبرني زَكَرِيّا بنُ عَدِيّ أخبرنا عُبَيْدُ الله بنُ عَمْرٍو الرّقّيّ عَن عَبْدِ المَلِكِ بن عُمَيْرٍ عَن مُوسَى بنِ طَلْحَةَ عَن أَبي هُرَيْرَةَ قَالَ: "لَمّا نَزَلت {وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبينَ}
ـــــــ
قوله "إني لا أملك لكم من الله شيئاً" أي لا تتكلوا على قرابتي فإني لا أقدر على دفع مكروه يريده الله تعالى بكم، وسبق هذا الحديث في باب إنذار النبي صلى الله عليه وسلم قومه من كتاب الزهد. قوله "هذا حديث حسن صحيح" وأخرجه أحمد ومسلم. قوله "وفي الباب عن علي وابن عباس" أما حديث علي فأخرجه أحمد، وأما حديث ابن عباس فأخرجه والبخاري ومسلم والترمذي في تفسير سورة {تبت...} والنسائي.
قوله "جمع رسول الله صلى الله عليه وسلم قريشاً" أي قبائله زاد مسلم فاجتمعوا "فخص وعم" أي في النداء فقال: "يا معشر قريش" إلخ هذا بيان لقوله خص وعم "أنقذوا أنفسكم" من الإنقاذ أي خلصوها "فإني لا أملك لكم" أي لجميعكم خاصكم وعامكم "يا فاطمة بنت محمد" يجوز نصب فاطمة(9/41)
جَمَعَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم قرَيْشاً فَخَصّ وَعَمّ فَقَالَ يَا مَعْشرَ قُرَيْشٍ أَنْقِذُوا أَنْفُسَكُمْ مِنَ النّارِ فَإِنّي لاَ أَملِكُ لَكُمْ مِنَ الله ضَرّا وَلاَ نَفْعاً. يَا مَعْشَرَ بَنِي عَبْدِ مَنَافٍ أَنْقِذُوا أَنْفُسَكُمْ مِنَ النّارِ فَإِنّي لاَ أَمْلِكُ لَكُمْ مِنَ الله ضَرّا ولاَ نَفْعاً. يَا مَعْشَرَ بَنِي قُصَيّ أَنْقِذُوا أَنْفُسَكُمْ مِنَ النّارِ فإني لاَ أَملِكُ لَكُمْ ضَرّا وَلاَ نَفْعاً، يَا مَعْشَرَ بَنِي عَبْدِ المُطّلِبِ أَنْقِذُوا أَنْفُسَكُمْ مِنَ النّارِ فَإِنّي لاَ أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرّا وَلاَ نَفْعاً، يَا فَاطِمَةُ بِنْتَ مُحَمّدٍ أَنْقِذِي نَفْسَكِ مِنَ النّارِ فَإِنّي لاَ أَمْلِكُ لَكِ ضَرّا وَلاَ نَفْعاً. إنّ لَكِ رَحِماً وسَأبُلّها بِبَلاَلهَا" . هَذا حديثٌ حَسَنٌ صحيحٌ غَرِيبٌ مِنْ هَذَا الوَجْهِ.
ـــــــ
وضمها والنصب أفصح وأشهر وأما بنت فمنصوب لا غير وهذا وإن كان ظاهراً معروفاً فلا بأس بالتنبيه عليه لمن لا يحفظه "فإن لا أملك لك ضراً ولا نفعاً" أي من غير إذنه تعالى، قال ترهيباً وإنذاراً وإلا فقد ثبت فضل بعض هؤلاء المذكورين ودخولهم الجنة وشفاعته صلى الله عليه وسلم لأهل بيته وللعرب عموماً ولأمته عامة وقبول شفاعته فيهم بالأحاديث الصحيحة، ويمكن أن يكون ورود تلك الأحاديث بعد هذه القضية. قاله الطيي "إن لك رحما" أي قرابة "وسأبلها" أي سأصلها "ببلالها" بفتح الموحدة وكسرها أي بصلتها وبالإحسان إليها من بله يبله، والبلال الماء شبهت قطيعة الرحم بالحرارة ووصلها بإطفاء الحرارة ببرودة ومنه: بلوا أرحامكم أي صلوها قاله النووي وقاله في النهاية: البلال جمع البلل والعرب يطلقون النداوة على الصلة كما يطلق اليبس على القطيعة، لأنهم لما رأوا أن بعض الأشياء يتصل بالنداوة ويحصل بينها التجافي والتفريق باليبس استعاروا البلل لمعنى الوصل واليبس لمعنى القطيعة، والمعنى أصلكم في الدنيا ولا أغني عنكم من الله شيئاً. قوله "هذا حديث حسن(9/42)
3238 ـ حدثنا عَلِيّ بنُ حُجْر أخبرنا شعَيْبُ بنُ صَفْوانَ عَنْ عَبْدِ المَلِكِ بنِ عُمَيْرٍ عَن مُوسَى بنِ طَلْحَةَ عَن أَبي هُرَيْرَةَ عَن النبيّ صلى الله عليه وسلم نحوه بمَعْنَاهُ.
3239 ـ حدثنا عَبْدُ الله بنُ أبي زِيَادٍ، أخبرنا أَبُو زَيْدٍ عَن عَوْفٍ عَن قَسَامَةَ بنِ زُهَيْرٍ قَالَ: حدثني الأَشْعَرِيّ قَالَ: "لَمّا نَزَلَ {وَأَنْذِرْ عَشِيرتكَ الأَقْرَبينَ} وَضَعَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم إصْبَعَيْهِ في أُذُنَيْهِ فَرَفَعَ صَوْتَهُ فَقَالَ: يَا بَنِي عَبْدِ مَنَافٍ يا صَبَاحَاهُ" . هذَا حَدِيثٌ غَرِيبٌ مِنْ هَذَا الوَجْهِ مِن حَدِيثِ أَبي مُوسى وقَدْ رَوَاهُ بَعْضُهُمْ عَن عَوْفٍ عَن قَسَامَةَ بنِ زُهَيْرٍ عَن النبيّ صلى الله عليه وسلم مُرْسَلاً وهُوَ أَصَحّ وَلَمْ يَذْكُرْ فِيهِ عَن أَبي مُوسَى.
ـــــــ
غريب" وأخرجه أحمد ومسلم ورواه النسائي من حديث موسى بن طلحة مرسلاً ولم يذكر فيه أبا هريرة والموصول هو الصحيح وأخرجاه في الصحيحين من حديث الزهري عن سعيد بن المسيب وأبي سلمة بن عبد الرحمن عن أبي هريرة قاله الحافظ ابن كثير في تفسيره.
قوله "أخبرنا شعيب بن صفوان" بن الربيع الثقفي أبو يحيى الكوفي الكاتب مقبول من السابعة. قوله "بمعناه" أي بمعنى الحديث المذكور.
قوله "حدثنا عبد الله بن أبي زياد" القطواني "أخبرنا أبو زيد" اسمه سعيد بن أوس بن ثابت الأنصاري النحوي البصري صدوق له أوهام ورمى بالقدر من التاسعة "عن عوف" هو ابن أبي جميلة الأعرابي "حدثني الأشعري" هو أبو موسى. قوله "يا صباحاه" كلمة يعتادونها عند وقوع أمر عظيم فيقولونها ليجتمعوا ويتأهبوا له. قوله "هذا حديث غريب إلخ" وأخرجه ابن جرير الطبري أيضاً موصولاً ومرسلاً.(9/43)
سورة النمل
بسم الله الرحمن الرحيم
3240 ـ حدثنا عَبْدُ بنُ حُمَيْدٍ حدثنا رَوْحُ بنُ عُبَادَةَ عَن حَمّادِ بنِ سَلَمَةَ عَن عَلِيّ بنِ زَيْدٍ عَن أَوْسِ بنِ خَالِدٍ عَن أَبي هُرَيْرَةَ أَنّ رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم قَالَ "تَخْرُجُ الدّابّةُ مَعَهَا خَاتَمُ سُلَيْمان وعَصَا مُوسَى فتجلُو وَجْهَ المُؤْمِنِ وتَخْتِمُ أَنْفَ الكافِرِ بالخَاتَم حَتّى إنّ أَهْلَ الخُوَانِ لَيَجْتَمِعُونَ فَيَقُولُ هذا يَا مُؤْمِنُ، ويَقُولُ هَذا يَا كَافِرُ". هَذا حديثٌ حَسَنٌ غريبٌ وقَد رُوِيَ هَذَا الحديثُ عن أبي هُرَيْرَةَ عَن النبيّ صلى الله عليه وسلم مِنْ غَيْرِ هَذَا الوَجْهِ في دَابّةِ الأرْضِ. وفي البابِ عَن أَبي أُمَامَةَ وحذَيْفَةَ بنِ أُسَيْدٍ.
ـــــــ
"سورة النمل"
مكية وهي ثلاث أو أربع أو خمس وتسعون آية
قوله "تخرج الدابة" قيل من مكة وقيل من غيرها "فتجلو وجه المؤمن" أي تصقله وتبيضه، وفي رواية ابن ماجه فتجلو وجه المؤمن بالعصا "حتى إن أهل الخوان" بضم الخاء وكسرها قال الجزرى هو ما يوضع عليه الطعام عند الأكل ومنه حديث الدابة: "حتى إن أهل الخوان ليجتمعون فيقول هذا يا مؤمن وهذا يا كافر" ، وجاء في رواية الإخوان بهمزة وهي لغة فية انتهى "فيقول هذا" أي بعضهم لاَخر "يا مؤمن" أي لجلاء وجهه واستنارته "ويقول هذا يا كافر" أي للختم على أنفه. قوله "هذا حديث حسن" أخرجه أحمد وابن ماجه وأبو داود الطيالسي. قوله "وفي الباب عن أبي أمامة وحذيفة بن أسيد"(9/44)
ـــــــ
أما حديث أبي أمامة فأخرجه أحمد وابن مردويه عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "تخرج الدابة فتسم على خراطيمهم ثم يعمرون فيكم حتى يشتري الرجل الدابة فيقال له ممن اشتريتها فيقول من الرجل المخطم" . وأما حديث حذيفة بن أسيد فأخرجه الترمذي في باب الخسف من كتبا الفتن.
اعلم أن الترمذي أورد هذا الحديث في تفسير قوله تعالى {وَإِذَا وَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ أَخْرَجْنَا لَهُمْ دَابَّةً} إلخ وهذه الآية مع تفسيرها هكذا {وَإِذَا وَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ} يعني إذا وجب عليهم العذاب. وقيل إذا غضب الله عليهم وقيل إذا وجبت الحجة عليهم وذلك أنهم لم يأمروا بالمعروف ولم ينهوا عن المنكر وقيل المراد من القول متعلقه وهو ما وعدوا به من قيام الساعة ووقوعه حصوله، والمراد مشارفة الساعة وظهور أشرطها {أَخْرَجْنَا لَهُمْ دَابَّةً مِنَ الْأَرْضِ} قال الرازي في تفسيره: تكلم الناس في الدابة من وجوه: أحدها في مقدار جسمها وفي الحديث أن طولها ستون ذراعاً وروي أيضاً أن رأسها تبلغ السحاب، وعن أبي هريرة ما بين قرنيها فرسخ للراكب. وثانيها ـ في كيفية خلقتها، فروي لها أربع قوائم وزغب وريش وجناحان، وعن ابن جريج في وصفها رأس ثور وعين خنزير وأذن فيل وقرن أيل وصدر أسد ولون نمر وخاصرة بقر وذنب كبش وخف بعير. وثالثها ـ في كيفية خروجها عن علي عليه السلام أنها تخرج ثلاثة أيام والناس ينظرون فلا يخرج إلا ثلثها. وعن الحسن لا يتم خروجها إلا بعد ثلاثة أيام. ورابعها ـ في موضع خروجها سئل النبي صلى الله عليه وسلم من أين تخرج الدابة فقال "من أعظم المساجد حرمة على الله تعالى المسجد الحرام" . وقيل تخرج من الصفاء فتكلمهم بالعربية. وخامسها ـ في عدد خروجها فروي أنها تخرج ثلاث مرات تخرج بأقصى اليمن ثم تكمن ثم تخرج بالبادية ثم تكمن دهراً طويلاً فبين الناس في أعظم المساجد حرمة وأكرمها على الله فما يهولهم إلا خروجها من بين الركن حذاء دار بني مخزوم عن يمين الخارج من المسجد فقوم يهربون وقوم يقفون. واعلم أنه لا دلالة في الكتاب على شيء من هذه الأمور فإن صح الخبر فيه عن الرسول صلى الله عليه وسلم قبل وإلا لم يلتفت إليه انتهى. تكلمهم أي تكلم الموجودين ببطلان الأديان سوى دين الإسلام وقيل تكلمهم بما(9/45)
سورة القصص
بسم الله الرحمن الرحيم
3241 ـ حدثنا محمد بن بشار أخبرنا يَحْيَى بنُ سَعِيدٍ عَن يَزِيدَ بنِ كَيْسَان قال حدثني أَبُو حَازِمٍ الأشجعي هو كوفيّ اسمه سليمان مولى عزة الأشجعية عَن أَبي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ قَالَ رَسُولُ الله
ـــــــ
يسوءهم، وقيل تكلمهم بالعربية بقوله تعالى الاَتي {أَنَّ النَّاسَ كَانُوا بِآياتِنَا لا يُوقِنُونَ} قاله ابن عباس أي بخروجها لأن خروجها من الآيات وقال ابن عباس أيضاً تكلمهم تحدثهم قرأ الجمهور تكلمهم من التكليم وتدل عليه قراءة أبي تنبئهم وقرئ بفتح الفوقية وسكون الكاف من الكلم وهو الجرح قال عكرمة أي تسمهم وسماً {أن الناس كانوا بآياتنا لا يوقنون} بكسر إن على الاستئناف وقرئ بفتحها قال الأخش: المعنى على الفتح بأن الناس. وبها قرأ ابن مسعود قال أبو عبيدة: أي تخبرهم أن الناس إلخ وعلى هذه فالذي تكلم الناس به هو قوله إن الناس إلخ وأما على الكسر فالجملة مستأنفة كما قدمنا ولا يكون من كلام الدابة وقد صرح بذلك جماعة من المفسرين. وقال الأخفش إن كسر إن هو على تقدير القول أي تقول لهم إن الناس فيرجع معنى القراءة الأولى على هذا إلى معنى الثانية والمراد بالناس في الآية هم الناس على العموم فيدخل في ذلك كل مكلف، وقيل المراد الكفار خاصة، وقيل كفار مكة، والأول أولى كما صنع جمهور المفسرين والمعنى لا يؤمنون بالقرآن المشتمل على البعث والحساب والعقاب.
"سورة القصص"
مكية إلا {إِنَّ الَّذِي فَرَضَ} الآية نزلت بالجحفة وإلا {الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ} إلى {لا نَبْتَغِي الْجَاهِلِينَ} وهي سبع أو ثمان وثمانون آية
قوله "أخبرنا يحيى بن سعيد" هو القطان. قوله "لعمه" هو أبو طالب "أشهد" بالجزم على أنه جواب قل وبالرفع على أنه خبر لمبتدأ محذوف، وفي رواية سعيد بن المسيب عن أبيه عند الشيخين فقال "أي عم قل لا إله إلا الله(9/46)
صلى الله عليه وسلم لِعَمّهِ: "قُلْ لاَ إلَهَ إلاّ الله أَشْهَدُ لَكَ بِهَا يَوْمَ القيامةِ، فقَالَ لَوْلاَ أَنْ تعَيّرَني بِهَا قُرَيش إنّ مَا يَحْمِلُهُ عَلَيْهِ الجَزَعُ لأَقْرَرْتُ بِهَا عَيْنَكَ فَأَنْزَلَ الله عز وجلّ {إنّكَ لاَ تَهْدِيَ مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنّ الله يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ}" . هَذا حديثٌ حَسَنٌ غَرِيبٌ لاَ نَعْرفُهُ إلاّ مِنْ حَدِيثِ يَزِيدَ بنِ كَيْسَانَ.
ـــــــ
كلمة أحاج لك بها عند الله" من المحاجة، وفي رواية مجاهد عند الطبري: "أجادل عنك بها" "أن تعيرني" من التعيير أي ينسبوني إلى العار "إنما يحمله عليه الجزع" بفتح الجيم والزاي هو نقيض الصبر، وفي رواية مسلم يقولون إنما حمله على ذلك الجزع. قال النووي: هكذا هو في جميع الأصول وجميع روايات المحدثين في مسلم وغيره بالجيم والزاي وكذا نقله القاضي عياض وغيره عن جميع روايات المحدثين، وذهب جماعات من أهل اللغة إلى أنه الخرع بالخاء المعجمة والراء المفتوحتين أيضاً وهو الضعف والخور وقيل هو الدهش انتهى مختصراً "لأقررت بها عينك" قال النووي أحسن ما يقال فيه ما قاله أبو العباس قال: معنى أقر الله عينه أي بلغه الله أمنيته حتى يرضى نفسه وتقر عينيه فلا تستشرف لشيء. وقال الأصمعي معناه أبرد الله دمعته لأن دمعة الفرح باردة. وقيل معناه أراه الله ما يسره فأنزل الله: {إِنَّكَ لا تَهْدِي} أجمع المفسرون على أنها نزلت في أبي طالب وهي عامة فإنه لا يهدي ولا يضل إلا الله تعالى {مَنْ أَحْبَبْتَ} أي هدايته وقيل أحببته لقرابته.
اعلم أن حديث أبي هريرة هذا يدل على أن أبا طالب مات على الكفر. وحديث سعيد بن المسيب عن أبيه عند الشيخين صريح في ذلك ففيه: فقال "أي عم قل لا إله إلا الله كلمة أحاج لك بها عند الله" . فقال أبو جهل بن أبي أمية: أترغب عن ملة عبد المطلب؟ فلم يزل رسول الله صلى الله عليه وسلم يعرضها عليه ويعيرانه بتلك المقالة حتى قال أبو طالب آخر ما كلمهم: على ملة عبد المطلب وأبى أن يقول لا إله إلا الله.(9/47)
سورة العنكبوت
بسم الله الرحمن الرحيم
3242 ـ حدثنا مُحَمّدُ بنُ بَشّارٍ و مُحَمّدُ بنُ المُثَنّى قَالاَ: أخبرنا مُحَمّدُ بنُ جَعْفَرٍ، أخبرنا شُعْبَةُ عَنِ سَماكِ بنِ حَرْب قَالَ: سَمِعْتُ مُصْعَبَ بنَ سَعْدٍ يُحَدّثُ
ـــــــ
فإن قلت في رواية ابن إسحاق من طريق العباس بن عبد الله بن معبد عن بعض أهله عن ابن عباس قال فلما تقارب من أبي طالب الموت قال نظر العباس إليه يحرك شفتيه قال فأصغى إليه بأذنه قال فقال يا ابن أخي والله لقد قال أخي الكلمة التي أمرته أن يقولها. قال فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لم أسمع قلت في رواية ابن إسحاق هذه مجهول وهو بعض أهل العباس بن عبد الله بن معبد فهذه الرواية لا تقاوم حديث الصحيحين، ثم تفرد بهذه الرواية ابن إسحاق وما تفرد به لا يقاوم ما في الصحيحين أصلاً. قوله "هذا حديث حسن غريب" وأخرجه أحمد ومسلم والطبري.
"سورة العنكبوت"
مكية وهي تسع وستون آية. قوله "عن أبيه سعد" هو ابن أبي وقاص. قوله "أنزلت في" بتشديد الياء "فذكر قصة" روى مسلم هذا الحديث بذكر القصة في باب فضل سعد بن أبي وقاص من كتاب الفضائل "وقالت أم سعد: أليس قد أمر الله بالبر والله لا أطعم طعاماً ولا شراباً حتى أموت أو تكفر" وفي رواية مسلم: حلفت أم سعد ألا تكلمه أبداً حتى يكفر بدينه ولا تأكل ولا تشرب قالت: زعمت أن الله وصاك بوالديك فأنا أمك وأنا آمرك بهذا، قال مكثت ثلاثاً حتى غشى عليها من الجهد "شجروا فاها" أي فتحوا فمها زاد مسلم بعصا ثم أوجروها. قال النووي أي صبوا فيها الطعام وإنما شجروه بالعصا لئلا تطبقه فيمتنع وصول الطعام جوفها {وَوَصَّيْنَا الْإنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ(9/48)
عَن أَبِيهِ سَعْدٍ قَالَ: "أُنْزِلتْ فِيّ أَرْبَعُ آيَاتٍ فَذَكَرَ قِصّةً فَقَالتْ أُمّ سَعْدٍ أَلَيْسَ قَدْ أَمَرَ الله بالبِرّ. والله لاَ أَطْعَمُ طَعَاماً ولاَ أَشْرَبُ شَرَاباً حَتّى أَمُوتَ أَوْ تَكْفُرَ، قَالَ فَكانُوا إذَا أَرَادُوا أَنْ يُطْعِمُوهَا شَجَرُوا فَاهَا، فَنَزلتْ هَذِه الآية {وَوَصّيْنَا الإنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حُسْناً وإن جَاهَدَاكَ لِتُشْرِكَ بِي} الآيةَ". هَذا حديثٌ حَسَنٌ صحيحٌ.
3243 ـ حدثنا مَحْمُودُ بنُ غَيْلاَنَ، حدثنا أَبُو أُسَامَةَ وعَبْدُ الله بنُ بَكْرٍ السّهْمِيّ عَن حَاتِم بنِ أَبي صَغِيرَةَ عَن سِمَاك بن حرب عَن أَبي صَالحٍ عَن أُمّ هانئ عَن النبيّ صلى الله عليه وسلم في قَوْلِه تعالى: {وتَأْتُونَ في نَادِيكُمْ المُنْكَرَ}
ـــــــ
حُسْناً} أي براً وعطفاً عليهما {وَإِنْ جَاهَدَاكَ لِتُشْرِكَ بِي} الآية {مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ} أي إن طلبا منك وألزماك أن تشرك بي إلهاً ليس لك علم بكونه إلهاً {فَلا تُطِعْهُمَا} أي في الإشراك، وعبر بنفي العلم عن نفي الإله لأن ما لم يعلم صحته لا يجوز اتباعه فكيف بما علم بطلانه، وإذا لم تجز طاعة الأبوين في هذا المطلب مع المجاهدة منهما له فعدم جوازها مع مجرد الطلب بدون مجاهدة منهما أولى، ويلحق بطلب الشرك منهما سائر معاصي الله سبحانه فلا طاعة لهما فيما هو معصية الله {إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ} أي فأخبركم {بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} أي بصالح أعمالكم وسيآتها أي فأجازيكم عليها. قوله "هذا حديث صحيح" وأخرجه أحمد ومسلم وأبو داود والنسائي.
قوله "عن حاتم بن أبي صغيرة" هو أبو يونس البصري وأبو صغيرة اسمه مسلم وهو جده لأمه وقيل زوج أمه ثقة من السادسة. قوله {وَتَأْتُونَ فِي نَادِيكُمُ} النادي والندى والمنتدى مجلس القوم ومتحدثهم ولا يقال للمجلس ناد إلا ما دام فيه أهله {الْمُنْكَرَ} اختلف في المنكر الذي كانوا يأتونه فيه فقيل كانوا يخذفون الناس بالحصباء ويستخفون بالغريب، وقيل كانوا(9/49)
قَالَ: كانُوا يَخْذِفُونَ أَهْلَ الأَرْضِ ويَسْخَرُونَ مِنْهُمْ" . هَذا حديثٌ حَسَنٌ إنّما نَعْرِفُهُ مِنْ حَدِيثَ حَاتِم بنِ أَبي صَغِيرَةَ عَنْ سِمَاكٍ.
ـــــــ
يتضارطون في مجالسهم قالته عائشة، وقيل كانوا يأتون الرجال في مجالسهم وبعضهم يرى بعضاً، وقيل كانوا يلعبون بالحمام، وقيل كانوا يناقرون بين الديكة ويناطحون بين الكباش وقيل يبزق بعضهم على بعض ويلعبون بالنرد والشطرنج ويلبسون المصبغات وكان من أخلاقهم مضغ العلك وتطريف الأصابع بالحناء وحل الإزار والصفير ولا مانع من أنهم كانوا يفعلون جميع هذه المنكرات. ذكره صاحب فتح البيان. قلت يؤيد الاحتمال الأول حديث أم هانئ هذا {كانوا يخذفون} من الخذف بالخاء والذال المعجمتين وهو رميك بحصاه أو نواة أو نحوهما تأخذ بين سبابتيك وهذا تفسير. لإتيانهم المنكر {ويسخرون منهم} عطف على يخذفون. قال في القاموس: سخر منه أي هزئ "قوله "هذا حديث حسن" وأخرجه أحمد وابن جرير وابن أبي حاتم.(9/50)
سورة الروم
بسم الله الرحمن الرحيم
3244 ـ حدثنا نَصْرُ بنُ عَلِيّ الجَهْضَمِيّ، أخبرنا المُعْتَمِرُ بنُ سُلَيْمانَ عَن أبيهِ عَن سُلَيْمانَ الأَعْمَشِ عَن عَطِيّةَ عَن أَبِي سعِيدٍ قَالَ: "لمّا كَانَ يَوْمُ بَدْرٍ ظَهرَتْ الرّومُ على فَارِسَ فأَعْجَبَ ذَلِكَ المُؤْمِنِينَ
ـــــــ
"سورة الروم"
مكية وهي ست أو تسع وخمسون آية
قوله "لما كان يوم بدر ظهرت الروم إلخ" تقدم هذا الحديث مع شرحه في أوائل أبواب القراءات.(9/50)
فَنَزَلتْ {ألم غُلِبَتْ الرّومُ} إِلى قَوْلِه {يَفْرَحُ المؤْمِنُونَ بِنَصْرِ الله} قَالَ فَفَرِحَ المُؤْمِنُونَ بِظُهُورِ الرّومِ عَلَى فَارِسَ . هَذا حديثٌ حَسَنٌ غَرِيبٌ مِنْ هَذا الوَجْهِ كذا قرَأَ نَصْرُ بنُ عَلِيّ غَلَبَتْ الرّومُ.
3245 ـ حدثنا الْحُسَيْنُ بنُ حُرَيثٍ، أخبرنا مُعَاوِيَةُ بنُ عَمْرٍو عَن أَبي إِسْحاقَ الفَزَارِيّ عَن سُفْيانَ الثوري عَن حَبِيبِ بنِ أَبي عَمْرةَ عَن سَعِيدِ بن جُبَيْرٍ عَن ابنِ عَبّاسٍ في قَوْلِه تَعَالى: {ألم غُلِبَتِ الرّومُ في أَدْنَىَ الأَرْضِ} قَالَ غلبَتْ وَغَلبتْ. قَالَ: كَانَ المُشْرِكُونَ يُحِبّونَ أن يَظْهَر أَهْلُ فَارِسَ عَلَى الرّوم لأَنّهمْ وَإِيّاهُمْ أَهْلُ أَوْثَانِ وَكَانَ المُسْلِمُونَ يُحِبونَ أَنْ يَظْهَرَ الرّومُ عَلَى فَارِسَ لأَنّهم أَهْلُ الكِتَابِ، فَذَكَرُوهُ لأَبي بَكْرٍ فَذَكَرَهُ أَبُو بَكْرٍ لِرَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم فقال: "أَمَا إِنّهُمْ سَيَغْلِبُونَ" فَذَكَرَهُ أَبُو بَكْرٍ لَهمْ فَقَالُوا اجْعَلْ بَيْنَنَا وبَيْنَكَ أجَلاً فإِنْ ظَهرنَا كانَ لَنَا كَذَا وكَذَا وَإِنْ ظَهرْتُم كَان لَكُمْ كَذَا وكَذَا فَجَعَلَ أجَلاً خَمْسَ سِنِينَ فَلَمْ يَظْهَروا فَذَكَروا ذَلِكَ لِلنّبي صلى الله عليه وسلم فَقَالَ "ألاَ جَعَلْتَه إِلى دُونِ" قَالَ أُرَاهُ العَشْرَ قَالَ قَالَ سَعِيدٌ وَالبِضْعُ مَا دُونَ
ـــــــ
قوله "عن حبيب بن أبي عمره" القصاب أبي عبد الله الحماني الكوفي ثقة من السادسة قوله "قال" أي ابن عباس "غلبت" بصيغة المجهول أي الروم أولاً "وغلبت" بصيغة المعلوم أي ثم غلبت، وفي رواية ابن جرير فغلب الروم ثم غلبت "أن يظهر" أي يغلب "لأنهم" أي المشركين "فإن ظهرنا كان لنا كذا وكذا" أي من قلائص وفي أثر عبد الله بن مسعود عند ابن جرير قالوا هل لك أن نقامرك فبايعوه على أربع قلائص "ألا جعلته إلى(9/51)
العَشْرِ، قَالَ ثُمّ ظَهَرتِ الرّومُ بَعْدُ، قَالَ فَذَلِكَ. قَوْلُهُ تعالى {ألم غُلِبَتِ الرّومِ} إلى قَوْلِهِ {وَيَوْمَئذٍ يَفْرَحُ المُؤْمِنُونَ بِنَصْرِ الله} . قَالَ سفيانُ سَمِعْتُ أَنّهُمْ ظَهَرُوا عَلَيْهِمْ يَوْمَ بَدْرٍ. هَذا حديثٌ حَسَنٌ صحيحٌ غَرِيبٌ إنّمَا نَعْرِفُهُ مِنْ حَدِيثِ سُفيانَ الثّوْرِيّ عَن حَبِيبِ بنِ أبِي عَمْرَةَ.
أخبرنا أبُو مُوسَى مُحَمّدُ بنُ المُثَنّى، أخبرنا مُحَمّدُ بنُ خَالِدِ بنِ عَثْمَةَ حدثني عَبْدُ الله بنُ عَبْدِ الرّحْمَنِ الجُمَحِيّ، حدثني ابنُ شِهَابٍ الزّهْرِيّ عَن عُبَيْدِ الله بنِ عَبْدِ الله بنِ عُتْبَةَ عَن ابنَ عَبّاسٍ أنّ رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم قَالَ لأَبِي بَكْرٍ في مُنَاحَبَةٍ: " {ألم غُلِبَتْ الرّومُ} أَلاّ احْتَطْتَ يا أبا بَكْرٍ فَإِنّ البِضْعَ مَا بَيْنَ ثَلاَث إلى تِسع" . هذَا حَدِيثٌ غَرِيبٌ حَسَنٌ مِنْ هَذَا الوَجْهِ مِنْ حَدِيثِ الزّهْرِيّ عَن عُبَيْدِ الله عَن ابنِ عَبّاسٍ.
3246 ـ حدثنا مُحَمّدُ بنُ إِسْمَاعِيلُ أخبرنا اسْمَاعيلُ بنُ أبِي أُوَيْسٍ حدثني
ـــــــ
دون" قال أراه "العشر" وفي رواية ابن جريرة "أفلا جعلته إلى دون العشر" . قوله "هذا حديث حسن صحيح" وأخرجه أحمد والنسائي وابن جرير.
قوله "حدثني عبد الله بن عبد الرحمن الجمحي" أبو سعيد المدني قال عثمان الدارمي قلت لابن معين كيف هو؟ فقال لا أعرفه. وذكره ابن حبان في الثقات، وقال ابن عدي مجهول. كذا في تهذيب التهذيب. قوله: "قال لأبي بكر في مناحبة {ألم غُلِبَتِ الرُّومُ} " المناحبة المراهنة "ألا" بفتح الهمزة وشدة اللام حرف التحضيض "احتطت" من الاحتياط وفي رواية ابن جرير لما نزلت {ألم غُلِبَتِ الرُّومُ فِي أَدْنَى الْأَرْضِ} الآية ناحب أبو بكر قريشاً ثم أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال له: إني قد ناحبتهم فقال له النبي صلى الله عليه وسلم هلا احتطت. قوله "هذا حديث غريب حسن" وأخرجه ابن جرير.(9/52)
ابنُ أبِي الزّنَادِ عَنْ أَبِي الزّنَادِ عَن عُروْةَ بنِ الزّبَيْرِ عَن نِيَارِ بنِ مُكْرَمٍ الأَسْلَميّ قَالَ "لَمّا نَزَلت {ألم غُلِبتِ الرّومُ في أدْنَى الأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيغْلِبُونَ في بِضْعِ سِنِينَ} فَكانَتْ فَارِسُ يَوْمَ نَزَلتْ هَذِهِ الآية قَاهِرينَ للرّومِ وكانَ المُسْلِمُونَ يُحبّونَ ظُهُورَ الرّومِ عَلَيْهمْ لأَنّهُمْ وإيّاهُمْ أَهْلُ كِتَابٍ وفي ذَلِكَ قَوْلُ الله تَعَالَى {وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ المُؤْمِنُونَ بِنَصْرِ الله يَنْصُرُ مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ العَزِيزُ الرّحِيمُ} وكَانتْ قُرَيْشٌ تُحِبّ ظُهورَ فَارِسَ لأَنّهُمْ وإيّاهُمْ لَيْسُوا بأَهْلِ كِتَابٍ وَلاَ إيمَانٍ بِبَعْثٍ، فَلَمّا أَنْزَلَ تَعَالَى الله هَذِهِ الآية خَرَجَ أبُو بَكْرٍ الصّدّيقُ رضي الله عنه يَصِيحُ في نَوَاحِي مَكّةَ {الم غُلِبتِ الرّومُ في أدْنَى الأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيغْلِبُونَ في بِضْعِ سِنِينَ} قَالَ نَاسٌ مِنْ قُرَيْشٍ لأَبِي بَكْرٍ فَذَلِكَ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ زَعَمَ صَاحِبُكم أنّ الرّومَ سَتَغْلِبُ فَارِسَ فِي بِضْعِ سِنينَ أفَلاَ نُرَاهِنُكَ عَلَى ذَلِكَ قَالَ بَلَى، وَذَلِكَ قبْلَ تَحْرِيم الرّهَانِ فَارْتَهَنَ أبُو بَكْرٍ والمُشْركُونَ وَتَواضَعُوا الرّهَانَ وقَالُوا لأَبِي بَكْرٍ كَمْ تَجْعَلُ البِضْعَ ثَلاَثَ سِنينَ إلى
ـــــــ
قوله "حدثنا محمد بن إسماعيل" لم يتعين لي أنه هو الإمام البخاري أو هو محمد بن إسماعيل السلمي أبو إسماعيل الترمذي فإنهما من شيوخ أبي عيسى الترمذي ومن أصحاب إسماعيل بن أبي أويس "عن نيار" بكسر النون وتخفيف التحتانية "بن مكرم" بضم أوله وسكون ثانيه وفتح ثالثه صحابي عاش إلى أول خلافة معاوية وأنكر ابن سعد أن يكون سمع من النبي صلى الله عليه وسلم فذكره في الطبقة الأولى من أهل المدينة وقال سمع من أبي بكر وكان ثقة قليل الحديث. قوله "يصيح في نواحي مكة" أي ينادي فيها من الصياح وهو الصوت بأقصى الطاقة "زعم صاحبك" يعنون رسول الله صلى الله عليه(9/53)
تِسْعِ سِنينَ فَسَمّ بَيْنَنَا وَبَيْنَكَ وَسَطاً تَنتَهِي إليهِ. قَالَ فَسَمّوا بَيْنَهُمْ سِتّ سِنينَ، قَالَ فَمَضَت السّتّ سِنِينَ قبْلَ أنْ يَظْهَرُوا فأَخَذَ المُشْركُونَ رَهْنَ أبِي بَكْرٍ، فَلَمّا دَخَلت السّنَةُ السّابِعَةُ ظَهَرتِ الرّومُ عَلَى فَارِسَ فعَابَ المُسْلِمُونَ عَلَى أبِي بَكْرٍ تَسْمِيَةَ سِتّ سِنِينَ قَالَ لأَنّ الله تعالى قَالَ في بِضْعِ سِنِينَ، قَالَ وَأسْلَمَ عِنْدَ ذَلِكَ نَاسٌ كَثِيرٌ" . هَذا حديثٌ حَسَنٌ صحيحٌ غَريبٌ لا نَعْرِفُهُ إلاّ مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ الرْحمَنِ بنِ أبي الزّنَادِ.
ـــــــ
وسلم "وتواضعوا الرهان" أي تواطأوا عليه. قوله "هذا حديث صحيح غريب" قال الحافظ ابن كثير بعد ذكر هذا الحديث: وقد روى نحو هذا مرسلاً عن جماعة من التابعين مثل عكرمة والشعبي ومجاهد وقتادة والسدي والزهري وغيرهم انتهى. قلت: أخرج بن جرير في تفسيره رواية عكرمة والشعبي ومجاهد وقتادة رحمهم الله تعالى.(9/54)
سورة لقمان
بسم الله الرحمن الرحيم
3247 ـ حدثنا قُتَيْبَةُ أخبرنا بَكْرُ بنُ مُضَرَ عَن عُبَيْدِ الله بنِ زحر عَن عَلِيّ بن يَزِيدَ عَن القَاسِمِ أبي عَبْدِ الرّحمَن عَن أَبِي أُمَامَةَ عَن رَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم قَالَ "لا تَبِيعُوا القَيْنَاتِ ولاَ تَشْتَرُوهُنّ ولاَ
ـــــــ
سورة لقمان
مكية إلا {وَلَوْ أَنَّمَا فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلامٌ} الآيتين فمدنيتان وهي أربع وثلاثون آية(9/54)
تُعَلّمُوهُنّ ولا خَيْرَ في تِجارَةٍ فِيهِنّ وثمَنُهُنّ حَرَامٌ" وفي مِثْلِ ذلك أُنْزِلتْ عليه هَذِهِ الآية {وَمِنَ النّاسِ مَنْ يَشْتَري لَهْوَ الحَدِيثِ لِيُضِلّ عَنْ سَبِيل الله} إلى آخِر الآيةِ. هذَا حَدِيثٌ غَريبٌ إِنّمَا يُرْوَى مِنْ حدِيث القَاسِمِ عَنْ أبي أُمَامَةَ والقاسِمُ ثِقَةٌ وعَلِيّ بنُ يَزِيدَ يُضَعّفُ في الحَدِيثِ قَالَهُ مُحمّدُ بنُ إِسْمَاعيلَ.
ـــــــ
قوله "عن أبي أمامة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لا تبيعوا القينات إلخ" تقدم هذا الحديث بإسناده ومتنه في باب كراهية بيع المغنيات من أبواب البيوع وتقدم هناك شرحه(9/55)
سورة السجدة
بسم الله الرحمن الرحيم
3248 ـ حدثنا عَبْدُ الله بنُ أَبِي زِيَادٍ أخبرنا عبْدُ العَزيزِ بنُ عَبْدِ الله الأُوَيسِيّ عَن سُلَيْمانَ بنِ بِلاَلٍ عَن يَحْيَى بنِ سَعيدٍ عَنْ أَنَسِ بنِ مَالِكٍ عَن هَذِهِ الآية {تَتَجَافى جُنُوبُهُمْ عَن المَضَاجِع} نَزَلتْ في انْتِظَارِ هذه الصّلاَةِ التّيِ تُدْعَى العَتَمَةَ. هَذا حديثٌ حَسَنٌ صحيحٌ غَرِيبٌ
ـــــــ
سورة السجدة
مكية وهي ثلاثون آية
قوله "حدثنا عبد العزيز بن عبد الله الأويسي" بضم الهمزة وفتح الواو وسكون التحتية مصغراً أبو القاسم المدني ثقة من كبار العاشرة "عن سليمان بلال" هو التيمي عن يحيى بن سعيد هو الأنصاري. قوله {تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ} أي ترتفع وتتنحى {عَنِ الْمَضَاجِعِ} أي مواضع الاضطجاع لصلاتهم "نزلت(9/55)
لا نَعْرِفَهُ إِلاّ مِنْ هَذَا الوَجْهِ.
3249 ـ حدثنا ابنُ أبِي عُمَرَ، أخبرنا سُفْيَانُ عَن أبِي الزّنَادِ عَن الأَعْرَجِ عَن أبِي هُرَيْرَةَ يَبْلُغُ بِهِ النّبيّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "قَالَ الله تعالى أَعْدَدْتُ لِعبَادِي الصّالِحِينَ مَا لا عَيْنٌ رَأَتْ وَلاَ أُذُنٌ سَمِعتْ وَلا خَطَرَ عَلَى قَلْبِ بَشَرٍ" . وتَصْدِيقُ ذَلِكَ في كِتَابِ الله عز وجلّ {فَلاَ تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} . هَذا حديثٌ حَسَنٌ صحيحٌ.
ـــــــ
في انتظار الصلاة التي تدعى العتمة" أي صلاة العشاء وروى أبو داود هذا الحديث من وجه آخر عن أنس بن مالك في هذه الآية {تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفاً وَطَمَعاً وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ} قال: كانوا يتيقظون ما بين المغرب والعشاء يصلون قال وكان الحسن يقول قيام الليل والحديث سكت عنه أبو داود والمنذري، وأخرجه ابن مردية عن رواية سعيد بن أبي عروبة عن قتادة عن أنس في هذه الآية قال يصلون ما بين المغرب والعشاء قال العراقي: وإسناده جيد وروى الترمذي في مناقب الحسن والحسين في حديث طويل عن حذيفة: أتيت النبي صلى الله عليه وسلم فصليت معه المغرب فصلى حتى صلاة العشاء ثم انفتل قال الحافظ ابن كثير في تفسيره: قال أنس وعكرمة ومحمد بن المنكدر وأبو حازم وقتادة هو الصلاة بين العشاءين، وعن أنس أيضاً هو انتظار صلاة العتمة. رواه ابن جرير بإسناد جيد انتهى. قوله "هذا حديث حسن صحيح غريب" وأخرجه أبو داود.
قوله "قال الله أعددت" من الإعداد أي هيأت "ما لا عين رأت" كلمة ما إما موصولة أو موصوفة وعين وقعت في سياق النفي فأفاد الاستغراق "ولا خطر" أي وقع "على قلب بشر" زاد ابن مسعود في حديثه: "ولا يعلمه ملك مقرب ولا نبي مرسل" . أخرجه ابن أبي حاتم وهو يدفع قول من قال: إنما قيل البشر لأنه يخطر بقلوب الملائكة. قال الحافظ: والأولى حمل النفي فيه على عمومه فإنه أعظم في النفس {فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ} بصيغة المجهول من الإخفاء أي خبئ،(9/56)
3250 ـ حدثنا ابنُ أبِي عُمَرَ، أخبرنا سُفْيَانُ عَن مُطَرّفِ بنِ طَرِيفٍ وعَبْدِ الملكِ هُوَ ابنُ أَبْجَر سَمِعَا الشّعْبِيّ يَقُولُ سَمِعْتُ المُغِيرَة بنَ شُعْبَةَ عَلَى المِنْبَرِ يَرْفَعُهُ إِلى النبيّ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: "إِنّ مُوسَى عليه السلام سَأَلَ رَبّهُ فَقَالَ أي رَبّ أَيّ أَهْلِ الجَنّةِ أَدْنَى مَنْزِلةً، قَالَ رَجُلٌ يَأَتِي بَعْدَ مَا يَدْخُلُ أَهْلُ الجَنّةِ فيُقَالُ لَهُ ادْخُلْ. فيَقولُ كَيْفَ أَدْخُلُ وقَدْ نَزَلُوا مَنَازِلَهُمْ وَأَخَذُوا أَخَذاتِهِمْ؟ قَالَ فَيُقَالُ لَهُ: أَتَرْضَى أَنْ يَكُونَ لَكَ مَا كَانَ لِمَلِكٍ مِنْ مُلُوكِ الدّنْيَا؟ فَيَقُولُ نَعَمْ أَيْ رَبّ قَدْ رَضِيتُ، فَيُقَالُ لَهُ: فَإِنّ لَكَ هَذَا ومِثْلَهُ ومِثْلَهُ وَمِثْلَهُ، فَيَقُولُ رَضِيتُ أَيْ رَبّ، فَيُقَالُ لَهُ: فَإِنّ لَكَ هَذَا وَعَشْرَةَ أَمْثَالِهِ، فَيَقُولُ رَضِيتُ أَيْ رَبّ، فَيُقَالُ لَهُ: فإِنّ لَكَ مَعَ هَذا مَا اشْتَهَت نَفْسُكَ وَلَذّتْ عَيْنُكَ" . هَذا حديثٌ حَسَنٌ صحيحٌ. ورَوَى بَعْضُهُم هَذَا الحَدِيثَ عَنِ الشّعْبِيّ عَنِ المُغِيرَةِ
ـــــــ
قرأ الجمهور: أخفى بالتحريك على البناء للمفعول وقرأ حمزة بالإسكان فعلاً مضاعفاً مسنداً للمتكلم يؤيده قراءة ابن مسعود نخفى بنون العظمة وقرأها محمد بن كعب أخفى بفتح أوله وفتح الفاء على البناء للفاعل وهو الله. ونحوها قراءة الأعمش أخفيت {مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ} ما تقر به أعينه. قوله "هذا حديث حسن صحيح" وأخرجه أحمد والشيخان.
قوله "أخبرنا سفيان" هو ابن عيينة. قوله "وأخذوا أخذاتهم" بفتح الهمزة والخاء قال القاضي هو ما أخذوه من كرامة مولاهم وحصلوه أو يكون معناه قصدوا منازلهم، قال وذكره ثعلب بكسر الهمزة "فإن لك مثله ومثله ومثله" وفي رواية مسلم لك مثله ومثله ومثله ومثله ومثله خمس مرات "فإن لك هذا ما اشتهت نفسك ولذت عينك" زاد مسلم: قال رب فأعلاهم منزلة قال أولئك الذين أردت غرست كرامتهم بيدي وختمت عليها فلم تر عين ولم(9/57)
وَلَمْ يَرْفَعْهُ، والمَرْفُوعُ أَصَحّ.
ـــــــ
تسمع أذن ولم يخطر على قلب بشر. قال ومصداقه في كتاب الله عزّ وجلّ {فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ} الآية قال النووي معنى أردت اخترت واصطفيت، وأما غرست كرامتهم بيدي إلى آخره فمعناه اصطفيتهم وتوليتهم فلا يتطرق إلى كرامتهم تغيير، وفي آخر الكلام حذف للعلم به تقديره: ولم يخطر على قلب بشر ما أكرمتهم به وأعددته لهم. قوله "هذا حديث حسن صحيح" وأخرجه مسلم.(9/58)
سورة الأحزاب
بسم الله الرحمن الرحيم
3251 ـ حدثنا عَبْدُ الله بنُ عَبْدِ الرّحْمَنِ، أخبرنَا صَاعِدٌ الحَرّانِيّ، أخبرنا زُهَيْرٌ أخبرنَا قابُوسُ بنُ أَبي ظَبْيَانَ أَنّ أَبَاهُ حَدّثَهُ قَالَ: "قُلْنَا لابنِ عَبّاسٍ: أَرَأَيْتَ قَوْلَ الله عَزّ وَجَلّ {مَا جَعَلَ الله لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ} مَا عَنَى بِذَلِكَ؟ قَالَ قَامَ نَبِيّ الله صلى الله عليه وسلم يَوْماً يُصَلّي فَخَطَرَ خَطْرَةً فَقَالَ المُنَافِقُونَ الّذِينَ يُصَلّونَ مَعَهُ أَلاَ تَرَى أَنّ لَهُ قَلْبَيْنِ قَلْباً مَعَكُمْ وقَلْباً مَعَهُمْ فَأَنْزَلَ الله: {مَا جَعَلَ
ـــــــ
سورة الأحزاب
مدنية وهي ثلاث وسبعون آية
قوله "حدثنا عبد الله بن عبد الرحمن" هو الإمام الدارمي "أخبرنا صاعد" بن عبيد البجلي أبو محمد أو أبو سعيد "الحراني" بفتح الحاء المهملة وشدة الراء بالنون مقبول من كبار العاشرة "أخبرنا زهير" هو ابن معاوية. قوله "فخطر(9/58)
الله لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْن فِي جَوْفِهِ} " .
3252 ـ حدثنا عَبْدُ بنُ حُمَيْدٍ حدّثني أَحْمَدُ بنُ يُونسَ
ـــــــ
خطرة" يريد الوسوسة التي تحصل للإنسان في صلاته. قال في النهاية في حديث سجود السهو حتى يخطر الشيطان بين المرء وقلبه يريد الوسوسة، ومنه حديث ابن عباس: "قام نبي الله صلى الله عليه وسلم يوماً يصلي فخطر خطرة فقال المنافقون إن له قلبين" انتهى. وفي رواية: "صلّى النبي صلى الله عليه وسلم صلاة فسها فيها فخطرت منه كلمة فسمعها المنافقون فقالوا إن له قلبين" فنزلت "ألا ترى" وفي رواية ألا ترون "أن له قلبين قلباً معكم وقلباً معهم" أي مع أصحابه فأنزل الله {مَا جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ} قال ابن جرير: اختلف أهل التأويل في المراد من قوله الله {مَا جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ} فقال بعضهم: عنى بذلك تكذيب قوم من أهل النفاق وصفوا نبي الله صلى الله عليه وسلم بأنه ذو قلبين فنفى ذلك عن نبيه وكذبهم ثم ذكر أثر بن عباس هذا ثم قال: وقال آخرون بل عنى بذلك رجل من قريش كان يدعى ذا القلبين من ذهنه ثم ذكر من قال ذلك ثم قال وقال آخرون بل عنى بذلك زيد بن حارثة من أجل أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان تبناه فضرب الله بذلك مثلاً انتهى. وقال ابن كثير في تفسيره: يقول تعالى موطئاً قبل المقصود المعنوي أمراً معروفاً حسيا وهو أنه كما لا يكون للشخص الواحد قلبان في جوفه ولا تصير زوجته التي يظاهر منها بقوله: أنت علي كظهر أمي أماً له. كذلك لا يصير الدعى ولداً للرجل إذا تبناه فدعاه ابنا له فقال {مَا جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ وَمَا جَعَلَ أَزْوَاجَكُمُ اللَّائِي تُظَاهِرُونَ مِنْهُنَّ أُمَّهَاتِكُمْ} كقوله عزّ وجلّ {مَا هُنَّ أُمَّهَاتِهِمْ إِنْ أُمَّهَاتُهُمْ إِلَّا اللَّائِي وَلَدْنَهُمْ} الآية وقوله تعالى {وَمَا جَعَلَ أَدْعِيَاءَكُمْ أَبْنَاءَكُمْ} هذا هو المقصود بالنفي، فإنها نزلت في شأن زيد بن حارثة رضي الله عنه مولى النبي صلى الله عليه وسلم كان النبي صلى الله عليه وسلم قد تبناه قبل النبوة فكان يقال له زيد بن محمد فأراد الله تعالى أن يقطع هذا الإلحاق وهذه النسبة بقوله تعالى {وَمَا جَعَلَ أَدْعِيَاءَكُمْ أَبْنَاءَكُمْ} كما قال تعالى في أثناء(9/59)
أَخبرنا زُهَيْرٌ نَحْوَهُ. هَذا حديثٌ حَسَنٌ.
3253 ـ حدثنا أَحْمَدُ بنُ مُحمّدٍ حدثنا عَبْدُ الله بنُ المُبَارَكِ حدثنا سُلَيْمَانُ بنُ المُغِيرَةِ عَنْ ثَابِتٍ عَنْ أَنَسٍ قَالَ "قَالَ عَمّي أَنَسُ بنُ النّضْرِ: سُمّيتُ بِهِ لَمْ يَشْهَدْ بَدْراً مَعَ رَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم فَكَبُرَ عَلَيْهِ فَقَالَ أَوّلُ مَشْهَدٍ قَدْ شَهِدَهُ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم غِبْتُ عَنْهُ. أَمَا وَالله لَئِنْ أَرَانِي الله مَشْهَداً مَعَ رَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم فيما بعد لَيَرَيَنّ الله
ـــــــ
السورة {مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ وَلَكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً} وقال ههنا {ذَلِكُمْ قَوْلُكُمْ بِأَفْوَاهِكُمْ} يعني تبنيكم لهم قول لا يقتضي أن يكون ابنا حقيقياً فإنه مخلوق من صلب رجل آخر فما يمكن أن يكون له أبواه كما لا يمكن أن يكون للبشر الواحد قلبان. وقد ذكر غير واحد أن هذه الآية نزلت في رجل من قريش كان يقال له ذو القلبين وأنه كان يزعم أن له قلبين، كل منهما بعقل وافر فأنزل الله هذه الآية رداً عليه. هكذا روى العوفي عن ابن عباس وقال به مجاهد وعكرمة والحسن وقتادة، ثم ذكر ابن كثير حديث ابن عباس الذي نحن في شرحه، ثم قال: وقال عبد الرزاق أخبرنا معمر عن الزهري في قوله {مَا جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ} قال بلغنا أن ذلك كان في زيد بن حارثة ضرب له مثل يقول: ليس ابن رجل آخر ابنك، وكذا قال مجاهد وقتادة وابن زيد إنها نزلت في زيد ابن حارثة رضي الله عنه وهذا يوافق ما قدمناه من التفسير انتهى. قوله "هذا حديث حسن" وأخرجه وابن جرير وابن أبي حاتم.
قوله "حدثنا أحمد بن محمد" هو المعروف بمردويه "أخبرنا سليمان بن المغيرة" القيسي مولاهم البصري أبو سعيد ثقة. قوله "قال قال" أي قال ثابت قال أنس "عمي أنس بن النضر" مبتدأ وخبره لم يشهد بدراً وقوله سميت به جملة معترضة "فكبر عليه" وفي رواية مسلم فشق عليه "أول مشهد" أي لأن بدراً أول غزوة خرج فيها النبي صلى الله عليه وسلم بنفسه مقاتلاً وقد تقدمها غيرها لكن ما خرج(9/60)
مَا أَصْنَعُ. قَالَ فَهَابَ أَنْ يَقُولَ غَيْرَهَا، فَشَهِدَ مَعَ رَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم يَوْمَ أُحُدٍ مِنَ العَامِ القَابِلِ فَاسْتَقْبَلَهُ سَعْدُ بنُ مُعَاذٍ فَقَالَ يَا أَبَا عَمْرٍو: أَيْنَ؟ قَالَ وَاهَا لِرِيحِ الْجَنّةِ أَجِدُهَا دُونَ أُحُدٍ، فَقَاتَلَ حَتّى قُتِلَ فَوُجِدَ في جَسَدِهِ بِضْعٌ وَثَمَانُونَ مِنْ بَيْنِ ضَرْبَةٍ وَطَعْنَةٍ ورَمْيَةٍ. قَالَتْ عَمّتِي الرّبَيّعُ بِنْتُ النّضْرِ فَمَا عَرَفْتُ أَخِي إِلاّ بِبَنَانِهِ" وَنَزَلَتْ هذِهِ الآية {رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا الله عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ
ـــــــ
فيها صلى الله عليه وسلم بنفسه مقاتلاً "أما" بالتخفيف للتنبيه "والله لئن أراني الله مشهداً" وفي الرواية الآتية: لئن الله أشهدني قتالاً للمشركين "ليرين الله" قال النووي ضبطوه بوجهين أحدهما ليرين بفتح الياء والراء أي يراه الله واقعاً بارزاً والثاني ليرين بضم الياء وكسر الراء ومعناه ليرين الله الناس ما أصنعه ويبرزه الله تعالى لهم "ما أصنع" مفعول لقوله ليرين ومراده أن يبالغ في القتال ولو زهقت روحه "قال" أي أنس بن مالك "فهاب" أي خشي أنس بن النضر "أن يقول غيرها" أي غير هذه الكلمة وذلك على سبيل الأدب منه والخوف لئلا يعرض له عارض فلا يفي بما يقول فيصير كمن وعد فأخلف "فقال" أي أنس بن النضر "يا أبا عمرو" هو كنية سعد بن معاذ "أين" أي أين تذهب "قال" أي أنس بن النضر ابتدأ في كلامه ولم ينتظر جوابه لغلبته اشتياقه إلى إيفاء ميثاقه وعهده بربه بقوله ليرين الله ما أصنع "واها لريح الجنة" قال في القاموس: واهاً له ويترك تنوينه كلمة تعجب من طيب شيء وكلمة تلهف انتهى، والمراد هنا هو الأول "أجدها دون أحد" أي عند أحد وفي رواية البخاري في المغازي "فقال أين يا سعد إني أجد ريح الجنة دون أحد" . قال الحافظ: يحتمل أن يكون ذلك على الحقيقة بأن يكون شم رائحة طيبة زائدة عما يعهد فعرف أنها ريح الجنة ويحتمل أن يكون أطلق ذلك باعتبار ما عنده من اليقين حتى كأن الغائب عنه صار محسوساً عنده، والمعنى أن الموضع الذي أقاتل فيه يؤول بصاحبه إلى الجنة(9/61)
مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدّلُوا تَبْدِيلاً}. هَذا حديثٌ حَسَنٌ صحيحٌ.
3254 ـ حدثنا عَبْدُ بنُ حُمَيْدٍ أخبرنا يَزِيدُ بنُ هَارُونَ، أخبرنا حُمَيْدٌ الطّوِيلُ عَنْ أَنَسِ بنَ مَالِكٍ: "أَنّ عَمّهُ غَابَ عَنْ قِتَالِ بَدْرٍ فَقَالَ غِبْتُ عَنْ أَوّلِ قِتَالٍ قَاتَلَهُ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم المُشْرِكينَ لإَنِ الله أَشْهَدَنِي قِتَالاً لِلْمُشْرِكينَ لَيَرَيَنّ الله كَيْفَ أَصْنَعُ، فَلَمّا كَانَ يَوْمُ أُحُدٍ انْكَشَفَ المُسْلِمُونَ فَقَالَ: الّلهُمّ إِنّي أَبْرَأُ إِلَيْكَ مِمّا جَاء بِهِ هَؤُلاَءِ يَعني المشْرِكِينَ وأَعْتَذِرُ إِلَيْكَ مِمّا صَنَعَ هؤلاء يَعْنِي أَصْحَابَهُ، ثُمّ تَقَدّمَ فَلَقِيَهُ سَعْدٌ، فَقَالَ يَا أَخِي مَا فَعَلْتُ أَنَا مَعَكَ فَلَمْ أَسْتَطِعْ أَنْ
ـــــــ
"إلا ببنانه" بفتح الباء والنون جمع بنانة وهي الأصبع وقيل طرفها {رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ} المراد بالمعاهدة المذكورة ما تقدم ذكره من قوله تعالى {وَلَقَدْ كَانُوا عَاهَدُوا اللَّهَ مِنْ قَبْلُ لا يُوَلُّونَ الْأَدْبَارَ} وكان ذلك أول ما خرجوا إلى أحد، وهذا قول ابن إسحاق، وقيل ما وقع ليلة العقبة من الأنصار "إذ بايعوا النبي صلى الله عليه وسلم أن يؤووه وينصروه ويمنعوه" والأول أولى {فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ} أي مات أو قتل في سبيل الله، وأصل النحب النذر فلما كان كل حي لا بد له من الموت، فكأنه نذر لازم له فإذا مات فقد قضاه، والمراد هنا من مات على عهده لمقابلته بمن ينتظر ذلك وأخرج ذلك ابن أبي حاتم بإسناد حسن عن ابن عباس كذا في الفتح {وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ} أي ذلك {وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلاً} أي ما غيروا عهد الله ولا نقضوه. قوله "هذا حديث حسن صحيح" وأخرجه أحمد ومسلم والنسائي.
قوله "لأن الله أشهدني" أي أحضرني واللام في لئن مفتوحة دخلت على إن الشرطية لا جزاء له لفظاً وحذف فعل الشرط فيه من الواجبات والتقدير لئن أشهدني الله "انكشف المسلمون" وفي رواية وانهزم الناس "مما جاءوا به هؤلاء" يعني من قتالهم مع رسول الله صلى الله عليه وسلم "وأعتذر إليك(9/62)
أَصْنَعَ مَا صَنَعَ فَوجدَ فِيهِ بِضْعاً وَثَمَانِينَ بَيْنَ ضَرْبَةٍ بِسَيْفٍ وَطَعْنَةٍ بِرُمْحٍ وَرَمْيَةٍ بِسَهْمٍ فَكُنّا نَقُولُ فِيهِ وَفي أَصْحَابِهِ نَزَلَتْ {فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ} قَالَ يَزِيدُ: "يَعْنِي هذه الآيةَ" .
هَذا حديثٌ حَسَنٌ صحيحٌ. واسْمُ عَمّهِ أَنَسُ بنُ النّضْرِ.
3255 ـ حدثنا عَبْدُ القُدّوسِ بنُ مُحمّدٍ القطان البَصْرِيّ، أخبرنا عَمْرُو بنُ عَاصِمٍ عَنْ إِسْحَاقَ بنِ يَحْيَى بنِ طَلْحَةَ عَنْ مُوسَى بنِ طَلْحَةَ قَالَ: "دَخَلْتُ عَلَى مُعَاوِيَةَ فَقَالَ أَلاَ أُبَشّرُكَ؟ قُلْتُ بَلَى، قَالَ: سَمِعْتُ رسُولَ الله صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: طَلْحَةُ مِمّنْ قَضَى نَحْبَهُ" .
ـــــــ
مما صنع هؤلاء" يعني من فرارهم "ثم تقدم" أي نحو المشركين "فلقيه سعد" أي ابن معاذ "فقال" أي سعد "فلم أستطيع أن أصنع ما صنع" أي أنس بن النضر وهذا صريح في أنه نفى استطاعة إقدامه الذي صدر منه حتى وقع له ما وقع من الصبر على تلك الأهوال بحيث وجد في جسده ما وجد فاعترف سعد بأنه لم يستطع أن يقدم إقدامه ولا يصنع صنيعه، وفيه رد على ابن بطال حيث قال: يريد ما استطعت أن أصف ما صنع أنس "فوجد فيه" أي في جسده وفي رواية البخاري قال أنس فوجد نابه. قوله "هذا حديث صحيح" وأخرجه البخاري والنسائي وابن أبي حاتم.
قوله "أخبرنا عمرو بن عاصم" هو الكلابي القيسي "عن موسى بن طلحة" ابن عبيد الله التيمي كنيته أبو عيسى أو أبو محمد المدني نزيل الكوفة ثقة جليل من الثانية ويقال إنه ولد في عهد النبي صلى الله عليه وسلم قوله "دخلت على معاوية" هو ابن أبي سفيان رضي الله عنه "طلحة ممن قضى نحبه" طلحة هذا هو والد موسى وهو أحد العشرة المبشرة بالجنة قتل في وقعة الجمل وكان هو مع جماعة كعثمان بن عفان ومصعب وسعيد وغيرهم نذروا إذا لقوا حرباً ثبتوا(9/63)
هَذا حديثٌ غَرِيب لا نَعْرِفُهُ مِنْ حَدِيثِ مُعَاوِيَةَ إِلاّ مِنْ هَذَا الوَجْهِ وَإِنّمَا رُوِيَ هَذَا عَنْ مُوسَى بنِ طَلحَةَ عَنْ أَبِيهِ.
3256 ـ حدثنا أبو كُرَيْبٍ حدثنا يُونُسُ بنُ بُكَيْرٍ عَنْ طَلْحَةَ بنِ يَحْيَى عَنْ مُوسَى وعِيسَى ابْنَيْ طَلْحَةَ عَنْ أبيهِمَا طَلْحَةَ: "أنّ أَصْحَابَ رَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم قَالُوا لأعْرَابيّ جَاهِلٍ سَلْهُ عَنْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ مَنْ هُوَ؟ وكانُوا لاَ يَجْتَرِئونَ عَلَى مَسْأَلَتِهِ يُوَقّرُونَهُ وَيَهابُونَهُ، فَسَأَلَهُ الأَعْرَابيّ فَأَعْرَضَ عَنْهُ، ثمّ سَأَلَهُ فَأَعْرَضَ عَنْهُ ثُمّ سَأَلَهُ فأَعْرَضَ عَنْهُ، ثُمّ إِنّي اطّلَعْتُ مِنْ بَابِ المَسْجِدِ وَعَلَيّ ثِيَابٌ خُضْرٌ فَلَمّا رَآنِي النبيّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: أَيْنَ السّائِلُ عَمّنْ قَضَى نَحْبَهُ؟ قَالَ الأَعْرَابيّ أَنا يَا رَسُولَ الله، فَقَالَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم هَذَا مِمّنْ قَضَى نَحْبَهُ" . هَذا حديثٌ حَسَنٌ غَرِيبٌ لاَ نَعْرِفُهُ إِلاّ مِنْ حَدِيثِ يُونُسَ بنِ بُكَيْرٍ.
ـــــــ
حتى يستشهدوا وقد ثبت طلحة يوم أحد وبذل جهده حتى شلت يده وقى بها النبي صلى الله عليه وسلم وأصيب في جسده ببضع وثمانين من بين طعن وضرب ورمى، ويحتمل أن يكون معناه ذاق الموت في الله وإن كان حيا لما ذاق من شدائد فيه، ويدل عليه حديث: من سره "أن ينظر إلى شهيد يمشي" إلخ. وقيل الموت عبارة عن الغيبوبة عن عالم الشهادة وقد كان هذا حاله من الانجذاب. قوله "هذا حديث غريب" وأخرجه ابن أبي حاتم وابن جرير.
قوله "عن طلحة بن يحيى" بن طلحة بن عبيدالله التيمي المدني. قوله "يوقرونه ويهابونه" جملتان حاليتان من ضمير لا يجترئون "هذا" يعني طلحة رضي الله عنه قوله "هذا حديث حسن غريب" وأخرجه ابن أبي حاتم وابن جرير ويأتي هذا الحديث والذي قبله في مناقب طلحة بن عبيد الله.(9/64)
3257 ـ حدثنا عَبْدُ بنُ حميدٍ، حدثنا عُثْمَانُ بنُ عُمَرَ عَنْ يُونُسَ بنِ يَزِيدَ عَنِ الزّهْرِيّ عَنْ أَبِي سَلَمَةَ عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ: "لَمّا أُمِرَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم بِتَخْيِيرِ أَزْوَاجِهِ بَدَأَ بِي فَقَالَ: يَا عَائِشَةُ إِنّي ذَاكِرٌ لَكِ أَمْراً فَلاَ عَلَيْكِ أَنْ لاَ تَسْتَعْجِلِي حَتّى تَسْتَأْمِرِي أَبَوَيْكِ، قَالَتْ: وَقَدْ عَلِمَ أَنّ أَبَوَاي لَمْ يَكُونَا لِيَأْمُرَانِي بِفِرَاقِهِ، قَالَتْ ثُمّ قَالَ: إِنّ الله تعالى يَقُولُ {يَا أَيّهَا النّبِيّ قُلْ لأِزْوَاجِكَ إِنْ كُنْتُنّ تُرِدْنَ الحَياةَ الدّنْيَا وَزِينَتهَا فَتَعَالَيْنَ} حَتّى بَلَغَ {لِلْمُحْسِنَاتِ مِنْكُنّ أَجْراً عَظِيماً} . قُلْتُ في أَيّ هَذَا أَسْتَأْمِرُ أَبَوَيّ فإنّي أُرِيدُ الله وَرَسُولَهُ وَالدّارَ الآخرةَ، وَفَعَلَ أَزْوَاجُ النبيّ صلى الله عليه وسلم مِثْلَ مَا فَعَلْتُ" . هَذا حديثٌ حَسَنٌ صحيحٌ. وقد رُوِيَ هَذَا أَيْضاً عَنْ الزّهْرِيّ عَنْ عُرْوَةَ عَنْ عَائِشَةَ
ـــــــ
قوله "عن يونس بن يزيد" هو ابن أبي النحار الأيلي "عن أبي سلمة" هو ابن عبد الرحمن بن عوف. قوله "فلا عليك أن لا تستعجلي" أي فلا بأس عليك في التأني وعدم العجلة "حتى تستأمري أبويك" أي تشاوري وتطلبي منهما أن يبينا لك وأيهما في ذلك، ووقع في حديث جابر عند مسلم "حتى تستشيري أبويك" {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ} وهن تسع وطلبن منه من زينة الدنيا ما ليس عنده {إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا} أي السعة في الدنيا وكثرة الأموال {وَزِينَتَهَا فَتَعَالَيْنَ} أي أقبلن بإرادتكن واختياركن وبعده {أُمَتِّعْكُنَّ} أي متعة الطلاق {وَأُسَرِّحْكُنَّ سَرَاحاً جَمِيلاً} أي أطلقكن من غير إضرار وإن كنتن تردن الله ورسوله والدار الآخرة أي الجنة {فَإِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْمُحْسِنَاتِ مِنْكُنَّ} أي بإرادة الآخرة {أَجْراً عَظِيماً} أي الجنة "في أي هذا" ويروى ففي أي شيء قوله "هذا حديث حسن صحيح" وأخرجه البخاري ومسلم والنسائي.(9/65)
3258 ـ حدثنا قُتَيْبَةُ أَخبرنا مُحمّدُ بنُ سُلَيْمَانَ بنِ الأصْبَهَانِيّ عَنْ يَحْيَى بنِ عُبَيْدٍ عَنْ عَطَاءِ بنِ أَبي رَباحٍ عَنْ عُمَرَ بنِ أَبِي سَلَمةَ رَبِيب النبيّ صلى الله عليه وسلم قالَ "لَمّا نَزَلَتْ هَذِهِ الآية عَلَى النبيّ صلى الله عليه وسلم {إِنَمَا يُرِيدُ الله لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ ويُطَهّرَكمْ تَطْهِيراً} في بَيْتِ أُمّ سَلَمَةَ فَدَعَا فَاطِمَةَ وَحَسَناً وَحُسَيْناً فَجَلّلَهُمْ بِكِسَاءٍ وَعَليّ خَلْفَ ظَهْرِهِ فَجَلّلَهُ بِكسَاءٍ ثُمّ قَالَ: اللّهُمّ هَؤُلاَءِ أَهْلُ بَيْتِي فَأَذْهِبْ عَنْهُمْ الرّجْسَ وَطَهّرْهُمْ تَطْهِيراً. قَالَتْ أُمّ سَلَمَةَ وَأَنَا مَعَهُمْ يَا نَبِيّ الله، قَالَ أَنْتِ عَلَى مَكَانِكِ وَأَنْتِ عَلَى خَيْرٍ" . هَذا حديثٌ غريبٌ مِنْ
ـــــــ
قوله "حدثنا محمد بن سليمان بن الأصبهاني" في التقريب محمد بن سليمان ابن عبد الله الكوفي أبو علي بن الأصبهاني صدوق يخطئ من الثامنة "عن يحيى بن عبيد عن عطاء بن أبي رباح" قال في التقريب: يحيى بن عبيد عن عطاء بن أبي رباح يحتمل أن يكون الذي قبله وإلا فمجهول انتهى. والذي قبله هو يحيى بن عبيد المكي مولى بني مخزوم قال الحافظ ثقة من السادسة. قوله {إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ} قيل هو الشك وقيل العذاب وقيل الإثم. قال الأزهري الرجس اسم لكل مستقذر من عمل قاله النووي {أَهْلَ الْبَيْتِ} نصبه على النداء {وَيُطَهِّرَكُمْ} من الأرجاس والأدناس "في بيت أم سلمة" متعلق بنزلت "فجللهم بكساء" أي غطاهم به من التجليل "فجلله بكساء" أي آخر "قالت أم سلمة وأنا معهم يا نبي الله" بتقدير حرف الاستفهام "أنت على مكانك وأنت على خير" يحتمل أن يكون معناه أنت خير وعلى مكانك من كونك من أهل بيتي ولا حاجة لك في الدخول تحت الكساء كأنه منعها عن ذلك لمكان عليّ وأن يكون المعنى أنت على خير وإن لم تكوني من أهل بيتي كذا في اللمعات قلت الاحتمال الأول هو الراجح بل هو المتعين، وقد اختلف أهل العلم في أهل البيت المذكورين في الآية فقال ابن عباس وعكرمة وعطاء(9/66)
هَذَا الوَجْهِ مِنْ حَدِيثِ عَطَاءٍ عَنْ عُمَرَ بنِ أَبِي سَلَمَةَ.
3259 ـ حدثنا عَبْدُ بنُ حُمَيْدٍ أخبرنا عَفّانُ بنُ مُسْلِمٍ أخبرنا
ـــــــ
والكلبي ومقاتل وسعيد بن جبير إن أهل البيت المذكورين في الآية هم زوجات النبي صلى الله عليه وسلم خاصة قالوا والمراد بالبيت بيت النبي صلى الله عليه وسلم ومساكن زوجاته لقوله {وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَى فِي بُيُوتِكُنَّ} ، وأيضاً السياق في الزوجات من قوله {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ -إلى قوله- لَطِيفاً خَبِيراً} . وقال أبو سعيد الخدري ومجاهد وقتادة وروي عن الكلبي أن أهل البيت المذكورين في الآية هم علي وفاطمة والحسن والحسين خاصة. ومن حججهم الخطاب في الآية بما يصلح للذكور لا للإناث وهو قوله عنكم وليطهركم ولو كان للنساء خاصة لقال عنكن وليطهركن، وأجاب الأولون عن هذا بأن التذكير باعتبار لفظ الأهل كما قال سبحانه {قَالُوا أَتَعْجَبِينَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ رَحْمَتُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ} وكما يقول الرجل لصاحبه كيف أهلك يريد زوجته أو زوجاته فيقول هم بخير، وتمسك الأولون أيضاً بما أخرجه ابن أبي حاتم وابن عساكر من طريق عكرمة عن ابن عباس في الآية قال نزلت في نساء النبي صلى الله عليه وسلم خاصة. وقال عكرمة من شاء بأهلته أنها نزلت في أزواج النبي صلى الله عليه وسلم وروي هذا عنه بطرق. وتمسك الآخرون أيضاً بحديث عمر بن أبي سلمة وحديث أنس المذكورين في الباب وما في معناهما، وقد توسطت طائفة ثالثة بين الطائفتين فجعلت هذه الآية شاملة للزوجات ولعلي وفاطمة والحسن والحسين، أما الزوجات فلكونهن المرادات في سياق هذه الآيات كما قدمنا ولكونهن الساكنات في بيوته صلى الله عليه وسلم النازلات في منازله، ويعضد ذلك ما تقدم عن ابن عباس وغيره، وأما دخول علي وفاطمة والحسن والحسين فلكونهن قرابته وأهل بيته في النسب، ويؤيد ذلك ما ورد من الأحاديث المصرحة بأنهم سبب النزول، فمن جعل الآية خاصة بأحد الفريقين أعمل بعض ما يجب إعماله وأهمل ما لا يجوز إهماله، وقد رجح هذا القول جماعة من المحققين منهم القرطبي وابن كثير وغيرهما. قوله "هذا حديث غريب" وأخرجه ابن جرير والطبراني وابن مردويه.(9/67)
حَمّادُ بنُ سَلَمَةَ أخبرنا عَلِيّ بنُ زَيْدٍ عَن أَنَسِ بنِ مَالِكٍ "أَنّ رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم كَانَ يَمُرّ بِبَابِ فَاطِمَةَ سِتّةَ أَشْهُرٍ إِذَا خَرَجَ لِصَلاَةِ الْفَجْرِ يَقُولُ: الصّلاَةَ يَا أَهْلَ البَيْتِ {إنّمَا يُرِيدُ الله لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهّرَكُمْ تَطْهِيراً} " هَذا حديثٌ حَسَنٌ غرِيبٌ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ إِنّمَا نَعْرِفُهُ مِنْ حَدِيثِ حَمّادِ بنِ سَلَمَةَ. قال: وفي البابِ عَنْ أَبِي الحمراءِ ومَعْقِلِ بنِ يَسَارٍ وَأُمّ سَلَمَةَ.
3260 ـ حدثنا عَلِيّ بن حُجْرٍ أَخبرنا دَاوُدُ بنُ الزّبْرِقَانِ عَن دَاوُدَ
ـــــــ
قوله "أخبرنا علي بن زيد" هو ابن جدعان قوله: "الصلاة يا أهل البيت" أي حضرت صلاة الفجر وحانت أو احضروا الصلاة. قوله "هذا حديث حسن غريب" وأخرجه أحمد وابن أبي شيبة وابن جرير وابن المنذر والطبراني والحاكم وصححه ابن مردويه. قوله "وفي الباب عن أبي الحمراء ومعقل بن يسار وأم سلمة" أما حديث أبي الحمراء فأخرجه ابن جرير وابن مردويه وفيه قال "رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا طلع الفجر جاء إلى باب علي وفاطمة رضي الله عنهما فقال: الصلاة الصلاة إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيراً"، وفي نسده أبو داود الأعمى واسمه نفيع بن الحرث وهو وضاع كذاب، وأما حديث معقل بن سيار فلينظر من أخرجه، وأما حديث أم سلمة فأخرجه الترمذي في فضل فاطمة رضي الله عنها. وفي الباب أيضاً عن عائشة أخرجه مسلم عنها قالت خرج النبي صلى الله عليه وسلم غداة وعليه مرط مرحل من شعر أسود فجاء الحسن بن علي فأدخله ثم جاء الحسين فدخل معه ثم جاءت فاطمة فأدخلها ثم جاء علي فأدخله ثم قال: {إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً} .
قوله: "أخبرنا داود بن الزبرقان" بكسر زاي وسكون موحدة وكسر راء وبقاف الرقاشي البصري نزيل بغداد متروك وكذبه الأزدي من الثامنة. قوله:(9/68)
ابنِ أَبِي هِنْدٍ عن الشّعبيّ عَن عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ "لَوْ كَانَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم كَاتِماً شَيْئاً مِنَ الَوحْيِ لَكَتَم هَذِهِ الآية {وإِذْ تَقُولُ لِلّذِي أَنْعَمَ الله عَلَيه} يَعْنِي بالإسْلاَمِ {وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ} يَعْنِي بالعِتْقِ فَأَعْتَقتْهُ {أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ واتّقِ الله وَتُخْفِي في نَفْسِكَ ما الله مُبْدِيهِ وَتَخشَى الناسَ والله أَحقّ أَنْ تَخْشَاهُ} إلى قَوْلِهِ {وَكَانَ أَمْرُ الله مَفْعُولاً} . وأَنّ
ـــــــ
"لكتم هذه الآية {وَإِذْ} " منصوب باذكر {تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ} هو زيد بن حارثة مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم "فأعتقته" وكان من سبى الجاهلية اشتراه رسول الله صلى الله عليه وسلم في الجاهلية وأعتقه وتبناه {أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ} أي لا تطلق زوجك هي زينب بنت جحش رضي الله عنها ابنة عمة رسول الله صلى الله عليه وسلم وأمها أميمة بنت عبد المطلب {وَاتَّقِ اللَّهَ} أي في أمر طلاقها {وَتُخْفِي} الواو للحال أي والحال أنك تخفي {فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ} أي مظهره وهو نكاحها إن طلقها زيد، وقيل حبها، والصحيح المعول عليه عندي هو الأول {وَتَخْشَى النَّاسَ} أي تخاف أن يقول الناس تزوج محمد زوجة ابنه {وَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَاهُ} أي في كل شيء وتزوجكها ولا عليك من قول الناس وبعد هذا {فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِنْهَا وَطَراً} أي حاجة، وقضاء الوطر في اللغة بلوغ منتهى ما في النفس من الشيء، يقال وطراً منه إذا بلغ ما أراد من حاجته فيه، والمراد هنا أنه قضى وطره منها بنكاحها والدخول بها بحيث لم يبق له فيها حاجة وتقاصرت عنه همته وطابت عنه نفسه. وقيل المراد به الطلاق لأن الرجل إنما يطلق امرأته إذا لم يبق له فيها حاجة {زَوَّجْنَاكَهَا} أي لم نحرجك إلى ولي من الخلق يعقد لك عليها تشريفاً لك ولها. فلما أعلمه الله بذلك دخل عليها بغير إذن ولا عقد ولا تقدير صداق ولا شيء مما هو معتبر في النكاح في حق أمته، وهذا من خصوصياته صلى الله عليه وسلم التي لا يشاركه فيها أحد بإجماع المسلمين، وكان تزوجه بزينب سنة خمس من الهجرة وقيل سنة ثلاث وهي أول من مات من زوجاته الشريفات(9/69)
رسولَ الله صلى الله عليه وسلم لَمّا تزوجها قالوا تَزَوّجَ حَلِيلَةَ ابْنِهِ فَأَنْزَلَ الله تعالى {مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ وَلَكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ} وَكَانَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم تَبَنّاهُ وَهُوَ صَغِيرٌ فَلَبِثَ حَتّى صَارَ رَجُلاً يُقَالُ لَهُ زَيْدٌ بنُ مُحّمدٍ فَأَنْزَلَ الله {ادْعُوهُمْ لِآبَائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ
ـــــــ
المطهرات ماتت بعده بعشر سنين عن ثلاث وخمسين سنة، وقيل المراد به الأمر له بأن يتزوجها والأول أولى وبه جاءت الأخبار الصحيحة كذا في فتح البيان {لِكَيْ لا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ} أي ضيق علة للتزويج وهو دليل على أن حكمه وحكم الأمة واحد إلا ما خصه الدليل {فِي أَزْوَاجِ أَدْعِيَائِهِمْ} جمع دعى وهو المتنبي أي في التزويج بأزواج من يجعلونه ابناً كما كان العرب يفعلون فإنهم كانوا يتبنون من يريدون وكانوا يعتقدون أنه يحرم عليهم نساء من تبنوه كما يحرم عليهم نساء أبنائهم حقيقة، فأخبرهم الله أن نساء الأدعياء حلال لهم {إِذَا قَضَوْا مِنْهُنَّ وَطَراً} أي إذا طلق الأدعياء أزواجهم بخلاف ابن الصلب فإن امرأته تحرم على أبيه بنفس العقد عليها {وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولاً} أي قضاء الله ماضياً وحكمه نافذاً وقد قضى في زينب أن يتزوجها رسول الله صلى الله عليه وسلم "لما تزوجها" أي زينب "قالوا تزوج حليلة ابنه" أي زوجة ابنه {مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ} أي فليس صلى الله عليه وسلم أبا زيد فلا يحرم عليه التزويج بزوجته زينب {وَلَكِنْ رَسُولَ اللَّهِ} أي ولكن كان رسول الله صلى الله عليه وسلم {وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ} قرأ الجمهور بكسر التاء وقرئ بفتحها، ومعنى الأولى أنه ختمهم أي جاء آخرهم، ومعنى الثانية أنه صار كالخاتم لهم الذي يختمون به ويتزينون بكونه منهم. قال أبو عبيدة الوجه الكسر لأن التأويل أنه ختمهم فهو خاتمهم وأنه قال: "أنا خاتم النبيين وخاتم الشيء آخره". وقال الحسن الخاتم هو الذي ختم به والمعنى ختم الله به النبوة فلا نبوة بعده ولا معه قال ابن عباس يريد لو لم أختم به النبيين لجعلت له ابنا يكون بعده نبياً، وعنه أن الله لما حكم أن لا نبي بعده لم يعطه ولداً ذكراً يصير رجلاً وعيسى ممن نبئ قبله وحين ينزل ينزل عاملاً على شريعة محمد صلى الله عليه وسلم كأنه بعض أمته {ادْعُوهُمْ(9/70)
فَإِنْ لَمْ تَعْلَمُوا آبَاءَهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ وَمَوَالِيكُمْ} فُلاَنٌ مَوْلَى فُلاَنٍ وفلاَنٌ أَخُو فُلاَنٍ {هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ الله} يَعْنِي أَعْدَلُ عِنْدَ الله" . هَذا حديثٌ قَدْ رُوِيَ عَنْ دَاوُدَ بنِ أَبِي هِنْدٍ عَنِ الشّعْبيّ عَنْ مَسرُوق عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: "لَوْ كَانَ النبيّ صلى الله عليه وسلم كَاتِماً شَيْئاً مِنَ الْوَحْيِ لَكَتَمَ هَذِهِ الآية {وإذْ تَقُولُ لِلّذِي أَنْعَمَ الله عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ} هَذَا الْحَرْفُ لَمْ يُرْوَ بِطُولِهِ.
3261 ـ حدثنا بِذَلِكَ عَبْدُ الله بنُ واضح الكُوفِيّ، أخبرنا عَبْدُ الله بنُ إدْرِيسَ عَنْ دَاوُدَ بنِ أَبِي هِنْدٍ. وأخبرنا مُحّمدُ بنُ أَبَانَ أخبرنا ابنُ أَبِي عَدِيّ عَنْ دَاوُدَ بنِ أَبي هِنْدٍ عَن الشّعْبيّ عَن مسْرُوقٍ عَن عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ: لَوْ كَانَ النبيّ صلى الله عليه وسلم كَاتِماً شَيْئاً مِنَ الْوَحْيِ لَكَتَمَ هَذِهِ الآية {وَإِذْ تَقُولُ لِلّذِي أَنْعَمَ الله عَلَيْهِ
ـــــــ
لِآبَائِهِمْ} للصلب وانسبوهم إليهم ولا تدعوهم إلى غيرهم {هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ} تعليل للأمر بدعاء الأبناء للاَباء والضمير راجع إلى مصدر ادعوهم ومعنى أقسط أعدل أي أعدل من كل كلام يتعلق بذلك فترك الإضافة للعموم كقوله الله أكبر وأعدل من قولكم هو ابن فلان ولم يكن ابنه لصلبه {فَإِنْ لَمْ تَعْلَمُوا آبَاءَهُم} تنسبونهم إليهم {فَإِخْوَانُكُمْ} أي فهم إخوانكم {فِي الدِّينِ وَمَوَالِيكُمْ} فقولوا أخي ومولاي ولا تقولوا ابن فلان حيث لم تعلموا آباءهم على الحقيقة. قال الزجاج مواليكم أي أولياؤكم في الدين، وقيل المعنى فإن كانوا محررين ولم يكونوا أحراراً فقولوا موالي فلان. قوله "هذا الحرف لم يرو بطوله" أي روى مقتصراً على هذا القدر فحسب ولم يرو بطوله مثل الرواية المتقدمة. ونقل الحافظ في الفتح حاصل كلام الترمذي هذا بلفظ قال الترمذي روى عن داود عن الشعبي عن مسروق عن عائشة إلى قوله "لكتم هذه الآية" ولم(9/71)
وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ} الآيةَ. هَذا حديثٌ حَسَنٌ صحيحٌ.
3262 ـ حدثنا قُتَيْبَةُ أخبرنا يَعْقُوبُ بنُ عَبْدِ الرّحمَنِ عَنْ مُوسَى بنِ عُقْبَةَ عَن سَالِمٍ عَنْ ابنِ عمَرَ قَالَ: مَا كُنّا نَدْعُو زَيْدَ بنَ حَارِثَةَ إلاّ زَيْدَ بنَ مُحّمدٍ حَتّى نَزَلَ القُرْآنُ {ادْعُوهُمْ لِآبَائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ} . هَذا حديثٌ حَسَنٌ صحيحٌ.
3263 ـ حدثنا الْحَسَنُ بنُ قَزْعَةَ البَصْرِيّ، أخبرنا مَسْلَمَةُ بنُ عَلْقَمَةَ عَنْ دَاودَ بنِ أَبِي هِنْدٍ عَنْ عَامِرٍ الشّعْبِيّ في قَوْلِ الله عز وجلّ {مَا كَانَ مُحمّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ} قَالَ مَا كَانَ لِيَعِيشَ لَهُ فِيكُمْ وَلَدٌ ذَكِرٌ.
ـــــــ
يذكر ما بعده ثم قال الحافظ وهذا القدر أخرجه مسلم كما قال الترمذي وأظن الزائد مدرجاً في الخبر فإن الراوي له عن داود لم يكن بالحافظ انتهى. قلت: والراوي عن داود في الرواية الطويلة المتقدمة هو داود بن الزبرقان وقد عرفت أنه متروك. قوله "هذا حديث حسن صحيح" وأخرجه مسلم.
قوله: "حتى نزل القرآن {ادْعُوهُمْ لِآبَائِهِمْ}" قال الحافظ ابن كثير هذا أمر ناسخ لما كان في ابتداء الإسلام من جواز ادعاء الأبناء الأجانب وهم الأدعياء فأمر تبارك وتعالى برد نسبهم إلى آبائهم في الحقيقة وأن هذا هو العدل والقسط والبر {هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ} أي هو أعدل عنده من قولكم هو ابن فلان ولم يكن ابنه لصلبه ولم أقسط أفعل تفضيل قصد به الزيادة مطلقاً من القسط بمعنى العدل. قوله "هذا حديث حسن صحيح" وأخرجه الشيخان.
قوله: "حدثنا مسلمة بن علقمة" المازني أبو محمد البصري صدوق له أوهام من الثامنة. قوله: "قال" أي الشعبي "ما كان ليعيش له فيكم ولد ذكر" يعني(9/72)
3264 ـ حدثنا عَبْدُ بنُ حُمَيْدٍ حدّثنا مُحمّدُ بنُ كَثِيرٍ، أخبرنا سُلَيْمَانُ بنُ كَثِيرٍ عَن حُسيْنٍ عَن عِكْرِمَةَ عَنْ أُمّ عُمَارَةَ الأَنْصَارِيّةِ "أَنّهَا أَتَتِ النبيّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَتْ مَا أَرَى كُلّ شَيءٍ إِلاّ لِلرّجَالِ وَمَا أَرَى النّسَاءَ يُذْكَرْنَ بِشَيءٍ فَنَزَلَتْ هَذِهِ الآيةُ: {إنّ المُسْلِمينَ وَالمُسْلِمَاتِ وَالمُؤْمِنينَ وَالمُؤْمِنَاتِ} " الآية. هَذا حديثٌ حَسَنٌ غَريبٌ وَإِنّمَا يُعْرَفُ هَذَا الحَدِيث مِنْ هَذَا الْوَجْهِ.
ـــــــ
حتى يبلغ الحلم فإنه صلى الله عليه وسلم ولد له القاسم والطيب والطاهر من خديجة رضي الله عنها فماتوا صغاراً وولد له صلى الله عليه وسلم إبراهيم من مارية القبطية فمات أيضاً رضيعاً وكان له صلى الله عليه وسلم من خديجة أربع بنات زينب ورقية وأم كلثوم وفاطمة رضي الله عنهم أجمعين. فماتت في حياته صلى الله عليه وسلم ثلاث وتأخرت فاطمة رضي الله عنها حتى أصيبت به صلى الله عليه وسلم ثم ماتت بعده لستة أشهر.
قوله: "حدثنا محمد بن كثير" العبدي البصري "أخبرنا سليمان بن كثير" العبدي أبو داود ويقال أبو محمد البصري لا بأس به في غير الزهري من السابعة "عن حصين" هو ابن عبدالرحمن السلمي الكوفي أبو الهذيل "عن أم عمارة" بضم العين وتخفيف الميم يقال اسمها نسيبة بنت كعب بن عمرو "فنزلت هذه الآية: {إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ وَالْمُؤْمِنِينَ} فذكر الله لهن عشر مراتب مع الرجال فمدحهن بها معهم: الأولى الإسلام، والثانية الإيمان، قال الحافظ ابن كثير: قوله تعالى: {إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ وَالْمُؤْمِنِينَ} دليل على أن الإيمان غير الإسلام وهو أخص منه لقوله تعالى: {قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْأِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ} وفي الصحيحين: "لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن" . فيسلبه الإيمان ولا يلزم من ذلك كفره بإجماع المسلمين فدل على أنه أخص منه انتهى. والثالثة القنوت وهو قوله: {وَالْقَانِتِينَ وَالْقَانِتَاتِ} أي المطيعين والمطيعات، وقيل المداومين على الطاعة(9/73)
3265 ـ حدثنا عَبْدُ بنُ حُمَيْدٍ، أخبرنا مُحمّدُ بنُ الفَضْلِ أخبرنا حَمّادُ بنُ زَيْدٍ عَنْ ثَابِتٍ عَنْ أَنَسٍ قَالَ: "لَمّا نَزَلَتْ هَذِهِ الآية في زَيْنَبَ بِنْتِ جَحْشٍ {فَلَمّا قَضَى زَيْدٌ مِنْهَا وَطَراً زَوّجْنَاكَهَا} قَالَ فَكَانَتْ تَفْتخِرُ عَلَى أزواج النبيّ صلى الله عليه وسلم تَقُولُ: زَوّجَكُنّ أَهْلُكُنّ وَزَوّجَنِي الله مِنْ فَوْقِ سَبْعِ سَمَاوَاتٍ" . هَذا حديثٌ حَسَنٌ صحيحٌ.
3266 ـ حدثنا عَبْدُ بنُ حُمَيْدٍ، أخبرنا عُبَيْدُ الله بنُ مُوسَى عَن إسْرَائِيلَ عَن السّدّيّ عَن أَبِي صَالحٍ عَنْ أُمّ هَانِيءٍ بِنْتِ أَبِي طَالِبٍ قَالَتْ: "خَطَبَنِي رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم فاعْتَذَرْتُ إلَيْهِ فَعَذَرنِي ثُم
ـــــــ
والعبادة، والباقية ظاهرة واضحة. قوله: "هذا حديث حسن غريب" وأخرجه عبد بن حميد والطبراني.
قوله: "حدثنا محمد بن الفضل" السدوسي أبو الفضل البصري لقبه عارم ثقة ثبت تغير في آخر عمره من صغار التاسعة. قوله: "تقول زوجكن أهلوكن" وفي رواية البخاري: "زوجكن أهاليكن" ، والأهلون والأهالي كلاهما جمع أهل والأول على القياس والثاني على غيره، وأهل الرجل امرأته وولده وكل من في عياله وكذا كل أخ أو أخت أو عم أو ابن عم أو صبي أجنبي يعوله في منزله. وعن الأزهري: أهل الرجل أخص الناس به ويكنى به عن الزوجة. قاله العيني "وزوجني الله من فوق سبع سماوات" وفي مرسل الشعبي: "قالت زينب يا رسول الله أنا أعظم نسائك عليك حقاً أنا خيرهن منكحاً وأكرمهن سفيراً وأقربهن رحماً فزوجنيك الرحمن من فوق عرشه وكان جبريل هو السفير بذلك وأنا ابنة عمتك وليس لك من نسائك قريبة غيري" . أخرجه الطبري وأبو القاسم الطحاوي في كتاب الحجة والتبيان له. قوله: "هذا حديث حسن صحيح" وأخرجه البخاري.
قوله: "عن السدى" اسمه إسماعيل بن عبدالرحمن "عن أبي صالح" اسمه(9/74)
أَنْزَلَ الله تعالى {إنّا أَحْلَلْنَا لَكَ أَزْوَاجَكَ الّلاتِي آتَيْتَ أُجُورَهُنّ وَمَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ مِمّا أَفَاءَ الله عَلَيْكَ وَبَنَاتِ عَمّكَ وَبَنَاتِ عَمّاتِكَ وَبَنَاتِ خَالِكَ وَبَنَاتِ خَالاَتِكَ الّلاتِي هَاجَرْنَ مَعَك} الآية قَالَتْ فَلَمْ أكُنْ أَحِلّ لَهُ
ـــــــ
باذام ويقال له باذان. قوله: "فاعتذرت إليه فعذرني" قال في الصراح: الاعتذار غدر خواستن والعذر بالضم والسكون معذور داشتن. وقال صاحب المشكاة في الإكمال في ترجمة أم هانئ رضي الله عنها: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم خطبها في الجاهلية وخطبها هبيرة بن أبي وهب فزوجها أبو طالب من هبيرة وأسلمت ففرق الإسلام بينها وبين هبيرة وخطبها النبي صلى الله عليه وسلم فقالت والله إن كنت لأحبك في الجاهلية فكيف في الإسلام ولكني امرأة مصبية فسكت عنها انتهى. وقولها إني امرأة مصبية بضم الميم وسكون الصاد وكسر الموحدة أي ذات صبي {إِنَّا أَحْلَلْنَا لَكَ أَزْوَاجَكَ اللَّاتِي آتَيْتَ أُجُورَهُنَّ} أي مهورهن {وَمَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ مِمَّا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَيْكَ} أي أباح لك التسري مما أخذت من المغانم وقد ملك صفية وجويرية فأعتقهما وتزوجهما وملك ريحانة بنت شمعون النضرية ومارية القبطية أم ابنه إبراهيم عليه السلام وكانتا من السراري رضي الله عنهما {وَبَنَاتِ عَمِّكَ وَبَنَاتِ عَمَّاتِكَ وَبَنَاتِ خَالِكَ وَبَنَاتِ خَالاتِكَ اللَّاتِي هَاجَرْنَ مَعَكَ} أي إلى المدينة فمن لم تهاجر منهن لم يجز له نكاحها "الآية" بقيتها مع تفسيرها هكذا {وَامْرَأَةً مُؤْمِنَةً} أي وأحللنا لك امرأة مصدقة بالتوحيد وهذا يدل على أن الكافرة لا تحل له قال إمام الحرمين: وقد اختلف في تحريم الحرة الكافرة عليه. قال بن العربي: والصحيح عندي تحريمها وبهذا يتميز علينا فإنه ما كان في جانب الفضائل والكرامات فحظه فيه أكثر وما كان من جانب النقائص فجانبه عنها أطهر. فجوز لنا نكاح الحرائر الكتابيات وقصر هو صلى الله عليه وسلم على المؤمنات ولهذا كان لا تحل له الكتابية الكافر لنقصانها بالكفر انتهى {إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِيِّ إِنْ أَرَادَ النَّبِيُّ} أي النبي {أَنْ يَسْتَنْكِحَهَا} أي يطلب نكاحها {خَالِصَةً لَكَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ} لفظ خالصة حال من الضمير في وهبت أو مصدر مؤكد أي خلص لك إحلال(9/75)
لأَنّي لَمْ أُهَاجِرْ كُنْتُ مِنَ الطّلَقَاءِ" . هَذا حديثٌ حَسَنٌ صحيحٌ لاَ نَعْرِفُهُ إِلاّ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ مِنْ حَدِيثِ السّدّيّ.
3267 ـ حدثنا أَحْمَدُ بنُ عُبْدَةَ الضّبّيّ أخبرنا حَمّادُ بنُ زَيْدٍ عَن ثَابِتٍ عَنْ أَنَسٍ قَالَ: "نَزَلَتْ هَذِهِ الآية {وَتُخْفِي في نَفْسِكَ مَا الله مُبْدِيِهِ} في شَأْنِ زَيْنَبَ بِنْتِ جَحْشٍ جَاءَ زَيْدٌ يَشْكُو فَهَمّ بِطَلاَقِهَا فَاسْتَأْمَرَ النّبِيّ صلى الله عليه وسلم فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم: {أَمْسِكْ
ـــــــ
ما أحللنا لك خالصة بمعنى خلوصاً والفاعلة في المصادر غير عزيز كالعافية والكاذبة وكان من خصائصه صلى الله عليه وسلم أن النكاح ينعقد في حقه بمعنى الهبة من غير ولي ولا شهود ولا مهر لقوله: {خَالِصَةً لَكَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ}، والزيادة على أربع ووجوب تخيير النساء. واختلفوا في انعقاد النكاح بلفظ الهبة في حق الأمة فذهب أكثرهم إلى أنه لا ينعقد إلا بلفظ الإنكاح أو التزويج وهو قول سعيد بن المسيب والزهري ومجاهد وعطاء وبه قال مالك والشافعي وقال إبراهيم النخعي وأهل الكوفة: ينعقد بلفظ التمليك والهبة، ومن قال بالقول الأول اختلفوا في نكاح النبي صلى الله عليه وسلم فذهب قوم إلى أنه كان ينعقد في حقه صلى الله عليه وسلم بلفظ الهبة لقوله تعالى: {خَالِصَةً لَكَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ} وذهب آخرون إلى أنه لا ينعقد إلا بلفظ الإنكاح أو التزويج كما في حق سائر الأمة لقوله تعالى: {إِنْ أَرَادَ النَّبِيُّ أَنْ يَسْتَنْكِحَهَا} وكان اختصاصه في ترك المهر لا في لفظ النكاح "قالت" أي أم هانئ "كنت من الطلقاء" بضم الطاء المهملة وفتح اللام وبالمد جمع طليق هم الذين أسلموا يوم الفتح ومن عليهم وخلى عنهم. قوله: "هذا حديث حسن" وأخرجه ابن جرير والطبراني وابن أبي حاتم.
قوله: "نزلت هذه الآية إلخ" قال الحافظ: لم تختلف الروايات أنها نزلت في قصة زيد بن حارثة وزينب بنت جحش "فهم بطلاقها" أي أراد أن(9/76)
عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتّقِ الله} . هَذا حديثٌ حَسَنٌ صحيحٌ.
3268 ـ حدثنا عَبْدُ أخبرنا رَوْحٌ عَن عَبْدِ الحَمِيدِ بنِ بَهْرَام عَن شَهْرِ بنِ حَوْشَبٍ قَالَ قَالَ ابنُ عَبّاسٍ: "نُهِيَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم عنْ أَصْنَافِ النّسَاءِ إِلاّ مَا كَانَ مِنَ المُؤْمِنَاتِ المُهَاجِرَاتِ قَالَ {لاَ يَحِلّ لَكَ النّسَاءُ مِنْ بَعْدُ وَلاَ أَنْ تَبَدّلَ بِهِنّ مِنْ أَزْوَاجٍ وَلَوْ أَعْجَبَكَ حُسْنُهُنّ إِلاّ مَا مَلكَتْ يَمِينُكَ} وأحَلّ الله فَتَيَاتِكُمُ المُؤْمِنَاتِ {وامْرَأَةً مُؤمِنَةً إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَهَا للِنّبيّ} وَحَرّمَ كُلّ ذَاتِ دِيْنٍ غَيْرَ الإسْلاَمِ ثُم
ـــــــ
يطلقها "فاستأمر" أي استثار. قوله: "هذا حديث حسن صحيح" وأخرجه أحمد والبخاري.
قوله: "حدثنا عبد" بن حميد "حدثنا روح" بن عبادة. قوله "قال" أي الله تعالى {لا يَحِلُّ لَكَ النِّسَاءُ مِنْ بَعْدُ وَلا أَنْ تَبَدَّلَ} بترك إحدى التائين في الأصل {بِهِنَّ مِنْ أَزْوَاجٍ} بأن تطلقهن أو بعضهن وتنكح بدل من طلقت {إِلَّا مَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ} من الإماء فتحل لك. قال الحافظ ابن كثير: ذكر غير واحد من العلماء كابن عباس ومجاهد وقتادة وغيرهم أن هذه الآية نزلت مجازاة لأزواج النبي صلى الله عليه وسلم ورضا عنهن على حسن صنيعهن في اختيارهن الله ورسوله والدار الآخرة لما خيرهن رسول الله صلى الله عليه وسلم فلما اخترن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان جزاؤهن أن الله تعالى قصره عليهن وحرم عليه أن يتزوج بغيرهن أو يستبدل بهن أزواجاً غيرهن ولو أعجبه حسنهن إلا الإماء والسراري فلا حرج عليه فيهن، ثم إنه تعالى رفع عنه الحرج في ذلك ونسخ حكم هذه الآية وأباح له التزوج. ولكن لم يقع منه بعد ذلك تزوج لتكون المنة لرسول الله صلى الله عليه وسلم عليهن، ثم ذكر حديث عائشة الآتي ثم قال: وقال آخرون بل معنى الآية لا يحل لك النساء من بعد أي من بعد ما ذكرنا لك من صفة النساء اللاتي أحللنا لك من نسائك(9/77)
قَالَ {وَمَنْ يَكْفُرْ بالإيمَانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ وَهُوَ في الآخرةِ مِنَ الخَاسِرين} وَقَالَ {يَا أَيّهَا النبيّ إِنّا أَحْلَلْنَا لَكَ أزْوَاجَكَ اللاّتِي آتَيْتَ أُجُورَهُنّ وَمَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ مِمّا أَفَاءَ الله عَلَيْكَ} إِلى قَوْلِهِ {خَالِصَةً لَكَ مِنْ دُونِ المُؤْمِنِينَ} وَحرّمَ مَا سِوَى ذَلِكَ مِنْ أَصْنَافِ النّسَاءِ. هَذا حديثٌ حَسَنٌ إِنّمَا نَعْرِفُهُ مِنْ حَدِيثِ عبدِ الحمِيدِ بنِ بَهْرَامَ سَمِعْتُ أَحمَدَ بن الحَسَنِ يقول: قال أَحْمَدَ بنِ حَنْبَلٍ لاَ بَأْسَ بِحَديِثِ عَبْدِ الْحَمِيدِ بنِ بَهْرَا عَن شَهْر بنِ حَوْشَبٍ.
3269 ـ حدثنا ابنُ أَبِي عُمَر، أخبرنا سُفْيَانُ بن عيينة عَنْ عَمْرٍو عَن عَطَاءٍ قَالَ: قَالَتْ عَائِشَةُ: "مَا مَاتَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم حَتّى أُحِلّ لَهُ
ـــــــ
اللاتي أتيت أجورهن وما ملكت يمينك وبنات العم والعمات والخال والخالات والواهبة وما سوى ذلك من أصناف النساء فلا يحل لك، هذا مروى عن أُبي ابن كعب وعكرمة ومجاهد في رواية عنه والضحاك في رواية وأبي صالح والحسن وغيرهم ثم قال: واختيار ابن جرير رحمه الله، أن الآية عامة فيمن ذكر من أصناف النساء وفي النساء اللواتي في عصمته، وكن تسعاً وهذا الذي قاله جيد ولعله مراد كثير ممنن حكينا عنه من السلف فإن كثيراً منهم روي عنه هذا وهذا ولا منافاة انتهى "ثم قال" أي ثم قرأ ابن عباس {وَمَنْ يَكْفُرْ بِالْإيمَانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ} يعني ومن يجحد ما أمر الله به من توحيده ونبوة محمد صلى الله عليه وسلم وما جاء به من عند الله فقد بطل ثواب عمله الذي كان عمله في الدنيا وخاب وخسر في الدنيا والآخرة. وهذه الآية في سورة المائدة والظاهر أن ابن عباس قرأها لبيان وجه تحريم الله على رسول الله صلى الله عليه وسلم كل ذات دين غير الإسلام.
قوله: "عن عمرو" هو ابن دينار. قوله: "ما مات رسول الله صلى الله(9/78)
النّسَاءُ". هَذا حديثٌ حَسَنٌ صحيح.
3336 ـ حدثنا عُمَرُ بنُ إسْمَاعِيلَ بنِ مُجَالِدِ بنِ سَعِيدٍ، أخبرنا أبِي عن بيانٍ عَن أَنَسِ بنِ مَالِكٍ قَالَ "بَنَى رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم بِامْرَأَةٍ مِنْ نِسَائِهِ فَأَرْسَلَنِي فَدَعَوْتُ قَوْماً إِلى الطّعَامِ فَلَمّا أَكَلُوا وَخَرَجُوا قَامَ
ـــــــ
عليه وسلم حتى أحل له النساء" وفي حديث أم سلمة عند ابن أبي حاتم "لم يمت رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أحل الله له أن يتزوج من النساء ما شاء إلا ذات محرم" وذلك قوله الله تعالى {تُرْجِي مَنْ تَشَاءُ مِنْهُنَّ} الآية قال ابن كثير بعد ذكر هذا الحديث "فجعلت هذه" أي {تُرْجِي مَنْ تَشَاءُ مِنْهُنَّ} الآية "ناسخة للتي بعدها في التلاوة" أي لا يحل لك النساء من بعد ولا أن تبدل بهن من أزواج ولو أعجبك حسنهن إلا ما ملكت يمينك "كآبتي عدة الوفاة في البقرة الأولى ناسخة للتي بعدها" انتهى. المراد بالآية الأولى {وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجاً يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْراً} وبالآية الثانية {وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجاً وَصِيَّةً لِأَزْوَاجِهِمْ مَتَاعاً إِلَى الْحَوْلِ غَيْرَ إِخْرَاجٍ} .
قلت: اختلف في تفسير قوله تعالى: {تُرْجِي مَنْ تَشَاءُ مِنْهُنَّ وَتُؤْوِي إِلَيْكَ مَنْ تَشَاءُ} فقيل معناه تعتزل من شئت منهن بغير طلاق وتقسم لغيرها، وقال ابن عباس تطلق من تشاء منهن وتمسك من تشاء. وقال الحسن: تترك نكاح من شئت وتنكح من شئت من النساء، وقيل تقبل من تشاء من المؤمنات اللاتي يهبن أنفسهن فتؤويها إليك وتترك من تشاء فلا تقبلها. فقول من قال: إن هذه الآية ناسخة لقوله تعالى: {لا يَحِلُّ لَكَ النِّسَاءُ مِنْ بَعْدُ} إلخ إنما يصح على بعض هذه الأقوال. قوله: "هذا حديث حسن صحيح" وأخرجه أحمد والنسائي.
قوله "عن بيان" هو ابن بشر. قوله "بنى رسول الله صلى الله عليه وسلم بامرأة من نسائه" هي زينب أي دخل بها. قال في النهاية: البناء والابتناء الدخول بالزوجة والأصل فيه أن الرجل كان إذا تزوج امرأة بنى عليها قبة(9/79)
رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم مُنْطَلِقاً قِبَلَ بَيْتِ عَائِشَةَ فَرَأَى رَجُلَيْنِ جَالِسَيْنِ فانْصَرَفَ رَاجِعاً فَقَامَ الرّجُلاَنِ فَخَرَجَا فَأَنْزَلَ الله عز وجلّ {يَا أَيّهَا الّذِينَ آمَنُوا لاَ تَدْخُلُوا بُيُوتَ النبيّ إِلاّ أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ إلى طَعَامٍ غَيْرَ نَاظِرِينَ إنَاهُ} " وفي الحَدِيثِ قِصّةٌ. هَذا حديثٌ حَسَنٌ غَرِيبٌ
ـــــــ
ليدخل بها فيها فيقال بنى الرجل على أهله قال الجوهري: ولا يقال بنى بأهله. وفيه نظر فإنه قد جاء في غير موضع من الحديث وغير الحديث وعاد الجوهري استعمله في كتابه انتهى. "إلى الطعام" أي طعام الوليمة "قام رسول الله صلى الله عليه وسلم منطلقاً قبل بيت عائشة فرأى رجلين جالسين" فيه اختصار وإجمال توضحه روايات البخاري ومحصل القصة: أن الذين حضروا الوليمة جلسوا يتحدثون واستحى النبي صلى الله عليه وسلم أن يأمرهم بالخروج فتهيأ للقيام ليفطنوا لمراده فيقوموا بقيامه فلما ألهاهم الحديث عن ذلك، قام وخرج فخرجوا بخروجه إلا الثلاثة الذين لم يفطنوا لذلك لشدة شغل بالهم بما كانوا فيه من الحديث. وفي غضون ذلك كان النبي صلى الله عليه وسلم يريد أن يقوموا من غير مواجهتهم بالأمر بالخروج لشدة حيائه فيطيل الغيبة عنهم بالتشاغل بالسلام على نسائه وهم في شغل بالهم وكان أحدهم في أثناء ذلك أفاق من غفلة فخرج وبقي الاثنان فلما طال ذلك ووصل النبي صلى الله عليه وسلم إلى منزله فرآهما فرجع فرأياه لما رجع فحينئذٍ فطنا فخرجا فدخل النبي صلى الله عليه وسلم وأنزلت الآية فأرخى الستر بينه وبين أنس خادمه أيضاً ولم يكن له عهد بذلك {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلَّا أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ} أي في الدخول بالدعاء {إِلَى طَعَامٍ} أي فتدخلوا {غَيْرَ نَاظِرِينَ} أي منتظرين {إِنَاهُ} أي نضجه مصدر أنى يأني وبعده {وَلَكِنْ إِذَا دُعِيتُمْ فَادْخُلُوا فَإِذَا طَعِمْتُمْ} أي أكلتم الطعام {فَانْتَشِرُوا} أي فاخرجوا من منزله {وَلا مُسْتَأْنِسِينَ لِحَدِيثٍ} . أي لا تطيلوا الجلوس ليستأنس بعضكم بحديث بعض {إِنَّ ذَلِكُمْ} أي المكث وإطالة الجلوس {كَانَ يُؤْذِي النَّبِيَّ فَيَسْتَحْيِي مِنْكُمْ} أي من إخراجكم {وَاللَّهُ لا يَسْتَحْيِي مِنَ الْحَقِّ} أي لا يترك بيانه. قوله: "وفي الحديث قصة" أي طول وكلام أكثر(9/80)
مِنْ حَدِيثِ بَيَانٍ وَرَوَى ثابِتٌ عَنْ أَنَسٍ هَذَا الحَدِيثَ بِطُولِهِ.
3271 ـ حدثنا مُحمّدُ بنُ المُثَنّى، أخبرنا أَشْهَد بنُ حَاتِمٍ قَالَ ابنُ عَوْنٍ: حدثناهُ عَنْ عَمْرِو بنِ سَعِيدٍ عَن أنَسِ بنِ مَالِك قَالَ "كُنْتُ مَعَ النبيّ صلى الله عليه وسلم فَأَتَى بَابَ امْرَأَةٍ عَرّسَ بِهَا فإِذَا عِنْدَهَا قَوْمٌ فَانْطَلَقَ فَقَضَى حَاجَتَهُ واحْتُبِسَ ثُمّ رَجَعَ وَعِنْدَهَا قَوْمٌ فَانْطَلَقَ فَقَضَى حَاجَتَهُ فَرَجَعَ وَقَد خَرَجُوا. قَالَ فَدَخَلَ وَأَرْخَى بَيْنِي وبَيْنَهُ سِتْراً قَالَ فَذَكَرْتُهُ لأَبي طَلْحَةَ قَالَ فَقَالَ لَئِنْ كَانَ كَمَا تَقُولُ لَيَنْزِلَنّ في هَذَا شَيْءٌ. قَالَ: فَنَزَلَتْ آيَةُ الحِجَابِ" . هَذا حديثٌ حسن غريبٌ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ. وعَمْرُو بنُ سَعِيدٍ يُقَالُ لَهُ الأَصْلَع.
ـــــــ
من هذا "هذا حديث حسن غريب" وأصله في الصحيحين "وروى ثابت عن أنس هذا الحديث بطوله" أخرجه مسلم في باب زواج زينب بنت جحش ونزول الحجاب من كتاب النكاح.
قوله: "حدثنا أشهد بن حاتم" الجمحي مولاهم أبو عمرو وقيل أبو حاتم بصرى صدوق يخطئ من التاسعة "قال ابن عون حدثناه عن عمرو بن سعيد" الضمير في قال راجع إلى أشهد، وابن عون مبتدأ وحدثناه خبره أي قال أشهد ابن عون حدثنا هذا الحديث عن عمرو بن سعيد، وابن عون هذا هو عبد الله بن عون وعمرو بن سعيد هو أبو سعيد البصري. قوله: "عرس بها" من التعريس أي بنى بها قال في النهاية أعرس الرجل فهو معرس إذا دخل بامرأته عند بنائها ولا يقال فيه عرس. قلت قوله ولا يقال فيه عرس ترده رواية الترمذي هذه، وقال في المجمع قيل هو أي عرس لغة في أعرس "فاحتبس" الحبس المنع واحتبسه حبسه فاحتبس لازم ومتعد كذا في القاموس "فنزلت آية الحجاب" وهي قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ} إلخ.(9/81)
3272 ـ حدثنا قُتَيْبَةُ بنُ سَعِيدٍ، أخبرنا جَعْفَرُ بنُ سُلَيْمَانَ الضُبَعِيّ عَن الْجَعْدِ أبي عُثْمَانَ عَن أَنَسِ بنِ مَالِكٍ رضي الله عنه قَالَ: "تَزَوّجَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم فَدَخَلَ بِأَهِلِهِ، قَالَ فَصَنَعَتْ أُمّي أُمّ سُلَيْمٍ حَيْساً فَجَعَلَتْهُ في تَوْرٍ فَقَالَتْ يَا أَنَسُ اذْهَبْ بِهَذَا إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم فَقُلْ لَهُ بَعَثَتْ بِهَذا إلَيْكَ أُمّي وَهِيَ تَقْرِئُكَ السّلاَمَ وَتَقُولُ إنّ هذَا لَكَ مِنّا قَلِيلٌ يَا رَسُولَ الله. قَالَ فَذَهَبْتُ بِهِ إلى رَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم فَقُلْتُ إنّ أُمّي تُقْرِئُكَ السّلاَمَ وَتَقُولُ إنّ هَذَا مِنّا لَكَ قَلِيلٌ، فَقَالَ ضَعْهُ، ثُمّ قَالَ اذْهَبْ فَادْعُ لِي فُلاَناً وَفُلاَناً وفُلاَناً وَمَنْ لَقِيتَ وَسَمّى رِجَالاً، قَالَ فَدَعَوْتُ مَنْ سَمّى وَمَنْ لَقِيتُ، قَالَ قُلْتُ لأَنَسٍ عَدَدُكَمْ كَانُوا؟ قَالَ زَهَاءُ ثَلاَثِمَائَةٍ، قَالَ وَقَالَ لِي رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم يَا أنَسُ هَاتِ التّوْرِ، قَالَ فَدَخَلُوا حَتّى امْتَلأَتِ الصّفّةُ والْحُجْرَةُ فَقَالَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم لِيَتَحلّق عَشْرَةٌ عَشْرةٌ ولْيَأْكُلْ كُلّ
ـــــــ
قوله: "عن الجعد أبي عثمان" قال في التقريب: الجعد بن دينار اليشكري أبو عثمان الصيرفي البصري صاحب الحلى ثقة من الرابعة. قوله: "فدخل بأهله" هي زينب بنت جحش "فصنعت أمي أم سليم حيساً" هو الطعام المتخذ من التمر والأقط والسمن وقد يجعل عوض الأقط الدقيق أو الفتيت "فجعلته في تور" بفتح تاء وسكون واو هو إناء من صفر أو حجارة كالإجانة وقد يتوضأ منه "قال زهاء ثلثمائة" بضم الزاي وفتح الهاء وبالمد أي قدر ثلاث مائة من زهوت القوم أي حزرتهم وهو بالنصب على تقدير كانوا وقيل برفعه أي عددنا مقدار ثلثمائة "هات" بكسر التاء أي أعطني "حتى امتلأت الصفة" بضم صاد وتشديد فاء هو موضع مظلل في مسجد المدينة وأهل الصفة فقراء المهاجرين ومن لم يكن له منم منزل يسكنه فكانوا يأوون إليه "ليتحلق" الحلقة بفتح(9/82)
إنْسَانٍ مِمّا يَلِيهِ، قَالَ فَأَكَلُوا حَتّى شَبِعُوا، قَالَ فَخَرَجَتْ طَائِفَةٌ وَدَخَلَتْ طَائِفَةٌ حَتّى أَكَلُوا كُلّهُمْ، قَالَ فَقَالَ لِي يَا أَنَسُ ارْفَعْ. قَالَ فَرَفَعْتُ فَمَا أَدْرِي حِينَ وَضَعْتُ كَانَ أَكْثَرَ أَمْ حِينَ رَفَعْتُ، قَالَ وَجَلَسَ مِنْهُمْ طَوَائِفُ يَتَحَدّثُونَ في بَيْتِ رَسولِ الله صلى الله عليه وسلم وَرسولُ الله صلى الله عليه وسلم جَالِسٌ وَزَوْجَتُهُ مُوَلّيَةٌ وَجْهَهَا إلى الحَائِطِ، فَثَقُلُوا عَلَى رسولِ الله صلى الله عليه وسلم فَخَرَجَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم فَسَلّمَ عَلَى نِسَائِهِ ثُمّ رَجَعَ فَلَمّا رَأَوْا رسُولَ الله صلى الله عليه وسلم قَدْ رَجَعَ ظَنّوا أَنّهُمْ قَدْ ثَقُلُوا عَلَيْهِ قال: فابْتَدَرُوا الْبَابَ فَخَرَجُوا كُلّهُمْ وَجَاءَ رسُولُ الله صلى الله عليه وسلم حَتّى أَرْخَى السّتْرَ وَدَخَلَ وَأَنَا جَالِسٌ في الْحُجْرَةِ فَلَمْ يَلْبَثْ إلاّ يَسِيراً حَتّى خَرَجَ عَلَيّ وَأُنْزِلَتْ هذِهِ الآيات، فَخَرَجَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم فَقَرَأَهُنّ عَلَى النّاسِ: {يَا أَيّهَا الّذِينَ آمَنُوا لاَ تَدْخُلُوا بُيُوتَ النّبيّ إلاّ أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ إِلى
ـــــــ
الحاء وسكون اللام هي الجماعة من الناس مستديرون كحلقة الباب وغيره والتحلق تفعل منها وهو أن يتعمدوا ذلك "ارفع" أي الطعام "حين وضعت" أي الطعام قال الحافظ بعد ذكر هذا الحديث عن صحيح مسلم ويجمع بينه وبين رواية حميد "يعني عن أنس قال أولم رسول الله صلى الله عليه وسلم حين بنى بزينب ابنة جحش فأشبع الناس خبزاً ولحماً" بأنه صلى الله عليه وسلم أولم عليه باللحم والخبز وأرسلت إليه أم سليم الحيس انتهى. وقال النووي: وفي هذا الحديث أنه يستحب لأصدقاء المتزوج أن يبعثوا إليه بطعام يساعدونه به على وليمته وفيه الاعتذار إلى المبعوث إليه وقول الإنسان نحو قول أم سليم هذا منا لك قليل انتهى "وزوجته مولية وجهها" وكذلك في صحيح مسلم وزوجته بالتاء، قال النووي: هكذا هو في جميع النسخ بالتاء وهي لغة قليلة تكررت في الحديث(9/83)
طَعَامِ غَيْرَ نَاظِرِينَ إِنَاهُ وَلَكِنْ إِذَا دُعِيتَمْ فادْخُلُوا فإِذَا طَعِمْتُمْ فَانْتَشِرُوا وَلاَ مُسْتَأْنِسِينَ لحدِيثٍ إِنّ ذَلِكُمْ كَانَ يُؤْذِي النبيّ} إِلى آخِرِ الآيةِ. قَالَ الْجَعْدُ قَالَ أَنَسٌ: أَنَا أَحْدَثُ النّاسِ عَهْداً بِهَذِهِ الآيات وَحُجِبْنَ نِسَاءُ النبيّ صلى الله عليه وسلم" . هَذا حديثٌ حَسَنٌ صحيحٌ. وَالْجَعْدُ هُوَ ابنُ عُثْمَانَ ويُقَالُ هُوَ ابنُ دِينَارٍ وَيُكْنَى أَبَا عُثْمَانَ بَصْرِيّ وَهُوَ ثِقَةٌ عِنْدَ أَهْلِ الْحَدِيثِ رَوَى عَنْهُ يُونُسُ بنُ عُبَيْدٍ وَشُعْبَةُ وَحَمّادُ بنُ زَيْدٍ.
3273 ـ حدثنا إسحاقُ بنُ مُوسَى الأَنْصَارِيّ، أخبرنا مَعْنٌ، أخبرنا مَالِكُ بنُ أَنَسٍ عن نُعَيْمِ بنِ عَبْدِ الله المُجْمِرِ أَنّ مُحَمّدَ بنَ عَبْدِ الله بنِ زَيْدٍ الأَنْصَارِيّ. وعَبْدُ الله بنُ زَيْدٍ الّذِي كَانَ أُرِيَ النّدَاءَ بالصّلاَةِ أَخْبَرَهُ عَن أَبِي مَسْعُودٍ الأَنْصَارِيّ أَنّهُ قَالَ: "أَتَانَا رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم
ـــــــ
والشعر المشهور حذفها "فثقلوا" بفتح المثلثة وضم القاف "قال أنس أنا أحدث الناس عهداً بهذه الآيات" يعني أول الناس علماً بهذه الآية فعلمتها أولاً ثم علمها الناس. قوله: "هذا حديث حسن صحيح" وأخرجه مسلم والنسائي وابن أبي حاتم وعلقه البخاري في كتاب النكاح فقال وقال إبراهيم بن طهمان عن الجعد أبي عثمان عن أنس فذكر نحوه.
قوله: "عن نعيم بن عبد الله المجمر" كنيته أبو عبد الله المدني مولى آل عمر يعرف بالمجمر بسكون الجيم وضم الميم الأولى وكسر الثانية وكذا أبوه ثقة من الثالثة "وعبد الله بن زيد الذي كان أدى النداء بالصلاة" يعني عبد الله بن زيد والد محمد هذا هو الذي أدى النداء بالصلاة وفي رواية مسلم وعبد الله بن زيد هو الذي كان أدى النداء بالصلاة "عن أبي مسعود الأنصاري"(9/84)
ونَحْنُ في مَجْلِسِ سَعْدِ بنِ عُبَادَةَ فَقَالَ لَهُ بَشِيرُ بنُ سَعْدٍ أَمَرَنَا الله أَنْ نُصَلّي عَلَيْكَ فَكَيْفَ نُصَلّي عَلَيْكَ قَالَ فَسَكَتَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم حَتى تمنّينا أَنّهُ لَمْ يَسْأَلْهُ، ثُمّ قَالَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم قُولُوا: اللّهُمّ صَلّ عَلَى مُحَمّدٍ وَعَلَى آلِ مُحمّدٍ كمَا صَلّيْتَ عَلَى إبراهيم وَعَلَى آلِ إبْرَاهيمَ وَبَارِكْ عَلَى مُحمّدٍ وعَلَى آلِ مُحمّدٍ كمَا بَارَكْتَ عَلَى إبْرَاهيمَ وَعَلَى آلِ إبْرَاهيمَ في العالمينَ إنّكَ حَمِيدٌ مَجِيدٌ، والسّلاَمُ كمَا قَدْ عُلّمْتُمْ" وفي البابِ عَن عَلِيّ وأَبي حُمَيْدٍ وكَعْبِ
ـــــــ
اسمه عقبة بن عمرو صاحبي بدري جليل. قوله: "فقال له بشير بن سعد" بن ثعلبة بن جلاس الأنصاري الخزرجي صحابي جليل بدري استشهد بعين التمر "أمرنا الله أن نصلي عليك فكيف نصلي عليك" أي أمرنا الله تعالى بقوله: صلوا عليه وسلموا تسليماً. فكيف نلفظ بالصلاة "حتى ظننا" من الظن وفي رواية مسلم حتى تمنينا من التمني "أنه لم يسأله" قال النووي: معناه كرهنا سؤاله مخافة من أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم كره سؤاله وشق عليه "وبارك على إبراهيم وعلى محمد وعلى آل محمد كما باركت على آل إبراهيم" قال العلماء: معنى البركة هنا الزيادة من الخير والكرامة وقيل هي بمعنى التطهير والتزكية. قال النووي "والسلام كما قد علمتم" معناه قد أمركم الله تعالى بالصلاة والسلام علي فأما الصلاة فهذه صفتها وأما السلام فكما علمتم في التشهد وهو قولهم: السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته، وقوله علمتم هو بفتح العين وكسر اللام المخففة ومنهم من رواه بضم العين وتشديد اللام أي علمتكموه وكلاهما صحيح. قوله: "وفي الباب عن علي وأبي حميد إلخ" أما حديث علي فأخرجه النسائي، وأما حديث أبي حميد فأخرجه الشيخان، وأما حديث كعب بن عجرة فأخرجه الجماعة، وأما حديث طلحة بن عبيد الله فأخرجه النسائي، وأما حديث أبي سعيد فأخرجه البخاري والنسائي وابن ماجه، وأما حديث زيد بن خارجة فأخرجه أحمد والنسائي، وأما حديث بريدة فأخرجه أحمد وفي سنده أبو داود الأعمى اسمه نفيع وهو ضعيف جداً ومتهم بالوضع. وفي الباب(9/85)
ابنِ عُجْرَةَ وطَلْحَةَ بنِ عُبَيْدِ الله وأَبي سَعِيدٍ وَزَيْدِ بنِ خَارِجَةَ ويُقَالُ ابنُ حَارِثَةَ وبُرَيْدَةَ هَذا حديثٌ حَسَنٌ صحيحٌ.
3274 ـ حدثنا عَبْدُ بنُ حُمَيْدٍ، أخبرنا رَوْحُ بنُ عُبَادَةَ عَن عَوْفٍ عَن الحَسَنِ ومُحمّدٍ وَخِلاَسٍ عَن أَبي هُرَيْرَةَ عَن النبيّ صلى الله عليه وسلم "أَنّ مُوسَى عَلَيهِ السّلاَمُ كانَ رَجُلاً حَيِيّا سِتّيراً مَا يُرَى مِنْ جِلْدِهِ شَيْءٌ اسْتِحْيَاءً مِنْهُ فآذَاهُ مَنْ آذَاهُ مِنْ بَنِي إسْرَائِيلَ فَقَالُوا مَا يَسْتَتِرُ هَذَا التّسَتّرَ إلاّ مِنْ عَيْبٍ بِجِلْدِهِ إِمّا بَرَصٌ وإمّا أُدْرَةٌ وإمّا آفَةٌ وإنّ الله عز وجلّ أَرَادَ أَنْ يُبَرّئَهُ مِمّا قَالُوا، وإنّ مُوسَى عليه السلام خَلاَ يَوْماً وَحْدَهُ فَوَضَعَ ثِيَابَهُ عَلَى حَجَر
ـــــــ
أحاديث أخرى إن شئت الوقوف على ألفاظ هذه الأحاديث فراجع النيل. قوله: "هذا حديث حسن صحيح" وأخرجه أحمد ومسلم وأبو داود والنسائي.
قوله: "عن عوف" هو ابن أبي جميلة الأعرابي "عن الحسن" هو البصري "ومحمد" هو ابن سيرين "وخلاس" بكسر الخاء المعجمة وتخفيف اللام وآخره مهملة هو ابن عمرو الهجري. قوله: "كان رجلاً حيياً" بفتح الحاء المهملة وكسر التحتانية الخفيفة بعدها أخرى مثقلة بوزن فعيل من الحياء أي ذا حياء "ستيراً" بفتح السين بوزن كريم ويقال ستيراً بكسر السين وتشديد الفوقية المسكورة بوزن سكين أي ذا تستر يستتر في الغسل. ما يرى من جلده "شيء استحياء منه" هذا يشعر بأن اغتسال بني إسرائيل عراة بمحضر منهم كان جائزاً في شرعهم وإنما اغتسل موسى وحده استحياء "فآذاه من آذاه" بالمد فيهما من الإيذاء "إما برص" محركة بياض يظهر في ظاهر البدن لفساد مزاج "وإما أدرة" بضم الهمزة وسكون الذال في الخصية يقال رجل آدر بين الأدر بفتح الهمزة والدال، ووقع في رواية ابن مردويه عن عوف الجزم بأنهم قالوا إنه آدر "وإن الله أراد أن يبرئه" بتشديد الراء من التبرئة أي ينزهه عن نسبة ذلك العيب "وإن موسى خلا يوماً وحده" أي انفرد عن الناس يوماً حال كونه(9/86)
ثُمّ اغْتَسَلَ فَلَمّا فَرَغَ أَقْبَلَ إلى ثِيَابِهِ ليَأْخُذَهَا وإنّ الحَجَرَ عَدَا بِثَوْبِهِ فَأَخَذَ مُوسَى عَصَاهُ فَطَلَبَ الْحَجَرَ فَجَعَلَ يَقُولُ ثَوْبي حَجَرُ ثَوْبي حَجَرُ حَتّى انْتَهَى إِلى مَلأٍ مِنْ بَنِي إسْرَائِيلَ فَرَأَوْهُ عُرْيَاناً أَحْسَنَ النّاسِ خَلْقاً وَأَبْرَأَهُ مِمّا كَانُوا يَقُولُونَ، قَالَ وقَامَ الْحَجَرُ فأَخَذَ ثَوْبَهُ فَلَبِسَهُ وَطفِقَ بالْحَجَرِ ضَرْباً بِعَصَاهُ، فَوَالله إنّ بالْحَجَرِ لَنَدْباً مِنْ أَثَرِ عَصَاهُ ثَلاثَاً أَوْ أَرْبَعاً أَوْ خَمْساً فَذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى {يَا أَيّهَا الّذِينَ آمَنُوا لاَ تَكُونُوا كالّذِينَ آذَوْا مُوسَى فَبَرّأَهُ الله مِمّا قَالُوا وَكانَ عِنْدَ الله وَجِيهاً} " . هَذا حديثٌ حَسَنٌ صحيحٌ وقَدْ رُوِيَ مِنْ غَيْرِ وَجْهٍ عَن أَبي هُرَيْرَةَ عَن النبيّ صلى الله عليه وسلم.
ـــــــ
منفرداً "عدا بثوبه" أي فر ومضى مسرعاً "ثوبي حجر ثوبي حجر" أي أعطني ثوبي أو رد ثوبي وحجر بالضم على حذف النداء "حتى انتهى إلى ملأ" أي جماعة والظاهر أن فيهم المؤذين "فرأوه عرياناً" أي أبصروه حال كونه عرياناً "وطفق" بكسر الفاء أخذ وشرع "بالحجر ضرباً" يضربه ضرباً فالجار متعلق بالفعل المقدر كما في قوله سبحانه {فَطَفِقَ مَسْحاً بِالسُّوقِ وَالْأَعْنَاقِ} "فو الله إن بالحجر لندبا" بالتحريك أثر الجرح إذا لم يرتفع عن الجلد فشبه به أثر الضرب في الحجر قال الحافظ: ظاهره أنه بقية الحديث وقد بين في رواية همام في الغسل أنه قول أبي هريرة انتهى. ولفظ رواية همام عند البخاري في الغسل هكذا قال أبو هريرة "والله إنه لندب بالحجر ستة أو سبعة ضرباً بالحجر" فذلك قوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَكُونُوا كَالَّذِينَ آذَوْا مُوسَى} أي لا تؤذوا نبيكم كما آذى بنو إسرائيل موسى وهو قولهم إنه آدر {فَبَرَّأَهُ اللَّهُ مِمَّا قَالُوا} أي فطهره الله مما قالوا فيه {وَكَانَ عِنْدَ اللَّهِ وَجِيهاً} أي كريماً ذا جاه وقدر. ومما أوذي به نبينا صلى الله عليه وسلم أنه قسم قسماً فقال رجل هذه قسمة ما أريد(9/87)
سورة سبأ
بسم الله الرحمن الرحيم
3275 ـ حدثنا أَبُو كُرَيْبٍ وَعَبْدُ بنُ حُمَيْدٍ قَالاَ أخبرنا أَبُو أُسَامَةَ عَنْ الحَسَنَ بنِ الحَكَمِ النّخَعيّ قَالَ: حَدّثني أَبو سَبْرَةَ النّخَعيّ عَنْ فَرْوَةَ بنِ مُسَيْكٍ المُرادِيّ قَالَ "أَتَيْتُ النبيّ صلى الله عليه وسلم فَقُلْتُ يَا رَسُولَ الله أَلاَ أُقَاتِلُ مَنْ أَدْبَرَ مِنْ قَوْمِي بمَنْ أَقْبَلَ مِنْهُمْ؟ فأَذِنَ لِي في قِتَالِهِمْ وَأَمّرَني، فَلَمّا خَرَجْتُ مِنْ عِنْدِهِ سَأَلَ عَنّي مَا فَعَلَ الغُطَيْفِيّ فأُخْبِرَ أنيّ قَدْ سِرْتُ، قَالَ فأَرْسَلَ في أَثَرِي فَرَدّني فَأَتَيْتُهُ وَهُوَ في نَفَرٍ مِنْ أَصْحَابِهِ فَقَالَ:
ـــــــ
بها وجه الله. فغضب النبي صلى الله عليه وسلم من ذلك. وقال "يرحم الله موسى لقد أوذي بأكثر من هذا فصبر" . رواه البخاري. قوله: "هذا حديث حسن صحيح" وأخرجه الشيخان.
"سورة سبأ"
مكية إلا {وَيَرَى الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ} الآية
وهي أربع أو خمس وخمسون آية
قوله: "أخبرنا أبو أسامة" اسمه حماد بن أسامة "عن الحسن بن الحكم النخعي" كنيته أبو الحكم الكوفي صدوق يخطئ من السادسة "حدثني أبو سبرة النخعي" الكوفي يقال اسمه عبد الله بن عابس مقبول من الثالثة "عن فروة بن مسيك" بضم الميم وبفتح السين المهملة مصغراً المرادي ثم الغطيفي صحابي سكن الكوفة يكنى أبا عمير واستعمله عمر. قوله: "من أدبر" أي عن الإسلام "بمن أقبل منهم" أي مع من آمن من قومي "في قتالهم" أي في قتال من أدبر من قومي "وأمرني" أي جعلني أميراً "ما فعل الغطيفي" يعني فروة بن مسيك "فأخبر" بصغية المجهول "فأرسل في أثري" بفتحتين وبكسر الهمزة وسكون المثلثة أي(9/88)
ادْعُ القَوْمَ فَمنْ أَسْلَمَ مِنْهُمْ فَاقْبَلْ مِنْهُ، وَمَنْ لَمْ يُسْلِمْ فَلاَ تَعْجَلْ حَتّى أُحْدِثَ إِلَيْكَ، قَالَ وأُنْزِلَ في سَبَإ ما أُنْزِلَ، فَقَالَ رَجُلٌ يَا رَسُولَ الله وَمَا سَبَأٌ أَرْضٌ أَو امرأةٌ؟ قَالَ لَيْسَ بِأَرْضٍ وَلاَ امْرَأَةٍ وَلَكنّهُ رَجُلٌ وَلَدَ عَشْرَةً مِنَ العَرَبِ فَتَيَامَنَ مِنْهُمْ سِتّةٌ وَتَشَاءَمَ مِنْهُمْ أَرْبَعَةٌ، فأَمّا الّذِينَ تَشَاءَمُوا فَلخْمٌ وجذامٌ وَغَسّانُ وعَامِلَةُ، وأَمّا الّذِينَ تَيَامَنَوُا فالأَزْدُ والأَشْعَريونَ وحِمْيَرُ ومَذْحِج وَأَنْمَار، وَكِنْدَةُ فَقَالَ رَجُلٌ يَا رَسُولَ الله ومَا أَنْمَارُ؟ قَالَ الّذِينَ مِنْهُم خَثْعَمُ وَبَجِيلَةُ" ورُوي هذا عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم. هَذا حديثٌ غَرِيبٌ حَسَنٌ.
ـــــــ
عقبى، قال في القاموس: خرج في أثره وإثره أي بعده "فردني" أي فأرجعني "ادع القوم" أي إلى الإسلام "فأقبل منه" أي فأقبل الإسلام منه "فلا تعجل" أي بقتالهم "حتى أحدث إليك" يعني حتى آمرك بأمر حادث جديد "وأنزل في سبأ" بفتح السين والموحدة وبالهمزة والمراد بها القبيلة التي هي من أولاد سبأ ابن يشجب بن يعرب بن قحطان بن هود "ما أنزل" أي من الآيات "ولد عشرة" بالنصب إذا كان ولد بصيغة المعلوم وبالرفع إذا كان بصيغة المجهول أي ولد له عشرة وكذلك في رواية أحمد "فتيامن منهم ستة" أي أخذوا ناحية اليمن وسكنوا بها "وتشاءم منهم أربعة" أي قصدوا جهة الشام "فلخم" بفتح اللام وسكون الخاء المعجمة "وجذام" بضم الجيم وبالذال المعجمة بوزن غراب "وغسان" بالغين المعجمة وتشديد السين المهملة بوزن شداد "وعاملة" بكسر الميم قال في القاموس بنو عاملة بن سبأ حي باليمن "وأما الذين تيامنوا فالأزد" بفتح الهمزة وسكون الزاي وبالدال المهملة "والأشعرون" قال في القاموس الأشعر أبو قبيلة باليمن منهم أبو موسى الأشعري ويقولون جاءتك الأشعرون بحذف ياء النسب "وحمير" بكسر الحاء وسكون الميم بوزن درهم "وكندة" بكسر الكاف وسكون النون "ومذحج" بفتح الميم وسكون ذال معجمة وكسر حاء مهملة وبجيم "وأنمار" بفتح الهمزة وسكون النون "الذين منهم خثعم" بوزن جعفر "وبجيلة" بفتح الموحدة وكسر الجيم كسفينة. قوله: "هذا(9/89)
3276 ـ حدثنا ابنُ أَبي عُمَر أخبرنا سُفْيَانُ عَن عَمْرو عَن عِكْرمَةَ عَن أَبي هُرَيْرَةَ عَن النّبيّ صلى الله عليه وسلم قَالَ "إذَا قَضَى الله في السّمَاءِ أَمْراً ضَرَبَتِ المَلاَئِكَةُ بِأجْنِحَتِهَا خَضَعَاناً لقوله كَأَنّهَا سِلْسِلَةٌ عَلَى صَفْوَانٍ، فإذا فُزّعَ عَن قُلُوبِهمْ قَالُوا مَاذَا قَال رَبّكُمْ؟ قَالُوا الحَقّ وَهُوَ العَلِيّ الكَبِيرُ، قَالَ والشّيَاطِينُ بَعْضُهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ" . هَذا حديثٌ حَسَنٌ صحيحٌ.
ـــــــ
حديث غريب حسن" وأخرجه أحمد وابن جرير وابن أبي حاتم وأخرجه أبو داود مختصراً في كتاب الحروف والقراءات.
قوله: "عن عمرو" هو ابن دينار "إذا قضى الله في السماء أمراً" أي إذا حكم الله عزّ وجلّ بأمر من الأمور "ضربت الملائكة بأجنحتها خضعاناً" بفتحتين من الخضوع وفي رواية بضم أوله وسكون ثانيه وهو مصدر بمعنى خاضعين قاله الحافظ "لقوله" أي لقول الله تعالى "كأنها" أي كلماته المسموعة، وفي رواية البخاري كأنه أي القول المسموع "سلسلة" أي من الحديد "على صفوان" هو الحجر الأملس "فإذا فزع عن قلوبهم" بضم الفاء وتشديد الزاي وبالعين المهملة أي كشف عنهم الفزع وأزيل "قالوا" أي سأل بعضهم بعضاً "قالوا الحق" أي قال الله القول الحق. قيل المجيبون هم الملائكة المقربون كجبرئيل وميكائيل وغيرهما. قلت: ويؤيده حديث ابن مسعود الآتي "وهو العلي الكبير" أي ذو العلو والكبرياء، وفي حديث ابن مسعود عند أبي داود قال "إذا تكلم الله بالوحي سمع أهل السموات صلصلة كجر السلسلة على الصفاة فيصعقون فلا يزالون كذلك حتى يأتيهم جبريل فإذا جاء فزع عن قلوبهم فيقولون يا جبرئيل ماذا قال ربك فيقول الحق فيقولون الحق" "والشياطين بعضهم فوق بعض" أي لاستراق السمع. زاد البخاري فيسمعها مسترق السمع هكذا بعضه فوق بعض فيسمع الكلمة فيلقيها إلى من تحته ثم يلقيها الآخر إلى من تحته حتى يلقيها على لسان الساحر أو الكاهن فربما أدرك الشهاب قبل أن يلقيها وربما ألقاها قبل أن يدركه فيكذب معها مائة كذبة فيقال:(9/90)
3277 ـ حدثنا نَصْرُ بنُ عَلِيّ الْجَهْضَمِيّ، أخبرنا عَبْدُ الأَعْلَى أخبرنا مَعْمَرٌ عَن الزّهْرِيّ عَن عَلِيّ بنِ حُسَيْنٍ عَن ابنِ عَبّاسٍ قَالَ "بَيْنَمَا رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم جَالِسٌ في نَفَرٍ مِنْ أَصْحَابِهِ إِذْ رُمِيَ بِنَجْمٍ فاسْتَنَارَ فَقَالَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم مَا كُنْتُمْ تَقُولُونَ لِمْثلِ هَذَا في الجَاهِليّةِ إذَا رَأَيْتُمُوهُ؟ قَالُوا: كُنّا نَقُولُ يَمُوتُ عَظِيمٌ أَوْ يُولَدُ عَظيمٌ، فَقَالَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم: فإِنّهُ لاَ يُرْمَى بِهِ لِمَوْتِ أَحَدٍ وَلاَ لِحَياتِهِ وَلَكِنّ رَبّنَا عز وجلّ إذَا قَضَى أَمْراً سَبّحَ له حَمَلَةُ العَرْشِ ثُمّ سَبّحَ أَهْلُ السّمَاءِ الّذِينَ يَلُونَهُم ثُمّ الّذِينَ يَلُونَهُمْ حَتّى يَبْلُغَ التّسْبِيحُ إلى هَذِهِ السّمَاءِ ثُمّ سَأَلَ أَهْلُ السّمَاءِ السّادِسَةِ أَهْلَ السّمَاءِ السّابِعَةِ مَاذَا قَالَ رَبّكُمْ؟ قَالَ: فيُخْبِرونَهُمْ ثُمّ يَسْتَخْبِرُ أَهْلُ كلّ سَمَاءٍ حَتّى يَبْلُغَ الخبرُ أَهْلَ السّمَاءِ
ـــــــ
أليس قد قال لنا يوم كذا وكذا كذا. وكذا فيصدق بتلك الكلمة التي من السماء. قوله: "هذا حديث حسن صحيح" وأخرجه البخاري وأبو داود وابن ماجه.
قوله: "حدثنا عبد الأعلى" هو ابن عبد الأعلى "عن علي بن حسين" بن علي ابن أبي طالب الهاشمي المدني المعروف بزين العابدين. قوله: "إذا رمي بنجم" أي قذف به والمعنى انقض كوكب وهو جواب بينما "فاستنار" أي الجو به "ما كنتم تقولون لمثل هذا في الجاهلية إذا رأيتموه" ليس سؤاله صلى الله عليه وسلم للاستعلام لأنه كان عالماً بذلك بل لأن يجيبوا عما كانوا يعتقدونه في الجاهلية فيزيله عنهم ويقلعه عن أصله "يموت عظيم" أي رجل عظيم "لا يرمي" بصيغة المجهول "به" أي بالنجم "لموت أحد ولا لحياته" أي ولا لحياة أحد آخر "تبارك اسمه" أي تكاثر خير اسمه "حتى يبلغ التسبيح" أي صوته أو نوبته "إلى هذه السماء" أي السماء الدنيا "فيخبرونهم" أي أهل السماء السادسة بما قال الله تعالى "حتى يبلغ الخبر" أي يصل "وتختطف الشياطين" من(9/91)
الدّنْيَا وتَخْتَطِف الشّيَاطِينُ السّمْعَ فَيُرْمَوْنَ فَيَقْذِفُونَهَا إِلى أَوْلِيَائِهِمْ، فَمَا جَاؤوا بِهِ عَلَى وَجْهِهِ فَهُوَ حَقّ وَلَكِنّهُمْ يُحَرّفُونَ وَيزِيدُونَ" . هَذا حديثٌ حَسَنٌ صحيحٌ. وقد رُوِيَ هَذَا الحَدِيثُ عَن الزّهْرِيّ عَن عَلِيّ بنِ الحُسَيْنِ عَن ابنِ عَبّاسٍ عَن رِجَالٍ مِنَ الأَنْصَارِ قَالُوا : "كُنّا عِنْدَ النبيّ صلى الله عليه وسلم" .
ـــــــ
الاختطاف أي تسترق "فيرمون" بصيغة المجهول أي الشياطين يقذفون بالشهب "فيقذونه" أي ما سمعوه من الملائكة "إلى أوليائهم" من الكهنة والمنجمين "فما جاءوا به" أي أوليائهم "على وجهه" أي من غير تصرف فيه "فهو حق" أي كائن واقع "ويزيدون" أي يزيدون فيه دائماً كذبات أخر منضمة إليه. قوله: "هذا حديث حسن صحيح" وأخرجه أحمد "وقد روى هذا الحديث عن الزهري عن علي بن حسين عن ابن عباس عن رجال من الأنصار إلخ" أخرجه مسلم.(9/92)
سورة الملائكة
بسم الله الرحمن الرحيم
3278 ـ حدثنا أَبُو مُوسَى مُحمّدُ بنُ المُثَنّى ومُحمّدُ بنُ بَشّارٍ قَالاَ: أخبرنا مُحمّدُ بنُ جَعْفَرٍ أخبرنا شُعْبَةُ عَن الوَلِيدِ بنِ العَيْزارِ أَنّهُ سَمِعَ رَجُلاً مِنْ ثَقِيفٍ يُحَدّثُ عَن رجال مِنْ كِنَدةَ عَن أَبي سَعِيدٍ الخُدْرِيّ عَن النبيّ صلى الله عليه وسلم أَنّهُ قَالَ في هَذِهِ الآية {ثُمّ أَوْرَثْنَا الكِتَابَ
ـــــــ
"سورة الملائكة"
وتسمى سورة فاطر مكية وهي خمس أو ست وأربعون آية
قوله: {ثُمَّ أَوْرَثْنَا} أي أعطينا {الْكِتَابَ} أي القرآن {الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ(9/92)
الذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ ومِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ ومِنْهُمْ سَابِقٌ بالْخَيْرَاتِ بإِذْنِ الله} قَالَ: "هَؤُلاَءِ كُلّهُمْ بِمنْزلَةٍ وَاحِدَةٍ وكُلّهُمْ في الجَنّة" . هَذا حديثٌ غَرِيبٌ حَسَنٌ.
ـــــــ
عِبَادِنَا} هم أمة محمد صلى الله عليه وسلم {فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ} بالتقصير في العمل به {وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ} يعمل به في أغلب الأوقات {وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ} يضم إلى العمل به التعليم والإرشاد إلى العمل {بِإِذْنِ اللَّهِ} أي بإرادته "قال" أي رسول الله صلى الله عليه وسلم "هؤلاء" أي الأنواع الثلاثة "كلهم بمنزلة واحدة وكلهم في الجنة" قال الحافظ ابن كثير في تفسيره: معناه أي في أنهم من هذه الأمة وأنهم من أهل الجنة وإن كان بينهم فرق في المنازل في الجنة. وقال قال علي بن طلحة عن ابن عباس في قوله تعالى: {ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا} قال هم أمة محمد صلى الله عليه وسلم ورثهم الله تعالى كل كتاب أنزله، فظالمهم يغفر له ومقتصدهم يحاسب حساباً يسيراً، وسابقهم يدخل الجنة بغير حساب. وكذا روي عن غير واحد من السلف أن الظالم لنفسه من هذه الأمة من المصطفين على ما فيه من عوج وتقصير. وقال آخرون: بل الظالم لنفسه ليس من هذه الأمة ولا من المصطفين الوارثين للكتاب، والصحيح أن الظالم لنفسه من هذه الأمة، وهذا اختيار ابن جرير كما هو ظاهر الآية وكما جاءت به الأحاديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من طرق يشد بعضها بعضاً فذكرها، ومنها حديث الباب، ومنها حديث أبي الدرداء رضي الله عنه قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول "قال الله تعالى: {ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ} فأما الذين سبقوا فأولئك الذين يدخلون الجنة بغير حساب، وأما الذين اقتصدوا فأولئك الذين يحاسبون حساباً يسيراً، وأما الذين ظلموا أنفسهم فأولئك الذين يحبسون في طول المحشر ثم هم الذين تلافاهم الله برحمته فهم الذين يقولون {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ إِنَّ رَبَّنَا لَغَفُورٌ شَكُورٌ الَّذِي أَحَلَّنَا(9/93)
سورة يس
بسم الله الرحمن الرحيم
3279 ـ حدثنا مُحمّدُ بنُ وَزِيرٍ الْوَاسِطِيّ أخبرنا إِسْحَاقُ بنُ يُوسُفَ الأَزْرَقُ عنْ سُفْيَانَ الثّوْرِيّ عَنْ أَبي سُفْيَانَ عَنْ أَبِي نَضْرَةَ عَنْ أَبي سَعِيدٍ الْخُدْرِيّ قالَ: "كَانَتْ بَنُو سَلَمَةَ فِي نَاحِيَةِ المَدِينَةِ فَأَرَادُوا النّقْلَةَ إِلى قُرْبِ المَسْجِدِ فَنَزَلَتْ هَذِهِ الآية {إِنّا نَحْنُ نُحْيِى الْمَوْتَى وَنَكْتُبُ مَا قَدّمُوا وَآثَارَهُمْ} فقال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم إِنّ
ـــــــ
دَارَ الْمُقَامَةِ مِنْ فَضْلِهِ لا يَمَسُّنَا فِيهَا نَصَبٌ وَلا يَمَسُّنَا فِيهَا لُغُوبٌ} " رواه أحمد. قوله: "هذا حديث غريب حسن" وأخرجه أحمد وابن جرير وابن أبي حاتم وفي أسانيد كلهم من لم يسم فتحسين الترمذي له لشواهده.
"سورة يس"
مكية وهي ثلاث وثمانون آية
قوله: "عن أبي نضرة" العبدي الواسطي. قوله: "كانت بنو سلمة" بكسر اللام بطن من الأنصار وليس في العرب سلمة بكسر اللام غيرهم "فأرادوا النقلة" بضم النون وسكون القاف أي الانتقال {إِنَّا نَحْنُ نُحْيِ الْمَوْتَى} أي يوم القيامة وفيه إشارة إلى أن الله تعالى يحيي قلب من يشاء من الكفار الذين قد ماتت قلوبهم بالضلالة فيهديهم بعد ذلك إلى الحق {وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا} أي في حياتهم من خير وشر ليجازوا عليهم {وَآثَارَهُمْ} فيه قولان أحدهما نكتب أعمالهم التي باشروها بأنفسهم وآثارهم التي أثروها من بعدهم فيجزيهم على ذلك أيضاً(9/94)
آثَارَكُمْ تُكْتَبُ فَلاَ تَنْتَقِلُوا" . هَذا حديثٌ حَسَنٌ غَرِيبٌ مِنْ حَدِيثِ الثّوْرِيّ. وَأَبُو سُفْيَانَ هُوَ طَرِيفٌ السّعْدِيّ.
3280 ـ حدثنا هَنَادٌ أخبرنا أبُو مُعَاوِيَةَ عن الاعْمَشِ عَن إِبْرَاهِيمَ التيمي عَنْ أَبِيهِ عَن أَبي ذَرّ قالَ "دَخَلْتُ الْمَسْجِدَ حِينَ غَابَتِ الشّمْسُ وَالنبيّ صلى الله عليه وسلم جَالِسٌ فَقَالَ النبيّ صلى الله عليه وسلم: يَا أبَا ذَرَ أَتَدْرِي أَيْنَ تَذْهَبُ هَذِهِ؟ قالَ: قُلْتُ الله وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ. قالَ: فإِنّهَا تَذْهَبُ فَتَسْتَأْذِنُ في السّجُودِ فَيُؤْذَنُ لَهَا وَكَأَنّهَا قَدْ قِيلَ لَهَا اطْلعِي مِنْ حَيثُ جِئْتِ فَتَطْلُعُ مِنْ مَغْر بِهَا قَالَ: ثُمّ قَرَأَ {ذَلِكَ مُسْتَقرٌ لَهَا} " قَالَ: وَذَلِكَ في قِرَاءَةِ عَبْدِ الله. هَذا حديثٌ حَسَنٌ صحيحٌ.
ـــــــ
إن خيراً فخير وإن شراً فشر. كقوله صلى الله عليه وسلم: "من سن في الإسلام سنة حسنة كان له أجرها وأجر من عمل بها من بعده من غير أن ينقص من أجورهم شيئاً، ومن سن في الإسلام سنة سيئة كان عليه وزرها ووزر من عمل بها من بعده من غير أن ينقص من أوزارهم شيئاً" . رواه مسلم، وهذا القول هو اختيار البغوي. والقول الثاني المراد بذلك آثار خطاهم إلى الطاعة أو المعصية، قال ابن أبي نجيح وغيره عن مجاهد ما قدموا أعمالهم وآثارهم قال خطاهم بأرجلهم. وكذا قال الحسن وقتادة وآثارهم يعني خطاهم، ويدل على هذا القول الثاني حديث أبي سعيد هذا، قال الحافظ ابن كثير: وهذا القول الثاني لا تنافي بينه وبين القول الأول بل في هذا تنبيه ودلالة على ذلك بطريق الأولى. والأحرى فإنه إذا كانت هذه الآثار تكتب فلأن تكتب تلك التي فيها قدوة بهم من خير وشر بطريق الأولى انتهى "إن آثاركم تكتب" أي يكتب أجر خطاكم وثواب أقدامكم. قوله: "هذا حديث حسن غريب" وأخرجه ابن أبي حاتم وابن جرير والبزار.
قوله: "عن أبي ذر قال: دخلت المسجد حين غابت الشمس إلخ" تقدم هذا الحديث بإسناده ومتنه في باب طلوع الشمس من مغربها من أبواب الفتن وتقدم هناك شرحه.(9/95)
سورة والصافات
بسم الله الرحمن الرحيم
3281 ـ حدثنا أَحْمَدُ بنُ عَبْدَةَ الضّبّيّ، أخبرنا مُعْتَمِرُ بنُ سُلَيْمَانَ أخبرنا لَيْثُ بنُ أَبي سُلَيْمٍ عَنْ بِشْرٍ عَنْ أنَسِ بنِ مَالِكٍ قالَ قالَ رَسولُ الله صلى الله عليه وسلم: "مَا مِنْ دَاعٍ دَعَا إِلى شَيْءٍ إِلاّ كَانَ مَوْقُوفاً يَوْمَ القيامَةِ لاَزِماً لَهُ لاَ يُفَارِقُهُ وَإِنْ دَعَا رَجُلٌ رَجُلاً ثُمّ قَرَأَ قَوْلَ الله عَزّ وَجَلّ {وَقِفُوهُمْ إنّهُمْ مَسْؤولُونَ مَا لَكُمْ لاَ تَنَاصَرُونَ} " .
هَذا حديثٌ غَرِيبٌ.
ـــــــ
"سورة والصافات"
مكية وهي مائة واثنتان وثمانون آية
قوله: "دعا" أي أحداً "إلى شيء" أي من الشرك والمعصية "إلا كان" أي الداعي "لازماً له" أي للشيء الذي دعا إليه، وظاهر رواية ابن جرير الآتية يدل على أن الضمير المرفوع في كان راجع إلى المدعو والمجرور في له إلى الداعي فتفكر وتأمل "وإن" وصلية "دعا رجل رجلاً" أي إلى شيء. وروى ابن جرير هذا الحديث بلفظ: أيما رجل دعا رجلاً إلى شيء كان موقوفاً لازماً بغاربه لا يفارقه ثم قرأ هذه الآية {وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْؤُولُونَ} أي احبسوهم عند الصراط حتى يسألوا عن أعمالهم وأقوالهم التي صدرت عنهم في الدار الدنيا {مَا لَكُمْ لا تَنَاصَرُونَ} أي يقال لهم تقريعاً وتوبيخاً: ما لكم لا ينصر بعضكم بعضاً كحالكم في الدنيا. قوله: "هذا حديث غريب" وأخرجه ابن أبي حاتم وابن جرير وفي سنده ليث بن أبي سليم وكان قد اختلط أخيراً ولم يتيمنه(9/96)
3282 ـ حدثنا عَلِيّ بنُ حُجرٍ، أخبرنا الْوَلِيدُ بنُ مُسْلِمٍ عَنْ زُهَيْرِ بنِ مُحمّدٍ عَنْ رَجُلٍ عَن أَبي العَالِيَةِ عَن أُبيّ بنِ كَعْبٍ قَالَ "سَأَلْتُ رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم عَن قَوْلِ الله تعَالى: {وَأَرْسَلْنَاهُ إلى مَائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ} قَالَ: عِشْرُونَ أَلْفَاً" . هَذا حديثٌ غَرِيبٌ.
3283 ـ حدثنا مُحمّدُ بنُ المُثَنّى، أخبرنا مُحمدُ بنُ خالِدِ بنِ عَثْمَةَ أخبرنا سَعِيدُ بنُ بَشِيرٍ عَن قَتَادَةَ عَن الحَسَنِ عَن سَمُرَةَ عَن النبيّ صلى الله عليه وسلم في قَوْلِ الله تعالى: " {وَجَعَلْنَا ذُرّيّتَهُ هُمُ الْبَاقِينَ} قَالَ: حَامٌ
ـــــــ
حديثه فترك وفيه أيضاً بشر عن أنس وهو مجهول. قوله: {وَأَرْسَلْنَاهُ} أي يونس عليه وعلى نبينا الصلاة السلام {إِلَى مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ} قال ابن عباس: معناه ويزيدون وقيل معناه بل يزيدون وقيل أو على أصلها والمعنى أو يزيدون في تقدير الرائي إذا رآهم قال هؤلاء مائة ألف أو يزيدون على ذلك فالشك على المخلوقين. قال الخازن: والأصح هو قول ابن عباس الأول وأما الزيادة تقدير فقال ابن عباس كانوا عشرين ألفاً، ويعضده ما روي عن أبي ابن كعب رضي الله تعالى عنه "يعني حديث الباب الذي نحن في شرحه" وقيل يزيدون بضعاً وثلاثين ألفاً وقيل سبعين ألفاً انتهى "قال" أي رسول الله صلى الله عليه وسلم "عشرون ألفاً" وبه قال ابن عباس وفي رواية عنه كانوا مائة وثلاثين ألفاً وعنه مائة ألف وبضعة وأربعين وعنه مائة ألف وبضعة وثلاثين ألفاً. قوله: "هذا حديث غريب" وأخرجه ابن أبي حاتم وابن جرير وفي سنده مجهول.
قوله: "أخبرنا سعيد بن بشير" الأزدي مولاهم أبو عبد الرحمن أو أبو مسلمة الشامي أصله من البصرة أو واسط ضعيف من الثامنة. قوله: {وَجَعَلْنَا ذُرِّيَّتَه} أي ذرية نوح عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام {وَجَعَلْنَا ذُرِّيَّتَه} أي وحدهم دون غيرهم كما يشعر به ضمير الفصل وذلك لأن الله أهلك الكفرة بدعائه ولم يبق منهم باقية ومن كان معه في السفينة من المؤمنين ماتوا كما قيل ولم يبق إلا أولاده(9/97)
وَسَامٌ وَيافِثٌ كذا". ويُقَالُ: يَافِثٌ ويَافِتٌ بالتّاءِ والثّاءِ ويُقَالُ يَفثُ" هَذا حديثٌ حَسَنٌ غَرِيبٌ لاَ نَعْرِفُهُ إلاّ مِنْ حَدِيثِ سَعيدِ بنِ بَشِيرٍ.
3284 ـ حدثنا بِشْرُ بنُ مُعَاذٍ العَقَدِي أخبرنا يَزِيدُ بنُ زُرَيْع عَن سَعِيدِ بن أَبي عَرُوبَةَ عَن قَتَادَةَ عَن الْحَسَنِ عَن سَمُرَةَ عَن النبيّ صلى الله عليه وسلم قالَ: "سَامُ أَبُو العَرَبِ وَحَام أَبُو الْحَبَشِ ويَافِثٌ أَبُو الرّومِ" .
ـــــــ
"قال" أي رسول الله صلى الله عليه وسلم "حام وسام ويافث" قال سعيد بن المسيب ولد نوح عليه السلام ثلاثة سام ويافث وحام وولد كل واحد من هؤلاء الثلاثة ثلاثة فولد سام العرب وفارس والروم. وولد يافث الترك والصقالبة ويأجوج ومأجوج، وولد حام القبط والسودان والبربر، وروي عن وهب بن منبه نحو هذا. قوله: "بالتاء" أي الفوقية "والثاء" أي المثلثة وبكسر الفاء فيهما "ويقال يفث" أي بحذف الألف وبالمثلثة قوله: "هذا حديث حسن غريب" وأخرجه بن جريج وابن أبي حاتم، وفي سماع الحسن من سمرة كلام معروف. وسعيد بن بشير ضعيف كما عرفت. قوله: "ويافث أبو الروم" المراد بالروم ههنا هم الروم الأول وهم اليونان المنسبون إلى رومي بن ليطي بن يونان بن نوح عليه السلام قاله ابن كثير، وحديث سمرة هذا أخرجه أيضاً أحمد وأبو يعلى وابن المنذر والطبراني والحاكم وصححه.(9/98)
سورة ص
بسم الله الرحمن الرحيم
3285 ـ حدثنا مَحمُودُ بنُ غَيْلاَنَ وَعَبْدُ بنُ حُمَيْدٍ المَعْنَى وَاحِدٌ قالاَ: أخبرنا أَبُو أَحْمَدَ، أخبرنا سفيان عن الأعْمَشِ عَن يَحْيَى قَالَ: عَبْدُ هو ابنُ عَبّادٍ عَن سَعِيدِ بنِ جُبَيْرٍ عَن ابنِ عَبّاسٍ قَالَ: "مَرِضَ أَبُو طالِبٍ فَجَاءَتْهُ قُرَيْشٌ وَجَاءَهُ النبيّ صلى الله عليه وسلم وَعِنْدَ أَبِي طالِبِ مَجْلِسُ رَجُلٍ فَقَامَ أَبُو جَهْلٍ كَيْ يَمْنَعَهُ قالَ وَشَكَوْهُ إلى أَبي طالِبٍ فَقَالَ يَا ابْنَ
ـــــــ
"سورة ص"
مكية وهي ست أو ثمان وثمانون آية
قوله: "أخبرنا أبو أحمد" هو الزبيري "عن يحيى" قال في تهذيب التهذيب يحيى بن عمارة ويقال ابن عباد وقيل عبادة كوفي روى عن ابن عباس قصة موت أبي طالب وعنه الأعمش ذكره ابن حبان في الثقات. قال الحافظ وجزم بكونه يحيى بن عمارة وكذا البخاري ويعقوب بن شيبة. قوله: "مرض أبو طالب فجاءته قريش وجاءه النبي صلى الله عليه وسلم" وفي رواية ابن جرير وغيره "لما مرض أبو طالب دخل عليه رهط من قريش فيهم أبو جهل فقالوا إن ابن أخيك يشتم آلهتنا ويفعل ويفعل ويقول ويقول فلو بعثت إليه فنهيته فبعث إليه فجاء النبي صلى الله عليه وسلم فدخل البيت" "مجلس رجل" أي موضع جلوس رجل "كي يمنعه" أي النبي صلى الله عليه وسلم عن الجلوس فيه، وفي رواية ابن جرير وغيره وبينهم وبين أبي طالب قدر مجلس رجل فخشي أبو جهل لعنه الله إن جلس إلى جنب أبي طالب أن يكون أرق له عليه فوثب فجلس في ذلك المجلس ولم يجد رسول الله صلى الله عليه وسلم مجلساً قرب عمه فجلس عند الباب "وشكوه إلى أبي طالب" أي قالوا له إن ابن أخيك يشتم(9/99)
أَخِي مَا تُرِيدُ مِنْ قَوْمِكَ؟ قَالَ: إنيّ أُرِيدُ مِنْهُمْ كَلِمَةً واحدةً تَدِينُ لَهُمْ بهَا العربُ وتُؤَدّي إلَيْهِمُ الْعَجَمُ الجِزْيَةَ، قالَ كَلِمَةً وَاحِدَةً؟ قالَ: كَلِمَةٌ وَاحِدَةٌ فَقَالَ يَا عَمّ يقُولُوا لا إلَهَ إلاّ الله فَقَالُوا إِلَهاً وَاحِدَا مَا سَمِعْنَا بِهَذَا في المِلّةِ الآخرةِ إنْ هَذَا إِلاّ اخْتِلاَقٌ قالَ فَنَزَلَ فِيهِمُ القُرآنُ {ص والقُرآنِ ذي الذّكْرِ بَلِ الّذِينَ كَفَرُوا في عِزّةٍ وَشِقَاقٍ} إِلى قَوْلِهِ
ـــــــ
آلهتنا ويفعل ويفعل ويقول ويقول كما في رواية ابن جرير "فقال" أي أبو طالب لرسول الله صلى الله عليه وسلم "يا ابن أخي ما تريد من قومك" وفي رواية ابن جرير فقال له أبو طالب أي ابن أخي ما بال قومك يشكونك ويزعمون أنك تشتم آلهتهم وتقول وتقول "أريد منهم كلمة تدين لهم بها العرب" أي تطيعهم وتخضع لهم العرب بتلك الكلمة "وتؤدي إليهم العجم الجزية" أي تعطيهم العجم الجزية بسبب تلك الكلمة "قال" أي أبو طالب "كلمة واحدة" أي تريد كلمة واحدة "قال" أي النبي صلى الله عليه وسلم "كلمة واحدة" أي أريد منهم كلمة واحدة "فقالوا إلها واحدا" أي أتجعل الآلهة إلهاً واحداً {مَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي الْمِلَّةِ الْآخِرَةِ} أي بالذي تقوله من التوحيد {فِي الْمِلَّةِ الْآخِرَةِ} وهي ملة النصرانية فإنها آخر الملل قبل ملة الإسلام، كذا قال محمد بن كعب القرظي وقتادة ومقاتل والكلبي والسدي وبه قال ابن عباس، وقال مجاهد يعنون به ملة قريش أي التي أدركنا عليها آباءنا وعن قتادة مثله {إِنْ هَذَا} أي ما هذا {إِلَّا اخْتِلاقٌ} أي كذب اختلقه محمد " {ص وَالْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ} إلخ" الآيات بتمامها مع تفسيرها هكذا {ص} الله أعلم بمراده به {وَالْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ} أي والقرآن المشتمل على ما فيه ذكر للعباد ونفع لهم في المعاش والمعاد كقوله تعالى {لَقَدْ أَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ كِتَاباً فِيهِ ذِكْرُكُمْ} أي تذكيركم، وقال ابن عباس رضي الله عنهما ذي الذكر أي ذي الشرف وذي الشأن والمكانة. قال ابن كثير: ولا منافاة بين القولين فإنه كتاب شريف مشتمل على التذكير انتهى. وجواب هذا القسم محذوف أي ليس الأمر كما قال كفار مكة من تعدد الاَلهة {بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي عِزَّةٍ} أي حمية وتكبر عن الإيمان {وَشِقَاقٍ} أي خلاف وعداوة للنبي صلى(9/100)
{مَا سَمِعْنَا بِهَذَا في المِلّةِ الآخرةِ إِنْ هَذَا إِلاّ اخْتِلاَقٌ} " . هذا حديث حسن.
3286 ـ حدثنا بنذار أخبرنا يحيى بن سعيد عن سفيان عن الأعمش نحو هذا الحديث وقال يحيى بن عمارة حدثنا عَبْدُ بنُ حُمَيْدٍ
ـــــــ
الله عليه وسلم {كَمْ} أي كثيراً {أَهْلَكْنَا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ} أي أمة من الأمم الماضية {فَنَادَوْا} أي بالتوحيد حين تولت الدنيا عنهم، وقيل استغاثوا عند نزول العذاب وحلول النقمة {وَلاتَ حِينَ مَنَاصٍ} أي ليس الحين حين فرار ولات هي لا المشبهة بليس زيدت عليها تاء التأنيث كما زيدت على رب وثم للتوكيد وتغير بذلك حكمها حيث لم تدخل إلى على الأحيان ولم يبرز إلا أحد مقتضييها إما الاسم والخبر وامتنع بروزهما جميعاً وهذا مذهب الخليل وسبيويه، وعند الأخفش أنها لا النافية للجنس زيدت عليها التاء وخصت بنفي الأحيان والجملة حال من فاعل نادوا أي استغاثوا والحال أن لا مهرب لهم ولا منجا {وَعَجِبُوا أَنْ جَاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ} أي رسول من أنفسهم ينذرهم ويخوفهم بالنار بعد البعث وهو النبي صلى الله عليه وسلم {وَقَالَ الْكَافِرُونَ} فيه وضع الظاهر موضع المضمر {هَذَا سَاحِرٌ كَذَّابٌ أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلَهاً وَاحِداً} أي أزعم أن المعبود واحد لا إله إلا هو حيث قال لهم قولوا لا إله إلا الله {إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ} أي عجيب {وَانْطَلَقَ الْمَلَأُ مِنْهُمْ} أي من مجلس اجتماعهم عند أبي طالب وسماعهم من النبي صلى الله عليه وسلم قولوا لا إله إلا الله {أَنِ امْشُوا} أي يقول بعضهم لبعض امشوا وامضوا على ما كنتم عليه ولا تدخلوا في دينه {وَاصْبِرُوا عَلَى آلِهَتِكُمْ} أي اثبتوا على عبادتها {إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ يُرَادُ} أي إن هذا الذي يدعونا إليه محمد صلى الله عليه وسلم من التوحيد لشيء يريد به الشرف عليكم والاستعلاء وأن يكون له منكم ابتاع ولسنا نجيبه إليه {مَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي الْمِلَّةِ الْآخِرَةِ إِنْ هَذَا إِلَّا اخْتِلاقٌ} تقدم تفسيره. قوله: "هذا حديث حسن صحيح"(9/101)
أخبرنا عَبْدُ الرّزّاقِ عَن مَعْمَرٍ عَن أَيّوبَ عَن أَبي قِلاَبَةَ عَن ابنِ عَبّاسٍ قَال: قَالَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم: "أَتَانِي اللّيْلَةَ رَبّي تَبَارَكَ وَتَعَالَى في أَحْسَنِ صُورَةٍ ـ قَالَ أَحْسِبُهُ في المَنَامِ ـ فَقَالَ يَا مُحَمَدُ هَلْ تَدْرِيَ فِيمَ يَخْتَصِمُ المَلأُ الأَعْلَى؟ قَالَ قُلْتُ لا، قَالَ فَوَضَعَ يَدَهُ بَيْنَ كَتِفَيّ حَتّى وَجَدْتُ بَرْدَهَا بَيْنَ ثَدْيَيّ أَوْ قَالَ في نَحْرِي فَعَلِمْتُ مَا فِي السّمَاواتِ
ـــــــ
وأخرجه أحمد والنسائي والحاكم والبيهقي في الدلائل وابن جرير وابن المنذر.
قوله: "وقال" أي الأعمش "يحيى بن عمارة" يحيى بن عمارة هذا هو يحيى ابن عباد المذكور في الإسناد المتقدم قوله: "أتاني الليلة ربي تبارك وتعالى في أحسن صورة" الظاهر أن إتيانه تعالى كان في المنام يدل على ذلك قول الراوي أحسبه في المنام ويدل على ذلك أيضاً حديث معاذ بن جبل الآتي ففيه "فنعست في صلاتي فاستثقلت فإذا أنا بربي تبارك وتعالى في أحسن صورة" . قال القاري في المرقاة: إذا كان هذا في المنام فلا إشكال فيه إذ الرائي قد يرى غير المتشكل متشكلاً والمتشكل بغير شكله ثم لم يعد ذلك بخلل في الرؤيا ولا في خلد الرائي بل له أسباب أخر تذكر في علم المنام أي التعبير، ولولا تلك الأسباب لما افتقرت رؤيا الأنبياء عليهم السلام إلى تعبير وإن كان في اليقظة وعليه ظاهر ما روى أحمد بن حنبل فإن فيه "فنعست في صلاتي حتى استيقظت فإذا أنا بربي عزّ وجلّ في أحسن صورة" . الحديث، فذهب السلف في أمثال هذا الحديث إذا صح أن يؤمن بظاهره ولا يفسر بما يفسر به صفات الخلق بل ينفي عنه الكيفية ويوكل علم باطنه إلى الله تعالى فإنه يُرى رسوله ما يشاء من رواه أستار الغيب بما لا سبيل لعقولنا إلى إدراكه، لكن ترك التأويل في هذا الزمان مظنة الفتنة في عقائد الناس لفشو اعتقادات الضلال وإن تأول بما يوافق الشرع على وجه الاحتمال لا القطع حتى لا يحمل على ما لا يجوز شرعاً فله وجه، فقوله في أحسن صورة يحتمل أن يكون معناه رأيت ربي حال كوني في أحسن صورة وصفة من غاية إنعامه ولطفه علي. أو حال كون الرب في أحسن صورة وصورة الشيء ما يتميز به عن غيره سواء كان عين ذاته أو جزءه المميز له عن غيره(9/102)
وَمَا فِي الأَرْضِ. قَالَ يَا مُحَمّدُ هَلْ تَدْرِي فِيمَ يَخْتَصِمُ المَلأُ الأَعْلَى؟ قُلْتُ نَعَمْ في الكَفّارَاتِ، والكَفّارَاتُ المُكْثُ فِي المَسْجِدِ بَعْدَ الصّلوات، والمَشْيُ
ـــــــ
أو صفته المميزة، وكما يطلق ذلك في الجثة يطلق في المعاني، يقال في صورة المسألة كذا وصورة الحال كذا، فصورته تعالى والله أعلم ذاته المخصوصة المنزهة عن مماثلة ما عداه من الأشياء البالغة إلى أقصى مراتب الكمال أو صفته المخصوصة به أي كان ربي أحسن إكراماً ولطفاً من وقت آخر، كذا نقله الطيبي والتروبشتي انتهى ما في المرقاة.
قلت: الظاهر الراجح أنه كان في المنام فإن رواية الترمذي الآتية أرجح من رواية أحمد. قال ابن حجر المكي: والظاهر أن رواية حتى استيقظت تصحيف فإن المحفوظ من رواية أحمد والترمذي حتى استثقلت انتهى. وقال الحافظ ابن كثير بعد نقل هذا الحديث عن مسند الإمام أحمد وهو حديث المنام المشهور: ومن جعله يقظة فقد غلط انتهى. وعلى تقدير كون ذلك في اليقظة فمذهب السلف في مثل هذا من أحاديث الصفات إمراره كما جاء من غير تكييف ولا تشبيه ولا تعطيل والإيمان به من غير تأويل له والسكوت عنه وعن أمثاله مع الاعتقاد بأن الله تعالى ليس كمثله شيء وهو السميع البصير ومذهب السلف هذا هو المتعين ولا حاجة إلى التأويل. وأما القول بأن ترك التأويل في هذا الزمان مظنة الفتنة في عقائد الناس لفشوا اعتقادات الضلال فمما لا التفات إليه "فم" أي في أي شيء "يختصم" أي يبحث "الملأ الأعلى" أي الملائكة المقربون والملأ هم الأشراف الذين يملأون المجالس والصدور عظمة وإجلالاً ووصفوا بالأعلى إما لعلو مكانهم وإما لعلو مكانتهم عند الله تعالى. واختصامهم إما عبارة عن تبادرهم إلى إثبات تلك الأعمال والصعود بها إلى السماء وإما عن تقاولهم في فضلها وشرفها وإما عن اغتباطهم الناس بتلك الفضائل لاختصاصهم بها وتفضلهم على الملائكة بسببها مع تهافتهم في الشهوات، وإنما سماه مخاصمة لأنه ورد مورد سؤال وجواب وذلك يشبه المخاصمة والمناظرة فلهذا السبب حسن إطلاق لفظ المخاصمة عليه "قال" أي النبي صلى الله عليه وسلم "فوضع" أي ربي "يده" أي كفه "بين كتفي" بتشديد الياء وهو كناية عن تخصيصه(9/103)
عَلَى الأَقْدَامِ إلى الجَمَاعَاتِ وإسْبَاغُ الوُضُوءِ فِي المَكارِهِ، ومَنْ فَعَلَ ذَلِكَ عَاشَ بِخَيْرٍ وَمَاتَ بِخَيْرٍ وَكَانَ مِنْ خَطِيئَتِهِ كَيَوْمِ وَلَدَتْهُ أُمّهُ، وقَالَ يَا مُحَمّدُ إذَا صَلّيْتَ فَقُلْ اللّهُمّ إنّي أَسْأَلُكَ فِعْلَ الخَيْراتِ وتَرْكَ المُنْكَرَاتِ وحُبّ المَسَاكِينِ وإِذَا أَرَدْتَ بِعِبَادِكَ فِتْنَةً فَاقْبِضْنِي إِلَيْكَ غَيْرَ مَفْتُونٍ. قَالَ والدّرَجَاتُ إِفْشَاءُ السّلاَمِ وَإطْعَامُ الطّعَامِ والصّلاَةُ باللّيْلِ والنّاسِ ونيَامٌ" .
ـــــــ
إياه بمزيد الفضل عليه وإيصال الفيض إليه فإن من شأن المتلطف بمن يحنو عليه أن يضع كفه بين كتفيه تنبيهاً على أنه يريد بذلك تكريمه وتأييده قاله القاري قلت: قد عرفت مذهب السلف في مثل هذا وهو المعتمد "بين ثديي" بالتثنية والإضافة إلى ياء المتكلم أي قلبي أو صدري "أو قال في نحري" شك من الراوي "نعم الكفارات" أي يختصمون في الكفارات "والكفارات" مبتدأ وخبره المكث في المسجد إلخ وسميت هذه الخصال الكفارات لأنها تكفر الذنوب عن فاعلها فهي من باب تسمية الشيء باسم لازمه "المكث" في القاموس المكث مثلثاً ويحرك أي اللبث "في المسجد" وفي بعض النسخ في المساجد "وإسباغ الوضوء" أي إكماله "في المكاره" أي في شدة البرد "ومن فعل ذلك عاش بخير ومات بخير" قال الله تعالى {مَنْ عَمِلَ صَالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} "وكان من خطيئته كيوم ولدته أمه" أي فيه بفتح يوم قال الطيبي؟ مبني على الفتح لإضافته إلى الماضي وإذا أضيف إلى المضارع اختلف في بنائه أي كان مبرأ كما كان مبدأ يوم ولدته أمه "إذا صليت" أي فرغت من الصلاة "فعل الخيرات" بكسر الفاء وقيل بفتحها وقيل الأول اسم والثاني مصدر والخيرات ما عرف من الشرع من الأقوال الحميدة والأفعال السعيدة "وترك المنكرات" هي التي لم تعرف من الشرع من الأقوال القبيحة والأفعال السيئة "وإذا أردت بعبادك فتنة" أي ضلالة أو عقوبة دينوية "فاقبضني" بكسر الموحدة أي توفني "غير مفتون" أي غير منال أو غير معاقب "قال" أي النبي صلى الله عليه وسلم(9/104)
وقَدْ ذَكَرُوا بَيْنَ أَبي قِلابَةَ وبَيْنَ ابنِ عَبّاسٍ في هذا الْحَدِيثِ رَجُلاً وقَدْ رَوَاهُ قَتَادَةُ عَن أَبي قِلاَبَةَ عَن خَالِدِ بنِ اللّجْلاَجِ عَن ابنِ عَبّاسٍ.
3287 ـ حدثنا محمّدُ بنُ بَشّارٍ أخبرنا مُعَاذُ بنُ هِشَامٍ حَدّثَني أَبي عَن قَتَادَةَ عَن أَبي قِلاَبَةَ عَن خَالِدِ بنِ اللّجْلاَجِ عَن ابنِ عَبّاسٍ عن النبيّ صلى الله عليه وسلم قَالَ "أَتَاني رَبّي فِي أَحْسَن صُورَةٍ فَقَالَ يَا مُحمّدُ، قُلْتُ لَبّيْكَ رَبّي وَسَعْدَيْكَ قَالَ فِيمَ يَخْتَصِمُ المَلأُ الأَعْلَى؟ قُلْتُ رَبّ لا أَدْرِي. فَوَضَعَ يَدَهُ بَيْنَ كَتِفَيّ حَتّى وَجَدْتُ بَرْدَهَا بَيْنَ ثَدْيَيّ فَعَلِمْتُ مَا بَيْنَ المَشْرِقِ والمَغْرِبِ، قَالَ يَا مُحَمّدُ، فَقُلْتُ لَبّيْكَ رَبّ وَسَعْدَيْكَ، قَالَ فِيمَ يَخْتَصِمُ المَلأُ الأَعْلَى؟ قُلْتُ في الدّرَجَاتِ والكَفّارَاتِ، وفي نَقْلِ
ـــــــ
"والدرجات" مبتدأ أي ما ترفع به الدرجات "إفشاء السلام" أي بذله على من عرفه ومن لم يعرفه وإنما عدت هذه الأشياء من الدرجات لأنها فضل منه على ما وجب عليه فلا جرم استحق بها فضلاً وهو علو الدرجات "والناس نيام" جمع نائم والجملة حالية.
قوله: "حدثني أبي" هو هشام بن أبي عبد الله الدستوائي "عن خالد بن اللجلاج" العامري ويقال مولى بني زهرة كنيته أبو إبراهيم الحمصي ويقال الدمشقي صدوق فقيه من الثانية. قوله: "فقلت لبيك" من التلبية وهي إجابة المنادي أي أجابني لك يا رب وهو مأخوذ من لب بالمكان وألب إذا أقام به وألب على كذا لم يفارقه ولم يستعمل إلا على لفظ التثنية في معنى التكرير أي إجابة بعد إجابة وهو منصوب على المصدر بعامل لا يظهر كأنك قلت ألب إلباباً بعد إلباب والتلبية من لبيك كالتهليل من لا إله إلا الله "ربي" بحذف حرف النداء "وسعديك" أي ساعدت طاعتك مساعدة بعد مساعدة وإسعاداً بعد إسعاد، ولهذا حدثني وهو من المصادر المنصوبة بفعل لا يظهر في الاستعمال.(9/105)
الأَقْدَامِ إِلى الْجماعَاتِ، وإِسْبَاغِ الوُضُوءِ فِي المَكْرُوهَاتِ، وانْتِظَارِ الصّلاَةِ بَعْدَ الصّلاة، ومَنْ يُحَافِظْ عَلَيْهِنّ عَاشَ بِخَيْرٍ وَمَاتَ بِخَيْرٍ وكَانَ مِنْ ذُنُوبِهِ كَيَوْمِ ولَدَتْهُ أُمّهُ" . هَذا حديثٌ حَسَنٌ غَرِيبٌ مِنْ هَذَا الوَجْهِ قَالَ وفي البابِ عَن مُعَاذِ بنِ جَبَلٍ وعَبْدِ الرّحْمَنِ بنِ عَائِش عَن النبيّ صلى الله عليه وسلم. وقد رُوِيَ هَذَا الْحَدِيث عَن مُعَاذِ بنِ جَبَلٍ عَن النبيّ صلى الله عليه وسلم بِطُولِهِ وقَالَ: "إنّي نَعَسْتُ فاسْتَثْقَلْتُ نَوماً فَرَأَيْتُ رَبّي في أَحْسَنِ صُورَةٍ فَقَالَ فِيمَ يَخْتَصِمُ المَلأُ الأَعْلَى..."
3288 ـ حدثنا مُحمّدُ بنُ بَشّارٍ حَدّثَنَا مُعَاذُ بنُ هَانِيءٍ أَبُو هانئ السّكّرِيّ حدثَنا جَهْضَمُ بنُ عَبْدِ الله عَن يَحْيَى بن أبي كثِيرٍ عن زَيْدِ بنِ سَلاَمٍ عَن أَبي سَلاَمٍ عَن عَبْدِ الرّحْمَنِ بنِ عَائِشٍ الْحَضْرَمِيّ أَنّهُ حَدّثَهُ عَن
ـــــــ
قال الجرمي: لم يسمع سعديك مفرداً "رب" بحذف حرف النداء وياء الإضافة. قوله: "هذا حديث حسن غريب" وأخرجه عبد الرزاق وعبد بن حميد ومحمد بن نصر في كتاب الصلاة. قوله: "وفي الباب عن معاذ بن جبل وعبد الرحمن بن عائش" أما حديث معاذ فأخرجه الترمذي بعد هذا، وأما حديث عبد الرحمن بن عائش فأخرجه الدارمي والبغوي في شرح السنة.
قوله: "حدثنا محمد بن بشار إلخ" لم يقع هذا الحديث في بعض نسخ الترمذي "حدثنا معاذ بن هانئ أبو هانئ السكري" القيسي ويقال: العيشي، ويقال: اليشكري ويقال البهراني البصري ثقة من كبار العاشرة "حدثنا جهضم بن عبد الله" بن أبي الطفيل القيسي مولاهم اليماني وأصله من خراسان صدوق يكثر عن المجاهيل من الثامنة "عن زيد بن سلام" بن أبي سلام ممطور الحبشي "عن أبي سلام" بتشديد اللام اسمه ممطور الأسود الحبشي "عن عبد الرحمن بن عائش" بتحتانية(9/106)
مَالِكِ بن يُخَامَر السّكْسَكِيّ عَن مُعَاذِ بن جَبَلٍ رضي الله عنه قَالَ "احْتَبَسَ عَنّا رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم ذَا غَدَاةٍ مِنْ صَلاَة الصّبْح حَتّى كِدْنَا نَتَراءَى عَيْنَ الشّمْسِ فخَرَجَ سريعاً فَثُوّبَ بالصّلاَةِ فَصَلّى رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم وَتَجَوّزَ في صَلاَتِه، فَلّما سَلّمَ دَعا بِصَوْتِهِ فَقَالَ لَنَا: عَلَى مَصَافّكُمْ كَمَا أَنْتُمْ ثُمّ انْفَتَلَ إِلَيْنَا ثم قَالَ: أَمَا إِنّي سَأُحَدّثُكُمْ مَا حَبَسَنِي عَنْكُم الغَدَاةَ أَنّي قُمْتُ مِنَ اللّيْلِ فَتَوَضّأْتُ فَصَلّيْتُ مَا قُدّرَ لِي فَنَعَسْتُ فِي صَلاَتِي حتى اسْتَثْقَلْتُ فإِذَا أَنَا بِرَبّي تَبَارَكَ وَتَعَالى في أَحْسَنِ صُورَةٍ فَقَالَ يَا مُحَمّدُ، قُلْتُ لَبَيّكَ رَبّ، قالَ فِيمَ يَخْتَصِمُ المَلأُ الأَعْلَى؟ قلت: لاَ أَدْرِي رَبّ قَالَهَا ثَلاَثاً، قَالَ فَرَأَيْتُهُ وَضَعَ كَفّهُ بَيْنَ
ـــــــ
ومعجمة "الحضرمي" أو السكسي يقال له صحبه، وقال أبو حاتم من قال في روايته سمعت النبي صلى الله عليه وسلم فقد أخطأ. قوله: "احتبس" بصيغة المعلوم وروي مجهولاً "ذات غداة" لفظ ذات مقحمة أي غداة "من صلاة الصبح" كذا في النسخ الموجودة وفي رواية أحمد، وفي المشكاة عن صلاة الصبح بلفظ عن. قال القاري بدل اشتمال بإعادة الجار "حتى كدنا" أي قاربنا "نتراءى" أي نرى وعدل عنه إلى ذلك لما فيه من كثرة الاعتناء بالفعل وسبب تلك الكثرة خوف طلوعها المفوت لأداء الصبح "خرج سريعاً" أي مسرعاً أو خروجاً سريعاً "فثوب بالصلاة" من التثويب أي أقيم بها "وتجوز في صلاته" أي خفف فيها واقتصر على خلاف عادته "دعا" أي نادى "على مصافكم" أي أثبتوا عليها جمع مصف وهو موضع الصف "كما أنتم" أي على ما أنتم عليه أو ثبوتاً مثل الثبوت الذي أنتم عليه قبل النداء من غير تغيير وتقديم وتأخير "ثم انفتل إلينا" أي توجه إلينا وأقبل علينا "أما" بالتخفيف للتنبيه "ما حبسني" ما موصوله "فنعست" من النعاس وهو النوم الخفيف من باب نصر وفتح "فاستثقلت" بصيغة المعلوم أو المجهول أي غلب علي النعاس "فإذا" للمفاجأة(9/107)
كَتِفَيّ. قَدْ وَجَدْتُ بَرْدَ أَنَامِلِهِ بَيْنَ ثَدْيَيّ فتجَلّى لِي كُلّ شَيْءٍ وَعَرَفْتُ فَقَالَ يَا مُحَمّدُ. قُلْتُ لَبّيْكَ رَبّ، قَالَ فِيمَ يَخْتَصِمُ المَلأُ الأعْلَى؟ قُلْتُ في الكَفّارَاتِ، قَالَ مَاهُنّ؟ قُلْتُ مَشْيُ الأقْدَامِ إِلَى الْجَماعَاتِ، وَالْجُلُوسُ في المَسَاجِدِ بَعْدَ الصّلوات، وإِسْبَاغُ الْوُضُوءِ حين المَكْرُوهَاتِ، قَالَ ثُمّ فِيمَ؟ قلت: إِطْعَامُ الطّعَامِ، وَلِينُ الكَلاَمِ، والصّلاَةُ بِاللّيْلِ والنّاسُ نِيَامٌ. قَالَ سَلْ، قُلْتُ اللّهُمّ إِنّي أَسْأَلُكَ فِعْلَ الْخَيْرَاتِ، وَتَرْكَ المُنْكَرَاتِ، وَحُبّ المَسَاكِينِ، وأَنْ تَغْفِرَ لِي وتَرْحَمَنِي، وَإِذَا أَرَدْتَ فِتْنَةً فِي قَوْمٍ فَتَوَفّنِي غَيْرَ مَفْتُونٍ، وأَسْأَلُكَ حُبّكَ وَحُبّ مَنْ يُحِبّكَ وحُبّ عَمَلٍ يُقَرّبُ إلَى حُبّكَ. قَالَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم إِنَهَا حَقّ فادْرُسُوهَا ثُمّ تَعَلّمُوهَا" . قال أبو عيسى هَذا حديثٌ حَسَنٌ صحيحٌ. سَأَلْتُ مُحَمّدَ بنَ إِسْماعِيلَ عَن هَذا الحَدِيثِ فَقَالَ هَذَا صحيحٌ وَقَالَ هَذَا أَصَحّ مِنْ حَدِيثِ الْوَلِيدِ بنِ مُسْلِمٍ عَن عَبْدِ الرّحمَنِ بنِ يَزِيدَ بنِ جَابِرٍ قَالَ حَدّثَنَا خَالِدُ بنُ اللّجْلاَجِ حَدّثَنِي عَبْدُ الرّحمَنِ بنُ العَايِشِ الحَضْرَمِيّ قَالَ سمعت رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم فَذَكَرَ
ـــــــ
"قالها ثلاثاً" أي قال الله تعالى هذه المقولة ثلاثاً "فتجلّى لي" أي ظهر وانكشف لي "وأسألك حبك" قال الطيبي: يحتمل أن يكون معناه أسألك حبك إياي أو حبي إياك وعلى هذا يحمل قوله وحب من يحبك "إنها" أي هذه الرؤيا "حق" إذ رؤيا الأنبياء وحي "فادرسوها" أي فاحفظوا ألفاظها التي ذكرتها لكم في ضمنها أو أن هذه الروايات "حق فادرسوها" أي اقرأوها "ثم تعلموها" أي معانيها الدالة هي عليها قال الطيبي: أي لتعلموها فحذف اللام. قوله: "هذا حديث حسن صحيح" وأخرجه أحمد والطبراني والحاكم ومحمد بن نصر في كتاب الصلاة(9/108)
الحَديثَ وَهَذَا غَيْرُ مَحْفُوظٍ. هَكَذَا ذَكَرَ الوَلِيدُ في حَدِيثِهِ عَن عَبْدِ الرّحمَنِ بنِ عَائِشٍ قَالَ سَمِعْتُ رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم. وَرَوَى بِشْرُ بنُ بَكْرٍ عَن عَبْدِ الرّحمَنِ بنِ يَزِيدَ بنِ جَابِرٍ هَذَا الحَدِيثَ بِهَذَا الإِسْنَادِ عَن عَبْدِ الرّحمَنِ بن عَائِشٍ عَن النبيّ صلى الله عليه وسلم، وهَذَا أَصَحّ. وَعَبْدُ الرحْمَنِ بنُ عَائِش لَمْ يَسْمَعْ مِن النبيّ صلى الله عليه وسلم.
ـــــــ
وابن مردويه. قوله: "وهذا غير محفوظ" أي كونه من مسند عبد الرحمن بن عايش غير محفوظ والمحفوظ عن عبد الرحمن بن عايش عن مالك بن يخامر عن معاذ بن جبل "وروى بشر" بكسر الموحدة وسكون المعجمة "بن بكر" التنيسي البجلي دمشقي الأصل ثقة يغرب من التاسعة "عن عبد الرحمن بن عائش عن النبي صلى الله عليه وسلم" أي بغير لفظ سمعت "وعبد الرحمن بن عايش لم يسمع من النبي صلى الله عليه وسلم" قال في تهذيب التهذيب في ترجمته وقع عند أبي القاسم البغوي في إسناد حديثه للتصريح بسماعه من النبي صلى الله عليه وسلم، ولكن قال ابن خزيمة قول الوليد بن مسلم في هذا الإسناد عن عبد الرحمن بن عائش سمعت النبي صلى الله عليه وسلم وهم لأن عبد الرحمن لم يسمع من النبي صلى الله عليه وسلم.
تنبيه: اعلم أن الترمذي أورد حديث ابن عباس وحديث معاذ بن جبل المذكورين ههنا في تفسير قوله تعالى: {مَا كَانَ لِيَ مِنْ عِلْمٍ بِالْمَلَأِ الْأَعْلَى إِذْ يَخْتَصِمُونَ} لكن الاختصام المذكور في هذه الآية غير الاختصام المذكور في الحديثين المذكورين. قال ابن كثير: وليس هذا الاختصام "يعني المذكور في حديث معاذ بن جبل وحديث ابن عباس" هو الاختصام المذكور في القرآن فإن هذا قد فسر وإما الاختصام الذي في القرآن فقد فسر بعد هذا وهو قوله تعالى: {إِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَراً مِنْ طِينٍ} إلخ.(9/109)
سورة الزمر
بسم الله الرحمن الرحيم
3289 ـ حدثنا ابنُ أَبي عُمَرَ، أخبرنا سُفْيَانُ عَن مُحمّدِ بنِ عَمْرِو بنِ عَلْقَمَةَ عَنْ يَحْيَى بنِ عَبْدِ الرّحمَنِ بنِ حَاطِبٍ عَنْ عَبْدِ الله بنِ الزّبَيْرِ عَن أَبِيهِ قَالَ: لَمّا نَزَلَتْ {ثُمّ إِنّكُمْ يَوْمَ القِيَامَةِ عِنْدَ رَبّكُمْ تَخْتَصِمُونَ} قَالَ الزّبَيْرُ "يَا رَسُولَ الله أتُكَرّرُ عَلَيْنَا الخُصُومَةُ
ـــــــ
"سورة الزمر"
مكية إلا {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ} الآية فمدنية وهي خمس وسبعون آية
قوله: "عن يحيى بن عبد الرحمن بن حاطب" كنيته أبو محمد أو أبو بكر المدني ثقة من الثالثة. قوله: {ثُمَّ إِنَّكُمْ} أيها الناس فيما بينكم من المظالم {يَوْمَ الْقِيَامَةِ عِنْدَ رَبِّكُمْ تَخْتَصِمُونَ} قبله {إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ} قال الحافظ بن كثير في تفسيره معنى هذه الآية. إنكم ستنقلون من هذه الدار لا محالة وستجتمعون عند الله تعالى في الدار الآخرة وتختصمون فيما أنتم فيه في الدنيا من التوحيد والشرك بين يدي الله عزّ وجلّ فيفصل بينكم ويفتح بالحق وهو الفتاح العليم، فينجي المؤمنين المخلصين الموحدين ويعذب الكافرين الجاحدين المشركين المكذبين، ثم إن هذه الآية وإن كان سياقها في المؤمنين والكافرين وذكر الخصومة بينهم في الدار الآخرة فإنها شاملة لكل متنازعين في الدنيا فإنه تعاد عليهم الخصومة في الدار الآخرة. قلت: الأمر كما قال ابن كثير، ويؤيده حديث الزبير هذا وأحاديث أخرى ذكرها ابن كثير والله تعالى أعلم. وقيل(9/110)
بَعْدَ الّذِي كَانَ بَيْنَنَا في الدّنْيَا؟ قَالَ: نَعَمْ، فَقَالَ: إِنّ الأمْرَ إذاً لَشَدِيدٌ" .
هَذا حديثٌ حَسَنٌ صحيحٌ.
3290 ـ حدثنا عَبْدُ بنُ حُمَيْد، أخبرنا حَبّانُ بنُ هِلاَلٍ وسُلَيْمَانُ بنُ حَرْبٍ وحَجّاجُ بنُ مِنْهَالٍ قَالُوا، أخبرنا حَمّادُ بنُ سَلَمَةَ عن ثابِتٍ عَنْ شَهْرِ بنِ حَوْشَبٍ عَنْ أَسْمَاءَ بِنْتِ يَزِيدَ قَالَتْ "سَمِعْتُ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم يَقْرَأُ {يَا عِبَادِي الّذِينَ أسْرَفُوا عَلَى أنْفُسِهِمْ لاَ تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ الله إِنّ الله يَغْفِرُ الذّنُوبَ جَمِيعاً} ولاَ يُبَالِي" . هَذا حديثٌ
ـــــــ
يعني المحق والمبطل، وقيل تخاصمهم يا محمد وتحتج عليهم بأنك قد بلغتهم وأنذرتهم وهم يخاصمونك، أو يخاصم المؤمن الكافر والظالم المظلوم "أتكرر" بصيغة المضارع المجهول من التكرير "علينا الخصومة" أي يوم القيامة عند ربنا. قوله: "هذا حديث حسن صحيح" وأخرجه أحمد وابن ماجه وابن أبي حاتم.
قوله: "عن ثابت" هو ابن أسلم البناني {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ} أي أفرطوا عليها وتجاوزوا الحد في كل فعل مذموم {لا تَقْنَطُوا} بفتح النون وبكسرها أي لا تيأسوا {مِنْ رَحْمَةِ اللَّه} أي من مغفرته {إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً} قال الحافظ ابن كثير: هذه الآية الكريمة دعوة لجميع العصاة من الكفرة وغيرهم إلى التوبة والإنابة وإخبار بأن الله تبارك وتعالى يغفر الذنوب جميعاً لمن تاب منها ورجع عنها. وإن كانت مهما كانت وإن كثرت وكانت مثل زبد البحر، ولا يصح حمل هذه على غير توبة لأن الشرك لا يغفر لمن لم يتب منه. ثم ذكر حديث ابن عباس رضي الله عنهما: "أن ناساً من أهل الشرك كانوا قد قتلوا وأكثروا وزنوا وأكثروا فأتوا محمداً صلى الله عليه وسلم فقالوا إن الذي تقول وتدعوة إليه محسن لو تخبرنا أن لما عملنا كفارة فنزل {وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ(9/111)
حَسَنٌ غَريبٌ لاَ نَعْرِفُهُ إلاّ مِنْ حَدِيثٍ ثابِتٍ عَنْ شَهْرِ بنِ حَوْشَبٍ.
3291 ـ حدثنا بندار أخبرنا يَحْيَى بنُ سَعِيدٍ أخبرنا سُفْيَانُ
ـــــــ
اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلا يَزْنُونَ} ونزل {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ} أخرجه البخاري ومسلم وأبو داود والنسائي ثم قال بعد ذكر أحاديث أخرى ما لفظه: فهذه الأحاديث كلها دالة على أن المراد أنه يغفر جميع ذلك مع التوبة. ولا يقنطن عبد من رحمة الله وإن عظمت ذنوبه وكثرت فإن باب الرحمة والتوبة واسع انتهى. وقال صاحب فتح البيان نقلاً عن القاضي الشوكاني: والحق أن الآية غير مقيدة بالتوبة بل هي على إطلاقها قال والجمع بين هذه الآية وبين قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} هو أن كل ذنب كائناً ما كان ما عدا الشرك بالله مغفور لمن شاء الله أن يغفر له، على أنه يمكن أن يقال إن إخباره لنا بأنه يغفر الذنوب جميعاً يدل على أنه يشاء غفرانها جميعاً، وذلك يستلزم أنه يشاء المغفرة لكل المذنبين من المسلمين فلم يبق بين الآيتين تعارض من هذه الحيثية انتهى. قلت: كل محتمل وما قال ابن كثير هو الظاهر عندي والله تعالى أعلم "ولا يبالي" أي من أحد فإنه لا يجب على الله، وفي رواية أحمد سمعته صلى الله عليه وسلم يقول: "يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله إن الله يغفر الذنوب جميعاً ولا يبالي إنه هو الغفور الرحيم" . والظاهر من هاتين الروايتين أن قوله ولا يبالي كان من القرآن، ولذا قال صاحب المدارك تحت هذه الآية: وفي قراءة النبي عليه السلام يغفر الذنوب جميعاً ولا يبالي، وقال القاري: وهو يحتمل أنه كان من الآية فنسخ ويحتمل أن يكون زيادة من عنده عليه الصلاة والسلام كالتفسير للآية. قوله: "هذا حديث حسن غريب" وأخرجه أحمد وابن المنذر والحاكم "لا نعرفه إلا من حديث ثابت عن شهر بن حوشب" وشهر هذا صدوق كثير الإرسال والأوهام.(9/112)
حَدّثنِي مَنْصُورٌ وَسُلَيْمَانُ الأعْمَشُ عَنِ إبْرَاهيِمَ عَنْ عُبَيْدَةَ عَنْ عَبْدِ الله قَالَ "جَاءَ يَهُودِيّ إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم فَقالَ: يَا مُحمّدُ إِنّ الله يُمْسِكُ السّمَاوَاتِ عَلَى إِصْبعٍ والْجِبَالَ عَلَى إِصْبعٍ والأَرَضَيْن عَلَى إصْبعٍ وَالخَلائِقَ عَلَى إِصْبعٍ ثُمّ يَقُولُ أَنَا المَلِكُ. قالَ فَضَحِكَ النبيّ صلى الله عليه وسلم حَتّى بَدَتْ نَوَاجِذُهُ. قَالَ {وَمَا قَدَرُوا الله حَقّ قَدْرِهِ} " . هَذا حديثٌ حَسَنٌ صحيحٌ.
ـــــــ
قوله: "عن إبراهيم" هو النخعي "عن عبيدة" بفتح العين وكسر الموحدة ابن عمر والسلواني "عن عبد الله" هو ابن مسعود. قوله: "جاء يهودي" وفي رواية للشيخين جاء حبر "إن الله يمسك السماوات" أي يوم القيامة كما في رواية "والخلائق" أي من لم يتقدم له ذكر، وفي رواية وسائر الخلق "حتى بدت نواجذه" جمع بنون وجيم مكسورة ثم ذال معجمة وهو ما يظهر عند الضحك من الأسنان، وقيل هي الأنياب، وقيل الأضراس، وقيل الدواخل من الأضراس التي في أقصى الحلق. وفي الرواية الآتية: فضحك النبي صلى الله عليه وسلم تعجباً وتصديقاً. وفي رواية للبخاري فضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم تعجباً وتصديقاً له، وفي رواية مسلم تعجباً مما قال الحبر تصديقاً له، وفي رواية جرير عنده: وتصديقاً له بزيادة واو. قال النووي: ظاهر الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم صدق الحبر في قوله: إن الله تعالى يقبض السموات والأرضين والمخلوقات بالأصابع ثم قرأ الآية التي فيها الإشارة إلى نحو ما يقول. قال القاضي: وقال بعض المتكلمين ليس ضحكة صلى الله عليه وسلم وتعجبه وتلاوته الآية تصديقاً للحبر بل هو رد لقوله وإنكار وتعجب من سوء اعتقاده فإن مذهب اليهود التجسيم ففهم منه ذلك وقوله تصديقاً له إنما هو من كلام الراوي على ما فهم والأول أظهر انتهى. وقال الئميمي: تكلف الخطابي فيه وأتى في معناه ما لم يأت به السلف والصحابة كانوا أعلم بما رووه وقالوا إنه ضحك تصديقاً له وثبت في السنة الصحيحة: "ما من قلب إلا وهو بين(9/113)
3292 ـ حدثنا محمد بن بشار، أخبرنا يَحْيَى بنُ سَعِيدٍ، أخبرنا فُضَيْلُ بنُ عِيَاضٍ عَنْ مَنْصُورٍ عَن إِبْرَاهِيمَ عَن عُبَيْدَةَ عَن عَبْدِ الله قَالَ: "فَضَحِكَ النبيّ صلى الله عليه وسلم تَعَجّباً وتَصْدِيقاً" . هَذا حديثٌ حَسَنٌ صحيحٌ.
ـــــــ
أصبعين من أصابع الرحمن انتهى، وقد اشتد إنكار ابن خزيمة على من ادعى أن الضحك المذكور كان على سبيل الإنكار. فقال بعد أن أورد هذا الحديث في كتاب التوحيد من صحيحه بطريقة: قد أجل الله تعالى نبيه صلى الله عليه وسلم عن أن يوصف ربه بحضرته بما ليس هو من صفاته فيجعل بدل الإنكار والغضب على الواصف ضحكاً بل لا يوصف النبي صلى الله عليه وسلم بهذا الوصف من يؤمن بنبوته انتهى.
قلت: قول من قال إن الضحك المذكور كان على سبيل الإنكار لا شك عندي أنه يستأهل أن ينكر عليه أشد الإنكار والله تعالى أعلم "قال" وفي رواية البخاري في التيسير: ثم قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ} أي ما عرفوه حق معرفته، أو ما عظموه حق عظمته حين أشركوا به غيره. قال النووي: هذا الحديث من أحاديث الصفات وفيها مذهبان: التأويل والإمساك عنه مع الإيمان بها مع اعتقاد أن الظاهر منها غير مراد، فعلى قول المتأولين يتأولون الأصابع هنا على الاقتدار أي خلقها مع عظمها بلا تعب ولا ملل، والناس يذكرون الأصبع في مثل هذا للمبالغة والاحتقار فيقول أحدهم بأصبعي أقتل زيداً أي لأكلفه على في قتله، وقيل يحتمل أن المراد أصابع بعض مخلوقاته وهذا غير ممتنع والمقصود أن يد الجارحة مستحيلة انتهى.
قلت: الإمساك عن التأويل وإمرار هذه الأحاديث كما جاءت من غير تكييف ولا تحريف هو مذهب السلف. قال القاري في المرقاة هو أسلم. قلت: بل هو المتعين والله تعالى أعلم. قوله: "هذا حديث حسن صحيح" وأخرجه أحمد والشيخان وصححه النسائي في التفسير.(9/114)
3293 ـ حدثنا عبدُ الله بنُ عَبْدِ الرْحمَنِ، أخبرنا مُحمّدُ بنُ الصّلْتِ أخبرنا أَبُو كُدَيْنَةَ عَن عَطَاءِ بنِ السّائِبِ عَن أَبي الضّحَى عَن ابنِ عبّاسٍ قَالَ: "مَرّ يَهُودِيّ بالنبيّ صلى الله عليه وسلم فَقالَ لَهُ النبيّ صلى الله عليه وسلم: يا يَهُودِيّ حَدّثْنَا. فَقَالَ كَيْفَ تَقُولُ يَا أبَا القَاسِمِ إِذَا وضَعَ الله السّمواتِ عَلَى ذِهْ وَالأَرَضيْنَ عَلَى ذِهْ والمَاءَ عَلَى ذِهْ وَالْجِبَالَ عَلَى ذِهْ وَسَائِرَ الخَلْقِ عَلَى ذِهْ. وَأَشَارَ أَبُو جَعْفَرٍ مُحّمدُ بنُ الصّلْتِ بِخِنْصَرِهِ أَوّلاً ثُمّ تَابَعَ حَتّى بَلَغَ الإبْهَامَ، فَأَنْزَلَ الله عَزّ وَجَلّ {وَمَا قَدَرُوا الله حَقّ قَدْرِهِ} " .
هَذا حديثٌ حَسَنٌ غريبٌ صحيحٌ لاَ نَعْرفُهُ إِلاّ مِنْ هَذَا الوَجْهِ، وَأبُو كُدَيْنَةَ اسْمُهُ يَحْيَى بنُ المُهَلّبِ. قال رَأيْتُ مُحَمّدَ بنَ إِسماعِيلَ رَوَى هَذَا الحَدِيثَ عَنِ الحَسَنِ بنِ شُجَاعٍ عَن مُحمّدِ بنِ الصّلْتِ.
3294 ـ حدثنا ابنُ أَبي عُمَرَ أخبرنا سفيان عَن مُطْرِفٍ عَن
ـــــــ
قوله: "أخبرنا محمد بن الصلت" بن الحجاج الأسدي أبو جعفر الكوفي الأصم ثقة من كبار العاشرة أخبرنا "أبو كدينة" بكاف ودال مهملة ونون مصغراً اسمه يحيى بن المهلب البجلي الكوفي صدوق من السابعة "عن أبي الضحى" اسمه مسلم بن صبيح بالتصغير. قوله: "إذا وضع الله السماوات على ذه" وفي رواية أحمد يوم يجعل الله سبحانه وتعالى السماء على ذه وأشار بالسبابة "وأشار محمد بن الصلت أبو جعفر بخنصره أولاً ثم تابع حتى بلغ الإبهام" قال الحافظ في الفتح بعد نقل رواية الترمذي هذه إلى هذه الزيادة ما لفظه: ووقع في مرسل مسروق عند الهروي مرفوعاً نحو هذه الزيادة، قوله: "هذا حديث حسن غريب صحيح" وأخرجه أحمد "عن الحسن بن شجاع" بن رجاء البلخي كنيته أبو علي أحد الحفاظ من الحادية عشرة.(9/115)
عَطِيّةَ العَوْفِيّ عَن أَبي سَعيِدٍ الخُدْرِيّ قَالَ قَالَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: "كَيْفَ أَنْعَمُ وَقَدِ الْتَقَمَ صَاحِبُ القَرْنِ القَرْنَ وَحَنَى جَبْهَتَهُ وَأصْغَى سَمْعَهُ يَنْتَظِرُ أنْ يُؤْمَرَ أنْ يَنْفُخَ فَيَنْفُخَ. قَالَ المُسْلِمُونَ فَكَيْفَ نَقُولُ يَا رسُولَ الله؟ قَالَ: قُولُوا: حَسْبُنَا الله وَنِعْمَ الوَكِيلُ تَوَكّلْنَا عَلَى الله ربنا" وَرُبّمَا قالَ سُفْيَانُ: عَلَى الله تَوَكّلْنَا. هَذا حديثٌ حَسَنٌ.
3295 ـ حدثنا أحْمَدُ بنُ مَنِيعٍ، أخبرنا إِسْمَاعِيلُ بنُ إِبْرَاهِيمَ أخبرنا سُلَيْمَانُ التّيْمِيّ عَن أسْلَمَ العِجْلِيّ عَن بِشْرِ بنِ شَغَافٍ عَنْ عَبْدِ الله بنِ عَمْر رضي الله عنهما قَالَ: " قَالَ أَعْرَابِيّ يَا رَسُولَ الله مَا الصّورُ؟ قالَ قَرْنٌ يُنْفَخُ فِيهِ" هَذا حديثٌ حَسَنٌ إِنّمَا نَعْرِفُهُ مِنْ حَدِيثِ سُلَيْمَانَ التّيْمِيّ.
ـــــــ
قوله: "عن مطرف" هو ابن طريف. قوله: "قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "كيف أنعم" أي أفرح وأتنعم "وحنى جبهته" أي أمالها وهو كناية عن المبالغة في التوجه لإصغاء السمع وإلقاء الأذن "وأصغى سمعه" أي أمال أذنه ليسمع أمر الله وإذنه بالنفخ وقد تقدم هذا الحديث مع شرحه في باب الصور من أبواب صفة القيامة.
قوله: "حدثنا إسماعيل بن إبراهيم" هو ابن علية. قوله: "قال أعرابي يا رسول الله ما الصور إلخ" قد تقدم هذا الحديث أيضاً مع شرحه في الباب المذكور، وأورد الترمذي هذا الحديث والذي قبله ههنا في تفسير قوله تعالى: {وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ} إلخ.(9/116)
3296 ـ حدثنا أبُو كُرَيْبٍ، أخبرنا عَبْدَةُ بنُ سُلَيْمَانَ، أخبرنا مُحمّدُ بنُ عَمْرٍو، أخبرنا أبُو سَلَمَةَ عَن أَبي هُرَيْرَةَ قَالَ: "قَالَ يَهُودِيّ في سُوقِ المَدِينَةِ لاَ وَالّذِي اصْطَفَى مُوسَى عَلَى البَشَرِ، قَالَ فَرَفَعَ رَجُلٌ مِنَ الأَنْصَارِ يَدَهُ فَصَكّ بِهَا وَجْهَهُ، قَالَ تَقُولُ هذَا وَفِينَا نبيّ صلى الله عليه وسلم؟ فقالَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم {وَنُفِخَ في الصّورِ فَصَعِقَ مَنْ في السّمَاوَاتِ وَمَنْ في الأَرْضِ إِلاّ مَنْ شَاءَ الله ثُمّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَى فإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنْظُرُون} فَأكُونُ أَوّلَ مَنْ رَفَعَ رَأْسَهُ فَإِذَا مُوسَى آخِذٌ بِقَائِمَةٍ مِنْ قَوَائِم العَرْشِ فَلاَ أَدْرِي أَرَفَعَ رَأْسَهُ قَبْلِي أَمْ كانَ مِمّنْ
ـــــــ
قوله: "أخبرنا محمد بن عمرو" بن علقمة بن وقاص الليثي "أخبرنا أبو سلمة" هو ابن عبد الرحمن. قوله: "قال يهودي في سوق المدينة: لا والذي اصطفى موسى على البشر" وفي رواية للبخاري وكذا لمسلم: بينما يهودي يعرض سلعته أعطى بها شيئاً كرهه فقال لا والذي اصطفى موسى على البشر، وفي رواية لهما استب وجل من المسلمين ورجل من اليهود فقال المسلم والذي اصطفى موسى على العالمين لقسم يقسم به، فقال اليهودي: والذي اصطفى موسى على العالمين "فصك بها وجه" أي لطم وجه اليهودي قال الحافظ: وإنما صنع ذلك لما فهمه من عموم لفظ العالمين فدخل فيه محمد صلى الله عليه وسلم، وقد تقرر عند المسلم أن محمداً أفضل فلطم اليهودي عقوبة له على كذبه "فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم" وفي رواية البخاري ومسلم: فذهب اليهودي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم. فقال يا أبا القاسم إن لي ذمة وعهداً فما بال فلان لطم وجهي؟ فقال لم لطمت وجهه. وفي رواية إبراهيم بن سعد فدعا النبي صلى الله عليه وسلم المسلم فسأله عن ذلك فأخبره {وَنُفِخَ فِي الصُّور} أي النفخة الأولى {فَصَعِقَ} أي مات {ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ} أي في الصور {أُخْرَى} أي مرة أخرى وهي النفخة الثانية {فَإِذَا هُمْ} أي جميع الخلائق الموتى {قِيَامٌ} أي من قبورهم {يَنْظُرُونَ} أي ينتظرون ما يفعل بهم "فأكون أول من رفع رأسه" وفي رواية الشيخين فأكون أول من يفيق،(9/117)
اسْتَثْنَى الله. وَمَنْ قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْ يُونُسَ بنِ مَتّى فَقَدْ كَذَبَ" . هَذا حديثٌ حَسَنٌ صحيحٌ.
ـــــــ
وفي لفظ أول من تنشق عنه الأرض "فلا أدري أرفع رأسه قبلي أم كان ممن استثنى الله" وفي رواية الشيخين: فلا أدري وكان فيمن صعق فأفاق قبلي أو كان ممن استثنى الله. قال الحافظ أي فلم يكن ممن صعق، أن فإن كان أفاق قبلي فهي فضيلة ظاهرة وإن كان ممن استثنى الله فلم يصعق فهي فضيلة أيضاً. ووقع في حديث أبي سعيد: "فلا أدري كان فيمن صعق أي فأفاق قبلي أم حوسب بصعقته الأولى التي صعقها لما سأل الرؤية" وبين ذلك ابن الفضل في روايته بلفظ: "أحوسب بصعقته يوم الطور" والجمع بينه وبين قوله أو كان ممن استثنى الله أن في رواية ابن الفضل وحديث أبي سعيد بيان السبب في استثنائه وهو أنه حوسب بصعقته يوم الطور فلم يكلف بصعقة أخرى، والمراد بقوله: ممن استثنى الله قوله إلا من شاء الله انتهى كلام الحافظ.
قال النووي في شرح مسلم: قال القاضي هذا من أشكل الأحاديث لأن موسى قد مات فكيف تدركه الصعقة وإنما تصعق الأحياء، وقوله: ممن استثنى الله تعالى يدل على أنه كان حياً ولم يأت أن موسى رجع إلى الحياة ولا أنه حي كما جاء في عيسى، وقد قال صلى الله عليه وسلم: "لو كنت ثم لأريتكم قبره إلى جانب الطريق" . قال القاضي فيحتمل أن هذه الصعقة صعقة فزع بعد البعث حين تنشق السماوات والأرض فتنتظم حينئذٍ الآيات والأحاديث، ويؤيده قوله صلى الله عليه وسلم: فأفاق لأنه إنما أفاق من الغشى، وأما الموت فيقال بعث منه وصعقه الطور لم تكن موتاً وأما قوله صلى الله عليه وسلم: "فلا أدري أفاق قبلي" فيحتمل أنه صلى الله عليه وسلم قاله قبل أن يعلم أنه أول من تنشق عنه الأرض إن كان هذا اللفظ على ظاهره وأن نبينا صلى الله عليه وسلم أول شخص من تنشق عنه الأرض على الإطلاق. قال ويجوز أن يكون معناه أنه من الزمرة الذين هم أول من تنشق عنهم الأرض فيكون موسى من تلك الزمرة وهي والله أعلم زمرة الأنبياء وصلوات الله وسلامه عليهم انتهى.(9/118)
3297 ـ حدثنا مَحْمُودُ بنُ غَيْلاَنَ وَغَيْرُ وَاحِدٍ قَالُوا: أخبرنا عَبْدُ الرّزّاقِ أخبرنا الثّوْرِيّ، أخبرنا أَبُو إسْحَاقَ أَنّ الأَغَرّ أَبَا مُسْلِمٍ حَدّثَهُ عَنْ أبي سَعِيدٍ وأَبي هُرَيْرَةَ عَن النبيّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "يُنَادِي مُنَادٍ:
ـــــــ
قلت: هاهنا أبحاث وأنظار ذكرها الحافظ وغيره من شراح البخاري ومسلم "ومن قال أنا خير من يونس بن متى" بفتح الميم وتشديد المثناة مقصوراً، ووقع في تفسير عبد الرزاق أن متى اسم أمه وهو مردود بحديث ابن عباس عند البخاري ومسلم عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "ما ينبغي لعبد أن يقول إني خبر من يونس بن متى" ونسبه إلى أبيه، فقوله ونسبه إلى أبيه صريح في أن متى أبوه لا أمه "فقد كذب" لأن الأنبياء كلهم متساوون في مرتبة النبوة وإنما التفاضل باعتبار الدرجات، فلفظ أنا واقع. موقع هو ويكون راجعاً إلى النبي صلى الله عليه وسلم، ويحتمل أن يكون المراد به نفس القائل فحينئذٍ كذب بمعنى كفر كنى به عن الكفر لأن هذا الكذب مساوٍ للكفر. كذا في المرقاة. وقال النووي: الضمير في أنا قيل يعود إلى النبي صلى الله عليه وسلم وقيل يعود إلى القائل أي لا يقول ذلك بعض الجاهلين من المجتهدين في عبادة أو علم أو غير ذلك من الفضائل. فإنه لو بلغ من الفضائل ما بلغ لم يبلغ درجة لنبوة، ويؤيد هذا التأويل الرواية التي قبله وهي قوله صلى الله عليه وسلم: "لا ينبغي لعبد أن يقول أنا خير من يونس بن متى" انتهى. قلت: ضمير "أنا" إذا عاد إلى النبي صلى الله عليه وسلم فالظاهر أنه صلى الله عليه وسلم قال ذلك قبل أن يعلم أنه أفضل الخلق، وأما قول من قال إنه صلى الله عليه وسلم قال ذلك تواضعاً إن كان قاله بعد أن اعلم أنه أفضل الخلق ففيه أنه لا يناسبه قوله "فقد كذب" كما في رواية الترمذي هذه. قيل خص يونس بالذكر لأن الله تعالى وصفه بأوصاف توهم انحطاط رتبته حيث قال {فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ} {إِذْ أَبَقَ إِلَى الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ} . قوله: "هذا حديث حسن صحيح" وأخرجه الشيخان.
قوله: "أخبرنا أبو إسحاق" هو السبيعي. قوله: "ينادي مناد" أي في الجنة(9/119)
إِنّ لَكُمْ أَنْ تَحْيَوْا فَلاَ تَموتُوا أَبَداً، وَإنّ لَكُمْ أَنْ تَصِحّوا فَلاَ تَسْقَمُوا أَبَداً، وَإنّ لكُمْ أَنْ تَشِبّوا فَلاَ تَهْرَمُوا أَبَداً، وَإنّ لَكُمْ أَنْ تَنْعَمُوا فَلاَ تَبأَسُوا أَبَداً، فَذَلِكَ قَوْلُهُ تعَالَى {وَتِلْكَ الجَنّةُ الّتِي أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنْتُم تَعْمَلُونَ} " . وَرَوَى ابنُ المُبَارَكِ وَغَيْرُهُ هَذَا الحَدِيثَ عَن الثّورِيّ وَلَمْ يرفعه.
3298 ـ حدثنا سُوَيْدُ بنُ نَصْرٍ، أخبرنا عَبْدُ الله بنُ المُبَارَكِ عَن عَنْبَسَةَ بن سَعِيدٍ عَن حَبيبِ بنِ أَبي عَمْرَةَ عَن مُجَاهِدٍ قَالَ: قَالَ ابنُ عَبّاس: "أَتَدْرِي مَا سَعَةُ جَهَنّمَ؟ قُلْتُ لاَ، قَالَ أَجَلْ وَالله مَا تَدْرِي حَدّثَتْنِي عَائِشَةُ أَنّهَا سَألَتْ رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم عَن قَوْلِهِ
ـــــــ
"إن لكم" بكسر الهمزة أي قائلاً إن لكم "أن تحيوا" بفتح الياء أي أن تكونوا أحياء دائماً "أن تصحوا" بكسر الصاد وتشديد الحاء أي تكونوا صحيحي البدن دائماً "فلا تسقموا" من باب سمع أي لا تمرضوا "أن تشبوا" بكسر الشين المعجمة وتشديد الموحدة أي تدوموا شباباً "فلا تهرموا" من باب سمع أي لا تشيبوا "أن تنعموا" بفتح العين أي يدوم لكم النعيم "فلا تبأسوا" بسكون الموحدة فالهمزة المفتوحة أي لا يصيبكم بأس وهو شدة الحال. والبأس والبؤس والبأساء والبؤسى بمعنى قاله النووي. وقال في القاموس: بئس كسمع اشتدت حاجته {وَتِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} وفي رواية مسلم {وَنُودُوا أَنْ تِلْكُمُ الْجَنَّةُ أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} الآية في سورة الأعراف، وأما الآية التي في الكتاب فهي في سورة الزخرف، وكان للترمذي أو يورد هذا الحديث في تفسير سورة الأعراف أو في تفسير سورة الزخرف. وهذا الحديث أخرجه أيضاً مسلم في صحيحه مرفوعاً.
قوله: "عن عنبسة بن سعيد" بن الضريس بضاد معجمة مصغراً الأسدي(9/120)
{والأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ القيامَةِ والسّمَاوَاتُ مَطْوِيّاتٌ بِيَمِينِهِ} . قال: قُلْتُ فَأيْنَ النّاسُ يَوْمَئِذٍ يَا رَسُولَ الله؟ قَالَ: عَلَى جِسْرِ جَهَنّمَ" وَفِي الْحَدِيثِ قِصّةٌ وهَذا حديثٌ حَسَنٌ صحيحٌ غرِيبٌ مِنْ هَذَا الوَجْهِ
ـــــــ
أبي بكر الكوفي قاضي الري ثقة من الثامنة. قوله: {وَالْأَرْضُ جَمِيعاً} حال أي السبع {قَبْضَتُه} أي مقبوضته وفي ملكه وتصرفه يتصرف فيه كيف يشاء {يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ} أي مجموعات {بِيَمِينِهِ} وبعده {سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} أي بنسبة الولد والشريك إليه "قال على جسر جهنم" وقد روى الترمذي في تفسير سورة إبراهيم من طريق مسروق: قال قالت عائشة هذه الآية {يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ} قالت: يا رسول الله فأين يكون الناس قال "على الصراط" . ووقع في حديث ثوبان عند مسلم: "يكونون في الظلمة دون الجسر" . وقد تقدم هناك وجه الجمع "وفي الحديث قصة" لم أقف على من أخرج هذا الحديث مع القصة. قوله: "هذا حديث حسن صحيح غريب" وأخرجه أحمد وابن جرير.(9/121)
سورة المؤمن
بسم الله الرحمن الرحيم
3299 ـ حدثنا بندار، أخبرنا عَبْدُ الرحمَنِ بنُ مَهْدِيّ، أخبرنا سُفْيَانُ عَنْ مَنْصُورٍ وَالأعْمَشُ عَن ذَرّ عَن يُسَيْع الْحَضْرمِيّ عَن النّعْمانِ بنِ بَشِيرٍ قال سَمِعْتُ النبيّ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ "الدّعاءُ هُوَ
ـــــــ
"سورة المؤمن"
وتسمى سورة غافر مكية إلا {الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ} والتي بعدها وهي خمس وثمانون آية(9/121)
العِبَادَةُ، ثُمّ قالَ: {وَقَال رَبّكُمُ ادْعُونِي أسْتَجِبْ لَكُمْ إنّ الّذِينَ يَسْتكْبِرونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنّمَ دَاخِرِينَ} " . هَذا حديثٌ حَسَنٌ صحيحٌ.
ـــــــ
قوله: "الدعاء هو العبادة" تقدم هذا الحديث في تفسير سورة البقرة وتقدم هناك شيء من شرحه ويأتي في أوائل أبواب الدعوات مع بقية الكلام عليه.(9/122)
سورة السجدة
بسم الله الرحمن الرحيم
3300 ـ حدثنا ابنُ أبِي عُمَرَ، أخبرنا سُفيَانُ عَن مَنْصُورٍ عَن مُجَاهِدٍ عَن أبِي مَعْمَرٍ عَنِ ابنِ مَسْعُودٍ قَالَ: "اخْتَصَمَ عِنْدَ البَيْتِ ثَلاَثَةُ نَفَرٍ قُرَشِيّانِ وثَقَفِيّ أوْ ثَقَفِيّانِ وَقُرَشِيّ قَلِيلٌ فِقْهُ قُلُوبِهم، كَثِير شَحْمُ بُطُونِهُمْ، فقَالَ أحَدُهُمْ: أتَرَوْنَ أن الله يَسْمَعُ مَا نَقُولُ؟ فَقَالَ الآخر: يَسْمَعُ إِنْ جَهَرْنَا وَلاَ يَسْمَعُ إِنْ أخْفَيْنَا، وقَالَ الآخر: إِنْ كَانَ يَسْمَعُ إِذَا جَهَرْنَا فَهُوَ يَسْمَعُ إِذَا أخْفَيْنَا. فَأَنْزَلَ الله عَزّ وَجَلّ
ـــــــ
"سورة السجدة"
وتسمى سورة فصلت وهي مكية وهي ثلاث وخمسون آية
قوله: "عن أبي معمر" اسمه عبد الله بن سخبرة الأزدي "اختصم عند البيت" أي الكعبة "قرشيان وثقفي أو ثقفيان وقرشي" الشك من أبي معمر كما يظهر من كلام الحافظ وقد أخرجه عبد الرزاق من طريق وهب بن ربيعة(9/122)
{وَمَا كُنْتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلاَ أبْصَارُكُمْ ولا جلودكم} ". هَذا حديثٌ حَسَنٌ صحيحٌ.
3301 ـ حدثنا هَنّادٌ، أخبرنا أبو مُعَاويَةُ عَن الأَعْمَشِ عَن عُمَارَةَ بنِ عُمَيْرٍ عَن عَبْدِ الرّحْمنِ بنِ يَزِيدَ قَال قَالَ عَبْدُ الله: "كُنْتُ مُسْتَتِراً بِأسْتَارِ الكَعْبَةِ فَجَاءَ ثَلاثَةُ نَفَرٍ كَثِيرٌ شحم بُطُونِهمْ، قَلِيلٌ فِقْهُ قُلُوبِهِم، قُرَشِيّ وَخَتَنَاهُ ثَقَفِيّانِ أَو ثَقَفِيّ وَخَتَنَاهُ قُرَشِيّانِ فَتَكَلّمُوا بِكَلاَمٍ لَمْ أَفْهَمْهُ، فَقَال أَحَدُهُم: أَتَرَوْنَ أَنّ الله يَسْمَعُ كلامَنَا هَذَا؟ فَقَال الآخر إنّا إِذَا رَفَعْنَا أَصْوَاتَنَا سَمِعَهُ وَإِذَا لَمْ نَرْفَعْ أصْوَاتَنَا لَمْ يَسْمَعْهُ، فَقالَ الآخر إنْ سَمِعَ مِنْهُ شَيْئاً سَمِعَهُ كُلّهُ. فَقَالَ عَبْدُ الله فَذَكَرْتُ ذَلِكَ للنبيّ صلى الله عليه وسلم فَأَنْزَلَ الله {وَمَا كُنْتُمْ تَسْتَتِرُونَ أنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلاَ أبْصَارُكُمْ ولاَ جلُودُكُمْ} إِلَى قَوْلِه ـ {فَأَصْبَحْتُمْ مِنَ الخَاسِرِينَ} " . هَذا حديثٌ حَسَنٌ.
ـــــــ
عن ابن مسعود بلفظ ثقفي وختناه قرشيان ولم يشك. وأخرج مسلم من طريق وهب هذه ولم يسق لفظها "قليل" بالتنوين خبر مقدم لقوله: "فقه قلوبهم" بإضافة فقه إلى قلوبهم وقيل بإضافة قليل إلى فقه، وقلوبهم بالرفع على أنه المبتدأ أي قلوبهم قليلة الفقه. وكذلك قوله: "كثير شحم بطونهم" . وفيه إشارة إلى أن الفطنة قلما تكون مع البطنة. قال الشافعي: ما رأيت سميناً عاقلاً إلا محمد بن الحسن "أترون" بضم الفوقية أي أتظنون "إن كان يسمع إذا جهرنا فهو يسمع إذا أخفينا" وجه الملازمة فيما قال أن نسبة جميع المسموعات إلى الله على السواء وأبطل القياس الفاسد في تشبيهه بالخلق في سماع الجهر دون السر وأثبت القياس الصحيح حيث شبه السر بالجهر لعلة أن الكل إليه سواء.(9/123)
3302 ـ حدثنا مَحمُودُ بنُ غَيْلاَنَ، أخبرنا وَكِيعٌ، أخبرنا سُفْيَان عَنِ الأَعمَشِ عَن عُمَارَةَ بنِ عُمَيْرٍ، عَن وَهْبِ بنِ رَبِيعَةَ عَنْ عَبْدِ الله نَحْوَهُ.
3303 ـ حدثنا أبُو حَفْصٍ عَمْرُو بنُ عَلِيّ الفَلاّسُ، حَدّثنا أبو قُتَيْبَةَ سلمُ بنُ قُتَيْبَةَ، أخبرنا سهيلُ بنُ أبي حَزْمٍ القطعي أخبرنا ثَابِتٌ البُنَانِيّ عَن أنَسِ بنِ مَالِكٍ "أنّ رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم قَرَأَ {إِنّ
ـــــــ
وإنما جعل قائله من جملة قليل الفهم لأنه لم يقطع به وشك فيه {وَمَا كُنْتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلا أَبْصَارُكُمْ} وبعده {وَلا جُلُودُكُمْ} أي أنكم تستترون والحيطان والحجب عند ارتكاب الفواحش وما كان استتاركم ذلك خيفة أن يشهد عليكم جوارحكم لأنكم كنتم غير عالمين بشهادتها عليكم بل كنتم جاحدين بالبعث والجزاء أصلاً ولكنكم ظننتم أن الله لا يعلم كثيراً مما كنتم تعملون أي ولكنكم إنما استترتم لظنكم أن الله لا يعلم كثيراً مما كنتم تعملون وهو الخفيات من أَعمالكم {وَذَلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنْتُمْ بِرَبِّكُمْ أَرْدَاكُمْ} أي وذلك الظن هو الذين أهلككم، وذلكم مبتدأ وظنكم خبر، والذي ظننتم بربكم صفته وأرداكم خبر ثان، أو ظنكم بدل من ذلكم وأراداكم الخبر {فَأَصْبَحْتُمْ مِنَ الْخَاسِرِينَ} أي في مواقف القيامة. قوله: "هذا حديث حسن صحيح" وأخرجه الشيخان.
قوله: "عن عبد الرحمن بن يزيد" بن قيس النخعي "قال عبد الله" بن مسعود قوله: "قرشي وختناه" تثنية ختن محركة وهو الصهر أو كل ما كان من قبل المرأة كالأب والأخ. قوله: "هذا حديث حسن" وأخرجه أحمد. قوله:
"عن وهب بن ربيعة" الكوفي قال في تهذيب التهذيب في ترجمته: روي عن ابن مسعود حديث: إني لمستتر بأستار الكعبة وعنه عمارة بن عمير، ذكره ابن حبان في الثقات، وقال في التقريب: مقبول من الثالثة انتهى "عن(9/124)
الّذِينَ قَالُوا رَبّنَا الله ثُمّ اسْتَقَامُوا} قالَ: قَدْ قَالَ النّاسُ ثُمّ كَفَرَ أكْثَرُهُمْ فَمَنْ مَاتَ عَلَيْهَا فَهُوَ مِمّنْ اسْتَقَامَ" . هَذا حديثٌ حسن غَرِيبٌ لاَ نَعْرِفُهُ إلاّ مِنْ هَذا الوَجْهِ سَمِعْتُ أبَا زُرْعَةَ يَقُولُ رَوَى عَفّانُ عَن عَمْرِو بن عَليّ حَدِيثاً.
ـــــــ
عبد الله نحوه" أخرجه أيضاً أحمد ومسلم. قوله: {إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ} وحده لا شريك له {ثُمَّ اسْتَقَامُوا} أي داموا أو ثبتوا على التوحيد ولم يلتفتوا إلى إله غير الله. قال جماعة من الصحابة والتابعين معنى الاستقامة إخلاص العمل لله تعالى. وقال قتادة وابن زيد: ثم استقاموا على طاعة الله. وقال الحسن استقاموا على أمر الله فعملوا بطاعته واجتنبوا معاصيه. وقال ابن عباس ومجاهد وعكرمة استقاموا على شهادة أن لا إله إلا الله حتى ماتوا، وقيل غير ذلك. قلت: قول ابن عباس ومن تبعه هو الظاهر الموافق لحديث أنس الذي نحن في شرحه "قد قال الناس" وفي رواية أبي يعلى: قد قالها أناس "ثم كفر أكثرهم" يعني فليس هؤلاء الكفرة ممن استقاموا. قوله: "هذا حديث غريب" وأخرجه النسائي في التفسير وأبو يعلى والبزار وابن جرير. قوله: "سمعت أبا زرعة يقول روى عفان عن عمرو بن علي حديثاً" عفان هذا هو عفان بن مسلم. وهو من شيوخ عمرو بن علي الفلاس، وروى هو عنه حديثاً واحداً، كما أن البخاري من شيوخ الترمذي وروي عنه حديثين كما عرفت في المقدمة.(9/125)
سورة الشورى
بسم الله الرحمن الرحيم
3304 ـ حدثنا محمد بن بشار، أخبرنا مُحمّدُ بنُ جَعْفَرٍ، أخبرنا شُعْبَةُ عَن عَبْدِ المَلِكِ بنِ مَيْسَرَةَ قَالَ سَمِعْتُ طَاؤُساً قَالَ: "سُئِلَ ابنُ عَبّاسٍ عَن هَذِهِ الآية {قُلْ لاَ أسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إلاّ المَوَدّةَ في القُرْبَى} فَقالَ سَعيدُ بنُ جُبَيْرٍ قُرْبَى آلِ مُحمدٍ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ ابنُ عَبّاسٍ
ـــــــ
"سورة الشورى"
وفي بعض النسخ سورة حم عسق
وهي مكية وهي ثلاث وخسمون آية
قوله: "عن عبد الملك بن ميسرة" الهلالي أبي زيد العامري الكوفي الزراد ثقة من الرابعة {قُلْ لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ} أي على تبليغ الرسالة {أَجْراً إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى} أي مظروفة فيها بحيث تكون القربى موضعاً للمودة وظرفاً لها لا يخرج شيء من محبتكم عنها والاستثناء متصل أي إلا أن تودوني لقرابتي بينكم أو تودوا أهل قرابتي، ويجوز أن يكون منقطعاً. قال الزجاج: إلا المودة استثناء ليس من الأول أي إلا أن تودوني لقرابتي فتحفظوني والخطاب لقريش، وهذا قول عكرمة ومجاهد وأبي مالك والشعبي فيكون المعنى على الانقطاع لا أسألكم أجراً قط ولكن أسألكم المودة في القربى التي بيني وبينكم ارقبوني فيها ولا تعجلوا إليّ ودعوني والناس، وبه قال قتادة ومقاتل والسدي والضحاك وابن زيد وغيرهم وهو الثابت عن ابن عباس "فقال سعيد بن جبير(9/126)
أعَجلتَ إنّ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم لَمْ يَكُنْ بَطْنٌ مِنْ قُرَيْشٍ إلاّ كَانَ لَهُ فِيهِمْ قَرَابَةٌ فَقَالَ: إلاّ أنْ تَصِلُوا مَا بَيْنِي وبَيْنَكُمْ مِنَ
ـــــــ
قربى آل محمد. قال الحافظ: هذا الذي جزم به سعيد بن جبير قد جاء عنه من روايته عن ابن عباس مرفوعاً فأخرج الطبري وابن أبي حاتم من طريق قيس بن الربيع عن الأعمش عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال: لما نزلت قالوا يا رسول الله من قرابتك الذين وجبت علينا مودتهم الحديث وإسناده ضعيف وهو ساقط لمخالفته هذا الحديث الصحيح يعني حديث ابن عباس هذا الذي نحن في شرحه "فقال ابن عباس أعلمت" بهمزة الاستفهام للإنكار، وفي رواية البخاري: فقال ابن عباس: عجلت. قال الحافظ أي أسرعت في التفسير "إن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يكن بطن من قريش" البطن ما دون القبيلة وفوق الفخذ "له" أي للنبي صلى الله عليه وسلم "قال إلا أن تصلوا ما بيني وبينكم من القرابة" فحمل الآية على أن توادوا النبي صلى الله عليه وسلم من أجل القرابة التي بينه وبينكم فهو خاص بقريش، ويؤيده أن السورة مكية، وأما حديث ابن عباس أيضاً عند ابن أبي حاتم قال: لما نزلت هذه الآية {قُلْ لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى} قالوا يا رسول الله من هؤلاء الذين أمر الله بمودتهم؟ قال: "فاطمة وولدها عليهم السلام" . فقال ابن كثير إسناده ضعيف فيه منهم لا يعرف إلا عن شيخ شيعي مخترق وهو حسين الأشقر ولا يقبل خبره في هذا المحل. والآية مكية ولم يكن إذ ذاك لفاطمة أولاد بالكلية فإنها لم تزوج بعلي إلا بعد بدر من السنة الثانية من الهجرة، وتفسير الآية بما فسر به حبر الأمة وترجمان القرآن ابن عباس أحق وأولى ولا ننكر الوصاة بأهل البيت واحترامهم وإكرامهم إذ هم من الذرية الطاهرة التي هي أشرف بيت وجد على وجه الأرض فخراً وحسباً ونسباً ولا سيما إذا كانوا متبعين للسنة الصحيحة كما كان عليه سلفهم كالعباس وبنيه وعلي وآل بيته وذريته رضي الله عنهم ونفعنا بمحبتهم، قاله القسطلاني. وقال الحسين بن الفضل ورواه ابن جرير عن الضحاك أن هذه الآية منسوخة والقول بنسخ(9/127)
القَرَابَةِ" . هَذا حديثٌ حَسَنٌ صحيحٌ وقَدْ رُوِيَ مِنْ غَيْرِ وَجْهٍ عَنِ ابنِ عَبّاسٍ.
3305 ـ حدثنا عَبْدُ بنُ حُمَيْدٍ، أخبرنا عَمْرُو بنُ عَاصِمٍ، أخبرنا عُبَيْدُ الله بنُ الوَزّاعِ قَالَ حدثني شَيْخٌ مِنْ بَنِي مُرّةَ قَالَ: "قَدِمْتُ الكُوفَةَ فَأُخْبِرْتُ عَنِ بِلاَلِ بنِ أبي بُرْدَةَ فَقُلْتُ إنّ فِيهِ لَمُعْتَبَراً فَأَتَيْتُه وَهُوَ مَحْبُوسٌ في دَارِهِ الّتِي قَدْ كَانَ بَنَى، قَالَ وإذَا كُلّ شَيءٍ
ـــــــ
هذه الآية غير مرضي لأن مودة النبي صلى الله عليه وسلم وكف الأذى عنه ومودة أقاربه من فرائض الدين وهو قول السلف فلا يجوز المسير إلى نسخ هذه الآية. وروى أحمد في مسنده عن ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "قل لا أسألكم على ما آتيتكم من البينات والهدى أجراً إلا أن توادوا الله تعالى وأن تقربوا إليه بطاعته" ، وهكذا روى قتادة عن الحسن البصري مثله. قال الحافظ ابن كثير وهذا كأنه تفسير بقول ثانٍ كأنه يقول "إلا المودة في القربى" أي "إلا أن تعملوا بالطاعة التي تقربكم عند الله زلفى" انتهى. والحاصل أن معنى الآية. قل يا محمد لهؤلاء المشركين من كفار قريش لا أسألكم على هذا البلاغ والنصح لكم ما لا تعطونيه وإنما أطلب منكم أن تكفوا شركم عني وتذروني أبلغ رسالات ربي إن لم تنصروني فلا تؤذوني لما بيني وبينكم من القرابة، وهذا هو الصحيح في معنى هذه الآية. ويدل على ذلك حديث ابن عباس هذا الذي نحن في شرحه، وأما الأقوال الباقية فمرجوحة. قوله: "هذا حديث حسن صحيح" وأخرجه أحمد والبخاري.
قوله: "أخبرنا عمرو بن عاصم" بن عبيد الله بن الوازع الكلابي القيسي "أخبرنا عبيد الله بن الوازع" الكلابي البصري مجهول من السابعة. قوله: "فأخبرت" بصيغة المجهول "عن بلال بن أبي بردة" بن أبي موسى الأشعري قاضي البصرة كان ظلوماً. وذكره أبو العرب الصقلي في كتاب الضعفاء وذكره(9/128)