76 ـ باب ما جاءَ في الصّبْر
2093 ـ حَدّثنا الأنْصَارِيّ، حدثنا مَعْن، حدثنا مالِكُ بنُ أَنَسٍ عن الزّهْرِيّ عن عَطاءِ بنِ يَزِيدَ عن أَبِي سَعِيدٍ: "أَنّ نَاساً مِنَ الأنْصَارِ سَأَلُوا النبيّ صلى الله عليه وسلم فَأَعْطَاهُمْ، ثُمّ سَألُوه فَأَعْطاهُمْ، ثُمّ قَالَ: مَا يَكُونُ
ـــــــ
"باب ما جاء في الصبر"
قوله: "سألوا النبي صلى الله عليه وسلم" أي شيئاً "فأعطاهم" أي إياه "ثم سألوا فأعطاهم" زاد في رواية الشيخين حتى نفد ما عنده "فقال ما يكون عندي(6/169)
عِنْدِي مِنْ خَيْرٍ فَلَنْ أَدّخِرَهُ عَنْكُمْ، وَمَنْ يَسْتَغْنِ يُغْنِهِ الله، وَمَنْ يستعفف يُعِفّهُ الله، وَمَنْ يَتَصَبّرْ يُصَبّرْهُ الله، وَمَا أُعْطِيَ أحَدٌ شَيْئَاً هُوَ خَيْرٌ وَأَوْسَعُ مِنَ الصّبْرِ" .
ـــــــ
من خير" أي مال، ومن بيان لما وما خبرية متضمنة للشرط أي كل شيء من المال موجود عندي أعطيكم "فلن أدخره عنكم" أي أحبسه وأخبؤه وأمنعكم إياه منفرداً به عنكم "ومن يستغن" أي يظهر الغنى بالاستغناء عن أموال الناس والتعفف عن السؤال حتى يحسبه الجاهل غنياً من التعفف "يغنه الله" أي يجعله غنياً أي بالقلب ففي الحديث: ليس الغني عن كثرة العرض إنما الغني غني النفس. أو يعطيه ما يغنيه عن الخلق "ومن يستعفف" قال الجزري في النهاية: الاستعفاف طلب العفاف والتعفف وهو الكف عن الحرام والسؤال من الناس، أي من طلب العفة وتكلفها أعطاه الله إياها، وقيل: الاستعفاف الصبر والنزاهة عن الشيء يقال عف يعف عفه فهو عفيف انتهى "يعفه الله" : أي يجعله عفيفاً من الاعفاف وهو إعطاء العفة وهي الحفظ عن المناهي يعني من قنع بأدنى قوت وترك السؤال تسهل عليه القناعة وهي كنز لا يفنى. وقال في المجمع: يعفه من الإعفاف وبفتح فاء مشددة وضمه بعض إتباعاً بضم الهاء انتهى. "ومن يتصبر" أي يطلب توفيق الصبر من الله لأنه قال تعالى: {وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلَّا بِاللَّهِ} . أو يأمر نفسه بالصبر ويتكلف في التحمل عن مشاقه وهو تعميم بعد تخصيص، لأن الصبر يشتمل على صبر الطاعة والمعصية والبلية، أو من يتصبر عن السؤال والتطلع إلى ما في أيدي الناس بأن يتجرع مرارة ذلك ولا يشكو حاله لغير ربه "يصبره الله" بالتشديد: أي يسهل عليه الصبر فتكون الجمل مؤكدات، ويؤيد إرادة معنى العموم قوله "وما أعطي أحد شيئاً هو خير" : أي أفضل "وأوسع من الصبر" قال القاري: وذلك لأن مقام الصبر أعلى المقامات لأنه جامع لمكارم الصفات والحالات ولذا قدم على الصلاة في قوله تعالى: {وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ} . ومعنى كونه أوسع أنه تتسع به المعارف والمشاهد والأعمال والمقاصد انتهى.(6/170)
وفي البابِ عن أَنَسٍ. هذا حديث حسن صحيح. ويُرْوَى هذا الحديث عن مالِكٍ: "فَلَنْ أَدّخِرَهُ عَنْكُمْ، ويُرْوَى عَنْهُ: فَلَمْ أَذْخِرْهُ عَنْكُمْ" . والمعنَى فِيهِ وَاحِدٌ يَقُولُ: "لَنْ أَحْبِسَهُ عَنْكُمْ" .
ـــــــ
قوله: "في الباب عن أنس" أخرجه الطبراني والحاكم كذا في الترغيب.
قوله: "هذا حديث حسن صحيح" وأخرجه البخاري في الزكاة وفي الرقاق ومسلم وأبو داود في الزكاة والنسائي في الزكاة وفي الرقاق.
قوله: "ويروي" بصيغة المجهول وفي بعض النسخ وقد روي "فلن أدخره عنكم" وفي بعض النسخ بالذال المعجمة(6/171)
77 ـ باب ما جاءَ في ذِي الْوَجْهيْن
2094 ـ حَدّثنا هَنّادٌ، حدثنا أبو مُعَاوِيَةَ عن الأعْمَشِ عن أَبِي صالحٍ عن أَبي هُرَيْرَةَ قال: قال رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم: "إِنّ مِنْ شَرّ النَاسِ عِنْدَ الله يَومَ القِيامَةِ ذَا الْوَجْهَيْنِ" .
ـــــــ
"باب ما جاء في ذي الوجهين"
قوله: "إن من شر الناس عند الله يوم القيامة ذا الوجهين" ولفظ اليخاري: تجد من أشر الناس يوم القيامة عند الله ذا الوجهين الذي يأتي هؤلاء بوجه وهؤلاء بوجه. قال القرطبي: إنما كان ذو الوجهين شر الناس لأن حاله حال المنافق إذ هو متملق بالباطل وبالكذب، مدخل للفساد بين الناس، وقال النووي: هو الذي يأتي كل طائفة بما يرضيها فيظهر لها أنه منها ومخالف لضدها، وصنيعه نفاق ومحض كذب وخداع وتحيل على الاطلاع على أسرار الطائفتين وهي مداهنة محرمة. قال: فأما من يقصد بذلك الإصلاح بين الطائفتين فهو محمود. وقال غيره: الفرق بينهما أن المذموم من يزين لكل طائفة عملها ويقبحه عند الأخرى، ويذم كل طائفة عند الأخرى. والمحمود أن يأتي لكل طائفة بكلام فيه صلاح الأخرى، ويعتذر لكل واحدة عن الأخرى، وينقل إليه ما أمكنه من الجميل ويستر القبيح ويؤيد هذه(6/171)
وفي البابِ عن عمّارٍ وَأَنَسٍ. هذا حديث حسن صحيح.
ـــــــ
التفرقة، رواية الإسماعيلي من طريق ابن عمير عن الأعمش: الذي يأتي هؤلاء بحديث هؤلاء، وهؤلاء بحديث هؤلاء.
قوله: "وفي الباب عن عمار وأنس" أما حديث عمار فأخرجه أبو داود وابن حبان في صحيحه. وأما حديث أنس فأخرجه ابن أبي الدنيا في كتاب الصمت والطبراني والأصبهاني وغيرهم كذا في الترغيب.
قوله: "هذا حديث حسن صحيح" وأخرجه الشيخان وغيرهما(6/172)
78 ـ باب ما جاءَ في النّمّام
2095 ـ حَدّثنا ابنُ أَبِي عُمَرَ حدثنا سُفْيَانَ بن عيينة عن مَنْصُورٍ عن إبراهيمَ عن هَمّامِ بنِ الحارِثِ قال: مَرّ رَجُلٌ عَلَى حُذَيْفَةَ بنِ الْيَمانِ فَقِيلَ لَهُ إِنّ هذا يُبَلّغُ الأُمَرَاءَ الحديثَ عن النّاسِ، فَقَالَ حُذَيْفَةُ: سَمِعْتُ رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم يقولُ: "لا يَدْخُلُ الْجَنّةَ قتَاتٌ" . قال سُفْيَانُ: والْقَتّاتُ النّمّامُ.
ـــــــ
" باب ما جاءَ في النّمّام"
قال الجزري في النهاية: النميمة نقل الحديث من قوم إلى قوم على جهة الإفساد والشر، وقد نم الحديث ينمه وينمه فهو نمام. والاسم النميمة، ونم الحديث إذا ظهر فهو متعد ولازم انتهى
قوله: "فقيل له هذا يبلغ الأمراء الحديث عن الناس" ، ولفظ البخاري: فقيل له إن رجلاً يرفع الحديث إلى عثمان "لا يدخل الجنة" : أي في أول وهلة كما في نظائره "قتات" بقاف ومثناة ثقيلة وبعد الألف مثناة أخرى ووقع بلفظ نمام في رواية أبي وائل عن حذيفة عند مسلم. قال في النهاية: القتات هو النمام، يقال قت الحديث يقته إذا زوره وهيأه وسواه. وقيل النمام الذي يكون مع القوم يتحدثون فينم عليهم، والقتات الذي يتسمع على القوم وهم لا يعلمون ثم ينم، والقساس الذي يسأل عن لأخبار ثم ينمها انتهى.(6/172)
هذا حديثٌ حسنٌ صحيحٌ.
ـــــــ
قال الحافظ في الفتح قال الغزالي ما ملخصه:
ينبغي لمن حملت إليه نميمة أن لا يصدق من نم له، ولا يظن بمن نم عنه ما نقل عنه، ولا يبحث عن تحقيق ما ذكر له، وأن ينهاه ويقبح له فعله، وأن يبغضه إن لم ينزجر، وأن لا يرضى لنفسه ما نهى النمام عنه فينم هو على النمام فيصير نماماً قال النووي: وهذا كله إذا لم يكن في النقل مصلحة شرعية وإلا فهي مستحبة أو واجبة. كمن أطلع من شخص أنه يريد أن يؤذي شخصاً ظلماً فحذره منه، وكذا من أخبر الإمام أو من له ولاية يسيرة نائبة مثلاً فلا منع عن ذلك. وقال الغزالي ما ملخصه: النميمة في الأصل نقل القول إلى القول فيه ولا اختصاص لها بذلك بل ضابطها كشف ما يكره كشفه، سواء كرهه المنقول عنه أو المنقول إليه أو غيرهما سواء كان المنقول قولاً أم فعلاً وسواء كان عيباً أم لا، حتى لو رأى شخصاً يخفي ماله فأفشى. كان نميمة. واختلف في الغيبة والنميمة هل هما متغايرتان أو متحدتان؟ والراجح التغاير وأن بينهما عموماً وخصوصاً وجهياً. وذلك لأن النميمة نقل حال الشخص لغيره على جهة الإفساد بغير رضاه. سواء كان بعلمه أم بغير علمه والغيبة ذكره في غيبته بما لا يرضيه، فامتازات النميمة بقصد الإفساد، ولا يشترط ذلك في الغيبة، وامتازت الغيبة بكونها في غيبة المقول فيه واشتركنا فيما عدا ذلك. ومن العلماء من يشترط في الغيبة أن يكون المقول فيه غائباً انتهى ما في الفتح.
قوله: "هذا حديث حسن صحيح" وأخرجه الشيخان وأبو داود(6/173)
79 ـ باب ما جاءَ في العِي
2096ـ حَدّثنا أحمدُ بنُ مَنِيعٍ حدثنا يَزِيدُ بنُ هَارُونَ عن أَبِي غَسّانَ
ـــــــ
" باب ما جاءَ في العِي"
بكسر العين المهملة وتشديد التحتية. قال في القاموس: عي في المنطق كرضى عياباً بكسر حصر انتهى. وقال في الصراح: عي بالكسر درما ندكي به سخن وهو خلاف البيان، يقال: عي في منطقة وعيي أيضاً فهو عيي على فعيل، وعي أيضاً على فعل وهم أعياء وأعيياء انتهى(6/173)
محمّدِ بنِ مُطَرّفٍ، عن حَسّانَ بنِ عَطِيّةَ، عن أَبِي أمامَةَ، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال: "الْحَيَاءُ وَالْعِيّ شُعْبَتَانِ مِنَ الإِيمَانِ، وَالْبَذَاءُ وَالْبَيَانُ شُعْبَتَانِ مِنَ النّفاقِ" .
ـــــــ
قوله: "عن أبي غسان محمد بن مطرف" قال الحافظ في تهذيب التهذيب محمد بن مطرف بن داود بن مطرف بن عبد الله بن سارية التيمي الليثي أبو غسان المدني يقال إنه من موالي عمر، نزل عسقلان، أحد علماء الأثبات، روى عن حسان بن عطية وغيره وعنه يزيد بن هارون وغيره "عن حسان بن عطية" المحاربي مولاهم الدمشقي، ثقة فقيه، عابد من الرابعة.
قوله: "الحياء والعي" أي العجز في الكلام والمراد به في هذا المقام هو السكوت عما فيه إثم من النثر والشعر لا ما يكون للخلل في اللسان قاله القاري. وقال في المجمع: العي التحير في الكلام وأراد به ما كان بسبب التأمل في المقال، والتحرز عن الوبال انتهى. قلت وفسر الترمذي العي فيما بعد بقلة الكلام يعني حذراً عن الوقوع في الإثم أو في ما لا يعني. "شعبتان من الإيمان" أي أثران من أثاره فإن المؤمن يحمله الإيمان على الحياء فيترك القبائح حياء من الله تعالى ويمنعه عن الاجتراء على الكلام شفقة عن عثرة اللسان، فهما شعبتان من شعب الإيمان والحاصل أن الأيمان منشأهما ومنشأ كل معروف وإحسان "والبذاء" بفتح موحدة فذال معجمة فحش الكلام أو خلاف الحياء "والبيان" أي الفصاحة الزائدة عن مقدار حاجة الإنسان من التعمق في النطق وإظهار التفاصح للتقدم على الأعيان. وقال في المجمع: أراد بالبيان ما يكون سببه الاجتراء وعدم المبالاة بالطغيان والتحرز عن الزور والبهتان انتهى. "شعبتان من النفاق" قال في التيسير أي هما خصلتان منشأهما النفاق أو مؤديان إليه، وأراد بالبيان هنا كثرة الكلام، والتكلف للناس بكثرة التملق والثناء عليهم، وإظهار التفصح، وذلك ليس من شأن أهل الإيمان، وقد يتملق الإنسان إلى حد يخرجه إلى صريح النفاق وحقيقته انتهى.(6/174)
هذا حديثٌ حسنٌ غريبٌ إِنما نَعْرِفُهُ من حديثِ أَبِي غَسّانَ محمّدِ بنِ مُطَرّفٍ قال: وَالْعِيّ قِلّةُ الْكلامِ، وَالبَذَاءُ هُوَ الفُحْشُ في الْكَلامِ، وَالْبَيَانُ هُوَ كَثْرَةُ الْكلامِ، مِثْلَ هَؤلاَءِ الْخُطَبَاءِ الّذِينَ يِخْطُبُونَ فَيُوسِعُونَ في الْكلامِ ويتَفَصّحُونَ فِيهِ مِنْ مَدْحِ النّاسِ فِيمَا لا يُرْضِي الله.
ـــــــ
قوله: "هذا حديث حسن غريب" قال القاري في المرقاة: رجاله رجال الصحيح كذا نقله ميرك عن التصحيح. وقد رواه الإمام أحمد في مسنده والحاكم في مستدركه انتهى. وقال المناوي في شرح الجامع الصغير: قال الترمذي حسن، وقال غيره صحيح انتهى. "قال والعي قلة الكلام الخ" أي قال الترمذي في تفسير هذه الألفاظ: وأراد بقوله العي قلة الكلام أي تحرزا عن الوقوع في الإثم أو في ما لا ينبغي(6/175)
80 ـ باب ما جاءَ في إِنّ مِنَ الْبَيانِ سِحْراً
2097ـ حَدّثنا قُتَيْبَةُ، حدثنا عبدُ الْعَزِيزِ بنُ محمّدٍ عن زَيْدِ بنِ أَسْلَمَ عن ابنِ عمَرَ أَنّ رَجُلَيْنِ قَدِمَا في زَمَانِ رَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم
ـــــــ
"باب ما جاءَ في إِنّ مِنَ الْبَيانِ سِحْراً"
قوله: "أن رجلين" قال الحافظ في الفتح: لم أقف على تسميتهما صريحاً، وقد زعم جماعة أنهما الزبرقان بكسر الزاي والراء بينهما موحدة ساكنة وبالقاف، واسمه الحصين ولقب الزبرقان لحسنه، والزبرقان من أسماء القمر، وهو ابن بدر بن امرئ القيس بن خلف وعمرو بن الأهيم واسم الأهيم سنان بن سمي يجتمع مع الزبرقان في كعب بن سعد بن زيد مناة بن تميم، فهما تميميان قدما في وفد بني تميم على النبي صلى الله عليه وسلم سنة تسع من الهجرة، واستندوا في تعيينهما إلى ما أخرجه البيهقي في الدلائل وغيره من طريق مقسم عن ابن عباس قال: جلس إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم الزبرقان بن بدر وعمرو بن الأهيم وقيس بن عاصم، ففخر الزبرقان فقال: يا رسول الله أنا سيد بني تميم، والمطاع فيهم والمجاب أمنعهم من الظلم وآخذ منهم بحقوقهم، وهذا يعلم ذلك يعني عمرو بن(6/175)
فَخَطَبَا فَعَجِبَ النَاسُ مِنْ كلامِهِمَا، فَالْتَفَتَ إِلَيْنَا رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم فقالَ: "إِنّ مِنَ الْبَيَانِ سِحْراً، أو إِنّ بَعْضَ الْبَيَانِ سِحْرٌ" .
ـــــــ
الأهيم. فقال عمرو إنه لشديد المعارضة، مانع لجانبه مطاع في إذنه. فقال الزبرقان: والله يا رسول الله لقد علم من غير ما قال وما منعه أن يتكلم إلا الحسد. فقال عمرو: أنا أحسدك؟ والله يا رسول الله إنه لئيم الخال، حديث المال، أحمق الوالد مضيع في العشيرة، والله يا رسول الله لقد صدقت في الأولى وما كذبت في الاَخرة، ولكني رجل إذا رضيت قلت أحسن ما عملت، وإذا غضبت قلت أقبح ما وجدت، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: إن من البيان سحراً، وأخرجه الطبراني من حديث أبي بكرة قال: كنا عند النبي صلى الله عليه وسلم فقدم عليه وفد بني تميم عليهم قيس بن عاصم والزبرقان وعمرو بن الأهيم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم لعمرو: ما تقول في الزبرقان؟ فذكر نحوه وهذا لا يلزم منه أن يكون الزبرقان وعمر وهما المراد بحديث ابن عمر فإن المتكلم إنما هو عمرو بن الأهيم وحده وكان كلامه في مراجعته الزبرقان فلا يصح نسبة الخطبة إليهما إلا على طريق التجوز انتهى ما في الفتح "فخطبا" أي كلمات محسنات جامعة للبلاغة والفصاحة "إن من البيان سحراً أو إن بعض البيان سحراً" أو للشك من الراوي قال الخطابي البيان اثنان أحدهما ما تقع به الإبانة عن المراد بأي وجه كان، والاَخر ما دخلته الصنعة بحيث يروق للسامعين ويستميل قلوبهم، وهو الذي يشبه بالسحر إذا خلب القلب وغلب على النفس حتى يحول الشيء عن حقيقته، ويصرفه عن جهته. فيلوح للناظر في معرض غيره، وهذا إذا صرف إلى الحق يمدح وإذا صرف إلى الباطل يذم، قال فعلى هذا فالذي يشبه بالسحر منه هو المذموم، ويعقب بأنه لا مانع من تسمية الاَخر سحراً لأن السحر يطلق على الاستمالة وقد حمل بعضهم الحديث على المدح والحث على تحسين الكلام وتحبير الألفاظ، وحمله بعضهم على الذم لمن تصنع في الكلام وتكلف لتحسينه وصرف الشيء عن ظاهره، فشبه بالسحر الذي هو تخييل الغير حقيقة وإلى هذا أشار مالك حيث أدخل هذا الحديث في الموطأ في باب ما يكره من الكلام بغير ذكر الله، وحمل الحديث على هذا صحيح لكن لا يمنع حمله على المعنى الاَخر إذا كان في تزيين الحق وبهذا جزم ابن العربي وغيره من فضلاء المالكية.(6/176)
وفي البابِ عن عَمّارٍ وابنِ مسعودٍ وعبدِ الله بنِ الشّخّيِر.
هذا حديثٌ حسنٌ صحيحٌ.
ـــــــ
قوله: "وفي الباب عن عمار وابن مسعود وعبد الله بن الشخير" أما حديث عمار فأخرجه أحمد في مسنده ومسلم في صحيحه، وأما حديث ابن مسعود فأخرجه مسلم عنه مرفوعاً: هلك المتنطوعون قالها ثلاثاً، وأما حديث عبد الله بن الشخير فلينظر من أخرجه وفي الباب أيضاً عند أحمد وأبي داود عن ابن عباس مرفوعاً: إن من البيان سحراً وإن من الشعر حكماً. قال المناوي: إسناده صحيح. وعند أبي داود وعن بريدة بن الحصيب مرفوعاً: إن من البيان سحراً وإن من العلم جهلاً وإن من الشعر حكماً، وإن من القول عيباً. قال المناوي في إسناده من يجهل.
قوله: "هذا حديث حسن صحيح" وأخرجه البخاري ومالك وأحمد وأبو داود(6/177)
81 ـ باب ما جاءَ في التّوَاضُع
2098 ـ حَدّثنا قُتَيْبَةُ حدثنا عبدُ العَزِيزِ بنُ محمّدٍ عن الْعَلاَءِ بنِ عبد الرّحمنِ عن أَبِيِه عن أَبي هُرَيْرَةَ أنّ رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم قال: "مَا نَقَصَتْ صَدَقَةٌ مِنْ مالٍ، وَمَازَادَ الله رَجُلاً بِعَفْوٍ إلا عِزّا، وَمَا تَوَاضَعَ أَحَدٌ لله إلاّ رَفَعَهُ الله" .
ـــــــ
" باب ما جاءَ في التّوَاضُع"
قال في القاموس: تواضع تذلل وتخاشع.
قوله: "ما نقصت صدقة" ما نافية ومن في قوله "من مال" زائدة أو تبعيضية أو بيانية أي ما نقصت صدقة مالاً أو بعض مال أو شيئاً من مال بل تزيد أضعاف ما يعطى منه بأن ينجبر بالبركة الخفية أو بالعطية الجلية أو بالمثوبة العلية "وما زاد الله رجلاً بعفو" أي بسبب عفوه عن شيء مع قدرته على الانتقام "إلا عزاً" في الدنيا فإن من عرف بالعفو عظم في القلوب، أو في الاَخرة بأن يعظم ثوابه أو فيهما "وما تواضع أحد لله" بأن أنزل نفسه عن مرتبة يستحقها لرجاء التقرب إلى الله دون غرض غيره "إلا رفعه الله" في الدنيا والاَخرة.(6/177)
وفي البابِ عن عبدِ الرّحمنِ بنِ عَوْفٍ وابنِ عَبّاسٍ وأَبِي كَبْشَةَ الأنمَارِيّ واسمُه عُمَرُ بنُ سَعْدٍ هذا حديثٌ حسنٌ صحيحٌ.
ـــــــ
قوله: "وفي الباب عن عبد الرحمن بن عوف وابن عباس وأبي كبشة الأنماري" أما حديث عبد الرحمن بن عوف وحديث أبي كبشة الأنماري فلينظر من أخرجهما. وأما حديث ابن عباس فأخرجه الطبراني عنه مرفوعاً: ما من آدمي إلا في رأسه حكمة بيد ملك فإذا تواضع قيل للملك ارفع حكمته، وإذا تكبر قيل للملك ضع حكمته.
قوله: "واسمه عمر بن سعد" قال الحافظ في تهذيب التهذيب: جزم الترمذي في الجامع بأن اسمه عمر بن سعد، وحكى البخاري الخلاف فيمن اسمه عمر انتهى.
وقال في التقريب: أبو كبشة الأنماري هو سعيد بن عمرو أو عمرو بن سعيد وقيل عمر أو عامر بن سعد صحابي نزل الشام له حديث وروى عن أبي بكر انتهى.
قوله: "هذا حديث حسن صحيح" وأخرجه أحمد في مسنده ومسلم(6/178)
82 ـ باب ما جاءَ في الظّلْم
2099 ـ حَدّثنا عَبّاسُ الْعَنْبَرِيّ حدثنا أبو دَاوُدَ الطّيَالِسِيّ عن عبدِ العزِيزِ بنِ عبدِ الله بن أَبِي سَلَمَةَ عن عبدِ الله بنِ دِينَارٍ عن ابنِ عُمَرَ عن النبيّ صلى الله عليه وسلم وقال: "الظّلْمُ ظُلُمَاتٌ يَوْمَ الْقِيَامَةِ".
ـــــــ
"باب ما جاءَ في الظّلْم"
قال الراغب: الظلم عند أهل اللغة وضع الشيء في غير موضعه المختص به إما بنقصان أو بزيادة وإما بعدول عن وقته أو مكانه
قوله: "عن عبد العزيز بن عبد الله بن أبي سلمة" الماجشون المدني نزيل بغداد مولى آل الهدير ثقة فقيه مصنف من السابعة "الظلم" أي جنسه الشامل المتعدي والقاصر الصادر من الكافر والفاجر. "ظلمات" أي أسباب ظلمة لمرتكبه أو موجبات شدة لصاحبه يوم القيامة. ومفهومه أن العدل بأنواعه أنوار "يوم القيامة" لأن الدنيا مزرعة الاَخرة. وفي شرح مسلم للنووي قال القاضي: هو على ظاهره فيكون ظلمات على صاحبه لا يهتدي يوم القيامة بسبب ظلمه في الدنيا، كما(6/178)
وفي البابِ عن عبدِ الله بنِ عَمْرٍو وعائِشَةَ وأَبِي مُوسَى وأَبي هُرَيْرَةَ وجَابِر وهذا حديثٌ حسنٌ غريبٌ صحيحٌ من حديثِ ابنِ عُمَرَ.
ـــــــ
أن المؤمن يسعى بنور هو مسبب عن إيمانه في الدنيا. قال تعالى: {يَسْعَى نُورُهُمْ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ} . ويحتمل أن يراد بالظلمات هنا الشدائد، وبه فسروا قوله تعالى: {قلْ مَنْ يُنَجِّيكُمْ مِنْ ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ} ، أي شدائدهما، ويحتمل أنها عبارة عن الأنكال والعقوبات. وقال ابن الجوزي: الظلم يشتمل على معصيتين: أخذ مال الغير بغير حق، ومبارزة الرب بالمخالفة والمعصية فيه أشد من غيرها، لأنه لا يقع غالباً إلا بالضعيف الذي لا يقدر على الانتصار. وإنما ينشأ الظلم عن ظلمة القلب لأنه لو استنار بنور الهدى لا تبر. فإذا سعي المتقون بنورهم الذي حصل لهم بسبب التقوى إكتفت ظلمات الظلم الظالم حيث لا يغني عنه ظلمه شيئاً.
قوله: "وفي الباب عن عبد الله بن عمرو وعائشة وأبي موسى وأبي هريرة". أما حديث عبد الله بن عمرو فأخرجه أحمد في مسنده، وأما حديث عائشة فأخرجه البخاري في كتاب المظالم وغيره ومسلم في كتاب البيوع، وأما حديث أبي موسى فأخرجه الترمذي في تفسير سورة هود، وأما حديث أبي هريرة فأخرجه الترمذي في باب شأن الحساب والقصاص من أبواب صفة القيامة.
قوله: "هذا حديث حسن غريب من حديث ابن عمر" وأخرجه الشيخان(6/179)
83 ـ باب ما جاءَ في تَرْكِ الْعَيبِ للنّعْمَة
2040 ـ حدثنا أحمدُ بنُ محمدٍ، أخبرنا عبدُ الله بنُ المُبَارَكِ عن سُفْيَانَ عن الأعمَشِ عن أَبِي حازِمٍ عن أَبي هُرَيْرَةَ قال: "ما عابَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم طَعَاماً قَطّ، كَانَ إذَا اشْتَهَاهُ أَكَلَهُ وإِلاّ تَرَكَهُ".
ـــــــ
"باب ما جاء في ترك العيب للنعمة"
قوله: "ما عاب رسول الله صلى الله عليه وسلم طعاماً قط" قال الحافظ أي مباحاً أما الحرام فكان يعيبه ويذمه وينهى عنه. وذهب بعضهم إلى أن العيب إن كان من جهة الخلقة كره وإن كان من جهة الصنعة لم يكره، لأن صنعة الله لا تعاب(6/179)
هذا حديث حسن صحيح.
وأبو حازِمٍ هُوَ الأشْجَعِيّ الكوفي واسمُه سَلْمَانُ مَوْلَى عَزّةَ الأشْجَعِيّةِ.
ـــــــ
وصنعة الاَدميين تعاب. قال الحافظ: والذي يظهر التعميم فإن فيه كسر قلب الصانع، قال النووي: من آداب الطعام المتأكدة أن لا يعاب كقوله مالح حامض قليل الملح غليظ رقيق غير ناضج وغير ذلك "وإلا" أي وإن لم يشتهه "تركه" يعني مثل ما وقع له في الضب. قال ابن بطال: هذا من حسن الأدب لأن المرء قد لا يشتهي الشيء ويشتهيه غيره، وكل مأذون في أكله من قبل الشرع ليس فيه عيب.
قوله: "هذا حديث حسن صحيح" وأخرجه الشيخان.
قوله: "وأبو حازم هو الأشجعي الخ" قال الحافظ في تهذيب التهذيب: سلمان أبو حازم الأشجعي الكوفي روى عن مولاته غزة الْاشجعية وأبي هريرة وغيرهما، وعنه الأعمش وغيره. وقال في التقريب: ثقة من الثالثة(6/180)
84 ـ باب ما جاءَ في تَعْظِيمِ المُؤْمِن
2101 ـ حَدّثنا يَحْيَى بنُ أَكْثَمَ والجارُودُ بنُ مُعَاذٍ، قالاَ: حدثنا الْفَضْلُ بنُ مُوسَى، حدثنا الْحُسَيْنُ بنُ وَاقِدٍ عن أَوْفَى بنِ دَلْهَمَ عن نَافِعٍ عن ابنِ عُمَرَ قالَ: "صَعِدَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم الْمِنْبَرَ فَنَادَى بِصَوتٍ رَفِيعٍ قالَ: يَا مَعْشَرَ مَنْ أَسْلَمَ بِلِسَانِهِ وَلَمْ يُفْضِ الإِيمَانُ إِلَى قَلْبِهِ، لاَتُؤْذُوا
ـــــــ
"باب ما جاء في تعظيم المؤمن"
وقوله: "عن أوفى بن دلهم" البصري العدوي صدوق من السابعة.
قوله: "صعد" بكسر العين أي طلع "فنادى بصوت رفيع" أي عال "قال" بيان لقوله فنادى "يا معشر من أسلم بلسانه" يشترك فيه المؤمن والمنافق "ولم يفض" من الإفضاء أي لم يصل الإيمان أي أصله وكماله "إلى قلبه" فيشمل الفاسق وهو الأظهر كما سيأتي من قوله تتبع عورة أخيه المسلم ولا أخوة بين المسلم والمنافق. فما اختاره الطيبي من حصر حكم الحديث على المنافق خلاف الظاهر الموافق، والحكم(6/180)
المُسْلِمينَ وَلاَ تُعَيّروهُمْ وَلاَ تَتّبِعُوا عَوْرَاتِهِمْ، فَإِنّهُ مَنْ تَتَبّعَ عَوْرَةَ أَخيهِ المُسْلِمِ تَتَبّعَ الله عَوْرَتَهُ، وَمَنْ تَتَبّعُ الله عَوْرَتَهُ يَفْضَحْهُ وَلَوْ فِي جَوْفِ رَحْلِهِ" . قال: وَنَظَرَ ابن عُمَرَ يَوْماً إِلَى الْبَيْتِ أَوْ إِلَى الْكَعْبَةِ فقالَ: ما أَعْظَمَكِ وَأَعْظَمَ حُرْمَتَكِ، وَالمُؤْمِنُ أَعْظَمُ حُرْمَةً عِنْدَ الله مِنْكِ.
هذا حديثٌ حسنٌ غريبٌ لا نَعْرِفُهُ إِلاّ من حديثِ الْحُسَيْنِ بنِ وَاقِدٍ.
ـــــــ
بالأعم هو الوجه الأتم. قاله القاري: وفيه ما فيه فتأمل "لا تؤذوا المسلمين" أي الكاملين في الإسلام وهم الذين أسلموا بلسانهم وآمنو بقلوبهم "ولا تعيروهم" من التعيير وهو التوبيخ والتعيب على ذنب سبق لهم من قديم العهد، سواء علم توبتهم منه أم لا. وأما التعيير في حال المباشرة أو بعيده قبل ظهور التوبة فواجب لمن قدر عليه. وربما يحب الحد أو التعزير فهو من باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر "ولا تتبعوا" من باب الافتعال أي لا تجسسوا "عوراتهم" فيما تجهلونها ولا تكشفوها فيما تعرفونها "فإنه" أي الشأن "من تتبع" بصيغة الماضي المعلوم من باب التفعل أي من طلب. وفي بعض النسخ يتبع بصيغة المضارع المعلوم من باب الافتعال هنا وفيما بعد من الموضعين. "عورة أخيه" أي ظهور عيب أخيه "المسلم" أي الكامل بخلاف الفاسق فإنه يجب الحذر والتحذير عنه "يتبع الله عورته" ذكره على سبيل المشاكلة أي كشف عيوبه ومن أقبحها تتبع عورة الأخ المسلم. وهذا في الاَخرة "ومن يتبع الله عورته يفضحه" من فضح كمنع أي يكشف مساويه "ولو في جوف رحله" أي ولو كان في وسط منزله مخفياً من الناس. قال تعالى: {إنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ} . "ما أعظمك وأعظم حرمتك" هما صيغتا التعجب والحرمة بالضم وبضمتين وكهمزة ما لا يحل انتهاكه، كذا في القاموس. "والمؤمن" أي الكامل.
قوله: "هذا حديث حسن غريب" وأخرجه ابن حبان في صحيحه قال الحافظ في تهذيب التهذيب في ترجمة أوفى بن دلهم: حسن الترمذي حديثه: يا معشر من(6/181)
ورَوَى إسْحَاقُ بنُ إبراهيمَ السّمَرْقَنْدِيّ عن حُسَينِ بنِ وَاقِدٍ نَحْوَهُ. ورُوِيَ عن أَبِي بَرْزَةَ الأسْلَمِيّ عن النبيّ صلى الله عليه وسلم نَحْوُ هذا.
ـــــــ
آمن بقلبه: وليس له عنده غيره انتهى. "وقد روي عن أبي برزة الأسلمي الخ" رواه أحمد في مسنده 421 ج 4 وأبو داود ورواه أبو يعلى بإسناد حسن من حديث البراء كما في الترغيب(6/182)
85 ـ باب مَا جاءَ في التَجَارب
2102 ـ حَدّثنا قُتَيْبَةَ حدثنا عبدُ الله بنُ وَهْبٍ عن عَمْرِو بنِ الحارِثِ عن دَرّاجٍ عن أَبِي الْهَيْثَمِ عن أَبِي سَعيدٍ قال: قال رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم: "لاَ حَلِيمَ إِلاّ ذُو عَثْرَةٍ، وَلاَ حَكِيمَ إِلاّ ذُو تَجْرِبَةٍ" .
هذا حديثٌ حسنٌ غَريبٌ لا نَعْرِفُهُ إِلاّ من هذا الْوَجْهِ.
ـــــــ
" باب مَا جاءَ في التَجَارب"
جمع التجربة قال في القاموس: جربه تجربة إختبره
قوله: "لا حليم إلا ذو عثرة" بفتح العين وسكون المثلثة، قال القاري: أي صاحب ذلة قدم، أو لغزة قلم، في تقريره أو تحريره وقيل أي لا حليم كاملاً إلا من وقع في زلة وحصل منه الخطأ والتخجل فعفى عنه فعرف به رتبة العفو، فيحلم عند عثرة غيره، لأنه عند ذلك يصير ثابت القدم انتهى. "ولا حكيم إلا ذو تجربة" أي صاحب امتحان في نفسه وفي غيره قال القاري: قال الشارح أي لا حكيم كاملاً إلا من جرب الأمور وعلم المصالح والمفاسد، فإنه لا يفعل فعلاً إلا عن حكمة إذ الحكمة إحكام الشيء وإصلاحه عن الخلل انتهى. قال ويمكن أن يقال المعنى لا حليم إلا وقد يعثر كما قيل: نعوذ بالله من غضب الحليم، ولا حكيم من الحكماء الطبية إلا صاحب التجربة في الأمور الدائبة الذاتية.
قوله: "هذا حديث حسن غريب" وأخرجه أحمد في مسنده وابن حبان في صحيحه، والحاكم في مستدركه. قال المناوي في شرح الجامع الصغير: إسناده صحيح(6/182)
86 ـ باب مَا جاءَ في المُتَشَبّعِ بِمَا لَمْ يُعْطَه
2103 ـ حَدّثنا عَلِيّ بنُ حُجْر، أخبرنا إسماعيلُ بنُ عَيّاشٍ عن عُمَارَةَ بنِ غَزِيّةَ عن أَبِي الزّبَيْرِ عن جابِرٍ عن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال: "مَنْ أَعْطَى عَطَاءً فَوَجَدَ فَلْيَجْزِ بِهِ، وَمَن لَمْ يَجِدْ فَلْيُثْنِ، فَإِنّ مَنْ أَثْنَى فَقَدْ شَكَرَ، وَمَنْ كَتَمَ فَقَدْ كَفَرَ، وَمَنْ تَحَلّى بِمَا لَمْ يُعْطَهُ كَانَ كلاَبِسِ ثَوْبَيْ زُورٍ" .
ـــــــ
"باب مَا جاءَ في المُتَشَبّعِ بِمَا لَمْ يُعْطَه"
قال الزمخشري في الفائق: المتشبع أي المتشبه بالشبعان وليس به، واستعير للتحلي بفضيلة لم يرزقها
قوله: "من أعطى" بصيغة المجهول "عطاء" مفعول مطلق أو عطية، وفي رواية شيئاً فهو مفعول ثان "فوجد" أي سعة مالية "فليجز" بسكون الجيم أي فليكافئ "به" أي بالعطاء "ومن لم يجد" أي سعة من المال "فليثن" بضم الياء أي عليه وفي رواية به أي فليمدحه أو فليدع له "فإن من أثنى" وفي رواية فإن أثنى به "فقد شكر" وفي رواية شكره، أي جازاه في الجملة "ومن كتم" أي النعمة بعدم المكافأة بالعطاء أو المجازاة بالثناء "فقد كفر" أي النعمة من الكفران، أي ترك أداء حقه: وفي رواية: وإن كتمه فقد كفره "ومن تحلى" أي تزين وتلبس "بما لم يعطه" بفتح الطاء والضمير المرفوع يرجع إلى من والمنصوب إلى ما "كان كلابس ثوبي زور" وفي رواية فإنه كلابس ثوبي زور، أي كمن كذب كاذبين أو أظهر شيئين كاذبين. قاله صلى الله عليه وسلم لمن قالت: يا رسول الله إن لي ضرة فهل علي جناح أن أتشبع بما لم يعطني زوجي أي أظهر الشبع فأحد الكذبين قولها "أعطاني زوجي" والثاني إظهارها "أن زوجي يحبني أشد من ضرتي" قال الخطابي: كان رجل في العرب يلبس ثوبين من ثياب المعاريف ليظنه الناس أنه رجل معروف محترم لأن المعاريف لا يكذبون، فإذا رآه الناس على هذه الهيئة يعتمدون على قوله وشهادته على الزور، لأجل تشبيهه نفسه بالصادقين، وكان ثوباه سبب(6/183)
وفي البابِ عن أَسْمَاءَ بِنْتِ أَبِي بَكْرٍ وعائشَةَ.
هذا حديثٌ حسنٌ غريبٌ.
ومعنَى قوله: "وَمَنْ كَتَمَ فَقَدْ كَفَرَ، يقولُ كَفَرَ تِلْكَ النّعْمَةَ.
ـــــــ
زوره، فسميا ثوبي زور. أو لأنهما ليسا لأجله، وثني باعتبار الرداء والإزار، فشبه هذه المرأة بذلك الرجل. وقال الزمخشري في الفائق: شبه المتشبع بلابس ثوبي زور أي ذي زور. وهو الذي يتزيا بزي أهل الصلاح رياء. وأضاف الثوبين إليه لأنهما كالملبوسين. وأراد بالتثنية أن المتحلي بما ليس فيه كمن ليس ثوبي الزور ارتدى بأحدهما واتزر بالاَخر. كما قيل: قال القاري في المرقاة: إذا هو بالمجد ارتدى وتأزرا. فالإشارة بالإزار والرداء إلى أنه متصف بالزور من رأسه إلى قدمه.
ويحتمل أن تكون التثنية إشارة إلى أنه حصل بالتشبع حالتان مذمومتان: فقدان ما تتشبع به، وإظهار الباطل كذا في الفتح. وقال أبو عبيدة هو المرائي يلبس ثياب الزهاد ويرى أنه زاهد. وقال غيره: هو أن يلبس قميصاً يصل بكميه كمين آخرين يرى أنه لابس قميصين فكأنه يسخر من نفسه ومعناه: إنه بمنزلة الكاذب القائل ما لم يكن. وقيل: إنما شبه بالثوبين لأن المتحلي كذب كذبين، فوصف نفسه بصفة ليست فيه، ووصف غيره بأنه خصه بصلة فجمع بهذا القول بين كذبين. قال القاري وبهذا تظهر المناسبة بين الفصلين في الحديث، مع موافقته لسبب وروده فكأنه قال: ومن لم يعط وأظهر أنه قد أعطى كان مزوراً مرتين انتهى.
قوله: "وفي الباب عن أسماء بنت أبي بكر وعائشة" أما حديث أسماء فأخرجه البخاري في باب المتشبع بما لم ينل، وما ينهى من افتخار الضرة من كتاب النكاح، ومسلم في كتاب اللباس. وأما حديث عائشة فأخرجه مسلم في كتاب اللباس.
قوله: "هذا حديث حسن غريب" وأخرجه البخاري في الأدب المفرد وأبو داود وابن حبان في صحيحه. قال المناوي في التيسير: إسناده صحيح(6/184)
87 ـ باب ما جاءَ في الثّنَاءِ بالمَعْرُوف
2104 ـ حَدّثنا إبراهيم بنُ سعيدٍ الْجَوْبَرِيّ وَالحُسَيْنُ بنُ الْحَسَنِ المَرْوَزِيّ وكانَ سَكَنَ بِمَكّةَ، قالا: حدثنا الأحْوَصُ بنُ جَوّابٍ عن سُعَيْرِ بنِ الْخِمْسِ عن سُلَيْمانَ التّيْميّ عن أَبِي عُثْمانَ النّهْدِيّ عن أُسَامَةَ بنِ زَيْدٍ قال: قال رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم: "مَنْ صُنِعَ إِلَيْهِ معروفٌ فَقَالَ لِفَاعِلِه جَزَاكَ الله خَيْراً فَقَدْ أَبْلَغَ في الثّنَاءِ" .
ـــــــ
"باب ما جاء في الثناء بالمعروف"
قوله: "حدثنا إبراهيم بن سعيد الجوهري" أبو إسحاق الطبري نزيل بغداد ثقة حافظ تكلم فيه بلا حجة من العاشرة "والحسين بن الحسن المروزي" قال في التقريب: الحسين بن الحسن بن حرب السلمي أبو عبد الله المروزي نزيل مكة صدوق من العاشرة "بمكة" وفي بعض النسخ: وكان سكن بمكة "حدثنا الأحوص بن جواب" بفتح الجيم وتشديد الواو الضبي يكني أبا الجواب كوفي صدوق ربما وهم من التاسعة "عن سعير بن الخمس" قال في التقريب سعير آخره راء مصغر ابن الخمس بكسر المعجمة وسكون الميم ثم مهملة التميمي أبو مالك، وأبو الأحوص صدوق من السابعة.
قوله: "من صنع" بصيغة المجهول "معروفاً" كذا وقع في النسخ الموجودة بالنصب ووقع في المشكاة والجامع الصغير معروف بالرفع. قال القاري في المرقاة: وفي نسخة يعني من المشكاة معروفاً بالنصب أي أعطى عطاء "فقال لفاعله" أي بعد عجزه عن إثابته أو مطلقاً "جزاك الله خيراً" أي خير الجزاء أو أعطاك خيراً من خيري الدنيا والاَخرة "فقد أبلغ في الثناء" أي بالغ في أداء شكره وذلك أنه اعترف بالتقصير وأنه ممن عجز عن جزائه وثنائه ففوض جزاءه إلى الله ليجزيه الجزاء الأوفى. قال بعضهم: إذا قصرت يداك بالمكافأة، فليطل لسانك بالشكر والدعاء.(6/185)
هذا حديثٌ حسنٌ جَيّدٌ غريبٌ، لا نَعْرِفُهُ من حديِثِ أُسَامَةَ بنِ زَيْدٍ، إلاّ من هذا الْوَجْهِ.
وقد رُوِيَ عن أَبي هُرَيْرَةَ عن النبيّ صلى الله عليه وسلم بِمِثْلِهِ
آخر أبواب البر والصلة
ـــــــ
قوله: "هذا حديث حسن جيد غريب" وأخرجه النسائي وابن حبان. قال المناوي في شرح الجامع الصغير: إسناده صحيح. "وقد روي عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم مثله" لم أقف على ما روي عن أبي هريرة بمثل حديث الباب، نعم روى الترمذي وغيره عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من لم يشكر الناس لم يشكر الله" .(6/186)
أبواب الطب عن رسول الله صلى الله عليه و سلم
باب ما جاء في الحمية
...
بسم الله الرحمن الرحيم
أبواب الطبّ عن رَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم
1 ـ باب ما جاءَ في الْحِمْيَة
2105 ـ حَدّثنا عَبّاسُ بنُ محمدٍ الدّورِيّ، حدثنا يُونُسُ بنُ محمدٍ، حدثنا فُلَيْحُ بنُ سُلَيْمَانَ عَنْ عُثْمَانَ بنِ عَبْدِ الرّحْمنِ التيمي عنْ يَعْقُوبَ بنِ أَبِي يَعْقُوبَ عن أُمّ المُنْذِرِ، قَاَلتْ: "دَخَلَ عَلَيّ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم وَمَعَهُ عَلِيّ وَلَنَا دَوَالٍ مُعَلّقَةٌ. قالَتْ: فَجَعَلَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم يأَكُلُ، وَمَعهُ علي يَأكُلُ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لِعَلِيّ: "مَهْ مَهْ يا عَلِيّ فإِنّكَ نَاقِهٌ، قالَ فَجَلَسَ عَلِيٌ وَالنبيّ صلى الله عليه وسلم يَأْكُلُ، قالَتْ فَجَعَلَتْ لَهُمْ سِلْقاً وَشعيراً، فَقَالَ النبيّ صلى الله عليه وسلم: يا عَلِيّ مِنْ هَذَا فَأَصِبْ فَإِنّهُ أَوْفَقُ لَكَ" .
ـــــــ
"أبواب الطب عن رسول الله صلى الله عليه وسلم"
"باب ما جاء في الحمية"
بالكسر بالفارسية برهيز كردن حمي المريض ما يضره منعه إياه فاحتمى وتحمى امتنع. وقال فيه: الحمية بالكسر ما حمي من شيء
قوله: "عن يعقوب بن أبي يعقوب" المدني صدوق من الثالثة.
قوله: "ولنا دوال معلقة" جمع دالية وهي العذق من البسر يعلق فإذا أرطب أكل "مه مه" أي أكفف وهو اسم فعل "فإنك ناقه" قال في القاموس: نقه كفرح ومنع نقهاً ونقوهاً صح وفيه ضعف وأفاق فهو ناقه "فجعلت لهم سلقاً وشعيراً" وفي رواية أبي داود: وصنعت شعيراً وسلقاً فجئت به. والمعنى طبخت لهم سلقاً(6/187)
هذا حديثٌ حسنٌ غريبٌ، لاَ نَعْرِفُهُ إِلاّ مِنْ حَدِيثِ فُلَيْحِ بنِ سُلَيْمانَ، وَيُرْوَى عن فُلَيْحِ بنِ سُلَيْمانَ عن أَيّوبَ بنِ عَبْدِ الرّحْمنِ.
2106 ـ حدّثنا محمدُ بنُ بَشّارٍ، أخبرنا أَبُو عَامِرٍ وَأَبُو دَاوُدَ، قَالاَ أخبرنا فُلَيْحُ بنُ سُلَيْمانَ عن أَيّوبَ بنِ عَبْدِ الرّحْمنِ عن يَعْقُوبَ بنِ أَبِي يَعْقُوبَ عن أُمّ المُنْذِرِ الأَنْصَارِيّةِ قالَتْ: دَخَلَ عَلَيْنَا رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم، فَذَكَرَ نَحْوَ حَدِيثِ يُونُسَ بنِ محمدٍ إِلاّ أَنّهُ قَالَ: "أَنْفَعُ لَكَ". وَقَالَ محمدُ بنُ بَشّارِ في حَدِيثِه، وَحَدّثَنِيِه أَيّوبُ بنُ عَبْدِ الرّحْمنِ. هذا حديثٌ جَيّدٌ غريبٌ.
ـــــــ
وشعيراً، والسلق بالكسر بالفارسية جقندر، يعني من هذا فأصب من الإصابة أي أدرك من هذا أو كل منه.
قوله: "هذا حديث حسن غريب" وأخرجه أبو داود وابن ماجة وسكت عنه أبو داود، ونقل المنذري تحسين الترمذي وأقره "لا نعرفه إلا من حديث فليح بن سليمان" قال المنذري: في قول الترمذي هذا نظر. فقد رواه غير فليح ذكره الحافظ أبو القاسم الدمشقي انتهى.
قوله: "وأبو داود" هو الطيالسي "عن أيوب بن عبد الرحمن" قال في التقريب أيوب بن عبد الرحمن بن صعصعة، وقيل أيوب بن عبد الرحمن بن عبد الله بن أبي صعصعة صدوق من السادسة. "عن أم المنذر الأنصارية" قال الحافظ في تهذيب التهذيب أم المنذر الأنصارية إحدى خالات النبي صلى الله عليه وسلم صلت معه القبلتين وهي التي دخل عليها ومعه علي في قصة الدوالي والسلق والشعير. روى عنها يعقوب بن أبي يعقوب المدني قال الطبراني: اسمها سلمى بنت قيس. وقال الترمذي هي أم المنذر بنت قيس بن عمرو بن عبيد بن عامر بن غنم بن عدي بن النجار ويقال هي سلمى بنت قيس أخت سليط من بني مازن بن النجار انتهى. "وقال محمد بن بشار في حديثه: حدثنيه أيوب بن عبد الرحمن" في كلام الترمذي هذا نظر، فتفكر وتأمل.(6/188)
2107 ـ حدّثنا محمدُ بنُ يَحْيَى، حدثنا إِسْحَاقُ بنُ محمدٍ الفَرْوِيّ، حدثنا إِسْمَاعِيلُ بنُ جَعْفَرٍ عن عُمَارَةَ بنِ غَزِيّةَ عنْ عَاصِمِ بنِ عُمَرَ بنِ قَتَادَةَ عن محمودِ بنِ لَبِيدٍ عن قَتَادَةَ بنِ النّعْمَانِ، أَنّ رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم قالَ: "إِذَا أَحَبّ الله عَبْدَاً حَمَاهُ الدّنْيا كَمَا يَظَلّ أَحَدُكُمْ يَحْمِي سَقيمهُ المَاءَ" .
وفي البابِ عن صُهَيْبٍ. هذا حديثٌ حسنٌ غريبٌ. وقد رُوِيَ هَذَا الْحدِيثُ عن محمود بنِ لَبِيدٍ عن النبيّ صلى الله عليه وسلم مُرْسَلاً.
2108 ـ حدّثنا عَلِيّ بنُ حُجْرٍ، أخبرنا إِسْمَاعِيلُ بنُ جَعْفَرٍ عن عَمْرِو بنِ أَبِي عَمْرٍو عن عَاصِمِ بنِ عُمَرَ بنِ قَتَادَةَ عن محمودِ بنِ لَبِيدٍ عن النبيّ صلى الله عليه وسلم نَحْوَهُ. وَلَمْ يَذْكُرْ فيِه عن قَتَادَةَ ابنِ النّعْمَانِ.
وَقَتَادَةُ بنُ النّعْمَانِ الظّفَرِيّ هُوَ أَخُو أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيّ لأِمّهِ، وَمحمودُ بنُ لَبِيدٍ قَدْ أَدْرَكَ النبيّ صلى الله عليه وسلم، وَرَآهُ وَهُوَ غُلاَمٌ صَغِيرٌ.
ـــــــ
قوله: "حدثنا محمد بن يحيى" هو الإمام الذهلي "حدثنا إسحاق بن محمد الفروي" قال في التقريب: إسحاق بن محمد بن إسماعيل بن عبد الله بن أبي فروة الفروي المدني الأموي مولاهم صدوق، عف نساء حفظه من العاشرة انتهى.
قوله: "إذا أحب الله عبداً حماه الدنيا" : أي حفظه من متاع الدنيا ومناصبها أي حال بينه وبين ذلك بأن يبعده عنه ويعسر عليه "حصوله كما يظل أحدكم يحمي سقية الماء" : أي شربه إذا كان يضره، والأطباء تحمي شرب الماء في أمراض معروفة.
قوله: "وفي الباب عن صهيب" أخرجه بن ماجة في باب الحمية.
قوله: "هذا حديث حسن غريب" وأخرجه البيهقي في شعب الإيمان والحاكم وقال صحيح، ووهم ابن الجوزي قاله المناوي.
قوله: "وقتادة بن النعمان الظفري" بمعجمة وفاء مفتوحين صحابي شهد بدراً(6/189)
باب ما جاء في الدواء و الحث عليه
...
2 ـ باب ما جاءَ في الدّوَاءِ والْحَثّ عَلَيْه
2109 ـ حَدّثنا بِشْرُ بنُ مُعَاذٍ العَقَدِيّ البَصْرِيّ، حدثنا أَبُو عَوَانَةَ عن زِيَادِ بنِ عِلاَقَةَ عن أُسَامَةَ بنِ شَرِيكٍ قالَ: "قالَتْ الأَعْرَابُ يا رَسُولَ الله أَلاَ نَتَدَاوَى؟ قالَ: نَعَمْ يَا عِبَادَ الله تَدَاوَوْا، فَإِنّ الله لَمْ يَضَعْ دَاءً إِلاّ وَضَعَ لَهُ شِفَاءَ أَوْ دَوَاءً، إِلاّ دَاءً وَاحِداً، فَقَالُوا يَا رَسُولَ الله: وَمَا هُوَ؟ قالَ: الْهَرَمُ" .
وفي البابِ عن ابنِ مَسْعُودٍ وَأَبِي هُرَيْرَةَ وأَبِي خِزَامةَ عن أَبِيه وَابنِ عَبّاس.
ـــــــ
"باب ما جاء في الدواء والحث عليه"
قوله: "قال قالت الأعراب يا رسول الله ألا نتداوى" وفي رواية أبي داود: قال أتيت النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه كأنما على رؤوسهم الطير، فسلمت ثم قعدت فجاء الأعراب من ههنا وههنا فقالوا يا رسول الله أنتداوى؟ "قال نعم يا عباد الله تداووا" فيه إثبات الطب والعلاج، وأن التداوي مباح غير مكروه. كما ذهب إليه بعض الناس، قاله الخطابي. وقال العيني: فيه إباحة التداوي وجواز الطب وهو رد على الصوفية: أن الولاية لا تتم إلا إذا رضي بجميع ما نزل به من البلاء، ولا يجوز له مداوته. وهو خلاف ما أباحه الشارع انتهى. "فإنه لم يضع" أي لم يخلق "داء إلا وضع له شفاء أو دواء". شك في الراوي "قال الهرم" بفتح الهاء والراء أي هو الهرم. قال الخطابي: جعل الهرم داء وإنما هو ضعف الكبر، وليس هو من الأدواء التي هي أسقام عارضة للأبدان، من قبل اختلاف الطبائع وتغير الأمزجة، وإنما شبهه بالداء لأنه جالب التلف والأدواء التي قد يتعقبها الموت والهلاك انتهى.
قوله: "وفي الباب عن ابن مسعود وأبي هريرة وأبي خزامة عن أبيه وابن عباس" أما حديث ابن مسعود فأخرجه النسائي وابن حبان في صحيحه والحاكم والطحاوي ص 388 ج 2 وأما حديث أبي هريرة فأخرجه البخاري بلفظ: ما أنزل الله داء(6/190)
هذا حديثٌ حسنٌ صحيحٌ.
ـــــــ
إلا أنزل له شفاء. وأما حديث أبي خزامة عن أبيه فأخرجه أحمد وابن ماجة، وأخرجه الترمذي أيضاً في باب لا يرد الرقي والدواء من قدر الله شيئاً. وأما حديث ابن عباس فأخرجه الطحاوي 386 ج 2 وأبو نعيم.
قوله: "هذا حديث حسن صحيح" وأخرجه أحمد والبخاري في الأدب المفرد وأبو داود والنسائي وابن ماجة(6/191)
3 ـ باب ما جاءَ مَا يُطْعَمُ المرِيض
2110 ـ حَدّثنا أَحْمَدُ بنُ مَنِيعٍ، أخبرنا إِسْمَاعِيلُ بنُ إِبْرَاهِيمَ، حدثنا محمدُ بنُ السّائِبِ بنِ بَرَكَةَ عن أُمّهِ عن عَائِشَةَ قالَت: "كَانَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم إِذَا أَخَذَ أَهْلَهُ الْوَعَكُ أَمَرَ بالْحِسَاءِ فَصُنِعَ، ثُمّ أَمَرَهُمْ فَحَسَوْا مِنْهُ، وَكَانَ يَقُولُ: إِنّهُ لَيَرْتُق فُؤَادَ الْحَزِينِ وَيسرو عن فُؤَادِ السّقِيمِ كَمَا تَسْرُو إِحْدَاكُنّ الوَسَخَ بالمَاءِ عن وَجْهِهَا" .
ـــــــ
"باب ما جاء ما يطعم المريض"
قوله: "حدثنا محمد بن السائب بن بركة" المكي ثقة من السادسة "عن أمه" قال في التقريب: أم محمد والدة محمد بن السائب بن بركة مقبول من الثالثة.
قوله: "إذا أخذ أهله" بالنصب على المفعولية "لوعك" بالرفع على الفاعلية. قال في النهاية: الوعك الحمى وقيل ألمها "أمر بالحساء" بالفتح والمد وهو طبيخ يتخذ من دقيق وماء ودهن وقد يحلى ويكون رقيقاً يحسى: قال القاري: وذكر بعضهم السمن بدل الدهن، وأهل مكة يسمونه بالحريرة "فحسوا منه" قال في القاموس: حسا زيد المرق شربه شيئاً بعد شيء "إنه ليرتو فؤاد الحزين" أي يشد قلبه ويقويه "ويسرو عن فؤاد السقيم" أي يكشف عن قلبه الألم ويزيله.(6/191)
هذا حديثٌ حسنٌ صحيحٌ. وَقَدْ رَوَاهُ ابن المبارك عن يونس عن الزّهْرِيّ عن عُرْوَةَ عن عَائِشَةَ عن النبيّ صلى الله عليه وسلم شَيْئَاً مِنْ هَذَا.
2111 ـ حدّثنا بِذَلِكَ الْحُسَيْنُ الجريري أخبرنا أَبُو إِسْحَاقَ الطّالِقَانِيّ، عن ابنِ المُبَارَكِ، عن يُونُسَ عن الزهْرِيّ، عن عُرْوَةَ عَنْ عَائِشَةَ عن النبيّ صلى الله عليه وسلم بِمَعْنَاهُ، حدثنا بِذَلِكَ أَبُو إِسْحَاقَ
ـــــــ
قوله: "هذا حديث حسن صحيح" وأخرجه ابن ماجة والحاكم "وقد روى الزهري عن عروة عن عائشة عن النبي صلى الله عليه وسلم شيئاً من هذا" ولفظه عند البخاري: أنها كانت تأمر بالتلبين للمريض وللمحزون على الهالك، وكانت تقول: إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: إن التلبين تجم فؤاد المريض وتذهب ببعض الحزن.
قوله: "حدثنا بذلك الحسين الجريري أخبرنا أبو إسحاق الطالقاني عن ابن المبارك عن يونس عن الزهري الخ" قال المزي: كذا في النسخ يعني نسخ الترمذي ليس فيه عقيل. قال الحافظ في الفتح: وكذا أخرجه الإسماعيلي من رواية نعيم بن حماد، ومن رواية عبد الله بن سنان، كلاهما عن ابن المبارك ليس فيه عقيل. وأخرجه أيضاً من رواية علي بن الحسن بن شقيق عن ابن المبارك بإثباته. وهذا هو المحفوظ وكان لم يذكر فيه عقيلاً جرى على الجاد لأن يونس مكثر عن الزهري، وقد رواه عن عقيل أيضاً الليث بن سعد وتقدم حديثه في كتاب الأطعمة انتهى.
قوله: "حدثنا بذلك أبو إسحاق" كذا في النسخ الحاضرة عندنا ولم يظهر لي وجه وقوع هذا اللفظ ههنا فتفكر(6/192)
باب ما جاء لا تكرهوا مرضاكم على الطعام و الشراب
...
4 ـ باب ما جاءَ لاَ تُكْرِهُوا مَرضَاكُمْ عَلَى الطّعَامِ وَالشّرَاب
2112 ـ حَدّثنا أبو كُرَيْبٍ، أخبرنا بَكْرُ بنُ يُونُسَ بنِ بُكَيْرٍ
ـــــــ
"باب ما جاء لا تكرهوا مرضاكم على الطعام والشراب"
قوله: "حدثنا بكر بن يونس بن بكير" الشيباني الكوفي قال في التقريب ضعيف.(6/192)
عن مُوسَى بنِ علَيّ عن أبِيِه عن عُقْبَةَ بنِ عَامِرٍ الْجُهَنِيّ قالَ: قالَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم: "لاَ تُكْرِهُوا مَرْضَاكُمْ عَلَى الطّعَامِ، فإنّ الله تَبَارَكَ وَتَعَالَى يُطْعِمُهُمْ وَيَسْقِيهِمْ" .
هذا حديثٌ حسنٌ غريبٌ لاَ نَعْرِفُهُ إِلا مِنْ هَذَا الْوَجْهِ.
ـــــــ
وقال في الخلاصة قال البخاري منكر الحديث "عن موسى بن علي" بالتصغير رباح بن اللخمي البصري صدوق ربما أخطأ قاله الحافظ، ووثقه النسائي وأبو حاتم وابن معين وغيرهم "عن أبيه" هو علي بن رباح، قال في التقريب علي بن رباح ابن قصير اللخمي البصري ثقة والمشهور فيه علي بالتصغير وكان يغضب منها انتهى. وقال في الخلاصة: قال علي بن عمر الحافظ: لقبه علي بالضم.
قوله: "لاتكرهوا" نهي من الإكراه "مرضاكم" جمع مريض "على الطعام" أي على تناول الأكل والشرب "فإن الله تبارك وتعالى يطعمهم ويسقيهم" أي يمدهم بما يقع موقع الطعام والشراب ويرزقهم صبراً على ألم الجوع والعطش، فإن الحياة والقوة من الله حقيقة، لا من الطعام ولا الشراب ولا من جهة الصحة. قال القاضي: أي يحفظ قواهم، ويمدهم بما يفيد فائدة الطعام والشراب في حفظ الروح وتقويم البدن، ونظيره قوله صلى الله عليه وسلم: "أبيت عند ربي يطعمني ويسقيني" . وإن كان ما بين الإطعامين والطعامين بوناً بعيداً.
قوله: "هذا حديث حسن غريب إلخ" وأخرجه ابن ماجة والحاكم. وقد عرفت أن في سنده بكر بن يونس وهو ضعيف(6/193)
5 ـ باب ما جاءَ في الْحَبّةِ السّوْدَاء
2113 ـ حَدّثنا ابنُ أَبِي عُمَرَ وَسَعِيدُ بنُ عَبْدِ الرّحْمنِ المخْزُومِيّ، قالا حدثنا سُفْيَانُ، عن الزّهْرِيّ، عن أَبِي سَلَمَةَ، عن أَبِي هُرَيْرَةَ: أَنّ النبيّ
ـــــــ
" باب ما جاءَ في الْحَبّةِ السّوْدَاء"
أي الشوفين(6/193)
صلى الله عليه وسلم قالَ: "عَلَيْكُمْ بِهَذِهِ الْحَبّةِ السّوْدَاءِ، فَإِنّ فِيهَا شِفَاءً، مِنْ كُلّ دَاءِ إِلاّ السّامُ" . والسّامُ: المَوْتُ.
وفي البابِ عن بُرَيْدَةَ وَابنِ عُمَرَ وَعَائِشَةَ وهذا حديثٌ حسنٌ صحيحٌ.
ـــــــ
قوله: "عليكم بهذه الحبة السوداء" أي الزموا استعمالها بأكل وغيره "فإن فيها شفاء من كل داء" يحدث من الرطوبة. لكن لا تستعمل في داء صرفاً، بل تارة تستعمل مفردة وتارة مركبة بحسب ما يقتضيه المرض، قاله المناوي "إلا السام" بمهملة غير مهموزة "والسام الموت" وفي رواية البخاري قال ابن شهاب: السام الموت والحبة السوداء الشونين.
"قوله: وفي الباب عن بريد وابن عمر وعائشة" أما حديث بريدة فأخرجه أبو نعيم في الطب، وأخرج المستغفري في كتاب الطب عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم: إن هذه الحبة السوداء فيها شفاء. قال وفي لفظ: قيل وما الحبة السوداء؟ قال الشونين قال: وكيف أصنع بها؟ قال: تأخذ إحدى وعشرين حبة فتصرها في خرقة، ثم تضعها في ماء ليلة فإذا أصبحت قطرت في المنخر الأيمن واحدة وفي الأيسر اثنتين. فإذا كان من الغد قطرت في المخر الأيمن اثنين وفي الأيسر واحدة، فإذا كان في اليوم الثالث قطرت في الأيمن واحدة وفي الأيسر اثنتين. كذا في فتح الباري وأما حديث ابن عمر، فأخرجه ابن ماجة وأما حديث عائشة فأخرجه أحمد قال. المناوي: إسناده صحيح.
قوله: "هذا حديث حسن صحيح" وأخرجه الشيخان وابن ماجة والحاكم.
تنبيه: أحاديث الباب هل هي محمولة على عمومها أو أريد منها الخصوص؟ فقال الخطابي: هذا من عموم اللفظ الذي يراد به الخصوص، وليس يجمع في طبع شيء من النبات والشجر جميع القوى التي تقابل الطبائع كلها في معالجة الأدواء على اختلافها، وتباين طبعها، وإنما أراد أنه شفاء من كل داء يحدث من الرطوبة والبرودة والبلغم. وذلك أنه حار يابس فهو شفاء بإذن الله للداء المقابل له في الرطوبة والبرودة. وذلك أن الدواء أبذأ بالمضاد، والغذاء بالمشاكل انتهى. وقال الطيبي: ونظيره قوله تعالى في حق بلقيس {وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ} وقوله تعالى {تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ} في إطلاق العموم وإرادة الخصوص انتهى.(6/194)
ـــــــ
وقيل: هي باقية على عمومها وأجيب عن قول الخطابي ليس يجمع في طبع شيء الخ بأنه:
ليس من الله بمستنكر
...
أن يجمع العالم في واحد
وأما قول الطيبي ونظيره الخ ففيه أن الاَيتين يمنع حملهما على العموم على ما هو عند كل أحد معلوم، وأما أحاديث الباب فحملها على العموم متعين لقوله صلى الله عليه وسلم فيها: إلا السام. كقوله تعالى: {إِنَّ الْأِنْسَانَ لَفِي خُسْر ٍإلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} الاَية.
قلت: قال الحافظ في الفتح بعد ذكر حديث بريدة المذكور ما لفظه: ويؤخذ من ذلك أن معنى كون الحبة شفاء من كل داء أنها لا تستعمل في كل داء صرفاً، بل ربما استعملت مفردة وربما استعملت مركبة، وربما استعملت مسحوقة، وغير مسحوقة، وربما استعملت أكلاً وشرباً وسعوطاً وضماداً وغير ذلك.
قال: وقال أبو محمد بن أبي جمرة: تكلم الناس في هذا الحديث وخصوا عمومه وردوه إلى قول أهل الطب والتجربة ولا خفاء بغلط قائل ذلك، لأنا إذا صدقنا أهل الطب ومدار علمهم، غالباً إنما هو على التجربة التي بناؤها على ظن غالب، فتصديق من لا بنطق عن الهوى أولى بالقبول من كلامهم انتهى.
قال: وقد تقدم توجيه حمله على عمومه بأن يكون المراد بذلك ما هو أعم من الإفراد والتركيب ولا محذور في ذلك ولا خروج عن ظاهر الحديث والله أعلم انتهى(6/195)
6 ـ باب ما جاءَ في شُرْبِ أَبْوالِ الإِبِل
2114 ـ حَدّثنا الْحَسَنُ بنُ محمدٍ الزّعْفَرَانِيّ، حدثنا عَفّانُ، حدثنا حماد بنُ سَلَمَةَ، أخبرنا حُمَيْدُ وَثَابِتٌ وَقَتَادَةُ عن أَنَسٍ: أَنّ نَاساً مِنْ عُرَيْنَةَ قَدِمُوا المَدِينَةَ فَاجْتَوَوْهَا، فَبَعَثَهُمْ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم في إِبِلِ الصّدَقَةِ، وقالَ: "اشْرَبُوا مِنْ أَلْبَانِهَا وَأَبْوَالِهَا" .
ـــــــ
" باب ما جاءَ في شُرْبِ أَبْوالِ الإِبِل"
أي للتداوي
قوله: "إن ناساً من عربنة الخ" تقدم هذا الحديث مطولاً في باب بول ما يؤكل لحمه وتقدم هناك شرحه.(6/195)
وفي البابِ عن ابنِ عَبّاسٍ وهذا حديثٌ حسنٌ صحيحٌ.
ـــــــ
قوله: "وفي الباب عن ابن عباس" أخرجه ابن المنذر عنه مرفوعاً: عليكم بأبوال الإبل فإنها نافعة لذربة بطونهم ، والذربة بفتح المعجمة وكسر الراء جمع ذرب، والذرب بفتحتين فساد المعدة كذا في الفتح.(6/196)
7 ـ باب ما جاءَ فيمَنْ قَتَلَ نَفْسَه بِسمّ أَوْ غَيرِهِ
2115 ـ حَدّثنا أَحْمَدُ بنُ مَنيعٍ، حدثنا عُبَيْدَةُ بنُ حُمَيْدٍ عن الأَعمَشِ عن أَبِي صَالِحٍ عن أَبي هُرَيْرَةَ، أَرَاهُ رَفَعَهُ قالَ: "مَنْ قَتَلَ نَفْسَهُ بِحَدِيِدَةٍ جَاءَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَحَدِيدَتُهُ في يَدِهِ يَتَوَجّأُ بِهَا في بَطْنَه في نَارِ جَهَنّمَ خَالِداً مُخَلّداً أَبَداً، وَمَنْ قَتَلَ نَفْسَهُ بِسَمّ فَسَمّهُ في يَدِهِ يَتَحَسّاهُ في نَارِ جَهَنّمَ خَالِداً مُخَلّداً أبداً" .
ـــــــ
"باب من قتل نفسه بسم أو غيره"
قوله: "أخبرنا عبيدة" بفتح أوله "بن حميد" هو الكوفي المعروف بالحذاء.
قوله: "أراه" بضم الهمزة أي أظنه "رفعه" أي رفع الحديث إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم "من قتل نفسه بحديدة" أي بآلة من حديد "وحديدته" أي تلك بعينها أو مثلها "يتوجأ" بهمزة في آخره تفعل من الوجأ وهو الطعن بالسكين ونحوه، والضمير في قوله "بها" للحديدة أي يطعن بها "بطنه" أي في بطنه "في نار جهنم" أي حال كونه في نار جهنم "ومن قتل نفسه بسم" وفي رواية مسلم: ومن شرب سماً فقتل نفسه، والسم بضم السين وفتحها وكسرها ثلاث لغات: أفصحهن الفتح وجمعه سمام، قال في القاموس السم هذا القاتل المعروف "فسمه" مبتدأ "في يده يتحساه" بمهملتين بوزن يتغذى أي يشربه في تمهل ويتجرعه "في نار جهنم خالداً مخلداً" قال الحافظ قد تمسك به المعتزلة وغيرهم ممن قال بتخليد أصحاب المعاصي في النار.
وأجاب أهل السنة عن ذلك بأجوبة منها توهيم هذه الزيادة قال الترمذي بعد(6/196)
2116ـ حدّثنا محمود بنُ غَيْلاَنَ حدثنا أَبُو دَاوُدَ، عن شُعْبَةَ عن الأَعْمَشِ قالَ: سَمِعْتُ أَبَا صَالحٍ عن أَبي هُرَيْرَةَ: "أنّ رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم قالَ: مَنْ قَتَلَ نَفْسَهُ بِحَدِيدَةٍ فَحَدِيدَتُهُ في يَدِهِ يَتوجّأُ بِهَا في بَطْنِهِ في نَارِ جَهَنّمَ خَالِداً مُخَلّداً فِيهَا أَبَداً، ومن قَتَل نَفْسَهُ بِسَمّ فَسَمّهُ في يَدِهِ يَتَحسّاهُ في نارِ جَهَنّمَ خالداً مُخلّداً فيها أبداً وَمَنْ تَرَدّى مِنْ جَبَلٍ فَقَتَلَ نَفْسَهُ فَهُوَ يَتَرَدّى في نَارِ جَهَنّمَ خَالِداً مُخَلّداً فِيهَا أَبَداً" .
2117 ـ حدّثنا مُحَمّدُ بنُ العَلاءِ، أخبرنا وَكِيعٌ وأبُو مُعَاوِيَةَ عن الأَعْمَشِ، عن أَبِي صَالِحٍ عن أَبي هُرَيْرَةَ، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم نَحْوَ
ـــــــ
أن أخرجه: رواه محمد بن عجلان عن سعيد المقبري عن أبي هريرة فلم يذكر خالداً مخلداً. وكذا رواه أبو الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة يشير إلى رواية الباب يعني رواية أبي هريرة التي رواها البخاري في أواخر الجنائز بلفظ: الذي يخنق نفسه يخنقها في النار والذي يطعنها يطعنها في النار. قال وهو أصح لأن الروايات قد صحت أن أهل التوحيد يعذبون ثم يخرج منها ولا يخلدون. وأجاب غيره بحمل ذلك على من استحله فإنه يصير باستحلاله كافراً والكافر مخلد بلا ريب. وقيل ورد مورد الزجر والتغليظ وحقيقته غير مرادة. وقيل المعنى إن هذا جزاءه، لكن قد تكرم الله على الموحدين فأخرجهم من النار بتوحيدهم. وقيل التقدير مخلداً فيها إلى أن يشاء الله وقيل المراد بالخلود طول المدة لا حقيقة الدوام. كأنه يقول يخلد مدة معينة وهذا أبعدها انتهى كلام الحافظ.
قوله: "حدثنا أبو داود" هو الطيالسي "سمعت أبا صالح" اسمه ذكوان.
قوله: "يجأ" بفتح أوله وتخفيف الجيم وبالهمز أي يطعن وقد تسهل الهمزة والأصل في يجأ يوجأ "ومن تردى من جبل" أي أسقط نفسه منه لما يدل عليه قوله فقتل نفسه على أنه تعمد ذلك وإلا فمجرد قوله تردى لا يدل على التعمد "خالداً" حال مقدرة "مخلداً فيها أبداً" تأكيد بعد تأكيد. وقد تقدم بيان تمسك المعتزلة بهذا والجواب عنه.(6/197)
حَدِيثِ شُعْبَةَ عن الأَعْمَشِ. هذا حديثٌ صحيحٌ. وَهُوَ أَصَحّ مِنَ الْحَدِيثِ الأَوّلِ، هكذَا رُوِيَ هذا الحديثُ عن الأَعْمَشِ عن أَبِي صَالِحٍ عن أَبي هُرَيْرَةَ عن النبيّ صلى الله عليه وسلم. وَرَوَى محمدُ بنُ عَجْلاَنَ عن سَعِيدٍ المَقْبُرِيّ عن أَبي هُرَيْرَةَ عن النبيّ صلى الله عليه وسلم قالَ: "مَنْ قَتَلَ نَفْسَهُ بِسَمٍ عُذّبَ في نَارِ جَهَنّمَ" . وَلَمْ يَذْكُرْ فِيِه "خَالِداً مُخَلّداً فيِهَا أَبَداً". وَهَكَذَا رَوَاهُ أَبُو الزّنَادِ عن الأعْرَج عن أَبي هُرَيْرَةَ عن النبيّ صلى الله عليه وسلم. وهذَا أَصَحّ لأَنّ الرّوَايَاتِ إِنّمَا تَجِيءُ بِأَنّ أَهْلَ التّوْحِيدِ يُعَذبُونَ في النّارِ ثُمّ يُخْرَجُونَ منها وَلاَ يذكرُ أَنّهُمْ يُخَلّدُونَ فِيهَا.
ـــــــ
قوله: "هذا حديث صحيح" قال المنذري في الترغيب بعد ذكر هذا الحديث: رواه البخاري ومسلم والترمذي بتقديم وتأخير والنسائي ولأبي داود من حسا سماً فسمه في يده يتحساه في نار جهنم انتهى "وهو" أي حديث شعبة عن الأعمش قال سمعت أبا صالح عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم الخ "أصح من الحديث الأول" أي من حديث عبيدة بن حميد عن الأعمش عن أبي صالح عن أبي هريرة، أراه رفعه الخ لأن عبيدة لم يتابعه أحد على روايته، وأما شعبة فقد تابعه على روايته وكيع وأبو معاوية "هكذا روى هذا الحديث عن الأعمش الخ" أي بزيادة خالداً مخلداً فيها أبداً "وهكذا رواه أبو الزناد الخ" أي بغير ذكر خالداً مخلداً فيها أبداً، ورواية أبي الزناد هذه وصلها البخاري في صحيحه كما ذكرنا "وهذا" أي حديث أبي هريرة الذي لم يذكر فيه خالداً مخلداً فيها أبداً "أصح" أي من حديثه الذي ذكرت فيها زيادة خالداً مخلداً فيها "لأن الروايات إنما تجيء بأن أهل التوحيد يعذبون في النار ثم يخرجون منها ولا يذكر أنهم يخلدون فيها" مقصود الترمذي أن هذه الزيادة وهم فإنها تخالف الروايات التي تجيء بأن أهل التوحيد يعذبون في النار ثم يخرجون منها.
قلت: هذه الزيادة زادها الأعمش وهو ثقة حافظ وزيادة الثقة مقبولة فتأويل هذه الزيادة أولى من توهيمها.(6/198)
2118 ـ حدّثنا سُوَيدُ بنُ نَصْرٍ أخبرنا عَبْدُ الله بنُ المُبَارَكِ عن يُونسَ بنِ أَبِي إِسْحَاقَ عن مُجَاهِدٍ عن أَبي هُرَيْرَةَ قَالَ: "نَهَى رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم عن الدّوَاءِ الْخَبِيثِ.
يَعْنِي السّمّ".
ـــــــ
قوله: "نهى عن الدواء الخبيث" قيل هو النجس أو الحرام، أو ما يتنفر عنه الطبع "يعني السم" هذا تفسير الخبيث من أبي هريرة أو ممن دونه. قال الحافظ في الفتح: وحمل الحديث على ما ورد في بعض طرقه أولى. وقد روي في آخر الحديث متصلاً به يعني السم انتهى. وقال الخطابي: خبث الدواء يكون من وجهين أحدهما: خبث النجاسة وهو أن يدخله المحرم كالخمر ونحوها من لحوم الحيوان غير المأكول اللحم، وقد يصف الأطباء بعض الأبوال وعذره بعض الحيوان لبعض العلل وهي كلها خبيثة نجسة وتناولها محرم إلا ما خصت السنة من أبوال الإبل وقد رخص فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم لنفر عرينة وعكل. وسبيل السنن أن يقر كل شيء منها في موضعه وأن لا يضرب بعضها ببعض. وقد يكون خبث الدواء أيضاً من جهة الطعم والمذاق ولا ينكر أن يكون كره ذلك لما فيه من المشقة على الطباع ولتكره النفس إياه، والغالب أن طعوم الأدوية كريهة ولكن بعضها أيسر احتمالاً وأقل كراهة انتهى. قال الماوردي وغيره: السموم على أربعة أضرب، منها ما يقتل كثيره وقليله فأكله حرام للتداوي ولغيره كقوله تعالى: {وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ} ومنها ما يقتل كثيره دون قليله فأكل كثيره الذي يقتل حرام للتداوي وغيره، والقليل منه إن كان مما ينفع في التداوي جاز أكله تداوياً. ومنها ما يقتل في الأغلب وقد يجوز أن لا يقتل فحكمه كما قبله. ومنها ما لا يقتل في الأغلب وقد يجوز أن يقتل. فذكر الشافعي في موضع إباحة أكله وفي موضع تحريم أكله فجعله بعض أصحابه على حالين: فحيث أباح أكله فهو إذا كان للتداوي وحيث حرم أكله فهو إذا كان غير منتفع به في التداوي، والحديث أخرجه أحمد وأبو داود وابن ماجة والحاكم(6/199)
8 ـ باب ماَ جاَءَ في كَرَاهِيَةِ التّدَاوِي بالمُسكِر
2119 ـ حَدّثنا مَحْمُودُ بنُ غَيْلاَنَ، أخبرنا أَبو دَاوُدَ، عن شُعْبَةَ عن سِمَاكٍ أَنّهُ سَمِعَ عَلْقَمَةَ بنَ وَائِلٍ عن أَبِيِه أَنّهُ شَهِدَ النبيّ صلى الله عليه وسلم وَسَأَلَهُ سُوَيْدُ بنُ طَارِقٍ أو طَارِقُ بنُ سُوَيْدٍ عن الْخَمْرِ، فَنَهَاهُ فَقَالَ: إِنّا لنَتَدَاوَى بِهَا، فقالَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم: "إِنّهَا لَيْسَتْ بِدَوَاءٍ وَلَكِنّهَا دَاءٌ" .
ـــــــ
"باب ما جاء في كراهية التداوي بالمسكر"
قوله: "إنه شهد" أي حضر قال في القاموس شهده كسمعه شهوداً حضره انتهى. "وسأله سويد بن طارق أو طارق بن سويد" قال في تهذيب التهذيب: طارق بن سويد ويقال سويد بن طارق الحضرمي ويقال الجعفي له صحبة حديثه عند أهل الكوفة روى عن النبي صلى الله عليه وسلم في الأشربة "عن الخمر" أي عن شربها أو صنعها "فنهاه" وفي رواية مسلم فنهاه أو كره أن يصنعها "فقال إنا لنتداوى بها" وفي رواية مسلم إنما أصنعها للدواء "إنها ليست بدواء ولكنها داء" وفي رواية ابن ماجة: إن ذلك ليس بشفاء ولكنه داء. قال النووي: فيه التصريح بأنها ليست بدواء فيحرم التداوي بها لأنها ليست بدواء فكأنه يتناولها بلا سبب وهذا هو الصحيح عند أصحابنا: أنه يحرم التداوي بها وكذا يحرم شربها. وأما إذا غص بلقمة ولم يجد ما يسيغها به إلا خمراً فيلزمه الإساغة بها لأن حصول الشفاء بها حينئذ مقطوع به بخلاف التداوي انتهى. وقد أباح التداوي بها عند الضرورة بعضهم، واحتج في ذلك بإباحة رسول الله صلى الله عليه وسلم لعرينة التداوي بأبوال الإبل وهي محرمة، إلا أنها لما كانت مما يستشفي بها في بعض العلل رخص لهم في تناولها. قال الخطابي قد فرق رسول الله صلى الله عليه وسلم بين الأمرين اللذين جمعهما هذا القائل، فنص على أحدهما بالحظر وعلى الاَخر بالإباحة وهو بول الإبل. والجمع بين ما فرقه النص غير جائز. وأيضاً فإن الناس كانوا يشربون الخمر قبل تحريمها ويشفون بها ويتبعون لذتها، فلما حرمت عليهم صعب عليهم تركها والنزوع عنها،(6/200)
2120ـ حدّثنا محمودُ، أخبرنا النّضْرُ وَشَبَابَةُ عن شُعْبَةَ بِمِثْلِهِ. قالَ محمودُ: قالَ النّضْرُ: طَارِقُ بنُ سُوَيْدٍ. وقالَ شَبَابَةُ: سُوَيْدُ بنُ طَارِقٍ.
ـــــــ
فغلظ الأمر فيها بإيجاب العقوبة على متناوليها ليرتدعوا وليكفوا عن شربها وحسم الباب في تحريمها على الوجوه كلها شرباً وتداوياً، لئلا يستبيحوها بعلة التساقم والتمارض، وهذا المعنى مأمون في أبوال الإبل لانحسام الدواعي ولما على الطباع من المؤنة في تناولها، ولما في النفوس من استقذارها والنكرة لها. فقياس أحدهما على الآخر لا يصح ولا يستقيم انتهى. قال الحافظ بن القيم في الهدى: المعالجة بالمحرمات قبيحة عقلاً وشرعاً. أما الشرع فما ذكرنا من هذه الأحاديث "يعني حديث الباب وحديث أبي الدرداء عند أبي داود مرفوعاً: أن الله أنزل الداء والدواء وجعل لكل داء دواء فتداووا ولا تداووا بالمحرم . وحديث ابن مسعود عند البخاري: إن الله لم يجعل شفائكم فيما حرم عليكم . وحديث النهي عن الدواء الخبيث وغير ذلك" وأما العقل فهو أن الله سبحانه إنما حرمه لخبثه، فإنه لم يحرم على هذه الأمة طيباً عقوبة لها كما حرمه على بني إسرائيل بقوله: {فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ} وإنما حرم على هذه الأمة ما حرم لخبثه وتحريمه لهم حمية لهم وصيانة عن تناوله فلا يناسب أن يطلب به الشفاء من الأسقام والعلل فإنه وإن أثر في إزالتها لكنه يعقب سقماً أعظم منه في القلب بقوة الخبث الذي فيه فيكون المداوى به قد سعى في إزالة سقم البدن بسقم القلب. وقد بسط ابن القيم الكلام ههنا بسطاً حسناً من شاء الوقوف عليه فليراجع الهدي.
تنبيه: قال العيني في العمدة: الاستشفاء بالحرام جائز عند التيقن بحصول الشفاء، كتناول الميتة في المخمصة، والخمر عند العطش وإساغة اللقمة، وإنما لا يباح ما لا يستيقن حصول الشفاء به. وقال إذا فرضنا أن أحداً عرف مرض شخص بقوة العلم وعرف أنه لا يزيله إلا تناول المحرم يباح له حينئذ أن يتناوله كما يباح شرب الخمر عند العطش الشديد وتناول الميتة عند المخمصة.
قلت: دفع العطش وانحدار اللقمة بشرب الخمر متيقن، وأما حصول الشفاء بالتداوي ولو بالحلال فليس بمتيقن، فقياس التداوي بالحرام على شرب الخمر عند(6/201)
هذا حديثٌ حسنٌ صحيحٌ.
ـــــــ
العطش الشديد وانحدار اللقمة فاسد الاعتبار. قال الشيخ ابن العابدين في رد المحتار ما محصله: إن إساغة اللقمة بالخمر ودفع العطش به متحقق النفع ولذلك من لم يسغ اللقمة ولم يدفع العطش عند وجود الخمر ومات يأثم بخلاف التداوي وإن كان بالحلال فإنه ليس بمتحقق النفع بل مظنون النفع، ولذلك من ترك التداوي ومات لا يأثم انتهى. وقال ابن العربي في عارضة الأحوذي: فإن قيل التداوي حال ضرورة والضرورة تبيح المحظور فالتداوي بالحرام مباح، قلنا: التداوي ليس حال ضرورة وإنما الضرورة ما يخاف معه الموت من الجوع، فأما التطبب في أصله فلا يجب فكيف يباح فيه الحرام انتهى محصلاً.
قوله: "هذا حديث حسن صحيح" وأخرجه أحمد ومسلم وأبو داود وابن ماجة(6/202)
باب ما جاء في السعوط و غيره
...
9 ـ باب ماَ جاَءَ في السّعُوطِ وغَيْرِه
2121 ـ حَدّثنا محمدُ بنُ مَدّوَيْهِ أخبرنا عَبْدُ الرحمنِ بنُ حَمّادٍ الشعبي، أخبرنا عَبّادُ بنُ مَنْصُورٍ عن عِكْرِمَةَ عن ابنِ عَباّسٍ قالَ: "قالَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم: "إِنّ خَيْرَ مَا تَدَاوَيْتُمْ بِهِ السّعُوطُ واللّدُودُ والْحِجَامَةُ والمَشِيّ. فَلَمّا اشْتَكَى رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم لدّهُ أَصْحَابُهُ. فَلَمّا فَرَغُوا قَالَ: لُدّوهُمْ. قالَ: فَلُدّوا كُلّهُمْ غَيْرَ العَبّاسِ".
ـــــــ
" باب ماَ جاَءَ في السّعُوطِ وغَيْرِه"
بفتح السين وضم العين المهملتين ما يجعل في الأنف مما يتداوى به
قوله: "حدثنا محمد بن مدويه" هو محمد بن أحمد بن الحسين بن مدويه بميم وتثقيل القرشي "اخبرنا عبد الرحمن بن حماد" بن شعيب الشعيئي أبو سلمة العنبري البصري، صدوق، ربما أخطأ من صغار التاسعة "أخبرنا عباد بن منصور" الناجي أبو سلمة البصري القاضي صدوق رمي بالقدر وكان يدلس وتغير بآخره من السادسة.(6/202)
2122 ـ حدّثنا محمدُ بنُ يَحْيَى، حدثنا يَزِيدُ بنُ هَارُونَ حدثنا عَبّادُ بن مَنْصُورٍ عن عِكْرِمَةَ عن ابنِ عَبّاسٍ قالَ: قالَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم: "إِنّ خَيْرَ مَا تَدَاوَيْتُمْ بِهِ الّلدُودُ والسّعُوطُ والْحِجَامَةُ والمَشِيّ، وَخَيْرَ
ـــــــ
قوله: "إن خير ما تداويتم به السعوط" قال الحافظ في الفتح: استعط أي استعمل السعوط هو أن يستلقي على ظهره ويجعل بين كتفيه ما يرفعهما لينحدر برأسه ويقطر في أنفخ ماء أو دهن فيه دواء مفرد أو مركب ليتمكن بذلك من الوصول إلى دماغه لاستخراج ما فيه من الداء بالعطاس انتهى "واللدود" بفتح اللام هو الدواء الذي يصب في أحد جانبي فم المريض ويسقاه أو يدخل هناك بأصبع وغيرها ويحنك به. قال النووي "الحجامة" بكسر أوله بمعنى الاحتجام "والمشي" بفتح فكسر فتشديد تحتية فعيل من المشي، وفي بعض نسخ المشكاة بضم فبكسر وجوزه في المغرب وقال: وهو ما يؤكل أو يشرب لإطلاق البطن. قال التوربشتي: وإنما سمي الدواء المسهل مشياً لأنه يحمل شاربه على المشي والتردد إلى الخلاء "لده أصحابه" أي جعلوا في جانب فمه دواء بغير اختباره وهذا هو اللدود، فأما ما يصب في الحلق فيقال له الوجود، وقد وقع عند الطبراني من حديث العباس أنهم أذابوا قسطاً أي بزيت فلدوه به "فلما فرغوا قال" أي رسول الله صلى الله عليه وسلم "لدوهم" بصيغة الأمر "قال" أي ابن عباس "فلدرا" بصيغة الماضي المجهول. وفي حديث عائشة عند الشيخين: لددنا رسول الله صلى الله عليه وسلم في مرضه فأشار أن لا تلدوني فقلنا كراهية المريض للدواء، فلما أفاق قال لا يبقى منكم أحد إلا لد غير العباس فإنه لم يشهدكم. اللفظ لمسلم. قال النووي: إنما أمر صلى الله عليه وسلم بلدهم عقوبة لهم حين خالفنه في إشارته إليهم لا تلدوني ففيه أن الإشارة المفهمة كصريح العبارة في نحو هذه المسألة، وفيه تعزير المتعدي بنحو من فعله الذي تعدى به إلا أن يكون فعلاً محرماً انتهى. قيل: وإنما كره اللد مع أنه كان يتداوى لأنه تحقق أنه يموت في مرضه، ومن حقق ذلك كره له التداوي. قال الحافظ: وفيه نظر، والذي يظهر أن ذلك كان قبل التخيير والتحقق. وإنما أنكر التداوي لأنه كان غير ملائم لدائه، لأنهم ظنوا أن به ذات الجنب فداووه بما يلائمه ولم يكن به ذلك كما هو ظاهر في سياق الخبر كما ترى.(6/203)
ماَ اكْتَحَلْتُمْ بِهِ الإِثْمِدُ، فَإِنّهُ يَجْلُو البَصَرَ وَيُنْبِتُ الشعْرَ .
قالَ: وكانَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم لَهُ مُكْحُلَةٌ يَكْتَحِلُ بِهَا عِنْدَ النّومِ ثَلاَثاً في كُلّ عَيْنٍ".
هذا حديثٌ حسنٌ غريبٌ: وهُوَ حَدِيثُ عَبّادِ بنِ مَنْصُورٍ.
ـــــــ
قوله: "وخير ما أكتحلتم به" بالنصب وجوز رفعه "الإثمد" بكسر الهمزة والميم بينهما ثاء مثلثة ساكنة. وحكى فيه ضم الحمرة حجر معروف أسود يضرب إلى الهمزة يكون في بلاد الحجاز وأجوده يؤتى من أصبهان قاله الحافظ. وقال التوربشتي: هو الحجر المعدني، وقيل هو الكحل الأصفهاني ينشف الدمعة والقروح ويحفظ صحة العين ويقوي غصنها لا سيما للشيوخ والصبيان "فإنه" أي الإثمد أو الاكتحال به "يجلو البصر" من الجلاء أي يحسن النظر ويزيد نور العين وينظف الباصرة لدفع الردية النازلة إليها من الرأس "ينبت" من الإنبات "الشعر" بفتح الشين والعين المهملة ويجوز إسكانها، والمراد به هنا الهدب وهو بالفارسية شره وهو الذي ينبت على أشفار العين "مكحلة" بضمتين بينهما ساكنة اسم آلة الكحل، وهو الميل على خلاف القياس، والمراد منها ههنا ما فيه الكحل "يكتحل بها" كذا في النسخ الموجودة بها، وفي جميع روايات الشمائل "منها" فالباء بمعنى من كما قيل في قوله تعالى: {يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ اللَّه} .
قوله: "هذا حديث حسسن غريب" وأخرجه الترمذي في باب الحجامة(6/204)
باب ما جاء في كراهية الكى
...
10ـ باب مَا جَاءَ في كَرَاهِيَةَ بالكي
2123 ـ حَدّثنا محمدُ بنُ بَشّارٍ، حدثنا محمدُ بنُ جَعْفَرٍ، حدثنا شُعْبَةُ عن قَتَادَةَ عن الْحَسَنِ عن عِمْرَانَ بنِ حُصَيْنٍ: "أَنّ رَسُولَ الله صلى الله عليه
ـــــــ
" باب مَا جَاءَ في كَرَاهِيَةَ بالكي"
قال في القاموس: كواه يكويه كياً أحرق جلده بحديدة ونحوها وهي المكواة والكية موضع الكي والكاوياء ميسم، واكتوى استعمل الكي في بدنه انتهى(6/204)
وسلم نَهَى عن الْكَيّ. قالَ: فابْتُلِينَا فاكْتَوَيْنَا فَماَ أَفْلَحْنَا ولاَ أَنْجَحْنَا".
هذا حديثٌ حسنٌ صحيحٌ.
2124 ـ حدّثنا عَبْدُ الْقَدّوسِ بنُ محمدٍ، أخبرنا عَمْرُو بنُ عَاصِمٍ،
ـــــــ
قوله: "نهي عن الكي" قال الحافظ في الفتح: النهي فيه محمول على الكراهة أو على خلاف الأولى لما يقتضيه مجموع الأحاديث، وقيل إنه خاص بعمران لأنه كان به الباسور وكان موضعه خطراً فنهاه عن كيه، فلما اشتد عليه كواه فلم ينجح. وقال ابن قتيبة: الكي نوعان كي الصحيح لئلا يعتل فهذا الذي قيل فيه: لم يتوكل من اكتوى لأنه يريد أن يدفع القدر، والقدر لا يدافع. والثاني كي الجرح إذا نغل أي فسد والعضو إذا قطع فهو الذي يشرع التداوي به، فإن كان الكي لأمر محتمل فهو خلاف الأولى لما فيه من تعجيل التعذيب بالنار لأمر غير محقق.
وحاصل الجمع أن الفعل يدل على الجواز وعدم الفعل لا يدل على المنع بل يدل على أن تركه أرجح من فعله، وكذا الثناء على تاركه. وأما النهي عنه فإما على سبيل الاختيار والتنزيه، وإما عما لا يتعين طريقاً إلى الشفاء انتهى. كلام الحافظ "فما أفلحنا ولا أنجحنا" من الإنجاح أي فما فزنا ولا صرنا ذانجح، وفي رواية أبي داود: فما أفلحن ولا أنجحن بنون الأناث فيهما، يعني تلك الكيات التي اكتوينا بهن وخالفنا النبي صلى الله عليه وسلم في فعلهن، وكيف يفلح وينجح شيء خولف فيه صاحب الشريعة. وعلى هذا فالتقدير فاكتوينا كيات الأوجاع فما أفلحن ولا أنجحن.
قوله: "هذا حديث حسن صحيح" وأخرجه أحمد وأبو داود وابن ماجة. قال المنذري: في تصحيح الترمذي نظر فقد ذكر غير واحد من الإئمة أن الحسن لم يسمع من عمران بن حصين، وقال الحافظ في الفتح بعد ذكر هذا الحديث: سنده قوي.
قوله: "حدثنا عبد القدوس بن محمد" بن عبد الكبير بن شعيب بن الحجاب العطار البصري، صدوق من الحادية عشر "أخبرنا عمرو بن عاصم" هو الكلابي(6/205)
أخبرنا هَمّامٌ، عن قَتَادَةَ، عن الْحَسَنِ، عن عِمْرَانَ بنِ حُصَيْنٍ قالَ: "نُهِينَا عن الْكَيّ". وفي البابِ عن ابنِ مسعودٍ وعُقْبَةَ بنِ عَامِرٍ وابن عَبّاس. هذا حديثٌ حسنٌ صحيحٌ.
ـــــــ
القيسي أبو عثمان البصري "أخبرنا همام" هو ابن يحيى الأزدي العوذي.
قوله: "نهينا" بصيغة المجهول وهو في حكم المرفوع كما تقرر في مقره، أي نهانا رسول الله صلى الله عليه وسلم.
قوله: "وفي الباب عن ابن مسعود وعقبة بن عامر وابن عباس" أما حديث ابن مسعود وحديث عقبة بن عامر فأخر جهما الطحاوي في معاني الآثار، وأما حديث ابن عباس فأخرجه أحمد والبخاري وابن ماجه عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: الشفاء في ثلاث: في شرطة محجم أو شربة عسل أو كية بنار، وأنا أنهى أمتي عن الكي .
قوله: "هذا حديث حسن صحيح" وأخرجه الطحاوي في معاني الآثار(6/206)
11 ـ باب ما جَاءَ في الرّخْصَةِ في ذَلِك
2125 ـ حَدّثنا حُمَيْدُ بنُ مَسْعَدَةَ، حدثنا يَزيِدُ بنُ زُرَيْعٍ، أخبرنا مَعْمَرٌ عن الزّهْرِيّ عن أَنَسٍ "أَنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم كَوَى أَسْعَدَ بنُ زُرَارَةَ مِنَ الشّوْكَةِ".
ـــــــ
" باب ما جَاءَ في الرّخْصَةِ في ذَلِك"
أي في الكي
قوله: "أن النبي صلى الله عليه وسلم كوى" أي بيده أو أمر بأن يكوي أحد "أسعد" بفتح الهمزة والعين بينهما مهملة "ابن زرارة" بضم الزاي وفتح الراءين بينهما ألف وفي آخره تاء "من الشوكة" أي من أجلها وهي على ما في النهاية حمرة تعلو الوجه والجسد. والحديث على الرخصة في الكي، وقد تقدم وجه الجمع(6/206)
وفي البابِ عن أُبَيّ وجَابِرٍ. هذا حديثٌ حسنٌ غريبٌ.
ـــــــ
بين أحاديث هذا الباب وأحاديث الباب المتقدم في كلام الحافظ. وقال الشوكاني في النيل قد جاء النهي عن الكي وجاءت الرخصة فيه والرخصة لسعد لبيان جوازه حيث لا يقدر الرجل أن يداوي العلة بدواء آخر وإنما ورد النهي حيث يقدر الرجل على أن يداوي العلة بدواء آخر لأن الكي فيه تعذيب بالنار ولا يجوز أن يعذب بالنار إلا رب النار وهو الله سبحانه وتعالى، ولأن الكي يبقى منه أثر فاحش، وهذان نوعان من أنواع الكي الأربعة وهما النهي عن الفعل وجوازه. والثالث الثناء على تركه كحديث السبعين ألفاً الذين يدخلون الجنة. والرابع عدم محبته كحديث الصحيحين وما أحب أن أكتوي. فعدم محبته يدل على أن الأولى عدم فعله، والثناء على تركه يدل على أن تركه أولى. فتبين أنه لا تعارض بين الأربعة.
قوله: "وفي الباب عن أبي وجابر" أخرج أحمد ومسلم عن جابر قال: بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أبي بن كعب طبيباً فقطع منه عرقاً ثم كواه. وعن جابر أيضاً أن النبي صلى الله عليه وسلم كوى سعد بن معاذ في أكحله مرتين رواه ابن ماجة وروى مسلم معناه.
قوله: "هذا حديث حسن غريب" وأخرجه الطحاوي في معاني الآثار(6/207)
12 ـ باب مَا جَاءَ في الْحِجَامَة
2126 ـ حَدّثنا عَبْدُ القُدّوسِ بنُ محمدٍ، حدثنا عَمْرُو بن عَاصِمٍ، حدثناهَمّامٌ وجَرِيرُ بنُ حَازِمٍ، قالاَ: حدثنا قَتَادَةُ عن أَنَسٍ قالَ: "كانَ النبيّ صلى الله عليه وسلم يَحْتَجِمُ في الأَخْدَعَيْنِ والكَاهِلِ، وَكانَ يَحْتَجِمُ
ـــــــ
" باب مَا جَاءَ في الْحِجَامَة"
في المصباح حجمه الحاجم حجماً من باب قتل شرطه، واسم الصناعة حجامة بالكسر انتهى. والشرط بالفارسية نشترزون
قوله: "كان النبي صلى الله عليه وسلم يحتجم في الأخدعين والكاهل" قال الشوكاني في النيل: قال أهل اللغة: الأخدعان عرقان في جانبي العنق يحجم منه، والكاهل(6/207)
لِسَبْعَ عَشْرَةَ وَتِسْعَ عَشْرَةَ وَإِحْدَى وَعِشْرِينَ".
ـــــــ
ما بين الكتفين وهو مقدم الظهر. قال ابن القيم في الهدى: الحجامة على الأخدعين تنفع من أمراض الرأس وأجزائه كالوجه والأسنان والأذنين والعينين والأنف إذا كان حدوث ذلك من كثرة الدم أو فساده أو منهما جميعاً، قال: والحجامة لأهل الحجاز والبلاد الحارة لأن دماءهم رقيقة وهي أميل إلى ظاهر أبدانهم لجذب الحرارة الخارجية إلى سطح الجسد واجتماعهما في نواحي الجلد، ولأن مسام أبدانهم واسعة، ففي القصد لهم خطر انتهى. وقال أهل العلم بالطب: فصد الباسليق ينفع حرارة الكبد والطحال والرئة ومن الشوصة وذات الجنب وسائر الأمراض الدموية العارضة من أسفل الركبة إلى الورك، وفصد الأكحل ينفع الامتلاء العارض في جميع البدن إذا كان دموياً ولا سيما إن كان فسد، وفصد القيفال ينفع من علل الرأس والرقبة إذا كثر الدم أو فسد، وقصد الودجين لوجع الطحال والربو ووجع الجبين، والحجامة على الكاهل تنفع من وجع المنكب والحلق وتنوب عن فصد الباسليق، والحجامة على الأخدعين تنفع من كإمراض الرأس والوجه كالأذنين والعينين والأسنان والأنف والحلق، وتنوب عن فصد الفيفال، والحجامة تحت الذقن تنفع من وجع الأسنان والوجه والحلقوم وتنقي الرأس، والحجامة على ظهر القدم تنوب عن فصد الصافن وهو عرق عند الكعب، وتنفع من قروح الفخدين والساقين وانقطاع الطمث والحكة العارضة في الأنثيين، والحجامة على أسفل الصدر نافعة من دماميل الفخد وجربه وبثوره ومن النقرس والبواسير وداء الفيل وحكة الظهر، ومحل ذلك كله إذا كان عن دم هائج وصادف وقت الاحتياج إليه. والحجامة على المقعدة تنفع الأمعاء وفساد الحيض "وكان يحتجم لسبع عشرة وتسع عشرة وإحدى وعشرين" قد عقد البخاري باباً في صحيحه بلفظ: باب أي ساعة يحتجم، وذكر فيه أثر أبي موسى أنه احتجم ليلاً وحديث ابن عباس: احتجم النبي صلى الله عليه وسلم وهو صائم. قال الحافظ: ورد في الأوقات اللائقة بالحجامة أحاديث ليس فيها شيء على شرطه، فكأنه أشار إلى أنها تصنع عند الاحتياج ولا تتقيد بوقت دون وقت لأنه ذكر الاحتجام ليلاً وذكر حديث ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم احتجم وهو صائم وهو يقتضي كون ذلك وقع منه نهاراً.(6/208)
وفي البابِ عن ابنِ عَبّاسٍ ومَعْقِلِ بنِ يَسَارٍ.
ـــــــ
وعند الأطباء أن أنفع الحجامة ما يقع في الساعة الثانية أو الثالثة وأن لا يقع عقب استفراغ عن جماع أو حمام أو غيرهما، ولا عقب شبع ولا جوع. وقد ورد في تعيين الأيام للحجامة حديث لابن عمر عند ابن ماجة رفعه في أثناء حديث وفيه: فاحتجموا على بركة الله يوم الخميس، واحتجموا يوم الاثنين والثلاثاء، واجتنبوا الحجامة يوم الأربعاء والجمعة والسبت والأحد، أخرجه من طريقين ضعيفين وله طريق ثالثة ضعيفة أيضاً عند الدارقطني في الأفراد، وأخرجه بسند جيد عن ابن عمر موقوفاً، ونقل الخلال عن أحمد أنه كره الحجامة في الأيام المذكورة وإن كان الحديث لم يثبت. وحكى أن رجلاً احتجم يوم الأربعاء فأصابه برص لكونه تهاون بالحديث. وأخرج أبو داود من حديث أبي بكرة أنه كان يكره الحجامة يوم الثلاثاء وقال إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: يوم الثلاثاء يوم الدم وفيه ساعة لا يرقأ فيها . وورد في عدد من الشهر أحاديث منها ما أخرجه أبو داود من حديث أبي هريرة رفعه: من احتجم لسبع عشرة وتسع عشرة وإحدى وعشرين كان شفاء من كل داء . وهو من رواية سعيد بن عبد الرحمن الجمحي عن سهيل بن أبي صالح، وسعيد وثقه الأكثر ولينه بعضهم من قبل حفظه، وله شاهد من حديث ابن عباس عند أحمد والترمذي ورجاله ثقات لكنه معلول، وله شاهد آخر من حديث أنس عند ابن ماجة وسنده ضعيف، وهو عند الترمذي من وجه آخر عن أنس لكن من فعله صلى الله عليه وسلم، ولكون هذه الأحاديث لم يصح منها شيء قال حنبل بن إسحاق: كان أحمد يحتجم أي وقت هاج به الدم وأي ساعة كانت. وقد أتفق الأطباء على أن الحجامة في النصف الثاني من الشهر، ثم في الربع الثالث من أرباعه أنفع من الحجامة في أوله وآخره، قال الموفق البغدادي: وذلك أن الأخلاط في أول الشهر تهيج وفي آخره تسكن، فأولى ما يكون الاستفراغ في أثنائه.
قوله: "وفي الباب عن ابن عباس ومعقل بن يسار" أما حديث ابن عباس فأخرجه الترمذي في هذا الباب. وروى البخاري عنه قال: احتجم النبي صلى الله عليه وسلم وهو محرم في رأسه من شقيقة كانت به. وله في هذا الباب غير هذين الحديثين. وأما حديث معقل بن يسار فأخرجه حرب بن إسماعيل الكرماني صاحب(6/209)
وهذا حديثٌ حسنٌ غريب.
2127 ـ حدّثنا أَحمدُ بنُ بُدَيْلٍ بنِ قُرَيْشٍ اليَامِيّ الكُوفِيّ، أخبرنا محمدُ بنُ فُضَيْلٍ، أخبرنا عَبْدُ الرحمنِ بنُ أَسْحَاقَ عن القَاسِمِ بنِ عَبْدِ الرحمنِ هُوَ ابنُ عَبْدِ الله بنِ مَسْعُودٍ عن أَبِيِه عن ابنِ مَسْعُود قالَ: "حَدّثَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم عن لَيْلَةِ أُسْرِيَ بِهِ أَنّهُ لَمْ يَمُرّ على مَلأٍ مِنَ المَلاَئِكَةِ إِلاّ أَمَرُوهُ: أَنْ مُرْ أُمَتّكَ بِالْحِجَامَةِ".
ـــــــ
أحمد عنه مرفوعاً: الحجامة يوم الثلاثاء لسبع عشرة من الشهر دواء لداء السنة ، وليس إسناده بذاك، كذا في المنتقي.
قوله: "هذا حديث حسن غريب" وأخرجه أبو داود وابن ماجة، ونقل المنذري تحسين الترمذي وأقره. وفي النيل قال النووي عند الكلام على هذا الحديث: رواه أبو داود بإسناد صحيح على شرط البخاري ومسلم، وصححه الحاكم أيضاً، ولكن ليس في حديث أبي داود المذكور الزيادة وهي قوله: وكان يحتجم لسبع عشرة الخ انتهى.
قوله: "حدثنا محمد بن فضيل" هو الضبي مولاهم الكوفي "حدثنا عبد الرحمن بن إسحاق" هو أبو شيبة الواسطي "عن القاسم بن عبد الرحمن هو ابن عبد الله بن مسعود" قال في التقريب: القاسم بن عبد الرحمن بن عبد الله بن مسعود المسعودي أبو عبد الرحمن الكوفي ثقة عابد من الرابعة "عن أبيه" أي عبد الرحمن بن عبد الله ابن مسعود الهذلي الكوفي ثقة من صغار الثانية مات سنة تسع وسبعين، وقد سمع من أبيه، قاله في التقريب.
قوله: "حدث رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ليلة" بالجر منونة، ويجوز فتحها مضافة إلى قوله "أسرى به" على بناء المفعول "أنه لم يمر على ملإ" أي جماعة عظيمة تملأ العين "أن" تفسيرية "مر" أمر مخاطب من أمر يأمر قال القاري: بيان للأمر الذي اتفق عليه الملأ الأعلى. والأمر للندب. ويدل على تأكيده أمرهم جميعاً وتقريره صلى الله عليه وسلم ونقله عنهم، والظاهر أنه بأمر من الله لهم أيضاً "أمتك بالحجامة" قال أهل المعرفة: إن المخاطب بأحاديث الحجامة غير الشيوخ(6/210)
وهذا حديثٌ حسنٌ غريبٌ مِنْ حَدِيثِ ابنِ مَسْعُودٍ.
2128 ـ حدّثنا عَبْدُ بنُ حُمَيْدٍ، أخبرنا النَضْرُ بنُ شُمَيْلٍ، حدثنا عَبّادُ بنُ مَنْصُورٍ قالَ: سَمِعْتُ عِكْرِمَةَ يقول: "كانَ لابنِ عَبّاس غِلْمَةٌ ثلاثة حَجّامُونَ، فكانَ اثْنانِ يُغِلاّن عليِه وعلى أَهْلِهِ، وَوَاحِدٌ يَحْجِمُهُ وَيَحْجِمُ أَهْلَهُ. قالَ: وقالَ ابنُ عَبّاسٍ: قالَ نَبِيّ الله صلى الله عليه وسلم: "نِعْمَ العَبْدُ الْحَجّامُ يَذْهَبُ بالدّمِ، ويُخِفّ الصّلْبَ ويَجْلُو عن البَصَرِ" . وقالَ: "أَنّ رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم حَيْثُ عُرِجَ بِه مَا مَرّ على مَلأٍ مِنَ المَلاَئِكَةِ إِلاّ قالُوا عَلَيْكَ
ـــــــ
لقلة الحرارة في أبدانهم. وقد أخرج الطبري بسند صحيح عن ابن سيرين قال: إذا بلغ الرجل أربعين سنة لم يحتجم، قال الطبري: وذلك لأنه يصير من حينئذ في انتقاص من عمره وانحلال من قوة جسده فلا ينبغي أن يزيده وهناً بإخراج الدم انتهى. وهو محمول على من لم تتعين حاجته إليه، وعلى من لم يعتده. وقد قال ابن سينا في أرجوزته.
ومن يكون تعود الفصادة فلا يكن يقطع تلك العادة
ثم أشار إلى أنه يقلل ذلك بالتدريج إلى أن ينقطع جملة في عشر الثمانين. وقال ابن سينا في أبيات أخرى:
ووفر على الجسم الدماء فإنها ... لصحة جسم من أجل الدعائم
قوله: "هذا حديث حسن غريب" وأخرجه ابن ماجة من حديث أنس.
قوله: "فكان اثنان يغلان عليه وعلى أهله" بضم التحتية وكسر المعجمة من الإغلال أي يعطيان الغلة وهي ما يحصل من أجرة العبد. قال في القاموس: الغلة الدخلة من كراء دار وأجرة غلام وفائدة أرض انتهى "ويخف" من الإخفاف "الصلب" أي الظهر "ويجلو عن البصر" القذي والرمص ونحو ذلك "وقال" أي ابن عباس "إن رسول الله صلى الله عليه وسلم حين عرج به" أي حين أسرى(6/211)
بِالْحِجَامَةِ. وقالَ: إِنّ خَيْرَ مَا تَحْتَجِمُونَ فيِه يَوْمُ سَبْعَ عَشْرَةَ وَيَوْمُ تِسْعَ عَشْرَةَ وَيَوْمُ إِحْدَى وعِشْرِينَ. وقالَ: إِنّ خَيْرَ مَا تَدَاوَيْتُمْ بِهِ السّعوطُ والّلدُودُ والْحِجَامَةُ والمَشِيّ، وإِنّ رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم لَدّهُ العَبّاسُ وأَصْحَابُهُ. فقالَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم: مَنْ لَدّنِي؟ فَكُلّهُمْ أَمْسَكُوا فقالَ: لا يَبْقَى أَحَدٌ مِمّنْ في البَيْتِ إِلاّ لُدّ غَيْرُ عَمّهِ العَبّاسِ" قالَ النّضْرُ: اللدُودُ الوجور.
هذا حديثٌ حسنٌ غريبٌ لا نَعْرِفُهُ إِلاّ مِنْ حَدِيثِ عَبّادِ بن مَنْصُورٍ.
ـــــــ
به إلى السماء "ما مر" أي هو "عليك بالحجامة" أي الزمها لزوماً مؤكداً "إن خير ما تحتجمون فيه" أي من الأيام "يوم سبع عشرة" لفظ يوم مضاف مرفوع على أنه خبر إن "وإن رسول الله صلى الله عليه وسلم لده العباس" هذا مخالف لما في حديث عائشة عند الشيخين: لا يبقى أحد في البيت إلا لد وأنا أنظر إلا العباس فإنه لم يشهدكم، فما في الصحيحين أصح وأرجح "فكلهم أمسكوا" أي أسكتوا. ففي القاموس: أمسك عن الكلام سكت "غير عمه العباس" قيل لأنه كان صائماً أو لتكريمه قلت: علة عدم لدود العباس مصرحة في حديث عائشة بقوله: فإنه لم يشهدكم فهي المعتمد عليها "قال النضر اللدود الوجود" جعل النضر اللدود والوجود واحداً وفرق بينهما الحافظ كماعرفت وهو الصحيح.
قوله: "وفي الباب عن عائشة" لينظر من أخرجه.
قوله: "هذا حديث حسن غريب" وأخرجه الحاكم: بتمامه مفرقاً في ثلاثة أحاديث، وقال في كل منهما: صحيح الأسناد، كذا في الترغيب للمنذري(6/212)
13 ـ باب ما جَاءَ في التّدَاوي بالحِنّاء
2129 ـ حدّثنا أحمدُ بنُ مَنِيعٍ، أخبرنا حَمّادُ بنُ خَالِدٍ الْخَيّاطُ،
ـــــــ(6/212)
أخبرنا فائِدٌ مَوْلَى لاَلِ أَبِي رَافِعٍ، عن عَلِيّ بنِ عُبَيْدِ الله عن جَدّتِهِ سلمى، وكانَتْ تَخْدِمُ النبيّ صلى الله عليه وسلم قالَتْ: "ما كَانَ يَكُونُ بِرَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم قُرْحَةٌ ولا نَكْبَةٌ إلاّ أَمَرَني رسول الله صلى الله عليه وسلم أَنْ أَضَعَ عليها الحِنّاءَ".
هذا حديثٌ حسنٌ غريبٌ إِنَمّا نَعْرِفُهُ مِنْ حَدِيثِ فَائِدٍ. ورَوَى بَعْضُهُمْ عن فَائِدٍ
ـــــــ
"باب ما جاء في التدتوي بالحناء"
قوله: "أخبرنا فائد مولى لاَل أبي رافع" قال في التقريب: فائد مولى عبادل باللام صدوق انتهى. وقال فيه عبيد الله بن علي بن أبي رافع المدني: يعرف بعبادل، ويقال فيه علي بن عبيد الله لين الحديث. وقال في الخلاصة: فائد مولى عبادل وهو عبيد الله بن علي بن أبي رافع روى عنه، وعنه زيد بن الحباب، وثقه ابن معين "عن علي بن عبيد الله" إعلم أن عبادل وعبيد الله بن علي وعلي بن عبيد الله ثلاثتهم واحد كما عرفت آنفاً من عبارة التقريب فهو عبيد الله بن علي بن أبي رافع وعبادل لقبه ويقال فيه علي بن عبيد الله، والصواب عبيد الله بن علي، روى عن جدته أم رافع وعنه مولاه فائد، وثقه ابن حبان، وقال أبو حاتم: لا يحتج به وليس بمنكر الحديث. وقال ابن معين: لابأس به "عن جدته" سلمى أم رافع زوج أبي رافع لها صحبة.
قوله: "ما كان" أي الشأن "يكون" أي يوجد ويقع "برسول الله صلى الله عليه وسلم قرحة" قال الطيبي: يحتمل أن يكون الثاني زائداً وأن يكون غير زائد بالتأويل أي ما كان قرحة تكون برسول الله صلى الله عليه وسلم انتهى. والقرحة بفنح القاف ويضم جراحة من سيف وسكين ونحوه، ومنه قوله تعالى {إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ} وقد قرئ فيه بالوجهين والأكثر على الفتح "ولا نكبة" بفتح النون جراحة من حجر أو شوك ولا زائدة للتأكيد "أن أضع عليه الحناء" لأنه ببرودته يخفف حرارة الجراحة وألم الدم.
قوله: "هذا حديث غريب" لم يحكم عليه الترمذي بشيء من الصحة أو الحسن أو الضعف، والظاهر أنه حديث حسن والله تعالى أعلم. والحديث أخرجه ابن ماجه أيضاً.(6/213)
فقال: عَنْ عُبَيْدِ الله بنِ عَليّ عن جَدّتِهِ سَلْمَى، وعُبَيْدُ الله بنُ عَلي أَصَحّ ويُقالُ سُلمى.
2130 ـ حدّثنا محمدُ بنُ العَلاَءِ حدثنا زَيْدُ بنُ حُبَابٍ عن فَائِدٍ مَوْلَى عُبَيْدِ الله بنِ عَلِيّ، عن مَوْلاَهُ عُبَيْدِ الله بنِ عَليّ، عن جَدّتِهِ عن النبيّ صلى الله عليه وسلم نَحْوَهُ بِمَعْنَاهُ.
ـــــــ
قوله: "وعبيد الله بن علي أصح" من علي بن عبيد الله. وقال الحافظ في التقريب: علي بن عبيد الله بن أبي رافع الصواب عبيد الله بن علي بن أبي رافع(6/214)
14 ـ باب ما جاءَ في كَراهِيَةِ الرّقْيَة
2131 ـ حَدّثنا محمد بن بشار، حدثنا عَبْدُ الرحمنِ بنُ مَهْدِيّ، حدثنا سفيانُ عن مَنْصُورٍ عن مُجَاهِدٍ عن عَقّارِ بنِ المُغِيرَةِ بنِ شُعْبَةَ عن أَبِيِه قال: قالَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم: "من اكْتَوَى أو اسْتَرْقَى فقد بَرئَ مِنَ التّوَكّلِ" .
وفي البابِ عن ابنِ مَسْعُودٍ وابنِ عَبّاسٍ وعِمْرَانَ بنِ حُصَينٍ.
ـــــــ
"باب ما جاءَ في كَراهِيَةِ الرّقْيَة"
بضم الراء وسكون القاف. قال الجزري في النهاية: الرقية العوذة التي يرقى بها صاحب الاَفة كالحمى والصرع وغير ذلك من الاَفات
قوله: "عن عقار بن المغيرة بن شعبة" قال في التقريب: عقار بفتح أوله وتشديد القاف وآخره راء ابن المغيرة بن شعبة الثقفي الكوفي صدوق من الثالثة.
قوله: "من اكتوى أو استرقى فهو بريء من التوكل" لفعله ما الأولى التنزه عنه، وهذا فيمن فعل معتمداً عليها لا على الله، قاله المناوي.
قوله: "وفي الباب عن ابن مسعود وابن عباس وعمران بن حصين". أما حديث ابن مسعود فأخرجه أبو داود بطوله وفيه: إن الرقى والتمائم والتولة شرك، الحديث. وأما حديث ابن عباس فأخرجه الترمذي في صفة القيامة بعد باب صفة(6/214)
هذا حديثٌ حسنٌ صحيحٌ.
ـــــــ
أواني الحوض. وأما حديث عمران بن حصين فأخرجه الطحاوي عنه مرفوعاً: يدخل الجنة من أمتي سبعون ألفاً بغير حساب، قيل يا رسول من هم؟ قال: هم الذين لا يتطيرون ولا يكتوون ولا يسترقون وعلى ربهم يتوكلون.
قوله: "هذا حديث حسن صحيح" وأخرجه أحمد والنسائي وابن ماجة وابن حبان في صحيحه والحاكم في المستدرك. وأحاديث الباب تدل على كراهة الرقية. وفي الباب أحاديث أخرى وسيأتي في الباب الاَتي وجه الجمع بينها وبين الأحاديث التي تدل على جواز الرقية(6/215)
15ـ باب ماَ جَاءَ في الرّخْصَةِ في ذَلِك
2132 ـ حَدّثنا عَبْدَةُ بنُ عَبْدِ الله الْخُزَاعِيّ حدثنا مُعَاوِيَةُ بنُ هِشَامٍ عن سُفْيَانَ عن عَاصِمٍ الأَحْوَلِ عن عَبْدِالله بنِ الحَارثِ عن أَنَسٍ "أَنّ رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم رَخّصَ في الرّقْيَةِ مِنَ الْحُمّةِ والعَيْنِ والنّمْلَةِ".
2133 ـ حدّثنا محمود بنُ غَيْلاَنَ، حدثنا يَحْيَى بن آدَمَ وأَبُو نُعَيْمٍ قالا: حدثنا سُفْيَانُ عن عَاصِمٍ الأَحْوَل عن يُوسُفَ بنِ عَبْدِ الله بنِ الْحَارِثِ عن أَنَسِ
ـــــــ
"باب ما جاء في الرخصة في ذلك"
قوله: "رخص في الرقية من الحمة" قال الجزري بالتخفيف السم وقد يشدد وأنكره الأزهري ويطلق على إبرة العقرب للمجاورة، لأن السم منها يخرج وأصلها حمو أو حمي بوزن صرد والهاء فيها عوض من الواو المحذوفة أو الياء انتهى. "والعين" أي ومن إصابة عين الجن أو الإنس "والنملة" بفتح النون وسكون الميم قال الجزري: النملة قروح تخرج في الجنب انتهى. قال التوربشتي: الرخصة إنما تكون بعد النهي، وكان صلى الله عليه وسلم قد نهي عن الرقي لما عسى أن يكون فيها من الألفاظ الجاهلية، فانتهى الناس عن الرقي فرخص لهم فيها إذا عريت عن الألفاظ الجاهلية انتهى. وحديث أنس هذا أخرجه أيضاً أحمد ومسلم وابن ماجة.
قوله: "عن يوسف بن عبد الله بن الحارث" الأنصاري مولاهم، كنيته أبو(6/215)
ابنِ مالِكٍ "أَنّ رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم رَخّصَ في الرّقْيَةِ مِنَ الْحُمّةِ والنّمْلَةِ".
هذا حديثٌ حسنٌ غريبٌ.
هذا عِنْدِي أَصَحّ مِنْ حَدِيثِ مُعَاوِيَةَ بنِ هِشَامٍ عن سُفْيَانَ.
وفي البابِ عن بُرَيْدَةَ وَعِمْرَانَ بنِ حُصَيْنٍ وجَابِرٍ وعَائِشَةَ وَطَلْقِ بنِ عَلِيَ وعَمْرِو بنِ حَزْمٍ وَأَبِي خِزَامَةَ عن أَبِيِه.
ـــــــ
الوليد البصري، ثقة من الخامسة. قاله الحافظ في التقريب. وقال في تهذيب التهذيب في ترجمته: روى عن أبيه وأنس بن مالك وغيرهما، وعنه عاصم الأحول وغيره انتهى.
قوله: "وهذا" أي حديث يحيى بن آدم وأبي نعيم، عن سفيان عن عاصم عن يوسف بن عبد الله بن الحارث عن أنس "أصح من حديث معاوية بن هشام عن سفيان" أي عن عاصم الأحوال عن عبد الله بن الحارث الخ.
قوله: "وفي الباب عن بريدة وعمران بن حصين وجابر وعائشة وطلق بن علي وعمرو بن حزم وأبي خزامة عن أبيه" أما حديث بريدة فأخرجه مسلم وابن ماجة بلفظ: لا رقية إلا من عين أو حمة. وأما حديث عمران بن حصين فأخرجه الترمذي بعد هذا. وأما حديث جابر فأخرجه مسلم عنه قال: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الرقي فجاء آل عمرو بن حزم فقالوا يا رسول الله إنه كانت عندنا رقية نرقي بها من العقرب وأنت نهيت عن الرقي فعرضوها عليه فقال: ما أرى بها بأساً من استطاع منكم أن ينفع أخاه فلينفعه . وأما حديث عائشة فأخرجه الشيخان عنها قالت: أمر النبي صلى الله عليه وسلم أن يسترقى من العين. ولها حديث آخر أخرجه الشيخان أيضاً قالت: رخص النبي صلى الله عليه وسلم في الرقية من كل ذي حمة. وأما حديث طلق بن علي فأخرجه الطحاوي عنه قال: كنت عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فلدغتني عقرب فجعل يمسحها ويرقيه. وأما حديث عمرو بن حزم فأخرجه ابن ماجة عنه قال: عرضت أو أعرضت النهشة من الحية على رسول الله صلى الله عليه وسلم فأمر بها. وأما حديث أبي خزامة عن أبيه، فأخرجه الترمذي في باب: لا ترد الرقى والدواء من قدر الله شيئاً.(6/216)
2134 ـ حدّثنا ابنُ أَبِي عُمَر حدثنا سُفْيَانُ عن حُصَيْنٍ عن الشّعْبيّ عن عِمْرَانَ بنِ حُصَيْنٍ أَنّ رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم قالَ: "لاَ رُقْيَةَ إِلاّ مِنْ عَيْنٍ أَوْ حُمّةٍ" .
وَرَوى شُعْبَةُ هذا الحديثَ عن حُصَيْنٍ عن الشّعبِيّ عن بُرَيْدَةَ.
ـــــــ
قوله: "لا رقية إلا من عين أو حمة" ليس معناه أنه لا يجوز الرقية من غيرهما لأنه قد ثبت الرقية من غيرهما إنما معناه لا رقية أولى وأنفع منهما، والحديث أخرجه أيضاً أحمد وأبو داود.
قوله: "وروى شعبة هذا الحديث عن حصين عن الشعبي عن بريدة" ، ووقع في بعض النسخ عن النبي صلى الله عليه وسلم بمثله بعد قوله عن بريدة. قال البخاري في صحيحه في باب من أكتوى: حدثنا عمران بن ميسرة حدثنا ابن فضيل قال حدثنا حصين عن عامر عن عمران بن حصين قال: لا رقية إلا من عين أو حمة فذكرته لسعيد بن جبير، فقال حدثنا ابن عباس فقال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: عرضت على الأمم الحديث. قال الحافظ: قوله عن عمران بن حصين قال: لا رقية إلا من عين أو حمة، كذا رواه محمد بن فضيل عن حصين موقوفاً، ووافقه هشيم وشعبة عن حصين على وقفه، ورواية هشيم عند أحمد ومسلم ورواية شعبة عند الترمذي تعليقاً ووصلها بن أبي شيبة ولكن قالا عن بريدة بدل عمران ابن حصين، وخالف الجميع مالك بن مغول عن حصين فرواه مرفوعاً وقال عن عمران بن حصين أخرجه أحمد وأبو داود، وكذا قال ابن عيينة عن حصين أخرجه الترمذي، وكذا قال إسحاق بن سليمان عن حصين أخرجه ابن ماجة انتهى.
وأحاديث الباب تدل على جواز الرقية فهي مخالفة لأحاديث النهي المتقدمة في الباب المتقدم.
قال الحافظ ابن الأثير الجزري في النهاية: وجه الجمع بينهما أن الرقي يكره منها ما كان بغير اللسان العربي وبغير أسماء الله تعالى وصفاته وكلامه في كتبه المنزلة، وأن يعتقد أن الرقيا نافعة لا محالة فيتكل عليها وإياها أراد بقوله: ما توكل من استرقى. ولا يكره منها ما كان في خلاف ذلك كالتعوذ بالقرآن وأسماء الله تعالى والرقى المروية، ولذلك قال للذي رقى بالقرآن وأخذ عليه أجراً من أخذ(6/217)
ـــــــ
برقية باطل فقد أخذت برقية حق. وكقوله في حديث جابر إنه عليه الصلاة والسلام قال: اعرضوها على فعرضناها فقال: لابأس بها إنما هي مواثيق كأنه خاف أن يقع فيها شيء مما كانوا يتلفظون به ويعتقدونه من الشرك في الجاهلية، وما كان بغير اللسان العربي مما لا يعرف له ترجمة ولا يمكن الوقوف عليه فلا يجوز استعماله. وأما قوله لا رقية إلا من عين أو حمة، فمعناه لا رقية أولى وأنفع، وهذا كما قيل لا فتى إلا علي. وقد أمر عليه الصلاة والسلام غير واحد من أصحابه بالرقية وسمع بجماعة يرقون فلم ينكر عليهم. وأما الحديث الاَخر في صفة أهل الجنة الذين يدخلونها بغير حساب هم الذين لا يسترقون ولا يكتوون وعلى ربهم يتوكلون، فهذه من صفة الأولياء المعرضين عن أسباب الدنيا الذين لا يلتفتون إلى شيء من علائقها، وتلك درجة الخواص لا يبلغها غيرهم. فأما العوام فمرخص لهم في التداوي والمعالجات، ومن صبر على البلاء وانتظر الفرج من الله بالدعاء كان من جملة الخواص، ومن لم يصبر رخص له في الرقية والعلاج والدواء. ألا ترى أن الصديق لما تصدق بجميع ماله لم ينكر عليه علماً منه بيقينه وصبره، ولما أتاه الرجل بمثل بيضة الحمام من الذهب وقال لا أملك غيره ضربه به بحيث لو أصابه لعقره، وقال فيه ما قال، انتهى. ما قاله الجزري في النهاية(6/218)
16 ـ باب ما جَاءَ في الرّقْيَةِ بالمُعَوّذَتَيْن
2135 ـ حَدّثنا هِشَامُ بنُ يُونَسَ الكُوفِيّ حدثنا القَاسِمُ بنُ مَالِكٍ المُزَنِيّ عن الْجُرَيْرِيّ عن أَبِي نَضْرَةَ عن أَبِي سَعِيدٍ قالَ: "كانَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم يَتَعَوّذُ من الْجَانّ وَعَيْنِ الإِنْسَانِ حَتّى نَزَلَتْ المُعَوّذَتَانِ، فَلَمّا نزلتا أَخَذَ بِهِمَا وَتَرَكَ ما سِوَاهُمَا".
ـــــــ
"باب ما جاء في الرقبة بالمعوذتين"
قوله: "يتعوذ من الجان وعين الإنسان" أي يقول أعوذ بالله من الجان وعين الإنسان "حتى نزلت المعوذتان" أي قل أعوذ برب الفلق وقل أعوذ برب الناس "أخذ بهما وترك ما سواهما" مما كان يتعوذ به من الكلام غير القرآن لما تضمنتاه من الاستعاذة من كل مكروه.(6/218)
وفي البابِ عن أَنَسٍ.
هذا حديثٌ حسنٌ غَرِيبٌ.
ـــــــ
قوله: "وفي الباب عن أنس" لينظر من أخرجه.
قوله: "هذا حديث حسن غريب" وأخرجه النسائي وابن ماجة والضياء(6/219)
17 ـ باب ما جَاءَ في الرّقْيَةِ منَ العَيْن
2136 ـ حَدّثنا ابنُ أَبِي عُمَر، حدثنا سُفْيانُ عن عَمْرِو بنِ دِينَارٍ عن عُرْوَةَ وَهُوَ أَبو حاتم بْنُ عَامِرٍ عن عُبَيْدِ بنِ رِفَاعَةَ الزّرَقِيّ "أَنّ أَسْمَاءَ بِنْتَ عُمَيْسٍ قالَتْ: يا رسولَ الله إِنّ وَلَدَ جَعْفرٍ تُسْرِعُ إِلَيْهِمْ العَيْنُ أَفَأَسْتَرْقِي لَهُمْ؟ فقالَ:
ـــــــ
" باب ما جَاءَ في الرّقْيَةِ منَ العَيْن"
قال في النهاية: يقال أصابت فلاناً عين: إذا نظر إليه عدو أو حسود فأثرت فيه فمرض بسببها، يقال عانه يعينه عيناً فهو عائن إذا أصابه بالعين، والمصاب معين انتهى
قوله: "عن عروة وهو أبو حاتم بن عامر" قال في التقريب: عروة بن عامر المكي مختلف في صحبته، له حديث في الطيرة، وذكره ابن حبان في ثقات التابعين. "عن عبيدة بن فاعة الزرقي" ويقال فيه عبيد الله، ولد في عهد النبي صلى الله عليه وسلم وثقه العجلي.
قوله: "أن أسماء بنت عميس" بالتصغير "إن ولد جعفر" قال القاري: بضم واو فسكون لام، وفي نسخة يعني من المشكاة بفتحهما، أي أولاد جعفر منها أو من غيرها "تسرع" بضم التاء وكسر الراء ويفتح أي تعجل "إليهم العين" أي تؤثر فيهم سريعاً لكمال حسنهم الصوري والمعنوي، والعين نظر باستحسان مشوب بحسد من خبيث الطبع يحصل للمنظور منه ضرر قاله الحافظ "أفأسترقي لهم"(6/219)
نَعَمْ، فإِنّهُ لَوْ كَانَ شَيْءَ سَابِقُ القَدَرِ لَسَبَقَتْهُ العَيْنُ" . وفي البابِ عن عِمْرَانَ بنِ حُصَيْنٍ وبُرَيْدَةَ. وهذا حديثٌ حسنٌ صحيحٌ. وقد رُوِيَ هذا عن أَيّوبَ عن عَمْرِو بنِ دِينَارٍ عن عُرْوَةَ بن عَامِرٍ عن عُبَيْدِ بنِ رِفَاعَةَ عن أَسْمَاءَ بِنْتِ عُمَيْسٍ عن النبيّ صلى الله عليه وسلم.
2137 ـ حدّثنا بذلكَ الْحَسَنُ بنُ عَلِيّ الْخَلاّلُ، أخبرنا عَبْدُ الرّزّاقِ عن مَعْمَرٍ عن أَيّوبَ بهذا.
2138 ـ حَدّثنا محمودُ بنُ غَيْلاَنَ، حدثنا عَبْدُ الرّزّاق ويَعْلَى عن سُفْيَانَ عن مَنْصُورٍ عن المِنْهَالِ بنِ عَمْرٍو عن سَعِيدِ بنِ جُبَيْرٍ عن ابنِ عَبّاسٍ قالَ: "كانَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم يُعَوّذُ الْحَسَنَ والحُسَيْن يَقُولُ:
ـــــــ
أي أطلب الرقية أو من يرقي لهم "فإنه" تعليل للجواب، ومعناه نعم استرقى عن العين فإنها أولى وأحرى بأن تسترقي "لو كان شيء سابق القدر" أي غالبه في السبق "لسبقته العين" أي لغلته العين، قال الطيبي: المعنى إن فرض شيء له قوة وتأثير عظيم سبق القدر لكان عيناً والعين لا يسبق فكيف بغيرها انتهى.
ومذهب أهل السنة أن العين يفسد ويهلك عند نظر العائن بفعل الله تعالى أجرى العادة أن يخلق الضرر عند مقابلة هذا الشخص لشخص آخر.
قوله: "وفي الباب عن عمران بن حصين الخ" أما حديث عمران بن حصين فأخرجه الترمذي في باب الرخصة في الرقية. وأما حديث بريدة فقد تقدم تخريجه في الباب المذكور.
قوله: "هذا حديث حسن صحيح". وأخرجه أحمد والنسائي وابن ماجة والطحاوي.(6/220)
أُعِيذُكُمَا بِكَلِمَاتِ الله التّامّةِ، مِنْ كُلّ شَيْطَانٍ وهَامّةٍ، ومِنْ كُلّ عَيْنٍ لاَمّةٍ. وَيَقُولُ: هَكَذَا كانَ إبراهيمُ يُعَوّذُ إِسْحَاقَ وإِسْمَاعِيلَ عليهم السلام" .
2139 ـ حدّثنا الْحَسَنُ بنُ عَلِيّ الْخَلاّلُ حدثنا يَزِيدُ بنُ هَارُونَ وعَبْدُ الرّزّاقِ عن سُفْيَانَ عن مَنْصُورٍ نَحْوَهُ بِمَعْنَاهُ.
هذا حديثٌ حسنٌ صحيحٌ.
ـــــــ
قوله: "يقول أعيذكما" هذا بيان وتفسير لقوله يعوذ "بكلمات الله" قيل هي القرآن، وقيل أسماؤه وصفاته "التامة" قال الجزري: إنما وصف كلام بالتمام لأنه لا يجوز أن يكون في شيء من كلامه نقص أو عيب كما يكون في كلام الناس، وقيل معنى التمام ههنا أنها تنفع المتعوذ بها وتحفظه من الاَفات وتكفيه انتهى "من كل شيطان وهامة" الهامة كل ذات سم يقتل والجمع الهوام، فأما ما يسم ولا يقتل فهو السامة كالعقرب والزنبور. وقد يقع الهوام على ما يدب من الحيوان وإن لم يقتل كالحشرات كذا في النهاية "ومن كل عين لامة" أي من عين تصيب بسوء. قال في النهاية: اللهم طرف من الجنون يلم بالإنسان أي يقرب منه ويعتريه، ومنه حديث الدعاء أعوذ بكلمات الله التامة، من شر كل سامة، ومن كل عين لامة. أي ذات لمم، ولذلك لم يقل ملمة وأصلها من ألممت بالشيء ليزاوج قوله من شر كل سامة انتهى.
قوله: "هذا حديث حسن صحيح" وأخرجه ابن ماجة(6/221)
باب ما جاء في أن العين حق و الغسل لها
...
18 ـ باب ما جاَءَ أَنّ العَيْنَ حقّ والغسْلُ لها
2140 ـ حَدّثنا أَبُو حَفْصٍ عَمْرُو بنُ عَلِيَ، أخبرنا يَحْيَى بنُ كَثِيرٍ
ـــــــ
" باب ما جاَءَ أَنّ العَيْنَ حقّ والغسْلُ لها"
أي الإصابة بالعين شيء ثابت موجود، أو هو من جملة ما تحقق كونه. قال المازري: أخذ الجمهور بظاهر الحديث وأنكره طوائف المبتدعة لغير معنى لأن كل شيء ليس محالاً في نفسه، ولا يؤدي إلى قلب حقيقة ولا إفساد دليل، فهو من متجاوزات العقول، فإذا أخبر الشرع بوقوعه لم يكن لإنكاره معنى، وهل من فرق بين إنكارهم هذا وإنكارهم ما يخبر به من أمور الاَخرة
قوله: "أبو حفص عمرو بن علي" هو الفلاس الصيرفي الباهلي البصري.(6/221)
أَبُو غَسّانٍ العَنْبَرِيّ، أخبرنا عَلِيّ بنُ المُبَارَكِ عن يَحْيَى بنِ أَبِي كَثِيرٍ حدثني حَيّةُ بنُ حَابِسٍ التّمِيمِيّ، حدثني أَبِي أَنّهُ سَمِعَ رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: "لاَ شَيْءَ في الْهَامِ والعَيْنُ حَقّ" .
ـــــــ
"أخبرنا يحيى بن كثير" بن درهم "أبو غسان العنبري" مولاهم البصري، ثقة من التاسعة، ووقع في النسخة الأحمدية. أخبرنا يحيى بن كثير أخبرنا أبو غسان العنبري بزيادة لفظ "نا" بين أخبرنا يحيى بن كثير وأبو غسان العنبري وهو غلط. "أخبرنا علي بن المبارك" هو الهنائي "عن يحيى بن كثير" هو الطائي مولاهم أبو نصر اليمامي "حدثني حية بن حابس" بمهملتين، وقبل السين موحدة التميمي مقبول من الثالثة، ووهم من زعم أن له صحبة كذا في التقريب "حدثني أبي" أي حابس التميمي. قال في تهذيب التهذيب في ترجمته: روى عن النبي صلى الله عليه وسلم روى عنه إبنه حية حديث: لاشيء في الهام. صرح البخاري بسماعه من النبي صلى الله عليه وسلم وتبعه أبو حاتم، وذكره البغوي في الصحابة وقال: لا أعلم له غير هذا الحديث انتهى.
قوله: "لا شيء في الهام" أي لا شيء مما يعتقدون في الهام. قال النووي: الهامة هي بتخفيف الميم على المشهور الذي لم يذكر الجمهور غيره، وقيل بتشديدها. قاله جماعة وحكاه القاضي عن أبي زيد الأنصاري الإمام في اللغة، قال: وفيها تأويلان أحدهما أن العرب كانت تتشاءم بها وهي الطائر المعروف من طير الليل، وقيل هي البومة، قالوا كانت إذا سقطت على دار احدهم فرآها ناعية له نفسه أو بعض أهله، وهذا تفسير مالك بن أنس، والثاني أن العرب كانت تعتقد أن عظام الميت وقيل روحه، ينقلب هامة تطير، وهذا تفسير أكثر العلماء وهو المشهور. ويجوز أن يكون المراد النوعين فإنهما جميعاً باطلان، فبين النبي صلى الله عليه وسلم إبطال ذلك وضلالة الجاهلية فيما يعتقده من ذلك "والعين" أي أثرها "حق" لا بمعنى أن لها تأثيراً بل بمعنى أنها سبب عادي كسائر الأسباب العادية بخلق الله تعالى عند نظر العائن إلى شيء وإعجابه ما شاء من ألم أو هلكة. قال المازري: وقد زعم بعض الطبائعيين المثبتين للعين أن العائن تنبعث من عينه قوة(6/222)
2141 ـ حدّثنا أَحمدُ بنُ الْحَسَنِ بنِ خِرَاشٍ البَغْدَادِيّ أخبرنا أَحمدُ بنُ إِسحاقَ الْحَضْرَمِيّ أخبرنا وُهَيْبٌ عن ابنِ طَاوس عن أَبِيِه عن ابنِ عَبّاسٍ قالَ: قالَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم: "لَو كَانَ شَيْءٌ سَابِقَ القَدَرِ
ـــــــ
سمية تتصل بالمعين فيهلك أو يفسد، قالوا ولا يمتنع هذا كما لا يمتنع انبعاث قوة سمية من الأفعى والعقرب تتصل باللديغ فيهلك وإن كان غير محسوس لنا، فكذا العين. قال: وهذا غير مسلم لأنا بينا في كتب علم الكلام أن لا فاعل إلا الله تعالى، وبينا فساد القول بالطبائع، وبينا أن المحدث لا يفعل في غيره شيئاً، وإذا تقرر هذا بطل ما قالوه، ثم تقول هذا المنبعث من العين إما جوهر وإما عرض فباطل أن يكون عرضاً لأنه لا يقبل الانتقال، وباطل أن يكون جوهراً لأن الجواهر متجانسة فليس بعضها بأن يكون مفسداً لبعضها بأولى من عكسه، فبطل ما قالوه، قال أو قرب طريقه قالها من ينتحل الإسلام، منهم أن قالوا لا يبعد أن تنبعث جواهر لطيفة غير مرئية من العين فتتصل بالمعين وتتخلل مسام جسمه فيخلق الله سبحانه وتعالى الهلاك عندها كما يخلق الهلاك عند شرب السم، عادة أجراها الله تعالى وليست ضرورة ولا طبيعة إلجاء العقل إليها. ومذهب أهل السنة أن العين إنما تفسد وتهلك عند نظر العائن بفعل الله تعالى أجرى الله سبحانه وتعالى العادة أن يخلق الضرر عند مقابلة هذا الشخص لشخص آخر، وهل ثم جواهر خفية أم لا؟ هذا من مجوزات العقول لا يقطع فيه بواحد من الأمرين وإنما يقطع بنفي الفعل عنها وبأضافته إلى الله تعالى، فمن قطع أطباء الإسلام بانبعاث الجواهر فقد أخطأ في قطعه، وإنما هو من الجائزات.
قوله: "حدثنا أحمد بن إسحاق" بن زيد بن عبد الله بن أبي إسحاق الحضرمي أبو إسحاق البصري ثقة. كان يحفظ من التاسعة "أخبرنا وهيب" بالتصغير ابن خالد بن عجلان الباهلي مولاهم أبو بكر البصري ثقة ثبت لكنه تغير قليلاً بآخره من السابعة كذا في التقريب "عن ابن طاوس" هو عبد الله بن طاوس بن كيسان اليماني أبو محمد، ثقة فاضل عابد من السادسة.
قوله: "لو كان شيء سابق القدر" بالتحريك أي لو أمكن أن يسبق شيء القدر(6/223)
لَسَبَقَتْهُ العَيْنُ، إذَا اسْتُغْسِلْتُمْ فَاغْسِلُوا" .
ـــــــ
في إفناء شيء وزواله قبل أوانه المقدر له "لسبقته" أي القدر "العين" لكنها لا تسبق القدر، فإنه تعالى قدر المقادير قبل الخلق. قال الحافظ: جرى الحديث مجرى المبالغة في إثبات العين لا أنه يمكن أن يرد القدر شيء، إذ القدر عبارة عن سابق علم الله وهو لاراد لأمره. وحاصله لو فرض أن شيئاً له قوة بحيث يسبق القدر لكان العين لكنها لا تسبق فكيف غيرها انتهى. قال النووي: فيه إثبات القدر وهو حق بالنصوص وإجماع أهل السنة، ومعناه أن الأشياء كلها بقدر الله تعالى ولا تقع إلا على حسب ما قدرها الله تعالى وسبق بها عمله. فلا يقع ضرر العين ولا غيره من الخير والشر إلا بقدر الله تعالى وفيه صحة أمر العين وأنها قوية الضرر انتهى. "وإذا استغسلتم" بصيغة المجهول أي إذا طلبتم للاغتسال "فاغسلوا" أطرافكم عند طلب المعيون ذلك من العائن، وهذا كان أمراً معلوماً عندهم، فأمرهم أن لا يمتنعوا منه إذا أريد منهم، وأدنى ما في ذلك رفع الوهم الحاصل في ذلك، وظاهر الأمر الوجوب. وحكى المازري فيه خلافاً وصحح الوجوب وقال متى خشي الهلاك وكان اغتسال العائن مما جرت العادة بالشفاء به فإنه يتعين. وقد تقرر أنه يجبر على بذل الطعام للمضطر وهذا أولى، ولم يبين في هذا الحديث صفة الاغتسال وقد وقعت في حديث سهل بن حنيف عند أحمد والنسائي وصححه ابن حبان من طريق الزهري عن أبي أمامة بن سهل بن حنيف أن أباه حدثه أن النبي صلى الله عليه وسلم خرج وساروا معه نحو ماء حتى إذا كانوا بشعب الخرار من الحجفة اغتسل سهل ابن حنيف وكان أبيض حسن الجسم والجلد، فنظر إليه عامر بن ربيعة فقال ما رأيت كاليوم ولا جلد مخبأة فليط، أي صرع وزناً ومعنى أي سهل فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال هل تتهمون به من أحد؟ قالوا عامر بن ربيعة فدعا عامراً فتغيظ عليه، فقال علام يقتل أحدكم أخاه؟ هلا إذ رأيت ما يعجبك بركت ثم قال اغتسل له، فغسل وجهه ويديه ومرفقيه وركبتيه وأطراف رجليه وداخلة إزاره في قدح ثم يصب ذلك الماء عليه رجل من خلفه على رأسه وظهره ثم يكفأ القدح، ففعل به ذلك، فراح سهل مع الناس ليس به بأس. لفظ أحمد من رواية أبي أويس عن الزهري، ولفظ النسائي من رواية ابن أبي ذئب عن الزهري بهذا السند أنه يصب صبة على وجهه بيده اليمنى وكذلك سائر أعضائه صبة صبة في القدح، وقال في آخره(6/224)
ـــــــ
ثم يكفأ القدح وراءه على الأرض، ووقع في رواية ابن ماجة من طريق ابن عيينة عن الزهري عن أبي أمامة أن عامر بن ربيعة مر بسهل بن حنيف وهو غيسل فذكر الحديث، وفيه فليدع بالبركة ثم دعا بماء فأمر عامراً أن يتوضأ فيغسل وجهه ويديه إلى المرفقين وركبتيه وداخلة إزاره وأمره أن يصب عليه. قال سفيان قال معمر عن الزهري: وأمر أن يكفأ الأناء من خلفه. قال المازري: المراد بداخلة الإزار الطرف المتدلي الذي يلي حقوه الأيمن، وقد ظن بعضهم أن داخلة الإزار كناية عن الفرج انتهى. وزاد عياض أن المراد ما يلي جسده من الإزار، وقيل أراد موضع الإزار من الجسد وقيل أراد وركه لأنه، معقد الإزار. والحديث في الموطأ وفيه عن مالك، حدثني محمد بن أبي أمامة بن سهل أنه سمع أباه يقول: اغتسل سهل فذكر نحوه، وفيه: فنزع جبة كانت عليه وعامر بن ربيعة ينظر فقال ما رأيت كاليوم ولا جلد عذراء، فوعك سهل مكانه واشتد وعكه، وفيه: ألا بركت إن العين حق، توضأ له، فتوضأ له عامر فراح سهل ليس به بأس.
تنبيه: قال المازري: هذا المعنى مما لا يمكن تعليله، ومعرفة وجهه من جهة العقل، فلا يرد لكونه لا يعقل معناه وقال ابن العربي: إن توقف متشرع قلنا له الله ورسوله أعلم، وقد عضدته التجربة وصدقته المعاينة أو متفلسف، فالرد عليه أظهر لأن عنده أن الأدوية تفعل بقواها وقد تفعل بمعنى لا يدرك، ويسمون ما هذا سبيله الخواص. وقال ابن القيم: هذه الكيفية لا ينتفع بها من أنكرها ولا من سخر منها ولا من شك فيها أو فعلها مجرباً غير معتقد، وإذا كان في الطبيعة خواص لا يعرف الأطباء عللها، بل هي عندهم خارجة عن القياس. وإنما تفعل بالخاصية فما الذي تنكر جهلتهم من الخواص الشرعية، هذا مع أن في المعالجة بالاغتسال مناسبة لا تأباها العقول الصحيحة، فهذا ترياق سم الحية يؤخذ من لحمها، وهذا علاج النفس الغضبية توضع اليد على بدن الغضبان فيكسن، فكأن أثر تلك العين كشعلة نار وقعت على جسد ففي الاغتسال إطفاء لتلك الشعلة. ثم لما كانت هذه الكيفية الخبيثة تظهر في المواضع الرقيقة من الجسد لشدة النفوذ فيها ولا شيء أرق من المغابن فكان في غسلها إبطال لعملها، ولا سيما أن للإرواح الشيطانية في تلك المواضع اختصاصاً، وفيه أيضاً وصول أثر الغسل إلى القلب من أرق المواضع وأسرعها نفاذاً. فتنطفئ تلك النار التي أثارتها العين بهذا الماء وهذا(6/225)
وفي البابِ عن عَبْدِ الله بنِ عَمْرٍو.
هذا حديثٌ حسنٌ صحيحٌ غريبٌ وحدِيثُ حَيّةَ بنِ حَابِسٍ حديثٌ غريبٌ ورَوَى شَيْبَانُ عن يَحْيَى بنِ أَبِي كَثِيرٍ عن حَيّةَ بنِ حَابِسٍ عن أَبِيِه عن أَبِي هُرَيْرَةَ عن النبيّ صلى الله عليه وسلم. وعَلِيّ بنُ المُبَارَكِ وحَرْبُ بنُ شَدّادٍ لا يَذْكُرَانِ فِيِه عن أَبي هُرَيْرَةَ.
ـــــــ
الغسل المأمور به ينفع بعد استحكام النظرة، فأما عند الإصابة وقبل الاستحكام فقد أرشد الشارع إلى ما يدفعه بقوله في قصة سهل بن حنيف المذكورة كما مضى: ألا بركت عليه. وفي رواية ابن ماجة فليدع بالبركة، ومثله عند ابن السني من حديث عامر بن ربيعة. وأخرجه البزار وابن السني من حديث أنس رفعه: من رأى شيئاً فأعجبه فقال: ما شاء الله لا قوة إلا بالله لم يضره.
قوله: "وفي الباب عن عبد الله بن عمرو" لينظر من أخرجه.
قوله: "هذا حديث صحيح" وأخرجه أحمد ومسلم "وحديث حية بن حابس حديث غريب" وأخرجه البخاري في الأدب المفرد "وروى شيبان" هو ابن عبد الرحمن النحوي(6/226)
19 ـ باب ما جَاءَ في أَخْذِ الأَجْرِ على التّعْوِيذ
2142 ـ حَدّثنا هَنّادٌ، حدثنا أَبُو مُعَاوِيَةَ، عن الأَعْمَشِ عن جَعْفَرِ بنِ إِيَاسٍ عن أَبِي نَضْرَةَ عن أَبِي سَعِيد الخدري قال: "بَعَثنَا رَسُولُ الله صلى الله عليه
ـــــــ
"باب ما جاء في أخذ الجر على التعويذ"
قوله: "عن جعفر بن إياس" كنيته أبو بشر بن أبي وحشية، بفتح الواو وسكون المهملة وكسر المعجمة وتثقيل التحتانية، ثقة من أثبت الناس في سعيد بن جبير، وضعفه شعبة في حبيب بن سالم. وفي مجاهد: من الخامسة "عن أبي نضرة" هو العبدي(6/226)
وسلم في سَرِيّةٍ فَنَزَلنَا بِقَوْمٍ فَسَأَلنَاهُمْ القِرَى فلم يَقْرُونَا، فَلُدِغَ سَيّدُهُم فَأَتَوْنَا فقالُوا: هَلْ فِيكُم مَنْ يَرْقِي مِنَ العَقْرَبِ؟ قلت: نَعَم أَنَا، وَلَكِنْ لاَ أَرْقِيِه
ـــــــ
قوله: "بعثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم في سرية فنزلنا بقوم" وفي رواية عند الدارقطني بعث سرية عليها أبو سعيد، وفي رواية الأعمش عند غير الترمذي: بعثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاثين رجلاً فنزلنا بقوم ليلاً، فأفادت عدد السرية ووقت النزول. كما أفادت رواية الدارقطني تعيين أمير السرية "فسألناهم القرى" بكسر القاف مقصوراً الضيافة "فلم يقرونا" أي فلم يضيفونا. قال في القاموس: قرى الضيف قرى بالكسر والفتح والمد أضافخ كاقتراه "فلدغ سيدهم" بضم اللام على البناء للمفعول، واللدغ بالدال المهملة والغين المعجمة، وهو اللسع وزناً ومعنى، وأما اللذع بالذال المعجمة والعين المهملة فهو الإحراق الخفيف، واللدغ المذكور في الحديث هو ضرب ذات الحمة من حية أو عقرب وغيرهما، وأكثر ما يستعمل في العقرب. وقد أفادت رواية الترمذي هذه تعيين العقرب.
فإن قلت: عند النسائي من رواية هشيم أنه مصاب في عقله أو لديغ.
قلت: هذا شك من هشيم، ورواه الباقون أنه لديغ ولم يشكوا، خصوصاً تصريح الأعمش بالعقرب.
فإن قلت: جاء في رواية أبي داود والنسائي والترمذي من طريق خارجة بن الصلت عن عمه أنه مرّ بقوم وعندهم رجل مجنون موثق في الحديد. فقالوا إنك جئت من عند هذا الرجل بخير فارْق لنا هذا الرجل، وفي لفظ عن خارجة بن الصلت عن عمه يعني علاقة بن صحار: أنه رقي مجنوناً موثقاً بالحديد بفاتحة الكتاب ثلاثة أيام كل بوم مرتين فبرأ، فأعطوني مائتي شاة. فأخبرت النبي صلى الله عليه وسلم فقال: "خذهما ولعمري من أكل برقية باطل فقد أكلت برقية حق."
قلت: هما قضيتان لأن الراقي هناك أبو سعيد وهنا علاقة بن صحار وبينهما اختلاف كثير "فأتونا" أي فجاؤونا "فقالوا هل فيكم من يرقى من العقرب؟" قال في القاموس: رقاه رقياً ورقياً نفث في عوذته، وقال فيه العوذة الرقية كالمعاذة والتعويذ انتهى. وفي رواية للبخاري: فلدغ سيد ذلك الحي فسعوا له بكل شيء لا ينفعه شيء. فقال بعضهم لو أتيتم هؤلاء الرهط الذين نزلوا لعله أن يكون عند(6/227)
حتى تُعْطُونَا غَنَماً، قالُوا: فَإِنّا نُعْطِيكُمْ ثَلاَثِينَ شَاةً فَقَبِلْنَا، فَقَرَأْتُ عَلَيِه الْحَمْدَ لله سَبْعَ مَرّاتٍ فَبَرأَ وقَبَضْنَا الغَنَم. قَالَ: فَعَرَضَ في أَنْفُسِنَا مِنْهَا شَيْءٌ، فَقُلْنَا لاَ تَعْجَلُوا حتى تَأْتُوا رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم، قالَ: فَلَمّا قَدِمْنَا عَلَيْهِ ذَكَرْتُ لَهُ الذي صَنَعْتُ، قالَ: وَمَا عَلِمْتَ أَنّهَا رُقَيْةٌ؟ اقْبِضُوا الغَنَمَ وَاضْرِبُوا لي مَعَكُمْ بِسَهْمٍ" .
ـــــــ
بعضهم شيء فأتوهم فقالوا يا أيها الرهط إن سيدنا لدغ وسعينا له بكل شيء لا ينفعه فهل عند أحد منكم من شيء "فقرأت عليه الحمد سبع مرات" وفي رواية للبخاري: فانطلق يتفل عليه ويقرأ الحمد لله رب العالمين. قال الحافظ: يتفل بضم الفاء وبكسرها وهو نفخ معه قليل بزاق. قال ابن أبي حمزة محل التفل في الرقية يكون بعد القراءة لتحصيل بركة القراءة في الجوارح التي يمر عليها الريق فتحصل البركة في الريق الذي يتفله "فبرأ". وفي رواية للبخاري: فكأنما نشط من عقال، فانطلق يمشي وما به قلبة "وما علمت أنها رقية" : أي كيف علمت. وفي رواية البخاري: وما يدريك أنها رقية "واضربوا لي معكم بسهم" أي اجعلوا لي منه نصيباً، وكأنه أراد المبالغة في تأنيسهم كما وقع له في قصة الحمار الوحشي وغير ذلك. وفي الحديث جواز الرقية بشيء من كتاب الله تعالى، ويلحق به ما كان من الدعوات المأثورة، أو مما يشابهها، ولا يجوز بألفاظ مما لا يعلم معناها، من الألفاظ الغير العربية.
قال ابن القيم: إذا ثبت أن لبعض الكلام خواص ومنافع، فما الظن بكلام رب العالمين ثم بالفاتحة التي لم ينزل في القرآن ولا غيره من الكتب مثلها لتضمنها جميع معاني الكتاب، فقد اشتملت على ذكر أصول أسماء الله ومجامعها، وإثبات المعاد وذكر التوحيد، والافتقار إلى الرب في طلب الإعانة به والهداية منه، وذكر أفضل الدعاء وهو طلب الهداية إلى صراطه المستقيم المتضمن كمال معرفته وتوحيده وعبادته بفعل ما أمر به واجتناب ما نهي عنه والاستقامة عليه، ولتضمنها ذكر أصناف الخلائق وقسمتهم إلى منعم عليه لمعرفته بالحق والعمل به ومغضوب عليه لعدوله عن الحق بعد معرفته وشال لعدم معرفته له، مع ما تضمنه من إثبات(6/228)
هذا حديثٌ حسنٌ.
وأبو نَضْرَةَ اسْمُهُ المُنْذِرُ بنُ مَالِكِ بنِ قُطَعَةَ. ورَخّصَ الشّافِعِيّ لِلمُعَلّمِ أَنْ يَأْخُذَ على تَعْلِيمِ القُرْآنِ أَجْراً، ويُرَى لَهُ أَنْ يَشْتَرِطَ على ذلكَ، وَاحْتَجّ بهذا الحَدِيثِ وجَعفر بن إِياس هو جعفر بن أبي وحشية وهو أبو بشرٍ. ورَوَى شُعْبَةُ وَأَبُو عَوَانَةَ وهِشَامِ وَغَيْرُ وَاحِدٍ عن أَبِي بشْر هذا الحديث.
ـــــــ
القدر والشرع والأسماء والصفات والمعاد والتوبة، وتزكية النفس وإصلاح القلب، والرد على جميع أهل البدع، وحقيق بسورة هذا بعض شأنها أن يستشفى بها من كل داء، انتهى ملخصاً.
قوله: "هذا حديث حسن صحيح" وأخرجه الشيخان وأبو داود والنسائي وابن ماجة "ورخص الشافعي للمعلم أن يأخذ على تعليم القرآن أجراً" ، وبه قال مالك وأحمد وإسحاق وأبو ثور وآخرون من السلف ومن بعدهم، ومنعه أبو حنيفة وأجازه في الرقية، قاله النووي في شرح مسلم. وقال الحافظ: قد نقل عياض جواز الاستئجار لتعليم القرآن عن العلماء كافة إلا الحنفية انتهى.
قلت: وقد أجاز المتأخرون من الحنفية أيضاً أخذ الأجرة على تعليم القرآن ويرى أن يعتد الشافعي "له" أي يجوز للمعلم "أن يشترط" أي أخذ الأجرة "على ذلك" أي على تعلم القرآن وقوله: "واحتج بهذا الحديث" الاحتجاج بهذا الحديث على جواز أخذ الأجرة على الرقية واضح، وأما الاحتجاج به على جواز أخذ الأجرة على تعليم القرآن فاعترض عليه القرطبي حيث قال: لا نسلم أن جواز أخذ الأجر في الرقي يدل على جواز التعليم بالأجر انتهى. لم يذكر القرطبي سند للمنع ولا يظهر وجه صحيح لعدم التسليم والله تعالى أعلم. وقد استدل للجمهور بقوله صلى الله عليه وسلم: اذهب فقد أنكحتكها بما معك من القرآن. في حديث سهل بن سعد رواه الشيخان وهذا لفظ البخاري. وفي رواية لمسلم: اذهب فقد زوجتكها فعلمها من القرآن .
واستدل للجمهور أيضاً بحديث ابن عباس: إن أحق ما أخذتم عليه أجراً كتاب الله رواه البخاري. قال الحافظ: استدل به للجمهور في جواز أخذ الأجرة(6/229)
2143 ـ حدّثنا أَبُو مُوسَى محمدُ بنُ المُثَنّى، حدثني عَبْدُ الصّمَدِ بنُ عَبْدِ الوَارِثِ، أخبرنا شُعْبَةُ حدثنا أَبُو بِشْرٍ قالَ: سَمِعْتُ أَبَا المُتَوَكّلِ يُحَدّثُ
ـــــــ
على تعليم القرآن، وخالف الحنفية فمنعوه في التعليم وأجازوه في الرقي كالدواء، قالوا لأن تعليم القرآن عبادة والأجر فيه على الله وهو القياس في الرقى، إلا أنهم أجازوه فيها لهذا الخبر، وحمل بعضهم الأجر في هذا الحديث على الثواب، وسياق للقصة التي في الحديث يأبى هذا التأويل، وادعى بعضهم نسخه بالأحاديث الواردة في الزعيد على أخذ الأجرة على تعليم القرآن. وقد رواها أبو داود وغيره، وتعقب بأنه إثبات للنسخ بالاحتمال وهو مردود وبأن الأحاديث ليس فيها تصريح بالمنع على الإطلاق، بل هي وقائع أحوال محتملة
للتأويل، لتوافق الأحاديث الصحيحة كحديثي الباب "يعني حديث ابن عباس المتقدم آنفاً، وحديث أبي سعيد المذكور في هذا الباب" وبأن الأحاديث المذكورة أيضاً ليس فيها ما تقوم به الحجة فلا تعارض الأحاديث الصحيحة انتهى كلام الحافظ.
وقال الشوكاني في النيل: استدل الجمهور بحديث ابن عباس على جواز أخذ الأجرة على تعليم القرآن، وأجيب عن ذلك بأن المراد بالأجر هنا الثواب، ويرد بأن سياق القصة يأبى ذلك، وادعى بعضهم نسخه الأحاديث السابقة، وتعقب بأن النسخ لا يثبت بمجرد الاحتمال وبأن الأحاديث القاضية بالمنع وقائع أعيان محتملة للتأويل لتوافق الأحاديث الصحيحة كحديثي الباب وبأنها مما لا تقوم به الحجة فلا تقوى على معارضة ما في الصحيح، وقد عرفت مما سلف أنها تنتهض للاحتجاج بها على المطلوب والجمع ممكن إما بحمل الأجر المذكور هنا على الثواب كما سلف وفيه ما تقدم، أو المراد أخذ الأجر على الرقية فقط كما يشعر به السياق فيكون مخصصاً للأحاديث القاضية بالمنع، أو يحمل الإجر هنا على عمومه فيشمل الأجر على الرقية والتلاوة والتعليم، ويخص أخذها على التعليم بالأحاديث المتقدمة ويجوز ما عداه، وهذا أظهر وجوه الجمع فينبغي المصير إليه انتهى.
قلت: الروايات التي تدل على منع أخذ الأجرة على تعليم القرآن ضعاف لا تصلح للاحتجاج، ولو سلم أنها بمجموعها تنتهض للاحتجاج، فالأحاديث التي تدل على الجواز أصح منها وأقوى، ثم إن هذه الروايات وقائع أحوال محتملة(6/230)
عن أَبِي سَعِيدٍ "أَنّ نَاساً مِنْ أَصْحَابِ النبيّ صلى الله عليه وسلم مَرّوا بِحَيّ مِنَ العَرَبِ فَلَمْ يَقْرُوهُمْ وَلَمْ يُضَيّفُوهُمْ، فاشْتَكَى سَيّدُهُمْ فَأَتَوْنَا فَقَالُوا: هِلْ عِنْدَكُمْ دَوَاءٌ؟ قُلْنَا: نَعَمْ وَلَكِنّ لم تَقْروُنَا ولَمْ تُضَيّفُونَا فَلاَ نَفْعَلُ حتى تَجْعَلُوا لَنَا جُعْلاً، فَجَعَلُوا على ذلكَ قَطِيعاً مِنْ غَنَمٍ، قال فَجَعَلَ رَجُلٌ مِنّا يَقْرَأُ عليِه بِفَاتِحَةِ الكِتَابِ فَبَرَأَ، فَلَمّا أَتَيْنَا النبيّ صلى الله عليه وسلم ذَكَرْنَا ذلكَ لَهُ، قالَ: "وَمَا يُدْريِكَ أَنّهَا رُقْيَةٌ؟ وَلَمْ يَذْكُرْ نَهْياً مِنْهُ، وقالَ:
ـــــــ
للتأويل،كما قال الحافظ، فلا حاجة إلى ما ذكره الشوكاني من وجوه الجمع. هذا ما عندي والله تعالى أعلم.
قوله: "مروا بحي من العرب" إعلم أن طبقات أنساب العرب ست: الشعب بفتح الشين: وهو النسب الأبعد، كعدنان مثلاً وهو أبو القبائل الذين ينسبون إليه ويجمع على شعوب، والقبيلة: وهي ما انقسم به الشعب كربيعة ومضر، والعمارة بكسر العين: وهي ما انقسم فيه أنساب القبيلة كقريش وكنانة ويجمع على عمارات وعمائر، والبطن. وهي ما انقسم فيه أنساب العمارة كبني عبد مناف وبني مخزوم ويجمع على بطون وأبطن، والفخد: وهي ما انقسم فيه أنساب البطن كبني هاشم وبني أمية ويجمع على أفخاذ، والفصيلة بالصاد المهملة: وهي ما انقسم فيه أنساب الفخد كبني العباس. وأكثر ما يدور على الألسنة من الطبقات القبيلة ثم البطن، وربما عبر عن كل واحد من الطبقات الست بالحي، إما على العموم مثل أن يقال حي من العرب وإما على الخصوص مثل أن يقال حي من بني فلان. وقال الهمداني في الأنساب: الشعب والحي بمعنى "حتى تجعلوا لنا جعلاً" بضم الجيم وسكون المهملة ما يعطى على عمل "فجعلوا على ذلك قطيعاً من غنم" قال ابن التين: القطيع الطائفة من الغنم، وتعقب بأن القطيع هو الشيء المتقطع من غنم كان أو غيرها، وقال بعضهم إن الغالب استعماله فيما بين العشرة والأربعين، ووقع في رواية الأعمش: فإنا نعطيكم ثلاثين شاة. وهو مناسب لعدد السرية كما تقدم وكأنهم اعتبروا عددهم فجعلوا الجعل بإزائه "وما يدريك" هي كلمة تقال عند التعجب من الشيء وتستعمل في تعظيم الشيء أيضاً وهو لائق هنا، قاله الحافظ. وفي رواية بعد قوله:(6/231)
كُلُوا وَاضْرِبُوا لي مَعَكُمْ بِسَهْمٍ" .
هذا حديثٌ صحيحٌ. وهذا أصَحّ مِنْ حَدِيثِ الأَعْمَشِ عن جَعْفَرِ بنِ إِياسٍ. وهكذَا رَوَى غَيْرُ وَاحِدِ هذا الْحَدِيثَ عن أَبِي بِشْرٍ جَعْفَرِ بنِ أَبِي وَحْشِيّةّ عن أَبِي المُتَوَكّلِ عن أَبِي سَعِيدٍ.
وَجَعْفَرُ بنُ إِيَاسٍ هُوَ جَعْفَرُ بنُ أَبِي وَحْشِيّةّ.
ـــــــ
وما يدريك أنها رقية؟ قلت: ألقي في روعي والدارقطني: فقلت يا رسول الله شيء ألقي في روعي "ولم يذكر نهياً منه" أي من النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك.
قوله: "وهذا" أي حديث شعبة عن أبي بشر عن أبي المتوكل عن أبي سعيد "أصح من حديث الأعمش عن جعفر بن إياس" قال الحافظ في الفتح بعد نقل كلام الترمذي هذا. وقال ابن ماجة إنها يعني طريق شعبة الصواب، ورجحها الدارقطني في العلل ولم يرجح في السنن شيئاً وكذا النسائي، والذي يترجح في نقدي أن الطريقين محفوظان لاشتمال طريق الأعمش على زيادات في المتن ليست في رواية شعبة ومن تابعه فكأنه كان عند أبي بشر عن شيخين فحدث به تارة عن هذا وتارة عن هذا، ولم يصب ابن العربي في دعواه أن هذا الحديث مضطرب، فقد رواه عن أبي سعيد أيضاً معبد بن سيرين، كما سيأتي في فضائل القرآن، وسليمان بن قتة كما أخرجه أحمد والدارقطني انتهى(6/232)
باب ما جاء في الرقى و الأدوية
...
20 ـ باب ما جاَءَ في الرّقَى وَالأَدْوِيَة
2144 ـ حَدّثنا ابنُ أَبِي عُمَرَ، حدثنا سُفْيَانُ عن الزّهْرِيّ، عن أَبِي خِزَامَةَ عن أَبِيِه قالَ: "سَأَلْتُ رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم فَقلت:
ـــــــ
"باب ما جاء في الرقى والأدوية"
قوله: "عن أبي خزامة عن أبيه" اسمه يعمر. قال الذهبي في تجريد أسماء الصحابة: يعمر السعدي سعد هذيم والد أبي خزامة أنه قال: أرأيت دواء نتداوى به أو رقي نسترقي بها هل يرد ذلك من قدر الله انتهى.(6/232)
يا رسولَ الله أَرَأَيْتَ رُقَى نَسْتَرْقِيهَا وَدَوَاءً نَتَدَاوَى بِهِ وَتُقَاةً نَتّقِيهَا، هل تَرُدّ مِدنْ قَدَرِ الله شَيْئاً؟ قالَ: هِيَ مِنْ قَدَرِ الله".
هذا حديثٌ حسنٌ صحيحٌ.
2145 ـ حدّثنا سَعِيدُ بنُ عَبْدِ الرحمنِ، حدثنا سُفْيَانُ عن الزّهْرِيّ عن ابنِ أَبِي خِزَامَةَ عن أَبِيِه عن النبيّ صلى الله عليه وسلم نَحْوَهُ وهذا حديثٌ حسنٌ صحيحٌ. وقد رُوِيَ عن ابنِ عُيَيْنَةَ كِلاَ الرّوَايَتَيْنِ، وقالَ بَعْضُهُمْ عن أَبِي خِزَامَةَ عن أَبِيِه، وقالَ بَعْضُهُمْ عن ابنِ أَبِي خِزَامَةَ عن أَبِيِه وقالَ بعضهم عن أَبِي خزامة وقد روى غير ابنِ عيينة هذا الحَديثَ عن الزّهْرِيّ عن أَبِي خِزَامَةَ عن أَبِيِه وَهذَا أَصَحّ، ولا نَعْرِفُ لأَبي خِزَامَةَ عن أَبِيِه غَيْرَ هذا الْحَدِيثِ.
ـــــــ
قوله: "أرأيت رقي نسترقيها إلخ" يأتي هذا الحديث في باب: لا ترد الرقى والدواء من قدر الله شيئاً من أبواب القدر. ويأتي هناك شرحه.
قوله: "عن ابن أبي خزامة" مجهول كما في التقريب وغيره "وقد روى عن ابن عيينة كلتا الروايتين" يعني عن أبي خزامة عن أبيه وابن أبي خزامة عن أبيه(6/233)
باب ما جاء في الكمأة و العجوة
...
21 ـ باب ما جاءَ في الكَمْأَة والعَجْوَة
2146 ـ حَدّثنا أَبُو عُبَيْدَةَ أحمد بن عَبْدِ الله الهمداني وهو ابن أَبِي السّفَرِ و محمودُ بنُ غَيْلاَنَ، قالا:
ـــــــ
" باب ما جاءَ في الكَمْأَة والعَجْوَة"
الكمأة بفتح الكاف وسكون الميم بعدهما همزة مفتوحة، قال الخطابي: وفي العامة من لا يهمزه، واحدة الكمأة بفتح ثم سكون ثم همزة مثل تمرة وتمر. وعكس ابن الأعرابي فقال الكمأة الجمع والكمأ الواحد على غير قياس، قال: ولم يقع في كلامهم نظير هذا سوى خبأة وخبء، وقيل الكمأة قد تطلق على الواحد وعلى الجمع وقد جمعوها على أكمؤ. قال الشاعر:
ولقد جنيتك أكمؤاً وعساقلاً
...
والعساقل بمهملتين وقاف ولام الشراب، وكأنه أشار إلى أن الأكمؤ محل وجدانها الفلوات، والكمأة نبات لا ورق لها ولا ساق توجد في الأرض من غير أن تزرع،(6/233)
حدثنا سَعِيدُ بنُ عَامِرٍ، عن محمدِ بنِ عَمْرٍو، عن أَبِي سَلَمَةَ عن أَبي هُرَيْرَةَ قالَ: قالَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم: "العَجْوَةُ مِنَ الْجَنّةِ، وفِيهَا شِفَاءٌ مِنَ السّمّ. والكَمأَةُ مِنَ المَنّ وَمَاؤُهَا شِفَاءٌ لِلعَيْنِ".
ـــــــ
والعرب تسمى الكمأة أيضاً نبات الرعد لأنها تكثر بكثرته ثم تنفطر عنها الأرض وهي كثيرة بأرض العرب وتوجد بالشام ومصر، فأجودها ما كانت أرضه رملة قليلة الماء، ومنها صنف قتال يضرب لونه إلى الحمرة وهي باردة رطبة في الثانية رديئة للمعدة بطيئة الهضم، وإدمان أكلها يورث القولنج والسكتة والفالج وعسر البول، والرطب منها أقل ضرراً من اليابس، وإذا دفنت في الطين الرطب ثم سلقت بالماء والملح والسعتر وأكلت بالزيت والتوابل الحارة، قل ضررها، ومع ذلك ففيها جوهر مائي لطيف بدليل خفتها، فلذلك كان ماؤها شفاء للعين كذا في الفتح. ويقال للكمأة بالفارسية سماروغ كهمبي. والعجوة بفتح العين وسكون الجيم نوع من التمر الجياد بالمدينة المنورة
قوله: "حدثنا سعيد بن عامر" هو الضبعي أبو محمد البصري.
قوله: "العجوة" هي نوع من تمر المدينة يضرب إلى السواد من غرس للنبي صلى الله عليه وسلم كذا في النهاية "من الجنة". قال المناوي: يعني هذه العجوة تشبه عجوة الجنة في الشكل والاسم لا في اللذة والطعم انتهى. والمقصود بيان فضل العجوة على سائر أنواع التمر لأنها من أنفع تمر الحجاز على الإطلاق، وهو صنف كريم ملذذ متين للجسم والقوة من ألين التمر وأطيبه وألذه "وفيها شفاء من السم" إما لخاصة هذا النوع أو ببركة دعائه صلى الله عليه وسلم "والكمأة من المن". قال النووي: اختلف في معناه، فقال أبو عبيد وكثيرون شبهها بالمن الذي كان ينزل على بني إسرائيل لأنه كان يحصل لهم بلا كلفة ولا علاج، والكمأة تحصل بلا علاج ولا كلفة ولا زرع بزر ولا سقي ولا غيره، وقيل هي من المن الذي أنزل الله تعالى على بني إسرائيل حقيقة عملاً بظاهر اللفظ انتهى "وماؤها شفاء للعين" : أي شفاء لداء العين، في شرح مسلم للنووي. قيل هو نفس الماء مجرداً. وقيل معناه أن يخلط ماؤها بدواء ويعالج به العين، وقيل إن كان لتبريد ما في العين(6/234)
وفي البابِ عن سَعِيدِ بنِ زَيْدٍ وَأَبِي سَعِيدٍ وَجَابرٍ.
وهذا حديثٌ حسنٌ غريبٌ وهو مِنْ حَدِيثِ محمدِ بنِ عمرٍو ولا نَعْرِفُهُ مِنْ حَدِيثِ محمد بن عمرٍو إلا من حديث سعيد بن عامر.
2147 ـ حدّثنا أَبُو كُرَيْبٍ، حدثنا عُمَرُ بنُ عُبَيْدٍ الطّنَافِسيّ، عن عَبْدِ المَلِكِ بنِ عُمَيْرٍ، وحدثنا محمدُ بنُ المُثَنّى، حدثنا محمدُ بنُ جَعْفَرٍ، حدثنا شُعْبَةُ عن عَبْدِ المَلِكِ بنِ عُمَيْرٍ عن عَمْرو بنِ حُرَيْثٍ عن سَعِيدِ بنِ زَيْدٍ عن النبيّ صلى الله عليه وسلم قالَ: "الكَمأَةُ مِنَ المَنّ وَمَاؤُهَا شِفَاءٌ لِلعَيْنِ" .
ـــــــ
من حرارة فماؤها مجرداً شفاء، وإن كان لغير ذلك فمركب مع غيره، والصحيح بل الصواب أن ماءها مجرداً شفاء للعين مطلقاً. فيعصر ماؤها ويجعل في العين منه. وقد رأيت أنا وغيري في زمننا من كان عمي وذهب بصره حقيقة، فكحل عينه بماء الكمأة مجرداً فشفي وعاد إليه بصره، وهو الشيخ العدل الأمين الكمال بن عبد الله الدمشقي صاحب صلاح ورواية للحديث، وكان استعماله لماء الكمأة اعتقاداً في الحديث وتبركاً به انتهى.
قوله: "وفي الباب عن سعيد بن زيد وأبي سعيد وجابر" أما حديث سعيد ابن زيد فأخرجه الترمذي بعد هذا. وأما حديث أبي سعيد وحديث جابر فأخرجهما أحمد والنسائي وابن ماجة.
قوله: "هذا حديث حسن غريب" وأخرجه أحمد وابن ماجة.
قوله: "عن عبد الملك بن عمير" هو اللخمي الكوفي "عن عمرو بن حريث" ابن عمرو بن عثمان بن عبد الله بن عمرو بن مخزوم القرشي المخزومي، صحابي صغير، مات سنة خمس وثمانين "عن سعيد بن زيد" قال في الخلاصة: سعيد بن زيد بن عمرو بن نفيل العدوي أحد العشرة المشهود لهم بالجنة والمهاجرين الأولين، شهد المشاهد كلها بعد بدر، وذكره البخاري فيمن شهد بدراً في الصحيح، وقال الأكثرون لم يشهدها، له ثمانية وثلاثون حديثاً اتفقا على حديثين وانفرد البخاري بآخر، وعنه عمرو بن حريث وعروة وأبو عثمان النهدي، تخلف عن بدر فضرب(6/235)
هذا حديثٌ حسنٌ صحيحٌ.
2148 ـ حدّثنا محمدُ بنُ بَشّارٍ، حدثنا مُعَاذُ بنُ هِشَامٍ، حدثنا أَبِي عن قَتَادَةَ عن شَهْرِ بنِ حَوْشَبٍ عن أَبي هُرَيْرَةَ: "أَنّ نَاساً مِنْ أَصْحَابِ النبيّ صلى الله عليه وسلم قالُوا: الكمْأَةُ جُدَرِيّ الأرضِ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: الكَمأَةُ مِنَ المَنّ، وَمَاؤُهَا شِفَاءٌ لِلعَيْنِ، والعَجْوَةُ مِنَ الْجَنّةِ وَهِيَ شِفَاءٌ مِنَ السّمّ".
هذا حديثٌ حسنٌ.
ـــــــ
له النبي صلى الله عليه وسلم بسهم. روى ذلك من طرق. قال خليفة مات سنة إحدى وخمسين. قال الواقدي بالعقيق فحمل إلى المدينة انتهى.
قوله: "هذا حديث حسن صحيح" وأخرجه البخاري في التفسير والطب، وأخرجه مسلم في الأطعمة، والنسائي في الطب والوليمة والتفسير، وابن ماجة في الطب.
قوله: "قالوا الكمأة جدري الأرض" بضم جيم وفتح دال وكسر راء وتشديد ياء هو حب يظهر في جسد الصبي من فضلات تتضمن المضرة تدفعها الطبيعة ويقال له بالهندية جيجك. قال الطيبي: شبهوها به في كونها فضلات تدفعها الأرض إلى ظاهرها ذماً لها "فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: الكمأة من المن وماؤها شفاء للعين". قال الطيبي: كأنهم لما ذموها وجعلوها من الفضلات التي تتضمن المضرة وتدفعها الأرض إلى ظاهرها، كما تدفع الطبيعة الفضلات بالجدري، قابله صلى الله عليه وسلم بالمدح بأنه من المن أي مما منّ الله به عباده، أو شبهها بالمن وهو العسل الذي ينزل من السماء، إذ يحصل بلا علاج واحتياج إلى بذر وسقي، أي ليست بفضلات، بل من فضل الله ومنه، أو ليست مضرة بل شفاء كالمن النازل انتهى.
قوله: "هذا حديث حسن". وأخرجه ابن ماجة والطبراني، من طريق ابن المنكدر عن جابر قال: كثرت الكمأة على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم(6/236)
2149 ـ حدّثنا محمدُ بنُ بَشّارٍ، حدثنا مُعَاذٌ، حدثني أَبِي عنْ قَتَادَةَ قالَ: "حُدّثْتُ أَنّ أَبَا هُرَيْرَةَ قالَ: أَخَذْتُ ثَلاَثَةَ أَكْمُؤٍ أَوْ خَمْساً أَو سَبْعاً فَعَصَرْتُهُنّ فَجَعَلْتُ مَاءَهُنّ في قَارُورَةٍ فَكَحَلْتُ بِه جَارِيَةً لِي فَبَرَأَتْ".
2150 ـ حدّثنا محمدُ بنُ بَشّارٍ، حدثنا مُعَاذٌ بنُ هِشَامٍ، حدثنا أَبِي عن قَتَادَةَ قالَ: "حُدّثْتُ أَنّ أَبَا هُرَيْرَةَ قالَ: الشّونِيزُ دَوَاءٌ مِنْ كُلّ دَاءِ إِلاّ السّامَ. قالَ قَتَادَةُ: يأْخُذُ كُلّ يَوْمٍ إِحْدى وَعِشْرِينَ حَبّةً فَيَجْعَلُهُنّ
ـــــــ
فامتنع قوم من أكلها وقالوا هي جدري الأرض، فبلغه ذلك فقال: إن الكمأة ليست من جدري الأرض لا إن الكمأة من المن. كذا في الفتح.
قوله: "حدثت" بصيغة المتكلم المجهول من الحديث فيه انقطاع "أخذت ثلاثة أكمؤ" بفتح فسكون فضم ميم فهمز أي ثلاثة أشخص منها "أو خمساً أو سبعاً" كذا في بعض النسخ بالألف وهو الظاهر، ووقع في النسخة الأحمدية أو خمس أو سبع بغير الْالف، ولا يظهر له وجه إلا بالتكلف فتفكر "فعصرتهن" : أي في وعاء "فبرأت" بفتح الراء ويكسر أي شفيت. وحديث أبي هريرة هذا موقوف وفيه انقطاع.
"الشونيز" بضم المعجمة وسكون الواو وكسر النون وسكون التحتانية بعدها زاي وقال القرطبي: قيد بعض مشائخنا الشين بالفتح. وحكى عياض عن ابن الأعرابي أنه كسرها فأبدل الواو ياء فقال: الشينيز كذا في الفتح. وقال في القاموس: الشينيز والشونوز والشونيز والشهنيز الحبة السوداء أو فارسي الأصل انتهى. ويقال له بالهندية كلونحي "دواء من كل داء" قيل أي من كل داء من الرطوبة والبلغم وذلك لأنه حار يابس فينفع في الأمراض التي تقابله فهو من العام المخصوص، وقيل هو على عمومه أنه يدخل في كل داء بالتركيب. قال الكرماني: وممّا يدل على تعيين العموم الاستثناء بقوله "إلا السام" بسين مهملة ثم ألف وميم مخففة أي الموت فإنه لا دواء له، وهذا أيضاً موقوف وفيه انقطاع "قال قتادة"(6/237)
في خِرْقَةٍ فَيَنْقَعُهُ فَيَسْتَعِطْ بِه كُلّ يَوْمٍ في مَنْخَرِهِ الأَيْمَنِ قَطْرَتَيْنِ وَالأَيْسَرِ قَطْرَة، والثّانِي فِي الأَيْسَرِ قَطْرَتَيْنِ وفي الأَيْمَنِ قَطْرَةً، والثّالِثُ في الأَيْمَنِ قَطْرَتَيْنِ وَفِي الأَيْسِرِ قَطْرَةً".
ـــــــ
أي في كيفية استعمال الشونيز "فينقعه" أي فيلقيه في الماء ليبتل "فيستعط به" قال في القاموس: سعطه الدواء كمنعه ونصره وأسعطه إياه سعطة واحدة وإسعاطة واحدة أدخله في أنفه فاستعط انتهى "في منخره الأيمن" في القاموس المنخر بفتح الميم والخاء وبكسرهما وضمهما وكمجلس ثقب الأنف "والثاني" أي اليوم الثاني "والثالث" أي اليوم الثالث. وقول قتادة: هذا ليس من مجرد رأيه بل ورد فيه حديث مرفوع، وقد أشار إليه الترمذي في باب الحبة السوداء، وذكرنا لفظه هناك(6/238)
22ـ باب ماَ جَاءَ في أَجْرِ الكاهِن
2151 ـ حَدّثنا قُتَيْبَةُ، حدثنا الّليْثُ عن ابنِ شِهَابٍ عن أَبِي بَكْرِ بنِ عَبْدِ الرحمنِ عن أَبِي مَسْعُودٍ الأَنْصَاري قالَ: "نَهَى رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم عن ثَمَنِ الكَلْبِ، ومَهْرِ البَغيّ، وَحُلْوَانِ الكَاهِنِ".
هذا حديثٌ حسنٌ صحيحٌ.
ـــــــ
"باب ما جاء في أجر الكاهن"
قوله: "نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ثمن الكلب الخ" قد تقدم هذا الحديث بإسناده ومتنه مع شرحه في باب كراهية مهر البغي من أبواب النكاح وفي باب ثمن الكلب من أبواب البيوع(6/238)
23 باب مَا جَاءَ في كَرَاهِيَةِ التّعْلِيق
2152 ـ حَدّثنا محمدُ بنُ مَدّويِه، حدثنا عُبَيْدُ الله بن موسى عن محمد بن عبد الرحمن بنِ أَبِي لَيْلَى
ـــــــ
"باب ما جاء في كراهية التعليق"
قوله: "حدثنا عبيد الله" هو ابن موسى العبسي مولاهم الكوفي "عن ابن(6/238)
25 ـ باب مَا جَاءَ في تَبْرِيدِ الحُمّى بِالمَاء
2154 ـ حَدّثنا هَنّادٌ، أخبرنا أَبُو الأَحْوَصِ عن سَعِيدِ بنِ مَسْرُوقٍ عن عَبَايَةَ بنِ رِفَاعَةَ، عن جَدّهِ رَافِعِ بنِ خَدِيجٍ، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم قالَ: "الْحُمّى فَوْرٌ مِنَ النّارِ فَابْرُدُوهَا بِالمَاءِ".
ـــــــ
"باب ما جاء في تبريد الحمى بالماء"
قوله: "أخبرنا أبو الأحوص" اسمه سلام بن سليم الحنفي مولاهم الكوفي، "عن سعيد بن مسروق" هو والد سفيان الثوري "هو عباية" بفتح أوله والموحدة الخفيفة وبعد الألف تحتانية خفيفة "بن رفاعة" بكسر راء وخفة فاء وإهمال عين، ابن رافع بن خديج الأنصاري الزرقي كنيته أبو رفاعة، المدني ثقة من الثالثة "عن جده رافع بن خديج" بفتح معجمة وكسر دال مهملة وبجيم ابن رافع بن عدى الأوسي الأنصاري صحابي جليل، أول مشاهده أحد ثم الخندق، روى عنه ابنه عبد الرحمن وابنه رفاعة على خلاف فيه، وحفيده عباية بن رفاعة وغيرهم، كذا في التقريب وتهذيب التهذيب.
قوله: "الحمى فور من النار" بفتح الفاء وسكون الواو وبالراء، وفي رواية: الحمى من فيح جهنم بفتح الفاء وسكون التحتانية بعدها مهملة، وفي أخرى: من(6/241)
ـــــــ
فوح بالواو بدل التحتانية. قال الحافظ: كلها بمعنى والمراد سطوع حرها ووهجه. واختلف في نسبة الحمى إلى جهنم، فقيل حقيقة واللهب الحاصل في جسم المحموم قطعة من جهنم، وقدر الله ظهورها بأسباب تقتضيها ليعتبر العباد بذلك، كما أن أنواع الفرح واللذة من نعيم الجنة أظهرها في هذه الدار عبرة ودلالة وقد جاء في حديث أخرجه البزار من حديث عائشة بسند حسن وفي الباب عن أبي أمامة عند أحمد وعن أبي ريحانة عند الطبراني، وعن ابن مسعود في مسند الشهاب: الحمى حظ المؤمن من النار، وهذا كما تقدم في حديث الأمر بالإبراد أن شدة الحر من فيح جهنم، وأن الله أذن لها بنفسين. وقيل بل الخبر ورد مورد التشبيه. والمعنى أن حر الحمى شبيه بحر جهنم تنبيهاً للنفوس على شدة حر النار، وأن هذه الحرارة الشديدة شبيهة بفيحها، وهو ما يصيب من قرب منها من حرها كما قيل بذلك في حديث الإبراد والأول أولى انتهى.
قوله: "فأبردوها" قال الحافظ: المشهور في ضبطها بهمزة وصل والراء مضمومة، وحكى كسرها، يقال: بردت الحمى أبردها برداً بوزن قتلتها أقتلها قتلاً أي اسكنت حرارتها. قال شاعر الحماسة:
إذا وجدت لهيب الحب في كبدي
...
أقبلت نحو سقاء القوم أبترد
هبني بردت ببرد الماء ظاهره
...
فمن لنار على الأحشاء تتقد
وحكى عياض رواية بهمزة قطع مفتوحة وكسر الراء من أبرد الشيء إذا عالجة فصيره بارداً مثل أسخنه إذا صيره سخناً، وقد أشار إليها الخطابي، وقال الجوهري: إنها لغة رديئة انتهى. ووقع في حديث ابن عمر في رواية فأطفئوها بهمزة قطع ثم طاء مهملة وفاء مكسورة ثم همزة أمر، من الإطفاء. "بالماء" قال الخطابي ومن تبعه: اعترض بعض سخفاء الأطباء على هذا الحديث بأن قال اغتسال المحموم بالماء خطر يقربه من الهلاك لأنه يجمع المسام ويحقن البخار ويعكس الحرارة إلى داخل الجسم فيكون ذلك سبباً للتلف، قال الخطابي غلط بعض من ينسب إلى العلم فانغمس في الماء لما أصابته الحمى فاحتقنت الحرارة في باطن بدنه فأصابته علة صعبة كادت تهلكه، فلما خرج من علته قال قولاً سيئاً لا يحسن ذكره، وإنما أوقعه في ذلك جهله بمعنى الحديث. والجواب: أن هذا الإشكال صدر عن صدر مرتاب في صدق الخبر، فيقال له أولاً من أين حملت(6/242)
ـــــــ
الأمر على الاغتسال وليس في الحديث الصحيح بيان الكيفية فضلاً عن اختصاصها بالغسل، وإنما في الحديث الإرشاد إلى تبريد الحمى بالماء فإن أظهر الوجود أو اقتضت صناعة الطب أن إنغماس كل محموم في الماء أو صبه إياه على جميع بدنه يضره فليس هو المراد، وإنما قصد صلى الله عليه وسلم استعمال الماء على وجه ينفع فليبحث عن ذلك الوجه ليحصل الانتفاع به، وهو كما وقع في أمره العائن بالاغتسال وأطلق، وقد ظهر من الحديث الاَخر أنه لم يرد مطلق الاغتسال وإنما أراد الاغتسال على كيفية مخصوصة، وأولى ما يحمل عليه كيفية تبريد الحمى ما صنعته أسماء بنت الصديق فإنها كانت ترش على بدن المحموم شيئاً من الماء بين يديه وثوبه فيكون ذلك من باب النشرة المأذون فيها، والصحابي ولا سيما مثل أسماء التي هي ممن كان يلازم بيت النبي صلى الله عليه وسلم أعلم بالمراد من غيرها.
قلت: يأتي لفظ حديث أسماء بنت أبي بكر رضي الله تعالى عنها في هذا الباب. وقال المازري: لا شك أن علم الطب من أكثر العلوم احتياجاً إلى التفصيل حتى إن المريض يكون الشيء دواءه في ساعة ثم يصير داء له في الساعة التي تليها لعارض يعرض له من غضب يحمي مزاجه مثلاً فيتغير علاجه ومثل ذلك كثير. فإذا فرض وجود الشفاء لشخص بشيء في حالة ما لم يلزم منه وجود الشفاء به له أو لغيره في سائر الأحوال. والأطباء مجمعون على أن المرض الواحد يختلف علاجه باختلاف السن والزمان والعادة والغذاء المتقدم والتأثير المألوف وقوة الطباع، ثم ذكر نحو ما تقدم. قالوا وعلى تقدير أن يرد التصريح بالاغتسال في جميع الجسد فيجاب بأنه يحتمل أن يكون أراد أنه يقع بعد إقلاع الحمى وهو بعيد. ويحتمل أن يكون في وقت مخصوص بعدد مخصوص فيكون من الخواص التي اطلع صلى الله عليه وسلم عليها بالوحي، ويضمحل عند ذلك جميع كلام أهل الطب. وقد أخرج الترمذي من حديث ثوبان مرفوعاً: إذا أصاب أحدكم الحمى فإن الحمى قطعة من النار فليطفئها عنه بالماء فليستنفع في نهر جار فليستقبل جريته الحديث، وفيه وليغمس فيه ثلاث غمسات ثلاثة أيام، فإن لم يبرأ في ثلاث فخمس، فإن لم يبرأ في خمس فسبع، فإن لم يبرأ في سبع فتسع فإنها لا تكاد تجاوز تسعاً بإذن الله. قال ويحتمل أن يكون لبعض الحميات دون بعض في بعض الأماكن(6/243)
ـــــــ
دون بعض، لبعض الأشخاص دون بعض، وهذا أوجه، فإن خطابه صلى الله عليه وسلم قد يكون عاماً وهو الأكثر، وقد يكون خاصاً كما قال: لا تستقبلوا القبلة بغائط ولا بول ولكن شرقوا أو غربوا، فقوله: شرقوا أو غربوا ليس عاماً لجميع أهل الأرض بل هو خاص لمن كان بالمدينة النبوية وعلى سمتها فكذلك هذا يحتمل أن يكون مخصوصاً بأهل الحجاز وما والاهم إذ كان أكثر الحميات التي تعرض لهم من العرضية الحادثة عن شدة الحرارة وهذه ينفعها الماء البارد شرباً واغتسالاً، لأن الحمى حرارة غريبة تشتعل في القلب وتنتشر منه بتوسط الروح والدم في العروق إلى جميع البدن، وهي قسمان عرضية: وهي الحادثة عن ورم أو حركة أو إصابة حرارة الشمس أو القيظ الشديد ونحو ذلك، ومرضية: وهي ثلاثة أنواع وتكون عن مادة ثم منها ما يسخن جميع البدن، فإن كان مبدأ تعلقها بالروح فهي حمى يوم لأنها تقع غالباً في يوم ونهايتها إلى ثلاث، وإن كان تعلقها بالأعضاء الأصلية فهي حمى دق وهي أخطرها، وإن كان تعلقها بالأخلاط سميت عفنية وهي بعدد الأخلاط الأربعة. وتحت هذه الأنواع المذكورة أصناف كثيرة بسبب الإفراد والتركيب. وإذا تقرر هذا فيجوز أن يكون المراد النوع الأول فإنها تسكن بالانغماس في الماء البارد وشرب الماء المبرد بالثلج وبغيره، ولا يحتاج صاحبها إلى علاج آخر. وقد قال جالينوس في كتاب حيلة البرء: لو أن شاباً حسن اللحم خصب البدن ليس في أحشائه ورم استحم بماء بارد أو سبح فيه وقت القيظ عند منتهى الحمى لإنتفع بذلك. وقال أبو بكر الرازي: إذا كانت القوى قوية والحمى حادة والنضج بين ولا ورم في الجوف ولا فتق فإن الماء البارد ينفع شربه، فإن كان العليل خصب البدن والزمان حار أو كان معتاداً باستعمال الماء البارد اغتسالاً فليؤذن له فيه. وقد نزل ابن القيم حديث ثوبان على هذه القيود، فقال هذه الصفة تنفع في فصل الصيف في البلاد الحارة في الحمى العرضية أو الغب الخالصة التي لا ورم معها ولا شيء من الأعراض الرديئة والمواد الفاسدة فيطفئها بإذن الله، فإن الماء في ذلك الوقت أبرد ما يكون لبعده عن ملاقاة الشمس ووفور القوى في ذلك الوقت لكونه عقب النوم والسكون وبرد الهواء. قال: والأيام التي أشار إليها هي التي يقع فيها بحران الأمراض الحادة غالباً ولا سيما في البلاد الحارة.(6/244)
وفي البابِ عن أَسْمَاءَ بِنْتِ أَبِي بَكْرٍ، وَابنِ عُمَرَ، وابنِ عَبّاسٍ، وَامْرَأَةِ الزّبَيْرِ وَعَائِشَةَ.
2155 ـ حدّثنا هَارُونُ بنُ إِسْحَاقَ الهَمَدَانِيّ، أخبرنا عَبْدَةُ بنُ سُلَيْمَانَ عن هِشَامِ بنِ عُرْوَةَ عن أَبِيِه عن عَائِشَةَ: أَنّ رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم قالَ: "إِنّ الْحُمّى مِنْ فَيْحِ جَهَنّمَ فَابْرُدُوهَا بِالمَاءِ" .
ـــــــ
تنبيه: قال ابن القيم قوله بالماء فيه قولان أحدهما أنه كل ماء وهو الصحيح، والثاني أنه ماء زمزم، واحتج أصحاب هذا القول بما رواه البخاري في صحيحه عن أبي جمرة نضر بن عمران الضبعي قال: كنت أجالس ابن عباس بمكة فأخذتني الحمى فقال إبردها عنك بماء زمزم فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: إن الحمى من فيح جهنم فأبردوها بالماء أو قال بماء زمزم ، راوي هذا قد شك فيه ولو جزم به لكان أمراً لأهل مكة بماء زمزم إذ هو متيسر عندهم ولغيرهم بما عندهم من الماء. ثم اختلف من قال إنه على عمومه هل المراد به الصدقة بالماء أو استعماله على قولين، والصحيح أنه استعماله، وأظن أن الذي حمل من قال المراد الصدقة به أنه أشكل عليه استعمال الماء البارد في الحمى ولم يفهم وجهه، مع أن لقوله وجهاً حسناً وهو أن الجزاء من جنس العمل، فكما أخمد لهيب العطش عن الظمآن بالماء البارد أخمد الله لهيب الحمى عنه جزاء وفاقا. ولكن يؤخذ هذا من فقه الحديث وإشارته، وأما المراد به فاستعماله انتهى.
وحديث رافع بن خديج هذا أخرجه أيضاً أحمد والشيخان والنسائي وابن ماجة.
قوله: "وفي الباب عن أسماء بنت أبي بكر وابن عمر وابن عباس وامرأة الزبير وعائشة" أما حديث أسماء فأخرجه الترمذي في هذا الباب. وأما حديث ابن عمر فأخرجه أحمد والشيخان والنسائي وابن ماجة. وأما حديث ابن عباس فأخرجه البخاري وقد تقدم لفظه. وأما حديث إمرأة الزبير فلينظر من أخرجه. وأما حديث عائشة فأخرجه الترمذي بعد هذا.
قوله: "حدثنا عبدة بن سليمان" هو الكلابي.
قوله: "إن الحمى من فيح جهنم" الفيح سطوع الحر وفورانه ويقال بالواو،(6/245)
2156 ـ حدّثنا هَارُونُ بنُ إِسْحَاقَ، حدثنا عَبْدَةُ عن هِشَامِ بنِ عُرْوَةَ عن فَاطِمَةَ بِنْتِ المُنْذِرِ، عن أَسْمَاءَ بِنْتِ أَبِي بَكْرٍ، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم نَحْوَهُ.
وفي حديثِ أَسْمَاءَ كَلاَمٌ أَكْثَرُ مِنْ هذا، وَكِلاَ الْحَدِيثَيْنِ صحيحٌ.
2157 ـ حَدّثنا محمدُ بْن بَشّارٍ، حدثنا أَبو عَامِرٍ العَقَدِيّ، حدثنا إِبْرَاهيمُ بنُ إِسْمَاعِيلَ بنِ أَبِي حَبِيبَةَ، عن دَاوُدَ بنِ حُصَيْنٍ، عن عِكْرِمَةَ عن ابنِ عَبّاسٍ "أَنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم كَانَ يُعَلّمُهُمْ مِنَ الْحُمّى وَمِنَ الأَوْجَاعِ كُلّهَا أَنْ يَقُولَ: بِسمِ الله الكَبِيِر، أَعُوذُ بِالله العَظيِمِ مِنْ شَرّ كُلّ عِرْقٍ نَعّارٍ، وَمِنْ شَرّ حَرّ النّارِ" .
ـــــــ
وفاحت القدر تفيح وتفوح إذا غلت كذا في النهاية.
قوله: "عن فاطمة بنت المنذر" بن الزبير بن العوام الأسدية، زوجة هشام بن عروة روت عن جدتها أسماء بنت أبي بكر وغيرها، وعنها زوجها هشام بن عروة وغيره، ثقة من الثالثة، كذا في التقريب وتهذيب التهذيب "عن أسماء بنت أبي بكر" الصديق، زوج الزبير بن العوام وكانت تسمى ذات النطاقين.
قوله: "وفي حديث أسماء كلام أكثر من هذا" روى الشيخان عن فاطمة عن أسماء هذا الحديث مطولاً ولفظه عند مسلم: أنها كانت تؤتى بالمرأة الموعوكة فتدعو بالماء فتصبه في جيبها وتقول إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال ابردوها بالماء، وقال إنها من فيح جهنم. فأشار الترمذي بقوله: وفي حديث أسماء كلام أكثر من هذا إلى ما في هذا الحديث من الزيادة "وكلا الحديثين صحيح" أخرجهما الشيخان.
قوله: "حدثنا إبراهيم بن إسماعيل بن أبي حبيبة" الأنصاري الأشهلي مولاهم أبو إسماعيل المدني ضعيف من السابعة "عن داود بن حصين" الأموي مولاهم أبو سليمان المدني ثقة إلا في عكرمة، ورمى برأي الخوارج من السادسة كذا في التقريب.
قوله: "كان يعلمهم من الحمى" أي من أجلها "أن يقول" أي المريض أو عائده "من شر كل عرق" بكسر فسكون منوناً "نعار" بفتح النون وتشديد العين المهملة(6/246)
هذا حديثٌ غريبٌ لاَ نَعْرِفُهُ إِلاّ مِنْ حديثِ إِبْرَاهيِمَ بنِ إِسماعيلَ بنِ أَبِي حَبِيبَةَ. وإِبْراهيمُ يُضَعّفُ في الْحَدِيثِ، وَيُروَى: عِرْقٍ يَعّارٌ.
ـــــــ
أي فوار الدم يقال نعر العرق ينعر بالفتح فيهما إذا فار منه الدم استعاذ منه لأنه إذا غلب لم يمهل. وقال الطيبي: نعر العرق بالدم إذا ارتفع وعلا، وجرح نعار ونعور إذا صوت دمه عند خروجه.
قوله: "هذا حديث غريب" وأخرجه أحمد وابن أبي شيبة وابن ماجة وابن أبي الدنيا وابن السني في عمل اليوم والليلة والحاكم وصححه والبيهقي في الدعوات كذا في المرقاة "ويروي عرق يعار" رواه ابن ماجة ضبط يعار في النسخة الأحمدية بفتح التحتية وتشديد العين المهملة ومعناه صوات. قال الجزري في النهاية: يقال يعرت العنز يتعر بالكسر يعار بالضم أي صاحت انتهى. وأما قول بعض الناس يعار بضم الياء التحتية وفتح العين وتشديد الراء من العرارة وهي الشدة وسوء الخلق ومنه إذا استعر عليكم شيء من الغنم أي ند واستعصى، وأما يعار فلم تجد له في كتب اللغة معنى يناسب هذا المقام انتهى فمما لا يلتفت إليه(6/247)
26 ـ باب ما جَاءَ في الْغِيلَة
2158ـ حَدّثنا أَحمدُ بِنُ مَنِيعٍ، أخبرنا يَحْيَى بنُ إِسْحَاقَ، أخبرنا يَحْيَىَ بنُ أَيّوبَ، عن محمدِ بنِ عَبْدِ الرّحْمنِ بنِ نَوْفَلٍ، عن عُرْوَةَ عن عَائِشَةَ
ـــــــ
" باب ما جَاءَ في الْغِيلَة"
قال الجزري في النهاية: الغيلة بالكسر الاسم من الغيل بالفتح، وهو أن يجامع الرجل زوجته وهي مرضع، وكذلك إذا حملت وهي مرضع، وقيل يقال فيه الغيلة والغيلة بمعنى، وقيل الكسر للاسم والفتح للمرة، وقيل لا يصح الفتح إلا مع حذف الهاء، وقد أغال الرجل وأغيل والولد مغال ومغيل، واللبن الذي يشر به الولد يقال له الغيل أيضاً انتهى
قوله: "أخبرنا يحيى بن إسحاق" هو البجلي أبو زكريا السيلحيني "حدثنا يحيى بن أيوب" هو الغافقي المصري "عن محمد بن عبد الرحمن بن نوفل" الأسدي المدني يتيم عروة ثقة من السادسة "عن عائشة" أم المؤمنين رضي الله تعالى عنها(6/247)
عن بنت وَهْبٍ وَهِيَ جُدَامَةُ، قالَتْ: سَمِعْتُ رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم يقولُ: "أَرَدْتُ أَنْ أَنْهَى عن الْغِيالِ فإِذَا فَارِسُ والرّومُ يَفْعَلُونَ وَلاَ يَقْتُلُونَ أَوْلاَدَهُمْ" .
وفي البابِ عن أَسْمَاءَ بِنْتِ يَزِيدَ.
ـــــــ
"عن بنت وهب وهي جدامة" بمضمومة ودال مهملة. قال في التقريب: جدامة بنت وهب ويقال جندل الأسدية أخت عكاشة بن محصن لأمه، صحابية لها سابقة وهجرة. قال الدارقطني: من قالها بالذال المعجمة صحف انتهى. وقال في تهذيب التهذيب في ترجمتها: روت عن النبي صلى الله عليه وسلم في النهي عن الغيلة. روت عنها عائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم انتهى.
قوله: "أردت أن انهي عن الغيال" بكسر الغين المعجمة وفي الرواية الاَتية الغيلة. قال النووي في شرح مسلم: قال أهل اللغة: الغيلة ههنا بكسر الغين ويقال لها الغيل بفتح الغين مع حذف الهاء والغيال بكسر الغين. وقال جماعة من أهل اللغة: الغيلة بالفتح المرة الواحدة وأما بالكسر فهي الاسم من الغيل. وقيل إن أريد بها وطء المرضع جاء الغيلة والغيلة بالكسر والفتح. واختلف العلماء في المراد بالغيلة في هذا الحديث وهي الغيل، فقال مالك في الموطأ والأصمعي وغيره من أهل اللغة هي أن يجامع امرأته وهي مرضع يقال منه أغال الرجل وأغيل أذا فعل ذلك. وقال ابن السكيت هو أن ترضع المرأة وهي حامل، يقال منه غالت وأغليت. قال العلماء: سبب همه صلى الله عليه وسلم بالنهي عنها أنه يخاف منه ضرر الولد الرضيع، قالوا والأطباء يقولون إن ذلك اللبن داء والعرب تكرهه وتتقيه "فإذا فارس" بكسر الراء وعدم الصرف "يفعلون" أي الغيال "ولا يقتلون أولادهم" وفي الرواية الاَتية: ولا يضر أولادهم. قال القاضي: كان العرب يحترزون عن الغيلة ويزعمون أنها تضر الولد وكان ذلك من المشهورات الذائعة عندهم فأراد النبي صلى الله عليه وسلم أن ينهي عنها لذلك، فرأى أن فارس والروم يفعلون ذلك ولا يبالون به ثم إنه لا يعود على أولادهم بضرر فلم ينه انتهى. قال النووي: في الحديث جواز الغيلة فإنه صلى الله عليه وسلم لم ينه عنها وبين سبب ترك النهي.
قوله: "وفي الباب عن أسماء بنت يزيد" أخرجه أبو داود عنها قالت سمعت(6/248)
هذا حديثٌ صحيحٌ. وقد رَوَاهُ مَالِكٌ عن أَبِي الأَسْوَدِ عن عُرْوَةَ عن عَائِشَةَ عن جُدَامَةَ بِنْتِ وَهْبٍ عن النبيّ صلى الله عليه وسلم نحوه.
قالَ مَالِكٌ: وَالْغِيَالُ أَنْ يَطَأَ الرّجُلُ امْرَأَتَهُ وَهِيَ تُرْضِعُ.
2159 ـ حدّثنا عِيسَى بنُ أَحمدَ، حدثنا ابنُ وَهْبٍ، حدثني مَالِكُ عن أَبِي الأَسْوَدِ محمدِ بنِ عَبْدِ الرّحْمنِ بنِ نَوْفَلٍ، عن عُرْوَةَ، عن عَائِشَةَ عن جُدَامَةَ بِنْتِ وَهْبٍ الأَسَدِيّةِ: أَنّهَا سَمِعَتْ رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم يقولُ: "لَقَدْ هَمِمْتُ أَنْ أَنْهَى عن الْغِيلَةِ حتّى ذُكّرْتُ أَنّ فَارِسَ وَالرّومَ يَصْنَعُونَ ذَلِكَ فَلاَ يَضُرّ أَوْلاَدَهُمْ" .
ـــــــ
رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: لا تقتلوا أولادكم سراً، فإن الغيل يدرك الفارس فيدعثره عن فرسه، وسكت عنه هو المنذري وأخرجه أيضاً ابن ماجة.
قوله: "هذا حديث صحيح" وأخرجه مالك وأحمد ومسلم وأبو داود والنسائي وابن ماجة "وقد رواه مالك عن أبي الأسود" اسمه محمد بن عبد الرحمن بن نوفل.
قوله: "حدثنا عيسى بن أحمد" بن عيسى بن وردان العسقلاني من عسقلان بلخ ثقة يقرب من الحادية عشرة "حدثنا ابن وهب" هو عبد الله بن وهب بن مسلم القرشي مولاهم أبو محمد المصري الفقيه ثقة حافظ عابد من التاسعة "عن أبي الأسود محمد بن عبد الرحمن بن نوفل" ووقع في النسخة الأحمدية عن أبي الأسود: ومحمد بن عبد الرحمن بن نوفل بزيادة الواو بين أبي الأسود ومحمد بن عبد الرحمن وهو غلط.
قوله: "لقد هممت" أي قصدت "حتى ذكرت" بصيغة المجهول "يصنعون ذلك" أي الغيلة "ولا يضر أولادهم" بالنصب على المفعولية. وفي حديث جدامة هذا دليل على جواز الغيلة، وحديث أسماء بنت يزيد المذكور يدل على المنع. واختلف العلماء في وجه الجمع بينهما. فقال الطيبي: نفيه لأثر الغيل في الحديث السابق يعني حديث جدامة كان إبطالاً لاعتقاد الجاهلية كونه مؤثراً وإثباته له هنا(6/249)
قالَ مَالِكَ: وَالْغِيلَةُ أَنْ يَمَسّ الرّجُلُ امْرَأَتَهُ وَهِيَ تُرْضِعُ.
قالَ عيسَى بنُ أَحمدَ، وحدثنا إِسْحَاقُ بنُ عِيسَى، حدثني مَالِكٌ عن أَبِي الأَسْوَدِ نَحْوَهُ.
قال أبو عيسى: هذا حديثٌ حسنٌ صحيحٌ غَريبٌ.
ـــــــ
يعني في حديث أسماء لأنه سبب في الجملة مع كون المؤثر الحقيقي هو الله تعالى انتهى. وقيل النهي في قوله لا تقتلوا أولادكم سراً في حديث أسماء للتنزيه، ويحمل قوله لقد هممت أن أنهي في حديث جدامة على التحريم فلا منافاة. وقال السندي: حديث أسماء يحتمل أنه قال على زعم العرب قبل حديث جدامة ثم علم أنه لا يضر فأذن به كما في رواية جدامة وهذا بعيد، لأن مفاد حديث جدامة أنه أراد النهي ولم ينه، وحديث أسماء فيه نهي فكيف يكون حديث أسماء قبل حديث جدامة. وأيضاً لو كان على زعم العرب لما استحسن القسم بالله كما عند ابن ماجة، فالأقرب أنه صلى الله عليه وسلم نهى عنه بعد حديث جدامة حيث حقق أنه لا يضر إلا أن الضرر قد يخفي إلى الكبر انتهى.
قوله: "حدثنا إسحاق بن عيسى" بن نجيح البغدادي أبو يعقوب بن الطباع سكن أذنه، صدوق من التاسعة.
قوله: "هذا حديث حسن صحيح غريب" وأخرجه مالك وأحمد وغيرهما كما تقدم(6/250)
27 ـ باب مَا جَاءَ فِي دَوَاءِ ذَاتِ الْجَنْب
2160 ـ حَدّثنا محمدُ بنُ بَشّارٍ، حدثنا مُعَاذُ بنُ هِشَامٍ، حدثني أَبِي عن قَتَادَةَ عن أَبِي عَبْدِ الله عن زَيْدِ بنِ أَرْقَمَ: أَنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَنْعَتُ الزّيْتَ وَالْوَرْسَ مِنْ ذَاتِ الْجَنْبِ. قالَ قَتَادَةُ: "وَيَلُدّهُ مِنَ الْجَانِبِ الّذِي يَشْتَكِيِه".
ـــــــ
"باب ما جاء في دواء ذات الجنب"
قوله: "كان ينعت الزيت والورس من ذات الجنب" أي يمدح التداوي بهما(6/250)
هذا حديثٌ حسنٌ صحيحٌ. وَأَبو عَبْدِ الله اسْمُهُ مَيْمُونٌ هُوَ شَيْخٌ بَصْرِيٌ.
2161 ـ حدّثنا رَجَاءُ بنُ محمدٍ العُذْرِيّ الْبَصْرِيّ، حدثنا عَمْرُو بنُ محمدِ بن أَبِي رَزِينٍ، حدثنا شُعْبَةُ عن خَالِدٍ الْحَذّاءِ، حدثنا مَيْمُونٌ أَبُو عَبْدِ الله قالَ: سَمِعْتُ زَيْدَ بنَ أَرْقَمَ قالَ: "أَمَرَنَا رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم أَنْ نَتَدَاوَى مِنْ ذَاتِ الْجَنْبِ بالقُسْطِ الْبَحْرِيّ وَالزّيْتِ".
ـــــــ
لذات الجنب. قال أبو حنيفة اللغوي: الورس يزرع زرعاً وليس ببري ولست أعرفه بغير أرض العرب لا من أرض العرب بغير بلاد اليمن وقوته في الحرارة واليبوسة في أول الدرجة الثانية وأجوده الأحمر اللين القليل النخالة، ينفع من الكلف والحكة والبثور الكائنة من سطح البدن إذا طلي به، وله قوة قابضة صابغة، وإذا شرب نفع من الوضح، ومقدار الشربة منه وزن درهم، وهو في مزاجه ومنافعه قريب من منافع القسط البحري، وإذا لطخ به على البهق والحكة والبثور والسفعة نفع منها، والثوب المصبوغ بالورد يقوى على الباه انتهى. "ويلد" أي يلقي في الفم "من الجانب الذي يشتكيه" قال أبو عبيد عن الأصمعي: اللدود ما يسقي الإنسان في أحد شقي الفم، أخذ من لديدي الوادي وهما جانباه، وأما الوجود فهو في وسط الفم انتهى.
قوله: "هذا حديث حسن صحيح" وأخرجه ابن ماجة بلفظ: نعت رسول الله صلى الله عليه وسلم من ذات الجنب ورساً وقسطاً وزيتاً يلد به "وأبو عبد الله اسمه ميمون هو شيخ بصري" قال في التقريب: ميمون أبو عبد الله البصري مولى ابن سمرة ضعيف، وقيل اسم أبيه استاد وفرق بينهما ابن أبي حاتم من الرابعة.
قوله: "حدثنا رجاء بن محمد" بن رجاء "العذري" بضم عين مهملة وسكون ذال معجمة، البصري السقطي، ثقة من الحادية عشرة كذا في التقريب، ووقع في النسخة الأحمدية العدوي بفتح عين ودال مهملتين وهو غلط "حدثنا عمرو بن محمد بن أبي رزين" بفتح راء وكسر زاي وسكون ياء وبنون الخزاعي مولاهم أبو عثمان البصري، صدوق ربما أخطأ من التاسعة.
قوله: "أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نتداوى من ذات الجنب(6/251)
هذا حديثٌ حسنٌ صحيحٌ. ولا نَعْرِفُهُ إِلاّ مِنْ حَدِيثِ مَيْمُونٍ عن زَيْدِ بنِ أَرْقَمَ. وقد رَوَى عن مَيْمُونٍ غَيْرُ وَاحِدٍ من أهل العلم هذَا الحَدِيثَ.
وَذَاتُ الْجَنْبِ: يَعْنِي السّلّ.
ـــــــ
بالقسط البحري والزيت" قال الحافظ ابن القيم: ذات الجنب عند الأطباء نوعان حقيقي وغير حقيقي، فالحقيقي ورم حار يعرض في نواحي الجنب في الغشاء المستبطن للأضلاع، وغير الحقيقي ألم يشبهه يعرض في نواحي الجنب عن رياح غليظة مؤذية تحتقن بين الصفاقات فتحدث وجعاً قريباً من وجع ذات الجنب الحقيقي إلا أن الوجع في هذا القسم ممدود وفي الحقيقي ناخس: قال: ويلزم ذات الجنب الحقيقي خمسة أعراض وهي الحمى والسعال والوجع الناخس وضيق النفس والنبض المنشاري، والعلاج الموجود في الحديث ليس هو لهذا القسم، لكن للقسم الثاني الكائن عن الريح الغليظة، فإن القسط البحري وهو العود الهندي على ما جاء مفسراً في أحاديث آخر صنف من القسط إذا دق دقاً ناعماً وخلط بالزيت المسخن ودلك به مكان الريح المذكور أو لعق، كان دواء موافقاً لذلك نافعاً له محللاً لمادته مذهباً لها، مقوياً للأعضاء الباطنة مفتحاً للسدد، والعود المذكورة في منافعه كذلك. قال المسيحي: العود حار يابس قابض يحبس البطن ويقوي الأعضاء الباطنة ويطرد الريح ويفتح السدد، نافع من ذات الجنب، ويذهب فضل الرطوبة. والعود المذكور جيد للدماغ قال: ويجوز أن ينفع القسط من ذات الجنب الحقيقية أيضاً إذا كان حدوثها عن مادة بلغمية لا سيما في وقت انحطاط العلة انتهى.
قوله: "هذا حديث حسن صحيح" وأخرجه أحمد والحاكم بلفظ: تداووا من ذات الجنب بالقسط البحري والزيت المسخن "وذات الحثب يعني السل" كذا فسر الترمذي ذات الجنب بالسل. وقال الجزري في النهاية: ذات الجنب هي الدبيلة والدمل الكبيرة التي تظهر في باطن الجنب وتنفجر إلى داخل وقلما يسلم صاحبها. وذو الجنب الذي يشتكي جنبه بسبب الدبيلة، إلا أن ذو للمذكر وذوات للمؤنث، وصارت ذات الجنب علماً لها وإن كانت في الأصل صفة مضافة. والمجنوب الذي أخذته ذات الجنب، وقيل أراد بالمجنوب الذي يشتكي جنبه مطلقاً انتهى. وقد عرفت ما ذكره ابن القيم في تفسير ذات الجنب، وكما تفسيرها بالسل فلم أر أحداً(6/252)
ـــــــ
فسرها به غير الترمذي. والسل بكسر العين وشدة اللام في اللغة: الهزال، وفي الطب قرحة في الرئة، وإنما سمي المرض به لأن من لوازمه هزال البدن. ولما كانت الحمى الدقية لازمة لهذه القرحة ذكر القرشي أن السل قرحة الرئة مع الدق وعده من الأمراض المركبة، كذا قال النفيس. وقال القرشي في شرح الفصول: يقال السل لحمى الدق ولدق الشيخوخة ولقرحة الرئة(6/253)
28 ـ باب
2162 ـ حَدّثنا إِسْحَاقُ بنُ مُوسَى الأَنْصَارِيّ، حدثنا مَعْنٌ، حدثنا مَالِكٌ عن يَزِيدَ بنِ خُصَيْفَةَ عن عَمْرو بنِ عَبْدِ الله بنِ كَعْبٍ السّلميّ: أَنّ نافِعَ بنَ جُبَيْرِ بنِ مُطْعِمٍ أخْبَرَهُ عن عثمان بنِ أبي الْعَاصِ أنّهُ قال: "أتانيِ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم وَبِي وَجَعٌ قَدْ كَادَ يُهْلِكُنِي، فقالَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم: امْسَحْ بِيَمِينَكَ سَبْعَ مَرّاتٍ وَقُلْ: أَعُوذُ بِعِزّةِ الله
ـــــــ
"باب"
قوله: "عن يزيد بن خصيفة" هو يزيد بن عبد الله بن خصيفة، قال في التقريب: يزيد بن عبد الله بن خصيفة بضم معجمة وفتح صاد مهملة وبفاء مصغراً ابن عبد الله بن يزيد الكندي المدني وقد ينسب لجده ثقة من الخامسة "عن عمرو بن عبد الله بن كعب" بن مالك الأنصاري السلمي المدني ثقة من السادسة قاله الحافظ في التقريب. وقال في تهذيب التهذيب في ترجمته: روى عن نافع بن جبير بن مطعم، وعنه يزيد بن خصيفة، روى له الأربعة حديثاً واحداً وهو حديث عثمان بن أبي العاص في الدعاء انتهى "عن عثمان بن أبي العاص" الثقفي الطائفي صحابي شهير استعمله رسول الله صلى الله عليه وسلم على الطائف ومات في خلافة معاوية بالبصرة.
قوله: "قال أتاني رسول الله صلى الله عليه وسلم وبي وجع قد كاد يهلكني" ولمسلم وغيره من رواية الزهري عن نافع عن عثمان أنه شكا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وجعاً يجده في جسده منذ أسلم "امسح" أي موضع الوجع "بيمينك سبع مرات". وفي رواية مسلم: فقال له ضع يدك على الذي يألم من جسدك .(6/253)
وَقُدْرَتِهِ وَسُلْطَانِهِ، مِنْ شَرّ مَا أَجِدُ. قالَ: فَفَعَلْتُ فَأَذْهَبَ الله مَا كَانَ بِي، فَلَمْ أَزَلْ آمُرُ به أَهْلِي وَغَيْرَهُمْ".
هذا حديثٌ حسنٌ صحيحٌ.
ـــــــ
وللطبراني والحاكم: ضع يمينك على المكان الذي تشتكي فامسح بها سبع مرات "وقل أعوذ بعزة الله وقدرته وسلطانه من شر ما أجد" وفي رواية مسلم: وقل بسم الله ثلاثاً، وقل سبع مرات أعوذ بالله وقدرته من شر ما أجد وأحاذر. وللترمذي في الدعوات وحسنه والحاكم وصححه عن محمد بن سالم قال قال لي ثابت البناني: يا محمد إذا اشتكيت فضع يدك حيث تشتكي ثم قل بسم الله أعوذ بعزة الله وقدرته من شر ما أجد من وجعي ثم ارفع يدك ثم أعد ذلك وتراً، قال فإن أنس بن مالك حدثني أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حدثه بذلك "قال" أي عثمان "ففعلت" أي ما قال لي "فأذهب الله ما كان بي" أي من الوجع "فلم أزل آمر به أهلي وغيرهم" لأنه من الأدوية الإلهية والطب النبوي، لما فيه من ذكر الله والتفويض إليه والاستعاذة بعزته وقدرته، وتكراره يكون أنجح وأبلغ كتكرار الدواء الطبيعي لاستقصاء إخراج المادة، وفي السبع خاصية لا توجد في غيرها.
قوله: "هذا حديث صحيح" وأخرجه مسلم وأبو داود والنسائي وابن ماجة(6/254)
29 ـ باب ما جَاءَ في السّنَا
2103 ـ حَدّثنا محمدُ بنُ بَشّارٍ، حدثنا محمدُ بنُ بَكْرٍ، حدثنا عَبْدُ الْحَمِيدِ بنُ جَعْفَرٍ، حدثني عُتْبَةُ بنُ عَبْدِ الله، عن أَسْمَاءَ بِنْتِ عُمَيْسٍ "أَنّ
ـــــــ
" باب ما جَاءَ في السّنَا"
سقط هذا الباب من بعض النسخ
قوله: "حدثنا محمد بن بكر" بن عثمان البرساني أبو عثمان البصري، صدوق يخطئ من التاسعة "حدثنا عبد الحميد بن جعفر" بن عبد الله بن الحكم بن رافع الأنصاري، صدوق رمي بالقدر وربما وهم من السادسة "حدثني عتبة بن عبد الله" أو ابن عبيد الله، ويقال اسمه زرته بن عبد الرحمن، مجهول من السادسة.(6/254)
رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم سأَلَهَا بِمَا تَسْتَمْشِينَ؟ قالَتْ: بالشّبْرُمِ، قالَ حَارّ جَارّ، قَالَتْ: ثُمّ اسْتَمْشَيْتُ بالسّنَا، فقالَ النبيّ صلى الله عليه وسلم: لَوْ أَنّ شيئاً كانَ فِيِه شِفَاءٌ مِنَ المَوْتِ لَكَانَ في السّنَا" .
ـــــــ
قوله: "بما تستمشين" أي بأي دواء تستطلقين بطنك حتى يمشي ولا يصير بمنزلة الواقف فيؤذي باحتباس النجو، ولهذا سمي الدواء المسهل مشياً على وزن فعيل، وقيل لأن المسهول يكثر المشي والاختلاف للحاجة. وقال الجزري في النهاية: أي بما تسهلين بطنك، ويجوز أن يكون أراد المشي الذي يعرض عند شرب الدواء إلى المخرج انتهى. "قالت بالشبرم" بضم شين معجمة فسكون موحدة وراء مضمومة وهو من جملة الأدوية اليتوعية، وهو قشر عرق شجرة وهو حار يابس في الدرجة الرابعة، وأجوده المائل إلى الحمرة الخفيف الرقيق الذي يشبه الجلد الملفوف. وبالجملة فهو الأدوية التي أوصى الأطباء بترك استعمالها لخطرها وفرط إسهالها. وقال الجزري في النهاية: الشبرم حب يشبه الحمص يطبخ ويشرب ماؤه للتداوي، وقيل إنه نوع من الشبح انتهى. "قال حار" بحاء مهملة وتشديد راء بينهما ألف "جار". بالجيم قال الحافظ ابن القيم: قوله صلى الله عليه وسلم حار جار، ويروى حار يار، قال أبو عبيد: وأكثر كلامهم بالياء، قال وفيه قولان: أحدهما أن الحار الجار بالجيم الشديد الاسهال، فوصفه بالحرارة وشدة الإسهال وكذلك هو ما قاله أبو حنيفة الدينوري. والثاني وهو الصواب أن هذا من الإتباع الذي يقصد به تأكيد الأول ويكون بين التأكيد اللفظي والمعنوي، ولهذا يراعون فيه إتباعه في أكثر حروفه كقولهم حسن بسن، أي كامل الحسن، وقولهم: حسن قسن بالقاف، ومنه شيطان ليطان، وحار جار مع أن الجار معنى آخر وهو الذي يجر الشيء الذي يصيبه من شدة حرارته وجذبه له كأنه ينزعه ويسلخه ويار إما لغة في جار كقولهم صهري وصهريج والصهاري والصهاريج وإما إتباع مستقل انتهى "ثم استمشيت بالسنا" فيه لغتان المد والقصر وهو نبت حجازي أفضله المكي وهو دواء شريف مأمون الغائلة قريب من الاعتدال حار يابس في الدرجة الأولى، يسهل الصفراء والسوداء ويقوي جرم القلب، وهذه فضيلة(6/255)
هذا حديثٌ غريبٌ.
ـــــــ
شريفة فيه، وخاصيته النفع من الوسواس السوداوي ومن الشقاق العارض في البدن، ويفتح العضل وانتشار الشعر، ومن القمل والصداع العتيق، والجرب والبثور والحكة والصرع، وشرب مائه مطبوخاً أصلح من شربه مدقوقاً، ومقدار الشربة منه إلى ثلاثة دراهم ومن مائه إلى خمسة دراهم، وإن طبخ معه شيء من زهر البنفسج والزبيب الأحمر المنزوع العجم كان أصلح "فقال النبي صلى الله عليه وسلم" أي بعد ما سألني ثانياً أو حين ذكرت له من غير سؤال استعلاماً واستكشافاً.
قوله: "هذا حديث غريب" وأخرجه أحمد وابن ماجة والحاكم. قال الحافظ في تهذيب التهذيب في ترجمة عتبة بن عبد الله الراوي عن أسماء ما لفظه: عتبة بن عبد الله ويقال ابن عبيد الله حجازي، روى عن أسماء بنت عميس حديثاً في الاستمشاء بالسنا، وعنه عبد الحميد بن جعفر، روى له الترمذي هذا الحديث الواحد، وقد رواه ابن ماجة من حديث عبد الحميد عن زرعة بن عبد الرحمن، عن مولى لمعمر التيمي عن أسماء، فيحتمل أن يكون هذا المبهم هو عتبة هذا، قال ليس هو المبهم، فإن كلام البخاري في تاريخه في ترجمة زرعة يقتضي أن زرعة هو عتبة المذكور، اختلف في اسمه على عبد الحميد، وعلى هذا فرواية الترمذي منقطعة لسقوط المولى منها انتهى(6/256)
30 باب ما جاءَ في التّدَاوِي بِالْعَسَل
2164 ـ حَدّثنا محمدُ بنُ بَشّارٍ، حدثنا محمدُ بنُ جَعْفَرٍ، حدثنا شُعْبَةُ عن قَتَادَةَ، عن أَبِي المُتَوَكّل عن أَبِي سَعِيدٍ قالَ: "جَاءَ رَجُلٌ إِلَى النبيّ صلى الله عليه وسلم فقالَ: إِنّ أَخي اسْتُطْلِقَ بَطْنُهُ؟ فقالَ: اسْقِهِ عَسَلاٍ، فَسَقَاهُ
ـــــــ
"باب ما جاء في العسل"
قوله: "عن أبي المتوكل" اسمه علي بن داود الناجي.
قوله: "إن أخي استطلق بطنه" بضم المثناة وسكون الطاء المهملة وكسر اللام بعدها قاف أي كثر خروج ما فيه، يريد الإسهال، ووقع في رواية لمسلم:(6/256)
ثُمّ جَاءَ فقالَ: يا رَسولَ الله قَدْ سَقَيْتُهُ عَسَلاً فَلَمْ يَزِدُهُ إِلاّ اسْتِطْلاَقاً؟ قالَ فقالَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم: إِسْقِهِ عَسَلاً، قالَ: فَسَقَاهُ، ثُمّ جَاءَهُ فقالَ: يا رسولَ الله إِنّي قَدْ سَقَيْتُهُ فَلَمْ يَزِدُهُ إِلاّ اسْتِطْلاَقاً؟ قال: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: صَدَقَ الله وَكَذَبَ بَطْنُ أَخِيك. إِسْقِهِ عَسَلاً، فَسَقَاهُ عَسَلاً فَبَرَأَ" .
ـــــــ
إن أخي عرب بطنه وهي بالعين المهملة والراء المكسورة ثم الموحدة: أي فسد هضمه لاعتلال المعدة، ومثله ذرب بالذال المعجمة بدل العين وزناً ومعنى "فقال إسقه" بكسر الهمزة "عسلاً" ظاهره الأمر بسقيه صرفاً ويحتمل أن يكون ممزوجاً "صدق الله" أي فيما قال: فيه شفاء للناس، كذا قيل. وقال ابن الملك أي كون شفاء ذلك البطن في شربه العسل قد أوحى إلي والله تعالى صادق فيه، وهذا التوجيه أولى مما قيل من أن المراد به قوله تعالى: {فِيهِ شِفَاءٌ لِلنَّاسِ} لأن الاَية لا تدل على أنه شفاء من كل داء، قال القاري: ظاهره الإطلاق وإثبات الوحي يحتاج إلى دليل "وكذب بطن أخيك" قال الخطابي وغيره: أهل الحجاز يطلقون الكذب في موضع الخطأ، يقال: كذب سمعك، أي زل فلم يدرك حقيقة ما قيل له، فمعنى كذب بطنه أي لم يصلح لقبول الشفاء بل زل عنه.
وقد اعترض بعد الملاحدة فقال: العسل مسهل فكيف يوصف لمن وقع به الإسهال؟
والجواب: أن ذلك جهل من قائله، بل هو كقوله تعالى: {بَلْ كَذَّبُوا بِمَا لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ} فقد اتفق الأطباء على أن المرض الواحد يختلف علاجه بأختلاف السن والعادة والزمان والغذاء المألوف والتدبير وقوة الطبيعة، وعلى أن الإسهال يحدث من أنواع منها الهيضة التي تنشأ عن تخمة، واتفقوا على أن علاجها بترك الطبيعة وفعلها، فإن احتاجت إلى مسهل معين اعينت ما دام بالعليل قوة، فكأن هذا الرجل كان استطلاق بطنه عن تخمة أصابته فوصف له النبي صلى الله عليه وسلم العسل لدفع الفضول المجتمعة في نواحي المعدة والأمعاء، لما في العسل من الجلاء ودفع الفضول التي تصيب المعدة من أخلاط لزجة تمنع استقرار الغذاء فيها،(6/257)
ـــــــ
وللمعدة خمل كخمل المنشفة، فإن علقت بها الأخلاط اللزجة أفسدتها وأفسدت الغذاء الواصل إليها، فكان ذواؤها باستعمال ما يجلو تلك الأخلاط، ولا شيء في ذلك مثل العسل لا سيما إن مزج بالماء الحار، وإنما لم يفده في أول مرة لأن الدواء يجب أن يكون له مقدار وكمية بحسب الداء إن قصر عنه لم يدفعه بالكلية وإن جاوزه أوهى القوة وأحدث ضرراً آخر، فكأنه شرب منه أولاً مقداراً لا يفي بمقاومة الداء فأمر بمعاودة سقيه، فلما تكررت الشربات بحسب مادة الداء برأ بإذن الله تعالى. وفي قوله صلى الله عليه وسلم: وكذب بطن أخيك إشارة إلى أن هذا الدواء نافع وأن بقاء الداء ليس لقصور الدواء في نفسه، ولكن لكثرة المادة الفاسدة. فمن ثم أمره بمعاودة شرب العسل لاستفراغها، فكان كذلك وبرأ بإذن الله.
قال الحطابي: والطب نوعان طب اليونان وهو قياسي، وطب العرب والهند وهو تجاربي، وكان أكثر ما يصفه النبي صلى الله عليه وسلم لمن يكون عليلاً على طريقة طب العرب، ومنه ما يكون مما أطلع عليه بالوحي. وقد قال صاحب كتاب المائة في الطب: إن العسل تارة يجري سريعاً إلى العروق وينفذ معه جل الغذاء ويدر البول فيكون قابضاً، وتارة يبقى في المعدة فيهيجها لذعها حتى يدفع الطعام ويسهل البطن فيكون مسهلاً، فإنكار وصفه المسهل مطلقاً قصور من المنكر. وقال غيره: طب النبي صلى الله عليه وسلممتيقن البرء لصدوره عن الوحي، وطب غيره أكثره حدس أو تجربة، وقد يتخلف الشفاء عن بعض ما يستعمل طب النبوة وذلك لمانع قام بالمستعمل من ضعف اعتقاد الشفاء به وتلقيه بالقبول. وأظهر الأمثلة في ذلك القرآن الذي هو شفا لما في الصدور، ومع ذلك فقد لا يحصل لبعض الناس شفاء صدره لقصوره في الاعتقاد والتلقي بالقبول، بل لا يزيد المنافق إلا رجساً إلى رجسه ومرضاً إلى مرضه. فطب النبوة لا يناسب إلا الأبدان الطيبة. كما أن شفاء القرآن لا يناسب إلا القلوب الطيبة، كذا في الفتح "فسقاه فبرأ" بفتح الراء والهمز بوزن قرأ وهي لغة أهل الحجاز وغيرهم يقولها بكسر الراء بوزن علم، وقد قع في رواية أبي الصديق الناجي في آخره: فسقاه فعافاه الله، ذكره الحافظ.(6/258)
هذا حديثٌ حسنٌ صحيحٌ.
ـــــــ
قوله: "هذا حديث حسن صحيح" وأخرجه الشيخان وغيرهما(6/259)
31-باب
2165 ـ حَدّثنا محمدُ بنُ المُثَنّى، حدثنا محمدُ بنُ جَعْفَرٍ، حدثنا شُعْبَةُ عن يَزِيدَ بنُ خَالِدٍ قالَ: سَمِعْتُ المِنْهَالَ بنَ عَمْرٍو يُحَدّثُ عن سَعِيدِ بنِ جُبَيْرٍ عن ابنِ عَبّاسٍ عن النبيّ صلى الله عليه وسلم أَنّهُ قالَ: "مَا مِنْ عَبْدٍ مُسْلِمٍ يَعُودُ مَرِيضاً لَمْ يَحْضُرْ أَجَلُهُ فَيَقُولُ سَبْعَ مَرّاتٍ: أَسْأَلُ الله العَظِيمَ رَبّ الْعَرْشِ العَظِيمِ أَنْ يَشْفِيَكَ إِلاّ عُوفِيَ" .
هذا حديثٌ حسنٌ غريبٌ. لا نَعْرِفُهُ إِلاّ مِنْ حَدِيثِ المِنْهَالِ بنِ عَمْرٍو.
ـــــــ
" باب"
قوله: "عن يزيد أبي خالد" قال في التقريب: أبو خالد الدالاني الأسدي الكوفي اسمه يزيد بن عبد الرحمن صدوق يخطئ كثيراً. وكان يدلس من السابعة انتهى. وقال في تهذيب التهذيب في ترجمته: روى عن المنهال بن عمرو وغيره، وعنه شعبة وغيره ووقع في النسخة الأحمدية: يزيد بن خالد وهو غلط "سمعت المنهال ابن عمرو" الأسدي مولاهم الكوفي، صدوق، ربما وهم من الخامسة.
قوله: "ما من عبد مسلم" ما للنفي ومن زائدة "يعود مريضاً" وفي المشكاة: ما من مسلم يعود مسلماً أي يزوره في مرضه "لم يحضر أجله" صفة مريض "فيقول" أي العائد "أسأل الله العظيم" أي في ذاته وصفاته "أن يشفيك" بفتح أوله مفعول ثان "إلا عوفي" وفي رواية أبي داود إلا عافاه من ذلك المرض. والحصر غالبي أو مبني على شروط لا بد من تحققها.
قوله: "هذا حديث حسن غريب" وأخرجه أبو داود والنسائي وابن حبان والحاكم وقال صحيح على شرط الشيخين(6/259)
32 ـ باب
2166 ـ حَدّثنا أَحمدُ بنُ سَعِيدٍ الأَشْقَرُ المرابطيّ، حدثنا رَوْحُ بنُ عُبَادَةَ، حدثنا مَرْزُوقٌ أَبُو عَبْدِ الله الشّامِيّ، حدثنا سَعِيدٌ ـ رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ الشّامِ ـ أخبرنا ثَوْبَانُ، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم قالَ: "إِذَا أَصَابَ أَحَدَكُمْ الْحُمّى، فَإِنّ الْحُمّى قِطْعَةٌ مِنَ النّارِ، فَلْيُطفِئُهَا عَنْهُ بالمَاءِ فَلْيَسْتَنْقِعْ في نَهْرٍ جَارٍ فَلْيَسْتَقْبِلْ جِرْيَتَهُ فَيَقُولُ:
بِسْمِ الله الّلهُمّ اشْفِ عَبْدَكَ وَصَدّقْ رَسُولَكَ بَعْدَ صَلاَةِ الصّبْحِ، وَقَبْلَ
ـــــــ
"باب"
قوله: "حدثنا مرزوق أبو عبد الله الشامي" قال في التقريب: مرزوق أبو عبد الله الحمصي تزل البصرة لابأس به من السادسة "حدثنا سعيد ـ رجل من أهل الشام" قال الحافظ في التقريب: سعيد بن زرعة الحمصي الجرار بالجيم ومهملتين، الخزاف بمعجمة وزاي مستور من الثالثة انتهى. وقال في تهذيب التهذيب في ترجمته: روى عن ثوبان مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعنه مرزوق أبو عبد الله الشامي والحسن بن همام. قال أبو حاتم: مجهول، وذكره ابن حبان في الثقات، له في الترمذي حديث واحد في استقبال الجرية للحمى انتهى.
قوله: "إذا اصاب أحدكم الحمى" أي أخذته "فإن الحمى قطعة من النار" أي لشدة ما يلقى المريض فيها من الحرارة الظاهرة والباطنة. وقال الطيبي: جواب إذا فليعلم إنها كذلك "فليطفها" كذا في النسخ الموجودة بحذف الهمزة، والظاهر أن يكون فليطفئها بإثبات الهمزة، وكذلك في المشكاة. وكذا في مسند أحمد "عنه بالماء" أي البارد، قال: ويحتمل أن يكون الجواب فليطفئها، وقوله: فإن الحمى معترضة "فليستنقع في نهر جار" بيان للإطفاء. قال في القاموس: استنقع في الغدير نزل واغتسل كأنه ثبت فيه ليتبرد انتهى "فليستقبل جريته" بكسر الجيم، قال الطيبي: يقال ما أشد جرية هذا الماء بالكسر "فيقول" أي حال الاستقبال "وصدق رسولك" أي اجعل قوله هذا صادقاً بأن تشفيني، ذكره(6/260)
طُلُوعِ الشّمْسِ، فَلْيَغْمِسْ فِيِه ثَلاَثَ غَمْسَاتٍ ثَلاَثَةَ أَيّامٍ، فَإِنْ لَمْ يَبْرأْ في ثَلاَثٍ فَخَمْسٌ، فَإِنْ لَمْ يَبْرَأْ في خَمْسٍ فَسَبْعٌ، فَإِنْ لَمْ يَبْرَأْ في سَبْعٍ، فَتِسْعٌ، فَإِنّهَا لا تَكَادُ تُجَاوِزُ تِسْعَاً بِإِذْنِ الله" .
هذا حديثٌ غريبٌ.
ـــــــ
الطيبي "بعد صلاة الصبح" ظرف ليستنقع وكذا قوله "قبل طلوع الشمس وليغمس" بفتح الياء وكسر الميم "فيه" أي في النهر أو في مائه "ثلاث غمسات" بفتحتين "ثلاثة أيام" قال الطيبي: قوله وليغمس بيان لقوله فليستنقع جيء به لتعلق المرات "فإن لم يبرأ" بفتح الراء "في ثلاث" أي ثلاث غمسات، أو في ثلاثة أيام "فخمس" بالرفع. قال الطيبي: أي فالأيام التي ينبغي أن ينغمس فيها خمس أو فالمرات انتهى "فسبع" بالرفع كما تقدم آنفاً "فتسع" كذلك "فإنها" أي الحمى "لا تكاد" أي تقرب "تجاوز تسعاً" أي بعد هذا العمل "بإذن الله" أي إرادته أو بأمره لها بالذهاب وعدم العود. وقد تقدم الكلام فيما يتعلق بعلاج الحمى بالماء البارد في باب تبريد الحمى بالماء.
قوله: "هذا حديث غريب" وأخرجه أحمد وابن أبي الدنيا وابن السني وأبو نعيم كذا في المرقاة(6/261)
33ـ باب التّدَاوِي بِالرّمَاد
2107 ـ حَدّثنا ابنُ أَبِي عُمَر، حدثنا سُفْيَانُ عن أَبِي حَازِمٍ، قالَ: "سُئِلَ سَهْلُ بنُ سَعْدٍ وَأَنَا أَسْمَعُ: بِأَيّ شَيْءٍ دُووِيَ جُرْحُ رَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم؟ فقالَ: مَا بَقِيَ أَحَدٌ أَعْلَمُ بِهِ مِنّي: كَانَ عَلِيّ يأْتِي بالمَاءِ في تُرْسِهِ وفَاطِمَةُ تَغْسِلُ عَنْهُ الدّمَ، وَأُحْرِقَ لَهُ حَصِيرُ فَحُشِيَ بِهِ جُرْحُهُ".
ـــــــ
" باب التّدَاوِي بِالرّمَاد"
سقط هذا الباب من بعض النسخ
قوله: "عن أبي حازم" اسمه سلمة بن دينار.
قوله: "دووي" بصيغة المجهول من المداوة "فخشى" بصيغة المجهول من باب نصر "به جرحه" أي أدخل في جرحه. والحديث رواه الترمذي هكذا(6/261)
قال أبو عيسى: هذا حديثٌ حسنٌ صحيحٌ.
ـــــــ
مختصراً وروى البخاري في كتاب الجهاد عن أبي حازم أنه سمع سهل بن سعد وهو يسأل عن جرح رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال أما والله إني لأعرف من كان يغسل جرح رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن كان يسكب الماء وبما دووي، قال: كانت فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم: تغسله وعلي يسكب الماء بالمجن، فلما رأت فاطمة أن الماء لا يزيد الدم إلا كثرة أخذت قطعة من حصير فأحرقتها فألصقتها فاستمسك الدم، وكسرت رباعيته يومئذ وجرح وجهه وكسرت البيضة على رأسه، قال ابن بطال: قد زعم أهل الطب أن الحصير كلها إذا أحرقت تبطل زيادة الدم بل الرماد كله كذلك لأن الرماد من شأنه القيض، ولهذا ترجم الترمذي لهذا الحديث التداوي بالرماد. وقال المهلب: فيه أن قطع الدم بالرماد كان معلوماً عندهم لا سيما إن كان الحصير من دبس السعد فهي معلومة بالقبض وطيب الرائحة، فالقبض يسد أفواه الجرح. وطيب الرائحة يذهب بزهم الدم، وأما غسل الدم أولاً فينبغي أن يكون إذا كان الجرح غير غائر، وأما لو كان غائراً فلا يؤمن معه ضرر الماء إذا صب فيه وقال الموفق عبد اللطيف: الرماد فيه تجفيف، وقلة لذع. والمجفف إذا كان فيه قوة لذع ربما هيج الدم وجلب الورم. ووقع عند ابن ماجة من وجه آخر عن سهل بن سعد أحرقت له حين لم يرقأ قطعة حصير خلق فوضعت رماده عليه فرقئ الكلم.
قوله: "هذا حديث حسن صحيح" وأخرجه الشيخان وغيرهما(6/262)
34-باب
2108 ـ حَدّثنا عَبْدُ الله بنُ سَعِيدٍ الأشَجّ، حدثنا عُقْبَةُ بنُ خَالِدٍ
ـــــــ
"باب"
سقط لفظ الباب من بعض النسخ.(6/262)
السّكُولِيّ، عن مُوسَى بنِ محمدِ بنِ إِبْراهيمَ التّيْمِيّ، عن أَبِيِه عن أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيّ قالَ: "قالَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم: إِذَا دَخَلْتُمْ على المَرِيضِ فَنَفّسُوا لَهُ في أَجلِهِ فإِنّ ذَلِكَ لا يَرُدّ شيئاً وَيُطَيّبُ نَفْسَهُ" .
هذا حديثٌ غريبٌ.
ـــــــ
قوله: "عن موسى بن محمد بن إبراهيم" بن الحارث التميمي المدني منكر الحديث من السادسة.
قوله: "إذا دخلتم على المريض" أي لعيادته "فنفسوا له في أجله" أي أذهبوا لحزنه فيما يتعلق بأجله بأن تقولوا لابأس طهور، أو يطول الله عمرك ويشفيك ويعافيك، أو وسعوا له في أجله فيتنفس عنه الكرب، والتنفيس التفريج. وقال الطيبي: أي طمعوه في طول عمره واللام للتأكيد. وقال في اللمعات: التنفيس التفريج أي فرجوا له وأذهبوا كربه فيما يتعلق بأجله بأن تدعوا له بطول العمر وذهاب المرض، وأن تقولوا لابأس ولا تخف سيشفيك الله وليس مرضك صعباً وما أشبه ذلك، فإنه وإن لم يرد شيئاً من الموت المقدر ولا يطول عمره لكن يطيب نفسه ويفرجه، ويصير ذلك سبباً لانتعاش طبيعته وتقويتها ويضعف المرض انتهى "فإن ذلك" أي تنفيسكم له "لا يرد شيئاً" أي من القضاء والقدر "ويطيب" بالتشديد "نفسه" بالنصب على المفعولية، يعني لابأس عليكم بتنفيسكم له فإن ذلك التنفيس لا أثر له إلا في تطييب نفسه فلا يضركم ذلك، ومن ثم عدوا من آداب العيادة تشجيع العليل بلطيف المقال وحسن الحال.
قوله: "هذا حديث غريب" وأخرجه ابن ماجة، وفي سنده موسى بن محمد بن إبراهيم وهو منكر الحديث كما عرفت(6/263)
أبواب الفرائض عن الرسول صلى الله عليه و سلم
باب ما جاء فيمن ترك مالاً فلورثه
...
أبواب الفرائض عن رَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم
1-باب ما جاءَ في مَنْ تَرَكَ مَالاً فَلِوَرَثَتِه
2169 ـ حَدّثنا سَعِيدُ بنُ يَحْيَى بنِ سَعِيدٍ الأُمَوِيّ، حدثنا أَبِي، حدثنا محمدُ بنُ عَمْرٍو، حدثنا أَبو سَلَمَةَ، عن أَبي هُرَيْرَةَ قالَ: "قالَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم: مَنْ تَرَكَ مَالاً فَلِوَرَثَتِهِ، وَمَنْ تَرَكَ ضَيَاعَاً فَإِلَيّ" .
ـــــــ
"بسم الله الرحمن الرحيم"
"أبواب الفرائض"
بالهمز جمع فريضة أي المقدرات الشرعية في المتروكات المالية في شرح السنة:
الفرض أصله القطع، يقال فرضت لفلان إذا قطعت له من المال شيئاً. وفي المغرب: الفريضة اسم ما يفرض على المكلف وقد يسمى بها كل مقدر، فقيل الأنصباء المواريث فرائض لأنها مقدرة لأصحابها، ثم قيل بعلم بمسائل الميراث علم الفرائض، وللعالم بها فرضى وفارض
" ما جاءَ في مَنْ تَرَكَ مَالاً فَلِوَرَثَتِه"
قوله: "من ترك مالاً فلأهله" وفي بعض النسخ فلورثته "ومن ترك ضياعاً" بفتح الضاد ويكسر أي عيالاً. قال الخطابي: الضياع هنا وصف لورثة الميت بالمصدر أي ترك أولاداً أو عيالاً ذوي ضياع أي لا شيء لهم، والضياع في الأصل مصدر ضاع ثم جعل اسماً لكل ما يعرض للضياع "فإلى" أي مرجعه ومأواه، أو فليأت إلي أي أنا أتولى أمورهم بعد وفاتهم وأنصرهم فوق ما كان منهم لو عاشوا فأذب المستأكلة من الظلمة أن يحوموا حوله فيخلص لورثته.(6/264)
هذا حديثٌ حسنٌ صحيحٌ. وقد رَوَاهُ الزّهْرِيّ عن أَبِي سَلَمَةَ عن أَبي هُرَيْرَةَ عن النبيّ صلى الله عليه وسلم أَطْوَلَ مِنْ هَذَا وَأَتَمّ.
وفي الباب عن جابر وأنس ومَعْنَى قَوْلِهِ ضِيَاعاً ضَائِعاً لَيْسَ له شَيْءٌ فأنَا أُعُولُهُ وَأُنْفِقُ علَيِه.
ـــــــ
قوله: "هذا حديث حسن صحيح" وأخرجه الشيخان وأحمد والنسائي وابن ماجة "وقد رواه الزهري عن أبي سلمة عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أطول من هذا وأتم" روى البخاري في صحيحه من طريق يونس عن ابن شهاب قال حدثني أبو سلمة عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: أنا أولى بالمؤمنين من أنفسهم فمن مات وعليه دين ولم يترك وفاء فعلينا قضاؤه، ومن ترك مالاً فلورثته " وفي الباب عن جابر وأنس" أما حديث جابر فأخرجه أحمد وأبو داود والنسائي وابن حبان والدارقطني والحاكم. وأما حديث أنس فلينظر من أخرجه(6/265)
2ـ باب ما جاءَ في تَعْلِيمِ الفَرَائِض
2170 ـ حَدّثنا عَبْدُ الأَعْلَى بنُ وَاصِلٍ، حدثنا محمدُ بنُ القَاسِم الأَسَدِيّ، حدثنا الفَضْلُ بنُ دَلْهَمٍ، حدثنا عَوْفٌ عن شَهْرِ بنِ حَوْشَبٍ عن أَبي هُرَيْرَةَ قالَ: قالَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم: "تَعَلّمُوا الفَرَائِضَ والقُرْآنَ وَعَلّمُوا النّاسَ فَإِنّي مَقْبُوضٌ" .
هذا حديثٌ فيِه اضْطِرَابٌ. وَرَوَى
ـــــــ
"باب ما جاء في تعليم الفرائض"
قوله: "تعلموا الفرائض والقرآن" قيل المراد بالفرائض هنا علم الميراث، وقيل ما افترض الله تعالى على عباده بقرينة ذكر القرآ ن "وعلموا الناس" المذكور "فإني مقبوض" يقبضني الله تعالى ويميتني.
قوله: "هذا حديث فيه اضطراب" وقد بينه الترمذي بقوله "وروى أبو أسامة الخ" قال الحافظ في الفتح: قد ورد في الحث على تعلم الفرائض حديث(6/265)
أَبُو أُسَامَةَ هذا الحَدِيثَ عن عَوْفٍ عن رَجُلٍ عن سُلَيْمانَ بنِ جَابِرٍ عن ابنِ مَسْعُودٍ عن النبيّ صلى الله عليه وسلم.
2171-حدّثنا بذلكَ الحُسَيْنُ بنُ حُرَيْثٍ، أخبرنا أَبُو أُسَامَةَ بهذا.
ـــــــ
ليس على شرط المصنف أخرجه أحمد والترمذي والنسائي وصححه الحاكم من حديث ابن مسعود رفعه: "تعلموا الفرائض وعلموها الناس فإني امرؤ مقبوض وإن العلم سيقبض حتى يختلف الاثنان في الفريضة فلا يحدان من يفصل بينها" ، ورواته موثقون إلا أنه اختلف فيه على عوف الأعرابي اختلافاً كثيراً، فقال الترمذي إنه مضطرب والاختلاف عليه أنه جاء عنه من طريق ابن مسعود وجاء عنه من طريق أبي هريرة وفي أسانيدها عنه أيضاً اختلاف، ولفظه عند الترمذي من حديث أبي هريرة: تعلموا لفرائض فإنها نصف العلم وإنه أول ما ينزع من أمتي. وفي الباب عن أبي بكرة أخرجه الطبراني في الأوسط من طريق راشد الحماني عن عبد الرحمن بن أبي بكر عن أبيه رفعه: "تعلموا القرآن والفرائض" وراشد مقبول لكن الراوي عنه مجهول. وعن أبي سعيد الخدري بلفظ: "تعلموا الفرائض وعلموها الناس" أخرجه الدارقطني من طريق عطية وهو ضعيف، قال ابن الصلاح: لفظ النصف في هذا الحديث بمعنى أحد القسمين وإن لم يتساويا. وقال ابن عيينة إذا سئل: عن ذلك إنه يبتلي به كل الناس. وقال غيره: لأن لهم حالتين حالة حياة وحالة موت، والفرائض تتعلق بأحكام الموت انتهى ما في الفتح ملخصاً.
قلت: قوله ولفظه عند الترمذي من حديث أبي هريرة: تعلموا الفرائض الخ فيه أن هذا ليس لفظ حديث أبي هريرة المذكور في الباب، نعم رواه ابن ماجة والحاكم والدارقطني عنه بنحو هذا اللفظ كما ذكره الحافظ في التلخيص(6/266)
3 ـ باب ما جاءَ في مِيرَاثِ البَنَات
2172 ـ حَدّثنا عَبْدُ بنُ حُمَيْدٍ، حدثني زَكَرِيّا بنُ عَدِيّ، أخبرنا عُبَيْدُ الله بنُ عَمْرٍو عن عَبْدِ الله بنِ محمدِ بنِ عَقِيلٍ عن جَابِرِ بنِ عَبْدِ الله قالَ: "جَاءَتْ امْرَأَةُ سَعْدِ بنِ الرّبِيعِ بابْنَتَيْهَا مِنْ سَعْدٍ إِلى رَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم فقالتْ: يا رسولَ الله هَاتَانِ ابْنَتَا سَعْدِ بنِ الرّبِيعِ قُتِلَ أَبُوهُمَا مَعَكَ يَوْمَ أُحُدٍ شَهِيداً، وإِنّ عَمّهُمَا أَخَذَ مَالَهُمَا فَلَمْ يَدَعْ لَهُمَا مَالاً، ولاَ تُنْكَحَانِ إِلاّ وَلَهُمَا مَالٌ. قالَ: يَقْضِي الله في ذلكَ. فَنَزَلَتْ آيَةُ المِيرَاثِ، فَبَعَثَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم إِلَى عَمّهِمَا فقالَ: أَعْطِ ابْنَتَيْ سَعْدٍ الثّلثَيْنِ وَأَعْطِ أُمّهُمَا الثّمُنَ وَمَا بَقِي فَهُوَ لَكَ" .
ـــــــ
"باب ما جاء في ميراث البنات"
قوله: "جاءت امرأة سعد بن الربيع" بفتح الراء وكسر الموحدة أي الأنصاري الخزرجي وكان آخى النبي صلى الله عليه وسلم بينه وبين عبد الرحمن بن عوف، ودفن هو وخارجة بن زيد في قبر واحد، ذكره صاحب المشكاة "قتل أبوهما معك" أي مصاحباً لك. قال في اللمعات، معك ظرف مستقر أي كانا معك لا ظرف لغو متعلق بقتل "شهيداً" تمييز ويجوز أن يكون حالاً مؤكدة لأن السابق في معنى الشهادة "وأن عمهما أخذ مالهما" أي على طريق الجاهلية في حرمان النساء من الميراث "فلم يدع لهما مالاً" أي ولم يترك عمهما لهما مالاً ينفق عليهما أو تجهزان به للزواج "ولا تكحان" أي لا تزوجان عادة أو غالباً أو مع العزة "قال يقضي الله في ذلك" أي يحكم به في القرآن "فنزلت آية الميراث" أي قوله تعالى {يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ} "وأعط أمهما الثمن" وذلك لقوله تعالى" {فَإِنْ كَانَ لَكُمْ وَلَدٌ فَلَهُنَّ الثُّمُنُ مِمَّا تَرَكْتُمْ} " "وما بقي فهو لك" أي بالعصوبة، وهذا أول ميراث في الإسلام. قال البيضاوي رحمه الله: واختلف في البنتين فقال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما: حكمهما حكم الواحدة أي لا حكم(6/267)
هذا حديثٌ حسن صحيحٌ. لا نَعْرِفُهُ إِلاّ مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ الله بنِ محمدِ بنِ عَقِيلٍ.
وقد رَوَاهُ شَرِيكٌ أيضاً عن عَبْدِ الله بن محمد بنِ عَقِيلٍ.
ـــــــ
الجماعة لأنه تعالى جعل الثلثين لما فوقهما، وقال الباقون حكمهما حكم ما فوقهما لأنه تعالى لما بين أن حظ الذكر مثل حظ الأنثيين، إذا كان معه أنثى وهو الثلثان اقتضى ذلك أن فرضهما الثلثان، ثم لما أوهم ذلك أن يزاد النصيب بزيادة العددرد ذلك الوهم بقوله "فإن كن نساء فوق اثنتين" ويؤيد ذلك أن البنت الواحدة لما استحقت الثلث مع أخيها فبالحرى أن تستحقه مع أخت مثلها وأن البنتين أمس رحماً من الأختين وقد فرض لهما الثلثين بقوله "فلهما الثلثان مما ترك" انتهى والحديث يوافق الجمهور ولعله لم يبلغ ابن عباس أو ما صح عنده.
قوله: "هذا حديث حسن صحيح" وأخرجه أحمد وأبو داود وابن ماجة.(6/268)
4 ـ باب ما جَاءَ في ميراثِ بنت الابن مع بنت الصّلْب
2173 ـ حَدّثنا الْحَسَنُ بنُ عَرَفَةَ حدثنا يَزِيدُ بنُ هَارُونَ عن سُفْيَانَ الثّوْرِيّ عن أَبِي قَيْسٍ الأَوْدِيّ عن هُزيلِ بنِ شُرحَبِيل قالَ: "جَاءَ رَجُلٌ إِلى أَبِي مُوسَى وَسُلَيْمَانَ بنِ رَبِيعَةَ فَسَأَلَهُمَا عن ابْنَةٍ وَابْنَةِ ابْنٍ وَأُخْتٍ لأَبٍ وَأُمّ، فَقَالاَ: للاِبْنَةِ النّصْفُ، وَللأُخْتِ مِنَ الأَبِ وَالأُمّ مَا بَقِيَ. وَقَالاَ لَهُ:
ـــــــ
"باب ما جاء في ميراث بنت الابن مع بنت الصلب"
قوله: "جاء رجل إلى أبي موسى وسليمان بن ربيعة" في رواية النسائي: جاء رجل إلى أبي موسى الأشعري وهو الأمير وإلى سليمان بن ربيعة الباهلي. قال الحافظ: كانت هذه القصة في زمن عثمان رضي الله تعالى عنه لأنه هو الذي أمر أبا موسى على الكوفة. وكان ابن مسعود قبل ذلك أميرها ثم عزل قبل ولاية أبي موسى عليها بمدة، قال وقد ذكروا أن سليمان المذكور كان على قضاء الكوفة "فقالا للابنة النصف وللأخت من الأب والأم ما بقي" يعني النصف الباقي لقوله(6/268)
انْطَلِقْ إِلَى عَبْدِ الله فَاسْأَلَهُ فإِنّهُ سَيُتَابِعُنَا، فَأَتَى عَبْدَ الله فَذَكَرَ لَهُ ذَلِكَ وَأَخْبَرَهُ بِمَا قَالاَ. قالَ عَبْدُ الله: قَد ضَلَلْتُ إِذاً وَمَا أَنَا مِنَ المُهْتَديِنَ، وَلَكّنِ أَقْضِي فيها كما قَضَى رَسولُ الله صلى الله عليه وسلم لِلإبْنَةِ النّصْفُ وَلإْبْنَةِ الابْنِ السّدُسُ تَكْمِلَةَ الثُلُثَيْنِ، وَلِلأُخْتِ مَا بقِيَ".
هذا حديثٌ حسنٌ صحيحٌ. وأَبُو قَيْسٍ الأَوْدِيّ اسْمُهُ عَبْدُ الرحمنِ بنِ ثَرْوَانَ كُوفِيّ.
وقد رَوَاهُ شُعْبَةُ عن أَبِي قَيْسٍ.
ـــــــ
تعالى {إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَهُ أُخْتٌ فَلَهَا نِصْفُ مَا تَرَكَ} وفيه أن الولد يشمل البنت فكأنه غفل عن هذا أو أراد أن الولد مختص بالذكر أو قال للأخت النصف على جهة التعصيب، كذا في المرقاة "إلى عبد الله" أي ابن مسعود "فإنه سيتابعنا" أي يوافقنا "قال عبد الله ضللت إذاً" أي إن وافقتهما في هذا الجواب "وما أنا من المهتدين" أي حينئذ إلى الصواب "ولكي أفضي فيها" أي في المسألة "تكملة الثلثين بالإضافة ونصبه على المفعول له أي لتكميل الثلثين" وقال الطيبي رحمه الله: "إما مصدر مؤكد لأنك إذا أضفت السدس إلى النصف فقد كملته ثلثين، ويجوز أن يكون حالاً مؤكدة "وللأخت ما بقي" أي لكونها عصبة مع البنات، وبيانه أن حق البنات الثلثان كما تقدم، وأخذت الصبية الواحدة النصف لقوة القرابة، فبقي سدس من حق البنات فتأخذه بنات الابن واحدة كانت أو متعددة، وما بقي من التركة فلأولى عصبة، فبنات الابن من ذوات الفروض مع الواحدة من الصلبيات، كذا ذكره السيد في شرح الفرائض.
قوله: "هذا حديث حسن صحيح" وأخرجه البخاري وأبو داود والنسائي وابن ماجة والدارمي والطحاوي "وأبو قيس الأودي اسمه عبد الرحمن بن ثروان" بمثلثة مفتوحة وراء ساكنة، صدوق ربما خالف من السادسة، مات سنة عشرين ومائة(6/269)
باب ما جاء فى ميراث الإخوة مع الأب و الأم
...
5 ـ باب ما جاءَ في مِيرَاثِ الإِخْوَةِ من الأَبِ وَالأُم
2174 ـ حَدّثنا بُنْدارٌ، أخبرنا يَزِيدُ بنُ هَارُونَ، أخبرنا سُفْيَانُ عن أَبِي إِسْحَاقَ عن الحَارِثِ عن عَلِيّ أَنّهُ قالَ: "إِنَكُمْ تَقْرَأُونَ هذِه الاَيةَ: {مِنْ بَعْدِ وَصِيّةٍ تُوصُونَ بِهَا أَوْ دَيْنٍ} وَإِنّ رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم قَضَى بالدّيْنِ قَبْلَ الوَصِيّةِ، وأَنّ أَعْيَانَ بَنِي الأُمّ يَتَوَارَثُونَ دُونَ بنِي العَلاّتِ الرجُلُ يَرِثُ أَخَاهُ لأِبِيِه وَأُمّهِ دُونَ أَخِيِه لأَبِيِه".
ـــــــ
"باب ما جاء في ميراث الإخوة من الأب والأم"
قوله: "وإن رسول الله صلى الله عليه وسلم الخ" بكسر إن. والواو للحال "وأن أعيان بني الأم" بفتح أن والواو للعطف، أي وقضى بأن أعيان بني الأم، والمراد من أعيان بني الأم الإخوة والأخوات لأب واحد وأم واحدة من عين الشيء وهو النفيس منه "يرثون" وفي بعض النسخ يتوارثون "دون بني العلات" وهم الإخوة لأب وأمهات شتى. والمعنى أن بني الأعيان إذا اجتمعوا مع بني العلات فالميراث لبني الأعيان لقوة القرابة وازدواج الوصلة. قال الطيبي: قوله، "إنكم تقرأون" إخبار فيه معنى الاستفهام، يعني إنكم أتقرأون هذه الاَية هل تدرون معناها؟ فالوصية مقدمة على الدين في القراءة متأخرة عنه في القضاء، والاَخرة فيها مطلق يوهم التسوية، فقضى رسول الله صلى الله عليه وسلم بتقديم الدين عليها وقضى في الإخوة بالفرق انتهى "الرجل يرث أخاه لأبيه وأمه دون أخيه لأبيه" استيئناف كالتفسير لما قبله. وذكر الحافظ هذا الحديث في التلخيص وفيه يرث الرجل أخوه لأبيه وأمه دون أخيه لأبيه وعزاه للترمذي وابن ماجة والحاكم. فإن قلت: إذا كان الدين مقدماً على الوصية فلم قدمت عليه في التنزيل؟ قلت: اهتماماً بشأنها الكشاف لما كانت الوصية مشبهة بالميراث في كونها مأخوذة من غير عوض كان إخراجها مما يشق على الورثة ويتعاظم ولا تطيب أنفسهم بها، كان أداؤها مظنة للتفريط بخلاف الدين فإن نفوسهم مطمئنة إلى أدائه. فلذلك قدمت على الدين بعثاً على وجوبها والمسارعة إلى إخراجها مع الدين، ولذلك جيء بكلمة(6/270)
2175 ـ حدّثنا بُنْدَارٌ، أخبرنا يَزِيدُ بنُ هَارُونَ، أخبرنا زَكَرِيّا بنُ أَبِي زَائِدَةَ، عن أَبِي إِسْحَاقَ عن الحَارِثِ، عن عَلِيّ عن النبيّ صلى الله عليه وسلم بِمِثْلِه.
2176 ـ حدّثنا ابنُ أَبِي عُمَرَ، أخبرنا سُفْيَانُ أخبرنا أَبُو إِسْحَاق عن الحَارِثِ عن عَلِيّ قالَ: "قَضَى رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم أَنّ أَعْيَانَ بَنِي الأُمّ يَتَوَارَثُونَ دُونَ بَنِي العَلاّتِ".
هذا حديثٌ لا نَعْرِفُهُ إِلاّ مِنْ حَدِيثِ أَبِي إِسْحَاقَ عن الْحَارِثِ عن عَلِيّ. وقد تَكَلّمَ بَعْضُ أَهْلِ العِلمِ في الحَارِثِ، وَالعَمَلُ على هذا الْحَدِيثِ عِنْدَ أَهْلِ العِلمِ.
ـــــــ
أو للتسوية بينهما في الوجوب، قاله القاري. قلت: وسيأتي وجه تقديم الوصية على الدين في القراءة مفصلاً في باب يبدأ بالدين قبل الوصية.
قوله: "أن أعيان بني الأم يتوارثون دون بني العلات" تقدم شرحه آنفاً.
قوله: "وقد تكلم بعض أهل العلم في الحارث" ذكر الحافظ كلامهم فيه في تهذيب التهذيب، وقال في التقريب: الحارث بن عبد الله الأعور الهمداني الحوتي الكوفي أبو زهير صاحب علي كذبه الشعبي في رائه ورمي بالرفض وفي حديثه ضعف، وليس له عند النسائي سوى حديثين انتهى. وقال في التلخيص بعد ذكر هذا الحديث: أخرجه الترمذي وابن ماجة والحاكم من حديث الحارث عن علي والحارث فيه ضعف. وقد قال الترمذي: إنه لا يعرف إلا من حديثه لكن العمل عليه، وكان عالماً بالفرائض. وقد قال النسائي لابأس به انتهى "والعمل على هذا الحديث عند أهل العلم" وفي بعض النسخ عند عامة أهل العلم(6/271)
6 ـ باب
2177 ـ حَدّثنا عَبْدُ بنُ حُمَيْدٍ أخبرنا عَبْدُ الرحمنِ بنُ سَعْدٍ، أخبرنا
ـــــــ
"باب"
كذا في بعض النسخ باب بغير ترجمة، ووقع في بعضها باب ميراث البنين مع البنات(6/271)
عَمْرُو بنُ أَبِي قَيْسٍ، عن محمدِ بنِ المُنْكَدِرِ، عن جَابِرِ بنِ عَبْدِ الله قالَ: "جَاءَنِي رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم يَعُودُنِي وَأَنَا مَرِيضٌ في بَنِي سَلَمَةَ، فَقلت: يَا نَبيّ الله كَيْفَ أَقْسِمُ مَالِي بَيْنَ وَلَدِي؟ فَلَمْ يَرُدّ عَلَيّ شَيْئَاً فَنَزَلَتْ: {يُوصِيكُمْ الله فِي أَوْلاَدِكُمْ لِلذّكَرِ مِثْلُ حَظّ الأُنْثَيَيْنِ} الاَيَة".
هذا حديثٌ حسنٌ صحيحٌ. وقد رَوَاهُ شعبة وابنُ عُيَيْنَةَ وَغَيْرُهُ عن محمدِ بنِ المُنْكَدِر عن جَابِرٍ رضي الله عنه.
ـــــــ
قوله: "حدثنا عبد الرحمن بن سعد" هو عبد الرحمن بن عبد الله بن سعد ابن عثمان الدشتكي أبو محمد الرازي المقري ثقة من العاشرة "حدثنا عمرو بن أبي قيس" الرازي الوزوق كوفي نزل الزي صدوق له أوهام من الثامنة.
قوله: "وأنا مريض في بني سلمة" بفتح المهملة وكسر اللام هم قوم جابر وهم بطن من الخزرج "بين ولدي" كذا وقع في رواية الاَتية. ولا في رواية الترمذي هذه بزيادة لفظ بين ولدي، ولم يقع هذا اللفظ في الرواية واحد من بقية الأئمة الستة بل وقع في بعض طرق حديث جابر المذكور في الصحيحين: فقلت يا رسول الله إنما يرثني كلالة، ووقع في رواية للبخاري: إنما لي أخوات، فبين رواية الترمذي هذه وهذه الروايات مخالفة ظاهرة في الصحيح فهو مقدم "فلم يرد على شيئاً فنزلت {يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ } الاَية وفي الرواية الاَتية فلم يجيني شيثاً وكان له تسع أخوات حتى نزلت آية الميراث {يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ} الخ: قال ابن العربي بعد أن ذكر الروايتين في إحداهما فنزلت {يَسْتَفْتُونَكَ} وفي أخرى آية المواريث هذا تعارض لم يتفق بيانه إلى الاَن ثم أشار إلى ترجيح آية المواريث وتوهيم يستفتونك قال الحافظ: ويظهر أن يقال إن كلا من الاَيتين لما كان فيها ذكر الكلالة نزلت في ذلك لكن الاَية الأولى لما كانت الكلالة فيها خاصة بميراث الإخوة من الأم كما كان ابن مسعود يقرأ "وله أخ أو أخت من أم" وكذا قرأ سعد بن أبي وقاص، أخرجه البيهقي بسند صحيح استفتوا عن ميراث غيرهم من الإخوة فنزلت الأخيرة، فيصبح أن كلا من الاَيتين نزل في قصة جابر(6/272)
ـــــــ
لكن المتعلق به من الاَية الأولى ما يتعلق بالكلالة وأما سبب نزول أولها فورد من حديث جابر أيضاً في قصة ابنتي سعد بن الربيع ومنع عمهما أن ترثا من أبيهما فنزلت "يوصيكم الله" الاَية انتهى(6/273)
7 ـ باب مِيرَاثِ الأَخَوَات
2178 ـ حَدّثنا الفَضْلُ بنُ الصّبَاحِ البَغْدَادِيّ، حدثنا سُفْيَانُ بنُ عُيَيْنَةَ، أخبرنا محمدُ بنُ المَنْكَدِرِ، سَمِعَ جَابِرَ بنَ عَبْدِ الله يقولَ: "مَرِضْتُ فَأَتَاني رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم يَعُودُنِي، فَوَجَدَنِي قَدْ أُغْمِيَ عَلَيّ، فَأَتَانِي وَمَعَهُ أَبُو بَكْرٍ وعمر وَهُمَا مَاشِيَانِ، فَتَوَضّأَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم فَصَبّ عَلَيّ مِنْ وَضُوئِهِ، فَأَفَقْتُ. فَقلت: يا رسولَ الله كَيْفَ أَقْضِي في مَالِي؟ أَوْ كَيْفَ أَصْنَعُ في مَالِي؟ فَلَمْ يُجِبْنِي شيئاً، وكانَ له تِسْعُ أَخَوَاتٍ حتى نَزَلَتْ آيَةُ المِيرَاثِ {يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ الله يُفْتِيكُمْ فِي الكَلاَلَةِ} الاَيَة.
ـــــــ
"باب ميراث الأخوات"
سقط هذا الباب من بعض النسخ
قوله: "قد أغمي" بصيغة المجهول "عليّ" بتشديد الياء. قال في النهاية: أغمي على المريض غشي عليه كأن المرض ستر عقله وغطاه انتهى. وقال الكرماني: الإغماء والغشى بمعنى واحد. قال العيني: وليس كذلك، فإن الغشي مرض يحصل من طول التعب وهو أخف من الإغماء، والفرق بينه وبين الجنون والنوم أن العقل يكون في الإغماء مغلوباً وفي الجنون يكون مسلوباً وفي النوم يكون مستوراً انتهى "فصب علي من وضوئه" بفتح الواو. وقال الحافظ: يحتمل أن يكون المراد صب علي بعض الماء الذي توضأ به أو مما بقي منه، والأول المراد فللمصنف يعني البخاري في الاعتصام: ثم صب وضوئه علي، ولأبي داود: فتوضأ وصبه علي انتهى "فأفقت" أي من إغمائي {يَسْتَفْتُونَكَ} أي يستخبرونك في الكلالة، والاستفتاء طلب الفتوى {قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلالَةِ} قال الجزري في النهاية:(6/273)
قالَ جَابِرٌ فِيّ نَزَلَتْ".
هذا حديثٌ حسنٌ صحيحٌ.
ـــــــ
قد تكرر في الحديث ذكر الكلالة وهو أن يموت الرجل ولا يدع والداً ولا ولداً يرثانه، وأصله من تكلله النسب إذا أحاط به، وقيل الكلالة الوارثون الذين ليس فيهم ولد ولا والد، فهو واقع على الميت وعلى الوارث بهذا الشرط، وقيل الأب والابن طرفان للرجل، فإذا مات ولم يخلفهما فقد مات عن ذهاب طرفيه فسمي ذهاب الطرفين كلالة. وقيل كل ما احتف بالشيء من جوانبه فهو إكليل وبه سميت لأن الوراث يحيطون به من جوانبه انتهى. وقال القسطلاني: الكلالة الميت الذي لا ولد له ولا والد، وهو قول جمهور اللغويين، وقال به علي وابن مسعود أو الذي لا والد له فقط، وهو قول عمر، أو الذي لا ولد له فقط. وهو قول بعضهم، أو من لا يرثه أب ولا أم. وعلى هذه الأقوال فالكلالة إسم للميت، وقيل الكلالة اسم للورثة ما عدا الأبوين والولد، قاله قطرب، واختاره أبو بكر رضي الله تعالى عنه، وسموا بذلك لأن الميت بذهاب طرفيه تكلله الورثة أي أحاطوا به من جميع جهاته انتهى.
قوله: "هذا حديث حسن صحيح" وأخرجه البخاري في الطهارة وفي التفسير وفي الطب وفي الفرائض وفي الإعتصام، ومسلم وأبو داود وابن ماجة في الفرائض، والنسائي فيه وفي الطهارة وفي التفسير وفي الطب، وأخرجه الترمذي أيضاً في التفسير(6/274)
8 ـ باب في مِيرَاثِ العَصَبَة
2179 ـ حَدّثنا عَبْدُ الله بنُ عَبْدِ الرحمنِ، أخبرنا مُسْلِمُ بنُ إبراهيمَ، حدثنا وُهَيْبٌ حدثنا ابنُ طَاوسٍ عن أَبيِه عن ابنِ عَبّاس عن النبيّ صلى الله عليه وسلم قالَ: "أَلْحِقُوا الْفَرَائِضَ بِأَهْلِهَا فَمَا بَقِيَ فَهُوَ لأَوْلَى رَجُلٍ ذَكَرٍ" .
ـــــــ
"باب ما جاء في ميراث العصبة"
قوله: "ألحقوا" بفتح همزة وكسر حاء أي أوصلوا "الفرائض" أي الحصص المقدرة في كتاب الله تعالى من تركة الميت وهي النصف والربع والثمن والثلثان والثلث والسدس "بأهلها" أي المبينة في الكتاب والسنة "فما بقي" بكسر(6/274)
2180 ـ حدّثنا عَبْدُ بنُ حُمَيْدٍ، أخبرنا عَبْدُ الرّزّاقِ عن مَعمَرٍ عن ابنِ طَاوسٍ، عن أَبِيِه عن ابنِ عَبّاسٍ، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم نَحْوَهُ.
قال أبو عيسى: هذا حديثٌ حَسنٌ. وقد رَوَى بَعْضُهُم عن إبن طاوسٍ عن أبيه عن النبي صلى الله عليه وسلم مرسل.
ـــــــ
القاف أي فما فضل بينهم من المال "فهو لأولى رجل" أي لأقرب رجل من الميت "ذكر" تأكيد أو احتراز من الخنثى، وقيل أي صغير أو كبير. وفي شرح مسلم للنووي: قال العلماء: المراد بالأولى الأقرب مأخوذ من الولي بإسكان اللام على وزن الرمي وهو القرب، وليس المراد بأولى هنا أحق بخلاف قولهم الرجل أولى بماله لأنه لو حمل هنا على أحق لخلا عن الفائدة لأنا لا ندري من هو الأحق ووصف الرجل بالذكر تنبيهاً على سبب استحقاقه وهي الذكورة التي هي سبب العصوبة وسبب الترجيح في الأرث، ولهذا جعل للذكر مثل حظ الأنثيين، وحكمته أن الرجال تلحقهم مؤن كثيرة بالقيام بالعيال والضيفان وإرفاد القاصدين ومواساة السائلين وتحمل الغرامات وغير ذلك، وقد أجمعوا على أن ما بقي بعد الفروض فهو للعصبات يقدم الأقرب فالأقرب، فلا يرث عاصب بعيد مع وجود قريب. فإذا خلف بنتاً وأخاً وعماً فللبنت النصف فرضاً والباقي للأخ ولا شيء للعم. وجملة عصبات النسب الابن والأب ومن يدلى بهما ويقدم منهم الأبناء ثم بنوهم وإن سفلوا، ثم الأب ثم الجد ثم الإخوة لأبوين أو لأب وهم في درجة. في شرح السنة: فيه دليل على أن بعض الورثة يحجب البعض، والحجب نوعان: حجب نقصان، وحجب حرمان.
قوله: "هذا حديث حسن" بل هو صحيح فإنه أخرجه الشيخان "وقد روى بعضهم عن ابن طاؤس عن أبيه عن النبي صلى الله عليه وسلم مرسل" قال الحافظ في الفتح: قيل تفرد وهيب بوصله، ورواه النوري عن ابن طاؤس لم يذكر أبن عباس بل أرسله. أخرجه النسائي والطحاوي، وأشار النسائي إلى ترجيح الإرسال ورجح عند صاحبي الصحيح الموصول لمتابعة روح بن القاسم وهيباً عندهما، ويحيى بن أيوب عند مسلم، وزياد بن سعد وصالح عند الدارقطني،(6/275)
ـــــــ
واختلف على معمر فرواه عبد الرزاق عنه موصولاً. أخرجه مسلم وأبو داود والترمذي وإبن ماجة، ورواه عبد الله بن المبارك عن معمر والثوري جميعاً مرسلاً أخرجه الطحاوي، ويحتمل أن يكون حمل رواية معمر على رواية الثوري وإنما صححاه لأن الثوري وإن كان أحفظ منهم لكن العدد الكثير يقاومه، وإذا تعارض الوصل والأرسال ولم يرجح أحد الطريقين قدم الوصل انتهى(6/276)
9 ـ باب مَا جَاءَ في مِيرَاثِ الجَد
2181ـ حَدّثنا الْحَسَنُ بنُ عَرَفَةَ، حدثنا يَزِيدُ بنُ هَارُونَ عن هَمّامِ بنِ يَحْيَى عن قَتَادَةَ عن الحَسَنِ عن عِمْرَانَ بنِ حُصَيْنٍ قالَ: "جَاءَ رَجُلٌ إِلى النبيّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: إِنّ ابْنِي مَاتَ فَمَالِي مِنْ ميراثِهِ؟ فَقَالَ: لَكَ السّدُسُ، فلما وَلّى دعَاهُ فقالَ: لَكَ سُدُسٌ آخر، فلمّا وَلىّ دَعَاهُ قالَ: إنّ السّدُسَ الاَخَر لَك طُعْمَةٌ" .
ـــــــ
"باب ما جاء في ميراث الجد"
قوله: "فقال إن ابن ابني مات فمالي من ميراثه" أي وله بنتان ولهما الثلثان وكان معلوماً عندهم "قال لك السدس" أي بالفرضية "يقال لك سدس آخر" أي بالعصوبة "قال إن السدس الأخر" قال القاري في شرح المشكاة: بكسر الخاء وفي نسخة يعني من المشكاة بالفتح، والمراد به الاَخر بالكسر "لك طعمة" يعني رزق لك بسبب عدم كثرة أصحاب الفروض وليس بفرض لك. فإنهم إن كثروا لم يبق هذا السدس الأخير لك قال الطيبي: صورة هذه المسألة أن الميت ترك بنتين وهذا السائل فلهما الثلثان فبقي الثلث، فدفع عليه الصلاة والسلام إلى السائل سدساً بالفرض لأنه جد الميت وتركه حتى ذهب فدعاه ودفع إليه السدس الأخير كيلا يظن أن فرضه للثلث. ومعنى الطعمة هنا التعصيب، أي رزق لك ليس بفرض، وإنما قال في السدس الاَخر طعمة دون الأول لأنه فرض، والفرض لا يتغير بخلاف التعصيب، فلما لم يكن التعصيب شيئاً مستقراً ثابتاً، اسماه طعمة انتهى. اعلم أنه قد اختلف الصحابة في الجد اختلافاً طويلاً ذكره الحافظ في(6/276)
هذا حديثٌ حسنٌ صحيحٌ. وفي البابِ عن مَعْقِلِ بن يَسَارٍ.
ـــــــ
الفتح والتلخيص والقاضي الشوكاني في النيل، فإن شئت الوقوف على ذلك فارجع إلى هذه الكتب.
قوله: "هذا حديث صحيح حسن" وأخرجه أحمد وأبو داود والنسائي. قال المنذري في لتلخيص السنن بعد نقل كلام الترمذي هذا: وقد قال علي بن المديني وأبو حاتم الرازي وغيرهما إن الحسن لم يسمع من عمران بن حصين انتهى. قلت: قد أسند ابن أبي حاتم في كتابه المراسيل عن هؤلاء الأئمة أن الحسن لم يسمع من عمران بن حصين شيئاً.
قوله: "وفي الباب عن معقل بن يسار" أخرجه أحمد عن الحسن أن عمر سأل عن فريضة رسول الله صلى الله عليه وسلم في الجد فقام معقل بن يسار المزني فقال قضى فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال ماذا: قال السدس. قال مع من؟ قال لا أدري، قال لادريت فما تغني إذن، وأخرجه أبو داود والنسائي وابن ماجة ولكنه منقطع لأن الحسن البصري لم يدرك السماع من عمر، فإنه ولد في سنة إحدى وعشرين وقتل عمر في سنة ثلاث وعشرين وقيل سنة أربع وعشرين، وذكر أبو حاتم الرازي أنه لم يصح للحسن سماع من معقل بن يسار(6/277)
10 ـ باب ما جَاءَ في مِيرَاثِ الْجَدّة
2182ـ حَدّثنا ابنُ أَبِي عُمَرَ، حدثنا سُفْيَانُ، حدثنا الزّهْرِيّ قالَ مَرّةً: قَالَ قَبِيصَةُ وَقَالَ مَرّةً عن رَجُلٍ عن قَبِيصَةَ بنِ ذَوَيْبٍ قالَ: "جَاءَتْ الجَدّةُ أُمّ الأُمّ أَوْ أُمّ الأَبِ إِلى أبي بَكْرٍ: فَقَالَتْ إِنّ ابْنَ ابْنِي أَوْ أَنّ ابْنَ ابْنَتِي
ـــــــ
"باب ما جاء في ميراث الجدة"
قوله: "حدثنا سفيان" هو ابن عيينة "قال قبيصة بن ذويب" قال في التقريب: قبيصة بن ذويب بالمعجمة مصغر ابن حلحة الخزاعي أبو سعيد أو أبي إسحاق المدني نزيل دمشق من أولاد الصحابة وله رؤية مات سنة بضع وثمانين.
قوله: "جاء الجدة أم الأم أو أم الأب" شك من الراوي، وقد ذكر القاضي(6/277)
مَاتَ، وَقَد أُخْبِرْتُ أَنّ لِي في الكِتَابِ حَقّاً، فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: مَا أَجِدُ لَكِ في الكِتَابِ مِنْ حَقَ، وَمَا سَمِعْتُ مِنْ رَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم قَضَى لَكِ بِشَيْءٍ. وَسَأَسْأَلُ النّاسَ، فَشَهِدَ المُغِيرَةُ بنُ شُعْبَةَ أَنّ رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم أَعْطَاهَا السّدُسَ. قالَ وَمَنْ سَمِعَ ذَلكَ مَعَكَ؟ قالَ: محمدُ بنُ مَسْلَمَةَ. قالَ: فَأَعْطَاهَا السّدُسَ. ثُمّ جَاءَتْ الْجَدّةُ الأخْرَى التي تُخَالِفُهَا إِلَى عُمَر، قَالَ سُفْيَانُ: وَزَادَنِي فِيه مَعْمَرٌ عن الزّهْرِيّ، وَلمْ أَحْفَظْهُ عن الزّهْرِيّ،
وَلَكِنْ حَفِظْتُهُ مِنْ مَعْمَرٍ أَنّ عُمَر قالَ: إِن اجْتَمَعْتُمَا فَهُوَ لَكُمَا وَأَيّتُكُمَا انْفَرَدَتْ بِهِ فَهُوَ لَهَا".
2183ـ حدّثنا الأَنْصَارِيّ، حدثنا مَعْنٌ، حدثنا مَالِكٌ عن ابنِ شِهَابٍ عن عُثْمَانَ بنِ إِسْحَاقَ بن خَرْشَةَ عن قَبِيصَةَ بنِ ذُؤَيْبٍ قالَ: "جَاءَتْ الْجَدّةُ
ـــــــ
حسين أم الجدة التي جاءت إلى الصديق أم الأم، وأن التي جاءت إلى عمر أم الأب، وفي رواية ابن ماجة ما يدل له كذا في التلخيص "ما أجد لك في الكتاب" أي في كتاب الله "ثم جاءت التي تخالفها" وفي نسخة: الجدة الأخرى، وفي رواية ابن ماجة: ثم جاءت الجدة الأخرى من قبل الأب إلى عمر تسأله ميراثها. "وأيتكما انفردت به" أي انفردت بالسدس، وكان ذلك بمحضر من الصحابة ولم ينكر عليه أحد فكان إجماعاً. قال الطيبي رحمه الله: فإن اجتمعتما الخ بيان للمسألة والخطاب في فإن اجتمعتما وأيتكما، للجنس، لا يختص بهاتين الجدتين. فالصديق إنما حكم بالسدس لها لأنه ما وقف على الشركة، والفاروق لما وقف على الاجتماع حكم بالاشتراك كذا في المرقاة.
قوله: "عن عثمان بن إسحاق بن خرشة" قال في التقريب عثمان بن إسحاق بن خرشة بمعجمتين بينهما راء مفتوحات القرشي العامري المدني، وثقه الدوري في رواية ابن معين من الخامسة.(6/278)
إِلى أَبِي بَكْرٍ فَسَأَلَتْهُ مِيْرَاثَهَا، قَالَ لَهَا: مَا لَكِ في كِتَابِ الله شَيْءٌ، وَمَا لَكِ في سُنّةِ رَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم شَيْءٌ فَارِجْعِي حتى أَسْأَلَ النّاسَ، فَسَأَلَ النّاسَ، فَقَالَ المُغِيرَةُ بنُ شُعْبَةَ: حَضَرْتُ رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم أَعْطَاهَا السّدُسَ، فَقَالَ هَلْ مَعَكِ غَيْرُكِ؟ فَقَامَ محمدُ بنُ مَسْلَمَةَ فَقَالَ مِثْلَ مَا قَالَ المُغِيرَةُ بنُ شُعْبَةَ، فَأَنْفَذَهُ لَهَا أَبُو بَكْرٍ. قالَ: ثُمّ جَاءَتْ الجَدّةُ الأُخْرَى إلى عُمَرَ بنِ الْخَطّابِ فَسَأَلَتْهُ مِيرَاثَهَا، فَقَالَ: مَا لَكِ في كِتَابِ الله شَيْءٌ وَلَكِنْ هُوَ ذَلِكِ السّدُسَ، فإِنْ اجْتَمَعْتُمَا فِيِه فَهُوَ بَيْنَكُمَا، وَأَيّتُكُمَا خَلَتْ بِهِ فَهُوَ لَهَا".
هذا حديث حسنُ صحيح وَهُوَ أَصَحّ مِنْ حَدِيثِ ابنِ عُيَيْنَةَ.
ـــــــ
قوله: "مالك في كتاب الله" أي في كلامه "ومالك في سنة رسول الله" أي في حديثه "فقام محمد بن مسلمة" بفتح فسكون "فأنفذه لها" أي فأنفذ الحكم بالسدس للجدة وأعطاه إياها "ثم جاءت الجدة الأخرى" أي من قبل الأب كما في رواية ابن ماجة "ولكن هو ذلك" قال القاري بكسر الكاف، وفي نسخة يعني من المشكاة بالفتح على خطاب العام "السدس" صفة ذلك أو عطف بيان له، أي ميراثك ذلك السدس بعينه تقسمانه بينكما "فإن اجتمعتما" وهذا تصريح بما علم ضمناً وتوضيح لمنطوق ما فهم مفهوماً، والخطاب للجدة من طرف الأم والجدة من طرف الأب "وأيتكما خلت به" أي انفردت بالسدس.
قوله: "هذا حديث حسن صحيح" قال الحافظ في التلخيص بعد ذكر هذا الحديث: أخرجه مالك وأحمد وأصحاب السنن وابن حبان والحاكم من هذا الوجه وإسناد صحيح لثقة رجاله إلا أن صورته مرسل، فإن قبيصة لا يصح له سماع من الصديق ولا يمكن شهوده للقصة، قاله ابن عبد البر بمعناه. وقد اختلف في مولده والصحيح أنه ولد عام الفتح فيبعد شهوده القصة، وقد أعله عبد الحق تبعاً لإبن حزم بالانقطاع. وقال الدارقطني في العلل بعد أن ذكر الاختلاف فيه(6/279)
وفي البابِ عن بَريدة.
ـــــــ
عن الزهري: يشبه أن يكون الصواب قول مالك ومن تابعه انتهى "وهو أصح من حديث ابن عيينة" لأن مالكاً أتقن وأثبت من سفيان بن عيينة.
قوله: "وفي الباب عن بريدة" أخرجه أبو داود والنسائي عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم جعل للجدة السدس إذا لم تكن دونها أم وفي إسناده عبيد الله العتكي مختلف فيه وصححه ابن السكن(6/280)
11 ـ باب ما جاءَ في مِيرَاثِ الجَدّةِ مَعَ ابْنِها
2184 ـ حَدّثنا الحَسَنُ بنُ عَرَفَةَ أخبرنا يَزِيدُ بنُ هَارُونَ عن محمدِ بنِ سَالِمٍ عن الشّعْبِيّ عن مَسْرُوقٍ عن عَبْدِ الله بنِ مَسْعُودٍ: قالَ في الْجَدّةِ مَعَ ابْنِهَا: "إِنّهَا أَوّلُ جَدّةٍ أَطْعَمَهَا رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم سُدُسَاً مَعَ ابنِهَا وَابْنُهَا حَيٌ".
هذا حديثٌ لا نَعْرِفُهُ مَرْفُوعاً إِلاّ مِنْ هذا الوَجْهِ.
ـــــــ
"باب ماجاء فى ميراث الجدة مع ابنها"
قوله: "أطعمها رسول الله صلى الله عليه وسلم سدساً" أي أعطاها تبرعاً. قاله الطيبي رحمه الله: قوله إنها أول جدة مقول القول والضمير راجع إلى الجدة المذكورة في المسألة، أي قال ابن مسعود في مسألة الجدة مع الابن هذا القول. قال المظهر: يعني أعطى رسول الله صلى الله عليه وسلم أم أبي الميت سدساً مع وجود أبي الميت مع أنه لا ميراث لها معه.
قوله: "هذا حديث لا نعرفه مرفوعاً إلا من هذا الوجه" في سنده محمد بن سالم الهمداني، أبو سهل الكوفي وهو ضعيف: والحديث أخرجه أيضاً الدارمي.(6/280)
وقَدْ وَرّثَ بَعْضَ أَصْحَابِ النبيّ صلى الله عليه وسلم الْجَدّةَ مَعَ ابْنِهَا، وَلَمْ يُوَرّثْهَا بَعْضُهُمْ.
ـــــــ
قوله: "وقد ورث بعض أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم الجدة مع ابنها ولم يورثها بعضهم" قال في اللمعات: اعلم أن الجدات سواء كانت أبويات أو أميات يسقطن بالأم. أما الأميات فلوجود إدلائها الأمومة واتحاد السبب الذي هو الأمومة، وأما الأبويات فلاتحاد السبب مع زيادة القربى وتسقط الأبويات دون الأميات بالأب أيضاً، وهو قول عثمان وعلي وزيد بن ثابت وغيرهم. ونقل عن عمر وابن مسعود وأبي موسى الأشعري أن أم الأب ترث مع الأب، واختاره شريح والحسن وابن سيرين لهذا الحديث، وقيل الجدة ليس لها ميراث والذي أعطاها رسول الله صلى الله عليه وسلم طعمة أطعمها، ولم يكن ميراثاً كما يشعر به لفظ الحديث. وأقربهن وأبعدهن في ذلك سواء انتهى(6/281)
12 ـ باب ما جاءَ في مِيرَاثِ الخَال
2185 ـ حَدّثنا بُنْدَارٌ، أخبرنا أَبُو أَحمد الزّبَيْرِيّ، حدثنا سُفْيَانُ عن عَبْدِ الرحمنِ بن الْحَارِثِ عن حَكِيمِ بنِ حَكِيمِ بنِ عَبّادِ بنِ حُنَيْفٍ عن أَبِي أُمَامَةَ بنِ سَهْلِ بنِ حُنَيْفٍ قالَ: "كَتَبَ مَعِي عُمَرُ بنُ الْخَطّابِ إِلى أَبِي عُبَيْدَةَ أَنّ رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم قالَ: الله ورسولُهُ مَوْلَى مَنْ لاَ مَوْلَى لَهُ، وَالْخَالُ وَارِثُ مَن لاَ وَارِثَ لَهُ" .
ـــــــ
"باب ما جاء في ميراث الخال"
قوله: "حدثنا سفيان" هو الثوري "عن حكيم بن حكيم بن عباد بن حنيف" بضم الحاء المهملة وفتح النون وسكون الياء، وبالفاء الأنصاري الأوسي، صدوق من الخامسة "قال كتب معي" وفي رواية عن أبي أمامة أن رجلاً رمى رجلاً بسهم فقتله وليس له وارث إلا خال فكتب في ذلك أبو عبيدة بن الجراح إلى عمر، فكتب عمر أي في جوابه "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: الله ورسوله مولى من لا مولى له" وفي حديث المقدام بن معد يكرب الذي أشار إليه الترمذي(6/281)
وفي البابِ عن عَائِشَةَ وَالمِقْدَامِ بنِ مَعْدِ يكَرِبٍ. هذا حديثٌ حسنٌ.
2186 ـ أخبرنا إسحاقُ بنُ مَنْصُورٍ، أخبرنا أَبُو عَاصِمٍ، عن ابنِ جُرَيْجٍ عن عَمْرِو بنِ مُسْلِمٍ عن طَاوسٍ عن عَائِشَةَ قالَتْ: "قالَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم ـ الْخَالُ وَارِثُ مَنْ لاَ وَارِثَ لَهُ" .
ـــــــ
أنا مولى من لا مولى له أرث ماله وأفك عانه " والخال وارث من لا وارث له" أي إن مات ابن أخته ولم يخلط غير خاله فهو يرثه.
قوله: "وفي الباب عن عائشة والمقدام بن معد يكرب" أما حديث عائشة فأخرجه الترمذي بعد هذا وأما حديث المقدام فأخرجه أبو داود عنه مرفوعاً: أنا أولى بكل مؤمن من نفسه، فمن ترك ديناً أو ضيعة فإلي، ومن ترك مالاً فلورثته، وأنا مولى من لا مولى له أرث ماله وأفك عانه، والخال مولى من لا مولى له يرث ماله ويفك عانيه . وفي رواية له: أنا وارث من لا وارث له أفك عنيه، وأرث ماله، والخال وارث من لا وارث له يفك عنيه ويرث ماله . والحديث سكت عنه أبو داود والمنذري وأخرجه أيضاً أحمد والنسائي وابن ماجة والحاكم وابن حبان وصححاه، وحسنه أبو زرعة الرازي وأعله البيهقي بالاضطراب.
قوله: "هذا حديث حسن" وأخرحه أحمد وابن ماجة، وذكره الحافظ في التلخيص ولم يتكلم عليه.
قوله: "أخبرنا أبو عاصم" اسمه الضحاك بن مخلد بن الضحاك بن مسلم الشيباني أبو عاصم النبيل البصري ثقة ثبت من التاسعة "عن ابن جريج" هو عبد الملك بن عبد العزيز بن جريج الأموي مولاهم المكي ثقة فقيه فاضل، وكان يدلس ويرسل من السادسة "عن عمرو بن مسلم" الجندي اليماني صدوق له أوهام من السادسة.
قوله: "الخال وارث من لا وارث له" فيه دليل لمن قال بتوريث ذوي الأرحام وهو القول الراجح، وقد تعسف القاضي أبو بكر ابن العربي في الجواب عن هذا الحديث فقال المراد بالخال السلطان.(6/282)
هذا حديثٌ حسنٌ غريبٌ وقد أَرْسَلَهُ بَعْضُهُمْ وَلَمْ يَذْكُرْ فِيِه عن عَائِشَةَ.
واخْتَلَفَ فِيِه أَصْحَابُ النبيّ صلى الله عليه وسلم فَوَرّثَ بَعْضُهُمْ الْخَال وَالْخَالَةَ وَالَعَمّةَ: وإلى هذا الْحَدِيثِ ذَهَبَ أكْثَرُ أَهْلِ العِلمِ في تَوْرِيثِ ذَوِي الأَرْحَامِ وَأَمّا زَيْدُ بنُ ثَابِتٍ فَلَمْ يُوَرّثْهُمْ وجَعَلَ المِيرَاثَ فِي بَيْتِ الْمَالِ.
ـــــــ
قوله: "هذا حديث حسن غريب" وأخرجه النسائي والدارقطني وأعله النسائي بالاضطراب، ورجح الدارقطني والبيهقي وقفه.
قوله: "واختلف فيه أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم فورث بعضهم الخال والخالة والعمة. وإلى هذا الحديث ذهب أكثر أهل العلم في توريث ذوي الأرحام الخ" إعلم أن ذا الرحم هو كل قريب ليس بذي فرض ولا عصبة، فأكثر الصحابة كعمر وعلي وابن مسعود وأبي عبيدة بن الجراح ومعاذ بن جبل وأبي الدرداء وابن عباس في رواية عنه مشهورة وغيرهم يرون توريث ذوي الأرحام، وتابعهم في ذلك من التابعين: علقمة والنخعي وشريح والحسن وابن سيرين وعطاء ومجاهد، وبه قال أبو حنيفة رحمه الله وأبو يوسف رحمه الله ومحمد رحمه الله وزفر ومن تابعهم. وقال زيد بن ثابت وابن عباس في رواية شاذة: لا ميراث لذوي الأرحام، ويوضع المال عند عدم صاحب الفرض والعصبة في بيت المال، وتابعهما في ذلك من التابعين سعيد بن المسيب وسعيد بن جبير، وبه قال مالك والشافعي، كذا في المرقاة. وقال الشوكاني في النيل: احتج الأولون بأحاديث الباب وبعموم قوله تعالى: {وَأُولُوا الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ} ، وقوله تعالى: {لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ} ولفظ الرجال والنساء والأقربين يشملهم. والدليل على مدعي التخصيص. وأجاب الاَخرون عن ذلك فقالوا: عمومات الكتاب محتملة وبعضها منسوخ، والأحاديث فيها ما تقدم من المقال ويجاب عن ذلك بأن دعوى الاحتمال إن كانت لأجل العموم فليس ذلك مما يقدح في الدليل، وإلا استلزم إبطال الاستدلال بكل دليل عام وهو باطل وإن كانت لأمر آخر فما هو؟ وأما الاعتذار عن أحاديث الباب بما فيها من المقال فقد عرفت من صححها من الأئمة ومن حسنها،(6/283)
ـــــــ
ولا شك في انتهاض مجموعها للاستدلال إن لم ينتهض الإفراد. ومن جملة ما استدلوا به على إبطال ميراث ذوي الأرحام حديث أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: سألت الله عز وجل عن ميراث العمة والخالة فسارني أن لا ميراث لهما ، أخرجه أبو داود في المراسيل، والدارقطني من طريق الدراوردي عن زيد بن أسلم عن عطاء بن يسار مرسلاً، وأخرجه النسائي من مرسل زيد بن أسلم. ويجاب بأن المرسل لا تقوم به الحجة، ولها طرق موصولة ذكرها الحافظ في التلخيص والشوكاني في النيل وكلها ضعيفة. قال الشوكاني بعد ذكرها: وكل هذه الطرق لا تقوم بها حجة، وعلى فرض صلاحيتها للاحتجاج فهي واردة في الخالة والعمة فغايته أنه لا ميراث لهما، وذلك لا يستلزم إبطال ميراث ذوي الأرحام انتهى(6/284)
باب ما جاء فى الذى يموت و ليس له وارث
...
13 ـ باب ما جاءَ في الذي يَمُوتُ وَلَيْسَ لَهُ وارِث
2187 ـ حَدّثنا بُنْدَارٌ، حدثنا يَزِيدُ بنُ هَارُونُ، أخبرنا سُفْيَانُ عن عَبْدِ الرحمنِ بنِ الأَصْبِهَانِيّ، عن مُجاهِدِ بنِ وَرْدَانَ، عن عُرْوَةَ عن عَائِشَةَ "أَنّ مَوْلًى للنبيّ صلى الله عليه وسلم وَقَعَ من عَذْقِ نَخْلَةٍ فَمَاتَ، فقالَ النبيّ صلى الله عليه وسلم: انْظُرُوا هَلْ لَهُ مِنْ وَارِثٍ؟ قالوا: لا. قَالَ: فَادْفَعُوهُ إلى بَعْضِ أَهْلِ القَرْيَةِ" .
ـــــــ
"باب ما جاء في الذي يموت وليس له وارث"
قوله: "عن عبد الرحمن بن الأصبهاني" هو عبد الرحمن بن عبد الله بن الأصبهاني الكوفي الجهني ثقة من الرابعة، مات في إمارة خالد القشيري على العراق "عن مجاهد بن وردان" المدني صدوق.
قوله: "وقع من عذق نخلة" قال في المجمع: العذق بالفتح النخلة وبالكسر العرجون بما فيه من الشماريخ ويجمع على عذاق "فادفعوه إلى بعض أهل القرية" وفي رواية أبي داود: اعطوا ميراثه رجلاً من أهل قريته. قال القاري: أي فإنه أولى من آحاد المسلمين. قال القاضي رحمه الله: إنما أمر أن يعطي رجلاً من(6/284)
وفي الباب عن بريدة. وهذا حديثٌ حسنٌ.
ـــــــ
قريته تصدقاً منه أو ترفقاً أو لأنه كان لبيت المال ومصرفه مصالح المسلمين وسد حاجاتهم فوضعه فيهم لما رأى من المصلحة، فإن الأنبياء كما لا يورث عنهم لا يرثون عن غيرهم وقال بعض الشراح: الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم لا يرثون ولا يورث عنهم عن التلبس بالدنيا الدنية وانقطاع أسبابهم عنها. وأما ما وقع في حديث المقدام: وأنا مولى من لا مولى له أرث ماله، فإنه لم يرد به حقيقة الميراث وإنما أراد أن الأمر فيه إلي في التصدق به أو صرفه في مصالح المسلمين أو تمليك غيره انتهى كذا في المرقاة.
قوله: "وفي الباب عن بريدة" أخرجه أبو داود عنه قال: مات رجل من خراعة فأتى النبي صلى الله عليه وسلم بميراثه فقال: التمسوا له وارثاً أو ذا رحم، فلم يجدوا له وارثاً ولا ذا رحم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أعطوه الكبير من خراعة . قال المنذري: وأخرجه النسائي مسنداً ومرسلاً. وقال جبريل ابن أحمر: ليس بالقوي، والحديث منكر. هذا آخر كلامه. وقال الموصلي: فيه نظر. وقال أبو زرعة الرازي شيخ. وقال يحيى بن معين كوفي ثقة انتهى. والحديث أخرجه أيضاً أحمد في مسنده.
قوله: "هذا حديث حسن" وأخرجه أبو داود والنسائي وابن ماجة وسكت عنه أبو داود، ونقل المنذري تحسين الترمذي فأقره(6/285)
14 ـ باب
2188 ـ حَدّثنا ابنُ أَبِي عُمَر، حدثنا سفيانُ، عن عَمْرِو بنِ دِينَارٍ، عن عَوْسَجَةَ عن ابنِ عَبّاسٍ: "أَنّ رَجُلاً مَاتَ على عَهْدِ رَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم، وَلَمْ يَدَعْ وَارِثاً إِلاّ عَبْداً هُوَ أَعْتَقَهُ، فَأَعْطَاهُ النبيّ صلى الله عليه وسلم مِيرَاثَهُ".
ـــــــ
"باب"
وفي بعض النسخ باب في ميراث المولى الأسفل
قوله: "عن عوسجة" المكي مولى ابن عباس ليس بمشهور من الرابعة "ولم(6/285)
هذا حديثٌ حسنٌ. والعملُ عِنْدَ أَهلِ العِلمِ في هذا البابِ: إِذَا مَاتَ الرَجُلُ وَلَمْ يَتْرُكْ عَصَبَةً أَنّ مِيرَاثَهُ يُجْعَلُ في بَيْتِ مَالِ المُسْلِمِينَ.
ـــــــ
يدع وارثاً" أي لم يترك احداً يرثه "لا عبداً" استثناء منقطع أي لكن ترك عبداً "فأعطاه النبي صلى الله عليه وسلم ميراثه" هذا الإعطاء مثل ما سبق في حديث عائشة رضي الله عنها أعطوا ميراثه رجلاً من أهل قريته بطريق التبرع لأنه صار ماله لبيت المال. قال المظهر: قال شريح وطاؤس: يرث المعتق من المتق كما يرث المعتق من العتيق.
قوله: "هذا حديث حسن" وأخرجه أبو داود والنسائي وابن ماجه. قال المنذري في تلخيص السنن: قال البخاري: عوسجة مولى ابن عباس الهاشمي روى عنه عمرو بن دينار ولم يصح. وقال أبو حاتم الرازي: ليس بالمشهور، وقال النسائي: عوسجة ليس بالمشهور ولا نعلم أحداً يروي عنه غير عمرو. وقال أبو زرعة الرازي ثقة.
قوله: "والعمل عند أهل العلم في هذا الباب إذا مات رجل ولم بترك عصبة" أي وارثاً "أن ميراثه يجعل في بيت مال المسلمين" هذا إذا كان بيت المال منتظماً وأما إذا لم يكن منتظماً فيجعل في المصالح العامة كالمدارس الدينية وغيرها والله تعالى أعلم(6/286)
باب ما جاء فى إبطال ميراث بين المسلم و الكافر
...
15ـ باب مَا جَاءَ في إِبْطَالِ المِيرَاثِ بَيْنَ المُسْلِمِ والْكافِر
2189 ـ حَدّثنا سَعِيدُ بنُ عَبْدِ الرحمنِ المَخْزُومِيّ وَغَيْرُ وَاحِدٍ قاُلوا: حدثنا سفيانُ، عن الزّهْرِيّ ح. وحدثنا عَلِيّ بنُ حُجْرٍ، أخبرنا هُشَيْمٌ، عن الزّهْرِيّ، عن عَلِيّ بنِ حُسَيْنٍ، عن عَمْرِو بنُ عُثْمانَ، عن أُسَامَةَ بنِ زَيْدٍ:
ـــــــ
"باب ما جاء في إبطال الميراث بين المسلم وزالكافر"
قوله: "عن علي بن حسين" قال في التقريب: علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب زين العابدين، ثقة ثبت عابد فقيه فاضل مشهور. قال ابن عيينة عن الزهري: ما رأيت قرشياً أفضل منه من الثالثة انتهى.(6/286)
"أَنّ رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم قالَ: لاَ يَرِثُ المُسْلِمُ الْكَافِرُ وَلاَ الْكَافِرُ المُسْلِمَ" .
2190 ـ حدّثنا ابنُ أَبِي عُمَرَ، حدثنا سُفْيَانُ، حدثنا الزّهْرِيّ نَحوَه.
وفي البابِ عن جَابِرٍ وَعَبْدِ الله بنِ عَمْرٍو.
وهذا حديثٌ حسنٌ صحيحٌ. هَكَذَا رَوَاهُ مَعْمَرٌ وَغَيْرُ وَاحِدٍ عن الزّهْرِيّ نَحْوَ هذا. وَرَوَى مَالِكٌ عن الزّهْرِيّ عن عَلِيّ بنِ حُسَيْنٍ عن عُمَرَ بنِ عُثْمانَ عن أُسَامَةَ بنِ زَيْدٍ عن النبيّ صلى الله عليه وسلم نَحْوَهُ. وَحَدِيثُ مَالِكٍ وَهْمٌ، وَهِمَ فِيِه مَالِكٌ. وَرَوَى بَعْضُهُم عن مَالِكٍ فقَالَ عن عَمْرٍو بنِ عُثْمَانَ. وَأَكْثَرُ أَصْحَابِ مَالِكِ قالُوا عن مالِكِ عن عُمَر بنِ عُثْمَانَ. وعَمْرُو بنُ عُثْمانَ بنِ عِفانَ
ـــــــ
قوله: "لا يرث المسلم الكافر ولا الكافر المسلم" فيه دليل على أن المسلم لا يرث الكافر ولا الكافر المسلم، وعليه عامة أهل العلم.
قوله: "وفي الباب عن جابر وعبد الله بن عمرو" أما حديث جابر فأخرجه الترمذي في هذا الباب. وأما حديث عبد الله بن عمرو فأخرجه أحمد وأبو داود وابن ماجة عنه مرفوعاً: لا يتوارث أهل ملتين شيئاً، وأخرجه أيضاً الدارقطني وابن السكن وسند أبي داود فيه إلى عمرو بن شعيب صحيح.
قوله: "هذا حديث حسن صحيح" قال الحافظ في التلخيص: هو حديث متفق عليه وأخرجه أصحاب السنن أيضاً. وأغرب ابن تيمية في المنتقى فادعى أن مسلماً لم يخرجه وكذا ابن الأثير في الجامع ادعى أن النسائي لم يخرجه انتهى.
قوله: "هكذا رواه معمر وغير واحد عن الزهري نحو هذا" أي رووا عن الزهري عن علي بن حسين عن عمرو بن عثمان بالواو "وروى مالك عن الزهري عن علي بن حسين عن عمر بن عثمان" أي بغير الواو "وحديث مالك وهم" أي خطأ "وهم فيه مالك" أي أخطأ فيه "وروى بعضهم عن مالك فقال عن عمرو ابن عثمان" أي بالواو "وأكثر أصحاب مالك قالوا عن مالك عن عمر بن عثمان"(6/287)
هُوَ مَشْهُورٌ مِنْ وَلَدِ عُثْمانَ ولا نَعْرِفُ عُمَرَ بنَ عُثْمَانَ.
والعملُ على هذا الْحَدِيثِ عِندَ أَهلِ العِلمِ.
ـــــــ
أي بغير الواو. قال الحافظ في التقريب: عمر بن عثمان بن عفان في حديث أسامة صوابه عمرو تفرد مالك بقوله عمر وقال في تهذيب التهذيب: عمر بن عثمان بن عفان المدني عن أسامة بن زيد بحديث لا يرث المسلم الكافر، قاله مالك عن الزهري عن علي بن الحسين عنه. وقال عامة الرواة عن علي عن عمرو بن عثمان وهو المحفوظ. وقال في الفتح: اتفق الرواة عن الزهري أن عمرو بن عثمان بفتح أوله وسكون الميم إلا أن مالكاً وحده قال عمر بضم أوله وفتح الميم، وشذت روايات عن غير مالك على وفقه وروايات عن مالك على وفق الجمهور "وعمرو بن عثمان هو مشهور من ولد عثمان ولا نعرف عمر بن عثمان" قال الحافظ في تهذيب التهذيب إن لعمر بن عثمان وجوداً في الجملة كما قال ابن عبد البر إن أهل النسب لا يختلفون أن لعثمان ابناً يسمى عمر وآخر يسمى عمراً. وقد ذكر ابن سعد عمر بن عثمان، وقال كان قليل الحديث، وذكر عمرو بن عثمان وقال كان ثقة وله أحاديث، وذكر الزبير بن بكار أن عثمان لما مات ورثه بنوه عمرو وأبان وعمر وخالد والوليد وسعيد وبناته وزوجتاه، لكن لا يدل ذلك على أنه روى هذا الحديث عن أسامة بن زيد انتهى.
قوله: "والعمل على هذا الحديث عند أهل العلم" قال النووي في شرح مسلم: أجمع المسلمون على أن الكافر لا يرث المسلم. وأما المسلم فلا يرث الكافر أيضاً عند جماهير العلماء من الصحابة والتابعين ومن بعدهم. وذهبت طائفة إلى توريث المسلم من الكافر وهو مذهب معاذ بن جبل ومعاوية وسعيد بن المسيب ومسروق وغيرهم، وروي أيضاً عن أبي الدرداء والشعبي والزهري والنخعي نحوه على خلاف بينهم في ذلك والصحيح عن هؤلاء كقول الجمهور، واحتجوا بحديث: الإسلام يعلو ولا يعلى عليه، وحجة الجمهور هذا الحديث الصحيح الصريح ولا حجة في حديث الإسلام يعلو ولا يعلى عليه لأن المراد به فضل الإسلام على غيره ولم يتعرض فيه الميراث فكيف يترك به نص حديث: لا يرث المسلم الكافر، ولعل(6/288)
16 ـ باب ما جاءَ في إِبْطَالِ ميرَاثِ الْقَاتِل
2192 ـ حَدّثنا قُتَيْبَةُ، حدثنا الّليْثُ عن إسحاقَ بنِ عَبْدِ الله، عن الزّهْرِيّ، عن حُمَيْدِ بنِ عَبْدِ الرحمنِ، عن أَبي هُرَيْرَةَ عن النبيّ صلى الله عليه
ـــــــ
"باب ما جاء في إبطال ميراث القاتل"
قوله: "عن إسحاق بن عبد الله" قال في التقريب: إسحاق بن عبد الله بن أبي فروة الأموي مولاهم المدني، متروك من الرابعة.(6/290)
وسلم قالَ: "الْقَاتِلُ لاَ يَرِثُ" .
هذا حديثٌ لا يَصِحّ، لا يُعْرَفُ إِلاّ مِنْ هذَا الوَجْهِ، وإسحاقُ بنُ عَبْدِ الله بنِ أَبِي فَرْوَةَ قد تَرَكَهُ بَعْضُ أَهْلِ العِلْمِ، منهم أَحمدُ بنُ حَنْبَلٍ.
والعَمَلُ على هذا عِنْدَ أَهْلِ العِلمِ، أَنّ القَاتِلَ لا يَرِثُ، كانَ القَتْلُ خطَأً أَوْ عَمْداً. وقالَ بَعْضُهُمْ: إِذَا كَانَ القَتْلُ خَطَأً، فَإِنّهُ يَرِثُ، وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ.
ـــــــ
قوله: "القاتل لا يرث" فيه دليل على أن القاتل لا يرث من المقتول، سواء كان قتل خطأ أو عمداً وإليه ذهب أكثر أهل العلم.
قوله: "هذا حديث لا يصح" وأخرجه ابن ماجة والنسائي في السنن الكبرى وقال إسحاق متروك.
قوله: "والعمل على هذا عند أهل العلم أن القاتل لا يرث، كان القتل خطأ أو عمداً الخ" قال الشوكاني في النيل تحت حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده مرفوعاً: لا يرث القاتل شيئاً، أخرجه أبو داود والنسائي: استدل به من قال بأن القاتل لا يرث سواء كان القتل عمداً أو خطأ وإليه ذهب الشافعي وأبو حنيفة وأصحابه وأكثر أهل العلم قالوا: ولا يرث من المال ولا من الدية. وقال مالك والنخعي والهادوية: إن قاتل الخطأ يرث من المال دون الدية، ولا يخفى أن التخصيص لا يقبل إلا بدليل، وحديث عمر بن شيبة بن أبي كثير الأشجعي عند الطبراني نص في محل النزاع، فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال: له إعقلها ولا ترثها . وقد كان قتل امرأته خطأ، وكذلك حديث عدي الجذامي عند البيهقي في سننه بلفظ، أن عدياً كانت له امرأتان اقتتلتا فرمى إحداهما فماتت، فلما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم أتاه فذكر له ذلك، فقال له: اعقلها ولا ترثها . وأخرج البيهقي أيضاً أن رجلاً رمى بحجر فأصاب أمه فماتت من ذلك، فأراد نصيبه من ميراثها فقال له إخوته: لا حق لك، فارتفعوا إلى علي رضي الله عنه فقال له: حقك من ميراثها الحجر وغرمه الدية ولم يعطه من ميراثها شيئاً. وأخرج أيضاً عن جابر(6/291)
ـــــــ
ابن زيد أنه قال: أيما رجل قتل رجلاً أو امرأة عمداً أو خطأ فلا ميراث له منهما، وأيما امرأة قتلت رجلاً أو امرأة عمداً أو خطأ فلا ميراث لها منهما، وقال قضي بذلك عمر بن الخطاب وعلي وشريح وغيرهم من قضاة المسلمين. وقد ساق البيهقي في الباب آثاراً عن عمر وابن عباس وغيرهما، تفيد كلها أنه لا ميراث للقاتل مطلقاً انتهى(6/292)
17 ـ باب ما جاءَ في مِيراثِ المَرْأَةِ من دِيةِ زَوْجِهَا
2193 ـ حَدّثنا قُتَيْبَةُ وَ أَحمدُ بنُ مَنِيعٍ وَغَيْرُ وَاحِدٍ، قالُوا: حدثنا سفيانُ بنُ عُيَيْنَةَ، عن الزّهْرِيّ عن سَعِيدِ بنُ المُسَيّبِ قالَ: قالَ عُمَرُ: الدّيَةُ عَلَى العَاقِلَةِ ولا تَرِثُ المرأَةُ مِنْ دِيَةِ زَوْجِهَا شيئاً، فَأَخْبَرَهُ الضّحّاكُ بنُ سفيانَ الكِلاَبيّ "أنّ رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم كَتَبَ إِلَيْهِ: أَنْ وَرّثِ امْرَأَةَ أَشِيمَ الضّبَابِيّ من دِيَةِ زَوْجِهَا" .
هذا حديثٌ حسنٌ صحيحٌ.
ـــــــ
"باب ما جاء في ميراث المرأة من دية زوجها"
قوله: "كتب إليه أن ورث امرأة أشيم الضبابي" بكسر الضاد المعجمة وتخفيف الياء الموحدة الأولى، منسوب إلى ضباب بن كلاب، قتل في حياة النبي صلى الله عليه وسلم خطأ. قال الشوكاني في النيل: فيه دليل على أن الزوجة ترث من دية زوجها كما ترث من ماله. وكذلك يدل على ذلك حديث عمرو بن شعيب لعموم قوله فيه بين ورثة القتيل، والزوجة من جملتهم، وكذلك قوله في حديث قرة بن دعموص: هل لأمي فيها حق؟ قال نعم. انتهى.
قلت: حديث عمرو بن شعيب الذي أشار إليه الشوكاني أخرجه أحمد وأبو داود والنسائي وابن ماجة عنه عن أبيه عن جده أن النبي صلى الله عليه وسلم قضى أن العقل ميراث بين ورثه القتيل على فرائضهم. وحديث قرة بن دعموص أخرجه البخاري في تاريخه عنه قال: أتيت النبي صلى الله عليه وسلم أنا وعمي، فقلت: يا رسول الله عند هذا دية أبي فمره يعطنيها، وكان قتل في الجاهلية، فقال أعطه دية أبيه، فقلت هل لأمي فيها حق؟ قال نعم . وكانت ديته مائة من الإبل(6/292)
ـــــــ
وحديث سعيد بن المسيب المذكور في الباب أخرجه الترمذي أيضاً في باب المرأة ترث من دية زوجها من أبواب الديات وتقدم هناك شرحه(6/293)
باب ما جاء أن الميراث المورثة و العقل للعصبة
...
18 ـ باب مَا جَاءَ أَنّ الميراث الأموال لِلْوَرَثَةِ والعَقْلُ على العَصَبَة
2194 ـ حَدّثنا قُتَيْبَةُ، أخبرنا الّليْثُ عن ابنِ شِهَابٍ عن سَعِيدِ بنِ المُسَيّبِ عن أَبي هُرَيْرَةَ "أَنّ رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم قَضَى في جَنِينِ امْرَأَةٍ مِنْ بَنيِ لِحْيَانَ سَقَطَ مَيّتَاً بِغُرّةِ عَبْدٍ أَوْ أَمَةٍ، ثم إِنّ المرأةَ التي قُضِي عليها بِغُرّةٍ تُوُفّيَتْ، فَقَضَى رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم أَنّ مِيرَاثَهَا لِبَنِيهَا وَزَوْجِهَا، وأَنّ عَقْلَهَا عَلَى عَصَبَتِهَا".
ـــــــ
" باب مَا جَاءَ أَنّ الميراث الأموال لِلْوَرَثَةِ والعَقْلُ على العَصَبَة"
وفي بعض النسخ على العصبة وهو الظاهر
قوله: "قضى" أي حكم "في جنين امرأة من بني لحيان" قال النووي: المشهور كسر اللام في لحيان وروى فتحها، ولحيان بطن من هذيل "بغرة" بضم الغين المعجمة وشدة الراء منوناً "عبد أو أمة" بدل من غرة وأو للتنويع لا للشك، وقد تقدم تفسير الغرة في باب دية الجنين من أبواب الديات "ثم إن المرأة التي قضى عليها" بصيغة المجهول أي حكم عليها وهي المرأة الجانية "توفيت" أي ماتت. قال في اللمعات في شرح هذه العبارة كلام، وهو أن الظاهر أن يكون المراد بالمرأة التي قضى عليها أي على عاقلتها بغرة المرأة الجانية فيكون الضمائر في بنيها وزوجها لها، وكذا في قوله والعقل على عصبتها، وتخصيص التوريث لبنيها وزوجها لأنهم هم كانوا من ورثتها وإلا فالظاهر أن ميراثها لورثتها أياً ما كان، ويرد عليه أن بيان وفاة الجانية ليس بكثير المناسبة في هذا المقام بل المراد موت الجنين مع أمها كما ورد في رواية: فقتلها وما في بطنها، فقال الطيبي في توجيهه: إن علي في قوله قضى عليها وضع موضع اللام كما في قوله تعالى {لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ} فيكون المراد بالمرأة المجني عليها والضمائر لها إلا في قوله: على عصبتها فإنه للجاني وهذا إذا كانت القضية واحدة. قال الطيبي: وهو الظاهر انتهى. وقال النووي في شرح مسلم: قال العلماء: هذا الكلام "يعني قوله ثم إن المرأة التي قضى عليها(6/293)
وَرَوَى يُونُسُ هذا الْحَدِيثَ عن الزّهْرِيّ عن سَعِيدِ بنِ المُسَيّبِ، وَأَبِي سَلَمَةَ عن أَبي هُرَيْرَةَ عن النبيّ صلى الله عليه وسلم نَحْوَهُ.
ورواه مَالِكٌ عن الزّهَرِيّ عن أَبِي سَلَمَةَ عن أَبي هُرَيْرَةَ، وَمَالِكٌ عن الزّهْرِيّ عن سَعِيدِ بنِ المُسَيّبِ عن النبيّ صلى الله عليه وسلم.
ـــــــ
بالغرة توفيت الخ" قد يوهم خلاف مراده. فالصواب أن المرأة التي ماتت هي المجني عليها أم الجنين لا الجانية. وقد ضرح به في الحديث بعده بقوله: فقتلها وما في بطنها، فيكون المراد بقوله: التي قضي عليها بالغرة هي التي قضى لها بالغرة، فعبر بعليها عن لها. وأما قوله على عصبتها، فالمراد القاتلة أي على عصبة القاتلة انتهى. وحديث أبي هريرة المذكور في هذا الباب أخرجه البخاري في الفرائض وفي الديات ومسلم وأبو داود والنسائي في الديات.
قوله: "وروى يونس هذا الحديث عن الزهري عن سعيد بن المسيب وأبي سلمة عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم ونحوه" روى البخاري في صحيحه قال: حدثنا أحمد بن صالح حدثنا ابن وهب حدثنا يونس عن ابن شهاب عن ابن المسيب وأبي سلمة بن عبد الرحمن أي أبا هريرة قال: اقتتلت امرأتان من هذيل فرمت إحداهما الأخرى بحجر قتلها وما في بطنها. فاختصموا إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقضى: أن دية جنينها غرة عبد أو وليدة، وقضى دية المرأة على عاقلتها، وقد رواه مسلم أيضاً قال: حدثنا أبو الطاهر قال أخبرنا ابن وهب رحمه الله قال وأخبرنا حرملة بن يحيى التجيبي، قال أنبأنا ابن وهب قال أخبرني يونس بهذا الإسناد "عن أبي سلمة عن أبي هريرة ومالك عن الزهري" قال في هامش النسخة الأحمدية: هذه العبارة لا توجد في النسخ الدهلوية ولكن وجدتها في النسخة الصحيحة التي جئت بها من العرب انتهى.
قلت: ويدل على صحة هذه النسخة أن مالكاً روى هذا الحديث موصولاً ومرسلاً. ففي صحيح البخاري في باب الكهانة من كتاب الطب: حدثنا قتيبة عن مالك عن ابن شهاب عن أبي سلمة عن أبي هريرة أن امرأتين رمت إحداهما الأخرى فطرحت جنينها فقضى فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم بغرة عبد أو وليدة. وعن ابن شهاب عن سعيد بن المسيب أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قضى في(6/294)
ـــــــ
الجنين يقتل في بطن أمه بغرة عبد أو وليدة، الحديث(6/295)
باب ما جاء فى الرجل يسلم على يدى الرجل
...
19 ـ باب مَا جَاءَ في الرّجل يُسلِمُ عَلَى يد الرّجُل
2195ـ حَدّثنا أَبُو كُرَيْبٍ، أخبرنا أَبُو أُسَامَةَ و ابنُ نُمَيْرٍ وَ وَكِيعٌ عن عَبْدِ العَزِيزِ بنِ عُمَرَ بنِ عَبْدِ العزِيزِ عن عَبْدِ الله بنِ مَوْهِبٍ. وقالَ بَعْضُهُم عن عَبْدِ الله بنِ وَهْبٍ عن تَمِيمٍ الدّارِيّ قالَ: "سَأَلْتُ رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم: ما السّنّةُ في الرّجُلِ مِنْ أَهْلِ الشّرْكِ يُسْلِمُ عَلَى يَدِ رَجُلٍ مِن المُسْلِمِينَ؟ فقالَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم: هُوَ أَوْلَى النّاسِ بِمَحْيَاهُ وَمَمَاتِهِ" .
ـــــــ
"باب ما جاء في الرجل يسلم على يد الرجل"
قوله: "عن عبد العزيز بن عمر بن عبد العزيز" بن مروان الأموي المدني نزيل الكوفة، صدوق يخطئ من السابعة "عن عبد الله بن موهب" قال في التقريب: عبد الله بن موهب الشامي أبو خالد قاضي فلسطين لعمر بن عبد العزيز، ثقة لكن لم يسمع من تميم الداري من الثالثة "وقال بعضهم عن عبد الله بن وهب" قال في التقريب: عبد الله بن وهب عن تميم الداري صوابه عبد الله بن موهب.
قوله: "ما السنة في الرجل" أي ما حكم الشرع في شأن الرجل "من أهل الشرك" أي الكفر "يسلم على يد رجل" وفي رواية على يدي الرجل، أي هل يصير مولى له أم لا؟ "هو" أي الرجل المسلم الذي أسلم على يديه الكافر "أولى الناس بمحياه ومماته" أي بمن أسلم في حياته ومماته، يعني يصير مولى له. قال المظهر: فعند أبي حنيفة والشافعي ومالك والثوري رحمهم الله: لا يصير مولى، ويصير مولى عند عمر بن عبد العزيز وسعيد بن المسيب وعمرو بن الليث لهذا الحديث، ودليل الشافعي وأتباعه قوله عليه الصلاة والسلام: الولاء لمن أعتق، وحديث تميم الداري يحتمل أنه كان في بدء الإسلام لأنهم كانوا يتوارثون بالإسلام والنصرة ثم نسخ ذلك، ويحتمل أن يكون قوله عليه الصلاة والسلام: هو أولى الناس بمحياه ومماته. يعني بالنصرة في حال الحياة، وبالصلاة بعد الموت(6/295)
هذا حديثٌ لا نَعْرِفُهُ إِلاّ مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ الله بنِ وَهْبٍ، وَيُقَالُ ابنُ مَوْهِبٍ عن تميمٍ الدّارِيّ. وقد أدْخَلَ بعضهم بين عبد الله بن مَوْهِبٍ وبين تَميمٍ الدّاريّ قَبِيصَةَ بنَ ذُوَيْبٍ، وَرَوَاهُ يَحْيَىَ بنُ حَمْزَةَ عن عَبْدِ العَزِيزِ بنِ عُمَرَ، وَزَادَ فيِه عن قَبِيصَةَ بنِ ذُوَيْبٍ وَهُوَ عِنْدِي لَيْسَ بمُتّصِلٍ.
ـــــــ
فلا يكون حجة انتهى، كذا في المرقاة. وقال الخطابي: قد يحتج به من يرى توريث الرجل ممن يسلم على يده من الكفار، وإليه ذهب أصحاب الرأي إلا أنهم قد زادوا في ذلك شرطاً وهو أن يعاقده ويواليه، فإن أسلم على يده ولم يعاقده ولم يواله فلا شيء له. وقال إسحاق بن راهويه كقول أصحاب الرأي إلا أنه لم يذكر الموالاة. قال الخطابي: ودلالة الحديث مهمة وليس فيه أنه يرثه وإنما فيه أنه أولى الناس بمحياه ومماته. فقد يحتمل أن يكون ذلك في الميراث، وقد يحتمل أن يكون ذلك في رعي الذمام والإيثار والبر والصلة وما أشبهها من الأمور، وقد عارضه قوله صلى الله عليه وسلم: الولاء لمن أعتق . وقال أكثر الفقهاء: لا يرثه، وضعف أحمد بن حنبل حديث تميم الداري هذا، وقال: عبد العزيز راويه ليس من أهل الحفظ والإتقان انتهى.
قوله: "هذا حديث لا نعرفه إلا من حديث عبد الله بن وهب الخ" وأخرجه أحمد والدارمي والنسائي وابن ماجة "وقد أدخل بعضهم بين عبد الله بن موهب وبين تميم الداري قبيصة بن ذويب. ورواه يحيى بن حمزة عن عبد العزيز بن عمر وزاد فيه عن قبيصة بن ذويب قال البخاري في صحيحه في باب: إذا أسلم على يديه من كتاب الفرائض ويذكر عن تميم الداري رفعه قال: هو أولى الناس بمحياه ومماته. قال الحافظ في الفتح: قد وصله البخاري في تاريخه وأبو داود وابن أبي عاصم والطبراني والباغندي في مسند عمر بن عبد العزيز بالعنعنة كلهم من طريق عبد العزيز بن عمر بن عبد العزيز قال: سمعت عبد الله بن موهب يحدث عمر بن عبد العزيز عن قبيصة بن ذويب عن تميم الداري قال: قلت يا رسول الله ما السنة في الرجل؟ الحديث "وهو عندي ليس بمتصل" قال البخاري في صحيحه: واختلفوا في صحة هذا الخبر انتهى. وقد بسط الحافظ الكلام على هذا الحديث في الفتح والعيني في العمدة.(6/296)
والعَمَلُ على هذا عِنْدَ بَعْضِ أَهْلِ العِلْمِ وقالَ بعضُهُمْ: يَجْعَلُ مِيرَاثَهُ في بَيْتِ المَالِ، وهو قَولُ الشّافِعيّ، وَاحْتَجَ بحَدِيثِ النبيّ صلى الله عليه وسلم: "أَنّ الْوَلاَءَ لِمَنْ أَعْتَقَ" .
2196 ـ حَدّثنا قُتَيْبَةُ، أخبرنا ابنُ لَهِيعَةَ عن عَمْرو بنِ شُعَيْبٍ عن أَبِيِه عن جَدّهِ أَنّ رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم قالَ: "أَيّمَا رَجُلٍ عَاهَرَ بحُرّةٍ أَوْ أَمَةٍ فالَوَلَدُ وَلَدُ زِنَا لا يَرِثُ وَلاَ يُورَثُ" .
وقد رَوَى غَيْرُ ابنِ لَهِيعَةَ، هذا الحديثَ عن عمرو بنِ شُعَيْبٍ، والعملُ على هذا عِنْدَ أَهْلِ الْعِلْمِ أَنّ وَلَدَ الزّنَا لاَ يَرِثُ مِنْ أَبِيِه.
ـــــــ
قوله: "والعمل على هذا عند بعض أهل العلم" كإسحاق بن راهويه وغيره "وقال بعضهم يجعل ميراثه في بيت المال، وهو قول الشافعي، واحتج بحديث النبي صلى الله عليه وسلم أن الولاء لمن أعتق" وقول الشافعي ومن تبعه هو الظاهر لأن حديث تميم الداري المذكور في الباب على تقدير صحة لا يقاوم حديث عائشة: إنما الولاء لمن أعتق. وعلى التنزل فتردد في الجمع هل يخص عموم الحديث المتفق على صحته بهذا، فيستثني منه من أسلم أو تؤول الأولوية في قوله: أولى الناس بمعنى النصرة والمعاونة وما أشبه ذلك لا بالميراث، ويبقى الحديث المتفق على صحته على عمومه؟ جنح الجمهور إلى الثاني ورجحانه ظاهر، وبه جزم ابن القصار في ما حكاه ابن بطال فقال: لو صح الحديث لكان تأويله أنه أحق بموالاته في النصر والإعانة والصلاة عليه إذا مات ونحو ذلك، ولو جاء الحديث بلفظ أحق بميراثه لوجب تخصيص الأول والله أعلم.
قوله: "أيما رجل عاهر" بصيغة الماضي من باب المفاعلة أي زنا. قال الجزري في النهاية: العاهر الزاني، وقد عهر يعهر عهراً وعهوراً إذا أتى المرأة ليلاً للفجور بها، ثم غلب على الزنا مطلقاً "فالولد ولد زنا لا يرث" أي من الأب "ولا يورث" بفتح الراء وقيل بكسرها، قال ابن الملك: أي لا يرث ذلك الولد من الواطئ ولا من أقاربه إذ الوراثة بالنسب ولا نسب بينه وبين الزاني، ولا يرث(6/297)
ـــــــ
الواطئ ولا أقاربه من ذلك الولد والحديث في سنده ابن لهيعة وفيه مقال معروف ولكن قال الترمذي: رواه غيره عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده(6/298)
باب من يرث الولاء
...
20 ـ باب ما جاءَ فيمن يَرِثُ الوَلاَء
2197 ـ حَدّثنا قُتَيْبَةُ، حدثنا ابنُ لَهِيعَةَ عن عَمْرِو بنِ شُعَيْبٍ عن أَبِيِه عن جَدّه أَنّ رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم قالَ: "يَرِثُ الوَلاَءَ مَنْ يَرِثُ المَالَ" .
هذا حديثٌ لَيْسَ إِسْنَادُهُ بالقَوِيّ.
2198 ـ حَدّثنا هَارُونُ أَبُو مُوسَى المُسْتَملِيّ البَغْدَادِيّ، أخبرنا محمدُ بنُ حَرْبٍ، حدثنا عُمَرُ بنُ رُؤبَةَ التّغْلِبيّ عن عبد الواحدِ بنِ عَبْدِ الله بنِ بُسْرٍ النّصْرِيّ عن وَاثِلَةَ بنِ الأَسْقَعِ قالَ: قالَ رَسُولُ الله صلى الله عليه
ـــــــ
" باب ما جاءَ فيمن يَرِثُ الوَلاَء"
بفتح الواو يعني ولاء العتق وهو إذا مات المعتق ورثه معتقه أو ورثه معتقه
قوله: "يرث الولاء" أي مال العتيق "من يرث المال" أي من العصبات الذكور، والمراد العصبة بنفسه. قال المظهر: هذا مخصوص أي يرث الولاء كل عصبة يرث مال الميت، والمرأة وإن كانت ترث إلا أنها ليست بعصبة بل العصبة الذكور دون الإناث. ولا ينتقل الولاء إلى بيت المال ولا ترث النساء بالولاء إلا إذا أعتقن أو أعتق عتيقهن أحداً انتهى. وقال في اللمعات: أي إذا مات عتيق الأب أو عتيق عتيقه يرث الابن ذلك الولاء، وهذا مخصوص بالعصبة ولا ترث النساء الولاء إلا ممن أعتقته أو أعتق من أعتقته انتهى.
قوله: "هذا حديث ليس إسناده بالقوى" لأن فيه ابن لهيعة.
قوله: "حدثنا هارون أبو موسى المستملي البغدادي" هو هارون بن عبد الله البزاز الحافظ المعروف بالحمال "أخبرنا محمد بن حرب" الخولاني الحمصي الأبرش ثقة من التاسعة "أخبرنا عمر بن روية" بضم الراء وسكون الواو بعدها موحدة "التغلبي" بمثناه الحمصي صدوق من الرابعة "عن عبد الواحد بن عبد الله بن(6/298)
وسلم: "المَرْأَةُ تَحُوزُ ثَلاَثَةَ مَوَارِيثَ: عَتِيقَهاَ وَلَقِيطَهاَ وَوَلَدَهَا الذي لاَعَنَتْ عَنْهُ" . هذا حديثٌ حسنٌ غريبٌ لاَ يُعْرَفُ إلاّ مِنْ هذا الوَجْهِ من حَدِيثِ محمدِ بنِ حَرْبِ.
آخر الفرائض
ـــــــ
بسر النصري" قال في التقريب: عبد الواحد بن عبد الله بن كعب بن عمير النصري بالنون أو بسر بضم الموحدة وسكون المهملة الدمشقي، ويقال الحمصي، ثقة من الخامسة. وقال في تهذيب التهذيب في ترجمته: ويعرف أبوه بابن بسر أي بضم الموحدة بالمهملة.
قوله: "المرأة تحوز" أي تجمع وتحيط "ثلاثة مواريث" جمع ميراث "عتيقها" أي ميراث عتيقها فإنه إذا أعتقت عبداً ومات ولم يكن له وارث ترث ماله بالولاء "لقيطها" أي ملقوطها فإن الملتقط يرث من اللقيط على مذهب إسحاق ابن راهويه، وعامة العلماء على أنه لا ولاء للملتقط لأنه عليه الصلاة والسلام خصه بالمعتق بقوله: "لا ولاء إلا ولاء العتاقة" قال الخطابي: أما اللقيط فإنه في قول عامة الفقهاء حر، فإذا كان حراً فلا ولاء عليه لأحد. والميراث إنما يستحق بنسب أو ولاء، وليس بين اللقيط وملتقطه واحد منهما. وكان إسحاق بن راهويه يقول: ولاء اللقيط لملتقطه ويحتج بحديث واثله، وهذا الحديث غير ثابت عند أهل النقل، فإذا لم يثبت الحديث لم يلزم القول به، فكان ما ذهب إليه عامة العلماء أولى انتهى "وولدها الذي لا عنت عنه" أي عن قبله ومن أجله. في شرح السنة: هذا الحديث غير ثابت عند أهل النقل، واتفق أهل العلم على أنها تأخذ ميراث عتيقها، وأما الولد الذي نفاه الرجل باللعان فلا خلاف أن أحدهما لا يرث الاَخر لأن التوارث بسبب النسب انتفى باللعان، وأما نسبه من جهة الأم فثابت ويتوارثان. قال القاضي رحمه الله: وحيازة الملتقطة ميراث لقيطها محمولة على أنها أولى بأن يصرف إليها ما خلفه من غيرها صرف مال بيت المال إلى آحاد المسلمين فإن تركته لهم لا أنها ترثه وراثة المعتقة من معتقها، وأما حكم ولد الزنا فحكم المنفي بلا فرق إنتهى.
قوله: "هذا حديث حسن غريب" قال الحافظ في الفتح بعد ذكر هذا(6/299)
ـــــــ
الحديث: حسنه الترمذي وصححه الحاكم وليس فيه سوى عمر بن روبة مختلف فيه، قال البخاري: فيه نظر ووثقة جماعة انتهى. وحديث واثلة هذا أخرجه أيضاً أبو داود والنسائي وابن ماجة(6/300)
أبواب الوصايا عن رسول الله صلى الله عليه و سلم
باب ما جاء في الوصية بالثلث
...
بسم الله الرحمن الرحيم
أبواب الوصايا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم
1-باب ماجاء في الوصية بالثلث
2199 ـ حَدّثنا ابنُ أَبِي عُمَرَ، حدثنا سُفْيَانُ بن عُيينَةِ عن الزّهْرِيّ عن عَامِرِ بنِ سَعْدِ بنِ أَبِي وَقّاصٍ عن أَبِيِه قالَ: "مَرِضْتُ عَامَ الفَتْحِ مَرَضَاً أَشْفَيْتُ مِنْهُ
ـــــــ
الحديث: حسنه الترمذي وصححه الحاكم وليس فيه سوى عمر بن روبة مختلف فيه، قال البخاري: فيه نظر ووثقة جماعة انتهى. وحديث واثلة هذا أخرجه أيضاً أبو داود والنسائي وابن ماجة
"أبواب الوصايا"
قال في الفتح: الوصايا جمع وصية كالهدايا، وتطلق على فعل الموصي وعلى ما يوصي به من مال أو غيره من عهد ونحوه فتكون بمعنى المصدر وهو الإيصاء وتكون بمعنى المفعول وهو الاسم. وفي الشرع عهد خاص مضاف إلى ما بعد الموت وقد يصحبه التبرع قال الأزهري: الوصية من وصيت الشيء بالتخفيف أصيه إذا وصلته، سميت وصية لأن الميت يصل بها ما كان في حياته بعد مماته، ويقال وصية بالتشديد ووصاة بالتخفيف بغير همز، وتطلق شرعاً أيضاً على ما يقع به الزجر عن المنهيات والحث على المأمورات انتهى
" بابُ مَا جَاءَ في الْوَصِيّةِ بالثّلُث"
قوله: "مرضت عام الفتح" صوابه عام حجة الوداع. قال الحافظ في فتح الباري: اتفق أصحاب الزهري على أن ذلك كان في حجة الوداع إلا ابن عيينة فقال في فتح مكة: أخرجه الترمذي وغيره من طريقه. واتفق الحافظ على أنه وهم فيه، قال ويمكن الجمع بين الروايتين بأن يكون ذلك وقع له مرتين مرة عام الفتح ومرة عام حجة الوداع، ففي الأولى لم يكن له وارث من الأولاد أصلاً، وفي الثانية كانت له ابنة فقط انتهى "أشفيت منه" أي أشرفت، يقال(6/300)
على المَوْتِ، فَأَتَانِي رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم يَعُودُنِي، فَقلت: يَا رسولَ الله إِنّ لِي مَالاً كَثِيراً وَلَيْسَ يَرِثُنِي إِلاّ ابْنَتِي فَأُوصِي بِمَالِي كُلّهِ؟ قالَ: لاَ، قُلْتُ فَثُلُثَيْ مَالِي؟ قالَ: لا، قلت: فالشّطْرُ؟ قالَ: لا، قلت: فالثّلُثُ؟ قال: الثّلُثُ وَالثّلُثُ كَثِيرٌ إِنَكَ إِنْ تَذَرَ وَرَثَتَكَ أَغْنِيَاءَ خَيْرٌ مِنْ أَنْ تَذَرَهُمْ عَالَةً يَتَكَفّفُونَ النّاسَ، وإِنّكَ لَنْ تُنْفِقَ نَفَقَةً إِلاّ أُجِرْتَ فِيهَا، حَتّى الّلقْمَةَ
ـــــــ
اشفي على كذا أي قاربه وصار على شفاه. ولا يكاد يستعمل إلا في الشر "يعودني" حال "وليس يرثني" أي من أصحاب الفروض "إلا ابنتي" لأنه كان له عصبة كثيرة ذكره المظهر.
قال الطيبي: ويؤيد هذا التأويل قوله ورثتك، ولعل تخصيص البنت بالذكر لعجزها. والمعنى ليس يرثني ممن أخاف عليه إلا ابنتي "فأوصي" بالتخفيف والتشديد "بمالي كله" أي بتصدقه للفقراء "فالشطر" بالجر أي فبالنصف. قال ابن الملك: يجوز نصبه عطفاً على الجار والمجرور ورفعه أي فالشطر كاف، وجره عطفاً على مجرور الباء "قلت فالثلث" بالجر وجوز النصب والرفع على ما سبق "قال الثلث" بالنصب.
قال النووي رحمه الله: يجوز نصب الثلث الأول ورفعه بالنصب على الإغراء أو على تقدير: أعط الثلث، وأما الرفع فعلى أنه فاعل أي يكفيك الثلث، أو أنه مبتدأ محذوف الخبر أو عكسه "والثلث" بالرفع لا غير على الابتداء خبره "كثير" قال السيوطي: روي بالمثلثة والموحدة وكلاهما صحيح. قال ابن الملك: فيه بيان أن الإيصاء بالثلث جائز له وأن النقص منه أولى "إنك" استئناف تعليل "إن تذر" بفتح الهمزة والراء وبكسر الهمزة وسكون الراء أي تترك "ورثتك أغنياء" أي مستغنين عن الناس "عالة" أي فقراء "يتكففون الناس" أي يسألونهم بالأكف ومدها إليهم، وفيه إشارة إلى أن ورثته كانوا فقراء وهم أولى بالخير من غيرهم.
قال النووي رحمه الله: أن تذر بفتح الهمزة وكسرها روايتان صحيحتان، وفي الفائق إن تذر مرفوع المحل على الابتداء أي تركك أولادك أغنياء خير(6/301)
تَرْفَعُهَا إِلَى في امْرَأَتِكَ. قالَ: قلت: يا رَسولَ الله أُخَلّفُ عن هِجْرَتِي؟ قالَ: إِنّكَ لَنْ تُخَلّفَ بَعْدِي فَتَعْمَلَ عَمَلاً تُرِيدُ بِهِ وَجْه الله إِلاّ ازْدَدْتَ بِه رِفْعَةً، وَدَرَجَةً، وَلَعَلّكَ إِنْ تُخَلّفْ حتى يَنْتَفِعَ بكَ أَقْوامٌ ويُضَرّ بِكَ آخَرُونَ. الّلهُمّ امْضِ لأِصحَابِي هِجْرَتَهُمْ ولا تَرُدّهُمْ على أَعْقَابِهِمْ لَكِنّ البَائِسَ سَعْدُ
ـــــــ
والجملة بأسرها خبر إنك "لن تنفق نفقة" مفعول به أو مطلق "إلا أجرت فيها" بصيغة المجهول أي صرت مأجوراً بسبب تلك النفقة "حتى اللقمة" بالنصب وبالجر وحكي بالرفع "ترفعها إلى في امرأتك" وفي رواية: حتى ما تجعل في في أمرأتك، أي في فمها. والمعنى لابتغاء رضائه تعالى يؤجر وإن كان محل الإنفاق محل الشهوة وحظ النفس لأن الأعمال بالنيات ونية المؤمن خير من عمله كذا في المرقاة "أخلف عن هجرتي" أي أبقى بسبب المرض خلفاً بمكة قاله تحسرا وكانوا يكرهون المقام بمكة بعد ما هاجروا منها "وتركوها لله" إنك لن تخلف بعدي فتعمل عملاً الخ يعني أن كونك مخلفاً لا يضرك مع العمل الصالح "لعلك إن تخلف" أي بأن يطول عمرك "حتى ينتفع بك أقوام" أي من المسلمين بالغنائم مما سيفتح الله على يديك من بلاد الشرك "ويضر" مبني للمفعول "بك آخرون" من المشركين الذين يهلكون على يديك وقد وقع ذلك الذي ترجى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فشفي سعد من ذلك المرض وطال عمره حتى انتفع به أقوام من المسلمين واستضربه آخرون من الكفار حتى مات سنة خمسين على المشهور، وقيل غير ذلك. قال النووي: هذا الحديث من المعجزات فإن سعداً رضي الله عنه عاش حتى فتح العراق وغيره وانتفع به أقوام في دينهم ودنياهم وتضرر به الكفار في دينهم ودنياهم، فإنهم قتلوا رجالهم وسبيت نساءهم وأولادهم وغنمت أموالهم وديارهم. وولي العراق فاهتدى على يديه خلائق، وتضرر به خلائق بإقامته الحق فيهم من الكفار ونحوهم انتهى "اللهم أمضىِ لأصحابي هجرتهم" أي تممها لهم ولا تنقصها "لكن البائس سعد بن خولة" البائس من أصابه بؤس أي ضرر وهو يصلح للذم والترحم قيل إنه لم يهاجر من مكة حتى مات بها فهو ذم، والأكثر أنه هاجر ومات بها(6/302)
ابنُ خَوْلَةَ: يَرْثِي لَهُ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم أَنْ مَاتَ بِمَكّةَ" .
وفي البابِ عن ابنِ عَبّاسٍ.
هذا حديثٌ حسنٌ صحيحٌ. وقد رُوِيَ هذا الحديثُ مِنْ غَيْرِ وَجْهٍ عن سَعدِ بنِ أَبِي وَقّاصٍ. والعَمَلُ على هذا عِنْدَ أَهْلِ العِلمِ أَنّهُ لَيْسَ للرّجُلِ أَنْ يُوصيَ بأَكْثَرَ مِنَ الثّلُثِ. وقد اسْتَحَبّ بَعْضُ أَهلِ العِلمِ أَنْ يُنْقِصَ مِنَ الثّلُثِ لِقَوْلِ رَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم "وَالثّلُثُ كَثِيرٌ".
ـــــــ
في حجة الوداع فهو ترحم "يرثي له" ، من رثيت الميت مرثية إذا عددت محاسنه ورثات بالهمز لغة فيه فإن قيل نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن المراثي كما رواه أحمد وابن ماجة وصححه الحاكم، فإذا نهى عنه كيف يفعله؟ فالجواب أن المرثية المنهي عنها ما فيه مدح الميت وذكر محاسنه الباعث على تهييج الحزن وتجديد اللوعة أو فعلها مع الاجتماع لها أو على الإكثار منها دون ما عدا ذلك، والمراد هنا توجعه عليه السلام وتحزنه على سعد لكونه مات بمكة بعد الهجرة منها لا مدح الميت لتهييج الحزن كذا ذكره القسطلاني "أن مات بمكة" بفتح الهمزة أي لأجل موته بأرض هاجر منها وكان يكره موته بها فلم يعط ما تمنى. قال ابن بطال: وأما قوله: يرثي له. فهو من كلام الزهري تفسير لقوله صلى الله عليه وسلم: لكن البائس الخ أي رثي له حين مات بمكة وكان يهوى أن يموت بغيرها.
قوله: "وفي الباب عن ابن عباس" أخرجه الشيخان.
قوله: "هذا حديث حسن صحيح" أخرجه الجماعة.
قوله: "والعمل على هذا عند أهل العلم أنه ليس للرجل أن يوصي بأكثر من الثلث" قال الحافظ في الفتح: استقر الإجماع على منع الوصية بأزيد من الثلث. لكن اختلف فيمن ليس له وارث خاص، فذهب الجمهور إلى منعه من الزيادة على الثلث، وجوز له الزيادة الحنفية وإسحاق وشريك وأحمد في رواية، وهو قول علي وابن مسعود، واحتجوا بأن الوصية مطلقة في الاَية فقيدتها السنة لمن له وارث فبقي من لا وارث له على الإطلاق "وقد استحب بعض أهل العلم أن ينقص من(6/303)
2200 ـ حدّثنا نَصْرُ بنُ عَلِيّ الجَهْضَمِيّ أخبرنا عَبْدُ الصّمَدِ بنُ عَبْدِ الْوَارِثِ حدثنا نَصْرُ بنُ عَلِيّ وهو جد هذا النصر، حدثنا الأَشْعَثُ بنُ جَابِرٍ عن شَهْرِ بنِ حَوْشَبٍ، عن أَبي هُرَيْرَةَ أَنه حَدّثَهُ عن رَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم قالَ: "إن الرّجُلَ لَيَعْمَلُ وَالمَرْأَةَ بِطَاعَةِ الله سِتّينَ سَنَةً ثُمّ يَحْضُرُهُما المَوْتُ فَيُضَارّانِ في الوَصِيّةِ فَتَجِبُ لَهُمَا النّارُ، ثُمّ قَرَأَ عَليّ أَبُو هُرَيْرَةَ: {مِنْ بَعْدِ وَصِيّةٍ يُوصَى
ـــــــ
الثلث الخ" قال الشوكاني في النيل: المعروف من مذهب الشافعي استحباب النقص عن الثلث. وفي شرح مسلم للنووي: إن كان الورثة فقراء استحب أن ينقص منه وإن كانوا أغنياء استحب أن يوصي بالثلث تبرعاً.
قوله: "حدثنا نصر بن علي" بن نصر بن علي الجهضمي حفيد نصر بن علي الاَتي في هذا السند ثقة ثبت طلب للقضاء فامتنع من العاشرة "حدثنا نصر بن علي" ابن صهبان الأزدي الجهضمي البصري ثقة من السابعة "حدثنا الأشعث بن جابر" قال في التقريب: أشعث بن عبد الله بن جابر الحداني الأزدي بصري يكني أبا عبد الله وقد ينسب إلى جده وهو الحملي صدوق من الخامسة "قال إن الرجل ليعمل" أي ليعبد "والمرأة" بالنصب عطفاً على اسم إن وخبر المعطوف محذوف بدلالة خبر المعطوف عليه ويجوز الرفع وخبره كذلك وقد تنازع في قوله "بطاعة الله" المحذوف والمذكور "ستين سنة" أي مثلاً، أو المراد منه التكثير "ثم يحضرهم الموت" وفي رواية يحضرهما بضمير التثنية وهو الظاهر أي علامته "فيضاران في الوصية" من المضاء أي يوصلان الضرر إلى الوارث بسبب الوصية للأجنبي بأكثر من الثلث، أو بأن يهب جميع ماله لواحد من الورثة كيلا يورث وارث آخرون من ماله شيئاً فهذا مكروه وفرار عن حكم الله تعالى، ذكره ابن الملك. وقال بعضهم: كأن يوصي لغير الوصية أو يوصي بعدم إمضاء ما أوصى به حقاً بأن ندم من وصيته أو ينقض بعض الوصية "فيجب لهما النار" أي فتثبت. والمعنى يستحقان العقوبة ولكنهما تحت المشيئة "ثم قرأ علي" بتشديد الياء، قائله شهر بن حوشب أي قرأ على أبو هريرة استشهاداً وإعتضاداً "من بعد وصية"(6/304)
بِهَا أَوْ دَيْنٍ غَيْرَ مُضَار وَصِيّة مِنَ الله} ـ إِلَى قَوْلِهِ ـ {ذلكَ الفَوْزُ العَظِيمُ} ".
هذا حديثٌ حسنٌ غريبٌ. ونَصْرُ بنُ عَلِيَ الذي رَوَى عن الأَشْعَثَ بنِ جَابِرٍ هُوَ جَدّ نَصْرِ بن عليّ الْجَهْضَمِيّ.
ـــــــ
متعلق بما تقدم من قسمة المواريث "يوصى بها أو دين" ببناء المجهول "غير مضار" حال عن يوصي مقدر لأنه لما قيل يوصي علم أن ثم موصياً أي غير موصل الضرر إلى ورثته بسبب الوصية "إلى قوله ذلك الفوز العظيم" يعني "وصية من الله والله عليم حليم. تلك حدود الله ومن يطع الله ورسوله يدخله جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها" إلى آخر الاَية. والشاهد إنما هو الاَية الأولى وإنما قرأ الاَية الثانية، لأنها تؤكد الأولى وكذا ما بعدها من الثالثة، وكأنه أكتفى بالثانية عن الثالثة، قاله القاري.
قوله: "هذا حديث حسن غريب" وأخرجه أحمد وأبو داود وابن ماجة. قال المنذري بعد نقل تحسين الترمذي: وشهر بن حوشب قد تكلم فيه غير واحد من الاَئمة، ووثقه أحمد بن حنبل ويحيى بن معين(6/305)
2 ـ باب ما جَاءَ في الْحَثّ عَلَى الوَصِيّة
2201ـ حَدّثنا ابنُ أَبِي عُمَرَ، حدثنا سُفْيَانُ عن أَيّوبَ عن نَافِعٍ عن ابنِ عُمَرَ قالَ: قالَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم: "مَا حَقّ امْرِيءٍ مُسْلِمٍ يَبِيتُ لَيْلَتَيْنِ وَلَهُ مَا يُوصِي فيِه إِلاّ وَوَصِيّتُهُ مَكْتُوبَةٌ عِنْدَهُ" .
ـــــــ
"باب ما جاء في الحث على الوصية"
قوله: "ما حق امرئ مسلم" كلمة "ما" بمعنى ليس "يبيت ليلتين" جملة فعلية وقعت صفة أخرى لامرئ "وله ما يوصي فيه" جملة حالية أي وله شيء يريد أن يوصي فيه "إلا ووصيته مكتوبة عنده" مستثنى خبر ليس والواو فيه للحال قاله العيني تبعاً للطيبي. وقال الحافظ: قوله يبيت كأن فيه حذفاً. تقديره أن يبيت وهو كقوله تعالى: {وَمِنْ آيَاتِهِ يُرِيكُمُ الْبَرْقَ} الاَية. ويجوز أن يكون يبيت صفة(6/305)
ـــــــ
لمسلم وبه جزم الطيبي قال هي صفة ثانية انتهى. قال العيني معترضاً عليه: هذا قياس فاسد وفيه تغيير المعنى أيضاً وإنما قدر أن في قوله "يريكم" لأنه في موضع الابتداء، لأن قوله "ومن آياته" في موضع الخبر، والفعل لا يقع مبتدأ فيقدر أن فيه حتى يكون في معنى المصدر فيصح حينئذ وقوعه مبتدأ. فمن له ذوق من العربية يفهم هذا ويعلم تغيير المعنى فيما قال انتهى.
قلت: قال القسطلاني: لم يجب الحافظ عن ذلك في إنتقاض الاعتراض بشيء بل بيض له ككثير من الاعتراضات التي أوردها العيني عليه، لكن يدل لما قاله رواية النسائي من طريق فضيل بن عياض عن عبيد الله بن عمر عن نافع عن ابن عمر حيث قال فيها: أن يبيت. فصرح بأن المصدرية انتهى.
قلت: ويدل له أيضاً ما رواه أحمد عن سفيان عن أيوب بلفظ: "حق على كل مسلم أن لا يبيت ليلتين وله ما يوصي فيه" الحديث. وما رواه أبو عوانة من طريق هشام بن الغاز عن نافع بلفظ: "لا ينبغي لمسلم أن يبيت ليلتين" الحديث، فقول العيني هذا قياس فاسد وفيه تغيير المعنى الخ ليس مما يلتفت إليه، وقد قال بما قال الحافظ غيره من أهل العلم قال في العدة: ويحتمل أن يكون خبر المبتدأ يبيت بتأويله بالمصدر تقديره ما حقه بيتوتته ليلتين إلا وهو بهذه الصفة، وهذا معنى قوله في المصابيح: أن يبيت ليلتين ارتفع بعد حذف أن مثل قوله تعالى {وَمِنْ آيَاتِهِ يُرِيكُمُ الْبَرْقَ} ذكره القسطلاني قال الحافظ: قوله ليلتين كذا لأكثر الرواة، وفي رواية لأبي عوانة والبيهقي يبيت ليلة أو ليلتين، وفي رواية لمسلم والنسائي يبيت ثلاث ليال، فكأن ذكر الليلتين والثلاث لرفع الحرج لتزاحم أشغال المرء التي يحتاج إلى ذكرها ففسح له هذا القدر ليتذكر ما يحتاج إليه، واختلاف الروايات فيه دال على أنه للتقريب لا التحديد، والمعنى لا يمضي عليه زمان وإن كان قليلاً إلا ووصيته مكتوبة، وفيه إشارة إلى اغتفار الزمن اليسير، وكأن الثلاث غاية للتأخير، ولذلك قال ابن عمر في رواية سالم: لم أبت ليلة منذ سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول ذلك "إلا ووصيتي عندي" انتهى.
قال النووي رحمه الله: فيه الحث على الوصية وقد أجمع المسلمون على الأمر بها لكن مذهبنا ومذهب الجماهير أنها مندوبة لا واجبة. وقال داود وغيره من أهل(6/306)
هذا حديثٌ حسنٌ صحيحٌ. وقد رُوِيَ عن الزّهْرِيّ عن سَالِمٍ عن ابنِ عُمَرَ عن النبيّ صلى الله عليه وسلم نَحْوُهُ.
ـــــــ
الظاهر: هي واجبة لهذا الحديث ولا دلالة لهم فيه، فليس فيه تصريح بإيجابها لكن إن كان على الإنسان دين أو حق أو عنده وديعة ونحوها لزمه الإيصاء بذلك، قال الشافعي رحمه الله تعالى: معنى الحديث ما الحزم والاحتياط للمسلم إلا أن تكون وصيته مكتوبة عنده ويستحب تعجيلها، وإن يكتبها في صحيفة، ويشهد عليه فيها، ويكتب فيها ما يحتاج إليه، فإن تجدد له أمر يحتاج إلى الوصية به ألحقه بها. وقوله صلى الله عليه وسلم: "ووصيته مكتوبة عنده" معناه مكتوبة وقد أشهد عليه بها لا أنه يقتصر على الكتابة بل لا يعمل بها ولا ينفع إلا إذا كان أشهد عليه بها. هذا مذهبنا ومذهب الجمهور. وقال الإمام محمد بن نصر المروزي من أصحابنا: يكفي الكتاب من غير إشهاد لظاهر الحديث انتهى.
قوله: "هذا حديث حسن صحيح" وأخرجه مالك وأحمد والشيخان وابن ماجه(6/307)
باب ما جاء أن النبي صلى الله عليه و سلم لم يوص
...
3 ـ باب ماَ جَاءَ أَنّ النبيّ صلى الله عليه وسلملَمْ يُوص
2202 ـ حَدّثنا أَحمدُ بنُ مَنِيعٍ، أخبرنا أَبُو قَطَنٍ. عمرو بن الهيثم البغدادي أخبرنا مَالِكُ بنُ مِغْوَلٍ عن طَلْحَةَ بنِ مُصَرّفٍ قالَ: "قُلْتُ لابْنِ أَبِي أَوْفَى: أَوْصَى
ـــــــ
"باب ما جاء أن النبي صلى الله عليه وسلم لو يوص"
قوله: "عن طلحة بن مصرف" بميم مضمومة وفتح صاد وكسر راء مشددة على الصواب وحكى فتحها وبفاء كذا في المغني، وطلحة بن مصرف هذا هو ابن عمرو ابن كعب اليامي بالتحتانية الكوفي ثقة قارئ فاضل من الخامسة.
قوله: "قلت لابن أبي أوفى" هو عبد الله بن أبي أوفى علقمة بن خالد بن الحارث الأسلمي صحابي شهد الحديبية وعمر بعد النبي صلى الله عليه وسلم دهراً، مات سنة سبع وثمانين وهو آخر من مات بالكوفة من الصحابة.(6/307)
رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم؟ قالَ: لا، قلت: وَكَيْفَ كُتِبَتِ الوَصِيّةُ وكَيْفَ أَمَرَ النّاسَ؟ قالَ: أَوْصَى بِكِتَابِ الله تَعَالَى".
ـــــــ
قوله: "قال لا" هكذا أطلق الجواب وكأنه فهم أن السؤال وقع عن وصية خاصة فلذلك ساغ نفيها لا أنه أراد نفي الوصية مطلقاً. لأنه أثبت بعد ذلك أنه بكتاب الله "وكيف كتبت الوصية وكيف أمر الناس" وفي رواية البخاري في فضائل القرآن: كيف كتب على الناس الوصية أمروا بها ولم يوص. وبذلك يتم الاعتراض، أي كيف يؤمر المسلمون بشيء ولا يفعله النبي صلى الله عليه وسلم. قال النووي: لعل ابن أبي أوفى أراد لم يوص بثلث ماله لأنه لم يترك بعده مالاً وأما الأرض فقد سلبها في حياته، وأما السلاح والبغلة ونحو ذلك فقد أخبر بأنها لا تورث عنه بل جميع ما يخلفه صدقة، فلم يبق بعد ذلك ما يوصي به من الجهة المالية، وأما الوصايا بغير ذلك فلم يرد ابن أبي أوفى نفيها، ويحتمل أن يكون المنفي وصيته إلى عليّ بالخلافة كما وقع التصريح به في حديث عائشة عند البخاري وغيره ذكروا عندها أن علياً كان وصياً فقالت متى أوصى إليه الحديث. وقد أخرج ابن حبان حديث الباب من طريق ابن عيينة عن مالك بن مغول بلفظ يزيل الإشكال فقال: سئل ابن أبي أوفى هل أوصى رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال ما ترك شيئاً يوصي فيه، قيل فكيف أمر الناس بالوصية ولم يوص؟ قال: أوصى بكتاب. وقال القرطبي: استبعاد طلحة واضح لأنه أطلق فلو أراد شيئاً بعينه لخصه به فاعترضه بأن الله كتب على المسلمين الوصية وأمروا بها فكيف لم يفعلها النبي صلى الله عليه وسلم؟ فأجابه بما يدل على أنه أطلق في موضع التقييد "أوصى بكتاب الله تعالى" أي بالتمسك به والعمل بمقتضاه، ولعله أشار لقوله صلى الله عليه وسلم: "تركت فيكم ما إن تمسكتم به لم تضلوا كتاب الله" . وأما ما صح في مسلم وغيره أنه صلى الله عليه وسلم أوصى عند موته بثلاث لا يبقين بجزيرة العرب دينان، وفي لفظ: أخرجوا اليهود من جزيرة العرب. وقوله "أجيزوا الوفد بنحو ما كنت أجيزهم به" . ولم يذكر الراوي الثالثة، وكذا ما ثبت في النسائي أنه صلى الله عليه وسلم كان آخر ما تكلم به: "الصلاة وما ملكت إيمانكم" . وغير ذلك من الأحاديث التي يمكن حصرها بالتتبع، فالظاهر أن ابن أبي أوفى لم يرد نفيه ولعله اقتصر على(6/308)
هذا حديثٌ حسنٌ صحيحٌ. لا نَعْرِفُهُ إِلاّ مِنْ حَدِيثِ مَالِكِ بنِ مِغْوَلٍ.
ـــــــ
الوصية بكتاب الله لكونه أعظم وأهم ولأن فيه تبيان كل شيء إما بطريق النصر وإما بطريق الاستنباط، فإذا اتبع الناس ما في الكتاب عملوا بكل ما أمرهم النبي صلى الله عليه وسلم به لقوله تعالى {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ} الاَية، أو يكون لم يحضر شيئاً من الوصايا المذكورة أو لم يستحضرها حال قوله، والأولى أنه إنما أراد بالنفي الوصية بالخلافة أو بالمال وساغ إطلاق النفي، أما في الأول فبقرينه الحال، وأما في الثانية فلأنه المتبادر عرفاً. وقد صح عن ابن عباس أنه صلى الله عليه وسلم لم يوص، أخرجه ابن أبي شيبة من طريق أرقم بن شرحبيل عنه، مع أن ابن عباس هو الذي روى حديث أنه صلى الله عليه وسلم أوصى بثلاث والجمع بينهما على ما تقدم.
قوله: "هذا حديث حسن صحيح" وأخرجه البخاري في الوصايا وفي المغازي وفي فضائل القرآن، وأخرجه مسلم والنسائي وابن ماجه في الوصايا(6/309)
باب ما جاء لا و صية لوارث
...
4 ـ باب مَا جَاءَ لاَوَصِيّةَ لِوَارِث
2203ـ حَدّثنا هَنّادٌ و عَلِيّ بنُ حُجْرٍ قالا: أخبرنا إسماعيلُ بنُ عيّاشٍ، أخبرنا شُرَحْبِيلُ بن مُسْلِمٍ الخَوْلانِيّ عن أَبِي أُمَامَةَ الْبَاهَلِيّ قالَ: "سَمِعْتُ رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم يقولُ في خُطْبَتِهِ عَامَ حَجّةِ الوَدَاعِ: إِنّ الله تَبَارَكَ وَتَعَالَى قد أَعْطَى لكُلّ ذِي حَقّ حَقّهُ فَلاَ وَصِيّةَ لِوَارِثٍ.
ـــــــ
"باب ما جاء لا وصية لوارث"
قوله: "أخبرنا شرحبيل بن مسلم الخولاني" الشامي صدوق فيه لين من الثالثة.
قوله: "قد أعطى كل ذي حق حقه" أي بين له حظه ونصيبه الذي فرض له "فلا وصية لوارث" قال الأمير اليماني في السبل: الحديث دليل على منع الوصية للوارث وهو قول الجماهير من العلماء. وذهب الهادي وجماعة إلى جوازها مستدلين بقوله تعالى {كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ} الآية. قالوا ونسخ الوجوب لا ينافي الجواز. قلنا: نعم لو لم يرد هذا الحديث فإنه ينافي لجوازها، إذ وجوبها(6/309)
الْوَلَدُ لِلْفِرَاشِ ولِلْعَاهِرِ الْحَجرُ وَحِسَابهُمْ على الله تَعَالَى، ومن ادّعَى إِلَى غَيْرِ أَبِيِه
ـــــــ
قد علم نسخه من آية المواريث كما قال ابن عباس: كان المال للولد والوصية للوالدين فنسخ الله سبحانه من ذلك ما أحب، فجعل للذكر مثل حظ الأنثيين، وجعل للأبوين لكل واحد منهما السدس، وجعل للمرأة الثمن والربع، وللزوج الشطر والربع انتهى.
قلت: حديث ابن عباس هذا أخرجه البخاري في صحيحه في الوصايا وغيره. قال الحافظ: هو موقوف لفظاً إلا أنه في تفسيره إخبار بما كان من الحكم قبل نزول القرآن فيكون في حكم المرفوع بهذا التقرير انتهى.
واعلم أن حديث الباب أخرجه الدارقطني من حديث ابن عباس وزاد في آخره: إلا أن يشاء الورثة. قال الحافظ في بلوغ المرام: إسناده حسن، وقال في الفتح: رجاله ثقات لكنه معلول فقد قيل إن عطاء الذي رواه عن ابن عباس هو الخراساني وهو لم يسمع من ابن عباس. وأخرجه الدارقطني أيضاً من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده مرفوعاً: "لا وصية لوارث إلا أن يجيز الورثة" . قال الحافظ في التلخيص: إسناده واه، وفي هذه الزيادة دليل على أنها تصح وتنفذ الوصية للوارث إن أجازها الورثة. قال العيني في العمدة: قال المنذري: إنما يبطل الوصية للوارث في قول أكثر أهل العلم من أجل حقوق سائر الورثة، فإن أجازوها جازت، كما إذا أجازوا الزيادة على الثلث، وذهب بعضهم إلى أنها لا تجوز، وإن أجازوها لأن المنع لحق الشرع، فلو جوزناها كنا قد استعملنا الحكم المنسوخ وذلك غير جائز، وهو قول أهل الظاهر انتهى. "الولد للفراش" أي للأم. قال في النهاية: وتسمى المرأة فراشاً لأن الرجل يفترشها، أي الولد منسوب إلى صاحب الفراش سواء كان زوجاً أو سيداً أو واطئ شبهة، وليس للزاني في نسبه حظ، إنما الذي جعل له من فعله استحقاق الحد وهو قوله "وللعاهر الحجر" قال التوربشتي: يريد أن له الخيبة، وهو كقولك له التراب، والذي ذهب إلى الرجم فقد أخطأ لأن الرجم لا يشرع في سائره "وحسابهم على الله تعالى" قال المظهر: يعني نحن نقيم الحد على الزناة وحسابهم على الله إن شاء عفا عنهم وإن شاء عاقبهم، هذا مفهوم الحديث، وقد(6/310)
أَو انْتَمى إِلَى غَيْرِ مَوَالِيِه فَعَلَيْهِ لَعْنَةُ الله التّابِعَةُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ. لا تُنْفِقُ امْرَأَةٌ مِنْ بَيْتِ زَوْجِهَا إِلاّ بِإِذْنِ زَوْجِهَا، قِيلَ يا رسولَ الله: وَلاَ الطعامَ؟ قَالَ ذَلِكَ أَفْضَلُ أَمْوَالِنَا. ثم قَالَ: العَارِيّةُ مُؤَدّاةٌ، وَالمِنْحَةَ مَرْدُودَةٌ، وَالدّيْنُ مَقْضِيّ، والزّعِيمُ غَارِمٌ".
وفي البابِ عن عَمْرِو بنِ خَارِجَةَ وَأَنَسِ بنِ مَالِكٍ
ـــــــ
جاء: "من أقيم عليه الحد في الدنيا لا يعذب بذلك الذنب في القيامة، فإن الله تعالى أكرم من أن يثني العقوبة على من أقيم عليه الحد". ويحتمل أن يراد به من زنى أو أذنب ذنباً آخر ولم يقم عليه الحد فحسابه على الله إن شاء عفا عنه وإن شاء عاقبه. قال القاري: ويمكن أن يقال ونحن نجري أحكام الشرع بالظاهر والله تعالى أعلم بالسرائر. فحسابهم على الله وجزاؤهم عند الله أو بقية محاسبتهم ومجازاتهم من الإصرار على ذلك الذنب ومباشرة سائر الذنوب تحت مشيئة الله "ومن ادعى إلى غير أبيه" بتشديد الدال أي انتسب إلى غير أبيه وهو يعلم أنه غير أبيه "أو انتمى إلى غير مواليه" أي انتسب إليهم وصار معروفاً بهم من نميته إلى أبيه نمياً نسبته إليه وانتمى هو "فعليه لعنة الله التابعة إلى يوم القيامة" وفي رواية أبي داود عن أنس: المتتابعة إلى يوم القيامة "لا تنفق" نفي وقيل نهي "امرأة من بيت زوجها إلا بإذن زوجها" أي صريحاً أو دلالة "قيل يا رسول الله ولا الطعام قال ذاك أفضل أموالنا" يعني فإذا لم تجز الصدقة بما هو أقل قدراً من الطعام بغير إذن الزوج فكيف تجوز بالطعام الذي هو أفضل "العارية" بالتشديد ويخفف "مؤداة" بالهمزة ويبدل. قال التوربشتي: أي تؤدى إلى صاحبها.
واختلفوا في تأويله على حسب اختلافهم في الضمان، فالقائل بالضمان يقول تؤدي عيناً حال القيام وقيمة عند التلف، وفائدة التأدية عند من يرى خلافه إلزام المستعير مؤنة ردها إلى مالكها "والمنحة" بكسر فسكون، ما يمنحه الرجل صاحبه أي يعطيه من ذات در ليشرب لبنها أو شجرة ليأكل ثمرها أو أرضاً ليزرعها، وفي رواية المنيحة "مردودة" إعلام بأنها تتضمن تمليك المنفعة لا تمليك الرقبة "والدين مقضي" أي يجب قضاؤه "والزعيم" أي الكفيل "غارم" أي يلزم نفسه ما ضمنه، والغرم أداء شيء يلزمه، والمعنى ضامن ومن ضمن ديناً لزمه أداؤه "وفي الباب(6/311)
هذا حديثٌ حسنٌ. وقد رُوِيَ عن أَبِي أُمَامَةَ عن النبيّ صلى الله عليه وسلم مِنْ غَيْرِ هذا الوَجْهِ. ورِوَايَةُ إسماعيلَ بنِ عَيّاشٍ عن أَهْلِ العِرَاقِ وَأَهْلِ الْحِجَازِ لَيْسَ بِذَلِكَ فِيمَا يَتَفَرّدُ بِهِ لأَنّهُ رَوَى عَنْهُمْ مَنَاكِيرَ. وَرِوَايَتُهُ عن أَهْلِ الشّامِ أَصَحّ. هَكَذَا قالَ محمدُ بنُ إسماعيلَ قال سَمِعْتُ أَحمدَ بنَ الْحَسَنِ يَقُولُ: قالَ أَحمدُ بنُ حَنْبَلٍ: إسماعيلُ بنُ عَيّاشٍ أَصْلَحُ حَدِيثاً مِنْ بَقِيّةَ. وَلِبقِيّةَ أَحَادِيثُ مَنَاكِيرُ عن الثّقَاتِ. وسَمِعْتُ عَبْدَ الله بنَ عَبْدِ الرحمنِ يقولُ سَمِعْتُ زكريّا بنَ عَدِيّ يقولُ، قالَ أَبُو إسحاقَ الفَزَارِيّ: خُذُوا
ـــــــ
عن عمرو بن خارجة وأنس بن مالك" أما حديث عمرو بن خارجة فأخرجه الترمذي في هذا الباب. وأما حديث أنس بن مالك فأخرجه ابن ماجه.
قوله: "هذا حديث حسن" وأخرجه أحمد وأبو داود وابن ماجه وحسنه الحافظ أيضاً في التلخيص. وقال في الفتح: في إسناده إسماعيل بن عياش وقد قوى حديثه إذا روى عن الشاميين جماعة من الأئمة منهم أحمد والبخاري، وهذا من روايته عن الشاميين لأنه رواه عن شرحبيل بن مسلم وهو شامي ثقة، وصرح في روايته بالتحديث عند الترمذي، وقال الترمذي حديث حسن. وفي الباب عن عمر بن خارجة عند الترمذي والنسائي وعن أنس عندابن ماجه، وعن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده عند الدارقطني، وعن جابر عند الدارقطني أيضاً وقال الصواب إرساله. وعن علي عند ابن أبي شيبة، ولا يخلو إسناد كل منها عن مقال لكن مجموعها يقتضي أن للحديث أصلاً بل جنح الشافعي في الأم إلى أن هذا المتن متواتر فقال: وجدنا أهل الفتيا ومن حفظنا عنهم من أهل العلم بالمغازي من قريش وغيرهم لا يختلفون في أن النبي صلى الله عليه وسلم قال عام الفتح: "لا وصية لوارث"، ويؤثرون عمن حفظوه عنه ممن لقوه من أهل العلم فكان نقل كافة عن كافة فهو أقوى من نقل واحد وقد نازع الفخر الرازي في كون هذا الحديث متواتراً، وعلى تقدير تسليم ذلك فالمشهور من مذهب الشافعي أن القرآن لا ينسخ بالسنة، لكن الحجة في هذا الإجماع على مقتضاه كما صرح به الشافعي وغيره انتهى(6/312)
منْ بَقِيّةَ ما حَدّثَ عن الثّقَاتِ ولا تَأْخُذُوا عن إسماعيلَ بنِ عَيّاشٍ مَا حَدّثَ عن الثّقَاتِ وَلاَ عن غَيْرِ الثّقَاتِ.
2204ـ حدّثنا قُتَيْبَةُ، حدثنا أَبو عَوَانَةَ عن قَتَادَةَ عن شَهْرِ بنِ حَوْشَبٍ عن عَبْدِ الرحمنِ بنِ غَنْمٍ عن عَمْرِو بنِ خَارِجَةَ: "أَنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم خَطَب على نَاقَتِهِ وَأَنَا تَحْتَ جِرَانهَا وهِيَ تَقْصَعُ بِجِرّتِها
ـــــــ
"قال أحمد بن حنبل: إسماعيل بن عياش أصلح بدناً من بقية" أي أصلح حالاً منه "وسمعت عبد الله بن عبد الرحمن" هو الدارمي "ولا تأخذوا عن إسماعيل بن عياش ما حدث عن الثقات ولا غير الثقات".
قال النووي في شرح مقدمة صحيح مسلم: هذا الذي قاله أبو إسحاق الفزاري في إسماعيل خلاف قول جمهور الأئمة قال عباس: سمعت يحيى بن معين يقول: إسماعيل بن عياش ثقة وكان أحب إلى أهل الشام من بقية. وقال ابن أبي خيثمة: سمعت يحيى بن معين يقول: هو ثقة والعراقيون يكرهون حديثه. وقال البخاري: ما روي عن الشاميين أصح. وقال عمرو بن علي: إذا حدث عن أهل بلاده فصحيح وإذا حدث عن أهل المدينة مثل هشام بن عروة ويحيى بن سعيد وسهيل بن أبي صالح فليس بشيء. وقال يعقوب بن سفيان: كنت أسمع أصحابنا يقولون: علم الشام عند إسماعيل بن عياش والوليدة بن مسلم.
قال يعقوب: وتكلم قوم في إسماعيل وهو ثقة عدل أعلم الناس بحديث الشام ولا يدفعه دافع، وأكثر ما تكلموا قالوا يغرب عن ثقات المكيين والمدنيين، وقال يحيى بن معين: إسماعيل ثقة فيما روى عن الشاميين، وأما روايته عن أهل الحجاز فإن كتابه ضاع فخلط في حفظه عنهم. وقال أبو حاتم: هو لين يكتب حديثه لا أعلم أحداً كف عنه إلا أبا إسحاق الفزاري انتهى.
قوله: "وأنا تحت جرانها" بكسر الجيم. قال في القاموس: جران البعير بالكسر مقدم عنفه من مذبحه إلى منحره "وهي تقصع بجرتها" الجرة بكسر الجيم وتشديد الراء. قال في القاموس الجرة بالكسر هيئة الجر وما يفيض به البعير(6/313)
وإِنّ لُعَابَهَا يَسِيلُ بَيْنَ كَتفَيّ فَسَمِعْتُهُ يَقُولُ: إِنّ الله عَزّ وَجَلّ أَعْطَى كُلّ ذِي حَقّ حَقّهُ لا وَصِيَةَ لِوَارِثٍ وَالْوَلَدُ لِلفِرَاشِ ولِلْعَاهِرِ الْحَجرُ" .
هذا حديثٌ حسنٌ صحيحٌ.
ـــــــ
فيأكله ثانية، وقد اجتر وأجر، واللقمة يتعلل بها البعير إلى وقت علفه والقصع البلع. قال في القاموس: قصع كمنع ابتلع جرع الماء، والناقة بجرتها ردتها إلى جوفها أو مضغتها أو هو بعد الدسع وقبل المضغ أو هو أن تملأ بها فاها أو شدة المضغ "وإن لعابها يسيل بين كتفي" وفي رواية: وإن لغامها بضم اللام بعدها غين معجمة وبعد الألف ميم هو اللعاب. قال في القاموس لغم الجمل كمنع رمي بلعابه لزبده، قال والملاغم ما حول الفم.
قوله: "هذاحديث حسن صحيح" وأخرجه أحمد والنسائي وابن ماجه والدارقطني والبيهقي وفي سنده شهر بن حوشب وهو مختلف فيه.(6/314)
5 ـ باب ما جَاءَ يُبْدَأُ بِالدّيْنِ قَبْلَ الوَصِية
2205 ـ حَدّثنا ابنُ أَبِي عُمَر، حدثنا سُفْيَانُ بنُ عُيَيْنَةَ، عن أَبِي إسحاقَ الهَمَدانِيّ عن الحَارِثِ عن عَلِيّ: "أَنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم قَضَى
ـــــــ
"باب ما جاء يبدأ بالدين قبل الوصية"
قوله: "وأنتم تقرون الوصية قبل الدين" أي في قوله تعالى {مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَا أَوْ دَيْنٍ} وقوله {مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِينَ بِهَا أَوْ دَيْنٍ} وقوله {مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ تُوصُونَ بِهَا أَوْ دَيْنٍ} وقوله {مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَا أَوْ دَيْنٍ} قال الطيبي رحمه الله: قوله أنتم تقرأون إخبار فيه معنى الاستفهام، يعني أنتم أتقرأون هذه الاَية هل تدرون معناها؟ فالوصية مقدمة على الدين في القراءة متأخرة عنه في القضاء انتهى. وتقدم وجه تقديم الوصية على الدين في القراءة مع كونها متأخرة عنه في القضاء في باب ميراث الإخوة من الأب والأم وسيأتي مفصلاً.(6/314)
بالدّيْنِ قَبْلَ الوَصِيّةِ وَأَنْتُم تقرأونها قَبْلَ الدّيْنِ".
والعَمَلُ على هذا عِنْدَ عَامّةِ أَهْلِ العِلمِ أَنه يُبْدَأُ بالدّيْنِ قَبْلَ الوَصِيّةِ.
ـــــــ
قوله: "والعمل على هذا عند عامة أهل العلم أنه يبدأ بالدين قبل الوصية" قال الحافظ في الفتح: ولم يختلف العلماء في أن الدين يقدم على الوصية إلا في صورة واحدة وهي ما لو أوصي الشخص بألف مثلاً وصدقه الوارث وحكم به ثم ادعى آخر أن له في ذمة الميت ديناً يستغرق موجوده وصدقه الوارث ففي وجه للشافعية أنها تقدم الوصية على الدين في هذه الصورة الخاصة، وأما تقديم الوصية على الدين في قوله تعالى: {مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَا أَوْ دَيْنٍ} فقد قيل في ذلك إن الاَية ليس فيها صيغة ترتيب بل المراد أن المواريث إنما تقع بعد قضاء الدين وإنفاذ الوصية وأتي بأو للإباحة وهي كقولك جالس زيداً أو عمراً أي لك مجالسة فكل واحد منهما اجتمعا أو افترقا، وإنما قدمت لمعنى اقتضى الاهتمام بتقديمها، واختلف في تعيين ذلك المعنى. وحاصل ما ذكره أهل العلم من مقتضيات التقديم ستة أمور: أحدها ـ الخفة والثقل كربيعة ومضر فمضر أشرف من ربيعة لكن لفظ ربيعة لما كان أخف قدم في الذكر وهذا يرجع إلى اللفظ. ثانيها ـ بحسب الزمان كعاد وثمود. ثالثها ـ بحسب الطبع كثلاث ورباع. رابعها ـ بحسب الرتبة كالصلاة والزكاة لأن الصلاة حق البدن والزكاة حق المال، فالبدن مقدم على المال. خامسها. تقديم السبب على المسبب كقوله تعالى: {عَزِيزٌ حَكِيمٌ} . وقال بعض السلف عز فلما عز حكم. سادسهاـ بالشرف والفضل كقوله تعالى: {مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ} . وإذا تقرر ذلك فقد ذكر السهيلي أن تقديم الوصية في الذكر على الدين لأن الوصية إنما تقع على سبيل البر والصلة بخلاف الدين فإنه إنما يقع غالباً بعد الميت بنوع تفريط، فوقعت البداءة بالوصية لكونها أفضل. وقال غيره: قدمت الوصية لأنها شيء يؤخذ بغير عوض والدين يؤخذ بعوض، فكان إخراج الوصية أشق على الوارث من إخراج الدين، وكان أداؤها مظنة للتفريط بخلاف الدين، فإن الوارث مطمئن بإخراجه فقدمت الوصية لذلك. وأيضاً فهي حظ فقير ومسكين غالباً، والدين حظ غريم يطلب بقوة وله مقال كما صح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: إن لصاحب الدين مقالاً . وأيضاً فالوصية ينشئها الموصي من قبل نفسه(6/315)
ـــــــ
فقدمت تحريضاً على العمل بها بخلاف الدين انتهى. وحديث علي المذكور ضعيف. قال في النيل: قد أخرج أحمد والترمذي وغيرهما من طريق الحارث الأعور عن علي عليه سلام الله ورضوانه قال: قضى محمد أن الدين قبل الوصية وأنتم تقرأون الوصية قبل الدين، والحديث وإن كان إسناده ضعيفاً لكنه معتضد بالاتفاق الذي سلف انتهى(6/316)
6 ـ باب ما جَاءَ في الرّجُلِ يَتصَدّقُ أَوْ يُعْتقُ عِنْدَ المَوْت
2206 ـ حَدّثنا بُنْدَارٌ، حدثنا عَبْدُ الرحمنِ بنُ مَهْدِيٍ حدثنا سُفْيَانُ عن أَبِي إسحاقَ عن أَبِي حَبِيبَةَ الطّائِيّ قالَ: "أَوْصَى إِلَيّ أَخِي بِطَائِفَةٍ مِنْ مَالِهِ، فَلَقِيتُ أَبَا الدّرْدَاءِ، فَقلت: إِنّ أَخِي أَوْصَى إِلَيّ بِطَائِفَةٍ مِنْ مَالِهِ فَأَيْنَ تَرَى لي وَضْعَهُ في الفُقَراءِ أو المَسَاكِينَ أو المُجَاهِدِينَ في سَبِيلِ الله؟ فقالَ: أَمّا أَنَا فَلَوْ كُنْتُ: لَمْ أَعْدِلْ بالمجاهِدِينَ، سَمِعْتُ رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: مَثَلُ الذي يُعْتِقُ عِنْدَ المَوْتِ كَمَثَلِ الّذِي يُهْدِي إِذَا شَبِعَ" .
ـــــــ
"باب ما جاء في الرجل يتصدق أو يعتق عند الموت"
قوله: "عن أبي حبيبة الطائي" قال في تهذيب التهذيب في ترجمته: روى عن أبي الدرداء حديث: مثل الذي يهدي ويعتق عند الموت الخ، وعنه أبو إسحاق السبيعي ولا يعرف له غيره، وذكره ابن حبان في الثقات انتهى. وقال في التقريب، مقبول من الثالثة.
قوله: "أما أنا فلو كنت لم أعدل بالمجاهدين" أي لم أساو بهم الفقراء أو المساكين وغيرهم. والمعنى لو كنت أنا موصياً لم أوص إلا للمجاهدين "مثل الذي يعتق" وفي رواية يتصدق "عند الموت" أي عند احتضاره. وفي المشكاة: مثل الذي يتصدق عند موته يعتق "كمثل الذي يهدي إذا شبع" قال الطيبي: في هذا الإهداء نوع استخفاف بالمهدى إليه انتهى. والأظهر أن المراد أنه مرتبة ناقصة لأن التصدق والإعتاق حال الصحة أفضل، كما أن السخاوة عند المجاعة أكمل قاله القاري.(6/316)
هذا حديثٌ حسنٌ صحيحٌ.
ـــــــ
قوله: "هذا حديث حسن صحيح" وأخرجه أحمد والنسائي والدارمي. وفي الباب عن أبي سعيد مرفوعاً: "لأن يتصدق المرء في حياته بدرهم خير له من أن يتصدق بمائة عند موته"، رواه أبو داود وفي سنده شرحبيل بن سعد الأنصاري. قال المنذري: لا يحتج بحديثه(6/317)
7-باب
2207 ـ حدّثنا قُتَيْبَةُ، أخبرنا الّليْثُ عن ابنِ شِهَابٍ عن عُرْوَةَ أن عَائِشَةَ أَخْبَرَتْهُ أَنّ بَرِيرَةَ جَاءَتْ تَسْتَعِينُ عَائِشَةَ فِي كِتَابَتِهَا وَلَمْ تَكُنْ قَضَتْ مِنْ كِتَابَتِهَا شَيْئاً، فَقَالَتْ لَهَا عَائِشَةُ: ارْجِعِي إلى أَهْلِكِ فَإِنْ أَحَبّوا أَنْ أَقْضِيَ عَنْكِ كِتَابَتَكِ ويَكُونَ ولاؤُكِ لي فَعَلْتُ، فَذَكَرَتْ ذَلِكَ بَرِيَرةُ لأَهْلِهَا فَأَبَوْا وقالُوا إنْ شَاءَتْ أَنْ تَحْتَسِبَ عَلَيْكِ ويَكُونَ لَنَا وَلاَؤُكِ فَلْتَفْعَلْ
ـــــــ
"باب"
قوله: "أن بريرة" بوزن عظيمة هي مولاة لعائشة، تقدم ترجمتها في باب اشتراط الولاء والزجر عن ذلك من أبواب البيوع "تستعين عائشة" جملة حالية "ولم تكن قضت" أي أدت "من كتابتها" أي من بدل كتابتها "ارجعي إلى أهلك" المراد به مواليها "فإن أحبوا أن أقضي عنك كتابتك ويكون ولاؤك لي فعلت" ظاهره أن عائشة طلبت أن يكون الولاء لها إذا بذلت جميع مال الكتابة ولم يقع ذلك إذ لو وقع لكان اللوم بطلبها ولاء من أعتقها غيرها، وقد رواه أبو أسامة عن هشام بلفظ يزيل الإشكال فقال إن أعدها لهم عدة واحدة وأعتقك ويكون ولاؤك لي فعلت. وكذلك رواه وهيب عن هشام فعرف بذلك أنها أرادت أن تشتريها شراء صحيحاً ثم تعتقها إذ العتق فرع ثبوت الملك، ويؤيده قول النبي صلى الله عليه وسلم: ابتاعي فأعتقي، كذا في النيل "فذكرت ذلك" أي الذي قالته عائشة "فأبوا" أي امتنعوا أن يكون الولاء لعائشة "إن شاءت" أي عائشة "أن تحتسب" هو من الحسبة بكسر المهملة أي تحتسب الأجر عند لله "ويكون"(6/317)
فَذَكَرْتُ ذلكَ لرَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم، فقالَ لَهَا رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم: "ابْتَاعِي فأَعْتِقي فإِنّمَا الوَلاَءُ لِمَنْ أَعْتَقَ، ثم قامَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم فقالَ: مَا بَالُ أَقْوَامٍ يَشْتَرِطُونَ شُرُوطاً لَيْسَتْ فِي كِتَابِ الله؟ مَنْ اشْتَرَطَ شَرْطاً لَيْسَ فِي كِتَابِ الله فَلَيْسَ لَهُ وإِنْ اشْتَرَطَ مائِةَ مَرّةٍ" .
ـــــــ
بالنصب عطف على تحتسب "لنا ولاؤك" لا لها "فذكرت" أي عائشة "ابتاعي فأعتقي" هو كقوله في حديث ابن عمر: لا يمنعك ذلك "فإنما الولاء لمن أعتق" فيه إثبات الولاء للمعتق ونفيه عما عداه كما تقضيه إنما الحصرية، واستدل بذلك على أنه لا ولاء لمن أسلم على يديه رجل أو وقع بينه وبينه مخالفة خلافاً للحنفية، ولا للملتقط خلافاً لإسحاق "ثم قام رسول الله صلى الله عليه وسلم" وفي رواية للبخاري، فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم في الناس فحمد الله وأثنى عليه ثم قال أما بعد "ما بال أقوام" أي ما حالهم "ليست في كتاب الله" أي في حكم الله الذي كتبه على عباده وشرعه لهم، قال ابن خزيمة: أي ليس في حكم الله جوازها أو وجوبها لا أن كل من شرط شرطاً لم ينطق به الكتاب باطل لأنه قد يشترط في البيع الكفيل فلا يبطل الشرط ويشترط في الثمن شروط من أوصافه أو نجومه ونحو ذلك فلا يبطل، فالشروط المشروعة صحيحة وغيرها باطل "فليس له" أي ذلك الشرط أي لا يستحقه، وفي رواية النسائي: من شرط شرطاً ليس في كتاب الله لم يجز له "وإن اشترط مائة مرة" ذكر المائة للمبالغة في الكثرة لا أن هذا العدد بعينه هو المراد.
واعلم أن هذا الحديث قد استنبط أهل العلم منه فوائد كثيرة. قال ابن بطال: أكثر الناس في تخريج الوجوه في حديث بريرة حتى بلغوها نحو مائة وجه. وقال النووي: صنف فيه ابن خزيمة وابن جرير تصنيفين كبيرين أكثر فيهما من استنباط الفوائد منها فذكر أشياء. قال الحافظ: ولم أقف على تصنيف ابن خزيمة ووقفت على كلام ابن جرير من كتابه تهذيب الآثار ولخصت منه ما تيسر بعون الله تعالى، وقد بلغ بعض المتأخرين الفوائد من حديث بريرة إلى أربعمائة(6/318)
هذا حديثٌ حسنٌ صحيحٌ. وقد رُوِي مِنْ غَيْرِ وَجْهٍ عن عَائِشَةَ والعملُ على هذا عندَ أَهلِ العِلمِ أَن الوَلاَءَ لِمَنْ أَعْتَقَ.
ـــــــ
أكثرها مستبعد متكلف كما وقع نظير ذلك للذي صنف في الكلام على حديث المجامع في رمضان فبلغ به ألف فائدة وفائدة انتهى. وقد ذكر الحافظ في الفتح كثيراً من فوائد هذا الحديث في كتاب المكاتب وفي كتاب النكاح.
قوله: "هذا حديث حسن صحيح" وأخرجه البخاري في مواضع عديدة في أوائل كتاب الصلاة في باب ذكر البيع والشراء على المنبر في المسجد. وفي الزكاة في باب الصدقة على موالي أزواج النبي صلى الله عليه وسلم وفي العتق والمكاتب والهبة والبيوع والفرائض والطلاق والشروط والأطعمة وكفارة الأيمان، وأخرجه في الطلاق من حديث ابن عباس، وفي الفرائض من حديث ابن عمر، وأخرج مسلم طرفاً منه من حديث أبي هريرة. وأخرجه البخاري أيضاً في باب البيع والشراء مع النساء من طريق عروة عن عائشة، وفي باب إذا اشترط في البيع شروطاً من حديث هشام عن أبيه عنها. وأخرجه مسلم أيضاً مطولاً ومختصراً أخرجه أبو داود في العتق والنسائي في البيوع وفي العتق والفرائض وفي الشروط، وابن ماجه في العتق(6/319)
أبواب الولاء و الهبة عن رسول الله صلى الله عليه و سلم
باب ماجاء أن الولاء لمن أعتق
...
أبواب الولاء والهبة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم
1 ـ باب ما جاءَ أَنّ الْوَلاَءِ لمَنْ أَعْتَق
2208 ـ حَدّثنا بُنْدَارٌ حدثنا عبدُ الرحمن بنُ مَهْدِي حدثنا سُفْيَانُ عن منصورٍ عن إبراهيمَ عن الأسْوَدِ عن عائشةَ: أَنّهَا أَرَادَتْ أَنْ تَشْتَرِيَ بَرِيرَةَ فَاشْتَرَطُوا الْوَلاَءَ، فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم: "الْوَلاَءُ لِمَنْ أَعْطَى الثّمَنَ أَوْ لِمَنْ وَلِيَ النّعْمَةَ" .
قال أبو عيسى: وفي البابِ عن ابنِ عُمَرَ وأَبي هُرَيْرَةَ.
وهذا حديثٌ حسنٌ صحيحٌ. والعملُ على هذا عِنْدَ أهلِ العِلْمِ.
ـــــــ
"أبواب الولاء والهبة الخ"
الولاء بالفتح والمد حق ميراث المعتِق بالكسر من المعتَق بالفتح
"باب ما جاء أن الولاء لمن أعتق"
قوله: "الولاء لمن أعطى الثمن" وفي رواية البخاري: لمن أعطى الورق. قال الحافظ أي أعطى الثمن، وإنما عبر بالورق لأنه الغالب "أو لمن ولي النعمة" أي نعمة العتق. قال الحافظ: معنى قوله ولي النعمة أعتق، وفي رواية البخاري وغيره: وولي النعمة بواو العطف، ولفظه أو في رواية الترمذي هذه للشك من الراوي. ومعنى الحديث أن من اشترى العبد وأعتقه فولاؤه له. قال ابن بطال: هذا الحديث يقتضي أن الولاء لكل معتق ذكراً كان أو أنثى وهو مجمع عليه.
قوله: "وفي الباب عن ابن عمر وأبي هريرة" أما حديث ابن عمر فأخرجه البخاري ومسلم وأبو داود والنسائي. وأما حديث أبي هريرة فأخرجه مسلم. قوله: "وهذا حديث حسن صحيح" وأخرجه البخاري وأبو داود والنسائي.
قوله: "والعمل على هذا عند أهل العلم" قال النووي رحمه الله: قد أجمع(6/320)
ـــــــ
المسلمون على ثبوت الولاء لمن أعتق عبده أو أمته عن نفسه وأنه يرث به وأما العتيق فلا يرث سيده عند الجماهير، وقال جماعة من التابعين يرثه كعكسه انتهى(6/321)
باب النهى عن بيع الولاء و هبته
...
2 ـ باب ما جاء في النّهْيِ عَنْ بيْعِ الْوَلاَءِ وعن هِبَتِه
2209 ـ حَدّثنا ابْنُ أَبي عُمَرَ، حدثنا سُفْيَانُ بنُ عُيَيْنَة، حدثنا عبدُ الله بنُ دِينَارٍ سَمِعَ عبدَ الله بنَ عُمَرَ "أَنّ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم نَهَى عَنْ بَيْعِ الْوَلاَءِ وَعن هِبَتِهِ".
هذا حديثٌ حسنٌ صحيحٌ لا نعرفُه إِلاّ من حديثِ عبدِ الله بنِ دِينَارٍ عن ابنِ عُمَرَ عن النبيّ صلى الله عليه وسلم. وقد رَوَاهُ شُعْبَةُ وَسُفْيَانُ الثّوْرِيّ وَمَالِكُ بنُ أَنَسٍ عن عبدِ الله بنِ دِينَارٍ. ويُرْوَى عن شُعْبَةَ قال: لَوَدِدْتُ أَنّ عبدَ الله بنَ دِينَارٍ حِينَ يُحَدّثُ بهذا الحديثِ أَذِنَ لي حتى كُنْتُ أَقُومُ إِلَيْهِ فَأُقَبّلُ رَأْسَهُ. وَرَوَى يَحْيَى بنُ سُلَيْمٍ هذا الحديثَ عن عُبَيْدِ الله بنِ عُمَرَ عن نَافِعٍ عن ابنِ عُمَرَ عن النبيّ صلى الله عليه وسلم،
ـــــــ
"باب النهي عن بيع الولاء وهبته"
قوله: "نهى عن بيع الولاء وهبته" تقدم هذا الحديث في باب كراهية بيع الولاء وهبته من أبواب البيوع وتقدم هناك شرحه.
قوله: "ويروى عن شعبة قال: لوددت أن عبد الله بن دينار حين يحدث بهذا الحديث أذن لي الخ" الظاهر أن سبب وده ذلك أن هذا الحديث قد اشتهر عن عبد الله بن دينار حتى قال مسلم لما أخرجه في صحيحه: الناس كلهم عيال على عبد الله بن دينار في هذا الحديث انتهى. وقد اعتنى أبو نعيم الأصبهاني بجميع طرق هذا الحديث عن عبد الله بن دينار، فأورده عن خمسة وثلاثين نفساً ممن حدث به عن عبد الله بن دينار "وروى يحيى بن سليم هذا الحديث عن عبيد الله بن عمر عن نافع عن ابن عمر" وصله ابن ماجه ولم ينفرد به يحيى بن سليم فقد تابعه أبو ضمرة أنس بن عياض ويحيى بن سعيد الأموي كلاهما عن عبيد الله بن عمر أخرجه أبو عوانة(6/321)
وَهُوَ وَهْمٌ وَهِمَ فِيِه يَحْيَى بنُ سُلَيْمٍ. والصحيحُ عن عُبَيْدِ الله بنِ عُمَرَ عن عبدِ الله بنِ دِينَارٍ عن ابنِ عُمَرَ عن النبيّ صلى الله عليه وسلم. هكذا رَوَاهُ غيرُ واحدٍ عن عُبَيْدِ الله بنِ عُمَرَ.
وتَفَرّدَ عبدُ الله بنُ دِينَارٍ بهذا الحديثِ.
ـــــــ
في صحيحه من طريقهما، لكن قرن كل منهما نافعاً بعبد الله بن دينار كذا في الفتح(6/322)
باب ماجاء في من تولى غير مواليه أو ادعى إلي غير أبيه
...
3 ـ باب ما جاءَ في مَنْ تَوَلّى غَيرَ مَوَالِيهِ أَوْ ادّعَى إِلَى غَيْرِ أَبِيه
2210 ـ حَدّثنا هَنّادٌ، حدثنا أبو مُعَاوِيَةَ عن الأعمَشِ، عن إبراهيمَ التّيْمِيّ عن أَبِيِه قال: خَطَبَنَا عَلِيٌ فقال: مَنْ زَعَمَ أَنّ عِندَنَا شَيْئاً نَقْرَؤُهُ إِلاّ كِتَابَ الله وَهَذِهِ الصّحِيفَةَ صَحِيفَةٌ فِيهَا أَسْنَانُ الاْبِلِ وَأَشْيَاءٌ مِنَ الْجِرَاحَاتِ فَقَدْ كَذَبَ، وقال فيها: قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: "المَدِينَةُ حَرَمٌ مَا بيْنَ عَيْرٍ إِلَى ثَوْرٍ، فَمَنْ أَحْدَثَ فِيهَا حَدَثاً أَوْ آوَى مُحْدَثاً فَعَلَيْهِ
ـــــــ
"باب ما جاء في تولي غير مواليه أو ادعى إلى غير أبيه"
قوله: "من زعم أن عندنا شيئاً نقرؤه إلا كتاب الله وهذه الصحيفة" أي غيرهما وفي رواية للبخاري: ما عندنا شيء إلا كتاب الله وهذه الصحيفة عن النبي صلى الله عليه وسلم. قال النووي: هذا تصريح من علي رضي الله عنه بإبطال ما تزعمه الرافضة والشيعة ويخترعونه من قولهم إن علياً رضي الله عنه أوصى إليه النبي صلى الله عليه وسلم بأمور كثيرة من أسرار العلم. وقواعد الدين وكنوز الشريعة، وإنه صلى الله عليه وسلم خص أهل البيت بما لم يطلع عليه غيرهم، وهذه دعاوى باطلة واختراعات فاسدة لا أصل لها، ويكفي في إبطالها قول علي رضي الله عنه هذا انتهى "صحيفة" بدل من هذه الصحيفة "فيها أسنان الإبل" أي بيان أسنانها "وأشياء من الجراحات" أي من أحكامها "فقد كذب" خبر لقوله من زعم "وقال" أي علي "فيها" أي في الصحيفة "المدينة حرم"
بفتحتين "ما بين عير" بفتح العين المهملة وإسكان المثناة تحت جبل معروف بالمدينة "إلى ثور"(6/322)
ـــــــ
بفتح الثاء المثلثة قال في القاموس: ثور جبل بالمدينة، ومنه الحديث الصحيح: المدينة حرم ما بين عير إلى ثور، وأما قول عبيد بن سلام وغيره من الأكابر الأعلام: إن هذا تصحيف، والصواب إلى أحد، لأن ثوراً إنما هو بمكة تغير جيد لما أخبرني الشجاع البعلي الشيخ الزاهد عن الحافظ أبي محمد عبد السلام البصري: أن حذاء أحد جانحاً إلى ورائه جبل صغير يقال له ثور وتكرر سؤالي عنه طوائف من العرب العارفين بتلك الأرض فكل أخبر أن اسمه ثور، ولما كتب إلى الشيخ عفيف الدين المطري عن والده الحافظ الثقة قال: إن خلف أحد عن شماليه جبلاً صغيراً مدوراً يسمى ثوراً يعرفه أهل المدينة خلفاً عن سلف انتهى ما في القاموس. وقال الحافظ في الفتح: قال المحب الطبري في الأحكام بعد حكاية كلام أبي عبيد ومن تبعه: قد أخبرني الثقة العالم أبو محمد عبد السلام البصري أن حذاء أحد عن يساره جانحاً إلى ورائه جبل صغير، فذكر مثل ما في القاموس. وفيه دليل على أن المدينة حرم كحرم مكة. وفي هذا أحاديث عديدة مروية في الصحيحين وغيرهما وذكرها صاحب المنتقى. قال الشوكاني: استدل بما في هذه الأحاديث من تحريم شجر المدينة وخبطه وعضده وتحريم صيدها وتنفيره الشافعي ومالك وأحمد والهادي وجمهور أهل العلم على أن للمدينة حرماً كحرم مكة يحرم صيده وشجره. قال الشافعي ومالك: فإن قتل صيداً أو قطع شجراً فلا ضمان لأنه ليس بمحل للنسك فأشبه الحمى. وقال ابن أبي ذئب وابن أبي ليلى يجب فيه الجزاء كحرم مكة، وبه قال بعض المالكية وهو ظاهر قوله كما حرم إبراهيم مكة. وذهب أبو حنيفة وزيد بن علي والناصر إلى أن حرم المدينة ليس بحرم على الحقيقة ولا تثبت له الأحكام من تحريم قتل الصيد وقطع الشجر والأحاديث ترد عليهم. واستدلوا بحديث يا أبا عمير ما فعل النغير، وأجيب بأن ذلك كان قبل تحريم المدينة أو أنه من صيد الحل انتهى "فمن أحدث" أي أظهر في المدينة "حدثاً" بفتحتين وهو الأمر الحادث المنكر الذي ليس بمعناه ولا معروف في السنة "أو آوى" بالمد ويقصر. قال في النهاية: أوى فآوى بمعنى واحد، والمقصود منهما لازم ومتعد، يقال أويت إلى المنزل وأويت غيري وأويته. وأنكر بعضهم المقصوري المتعدي. وقال الأزهري هي لغة فصيحة، ومحدثاً بكسر الذال وفتحها على الفاعل والمفعول، فمعنى الكسر من نصر جانباً(6/323)
لعنة الله والملائكة والناس أجمعين، لا يقبل الله منه يوم القيامة صرفا ولا عدلا، ومن ادعى إلى غير أبيه أو تولى غير مواليه فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين، لا يقبل منه صرف ولا عدل، وذمة المسلمين
ـــــــ
وآواه وأجاره من خصمه وحال بينه وبين أن يقتص منه، ومعنى الفتح هو الأمر المبتدع نفسه ويكون معنى الإيواء فيه المرضى به والصبر عليه فإنه إذا رضي ببدعته وأقر فاعله عليها ولم ينكرها فقد آواه، قاله العيني. وقال القاري بكسر الدال على الرواية الصحيحة أي مبتدعاً، وقيل أي جانباً إلى آخر ما قاله العيني "فعليه" أي فعلى كل منهما "لعنة الله" أي طرده وإبعاده. قال عياض: استدل بهذا على أن الحدث في المدينة من الكبائر، والمراد بلعنة الملائكة والناس المبالغة في الإبعاد عن رحمة الله. قال والمراد باللعن هنا العذاب الذي يستحقه على ذنبه في أول الأمر وليس هو كلعن الكافر "والملائكة" أي دعاؤهم عليه بالبعد عن رحمته "والناس أجمعين" أي من هذا الحدث والمؤدي أو هما داخلان أيضاً لأنهما ممن يقول ألا لعنة الله على الظالمين، والظلم هو وضع الشيء في غير موضعه "لا يقبل الله منه يوم القيامة صرفاً ولا عدلاً" بفتح أولهما. واختلف في تفسيرهما فعند الجمهور الصرف: الفريضة والعدل: النافلة، ورواه ابن خزيمة بإسناد صحيح عن الثوري وعن الحسن البصري بالعكس. وعن الأصمعي: الصرف التوبة والعدل الفدية، وقيل غير ذلك قال عياض: معناه لا يقبل قبول رضا وإن قبل قبول جزاء، وقيل يكون القبول هنا بمعنى تكفير الذنب بهما، وقد يكون معنى الفدية أنه لا يجد يوم القيامة فدى يفتدي بخلاف غيره من المذنبين بأن يفديه من النار بيهودي أو نصراني كما رواه مسلم من حديث أبي موسى الأشعري "ومن ادعى" أي انتسب "أو تولى غير مواليه" بأن يقول عتيق لغير معتقه: أنت مولاي ولك ولائي.
قال البيضاوي: الظاهر أنه أراد به ولاء العتق لعطفه على قوله من ادعى إلى غير أبيه، والجمع بينهما بالوعيد فإن العتق من حيث إنه لحمة كلحمة النسب فإذا نسب إلى غير من هو له كان كالدعي الذي تبرأ عمن هو منه وألحق نفسه بغيره فيستحق به الدعاء عليه بالطرد والإبعاد عن الرحمة انتهى.
وهذا صريح في غلظ تحريم انتماء الإنسان إلى غير أبيه، أو انتماء العتيق إلى(6/324)
واحدة يسعى بها أدناهم" هذا حديث حسن صحيح. وروى بعضهم عن الأعمش عن إبراهيم التيمي عن الحارث بن سويد عن علي نحوه. وقد روي من غير وجه عن علي.
ـــــــ
غير مواليه لما فيه من كفر النعمة وتضييع حقوق الإرث والولاء والعقل وغير ذلك مع ما فيه من قطيعة الرحم والعقوق "وذمة المسلمين" أي عهدهم وأمانهم "واحدة" أي أنها كالشيء الواحد لا يختلف باختلاف المراتب ولا يجوز نقضها لتفرد العاقد بها "يسعى بها" أي يتولاها ويلي أمرها "أدناهم" أي أدنى المسلمين مرتبة. والمعنى أن ذمة المسلمين سواء صدرت من واحد أو أكثر شريف أو وضيع، فإذا أمن أحد من المسلمين كافراً وأعطاه ذمة لم يكن لأحد نقضه، فيستوي في ذلك الرجل والمرأة والحر والعبد لأن المسلمين كنفس واحدة.
قوله: "هذا حديث حسن صحيح" وأخرجه البخاري في الحج وفي الجزية وفي الفرائض وفي الاعتصام وأخرجه مسلم في الحج "وروى بعضهم عن الأعمش عن إبراهيم التيمي عن الحارث بن سويد عن علي نحوه" أخرجه أحمد والنسائي. وروى البخاري في الحج من طريق سفيان الثوري عن الأعمش عن إبراهيم التيمي عن أبيه عن علي قال الحافظ: هذه رواية أكثر أصحاب الأعمش عنه، وخالفهم شعبة فرواه عن الأعمش عن إبراهيم التيمي عن الحارث عن سويد عن علي. قال الدارقطني في العلل: والصواب رواية الثوري ومن تبعه(6/325)
باب ماجاء في الرجل ينتفى من ولده
...
4 ـ باب ما جاءَ في الرّجُلِ يَنْتَفي مِنْ وَلَدِه
2211ـ حَدّثنا عبدُ الْجَبّارِ بنُ الْعَلاَءِ بن عبد الجبار الْعَطّارُ وسَعِيدُ بنُ عبدِ الرحمَنِ المَخْزُومِيّ، قالا: حدثنا سفيانُ عن الزّهْرِيّ عن سَعِيدِ بنِ المُسَيّبِ عن أبي
ـــــــ
"باب ما جاء في الرجل ينتفي من ولده"
أي بالتعريض، وقد ترجم البخاري في الطلاق على حديث الباب إذا عرض بنفي الولد(6/325)
هُرَيْرَةَ قال: "جَاءَ رَجُلٌ مِنْ بني فَزَارَةَ إِلَى النّبِيّ صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسولَ الله، إِنّ امْرَأَتِي وَلَدَتْ غُلاَماً أَسْوَدَ، فقال له النبيّ صلى الله عليه وسلم: هَلْ لَكَ مِنْ إِبِلٍ؟ قال: نَعَمْ، قال: فمَا أَلْوَانُهَا؟ قال: حُمْرٌ، قال: فَهَلْ فِيهَا أَوْرَقٌ؟ قال: نَعَمْ إِنّ فِيهَا لَوُرْقاً، قال: أَنّى أَتَاهَا ذَلِكَ؟ قال: لَعَلّ عِرْقاً نَزَعَهَا، قال: فَهَذَا لَعَلّ عِرْقاً نَزَعَهُ" .
ـــــــ
قوله: "جاء رجل" وفي رواية للبخاري جاء أعرابي. قال الحافظ: واسم هذا الأعرابي ضمضم بن قتادة "إن امرأتي ولدت غلاماً أسود" زاد مسلم في رواية: وإني أنكرته أي استنكرته بقلبي ولم يرد أنه أنكر كونه ابنه بلسانه. وفي رواية أخرى لمسلم وهو حينئذ يعرض بأن ينفيه ويؤخذ منه أن التعريض بالقذف ليس قذفاً وبه قال الجمهور. واستدل الشافعي بهذا الحديث لذلك، وعن المالكية: يجب به الحد إذا كان مفهوماً، وأجابوا عن الحديث أن التعريض الذي يجب به القذف عندهم هو ما يفهم منه القذف كما يفهم من التصريح، وهذا الحديث لا حجة فيه لدفع ذلك فإن الرجل لم يرد قذفاً بل جاء سائلاً مستفتياً عن الحكم لما وقع له من الريبة، فلما ضرب له المثل أذعن كذا في الفتح "قال حمر" بضم فسكون جمع أحمر "فهل فيها أورق" قال الحافظ: الأورق الذي فيه سواد ليس بحالك بل يميل إلى الغبرة ومنه قيل للحمامة ورقاء "إن فيها لورقاً" بضم فسكون جمع أورق "أنى أتاها ذلك" أي من أين أتاها اللون الذي خالفها هل هو بسبب فحل من غير لونها طرأ عليها أو لأمر آخر "لعل عرقاً" بكسر أوله "نزعها" المعنى يحتمل أن يكون في أصولها من هو باللون المذكور فاجتذبه إليه فجاء على لونه. والمراد بالعرق الأصل من النسب شبهه بعرق الشجرة، ومنه قولهم فلان عريق في الأصالة، أي إن أصله متناسب وكذا معرق في الكرم أو اللؤم، وأصل النزع الجذب وقد يطلق على الميل "قال فهذا" أي الغلام الأسود "لعل عرقاً نزعه" أي لعله في أصولك أو في أصول امرأتك من يكون في لونه أسود فأشبهه واجتذبه إليه وأظهر لونه عليه، زاد مسلم في رواية: لم يرخص له في الانتفاء منه. قال النووي رحمه الله في هذا الحديث: إن الولد يلحق الزوج وإن خالف لونه لونه(6/326)
هذا حديثٌ حسنٌ صحيحٌ.
ـــــــ
حتى لو كان الأب أبيض والولد أسود أو عكسه لحقه، ولا يحل له نفيه بمجرد المخالفة في اللون، وكذا لو كان الزوجان أبيضين فجاء الولد أسوداً وعكسه، الاحتمال أنه نزعه عرق من أسلافه انتهى.
قوله: "هذا حديث حسن صحيح" وأخرجه البخاري ومسلم وأبو داود والنسائي وابن ماجه(6/327)
باب ماجاء في القافة
...
5 ـ باب ما جاء في الْقَافَة
2212 ـ حَدّثنا قُتَيْبَةُ، حدثنا اللّيْثُ عن ابنِ شِهَابٍ عن عُرْوَةَ عن عائشةَ: "أَنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم دَخَلَ عَلَيْهَا مَسْرُوراً تَبْرُقُ أَسَارِيرُ وَجْهِهِ، فقال: أَلَمْ تَرَيْ أَنّ مُجَزّزاً نَظَرَ آنِفاً إِلَى زَيْدِ بنِ حَارِثَةَ وَأُسَامَةَ بن
ـــــــ
" باب ما جاء في الْقَافَة"
القافة: جمع قائف، قال الجزري في النهاية: القائف الذي يتتبع الآثار ويعرفها ويعرف شبه الرجل بأخيه وأبيه، والجمع القافة، يقال فلان يقوف الأثر ويقتافه قيافة، مثل قفا الأثر واقتفاه انتهى
قوله: "دخل عليها مسروراً" أي فرحاناً "تبرق" بفتح التاء وضم الراء، أي تضيء وتستنير من السرور والفرح "أسارير وجهه" قال في النهاية: الأسارير الخطوط التي تجتمع في الجبهة وتتكسر واحدها سر أو سرر، وجمعها أسرار وأسرة، وجمع الجمع أسارير انتهى "ألم تري" بحذف النون أي ألم تعلمي يعني هذا مما يتعين أن تعلمي فاعلمي "مجززاً" بضم الميم وكسر الزاي الثقيلة، وحكى فتحها وبعدها زاي أخرى، هذا هو المشهور، ومنهم من قال بسكون الحاء المهملة وكسر الراء ثم زاي وهو ابن الأعور بن جعدة المدلجي نسبة إلى مدلج بن مرة بن عبد مناف بن كنانة وكانت القيافة فيهم وفي بني أسد والعرب تعترف لهم بذلك وليس ذلك خاصاً بهم على الصحيح. وقد أخرج يزيد بن هارون في الفرائض بسند صحيح إلى سعيد بن المسيب أن عمر كان قائفاً أورده في قصته، وعمر قرشي ليس مدلجياً(6/327)
زَيْدٍ فقال: هذه الأقْدَامُ بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ".
هذا حديثٌ حسنٌ صحيحٌ. وقد رَوَى سُفْيَانُ بنُ عُيَيْنَةَ هذا الحديثَ عن الزّهريّ عن عُرْوَةَ عن عائشةَ وَزَادَ فِيهِ: "أَلَمْ تَرَيْ أَنّ مُجَزّزاً مَرّ عَلَى زَيْدٍ بنِ حَارِثَةَ وَأُسَامَةَ بنِ زَيْدٍ وَقَدْ غَطّيَا رُؤُوسَهُمَا وَبَدَتْ أَقْدَامُهُمَا فقال: إِنّ هذه الأقْدَامَ بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ" وهكذا حدّثنا سعيدُ بنُ عبدِ الرحمَنِ وغيرُ واحدٍ عن سُفْيَانَ بنِ عُيَيْنَةَ هذا الحديث عن الزّهريّ عن عروة عن عائشة وهذا حديث حسن صحيح. وقد احتجّ بعضُ أهلِ العِلْمِ بهذا الحديثِ في إِقَامَةِ أَمْرِ الْقَافَةِ.
ـــــــ
ولا أسدياً لا أسد قريش ولا أسد خزيمة، وكان مجززاً عارفاً بالقيافة، وذكره ابن يونس فيمن شهد فتح مصر وقال لا أعلم له رواية كذا في الفتح "نظر آنفاً" بالمد ويجوز القصر أي قريباً أو أقرب وقت "فقال" أي مجزز المدلجي "هذه الأقدام بعضها من بعض" قال النووي رحمه الله: وكانت الجاهلية تقدح في نسب أسامة لكونه أسود شديد السواد وكان زيد أبيض. كذا قاله أبو داود عن أحمد بن صالح، فلما قضى هذا القائف بإلحاق نسبه مع اختلاف اللون وكانت الجاهلية تعتمد قول القائف فرح النبي صلى الله عليه وسلم لكونه زاجراً لهم عن الطعن في النسب. قال القاضي: قال غير أحمد بن صالح، كان زيد أزهر اللون وأم أسامة هي أم أيمن واسمها بركة وكانت حبشية سوداء انتهى. وقال الحافظ في الفتح: قال عياض: لو صح أن أم أيمن كانت سوداء لم ينكروا سواد ابنها أسامة لأن السوداء قد تلد من الأبيض أسود. قال الحافظ: يحتمل أنها كانت صافية فجاء أسامة شديد السواد فوقع الإنكار لذلك انتهى.
قوله: "هذا حديث حسن صحيح" وأخرجه البخاري في صفة النبي صلى الله عليه وسلم والمناقب والفرائض، ومسلم في النكاح، وأبو داود والنسائي في الطلاق.
قوله: "وقد غطيا" من التغطية أي سترا "رؤوسهما" أي بقطيفة كما في رواية "وبدت" أي ظهرت. قال الحافظ: وفي هذه الزيادة دفع توهم من يقول لعله حاباهما بذلك لما عرف من كونهم كانوا يطعنون في أسامة انتهى.
قوله: "وقد احتج بعض أهل العلم بهذا الحديث في إقامة أمر القافة" قال(6/328)
ـــــــ
العيني في العمدة. في الحديث إثبات الحكم بالقافة، وممن قال به أنس بن مالك وهو أصح الروايتين عن عمر، وبه قال عطاء ومالك والأوزاعي والليث والشافعي وأحمد وأبو ثور. وقال الكوفيون والثوري وأبو حنيفة وأصحابه: الحكم بها باطل لأنها، حدس ولا يجوز ذلك في الشريعة، وليس في حديث الباب حجة في إثبات الحكم بها، لأن أسامة قد كان ثبت نسبه قبل ذلك ولم يحتج الشارع في إثبات ذلك إلى قول أحد، وإنما تعجب من إصابة مجزز، كما يتعجب من ظن الرجل الذي يصيب ظنه حقيقة الشيء الذي ظنه ولا يجب الحكم بذلك. وترك رسول الله صلى الله عليه وسلم الإنكار عليه لأنه لم يتعاط بذلك إثبات ما لم يكن ثابتاً، وقد قال تعالى: {وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ} انتهى. وقال الشوكاني في النيل ص 214 ج6: وما قيل من أن حديث مجزز لا حجة فيه لأنه إنما يعرف القائف بزعمه أن هذا الشخص من ماء ذاك لا أنه طريق شرعي فلا يعرف إلا بالشرع، فيجاب بأن في استبشاره صلى الله عليه وسلم من التقرير ما لا يخالف فيه مخالف، ولو كان مثل ذلك لا يجوز في الشرع لقال له إن ذلك لا يجوز. لا يقال إن أسامة قد ثبت فراش أبيه شرعاً وإنما لما وقعت القالة بسبب اختلاف اللون وكان قول المدلجي المذكور دافعاً لها لاعتقادهم فيه الإصابة وصدق المعرفة استبشر صلى الله عليه وسلم بذلك، فلا يصح التعلق بمثل هذا التقرير على إثبات أصل النسب لأنا نقول لو كانت القافة لا يجوز العمل بها إلا في مثل هذه المنفعة مع مثل أولئك الذين قالوا مقالة السوء لما قرره صلى الله عليه وسلم على قوله: هذه الأقدام بعضها من بعض، وهو في قوة هذا ابن هذا، فإن ظاهره أنه تقرير للإلحاق بالقافة مطلقاً لا إلزام للخصم بما يعتقده، ولا سيما النبي صلى الله عليه وسلم لم ينقل عنه إنكار كونها طريقاً يثبت بها النسب حتى يكون تقريره لذلك من باب التقرير على معنى كافر إلى كنية ونحوه مما عرف منه صلى الله عليه وسلم إنكاره قبل السكوت عنه. وقد أطال الحافظ بن القيم الكلام في إثبات الحكم بالقافة في زاد المعاد، وقال في أثناء كلامه: قال سعيد بن منصور حدثنا سفيان عن سعيد بن سليمان بن يسار عن عمر في امرأة وطئها رجلان في طهر، فقال القائف قد اشتركا فيه جميعاً فجعله بينهما، قال الشعبي: وعلي يقول هو ابنهما وهما أبواه يرثانه، ذكره سعيد أيضاً. وروى الأثرم بإسناده عن سعيد بن المسيب في رجلين اشتركا في طهر امرأة(6/329)
ـــــــ
فحملت فولدت غلاماً يشبههما، فرفع ذلك إلى عمر بن الخطاب فدعا القافة فنظروا فقالوا نراه يشبههما فألحقه بهما وجعله يرثهما ويرثانه، ولا يعرف قط في الصحابة من خالف عمر وعلياً رضي الله عنهما في ذلك، بل حكم عمر بهذا في المدينة وبحضرة المهاجرين والأنصار فلم ينكر منهم منكر(6/330)
باب ماجاء في حث النبي صلى الله عليه و سلم على الهدية
...
6 ـ باب في حَثّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم عَلَى الهدية
2213ـ حَدّثنا أَزْهَرُ بنُ مَرْوَانَ البَصْرِيّ، حدثنا محمدُ بنُ سَوَاءٍ، أخبرنا أبو مَعْشَرٍ عن سعيدٍ عن أَبي هُرَيْرَةَ عن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال: "تَهَادَوْا فَإِنّ الْهَدِيّةَ تُذْهِبُ وَحَرَ الصّدْرِ، ولا تَحْقِرَنّ جَارَةٌ لِجَارَتِهَا وَلَوْ شِقّ فِرْسِنَ شَاةٍ" .
ـــــــ
" باب في حَثّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم عَلَى الهدية"
كغنية ما أتحف به
قوله: "حدثنا محمد بن سواء" بفتح السين وتخفيف الواو، والد السدوسي العنبري أبو الخطاب البصري المكفوف صدوق رمي بالقدر من التاسعة "عن سعيد" هو ابن أبي سعيد المقبري.
قوله: "تهادوا" بفتح الدال أمر من التهادي بمعنى المهاداة، أي ليعط الهدية ويرسلها بعضكم لبعض "فإن الهدية تذهب وحر الصدر" بفتح الواو والحاء المهملة أي غشه ووساوسه، وقيل الحقد والغيظ، وقيل العداوة، وقيل أشد الغضب، كذا في النهاية "ولا تحقرن جارة لجارتها" قال الكرماني لجارتها متعلق بمحذوف، أي لا تحقرن جارة هدية مهداة لجارتها "ولو شق فرسن شاة" بكسر الشين المعجمة، أي نصيفه أو بعضه كقوله صلى الله عليه وسلم: اتقوا النار ولو بشق تمرة، والفرسن بكسر الفاء والسين المهملة بينهما راء ساكنة وآخره نون هو عظم قليل اللحم، وهو للبعير موضع الحافر للفرس، ويطلق على الشاة مجازاً ونونه زائدة وقيل أصلية، وأشير بذلك إلى المبالغة في إهداء الشيء اليسير وقبوله لا إلى حقيقة الفرسن لأنه لم يجر العادة باهدائه، أي لا تمنع جارة من الهدية(6/330)
هذا حديثٌ غريبٌ من هذا الْوَجْهِ. وأبو مَعْشَرٍ اسمُه نَجِيحٌ مَوْلَى بَنِي هَاشِمٍ، وقد تكلّم فيه بعضُ أهلِ العِلْمِ من قِبَلِ حِفْظِهِ.
ـــــــ
لجارتها الموجود عندها لاستقلاله، بل ينبغي أن تجود لها بما تيسر وإن كان قليلاً فهو خير من العدم، وذكر الفرسن على سبيل المبالغة، ويحتمل أن يكون النهي إنما وقع للمهدى إليها وأنها لا تحتقر ما يهدى إليها ولو كان قليلاً، وحمله على الأعم من ذلك أولى. وفي الحديث الحض على التهادي ولو باليسير لما فيه من استجلاب المودة وإذهاب الشحناء، ولما فيه من التعاون على أمر المعيشة، والهدية إذا كانت يسيرة، فهي أدل على المودة وأسقط للمؤنة وأسهل على المهدي لاطراح التكلف، والكثير قد لا يتيسر كل وقت، والمواصلة باليسير تكون كالكثير.
قوله: "هذا حديث غريب" وأخرجه أحمد "أبو معشر اسمه نجيح الخ" قال في التقريب: نجيح بن عبد الرحمن السندي المدني أبو معشر وهو مولى بني هاشم مشهور بكنيته ضعيف من السادسة، أسن واختلط مات سنة سبعين ومائة، ويقال كان اسمه عبد الرحمن بن الوليد بن الهلال انتهى.
واعلم أن حديث الباب أخرجه البخاري في صحيحه في أول الهبة من طريق ابن أبي ذئب عن سعيد المقبري عن أبيه عن أبي هريرة مرفوعاً بلفظ: يا نساء المسلمات لا تحقرن جارة لجارتها ولو فرسن شاة، قال الحافظ في الفتح: وأخرجه الترمذي من طريق أبي معشر عن سعيد عن أبي هريرة لم يقل عن أبيه وزاد في أوله: تهادوا فإن الهدية تذهب وحر الصدر الحديث. وقال: غريب وأبو معشر يضعف. وقال الطرقي: إنه أخطأ فيه حيث لم يقل فيه عن أبيه كذا قال، وقد تابعه محمد بن عجلان عن سعيد، وأخرجه أبو عوانة نعم من زاد فيه عن أبيه أحفظ وأضبط فروايتهم أولى انتهى(6/331)
باب ماجاء في كراهية الرجوع في الهدية
...
7ـ باب ما جاء في كَرَاهِيَةِ الرجُوعِ في الْهِبَة
2214 ـ حَدّثنا أحمدُ بنُ مَنِيعٍ، حدثنا إسحاقُ بنُ يُوسُفَ الأزْرَقُ أخبرنا حُسَيْنُ المُكتَبِ عن عَمْرِو بنِ شُعَيْبٍ عن طاوُسٍ عن ابنِ عُمَرَ أَنّ
ـــــــ(6/331)
رسولَ الله صلى الله عليه وسلم قالَ: "مَثَلُ الّذِي يُعْطِي الْعَطِيّةَ ثُمّ يَرْجِعُ فِيهَا كَالْكلْبِ أَكَلَ حَتّى إِذَا شَبِعَ قَاءَ ثُمّ عَادَ فَرجَعَ فِي قَيْئِهِ" .
وفي البابِ عن ابنِ عَبّاسٍ وعبدِ الله بنِ عَمْرٍو.
2215ـ حدّثنا محمدُ بنُ بَشّارٍ، حدثنا ابنُ أَبي عَدِيّ عن حُسَيْنٍ المُعَلّمِ عن عَمْرِو بنِ شُعَيْبٍ، حدثني طَاوُسٌ عن ابنِ عُمَرَ وابنِ عَبّاسٍ يَرْفَعَانِ الحديثَ قال: "لا يَحِلّ لِلرَجُلٍ أَنْ يُعْطِيَ عَطِيّةً ثُمّ يَرْجِعُ فِيهَا
ـــــــ
"باب ما جاء في كراهية الرجوع فى الهبة"
قوله: "مثل الذي يعطي العطية ثم يرجع فيها الخ" فيه دلالة على تحريم الرجوع في الهبة وهو مذهب جماهير العلماء، وبوب البخاري باب لا يحل لأحد أن يرجع في هبته وصدقته، وقد استثنى الجمهور ما يأتي عن الهبة للولد ونحوه، وذهبت الهادوية وأبو حنيفة إلى حل الرجوع في الهبة دون الصدقة إلا الهبة لذي رحم، قالوا والحديث المراد به التغليظ في الكراهة. قال الطحاوي: قوله كالعائد في قيئه وإن اقتضى التحريم لكن الزيادة في الرواية الأخرى وهي قوله كالكلب يدل على عدم التحريم، لأن الكلب غير متعبد فالقيء ليس حراماً عليه، والمراد التنزه عن فعل يشبه فعل الكلب وتعقب باستبعاد التأويل ومنافرة سياق الحديث له، وعرف الشرع في مثل هذه العبارة الزجر الشديد، كما ورد النهي في الصلاة عن إقعاء الكلب ونقر الغراب والتفات الثعلب ونحوه، ولا يفهم من المقام إلا التحريم، والتأويل البعيد لا يلتفت إليه. وحديث ابن عمر المذكور أخرجه الشيخان وأبو داود والنسائي وابن ماجه عن ابن عباس وأشار إليه الترمذي.
قوله: "وفي الباب عن ابن عباس" تقدم تخريجه آنفاً "وعبد الله بن عمرو" أخرجه النسائي وابن ماجة.
قوله: "لا يحل لرجل الخ" هذا ظاهر في تحريم الرجوع في الهبة، والقول بأنه مجاز عن الكراهة الشديدة صرف له عن ظاهره "ثم يرجع" بالنصب عطف(6/332)
إِلاّ الْوَالِدَ فِيمَا يُعْطِي وَلَدَهُ، وَمَثَلُ الّذِي يُعْطِي الْعَطِيّةَ ثُمّ يَرْجِعُ فِيهَا كَمَثَلِ الْكلْبِ أَكَلَ حتى إذا شَبِع قَاءَ ثُمّ عَاد في قَيْئِهِ" .
هذا حديثٌ حسنٌ صحيحٌ. قال الشافعيّ: لا يَحِلّ لِمَنْ وَهَبَ هِبَةً أَنْ يَرْجِعَ فِيهَا إِلاّ الْوَالِدُ فَلَهُ أَنْ يَرْجِعَ فيما أَعْطَى وَلَدَهُ، واحتجّ بهذا الحديث.
تمت أبواب الولاء والهبة
ـــــــ
على يعطي "فيها" أي في عطيته "إلا الوالد" بالنصب على الاستثناء "فيما يعطي ولده" استدل به على أن للأب أن يرجع فيما وهبه لابنه وكذلك الأم وهو قول أكثر الفقهاء إلا أن المالكية فرقوا بين الأب والأم فقالوا للأم أن ترجع إن كان الأب حياً دون ما إذا مات، وقيدوا رجوع الأب بما إذا كان الابن الموهوب له لم يستحدث ديناً أو ينكح، وبذلك قال إسحاق. وقال الشافعي: للأب الرجوع مطلقاً. وقال أحمد: لا يحل لواهب أن يرجع في هبته مطلقاً. وقال الكوفيون: إن كان الموهوب صغيراً لم يكن للأب الرجوع وكذا إن كان كبيراً وقبضها، قالوا وإن كانت الهبة لزوج من زوجته، أو بالعكس أو لذي رحم لم يجز الرجوع في شيء من ذلك، ووافقهم إسحاق في ذي الرحم وقال: للزوجة أن ترجع بخلاف الزوج، والاحتجاج لكل واحد من ذلك يطول. ويؤيد ما ذهب إليه الجمهور أن الولد وماله لأبيه فليس في الحقيقة رجوعاً، وعلى تقدير كونه رجوعاً فربما اقتضته مصلحة التأديب ونحو ذلك كذا في الفتح "ومثل الذي يعطي العطية" أي لغير ولده "أكل" أي استمر على الموكل كل شيء "حتى إذا شبع" بكسر الموحدة.
قوله: "هذا حديث حسن صحيح" وأخرجه أحمد وأبو داود والنسائي وابن ماجه وابن حبان والحاكم وصححاه.
قوله: "قال الشافعي لا يحل لمن وهب هبة أن يرجع فيها إلا الوالد الخ" هذا هو الظاهر والله أعلم(6/333)
أبواب القدر عن رسول الله صلى الله عليه و آله و سلم
باب ما جاء من التشديد فى الخوض فى القدر
...
بسم الله الرحمن الرحيم
أبواب القدر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم
1 ـ باب ما جَاءَ مِنَ التّشْدِيدِ في الْخَوْضِ في القَدَر
2216ـ حَدّثنا عَبْدُ الله بنُ مُعاويةَ الْجُمَحِيّ البصري أخبرنا صَالِحُ المرّيّ عن هِشَامِ بن حَسّانَ عن محمدِ بنِ سِيرِينَ عن أَبِي هُرَيْرَةَ قالَ: "خَرَجَ
ـــــــ
"أبواب القدر"
القدر: بفتح القاف والدال المهملة عبارة عما قضاه الله وحكم به من الأمور، وهو مصدر قدر يقدر قدراً وقد تسكن داله.
"باب ما جَاءَ مِنَ التّشْدِيدِ في الْخَوْضِ في القَدَر"
قال في شرح السنة: الإيمان بالقدر فرض لازم وهو أن يعتقد أن الله تعالى خالق أعمال العباد خيرها وشرها وكتبها في اللوح المحفوظ قبل أن يخلقهم، والكل بقضائه وقدره وإرادته ومشيئته، غير أنه يرضى الإيمان والطاعة ووعد عليهما الثواب ولا يرضى الكفر والمعصية وأوعد عليهما العقاب. والقدر سر من أسرار الله تعالى لم يطلع عليه ملكاً مقرباً ولا نبياً مرسلاً، ولا يجوز الخوض فيه والبحث عنه بطريق العقل، بل يجب أن يعتقد أن الله تعالى خلق الخلق فجعلهم فرقتين فرقة خلقهم للنعيم فضلاً وفرقة للجحيم عدلاً. وسأل رجل علي بن أبي طالب رضي الله عنه فقال: أخبرني عن القدر، قال طريق مظلم لا تسلكه، وأعاد السؤال فقال: بحر عميق لا تلجه، وأعاد السؤال فقال: سر الله قد خفي عليك فلا تفتشه. ولله در من قال:
تبارك من أجرى الأمور بحكمه
...
كما شاء لا ظلماً ولا هضماً
فما لك شيء غير ما الله شاءه
...
فإن شئت طب نفساً وإن شئت مت كظماً(6/334)
عَلَيْنَا رَسولُ الله صلى الله عليه وسلم وَنَحْنُ نَتَنَازَع في القَدَرِ، فغَضِبَ حَتّى احَمرّ وَجْههُ حتى كَأَنّمَا فُقِئَ في وَجْنَتَيْهِ الرّمّانُ، فقالَ: أَبِهَذَا أُمِرْتُمْ أَمْ بهذَا أُرْسِلْتُ إِلَيْكُمْ؟ إِنّمَا هَلَكَ مَن كَانَ قَبْلَكُمْ حِينَ تَنَازَعُوا في هَذَا الأَمْرِ. عَزَمْتُ عَلَيْكُمْ أَلاّ تَنَازَعُوا فيه" .
ـــــــ
قوله: "ونحن نتنازع" أي حال كوننا نتباحث "في القدر" أي في شأنه فيقول بعضنا: إذا كان الكل بالقدر فلم الثواب والعقاب كما قالت المعتزلة، والاَخر يقول: فما الحكمة في تقدير بعض للجنة وبعض للنار، فيقول الاَخر: لأن لهم فيه نوع اختيار كسبي. فيقول الاَخر من أوجد ذلك الاختيار والكسب وأقدرهم عليه وما أشبه ذلك "فغضب حتى احمر وجهه" أي نهاية الاحمرار "حتى" أي حتى صار من شدة حمرته "كأنما فقئ" بصيغة المجهول أي شق أوعصر "في وجنتيه" أي خديه "الرمان" أي حبه، فهو كناية عن مزيد حمرة وجهه المنبئة عن مزيد غضبه، وإنما غضب لأن القدر سر من أسرار الله تعالى وطلب سره منهي، ولأن من يبحث فيه لا يأمن من أن يصير قدرياً أو جبرياً، والعباد مأمورون بقبول ما أمرهم الشرع من غير أن يطلبوا سر ما لا يجوز طلب سره "أبهذا" أي بالتنازل في القدر، وهمزة الاستفهام للانكار وتقديم المجرور لمزيد الاهتمام "أم بهذا أرسلت إليكم" أم منقطعة بمعنى بل والهمزة وهي للإنكار أيضاً ترقياً من الأهون إلى الأغلظ وإنكاراً غب إنكار قاله القاري "إنما هلك من كان قبلكم" أي من الأمم جملة مستأنفة جواباً عما اتجه لهم أن يقولوا لم تنكر هذا الإنكار البليغ "حين تنازعوا في هذا الأمر" هذا يدل على أن غضب الله وإهلاكهم كان من غير إمهال ففيه زيادة وعيد "عزمت" أي أقسمت أو أوجبت "عليكم" قيل أصله عزمت بإلقاء اليمين وإلزامها عليكم "ألا تنازعوا" بحذف إحدى التائين "فيه" أي في القدر لا تبحثوا فيه بعد هذا. قال ابن الملك: إن هذه يمتنع كونها مصدرية وزائدة لأن جواب القسم لا يكون إلا جملة وأن لا تزاد مع لا فهي إذاً مفسرة، كأقسمت أن لا ضربت، وتنازعوا جزم بلا الناهية، ويجوز أن تكون مخففة من الثقيلة لأنها مع اسمها وخبرها سدت مسد الجملة، كذا قاله زين العرب.(6/335)
وفي البابِ عن عُمَر وَعَائِشَةَ وَأَنَسٍ. هذا حديثٌ غريبٌ لا نَعْرِفهُ إِلاّ مِنْ هذا الوَجْهِ مِنْ حَدِيثِ صَالِحٍ المُرّيّ، وَصَالِحٌ المُرّيّ، لَهُ غَرَائِبُ يَنْفَرّدُ بها.
ـــــــ
قوله: "وفي الباب عن عمرو وعائشة وأنس" أما حديث عمرو فأخرجه أبو داود بلفظ: لا تجالسوا أهل القدر ولا تفاتحوهم ، وكذا أحمد والحاكم. وأما حديث عائشة فأخرجه ابن ماجه. وأما حديث أنس فأخرجه الترمذي وابن ماجه.
قوله: "هذا حديث حسن غريب" في سنده صالح بن بشير بن وادع المري أبو بشر البصري وهو ضعيف. وقال الذهبي: ضعفوه ولم يخرج له من أصحاب الكتب الستة فيها سوى الترمذي وروى إبن ماجه نحوه عن إبن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده. ويؤيده حديث ابن مسعود مرفوعاً عند الطبراني بإسناد حسن بلفظ: إذا ذكر القدر فأمسكوا، ويؤيده أيضاً حديث ثوبان عند الطبراني في الكبير بلفظ: اجتمع أربعون من الصحابة ينظرون في القدر الحديث. وفي الباب عن ابن عباس عند ابن جرير بلفظ: خرج النبي صلى الله عليه وسلم فسمع أناساً من أصحابه يذكرون القدر الحديث. وعن أبي الدرداء وواثلة وأبي أمامة وأنس عند الطبراني في الكبير "وصالح المري له غرائب يتفرد بها" قال في التقريب: صالح بن بشير بن وادع المرى بضم الميم وتشديد الراء، أبو البشر البصري القاص الزاهد، ضعيف من السابعة.(6/336)
2 ـ باب
2217ـ حَدّثنا يَحْيَى بنُ حَبِيبِ بنِ عَرَبيّ، أخبرنا الْمُعْتَمِرُ بنُ سُلَيْمَانَ أخبرنا أبي عن سُلَيْمَانَ الأَعْمَشِ عن أَبِي صَالِحٍ عن أَبي هُرَيْرَةَ
ـــــــ
"باب"
قوله: "حدثنا يحيى بن حبيب بن عربي" البصري ثقة من العاشرة "أخبرنا أبي" أي سليمان بن طرخان التيمي أبو المعتمر البصري، نزل في التيم فنسب إليهم، ثقة عابد.(6/336)
عن النبيّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "احْتَجّ آدَمُ وَمُوسَى فقال مُوسَى يا آدَمُ أَنْتَ الذي خَلَقَكَ الله بِيَدِهِ وَنَفَخَ فِيكَ مِنْ رُوحِهِ، أَغْوَيْتَ النّاسَ وَأَخْرَجْتَهُمْ مِنَ الْجَنّةِ، قالَ فقالَ آدَمُ: أَنْتَ مُوسَى الذي اصْطَفَاكَ الله بِكَلاَمِهِ،
ـــــــ
قوله: "احتج آدم وموسى" أي تحاجا، وفي حديث عمر عند أبي داود قال: قال موسى: يا رب أرنا آدم الذي أخرجنا ونفسه من الجنة، فأراه الله آدم، فقال أنت أبونا الحديث. قيل هذا ظاهره أنه وقع في الدنيا. قال الحافظ فيه نظر فليس قول البخاري عند الله صريحاً في أن ذلك يقع يوم القيامة، فإن العندية عندية اختصاص وتشريف لا عندية مكان، فيحتمل وقوع ذلك في كل من الدارين. وقد وردت العندية في القيامة بقوله تعالى {فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ} ، وفي الدنيا بقوله صلى الله عليه وسلم: "أبيت عند ربي يطعمني ويسقيني" انتهى. وقد بوب الإمام البخاري في صحيحه باب تحاج آدم وموسى عند الله تعالى، قال الحافظ الذي ظهر لي أن البخاري لمح في الترجمة بما وقع في بعض طريق الحديث وهو ما أخرجه أحمد من طريق يزيد بن هرمز عن أبي هريرة بلفظ: احتج آدم وموسى عند ربهما الحديث "فقال موسى" جملة مبينة لمعنى ما قبلها "يا آدم أنت الذي خلقك الله بيده" قال القاري: أي بقدرته، قلت لا حاجة إلى هذا التأويل بل هو محمول على ظاهره، وقد تقدم ما يتعلق بهذا في مواضع عديدة. قال وخصه بالذكر إكراماً وتشريفاً، وأنه خلقه إبداعاً من غير واسطة أب وأم "ونفخ فيك من روحه" الأضافة للتشريف والتخصيص، أي من الروح الذي هو مخلوق ولا يد لأحد فيه "أغويت الناس" قال الحافظ: معنى أغويت كنت سبباً لغواية من غوى منهم وهو سبب بعيد، إذ لو لم يقع الأكل من الشجرة لم يقع الإخراج من الجنة، ولو لم يقع الإخراج ما تسلط عليهم الشهوات والشيطان المسبب عنهما الإغواء، والغي ضد الرشد وهو الانهماك في غير الطاعة، ويطلق أيضاً على مجرد الخطأ يقال غوى أي أخطأ صواب ما أمر به "وأخرجتهم من الجنة" أي خطيئتك التي صدرت منك "فقال آدم أنت موسى الذي اصطفاك الله بكلامه"(6/337)
أَتَلُومُنِي على عَمَلٍ عَمِلْتُهُ كَتَبَهُ الله عَلَيّ قَبْلَ أَنْ يَخْلُقَ السّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ، قالَ: "فَحَجّ آدَمُ مُوسى" .
وفي البابِ عن عُمَر وجُنْدُبٍ.
هذا حديثٌ حسنٌ غريبٌ مِنْ هذا الوَجْهِ مِنْ حَدِيثِ سُلَيْمَانَ التّيْمِيّ عن الأَعْمَشِ. وقد روى بَعْضُ أَصْحَابِ الأَعْمَشِ عن الأَعْمَشِ عن أَبِي صَالِحٍ عَنْ أَبي هُرَيْرَةَ عن النبيّ صلى الله عليه وسلم نَحْوَهُ. وقالَ بَعْضُهُمْ عن الأَعْمَشِ
ـــــــ
أي اختارك بتكليمه إياك "كتبه الله علي قبل أن يخلق السموات والأرض" أي قدره وقضاه قبل خلق السموات والأرض، وفي رواية البخاري: "قدره الله عليّ قبل أن يخلقني بأربعين سنة". قال الحافظ: والجمع بينه "يعني الرواية التي ليست مقيدة بأربعين سنة" وبين الرواية المقيدة بأربعين سنة حملها على ما يتعلق بالكتابة وحمل الأخرى على ما يتعلق بالعلم وقال ابن التين: يحتمل أن يكون المراد بالأربعين سنة ما بين قوله تعالى {إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً} إلى نفخ الروح في آدم، وأجاب غيره أن ابتداء المدة وقت الكتابة في الألواح وآخرها ابتداء خلق آدم "فحج آدم موسى" برفع آدم على أنه الفاعل أي غلبه بالحجة، يقال حاججت فلاناً فحججته، مثل خاصمته فخصمته. قال ابن عبد البر: هذا الحديث أصل جسيم لأهل الحق في إثبات القدر وأن الله قضى أعمال العباد فكل أحد يصير لما قدر له بما سبق في علم الله، فإن قيل فالعاصي منا لو قال هذه المعصية قدرها الله علي لم يسقط عنه اللوم والعقوبة بذلك وإن كان صادقاً فيما قاله، فالجواب أن هذا العاصي باق في دار التكليف جار عليه أحكام المكلفين من العقوبة واللوم والتوبيخ وغيرها، وفي لومه وعقوبته زجر له ولغيره عن مثل هذا الفعل وهو محتاج إلى الزجر ما لم يمت، فأما آدم فميت خارج عن دار التكليف وعن الحاجة إلى الزجر فلم يكن في القول المذكور له فائدة بل فيه إيذاء وتخجيل كذا في شرح مسلم للنووي.
قوله: "وفي الباب عن عمر وجندب" أما حديث عمر فأخرجه أبو داود وأبو عوانة، وأما حديث جندب فأخرجه النسائي.
قوله: "هذا حديث حسن غريب" وأخرجه الشيخان وغيرهما(6/338)
عن أبي صَالِحٍ عن أَبِي سَعِيدٍ عن النبيّ صلى الله عليه وسلم. وقد رُوِيَ هذا الحَدِيثُ مِنْ غَيْرِ وَجْهٍ عن أَبِي هُرَيْرَةَ عن النبيّ صلى الله عليه وسلم.
ـــــــ(6/339)
باب ما جاء فى الشقاء و السعادة
...
3 ـ باب ما جَاءَ في الشّقَاءِ وَالسّعَادَة
2218ـ حدثنا بُنْدَارٌ، أخبرنا عَبْدُ الرحمنِ بنُ مَهْدِيّ، أخبرنا شُعْبَةُ عن عَاصِمِ بن عُبَيْدِ الله قال سَمِعْتُ سَالِمَ بنَ عَبْدِ الله يُحَدّثُ عن أَبيهِ قالَ: "قالَ عُمَرُ يا رسولَ الله أَرَأَيْتَ مَا نَعْمَلُ فيهِ أمْرٌ مُبْتَدَعٌ أَوْ مُبْتَدَأٌ أَوْ فِيمَا قَدْ فُرِغَ مِنْهُ؟ فقالَ: فيما قَدْ فُرِغَ مِنْهُ يا ابْنَ الْخَطّابِ وَكُلّ مُيَسّرٌ. أَما مَنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ السّعَادَةِ فَإِنّهُ يَعْمَلُ لِلسّعَادَةِ، وَأَمّا مَنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الشّقَاءِ فَإِنّهُ يَعْمَلُ لِلشّقَاءِ" .
وفي البابِ عن عَلِيَ وَحُذَيْفَةَ بنِ أَسِيدٍ وَأَنَسٍ وَعِمْرَانَ بنِ حُصَيْنٍ.
ـــــــ
"باب ما جاء في الشقاء والسعادة"
قوله: "أمر مبتدع أو مبتدأ" لفظه أو للشك من الراوي، والمعنى أن ما نعمل هل هو أمر مستأنف لم يسبق به قدر ولا علم من الله تعالى وإنما يعلمه بعد وقوعه "أو فيما قد فرغ منه" بصيغة المجهول "قال" أي رسول الله صلى الله عليه وسلم "فيما قد فرغ منه" أي قد فرغ الله تعالى عن قضائه وقدره "وكل ميسر" أي كل موفق ومهيأ لما خلق له، يعني لأمر قدر ذلك الأمر له من الخير والشر "أما من كان" أي في علم الله أو كتابه أو آخر أمره وخاتمة عمله "من أهل السعادة" أي الإيمان في الدنيا والجنة في العقبى "فإنه يعمل للسعادة" وفي حديث علي: أما من كان من أهل السعادة فسييسر لعمل السعادة "وأما من كان من أهل الشقاء" وهو ضد السعادة "فإنه يعمل للشقاء" وفي حديث علي فسييسر لعمل الشقاوة.
قوله: "وفي الباب عن علي وحذيفة بن أسيد وأنس وعمران بن حصين". أما حديث علي فأخرجه الترمذي في هذا الباب وأما حديث حذيفة بن أسيد بفتح(6/339)
هذا حديثٌ حسنٌ صحيحٌ.
2219ـ أخبرنا الْحَسَنُ بنُ عَلِيّ الْحُلْوَانِيّ، حدثنا عَبْدُ الله بنُ نُمَيْرٍ وَ وَكِيعٌ عن الأَعْمَشِ عن سَعْدِ بنِ عُبَيْدَةَ عن أَبِي عَبْدِ الرحمنِ السّلَمِيّ عن عَلِيّ قالَ: "بَيْنَمَا نَحْنُ مَعَ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم وهو يَنْكتُ في الأَرضِ إِذْ رَفَعَ رَأْسَهُ إِلى السّمَاءِ ثُمّ قالَ: مَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ إِلاّ قَدْ عُلِمَ ـ لأقالَ وَكِيعٌ: إِلاّ قَدْ كُتِبَ مَقْعَدُهُ مِنَ النّارِ وَمَقْعَدُهُ مِنَ الْجَنّةِ ـ قَالُوا: أَفَلاَ نَتّكِلُ يا رَسولَ الله؟ قَالَ: لاَ، اعْمَلُوا فَكُلّ مُيَسّرٌ لِمَا خُلِقَ لَهُ" .
ـــــــ
الهمزة وكسر السين فأخرجه مسلم. وأما حديث أنس فأخرجه الشيخان. وأما حديث عمران بن حصين فأخرجه مسلم.
قوله: "هذا حديث حسن صحيح" وأخرجه البزار والفريابي من حديث أبي هريرة أن عمر قال يا رسول الله، فذكر نحو حديث الباب كما في الفتح.
قوله: "بينما نحن مع رسول الله صلى الله عليه وسلم" وفي رواية: كنا في جنازة في بقيع الغرقد، فأتانا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقعد وقعدنا حوله "وهو ينكت في الأرض" وفي رواية للبخاري: ومعه عود ينكت به في الأرض. قال الحافظ: وفي رواية منصور ومعه مخصرة بكسر الميم وسكون المعجمة وفتح الصاد المهملة هي عصا أو قضيب يمسكه الرئيس ليتوكأ عليه ويدفع به عنه ويشير به لما يريد، وسميت بذلك لأنها تحمل تحت الخصر غالباً للاتكاء عليها انتهى. قال في المجمع: فجعل ينكت بقضيب أي يضرب الأرض بطرفه وهو أن يؤثر فيها بطرفه فعل المفكر المهموم "ما منكم من أحد إلا قد علم قال وكيع إلا قد كتب" بصيغة المجهول فيهما "مقعده من النار ومقعده من الجنة" وفي رواية البخاري: مقعده من النار أو من الجنة. قال الحافظ: أو للتنويع، ووقع في رواية سفيان ما قد يشعر بأنها بمعنى الواو ولفظه إلا وقد كتب مقعده من الجنة ومقعده من النار، وكأنه يشير إلى ما تقدم من حديث ابن عمر الدال على أن لكل أحد مقعدين، وفي رواية منصور إلا كتب مكانها من الجنة والنار "أفلا نتكل يا رسول الله" الفاء معقبة(6/340)
هذا حديثٌ حسنٌ صحيحٌ.
ـــــــ
لشيء محذوف تقديره فإذا كان كذلك أفلا نتكل، وزاد في رواية: أفلا نتكل على كتابنا وندع العمل أي نعتمد على ما قدر علينا "قال لا" أي لا تتكلوا. وحاصل السؤال ألا نترك مشقة العمل فإنا سنصير إلى ما قدر علينا، وحاصل الجواب لا مشقة لأن كل أحد ميسر لما خلق له وهو يسير على من يسره الله. وقال الطيبي: الجواب من الأسلوب الحكيم منعهم عن ترك العمل وأمرهم بالتزام ما يجب على العبد من العبودية وزجرهم عن التصرف في الأمور المغيبة فلا يجعلوا العبادة وتركها سبباً مستقلاً لدخول الجنة والنار بل هي علامات فقط.
قوله: "هذا حديث حسن صحيح" وأخرجه الشيخان.(6/341)
4 ـ باب مَا جَاءَ أَنّ الأَعْمَالَ بالْخَوَاتِيم
2220 ـ حَدّثنا هَنّادٌ، حدثنا أبو مُعَاوِيَةَ عن الأَعْمَشِ عن زَيْدِ بنِ وَهْبٍ عن عَبْدِ الله بنِ مَسْعُودٍ قَالَ: حدثنا رَسولُ الله صلى الله عليه وسلم وَهُوَ الصّادِقُ المَصْدُوقُ: "إِنّ أَحَدَكُمْ يُجْمَع خَلْقُهُ في بَطْنِ أُمّهِ في أرْبَعِينَ
ـــــــ
"باب ما جاء أن الأعمال بالخواتيم"
"وهو الصادق المصدوق" الأولى أن تجعل هذه الجملة اعتراضية لا حالية، لتعم الأحوال كلها وأن يكون من عادته ذلك، فما أحسن موقعه ههنا، ومعناه الصادق في جميع أفعاله حتى قبل النبوة لما كان مشهوراً فيما بينهم بمحمد الأمين، المصدوق في جميع ما أتاه من الوحي الكريم صدقه زيد راست كفت ياوزيد. قال النبي صلى الله عليه وسلم في أبي العاص بن الربيع: فصدقني، وقال في حديث أبي هريرة: صدقك وهو كذوب. وقال علي رضي الله تعالى عنه للنبي صلى الله عليه وسلم في حديث الإفك: سل الجارية تصدقك. ونظائره كثيرة كذا قال السيد جمال الدين. وفيه رد على ما قيل إن الجمع بينهما تأكيد إذ يلزم من أحدهما الاَخر اللهم إلا أن يخص به "إن أحدكم" بكسر الهمزة فتكون من جملة التحديث ويجوز فتحها، وفي رواية: إن خلق أحدكم أي مادة خلق أحدكم وما يخلق منه أحدكم "يجمع خلقه في بطن أمه" أي يقرر ويحرز في رحمها. وقال في النهاية: ويجوز(6/341)
يَوْماً ثُمّ يَكُونُ عَلَقَةً مِثْلَ ذَلِكَ، ثُمّ يَكُونُ مُضْغَةً مِثْلَ ذَلِكَ، ثُمّ يُرْسِلُ الله إِلَيْهِ المَلَكُ فَيَنْفُخُ فِيهِ الرّوحَ وَيُؤْمَرُ بأَرْبَعٍ يَكْتُبُ رِزْقَهُ وَأَجَلَهُ وَعَمَلَهُ وَشَقِيّ أو سَعِيدٌ، فَوَالّذِي لاَ إِلَهَ غَيْرُهُ إِنّ أَحَدَكُمْ لَيَعْمَلُ بِعَمَلِ أَهْلِ الْجَنّةِ
ـــــــ
أن يريد بالجمع مكث النطفة في الرحم "في أربعين يوماً" يتخمر فيها حتى يتهيأ للخلق قال الطيبي: وقد روي عن ابن مسعود في تفسير هذا الحديث أن النطفة إذا وقعت في الرحم فأراد الله أن يخلق منها بشراً طارت في بشرة المرأة تحت كل ظفر وشعر ثم تمكث أربعين ليلة ثم تنزل دماً في الرحم فذلك جمعها. والصحابة أعلم الناس بتفسير ما سمعوه وأحقهم بتأويله وأكثرهم احتياطاً، فليس لمن بعدهم أن يرد عليهم. قال ابن حجر: والحديث رواه بن أبي حاتم وغيره، وصح تفسير الجمع بمعنى آخر وهو ما تضمنه قوله عليه الصلاة والسلام: إن الله تعالى إذا أراد خلق عبد فجامع الرجل المرأة طار ماؤه في كل عرق وعضو منها، فإذا كان يوم السابع جمعه الله ثم أحضره كل عرق له دون آدم "في أي صورة ما شاء ركبك". ويشهد لهذا المعنى قوله عليه الصلاة والسلام لمن قال له ولدت امرأتي غلاماً أسود: لعله نزعه عرق. وأصل النطفة الماء القليل سمي بها المني لقلته، وقيل لنطافته أي سيلانه لأنه ينطف نطفاً أي يسيل "ثم يكون" أي خلق أحدكم "علقة" أي دماً غليظاً جامداً "مثل ذلك" إشارة إلى محذوف أي مثل ذلك الزمان يعني أربعين يوماً "ثم يكون مضغة" أي قطعة لحم قدر ما يمضغ "مثل ذلك" يعني أربعين يوماً ويظهر التصوير في هذه الأربعين "ثم يرسل الله إليه الملك" أي إلى خلق أحدكم أو إلى أحدكم يعني في الطور الرابع حين ما يتكامل بنيانه ويتشكل أعضاؤه. والمراد بالإرسال أمره بها والتصرف فيها لأنه ثبت في الصحيحين إنه موكل بالرحم حين كان نطفة أو ذاك ملك آخر غير ملك الحفظ "ويؤمر بأربع" وفي الصحيحين: بأربع كلمات أي بكتابتها وكل قضية تسمى كلمة قولاً كان أو فعلاً "يكتب رزقه" يعني أنه قليل أو كثير "وأجله" أي مدة حياته أو انتهاء عمره "وعمله" أي من الخير والشر "وشقي أو سعيد" خبر مبتدأ محذوف أي يكتب هو شقي أو سعيد(6/342)
حَتّى مَا يَكُونُ بَيْنَهُ وَبَيْنَها إِلاّ ذِرَاعٌ ثُمّ يَسْبِقُ عَلَيْهِ الكِتَابُ فَيُخْتَمُ لَهُ بِعَمَلِ أَهْلِ النّارِ فَيَدْخُلُهَا، وإنّ أَحَدَكُمْ لَيَعْمَلُ بِعَمَلِ أَهْلِ النّارِ حَتّى مَا يَكُونُ بَيْنَهُ وَبَيْنَهَا إِلاّ ذِرَاعٌ، ثمّ يَسْبِقُ عَلِيْهِ الكِتَابُ فَيُخْتَمُ لَهُ بِعَمَلِ أَهْلِ الْجَنّةِ فَيَدْخُلُهَا".
هذا حديثٌ حسنٌ صحيحٌ.
2221 ـ حدّثنا محمدُ بنُ بَشّارٍ، حدثنا يَحْيَى بنُ سَعِيدٍ، أخبرنا الأَعْمَشُ، حدثنا زَيْدُ بنُ وَهْبٍ عن عَبْدِ الله بن مَسْعُودٍ، قال: حدثنا رَسولُ الله صلى الله عليه وسلم فَذَكَرَ مِثْلَهُ.
قال أبو عيسى: وفي البابِ عن أبي هُرَيْرَةَ وَأَنَسٍ وسَمِعْتُ أحمدَ بنَ الْحَسَنِ، قالَ: سَمِعْتُ أحمدَ بنَ حَنْبَلٍ يَقُولُ: مَا رَأَيْتُ بَعْينِي مِثْلَ يَحْيَى بن سَعِيدٍ القَطّانِ وهذا حديثٌ حسنٌ صحيحٌ. وقد روى شُعْبَةُ وَالثّوْرِيّ عن الأَعْمَشِ نَحْوَهُ.
2222 ـ حدّثنا محمدُ بنُ العَلاَءِ، حدثنا وَكيعٌ عن الأَعْمَشِ عن زَيْدٍ نَحْوَهُ.
ـــــــ
"حتى ما يكون" في الموضعين بالرفع، لا لأن ما النافية كافة عن العمل، بل لأن المعنى على حكاية حال الرجل لا الإخبار عن المستقبل، كذا قاله السيد جمال الدين. وقال المظهر: حتى هي الناصبة وما نافية، ولفظة يكون منصوبة بحتى، وما غير مانعة لها عن العمل. وقال ابن الملك: الأوجه أنها عاطفة ويكون بالرفع على ما قبله "بينه وبينها" أي بين الرجل والجنة "إلا ذراع" تمثيل لغاية قربها "ثم يسبق عليه الكتاب" ضمن معنى يغلب ولذا عدى بعلى وإلا فهو متعد بنفسه أي يغلب عليه كتاب الشقاوة والتعريف للعهد، والكتاب بمعنى المكتوب أي المقدر أو التقدير أي التقدير الأزلي "حتى ما يكون" بالوجهين المذكورين "هذا حديث حسن صحيح" وأخرجه الشيخان "وفي الباب عن أبي هريرة وأنس" أما حديث أبي هريرة فأخرجه البخاري وأما حديث أنس فأخرجه أيضاً البخاري(6/343)
5 ـ باب ما جَاءَ كُلّ مَوْلُودٍ يُوَلَدُ على الفِطْرَة
2223ـ حَدّثنا محمدُ بنُ يَحْيَى القُطَعِيّ البصريّ، أخبرنا عَبْدُ الْعَزِيزِ بنُ رَبِيعَةَ البُنَانيّ، أخبرنا الأَعْمَشُ عن أَبي صَالِحٍ عن أبي هُرَيْرَةَ قالَ: قالَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: "كُلّ مَوْلُودٍ يُولَدُ على المِلّةِ فَأَبَواهُ يُهَوّدَانِهِ
ـــــــ
"باب ما جاء كل مولود يولد على الفطرة"
قوله: "كل مولود" قال القاري: أي من الثقلين. وقال الحافظ: أي من بني آدم وصرح به جعفر بن ربيعة عن الأعرج عن أبي هريرة بلفظ: كل بني آدم يولد على الفطرة. وكذا رواه خالد الواسطي عن عبد الرحمن بن إسحاق عن أبي الزناد عن الأعرج، ذكرها ابن عبد البر "يولد على الملة" وفي رواية الشيخين: على الفطرة. وقد اختلف السلف في المراد بالفطرة في هذا الحديث على أقوال كثيرة، وحكى أبو عبيد أنه سأل محمد بن الحسن صاحب أبي حنيفة عن ذلك فقال كان هذا في أول الإسلام قبل أن تنزل الفرائض وقبل الأمر بالجهاد. قال أبو عبيد: كأنه عني أنه لو كان يولد عن الإسلام فمات قبل أن يهوده أبواه مثلاً لم يرثاه والواقع في الحكم أنهما يرثانه فدل على تغير الحكم. وقد تعقبه ابن عبد البر وغيره: وسبب الاشتباه أنه حمله على أحكام الدنيا فلذلك ادعى فيه النسخ، والحق أنه إخبار من النبي صلى الله عليه وسلم بما وقع في نفس الأمر، ولم يرد به إثبات أحكام الدنيا. وأشهر الأقوال: أن المراد بالفطرة الإسلام. قال ابن عبد البر: وهو المعروف عند عامة السلف.
وأجمع أهل العلم بالتأويل على أن المراد بقوله تعالى {فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا} الإسلام، واحتجوا بقول أبي هريرة في آخر حديث الباب اقرأوا إن شئتم {فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا} وبحديث عياض بن حمار عن النبي صلى الله عليه وسلم فيما يرويه عن ربه: إني خلقت عبادي حنفاء كلهم فاجتالتهم الشياطين عن دينهم الحديث. وقد رواه غيره فزاد فيه: حنفاء مسلمين، فظهر من هذا كله أن المراد بالملة في هذه الرواية هي ملة الإسلام "فأبواه يهودانه" بتشديد الواو(6/344)
وَيُنَصّرَانِهِ وَيُشَرّكَانِهِ، قِيلَ يَا رسولَ الله: فَمَنْ هَلَكَ قَبْلَ ذَلِكَ؟ قَالَ: الله أَعْلَمُ بِمَا كَانُوا عَامِلِينَ بِهِ" .
ـــــــ
أي يعلمانه اليهودية ويجعلانه يهودياً، والفاء إما للتعقيب وهو ظاهر، وإما للتسبب أي إذا كان كذا فمن تغير كان بسبب أبويه غالباً "وينصرانه" بتشديد الصاد: أي يعلمانه النصرانية ويجعلانه نصرانياً "ويشركانه" بتشديد الراء: أي يعلمانه الشرك ويجعلانه مشركاً "فمن هلك قبل ذلك" أي قبل أن يهوده أبواه وينصراه ويشركاه "قال الله أعلم بما كانوا عاملين به" قال ابن قتيبة معنى قوله بما كانوا عاملين أي لو أبقاهم فلا تحكموا عليهم بشيء وقال غيره أي علم أنهم لا يعملون شيئاً ولا يرجعون فيعملون أو أخبر بعلم شيء لو وجد كيف يكون مثل قوله "ولو ردوا لعادوا" ولكن لم يرد أنهم يجازون بذلك في الاَخرة، لأن العبد لا يجازى بما لم يعمل. قال النووي في شرح مسلم: أجمع من يعتد به من علماء المسلمين على أن من مات من أطفال المسلمين فهو من أهل الجنة لأنه ليس مكلفاً، وأما أطفال المشركين ففيهم ثلاثة مذاهب: قال الأكثرون هم في النار تبعاً لاَبائهم، وتوقفت طائفة فيهم، والثالث وهو الصحيح الذي ذهب إليه المحققون أنهم من أهل الجنة. ويستدل له بأشياء منها حديث إبراهيم الخليل صلى الله عليه وسلم حين رآه النبي صلى الله عليه وسلم في الجنة وحوله أولاد الناس قالوا: يا رسول الله وأولاد المشركين قال: "وأولاد المشركين" ، رواه البخاري في صحيحه، ومنها قوله تعالى: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً} ولا يتوجه على المولود التكليف حتى يبلغ، وهذا متفق عليه، انتهى كلام النووي.
قلت: ويؤيد هذا المذهب الثالث ما رواه أبو يعلى من حديث أنس مرفوعاً: سألت ربي اللاهين من ذرية البشر أن لا يعذبهم فأعطانيهم. قال الحافظ: إسناده حسن. قال وورد تفسير اللاهين بأنهم الأطفال من حديث ابن عباس مرفوعاً أخرجه البزار، ويؤيده أيضاً ما روى أحمد من طريق خنساء بنت معاوية بن صريم عن عمتها قالت: قلت يا رسول الله من في الجنة؟ قال: "النبي في الجنة والشهيد في الجنة، والمولود في الجنة" . قال الحافظ إسناده حسن. ويؤيده أيضاً ما روى(6/345)
2224ـ حدّثنا أَبُو كُرَيْبٍ وَالحُسَيْنُ بنُ حُرَيْثٍ قَالاَ: أخبرنا وَكِيعٌ عن الأَعْمَشِ عن أَبي صَالحٍ عن أَبي هُرَيْرَةَ عن النبيّ صلى الله عليه وسلم نَحْوَهُ بِمَعْنَاهُ وَقَالَ: "يُوَلَدُ على الفِطْرَةِ" .
هذا حديثٌ حسنٌ صحيحٌ.
وقد رَوَاهُ شُعْبَةُ وغَيْرُهُ عن الأَعْمَشِ عن أَبي صَالِحٍ عن أَبي هُرَيْرَةَ عن النبيّ صلى الله عليه وسلم فقال: "يولد على الفطرة".
ـــــــ
عبد الرزاق من طريق أبي معاذ عن الزهري عن عروة عن عائشة قالت: سألت خديجة النبي صلى الله عليه وسلم عن أولاد المشركين فقال: "هم مع آبائهم" ، ثم سألته بعد ذلك فقال: "الله أعلم بما كانوا عاملين" ثم سألته بعد ما استحكم الإسلام فنزل {وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} قال: "هم على الفطرة" أو قال: "هم في الجنة" .
قال الحافظ: وأبو معاذ هو سليمان بن أرقم وهو ضعيف ولو صح هذا لكن قاطعاً للنزاع ورافعاً لكثير من الإشكال انتهى.
وقد اختار الإمام البخاري هذا المذهب الثالث. قال الحافظ تحت قوله باب ما قيل في أولاد المشركين: هذه الترجمة تشعر بأنه كان متوقفاً في ذلك وقد جزم بعد هذا في تفسير سورة الروم بما يدل على اختيار القول الصائر إلى أنهم في الجنة. وقد رتب أحاديث هذا الباب ترتيباً يشير إلى المذهب المختار، فإنه صدره بالحديث الدال على التوقف، ثم ثنّى بالحديث المرجح لكونهم في الجنة، يعني حديث كل مولود يولد على الفطرة. ثم ثلث بالحديث المصرح بذلك، يعني حديث سمرة بن جندب، فإن قوله في سياقه: وأما الصبيان حوله فأولاد الناس، قد أخرجه في التعبير بلفظ: وأما الولدان الذين حوله فكل مولود يولد على الفطرة، فقال بعض المسلمين، وأولاد المشركين، فقال وأولاد المشركين، انتهى كلام الحافظ.
قوله: "هذا حديث صحيح" وأخرجه الشيخان(6/346)
6 ـ باب ما جَاءَ لاَ يَرُدّ القَدَرَ إلاّ الدّعَاء
2225ـ حَدّثنا محمدُ بنُ حُمَيْدٍ الرّازِيّ وسَعِيدُ بنُ يَعْقُوبَ، قَالاَ: حدثنا يَحْيَى بنُ الضّرَيْسِ عن أَبي مَوْدُودٍ عن سُلَيْمَانَ التّيْمِيّ عن أَبي عُثْمَانَ النّهدِيّ عن سَلْمَان قَالَ: قَالَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم: "لاَ يَرُدّ القَضَاءَ إِلاّ الدّعَاءُ، وَلاَ يَزِيدُ في العُمُرِ إِلاّ البِرّ" .
ـــــــ
"باب ما جاء لا يرد القدر إلا الدعاء"
قوله: "لا يرد القضاء إلا الدعاء" القضاء هو الأمر المقدر وتأويل الحديث أنه إن أراد بالقضاء ما يخافه العبد من نزول المكروه به ويتوقاه فإذا وفق للدعاء دفعه الله عنه فتسميته قضاء مجاز على حسب ما يعتقده المتوقى عنه، يوضحه قوله صلى الله عليه وسلم في الرقى: هو من قدر الله. وقد أمر بالتداوي والدعاء مع أن المقدور كائن لخفائه على الناس وجوداً وعدماً ولما بلغ عمر الشام وقيل له إن بها طاعوناً رجع، فقال أبو عبيدة: أتفر من القضاء يا أمير المؤمنين؟ فقال: لو غيرك قالها يا أبا عبيدة نعم نفر من قضاء الله إلى قضاء الله. أو أراد برد القضاء إن كان المراد حقيقته تهوينه وتيسير الأمر حتى كأنه لم ينزل، يؤيده ما أخرجه الترمذي من حديث ابن عمر أن الدعاء ينفع مما نزل ومما لم ينزل. وقيل: الدعاء كالترس والبلاء كالسهم والقضاء أمر مبهم مقدر في الأزل "ولا يزيد في العمر" بضم الميم وتسكن "إلا البر" بكسر الباء وهو الإحسان والطاعة. قيل يزاد حقيقة. قال تعالى: {وَمَا يُعَمَّرُ مِنْ مُعَمَّرٍ وَلا يُنْقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلَّا فِي كِتَابٍ} وقال: "يمحو الله ما يشاء ويثبت وعنده أم الكتاب" وذكر في الكشاف أنه لا يطول عمر الإنسان ولا يقصر إلا في كتاب وصورته أن يكتب في اللوح إن لم يحج فلان أو يغز فعمره أربعون سنة، وإن حج وغزا فعمره ستون سنة، فإذا جمع بينهما فبلغ الستين فقد عمر، وإذا أفرد أحدهما فلم يتجاوز به الأربعين فقد نقص من عمره الذي هو الغاية وهو الستون. وذكر نحوه في معالم التنزيل، وقيل معناه إنه إذا بر لا يضيع عمره فكأنه زاد. وقيل قدر أعمال البر سبباً لطول العمر كما قدر الدعاء سبباً لرد البلاء. فالدعاء للوالدين وبقية الأرحام يزيد في العمر(6/347)
وفي الباب عن أَبي أُسَيْدٍ.
هذا حديثٌ حسنٌ غريبٌ مِنْ حَدِيثِ يَحْيَى بنِ الضّرَيْسِ. وأبُو مَوْدُودٍ اثْنَانِ أَحَدَهُمَا يُقَالَ لَهُ فِضّةُ، والاَخر عَبْدُ العَزِيزِ بنُ أبي سُلَيْمَانَ، أَحَدُهُمُا بَصْرِيّ وَالاَخرُ مدينيّ وكانا في عَصْرٍ واحِدٍ، وأبو
ـــــــ
إما بمعنى أنه يبارك له في عمره فييسر له في الزمن القليل من الأعمال الصالحة ما لا يتيسر لغيره من العمل الكثير فالزيادة مجازية لأنه يستحيل في الاَجال الزيادة الحقيقية. قال الطيبي: إعلم أن الله تعالى إذا علم أن زيداً يموت سنة خمس مائة، استحال أن يموت قبلها أو بعدها، فاستحال أن تكون الاَجال التي عليها علم الله تزيد أو تنقص، فتعين تأويل الزيادة أنها بالنسبة إلى ملك الموت أو غيره ممن وكل بقبض الأرواح وأمره بالقبض بعد آجال محدودة، فإنه تعالى بعد أن يأمره بذلك أو يثبت في اللوح المحفوظ ينقص منه أو يزيد على ما سبق علمه في كل شيء، وهو بمعنى قوله تعالى: {يَمْحُوا اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ} وعلى ما ذكر يحمل قوله عز وجل {ثُمَّ قَضَى أَجَلاً وَأَجَلٌ مُسَمّىً عِنْدَهُ} فالإشارة بالأجل الأول إلى ما في اللوح المحفوظ وما عند ملك الموت وأعوانه، وبالأجل الثاني إلى ما في قوله تعالى: {وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ} وقوله تعالى: {فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ} . والحاصل أن القضاء المعلق يتغير، وأما القضاء المبرم فلا يبدل ولا يغير، انتهى.
قوله: "وفي الباب عن أبي أسيد" بضم الهمزة وفتح السين مصغراً الساعدي وأما أبو أسيد بفتح الهمزة وكسر السين فله حديث واحد وهو: كلوا الزيت وادهنوا به الحديث. وحديث أبي أسيد الذي أشار إليه الترمذي لم أقف عليه فلينظر من أخرجه "هذا حديث حسن غريب" وأخرجه ابن حبان والحاكم وقال صحيح الإسناد عن ثوبان وفي روايتهما: "لا يرد القدر إلا الدعاء ولا يزيد في العمر إلا البر، وإن الرجل ليحرم الرزق بالذنب يذنبه" كذا في المرقاة.
قوله: "لا نعرفه إلا من حديث يحيى بن الضريس" بمعجمة ثم مهملة مصغراً البجلي الرازي القاضي صدوق من التاسعة "وأبو مودود اثنان" أي رجلان "أحدهما يقال له فضة" قال الحافظ بكسر الفاء وتشديد المعجمة أبو مودود البصري، نزيل خراسان مشهور بكنيته فيه لين من الثامنة "والاَخر عبد العزيز بن أبي سليمان"(6/348)
مودود الذي روى هذا الحديث اسمه فضة بصري.
ـــــــ
الهذلي مولاهم أبو مودود المدني القاص، مقبول من السادسة "وكانا في عصر واحد" قال في تهذيب التهذيب: وذكر أبو حاتم آخر يقال له أبو مودود اسمه بحر بن موسى روى عن الحسن البصري وعنه الثوري وغيره، وقال: أبو مودود المدني أحب إلى من أبي مودود بحر ومن أبي مودود فضة انتهى(6/349)
7 ـ باب ما جَاءَ أَنّ الْقُلُوبَ بَيْنَ أَصْبُعَي الرّحمن
2226ـ حَدّثنا هَنّادٌ، حدثنا أبو مُعَاوِيَةُ، عن الأَعْمَشِ، عن أَبي سُفْيَانَ، عن أَنسٍ قالَ: "كان رَسولُ الله صلى الله عليه وسلم يُكْثِرُ أنْ يقولَ: يا مُقَلّبَ القُلُوبِ ثَبّتْ قَلْبِي على دِيِنكَ، فَقلت: يَا نَبِيّ الله آمَنّا بِكَ وَبِمَا جِئْتَ بِهِ فَهَلْ تَخَافُ عَلَيْنَا؟ قَالَ: نَعْم، إِنّ القُلُوبَ بَيْنَ أَصْبُعَيْنِ مِنْ أَصَابِعِ الله يُقَلّبُهَا كَيْفَ يشاء" .
وفي البابِ عن النّوّاسِ بنِ سِمْعَانَ وأُمّ سَلَمَةَ وعبد الله وعَائِشَةَ وأبي ذر.
ـــــــ
"باب ما جاء أن القلوب بين أصبعي الرحمنه"
قوله: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يكثر" من الإكثار "أن يقول" أي هذا القول "يا مقلب القلوب" أي مصرفها تارة إلى الطاعة وتارة إلى المعصية وتارة إلى الحضرة وتارة إلى الغفلة "ثبت قلبي على دينك" أي اجعله ثابتاً على دينك غير مائل عن الدين القويم والصراط المستقيم "فقلت يا نبي الله آمنا بك" أي بنبوتك ورسالتك "وبما جئت به" من الكتاب والسنة "فهل تخاف علينا" يعني أن قولك هذا ليس لنفسك لأنك في عصمة من الخطأ والزلة، خصوصاً من تقلب القلب عن الدين والملة، وإنما المراد تعليم الأمة، فهل تخاف علينا من زوال نعمة الإيمان أو الانتقال من الكمال إلى النقصان "قال نعم" يعني أخاف عليكم "يقلبها" أي القلوب "كيف شاء" مفعول مطلق، أي تقليباً يريده أو حال من الضمير المنصوب أي يقلبها على أي صفة شاءها "وفي الباب عن النواس بن سمعان وأم سلمة وعائشة وأبي ذر" أما حديث النواس بن سمعان بكسر السين وفتحها(6/349)
هذا حديثٌ حسنٌ. وَهَكَذَا رَوَى غَيْرُ وَاحِدٍ عن الأعْمَشِ عن أبي سُفْيَانَ عن أَنَسٍ. ورَوَى بَعْضُهُمْ عن الأَعْمَشِ عن أبي سُفْيَانَ عن جَابِرٍ عن النبيّ صلى الله عليه وسلم. وحَدِيثُ أبي سُفْيَانَ عن أَنَسٍ أَصَحّ.
ـــــــ
وسكون الميم فأخرجه أحمد. وأما حديث أم سلمة فأخرجه أيضاً أحمد. وأما حديث عائشة فلينظر من أخرجه. وأما حديث أبي ذر فأخرجه ابن جرير.
قوله: "هذا حديث حسن صحيح" وأخرجه ابن ماجة(6/350)
باب ما جاء أن الله كتب كتاباً لأهل الجنة و أهل النار
...
8 ـ باب مَا جَاءَ أَنّ الله كَتَبَ كِتَاباً لأَهْلِ الْجَنّةِ وَأَهْلِ النّار
2227ـ حَدّثنا قُتَيْبَةُ بنُ سَعِيدٍ، حدثنا الّليْثُ عن أَبِي قَبِيلٍ عن شُفَيّ بنِ مَاتعٍ عن عَبْدِ الله بنِ عَمْرٍو قَالَ: "خَرَجَ عَلَيْنَا رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم وفي يَدِهِ كِتَابَانِ، فَقَالَ: أَتَدْرُونَ ما هَذَانِ الكِتَابَانِ؟ فَقُلْنَا: لا يا رسولَ الله إِلاّ أَنْ تُخْبِرَنَا، فقال لِلّذِي في يَدِهِ الْيُمْنَى:
ـــــــ
"باب ما جاء أن الله كتب كتابا لأهل الجنة وأهل النار"
قوله: "عن أبي قبيل" اسمه حيي بضم الحاء مهملة وبيائين مصغراً قال في التقريب: حيي بن هانئ بن ناضر، بنون ومعجمة أبو قبيل، بفتح القاف وكسر الموحدة بعدها تحتانية ساكنة المعافري البصري صدوق يهم من الثالثة "عن شفي بن ماتع" قال في التقريب: شفي بضم الشين المعجمة وبالفاء مصغراً، ابن ماتع بمثناة الأصبحي، ثقة من الثالثة. أرسل حديثاً فذكره بعضهم في الصحابة خطأ، مات في خلافة هشام، قاله خليفة.
قوله: "وفي يده" بالإفراد والمراد به الجنس وفي المشكاة: يديه بالتثنية والواو للحال "أتدرون ما هذان الكتابان" الظاهر من الإشارة أنهما حسيان وقيل تمثيل واستحضار للمعنى الدقيق الخفي في مشاهدة السامع حتى كأنه ينظر إليه رأى العين، فالنبي صلى الله عليه وسلم كما كوشف له بحقيقة هذا الأمر وأطلعه الله عليه اطلاعاً لم يبق معه خفاء صور الشيء الحاصل في قلبه بصورة الشيء الحاصل في يده وأشار إليه إشارة إلى المحسوس "فقلنا لا" أي لا ندري "يا رسول الله(6/350)
هذا كِتَاب مِنْ رَبّ الْعَالَمِينَ فِيهِ أَسْمَاءُ أَهْلِ الْجَنّةِ وَأَسْمَاءُ آبائهِمْ وَقَبَائِلِهِمْ، ثم أُجْمِلَ عَلَى آخِرِهِمْ فَلاَ يُزَادُ فِيهِمْ وَلاَ يُنْقَصُ مِنْهُمْ أَبَداً. ثم قال للّذِي في شِمَالِهِ هذا كِتَابٌ مِنْ رَبّ الْعَالَمِينَ فِيهِ أَسْمَاءُ أَهْلِ النّارِ وَأَسْمَاءُ آبائهِمْ وَقَبَائِلِهِمْ ثم أُجْمِلَ عَلَى آخِرِهِمْ فَلاَ يُزَادُ فِيهِمْ وَلاَ يُنْقَصُ مِنْهُمْ أَبَداً. فقال أَصْحَابُهُ:
ـــــــ
إلا أن تخبرنا" استثناء مفرغ، أي لا نعلم بسبب من الأسباب إلا إخبارك إيانا. وقيل الاستثناء منقطع أي لكن إن أخبرتنا علمنا، وكأنهم طلبوا بهذا الاستدراك إخباره إياهم "فقال الذي في يده اليمنى" أي لأهله وفي شأنه أو عنه، وقيل قال بمعنى أشار فاللام بمعنى إلى "هذا كتاب من رب العالمين" خصه بالذكر دلالة على أنه تعالى مالكهم وهم له مملوكون يتصرف فيهم كيف يشاء فيسعد من يشاء ويشقي من يشاء وكل ذلك عدل وصواب فلا اعتراض لأحد عليه، وقيل الظاهر أن هذا كلام صادر على طريق التصوير والتمثيل مثل الثابت في علم الله تعالى أو المثبت في اللوح بالمثبت بالكتاب الذي كان في يده ولا يستبعد إجراؤه على الحقيقة، فإن الله تعالى قادر على كل شيء والنبي صلى الله عليه وسلم مستعد لإدراك المعاني الغيبية ومشاهدة الصور المصوغة لها "فيه أسماء أهل الجنة وأسماء آبائهم وقبائلهم" الظاهر أن كل واحد من أهل الجنة وأهل النار يكتب أسماؤهم وأسماء آبائهم وقبائلهم سواء كانوا من أهل الجنة أو النار للتمييز التام كما يكتب في الصكوك "ثم أجمل على آخرهم" من قولهم أجمل الحساب إذا تمم ورد التفصيل إلى الإجمال، وأثبت في آخر الورقة مجموع ذلك وجملته كما هو عادة المحاسبين أن يكتبوا الأشياء مفصلة ثم يوقعوا في آخرها فذلكة ترد التفصيل إلى الإجمال، وضمن أجمل معنى أوقع فعدى يعلى، أي أوقع الإجمال على من انتهى إليه التفصيل، وقيل ضرب بالإجمال على آخر التفصيل أي كتب ويجوز أن يكون حالاً أي أجمل في حال انتهاء التفصيل إلى آخرهم، فعلى بمعنى إلى "فلا يزاد فيهم" جزاء شرط أي إذا كان الأمر على ما تقرر من التفصيل والتعيين والإجمال بعد التفصيل في الصك فلا يزاد فيهم "ولا ينقص" يصيغة المجهول "منهم أبداً" لأن حكم الله لا يتغير. وأما قوله تعالى {لِكُلِّ أَجَلٍ كِتَابٌ} {يَمْحُوا اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ} فمعناه لكل انتهاء مدة وقت مضروب، فمن انتهى(6/351)
فَفِيمَ الْعَمَلُ يا رسولَ الله إِنْ كَانَ أَمْرٌ قَدْ فُرِغَ مِنْهُ؟ فقال: سَدّدُوا وَقَارِبُوا فَإِنّ صَاحِبَ الْجَنّةِ يُخْتَمُ لَهُ بِعَمَلِ أَهْلِ الجنّة وَإِنْ عَمِلَ أي عَمَلٍ وإنّ صاحِبَ النّارِ يُخْتَمُ لَهُ بِعَمَلِ أهْلِ النّارِ وإنْ عَمِلَ. أَيّ عَمَلٍ. ثم قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم بِيَدَيْهِ فَنَبَذَهُما ثم قال: فَرَغَ رَبّكُمْ مِنَ الْعِبَادِ، فَرِيقٌ في الْجَنّةِ وَفَرِيقٌ في السّعِيرِ" .
ـــــــ
أجله يمحوه ومن بقي من أجله يبقيه على ما هو مثبت فيه وكل ذلك مثبت عند الله في أم الكتاب وهو القدر، كما يمحو ويثبت هو القضاء، فيكون ذلك عين ما قدر وجرى في الأجل فلا يكون تغييراً أو المراد منه محو المنسوخ من الأحكام وإثبات الناسخ أو محو السيئات من التائب وإثبات الحسنات بمكافأته وغير ذلك، ويمكن أن يقال المحو والإثبات يتعلقان بالأمور المعلقة دون الأشياء المحكمة كذا في المرقاة "ففيم العمل يا رسول الله إن كان أمر قد فرغ منه" بصيغة المجهول، يعني إذا كان المدار على كتابة الأزل فأي فائدة في اكتساب العمل "فقال سددوا" أي اطلبوا بأعمالكم السداد والاستقامة، وهو القصد في الأمر والعدل فيه، قاله في النهاية. "وقاربوا" أي اقتصدوا في الأمور كلها واتركوا الغلو فيها والتقصير، يقال قارب فلان في أموره إذا اقتصد، كذا في النهاية والجواب من أسلوب الحكيم أي فيم أنتم من ذكر القدر والاحتجاج به وإنما خلقتم للعبادة فاعملوا وسددوا. قاله الطيبي "فإن صاحب الجنة يختم له" يصيغة المجهول "بعمل أهل الجنة" : أي يعمل مشعر بإيمانه ومشير بإبقائه "وإن عمل" أي ولو عمل قبل ذلك "أي عمل" من أعمال أهل النار "وإن صاحب النار يختم له بعمل أهل النار" أعم من الكفر والمعاصي "وإن عمل أي عمل" أي قبل ذلك من أعمال أهل الجنة "ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم بيديه" أي أشار بهما، والعرب تجعل القول عبارة عن جميع الأفعال فتطلقه على غير الكلام واللسان، فتقول قال بيده، أي أخذ وقال برجله أي مشى "فنبذهما" أي طرح ما فيهما من الكتابين وفي الأزهار: الضمير في نبذهما لليدين لأن نبذ الكتابين بعيد من دأبه انتهى. قال القاري وفيه أن نبذهما ليس بطريق الإهانة بل إشارة إلى أنه نبذهما إلى عالم الغيب. ثم هذا كله إذا كان هناك كتاب حقيقي، وأما على التمثيل فيكون المعنى نبذهما أي اليدين.(6/352)
2228ـ حدّثنا قُتَيْفبَةُ، أخبرنا بَكْرُ بنُ مُضَرَ عن أبي قَبِيلٍ نَحْوَهُ.
وفي البابِ عن ابن عُمَرَ. هذا حديثٌ حسنٌ صحيحٌ غريبٌ.
وأبو قَبِيلٍ اسمُه حُبَيّ بنُ هانئ.
2229 ـ أخبرنا عليّ بنُ حُجْرٍ، أخبرنا إِسماعيلُ بنُ جَعْفَرٍ، عن حُمَيْدٍ عن أَنَسٍ قال: قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: "إِذَا أَرَادَ الله بِعَبْدٍ خَيْراً اسْتَعْمَلَهُ، فَقِيلَ: كَيْفَ يَسْتَعْمِلُهُ يا رسولَ الله؟ قال: يُوَفّقُهُ لِعَمَلٍ صَالِحٍ قَبْلَ المَوْتِ" .
هذا حديثٌ حسنٌ صحيحٌ.
ـــــــ
قلت: ولا مُلجِئ لحمل لفظ الكتاب في هذا الحديث على معناه المجازي، ولا مانع من إرادة معناه الحقيقي، فالظاهر أن يحمل على الحقيقة.
قوله: "أخبرنا بكر بن مضر" بن محمد بن حكيم المصري أبو محمد أو أبو عبد الملك ثقة ثبت من الثامنة.
قوله: "وفي الباب عن ابن عمر" أخرجه البزار كذا في الفتح.
قوله: "هذا حديث حسن صحيح غريب" وأخرجه أحمد والنسائي.
قوله: "يوفقه لعمل صالح قبل الموت" ثم يقبضه عليه كما في رواية، أي يميته وهو متلبس به.
قوله: "هذا حديث حسن صحيح" وأخرجه أحمد وابن حبان والحاكم(6/353)
باب ما جاء لا عدوى ولا صفر
...
9 ـ باب ما جاءَ لا عَدْوَى وَلاَ هَامةَ وَلاَ صَفَر
2230 ـ حَدّثنا بُنْدَارٌ، أخبرنا عبدُ الرحمنِ بنُ مَهْدِيّ، أخبرنا
ـــــــ
"باب ما جاءَ لا عَدْوَى وَلاَ هَامةَ وَلاَ صَفَر"
قال الجزري في النهاية: الهامة الرأس واسم طائر وهو المراد في الحديث، وذلك أنهم كانوا يتشاءمون بها وهي من طير الليل وقيل هي البومة. وقيل كانت العرب تزعم أن روح القتيل الذي لا يدرك بثأره تصير هامة فتقول اسقوني(6/353)
سُفْيَانُ عن عِمَارَةَ بنِ الْقَعْقَاعِ، حدثنا أبو زُرْعَةَ بنُ عَمْرِو بنِ جَرِيرٍ قال: أخبرنا صَاحِبٌ لَنَا عن ابنِ مسعودٍ قال: "قَامَ فِينَا رسولُ الله صلى الله عليه وسلم فقال: لا يُعْدِي شَيْءٌ شِيْئاً. فقال أَعْرابيّ: يا رسولَ الله، الْبَعِيرُ أَجْرَبُ الْحَشَفَةِ نُدْبِنُهُ فَيُجْرِبُ الاْبِلَ كُلّهَا؟ فقال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم:
ـــــــ
فإذا أدرك بثأره طارت. وقيل كانوا يزعمون أن عظام الميت وقيل روحه تصير هامة فتطير ويسمونه الصدى، فنفاه الإسلام ونهاهم عنه انتهى
قوله: "عن عمارة بن القعقاع" بن شبرمة الضبي الكوفي ثقة أرسل عن ابن مسعود وهو من السادسة: "أخبرنا أبو زرعة بن عمرو بن جرير" بن عبد الله البجلي الكوفي ثقة من الثالثة.
وذكر الحافظ في اسمه أقوالاً "قال: أخبرنا صاحب لنا" لم أقف على اسم صاحبه هذا ولم يذكره الحافظ في مبهمات التقريب وتهذيب التهذيب.
قوله: "فقال لا يعدي شيء شيئاً" من الإعداء. قال في القاموس: العدوى ما يعدي من جرب أو غيره وهو مجاوزته من صاحبه إلى غيره. وقال في النهاية: العدوى اسم من الإعداء كالدعوى والبقوى من الإدعاء والإبقاء، يقال أعداه الداء يعديه إعداء، وهو أن يصيبه مثل ما يصاحب الداء، وذلك أن يكون ببعير جرب مثلاً فتتقي مخالطته بإبل أخرى حذراً أن يتعدى ما به من الجرب إليها فيصيبها ما أصابه فقد أبطله الإسلام لأنهم كانوا يظنون أن المرض بنفسه يتعدى، فأعلمهم النبي صلى الله عليه وسلم أنه ليس الأمر كذلك، وإنما الله هو الذي يمرض وينزل الداء انتهى "البعير أجرب الحشفة" قال في القاموس: الحشفة محركة ما فوق الختان، وقال في المجمع: هي رأس الذكر "ندبنه" قد ضبط هذا اللفظ في النسخة الأحمدية بضم نون وسكون دال مهملة وكسر موحدة بصيغة المضارع المتكلم من الإدبان ولم يظهر لي معناه اللهم إلا أن يقال إنه مأخوذ من الدبن. قال في القاموس: الدبن بالكسر حظيرة الغنم. وقال في النهاية: الدبن حظيرة الغنم إذا كانت من القصب وهي من الخشب زريبة ومن الحجارة صيرة انتهى. ثم يقال إن المراد بالدبن هنا معاطن الإبل والمعنى ندخل البعير أجرب الحشفة في المعاطن فيجرب الإبل كلها(6/354)
فَمَنْ أَجْرَبَ الاوّلَ؟ لا عَدْوَى ولا صَفَرَ، خَلَقَ الله كلّ نَفْسٍ فَكَتَبَ حَيَاتَهَا وَرِزْقَهَا وَمَصَائِبَهَا" .
وفي الباب عن أبي هُرَيْرَةَ وَابنِ عَبّاسٍ وَأَنَسٍ سَمِعْتُ محمدَ ابنَ عَمْرِو
ـــــــ
ويحتمل أن يكون بذنبه بالباء حرف الجر وبذال معجمة ونون مفتوحتين وموحدة وبالضمير المجرور الراجع إلى البعير. والمعنى أن البعير يجرب أولاً حشفته بذنبه ثم يجرب الإبل كلها والله تعالى أعلم "فمن أجرب الأول" أي إن كان جربها حصل بالإعداء فمن أجرب البعير الأول. والمعنى من أوصل الجرب إليه ليبني بناء الإعداء عليه، بل الكل بقضائه وقدره في أول أمره وآخره. قال الطيبي: وإنما أتى بمن الظاهر أن يقال فما أعدى الأول ليجاب بقوله: الله تعالى أي الله أعدى لاغيره "لا عدوى" قد تقدم شرح هذا مبسوطاً في باب الطيرة من أبواب السير "ولا صفر" قال الإمام البخاري: هو داء يأخذ البطن قال الحافظ: كذا جزم بتفسير الصفر وهو بفتحتين، وقد نقل أبو عبيدة معمر بن المثنى في غريب الحديث له عن يونس بن عبيد الجرمي أنه سأل رؤبة بن العجاج فقال: هي حية تكون في البطن تصيب الماشية والناس وهي أعدى من الجرب عند العرب، فعلى هذا فالمراد بنفي الصفر ما كانوا يعتقدونه فيه من العدوى. ورجح عند البخاري هذا القول لكونه قرن في الحديث بالعدوى، وكذا رجح الطبري هذا القول واستشهد له بقول الأعشى: ولا يعض على شرسوفوفه الصفر، والشرسوف: الضلع، والصفر: دود يكون في الجوف فربما عض الضلع أو الكبد فقتل صاحبه، وقيل المراد بالصفر الحية لكن المراد بالنفي نفي ما يعتقدون أن من أصابه قتله، فرد ذلك الشارع بأن الموت لا يكون إلا إذا فرغ الأجل. وقد جاء هذا التفسير عن جابر وهو أحد رواة حديث لا صفر قاله الطبري. وقيل في الصفر قول آخر وهو أن المراد به شهر صفر، وذلك أن العرب كانت تحرم صفر وتستحل المحرم، فجاء الإسلام برد ما كانوا يفعلونه من ذلك، فلذلك قال صلى الله عليه وسلم: "لا صفر" قال ابن بطال: وهذا القول مروي عن مالك انتهى. وحديث ابن مسعود المذكور في الباب أخرجه أيضاً ابن خزيمة كما في الفتح.
قوله: "وفي الباب عن أبي هريرة وابن عباس وأنس" أما حديث أبي هريرة(6/355)
ابنِ صَفْوَانَ الثّقَفِيّ الْبَصْرِيّ، قال: سَمِعْتُ عليّ بنَ المَدِيِنيّ يقولُ: لَوْ حلفْتُ بَينَ الرّكُنِ وَالمَقَامِ، لَحَلَفْتُ أَني لَمْ أَرَ أَحَداً أَعْلَمَ مِنْ عبدِ الرحمنِ ابنِ مَهْدِيّ.
ـــــــ
فأخرجه البخاري وغيره. وأما حديث ابن عباس فأخرجه ابن ماجه في الطب. وأما حديث أنس فأخرجه البخاري وغيره.
قوله: "سمعت محمد بن عمرو بن صفوان" قال في تهذيب التهذيب: محمد بن عمرو بن نبهان بن صفوان الثقفي البصري روى عن علي بن المديني وغيره، وروى عنه الترمذي هكذا نسبه الترمذي في عامة روايته عنه، وقال مرة حدثنا محمد بن عمرو بن أبي صفوان انتهى. وقال في التقريب: مقبول من الحادية عشرة(6/356)
باب ما جاء أن الإيمان بالقدر خيره و شره
...
10 ـ باب ما جاءَ أَنّ الاْيمَانَ بالْقَدَرِ خَيْرِهِ وَشَرّه
2231ـ حَدّثنا أبو الْخَطّابِ زِيَادُ بنُ يَحْيَى الْبَصْرِيّ، أخبرنا عبدُ الله بنُ مَيْمُونٍ عن جَعْفَرِ بنِ محمدٍ عن أَبِيهِ عن جابرِ بنِ عبدِ الله قال: قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: "لا يُؤْمِنُ عَبْدٌ حَتّى يُؤْمِنَ بِالْقَدَرِ خَيْرِهِ وَشَرّهِ حَتّى يَعْلَمَ أَنّ مَا أَصَابَهُ لَمْ يَكُنْ لِيُخْطِئَهُ، وَأَنّ مَا أَخْطَأَهُ لَمْ يَكُنْ لِيُصِيبَهُ" .
ـــــــ
"باب ما جاء أن الإيمان بالقدر خيره وشره"
قوله: "حدثنا أبو الخطاب زياد بن يحيى البصري" النكري بضم النون ثقة من العاشرة "أخبرنا عبد الله بن ميمون" بن داود القداح المخزومي المكي منكر الحديث متروك من الثامنة "حتى يؤمن بالقدر خيره وشره" أي بأن جميع الأمور الكائنة خيرها وشرها حلوها ومرها بقضائه وقدره وإرادته وأمره، وانه ليس فيها لهم إلا مجرد الكسب ومباشرة الفعل "حتى يعلم أن ما أصابه" من النعمة والبلية والطاعة والمعصية مما قدره الله له وعليه "لم يكن ليخطئه" أي يجاوزه "وأن ما أخطأه" من الخير والشر "لم يكن ليصيبه" وهذا وضع موضع، المحال كأنه(6/356)
وفي البابِ عن عُبَادَةَ وجابرٍ وعبدِ الله بنِ عَمْرٍو.
هذا حديثٌ غريبٌ من حديث جابر لا نعرِفُه إلا من حديثِ عبدِ الله بنِ مُيْمُونٍ. وعبدُ الله بنُ مُيْمُونٍ مُنْكَرُ الحديثِ.
2232ـ حدّثنا محمودُ بنُ غَيْلاَنَ، حدثنا أبو داوُدَ، قال: أَنْبَأَنَا شُعْبَةُ عن منصورٍ عن رِبْعِيّ بنِ حِراشٍ عن عليّ قال: قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: "لا يُؤْمِنُ عَبْدٌ حَتّى يُؤْمِنَ بِأَرْبَعٍ: يَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاّ الله وَأَنّي رَسُولُ الله بَعَثَنِي بِالْحَقّ، ويُؤْمِنُ بِالْمَوْتِ، ويُؤْمِنُ بِالْبَعْثِ بَعْدَ الْمَوْتِ، ويُؤْمِنُ بِالْقَدَرِ" .
ـــــــ
قيل محال أن يخطئه وفيه ثلاث مبالغات دخول أن ولحوق اللام المؤكدة للنفي وتسليط النفي على الكينونة وسراينه في الخبر وهو مضمون قوله تعالى: {قُلْ لَنْ يُصِيبَنَا إِلَّا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا} وفيه حث على التوكل والرضاء، ونفى الحول والقوة، وملازمة القناعة، والصبر على المصائب.
قوله: "وفي الباب عن عبادة وجابر وعبد الله بن عمرو" أما حديث عبادة وهو ابن الصامت فأخرجه الترمذي بعد خمسة أبواب. وأما حديث جابر وعبد الله بن عمرو فلينظر من أخرجهما.
قوله: "لا يؤمن عبد" هذا نفي أصل الإيمان أي لا يعتبر ما عنده من التصديق القلبي "حتى يؤمن بأربع يشهد" منصوب على البدل من قوله: "يؤمن" وقيل مرفوع تفصيل لما سبقه، أي يعلم ويتيقن "أن لا إله إلا الله وأني رسول الله" أي يؤمن بالتوحيد والرسالة، وعدل إلى لفظ الشهادة أمنا من الإلباس بأن يشهد ولم يؤمن أو دلالة على أن النطق بالشهادتين أيضاً من جملة الأركان، فكأنه قيل يشهد باللسان بعد تصديقه بالجنان، أو إشارة إلى أن الحكم بالظواهر والله أعلم بالسرائر. "بعثني بالحق" استئناف كأنه قيل لم يشهد، فقال بعثني بالحق أي إلى كافة الإنس والجن. ويجوز أن يكون حالاً مؤكدة أو خبراً بعد خبر فيدخل على هذا في حيز الشهادة، وقد حكى صلى الله عليه وسلم على القولين كلام المشاهد بالمعنى إذ عبارته أن محمداً وبعثه "ويؤمن بالموت" بالوجهين "ويؤمن(6/357)
2233 ـ حدّثنا محمودُ بنُ غَيْلاَنَ، حدثنا النّضْرُ بنُ شُمَيْلٍ عن شُعْبَةَ نحوَهُ، إِلاّ أَنّهُ قال رِبْعِيّ عن رَجُلٍ عن عليّ.
حديثُ أبي داوُدَ عن شُعْبَةَ عِنْدِي أَصَحّ من حديثِ النّضْرِ، وهكذا رَوَى غيرُ وَاحِدٍ عن منصورٍ عن رِبْعِيّ عن عليّ.
2234 ـ حدّثنا الجارودي قال سَمِعْتُ وَكِيعاً يقولُ: بَلَغَنِا أَنّ رَبْعِيّاً لَمْ يَكْذِبْ في الاْسْلاَمِ كَذِبَةً.
ـــــــ
بالبعث" أي يؤمن بوقوع البعث "بعد الموت" تكرير الموت إيذان للاهتمام بشأنه. "ويؤمن" بالوجهين "بالقدر" قال القاري نقلاً عن المظهر: المراد بهذا الحديث نفي أصل الإيمان لا نفي الكمال. فمن لم يؤمن بواحد من هذه الأربعة لم يكن مؤمناً. الأول: الإقرار بالشهادتين وأنه مبعوث إلى كافة الإنس والجن. والثاني: أن يؤمن بالموت أي يعتقد فناء الدنيا وهو احتراز عن مذهب الدهرية القائلين بقدم العالم وبقائه أبداً. قال القاري وفي معناه التناسخي، ويحتمل أن يراد اعتقاد أن الموت يحصل بأمر الله لا بفساد المزاج كما يقوله الطبيعي. والثالث: أن يؤمن بالبعث. والرابع: أن يؤمن بالقدر يعني بأن جميع ما يجري في العالم بقضاء الله وقدره انتهى. وحديث علي هذا رجاله رجال الصحيح. وأخرجه أيضاً أحمد وابن ماجه والحاكم.
قوله: "إلا أنه" أي النضر بن شميل "قال ربعي عن رجل عن علي" أي زاد بين ربعي وعلي رجلاً "حديث أبي داود عن شعبة" أي بلا زيادة رجل بين ربعي وعلي "أصح من حديث النضر" أي الذي فيه زيادة رجل "وهكذا" أي بلا زيادة رجل "روى غير واحد" أي من أصحاب منصور.
قوله: "بلغني أن ربعي" بكسر المهملة وسكون الموحدة "بن حراش" بكسر المهملة وآخره معجمة العبسي الكوفي ثقة عابد مخضرم من الثانية، مات سنة مائة، وقيل غير ذلك "لم يكذب في الإسلام كذبة" قال العجلي: تابعي ثقة من خيار الناس لم يكذب كذبة قط(6/358)
11 ـ باب ما جاءَ أَنّ النّفْسَ تَمُوتُ حَيْثُ مَا كُتبَ لَهَا
2235ـ حَدّثنا بُنْدَارٌ حدثنا مُؤَمّلٌ حدثنا سُفْيَانُ عن أبي إِسْحَاقَ عن مَطَرِ بنِ عُكَامِسٍ قال: قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: "إِذَا قَضَى الله لِعَبْدٍ أَنْ يَمُوتَ بِأَرْضٍ جَعَلَ لَهُ إِلَيْهَا حَاجَةً" .
وفي البابِ عن أبي عَزّةَ. وهذا حديثٌ حسنٌ غريبٌ، ولا يُعَرفُ لمَطَرِ بنِ عُكَامِسٍ عن النّبيّ صلى الله عليه وسلم غَيْرَ هذا الحديثَ.
2236 ـ حدّثنا محمودُ بنُ غَيْلاَنَ، حدثنا مُؤَمّلٌ وأبو داوُدَ الحُفَرِيّ عن سُفْيَانَ نحوَهُ.
2237ـ حدّثنا أحمدُ بنُ مَنِيعٍ وعليّ بنُ حُجْرٍ المَعْنَى وَاحِدٌ، قالا: حدثنا إسماعيلُ بنُ إبراهيمَ عن أَيّوبَ عن أبي المَلِيحِ عن أبي عَزّةَ قال: قال
ـــــــ
"باب ما جاءَ أَنّ النّفْسَ تَمُوتُ حَيْثُ مَا كُتبَ لَهَا"
قوله: "أخبرنا مؤمل" بوزن محمد بهمزة ابن إسماعيل البصري أبو عبد الرحمن نزيل مكة صدوق سيء الحفظ من صغار التاسعة.
قوله: "إذا قضى الله" أي أراد أو قدر أو حكم "جعل" أي أظهر الله، "له إليها حاجة" أي فيأتيها ويموت فيها إشارة إلى قوله تعالى: {وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ} .
قوله: "وفي الباب عن أبي عزة" أخرجه الترمذي في هذا الباب "هذا حديث حسن غريب" وأخرجه أحمد والحاكم وقال صحيح "ولا نعرف لمطر" بفتحتين "بن عكامس" بضم المهملة وتخفيف الكاف وكسر الميم بعدها مهملة السلمي صحابي سكن الكوفة.
قوله: "حدثنا إسماعيل بن إبراهيم" هو المعروف بابن علية "عن أبي المليح"(6/359)
رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: "إِذَا قَضَى الله لِعَبْدٍ أَنْ يَمُوتَ بِأَرْضٍ جَعَلَ لَهُ إِلَيْهَا حَاجَةً أَوْ قَالَ بِهَا حَاجَةَ" .
هذا حديثٌ صحيحٌ. وأبو عزّةَ لَهُ صُحْبَةٌ اسمُهُ يَسَارُ بنُ عَبْدٍ. وأبو المَلِيحِ ابنُ أُسَامَةَ عامر بن أسامة بنُ عُمَيْرٍ الْهُذَلِيّ.
ـــــــ
ابن أسامة بن عمير الهذلي اسمه عامر، وقيل زيد، وقيل زياد ثقة من الثالثة "هذا حديث صحيح" وأخرجه أحمد والطبراني وأبو نعيم في الحلية بلفظ: إذا أراد الله قبض عبد بأرض جعل له بها حاجة "وأبو عزة" بفتح المهملة وتشديد الزاي "اسمه يسار بن عبد" الهذلي صحابي مشهور بكنيته له حديث واحد كذا في التقريب. وصرح في تهذيب التهذيب بأنه روى حديث الباب(6/360)
باب ما جاء لا ترد الرقى و لا الدواء من قدر الله تعالى شيئا
...
12 ـ باب ما جاءَ لا تَرُدّ الرّقَى ولا الدّوَاءُ مِنْ قَدَرِ الله شَيْئاً
2238ـ حدثنا سَعِيدُ بنُ عبدِ الرّحمنِ المخزوميّ، حدثنا سُفْيانُ بن عُيينة عن ابنِ أبي خِزامةَ عن أَبِيهِ: أَنّ رَجُلاً أَتَى النّبيّ صلى الله عليه وسلم فقال: "يا رسول الله أَرَأَيْتَ رُقًى نَسْتَرقِيهَا وَدَوَاءً نَتَفدَاوَى بِهِ وَتُقَاةً نَتّقيها هَلْ تَرُدّ
ـــــــ
"باب ما جاء لا ترد الرقى والدواء من قدر الله شيئا"
قوله: "حدثنا سعيد بن عبد الرحمن المخزومي" قال في تهذيب التهذيب: سعيد بن عبد الرحمن بن حسان أبو عبد الله المخزومي، روى عن سفيان بن عيينة وغيره وعنه الترمذي والنسائي وغيرهما. قال النسائي: ثقة وقال مرة: لا بأس به وذكره ابن حبان في الثقات "عن ابن أبي خزامة" بكسر الخاء وتخفيف الزاي مجهول من الثالثة "عن أبيه" هو أبو خزامة بن يعمر السعدي أحد بني الحارث بن سعد بن هذيم، يقال اسمه زيد بن الحارث ويقال الحارث وكلاهما وهم، وهو صحابي له حديث في الرقى كذا في التقريب.
قوله: "أرأيت رقى نسترقيها" جمع رقية كظلم جمع ظلمة وهي ما يقرأ لطلب الشفاء والاسترقاء طلب الرقية "ودواء" منصوب "نتداوى به" أي نستعمله(6/360)
مِنْ قَدَرِ الله شَيْئاً؟ قال: هِيَ مِنْ قَدَرِ الله" .
هذا حديثٌ لا نعرفُهُ إِلاّ من حديثِ الزّهريّ. وقد رَوَى غيرُ وَاحِدٍ هذا عن سُفْيَانَ عن الزّهريّ عن أبي خِزَامَةَ عن أَبِيهِ وهذا أَصَحّ. وهكذا قال غيُر وَاحِدٍ عن الزّهريّ عن أبي خِزَامَةَ عن أَبِيهِ.
ـــــــ
"وتقاة" بضم أوله "نتقيها" أي نلتجئ بها أو نحذر بسببها، وأصل تقاة وقاة من وفى وهي اسم ما يلتجئ به الناس من خوف الأعداء كالترس وهو ما يقي من العدد أي يحفظ ويجوز أن يكون مصدراً بمعنى الاتقاء. فالضمير في نتقيها للمصدر. قيل وهذه المنصوبات أعني وقي وما عطف عليها موصوفات بالأفعال الواقعة بعدها ومتعلقة بمعنى أرأيت أي أخبرني عن رقى نسترقيها فنصبت على نزع الخافض. ويجوز أن يتعلق بلفظ أرأيت والمفعول الأول الموصوف مع الصفة والثاني الاستفهام بتأويل مقولاً في حقها "هل ترد" أي من هذه الأسباب "قال هي" أي المذكورات الثلاث "من قدر الله" أيضاً يعني كما أن الله قدر الداء وقدر زواله بالدواء، ومن استعمله ولم ينفعه فليعلم أن الله تعالى ما قدره. قال في النهاية: جاء في بعض الأحاديث جواز الرقية كقوله عليه الصلاة والسلام: استرقوا لها فإن بها النظرة. أي اطلبوا لها من يرقيها وفي بعضها النهي عنها كقوله عليه الصلاة والسلام في باب التوكل: الذين لا يسترقون ولا يكتوون؟ والأحاديث في القسمين كثيرة. ووجه الجمع أن ما كان من الرقية بغير أسماء الله تعالى وصفاته وكلامه في كتبه المنزلة، أو بغير اللسان العربي وما يعتقد منها أنها نافعة لا محالة فيتكل عليها، فإنها منهية وإياها أراد عليه الصلاة والسلام بقوله: "ما توكل من استرقى" . وما كان على خلاف ذلك كالتعوذ بالقرآن وأسماء الله تعالى والرقى المروية فليست بمنهية ولذلك قال عليه الصلاة والسلام الذي رقي بالقرآن وأخذ عليه أجراً: "من أخذ برقية باطل فقد أخذت برقية حق". وأما قوله عليه الصلاة والسلام: لا رقية إلا من عين أو حمة، فمعناه لا رقية أولى وأنفع منهما .
قوله: "هذا حديث لا نعرفه إلا من حديث الزهري" وأخرجه أحمد وابن ماجه "وهذا أصح" أي رواية غير واحد عن سفيان عن الزهري عن أبي خزامة(6/361)
ـــــــ
بحذف لفظ ابن أصح من رواية سعيد بن عبد الرحمن المخزومي، أخبرنا سفيان عن ابن أبي خزامة بزيادة لفظ ابن "هكذا" أي بحذف لفظ ابن(6/362)
13 ـ باب ما جاءَ في الْقَدَرِيّة
2239ـ حَدّثنا وَاصِلُ بنُ عبدِ الأعْلَى الكوفي، حدثنا محمدُ بن فُضَيْلٍ عن الْقَاسِمِ بنِ حَبِيبٍ وعليّ بنُ نِزَارٍ عن نِزَارٍ عن عِكْرِمَةَ عن ابنِ عَبّاس قال: قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: "صِنْفَانِ مِنْ أُمّتِي لَيْسَ لَهُمَا في الاْسْلاَمِ نَصِيبٌ: المُرْجِئَةُ وَالْقَدَرِيّةُ" .
ـــــــ
"باب ما جاءَ في الْقَدَرِيّة"
بفتح القاف والدال.
قوله: "حدثنا واصل بن عبد الأعلى" بن هلال الأسدي أبو القاسم أو أبو محمد الكوفي ثقة من العاشرة "عن القاسم بن حبيب" التمار الكوفي لين من السادسة "وعلي بن نزار" بكسر نون وبزاي وراء ابن حيان بفتح حاء مهملة وشدة تحتية وبنون، الأسدي الكوفي ضعيف من السادسة "عن نزار" هو ابن حيان الأسدي مولى بني هاشم ضعيف من السادسة.
قوله: "صنفان" أي نوعان "من أمتي" أي أمة الإجابة "ليس لهما في الإسلام نصيب" قال التوربشتي: ربما يتمسك به من يكفر الفريقين والصواب أن لا يسارع إلى تفكير أهل البدع لأنهم بمنزلة الجاهل أو المجتهد المخطئ؟ وهذا قول المحققين من علماء الأمة احتياطاً، فيحمل قوله: ليس لهما نصيب على سوء الحظ وقلة النصيب كما يقال ليس للبخيل من ماله نصيب. وأما قوله عليه الصلاة والسلام: "يكون في أمتي خسف" وقوله "ستة لعنتهم" وأمثال ذلك فيحمل على المكذب به أي بالقدر إذا أتاه من البيان ما ينقطع به العذر أو على من تفضي به العصبية إلى تكذيب ما ورد فيه من النصوص أو إلى تكفير من خالفه، وأمثال هذه الأحاديث واردة تغليظاً وزجراً انتهى. وقال القاري قال ابن حجر يعني المكي: فمن أطبق تكفير الفريقين أخذ بظاهر هذا الخبر فقد استروح بل الصواب عند(6/362)
وفي البابِ عن عُمَرَ وَابْنِ عَمْرٍو وَرَافِعِ بنِ خَدِيجٍ.
هذا حديثٌ حسنٌ غريبٌ.
ـــــــ
الأكثرين من علماء السلف والخلف أنا لا نكفر أهل البدع والأهواء إلا إن أتوا بمكفر صريح لا استلزامي، لأن الأصح أن لازم المذهب ليس بلازم، ومن ثم لم يزل العلماء يعاملونهم معاملة المسلمين في نكاحهم وإنكاحهم والصلاة على موتاهم ودفنهم في مقابرهم، لأنهم وإن كانوا مخطئين غير معذورين حقت عليهم كلمة الفسق والضلال، إلا أنهم لم يقصدوا بما قالوه اختيار الكفر، وإنما بذلوا وسعهم في إصابة الحق فلم يحصل لهم، لكن لتقصيرهم بتحكيم عقولهم وأهويتهم وإعراضهم عن صريح السنة والاَيات من تأويل سائغ، وبهذا فارقوا مجتهدي الفروع فإن خطأهم إنما هو لعذرهم بقيام دليل آخر عندهم مقاوم لدليل غيرهم من جنسه، فلم يقصروا، ومن ثم أثيبوا على اجتهادهم انتهى كلام القاري. "المرجئة" يهمز ولا يهمز من الإرجاء مهموزاً ومعتلاً وهو التأخير. يقولون الأفعال كلها بتقدير الله تعالى، وليس للعباد فيها اختيار وإنه لا يضر مع الإيمان معصية. كما لا ينفع مع الكفر طاعة. كذا قاله ابن الملك. وقال الطيبي: قيل هم الذين يقولون الإيمان قول بلا عمل فيؤخرون العمل عن القول، وهذا غلط، بل الحق أن المرجئة هم الجبرية القائلون بأن إضافة الفعل إلى العبد كإضافته إلى الجمادات، سموا بذلك لأنهم يؤخرون أمر الله ونهيه عن الاعتداد بهما ويرتكبون الكبائر. فهم على الإفراط والقدرية على التفريط والحق ما بينهما انتهى.
"والقدرية" بفتح الدال وتسكن وهم المنكرون للقدر، القائلون بأن أفعال العباد مخلوقة بقدرتهم ودواعيهم لا بقدرة الله وإرادته، إنما نسبت هذه الطائفة إلى القدر لأنهم يبحثون في القدر كثيراً.
قوله: "وفي الباب عن عمر وابن عمر ورافع بن خديج" ، أما حديث عمر رضي الله عنه فأخرجه أبو داود بلفظ: "لا تجالسوا أهل القدر ولا تفاتحوهم" وأخرجه أيضاً أحمد والحاكم. وأما حديث ابن عمر فأخرجه الترمذي بعد بابين. وأما حديث رافع بن خديج فلينظر من أخرجه.
قوله: "هذا حديث غريب حسن" وأخرجه ابن ماجه والبخاري في التاريخ وفي سنده علي بن نزار وأبوه نزار وهما ضعيفان كما عرفت. وقد ذكر صاحب(6/363)
2240ـ حدّثنا مُحمّدُ بنُ رَافِعٍ، حدثنا محمدُ بنُ بِشْرٍ، حدثنا سَلاّمُ بنُ أبي عَمْرَةَ عن عِكْرِمَةَ عن ابنِ عَبّاسٍ عن النّبيّ صلى الله عليه وسلم ،
قال محمد بن رافع: أخبرنا محمد بن بشر، أخبرنا علي بن نزار عن نزار عن عكرمة عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم نحوه.
ـــــــ
المشكاة هذا الحديث وقال في آخره رواه الترمذي، وقال غريب ولم يذكر لفظ حسن فظهر أن نسخ الترمذي مختلفة في ذكر لفظ حسن. وقال القاري في المرقاة: عده في الخلاصة من الموضوعات لكن قال في جامع الأصول أخرجه الترمذي قال صاحب الأزهار حسن غريب وكتب مولانا زاده وهو من أهل الحديث في زماننا إنه رواه الطبراني وإسناده حسن، ونقل عن بعضهم أيضاً أن رواته مجهولون، كذا ذكره العيني. وقال الفيروزآبادي: لا يصح في ذم المرجئة والقدرية حديث. وفي الجامع الصغير بعد ذكره الحديث المذكور رواه البخاري في تاريخه والترمذي وابن ماجه عن ابن عباس، وابن ماجه عن جابر والخطيب عن ابن عمر والطبراني في الأوسط عن أبي سعيد، ورواه أبي نعيم في الحلية عن أنس ولفظه: صنفان من أمتي لا تنالهم شفاعتي يوم القيامة المرجئة والقدرية انتهى ما في المرقاة.
قوله: "أخبرنا محمد بن بشر العبدي أبو عبد الله الكوفي، ثقة حافظ من التاسعة "حدثنا سلام بن أبي عمرة" بتشديد اللام الخراساني أبو علي، ضعيف ومن السادسة، قال في تهذيب التهذيب: له في الترمذي حديث واحد في المرجئة والقدرية. وقال ابن حبان: يروي عن الثقات المقلوبات لا يجوز الاحتجاج بخبره، قال الأزدي: واهي الحديث(6/364)
14 – باب
2179ـ حَدّثنا أبو هُرَيْرَةَ محمدُ بنُ فِراسٍ الْبَصْرِيّ، أخبرنا
ـــــــ
" باب"
قوله: "حدثنا أبو هريرة محمد بن فراس" بكسر الفاء وتخفيف الراء الصيرفي صدوق من الحادية عشر "أخبرنا أبو قتيبة سلم بن قتيبة" الشعيري الخراساني نزيل البصرة صدوق من التاسعة.(6/364)
أبو قُتَيْبَةَ سَلْمُ بنُ قُتَيْبَةَ، حدثنا أبو الْعَوّامِ عن قَتَادَةَ عن مُطَرّفِ بنِ عبدِ الله بنِ الشّخيرِ عن أَبِيهِ عن النّبيّ صلى الله عليه وسلم قال: "مُثّلَ ابنُ آدَمَ وَإِلَى جَنْبِهِ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ مَنِيّةً، إِنْ أَخْطَأَتْهُ المَنَايَا وَقَعَ في الْهَرَمِ حَتّى يَمُوتَ" .
هذا حديثٌ حسنٌ غريبٌ لا نعْرِفُه إِلا من هذا الْوَجْهِ.
وأبو الْعَوّامِ هُوَ عِمْرَانُ وهو ابن دَاوُدَ الْقَطّانُ.
ـــــــ
قوله: "مثل" بضم الميم وتشديد مثلثة أي صور وخلق "ابن آدم" بالرفع نائب الفاعل، وقيل مثل ابن آدم بفتحتين وتخفيف المثلثة ويريد به صفته وحاله العجيبة الشأن. وهو مبتدأ خبره الجملة التي بعده، أي الظرف وتسع وتسعون مرتفع به أي حال ابن آدم أن تسعاً وتسعين منية متوجهة إلى نحوه منتهية إلى جانبه، وقيل خبره محذوف والتقدير: مثل ابن آدم مثل الذي يكون إلى جنبه تسع وتسعون منية. ولعل الحذف من بعض الرواة "وإلى جنبه" الواو للحال أي بقربه "تسع وتسعون" أراد به الكثرة دون الحصر "منية" بفتح الميم أي بلية مهلكة. وقال بعضهم: أي سبب موت "إن أخطأته المنايا" قال الطيبي: المنايا جمع منية وهي الموت لأنها مقدرة بوقت مخصوص من المنى وهو التقدير، وسمى كل بلية من البلايا منية لأنها طلائعها ومقدماتها انتهى أي إن جاوزته فرضاً أسباب المنية من الأمراض والجوع والغرق والحرق وغير ذلك مرة بعد أخرى "وقع في الهرم" قال في القاموس: الهرم محركة أقصى الكبر "حتى يموت" قال بعضهم يريد أن أصل خلقه الإنسان من شأنه أن لا تفارقه المصائب والبلايا والأمراض والأدواء كما قيل: البرايا أهداف البلايا. وكما قال صاحب الحكم ابن عطاء: ما دمت في هذه الدار لا تستغرب وقوع الأكدار، فإن أخطأته تلك النوائب على سبيل الندرة أدركه من الأدواء الداء الذي لا دواء له وهو الهرم. وحاصله أن الدنيا سجن المؤمن وجنة الكافر، فينبغي للمؤمن أن يكون صابراً على حكم الله، راضياً بما قدره الله تعالى وقضاه.
قوله: "هذا حديث حسن غريب" وأخرجه الضياء المقدسي كما في الجامع الصغير.
قوله: "وأبو العوام هو عمران القطان" قال في التقريب: عمران بن داور(6/365)
ـــــــ
بفتح الواو بعدها راء، أبو العوام القطان البصري، صدوق يهم، ورمى برأي الخوارج من السابعة(6/366)
15 ـ باب ما جاءَ في الرّضَا بالْقَضَاء
2242ـ حَدّثنا محمدُ بنُ بَشّارٍ، حدثنا أبو عامِر عن محمدِ بنِ أبي حُمَيْدٍ عن إسماعيلَ بنِ محمدِ بنِ سَعْدِ بنِ أبي وَقّاصٍ عن أَبِيهِ عن سَعْدٍ قال: قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: "مِنْ سَعَادَةِ ابنِ آدَمَ رِضَاهُ بِمَا قَضَى الله لَهُ، وَمِنْ شَقاوَةِ ابنِ آدَمَ تَرْكُهُ اسْتِخَارَةَ الله، وَمِنْ شَقَاوَةِ ابنِ آدَمَ سُخْطُهُ بِمَا قَضَى الله لَهُ" .
ـــــــ
"باب ما جاء في الرضا بالقضاء"
قوله: "عن إسماعيل بن محمد بن سعد بن أبي وقاص" الزهري المدني ثقة حجة من الرابعة "عن أبيه" هو محمد بن سعد بن أبي وقاص الزهري أبو القاسم المدني نزيل الكوفة، كان يلقب ظل الشيطان لقصره، ثقة من الثالثة، قتله الحجاج "عن سعد" بن أبي وقاص، أحد العشرة، وأول من رمى بسهم في سبيل الله رضي الله عنه.
قوله: "من سعادة ابن آدم رضاه بما قضى الله له" أي من سعادة ابن آدم تركه استخارة الله ثم رضاه بما حكم به وقدره وقضاه كما يدل عليه مقابلته بقول "ومن شقاوة ابن آدم تركه استخارة الله" أي طلب الخيرة منه فإنه يختار له ما هو خير له "ومن شقاوة ابن آدم سخطه" أي غضبه وعدم رضاه "بما قضى الله له". قال الطيبي رحمه الله: أي الرضا بقضاء الله، وهو ترك السخط علامة سعادته، وإنما جعله علامة سعادة العبد لأمرين: أحدهما: ليتفرغ للعبادة لأنه إذا لم يرض بالقضاء يكون مهموماً أبداً مشغول القلب بحدوث الحوادث، ويقول لم كان كذا ولم لا يكون كذا؟ والثاني: لئلا يتعرض لغضب الله تعالى لسخطه، وسخط العبد أن يذكر غير ما قضى الله له. وقال إنه أصلح وأولى فيما لا يستيقن فساده وصلاحه. فإن قلت ما موقع قوله ومن شقاوة ابن آدم تركه استخارة الله بين المتقابلين. قلت موقعه بين القرينتين لدفع توهم من يترك الاستخارة ويفوض أمره بالكلية انتهى.(6/266)
باب
...
الله وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ. قال: فَإِنّهُ كِتَابٌ كَتَبَهُ الله قَبْلَ أَنْ يَخْلُقَ السّماءَ وَقَبْلَ أَنْ يَخْلُقَ الأَرْضَ، فِيهِ أَنّ فِرْعَوْنَ مِنْ أَهْلِ النّارِ، وَفِيهِ {تَبّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبّ} .
قال عَطَاءٌ: فَلَقِيتُ الْوَلِيدَ بنَ عُبَادَةَ بنِ الصّامِتِ صَاحِبَ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم، فَسَأَلْتُهُ: مَا كَانَتْ وَصِيّةُ أَبِيكَ عِنْدَ المَوْتِ؟ قال: دَعَانِي فَقَالَ: يَا بُنَيّ اتّقِ الله وَاعْلَمْ أَنّكَ لَنْ تَتّقِىَ الله حَتّى تُؤْمِنَ بِالله وَتُؤْمِنَ بِالْقَدَرِ كُلّهِ خَيْرِهِ وَشَرّهِ، فَإِنْ مُتّ عَلَى غَيْرِ هَذَا دَخَلْتَ النّارَ. إِنّي سَمِعْتُ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم يقولُ: "إِنّ أَوّلَ مَا خَلَقَ الله الْقَلَمَ. فقال: اكْتُبْ. قال: مَا أَكْتُبُ؟ قال: اكْتُبْ الْقَدَرَ مَا كَانَ وَمَا هُوَ كَائِنٌ إِلَى الأَبَدِ" .
ـــــــ
"لدينا" بدل عندنا "لعلي" أي الكتب قبله "حكيم" ذو حكمة بالغة "قال فإنه" أي أم الكتاب "فيه" أي في الكتاب الذي كتبه الله "فإن مت" بضم الميم من مات يموت وبكسرهها من مات يميت "على غير هذا" أي على اعتقاد غير هذا الذي ذكرت لك من الإيمان بالقدر "دخلت النار" يحتمل الوعيد ويحتمل التهديد قاله القاري. قلت: والظاهر هو الأول "إن أول ما خلق الله القلم" بالرفع خبر إن قال في الأزهار: أول ما خلق الله القلم يعني بعد العرش والماء والريح، لقوله عليه الصلاة والسلام: كتب الله مقادير الخلائق قبل أن يخلق السموات والأرض يخمسين ألف سنة قال: وعرشه على الماء. رواه مسلم وعن ابن عباس سئل عن قوله تعالى :{وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ} على أي شيء كان الماء؟ قال على متن الريح. رواه البيهقي ذكره الأبهري فالأوليه إضافية "فقال" أي الله "قال ما اكتب" ما استفهامية مفعول مقدم على الفعل "قال أكتب القدر" أي القدر المقضي "ما كان وما هو كائن" بدل من المقدر أو عطف بيان، وفي المشكاة: قال اكتب القدر، فكتب ما كان وما هو كائن. قال القاري في المرقاة المضي بالنسبة إليه عليه الصلاة والسلام. قال الطيبي: ليس حكاية عما أمر به القلم وإلا لقبل: فكتب(6/269)
أبواب الفتن عن رسول الله صلى الله عليه و سلم
باب ما جاء لا يحل دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث
...
بسم الله الرحمن الرحيم
أبواب الفتن عن رسولِ الله صلى الله عليه وسلم
1 ـ باب ما جاءَ لا يَحِلّ دَمُ امرئ مُسْلِمٍ إِلاّ بِإِحْدَى ثَلاَث
2247 ـ حَدّثنا أحمدُ بنُ عَبْدَةَ الضّبّيّ، حدثنا حَمّادُ بنُ زَيْدٍ عن يَحْيَى بنِ سَعِيدٍ عن أبي أُمَامَةَ بنِ سَهْلِ بنِ حُنَيْفٍ أَنّ عُثْمانَ بنَ عَفّانَ
ـــــــ
"أبواب الفتن الخ"
الفتن جمع فتنة قال الراغب في أصل الفتن إدخال الذهب في النار لتظهر جودته من رداءته. ويستعمل في إدخال الإنسان النار، ويطلق على العذاب كقوله تعالى: {ذُوقُوا فِتْنَتَكُمْ} على ما يحصل عند العذاب كقوله تعالى: {أَلا فِي الْفِتْنَةِ سَقَطُوا} وعلى الاختبار كقوله تعالى: {وَفَتَنَّاكَ فُتُوناً} وفيما يدفع إليه الإنسان من شدة ورخاء، وفي الشدة أظهر معنى، وأكثر استعمالاً قال تعالى: {وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً} وقال أيضاً الفتنة تكون من الأفعال الصادرة من الله، ومن العبد كالبلية والمصيبة والقتل والعذاب والمعصية وغيرها من المكروهات، فإن كانت من الله فهي على وجه الحكمة، وإن كانت من الإنسان بغير أمر الله فهي مذمومة. فقد ذم الإنسان بإيقاع الفتنة كقوله تعالى: {وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ} وقال غيره: أصل الفتنة الاختبار ثم استعملت فيما أخرجته المحنة والاختبار إلى المكروه ثم أطلقت على كل مكروه أوائل إليه كالكفر والإثم والتحريق والفضيحة والفجور وغير ذلك
" باب ما جاءَ لا يَحِلّ دَمُ امرئ مُسْلِمٍ إِلاّ بِإِحْدَى ثَلاَث"
قوله: "عن يحيى بن سعيد" بن قيس الأنصاري القاضي ثقة ثبت من الخامسة "عن أبي أمامة بن سهل بن حنيف" بالتصغير واسمه أسعد. قال في التقريب أسعد بن سهل بن حنيف بضم المهملة الأنصاري أبو أمامة معروف بكنيته معدود في الصحابة له رؤية ولم يسمع من النبي صلى الله عليه وسلم انتهى.(6/372)
أَشْرَفَ يَوْمَ الدّارِ فَقَالَ: أَنْشُدُكُمْ بِالله أَتَعْلَمُونَ أَنّ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم قال: "لا يَحِلّ دَمُ امرئ مُسْلِمٍ إِلاّ بِإِحْدَى ثَلاَثٍ: زِنًى بَعْدَ إِحْصَانٍ، أَوْ ارْتِدَادٍ بَعْدَ إِسْلاَمٍ، أَوْ قَتْلِ نَفْسٍ بِغَيْرِ حَقّ فَقُتِلَ بِهِ ، فَوَالله مَا زَنَيْتُ في جَاهِليّةٍ وَلاَ في إِسْلاَمٍ، وَلاَ ارْتَدَدْتُ مُنْذُ بَايَعْتُ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم، وَلاَ قَتَلْتُ النّفْسَ الّتِي حَرّمَ الله، فَبِمَ تَقْتُلُونّي".
ـــــــ
قوله: "أشرف" أي اطلع على الناس من فوق، يقال أشرف عليه إذا اطلع عليه من فوق "يوم الدار" أي وقت الحصار، أي في الأيام التي جلس فيها في داره لأجل أهل الفتنة "فقال أنشدكم" بضم الشين أي أقسمكم "أتعلمون" الهمزة للتقرير أي قد تعلمون "لا يحل دم امرئ مسلم" هو صفة مقيدة لامرئ أي لا يحل إراقة دمه كله وهو كناية عن قتله ولو لم يرق دمه "إلا بإحدى ثلاث" أي من الخصال "زنى بعد إحصان" قال في النهاية: أصل الإحصان المنع والمرأة تكون محصنة بالإسلام وبالعفاف والحرية وبالتزويج، يقال أحصنت المرأة فهي محصَنة ومحصِنة1 وكذلك الرجل انتهى "فقتل به" تقرير ومزيد توضيح للمعنى "منذ بايعت رسول الله صلى الله عليه وسلم" أي بيعة الإسلام "ولا قتلت النفس التي حرم الله" أي قتلها بغير حق "فبم تقتلوني" بتشديد النون. وفي المشكاة: تقتلونني. قال القاري: بنونين. وفي نسخة يعني منها بنون مشددة، وفي نسخة بتخفيفها أي فبأي سبب تريدون قتلي والخطاب للتغليب انتهى. قال الحافظ: قال شيخنا يعني الحافظ العراقي في شرح الترمذي استثنى بعضهم من الثلاثة قتل الصائل، فإنه يجوز قتله للدفع. وأشار بذلك إلى قول النووي يخص من عموم الثلاثة الصائل ونحوه، فيباح قتله في الدفع. وقد يجاب بأنه داخل في المفارق للجماعة أو يكون المراد لا يحل تعمد قتله بمعنى أنه لا يحل قتله إلا مدافعة بخلاف الثلاثة. قال الحافظ والجواب الثاني هو المعتمد. وحكى ابن التين عن الداودي: أن هذا الحديث منسوخ بآية المحاربة {مَنْ قَتَلَ نَفْساً بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ}
ـــــــ
1 (1) بكسر الصاد وفتحها.(6/373)
وفي البابِ عن ابنِ مسعودٍ وعائشةً وابنِ عَبّاسٍ. وهذا حديثٌ حسنٌ. ورواه حَمّادُ بنُ سَلَمَةَ عن يَحْيَى بنِ سعيدٍ فرفعه. وَرَوَى يَحْيَى بنُ سعيدٍ القَطّانُ وغيرُ واحدٍ عن يَحْيَى بنِ سعيدٍ هذا الحديثَ فأوْقَفوهُ ولم يَرْفَعُوهُ. وقد رُوِيَ هذا الحديثُ من غيرِ وَجْهٍ عن عُثْمانَ عن النبيّ صلى الله عليه وسلم.
ـــــــ
قال فأباح القتل بمجرد الفساد في الأرض. قال فقد ورد في القتل بغير الثلاث، أشياء منها قوله تعالى: {فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي} وحديث " من وجدتموه يعمل عمل قوم لوط فاقتلوه" . وحديث: "من أتى بهيمة فاقتلوه" . وحديث: "من خرج وأمر الناس جمع يريد تفرقهم فاقتلوه" . وقول جماعة الأئمة: إن تاب أهل القدر وإلا قتلوا وقول جماعة من الأئمة: يضرب المبتدع. حتى يرجع أو يموت. وقول جماعة من الأئمة يقتل تارك الصلاة قال وهذا كله زائد على الثلاث، قال الحافظ: وزاد غيره: قتل من طلب أخذ مال إنسان أو حريمه بغير حق، ومن ارتد ولم يفارق الجماعة، ومن خالف الإجماع وأظهر الشقاق والخلاف، والزنديق إذا تاب على رأي والساحر.
والجواب عن ذلك كله أن الأكثر في المحاربة أنه إن قتل قتل. وبأن حكم الاَية في الباغي أن يقاتل لا أن يقصد إلى قتله، وبأن الخبرين في اللواط وإتيان البهيمة لم يصحا، وعلى تقدير الصحة فهما داخلان في الزنا، وحديث الخارج عن المسلمين تقدم تأويله بأن المراد بقتله حبسه ومنعه من الخروج، والقول في القدرية وسائر المبتدعة مفرع على القول بتكفيرهم، وبأن قتل تارك الصلاة عند من لا يكفر، مختلف فيه كما تقدم. وأما من طلب المال أو الحريم فمن حكم دفع الصائل، ومخالف الإجماع داخل في مفارق الجماعة، وقتل الزنديق لاستصحاب حكم كفره، وكذا الساحر. وقد حكى ابن العربي عن بعض أشياخه أن أسباب القتل عشرة، قال ابن العربي: ولا تخرج عن هذه الثلاثة بحال، فإن من سحر أو سب نبي الله كفر فهو داخل في التارك لدينه انتهى كلام الحافظ باختصار.
قوله: "وفي الباب عن ابن مسعود وعائشة وابن عباس" أما حديث ابن(6/374)
ـــــــ
مسعود فأخرجه الأئمة الستة إلا ابن ماجه. وأما حديث عائشة فأخرجه مسلم وأبو داود وغيرهما. وأما حديث ابن عباس فأخرجه النسائي كما في الفتح.
قوله: "هذا حديث حسن" وأخرجه الشافعي وأحمد والنسائي وابن ماجه والدارمي.(6/375)
باب ما جاء في تحريم الدماء و الأموال
...
2 ـ باب ما جاءَ في تحريم الدماء والأموال
2248ـ حَدّثنا هَنّادٌ، حدثنا أبو الأَحْوَصِ عن شَبِيبِ بنِ غَرْقَدَةَ عن سُلَيْمانَ بنِ عَمْرٍو بنِ الأَحْوَصِ عن أَبِيهِ قال: سَمِعْتُ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم يقولُ في حَجّةِ الْوَدَاعِ لِلنّاسِ: "أَيّ يَوْمٍ هَذَا؟ قالوا: يَوْمُ الْحَجّ الأَكْبَرِ، قال: فَإِنّ دِمَاءَكُمْ وَأَمْوَالَكُمْ وأعْرَاضَكُمْ بَيْنَكُمْ حَرَامٌ
ـــــــ
"باب ما جاء في تحريم الدماء والأموال"
قوله: "عن شبيب بن غرقدة" بمعجمة وقاف ثقة من الرابعة "عن سليمان ابن عمرو بن الأحوص" الجشمي الكوفي مقبول من الثالثة "عن أبيه" أي عمرو بن الأحوص الجشمي. قال الحافظ صحابي له حديث في حجة الوداع.
قوله: "يقول في حجة الوداع" أي يوم النحر والوداع بفتح الواو مصدر ودع توديعاً كسلم سلاماً وكلم كلاماً، وقيل بكسر الواو فيكون مصدر الموادعة، وهو إما لوداعه الناس أو الحرم في تلك الحجة، وهي بفتح الحاء وكسرها. قال. الشمني: لم يسمع في حاء ذي الحجة إلا الكسر. قال صاحب الصحاح: الحجة المرة الواحدة، وهو من الشواذ، لأن القياس الفتح "أي يوم هذا؟ قالوا يوم الحج الأكبر" قال تعالى: {وَأَذَانٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى النَّاسِ} أي إعلام {يَوْمَ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ أَنَّ اللَّهَ بَرِيءٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ} قال البيضاوي: أي يوم العيد لأن فيه تمام الحج، ومعظم أفعاله، ولأن الإعلام كان فيه، ولما روى أنه عليه الصلاة والسلام وقف يوم النحر عند الجمرات في حجة الوداع فقال هذا يوم الحج الأكبر. وقيل يوم عرفة لقوله عليه الصلاة والسلام: الحج عرفة. ووصف الحج بالأكبر لأن العمرة الحج الأصغر أو لأن المراد بالحج ما يقع في ذلك اليوم من أعماله،(6/375)
كَحُرْمَةِ يَوْمِكُمْ هَذَا في بَلَدِكُمْ هَذَا، أَلاَ لاَ يَجْنِي جَانٍ إِلاّ عَلَى نَفْسِهِ، أَلاَ لاَ يَجْنِي جَانٍ عَلَى وَلَدِهِ وَلاَ مَوْلُودٌ عَلَى وَالِدِهِ، أَلاَ وَإِنّ الشّيْطَانَ قَدْ
ـــــــ
فإنه أكبر من باقي الأعمال، أو لأن ذلك الحج اجتمع فيه المسلمون والمشركون، ووافق عيده أعياد أهل الكتاب، أو لأنه ظهر فيه عز المسلمين وذل المشركين انتهى. وقال ابن عباس رضي الله تعالى عنه: هو يوم عرفة إذ من أدرك عرفة فقد أدرك الحج ثم قولهم يوم الحج الأكبر بظاهره ينافي جوابهم السابق والله ورسوله أعلم، يعني في حديث أبي بكرة: ولعل هذا في يوم آخر من أيام النحر أو أحد الجوابين صدر عن بعضهم كذا في المرقاة "قال فإن دماءكم وأموالكم وأعراضكم" أي تعرضكم لبعضكم في دمائهم وأموالهم وأعراضهم. والعرض بالكسر: موضع المدح والذم من الإنسان سواء كان في نفسه أو سلفه "بينكم" احتراز عن الحقوق الشرعية "حرام" أي محرم ممنوع "كحرمة يومكم هذا" يعني تعرض بعضكم دماء بعض وأمواله وأعراضه في غير هذه الأيام كحرمة التعرض لها في هذا اليوم "في بلدكم" أي مكة أو الحرم المحترم "هذا" ولعل ترك الشهر اقتصار من الراوي، وإنما شبهها في الحرمة بهذه الأشياء، لأنهم كانوا لا يرون استباحة تلك الأشياء وانتهاك حرمتها بحال "ألا" للتنبيه "لا يجني جان إلا على نفسه" قال في النهاية: الجناية الذنب والجرم وما يفعله الإنسان مما يوجب عليه العذاب أو القصاص في الدنيا والاَخرة. المعنى أنه لا يطالب بجناية غيره من أقاربه وأباعده، فإذا جنى أحدهما جناية لا يعاقب بها الاَخر كقوله تعالى: {وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} انتهى "ألا" للتنبيه "لا يجني جان على ولده ولا مولود على والده" يحتمل أن يكون المراد النهي عن الجناية عليه لاختصاصها بمزيد قبح وأن يكون المراد تأكيد لا يجني جان إلا على نفسه، فإن عادتهم جرت بأنهم يأخذون أقارب الشخص بجنايته والحاصل أن هذا ظلم يؤدي إلى ظلم آخر، والأظهر أن هذا نفي، فيوافق قوله تعالى: {وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} وإنما خص الولد والوالد لأنهما أقرب الأقارب، فإذا لم يؤاخذا بفعله فغيرهما أولى. وفي رواية لا يؤخذ الرجل بجريمة أبيه. وضبط بالوجهين "ألا وإن الشيطان" وهو إبليس(6/376)
أُيِسَ أَنْ فيُعْبَدَ في بِلاَدِكُمْ هَذِهِ أَبَداً، وَلَكِنْ سَتَكُونُ لَهُ طَاعَةٌ فيما تَحْتَقِرُونَ مِنْ أَعْمَالِكُمْ فَسَيَرْضَى بِهِ" .
ـــــــ
الرئيس أو الجنس الخسيس "قد أيس" أي قنط "أن يعبد" قال القاري: أي من أن يطاع في عبادة غير الله تعالى، لأنه لم يعرف أنه عبده أحد من الكفار انتهى. وقيل معناه: إن الشيطان أيس أن يعود أحد من المؤمنين إلى عبادة الصنم ولا يرد على هذا مثل أصحاب مسلمة ومانعي الزكاة وغيرهم ممن ارتد لأنهم لم يعبدوا الصنم. ويحتمل معنى آخر وهو أنه أشار صلى الله عليه وسلم إلى أن المصلين من أمتي لا يجمعون بين الصلاة وعبادة الشيطان كما فعلته اليهود والنصاري، ولك أن تقول معنى الحديث: أن الشيطان أيس من أن يتبدل دين الإسلام ويظهر الإشراك ويستمر ويصير الأمر كما كان من قبل، ولا ينافيه ارتداد من ارتدد بل لو عبد الأصنام أيضاً لم يضر في المقصود فأفهم، كذا في اللمعات مع زيادة "في بلادكم هذه" أي مكة وما حولها من جزيرة العرب "ولكن ستكون له طاعة" أي القياد أو طاعة "فيما تحقرون" بتشديد القاف من التحقير، وفي بعض النسخ تحتقرون. قال في القاموس: الحقر الذلة كالحقرية بالضم الحقارة مثلثة والمحقرة والفعل كضرب وكرم والأذلال كالتحقير والاحتقار. والاستحقار والفعل كضرب انتهى. "من أعمالكم" أي دون الكفر من القتل والنهب ونحوهما من الكبائر وتحقير الصغائر "فسيرضى" بصيغة المعلوم أي الشيطان "به" أي بالمحتقر حيث لم يحصل له الذنب الأكبر ولهذا ترى المعاصي من الكذب والخيانة ونحوهما توجد كثيراً في المسلمين وقليلاً في الكافرين، لأنه قد رضي من الكفار بالكفر، فلا يوسوس لهم في الجزئيات وحيث لا يرضى عن المسلمين بالكفر فيرميهم في المعاصي. وروى عن علي رضي الله عنه: الصلاة التي ليس لها وسوسة إنما هي صلاة اليهود والنصارى ومن الأمثال: لا يدخل اللص في بيت إلا فيه متاع نفيس.
قال الطيبي رحمه الله: قوله فيما تحتقرون أي مما يتهجس في خواطركم وتتفوهون عن هناتكم وصغائر ذنوبكم فيؤدي ذلك إلى هيج الفتن والحروب، كقوله صلى الله عليه وسلم: "إن الشيطان قد يئس من أن يعبده المصلون في جزيرة العرب، ولكن في التحريش بينهم" .(6/377)
وفي البابِ عن أبي بَكْرَةَ وابنِ عَبّاسٍ وجابرٍ وَحُذَيْمٍ بنِ عَمْرٍو والسّعْدِيّ. هذا حديثٌ حسنٌ صحيحٌ. وَرَوَى زَائِدَةُ عن شَبِيبِ بنِ غَرْقَدَةَ نحوهُ. ولا نعرفُه إلا من حديثِ شبيبِ بنِ غَرْقَدَةَ.
ـــــــ
قوله: "وفي الباب عن أبي بكرة وابن عباس وجابر وحذيم بن عمرو السعدي" أما حديث أبي بكرة فأخرجه الشيخان. وأما حديث ابن عباس فأخرجه البخاري في باب الخطبة أيام منى. وأما حديث جابر فأخرجه مسلم وأبو داود والنسائي. وأما حديث حذيم بن عمرو السعدي فأخرجه النسائي، وهو بكسر الحاء المهملة وسكون الذال المعجمة وفتح التحتانية، والد زياد معدود في الصحابة. روى عن النبي صلى الله عليه وسلم: "ألا إن دماءكم وأموالكم وأعراضكم" الحديث حديثاً واحداً. وعنه ابنه زياد ورقم عليه الحافظ علامة س.
قوله: "هذا حديث حسن صحيح وأخرجه ابن ماجه(6/378)
3 – باب ما جاء لا يحل لمسلم أن يروع مسلما
2249ـ حَدّثنا بُنْدارٌ، حدثنا يَحْيَى بنُ سعيدٍ، أخبرنا ابنُ أبي ذِئْبٍ، أخبرنا عبدُ الله بنُ السّائِبِ بنِ يَزِيدَ عن أَبِيهِ عن جَدّهِ قِال: قال
ـــــــ
"باب ما جاءَ لا يَحِلّ لِمُسْلِمٍ أَنْ يُرَوّعَ مُسْلِماً"
بتشديد الواو من الترويع. قال في القاموس: راع افزع كروع لازم ومتعد.
قوله: "أخبرنا عبد الله بن السائب بن يزيد" قال في تهذيب التهذيب: عبد الله بن السائب بن يزيد الكندي أبو محمد المدني بن أخت نمر، روى عن أبيه عن جده حديث: لا يأخذ أحدكم عصا أخيه. قال الترمذي حسن غريب روى عنه ابن أبي ذئب، قال أحمد لا أعرف له غير حديث ابن أبي ذئب وأما السائب فقد رأى النبي صلى الله عليه وسلم. وقال النسائي: عبد الله بن السائب ثقة وذكره ابن حبان في الثقات. وقال ابن سعد. كان ثقة قليل الحديث انتهى. "عن أبيه" هو السائب بن يزيد بن سعيد بن ثمامة الكندي، وقيل غير ذلك في نسبه، ويعرف بابن أخت النمر صحابي صغير له أحاديث قليلة، وحج به في حجة الوداع وهو ابن سبع سنين(6/378)
رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: "لاَ يأْخُذْ أَحَدُكُمْ عَصَا أَخِيهِ لاَعِباً أو جَادّا، فَمَنْ أَخَذَ عَصَا أَخِيهِ فَلْيَرُدّهَا إِلَيْهِ" .
وفي البابِ عن ابنِ عُمَرَ وَسُلَيْمانَ بنِ صُرَدَ وَجَعْدَةَ وأبي هُرَيْرَةَ.
ـــــــ
وولاه عمر سوق المدينة "عن جده" هو يزيد بن سعيد بن ثمامة بن الأسود، والد السائب صحابي شهد الفتح واستقضاه عمر.
قوله: "لا يأخذ" بصيغة النهي، وقيل بالنفي "عصا أخيه" يعني مثلاً. وفي رواية أبي داود: لا يأخذن أحدكم متاع أخيه "لاعباً جاداً" حالان من فاعل يأخذ وإن ذهب إلى أنهما مترادفتان تناقضتا وإن ذهب إلى التداخل صح. ذكره الطيبي رحمه الله. قال القاري: يعني ويكون حالاً من الأول، لكن الظاهر أن الحال الثانية مقدرة حتى لا يلزم التناقض سواء كانتا مترادفتين أو متداخلتين، إلا أن يحمل الأول على ظاهر الأمر والثاني على باطنه، أي لاعباً ظاهراً، جاداً باطناً، أي يأخذ على سبيل الملاعبة، وقصده في ذلك إمساكه لنفسه لئلا يلزم اللعب والجد في زمن واحد، ولذا قال المظهر: معناه أن يأخذ على وجه الدل وسبيل المزاح ثم يحبسها عنه ولا يرده فيصير ذلك جداً. وفي شرح السنة عن أبي عبيد: هو أن يأخذ متاعه لا يريد سرقته، إنما يريد إدخال الغيظ عليه، فهو لاعب في السرقة جاد في إدخال الغيظ والروع والأذى عليه انتهى. وينصر الأول قوله: "فمن أخذ عصا أخيه فليردها إليه" قال التوربشتي رحمه الله: وإنما ضرب المثل بالعصا لأنه من الأشياء التافهة التي لا يكون لها كبير خطر عند صاحبها ليعلم أن ما كان فوقه فهو بهذا المعنى أحق وأجدر.
قوله: "وفي الباب عن ابن عمر وسليمان بن صرد وجعدة وأبي هريرة" أما حديث ابن عمر فأخرجه البزار عنه مرفوعاً بلفظ: "لا يحل لمسلم أو مؤمن أن يروع مسلماً" . كذا في الترغيب. وأما حديث سليمان بن صرد وحديث جعدة فلينظر من أخرجهما. وأما حديث أبي هريرة فأخرجه أبو الشيخ ذكره المنذري في باب الترهيب عن ترويع المسلم.(6/379)
هذا حديثٌ حسنٌ غريبٌ ولا نعرفُه إِلا من حديثِ ابن أبي ذِئْبٍ. وَالسّائِبُ بنُ يَزِيدَ لَهُ صُحْبَةٌ قَدْ سَمِعَ مِنَ النبيّ صلى الله عليه وسلم أحاديث وَهُوَ غُلاَمٌ وقُبِضَ النبيّ صلى الله عليه وسلم وهو ابنُ سَبْعِ سِنِينَ. وأبوه يَزِيدُ بنُ السّائِبِ هُوَ مِنْ أَصْحَابِ النّبيّ صلى الله عليه وسلم، وقد رَوَى عن النبيّ صلى الله عليه وسلم أحاديث.
ـــــــ
قوله: "هذا حديث حسن غريب" وأخرجه أبو داود، وسكت عليه هو والمنذري.
قوله: "وأبوه يزيد بن السائب الخ" كذا قال الترمذي: يزيد بن السائب. وقد عرفت أن يزيد هذا هو يزيد بن سعيد بن ثمامة بن الأسود، فلعله يقال له يزيد بن السائب أيضاً والله تعالى أعلم(6/380)
باب ما جاء في إشارة الرجل على أخيه بالسلاح
...
4 ـ باب مَا جَاءَ في إِشَارَةِ المسلم إلى أَخِيهِ بالسّلاَح
2250 ـ حَدّثنا عبدُ الله بنُ الصّبّاحِ العطار الْهاشِمِيّ، أخبرنا مَحْبُوبُ بنُ الْحَسَنِ، حدثنا خالِدٌ الْحَذّاءُ عن محمدِ بنِ سِيرِينَ عن أبي هُرَيْرَةَ عن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال: "مَنْ أَشَارَ عَلَى أَخِيهِ بِحَديدَةٍ لَعَنَتْهُ المَلاَئِكَةُ" .
ـــــــ
"باب مَا جَاءَ في إِشَارَةِ المسلم إلى أَخِيهِ بالسّلاَح"
بالكسر السلاح والسلح كعنب والسلحان بالضم آلة الحرب أو حديدتها ويؤنث والسيف والقوس: بلا وتر والعصا انتهى
قوله: "حدثنا عبد الله بن الصباح" بن عبد الله "الهاشمي" العطار البصري ثقة من كبار العاشرة، "أخبرنا محبوب بن الحسن" اسمه محمد ومحبوب لقبه. قال في التقريب: محمد بن الحسن بن هلال بن أبي زينب، فيروز أبو جعفر وأبو الحسن لقبه محبوب صدوق فيه لين رمي بالقدر من التاسعة.
قوله: "من أشار على أخيه" في الدين "بحديدة" أي بسلاح، كسكين وخنجر وسيف ورمح "لعنته الملائكة" أي دعت عليه بالطرد والبعد عن الرحمة.(6/380)
وفي البابِ عن أبي بَكْرَةَ وعائشةَ وجابرٍ.
وهذا حديثٌ حسنٌ صحيحٌ غريبٌ من هذا الْوَجْهِ، يُسْتَغْرَبُ من حديثِ خَالِدٍ الْحَذّاءِ. ورواه أَيّوبُ عن محمدِ بنِ سِيرِينَ عن أبي هُرَيْرَةَ نحوَهُ ولم يَرْفَعْهُ وَزَادَ فِيهِ: "وإِنْ كَانَ أَخَاهُ لأِبِيهِ وَأُمّهِ" .
ـــــــ
قوله: "وفي الباب عن أبي بكرة وعائشة وجابر" أما حديث أبي بكرة فأخرجه الشيخان. وأما حديث عائشة فأخرجه الحاكم عنها مرفوعاً: من أشار بحديدة إلى أحد من المسلمين يريد قتله فقد وجب دمه. قال المناوي في شرح الجامع الصغير: فيه مجهول وبقية رجاله ثقات. أما حديث جابر فأخرجه الشيخان.
قوله: "هذا حديث حسن صحيح غريب" وأخرجه البخاري ومسلم وأبو داود.
قوله: "وزاد فيه وإن كان" أي المشير "أخاه" أي أخا المشار إليه "لأبيه وأمه" أي معاً وإن وصلية. قال الطيبي رحمه الله قوله: وإن كان أخاه تتميم لمعنى الملاعبة وعدم القصد في الإشارة، فبدأ بمطلق الأخوة ثم قيده بالأخوة بالأب والأم ليؤذن بأن اللعب المحض المغري عن شائبة القصد إذا كان حكمه كذا فما ظنك بغيره(6/381)
باب النهى عن تعاطى السيف مسلولاً
...
5 ـ باب ما جاء في النّهْيِ عَنْ تَعَاطِي السّيْفِ مَسْلولا
2252ـ حَدّثنا عبدُ الله بن مُعَاوِيَةَ الْجُمَحِيّ البَصْرِيّ، حدثنا حَمّادُ بنُ سَلَمَةَ عن أبي الزّبَيْرِ عن جابرٍ قال: "نَهَى رسولُ الله صلى الله عليه وسلم أَنْ يُتَعَاطَى السّيْفُ مَسْلُولاً".
ـــــــ
" باب ما جاء في النّهْيِ عَنْ تَعَاطِي السّيْفِ مَسْلولا"
التعاطي: التناول والأخذ والإعطاء.
قوله: "نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يتعاطى السيف مسلولاً" فيكره مناولته كذلك لأنه قد يخطئ في تناوله فيجرح شيئاً من بدنه، أو يسقط على أحد فيؤذيه.(6/381)
وفي الباب عن أبي بَكْرَةَ.
وهذا حديثٌ حسنٌ غريبٌ من حديثِ حَمّادِ بنِ سَلَمَةَ. وَرَوى ابنُ لَهِيعَةَ هذا الحديثَ عن أبي الزّبْيرِ عن جابر وعن بَنّةَ الْجُهَنِيّ عن النبيّ صلى الله عليه وسلم. وحديثُ حَمّادِ بنِ سَلَمَةَ عِنْدِي أَصَحّ.
ـــــــ
قوله: "وفي الباب عن أبي بكرة" أخرجه أحمد والطبراني بإسناد جيد كما في الفتح.
قوله: "هذا حديث حسن غريب" وأخرجه أحمد في مسنده وأبو داود والحاكم وسكت عنه أبو داود، ونقل المنذري تحسين الترمذي وأقره.
قوله: "عن بنة الجهني" قال في التقريب: صحابي ذكر الترمذي حديثه تعليقاً عن ابن لهيعة بسنده وهو بفتح الموحدة وتثقيل النون، وقيل أوله تحتانية ورجح ابن معين أنه بنون وموحدة مصغراً انتهى. وقال في تهذيب التهذيب: اختلف الأئمة في ضبطه. فذكره البغوي في الباء الموحدة وذكره ابن السكن في الياء الأخيرة. وذكره عباس الدوري عن ابن معين في النون، قال أبو عمر: هي رواية ابن وهب عن ابن لهيعة وهي أرجح الروايات انتهى(6/382)
باب من صلى الصبح فهو فى ذمة الله عز و جل
...
6 ـ باب ما جاء مَنْ صَلّى الصّبْحَ فَهُوَ في ذِمّةِ الله عَز وَجَل
2253 ـ حَدّثنا بُنْدَارٌ، أخبرنا مَعْدِيّ بنُ سُلَيْمانَ، أخبرنا بنُ عَجْلاَنَ عن أَبِيهِ عن أبي هُرَيْرَةَ عن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال: "مَنْ صَلّى الصّبْحَ فَهُوَ في ذِمّةِ الله فَلاَ يَتّبِعَنّكُمُ الله بِشَيْءٍ مِنْ ذِمّتِهِ" .
ـــــــ
" باب ما جاء مَنْ صَلّى الصّبْحَ فَهُوَ في ذِمّةِ الله عَز وَجَل"
قوله: "أخبرنا معدي بن سليمان" صاحب الطعام ضعيف وكان عابداً من الثامنة.
قوله: "من صلى الصبح" في جماعة "فهو في ذمة الله" بكسر المعجمة عهده أو أمانه أو ضمانه فلا تتعرضوا له بالأذى، وهذا غير الأمان الذي ثبت بكلمة التوحيد "فلا يتبعنكم الله بشيء من ذمته" ظاهره النهي عن مطالبته أياهم بشيء(6/382)
وفي البابِ عن جُنْدَبٍ وابنِ عُمَرَ.
هذا حديثٌ حسنٌ غريبٌ من هذا الْوَجْهِ.
ـــــــ
من عهده، لكن النهي إنما وقع على ما يوجب المطالبة في نقض العهد وإخفار الذمة، لا على نفس المطالبة.
وفي حديث جندب القسري عند مسلم: فلا يطلبنكم الله من ذمته بشيء. قال القاري أي لا يؤاخذكم من باب لا أرينك، المراد نهيهم عن التعرض لما يوجب مطالبة إياهم، ومن بمعنى لأجل، والضمير في ذمته إما لله وإما لمن، والمضاف محذوف أي لأجل ترك ذمته أو بيانية والجار والمجرور حال من شيء. وفي المصابيح بشيء من ذمته قيل أي بنقض عهده وإخفار ذمته بالتعرض لمن له ذمة، أو المراد بالذمة الصلاة الموجبة للأمان أي لا تتركوا صلاة الصبح فينتقض به العهد الذي بينكم وبين ربكم فيطلبكم به انتهى.
قوله: "وفي الباب عن جندب وابن عمر" أما حديث جندب فأخرجه مسلم وغيره، وأما حديث ابن عمر فأخرجه أحمد والبزار قال المنذري: ورواه الطبراني في الكبير والأوسط بنحوه، وفي أوله قصة ثم ذكرها بطولها.
قوله: "هذا حديث حسن غريب" في سنده معدى بن سليمان وهو ضعيف كما عرفت، لكن قال الحافظ في تهذيب التهذيب في ترجمته صحح الترمذي حديثه(6/383)
7 ـ باب ما جاء في لزُوم الْجَماعَة
2254ـ حَدّثنا أحمدُ بنُ مَنِيعٍ، أخبرنا النّضْرُ بنُ إِسماعيلَ أَبو المُغِيرَةِ عن محمد بنِ سُوقَةَ عن عبدِ الله بنِ دِينارٍ عن ابنِ عُمَرَ قال: خَطَبنَا عُمَرُ
ـــــــ
"باب في لزوم الجماعة"
قوله "أخبرنا النضر بن إسماعيل أبو المغيرة" قال في التقريب: النضر بالمعجمة ابن إسماعيل بن حازم البجلي أبو المغيرة الكوفي القاص ليس بالقوي من صغار الثامنة. "عن محمد بن سوقة" بضم المهملة الغنوى، أبي بكر الكوفي العابد، ثقة مرضى عابد من الخامسة(6/383)
بالْجَابِيَةِ فقال: يَا أَيّهَا النّاسُ: إِنّي قُمْتُ فِيكُمْ كَمقَامِ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم فِينَا فقال: "أُوصِيكُمْ بِأَصْحَابِي ثُمّ الّذِينَ يَلُونَهُمْ ثُمّ الّذِينَ يَلُونَهُمُ ثُمّ يَفْشُو الْكَذِبُ حَتّى يَحْلِفَ الرّجُلُ وَلاَ يُسْتَحْلَفُ، وَيَشْهَدُ الشّاهِدُ وَلاَ يُسْتَشْهَدُ. أَلاَ لاَ يَخْلُوَنّ رَجُلٌ بِامْرَأَةٍ إِلاّ كَانَ ثَالِثَهُمَا الشّيْطَانُ، عَلَيْكُمْ بِالْجَماعَةِ، وَإِيّاكُمْ وَالْفُرْقَةَ، فَإِنّ الشّيْطَانَ مَعَ الْوَاحِدِ وَهُوَ
ـــــــ
قوله: "خطبنا عمر بالجابية" خطبة عمر هذه مشهورة، خطبها بالجابية وهي قرية بدمشق "فقال" أي رسول الله صلى الله عليه وسلم "أوصيكم بأصحابي ثم الذين يلونهم" أي التابعين "ثم الذين يلونهم" أي أتباع للتابعين. وقوله بأصحابي وليس مراده به ولاة الأمور "ثم يفشو الكذب" أي يظهر وينتشر بين الناس بغير نكير "حتى يحلف الرجل ولا يستحلف" أي لا يطلب منه الحلف لجرأته على الله "ويشهد الشاهد ولا يستشهد" قال الترمذي في أواخر الشهادات: المراد به شهادة الزور "ألا" بالتخفيف حرف تنبيه "لا يخلون رجل بامرأة" أي أجنبية "إلا كان ثالثهما الشيطان" برفع الأول ونصب الثاني، ويجوز العكس، والاستثناء مفرغ، والمعنى يكون الشيطان معهما يهيج شهوة كل منهما حتى يلقيهما في الزنا "عليكم بالجماعة" أي المنتظمة بنصب الإمامة "وإياكم والفرقة" أي احذروا مفارقتها ما أمكن. وروى مسلم في صحيحه عن أبي هريرة مرفوعاً: "من خرج من الطاعة وفارق الجماعة فمات مات ميتة جاهلية" "الحديث". روى الشيخان عن حذيفة في أثناء حديث: تلزم جماعة المسلمين وإمامهم. قلت: فإن لم يكن لهم جماعة ولا إمام؟ قال فاعتزل تلك الفرق كلها، ولو أن قبض بأصل شجرة حتى يدركك الموت وأنت على ذلك. قال الحافظ قوله: تلزم جماعة المسلمين وإمامهم أي أميرهم. زاد في رواية أبي الأسود: تسمع وتطيع وإن ضرب ظهرك وأخذ مالك. وكذا في رواية خالد بن سبيع عند الطبراني: فإن رأيت خليفة فالزمه وإن ضرب ظهرك فإن لم يكن خليفة فالهرب. وقال الطبري: اختلف في هذا الأمر وفي الجماعة، فقال قوم هو للوجوب، والجماعة السواد الأعظم، ثم ساق محمد ابن سيرين عن أبي مسعود أنه وصى من سأله لما قتل عثمان: عليك بالجماعة، فإن(6/384)
مِنَ الاثْنَيْنِ أَبْعَدُ. مَنْ أَرَادَ بُحْبُوحَةَ الْجَنّةِ فَلْيَلْزَمِ الْجَماعَةَ. مَنْ سَرّتْهُ حَسَنَتُهُ وَسَاءَتْهُ سَيّئتُهُ فَذَلِكُمْ المُؤْمِنُ" .
هذا حديثٌ حسنٌ صحيحٌ غريبٌ من هذا الْوَجْهِ. وقد رَوَاهُ ابنُ المُبَارَكِ عن محمدِ بنِ سُوقَةَ. وقد رُوِيَ هذا الحديثُ من غيرِ وَجْهٍ عن عُمَرَ عن النبيّ صلى الله عليه وسلم.
ـــــــ
الله لم يكن ليجمع أمة محمد على ضلالة. وقال قوم: المراد بالجماعة الصحابة دون من بعدهم. وقال قوم: المراد بهم أهل العلم لأن الله جعلهم حجة على الخلق والناس تبع لهم في أمر الدين. قال الطبري: والصواب أن المراد من الخبر لزوم الجماعة الذين في طاعة من اجتمعوا على تأميره، فمن نكث بيعته خرج عن الجماعة. قال وفي الحديث: أنه متى لم يكن للناس إمام فافترق الناس أحزاباً فلا يتبع أحداً في الفرقة ويعتزل الجميع إن استطاع ذلك خشية من الوقوع في الشر. وعلى ذلك يتنزل ما جاء في سائر الأحاديث، وبه يجمع بين ما ظاهره الاختلاف منها انتهى. "فإن الشيطان مع الواحد" أي الخارج عن طاعة الأمير المفارق للجماعة "وهو" أي الشيطان "من الاثنين أبعد" أي بعيد. قال الطيبي: أفعل هنا لمجرد الزيادة ولو كان مع الثلاثة لكان بمعنى التفضيل، إذ البعد مشترك بين الثلاثة والاثنين دون الاثنين والفذ، على ما لا يخفى "من أراد بحبوحة الجنة" بضم الموحدتين أي من أراد أن يسكن وسطها وخيارها "من سرته حسنته" أي إذا وقعت منه "وساءته سيئته" أي أحزنته إذا صدرت عنه "فذلكم المؤمن" أي الكامل لأن المنافق حيث لا يؤمن بيوم القيامة استوت عنده الحسنة والسيئة. وقد قال تعالى {وَلا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلا السَّيِّئَةُ} .
قوله: "هذا حديث حسن صحيح غريب" وأخرجه أحمد والحاكم، وذكره صاحب المشكاة هذا الحديث في مناقب الصحابة ولم يعزه إلى أحد من أئمة الحديث بل ترك بياضاً. قال القاري: هنا بياض في أصل المصنف وألحق به النسائي وإسناده صحيح ورجاله رجال الصحيح إلا إبراهيم بن الحسن الخثعمي فإنه لم يخرج له الشيخان وهو ثقة ثبت ذكره الجزري، فالحديث بكماله إما صحيح أو حسن انتهى.(6/385)
2255-حدّثنا أبو بَكْرِ بنُ نَافِعٍ البَصْرِيّ، حدثني المُعْتَمِرُ بنُ سُلَيْمانَ، حدثنا سُلَيْمانُ المدنيّ عن عبدِ الله بنِ دِينَارٍ، عن ابنِ عُمَرَ أَنّ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم قال: "إِنّ الله لا يَجْمَعُ أُمّتِي ـ أَوْ قَالَ أُمّةَ مُحمّدٍ صلى الله عليه وسلم ـ عَلَى ضَلاَلَةٍ، وَيَدُ الله عَلَى الْجَماعَةِ، وَمَنْ شَذّ شَذّ إِلَى النّارِ" .
ـــــــ
قوله: "حدثنا سليمان" بن سفيان التيمي مولاهم أبو سفيان المدني، ضعيف من الثامنة.
قوله: "إن الله لا يجمع أو قال أمة محمد على ضلالة" شك من الراوي قال القاري في المرقاة. قال ابن الملك: المراد أمة الإجابة أي لا يجتمعون على ضلالة غير الكفر. ولذا ذهب بعضهم إلى أن اجتماع الأمة على الكفر ممكن بل واقع إلا أنها لا تبقى بعد الكفر أمة له. والمنفي اجتماع أمة محمد على الضلالة، وإنما حمل الأمة على أمة الإجابة لما ورد: أن الساعة لا تقوم إلا على الكفار. فالحديث يدل على أن اجتماع المسلمين حق والمراد إجماع العلماء ولا عبرة بإجماع العوام لأنه لا يكون عن علم "يد الله على الجماعة" أي حفظه وكلاءته عليهم، يعني أن جماعة أهل الإسلام في كنف الله فأقيموا في كنف الله بين ظهرانيهم ولا تفارقوهم "ومن شذ" أي انفرد عن الجماعة باعتقاد أو قول أو فعل لم يكونوا عليه "شذ إلى النار" أي انفرد فيها. ومعناه انفرد عن أصحابه الذين هم أهل الجنة وألقي في النار. قال الشيخ عبد الحق في ترجمة المشكاة ما لفظه: ومن شذ شذ في النار وكسى كه تنها افتداز جماعت وبيرون ايداز سواد أعظم انداخته ميشود دراتش دوزخ شذاول برصيغه معلوم ست ودوم مجهول وبمعلوم نيزامده انتهى.
والحديث قد استدل به على حجية الإجماع وهو حديث ضعيف، لكن له شواهد. قال الحافظ في التلخيص: قوله وأمته معصومة لا تجتمع على الضلالة. هذا في حديث مشهور له طرق كثيرة لا يخلو واحد منها من مقال. منها لأبي داود عن أبي مالك الأشعري مرفوعاً: "إن الله أجاركم من ثلاث خلال: أن لا يدعو عليكم نبيكم لتهلكوا جميعاً، وأن لا يظهر أهل الباطل على أهل الحق، وأن لا يجتمعوا على ضلالة" ، وفي إسناده انقطاع. وللترمذي والحاكم عن ابن عمر(6/386)
هذا حديثٌ غريبٌ من هذا الْوَجْهِ. وسُلَيْمانُ المدنيّ هُوَ عِنْدِي سُلَيْمانُ بنُ سُفْيَانَ وفي الباب عن ابن عباس.
2256 ـ حدّثَنَا يحْيَى بن مُوسَى، حدْثنا عَبْدُ الرّزّاقِ، أخبرنا
ـــــــ
مرفوعاً: "لا تجتمع هذه الأمة على ضلال أبداً" . وفيه سليمان بن سفيان المدني وهو ضعيف: وأخرج الحاكم له شواهد ويمكن الاستدلال له بحديث معاوية مرفوعاً: لا يزال من أمتي أمة قائمة بأمر الله لا يضرهم من خذلهم ولا من خالفهم حتى يأتي أمر الله، أخرجه الشيخان ووجه الاستدلال منه أن بوجود هذه الطائفة القائمة بالحق إلى يوم القيامة لا يحصل الاجتماع على الضلالة. وقال ابن أبي شيبة أخبرنا أبو أسامة عن الأعمش عن المسيب بن رافع عن يسير بن عمرو قال: شيعنا ابن مسعود حين خرج فنزل في طريق القادسية فدخل بستاناً فقضى حاجته، ثم توضأ ومسح على جوربيه ثم خرج وإن لحيته ليقطر منها الماء، فقلنا له عهد إلينا فإن الناس قد وقعوا في الفتن، ولا ندري هل نلقاك أم لا، قال: اتقوا الله واصبراوا حتى يستريح بر، أو يستراح من فاجر، وعليكم بالجماعة فإن الله لا يجمع أمة محمد على ضلالة. إسناده صحيح ومثله لا يقال من قبل الرأي. وله طريق أخرى عنده عن يزيد بن هارون عن التيمي عن نعيم بن أبي هند: أن أبا مسعود خرج من الكوفة فقال عليكم بالجماعة فإن الله لم يكن ليجمع أمة محمد على ضلال انتهى. وروى الدارمي عن عمرو بن قيس مرفوعاً: "نحن الاَخرون ونحن السابقون يوم القيامة" الحديث. وفي آخره: "وإن الله وعدني في أمتي وأجارهم من ثلاث: لا يعمهم بسنة، ولا يستأصلهم عدو، ولا يجمعهم على ضلالة" وروى أحمد في مسنده عن أبي ذر مرفوعاً: أنه قال اثنان خير من واحد وثلاث خير من اثنين وأربعة خير من ثلاثة، فعليكم بالجماعة فإن الله عز وجل لن يجمع أمتي إلا على هدى.
قوله: "وسليمان المديني هو عندي سليمان بن سفيان" قال الترمذي في العلل المفرد عن البخاري: إنه منكر الحديث، كذا في تهذيب التهذيب.
قوله: "وفي الباب عن ابن عباس" أخرجه الترمذي بعد هذا.
قوله: "حدثنا يحيى بن موسى" البلخي لقبه خت "حدثنا عبد الرزاق"(6/387)
إبْرَاهُيم بن ميمُونٍ عَنْ ابنِ طَاوسٍ عن أَبِيهِ عنْ ابنِ عَبّاسْ قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يدُ الله مع الجَمَاعَةِ" . هذا حديثٌ غريبٌ لا نَعْرِفُهُ مِنْ حدِيثِ ابنِ عَبّاسٍ إلاّ مِنْ هَذَا الوَجْهِ.
ـــــــ
ابن همام ابن نافع الحميري الصنعاني "أخبرنا إبراهيم بن ميمون" الصنعاني أو الزبيدي بفتح الزاي ثقة من الثامنة "عن ابن طاؤس" اسمه عبد الله بن طاؤس بن كيسان اليماني كنيته أبو محمد ثقة فاضل "عن أبيه" هو طاؤس بن كيسان اليماني.
قوله: "يد الله مع الجماعة" وفي رواية ابن عمر المتقدمة على الجماعة. قال في النهاية: أي أن الجماعة المتفقة من أهل الإسلام في كنف الله ووقايته فوقهم وهم بعيد من الأذى والخوف، فأقيموا بين ظهرانيهم انتهى. قال في المجمع أي سكينته ورحمته مع المتفقين وهم بعيد من الخوف والأذى والاضطراب، فإذا تفرقوا زال السكينة وأوقع بأسهم بينهم وفسدت الأحوال انتهى.
قوله: "هذا حديث غريب" رواته كلهم ثقات ويؤيده حديث ابن عمر المتقدم.(6/388)
باب ما جاء فى نزول العذاب إذ لم يغير المنكر
...
8 ـ باب مَا جَاءَ في نُزُولِ الْعَذَابِ إِذَا لَمْ يُغَيّرْ المُنْكَر
2257ـ حَدّثنا أحمدُ بنُ مَنِيعٍ، حدثنا يَزِيدُ بنُ هَارُونَ، حدثنا إسماعيلُ بنُ أبي خالِدٍ عن قَيْسِ بنِ أبي حازِمٍ عن أبي بَكْرٍ الصّدّيقِ أَنّهُ قال: يا أَيّهَا النّاسُ إِنّكُمْ تَقْرَأُونَ هَذِهِ الايَةَ: {يا أَيّهَا الّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لا يَضُرّكُمْ مَنْ ضَلّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ} ، وإِنّي سَمِعْتُ رسولَ الله
ـــــــ
"باب ما جاء في نزول العذاب إذا لم يغير المنكر"
قوله: "أخبرنا إسماعيل بن أبي خالد" الأحمسي مولاهم البجلي، ثقة ثبت من الرابعة.
قوله: "قال يا أيها الناس إنكم تقرأون هذه الاَية" {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ} أي الزموا حفظ أنفسكم عن المعاصي فإذا حفظتم أنفسكم لم يضركم إذا عجزتم عن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر(6/288)
باب ما جاء فى الأمر بالمعروف و النهى عن المنكر
...
9 ـ باب ما جاءَ في الأَمْرِ بِالمَعْرُوفِ وَالنّهْيِ عَنِ المُنْكَر
2259ـ حَدّثنا قُتَيْبَةُ، حدثنا عبدُ الْعَزِيز بنُ محمدٍ عن عَمْرٍو بنِ أبي عَمْرٍو، وعبدِ الله
الأنْصَارِيّ، عن حُذَيْفَةَ بنِ الْيَمانِ عن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال: "وَالّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَتَأْمُرُنّ بالمَعْرُوفِ وَلَتَنْهَوُنّ عَنِ المُنْكَرِ
ـــــــ
" باب ما جاءَ في الأَمْرِ بِالمَعْرُوفِ وَالنّهْيِ عَنِ المُنْكَر "
قال الجزري في النهاية: المعروف اسم جامع لكل ما عرف من طاعة الله والتقرب إليه والإحسان إلى الناس، وكل ما ندب إليه الشرع ونهى عنه من المحسنات والمقبحات، وهو من الصفات الغالبة أي أمر معروف بين الناس إذا رأوه لا ينكرونه. والمعروف النصفة وحسن الصحبة مع الأهل وغيرهم من الناس. والمنكر ضد ذلك جميعه انتهى
قوله: "عن عمرو بن أبي عمرو" اسمه ميسرة مولى المطلب المدني أبو عثمان ثقة ربما وهم من الخامسة "عن عبد الله الأنصاري" هو عبد الله بن عبد الرحمن الأشهلي. قال الحافظ في تهذيب التهذيب: عبد الله بن عبد الرحمن الأنصاري الأشهلي حجازي، روى عن حذيفة وعنه عمرو بن أبي عمر، وذكره ابن حبان في الثقات. روى له الترمذي ثلاثة أحاديث اثنان في أمور تقع قبل الساعة، وافقه ابن ماجه في أحدهما، والاَخر في الأمر بالمعروف. قال في سؤالات عثمان الدارمي يحيى بن معين قال: لا أعرفه. وقال في التقريب: مقبول من الثالثة "عن حذيفة بن اليمان" واسم اليمان حسيل مصغراً، ويقال حسل العبسي بالموحدة، حليف الأنصار، صحابي جليل من السابقين، صح في مسلم عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أعلمه بما كان وما يكون حتى تقوم الساعة. وأبوه صحابي أيضاً استشهد بأحد.(6/390)
أو لَيُوشِكَنّ الله أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عِقَاباً مِنْهُ ثُمَ تَدْعُونَهُ فَلا يَسْتَجِيبُ لَكُمْ" .
2260ـ حدّثنا عليّ بنُ حُجْرٍ، أخبرنا إِسماعيلُ بنُ جَعْفَرٍ عن عَمْرِ بن أبي عَمْرٍو بهذا الإِسنادِ نحوَه هذا حديث حسن.
2261ـ حدّثنا قُتَيْبَةُ. أخبرنا عبدُ الْعَزِيزِ بنُ محمدٍ عن عَمْرِو بنِ أبي عَمْرٍو عن عبدِ الله وهو ابن عبدِ الرحمن الأنصاريّ الأشهَليّ عن حُذَيْفَةَ بنِ الْيَمانِ، أَنّ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم قال: "وَالّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لا تَقُومُ السّاعَةُ حَتّى تَقْتُلُوا إِمَامَكُمْ، وتَجْتَلِدُوا بِأَسْيَافِكُمُ، ويَرِثُ دُنْيَاكُمْ شِرَارُكُمْ" .
هذا حديثٌ حسنٌ.
ـــــــ
قوله: "أو ليوشكن" أي ليسرعن "عذاباً منه". وفي بعض النسخ عقاباً منه "فتدعونه" أي تسألونه "فلا يستجيب لكم" والمعنى والله أن أحد الأمرين واقع إما الأمر والنهي منكم، وإما إنزال العذاب من ربكم، ثم عدم استجابة الدعاء له في دفعه عنكم، بحيث لا يجتمعان ولا يرتفعان فإن كان الأمر والنهي لم يكن عذاب، وإن لم يكونا كان عذاب عظيم.
قوله: "هذا حديث حسن" ذكر المنذري هذا الحديث في الترغيب، ونقل تحسين الترمذي وأقره. ورواه البزار والطبراني في الأوسط عن أبي هريرة كما في الجامع الصغير للسيوطي.
قوله: "حتى تقتلوا إمامكم" يعني السلطان "وتجتلدوا بأسيافكم" أي تضربوا بها يعني مقاتلة المسلمين بينهم "ويرث دنياكم شراركم" أي يأخذ الظلمة الملك والمال. وإيراد هذا الحديث في هذا الباب إما للإشعار بأن هذه الفتنة تقع من أجل ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، أو تنبيهاً على أن من أمر بالمعروف ونهي عن المنكر فهو من الذين وصفهم الله بخير الأمة. فالشرار الذين يرثون الدنيا لا يكونون على هذا الوصف وكذا إيراد الحديث الاَتي كذا في هامش النسخة الأحمدية.
قوله: "هذا حديث حسن" وأخرجه ابن ماجه.(6/391)
2262ـ حَدّثنا نَصْرُ بنُ عَليّ الجهضمي، حدثنا سُفْيَانُ عن محمدِ بنِ سُوقَةَ عن نَافِعِ بنِ جُبَيْرٍ عن أُمّ سَلَمَةَ عن النبيّ صلى الله عليه وسلم: "أَنّهُ ذَكَرَ الْجَيْشَ الّذِي يُخْسَفُ بِهِمْ، فقالت أُمّ سَلَمَةَ: لَعَلّ فِيهِمْ المُكْرَهُ، قال: "إِنّهُمْ يُبْعَثُونَ عَلَى نِيّاتِهِمْ" .
هذا حديثٌ حسنٌ غريبٌ من هذا الْوَجْهِ. وقد رُوِيَ هذا الحديثُ عن نَافِعِ بنِ جُبيْرٍ عن عائشةَ أيضاً عن النبيّ صلى الله عليه وسلم.
ـــــــ
قوله: "ذكر الجيش الذي يخسف بهم" وفي رواية مسلم من طريق عبيد الله بن القبطية قال: دخل الحارث بن أبي ربيعة وعبد الله بن صفوان وأنا معهما على أم سلمة أم المؤمنين، فسألاها عن الجيش الذي يخسف به، وكان ذلك في أيام ابن الزبير فقالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم يعوذ عائذ بالبيت فيبعث إليه بعث، فإذا كانوا ببيداء من الأرض خسف بهم، فقلت يا رسول الله فكيف بمن كان كارهاً؟ قال: يخسف به معهم، ولكنه يبعث يوم القيامة على نيته "إنهم يبعثون على نياتهم" معناه إن الأمم التي تعذب ومعهم من ليس منهم يصاب جميعهم بآجالهم ثم يبعثون على نياتهم وأعمالهم، فالطائع يجازى بنيته وعمله، والعاصي تحت المشيئة، قاله المناوي.
قوله: "هذا حديث حسن غريب" وأخرجه أحمد ومسلم وابن ماجة(6/392)
باب ما جاء فى تغيير المنكر باليد أو اللسان أو القلب
...
10 ـ باب ما جاءَ في تَغْيِيرِ المُنْكَرِ بِالْيَدِ أَوْ بالّلسَانِ أَوْ بِالْقَلب
2263ـ حَدّثنا بُنْدَارٌ، حدثنا عبدُ الرحمنِ بنُ مَهْدِيّ، حدثنا سُفْيَانُ عن قَيْسِ بنِ مُسْلِمٍ عن طَارِقِ بنِ شِهَابٍ قال: أَوّلُ مَنْ قَدّمَ الْخُطْبَةَ قَبْلَ الصّلاَةِ مَرْوَانُ، فَقَامَ رَجُلٌ فقال لِمَرْوَانَ: خَالَفْتَ السّنّةَ. فقال:
ـــــــ
"باب ما جاء في تغيير المنكر باليد أو باللسان أو بالقلب"
قوله: "خالفت السنة" لأن الذي ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم وأبي بكر(6/392)
يَا فُلاَنُ تُرِكَ مَا هُنَاكَ. فقال أبو سَعِيدٍ: أَمّا هَذَا فَقَدْ قَضَى مَا عَلَيْهِ. سَمِعْتُ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم يقولُ: "مَنْ رَأَى مُنْكَراً فَلْيُنْكِرْهُ بِيَدِهِ، وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِلِسَانِهِ، وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِقَلْبِهِ، وَذَلِكَ أَضْعَفُ الإِيمَانِ" .
ـــــــ
وعمر وعثمان وعلي رضي الله تعالى عنهم أجمعين تقديم الصلاة، وعليه جماعة فقهاء الأمصار، وقد عده بعضهم إجماعاً، قال النووي: يعني والله أعلم بعد الخلاف أو لم يلتفت إلى خلاف بني أمية بعد إجماع الخلفاء والصدر الأول انتهى. "أما هذا فقد قضى ما عليه" من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر "من رأى" أي علم "منكراً" أي شيئاً قبحه الشرع فعلاً أو قولاً أي في غيره من المؤمنين "فلينكره بيده" وفي رواية الشيخين فليغيره أي بأن يمنعه بالفعل بأن يكسر الاَلات ويريق الخمر ويرد المغصوب إلى مالكه "فمن لم يستطع" أي التغيير باليد وإزالته بالفعل لكون فاعله أقوى منه "فبلسانه" أي فليغيره بالقول، وتلاوة ما أنزل الله من الوعيد عليه، وذكر الوعظ والتخويف والنصيحة "فمن لم يستطع" أي التغيير باللسان أيضاً "فبقلبه" بأن لا يرضى به وينكر في باطنه على متعاطيه، فيكون تغييراً معنوياً إذ ليس في وسعه إلا هذا القدر من التغيير. وقيل التقدير فلينكره بقلبه لأن التغيير لا يتصور بالقلب فيكون التركيب من باب علفتها تبناً وماء بارداً.
ومنه قوله تعالى: {وَالَّذِينَ تَبَوَّأُوا الدَّارَ وَالْأِيمَانَ} "وذلك" أي الإنكار بالقلب وهو الكراهية "أضعف الإيمان" أي شعبه أو خصال أهله، والمعنى أنه أقلها ثمرة فمن غير المراتب مع القدرة كان عاصياً، ومن تركها بلا قدرة أو يرى المفسدة أكثر ويكون منكراً بقلبه، فهو من المؤمنين. وقيل معناه: وذلك أضعف زمن الإيمان إذ لو كان إيمان أهل زمانه قوياً لقدر على الإنكار القولي أو الفعلي ولما احتاج إلى الاقتصار على الإنكار القلبي، إذ ذلك الشخص المنكر بالقلب فقط أضعف أهل الإيمان، فإنه لو كان قوياً صلباً في الدين لما اكتفى به، ويؤيده الحديث المشهور: "أفضل الجهاد كلمة حق عند سلطان جائر". وقد قال تعالى: {وَلا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ} كذا في المرقاة. واقتصر النووي في شرح قوله: وذلك(6/393)
هذا حديثٌ حسنٌ صحيحٌ.
ـــــــ
أضعف الإيمان على قوله معناه أقله ثمرة. وقال: إعلم أن هذا الباب أعني الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر قد ضيع أكثره من أزمان متطاولة، ولم يبق منه في هذه الأزمان إلا رسوم قليلة جداً، وهو باب عظيم به قوام الأمر وملاكه. وإذا كثر الخبث عم العقاب للصالح والطالح، وإذا لم يأخذوا على يد الظالم أوشك أن يعمهم الله بعقابه، {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} . فينبغي لطالب الاَخرة والساعي في تحصيل رضا الله عز وجل أن يعتني بهذا الباب، فإن نفعه عظيم لا سيما وقد ذهب معظمه ويخلص نيته ولا يهابن من ينكر عليه لارتفاع مرتبته فإن الله تعالى قال: {وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ} . ثم ذكر النووي في ما يتعلق بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، كلاماً طويلاً حسناً نافعاً، فعليك أن تطالعه.
قوله: "هذا حديث حسن صحيح" وأخرجه مسلم وأحمد في مسنده وأصحاب السنن(6/394)
11 ـ باب مِنْه
2264 ـ حَدّثنا أحمدُ بنُ مَنِيعٍ، حدثنا أبو مُعَاوِيَةَ حدثنا الأعمَشِ عن الشّعْبِيّ عن النّعْمَانِ بنِ بَشِيرٍ قال: قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: "مَثَلُ الْقَائمِ عَلَى حُدُودِ الله وَالمُدْهِنِ فِيهَا كَمثَلِ قَوْمٍ اسْتَهَمُوا عَلَى سَفِينَةٍ في الْبَحْرِ، فَأَصَابَ بَعْضِهُمْ أَعْلاَهَا وَأَصَابَ بَعْضُهُمْ أَسْفَلَهَا، فَكَانَ الّذِينَ
ـــــــ
"باب منه"
قوله: "مثل القائم على حدود الله" أي الاَمر بالمعروف والناهي عن المنكر "والمدهن فيها" بضم الميم وسكون الدال المهملة وكسر الهاء وبالنون، والمراد به من يرائي ويضيع الحقوق ولا يغير المنكر، والمدهن والمداهن واحد "كمثل قوم استهموا على سفينة" أي اقتسموا محالها ومنازلها بالقرعة "فأصاب بعضهم أعلاها" أي أعلى السفينة، وفي رواية للبخاري: فصار بعضهم في أسفلها وصار بعضهم(6/394)
في أَسْفَلهَا يَصْعَدُونَ فَيَسْتَقُونَ الْمَاءَ فَيَصُبّونَ عَلَى الّذِينَ في أَعْلاَهَا، فَقَالَ الّذِينَ في أَعْلاَهَا: لاَ نَدَعُكُمْ تَصْعَدُونَ فَتُؤْذُونَنَا، فَقَالَ الّذِينَ في أَسْفَلِهَا: فَإِنّا نَنْقُبُهَا في أَسْفَلِهَا فَنَسْتَقِي، فَإِنْ أَخَذُوا عَلَى أَيْدِيهِمْ فَمَنَعُوهُمْ نَجَوْا جَمِيعاً، وإنْ تَرَكُوهُمْ غَرِقُوا جَمِيعاً" .
هذا حديثٌ حسنٌ صحيحٌ.
ـــــــ
في أعلاها "أسفلها" أي في أسفل السفينة بيان للبحر "لا ندعكم" بفتح الدال أي لا نترككم "فإنا ننقبها" أي نثقبها "فإن أخذوا على أيديهم" أي أمسكوا أيديهم "نجوا جميعاً الخ" المعنى أنه كذلك إن منع الناس الفاسق عن الفسق نجا ونجوا من عذاب الله تعالى، وإن تركوه على فعل المعصية ولم يقيموا عليه الحد، حل بهم العذاب وهلكوا بشؤمه. وهذا معنى قوله تعالى: {وَاتَّقُوا فِتْنَةً لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً} أي بل تصيبكم عامة بسبب مداهنتكم. والفرق بين المداهنة المنهية والمداراة المأمورة، أن المداهنة في الشريعة أن يرى منكراً ويقدر على دفعه ولم يدفعه حفظاً لجانب مرتكبه أو جانب غيره لخوف أو طمع أو لاستحياء منه أو قلة مبالاة في الدين. والمداراة موافقته بترك حظ نفسه وحق يتعلق بماله وعرضه فيسكت عنه دفعاً للشر ووقوع الضرر.
قوله: "هذا حديث حسن صحيح" وأخرجه البخاري في الشركة وفي الشهادات(6/395)
12 ـ باب ما جاء أَفْضَلُ الْجِهَادِ كَلِمَةُ عَدْلٍ عِندَ سُلْطَانٍ جَائِر
2265 ـ حَدّثنا الْقَاسِمُ بنُ دِينَارٍ الْكُوفِيّ، أخبرنا عبدُ الرحمنِ بنُ مُصْعَبٍ أبو يَزِيدَ، أخبرنا إِسرائيلُ عن محمدِ بنِ جُحَادَةَ عن عَطِيّةَ عن أبي
ـــــــ
"باب أفضل الجهاد كلمة عدل عند سلطان جائر"
قوله: "حدثنا القاسم بن دينار الكوفي" هو القاسم بن زكرياء بن دينار القرشي أبو محمد الكوفي الطحان، وربما نسب إلى جده، ثقة من الحادية عشرة "أخبرنا عبد الرحمن بن مصعب أبو يزيد" الأزدي ثم المعنى بفتح الميم وسكون المهملة وكسر النون ثم ياء النسبة القطان الكوفي نزيل الري، مقبول من التاسعة "عن محمد بن جحادة" بضم الجيم وتخفيف المهملة ثقة من الخامسة "عن عطية"(6/395)
سعيدٍ الْخُدْرِيّ أَنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم قال: "إِنّ مِنْ أَعْظَمِ الْجِهَادِ كَلِمَةُ عَدْلٍ عِنْدَ سُلْطَانٍ جَائِرٍ" .
وفي البابِ عن أبي أُمَامَةَ.
هذا حديثٌ حسنٌ غريبٌ من هذا الْوَجْهِ.
ـــــــ
بن سعد بن جنادة العوفي الجدلي الكوفي أبو الحسن، صدوق يخطئ كثيراً، كان شيعياً مدلساً من الثالثة.
قوله: "إن من اعظم الجهاد" وفي رواية أفضل الجهاد "كلمة عدل" أي كلمة حق كما في رواية والمراد بالكلمة ما أفاد أمراً بمعروف أو نهياً عن منكر من لفظ أو ما في معناه ككتابة ونحوها "عند سلطان جائر" أي صاحب جور وظلم. قال الخطابي: وإنما صار ذلك أفضل الجهاد، لأن من جاهد العدو كان متردداً بين الرجاء والخوف لا يدري هل يغلب أو يغلب. وصاحب السلطان مقهور في يده فهو إذا قال الحق وأمره بالمعروف فقد تعرض للتلف، وأهدف نفسه للهلاك، فصار ذلك أفضل أنواع الجهاد من أجل غلبة الخوف. وقال المظهر: وإنما كان أفضل لأن ظلم السلطان يسري في جميع من تحت سياسته وهو جم غفير، فإذا نهاه عن الظلم فقد أوصل النفع إلى خلق كثير بخلاف قتل كافر انتهى.
قوله: "وفي الباب عن أبي امامة" أخرجه أحمد في مسنده، وابن ماجه والطبراني في الكبير والبيهقي في شعب الإيمان وعزاه المنذري في الترغيب إلى ابن ماجه وقال إسناده صحيح. وفي الباب أيضاً عن أبي عبد الله طارق بن شهاب البجلي الأحمسي: أن رجلاً سأل النبي صلى الله عليه وسلم ـ وقد وضع رجله في الغرز ـ أي الجهاد أفضل قال: "كلمة حق عند سلطان جائر"، رواه النسائي. قال المنذري في الترغيب إسناده صحيح.
قوله: "هذا حديث حسن غريب" وأخرجه أبو داود وابن ماجه. قال المنذري في تلخيص السنن بعد نقل تحسين الترمذي، وعطية العوفي لا يحتج بحديثه. قلت ويشهد له حديث أبي أمامة وحديث طارق بن شهاب المذكوران(6/396)
باب سؤال النبي صلى الله عليه و سلم ثلاثا فى أمته
...
13 ـ باب سُؤَالِ النّبيّ صلى الله عليه وسلم ثَلاَثاً في أُمّتِه
2266 ـ حَدّثنا محمدُ بنُ بَشّارٍ، أخبرنا وَهْبُ بنُ جَرِيرٍ، حدثنا أَبِي قال: سَمِعْتُ النّعْمَانَ بنَ رَاشِدٍ يحدّث عن الزّهريّ عن عبدِ الله بنِ الحارِثِ عن عبدِ الله بنِ خَبّابِ بنِ الأَرَت عن أَبِيهِ قال: "صَلّى رسولُ الله صلى الله عليه وسلم صَلاَةَ فَأَطَالَها فقالوا: يا رسولَ الله صَلّيْتَ صَلاَةً لَمْ تَكُنْ تُصَلّيهَا، قال: "أَجَلْ إِنّهَا صَلاَةُ رَغْبَةٍ وَرَهْبَةٍ، إِنّي سَأَلْتُ الله فِيهَا ثَلاَثاً فَأَعْطَانِي
ـــــــ
"باب سؤال النبي صلى الله عليه وسلم ثلاثا في أمته"
قوله: "سمعت النعمان بن راشد" الجزري أبا إسحاق الرقي مولى بني أمية صدوق سيء الحفظ من السادسة "عن عبد الله بن خباب" بالخاء المعجمة وتشديد الموحدة الأولى "بن الأرت" بفتح الهمزة والراء وتشديد المثناة المدني حليف بني زهرة يقال له رؤبة، ووثقه العجلي فقال ثقة من كبار التابعين قتله الحرورية. قال في تهذيب التهذيب: روى له الترمذي والنسائي حديثاً واحداً أنه صلى ليلة وقال: "سألت ربي ثلاث خصال" انتهى "عن أبيه" هو خباب بن الأرت التميمي أبو عبد الله بن السابقين إلى الإسلام، وكان يعذب في الله، وشهد بدراً ثم نزل الكوفة ومات بها.
وقوله: "فأطالها" أي جعلها طويلة باعتبار أركانها أو بالدعاء فيها "صليت صلاة" أي عظيمة "لم تكن تصليها" أي عادة "قال أجل" أي نعم "إنها صلاة رغبة" أي رجاء "ورهبة" أي خوف. قيل: أي صلاة فيها رجاء للثواب، ورغبة إلى الله وخوف منه تعالى. قال القاري: الأظهر أن يقال المراد به أن هذه صلاة جامعة، بين قصد رجاء الثواب وخوف العقاب، بخلاف سائر الصلوات إذ قد يغلب فيها أحد الباعثين على أدائها. قالوا وفي قوله تعالى: {يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفاً وَطَمَعاً} بمعنى أو لمانعة الخلو. ثم لما كان سبب صلاته الدعاء لأمته وهو كان بين رجاء الإجابة وخوف الرد طولها. ولذا قال "وإني سألت الله فيها ثلاثاً"(6/397)
اثْنَتَيْنِ وَمَنَعَنِي وَاحِدَةً: سَأَلْتُهُ أَنْ لا يُهلِكُ أُمّتِي بِسَنَةٍ فَأَعْطَانِيهَا، وَسَأَلْتُهُ أَنْ لا يُسَلّطَ عَلَيْهِمْ عَدُوًا مِنْ غَيْرِهِمِ فأَعْطَانِيهَا، وَسَأَلْتُهُ أَنْ لا يُذِيقَ بَعْضَهُمْ بَأْسَ بَعْضٍ فَمَنَعَنِيهَا" .
هذا حديثٌ حسنٌ صحيحٌ.
وفي البابِ عن سَعْدٍ وابنِ عُمَرَ.
2204ـ حدّثنا قُتَيْبَةُ،أخبرنا حَمّادُ بنُ زَيْدٍ عن أَيّوبَ، عن أبي قِلاَبَةَ عن أبي أَسْمَاءَ عن ثَوْبَانَ قال: قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: "إِنّ الله زَوَى لِي الأَرْضَ فَرَأَيْتُ مَشَارِقَها وَمَغَارِبَهَا، وإِنّ أُمّتِي سَيَبْلُغُ مُلْكُهَا
ـــــــ
أي ثلاث مسائل "ومنعني واحدة" تصريح بما علم ضمناً "بسنة" أي بقحط عام "عدواً من غيرهم" وهم الكفار، لأن العدو من أنفسهم أهون ولا يحصل به الهلاك الكلي ولا إعلاء كلمته السفلى "أن لا يذيق بعضهم بأس بعض" أي حربهم وقتلهم وعذابهم "فمنعنيها" أي المسألة الثالثة ولم يعطنيها. قال الطيبي رحمه الله هو من قوله تعالى {أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعاً} أي يجعل كل فرقة منكم متابعة لإمام وينشب القتال بينكم وتختلطوا وتشتبكوا في ملاحم القتال يضرب بعضكم رقاب بعض ويذيق بعضكم بأس بعض. المعنى يخلطكم فرقاً مختلفين على أهواء شتى انتهى.
قوله: "هذا حديث حسن صحيح" وأخرجه النسائي.
قوله: "وفي الباب عن سعد وابن عمر" أما حديث سعد وهو ابن أبي وقاص أحد العشرة المبشرة بالجنة فأخرجه مسلم وفيه: "سألت ربي أن لا يهلك أمتي بالسنة فأعطانيها، وسألته أن لا يهلك أمتي بالغرق، فأعطانيها، وسألته أن لا يجعل بأسهم بينهم فمنعنيها" . وأما حديث ابن عمر فلينظر من أخرجه.
قوله: "عن أبي أسماء" الرحبي، اسمه عمر بن مرثد الدمشقي، ويقال اسمه عبد الله ثقة من الثالثة "عن ثوبان" الهاشمي مولى النبي صلى الله عليه وسلم، صحبه ولازمه ونزل بعده الشام ومات بحمص.
قوله: "إن الله زوى لي الأرض" أي جمعها لأجلي. قال التوربشتي زويت(6/398)
مَا زُوِيَ لِي مِنْهَا، وَأُعْطِيتُ الْكَنْزَيْنِ الأَحْمَرَ والأبيضَ، وَإِنّي سَأَلْتُ رَبّيَ لأِمّتِي أَنْ لا يُهْلِكَهَا بِسَنَةٍ عَامّةٍ، وَأَنْ لا يُسَلّطَ عَلَيْهِمْ عَدُوّا مِنْ سِوَى أَنْفُسِهِمْ فَيَسْتَبِيحَ بَيْضَتَهُمْ، وإِنّ رَبّيَ قَالَ: يا محمدُ إِنّي إذا قَضَيْتُ قَضَاءً فإِنّهُ لا يُرَدّ، وإِنّي أَعْطَيْتُكَ لأِمّتِكَ أَنْ لا أُهْلِكَهُمْ بِسَنَةٍ عَامّةٍ ولا أُسَلّطَ
ـــــــ
الشيء جمعته وقبضته، يريد به تقريب البعيد منها، حتى اطلع عليه إطلاعه على القريب منها "فرأيت مشارقها ومغاربها" أي جميعها "وإن أمتي سيبلغ ملكها ما زوى لي منها" قال الخطابي توهم بعض الناس أن من في منها للتبعيض، وليس ذلك كما توهمه بل هي للتفصيل للجملة المتقدمة، والتفصيل لا يناقض الجملة، ومعناه أن الأرض زويت لي جملتها مرة واحدة فرأيت مشارقها ومغاربها، ثم هي تفتح لأمتي جزأ فجزأ حتى يصل ملك أمتي إلى كل أجزائها، قال القاري: ولعل وجه من قال بالتبعيض هو أن ملك هذه الأمة ما بلغ جميع الأرض فالمراد بالأرض أرض الإسلام، وأن ضمير منها راجع إليها على سبيل الاستخدام "وأعطيت الكنزين الأحمر والأبيض" بدلان مما قبلهما أي كنز الذهب والفضة. قال التوربشتي: يريد بالأحمر والأبيض خزائن كسرى وقيصر، وذلك أن الغالب على نقود ممالك كسرى الدنانير، والغالب على نقود ممالك قيصر الدراهم "بسنة عامة" أي بقحط شائع لجميع بلاد المسلمين. قال الطيبي: السنة القحط والجدب وهي من الأسماء الغالبة "وأن لا يسلط عليهم عدواً" وهم الكفار. وقوله: "من سوى أنفسهم" صفة "عدواً" أي كائناً من سوى أنفسهم "فيستبيح" أي العدو وهو مما يستوي فيه الجمع والمفرد أي يستأصل "بيضتهم" قال الجزري في النهاية أي مجتمعهم، وموضع سلطانهم، ومستقر دعوتهم، وبيضة الدار وسطها ومعظمها، أراد عدواً يستأصلهم ويهلكهم جميعهم، قيل أراد إذا أهلك أصل البيضة كان هلاك كل ما فيها من طعم أو فرخ. وإذا لم يهلك أصل البيضة بما سلم بعض فراخها. وقيل أراد بالبيضة الخوذة، فكأنه شبه مكان اجتماعهم والتآمهم ببيضة الحديد، انتهى ما في النهاية. "إذا قضيت قضاء" أي حكمت حكماً مبرماً "فإنه لا يرد" أي بشيء لخلاف الحكم المعلق بشرط وجود شيء أو عدمه "وإني أعطيتك" أي عهدي وميثاقي "لأمتك" أي لأجل أمة إجابتك "أن لا أهلكهم بسنة عامة" أي بحيث يعمهم القحط ويهلكهم(6/399)
عَلَيْهِمْ عَدُوّا من سِوَى أَنْفُسِهِمْ فَيَسْتَبِيحَ بَيْضَتَهُمْ، وَلَوْ اجْتَمَعَ عَلَيْهِمْ مَنْ بِأَقْطَارِهَا ـ أَوْ قَالَ: مِنْ بَيْنِ أَقْطَارِهَا ـ حَتّى يَكُونَ بَعْضُهُمْ يُهْلِكُ بَعْضاً وَيَسْبِي بَعْضُهُمْ بَعْضاً" .
هذا حديثٌ حسنٌ صحيحٌ.
ـــــــ
بالكلية، قال الطيبي: اللام في لأمتك هي التي في قوله سابقاً: سألت ربي لأمتي أي أعطيت سؤالك لدعائك لأمنك والكاف هو المفعول الأول. وقوله: أن لا أهلكهم المفعول الثاني كما هو في قوله: سألت ربي أن لا يهلكها هو المفعول الثاني "ولو اجتمع عليهم من" أي الذين هم "بأقطارها" أي بأطرافها جمع قطر وهو الجانب والناحية. والمعنى فلا يستبيح عدو من الكفار بيضتهم ولو اجتمع على محاربتهم من أطراف بيضتهم. وجواب لو ما يدل عليه قوله، وأن لا أسلط "أو قال من بين أقطارها" أو الشك من الراوي "ويسبي" كيرمي بالرفع عطف على يهلك أي ويأسر "بعضهم" بوضع الظاهر موضع المضمر "بعضاً" أي بعضاً آخر. قال الطيبي حتى بمعنى كي أي لكي يكون بعض أمتك يهلك بعضاً، فقوله إني إذا قضيت قضاء فلا يرد توطئة لهذا المعنى، ويدل عليه حديث خباب بن الأرت يعني حديثه المذكور في هذا الباب، قال المظهر: اعلم أن الله تعالى في خلقه قضاءين مبرماً ومعلقاً بفعل، كما قال إن الشيء الفلاني كان كذا وكذا، وإن لم يفعله فلا يكون كذا وكذا من قبيل ما يتطرق إليه المحو والإثبات كما قال تعالى في محكم كتابه {يَمْحُوا اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ} وأما القضاء المبرم فهو عبارة عما قدره سبحانه في الأزل من غير أن يعلقه بفعل، فهو في الوقوع نافذ غاية النفاذ، بحيث لا يتغير بحال ولا يتوقف على المقضى عليه، ولا المقضي له، لأنه من علمه بما كان وما يكون، وخلاف معلومة مستحيل قطعاً، وهذا من قبيل ما لا يتطرق إليه المحو والإثبات قال تعالى: {لا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ} وقال النبي عليه السلام: "لا مرد لقضائه ولا مرد لحكمه" . فقوله صلى الله عليه وسلم: "إذا قضيت قضاء فلا يرد من القبيل الثاني" ، ولذلك لم يجب إليه، وفيه أن الأنبياء مستجابو الدعوة إلا في مثل هذا.
قوله: "هذا حديث حسن صحيح" وأخرجه مسلم(6/400)
14 ـ باب ما جاءَ كيف يَكُونُ الرجل في الْفِتْنَة
2268 ـ حَدّثنا عِمَرانُ بنُ مُوسَى الْقَزّازُ الْبَصْرِيّ، أخبرنا عبدُ الْوارِثِ بنُ سعيدٍ، حدثنا محمدُ بنُ جُحَادَةَ عن رَجُلٍ عن طَاوسٍ عن أُمّ مَالِكٍ الْبَهْزِيّةِ قالت: "ذَكَرَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم فِتْنَةً فَقرّبَهَا، قالت: قُلْتُ يا رسولَ الله، مَنْ خَيْرُ النّاسِ فِيهَا؟ قال: رَجُلٌ في مَاشِيتِهِ يُؤَدّي حَقّهَا وَيعْبُدُ رَبّهُ، وَرَجُلٌ آخِذٌ بِرَأْسِ فَرَسِهِ يُخِيفُ الْعَدُوّ ويخوفونه" .
وفي البابِ عن أُمّ مُبَشّرٍ وأبي سعيدٍ الخُدْرِيّ وابن عبّاسٍ.
ـــــــ
"باب ما جاء في الرجل يكون في الفتنة"
قوله: "حدثنا عمران بن موسى" بن حبان "القزاز" الليثي أبو عمرو "البصري" صدوق من العاشرة "أخبرنا عبد الوارث بن سعيد" بن ذكوان العنبري مولاهم أبو عبيدة التنوري البصري ثقة ثبت رمي بالقدر، ولم يثبت عنه من الثامنة "عن أم مالك البهزية" صحابية لها حديث الباب كما في تهذيب التهذيب.
قوله: "ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلمفتنة فقربها" بتشديد الراء أي فعدها قريبة الوقوع، قال الأشرف معناه وصفها للصحابة وصفاً بليغاً، فان من وصف عند أحد وصفاً بليغاً فكأنه قرب ذلك الشيء إليه "قال رجل في ماشيته" أي من الغنم ونحوها قال في المجمع: الماشية تقع على الإبل والبقر والغنم والأخير أكثر "يؤدي حقها" أي من زكاة وغيرها "ورجل آخذ" الصيغة اسم الفاعل أي ماسك "يخيف العدو" من الإخافة بمعنى التخويف أي يرتبط في بعض ثغور المسلمين يخوف الكفار ويخوفونه. قال المظهر. يعني رجل هرب من الفتن وقتال المسلمين، وقصد الكفار يحاربهم ويحاربونه، يعني فيبقى سالماً من الفتنة وغانماً للأجر والمثوبة.
قوله: "وفي الباب عن أم مبشر وأبي سعيد الخدري وابن عباس" أما حديث أم مبشر وهي الأنصارية فأخرجه ابن أبي الدنيا والطبراني كذا في الترغيب وأما حديث أبي سعيد الخدري فأخرجه البخاري عنه مرفوعاً: "يوشك أن يكون(6/401)
هذا حديثٌ حسنٌ غريبٌ من هذا الْوَجْهِ.
وقد رَوَاهُ الليثُ بنُ أبي سُلَيْمٍ عن طَاوسٍ عن أُمّ مَالِكٍ الْبَهْزِيّةِ عن النبيّ صلى الله عليه وسلم.
2269 ـ حَدّثنا عبدُ الله بنُ مُعَاوِيَةَ الْجُمَحِيّ، أخبرنا حَمّادُ بنُ سَلَمَةَ عن لَيْثٍ عن طَاوسٍ عن زِيَادِ بنِ سِيِمينَ كُوشَ عن عبدِ الله بنِ عَمْرٍو قال: قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: "تَكُونُ فِتْنَةُ تَسْتَنْظِفُ الْعَرَبَ قَتْلاَهَا في النّارِ. الّلسَانُ فِيهَا أَشَدّ مِنَ السّيْفِ" .
ـــــــ
خير مال المسلم غنم يتبع بها شعف الجبال ومواقع القطر، يفر بدينه من الفتن" وأما حديث ابن عباس فأخرجه الترمذي في باب أي الناس خير من أبواب فضائل الجهاد.
قوله: "هذا حديث غريب" وأخرجه أحمد.
قوله: "عن الليث" هو ابن أبي سليم "عن زياد بن سيمين كوش" قال في التقريب زياد بن سليم العبدي مولاهم أبو أمامة المعروف بالأعجم الشاعر مقبول من الثالثة. وقال في تهذيب التهذيب في ترجمته وهو زياد. سيمين كوش مولى عبد القيس روى عن عبد الله بن عمرو بن العاص وغيره وعنه طاوس وغيره، روى له الثلاثة حديثاً واحداً في الفتن وسيمين كوش بكسر المهملة والميم بينهما مثناة من تحت بعد الميم أخرى، ثم نون ساكنة وكاف مضمومة وواو ساكنة ثم معجمة ثم قيل هو اسم والده وقيل بل لقبه انتهى.
قوله: "تكون الفتنة تستنظف العرب" أي تستوعبهم هلاكاً، يقال استنظفت الشيء إذا أخذته كله ومنه قولهم استنظفت الخراج ولا يقال نظفته كذا في النهاية. قال القاري وقيل أي تطهرهم من الأرذال وأهل الفتن "قتلاها" جمع قتيل بمعنى مقتول مبتدأ خبره قوله: "في النار" أي سيكونون في النار أو هم حينئذ في النار لأنهم يباشرون ما يوجب دخولهم في النار كقوله تعالى: {إِنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ} قال القاضي رحمه الله: المراد بقتلاها من قتل في تلك الفتنة، وإنما هم من(6/402)
هذا حديثٌ غريبٌ.
سَمِعْتُ محمدَ بنَ إِسماعيلَ يقولُ: لا يعرِفُ لِزِيَادِ بنِ سِيمِينَ كُوشَ غيرَ هذا الحديثِ. رَوَاهُ حَمّادُ بنُ سَلَمَةَ عن لَيْثٍ فَرَفَعَهُ. وَرَوَاهُ حَمّادُ بنُ زَيْدٍ عن لَيْثٍ فأوقفه.
ـــــــ
أهل النار لأنهم ما قصدوا بتلك المقاتلة والخروج إليها إعلاء دين أو دفع ظالم أو إعانة محق وإنما كان قصدهم التباغي والتشاجر طمعاً في المال والملك "اللسان فيها" أي وقعه وطعنه على تقدير مضاف، ويدل عليه رواية إشراف اللسان أي اطلاقه وإطالته "أشد من السيف" أي وقع السيف كما في رواية لأن السيف إذا ضرب به أثر في واحد واللسان تضرب به في تلك الحالة الف نسمة.
قوله: "هذا حديث غريب" وأخرجه أبو داود في باب كف اللسان من كتاب الفتن والنسائي وابن ماجه "سمعت محمد بن إسماعيل يقول: لا نعرف لزياد بن سيمين كوش غير هذا الحديث الخ" قال المنذري وذكر البخاري في تاريخه: إن حماد بن سلمة رواه عن ليث ورفعه. ورواه حماد بن زيد وغيره عن عبد الله بن عمرو قوله قال وهذا أصح من الأول وهكذا قال فيه زياد بن سيمين كوش. وقال غيره: زياد سيمين كوش واستشهد به البخاري وكان من العباد، ولكنه اختلط في آخر عمره حتى كان لا يدري ما يحدث به، وتكلم فيه غير واحد انتهى كلام المنذري(6/403)
15 ـ باب ما جَاءَ في رَفْعِ الأَمَانَة
2270ـ حَدّثنا هَنّادٌ، حدثنا أبو مُعَاوِيَةَ عن الأعَمشِ عن زَيْدِ بنِ وَهْبٍ عن حُذَيْفَةَ بن اليمان قال: حَدّثَنَا رسولُ الله صلى الله عليه وسلم حَدِيثَيْنِ
ـــــــ
"باب ما جاء في رفع الأمانة"
قوله: "حدثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم حديثين" أي في أمر الأمانة الحادثة في زمن الفتنة، قال النووي رحمه الله: الأول حدثنا أن الأمانة نزلت إلى آخره، والثاني حدثنا عن رفعها، قد رأيت أحدهما، وهو نزول الأمانة(6/403)
قَدْ رَأَيْتُ أَحَدَهُمَا وَأَنَا أَنْتَظِرُ الاَخَرَ، حَدّثَنَا أَنّ الأَمَانَةَ نَزَلَتْ في جذْرِ قُلُوبِ الرّجَالِ ثُمّ نَزَلَ الْقُرْآنُ فعلموا وَعَلِمُوا مِنَ السّنّةِ، ثُمّ حَدّثَنَا عَنْ رَفْعِ الأَمَانِةِ فَقَالَ: "يَنَامُ الرّجُلُ النّوْمَةَ فَتُقْبَضُ الأَمَانَةُ مِنْ قَلْبِهِ فَيظَلّ أَثَرُهَا مِثْلَ الْوَكْتِ، ثُمّ يَنَامُ نَوْمَةً فَتُقْبَضُ الأَمَانَةُ من قلبه فَيَظَلّ أَثَرُهَا مِثْلَ أَثَرِ المَجْلِ
ـــــــ
"وأنا انتظر الاَخر" وهو رفع الأمانة "حدثنا" وهو الحديث الأول "أن الأمانة" المذكورة في قوله تعالى {إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ} وهي عين الإيمان، أو كل ما يخفي ولا يعلمه إلا الله من المكلف أو المراد بها التكليف الذي كلف الله تعالى به عباده أو العهد الذي أخذه عليهم "نزلت في جذر قلوب الرجال" بفتح الجيم ويكسر وسكون الذال المعجمة بعدها راء أي في أصل قلوبهم، وجذر كل شيء أصله أي أن الأمانة أول ما نزلت في قلوب الرجال واستولت عليها فكانت هي الباعثة على الأخذ بالكتاب والسنة وهذا هو المعنى بقوله: "ثم نزل القرآن فعلموا" أي بنور الإيمان "من القرآن" أي مما يتلقون عنه صلى الله عليه وسلم واجباً كان أو نفلاً، حراماً أو مباحاً، مأخوذاً من الكتاب أو الحديث "وعلموا من السنة" وفي رواية البخاري، ثم علموا من السنة بإعادة ثم، وفيه إشارة إلى أنهم كانوا يتعلمون القرآن قبل أن يتعلموا السنة.
"ثم حدثنا" وهو الحديث الثاني "عن رفع الأمانة" أي عن ذهابها أصلاً حتى لا يبقى من يوصف بالأمانة إلا النادر ولا يعكر على ذلك ما ذكره في آخر الحديث مما يدل على قلة من ينسب للأمانة، فإن ذلك بالنسبة إلى حال الأولين. فالذين أشار إليهم بقوله ما كنت أبايع إلا فلاناً وفلاناً هم من أهل العصر الأخير الذي أدركه والأمانة فيهم بالنسبة إلى العصر الأول أقل، وأما الذي ينتظره فإنه حيث تفقد الأمانة من الجميع إلا النادر كذا في الفتح "فيظل أثرها" بفتحات بتشديد لام أي فيصير وأصل ظل ما عمل بالنهار ثم أطلق على كل وقت، وهي هنا على بابها لأنه ذكر الحالة التي تكون بعد النوم، وهي غالباً تقع عند الصبح.
والمعنى أن الأمانة تذهب حتى لا يبقى منها إلا الأثر الموصوف في الحديث "مثل الوكت" وفي رواية البخاري مثل أثر الوكت وهي بفتح الواو وسكون(6/404)
كَجَمْرٍ دَحْرَجْتَهُ عَلَى رِجْلِكَ فَنَفَطَتْ فَتَرَاهُ مُنْتَبِراً وَلَيْسَ فِيهِ شَيْءٌ، ثُمّ أَخَذَ حَصَاةً فَدَحْرَجَهَا عَلَى رِجْلِهِ، قال: فَيُصْبِحُ النّاسُ يَتَبَايَعُونَ لا يكادُ أَحَدٌ يُؤَدّي الأَمَانَةَ حَتّى يُقَالَ إِنّ في بَنِي فُلاَنٍ رَجُلاً أَمِيناً، وَحَتّى يُقَالَ لِلرّجُلِ
ـــــــ
الكاف بعدها مثناة فوقية الأثر في الشيء كالنقطة من غير لونه يقال وكت البسر إذ بدت فيه نقطة الإرطاب "ثم ينام نومة" أي أخرى "فتقبض الأمانة" أي ما بقي منها من قلبه "فيظل أثرها مثل أثر المجل" بفتح الميم وسكون الجيم وقد تفتح بعدها لام. هو أثر العمل في الكف قال في الفائق: الفرق بين الوكت والمجل أن الوكت النقطة في الشيء من غير لونه والمجل غلظ الجلد من العمل لا غير "كجمر" بالجيم المفتوحة والميم الساكنة أي تأثير كتأثير جمر وقيل أبدل من مثل أثر المجل أي يكون أثرها في القلب كأثر جمر أو خبر مبتدأ محذوف أي هو يعني أثر المجل كجمر "دحرجته" أي قلبته ودورته "على رجلك فنفطت" بكسر الفاء بعد النون المفتوحة قال في القاموس نفطت كفرحت نفطاً ونفطاً ونفيطاً قرحت عملاً أو مجلث "فتراه منتبراً" بنون ثم مثناة مفتوحة ثم موحدة مكسورة أي منتفخاً وتذكير الضمير على إرادة الموضع المدحرج عليه الجمر قيل المعنى: يخيل إليك أن الرجل ذو أمانة وهو في ذلك بمثابة نفطة تراها منتفطة مرتفعة كبيرة لا طائل تحتها "وليس فيه شيء" أي صالح بل ماء فاسد. وفي شرح مسلم: قال صاحب التحرير: معنى الحديث أن الأمانة تزول عن القلوب شيئاً فشيئاً، فإذا زال أول جزء منها زال نورها وخلفته ظلمة كالموكت، وهو اعتراض لون مخالف للون الذي قبله، فإذا زال شيء آخر صار كالمجل وهو أثر محكم لا يكاد يزول إلا بعد مدة، وهذه الظلمة فوق التي قبلها، ثم شبة زوال ذلك النور بعد وقوعه في القلب وخروجه بعد استقراره فيه واعتقاب الظلمة إياه، بجمر يدحرجه على رجله حتى يؤثر فيها ثم يزول الجمر ويبقى النفط انتهى. "قال فيصبح الناس" أي يدخلون في الصباح "يتبايعون" أي السلع ونحوها بأن يشتريها أحدهم من الاَخر "لا يكاد أحد يؤدي الأمانة" لأن من كان موصوفاً بالأمانة سلبها حتى صار خائناً "وحتى يقال للرجل" أي من أرباب الدنيا، ممن له عقل في تحصيل المال والجاه وطبع في الشعر والنثر، وفصاحة وبلاغة وصباحة وقوة بدنية وشجاعة وشوكة(6/405)
مَا أَجْلَدَهُ وَأَظْرَفَهُ وَأَعْقَلَهُ وَمَا في قَلْبِهِ مِثْقَالُ حَبّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ مِنْ إِيمَانٍ". قال: وَلَقَدْ أَتَى عَلَيّ زَمَانٌ وَمَا أُبَالِي أَيّكُمْ بَايَعْتُ فِيهِ، لإِنْ كَانَ مُسْلِماً لَيَرُدّنّهُ عَلَيّ دِينُهُ، وَلِئنْ كَانَ يَهُودِياً أَوْ نَصْرَانِيّا لَيَرُدّنّهُ عَلَيّ سَاعِيهِ
ـــــــ
"ما أجلده" بالجيم "وأظرفه" بالظاء المعجمة "وأعقله" بالعين المهملة والقاف، تعجباً من كماله واستغراباً من مقاله واستبعاداً من جماله.
وحاصله أنهم يمدحونه بكثرة العقل والظرافة والجلادة ويتعجبون منه، ولا يمدحون أحداً بكثرة العلم النافع والعمل الصالح "وما في قلبه" حال من الرجل أي والحال أنه ليس في قلبه "مثقال حبة" أي مقدار شيء قليل "من خردل" من بيانية لحبة أي هي خردل "من إيمان" أي كائناً منه قال الطيبي. لعله إنما حملهم على تفسير الأمانة في قوله إن الأمانة نزلت بالإيمان لقوله آخر: وما في قلبه مثقال حبة من خردل من إيمان، فهلا حملوها على حقيقتها لقوله: ويصبح الناس يتبايعون ولا يكاد أحد يؤدي الأمانة فيكون وضع الإيمان آخراً موضعها تفخيماً لشأنها، وحثاً على أدائها. قال صلى الله عليه وسلم: "لا دين لمن لا أمانة له" قال القاري: إنما حملهم عليه ما ذكر آخراً وما صدر أولاً من قوله: نزلت في جذر قلوب الرجال. فإن نزول الأمانة بمعنى الإيمان هو المناسب لأصل قلوب المؤمنين ثم يعلمون إيقانه وإيقانهم بتتبع الكتاب والسنة. وأما الأمانة فهي جزئية من كلية ما يتعلق بالإيمان والقرآن انتهى.
"قال" أي حذيفة رضي الله عنه "ولقد أتى علي" بتشديد الياء "زمان" كنت أعلم فيه أن الأمانة موجودة في الناس "وما أبالي أيكم بايعت فيه" أي بعت أو اشتريت غير مبال بحاله "لئن" بفتح اللام وكسر الهمزة "ليردنه علي" بتشديد التحتية "دينه" بالرفع على الفاعيلة أي فلا يخونني بل يحمله إسلامه على أداء الأمانة فأنا واثق بأمانته "ليردنه على ساعيه" أي الذي أقيم عليه فهو يقوم بولايته ويستخرج منه حقي، وقال في المجمع أي رئيسهم الذي يصدرون عن رأيه وقيل أي الوالي الذي عليه أي ينصفني مثله وكل من ولي أمر قوم فهو ساع عليهم، يعني أن المسلمين كانوا مهتمين بالإسلام فيحفظون بالصدق والأمانة، والملوك ذوو عدل، فما كنت أبالي من أعامل إن كان مسلماً رده إلى الخروج عن الحق عمله(6/406)
فَأَمّا الْيَوْمَ فمَا كُنْتُ أُبَايِعُ مِنْكُمْ إِلاّ فُلاَناً وَفُلاَناً.
هذا حديثٌ حسنٌ صحيحٌ.
ـــــــ
بمقتضى الإسلام، وإن كان غير مسلم أنصفني منه عامله على الصدقة انتهى "فأما اليوم" فقد ذهبت الأمانة وظهرت الخيانة فلست أثق بأحد في بيع ولا شراء. "فما كنت أبايع منكم إلا فلاناً وفلاناً" أي أفراداً من الناس قلائل ممن أثق بهم فكان يثق بالمسلم لذاته، وبالكافر لوجود ساعيه، وهو الحاكم الذي يحكم عليه، وكانوا لا يستعملون في كل عمل قل أو جل إلا المسلم فكان واثقاً بإنصافه وتخليصه حقه من الكافر إن خانه، بخلاف الوقت الأخير الذي أشار إليه فإنه صار لا يبايع إلا أفراداً من الناس يثق بهم. وفيه أشارة إلى أن حال الأمانة أخذ في النقص من ذلك الزمان. وكانت وفاة حذيفة أول سنة ست وثلاثين بعد قتل عثمان بقليل، فأدرك بعض الزمن الذي وقع فيه التغير. وقال ابن العربي: قال حذيفة هذا القول لما تغيرت الأحوال التي كان يعرفها على عهد النبوة والخليفتين، فأشار إلى ذلك بالمبايعة وكنى عن الإيمان بالأمانة وعما يخالف أحكامه بالخيانة.
قوله: "هذا حديث حسن صحيح" وأخرجه الشيخان(6/407)
16 ـ باب لَتَرْكَبُنّ سنَنَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُم
2271 ـ حَدّثنا سَعِيدُ بنُ عبدِ الرحمَنِ المخزُومِيّ، حدثنا سُفْيَانُ عن الزّهريّ عن سِنَانِ بنِ أبي سِنَانٍ عن أبي وَاقِدٍ الّليْثِيّ: "أَنّ رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم لَمّا خَرَجَ إِلَى حُنَيْنٍ مَرّ بَشَجَرَةٍ لِلْمُشْرِكِينَ يُقَالُ لَها ذَاتُ أَنْوَاطٍ يُعَلّقُونَ عَلَيْهَا أَسْلِحَتَهُمْ، فقالوا: يا رسولَ الله اجْعَلْ لَنَا ذَاتَ أَنْوَاطٍ
ـــــــ
"باب لتركبن سنن من كان قبلكم"
قوله: "عن سنان بن أبي سنان" الديلي المدني ثقة من الثالثة "عن أبي واقد الليثي" صحابي قيل اسمه الحارث بن مالك وقيل ابن عوف وقيل عوف بن الحارث.
قوله: "لما خرج" أي عن مكة كما في رواية لأحمد "إلى حنين" كزبير موضع بين الطائف ومكة "يقال لها ذات أنواط" قال الجزري في النهاية: هي(6/407)
كَمَا لَهُمْ ذَاتُ أَنْوَاطٍ، فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم: سُبْحَانَ الله، هَذَا كَمَا قَالَ قَوْمُ مُوسَى اجْعَلْ لَنَا إِلَهاً كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ، وَالّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَتَرْكَبُنّ سُنّةّ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ" .
هذا حديثٌ حسنٌ صحيحٌ.
وأبو وَاقِدٍ الليْثيّ اسمُه الحارثُ بنُ عَوْفٍ.
وفي البابِ عن أبي سَعِيدٍ وأبي هُرَيْرَةَ.
ـــــــ
اسم شجرة بعينها كانت للمشركين ينوطون بها سلاحهم أي يعلقونه بها ويعكفون حولها فسألوه أن يجعل لهم مثلها فنهاهم عن ذلك وأنواط جمع نوط وهو مصدر سمي به المنوط انتهى. "سبحان الله" تنزيهاً وتعجباً "هذا" أي هذا القول منكم "كما قال قوم موسى اجعل لنا إلهاً كما لهم آلهة" لكن لا يخفى ما بينهما من التفاوت المستفاد من التشبيه حيث يكون المشبه به أقوى "لتركبن" بضم الموحدة والمعنى لتتبعن "سنة من كان قبلكم" وفي حديث أبي سعيد عند البخاري: "لتتبعن سنن من قبلكم شبراً شبراً، وذراعاً ذراعاً، حتى لو دخلوا جحر ضب تبعتموهم" قلنا يا رسول الله اليهود والنصاري. قال "فمن"؟ ورواه الحاكم عن ابن عباس وفي آخره: "وحتى لو أن أحدكم جامع امرأته في الطريق لفعلتموه" قال المناوي إسناده صحيح والسنة لغة الطريقة حسنة كانت أو سيئة، والمراد هنا طريقة أهل الهواء والبدع التي ابتدعوها من تلقاء أنفسهم بعد أنبيائهم من تغيير دينهم وتحريف كتابهم كما أتى على بني إسرائيل حذو النعل بالنعل وقال النووي: المراد الموافقة في المعاصي والمخالفات لا في الكفر وفي هذا معجزة ظاهرة لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقد وقع ما أخبر به صلى الله عليه وسلم انتهى.
قوله: "هذا حديث حسن صحيح" وأخرحه أحمد في مسنده.
قوله: "وفي الباب عن أبي سعيد وأبي هريرة" أما حديث أبي سعيد فأخرجه الشيخان وقد تقدم لفظه وأما حديث أبي هريرة فأخرجه البخاري عنه مرفوعاً: لا تقوم الساعة حتى تأخذ أمتي بأخذ القرون قبلها شبراً بشبر وذراعاً بذراع فقيل يا رسول الله كفارس والروم؟ قال: ومن الناس إلا أولئك(6/408)
17 ـ باب ما جَاءَ في كَلامِ السّبَاع
2272 ـ حَدّثنا سُفْيَانُ بنُ وَكِيعٍ، حدثنا أَبِي عن الْقَاسِمِ بنِ الْفَضْلِ، حدثنا أبو نَضْرَةَ الْعَبْدِيّ عنِ أبي سعيدٍ الْخُدْرِيّ قال: قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: "وَالّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لا تَقُومُ السّاعَةُ حَتّى تُكَلّمَ السّبَاعُ الاْنْس، وَحَتّى يُكَلّمَ الرّجُلَ عَذَبَةُ سَوْطِهِ وَشِرَاكُ نَعْلِهِ وَتُخْبِرُهُ فَخِذُهُ بِمَا أَحْدَثَ أَهْلُهُ من بَعْدَهُ" .
وفي البابِ عن أبي هُرَيْرَةَ.
وهذا حديثٌ حسنٌ غريبٌ صحيحٌ لا نَعْرِفُهُ إِلاّ مِنْ حَدِيثِ القاسِمِ بنِ الفَضْلِ، والقاسمُ بنُ الفَضْلِ ثِقَةٌ مَأمُونٌ عِنْدَ أهلِ الحديثِ، وَثّقَهُ يَحْيَى بنُ سعيدٍ القطان وعبدُ الرحمَنِ بنُ مَهْدِيّ.
ـــــــ
"باب ما جاء في كلام السباع"
جمع السبع وهو بضم الباء وفتحها وسكونها المفترس من الحيوان
قوله: "حتى تكلم السباع" أي سباع الوحش كالأسد أو سباع الطير كالبازي ولا منع من الجمع "الأنس" أي جنس الإنسان من المؤمن والكافر "وحتى يكلم الرجل" بالنصب على المفعولية "عذبة سوطه" بالرفع على الفاعلية، والعذبة بفتح العين المهملة والذال المعجمة أي طرفه على ما في القاموس وغيره، وقال في المجمع هو قد في طرف السوط "وشراك نعله" بكسر الشين المعجمة أحد سيور النعل تكون على وجهها.
قوله: "وفي الباب عن أبي هريرة" لينظر من أخرجه.
قوله: "وهذا حديث حسن صحيح" في سنده سفيان بن وكيع وهو صدوق، إلا أنه ابتلى بوراقه فأدخل عليه ما ليس من حديثه، فنصح فلم يقبل فسقط حديثه، قاله الحافظ، وأخرجه الحاكم وصححه.
قوله: "والقاسم بن الفضل ثقة الخ" قال في التقريب: القاسم بن الفضل بن معدان الحداني بضم المهملة والتشديد أبو المغيرة البصري ثقة من السابعة رمي بالإرجاء(6/409)
18 ـ باب ما جاءَ في انْشِقَاقِ الْقَمَر
2273 ـ حَدّثنا محمودُ بنُ غَيْلاَنَ. حدثنا أبو دَاوُدَ عن شُعْبَةَ عن الأعمَشِ عن مُجَاهِدٍ عن ابنِ عُمَرَ قالَ: "انْفَلَقَ الْقَمَرُ عَلَى عَهْدِ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم، فقال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: "اشْهَدُوا".
قال أبو عيسى: وفي البابِ عن ابنِ مسعودٍ وَأَنَسٍ وَجُبَيْرِ بنِ مُطْعِمٍ.
ـــــــ
"باب ما جاء في انشقاق القمر"
أي في زمن النبي صلى الله عليه وسلم على سبيل المعجزة له.
قوله: "انفلق القمر" أي انشق وفي حديث ابن مسعود عند البخاري في التفسير: انشق القمر على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فرقتين فرقة فوق الجبل وفرقة دونه، وفي حديث أنس عند البخاري في باب انشقاق القمر أن أهل مكة سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يريهم آية فأراهم القمر شقتين حتى رأوا حراء بينهما. قال الحافظ قوله شقتين بكسر المعجمة أي نصفين. وقوله حتى رأوا حراء أي جبل حراء بينهما، أي بين الفرقتين. وجبل حراء على يسار السائر من مكة إلى منى. وقال وجدت في بعض طرق حديث ابن عباس بيان صورة السؤال وهو وإن كان لم يدرك القصة لكن في بعض طرقه ما يشعر بأنه حمل الحديث عن ابن مسعود، فأخرج أبو نعيم في الدلائل من وجه ضعيف عن ابن عباس قال: اجتمع المشركون إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم منهم الوليد بن المغيرة وأبو جهل بن هشام والعاص بن وائل والأسود بن المطلب والنضر بن الحارث ونظراؤهم فقالوا للنبي صلى الله عليه وسلم: إن كنت صادقاً فشق لنا القمر فرقتين فسأل ربه فانشق "اشهدوا" أي على نبوتي أو معجزتي من الشهادة وقيل معناه احضروا وانظروا من الشهود.
قوله: "وفي الباب عن ابن مسعود وأنس وجبير بن مطعم" أخرح الترمذي أحاديث هؤلاء الصحابة رضي الله تعالى عنهم في تفسير سورة القمر، قال الحافظ وقد ورد انشقاق القمر أيضاً من حديث علي وحذيفة وجبير بن مطعم وابن عمر وغيرهم. فأما أنس وابن عباس فلم يحضرا ذلك لأنه كان بمكة قبل الهجرة بنحو(6/410)
وهذا حديثٌ حسنٌ صحيحٌ.
ـــــــ
خمس سنين، وكان ابن عباس إذ ذاك لم يولد. وأما أنس فكان أربع أو خمس بالمدينة، وأما غيرهما فيمكن أن يكون شاهد ذلك، وممن صرح برؤيته ذلك ابن مسعود.
قوله: "هذا حديث حسن صحيح" وأخرجه مسلم.
اعلم أن أحاديث الباب صحيحة صريحة في ثبوت معجزة انشقاق القمر. قال ابن عبد البر: قد روى هذا الحديث جماعة كثيرة من الصحابة، وروى ذلك عنهم أمثالهم من التابعين ثم نقله عنهم الجم الغفير إلى أن انتهى إلينا. ويؤيد ذلك بالاَية الكريمة فلم يبق لاستبعاد من استبعد وقوعه عذر. وقد يطلع على قوم قبل طلوعه على آخرين، وأيضاً فإن زمن الانشقاق لم يطل ولم تتوفر الدواعي على الاعتناء بالنظر إليه ومع ذلك فقد بعث أهل مكة إلى آفاق مكة يسألون عن ذلك، فجاءت السفار وأخبروا بأنهم عاينوا ذلك، وذلك لأن المسافرين في الليل غالباً يكونون سائرين في ضوء القمر، ولا يخفى عليهم ذلك. وقال أبو إسحاق الزجاج في معاني القرآن: أنكر بعض المبتدعة الموافقين لمخالفي الملة انشقاق القمر، ولا إنكار للعقل فيه، لأن القمر مخلوق لله بفعل فيه ما يشاء، كما يكوره يوم البعث ويفنيه. وأما قول بعضهم: لو وقع لجاء متواتراً واشترك أهل الأرض في معرفته، ولما اختص بها أهل مكة، فجوابه: أن ذلك وقع ليلاً وأكثر الناس نيام، والأبواب مغلقة، وقل من يراصد السماء إلا النادر، وقد يقع بالمشاهدة في العادة أن ينكسف القمر وتبدو الكواكب العظام وغير ذلك في الليل ولا يشاهدها إلا الاَحاد. فكذلك الانشقاق كان آية وقعت في الليل لقوم سألوا واقترحوا فلم يتأهب غيرهم لها، ويحتمل أن يكون القمر ليلتئذ، كان في بعض المنازل التي تظهر لبعض أهل الاَفاق دون بعض، كما يظهر الكسوف لقوم دون قوم. وقال الخطابي: انشقاق القمر آية عظيمة لا يكاد يعدلها شيء من آيات الأنبياء، وذلك أنه ظهر في ملكوت السماء خارجاً من جملة طباع ما في هذا العالم المركب من الطبائع. فليس مما يطمع في الوصول إليه بحيلة فلذلك صار البرهان به أظهر. وقد أنكر ذلك بعضهم، فقال: لو وقع ذلك لم يجز أن يخفى أمره(6/411)
ـــــــ
على عوام الناس لأنه أمر صدر عن حس ومشاهدة، فالناس فيه شركاء والدواعي متوفرة على رؤية كل غريب، ونقل ما لم يعهد فلو كان لذلك أصل لخلد في كتب أهل التسيير والتنجيم إذ لا يجوز إطباقهم على تركه، وإغفاله مع جلالة شأنه ووضوح أمره.
والجواب عن ذلك أن هذه القصة خرجت عن بقية الأمور التي ذكروها لأنه شيء طلبه خاص من الناس فوقع ليلاً لأن القمر لا سلطان له بالنهار ومن شأن الليل أن يكون أكثر الناس فيه نياماً ومستكنين بالأبنية، والبارز بالصحراء منهم إذا كان يقظان يحتمل أنه كان في ذلك الوقت مشغولاً بما يلهيه من سمر وغيره، ومن المستبعد أن يقصدوا إلى مراصد مركز القمر ناظرين إليه لا يغفلون عنه، فقد يجوز أنه وقع ولم يشعر به أكثر الناس، وإنما رآه من تصدى لرؤيته ممن اقترح وقوعه. ولعل ذلك إنما كان في قدر اللحظة التي هي مدرك البصر. وقال الحافظ ذهب بعض أهل العلم من القدماء أن المراد بقوله: {وَانْشَقَّ الْقَمَرُ} أي سينشق كما قال تعالى {أَتَى أَمْرُ اللَّهِ} أي سيأتي. والنكتة في ذلك إرادة المبالغة في تحقق وقوع ذلك، فنزل منزلة الواقع، والذي ذهب إليه الجمهور أصح كما جزم به ابن مسعود وحذيفة وغيرهما ويؤيده قوله تعالى بعد ذلك {وَإِنْ يَرَوْا آيَةً يُعْرِضُوا وَيَقُولُوا سِحْرٌ مُسْتَمِرٌّ} فإن ذلك ظاهر في أن المراد بقوله: "وانشق القمر" وقوع انشقاقه لأن الكفار لا يقولون ذلك يوم القيامة وإذا تبين أن قولهم ذلك إنما هو في الدنيا تبين وقوع الانشقاق وأنه المراد بالاَية التي زعموا إنها سحر انتهى. وقال الرازي في تفسيره الكبير بعد ما أثبت هذه المعجزة ما لفظه: وأما المؤرخون تركوه لأن التواريخ في أكثر الأمر يستعملها المنجم وهو لما وقع الأمر قالوا بأنه مثل خسوف القمر. وظهور شيء في الجو على شكل نصف القمر في موضع آخر فتركوا حكايته في تواريخهم. والقرآن أدل دليل وأقوى مثبت له وإمكانه لا يشك فيه وقد أخبر عنه الصادق فيجب اعتقاد وقوعه. وحديث امتناع الخرق والالتئام حديث اللئام. وقد ثبت جواز الخرق والتخريب على السموات وذكرناه مراراً فلا نعيده انتهى(6/412)
19 ـ باب ما جاءَ في الْخَسْف
2274ـ حَدّثنا بُنْدَارٌ، حدثنا عبدُ الرحمَنِ بنُ مَهْدِيّ، حدثنا سُفْيَانُ، عن فُرَاتٍ القَزّازِ، عن أبي الطّفَيْلِ، عن حُذَيْفَةَ بنِ أُسَيْدٍ قال: "أَشْرَفَ عَلَيْنَا رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم مِنْ غُرْفَةٍ وَنَحْنُ نَتَذَاكَرُ السّاعَةَ، فقال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: "لا تَقُومُ السّاعَةُ حَتّى تَرَوْا عَشْرَ آيَاتٍ: طُلُوعُ الشّمْسِ مِنْ مَغْرِبِهَا وَيَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ وَالدّابّةُ وَثَلاَثَةُ
ـــــــ
"باب ما جاء في الخسف"
قوله: "عن فرات القزاز" هو فرات بن أبي عبد الرحمن القزاز الكوفي ثقة من الخامسة "عن حذيفة بن أسيد" بفتح الهمزة وكسر السين الغفاري صحابي من أصحاب الشجرة، وكنيته أبو سريحة بفتح السين المهملة وكسر الراء وبالحاء المهملة.
قوله: "أشرف علينا" وفي رواية مسلم: اطلع علينا قال في القاموس أشرف عليه اطلع من فوق "من غرفة" بالضم العلية وهي بالفارسية بالاخانة وحجره بالاى حجره... "ونحن نتذاكر" أي فيما بيننا "الساعة" أي أمر القيامة واحتمال قيامها في كل ساعة "عشر آيات" أي علامات "ويأجوج ومأجوج" بألف فيهما ويهمز أي خروجهما، ويأتي الكلام عليهما في باب خروج يأجوج ومأجوج "والدابة" وهي المذكورة في قوله تعالى {وَإِذَا وَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ أَخْرَجْنَا لَهُمْ دَابَّةً مِنَ الْأَرْضِ تُكَلِّمُهُمْ} الاَية. قال المفسرون هي دابة عظيمة تخرج من صدع في الصفا، وعن ابن عمرو بن العاص إنها الجساسة المذكورة في حديث الدجال، قاله النووي. وقال الجزري في النهاية: دابة الأرض قيل طولها ستون ذراعاً ذات قوائم ووبر. وقيل هي مختلفة الخلقة تشبه عدة من الحيوانات ينصدع جبل الصفا فتخرج منه ليلة جمع، والناس سائرون إلى منى. وقيل من أرض الطائف ومعها عصا موسى وخاتم سليمان عليهما السلام لا يدركها طالب ولا يعجزها هارب، تضرب المؤمن بالعصا وتكتب في وجهه مؤمن، وتطبع الكافر بالخاتم وتكتب في وجهه كافر انتهى.(6/413)
خُسُوفٍ: خَسْفٍ بالمَشْرِقِ وَخَسْفٍ بالمَغْرِبِ وَخَسْفٍ بِجَزِيرَةِ الْعَرَبِ، وَنَارٌ تَخْرُجُ مِنْ قَعْرِ عَدَنٍ تَسُوقُ النّاسَ أَوْ تَحْشُرُ النّاسَ فَتَبِيتُ مَعَهُمْ حَيْثُ بَاتُوا، وَتَقِيلُ مَعَهُمْ حَيْثُ قَالُوا" .
2275ـ حدّثنا محمودُ بنُ غَيْلاَنَ، حدثنا وَكِيعٌ عن سُفْيَانَ عن فُرَاتٍ نَحْوَهُ، وَزَادَ فِيهِ: والدّخَانُ.
ـــــــ
اعلم أن المفسرين قد ذكروا لدابة الأرض أوصافاً كثيرة من غير ذكر ما يدل على ثبوتها، فكل ما ثبت بالكتاب أو السنة الصحيحة فهو المعتمد، ومالا فلا اعتماد عليه "وثلاث خسوف" قال ابن الملك: قد وجد الخسف في مواضع لكن يحتمل أن يكون المراد بالخسوف الثلاثة قدراً زائداً على ما وجد كأن يكون أعظم مكاناً وقدراً "خسف" بالجر على أنه يدل مما قبله وبالرفع على تقدير أحدها أو منها "من قعر عدن" أي أقصى أرضها وهو غير منصرف وقيل منصرف باعتبار البقعة والموضع ففي المشارق عدن مدينة مشهورة باليمن. وفي القاموس عدن محركة جزيرة باليمن، وفي رواية: تخرج من أرض الحجاز. قال القاضي عياض: لعلها ناران تجتمعان تحشران الناس أو يكون ابتداء خروجهما من اليمن وظهورها من الحجاز. ذكره القرطبي رحمه الله تعالى "تسوق" أي تطرد النار "أو تحشر" أو للشك من الراوي في رواية مسلم: تسوق الناس إلى المحشر أي إلى المجمع والموقف، قيل المراد من المحشر أرض الشام إذ صح في الخبر أن الحشر يكون في أرض الشام، ولكن الظاهر أن المراد أن يكون مبتدؤه منها أو تجعل واسعة تسع خلق العالم فيها قاله القاري. "وتقيل" قال في القاموس: قال قيلا وقائلة وقيلولة ومقالا ومقيلا وتقيل نام في نصف النهار انتهى.
قوله: "وزاد فيه والدخان" قال الطيبي هو الذي ذكر في قوله تعالى {يَوْمَ تَأْتِي السَّمَاءُ بِدُخَانٍ مُبِينٍ} وذلك كان في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم انتهى. وقال النووي في شرح هذا الحديث: إنه يؤيد قول من قال، إن الدخان دخان يأخذ بأنفاس الكفار ويأخذ المؤمن منه كهيئة الزكام، وإنه لم يأت بعد، وإنما(6/414)
2276 ـ حدّثنا هَنّادٌ، حدثنا أبو الأحْوَصِ عن فُرَاتٍ القَزّازِ نَحْوَ حديثِ وَكِيعٍ عن سُفْيَانَ.
2277 ـ حدّثنا محمودُ بنُ غَيْلاَنَ، حدثنا أبو دَاوُدَ الطّيَالِسِيّ، عن شُعْبَةَ وَالمَسْعُودِيّ، سَمِعَا من فرات القَزّازَ نَحْوَ حديثِ عبدِ الرحمَنِ عن سُفْيانَ عن فُرَاتٍ وزادَ فِيهِ: الدّجّالَ أَوْ الدّخَانَ.
2278 ـ حدّثنا أبو مُوسَى محّمدُ بنُ المُثَنّى، حدثنا أبو النّعْمَانِ الْحَكَمُ بنُ عبدِ الله الْعِجْلِيّ عَنْ شُعْبَةَ عَنْ فُرَاتٍ نَحْوَ حَدِيثِ أبي داود عَنْ شُعْبَةَ
ـــــــ
يكون قريباً من قيام الساعة. وقال ابن مسعود: إنما هو عبارة عما نال قريشاً من القحط حتى كانوا يرون بينهم وبين السماء كهيئة الدخان. وقد وافق ابن مسعود جماعة، وقال بالقول الاَخر حذيفة وابن عمر والحسن ورواه حذيفة عن النبي صلى الله عليه وسلم، وأنه يمكث في الأرض أربعين يوماً. ويحتمل أنها دخانان للجمع بين هذه الآثار انتهى. وقال القرطبي في التذكرة قال ابن دحية: والذي يقتضيه النظر الصحيح حمل ذلك على قضيتين، إحداهما وقعت وكانت الأخرى ستقع وتكون. فأما التي كانت فهي التي كانوا يرون فيها كهيئة الدخان، غير الدخان الحقيقي الذي يكون عند ظهور الاَيات، التي هي من الأشراط والعلامات، ولا يمتنع إذا ظهرت هذه العلامة أن يقولوا {رَبَّنَا اكْشِفْ عَنَّا الْعَذَابَ إِنَّا مُؤْمِنُونَ} فيكشف عنهم ثم يعودون لقرب الساعة. وقول ابن مسعود لم يسنده إلى النبي صلى الله عليه وسلم إنما هو من تفسيره، وقد جاء النص عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بخلافه. قال القرطبي وقد روى عن ابن مسعود إنهما دخانان. قال مجاهد كان ابن مسعود يقول هما دخانان، قد مضى أحدهما والذي بقي يملأ بين السماء والأرض انتهى.
قوله: "حدثنا أبو النعمان الحكم بن عبد الله العجلي" قال في التقريب: الحكم بن عبد الله أبو النعمان البصري قيل إنه قيسي أو أنصاري أو عجلي ثقة، له أوهام من التاسعة.(6/415)
وَزَادَ فِيهِ: قال والعَاشِرَةُ إِمّا رِيحٌ تَطْرَحُهُمْ فِي البَحْرِ وإِمّا نُزُولُ عيسَى بنِ مَرْيم.
وفي البابِ عنْ عَلِيّ وَأَبِي هُرَيْرَةَ وَأُمّ سَلَمَةَ وَصَفِيّةَ بنت حيي. وهذا حديثٌ حَسَنٌ صحيحٌ.
ـــــــ
قوله: "إما ريح تطرحهم في البحر" أي تلقيهم فيه.
قوله: "وفي الباب عن علي وأبي هريرة وأم سلمة وصفية" أما حديث علي وحديث أبي هريرة فأخرجهما الترمذي في الباب الذي بعد باب أشراط الساعة. وأما حديث أم سلمة فأخرجه مسلم في كتاب الفتن. وأما حديث صفية فأخرجه الترمذي في هذا الباب.
اعلم أن الروايات قد اختلفت في ترتيب الاَيات العشر ولذ اختلف أهل العلم في ترتيبها، فقد قيل إن أول الاَيات الدخان، ثم خروج الدجال، ثم نزول عيسى عليه السلام، ثم خروج ياجوج وماجوج، ثم خروج الدابة، ثم طلوع الشمس من مغربها، فإن الكفار يسلمون في زمن عيسى عليه السلام حتى تكون الدعوة واحدة. ولو كانت الشمس طلعت من مغربها قبل خروج الدجال ونزوله لم يكن الإيمان مقبولاً من الكفار، فالواو لمطلق الجمع فلا يرد أن نزوله قبل طلوعها ولا ما ورد أن طلوع الشمس أول الاَيات. وقال في فتح الودود قيل: أول الاَيات الخسوفات، ثم خروج الدجال، ثم نزول عيسى عليه السلام، ثم خروج ياجوج وماجوج، ثم الريح التي تقبض عندها أرواح أهل الإيمان، فعند ذلك تخرج الشمس من مغربها، ثم تخرج دابة الأرض، ثم يأتي الدخان. قال صاحب فتح الودود والأقرب في مثله التوقف والتفويض إلى عالمه انتهى.
قلت: ذكر القرطبي في تذكرته مثل هذا الترتيب إلا أنه جعل الدجال مكان الدخان. وذكر البيهقي عن الحاكم مثل ترتيب القرطبي وجعل خروج الدابةُ قبل طلوع الشمس من مغربها، فالظاهر بل المتعين هو ما قال صاحب فتح الودود من أن الأقرب في مثله هو التوقف والتفويض إلى عالمه.
قوله: "هذا حديث حسن صحيح" وأخرجه مسلم وأبو داود والنسائي وابن ماجه.(6/416)
2279ـ حدّثنا مَحْمودُ بنُ غَيْلاَنَ. حدثنا أَبُو نُعْيمٍ، حدثنا سُفْيَانُ عَنْ سَلَمَةَ بنِ كُهيْلٍ عَنْ أَبِي إِدْرِيسَ المُرْهِبِيّ عنْ مُسْلِمِ بنِ صَفْوَانَ عَنْ صَفِيّةَ قَالَتْ: "قَالَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم: لا يَنْتَهِي النّاسُ عَنْ غَزْوِ هَذَا البَيْتِ حَتّى يَغزُوَ جَيْشٌ حَتّى إِذَا كَانُوا بِالبَيْدَاءِ أَوْ بَبْيداءَ مِنَ الأَرْضِ خُسِفَ بِأَوّلِهِمْ وَآخِرِهِمْ، وَلَمْ يَنْجُ أَوْسَطُهُمْ. قُلْتُ ياَ رَسُولَ الله فَمَنْ كَرِهَ مِنْهُمْ؟ قَالَ: يَبْعَثُهُمُ الله عَلَى مَا فِي أَنْفُسِهِمْ" .
هذا حديثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ.
ـــــــ
قوله: "عن سلمة بن كهيل" الحضرمي أبي يحيى الكوفي ثقة من الرابعة "عن أبي إدريس المرهبي" بضم أوله وكسر الهاء بعدها موحدة الكوفي، اسمه سوار أو مساور صدوق يتشيع من الرابعة "عن مسلم بن صفوان" مجهول من الثالثة كذا في التقريب. وقال في هامش الخلاصة نقلاً عن التهذيب: وثقه ابن حبان.
قوله: "حتى إذا كانوا بالبيداء" بفتح الموحدة وسكون التحتية "أو ببيداء من الأرض" شك من الراوي وفي حديث حفصة عند مسلم: حتى إذا كانوا ببيداء من الأرض من غير شك. قال النووي قال العلماء: البيداء كل أرض ملساء لا شيء بها "خسف بأولهم وآخرهم ولم ينج أوسطهم" أي يقع الهلاك في الدنيا على جميعهم "فمن كره منهم قال يبعثهم الله على ما في أنفسهم" وفي حديث أم سلمة عند مسلم: فكيف بمن كان كارهاً؟ قال يخسف به معهم ولكنه يبعث يوم القيامة على نيته، قال النووي أي يبعثون مختلفين على قدر نياتهم فيجازون بحسبها. وفي هذا الحديث من الفقه التباعد من أهل الظلم، والتحذير من مجالستهم ومجالسة البغاة ونحوهم من المبطلين، لئلا يناله ما يعاقبون به وفيه: إن من كثر سواد قوم جرى عليهم حكمهم في ظاهر عقوبات الدنيا انتهى.
قوله: "هذا حديث حسن صحيح" وأخرجه أحمد وابن ماجة. قال الحافظ في تهذيب التهذيب في ترجمة مسلم بن صفوان: روى عن صفية بنت حيي عن النبي صلى الله عليه وسلم: لا ينتهي الناس عن غزو هذا البيت. وروى عنه أبو إدريس(6/417)
2280ـ حدّثنا أَبُو كُرَيْبٍ، أخبرنا صَيْفي بنُ رِبْعِيٍ عن عبد الله بنِ عُمْرَ، عَنْ عُبَيدِ الله بن عمر، عنِ القَاسِمِ بنِ محمدِ، عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: "قَالَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم: يَكُونُ في آخِرِ هَذِهِ الأُمّةِ خَسْفٌ وَمَسْخٌ وَقَذْفٌ، قالَتْ: قُلْتُ يَا رَسُولُ الله أنُهْلَكُ وَفِينَا الصّالِحُونَ؟ قَالَ: نعم إِذَا ظَهَرَ الْخُبْثُ" .
هذا حديثٌ غَرِيبٌ من حديثِ عَائِشَةَ لاَ نَعْرِفُهُ إِلاّ مِنْ هَذَا الوَجْهِ
ـــــــ
المرهبي، صحح الترمذي حديثه. قال الحافظ وهو معلول انتهى.
قلت: لم يذكر وجه كونه معلولاً، فإن كان وجهه جهالة مسلم بن صفوان، فقد عرفت أن ابن حبان وثقه والله تعالى أعلم.
قوله: "حدثنا صيفي بن ربعي" بكسر الراء الأنصاري أبو هشام الكوفي صدوق يهم من التاسعة "عن عبد الله بن عمر" هو عبد الله بن عمر بن حفص ابن عاصم بن عمر بن الخطاب العمري المدني أبو عثمان، ثقة ثبت قدمه أحمد بن صالح على مالك في نافع. وقدمه ابن معين في القاسم عن عائشة على الزهري عن عروة عنها، من الخامسة قاله الحافظ في التقريب. وقال في تهذيب التهذيب في ترجمته: روى عن القاسم بن محمد بن أبي بكر وغيره وعنه أخوه عبد الله وغيره "عن القاسم بن محمد" بن أبي بكر الصديق التيمي، ثقة أحد الفقهاء بالمدينة، قال أيوب: ما رأيت أفضل منه، من كبار الثالثة.
قوله: "خسف ومسخ وقذف" قال في القاموس: خسف المكان يخسف خسوفاً ذهب في الأرض، وقال مسخه كمنعه حول صورته إلى أخرى أقبح. وقال قذف بالحجارة يقذف رمى بها "أنهلك" بفتح اللام من الإهلاك أو بكسر اللام من الهلاك "وفينا الصالحون" جملة حالية "إذا ظهر الخبث" هو بفتح الخاء والباء وفسره الجمهور بالفسوق والفجور، وقيل المراد الزنا خاصة، وقيل اولاد الزنا. والظاهر أنه المعاصي مطلقاً، ومعنى الحديث أن الخبث إذا كثر فقد يحصل الهلاك العام، وإن كان هناك صالحون. قاله النووي(6/418)
وَعَبْدُ الله بنُ عُمرَ تَكَلّمَ فِيهِ يَحْيَى بنُ سَعِيدٍ مِنْ قِبَلِ حِفْظِهِ.
ـــــــ
قوله: "وعبد الله بن عمر تكلم فيه يحيى بن سعيد من قبل حفظه" اعلم أن عبد الله بن عمر العمري مكبراً وعبيد الله بن عمر العمري مصغراً أخوان، فالمكبر ضعيف والمصغر ثقة(6/419)
20ـ باب ما جاءَ في طُلُوعِ الشّمْسِ مِنْ مَغْرِبِهَا
2281 ـ حَدّثنا هَنّادٌ، أخبرنا أَبُو مُعَاوِيَةَ عَنِ الأَعْمَشِ عَنْ إِبْرَاهِيمَ التّيمِيّ عن أَبِيهِ عَنْ أَبِي ذَرٍ قَالَ: "دَخَلْتُ المَسْجِدَ حِينَ غَابَتِ الشّمْسُ وَالنّبِيّ صلى الله عليه وسلم جَالِسٌ فَقَالَ: يَا أَبَا ذَرٍ أَتَدْرِي أَيْنَ تَذْهَبُ هَذِهِ؟ قَالَ: قُلْتُ الله ورَسُولُهُ أَعْلَمُ. قَالَ: فإِنّهَا تَذْهَبُ لِتَسْتَأَذِنَ فِي السّجُودِ فَيُؤْذَنَ لَهَا
ـــــــ
"باب ما جاء في طلوع الشمس من مغربها"
قوله: "عن إبراهيم التيمي" هو بن يزيد بن شريك، يكنى أبا أسماء الكوفي العابد ثقة، إلا أنه يرسل ويدلس من الخامسة "عن أبيه" أي يزيد بن شريك بن طارق التيمي الكوفي ثقة، يقال إنه أدرك الجاهلية من الثانية.
قوله: "أين تذهب هذه" أي الشمس، والإشارة للتعظيم "فإنها تذهب لتستأذن في السجود فيؤذن لها" أي في السجود. قال ابن بطال: استئذان الشمس معناه أن الله يخلق فيها حياة، يوجد القول عندها، لأن الله قادر على إحياء الجماد والموات. وقال غيره: يحتمل أن يكون الاستئذان أسند إليها مجازاً، والمراد من هو موكل بها من الملائكة.
قلت: الظاهر هو الأول والله تعالى أعلم وفي رواية البخاري في بدء الخلق: فإنها تذهب حتى تسجد تحت العرش فتستأذن فيؤذن لها. قال القسطلاني: أي في الطلوع من المشرق على عاداتها فيؤذن لها فتبدو من جهة المشرق. قال الحافظ أما قوله: تحت العرش فقيل هو حين محاذاتها ولا يخالف هذا قوله: وجدها تغرب في عين حمئة. فإن المراد بها نهاية مدرك البصر إليها حال الغروب،(6/419)
وَكأنها قَدْ قِيلَ لَهَا اطْلُعِي مِنْ حَيْثُ جِئْتِ فَتَطْلُعُ مِنْ مَغْرِبِهَا" ، قَالَ ثُمّ قَرَأَ: {وَذَلِكَ مُسْتَقَرّ لَهَا} " وَقَالَ: ذَلِكَ قِرَاءةُ عَبْدِ الله بنِ مَسْعُودٍ.
قال أبو عيسى: وفي البابِ عَنْ صَفْوَانَ بنِ عَسّالٍ وَحُذَيفَةَ بنِ أَسِيدٍ وَأَنَسٍ وَأَبِي مُوسَى.
ـــــــ
وسجودها تحت العرش إنما هو بعد الغروب "وكأنها قد قيل لها اطلعي من حيث جئت فتطلع من مغربها" وفي رواية البخاري المذكورة: ويوشك أن تسجد فلا يقبل منها، وتستأذن فلا يؤذن لها، يقال لها ارجعي من حيث جئت، فتطلع من مغربها "قال ثم قرأ" عليه الصلاة والسلام "وذلك مستقر لها وقال" أي أبو ذر كما هو الظاهر "ذلك قراءة عبد الله بن مسعود". وفي رواية البخاري في بدء الخلق والتفسير فذلك قوله تعالى: {وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَهَا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ} وهذه القراءة هي المتواترة. وفي رواية البخاري في التفسير قال: مستقرها تحت العرش. قال الحافظ في الحديث رد على من زعم أن المراد بمستقرها غاية ما تنتهي إليه في الارتفاع، وذلك أطول يوم في السنة. وقيل إلى منتهى أمرها عند انتهاء الدنيا. قال الحافظ: وظاهر الحديث أن المراد بالاستقرار وقوعه في كل يوم وليلة عند سجودها، ومقابل الاستقرار المسير الدائم المعبر عنه بالجري انتهى. وقال الطيبي بعد ذكر التأويلين المذكورين في كلام الحافظ ما لفظه: وأما قوله مستقرها تحت العرش فلا ينكر أن يكون لها استقرار تحت العرش من حيث لا ندركه ولا نشاهده، وإنما أخبر عن غيب فلا نكذبه ولا نكيفه. لأن علمنا لا يحيط به انتهى كلام الطيبي. وقال الشيخ في اللمعات قوله: "والشمس تجري لمستقر لها" قد ذكر في التفاسير وجوه غير ما في هذا الحديث، ولا شك أن ما وقع في الحديث المتفق عليه هو المعتبر والمعتمد، والعجب من البيضاوي أنه ذكر وجوهاً في تفسيره ولم يذكر هذا الوجه، ولعله أوقعه في ذلك تفلسفه نعوذ بالله من ذلك. وفي كلام الطيبي أيضاً ما يشعر بضيق الصدر نسأل الله العافية انتهى.
قوله: "وفي الباب عن صفوان بن عسال وحذيفة بن أسيد وأنس بن أبي موسى" أما حديث صفوان بن عسال فأخرجه بن ماجة عنه مرفوعاً: إن من قبل مغرب الشمس باباً مفتوحاً عرضه سبعون سنة، فلا يزال ذلك الباب(6/420)
هذا حديثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ.
ـــــــ
مفتوحاً للتوبة حتى تطلع الشمس من نحوه. فإذا طلعت من نحوه لم ينفع نفساً إيمانها لم تكن آمنت من قبل أو كسبت في إيمانها خيراً. وأما حديث حذيفة بن أسيد فأخرجه الترمذي في الباب المتقدم. وأما حديث أنس فأخرجه ابن ماجة في باب الاَيات، وأما حديث أبي موسى فأخرجه أحمد ومسلم.
قوله: "هذا حديث حسن صحيح" وأخرجه أحمد والبخاري في بدء الخلق والتفسير والتوحيد، ومسلم في الإيمان، وأبو داود في الحروف، والنسائي في التفسير. وأخرجه الترمذي أيضاً في تفسير سورة يس(6/421)
باب ما جاء فى خروج يأجوج و مأجوج
...
21-باب ما جاء في خروج ياجوج وماجوج
2282 ـ حَدّثنا سَعِيدُ بنُ عَبدِ الرّحمنِ المَخْزُومِيّ و أبو بكر بن نافع وَغيرُ وَاحِدٍ، قَالُوا
ـــــــ
" باب ما جَاءَ في خُرُوجِ يَاجُوجِ وماجُوج"
بغير همز لأكثر القراء، وقرأ عاصم بالهمزة الساكنة فيهما وفي لغة بني أسد وهما اسمان أعجميان عند الأكثر منعاً من الصرف للعلمية والعجمة وقيل بل عربيان واختلف في اشتقاقهما فقيل من أجيج النار وهو التهابها، وقيل من الأجة بالتشديد وهي الاختلاط أو شدة الحر وقيل غير ذلك وجاء في صفتهم ما أخرجه ابن عدي وابن أبي حاتم والطبراني في الأوسط وابن مردويه من حديث حذيفة رفعه قال: يأجوج أمة ومأجوج أمة كل أمة أربع مائة ألف، لا يموت الرجل منهم حتى ينظر إلى ألف ذكر من صلبه كلهم قد حمل السلاح ، وهو من رواية يحيى بن سعيد العطار عن محمد بن إسحاق عن الأعمش، والعطار ضعيف جداً ومحمد بن إسحاق قال: ابن عدي ليس هو صاحب المغازي بل هو العكاشي. قال والحديث موضوع. وقال ابن أبي حاتم منكر. قال الحافظ في الفتح: لكن لبعضه شاهد صحيح أخرجه ابن حبان من حديث ابن مسعود رفعه: أن ياجوج وماجوج أقل ما يترك أحدهم لصلبه ألفاً من الذرية . وللنسائي من رواية عمرو بن أوس عن أبيه رفعه: أن ياجوج وماجوج يجامعون ما شاءوا ولا يموت رجل منهم إلا ترك من ذريته ألفاً فصاعداً . وأخرج الحاكم وابن مردويه من طريق عبد الله بن عمرو أن ياجوج وماجوج(6/421)
أخبرنا سُفْيَانُ، عن الزّهْرِيّ عن عُرْوَةَ بن الزبير، عن زَينبَ بِنْتِ أَبي سَلَمَةَ، عن حَبِيبَةَ عن أَمّ حَبِيبَةَ عن زَيْنَبَ بِنْتِ جَحْشٍ قَالَتْ: "اسْتَيقَظَ رَسُولُ الله صلى
ـــــــ
من ذرية آدم ووراءهم ثلاث أمم، ولن يموت منهم رجل إلا ترك من ذريته ألفاً فصاعداً . وأخرج عبد بن حميد بسند صحيح عن عبد الله بن سلام مثله، وأخرج ابن أبي حاتم من طريق عبد الله بن عمرو قال: الجن والإنس عشرة أجزاء فتسعة أجزاء ياجوج وماجوج وجزء سائر الناس . ومن طريق شريح بن عبيد عن كعب قال: هم ثلاثة أصناف، صنف أجسادهم كالأرز يفتح الهمزة وسكون الراء ثم زاي هو شجر كبار جداً، وصنف أربعة أذرع في أربعة أذرع، وصنف يفترشون آذانهم ويلتحفون بالأخرى. ووقع نحو هذا في حديث حذيفة، وأخرج أيضاً هو والحاكم من طريق أبي الجوراء عن ابن عباس: ياجوج وماجوج شبراً شبراً وشبرين شبرين وأطولهم ثلاثة أشبار، وهم من ولد آدم. ومن طريق أبي هريرة رفعه ولد لنوح: سام وحام ويافث لسام العرب وفارس والروم، وولد لحام: القبط والبربر والسودان، وولد ليافث: ياجوج وماجوج والترك والصقالبة وفي سنده ضعف. ومن رواية سعيد بن بشير عن قتادة قال: ياجوج وماجوج ثنتان وعشرون قبيلة، بنى ذو القرنين السد على إحدى وعشرين وكانت منهم قبيلة غائبة في الغزو وهم الأتراك فبقوا دون السد . وأخرج ابن مردويه من طريق السدي قال: الترك سرية من سرايا ياجوج وماجوج، خرجت تغير فجاء ذو القرنين فبنى السد فبقوا خارجاً. ووقع في فتاوي الشيخ محي الدين: ياجوج وماجوج من أولاد آدم لا من حواء عند جماهير العلماء، فيكونون إخواننا لأب كذا قال ولم نر هذا عن أحد من السلف إلا عن كعب الأحبار ويرده الحديث المرفوع إنهم من ذرية نوح ونوح من ذرية حواء قطعاً انتهى ما في الفتح.
قوله: "عن حبيبة" بنت عبيد الله بن جحش الأسدية، أمها أم حبيبة بنت أبي سفيان، لها صحبة، وهاجرت مع أبويها إلى الحبشة، ويقال إنها ولدت بأرض الحبشة "عن زينب بنت جحش" بن رباب يعمر الأسدية أم المؤمنين، أمها أميمة بنت عبد المطلب، يقال ماتت سنة عشرون في خلافة عمر؟(6/422)
الله عليه وسلم مِنْ نَومٍ مُحْمَرّا وَجْهُهُ وَهْوَ يَقُولُ: لا إِلهَ إِلاّ الله، يُرَدّدُهَا ثَلاَثَ مَرّاتٍ، وَيْلٌ للعَرَبِ، مِنْ شَرَ قَدِ اقْتَرَبَ، فُتِحَ اليَوْمَ مِنْ رَدْمِ يَأجُوجَ وَمَأجُوجَ مِثلُ هَذِهِ وَعَقَدَ عَشْراً، قَالَتْ زَينَبُ قُلْتُ يَا رَسُولَ الله أَفَنَهْلَكُ
ـــــــ
قوله: "استيقظ رسول الله صلى الله عليه وسلم من نوم محمراً وجهه" وفي رواية البخاري دخل عليها يوماً فزعاً، فيجمع على أنه دخل عليها بعد أن استيقظ النبي صلى الله عليه وسلم فزعاً، وكانت حمرة وجهه من ذلك الفزع، وجمع بينهما في رواية سليمان بن كثير عن الزهري عند أبي عوانة، فقال: فزعاً محمراً وجهه "وبل للعرب من شر" في القاموس: الويل حلول الشر وهو تفجيع انتهى. وخص بذلك العرب لأنهم كانوا حينئذ معظم من أسلم والمراد بالشر ما وقع بعده من قتل عثمان، ثم توالت الفتن حتى صارت العرب بين الأمم كالقصعة بين الأكلة، كما وقع في الحديث الاَخر: يوشك أن تداعي عليكم الأمم كما تداعي الأكلة على قصعتها . وإن المخاطب بذلك العرب. قال القرطبي: ويحتمل أن يكون المراد بالشر ما أشار إليه في حديث أم سلمة: ماذا أنزل الليلة من الفتن؟ وماذا أنزل من الخزائن؟ فأشار بذلك إلى الفتوح التي فتحت بعده فكثرت الأموال في أيديهم فوقع التنافس الذي جر الفتن، وكذلك التنافس على الإمرة فإن معظم ما أنكروه على عثمان تولية أقاربه من بني أمية وغيرهم حتى أفضى ذلك إلى قتله، وترتب على قتله من القتال بين المسلمين ما اشتهر واستمر "قد اقترب" أي قرب ذلك الشر في غاية القرب بيانه.
قوله: "فتح اليوم من ردم يأجوج ومأجوج" المراد بالردم السد الذي بناه ذو القرنين بزبر الحديد وهي القطعة منه "مثل هذه" بالرفع على أنه نائب الفاعل لقوله فتح والإشارة إلى الحلقة المبينة بقوله: "وعقد عشراً" وعقد العشرة أن يجعل طرف السبابة اليمنى في باطن طي عقدة الإبهام العليا، والمراد أنه لم يكن في ذلك الردم ثقبة إلى اليوم، وقد انفتحت فيه، إذ انفتاحها من علامات قرب الساعة، فإذا اتسعت خرجوا، وذلك بعد خروج الدجال كما تقدم "أفنهلك" بضم النون(6/423)
وَفِينَا الصّالِحُونَ؟ قَالَ: نَعَمْ إِذَا كَثُرَ الْخُبْثُ".
هذا حديثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ. جَوّدَ سُفْيَانُ هَذَا الْحَدِيث. هكذا روى الْحُميْدِيّ وعلي بن المديني وغير واحد من الحفاظ عن سفيان بن عيينة نحو هذا وقال الحميدي قال: سُفْيَانَ بنِ عُيَيْنَةَ حَفِظْتُ منَ الزّهْرِيّ فِي هَذَا الإِسْنَادِ أَرْبَعَ نِسْوَة: زَيْنَبَ بنت أَبِي سَلَمَةَ، عنْ حَبِيبَةَ وَهُمَا رَبِيْبَتَا النّبيّ صلى الله عليه وسلم عن أُمّ حَبيبة، عن زَيْنَب بِنْتِ جَحْشٍ زَوجَي النّبيّ صلى الله عليه وسلم. وهكذا رَوَى مَعْمرٌ وغيره هَذَا الحَدِيثَ عَنْ الزّهْرِيّ وَلمْ يَذْكُروا فِيهِ عَن حَبِيبَةَ وقد روى بعض أصحاب ابن عيينة هذا الحديث عن ابن عيينة ولم يذكروا فيه عن أُمّ حبيبة.
ـــــــ
وفتح اللام من الإهلاك أو بفتح النون وكسر اللام من الهلاك "وفينا الصالحون" قال القاري: أي أنعذب فنهلك نحن معشر الأمة والحال أن بعضنا مؤمنون وفينا الطيبون الطاهرون، ويمكن أن يكون هذا من باب الاكتفاء على تقدير الاستغناء أي وفينا الصالحون ومنا القاسطون انتهى. "قال نعم" أي يهلك الطيب أيضاً "إذا كثر الخبث" بفتح المعجمة والموحدة ثم مثلثة، فسروه بالزنا وبأولاد الزنا وبالفسق والفجور وهو أولى لأنه قابله بالصلاح. والمقصود أن النار إذا وقعت في موضع واشتدت أكلت الرطب واليابس، وغلبت على الطاهر والنجس، ولا تفرق بين المؤمن والمنافق والمخالف والموافق.
قوله: "هذا حديث حسن صحيح" وأخرجه البخاري ومسلم والنسائي وابن ماجة.
قوله: "جود سفيان هذا الحديث" أي بذكر النسوة الأربع المذكورة في الإسناد. وقد أطال الحافظ الكلام في هذا المقام في الفتح في باب قول النبي صلى الله عليه وسلم: ويل للعرب من شر قد اقترب، من كتاب الفتن. فعليك أن تراجعه(6/424)
22 – باب ما جاء في صفة المارقة
2283 ـ حَدّثنا أَبُو كُرَيبٍ محمد بن العلاء، حدثنا أَبُو بَكْرِ بنِ عَيّاشٍ عَنْ عَاصِمٍ
ـــــــ
"باب في صِفَةِ المَارِقَة"
أي الخوارج(6/424)
عَنْ زِرٍ عَنْ عَبْدِ الله بن مسعود قَالَ: قَالَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم: "يَخْرُجُ فِي آخِرِ الزّمَانِ قَوْمٌ أَحْدَاثُ الأَسْنَانِ سُفَهَاءُ الأحْلاَمِ يَقْرأُونَ الْقُرْآنَ لاَ يُجَاوِزُ تَرَاقِيَهُمْ يَقُولُونَ مِنْ قَوْل خَيْرِ البَرِيّةِ يَمْرُقُونَ مِنَ الدّينِ كَمَا يَمْرُقُ السّهْمُ
ـــــــ
قوله: "عن عاصم" هو ابن بهدلة "عن زر" هو ابن حبيش "عن عبد الله" هو ابن مسعود.
قوله: "يخرج في آخر الزمان قوم" قال الحافظ في الفتح: وهذا قد يخالف حديث أبي سعيد، يعني الذي رواه البخاري في باب: من ترك قتال الخوارج للتألف وإلا ينفر الناس عنه، فإن مقتضاه أنهم خرجوا في خلافة عليّ، وكذا أكثر الأحاديث الواردة في أمرهم. وأجاب ابن التين بأن المراد زمان الصحابة وفيه نظر، لأن آخر زمان الصحابة كان على رأس المائة وقد خرجوا قبل ذلك بأكثر من ستين سنة، ويمكن الجمع بأن المراد بآخر الزمان زمان خلافة النبوة، فإن في حديث سفينة المخرج في السنن وصحيح ابن حبان وغيره مرفوعاً الخلافة بعدي ثلاثون سنة ثم تصير ملكاً وكانت قصة الخوارج وقتلهم بالنهروان في أواخر خلافة علي سنة ثمان وعشرين بعد النبي صلى الله عليه وسلم بدون الثلاثين بنحو سنتين انتهى. "أحداث الأسنان" قال الحافظ: أحداث بمهملة ثم مثلثة جمع حدث بفتحتين، والحدث هو الصغير السن، والأسنان جمع سن والمراد به العمر، والمراد أنهم شباب انتهى. "سفهاء الأحلام" جمع حلم بكسر أوله والمراد به العقل. والمعنى أن عقولهم رديئة. قال النووي يستفاد منه أن التثبت وقوة البصيرة تكون عند كمال السن وكثرة التجارب وقوة العقل. قال الحافظ: ولم يظهر لي وجه الأخذ منه فإن هذا معلوم بالعادة لا من خصوص كون هؤلاء كانوا بهذه الصفة "لا يجاوز تراقيهم" قال الجزري في النهاية: التراقي جمع ترقوّة وهي العظم الذي بين ثغرة النحر والعاتق، وهما ترقوتان من الجانبين، وزنها فعلوة بالفتح. والمعنى أن قراءتهم لا يرفعها الله ولا يقبلها، فكأنها لم تتجاوز حلوقهم، وقيل: المعنى أنهم لا يعملون بالقرآن ولا يثابون على قراءته فلا يحصل لهم غير القراءة انتهى "يقولون من قول خير البرية" قال الحافظ: أي من القرآن وكانت أول كلمة خرجوا بها قولهم: لا حكم إلا لله وانتزعوها من القرآن، وحملوها غير محملها(6/425)
مِنَ الرّمِيّةِ" . وفي البابِ عَنْ عَلِيٍ وَأَبِي سَعِيدٍ وَابِي ذَرٍ.
هذا حديثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ.
وَقَدْ رُوِيَ فِي غَيرِ هَذَا الْحَدِيثِ عَنْ النّبِيّ صلى الله عليه وسلم حَيْثُ وَصْفُ هَؤُلاَءِ القَوْمِ الّذِينَ يَقْرَأُونَ القُرْآنَ لاَ يُجَاوِزُ تَرَاقِيَهُمْ يَمْرُقُونَ مِنَ الدّينِ كَمَا يَمْرُقُ السهْمُ مِنَ الرّمِيّةِ، إِنّمَا هُمْ الْخَوَارِجُ الحَرُوْرِيّةُ، وَغَيْرُهُمْ مِنَ الْخَوَارِجِ.
ـــــــ
"يمرقون من الدين" إن كان المراد به الإسلام فهو حجة لمن يكفر الخوارج، ويحتمل أن يكون المراد بالدين الطاعة فلا يكون فيه حجة، وإليه جنح الخطابي "كما يمرق السهم من الرمية" بوزن فعيلة بمعنى مفعولة، وهو الصيد المرمي، شبه مروقهم من الدين بالسهم الذي يصيب الصيد فيدخل فيه، ويخرج منه، ومن شدة سرعة خروجه لقوة الرامي لا يعلق من جسد الصيد شيء. قال الجزري في النهاية، أي يجوزونه ويخرقونه ويتعدونه، كما يخرق السهم الشيء المرمي به ويخرج منه انتهى.
قوله: "وفي الباب عن علي وأبي سعيد وأبي ذر" أما حديث علي فأخرجه البخاري في باب علامات النبوة وغيره ومسلم في الزكاة وأبو داود في السنة والنسائي في فضائل القرآن وابن ماجة في السنة. وأما حديث أبي سعيد فأخرجه البخاري أيضاً في علامات النبوة وغيره، ومسلم في الزكاة، وأبو داود في السنة، والنسائي في المحاربة. وأما حديث أبي ذر فأخرجه أحمد في مسنده ومسلم في الزكاة "وقد روى في غير هذا الحديث" كحديث علي وأبي سعيد وغيرهما "إنما هم الخوارج" جمع خارجة وهم قوم مبتدعون، سموا بذلك لخروجهم عن الدين وخروجهم على خيار المسلمين. وقد أطال الحافظ الكلام في بيان معتقدهم وحالهم في الفتح في باب قتل الخوارج والملحدين "الحرورية" قال الحافظ في شرح قول عائشة: أحرورية أنت؟ ما لفظه الحروري منسوب إلى حروراء بفتح الحاء وضم الراء المهملتين وبعد الواو الساكنة راء أيضاً، بلدة على ميلين من الكوفة، والأشهر(6/426)
ـــــــ
أنها بالمد قال المبرد: النسبة إليها حروراوي، وكذا كل ما كان في آخره ألف تأنيث ممدودة، ولكن قيل الحروري بحذف الزوائد، ويقال لمن يعتقد مذهب الخوارج حروري لأن أول فرقة منهم خرجوا على علي بالبلدة المذكورة فاشتهروا بالنسبة إليها وهم فرق كثيرة لكن من أصولهم المتفق عليها بينهم، الأخذ بما دل عليه القرآن ورد ما زاد عليه من الحديث مطلقاً(6/427)
23 ـ باب في الأَثَرةِ وما جاء فيه
2284ـ حَدّثنا محمودُ بنُ غَيْلاَنَ، حدثنا أَبو دَاودَ حدثنا شُعْبَةُ عَنْ قَتَادَةَ، حدثنا أَنَسُ بنُ مَالِكٍ عَنْ أُسَيدِ بنِ حُضَيرٍ: "أَنّ رَجَلاً مِنَ الأَنْصَارِ قَالَ يَا رَسولَ الله اسْتَعْمَلْتَ فُلاَناً وَلَمْ تَسْتَعْمِلْنِي، فَقَالَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم: إِنّكُمْ ستَرَوْنَ بَعْدِي أَثَرَةً فاصْبِروا حَتّى تلقَوْنِي عَلَى الْحَوْضِ" .
وهذا حديثٌ حَسَنٌ صحيحٌ.
ـــــــ
"باب ما جاء في الأثرة"
قوله: "استعملت فلاناً" أي جعلته عاملاً "فقال" أي للأنصار كما في حديث أنس عند البخاري في مناقب الأنصار "إنكم" أيها الأنصار "سترون بعدي أثرة" بضم الهمزة وسكون المثلثة وبفتحتين، ويجوز كسر أوله مع الإسكان، أي الانفراد بالشيء المشترك دون من يشركه فيه. والمعنى أنه يستأثر عليهم بما لهم فيه اشتراك في الاستحقاق. وقال أبو عبيد: معناه يفضل نفسه عليكم في الفيء كذا في الفتح "فاصبروا حتى تلقوني على الحوض" أي يوم القيامة، أي اصبروا حتى تموتوا فإنكم ستجدونني عند الحوض فيحصل لكم الانتصاف ممن ظلمكم والثواب الجزيل على الصبر. قال الحافظ: والسر في جوابه على طلب الولاية بقوله سترون بعدي أثرة إرادة نفي ظنه أنه آثر الذي ولاه عليه فبين له أن ذلك لا يقع في زمانه، وأنه لم يخصه بذلك لذاته بل لعموم مصلحة المسلمين، وأن الاستئثار للحظ الدنيوي إنما يقع بعدي وأمرهم عند وقوع ذلك بالصبر انتهى.
قوله: "هذا حديث حسن صحيح" وأخرجه البخاري ومسلم وأحمد في مسنده والنسائي.(6/427)
2285 ـ حدّثنا محمدُ بنُ بَشّارٍ، حدثنا يَحْيَى بنُ سَعِيدٍ عَنِ الأَعْمَشِ عَنْ زَيْدِ بنِ وَهْبٍ عَنْ عَبدِ الله عَن النّبيّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "إِنّكُمْ ستَرَوْنَ بَعْدِي أَثَرةً وَأُمُوراً تُنكِرُونَهَا. قَالُوا فَمَا تَأْمُرنَا يا رسول الله، قَالَ: "أَدّوا إِلَيْهِمْ حَقّهُمْ وَاسْأَلُوا الله الّذِي لَكُمْ" .
هذا حديثٌ حسنٌ صحيحٌ.
ـــــــ
قوله: "إنكم سترون بعدي أثرة" قال في النهاية الأثرة بفتح الهمزة والثاء الاسم من آثر يؤثر إيثاراً إذا أعطى. أراد أنه يستأثر عليكم فيفضل غيركم في نصيبه من الفيء. والاستئثار الانفراد بالشيء "وأموراً تنكرونها" يعني من أمور الدين "قالوا فما تأمرنا" أي أن نفعل إذا وقع ذلك "أدوا إليهم" أي إلى الأمراء "حقهم" أي الذي وجب لهم المطالبة به وقبضه سواء كان يختص بهم أو يعم "واسألوا الله الذي لكم" أي بأن يلهمهم إنصافكم أو يبدلكم خيراً منهم كذا في والفتح. قال الطيبي: أي لا تقاتلوهم باستيفاء حقكم ولا تكافئوا استئثارهم باستئثاركم بل وفروا إليهم حقهم من السمع والطاعة وحقوق الدين وسلوا الله من فضله أن يوصل إليكم حقكم من الغنيمة والفيء ونحوهما، وكلوا إلى الله تعالى أمركم، والله لا يضيع أجر المحسنين.
قوله: "هذا حديث حسن صحيح" وأخرجه الشيخان(6/428)
باب ما أخبر النبى صلى الله عليه و سلم أصحابه بما هو كائن إلى يوم القيامة
...
24-باب ما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه بما هو كائن إلى يوم القيامة
2286 ـ حَدّثنا عِمْرَانُ بنُ مُوسَى القَزّازُ البَصْرِيّ، حدثنا حَمّادُ بنُ زَيْدٍ حدثنا عَلِيّ بنُ زَيْدٍ بن جدعان القرشي عَنْ أَبِي نَضْرَةَ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيّ قَالَ: صَلّى بِنَا رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم يَوْماً صَلاَة العَصْرِ بِنَهَارٍ ثُمّ قَامَ خَطِيباً فَلَمْ
ـــــــ
"باب ما أخْبَرَ النّبِيّ صلى الله عليه وسلم أصْحَابَه بما هو كائنٌ الى يَومِ القِيَامَةِ"
قوله: "بنهار" فيه إشارة إلى أنه صلى الله عليه وسلم عجل العصر في ذلك(6/428)
َيدْعَ شَيئاً يَكُونُ إِلَى قِيَامِ السّاعَةِ إِلاّ أَخْبَرَنَا بِهِ حَفِظَهُ مَنْ حَفِظَهُ وَنَسِيَهُ مَنْ نَسِيَهُ، وَكَانَ فِيمَا قَالَ: "إِن الدّنْيَا خَضِرَةٌ حُلْوَةٌ وَإِنّ الله مُسْتَخْلِفُكُمْ فِيهَا فَنَاظِرٌ كَيْفَ تَعْمَلُونَ، أَلاَ فَاتّقُوا الدّنْيَا وَاتّقُوا النّسَاءَ، وكَانَ فِيمَا قَالَ: أَلاَ لاَ تَمْنَعنّ رَجُلاً هيبةُ النّاسِ أَنْ يَقُولَ بِحَقٍ إِذَا عَلِمَهُ. قَالَ فَبَكىَ أَبُو سَعِيدٍ فَقَالَ: قَد وَالله رَأَيْنَا أَشْيَاءَ فَهِبْنَا وَكَانَ فِيمَا قَالَ: أَلا إِنّهُ يُنْصَبُ لِكُلّ غَادِرٍ لِوَاءٌ يَوْمَ القِيَامَةِ بِقَدْرِ غَدْرَتِهِ وَلاَ غَدْرَةَ أَعْظَمَ مِنْ غَدْرَةِ إِمَامِ عامةٍ يُرْكَزُ لِوَاؤُهُ
ـــــــ
اليوم "ثم قام خطيباً" أي واعظاً "فلم يدع" أي لم يترك "شيئاً" أي مما يتعلق بأمر الدين مما لا بد منه "يكون" أي يقع ذلك الشيء "إلى قيام الساعة" أي ساعة القيامة "حفظه من حفظه" أي من وفقه الله وحفظه "ونسيه من نسيه أي من أنساه الله وترك نصره "فكان" وفي بعض النسخ وكان "فيما قال" أي من خطبته وموعظته "إن الدنيا خضرة" بفتح فكسر، أي ناعمة طرية محبوبة "حلوة" بضم أوله أي لذيذة حسنة، وإنما وصفها بالخضرة لأن العرب تسمي الشيء الناعم خضراً أو لشبهها بالخضروات في ظهور كمالها وسرعة زوالها. وفيه بيان أنها تفتن الناس بلونها وطعمها "وإن الله مستخلفكم فيها فناظر كيف تعملون" أي جاعلكم خلفاء من قرن خلوا قبلكم فينظر تطيعونه أو لا "ألا" للتنبيه "فاتقوا الدنيا" أي احذروا زيادتها على قدر الحاجة المعينة للدين النافعة في الأخرى "واتقوا النساء" أي كيدهن ومكرهن "وكان فيما قال" صلى الله عليه وسلم من خطبته "ألا" للتنبيه "هيبة الناس" أي عظمتهم وشوكتهم ومخافتهم ومهابتهم "أن يقول بحق" أي من أن يتكلم به أو يأمر به "قد والله رأينا أشياء فهبنا" أي خفنا من هابه يهابه أي يخافه. والمعنى منعتنا هيبة الناس أن نتكلم فيها "ينصب لكل غادر" من الغدر وهو ترك الوفاء "لواء" بكسر اللام أي علم إعلاماً بسوء حاله وقبح مآله "بقدر غدرته" مصدر بمعنى الغدر "ولا غدرة أعظم من غدرة إمام عامة" قال التوربشتي رحمه الله تعالى: أراد به المتغلب الذي يستولي على أمور المسلمين وبلادهم بتأمير العامة ومعاضدتهم إياه من غير مؤامرة من الخاصة، وأهل العقد(6/429)
عِنْدَ إِسْتِهِ. وَكَانَ فِيمَا حَفِظْنَا يَوْمَئذٍ: أَلاَ إِنّ بَني آدَمَ خُلِقُوا عَلَى طَبَقَاتٍ شَتّى، فَمِنْهُمْ مَنْ يُولَدُ مُؤمِناً وَيَحْيى مُؤْمِناً وَيَمُوتُ مُؤْمِناً، وَمِنْهُمْ مَنْ يُوَلَدُ كَافِراً وَيَحْيَى كَافِراً وَيَمُوتُ كَافِراً، وَمِنْهُمْ مَنْ يُولَدُ مُؤْمِناً وَيَحْيَى مُؤْمِناً وَيَمُوتُ كَافِراً، وَمِنْهُمْ مَنْ يُولَدُ كَافِراً وَيَحْيَى كَافِراً وَيَمُوتُ مُؤْمِناً، أَلا وَإنّ مِنْهُمُ البَطِيءَ الغَضَبِ سَرِيعَ الفَيءِ، وَمِنْهُمْ سَرِيعُ الغَضَبِ سَرِيعُ الفَيْء،
ـــــــ
من أولى العلم ومن ينضم إليهم من ذوي السابقة ووجوه الناس "يركز" بصيغة المجهول، أي يغرز كما في رواية "لواءه عند استه" بهمزة الوصل مكسورة، العجز أو حلقة الدبر أي ينصب لواءه عند إسته تحقيراً له "ألا" للتنبيه "خلقوا" أي جبلوا على ما خلق الله فيهم من اختيار الخير والشر "على طبقات شتى" أي مراتب مختلفة باعتبار اختلاف أحوال الإيمان والكفر وأوقاتهما.
"فمنهم من يولد مؤمناً" أي من أبويه المؤمنين أو في بلاد المؤمنين فإنه حين يولد قبل التمييز لا ينسب إليه الإيمان إلا باعتبار ما علم الله فيه من الأزل، أو باعتبار ما يؤول إليه أمره في الاستقبال "يحيى" أي يعيش في جميع عمره من حين تمييزه إلى انتهاء عمره "مؤمناً" أي كاملاً أو ناقصاً "ويموت مؤمناً" أي وكذلك جعلنا الله منهم "ومنهم من يولد كافراً" أي بخلاف ما سبق وهو لا ينافي ما ورد: كل مولد يولد على الفطرة، فإن المراد بها قابلية قبول الهداية لولا مانع من بواعث الضلالة، كما يشهد له قوله: فأبواه يهودانه الحديث.
"ومنهم من يولد كافراً ويحيى كافراً ويموت مؤمناً" فالعبرة بالخواتيم، وكان التقسيم غالبي، وإلا فمنهم من يولد مؤمناً ويحيى كافراً ويموت مؤمناً، ومنهم من يولد كافراً ويحيى مؤمناً ويموت كافراً. ولعل عدم ذكرهما لأن المقصود منه أن العبرة بالخاتمة.
وقد علمت مما ذكر إجمالاً "ألا" للتنبيه وكذا ما بعده "وإن منهم" أي من بني آدم "البطيء الغضب" فعيل من البطء مهموز، وقد يبدل ويدغم وهو ضد السريع "سريع الفيء" أي سريع الرجوع من الغضب "ومنهم سريع الغضب(6/430)
فِتِلْكَ بِتِلْكَ، أَلاَ وَإِنّ مِنْهُمْ سَرِيعَ الغَضَبِ بَطِيءَ الفَيء، أَلاَ وَخَيْرُهُمْ بَطِيءُ الغَضَبِ سَرِيعُ الفَيءِ، ألا وَشَرّهُمْ سَرِيعُ الغَضَبِ بَطِيءُ الفيء، أَلاَ وَإِنّ مِنْهُمْ حَسَنَ القَضَاءِ حَسَنَ الطّلَبِ، وَمِنْهُمْ سَيّءُ القَضَاءِ حَسَنُ الطّلَبِ، وَمِنْهُمْ حَسَنُ القَضَاءِ سَيّءُ الطّلَبِ، فَتِلْكَ بِتِلْكَ أَلاَ وَإِنّ مِنْهُمْ السيء القَضَاءِ السّيّء الطّلَبِ، أَلاَ وَخَيْرُهُمْ الْحَسَنُ القَضَاءِ الحَسَنُ الطّلَبِ، أَلاَ وَشَرّهُمْ سَيّءُ القَضَاءِ سَيّءُ الطّلَبِ، أَلاَ وَإِنّ الغَضَبَ جَمْرةٌ في قَلْبِ ابنِ آدَمَ أَمَا رَأيتُمْ إِلَى حُمْرةِ عَيْنَيْهِ
ـــــــ
سريع الفيء فتلك بتلك" وفي المشكاة فإحداهما بالأخرى.
قال القاري: أي إحدى الخصلتين مقابلة بالأخرى ولا يستحق المدح والذم فاعلهما لاستواء الحالتين فيه بمقتضى العقل، فلا يقال في حقه إنه خير الناس ولا شرهم انتهى. وههنا قسم رابع لم يذكره الترمذي وذكره غيره. ففي المشكاة: ومنهم من يكون بطيء الغضب بطيء الفيء، فإحداهما بالأخرى. قال القاري: والتقسيم بمقتضى العقل رباعي لا خامس له. وفيه إشارة إلى أن الإنسان خلق فيه جمع الأخلاق المرضية والدنية، وأن كماله أن تغلب له الصفات الحميدة على الذميمة، لا أنها تكون معدومة فيه بالكلية وإليه الإشارة بقوله تعالى: {وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ} حيث لم يقل والعادمين، إذ أصل الخلق لا يتغير ولا يتبدل. ولذا ورد: ولو سمعتم أن جبلاً زال عن مكانه فصدقوه، وإن سمعتم أن رجلاً تغير عن خلقه أي الأصلي فلا تصدقوه. ومما يدل على جواز تبديل الأخلاق في الجملة دعاؤه صلى الله عليه وسلم: اللهم أهدني لصالح الأخلاق لا يهدي لصالحها إلا أنت، واصرف عني سيئها لا يصرف عني سيئها إلا أنت انتهى.
"ألا وإن منهم حسن القضاء" أي مستحسن الأداء إذا كان عليه الدين "حسن الطلب" أي إذا كان له دين على أحد "ومنهم سيء القضاء حسن الطلب" أي فإحداهما بالأخرى كما في رواية "ومنهم سيء القضاء سيء الطلب فتلك بتلك". وفي المشكاة: منكم من يكون حسن القضاء، وإذا كان له أفحش في الطلب. قال القاري: بأن لم يراع الأدب وآذى في تقاضيه، وعسر على صاحبه في الطلب "ألا وإن الغضب جمرة" أي حرارة غريزية، وحدة جبلية مشعلة جمرة نار(6/431)
وَانْتِفَاخِ أَوْدَاجِهِ، فَمَنْ أَحَسّ بِشَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ فَلْيَلْصَقْ بالأرْضِ، قالَ: وَجَعَلْنَا نَلْتَفِتُ إِلَى الشّمْسِ هَلْ بَقِيَ مِنْهَا شَيْءٌ؟ فَقَالَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم: أَلاَ إِنّهُ لَمْ يَبْقَ مِنَ الدّنْيَا فِيمَا مَضَى مِنْهَا إِلاّ كَمَا بَقِيَ مِنْ يَوْمِكُمْ هَذَا فيمَا مَضَى مِنْهُ" .
هذا حديث حسن. وفي البابِ عن حُذَيْفَةَ وَأَبِي مَرْيمَ وَأَبِي زَيْدِ بنِ أَخْطَبَ والمُغِيرَةِ بنِ شُعْبَةَ وذَكَرُوا: "أَنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم حَدّثَهُمْ بِمَا هُوَ كَائِنٌ إِلَى أَنْ تَقُومَ السّاعَةُ".
ـــــــ
مكمونة في كانون النفس "إلى حمرة عينيه" كما يوجد مثل هذا عند حرارة الطبيعة في أثر الحمى "وانتفاخ أوداجه". قال في النهاية: الأوداج ما أحاط بالعنق من العروق التي يقطعها الذابح واحدها ودج بالتحريك، وقيل الودجان هما عرقان غليظان عن جانبي ثغرة النحر انتهى. "فمن أحسن بشيء من ذلك" أي أدرك ظهور أثر منه أو من علم في باطنه شيئاً منه "فليلصق بالأرض" من باب علم يعلم أي فليلتزق بها حتى يسكن غضبه، وإنما أمره به لما فيه من الضعة عن الاستعلاء، وتذكار أن من كان أصله من التراب لا يستحق أن يتكبر "ولم يبق من الدنيا فيما مضى منها" أي في جملة ما مضى منها "إلا كما بقي من يومكم هذا فيما مضى منه" يعني نسبة ما بقي من أيام الدنيا إلى جملة ما مضى كنسبة ما بقي من يومكم هذا إلى ما مضى منه. وقوله إلا كما بقي مستثنى من فاعل لم يبق أي لم يبق شيء من الدنيا إلا مثل ما بقي من يومكم هذا.
قوله: "هذا حديث حسن" في مسنده عليّ بن زيد بن جدعان وهو صدوق عند الترمذي ضعيف عند غيره والحديث أخرجه أيضاً أحمد والحاكم والبيهقي.
قوله: "وفي الباب عن المغيرة بن شعبة وأبي زيد بن أخطب وحذيفة وأبي مريم الخ" أما حديث أبي زيد بن أخطب فأخرجه أحمد ومسلم في الفتن. وأما حديث المغيرة وأبي مريم فلينظر من أخرجه(6/432)
25ـ باب ما جاء في أهل الشّام
2287ـ حَدّثنا محمودُ بنُ غَيْلاَنَ، حدثنا أَبُو دَاوُدَ، حدثنا شُعْبَةُ عَنْ مُعَاوِيَةَ بنِ قُرّةَ عن أَبِيهِ قَالَ: "قَالَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم إِذَا فَسدَ أَهْلُ الشّامِ فَلاَ خَيْرَ فِيكُمْ: لا تَزَالُ طَائِفَةٌ مِنْ أُمّتِي مَنْصُورِينَ لاَ يَضُرّهُمْ مَنْ خَذَلَهُمْ حَتّى تَقُومَ السّاعَةُ" قَالَ محمدُ بنُ إِسماعِيلَ قَالَ عَلِيّ بنُ المَدِينيّ،
ـــــــ
"باب ما جاء في أهل الشام"
قوله: "عن أبيه" أي قرة بن إياس بن هلال المزني أبي معاوية، صحابي نزيل البصرة.
قوله: "إذا فسد أهل الشام فلا خير فيكم" أي للقعود فيها أو التوجه إليها "لا تزال" بالمثناة الفوقية أوله "طائفة" قال القرطبي: الطائفة الجماعة. وقال في النهاية: الطائفة الجماعة من الناس وتقع على الواحد، وكأنه أراد نفساً طائفة "منصورين" أي غالبين على أعداء الدين "لا يضرهم من خذلهم" أي ترك نصرتهم ومعاونتهم "حتى تقوم الساعة" أي تقرب الساعة وهو خروج الريح، قاله النووي. وقال القسطلاني في شرح البخاري: واستشكل بحديث مسلم عن عبد الله بن عمر: ولا تقوم الساعة إلا على شرار الناس الحديث.
وأجيب بأن المراد من شرار الناس الذين تقوم عليهم الساعة قوم يكونون بموضع مخصوص، وبموضع آخر تكون طائفة يقاتلون عن الحق وعند الطبراني من حديث أبي أمامة: قيل يا رسول الله وأين هم؟ قال ببيت المقدس. والمراد بهم الذي يحصرهم الدجال إذا خرج فينزل عيسى إليهم فيقتل الدجال، ويحتمل أن يكون ذلك عند خروج الدجال أو بعد موت عيسى عليه السلام بعد هبوب الريح التي تهب بعده فلا يبقى أحد في قلبه مثقال ذرة من إيمان إلا قبضته، ويبقى شرار الناس فعليهم تقوم الساعة، وهناك يتحقق خلو الأرض عن مسلم، فضلاً عن هذه الطائفة الكريمة، وهذا كما في الفتح أولى ما يتمسك به في الجمع بين الحديثين المذكورين انتهى.
"قال محمد بن إسماعيل" يعني الإمام البخاري رحمه الله تعالى "قال علي بن(6/433)
هُمْ أَصْحَابُ الحَدِيثِ.
وفي البابِ عَنْ عَبْدِ الله بنِ حَوَالَةَ وَابنِ عُمَر وَزَيْدِ بنِ ثَابِتٍ وَعَبْدِ الله بنِ عَمْرٍو. وهذا حديثٌ حسنٌ صحيحٌ.
2288 ـ حدّثنا أحمدُ بنُ مَنيعٍ، حدثنا يَزِيدُ بنُ هَارُونَ، أخبرنا بَهْزُ بنُ حَكِيمٍ عَن أَبِيهِ عَنْ جَدّهِ، قَالَ: قلت: يَا رَسُولَ الله أَينَ تَأْمُرنِي؟
ـــــــ
المديني" هو علي بن عبد الله بن جعفر بن نجيح السعدي مولاهم أبو الحسن البصري ثقة ثبت إمام أعلم أهل عصره بالحديث وعلله حتى قال البخاري: ما استصغرت نفسي إلا عنده. وقال فيه شيخه ابن عيينة: كنت أتعلم منه أكثر مما يتعلمه مني. وقال النسائي: كأن الله خلقه للحديث "هم أصحاب الحديث" وقال البخاري في صحيحه: وهم أهل العلم. وقال الحافظ في الفتح: وأخرج الحاكم في علوم الحديث بسند صحيح عن أحمد: إن لم يكونوا أهل الحديث فلا أدري من هم. ومن طريق يزيد بن هارون مثله انتهى. قال القاضي عياض: إنما أراد أحمد أهل السنة والجماعة ومن يعتقد مذهب أهل الحديث. وقال النووي: ويحتمل أن هذه الطائفة متفرقة بين أنواع المؤمنين منهم شجعان مقاتلون، ومنهم فقهاء، ومنهم محدثون، ومنهم زهاد وآمرون بالمعروف ونهاهون عن المنكر، ومنهم أهل أنواع أخرى من الخير ولا يلزم أن يكونوا مجتمعين بل قد يكونون متفرقين في أقطار الأرض.
قوله: "وفي الباب عن عبد الله بن حوالة وابن عمر وزيد بن ثابت وعبد الله بن عمرو" أما حديث عبد الله بن حوالة فأخرجه أحمد وأبو داود. وأما حديث ابن عمر وحديث زيد بن ثابت فأخرجهما الترمذي في باب فضل الشام واليمن، من أبواب المناقب. ولابن عمر حديث آخر يأتي في باب: لا تقوم الساعة حتى تخرج نار من قبل الحجاز. وأما حديث عبد الله بن عمرو فأخرجه أبو داود.
قوله: "هذا حديث حسن صحيح" وأخرجه أحمد في مسنده.
قوله: "أخبرنا بهز" بفتح موحدة وسكون هاء فزاي. قال في التقريب: بهز بن حكيم بن معاوية القشيري أبو عبد الملك صدوق من السادسة "عن أبيه" أي حكيم بن معاوية بن حيدة القشيري. قال في تهذيب التهذيب: ذكره ابن حبان في الثقات. وذكره أبو الفضائل الصغاني فيمن اختلف في صحبته وهو وهم منه،(6/434)
قَالَ: هَاهُنَا". وَنَحَا بِيدَهِ، نَحْوَ الشَامِ.
هذا ـــــــ
فإنه تابعي قطعاً انتهى "عن جده" أي معاوية بن حيدة بفتح المهملتين بينهما تحتانية ساكنة ابن معاوية بن كعب القشيري صحابي نزل البصرة.
قوله: "ونحا بيده" أي أشار بها "نحو الشام" أي إلى الشام. قال في القاموس: نحاه ينحوه وينحاه قصده كإنتحاه والنحو الطريق والجهة. وروى أحمد هذا الحديث في مسنده بلفظ: قلت يا رسول الله أين تأمرني؟ خر لي. فقال بيده نحو الشام. وقال إنكم محشورون رجالاً وركباناً وتجرون على وجوهكم. ورواه الطبراني في الكبير بلفظ: عليكم بالشام قال المناوي: أي الزموا سكناه لكونها أرض المحشر والمنشر. أو المراد آخر الزمان لأن جيوش المسلمين تنزوي إليها عند غلبة الفساد، قال وإسناده ضعيف.
قوله: "هذا حديث حسن صحيح" وأخرجه أحمد والطبراني كما عرفت
ابنِ عَلْقَمَةَ وَوَاثِلَةَ بنِ الأَسْقَعِ وَالصّنَابِحِيّ. وهذا حديثٌ حَسَنٌ صحيحٌ.
حديثٌ حسن صحيحٌ.(6/435)
باب لاترجعون بعدى كفاراً يضرب بعضكم رقاب بعض
...
26 ـ باب ما جاء "لاَ تَرْجِعُوا بَعْدِي كُفّاراً يَضْرِبُ بَعْضُكمْ رِقَابَ بَعْضٍ"
2289 ـ حَدّثنا أَبُو حَفْصٍ عَمْرُو بنُ عَلِيّ، حدثنا يَحْيَى بنُ سَعيدٍ، حدثنا فُضَيلُ بنُ غَزْوانَ، حدثنا عِكْرِمَةُ عن ابنِ عَبّاسٍ قَالَ: "قَالَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم: لاَ تَرْجِعُوا بَعْدِي كُفّاراً يَضْرِبُ بَعْضُكُمْ رِقَابَ بَعْضِ" .
وفي الباب عَنْ عَبْدِ الله بنِ مَسْعُودٍ وجَرِيرٍ وابنِ عُمَر وَكُرْزٍ
ـــــــ
"باب ما جاء لا ترجعو بعدى كفاراً يضرب بعضكم رقاب بعض"
قوله: "لا ترجعوا بعدي" أي لا تصيروا بعد موتي "كفاراً" قال الطيبي أي مشبهين بهم في الأعمال "يضرب بعضكم رقاب بعض" قال الحافظ بجزم يضرب على أنه جواب النهي، وبرفعه على الاستئناف أو يجعل حالاً انتهى. وقال في المجمع: أي لا تصيروا بعد موقفي هذا أي بعد موتي مستحلين القتال أولاً لا تتشبهوا بالكفار في القتال انتهى.
قوله: "وفي الباب عن عبد الله بن مسعود وجرير وابن عمر وكرز(6/435)
ابن علقمة وواثلة بن الأسقع والصنابحي. هذا حديث حسن صحيح.
ـــــــ
ابن علقمة وواثلة بن الأسقع والصنابحي" أما حديث جرير فأخرجه أحمد والشيخان والنسائي وابن ماجة وأما حديث ابن عمر فأخرجه أحمد والبخاري وأبو داود والنسائي وابن ماجة. وأما حديث كرز بن علقمة وحديث الصنابحي فأخرجهما أحمد في مسنده، وحديث الصنابحي أخرجه أيضاً ابن ماجة. وأما حديث ابن مسعود وحديث واثلة فلينظر من أخرجهما.
قوله: "هذا حديث حسن صحيح" وأخرجه البخاري في الفتن(6/436)
27 ـ باب مَا جَاءَ تَكُونُ فِتْنةٌ القَاعِدُ فِيهَا خَيْرٌ مِنَ القَائِم
2290ـ حَدّثنا قُتَيْبَةُ حدثنا الّليْثُ عَنْ عَيّاشٍ بن عبّاسٍ عن بُكَيرِ بنِ عَبْدِ الله بنِ الأشجّ عن بُسْرِ بنِ سَعِيدٍ، أَنّ سَعْدَ بن أَبِي وَقّاصٍ قَالَ عَنْدَ فِتْنَةِ عُثْمَانَ بنِ عَفّانَ: "أَشْهَدُ أَنّ رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم قَالَ: إِنّهَا سَتَكُونُ فِتْنَةٌ القَاعِدُ فِيهَا خَيْرٌ مِنَ القَائمِ، وَالقَائِمُ خَيْرٌ مِنَ المَاشِي، والماشي خَيْرٌ من الساعِي. قَالَ أَفَرَأَيْتَ إِنْ دَخَلَ عَلَيّ بَيْتِي
ـــــــ
"باب ما جاء أنه تكون فتنة القاعد فيها خير من القائم"
قوله: "أخبرنا الليث" هو ابن سعد "عن عياش بن عباس" القتباني المصري ثقة من السادسة.
قوله: "إنها ستكون فتنة" أي عظيمة "القاعد فيها" أي في تلك الفتنة "خير من القائم" لأنه يرى ويسمع ما لا يراه ولا يسمعه القاعد، فيكون أقرب من عذاب تلك الفتنة بمشاهدته ما لا يشاهده القاعد، ويمكن أن يكون المراد بالقاعد هو الثابت في مكانه غير متحرك لما يقع من الفتنة في زمانه، والمراد بالقائم ما يكون فيه نوع باعث وداعية لكنه متردد في إثارة الفتنة "والقائم" في الفتنة أي من بعيد مشرف عليها أو القائم بمكانه في تلك الحالة "خير من الماشي" أي من الذاهب على رجله إليها "والماشي خير من الساعي" أي المسرع إليها ماشياً أو راكباً. قال الحافظ قال بعض الشراح في قوله: والقاعد فيها خير من القائم(6/436)
وَبَسَطَ يَدَهُ إِلَىّ لِيَقْتُلَنِي، قَالَ كُنْ كابنِ آدَمَ" .
وفي الباب عن أبِي هُرَيْرَةَ وخَبّابِ بنِ الأَرَتّ وأبي بَكْرَةَ وابنِ مَسْعُودٍ وأبي وَاقِدٍ وأبي مُوسَى
ـــــــ
أي القاعد في زمانها عنها. قال: المراد بالقائم الذي لا يستشرفها، وبالماشي من يمشي في أسبابه لأمر سواها فربما يقع بسبب مشيه في أمر يكرهه. وحكى ابن التين عن الداودي أن الظاهر أن المراد من يكون مباشراً لها في الأحوال كلها يعني أن بعضهم في ذلك أشد من بعض، فأعلاهم في ذلك الساعي فيها بحيث يكون سبباً لإثارتها ثم من يكون قائماً بأسبابها وهو الماشي، ثم من يكون مباشراً لها وهو القائم، ثم من يكون مع النظارة ولا يقاتل وهو القاعد، ثم من يكون مجتنباً لها ولا يباشر ولا ينظر وهو المضطجع اليقظان، ثم من لا يقع منه شيء من ذلك ولكنه راضٍ وهو النائم والمراد بالأفضلية في هذه الخيرية من يكون أقل شراً ممن فوقه على التفصيل المذكور انتهى "قال" أي سعد "أفرأيت" أي فأخبرني "إن دخل علي" بتشديد الياء "وبسط يده" أي مدها "كن كابن آدم" المطلق ينصرف إلى الكامل وفيه إشارة لطيفة إي أن هابيل المقتول المظلوم هو ابن آدم لا قابيل القاتل الظالم كما قال تعالى في حق ولد نوح عليه الصلاة والسلام: "إنه ليس من أهلك إنه عمل غير صالح" كذا في المرقاة.
قال النووي هذا الحديث وما في معناه مما يحتج به من لا يرى القتال في الفتنة بكل حال. وقد اختلف العلماء في قتال الفتنة، فقالت طائفة: لا يقاتل في فتن المسلمين وإن دخلوا عليه بيته وطلبوا قتله، فلا يجوز له المدافعة عن نفسه، لأن الطالب متأول وهذا مذهب أبي بكرة رضي الله عنه وغيره. وقال ابن عمر وعمران بن الحصين رضي الله عنهم وغيرهما: لا يدخل فيها لكن إن قصد الدفع عن نفسه فهذان المذهبان متفقان على ترك الدخول في جميع فتن الإسلام. وقال معظم الصحابة والتابعين وعامة علماء الإسلام: يجب نصر المحق في الفتن والقيام معه بمقاتلة الباغين كما قال تعالى {فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي} الاَية. وهذا هو الصحيح وتتأول الأحاديث على من لم يظهر له المحق أو على طائفتين ظالمتين لا تأويل لواحد منهما. ولو كان كما قال الأولون لظهر الفساد واستطلل أهل البغي والمبطلون انتهى.
قوله: "وفي الباب عن أبي هريرة وخباب بن الأرت وأبي بكرة وابن مسعود(6/437)
وَخَرْشَةَ. وهذا حديثٌ حسنٌ. وَرَوَى بَعْضُهُمْ هذا الحديثَ عن الليث بنِ سَعْدٍ، وَزَادَ في الإِسنادِ رَجُلاً.
وقد رُوِيَ هذا الحديثُ عن سَعْدٍ عن النّبيّ صلى الله عليه وسلم من غيرِ هذا الْوَجْهِ.
ـــــــ
وأبي واقد وأبي موسى وخرشة" أما حديث أبي هريرة فأخرجه أحمد والشيخان. وأما حديث خباب بن الأرت فأخرجه أحمد. وأما حديث أبي بكرة فأخرجه مسلم. وأما حديث ابن مسعود فأخرجه أحمد وأبو داود. وأما حديث أبي واقد فلينظر من أخرجه. وأما حديث أبو موسى فأخرجه أحمد وأبو داود وابن ماجة. وأما حديث خرشة فأخرجه أحمد وأبو يعلى.
قوله: "هذا حديث حسن" وأخرجه أحمد وأبو داود في الفتن والحديث سكت عند هو والمنذري.(6/438)
باب ما جاء ستكون فتنة كقطع الليل المظلم
...
28 ـ باب ما جاءَ سَتَكُونُ فتن كَقِطعِ الّليْلِ المُظْلِم
2291 ـ حَدّثنا قُتَيْبَةُ، حدثنا عبدُ الْعَزِيزِ بنُ محمّدٍ عَنْ الْعَلاَءِ بنِ عبدِ الرحمَنِ عن أَبِيهِ عن أبي هُرَيْرَةَ، أَنّ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم قال: "بَادِرُوا بِالأَعْمَالِ فِتَناً كَقِطَعِ الّليْلِ المُظْلِمِ، يُصْبِحُ الرّجُلُ مُؤْمِناً
ـــــــ
"باب ما جاء ستكون فتن كقطع الليل المظلم"
قوله: "عن أبيه" أي عبد الرحمن بن يعقوب الجهني المدني، مولى الحرقة، ثقة من الثالثة.
قوله: "بادروا" أي سابقوا وسارعوا "بالأعمال" أي بالاشتغال بالأعمال الصالحة "فتناً" أي وقوع فتن "كقطع الليل المظلم" بكسر القاف وفتح الطاء جمع قطعة وهي طائفة. والمعنى كقطع من الليل المظلم لفرط سوادها وظلمتها وعدم تبين الصلاح والفساد فيها. وحاصل المعنى تعجلوا بالأعمال الصالحة قبل مجيء الفتن المظلمة من القتل والنهب والاختلاف بين المسلمين في أمر الدنيا والدين، فإنكم لا تطيقون الأعمال على وجه الكمال فيها، والمراد من التشبيه بيان حال الفتن من(6/438)
ويُمْسِي كَافِراً، ويُمْسِي مُؤْمِناً ويُصْبِحُ كَافِراً، يَبِيعُ أَحَدُهُمْ دِينَهُ بِعَرَضٍ مِنَ الدّنْيَا" .
هذا حديثٌ حسنٌ صحيحٌ.
2292 ـ حدّثنا سُوَيْدُ بنُ نَصْرٍ، حدثنا عبدُ الله بنُ المُبَارَكِ، حدثنا مَعْمَرٌ عن الزّهْرِيّ عن هِنْدِ بِنْتِ الْحَارِثِ عن أُمّ سَلَمَةَ: "أَنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم اسْتَيْقَظَ لَيْلَةً فَقَالَ: سُبْحَانَ الله، مَاذَا أُنْزِلَ الّليْلَةَ مِنَ الْفِتْنَةِ؟
ـــــــ
حيث أنه بشيع فظيع، ولا يعرف سببها ولا طريق الخلاص منها، فالمبادرة المسارعة بإدراك الشيء قبل فواته أو بدفعه قبل وقوعه "يصبح الرجل مؤمناً" أي موصوفاً بأصل الإيمان أو بكماله "ويمسي كافراً" أي حقيقة أو كافراً للنعمة أو مشابهاً للكفرة أو عاملاً عمل الكافر. وقيل المعنى يصبح محرماً ما حرمه الله، ويمسي مستحلاً إياه وبالعكس.
قلت: وهذا المعنى الأخير اختاره الحسن البصري، وقد ذكره الترمذي في هذا الباب "يبيع أحدهم دينه" أي بتركه "بعرض" بفتحتين أي بأخذ متاع دنيء وثمن رديء. قال الطيبي رحمه الله: قوله يصبح استئناف بيان لحال المشبه، وهو قوله فتناً، وقوله يبيع إلخ بيان للبيان. وقال المظهر: فيه وجوه: أحدها ـ أن يكون بين طائفتين من المسلمين قتال لمجرد العصبية والغضب، فيستحلون الدم والمال. وثانيها ـ أن يكون ولاة المسلمين ظلمة، فيريقون دماء المسلمين ويأخذون أموالهم بغير حق، ويزنون ويشربون الخمر، فيعتقد بعض الناس أنهم على الحق ويفتيهم بعض علماء السوء، على جواز ما يفعلون من المحرمات، من إراقة الدماء وأخذ الأموال ونحوها. وثالثها ـ ما يجري بين الناس مما يخالف الشرع في المعاملات والمبايعات وغيرها فيستحلونها.
قوله: "هذا حديث حسن صحيح" وأخرجه أحمد ومسلم.
قوله: "حدثنا سويد بن نصر" بن سويد المروزي لقبه الشاة ثقة من العاشرة "عن هند بنت الحارث" الفراسية ويقال القرشية، ثقة من الثالثة.
قوله: "إن النبي صلى الله عليه وسلم استيقظ ليلة" زاد البخاري في رواية فزعاً "فقال سبحان الله" بالنصب بفعل لازم الحذف، قاله تعجباً واستعظاماً(6/439)
مَاذَا أُنْزِلَ مِنَ الْخَزَائِنِ؟ مَنْ يُوقِظُ صَوَاحِبَ الْحُجُرَاتِ؟ يَا رُبّ كَاسِيَةٍ في الدّنْيَا، عَارِيَةٍ في الاَخِرَةِ" .
ـــــــ
"ماذا" ما استفهامية متضمنة لمعنى التعجب والتعظيم "أنزل" بصيغة المجهول، وفي رواية للبخاري أنزل الله بإظهار الفاعل والمراد بالإنزال إعلام الملائكة بالأمر المقدور. أو أن النبي صلى الله عليه وسلم أوحى إليه في نومه ذاك بما سيقع بعده من الفتن، فعبر عنه بالإنزال. قاله الحافظ "الليلة من الفتنة؟ ماذا أنزل من الخزائن؟" عبر عن الرحمة بالخزائن كقوله تعالى: {خَزَائِنُ رَحْمَةِ رَبِّكَ} وعن العذاب بالفتنة لأنها أسبابه قاله الكرماني "من يوقظ" استفهام أي هل أحد يوقظ قال الحافظ أراد بقوله من يوقظ بعض خدمه كما قال يوم الخندق: من يأتيني بخبر القوم؟ وأراد أصحابه. لكن هناك عرف الذي انتدب كما تقدم وهنا لم يذكر "صواحب الحجرات؟" جمع حجرة.
قال في الصراح: حجرة حظيرة شتروخانة خورد، والجمع حجر، مثل غرفة وغرف وحجرات بضم الجيم انتهى يعني صلى الله عليه وسلم بصواحب الحجرات أزواجه وإنما خصهن بالإيقاظ لأنهن الحاضرات أو من باب أبدأ بنفسك ثم بمن تعول "يا رب كاسية" قيل المنادى فيه محذوف والتقدير يا سامعين ورب للتكثير "عارية في الاَخرة" قال عياض: الأكثر بالخفض على الوصف للمجرور برب، وقال غيره: الأولى الرفع على إضمار مبتدأ والجملة في موضع النعت أي هي عارية والفعل الذي يتعلق به رب محذوف. وقال السهيلي: الأحسن الخفض على النعت لأن رب حرف جر يلزم صدر الكلام، وهذا رأي سيبويه. وعند الكسائي هو اسم مبتدأ والمرفوع خبره وإليه كان يذهب بعض شيوخنا انتهى. وأشار صلى الله عليه وسلم بذلك إلى موجب استيقاظ أزواجه، أي ينبغي لهن أن لا يتغافلن عن العبادة ويعتمدن على كونهن أزواج النبي صلى الله عليه وسلم.
قال الحافظ: واختلف في المراد بقوله كاسية وعارية على أوجه: أحدها ـ كاسية في الدنيا بالثياب لوجود الغنى، عارية في الاَخرة من الثواب لعدم العمل في الدنيا. ثانيها ـ كاسية بالثياب لكنها شفافة لا تستر عورتها فتعاقب في الاَخرة بالعري جزاء على ذلك. ثالثها ـ كاسية من نعم الله، عارية من الشكل الذي(6/440)
هذا حديثٌ صحيحٌ.
2293ـ حدّثنا قُتَيْبَةُ، حدثنا الّليْثُ بن سعد عن يَزِيدَ بنِ أبي حَبِيبٍ عن سَعْدِ بنِ سِنَانٍ عن أَنَسِ بنِ مَالِكٍ عن رَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم قال: "تَكُونُ بَيْنَ يَدَىْ السّاعَةِ فِتَنٌ كَقِطَعِ الّليْلِ المُظْلِمِ يُصْبِحُ الرّجُلُ فِيهَا
ـــــــ
تظهر ثمرته في الاَخرة بالثواب. رابعها ـ كاسية جسدها لكنها تشد خمارها من ورائها فيبدو صدرها فتصير عارية، فتعاقب في الاَخرة. خامسها ـ كاسية من خلعة التزوج بالرجل الصالح، عارية في الاَخرة من العمل، فلا ينفعها صلاح زوجها، كما قال تعالى: {فَلا أَنْسَابَ بَيْنَهُمْ} ذكر هذا الأخير الطيبي ورجحه لمناسبة المقام، واللفظة وإن وردت في أزواج النبي صلى الله عليه وسلم لكن العبرة بعموم اللفظ. قال ابن بطال في هذا الحديث: إن المفتوح في الخزائن تنشأ عنه فتنة المال بأن يتنافس فيه فيقع القتال بسببه وأن يبخل به فيمنع الحق، أو يبطر فيسرف فأراد صلى الله عليه وسلم تحذير أزواجه من ذلك كله، وكذا غيرهن ممن بلغه ذلك، وفي الحديث الندب إلى الدعاء والتضرع عند نزول الفتنة، ولا سيما في الليل لرجاء وقت الإجابة لتكشف أو يسلم الداعي، ومن دعا له انتهى كلام الحافظ.
قوله: "هذا حديث صحيح" وأخرجه أحمد والبخاري.
قوله: "عن سعد بن سنان" قال في التقريب سعد بن سنان، ويقال سنان بن سعد الكندي المصري، وصوب الثاني البخاري وابن يونس، صدوق له أفراد من الخامسة.
قوله: "تكون بين يدي الساعة" أي قدامها من أشراطها "فتن" أي فتن عظام ومحن جسام "كقطع الليل المظلم" بكسر القاف وفتح الطاء ويسكن أي كل فتنة كقطعة من الليل المظلم في شدتها وظلمتها وعدم تبين أمرها. قال الطيبي: يريد بذلك التباسها وفظاعتها وشيوعها واستمرارها "يصبح الرجل فيها" أي في تلك الفتن، والظاهر أن المراد بالإصباح والإمساء تقلب الناس فيها وقتاً دون وقت، لا بخصوص الزمانين، فكأنه كناية عن تردد أحوالهم، وتذبذب أقوالهم، وتنوع(6/441)
مُؤْمِناً ويُمْسِي كَافِراً، ويُمْسِي مُؤْمِناً ويُصْبِحُ كَافِراً، يَبِيعُ أَقْوَامٌ دِينَهُمْ بِعَرَض من الدّنْيَا".
وفي البابِ عن أبي هُرَيْرَةَ وَجُنْدبٍ وَالنّعْمَانِ بنِ بَشِيرٍ وأبي مُوسَى. وهذا حديثٌ غريبٌ مِنْ هذا الوَجْهِ.
2294ـ حدثنا صَالحُ بنُ عبد الله، حدثنا جَعْفَرُ بنُ سُلَيْمانَ عن هِشَامٍ عن الْحَسَنِ قال: كَانَ يَقُولُ في هَذَا الْحَدِيثِ: "يُصْبِحُ الرّجُلُ مُؤْمِناً ويُمْسِي كَافِراً، ويُمْسِي مُؤْمِناً ويُصْبِحُ كَافِراً، قال: يُصْبِحُ الرّجُلُ مُحَرّماً لِدَمِ أَخِيهِ وَعِرْضِهِ وَمَالِهِ ويُمْسِي مُسْتَحِلاّ لَهُ، ويُمْسِي مُحَرّماً لِدَمِ أَخِيهِ وَعِرْضِهِ وَمَالِهِ ويُصْبِحُ مُسْتَحِلاّ لَهُ" .
2295ـ حدّثنا الْحَسَنُ بنُ عَلِيّ الْخَلاّلُ. حدثنا يَزِيدُ بنُ هَارُونَ، أخبرنا شُعْبَةُ عن سِمَاكِ بنِ حَرْبٍ عن عَلْقَمَةَ بنِ وَائِلِ بنِ حُحْرٍ عن أَبِيهِ قال: "سَمِعْتُ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم وَرَجُلٌ يَسْأَلُهُ فقال: أَرَأَيْتَ إِنْ كَانَ
ـــــــ
أفعالهم من عهد ونقض، وأمانة وخيانة، ومعروف ومنكر، وسنة وبدعة، وإيمان وكفر "بعرض الدنيا" أي بقليل من حطامها، والعرض ما عرض لك من منافع الدنيا.
قوله: "وفي الباب عن أبي هريرة وجندب والنعمان بن بشير وأبي موسى" أما حديث أبي هريرة فلعل الترمذي أشار إلى حديث له آخر غير الحديث المذكور. وأما حديث جندب فلينظر من أخرجه. وأما حديث النعمان بن يشير فأخرجه أحمد. وأما حديث أبي موسى فتقدم تخريجه في الباب المتقدم.
قوله: "هذا حديث غريب" لم يحسنه الترمذي، والظاهر أنه حسن والله تعالى أعلم. والحديث أخرجه أيضاً أحمد.
قوله: "عن هشام" هو ابن حسان "عن الحسن" هو الحسن البصري.
قوله: "ورجل يسأله" جملة حالية. وفي رواية مسلم عن وائل بن حجر(6/442)
عَلَيْنَا أُمَرَاءٌ يَمْنَعُونَا حَقّنَا ويَسْأَلُونَا حَقّهُمْ، فقال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: اسْمَعُوا وَأَطِيعُوا فَإِنّما عَلَيْهِمْ مَا حُمّلُوا وَإِنّمَا عَلَيْكُمْ مَا حُمّلتُمْ" .
هذا حديثٌ حسنٌ صحيحٌ.
ـــــــ
قال: سأل سلمة بن يزيد الجعفي رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا نبي الله أرأيت الخ "يمنعونا" بتشديد النون صفة أمراء "حقنا" أي من العدل وإعطاء الغنيمة "ويسألونا" أي يطلبوننا "حقهم" من الطاعة والخدمة "اسمعوا" أي ظاهراً "وأطيعوا" أي باطناً، أو اسمعوا قولاً وأطيعوا فعلاً "فإنما عليهم ما حملوا" بتشديد الميم أي ما كلفوا من العدل وإعطاء حق الرعية "وعليكم ما حملتم" وفي بعض النسخ: وإنما عليكم ما حملتم أي من الطاعة والصبر على البلية. وكأن الحديث مقتبس من قوله تعالى: {قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْهِ مَا حُمِّلَ وَعَلَيْكُمْ مَا حُمِّلْتُمْ وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلاغُ الْمُبِينُ} . وحاصله أنه يجب على كل أحد ما كلف به، ولم يتعد حده. قال الطيبي: قدم الجار والمجرور على عامله للاختصاص، أي ليس على الأمراء إلا ما حمله الله، وكلفه عليهم من العدل والتسوية. فإذا لم يقيموا بذلك فعليهم الوزر والوبال، وأما أنتم فعليكم ما كلفتم به من السمع والطاعة، وأداء الحقوق، فإذا قمتم بما عليكم فالله تعالى يتفضل عليكم ويثيبكم به.
قوله: "هذا حديث حسن صحيح" وأخرجه مسلم(6/443)
29 ـ باب ما جَاءَ في الْهَرْجِ
2296 ـ حَدّثنا هَنّادٌ، حأخبرنا أبو مُعَاوِيَةَ عن الأعمَشِ عن شَقِيق عن
ـــــــ
"باب ما جَاءَ في الْهَرْجِ"
بفتح الهاء وسكون الراء قال في النهاية: الهرج القتال والاختلاط، وقد هرج الناس يهرجون هرجاً إذا اختلفوا، وأصل الهرج الكثرة في الشيء والاتساع. وفي القاموس: هرج الناس يهرجون وقعوا في فتنة واختلاط وقتل انتهى
قوله: "عن شقيق" هو ابن سلمة الأسدي أبو وائل الكوفي، ثقة مخضرم مات في خلافة عمر بن عبد العزيز.(6/443)
أبي مُوسَى قال: قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: "إِنّ مِنْ وَرَائِكُمْ أَيّاماً يُرْفَعُ فِيهَا الْعِلْمُ وَيَكْثُرُ فِيهَا الْهَرْجُ، قالوا: يا رسولَ الله، ما الْهَرْجُ؟ قال: الْقَتْلُ" .
وفي البابِ عن أبي هُرَيْرَةَ وَخَالِدِ بنِ الوليد وَمَعْقِلِ بنِ يَسَارٍ.
هذا حديثٌ حسنٌ صحيحٌ.
2297ـ حدّثنا قُتَيْبَةُ، حدثنا حَمّادُ بنُ زَيْدٍ عن المُعَلّى بنِ زِيَادٍ رَدّهُ إِلَى مُعَاوِيَةَ بنِ قُرّةَ، رَدّهُ إِلَى مَعْقِلِ بنِ يَسَارٍ، رَدّهُ إِلَى النّبيّ صلى الله
ـــــــ
قوله: "إن من ورائكم أياماً" وفي رواية البخاري في الفتن: إن بين يدي الساعة أياماً "يرفع فيها العلم" زاد البخاري: وينزل فيها الجهل. قال الحافظ: معناه أن العلم يرتفع بموت العلماء، فكلما مات عالم ينقص العلم بالنسبة إلى فقد حامله، وينشأ عن ذلك الجهل بما كان ذلك العالم ينفرد به عن بقية العلماء "ويكثر فيها الهرج، قالوا يا رسول الله ما الهرج؟ قال القتل" قال الحافظ: وجاء تفسير أيام الهرج فيما أخرجه أحمد والطبراني بسند حسن من حديث خالد بن الوليد: أن رجلاً قال له يا أبا سليمان اتق الله فإن الفتن قد ظهرت، فقال أما وابن الخطاب حي فلا، إنما تكون بعده فينظر الرجل فيفكر هل يجد مكاناً لم ينزل به مثل ما نزل بمكانه الذي هو به من الفتنة والشر فلا يجد، فتلك الأيام التي ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم بين يدي الساعة أيام الهرج انتهى.
قوله: "وفي الباب عن أبي هريرة وخالد بن الوليد ومعقل بن يسار" أما حديث أبي هريرة فأخرجه البخاري في الأدب وفي الفتن، ومسلم في العلم، وأبو داود وابن ماجة في الفتن. وأما حديث خالد بن الوليد فأخرجه أحمد والطبراني في الكبير. وأما حديث معقل بن يسار فأخرجه الترمذي في هذا الباب.
قوله: "هذا حديث حسن صحيح" وأخرجه البخاري في الفتن، ومسلم في العلم وابن ماجة في الفتن.(6/444)
عليه وسلم قال: "الْعِبَادَةُ في الْهَرْجِ كَالهِجْرَةٍ إِلَيّ" .
هذا حديثٌ صحيحٌ غريبٌ، إِنما نعرفُه من حديثِ عن المُعَلّى بنِ زِيَادٍ.
ـــــــ
قوله: "عن المعلى بن زياد" القردوسي بضم القاف أبي الحسن البصري صدوق قليل الحديث زاهد، اختلف قول ابن معين فيه من السابعة "فرده" وفي بعض النسخ رده بغير الفاء أي رفعه "إلى معقل بن يسار" المزني صحابي ممن بايع الشجرة وكنيته أبو علي على المشهور وهو الذي ينسب إليه نهر معقل بالبصرة، كذا في التقريب وقال في تهذيب التهذيب: هو الذي فجر نهر معقل بالبصرة انتهى.
قوله: "العبادة في الهرج" أي الفتنة واختلاط أمور الناس "كهجرة إليّ" قال النووي: وسبب كثرة فضل العبادة فيه أن الناس يغفلون عنها ويشتغلون عنها ولا يتفرغ لها إلا أفراد انتهى.
قوله: "هذا حديث صحيح غريب" وأخرجه أحمد ومسلم وابن ماجة(6/445)
باب ما جاء فى اتخاذ السيف من الخشب
...
30 ـ باب ما جاء في اتخاذ السيف من خشب
2298ـ حَدّثنا قُتَيْبَةُ، أخبرنا حَمّادُ بنُ زَيْدٍ عن أَيّوبَ عن أبي قِلاَبَةَ عن أبي أَسْمَاءَ عن ثوْبَانَ قال: قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: "إذَا وُضِعَ السّيْفُ في أُمّتِي لَمْ يُرْفَعْ عَنْهَا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ" .
هذا حديثٌ صحيحٌ.
ـــــــ
" باب ما جاء في اتخاذ سيف من خشب"
كناية عن ترك القتال
قوله: "عن أبي أسماء" هو الرحبي.
قوله: "إذا وضع" بالبناء للمفعول "السيف" أي المقاتلة به، والمراد وقع القتال بسيف أو غيره كرمح ونار ومنجنيق وخص السيف بغلبة القتال به "في أمتي" أمة الإجابة "لم يرفع عنها إلى يوم القيامة" أي يبقى إلى يوم القيامة إن لم يكن في بلد يكون في آخر.
قوله: "هذا حديث صحيح" وأخرجه أبو داود مطولاً.(6/445)
2299 ـ حَدّثنا عَلِيّ بنُ حُجْرٍ، أخبرنا إِسماعيلُ بنُ إِبراهيمَ عن عبدِ الله بنِ عُبَيْدٍ عن عُدَيْسَةَ بِنْتِ أُهْبَانَ بنِ صَيْفَي الْغِفَارِيّ قالت: "جَاءَ عَلِيّ بنُ أبي طَالِبٍ إِلَى أَبِي فَدَعَاهُ إِلَى الْخُرُوجِ مَعَهُ، فقال له أَبِي: إِنّ خَلِيلِي وابنَ عَمّكَ عَهِدَ إِلَيّ إِذَا اخْتَلَفَ النّاسُ أَنْ أَتّخِذَ سَيْفاً مِنْ خَشَبٍ فَقَدِ اتّخَذْتُهُ فَإِنْ شِئْتَ خَرَجْتُ بِهِ مَعَكَ، قالت فَتَركَهُ".
وفي البابِ عن محمّدِ بنِ مَسْلَمَةَ. وهذا حديثٌ حسنٌ غريبٌ، لا نعرفُه إلا من حديثِ عبدِ الله بْنِ عُبْيْدٍ.
2300ـ حدّثنا عبدُ الله بنُ عبدِ الرحمَنِ، أخبرنا سَهْلُ بنُ حَمّادٍ، حدثنا هَمّامُ، أخبرنا محمّدُ بنُ جُحَادَةَ عن عبدِ الرحمَنِ بنِ ثَرْوَانَ عن هُزَيْلِ
ـــــــ
قوله: "عن عبد الله بن عبيد" الحميري البصري المؤذن ثقة من السابعة "عن عديسة" بضم العين وفتح الدال المهملتين مصغراً "بنت أهبان" بضم الهمزة وسكون الهاء "بن صيفي" بفتح الصاد المهملة وتحتانية ساكنة وفاء "الغفاري" بمكسورة وخفة فاء، قال في التقريب هي مقبولة من الثالثة "إلى أبي" أي أهبان وهو صحابي يكني أبا مسلم مات بالبصرة "فدعاه إلى الخروج معه" أي للقتال "إن خليلي وابن عمك" يعني النبي صلى الله عليه وسلم "عهد إلي" أي أوصاني. قال في القاموس عهد إليه أوصاه "أن أتخذ" مفعول لقوله عهد "سيفاً من خشب" المراد باتخاذ السيف من الخشب الامتناع عن القتال.
قوله: "وفي الباب عن محمد بن مسلمة" أخرجه أحمد في مسنده ص 225 ج4.
قوله: "هذا حديث غريب" وأخرجه أحمد في مسنده ص 69 ج5.
قوله: "حدثنا عبد الله بن عبد الرحمن" هو الإمام الدارمي "اخبرنا سهل بن حماد" أبو عتاب الدلال البصري صدوق من التاسعة "أخبرنا همام" بن يحيى بن دينار العوذي أبو عبد الله ويقال أبو بكر البصري ثقة، ربما وهم من السابعة "عن عبد الرحمن بن ثروان" بمثلثة مفتوحة وراء ساكنة، كنيته أبو قيس الأودي الكوفي، صدوق ربما خالف من السادسة.(6/446)
بنِ شُرَحْبِيلَ عن أبي مُوسَى عن النّبيّ صلى الله عليه وسلم أَنّهُ قال في الْفِتْنَةِ: "كَسّرُوا فِيهَا قِسِيّكُمْ، وَقَطّعُوا فِيهَا أَوْتَارَكُمْ، وَالْزَمُوا فِيهَا أَجْوَافَ بُيُوتِكُمْ، وكُونُوا كَابْنِ آدَمَ" .
هذا حديثٌ حسنٌ غريبٌ صحيح.
وعبدُ الرحمَنِ بنُ ثَرْوَانَ هُوَ أبو قَيْسٍ الأَوْدِيّ.
ـــــــ
قوله: "وقال في الفتنة" أي في أيامها وزمنها، وهو ظرف لقوله: "كسروا فيها قسيكم" بكسرتين وتشديد التحتية جمع القوس وفي العدول عن الكسر إلى التكسير مبالغة، لأن باب التفعيل للتكثير وكذا قوله: "وقطعوا" أمر من التقطيع "فيها أوتاركم" جمع الوتر بفتحتين وهي بالفارسية زه يعني جله كمان وفيه زيادة من المبالغة، إذ لا منفعة لوجود الأوتار مع كسر القسي. أو المراد به أنه لا ينتفع بها الغير ولا يستعملها في دون الخير "والزموا فيها أجواف بيوتكم" أي كونوا ملازميها لئلا تقعوا في الفتنة والمحاربين فيها "وكونوا كابن آدم" وهو هابيل حين استسلم للقتل، وقال لأخيه قابيل "لئن بسطت إلي يدك لتقتلني ما أنا بباسط يدي إليك لأقتلك إني أخاف الله رب العالمين. إني أريد أن تبوء بإثمي وإثمك" الاَية.
قوله: "هذا حديث حسن غريب" وأخرجه أحمد وأبو داود وابن ماجة(6/447)
31ـ باب ما جَاءَ في أَشْرَاطِ السّاعَة
2301ـ حَدّثنا محمودُ بنُ غَيْلاَنَ، حدثنا النّضْرُ بنُ شُمَيْلٍ، حدثنا شُعْبَةُ عن قَتَادَةَ عن أَنَسِ بنِ مَالِكٍ أَنّه قال: أُحَدّثُكُمْ حَدِيثاً سَمِعْتُهُ مِنْ
ـــــــ
"باب ما جَاءَ في أَشْرَاطِ السّاعَة"
أي علاماتها ففي النهاية: الأشراط العلامات واحدتها شرط بالتحريك، وبه سميت شرط السلطان لأنهم جعلوا لأنفسهم علامات يعرفون بها، هكذا قال أبو عبيد انتهى(6/447)
رسولِ الله صلى الله عليه وسلم لا يُحَدّثُكُمْ أَحَدٌ بَعْدِي أَنّهُ سَمِعَهُ مِنْ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم قال: قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: إِنّ مِنْ أَشْرَاطِ السّاعَةِ أَنْ يُرْفَعَ الْعِلْمُ وَيَظْهَرَ الْجَهْلُ وَيَفْشُوَ الزّنَا وَيُشْرَبَ الْخَمْرُ وَتَكَثُرَ النّسَاءُ وَيَقِلّ الرّجَالُ حَتّى يَكُونَ لِخَمْسِينَ امْرَأَةً قَيّمٌ وَاحِدٌ" .
ـــــــ
قوله: "لا يحدثكم أحد بعدي أنه سمعه من رسول الله صلى الله عليه وسلم" قال الحافظ: عرف أنس أنه لم يبق أحد ممن سمعه من رسول الله صلى الله عليه وسلم غيره. لأنه كان آخر من مات بالبصرة من الصحابة، فلعل الخطاب بذلك كان لأهل البصرة أو كان عاماً، وكان تحديثه بذلك في آخر عمره لأنه لم يبق بعده من الصحابة من ثبت سماعه من النبي صلى الله عليه وسلم إلا النادر، ممن لم يكن هذا المتن من مرويه انتهى "أن يرفع العلم" هو في محل النصب لأنه اسم أن والمراد برفعه موت حملته. وفي رواية للبخاري: أن يقل العلم. قال الحافظ يحتمل: أن يكون بقلّته أول العلامة، وبرفعه آخرها، أو أطلقت القلة وأريد بها العدم، كما يطلق العدم، ويرادبه القلة وهذا أليق لاتحاد المخرج انتهى. "ويفشو الزنا" بالقصر على لغة أهل الحجاز وبها جاء التنزيل وبالمد لأهل نجد والنسبة إلى الأول زنوي، وإلى الاَخر زناوي "يشرب الخمر" بضم أوله وفتح الموحدة على العطف والمراد كثرة ذلك واشتهاره "ويكثر النساء" قيل سببه أن الفتن تكثر فيكثر القتل في الرجال لأنهم أهل الحرب دون النساء. وقال ابن عبد الملك: هو إشارة إلى كثرة الفتوح فتكثر السبايا فيتخذ الرجل الواحد عدة موطوءات.
قال الحافظ: فيه نظر لأنه صرح بالعلة في حديث أبي موسى الاَتي يعني في الزكاة عند البخاري: فقال من قلة الرجال وكثرة النساء. والظاهر أنها علامة محضة لا بسبب آخر بل يقدر الله في آخر الزمان أن يقل من يولد من الذكور، ويكثر من يولد من الإناث وكون كثرة النساء من العلامات مناسب لظهور الجهل ورفع العلم انتهى. "ويقل" بكسر القاف من القلة "لخمسين" يحتمل أن يراد به حقيقة هذا العدد أو يكون مجازاً عن الكثرة، ويؤيده أن في حديث أبي موسى. ويرى الرجل الواحد يتبعه أربعون امرأة "قيم واحد" بالرفع صفة لقيم، أي من يقوم(6/448)
وفي البابِ عن أبي مُوسَى وأبي هُرَيْرَةَ. هذا حديثٌ حسنٌ صحيحٌ.
2302ـ حَدّثنا محمّدُ بنُ بَشّارٍ، حدثنا يَحْيَى بنُ سَعِيدٍ عن سُفْيَانَ الثّوْرِيّ عن الزّبَيْرِ بنِ عَدِيّ قال: "دَخَلْنَا عَلَى أَنَسِ بنِ مَالِكٍ قال فَشَكَوْنَا إِلَيْهِ مَا نَلْقَى مِنَ الْحَجّاجِ، فقال: مَا مِنْ عَامٍ إِلاّ وَالّذِي بَعْدَهُ شَرّ مِنْهُ
ـــــــ
بأمرهن واللام للعهد إشعاراً بما هو معهود من كون الرجال قوامين على النساء، وكأن هذه الأمور الخمسة خصت بالذكر لكونها مشعرة باختلال الأمور التي يحصل بحفظها صلاح المعاش والمعاد، وهي الدين لأن رفع العلم يخل به، والعقل لأن شرب الخمر يخل به، والنسب لأن الزنا يخل به، والنفس والمال لأن كثرة الفتن تخل بهما. قال الكرماني: وإنما كان اختلال هذه الأمور مؤذناً بخراب العالم، لأن الخلق لا يتركون هملاً ولا نبي بعد نبينا صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين فيتعين ذلك.
قوله: "وفي الباب عن أبي موسى وأبي هريرة" أما حديث أبي موسى فأخرجه أحمد والشيخان، وأما حديث أبي هريرة فأخرجه الشيخان.
قوله: "هذا حديث حسن صحيح" وأخرجه أحمد والشيخان والنسائي وابن ماجة.
قوله: "عن الزبير بن عدي" الهمداني اليامي بالتحتانية كنيته أبو عدى الكوفي ولي قضاء الري ثقة من الخامسة. وقال في الفتح وهو من صغار التابعين وليس له في البخاري سوى هذا الحديث يعني حديث الباب.
قوله: "من الحجاج" أي ابن يوسف الثقفي الأمير المشهور، والمراد شكواهم ما يلقون من ظلمه لهم وتعديه، قد ذكر الزبير في الموفقيات من طريق مجالد عن الشعبي. قال كان عمر فمي بعده إذا أخذوا العاصي أقاموه للناس ونزعوا عمامته، فلما كان زياد ضرب في الجنايات بالسياط، ثم زاد مصعب بن الزبير حلق اللحية، فلما كان بشر بن مروان سمر كف الجاني بمسمار، فلما قدم الحجاج قال هذا كله لعب، فقتل بالسيف، كذا في الفتح "فقال ما من عام إلا والذي بعده شر منه"(6/449)
حَتّى تَلْقَوْا رَبّكُمْ" . سَمِعْتُ هَذَا مَنْ نَبِيّكُمْ صلى الله عليه وسلم.
ـــــــ
وفي رواية للبخاري: فقال اصبروا فإنه لا يأتي عليكم زمان إلا الذي بعده شر منه "حتى تلقوا ربكم" أي حتى تموتوا. وقد ثبت في صحيح مسلم في حديث آخر: واعلموا أنكم لن تروا ربكم حتى تموتوا. قال الحافظ في الفتح: قال ابن بطال هذا الخبر من أعلام النبوة، لأخباره صلى الله عليه وسلم بفساد الأحوال وذلك من الغيب الذي لا يعلم بالرأي وإنما يعلم بالوحي انتهى. وقد استشكل هذا الإطلاق مع أن بعض الأزمنة تكون في الشر دون التي قبلها، ولو لم يكن في ذلك إلا زمن عمر بن عبد العزيز، وهو بعد زمن الحجاج بيسير، وقد اشتهر الخير الذي كان في زمن عمر بن عبد العزيز، بل لو قيل إن شر اضمحل في زمانه لما كان بعيداً. فضلاً عن أن يكون شراً من الزمن الذي قبله. وقد حمله الحسن البصري على الأكثر الأغلب فسئل عن وجود عمر بن عبد العزيز بعد الحجاج، فقال لا بد للناس من تنفيس. وأجاب بعضهم: أن المراد بالتفضيل تفضيل مجموع العصر على مجموع العصر، فإن عصر الحجاج كان فيه كثير من الصحابة في الأحياء، وفي عصر عمر بن عبد العزيز اتفرضوا، والزمان الذي فيه الصحابة خير من الزمان الذي بعده لقوله صلى الله عليه وسلم خير القرون قرني. وهو في الصحيحين.
قال الحافظ: ثم وجدت عن عبد الله بن مسعود التصريح بالمراد وهو أولى بالاتباع، فأخرج يعقوب بن شيبة من طريق الحارث بن حصيرة عن زيد بن وهب قال سمعت عبد الله بن مسعود يقول: لا يأتي عليكم يوم إلا وهو شر من اليوم الذي كان قبله حتى تقوم الساعة، لست أعني رخاء من العيش يصيبه، ولا مالا يفيده، ولكن لا يأتي عليكم يوم إلا وهو أقل علماً من اليوم الذي مضى قبله، فإذا ذهب العلماء استوى الناس، فلا يأمرون بالمعروف، ولا ينهون عن المنكر، فعند ذلك يهلكون. ومن طريق الشعبي عن مسروق عنه قال: لا يأتي عليكم زمان إلا وهو شر مما كان قبله، أما أني لا أعني أميراً خيراً من أمير، ولا عاماً خيراً من عام، ولكن علماؤكم وفقهاؤكم يذهبون ثم لا تجدون منهم خلفاء، ويجيء قوم يفتون برأيهم. وفي لفظ عنه من هذا الوجه: وما ذاك بكثرة الأمطار وقلتها، ولكن بذهاب العلماء، ثم يحدث قوم يفتون في الأمور(6/450)
هذا حديث حسن صحيح.
2303 ـ حدّثنا محمّدُ بنُ بَشّارٍ، حدثنا ابنُ أبي عَدِيّ عن حُمَيْدٍ عن أَنَسٍ قال: قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: "لا تَقُومُ السّاعَةُ حَتّى لا يُقَالَ في الأَرْضِ الله الله" .
هذا حديثٌ حسنٌ.
ـــــــ
برأيهم فيثلمون الإسلام ويهدمونه. واستشكلوا أيضاً زمان عيسى بن مريم بعد زمان الدجال، وأجاب الكرماني بأن المراد الزمان الذي يكون بعد عيسى، والمراد جنس الزمان الذي فيه الأمراء، وإلا فمعلوم من الدين بالضرورة أن زمان النبي المعصوم لا شر فيه. قال الحافظ: ويحتمل أن يكون المراد بالأزمنة ما قبل وجود العلامات العظام كالدجال وما بعده. ويكون المراد بالأزمنة المتفاضلة في الشر من زمن الحجاج فما بعده إلى زمن الدجال، وأما زمن عيسى عليه السلام فله حكم مستأنف، ويحتمل أن يكون المراد بالأزمنة المذكورة أزمنة الصحابة، بناء على أنهم هم المخاطبون بذلك، فيختص بهم، فأما من بعدهم فلم يقصد في الخبر المذكور لكن الصحابي فهم التعميم، فلذلك أجاب من شكا إليه الحجاج بذلك وأمرهم بالصبر أو جلهم من التابعين، انتهى ما في الفتح.
قوله: "هذا حديث حسن صحيح وأخرجه البخاري في الفتن.
قوله: "حدثنا ابن أبي عدي" اسمه محمد بن إبراهيم بن أبي عدي، ويقال إن كنيته إبراهيم أبو عدي السلمى مولاهم القسمي، أنزل فيهم أبو عمرو البصري، ثقة من التاسعة.
قوله: "لا تقوم الساعة حتى لا يقال في الأرض الله الله" بالرفع فيهما وكرر للتأكيد. قال النووي: معنى الحديث أن القيامة إنما تقوم على شرار الخلق كما جاء في الرواية الأخرى، يعني حديث عبد الله بن مسعود عند مسلم. وتأتي الريح من قبل اليمن فتقبض أرواح المؤمنين عند قرب الساعة انتهى. وقال الطيبي معنى "حتى لا يقال" حتى لا يذكر اسم الله ولا يعبد.
قوله: "هذا حديث حسن" وأخرجه أحمد ومسلم.(6/451)
2304 ـ حدّثنا محمّدُ بنُ المُثَنّى، حدثنا خَالِدُ بنُ الْحَارِثِ عن حُمَيْدٍ عن أَنَسٍ نحْوَهُ ولم يَرْفَعْهُ. وهذا أَصَحّ مِنَ الحديثِ الأوّلِ.
2305ـ حَدّثنا قُتَيْبَةُ بنُ سَعِيدٍ، حدثنا عبدُ الْعَزِيزِ بنُ محمّدٍ عن عَمْرِو بنِ أبي عَمْرٍو، قال: حدثنا عَلِيّ بنُ حُجْرٍ، أخبرنا إِسماعيلُ بنُ جَعْفَرٍ عن عَمْرِو بنِ أبي عَمْرٍو، عن عبدِ الله وهو ابنُ عبدِ الرحمَنِ الأنْصَارِيّ الأشْهَلِيّ عن حُذَيْفَةَ بنِ الْيَمانِ قال: قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: "لا تَقُومُ السّاعَةُ حَتّى يَكُونَ أَسْعَدَ النّاسِ بالدّنْيَا لُكَعُ بنُ لُكَعَ" .
ـــــــ
قوله: "وهذا أصح من الحديث الأول" لأن خالد بن الحارث أوثق من ابن أبي عدي.
قوله: "عن عمرو بن أبي عمرو" اسمه ميسرة، مولى المطلب المدني أبو عثمان، ثقة، ربما وهم من الخامسة.
قوله: "حتى يكون أسعد الناس" بنصب أسعد ويرفع أي أكثرهم مالاً وأطيبهم عيشاً وأرفعهم منصباً وأنفذهم حكماً "بالدنيا" أي بأمورها أو فيها "لكع بن لكع" بضم اللام وفتح الكاف غير مصروف أي لئيم بن لئيم، أي رديء النسب، دنيء الحسب. وقيل أراد به من لا يعرف له أصل، ولا يحمد له خلق، قاله القاري. وقال في النهاية: اللكع عند العرب العبد ثم استعمل في الحمق والذم، يقال للرجل لكع وللمرأة لكاع، وقد لكع الرجل يلكع لكعاً فهو ألكع. وأكثر ما يقع في النداء وهو اللئيم، وقيل الوسخ، وقد يطلق على الصغير، ومنه الحديث: إنه عليه السلام جاء يطلب الحسن بن علي قال أثم لكع؟ فإن أطلق على الكبير أريد به الصغير العلم والعقل. ومنه حديث الحسن قال لرجل: يالكع. يريد يا صغيراً في العلم والعقل انتهى. وحذف ألف ابن لإجراء اللفظين مجرى علمين لشخصين خسيسين لئيمين. قال ابن الملك رحمه الله: في بعض النسخ يعني من المشكاة بنصب أسعد على أنه خبر يكون وفي بعضها برفعه على أن الضمير في يكون للشأن. والجملة بعده تفسير للضمير المذكور انتهى. ولا يجوز أن يكون(6/452)
هذا حديثٌ حسنٌ إنما نَعْرِفُه من حديثِ عَمْرِو بنِ أبي عَمْرٍو.
2306ـ حَدّثنا وَاصِلُ بنُ عبدِ الأعْلَى الكوفي، حدثنا محمّدُ بنُ فُضَيْلٍ عن أَبِيهِ عن أبي حازِمٍ عن أبي هُرَيْرَةَ قال: قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: "تَقِيءُ الأَرْضُ أَفْلاَذَ كَبِدِهَا أَمْثَالَ الاْسْطُوَانِ مِنَ الذّهَبِ وَالفْضّةِ، قالَ: فَيَجِيءُ السّارِقُ فَيَقُولُ في مثل هَذَا قُطِعَتْ يَدِي، ويَجِيءُ الْقَاتِلُ فَيَقُولُ في هَذَا قُتِلْتُ، ويَجِيءُ الْقَاطِعُ فَيَقُولُ في هَذَا قَطَعْتُ رَحِمِي، ثُمّ يَدَعُونَهُ فَلاَ يَأْخُذُونَ مِنْهُ شَيْئاً" .
ـــــــ
أسعد اسماً ولكع بنصب على الخبرية لفساد المعنى كما لا يخفى.
قوله: "هذا حديث حسن" وأخرجه أحمد والبيهقي في دلائل النبوة والضياء المقدسي.
قوله: "تقيء الأرض" مضارع من القيء أي تلقي الأرض "أفلاذ كبدها" قال القاري بفتح الهمزة جمع الفلذة وهي القطعة المقطوعة طولاً وسمي ما في الأرض كبداً تشبيهاً بالكبد التي في بطن البعير لأنها أحب ما هو مخبأ فيها، كما أن الكبد أطيب ما في بطن الجزور وأحبه إلى العرب. وإنما قلنا في بطن البعير لأن ابن الأعرابي قال الفلذة لا تكون إلا للبعير. فالمعنى تظهر كنوزها وتخرجها من بطونها إلى ظهورها انتهى. "أمثال الأسطوان" بضم الهمزة والطاء.
وقوله: "من الذهب والفضة" لبيان مجمل الحال. قال القاضي رحمه الله: معناه أن الأرض تلقي من بطنها ما فيه من الكنوز وقيل ما وسخ فيها من العروق المعدنية، ويدل عليه قوله أمثال الأسطوانة. وشبهها بأفلاذ الكبد هيئة وشكلاً فإنها قطع الكبد المقطوعة طولاً "قطعت يدي" بصيغة المجهول "ويجيء القاتل" أي قاتل النفس "في هذا" أي في طلب هذا الغرض لأجل تحصيل هذا المقصود "قتلت" أي من قتلت من الأنفس "ويجيء القاطع" أي قاطع الرحم "ثم يدعونه" بفتح الدال أي يتركون ما قاءته الأرض من الكنز أو المعدن.(6/453)
هذا حديثٌ حسنٌ غريبٌ لا نعرفُه إلا من هذا الْوَجْهِ.
ـــــــ
قوله: "هذا حديث حسن غريب" وأخرجه مسلم.(6/454)
32-باب
2307ـ حَدّثنا صَالحُ بنُ عبدِ الله الترمذي، حدثنا الْفَرَجُ بت فَضَالَةَ أبو فَضَالَةَ الشّامِيّ عن يَحْيَى بنِ سَعِيدٍ عن محمّدِ بنِ عُمَرَ بنِ عَلِيّ عن عَلِيّ بنِ أبي طَالِبٍ قال: قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: "إِذَا فَعَلَتْ أُمّتِي خَمْسَ عَشَرَةَ خَصْلَةً حَلّ بِهَا الْبَلاَءُ. قِيلَ وَمَا هِيَ يَا رَسُولَ الله؟ قَالَ: إِذَا كَانَ المَغْنَمُ دُوَلاً، وَالأمَانَةُ مَغْنَماً، وَالزكَاةُ مَغْرَماً، وَأَطَاعَ الرّجُلُ زَوْجَتَهُ وَعَقّ أُمّهُ، وَبَرّ صَدِيقَةُ
ـــــــ
"باب"
قوله: "حدثنا الفرج بن فضالة أبو فضالة الشامي" التنوخي ضعيف من الثامنة "عن محمد بن عمر بن علي" قال في التقريب: محمد بن عمر بن علي بن أبي طالب، صدوق من السادسة وروايته عن جده مرسلة.
قوله: "خصلة" بالفتح أي خلة "حل" أي نزل أو وجب "إذا كان المغنم" أي الغنيمة "دولا" بكسر الدال وفتح الواو ويضم أوله جمع دولة بالضم والفتح وهو ما يتداول من المال فيكون لقوم دون قوم. قال التوربشتي: أي إذا كان الأغنياء وأصحاب المناصب يستأثرون بحقوق الفقراء أو يكون المراد منه أن أموال الفقء تؤخذ غلبة وأثرة صنيع أهل الجاهلية وذوي العدوان "والأمانة مغنماً" أي بأن يذهب الناس بودائع بعضهم وأماناتهم، فيتخذونها كالمغانم يغنمونها "والزكاة مغرماً" أي بأن يشق عليهم أداؤها بحيث يعدون إخراجها غرامة "وأطاع الرجل زوجته" أي فيما تأمره وتهواه مخالفاً لأمر الله "وعق أمه" أي خالفها فيما تأمره وتنهاه "وبر صديقه" أي احسن إليه وأدناه وحباه "وجفا أباه" أي أبعده وأقصاه. وفي حديث أبي هريرة الاَتي: وأدنى صديقه وأقصى أباه . قال ابن الملك: خص عقوق الأم بالذكر وإن كان عقوق كل واحد من(6/454)
وَجَفَا أَبَاهُ، وَارْتَفَعَتِ الأصْوَاتُ فِي المَساجدِ، وكانَ زَعِيمُ القَوْمِ أَرْذَلَهُمْ، وَأُكْرِمَ الرّجُلُ مَخَافَةَ شَرّهِ، وَشُرِبَتِ الْخُمورُ وَلُبِسَ الْحَرِيرُ، وَاتّخِذَت القِيانُ وَالمَعَازِفُ، وَلَعَنَ آخِرُ هَذِهِ الأُمّةِ أَوّلَهَا، فَلْيَرْتَقِبُوا عَنْدَ ذَلِكَ رِيحاً حَمْرَاءَ، أَوْ خَسْفاً وَمَسْخاً" .
ـــــــ
الأبوين معدوداً من الكبائر لتأكد حقها، أو لكون قوله: وأقصى أباه بمنزلة وعق أباه فيكون عقوقهما مذكوراً "وارتفعت الأصوات" أي علت أصوات الناس "في المساجد" بنحو الخصومات والمبايعات واللهو واللعب. قال القاري وهذا مما كثر في هذا الزمان، وقد نص بعض علمائنا يعني العلماء الحنفية، بأن رفع الصوت في المسجد ولو بالذكر حرام انتهى. "وكان زعيم القوم" أي المتكفل بأمرهم. قال في القاموس: الزعيم الكفيل وسيد القوم ورئيسهم والمتكلم عنهم انتهى. "أرذلهم" في القاموس: الرذال والرذل والرذيل والأرذل: الدون الخسيس أو الرديء من كل شيء "وأكرم الرجل" بالبناء للمفعول أي عظم الناس الإنسان "مخافة شره" أي خشية من تعدي شره إليهم "وشربت" بصيغة المجهول "الخمور" جميعها لاختلاف أنواعها، إذ كل مسكر خمر أي أكثر الناس من شربها أو تجاهروا به "ولبس الحرير" أي لبسه الرجال بلا ضرورة "واتخذت القيان" أي الإماء المغنيات جمع القينة "المعازف" بفتح الميم وكسر الزاي وهي الدفوف وغيرها مما يضرب كذا في النهاية. وقال في القاموس: المعازف الملاهي كالعود والطنبور الواحد عزف أو معزف كمنبر ومكنسة انتهى. "ولعن آخر هذه الأمة أولها" أي اشتغل الخلف بالطعن في السلف الصالحين والأئمة المهديين. قال الطيبي أي طعن الخلف في السلف وذكروهم بالسوء ولم يقتدوا بهم في الأعمال الصالحة فكأنه لعنهم. قال القاري: إذا كانت الحقيقة متحققة فما المحوج إلى العدول عنها إلى المعنى المجازي؟ وقد كثرت كثرة لا تخفى في العالم. قال وقد ظهرت طائفة لاعنة ملعونة إما كافرة أو مجنونة، حيث لم يكتفوا باللعن والطعن في حقهم بل نسبوهم إلى الكفر بمجرد أوهامهم الفاسدة وأفهامهم الكاسدة، من أن أبا بكر وعمر وعثمان رضي الله تعالى عنهم أخذوا الخلافة وهي حق علي بغير حق. والحال أن هذا باطل بالإجماع سلفاً وخلفاً ولا اعتبار بإنكار المنكرين. وأي(6/455)
هذا حديثٌ غريبٌ لاَ نَعْرِفُهُ مِنْ حَدِيثِ عَلِيّ إِلاّ مِنْ هَذَا الوَجْهِ، وَلاَ نَعْلَمُ أَحَداً روى الحديث عن يَحيَى بنِ سَعِيدٍ الأنْصَارِيّ غَيْرَ الفَرَجِ بنِ فَضَالَةَ. وقَدْ تَكلّمَ فِيهِ بَعْضُ أَهْلِ الْحَدِيثِ، وَضَعّفَهُ مِنْ قِبَلِ حِفْظِهِ. وَقَدْ روى عَنْهُ وَكِيعٌ وَغَيْرُ وَاحِدٍ مِنَ الأَئِمةِ.
2308 ـ حدّثنا عَلِيّ بنُ حُجرٍ، حدثنا أخبرنا محمّدُ بنُ يزِيدَ الواسطي، عن المُسْتَلِمِ بنِ سَعِيدٍ عَنْ رُمَيْحٍ الْجُذَامِيّ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ الله
ـــــــ
دليل لهم من الكتاب والسنة يكون نصاً على خلافة علي انتهى. "فليرتقبوا" جواب إذا أي فلينتظروا "عند ذلك" أي عند وجود ما ذكر "ريحاً حمراء" أي حدوث هبوب ريح حمراء "وخسفاً" أي ذهاباً في الأرض وغوراً بهم فيها "أو مسخاً" أي قلب خلقة من صورة إلى أخرى.
قوله: "وقد تكلم فيه بعض أهل الحديث وضعفه من قبل حفظه" قال الحافظ في تهذيب التهذيب في ترجمته: قال أبو داود عن أحمد إذا حدث عن شاميين فليس به بأس ولكنه حدث عن يحيى بن سعيد مناكير: وقال أيضاً عنه يحدث عن ثقات أحاديث مناكير انتهى.
قلت: وفي الحديث انقطاع، لأن رواية محمد بن عمر بن علي عن جده علي، مرسلة كما عرفت.
قوله: "حدثنا محمد بن يزيد" الكلاعي مولى خولان الواسطي ثقة ثبت عابد من كبار التاسعة "عن المستلم بن سعيد" الثقفي الواسطي، صدوق عابد ربما وهم من التاسعة "عن رميح" بضم الراء المهملة آخره حاء مهملة مصغراً "الجذامي" بضم الجيم نسبة إلى جذام قبيلة من اليمن كذا في لب اللباب. وفي الخلاصة الحزامي بكسر المهملة. قال الحافظ في تهذيب التهذيب: روى عن أبي هريرة حديث: إذا اتخذ الفيء دولاً. وعنه مستلم بن سعيد أخرجه الترمذي واستغربه. قال وقال ابن القطان: رميح لا يعرف انتهى. وقال في التقريب مجهول.(6/456)
صلى الله عليه وسلم: "إِذَا اتّخِذَ الفَيْءُ دُوَلاً، وَالأمَانَةُ مَغْنَمَا، وَالزّكَاةُ، مَغْرَماً، وَتُعُلّمَ لِغَيْرِ الدّينِ، وَأَطَاعَ الرّجُلُ امرأَتَهُ، وَعَقّ أُمّهُ وَأَدْنَى صَدِيقَهُ وَأَقْصَى أَبَاهُ، وَظَهَرَتِ الأصْوَاتُ في المَسَاجِدِ، وَسَادَ الْقَبِيلَةَ فَاسِقُهُمْ، وَكَانَ زَعِيمُ الْقَوْمِ أَرْذَلَهُمْ، وَأُكْرِمَ الرّجُلُ مَخَافَةَ شَرّهِ، وَظَهَرَتْ القَيْنَاتُ وَالمَعَازِفُ، وَشُرِبَتِ الْخُمُورُ، وَلَعَنَ آخِرُ هَذِهِ الأُمّةِ أَوّلَهَا فَلْيَرْتَقِبُوا عِنْدَ ذَلِكَ رِيحاً حَمْرَاءَ وَزَلْزَلَةً وَخَسْفاً ومَسْخاً وَقَذْفاً، وَآيَاتٍ تَتَابَعُ كَنِظَامٍ بَالٍ قُطعَ سِلْكُهُ فَتَتَابَعَ" .
وفي البابِ عَنْ عَلِيّ. هذا حديثٌ غَرِيبٌ لاَ نَعْرِفُهُ إِلاّ مِنْ هَذَا الوَجْهِ.
ـــــــ
قوله: "إذ اتخذ" بصيغة المجهول أي إذا أخذ "الفيء" أي الغنيمة "وتعلم" بصيغة المجهول من باب التفعل "لغير الدين" أي يتعلمون العلم لطلب المال والجاه لا للدين ونشر الأحكام بين المسلمين لإظهار دين الله "وأدنى صديقه" أي قربه إلى نفسه للمؤانسة والمجالسة "وأقصى أباه" أي أبعده ولم يستصحبه ولم يستأنس به "وظهرت الأصوات" أي ارتفعت "وساد القبيلة" وفي معناه البلد والمحلة أي صار سيدهم "وظهرت القينات" بفتح القاف وسكون التحتية أي الإماء المغنيات "وزلزلة" أي حركة عظيمة للأرض "وقذفاً" أي رمي حجارة من السماء "وآيات" أي علامات أخر لدنو القيامة وقرب الساعة "تتابع" بحذف إحدى التائين أي يتبع بعضها بعضاً "كنظام" بكسر النون أي عقد من نحو جوهر وخرز "بال" أي خلق "قطع سلكه" بكسر السين أي انقطع خيطه "فتتابع" أي ما فيه من الخرز، وهو فعل ماض بخلاف الماضي فإنه حال أو استقبال.
قوله: "هذا حديث غريب" وفي سنده رميح الجذامي وهو مجهول كما عرفت وروى أحمد والحاكم عن ابن عمر مرفوعاً الاَيات خرزات منظومات في سلك فانقطع السلك فيتبع بعضها بعضاً.(6/457)
2309 ـ حدّثنا عَبّادُ بنُ يَعْقُوبَ الكُوفِيّ، أخبرنا عَبْدُ الله بنُ عَبْدِ القُدّوسِ عَنْ الأَعْمَشِ عَنْ هِلاَلِ بنِ يَسَافٍ عَنْ عِمْرَانَ بنِ حُصَيْنٍ: "أَنّ رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم قَالَ: فِي هَذِهِ الأُمّةِ خَسْفٌ وَمَسْخٌ وَقَذْفٌ، فَقَالَ رَجُلٌ مِنَ المُسْلِمينَ: يَا رَسُولَ الله وَمَتَى ذَاكَ؟ قَالَ: إِذَا ظَهَرَت الْقِيَانُ وَالمَعَازِفُ وَشُرِبَتِ الْخُمُورُ" .
هذا حديثٌ غَرِيبٌ ورُوِيَ هَذا الْحَدِيثُ عَنْ الأَعْمَشِ عَنْ عَبْدِ الرّحْمَنِ بنِ سَابِطٍ عَنْ النّبيّ صلى الله عليه وسلم مرسلا.
ـــــــ
قوله: "أخبرنا عبد الله بن عبد القدوس" التميمي السعدي الكوفي صدوق، رمي بالرفض وكان أيضاً يخطئ من التاسعة.
قوله: "في هذه الأمة" أي يكون في هذه الأمة.
قوله: "وهذا حديث غريب" ذكره المنذري في الترغيب وسكت عنه.
قوله: "عن عبد الرحمن بن سابط" قال في التقريب: ويقال ابن عبد الله بن سابط وهو الصحيح، ويقال ابن عبد الله بن عبد الرحمن الجمحي المكي، ثقة كثير الإرسال من الثالثة(6/458)
باب ما جاء فى قول النبى صلى الله عليه و سلم بعثت أنا و الساعة كهاتين
...
33-باب ما جَاءَ في قَوْلِ النّبِيّ صلى الله عليه وسلم بُعِثْتُ أَنَا والسّاعَةَ كَهَاتَيْنِ
2310 ـ حَدّثنا محمدُ بنُ عُمَر بنِ هَيّاجٍ الأسَدِيّ الكُوفِيّ، حدثنا يَحْيىَ بنُ عَبْدِ الرّحْمَنِ الأرْحَبِيّ، أخبرنا عُبَيْدَةُ بنُ الأسْوَدِ، عن مُجَالِدٍ عن
ـــــــ
"باب ما جَاءَ في قَوْلِ النّبِيّ صلى الله عليه وسلم بُعِثْتُ أَنَا والسّاعَةَ كَهَاتَيْنِ"
قوله: "حدثنا محمد بن عمر بن هياج الأسدي الكوفي" صدوق من الحادية عشرة "حدثنا يحيى بن عبد الرحمن الأرحبي" الكوفي، صدوق، ربما أخطأ من(6/458)
قَيْسِ بنِ أَبِي حَازِمٍ، عن المُسْتَوْرِدِ بنِ شدّادٍ الفِهْرِيّ، روى عن النبِيّ صلى الله عليه وسلم قال: "بُعِثْتُ أَنَا فِي نَفَسِ السّاعَةِ فَسَبَقْتُها كما سَبَقَتْ هَذِهِ هَذِهِ لإصْبَعَيْهِ السّبّابَةِ وَالْوُسْطى" .
هذا حديثٌ غريب من حَدِيثِ المستوْرِدِ بن شدّادٍ، لا نَعْرِفُهُ إِلاّ مِنْ هَذَا الوجهِ.
2311ـ حدّثنا محمودُ بنُ غَيْلان، حدثنا أَبُو دَاوُدَ، أَنْبَأَنَا شُعْبَةُ عن قَتَادَةَ عن أَنَسٍ قال: قال رسُولُ الله صلى الله عليه وسلم: "بُعِثْتُ أَنَا والسّاعَةَ كَهَاتَيْنِ ـ وأَشارَ أَبُو دَاوُدَ بالسّبّابَةِ وَالْوُسْطَى ـ فمَا فَضْلُ
ـــــــ
التاسعة "أخبرنا عبيدة بن الأسود" بن سعيد الهمداني الكوفي، صدوق، ربما دلس من الثامنة.
قوله: "بعثت أنا في نفس الساعة" بفتح النون والفاء لا غير أراد به قربها أي حين تنفست تنفسها ظهور أشراطها، ومنه قوله تعالى: {وَالصُّبْحِ إِذَا تَنَفَّسَ} أي ظهرت آثار طلوعه. وبعثة النبي صلى الله عليه وسلم من أول أشراطها. هذا معنى كلام التوربشتي كذا في المرقاة. وكذا قال غيره "فسبقتها" أي الساعة في الوجود "كما سبقت هذه" أي السبابة "هذه" أي الوسطى أي وجود أو حساباً باعتبار الابتداء من جانب الإبهام، وعدل عن الإبهام لطول الفصل بينه والمسبحة "لأصبعيه السبابة والوسطى" في المشكاة وأشار بأصبعيه السبابة والوسطى.
قوله: "هذا حديث غريب" وأخرجه الطبري.
قوله: "بعثت أنا والساعة" قال أبو البقاء العكبري في إعراب المسند الساعة بالنصب والواو فيه بمعنى مع قال ولو قرئ بالرفع لفسد المعنى، لأنه لا يقال بعثت الساعة ولا هو في موضع المرفوع لأنها لم توجد بعد وأجاز غيره الوجهين بل جزم عياض بأن الرفع أحسن وهو عطف على ضمير المجهول في بعثت، قال: ويجوز النصب وذكر نحو توجيه أبي البقاء وزاد أو على ضمير يدل عليه الحال نحو فانتظروا كما قدر في نحو: جاء البرد والطيالسة فاستعدوا. قال الحافظ: والجواب عن الذي(6/459)
إِحْدَاهُمَا عَلَى الأُخْرَى" . هذا حديثٌ حَسَنٌ صحيحٌ.
ـــــــ
اعتل به أبو البقاء أولاً أن يضمن بعثت معنى يجمع إرسال الرسول ومجيء الساعة نحو جئت، وعن الثاني بأنها نزلت منزلة الموجود مبالغة في تحقق مجيئها انتهى "كهاتين" قال عياض أشار بهذا الحديث إلى قلة المدة بينه وبين الساعة والتفاوت إما في المجاورة وإما في قدر ما بينهما ويعضده قوله كفضل إحداهما على الأخرى، وقال بعضهم هذا الذي يتجه أن يقال ولو كان المراد الأول لقامت الساعة لاتصال إحدى الأصبعين بالأخرى. قال ابن التين اختلف في معنى قوله كهاتين فقيل كما بين السبابة والوسطى في الطول. وقيل المعنى ليس بينه وبينها نبي وقال القرطبي في المفهم: حاصل الحديث تقريب أمر الساعة وسرعة مجيئها. قال وعلى رواية النصب يكون التشبيه وقع بالانضمام، وعلى الرفع وقع بالتفاوت. وقال البيضاوي معناه أن نسبة تقدم البعثة النبوية على قيام الساعة، كنسبة فضل إحدى الأصبعين على الأخرى. وقيل المراد استمرار دعوته لا تفترق إحداهما عن الأخرى، كما أن الأصبعين لا تفترق إحداهما عن الأخرى. ورجح الطيبي قول البيضاوي. وقال القرطبي في التذكرة: معنى هذا الحديث تقريب أمر الساعة ولا منافاة بينه وبين قوله في الحديث الاَخر. ما المسؤول عنها بأعلم من السائل فإن المراد بحديث الباب أنه ليس بينه وبين الساعة نبي كما ليس بين السبابة والوسطى أصبع أخرى ولا يلزم من ذلك علم وقتها بعينه لكن سياقه يفيد قربها وأن أشراطها متتابعة كما قال تعالى: {فَقَدْ جَاءَ أَشْرَاطُهَا} قال الضحاك: أول أشراطها بعثة محمد صلى الله عليه وسلم. والحكمة في تقدم الأشراط إيقاظ الغافلين وحثهم على التوبة والاستعداد كذا في الفتح "فما فضل إحداهما على الأخرى" أي في الطول. والمعنى ليس بينهما إلا فضل يسير وزاد مسلم بعد رواية هذا الحديث: قال شعبة وسمعت قتادة يقول في قصصه كفضل إحديهما على الأخرى، فلا أدري أذكره عن أنس أو قاله قتادة؟ قال الحافظ: وجدت هذه الزيادة مرفوعة في حديث أبي جبيرة ابن الضحاك عن الطبري.
قوله: "هذا حديث حسن صحيح" وأخرجه أحمد والشيخان(6/460)
34 ـ باب ما جاءَ في قِتَالِ التّرْك
2312 ـ حَدّثنا سَعِيدُ بنُ عَبْدِ الرّحمَنِ المخزومي و عَبْدُ الْجَبّارِ بنُ العَلاءِ، قَالاَ حدثنا سُفْيَانُ عن الزّهْرِيّ عَنْ سَعِيدِ بنِ المُسَيّبِ عَنْ أبي هُرَيْرَةَ أنّ النّبي صلى الله عليه وسلم قالَ: "لا تَقُومُ السّاعَةُ حَتّى تُقَاتِلُوا قَوْماً نِعَالُهُمُ الشّعْرُ. وَلاَ تَقُومُ السّاعَةُ حَتّى تُقَاتِلُوا قَوْماً كَأَنّ وُجُوهَهُمْ المَجَانّ المُطْرَقَةُ" .
ـــــــ
"باب ما جاء في قتال الترك"
اختلف في أصل الترك، فقال الخطابي: هم بنو قنطوراء أمة كانت لإبراهيم عليه السلام، وقال كراع هم الديلم وتعقب بأنهم جنس من الترك وكذلك الغز، وقال أبو عمر: وهم من أولاد يافث وهم أجناس كثيرة، وقال وهب بن منبه هم بنو عم يأجوج ومأجوج لما بن ذو القرنين السد كان بعض يأجوج ومأجوج غائبين فتركوا لم يدخلوا مع قومهم فسموا الترك. وقيل إنهم من نسل تبع. وقيل من ولد أفريدون بن سام بن نوح. وقيل ابن يافث لصلبه، وقيل ابن كومي بن يافث كذا في الفتح
قوله: "وعبد الجبار بن العلاء" بن عبد الجبار العطار البصري أبو بكر نزيل مكة، لا بأس به من صغار العاشرة.
قوله: "حتى تقاتلوا قوماً نعالهم الشعر" بفتحتين وسكون. قيل المراد به طول شعورهم حتى تصير أطرافها في أرجلهم موضع النعال. وقيل المراد أن فعالهم من الشعر بأن يجعلوا نعالهم من شعر مضفور. ووقع في رواية مسلم من طريق سهيل عن أبيه عن أبي هريرة: لا تقوم الساعة حتى يقاتل المسلمون الترك قوماً كأن وجوههم المجان المطرقة، يلبسون الشعر، ويمشون في الشعر. وزعم ابن دحية أن المراد به القندس الذي يلبسونه في الشرابيش، قال وهو جلد كلب الماء ذكره الحافظ. قلت والظاهر هو القول الثاني يدل على ذلك رواية مسلم المذكورة "كأن وجوههم المجان" بفتح الميم وتشديد النون جمع المجن بكسر الميم: وهو الترس "المطرقة" بضم الميم وفتح الراء المخففة المجلدة طبقاً فوق طبق. وقيل هي(6/461)
وفي البابِ عَنْ أَبِي بَكْرٍ الصّدّيقِ وبُرَيدَةَ وَأَبِي سَعِيدٍ وعَمْرِو بنِ تَغْلِبَ ومُعَاوِيَةَ. هذا حديثٌ حسنٌ صحيحٌ.
ـــــــ
ألبست طراقاً أي جلداً يغشاها. شبه وجوههم بالترسة لبسطها وتدويرها، وبالمطرقة لغلظها وكثرة لحمها.
قوله: "وفي الباب عن أبي بكر الصديق وبريدة وأبي سعيد وعمرو بن تغلب ومعاوية" أما حديث أبي بكر فأخرجه الترمذي في باب من أين يخرج الدجال. وأما حديث بريدة فأخرجه أبو داود، وأما حديث أبي سعيد فأخرجه ابن ماجة وأما حديث عمرو بن تغلب فأخرجه البخاري وابن ماجة، وأما حديث معاوية فأخرجه أبو يعلى: ذكر الحافظ لفظه في الفتح في علامات النبوة.
قوله: "هذا حديث حسن صحيح" وأخرجه الشيخان(6/462)
35 ـ باب ما جاءَ إِذَا ذَهَبَ كِسرَى فَلاَ كِسْرَى بَعْدَه
2313ـ حَدّثنا سَعِيدُ بنُ عَبْدِ الرّحمَنِ حدثنا سُفْيَانُ عَنْ الزّهْرِيّ عَنْ سَعِيدِ بنِ المُسَيّبِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم: "إِذَا هَلَكَ كِسْرَى فَلاَ كِسْرى بَعْدَهُ وَإِذا هَلَكَ قَيْصَرُ فَلاَ قَيْصَرَ بَعْدَهُ، وَالّذِي نَفْسِي بِيدِهِ لَتُنْفَقَنّ كنوزُهُما فِي سَبيلِ الله" .
ـــــــ
"باب ما جاءَ إِذَا ذَهَبَ كِسرَى فَلاَ كِسْرَى بَعْدَه"
بكسر الكاف ويجوز الفتح، وهو لقب لكل من ولي مملكة الفرس. قال ابن الأعرابي: الكسر أفصح في كسرى، وكان أبو حاتم يختاره، وأنكر الزجاج الكسر على ثعلب واحتج بأن النسبة إليه كسروي بالفتح، ورد عليه ابن فارس بأن النسبة قد يفتح فيها ما هو في الأصل مكسور أو مضموم كما قالوا في بني تغلب بكسر اللام تغلبي بفتحها، وفي سلمة كذلك، فليس فيه حجة على تخطئة الكسر
"وإذا هلك قيصر" لقب لكل من ولي مملكة الروم "فلا قيصر بعده". قال الحافظ في شرح هذا الحديث: قد استشكل هذا مع بقاء مملكة الفرس لأن آخرهم(6/462)
هذا حديثٌ حسنٌ صحيحٌ.
ـــــــ
قتل في زمان عثمان، واستشكل أيضاً مع بقاء مملكة الروم وأجيب عن ذلك بأن المراد لا يبقى كسرى بالعراق ولا قيصر بالشام وهذا منقول عن الشافعي. قال وسبب الحديث أن قريشاً كانوا يأتون الشام والعراق تجاراً، فلما أسلموا خافوا انقطاع سفرهم إليهما لدخولهم في الإسلام فقال النبي صلى الله عليه وسلم ذلك لهم تطييباً لقلوبهم وتبشيراً لهم بأن ملكهما سيزول عن الإقليمين المذكورين. وقيل الحكمة في أن قيصر بقي ملكه وإنما ارتفع من الشام وما والاها وكسرى ذهب ملكه أصلاً ورأساً أن قيصر لما جاءه كتاب النبي صلى الله عليه وسلم قبله وكاد أن يسلم، وكسرى لما أتاه كتاب النبي صلى الله عليه وسلم مزقه، فدعا النبي صلى الله عليه وسلم أن يمزق ملكه كل ممزق، فكان كذلك. قال الخطاب معناه فلا قيصر بعده يملك مثل ما يملك، وذلك أنه كان بالشام وبها بيت المقدس الذي لا يتم للنصارى نسك إلا به ولا يملك على الروم أحد إلا كان قد دخله إما سراً وإما جهراً، فانجلى عنها قيصر، واستفتحت خزائنه ولم يخلفه أحد من القياصرة في تلك البلاد بعده انتهى.
قوله: "هذا حديث حسن صحيح" وأخرجه الشيخان(6/463)
36 ـ باب لاَ تَقُومُ السّاعَةُ حَتّى تَخْرُجَ نَارٌ مِنْ قِبَلِ الْحِجَاز
2314 ـ حَدّثنا أَحْمَدُ بْنُ مَنِيعٍ، أخبرنا حُسَيْنُ بنُ مُحمّدٍ البَغْدَادِيّ، حدثنا شَيبَانُ عَنْ يَحْيَى بنِ أَبِي كَثِيرٍ عَنْ أَبِي قِلاَبَةَ عَنْ سَالِمِ بنِ عَبدِ الله
ـــــــ
"باب لاَ تَقُومُ السّاعَةُ حَتّى تَخْرُجَ نَارٌ مِنْ قِبَلِ الْحِجَاز"
قوله: "حدثنا حسين بن محمد البغدادي" قال في التقريب: الحسين بن محمد ابن بهرام التميمي أبو أحمد وأبو علي المروذي بتشديد الواو وبذال معجمة، نزيل بغداد، ثقة من التاسعة.
قوله: "حدثنا شيبان" بن عبد الرحمن التميمي مولاهم النحوي أبو معاوية البصري نزيل الكوفة، ثقة، صاحب كتاب، يقال إنه منسوب إلى نحوة بطن من الأزد لا إلى علم النحو من السابعة.(6/463)
عن أبِيهِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم: "سَتَخْرجُ نَارٌ مِنْ حَضْرَ مَوْتَ أَوْ مِنْ نَحْوِ بَحْرِ حَضَرَمَوْتَ قَبْلَ يَوْمِ القِيَامَةِ تَحْشُرُ النّاسَ. قَالُوا يَا رَسُولَ الله فَمَا تَأْمُرنَا؟ قَالَ عَلَيْكُمْ بِالشّامِ" .
وفي البَاب عَنْ حُذَيفَةَ بنِ أَسِيدٍ وَأَنَسٍ وَأَبِي هُرَيْرَةَ وأبي ذَرٍ.
هذا حديثٌ حسنٌ صحيحٌ غريبٌ مِنْ حَدِيثِ ابنِ عُمَرَ.
ـــــــ
قوله: "ستخرج نار" يحتمل أن يكون حقيقة وهو الظاهر على ما ذكره الجزري، ويحتمل أن يراد بها الفتنة "من حضرموت" بفتح فسكون ففتحتين فسكون ففتح. ففي القاموس: حضرموت بضم الميم بلد وقبيلة، ويقال هذا حضرموت، ويضاف فيقال حضرموت بضم الراء، وإن شئت لاتنون الثاني "تحشر الناس" أي تجمعهم النار وتسوقهم على ما في النهاية "فما تأمرنا" أي في ذلك الوقت "فقال عليكم بالشام" أي خذوا طريقها والزموا فريقها. فإنها سالمة من وصول النار الحسية أو الحكمية إليها حينئذ لحفظ ملائكة الرحمة إياها والحديث بظاهره لا يطابق الباب فتفكر وتأمل.
قوله: "وفي الباب عن حذيفة بن أسيد وأنس وأبي هريرة وأبي ذر". أما حديث حذيفة ابن أسيد فأخرجه الترمذي في باب الخسف، وأما حديث أنس فأخرجه البخاري عنه مرفوعاً أول أشراط الساعة نار تحشر الناس من المشرق إلى المغرب . وأما حديث أبي هريرة فأخرجه الشيخان عنه مرفوعاً: لا تقوم الساعة حتى تخرج نار من أرض الحجاز تضيء أعناق الإبل ببصري، وأما حديث أبي ذر فأخرجه أحمد في مسنده.
قوله: "هذا حديث حسن صحيح غريب" وأخرجه أحمد(6/464)
37 ـ باب مَا جَاءَ لاَ تَقُومُ السّاعَةُ حَتّى يَخْرُجَ كَذّابُون
2315ـ حَدّثنا محمودُ بنُ غَيْلاَنَ، حدثنا عَبْدُ الرّزّاقِ أخبرنا مَعْمَرُ عنْ هَمّامِ بنِ مُنَبّهٍ عَنْ أَبي هُرَيْرةَ قَالَ: قالَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم: "لا تَقُومُ السّاعَةُ حَتّى يَنْبَعِثَ كَذّابُونَ دجّالُونَ قَرِيبٌ مِنْ ثَلاَثِينَ كُلّهُمْ يَزْعُمُ أَنّهُ رَسُولُ الله" .
ـــــــ
"باب ما جاء لا تقوم الساعة حتى يخرج كذابون"
قوله: "لا تقوم الساعة حتى ينبعث" أي يخرج. وفي رواية البخاري حتى يبعث. قال الحافظ: بضم أوله أي يخرج وليس المراد بالبعث بمعنى الإرسال المقارن للنبوة بل هو كقوله تعالى: {أَنَّا أَرْسَلْنَا الشَّيَاطِينَ عَلَى الْكَافِرِينَ} "كذابون دجالون" وفي رواية البخاري: دجالون كذابون. قال الحافظ: الدجل التغطية والتمويه، ويطلق على الكذب أيضاً، فعلى هذا فقوله كذابون تأكيد "قريب من ثلاثين" مرفوع على أنه خبر مبتدأ محذوف أي عددهم قريب وقد وقع في حديث ثوبان الاَتي بعد هذا، وكذا في حديث جابر بن سمرة عند مسلم، وكذا في أحاديث أخرى بالجزم أنهم ثلاثون، ووقع في حديث حذيفة عند أحمد بسند جيد: سيكون في أمتي كذابون دجالون سبعة وعشرون منهم أربع نسوة وإني خاتم النبيين لانبي بعدي، وهذا يدل على أن رواية الثلاثين بالجزم على طريق جبر الكسر، ويؤيده قوله في حديث الباب قريب من ثلاثين، ووقع في حديث عبد الله بن عمرو عند الطبراني: لا تقوم الساعة حتى يخرج سبعون كذاباً وسنده ضعيف، وعند أبي يعلي من حديث أنس نحوه وسنده ضعيف أيضاً، وهو محمول إن ثبت على المبالغة في الكثرة لا على التحديد، وليس المراد بالحديث من ادعى النبوة مطلقاً فإنهم لا يحصون كثرة لكون غالبهم ينشأ لهم ذلك عن جنون أو سوداء، وإنما المراد من قامت له شوكة وبدت له شبهة، هذا تلخيص كلام الحافظ. وقد ذكر هنا عدة من الكذابين الدجالين وذكر أسماءهم وشيئاً من أحوالهم "كلهم يزعم أنه رسول الله" هذا ظاهر في أن كلا منهم يدعي النبوة، وهذا هو السر في قوله في آخر(6/465)
وفي البابِ عَن جَابِرِ بنِ سَمُرَةَ وابنِ عُمَرَ.
حديثٌ حسنٌ صحيحٌ.
2316ـ حدّثنا قُتَيْبَةُ، حدثنا حَمّادُ بنُ زَيْدٍ، عَنْ أَيّوبَ عن أبي قِلاَبَةَ عنْ أبي أَسْمَاءَ الرّحبي عَنْ ثَوْبَانَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم: "لاَ تَقُومُ السّاعَةُ حَتّى تَلْحَقَ قَبَائِلُ مِنْ أُمّتِي بالمُشْرِكِينَ وَحَتّى يَعْبُدُوا الأوْثَان وإِنّهُ سَيَكُونُ فِي أُمّتِي ثَلاَثُونَ كَذّابُونَ كُلّهُمْ يَزْعُمُ أَنّهُ نَبِيّ وَأَنَا خَاتَمُ النّبِيّينَ لاَ نَبِيّ بَعْدِي" .
هذا حديثٌ حسنٌ صحيحٌ.
ـــــــ
الحديث الاَتي: وإنّي خاتم النبيين لانبي بعدي. ويحتمل أن يكون الذين يدعون النبوة منهم ما ذكر من الثلاثين أو نحوها وأن من زاد على العدد المذكور يكون كذاباً فقط، لكن يدعو إلى الضلالة كغلاة الرافضة والباطنية وأهل الوحدة والحلولية وسائر للفرق الدعاة إلى ما يعلم بالضرورة أنه خلاف ما جاء به محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويؤيده أن في حديث علي عند أحمد فقال علي لعبد الله بن الكواء: وإنك لمتهم وابن الكواء لم يدع النبوة وإنما كان يغلو في الرفض.
قوله: "وفي الباب عن سمرة وابن عمر" أما حديث جابر بن سمرة فأخرجه مسلم. وأما حديث ابن عمر فلينظر من أخرجه.
قوله: "هذا حديث حسن صحيح" وأخرجه أحمد والبخاري ومسلم وأبو داود.
قوله: "حتى تلحق قبائل من أمتي بالمشركين" منها ما وقع بعد وفاته صلى الله عليه وسلم في خلافة الصديق رضي الله عنه "الأوثان" أي الأصنام "وأنه" أي الشأن "كذابون" أي في ادعائهم النبوة "وأنا خاتم النبيين" بكسر التاء وفتحها والجملة حالية "لانبي بعدي" تفسير لما قبله.
قوله: "هذا حديث صحيح" وأخرجه أبو داود في الفتن مطولاً(6/466)
باب ما جاء فى ثقيف كذاب و مبير
...
38 ـ باب ما جَاءَ في ثَقيفٍ كَذّابٌ ومُبِير
2317 ـ حَدّثنا عَلِيّ بنُ حُجرِ، حدثنا الفَضْلُ بنُ مُوسَى عَن شَريك بن عبد الله عَنْ عَبْدِ الله بن عُصْمٍ، عَنْ ابنِ عُمرَ قالَ: قالَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم: "في ثَقِيفٍ كذّابٌ ومُبِيرٌ" .
وفي البابِ عَن أَسْمَاءَ بنتِ أبي بَكْرٍ.
2318 ـ حدّثنا عَبْدُ الرّحمَنِ بنُ واقِدٍ أخبرنا شَرِيكٌ نَحْوَهُ. هذا حديثٌ حَسَنٌ غريبٌ. مِنْ حديث ابنِ عُمرَ لا نَعْرِفُهُ إِلاّ مِنْ حَدِيثِ
ـــــــ
"باب ما جاء في ثقيف كذاب ومبير"
قوله: "عن عبد الله بن عصم" بضم العين وسكون الصاد المهملتين، ويقال عصمة بفتح فسكون كنيته أبو علوان بضم المهملة وسكون اللام، الحنفي اليمامي، نزل الكوفة، صدوق يخطئ، أفرط ابن حبان فيه وتناقض.
قوله: "في ثقيف" قال في القاموس: ثقيف كأمير أبو قبيلة من هوازن واسمه قسي بن منبه بن بكر بن هوازن والنسبة ثقفي محركة انتهى "كذاب" قيل هو المختار ابن أبي عبيد الزاعم أن جبريل يأتيه "ومبير" أي مهلك يسرف في إهلاك الناس يقال: بار الرجل يبور بوراً. فهو بائر، وأبار غيره، فهو مبير وهو الحجاج لم يكن أحد في الإهلاك مثله.
قوله: "وفي الباب عن أسماء بنت أبي بكر" أخرجه مسلم في باب ذكر كذاب ثقيف ومبيرها، من كتاب فضائل الصحابة.
قوله: "حدثنا عبد الرحمن بن واقد" بن مسلم البغدادي أبو مسلم الواقدي أصله بصري صدوق يغلط من العاشرة "نحوه" أي نحو حديث ابن عمر المذكور.
قوله: "هذا حديث حسن غريب" وأخرجه الطبراني في الكبير عن سلامة بنت الحر، قال المناوي: إسناده ضعيف.(6/467)
شَرِيكٍ. وَشَريكٌ يَقُولُ: عَبْدُ الله بنُ عُصْمٍ، وإِسْرَائيلُ يَقُولُ: عَبْدُ الله بنُ عُصْمَةَ.
ويُقَالُ الكَذّابُ المُخْتَارُ بنُ أبي عُبَيدٍ، والمبِيرُ الْحَجّاجُ بنُ يُوسُفَ.
2319 ـ حدّثنا أبو دَاوُدَ سُلَيْمانُ بنُ سَلْمٍ البَلْخيّ، أخبرنا النّضْرُ
ـــــــ
قوله: "وشريك يقول عبد الله بن عصم وإسرائيل يقول عبد الله بن عصمة" قال الحافظ في تهذيب التهذيب في ترجمة عبد الله بن عصم: قال الاَجري عن أبي داود قال إسرائيل عصمة، وقال شريك عصم، وسمعت أحمد يقول القول قول شريك، وكذا قال أبو القاسم الطبراني أن الصواب عصم انتهى.
قوله: "الكذاب هو المختار بن أبي عبيد" بالتصغير، وهو ابن مسعود الثقفي قام بعد وقعة الحسين ودعا الناس إلى طلب ثأره وكان غرضه في ذلك أن يصرف إلى نفسه وجوه الناس ويتوسل به إلى الإمارة وكان طالباً للدنيا مدلساً في تحصيلها كذا ذكره القاضي. وفي الإكمال لصاحب المشكاة: المختار بن أبي عبيد هو المختار ابن أبي عبيد بن مسعود الثقفي كان أبوه من أجلة الصحابة وولد المختار عام الهجرة وليس له صحبة ولا رواية، وهو الذي قال في حقه عبد الله بن عصمة: هو الكذاب الذي قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: في ثقيف كذاب. كان أولاً مشهوراً بالفضل والعلم والخير، وكان ذلك منه بخلاف ما يبطنه إلى أن فارق عبد الله بن الزبير، وطلب الإمارة وأظهر ما كان يبطن من فساد الرأي والعقيدة والهوى إلى أن ظهر منه أسباب كثيرة تخالف الدين، وكان يظهر طلب ثأر الحسين بن علي بن أبي طالب ليتمشى أمره الذي يرومه من الإمارة وطلب الدنيا، ولم يزل كذلك إلى أن قتل سنة سبع وستين في أيام مصعب بن الزبير انتهى "والمبير الحجاج بن يوسف" وهو بفتح الحاء مبالغة الحاج بمعنى الاَتي بالحجة. قال صاحب المشكاة هو عامل عبد الملك بن مروان على العراق وخراسان وبعده لابنه الوليد مات بواسط في شوال سنة خمس وسبعين وعمره أربع وخمسون سنة قلت: حجاج بن يوسف هذا هو الأمير الظالم الذي يضرب به المثل في الظلم والقتل والسفك.
قوله: "حدثنا أبو داود سليمان بن سلم البلخي" قال في التقريب: سليمان بن سلم(6/468)
بنُ شُمَيلٍ عَنْ هِشَامِ بنِ حَسّانَ قَالَ: أحْصَوْا مَا قَتَلَ الْحَجّاجُ صَبْرًا فَبَلَغَ مَائَةَ أَلْفٍ وعِشْرينَ أَلْفَ قَتِيلٍ.
ـــــــ
ابن سابق الهداوي، بفتح الهاء وتخفيف الدال، أبو داود المصاحفي البلخي، ثقة من الحادية عشر.
قوله: "أحصوا" بفتح الهمزة والصاد أي اضبطوا أو عدوا "صبراً" بفتح فسكون. قال في النهاية: كل من قتل في غير معركة ولا حرب ولا خطأ، فإنه مقتول صبراً(6/469)
39 ـ بابُ مَا جَاءَ في القَرْنِ الثّالِث
2320 ـ حَدّثنا وَاصِلُ بنُ عَبْدِ الأعْلَى، حدثنا مُحمّدُ بنُ الفُضْيلِ عَنْ الأعَمشِ عَنْ عليّ بنِ مُدْرِكٍ عَنْ هِلاَل بنِ يَسَافٍ عَنْ عِمْرَانَ بنِ حُصَينٍ قالَ: "سَمِعْتُ رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: خَيْرُ النّاسِ قَرْنِي، ثَمّ الذِينَ يَلُونَهُمْ ثَمّ يَأتِي مِنْ بَعْدِهِمْ قَومٌ يتسَمّنُون ويُحِبّونَ السّمَنَ يُعْطُونَ
ـــــــ
"بابُ مَا جَاءَ في القَرْنِ الثّالِث"
وهو قرن أتباع التابعين. قال النووي: الصحيح أن قرنه صلى الله عليه وسلم والصحابة، والثاني التابعون، والثالث تابعوهم انتهى
قوله: "خير الناس قرني" أي أهل قرني. قال الحافظ والمراد بقرن النبي صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث الصحابة وقد سبق في صفة النبي صلى الله عليه وسلم.
قوله: وبعثت في خير قرون بني آدم. وفي رواية بريدة عند أحمد: خير هذه الأمة القرن الذين بعثت فيهم، وقد ظهر أن الذي بين البعثة وآخر من مات من الصحابة مائة سنة وعشرون سنة أو دونها أو فوقها بقليل على الاختلاف في وفاة أبي الطفيل وإن اعتبر ذلك من بعد وفاته صلى الله عليه وسلم فيكون مائة سنة أو تسعين أو سبعاً وتسعين، وأما قرن التابعين فإن اعتبر من سنة مائة كان نحو سبعين أو ثمانين، وأما الذين بعدهم فإن اعتبر منها كان نحواً من خمسين، فظهر بذلك أن مدة القرن تختلف باختلاف أعمار أهل كل زمان، واتفقوا أن آخر من كان(6/469)
الشّهَادَةَ قَبلَ أَنْ يُسْأَلُوهَا" . هَكَذَا رَوى محمدُ بن فُضَيلٍ هَذَا الْحَدِيثَ عَنْ الأعمَشِ عَنْف عَلِيّ بنِ مُدْرِكٍ عَن هِلاَلِ بنِ يَسَافٍ.
ورَوَى غَيْرُ وَاحِدٍ من الْحُفاظِ هذا الحديث عَن الأعمَشِ، عَنْ هِلاَلِ بنِ يَسَافٍ، وَلَمْ يَذْكرُوا فيهِ عَلِيّ بنَ مُدْرِكٍ.
2321 ـ حدّثنا الحُسينُ بنُ حُرَيثٍ، أخبرنا وَكيعٌ عن الأعمَشِ، حدثنا هِلاَلُ بنُ يَسَافٍ عَنْ عِمْرَانَ بنِ حُصَيْنٍ عَنْ النّبِيّ صلى الله عليه وسلم فَذَكَرَ نَحْوَهُ. وَهذَا أَصَحّ عِنْدِي مِنْ حَدِيثِ مُحَمّدِ بنِ فُضَيْلٍ. وقد رُوِيَ هذا الحديثُ من غيرِ وَجْهٍ عن عِمْرَانَ بنِ حُصَيْنٍ عن النبيّ صلى الله عليه وسلم.
2322ـ حدّثنا قُتَيْبَةُ بنُ سَعِيدٍ، حدثنا أبو عَوَانَةَ عن قَتَادَةَ عن زُرَارَةَ بنِ أَوْفَى عن عِمْرَانَ بنِ حُصَيْنٍ قال: قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: "خَيْرُ أُمّتِي الْقَرْنُ الّذِي بُعِثْتُ فِيهِمْ ثُمّ الّذِينَ يَلُونَهُمْ، قال وَلاَ أَعْلَمُ أَذَكَرَ الثّالِثَ أَمْ لاَ، ثُم يَنْشَأُ أَقْوَامٌ يَشْهَدُونَ وَلاَ يُسْتَشْهَدُونَ، وَيَخُونُونَ
ـــــــ
من اتباع التابعين ممن يقبل قوله من عاش إلى حدود العشرين ومائتين انتهى "ثم الذين يلونهم" أي القرن الذي بعدهم وهم التابعون "ثم الذين يلونهم" وهم أتباع التابعين، ويأتي شرح هذا الحديث وتخريجه في أبواب الشهادات.
قوله: "خير أمتي القرن الذي بعثت فيهم ثم الذين يلونهم قال" أي عمران "ولا أعلم أذكر الثالث أم لا" وكذلك في رواية مسلم من طريق زرارة بن أوفى عن عمران وفي الصحيح من طريق زهدم عن عمران قال عمران فلا أدري أذكر بعد قرنه مرتين أو ثلاثاً. قال الحافظ في الفتح: وقع مثل هذا الشك في حديث ابن مسعود وأبي هريرة عند مسلم. وفي حديث بريدة عند أحمد، وجاء في أكثر(6/470)
وَلاَ يُؤْتَمَنُونَ، وَيَفْشُو فِيهِمُ السّمَنُ" .
هذا حديثٌ حسنٌ صحيحٌ.
ـــــــ
الطرق بغير شك منها عن النعمان بن بشير عند أحمد وعن مالك عند مسلم عن عائشة، قال رجل: يا رسول الله أي الناس خير قال القرن الذي أنا فيه ثم الثاني ثم الثالث ووقع في رواية الطبراني وسمويه ما يفسر به هذا السؤال وهو ما أخرجاه من طريق بلال بن سعيد بن تميم عن أبيه قال: قلت يا رسول الله أي الناس خير؟ فقال أنا وقرني . فذكر مثله وللطيالسي من حديث عمر رفعه: خير أمتي القرن الذي أنا منهم ثم الثاني ثم الثالث، ووقع في حديث جعدة بن هبير عند ابن أبي شيبة والطبراني إثبات القرن الرابع ولفظه: خير الناس قرني ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم ثم الاَخرون أردا ورجاله ثقات إلا أن جعدة مختلف في صحته انتهى "يخونون ولا يؤتمنون" أي لا يثق الناس بهم ولا يعتقدونهم أمناء بأن تكون خيانتهم ظاهرة بحيث لا يبقى للناس اعتماد عليهم "ويفشو" أي يظهر "فيهم السمن" بكسر المهملة وفتح الميم بعدها نون، أي يحبون التوسع في المآكل والمشارب وهي أسباب السمن.
قوله: "هذا حديث حسن صحيح" وأخرجه الشيخان(6/471)
40 ـ باب مَا جَاء في الْخُلَفَاء
2323ـ حَدّثنا أبو كُرَيْبٍ محمد بن العلاء، أخبرنا عُمَرُ بنُ عُبَيْدٍ الطنافسي عن سِمَاكِ بنِ حَرْبٍ عن جَابِرِ بنِ سَمُرَةَ قال: قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: "يَكُونُ مِنْ بَعْدِي اثْنَا عَشَرَ أَمِيراً، قال: ثُمّ تَكلّمَ بِشَيْءٍ لَمْ أَفْهَمْهُ، فَسَأَلْتُ
ـــــــ
"باب مَا جَاء في الْخُلَفَاء"
قوله: "أخبرنا عمر بن عبيد" بن أبي أمية الطنافسي، الكوفي، صدوق من الثامنة.
قوله: "يكون من بعدي أثنا عشر أميراً" وفي رواية لمسلم: إن هذا الأمر لا ينقضي حتى يمضي فيهم اثنا عشر خليفة، وفي رواية أخرى له: لا يزال أمر الناس ماضياً ماوليهم اثنا عشر رجلاً ، وفي أخرى له: لا يزال هذا الدين عزيزاً منيعاً(6/471)
ـــــــ
إلى اثني عشر خليفة، وفي أخرى له: لا يزال الدين قائماً... حتى تقوم الساعة أو يكون عليكم اثنا عشر خليفة. ووقع في حديث أبي جحيفة عند البزار والطبراني نحو حديث جابر بن سمرة بلفظ: لا يزال أمر أمتي صالحاً . وأخرجه أبو داود من طريق الأسود بن سعيد عن جابر بن سمرة نحوه قال: وزاد فلما رجع إلى منزله أتته قريش فقالوا: ثم يكون ماذا؟ قال الهرج . وأخرجه من طريق إسماعيل بن أبي خالد عن أبيه بلفظ: لا يزال هذا الدين قائماً حتى يكون عليكم اثنا عشر خليفة كلهم تجتمع عليه الأمة ، قال القاضي عياض: توجه على هذا العدد سؤالان: أحدهما: أنه يعارضه ظاهر قوله في حديث سفينة، يعني الذي أخرجه أصحاب السنن وصححه ابن جبان وغيره: الخلافة بعدي ثلاثون سنة ثم تكون ملكاً لأن الثلاثين سنة لم يكن فيها إلا الخلفاء الأربعة وأيام الحسن بن علي. والثاني: أنه ولي الخلافة أكثر من هذا العدد. قال والجواب على الأول أنه أراد في حديث سفينة خلافة النبوة ولم يقيده في حديث جابر بن سمرة بذلك، وعن الثاني أنه لم يقل: لا يلي إلا اثنا عشر وإنما قال يكون اثنا عشر وقد ولى هذا العدد ولا يمنع ذلك الزيادة عليهم. قال وهذا إن كان اللفظ واقعاً على كل من ولي وإلا فيحتمل أن يكون المراد من يستحق الخلافة من أئمة العدل، وقد مضى منهم الخلفاء الأربعة، ولابد من تمام العدة قبل قيام الساعة. وقد قيل إنهم يكونون في زمن واحد يفترق الناس عليهم، وقد وقع في المائة الخامسة في الأندلس وحدها ستة أنفس كلهم يتسمى بالخلافة ومعهم صاحب مصر والعباسية ببغداد إلى من كان يدعي الخلافة في أقطار الأرض من العلوية والخوارج قال ويعضد هذا التأويل قوله في حديث آخر في مسلم ستكون خلفاء فيكثرون. قال ويحتمل أن يكون المراد أن يكون الاثنا عشر في مدة عزة الخلافة وقوة الإسلام واستقامة أموره والاجتماع على من يقوم بالخلافة ويؤيده قوله في بعض الطرق. كلهم تجتمع عليه الأمة. وهذا قد وجد في من اجتمع عليه الناس إلى أن اضطرب أمر بني أمية ووقعت بينهم الفتنة زمن الوليد بن يزيد فاتصلت بينهم إلى أن قامت الدولة العباسية فاستأصلوا أمرهم وهذا العدد موجود صحيح إذا اعتبر. قال وقد يحتمل وجوهاً أخر والله أعلم بمراد نبيه انتهى. قال الحافظ: والاحتمال الذي قبل هذا وهو اجتماع اثني عشر في عصر واحد كلهم يطلب الخلافة هو الذي(6/472)
ـــــــ
اختاره المهلب كما تقدم وقد ذكرت وجه الرد عليه ولو لم يرد إلا قوله: كلهم يجتمع عليه الناس فإن في وجودهم في عصر واحد يوجد عين الأفتراق، فلا يصح أن يكون المراد انتهى. ثم نقل الحافظ كلام ابن الجوزي عن كتابه كشف المشكل ثم قال: وينتظم من مجموع ما ذكراه "يعني القاضي عياض وابن الجوزي" أوجه أرجحها الثالث من أوجه القاضي لتأييده بقوله في بعض طرق الحديث الصحيحة كلهم يجتمع عليه الناس وإيضاح ذلك أن المراد بالاجتماع انقيادهم لبيعته، والذي وقع أن الناس اجتمعوا على أبي بكر ثم عمر ثم عثمان ثم علي إلى أن وقع امر الحكمين في صفين فسمى معاوية يومئذ بالخلافة، ثم اجتمع الناس على معاوية عند صلح الحسن ثم اجتمعوا على ولده يزيد ولم ينتظم للحسين أمر بل قتل قبل ذلك، ثم لما مات يزيد وقع الاختلاف إلى أن اجتمعوا على عبد الملك بن مروان بعد قتل ابن الزبير ثم اجتمعوا على أولاده الأربعة الوليد ثم سليمان ثم يزيد ثم هشام ونخلل بين سليمان ويزيد عمر بن عبد العزيز، فهؤلاء سبعة بعد الخلفاء الراشدين.
والثاني عشر هو الوليد بن يزيد بن عبد الملك اجتمع عليه الناس لما مات عمه هشام فولي نحو أربع سنين ثم قاموا عليه فقتلوه، وانتشرت الفتن وتغيرت الأحوال من يومئذ ولم يتفق أن يجتمع الناس على خليفة بعد ذلك لأن يزيد بن الوليد الذي قام على ابن عمه الوليد بن يزيد لم تطل مدته بل ثار عليه قبل أن يموت ابن عم أبيه مروان بن محمد بن مروان، ولما مات يزيد ولي أخوه إبراهيم فغلبه مروان ثم ثار على مروان بنو العباس إلى أن قتل، ثم كان أول خلفاء بني العباس أبو العباس السفاح ولم تطل مدته مع كثرة من ثار عليه، ثم ولى أخوه المنصور فطالت مدته لكن خرج عنه المغرب الأقصى باستيلاء المروانيين على الأندلس واستمرت في أيديهم متغلبين عليها إلى أن تسموا بالخلافة بعد ذلك وانفرط الأمر في جميع أقطار الأرض إلى أن لم يبق من الخلافة إلا الاسم في بعض البلاد بعد أن كانوا في أيام بني عبد الملك بن مروان يخطب للخليفة في جميع أقطار الأرض شرقاً وغربا وشمالاً ويميناً مما غلب عليه المسلمون، ولا يتولى أحد في بلد من البلاد كلها الإمارة على شيء منها إلا بأمر الخليفة ومن نظر في أخبارهم عرف صحة ذلك فعلى هذا يكون المراد بقوله ثم يكون الهرج يعني القتل الناشئ عن الفتن وقوعاً فاشياً يفشو ويستمر ويزداد على مدى الأيام وكذا كان، انتهى كلام الحافظ.(6/473)
الّذِي يَلِينِي فقال: قال: كُلّهُمْ مِنْ قُرَيْشٍ" .
هذا حديثٌ حسنٌ. وقد روي من غير وجه عن جابر بن سمرة.
2324ـ حدّثنا أَبو كُرَيْبٍ، حدثنا عُمَرُ بنُ عُبَيْدٍ عَنْ أَبِيهِ عن أَبِي بَكْرِ بنِ أَبي مُوسَى، عن جَابِرِ بنِ سَمُرةَ، عن النّبيّ صلى الله عليه وسلم مِثْلَ
ـــــــ
قال الحافظ عماد الدين بن كثير في تفسيره تحت قوله تعالى {وَبَعَثْنَا مِنْهُمُ اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيباً} بعد إيراد حديث جابر بن سمرة من رواية الشيخين واللفظ لمسلم ومعنى هذا الحديث البشارة بوجود اثني عشر خليفة صالحاً يقيم الحق ويعدل فيهم، ولا يلزم من هذا تواليهم وتتابع أيامهم بل قد وجد منهم أربعة على نسق وهم الخلفاء الأربعة أبو بكر وعمر وعثمان وعلي رضي الله تعالى عنهم ومنهم عمر بن عبد العزيز بلا شك عند الأئمة وبعض بني العباس، ولا تقوم الساعة حتى تكون ولايتهم لا محالة، والظاهر أن منهم المهدي1 المبشر به في الأحاديث الواردة بذكره أنه يواطئ اسمه اسم النبي صلى الله عليه وسلم واسم أبيه فيملأ الأرض عدلاً وقسطاً كما ملئت جوراً وظلماً، وليس هذا بالمنتظر الذي يتوهم الرافضة وجوده ثم ظهوره من سرداب سامراً فإن ذلك ليس له حقيقة ولا وجود بالكلية بل من هوس العقول السخيفة وتوهم الخيالات الضعيفة، وليس المراد بهؤلاء الخلفاء الأثني عشر الأئمة الذين يعتقد فيهم الاثنا عشرية من الروافض لجهلهم وقلة عقلهم انتهى. "ثم تكلم" أي النبي صلى الله عليه وسلم "فسألت الذي يليني" وفي عدة من روايات مسلم: فسألت أبي.
قوله: "هذا حديث حسن صحيح" وأخرجه الشيخان وأبو داود وغيرهم "وقد روي من غير وجه عن جابر بن سمرة" روى مسلم في صحيحه حديث جابر هذا من عدة طرق.
قوله: "عن أبيه" هو عبيد بن أبي أمية الطنافسي الحنفي ويقال الإيادي مولاهم أبو الفضل اللحام الكوفي صدوق من السادسة "عن أبي بكر بن أبي موسى" الأشعري الكوفي اسمه عمرو أو عامر ثقة من الثالثة.
ـــــــ
1 يرى الكثيرون من العلماء أن كل ما ورد من أحاديث عن المهدي – إنما هي موضع شك وأنها لا تصح عن الرسول صلى الله عليه وسلم بل إنها من وضع الشيعة.(6/474)
هَذَا الْحَديثِ.
هذا حديثٌ غريبٌ يُسْتَغْرَبُ مِنْ حَدِيثِ أَبِي بَكْرِ بنِ أَبِي موسَى عن جَابرِ بنِ سَمُرَةَ. وفي البابِ عن ابنِ مَسْعُودٍ وَعَبْدِ الله بنِ عَمْرٍو.
2325ـ حَدّثنا بُنْدَارٌ، حدثنا أَبُو دَاوُدَ، أخبرنا حُمَيْدُ بنِ مِهْرَانَ عن سَعْدِ بنِ أَوْسٍ عن زِيَادِ بنِ كُسَيبٍ العدوِيّ، قَالَ كُنْتُ مَعَ أَبي بَكْرَةَ تَحْتَ مِنْبَرِ ابنِ عَامِرٍ وِهُوَ يَخْطُبُ وَعَلَيْهِ ثِيَابٌ رِقَاقٌ، فَقَالَ أَبُو بِلاَلٍ:
ـــــــ
قوله: "وفي الباب عن ابن مسعود وعبد الله بن عمرو" أما حديث ابن مسعود فأخرجه أحمد والبزار بسند حسن: أنه سئل كم يملك هذه الأمة من خليفة؟ فقال سألنا عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: اثنا عشر كعدة نقباء بني إسرائيل . وأما حديث عبد الله بن عمرو فأخرجه الطبراني عنه مرفوعاً: إذا ملك اثنا عشر من بني كعب بن لؤي كان النقف والنقاف . قال الحافظ: والنقف ظهر لي أنه بفتح النون وسكون القاف وهو كسر الهامة عن الدماغ والنقاف بوزن فعال منه وكني بذلك عن القتل والقتال. ويؤيده قوله في بعض طرق جابر بن سمرة ثم يكون الهرج. وأما صاحب النهاية فضبطه بالثاء المثلثة بدل النون وفسره بالجد الشديد في الخصام ولم أر في اللغة تفسيره بذلك بل معناه الفطنة والحذق ونحو ذلك. وفي قوله من بني كعب بن لؤي إشارة إلى كونهم من قريش، لأن لؤياً هو ابن غالب بن فهر وفيهم جماع قريش، انتهى.
قوله: "أخبرنا حميد بن مهران" قال الحافظ في التقريب حميد بن أبي حميد مهران الخياط الكندي أو المالكي، ثقة من السابعة. وقال في تهذيب التهذيب في ترجمته روى له الترمذي والنسائي حديثاً واحداً: من أهان سلطاناً أهانه الله انتهى. "عن سعد بن أوس" العدوي أو العبدي البصري صدوق له أغاليط من الخامسة "عن زياد بن كسيب العدوي" البصري مقبول من الثالثة، كذا في التقريب. وقال في تهذيب التهذيب في ترجمته له عندهما يعني الترمذي والنسائي حديث واحد تقدم في حميد بن مهران انتهى.
قوله: "وعليه ثياب رقاق" بكسر الراء أي رقيقة رفيعة "فقال أبو بلال"(6/475)
انْظُرُوا إِلَى أَمِيرِنَا يَلْبَسُ ثِيَابَ الفُسّاقِ فَقَالَ أَبُو بَكْرَةَ: اسْكُتْ سَمِعْتُ رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: مَنْ أَهَانَ سُلْطَانَ الله في الأَرْضِ أَهَانَهُ الله" .
هذا حديثٌ حسنٌ غريبٌ.
ـــــــ
قال القاري: لعله أبو بردة بن أبي موسى الأشعري ولده كان والياً على البصرة "يلبس ثياب الفساق" يحتمل كونها محرمة من الحرير، وكونها رقاقاً لا محرمة لكن لكونها ثياب المتنعمين نسبه إلى الفسق تغليظاً وهو الظاهر، ولذا رده أبو بكرة بقوله: "من أهان سلطان الله في الأرض أهانه الله" أي من أهان من أعزه الله وألبسه خلعة السلطنة أهانه الله. وفي الأرض متعلق بسلطان الله تعلقها في قوله تعالى {إنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ} والإضافة في سلطان الله، إضافة تشريف، كبيت الله وناقة الله ويحكى عن جعفر الصادق مع سفيان الثوري وعلى جعفر جبة خز دكناء فقال له: يا ابن رسول الله ليس هذا من لباسك، فحسر عن ردن جبته فإذا تحتها جبة صوف بيضاء يقصر الذيل عن الذيل والردن عن الردن. فقال: يا ثوري لبسنا هذا لله وهذي لكم فما كان لله أخفيناه وما كان لكم أبديناه. ذكره صاحب جامع الأصول في كتاب مناقب الأولياء، والدكناء بالدال المهملة تأنيث الأدكن وهو ثوب مغبر اللون ذكره الطيبي.
قوله: "هذا حديث حسن غريب" وأخرجه النسائي(6/476)
41 ـ باب مَا جَاءَ في الْخِلاَفَة
2326ـ حَدّثنا أَحمدُ بنُ مَنيعٍ، أخبرنا سُرَيْجُ بنُ النّعْمَانِ، حدثنا حَشْرَجُ بنُ نُبَاتَةَ، عن سَعِيدِ بنِ جُمْهَانَ، قَالَ حدثني سَفِينَةُ قَالَ: قَالَ
ـــــــ
"باب مَا جَاءَ في الْخِلاَفَة"
قوله: "حدثنا سريج بن النعمان" بمهملة وراء وجيم مصغراً، ابن مروان الجوهري أبو الحسن البغدادي أصله من خراسان ثقة يهم قليلاً من كبار العاشرة "أخبرنا حشرج بن نباتة" بضم النون ثم الموحدة ثم المثناة، الأشجعي، أبو مكرم الواسطي أو الكوفي، صدوق يهم من الثامنة "عن سعيد بن جمهان"(6/476)
رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم: "الْخِلاَفَةُ فِي أُمّتِي ثَلاَثُونَ سَنَةً، ثُمّ مُلْكٌ بَعْدَ ذَلِكَ" ثُمّ قَالَ لِي سَفِينَةُ: امْسِكْ عَلَيْكَ خِلاَفَةَ أَبي بَكْرٍ، ثُمّ قَالَ:
ـــــــ
بضم الجيم وإسكان الميم الأسلمي، كنيته أبو حفص البصري صدوق له أفراد من الرابعة "حدثني سفينة" مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم يكنى أبا عبد الرحمن يقال كان اسمه مهران أو غير ذلك فلقب سفينة لكونه حمل شيئاً كبيراً في السفر، مشهور له أحاديث كذا في التقريب. وقال في تهذيب التهذيب: قال حماد بن سلمة عن سعيد بن جمهان عن سفينة: كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم في سفر وكان إذا أعيى بعض القوم ألقى علي سيفه ألقى علي ترسه حتى حملت من ذلك شيئاً كثيراً فقال النبي صلى الله عليه وسلم: أنت سفينة، انتهى.
قوله: "الخلافة في أمتي ثلاثون سنة" وفي رواية أبي داود: خلافة النبوة ثلاثون سنة. قال العلقمي قال شيخنا يعني الحافظ السيوطي: لم يكن في الثلاثين بعده صلى الله عليه وسلمن إلا الخلفاء الأربعة وأيام الحسن، قال العلقمي: بل الثلاثون سنة هي مدة الخلفاء الأربعة كما حررته، فمدة خلافة أبي بكر سنتان وثلاثة أشهر وعشرة أيام، ومدة عمر عشر سنين وستة أشهر وثمانية أيام، ومدة عثمان إحدة عشرة سنة وأحد عشر شهراً وتسعة أيام، ومدة خلافة علي أربع سنين وتسعة أشهر وسبعة أيام، هذا هو التحرير فلعلهم ألغوا الأيام وبعض الشهور. وقال النووي في تهذيب الأسماء: مدة خلافة عمر عشر سنين وخمسة أشهر وإحدى وعشرين يوماً، وعثمان اثنتي عشرة سنة إلا ست ليال، وعلي خمس سنين، وقيل خمس سنين إلا أشهراً، والحسن نحو سبعة أشهر، انتهى كلام النووي. والأمر في ذلك سهل. هذا آخر كلام العلقمي "ثم ملك بعد ذلك" قال المناوي أي بعد انقضاء زمان خلافة النبوة يكون ملكاً، لأن اسم الخلافة إنما هو لمن صدق عليه هذا الاسم بعمله للسنة. والمخالفون ملوك لا خلفاء وإنما تسموا بالخلفاء لخلفهم الماضي وأخرج البيهقي في المدخل عن سفينة أن أول الملوك معاوية رضي الله عنه، والمراد بخلافة النبوة هي الخلافة الكاملة وهي منحصرة في الخمسة فلا يعارض الحديث: لا يزال هذا الدين قائماً حتى يملك اثنا عشر خليفة لأن المراد به مطلق الخلافة والله أعلم انتهى. كلامه محصلاً "أمسك عليك خلافة(6/477)
وَخِلاَفةَ عُمَرَ وَخِلاَفَةَ عُثْمانَ، ثُمّ قَالَ لي: أمسِكْ خِلاَفَةَ عَلِيّ قال: فَوَجَدْنَاهَا ثَلاَثِينَ سَنَةً. قَالَ سَعِيدٌ فَقُلْتُ لَهُ: إِنّ بَنِي أُمَيّةَ يَزْعَمُونَ أَنّ الْخِلاَفَةَ فِيهِمْ، قَالَ: كَذَبُوا بنو الزّرْقَاء بَلْ هُمْ مُلُوكٌ مَنْ شَرّ المُلُوكِ.
وفي البابِ عَنْ عُمَر وعَلِيّ قَالاَ: "لَمْ يَعْهَدْ النّبيّ صلى الله عليه وسلم في الْخِلاَفَةِ شَيْئاً". هذا حديثٌ حسنٌ قد رَوَاهُ غَيْرُ واحِدٍ عن سَعِيدِ بنِ جُمْهَانَ وَلاَ نَعْرِفُهُ إِلاّ من حديثه.
ـــــــ
أبي بكر" أي اضبط الحساب عاقداً أصابعك. وفي رواية أبي داود: أمسك عليك أبا بكر سنتين وعمر عشراً وعثمان أثني عشر وعلي كذا. ولفظ أحمد في مسنده: قال سفينة أمسك خلافة أبي بكر رضي الله عنه سنتين وخلافة عمر رضي الله عنه عشر سنين وخلافة عثمان رضي الله عنه اثني عشر سنة وخلافة علي رضي الله عنه ست سنين "فقلت له" أي لسفينة "قال" أي سفينة "كذبوا بنو الزرقاء" هو من باب أكلوني البراغيت والزرقاء امرأة من أمهات بني أمية قاله في فتح الودود "بل هم ملوك من شر الملوك" وفي رواية أبي داود: قلت لسفينة إن هؤلاء يزعمون أن علياً لم يكن بخليفة. قال: كذبت إستاه بني الزرقاء يعني بني مروان.
قوله: "وفي الباب عن عمر وعلي قالا لم يعهد" أي لم يوص. أما حديث عمر فأخرجه الترمذي بعد هذا، وأما حديث علي فأخرجه أحمد والبيهقي في دلائل النبوة بسند حسن عن عمرو بن سفيان قال: لما ظهر علي يوم الجمل قال: أيها الناس إن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يعهد إلينا في هذه الإمارة شيئاً حتى رأينا من الرأي أن نستخلف أبا بكر فأقام واستقام حتى مضى سبيله، ثم إن أبا بكر رأي من الرأي أن يستخلف عمر فأقام واستقام حتى ضرب الدين بجرانه، ثم إن أقواماً طلبوا الدنيا فكانت أمور يقضي الله فيها. وأخرج الحاكم في المستدرك وصححه البيهقي في الدلائل عن أبي وائل قال: قيل لعلي ألا تستخلف علينا؟ قال: ما استخلف رسول الله صلى الله عليه وسلم فأستخلف، ولكن إن يرد الله بالناس خيراً فسيجمعهم بعدي على خيرهم كما جمعهم بعد نبيهم على خيرهم.
قوله: "هذا حديث حسن" وأخرجه أحمد وأبو داود والنسائي. قال الحافظ(6/478)
2327 ـ حدّثنا يَحْيَى بنُ مُوسَىَ، حدثنا عبْدُ الرّزّاقِ، أخبرنا مَعْمَرٌ عن الزّهْرِيّ، عن سَالِمِ بنِ عَبْدِ الله بنِ عُمَر عن أَبِيهِ قَالَ: قِيلَ لِعُمَرَ بنِ الْخَطّابِ: لَوْ اسْتَخْلَفْتَ. قَالَ إِنْ أَسْتَخْلِفْ فَقَدْ اسْتَخْلَفَ أَبُو بَكْرٍ وَإِنْ لَمْ أَسْتَخْلِفْ لَمْ يَسْتَخْلِفْ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم.
وَفي الْحَدِيثِ
ـــــــ
في الفتح بعد ذكر هذا الحديث أخرجه أصحاب السنن وصححه ابن حبان وغيره.
قوله: "لو استخلفت" لو للتمني أو جوابه محذوف أي لكان خيراً "إن أستخلف فقد استخلف أبو بكر وإن لم أستخلف لم يستخلف رسول الله صلى الله عليه وسلم" قال النووي في شرح مسلم: حاصله أن المسلمين أجمعوا على أن الخليفة إذا حضره مقدمات الموت، وقبل ذلك يجوز له الاستخلاف ويجوز له تركه. فإن تركه فقد اقتدى بالنبي صلى الله عليه وسلم في هذا وإلا فقد اقتدى بأبي بكر. وأجمعوا على انعقاد الخلافة بالاستخلاف، وعلى انعقادها بعقد أهل الحل والعقد لإنسان إذا لم يستخلف الخليفة. وأجمعوا على جواز جعل الخليفة الأمر شوري بين جماعة كما فعل عمر بالستة. وأجمعوا على أنه يجب على المسلمين نصب خليفة ووجوبه بالشرع لا بالعقل. وأما ما حكى عن الأصم أنه قال: لا يجب. وعن غيره: أنه يجب بالعقل لا بالشرع فباطلان. أما الأصم فمحجوج بإجماع من قبله ولا حجة له في بقاء الصحابة بلا خليفة في مدة التشاور يوم السقيفة وأيام الشورى بعد وفاة عمر رضي الله عنه، لأنهم لم يكونوا تاركين لنصب الخليفة بل كانوا ساعين في النظر في أمر من يعقد له، وأما القائل الاَخر ففساد قوله ظاهر، لأن العقل لا يوجب شيئاً ولا يحسنه ولا يقبحه، إنما يقع ذلك بحسب العادة لا بذاته. وفي هذا الحديث دليل أن النبي صلى الله عليه وسلم لم ينص على خليفة، وهو إجماع أهل السنة وغيرهم. قال القاضي: وخالف في ذلك بكر بن أخت عبد الواحد فزعم أنه نص على أبي بكر. وقال ابن راوندي: نص على العباس. وقالت الشيعة والرافضة: على علي. وهذه دعاوي باطلة وجسارة على الافتراء ووقاحة في مكابرة الحس، وذلك لأن الصحابة رضي الله تعالى عنهم أجمعوا على اختيار أبي بكر وعلى تنفيذ عهده إلى عمر. وعلى تنفيذ عهد عمر بالشورى، ولم يخالف في شيء من هذا أحد.(6/479)
قِصّةٌ طويلة" هذا حديثٌ صَحِيحٌ، وقَدْ رُوِيَ مِنْ غَيْرِ وَجْهٍ عَنْ ابنِ عُمَرَ.
ـــــــ
ولم يدع علي ولا العباس ولا أبو بكر وصية في وقت من الأوقات وقد اتفق علي والعباس على جميع هذا من غير ضرورة مانعة من ذكر وصية لو كانت. فمن زعم أنه كان لأحد منهم وصية فقد نسب الأمة إلى اجتماعها على الخطأ واستمرارها عليه. وكيف يحل لأحد من أهل القبلة أن ينسب الصحابة إلى المواطأة على الباطل في كل هذه الأحوال؟ ولو كان شيء لنقل فإنه من الأمور المهمة، انتهى.
قوله: "وفي الحديث قصة طويلة" أخرجها مسلم في صحيحه في أوائل كتاب الإمارة.
قوله: "هذا حديث صحيح" وأخرجه الشيخان.(6/480)
42 ـ باب مَا جَاء أَنّ الْخُلَفَاء مِنْ قُرَيْشٍ إِلَى أَنْ تَقُومَ السّاعَة
2328ـ حَدّثنا حُسَيْنُ بنُ محمدٍ البَصْرِيّ، حدثنا خَالِدُ بنُ الْحَارِثِ حدثنا شُعْبَةُ عن حَبِيبِ بنِ الزّبَيْرِ، قَالَ: "سَمِعْتُ عَبْدَ الله بنَ أَبي الهذيل يَقُولُ: كَانَ نَاسٌ مِنْ رَبِيعَةَ عِنْدَ عَمْرِو بنِ العَاصِ فَقَالَ رَجُلٌ مِنْ بَكْرِ بنِ وَائِلٍ لِتَنْتَهِيَنّ قُرَيْشٌ أَوْ لَيَجْعَلَنّ الله هَذَا الأَمْرَ في جُمْهُورٍ مِنَ الْعَرَبِ غَيْرِهِمْ، فَقَالَ عَمْرُو بنُ العَاصِ: كَذَبْتَ سَمِعْتُ رَسُولَ الله صلى الله عليه
ـــــــ
"باب ما جاء أن الخلفاء من قريش إلى أن تقوم الساعة"
قوله: "حدثنا حسين بن محمد" بن أيوب الذارع السعدي أبو علي البصري صدوق من العاشرة "عن حبيب بن الزبير" بن مشكان الهلالي أو الحنفي الأصبهاني أصله من البصرة ثقة من السادسة "سمعت عبد الله بن أبي الهذيل" الكوفي كنيته أبو المغيرة، ثقة من الثانية.
قوله: "لتنتهين قريش" أي من الفسق والعصيان "أو ليجعلن الله هذا الأمر"(6/480)
وسلم يَقُولُ: قُرَيْشٌ وُلاَةُ النّاسِ في الْخَيْرِ وَالشّرّ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ" .
ـــــــ
أي الرياسة والخلافة "غيرهم" أي غير قريش "قريش ولاة الناس في الخير والشر" أي في الجاهلية والإسلام ويستمر ذلك "إلى يوم القيامة" فالخلافة فيهم ما بقيت الدنيا، ومن تغلب على الملك بالشوكة لا ينكر أن الخلافة فيهم. قال النووي في شرح مسلم هذه الأحاديث "يعني أحاديث أبي هريرة وجابر بن عبد الله وعبد الله بن مسعود التي رواها مسلم في باب الخلافة في قريش" وأشباهها دليل ظاهر أن الخلافة مختصة بقريش لا يجوز عقدها لأحد من غيرهم. وعلى هذا انعقد الإجماع في زمن الصحابة وكذلك بعدهم ومن خالف فيه من أهل البدع فهو محجوج بإجماع الصحابة والتابعين فمن بعدهم بالأحاديث الصحيحة. قال القاضي: اشتراط كونه قرشياً هو مذهب العلماء كافة. قال وقد احتج به أبو بكر وعمر رضي الله عنهم على الأنصار يوم السقيفة فلم ينكره أحد. قال القاضي وقد عدها العلماء في مسائل الإجماع، ولم ينقل عن أحد من السلف فيها قول ولا فعل يخالف ما ذكرنا، وكذلك من بعدهم في جميع الأعصار. قال ولا اعتداد بقول النظام ومن وافقه من الخوارج وأهل البدع أنه يجوز كونه من غير قريش، ولا بسخافة ضرار بن عمرو في قوله: إن غير القرشي من النبط وغيرهم يقدم على قرشي لهوان خلعه إن عرض منه أمر. وهذا الذي قاله من باطل القول وزخرفه مع ما هو عليه من مخالفة إجماع المسلمين.
وأما قوله صلى الله عليه وسلم: الناس تبع لقريش في الخير والشر، فمعناه في الإسلام والجاهلية كما هو مصرح به في الرواية الأولى يعني رواية أبي هريرة: الناس تبع لقريش في هذا الشأن مسلمهم لمسلمهم وكافرهم لكافرهم لأنهم كانوا في الجاهلية رؤساء العرب وأصحاب حرم وأهل حج بيت الله، وكانت العرب تنتظر إسلامهم فلما أسلموا وفتحت مكة تبعهم الناس وجاءت وفور العرب من كل جهة، ودخل الناس في دين الله أفواجاً، وكذلك في الإسلام هم أصحاب الخلافة والناس تبع لهم، وبين صلى الله عليه وسلم أن هذا الحكم مستمر إلى آخر الدنيا ما بقي من الناس اثنان وقد ظهر ما قاله النبي صلى الله عليه وسلم فمن زمنه صلى الله عليه وسلم إلى الاَن الخلافة في قريش من غير مزاحمة لهم فيها، وتبقى كذلك ما اثنان كما قال صلى الله عليه وسلم انتهى(6/481)
وفي البابِ عن ابنِ عُمَر وابنِ مَسْعُودٍ وَجَابِرٍ.
هذا حديثٌ حَسَنٌ صحيحٌ غَرِيبٌ.
ـــــــ
وقال الحافظ في الفتح: ويحتاج من نقل الإجماع إلى تأويل ما جاء عن عمر من ذلك، فقد أخرج أحمد عن عمر بسند رجاله ثقات أنه قال: إن أدركني أجلي وأبو عبيدة حي استخلفته فذكر الحديث وفيه: فإن ادركني أجلي وقد مات أبو عبيدة استخلفت معاذ بن جبل الحديث، ومعاذ بن جبل أنصاري لا نسب له في قريش فيحتمل أن يقال لعل الإجماع انعقد بعد عمر على اشتراط أن يكون الخليفة قرشياً أو تغير اجتهاد عمر في ذلك. وأما ما احتج به من لم يعين الخلافة في قريش من تأمير عبد الله بن رواحة وزيد بن حارثة وأسامة وغيرهم في الحروب فليس من الإمامة العظمى في شيء بل فيه أنه يجوز للخليفة استنابة غير قريش في حياته انتهى.
فإن قلت ما وجه الجمع بين الأحاديث التي تدل على اختصاص الخلافة بقريش وبين حديث أنس بن مالك عند أحمد والبخاري والنسائي مرفوعاً: اسمعوا وأطيعوا وإن استعمل عليكم عبد حبشي كأن رأسه زبيبة. وحديث أم الحصين عند مسلم مرفوعاً: إن أمر عليكم عبد مجدع يقودكم بكتاب الله فاسمعوا له وأطيعوا.
قلت المراد من هذين الحديثين وما في معناهما أن الإمام الأعظم إذا استعمل العبد الحبشي على إمارة بلد مثلاً وجبت طاعته وليس فيه أن العبد الحبشي يكون هو الإمام الأعظم. قال الخطابي: وقد يضرب المثل بما لا يقع في الوجود يعني وهذا من ذاك أطلق العبد الحبشي مبالغة في الأمر بالطاعة وإن كان لا يتصور شرعاً أن يلي ذلك.
قوله: "وفي الباب عن ابن عمر وابن مسعود وجابر" أما حديث ابن عمر فأخرجه أحمد والشيخان ولفظه عند مسلم: لا يزال هذا الأمر في قريش ما بقي من الناس اثنان . قال الحافظ ابن حزم في المحلي بعد ذكر هذا الحديث: هذه اللفظة لفظة الخبر فإن كان معناه الأمر فحرام ان يكون الأمر في غيرهم أبداً، وإن كان معناه معنى الخبر كلفظه فلا شك في أن من لم يكن من قريش فلا أمر له، وان ادعاه فعلى كل حال فهذا خبر يوجب منع الأمر عمن سواهم انتهى. وأما حديث ابن مسعود فأخرجه مسلم بنحو حديث ابن عمر، وأما حديث جابر وهو ابن عبد الله فأخرجه مسلم ولفظه: الناس تبع لقريش في الخير والشر.
قوله: "هذا حديث حسن صحيح غريب" وأخرجه أحمد قال المناوي بإسناد صحيح.(6/482)
2329ـ حدّثنا محمدُ بنُ حَدّثنا بَشّارٍ ، حدثنا أَبو بَكْرٍ الْحَنَفيّ عن عَبْدِ الْحَمِيدِ بنِ جَعْفَرٍ عن عُمَرَ بنِ الْحَكَمِ، قَالَ سَمِعْتُ أَبَا هُرَيْرَةَ يَقُولُ: قَالَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم: "لاَ يَذْهَبُ الّليْلُ وَالنّهَارُ حَتّى يَمْلِكَ رَجُلٌ مِنَ المَوَالِي يُقَالُ لَهُ جَهْجَاهُ" .
هذا حديثٌ حَسَنٌ غَرِيبٌ.
ـــــــ
قوله: "عن عمر بن الحكم" بن رافع بن سنان المدني الأنصاري، حليف الأوس، ثقة من الثالثة.
قوله: "لا يذهب الليل والنهار" أي لا ينقطع الزمان ولا تأتي القيامة "حتى يملك رجل من الموالي" أي على سبيل التغلب لا بشورى أهل الحل والعقد. فهذا الحديث لا يخالف الأحاديث القاضية بأن الخلافة في قريش، والموالي بفتح الميم جمع المولى أي المماليك، والمعنى حتى يصير حاكم على الناس "يقال له جهجاه" قال النووي هو بفتح الجيم وإسكان الهاء وفي بعض النسخ يعني نسخ مسلم الجهجها بهاءين، وفي بعضها الجهجا بحذف الهاء التي بعد الألف والأول هو المشهور، انتهى.
قوله: "هذا حديث حسن غريب" وأخرجه مسلم في اشراط الساعة(6/483)
43 ـ باب مَا جَاءَ في الأَئمّةِ المُضِلّين
2330 ـ حَدّثنا قُتَيْبَةُ بن سعيد، حدثنا حَمّادُ بنُ زَيْدٍ، عن أَيّوبَ، عن أَبي قلاَبَةَ عن أَبي أَسْمَاءَ الرحبي عن ثَوْبَانَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم: "إِنّمَا أَخَافُ عَلَى أُمّتِي الأَئمّةَ المُضِلّينَ . قال وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لاَ تَزَالُ طَائِفةٌ مِنْ أُمّتِي عَلَى الْحَقّ ظَاهِرِينَ لاَ يَضُرّهُمْ مَن خَذَلَهُمْ حَتّى
ـــــــ
"باب مَا جَاءَ في الأَئمّةِ المُضِلّين"
قوله: "إنما أخاف على أمتي أئمة مضلين" أي داعين إلى البيع والفسق والفجور "على الحق" خبر لقوله لا تزال أي ثابتين على الحق علماً وعملاً "ظاهرين" أي غالبين على الباطل ولو حجة. قال الطيبي: يجوز أن يكون خبر بعد خبر وأن يكون(6/483)
يَأْتِيَ أَمْرُ الله". هذا حديثٌ حسن صَحِيحٌ.
ـــــــ
حالاً من ضمير الفاعل في ثابتين على الحق في حالة كونهم غالبين على العدو "لا يضرهم من خذلهم" أي لثباتهم على دينهم "حتى يأتي أمر الله" متعلق بقوله لا تزال قال في فتح الودود أي الريح التي يقبض عندها روح كل مؤمن ومؤمنة، انتهى.
قوله: "هذا حديث صحيح" وأخرجه مسلم وابن ماجة بدون ذكر: إنما أخاف على أمتي أئمة مضلين. وأخرجه أبو داود مطولاً(6/484)
44 ـ باب مَا جَاءَ في الْمَهْدِي
2331 ـ حَدّثنا عُبَيْدُ بنُ أَسْبَاطِ بنِ مُحَمّدٍ القُرَشِيّ أخبرنا أبي،
ـــــــ
"باب مَا جَاءَ في الْمَهْدِي"
اعلم أن المشهور بين الكافة من أهل الإسلام على ممر الأعصار أنه لا بد في آخر الزمان من ظهور رجل من أهل البيت يؤيد الدين ويظهر العدل ويتبعه المسلمون ويستولي على الممالك الإسلامية ويسمى بالمهدي ويكون خروج الدجال أو وما بعده من أشراط الساعة الثابتة في الصحيح على أثره، وأن عيسى عليه السلام ينزل من بعده فيقتل الدجال ينزل من بعده فيساعده على قتله ويأتم بالمهدي في صلاته. وخرّج أحاديث المهدي جماعة من الأئمة منهم أبو داود والترمذي وابن ماجة والبزار والحاكم والطبراني وأبو يعلي الموصلى وأسندوها إلى جماعة من الصحابة مثل علي وابن عباس وابن عمر وطلحة وعبد الله بن مسعود وأبي هريرة وأنس وأبي سعيد الخدري وأم حبيبة وأم سلمة وثوبان وقرة بن إياس وعلي الهلالي وعبد الله بن الحارث بن جزء رضي الله عنهم وأسناد أحاديث هؤلاء بين صحيح وحسن وضعيف. وقد بالغ الإمام المؤرخ عبد الرحمن بن خلدون المغربي في تاريخه في تضعيف أحاديث المهدي كلها فلم يصب بل أخطأ وما روي من رواية محمد بن المنكدر عن جابر: من كذب بالمهدي فقد كفر. فموضوع والمتهم فيه أبو بكر الإسكاف وربما تمسك المنكرون لشأن المهدي بما روي مرفوعاً أنه قال: لا مهدي إلا عيسى بن مريم . والحديث ضعفه البيهقي والحاكم وفيه أبان بن صالح وهو متروك الحديث والله أعلم كذا(6/484)
أخبرنا سُفْيَانُ الثّوْرِيّ عن عَاصِمِ بنِ بَهْدَلَةَ عن زِرٍ عن عَبْدِ الله قَالَ: قَالَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم: "لاَ تَذْهَبُ الدّنْيَا حَتّى يَمْلِكَ العَرَبَ رَجُلٌ مَنْ أَهْلِ بَيْتِي يُوَاطِئُ اسْمَهُ اسْمِي" .
وفي البابِ عن عَلِيّ وَأَبِي سَعِيدٍ وَأُمّ سَلَمَةَ وَأَبِي هُرَيْرةَ.
ـــــــ
في عون المعبود. قلت الأحاديث الواردة في خروج الإمام المهدي كثيرة جداً، ولكن أكثرها ضعاف، ولا شك في أن حديث عبد الله بن مسعود الذي رواه الترمذي في هذا الباب لا ينحط عن درجة الحسن وله شواهد كثيرة من بين حسان وضعاف. فحديث عبد الله بن مسعود هذا مع شواهده وتوابعه صالح للاحتجاج بلا مرية، فالقول بخروج الإمام المهدي وظهوره هو القول الحق والصواب والله تعالى أعلم.
وقال القاضي الشوكاني في الفتح الرباني: الذي أمكن الوقوف عليه من الأحاديث الواردة في المهدي المنتظر خمسون حديثاً وثمانية وعشرون أثراً ثم سردها مع الكلام عليها ثم قال وجميع ما سقناه بالغ حد التواتر كما لا يخفى على من له فضل اطلاع انتهى
قوله: "عن عبد الله" هو ابن مسعود.
قوله: "لا تذهب الدنيا" أي لا تفنى ولا تنقضي "حتى يملك العرب" قال في فتح الودود: خص العرب بالذكر لأنهم الأصل والأشراف انتهى. وقال الطيبي: لم يذكر العجم وهم مرادون أيضاً لأنه إذا ملك العرب واتفقت كلمتهم وكانوا يداً واحدة قهروا سائر الأمم ويؤيد حديث أم سلمة يعني المذكور في المشكاة في الفصل الثاني من باب أشراط الساعة وفيه: ويعمل في الناس بسنة نبيهم ويلقي الإسلام بجرانه في الأرض فيلبث سبع سنين ثم يتوفى ويصلي عليه المسلمون. قال القاري: ويمكن أن يقال: ذكر العرب لغلبتهم في زمنه، أو لكونهم أشرف، أو هو من باب الاكتفاء ومراده العرب والعجم كقوله تعالى {سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ} أي والبرد والأظهر أنه اقتصر على ذكر العرب لأنهم كلهم يطيعونه بخلاف العجم بمعنى ضد العرب فإنه قد يقع منهم خلاف في إطاعته انتهى "الرجل من أهل بيتي" هو الإمام المهدي "يواطئ" أي يوافق ويطابق.
قوله: "وفي الباب عن علي وأبي سعيد وأم سلمة وأبي هريرة" أما حديث(6/485)
هذا حديثٌ حسَنٌ صَحِيحٌ.
2332ـ حدّثنا عَبْدُ الْجَبّارِ بْنُ العَلاَءِ بن عبد الجبار الْعَطّارُ، حدثنا سُفْيَانُ بنُ عُيَيْنَةَ عن عَاصِمٍ، عن زِرّ، عن عَبْدِ الله عن النّبيّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "يَلِي رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ بَيْتِي يُوَاطِئُ اسْمُهُ اسْمِي" ، قَالَ عَاصِمٌ: أخبرنا
ـــــــ
علي فأخرجه أبو داود من طريق أبي إسحاق قال: قال علي رضي الله عنه ونظر إلى ابنه الحسن فقال: إن ابني هذا سيد كما سماه النبي صلى الله عليه وسلم وسيخرج من صلبه رجل يسمى باسم نبيكم صلى الله عليه وسلم يشبهه في الخلق ولا يشبهه في الخلق. الحديث قال المنذري: هذا منقطع أبو إسحاق السبيعي رأي علياً عليه السلام رؤية. وأما حديث أبي سعيد فأخرجه أبو داود عنه مرفوعاً: المهدي مني، أجلى الجبهة أقنى الأنف يملأ الأرض قسطاً وعدلاً كما ملئت ظلماً وجوراً ويملك سبع سنين . قال المنذري: في إسناده عمران القطان وهو أبو العوام عمران بن داود القطان البصري، استشهد به البخاري ووثقه عفان بن مسلم وأحسن عليه الثناء يحيى بن سعيد القطان، وضعفه يحيى بن معين والنسائي انتهى. وفي الخلاصة وقال أحمد: أرجو أن يكون صالح الحديث انتهى. وله حديث آخر أخرجه الترمذي في هذا الباب. وأما حديث أم سلمة فأخرجه أبو داود وابن ماجة عنها مرفوعاً: المهدي من عترتي من ولد فاطمة. وقد بسط المنذري الكلام في إسناد هذا الحديث. ولأم سلمة حديث آخر في هذا الباب كما عرفت. وأما حديث أبي هريرة فأخرجه الترمذي في هذا الباب.
قوله: "هذا حديث حسن صحيح" وأخرجه أبو داود وسكت عنه هو والمنذري وابن القيم، وقال الحاكم رواه الثوري وشعبة وزائدة وغيرهم من أئمة المسلمين عن عاصم قال وطرق عاصم عن زر عن عبد الله كلها صحيحة، إذ عاصم إمام من أئمة المسلمين انتهى.
قلت: وعاصم هذا هو إبن أبي النجود، واسم أبي النجود بهدلة أحد القراء السبعة. قال الحافظ في التقريب عاصم بن بهدلة وهو ابن أبي النجود بنون وجيم الأسدي مولاهم الكوفي أبو بكر المقرئ، صدوق له أوهام، حجة في القراءة وحديثه في الصحيحين مقرون من السادسة انتهى.
قوله: "يواطئ اسمه اسمي" وفي رواية أبي داود يواطئ اسمه اسمي واسم(6/486)
أَبُو صَالحٍ عن أَبي هُرَيْرَةَ، قَالَ: لَوْ لَمْ يَبْقَ مِنَ الدّنْيَا إِلاّ يوم لَطَوّلَ الله ذَلِكَ الْيَوْمَ حَتّى يَلِيَ .
هذَا حَدِيث حَسَنٌ صَحِيحٌ.
2333 ـ حَدّثنا مُحَمّدُ بنُ بَشّارٍ، حدثنا مُحمدُ بنُ جَعْفَرِ، حدثنا شُعْبَةُ قَال: سَمِعْتُ زَيداً العَمِيّ، قَالَ سَمِعْتُ أَبَا الصّدّيقِ النّاجِيّ يُحَدّثُ عن أَبي سَعِيدٍ الْخُدْرِيّ قَالَ: "خَشِينَا أَنْ يَكُونَ بَعْدَ نَبِيّنَا حَدَثٌ، فَسَأَلْنَا نَبيّ الله صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: إِنّ فِي أُمّتِي المَهْدِيّ يَخْرُجُ يَعِيشُ خَمْساً أَوْ سَبْعاً أَوْ تِسْعاً ـ زيد الشّاكّ ـ قَالَ قُلْنَا وَمَا ذَاكَ. قَالَ: سِنِينَ، قالَ: فيَجِيءُ إِلَيْهِ الرّجُلُ فَيَقُولُ: يَا مَهْدِيّ أَعْطِنِي أَعْطِنِي، قَالَ: فَيَحْثِي لَهُ في ثَوْبِهِ ما استطَاعَ
ـــــــ
أبيه اسم أبي، فيكون محمد بن عبد الله، وفيه رد على الشيعة حيث يقولون: المهدي الموعود هو القائم المنتظر وهو محمد بن الحسن العسكري.
قوله: "قال عاصم وأخبرنا أبو صالح الخ" هذا متصل بالإسناد السابق "لطول الله ذلك اليوم حتى يلي" أي رجل من أهل بيتي يواطئ اسمه اسمي.
قوله: "هذا حديث حسن صحيح" حديث عاصم عن زر عن عبد الله أخرجه الترمذي قبل هذا بأطول منه كما عرفت وحديث عاصم عن أبي صالح عن أبي هريرة أخرجه بن ماجة.
قوله: "سمعت أبا الصديق" بتشديد الدال المكسورة "الناجي" بالنون والجيم بصري ثقة من الثالثة.
قوله: "خشينا أن يكون بعد نبينا حدث" بفتح الحاء والدال المهملتين. قال في النهاية الحدث الأمر الحادث المنكر الذي ليس بمعتاد ولا معروف في السنة انتهى. "يعيش خمساً أو سبعاً أو تسعاً زيد الشاك" أي الشك من زيد وفي رواية عن أبي سعيد عن أبي داود: ويملك سبع سنين من غير شك، وكذلك في حديث أم سلمة عنده بلفظ: فيلبث سبع سنين من غير شك، فقول الجازم مقدم على قول الشاك "اعطني اعطني" التكرير للتأكيد، ويمكن أن يقال أعطني(6/487)
أَنْ يَحْمِلَهُ".
هذا حديثٌ حَسَنٌ.
وَقَدْ رُوِيَ منْ غَيْرِ وَجْه عن أَبي سَعِيدٍ عن النّبيّ صلى الله عليه وسلم. وأَبُو الصّدّيقِ النّاجِيّ اسْمُهُ بَكْرُ بنُ عَمْرٍو، وَيُقَالُ بَكْرُ بنُ قَيْسٍ.
ـــــــ
مرة بعد أخرى لما تعود من كرمه وإحسانه "قال" أي النبي صلى الله عليه وسلم "فيحثي له في ثوبه ما استطاع أن يحمله" أي يعطيه قدر ما يستطيع حمله، وذا لكثرة الأموال والغنائم والفتوحات مع سخاء نفسه.
قوله: "هذا حديث حسن" في إسناده زيد العمي وهو ضعيف، وأخرجه أحمد أيضاً(6/488)
باب ما جاء فى نزول عيسى ابن مريم
...
45 ـ باب مَا جَاءَ في نُزُولِ عِيسَى بنِ مَرْيَمَ
2334ـ حَدّثنا قُتَيْبَةُ، حدثنا الّليْثُ بن سعد عن ابنِ شِهَابٍ عن سَعِيدِ بنِ المُسَيّبِ، عن أَبي هُرَيْرَةَ أَنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "وَالّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَيُوشِكَنّ أَنْ يَنْزِلَ فِيكُمُ ابنُ مَرْيَمَ حَكَماً مُقْسِطاً فَيَكْسِرَ الصّلِيبَ
ـــــــ
"باب مَا جَاءَ في نُزُولِ عِيسَى بنِ مَرْيَمَ"
يعني في آخر الزمان
قوله: "والذي نفسي بيده" فيه الحلف في الخبر مبالغة في تأكيده "ليوشكن" بكسر المعجمة، أي ليقربن، أي لا بد من ذلك سريعاً "أن ينزل فيكم" أي في هذه الأمة فإنه خطاب لبعض الأمة ممن لا يدرك نزوله "حكما" أي حاكماً. والمعنى أنه ينزل حاكماً بهذه الشريعة فإن هذه الشريعة باقية لا تنسخ بل يكون عيسى حاكماً من حكام هذه الأمة "مقسطاً" المقسط العادل بخلاف القاسط فهو الجائر "فيكسر" أي يهدم "الصليب" قال في شرح السنة وغيره، أي فيبطل النصرانية ويحكم بالملة الحنيفية. وقال ابن الملك: الصليب في اصطلاح النصارى خشبة مثلثة يدعون أن عيسى عليه الصلاة والسلام صلب على خشبة مثلثة على(6/488)
وَيَقْتُلَ الْخِنْزِيرَ وَيَضَعُ الْجِزْيَةَ، وَيَفِيضُ المَالُ حَتّى لاَ يَقْبَلَهُ أَحَدٌ" .
هذا حديثٌ حسنٌ صَحِيحٌ.
ـــــــ
تلك الصورة وقد يكون فيه صورة المسيح "ويقتل الخنزير" أي يحرم اقتناءه وأكله ويبيح قتله. قال الحافظ في الفتح أي يبطل دين النصرانية بأن يكسر الصليب حقيقة ويبطل ما تزعمه النصارى من تعظيمه "ويضع الجزية" قال الحافظ: المعنى أن الدين يصير واحد فلا يبقى أحد من أهل الدنيا يؤدي الجزية، وقيل معناه أن المال يكثر حتى لا يبقى من يمكن صرف مال الجزية له فتترك الجزية استغناء عنها. وقال عياض: يحتمل أن يكون المراد بوضع الجزية تقريرها على الكفار من غير محاباة ويكون كثرة المال بسبب ذلك. وتعقبه النووي وقال: الصواب أن عيسى لا يقبل إلا الإسلام. قال الحافظ: ويؤيده أن عند أحمد عن أبي هريرة وتكون الدعوة واحدة. قال النووي: ومعنى وضع عيسى الجزية مع أنها مشروعة في هذه الشريعة أن مشروعيتها مقيدة بنزول عيسى، لما دل عليه هذا الخبر وليس عيسى بناسخ لحكم الجزية بل نبينا صلى الله عليه وسلم هو المبين للنسخ، فإن عيسى عليه السلام يحكم بشرعنا، فدل على أن الامتناع من قبول الجزية في ذلك الوقت هو شرع نبينا محمد صلى الله عليه وسلم "ويفيض المال" بفتح أوله وكسر الفاء وبالضاد المعجمة أي يكثر وينزل البركات، وتكثر الخيرات بسبب العدل وعدم التظالم، وتقيء الأرض أفلاذ كبدها كما جاء في الحديث الاَخر. وتقل أيضاً الرغبات لقصر الاَمال وعلمهم بقرب القيامة. فإن عيسى عليه الصلوات والسلام علم من أعلام الساعة. وقال العلماء: الحكمة في نزول عيسى دون غيره من الأنبياء الرد على اليهود في زعمهم أنهم قتلوه، فبين الله تعالى كذبهم، وأنه الذي يقتلهم أو نزوله لدنو أجله ليدفن في الأرض إذ ليس لمخلوق من التراب أن يموت في غيرها، وقيل إنه دعا الله لما رأى صفة محمد وأمته أن يجعله منهم فاستجاب الله دعاءه وأبقاه حتى ينزل في آخر الزمان مجدداً لأمر الإسلام، فيوافق خروج الدجال فيقتله، والأول أوجه.
قوله: "هذا حديث حسن صحيح" وأخرجه أحمد والشيخان(6/489)
46 ـ باب مَا جَاءَ في الدّجّال
2270 ـ حَدّثنا عَبْدُ الله بنُ مُعَاوِيَةَ الْجُمَحِيّ، أخبرنا حَمّادُ بنُ سَلَمةَ
ـــــــ
"باب ما جاء في الدجال"
قال الحافظ في الفتح: هو فعال بفتح أوله والتشديد من الدجل وهو التغطية، وسمي الكذب دجال لأنه يغطي الحق بباطله، ويقال دجل البعير بالقطران إذا غطاه والإناء بالذهب طلاه، وقال ابن دريد: وسمي دجالاً لأنه يغطي الحق بالكذب وقيل لضربه نواحي الأرض يقال دجل مخففاً ومشدداً إذا فعل ذلك.
تنبيه: اشتهر السؤال عن الحكمة في عدم التصريح بذكر الدجال في القرآن مع ما ذكر عنه من الشر وعظم الفتنة به وتحذير الأنبياء منه والأمر بالاستعاذة منه حتى في الصلاة وأجيب بأجوبة:
أحدها: أنه ذكر في قوله: "يوم يأتي بعض آيات ربك لا ينفع نفساً إيمانها الخ" فقد أخرج الترمذي وصححه عن أبي هريرة رفعه: ثلاثة إذا خرجن لم ينفع نفساً إيمانها لم تكن آمنت من قبل الدجال والدابة وطلوع الشمس من مغربها .
الثاني: قد وقعت الإشارة في القرآن إلى نزول عيسى بن مريم في قوله تعالى: {وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ} وفي قوله تعالى: {وَإِنَّهُ لَعِلْمٌ لِلسَّاعَةِ} وصح أنه الذي يقتل الدجال واكتفى بذكر أحد الضدين عن الاَخر، ولكونه يلقب المسيح كعيسى لكن الدجال مسيح الضلالة، وعيسى مسيح الهدى.
الثالث: أنه ترك ذكره احتقاراً وتعقب بذكر يأجوج ومأجوج، وليست الفتنة بهم بدون الفتنة بالدجال والذي قبله وتعقب بأن السؤال باق وهو: ما الحكمة في ترك التنصيص عليه، وأجاب شيخنا الإمام البلقيني بأنه اعتبر كل من ذكر في القرآن من المفسدين فوجد كل من ذكر إنما هم ممن مضى وانقضى أمره، وأما من لم يجئ بعد فلم يذكر منهم أحداً انتهى. وهذا ما ينتقض بيأجوج ومأجوج وقد وقع في تفسير البغوي أن الدجال مذكور في القرآن في قوله تعالى: {لَخَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ} وأن المراد بالناس هنا الدجال من إطلاق الكل(6/490)
عن خَالِدٍ الْحَذّاءِ عن عبدِ الله بنِ شَقِيقٍ، عن عَبْدِ الله بنِ سُرَاقَةَ، عن أَبي عُبَيْدَةَ بنِ الْجَرّاحِ قَالَ: "سَمِعْتُ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم يقولُ: إِنهُ لَمْ يَكُنْ نَبِيّ بَعْدَ نُوحٍ إِلاّ قَدْ أَنْذَرَ قَومَهُ الدّجّالَ وَإِنّي أُنْذِرُكُمُوهُ، فَوَصَفَهُ لَنَا رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ: لَعَلّهُ سَيُدْرِكُهُ بعضُ مَنْ رَآنِي أَوْ سَمِعَ كلامِي، قالُوا يَا رَسُولَ الله فَكَيْفَ قلوبُنَا يَوْمَئِذٍ؟ فَقَالَ: مِثْلُهَا يَعْنِي الْيَوْمَ أَوْ خَيْرٌ" .
ـــــــ
على البعض، وهذا إن ثبت أحسن الأجوبة فيكون من جملة ما تكفل النبي صلى الله عليه وسلم ببيانه كذا في الفتح.
قوله: "عن عبد الله بن سراقة" الأزدي البصري، وثقه العجلي، وقال البخاري لا يعرف له سماع من أبي عبيدة من الثالثة.
قوله: "إنه" أي الشأن "لم يكن نبياً بعد نوح إلا قد أنذر قومه الدجال" أي خوفهم به. ويأتي في حديث ابن عمر بعد هذا أن نوحاً قد أنذر قومه فقوله بعد نوح في هذا الحديث "ليس" للاحتراز ولذا قال صاحب فتح الودود: لعل إنذار من بعد نوح أشد وأكثر "وإني أنذركموه" أي الدجال ببيان وصفه خوفاً عليكم من تلبيسه ومكره "لعله سيدركه بعض من رآني" أي على تقدير خروجه سريعاً، وقيل دلّ على بقاء الخضر.
قلت: وستأتي مسألة حياة الخضر وموته بعد عدة أبواب "أو سمع كلامي" ليس أو للشك من الراوي بل للتنويع، لأنه لا يلزم من الرؤية السماع وهو لمنع الخلوة لإمكان الجمع وقيل: المعنى أو سمع حديثي بأن وصل إليه ولو بعد حين قاله القاري "فقال مثلها" أي مثل قلوبكم الاَن وهو معنى قول الراوي "يعني" أي يريد بالإطلاق تقييد الكلام بقوله: "اليوم أو خير" شك من الراوي، ويحتمل التنويع بحسب الأشخاص قاله القاري: قلت: ليس أو للشك من الراوي بل هو من قول رسول الله صلى الله عليه وسلم يدل عليه رواية أبي داود ففيها: قالوا يا رسول الله كيف قلوبنا يومئذ أمثلها اليوم قال أو خير.(6/491)
وفي البابِ عن عَبْدِ الله بنِ بُسْرٍ وعبد الله بن الحارث بن جُزي وَعَبْدِ الله بنِ مُغَفّلٍ وَأَبي هُرَيْرَةَ.
هذا حديثٌ حسنٌ غريبٌ مِنْ حَدِيثِ أَبي عُبَيْدَةَ بنِ الْجَرّاحِ لاَ نَعْرِفُهُ إِلاّ مِنْ حَدِيثِ خَالِدٍ الْحَذّاءِ وَأَبُو عُبَيْدَةَ بنُ الْجَرّاحِ اسْمُهُ عَامِرُ بنُ عَبْدِ الله بنِ الْجَرّاحِ.
2336ـ حَدّثنا عَبْدُ بنُ حُمَيْدٍ، أخبرنا عَبْدُ الرّزّاقِ، أخبرنا مَعْمَرٌ عن الزّهْرِيّ عن سَالمٍ عن ابنِ عُمَر قالَ: "قَامَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم في النّاسِ فَأَثْنَى عَلَى الله بمَا هُوَ أَهْلُهُ، ثُمّ ذَكَرَ الدّجّالَ فَقَالَ: إِنّي لأَنْذِرْكُمُوهُ وَمَا مِنْ نَبِيّ إِلاّ وَقَدْ أَنْذَرَ قَوْمَهُ، وَلَقَدْ أَنْذَرَ نُوحٌ قَوْمَهُ وَلِكِنْ سَأَقُولُ فِيهِ قَوْلاً لَمْ يَقُلْهُ نَبِيّ لِقَوْمِهِ، تَعْلَمُونَ أَنّهُ أَعْوَرُ وَإِنّ الله لَيْسَ بأَعْوَرَ. قالَ الزّهْرِيّ وَأَخْبَرَني عُمَرُ بنُ ثَابَتٍ الأَنْصَارِيّ أَنّهُ أَخْبَرَهُ
ـــــــ
قوله: "وفي الباب عن عبد الله بن بسر وعبد الله بن مغفل وأبي هريرة" أما حديث عبد الله بن بسر فأخرجه أبو داود وابن ماجة، وأما حديث عبد الله بن مغفل ف
ينظر من أخرجه، وأما حديث أبي هريرة فأخرجه الشيخان.
قوله: "هذا حديث حسن غريب" وأخرجه أبو داود وسكت عنه. وقال المنذري بعد نقل تحسين الترمذي: ذكر البخاري أن عبد الله بن سراقة لا يعرف له سماع من أبي عبيدة.
قوله: "ولقد أنذر نوح قومه" قد استشكل إنذار نوح قومه بالدجال مع أن الأحاديث قد ثبتت أنه يخرج بعد أمور ذكرت وأن عيسى يقتله بعد أن ينزل من السماء فيحكم بالشريعة المحمدية، والجواب أنه كان وقت خروجه، أخفي على نوح ومن بعده، فكأنهم أنذروا به ولم يذكر لهم وقت خروجه، فحذروا قومهم من فتنته. ويؤيده قوله صلى الله عليه وسلم في بعض طرقه إن يخرج وأنا فيكم فأنا حجيجه فإنه محمول على أن ذلك كان قبل أن يتبين له وقت خروجه وعلاماته فكان يجوز أن يخرج في حياته صلى الله عليه وسلم ثم بين له بعد ذلك حاله ووقت خروجه فأخبر(6/492)
بَعْضُ أَصْحَابِ النّبِيّ صلى الله عليه وسلم: أَنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم، قالَ يَوْمَئِذٍ لِلنّاسِ وهو يُحَذّرُهُمْ فِتْنَتة: تَعْلَمُونَ أَنّهُ لَنْ يَرَى أَحَدٌ مِنْكُمْ رَبّهُ حَتّى يَمُوتَ، وَأَنّهُ مَكْتُوبٌ بَيْنَ عَيْنَيْهِ كَافِرٌ يقرأُهُ مَنْ كَرِهَ عَمَلَهُ" .
ـــــــ
به فبذلك تجتمع الأخبار "ولكن سأقول فيه قولاً لم يقله نبي لقومه" قيل إن السر في اختصاص النبي صلى الله عليه وسلم بالتنبيه المذكور مع أنه أوضح الأدلة في تكذيب الدجال أن الدجال إنما يخرج في أمته دون غيرها ممن تقدم من الأمم، ودل الخبر على أن علم كونه يختص خروجه بهذه الأمة كان طوي عن غير هذه الأمة كما طوى عن الجميع علم وقت قيام الساعة "تعلمون أنه أعور وإن الله ليس بأعور" إنما اقتصر على ذلك مع أن أدلة الحدوث في الدجال ظاهرة لكون العور أثر محسوس يدركه العالم والعامي ومن لا يهتدي إلى الأدلة العقلية، فإذا ادعى الربوبية وهو ناقص الخلقة والإله يتعالى عن النقص، علم أنه كاذب.
قوله: "فأخبرني عمر بن ثابت الأنصاري" الخزرجي المدني، ثقة من الثالثة وأخطأ من عده في الصحابة.
قوله: "قال يومئذ للناس وهو يحذرهم فتنة تعلمون أنه لن يرى أحد منكم ربه حتى يموت" فيه تنبيه على أن دعواه الربوبية كذب لأن رؤية الله تعالى مقيدة بالموت، والدجال يدعى أنه الله ويراه الناس مع ذلك. وفي هذا الحديث رد على من يزعم أنه يرى الله تعالى في اليقظة، تعالى الله عن ذلك، ولا يرد على ذلك رؤية النبي صلى الله عليه وسلم له ليلة الإسراء لأن ذلك من خصائصه صلى الله عليه وسلم فأعطاه الله تعالى في الدنيا القوة التي ينعم بها على المؤمنين في الاَخرة "وإنه مكتوب بين عينيه كافر يقرأه من كره عمله" وفي رواية عند مسلم من حديث أنس: مكتوب بين عينيه كافر ثم تهجاها ك ف ر يقرأه كل مسلم. فرواية الترمذي هذه أخص من رواية مسلم وفي حديث أبي بكرة عند أحمد: يقرأه الأمي والكاتب ونحوه في حديث معاذ عند البزار، وفي حديث أبي أمامة عند ابن ماجة: يقرأه كل مؤمن كاتب وغير كاتب ولأحمد عن جابر: مكتوب بين عينيه كافر(6/493)
هذا حديثٌ حسنٌ صحيحٌ.
2337ـ حدّثنا عَبْدُ بنُ حُمَيْدٍ، حدثنا عَبْدُ الرّزّاقِ، أخبرنا مَعْمَرٌ عن الزّهْرِيّ عن سَالمٍ، عن ابنِ عُمَرَ أَنّ رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم قَالَ: "تُقَاتِلُكُم اليَهُودُ فَتُسَلّطُونَ عَلَيْهِمْ حَتّى يَقُولَ الْحَجَرُ يَا مُسْلِمُ هَذَا يهودي وَرَائي فاقْتُلْهُ" هذا حديثٌ حسنٌ صحيحٌ.
ـــــــ
مهجاة. ومثله عند الطبراني من حديث أسماء بنت عميس وقوله: كل مؤمن من كاتب وغير كاتب، إخبار بالحقيقة. وذلك أن الإدراك في البصر يخلقه الله للعبد كيف شاء ومتى شاء، فهذا يراه المؤمن بغير بصره وإن كان لا يعرف الكتابة، ولا يراه الكافر ولو كان يعرف الكتابة. كما يرى المؤمن الأدلة بغير بصيرته ولا يراها الكافر. فيخلق الله للمؤمن الإدراك دون تعلم لأن ذلك الزمان تنخرق فيه العادات في ذلك. ويحتمل قوله: يقرأه من كره عمله. أن يراد به المؤمنون عموماً، ويحتمل أن يختص ببعضهم ممن قوي إيمانه. وقال النووي: الصحيح الذي عليه المحققون أن الكتابة المذكورة حقيقة جعلها الله علامة قاطعة بكذب الدجال فيظهر الله المؤمن عليها ويخفيها على من أراد شقاوته. كذا في الفتح.
قوله: "هذا حديث حسن صحيح" وأخرجه الشيخان.
قوله: "فتسلطون عليهم" من التسليط، أي تغلبون عليهم "حتى يقول الحجر الخ" هذا من أشراط الساعة. روى مسلم عن أبي هريرة: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: لا تقوم الساعة حتى يقاتل المسلمون اليهود، فيقتلهم المسلمون حتى يختبئ اليهودي من وراء الحجر أو الشجر فيقول الحجر أو الشجر يا مسلم يا عبد الله هذا يهودي خلفي فتعال فاقتله، إلا الغرقد فإنه من شجر اليهود . قال النووي: الغرقد نوع من شجر الشوك معروف ببلاد بيت المقدس، وهناك يكون قتل الدجال واليهود.
قوله: "هذا حديث حسن صحيح" وأخرجه مسلم(6/494)
47 ـ باب مَا جَاءَ مِنْ أَيْنَ يَخْرُجُ الدّجّال
2338 ـ حَدّثنا بندار وَ أَحْمَدُ بنُ مَنِيعٍ قَالاَ: أخبرنا رَوْحُ بنُ عَبَادَةَ، أخبرنا سَعِيدُ بنُ أَبي عَرُوبَةَ، عن أَبي التّيّاحِ عن المُغِيرةِ بنِ سُبَيعٍ عن عَمْرِو بنِ حُرَيْثٍ، عن أَبي بَكْرٍ الصّدّيقِ قَالَ: "حدثنا رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم قَالَ: الدّجّالُ يخرُجُ مِنْ أَرْضٍ بالمَشْرِقِ يُقَالُ لهَا خُراسَانَ يتْبَعُهُ أَقْوَامٌ كأَنّ وُجُوهَهُمْ المَجَانّ المُطْرَقَةُ" .
ـــــــ
"باب ما جاء من أين يخرج الدجال"
قوله: "عن المغيرة بن سبيع" بمهملة وموحدة مصغراً، العجلي ثقة من الخامسة.
قوله: "قال الدجال الخ" استئناف مؤكد لحدثنا أو يدل على مذهب الشاطبي ومن تبعه من أن الإبدال يجري في الأفعال وهو أصح الأقوال أو التقدير حدثنا أشياء من جملتها قال الدجال الخ "يقال لها خراسان" بضم أوله وهي بلاد معروفة بين بلاد ما وراء النهر وبلدان العراق معظمها الآن بلدة هراة المسماة بخراسان كتسمية دمشق بالشام. كذا في المرقاة. وفي الحديث دليل على أن الدجال يخرج من خراسان. قال الحافظ: أما من أين يخرج فمن قبل المشرق جزماً. ثم جاء في رواية: أنه يخرج من خراسان. أخرج ذلك أحمد والحاكم من حديث أبي بكر، وفي أخرى: أنه يخرج من أصبهان. أخرجها مسلم انتهى.
قلت أخرج مسلم من حديث أنس بن مالك: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: يتبع الدجال من يهود أصبهان سبعون ألفاً عليهم الطيالسة . وهذه الرواية ليست بصريحة في أن الدجال يخرج من أصبهان. ولم أجد في صحيح مسلم رواية صريحة في خروجه منها "يتبعه" بسكون التاء وفتح الباء أي يلحقه ويطيعه "كأن وجوههم المجان" بفتح الميم وتشديد النون جمع المجن بكسر الميم وهو الترس "المطرقة" بضم الميم وسكون الطاء، وقال السيوطي: روى بتشديد الراء وتخفيفها فهي مفعولة من إطراقه أو طرقه أي جعل الطرق على وجه الترس والطراق بكسر(6/495)
وفي البابِ عن أبي هُرَيْرَةَ وَعَائِشَةَ.
هذا حديثٌ حسنٌ غريبٌ. وقَدْ رَوَاهُ عَبْدُ الله بنُ شَوْذَبٍ عن أَبي التّيّاحِ وَلاَ يعرف إِلاّ مَنْ حَدِيثِ أَبي التّيّاحِ
ـــــــ
الطاء الجلد الذي يقطع على مقدار الترس فيلصق على ظهره، والمعنى: أن وجوههم عريضة ووجناتهم مرتفعة كالمجنة، وهذا الوصف إنما يوجد في طائفة الترك والأزبك ما وراء النهر.
قوله: "وفي الباب عن أبي هريرة وعائشة" ، أما حديث أبي هريرة فأخرجه الشيخان عنه مرفوعاً: يأتي المسيح من قبل المشرق همته المدينة الحديث. أما حديث عائشة رضي الله عنها فلينظر من أخرجه.
قوله: "هذا حديث حسن غريب" وأخرجه أحمد وابن ماجة والحاكم.
قوله: "وقد رواه عبد الله بن شوذب" الخراساني أبو عبد الرحمن، سكن البصرة ثم الشام، صدوق عابد من السابعة(6/496)
48 ـ باب مَا جَاءَ في عَلاَمَاتِ خُروجِ الدّجّال
2339ـ حَدّثنا عَبْدُ الله بنُ عَبْدِ الرّحْمَنِ، أخبرنا الْحَكَمُ بنُ المُبَارَكِ أخبرنا الْوَلِيدُ بنُ مُسْلمٍ عن أَبي بَكْرِ بنِ أَبي مَرْيَمَ عن الْوَلِيدِ بنِ سُفْيَانَ، عن يَزِيدَ بن قطيبٍ السّكُونِيّ، عن أَبي بحْرِيّةَ صَاحِبِ مُعَاذِ
ـــــــ
"باب ما جاء في علامات خروج الدجال"
قوله: "حدثنا عبد الله بن عبد الرحمن" هو الدارمي "أخبرنا الحكم بن المبارك" الباهلي مولاهم أبو صالح الخاشتي بفتح الخاء وكسر الشين وآخره مثناة وخاشت من محال بلخ، صدوق ربما وهم من العاشرة "عن أبي بكر بن أبي مريم" قال في التقريب: أبو بكر بن عبد الله بن أبي مريم الغساني الشامي وقد ينسب إلى جده قيل اسمه بكير، وقيل عبد السلام ضعيف، وكان قد سرق بيته فاختلط من السابعة "عن الوليد بن سفيان" بن أبي مريم الغساني، شامي مجهول من السادسة "عن يزيد بن قطيب" بفتح الطاء مصغراً الكوفي مقبول من السادسة "عن أبي(6/496)
معاذ بن جبل عن النّبيّ صلى الله عليه وسلم قالَ: "المَلْحَمَةُ الْعُظْمَى وَفَتْحُ القُسْطَنْطِينَةِ وَخُرُوجُ الدّجّالِ في سَبْعَةِ أَشْهُرٍ" .
وفي البابِ عن الصّعْبِ بنِ جَثّامَةَ وَعَبْدِ الله بنِ بُسْرٍ وَعَبْدِ الله بنِ مَسْعُودٍ وَأَبي سَعِيدٍ الْخُدْرِيّ. هذا حديثٌ حسنٌ غريب لاَ نَعْرِفُهُ إِلاّ من هذا الْوَجْهِ.
ـــــــ
بحرية" بفتح الموحدة وسكون المهملة وكسر الراء وتشديد التحتية قال في الخلاصة: عبد الله بن قيس الكندي التراغمي بفتح التحتانية والمعجمة الأولى وكسر الثانية أبو بحرية الحمصي شهد الجابية، روى عن معاذ بن جبل وثقه ابن معين. وقال في المغني: في نسبته التراغمي بضم فوقية وخفة راء وكسر غين معجمة في آخرها ميم منسوب إلى تراغم بن كذا.
قوله: "الملحمة" أي الوقعة العظيمة القتل "العظمى" وفي الجامع الصغير للسيوطي الكبرى قال المناوي في شرحه أي الحرب العظيم "وفتح القسطنطينة" بضم القاف وسكون السين وضم الطاء الأولى وكسر الثانية بينهما نون ساكنة وبعد الطاء الثانية تحتية ساكنة ثم نون قال النووي: هكذا ضبطناه وهو المشهور ونقله القاضي في المشارق عن المتقنين والأكثرين وعن بعضهم زيادة ياء مشددة بعد النون، وهي مدينة مشهورة من أعظم مدائن الروم "في سبعة أشهر" أي هذه الأمور الثلاثة تكون في سبعة أشهر.
قوله: "وفي الباب عن الصعب بن جثامة وعبد الله بن بسر وعبد الله بن مسعود وأبي سعيد الخدري" أما حديث الصعب بن جثامة فأخرجه أحمد عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: لا يخرج الدجال حتى تذهل الناس عن ذكره وحتى يترك الأئمة ذكره على المنابر. وأما حديث عبد الله بن بسر فأخرجه أبو داود عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: بين الملحمة وفتح المدينة ست سنين ويخرج الدجال في السابعة. وأخرجه أيضاً ابن ماجة. وأما حديث عبد الله بن مسعود فأخرجه مسلم. وأما حديث أبي سعيد الخدري فلينظر من أخرجه.
قوله: "هذا حديث حسن" وأخرجه أبو داود وابن ماجة قال المنذري:(6/497)
2340 ـ حدّثنا محمودُ بنُ غَيْلاَنَ، أخبرنا أَبُو دَاودَ عن شُعْبةَ، عن يَحْيَى بن سَعِيدٍ، عَنْ أَنَسِ بنِ مَالِكٍ قَالَ: فَتْحُ القُسْطَنْطِينيةِ مَعَ قِيَامِ السّاعَةِ، قَالَ محمودٌ: هذا حديثٌ غريبٌ وَالقُسْطَنْطِينيةُ هِيَ مدِينَةُ الرّومِ تُفْتَحُ عِنْدَ خُرُوجِ الدّجّالِ. والقُسْطَنْطِينَةُ قَدْ فُتِحَتْ فِي زَمَانِ بَعْضِ أَصْحَابِ النّبيّ صلى الله عليه وسلم.
ـــــــ
في إسناده أبو بكر بن أبي مريم ولا يحتج بحديثه. قلت وفي سنده أيضاً الوليد بن سيفان وهو مجهول.
تنبيه: فإن قلت بين حديث معاذ بن جبل المذكور في الباب وبين حديث عبد الله بن بسر الذي أشار إليه الترمذي تخالف ظاهر فإنه وقع في الأول سبعة أشهر وفي الثاني سبع سنين فما وجه الجمع.
قلت: قال أبو داود بعد رواية حديث عبد الله بن بسر هذا أصح من حديث عيسى انتهى. أراد بحديث عيسى حديث معاذ بن جبل المذكور الذي رواه قبل حديث عبد الله بن بسر قال في فتح الودود: هذه إشارة إلى جواب ما يقال بين الحديثين تناف فأشار إلى أن الثاني أرجح إسناداً فلا يعارضه الأول انتهى. وقال القاري ففيه "أي في قول أبي داود هذا اصح" دلالة على أن التعارض ثابت والجمع ممتنع، والأصح هو المرجح. وحاصله أن بين الملحمة العظمى وبين خروج الدجال سبع سنين أصح من سبعة أشهر.
قوله: "عن يحيى بن سعيد" بن قيس الأنصاري المدني كنيته أبو سعيد القاضي ثقة ثبث من الخامسة.
قوله: "فتح القسطنطينة مع قيام الساعة" أي مع قرب قيامها(6/498)
49 ـ باب مَا جَاءَ في فِتْنَةِ الدّجّال
2341ـ حَدّثنا عليّ بنُ حُجرٍ، أخبرنا الوليدُ بنُ مُسْلِمٍ و عبدُ الله بنُ عَبْدِ الرّحمَنِ بنُ يَزِيدَ بنِ جَابِرٍ دَخَلَ حَدِيثُ أَحَدِهِمَا في حَدِيثِ الآخر عن عَبْدِ الرّحمَنِ بنُ يَزِيدَ بنِ جَابِرٍ عنْ يَحْيَى بنِ جَابِرٍ الطّائِيّ عنْ عَبْدِ الرحمنِ بنِ جُبَيرٍ عَنْ أَبِيهِ جُبير بنِ نُفَيرٍ عَنْ النّوّاسِ بن سَمْعانَ الكِلاَبِيّ قالَ: "ذَكَرَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم الدّجّالَ ذَاتَ غَداةٍ فَخفّضَ فيهِ وَرَفّعَ حتى ظَنَنّاهُ في طَائِفَةِ النّخْلِ، قَالَ فانْصَرَفْنَا مِنْ عِنْدِ رَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم ثم رَجَعْنَا إِلَيْهِ فَعرَف ذَلِكَ فِينَا، فَقَالَ: مَا شَأْنُكُمْ؟ قَالَ قُلْنَا يَا رَسُولَ الله ذَكَرْتَ الدّجّالَ
ـــــــ
"باب ما جاء في فتنة الدجال"
قوله: "أخبرنا الوليد مسلم" القرشي الدمشقي "وعبد الله بن عبد الرحمن بن يزيد ابن جابر" الأزدي أبو إسماعيل الدمشقي قال النسائي لا بأس به كذا في الخلاصة.
قوله: "ذات غداة" كلمة ذات مقحمة "فخفض فيه ورفع" بتشديد الفاء فيهما وفي معناه قولان أحدهما إن خفض فيه بمعنى حقره وقوله رفعه أي عظمه وفخمه فمن تحقيره وهو أنه على الله تعالى عوده، ومنه قوله صلى الله عليه وسلم: هو أهون على الله من ذلك، وإنه لا يقدر على قتل أحد إلا ذلك الرجل ثم يعجز عنه، وإنه يضمحل أمره ويقتل بعد ذلك هو وأتباعه، ومن تفخيمه وتعظيم فتنته والمحنة به هذه الأمور الخارقة للعادة وإنه ما من نبي إلا وقد أنذره قومه والوجه الثاني أنه خفض من صوته في حال كثرة ما تكلم فيه، فخفض بعد طول الكلام والتعب ليستريح ثم رفع ليبلغ صوته كمالاً "في طائفة النخل" أي ناحيته وجانبه "ثم رحنا إليه" من راح يروح قال في القاموس: رحت القوم وإليهم وعندهم روحاً ورواحاً ذهبت إليهم رواحاً كروحتهم وتروحتهم. وقال فيه: والرواح العشي أو من الزوال(6/499)
الغَدَاةَ فَخفّضْتَ وَرَفّعْتَ حَتّى ظَنَنّاهُ في طَائِفَةِ النّخْلِ قَالَ: غَيْرُ الدّجّالِ أَخْوَفُ لِي عَلَيْكُمْ إِنْ يَخْرُجْ وَأَنَا فِيكُمْ فَأَنَا حَجِيجُهُ دُونَكُمْ وَإِنْ يَخْرُجْ وَلَسْتُ فِيكُمْ فَامْرُؤٌ حَجيجُ نَفْسِهِ، وَالله خَلِيفَتِي عَلَى كُلّ مُسْلِمٍ، إِنّهُ شَابّ قَطَطٌ عَيْنُهُ قائمة شَبِيهٌ بِعَبْدِ العُزّي بنِ قَطَنٍ، فَمَنْ رَآهُ مِنكُمْ فَلْيَقْرَأْ فَوَاتِحَ سُورَةِ أَصْحَابِ الكَهْفِ. قَالَ: يَخْرُجُ مَا بَيْنَ الشّامِ وَالعِرَاقِ فَعَاثَ يَميناً وَشِمَالاً، يَا عِبَادَ الله الْبَثُوا. قال: قلْنَا يَا رَسُولَ الله وَمَا لَبْثُهُ في الأَرْضِ؟ قَالَ
ـــــــ
إلى الليل انتهى "فعرف ذلك" أي أثر خوف الدجال "إن يخرج وأنا فيكم" أي موجود فيم بينكم فرضاً وتقديراً "فأنا حجيجه" فعيل بمعنى الفاعل من الحجة وهي البرهان أي غالب عليه بالحجة "دونكم" أي قدامكم ودافعه عنكم وفيه إرشاد أنه صلى الله عليه وسلم كان في المحاجة معه غير محتاج إلى معاونة معاون من أمته في غلبته عليه بالحجة "فأمرؤ حجيج نفسه" بالرفع أي فكل امرئ يحاجه ويحاوره ويغالبه لنفسه "والله خليفتي على كل مسلم" يعني والله سبحانه وتعالى ولي كل مسلم وحافظه فيعينه عليه ويدفع شره "إنه" أي الدجال "شاب قطط" بفتح القاف والطاء أي شديد جعودة الشعر "عينه قائمة" أي باقية في موضعها وفي رواية مسلم: عينه طافئة أي مرتفعة " شبيه بعبد العزى بن قطن" بفتحتين.
قال الطيبي: قيل إنه كان يهودياً. قال القاري: ولعل الظاهر أنه مشرك لأن العزى اسم صنم ويؤيده في بعض ما جاء في الحواشي هو رجل من خزاعة هلك في الجاهلية انتهى "فليقرأ فواتح سورة أصحاب الكهف" أي أوائلها قال الطيبي المعنى أن قراءته أمان له من فتنته كما آمن تلك الفتية من فتنة دقيانوس الجبار "فعاث يميناً وشمالاً" قال النووي هو بعين مهملة وثاء مثلثة مفتوحة وهو فعل ماض والعيث الفساد أو أشد الفساد والإسراع فيه يقال منه عاث يعيث وحكى القاضي أنه رواه بعضهم فعاث بكسر الثاء منونة اسم فاعل وهو بمعنى الأول "يا عباد الله البثوا" من اللبث وهو المكث والفعل لبث كسمع وهو نادر لأن المصدر من فعل بالكسر قياسه بالتحريك إذ لم يتعدد. وفي رواية مسلم يا عباد الله فاثبتوا من الثبات(6/500)
أَرْبَعِينَ يَوْماً يَوْمٌ كسنة ويوم كَشَهْرِ وَيَوْمٌ كَجُمُعَةٍ وَسَائِرُ أَيَامِهِ كَأَيّامِكُمْ. قَالَ قَلْنَا يَا رَسُولَ الله أَرَأَيْتَ اليَوْمَ الّذِي كالسّنَةِ أَتَكْفِينَا فِيهِ صَلاَةُ يَوْمٍ؟ قَالَ
ـــــــ
وكذا في المشكاة: قال القاري أي أيها المؤمنون الموجودون في ذلك الزمان أو أنتم أيها المخاطبون على فرض أنكم تدركون ذلك الأوان فاثبتوا على دينكم وإن عاقبكم قال الطيبي: هذا من الخطاب العام أراد به من يدرك الدجال من أمته ثم قيل هذا القول منه استمالة لقلوب أمته وتثبيتهم على ما يعاينونه من شر الدجال وتوطينهم على ما هم فيه من الإيمان بالله تعالى واعتقاده وتصديق ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم وما لبثه بفتح لام وسكون موحدة أي ما قدر مكثه وتوقفه "قال أربعون يوماً يوم كسنة ويوم كشهر ويوم كجمعة وسائر أيامه كأيامكم" فإن قلت هذا الحديث يدل على أن الدجال يمكث أربعين يوماً وحديث أسماء بنت يزيد بن السكن قالت قال النبي صلى الله عليه وسلم: يمكث الدجال في الأرض أربعين سنة السنة كالشهر والشهر كالجمعة والجمعة كاليوم واليوم كاضطرام السعفة في النار . رواه في شرح السنة يدل على أنه يمكث أربعين سنة فما وجه الجمع بينهما؟ قلت قال القاري: لعل وجه الجمع بينهما اختلاف الكمية والكيفية كما يشير إليه قوله: السنة كالشهر فإنه محمول على سرعة الانقضاء كما أن قوله يوم كسنة محمول على أن الشدة في غاية من الاستقصاء على أنه يمكن اختلافه باختلاف الأحوال والرجال قاله في شرح حديث أسماء بنت يزيد المذكور وقال في شرح حديث النواس بن سمعان الذي رواه مسلم وفيه أربعين يوماً ما لفظه: والحديث الذي نقله البغوي في شرح السنة لا يصلح أن يكون معارضاً لرواية مسلم هذه وعلى تقدير صحته لعل المراد بأحد المكثين مكث خاص على وصف معين مبين عند العالم به انتهى.
قلت: المعتمد هو أن رواية البغوي لا يصلح أن يكون معارضاً لحديث مسلم والله تعالى أعلم.
قال النووي: قال العلماء هذا الحديث على ظاهره وهذه الأيام الثلاثة طويلة على هذا القدر المذكور في الحديث، يدل عليه قوله صلى الله عليه وسلم: وسائر أيامه(6/501)
لاَ، وَلَكِنْ اقدُرُوا لَهُ. قُلْنَا يَا رَسُولَ الله فَمَا سُرْعَتُهُ في الأرْضِ؟ قَالَ كَالْغَيْثِ اسْتَدْبَرَتْهُ الريحُ فَيَأْتِي الْقَوْمَ فَيَدْعُوهُمْ فَيُكَذّبُونَهُ وَيَرُدّونَ عَلَيْهِ قَوْلَهُ فَيَنْصَرِفُ عَنْهُمْ، فَتَتْبَعُهُ أَمْوَالُهُمْ ويُصْبِحُونَ لَيْسَ بِأَيْدِيهُمْ شَيءٌ. ثُمّ يَأْتِي الْقَوْمَ فَيَدْعُوهُمْ فَيَسْتَجِبيُونَ لَهُ وَيُصَدّقُونَهُ فَيَأْمُرُ السّمَاءَ أَنْ تُمْطِرَ فَتُمْطِرَ وَيَأْمُرُ الأرْضَ أَنْ تُنْبِتَ فَتُنْبِتَ فَتَرُوحُ عَلَيْهِمْ سَارِحَتُهُمْ كَأَطْوَلِ مَا كَانَتْ ذُرًى وَأَمَدّهِ خَوَاصِرَ وَأَدَرّهِ ضُرُوعاً، قال ثم يَأْتِي الْخَرِبَةَ فَيَقُولُ لَهَا
ـــــــ
كأيامكم "ولكن أقدروا له" قال النووي: قال القاضي وغيره هذا حكم مخصوص بذلك اليوم شرعه لنا صاحب الشرع. قالوا لولا هذا الحديث ووكلنا إلى اجتهادنا لاقتصرنا فيه على الصلوات الخمس عند الأوقات المعروفة في غيره من الأيام، ومعنى اقدروا له أنه إذا مضى بعد طلوع الفجر قدر ما يكون بينه وبين الظهر كل يوم فصلوا الظهر، ثم إذا مضى بعده قدر ما يكون بينها وبين العصر فصلوا العصر، وإذا مضى بعد هذا قدر ما يكون بينها وبين المغرب فصلوا المغرب، وكذا العشاء والصبح ثم الظهر ثم العصر ثم المغرب. وهكذا حتى ينقضي ذلك اليوم وقد وقع فيه صلوات سنة فرائض كلها مؤداة في وقتها. وأما الثاني الذي كشهر والثالث الذي كجمعة فقياس اليوم الأول أن يقدر لهما كاليوم الأول على ما ذكرناه انتهى "فما سرعته في الأرض" قال الطيبي لعلهم علموا أنه له إسراعاً في الأرض فسألوا عن كيفيته كما كانوا عالمين بلبثه فسألوا عن كميته بقولهم ما لبثه أي مامدة لبثه "قال كالغيث" المراد به هنا الغيم إطلاقاً للسبب على المسبب أي يسرع في الأرض إسراع الغيم "استدبرته الريح" قال ابن الملك الجملة حال أو صفة للغيث وأل فيه للعهد الذهني والمعنى أن هذا مثال لا يدرك كيفيته ولا يمكن تقدير كميته "فيأتي" أي الدجال "فيدعوهم" أي إلى دعوى ألوهيته "ويردون عليه قوله" أي لا يقبلونه أو يبطلونه بالحجة "ثم يأتي القوم" أي قوماً آخرين "فيستجيبون له" فيقبلون ألوهيته "فيأمر السماء" أي السحاب "فتمطر" من الأمطار حتى تجري الأنهار "فتنبت" من الإنبات "فتروح عليهم سارحتهم" أي فترجع بعد زوال الشمس إليهم ماشيتهم التي تذهب بالغدوة إلى مراعيها "كأطول ما كانت" أي السارحة(6/502)
أَخْرِجِي كُنُوزَكِ فينْصَرِفُ مِنْهَا فتَتْبَعُهُ كيَعَاسِيبِ النّحْلِ، ثمّ يَدْعُو رَجُلاً شَابَا مُمْتَلِئاً شَبَاباً فَيَضْرِبُهُ بِالسّيْفِ فَيَقْطَعُهُ جِزْلَتَيْنِ، ثُمّ يَدْعُوهُ فيُقْبِلُ يَتَهَلّلُ وَجْهُهُ يَضْحَكُ، فَبَيْنَما هُوَ كَذَلِكَ إِذْ هَبْطَ عِيَسَى بنُ مَرْيَمَ بِشَرْقِيّ
ـــــــ
من الإبل "ذرى" بضم الذال المعجمة وحكى كسرها وفتح الراء منوناً جمع ذروة مثلثة وهي أعلى السنام، وذروة كل شيء أعلاه، وهو كناية عن كثرة السمن "وأمده" أي وأمد ما كانت، وهو اسم تفضيل من المد "خواصر" جمع خاصرة، وهي ما تحت الجنب، ومدها كناية عن الامتلاء وكثرة الأكل "وأدره" أفعل التفضيل من الدر، وهو اللبن "ضروعاً" بضم أوله جمع ضرع: وهو الثدي كناية عن كثرة اللبن "ثم يأتي الخربة" بكسر الراء أي الأرض الخربة والبقاع الخربة "أخرجي كنوزك" بضم الكاف جمع كنز أي مدفونك أو معادنك "فينصرف" أي الدجال "منها" أي من الخربة "فتتبعه" الفاء فصيحة، أي فتخرج الكنوز فتعقب الدجال "كيعاسيب النحل" أي كما يتبع النحل اليعسوب واليعسوب: أمير النحل وذكرها الرئيس الكبير، كذا في القاموس، والمراد هنا أمير النحل، قال القاري: وفي الكلام نوع قلب إذ حق الكلام كنحل اليعاسيب انتهى. "ثم يدعو" أي يطلب "ممتلئاً شباباً". قال الطيبي: هو الذي يكون في غاية الشباب "فيضربه بالسيف" أي غضباً عليه لإبائه قبول دعوته الألوهية، أو إظهاراً للقدرة وتوطئة لخرق العادة "فيقطعه جزلتين" بفتح الجيم وتكسر أي قطعتين، وفي رواية مسلم: جزلتين رمية الغرض. قال القاري: أي قدر حذف الهدف، فهي منصوبة بقدر، وفائدة التقييد به أن يظهر عند الناس أنه هلك بلا شبهة كما يفعله السحرة والمشعبذة. وقال النووي: معنى رمية الغرض أنه يجعل بين الجزلتين مقدار رميته ـ هذا هو الظاهر المشهور. وحكى القاضي هذا، ثم قال: وعندي أن فيه تقديماً وتأخيراً، وتقديره فيصيبه إصابة رمية الغرض فيقطعه جزلتين. والصحيح الأول انتهى، فيقبل أي الرجل الشاب على الدجال "يتهلل" أي يتلألأ ويضيء "يضحك" حال من فاعل يقبل، أي يقبل ضاحكاً بشاشاً فيقول هذا كيف يصلح إلهاً "فبينما هو" أي الرجل(6/503)
دِمَشْقَ عِنْدَ المَنَارَةِ البَيْضَاءِ بَيْنَ مَهْرُ ودَتَيْنِ وَاضِعاً يَدَيه عَلَى أَجْنِحَةِ مَلَكَيْنِ إِذَا طَأْطَأَ رَأْسَهُ قطر وإِذَا رَفَعَهُ تَحَدّرَ مِنْهُ جُمَانٌ كالّلؤْلُؤِ، قَالَ: وَلاَ يَجِدُ رِيحَ نَفَسِهِ يعني أَحَد إِلاّ مَاتَ، وَرِيحُ نَفَسِهِ مُنْتَهَى بَصَرِهِ، قَالَ: فَيَطْلُبُهُ حَتّى
ـــــــ
"كذلك" أي على ذلك الحال "إذ هبط" أي نزل "بشرقي" بالإضافة "دمشق" بكسر الدال وفتح الميم، وهذا هو المشهور: وحكى صاحب المطالع: كسر الميم. وهذا الحديث من فضائل دمشق "عند المنارة" بفتح الميم. قال النووي: هذه المنارة موجودة اليوم شرقي دمشق. وقال القاري: ذكر السيوطي في تعليقه على ابن ماجة أنه قال الحافظ ابن كثير في رواية أن عيسى عليه الصلاة والسلام ينزل ببيت المقدس. وفي رواية بالأردن. وفي رواية بمعسكر المسلمين.
قلت: حديث نزول ببيت المقدس عند ابن ماجة، وهو عندي أرجح، ولا ينافي سائر الروايات، لأن ببيت المقدس شرقي دمشق وهو معسكر المسلمين أذ ذاك، والأردن اسم الكورة كما في الصحاح، وبيت المقدس داخل فيه، وإن لم يكن في بيت المقدس الاَن منارة، فلا بد أن تحدث قبل نزوله انتهى. "بين مهرودتين" قال النووي: المهرودتان روى بالدال المهملة والذال المعجمة والمهملة أكثر، والوجهان مشهوران للمتقدمين والمتأخرين من أهل اللغة والغريب وغيرهم، وأكثر ما يقع في النسخ بالمهملة كما هو المشهور، ومعناه لابس مهرودتين: أي ثوبين مصبوغين بورس، ثم بزعفران. وقيل هما شقتان، والشقة نصف الملاءة. وقال الجزري في النهاية قال ابن الأنباري: القول عندنا في الحديث بين مهرودتين: يروى بالدال والذال أي بين ممصرتين على ما جاء في الحديث ولم نسمعه إلا فيه، وكذلك أشياء كثيرة لم تسمع إلا في الحديث، والممصرة من الثياب التي فيها صفرة خفيفة، وقيل المهرود الثوب الذي يصبغ بالعروق، والعروق يقال لها الهرد انتهى. "واضعاً يده" وفي رواية مسلم كفيه "إذا طأطأ" بهمزتين أي خفض "تحدر" ماض معلوم من التحدر، أي نزل وقطر "جمان كاللؤلؤ" بضم الجيم وتخفيف الميم هي حبات من الفضة تصنع على هيئة اللؤلؤ الكبار. والمراد يتحدر منه الماء على هيئة اللؤلؤ في صفاته، فسمي الماء جماناً لشبهه به في الصفاء "ريح نفسه" بفتح النون والفاء "يعني أحد" هذا بيان لفاعل يجد من(6/504)
يُدْرِكَهُ بِبَابِ لُدٍ فَيَقْتُلَهُ. قَالَ فَيَلْبَثُ كَذَلِكَ مَا شَاءَ الله؟ قَالَ ثُمّ يُوحِي الله إِلَيْهِ أَنْ حَوّز عِبَادِيَ إِلَى الطّورِ فَإِني قَدْ أَنْزَلْتُ عِبَاداً لِي لاَ يَدَ لأَحَدٍ بِقِتَالِهِمْ، قَالَ: ويبعث الله يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ وَهُمْ كمَا قَالَ الله وَهُمْ مِنْ كُلّ حَدَبٍ يَنْسِلُون، قَالَ: وَيَمُرّ أَوّلُهُمْ بِبُحَيْرَةِ الطّبَريّةِ فَيَشْرَبُ مَا فِيهَا ثم فَيمُرّ بِهَا آخِرُهُمْ فَيَقُولُونَ لَقَدْ كَانَ بِهَذِهِ مَرّةً مَاءٌ ثَمّ يَسِيرُونَ حَتّى يَنْتَهُوا إِلَى جَبَلِ بَيْتِ المَقْدِسِ فَيَقُولُونَ لَقَدْ قَتَلْنَا مَنْ فِي الأَرْضِ فَهَلُمّ فَلْنَقْتُلْ مَنْ فِي السّمَاءِ فَيَرْمُونَ بِنُشّابِهِمْ إِلَى السّمَاءِ فَيَردّ الله عَلَيْهِمْ نُشّابَهُمْ مُحْمَرّا دَماً،
ـــــــ
بعض الرواة، أي لا يجد أحد من الكفار "إلا مات" قال القاري: من الغريب أن نفس عيسى عليه الصلاة والسلام تعلق به الإحياء لبعض والإماتة لبعض "وريح نفسه منتهى بصره". وفي رواية مسلم: ونفسه ينتهي حيث ينتهي طرفه "فيطلبه" أي يطلب عيسى عليه الصلاة والسلام الدجال "حتى يدركه بباب لد" قال النووي: هو بضم اللام وتشديد الدال مصروف وهو بلدة قريبة من بيت المقدس.
وقال في النهاية: لد موضع بالشام وقيل بفلسطين "أن حوز عبادي إلى الطور" بفتح الحاء المهملة وكسر الواو المشددة وبالزاي أمر من التحويز أي نحهم وأزلهم عن طريقهم إلى الطور "قد أنزلت عباداً لي" وفي رواية مسلم: قد أخرجت عباداً لي أي أظهرت جماعة وهم يأجوج ومأجوج "لا يدان" بكسر النون تثنية يد، قال العلماء معناه لا قدرة ولا طاقة يقال: مالي بهذا الأمر يد ومالي به يدان. لأن المباشرة والدفع إنما يكون باليد، وكأن يديه معدومتان لعجزه عن دفعه "وهم من كل حدب" بفتحتين أي مكان مرتفع من الأرض "ينسلون" أي يمشون مسرعين "ببحيرة الطبرية" بالإضافة وبحيرة تصغير بحرة وهي ماء مجتمع بالشام طوله عشرة أميال والطبرية بفتحتين اسم موضع "فهلم" أي تعال والخطاب لأميرهم وكبيرهم، أو عام غير مخصوص بأحدهم. وفي النهاية فيه لغتان فأهل الحجاز يطلقونه على الواحد والاثنين والجمع والمؤنث بلفظ واحد مبنى على الفتح وبنوتميم تثني وتجمع وتؤنث تقول هلم وهلمي وهلما وهلموا "فيرمون بنشابهم" بضم فتشديد مفرده(6/505)
وَيُحَاصَرُ عيسَى بنُ مَرْيَمَ وَأَصْحَابُهُ حَتّى يَكُونَ رَأْسُ الثّوْرِ يَوْمَئِذٍ خَيْراً لهم مِنْ مَائَةِ دِينَارٍ لأَحَدِكُمْ اليَوْمَ. قالَ: فَيَرْغَبُ عيسَى بنُ مَرْيَمَ إِلَى الله وَأَصْحَابُهُ قَالَ: فيُرْسِلُ الله عَلَيْهِم النّغَفَ فِي رِقَابِهِمْ فَيُصْبِحُونَ فَرْسَى مَوْتى كَمَوْتِ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ، قال: وَيَهْبِطُ عِيسَى وَأَصْحابُهُ فلا يَجِدُ مَوْضِعَ شِبْرٍ إلاّ وقد مَلأَتْهُ زَهْمتُهُمْ وَنَتْنُهُمْ وَدِمَاؤُهُمْ.
قَالَ: فَيَرْغَبُ عيسَى إِلَى الله وَأَصْحَابُهُ قَالَ فيُرْسِلُ الله عَلَيْهِمْ طَيْراً كأعْنَاقِ البُخْتِ قال فَتَحْمِلُهُمْ فَتَطْرَحُهُمْ بالمَهْبِلِ وَيَسْتَوقِدُ المسْلِمُونَ مِنْ قِسيّهمْ وَنُشّابِهِمْ وَجِعَابِهِمْ سَبْعَ سنِينَ قال وَيُرْسِلُ
ـــــــ
نشابة والباء زائدة أي سهامهم "ويحاصر" بصيغة المجهول أي يحبس في جبل الطور "حتى يكون رأس الثور يومئذ خيراً لهم من مائة دينار "لأحدكم اليوم"" قال التوربشتي: أي تبلغ بهم الفاقة إلى هذا الحد. إنما ذكر رأس الثور ليقاس البقية عليه في القيمة "فيرغب عيسى بن مريم إلى الله وأصحابه" قال القاضي: أي يرغبون إلى الله تعالى في إهلاكهم وإنجائهم عن مكابدة بلائهم، ويتضرعون إليه فيستجيب الله فيهلكهم بالنغف كما قال "فيرسل الله عليهم" أي على يأجوج ومأجوج "النغف" بنون وغين معجمة مفتوحتين ثم فاء وهو دود يكون في أنوف الإبل والغنم الواحدة نغف "فيصحون فرسى" كهلكى وزناً ومعنى، وهو جمع فريس كقتيل وقتلى من فرس الذئب الشاة إذا كسرها وقتلها ومنه فريسة الأسد "كموت نفس واحدة" لكمال القدرة وتعلق المشيئة قال تعالى {مَا خَلْقُكُمْ وَلا بَعْثُكُمْ إِلَّا كَنَفْسٍ وَاحِدَةٍ} "ويهبط" أي ينزل من الطور "وقد ملأئه زهمتهم" وفي رواية مسلم: زهمهم بغير التاء. قال النووي: هو بفتح الهاء أي دسمهم ورائحتهم الكريهة "فيرسل الله عليهم طيراً كأعناق البخت" بضم موحدة وسكون معجمة نوع من الأبل أي طيراً أعناقها في الطول والكبر كأعناق البخت، والطير جمع طائرة وقد يقع على الواحد "فتطرحهم بالمهبل" بفتح الميم وسكون الهاء وكسر الموحدة قال في النهاية هو الهوة الذاهبة في الأرض "ويستوقد المسلمون من قسيهم" بكسرتين فتشديد تحتية جمع قوس والضمير ليأجوج ومأجوج "ونشابهم" أي(6/506)
الله عَلَيْهِمْ مَطَراً لاَ يُكَنّ مِنْهُ بَيْتُ وَبَرٍ وَلاَ مَدَرٍ، قَالَ فَيَغْسِلُ الأَرْضَ فَيَتْرُكُهَا كَالَزلَفَةِ، قَالَ: ثمّ يُقَالُ لِلأَرْضِ أَخْرِجِي ثَمَرَتَكِ وَرُدّي بَرَكَتَكِ فَيَوْمَئِذٍ تَأْكُلُ العِصَابَةُ الرّمّانَة وَيَسْتَظِلّونَ بِقِحْفِهَا وَيُبَارِكُ فِي الرّسْلِ حَتّى أنّ الفِئَامَ مِنَ النّاسِ لَيَكْتَفُونَ باللقْحَةِ مِنَ الإِبِل وَأَنّ القَبِيلَةَ لَيَكْتَفُونَ باللّقْحَةِ مِنَ الْبَقَرِ، وإِنّ الْفَخِذَ لَيَكْتَفُونَ بالّلقْحَةِ مِنَ الغَنَمِ، فَبَيْنَما هُمْ كَذَلِكَ إِذْ بَعَثَ الله رِيحاً فَقَبَضَتْ رُوحَ كُلّ مُؤْمِنٍ وَيَبْقَى سائرُ النّاسِ
ـــــــ
سهامهم "وجعابهم" بكسر الجيم جمع جعبة بالفتح وهي ظرف النشاب "لا يكن" بفتح الياء وضم الكاف وتشديد النون من كننت الشيء أي سترته وصنته عن الشمس وهي من أكننت الشيء بهذا المعنى والمفعول محذوف والجملة صفة مطراً أي لا يستر ولا يصون شيئاً "منه" أي من ذلك المطر "بيت وبر" أو صوف أو شعر "ولا مدر" بفتح الميم والدال وهو الطين الصلب، والمراد تعميم بيوت أهل البدو والحضر "فيغسل" أي المطر "فيتركها كالزلفة" بفتح الزاي واللام ويسكن وبالفاء وقيل بالقاف وهي المرآة بكسر الميم وقيل ما يتخذ لجمع الماء من المصنع، والمراد أن الماء يعم جميع الأرض بحيث يرى الرائي وجهه فيه "تأكل العصابة" بكسر العين أي الجماعة "ويستظلون بقحفها" بكسر القاف أي بقشرها. قال النووي هو مقعر قشرها شبهها بقحف الاَدمي وهو الذي فوق الدماغ. وقيل ما انفلق من جمجمته وانفصل انتهى "ويبارك في الرسل" بكسر الراء وسكون السين أي اللبن "حتى إن الفئام" بكسر الفاء وبعدها همزة ممدودة وهي الجماعة الكثيرة "ليكتفون باللقحة" بكسر اللام وفتحها لغتان مشهورتان والكسر أشهر، وهي القريبة العهد بالولادة وجمعها لقح بكسر اللام وفتح القاف كبركة وبرك واللقوح ذات اللبن وجمعها لقاح "وإن الفخذ" قال النووي: قال أهل اللغة الفخذ الجماعة من الأقارب وهم دون البطن، والبطن دون القبيلة. قال القاضي: قال ابن فارس: الفخذ هنا بإسكان الخاء لا غير فلا يقال إلا بإسكانها بخلاف الفخذ التي هي العضو فإنها تكسر وتسكن(6/507)
يَتَهَارَجُونَ كَمَا يَتَهَارَجُ الْحُمرُ فَعَلَيْهِمْ تَقُومُ السّاعَةُ" .
هذا حديثٌ غريبٌ حسنٌ صحيحٌ. لاَ نَعْرِفُهُ إِلاّ مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ الرحمنِ بنِ يَزِيدَ بنِ جَابِرٍ.
ـــــــ
انتهى. "ويبقى سائر الناس" وفي رواية مسلم: ويبقى شراً الناس "يتهارجون كما يتهارج الحمر" أي يجامع الرجال النساء بحضرة الناس كما يفعل الحمير ولا يكترثون لذلك. والهرج بإسكان الراء الجماع، يقال هرج زوجته أي جامعها يهرجها بفتح الراء وضمها وكسرها "فعليهم تقوم الساعة" أي لا على غيرهم. وفي حديث ابن مسعود: لا تقوم الساعة إلا على شرار الناس . وفي حديث أنس: لا تقوم الساعة حتى لا يقال في الأرض الله الله . رواهما مسلم.
قوله: "هذا حديث غريب حسن صحيح" وأخرجه أحمد ومسلم(6/508)
50 ـ باب ماجَاءَ في صِفَةِ الدّجّالِ
2342 ـ حَدّثنا محمدُ بنُ عَبْدِ الأَعْلَى الصّنْعَانِيّ، حدثنا المُعْتِمرُ بنُ سُلَيْمَانَ عَنْ عُبَيدِ الله بنِ عُمرَ عَنْ نَافِعٍ عَنْ ابنِ عُمرَ، عَنْ النّبيّ صلى الله عليه وسلم أَنّهُ سُئِلَ عن الدّجّالِ فَقَالَ: "أَلاَ إِنّ رَبّكُمْ لَيْسَ بأَعْوَرَ أَلاَ وَإِنّهُ أَعْوَرُ عَيْنُهُ اليُمْنَى كأَنّهَا عِنَبَةٌ طَافِيَةٌ" .
ـــــــ
"باب ما جاء في صفة الدجال"
قوله: "كأنها عنبة" أي شبيهة بها "طافية" بكسر الفاء وبالتحتية، قال الحافظ في الفتح: قوله كأن عينه عنبة طافية بياء غير مهموزة أي بارزة ولبعضهم بالهمز أي ذهب ضوؤها. قال القاضي عياض: رويناه عن الأكثر بغير همز وهو الذي صححه الجمهور وجزم به الأخفش ومعناه أنها ناتئة نتوء حبة العنب من بين أخواتها. قال: وضبطه بعض الشيوخ بالهمز وأنكره بعضهم، ولا وجه لإنكاره فقد جاء في آخر: أنه ممسوح العين مطموسة وليست جحراء ولا ناتئة. وهذه صفة حبة العنب إذا سال ماؤها وهو يصحح رواية الهمز قلت الحديث المذكور عند أبي داود يوافقه حديث عبادة بن الصامت ولفظه: رجل قصير أفحج بفاء(6/508)
وفي البابِ عَنْ سَعْدٍ وَحُذَيْفَة وَأَبِي هُرَيْرَةَ وَأَسْمَاءَ وَجَابِرِ بنِ عَبْدِ الله وأبي بَكْرَةَ وَعَائِشَةَ وَأَنَسٍ وَابنِ عَبّاسٍ وَالفَلْتَانِ بنِ عَاصِمٍ.
ـــــــ
ساكنة ثم مهملة مفتوحة ثم جيم من الفحج وهو تباعد ما بين الساقين أو الفخذين. وقيل: تداني صدور القدمين مع تباعد العقبين وقيل هو الذي في رجله أعوجاج. وفي الحديث المذكور: جعله أعور مطموس العين ليست بناتئة ـ بنون ومثناة ـ ولا جحراء بفتح الجيم وسكون المهملة ممدودة أي عميقة، وبتقديم الحد أي ليست متصلبة. وفي حديث عبد الله بن مغفل: ممسوح العين، وفي حديث سمرة مثله، وكلاهما عند الطبراني ولكن في حديثهما: أعور العين اليسرى. ومثله لمسلم من حديث حذيفة، وهذا بخلاف قوله في حديث الباب: أعور العين اليمنى. وقد اتفقا عليه من حديث ابن عمر فيكون أرجح، وإلى ذلك أشار ابن عبد البر لكن جمع بينهما القاضي عياض فقال: تصحح الروايتان معاً بأن تكون المطموسة والممسوحة هي العوراء الطافئة بالهمز أي التي ذهب ضوؤها، وهي العين اليمنى كما في حديث ابن عمر وتكون الجاحظة التي كأنها كوكب وكأنها نخامة في حائط هي الطافية، بلا همز وهي العين اليسرى كما جاء في الرواية الأخرى وعلى هذا فهو أعور العين اليمنى واليسرى معاً فكل واحدة منهما عوراء أي معيبة. فإن الأعور من كل شيء المعيب وكلا عيني الدجال معيبة فإحداهما معيبة بذهاب ضوئها حتى ذهب إدراكها، والأخرى بنتوئها انتهى. قال النووي: هو في نهاية الحسن إنتهى كلام الحافظ. وقد بسط الكلام هنا في الفتح من شاء الوقوف عليه فليراجعه.
قوله: "وفي الباب عن سعد وحذيفة الخ" أما حديث سعد وهو ابن أبي وقاص فأخرجه أحمد. وأما حديث حذيفة فأخرجه الشيخان. وأما حديث أبي هريرة فأخرجه الشيخان أيضاً. وأما حديث أسماء وهي بنت يزيد بن السكن فأخرجه البغوي في شرح السنة وتقدم لفظه. ولها حديث آخر ذكره صاحب المشكاة في الفصل الثاني من باب العلامات بين يدي الساعة وذكر الدجال. وأما حديث جابر فأخرجه أيضاً في شرح السنة. وأما حديث أبي بكرة فأخرجه الترمذي في باب ذكر ابن صياد. وأما حديث أنس فأخرجه الترمذي بعد بابين. وأما أحاديث بقية الصحابة فلينظر من أخرجها.(6/509)
هذا حديثٌ حسن صحيحٌ غريبٌ مِنْ حديث عَبْدِ الله بنِ عُمَرَ.
ـــــــ
قوله: "هذا حديث حسن صحيح غريب" وأخرجه الشيخان(6/510)
51 ـ باب مَا جَاءَ في الدّجّال لا يَدْخُلُ المَدِينَة
2343 ـ حَدّثنا عَبْدَةُ بنُ عَبْدِ الله الْخُزَاعيّ البصري، حدثنا يَزِيدُ بنُ هَارُونَ أخبرنا شُعْبَةُ عَنْ قَتَادَةَ عَنْ أَنَسٍ قَالَ: قالَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم: "يَأْتِي الدّجّالُ المَدِينَةَ فَيَجِدُ المَلاَئِكَةَ يَحْرُسُونَهَا، فَلاَ يَدْخُلُهَا الطّاعُونُ وَلاَ الدّجّالُ إِنْ شَاءَ الله" .
قال وفي البابِ عَنْ أبي هُرَيْرَةَ وَ فَاطِمَةَ بِنْتِ قَيْسٍ وَ أُسَامَةَ بنِ زَيْدٍ وَ سَمُرَةَ بنِ جُنْدُبٍ.
ـــــــ
"باب ما جاء في أن الدجال لا يدخل المدينة"
قوله: "فيجد الملائكة يحرسونها" في حديث محجن الأدرع عند أحمد، والحاكم في ذكر المدينة ولا يدخلها الدجال إن شاء الله، كلما أراد دخولها تلقاه بكل نقب من نقابها ملك مصلت سيفه يمنعه عنها. وعند الحاكم من طريق أبي عبد الله القراظ سمعت سعد بن مالك وأبا هريرة يقولان: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: اللهم بارك لأهل المدينة الحديث. وفيه: إلا أن الملائكة مشتبكة بالملائكة على كل نقب من أنقابها ملكان يحرسانها لا يدخلها الطاعون ولا الدجال . قال ابن العربي يجمع بين هذا وبين قوله على كل نقب ملكاً، إن سيف أحدهما مسلول والاَخر بخلافه "فلا يدخلها الطاعون ولا الدجال إن شاء الله" قيل هذا الاستثناء محتمل للتعليق ومحتمل للتبرك وهو أولى. وقيل إنه يتعلق بالطاعون فقط وفيه نظر وحديث محجن بن الأدرع المذكور آنفاً يؤيد أنه لكل منهما.
قوله: "وفي الباب عن أبي هريرة وفاطمة بنت قيس الخ" أما حديث أبي هريرة فأخرجه الشيخان وأما حديث فاطمة بنت قيس فأخرجه مسلم وفيه ذكر الجساسة والدجال وفيه: وإني مخبركم عني إني أنا المسيح الدجال فأسير في الأرض فلا أدع قرية إلا هبطتها في أربعين ليلة غير مكة وطيبة. وأما حديث محجن فأخرجه(6/510)
هذا حديثٌ صحيحٌ.
2344ـ حدّثنا قُتَيْبَةُ حدثنا عَبْدُ العَزِيزِ بنُ محمدٍ عَنْ العَلاَءِ بنِ عَبْدِ الرحمنِ عَنْ أَبِيهِ عَنْ أبي هُرَيْرَةَ أَنّ رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم قَالَ: "الإيمَانُ يَمَانٍ وَالْكُفْرُ مِنْ قِبَلِ المَشْرِقِ، وَالسّكِينَةُ لأَهْلِ الغَنَمِ وَالفَخْرُ
ـــــــ
أحمد والحاكم وقد تقدم لفظه. وأما حديث أسامة بن زيد فلينظر من أخرجه. وأما حديث سمرة بن جندب فأخرجه أحمد في مسنده ص17 ج5.
قوله: "هذا حديث صحيح" وأخرجه البخاري.
قوله: "الإيمان يمان" هو نسبة الإيمان إلى اليمن لأن أصل يمان يمني فحذفت ياء النسب وعوض بالألف بدلها فلا يجتمعان. وفي رواية للشيخين: أتاكم أهل اليمن، هم أرق أفئدة، وألين قلوباً، الإيمان يمان والحكمة يمانية . وفي أخرى لهما: أتاكم أهل اليمن أضعف قلوباً وأرق أفئدة، الفقه يمان والحكمة يمانية . وفي حديث أبي مسعود عند البخاري: أشار رسول الله صلى الله عليه وسلم بيده نحو اليمن فقال: الإيمان يمان ههنا . قال النووي في شرح مسلم: أما ما ذكر من نسبة الإيمان إلى أهل اليمن فقد صرفوه عن ظاهره من حيث أن مبدأ الإيمان من مكة ثم من المدينة حرسها الله تعالى، فحكى أبو عبيد أمام الغريب ثم من بعده في ذلك أقوالاً.
أحدها: أراد بذلك مكة فإنه يقال أن مكة من تهامة وتهامة من أرض اليمن.
والثاني: المراد مكة والمدينة فإنه يروى في الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم قال هذا الكلام وهو بتبوك، ومكة والمدينة حينئذ بينه وبين اليمن فأشار إلى ناحية اليمن وهو يريد مكة والمدينة فقال: الإيمان يمان فنسبهما إلى اليمن لكونهما حينئذ من ناحية اليمن، كما قالوا الركن اليماني وهو بمكة لكونه إلى ناحية اليمن.
والثالث: ما ذهب إليه كثير من الناس وهو أحسنها عند أبي عبيد أن المراد بذلك الأنصار لأنهم يمانون في الأصل فنسب الإيمان إليهم لكونهم أنصاره. قال الشيخ أبو عمرو بن الصلاح، ولو جمع أبو عبيد ومن سلك سبيله طرق الحديث(6/511)
وَالرّيَاءُ في الفَدّادِين أَهْلِ الْخَيْلِ وَأَهْلِ الوَبَرِ، يَأْتِي المَسِيحُ أي الدّجّالُ
ـــــــ
بألفاظه كما جمعها مسلم وغيره وتأملوها لصاروا إلى غير ما ذكروه، ولما تركوا الظاهر ولفظوا بأن المراد اليمن وأهل اليمن على ما هو المفهوم من إطلاق ذلك إذ من ألفاظه: أتاكم أهل اليمن والأنصار من جملة المخاطبين بذلك، فهم إذاً غيرهم، وكذلك قوله صلى الله عليه وسلم: جاء أهل اليمن، وإنما جاء حينئذ غير الأنصار، ثم إنه صلى الله عليه وسلم وصفهم بما يقضى بكمال إيمانهم ورتب عليه الإيمان يمان وكان ذلك إشارة للإيمان إلى من أتاه من أهل اليمن لا إلى مكة والمدينة، ولا مانع من إجراء الكلام على ظاهره وحمله على أهل اليمن حقيقة، لأن من اتصف بشيء وقوى قيامه به وتأكد اضطلاعه منه نسب ذلك الشيء إليه إشعاراً بتميزه به وكمال حاله فيه. وهكذا كان حال أهل اليمن حينئذ في الإيمان، وحال الوافدين منه في حياته صلى الله عليه وسلم وفي أعقاب موته، كأويس القرني وأبي مسلم الخولاني وشبههما ممن سلم قلبه وقوي إيمانه فكانت نسبة الإيمان إليهم لذلك إشعاراً بكمال إيمانهم من غير أن يكون في ذلك نفي له عن غيرهم. فلا منافاة بينه وبين قوله صلى الله عليه وسلم: الإيمان في أهل الحجاز ثم المراد بذلك الموجودون منهم حينئذ لا كل أهل اليمن في كل زمان فإن اللفظ لا يقتضيه. هذا هو الحق في ذلك "والكفر من قبل المشرق" وفي رواية للشيخين رأس الكفر قبل المشرق، وهو بكسر القاف وفتح الموحدة أي من جهته، وفي ذلك إشارة إلى شدة كفر المجوس لأن مملكة الفرس ومن أطاعهم من العرب كانت من جهة المشرق بالنسبة إلى المدينة وكانوا في غاية القوة والتجبر حتى مزق ملكهم كتاب النبي صلى الله عليه وسلم واستمرت الفتن من قبل المشرق "والسكينة لأهل الغنم" السكينة تطلق على الطمأنينة والسكون والوقار والتواضع وإنما خص أهل الغنم بذلك لأنهم غالباً دون أهل الإبل في التوسع والكثرة، وهما من سبب الفخر والخيلاء وقيل أراد بأهل الغنم أهل اليمن لأن غالب مواشيهم الغنم بخلاف ربيعة ومضر فإنهم أصحاب إبل. وروى ابن ماجة من حديث أم هانئ أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لها أتخذي الغنم فإن فيها بركة "والفخر" هو الافتخار وعد المآثر القديمة تعظيماً "في الفدادين" قال النووي الصواب في الفدادين بتشديد الدال جمع فداد بدالين أولاهما مشددة وهذا قول أهل الحديث والأصمعي وجمهور(6/512)
إِذَا جَاءَ دُبُرَ أُحُدٍ صَرَفَتْ المَلاَئِكَةُ وَجْهَهُ قِبَلَ الشّامِ وَهُنَالِكَ يَهْلَكُ" .
هذا حديثٌ صحيحٌ.
ـــــــ
أهل اللغة وهو من الفديد وهو الصوت الشديد، فهم الذين تعلو أصواتهم في إبلهم وخيلهم وحروثهم ونحو ذلك انتهى "أهل الخيل وأهل الوبر" بالجر بدل أو بيان والوبر بفتح الواو الموحدة شعر الإبل، أي ليسوا من أهل المدر، لأن العرب تعبر عن أهل الحضر بأهل المدد، وعن أهل البادية بأهل الوبر لأن بيوتهم غالباً خيام من الشعر "يأتي المسيح" أي الدجال وإنما سمي به لأن عينه الواحدة ممسوحة "دبر أحد" بضم الدال الموحدة، أي خلف أحد وهو بضمتين، جبل معروف بينه وبين المدنية أقل من فرسخ "قبل الشام" أي نحوه.
قوله: وأخرجه الشيخان(6/513)
52 ـ باب ما جَاءَ في قَتْلِ عِيسَى ابنِ مَرْيَمَ الدّجّال
2345 ـ حَدّثنا قُتَيْبَةُ، حدثنا الّليْثُ عن ابنِ شِهَابٍ، أَنّهُ سَمِعَ عُبَيْدَ الله بنَ عبدِ الله بنِ ثَعْلَبَةَ الأنْصَارِيّ يُحَدّثُ عن عبدِ الرحمَنِ بنِ يَزِيدَ الأنْصَارِيّ مِنْ بَنِي عَمْرِو بنِ عَوْفٍ قال: سَمِعْتُ عَمّي مُجَمّعَ بنَ جَارِيَةَ الأنْصَارِيّ يقولُ: سَمِعْتُ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم يقولُ: "يَقْتُلُ ابنُ
ـــــــ
"باب ما جاء في قتل عيسى بن مريم الدجال"
قوله: "أنه سمع عبيد الله بن عبد الله بن ثعلبة الأنصاري" المدني وقيل عبد الله ابن عبيد الله شيخ الزهري لا يعرف واختلف في إسناد حديثه من الثالثة "عن عبد الرحمن بن يزيد الأنصاري" المدني هو أخو عاصم بن عمر لأمه يقال ولد في حياة النبي صلى الله عليه وسلم وذكره ابن حبان في ثقات التابعين "مجمع" بضم الميم وفتح الجيم وتشديد الميم المكسورة بدل من عمي "بن جارية" بالجيم ابن عامر الأنصاري الأوسي المدني صحابي مات في خلافة معاوية.(6/513)
مَرْيَمَ الدّجّالَ بِبَابِ لُدّ ". قال: وفي البابِ عن عِمْرَانَ بنِ حُصَيْنٍ وَنَافِعِ بنِ عُتْبَةَ وأبي بَرْزَةَ وَحُذَيْفَةَ بنِ أبي أَسِيدٍ وأبي هُرَيْرَةَ وَكَيْسَانَ وَعُثْمانَ بنِ أبي الْعَاصِ وَجَابِرٍ وأبي أُمَامَةَ وَابنِ مَسْعُودٍ وعبدِ الله بنِ عَمْرٍو وَسَمُرَةَ بنِ جُنْدَبٍ وَالنوّاسِ بنِ سَمْعَانَ وَعَمْرِو بنِ عَوْفٍ وَحُذَيْفَةَ بنِ الْيَمانِ.
هذا حديثٌ صحيحٌ.
ـــــــ
قوله: "بباب لد" تقدم ضبطه ومعناه في باب فتنة "الدجال".
قوله: "وفي الباب عن عمران بن حصين ونافع بن عتبة الخ" أما أحاديث عمران بن حصين ونافع بن عتبة وأبي برزة وعثمان بن أبي العاص وجابر وسمرة بن جندب وحذيفة بن اليمان فأخرجها أحمد في مسنده. وأما حديث حذيفة بن أسيد فأخرجه الحاكم. وأما حديث أبي هريرة فأخرجه أبو داود. وأما حديث أبي أمامة فأخرجه أبو داود وابن ماجة. وأما حديث ابن مسعود فأخرجه أحمد وابن ماجة والحاكم وصححه كذا في الفتح. وأما حديث عبد الله بن عمرو فأخرجه مسلم. وأما حديث النواس بن سمعان فأخرجه الترمذي في باب فتنة الدجال. وأما حديث كيسان وحديث عمرو بن عوف فلينظر من أخرجهما.
قوله: "هذا حديث صحيح" وأخرجه أحمد في مسنده والطبراني في الكبير(6/514)
53 ـ باب
2346 ـ حدّثنا محمّدُ بنُ بَشّارٍ، حدثنا مُحمّدُ بنُ جَعْفَرٍ، حدثنا شُعْبَةُ عن قَتَادَةَ قال: سَمِعْتُ أَنَساً قال: قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: "مَا مِنْ نَبِيّ إِلاّ وَقَدْ أَنْذَرَ أُمّتَهُ الأَعْوَرَ الْكَذّابَ. أَلاَ إِنّهُ أَعْوَرُ، وَإِنّ رَبّكُمْ لَيْسَ بِأَعْوَرَ. مَكْتُوبٌ بَيْنَ عَيْنِيْهِ كافر" .
ـــــــ
"باب"
قوله: "ألا إنه أعور وإن ربكم ليس بأعور" قال النووي: هو بيان علامة(6/514)
هذا حديثٌ صحيحٌ.
ـــــــ
تدل على كذب الدجال دلالة قطعية بديهية يدركها كل أحد، ولم يقتصر على كونه جسماً أو غير ذلك من الدلائل القطعية لكون بعض العوام لا يهتدي إليها.
قوله: "هذا حديث صحيح" وأخرجه الشيخان(6/515)
باب ما جاء فى ذكر ابن الصياد
...
54 ـ باب ما جاءَ في ذِكْرِ ابْنِ صياد
2347 ـ حَدّثنا سُفْيَانُ بنُ وَكِيعٍ، حدثنا عبدُ الأعْلَى عن الْجُرَيْرِيّ
ـــــــ
"باب ما جاءَ في ذِكْرِ ابْنِ صياد"
قال النووي في شرح مسلم: يقال له ابن صياد وابن صائد وسُمي بها في الأحاديث وإسمه صاف. قال العلماء وقصته مشكلة وأمره مشتبه في أنه هل هو المسيح الدجال المشهور أم غيره، ولا شك في أنه دجال من الدجاجلة.
قال: العلماء وظاهر الأحاديث أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يوح إليه بأنه المسيح الدجال ولا غيره، وإنما أوحى إليه بصفات الدجال، وكان في ابن صياد قرائن محتملة، فلذلك كان النبي صلى الله عليه وسلم لا يقطع بأنه الدجال ولا غيره ولهذا قال لعمر رضي الله تعالى عنه إن يكن هو فلن تستطيع قتله. وأما احتجاجه بأنه هو مسلم والدجال كافر، وبأنه لا يولد للدجال وقد ولد له بنون، وأنه لا يدخل مكة والمدينة، وأن ابن صياد دخل المدينة وهو متوجه إلى مكة فلا دلالة له فيه لأن النبي صلى الله عليه وسلم إنما أخبر عن صفاته وقت فتنته وخروجه في الأرض. ومن اشتباه قصته وكونه أحد الدجاجلة الكذابين قوله للنبي صلى الله عليه وسلم: أتشهد أني رسول الله ودعواه أنه يأتيه صادق وكاذب، وأنه يرى عرشاً فوق الماء وأنه لا يكره أن يكون هو الدجال، وأنه يعرف موضعه. وقوله إني لأعرفه وأعرف مولده وأين هو الاَن، وانتفاخه حتى ملأ السكة، وأما إظهاره الإسلام وحجه وجهاده وإقلاعه عما كان عليه فليس بصريح في أنه غير الدجال.
قال الخطابي: واختلف السلف في أمره بعد كبره فروى عنه أنه تاب من ذلك القول ومات بالمدينة، وأنهم لما أرادوا الصلاة عليه كشفوا عن وجهه حتى رآه الناس، وقيل لهم اشهدوا. قال وكان ابن عمر وجابر فيما روى عنهما يحلفان أن(6/515)
عن أبي نَضرَةَ عن أبي سَعِيدٍ قال: صَحِبَنِي ابنُ صَائِدٍ إِمّا حُجّاجاً وَإِمّا مُعْتَمِرِينَ
ـــــــ
ابن صياد هو الدجال لا يشكان فيه، فقيل لجابر: إنه أسلم فقال وإن أسلم، فقيل: إنه دخل مكة وكان في المدينة. فقال: وإن دخل. وروى أبو داود في سننه بإسناد صحيح عن جابر قال: فقدنا ابن صياد يوم الحرة، وهذا يبطل رواية من روى أنه مات بالمدينة وصلي عليه. وقد روى مسلم في هذه الأحاديث أن جابر بن عبد الله حلف بالله تعالى أن ابن صياد هو الدجال وأنه سمع عمر رضي الله عنه يحلف على ذلك عند النبي صلى الله عليه وسلم فلم ينكره النبي صلى الله عليه وسلمن. وروى أبو داود بإسناد صحيح عن ابن عمر أنه كان يقول: والله ما أشك في أن ابن صياد هو المسيح الدجال. قال البيهقي في كتابه البعث والنشور: اختلف الناس في أمر ابن صياد اختلافاً كثيراً هل هو الدجال؟ قال ومن ذهب إلى أنه غيره احتج بحديث تميم الداري في قصة الجساسة الذي ذكره مسلم بعد هذا قال: ويجوز أن توافق صفة ابن صياد صفة الدجال كما ثبت في الصحيح أن أشبه الناس بالدجال عبد العزى بن قطن وليس هو هو. قال وكان أمر ابن صياد فتنة ابتلى الله تعالى بها عباده فعصم الله تعالى منها المسلمين ووقاهم شرها. قال وليس في حديث جابر أكثر من سكوت النبي صلى الله عليه وسلم وقول عمر، فيحتمل أنه صلى الله عليه وسلم كان كالمتوقف في أمره ثم جاءه البيان أنه غيره كما صرح به في حديث تميم: هذا كلام البيهقي، واختار أنه غيره. وقدمنا أنه صح عن عمرو عن ابن عمر وجابر رضي الله عنهم أنه الدجال والله أعلم.
فإن قيل كيف لم يقتله النبي صلى الله عليه وسلم مع أنه ادعى بحضرته النبوة؟ فالجواب من وجهين ذكرهما البيهقي وغيره: أحدهما: أنه كان غير بالغ واختار القاضي عياض هذا الجواب. والثاني: أنه كان في أيام مهادنة اليهود وحلفائهم، وجزم الخطابي في معالم السنن بهذا الجواب الثاني قال: لأن النبي صلى الله عليه وسلم بعد قدومه المدينة كتب بينه وبين اليهود كتاب صلح على أن لا يهاجوا ويتركوا على أمرهم، وكان ابن صياد منهم أو دخيلاً فيهم
قوله: "حدثنا سفيان بن وكيع" هو أبو محمد الرواسي "أخبرنا عبد الأعلى" هو ابن عبد الأعلى البصري الشامي "عن الجريري" هو سعيد بن إياس "عن أبي نضرة" هو العبدي.(6/516)
فَانْطَلَقَ النّاسُ وَتُرِكْتُ أَنَا وَهُوَ، فَلَمّا خَلَصْتُ بِهِ اقْشَعْرَرْتُ مِنْهُ وَاسْتَوْحَشْتُ مِنْهُ مِمّا يَقُولُ النّاسُ فِيهِ، فَلَمّا نَزَلْتُ قُلْتُ لَهُ: ضَعْ مَتَاعَكَ حَيْثُ تِلْكَ الشّجَرَة. قال: فأَبْصَرَ غَنَماً فأَخَذَ الْقَدَحَ فَانْطَلَقَ فَاسْتَحْلَبَ ثُمّ أَتَانِي بِلَبَنٍ فقال لي: يَا أَبَا سَعِيدٍ اشْرَبْ، فَكَرِهْتُ أَنْ أَشْرَبَ من يَدِهِ شَيْئاً لِمَا يَقُولُ النّاسُ فِيهِ، فَقُلْتُ لَهُ: هَذَا الْيَوْمُ يَوْمٌ صَائِفٌ وَإِنّي أَكْرَهُ فِيهِ الّلبَنَ، فقال لي: يا أبا سَعِيدٍ لَقَدْ هَمَمْتُ أَنْ آخُذَ حَبْلاً فَأُوثِقَهُ إِلَى شّجَرَةِ ثُمّ أَخْتَنِقُ لِمَا يَقُولُ النّاسُ لِي وَفِيّ، أَرَأَيْتَ مَنْ خَفِيَ عَلَيْهِ حَدِيثِي فَلَنْ يَخْفَى عَلَيْكُمْ، أَلَسْتُمْ أَعْلَمَ النّاسِ بِحَدِيثِ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم: يا مَعْشَرَ الأنْصَارِ، أَلَمْ يَقُلْ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم "إِنّهُ كافِرٌ وَأنا مُسْلِمٌ"، ألَمْ يَقُلْ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم إِنّهُ عَقِيمٌ لاَ يُولَدُ لَهُ وَقَدْ خَلّفْتُ وَلَدِي بالمَدِينَةِ، أَلَمْ يَقُلْ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم لا يدُل أو لاَ تَحِلّ لَهُ مَكّةُ، والدنيا أَلَسْتُ مِنْ أَهْلِ المَدِينَةِ، وَهُوذَا أَنْطَلِقُ مَعَكَ الَى مَكّةَ، قال: فَوَالله مَا زَالَ يَجِيءُ بهَذَا حَتّى قُلْتُ فَلَعَلّهُ مَكْذُوبٌ عَلَيْهِ، ثُمّ قال: يا أبا سَعِيدٍ وَالله لأُخْبِرَنّكَ خَبَراً حَقّا وَالله إنيّ لأَعْرِفُهُ وَأَعْرِفُ وَالِدَهُ وَأَيْنَ هُوَ السّاعَةَ مِنَ الأَرْضِ،
ـــــــ
قوله: "إما حجاجاً وإما معتمرين" حال من فاعل صحب ومفعوله "وتركت" بصيغة المجهول "فلما خلصت به" أي انفردت به "اقشعررت منه" قال في القاموس اقشعر جلده أخذته قشعريرة أي رعدة "حيث تلك الشجرة" أي عندها "هذا اليوم يوم صائف" أي حار "ثم اختنق" أي أعصر حلقي بذلك الحبل وأموت "وهو" ضمير الشأن "ذا" أي ابن صياد وفيه التفات من التكلم إلى الغيبة "فلعله مكذوب عليه" أي ظننت أن ما يقوله الناس في حقه من أنه دجال هو كذب عليه "والله إني لأعرفه وأعرف والده وأين هو الساعة من الأرض" زاد(6/517)
فَقلت: تَبّاً لَكَ سَائِرَ الْيَوْمِ. هذا حديثٌ حسنٌ.
2348ـ حدّثنا عَبْدُ بنِ حُمَيْدٍ، أخبرنا عبدُ الرّزّاقِ، أخبرنا مَعْمَرٌ عن الزّهْرِيّ عن سَالِمٍ عن ابنِ عُمَرَ: "أَنّ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم مَرّ بابنِ صَيّادٍ في نَفَرٍ مِنْ أَصْحَابِهِ فِيْهُمْ عُمَرُ بنُ الْخَطّابِ وَهُوَ يَلْعَبُ مَعَ الْغِلْمَانِ عِنْدَ أُطُمِ بَنِي مَغَالَةَ وَهُو غُلاَمٌ، فَلَمْ يَشْعُرْ حَتّى ضَرَبَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم ظَهْرَهُ بَيَدِهِ ثُمّ قال: أَتَشْهَدُ أَنّي رسولُ الله؟ فَنَظَرَ إِلَيْهِ ابنُ صَيّادٍ قال: أَشْهَدُ أَنّكَ رَسُولُ الأُميّيّنَ. قال: ثُمّ قال ابنُ صَيّادٍ للنبيّ
ـــــــ
مسلم قال فلبسني قال النووي بالتخفيف: أي جعلني ألتبس في أمره وأشك فيه قال القاري يعني حيث قال: أولاً أنا مسلم ثم أدعى الغيب بقوله أني لأعلم، ومن ادعى علم الغيب فقد كفر فالتبس على إسلامه وكفره "فقلت تباً لك" بتشديد الموحدة أي هلاكاً وخسراناً "سائر اليوم" أي جميع اليوم أو باقية أي ما تقدم من اليوم قد خسرت فيه فكذا في باقية.
قوله: "هذا حديث حسن" وأخرجه مسلم.
قوله: "عند أطم" بضمتين القصر وكل حصن مبني بحجارة وكل بيت مربع مسطح الجمع ـ أطام وأطوم "بني مغالة" قال النووي في شرح مسلم: هكذا هو في بعض النسخ بني مغالة وفي بعضها ابن مغالة، والأول هو المشهور والمغالة بفتح الميم وتخفيف الغين المعجمة، وذكر مسلم في روايته الحسن الحلواني التي بعد هذه أنه أطم بني معاوية بضم الميم وبالعين المهملة. قال العلماء: المشهور المعروف هو الأول. قال القاضي: وبنو مغالة كل ما كان على يمينك إذا وقفت آخر البلاط مستقبل مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم "وهو غلام" وفي رواية مسلم: وقد قارب ابن صياد يومئذ الحلم "فلم يشعر" بضم العين "ظهره" أي ظهر ابن صياد "ثم قال" أي النبي صلى الله عليه وسلم "قال أشهد أنك رسول الأميين" قال القاضي يريد بهم العرب لأن أكثرهم كانوا لا يكتبون ولا يقرأون. وما ذكره وإن كان حقاً من قبل المنطوق لكنه يشعر بباطل من حيث المفهوم، وهو أنه مخصوص بالعرب(6/518)
صلى الله عليه وسلم: أَتَشْهَدُ أَني رسولُ الله؟ فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم: آمَنْتُ بِالله وَبرُسُلِهِ، ثم قال النبيّ صلى الله عليه وسلم: مَا يأْتِيكَ؟ قال ابنُ صَيّادٍ: يَأْتِينِي صَادِقٌ وكَاذِبٌ. فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم: خُلّطَ عَلَيْكَ الأمْرُ، ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إِني قَدْ خَبَأْتُ لَكَ خَبِيئاً وَخَبَأَ لَهُ" {يَوْمَ تَأْتِي السّماءُ بِدُخَانِ مُبِينٍ}. فقال ابنُ صَيّادٍ: هُوَ الدّخّ.
ـــــــ
غير مبعوث إلى العجم كما زعمه بعض اليهود، وهو إن قصد به ذلك فهو من جملة ما يلقي إليه الكاذب الذي يأتيه وهو شيطانه انتهى. وفي حديث عبد الله بن مسعود عند مسلم فقال: لا، بل تشهد أني رسول الله "فقال النبي صلى الله عليه وسلم آمنت بالله ورسوله" قال الطيبي الكلام خارج على إرخاء العنان أي آمنت بالله ورسله فتفكر هل أنت منهم انتهى. قال القاري: وفيه إبهام تجويز التردد في كونه من الرسل أم لا ولا يخفى فساده. فالصواب أنه عمل بالمفهوم كما فعله الدجال. فالمعنى أني آمنت برسله وأنت لست منهم فلو كنت منهم لاَمنت بك. وهذا أيضاً على الفرض والتقدير أو قبل أن يعلم أنه خاتم النبيين وإلا فبعد العلم بالخاتمة فلا يجوز أيضاً الفرض والتقدير به انتهى. "يأتيني صادق" أي خبر صادق تارة "وكاذب" أي أخرى. وقيل حاصل السؤال أن الذي يأتيك ما يقول لك، ومجمل الجواب أنه يحدثني بشيء قد يكون صادقاً وقد يكون كاذباً "فقال النبي صلى الله عليه وسلم خلط" بصيغة المجهول من التخليط. قال النووي: أي ما يأتيك به شيطانك مخلط. قال الخطابي: معناه أنه كان له تارات يصيب في بعضها ويخطئ في بعضها فلذلك التبس عليه الأمر "وإني قد خبأت" أي أضمرت في نفسي "خبيئاً" أي اسماً مضمراً لتخبرني به "وهو الدخ" قال النووي هو بضم الدال وتشديد الخاء، وهي لغة في الدخان وحكى صاحب نهاية الغريب فيه فتح الدال وضمها والمشهور في كتب اللغة والحديث ضمها فقط. والجمهور على أن المراد بالدخ هنا الدخان وأنها لغة فيه وخالفهم الخطابي فقال: لا معنى للدخان هنا لأنه ليس مما يخبأ في كف أو كم كما قال بل الدخ بيت موجود بين النخيل والبساتين، قال: إلا أن يكون معنى خبأت أضمرت لك اسم الدخان فيجوز الصحيح المشهور أنه صلى الله عليه وسلم أضمر له(6/519)
فقال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: اخْسَأْ فَلَنْ تَعْدُوَ قَدْرَكَ. قال عُمَرُ: يا رسولَ الله، ائْذَنْ لِي فَأَضْرِبُ عُنُقَهُ. فقال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: "إِنْ يَكُنه حَقاً فَلَنْ تُسَلّطْ عَلَيْهِ، وَإِنْ لاَ يَكُ فَلاَ خَيْرَ لَكَ في قَتْلِهِ" .
قال عبدُ الرّزّاقِ: يَعْنِي الدّجّالَ.
2349 ـ حدّثنا سُفْيَانُ بنُ وَكِيعٍ، حدثنا عبدُ الأَعْلَى عن الْجُرَيْرِي عن أبي نَضْرَةَ عن أبي سَعِيدٍ قال: "لَقِيَ رَسولُ الله صلى الله عليه وسلم
ـــــــ
آية الدخان وهي قوله تعالى {فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّمَاءُ بِدُخَانٍ مُبِينٍ} قال القاضي قال الداودي وقيل: كانت سورة الدخان مكتوبة في يده صلى الله عليه وسلم. وقيل كتب الاَية في يده. قال القاضي: وأصح الأقوال أنه لم يهتد من الاَية التي أضمرها النبي صلى الله عليه وسلم إلا لهذا اللفظ الناقص على عادة الكهان إذا ألقى الشيطان إليهم بقدر ما يخطف قبل أن يدركه الشهاب انتهى. قال صاحب اللمعات: هذا إما لكونه صلى الله عليه وسلم تكلم في نفسه أو كلم بعض أصحابه فسمعه الشيطان فألقاه إليه انتهى "اخسأ" بفتح السين وسكون الهمزة كلمة زجر واستهانة من الخسؤ وهو زجر الكلب أي امكث صاغراً أو ابعد حقيراً أو اسكت مزجوراً "فلن تعدو" بضم الدال أي فلن تجاوز "قدرك" أي القدر الذي يدركه الكهان من الاهتداء إلى بعض الشيء ومالا يبين منه حقيقته، ولا يصل به إلى بيان وتحقيق أمور الغيب ذكره النووي. وقال الطيبي: أي لا تتجاوز عن إظهار الخبيات على هذا الوجه كما هو دأب الكهنة إلى دعوى النبوة فتقول أتشهد أني رسول الله "إن يك حقاً" أي إن يك ابن صياد دجالاً "فلن تسلط عليه" وفي حديث عبد الله بن مسعود عند مسلم: دعه فإن يكن الذي تخاف لن تستطيع قتله "فلا خير لك في قتله" أي إما لكونه صغيراً أو ذمياً. وفي حديث في شرح السنة: إن يكن هو فلست صاحبه، إنما صاحبه عيسى ومريم. وإلا يكن هو فليس لك أن تقتل رجلاً من أهل العهد. وحديث ابن عمر هذا أخرجه أيضاً الشيخان وأبو داود.(6/520)
ابنَ صَيَّاد بَعْضِ طُرُقِ المَدِينَةِ فَاحْتَبَسَهُ وَهُوَ غُلاَمٌ يَهُودِيّ وَلَهُ ذُؤَابَةٌ وَمَعَهُ أبو بَكْرٍ وَعُمَرُ، فقال له رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: أَتَشْهَدُ أَنّي رسولُ الله؟" فقال: أَتَشْهَدُ أَنْتَ أَنّي رسولُ الله؟ فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم: آمَنْتُ بِالله وملائكته وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الاَخِرِ. فقال له النبيّ صلى الله عليه وسلم: "مَا تَرَى؟" قال: أَرَى عَرْشاً فَوْقَ الْمَاءِ. فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم: يَرَى عَرْشَ إِبْلِيس فَوْقَ الْبَحْرِ. قال: فَمَا تَرَى؟ قال: أَرَى صَادِقاً وكَاذِبَيْنِ أَوْ صَادِقَيْنِ وكَاذِباً. قال النبيّ صلى الله عليه وسلم: لُبّسَ عَلَيْهِ فَدَعَاهُ.
قال: وفي البابِ عن عُمَرَ وَحُسَيْنِ بنِ عَلِيّ وابنِ عُمَرَ وأبي ذَرّش وابنِ مَسْعُودٍ وجابرٍ وحَفْصَةَ.
هذا حديثٌ حسنٌ.
ـــــــ
قوله: "وله ذؤابة" بالضم الناصية أو منبتها من الرأس كذا في القاموس. وقال في النهاية: الذؤابة الشعر المضفور من شعر الرأس "قال أرى عرشاً" أي سريراً "قال أرى صادقاً وكاذبين أو صادقين وكاذباً" هذا الشك من ابن صياد في عدد الصادق والكاذب يدل على افترائه إذ المؤيد من عند الله لا يكون كذلك "لبس" بصيغة المجهول من اللبس أو التلبيس أي خلط عليه أمره "فدعاه" بصيغة الأمر للتثنية من ودع يدع أي اتركاه. وفي رواية مسلم دعوه.
قوله: "وفي الباب عن عمر وحسين بن علي الخ" أما حديث ابن عمر فأخرجه الترمذي في هذا الباب وقد مر، وله حديث آخر عند مسلم. وأما حديث أبي ذر فأخرجه أحمد. وأما حديث ابن مسعود وحديث جابر فأخرجهما مسلم. وأما حديث حفصة فأخرجه أحمد. وأما حديث عمر وحديث حسين بن علي فلينظر من أخرجهما.
قوله: "هذا حديث حسن" وأخرجه مسلم.(6/521)
2350 ـ حدّثنا عبدُ الله بنُ مُعَاوِيَةَ الْجُمَحِيّ، حدثنا حَمّادُ بنِ سَلَمَةَ عن عَلِيّ بنِ زَيْدٍ عن عبدِ الرحمَنِ بنِ أبي بَكْرَةَ عن أَبِيهِ قال: قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: "يَمْكُثُ أَبُو الدّجّالِ وَأُمّهُ ثَلاَثِينَ عَاماً لاَ يُولَدُ لَهُمَا وَلَدٌ ثُمّ يُولَدُ لَهُمَا غُلاَمٌ أَعْوَرُ أَضَرّ شَيءٍ وَأَقَلّهُ مَنْفَعةً، تَنَامُ عَيْنَاهُ وَلاَ يَنَامُ قَلْبُهُ. ثُمّ نَعَتَ لَنَا رسولُ الله صلى الله عليه وسلم أَبَوَيْهِ فقال: أَبُوهُ طُوَالٌ ضَرْبُ اللحمِ كأنّ أَنْفَهُ مِنْقَارٌ، وَأُمّهُ امْرَأَةٌ فرْضَاخيّةٌ طَوِيلَةُ اليدين. فقال أبو بَكْرَةَ: فَسَمِعْنا بِمَوْلُودٍ في الْيَهُودِ بِالمَدِينَةِ، فَذَهَبْتُ أَنَا وَالزّبَيْرُ بنُ الْعَوّامِ حَتّى دَخَلْنَا عَلَى أَبَوَيْهِ فإِذَا نَعْتُ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم فِيهِمَا. فقُلْنَا: هَلْ لَكُمَا وَلَدٌ؟ فَقَالاَ: مَكَثْنَا ثَلاَثِينَ عَاماً لاَ يُولَدُ لَنَا وَلَدٌ ثُمّ وُلِدَ لَنَا غُلاَمٌ أَعْوَرُ أَضَرّ شَيْءٍ وَأَقَلّهُ مَنْفَعَةً، تَنَامُ عَيْنَاهُ وَلاَ يَنَامُ
ـــــــ
قوله: "وأقله منفعة" أي أقل شيء منفعة "تنام عيناه ولا ينام قلبه" قال القاضي: أي لا تقطع أفكاره الفاسدة عنه عند النوم لكثرة وساوسه وتخيلاته وتواتر ما يلقي الشيطان إليه، كما لم يكن ينام قلب النبي صلى الله عليه وسلم من أفكاره الصالحة بسبب ما تواتر عليه من الوحي والإلهام "فقال" أي النبي صلى الله عليه وسلم "أبوه طوال" بضم الطاء وتخفيف الواو مبالغة طويل، والمشدد أكثر مبالغة لكن الأول هو الرواية "ضرب اللحم" قال في النهاية هو الخفيف اللحم المستدق وفي صفة موسى عليه الصلاة والسلام أنه ضرب من الرجال "كأن" بتشديد النون "أنفه منقار" بكسر الميم أي في أنفه طول بحيث يشبه منقار طائر "وأمه امرأة فرضاخية" بكسر الفاء وتشديد التحتية أي ضخمة عظيمة، ذكره القاضي. وفي الفائق: هي صفة بالضخم وقيل بالطول والياء مزيدة فيه للمبالغة كأحمري. وفي القاموس: رجل فرضاخ ضخم عريض أو طويل وهي بهاء أو امرأة فرضاخة أو فرضاخية عظيمة الثديين. وفي النهاية فرضاخية ضخمة عظيمة الثديين "فإذا نعت(6/522)
قَلْبُهُ. قال: فَخَرَجْنَا مِنْ عِنْدِهِمَا فإِذَا هُوَ مُنْجَدِلٌ في الشّمْسِ في قَطِيفَةٍ له وَلَهُ هَمْهَمَةٌ فَكَشَفَ عَنْ رَأَسَهُ، فقال: مَا قُلْتُمَا؟ قُلْنَا: وهَلْ سَمِعْتَ مَا قُلْنَا؟ قال: نَعَمْ. تَنَامُ عَيْنَايَ وَلاَ تَنَامُ قَلْبِي ".
هذا حديثٌ حسنٌ غريبٌ لا نعرفُه إلا من حديثِ حَمّادِ بنِ سَلَمَةَ.
ـــــــ
رسول الله صلى الله عليه وسلم فيهما" أي وصفه موجود فيهما "فإذا هو" أي الغلام "منجدل بكسر الدال. قال الطيبي: أي ملقى على الجدالة وهي الأرض. ومنه الحديث: أنا خاتم الأنبياء في أم الكتاب وآدم لمنجدل في طينته "في قطيفة"" أي دثار مخمل على ما في القاموس "وله همهمة" أي زمزمة. وقيل: أي كلام غير مفهوم منه شيء وهي في الأصل ترديد الصوت في الصدر انتهى. وفي النهاية: وأصل الهمهمة صوت البقر "فكشف" أي ابن صياد "عن رأسه" أي غطاءه "فقال ما قلتما" فكأنه وقع كلام بينهما فيه أو في غيره.
قوله: "هذا حديث حسن غريب" وأخرجه أحمد في سنده على بن زيد ابن جدعان وهو ضعيف عند غير الترمذي(6/523)
55-باب
2351 ـ حَدّثنا هَنّادٌ، حدثنا أبو مُعَاوِيةَ عن الأعْمَشِ عن أبي سُفْيَانَ عن جَابِرٍ قال: قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: "مَا عَلَى الأَرْضِ نَفْسٌ مَنْفُوسَةٌ، يَعْنِي الْيَوْمَ تَأْتِي عَلَيْهَا مِائَةُ سَنَةٍ" .
ـــــــ
"بَاب"
قوله: "ما على الأرض نفس منفوسة" أي مولودة "يأتي عليها مائة سنة" قال النووي: المراد أن كل نفس منفوسة كانت تلك الليلة على الأرض لا يعيش بعدها أكثر من مائة سنة سواء قل عمره قبل ذلك أم لا، وليس فيه نفي عيش أحد يوجد بعد تلك الليلة فوق مائة سنة، ومعنى نفس منفوسة أي مولودة وفيه احتراز(6/523)
ـــــــ
من الملائكة. قال الحافظ في الفتح في باب السمر في الفقه والخير بعد العشاء: قال النووي وغيره: احتج البخاري ومن قال بقوله بهذا الحديث على موت الخضر والجمهور على خلافه، وأجابوا عنه بأن الخضر كان حينئذ من ساكني البحر فلم يدخل في الحديث. قالوا ومعنى الحديث لا يبقى ممن ترونه أو تعرفونه فهو عام أريد به الخصوص وقيل احترز بالأرض عن الملائكة، وقالوا خرج عيسى من ذلك وهو حي لأنه في السماء لا في الأرض وخرج إبليس لأنه على الماء أو في الهواء. وأبعد من قال إن اللام في الأرض عهدية والمراد أرض المدينة، والحق وأنها للعموم تتناول جميع بني آدم. وأما من قال المراد أمة محمد سواء أمة الإجابة وأمة الدعوة وخرج عيسى والخضر لأنهما ليسا من أمته فهو قول ضعيف لأن عيسى يحكم بشريعته فيكون من أمته. والقول في الخضر إن كان حياً كالقول في عيسى، وقال في باب حديث الخضر مع موسى عليهما السلام: والذي جزم بأنه غير موجود الاَن البخاري وإبراهيم الحربي وأبو جعفر بن المنادي وأبو يعلى بن الفراء وأبو طاهر العبادي وأبو بكر بن العربي وطائفة.
وعمدتهم الحديث المشهور عن ابن عمر وجابر وغيرهما: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في آخر حياته: لا يبقى على وجه الأرض بعد مائة سنة ممن هو عليها اليوم أحد. قال ابن عمر أراد بذلك انخرام قرنه.
ومن حجج من أنكر ذلك قوله تعالى: {وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْدَ} .
وحديث ابن عباس: ما بعث الله نبياً إلا أخذ عليه الميثاق لئن بعث محمد وهو حي ليؤمنن به ولينصرنه، أخرجه البخاري. ولم يأت في خبر صحيح أنه جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم ولا قاتل معه، وقد قال صلى الله عليه وسلم يوم بدر: اللهم إن تهلك هذه العصابة لا تعبد في الأرض . فلو كان الخضر موجوداً لم يصح هذا النفي.
وقال صلى الله عليه وسلم: رحم الله موسى لوددنا لو كان صبر حتى يقص علينا من خبرهما . فلو كان الخضر موجوداً لما حسن التمني ولأحضره بين يديه وأراه العجائب. وكان ادعى لإيمان الكفرة لا سيما أهل الكتاب.
وجاء في اجتماعه مع النبي صلى الله عليه وسلم حديث ضعيف أخرجه ابن عدي(6/524)
قال: وفي البابِ عن ابن عُمَرَ وأبي سَعِيدٍ وبُرَيْدَةَ.
هذا حديثٌ حسنٌ.
2352ـ حدّثنا عَبْدُ بنُ حُميْدٍ، أخبرنا عبدُ الرّزّاقِ، أخبرنا مَعْمَرٌ عن الزّهْرِيّ عن سَالِمِ بنِ عبدِ الله وأبي بَكْرِ بنِ سُلَيْمانَ ـ وهو ابنُ أبي حَثْمَةَ ـ أَنّ عبدَ الله بنَ عُمَرَ قال: "صَلّى بِنَا رسولُ الله صلى الله عليه وسلم
ـــــــ
من طريق كثير بن عبد الله بن عمرو بن عوف عن أبيه عن جده: أن النبي صلى الله عليه وسلم سمع وهو في المسجد كلاماً فقال: يا أنس اذهب إلى هذا القائل فقل له يستغفر لي فذهب إليه فقال قل له إن الله فضلك على الأنبياء بما فضل به رمضان على الشهور . قال فذهبوا ينظرون فإذا هو الخضر إسناده ضعيف. ثم ذكر الحافظ أحاديث وآثار مع الكلام على كل أحد منها ثم قال: وروى يعقوب بن سفيان في تاريخه وأبو عروبة من طريق رياح بالتحتانية ابن عبيدة قال: رأيت رجلاً يماشي عمر بن عبد العزيز معتمداً على يديه، فلما انصرف قلت له من الرجل؟ قال رأيته؟ قلت نعم. قال: أحسبك رجلاً صالحاً ذاك أخي الخضر بشرني أني سأولى وأعدل. لا بأس برجاله. ولم يقع لي إلى الاَن خبر ولا أثر بسند جيد غيره. وهذا لا يعارض الحديث الأول في مائة سنة فإن ذلك كان قبل المائة، انتهى كلام الحافظ.
قلت: القول الراجح عندي هو ما جزم به البخاري وغيره ولم أر حديثاً مرفوعاً صحيحاً يدل على أن الخضر موجود الاَن والله تعالى أعلم.
قوله: "وفي الباب عن ابن عمر وأبي سعيد وبريدة" أما حديث ابن عمر فأخرجه الترمذي بعد هذا. وأما حديث أبي سعيد فأخرجه مسلم عنه قال: لما رجع النبي صلى الله عليه وسلم من تبوك سألوه عن الساعة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا تأتي مائة سنة وعلى الأرض نفس منفوسة اليوم . وأما حديث بريدة فلينظر من أخرجه.
قوله: "هذا حديث حسن" وأخرجه مسلم.
قوله: "وأبي بكر بن سليمان" قال في التقريب: أبو بكر بن سليمان بن أبي(6/525)
ذَاتَ لَيْلَةٍ صَلاَةَ الْعِشَاءِ في آخِرِ حَيَاتِهِ، فَلَمّا سَلّمَ قَامَ فَقَالَ: أَرَأَيْتَكُمْ لَيْلَتَكُمْ هِذِهِ عَلَى رَأْسِ مِائَةِ سَنَةٍ مِنْهَا لا يَبْقَى مِمّنْ هُوَ الْيَوْمَ عَلَى ظَهْرِ الأَرْضِ أَحَدٌ. قال ابنُ عُمَرَ: فَوهَلَ النّاسُ في مَقَالَةِ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم تِلْكَ فيما يَتَحَدّثُونَهُ بِهَذِهِ الأَحَادِيثِ عن مائِة سَنَةٍ، وإنما قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: "لا يَبْقَى مِمّنْ هُوَ الْيَوْمَ عَلَى ظَهْرِ الأَرْضِ أَحَدٌ، يُرِيدُ بِذَلِكَ أَنْ يَنْخَرِمَ ذَلِكَ الْقَرْنُ" .
ـــــــ
حثمة عبد الله بن حذيفة العدوي المدني ثقة عارف بالنسب من الرابعة.
قوله: "في آخر حياته" جاء مقيداً في رواية جابر عند مسلم: أن ذلك كان قبل موته صلى الله عليه وسلم بشهر "فقال أرأيتكم" قال الحافظ: هو بفتح المثناة لأنها ضمير المخاطب والكاف ضمير ثان لا محل لها من الإعراب، والهمزة الأولى للاستفهام والرؤية بمعنى العلم أو البصر. والمعنى أعلمتم أو أبصرتم ليلتكم وهي منصوبة على المفعولية والجواب محذوف تقديره قالوا نعم قال فاضبطوها انتهى "على رأس مائة سنة" أي عند انتهاء مائة سنة "لا يبقى ممن هو على ظهر الأرض أحد" أي لا يبقى أحد ممن هو موجود اليوم على ظهر الأرض "فوهل الناس" بفتح الهاء أي غلطوا، يقال وهل بفتح الهاء يهل بكسرها وهلا أي غلط وذهب وهمه إلى خلاف الصواب وأما وهلت بكسرها أو هل بفتحها وهلا كحذرت أحذر حذراً فمعناه فزعت. والوهل بالفتح الفزع "في مقالة رسول الله صلى الله عليه وسلم تلك فيما يتحدثونه بهذه الأحاديث نحو مائة سنة" وفي رواية البخاري: فوهل الناس في مقالة النبي صلى الله عليه وسلم إلى ما يتحدثون في هذه الأحاديث عن مائة سنة قال الحافظ: لأن بعضهم كان يقول: إن الساعة تقوم عند تقضي مائة سنة، كما روى ذلك الطبراني وغيره من حديث أبي مسعود البدري ورد ذلك عليه علي بن أبي طالب انتهى. "يريد بذلك أن ينخرم ذلك القرن" قال الحافظ: قد بين ابن عمر في هذا الحديث مراد النبي صلى الله عليه وسلم وإن مراده أن عند انقضاء مائة سنة من مقالته تلك ينخرم ذلك القرن فلا يبقى أحد ممن كان(6/526)
هذا حديثٌ صحيحٌ.
ـــــــ
موجوداً حال تلك المقالة، وكذلك وقع بالاستقراء فكان آخر من ضبط أمره ممن كان موجوداً حينئذ أبو الطفيل عامر بن واثلة. وقد أجمع أهل الحديث على أنه كان آخر الصحابة موتاً. وغاية ما قيل فيه أنه بقي إلى سنة عشر ومائة وهي رأس مائة سنة من مقالة النبي صلى الله عليه وسلم.
قوله: "هذا حديث صحيح" وأخرجه الشيخان(6/527)
56ـ باب مَا جَاءَ في النّهْيِ عَنْ سَبّ الرّيَاح
2353 ـ حَدّثنا إِسْحَاقُ بنُ إِبْرَاهِيمَ بنِ حَبِيبِ بنِ الشّهِيدِ البصري، حدثنا محمّدُ بنُ فُضَيْلٍ. حدثنا الأعْمَشُ عن حَبِيبِ بنِ أبي ثَابِتٍ عن ذرٍ عن سَعِيدِ بنِ عبدِ الرحمَنِ بنِ أَبْزَى عن أَبِيهِ عن أُبَيّ بنِ كَعْبٍ قال: قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: "لا تَسُبّوا الرّيحَ، فإِذَا رَأَيْتُمْ ما تَكْرَهُونَ فَقُولُوا: الّلهُمّ إِنّا نَسْأَلُكَ مِنْ خَيْرِ هَذِهِ الرّيحِ وَخَيْرِ ما فِيهَا وَخَيْرِ ما أُمِرَتْ بِهِ وَنَعْوذُ بِكَ مِنْ شَرّ هَذِهِ الرّيحِ وَشَرّ ما فِيهَا وَشَرّ ما أُمِرَتْ بِهِ" .
ـــــــ
"باب ما جكاء في النهي عن سب الرياح"
قوله: "عن أبي بن كعب" بن قيس الأنصاري الخزرجي، كنيته أبو المنذر سيد القراء، ويكنى أبا الطفيل أيضاً من فضلاء الصحابة اختلف في سنة موته اختلافاً كثيراً قيل سنة تسع عشرة وقيل سنة اثنتين وثلاثين وقيل غير ذلك.
قوله: "لا تسبوا الريح" فإن المأمور معذور. وفي حديث ابن عباس الذي أشار إليه الترمذي: لا تلعنوا الريح فإنها مأمورة، وإنه من لعن شيئاً ليس له بأهل رجعت اللعنة عليه "فإذا رأيتم ما تكرهون" أي ريحاً تكرهونها لشدة حرارتها أو برودتها أو تأذيتم لشدة هبوبها "فقولوا" أي راجعين إلى خالقها وآمرها "اللهم إنا نسألك من خير هذه الريح" أي خير ذاتها "وخير ما فيها" أي من منافعها كلها "وخير ما أمرت به" أي بخصوصها في وقتها، وهو بصيغة(6/527)
وفي الباب عن عائشةَ وأبي هُرَيْرَةَ وعُثْمانَ بنِ أبي الْعَاصِ وَأَنَسٍ وابنِ عَبّاسٍ وجابرٍ.
هذا حديثٌ صحيحٌ.
ـــــــ
المفعول. وقال الطيبي: يحتمل الفتح على الخطاب وشر ما أمرت به على بناء المفعول ليكون من قبيل "أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم" وقوله صلى الله عليه وسلم الخير كله بيدك والشر ليس إليك.
قوله: "وفي الباب عن عائشة وأبي هريرة الخ" أما حديث أبي هريرة فأخرجه الشافعي وأبو داود وابن ماجة والبيهقي في الدعوات الكبير كذا في المشكاة. وأما حديث ابن عباس فأخرجه الترمذي في باب اللعنة من أبواب البر والصلة وأما أحاديث بقية الصحابة فلينظر من أخرجها.
قوله: "هذا حديث حسن صحيح" وأخرجه النسائي في اليوم والليلة(6/528)
57 ـ باب
2354 ـ حَدّثنا محمّدُ بنُ بَشّارٍ، حدثنا مُعَاذُ بنُ هِشَامٍ، حدثنا أَبي عن قَتَادَةَ عن الشّعْبِيّ عن فَاطِمَةَ بنْتِ قَيْسٍ: "أَنّ نَبِيّ الله صلى الله عليه وسلم صَعِدَ المِنْبَرَ فَضَحِكَ فقال: إِنّ تَمِيماً الدّارِيّ حَدّثَنِيِ بِحَدِيثٍ فَفَرِحْتُ فأَحْبَبْتُ أَنْ أُحَدّثَكُمْ بِهِ حدثني أَنّ نَاساً مِنْ أَهْلِ فِلَسْطِينَ رَكِبُوا سَفِينَةً في الْبَحْرِ
ـــــــ
"باب"
قوله: "صعد المنبر" وفي رواية مسلم وأبو داود فلما قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاته جلس على المنبر. وفيه دلالة على جواز وعظ الواعظ الناس جالساً على المنبر وأما الخطبة يوم الجمعة فلا بد للخطيب أن يخطبها قائماً "فضحك" وفي رواية مسلم: وهو يضحك أي يبتسم ضاحكاً على عادته الشريفة "فقال إن تميماً الداري" هو منسوب إلى جد له اسمه الدار "حدثني بحديث ففرحت فأحببت أن أحدثكم".(6/528)
فَجَالَتْ بِهِمْ حَتّى قَذَفَتْهُمْ في جَزِيرَةٍ مِنْ جَزَائِرِ الْبَحْرِ فإِذَا هُمْ بِدَابّةٍ لَبّاسَةٍ نَاشِرَةٍ شَعْرَهَا فَقَالُوا: ما أَنْتِ؟ قالت: أَنَا الْجَسّاسَةُ. قالوا: فأَخْبِرِينَا. قالت: لا أُخْبِرُكُمْ ولا أَسْتَخْبِرُكُمْ وَلَكِنْ ائْتُوا أَقْصَى الْقَرْيَةِ فإِنّ ثَمّ مَنْ يُخْبِرُكُمْ ويَسْتَخْبِرُكُمْ، فأَتَيْنَا أَقْصَى الْقَرْيَةِ فإِذَا رَجُلٌ مُوثَقٌ بِسِلْسِلَةٍ
ـــــــ
وفي رواية مسلم: فقال ليلزم كل إنسان مصلاه. ثم قال أتدرون لم جمعتكم؟ قالوا: الله ورسوله أعلم: قال. إني والله ما جمعتكم لرغبة ولا لرهبة، ولكن جمعتكم لأن تميماً الداري كان رجلاً نصرانياً، فجاء فبايع وأسلم وحدثني حديثاً وافق الذي كنت أحدثكم عن مسيح الدجال " أن ناساً من أهل فلسطين" بكسر فاء وفتح لام كورة ما بين الأردن وديار مصر وأم ديارها بيت المقدس كذا في المجمع "ركبوا سفينة في البحر" وفي رواية مسلم حدثني أنه ركب في سفينة بحرية مع ثلاثين رجلاً من لخم وجذام "فجالت بهم" قال في القاموس أجاله وبه أداره كجال به واجتالهم حولهم عن قصدهم. وفي رواية مسلم: فلعب بهم الموج شهراً "حتى قذفتهم" أي ألقتهم "فإذا هم بدابة لباسة" قال في القاموس: رجل لباس ككتان كثير اللباس انتهى. لكن معناه ها هنا الظاهر أنه ملق في اللبس والاختلاط بأن تكون صيغة مبالغة من اللبس كذا في هامش النسخة الأحمدية، قلت: الظاهر عندي والله تعالى اعلم أن المراد بقوله لباسة كثيرة اللباس وكنى بكثرة لباسها عن كثرة شعرها، وقوله ناشرة شعرها كالبيان له "ناشرة" بالجر صفة ثانية لدابة "شعرها" بالنصب على المفعولية أي جاعلة شعرها منتشرة. وفي رواية مسلم: فلقيتهم دابة أهلب كثير الشعر لا يدرون ما قبله من دبره من كثرة الشعر "أنا الجساسة" قال النووي: هي بفتح الجيم فتشديد المهملة الأولى، قيل سميت بذلك لتجسسها الأخبار للدجال. وجاء عن عبد الله بن عمرو بن العاص أنها دابة الأرض المذكورة في القرآن انتهى "فإذا رجل موثق بسلسلة" وفي رواية مسلم: فإذا فيه أعظم إنسان ما رأيناه قط خلقاً وأشده وثاقاً، مجموعة يداه إلى عنقه ما بين ركبتيه إلى كعبيه بالحديد. قلنا ويلك ما أنت؟ قال: قد قدرتم على خبري فأخبرون ما أنتم؟ قالوا نحن أناس من(6/529)
فقال: أَخْبِرُونِي عَنْ عَيْنِ زُغَرَ. قلنا: مَلأَى تَدْفقُ. قال: أَخْبِرُونِي عَنْ الْبُحَيْرَةِ. قلنا: مَلأَى تَدْفقُ. قال: أَخْبِرُوني عَنْ نَخْلِ بَيْسَانَ الذِي بَيْنَ الاْرُدّنِ وَفِلَسْطِينَ هَلْ أَطْعَمَ؟ قلنا: نَعَمْ. قال: أَخْبِرُوني عَنْ النّبِيّ هَلْ بُعِثَ؟ قلنا: نَعَمْ. قال: أَخْبِرُوني كَيْفَ النّاسُ إِلَيْهِ؟ قلنا: سِرَاعٌ. قال: فَنَزى نَزْوَةً حَتّى كَادَ. قلنا: فمَا أَنْتَ؟ قال: أَنَا الدّجّالُ وَإِنّهُ يَدْخُلُ الأَمْصَارَ كُلّهَا إِلاّ طَيْبَةَ، وَطَيْبَةُ المَدِينَةُ" .
هذا حديثٌ حسنٌ صحيحٌ غريبٌ من حديث قَتَادَةَ عن الشّعْبِيّ. وقد رَوَاهُ غيرُ واحدٍ عن الشّعْبِيّ عن فَاطِمَةَ بِنْتِ قَيْسٍ.
ـــــــ
العرب "فقال أخبروني عن عين زغر" قال النووي هي بزاي معجمة مضمومة ثم غين معجمة مفتوحة ثم راء وهي بلدة معروفة في الجانب القبلي من الشام "قلنا ملأى تدفق" قال في القاموس: دَفَقَه يَدْفِقُه ويَدْفُقُه صبه، وهو ماء دافق أي مدفوق، لأن دفق متعد عند الجمهور. وفي رواية مسلم: قالوا عن أي شأنها تستخبر؟ قال: هل في العين ماء وهل يزرع أهلها بماء العين؟ قلنا له نعم هي كثيرة الماء وأهلها يزرعون من مائها "قال أخبروني عن البحيرة" تصغير البحر وفي رواية مسلم: عن بحيرة طبرية. قال في القاموس: الطبرية محركة قصبة بالأردن والنسبة إليها طبراني "أخبروني عن نخل بيسان" بفتح موحدة وسكون تحتية وهي قرية بالشام قريبة من الأردن ذكره ابن الملك "الذي بين الأردن" بضمتين وشد الدال كورة بالشام كذا في القاموس "هل أطعم" أي أثمر، وفي رواية مسلم: هل يثمر؟ قلنا له: نعم. قال: أما إنها توشك أن لا تثمر "أخبروني عن النبي هل بعث قلنا نعم" وفي رواية مسلم: أخبروني عن نبي الأميين ما فعل؟ قالوا: قد خرج من مكة ونزل يثرب "فنزى نزوة" أي وثب وثبة "حتى كاد" أي أن يتخلص من الوثاق.
قوله: "هذا حديث حسن صحيح غريب" وأخرجه مسلم وأبو داود(6/530)
58 ـ باب
2355ـ حَدّثنا محمّدُ بنُ بَشّارٍ، أخبرنا عَمْرُو بنُ عَاصِمٍ، أخبرنا حَمّادُ بنُ سَلَمَةَ عن عَلِيّ بنِ زَيْدٍ عن الْحَسَنِ عن جُنْدُبٍ عن حُذَيْفَةَ قال: قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: "لا يَنْبَغِي لِلْمُؤْمِنِ أَنْ يُذِلّ نَفْسَهُ قالوا: وكَيْفَ يُذِلّ نَفْسَهُ؟ قال: يَتَعَرّضُ مِنَ الْبَلاَءِ لِمَا لا يُطِيقُ" .
هذا حديثٌ حسنٌ غريبٌ.
ـــــــ
"باب"
قوله: "حدثنا عمرو بن عاصم" هو الكلابي القيسي "عن علي بن زيد" هو المعروف بعلي بن زيد بن جدعان "عن الحسن" هو البصري "عن جندب" هو ابن عبد الله بن سفيان.
قوله: "لا ينبغي للمؤمن" أي لا يجوز له "أن يذل" من الإذلال "قال يتعرض" أي يتصدى "من البلاء" بيان مقدم لقوله مالا يطيق.
قوله: "هذا حديث حسن غريب" في سنده علي بن زيد وهو ضعيف وإنما حسن حديثه الترمذي لأنه صدوق عنده وأخرجه أحمد أيضاً من طريقه(6/531)
59 ـ باب
2356ـ حَدّثنا محمّدُ بنُ حاتِمِ المُؤَدّبُ، حدثنا محمّدُ بنُ عبدِ الله الأَنْصَارِيّ، حدثنا حُمَيْدُ الطّوِيلُ عن أَنَسِ بنِ مَالِكٍ عن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال: "انْصُرْ أَخَاكَ ظَالِماً أَوْ مَظْلُوماً. قِلنا: يا رسول الله نَصَرْتُهُ مَظْلُوماً فَكَيْفَ أَنْصُرُهُ ظَالِماً؟ قال: تَكُفّهُ عَنْ الظّلمِ فَذَاكَ نَصْرُكَ إِيّاهُ
ـــــــ
"باب"
قوله: "انصر أخاك" أي المسلم "ظالماً" حال من المفعول "أو مظلوماً" تنويع "تكفه عن الظلم" أي تمنعه عن الفعل الذي يريده "فذاك" أي كفك إياه(6/531)
وفي البابِ عن عائشةَ.
هذا حديثٌ حسنٌ صحيحٌ.
ـــــــ
عنه "نصرك إياه" أي على شيطانه الذي يغويه أو على نفسه التي تطغيه.
قوله: "وفي الباب عن عائشة" لينظر من أخرجه.
قوله: "هذا حديث حسن صحيح" وأخرجه أحمد والبخاري(6/532)
60 ـ باب
2358ـ حَدّثنا محمّدُ بنُ بَشّارٍ، حدثنا عبدُ الرحمَنِ بنُ مَهْدِيّ، حدثنا سُفْيَانُ عن أبي مُوسَى عن وَهْبِ بنِ مُنَبّهٍ عن ابنِ عَبّاسٍ عن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال: "مَنْ سَكَنَ الْبَادِيَةَ جَفَا، وَمَنْ اتّبَعَ الصّيْدَ غَفَلَ،
ـــــــ
"باب"
قوله: "عن أبي موسى" قال الحافظ في التقريب: أبو موسى عن وهب بن منبه مجهول من السادسة، ووهم من قال إنه إسرائيل بن موسى انتهى. وقال في تهذيب التهذيب أبو موسى شيخ يماني روى عن وهب بن منبه عن ابن عباس حديث من اتبع الصيد غفل. وعنه سفيان الثوري مجهول قاله ابن القطان. ذكر المزي في ترجمة أبي موسى إسرائيل بن موسى البصري أنه روى عن ابن منبه وعنه الثوري ولم يلحق البصري وهب بن منبه وأنما هذا آخر وقد فرق بينهما ابن حبان في الثقات وابن الجارود في الكنى وجماعة انتهى.
قوله: "من سكن البادية جفاً" أي جهل قال تعالى {الْأَعْرَابُ أَشَدُّ كُفْراً وَنِفَاقاً وَأَجْدَرُ أَلّا يَعْلَمُوا حُدُودَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ} قال القاري. وقال القاضي: جفا الرجل إذا غلظ قلبه وقسا ولم يرق لبر وصلة رحم وهو الغالب على سكان البوادي لبعدهم عن أهل العلم وقلة اختلاطهم بالناس، فصارت طباعهم كطباع الوحوش وأصل التركيب للنبو عن الشيء "ومن اتبع الصيد" أي لازم اتباع الصيد والاشتغال به وركب على تتبع الصيد كالحمام ونحوه لهواً وطرباً "غفل" أي عن الطاعة والعبادة ولزوم الجماعة والجمعة وبعد عن الرقة والرحمة لشبهه بالسبع(6/532)
وَمَنْ أَتَى أَبْوابَ السّلْطَانِ افتَتَنَ" . قال: وفي البابِ عن أبي هُرَيْرَةَ. هذا حديثٌ حسنٌ صحيحٌ غريبٌ من حديثِ ابنِ عَبّاسٍ لا نَعْرِفُهُ إِلاّ من حديثِ الثّوْرِيّ.
2293ـ حَدّثنا محمُودُ بنُ غَيْلاَنَ، حدثنا أَبُو دَاوُدَ أَنْبَأَنَا شُعْبَةُ عن سِمَاكِ بنِ حَرْبٍ، قَالَ سَمِعْتُ عَبْدَ الرّحمَنِ بنِ عَبْدِ الله بنِ مَسْعُودٍ يحدّثُ عن أَبِيهِ قَالَ: "سَمِعْتُ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: "إِنّكُمْ مَنْصُورُونَ وَمُصِيبُونَ وَمَفْتُوحٌ لَكُمْ، فَمَنْ أَدَرَكَ ذَلِكَ مِنْكُمْ فلْيَتّقِ الله وَلْيَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَلْيَنْهَ عن المُنْكَرِ وَمَنْ يكذبَ
ـــــــ
والبهيمة "ومن أتى أبواب السلطان" أي من غير ضرورة وحاجة لمجيئه "افتتن" بصيغة المجهول أي وقع في الفتنة فإنه أن وافقه فيما يأتيه ويذره فقد خاطر على دينه وإن خالفه فقد خاطر على دنياه. وقال المظهر: يعني من التزم البادية ولم يحضر صلاة الجمعة ولا الجماعة ولا مجالس العلماء فقد ظلم نفسه، ومن اعتاد الاصطياد للهو والطرب يكون غافلاً لأن اللهو والطرب يحدث من القلب الميت، وأما من أصطاد للقوت فجاز له لأن بعض الصحابة كانوا يصطادون، ومن دخل على السلطان وداهنه وقع في الفتنة، وأما من لم يداهن ونصحه وأمره بالمعروف ونهاه عن المنكر فكان دخوله عليه أفضل الجهاد انتهى.
قوله: "وفي الباب عن أبي هريرة" أخرجه أحمد وأبو داود.
قوله: "هذا حديث حسن غريب من حديث أبن عباس لا نعرفه إلا من حديث الثوري" وأخرجه أبو داود والنسائي. قال المنذري بعد نقل كلام الترمذي هذا وفي إسناده أبو موسى عن وهب بن منبه، ولا نعرفه. قال الحافظ أحمد الكرابيسي حديث ليس بالقائم هذا آخر كلامه، وقد روى من حديث أبي هريرة وهو ضعيف أيضاً وروى أيضاً من حديث البراء بن عازب وتفرد به شريك بن عبد الله فيما قال الدارقطني وشريك فيه مقال انتهى كلام المنذري.
قوله: "إنكم منصورون" أي على الأعداء "ومصيبون" أي للغنائم "ومفتوح لكم" أي البلاد الكثيرة "فمن أدرك ذاك" أي ما ذكر "فليتق الله"(6/533)
عَلَيّ مُتَعَمّدّاً فَلْيَتَبَوّأْ مَقْعَدَهُ مِنَ النّارِ" .
هذا حديثٌ حَسَنٌ صحيحٌ.
ـــــــ
أي في جميع أموره ليكون كاملاً "وليأمر بالمعروف ولينه عن المنكر" ليكون مكملاً لا سيما في أيام إمارته "فليتبوأ مقعده من النار" أي فليتخذ لنفسه منزلاً، يقال تبوأ الرجل المكان إذا اتخذه مسكناً وهو أمر بمعنى الخبر أو بمعنى التهديد أو بمعنى التهكم أو دعاء على فاعل ذلك أي بوأه الله ذلك. وقال الكرماني: يحتمل أن يكون الأمر على حقيقته والمعنى من كذب فليأمر نفسه بالتبوأ. قال الحافظ: وأولها أولاها فقد رواه أحمد بإسناد صحيح عن ابن عمر بلفظ: بنى له بيت في النار.
قوله: "هذا حديث حسن صحيح" وأخرجه أبو داود(6/534)
61 ـ باب
2359 ـ حَدّثنا محمُودُ بنُ غَيْلاَنَ، حدثنا أَبُو دَاوُدَ، أنبأنا شُعْبَةُ عن الأَعْمَشِ وَ عَاصِم بنِ بَهْدَلَةَ وَ حَمّادٍ سَمِعُوا أَبَا وَائِلٍ عن حُذَيْفَةَ قَالَ: قَالَ عُمَرُ: أَيّكُمْ يَحْفَظُ مَا قَالَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم في الْفِتْنَةِ، فَقَالَ حُذَيْفَةُ أَنَا. قَالَ حُذَيْفَةُ: فِتْنَةُ الرّجُلِ في أَهْلِهِ وَمَالِهِ وَوَلَدِهِ وَجَارِهِ تُكَفّرُهَا الصّلاَةُ وَالصّوْمُ وَالصّدَقَة وَالأَمْرُ بالمَعْرُوفِ وَالنّهْيُ عن المُنْكَرِ.
ـــــــ
"باب"
قوله: "تكفرها الصلاة والصوم والصدقة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر" قال الحافظ في الفتح: قال بعض الشراح يحتمل أن يكون كل واحدة من الصلاة وما معها مكفرة للمذكورات كلها لا لكل واحدة منها، وأن يكون من باب اللف والنشر بأن الصلاة مثلاً مكفرة للفتنة في الأهل والصوم في الولد إلخ. والمراد بالفتنة ما يعرض للأنسان مع من ذكر من البشر أو الالتهاء بهم أو أن يأتي لأجلهم بمالا يحل له أو يخل بما يجب عليه. واستشكل ابن أبي جمرة وقوع التكفير بالمذكورات للوقوع في المحرمات والإخلال بالواجب، لأن الطاعات لا تسقط ذلك، فإن حمل على الوقوع في المكروه والإخلال بالمستحب لم يناسب(6/534)
قَالَ عُمَرُ: "لَسْتُ عن هَذا أَسْأَلُكَ وَلَكِنْ عن الْفِتْنَةِ التي تَمُوجُ كَمَوْجِ البَحْرِ. قَالَ يَا أَمِيرَ المُؤْمِنِينَ إِنّ بَيْنَكَ وَبَيْنَهَا بَاباً مُغْلَقاً. قالَ عُمَرُ: أَيُفْتَحُ أَمْ
ـــــــ
إطلاق التكفير. والجواب التزام الأول وإن الممتنع من تكفير الحرام والواجب ما كان كبيرة فهي التي فيها النزاع وأما الصغائر فلا نزاع أنها تكفر لقوله تعالى {إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ} الاَية وقال الزين بن المنير: الفتنة بالأهل تقع بالميل إليهن أو عليهن في القسمة والإيثار حتى في أولادهن، ومن جهة التفريط في الحقوق الواجبة لهن، وبالمال يقع الاشتغال به عن العبادة أو بحبسه عن إخراج حق الله، والفتنة بالأولاد تقع بالميل الطبيعي إلى الولد وإيثاره على كل أحد، والفتنة بالجار تقع بالحسد والمفاخرة والمزاحمة في الحقوق وإهمال التعاهد ثم قال وأسباب الفتنة بمن ذكر غير منحصرة فيما ذكرت من الأمثلة. وأما تخصيص الصلاة وما ذكر معها بالتكفير دون سائر العبادات ففيه إشارة إلى تعظيم قدرها، لاتقي أن غيرها من الحسنات ليس فيها صلاحية التكفير، ثم إن التكفير المذكور يحتمل أن يقع بنفس فعل الحسنات المذكورة ويحتمل أن يقع بالموازنة. والأول أظهر "تموج كموج البحر" أي تضطرب اضطراب البحر عند هيجانه وكنى بذلك عن شدة المخاصمة وكثرة المنازعة وما ينشأ عن ذلك من المشاتمة والمقاتلة "قال يا أمير المؤمنين" وفي رواية للبخاري: يا أمير المؤمنين لا بأس عليك منها. قال الحافظ زاد في رواية ربعي: تعرض الفتن على القلوب فأي قلب أنكرها نكتت فيه نكتة بيضاء حتى يصير أبيض مثل الصفاة لا تضره فتنة، وأي قلب أشربها نكتت فيه نكتة سوداء حتى يصير أسود كالكوز منكوساً، لا يعرف معروفاً ولا ينكر منكراً وحدثته أن بينها وبينه باباً مغلقاً "أن بينك وبينها باباً مغلقاً" أي لا يخرج منها شيء في حياتك. قال ابن المنبر: آثر حذيفة الحرص على حفظ السر ولم يصرح لعمر بما سأل عنه وإنما كنى عنه كناية وكأنه كان مأذوناً له في مثل ذلك. وقال النووي: يحتمل أن يكون حذيفة علم أن عمر يقتل ولكنه كره أن يخاطبه بالقتل لأن عمر كان يعلم أنه الباب فأتى بعبارة يحصل بها المقصود بغير تصريح بالقتل انتهى. وكأنه مثل الفتن بدار ومثل حياة عمر بباب لها مغلق ومثل موته بفتح ذلك الباب، فما دامت حياة عمر موجودة فهي الباب(6/535)
يُكْسَرُ؟ قالَ بَلْ يُكْسَرُ، قالَ إِذَاً لا يُغْلَقُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ". قالَ أَبُو وَائِلٍ في حدِيثِ حَمّادٍ: فَقُلْتُ لِمَسْرُوقٍ سَلْ حُذَيْفَةَ عن البَابِ، فَسَأَلَهُ فَقَالَ: عُمَرُ.
هذا حديثٌ صحيحٌ.
ـــــــ
المغلق لا يخرج مما هو داخل تلك الدار شيء فإذا مات فقد انفتح ذلك الباب فخرج ما في تلك الدار "قال عمر: يفتح أم يكسر قال بل يكسر" قال ابن بطال إنما قال ذلك لأن العادة أن الغلق إنما يقع في الصحيح، فأما إذا انكسر فلا يتصور غلقه حتى يجبر انتهى. ويحتمل أن يكون كنى عن الموت بالفتح وعن القتل بالكسر ولهذا قال في رواية ربعي: فقال عمر كسراً لا أبالك. لكن بقية رواية ربعي تدل على ما قدمته فإن فيه: وحدثته أن ذلك الباب رجل يقتل أو يموت "قال إذن لا يغلق إلى يوم القيامة" زاد البخاري. قلت: أعلم عمر الباب قال: نعم كما أن دون غد ليلة. قال الحافظ: إنما قال عمر ذلك اعتماداً على ما عنده من النصوص الصريحة في وقوع الفتن في هذه الأمة ووقوع البأس بينهم إلى يوم القيامة. روى البزار من حديث قدامة بن مظعون عن أخيه عثمان أنه قال لعمر: يا غلق الفتنة. فسأله عن ذلك فقال: مررت ونحن جلوس عند النبي صلى الله عليه وسلم فقال هذا غلق الفتنة لا يزال بينكم وبين الفتنة باب شديد الغلق ما عاش .
فإن قيل: إذا كان عمر عارفاً بذلك فلم شك فيه حتى سأل عنه؟
فالجواب أن ذلك يقع مثله عند شدة الخوف أو لعله خشي أن يكون نسي فسأل من يذكره وهذا هو المعتمد "فقلت لمسروق" هو ابن الأجدع من كبار التابعين وكان من أخصاء أصحاب ابن مسعود وحذيفة وغيرهما من كبار الصحابة "سئل حذيفة عن الباب فسأله فقال عمر" وفي رواية للبخاري: فهبنا أن نسأله وأمرنا مسروقاً فسأله فقال: من الباب؟ فقال عمر. قال الكرماني تقدم قوله أن بين الفتنة وبين عمر باباً فكيف يفسر الباب بعد ذلك أنه عمر؟ والجواب أن في الأول تجوز، والمراد بين الفتنة وبين حياة عمر، أو بين نفس عمر وبين الفتنة بدنة لأن البدن غير النفس.
قوله: "هذا حديث صحيح" وأخرجه الشيخان(6/536)
62 ـ باب
2360ـ حَدّثنا هَارُونُ بنُ إِسْحَاقَ الْهَمْدَانِيّ، أخبرنا محمدُ بنُ عَبْدِ الْوَهّاب عن مِسْعَرٍ عن أبي حَصِينٍ، عن الشّعْبِيّ عن عاصم عن الْعَدَوِيّ عن كَعْبِ بنِ عُجرَةَ قالَ: "خَرَجَ إِلَيْنَا رسولُ الله صلى الله عليه وسلم ونحن تِسْعَةٌ خَمْسَةٌ وَأَرْبَعَةٌ، أَحَدُ الْعَدَدَينِ مِنَ العَرَبِ وَالاَخَرُ مِنَ العَجَم، فَقَالَ: اسْمَعُوا هَلْ سَمِعْتُمْ أَنّهُ سَيَكُونُ بَعْدِي أُمُرَاءٌ فَمَنْ دَخَلَ عَلَيْهِمْ فَصَدّقَهُمْ بِكَذِبهِمْ وَأَعَانَهُمْ عَلَى ظُلْمِهِمْ فَلَيْسَ مِنّي وَلَسْتُ مِنْهُ وَلَيْسَ بِوَارِدٍ عَلَيّ الْحَوْضَ وَمَنْ لَمْ يَدْخُلْ عَلَيْهِمْ وَلَمْ يُعِنْهُمْ عَلَى ظُلْمِهِمْ وَلَمْ يُصَدّقْهُمْ بِكَذِبِهِمْ فَهُوَ مِنّي وَأَنا مِنْهُ وَهُوَ وَارِدٌ عَلَيّ الْحَوْضَ".
هذا حديثٌ صحيحٌ غريبٌ لاَ نَعْرِفُهُ مِنْ حَدِيثِ مِسْعَرٍ إِلاّ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ. قَالَ هَارُونُ: وحدثني محمّدُ بنُ
ـــــــ
"باب"
قوله: "أخبرنا محمد بن عبد الوهاب" القناد بالقاف والنون أبو يحيى الكوفي ويقال له السكري أيضاً ثقة عابد من التاسعة "عن العدوي" هو عاصم. قال في التقريب: عاصم العدوي الكوفي عن كعب بن عجرة وثقه النسائي من الثالثة.
قوله: "ونحن تسعة خمسة وأربعة" تفسير التسعة "أحد العددين من العرب والاَخر من العجم" أي خمسة من العرب وأربعة من العجم أو عكس ذلك "فمن دخل عليهم" أي من العلماء وغيرهم وأعانهم على ظلمهم أي بالإفتاء ونحوه "فليس مني ولست منه" أي بيني وبينهم براءة ونقض ذمة "وليس بوارد عليّ" بتشديد الياء "الحوض" أي الحوض الكوثر يوم القيامة.
قوله: "هذا حديث صحيح غريب" وأخرجه النسائي وأخرج أحمد عن جابر بن عبد الله مرفوعاً قال لكعب بن عجرة أعاذك الله من إمارة السفهاء، قال وما إمارة السفهاء؟ قال أمراء يكونون بعدى لا يهتدون بهديى ولا يستنون بسنتي، فمن صدقهم(6/537)
عَبْدِ الْوَهّابِ، عن سُفْيَانَ عن أبي حَصينٍ عن الشّعْبِيّ عن عَاصِمٍ العَدَوِيّ عن كَعْبِ بنِ عُجْرَةَ عن النبيّ صلى الله عليه وسلم نَحْوَهُ.
قالَ هَارُونُ وحدّثني محمدٌ عن سُفْيَانَ عن زُبيدٍ عن إِبرَاهِيمَ وَلَيْسَ بالنّخَعِيّ عن كَعْبِ بنِ عُجْرةَ عن النبيّ صلى الله عليه وسلم نحوَ حَدِيثِ مِسْعَرٍ قال: وفي البابِ عن حُذَيفةَ وابن عمر.
2361ـ حَدّثنا إِسماعيلُ بنُ مُوسَى الفَزَارِيّ ابنُ بنت السّدّيّ الكُوفِيّ، أخبرنا عُمَرُ بنُ شَاكِرٍ عنْ أَنَسِ بنِ مَالِكٍ قَالَ: قَالَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: "يَأَتِي عَلَى النّاسِ زَمَانٌ الصّابِرُ فِيهِمْ عَلَى دِينِهِ
ـــــــ
بكذبهم الحديث. وأخرجه البزار ورواتهما محتج بهم في الصحيح كذا قال المنذري "قال هرون" هو ابن إسحاق الهمداني المذكور "عن زبيد" هو ابن الحارث اليامي "عن إبراهيم وليس بالنخعي" قال في التقريب إبراهيم عن كعب بن عجرة مجهول من الثالثة وليس هو النخعي.
قوله: "وفي الباب عن حذيفة وابن عمر" أما حديث حذيفة فأخرجه أحمد ص 384 ج5 بمسنده وأما حديث ابن عمر فلينظر من أخرجه.
قوله: "حدثنا عمر بن شاكر" البصري ضعيف من الخامسة قاله الحافظ في التقريب. وقال تهذيب التهذيب في ترجمته قال أبو حاتم ضعيف يروي عن أنس المناكير. وقال الترمذي: شيخ بصري يروي عنه غير واحد من أهل العلم وقال ابن عدي: يحدث عن أنس نسخة قريب من عشرين حديثا غير محفوظة. وذكره ابن حبان في الثقات روى له الترمذي حديثاً واحداً يأتي على الناس زمان الحديث وقال غريب من هذا الوجه، وليس في جامع الترمذي حديث ثلاثي سواه. قال الحافظ: وقال الترمذي قال البخاري مقارب الحديث انتهى.
قوله: "يأتي على الناس زمان الصابر فيهم" أي في أهل ذلك الزمان "على دينه"(6/538)
كالقَابِضِ عَلَى الْجَمْرِ" . هذا حديثٌ غريبٌ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ. وَعُمَرُ بنُ شَاكِرٍ رَوَى عَنْهُ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنْ أَهْلِ العِلْمِ وهو شيخ بصري.
ـــــــ
أي على حفظ أمر دينه بترك دنياه "كالقابض" أي كصبر القابض في الشدة ونهاية المحنة "على الجمر" جمع الجمرة وهي شعلة من نار. قال الطيبي: المعنى كما لا يقدر القابض على الجمر أن يصبر لإحراق يده، كذلك المتدين يومئذ لا يقدر على ثباته على دينه لغلبة العصاة والمعاصي وانتشار الفسق وضعف الإيمان انتهى. وقال القاري: الظاهر أن معنى الحديث كما لا يمكن القبض على الجمرة إلا بصبر شديد وتحمل غلبة المشقة كذلك في ذلك الزمان لا يتصور حفظ دينه ونور إيمانه إلا بصبر عظيم انتهى.
قوله: "هذا حديث غريب" في سنده عمر بن شاكر، وهو ضعيف كما تقدم آنفاً(6/539)
63 ـ باب
2362 ـ حَدّثنا قُتَيْبَةُ، حدثنا عَبْدُ العَزِيزِ بنُ مُحمّدٍ عن العَلاَءِ بنِ عَبْدِ الرّحمَنِ عن أَبِيهِ عن أَبي هُرَيْرَةَ: "أَنّ رَسُول الله صلى الله عليه وسلم وَقَفَ عَلَى أُنَاسٍ جُلُوسٍ فَقَالَ: "أَلاَ أُخْبِرُكُمْ بِخَيْرِكُمْ مِنْ شَرّكُمْ؟ قالَ فَسَكَتُوا، فَقَالَ ذَلِكَ ثَلاَثَ مَرّاتٍ، فَقَالَ رَجُلٌ بَلَى يَا رَسُولَ الله أَخْبِرْنَا بِخَيْرِنَا مِنْ شَرّنا. قالَ: خَيْرُكُمْ مَنْ يُرْجَى خَيْرُهُ وَيُؤْمَنُ شَرّهُ، وَشَرّكُمْ مَنْ لاَ يُرْجَى خَيْرُهُ وَلاَ يُؤْمَنُ شَرّهُ .
ـــــــ
"باب"
قوله: "وقف على ناس جلوس" أي جالسين أو ذوي جلوس "فقال: ألا أخبركم بخيركم من شركم" أي مميزاً منه حال من المتكلم "قال" أي أبو هريرة رضي الله عنه "قال خيركم من يرجى خيره" فخير الأول بمعنى الأخير والثاني مفرد الخيور أي من يرجو الناس منه إحسانه إليهم "ويؤمن شره" أي من يأمنون عنه من إساءته عليهم "وشركم الخ" قال القاري: ترك ذكر من يأتي منه الخير والشر(6/539)
هذا حديث حسن صحيح.
ـــــــ
ونقيضه فإنهما ساقطا الاعتبار حيث تعارضا تساقطا انتهى. وقال الطيبي لما توهموا معنى التمييز وتخوفوا من الفضيحة سكتوا حتى كرر ثلاثاً ثم أبرز البيان في معرض العموم لئلا يفضحوا فقال خيركم، والتقسيم العقلي يقتضي أربعة أقسام ذكر منها اثنين ترغيباً وترهيباً، وترك قسمين لأنه ليس فيهما ترغيب وترهيب.
قوله: "هذا حديث صحيح" وأخرجه أحمد والبيهقي في شعب الإيمان وابن حبان(6/540)
64 ـ باب
2363ـ حَدّثنا مُوسَى بنُ عَبْدِ الرّحمَنِ الكِنْدِيّ الكوفي، حدثنا زَيْدُ بنُ حُبَابٍ، أخبرني مُوسَى بنُ عُبَيْدَةَ، حدثني عَبْدُ الله بنُ دِينَارٍ عن ابنِ عُمَرَ قالَ: قالَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم: "إِذَا مَشَتْ أُمّتِي المُطَيطَياءَ وَخَدَمَهَا أَبْنَاءُ المُلُوكِ أَبْنَاءُ فَارِسٍ وَالرّومِ سُلّطَ شِرَارُهَا عَلَى خِيَارِهَا".
ـــــــ
"باب"
قوله: "أخبرني موسى بن عبيدة" بضم أوله ابن نشيط بفتح النون وكسر المعجمة بعدها تحتانية ساكنة ثم مهملة الربذي بفتح الراء والموحدة ثم معجمة أبو عبد العزيز المدني ضعيف ولا سيما في عبد الله بن دينار وكان عابداً من صغار السادسة.
قوله: "إذا مشت أمتي المطيطياء" بضم الميم وفتح الطاء المهملة الأولى بعدها تحتية ساكنة وكسر الطاء المهملة الثانية بعدها تحتية وألف ممدودة وفي بعض النسخ بغير الياء الأخيرة. قال في المجمع هي بالمد والقصر مشية فيها تبختر ومد اليدين. يقال: مطوت ومططت بمعنى سددت ولم تستعمل إلا مصغراً "وخدمها" أي قام بخدمتها وانقاد في حضرتها "أبناء فارس والروم" بدل مما قبله وبيان له "سلط شرارها على خيارها" وهو من المعجزات، فإنهم لما فتحوا بلاد فارس والروم وأخذوا أموالهم وسبوا أولادهم سلط الله قتلة عثمان عليه حتى قتلوه ثم سلط بنى أمية على بنى هاشم ففعلوا ما فعلوا.(6/540)
هذا حديثٌ غريبٌ، وَقَد رواهْ أَبُو مُعَاوِيَةَ عن يَحْيَى بنِ سَعِيدٍ الأَنْصَارِيّ.
2364ـ حدّثنا بِذَلِكَ محمّدُ بنُ إِسْمَاعِيلَ الوَاسِطيّ، حدثنا أَبُو مُعَاوِيَةَ عنْ يَحْيَى بنِ سَعِيدٍ الأنصاري عن عَبْدِ الله بنِ دِينَارٍ عن ابنِ عُمَرَ عن النبيّ صلى الله عليه وسلم نَحْوَهُ وَلاَ يُعْرَفُ لِحَدِيثِ أَبي مُعَاوِيَةَ عن يَحْيَى بنِ سَعِيدٍ عن عبدِ الله بنِ دِينَارٍ عن ابنِ عُمَرَ أَصْلٌ إِنّمَا المَعْرُوفُ حَدِيثُ مُوسَى بنِ عُبَيْدَةَ، وَقَدْ رَوَى مَالِكُ بنُ أَنَسٍ هَذَا الْحَدِيثَ عن يَحْيَى بنِ سَعِيدٍ مُرْسَلاً وَلَمْ يُذْكَرْ فِيهِ عن عَبْدِ الله بنِ دِينَارٍ عن ابنِ عُمَرَ.
2365ـ حَدّثنا محمّدُ بنُ المُثَنّى، حدثنا خَالِدُ بنُ الْحَارِثِ، حدثنا حُمَيْدُ الطّوِيلُ عن الْحَسَنِ عن أَبي بَكْرَةَ قَالَ: "عَصَمَنِي الله بِشَيءٍ سَمِعْتُهُ مِنْ رَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم، لَمّا هَلَكَ كِسْرَى قالَ مَنْ اسْتَخْلَفُوا؟ قالُوا ابنَتَهُ، فَقَالَ النّبيّ صلى الله عليه وسلم: "لَنْ يُفْلِحَ قَوْمٌ وَلّوْا أَمْرَهُمْ امْرَأَةً.
قَالَ فَلَمّا قَدِمَتْ عَائِشَةُ، يَعْنِي البَصْرَةَ، ذكرتُ قَوْلَ رسولِ الله صلى الله
ـــــــ
قوله: "هذا حديث غريب" وفي سنده موسى بن عبيدة وهو ضعيف كما عرفت.
قوله: "عن الحسن" هو البصري.
قوله: "عصمني الله" أي من أن ألحق بأصحاب الجمل "بشيء" أي بحديث "سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم لما هلك كسرى" أي سمعته حين هلاكه "قالوا ابنته" هي بوران بنت شيرويه بن كسرى بن يرويز، وذلك أن شيرويه لما قتل أباه كان أبوه لما عرف أن ابنه قد عمل على قتله احتال على قتل ابنه بعد موته فعمل في بعض خزائنه المختصة به حقاً مسموماً وكتب عليه حق الجماع من تناول(6/541)
عليه وسلم فَعَصَمَنِي الله به". هذا حديثٌ حسنٌ صحيحٌ.
2366ـ حَدّثنا محمّدُ بنُ بَشّارٍ، حدثنا أَبُو عَامِرٍ العقدي، حدثنا محمّدُ بنِ أَبي حُمَيْدٍ عن زَيْدِ بنِ أَسْلَمَ عن أَبِيهِ عن عُمَرَ بنِ الْخَطّابِ عن النّبيّ صلى الله عليه وسلم قال: "أَلاَ أُخْبِرُكُمْ بِخِيَارِ أُمَرَائِكُمْ وَشِرَارِهِمْ: خِيَارُهُمْ الّذِينَ
ـــــــ
منه كذا جامع كذا فقرأه شيرويه فتناول منه فكان فيه هلاكه فلم يعش بعد أبيه سوى ستة أشهر فلما مات لم يخلف أخاً لأنه كان قتل إخوته حرصاً على الملك، ولم يخلف ذكراً، وكرهوا خروج الملك عن ذلك البيت فملكوا المرأة واسمها بوران بضم الموحدة، ذكر ذلك ابن قتيبة في المغازي. وذكر الطبري أيضاً أن أختها أرزميد خت ملكت أيضاً "لن يفلح قوم ولوا أمرهم امرأة" قال الخطابي في الحديث: إن المرأة لا تلي الإمارة ولا القضاء وفيه إنها لا تزوج نفسها ولا تلي العقد على غيرها كذا قال وهو متعقب والمنع من أن تلي الإمارة والقضاء قول الجمهور وأجازه الطبري وهي رواية عن مالك وعن أبي حنيفة عما تلي الحكم فيما تجوز فيه شهادة النساء "ذكر قول رسول الله صلى الله عليه وسلم" يعني قوله: لن يفلح قوم الخ "فعصمني الله به" وفي رواية للبخاري، لقد نفعني الله بكلمة سمعتها من رسول الله صلى الله عليه وسلم أيام الجمل بعد ما كدت أن ألحق بأصحاب الجمل فأقاتل معهم. قال الحافظ: قوله بعد ما كدت أن ألحق بأصحاب الجمل يعني عائشة ومن معها. ومحصل هذه القصة أن عثمان لما قتل وبويع علي بالخلافة خرج طلحة والزبير إلى مكة فوجدا عائشة وكانت قد حجت، فاجتمع رأيهم على التوجه إلى البصرة يستنفرون الناس للطلب بدم عثمان، فبلغ ذلك علياً فخرج إليهم فكانت وقعة الجمل، ونسبت إلى الجمل الذي كانت عائشة قد ركبته وهي في هودجها تدعو الناس إلى الإصلاح.
قوله: "هذا حديث صحيح" وأخرجه البخاري في آخر المغازي، وفي الفتن والنسائي في الفضائل.
قوله: "أخبرنا أبو عامر" هو العقدي اسمه عبد الملك بن عمرو "عن أبيه" هو أسلم العدوي.(6/542)
تحِبّونَهُمْ وَيُحِبّونَكُمْ وَتَدْعُونَ لَهُمْ وَيَدْعُونَ لَكُمْ، وَشِفرَارُ أُمَرَائِكُمْ الّذِينَ تُبْغِضُونَهُمْ وَيُبْغِضُونَكُمْ وَتَلْعَنُونَهُمْ وَيَلْعَنُونَكُمْ" .
قال أبو عيسى: هذا حديثٌ حسنٌ غريبٌ لاَ نَعْرِفُهُ إِلاّ مِنْ حَدِيثِ محمّدِ بنِ أَبي حُمَيْدٍ وَمحمّدٌ يُضَعّفُ مِنْ قِبَلِ حِفْظِهِ.
2367ـ حَدّثنا الْحَسَنُ بنُ عَلِيّ الخلاّلُ، حدثنا يزِيدُ بنُ هَارُونَ، أخبرنا هِشَامُ بنُ حَسّانَ، عن الْحَسَنِ عن ضَبّةَ بنِ محْصَنٍ عن أُمّ سَلَمَةَ عن النّبيّ صلى الله عليه وسلم قالَ: "إِنّهُ سَيَكُون عَلَيْكُمْ أَئِمّةٌ تَعْرِفُونَ وتُنْكِرُونَ، فَمَنْ أَنْكَرَ فَقَدْ بَرِئَ، وَمَنْ كَرِهَ فَقَدْ سَلِمَ، وَلَكِنْ مَنْ رَضِيَ وَتَابَعَ. فَقِيلَ يَا رَسُولَ الله أَفَلاَ نُقَاتِلُهُم؟ قَالَ: لا مَا صَلّوا" .
ـــــــ
قوله: "خيارهم الذين تحبونهم ويحبونكم" أي الذين عدلوا في الحكم فتنعقد بينكم وبينهم مودة ومحبة "وتلعنونهم ويلعنونكم" أي تدعون عليهم ويدعون عليكم أو تطلبون البعد عنهم لكثرة شرهم ويطلبون البعد عنكم لقلة خيركم.
قوله: "هذا حديث غريب لا نعرفه إلا من حديث محمد بن أبي حميد ومحمد يضعف من قبل حفظه" قال في التقريب محمد بن أبي حميد إبراهيم الأنصاري الزرقي أبو إبراهيم المدني لقبه حماد ضعيف من السابعة.
قوله: "عن ضبة" بفتح الضاد المعجمة والموحدة المشددة "بن محصن" العنزي بفتح المهملة والنون، بصري صدوق من الثالثة.
قوله: "قال إنه سيكون عليكم أئمة تعرفون وتنكرون" قال القاضي هما صفتان لأئمة والراجح فيهما محذوف أي تعرفون بعض أفعالهم وتنكرون بعضها يريد أن أفعالهم يكون بعضها حسناً وبعضها قبيحاً "فمن أنكر" أي من قدر أن ينكر بلسانه عليهم قبائح أفعالهم وسماجة أحوالهم وأنكر "فقد برئ" أي من المداهنة والنفاق "ومن كره" أي ولم يقدر على ذلك ولكن أنكر بقلبه وكره ذلك "فقد سلم" أي من مشاركتهم في الوزر والوبال "ولكن من رضي" أي بفعلهم بالقلب "وتابع" أي تابعهم في العمل فهو الذي شاركهم في العصيان. وحذف الخير في قوله من(6/543)
هذا حديثٌ حسنٌ صحيحٌ.
2368ـ حدّثنا أَحْمَدُ بنُ سَعِيدٍ الأَشْقَرُ، حدثنا يُونُسُ بنُ مُحمّدٍ وَ هَاشِمُ بنُ الْقَاسِمِ قَالاَ، حدثنا صَالِحٌ المُرّيّ، عن سَعِيدٍ الْجُرَيرِيّ عن أَبي عُثمانَ النّهْدِيّ، عن أَبِي هُرَيْرَةَ قالَ: قالَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: "إِذَا كان أُمَرَاؤُكمُ خِيَارَكُمْ وَأَغْنِيَاؤُكُم سُمَحَاءَكم وَأُمُورُكُم شُورَى بَيْنَكُمْ فَظَهْرُ الأَرْضِ خَيْرٌ لَكُمْ مِنْ بَطْنِهَا. وَاذَا كان أُمَرَاؤكُمْ شِرَارَكُمْ وَأَغْنِيَاؤُكُمْ بُخَلاَءَكُمْ وَأُمُورُكُمْ إِلَى نِسَائِكُمْ، فَبَطْنُ الأَرْضِ خَيْرٌ لَكُمْ من ظَهْرِهَا" .
ـــــــ
رضي لدلالة الحال على أن حكم هذا القسم ضد ما أثبته لقسيمه "أفلا نقاتلهم قال لا" أي لا تقاتلوهم "ما صلوا" إنما منع عن مقاتلتهم ما داموا يقيمون الصلاة التي هي عنوان الإسلام حذراً من هيج الفتن واختلاف الكلمة وغير ذلك مما يكون أشد نكاية من احتمال نكرهم والمصابرة على ما ينكرون منهم.
قوله: "هذا حديث حسن صحيح" وأخرجه أحمد في 295 ج6 في مسنده.
قوله: "إذا كان أمراؤكم" أي ولاة أموركم "خياركم" أي أتقياءكم "وأغنياؤكم سمحاءكم" أي أسخياءكم. قال في القاموس: سمح ككرم سماحاً وسماحة وسموحاً جاد وكرم فهو سمح سمحاء كأنه جمع سميح انتهى "وأموركم شورى بينكم" مصدر بمعنى التشاور أي ذوات شورى على تقدير مضاف أو على أن المصدر بمعنى المفعول أي متشاورين فيها ومنه قوله تعالى {وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ} "فظهر الأرض خير لكم من بطنها" يعني الحياة خير لكم من الموت "وأموركم إلى نسائكم" أي مفوض إلى رأيهن، والحال أنهن من ناقصات العقل والدين. وقد ورد: شاوروهن وخالفوهن كذا في المرقاة.
قلت: قال صاحب مجمع البحار في كتابه تذكرة الموضوعات في المقاصد، شاوروهن وخالفوهن لم أره مرفوعاً، ولكن روى عن عمر: خالفوا النساء فإن(6/544)
هذا حديثٌ غريبٌ لاَ نَعْرِفُهُ إِلاّ مِنْ حَدِيثِ صالحٍ المُرّيّ. وَصَالحٌ في حَدِيثِهِ غَرَائِبٌ لاَ يُتَابَعُ عَلَيْهَا وَهُوَ رَجُلٌ صَالحٌ.
ـــــــ
في خلافهن البركة. بل روى عن أنس رفعه لا يفعلن أحدكم أمراً حتى يستشير فإن لم يجد من يستشيره فليستشر امرأة ثم ليخالفها فإن في خلافها البركة وفي سنده عيسى ضعيف جداً مع أنه منقطع. وعن عائشة مرفوعاً بطرق ضعاف طاعة النساء ندامة وإدخال ابن الجوزي حديث عائشة في الموضوعات ليس بجيد. وقد استشار صلى الله عليه وسلم أم سلمة في صلح الحديبية، وصار دليل استشارة المرأة الفاضلة. وقد استدرك عليه إبنة شعيب في أمر موسى على نبينا وعليها الصلاة والسلام في آخرين وفي الذين لا يفعلن لمن أحدكم الخ فيه منكر الحديث الصنعاني حديث عائشة موضوع، اللالى حديثها لا يصح. قلت له طرق وشواهد منها. عودوا النساء لاَفانها حقيقة إن أطعتها أهلكتك.. وخالفوا النساء فإن في خلافهن البركة انتهى "فبطن الأرض خير لكم من ظهرها" أي فالموت خير لكم من الحياة لفقد استطاعة إقامة الدين.
قوله: "هذا حديث غريب لا نعرفه إلى من حديث صالح المري الخ" قال في التقريب: صالح بن بشير المري القاص الزاهد ضعيف من السابعة(6/545)
65 ـ باب
2369 ـ حَدّثنا إِبْرَاهِيمُ بنُ يَعْقُوبَ الْجُوزَجَانِيّ، حدثنا نُعَيْمُ بنُ حَمّادٍ، أخبرنا سُفْيَانُ بنُ عُيَيْنَةَ عن أَبِي الزّنَادِ عن الأَعْرَجِ عن أَبِي هُرَيْرَةَ عن النبيّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "إِنّكُمْ في زَمَانٍ مَنْ تَرَكَ مِنْكُمْ عُشْرَ مَا أُمِرَ بِه هَلَكَ ثمّ يأْتِي زَمَانٌ مَنْ عَمِلَ مِنْهُمْ بِعُشرِ ما أُمِرَ بِهِ نَجَا" .
ـــــــ
"باب"
قوله: "أنكم" أيها الصحابة "في زمان" منتصف بالأمن وعز الإسلام "من ترك منكم" أي فيه وهو الرابط لجملة الشرط بموصوفها وهو أمان "عشر ما أمر به"(6/545)
هذا حديثٌ غريبٌ لاَ نَعْرِفُهُ إِلا مِنْ حَدِيثِ نُعَيْمِ بنِ حَمّادٍ عن سُفْيَانَ بنِ عُيَيْنَةَ. وفي البابِ عن أَبي ذَرّ وَأَبي سَعِيدٍ.
2370ـ حدّثنا عَبْدُ بنُ حُمَيدٍ، حدثنا عَبْدُ الرّزّاقِ، حدثنا مَعْمَرٌ عن الزّهْرِيّ عن سَالمٍ عن ابنِ عُمَرَ قَالَ: "قَامَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم عَلَى المِنْبَرِ فَقَالَ: هَا هُنَا أَرْضُ الفِتَنِ وَأَشَارَ إِلَى المَشْرِقِ يعني حَيْثُ يَطْلُعُ قَرْنُ الشّيْطَانِ أَوْ قَالَ جَذْل الشيطان" .
هذا حديثٌ حسنٌ صحيحٌ.
2371ـ حدّثنا قُتَيْبَةُ، حدثنا رِشْدِينُ بنُ سَعْدٍ، عن يُونَسَ عن ابنِ شِهَابٍ عن الزّهْرِيّ، عن قَبِيصَةَ بنِ ذُؤَيْبٍ عن أَبي هُرَيْرَةَ قَالَ: قال
ـــــــ
من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر "هلك" أي وقع في الهلاك لأن الدين عزيز وأنصاره كثرة فالترك تقصير فلا عذر "ثم يأتي زمان" يضعف فيه الإسلام ويكثر الظلم ويعم الفسق ويقل أنصار الدين وحينئذٍ "من عمل منهم" أي من أهل ذلك الزمن "بعشر ما أمر به نجا" لأنه المقدور "ولا يكلف الله نفساً إلا وسعها".
قوله: "هذا حديث غريب لا نعرفه إلا من حديث نعيم" ونعيم بن حماد هذا صدوق يخطئ كثيراً كما في التقريب.
قوله: "وفي الباب عن أبي ذر وأبي سعيد" أما حديث أبي ذر فأخرجه أحمد. وأما حديث أبي سعيد فلينظر من أخرجه.
قوله: "فقال ههنا أرض الفتن" أي البليات والمحن الموجبة لضعف الدين "حيث يطلع جذل الشيطان" قال في القاموس: قرن الشيطان وقرناه أمته والمتبعون لرأيه وانتشاره وتسليطه انتهى "أو قال" شك من الراوي "قرن الشيطان" في القاموس: القرن من الشمس ناحيتها أو أعلاها أو أول شعاعها ويأتي بقية الكلام على هذا الحديث في أواخر الكتاب.
قوله: "هذا حديث حسن صحيح" وأخرجه الشيخان.
قوله: "عن يونس" هو ابن يزيد "عن قبيصة بن ذويب" بالمعجمة مصغراً.(6/546)
رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم: "تَخرُجُ مِنْ خُراسَانَ رَايَاتٌ سُودٌ لا يَرُدّهَا شَيْءٌ حَتّى تُنْصَبَ بِإِيِليَاءَ" .
هذا حديثٌ غريبٌ حسنٌ.
ـــــــ
قوله: "يخرج من خراسان رايات" جمع راية وهي علم الجيش "سود" جمع أسود صفة رايات "فلا يردها شيء" فإن فيها خليفة الله المهدي. روى أحمد في مسنده عن ثوبان مرفوعاً: إذا رأيتم الرايات السود قد جاءت من قبل خراسان قأتوها فإن فيها خليفة الله المهدي "حتى تنصب" بصيغة المجهول أي الرايات "بالياء" بكسر الهمزة وسكون التحتية وكسر اللام وبالمد والقصر مدينة بيت المقدس.
قوله: "هذا حديث غريب" في سنده رشدين بن سعد وهو ضعيف، وفي سند حديث ثوبان المذكور شريك بن عبد الله القاضي، تغير حفظه منذ ولي القضاء بالكوفة. وفيه أيضاً علي بن زيد، والظاهر أنه هو ابن جدعان وهو متكلم فيه.(6/547)
أبواب الرؤيا عن رسول الله صلى الله عليه و سلم
باب أن رؤيا المؤمن جزء من ستة و أربعين جزءاً من النبوة
...
بسم الله الرحمن الرحيم
أبواب الرؤيا عن رسولِ الله صلى الله عليه وسلم
1 ـ باب أَنّ رُؤْيَا المُؤْمِنِ جُزْءٌ مِنْ سِتّةٍ وَأَرْبَعِينَ جُزءاً مِنَ النّبُوّة
2372ـ حَدّثنا نَصْرُ بنُ عَلِيّ، حدثنا عَبْدُ الوَهّابِ الثّقَفِيّ، حدثنا أَيّوبُ عن محمدِ بنِ سِيرِينَ عن أبي هُرَيْرَةَ قَالَ: "قالَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم: إِذَا اقْتَرَبَ الزّمَانُ لَمْ تَكَدْ رُؤيَا المُؤْمِنِ تَكْذِبُ، وَأَصْدَقُهُمْ
ـــــــ
"أبواب الرؤيا الخ"
بضم الراء وسكون الهمزة وبالقصر ما يراه النائم في منامه.
"باب أَنّ رُؤْيَا المُؤْمِنِ جُزْءٌ مِنْ سِتّةٍ وَأَرْبَعِينَ جُزءاً مِنَ النّبُوّة"
قوله: "إذا اقترب الزمان" قال صاحب الفائق فيه ثلاثة أقاويل: أحدها ـ أنه أراد آخر الزمان واقتراب الساعة لأن الشيء إذا قل وتقاصر تقاربت أطرافه ومنه قيل للمقتصد متقارب ويقولون تقاربت إبل فلان إذا قلت، ويعضده قوله صلى الله عليه وسلم في آخر الزمان لا تكاد رؤيا المؤمن تكذب. وثانيها ـ أنه أراد به استواء الليل والنهار لزعم العابرين أن أصدق الأزمان لوقوع العبادة وقت انفتاق الأنوار، وزمان إدراك الأثمار، وحينئذ يستوي الليل والنهار. وثالثها ـ أنه من قوله صلى الله عليه وسلم يتقارب الزمان حتى تكون السنة كالشهر والشهر كالجمعة والجمعة كاليوم واليوم كالساعة، قالوا: يريد به زمن خروج المهدي وبسط العدل وذلك زمان يستقصر لاستلذاذه فيتقارب أطرافه.
قلت: قوله صلى الله عليه وسلم: "في آخر الزمان لا تكاد رؤيا المؤمن تكذب"(6/548)
رُؤْيَا أَصْدَقُهُمْ حَدِيثاً، وَرُؤْيَا المُسْلِمِ جُزْءٌ مِنْ سِتّةٍ وَأَرْبَعِينَ جُزْءاً مِنَ النّبُوّةِ، وَالرّؤْيَا ثَلاَثٌ: فالرّؤْيَا الصّالِحَةُ بُشْرَى مِنَ الله، والرّؤْيَا مِن تَحْزِينِ الشّيطانِ، وَالرّؤْيَا مِمّا يُحَدّثُ بِهَا الرّجُلُ نَفْسَهُ. فإِذَا رَأَى أَحَدُكُمْ
ـــــــ
أخرجه الترمذي من حديث أبي هريرة في باب رؤيا النبي صلى الله عليه وسلم في الميزان والدلو "لم تكد" أي لم يقرب "وأصدقهم رؤيا أصدقهم حديثاً" أي الذي هو أصدقهم حديثاً هو أصدقهم رؤيا "ورؤيا المسلم جزأ من ستة وأربعين جزءاً من النبوة" كذا وقع في أكثر الأحاديث وفي حديث أبي هريرة عند مسلم جزء من خمسة وأربعين. ووقع عند مسلم أيضاً من حديث ابن عمر: جزء من سبعين جزءاً وعند الطبراني عن ابن مسعود: جزء من ستة وسبعين. وأخرج ابن عبد البر عن أنس: جزء من ستة وعشرين. وفي رواية: جزء من خمسين جزءاً من النبوة. وفي رواية: جزء من أربعين. وفي رواية: جزء من أربعة وأربعين. وفي رواية: جزء من تسعة وأربعين. ذكر هذه الروايات الحافظ في الفتح ثم قال: أصحها مطلقاً الأول. وقال وقد استشكل كون الرؤيا جزء من النبوة مع أن النبوة انقطعت بموت النبي صلى الله عليه وسلم. فقيل في الجواب: إن وقعت الرؤيا من النبي صلى الله عليه وسلم فهي جزء من أجزاء النبوة حقيقة، وإن وقعت من غير النبي فهي جزء من أجزاء النبوة على سبيل المجاز. وقال الخطابي: قيل معناه إن الرؤيا تجيء على موافقة النبوة لأنها جزء باق من النبوة. وقيل: المعنى إنها جزء من علم النبوة لأن النبوة وإن انقطعت فعلمها باق. وتعقب بقول مالك فيما حكاه ابن عبد البر أنه سئل أيعبر الرؤيا كل أحد؟ فقال: أبا النبوة يلعب؟ ثم قال: الرؤيا جزء من النبوة فلا يلعب بالنبوة. والجواب أنه لم يرد أنها نبوة باقية وإنما أراد أنها لما اشتبهت النبوة من جهة الاطلاع على بعض الغيب لا ينبغي أن يتكلم فيها بغير علم انتهى. وقال صاحب مجمع البحار: ولا حرج في الأخذ بظاهره فإن أجزاء النبوة لا تكون نبوة فلا ينا في حديث ذهب النبوة انتهى "فالرؤيا الصالحة بشرى من الله" أي إشارة إلى بشارة من الله تعالى للرائي أو المرئي له "والرؤيا من تحزين الشيطان" أي بأن يكدر عليه وقته فيريه في النوم أنه قطع رأسه مثلا "والرؤيا مما يحدث بها الرجل(6/549)
مَا يَكْرَهُ فَلْيَقُمْ وَلْيَتْفُلْ وَلاَ يُحَدّثْ بِهِ النّاسَ قَالَ: وَأُحِبّ القَيْدَ فِي النّوْمِ وَأَكْرَهُ الغُلّ. القَيْدُ: ثَبَاتٌ في الدّينِ" . هذا حديثٌ صحيحٌ.
2373ـ حدّثنا محمودُ بنُ غَيْلاَنَ، حدثنا أبُو دَاوُدَ عَنْ شُعْبَةَ عَنْ قَتَادَةَ، انه سَمِعَ أَنَساً عَنْ عُبَادَةَ بنِ الصّامِتِ: "أَنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: رُؤْيَا المُؤْمِنِ جُزْءٌ مِنْ سِتّةٍ وَأَرْبَعِينَ جُزْءاً مِنَ النّبُوّة" .
ـــــــ
نفسه" كمن يكون في أمر أو حرفة يرى نفسه في ذلك الأمر "وليتفل" قال في القاموس: تفل يتفل ويتفل بصق "قال وأحب القيد في النوم وأكره الغل" قال المهلب: الغل يعبر بالمكروه. لأن الله أخبر في كتابه أنه من صفات أهل النار بقوله تعالى {إِذِ الْأَغْلالُ فِي أَعْنَاقِهِمْ} الاَية. وقال النووي: قال العلماء: إنما أحب القيد لأن محله الرجل وهو كف عن المعاصي والشر والباطل، وأبغض الغل لأن محله العنق وهو صفة أهل النار "القيد ثبات في الدين" وإنما جعل القيد ثباتاً في الدين لأن المقيد لا يستطيع المشي، فضرب مثلا للإيمان الذي يمنع عن المشي إلى الباطل.
قوله: "هذا حديث صحيح" وأخرجه الشيخان.
قوله: "رؤيا المؤمن جزء من ستة وأربعين جزءاً من النبوة" قال الجزري في النهاية: إنما خص هذا العدد لأن عمر النبي صلى الله عليه وسلم في أكثر الروايات الصحيحة كان ثلاثاً وستين سنة، وكانت مدة نبوته منه ثلاثاً وعشرين سنة لأنه بعث عند استيفاء الأربعين وكان في أول الأمر يرى الوحي في المنام، ودام كذلك نصف سنة، ثم رأى الملك في اليقظة فإذا نسبت مدة الوحي في النوم وهي نصف سنة إلى مدة نبوته وهي ثلاثة وعشرون سنة كانت نصف جزء من ثلاثة وعشرين جزءاً وذلك جزء واحد من ستة وأربعين جزءاً. وقد تعاضدت الروايات في أحاديث الرؤيا بهذا العدد وجاء في بعضها جزء من خمسة وأربعين جزءاً ووجه ذلك أن عمره صلى الله عليه وسلم لم يكن قد استكمل ثلاثاً وستين، ومات في أثناء السنة الثالثة والستين. ونسبة نصف السنة إلى اثنتين وعشرين سنة وبعض الأخرى نسبة(6/550)
وفي البابِ عَنْ أبي هُرَيْرَةَ وَأبي رَزِينٍ العُقَيْلِيّ وأنس وَأبي سَعِيدٍ وَعَبْدِ الله بنِ عَمْرٍو وَعَوْفِ بنِ مَالِكٍ وَابنِ عُمر. حَدِيثُ عُبَادَةَ حَدِيثٌ صحيحٌ
ـــــــ
جزء من خمسة وأربعين جزءاً وفي بعض الروايات جزء من أربعين. ويكون محمولا على من روى أن عمره كان ستين سنة، فيكون نسبة نصف سنة إلى عشرين سنة كنسبة جزا إلى أربعين انتهى.
قوله: "وفي الباب عن أبي هريرة وأبي رزين العقيلي وأنس وأبي سعيد وعبد الله بن عمرو وعوف بن مالك وابن عمر" أما حديث أبي هريرة فلعله أشار إلى حديث آخر له غير حديث الباب المذكور. وأما حديث أبي رزين العقيلي فأخرجه الترمذي في باب تعبير الرؤيا. وأما حديث أنس فأخرجه الشيخان. وأما حديث أبي سعيد فأخرجه البخاري. وأما حديث عبد الله بن عمرو فأخرجه أحمد والطبري وفيه: جزأ من تسعة وأربعين كما في الفتح. وأما حديث عوف بن مالك فلينظر من أخرجه وأما حديث ابن عمر فأخرجه مسلم بلفظ: الرؤيا الصالحة جزء من سبعين جزأ من النبوة.
قوله: "حديث عبادة حديث صحيح" وأخرجه الشيخان(6/551)
باب ذهبت النبوة و بقيت المبشرات
...
2 ـ باب ذَهَبَتْ النّبوّةُ وبَقِيَتْ المُبَشّرات
2374ـ حَدّثنا الْحَسَنُ بنُ محمدٍ الزّعْفَرَانيّ، حدثنا عَفّانُ بنُ مُسْلِمٍ حدثنا عَبْدُ الوَاحِدِ يعني ابن زياد، حدثنا المُخْتَارُ بنُ فُلْفُلٍ حدثنا أَنَسُ بنُ مَالِكٍ قَالَ:
ـــــــ
"باب ذَهَبَتْ النّبوّةُ وبَقِيَتْ المُبَشّرات"
بكسر الشين المعجمة جمع مبشرة وهي البشرى. وقد ورد في قوله تعالى {لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} هي الرؤيا الصالحة أخرجه الترمذي في هذا الباب.
قوله: "حدثنا عبد الواحد" هو ابن زياد "حدثنا المختار بن فلفل" بفاءين مضمومتين ولامين الأولى ساكنة، مولى عمرو بن حريث، صدوق، له أوهام من الخامسة.(6/551)
قَالَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم: "إِنّ الرّسَالَةَ وَالنّبُوّةَ قَدْ انْقَطَعَتْ فَلاَ رَسولَ بَعْدِي وَلاَ نَبيّ. قَالَ فَشَقّ ذَلِكَ عَلَى النّاسِ فَقَالَ: لَكِنْ المُبَشّرَاتِ. فَقَالُوا يَا رَسُولَ الله وَمَا المُبَشّرَاتُ، قَالَ رُؤْيَا المُسْلِمِ وَهِيَ جُزْءٌ مِنْ أَجْزَاءِ النّبُوّةِ" .
وفي البابِ عَنْ أبي هُرَيْرَةَ وَحُذَيفَةَ بنِ أَسِيدٍ وابنِ عَبّاس وَأُمّ كُرْزٍ.
ـــــــ
قوله: "إن الرسالة والنبوة قد انقطعت" أي ذهبت ولم تبق "فلا رسول بعدي ولا نبي" النبي في لسان الشرع من بعث إليه بشرع فإن أمر بتبليغه فرسول، وقيل هو المبعوث إلى الخلق بالوحي لتبليغ ما أوحاه. والرسول قد يكون مرادفاً له وقد يختص بمن هو صاحب كتاب وقيل هو المبعوث لتجديد شرع أو تقريره، والرسول هو المبعوث للتجديد فقط. وعلى الأقوال النبي أعم من الرسول "قال فشق ذلك" أي انقطاع للرسالة والنبوة "فقاله لكن المبشرات الخ" قال المهلب: ما حاصله: التعبير بالمبشرات خرج للأغلب، فإن من الرؤيا ما تكون منذرة وهي صادقة يريها الله للمؤمن رفقاً به ليستعد لما يقع قبل وقوعه. وقال ابن التين: معنى الحديث أن الوحي ينقطع بموتي ولا يبقى ما يعلم منه ما سيكون إلا الرؤيا ويرد عليه الإلهام فإن فيه إخباراً بما سيكون وهو للأنبياء بالنسبة للوحي كالرؤيا ويقع لغير الأنبياء كما في الحديث في مناقب عمر: قد كان فيمن مضى من الأمم محدثون. وفسر المحدث بفتح الدال بالملهم بالفتح أيضاً، وقد أخبر كثير من الأولياء على أمور مغيبة فكانت كما أخبروا والجواب أن الحصر في المنام لكونه يشمل آحاد المؤمنين بخلاف فإنه مختص بالبعض ومع كونه مختصاً فإنه نادر، فإنما ذكر المنام لشموله وكثرة وقوعه كذا في الفتح.
قوله: "وفي الباب عن أبي هريرة وحذيفة بن أسيد وابن عباس وأم كرز" أما حديث أبي هريرة فأخرجه البخاري وأما حذيفة بن أسيد وهو بفتح الهمزة فأخرجه الطبراني مرفوعاً عنه: ذهبت النبوة وبقيت المبشرات . وأما حديث ابن عباس فأخرجه مسلم وأبو داود والنسائي في ضمن حديث مرض موته صلى الله عليه(6/552)
هذا حديثٌ صحيحٌ غريبٌ مِنْ هَذَا الوَجْهِ مِنْ حَدِيثِ المُخْتَارِ بنِ فُلْفُلٍ.
2375ـ حَدّثنا ابنُ أبي عُمرَ، أخبرنا سُفْيَانُ عَنْ ابنِ المنْكَدِرِ عَنْ عَطَاءِ بنِ يَسَارٍ عنْ رَجُلٍ مِنْ أَهْلِ مِصْرَ قال: "سَأَلْتُ أَبَا الدّرْدَاءِ عَنْ قَوْلِ الله تعالى: {لَهُمُ البُشْرَى فِي الْحَيَاةِ الدّنْيَا} فَقَالَ: مَا سَأَلَنِي عَنْهَا أَحَدٌ غَيْرَكَ إِلاّ رَجُلٌ وَاحِدٌ مُنْذُ سَأَلْتُ رَسولَ الله صلى الله عليه وسلم: سألْتُ رَسولَ الله صلى الله عليه وسلم فقال: ما سَأَلَنِي عَنْهَا أَحَدٌ غَيرَكَ مُنْذُ أُنْزِلَتْ هِيَ الرّؤْيَا الصّالِحَةُ يَرَاهَا المُسْلِمُ أَوْ تُرَى لَهُ" .
وفي البابِ عَنْ عُبَادَةَ بنِ الصّامِتِ. هذا حديثٌ حسنٌ.
ـــــــ
وسلم مرفوعاً فقال: يا أيها الناس إنه لم يبق من مبشرات النبوة إلا الرؤيا الصالحة يراها المسلم أو ترى له. وأما حديث أم كرز بضم الكاف وسكون الراء بعدها زاي فأخرجه أحمد وابن ماجة وصححه ابن خزيمة وابن حبان مرفوعاً: ذهبت النبوة وبقيت المبشرات .
قوله: "هذا حديث صحيح غريب" وأخرجه أبو يعلى كما في الفتح وأخرجه أيضاً أحمد في مسنده والحاكم وقال على شرط مسلم قال المناوي وأقروه.
قوله: "عن رجل من أهل مصر" ذكر ابن أبي حاتم عن أبيه أن هذا الرجل ليس بمعروف كذا في الفتح.
قوله: "يراها المسلم" أي لنفسه "أو ترى" بصيغة المجهول أي يراها رجل آخر "له" أي لأجله.
قوله: "وفي الباب عن عبادة بن الصامت" أخرجه الترمذي في هذا الباب.
قوله: "هذا حديث حسن" وأخرجه أحمد في مسنده وأبو داود الطيالسي وفي سنده رجل من أهل مصر وهو ليس بمعروف بتحسين الترمذي لشواهده.(6/553)
2376ـ حدّثنا قتَيْبَةُ، حدثنا ابنُ لَهِيعَةَ عَنْ دَرّاجٍ عنْ أبي الهيْثَمِ عن أبي سَعِيدٍ عَنْ النّبِيّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "أَصْدَقُ الرّؤْيَا بالأَسْحَارِ" .
2377ـ حدّثنا محمدُ بنُ بَشّارٍ، حدثنا أَبُو دَاوُدَ، حدثنا حَرْبُ بنُ شَدّادٍ و عِمْرانُ القَطّانُ عنْ يَحيَى بنِ أَبي كَثِيرٍ عنْ أَبي سَلَمَةَ قَالَ نُبّئتُ عنْ عُبَادَةَ بنِ الصّامِتِ قَالَ: "سَأَلْتُ رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم عنْ قَوْلِه تعالى: {لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَيَاةِ الدّنْيَا} قَالَ: هِي الرّؤْيَا الصّالِحَةُ يَرَاهَا المُؤْمِنُ أَوْ تُرَى لَهُ" . قالَ حَرْبٌ فِي حَدِيثِهِ حدثنا يَحيَى.
ـــــــ
قوله: "أصدق الرؤيا بالأسحار" أي ما رؤي بالأسحار. وذلك لأن الغالب حينئذ أن تكون الخواطر مجتمعة والدواعي ساكنة ولأن المعدة خالية فلا يتصاعد منها الأبخرة المشوشة، ولأنها وقت نزول الملائكة للصلاة المشهودة ذكره الطيبي. والحديث أخرجه الدارمي وأحمد وابن حبان والبيهقي. وقال المناوي في شرح الجامع الصغير قال الحاكم صحيح وأقروه انتهى.
قلت في سنده ابن لهيعة وأيضاً في سنده دراج عن أبي الهيثم. قال الحافظ في تهذيب التهذيب: قال الاَجري عن أبي داود أحاديثه مستقيمة إلا ما كان عن أبي الهيثم عن أبي سعيد.
قوله: "حدثنا ابن شداد" اليشكري البصرى ثقه من السابعة "نبئت" بصيغة المتكلم المجهول من باب التفعيل.
قوله: "قال حرب في حديثه حدثنا يحيى" يعني بصيغة التحديث وأما عمران القطان فقال عن يحيى بصيغة العنعنة وحديث عبادة هذا أخرجه أيضاً ابن ماجة وصححه الحاكم ورواته ثقات إلا أن أبا سلمة لم يسمعه من عبادة كذا في فتح الباري(6/554)
باب ما جاء فى قول النبى صلى الله عليه و سلم من رآنى فى المنام فقد رآنى
...
3 ـ باب ما جاء في قَوْلِ النّبِيّ صلى الله عليه وسلم "مَنْ رَآنِي فِي المَنَامِ فَقَدْ رَآنِي"
2378ـ حَدّثنا محمد بن بشار، حدثنا عَبْدُ الرّحمنِ بنُ مَهْدِيّ، حدثنا سُفْيَانُ عنْ أَبِي إِسْحَاقَ عن أبي الأحْوَصِ عَنْ عَبْدِ الله عن النّبِيّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "مَنْ رَآنِي فِي المَنَامِ فَقَدْ رَآنِي، فَإِنّ الشّيْطَانَ لاَ يَتَمَثّلُ بِي" .
ـــــــ
"باب ما جاء في قول النبي صلى الله عليه وسلم من رآني الخ"
قوله: "عن عبد الله" أي ابن مسعود.
قوله: "من رآني في المنام فقد رآني" اختلف العلماء في معنى قوله فقد رآني. فقال ابن الباقلاني: معناه أن رؤياه صحيحة ليست بأضغاث ولا من تشبيهات الشيطان ويؤيد قوله رواية: فقد رأى الحق. أي الرؤية الصحيحة. قال وقد يراه الرائي خلاف صفته المعروفة كمن رآه أبيض اللحية وقد يراه شخصان في زمن واحد أحدهما في المشرق والاَخر في المغرب ويراه كل منهما في مكانه. وحكى الماري هذا عن ابن الباقلاني ثم قال وقال آخرون بل الحديث على ظاهره، والمراد أن من رآه فقد أدركه ولا مانع يمنع من ذلك والعقل لا يحيله حتى يضطر إلى صرفه عن ظاهره. فأما قوله بأنه قد يرى على خلاف صفته أو في مكانين معاً فإن ذلك غلط في صفاته وتخيل لها على خلاف ما هي عليه. وقد يظن الظان بعض الخيالات مرئياً لكون ما يتخيل مرتبطاً بما يرى في العادة فيكون ذاته صلى الله عليه وسلم مرئية وصفاته متخيلة غير مرئية والإدراك لا يشترط فيه تحديق الأبصار ولا قرب المسافة ولا كون المرئي مدفوناً في الأرض ولا ظاهراً عليها. وإنما يشترط كونه موجوداً ولم يقم دليل على فناء جسمه صلى الله عليه وسلم بل جاء في الأحاديث ما يقتضي بقاءه، قال: ولو رآه يأمر بقتل من يحرم قتله كان هذا من الصفات المتخيلة لا المرئية. هذا كلام المازري. قال القاضي: ويحتمل أن يكون قوله صلى الله عليه وسلم: فقد رآني أو فقد رأى الحق فإن الشيطان لا يتمثل في صورتي. المراد به إذا رآه على صفته المعروفة في حياته، فإن رأى على خلافها كانت رؤيا تأويل لا رؤيا حقيقة. وهذا(6/555)
وفي البابِ عَنْ أبي هُرَيْرَةَ وأبي قَتَادَةَ وَابنِ عَبّاسٍ وَأَبي سَعِيدٍ وَجَابِرٍ وَأَنَسٍ وأبي مَالِكٍ الأَشْجَعِيّ عنْ أَبِيهِ وأبي بَكْرَةَ وأبي جُحَيفَةَ.
ـــــــ
الذي قاله القاضي ضعيف. بل الصحيح أنه يراه حقيقة سواء كان على صفته المعروفة أو غيرها لما ذكره المازري. قال القاضي قال بعض العلماء: خص الله تعالى النبي صلى الله عليه وسلم بأن رؤية الناس إياه صحيحة وكلها صدق ومنع الشيطان أن يتصور في خلقته لئلا يكذب على لسانه في النوم، وكما خرق الله تعالى العادة للأنبياء عليهم السلام بالمعجزة، وكما استحال أن يتصور الشيطان في صورته في اليقظة ولو وقع لاشتبه الحق بالباطل، ولم يوثق بما جاء به مخالفة من هذا التصور فحماها الله تعالى من الشيطان ونزغه ووسوسته وكيده. قال: وكذا حمى رؤياهم بأنفسهم كذا في شرح مسلم للنووي "فإن الشيطان لا يتمثل بي" وفي رواية: لا يتمثل في صورتي. والمعنى لا يتشبه بصورتي. وفي رواية: لا يستطيع أن يتمثل بي. قال الحافظ: فيه إشارة إلى أن الله تعالى وإن أمكنه من التصور في أي صورة أراد فإنه لم يمكنه من التصور في صورة النبي صلى الله عليه وسلم. وقد ذهب إلى هذا جماعة فقالوا في الحديث: إن محل ذلك إذا رآه الرائي على صورته التي كان عليها. ومنهم من ضيق الغرض في ذلك حتى قال لا بد أن يراه على صورته التي قبض عليها حتى يعتبر عدد الشعرات البيض التي لم تبلغ عشرين شعرة. قال الحافظ. والصواب التعميم في جميع حالاته بشرط أن تكون صورته الحقيقية في وقت ما، سواء كان في شبابه أو رجوليته أو كهوليته أو آخر عمره. وقد يكون لما خالف ذلك تعبير ما يتعلق بالرائي كذا في الفتح.
قوله: "وفي الباب عن أبي هريرة وأبي قتادة وابن عباس وأبي سعيد وجابر وأنس وأبي مالك الأشجعي عن أبيه وأبي بكرة وأبي جحيفة". أما حديث أبي هريرة فأخرجه الشيخان وابن ماجة. وأما حديث أبي قتادة فأخرجه الشيخان وأبو داود. وأما حديث ابن عباس فأخرجه ابن ماجة. وأما حديث أبي سعيد فأخرجه البخاري وابن ماجة. وأما حديث جابر فأخرجه مسلم وابن ماجة. وأما حديث أنس فأخرجه البخاري. وأما حديث أبي مالك عن أبيه فلينظر من أخرجه وأما حديث أبي جحيفة فأخرجه ابن ماجة.(6/556)
هذا حديثٌ حسنٌ صحيحٌ.
ـــــــ
قوله: "هذا حديث حسن صحيح" وأخرجه ابن ماجه.(6/557)
4 ـ باب ما جاء إِذَا رَأَى فِي المَنامِ مَا يَكرَهُ مَا يَصْنَع
2379 ـ حَدّثنا قُتَيْبَةُ، حدثنا الّليْثُ عَنْ يَحْيَى بنِ سَعِيدٍ، عنْ أبي سَلَمَةَ بنِ عَبْدِ الرحمَنِ عنْ أَبي قَتَادَةَ عن رَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم أَنّهُ قَالَ: "الرّؤْيَا مِنَ الله وَالْحُلْمُ مِنَ الشّيْطَانِ، فإِذَا رَأَى أَحَدُكُمْ شَيْئاً يَكْرَهُهُ فَلْيَنْفُثْ عنْ يَسَارِهِ ثَلاَثَ مَرّاتٍ. وَلْيَسْتَعِذْ بِالله مِنْ شَرّها فإنها
ـــــــ
"باب ما جاء إذا رأى في المنام ما يكره ما يصنع"
قوله: "الرؤيا من الله والحلم من الشيطان" الحلم بضم الحاء وسكون اللام، ويضم: ما يرى في المنام من الخيالات الفاسدة. قال في النهاية: الحلم عبارة عما يراه النائم في نومه من الأشياء لكن غلبت الرؤيا على ما يراه من الخير والشيء الحسن وغلب الحلم على ما يراه من الشر والأمر القبيح ومنه قوله تعالى {أَضْغَاثُ أَحْلامٍ} ويستعمل كل منهما موضع الآخر وتضم لام الحلم وتسكن انتهى. قال النووي في شرح مسلم: أضاف الرؤيا المحبوبة إلى الله تعالى إضافة تشريف بخلاف المكروهة وإن كانتا جميعاً من خلق الله تعالى وتدبيره وبإرادته ولا فعل للشيطان فيهما لكنه يحضر المكروهة ويرتضيها. ويسر بها "فلينفث" عن يساره. قال النووي: ينفث بضم الفاء وكسرها. قال: وجاء في رواية: فليبصق. وفي رواية: فليتفل. وأكثر الروايات فلينفث. وقد سبق في كتاب الطب بيان الفرق بين هذه الألفاظ من قال إنها بمعنى، ولعل المراد بالجميع النفث وهو نفخ لطيف بلا ريق. ويكون التفل والبصق محمولين عليه مجازاً انتهى. وقال الجزري التفل شبيه بالبزق وهو أقل منه فأوله البزق ثم النفث ثم النفخ "وليستعذ بالله من شرها" وفي رواية: فليبصق على يساره ثلاثاً وليستعذ بالله من الشيطان ثلاثاً وليتحول عن جنبه الذي كان عليه. وفي رواية وليتعوذ بالله من شر الشيطان وشرها. وفي حديث أبي هريرة عند(6/557)
لاَ تَضُرّهُ" . وفي البابِ عَنْ عَبْدِ الله بنِ عَمْرٍو وَأبي سَعِيدٍ وَجَابِرٍ وَأَنَسٍ.
هذا حديث حسنٌ صحيحٌ.
ـــــــ
مسلم فإن رأى إحدكم ما يكره فليقم فليصل ولا يحدث بها الناس. قال النووي: فينبغي أن يجمع بين هذه الروايات ويعمل بها كلها، فإذا رأى ما يكرهه نفث عن يساره ثلاثاً قائلاً: أعوذ بالله من الشيطان... ومن شرها وليتحول إلى جنبه الاَخر وليصل ركعتين فيكون قد عمل بجميع الروايات وإن اقتصر على بعضها أجزأه في دفع ضررها بإذن الله تعالى كما صرحت به الأحاديث. قال القاضي: وأمر بالنفث ثلاثاً طرداً للشيطان الذي حضر رؤياه المكروهة، تحقيراً له واستقذاراً وخصت به اليسار لأنه محل الأقذار والمكروهات ونحوها، واليمين ضدها "فإنها لا تضره" معناه أن الله تعالى جعل هذا سبباً للسلامة من مكروه يترتب عليها، كما جعل الصدقة وقاية للمال وسبباً لدفع البلاء انتهى.
قوله: "وفي الباب عن عبد الله بن عمرو وأبي سعيد وجابر وأنس" أما حديث جابر فأخرجه مسلم. وأما أحاديث بقية الصحابة فلينظر من أخرجها.
قوله: "هذا حديث حسن صحيح" وأخرجه الشيخان(6/558)
5 ـ باب ما جَاءَ في تَعْبِيرِ الرّؤْيَا
2380 ـ حَدّثنا محمودُ بنُ غَيْلاَنَ، حدثنا أَبُو دَاوُدَ قال: أَنْبَأَنَا شُعْبَةُ قال: أَخْبَرني يَعْلَى بنُ عَطَاءٍ قَالَ: "سَمِعْتُ وكيعَ بنَ عُدُسٍ عَنْ أَبي رَزِينٍ العُقَيْلِيّ قَالَ: قَالَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم: رُؤْيَا المُؤْمِنِ جُزْءٌ منْ أَرْبَعِينَ
ـــــــ
"باب ما جاء في تعبير الرؤيا"
قوله: "سمعت وكيع بن عدس" بمهملات وضم أوله وثانيه، وقد يفتح ثانيه ويقال بالحاء بدل العين كنيته أبو مصعب العقيلي بفتح العين الطائفي. وضبطه في الخلاصة بضم العين مقبول من الرابعة روى عن عمه أبي رزين العقيلي، وعنه يعلى ابن عطاء العامري وذكره ابن حبان في الثقات قاله الحافظ.(6/558)
جُزْءاً مِنَ النّبُوّةِ، وَهِيَ عَلَى رِجْلِ طَائِرٍ مَا لَمْ يُحَدّثْ بِهَا، فَإِذَا تُحُدّثَ بِهَا سَقَطَتْ. قَالَ وَأَحْسَبُهُ قَالَ: وَلاَ تُحَدّثْ بِهَا إِلاّ لَبِيباً أَوْ حَبِيباً" .
2381ـ حدّثنا الحسَنُ بنُ عَلِيّ الْخَلاّلُ، حدثنا يَزِيدُ بنُ هَارُونَ، أخبرنا شُعْبَةُ عَنْ يَعْلَى بنِ عَطَاءٍ عن وَكِيعِ بنِ عُدُسٍ عَنْ عَمّهِ أبي رَزِينٍ عَنْ النّبِيّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "رُؤْيَا المُسْلِمِ جُزْءٌ مِنْ سَتّةٍ وَأَرْبَعِينَ جُزْءاً مِنَ النّبُوّةِ وَهِيَ عَلَى رِجْلِ طَائرٍ مَا لَمْ يُحَدّثْ بِهَا فَإِذَا حَدّثَ بِهَا وَقَعَتْ" .
هذا حديثٌ حسنٌ صحيحٌ. وَأَبُو رَزِينٍ العُقَيْلِي اسْمُهُ لَقِيطُ بنُ عَامِرٍ. وَرَوَى
ـــــــ
قوله: "وهي" أي رؤيا المؤمن "على رجل طائر" هذا مثل في عدم تقرر الشيء أي لا تستقر الرؤيا قراراً كالشيء المعلق على رجل طائر ذكره ابن الملك. فالمعنى أنها كالشيء المعلق برجل الطائر لا استقرار لها. قال في النهاية: أي لا يستقر تأويلها حتى تعبر، يريد أنها سريعة السقوط إذا عبرت. كما أن الطير لا يستقر في أكثر أحواله فكيف يكون ما على رجله "ما لم يحدث" أي ما لم يتكلم المؤمن أو الرائي "بها" أي بتلك الرؤيا أو تعبيرها "فإذا تحدث بها سقطت" أي تلك الرؤيا على الرائي يعني يلحقه حكمها. وفي رواية أبي داود قال: الرؤيا على رجل طائر ما لم تعبر فإذا عبرت وقعت. قلت هذه الرواية تدل على أن المراد بقوله ما لم يحدث ما لم يتكلم بتعبيرها "قال" أي أبو رزين العقيلي وقائله وكيع بن عدس "وأحسبه" أي رسول الله صلى الله عليه وسلم "ولا تحدث بها إلا لبيباً" أي عاقلا فإنه إما يعبر بالمحبوب أو يسكت عن المكروه "أو حبيباً" أو التنويع أي محباً لا يعبر لك إلا بما يسرك.
قوله: "هذا حديث حسن صحيح" وأخرجه أبو داود وابن ماجه "وأبو رزين العقيلي اسمه لقيط بن عامر" قال الحافظ في التقريب لقيط بن صبرة بفتح المهملة وكسر الموحدة صحابي مشهور يقال إنه جده واسم أبيه عامر وهو أبو رزين العقيلي والأكثر على أنهما اثنان. وقد بسط الكلام في هذا في تهذيب التهذيب "فقال(6/559)
حَمّادُ بنُ سَلَمَةَ عَنْ يَعْلَى بنِ عَطَاءٍ، فَقَالَ عَنْ وَكِيعِ بنِ حُدُسٍ. وَقَالَ شُعْبَةُ وَ أَبُو عَوَانَةَ وَ هُشَيمٌ عَنْ يَعْلَى بنِ عَطَاءٍ عن وَكِيعِ بنِ عُدُسٍ وَهَذَا أَصَحّ.
ـــــــ
وكيع بن حدس" أي بضم الحاء والدال المهملتين "وقال شعبة وأبو عوانة وهشيم عن يعلي بن عطاء عن وكيع بن عدس" أي بضم العين والدال المهملتين "وهذا" أي وكيع بن عدس بالعين والدال المهملتين "أصح" لأنه كذلك، كذا روى أكثر أصحاب يعلى(6/560)
6-باب
2382ـ حَدّثنا أَحْمَدُ بنُ أبي عُبيدِ الله السّلِيميّ البَصْرِيّ، حدثنا يَزِيدُ بنَ زُرَيعٍ، أخبرنا سَعِيدٌ عن قَتَادَةَ عن محمدِ بنِ سِيرِينَ عن أبي هُرَيْرَةَ قَالَ: "قَالَ رسُولُ الله صلى الله عليه وسلم: الرّؤْيَا ثَلاَثٌ فَرُؤْيَا حَقّ وَرُؤْيَا يُحدّثُ بِهَا الرّجُلُ نَفْسَهُ وَرُؤْيَا تَحْزِينٌ مِنَ الشّيْطَانِ. فمنْ رَأَى مَا يَكْرَهُ فَلْيَقُمْ فَلْيُصَلّ وَكَانَ يَقُولُ يُعْجِبُنِي القَيْدَ وَأَكْرَهُ الغُلّ، القَيْدُ ثَبَاتٌ في الدّين. وكان يقولُ: مَنْ رَآنِي فَإِنِي أَنَا هُوَ، فَإِنّهُ لَيْسَ لِلشّيْطَانِ أَنْ يَتَمَثّلَ بِي. وكان يقولُ: لا تُقَصّ الرّؤْيَا إِلاّ عَلَى عَالِمٍ أَوْ نَاصِحٍ" .
ـــــــ
"باب"
قوله: "حدثنا أحمد بن أبي عبيد الله السليمي" بمفتوحة وكسر لام فتحتية في المغنى، ثقة من العاشرة "أخبرنا سعيد" هو ابن أبي عروبة.
قوله: "من رآني فإني أنا هو" أي من رأى في المنام رجلاً مشابهاً بي فإني أنا ذلك الرجل.(6/560)
وفي البابِ عن أَنَسٍ وأبي بَكْرَةَ وأُمّ الْعَلاَءِ وابنِ عُمَرَ وعائشةَ وأبي سَعِيدٍ وجابرٍ وأبي مُوسَى وابنِ عَبّاسِ وعبدِ الله بنِ عَمْرٍو.
وحديث أبي هريرة هذا حديثٌ حسنٌ صحيحٌ.
ـــــــ
قوله: "وفي الباب عن أنس وأبي بكرة الخ" اعلم أن الترمذي أطلق الباب أولا وقال باب ولم يقيده بترجمة، ثم أورد فيه حديث أبي هريرة المذكور، ثم قال وفي الباب عن أبي أنس وأبي بكرة إلخ، فالمراد بقوله وفي الباب أي وفي باب ما يشتمل عليه حديث أبي هريرة المذكور، ولينظر من أخرج أحاديث هؤلاء الصحابة رضي الله عنهم.
قوله: "حديث أبي هريرة حديث حسن صحيح" تقدم هذا الحديث في باب رؤيا المؤمن جزء من ستة وأربعين جزءاً من النبوة(6/561)
6 ـ بابُ ما جاء في الّذِي يَكْذِبُ في حُلمِه
2383ـ حَدّثنا محمودُ بنُ غَيْلاَنَ، حدثنا أبو أحمَدَ الزّبَيْرِيّ، حدثنا سُفْيَانُ عن عبدِ الأَعْلَى عن أبي عبدِ الرحمَنِ السّلمي عن عَلِيّ قال أُرَاهُ عن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال: "مَنْ كَذَبَ في حُلْمِهِ كُلّفَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَقْدَ شَعِيرَةٍ" .
2384ـ حدّثنا قُتَيْبَةُ، حدثنا أبو عَوَانَةَ عن عبدِ الأَعْلَى عن أبي
ـــــــ
"باب ما جاء في الذي يكذب في حلمه"
قوله: "عن عبد الأعلى" بن عامر الثعلبي بالمثلثة والمهملة الكوفي، صدوق يهم من السادسة "عن أبي عبد الرحمن" هو السلمي.
قوله: "قال أراه" بضم الهمزة أي أظنه، يعني قال أبو عبد الرحمن أظن أن علياً قال عن النبي صلى الله عليه وسلم، وقائل قال هو عبد الأعلى "من كذب في حلمه" أي في رؤياه "كلف" بضم الكاف وتشديد اللام مكسورة "عقد شعيرة" وفي الرواية الاَتية أن يعقد بين شعيرتين ولن يعقد بينهما.(6/561)
عبدِ الرحمَنِ السّلَمِيّ عن عَلِيّ عن النبيّ صلى الله عليه وسلم نَحْوَهُ.
وفي البابِ عن ابنِ عَبّاسٍ وأبي هُرَيْرَةَ وأبي شُرَيْحٍ وَواثِلَةَ بنِ الأَسْقَعِ.
وهذا أَصَحّ مِنَ الحديثِ الأوّلِ.
2385ـ حدّثنا محمّدُ بنُ بَشّارٍ، حدثنا عبدُ الْوَهّابِ، حدثنا أَيّوبُ عن عِكْرِمَةَ عن ابنِ عَبّاسٍ عن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال: "مَنْ تَحَلّمَ كَاذِباً كُلّفَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَنْ يَعْقِدَ بَيْنَ شَعْرَتَيْنِ وَلَنْ يَعْقِدَ بَيْنَهُمَا" .
ـــــــ
قوله: "وفي الباب عن ابن عباس وأبي هريرة وأبي شريح وواثلة بن الأسقع" أما حديث ابن عباس فأخرجه الترمذي في هذا الباب. وأما حديث أبي هريرة وحديث أبي شريح فلينظر من أخرجهما، وأما حديث واثلة فأخرجه أحمد في مسنده.
قوله: "وهذا أصح من الحديث الأول" أي حديث قتيبة عن أبي عوانة عن عبد الأعلى أصح من حديث أبي أحمد الزبيري عن سفيان، وهو الثوري عن عبد الأعلى، لأن أبا أحمد الزبيري وإن كان ثقة ثبت، إلا أنه قد يخطئ في حديث الثوري كما في التقريب.
قوله: "قال من تحلم" بالتشديد أي طلب الحلم بأن ادعى أنه حلم حلماً، أي رأى رؤيا "كاذباً" في دعواه أنه رأى ذلك في منامه "ولن يعقد بينهما" لأن اتصال إحداهما بالأخرى غير ممكن فهو يعذب ليفعل ذلك ولا يمكنه فعله فهو كناية عن دوام تعذيبه. قال الجزري في النهاية قوله: من تحلم كلف أن يعقد بين شعيرتين أي قال إنه رأى في النوم ما لم يره يقال حلم بالفتح إذا رأى وتحلم إذا ادعى الرؤيا كاذباً. فإن قيل إن كذب الكاذب في منامه لا يزيد على كذبه في يقظته فلم زادت عقوبته ووعيده وتكليفه عقد الشعيرتين؟ قيل قد صح الخبر أن الرؤيا الصادقة جزء من النبوة والنبوة لا تكون إلا وحياً والكاذب في رؤياه يدعي أن الله تعالى أراه ما لم يره وأعطاه جزءاً من النبوة لم يعطه إياه. والكاذب على الله تعالى أعظم فرية ممن كذب على الخلق أو على نفسه انتهى.(6/562)
هذا حديثٌ صحيحٌ.
ـــــــ
قوله: "هذا حديث صحيح" وأخرجه البخاري وأبو داود والنسائي وابن ماجة.(6/563)
8 ـ باب
2386ـ حَدّثنا قُتَيْبَةُ بن سعيد، أخبرنا الّليْثُ عن عُقَيْلٍ عن الزّهريّ عن حَمْزَةَ بنِ عبدِ الله بنِ عُمَرَ عن ابن عُمَرَ قال: "سَمِعْتُ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم يقولُ: بَيْنَا أَنَا نَائِمٌ إِذْ أُتِيتُ بِقَدَحِ لَبَنٍ فَشَرِبْتُ مِنْهُ ثُمّ أَعْطَيْتُ فَضْلِي عُمَرَ بنَ الْخَطّابِ. قالوا: فمَا أَوّلْتَهُ يا رسولَ الله؟ قال: الْعِلْمُ" .
وفي الباب عن أبي هُرَيْرَةَ وأبي بَكْرَةَ وابنِ عَبّاسٍ وعبدِ الله بنِ
ـــــــ
"باب"
قوله: "عن عقيل" بضم العين وفتح القاف مصغراً، ابن خالد بن عقيل بالفتح الأيلي بفتح الهمزة بعدها تحتانية ساكنة ثم لام كنيته أبو خالد الأموي مولاهم، ثقة ثبت من السادسة "عن حمزة بن عبد الله بن عمر" المدني، شقيق سالم ثقة من الثالثة.
قوله: "بينا" أصله بين فأشبعت الفتحة "إذ أتيت" بضم الهمزة "فشربت منه" أي من ذلك اللبن "قال العلم" هو بالنصب وبالرفع في الرواية وتوجيههما ظاهر وتفسير اللبن بالعلم لاشتراكهما في كثرة النفع بهما. وقال ابن العربي: اللبن رزق يخلقه الله طيباً بين أخباث من دم وفرث كالعلم نور يظهره الله في ظلمة الجهل فضرب به المثل في المنام قال بعض العارفين: الذي خلص اللبن من بين فرث ودم قادر على أن يخلق المعرفة من بين شك وجهل ويحفظ العمل عن غفلة وزلل وهو كما قال لكن اطردت العادة بأن العلم بالتعلم، والذي ذكره قد يقع خارقاً للعادة فيكون من باب الكرامة. وقال ابن أبي جمرة: تأول النبي صلى الله عليه وسلم اللبن بالعلم اعتباراً بما بين له أول الأمر حين أُتي بقدح خمر وقدح لبن، فأخذ اللبن، فقال له جبريل: أخذت الفطرة الحديث، كذا في الفتح(6/563)
سَلاَمٍ وخُزَيْمَةَ والطّفَيْلِ بنِ سَخْبَرَةَ وَسمرَةَ وأبي أُمَامَةَ وجابرٍ. قال حديثٌ ابنِ عُمَرَ حديثٌ صحيح
ـــــــ
قوله: "حديث ابن عمر حديث صحيح" وأخرجه الشيخان.(6/564)
9 ـ باب
2387ـ حدّثنا الْحُسَيْنُ بنُ محمّدٍ الْجَرِيرِيّ الْبَلْخِي، حدثنا عبدُ الرّزّاقِ عن مَعْمَرٍ عن الزّهريّ عن أبي أُمَامَةَ بنِ سَهْلِ بنِ حُنَيْفٍ عن بَعْضِ أَصْحَابِ النبيّ صلى الله عليه وسلم أَنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم قال: "بَيْنَا أَنَا نَائِمٌ رَأَيْتُ النّاسَ يُعْرَضُونَ عَلَيّ وَعَلَيْهِمْ قُمُصٌ مِنْهَا مَا يَبْلُغُ الثُدِيّ وَمِنْهَا
ـــــــ
"باب"
قوله: "حدثنا الحسين بن محمد الحريري" بالحاء المهملة، كذا وقع في النسخة الأحمدية وكتب في هامشها ما حاصله: أنه وقع في نسخة صحيحة هكذا بالحاء ووقع في بعض النسخ الأخرى بالجيم انتهى. قلت قال في الخلاصة: الحسين بن محمد بن جعفر الجريري من ولد جرير النخيلي عن عبد الرزاق وعبيد الله بن موسى وعنه الترمذي انتهى. فعلم منه أنه الجريري بفتح الجيم وكسر الراء. وفي شرح الشيخ ابن حجر الهيثمي على الشمائل الجريري بضم الجيم هو الصواب انتهى. والظاهر أنه بفتح الجيم والله تعالى أعلم وهو مجهول كما في تهذيب التهذيب "عن بعض أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم كذا أبهمه معمر في هذه الرواية وقد صرح صالح بن كيسان في روايته الاَتية بذكر أبي سعيد". قال الحافظ: كذا رواه أكثر أصحاب الزهري. ورواه معمر عن الزهري عن أبي أمامة بن سهل عن بعض أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم فأبهمه، أخرجه أحمد انتهى.
قوله: "وعليهم قمص" بضمتين جمع قميص والجملة حالية "منها" أي من القمص "ما يبلغ الثدي" بضم المثلثة وكسر الدال وتشديد الياء، جمع ثدي بفتح ثم سكون وهو مذكر عند معظم أهل اللغة. وحكي أنه مؤنث، والمشهور أنه يطلق(6/564)
مَا يَبْلُغُ أَسْفَلَ مِنْ ذَلِكَ. قال فَعُرِضَ عَلَيّ عُمَرُ وَعَلَيْهِ قَمِيصٌ يَجُرّهُ. قالوا فمَا أَوّلْتَهُ يا رسُولَ الله؟ قال: الدّين" .
2388ـ حدّثنا عَبْدُ بنُ حُمَيْدٍ، حدثنا يَعْقُوبُ بنُ إِبراهيمَ بنِ سَعْدٍ
ـــــــ
في الرجل والمرأة، وقيل يختص بالمرأة، وهذا الحديث يرده. ولعل قائل هذا يدعي أنه أطلق في هذا الحديث مجازاً والمعنى أن القميص قصير جداً بحيث لا يصل من الحلق إلى نحو السرة بل فوقها "ومنها ما يبلغ أسفل من ذلك" وفي رواية البخاري ومنها ما دون ذلك. قال الحافظ: يحتمل أن يريد دونه من جهة السفل وهو الظاهر فيكون أطول. ويحتمل أن يريد دونه من جهة العلو فيكون أقصر، ويؤيد الأول ما في رواية الحكيم الترمذي من طريق أخرى في هذا الحديث فمنهم من كان قميصه إلى سرته، ومنهم من كان قميصه إلى ركبته، ومنهم من كان قميصه إلى أنصاف ساقيه انتهى. قلت ويؤيد الأول رواية أبي عيسى الترمذي هذه أيضاً "فعرض على عمر" أي في ما بينهم "وعليه قميص يجره" أي يسحبه في الأرض لطوله "قالوا" أي بعض الصحابة من الحاضرين "فما أولته" أي فما عبرت جر القميص لعمر "قال الدين" بالنصب أي أولته الدين ويجوز الرفع أي المأول به هو الدين. قال النووي: القميص الدين وجره يدل على بقاء آثاره الجميلة، وسنته الحسنة في المسلمين بعد وفاته ليقتدى به. وأما تفسير اللبن بالعلم فلكثرة الانتفاع بهما وفي أنهما سبباً للصلاح فاللبن غذاء الإنسان وسبب صلاحهم وقوة أبدانهم والعلم سبب للصلاح وغذاء للأرواح في الدنيا والاَخرة انتهى. وقال الحافظ: قالوا وجه تعبير القميص بالدين أن القميص يستر العورة في الدنيا، والدين يسترها في الاَخرة ويحجبها عن كل مكروه والأصل فيه قوله تعالى {وَلِبَاسُ التَّقْوَى ذَلِكَ خَيْرٌ} . الاَية. والعرب تكنى عن الفضل والعفاف بالقميص، ومنه قوله صلى الله عليه وسلم لعثمان إن الله سيلبسه قميصاً فلا تخلعه. أخرجه أحمد والترمذي وابن ماجة وصححه ابن حبان، واتفق أهل التعبير على أن القميص يعبر بالدين وأن طوله يدل على بقاء آثار صاحبه من بعده.
قوله: "حدثني يعقوب بن إبراهيم بن سعد" الزهري أبو يوسف المدني نزيل(6/565)
عن أَبِيهِ عن صَالحِ بنِ كَيْسَانَ عن الزّهريّ عن أبي أُمَامَةَ بنِ سَهْلِ بنِ حُنَيْفٍ عن أبي سَعِيدٍ الْخُدْرِيّ عن النبيّ صلى الله عليه وسلم نَحْوَهُ بِمَعْنَاهُ قال: وَهَذَا أَصَحّ.
ـــــــ
بغداد ثقة فاضل من صغار التاسعة "عن أبيه" أي إبراهيم بن سعد بن إبراهيم ابن عبد الرحمن بن عوف الزهري المدني نزيل بغداد، ثقة حجة تكلم فيه بلا قادح من الثامنة "وهذا أصح" أي من الحديث الأول المذكور، لأن في سنده الحسين بن محمد وهو مجهول كما عرفت(6/566)
باب ما جاء فى رؤيا النبى صلى الله عليه و سلم فى الميزان و الدلو
...
10 ـ باب ما جَاءَ في رُؤْيَا النّبيّ صلى الله عليه وسلم المِيزَانِ وَالدّلْو
2389ـ حَدّثنا محمّدُ بنُ بَشّارٍ، حدثنا الأَنْصَارِيّ، حدثنا أَشْعَثُ عن الْحَسَنِ عن أبي بَكْرَةَ، أَنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم قال ذَاتَ يَوْمٍ: "مَنْ رَأَى مِنْكُمْ رُؤْيَا؟ فقال رَجُلٌ: أَنَا رَأَيْتُ مِيزَاناً نَزَلَ مِنَ السّماءِ فَوُزِنْتَ أَنْتَ وَأَبُو بَكُرٍ فَرَجَحْتَ أَنْتَ بأَبي بكرٍ، وَوُزِنَ أبو بكرٍ وعُمَرُ فَرَجَحَ أبو بكرٍ، وَوُزِنَ عُمَرُ وعُثْمانُ فَرَجَحَ عُمَرُ، ثُمّ رُفِعَ المِيزَانُ، فَرَأَيْنَا الْكَرَاهِيَةَ في وَجْهِ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم" .
ـــــــ
"باب ما جَاءَ في رُؤْيَا النّبيّ صلى الله عليه وسلم المِيزَانِ وَالدّلْو"
قوله: "كأن ميزاناً" كأن بتشديد النون من الحروف المشبهة بالفعل "فوزنت" بصيغة المجهول المخاطب "أنت" ضمير فصل وتأكيد لتصحيح العطف "فرجحت" بفتح الجيم وسكون الحاء أي ثقلت وغلبت "ثم رفع الميزان" فيه إيماء إلى وجه ما اختلف في تفضيل علي وعثمان قاله القاري "فرأينا الكراهية في وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم" وذاك لما علم صلى الله عليه وسلم من أن تأويل رفع الميزان انحطاط رتبة الأمور، وظهور الفتن بعد خلافة عمر، ومعنى رجحان كل من الاَخر أن الراجح أفضل من المرجوح. وقال المنذري: قيل يحتمل أن يكون(6/566)
هذا حديثٌ حسنٌ صحيحٌ.
2390ـ حدّثنا أَبُو مُوسَى الأَنْصَارِيّ، حدثنا يُونُسُ بنُ بُكَيْرٍ، حدثني عُثْمانُ بنُ عبدِ الرحمَنِ عن الزّهريّ عن عُرْوَةَ عن عائشةَ قالت: "سُئِلَ رَسولُ الله صلى الله عليه وسلم عَنْ وَرَقَةَ، فقالت له خَدِيجَةُ: إِنّهُ كَانَ صَدّقَكَ وَلكِنّهُ مَاتَ قَبْلَ أَنْ تَظْهَرَ، فقال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: أُرِيتُهُ في المَنَامِ وَعَلَيْهِ ثِيَابُ بَيَاضٍ، وَلَوْ كَانَ مِنْ أَهلِ النّارِ لَكَانَ عَلَيْهِ
ـــــــ
النبي صلى الله عليه وسلم كره وقوف التخيير وحصر درجات الفضائل في ثلاثة ورجا أن يكون في أكثر من ذلك فأعلمه الله أن التفضيل انتهى إلى المذكور فيه فساءه ذلك انتهى. قال التوربشتي: إنما ساءه والله أعلم من الرؤيا التي ذكرها ما عرفه من تأويل رفع الميزان، فإن فيه احتمالاً لانحطاط رتبة الأمر في زمان القائم به بعد عمر رضي الله عنه عما كان عليه من النفاذ والاستعلاء والتمكن بالتأييد. ويحتمل أن يكون المراد من الوزن موازنة أيامهم لما كان نظر فيها من رونق الإسلام وبهجته ثم إن الموازنة إنما تراعى في الأشياء المتقاربة مع مناسبة ما، فيظهر الرجحان فإذا تباعدت كل التباعد لم يوجد للموازنة معنى فلهذا رفع الميزان.
قوله: "هذا حديث حسن صحيح" وأخرجه أبو داود وسكت عنه هو والمنذري.
قوله: "عن ورقة" بفتحات أي ابن نوفل ابن عم خديجة أم المؤمنين كان تنصر في الجاهلية وقرأ الكتب وكان شيخاً كبيراً قد عمي "فقالت" بيان السؤال والسائل "له" أي لأجل ورقة وتحقيق أمره "خديجة أنه" أي الشأن أو أن ورقة "كان" أي في حياته "صدقك" بالتشديد أي في نبوتك "وأنه مات قبل أن تظهر" تعني أنه لم يدرك زمان دعوتك ليصدقك ويأتي بالأعمال على موجب شريعتك لكن صدقك قبل مبعثك، قاله الطيبي "أريته في المنام" بصيغة المجهول أي أرانيه الله وهو بمنزلة الوحي للأنبياء. وحاصل الجواب أنه لم يأتني وحي جلي ودليل قطعي لكني رأيته في المنام "وعليه ثياب بياض" وفي المشكاة: وعليه ثياب(6/567)
لِبَاسٌ غَيْرُ ذَلِكَ" . قال: هذا حديثٌ غريبٌ. وَعُثْمانُ بنُ عبد الرحمَنِ لَيْسَ عِنْدَ أَهْلِ الحديثِ بالْقَوِيّ.
2391ـ حدّثنا محمّدُ بنُ بَشّارٍ، حدثنا أبو عاصِمٍ، أخبرنا ابنُ جُرَيْجٍ اخبرني مُوسَى بنُ عُقْبَةَ، اخبرني سَالِمُ بنُ عبدِ الله، عن عبدِ الله بنِ عُمَرَ، عن رُؤْيَا النبيّ صلى الله عليه وسلم وأبي بكرٍ وعُمَرَ فقال: "رَأَيْتُ النّاسَ اجْتَمَعُوا فَنَزَعَ أبو بكرٍ ذَنُوباً أَوْ ذَنُوبَيْنِ فِيهِ ضَعْفٌ وَالله يَغْفِرُ لَهُ، ثُمّ قَامَ
ـــــــ
بيض "ولو كان من أهل النار لكان عليه لباس غير ذلك" فيه أنه إذا رأى مسلم في المنام الثياب البيض على ميت مسلم فذلك دليل على حسن حاله، وأنه من أهل الجنة.
قوله: "هذا حديث غريب" وأخرجه أحمد وهو حديث ضعيف "وعثمان ابن عبد الرحمن ليس عند أهل الحديث بالقوي" قال في التقريب عثمان بن عبد الرحمن ابن عمر بن سعد بن أبي وقاص الزهري الوقاصي أبو عمرو المدني متروك، وكذبة ابن معين، وقال في تهذيب التهذيب: قال الهيثم بن عدي: توفي في خلافة هارون، روى له الترمذي حديثاً واحداً في ذكر ورقة بن نوفل.
قوله: "فنزع أبو بكر ذنوباً" بفتح الذال المعجمة، وهو الدلو فيها ماء، والملأى أو دون الملأى كذا في القاموس. قال الحافظ: واتفق من شرح هذا الحديث على أن ذكر الذنوب إشارة إلى مدة خلافته وفيه نظر، لأنه ولي سنتين وبعض سنة فلو كان ذلك المراد لقال ذنوبين أو ثلاثة. والذي يظهر لي أن ذلك إشارة إلى ما فتح في زمانه من الفتوح الكبار وهي ثلاثة. ولذلك لم يتعرض في ذكر عمر إلى عدد ما نزعه من الدلاء وإنما وصف نزعه بالعظمة، إشارة إلى كثرة ما وقع في خلافته من الفتوحات. وقد ذكر الشافعي تفسير هذا الحديث في الأم فقال بعد أن ساقه: ومعنى قوله: وفي نزعه ضعف قصر مدته وعجلة موته وشغله بالحرب لأهل الردة عن الافتتاح والازدياد الذي بلغه عمر في طول مدته انتهى. فجمع في كلامه ما تفرق في كلام غيره. انتهى "فيه ضعف" وفي رواية البخاري:(6/568)
عُمَرُ فَنَزَعَ فَاسْتَحَالَتْ غَرْباً، فَلَمْ أَرَ عَبْقَرِيّا يَفْرِي فَرْيَهُ حَتّى ضَرَبَ النّاسُ بعطن" . قال: وفي البابِ عن أبي هُرَيْرَةَ.
وهذا حديثٌ صحيحٌ غريبٌ من حديثِ ابنِ عُمَرَ.
2392ـ حدّثنا محمّدُ بنُ بَشّارٍ، حدثنا أبو عاصِمٍ، حدثنا ابنُ جُرَيجٍ أَخبرني مُوسَى بنُ عُقْبَةَ، أخبرني سَالِمُ بنُ عبدِ الله عن عبدِ الله بنِ عُمَرَ
ـــــــ
وفي نزعه ضعف. قال الحافظ أي على مهل ورق "والله يغفر له" قال النووي هذا دعاء من المتكلم أي أنه لا مفهوم له. وقال غيره فيه إشارة إلى قرب وفاة أبي بكر وهو نظير قوله تعالى لنبيه عليه السلام: {فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّاباً} . فإنها إشارة إلى قرب وفاة النبي صلى الله عليه وسلم. قال الحافظ: ويحتمل أن يكون فيه إشارة إلى قلة الفتوح في زمانه لا صنع له فيه لأن سببه قصر مدته. فمعنى المغفرة له رفع الملامة عنه "فاستحالت غرباً" أي انقلبت الدلو التي كانت ذنوباً غرباً أي دلواً عظيمة، والغرب بفتح الغين المعجمة وسكون الراء المهملة "فلم أر عبقرياً" بفتح المهملة وسكون الموحدة وفتح القاف وكسر الراء وتشديد التحتانية أي رجلاً قوياً "يفري" بفتح أوله وسكون الفاء وكسر الراء وسكون التحتانية "فريه" بفتح الفاء وكسر الراء وتشديد التحتانية المفتوحة، وروى بسكون الراء وخطأه الخليل. ومعناه يعمل عمله البالغ "حتى ضرب الناس بالعطن" بفتح المهملتين وآخره نون هو مناخ الإبل إذا شربت ثم صدرت. وسيأتي في مناقب عمر بلفظ: حتى روى الناس وضربوا بعطن. ووقع في حديث أبي الطفيل بإسناد حسن عند البزار والطبراني: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: بينا أنا أنزع الليلة إذ وردت على غنم سود وعفر، فجاء أبو بكر فنزع فذكره وقال في عمر فملأ الحياض وأروى الواردة وقال فيه فأولت السود العرب والعفر العجم.
قوله: "وفي الباب عن أبي هريرة" أخرجه مسلم "هذا حديث صحيح غريب من ابن عمر" وأخرجه الشيخان.(6/569)
عن رُؤْيَا النبيّ صلى الله عليه وسلم قال: "رَأَيْتُ امْرَأَةً سَوْدَاءَ ثَائِرَةَ الرّأْسِ خَرَجَتْ مِنَ المَدِينَةِ حَتّى قَامَتْ بِمَهْيَعَةٍ وَهِيَ الْجُحْفَةُ، فَأَوّلْتُهَا وَبَاءَ المَدِينَةِ يُنْقَلُ إِلَى الْجُحْفَةِ" . هذا حديثٌ حسنٌ صحيحٌ غريبٌ.
2393ـ حدّثنا الْحَسَنُ بنُ عَلِيّ الْخَلاّلُ، حدثنا عبدُ الرّزّاقِ، أخبرنا مَعْمَرٌ عن أَيّوبَ عن ابنِ سِيرِينَ عن أبي هُرَيْرَةَ عن النبيّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "في آخِرِ الزّمَانِ لا تَكَادُ رُؤْيَا المؤمِنِ تَكْذِبُ وَأَصْدَقُهُمْ رُؤْيَا أَصْدَقُهُمْ حَدِيثاً، وَالرّؤْيَا ثَلاَثٌ: الْحَسَنَةُ بُشْرَى مِنَ الله، وَالرّؤْيَا يُحدّثُ الرّجُلُ بهَا نَفْسَهُ، والرّؤْيَا تَحْزِينٌ مِنَ الشّيْطَانِ. فإِذَا رَأَى أَحَدُكُمْ رُؤْيَا يَكْرَهُهَا فَلاَ يُحَدّثْ بِهَا أَحَداً وَليَقُمْ فَلْيُصَلّ" . قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ يُعْجِبُنِي القَيْدُ وَأَكْرَهُ الغُلّ القَيْدُ ثَبَاتٌ في الدّينِ. قَالَ وَقَالَ النّبيّ صلى الله عليه وسلم: "رُؤْيَا المُؤْمِنِ جُزْءٌ مِنْ سِتةٍ وَأَرْبَعِينَ جُزْءاً مِنَ النّبُوّةِ" .
وَقَدُ رَوَى عَبْدُ الوَهّابِ الثّقَفِيّ هَذَا الْحَدِيثَ عَنْ أَيّوبَ مَرْفُوعاً، ورواه حَمّادُ بنُ زَيْدٍ عَنْ أَيّوبَ وَوَقَفَهُ.
ـــــــ
قوله: "قال رأيت" أي في شأن المدينة "ثائرة الرأس" أي منتشرة شعر الرأس "حتى قامت بمهيعة" بفتح الميم وسكون الهاء وفتح التحتية والعين الأرض المبسوطة الواسعة "وهي الجحفة" قال الحافظ في الفتح: وأظن قوله وهي الجحفة مدرجاً من قول موسى بن عقبة فإن أكثر الروايات خلا عن هذه الزيادة. وثبتت في رواية سليمان بن جريح "فأولتها" من التأويل هو تفسير الشيء بما يؤول إليه "وباء المدينة" وهو بالمد ويقصر مرض عام أو موت ذريع، وقد يطلق على الأرض الوخمة التي تكثر فيها الأمراض لا سيما للغرباء أي حماها وأمراضها.
قوله: "هذا حديث صحيح غريب" وأخرجه البخاري.
قوله: "قال في آخر الزمان لا تكاد رؤيا المؤمن تكذب الخ" تقدم شرح هذا(6/570)
2394ـ حدّثنا إِبْرَاهِيمُ بنُ سَعِيدٍ الْجَوهَرِيّ، حدثنا أَبُو اليَمَانِ، عَنْ شُعيبٍ وَهُوَ ابنُ أَبي حَمْزَةَ، عَنْ ابن أَبي حُسَينٍ وهو عبد الله بن عبد الرحمن ابن أبي حسين عَنْ نَافِعِ بنِ جُبَيرٍ، عَن ابنِ عَبّاسٍ عن أبي هُرَيْرَةَ قَالَ: "قَالَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم: رَأَيْتُ في المَنَامِ كَأَنّ في يَدَيّ سِوَارَيْنِ مِنْ ذَهَبٍ فهَمّني شَأْنُهُما فَأُوحِيَ إِلَيّ أَنْ انْفُخْهُمَا فَنَفَخْتُهُمَا فَطَارَا، فَأَوّلْتُهُمَا كَاذِبَيْنِ يَخْرُجَانِ مِنْ بَعْدِي،
ـــــــ
الحديث في باب إن رؤيا المؤمن جزء من ستة وأربعين جزءاً من النبوة.
قوله: "أخبرنا أبو اليمان" اسمه الحكم بن نافع البهراني بفتح الموحدة الحمصي، مشهور بكنيته، ثقة ثبت يقال إن أكثر حديثه عن شعيب مناولة من العاشرة "عن ابن أبي حسين" اسمه عبد الله بن عبد الرحمن بن أبي حسين بن الحارث بن نوفل المكي النوفلي ثقة عالم بالمناسك من الخامسة.
قوله: "سوارين" بكسر السين أي قلبين. قال الحافظ: السوار بكسر المهملة ويجوز ضمها وفيه لغة ثالثة أسوار بضم الهمزة أوله "فهمني شأنهما" : أي أحزنني وفي حديث البخاري فكبرا علي. قال الحافظ هو بمعنى العظم. قال القرطبي وإنما عظم عليه ذلك لكون الذهب مما حرم على الرجال "فأوحي إلي" قال الحافظ: كذا للأكثر على البناء للمجهول. وفي رواية الكشميهني في حديث إسحاق بن نصر فأوحى الله إلي هذا الوحي يحتمل أن يكون من وحي الإلهام أو على لسان الملك قاله القرطبي "أن أنفخهما" بضم الفاء وسكون الخاء المعجمة وإن هي مفسرة لما في الوحي من معنى القول وعليه كلام القاضي وغيره، وجوز الطيبي أن تكون ناصبة والجار محذوف والنفخ بالخاء المعجمة على ما صححه النووي، يقال نفخته ونفخت فيه "فنفختهما فطارا" قال الحافظ وكذا في رواية المقبري وزاد: فوقع واحد باليمامة والاَخر باليمن. وفي ذلك إشارة إلى حقارة أمرهما لأن شأن الذي ينفخ فيذهب بالنفخ أن يكون في غاية الحقارة. ورده ابن العربي بأن أمرهما كان في غاية الشدة ولم ينزل بالمسلمين قبله مثله. قال الحافظ: وهو كذلك لكن الإشارة إنما هي للحقارة المعنوية لا الحسية، وفي طيرانهما إشارة إلى اضمحلال أمرهما "فأولتهما كاذبين" قال المهلب: هذه الرؤيا ليست على وجهها وإنما هي من ضرب(6/571)
يُقَالُ لأِحَدِهِمَا مَسيلَمةُ صاحبُ اليَمَامَةِ، وَالعَنْسِيّ صَاحِبُ صَنْعَاءَ".
ـــــــ
ضرب المثل، وإنما أوله النبي صلى الله عليه وسلم: السوارين بالكذابين لأن الكذب وضع الشيء في غير موضعه، فلما رأى في ذراعيه سوارين من ذهب وليسا من لبسه لأنهما من حلية النساء عرف أنه سيظهر من يدعي ما ليس له، وأيضاً ففي كونهما من ذهب والذهب منهي عن لبسه دليل على الكذب، وأيضاً فالذهب مشتق من الذهاب فعلم أنه شيء يذهب عنه وتأكد ذلك بالإذن له في نفخهما فطارا فعرف أنه لا يثبت لهما أمر وأن كلامه بالوحي الذي جاء به يزيلهما عن موضعهما والنفخ يدل على الكلام، انتهى ملخصاً "يخرجان من بعدي". وفي رواية البخاري فأولتهما الكذابين الذين أنا بينهما. قال الحافظ: هذا ظاهر في أنهما كانا حين قص الرؤيا موجودين وهو كذلك، لكن وقع في رواية ابن عباس: يخرجان بعدي، والجمع بينهما أن المراد بخروجهما بعده ظهور شوكتهما ومحاربتهما ودعواهما النبوة. نقله النووي عن العلماء وفيه نظر لأن ذلك كله ظهر للأسود بصنعاء في حياته صلى الله عليه وسلم فادعى النبوة وعظمت شوكته وحارب المسلمين، وفتك فيهم وغلب على البلد وآل أمره إلى أن قتل في حياة النبي صلى الله عليه وسلم كما قدمت ذلك واضحاً في أواخر المغازي. وأما مسيلمة فكان ادعى النبوة في حياة النبي صلى الله عليه وسلم لكن لم تعظم شوكته ولم تقع محاربته إلا في عهد أبي بكر. فإما أن يحمل ذلك على التغليب، وإما أن يكون المراد بقوله بعدي أي بعد نبوتي "يقال لأحدهما مسلمة" بفتح الميم واللام وبينهما سين ساكنة هو المشهور بمسيلمة مصغراً قتله الوحشي قاتل حمزة في خلافة الصديق رضي الله عنه، وقيل لما قتله وحشي قال: قتلت خير الناس في الجاهلية وشر الناس في الإسلام "صاحب اليمامة" قال في القاموس: اليمامة القصد كاليمام وجارية زرقاء كانت تبصر الراكب من مسيرة ثلاثة أيام، وبلاد الجو منسوبة إليها وسميت باسمها وهي أكثر نخيلا من سائر الحجاز وبها تنبأ مسيلمة الكذاب، وهي دون المدينة في وسط الشرق من مكة على ستة عشر مرحلة من البصرة وعن الكوفة نحوها انتهى. "والعنسي صاحب صنعاء" هو بلدة باليمن وصاحبها الأسود العنسي تنبأ بها في آخر عهد الرسول صلى الله عليه(6/572)
هذا حديثٌ صحيحٌ غريب.
2395ـ حدّثنا الْحُسَينُ بن محمدٍ، حدثنا عَبْدُ الرّزّاقِ، أخبرنا مَعْمَرٌ عن الزّهْرِيّ، عَنْ عُبيدِ الله بنِ عَبْدِ الله، عنْ ابن عَبّاسٍ قَالَ: "كَانَ أَبُو هُرَيْرَةَ يُحَدّثُ: أَنّ رَجُلاً جَاءَ إِلَى النّبيّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: إِنّي رَأَيْتُ الّلْيلَةَ ظُلّةً يَنْطَفُ مِنهَا السّمْنُ وَالعَسَلُ، وَرَأَيْتُ النّاسَ يَسْتَقُونَ بِأَيْدِيهِمْ، فَالمُسْتَكْثِرُ وَالمُستقلّ وَرَأَيتُ سَبَباً وَاصِلاً مِنَ السّمَاءِ إِلَى الأرْضِ فَأَرَاكَ يَا رَسُولَ الله أَخَذْتَ بهِ فَعَلَوْتَ، ثم أَخَذَ بهِ رَجُلٌ بَعْدَكَ فَعَلاَ، ثُمّ أَخَذَ بهِ رَجُلٌ بَعْدَهُ فَعَلاَ، ثُمّ أَخَذَ بهِ رَجُلٌ فَقُطِعَ بِهِ ثُمّ وُصِلَ لَهُ فَعَلاَ بهِ، فَقَالَ أَبُو بكْرٍ: أَي رَسُولَ الله بَأَبِي أَنْتَ وَأُمّي وَالله لتَدَعْنِي أَعْبُرُهَا، فَقَالَ:
ـــــــ
وسلم فقتله فيروز الديلمي في مرض وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم، فقال صلى الله عليه وسلم: فاز فيروز.
قوله: "هذا حديث صحيح غريب" وأخرجه الشيخان.
قوله: "حدثنا الحسين بن محمد" هو الجريري البلخي "عن عبيد الله بن عبد الله" بن عتبة الهذلي المدني.
قوله: "إني رأيت الليلة ظلة" بضم الظاء المعجمة أي سحابة لها ظلة، وكل ما أظل من سقيفة ونحوها يسمى ظلة. قاله الخطابي وفي رواية ابن ماجة، ظلة بين السماء والأرض "ينطف" أي يقطر من نطف الماء إذا سال ويجوز الضم والكسر في الطاء "يستقون بأيديهم" أي يأخذون بالأسقية. وفي رواية البخاري يتكففون أي يأخذون بأكفهم "فالمستكثر" مرفوع على الابتداء وخبره محذوف، أي فيهم المستكثر في الأخذ أي يأخذ كثيراً "والمستقل" أمي ومنهم المستقل في الأخذ أي يأخذ قليلا "ورأيت سبباً" أي حبلا "واصلا" من الوصول، وقيل هو بمعنى الموصول كقوله عيشة راضية أي مرضية "فعلوت" من العلو وفي رواية سليمان بن كثير فأعلاك الله "ثم وصل له" على بناء المجهول "بأبي أنت وأمي"(6/573)
اعْبُرْهَا. فَقَالَ أَمّا الظّلّةُ فَظُلّةُ الاْسْلاَمِ، وَأَمّا ما يَنْطَفُ من السّمْنِ وَالعَسَلِ فَهُو القُرْآنُ لِينُهُ وَحَلاَوَتُهُ، وَأَمّا المُستَكْثِرُ وَالمُسْتَقِلّ، فَهُوَ المُسْتَكْثِرُ مِنَ القُرْآنِ وَالمُسْتَقِلّ مِنْهُ، وَأَمّا السّبَبُ الواصِلُ منَ السّمَاءِ إِلَى الأَرْضِ، فَهُوَ الْحَقّ الّذِي أَنْتَ عَلَيْهِ فأَخَذْتَ بهِ فيُعْلِيكَ الله، ثمّ يَأْخُذُ بِهِ بَعْدَكَ رَجُلٌ آخَرُ فَيَعْلُو بِهِ، ثمّ يَأْخُذُ بَعْدَهُ رَجُلٌ آخَرُ فَيَعْلُوا بهِ، ثمّ يَأْخُذُ رجل آخَرُ فَيَنْقَطِعُ بِهِ، ثمّ يُوصَلُ فَيعْلُو بهِ، أَيْ رَسُولَ الله لَتُحَدّثَنّي أَصَبْتُ أَمْ أَخْطَأْتُ؟ فقال النّبيّ صلى الله عليه وسلم: أَصَبْتَ بَعْضاً وَأَخْطَأْتَ بَعْضاً. قَالَ: أَقْسَمْتُ بِأبي أَنْتَ وَأُمّي يَا رَسُولَ الله لتُخْبِرَنّي مَا الّذِي
ـــــــ
أي مفدى بهما "والله لتدعني" بفتح اللام للتأكيد أي لتتركني. وفي رواية سليمان ائذن لي "أعبرها" وفي رواية: فلأعبرنها بزيادة لام التأكيد والنون "أعبرها" أمر من عبر يعبر من باب نصر ينصر، قال في القاموس: عبر الرؤيا عبراً وعبارة وعَبّرَها فسرها وأخبر بآخر ما يؤول إليه أمرها، واستعبره إياها سأله عبرها "وأما السبب الواصل من السماء إلى الأرض فهو الحق الذي أنت عليه" المراد بالحق الولاية التي كانت بالنبوة ثم صارت بالخلافة "ثم يأخذ به" أي بالسبب "بعدك رجل" وهو أبو بكر الصديق رضي الله عنه ويقوم بالحق في أمته بعده "ثم يأخذ بعده رجل آخر" وهو عمر بن الخطاب "ثم يأخذ آخر" وهو عثمان "فينقطع به ثم يوصل" وفي حديث ابن عباس عند مسلم: ثم يوصل له "أصبت بعضاً وأخطأت بعضاً" قال النووي: اختلف العلماء في معناه. فقال ابن قتيبة وآخرون معناه أصبت في بيان تفسيرها وصادفت حقيقة تأويلها وأخطأت في مبادرتك بتفسيرها من غير أن آمرك به. وقال آخرون: هذا الذي قاله ابن قتيبة وموافقوه فاسد، لأنه صلى الله عليه وسلم قد أذن له في ذلك وقال أعبرها، وإنما أخطأ في تركه تفسير بعضها فإن الرائي قال: رأيت ظلة تنطف السمن والعسل ففسره الصديق رضي الله عنه بالقرآن حلاوته ولينه، وهذا إنما هو تفسير العسل(6/574)
أَخطأتُ؟ فَقَالَ النّبيّ صلى الله عليه وسلم لا تُقْسِمْ" . هذا حديثٌ صحيحٌ.
2396ـ حدّثنا مُحَمّدُ بنُ بَشّارِ، حدثنا وَهْبُ بنُ جَرِيرِ بن حازم عَنْ أَبِيهِ عَنْ أَبي رَجَاءٍ عَنْ سَمُرةَ بنِ جُنْدُبٍ قَالَ: "كَانَ النبي صلى الله عليه وسلم
ـــــــ
وترك تفسير السمن وتفسيره السنة، فكان حقه أن يقول: القرآن والسنة. وإلى هذا أشار الطحاوي.
وقال آخرون: الخطأ وقع في خلع عثمان لأنه ذكر في المنام أنه أخذ بالسبب فانقطع به وذلك يدل على انخلاعه بنفسه. وفسره الصديق بأنه يأخذ به رجل فينقطع به، ثم يوصل له فيعلو به، وعثمان قد خلع قهراً وقتل وولي غيره. فالصواب في تفسيره أن يحمل وصله على ولاية غيره من قومه. وقال آخرون: الخطأ في سؤاله ليعبرها.
قال المهلب: وموضع الخطأ في قوله ثم وصل له لأن في الحديث ثم وصل ولم يذكر له. قال الحافظ: هذه اللفظة وهي قوله له قد ثبتت في كثير من الروايات فذكرها ثم قال وبني المهلب على ما توهمه فقال: كان ينبغي لأبي بكر أن يقف حيث وقفت الرؤيا ولا يذكر الموصول له، فإن المعنى أن عثمان انقطع به الحبل ثم وصل لغيره أي وصلت الخلافة لغيره، وقد عرفت أن لفظة له ثابتة في نفس الخبر. فالمعنى على هذا أن عثمان كاد ينقطع على اللحاق بصاحبيه بسبب ما وقع له من تلك القضايا التي أنكروها فعبر عنها بانقطاع الحبل ثم وقعت له الشهادة، فاتصل بهم فعبر عنه بأن الحبل وصل له فاتصل فالتحق بهم فلم يتم في تبيين الخطأ في التعبير المذكور ما توهمه المهلب انتهى. وقد بسط الحافظ الكلام في هذا المقام في الفتح "لا تقسم" أي لا تكرر يمينك فإني لا أخبرك. قال النووي: فيه دليل لما قاله العلماء أن إبرار القسم المأمور به في الأحاديث الصحيحة إنما هو إذا لم تكن في الإبرار مفسدة ولا مشقة ظاهرة، فإن كان لم يؤمر بالإبرار لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يبر قسم أبي بكر لما رأى في إبراره من المفسدة.
قوله: "هذا حديث صحيح" وأخرجه الشيخان وغيرهما.
قوله: "عن أبيه" أي جرير بن حازم "عن أبي رجاء" اسمه عمران بن(6/575)
إِذَا صَلّى بِنَا الصّبْحَ أَقْبَلَ عَلَى النّاسِ بِوَجْهِهِ وَقَالَ: هَلْ رَأَى أَحَدٌ مِنْكمْ اللّيْلَةَ رُؤْيَا" . قال: هذا حديثٌ حسنٌ صحيحٌ.
وَيُرْوَى هذا الحديث عَنْ عَوْفٍ وَجَرِير بنِ حَازِمٍ، عن أبي رَجَاءٍ، عَنْ سَمُرَةَ عن النبيّ صلى الله عليه وسلم في قِصّةٍ طَوِيلَةٍ، قال: وَهَكَذَا رَوَى محمد بن بشار هَذا الْحَدِيثَ عن وَهْبِ بنِ جَرِيرٍ مُخْتَصِراً.
ـــــــ
ملحان بكسر الميم وسكون اللام بعدها مهملة، ويقال: ابن تيم العطاردي، مشهور بكنيته، وقيل غير ذلك في اسم أبيه، مخضرم ثقة معمر، مات سنة خمس ومائة، له مائة وعشرون سنة.
قوله: "وقال هل رأى أحد منكم رؤيا" على وزن فعلى بلا تنوين، ويجوز تنوينه كما قرئ به في الشاذة أفمن أسس بنيانه على تقوى من الله: وكذا روي منوناً قوله في الحديث: ومن كان هجرته لدنيا "الليلة" أي هذه الليلة.
قوله: "هذا حديث حسن صحيح" وأخرجه مسلم بنحوه وأخرجه البخاري مطولا "ويروى عن عوف وجرير بن حازم عن أبي رجاء عن سمرة عن النبي صلى الله عليه وسلم في قصة طويلة" أخرجه البخاري بالقصة الطويلة في آخر أبواب التعبير "وهكذا روى لنا بندار هذا الحديث مختصراً" بندار هذا هو محمد بن بشار المذكور في السند المتقدم.(6/576)
أبواب الشهادات عن رسول الله صلى الله عليه و سلم
...
بسم الله الرحمن الرحيم
أبواب الشهادات عن رسول الله صلى الله عليه وسلم
2397ـ حَدّثنا الأَنْصَارِيّ، أخبرنا مَعْنٌ، أخبرنا مَالِكٌ عنْ عبدِ الله بن أَبي بَكْرِ بنِ مُحمدِ بنِ عَمْرِو بنِ حَزْمٍ، عن أبِيهِ، عَنْ عَبْدِ الله بنِ عَمْرِو بن عُثْمَانَ عن أبي عَمْرة الأنْصَارِيّ عَنْ زَيْدِ بنِ خَالِدٍ الْجُهَنِي أَنّ رَسُولَ
ـــــــ
"أبواب الشهادات عن رسول الله صلى الله عليه وسلم "
هي جمع شهادة، وهي مصدر شهد يشهد قال الجوهري: الشهادة خبر قاطع، والمشاهدة المعاينة مأخوذة من الشهود أي الحضور، لأن الشاهد مشاهد لما غاب عن غيره. وقال في المغرب: الشهادة الإخبار بصحة الشيء عن مشاهدة وعيان، ويقال: شهد عند الحاكم لفلان على فلان بكذا شهادة، فهو شاهد وهم شهود وإشهاد، وهو شهيد وهم شهداء.
قوله: "عن عبد الله بن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم" الأنصاري المدني القاضي ثقة من الخامسة "عن أبيه" هو أبو بكر بن محمد بن عمرو بن حزم الأنصاري البخاري بالنون والجيم المدني القاضي اسمه وكنيته واحد وقيل إنه يكنى أبا محمد ثقة عابد من الخامسة "عن عبد الله بن عمرو بن عثمان" الأموي يلقب بالمطرف بضم الميم وسكون المهملة وفتح الراء ثقة شريف من الثالثة "عن أبي عمرة" وفي الرواية الاَتية ابن أبي عمرة وهذا هو الأصح كما صرح به الترمذي قال في التقريب: أبو عمرة الأنصاري عن زيد بن خالد صوابه عن ابن أبي عمرة واسمه عبد الرحمن. وقال في تهذيب التهذيب: أبو عمرة الأنصاري وقيل ابن أبي عمرة وقيل عبد الرحمن ابن أبي عمرة روى عن زيد بن خالد الجهني: ألا أخبركم بخير الشهداء وعنه عبد الله بن عمرو بن عثمان بن عفان، أخرج الجماعة سوى البخاري حديثه من رواية(6/577)
الله صلى الله عليه وسلم قَالَ: "أَلاَ أُخْبِرُكُمْ بِخَيْرِ الشّهَدَاءِ الّذِي يَأْتِي بِشَهَادَتِهِ قَبْلَ أَنْ يُسْأَلَهَا" .
2398ـ حدّثنا أَحْمَدُ بنُ الْحَسَنِ، حدثنا عَبْدُ الله بنُ مَسْلَمةَ، عنْ مَالِكٍ نحوه. وَقَالَ ابنُ أَبي عَمْرةَ قال: هذا حديثٌ حسنٌ. وَأَكْثَرُ النّاسِ يَقُولُونَ عَبْد الرّحمنِ بن أبي عَمرةَ. وَاخْتَلَفُوا عَلَى مَالِكٍ في رِوَايَةِ هَذَا الْحَدِيثِ،
ـــــــ
أبي بكر بن حزم عن بن أبي عمرة عن زيد بن خالد، وسماه بعضهم في روايته عبد الرحمن انتهى.
قوله: "بخير الشهداء" جمع شاهد "الذي يأتي بشهادته قبل أن يسألها" بصيغة المجهول أي قبل أن يطلب منه الشهادة. قال النووي وفي المراد بهذا الحديث تأويلان أصحهما وأشهرهما تأويل مالك وأصحاب الشافعي أنه محمول على من عنده شهادة لإنسان بحق ولا يعلم ذلك الإنسان أنه شاهد فيأتي إليه فيخبره بأنه شاهد له. والثاني أنه محمول على شهادة الحسبة وذلك في غير حقوق الاَدميين المختصة بهم، فمما تقبل فيه شهادة الحسبة الطلاق والعتق والوقف والوصايا العامة والحدود ونحو ذلك. فمن علم شيئاً من هذا النوع وجب عليه رفعه إلى القاضي وإعلامه به والشهادة قال الله تعالى {وَأَقِيمُوا الشَّهَادَةَ لِلَّهِ} وكذا في النوع الأول يلزم من عنده شهادة الإنسان لا يعلمها أن يعلمه إياها لأنها أمانة له عنده. وحكى تأويلا ثالثاً أنه محمول على المجاز والمبالغة في أداء الشهادات بعد طلبها لا قبله، كما يقال: الجواد يعطي قبل السؤال أي يعطي سريعاً عقب السؤال من غير توقف انتهى "وقال ابن أبي عمرة" أي قال عبد الله بن مسلمة في روايته عن مالك بن أبي عمرة مكان أبي عمرة واسم ابن أبي عمرة عبد الرحمن.
قوله: "هذا حديث حسن" وأخرجه مسلم ومالك وأحمد وأبو داود وابن ماجة "وأكثر الناس يقولون" في رواياتهم "عبد الرحمن بن أبي عمرة" أي كما قال عبد الله بن مسلمة في روايته "واختلفوا" أي أصحاب مالك في رواية هذا(6/578)
فَرَوَى بَعْضُهُمْ عنْ أبي عَمْرَةَ، وَرَوَى بَعْضُهُمْ عنْ ابن أبي عَمرةَ، وَهُوَ عَبْدُ الرّحمنِ بنُ أَبي عَمرةَ الأنْصَارِيّ. وَهَذَا أَصَحّ لأنّهُ قَدْ رُوِي مِنْ غَيْرِ حديثِ مَالِكٍ عن عَبْدِ الرّحمَنِ بن أبي عَمْرةَ عن زَيدِ بنِ خَالِدٍ وَقَدْ رُوِيَ عن ابن أَبِي عَمْرَةَ عن زَيْدِ بنِ خَالِدٍ غَيْرُ هَذَا الْحَدِيثِ، وَهُوَ حديث صَحيحٌ أَيضاً وَأَبُو عَمْرةَ هُوَ مَوْلَى زَيْدِ بنِ خَالِدٍ الْجُهَنِيّ، وَلَهُ حَدِيثُ الغَلَولِ لأبي عَمرةَ وأكثر الناس يقولون عبد الرحمن بن أبي عمرة.
2399ـ حدّثنا بِشْرُ بنُ آدَمَ ابنِ بنت أزْهَر السّمانِ، أخبرنا زَيدُ بنُ
ـــــــ
الحديث عنه "فروى بعضهم عن أبي عمرة" كمعن "وروى بعضهم عن ابن أبي عمرة" كعبد الله بن مسلمة عند الترمذي ويحيى بن يحيى عند مسلم "وهذا أصح عندنا" أي رواية من روى عن مالك بلفظ: عن ابن أبي عمرة أصح من رواية من روى عنه بلفظ عن أبي عمرة "لأنه" أي لأن هذا الحديث "قد روي من غير حديث مالك عن عبد الرحمن بن أبي عمرة عن زيد بن خالد" رواه الترمذي بعد هذا، فهذه الرواية تؤيد رواية من روى عن مالك بلفظ عن ابن أبي عمرة، فقد روى عن أبي عمرة عن زيد بن خالد غير هذا الحديث، أي غير حديث الشهادة المذكور في الباب "وأبو عمرة هو مولى زيد بن خالد الجهني" أي أبو عمرة الذي روى عنه عن زيد بن خالد غير حديث الشهادة المذكور، هو مولى زيد بن خالد "وله" أي لزيد بن خالد الجهني "حديث الغلول" رواه أحمد وأبو داود والنسائي وابن ماجة كلهم من طريق يحيى بن سعيد عن محمد بن يحيى ابن حبان عن أبي عمرة عن زيد بن خالد الجهني: أن رجلا من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم توفي يوم خيبر فذكروا ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: صلوا على صاحبكم، فتغيرت وجوه الناس لذلك، فقال إن صاحبكم غل في سبيل الله ففتشنا متاعه فوجدنا خرزاً من خرز يهود لا يساوي درهمين "لأبي عمرة" أي مولى زيد بن خالد يعني أن حديث زيد بن خالد هذا في الغلول، رواه عنه مولاه أبو عمرة.
قوله: "حدثنا بشر بن آدم ابن بنت أزهر السمان" البصري أبو عبد الرحمن(6/579)
الْحُبَابِ، حدثني أُبَيّ بنُ عَبّاسِ بنِ سَهْلِ بن سَعْدٍ، قَالَ حدثني أَبُو بَكْرِ بنُ محمدِ بنِ عَمْرِو بنِ حَزْمٍ، قَالَ حَدّثَنِي عَبدُ الله بنُ عَمْرِو بنِ عُثمانَ، حدثني خَارِجَةُ بنُ زَيدِ بنِ ثَابتٍ، حدثني عبد الرحمنُ بنُ أبي عَمْرةَ، حدثني زَيْدُ بنُ خَالِدٍ الْجُهَنِيّ، أَنّهُ سَمِعَ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: "خَيْرُ الشّهَدَاءِ مَنْ أَدّى شَهَادَتَهُ قَبْلَ أَنْ يُسْأَلَهَا" .
قال: هذا حديثٌ حَسَنٌ غريبٌ مِن هذَا الوَجْهِ.
2400ـ حَدّثنا قُتَيْبَةُ، حدثنا مَرْوَانُ بنُ مُعَاوِيَةَ الفَزَارِيّ، عَنْ يَزِيدَ بنِ زِيَادٍ الدّمَشْقِي، عن الزّهْرِيّ، عَنْ عُرْوَةَ عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم: "لا تجوزُ شَهَادَةُ خَائِنٍ وَلاَ خَائِنَةٍ وَلاَ مَجْلُودٍ
ـــــــ
صدوق فيه لين من العاشرة "حدثني أبيّ بن عباس بن سهل بن سعد" الأنصاري الساعدي فيه ضعف من السابعة ماله في البخاري غير حديث واحد كذا في التقريب "حدثني خارجة بن زيد بن ثابت" الأنصاري المدني ثقة فقيه من الثالثة.
قوله: "هذا حديث حسن غريب" وأخرجه ابن ماجة.
قوله: "عن يزيد بن زياد الدمشقي" أو ابن أبي زياد القرشي، متروك من السابعة.
قوله: "لا تجوز" أي لا تصح "شهادة خائن ولا خائنة" قال القاري في المرقاة: أي المشهور بالخيانة في أمانات الناس دون ما ائتمن الله عليه عباده من أحكام الدين، كذا قاله بعض علمائنا من الشراح. قال القاضي: ويحتمل أن يكون المراد به الأعم منه وهو الذي يخون فيما ائتمن عليه، سواء ما ائتمنه الله عليه من أحكام الدين أو الناس من الأموال قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ} انتهى. فالمراد بالخائن هو الفاسق وهو من فعل كبيرة أو أصر على الصغائر، انتهى ما في المرقاة. وقال في النيل: صرح أبو عبيد(6/580)
حَدّاً وَلاَ مَجْلُودَةٍ وَلاَ ذِي غِمْرٍ لأَحْنَةٍ، ولا مجرّبِ شَهَادَةٍ، وَلاَ القَانِعِ أهلَ البيتِ لهم، ولاَ ظَنِينَ فِي وَلاَءٍ وَلاَ قَرَابةٍ" قال الفَزَارِيّ: القَانِعُ التّابِعُ.
ـــــــ
بأن الخيانة تكون في حقوق الله كما تكون في حقوق الناس من دون اختصاص "ولا مجلود حداً" أي حد القذف. قال ابن الملك: هو من جلد في حد القذف وبه أخذ أبو حنيفة رحمه الله تعالى أن المجلود فيه لا تقبل شهادته أبداً وإن تاب. وقال القاضي: أفرد المجلود حداً وعطفه عليه لعظم جنايته، وهو يتناول الزاني غير المحصن والقاذف والشارب، قال المظهر: قال أبو حنيفة: إذا جلد قاذف لا تقبل شهادته أبداً وإن تاب، وأما قبل الجلد فتقبل شهادته. وقال غيره: القذف من جملة الفسوق لا يتعلق بإقامة الحد بل إن تاب قبلت شهادته سواء جلد أو لم يجلد. وإن لم يتب لم تقبل شهادته سواء جلد أو لم يجلد.
قلت: قول من قال إن المجلود تقبل شهادته بعد التوبة، هو القول الراجح المنصور كما حققه الحافظ ابن القيم في أعلام الموقعين، والحافظ ابن حجر في الفتح "ولا ذي غمر" بكسر فسكون أي حقد وعداوة "لإحنة" بكسر الهمزة وسكون الحاء المهملة وبالنون، قال في القاموس الإحنة بالكسر الحقد والغضب. وقال في النهاية: الإحنة العداوة ويجيء حنة بهذا المعنى على قلة انتهى. ووقع في بعض النسخ الموجودة عندنا لأخيه بفتح الهمزة وكسر الخاء المعجمة. وكذا وقع عند الدارقطني وغيره ووقع في حديث عبد الله بن عمرو عند أبي داود بلفظ: ولا ذي غمر على أخيه "ولا مجرب شهادة" أي في الكذب "ولا القانع أهل البيت" أي الذي يخدم أهل البيت كالأجير وغيره "لهم" أي لأهل البيت لأنه يجر نفعاً بشهادته إلى نفسه لأن ما حصل من المال للمشهود له يعود نفعه إلى الشاهد لأنه يأكل من نفقته، ولذلك لا تقبل شهادة من جر نفعاً بشهادته إلى نفسه كالوالد يشهد لولده، أو الولد لوالده، أو الغريم يشهد بمال للمفلس على أحد "ولا ظنين" أي متهم "في ولاء" بفتح الواو وهو الذي ينتمي إلى غير مواليه "ولا قرابة" قال القاري في المرقاة: أي ولا ظنين في قرابة وهو الذي ينتسب إلى غير ذويه وإنما ردّ شهادته لأنه ينفي الوثوق به عن نفسه. كذا قال بعض علمائنا من الشراح. وقال المظهر: يعني من قال أنا عتيق فلان وهو كاذب فيه بحيث يتهمه الناس في قوله ويكذبونه، لا تقبل(6/581)
هذا حديثٌ غريبٌ لاَ نَعْرِفُهُ إِلا مِنْ حديثِ يزيدَ بنِ زِيَادٍ الدّمَشْقِي، وَيَزِيدُ يُضَعّفُ فِي الْحَدِيثِ. وَلاَ يُعْرَفُ هَذَا الْحَدِيثُ مِنْ حَدِيثِ الزّهْرِيّ إِلأ مَنْ حَدِيثهِ. وفي البابِ عن عَبدِ الله بنِ عَمْرٍو. قال ولاَ نَعْرِفُ مَعْنَى هَذَا الْحَدِيثِ وَلاَ يَصِحّ عندي مِنْ قِبَلِ إِسْنَادِهِ وَالعَمَلُ عِنْدَ أَهْلِ العِلمِ في هذَا أَنّ شَهَادَةَ القَرِيبِ جَائِزَةٌ لِقَرَابَتِهِ. وَاخْتَلَفَ أَهْلُ الْعِلْمِ في شَهَادَةِ الوَالِدِ
ـــــــ
شهادته لأنه فاسق، لأن قطع الولاء عن المعتق وأبنائه لمن ليس بمعتقه كبيرة وراكبها فاسق، كذلك الظنين في القرابة وهو الداعي القائل أنا ابن فلان أو أنا أخو فلان من النسب والناس يكذبونه فيه، انتهى ما في المرقاة.
قوله: "هذا حديث غريب" وأخرجه الدارقطني والبيهقي وفيه ولاذي غمر لأخيه، وفي سنده يزيد بن زياد الدمشقي وهو متروك كما عرفت. وقال أبو زرعة في العلل: هو حديث منكر، وضعفه عبد الحق وابن حزم وابن الجوزي.
قوله: "وفي الباب عن عبد الله بن عمرو" أخرجه أبو داود بلفظ: لا تجوز شهادة خائن ولا خائنة ولا زان ولا زانية ولا ذي غمر على أخيه ورد شهادة القانع لأهل البيت ورواه ابن ماجة أيضاً. وفي الباب أيضاً عن أبي هريرة بلفظ لا تجوز شهادة ذي الظنة ولا ذي الحنة. رواه الحاكم والبيهقي وفي الباب أيضاً من حديث عبد الله بن عمر بن الخطاب نحو حديث عائشة أخرجه الدارقطني والبيهقي، وفي إسناده عبد الأعلى وهو ضعيف، شيخه يحيى بن سعيد الفارسي وهو أيضاً ضعيف، قال البيهقي: لا يصح من هذا شيء عن النبي صلى الله عليه وسلم. وفي الباب أيضاً عن عمر: لا تقبل شهادة ظنين ولا خصم. أخرجه مالك في الموطإ موقوفاً وهو منقطع.
قوله: "ولا نعرف معنى هذا الحديث" أي معنى قوله ولا ظنين في ولاء ولا قرابة فإنه بظاهره يوهم أنه لا يجوز شهادة قريب لقريب له ولم يقل بإطلاقه أحد، ولكن إذا فسر هذا بما ذكرنا فلا إشكال والله تعالى أعلم "والعمل عند أهل العلم في هذا أن شهادة القريب جائزة لقرابته" أي وظاهر قوله ولا ظنين في ولاء ولا قرابة يدل على خلافه، ولذلك قال الترمذي: لا نعرف معنى هذا الحديث "واختلف(6/582)
لِلْوَلَدِ وَالْوَلَدِ لوالده ولم يُجِزْ أَكثَرُ أَهْلِ الْعِلْمِ شَهَادَةَ الْوَالَدِ لِلْوَلِدِ وَلاَ الوَلِدِ لِلْوالَدِ. وَقَالَ بَعْضُ أَهْلِ العِلْمِ إِذَا كَانَ عَدْلاً فَشَهَادَةُ الوَالِدِ لِلْوَلَدِ جَائِزَةٌ وَكَذَلِكَ شَهَادَةُ الوَلَدِ للوَالِدِ، وَلمْ يَخْتَلِفُوا فِي شَهَادَةِ الأخِ لأَخِيهِ أَنّهَا جَائِزَةٌ، وَكَذَلِكَ شَهَادَةُ كُلّ قَرِيبٍ لقريبه. وَقَالَ الشّافَعِيّ: لاَ تَجُوز شَهَادَز لِرجُلٍ عَلَى الاَخَرِ وَإِنْ كَانَ عَدْلاً إِذَا كانت بَيْنَهُمَا عَدَاوَةٌ. وَذَهَبَ إِلَى حَدِيث عَبْدِ الرحمنِ الأَعرجِ، عَنْ النّبيّ صلى الله عليه وسلم مُرْسَلاً: "لاَ تَجُوزُ شَهَادَةُ صاحب إِحْنَةٍ" يَعْنِي صَاحِبِ عَدَاوَةٍ. وَكَذَلِكَ مَعْنَى هَذَا الْحَدِيثِ حَيْثُ قَالَ: "لاَ تَجُوزُ شَهَادَةُ صَاحِبِ غِمْرٍ لأخيه". يَعْنِي صَاحِبَ عَدَاوَةِ.
ـــــــ
أهل العلم في شهادة الوالد للولد الخ". قال الشوكاني في النيل: اختلف في شهادة الولد لوالده والعكس، فمنع من ذلك الحسن البصري والشعبي وزيد بن علي والمؤيد بالله والإمام يحيى والثوري ومالك والشافعية والحنفية وعللوا بالتهمة فكان كالقانع وقال عمر بن الخطاب وشريح وعمر بن عبد العزيز والعترة وأبو ثور وابن المنذر والشافعي في قوله إنها تقبل لعموم قوله تعالى {ذَوَيْ عَدْلٍ} انتهى. قلت: والظاهر عندي هو قول المانعين والله تعالى أعلم. "وقال الشافعي لا تجوز شهادة الرجل على الاَخر وإن كان عدلا إذا كان بينهما عداوة الخ" قيل اعتمد الشافعي خبراً صحيحاً وهو أنه صلى الله عليه وسلم قال: لا تقبل شهادة خصم على خصم. قال الحافظ: ليس له إسناده لكن له طرق يتقوى بعضها ببعض فروى أبو داود في المراسيل من حديث طلحة بن عبد الله بن عوف أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث منادياً أنها لا تجوز شهادة خصم ولا ظنين. ورواه أيضاً البيهقي من طريق الأعرج مرسلاً أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: لا تجوز شهادة ذي الظنة والحنة. يعني الذي بينك وبينه عداوة، رواه الحاكم من حديث العلاء عن أبيه عن أبي هريرة، يرفعه مثله، وفي إسناده نظر.(6/583)
2401 ـ حَدّثنا حُمَيدُ بنُ مَسْعَدَةَ، حدثنا بِشْرُ بنُ المُفَضّلِ، عن الْجُرَيْرِيّ عنْ عَبْدِ الرحمنِ بنِ أَبِي بَكْرَةَ عنْ أَبِيهِ أَنّ رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم قَالَ: "أَلاَ أُخْبِرُكُمْ بِأَكْبَرِ الكَبَائِرِ؟ قَالُوا بَلَى يَا رَسُولَ الله، قَالَ الاْشْرَاكُ بِالله وَعُقُوقُ الْوَالِدَيْنِ وَشَهَادَةُ الزّورِ أَوْ قَوْلُ الزّورِ". قَالَ فَمَا زَالَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم يَقُولُهَا حَتّى قُلْنَا لَيْتَهُ سَكَتَ.
هذا حديثٌ صحيحٌ.
ـــــــ
قوله: "عن الجريري" بضم الجيم هو سعيد بن إلياس أبو مسعود البصري، ثقة من الخامسة، إختلظ قبل موته بثلاث سنين "عن عبد الرحمن بن أبي بكرة" ابن الحارث الثقفي ثقة. من الثانية "عن أبيه" أي أبي بكرة واسمه نفيع بن الحارس بن كلدة بفتحتين ابن عمرو الثقفي، صحابي مشهور بكنيته، وقيل اسمه مسروح بمهملات، أسلم بالطائف ثم نزل البصرة.
قوله: "قال الإشراك بالله" هو جعل أحد شريكا للاَخر والمراد ههنا إتخاذ إله غير الله وأراد به الكفر، وإختار لفظ الإشراك لأنه كان غالباً في العرب "وعقوق الوالدين" أي قطع صلتهما مأخوذ من العق وهو الشق والقطع، والمراد عقوق أحدهما، قيل هو إيذاء لا يتحمل مثله من الولد عادة، وقيل عقوقهما مخالفة أمرهما فيما لم يكن معصية وفي معناهما الأجداد والجدات ثم اقترانه بالإشراك لما بينهما من المناسبة، إذ في كل قطع حقوق السبب في الإيجاد والإمداد إن كان ذلك لله حقيقة وللوالدين صورة، ونظيره قوله تعالى: {وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً} وقوله عز وجل
2401 ـ حَدّثنا حُمَيدُ بنُ مَسْعَدَةَ، حدثنا بِشْرُ بنُ المُفَضّلِ، عن الْجُرَيْرِيّ عنْ عَبْدِ الرحمنِ بنِ أَبِي بَكْرَةَ عنْ أَبِيهِ أَنّ رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم قَالَ: "أَلاَ أُخْبِرُكُمْ بِأَكْبَرِ الكَبَائِرِ؟ قَالُوا بَلَى يَا رَسُولَ الله، قَالَ الاْشْرَاكُ بِالله وَعُقُوقُ الْوَالِدَيْنِ وَشَهَادَةُ الزّورِ أَوْ قَوْلُ الزّورِ". قَالَ فَمَا زَالَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم يَقُولُهَا حَتّى قُلْنَا لَيْتَهُ سَكَتَ.
هذا حديثٌ صحيحٌ.
ـــــــ
قوله: "عن الجريري" بضم الجيم هو سعيد بن إلياس أبو مسعود البصري، ثقة من الخامسة، إختلظ قبل موته بثلاث سنين "عن عبد الرحمن بن أبي بكرة" ابن الحارث الثقفي ثقة. من الثانية "عن أبيه" أي أبي بكرة واسمه نفيع بن الحارس بن كلدة بفتحتين ابن عمرو الثقفي، صحابي مشهور بكنيته، وقيل اسمه مسروح بمهملات، أسلم بالطائف ثم نزل البصرة.
قوله: "قال الإشراك بالله" هو جعل أحد شريكا للاَخر والمراد ههنا إتخاذ إله غير الله وأراد به الكفر، وإختار لفظ الإشراك لأنه كان غالباً في العرب "وعقوق الوالدين" أي قطع صلتهما مأخوذ من العق وهو الشق والقطع، والمراد عقوق أحدهما، قيل هو إيذاء لا يتحمل مثله من الولد عادة، وقيل عقوقهما مخالفة أمرهما فيما لم يكن معصية وفي معناهما الأجداد والجدات ثم اقترانه بالإشراك لما بينهما من المناسبة، إذ في كل قطع حقوق السبب في الإيجاد والإمداد إن كان ذلك لله حقيقة وللوالدين صورة، ونظيره قوله تعالى: {وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً} وقوله عز وجل "أن اشكر لي ولوالديك" "وشهادة الزور" أي الكذب وسمي زور لميلانه عن جهة الحق "وقول الزور" شك من الراوي "حتى قلنا ليته سكت" أي شفقة وكراهية لما يزعجه. وفيه ما كانوا عليه من كثرة الأدب معه صلى الله عليه وسلم، والمحبة له والشفقة عليه، وتقدم هذا الحديث في باب عقوق الوالدين من أبواب البر والصلة.
قوله: "هذا حديث صحيح" وأخرجه البخاري والنسائي. {أن اشكر لي ولوالديك} "وشهادة الزور" أي الكذب وسمي زور لميلانه عن جهة الحق "وقول الزور" شك من الراوي "حتى قلنا ليته سكت" أي شفقة وكراهية لما يزعجه. وفيه ما كانوا عليه من كثرة الأدب معه صلى الله عليه وسلم، والمحبة له والشفقة عليه، وتقدم هذا الحديث في باب عقوق الوالدين من أبواب البر والصلة.
قوله: "هذا حديث صحيح" وأخرجه البخاري والنسائي.(6/584)
2402 ـ حدّثنا أَحْمَدُ بنُ مَنِيعٍ، حدثنا مَرْوَانُ بنُ مُعَاوِيَةَ عن سُفْيَانَ بنِ زِيَادٍ الأسَدِيّ، عَنْ فَاتِكِ بنِ فَضَالَةَ، عنْ أَيْمَنَ بنِ خُرَيْمٍ أَنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم قَامَ خَطِيباً فَقَالَ: "يأَيّهَا النّاسُ عدلَتْ شَهَادَةُ الزّورِ إِشراكاً بالله ثم قَرَأَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم: {فَاجْتَنِبُوا الرّجْسَ مِنَ الأْوْثَانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزّورِ} .
هذا حديثٌ إِنمَا نَعْرِفُهُ مِن حديثِ
ـــــــ
قوله: "عن سفيان بن زياد الأسدي" ويقال ابن دينار العصفري، ويكنى أبا الورقاء الأحمري أو الأسدي، كوفي ثقة من السادسة "عن فاتك بن فضالة" ابن شريك الأسدي الكوفي مجهول الحال من السادسة "عن أيمن بن خريم" بالمعجمة ثم الراء مصغراً ابن الأخرم الأسدي هو أبو عطية الشامي الشاعر مختلف في صحبته. قال العجلي: تابعي ثقة وقال في تهذيب التهذيب: روى عن النبي صلى الله عليه وسلم في شهادة الزور، وعن أبيه وعمه، وعنه فاتك بن فضالة.
قوله: "عدلت شهادة الزور إشراكاً بالله" أي جعلت الشهادة الكاذبة مماثلة للإشراك بالله في الإثم لأن الشرك كذب على الله بما لا يجوز، وشهادة الزور كذب على العبد بما لا يجوز وكلاهما غير واقع في الواقع. قال الطيبي: والزور من الزور والازورار وهو الانحراف وإنما ساوى قول الزور الشرك لأن الشرك من باب الزور فإن المشرك زعم أن الوثن يحق العبادة "ثم قرأ" أي استشهاداً واعتضاداً {فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثَانِ} من بيانية أي النجس الذي هو الأصنام "اجتنبوا قول الزور" أي قول الكذب الشامل لشهادة الزور. قال الطيبي: وفي التنزيل عطف قول الزور على عبادة الأوثان وكرر الفعل استقلالاً فيما هو مجتنب عنه في كونهما من وادي الرجس الذي يجب أن يجتنب عنه، وكأنه قال فاجتنبوا عبادة الأوثان التي هي رؤوس الرجس، واجتنبوا قول الزور كله، ولا تقربوا شيئاً منه لتماديه في القبح والسماجة. وما ظنك بشيء من قبيل عبادة الأوثان، وسمي الأوثان رجساً على طريق التشبيه يعني إنكم كما تنفرون بطباعكم عن الرجس وتجتنبونه فعليكم أن تنفروا من شبيه الرجس مثل تلك النقرة.(6/585)
سُفْيَانَ بنِ زِيَادٍ. واخْتَلَفُوا فِي رِوَايِة هَذَا الْحَدِيثِ عنْ سُفْيَانَ بنِ زِيَادٍ وَلاَ نَعْرِفُ لأَيْمَنَ بنِ خُرَيْمٍ سَمَاعاً من النبي صلى الله عليه وسلم.
وقد اختلفوا في رواية هذا الحديث عن سفيان بن زياد.
2403ـ حَدّثنا وَاصِلُ بنُ عَبْدِ الأعْلَى، حدثنا محمدُ بنُ فُضَيْلٍ، عن الأعْمَشِ عَنْ عَلِيّ بنِ مُدِرِكٍ عَنْ هِلاَلِ بنِ يَسَافٍ عنْ عِمرانَ بنِ حُصيْنٍ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: "خَيْرُ النّاسِ قَرْنِي ثُمّ الّذينَ يَلونَهُمْ، ثُمّ الذين يَلونَهُمْ ثمّ الّذِينَ يَلُونَهُمْ ثَلاَثَاً، ثُمّ يَجِيءُ قَوْمٌ
ـــــــ
قوله: "وقد اختلفوا في رواية هذا الحديث عن سفيان بن زياد". قال الحافظ في تهذيب التهذيب بعد نقل كلام الترمذي هذا ما لفظه: وقد رواه جماعة عن سفيان بن زياد عن أبيه عن حبيب بن النعمان عن خريم بن فاتك واستصوبه ابن معين وقال إن مروان بن معاوية لم يقم إسناده انتهى. وحديث أيمن بن خريم هذا في سنده فاتك بن فضالة وهو مجهول كما عرفت وأخرجه أيضاً أحمد وأخرجه أبو داود وابن ماجة عن خريم بن فاتك وهو صحابي. قال في التقريب: خريم بالتصغير بن فاتك الأسدي أبو يحيى وهو خريم بن الأخرم بن شداد بن عمرو بن فاتك نسب لجد جده، صحابي شهد الحديبية، ولم يصح أنه شهد بدراً مات، في الرقة في خلافة معاوية.
قوله: "عن علي بن مدرك" النخعى أبي مدرك الكوفي ثقة من الرابعة.
قوله: "خير الناس قرني" أي الذين أدركوني وآمنوا بي وهم أصحابي "ثم الذين يلونهم" أي يقربونهم في الرتبة أو يتبعونهم في الإيمان والإيقان وهم التابعون "ثم الذين يلونهم" وهم أتباع التابعين. والمعنى أن الصحابة والتابعين وتبعهم هؤلاء القرون الثلاثة المرتبة في الفضيلة. ففي النهاية: القرن أهل كل زمان وهو مقدار التوسط في أعمار أهل كل زمان، مأخوذ من الاقتران فكأنه المقدار الذي يقترن فيه أهل ذلك الزمان في أعمارهم وأحوالهم، وقيل القرن أربعون سنة وقيل ثمانون، وقيل مائة، وقيل هو مطلق من الزمان، وهو مصدر قرن يقرن. قال السيوطي: والأصح أنه لا ينضبط بمدة فقرنه صلى الله عليه وسلم هم الصحابة وكانت مدتهم من المبعث إلى آخر من مات من الصحابة مائة وعشرين سنة. وقرن التابعين(6/586)
مِنْ بَعْدِهِمْ يَتَسَمّنُونَ وَيُحِبّونَ السّمَنَ يُعْطُونَ الشّهَادَةَ قَبْلَ أَنْ يُسْأَلُوهَا" .
وهذا حديثٌ غريبٌ مِنْ حَديثِ الأعْمَشِ عنْ عَلِيّ بنِ مُدْرِكٍ وَأَصْحَابُ الأعْمَشِ إِنّمَا رَوَوْا عنِ الأعْمَشِ، عَن هِلاَلِ بنِ يَسَافٍ، عن عمرانَ بنِ حُصَيْنٍ.
ـــــــ
من مائة سنة إلى نحو سبعين، وقرن أتباع التابعين من ثم إلى نحو العشرين ومائتين وفي هذا الوقت ظهرت البدع ظهوراً فاشياً، وأطلقت المعتزلة ألسنتها، ورفعت الفلاسفة رؤوسها، وامتحن أهل العلم ليقولوا بخلق القرآن وتغيرت الأحوال تغيراً شديداً ولم يزل الأمر في نقص إلى الاَن، وظهر مصداق قوله صلى الله عليه وسلم: ثم يفشو الكذب "ثم الذين يلونهم ثلاثاً" كذا في بعض النسخ، وليس هذا في بعضها. وفي رواية البخاري في فضائل الصحابة: خير أمتي قرني ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم. قال عمران: فلا أدري أذكر بعد قرنه مرتين أو ثلاثاً. قال الحافظ: وقع مثل هذا الشك في حديث ابن مسعود وأبي هريرة عند مسلم وفي حديث بريدة عند أحمد، وجاء في أكثر الطرق بغير شك منها عن النعمان بن بشير عند أحمد، وعن مالك عند المسلم عن عائشة: قال رجل يا رسول الله أي الناس خير؟ قال: القرن الذي أنا فيه ثم الثاني ثم الثالث . ووقع في حديث جعدة بن هبيرة عند ابن أبي شيبة والطبراني إثبات القرن الرابع ولفظه: خير الناس قرني ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم ثم الاَخرون أردا. ورجاله ثقات إلا أن جعدة مختلف في صحبته انتهى "يتسمنون" أي يتكبرون بما ليس فيهم، ويدعون ما ليس لهم من الشرف. وقيل أراد جمعهم الأموال وقيل يحبون التوسع في المآكل والمشارب وهي أسباب السمن. وقال التوربشتي: كنى به عن الغفلة وقلة الاهتمام بأمر الدين، فإن الغالب على ذوي السمانة أن لا يهتموا بارتياض النفوس بل معظم همتهم تناول الحظوظ والتفرغ للدعة والنوم. وفي شرح مسلم: قالوا: المذموم من السمن ما يستكسب وأما ما هو خلقة فلا يدخل في هذا انتهى "ويحبون السمن" بكسر السين وفتح الميم مصدر سمن بالكسر والضم سمانة بالفتح وسمنا كعنب فهو سامن وسمين.
قوله: "هذا حديث غريب" أصله في الصحيحين "وأصحاب الأعمش" يعني غير محمد بن فضيل "إنما رووا عن الأعمش عن هلال بن يساف" يعني بغير ذكر علي بن مدرك.(6/587)
2404 ـ حدّثنا أَبُو عَمّارٍ الْحُسَيْنُ بن حُرَيثٍ، حدثنا وَكِيعٌ عن الأعْمَشِ، عنْ هِلاَلِ بنِ يَسَافٍ، عنْ عِمْرَانَ بنِ حُصَيْنٍ عن النّبيّ صلى الله عليه وسلم نَحْوَهُ. وَهَذَا أَصَحّ من حديثِ مُحمدِ بنِ فُضَيْلٍ قال: وَمَعْنَى هَذَا الْحَدِيثِ عِنْدَ بَعْضِ أَهْلِ العِلْمِ يُعْطُونَ الشّهَادَةَ قَبْلَ أَنْ يُسْأَلُوهَا، إِنّمَا يَعْنِي شَهَادَةَ الزّورِ، يقُولُ شَهَادَةُ أَحَدِهِمْ من غَيرِ أَنْ يُسْتَشْهَدَ.
وبيان هذا في حديث عُمرَ بنِ الْخَطّابِ عن النّبيّ صلى الله عليه وسلم: "خَيْرُ النّاسِ قَرْنِي، ثمّ الّذِينَ يَلُونَهُمْ، ثُمّ الّذِينَ يَلُونَهُمْ، ثمّ يَفْشُو الكَذِبُ حَتّى يَشْهَدَ الرّجُلُ وَلاَ يُسْتَشْهَدَ وَيَحْلِفَ الرجُلُ وَلاَ يُسْتَحْلَفَ" . وَمَعْنَى حديثِ النّبيّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "خَيْرُ الشّهَدَاءِ الّذِي يَأْتِي بِشَهَادَتِهِ قَبْلَ أَنْ يُسْأَلَهَا" هُوَ عندنا إِذَا أشهِدَ الرجُلُ عَلَى الشّيْءِ أَنْ يُؤَدّيَ شَهَادَتَهُ وَلاَ يَمْتَنِعَ مِنَ الشّهَادَةِ. هَكَذَا وَجْهُ الْحَدِيثِ عَنْدَ بَعْضِ أَهْلِ الْعِلْمِ.
ـــــــ
قوله: "وهذا أصح من حديث محمد بن فضيل" أي حديث وكيع عن الأعمش عن هلال بن يساف بغير ذكر علي بن مدرك أصح من حديث محمد بن فضيل عن الأعمش عن علي بن مدرك عن هلال بن يساف لأنه تفرد بذكره. وقد روى غير واحد من أصحاب الأعمش مثل رواية وكيع.
قوله: "وبيان هذا في حديث عمر بن الخطاب عن النبي صلى الله عليه وسلم الخ" أخرجه الترمذي في باب لزوم الجماعة من أبواب الفتن "هو إذا استشهد الرجل على الشيء أن يؤدي شهادته ولا يمتنع من الشهادة هكذا وجه الحديث عند بعض أهل العلم" ذكر النووي ثلاثة وجوه من التأويل في هذا الحديث كما عرفتها. وذكر التأويل الثالث بقوله: إنه محمول على المجاز والمبالغة في أداء الشهادة بعد طلبها لاقبله، كما يقال: الجواد يعطي قبل السؤال أي يعطي سريعاً عقب السؤال من غير توقف، انتهى. وإلى هذا التأويل أشار الترمذي بقوله: هو إذا استشهد الخ والله تعالى أعلم.(6/588)
أبواب الزهد عن رسول الله صلى الله عليه و سلم
مدخل
...
بسم الله الرحمن الرحيم
أبواب الزهد عن رَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم
2405ـ حَدّثنا صَالِحُ بنُ عَبْدِ الله وَ سُوَيدُ بنُ نَصْرٍ، قَالَ صَالِحٌ حدثنا، وَقَالَ سُوَيْدٌ أخبرنا عَبْدُ الله بنُ المُبَارَكِ عَنْ عَبْدِ الله بنِ سَعِيدِ بنِ أَبِي هِنْدٍ عَنْ أَبِيهِ عَن ابنِ عَبّاسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم: "نِعْمَتَانِ مَغْبُونٌ فِيهِمَا كَثِيرٌ مِن النّاسِ الصّحّةُ وَالْفَرَاغُ" .
2506ـ حدّثنا محمدُ بنُ بَشّارٍ، حدثنا يَحْيَى بنُ سَعِيدٍ، حدثنا
ـــــــ
"أبواب الزهد إلخ"
هو ضد الرغبة قال القاموس: زهد فيه كمنع وسمع وكرم زهداً وزهادة ضد الرغبة انتهى. والمراد هنا ترك الرغبة في الدنيا على ما يقتضيه الكتاب والسنة
قوله: "نعمتان" مبتدأ "مغبون فيهما كثيرون من الناس" صفة له خبره "الصحة والفراغ" أي صحة البدن وفراغ الخاطر بحصول الأمن ووصول كفاية الأمنية. والمعنى لا يعرف قدر هاتين النعمتين كثير من الناس حيث لا يكسبون فيهما من الأعمال كفاية ما يحتاجون إليه في معادهم فيندمون على تضييع أعمارهم عند زوالها، ولا ينفعهم الندم قال تعالى {ذَلِكَ يَوْمُ التَّغَابُنِ} وقال صلى الله عليه وسلم: ليس يتحسر أهل الجنة إلا على ساعة مرت بهم ولم يذكروا الله فيها وفي حاشية السيوطي رحمه الله قال العلماء: معناه أن الإنسان لا يتفرغ للطاعة إلا إذا كان مكفياً صحيح البدن فقد يكون مستغنياً ولا يكون صحيحاً، وقد يكون صحيحاً ولا يكون مستغنياً فلا يكون متفرغاً للعلم والعمل لشغله بالكسب، فمن حصل له الأمران وكسل عن الطاعة فهو المغبون أي الخاسر في التجارة مأخوذ من الغبن في البيع.
قوله: "حدثنا محمد بن بشار" هو بندار "أخبرنا يحيى بن سعيد" هو القطان(6/589)
عَبْدُ الله بنُ سَعِيدِ بنِ أَبي هنْدٍ، عَنْ أَبِيهِ عَن ابن عَبّاسٍ عَنْ النّبيّ صلى الله عليه وسلم نَحْوَهُ.
وفي البابِ عن أَنَسِ بنِ مَالِكٍ. وقال هذا حديثٌ حَسَنٌ صحيحٌ. وَرَوَاهُ غَيْرُ وَاحِدٍ عَنْ عَبْدِ الله بنِ سَعِيدِ بنِ أَبِي هِنْدٍ، فرفعوه وَأوْقَفَهُ بَعْضُهُمْ عَنْ عَبْدِ الله بنِ سَعِيدِ بنِ أَبِي هِنْدٍ.
2407ـ حَدّثنا بِشْرُ بن هِلاَلٍ الصّوافُ البصري، حدثنا جَعْفَرُ بنُ سُلَيْمَانَ عَن أَبي طَارِقٍ عن الْحَسَنِ عن أبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم: "مَنْ يَأْخُذُ عَنّي هَؤُلاَءِ الكَلِمَاتِ فَيَعْمَلُ بِهِن أو يُعَلّمُ مَنْ يعْمَلُ بِهِنّ؟" فَقَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: فقُلْتُ أَنَا يَا رَسُولَ الله. فَأَخَذَ بِيَدِي فعَدّ
ـــــــ
أخرجه الإسماعيلي من هذا الطريق ثم قال: قال بندار بما حدث به يحيى بن سعيد ولم يرفعه كذا في الفتح.
قوله: "وفي الباب عن أنس بن مالك" لينظر من أخرجه.
قوله: "هذا حديث حسن صحيح" وأخرجه البخاري وابن ماجة.
قوله: "حدثنا بشر بن هلال الصواف" أبو محمد النميري بضم النون، ثقة من العاشرة "عن أبي طارق" السعدي البصري مجهول من السابعة كذا في التقريب. وقال في تهذيب التهذيب في ترجمته روى الحسن عن أبي هريرة حديث: من يأخذ عني هؤلاء الكلمات وعنه جعفر بن سليمان الضبعي انتهى. وقال في الميزان: لا يعرف "عن الحسن" هو البصري.
قوله: "من يأخذ عنى هؤلاء الكلمات" أي الأحكام الاَتية للسامع المصورة في ذهن المتكلم ومن للاستفهام "فيعمل بهن أو يعلم من يعمل بهن" أو في الحديث بمعنى الواو كما في قوله تعالى {عُذْراً أَوْ نُذْراً} ذكره الطيبي. قال القاري وتبعه غيره: والظاهر أن أو في الاَية للتنويع كما أشار إليه البيضاري بقوله عذر للمحققين أو نذر للمبطلين ويمكن أن تكون أو في الحديث بمعنى بل إشارة إلى الترقي من مرتبة الكمال إلى منصة التكميل على أن كونها للتنويع له وجه وجيه، وتنبيه نبيه على أن العاجز(6/590)
خَمْساً وَقَالَ: "اتّقِ المَحَارِمَ تَكُنْ أَعْبَدَ النّاسِ، وَارْضَ بِما قَسَمَ الله لَكَ تَكُنْ أَغْنَى النّاسِ، وَأَحْسِنْ إِلَى جَارِكَ تَكُنْ مُؤْمِناً، وَأَحِبّ لِلنّاسِ ما تُحِبّ لِنَفْسِكَ تَكُنْ مُسْلِماً، وَلاَ تُكْثِرِ الضّحِكَ فَإِنّ كَثْرَةَ الضّحِكِ تُمِيتُ القَلْبَ" .
هذا حديثٌ غريبٌ لاَ نَعْرِفُهُ إِلاّ مِنْ حَدِيثِ جَعْفَرِ بنِ سُلَيْمانَ وَالْحَسَنُ لَمْ يَسْمَعْ مِنْ أَبِي هُرَيْرَةَ شَيْئاً، هَكَذَا رُوِيَ عنْ أَيّوبَ ويُونُسَ بنِ عُبَيْدٍ وَعَلِيّ بنُ زَيْدٍ. قالوا لَمْ يَسْمَعْ الْحَسَنُ مِنْ أَبِي هُرَيْرَةَ: وَرَوَى
ـــــــ
عن فعله قد يكون باعثاً لغيره على مثله كقوله فرب حامل فقه إلى من هو أفقه منه انتهى "قلت أنا" أي آخذ عنك وهذه مبايعة خاصة، ونظيره ما عهد بعض أصحابه بأنه لا يسأل مخلوقا. وكان إذا وقع سوطه من يده وهو راكب نزل وأخذه من غير أن يستعين بأحد من أصحابه "فأخذه بيدي" أي لعد الكلمات الخمس أو لأنه صلى الله عليه وسلم كان يأخذ عند التعليم بيد من يعلمه "فعد خمساً" أي من الخصائل أو من الأصابع على ما هو المتعارف واحدة بعد واحدة "وقال اتق المحارم" أي احذر الوقوع فيما حرم الله عليك "تكن أعبد الناس" أي من أعبدهم لأنه يلزم نم ترك المحارم فعل الفرائض. "وارض بما قسم الله لك" أي أعطاك "تكن أغنى الناس" فإن فرض قنع بما قسم له ولم يطمع فيما في أيدي الناس استغنى عنهم، ليس الغنى بكثرة العرض ولكن الغني غني النفس. قال القاري في المرقاة: سأل شخص السيد أبا الحسن الشاذلي رحمه الله عن الكيماء فقال: هي كلمتان، اطرح الخلق عن نظرك. واقطع طمعك عن الله أن يعطيك غير ما قسم لك "وأحسن إلى جارك" أي مجاورك بالقول والفعل "تكن مؤمناً" أي كامل الإيمان "وأحب للناس ما تحب لنفسك" من الخير "تكن مسلماً" أي كامل الإسلام "ولا تكثر الضحك فإن كثرة الضحك تميت القلب" أي تصيره مغموراً في الظلمات، ومنزلة الميت الذي لا ينفع نفسه بنافعة ولا يدفع عنها مكروهاً، وذا من جوامع الكلم "هذا حديث غريب" وأخرجه(6/591)
أَبُو عُبْيْدَةَ النّاجِيّ عَنْ الْحَسَنِ هَذَا الْحَدِيثَ قَوْلَهُ، وَلَمْ يَذْكُرْ فِيهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عن النّبيّ صلى الله عليه وسلم.
ـــــــ
أحمد. وقال المنذري بعد ذكر هذا الحديث: رواه الترمذي وغيره من رواية الحسن عن أبي هريرة. وقال الترمذي: الحسن لم يسمع من أبي هريرة. ورواه البزار والبيهقي بنحوه في كتاب الزهد عن مكحول من واثلة عنه وقد سمع مكحول من واثلة قاله الترمذي وغيره لكن بقية إسناده فيه ضعف(6/592)
1 ـ باب مَا جَاءَ فِي المبَادَرَةِ بِالْعَمَل
2408ـ حَدّثنا أَبُو مُصْعَبٍ عَنْ مُحْرِزِ بنِ هَارُونَ عَنْ عَبْدِ الرّحَمنِ الأَعْرَجِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنّ رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم قَالَ: "بَادِرُوا بالأَعْمَالِ سَبْعاً، هَلْ تُنْظَرُونَ إِلاّ إِلَى فَقْرٍ مُنْسٍ، أَوْ غِنًى مُطغٍ، أَوْ مَرَضٍ
ـــــــ
"باب ما جاء في المبادرة بالعمل"
قوله: "عن محرز" بضم الميم وسكون الحاء المهملة وكسر الراء وبالزاي "بن هارون" بن عبد الله التيمي. قال في الخلاصة: محرز بن هارون كذا ضبطه عبد الغني وابن أبي حاتم وذكره البخاري بمهملتين انتهى. وقال في تهذيب التهذيب: محرر بن هارون بن عبد الله بن محرر بن الهدير التيمي ذكره البخاري في من اسمه محرر براءين. وذكره ابن أبي حاتم وغيره في من اسمه محرز بالزاي. روى عن الأعرج وغيره، وعنه أبو مصعب وغيره. قال البخاري والنسائي: منكر الحديث. وقال ابن حبان يروي عن الأعرج ما ليس من حديثٌ لا تحل الرواية عنه ولا الاحتجاج به انتهى مختصراً. وقال في التقريب محرر براءين وزن محمد على الصحيح متروك من السابعة.
قوله: "قال بادروا بالأعمال سبعاً" أي سابقوا وقوع الفتن بالاشتغال بالأعمال الصالحة واهتموا بها قبل حلولها "هل تنظرون إلا إلى فقر منس" وفي المشكاة ما ينتظر أحدكم إلا غنى مطغياً أو فقراً منسياً الخ قال القاري: خرج مخرج التوبيخ على تقصير المكلفين في أمر دينهم، أي متى تعبدون ربكم فإنكم إن لم تعبدوه مع(6/592)
مُفْسِدٍ أَوْ هَرَمٍ مُفْنِدٍ أَوْ مَوْتٍ مُجْهِزٍ أَوْ الدّجّالِ فَشَرّ غَائِبٌ يُنْتَظَرُ أَوْ السّاعَةِ؟ فالسّاعةُ أَدْهَى وَأَمَرّ" .
هذا حديثٌ غريبٌ حسنٌ لاَ نَعْرِفُهُ مِنْ حديثِ الأَعْرَجِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ إِلاّ مِنْ حَديثِ مُحْرِزِ بنِ هَارُونَ، وقد رَوَى مَعْمَرٌ هَذَا الْحَدِيثَ عَمّنْ سَمِعَ سَعِيداً المَقْبُرِيّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ النّبيّ صلى الله عليه وسلم نحو هذا.
ـــــــ
قلة الشواغل وقوة البدن فكيف تعبدون مع كثرة الشواغل وضعف القوى؟ لعل أحدكم ما ينتظر إلا غنى مطغياً انتهى. وقوله منس من باب الأفعال، ويجوز أن يكون من باب التفعيل، ولكن الأول أولى لمشاكلة الأولى، أي جاعل صاحبه مدهوشاً ينسيه الطاعة من الجوع والعري، والتردد في طلب القوت "أو غنى مطغ" أي موقع في الطغيان "أو مرض مفسد" أي للبدن لشدته أو للدين لأجل الكسل الحاصل به "أو هرم مفند" أي موقع في الكلام المحرف عن سنن الصحة من الخرف والهذيان. وقال في القاموس: الفند بالتحريك الخزف وإنكار العقل الهرم أو مرض، والخطأ في القول والرأي. والكذب كالإفناد، وفنده تفنيداً كذبه وعجزه، وخطأ رأيه كأفنده. ولا تقل عجوز مفندة لأنها لم تكن ذات رأي أبدا "أو موت مجهز" بجيم وزاي من الإجهاز، أي قاتل بغتة من غير أن يقدر على توبة ووصية. ففي النهاية: المجهز هو السريع، يقال أجهز على الجريح إذا أسرع قتله، أو الدجال أي خروجه فشر غائب ينتظر بصيغة المجهول، أو الساعة أي القيامة "فالساعة أدهى" أي أشد الدواهي وأقطعها وأصعبها "وأمر" أي أكثر مرارة من جميع ما يكابده الإنسان في الدنيا من الشدائد لمن غفل عن أمرها، ولم يعد لها قبل حلولها. والقصد الحث على البدار بالعمل الصالح قبل حلول شيء من ذلك، وأخذ منه ندب تعجيل الحج.
قوله: "هذا حديث غريب حسن" وأخرجه النسائي والحاكم وصححه قال المناوي وأقروه انتهى قلت في سند الترمذي: محرز بن هارون وقد عرفت حاله(6/593)
2 ـ باب مَا جَاءَ فِي ذِكْرِ المَوْت
2409 ـ حَدّثنا محمودُ بنُ غَيْلاَنَ، حدثنا الفَضْلُ بنُ مُوسَى، عَنْ مُحَمّدِ بنِ عَمْرٍو، وعنْ أَبي سَلَمَةَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم: "أَكْثِرُوا ذِكْرَ هَاذِمِ الّلذّاتِ" يَعْنِي المَوْت.
هذا حديثٌ غريبٌ حَسَنٌ. وفي البابِ عنْ أَبِي سَعِيدٍ.
ـــــــ
"باب ما جاء في ذكر الموت"
قوله: "أكثروا ذكر هاذم اللذات" بالذال المعجمة: أي قاطعها. قال ميرك صحح الطيبي بالدال المهملة حيث قال شبه اللذات الفانية والشهوات العاجلة ثم زوالها ببناء مرتفع ينهدم بصدمات هائلة، ثم أمر المنهمك فيها بذكر الهادم لئلا يستمر على الركون إليها، ويشتغل عما يجب عليه من الفرار إلى دار القرار انتهى كلامه. لكن قال الإسنوي في المهمات: الهاذم بالذال المعجمة هو القاطع كما قاله الجوهري وهو المراد هنا، وقد صرح السهيلي في الروض الأنف بأن الرواية بالذال المعجمة، ذكر ذلك في غزوة أحد في الكلام على قتل وحشي لحمزة. وقال الشيخ الجزري: هادم يروى بالدال المهملة أي دافعها أو مخربها، وبالمعجمة أي قاطعها. واختاره بعض من مشائخنا وهو الذي لم يصحح الخطابي غيره وجعل الأول من غلط الرواة كذا في المرقاة "يعني الموت" تفسير من الراوي.
قوله: "هذا حديث غريب حسن" وأخرجه النسائي وابن ماجة وأخرجه أيضاً الطبراني في الأوسط بإسناد حسن وابن حبان في صحيحه وزاد: فإنه ما ذكره أحد في ضيق إلا وسعه ولا ذكره في سعة إلا ضيقها عليه كذا في الترغيب للمنذري.
قوله: "وفي الباب عن أبي سعيد" وأخرجه الترمذي في أبواب صفة القيامة، وفي الباب أيضاً عن ابن عمر مرفوعاً: أكثروا ذكر هاذم اللذات. يعني الموت فإنه ما كان في كثير إلا قلله، ولا قليل إلا جزله. رواه الطبراني بإسناد حسن وفي الباب أيضاً عن أنس رواه البزار بإسناد حسن والبيهقي(6/594)
3 ـ باب
2410ـ حَدّثنا هَنّادٌ، أخبرنا يَحْيَى بنُ مَعِينٍ، أخبرنا هِشَامُ بنُ يُوسفَ، حدثني عَبْدُ الله بنُ بجيرٍ أَنّهُ سَمِعَ هَانِئاً مَوْلَى عُثْمَانَ قَالَ: كَانَ عُثْمَانُ إِذَا وَقَفَ عَلَى قَبْرٍ بَكَى حَتّى يَبُلّ لِحْيتَهُ، فَقِيلَ لَهُ تُذْكَرُ الْجَنّةُ وَالنّارُ فَلاَ تَبْكِي وَتَبْكِي مِنْ هَذَا؟ فَقَالَ: إِنّ رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم قَالَ: إِنّ الْقَبْرَ أَوّلُ مَنْزِلٍ مِنْ مَنَازِلِ الاَخِرَةِ فإِنْ نَجَا مِنْهُ فَمَا بَعْدَهُ
ـــــــ
"باب"
قوله: "أخبرنا يحيى بن معين" بن عون الغطفاني مولاهم أبو زكريا البغدادي، ثقة حافظ مشهور إمام الجرح والتعديل من العاشرة "حدثنا هشام بن يوسف" الصنعاني أبو عبد الرحمن القاضي ثقة من التاسعة "حدثنا عبد الله بن بجير" بفتح الموحدة وكسر الحاء المهملة بن ريسان بفتح الراء وسكون التحتانية بعدها مهملة، أبو وائل القاص الصنعاني وثقه ابن معين واضطرب فيه كلام ابن حبان "أنه سمع هانئاً مولى عثمان" كنيته أبو سعيد البربري الدمشقي، روى عن مولاه وغيره وعنه أبو وائل عبد الله بن بحير وغيره. قال النسائي ليس به بأس وذكره ابن حبان في الثقات.
قوله: "بكى حتى يبل" بضم الموحدة أي بكاؤه يعني دموعه "لحيته" أي يجعلها مبلولة من الدموع "فلا تبكي" أي من خوف النار واشتياق الجنة "وتبكي من هذا" أي من القبر يعني من أجل خوفه؟ قيل إنما كان يبكي عثمان رضي الله عنه وإن كان من جملة المشهود لهم بالجنة، أما الاحتمال أنه لا يلزم من التبشير بالجنة عدم عذاب القبر، بل ولا عدم عذاب النار مطلقاً مع احتمال أن يكون التبشير مقيداً بقيد معلوم أو مبهم، ويمكن أن ينسى البشارة حينئذ لشدة الفظاعة، ويمكن أن يكون خوفاً من ضغطة القبر كما يدل حديث سعد رضي الله عنه على أنه لم يخلص منه كل سعيد إلا الأنبياء ذكره القاري "أن القبر أول منزل من منازل الاَخرة" ومنها عرضة القيامة عند العرض، ومنها الوقوف عند الميزان، ومنها المرور على الصراط، ومنها الجنة أو النار في بعض الروايات، وآخر منزل من منازل الدنيا(6/595)
أَيْسَرُ مِنْهُ، وَإِنْ لَمْ يَنْجُ مِنْهُ فَمَا بَعْدَهُ أَشَدّ مِنْهُ" قَالَ وَقَالَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم مَا رَأَيْتُ مَنْظَراً قَطّ إِلاّ وَالْقَبْرُ أَفْظَعُ مِنْهُ" .
هذا حديثٌ حسنٌ غريبٌ لاَ نَعْرِفُهُ إِلاّ مِنْ حَدِيثِ هِشَامِ بنِ يُوسُفَ.
ـــــــ
ولذا يسمى البرزخ "فإن نجا" أي خلص المقبور "منه" أي من عذاب القبر "فما بعده" أي من المنازل "أيسر منه" أي أسهل لأنه لو كان عليه ذنب لكفر بعذاب القبر "وإن لم ينج منه" أي لم يتخلص من عذاب القبر ولم يكفر ذنوبه به وبقي عليه شيء مما يستحق العذاب به "فما بعده أشد منه" لأن النار أشد العذاب والقبر حفرة من حفر النيران "قال" أي عثمان "ما رأيت منظراً" بفتح الميم والظاء أي موضعاً ينظر إليه وعبر عن الموضع بالمنظر مبالغة لأنه إذا نفي الشيء مع لازمه ينتفي بالطريق البرهاني "قط" بفتح القاف وتشديد المضمومة: أي أبداً وهو لا يستعمل إلا في الماضي "إلا القبر أفظع منه" من فظع الأمر ككرم اشتدت شناعته وجاوز المقدار في ذلك، يعني أشد وأفظع وأنكر من ذلك المنظر. قيل المستثنى جملة حالية من منظر وهو موصوف حذفت صفته، أي ما رأيت منظراً فظيعاً على حالة من أحوال الفظاعة، إلا في حالة كون القبر أقبح منه، فالاستثناء مفرغ.
قوله: "هذا حديث حسن غريب" قال المنذري وزاد رزين فيه مما لم أره في شيء من نسخ الترمذي قال هانئ. وسمعت عثمان ينشد على قبر:
فإن تنج من ذي عظيمة
...
وإلا فإني لا أخا لك ناجيا
انتهى. والحديث أخرجه أيضاً ابن ماجة والحاكم وصححه واعترض قاله المناوي(6/596)
4 ـ باب مَنْ أَحَب لقَاءَ الله أَحَبّ الله لِقَاءَه
2411 ـ حَدّثنا مَحْمودُ بنُ غَيْلاَنَ، حدثنا أَبُو دَاوُدَ، أخبرنا شُعْبَةُ، عَنْ قَتَادَةَ قَالَ: سَمِعْتُ أَنَساً يُحَدّثُ عَنْ عُبَادَةَ بنِ الصّامِتِ، عَنْ النّبيّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "مَنْ أَحَبّ لِقَاءَ الله أَحَبّ الله لِقَاءَهُ، وَمَنْ كَرِهَ
ـــــــ
باب مَنْ أَحَب لقَاءَ الله أَحَبّ الله لِقَاءَه
قوله: "يحدث عن عبادة بن الصامت عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: من أحب(6/596)
لِقَاءَ الله كَرِهَ الله لِقَاءَهُ". قال وفي البابِ عن أبِي هُرَيْرَةَ وَعَائِشَةَ وَأَبِي مُوسَى وَأَنَسٍ، حدِيثُ عُبَادَةَ حَدِيثٌ حسنٌ صحيحٌ.
ـــــــ
لقاء الله الخ" تقدم هذا الحديث مع شرحه في باب من أحب لقاء الله أحب الله لقاءه من أبواب الجنائز.(6/597)
باب ما جاء فى إنذار النبى صلى الله عليه و سلم قومه
...
5 ـ بَابُ مَا جَاءَ في إِنْذَارِ النّبيّ صلى الله عليه وسلم قَوْمَه
2412ـ حَدّثنا أبُو الأشْعَثِ أحْمَدُ بنُ المِقْدَامِ العجلي، حدثنا مُحَمّدُ بنُ عَبْدِ الرّحمَنِ الطّفَاوِيّ، حدثنا هِشَامُ بنُ عُرْوَةَ، عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: لَمّا نَزَلَتْ هَذِهِ الاَيةُ {وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقَربينَ} قَالَ رَسُولُ الله
ـــــــ
"باب ما جاء في إنذار النبي صلى الله عليه وسلم قومه"
قوله: "حدثنا أبو الأشعث أحمد بن المقدام" العجلي بصري، صدوق صاحب حديث، طعن أبو داود في مروته من العاشرة، روى عنه البخاري والترمذي والنسائي وابن ماجة وغيرهم.
وقال أبو داود: وكان يعلم المجان المجون فأنا لا أحدث عنه. قال ابن عدي: وهذا لا يؤثر فيه لأنه من أهل الصدق كذا في التقريب وتهذيب التهذيب. وقال في ميزان الاعتدال: كان بالبصرة مجان يلقون صرة الدراهم ويرقبونها، فإذا جاء من لحظها فرفعها صاحوا به وخجلوه، فعلمهم أبو الأشعث أن يتخذوا صرة فيها زجاج فإذا أخذوا صرة الدراهم فصاح صاحبها وضعوا بدلها في الحال صرة الزجاج انتهى. قال في القاموس: مجن مجوناً صلب وغلظ، ومنه الماجن لمن لا يبالي قولا وفعلا كأنه صلب الوجه وقد مجن مجوناً ومجانة ومجناً بالضم انتهى. وقال في الصراح: مجن مجون بيباكي مجن يمجن مجانة كذلك فهو ماجن وهم مجان بالضم والتشديد انتهى. "أخبرنا محمد بن عبد الرحمن الطفاوي" أبو المنذر البصري صدوق يهم من الثامنة.(6/597)
صلى الله عليه وسلم: "يَا صَفِيّةُ بِنْتَ عَبْدِ المُطّلِبِ، يَا فَاطِمَةُ بِنْتَ مُحَمّدٍ، يَا بَنِي عَبْدِ المُطّلِبِ: إِنّي لاَ أَمْلِكُ لَكُمْ مِنَ الله شَيْئاً سَلُونِي مِنْ مَالِي مَا شِئْتُمْ" .
وفي البابِ عنْ أَبِي هُرَيْرَةَ وَابنِ عَبّاسٍ وَأَبِي مُوسَى، حَدِيثُ
ـــــــ
قوله: "يا صفية" بالرفع "بنت عبد المطلب" وبالنصب وكذا قوله يا فاطمة بنت محمد، وصفية هذه هي عمة رسول الله صلى الله عليه وسلم "لا أملك لكم من الله" أي من عذابه "شيئاً" أي من الملك والقدرة والدفع والمنفعة، والمعنى أني لا أقدر أن أدفع عنكم من عذاب الله شيئاً إن أراد الله أن يعذبكم وهو مقتبس من قوله سبحانه {قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ لَكُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً إِنْ أَرَادَ بِكُمْ ضَرّاً أَوْ أَرَادَ بِكُمْ نَفْعاً} بل قال الله تعالى {قُلْ لا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعاً وَلا ضَرّاً إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ} "سلوني من مالي ما شئتم" قال التوربشتي: أرى أنه ليس من المال المعروف في شيء وإنما عبر به عما يملكه من الأمر وينفذ تصرفه فيه ولم يثبت عندنا أنه كان ذا مال لا سيما بمكة. ويحتمل أن الكلمتين أعني من وما وقع الفصل فيهما من بعض من لم يحققه من الرواة فكتبهما منفصلتين انتهى. قال القاري: وفيه أنه يرده قوله تعالى: {وَوَجَدَكَ عَائِلاً فَأَغْنَى} أي بمال خديجة رضي الله عنها على ما قاله المفسرون. وأيضاً لم يلزم من عدم وجود المال الحاضر للجواد أن لا يدخل في يده شيء من المال في الاستقبال، فيحمل الوعد المذكور على تلك الحال، ومهما أمكن الجمع لتصحيح الدراية تعين عدم التخطئة في الرواية انتهى. وقال الحافظ: واستدل بعض المالكية بقوله: يا فاطمة بنت محمد سليني من مالي ما شئت لا أغنى عنك من الله أن النيابة لا تدخل في أعمال البر، إذ لو جاز ذلك لكان يتحمل عنها صلى الله عليه وسلم بما يخلصها، فإذا كان عمله لا يقع نيابة عن ابنته فغيره أولى بالمنع. وتعقب بأن هذا كان قبل أن يعلمه الله تعالى بأنه يشفع فيمن أراد وتقبل شفاعته حتى يدخل قوماً الجنة بغير حساب ويرفع درجات قوم آخرين، ويخرج من النار من دخلها بذنوبه، أو كان المقام مقام التخويف والتحذير، أو أنه أراد المبالغة في الحض على العمل، ويكون في قوله لا أغنى شيئاً إضمار إلا إن أذن الله لي بالشفاعة انتهى.
قوله: "وفي الباب عن أبي هريرة وابن عباس وأبي موسى" أما حديث أبي(6/598)
عَائِشَةَ حَدِيثُ حَسَنٌ. وقد روى بعضهم عن هشام بن عروةَ عَنْ أَبِيهِ عن النّبيّ صلى الله عليه وسلم مثله.
ـــــــ
هريرة فأخرجه الترمذي في التفسير، وأما حديث ابن عباس فأخرجه الشيخان، وأما حديث أبي موسى فأخرجه الترمذي في التفسير.
اعلم أن هذه القصة إن كانت واقعة في صدر الإسلام بمكة فلم يدركها ابن عباس لأنه ولد قبل الهجرة بثلاث سنين، ولا أبو هريرة لأنه إنما أسلم بالمدينة، وفي نداء فاطمة يومئذ أيضاً ما يقتضي تأخر القصة لأنها كانت حينئذ صغيرة أو مراهقة، والذي يظهر أن ذلك وقع مرتين مرة في صدر الإسلام ورواية ابن عباس وأبي هريرة لها من مرسل الصحابة ويؤيد ذلك ما وقع في حديث ابن عباس من أن أبا لهب كان حاضراً لذلك وهو مات في أيام بدر، ومرة بعد ذلك حيث يمكن أن تدعى فيها فاطمة عليها السلام أو يحضر ذلك أبو هريرة أو إبن عباس، كذا قال الحافظ في باب من انتسب إلى آبائه في الإسلام والجاهلية. وقال في باب قوله :{وأنذر عشيرتك الأقربين} من كتاب التفسير تحت حديث ابن عباس ما لفظه: وقع عند الطبراني من حديث أبي أمامة قال لما نزلت {وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ} جمع رسول الله صلى الله عليه وسلم بني هاشم ونساءه وأهله فقال: يا بني هاشم اشتروا أنفسكم من النار واسعوا في فكاك رقابكم، يا عائشة بنت أبي بكر، يا حفصة بنت عمر، يا أم سلمة، فذكر حديثاً طويلاً. فهذا إن ثبت دل على تعدد القصة لأن القصة الأولى وقعت بمكة بتصريحه في حديث الباب يعني حديث ابن عباس أنه صعد الصفا ولم تكن عائشة وحفصة وأم سلمة عنده ومن أزواجه إلا بالمدينة، فيجوز أن تكون متأخرة عن الأولى فيمكن أن يحضرها أبو هريرة وابن عباس أيضاً، ويحمل قوله لما نزلت جمع أي بعد ذلك لأن الجمع وقع على الفور، ولعله كان نزل أولا {وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ} فجمع قريشاً فعمّ ثم خص، ثم نزل ثانياً ورهطك منهم المخلصين، فخص بذلك بني هاشم ونساءه والله أعلم.
قوله: "حديث عائشة حديث حسن" وأخرجه الترمذي في التفسير وصححه.(6/599)
6 ـ باب مَا جَاءَ في فَضْلِ البُكاءِ مِنْ خَشْيَةِ الله تعالى
2413ـ حَدّثنا هَنّادٌ، حدثنا عَبْدُ الله بنُ المُبَارَكِ عَن عَبْدِ الرّحمَنِ بنِ عَبْدِ الله المَسْعُودِيّ، عن مُحَمّدِ بنِ عَبْدِ الرّحمنِ، عنْ عيسَى بنِ طَلْحَةَ عن أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسوُلُ الله صلى الله عليه وسلم: "لاَ يَلِجُ النّارَ رَجُلٌ بَكَى مِنْ خَشْيَةِ الله حَتّى يَعُودَ الّلبَنُ في الضّرْعِ، وَلاَ يَجْتَمِعُ غُبَارٌ فِي سَبيلِ الله وَدُخَانُ جَهَنّمَ" .. قال وفي البابِ عنْ أَبِي رَيْحَانَةَ وَابنِ عَبّاسٍ. قال هذا حديثٌ حسن صحيحٌ. وَمُحَمدُ بنُ عَبْدِ الرّحمنِ هُوَ مَوْلَى آله طَلْحَةَ وهو مدني ثِقَةٌ، رَوَى عَنْهُ شُعْبَةُ وَسُفْيَانُ الثّوْرِيّ.
ـــــــ
"باب ما جاء في فضل البكاء من خشية الله تعالى"
قوله: "عن عبد الرحمن بن عبد الله" بن عتبة بن مسعود الكوفي المسعودي صدوق اختلط قبل موته، وضابطه أن من سمع منه ببغداد فبعد الاختلاط من السابعة كذا في التقريب... وقال في تهذيب التهذيب: قال أبو النضر هاشم بن القاسم إني لأعرف اليوم الذي اختلط فيه المسعودي، كنا عنده وهو يعزى في ابن له إذ جاءه إنسان فقال غلامك أخذ من مالك عشرة آلاف وهرب، ففزغ وقام فدخل في منزله ثم خرج إلينا وقد اختلط انتهى. "عن محمد بن عبد الرحمن" بن عبيد القرشي مولى آل طلحة، كوفي ثقة من السادسة.
قوله: "لا يلج" من الولوج أي لا يدخل "رجل بكى من خشية الله" فإن الغالب من الخشية امتثال الطاعة واجتناب المعصية "حتى يعود اللبن في الضرع" هذا من باب التعليق بالمحال كقوله تعالى {حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ} "ولا يجتمع غبار في سبيل الله" أي في الجهاد "ودخان جهنم" فكأنهما ضدان لا يجتمعان، وقد تقدم هذا الحديث في باب فضل الغبار في سبيل الله من أبواب فضائل الجهاد.
قوله: "وفي الباب عن أبي ريحانة وابن عباس". أما حديث أبي ريحانة(6/600)
ـــــــ
فأخرجه أحمد عنه مرفوعاً: حرمت النار على عين دمعت أو بكت من خشية الله، وحرمت النار على عين سهرت في سبيل الله، وذكر عيناً ثالثة، وأخرجه النسائي والحاكم وقال صحيح الإسناد، كذا في الترغيب. وأما حديث ابن عباس فأخرجه الترمذي في باب فضل الحرس في سبيل الله من أبواب فضائل الجهاد(6/601)
باب ما جاء فى قول النبى صلى الله عليه وسلم لو تعلمون ماأعلم لضحكتم قليلاً
...
7 ـ باب في قَوْلِ النّبيّ صلى الله عليه وسلم "لَوْ تَعْلَمُونَ مَا أَعْلَمُ لَضَحِكْتُمْ قَلِيلاً"
2414ـ حَدّثنا أحمدُ بنُ مَنِيعٍ، حدثنا أَبُو أَحْمَدَ الزّبَيْرِيّ، حدثنا إِسْرَائِيل، عن إِبْرَاهِيمَ بنِ المُهَاجِرٍ، عنْ مُجَاهِدٍ عن مُوَرّقٍ، عن أَبي ذَرّ قَالَ: قَالَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم: "إِنّي أَرَى مَا لاَ تَرَوْنَ وَأَسْمَعُ مَا لاَ تَسْمَعُونَ، أَطّتْ السّمَاءُ وَحُقّ لَهَا أَنْ تَئِطّ مَا فِيهَا مَوْضِعُ أَرْبَعِ أَصَابِعٍ إِلاّ وَمَلَكٌ وَاضِعٌ جَبْهَتَهُ سَاجِداً لله. وَالله لَوْ تَعْلَمُونَ مَا أَعْلَمُ
ـــــــ
"باب ما جاء في قول النبي صلى الله عليه وسلم الخ"
قوله: "عن مورق" بضم الميم وتشديد الراء المكسورة ابن مشمرج. قال في التقريب: بضم أوله وفتح المعجمة وسكون الميم وكسر الراء بعدها جيم: ابن عبد الله العجلي البصري، ثقة عابد، من كبار الثالثة. وقال في الخلاصة: مشمرج بفتح الراء كمدحرج.
قوله: "إني أرى مالا ترون" أي أبصر مالا تبصرون بقرينة قوله وأسمع مالا تسمعون "أطت السماء" بتشديد الطاء من الأطيط، وهو صوت الأقتاب، وأطيط الإبل أصواتها وحنينها على ما في النهاية أي صوتت "وحق" بصيغة المجهول أي ويستحق وينبغي "لها أن تئط" أي تصوت "ما فيها" أي ليس في السماء جنسها "موضع أربع أصابع" بالرفع على أنه فاعل الظرف المعتمد على حرف "إلا وملك" أي فيه ملك "واضع جبهته لله ساجداً" قال القاري: أي منقاداً(6/601)
لَضَحِكْتُمْ قَلِيلاً وَلَبَكَيْتُمْ كَثِيراً، وَمَا تَلَذّذْتُمْ بالنّسَاءِ عَلَى الفُرُشِ، وَلَخَرَجْتُمْ إِلَى الصّعُدَاتِ تَجْأَرُونَ إِلَى الله لَوَدِدْتُ أَنّي كُنْتُ شَجَرَةً تُعْضَدُ" .
وفي البابِ عنْ عَائِشَةَ وَأَبِي هُرَيْرَةَ وابنِ عَباسٍ وَأَنَسٍ.
ـــــــ
ليشمل ما قيل أن بعضهم قيام وبعضهم ركوع وبعضهم سجود، كما قال تعالى حكاية عنهم {وَمَا مِنَّا إِلَّا لَهُ مَقَامٌ مَعْلُومٌ} أو خصه باعتبار الغالب منهم، أو هذا مختص بإحدى السماوات. قال ثم اعلم أن أربعة بغير هاء في جامع الترمذي وابن ماجة ومع الهاء في شرح السنة وبعض نسخ المصابيح وسببه أن الإصبع يذكر ويؤنث قال الطيبي رحمه الله: أي أن كثرة ما فيها من الملائكة قد أثقلها حتى أطت، وهذا مثل وإيذان بكثرة الملائكة، وإن لم يكن ثمة أطيط وإنما هو كلام تقريب أريد به تقرير عظمة الله تعالى انتهى. قال القاري: ما المحوج عن عدول كلامه صلى الله عليه وسلم من الحقيقة إلى المجاز مع إمكانه عقلا ونقلا حيث صرح بقوله: وأسمع مالا تسمعون مع أنه يحتمل أن يكون أطيط السماء صوتها بالتسبيح والتحميد والتقديس لقوله سبحانه {وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ} "على الفرش" بضمتين جمع فراش "لخرجتم" أي من منازلكم "إلى الصعدات" بضمتين أي الطرق وهي جمع صعد وصعد جمع صعيد كطريق وطرق وطرقات وقيل هي جمع صعدة كظلمة وهي فناء باب الدار وممر الناس بين يديه، كذا في النهاية. وقيل المراد بالصعدات هنا البراري والصحاري "تجأرون إلى الله" أي تتضرعون إليه بالدعاء ليدفع عنكم البلاء "لوددت أني كنت شجرة تعضد" بصيغة المجهول أي تقطع وتستأصل، وهذا قول أبي ذر رضي الله عنه كما ستعرف.
قوله: "وفي الباب عن عائشة وأبي هريرة وابن عباس وأنس" أما حديث عائشة وحديث ابن عباس فلينظر من أخرجهما، وأما حديث أبي هريرة فأخرجه الترمذي في هذا الباب، وأما حديث أنس فأخرجه البخاري في تفسير سورة المائدة وفي الرقاق وفي الاعتصام، ومسلم في فضائل النبي صلى الله عليه وسلم، والترمذي في التفسير، والنسائي في الرقائق، وابن ماجة في الزهد.(6/602)
هذا حديثٌ حَسَنٌ غريبٌ. وَيُرْوَى مِنْ غيْرِ هَذَا الوَجْهِ أَنّ أَبَا ذَرّ قَالَ: "لَوَ دِدْتُ أَنّي كُنْتُ شَجَرَةً تُعْضَدُ وَيُرْوَى عن أَبِي ذَرٍ مَوْقُوفاً.
2415ـ حدّثنا أَبُو حَفْصٍ عَمْرِو بنُ عَلِيّ الفلاس، حدثنا عبدُ الوَهّابِ الثّقَفِيّ عن مُحَمدِ بنِ عَمْرٍو، عن أبي سلَمَةَ عن أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم: "لَوْ تَعْلَمُونَ مَا أَعْلَمُ لَضَحِكْتُمْ قَلِيلاً وَلَبَكَيْتُمْ كَثِيراً" هذا حديثٌ صحيحٌ.
ـــــــ
قوله: "هذا حديث حسن غريب" وأخرجه أحمد وابن ماجة.
قوله: "ويروى من غير هذا الوجه أن أبا ذر قال لوددت الخ" رواه أحمد في مسنده وفيه: تجأرون إلى الله، قال فقال أبو ذر: والله لوددت أني شجرة تعضد.
قوله: "لو تعلمون ما أعلم" أي من عقاب الله للعصاة وشدة المناقشة يوم الحساب لضحكتم جواب لو "ولبكيتم كثيراً" أي بكاء كثيراً أو زماناً كثيراً أي من خشية الله ترجيحاً للخوف على الرجاء، وخوفاً من سوء الخاتمة. قال الحافظ: والمراد بالعلم هنا ما يتعلق بعظمة الله وانتقامه ممن يعصيه، والأهوال التي تقع عند النزاع والموت وفي القبر ويوم القيامة، ومناسبة كثرة البكاء وقلة الضحك في هذا المقام واضحة، والمراد به التخويف، وقد جاء لهذا الحديث سبب أخرجه سنيد في تفسيره بسند واه، والطبراني عن ابن عمر: خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المسجد فإذا بقوم يتحدثون ويضحكون فقال: والذي نفسي بيده، فذكر هذا الحديث. وعن حسن البصري: من علم أن الموت مورده، والقيامة موعده، والوقوف بين يدي الله مشهده، فحقه أن يطول في الدنيا حزنه انتهى.
قوله: "هذا حديث صحيح" وأخرجه البخاري والنسائي(6/603)
8ـ باب ما جاءَ مَنْ تَكَلّمَ بالْكلمَةِ يُضْحِكَ بها النّاس
2416ـ حَدّثنا محمّدُ بنُ بَشّارٍ، حدثنا ابنُ أبِي عَدِيّ، عن محمّدِ بنِ إِسْحَاقَ، حدثني محمّدُ بنُ إِبراهيمَ عن عِيسَى بنِ طَلْحَةَ عن أَبِي هُرَيْرَةَ قال: قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: "إِنّ الرّجُلَ لَيَتَكَلّمُ بالْكَلِمَةِ لا يَرَى بِهَا بَأْساً يَهْوِي بِهَا سَبْعِينَ خَرِيفاً في النّارِ" .
هذا حديثٌ حسنٌ غريبٌ من هذا الْوَجْهِ.
2417ـ حدّثنا محمد بن بشار، حدثنا يَحْيَى بنُ سَعِيدٍ، حدثنا بَهْزُ بنُ حَكِيمٍ، حدثني أَبِي عن جَدّي قال: "سَمِعْتُ النّبيّ صلى الله عليه وسلم يقولُ: وَيْلٌ لِلّذِي يُحَدّثُ بِالْحَدِيثِ لِيُضْحِكَ بِهِ الْقَوْمَ فَيَكْذِبُ، وَيْلٌ لَهُ
ـــــــ
"باب ما جاء من تكلم بالكلمة ليضحك الناس"
قوله: "إن الرجل" يعني الإنسان "بالكلمة" أي الواحدة "لا يرى بهما بأساً" أي سوءاً، يعني لا يظن أنها ذنب يؤاخذ به "يهوي بها" أي يسقط بسبب تلك الكلمة يقال هوى يهوي كرمى يرمي هوياً بالفتح سقط إلى أسفل، كذا في مختار الصحاح "سبعين خريفاً في النار" لما فيها من الأوزار التي غفل عنها، والمراد أنه يكون دائماً في صعود وهوي، فالسبعين للتكثير لا للتحديد.
قوله: "هذا حديث حسن غريب" وأخرجه ابن ماجة والحاكم.
قوله: "ويل" أي هلاك عظيم أو واد عميق "ليضحك" بضم أوله وكسر الحاء من الإضحاك "به" أي بسبب تحديثه أو الكذب "القوم" بالنصب على أنه مفعول ثان ويجوز فتح الياء والحاء ورفع القوم ثم المفهوم منه أنه إذا حدث بحديث صدق ليضحك القوم فلا بأس به كما صدر مثل ذلك من عمر رضي الله تعالى عنه مع النبي صلى الله عليه وسلم حين غضب على بعض أمهات المؤمنين. قال الغزالي: وحينئذ ينبغي أن يكون من قبيل مزاح رسول الله صلى الله عليه وسلم فلا يكون إلا حقاً ولا يؤذي(6/604)
وَيْلٌ لَهُ". وفي البابِ عن أَبِي هُرَيْرَةَ. هذا حديثٌ حسنٌ.
ـــــــ
قلباً ولا يفرط فيه. فإن كنت أيها السامع تقتصر عليه أحياناً وعلى الندور فلا حرج عليك. ولكن من الغلط العظيم أن يتخذ الإنسان المزاح حرفة، ويواظب عليه ويفرط فيه ثم يتمسك بفعل رسول الله صلى الله عليه وسلم، فهو كمن يدور مع الزنوج أبداً لينظر إلى رقصهم، ويتمسك بأن رسول الله صلى الله عليه وسلم أذن لعائشة رضي الله عنها في النظر إليهم وهم يلعبون "ويل له ويل له" كرّره إيذاناً بشدة هلكته، وذلك لأن الكذب وحده رأس كل مذموم وجماع كل شر.
قوله: "وفي الباب عن أبي هريرة" أخرجه النجار ومسلم والنسائي عنه أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول: إن العبد ليتكلم ما يتبين ما فيها يزل بها في النار أبعد ما بين المشرق والمغرب . ولأبي هريرة حديث آخر عند البيهقي ذكره صاحب المشكاة في باب حفظ اللسان.
قوله: "هذا حديث حسن" وأخرجه أحمد، وأبو داود، والنسائي، والحاكم والدارمي(6/605)
9 ـ باب
2418ـ حَدّثنا سُلَيْمانُ بنُ عبدِ الْجَبّارِ الْبَغْدَادِيّ، أخبرنا عُمَرُ بنُ حَفْصِ بنِ غِيَاثٍ، حدثنا أَبِي عن الأعْمَشِ عن أَنَسِ بنِ مالِكٍ قال: تُوُفّي رَجُلٌ مِنْ أَصْحَابِهِ، فقالَ ـ يَعْني رَجُلٌ: أَبْشِرْ بالْجَنّةِ، فقال رَسُولُ الله
ـــــــ
"باب"
قوله: "حدثنا سليمان بن عبد الجبار البغدادي" الخياط أبو أيوب صدوق ابن الحادية عشرة "أخبرنا عمر بن حفص بن غياث" بكسر المعجمة وآخره مثلثة من طلق الكوفي ثقة، ربما وهم من العاشرة.
قوله: "توفي رجل من أصحابه" أي من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم. وفي المشكاة من الصحابة "فقال يعني رجلا" وفي بعض النسخ رجل، أي قال رجل للرجل المتوفي "أبشر بالجنة" من باب الإفعال أي افرح بها قال الله تعالى {وَأَبْشِرُوا(6/605)
صلى الله عليه وسلم: "أَوَ لاَ تَدْرِي فَلَعَلّهُ تَكَلّمَ فِيمَا لا يعْنِيهِ أَوْ بَخِلَ بِمَا لا يَنْقُصُهُ" .
هذا حديثٌ غريبٌ.
2419 ـ حدّثنا أحمَدُ بنُ نَصْر النّيْسَابُورِيّ وَغَيرُ وَاحِدٍ قالوا أخبرنا
ـــــــ
بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ} ويجوز أن يكون من باب علم أو ضرب. قال في القاموس: أبشر فرح ومنه أبشر بخير وبشرت به كعلم وضرب سردت "أو لا تدري" بفتح الواو على أنها عاطفة على محذوف أي تبشر ولا تدري أو تقول أو على أنها للحال أي والحال أنك لا تدري "فلعله تكلم فيما لا يعنيه" أي ما لا يحتاج إليه في ضرورة دينه ودنياه "أو بخل بما لا ينقصه" الضمير المنصوب للرجل والمرفوع لما.
قوله: "هذا حديث غريب" قال في المرقاة: ورجاله رجال الصحيحين إلا سليمان بن عبد الجبار البغدادي شيخ الترمذي وقد ذكره ابن حبان في الثقات كذا في التصحيح انتهى. وقال المنذري في الترغيب بعد ذكر هذا الحديث ونقل كلام الترمذي هذا ما لفظه: رواته ثقات وروى ابن أبي الدنيا وأبو يعلى عن أنس أيضاً قال: استشهد رجل منا يوم أحد فوجد على بطنه صخرة مربوطة من الجوع فمسحت أمه التراب عن وجهه وقالت: هنيئاً لك يا بني الجنة. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ما يدريك لعله كان يتكلم فيما لا يعنيه، ويمنع ما لا يضره. وروى أبو يعلى أيضاً والبيهقي عن أبي هريرة قال: قتل رجل على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم شهيداً فبكت عليه باكية فقالت: واشهيداه. قال فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ما يدريك أنه شهيد؟ لعله كان يتكلم فيما لا يعنيه، أو يبخل فيما لا ينقصه ، انتهى.
قلت رجال حديث الباب ثقات كما قال المنذري، لكن الأعمش ليس له سماع من أنس. قال الحافظ في تهذيب التهذيب في ترجمة الأعمش: روى عن أنس ولم يثبت له منه سماع، انتهى.
قوله: "أحمد بن نصر النيسابوري" الزاهد المقري أبو عبد الله بن أبي جعفر(6/606)
أبو مُسْهِرٍ عن إسماعِيلَ بنِ عبدِ الله بنِ سَمَاعَةَ، عن الأوْزَاعيّ، عن قُرّةَ، عن الزّهْرِيّ عن أبي سَلَمَةَ عن أبي هُرَيْرَةَ قال: قال رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم: "مِنْ حُسْنِ إِسْلاَمِ المَرْءِ تَرْكُهُ ما لا يعْنِيهِ" .
ـــــــ
ثقة فقيه حافظ من الحادية عشرة "أخبرنا أبو مسهر" اسمه عبد الأعلى بن مسهر الغساني الدمشقي، ثقة فاضل من كبار العاشرة "عن إسماعيل بن عبد الله بن سماعة" العدوي مولى آل عمر الرملي، وقد ينسب إلى جده، ثقة، قديم الموت من الثامنة "عن قرة" هو ابن عبد الرحمن بن حيوئيل وزن جبرئيل المعافري البصري، يقال اسمه يحيى، صدوق له مناكير من السابعة.
قوله: "من حسن إسلام المرء" أي من جملة محاسن إسلام الإنسان وكمال إيمانه "تركه ما لا يعنيه" قال ابن رجب الحنبلي في كتاب جامع العلوم والحكم في شرح هذا الحديث ما لفظه: معنى هذا الحديث أن من حسن إسلامه تركه ما لا يعنيه من قول وفعل، واقتصاره على ما يعنيه من الأقوال والأفعال، ومعنى يعنيه أنه يتعلق عنايته به ويكون من مقصده ومطلوبه، والعناية شدة الاهتمام بالشيء، يقال عناه يعنيه: إذا اهتم به وطلبه، وإذا حسن الإسلام اقتضى ترك ما لا يعني كله من المحرمات والمشتبهات والمكروهات وفضول المباحات التي لا يحتاج إليها، فإن هذا كله لا يعنيه المسلم إذا كمل إسلامه انتهى مختصراً. قال القاري في معنى تركه ما لا يعنيه: أي ما لا يهمه ولا يليق به قولا وفعلا، ونظراً وفكراً وقال: وحقيقة ما لا يعنيه مالا يحتاج إليه في ضرورة دينه ودنياه، ولا ينفعه في مرضاة مولاه بأن يكون عيشه بدونه ممكناً. وهو في استقامة حاله بغيره متمكناً، وذلك يشمل الأفعال الزائدة والأقوال الفاضلة. قال الغزالي: وحد ما يعنيك أن تتكلم بكل ما لو سكت عنه لم تأثم ولم تتضرر في حال ولا مال. ومثاله أن تجلس مع قوم فتحكي معهم أسفارك وما رأيت فيها من جبال وأنهار، وما وقع لك من الوقائع، وما استحسنته من الأطعمة والثياب، وما تعجبت منه من مشائخ البلاد ووقائعهم، فهذه أمور لو سكت عنها لم تأثم ولم تتضرر، وإذا بالغت في الاجتهاد حتى لم يمتزج بحكايتك زيادة ولا نقصان ولا تزكية نفس من حيث التفاخر بمشاهدة الأحوال العظيمة،(6/607)
هذا حديثٌ غريبٌ، لا نَعْرِفُه من حديثِ أبي سَلَمَةَ، عن أبي هُرَيْرَةَ عن النّبيّ صلى الله عليه وسلم إِلاّ من هذا الوَجْهِ.
ـــــــ
ولا اغتياب لشخص، ولا مذمة لشيء مما خلقه الله تعالى، فأنت مع ذلك كله مضيع زمانك، ومحاسب على عمل لسانك، إذ تستبدل الذي هو أدنى بالذي هو خير، لأنك لو صرفت زمان الكلام في الذكر والفكر، ربما ينفتح لك من نفحات رحمة الله تعالى ما يعظم جدواه، ولو سبحت الله بنى لك بها قصر في الجنة. وهذا على فرض السلامة من الوقوع في كلام المعصية، وأن لا تسلم من الآفات التي ذكرناها انتهى.
قوله: "هذا حديث غريب" وأخرجه ابن ماجة والبيهقي في شعب الإيمان. وقال ابن رجب: هذا الحديث أخرجه الترمذي وابن ماجة من رواية الأوزاعي عن قرة بن عبد الرحمن عن الزهري عن أبي سلمة عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه. وقال الترمذي غريب. وقد حسنه الشيخ المصنف يعني الإمام النووي لأن رجال إسناده ثقات، وقرة بن عبد الرحمن بن جبريل وثقه قوم وضعفه آخرون. وقال ابن عبد البر: هذا الحديث محفوظ عن الزهري بهذا الإسناد من رواية الثقات، وهذا موافق لتحسين الشيخ له. وأما أكثر الأئمة فقالوا: ليس هو بمحفوظ بهذا الإسناد، إنما هو محفوظ عن الزهري عن علي بن حسين عن النبي صلى الله عليه وسلم مرسلا. كذلك رواه الثقات عن الزهري منهم مالك في الموطإ ويونس ومعمر وإبراهيم بن سعد إلا أنه قال: من إيمان المرء تركه ما لا يعنيه. وممن قال إنه لا يصح إلا عن علي بن حسين مرسلا، الإمام أحمد ويحيى بن معين والبخاري فالدارقطني. وقد خلط الضعف في إسناده على الزهري تخليطاً فاحشاً والصحيح فيه المرسل. ورواه عبد الله بن عمر العمري عن علي بن حسين عن أبيه عن النبي صلى الله عليه وسلم فوصله، وجعله من مسند الحسين بن علي. وأخرجه الإمام أحمد في مسنده من هذا الوجه والعمري ليس بالحافظ. وأخرجه أيضاً من وجه آخر عن الحسين عن النبي صلى الله عليه وسلم وضعفه البخاري في تاريخه من هذا الوجه أيضاً وقال: لا يصح إلا عن علي بن حسين مرسلا. وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم من وجوه أخر وكلها ضعيفة.(6/608)
2420ـ حدّثنا قُتَيْبَةُ، أخبرنا مَالِكُ بنُ أَنَسٍ، عن الزّهْرِيّ، عن عَلِيّ بنِ الحُسَيْنِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم: "إِنّ مِنْ حُسْنِ إِسْلاَمِ المَرْءِ تَرْكَهُ مَالاَ يَعْنِيهِ" .
هَكَذَا رَوَى غَيْرُ وَاحِدٍ مِنْ أَصْحَابِ الزّهْرِيّ عن الزّهْرِيّ، عن عَلِيّ بنِ الحُسَيْنِ، عن النبِيّ صلى الله عليه وسلم نَحْوَ حَدِيثِ مَالِكٍ.
ـــــــ
قوله: "عن علي بن الحسين" بن علي بن أبي طالب زين العابدين، ثقة ثبت عابد فقيه فاضل مشهور، قال ابن عيينة عن الزهري: ما رأيت قرشياً أفضل منه، من الثالثة(6/609)
9 ـ باب في قِلّةِ الْكلاَم
2421ـ حَدّثنا هَنّادٌ، أخبرنا عَبْدَةُ عن مُحمّدِ بنِ عَمْرٍو، حدثني أَبِي عن جَدّي قالَ: "سَمِعْتُ بِلاَلَ بنَ الْحَارِثِ المُزَنِيّ صَاحِبَ رَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم يقُولُ: سَمِعْتُ رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم يقُولُ: إِنّ أَحَدَكُمْ لَيَتَكَلّمُ بِالكَلِمَةِ مِن رِضْوَانِ الله ما يَظُنّ أَنْ تَبْلُغَ ما بَلَغَتْ فَيَكْتُبَ الله لَهُ بهَا رِضْوَانَهُ إِلَى يَوْمِ يَلْقَاهُ، وَإِنّ أَحَدَكُمْ لَيَتَكَلّمُ بِالكَلِمَةِ مِنْ سَخَطِ الله مَا يَظُنّ أَنّ تَبْلُغَ مَا بَلَغَتْ
ـــــــ
"باب ما جاء في قلة الكلام"
قوله: "أخبرنا عبدة" هو ابن سليمان "حدثني أبي" هو عمرو بن علقمة ابن وقاص الليثي المدني، مقبول من السادسة "عن جدي" هو علقمة بن وقاص بتشديد القاف الليثي المدني، ثقة ثبت من الثانية، أخطأ من زعم أن له صحبة وقيل إنه ولد في عهد النبي صلى الله عليه وسلم ومات في خلافة عبد الملك.
قوله: "ليتكلم بالكلمة من رضوان الله" بكسر الراء أي مما يرضيه ويحبه "ما يظن أن تبلغ" أي لا يعلم أن تبلغ تلك الكلمة "ما بلغت" من رضا الله بها عنه والجملة حال. وفي المشكاة: أن الرجل ليتكلم بالكلمة من الخير ما يعلم مبلغها.(6/609)
فَيَكْتُبَ الله عَلَيْهِ بهَا سَخَطَهُ إِلَى يَوْمِ يَلْقَاهُ" . وفي البابِ عن أُمّ حَبِيبَةَ. قال هذا حديثٌ حسنٌ صحيحٌ. هَكَذَا رواه غَيْرُ وَاحِدٍ عن مُحمدِ بنِ عَمْرٍو نَحْوَ هَذَا، وقَالُوا عن مُحمدِ بنِ عَمْرٍو عن أَبِيهِ عن جَدّهِ عن بِلاَلِ بنِ الْحَارِثِ. وَرَوَى مَالِكُ بنُ أَنَسٍ هذا الحديث عن مُحمدِ بنِ عَمْرٍو عن أَبِيهِ عن بِلاَلِ بنِ الْحَارِثِ وَلَمْ يَذْكُرْ فيه عن جَدّهِ.
ـــــــ
قال القاري أي قدر تلك الكلمة ومرتبتها "فيكتب الله له" أي لأحدكم المتكلم بالكلمة المذكورة "بها" أي بتلك الكلمة "رضوانه" أي رضاه "إلى يوم يلقاه". وفي الجامع الصغير إلى يوم القيامة "فيكتب الله عليه بها سخطه" أي غضبه. قال ابن عيينة: هي الكلمة عند السلطان فالأولى ليرده بها عن ظلم، والثانية ليجره بها إلى ظلم. وقال ابن عبد البر: لا أعلم خلافاً في تفسيرها بذلك نقله السيوطي. قال الطيبي: فإن قلت ما معنى قوله يكتب الله له بها رضوانه "وما فائدة التوقيت إلى يوم يلقاه؟" قلت: معنى كتبه رضوان الله توفيقه لما يرضي الله تعالى من الطاعات والمسارعة إلى الخيرات ليعيش في الدنيا حميداً، وفي البرزخ يصان من عذاب القبر ويفسح له قبره، ويقال له نم كنومة العروس الذي لا يوقظه إلا أحب أهله إليه، ويحشر يوم القيامة سعيداً ويظله الله تعالى في ظله، ثم يلقى بعد ذلك من الكرامة والنعيم المقيم، ثم يفوز بلقاء الله ما كل ذلك دونه وفي عكسه قوله يكتب الله عليه بها سخطه، ونظيره قوله تعالى لإبليس: {وَإِنَّ عَلَيْكَ لَعْنَتِي إِلَى يَوْمِ الدِّينِ} كذا في المرقاة.
قوله: "وفي الباب عن أم حبيبة" أخرجه الترمذي في باب حفظ اللسان.
قوله: "هذا حديث حسن صحيح" وأخرجه مالك وأحمد والنسائي وابن ماجة والبغوي في شرح السنة وابن حبان في صحيحه والحاكم وقال صحيح الإسناد. قال في تهذيب التهذيب في ترجمة عمرو بن علقمة: روى عن أبيه عن بلال بن الحارث(6/610)
ـــــــ
حديث: "إن الرجل ليتكلم بالكلمة" الحديث، وعنه ابنه محمد ذكره ابن حبان في الثقات أخرجوا له الحديث المذكور صححه الترمذي. قلت: وكذا صححه ابن حبان وصحح له ابن خزيمة حديثاً آخر من روايته عن أبيه أيضاً انتهى(6/611)
10 ـ باب ما جَاءَ في هَوَانِ الدّنْيَا عَلَى الله عز وجل
2422ـ حَدّثنا قُتَيْبَةُ، حدثنا عَبْدُ الْحَمِيدِ بنُ سُلَيْمَانَ، عن أبي حَازِمٍ عن سهلِ بنِ سَعْدٍ قالَ: قالَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم: "لَوْ كَانَتْ الدّنْيَا تَعْدِلُ عِنْدَ الله جَنَاحَ بَعُوضَةٍ مَا سَقَى كَافِراً مِنْهَا شَرْبَةَ مَاءٍ" . وفي البابِ عن أَبِي هُرَيْرَةَ.
هذا حديثٌ صَحِيحٌ غَرِيبٌ مِنْ هَذَا الوَجْهِ.
2423ـ حدّثنا سُوَيْدُ بنُ نَصْرٍ، أخبرنا عَبْدُ الله بنُ المُبَارَكِ،
ـــــــ
"باب ما جاء في هوانا الدنيا على الله"
قوله: "أخبرنا عبد الحميد بن سليمان" الخزاعي الضرير أبو عمر المدني نزيل بغداد ضعيف من الثامنة وهو أخو فليح.
قوله: "تعدل" بفتح التاء وكسر الدال أي تزن وتساوي "عند الله جناح بعوضة" هو مثل للقلة والحقارة. والمعنى أنه لو كان لها أدنى قدر "ما سقى كافراً منها" أي من مياه الدنيا "شربة ماء" أي يمتع الكافر منها أدنى تمتع، فإن الكافر عدو الله والعدو لا يعطي شيئاً مما له قدر عند المعطي، فمن حقارتها عنده لا يعطيها لأوليائه كما أشار إليه حديث: إن الله يحمي عبده المؤمن عن الدنيا كما يحمي أحدكم المريض عن الماء.
قوله: "وفي الباب عن أبي هريرة" أخرجه الترمذي في هذا الباب.
قوله: "هذا حديث صحيح غريب" وأخرجه ابن ماجة والضياء المقدسي. وقال المناوي بعد نقل قول الترمذي هذا: ونوزع. يعني ونوزع الترمذي في تصحيح الحديث، ووجه المنازعة أن في سند هذا الحديث عبد الحميد بن سليمان وهو ضعيف.(6/611)
عن مُجَالِدٍ، عن قَيْسِ بنِ أَبي حَازِمٍ، عن المُسْتَورِدِ بنِ شَدّادٍ قَالَ: "كُنْتُ مَعَ الرّكْبِ الذِينَ وَقَفُوا مَعَ رَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم عَلَى السّخْلَةِ المَيّتَةِ، فقالَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم: أَتَرَوْنَ هَذِهِ هَانَتْ عَلَى أَهْلِهَا حِينَ أَلْقَوْهَا؟ قَالُوا مِنْ هَوَانِهَا أَلْقَوْهَا يَا رَسُولَ الله، قَالَ: فالدّنْيَا أَهْوَنُ عَلَى الله مِنْ هَذِهِ عَلَى أَهْلِهَا" ".
وفي البابِ عن جَابِرٍ وَابنِ عُمَرَ.
حَدِيثُ المُسْتَورِدِ حدِيثٌ حَسَنٌ.
2424ـ حَدّثنا مُحمدُ بنُ حَاتِمٍ المكتّب، أخبرنا عَلِيّ بنُ ثَابِتٍ، أخبرنا عَبْدُ الرّحْمَنِ بنُ ثَابِتِ بنِ ثَوْبَانَ، قَالَ سَمِعْتُ عَطَاءَ بنَ قُرّة، قَالَ
ـــــــ
قوله: "عن مجالد" بضم أوله وتخفيف الجيم: ابن سعيد بن عمير الهمداني أبي عمرو الكوفي ليس بالقوي وقد تغير في آخر عمره من صغار السادسة.
قوله: "على السخلة" بفتح السين وسكون خاء معجمة: ولد معز أو ضأن "أترون هذه هانت على أهلها" قال في القاموس: هان هوناً بالضم وهواناً ومهانة ذل انتهى "قالوا من هوانها" أي من أجل هوانها "الدنيا أهون" أي أذل وأحقر "على الله" أي عنده تعالى "من هذه" أي من هوان هذه السخلة.
قوله: "وفي الباب عن جابر وابن عمر" أما حديث جابر فأخرجه مسلم في أوائل الزهد وأما حديث ابن عمر فأخرجه الطبراني في الكبير ورواته ثقات، كذا في الترغيب.
قوله: "حديث المستورد وحديث حسن" وأخرجه أحمد في مسنده.
قوله: "حدثنا محمد بن حاتم الكتب" الزمي بكسر الزاي وتشديد الميم، الخراساني نزيل العسكر، ثقة من العاشرة "أخبرنا علي بن ثابت" الجزري أبو أحمد الهاشمي مولاهم، صدوق ربما أخطأ، وقد ضعفه الأزدي بلا حجة من التاسعة "أخبرنا عبد الرحمن بن ثابت بن ثوبان" العنسي بالنون الدمشقي الزاهد صدوق يخطئ ورمي بالقدر وتغير بآخره من السابعة "قال سمعت عطاء بن قرة"(6/612)
سَمِعْتُ عَبْدَ الله بنَ ضَمْرَةَ، قالَ سَمِعْتُ أَبَا هُرَيْرَةَ يَقُولُ، سَمِعْتُ رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: "ألاَ إِنّ الدّنْيَا مَلْعُونَةٌ مَلْعُونٌ مَا فِيهَا إِلاّ ذِكْرُ الله وَمَا وَالاَهُ وَعَالِمٌ أَو مُتَعَلّمٌ" .
ـــــــ
السلولي بفتح المهملة وضم اللام الخفيفة صدوق من السادسة "قال سمعت عبد الله بن ضمرة" السلولي وثقه العجلي من الثالثة.
قوله: "إن الدنيا ملعونة" أي مبغوضة من الله لكونها مبعدة عن الله "ملعون ما فيها" أي مما يشغل عن الله "إلا ذكر الله" بالرفع... "وما والاه" أي أحبه الله من أعمال البر وأفعال القرب، أو معناه ما والى ذكر الله أي قاربه من ذكر خير أو تابعه من أتباع أمره ونهيه لأن ذكره يوجب ذلك. قال المظهر أي ما يحبه الله في الدنيا، والوالاة المحبة بين اثنين. وقد تكون من واحد وهو المراد هنا يعني ملعون ما في الدنيا إلا ذكر الله وما أحبه الله مما يجري في الدنيا وما سواه ملعون. وقال الأشرف: هو من الموالاة وهي المتابعة ويجوز أن يراد بما يوالي ذكر الله تعالى طاعته، واتباع أمره واجتناب نهيه "وعالم أو متعلم" قال القاري في المرقاة: أو بمعنى الواو أو للتنويع فيكون الواوان بمعنى أو. وقال الأشرف: قوله وعالم أو متعلم في أكثر النسخ مرفوع واللغة العربية تقتضي أن يكون عطفاً على ذكر الله فإنه منصوب مستثنى من الموجب. قال الطيبي رحمه الله هو في جامع الترمذي هكذا وما والاه. وعالم أو متعلم بالرفع، وكذا في جامع الأصول إلا أن بدل أو فيه الواو. وفي سنن ابن ماجة أو عالماً أو متعلماً بالنصب مع أو مكرراً والنصب في القرائن الثلاث هو الظاهر والرفع فيها على التأويل. كأنه قيل الدنيا مذمومة لا يحمد ما فيها إلا ذكر الله وعالم أو متعلم انتهى ما في المرقاة. قال المناوي: قوله ملعونة أي متروكة مبعدة متروك ما فيها أو متروكة الأنبياء والأصفياء كما في خبر: لهم الدنيا ولنا الاَخرة. وقال: الدنيا ملعونة لأنها غرت النفوس بزهرتها ولذتها فأمالتها عن العبودية إلى الهوى وقال بعد ذكر قوله وعالماً أو متعلماً: أي هي وما فيها مبعد عن الله إلا العلم النافع الدال على الله فهو المقصود منها، فاللعن وقع على ما غر من الدنيا لا على نعيمها ولذتها، فإن ذلك تناوله الرسل والأنبياء انتهى.(6/613)
هذا حديثٌ حَسَنٌ غَريبٌ.
2425ـ حدّثنا مُحمّدُ بنُ بَشّارٍ حَدّثنا يَحْيَى بنُ سَعِيدٍ، حدثنا إِسماعيلُ بنُ أَبِي خَالِدٍ أخبرني قَيْسُ بنُ أَبي حَازِمٍ، قالَ سَمِعْتُ مُسْتَوْرِداً أَخَا بَنِي فِهْرٍ قالَ: قالَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم: "مَا الدّنْيَا فِي الآخرة إِلاّ مِثْلَ مَا يَجْعَلُ أَحَدُكُمْ إِصْبَعُه فِي الْيَمّ فَلْيَنْظُرْ بِمَاذَا يرجع" .
هذا حديثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ.
ـــــــ
قوله: "هذا حديث حسن غريب" وأخرجه ابن ماجة والبيهقي.
قوله: "قال سمعت مستورداً" هو ابن شداد القرشي الفهري "أخا بني فهر" أي كان مستورد من بني فهر "ما الدنيا" ما نافية، أي ما مثل الدنيا من نعيمها وزمانها "في الاَخرة" أي في جنبها ومقابلة نعيمها وأيامها "إلا مثل" بكسر الميم ورفع اللام "ما يجعل أحدكم" ما مصدرية أي مثل جعل أحدكم "أصبعه" الظاهر أن المراد بها أصغر الأصابع قاله القاري. قلت: وقع في رواية مسلم أصبعه هذه في اليم وأشار يحيى بن يحيى بالسبابة "في اليم" أي مغموساً في البحر المفسر بالماء الكثير "فلينظر بماذا ترجع" أي بأي شيء ترجع أصبع أحدكم من ذلك الماء.
قوله: "هذا حديث حسن صحيح" وأخرجه مسلم(6/614)
باب ما جاء أن الدنيا سجن المؤمن و جنة الكافر
...
11 ـ باب مَا جَاءَ أَنّ الدّنْيَا سِجْنُ المؤمِنِ وجَنّةُ الكافِر
2426ـ حَدّثنا قُتَيْبَةُ، حدثنا عَبْدُ العَزِيزِ بنُ مُحمّدٍ، عن العَلاَءِ بنِ عَبْدِ الرّحْمَنِ، عن أَبِيهِ، عن أَبي هُرَيْرَةَ قالَ: قالَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم: "الدّنْيَا سِجْنُ المؤمِنِ وَجَنّةُ الكَافِرِ" .
ـــــــ
"باب ما جاء أن الدنيا سجن المؤمن وجنة الكافر"
قوله: "الدنيا سجن المؤمن وجنة الكافر" قال النووي رحمه الله: معناه أن المؤمن مسجون ممنوع في الدنيا من الشهوات المحرمة والمكروهة، مكلف بفعل(6/614)
هذا حديثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ. وفي البابِ عن عبدِ الله بنِ عَمْرٍو.
ـــــــ
الطاعات الشاقة، فإذا مات استراح من هذا وانقلب إلى ما أعد الله تعالى له من النعيم الدائم والراحة الخالصة من النقصان. وأما الكافر فإنما له من ذلك ما حصل في الدنيا مع قلته وتكديره بالمنغصات، فإذا مات صار إلى العذاب الدائم وشقاء الأبد انتهى. وقال المناوي: لأنه ممنوع من شهواتها المحرمة فكأنه في سجن، والكافر عكسه فكأنه في جنة انتهى. وقيل: كالسجن للمؤمن في جنب ما أعد له في الاَخرة من الثواب والنعيم المقيم، وكالجنة للكافر في جنب ما أعد له في الاَخرة من العقوبة والعذاب الأليم.
قوله: "هذا حديث حسن صحيح" وأخرجه مسلم وأحمد وابن ماجة.
قوله: "وفي الباب عن عبد الله بن عمرو" أخرجه أحمد والطبراني وأبو نعيم في الحلية والحاكم بإسناد صحيح عنه مرفوعاً: الدنيا سجن المؤمن وسنته فإذا فارق الدنيا فارق السجن والسنة.(6/615)
12 ـ باب مَا جَاءَ مَثَلُ الدّنْيَا مِثْلُ أَرْبَعَةِ نَفَر
2427ـ حَدّثنا محمدُ بنُ إِسْمَاعِيلَ، أخبرنا أَبُو نُعَيْمٍ، أخبرنا عُبَادَةُ بنُ مُسْلِمٍ، حدثنا يُونُسُ بنُ خَبّابٍ عَنْ سَعِيدٍ الطّائِيّ أَبِي البَختَرِيّ أَنّه قَالَ حدثني أبو كَبْشَةَ الأَنْمَارِيّ أَنّهُ سَمِعَ رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم يَقُولُ:
ـــــــ
"باب ما جاء مثل الدنيا مثل أربعة نفر"
قوله: "أخبرنا عبادة بن مسلم" الفزاري أبو يحيى البصري ثقة اضطرب فيه قول ابن حبان من السادسة "أخبرنا يونس بن خباب" بمعجمة وموحدتين الأولى منهما مشددة، الأسدي مولاهم الكوفي صدوق يخطئ ورمي بالرفض من السادسة "عن سعيد الطائي أبي البختري" بفتح الموحدة والمثناة بينهما معجمة، ابن فيروز ابن أبي عمران الطائي مولاهم، الكوفي، ثقة ثبت فيه تشيع قليل في كثير الإرسال من الثالثة.(6/615)
"ثَلاَثٌ أُقسِمُ عَلَيْهِنّ وَأُحَدّثكُمْ حَدِيثاً فاحْفَظُوهُ. قَالَ مَا نَقَصَ مَالُ عَبْدٍ مِنْ صَدَقَةٍ، وَلاَ ظُلِمَ عَبْدٌ مَظْلِمَةً صَبَرَ عَلَيْهَا إِلاّ زَادَهُ الله عِزّا، وَلاَ فَتَحَ عَبْدٌ بَابَ مَسْأَلَةٍ إِلاّ فَتَحَ الله عَلَيْهِ بَابَ فَقْرٍ أَوْ كَلِمَةٍ نَحْوَهَا وَأُحَدّثُكُمْ حَدِيثاً فاحْفَظُوهُ. قَالَ: إِنّمَا الدّنْيَا لأرْبَعَةِ نَفَرٍ: عَبْدٍ رَزَقَهُ الله مَالاً وَعِلْماً فَهُوَ يَتّقِي رَبّهُ فِيهِ وَيَصِلُ بِهِ رَحِمَهُ وَيَعْلَمُ لله فِيهِ حَقّا فَهَذَا بِأَفْضَلِ المَنَازِلِ، وَعَبْدٍ رَزَقَهُ الله عِلْماً وَلَمْ يَرْزُقْهُ مَالاً فَهُوَ صَادِقُ النّيّةِ يَقُولُ: لَوْ أَنّ لِيَ
ـــــــ
قوله: "يقول ثلاث" أي من الخصال "أقسم عليهن" أي أحلف عليهن "وأحدثكم" عطف على قوله ثلاث بحسب المعنى فكأنه قال أخبركم بثلاث أؤكدهن بالقسم عليهن وأحدثكم "حديثاً" أي تحديثاً عظيماً أو بحديث آخر "فاحفظوه" أي الأخيرأ والمجموع "ما نقص مال عبد من صدقة" تصدق بها منه بل يبارك له فيه بما يجبر نقصه الحسي "ولا ظلم عبد" بصيغة المجهول "مظلمة" بفتح الميم وكسر اللام مصدر "صبر" أي العبد "عليها" أي على تلك المظلمة ولو كان متضمناً لنوع من المذلة "إلا زاده الله عزاً" في الدنيا والاَخرة "ولا فتح" أي على نفسه "باب مسألة" أي سؤال للناس "إلا فتح الله عليه باب فقر" أي باب احتياج آخر وهلم جرا أو بكن سلب عنه ما عنده من النعمة فيقع في نهاية من النقمة كما هو مشاهد "وأحدثكم حديثاً فاحفظوه" عني، لعل الله تعالى أن ينفعكم به "إنما الدنيا لأربعة نفر" أي إنما حال أهلها حال أربعة: الأول "عبد" بالرفع على أنه خبر مبتدأ محذوف وبالجر على أنه بدل مما قبله "رزقه الله مالا" من جهة حل "وعلماً" أي شرعياً نافعاً "فهو يتقي ربه فيه" أي في الإنفاق من المال والعلم "ويصل به" أي بكل منها "رحمه" أي بالصلة من المال وبالإسعاف بجاه العلم "ويعلم لله فيه حقاً" من وقف وإقراء وإفتاء وتدريس "فهذا" أي العبد الموصوف بما ذكر "بأفضل المنازل" أي بأفضل الدرجات عند الله تعالى "وعبد رزقه الله علماً" أي شرعياً نافعاً "ولم يرزقه مالا" ينفق منه في وجوه(6/616)
مَالاً لَعمِلْتُ فِيهِ بِعَمَلِ فُلاَنٍ فَهُوَ بِنِيّتِهِ فأَجْرُهُمَا سَوَاءٌ، وَعَبْدٍ رَزَقَهُ الله مَالاً وَلَمْ يَرْزُقْهُ عِلْماً فهو يُخْبَطُ فِي مَالِهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ لاَ يَتّقِي فِيهِ رَبّهُ وَلاَ يَصِلُ فِيهِ رَحِمَهُ، وَلاَ يَعْلَمُ لله فِيهِ حَقّا فَهَذا بِأَخْبَثِ المَنَازِلِ، وَعَبْدٍ لَمْ يَرْزُقْهُ الله مَالاً وَلاَ عِلْماً فَهُوَ يَقُولُ: لَوْ أَنّ لِيَ مَالاً لَعَمِلْتُ فِيهِ بِعَمَلِ فُلاَنٍ فَهُوَ بِنِيّتِهِ فَوِزْرُهُمَا سَوَاءٌ" .
هذا حديثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ.
ـــــــ
القرب "يقول" فيما بينه وبين الله "بعمل فلان" أي الذي له مال ينفق منه في البر "فهو بنيته" أي يؤجر على حسبها "فأجرهما سواء" أي فأجر من عقد عزمه على أنه لو كان له مال أنفق منه في الخير، وأجر من له مال ينفق منه سواء ويكون أجر العلم زيادة له "يخبط في ماله" بكسر الباء جملة حالية أو استئناف بيان أي يصرفه في شهوات نفسه "بغير علم" بل بمقتض نفسه. قال القاري: أي بغير استعمال علم بأن يمسك تارة حرصاً وحباً للدنيا، وينفق أخرى للسمعة والرياء والفخر والخيلاء "لا يتقى فيه ربه" أي لعدم علمه في أخذه وصرفه "ولا يصل فيه رحمه" أي لقلة رحمته وعدم حلمه وكثرة حرصه وبخله "ولا يعلم الله فيه حقاً" وفي المشكاة: ولا يعمل فيه بحق. قال القاري رحمه الله أي بنوع من الحقوق المتعلقة بالله وبعباده "فهو بأخبث المنازل" عند الله تعالى أي أخسها وأحقرها "لعملت فيه بعمل فلان" أي من أهل الشر "فهو بنيته" أي فهو مجزي بنيته.
قوله: "هذا حديث حسن صحيح" وأخرجه أحمد وابن ماجة(6/617)
باب ما جاء فى هم الدنيا و حبها
...
13 ـ باب مَا جَاءَ فِي الهَمّ في الدّنْيَا وَحُبّها
2428ـ حَدّثنا محمدُ بنُ بَشّارٍ، حدثنا عَبْدُ الرّحْمَنِ بنُ مَهْدِيّ، حدثنا سُفْيَانُ عَنْ بَشِيرٍ أبي إِسْمَاعِيلَ عَنْ سَيّارٍ عَنْ طَارِق بن شِهَابٍ عَنْ
ـــــــ
"باب ما جاء في هم الدنيا وحبها"
قوله: "عن بشير أبي إسماعيل" هو ابن سلمان الكندي الكوفي والد الحكم(6/617)
عَبْدِ الله بنِ مَسْعُودٍ قَالَ: "قَالَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم: مَنْ نَزَلَتْ بِهِ فَاقَةٌ فَأَنْزَلَهَا بِالنّاسِ لَمْ تُسَدّ فَاقَتُهُ. وَمَنْ نَزَلَتْ بِهِ فَاقَةٌ فَأَنْزَلَهَا بِالله فَيُوشِكُ الله لَهُ بِرِزْقٍ عَاجِلٍ أَوْ آجِلٍ" .
ـــــــ
ثقة يغرب من السادسة "عن سيار" هو أبو حمزة قال في التقريب سيار أبو حمزة الكوفي مقبول من الخامسة ووقع في الإسناد عن سيار أبي الحكم عن طارق والصواب عن سيار أبي حمزة وقال في تهذيب التهذيب في ترجمة سيار أبي الحكم ما لفظه: وروى أبو داود والترمذي حديث بشير بن إسماعيل حدثنا سيار أبو الحكم عن طارق بن شهاب عن عبد الله عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: من أصابته فاقة فأنزلها بالناس لم تسد فاقته الحديث. قال أبو داود عقبه هو سيار أبو حمزة ولكن بشيراً كان يقول سيار أبو الحكم وهو خطأ. قال أحمد هو سيار أبو حمزة وليس قولهم سيار أبو الحكم بشيء، وقال الدارقطني: قول البخاري سيار أبو الحكم سمع طارق بن شهاب وهم منه وممن تابعه، والذي يروي عن طارق هو سيار أبو حمزة، قال ذلك أحمد ويحيى وغيرهما انتهى.
قلت في قوله: وروى أبو داود والترمذي حديث بشير بن إسماعيل وهم والصواب بشير أبي إسماعيل لأن راوي هذا الحديث عن سيار هو بشير بن سلمان أبو إسماعيل لا بشير بن إسماعيل بل وليس في التقريب وتهذيب التهذيب والخلاصة راو مسمى باسم بشير بن إسماعيل.
قوله: "من نزلت به فاقة" أي حاجة شديدة وأكثر استعمالها في الفقر وضيق المعيشة "فأنزلها بالناس" أي عرضها عليهم وأظهرها بطريق الشكاية لهم وطلب إزالة فاقته منهم. قال الطيبي: يقال نزل بالمكان ونزل من علو ومن المجاز نزل به مكروه وأنزلت حاجتي على كريم. وخلاصته أن من اعتمد في سدها على سؤالهم "لم تسد فاقته" أي لم تقض حاجته ولم تزل فاقته وكلما تسد حاجته أصابته أخرى أشد منها "فأنزلها بالله" بأن اعتمد على مولاه "فيوشك الله له" أي يسرع له ويعجل "برزق عاجل" بالعين المهملة "أو آجل" بهمزة ممدودة وفي رواية أبي داود: أوشك الله له بالغنى إما بموت عاجل أو غنى عاجل. قال القاري في شرح قوله إما بموت(6/618)
هذا حديثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ غَرِيبٌ.
2429ـ حَدّثنا محمودُ بنُ غَيْلاَنَ، حدثنا عَبْدُ الرّزّاقِ، أخبرنا سُفْيَانُ عَنْ مَنْصُورٍ وَالأعْمَشُ عَنْ أَبي وَائلٍ قَالَ: جَاءَ مُعَاوِيَةُ إِلَى أَبِي هَاشِمِ بنِ عُتْبَةَ وَهُوَ مَرِيضٌ يَعُودُهُ، فَقَالَ: يَا خَالُ مَا يُبْكِيكَ؟ أَوَجَعٌ يُشْئِزُكَ أم حِرْصٌ عَلَى الدّنْيَا؟ قَالَ كُلّ لاَ. وَلَكِنْ رَسُوَلَ الله صلى الله عليه وسلم عَهِدَ إِلَيّ عَهْداً لَمْ آخُذْ بِهِ. قَالَ: إِنّمَا يَكْفِيكَ مِنْ جَميعِ الْمَالِ خَادِمٌ وَمَرْكَبٌ
ـــــــ
عاجل قيل بموت قريب له غني فيرثه. وقال في شرح قوله أو غنى عاجل بكسر وقصر أي يسار. قال الطيبي: هو هكذا أي بالعين في أكثر نسخ المصابيح وجامع الأصول. وفي سنن أبي داود والترمذي أو غنى آجل بهمزة ممدودة وهو أصح دراية لقوله تعالى: {إِنْ يَكُونُوا فُقَرَاءَ يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ} انتهى. قلت وفي نسخ أبي داود الحاضرة عندنا عاجل بالعين.
قوله: "هذا حديث حسن صحيح غريب" وأخرجه أبو داود.
قوله: "عن أبي وائل" اسمه شقيق بن سلمة الكوفي ثقة مخضرم مات في خلافة عمر بن عبد العزيز وله مائة سنة "جاء معاوية" هو ابن أبي سفيان "إلى أبي هاشم ابن عتبة بن ربيعة بن عبد شمس صحابي أسلم يوم الفتح وسكن الشام وكان خال معاوية ابن أبي سفيان روى من حديثه أبو وائل شقيق بن سلمة "وهو مريض" جملة حالية والضمير يرجع إلى أبي هاشم "يعوده" جملة حالية أيضاً والضمير المرفوع يرجع إلى معاوية والمنصوب إلى أبي هاشم "فقال" أي معاوية "ما يبكيك" من الإبكاء أي أي شيء يبكيك؟ "أوجع يشئزك" بشين معجمة ثم همزة مكسورة وزاي أي يقلقك وزنه ومعناه قاله المنذري. وقال في الصراح أشأزبي آرام كردا نيدن "قال" أي أبو هاشم "كل" من هذين الأمرين "لا" أي لا يبكيني يعني لا يبكيني واحد من هذين الأمرين بل يبكيني أمر آخر فبينه بقوله: "ولكن رسول الله صلى الله عليه وسلم عهد إلي عهداً لم آخذ به" أي أوصاني بوصية لم أعمل بها "قال" أي رسول الله صلى الله عليه وسلم بدل من عهد أو تفسير وبيان للعهد، واختار الطيبي رح الأول حيث قال بدل منه بدل الفعل من الفعل كما في قوله:(6/619)
في سَبِيلِ الله، وَأَجِدُني الْيَوْمَ قَدْ جَمَعْتُ".
وقد رَوَاهُ زَائِدَةُ وَعَبِيدَةُ بنُ حُمَيدٍ، عَنْ مَنْصُورٍ عن أَبي وَائِلٍ، عَنْ سَمُرَةَ بنِ سَهْمٍ قَالَ: "دَخَلَ مُعَاوِيَةُ عَلَى أَبي هَاشِمِ بنِ عُتْبَةَ، فَذَكَرَ نَحْوَهُ. وفي البابِ عَنْ بُرَيْدَةَ الأَسْلَمِيّ عن النّبِيّ صلى الله عليه وسلم.
2430ـ حَدّثنا مَحْمُودُ بنُ غَيْلاَنَ، حدثنا وَكِيعٌ، حدثنا سُفْيَانُ عَنْ الأَعْمَشِ عَنْ شِمْرِ بنِ عَطِيّةَ عن المُغِيرَةِ بنِ سَعْدِ بنِ الأَخْرَمِ عَنْ أَبِيهِ
ـــــــ
متى تأتنا تلمم بنا في ديارنا
...
تجد حطباً جزلا وناراً تأججا
أبدل تلمم بنا من قوله تأتنا "إنما يكفيك من جمع المال" أي للوسيلة بحسن المال "خادم" للحاجة إليه "ومركب" أي مركوب يسار عليه "في سبيل الله" أي في الجهاد أو الحج أو طلب العلم والمقصود منه القناعة والاكتفاء بقدر الكفاية مما يصح أن يكون زاداً للاَخرة كما رواه الطبراني والبيهقي عن خباب: إنما يكفي أحدكم ما كان في الدينا مثل زاد الراكب "وأجدني اليوم قد جمعت". وفي رواية رزين: فلما مات حصل ما خلف فبلغ ثلاثين درهماً وحسبت فيه القصعة التي كان يعجن فيها وفيها يأكل.
قوله: "عن سمرة بن سهم" القرشي الأسدي مجهول من الثانية "فذكر نحوه" قال المنذري في الترغيب بعد ذكر الحديث المذكور: رواه الترمذي والنسائي، ورواه ابن ماجة عن سمرة بن سهم عن رجل من قومه لم يسمه. قال نزلت على أبي هاشم بن عقبة فجاءه معاوية فذكر الحديث بنحوه. ورواه ابن حبان في صحيحه عن سمرة بن سهم قال: نزلت على أبي هاشم بن عتبة وهو مطعون فأتاه معاوية فذكر الحديث. وذكره رزين فزاد فيه: فلما مات إلى آخر ما نقلت قبل هذا.
قوله: "وفي الباب عن بريدة الأسلمي" أخرجه أحمد ص 360 ج5 والنسائي والضياء المقدسي عنه مرفوعاً: ليكف أحدكم من الدنيا خادم ومركب .
قوله: "عن شمر بن عطية" بكسر الشين المعجمة وسكون الميم الأسدي الكاهلي الكوفي صدوق من السادسة "عن المغيرة بن سعد بن الأخرم" الطائي مقبول من(6/620)
عنْ عَبْدِ الله بن مسعود قَالَ: "قَالَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم: لاَ تَتّخِذُوا الضّيْعَةَ فَتَرْغَبُوا في الدّنْيَا" .
هذا حديثٌ حَسَنٌ.
ـــــــ
الخامسة "عن أبيه" أي سعد بن الأخرم الطائي الكوفي مختلف في صحبته، روى عن ابن مسعود حديث: لا تتخذوا الضيعة. وعنه ابنه المغيرة وذكره مسلم في الطبقة الأولى من أهل الكوفة وذكره ابن حبان في الصحابة ثم أعاد ذكره في التابعين من الثقات كذا في تهذيب التهذيب "عن عبد الله" هو ابن مسعود "لا تتخذوا الضيعة" هي البستان والقرية والمزرعة. وفي النهاية: الضيعة في الأصل المرة من الضياع، وضيعة الرجل ما يكون منه معاشه كالصنعة والتجارة والزراعة وغير ذلك انتهى. وقال في القاموس: الضيعة العقار والأرض المغلة "فترغبوا في الدنيا" أي فتميلوا إليها عن الأخرى، والمراد النهي عن الاشتغال بها وبأمثالها مما يكون مانعاً عن القيام بعبادة المولى وعن التوجه كما ينبغي إلى أمور العقبى. وقال الطيبي: المعنى لا تتوغلوا في اتخاذ الضيعة فتلهوا بها عن ذكر الله قال تعالى: {رِجَالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ} .
قوله: "هذا حديث حسن" وأخرجه أحمد والحاكم والبيهقي في شعب الإيمان.(6/621)
14 ـ باب مَا جَاءَ في طولِ العُمرِ لِلْمُؤْمِن
2431ـ حَدّثنا أَبُو كُرَيْبٍ، حدثنا زَيْدُ بنُ حُبَابٍ عَنْ مُعَاوِيَةَ بنِ صَالِحٍ، عنْ عَمْرِو ابنِ قَيْسٍ، عَنْ عَبْدِ الله بنِ بسر: "أَنّ أَعْرَابِيّا قَال
ـــــــ
"باب ما جاء في طول العمر للمؤمن"
قوله: "عن عمرو بن قيس" بن ثور بن مازن الكندي الحمصي، ثقة من الثالثة "عن عبد الله بن قيس" كذا في النسخ الحاضرة بالقاف والتحتية والسين المهملة وهو غلط، والصواب عن عبد الله بن بسر بالموحدة والسين المهملة والراء فإنه ذكر هذا الحديث الحافظ السيوطي في الجامع الصغير. وقال بعد ذكره: رواه أحمد والترمذي عن عبد الله بن بسر. وذكر الحافظ المنذري هذا الحديث في الترغيب فقال عن عبد الله بن بسر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم خير الناس(6/621)
َ يَا رَسُولَ الله: مَنْ خَيْرُ النّاسِ؟ قَالَ مَنْ طَالَ عُمرهُ وَحَسُنَ عَمَلُهُ" . وفي البابِ عنْ أبي هُرَيْرَةَ وَجَابِرٍ.
هذا حديثٌ حَسَنٌ غَرِيبٌ من هذَا الوَجْهِ.
2432ـ حَدّثنا أَبُو حَفْصٍ عَمْرو بنُ عَلِيّ، حدثنا خَالِدُ بنُ الْحَارِثِ، حدثنا شُعْبَةُ عَنْ عَلِيّ بنِ زَيدٍ، عَنْ عَبْدِ الرّحْمَنِ بنِ أَبِي بَكْرَةَ عَنْ أَبِيهِ: "أَنّ رَجُلاً قَالَ يَا رَسُولَ الله أَيّ النّاسِ خَيْرٌ؟ قَالَ مَنْ طَالَ عُمُرهُ وَحَسُنَ عَمَلُهُ. قَالَ فَأَيّ النّاسِ شَرّ؟ قَالَ: مَنْ طَالَ عُمُرهُ وَسَاءَ عَمَلُهُ" .
ـــــــ
من طال عمره الخ. وقال رواه الترمذي. وروى أحمد هذا الحديث في مسانيد عبد الله بن بسر، ففي مسنده حدثنا عبد الله حدثني أبي حدثنا علي بن عياش حدثنا حسان بن نوح عن عمرو بن قيس عن عبد الله بن بسر قال: أتى النبي صلى الله عليه وسلم أعرابيان. فقال أحدهما من خير الرجال يا محمد؟ قال النبي صلى الله عليه وسلم: من طال عمره وحسن عمله الحديث. فظهر من هذا كله أن ما وقع في النسخ الحاضرة غلط والصواب عن عبد الله بن بسر فاحفظ هذا "من طال عمره" بضمتين على ما هو الأفصح الوارد في كلامه سبحانه. وفي القاموس: العمر بالفتح وبالضم وبضمتين الحياة "وحسن عمله" قال الطيبي رحمه الله: إن الأوقات والساعات كرأس المال للتاجر فينبغي أن يتجر فيما يربح فيه وكلما كان رأس ماله كثيراً كان الربح أكثر، فمن انتفع من عمره بأن حسن عمله فقد فاز وأفلح، ومن أضاع رأس ماله لم يربح وخسر خسراناً مبيناً انتهى.
قوله: "وفي الباب عن أبي هريرة وجابر" أما حديث أبي هريرة فأخرجه البزار وابن حبان في صحيحه كلاهما من رواية ابن إسحاق ولم يصرح فيه بالتحديث ولفظه: ألا أخبركم بخياركم؟ قالوا بلى يا رسول الله. قال: أطولكم أعماراً وأحسنكم أخلاقاً. وأما حديث جابر فأخرجه الحاكم عنه مرفوعاً: خياركم أطولكم أعماراً وأحسنكم أعمالا .
قوله: "هذا حديث حسن غريب" وأخرجه أحمد.
قوله: "عن علي بن زيد" هو ابن جدعان.
قوله: "قال من طال عمره وساء عمله" قال القاري وبقي صنفان مستويان ليس(6/622)
هذا حديث حسن صحيح.
ـــــــ
فيها زيادة من الخير والشر وهما من قصر عمره وحسن عمله أو ساء عمله.
قوله: "هذا حديث حسن صحيح" وأخرجه أحمد والدارمي، وكذا رواه الطبراني بإسناد صحيح والحاكم والبيهقي(6/623)
باب ما جاء فى أعمار هذه الأمة مابين الستين إلى السبعين
...
15 ـ باب مَا جَاءَ في أَعمَارِ هَذِهِ الأُمّةِ مَا بَيْنَ السّتّينَ إِلَى السّبْعِين
2433ـ حَدّثنا إِبْرَاهِيمُ بنُ سَعِيدٍ الجَوْهَرِيّ، حدثنا مُحَمّدُ بنُ رَبيعَةَ عَنْ كَامِلٍ أَبي العَلاَءِ، عَنْ أَبِي صَالِحٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم: عُمْرُ أُمّتِي مِنْ سِتّينَ سَنَةً إِلَى سَبْعِينَ" .
ـــــــ
"باب ما جاء في أعمار هذه الأمة ما بين الستين إلى السبعين"
قوله: "عن كامل أبي العلاء" قال في تهذيب التهذيب: كامل بن العلاء التميمي السعدي ويقال أبو عبد الله الكوفي، روى عن أبي صالح ميناء وغيره وعنه محمد بن ربيعة وغيره. وقال في التقريب: صدوق يخطئ من السابعة "عن أبي صالح" قال في تهذيب التهذيب: أبو صالح مولى ضباعة. قال مسلم: اسمه ميناء روى عن أبي هريرة حديث: أعمار أمتي ما بين الستين إلى السبعين. وعنه كامل أبو العلاء ذكره ابن حبان في الثقات.
قوله: "عمر أمتي من ستين سنة إلى سبعين" قيل معناه آخر عمر متى ابتداؤه إذا بلغ ستين سنة وانتهاؤه سبعون سنة وقل من يجوز سبعين. وهذا محمول على الغالب بدليل شهادة الحال فإن منهم من لم يبلغ ستين سنة، ومنهم من يجوز سبعين ذكره الطيبي رحمه الله. قال القاري بعد نقل كلام الطيبي هذا: وفيه أن اعتبار الغلبة في جانب الزيادة على سبعين واضح جداً، وأما كون الغالب في آخر عمر الأمة بلوغ ستين في غاية من الغرابة المخالفة لما هو ظاهر في المشاهدة. فالظاهر أن المراد به أن عمر الأمة من سن المحمود الوسط المعتدل الذي مات فيه غالب الأمة ما بين العددين، منهم سيد الأنبياء وأكابر الخلفاء، كالصديق والفاروق والمرتضى وغيرهم من العلماء والأولياء، مما يصعب فيه الاستقصاء انتهى. وقال الحافظ(6/623)
هذا حديثٌ حَسَنٌ غَرِيبٌ مِنْ حَدِيثِ أَبِي صَالِحٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ.
وَقَدْ رُوِيَ مِنْ غَيْرِ وَجْهٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ.
ـــــــ
في الفتح بعد ذكر هذا الحديث. قال بعض الحكماء: الأسنان أربعة سن الطفولية ثم الشباب ثم الكهولة ثم الشيخوخة وهي آخر الأسنان، وغالب ما يكون ما بين الستين والسبعين، فحينئذ يظهر ضعف القوة بالنقص والانحطاط. فينبغي له الإقبال على الاَخرة بالكلية لاستحالة أن يرجع إلى الحالة الأولى من النشاط والقوة انتهى.
قوله: "هذا حديث حسن غريب" وأخرجه ابن ماجة.
قوله: "وقد روي من غير وجه عن أبي هريرة" رواه الترمذي في أواخر أبواب الدعوات بسند آخر غير السند المذكور. وقال الحافظ في الفتح: سنده حسن.(6/624)
باب ما جاء فى تقارب الزمن و قصر الأمل
...
16 ـ باب ما جاءَ في تَقَارُبِ الزّمَنِ وقِصَرِ الأَمَل
2434ـ حَدّثنا عَبّاسُ بنُ محمدٍ الدّوْرِيّ، أخبرنا خَالِدُ بنُ مَخْلَدٍ، أخبرنا عَبْدُ الله بنُ عُمرَ العمري عَنْ سَعْدِ بنِ سَعِيدٍ الأَنْصَارِيّ عَنْ أَنَسِ بنِ مَالِكٍ قَالَ: "قَالَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم: "لاَ تَقُومُ السّاعَةُ حَتّى يَتَقَارَبَ الزّمَانُ
ـــــــ
"باب ما جاء في تقارب الزمن وقلة الأمل"
قوله: "أخبرنا خالد بن مخلد" القطواني بفتح القاف والطاء أبو الهيثم البجلي مولاهم الكوفي صدوق يتشيع وله أفراد من كبار العاشرة. روى عن سليمان بن بلال وعبد الله بن عمر العمري وغيرهما "أخبرنا عبد الله بن عمر" هو العمري "عن سعد بن سعيد الأنصاري" هو أخو يحيى صدوق سيء الحفظ من الرابعة.
قوله: "لا تقوم الساعة حتى يتقارب الزمان" قال التوربشتي رحمه الله يحمل ذلك على قلة بركة الزمان وذهاب فائدته في كل مكان أو على أن الناس لكثرة اهتمامهم بما دهمهم من النوازل والشدائد وشغل قلبهم بالفتن العظام لا يدرون كيف تنقضي(6/624)
وَتَكُونَ السّنَةُ كَالشّهْرِ، وَالشّهْرُ كَالْجُمُعَةِ، وَتَكُونَ الْجُمُعَةُ كَاليَوْمِ، وَيَكُونَ اليَوْمُ كَالسّاعَةِ، وَتَكُونَ السّاعَةُ كَالضّرْمَةِ بِالنّارِ" .
هذا حديثٌ غَرِيبٌ مِنْ هَذَا الوَجْهِ وَسَعْدُ بنُ سَعِيدٍ هُوَ أَخُو يَحْيَى بنِ سَعِيدٍ الأَنْصَارِيّ.
ـــــــ
أيامهم ولياليهم "والشهر" أي ويكون الشهر "كالجمعة" بضم الميم ويسكن والمراد به الأسبوع "وتكون الجمعة كاليوم" أي كالنهار "ويكون اليوم كالساعة" أي العرفية النجومية وهي جزء من أجزاء القسمة الأثنتي عشرية في اعتدال الأزمنة الصيفية والشتائية، قاله القاري وفيه ما فيه. "وتكون الساعة كالضرمة" بفتح الضاد وسكون الراء ويفتح أي مثلها في سرعة ابتدائها وانقضائها. قال القاضي رحمه الله أي كزمان إيقاد الضرمة وهي ما يوقد به النار أولا كالقصب والكبريت. وفي القاموس: الضرمة محركة السعفة أو الشيحة في طرفها نار. وفي الأزهار: الضرمة بفتح المعجمة وسكون الراء غصن النخل والشيحة نبت في طرفها نار فإنها إذ اشتعلت تحرق سريعاً انتهى. فالمراد بها الساعة اللغوية، وهي أدنى ما يطلق عليه اسم الزمان من اللمحة واللحظة والطرفة. قال الخطابي ويكون ذلك في زمن المهدي1 أو عيسى عليهما الصلاة والسلام أو كليهما. قال القاري: والأخير هو الأظهر لظهور هذا الأمر في خروج الدجال وهو زمانهما
ـــــــ
1 يرى الكثيرون من العلماء الثقات الأنباء أن ما ورد من أحاديث خاصة "بالمهدى"ليست إلا من وضع الباطنية والشيعة وأضرابهم وأنها لا تصح نسبتها إلى الرسول صلى الله عليه وسلم"المصحح".(6/625)
17 ـ باب مَا جَاءَ فِي قِصَرِ الأَمل
2435 ـ حَدّثنا مَحْمُودُ بنُ غَيْلاَنَ، حدثنا أَبُو أَحْمَدَ، حدثنا سُفْيَانُ عَنْ لَيْثٍ عَنْ مُجَاهِدٍ عنْ ابنِ عُمرَ قَالَ: "أَخَذَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم بِبَعْضِ جَسَدِي فقَالَ: "كُنْ فِي الدّنْيَا كَأَنّكَ غَرِيبٌ أَوْ عَابِرُ سَبِيلٍ وَعُدّ نَفْسَكَ
ـــــــ
"باب ما جاء في قصر الأمل"
قوله: "أخبرنا أبو أحمد" هو الزبيري قوله: "ببعض جسدي" وفي رواية(6/625)
مِنْ أَهْلِ القُبُورِ" ، فَقَالِ لِي ابنُ عُمر: "إِذَا أَصْبَحْتَ فَلاَ تُحَدّث نَفْسَكَ بالمَسَاءِ، وَإِذَا أَمْسَيْتَ فَلاَ تُحَدّثْ نَفْسَكَ بالصّبَاحِ، وَخُذْ مِنْ صِحّتِكَ قَبْلَ سَقَمِكَ، وَمِنْ حَيَاتِكَ قَبْلَ مَوْتِكَ، فَإِنّكَ لاَ تَدْرِي يَا عَبْدَ الله ما اسْمُكَ غَداً".
ـــــــ
البخاري بمنكبي، ففي هذه الرواية تعيين ما أبهم في رواية الترمذي، ونكتة الأخذ تقريبه إليه وتوجهه عليه، ليتمكن في ذهنه ما يلقى لديه قال: "كن في الدنيا كأنك غريب أو عابر سبيل" قال الطيبي: ليست أو للشك بل للتخيير والإباحة، والأحسن أن تكون بمعنى بل فشبه الناسك السالك بالغريب الذي ليس له مسكن يأويه، ولا مسكن يسكنه. ثم ترقى وأضرب عنه إلى عابر السبيل، لأن الغريب قد يسكن في بلد الغربة، بخلاف عابر السبيل القاصد لبلد شاسع بينهما أودية مردية، ومفاوز مهلكة وقطاع طريق، فإن من شأنه أن لا يقيم لحظة ولا يسكن لمحة، ومن ثم عقبه بقوله: إذا أمسيت فلا تنتظر الصباح إلخ، وبقوله: وعد نفسك في أهل القبور، والمعنى استمر سائراً ولا تفتر، فإنك إن قصرت انقطعت وهلكت في تلك الأودية، وهذا معنى المشبه به وأما المشبه فهو قوله: وخذ من صحتك لمرضك أي أن العمر لا يخلو عن صحة ومرض. فإذا كنت صحيحاً فسر سير القصد وزد عليه بقدر قوتك ما دامت فيك قوة بحيث يكون ما بك من تلك الزيادة قائماً مقام ما لعله يفوت حالة المرض والضعف، ذكره الحافظ في الفتح. وقال النووي رحمه الله: معنى الحديث: لا تركن إلى الدنيا ولا تتخذها وطناً ولا تحدث نفسك بالبقاء فيها، ولا تتعلق منها بما لا يتعلق به الغريب في غير وطنه انتهى. "وعد نفسك" بضم العين المهملة وفتح الدال المشددة: أي اجعلها معدودة "من أهل القبور" أي من جملتهم وواحدة من جماعتهم، ففيه إشارة إلى ما قيل موتوا قبل أن تموتوا وحاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا "فقال لي ابن عمر" هذا قول مجاهد أي قال لي ابن عمر من قوله: "إذا أصبحت فلا تحدث نفسك بالمساء الخ" وفي رواية البخاري وكان ابن عمر يقول: إذا أمسيت فلا تنتظر الصباح وإذا أصبحت فلا تنتظر المساء "وخذ من صحتك" أي زمن صحتك "قبل سقمك" بفتحتين أو بضم السين وسكون القاف أي قبل مرضك. وفي رواية البخاري: لمرضك: والمعنى اشتغل في الصحة بالطاعة بحيث لو حصل تقصير في المرض(6/626)
2436ـ حدّثنا أَحْمَدُ بنُ عَبْدَةَ الضّبيّ البَصْرِيّ، أخبرنا حَمّادُ بنُ زَيْدٍ عَنْ لَيْثٍ عَنْ مُجَاهِدٍ عَنِ ابنِ عُمرَ عَنْ النّبِيّ صلى الله عليه وسلم نَحْوَهُ.
وَقَدْ رَوَى هَذَا الْحَدِيثَ الأَعْمَشُ عَنْ مُجَاهِدٍ عَنِ ابنِ عُمرَ "عن النبي صلى الله عليه وسلم" نَحْوَهُ.
2437 ـ حدّثنا سُوَيْدُ بن نصر، حدثنا عَبْدُ الله بن المبارك عَنْ حَمّادِ بنِ سَلَمَةَ، عَنْ عُبَيْدِ الله بنِ أَبِي بَكْرِ بنِ أَنَسٍ، عَنْ أَنَسِ بنِ مَالِكٍ قَالَ: "قَالَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم: هَذَا ابنُ آدَمَ وَهَذَا أَجَلُهُ وَوَضَعَ يَدَهُ عِنْدَ قَفَاهُ ثُمّ بَسَطَهَا فَقَالَ: وَثَمّ أَملُهُ وَثَمّ أَمَلُه" .
ـــــــ
ليجبر بذلك "ما اسمك غداً" قال الحافظ: أي هل يقال له شقي أو سعيد ولم يرد اسمه الخاص به فإنه لا يتغير. وقيل المراد هل يقال هو حي أو ميت انتهى. قلت: والظاهر عندي هو المعنى الثاني والله تعالى أعلم.
قوله: "وقد روى هذا الحديث الأعمش عن مجاهد عن ابن عمر نحوه" رواه البخاري في صحيحه. قال السيوطي في الجامع الصغير: "كن في الدنيا كأنك غريب أو عابر سبيل". رواه البخاري عن ابن عمر زاد أحمد والترمذي وابن ماجة: "وعد من نفسك من أهل القبور".
قوله: "حدثنا سويد" هو ابن نصر "عن عبيد الله بن أبي بكر بن أنس" ثقة من الرابعة.
قوله: "هذا ابن آدم" الظاهر أن هذا إشارة حسية إلى صورة معنوية وكذا قوله: "وهذا أجله" وتوضيحه أنه أشار بيده إلى قدامه في مساحة الأرض أو في مساحة الهواء بالطول أو العرض، وقال هذا ابن آدم ثم أخرها وأوقفها قريباً مما قبله وقال هذا أجله "ووضع يده" أي عند تلفظه بقوله: هذا ابن آدم وهذا أجله "عند قفاه" أي في عقب المكان الذي أشار به إلى الأجل "ثم بسطها" أي نشر يده على هيئة فتح ليشر بكفه وأصابعه أو معنى بسطها وسعها في المسافة من المحل الذي أشار به إلى الأجل فقال: "وثم" بفتح المثلثة وتشديد الميم أي هنالك وأشار إلى بعد مكان ذلك "أهله" أي مأموله، وهو مبتدأ خبره ظرف، قدم عليه(6/627)
وفي البابِ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ. هذا حديثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ.
2438ـ حدّثنا هَنّاد، حدثنا أَبُو مُعَاوِيَةَ عن الأَعْمَشِ عَنْ أَبِي السّفَرِ عَنْ عَبْدِ الله بنِ عَمْرٍو قَالَ: "مَرّ عَلَيْنَا رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم وَنَحْنُ نُعَالِجُ خُصّا لَنَا، فَقَالَ: مَا هَذَا؟ فَقُلْنَا قَدْ وَهِيَ فنحن نُصْلِحُهُ، فَقَالَ: مَا أَرَى
ـــــــ
للاختصاص والاهتمام كذا شرح القاري هذا الحديث وقال هذا ما سنح لي في هذا المقام من توضيح المرام. وقال الطيبي رحمه الله: قوله ووضع يده الواو للحال، وفي قوله وهذا أجله للجمع مطلقاً، فالمشار إليه أيضاً مركب فوضع اليد على قفاه معناه أن هذا الإنسان الذي يتبعه أجله هو المشار إليه وبسط اليد عبارة عن مدها إلى قدام انتهى. وقال الشيخ عبد الحق في ترجمة المشكاة "هذا ابن آدم وهذا أجله" أين أدمى ست وأين أجل اوست يعني نزديك است بوي "ووضع يده عند قفاه" ونهاد انحضرت ازيرلي تصوير وتمثيل قرب موت رابا دمى دستخودر انزدقاي خود يعني مركدر قفاي ادمي ست وقريب بوي "ثم بسط" يس تربكشا دود رازكرد انحضرت دست داود ورد أشت ازقفا ازبراي نمودن درازي أمل "فقال وثم أمله" وانجاست يعني بجاي دور امل واميداو يعني أجل نزديك امد وامل دور رفته أست انتهى بلفظه.
قلت: كل من المغنيين اللذين ذكرهما القاري والشيخ محتمل.
قوله: "وفي الباب عن أبي سعيد" أخرجه أحمد من رواية علي بن علي عن أبي المتوكل عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم غرز عوداً بين يديه ثم غرز إلى جنبه آخر ثم غرز الثالث فأبعده ثم قال: هذا الإنسان وهذا أجله وهذا أمله . قال الحافظ في الفتح: والأحاديث متوافقة على أن الأجل أقرب من الأمل.
قوله: "هذا حديث حسن صحيح" قال المنذري في الترغيب بعد ذكر هذا الحديث رواه الترمذي وابن حبان في صحيحه ورواه النسائي، أيضاً وابن ماجة بنحوه انتهى.
قوله: "عن أبي السفر" بفتح السين المهملة والفاء، هو سعيد بن يحمد، بضم الياء التحتانية وكسر الميم الهمداني الثوري الكوفي ثقة من الثالثة.
قوله: "ونحن نعالج خصاً لنا" قال في القاموس: الخص بالضم البيت من(6/628)
الأمْرَ إِلاّ أَعْجَلَ مِنْ ذَلِكَ" . هذا حديثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ. وأبو السّفَرِ سعيد بن يحمد، ويقال ابن أحمد الثوري.
ـــــــ
القصب أو البيت يسقف بخشبة كالأزج، جمعه خصاص وخصوص انتهى. وقال فيه: الأزج محركة ضرب من الأبنية. والمعنى نصلح بيتاً لنا. وفي رواية: وأنا أطين حائطاً لي أنا وأمي "قد وهي" أي ضعف، قال في الصراح: وهي ضعيف شدن ونزديك شدن ديوار بافتادن. وقال في القاموس: الوهى الشق في الشيء جمعه وهي وأوهية وهي كوعي وولى تخرق وانشق واسترخى رباطه "فقال ما أرى" بضم الهمزة أي ما أظن "الأمر" أي الأجل "إلا أعجل من ذلك" وفي رواية قال: الأمر أسرع من ذلك، قيل الأجل أقرب من تخرب هذا البيت أي تصلح بيتك خشية أن ينهدم قبل أن تموت وربما تموت قبل أن ينهدم فإصلاح عملك أولى من إصلاح بيتك. قال: الطيبي رحمه الله: أي كوننا في الدنيا كعابر سبيل أو راكب مستظل تحت شجرة أسرع مما أنت فيه من أشتغالك بالبناء انتهى.
قوله: "هذا حديث حسن صحيح" وأخرجه أحمد وأبو داود وابن ماجة وابن حبان في صحيحه(6/629)
18 ـ باب مَا جَاءَ أَنّ فِتْنَةَ هَذهِ الأُمّةِ فِي الْمَال
2439ـ حَدّثنا أَحْمَدُ بنُ مَنِيعٍ، أخبرنا الْحَسَنُ بنُ سَوّارٍ، أخبرنا اللّيْثُ بنُ سَعْدٍ عَنْ مُعَاوِيَةَ بنِ صَالِحٍ أن عَبْدِ الرّحْمَنِ بنِ جُبَيْرِ بنِ نُفَيْرٍ، حَدّثَهُ عَنْ أَبِيهِ عَنْ كَعْبِ بنِ عِيَاضٍ قَالَ: "سَمِعْتُ النّبِيّ صلى الله عليه وسلم
ـــــــ
"باب ما جاء أن فتنة هذه الأمة في المال"
قوله: "حدثنا الحسن بن سوار" بفتح المهملة وتثقيل الواو البغوي أبو العلاء المروزي صدوق من التاسعة "عن عبد الرحمن بن جبير" بجيم وموحدة مصغراً "بن نفير" بنون وفاء مصغراً الحمصي ثقة من الرابعة "عن أبيه" أي جبير بن نفير ابن مالك بن عامر الحضرمي الحمصي ثقة جليل من الثانية مخضرم "عن كعب بن عياض" الأشعري له صحبة عداده في أهل الشام روى عنه جبير بن نفير.(6/629)
يَقُولُ: إِنّ لِكُلّ أُمّةٍ فِتْنَةٌ وَفِتْنَةُ أُمّتِي الْمَالُ" . هذا حديثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ غَرِيبٌ إِنّمَا نَعْرِفُهُ مِنْ حَدِيثِ مُعَاوِيَةَ بنِ صَالِحٍ.
ـــــــ
قوله: "إن لكل أمة فتنة" أي ضلالا ومعصية "وفتنة أمتي المال" أي اللهو به لأنه يشغل البال عن القيام بالطاعة وينسي الاَخرة.
قوله: "هذا حديث حسن صحيح غريب" ، وأخرجه الحاكم وقال: صحيح وأقروه(6/630)
باب ما جاء لو كان لابن آدم واديان من المال لابتغى ثالثاً
...
19 ـ باب مَا جَاءَ "لَوْ كَانَ لابنِ آدَمَ وَادِيَانِ مِنْ مَالٍ لاَبْتَغى ثَالِثاً"
2440 ـ حَدّثنا عَبْدُ الله بنِ أبي زِيَادٍ، حدثنا يَعْقُوبُ بنُ إِبْرَاهِيمَ بنِ سَعْدٍ، حدثنا أَبي عَنْ صَالِحِ بنِ كَيْسَانَ، عَنْ ابنِ شِهَابٍ، عن أَنَسِ بنِ مَالِكٍ قَالَ: "قَالَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم: لَوْ كَانَ لابنِ آدَمَ وَادِياً مِنْ ذَهَبٍ لأَحَبّ أَنْ يَكُونَ لَهُ ثَانِياً وَلاَ يَمْلأُ فَاهُ إِلاّ التّرَابُ وَيَتُوبُ الله عَلَى مَنْ تَابَ" .
ـــــــ
"باب ما جاء لو كان لابن آدم واديان من ممال لابتغى ثالثا"
قوله: "أخبرنا يعقوب بن إبراهيم بن سعد" بن أبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف الزهري أبو يوسف المدني، نزيل بغداد، ثقة فاضل من صغار التاسعة "أخبرنا أبي" أي إبراهيم بن سعد بن إبراهيم أبو إسحاق، ثقة حجة، تكلم فيه بلا قادح من الثامنة.
قوله: "وادياً" كذا وقع في أصل الكروخي، والصواب واد وثان كذا في هامش النسخة الأحمدية من ذهب، وفي رواية من فضة وذهب "ولا يملأ فاه" أي فمه، وفي رواية: ولا يملأ جوف ابن آدم. وفي رواية: لا يسد جوف ابن آدم "إلا التراب" معناه: لا يزال حريصاً على الدنيا حتى يموت ويمتلئ جوفه من تراب قبره، وهذا الحديث يخرج على حكم غالب بني آدم في الحرص على الدنيا "ويتوب الله على من تاب" أي أن الله يقبل التوبة من الحريص كما يقبلها من غيره.(6/630)
وفي البابِ عَنْ أُبَيّ بنِ كَعْبٍ وَأَبي سَعِيدٍ وَعَائِشَةَ وَابنِ الزّبَيْرِ وأبي وَاقِدٍ وَجَابِرٍ وابنِ عَبّاسٍ وأبي هُرَيْرَةَ.
هذا حديثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ غَرِيبٌ مِنْ هَذَا الوَجْهِ.
ـــــــ
قيل وفيها إشارة إلى ذم الاستكثار من جمع المال وتمني ذلك والحرص عليه للإشارة إلى أن الذي يترك ذلك يطلق عليه أنه تاب، ويحتمل أن يكون تاب بالمعنى اللغوي وهو مطلق الرجوع أي رجع عن ذلك الفعل والتمني. وقال الطيبي: يمكن أن يكون معناه أن بني آدم مجبولون على حب المال والسعي في طلبه، وأن لا يشبع منه إلا من عصمه الله ووفقه لإزالة هذه الجبلة عن نفسه وقليل ما هم. فوضع قوله: ويتوب الله على من تاب موضعه إشعاراً بأن هذه الجبلة المركوزة مذمومة جارية مجرى الذنب، وأن إزالتها ممكنة بتوفيق الله وتسديده وإلى ذلك الإشارة بقوله تعالى: {وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} .
قوله: "وفي الباب عن أبي بن كعب الخ" أما حديث أبي بن كعب فأخرجه الترمذي في فصله من أبواب المناقب. وأما حديث أبي سعيد وحديث عائشة فلينظر من أخرجهما. وأما حديث ابن الزبير فأخرجه البخاري. وأما حديث أبي واقد فأخرجه أحمد وأبو عبيد في فضائل القرآن ذكره الحافظ في الفتح. وأما حديث جابر فأخرجه أبو عبيد في فضائل القرآن كما في الفتح. وأما حديث ابن عباس فأخرجه البخاري ومسلم. وأما حديث أبي هريرة فأخرجه ابن ماجة.
قوله: "هذا حديث حسن صحيح" وأخرجه أحمد والشيخان(6/631)
باب ما جاء قلب الشيخ شاب على حب ثنتين
...
20 ـ باب مَا جَاءَ في قَلْبُ الشّيْخِ شابّ عَلَى حُبّ اثْنَتَيْن
2441ـ حَدّثنا قُتَيْبَةُ، حدثنا اللّيْثُ عنْ ابنِ عَجْلاَنَ، عَنْ القَعْقَاعِ بنِ حَكِيمٍ، عَنْ أَبي صَالِحٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنّ النّبِيّ صلى الله عليه وسلم
ـــــــ
"باب ما جاء قلب الشيخ شاب على حب اثنتين"
قوله: "عن القعقاع بن حكيم" الكناني المدني، ثقة من الرابعة.(6/631)
قَالَ: "قَلْبُ الشّيْخِ شَابّ عَلَى حُبّ اثْنَتَيْنِ: طُولِ الْحَيَاةِ وَكَثْرَةِ الْمَالِ" .
وفي الباب عن أنس هذا حديثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ.
2442ـ حدّثنا قُتَيْبَةُ، حدثنا أَبُو عَوَانَةَ، عَنْ قَتَادَةَ، عن أَنَسِ بنِ مَالِكٍ أَنّ رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم قَالَ: "يَهْرَمُ ابنُ آدَمَ وَيَشبّ مِنْهُ اثْنَتَانِ: الْحِرْصُ عَلَى الْعُمْرِ وَالْحِرْصُ عَلَى الْمَالِ" .
هذا حديث حسن صحيح.
ـــــــ
قوله: "قلب الشيخ شاب" أي قوي نشطان "طول الحياة وكثرة المال" بالجر فيهما بدل من اثنتين ويجوز الرفع والنصب. قال النووي: هذا مجاز واستعارة ومعناه: أن قلب الشيخ كامل الحب لكثرة المال وطول الحياة، محتكم كاحتكام قوة الشاب في شبابه. هذا صوابه. وقيل في تفسيره غير هذا مما لا يرتضى انتهى.
قوله: "وفي الباب عن أنس" أخرجه الترمذي في هذا الباب.
قوله: "هذا حديث حسن صحيح" وأخرجه أحمد والبخاري في باب من بلغ ستين سنة فقد أعذر الله إليه في العمر من كتاب الرقاق، ومسلم في باب كراهة الحرص على الدنيا من كتاب الزكاة، والنسائي في الرقاق.
قوله: "يهرم" بفتح الراء من باب علم أي يشيب والهرم كبر السن "ويشب" بكسر الشين المعجمة وتشديد الموحدة من باب ضرب أي ينمو ويقوى "منه" أي من أخلاقه "اثنتان" أي خصلتان "الحرص على العمر" أي طوله "والحرص على المال" أي على جمعه ومنعه.
قوله: "هذا حديث حسن صحيح" وأخرجه الشيخان.(6/632)
المجلد السابع
تابع لأبواب الزهد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم
باب ما جاء في الزهادة في الدنيا
...
21-باب مَا جَاءَ في الزّهَادَةِ في الدّنْيَا
2443-حدثنا عَبْدُ الله بنُ عَبْدِ الرحمَنِ، أخبرنا محمدُ بنُ المُبَارَكِ، أخبرنا عَمْرو بنُ وَاقِدٍ، أخبرنا يُونُسُ بنُ حَلْبَسَ، عَنْ أَبِي إِدْرِيسَ الْخَوْلاَنِي، عن أَبِي ذَرٍ، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "الزّهَادَةُ فِي الدّنْيَا لَيْسَتْ بِتَحْرِيمِ الْحَلاَلِ وَلاَ إِضَاعَةِ المَالِ وَلَكِنْ الزّهَادَةَ في الدُنْيَا أَنْ لاَ تَكُونَ
__________
"باب مَا جَاءَ في الزّهَادَةِ في الدّنْيَا"
قوله: "حدثنا عبد الله بن عبد الرحمن" هو الدارمي "أخبرنا محمد بن المبارك" الصوري نزيل دمشق القلانسي القرشي ثقة من كبار العاشرة "أخبرنا عمرو بن واقد" الدمشقي أبو حفص مولى قريش متروك من السادسة "أخبرنا يونس بن حلبس" هو ابن ميسرة قال في التقريب يونس بن ميسرة بن حلبس بفتح المهملة والموحدة بينهما لام ساكنة وآخره مهملة وزن جعفر وقد ينسب لجده ثقة عابد معمر من الثالثة انتهى.
قوله : "الزهادة في الدنيا" بفتح الزاي أي ترك الرغبة فيها "ليست بتحريم الحلال" كما يفعله بعض الجهلة زعماً منهم أن هذا من الكمال فيمتنع من أكل اللحم والحلواء والفواكه ولبس الثوب الجديد ومن الزواج ونحو ذلك وقد قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ} وقد ثبت أنه صلى الله عليه وسلم فعل هذه الأفعال، ولا أكمل من حالة الكمال "ولا إضاعة المال" أي بتضييعه وصرفه في غير محله بأن يرميه في(7/3)
بِمَا فِي يَدَيْكَ أَوْثقَ مِمّا فِي يَدِ الله، وَأَنْ تَكُونَ فِي ثَوَابِ المُصِيبَةِ إِذَا أَنْتَ أُصِبْتَ بِهَا أَرْغَبُ فِيهَا لَوْ أَنّهَا أُبْقِيَتْ لَكَ" .
هذا حديثٌ غريبٌ لاَ نَعْرِفُهُ إِلاّ مِنْ هَذَا الوَجْهِ. وَأَبُو إِدْرِيسَ الخَوْلاَنِيّ اسْمُهُ عَائِذُ الله بنُ عَبْدِ الله وَعَمْرِو بنُ وَاقِدٍ مُنْكَرُ الْحَدِيثِ.
2444-حدثنا عَبْدُ بنُ حُمَيدٍ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ الصّمَدِ بنُ عَبْدِ الوَارِثِ،
__________
بحر أو يعطيه للناس من غير تمييز بين غني وفقير "ولكن الزهادة" أي المعتبرة الكاملة "في الدنيا" أي في شأنها "أن لا تكون بما في يديك" من الأموال أو من الصنائع والأعمال "أوثق" أي أرجى منك "مما في يد الله" وفي رواية ابن ماجه أوثق منك بما في يد الله أي بخزائنه الظاهرة والباطنة، وفيه نوع من المشاكلة. والمعنى ليكن إعماد له بوعد الله لك من إيصال الرزق إليك ومن إنعامه عليك من حيث لا تحتسب، ومن وجه لا تكتسب، أقوى وأشد مما في يديك من الجاه والكمال والعقار وأنواع الصنائع، فإن ما في يديك يمكن تلفه وفناؤه بخلاف ما في خزائنه فإنه محقق بقاؤه كما قال تعالى: { مَا عِنْدَكُمْ يَنْفَدُ وَمَا عِنْدَ اللَّهِ بَاقٍ} "وأن تكون" عطف على أن لا تكون "إذ أنت أصبت بها" بصيغة المجهول "أرغب فيها" أي في حصول المصيبة "لو أنها" أي لو فرض أن تلك المصيبة "أبقيت لك" أي منعت لأجلك وأخرت عنك فوضع أبقيت موضع لم تصب وجواب لو ما دل عليه ما قبلها. وخلاصته أن تكون رغبتك في وجود المصيبة لأجل ثوابها أكثر من رغبتك في عدمها فهذان الأمران شاهدان عدلان على زهدك في الدنيا وميلك في العقبى قاله القاري. وقال الطيبي: لو أنها أبقيت لك حال من فاعل أرغب وجواب لو محذوف وإذا ظرف. والمعنى أن تكون في حال المصيبة وقت إصابتها أرغب من نفسك في المصيبة حال كونك غير مصاب بها، لأنك تثاب بها إليك ويفوتك الثواب إذا لم تصل إليك.
قوله : "هذا حديث غريب" وأخرجه ابن ماجه.(7/4)
أخبرنا حُرَيثُ بنُ السّائِبِ، قَالَ سَمِعْتُ الْحَسَنَ يَقُولُ حدثني حُمْرَانُ بنُ أَبَانَ، عَنْ عُثْمَانَ بنِ عَفّانَ عَنْ النبيّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "لَيْسَ لابنِ آدَمَ حَقٌ فِي سِوَى هذِهِ الخِصَالِ: بَيْتٍ يَسْكُنُهُ، وَ ثَوْبٍ يُوَارِي عَوْرَتَهُ، وَجِلْفِ الْخُبْزِ وَالْمَاءِ" .
__________
قوله : "أخبرنا حريث بن السائب" التميمي، وقيل الهلالي البصري المؤذن صدوق يخطئ من السابعة "سمعت الحسن" هو البصري رحمه الله "حدثني حمران" بمضمومة وسكون ميم وبراء مهملة "بن أبان" مولى عثمان بن عفان اشتراه في زمن أبي بكر الصديق ثقة من الثانية.
قوله : "ليس لابن آدم حق" أي حاجة "في سوى هذه الخصال" قال الطيبي رحمه الله: موصوف سوى محذوف أي في شيء سوى هذه الخ والمراد بها ضروريات بدنه المعين على دينه "بيت" بالجر ويجوز الرفع، وكذا فيما بعده من الخصال المبينة "يسكنه" أي محل يأوى إليه رفعاً للحر والبرد "وثوب يواري عورته" أي يسترها عن أعين الناس "وجلف الخبز" بكسر جيم وسكون لام ويفتح. ففي النهاية الجلف الخبز وحده لا أدم معه. وقيل الخبز الغليظ اليابس، ويروى بفتح اللام جمع جلفة وهي الكسرة من الخبز، وقال الهروي الجلف ههنا الظرف مثل الخرج والجوالق يريد ما يترك فيه الخبز انتهى. وفي الغريبين: قال شمر عن ابن الأعرابي الجلف الظرف مثل الخرج والجوالق. قال القاضي رحمه الله: ذكر الظرف وأراد به المظروف أي كسرة خبز وشربة ماء انتهى. والمقصود غاية القناعة ونهاية الكفاية "والماء" قال القاري رحمه الله: بالجر عطفاً على الجلف أو الخبز وهو الظاهر المفهوم من كلام الشراح. وفي بعض النسخ يعني من المشكاة بالرفع بناء على أنه إحدى الخصال، قيل أراد بالحق ما وجب له من الله من غير تبعة في الاَخرة وسؤال عنه، وإذا اكتفى بذلك من الحلال لم يسأل عنه لأنه من الحقوق التي لا بد للنفس منها. وأما ما سواه من الحظوظ يسأل عنه ويطالب بشكره. وقال القاضي رحمه الله: أراد بالحق ما يستحقه الإنسان لافتقاره إليه(7/5)
هذا حديثٌ صحيحٌ وَهُوَ حدِيثُ حُرَيثِ بنِ السّائِبِ. وَسَمِعْتُ أَبَا دَاوْدُ سُلَيْمَانَ بنَ سَلْمٍ البَلْخِيّ يَقُولُ، قَالَ النّضْرُ بنُ شُمَيْلٍ: جِلْفُ الْخُبْزِ يَعْنِي لَيْسَ مَعَهُ إِدَامٌ.
2445-حدثنا مَحْمُودُ بنُ غَيْلاَنَ، أخبرنا وَهْبُ بنُ جَرِيرٍ، أخبرنا شُعْبَةُ، عَنْ قَتَادَةَ عَنْ مُطَرّفٍ، عن أَبِيِه أَنّهُ انْتَهَى إِلَى النبيّ صلى الله عليه وسلم وَهُوَ يَقُولُ: "أَلْهَا كُمُ التّكَاثُرُ. قَالَ: يَقُولُ ابنُ آدَمَ مَالِي مَالِي، وَهَلْ لَكَ مِنْ مَالِكَ إِلاّ ما تَصَدّقْتَ فأَمضَيْتَ أَوْ أَكَلْتَ فَأَفْنَيْتَ أَوْ لَبِسْتَ فَأَبْلَيْتَ" .
__________
وتوقف تعيشه عليه، وما هو المقصود الحقيقي من المال. وقيل أراد به ما لم يكن له تبعة حساب إذا كان مكتسباً من وجه حلال انتهى.
قوله : "هذا حديث صحيح" وأخرجه الحاكم في مستدركه قال المناوي إسناده صحيح.
قوله : "عن مطرف" بن عبد الله بن الشخير العامري الجرشي البصري ثقة عابد فاضل من الثانية "عن أبيه" أي عبد الله بن الشخير بن عوف العامري صحابي من مسلمة الفتح.
قوله : "انتهى إلى النبي صلى الله عليه وسلم" أي وصل إليه "وهو" أي النبي صلى الله عليه وسلم "ألهاكم التكاثر" أي أشغلكم طلب كثرة المال "قال" أي النبي صلى الله عليه وسلم "مالي مالي" أي يغتر بنسبة المال إلى نفسه تارة، ويفتخر به أخرى "وهل لك من مالك" أي هل يحصل لك من المال وينفعك في المال "إلا ما تصدقت فأمضيت" أي فأمضيته وأبقيته لنفسك يوم الجزاء قال تعالى: { مَا عِنْدَكُمْ يَنْفَدُ وَمَا عِنْدَ اللَّهِ بَاقٍ} وقال عز وجل: { مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً فَيُضَاعِفَهُ لَهُ} . "أو أكلت" أي استعملت من جنس المأكولات والمشروبات ففيه تغليب أو اكتفاء "فأفنيت" أي فأعدمتها "أو لبست" من الثياب "فأبليت" أي فأخلقتها.(7/6)
هذا حديثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ.
2446-حدثنا محمد بن بشار أْخْبَرَنَا عُمَرُ بنُ يُونَسَ هو اليمامي، أَخْبَرَنَا عِكْرِمَةُ بنُ عَمّارٍ، أخبرنا شَدّادُ بنُ عَبْدِ الله، قَالَ سَمِعْتُ أَبَا أُمَامَةَ يَقُولُ: قَالَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم: "يَا ابنَ آدَمَ إِنّكَ إِنْ تَبْذُلِ الفَضْلَ خَيْرٌ لَكَ، وَإِنْ تُمْسِكْهُ شَرٌ لَكَ، وَلاَ تُلاَمُ عَلَى كَفَافٍ وَابْدَأْ بِمَنْ تَعُولُ، وَاليَدُ العُلْيَا خَيْرٌ مِنَ الْيَدِ
__________
قوله : "هذا حديث حسن صحيح" وأخرجه مسلم في الزهد.
قوله : "أخبرنا عمر بن يونس" بن القاسم الخفي أبو حفص اليمامي الجرشي ثقة من التاسعة "أخبرنا عكرمة بن عمار" العجلي أبو عمار اليمامي أصله من البصرة صدوق يغلط. وفي روايته عن يحيى بن كثير اضطراب، ولم يكن له كتاب من الخامسة "أخبرنا شداد بن عبد الله" القرشي أبو عمار الدمشقي ثقة يرسل من الرابعة.
قوله : "إنك إن تبذل الفضل" أي إنفاق الزيادة على قدر الحاجة والكفاف فإن مصدرية مع مدخولها مبتدأ خبره "خير لك" أي في الدنيا والأخرى "وإن تمسكه" أي ذلك الفضل وتمنعه. قال النووي قوله صلى الله عليه وسلم: إنك أن تبذل الفضل خير لك، وإن تمسكه شر لك، هو بفتح همزة أن معناه أن بذلت الفاضل عن حاجتك وحاجة عيالك فهو خير لك لبقاء ثوابه، وإن أمسكته فهو شر لك لأنه إن أمسك عن الواجب استحق العقاب عليه وإن أمسك عن المندوب فقد نقص ثوابه وفوت مصلحة نفسه في آخرته وهذا كله شر انتهى "ولا تلام على كفاف" بالفتح وهو من الرزق القوت وهو ما كف عن الناس وأغنى عنهم. والمعنى لا تذم على حفظه وإمساكه أو على تحصيله وكسبه ومفهومه إنك إن حفظت أكثر من ذلك ولم تتصدق بما فضل عنك فأنت مذموم وبخيل وملوم، قاله القاري. وقال النووي: معنى لا تلام على كفاف أن قدر الحاجة لا لوم على صاحبه وهذا إذا لم يتوجه في الكفاف حق شرعي كمن كان له نصاب زكوي ووجبت الزكاة بشروطها وهو محتاج إلى ذلك النصاب لكفافه وجب عليه إخراج الزكاة ويحصل كفايته من جهة مباحة انتهى. "وابدأ" أي ابتدئ في إعطاء الزائد على(7/7)
السّفْلَى". هذا حديثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ وَشَدّادُ بنُ عَبْدِ الله يُكْنَى أَبَا عَمّارٍ.
2447-حدثنا عَلِيّ بنُ سَعِيدٍ الكِنْدِيّ، حدثنا ابنُ المُبَارَكِ، عَنْ حَيْوَةَ بنِ شُرَيْحٍ، عَنْ بَكْرِ بنِ عَمْرٍو، عَنْ عَبْدِ الله بنِ هُبَيْرَةَ، عَنْ أَبِي تَمِيم الْجَيْشَانِيّ، عَنْ عُمَرَ بنِ الْخَطّابِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم: "لَوْ أَنّكُمْ كُنْتُمْ تَوَكّلُونَ عَلَى الله حَقّ تَوَكّلِهِ لَرُزِقْتُمْ كَمَا تُرْزَقُ الطّيْرُ تَغْدُو خِمَاصاً وَتَرُوحُ بِطَاناً" .
__________
قدر الكفاف "بمن تعول" أي بمن تمونه ويلزمك نفقته. قال النووي فيه تقديم نفقة نفسه وعياله لأنها منحصرة فيه بخلاف نفقة غيرهم. وفيه الابتداء بالأهم فالأهم في الأمور الشرعية "اليد العليا" أي النفقة "خير من اليد السفلى" أي السائلة.
قوله : "هذا حديث حسن صحيح" وأخرجه مسلم في الزكاة.
قوله : "حدثنا علي بن سعيد" بن مسروق الكندي الكوفي صدوق من العاشرة "عن بكر بن عمرو" المعافري المصري إمام جامعها، صدوق عابد من السادسة "عن عبد الله بن هبيرة" بضم الهاء وفتح الموحدة مصغراً ابن أسعد السبائى بفتح المهملة والموحدة ثم همزة مقصورة، الحضرمي كنيته أبو هبيرة المصري ثقة من الثالثة "عن أبي تميم الجيشاني" قال في التقريب: عبد الله بن مالك بن أبي الأسحم بمهملتين أبو تميم الجيشاني بجيم وياء ساكنة بعدها معجمة مشهورة بكنيته المصري ثقة مخضرم من الثالثة.
قوله : "لو انكم كنتم توكلون" بحذف إحدى التاءين للتخفيف أي تعتمدون "حق توكله" بأن تعلموا يقيناً أن لا فاعل إلا الله، وأن لا معطي ولا مانع إلا هو ثم تسعون في الطلب بوجه جميل وتوكل "لرزقتم كما ترزق الطير" بمثناة فوقية مضمومة أوله "تغدو" أي تذهب أول النهار "خماصاً" بكسر الخاء المعجمة جمع خميص أي جياعاً "وتروح" أي ترجع آخر النهار "بطاناً" بكسر(7/8)
هذا حديثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ لاَ نَعْرِفُهُ إِلاّ مِنْ هَذَا الوَجْهِ. وَأَبُو تَمِيمٍ الْجَيْشَانِيّ اسْمُهُ عَبْدُ الله بنُ مَالِكٍ.
2448-حدثنا محمدُ بنُ بَشّارِ، حدثنا أَبُو دَاوُدَ الطّيالِسيّ، حدثنا حَمّادُ بنُ سَلَمَةَ عَنْ ثَابِتٍ، عَنْ أَنَسٍ بنِ مَالِكٍ قَالَ: كَان أَخَوَانِ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم فَكَانَ أَحَدُهُمَا يَأْتِي النّبيّ صلى الله عليه وسلم وَالاََخَرُ
ـــــــ
الموحدة جمع بطين، وهو عظيم البطن والمراد شباعاً. قال المناوي أي تغدو بكرة وهي جياع وتروح عشاء وهي ممتلئه الأجواف، فالكسب ليس برازق بل الرازق هو الله تعالى فأشار بذلك إلى أن التوكل ليس التبطل والتعطل، بل لا بد فيه من التوصل بنوع من السبب لأن الطير ترزق بالسعي والطلب، ولهذا قال أحمد: ليس في الحديث ما يدل على ترك الكسب بل فيه ما يدل على طلب الرزق، وإنما أراد لو توكلوا على الله في ذهابهم ومجيئهم وتصرفهم وعلموا أن الخير بيده لم ينصرفوا إلا غانمين سالمين كالطير. لكن اعتمدوا على قوتهم وكسبهم وذلك لا ينافي التوكل انتهى. وقال الشيخ أبو حامد: وقد يظن أن معنى التوكل ترك الكسب بالبدن وترك التدبير بالقلب والسقوط على الأرض كالخرقة الملقاة أو كلحم على وضم، وهذا ظن الجهال، فإن ذلك حرام في الشرع، والشرع قد أثنى على المتوكلين فكيف ينال مقام من مقامات الدين محظور من محظورات الدين، بل نكشف عن الحق فيه فنقول: إنما يظهر تأثير التوكل في حركة العبد وسعيه بعمله إلى مقاصده. وقال الإمام أبو القاسم القشيري: اعلم أن التوكل محله القلب، وأما الحركة بالظاهر فلا تنافي التوكل بالقلب بعدما يحقق العبد أن الرزق من قبل الله تعالى، فإن تعسر شيء فبتقديره وإن تيسر شيء فبتيسيره.
قوله : "هذا حديث حسن صحيح" وأخرجه أحمد والنسائي وابن حبان في صحيحه والحاكم.
قوله : "كان أخوان" أي اثنان من الإخوان "على عهد رسول الله صلى الله(7/9)
يَحْتَرِفُ، فَشَكَا المُحْتَرِفُ أَخَاهُ إِلَى النّبيّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: "لَعَلّكَ تُرْزَقُ بِهِ" .
هذا حديث حسن صحيح.
2449-حدثنا عَمْرُو بنُ مَالِكٍ، وَ مَحْمُودُ بنُ خِدَاشٍ البَغْدَادِيّ، قَالاَ: أَخْبَرَنَا مَرْوَانُ بنُ مُعَاوِيَةَ، أَخْبَرنَا عَبْدُ الرحمنِ بنُ أَبي شُمَيْلَةَ الأَنْصَارِيّ عَنْ سَلَمَةَ بنِ عُبَيْدِ الله بنِ مِحْصَنٍ الْخَطْمِيّ، عن أَبِيهِ وَكَانَتْ لَهُ صُحبةٌ قَالَ:
__________
عليه وسلم" أي في زمنه فكان أحدهما يأتي النبي صلى الله عليه وسلم أي لطلب العلم والمعرفة "والاَخر يحترف" أي يكتسب أسباب المعيشة فكأنهما كانا يأكلان معاً "فشكا المحترف" أي في عدم مساعدة أخيه إياه في حرفته وفي كسب آخر لمعيشته فقال "لعلك ترزق به" بصيغة المجهول أي أرجو وأخاف أنك مرزوق ببركته لأنه مرزوق بحرفتك فلا تمنن عليه بصنعتك. قال الطيبي: ومعنى لعل فيقوله: لعلك يجوز أن يرجع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فيفيد القطع والتوبيخ كما ورد فهل ترزقون إلا بضعفائكم وأن يرجع المخاطب ليبعثه على التفكر والتأمل فينتصف من نفسه، انتهى. وحديث أنس هذا ذكره صاحب المشكاة. وقال رواه الترمذي وقال هذا حديث صحيح غريب انتهى. وليس قول الترمذي هذا في النسخ الحاضرة عندنا. وأخرجه أيضاً الحاكم.
قوله : "حدثنا عمرو بن مالك" الراسبي أبو عثمان البصري ضعيف من العاشرة "ومحمود بن خداش البغدادي" قال في التقريب محمود بن خداش بكسر المعجمة ثم مهملة خفيفة وآخره معجمة الطالقاني نزيل بغداد صدوق من العاشرة "حدثنا عبد الرحمن بن أبي سميلة" بمعجمة مصغراً الأنصاري المدني القبائي بضم القاف وتخفيف الموحدة. ممدود مقبول من السابعة "عن سلمة بن عبيد الله بن محصن" بكسر الميم وسكون الحاء وفتح الصاد المهملتين. قال الحافظ في التقريب: سلمة بن عبد الله ويقال ابن عبيد الله بن محصن الأنصاري الخطمي المدني مجهول من الرابعة. وقال في تهذيب التهذيب في ترجمته: روى عن أبيه ويقال له صحبة. وروى عنه عبد الرحمن بن أبي شميلة الأنصاري ذكره ابن حبان في الثقات له في السنن حديث(7/10)
قَالَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم: "مَنْ أَصْبَحَ مِنْكُمْ آمِناً في سِرْبِه مُعَافًى في جَسَدِهِ، عِنْدَهُ قُوتُ يَوْمِهِ، فَكَأَنّمَا حِيْزَتْ لَهُ الدّنْيَا" .
__________
واحد: من أصبح منكم آمناً في سربه الحديث. قال وقال أحمد: لا أعرفه. وقال العقيلي: لا يتابع على حديثه انتهى. "عن أبيه" أي عبيد الله بن محصن قال في التقريب عبد الله بن محصن الأنصاري يقال عبيد الله بالتصغير ورجح، مختلف في صحبته له حديث انتهى. "وكانت له صحبة" قال في تهذيب التهذيب في ترجمته: قال ابن عبد البر أكثرهم يصحح صحبته. وقال أبو نعيم: أدرك النبي صلى الله عليه وسلم ورآه. وذكره البخاري وغير واحد فيمن اسمه عبيد الله يعني مصغراً انتهى.
قوله : "من أصبح منكم" أي أيها المؤمنون "آمناً" أي غير خائف من عدو "في سربه" المشهور كسر السين أي في نفسه، وقيل السرب الجماعة، فالمعنى في أهله وعياله، وقيل بفتح السين أي في مسلكه وطريقه، وقيل بفتحتين أي في بيته. كذا ذكره القاري عن بعض الشراح. وقال التوربشتي رح أبي بعضهم إلا السرب بفتح السين والراء أي في بيته ولم يذكر فيه رواية: ولو سلم لهقوله أن يطلق السرب على كل بيت كانقوله هذا حرباً بأن يكون أقوى الأقاويل إلا أن السرب يقال للبيت الذي هو في الأرض. وفي القاموس: السرب الطريق وبالكسر الطريق والبال والقلب والنفس والجماعة، وبالتحريك جحر الوحشي والحفير تحت الأرض انتهى. فيكون المراد من الحديث المبالغة في حصول الأمن ولو في بيت تحت الأرض ضيق كجحر الوحش أو التشبيه به في خفائه وعدم ضياعه "معافى" اسم مفعول من باب المفاعلة أي صحيحاً سالماً من العلل والأسقام "في جسده" أي بدنه ظاهراً وباطناً "عنده قوت يومه" أي كفاية قوته من وجه الحلال "فكأنما حيزت" بصيغة المجهول من الحيازة وهي الجمع والضم "له" الضمير عائد لمن رابط للجملة أي جمعت له "الدنيا" وزاد في المشكاة بحذافيرها. قال القاري أي بتمامها والحذافير الجوانب، وقيل الأعالي واحدها حذفار أو حذفور. والمعنى فكأنما أعطى الدنيا بأسرها انتهى.(7/11)
هذا حديثٌ حَسَنٌ غَرِيبٌ لاَ نَعْرِفُهُ إِلاّ مِنْ حَدِيثِ مَرْوَانَ بنِ مُعَاوِيَةَ. حيزَتْ: جُمِعَتْ.
2450-حدثنا بذلك محمدُ بنُ إِسْمَاعيِلَ، أَخْبَرَنَا الْحُمَيْدِيّ، أَخْبَرَنَا مَرْوَانُ بنُ مُعَاوِيَةَ نَحْوَهُ.
__________
قوله : "هذا حديث حسن غريب" وأخرجه البخاري في الأدب المفرد وابن ماجه.
قوله : "حدثنا محمد بن إسماعيل" هو الإمام البخاري رح "أخبرنا الحميدي" هو عبد الله بن الزبير بن عيسى القرشي المكي أبو بكر ثقة حافظ فقيه أجل أصحاب ابن عيينة من العاشرة. قال الحاكم: كان البخاري إذا وجد الحديث عند الحميدي لا يعدوه إلى غيره كذا في التقريب.(7/12)
22 -باب مَا جَاءَ في الكَفَافِ والصّبْرِ عَلَيْه
2451 أخبرنا سُوَيْدُ بنُ نَصْرِ، أخبرنا عَبْدُ الله بنُ المُبَارَكِ، عَنْ يَحْيَى بنِ أَيّوبَ، عن عُبَيْدٍ اللّهِ بنِ زَحْرٍ، عَنْ عَلِيّ بنِ يَزِيدَ، عَنْ الْقَاسِمِ أَبي عَبْدِ الرحمنِ، عَنْ أَبي أُمَامَةَ، عَنْ النبيّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "إِنّ أَغْبَطَ أَوْلِيَائِي عِنْدِي لَمُؤْمِنٌ خَفِيفُ الْحَاذِ ذُو حَظٍ مِنَ الصّلاَةِ، أَحْسَنَ عِبَادَةَ.
__________
"باب مَا جَاءَ في الكَفَافِ والصّبْرِ عَلَيْه"
قال في النهاية: الكفاف هو الذي لا يفضل عن الشيء ويكون بقدر الحاجة إليه
قوله : "عن يحيى بن أيوب" هو الغافقي "عن عبيد الله بن زحر" بفتح الراء وسكون المهملة الضمري مولاهم الإفربقي صدوق يخطئ من السادسة.
قوله : "إن أغبط أوليائي" أفعل تفضيل بني للمفعول لأن المغبوط به حاله أي أحسنهم حالا وأفضلهم مالا "عندي" أي في اعتقادي "لمؤمن" اللام زائدة.(7/12)
رَبّهِ وَأَطَاعَهُ فِي السّرّ وَكَانَ غَامِضاً فِي النّاسِ لا يُشَارُ إِلَيْهِ بالاصَابِعِ، وَكَانَ رِزْقُهُ كَفَافاً فَصَبرَ عَلَى ذَلِكَ. ثم نَقَرَ بإصْبَعَيْهِ فَقَالَ: عُجّلْتْ مَنِيّتُهُ قَلّتْ بَوَاكِيهِ
__________
في خبر المبتدأ للتأكيد أو هي للابتداء أو المبتدأ محذوف أي لهو مؤمن "خفيف الحاذ" بتخفيف الذال المعجمة أي خفيف الحال الذي يكون قليل المال وخفيف الظهر من العيال. قال الجزري في النهاية: الحاذ والحال واحد وأصل الحاذ طريقة المتن وهو ما يقع عليه اللبد من ظهر الفرس أي خفيف الظهر من العيال انتهى. ومجمل المعنى: أحق أحبائي وأنصاري عندي بأن يغبط ويتمنى حاله مؤمن بهذه الصفة "ذو حظ من الصلاة" أي ومع هذا هو صاحب لذة وراحة من المناجاة مع الله والمراقبة واستغراق في المشاهدة، ومنه قوله صلى الله عليه وسلم: "قرة عيني في الصلاة". "وأرحنا بها يا بلال" قاله القاري "أحسن عبادة ربه" تعميم بعد تخصيص والمراد إجادتها على الإخلاص "وأطاعه في السر" أي كما أطاعه في العلانية فهو من باب الاكتفاء والتخصيص لما فيه من الاعتناء قاله القاري. وجعله الطيبي عطف تفسير على أحسن وكذا المناوي "وكان غامضاً" أي خاملاً خافياً غير مشهور "في الناس" أي فيما بينهم "لا يشار إليه بالأصابع" بيان وتقرير لمعنى الغموض "وكان رزقه كفافاً" أي بقدر الكفاية لا أزيد ولا أنقص "فصبر على ذلك" أي على الرزق الكفاف أو على الخمول والغموض، أو على ما ذكر دلالة على أن ملاك الأمر الصبر وبه يتقوى على الطاعة قال تعالى {وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ} وقال {أُولَئِكَ يُجْزَوْنَ الْغُرْفَةَ بِمَا صَبَرُوا} "ثم نقر بيديه" بفتح النون والقاف وبالراء. ووقع في المشكاة نقد بالدال المهملة بدل الراء، قال في المجمع: ثم نقد بيده بالدال من نقدته بأصبعي واحداً بعد واحد وهو كالنقر بالراء ويروي به أيضاً والمراد ضرب الأنملة على الأنملة أو على الأرض كالمتقلل للشيء أي يقلل عمره وعدد بواكيه ومبلغ تراثه. وقيل هو فعل المتعجب من الشيء. وقيل للتنبيه على أن ما بعده مما يهتم به "عجلت" بصيغة المجهول من التعجيل "منيته" أي موته قال في المجمع: أي يسلم روحه سريعاً لقلة تعلقه بالدنيا وغلبة شوقه إلى الاَخرة. أو أراد أنه قليل مؤن الممات كما كان قليل مؤن الحياة، أو كان قبض روحه سريعاً(7/13)
قَلّ تُرَاثُهُ" . وَبِهَذَا الإِسْنَادِ عَنِ النبيّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "عَرَضَ عَلَيّ رَبّي لِيَجْعَلَ لِي بَطْحَاءَ مَكّةَ ذَهَباً. قلت: لاَ يَا رَبّ، وَلَكِنْ أشْبَعُ يَوْماً وَأَجُوعُ يَوْماً، أَوْ قَالَ ثَلاَثاً، أَوْ نَحْوَ هَذَا، فَإِذَا جُعْتُ تَضَرّعْتُ إِلَيْكَ وَذَكَرْتُكَ، وَإِذَا شَبِعْتُ شَكَرْتُكَ وَحَمِدْتُكَ" قَالَ: هذا حديثٌ حسنٌ.
وفي البابِ عن فَضَالَةَ ابنِ عُبَيْدِ.
__________
"قلت بواكيه" جمع باكية أي امرأة تبكي على الميت "قل تراثه" أي ميراثه وماله المؤخر عنه مما يورث وتراث الرجل ما يخلفه بعد موته من متاع الدنيا وتاءه بدل من الواو. وحديث أبي أمامة هذا أخرجه أيضاً أحمد وابن ماجه.
قوله : "وبهذا الإسناد" أي بالإسناد المذكور المتقدم.
قوله : "عرض علي ربي" أي إلى عرضاً حسياً أو معنوياً وهو الأظهر. والمعنى شاورني وخيرني بين الوسع في الدنيا، واختيار البلغة لزاد العقبي من غير حساب ولا عتاب. قاله القاري "بطحاء مكة" أي أرضها ورمالها "ذهباً" أي يدل حجرها ومدرها. وأصل البطحاء مسيل الماء، وأراد هنا عرصة مكة وصحاريها فإضافته بيانية. قال الطيبي:قوله بطحاء مكة تنازع فيه عرض وليجعل أي عرض على بطحاء مكة ليجعلها لي ذهباً، وقال في اللمعات: وجعلها ذهباً إما يجعل حصاه ذهباً أو ملء مثله بالذهب. والأول أظهر وجاء في بعض الروايات: جعل جبالها ذهباً انتهى "قلت لا" أي لا أريد ولا أختار "ولكن أشبع يوماً" أي أختار أو أريد أن أشبع وقتاً أي فأشكر "وأجوع يوماً" أي فأصبر "أو قال ثلاثاً أو نحو هذا" شك من الراوي "تضرعت إليك" بعرض الافتقار عليك "وذكرتك" أي في نفسي وبلساني "فإذا شبعت شكرتك" على إشباعك وسائر نعمائك "وحمدتك" أي بما ألهمتني من ثنائك.
قوله : "وفي الباب عن فضالة بن عبيد" أخرجه الترمذي في هذا الباب.(7/14)
هذا حديث حسن
والقاسم هو ابنُ عَبْدِ الرحْمنِ وَيُكْنَى أَبَا عَبْدِ الرحمنِ، وَيقالُ أَيضاً يكنيِ أَبا عبد الملك وَهُوَ مَوْلَى عَبْدِ الرحمنِ بنِ خَالِدِ بنِ يَزِيدَ بنِ مُعَاوِيَةَ، وَهُوَ شَامِيّ ثِقَةٌ، وَعَلِيّ بنُ يَزِيدَ ضعيف الْحَدِيثِ وَيُكْنَى أَبا عَبْدِ المَلِكِ.
2452-حدثنا العَبّاسُ بنُ محمد الدّورِيّ، حدثنا عَبْدُ الله بنُ يَزِيدَ المُقْرِيّ، حدثنا سَعِيدُ بنُ أَبِي أَيّوبَ، عَنْ شُرَحْبِيلَ بنِ شَرِيكٍ، عَنْ أَبِي عَبْدِ الرحمن الحُبُلِيّ، عَنْ عَبْدِ الله بنِ عَمْرٍو: أَنّ رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم قَالَ: "قَدْ أَفَلَح مَنْ أَسْلَم وكان رزقه كَفَافَاً وَقَنّعَهُ الله" .
قال: هذا حديثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ.
2453-حدثنا عَبّاسُ بنُ مُحمدٍ الدّورِيّ، أَخْبَرنَا عَبدُ الله بنُ يَزِيدَ
__________
قوله : "هذا حديث حسن" وأخرجه أحمد.
قوله : "وعلي بن يزيد يضعف في الحديث الخ" قال في التقريب: علي بن يزيد ابن أبي زياد الألهاني أبو عبد الملك الدمشقي صاحب القاسم بن عبد الرحمن ضعيف من السادسة.
قوله : "عن شرحبيل بن شريك" المعافري أبي محمد المصري ويقال شرحبيل ابن عمرو بن شريك صدوق من السادسة.
قوله : "قد أفلح" أي فاز وظفر بالمقصود "من أسلم" أي انقاد لربه "ورزق" أي من الحلال "كفافاً" أي ما يكف من الحاجات ويدفع الضرورات "وقنعه الله" أي جعله قانعاً بما آتاه.
قوله : "هذا حديث حسن صحيح" وأخرجه أحمد ومسلم وابن ماجه.(7/15)
المُقْرِيّ، حدثنا حَيْوَةُ بنُ شُرَيحٍ أَبُو هَانِيء الْخَوْلاَنِيّ: أَنّ أَبَا عَلِيٍ عَمْرو بنَ مَالِكِ الْجَنْبِيّ، أَخْبَرَهُ عَنْ فَضَالَةَ بنِ عُبَيْدِ أَنّهُ سَمِعَ رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: "طُوبَى لِمَنْ هُدِيَ لْلاِسْلاَمِ وَكَاَنَ عَيْشُهُ كَفَافاً وَقَنَعَ" قال وَأَبُو هَانِيءِ الْخَوْلاَنِيّ اسْمُهُ حُمَيْدُ بنُ هانئ.
هذا حديثٌ حسن صحيحٌ . وأبو هانيء الخولاني اسمه حميد بن هانيء.
__________
قوله : "إن أبا علي عمرو بن مالك الجنبي" بفتح الجيم وسكون النون بعدها موحدة، الهمداني بصري ثقة من الثالثة.
قوله : "طوبى لمن هدي للإسلام" ببناء هدي للمفعول "وكان عيشه كفافاً" أي لا ينقص عن حاجته ولا يزيد على كفايته فيبطر ويطغي. "وقنع" كمنع أي رضي بالقسم ولم تطمح نفسه لزيادة عليه.
قوله : "هذا حديث صحيح" وأخرجه ابن حبان والحاكم. قال المناوي في شرح الجامع الصغير: قال الحاكم على شرط مسلم وأقروه.(7/16)
باب ما جاء في الفقر
...
23 -باب مَا جَاءَ فِي فَضْلِ الفَقْر
2454-حدثنا مُحمدُ بنُ عَمْرِو بنِ نَبْهَانَ بنِ صَفْوَانَ الثقَفِيّ البَصْرِيّ، أَخْبَرنَا رَوْحُ بنُ أَسْلَمَ، أَخْبَرنَا شَدّادٌ أَبُو طَلْحَةَ الرّاسِبِيّ، عَنْ أَبي الوَازِعِ عَنْ عَبْدِ الله بنِ مُغَفّلٍ قَالَ: "قَالَ رَجُلٌ للنبيّ صلى الله عليه وسلم: يَا رَسُولَ الله وَالله إِنّي لأُحِبّكَ، فَقَالَ لَهُ "انْظُرْ مَا تَقُولُ"، قَالَ وَالله إِنّي لأُحِبّكَ ثَلاَثَ
__________
"باب مَا جَاءَ فِي فَضْلِ الفَقْر"
قوله: "أخبرنا روح" بفتح راء وسكون واو وإهمال حاء "بن أسلم" الباهلي أبو حاتم البصري ضعيف من التاسعة "أخبرنا شداد" بن سعيد "أبو طلحة الراسي" البصري، صدوق يخطئ من الثامنة "عن أبي الوازع" اسمه جابر بن عمرو الراسي صدوق يهم من التاسعة.
قوله : "والله إني لأحبك" أي حباً بليغاً وإلا فكل مؤمن يحبه "فقال له انظر(7/16)
مَرّاتٍ، فقَالَ: "إِنْ كِنْتَ تُحِبّنِي فَأَعِدّ لِلفَقْرِ تِجْفَافاً، فَإِنّ الفَقْرَ أَسْرَعُ إِلَى مَنْ يُحِبّنِي مِنَ السّيْلِ إِلَى مُنْتَهَاهُ" .
2455-حدثنا نَصْرُ بنُ عَلِيٍ، حدثنا أَبي، عَنْ شَدّادٍ أَبي طَلْحَةَ نَحْوَهُ بِمْعَنَاهُ.
__________
ما تقول" أي رمت أمراً عظيماً وخطباً خطيراً فتفكر فيه، فإنك توقع نفسك في خطر. وأي خطر أعظم من أن يستهدفها غرضاً لسهام البلايا والمصائب، فهذا تمهيد لقوله: فأعد للفقر تجفافاً "قال والله إني لأحبك ثلاث مرات" ظرف لقال "إن كنت تحبني" حباً بليغاً كما تزعم "فأعد" أمر مخاطب من الإعداد، أي فهيء "للفقر" أي بالصبر عليه بل بالشكر والميل إليه "تجفافاً" بكسر الفوقية وسكون الجيم: أي درعاً وجنة. ففي المغرب: هو شيء يلبس على الخيل عند الحرب كأنه درع، تفعال من جف لما فيه من الصلابة واليبوسة انتهى. فتاؤه زائدة على ما صرح به في النهاية. وفي القاموس: التجفاف بالكسر آلة للحرب يلبسه الفرس والإنسان ليقيه في الحرب. فمعنى الحديث: إن كنت صادقاً في الدعوى ومحقاً في المعنى فهيء آلة تنفعك حال البلوى، فإن البلاء والولاء متلازمان في الخلا والملا. ومجمله أنه تهيأ للصبر خصوصاً على الفقر لتدفع به عن دينك بقوة يقينك ما ينافيه من الجزع والفزع، وقلة القناعة وعدم الرضا بالقسمة. وكني بالتجفاف عن الصبر لأنه يستر الفقر كما يستر التجفاف البدن عن الضر. قاله القاري: "من السيل" أي إذا انحدر من علو "إلى منتهاه" أي مستقره في سرعة وصوله. والمعنى أنه لابد من وصول الفقر بسرعة إليه، ومن نزول البلايا والرزايا بكثرة عليه، فإن أشد الناس بلاء الأنبياء ثم الأمثل فالأمثل، خصوصاً سيد الأنبياء، فيكون بلاؤه أشد بلائهم، ويكون لأتباعه نصيب على قدر ولائهم.
قوله : "حدثنا نصر بن علي" بن نصر بن علي الجهضمي، ثقة ثبت، طلب للقضاء فامتنع من العاشرة "أخبرنا أبي" أي علي بن نصر بن علي الجهضمي البصري، ثقة من كبار التاسعة.(7/17)
هذا حديث حسن غريب، وأبو الوازع الراسبي اسمه جابر بن عمرو، وهو بصري.
__________
قوله: "هذا حديث حسن غريب" وأخرجه أحمد.(7/18)
باب ما جاء في أن فقراء المهاجرين يدخلون الجنة قبل أغنيائهم
...
24 -باب مَا جَاءَ أَنّ فُقَرَاءَ المُهَاجِرِينَ يَدخُلُونَ الْجَنّةَ قَبْلَ أَغْنِيَائهِم
2456 -حدثنا محمدُ بنُ مُوسَى البَصْرِيّ، أَخْبَرنَا زِيَادُ بنُ عَبْدِ الله، عَنْ الأَعْمَشِ، عَنْ عَطِيّةَ بنِ أَبِي سَعِيدٍ قَالَ: قالَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم: "فُقُرَاءُ المُهَاجِرِينَ يَدْخُلُونَ الْجَنّةَ قَبْلَ أَغْنِيَائِهِمْ بِخَمْسِمَائةِ سنة" . وفي البابِ عَنْ أَبي هُرَيْرَةَ وَعَبْدِ الله بنِ عَمْرٍو وَجَابِرٍ.
هذا حديثٌ حَسَنٌ غريبٌ مِنْ هَذَا الوَجْهِ.
__________
"باب مَا جَاءَ أَنّ فُقَرَاءَ المُهَاجِرِينَ يَدخُلُونَ الْجَنّةَ قَبْلَ أَغْنِيَائهِم"
قوله: "أخبرنا زياد بن عبد الله" بن الطفيل العامر البكائي. أبو محمد الكوفي صدوق ثبت في المغازي، وفي حديثه عن غير ابن إسحاق لين من الثامنة ولم يثبت أن وكيعاً كذبه. وله في البخاري موضع واحد متابعة.
قوله: "فقراء المهاجرين يدخلون الجنة قبل أغنيائهم بخمسمائة سنة" فالفقراء في تلك المدة لهم حسن العيش في العقبى مجازاة لما فاتهم من التنعم في الدنيا كما قال تعالى: {كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئاً بِمَا أَسْلَفْتُمْ فِي الْأَيَّامِ الْخَالِيَةِ} أي الماضية أو الخالية عن المأكل والمشرب صياماً أو وقت المجاعة.
قوله : "وفي الباب عن أبي هريرة وعبد الله بن عمرو وجابر" أما حديث أبي هريرة فأخرجه الترمذي في هذا الباب. وأما حديث عبد الله بن عمرو فأخرجه مسلم في الزهد. وفيه أن فقراء المهاجرين يسبقون الأغنياء يوم القيامة إلى الجنة بأربعين خريفاً. وأما حديث جابر فأخرجه الترمذي في هذا الباب.(7/18)
2457-حدثنا عَبْدُ الأَعْلَى بنُ وَاصِلٍ الْكُوفِيّ، أَخْبَرنَا ثَابِتُ بنُ مُحمّدٍ العَابِدُ الكُوفِيّ، أَخْبَرنَا الْحَارِثُ بنُ النّعْمَانِ الّليْثِيّ عن أَنَسٍ أَنّ رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم قالَ: "الّلهُمّ أَحْيِنِي مِسْكِيناً وَأَمِتْنِي مِسْكِيناً وَاحْشُرْنِي في زُمْرَةِ المَسَاْكِينِ يَوْمَ القِيَامَةِ". فَقَالَتْ عَائِشَةُ: لِمَ يَا رَسُولَ الله؟ قالَ: "إِنّهُمْ يَدْخُلُونَ الْجَنّةَ قَبْلَ أَغْنِيَائِهِمْ بِأَرْبَعِينَ خَرِيفاً،
__________
قوله : "أخبرنا ثابت بن محمد العابد الكوفي" أبو محمد، ويقال أبو إسماعيل صدوق زاهد، يخطئ في أحاديث من التاسعة "أخبرنا الحارث بن النعمان" بن سالم الليثي الكوفي ابن أخت سعيد بن جبير ضعيف من الخامسة.
قوله : "اللهم أحيني مسكيناً" قيل هو من المسكنة وهي الذلة والافتقار، فأراد صلى الله عليه وسلم بذلك إظهار تواضعه، وافتقاره إلى ربه، إرشاداً لأمته إلى استشعار التواضع، والاحتراز عن الكبر والنخوة، وأراد بذلك التنبيه على علو درجات المساكين وقربهم من الله تعالى قاله الطيبي رحمه الله "واحشرني في زمرة المساكين" أي أجمعني في جماعتهم بمعنى أجعلني منهم لكن لم يسأل مسكنة ترجع للقلة بل الإخبات والتواضع والخشوع. قال السهروردي: لو سأل الله أن يحشر المساكين في زمرته لكان لهم الفخر العميم والفضل العظيم، فكيف وقد سأل أن يحشر في زمرتهم؟ "لم يا رسول الله" أي لأي شيء دعوت هذا الدعاء واخترت الحياة والممات والبعث مع المساكين والفقراء دون أكابر الأغنياء "قال إنهم" استئناف في معنى التعليل، أي لأنهم مع قطع النظر عن بقية فضائلهم وحسن أخلاقهم وشمائلهم "بأربعين خريفاً" أي بأربعين سنة، قال الجزري في النهاية: الخريف الزمان المعروف من فصول السنة ما بين الصيف والشتاء، ويريد به أربعين سنة لأن الخريف لا يكون في السنة إلا مرة واحدة، فإذا انقضى أربعون خريفاً فقد مضت أربعون سنة انتهى.
فإن قلت: كيف التوفيق، بين هذا الحديث وبين الحديث السابق، فإنهما بظاهرهما متخالفان.(7/19)
يَا عَائِشَةُ لاَ تَرُدّي المِسْكِينَ وَلَوْ بِشِقّ تَمْرَةٍ، يَا عَائِشَةُ أحِبّي المَسَاكِينَ وَقَرّبيهِمْ فَإِنّ الله يُقَرّبُكِ يَومَ القِيَامَةِ" .
__________
قلت: أوجه التوفيق بينهما أن يقال المراد بكل من العددين إنما هو التكثير لا التحديد، فتارة عّبر به وأخرى بغيره تفنناً ومآلهما واحد أو أخبر أولاً بأربعين كما أوحى إليه ثم أخبر ثانياً بخمس مائة عام زيادة من فضله على الفقراء ببركته صلى الله عليه وسلم والتقدير بأربعين خريفاً إشارة إلى أقل المراتب وبخمسمائة عام إلى أكثرها. ويدل عليه ما رواه الطبراني عن مسلمة بن مخلد ولفظه: سبق المهاجرون الناس بأربعين خريفاً إلى الجنة ثم يكون الزمرة الثانية مائة خريف. فالمعنى أن يكون الزمرة الثالثة مائتين وهلم جرا وكأنهم محصورون في خمس زمر أو الاختلاف باختلاف مراتب أشخاص الفقراء في حال صبرهم ورضاهم وشكرهم، وهو الأظهر المطابق لما في جامع الأصول حيث قال: وجه الجمع بينهما أن الأربعين أراد بها تقدم الفقير الحريص على الغني. وأراد بالخمس مائة تقدم الفقير الزاهد على الغني الراغب، فكان الفقير الحريص على درجتين من خمس وعشرين درجة من الفقير الزاهد وهذه نسبة الأربعين إلى الخمس مائة، ولا تظنن أن التقدير وأمثاله يجري على لسان النبي صلى الله عليه وسلم جزافاً، ولا باتفاق بل لسر أدركه ونسبة أحاط بها علمه، فإنه صلى الله عليه وسلم ما ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى "أحبي المساكين" أي بقلبك "وقربيهم" أي إلى مجلسك حال تحديثك "فإن الله يقربك يوم القيامة" أي بتقريبهم تقريباً إلى الله سبحانه وتعالى. قال القاري في المرقاة: إن لم يكن دليل آخر غير هذا الحديث لكفى حجة واضحة على أن الفقير الصابر خير من الغني الشاكر. وأما حديث: الفقر فخري وبه أفتخر. فباطل لا أصل له على ما صرح به من الحفاظ العسقلاني وغيره. وأما حديث كاد الفقر أن يكون كفراً، فهو ضعيف جداً وعلى تقدير صحته فهو محمول على الفقر القلبي المؤدي إلى الجزع والفزع بحيث يفضي إلى عدم الرضاء بالقضاء، والاعتراض على تقسيم رب الأرض والسماء، ولذا قال صلى الله عليه وسلم: "ليس الغني عن كثرة العرض إنما الغنى غني النفس" انتهى.
قلت: قال الحافظ في التلخيصقوله يستدل على أن الفقير أحسن حالاً(7/20)
هذا حديثٌ غريبٌ.
2458-حدثنا مَحْمُودُ بنُ غَيْلاَنَ، حدثنا قَبِيصَةُ، حدثنا سُفْيَانُ عن مُحمّدِ بنِ عَمْرٍو، عن أَبي سَلَمَةَ، عن أَبي هُرَيْرَةَ قالَ: قالَ رَسُولُ الله
__________
من المسكين بما نقل: الفقر فخري وبه أفتخر. وهذا الحديث سئل عنه الحافظ ابن تيمية فقال: إنه كذب لا يعرف في شيء من كتب المسلمين المروية، وجزم الصغائي بإنه موضوع انتهى.
فإن قلت: ما وجه الجمع بين حديث هذا وبين حديث عائشة الذي فيه استعاذته صلى الله عليه وسلم من الفقر.
قلت: قال الحافظ في التلخيص: إن الذي استعاذ منه وكرهه فقر القلب، والذي اختاره وارتضاه طرح المال. وقال ابن عبد البر: الذي استعاذ منه هو الذي لا يدرك معه القوت والكفاف، ولا يستقر معه في النفس غنى، لأن الغنى عنده صلى الله عليه وسلم غنى النفس وقد قال تعالى: { وَوَجَدَكَ عَائِلاً فَأَغْنَى} ولم يكن غناه أكثر من ادخاره قوت سنة لنفسه وعياله. وكان الغني في محله قلبه ثقة بربه، وكان يستعيذ من فقر منس وغنى مطغ، وفيه دليل على أن الغنى والفقر طرفين مذمومين، وبهذا تجتمع الأخبار في هذا المعنى انتهى.
قوله: "هذا حديث غريب" وأخرجه البيهقي في شعب الإيمان. وقال الحافظ في التلخيص بعد ذكر هذا الحديث رواه الترمذي واستغربه، وإسناده ضعيف. وقال وفي الباب عن أبي سعيد رواه ابن ماجه وفي إسناده ضعف أيضاً، وله طريق أخرى في المستدرك من حديث عطاء عنه وطوله البيهقي ورواه البيهقي من حديث عبادة بن الصامت.
تنبيه : أسرف ابن الجوزي فذكر هذا الحديث في الموضوعات وكأنه أقدم عليه لما رآه مبايناً للحال التي مات عليها النبي صلى الله عليه وسلم لأنه كان مكفياً. قال البيهقي: ووجهه عندي أنه لم يسأل المسكنة التي يرجع معناها إلى القلة، وإنما سأل المسكنة التي يرجع معناها إلى الإخبات والتواضع انتهى.(7/21)
صلى الله عليه وسلم: "يَدْخُلُ الْفُقَرَاءُ الْجَنّةَ قَبْلَ الأَغْنِيَاءِ بِخَمْسِمَائةِ عَامٍ، نِصْفِ يَوْمٍ" .
قالَ: هذا حديثٌ حسنٌ صحيحٌ.
2459-حدثنا العَبّاسُ بنُ مُحَمّدِ الدّورِيّ، أَخْبَرنَا عَبْدُ الله بنُ يَزِيدَ المُقْرِيّ، أَخْبَرنَا سَعِيدُ بنُ أَبي أَيّوبَ عن عَمْرٍو بنِ جَابِرِ الْحَضْرَمِيّ، عن جَابِرِ بنِ عَبْدِ الله أَنّ رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم قالَ: "تدخل فُقَرَاءُ المُسْلِمينَ الْجَنّةَ قَبْلَ أَغْنِيَائِهِمْ بأَرْبَعِينَ خَرِيفاً" .
هذا حديثٌ حسنٌ.
2460-حدثنا أَبُو كُرَيْبٍ، حدثنا المُحَارِبيّ، عن مُحمدِ بنِ عَمْرٍو، عن أَبي سَلَمَةَ، عن أَبي هُرَيْرَةَ قالَ: قالَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم:
__________
قوله : "بخمسمائة عام نصف يوم" بالجر على أنه بدل، أو عطف بيان عن خمسمائة عام، فإن اليوم الأخروي مقدار طوله ألف سنة من سني الدنيا، لقوله تعالى: {وَإِنَّ يَوْماً عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ} فنصفه خمسمائة. وأماقوله تعالى: {فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ} فمخصوص من عموم ما سبق أو محمول على تطويل ذلك اليوم على الكفار كما يطوى حتى يصير كساعة بالنسبة إلى الأبرار كما يدل عليه قوله تعالى: { فَإِذَا نُقِرَ فِي النَّاقُورِ فَذَلِكَ يَوْمَئِذٍ يَوْمٌ عَسِيرٌ عَلَى الْكَافِرِينَ غَيْرُ يَسِير} .
قوله : "هذا حديث حسن صحيح" قال المنذري بعد ذكر هذا الحديث رواه الترمذي وابن حبان في صحيحه. وقال الترمذي حديث حسن صحيح. قال ورواته محتج بهم في الصحيح انتهى.
قوله : "عن عمرو بن جابر الحضرمي" أبي زرعة المصري، ضعيف شيعي، من الرابعة.
قوله : "هذا حديث حسن" وأخرجه أحمد والتحسين للشواهد.(7/22)
"يَدْخُلُ فُقَرَاءِ المُسْلِمِنَ الْجَنّةَ قَبْلَ أَغنِيَائِهِمْ بِنِصْفِ يَوْمٍ، وَهُوَ خَمْسُمَائَةِ عَامٍ" وهذا حديثٌ حسنٌ صحيحٌ
__________
قوله: "وهو خمسمائة عام" فإن يوماً عند ربك كألف سنة مما تعدون.
قوله: "هذا حديث حسن صحيح" تقدم هذا الحديث آنفاً من وجه آخر(7/23)
25 -باب مَا جَاءَ في مَعِيشَةِ النبيّ صلى الله عليه وسلم وأَهْله
2461-حدثنا أَحْمَدُ بنُ مَنِيعٍ، حدثنا عَبّادُ بنُ عَبّادٍ المُهَلّبِيّ، عن مُجَالِدٍ، عن الشّعْبِيّ، عن مَسْرُوقٍ قالَ: دَخَلْتُ عَلَى عَائِشَةَ فَدَعَتْ لِي بِطَعَامٍ وَقَالَتْ: "مَا أَشْبَعُ مِنْ طَعَامٍ فَأَشَاءُ أَنْ أَبْكِي إِلاّ بَكَيْتُ. قالَ: قُلْتُ لِمَ؟ قَالَتْ: أَذْكُرُ الْحَالَ الّتِي فَارَقَ عَلَيْهَا رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم الدّنْيَا: وَالله مَا شَبِعَ مِنْ خُبْزٍ وَلَحْمٍ مَرّتَيْنِ في يَوْمٍ".
هذا حديثٌ حسنٌ.
2462-حدثنا مَحمودُ بنُ غَيْلاَنَ، أخبرنا أَبُو دَاوُدَ، أَنْبأَنَا شُعْبَةُ عن أَبي إِسْحَاقَ، قالَ سَمِعْتُ عَبْدَ الرحمنِ بنَ يَزِيدَ يُحَدّثُ، عن الأَسْوَدِ بن يزيد، عن عَائِشَةَ قَالَتْ: "مَا شَبِعَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم منْ خُبْزِ شَعِير
__________
"باب مَا جَاءَ في مَعِيشَةِ النبيّ صلى الله عليه وسلم وأَهْله"
قوله: "ما أشبع من طعام" بصيغة المتكلم المعلوم "فأشاء أن أبكي" أي أريد البكاء والفاء للتعقيب فإن البكاء لازم للشبع الذي يعقبه المشيئة وليست المشيئة لازمة للشبع: ولذا قالت فأشاء لم يقتصر على ما أشبع من طعام إلا بكيت. وقيل إنها للسببية "والله ما شبع من خبز ولحم مرتين في يوم" وفي رواية لمسلم: ما شبع رسول الله صلى الله عليه وسلم من خبز وزيت في يوم واحد مرتين.
قوله : "هذا حديث حسن" وأخرجه مسلم.
قوله : "ما شبع رسول الله صلى الله عليه وسلم" وفي رواية الشيخين:(7/23)
يَوْمَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ حَتّى قُبِضَ".
وَفي البَابِ، عن أَبي هُرَيْرَةَ. هذا حديثٌ حسنٌ صحيحٌ،
2463-حدثنا أَبُو كُرَيْبٍ مُحمّدُ بنُ العَلاءِ، حدثنا المُحَارِبِيّ، حدثنا يَزِيدَ بنِ كَيْسَانَ، عن أَبي حَازِمٍ، عن أَبي هُرَيْرَةَ قالَ: "مَا شَبِعَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم وَأَهْلُهُ ثَلاَثاً تِبَاعاً مِنْ خُبْزِ البُرّ حَتّى فَارَقَ الدّنْيَا". هذا حديثٌ حسنٌ صحيحٌ.
2464-حدثنا عَبّاسُ بنُ مُحمدِ الدّورِيّ، أَخْبَرنَا يَحْيَى بنُ أَبي بُكَيْرٍ، أَخْبَرنَا جَرير بنُ عُثْمَانَ، عن سُلَيْمِ بنِ عَامِرٍ، قالَ: سَمِعْتُ أَبَا أُمَامَةَ
__________
ما شبع آل محمد "من خبز شعير" فمن البر بالأولى "حتى" أي استمر عدم الشبع على الوجه المذكور حتى "قبض" صلى الله عليه وسلم. قال القاري: وفيه رد على من قال صار صلى الله عليه وسلم في آخر عمره غنياً، نعم وقع مال كثير في يده لكنه ما أمسكه بل صرفه في مرضاة ربه، وكان دائماً غني القلب بغنى الرب انتهى.
قوله : "وفي الباب عن أبي هريرة" أخرجه الترمذي في هذا الباب.
قوله : "هذا حديث حسن صحيح" وأخرجه الشيخان.
قوله : "ثلاثاً" أي ثلاثة أيام بلياليها "تباعاً" بكسر فوقية وخفة موحدة أي متوالية. قال الحافظ: والذي يظهر أن سبب عدم شبعهم غالباً كان بسبب قلة الشيء عندهم على أنهم كانوا قد يجدون ولكن يؤثرون على أنفسهم انتهى.
قوله : "هذا حديث حسن صحيح" وأخرجه الشيخان.
قوله : "أخبرنا يحيى بن أبي بكير" اسمه نسر الكرماني، كوفي الأصل، نزل ببغداد، ثقة من التاسعة "أخبرنا حريز" بفتح أوله وكسر الراء وآخره زاي "بن عثمان" الرحبي الحمصي، ثقة ثبت، رمي بالنصب من الخامسة "عن سليم بن عامر" هو الكلاعي الخبائري الحمصي.(7/24)
يَقُولُ: مَا كَانَ يَفْضُلُ عن أَهْلِ بَيْتِ رَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم خُبْزُ الشّعِيرِ".
هذا حديثٌ حسنٌ صحيحٌ غريبٌ منْ هذَا الْوَجْهِ، ويحْيَى بن أَبي بكير هذا كوفي، وابو بكير، والد يحيى روى له سفيان الثوري، ويحيى بن عبد الله بن بكير مصري صاحب الليث.
2465-حدثنا عَبْدُ الله بنُ مُعَاوِيَةَ الْجُمَحِيّ، أَخْبَرنَا ثَابِتُ بنُ يزِيدَ، عن بِلاَلِ بنِ خَبّابٍ، عن عِكْرِمَةَ، عن ابنِ عَبّاسٍ قالَ: كَانَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم، يبَيتُ الّليَالِيَ المُتَتَابِعَةَ طَاوِياً وَأَهْلهُ لاَ يَجِدُونَ عَشَاءً، وَكَانَ أَكْثَرُ خُبْزِهُمْ خُبْزَ الشّعِيرِ".
هذا حديثٌ حسنٌ صحيحٌ.
2466-حدثنا أبُو عَمّارٍ، حدثنا وَكِيعٌ، عن الأَعْمَشِ، عن عِمَارَةَ بنِ الْقَعْقَاعِ عن أبي زُرْعَةَ، عن أبي هُرَيْرَةَ قالَ: قالَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: "الّلهم اجْعَلْ رِزْقَ آلِ مُحَمدٍ قُوتاً" .
__________
قوله : "ما كان يفضل" قال في القاموس: الفضل ضد النقص، وقد فضل كنصر وعلم، وأما فضل كعلم يفضل كينصر فمركبة منهما انتهى. والمعنى: لم يتيسر لهم من دقيق الشعير ما إذا خبزوه يفضل عنهم.
قوله : "هذا حديث حسن صحيح غريب" وأخرجه أيضاً في الشمائل.
قوله : "أخبرنا ثابت بن يزيد" الأحوال أبو زيد البصري وثقة ابن معين وأبو حاتم "عن هلال بن خباب" بمعجمة وموحدتين العبدي مولاهم أبو العلاء البصري نزيل المدائن، صدوق تغير بآخره من الخامسة.
قوله : "يبيت الليالي المتتابعة طاوياً" أي جائعاً. قال في النهاية: طوى من الجوع يطوي طوى فهو طاوٍ أي خالي البطن جائع لم يأكل انتهى "لا يجدون عشاء" بالفتح الطعام الذي يؤكل عند العشاء بالكسر وهو أول الظلام أو من المغرب إلى العتمة، أو من زوال الشمس إلى طلوع الفجر "وكان أكثر خبزهم" أي خبز النبي صلى الله عليه وسلم وأهله "خبز الشعير" فكانوا يأكلونه من غير نخيل.
قوله : "هذا حديث حسن صحيح" وأخرجه أحمد وابن ماجه.
قوله : "اللهم اجعل رزق آل محمد" أي أهل بيته "قوتاً" أي بقدر(7/25)
هذا حديثٌ حسنٌ صحيحٌ.
2467-حدثنا قُتَيْبَةُ، حدثنا جَعْفَرُ بنُ سُلَيْمَانَ، عن ثَابِتٍ، عن أَنَسٍ قَالَ: "كَانَ النبيّ صلى الله عليه وسلم لا يَدّخِرُ شَيْئاً لِغَدٍ".
هذا حديثٌ غَريبٌ. وَقَدْ رُوِيَ هَذَا الحديث، عن جَعْفَرِ بنِ سُلَيْمَانَ عن ثَابِت، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم مُرْسَلاً.
__________
ما يمسك الرمق من المطعم كذا في النهاية. وقال القرطبي: أي اكفهم من القوت بما لا يرهقهم إلى ذل المسألة، ولا يكون فيه فضول يبعث على الترفه والتبسط في الدنيا. قال ومعنى الحديث أنه طلب الكفاف، فإن القوت ما يقوت البدن ويكف عن الحاجة، وفي هذه الحالة سلامة من حالات الغنى والفقر جميعاً انتهى. وقال ابن بطال: فيه دليل على فضل الكفاف وأخذ البلغة من الدنيا والزهد فيما فوق ذلك رغبة في توفير نعيم الاَخرة، وايثاراً لما يبقى على ما يفنى، فينبغي أن تقتدي به أمته في ذلك انتهى.
قوله : "هذا حديث حسن صحيح" وأخرجه أحمد والشيخان والنسائي وابن ماجه.
قوله : "كان النبي صلى الله عليه وسلم لا يدخر شيئاً" لسماحة نفسه ومزبد ثقته بربه "لغد" أي ملكاً بل تمليكاً، فلا ينافي أنه أدخر قوت سنة لعياله، فإنه كان خازناً قاسماً، فلما وقع المال بيده قسم لهم كما قسم لغيرهم فإن لهم حقاً في الفيء. وقال ابن دقيق العيد: يحمل حديث لا يدخر شيئاً لغد، على الادخار لنفسه، وحديث: ويحبس لأهله قوت سنتهم على الادخار لغيره ولو كان له في ذلك مشاركة لكن المعنى أنهم المقصد بالادخار دونه حتى لو لم يوجدوا لم يدخر انتهى.
قوله : "هذا حديث غريب" قال المناوي في شرح الجامع الصغير: إسناده جيد.
قوله : "وقد روى هذا غير بن جعفر سليمان عن ثابت من النبي صلى الله عليه وسلم" . وفي بعض النسخ: وقد روى هذا عن جعفر بن سليمان الخ بلفظ عن مكان غير.(7/26)
2468-حدثنا عبدُ الله بن عَبْدِ الرّحْمَنِ، أَخْبَرنَا أَبُو مَعْمَرٍ عَبْدُ الله بنُ عَمْرٍو، أَخْبَرنَا عَبْدُ الوَارِثِ، عن سَعِيدِ بنِ أَبي عَروبَةَ، عن قَتَادَةَ، عن أَنَسِ قالَ: "مَا أَكَلَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم عَلَى خِوَانِ وَلاَ أَكَلَ خُبْزاً مُرَقّقاً حَتّى مَاتَ". قالَ: هذا حديثٌ حسنٌ صحيحٌ غَرِيبٌ مِنْ حَدِيثِ سَعِيدِ بنِ أَبي عَرُوبَةٍ.
2469-حدثنا عَبْدُ الله بنُ عَبْدِ الرحمنِ، أخبرنا عُبَيْدُ الله بنُ عَبْدِ المَجِيدِ الْحَنَفِيّ، أخبرنا عَبْدُ الرحمنِ بنُ عَبْدِ الله بنِ دينَارٍ، أخبرنا
__________
قوله : "أخبرنا أبو معمر عبد الله بن عمرو" قال في التقريب: عبد الله بن عمرو بن أبي الحجاج ميسرة التميمي أبو معمر المقعد المنقري، ثقة ثبت، رمى بالقدر من العاشرة انتهى.
قوله : "ما أكل رسول الله صلى الله عليه وسلم" أي طعاماً "على خوان" قال في المجمع: الخوان بضم خاء وكسرها المائدة المعدة، ويقال الأخوان وجمعه أخوية وخون وهو معرب، والأكل عليه من دأب المترفين لئلا يفتقر إلى التطاطؤ والانحناء انتهى. وقد تقدم تفسير الخوان مفصلاً في باب على ما كان يأكل النبي صلى الله عليه وسلم من أبواب الأطعمة "ولا أكل خبزاً مرققاً" . قال عياض:قوله مرققاً أي مليناً محسناً كخبز الحواري وشبهه، والترقيق التليين ولم يكن عندهم مناخل. وقد يكون المرقق الرقيق الموسع انتهى. قال الحافظ: وهذا هو المتعارف. وبه جزم ابن الأثير قال: الرقاق الرقيق مثل طوال وطويل وهو الرغيف الواسع الرقيق. وأغرب ابن التين فقال: هو السميد وما يصنع منه من كعك وغيره. وقال ابن الجوزي: هو الخفيف كأنه مأخوذ من الرقاق وهي الخشبة التي يرقق بها انتهى.
قوله : "هذا حديث حسن غريب" وأخرجه البخاري.
قوله : "أخبرنا عبيد الله بن عبد المجيد الحنفي" أبو علي البصري، صدوق لم يثبت أن يحيى بن معين ضعفه من التاسعة "أحبرنا عبد الرحمن هو ابن عبد الله بن(7/27)
أَبُو حَازِمٍ، عن سَهْلِ بنِ سَعْدٍ أَنّهُ قِيلَ لَهُ: أَكَلَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم النّقِيّ يَعْنِي الْحُوّارَى؟ فَقَالَ سَهْلُ: ما رَأَى رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم النّقِيّ حَتّى لَقِيَ الله. فَقِيلَ لَهُ: هَلْ كَانَتْ لَكُمْ مَنَاخِلٌ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم؟ قالَ: مَا كَانَتْ لَنَا مَنَاخِلٌ. قِيْلَ: فكَيْفَ كُنْتُمْ تَصْنَعُونَ بالشّعِيرِ؟ قالَ: كُنّا نَنْفُخُهُ فَيَطِيرُ مِنْهُ مَا طَارَثُمّ نُثَرّيهِ
__________
دينار" مولى ابن عمر صدوق يخطئ من السابعة.
قوله : "أخبرنا أبو حازم عن سهل بن سعد أنه قيل له: أكل رسول الله صلى الله عليه وسلم النقي" وفي رواية البخاري عن أبي حازم قال: سألت سهل ابن سعد فقلت: هل أكل رسول الله صلى الله عليه وسلم الخ؟ والنقي: بفتح النون وكسر القاف وتشديد الياء "يعني الحوارى" بضم الحاء وتشديد الواو وفتح الراء وهو الذي نخل مرة بعد مرة حتى يصير نظيفاً أبيض "ما رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم النقي حتى لقي الله" أي ما رآه فضلاً عن أكله، ففيه مبالغة لا تخفى. وفي رواية للبخاري: ما رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم النقي من حين ابتعثه الله حتى قبضه الله. قال الحافظ: أظن أن سهلاً احترز عما قبل البعثة لكونه صلى الله عليه وسلم كان سافر في تلك المدة إلى الشام تاجراً، وكانت الشام إذ ذاك مع الروم والخبز النقي عندهم كثير، وكذا المناخل وغيرها من آلات الترفه، فلا ريب أنه رأى ذلك عندهم فأما بعد البعثة فلم يكن إلا بمكة والطائف والمدينة، ووصل إلى تبوك وهي من أطراف الشام لكن لم يفتحها ولا طالت إقامته بها انتهى "هل كانت لكم مناخل" جمع منخل، بضم الميم وسكون النون وضم الخاء ويفتح، وهو الغربال "قال ما كانت لنا مناخل" وفي رواية للبخاري: قال ما رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم منخلاً من حين ابتعثه الله حتى قبض الله "قيل: كيف كنتم تصنعون بالشعير" وفي رواية للبخاري: قلت: كيف كنتم تأكلون الشعير غير منخول "قال: كنا ننفخه" بضم الفاء أي نطيره بعد الطحن إلى الهواء بأيدينا أو بأفواهنا "فيطير منه ما طار" أي يذهب منه ما ذهب من النخالة وما فيه خفة "ثم نثريه"(7/28)
فَنَعْجِنُهُ.
هذا حديثٌ حسنٌ صحيحٌ.
وقد رَوَاهُ مَالِكُ بنُ أَنَسِ، عن أَبي حَازِمٍ.
__________
بمثلثة وراء ثقيله: أي نبله بالماء من ثرى التراب تثرية أي رش عليه "فنعجنه" . قال في القاموس: عجنه فهو يعجنه معجون وعجين، اعتمد عليه بجمع كفه يغمزه كاعتجنه انتهى.
قوله: "هذا حديث حسن صحيح" وأخرجه البخاري والنسائي.
" تنبيه " قال الطبري: استشكل بعض الناس كون النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه كانوا يطوون الأيام جوعاً مع ما ثبت أنه كان يرفع لأهله قوت سنة، وأنه قسم بين أربعة أنفس ألف بعير مما أفاء الله عليه، وأنه ساق في عمرته مائة بدنة فنحرها وأطعمها المساكين، وأنه أمر لأعرابي بقطيع من الغنم، وغير ذلك مع من كان معه من أصحاب الأموال كأبي بكر وعمر وعثمان وطلحة وغيرهم، مع بذلهم أنفسهم وأموالهم بين يديه. وقد أمر بالصدقة فجاء أبو بكر بجميع ماله وعمر بنصفه، وحث على تجهيز جيش العسرة فجهزهم عثمان بألف بعير إلى غير ذلك.
والجواب : أن ذلك كان منهم في حالة دون حالة، لا لعوذ وضيق، بل تارة الإيثار وتارة لكراهة الشبع، ولكثرة الأكل. ذكره الحافظ في الفتح ثم قال وما نفاه مطلقاً فيه نظر لما تقدم من الأحاديث آنفاً وقد أخرج ابن حبان في صحيحه عن عائشة: من حدثكم أنا كنا نشبع من التمر فقد كذبكم، فلما افتتحت قريظة أصبنا شيئاً من التمر والودك. وتقدم في غزوة خيبر من رواية عكرمة عن عائشة لما فتحت خيبر قلنا الاَن نشبع من التمر. وتقدم في كتاب الأطعمة حديث منصور بن عبد الرحمن عن أمه صفية بنت شيبة عن عائشة: توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم حين شبعنا من التمر. وفي حديث ابن عمر: لما فتحت خيبر شبعنا من التمر. والحق أن الكثير منهم كانوا في حال ضيق قبل الهجرة حيث كانوا بمكة ثم لما هاجروا إلى المدينة كان أكثرهم كذلك فواساهم الأنصار بالمنازل والمنائح. فلما فتحت لهم النضير وما بعدها ردوا عليهم منائحهم كما تقدم ذلك واضحاً في كتاب الهبة. وقريب من ذلك قوله صلى الله عليه وسلم: "لقد أخفت في الله(7/29)
.....................................................................................................
__________
وما يخاف أحد، ولقد أوذيت في الله وما يؤذي أحد، ولقد أتت علي ثلاثون من يوم وليلة مالي ولبلال طعام يأكله أحد إلا شيء يواريه إبط بلال" . أخرجه الترمذي وصححه. وكذا أخرجه ابن حبان بمعناه. نعم كان صلى الله عليه وسلم يختار ذلك مع إمكان حصول التوسع والتبسط في الدنيا له. كما أخرج الترمذي من حديث أبي أمامة: "عرض على ربي ليجعل لي بطحاء مكة ذهباً فقلت لا يا رب ولكن أشبع يوماً وأجوع يوماً، فإذا جعت تضرعت إليك، وإذا شبعت شكرتك" انتهى.(7/30)
26-باب مَا جَاءَ في مَعِيشَةِ أَصْحَابِ النّبيّ صلى الله عليه وسلم
2470-حدثنا عمرو بنُ إِسْمَاعِيلَ بنِ مُجَالِدِ بنِ سَعِيدٍ، أَخْبَرنَا أَبي، عن بَيَانٍ، عن قَيْسٍ بن أَبي حازم، قالَ: سَمِعْتُ سَعْدَ بنَ أَبي وَقَاصٍ يَقُولُ: إنّي لأَوّلُ رجُلٍ أَهْرَاقَ دَماً في سَبِيلِ الله، وَإِنّي لأَوّلُ رَجُلٍ رَمَى بِسَهْمٍ في سَبِيلِ الله، وَلَقَدْ رَأَيْتُنِي أَغْزُو في العِصَابَةِ مِنْ أَصْحَابِ مُحمّدٍ صلى الله عليه وسلم مَا نَأْكُلُ
__________
"باب مَا جَاءَ في مَعِيشَةِ أَصْحَابِ النّبيّ صلى الله عليه وسلم"
قوله: "حدثنا عمر بن إسماعيل بن مجالد بن سعيد" الهمداني الكوفي نزيل بغداد متروك من صغار العاشرة "أخبرنا أبي" أي إسماعيل بن مجالد بن سعيد الهمداني أبو عمرو الكوفي نزيل بغداد، صدوق يخطئ من الثامنة "عن بيان" هو ابن بشر "عن قيس" هو ابن أبي حازم.
قوله : "إني لأول رجل أهراق دماً" أي أراقه. قال في المجمع أبدل الهمزة من الهاء ثم جمع بينهما "وإني لأول رجل رمى بسهم في سبيل الله" قال الحافظ: وفي رواية ابن سعد في الطبقات من وجه آخر عن سعد أن ذلك كان في السرية التي خرج فيها مع عبيدة بن الحارث في ستين راكباً وهي أول السرايا بعد الهجرة "أغزو في العصابة" بكسر العين: هم الجماعة من الناس من العشرة إلى الأربعين ولا(7/30)
إِلاّ وَرَقَ الشّجَرِ وَالْحُبْلَةَ، حَتّى إِنّ أَحَدَنَا لَيَضَعُ كَمَا تَضَعُ الشّاةُ وَالبَعِيرُ وَأَصْبَحَتْ بَنُو أَسَدِ يُعَزّرُوني في الدّينِ، لَقَدْ خِبْتُ إِذَنْ وَضَلّ عَمَلِي".
__________
واحد لها من لفظها "ما نأكل إلا ورق الشجر والحبلة" بضم المهملة والموحدة وبسكون الموحدة أيضاً. قال في النهاية: الحبلة ثمر السمر يشبه اللوبياء، وقيل هو ثمر العضاه "حتى إن أحدنا ليضع كما تضع الشاة والبعير" أراد أن نجوهم يخرج بعراً ليبسه من أكلهم ورق الشجر وعدم الغذاء المألوف "وأصبحت بنو أسد" أي ابن خزيمة بن مدركة بن إلياس بن مضر. قال الحافظ: وبنو أسد كانوا فيمن ارتد بعد النبي صلى الله عليه وسلم وتبعوا طليحة بن خويلد الأسدي لما ادعى النبوة ثم قاتلهم خالد بن الوليد في عهد أبي بكر وكسرهم ورجع بقيتهم إلى الإسلام وتاب طليحة وحسن إسلامه وسكن معظمهم الكوفة بعد ذلك ثم كانوا ممن شكا سعد بن أبي وقاص وهو أمير الكوفة إلى عمر حتى عزله. وقالوا في جملة ما شكوه إنه لا يحسن الصلاة انتهى "يعزروني في الدين" وفي رواية البخاري: تعزرني على الإسلام. قال الحافظ: أي تؤدبني والمعنى تعلمني الصلاة أو تعيرني بأني لا أحسنها. قال أبو عبيد الهروي أي توقفني، والتعزير التوقيف على الأحكام والفرائض. وقال الطبري: معناه تقومني وتعلمني ومنه تعزير السلطان وهو التقويم بالتأديب. والمعنى أن سعداً أنكر أهلية بني أسد، لتعليمه الأحكام مع سابقيته وقدم صحبته. وقال الحربي: معنى تعزرني تلومني وتعتبني. وقيل توبخني على التقصير "لقد خبت إذن" من الخيبة أي مع سابقتي في الإسلام إذا لم أحسن الصلاة وأفتقر إلى تعليمهم كنت خاسراً "وضل عملي" أي فيما مضى من صلاتي معه صلى الله عليه وسلم. قال ابن الجوزي: إن قيل كيف ساع لسعد أن يمدح نفسه، ومن شأن المؤمن ترك ذلك لثبوت النهي عنه؟ فالجواب أن ذلك ساغ له لما عيره الجهال بأنه لا يحسن الصلاة فاضطر إلى ذكر فضله، والمدحة إذا خلت من البغي والاستطالة وكان مقصود قائلها إظهار الحق وشكر نعمة الله لم يكره، كما لو قال القائل: إني لحافظ لكتاب الله عالم بتفسير وبالفقه في الدين، قاصداً إظهار الشكر أو تعريف ما عنده ليستفاد ولو لم يقل ذلك لم يعلم حاله ولهذا. قال يوسف(7/31)
هذا حديثٌ حسنٌ صحيحٌ غريبٌ مِنْ حَدِيثِ بَيَانٍ.
2471-حدثنا مُحمّدُ بنُ بَشّارٍ، حدثنا يَحْيَى بنُ سَعِيدٍ، حدثنا إِسْمَاعِيلُ بنُ خَالِدٍ، حدثنا قَيْسٌ قالَ: سَمِعْتُ سَعْدَ بنَ مَالِكٍ يَقُولُ: إِنّي أَوّلُ رَجُلٍ مِنَ الْعَرَبِ رَمَى بِسَهْمٍ في سَبِيلِ الله، وَلَقَدْ رَأَيْتُنَا نَغْزُو مَعَ رَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم وَمَا لَنَا طَعَامٌ إِلاّ الْحُبْلَةَ وَهَذَا السّمرَ، حَتّى إِنّ أَحَدَنَا ليَضَعُ كَمَا تَضَعُ الشّاةُ، ثُمّ أَصْبَحَتْ بَنُو أَسَدٍ يُعَزرُنِي في الدّينِ لَقَدْ خِبْتُ إِذَنْ وَضَلَ عَمَلي".
هذا حديثٌ حسنٌ صحيحٌ. وفي البابِ عَنْ عُتْبَةَ بنِ غَزْوَانَ.
__________
عليه السلام: {إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ} وقال علي: سلوني عن كتاب الله: وقال ابن مسعود: لو أعلم أحداً أعلم بكتاب الله مني لأوتيته. وساق في ذلك أخباراً وآثاراً عن الصحابة والتابعين تؤيد ذلك.
قوله : "هذا حديث حسن صحيح الخ" وأخرجه البخاري في المناقب، وفي الأطعمة وفي الرقاق، ومسلم في الزهد، والنسائي في المناقب، وفي الرقايق وابن ماجه في الفضائل.
اعلم أن الترمذي قد صحح هذا الحديث وفي سنده عمر بن إسماعيل بن مجالد وهو متروك فالظاهر أن تصحيحه له لمجيئه من طرق أخرى صحيحة، ويحتمل أن يكون هو عنده صالحاً للاحتجاج والله تعالى أعلم.
قوله : "ومالنا طعام إلا الحبلة وهذا السمر" بفتح المهملة وضم الميم، قال في النهاية: هو ضرب من شجر الطلح الواحدة سمرة.
قوله : "هذا حديث حسن صحيح" تقدم تخريجه آنفاً.
قوله : "وفي الباب عن عتبة بن غزوان" أخرجه مسلم وابن ماجه.(7/32)
2472- حدّثنا قُتَيْبَةُ، حدثنا حَمّادُ بنُ زَيْدٍ، عن أَيّوبَ، عن مُحمّدِ بنِ سِيرِينَ قَالَ: كُنّا عِنْدَ أَبي هُرَيْرَةَ وَعَلَيْهِ ثَوْبَانِ مُمَشّقَانِ مِنْ كَتّانِ فَتَمَخَطَ في أَحَدِهِمَا ثُمّ قَالَ بَخْ بَخْ يَتَمَخَطُ أَبُو هُرَيْرَةَ في الكِتّانِ لَقَدْ، رَأَيْتُنِي وَإِنّي لأَخِرّ فِيمَا بَيْنَ مِنْبَرِ رَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم وَحُجْرَةِ عَائِشَةَ مِنَ الْجُوعِ مَغْشِياً عَلَيّ فَيَجِيّ الْجَائِي فَيَضَعُ رِجْلَهُ عَلَى عُنُقِي يُرَى أَنّ بيَ الجُنُونَ وَمَا بي جُنُونٌ وَمَا هُوَ إِلاّ الْجُوعُ".
هذا حديثٌ حسنٌ صحيحٌ غريبٌ من هذا الوجه.
2473-حدّثنا العَبّاسُ بنُ محمدٍ الدوري، حدثنا عَبْدُ الله بن يَزِيدَ المُقْرِي، أَخْبَرنَا حَيْوَةُ بنُ شُرَيْحٍ، أخبرني أَبُو هَانيءٍ الْخَوْلاَنِيّ أَنّ أَبَا عَلِيّ عَمْرَو بنَ مَالِكٍ الْجَنْبِيّ، اخبره عن فَضَالَةَ بنِ عُبَيْدٍ أَنّ رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم كَانَ إِذَا صَلّى بالنّاسِ يَخِرّ رِجَالٌ مِنْ قَامَتِهِمْ في الصّلاَةِ مِنَ الْخَصَاصَةِ وَهُمْ أَصْحَابُ الصّفّةِ حَتّى يَقُولَ الاّعْرَابُ هَؤُلاَءِ مَجَانِينُ أَوْ مَجَانُونُ
__________
قوله : "وعليه ثوبان ممشقان" أي مصبوغان بالشق وهو بكسر الميم الغرة "من كتان" بفتح الكاف وتشديد الفوقية. قال في القاموس: الكتان معروف ثيابه معتدلة في الحر والبرد واليبوسة ولا يلزق بالبدن ويقل قمله انتهى. "فمخط في أحدها" أي انتثر فيه "ثم قال بخ بخ" كلمة تقال عند الرضاء والإعجاب بالشيء أو الفخر والمدح "وأني لأخر" أي لأسقط "يرى" بضم الياء أي يظن.
قوله : "هذا حديث حسن صحيح غريب" وأخرجه البخاري.
قوله : "يخر رجال من قامتهم في الصلاة" أي قيامهم فيها قال في القاموس: قام قوماً وقومة وقياماً وقامة انتصب "من الخصاصة" بالفتح، أي الجوع والضعف، وأصلها الفقر والحاجة "وهم أصحاب الصفة" بضم الصاد وتشديد الفاء هم زهاد من الصحابة فقراء غرباء وكانوا سبعين ويقلون حيناً ويكثرون حيناً يسكنون صفة المسجد لا مسكن لهم ولا مال ولا ولد، وكانوا متوكلين ينتظرون(7/33)
فَإِذَا صَلّى رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم انْصَرَفَ إِلَيْهِمْ، فَقَالَ: "لَوْ تَعْلَمُونَ مَالَكُمْ عِنْدَ الله لأَحْبَبْتُمْ أَنْ تَزْدَادُوا فاقَةً وَحَاجَةً" . قالَ فَضَالَةُ: وَأَنَا يَوْمَئِذٍ مَعَ رَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم.
هذا حديثٌ حسن صحيحٌ.
2474-حدّثنا مُحمدُ بنُ إِسْمَاعِيلَ، حدثنا آدَمُ بنُ أبي إيَاسٍ، حدثنا شَيْبَانُ أبُو مُعَاوِيَةَ، أَخْبَرنَا عَبْدُ المَلِكِ بنُ عُمَيْرٍ، عن أَبي سَلَمَةَ بنِ عَبْدِ الرحمنِ، عن أَبي هُرَيْرَةَ قَالَ: خَرَجَ النبيّ صلى الله عليه وسلم في سَاعَةٍ لاَ يَخْرِجُ فِيهَا وَلاَ يَلْقَاهُ فِيهَا أَحَدٌ، فَأَتَاهُ أَبُو بَكْرٍ فَقَالَ "مَا جَاءَ بِكَ يَا أَبَا بكْرٍ"؟ فَقَالَ: خَرَجْتُ أَلْقَى رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم وَأَنْظُرُ فِي وَجْهِهِ وَالتّسْلِيمَ عَلَيْهِ، فَلَمْ يَلْبَثْ أَنْ جَاءَ عُمَرُ، فَقَالَ: "مَا جَاءَ بِكَ يَا عُمَرُ"؟ قَالَ: "الْجُوعُ يَا رَسُولَ الله"، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "وَأَنَا قَدْ وَجَدْتُ بَعْضَ ذَلِكَ"، فَانْطَلَقُوا إِلَى مَنْزِلِ أَبي
__________
من يتصدق عليهم بشيء يأكلونه ويلبسونه. "هؤلاء مجانين أو مجانون" الشك من الراوي، والأول جمع تكسير لمجنون، والثاني شاذ كقراءة تتلو الشياطون، كذا في المجمع.
قوله : "هذا حديث حسن صحيح" وأخرجه ابن حبان في صحيحه.
قوله : "حدثنا محمد بن إسماعيل" هو الإمام البخاري "أخبرنا آدم بن أبي إياس" عبد الرحمن العسقلاني أصله خراساني، يكنى أبا الحسن، نشأ ببغداد، ثقة عابد من التاسعة.
قوله : "خرجت ألقى رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنظر في وجهه والتسليم عليه" بالنصب على أنه مفعول فعل محذوف أي أسلم التسليم أو أريه التسليم "فلم يلبث أن جاء عمر فقال ما جاء بك يا عمر؟ قال الجوع يا رسول الله" وفي رواية مسلم: خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم أو ليلة فإذا هو بأبي بكر وعمر فقال: "ما أخرجكما من بيوتكما هذه الساعة؟ قال الجوع يا رسول الله "قال" أي رسول(7/34)
الْهَيْثَمِ بنِ التّيّهَانِ الأَنْصَارِيّ، وَكَانَ رَجُلاً كَثِيرَ النّخْلِ وَالشّاءِ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ خَدَمٌ فَلَمْ يَجِدُوهُ، فَقَالُوا لاِمْرَأَتِهِ: "أَيْنَ صَاحِبُكِ؟" فَقَالَتِ: انْطَلَقَ يَسْتَعْذِبُ لَنَا الْمَاءَ، فَلَمْ يَلْبَثُوا أَنْ جَاءَ أَبُو الهيْثَمِ بِقِرْبَةِ يَزْعَبُهَا فَوَضَعَهَا، ثُمّ جَاءَ يَلْتَزِمُ النبيّ صلى الله عليه وسلم وَيُفْدّيِهِ بِأَبِيِهِ وَأُمّهِ، ثُمّ انْطَلَقَ بِهِمْ إِلَى
__________
الله صلى الله عليه وسلم "وأنا قد وجدت بعض ذلك" أي الجوع وفي رواية مسلم: وأنا والذي نفسي بيده لأخرجني الذي أخرجكما" . قال النووي: فيه ما كان عليه النبي صلى الله عليه وسلم وكبار أصحابه من التقلل من الدنيا وما ابتلوا به من الجوع وضيق العيش في أوقات، قال وفيه: جواز ذكر الإنسان ما يناله من ألم ونحوه لا على سبيل التشكي وعدم الرضاء بل للتسلية والتصبير، كفعله صلى الله عليه وسلم ههنا، ولالتماس دعاء أو مساعدة على التسبب في إزالة ذلك العارض، فهذا كله ليس بمذموم إنما يذم ما كان تشكياً وتسخطاً وتجزعاً "فانطلقوا إلى منزل أبي الهيثم" اسمه مالك "بن التيهان" بفتح المثناة فوق وتشديد المثناة تحت مع كسرها وفي رواية مسلم: قوموا فقاموا معه فأتى رجلاً من الأنصار. قال النووي: فيه جواز الإدلال على الصاحب الذي يوثق به واستتباع جماعة إلى بيته وفيه منقبة له إذ جعله النبي صلى الله عليه وسلم، أهلاً لذلك، وكفى له شرفاً بذلك "وكان رجلاً كثير النخل والشاء" أي الغنم وهي جمع شاة، وأصلها شاهة والنسبة، شاهي وشاوي وتصغيرها شويهة وشوية "فقالوا لامرأته أين صاحبك" وفي رواية مسلم: فلما رأته المرأة قالت مرحباً وأهلاً فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم أين فلان؟ قال النووي: وفيه جواز سماع كلام الأجنبية ومراجعتها الكلام للحاجة وجواز إذن المرأة في دخول منزل زوجها لمن علمت علماً محققاً أنه لها لا يكرهه بحيث لا يخلو بها الخلوة المحرمة "يستعذب لنا الماء" أي يأتينا بماء عذب وهو الطيب الذي لا ملوحة فيه "يزعبها" قال في القاموس من زعب القربة كمنع احتمالها ممتلئة. وقال في النهاية: أي يتدافع بها ويحملها لثقلها وقيل زعب بحمله إذا استقام انتهى "يلتزم النبي صلى الله عليه وسلم" أي يضمه إلى نفسه ويعانقه "ثم انطلق(7/35)
حَدِيقَتِهِ فَبَسَطَ لَهُمْ بِسَاطاً، ثُمّ انْطَلَقَ إِلَى نَخْلَةٍ فَجَاءَ بِقِنْوٍ فَوَضَعَهُ. فَقَالَ النبيّ صلى الله عليه وسلم: "أَفَلاَ تَنَقّيْتَ لَنَا مِنْ رُطَبِهِ"؟ فَقَالَ: يَا رَسُولَ الله إِنّي أَرَدْتُ أَنْ تَخْتَارُوا أَوْ قَالَ تَخَيّرُوا مِنْ رُطَبِهِ وَبُسْرِهِ، فَأَكَلُوا وَشَرِبُوا مِنْ ذَلِكَ الْمَاءِ، فَقَالَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم: "هَذَا وَالذِي نَفْسيِ بِيَدِهِ مِنَ النّعِيمِ الّذِي تُسْأَلُونَ عَنْهُ يَوْمَ القِيَامَةِ، ظِلّ بَارِدٌ وَرُطَبٌ طَيّبٌ وَمَاءٌ بَارِدٌ" . فَانْطَلَقَ أَبُو الهَيْثَمِ لِيَصْنَعَ لَهُمْ طَعَامَاً، فَقَالَ النبيّ صلى الله عليه وسلم:
__________
بهم إلى حديقته" في القاموس الحديقة الروضة ذات الشجر البستان من النخل والشجر أو كل ما أحاط به البناء أو القطعة من النخل "فجاء بقنو" بالكسر. قال في النهاية: القنو العذق بما فيه من الرطب وفي رواية مسلم: فجاءهم بعذق فيه بسر وتمر ورطب قال النووي: العذق هنا بكسر العين وهي الكباسة وهي الغض من النخل قال وفيه دليل على استحباب تقديم الفاكهة على الخبز واللحم وغيرهما، وفيه استحباب المبادرة إلى الضيف بما تيسّر وإكرامه بعده بطعام يصنعه له وقد كره جماعة من السلف التكلف للضيف وهو محمول على ما يشق على صاحب البيت مشقة ظاهرة لأن ذلك يمنعه من الإخلاص وكمال السرور بالضيف وأما فعل الأنصاري وذبحه الشاة فليس مما يشق عليه بل لو ذبح أغناماً لكان مسروراً بذلك مغبوطاً به انتهى "أفلا تنقيت لنا من رطبه" قال في القاموس: أنقاه وتنقاه وانتقاه اختاره. وقال في الصراح انتقاه بركزيدن وتنقي كذلك "إني أردت أن تختاروا أو قال تخيروا" شك من الراوي "من رطبه وبسره" بضم الموحدة وهو التمر قبل إرطابه، قال في المجمع المرتبة لثمرة النخل أولها طلع ثم خلال ثم بلح ثم بسر ثم رطب انتهى "هذا والذي نفسي بيده من النعيم الذي تسألون عنه يوم القيامة" وفي رواية مسلم: فلما أن شبعوا ورووا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأبي بكر وعمر: "والذي نفسي بيده لتسألن عن هذا النعيم. يوم القيامة" ،قوله أخرجكم من بيوتكم الجوع ثم لم ترجعوا حتى أصابكم هذا النعيم. قال الطيبي قوله أخرجكم الخ جملة مستأنفة بيان لموجب السؤال عن النعيم يعني حيث كنتم محتاجين إلى الطعام مضطرين إليه فنلتم غاية مطلوبكم من(7/36)
"لاَ تَذْبَحَنّ ذَاتَ دَرٍ". قال: فَذَبَحَ لَهُمْ عَنَاقاً أَوْ جَدْياً فَأَتَاهُمْ بِهَا فَأَكَلُوا. فَقَالَ النبيّ صلى الله عليه وسلم: "هَلْ لَكَ خَادِمٌ"؟ قَالَ: لاَ. قَالَ "فَإِذَا أَتَانَا سَبيٌ فَأْتِنَا". فَأُتِيَ النبيّ صلى الله عليه وسلم بِرَأْسَيْنِ لَيْسَ مَعَهُمَا ثَالِثٌ، فَأَتَاهُ أَبُو الهَيْثَمِ، فَقَالَ النبيّ صلى الله عليه وسلم: "اخْتَرْ مِنْهُمَا ". فَقَالَ: يَا نَبيّ الله اخْتَرْ لِي، فَقَالَ النبيّ صلى الله عليه وسلم: "إِنّ المسْتَشَارَ مُؤْتَمَنٌ، خُذْ هَذَا فَإِنّي رَأَيْتُهُ يُصَلّي وَاسْتَوْصِ بِهِ مَعْرُوفاً" . فَانْطَلَقَ أَبُو الهَيْثَمِ إِلَى امْرَأَتِهِ: فَأَخْبَرَهَا بِقَوْلِ رَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم، فَقَالَتْ امْرَأَتُهُ مَا أَنْتَ بِبَالِغٍ
__________
الشبع والري يجب أن تسألوا ويقال لكم هل أديتم شكرها أم لا. وقال النووي: فيه دليل على جواز الشبع وما جاء في كراهته محمول على المداومة عليه لأنه يقسي القلب وينسى أمر المحتاجين وأما السؤال عن هذا النعيم فقال القاضي عياض: المراد السؤال عن القيام بحق شكره والذي نعتقده أن السؤال ههنا سؤال تعداد النعم وأعلام بالامتنان بها وإظهار الكرامة بإسباغها لاسؤال توبيخ وتقريع ومحاسبة انتهى "لا تذبحن ذات در" أي لبن، وفي رواية مسلم: إياك والحلوب "فذبح لهم عناقاً أو جدياً" شك من الراوي.
قال في القاموس: العناق كسحاب الأنثى من أولاد المعز والجدي من أولاد المعز ذكرها "فإذا أتانا سبي" أي أساري "فأتنا" أي جيء "برأسين" أي من العبيد "اختر منهما" أي واحداً منهما أو بعضهما "اختر لي" أي أنت أولى بالاختيار "فقال النبي صلى الله عليه وسلم" توطئة وتمهيداً "إن المستشار" من استشاره طلب رأيه فيما فيه المصلحة "مؤتمن" اسم مفعول من الأمن أو الأمانة ومعناه أن المستشار أمين فيما يسأل من الأمور، فلا ينبغي أن يخون المستشير بكتمان مصلحته "خذ هذا" أي مشاراً إلى أحدهما "فإني رأيته يصلي" فيه أنه يستدل على خيرية الرجل بما يظهر عليه من آثار الصلاح لاسيما الصلاة فإنها تنهى عن الفحشاء والمنكر "واستوص به معروفاً" قال القاري أي استيصاء معروف قيل معناه لا تأمره إلا بالمعروف والنصح، وقيل وص في حقه بمعروف كذا ذكره زين العرب. وقال الطيبي أي قبل وصيتي في حقه(7/37)
مَا قَالَ فِيِه النبيّ صلى الله عليه وسلم إِلاّ أَنْ تُعْتِقَهُ، قَالَ: فهُوَ عَتِيق. فَقَالَ النبيّ صلى الله عليه وسلم: "إِنّ الله لَمْ يَبْعَثْ نَبِياً وَلاَ خَلِيفَةً إِلاّ وَلَهُ بِطَانَتَانِ بِطَانَةٌ تَأْمُرُهُ بِالمَعْرُوفِ وتَنَهَاهُ عَنِ المُنْكَرِ، وَبِطَانَةٌ لاَ تَأْلُوهُ خَبَالاً وَمَنْ يُوْقَ بِطَانَةَ السّوءِ فَقَدْ وُقِيَ".
__________
وأحسن ملكته بالمعروف "إن الله لم يبعث نبياً ولا خليفة" وفي حديث أبي سعيد عند البخاري: ما بعث الله من نبي ولا استخلف من خليفة. قال الحافظ في الفتح في رواية صفوان بن سليم: ما بعث الله من نبي ولا بعده من خليفة والرواية التي في الباب تفسر المراد بهذا وأن المراد ببعث الخليفة استخلافه ووقع في رواية الأوزاعي ومعاوية بن سلام: ما من وال وهو أعم انتهى "إلا وله بطانتان" البطانة بالكسر الصاحب الوليجة وهو الذي يعرفه الرجل أسراره ثقة به، شبه ببطانة الثوب "بطانة تأمره بالمعروف" أي ما عرفه الشرع وحكم بحسنه "وتنهاه عن المنكر" أي ما أنكره الشرع ونهى عن فعله "وبطانة لا تألوه خبالا" أي لا تتصرفي إفساد أمره وهو اقتباس منقوله تعالى {لا يَأْلُونَكُمْ خَبَالاً} وفي حديث أبي سعيد: وبطانة تأمره بالشر. قال الحافظ: وقد استشكل هذا التقسيم بالنسبة للنبي، لأنه وإن جاز عقلاً أن يكون فيمن يداخله من يكون من أهل الشر لكنه لا يتصور منه أن يصغي إليه ولا يعمل بقوله لوجود العصمة، وأجيب بأن في بقية الحديث الإشارة إلى سلامة النبي صلى الله عليه وسلم من ذاك بقوله: فالمعصوم من عصم الله تعالى، فلا يلزم من وجود من يشير على النبي صلى الله عليه وسلم بالشر أن يقبل منه، وقيل المراد بالبطانتين في حق النبي الملك والشيطان وإليه الإشارة بقوله صلى الله عليه وسلم: ولكن الله أعانني عليه فأسلم قال: وفي معنى حديث الباب حديث عائشة مرفوعاً: "من ولى منكم عملاً فأراد الله به خيراً جعل له وزيراً صالحاً إن نسي ذكره، وإن ذكر أعانه" . قال ابن التين: يحتمل أن يكون المراد بالبطانتين الوزيرين، ويحتمل أن يكون الملك والشيطان. وقال الكرماني: يحتمل أن يكون المراد بالبطانتين، والنفس الأمارة بالسوء والنفس اللوامة المحرضة على الخير، إذ لكل منهما قوة ملكية وقوة حيوانية انتهى. قال الحافظ: والحمل على الجمع أولى(7/38)
باب ما جاء في أن الغنى غنى النفس
...
27-باب ما جَاءَ أَنّ الغِنَى غِنَى النّفْس
2479 حَدّثنا أَحْمَدُ بنُ بُدَيْلٍ بنِ قُرَيْشٍ الْيَامِيّ الْكُوفِيّ، حدثنا أَبُو بَكْرِ بنِ عَيّاشٍ عن أَبي حَصِينٍ، عن أَبي صالحٍ، عن أَبي هُرَيْرَةَ قال: قالَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم: "لَيْسَ الغِنَى عَنْ كَثْرَةِ الْعَرَضِ وَلَكِنّ الْغِنَى غِنَى النّفْسِ" .
__________
"باب ما جَاءَ أَنّ الغِنَى غِنَى النّفْس"
قوله : "حدثنا أحمد بن بديل بن قريش اليامي" بالتحتانية أبو جعفر قاضي الكوفة، صدوق له أوهام من العاشرة "عن أبي حصين" هو عثمان بن عاصم الأسدي الكوفي "عن أبي صالح" هو السمان.
قوله : "ليس الغنى" بكسر أوله مقصود أي الحقيقي المعتبر النافع "عن كثرة العرض" بفتح المهملة والراء ثم ضاد معجمة. قال الحافظ: أما عن فهي سببية وأما العرض فهو ما ينتفع به من متاع الدنيا، ويطلق بالاشتراك على ما يقابل الجوهر وعلى كل ما يعرض للشخص من مرض ونحوه. وقال أبو عبيد: العروض الأمتعة وهي ما سوى الحيوان والعقار، ومالا يدخله كيل ولا وزن. وقال ابن فارس: العرض بالسكون كل ما كان من المال غير نقد وجمعه عروض. وأما بالفتح فما يصيبه الإنسان من حظه في الدنيا قال تعالى { تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا} وقال {وَإِنْ يَأْتِهِمْ عَرَضٌ مِثْلُهُ يَأْخُذُوهُ} ، "ولكن الغنى غنى النفس" وقال ابن بطال معنى الحديث ليس حقيقة الغنى كثرة المال لأن كثيراً ممن وسع الله عليه في المال لا يقنع بما أوتي فهو يجتهد في الازدياد ولا يبالي من أين يأتيه، فكأنه فقير لشدة حرصه وإنما حقيقة الغنى غنى النفس وهو من استغنى بما أوتي وقنع به ورضي ولم يحرص على الازدياد ولا ألح في الطلب فكأنه غني. وقال القرطبي: معنى الحديث إن الغني النافع أو العظيم أو الممدوح هو غني النفس وبيانه، أنه إذا استغنت نفسه كفت على المطامع فعزت وعظمت وحصل لها من الحظوة والنزاهة والشرف والمدح أكثر من الغنى الذي يناله من يكون فقير النفس لحرصه، فإنه يورطه في(7/42)
هذا حديثٌ حسنٌ صحيحٌ. وابو حصين اسمه عثمان بن عاصمٍ الأُسديّ.
__________
رذائل الأمور وخسائس الأفعال لدناءة همته وبخله ويكثر من يذمه من الناس ويصغر قدره عندهم فيكون أحقر من كل حقير وأذل من كل ذليل. والحاصل أن المتصف بغنى النفس يكون قانعاً بما رزقه لا يحرص على الازدياد لغير حاجة ولا يلح في الطلب ولا يلحف في السؤال بل يرضى بما قسم الله له، فكأنه واجد أبداً. والمتصف بفقر النفس على الضد منه لكونه لا يقنع بما أعطي بل هو أبداً في طلب الازدياد من أي وجه أمكنه. ثم إذا فاته المطلوب حزن وأسف فكأنه فقير من المال لأنه لم يستغن بما أعطي فكأنه ليس بغني. ثم غنى النفس إنما ينشأ عن الرضا بقضاء الله تعالى والتسليم لأمره، علماً بأن الذي عند الله خير وأبقى، فهو معرض عن الحرص والطلب. وما أحسن قول قائل:
غني النفس ما يكفيك من سد حاجة ... فإن زاد شيئاً عاد ذاك الغنى فقراً
قوله : "هذا حديث حسن صحيح" وأخرجه أحمد والشيخان وابن ماجه.(7/43)
باب ما جاء في أخذ المال بحقه
...
28 -باب ما جَاءَ في أَخْذِ الْمال
2480 حَدّثنا قُتَيْبَةُ، حدثنا الّليْثُ عن سَعِيدٍ المَقْبُرِيّ، عن أَبي الْوَلِيدِ قالَ: سَمِعْتُ خَوْلَةَ بِنْتَ قَيْفسٍ وَكَانَتْ تَحْتَ حَمْزَةَ بنِ عَبْد المُطّلِبِ تقولُ: سَمِعْتُ رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم يقولُ: "إِنّ هَذَا الْمَالَ خَضِرَةٌ حُلْوَةٌ، مَنْ أَصَابَهُ بِحَقِهِ بُورِكَ لَهُ فِيهِ، وَرُبّ مُتخوّضٍ فِيمَا شَاءَتْ
__________
"باب ما جَاءَ في أَخْذِ الْمال"
قوله: "سمعت خولة بنت قيس" بن فهر بن قيس بن ثعلبة الأنصارية صحابية لها حديث كذا في التقريب. وقال في تهذيب التهذيب في ترجمتها: روت عن النبي صلى الله عليه وسلم أن الدنيا خضرة حلوة الحديث. وعنها أبو الوليد سنوطاً وغيره. قال عبيد: دخلت على أم محمد وكانت عند حمزة، وتزوجها بعده رجل من الأنصار انتهى.
قوله : "خضرة" بفتح فكسر "حلوة" بضم الحاء وسكون اللام قال الحافظ(7/43)
بِهِ نَفْسُهُ مِنْ مَالِ اللّهِ وَرَسُولِهِ لَيْسَ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِلاّ النّارُ" .
هذا حديثٌ حسنٌ صحيحٌ. وَابو الْوَلِيدِ اسْمُهُ عُبَيْد سُنُوطَا.
__________
في الفتح: معناه أن صورة الدنيا حسنة مونقة، والعرب تسمي كل شيء مشرق ناضر أخضر. وقال ابن الأنباريقوله: المال خضرة حلوة ليس هو صفة المال وإنما هو للتشبيه كأنه قال المال كالبقلة الخضراء الحلوة، والتاء فيقوله خضرة وحلوة باعتبار ما يشتمل عليه المال من زهرة الدنيا أو على معنى فائدة المال أي أن الحياة به أو العيشة أو أن المراد بالمال هنا الدنيا لأنه من زينتها قال الله تعالى: {الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} وقد وقع في حديث أيضاً المخرج في السنن: "الدنيا خضرة حلوة". فيتوافق الحديثان. ويحتمل أن تكون التاء فيهما للمبالغة "من أصابه بحقه" أي بقدر حاجته من الحلال "ورب متخوض" أي متسارع ومتصرف. قال في المجمع: أصل الخوض المشي في الماء وتحريكه ثم استعمل في التلبيس بالأمر والتصرف فيه أي رب متصرف في مال الله بما لا يرضاه الله أي يتصرفون في بيت المال ويستبدون بمال المسلمين بغير قسمة، وقيل هو التخليط في تحصيله من غير وجه كيف أمكن انتهى "فيما شاءت نفسه" أي فيما أحبته والتذت به "ليس له" أي جزاء "يوم القيامة إلا النار" أي دخول جهنم وهو حكم مرتب على الوصف المناسب وهو الخوض في مال الله تعالى فيكون مشعراً بالعلية وهذا حث على الاستغناء عن الناس وذم السؤال بلا ضرورة. قال الغزالي رحمه الله: مثل المال مثل الحية التي فيها ترياق نافع وسم ناقع فإن أصابها العارف الذي يحترز عن شرها ويعرف استخراج ترياقها كان نعمة، وإن أصابها الغبي فقد لقي البلاء المهلك انتهى. وتوضيحه ما قاله عارف: إن الدنيا كالحية فكل من يجوز له أخذها، وإلا فلا، فقيل: وما رقيتها؟ فقال: أن يعرف من أين يأخذها يعرف رقيتها، وفي أين يصرفها.
قوله : "هذا حديث حسن صحيح" وأخرجه أحمد.
قوله : "وأبو الوليد اسمه عبيد سنطا" وفي بعض النسخ سنوطاً. قال في القاموس: وسنوطى كهيولى لقب عبيد المحدث أو اسم والده، انتهى. وقال(7/44)
......................................................................................................
__________
في التقريب: عبيد سنوطاً بفتح المهملة وضم النون، ويقال ابن سنوطاً أبو الوليد المدني وثقة العجلي من الثالثة انتهى.(7/45)
29-باب
2481-حَدّثنا بِشْرُ بنُ هِلاَلٍ الصّوّافُ، حدثنا عبدُ الوَارِثِ بنُ سَعِيدٍ، عن يُونُسَ عن، الْحَسَنِ، عن أَبي هُرَيْرَةَ قالَ: قالَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم: "لُعن عَبْدُ الدّينَارِ. لُعِنَ عَبْدُ الدّرْهَمِ" .
هذا حديثٌ حسنٌ غريبٌ من هذا الْوَجْهِ. وقد رُوِيَ هذا الحديث من غيرِ هذا الْوَجْهِ، عن ابي صالح، عن أَبي هُرَيْرَةَ عن النبيّ صلى الله عليه وسلم أيضاً أَتَمّ مِنْ هَذَا وَأَطْوَلَ.
__________
"باب"
قوله: "عن يونس" هو ابن عبيد بن دينار العبدي مولاهم أبو عبيد البصري ثقة فاضل ورع من الخامسة.
قوله: "لعن عبد الدينار" أي طرد وأبعد طالبه الحريص على جمعه، القائم على حفظه فكأنه لذلك خادمه وعبده. وقال الطيبي: خص العبد بالذكر ليؤذن بانغماسه في محبة الدنيا وشهواتها كالأسير الذي لا يجد خلاصاً. ولم يقل مالك الدنيا ولا جامع الدنيا، ولأن المذموم من الملك والجمع الزيادة على قدر الحاجة. وقال غيره جعله عبداً لهما لشغفه وحرصه فمن كان عبداً لهواه لم يصدق في حقه إياك نعبد، فلا يكون من اتصف بذلك صديقاً "لعن عبد الدرهم" خصاً بالذكر لأنهما أصل أموال الدنيا وحطامها.
قوله : "وقد روي من غير هذا الوجه، عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم الخ" أخرجه البخاري في الجهاد والرقاق، ولفظه في الجهاد: "تعس عبد الدينار وعبد الدرهم وعبد الخميصة إن أعطى رضي وإن لم يعط سخط" الحديث.(7/45)
30-باب
2482-حَدّثنا سُوَيْدُ بنُ نَصْرٍ، أخبرنا عبدُ الله بنُ المُبَارَكِ، عن زَكَرِيّا بنِ أَبي زَائِدَةَ عن محمدِ بنِ عبدِ الرّحْمنِ بنِ سَعْدِ بنِ زُرَارَةَ، عن ابنِ كَعْبِ بنِ مَالِكِ الانْصَارِيّ، عن أَبِيهِ قالَ: قالَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم: "مَا ذِئْبَانِ جَائِعَانِ أُرْسِلاَ في غَنَمِ بِأَفْسَدَ لهَا مِنْ حِرْصِ الْمَرءِ عَلَى الْمَالِ وَالشّرَفِ لِدِيِنِه" .
__________
"باب"
قوله: "عن محمد بن عبد الرحمن بن سعد بن زرارة" الأنصاري المدني وهو محمد بن عبد الرحمن بن سعد بن عبد الله بن عبد الرحمن بن زرارة، ويقال ابن محمد بدل عبد الله، ومنهم من ينسبه إلى جده لأمه، فيقول محمد بن عبد الرحمن بن أسعد ابن زرارة وثقه النسائي كذا في تهذيب التهذيب "عن ابن كعب بن مالك الأنصاري" قال الحافظ في التقريب: ابن كعب بن مالك في لعق الأصابع هو عبد الرحمن. وجاء بالشك عبد الله أو عبد الرحمن، وفي حديث: أرواح الشهداء هو عبد الرحمن ابن عبد الله بن كعب نسب لجده. وفي حديث: ما ذئبان جائعان لم يسم وهو أحد هذين. وكذا في حديث: من طلب العلم وإن امرأة ذبحت شاة بحجر، وقيل في هذا الأخير عن ابن كعب عن أخيه. والذي يظهر أنه عبد الرحمن بن كعب انتهى "عن أبيه" أي كعب بن مالك بن أبي كعب الأنصاري السلمي المدني صحابي مشهور وهو أحد الثلاثة الذين خلفوا.
قوله : "ما" نافية "جائعان" أي به للمبالغة "أرسلا" أي خليا وتركا "في غنم" أي قطيعة غنم "لدينه" متعلق بأفسد. والمعنى إن حرص المرء عليهما أكثر فساداً لدينه المشبه بالغنم لضعفه يجنب حرصه من إفساد الذئبين للغنم. قال الطيبي: ما بمعنى ليس، وذئبان اسمها. وجائعان صفة له، وأرسلا في غنم الجملة في محل الرفع على أنها صفة بعد صفة، وقوله بأفسد خبر لما والباء زائدة وهو أفعل تفضيل أي بأشد إفساد والضمير في لها للغنم واعتبر فيها الجنسية فلذا أنث، وقوله من حرص المرء(7/46)
هذا حديثٌ حسنٌ صحيحٌ. ويُرْوَى في هذا البَابِ، عن ابنِ عُمَرَ عن النّبيّ صلى الله عليه وسلم، ولا يَصِحّ إِسْنَادُهُ.
__________
هو المفضل عليه لاسم التفضيل، وقوله على المال والشرف يتعلق بالحرص والمراد به الجاه، وقوله لدينه اللام فيه بيان كما فيقوله تعالى: {لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ} كأنه قيل بأفسد لأي شيء، قيل لدينه. ومعناه ليس ذئبان جائعان أرسلا في جماعة من جنس الغنم بأشد إفساداً لتلك الغنم من حرص المرء على المال والجاه، فإن إفساده لدين المرء أشد من إفساد الذئبين الجائعين لجماعة من الغنم إذا أرسلا فيها. أما المال فإفساده أنه نوع من القدرة يحرك داعية الشهوات ويجر إلى التنعم في المباحات فيصير التنعم مألوفاً، وربما يشتد أنسه بالمال ويعجز عن كسب الحلال فيقتحم في الشبهات مع أنها ملهية عن ذكر الله تعالى، وهذه لا ينفك عنها أحد. وأما الجاه فيكفى به إفساداً أن المال يبذل للجاه ولا يبذل الجاه للمال وهو الشرك الخفي، فيخوض في المراآة والمداهنة والنفاق وسائر الأخلاق الذميمة، فهو أفسد وأفسد انتهى.
قوله : "هذا حديث حسن صحيح" وأخرجه أحمد والنسائي والدارمي وابن حبان.
قوله : "ويروى في هذا الباب عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم ولا يصح أسناده" حديث ابن عمر هذا رواه البزار بلفظ: ما ذئبان ضاريان في حظيرة يأكلان ويفسدان بأضر فيها من حب الشرف وحب المال في دين المرء المسلم. قال المنذري في الترغيب: إسناده حسن.
وقد صنف ابن رجب الحنبلي جزءاً لطيفاً في شرح حديث كعب بن مالك المذكور في الباب، وقال فيه بعد ذكره ما لفظه: وروي من وجه آخر عن النبي صلى الله عليه وسلم من حديث ابن عمر وابن عباس وأبي هريرة وأسامة بن زيد وجابر وأبي سعيد الخدري وعاصم بن عدي الأنصاري رضي الله عنهم أجمعين. قال: وقد ذكرتها كلها مع الكلام عليها في كتاب شرح الترمذي وفي لفظ حديث جابر: ما ذئبان ضاريان يأتيان في غنم غاب رعاؤها بأفسد للناس من حب الشرف والمال لدين المؤمن انتهى.(7/47)
31-باب
2483-حَدّثنا مُوسَى بنُ عبدِ الرّحمنِ الْكِنْدِيّ، أَخْبَرنَا زَيْدُ بنُ حُبَابٍ، أخبرني المَسْعُودِيّ، أَخْبَرنَا عَمْرُو بنُ مُرّةَ عن إِبْرَاهِيمَ، عن عَلْقَمَةَ، عن عَبْدِ الله قَالَ: نَامَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم على حَصِيرٍ فَقَامَ وَقَدْ أَثّرَ في جَنْبِهِ، فَقُلْنَا يَا رَسُولَ الله لَوْ اتّخَذْنَا لَكَ وِطَاءً، فَقَالَ: "مَالِي وَلِلدّنْيَا، ما أَنَا في الدّنْيَا إِلاّ كَرَاكِبٍ اسْتَظلّ تَحْتَ شَجَرَةٍ، ثُمّ رَاحَ وَتَرَكَهَا" .
__________
"باب"
قوله: "أخبرنا زيد بن حباب" هو أبو الحسين العكلي "حدثني المسعودي" هو عبد الرحمن بن عبد الله بن عتبة بن مسعود الكوفي صدوق اختلط قبل موته وضابطه أن من سمع منه ببغداد فبعد الاختلاط من السابعة كذا في التقريب "أخبرنا عمرو بن مرة" هو الجملي المرادي أبو عبد الله الكوفي "عن إبراهيم" هو النخعي.
قوله: "فقام" أي عن النوم "وقد أثر" أي أثر الحصير "لو اتخذنا لك وطاء" بكسر الواو وفتحها ككتاب وسحاب أي فراشاً وكلمة "لو" تحتمل أن تكون للتمني وأن تكون للشرطية والتقدير لو اتخذنا لك بساطاً حسناً وفراشاً ليناً لكان أحسن من اضطجاعك على هذا الحصير الخشن "مالي وللدنيا" قال القاري: ما نافية أي ليس لي ألفة ومحبة مع الدنيا ولا للدنيا ألفة ومحبة معي حتى أرغب إليها، وأنبسط عليها وأجمع ما فيها ولذتها أو استفهامية أي: أي ألفة ومحبة لي مع الدنيا أو أي شيء لي مع الميل إلى الدنيا أو ميلها إلي فإني طالب الاَخرة وهي ضرتها المضادة لها. قال واللام في للدنيا مقحمة للتأكيد إن كان الواو بمعنى مع وإن كان للعطف فالتقدير مالي مع الدنيا وما للدنيا معي "استظل تحت شجرة ثم راح وتركها" وجه التشبيه سرعة الرحيل وقلة المكث ومن ثم خص الراكب.(7/48)
وفي البابِ عن عُمَرَ وَابنِ عَبّاسِ. هذا حديثٌ صحيحٌ.
__________
قوله : "وفي الباب عن ابن عمر وابن عباس" ، أما حديث ابن عمر فأخرجه الترمذي في باب قصر الأمل، وأما حديث ابن عباس فأخرجه أحمد وابن حبان في صحيحه والبيهقي بنحو حديث عبد الله المذكور في الباب.
قوله : "هذا حديث صحيح" وأخرجه أحمد وابن ماجه والحاكم والضياء المقدسي.(7/49)
32-باب
2484-حَدّثنا مُحمدُ بنُ بَشّارِ، أخبرنا أَبُو عَامِرٍ وَأَبُو دَاوُدَ قَالاَ: أخْبَرَنَا زُهَيْرُ بنُ مُحمدٍ، حدثني مُوسَى بنُ ورْدَانَ عن أَبي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُو. لُ الله صلى الله عليه وسلم: "الرجُلُ عَلَى دِينِ خَليلِهِ فَلْيَنْظُرْ أَحَدُكُمْ مَنْ يُخَالِلُ".
هذا حديثٌ حسنٌ غريبٌ.
__________
"باب"
قوله: "أخبرنا أبو عامر" العقدي البصري "وأبو داود" الطيالسي "قالا: أخبرنا زهير بن محمد" التميمي "حدثني موسى بن وردان" العامري مولاهم أبو عمر المصري مدني الأصل صدوق ربما أخطأ من الثالثة.
قوله : "الرجل" يعني الإنسان "على دين خليله" أي على عادة صاحبه وطريقته وسيرته "فلينظر" أي فليتأمل وليتدبر "من يخالل" من المخالة وهي المصادقة والإخاء، فمن رضي دينه وخلقه خالله ومن لا تجنبه، فإن الطباع سراقة والصحبة مؤثرة في إصلاح الحال وإفساده. قال الغزالي: مجالسة الحريص ومخالطته تحرك الحرص ومجالسة الزاهد ومخاللته تزهد في الدنيا، لأن الطباع مجبولة على التشبه والاقتداء بل الطبع من حيث لا يدري.
قوله : "هذا حديث حسن غريب" قال صاحب المشكاة بعد ذكر هذا الحديث: رواه أحمد والترمذي وأبو داود والبيهقي في شعب الإيمان وقال الترمذي: هذا حديث حسن غريب. وقال النووي إسناده صحيح انتهى. قال الطيبي: ذكره(7/49)
........................................................................................................
__________
في رياض الصالحين. وغرض المؤلف من إيراده والإطناب فيه دفع الطعن في هذا الحديث ورفع توهم من توهم أنه موضوع. قال السيوطي: هذا الحديث أحد الأحاديث التي انتقدها الحافظ سراج الدين القزويني على المصابيح، وقال إنه موضوع. وقال الحافظ ابن حجر في رده عليه: قد حسنه الترمذي وصححه الحاكم كذا في المرقاة.(7/50)
33-باب
2485-حَدّثنا سُوَيْدُ بن نصر، أخبرنا عَبْدُ الله بنِ المبارك عن سُفْيَانُ بنُ عُيَيْنَةَ عن عَبْدِ الله بنِ أبي بَكْرٍ ههو ابن محمد بن عمرو بن حزم الأنصاريّ قَالَ سَمِعْتُ أَنَسَ بنَ مَالِكٍ يَقُولُ: قَالَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم: "يَتْبَعُ المَيّتَ ثَلاَثٌ، فَيَرْجِعُ اثْنَانِ، وَيَبْقَى وَاحِدٌ: يَتْبَعُهُ أَهْله وَمَالُهُ وَعَمَلُهُ، فَيَرْجِعُ أَهْلُهُ وَمَالُهُ وَيَبْقَى عَمَلُهُ" .
__________
"باب"
قوله: "حدثنا سويد" بن نصر بن سويد المروزي "أخبرنا عبد الله" بن المبارك "عن عبد الله بن أبي بكر" بن محمد بن عمرو بن حزم الأنصاري.
قوله : "يتبع الميت" أي إلى قبره "ثلاث" أي من أنواع الأشياء "فيرجع اثنان" أي إلى مكانهما ويتركانه وحده "ويبقى واحد" أي لا ينفك عنه "يتبعه أهله" أي أولاده وأقاربه وأهل صحبته ومعرفته "وماله" كالعبيد والإماء والدابة والخيمة. قاله القاري. وقال المظهر: أراد بعض ماله وهو مماليكه. وقال الطيبي: أتباع الأهل الحقيقة وأتباع المال على الاتساع، فإن المال حينئذ له نوع تعلق بالميت من التجهيز والتكفين ومؤنة الغسل والحمل والدفن، فإذا دفن انقطع تعلقه بالكلية "وعمله" أي من الصلاح وغيره "ويبقى عمله" . قال الحافظ في الفتح: معنى بقاء عمله أنه يدخل معه القبر. وقد وقع في حديث البراء بن عازب الطويل في صفة المسألة في القبر عند أحمد وغيره ففيه: ويأتيه الرجل حسن الوجه حسن الثياب حسن الريح فيقول أبشر بالذي يسرك. فيقول: من أنت فيقول: أنا عملك الصالح. وقال في حق الكافر: ويأتيه رجل قبيح الوجه الحديث وفيه بالذي يسوءك وفيه عملك الخبيث انتهى.(7/50)
هذا حديثٌ حسنٌ صحيحٌ.
__________
قوله: "هذا حديث حسن صحيح" وأخرجه الشيخان وغيرهما.(7/51)
34-باب ما جَاءَ في كَرَاهِيَةِ كثْرَةِ الأَكْل
2486-حَدّثنا سُوَيْدُ ، أخبرنا عَبْدُ الله بنُ المُبَارَكِ، أخبرنا إِسْمَاعِيلُ بنُ عَيّاشٍ، حدثني أَبُو سَلْمَةَ الْحِمْصِيّ، وَحَبِيبُ بنُ صَالِحِ، عن يَحْيَى بنِ جَابِرٍ الطّائِيّ، عن مِقْدَامِ بنِ مَعْدِ يكَرِبَ، قَالَ سَمِعْتُ رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: "مَامَلأَ آدمِيٌ وِعَاءً شَرّا مِنْ بَطْنٍ، بِحَسْبِ ابنِ آدَمَ أُكُلاَتٌ يُقِمْنَ صُلْبَهُ، فإِنْ كَانَ لاَ مَحَالَةَ فَثُلُثٌ لِطَعَامِهِ وَثُلُثٌ لِشَرَابِهِ
__________
"باب ما جَاءَ في كَرَاهِيَةِ كثْرَةِ الأَكْل"
قوله: "حدثني أبو سلمة الحمصي" اسمه سليمان بن سليم الكلبي الشامي القاضي بحمص ثقة عابد من السابعة "وحبيب بن صالح" الطائي أبو موسى الحمصي ويقال حبيب بن أبي موسى ثقة من السابعة "عن يحيى بن جابر الطائي" أبي عمرو الحمصي القاضي ثقة من السادسة وأرسل كثيراً "عن مقدام بن معد يكرب" بن عمرو الكندي، صحابي مشهور نزل الشام.
قوله : "ما ملأ آدمي وعاء" أي ظرفاً "شراً من بطن" صفة وعاء، جعل البطن أولاً وعاء كالأوعية التي تتخذ ظروفاً لحوائج البيت توهيناً لشأنه ثم جعله شر الأوعية لأنها استعملت فيما هي له والبطن خلق لأن يتقوم به الصلب بالطعام وامتلاؤه يفضي إلى الفساد في الدين والدنيا فيكون شراً منها "بحسب ابن آدم" مبتدأ أو الباء زائدة أي يكفيه وقوله "أكلات" بضمتين خبره نحوقوله بحسبك درهم والأكلة بالضم اللقمة أي يكفيه هذا القدر في سد الرمق وإمساك القوة "يقمن" من الإقامة "صلبه" أي ظهره تسمية للكل باسم جزئه، كناية عن أنه لا يتجاوز ما يحفظه من السقوط ويتقوى به على الطاعة "فإن كان لا محالة" بفتح الميم ويضم، أي إن كان لا بد من التجاوز عما ذكر فلتكن أثلاثاً "فثلث" أي فثلث يجعله(7/51)
وَثُلْثٌ لِنَفَسِهِ" .
2487-حدّثنا الْحَسَنُ بنُ عَرَفَةَ، أَخْبَرنَا إِسْمَاعِيلُ بنُ عَيّاشٍ نَحْوَهُ وَقَالَ المِقْدَامُ بنُ مَعْدِ يكَربَ، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم لَمْ يَذْكُرْ فيه سَمِعْتُ النبيّ صلى الله عليه وسلم.
هذا حديثٌ حسنٌ صحيحٌ.
__________
"لطعامه" أي مأكوله "وثلث" يجعله "لشرابه" أي مشروبه "وثلث" يدعه "لنفسه" بفتح الفاء أي يبقى من ملئة قدر الثلث ليتمكن من التنفس ويحصل له نوع صفاء ورقة وهذا غاية ما اختير للأكل ويحرم الأكل فوق الشبع. وقال الطيبي رحمه الله: أي الحق الواجب أن لا يتجاوز عما يقام به صلبه ليتقوى به على طاعة الله فإن أراد البتة التجاوز فلا يتجاوز عن القسم المذكور.
قوله : "هذا حديث حسن صحيح" وأخرجه أحمد وابن ماجه والحاكم وقال صحيح.(7/52)
35 -باب مَا جَاءَ في الرّيَاءِ والسّمْعَة
2488 حَدّثنا أَبُو كُرَيْبٍ، حدثنا مُعَاوِيَةُ بنُ هِشَامٍ عن شَيْبَانَ، عن فِرَاسٍ، عن عَطِيّةَ عن أَبي سَعِيدٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم: "مَنْ يُرَائِي يُرَائِي اللّهُ بِهِ وَمَنْ يُسَمّعْ يُسَمّعِ الله بِهِ" . قَالَ: وقَالَ
__________
"باب مَا جَاءَ في الرّيَاءِ والسّمْعَة"
قال الحافظ في الفتح الرياء بكسر الراء وتخفيف التحتانية والمد وهو مشتق من الرؤية والمراد به إظهار العبادة لقصد رؤية الناس لها فيحمدوا صاحبها، والسمعة بضم المهملة وسكون الميم مشقة من سمع والمراد بها نحو ما في الرياء، لكنها تتعلق بحاسة السمع والرياء بحاسة البصر انتهى. وقال الغزالي: الرياء مشتق من الرؤية، والسمعة من السماع، وإنما الرياء أصله طلب المنزلة في قلوب الناس بإرائهم الخصال المحمودة. فخذ الرياء هو إراؤة العبادة بطاعة الله تعالى، فالمرائي هو العابد والمراءي له هو الناس، والمراءى به هو الخصال الحميدة. والرياء هوقصد إظهار ذلك
"من يرائي يرائى الله به" بإثبات الياء في الفعلين على أن من موصولة مبتدأ(7/52)
رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم: "مَنْ لاَ يَرْحَمِ النّاسَ لاَ يَرْحَمْهُ الله" .
وفي البابِ عن جُنْدُبٍ وَعَبْدِ الله بنِ عَمْرو.
هذا حديث غريب حسن صحيح من هَذَا الْوَجْهِ.
__________
والمعنى: من يعمل عملاً ليراه الناس في الدنيا يجازيه الله تعالى به بأن يظهر رياءه على الخلق "ومن يسمع" بتشديد الميم أي من عمل عملاً للسمعة بأن نوه بعمله وشهره ليسمع الناس به ويمتدحوه "يسمع الله به" بتشديد الميم أيضاً أي شهرة الله بين أهل العرصات وفضحه على رؤوس الأشهاد. قال الخطابي: معناه من عمل عملاً على غير إخلاص وإنما يريد أن يراه الناس ويسمعوه جوزي على ذلك بأن يشهره الله ويفضحه ويظهر ما كان يبطنه. وقيل من قصد بعمله الجاه والمنزلة عند الناس ولم يرد به وجه الله فإن الله يجعله حديثاً عند الناس الذين أراد ونيل المنزلة عندهم ولا ثواب له في الاَخرة. ومعنى يرائي به يطلعهم على أنه فعل ذلك لهم لا لوجهه، ومنهقوله تعالى: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَاِ} إلى قوله: {مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} وقيل المراد من قصد بعمله أن يسمعه الناس ويروه ليعظموه وتعلو منزلته عندهم حصل له ما قصد وكان ذلك جزاؤه على عمله ولا يثاب عليه في الاَخرة. وقيل: المعنى من سمع بعيوب الناس وأذاعها أظهر الله عيوبه وسمعه المكروه. وقيل غير ذلك ذكره الحافظ في الفتح قال: وفي الحديث استحباب إخفاء العمل الصالح، لكن قد يستحب إظهار ممن يقتدي به على إرادته الاقتداء به ويقدر ذلك بقدر الحاجة "من لا يرحم الناس لا يرحمه الله" تقدم شرحه في باب رحمة الناس من أبواب البر والصلة.
قوله : "وفي الباب عن جندب وعبد الله بن عمرو" أما حديث جندب فأخرجه الشيخان. وأما حديث عبد الله بن عمرو فأخرجه الطبراني عنه مرفوعاً بلفظ: من سمع الناس بعمله سمع الله به مسامع خلقه وصغره وحقره. قال المنذري في الترغيب بعد ذكر هذا الحديث. رواه الطبراني في الكبير بأسانيد أحدها صحيح والبيهقي انتهى.
قوله : "هذا حديث غريب من هذا الوجه" وأخرجه أحمد وابن ماجه إلا الفصل الأخير.(7/53)
2489-حدّثنا سُوَيْدُ بنُ نَصْرٍ، أخبرنا عَبْدُ اللّهِ بنُ المُبَارَكِ، أخبرنا حَيْوَةُ بنُ شُرَيْحٍ، أخبرني الْوَلِيدُ بنُ أَبي الْوَلِيدِ أَبُو عُثْمَانَ المَدَائِنيّ، أَنّ عُقْبَةَ بنَ مُسْلِمٍ حَدّثَهُ أَنَ شُفَيّاً الأَصْبَحِيّ حَدّثَهُ أَنّهُ دَخَلَ المَدِينَةَ فَإِذَا هُوَ بِرَجُلٍ قَدْ اجْتَمَعَ عَلَيْهِ النّاسُ فَقَالَ: مَنْ هَذَا؟ فَقَالُوا: أَبُو هُرَيْرَةَ، فَدَنَوْتُ مِنْهُ حَتّى قَعَدْتُ بَيْنَ يَدَيْهِ وَهُوَ يُحَدّثُ النّاسَ. فَلّمَا سَكَتَ وَخَلاَ قُلْتُ لَهُ: أَسْأَلُكَ بِحَقّ وَبِحَقّ لما حَدّثْتَنِي حَدِيثاً سَمِعْتَهُ مِنْ رَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم عَقَلْتَهُ وَعَلِمْتَهُ، فَقَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: أَفْعَلُ لأُحَدّثَنّكَ حَدِيثاً حَدّثَنِيِه رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم عَقَلْتُهُ وَعَلِمْتُهُ، ثم نَشَغَ أَبُو هُرَيْرَةَ نَشْغَةً، فمكَثْنَا قَلِيلاً، ثُمّ أَفَاقَ فَقَالَ: لأُحَدّثَتّكَ حَدِيثاً حَدّثَنيِه رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم فِي هَذَا البَيْتِ مَا مَعَنَا أَحَدٌ غَيْرِي وَغَيْرُهُ، ثُمّ نَشَغَ أَبُو هُرَيْرَةَ نَشْغَةً أخرى، ثُمّ أَفَاقَ فَمَسَحَ وَجْهَهُ وَقَالَ: أَفْعَلُ لأُحَدّثَنّكَ
__________
قوله : "أن عقبة بن مسلم" التجيبي المصري القاص إمام المسجد العتيق بمصر ثقة من الرابعة "أن شفياً الأصبحي" قال في التقريب شفي بالفاء مصغراً ابن ماتع بمثناة الأصبحي ثقة من الثالثة أرسل حديثاً فذكره بعضهم في الصحابة خطأ. مات في خلافة هشام قاله خليفة انتهى.
قوله : "أنه" أي شفياً "فلما سكت" أي عن التحديث "وخلا" أي بقي منفرداً "وأسالك بحق وبحق" التكرار للتأكيد والباء زائدة. والمعنى أسألك حقاً غير باطل "لما حدثتني حديثاً" كلمة لما ههنا بمعنى ألا. قال في القاموس ولما يكون بمعنى حين ولم الجازمة وألا، وإنكار الجوهري كونه بمعنى ألا غير جيد. يقال: سألتك كما فعلت أي ألا فعلت ومنه. {إِنْ كُلُّ نَفْسٍ لَمَّا عَلَيْهَا حَافِظٌ} {وَإِنْ كُلٌّ لَمَّا جَمِيعٌ لَدَيْنَا مُحْضَرُونَ} انتهى "ثم نشغ" بفتح النون والشين المعجمة بعدها غين(7/54)
حَدِيثاً حَدّثَنِيهِ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم وأَنَا وَهُوَ فِي هَذَا البَيْتِ مَامَعَنَا أَحدٌ غَيْرِي وَغَيْرُهُ، ثُمّ نَشَغَ أَبُو هُرَيْرَةَ نَشْغَةً أخرى، ثم مَالَ خَارّا عَلَى وَجْهِهِ فَأَسْنَدْتُهُ طَوِيلاً، ثُم أَفَاقَ فَقَالَ: حدثني رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم: " أَنّ الله تبارك تَعَالَى إِذَا كَانَ يَوْمُ القِيَامَةِ يَنْزِلُ إِلَى العِبَادِ لِيَقْضِيَ بَيْنَهُمْ وَكلّ أُمّةٍ جَاثِيَةٌ، فَأَوّلُ مَنْ يَدْعُو بِهِ رَجُلٌ جَمَعَ القُرْآنَ، وَرَجُلٌ قُتِلَ فِي سَبِيلِ الله، وَرَجُلٌ كَثِيرُ المَالِ، فَيَقُولُ الله لِلقارئ: أَلَمْ أُعَلِمْكَ مَا أَنْزَلْتُ عَلَى رَسُولِي؟ قَالَ بَلَى يَا رَبّ. قالَ: فَمَاذَا عُلّمتَ فِيمَا عَلِمْتَ؟ قالَ: كُنْتُ أَقُومُ بِهِ آنَاءَ الّليلِ وَآنَاءَ النّهَارِ، فَيَقُولُ الله لَهُ: كَذَبْتَ، وَتَقُولُ له المَلاَئِكَةُ كَذَبْتَ، وَيَقُولُ الله لَهُ: بَلْ أَرَدْتَ أَنْ يُقَالَ إن فلاناً قارئ، فَقَدْ قِيْلَ ذَاكَ. وَيُؤْتَى بِصَاحِبِ المَالِ، فَيَقُولُ الله: أَلَمْ أُوَسّعْ عَلَيْكَ حَتّى لَمْ أَدَعْكَ تَحْتَاجُ إِلَى
__________
معجمة أي شهق حتى كاد يغشى عليه أسفاً أو خوفاً قاله المنذري. وقال الجزري في النهاية: النشغ في الأصل الشهيق حتى يكاد يبلغ به الغشي وإنما يفعل الإنسان ذلك تشوقاً إلى شيء فائت وأسفاً عليه ومنه. حديث أبي هريرة أنه ذكر النبي صلى الله عليه وسلم فنشغ نشغة أي شهق وغشى عليه انتهى "مال خاراً" من الخرور أي ساقطاً "فأسندته" . قال في الصراح إسناد تكية دادن جيزي رايجيزي "وكل أمة جاثية" قال في القاموس: جثا كدعا ورمى جثواً وجثياً بضمهما جلس على ركبتيه أو قام على أطراف أصابعه انتهى "يدعو" أي الله تعالى "به" الضمير راجع إلى من "رجل جمع القرآن" أي حفظه "قتل" بصيغة المجهول "فماذا عملت" من العمل "فيما علمت" من العلم "كنت أقوم به" أي بالقرآن "آناء الليل وآناء النهار" أي ساعاتهما. قال الأخفش: واحدها إنىً مثل معىً، وقيل واحدها إنْىٌ وإنْوٌ وأنو، يقال مضى من الليل إنوان وإنيان "فقد قيل ذلك" أي ذلك القول فحصل مقصودك وغرضك "ألم أوسع عليك" أي ألم أكثر مالك "حتى(7/55)
أَحَدٍ؟ قالَ بَلَى يَا رَبّ. قالَ: فَمَاذَا عَمِلْتَ فِيمَا آتَيْتُكَ؟ قالَ: كُنْتُ أَصِلُ الرّحِمَ وَأَتَصَدّقُ، فَيَقُولُ الله لَهُ: كَذَبْتَ، وَتَقُولُ المَلاَئِكَةُ لَهُ كَذَبْتَ، وَيَقُولُ الله تعالى: بَلْ أَرَدْتَ أَنْ يُقَالَ فُلاَنٌ جَوَادٌ وَقَد قِيلَ ذَاكَ. وَيُؤْتَى بِالّذِي قُتِلَ في سَبِيلِ الله فَيَقُولُ الله لَهُ: فِيمَاذَا قُتِلْتَ؟ فَيَقُولُ أَمَرْت بِالْجِهَادِ فِي سَبِيلِكَ فقاتَلْتُ حَتّى قُتِلْتُ. فَيَقُولُ الله تعالى لَهُ كَذَبْتَ، وَتَقُولُ لَهُ المَلاَئِكَةُ كذَبْتَ، وَيَقُولُ الله تعالى: بَلْ أَرَدْتَ أَنْ يُقَالَ فُلاَنٌ جَرِيءٌ، فَقَدْ قِيلَ ذَاكَ" ، ثُمّ ضَرَبَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم عَلَى رُكْبَتِي فَقَالَ يَا أَبَا هُرَيْرَةَ: "أُولِئَكَ الثّلاَثَةُ أَوّلُ خَلْقِ الله تُسَعّرُ بِهِمْ النّارُ يَوْمَ القِيَامَةِ" . وقالَ الْوَلِيدُ أبُو عُثْمَانَ المَدائِنيّ: فَأَخْبَرَنِي عُقْبَةُ بن مسلم أَنّ شُفَيّاً هُوَ الّذِي دَخَلَ عَلَى مُعَاوِيَةَ فَأَخْبَرَهُ بِهَذَا. قالَ أَبُو عُثْمَانَ: وحدثني العَلاَءُ بنُ أَبي حَكِيمٍ أَنّهُ كَانَ سَيّافاً لِمُعَاوِيَةَ، قَالَ: فَدَخَلَ عَلَيْهِ رَجُلٌ، فَأَخْبَرَهُ بِهَذَا عن أَبي هُرَيْرَةَ، فَقَالَ مُعَاوِيَةُ: قَدْ فُعِلَ بِهؤلاءِ هَذَا فَكَيْفَ بِمَنْ بَقِيَ مِنَ النّاسِ، ثُمّ بَكَى مُعَاوِيَةُ بُكَاءً شَدِيداً حَتّى ظَنَنّا أَنّهُ هَالِكٌ، وَقُلْنَا قَدْ جَاءَنَا هَذَا الرّجُلُ
__________
لم أدعك" أي لم أتركك من ودع يدع "جواد" أي سخي كريم "جريئي" فعيل من الجرة فهو مهموز، وقد يدغم أي شجاع "تسعر" من التسعير أي توقد. والحديث دليل على تغليظ تحريم الرياء وشدة عقوبته وعلى الحث على وجوب الإخلاص في الأعمال كما قال تعالى: {وَمَا أُمِرُوا إِلاَّ لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} وفيه أن العمومات الواردة في فضل الجهاد وإنما هي لمن أراد الله تعالى بذلك مخلصاً، وكذلك الثناء على العلماء وعلى المنفقين في وجوه الخيرات كله محمول على من فعل ذلك لله تعالى مخلصاً "وحدثني العلاء بن أبي حكيم" قال في التقريب: العلاء بن أبي حكيم يحيى الشامي سياف معاوية ثقة من الرابعة "قد فعل بهؤلاء" أي القارئ والشهيد والجواد(7/56)
بِشَرٍ، ثُمّ أَفَاقَ مُعَاوِيَةُ وَمَسَحَ عن وَجْهِهِ وَقَالَ: صَدَقَ الله وَرَسُولُهُ: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لا يُبْخَسُونَ أُولَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الآخِرَةِ إِلاَّ النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُوا فِيهَا وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} .
__________
المذكورين في الحديث {مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا} يعني بعمله الذي يعمله من أعمال البر. نزلت في كل من عمل عملاً يبتغي به غير الله عز وجل {نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا} يعني أجور أعمالهم التي عملوها لطلب الدنيا، وذلك أن الله سبحانه وتعالى يوسع عليهم الرزق ويدفع عنهم المكاره في الدنيا ونحو ذلك {وَهُمْ فِيهَا لا يُبْخَسُونَ} أي لا ينقصون من أجور أعمالهم التي عملوها لطلب الدنيا بل يعطون أجور أعمالهم كاملة موفورة {أُولَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الآخِرَةِ إِلاَّ النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُوا} أي وبطل ما عملوا في الدنيا من أعمال البر {وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} لأنه لغير الله. واختلف المفسرون في المعنى بهذه الاَية فروى قتادة عن أنس أنها في اليهود والنصارى وعن الحسن مثله. وقال الضحاك من عمل عملاً صالحاً في غير تقوى يعني من أهل الشرك أعطي على ذلك أجراً في الدنيا وهو أن يصل رحماً أو يعطي سائلاً أو يرحم مضطراً أو نحو هذا من أعمال البر فيعجل الله له ثواب عمله في الدنيا يوسع عليه في المعيشة والرزق ويقر عينه فيما حوله، ويدفع عنه المكاره في الدنيا وليس له في الاَخرة نصيب. ويدل على صحة هذا القول سياق الاَية وهو قوله {أُولَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الآخِرَةِ إِلاَّ النَّارُ} الاَية. وهذه حالة الكافر في الاَخرة. وقيل نزلت في المنافقين الذين كانوا يطلبون بغزوهم مع رسول الله صلى الله عليه وسلم الغنائم لأنهم كانوا لا يرجون ثواب الاَخرة. وقيل إن حمل الاَية على العموم أولى فيندرج الكافر والمنافق الذي هذه صفته والمؤمن الذي يأتي بالطاعات وأعمال البر على وجه الرياء والسمعة. قال مجاهد في هذه الاَية هم أهل الرياء وهذا القول مشكل لأن قوله سبحانه وتعالى {أُولَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الآخِرَةِ إِلاَّ النَّارُ} لا يليق بحال المؤمن إلا إذا قلنا إن تلك الأعمال الفاسدة والأفعال الباطلة لما كانت لغير الله استحق فاعلها الوعيد الشديد وهو عذاب النار، كذا في تفسير الخازن.(7/57)
هذا حديثٌ حَسَنٌ غريب.
__________
قوله : "هذا حديث حسن غريب" وأخرجه ابن خزيمة في صحيحه.(7/58)
36-باب
2490-حدّثنا أَبُو كُرَيْبٍ، حدثني المُحَارِبِيّ، عن عَمّارِ بنِ سَيْفٍ الضّبّي، عن أَبي مَعَانٍ البَصْرِيّ، عن ابنِ سِيرِينَ عن أَبي هُرَيْرَةَ قالَ: قالَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم: "تَعَوّذُوا بِالله مِنْ جُبّ الْحَزَنْ". قَالُوا: يَا رَسُولَ الله وَمَا جُبّ الْحَزَنِ؟ قال: "وَادٍ في جَهَنّمَ يَتَعَوّذُ مِنْهُ جَهَنّمُ كلّ يَوْمٍ ماىَ مَرّةٍ. قِييلَ: يَا رسُولَ الله، وَمَنْ يَدْخُلُهُ؟ قال: الْقَرّاءُ المُرَاءُونَ بِأَعْمَالِهِمْ" .
قالَ: هذا حديثٌ حسنٌ غريبٌ.
__________
"باب"
قوله: "عن عمار بن سيف" بفتح مهملة وسكون تحتية "الضبي" بالمعجمة ثم الموحدة الكوفي ضعيف الحديث، وكان عابداً من التاسعة "أبي معان البصري" في تهذيب التهذيب: أبو معاذ، ويقال أبو معان وهو أصح، بصري عن أنس ومحمد بن سيرين وعنه عمار بن سيف الضبي. وفي الميزان: لا يعرف وفي التقريب: مجهول من السادسة "عن ابن سيرين" الظاهر أنه محمد بن سيرين، ويحتمل أن يكون أنس بن سيرين.
قوله : "تعوذوا بالله من جب الحزن" قال في المجمع: الجب بالضم البئر غير المطوي وجب الحزن علم واد في جهنم والإضافة فيه كدار السلام إذ فيه السلامة من كل آفة وحزن انتهى "مائة مرة" وفي رواية ابن ماجه أربع مائة مرة "القراءون" قال في القاموس: القراء كرمان الناسك المتعبد كالقارئ والمتقرئ والجمع قراؤون وقرارئ انتهى.
قوله : "هذا حديث غريب" في سنده عمار بن سيف وهو ضعيف. أبو معان وهو مجهول كما عرفت، والحديث أخرجه ابن ماجه أيضاً.(7/58)
37 -باب
2491-حَدّثنا محمّدُ بنُ المُثَنّى، أَخْبَرنَا أبو داوُدَ أَبو سِنَانٍ الشّيْبَانِيّ عن حَبِيبِ بنِ أَبي ثَابِتٍ، عن أَبي صَالحٍ، عن أَبي هُرَيْرَةَ قالَ: قال رَجُلٌ: يَا رسُولَ الله، الرّجُلُ يَعْمَلُ الْعَمَلَ فَيَسُرّهُ، فَإِذَا اطّلعَ عَلَيْهِ أَعْجَبَهُ ذلك، قال: قال رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم: "لَهُ أَجْرَانِ: أَجْرُ السّرّ وَأَجْرُ الْعَلانِيَةِ".
هذا حديثٌ حسنٌ غريبٌ. وقد روى الاعمَشُ وَغَيْرُهُ عن حَبِيبِ بنِ أَبي ثَابِتٍ، عن أَبي صالح، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم مُرْسَلاً، واصحاب الاعمَشِ لم يذكروا فيه عن أَبي هُرَيْرَةَ.
وقد فَسّرَ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ هذا الحديثَ: فقال إِذَا اطّلَعَ عَلَيْهِ فأَعْجَبَهُ، فإِنما مَعْنَاهُ أَنْ يُعْجِبَهُ ثَنَاءُ النّاسِ عَلَيْهِ بالخَيْرِ لِقَوْلِ النبيّ صلى الله عليه وسلم: "أَنْتُمْ شُهَدَاءُ الله في الارضِ، فَيُعْجِبُهُ ثَنَاءُ النّاسِ عَلَيْهِ لِهَذَا لما يرجو بثناء الناس عليه، فأَمّا إِذَا أَعْجَبَهُ لِيَعْلَمَ النّاسُ مِنْهُ الْخَيْرَ لِيُكَرمَ عَلَى ذَلِكَ ويعظّم عليه فَهَذَا رِيَاءٌ" . وقال بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ: إِذَا اطّلَعَ عَلَيْهِ فَأعجبه رَجَاءَ أَنْ يُعْمَلَ بِعَمَلِهِ،
ـــــــ
باب
قوله: "حدثنا أبو داود" هو الطيالسي "حدثنا أبو سنان الشيباني" هو الأصغر، ويأتي ترجمته وترجمة أبي سنان الأكبر في باب كم وصف أهل الجنة من أبواب صفة الجنة.
قوله : "فيسره" من الإسرار أي فيخفيه "فإذا اطلع" بصيغة المجهول، وقوله الرجل يعمل إلىقوله أعجبه إخبار فيه معنى الاستخبار، يعني هل تحكم على هذا أنه رياء أم لا "أجر السر" أي لإخلاصه "وأجره العلانية" أي للاقتداء به أو لفرحه بالطاعة وظهورها منه.
قوله : "وقال بعض أهل العلم إذا اطلع عليه فأعجبه رجاء أن يعمل بعمله(7/59)
فَيَكُونَ لَهُ مِثْلُ أُجُورِهِمْ، فَهَذَا لَهُ مَذْهَبُ أَيْضَاً
__________
فتكون له مثل أجورهم" وهذا معنى قوله صلى الله عليه وسلم: "من سن سنة حسنة كان له أجرها وأجر من عمل بها" "فهذا له مذهب أيضاً" أي هذا المعنى الثاني أيضاً صحيح يجوز أن يذهب إليه ويختار.(7/60)
باب المرء مع من أحب
...
38 -باب مَا جَاءَ أَن المَرْءَ معَ مَنْ أَحَب
2492-حدّثنا أَبو هِشَامٍ الرّفَاعِيّ، أخبرنا حَفْصُ بنُ غِيَاثٍ، عن أَشْعَثَ، عن الْحَسَنِ، عن أنَسِ بنِ مَالِكٍ قال: قال رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم: "المَرْءُ مَعَ مَنْ أَحَبّ وَلَهُ مَا اكْتَسَبَ" .
__________
"باب مَا جَاءَ أَن المَرْءَ معَ مَنْ أَحَب"
قوله: "عن أشعث" بن سوار الكندي النجار الأفرق الأثرم، صاحب التوابيت، قاضي الأهواز ضعيف من السادسة.
قوله : "المرء مع من أحب" أي يحشر مع محبوبه، ويكون رفيقاً لمطلوبه قال تعالى: {وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ} الاَية. وظاهر الحديث العموم الشامل للصالح والطالح، ويؤيده حديث: المرء على دين خليله كما مر. ففيه ترغيب وترهيب ووعد ووعيد "وله ما اكتسب" وفي رواية البيهقي في شعب الإيمان: أنت مع من أحببت، ولك ما احتسبت. قال القاري: أي أجر ما أحتسبت، والاحتساب طلب الثواب. وأصل الاحتساب بالشيء الاعتداد به ولعله مأخوذ من الحساب أو الحسب واحتسب بالعمل إذا قصد به مرضاة ربه. وقال التوربشتي: وكلا اللفظين "يعني احتسب واكتسب" قريب من الاَخر في المعنى المراد منه. قال الطيبي رحمه الله: وذلك لأن معنى ما اكتسب كسب كسباً يعتد به ولا يرد عليه سبب الرياء والسمعة، وهذا هو معنى الاحتساب لأن الافتعال للاعتمال انتهى. ومعنى الحديث أن المرء يحشر مع من أحبه وله أجر ما أحتسب في محبته.(7/38)
باب في حسن الظن بالله
...
39 -باب ما جَاءَ في حُسْنِ الظّنّ بالله تَعَالَى
2496-حَدّثنا أَبو كُرَيْبٍ، حدثنا وَكِيعٌ، عن جَعْفَرِ بنِ بُرْقَانَ، عن يَزِيدَ بنِ الأَصَمّ، عن أَبي هُرَيْرَةَ قالَ: قال رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم: "إِنّ الله تَعَالَى يَقُولُ: أَنَا عِنْدَ ظَنّ عَبْدِي فِيّ وَأَنَا مَعَهُ إِذَا دَعَانِي".
__________
باب ما جَاءَ في حُسْنِ الظّنّ بالله تَعَالَى
قوله: "عن جعفر بن برقان" بضم الموحدة وسكون الراء بعدها قاف، الكلابي، كنيته أبو عبد الله الرقي صدوق يهم في حديث الزهري من السابعة "عن يزيد بن الأصم" في التقريب يزيد بن الأصم، واسمه عمرو بن عبيد بن معاوية البكائي أبو عوف، كوفي نزل الرقة وهو ابن أخت ميمونة أم المؤمنين، يقال له رؤية ولا يثبت وهو ثقة.
قوله : "أنا عند ظن عبدي بي" أي أنا أعامله على حسب ظنه بي وأفعل به ما يتوقعه مني من خير أو شر، والمراد الحث على تغليب الرجاء على الخوف وحسن الظن بالله كقوله عليه الصلاة والسلام: " لا يموتن أحدكم إلا وهو يحسن الظن بالله" . ويجوز أن يراد بالظن اليقين. والمعنى: أنا عند يقينه بي وعلمه بأن مصيره إلي وحسابه على وأن ما قضيت به له أو عليه من خير أو شر لا مرد له. لا معطي لما منعت ولا مانع لما أعطيت، قاله الطيبي. وقال القرطبي في المفهم: قيل معنى ظن عبد بي ظن الإجابة عند الدعاء، وظن القبول عند التوبة، وظن المغفرة عند الاستغفار، وظن المجازاة عند فعل العبادة بشروطها تمسكاً بصادق وعده قال ويؤيدهقوله في الحديث الاَخر: ادعو الله وأنتم موقنون بالإجابة. قال ولذلك ينبغي للمرء أن يجتهد في القيام بما عليه، موقناً بأن الله يقبله ويغفر له(7/63)
هذا حديثٌ حسنٌ صحيحٌ.
__________
لأنه وعد بذلك وهو لا يخلف الميعاد فإن اعتقد أو ظن أن الله لا يقبلها وأنها لا تنفعه فهذا هو اليأس من رحمة الله وهو من الكبائر، ومن مات على ذلك وكل إلى ما ظن كما في بعض طرق الحديث المذكور، فيظن بي عبدي ما شاء. قال: وأما ظن المغفرة مع الإصرار فذلك محض الجهل والغرة، وهو يجر إلى مذهب المرجئة "وأنا معه إذا دعاني" أي بعلم، وهو كقوله إنني معكما أسمع وأرى.
قوله : "هذا حديث صحيح" وأخرجه الشيخان والنسائي وابن ماجه.(7/64)
40 -باب ما جَاءَ في البِرّ وَالإِثْم
2497-حَدّثنا مُوسَى بنُ عبدِ الرّحمَنِ الْكِنْدِيّ الْكُوفِيّ، حدثنا زَيْدُ بنُ حُبَابٍ، حدثنا مُعَاوِيَةَ بنُ صالِحٍ، حدثنا عبدُ الرحمنِ بنِ جُبَيْرِ بنِ نُفَيْرٍ الْحَضْرَمِيّ عن أَبِيهِ، عن النّوّاسِ بنِ سَمْعَانَ، أَنّ رَجُلاً سَأَلَ رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم عَنْ الْبِرّ وَالإِثْمِ، فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم: "الْبِرّ حُسْنُ الْخُلُقِ، وَالإِثْمُ مَا حَاكَ في نَفْسِكَ وَكَرِهْتَ أَنْ يَطّلِعَ عَلَيْهِ النّاسُ" .
__________
"باب ما جَاءَ في البِرّ وَالإِثْم"
قوله: "عن النواس" بتشديد الواو ثم مهملة "ابن سمعان" بفتح السين وكسرها ابن خالد الكلابي أو الأنصاري صحابي مشهور سكن الشام.
قوله : "فقال النبي صلى الله عليه وسلم: البر" أي أعظم خصاله أو البر كله مجملاً "حسن الخلق" أي مع الخلق.
قال النووي في شرح مسلم: قال العلماء: البر يكون بمعنى الصلة وبمعنى اللطف والمبرة وحسن الصحبة والعشرة، وبمعنى الطاعة، وهذه الأمور هي مجامع حسن الخلق. وقال الطيبي: قيل فسر البر في الحديث بمعان شتى، ففسره في موضع بما اطمأنت إليه النفس واطمأن إليه القلب، وفسره في موضع بالإيمان، وفي موضع بما يقربك إلى الله، وهنا بحسن الخلق، وفسر حسن الخلق باحتمال الأذى وقلة الغضب وبسط الوجه وطيب الكلام، وكلها متقاربة في المعنى "والإثم ما حاك(7/64)
2498-حدّثنا محمد بن بشار، أَخْبَرَنَا عبدُ الرّحمنِ بنُ مَهْدِي، أَخْبَرَنَا مُعَاوِيَةُ بنُ صالحٍ نَحْوَهُ إِلا أَنّهُ قال: سَأَلْتُ النبيّ صلى الله عليه وسلم.
هذا حديثٌ حسنٌ صحيحٌ.
__________
في نفسك" أي تحرك فيها وتردد، ولن ينشرح له الصدر، وحصل في القلب منه الشك، وخوف كونه ذنباً. وقيل يعني الإثم ما أثر قبحه في قلبك أو تردد في قلبك، ولم ترد أن تظهره لكونه قبيحاً وهو المعنى بقوله: "وكرهت أن يطلع الناس عليه" أي أعيانهم وأماثلهم، إذ الجنس ينصرف إلى الكامل، وذلك لأن النفس بطبعها تحب اطلاع الناس على خيرها، فإذا كرهت للاطلاع على بعض أفعالها فهو غير ما تقرب به إلى الله، أو غير ما أذن الشرع فيه وعلم أنه لا خير فيه ولا بر فهو إذاً إثم وشر.
قوله : "هذا حديث صحيح حسن" وأخرجه البخاري في الأدب المفرد ومسلم في البر والصلة.(7/65)
41 -باب ما جاءَ في الْحُبّ في الله
2499-حَدّثنا أَحْمَدُ بنُ مَنِيعٍ، أَخْبَرَنَا كَثِيرُ بنُ هِشَامٍ، أَخْبَرَنَا جَعْفَرُ بنُ بُرْقَانَ أَخْبَرنَا حَبِيبُ بنُ أَبي مَرْزُوقٍ عن عَطَاءِ بنِ أَبي رَبَاحٍ، عن أَبي مُسْلِمٍ الْخَوْلاَنِيّ، حدثني مُعَاذُ بنُ جَبَلٍ قال: سَمِعْتُ رَسُولَ الله
__________
"باب ما جاءَ في الْحُبّ في الله"
أي في ذات الله وجهته لا يشوبه الرياء والهوى، ومن هنا كما فيقوله تعالى: { وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا}
قوله : "حدثنا كثير بن هشام" الكلابي أبو سهل الرقي نزيل بغداد، ثقة من السابعة "حدثنا حبيب بن أبي مرزوق" الرقي ثقة فاضل من السابعة.(7/65)
صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: "قال الله عَزّ وَجَلّ: المُتَحَابّونَ في جَلاَلِي لَهُمْ مَنَابِرُ مِنْ نُورٍ يَغْبِطُهُمُ النّبِيّونَ وَالشّهَدَاءُ" . وفي البابِ، عن أَبي الدّرْدَاءِ، وَابنِ مَسْعُودٍ وَعُبَادَةَ بنِ الصّامِتِ، وَأَبي هُرَيْرَةَ،
__________
قوله : "المتحابون في جلالي" أي لأجل إجلالي وتعظيمي "يغبطهم النبيون والشهداء" قال القاري: بكسر الموحدة من الغبطة بالكسر، وهي تمني نعمة على ألا تتحول عن صاحبها، بخلاف الحسد فإنه تمني زوالها عن صاحبها فالغبطة في الحقيقة عبارة عن حسن الحال. كذا قيل. وفي القاموس: الغبطة حسن الحال والمسرة، فمعناها الحقيقي مطابق للمعنى اللغوي، فمعنى الحديث يستحسن أحوالهم الأنبياء والشهداء. قال: وبهذا يزول الإشكال الذي تحير فيه العلماء. وقال القاضي: كل ما يتحلى به الإنسان أو يتعاطاه من علم وعمل فإن له عند الله منزلة لا يشاركه فيه صاحبه ممن لم يتصف بذلك وإن كان له من نوع آخر ما هو أرفع قدراً وأعز ذخراً فيغبطه بأن يتمنى ويحب أن يكون له مثل ذلك مفهوماً إلى ماله من المراتب الرفيعة أو المنازل الشريفة، وذلك معنىقوله: يغبطهم النبيون والشهداء فإن الأنبياء قد استغرقوا فيما هو أعلى من ذلك من دعوة الخلق وإظهار الحق وإعلاء الدين وإرشاد العامة والخاصة، إلى غير ذلك من كليات أشغلتهم عن العكوف على مثل هذه الجزئيات والقيام بحقوقها، والشهداء وإن نالوا رتبة الشهادة وفازوا بالفوز الأكبر، فلعلهم لن يعاملوا مع الله معاملة هؤلاء، فإذا رأوهم يوم القيامة في منازلهم وشاهدوا قربهم وكرامتهم عند الله، ودوا لو كانوا ضامين خصالهم فيكونون جامعين بين الحسنتين وفائزين بالمرتبتين. وقيل إنه لم يقصد في ذلك إلى إثبات الغبطة لهم على هؤلاء بل بيان فضلهم وعلو شأنهم وارتفاع مكانهم وتقريرها على آكد وجه وأبلغه. والمعنى أن حالهم عند الله يوم القيامة بمثابة لو غبط النبيون والشهداء يومئذ مع جلالة قدرهم ونباهة أمرهم حال غيرهم لغبطوهم.
قوله : "وفي الباب عن أبي الدرداء وابن مسعود وعبادة بن الصامت وأبي مالك الأشعري وأبي هريرة" أما حديث أبي الدرداء فأخرجه الطبراني بإسناد حسن، وأما حديث ابن مسعود فأخرجه الطبراني في الأوسط، وأما(7/66)
هذا حديثٌ حسنٌ صحيحٌ. وأَبو مُسْلِمٍ الْخَوْلاَنِيّ اسْمُهُ عَبْدُ الله بنُ ثوَبٍ.
2500-حدّثنا الانْصَارِيّ، حدثنا معن، حدثنا مَالِكٌ عن حُبَيْبِ بنِ عبدِ الرّحمنِ، عن حَفْصِ بنِ عَاصِمٍ، عن أَبي هُرَيْرَةَ، أَوْ عن أَبي سَعِيدٍ: أَنّ رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم قال: "سَبْعَةٌ يُظِلّهُمُ الله في ظِلّهِ يَوْمَ
__________
حديث عبادة بن الصامت فأخرجه أحمد بإسناد صحيح، وأما حديث أبي مالك الأشعري فأخرجه أحمد وأبو يعلى بإسناد حسن والحاكم، وقال صحيح الإسناد. ذكر المنذري أحاديث هؤلاء الصحابة رضي الله عنهم في ترغيبه، وأما حديث أبي هريرة فأخرجه مسلم عنه مرفوعاً: أن الله تعالى يقول يوم القيامة: أين المتحابون بجلالي اليوم أظلهم في ظلي، يوم لا ظل إلا ظلي. وله أحاديث أخرى في هذا الباب.
قوله : "هذا حديث حسن صحيح" وأخرجه مالك وأحمد والطبراني والحاكم والبيهقي بلفظ: قال الله تعالى وجبت محبتي للمتحابين فيّ والمتجالسين فيّ والمتزاورين فيّ والمتباذلين فيّ.
قوله: "وأبو مسلم الخولاني" الزاهد الشامي "اسمه عبد الله بن ثوب" بضم المثلثة وفتح الواو بعدها موحدة قال في التقريب: وقيل بإشباع الواو وقيل ابن أثوب وزن أحمر، ويقال ابن عوف، أو ابن مشكم ويقال اسمه يعقوب بن عوف ثقة عابد من الثانية، رحل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فلم يدركه وعاش إلى زمن يزيد بن معاوية.
قوله : "حدثنا الأنصاري" هو إسحاق بن موسى الخطمي أبو موسى المدني "عن حفص بن عاصم" بن عمر بن الخطاب العمري، ثقة من الثالثة.
قوله : "سبعة" أي سبعة أشخاص "يظلهم الله" أي يدخلهم "في ظله" . قال عياض: إضافة الظل إلى الله إضافة ملك وكل ظل فهو ملكه. قال الحافظ في الفتح: وكان حقه أن يقول إضافة تشريف ليحصل امتياز هذا على غيره كما قيل للكعبة بيت الله مع أن المساجد كلها ملكه، وقيل المراد بظله كرامته وحمايته كما(7/67)
لاَ ظِلّ إِلاّ ظِلّهُ: إِمَامٌ عَادِلٌ، وَشَابٌ نَشَأَ بِعِبَادَةِ الله، وَرَجُلٌ كَانَ قَلْبُهُ مُعَلّقاً بالمَسْجِدِ إِذَا خَرَجَ مِنْهُ حَتّى يَعُودَ إِلَيْهِ، وَرَجُلاَنِ تَحَابّا في الله فَاجْتَمعَا
__________
يقال فلان في ظل الملك وهو قول عيسى بن دينار وقواه عياض. وقيل المراد ظل عرشه ويدل عليه حديث سلمان عند سعيد بن منصور بإسناد حسن: سبعة يظلهم الله في ظل عرشه فذكر الحديث قال: وإذا كان المراد العرش استلزم ما ذكر من كونهم في كنف الله وكرامته من غير عكس فهو أرجح، وبه جزم القرطبي ويؤيده أيضاً تقييد ذلك بيوم القيامة كما صرح به ابن المبارك في روايته عن عبيد الله بن عمر وهو عند المصنف في كتاب الحدود، قال: وبهذا يندفع قول من قال المراد ظل طوبى أو ظل الجنة لأن ظلهما إنما يحصل لهم بعد الاستقرار في الجنة ثم إن ذلك مشترك لجميع من يدخلها، والسياق يدل على امتياز أصحاب الخصال المذكورة فيرجح أن المراد ظل العرش وروى الترمذي وحسنة من حديث أبي سعيد مرفوعاً أحب الناس إلى الله يوم القيامة وأقربهم منه مجلساً إمام عادل انتهى "إمام عادل" قال الحافظ: المراد به صاحب الولاية العظمى ويلتحق به كل من ولي شيئاً من أمور المسلمين فعدل فيه، ويؤيده رواية مسلم من حديث عبد الله بن عمرو رفعه: إن المقسطين عند الله على منابر من نور عن يمين الرحمن، الذين يعدلون في حكمهم وأهليهم وما ولوا. قال وأحسن ما فسر به العادل الذي يتبع أمر الله بوضع كل شيء في موضعه من غير إفراط ولا تفريط وقدمه في الذكر لعموم النفع به "وشاب" خص الشاب لكونه مظنة غلبة الشهوة لما فيه من قوة الباعث على متابعة الهوى فإن ملازمة العبادة مع ذلك أشد وأدل على غلبة التقوى "نشأ" أي نما وتربى "بعبادة الله" أي لافى معصيته فجوزي بظل العرش لدوام حراسة نفسه عن مخالفة ربه "ورجل كان قلبه معلقاً بالمسجد" وفي رواية الشيخين: ورجل قلبه معلق في المساجد وقال الحافظ: ظاهره أنه من التعليق كأنه شبهه بالشيء المعلق في المسجد كالقنديل مثلاً إشارة إلى طول الملازمة بقلبه، وإن كان جسده خارجاً عنه. ويدل عليه رواية الجوزقي: كأنما قلبه معلق في المسجد ويحتمل أن يكون من العلاقة وهي شدة الحب ويدل عليه رواية أحمد: معلق بالمساجد وكذا رواية سليمان: من حبها "إذا خرج منه" أي من المسجد "حتى يعود إليه" لأن المؤمن في المسجد كالسمك في(7/68)
عَلَى ذَلِكَ وَتَفَرّقَا، وَرَجُلٌ ذَكَرَ الله خَالِياً فَفَاضَتْ عَيْنَاهُ، وَرَجُلٌ دَعَتْهُ امرأة ذَاتُ حَسَبٍ وَجَمَالٍ فَقَالَ إِنّي أَخَافُ الله عَزّ وَجَلّ، وَرَجُلٌ تَصَدّقَ بِصَدَقَةٍ فَأَخْفَاهَا حَتّى لا تَعْلَمَ شِمَالُهُ مَا تُنْفِقُ يَمِينُهُ".
__________
الماء والمنافق في المسجد كالطير في القفص "ورجلان" مثلاً "تحابا" بتشديد الباء وأصله تحاببا أي اشتركا في جنس المحبة، وأحب كل منهما الاَخر حقيقة لا إظهاراً فقط "في الله" أي لله أو في مرضاته "فاجتمعا على ذلك" أي على الحب في الله إن "اختمعا وتفرقا" أي إن تفرقاً يعني يحفظان الحب في الحضور والغيبة. وقال الحافظ: والمراد أنهما داما على المحبة الدينية ولم يقطعاها بعارض دنيوي، سواء اجتمعا حقيقة أم لا حتى فرق بينهما الموت.
"تنبيه" : عدت هذه الخصلة واحدة مع أن متعاطيها اثنان، لأن المحبة لاتتم إلا باثنين أو لما كان المتحابان بمعنى واحد كان عد أحدهما مغنياً عن عد الاَخر، لأن الغرض عد الخصال لإعد جميع من اتصف بها "ورجل ذكر الله" أي بقلبه من التذكر أو بلسانه من الذكر "خالياً" أي من الناس أو من الرياء أو مما سوى الله "ففاضت عيناه" أي فاضت الدموع من عينيه وأسند الفيض إلى العين مبالغة كأنها هي التي فاضت "ورجل دعته" امرأة إلى الزنا بها "ذات حسب" قال ابن الملك: الحسب ما يعده الإنسان من مفاخر آبائه وقيل الخصال الحميدة له ولاَبائه "فقال إني أخاف الله عز وجل" الظاهر أنه يقول ذلك بلسانه، أما ليزجرها عن الفاحشة أو ليعتذر إليها ويحتمل أن يقوله بقلبه. قاله عياض قال القرطبي: إنما يصدر ذلك عن شدة خوف من الله تعالى ومتين تقوى وحياء "ورجل تصدق بصدقة" نكرها ليشمل كل ما يتصدق به من قليل وكثير، وظاهرة أيضاً يشمل المندوبة والمفروضة لكن نقل النووي عن العلماء: أن إظهار المفروضة أولى من إخفائها "فأخفاها" قال ابن الملك هذا محمول على التطوع لأن إعلان الزكاة أفضل "حتى لا تعلم" بفتح الميم وقيل بضمها "شماله ما تنفق يمينه" قيل فيه حذف، أي لا يعلم من بشماله، وقيل يراد المبالغة في إخفائها، وإن شماله لو تعلم لما علمتها قال الحافظ في الفتح: وقد نظم السبعة العلامة أبو شامة عبد الرحمن بن إسماعيل فقال:
وقال النبي المصطفى إن سبعة ... يظلهم الله الكريم بظله
محب عفيف ناشئ متصدق ... وباكٍ مُصَلٍ والإمام بِعَدْلِهِ(7/69)
هذا حديثٌ حسنٌ صحيحٌ.
وهكذا رُوِيَ هذا الحديثُ عن مَالِكِ بنِ أَنَسٍ من غيرِ وَجهٍ مِثْلَ هذا، وَشَكّ فِيهِ. وقال عن أَبي هُرَيْرَةَ أَوْ عن أَبي سَعِيدٍ. وَعُبَيْدُ الله بنُ عُمَرَ رَوَاهُ عن حُبَيْبِ بنِ عبدِ الرّحمنِ وَلَمْ يَشُكّ فِيهِ يقول عن أَبي هُرَيْرَةَ.
2501-حدّثنا سَوّارُ بنُ عبدِ الله الْعَنْبَرِيّ ومحمّدُ بنُ المُثَنّى، قالا:
__________
ووقع في صحيح مسلم من حديث أبي اليسر مرفوعاً: من أنظر معسراً أو وضع له أظله الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله وهاتان الخصلتان غير السبعة الماضية، فدل على أن العدد المذكور لا مفهوم له. وقد تتبع الحافظ فوجد خصالاً أخرى غير الخصال المذكورة، وأوردها في جزء سماه معرفة الخصال الموصلة إلى الظلال.
قوله : "هذا حديث حسن صحيح" وأخرجه مالك في موطئه ومسلم في صحيحه.
قوله : "وهكذا روي هذا الحديث عن مالك بن أنس من غير وجه مثل هذا وشك فيه وقال عن أبي هريرة أو عن أبي سعيد" وكذلك أخرجه مالك في موطئه بالشك وكذلك أخرجه مسلم من طريق مالك "وعبيد الله بن عمر رواه عن خبيب بن عبد الرحمن ولم يشك فيه فقال عن أبي هريرة" وكذلك روى الشيخان من طريق عبيد الله بن عمر عن خبيب عبد الرحمن عن حفص بن عاصم عن أبي هريرة من غير شك قال الحافظ: لم تختلف الرواة عن عبيد الله في ذلك ورواية مالك في الموطإ عن خبيب فقال عن أبي سعيد أو أبي هريرة على الشك، ورواه أبو قرة عن مالك بواو العطف فجعله عنهما وتابعه مصعب الزبيري وشذ في ذلك عن أصحاب. مالك والظاهر أن عبيد الله حفظه لكونه لم يشك فيه ولكونه من رواية خاله وجده انتهى.
قوله : "حدثنا سوار بن عبد الله" بن سوار بن عبد الله بن قدامة التميمي العتبري أبو عبد الله البصري قاضي الرصافة وغيرها، ثقة من العاشرة غلط من تكلم(7/70)
أَخْبَرنَا يَحْيَىَ بنُ سَعِيدٍ عن عُبَيْدِ الله بنِ عُمَرَ، حدثني حُبَيْبِ بنِ عبدِ الرّحمنِ، عن حَفْصِ بنِ عاصِمٍ، عن أَبي هُرَيْرَةَ، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم نَحْوَ حديثِ مَالِكِ بنِ أَنَسٍ بِمَعْنَاهُ إِلاّ أَنّهُ قال: "كَانَ قَلْبُه مُعَلّقّاً بالمَسَاجِدِ. وقال: ذَاتَ مَنْصِبٍ وَجَمَالٍ".
حديث حسن صحيح.
__________
فيه "أخبرنا يحيى بن سعيد" هو القطان "عن عبيد الله بن عمر" هو العمري "عن خبيب بن عبد الرحمن" بضم المعجمة وهو خال عيد الله الراوي عنه "عن حفص بن عاصم" هو جد عبيد الله المذكور لأبيه.
قوله : "ذات منصب" بكسر الصاد: أصل أو شرف أو حسب أو مال "وجمال" أي مزيد حسن.
قوله : "هذا حديث حسن صحيح" وأخرجه أحمد والشيخان والنسائي.(7/71)
42-باب ما جاءَ في إِعْلاَمِ الحُب
2502-حدثنا بُنْدَارٌ، أخبرنا يَحْيَى بنُ سَعِيدٍ الْقَطّانُ، أخبرنا ثَوْرُ بنُ يَزِيدَ عن حَبِيبِ بنِ عُبَيْدٍ، عن المِقْدَامِ بنِ مَعْد يكَرِبٍ قال: قال رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم: "إِذَا أَحَبّ أَحَدُكُمْ أَخَاهُ فَلْيُعْلِمْهُ إِيّاهُ" . وفي البابِ عن أَبي ذَرٍ وَأَنَسٍ. "حديثُ المِقْدَامِ حديثٌ حسنٌ صحيحٌ غريبٌ" .
__________
"باب ما جاءَ في إِعْلاَمِ الحُب"
قوله: "عن حبيب بن عبيد" الرحبي أبي حفص الحمصي ثقة من الثالثة.
قوله : "إذا أحب أحدكم أخاه" في الدين "فليعلمه" أي فليخبره ندباً مؤكداً "إياه" أي أنه يحبه، وذلك لأنه إذا أخبره بذلك استمال قلبه واجتلب وده، فبالضرورة يحبه فيحصل الائتلاف ويزول الاختلاف بين المؤمنين.
قوله : "وفي الباب عن أبي ذر وأنس" . أما حديث أبي ذر فأخرجه أحمد والضياء المقدسي، وأما حديث أنس فأخرجه ابن حبان.(7/71)
2503-حدثنا هَنّادٌ وَقتَيْبَةُ، قالا: أَخْبَرنَا حَاتِمُ بنُ إِسْماعيلَ، عن عِمْرَانَ بنِ مُسْلِمٍ الْقَصِيرِ، عن سَعِيدِ بنِ سَلْمَانَ، عن يَزِيدَ بن نُعَامَةَ الضّبّيّ قال: قال رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم: "إِذَا آخَا الرّجُلُ الرّجُلَ فَلْيَسْأَلْهُ عَنْ اسْمِهِ وَاسْم أَبِيِه وَمِمّنْ هُوَ؟ فَإِنّهُ أَوْصَلُ لِلْمَوَدّةِ" .
هذا حديثٌ غريبٌ لا نَعْرِفُهُ إِلاّ من هذا الْوَجْهِ، ولا نعْرِف لِيَزِيدَ بنِ نُعَامَةَ سَمَاعاً مِنَ النبيّ صلى الله عليه وسلم.
__________
قوله : "حديث المقدام حديث حسن صحيح غريب" وأخرجه أحمد وأبو داود وابن حبان والحاكم وصححه.
قوله : "عن عمران بن مسلم" المنقري القصير البصري صدوق ربما، وهم، قيل هو الذي روي عن عبد الله بن دينار وقيل بل هو غيره وهو مكي من السادسة "عن سعيد بن سليمان" وفي بعض النسخ سعيد بن سلمان قال الحافظ في التقريب: سعيد بن سلمان أو ابن سليمان الربعي مقبول من السابعة، وقال في تهذيب التهذيب في ترجمته ذكره ابن حبان في الثقات له في الترمذي حديث واحد يعني حديث يزيد ابن نعامة هذا عن يزيد بن نعامة بضم نون وفتح عين مهملة كذا ضبطه صاحب مجمع البحار في المغني "الضبي" بفتح المعجمة وكسر الموحدة مشددة نسبة لضبه قبيلة مشهورة.
قوله : "إذا أخا الرجل الرجل" بمد الهمزة من المؤاخاة أي إذا اتخذه أخاً في الله "فيسأله عن اسمه" ما هو... "وممن هو" أي من أي قبيلة وقوم هو "فإنه" أي السؤال عما ذكر "أوصل" أي أكثر وصلة "للمودة" أي للمحبة في الإخوة.
قوله : "هذا حديث غريب" وأخرجه ابن سعد في الطبقات.
قوله: "ولا نعرف ليزيد بن نعامة سماعاً من النبي صلى الله عليه وسلم" قال في التقريب: يزيد بن نعامة الضبي أبو مودود البصري، مقبول من الثالثة ولم يثبت أن له صحبة. وقال في تهذيب التهذيب في ترجمته: أرسل عن النبي صلى الله عليه وسلم حديث إذا آخا الرجل الرجل.(7/72)
وَيُرْوى، عن ابنِ عُمَرَ، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم نَحْوَ هذَا الحديثِ، ولا يَصِحّ إِسْنَادُهُ.
__________
قوله : "ويروى عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم نحو هذا الحديث ولا يصح إسناده" رواه البيهقي في شعب الإيمان ولفظه: "إذا آخيت رجلاً فاسأله عن اسمه واسم أبيه فإن كان غائباً حفظته، وإن كان مريضاً عدته، إن مات شهدته" . قال المناوي: وفي إسناده ضعف قليل.(7/73)
باب كراهية المدحة والمداحين
...
43 -باب ما جاء في كَرَاهِيَةِ المُدْحَةِ وَالمدّاحِين
2504-حدثنا محمد بن بشار، حدثنا عبدُ الرّحمنِ بنُ مَهْدِيّ، حدثنا سُفْيَانُ عن حبِيبِ بنِ أَبي ثَابِتٍ، عن مُجَاهِدٍ، عن أَبي مَعْمَرٍ قال: قَامَ رَجُلٌ فأَثْنَى عَلَى أَمِيرٍ مِنَ الأُمَرَاءِ، فَجَعَلَ المِقْدَادُ بنُ الاسْوَدِ يَحْثُو في وَجْهِهِ التّرَابَ وقال: " أَمَرَنَا رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم أَنْ نَحْثُوَ في وُجُوهِ المَدّاحِينَ التّرَابَ".
__________
"باب ما جاء في كَرَاهِيَةِ المُدْحَةِ وَالمدّاحِين"
قال في القاموس: مدحه كمنعه مدحاً ومدحه: أحسن الثناء عليه، كمدحه وامتدحه، والمديح والمدحة والأمدوحة ما يمدح به انتهى
قوله : "أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نحثو في وجوه المداحين التراب" قيل يؤخذ التراب ويرمى به في وجه المداح عملاً بظاهر الحديث وقيل معناه الأمر بدفع المال إليهم إذا المال حقير كالتراب بالنسبة إلى العرض في كل باب، أي أعطوهم إياه واقطعوا به ألسنتهم لئلا يهجوكم وقيل معناه أعطوهم عطاء قليلاً فشبه لقلته بالتراب. وقيل المراد منه أن يخيب المادح ولا يعطيه شيئاً لمدحه والمراد زجر المادح والحث على منعه من المدح لأنه يجعل الشخص مغروراً ومتكبراً. قال الخطابي: المداحون هم الذين اتخذوا مدح الناس عادة وجعلوه بضاعة(7/73)
وفي البابِ عن أَبي هُرَيْرَةَ.
هذا حديثٌ حسنٌ صحيحٌ.
وقد رَوَى زَائِدَةُ عن يَزِيدَ بنِ أَبي زِيَادٍ، عن مُجَاهِدٍ، عن ابنِ عَبّاسٍ، عن المقداد وحديثُ مُجَاهِدٍ، عن أَبي مَعْمَرٍ أَصَحّ. وَأَبُو مَعْمَرٍ اسْمُهُ عبدُ الله بنُ سُخْبَرَةَ. وَالمِقْدَادُ بنُ الاسْوَدِ هُوَ المِقْدَادُ بنُ عَمْرٍو الْكِنْدِيّ، ويُكْنَى أَبَا مَعْبَدٍ، وإِنما نُسِبَ إِلَى الاسْوَدِ بنِ عَبْدِ يَغُوثَ لانّهُ كَانَ قد تَبَنّاهُ وَهُوَ صَغِيرٌ.
__________
يستأكلون به الممدوح. فأما من مدح الرجل على الفعل الحسن، والأمر المحمود يكون منه ترغيباً له في أمثاله وتحريضاً للناس على الاقتداء على أشباهه فليس بمداح. وفي شرح الستة قد استعمل المقداد الحديث على ظاهره في تناول عين التراب وحثه في وجه المادح وقد يتأول على أن يكون معناه الخيبة والحرمان أي من تعرض لكم بالثناء والمدح فلا تعطوه واحرموه، كني بالتراب عن الحرمان كقولهم: ما في يده غير التراب وكقوله صلى الله عليه وسلم: إذا جاءك يطلب ثمن الكلب فاملأ كفه تراباً.
قلت: الأولى أن يحمل الحديث على ظاهره كما حمله عليه رواية المقداد بن الأسود، وإلا فالأولى أن يتأول على أن يكون معناه الخيبة والحرمان، وأما ما سواه من التأويل ففيه بعد كما لا يخفى والله أعلم. وقال الغزالي: في المدح ست آفات أربع على المادح واثنتان على الممدوح، أما المادح فقد يفرط فيه فيذكره بما ليس فيه فيكون كذاباً، وقد يظهر فيه من الحب مالا يعتقده فيكون منافقاً، وقد يقول له مالا يتحققه فيكون مجازفاً، وقد يفرح الممدوح به وربما كان ظالماً فيعصي بإدخال السرور عليه، وأما الممدوح فيحدث فيه كبراً وإعجاباً وقد يفرح فيفسد العمل.
قوله : "وفي الباب عن أبي هريرة" أخرجه الترمذي في هذا الباب.
قوله : "هذا حديث حسن صحيح" وأخرجه أحمد ومسلم والبخاري في الأدب المفرد، وأبو داود وابن ماجه كذا في المرقاة.
قوله : "وحديث مجاهد عن أبي معمر أصح" لأن حبيب بن أبي ثابت الذي(7/74)
2505-حدثنا مُحَمّدُ بنُ عُثْمَانَ الكُوفِيّ، أَخْبَرَنَا عُبَيْدُ الله بنُ مُوسَى، عن سَالِمٍ الْخَيّاطِ، عن الْحَسَنِ، عن أَبي هُرَيْرَةَ قال: "أَمَرَنَا رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم أَنْ نَحْثُوَ في أَفْوَاهِ المَدّاحِينَ التّرَابَ" .
هذا حديثٌ غريبٌ مِنْ حديثِ أَبي هُرَيْرَةَ.
__________
رواه عن مجاهد ثقة فقيه جليل. وأما يزيد بن أبي زياد الذي رواه عن مجاهد عن ابن عباس فهو ضعف كبر فتغير وصار يتلقن.
قوله : "حدثنا محمد" ابن عثمان بن كرمة الكوفي ثقة من الحادية عشرة "عن سالم" بن عبد الله الخياط البصري نزل مكة، وهو سالم مولى عكاشة، وقيل هما اثنان صدوق سيء الحفظ من السادسة.
قوله : "أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نحثو أي نرمي" .
قوله : "هذا حديث غريب من حديث أبي هريرة" وهو منقطع لأن الحسن لم يسمع من أبي هريرة شيئاً.(7/75)
44 -باب مَا جَاءَ في صُحْبَةِ المؤمِن
2506-حدثنا سُوَيْدُ بنُ نَصْرٍ، أخْبَرَنَاْ عبدُ الله بنُ المُبَارَكِ، عن حَيْوَةَ بنِ شُرَيْحٍ، أَخْبَرنَا سَالِمُ بنُ غَيْلاَنَ أَنّ الْوَلِيدَ بنَ قَيْسٍ التّجيْبِيّ
__________
"باب مَا جَاءَ في صُحْبَةِ المؤمِن"
قوله: "حدثني سالم بن غيلان" بفتح معجمة وسكون تحتية التجيبي المصري ليس به بأس من السابعة "أن الوليد بن قيس" بن الأخرم "التجيبي" بضم المثناة الفوقية ويجوز فتحها وكسر جيم وسكون مثناة تحت وحدة وبشدة ياء في الاَخر منسوب إلى تجيب بن ثوبان بن سليم مقبول من الخامسة. وقال في تهذيب التهذيب في ترجمته: روي عن أبي سعيد أو عن أبي الهيثم عن أبي سعيد انتهى.(7/75)
أَخْبَرَهُ أَنّهُ سَمِعَ أَبَا سَعِيدٍ الْخُدْرِيّ، قال سَالِمُ أَوْ عن أَبي الْهَيْثَمِ عن أَبي سَعِيدٍ أَنّهُ سَمِعَ رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم يقولُ: "لا تُصَاحِبْ إِلاّ مُؤْمِناً وَلاَ يَأْكُلْ طَعَامَكَ إِلاّ تَقِيٌ" .
هذا حديثٌ حسنٌ إِنما نَعْرِفُهُ من هذا الْوَجْهِ.
__________
قوله : "قال سالم أو عن أبي الهيثم عن أبي سعيد" وسياق سند أبي داود هكذا حدثنا عمرو بن عون أنبأنا ابن المبارك عن حيوة بن شريح عن سالم بن غيلان عن الوليد بن قيس عن أبي سعيد أو عن أبي الهيثم عن أبي سعيد انتهى.
والحاصل: أنه وقع الشك لسالم بن غيلان في أن الوليد بن قيس حدثه عن أبي سعيد بلا واسطة، أو حدثه عن أبي الهيثم عن أبي سعيد.
قوله : "لا تصاحب إلا مؤمناً" أي كاملاً بلا مكملاً، أو المراد منه النهي عن مصاحبة الكفار والمنافقين، لأن مصاحبتهم مضرة في الدين، فالمراد بالمؤمن من جنس المؤمنين "ولا يأكل طعامك إلا تقي" أي متورع يصرف قوة الطعام إلى عبادة الله والنهي وإن نسب إلى التقي ففي الحقيقة مسند إلى صاحب الطعام، فهو من قبيل: لا أرينك ههنا. فالمعنى لا تطعم طعامك إلا تقياً. قال الخطابي هذا إنما جاء في طعام الدعوة دون طعام الحاجة وذلك أنه تعالى قال: {وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِيناً وَيَتِيماً وَأَسِيراً} ومعلوم أن أسراهم كانوا كفاراً غير مؤمنين وإنما حذر من صحبة من ليس بتقي، وزجر عن مخالطته ومؤاكلته لأن المطاعم توقع الألفة، والمودة في القلوب. وقال الطيبي: ولا يأكل نهي لغير التقي أن يأكل طعامه والمراد نهيه عن أن يتعرض لما لا يأكل التقي طعامه من كسب الحرام وتعاطي ما ينفر عنه التقي. فالمعنى لا تصاحب إلا مطيعاً، ولا تخالل إلا تقياً انتهى. قال القاري وهو في غاية من البهاء غير أنه لا يستقيم به وجه الحصر، فالصواب ما قدمناه.
قلت: الأمر كما قال القاري.
قوله : "هذا حديث إنما نعرفه من هذا الوجه" وأخرجه أحمد وأبو داود والدارمي وابن حبان والحاكم وسكت عنه أبو داود والمنذري. وقال المناوي أسانيده صحيحة.(7/76)
باب في الصبر على البلاء
...
45 -باب ما جاءَ في الصّبْرِ عَلى الْبَلاَء
2507-حدثنا قُتَيْبَةُ، حدثنا الّليثُ عن يَزِيدَ بنِ أَبي حَبِيبِ، عن سَعْدِ بنِ سِنَانٍ، عن أَنَسٍ قال: قال رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم: "إِذَا أَرَادَ الله بِعَبْدِهِ الْخَيْرَ عَجّلَ لَهُ الْعُقُوبَةَ في الدّنْيَا، وَإِذَا أَرَادَ بِعَبْدِهِ الشّرّ أَمْسَكَ عَنْهُ بِذَنْبِهِ حَتّى يُوَافى بِهِ يَوْمَ القِيَامَةِ" . وبهذا الإِسْنَادِ عن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال: "إِنّ عِظَمَ الْجَزَاءِ مَعَ عُظمِ الْبَلاَءِ، وَإِنّ الله إِذَا أَحَبّ قَوْماً ابْتَلاَهُمْ، فَمَنْ رَضِيَ فَلَهُ الرّضَى، وَمَنْ سَخِطَ فَلَهُ السّخَطُ" .
__________
"باب ما جاءَ في الصّبْرِ عَلى الْبَلاَء"
قوله: "عن سعد بن سنان" قال في التقريب سعد بن سنان، ويقال سنان ابن سعد الكندي المصري، وصوب الثاني البخاري، وابن يونس صدوق له أفراد من الخامسة.
قوله : "إذا أراد الله بعبده الخير عجل" بالتشديد أي أسرع "له العقوبة" أي الالبتلاء بالمكاره "في الدنيا" ليخرج منها وليس عليه ذنب ومن فعل ذلك معه فقد أعظم اللطف به والمنة عليه "أمسك" أي أخر "عنه" ما تستحقه من العقوبة "بذنبه" أي بسببه "حتى يوافي به يوم القيامة" أي حتى يأتي العبد بذنبه يوم القيامة. قال الطيبي: يعني لا يجازيه بذنبه حتى يجيء في الاَخرة متوفر الذنوب وافيها، فيستوفي حقه من العقاب.
قوله : "إن عظم الجزاء" أي كثرته "مع عظم البلاء" بكسر المهملة، وفتح الظاء فيهما ويجوز ضمها مع سكون الظاء فمن ابتلاؤه أعظم فجزاؤه أعظم "ابتلاهم" أي اختبرهم بالمحن والرزايا "فمن رضي" بما ابتلاه به "فله الرضى" منه تعالى وجزيل الثواب "ومن سخط" بكسر الخاء أي كره بلاء الله وفزع ولم يرض بقضائه "فله السخط" منه تعالى وأليم العذاب، ومن يعمل سوءاً يجز به، والمقصود الحث على الصبر على البلاء بعد وقوعه لا الترغيب في طلبه للنهي عنه.(7/77)
هذا حديثٌ حسنٌ غريبٌ من هذا الوَجْهِ.
2508-حدثنا محمودُ بنُ غَيْلاَنَ، حدثنا أَبُو دَاوُدَ، أخبرنا شُعْبَةُ عن الاعْمَشِ قال: سَمِعْتُ أَبَا وَائِلٍ. يقولُ قالت عائِشةُ: "ما رَأَيْتُ الْوَجَعَ عَلَى أَحَدٍ أَشَدّ مِنْهُ عَلَى رَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم".
هذا حديثٌ حسنٌ صحيحٌ.
2509-حدثنا قُتَيْبَةُ، أَخبرنا شَرِيكٌ عن عاصِمٍ بن بهدلة، عن مُصْعَبِ بنِ سَعْدٍ عن أَبِيهِ قال قلت: يا رسولَ الله، أَيّ النّاسِ أَشَدّ بَلاَءً؟ قال: "الانْبِيَاءُ
__________
قوله : "هذا حديث حسن غريب من هذا الوجه" الظاهر أن الترمذي حسن الحديث الثاني ولم يحكم على الحديث الأول بشيء مع أنه أيضاً حسن عنده لأن سندهما واحد. وذكر السيوطي الحديث الأول في الجامع الصغير وعزاه إلى الترمذي والحاكم، وذكر الحديث الثاني فيه أيضاً وعزاه إلى الترمذي وابن ماجه وذكر المنذري الحديث الثاني في الترغيب وقال رواه ابن ماجه والترمذي وقال حديث حسن غريب.
قوله : "سمعت أبا وائل يحدث يقول" كذا في بعض النسخ ولم يقع في بعضها لفظ يحدث وهو الظاهر.
قوله : "ما رأيت الوجع" قال الحافظ في الفتح: المراد بالوجع المرض، والعرب تسمي كل وجع مرضاً انتهى "منه" أي من الوجع "على رسول الله صلى الله عليه وسلم" أي ما رأيت أحداً أشد وجعاً من رسول الله صلى الله عليه وسلم.
قوله : "هذا حديث حسن صحيح" وأخرجه الشيخان والنسائي وابن ماجه.
قوله : "أي الناس أشد" أي أكثر وأصعب "بلاء" أي محنة ومصيبة "قال الأنبياء" أي هم أشد في الابتلاء لأنهم يتلذذون بالبلاء كما يتلذذ غيرهم بالنعماء، ولأنهم لو لم يبتلوا لتوهم فيهم الألوهية، وليتوهن على الأمة الصبر على البلية.(7/78)
ثُمّ الامْثَلُ فالامْثَلُ: فَيُبْتَلَى الرّجُلُ عَلَى حَسَبِ دِيِنِه، فَإِنْ كَانَ في دِيِنهِ صُلْباً اشْتَدّ بَلاَؤُهُ، وَإِنْ كَانَ في دِيِنهِ رِقّةٌ ابْتُلِيَ عَلَى حسب دِيِنهِ، فمَا يَبْرَحُ الْبَلاَءُ بالْعَبْدِ حَتّى يَتْرُكَهُ يَمْشِي عَلَى الأَرْضِ مَا عَلَيْهِ خَطِيئَةٌ" .
هذا حديثٌ حسنٌ صحيحٌ.
__________
ولأن من كان أشد بلاء كان أشد تضرعاً والتجاء إلى الله تعالى "ثم الأمثل فالأمثل" قال الحافظ: الأمثل أفعل من المثالة والجمع أماثل وهم الفضلاء. وقال ابن الملك: أي الأشرف فالأشرف والأعلى فالأعلى رتبة ومنزلة. يعني من هو أقرب إلى الله بلاؤه أشد ليكون ثوابه أكثر قال الطيبي: ثم فيه للتراخي في الرتبة والفاء للتعاقب على سبيل التوالي تنزلاً من الأعلى إلى الأسفل واللام في الأنبياء للجنس. قال القاري: ويصح كونها للاستغراق إذ لا يخلو واحد منهم من عظيم محنة وجسيم بلية بالنسبة لأهل زمنه، ويدل عليهقوله: "يبتلي الرجل على حسب دينه" أي مقداره ضعفاً وقوة ونقصاً وكمالاً. قال الطيبي: الجملة بيان للجملة الأولى واللام في الرجل الاستغراق في الأجناس المتوالية "فإن كان" تفصيل للابتلاء وقدره "في دينه صلباً" بضم الصاد المهملة أي قوياً شديدا وهو خبر كان واسمه ضمير راجع والجار متعلق بالخبر "اشتد بلاؤه" أي كمية وكيفية "وإن كان في دينه رقة" أي ذا رقة ويحتمل أن يكون رقة اسم كان أي ضعف ولين. قال الطيبي: جعل الصلابة صفة له والرقة صفة لدينه مبالغة وعلى الأصل. قال القاري: وكان الأصل في الصلب أن يستعمل في الجثث وفي الرقة أن تستعمل في المعاني، ويمكن أن يحمل على التفنن في العبارة انتهى "ابتلى على قد ردينه" أي ببلاء هين سهل، والبلاء في مقابلة النعمة، فمن كانت النعمة عليه أكثر فبلاؤه أغزر "فما يبرح البلاء" أي ما يفارق أو ما يزال "بالعبد" أي الإنسان "حتى يتركه يمشي على الأرض وما عليه خطيئة" كناية عن خلاصه من الذنوب، فكأنه كان محبوساً ثم أطلق وخلي سبيله يمشي ما عليه بأس.
قوله : "هذا حديث حسن صحيح" وأخرجه أحمد والدارمي والنسائي في الكبرى وابن ماجه وابن حبان والحاكم كذا في الفتح.(7/79)
2510-حدثنا محمدُ بنُ عبدِ الاعْلَى، حدثنا يَزِيدُ بنُ زُرَيْعٍ، عن محمّدِ بنِ عَمْرٍو عن أَبي سَلَمَةَ، عن أَبي هُرَيْرَةَ قال: قال رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم: "ما يَزَالُ الْبَلاَءِ بالمُؤمِنِ وَالمُؤْمِنَةِ في نَفْسِهِ وَوَلَدِهِ وَمَالِهِ حَتّى يَلْقَى الله وَمَا عَلَيْهِ خَطِيئَةٌ" .
هذا حديثٌ حسنٌ صحيحٌ.
وفي البابِ عن أَبي هُرَيْرَةَ وَأُخْتِ حُذَيْفَةَ بنِ الْيمَانِ.
__________
قوله : "ما يزال البلاء بالمؤمن" أي ينزل بالمؤمن الكامل "والمؤمنة" الواو بمعنى أو بدليل إفراد الضمير في نفسه وماله وولده، ووقع في المشكاة بالمؤمن أو المؤمنة. قال القاري: أو للتنويع ووقع في أصل ابن حجر بالواو، فقال الواو بمعنى أو بدليل إفراد الضمير وهو مخالف للنسخ المصححة والأصول المعتمدة "وولده" بفتح الواو واللام وبضم فسكون أي أولاده "حتى يلقى الله" أي يموت "وما عليه خطيئة" بالهمزة والإدغام أي وليس عليه سيئة لأنها زالت بسبب البلاء.
قوله : "هذا حديث حسن صحيح" وأخرجه مالك في الموطإ عنه مرفوعاً بلفظ: ما يزال المؤمن يصاب في ولده وخاصته حتى يلقى الله وليست له خطيئة. وأخرجه أيضاً أحمد وابن أبي شيبة بلفظ: لا يزال البلاء بالمؤمن حتى يلقى الله وليس عليه خطيئة، كذا في الفتح. وقال المنذري في الترغيب بعد ذكر حديث أبي هريرة هذا: رواه الترمذي وقال حديث حسن صحيح، والحاكم وقال صحيح على شرط مسلم انتهى.
قوله : "وفي الباب عن أبي هريرة وأخت حذيفة بن اليمان" أما حديث أبي هريرة فأخرجه البخاري. وأما حديث أخت حذيفة بن اليمان فأخرجه النسائي وصححه الحاكم. وأخت حذيفة اسمها فاطمة بنت اليمان صرح به الحافظ في الفتح.(7/80)
46 -باب ما جاءَ في ذَهَابِ البَصَر
2511-حدثنا عبدُ الله بنُ مُعَاوِيَةَ الْجُمَحِيّ، حدثنا عبدُ العَزِيزِ بنُ مُسْلِمٍ، أخبرنا أَبو ظِلاَلٍ، عن أَنَسِ بنِ مَالِكٍ قال: قال رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم: "إِنّ الله تَعَالى يَقُولُ إِذَا أَخَذْتُ كَرِيمَتَي عَبْدِي في الدّنْيَا لَمْ يَكُنْ لَهُ جَزاءٌ عِنْدِي إِلاّ الْجَنّةَ" .
وفي البابِ عن أَبي هُرَيْرَةَ وَزَيْدِ بنِ أَرْقَمَ.
هذا حديثٌ حسنٌ غريبٌ من هذا الْوَجْهِ. وأَبو ظِلاَلٍ اسْمُهُ هِلاَلٌ.
2512-حدثنا مَحْمُودُ بنُ غَيْلاَنَ، حدثنا عبدُ الرّزَاقِ، أخبرنا سُفْيَانُ عن الاعْمَشِ عن أَبي صالحٍ، عن أَبي هُرَيْرَةَ رَفَعَهُ إِلَى النبيّ صلى الله عليه وسلم قال: "يقول الله عَزّ وَجَلّ: مَنْ أَذْهَبْتُ حَبِيبَتَيْهِ فَصَبَرَ
__________
"باب ما جاءَ في ذَهَابِ البَصَر"
قوله: "إن الله يقول إذا أخذت كريمتي عبدي" أي أعمت عينه الكريمتين عليه وإنما سميتا بها لأنه لا أكرم عند الإنسان في حواسه منها "لم يكن له جزاء عندي إلا الجنة" أي دخولها مع السابقين أو بغير عذاب، لأن العمى من أعظم البلايا، وهذا قيده في حديث أبي هريرة الاَتي بما إذا صبر واحتسب.
قوله : "وفي الباب عن أبي هريرة وزيد بن أرقم" أما حديث أبي هريرة فأخرجه الترمذي في هذا الباب وأما حديث زيد بن أرقم فأخرجه البزار من رواية جابر الجعفي بلفظ: ما ابتلى عبد بعد ذهاب دينه بأشد من ذهاب بصره ومن ابتلى ببصره فصبر حتى يلقى الله لقي الله تبارك وتعالى ولا حساب عليه. قال الحافظ في الفتح وأصله عند أحمد بغير لفظه بسند جيد انتهى.
قوله : "هذا حديث حسن غريب من هذا الوجه" وأخرجه البخاري ولفظه: إن الله قال إذا ابتليت عبدي بحيبتيه فصبر عوضته منهما الجنة بريد عينيه.
قوله : "من أذهبت حبيبتيه" بالثنية قال الحافظ وقد فسرهما آخر الحديث(7/81)
وَاحْتَسَبَ لَمْ أَرْضَ لَهُ ثَوَاباً دُونَ الْجَنّةِ" .
وفي البابِ عن عِرْبَاضِ بنِ سَارِيَةَ.
هذا حديثٌ حسنٌ صحيحٌ.
__________
بقوله يريد عينيه والمراد بالحبيبتين المحبوبتان، لأنهما أحب أعضاء الإنسان إليه لما يحصل له بفقدهما من الأسف على فوات رؤية ما يريد رؤيته من خير فيسر به أو شر فيجتنبه "فصبر واحتسب" قال الحافظ المراد أنه يصبر مستحضراً ما وعد الله به الصابر من الثواب، لا أن يصبر مجرداً عن ذلك لأن الأعمال بالنيات وابتلاء الله عبده في الدنيا ليس من سخطه عليه، بل إما لدفع مكروه أو لكفارة ذنوب أو لرفع منزلة، فإذا تلقى ذلك بالرضا تم له المراد، وإلا يصير كما جاء في حديث سلمان: إن مرض المؤمن يجعله الله له كفارة ومستعتباً، وإن مرض الفاجر كالبعير عقله أهله ثم أرسلوه فلا يدري لم عقل ولم أرسل. أخرجه البخاري في الأدب المفرد موقوفاً انتهى "لم أرض له ثواباً دون الجنة" قال الحافظ: وهذا أعظم العوض لأن الالتذاذ بالصبر يفنى بفناء الدنيا، والالتذاذ بالجنة باق ببقائها وهو شامل لكل من وقع له ذلك بالشرط المذكور، ووقع في حديث أبي أمامة فيه قيد آخر أخرجه البخاري في الأدب المفرد بلفظ: إذا أخذت كريمتيك فصبرت عند الصدمة واحتسبت. فأشار إلى أن الصبر النافع هو ما يكون في وقوع البلاء فيفوض ويسلم وإلا فمتى تضجر وتقلق في أول وهلة ثم يئس فيصبر لا يكون حصل المقصود. وقد مضى حديث أنس في الجنائز: إنما الصبر عند الصدمة الأولى. وقد وقع في حديث العرباض فيما صححه ابن حبان فيه بشرط آخر ولفظه: إذا سلبت من عبدي كريمتيه وهو بهما ضنين لم أرض له ثواباً دون الجنة إذا هو حمدني عليهما. ولم أر هذه الزيادة في غير هذه الطريق، وإذا كان ثواب من وقع له ذلك الجنة، فالذي له أعمال صالحة أخرى يزاد في رفع الدرجات انتهى.
قوله : "وفي الباب عن عرباض بن سارية" أخرجها ابن حبان في صحيحه.
قوله : "هذا حديث حسن صحيح" وأخرجه ابن حبان في صحيحه بلفظ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا يذهب الله بحبيبتي عبد فيصبر ويحتسب إلا أدخله الله الجنة" .(7/82)
2513-حدثنا مُحمّدُ بنُ حُمَيْدٍ الرّازِيّ، وَيُوسُفُ بنُ مُوسَى القَطّانُ البَغْدَادِيّ قَالاَ: أخبرنا عَبْدُ الرحمَنِ بنُ مَغْرَاءَ أَبُو زُهَيْرٍ، عن الاعْمَشِ، عن أَبي الزّبَيْرِ، عن جَابِرٍ قالَ: قال رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم: "يَوَدّ أَهْلُ الْعَافِيةِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ حِينَ يُعْطَى أَهْلُ البَلاَءِ الثّوَابَ لَوْ أَنّ جُلُودَهُمْ كَانَتْ قُرِضَتْ فِي الدّنْيَا بِالمَقَارِيضِ" . وهذا حديثٌ غريبٌ لا نَعْرِفُهُ بِهَذَا الإِسْنَادِ إِلاّ مِنْ هَذَا الوَجْهِ. وَقَدْ رَوَى بَعْضُهُمْ هَذَا الْحَدِيثَ، عن الاعْمَشِ، عن طَلْحَةَ بنِ مُصَرّفٍ، عن مَسْرُوقٍ شَيْئاً مِنْ هَذَا.
__________
قوله : "ويوسف بن موسى" بن راشد القطان البغدادي أبو يعقوب الكوفي نزيل الري ثم بغداد، صدوق من العاشرة "أخبرنا عبد الرحمن بن مغراء" كذا في نسخ الترمذي بالمد. وكذا في تهذيب التهذيب. والخلاصة ولكن ضبطه الحافظ في التقريب بالقصر، فقال عبد الرحمن بن مغرا بفتح الميم وسكون المعجمة ثم راء مقصوراً الدوسي "أبو زهير" بالتصغير، الكوفي نزيل الري، صدوق تكلم في حديثه عن الأعمش من كبار التاسعة.
قوله : "يود" أي يتمنى "أهل العافية" أي في الدنيا "يوم القيامة" ظرف يود "حين يعطى" على البناء للمفعول "الثواب" مفعول ثان، أي كثير أو بلا حساب لقوله تعالى: {إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ} . "قرضت" بالتخفيف ويحتمل التشديد للمبالغة والتأكيد أي قطعت "في الدنيا" قطعة قطعة "بالمقاريض" جمع المقراض ليجدوا ثواباً كما وجد أهل البلاء. قال الطيبي: الود محبة الشيء وتمنى كونه له ويستعمل في كل واحد من المعنيين من المحبة والتمني. وفي الحديث هو من المودة التي هي بمعنى التمني وقوله: لو أن الخ نزل منزلة مفعول يود كأنه قيل يود أهل العافية ما يلازم لو أن جلودهم كانت مقرضة في الدنيا وهو الثواب المعطى. قال ميرك: ويحتمل أن مفعول يود الثواب على طريق التنازع. وقوله لو أن جلودهم حال أي متمنين أن جلودهم الخ أو قائلين لو أن جلودهم على طريقة الالتفات من التكلم إلى الغيبة.
قوله : "هذا حديث غريب" قال المنذري في الترغيب بعد ذكر هذا الحديث:(7/83)
2514-حدثنا سُوَيْدُ بنُ نَصْرٍ، أخبرنا عَبْدُ الله بنُ المُبَارَكِ، أخبرنا يَحْيَى بنُ عُبَيْدِ الله، قالَ سَمِعْتُ أَبِي يَقُولُ سَمِعْتُ أَبي هُرَيْرَةَ يَقُولُ: قالَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم: "مَا مِنْ أَحَد يَمُوتُ إِلاّ نَدِمَ". قالُوا وَمَا نَدَامَتُهُ يَا رَسُولُ الله؟ قالَ: "إِنْ كَانَ مُحْسِناً نَدِمَ أَنْ لاَ يَكُونَ ازْدَادَ، وَإِنْ كَانَ مُسيئاً نَدِمَ أَنْ لاَ يَكُونَ نَزَعَ" .
هذا حديثٌ إِنمَا نَعْرِفُهُ مِنْ هَذَا الوجْهِ، وَيَحْيَى بنُ عُبَيْدِ الله قَدْ تَكَلَمَ فِيهِ شُعْبَةُ وَهُوَ يَحْيَى بنُ عُبَيْدِ الله بِنُ موهبٍ مدني.
2515-حدثنا سُوَيْدُ، أخبرنا ابنُ المُبَارَكِ، أخبرنا يَحْيَى بنُ عُبَيْدِ الله، قال: سَمِعْتُ أَبِي يَقُولُ سَمِعْتُ أَبا هُرَيْرَةَ يَقُولُ: قالَ رَسُولُ الله
__________
رواه الترمذي وابن أبي الدنيا من رواية عبد الرحمن بن مغرا وبقية رواته ثقات. وقال الترمذي حديث غريب ورواه الطبراني في الكبير عن ابن مسعود موقوفاً عليه، وفيه رجل لم يسم انتهى.
قوله : "أخبرنا يحيى بن عبيد الله" بن عبد الله بن موهب، التميمي المدني متروك وأفحش الحاكم فرماه بالوضع من السادسة "قال سمعت أبي" أي عبيد الله بن عبد الله بن موهب التميمي المدني مقبول من الثالثة.
قوله : "ما من أحد يموت إلا ندم" بكسر الدال أي تأسف واغتم فعلى كل أحد أن يغتنم الحياة قبل الممات وأن يستبق الخيرات قبل الوفاة "قالوا وما ندامته" أي وما وجه تأسف كل أحد "إن كان محسناً ندم أن لا يكون ازداد" أي خيراً من عمله "وإن كان مسيئاً ندم أن لا يكون نزع" أي أقلع عن الذنوب ونزع نفسه عن ارتكاب المعاصي وتاب وصلح حاله.
قوله : "هذا حديث إنما نعرفه من هذا الوجه" وهو ضعيف "ويحيى بن عبيد الله قد تكلم فيه شعبة" قال في تهذيب التهذيب: قال علي بن المديني سألت يحيى يعني ابن سعيد عن يحيى بن عبيد الله فقال: قال شعبة رأيته يصلي صلاة(7/84)
صلى الله عليه وسلم: "يَحْرُجُ في آخِرِ الزّمَانِ رِجَالٌ يَخْتِلُونَ الدّنْيَا بالدّينِ، يَلْبَسُونَ لِلنّاسِ جُلُودَ الضّأْنِ مِنَ الّلينِ، أَلْسِنَتُهُمْ أَحْلَى مِنَ السّكّرِ وَقُلِوبُهُمْ قُلُوبُ الذّئَابِ. يَقُولُ الله عز وجل أَبي يَغْتَرّونَ أَمْ عَلَيّ تَجْتَرِئُونَ؟ فَبِي حَلَفْتُ لأَبْعَثَنّ عَلَى أُولَئِكَ مِنْهُمْ فِتْنَةً تَدَعُ الْحَلِيمَ مِنْهُمْ حَيْرَاناً" .
__________
لا يقيمها فتركت حديثه، وذكر الحافظ فيه جروح أئمة الحديث فإن شئت الوقوف عليها فارجع إليه.
قوله : "يختلون الدنيا بالدين" أي يطلبون الدنيا بعمل الاَخرة، يقال ختله يختله ويختله ختلاً وختلاناً: إذا خدعه وراوغه، وختل الذئب الصيد إذا تخفى له "يلبسون للناس جلود الضأن من اللين" كناية عن إظهار اللين مع الناس. وقال القاري: المراد بجلود الضأن عينها أو ما عليها من الصوف وهو الأظهر. فالمعنى أنهم يلبسون الأصواف ليظهم الناس زهاداً وعباداً تاركين الدنيا راغبين في العقبى. وقوله من اللين: أي من أجل إظهار التلين والتلطف والتمسكن والتقشف مع الناس وأرادوا به قلت: حقيقة الأمر التملق والتواضع في وجوه الناس ليصيروا مريدين لهم ومعتقدين لأحوالهم، انتهى "أحلى من السكر" بضم السين المهملة وتشديد الكاف معرب شكر "وقلوبهم قلوب الذئاب" أي مسودة شديدة في حب الدنيا والجاه "أبي تغترون" الهمزة الاستفهام أي أبحلمي وإمهالي تغترون؟ والاغترار هنا عدم الخوف من الله، وإهمال التوبة، والاسترسال في المعاصي والشهوات "أم علي تجترئون" ؟ أم منقطعة اضرب إلى ما هو أشنع من الاغترار بالله أي تعملون الصالحات ليعتقد فيكم الصلاح فيجلب إليكم الأموال وتخدمون "فبي حلفت" أي بعظمتي وجلالي لا بغير ذلك "لأبعثن" من البعث أي لأسلطن ولأقضين "على أولئك" أي الموصوفين بما ذكر "منهم" أي مما بينهم بتسليط بعضهم على بعض "فتنة تدع الحليم" أي تترك العالم الحازم فضلاً عن غيره "حيراناً" كذا في النسخ الحاضرة بالتنوين. وذكر المنذري هذا الحديث في الترغيب نقلاً عن الترمذي وفيه حيران بغير التنوين وكذلك في المشكاة وهو الظاهر أي حال كونه متحيراً في الفتنة لا يقدر على دفعها ولا على الخلاص منها لا بالإقامة(7/85)
وفي البابِ، عن ابنِ عُمَرَ.
2516-حدثنا أَحمدُ بنُ سَعِيدٍ الدّارِمِيّ، حدثنا محمّدُ بنُ عَبّادِ، أخبرنا حَاتِمُ بنُ إِسماعيلَ، أخبرنا حَمْزَةُ بنُ أَبي محمّدٍ، عن عبدِ الله بنِ دِينَارٍ، عن ابنِ عُمَرَ، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم قالَ: "إِنّ الله تَعَالَى قَالَ: لَقَدْ خَلَقْتُ خَلْقاً أَلْسِنَتُهُمْ أَحْلَى مِنَ الْعَسَلِ وَقُلُوبُهُمْ أَمَرّ مِنَ الصّبْرِ، فَبِي حَلَفْتُ لأُتِيحَنّهُمْ فِتْنَةً تَدَعُ الْحَلِيمَ مِنْهُمْ حيْرَاناً، فبِي يَغْتَرّونَ أَمْ عَلَيّ يَجْتَرِئُونَ" .
__________
فيها ولا بالفرار منها. قال الأشرف: من في منهم يجوز أن يكون للتبيين بمعنى الذين والإشارة إلى الرجال، وتقديره على أولئك الذين يختلون الدنيا بالدين وأن يجعل متعلقاً بالفتنة أي لأبعثن على الرجال الذين يختلون الدنيا بالدين فتنة ناشئة منهم كذا في المرقاة. وهذا الحديث أيضاً ضعيف لأن في سنده أيضاً يحيى ابن عبيد الله.
قوله : "وفي الباب عن ابن عمر" أخرجه الترمذي بعد هذا.
قوله : "حدثنا أحمد بن سعيد" بن صخر الدارمي أبو جعفر السرخسي ثقة حافظ من الحادية عشرة "حدثنا محمد بن عباد" بن الزبرقان المكي نزيل بغداد صدوق يهم من العاشرة "أخبرنا حمزة بن أبي محمد" المدني ضعيف من السابعة كذا في التقريب، وقال في تهذيب التهذيب في ترجمته له في الترمذي حديث واحد في خلق قوم ألسنتهم أحلى من العسل. قال أبو حاتم ضعيف الحديث منكر الحديث لم يرو عنه غير حاتم انتهى.
قوله : "لقد خلقت خلقاً" أي من الاَدميين "ألسنتهم أحلى من العسل" فيها يملقون ويداهنون "وقلوبهم أمر من الصبر" قال في القاموس: الصبر ككتف ولا يسكن إلا في ضرورة شعر عصارة شجر مر أي فيها يمكرون وينافقون "لأتيحنهم" بمثناة فوقية فمثناة تحتية فحاء مهملة فنون أي لأقدرن لهم من أتاح له كذا أي قدر له وأنزل به "فتنة" أي ابتلاء وامتحاناً "تدع الحليم" بفتح الدال أي تتركه "منهم حيراناً" أي تترك العاقل منهم متحيراً، لا يمكنه دفعها، ولا كف شرها. "فبي يغترون" بتقدير همزة الاستفهام.(7/86)
هذا حديثٌ حسنٌ غريبٌ من حديثِ ابنِ عُمَر لا نعرفُه إِلاّ من هذا الوَجْهِ.
__________
قوله : "هذا حديث حسن غريب" ذكر المنذري في الترغيب هذا الحديث ونقل تحسين الترمذي وأقره.
اعلم أن حديث ابن عمر هذا وحديث أبي هريرة الذي قبله، لا مناسبة لهما بباب ذهاب البصر، ولعله سقط قبلهما باب يناسب هذين الحديثين.(7/87)
47 -باب ما جاءَ في حِفْظِ الّلسان
2517-حدثنا صالحُ بنُ عبدِ الله، حدثنا ابنُ المُبَارَكِ، وحدثنا سُوَيْدُ بنُ نَصْرٍ، أخبرنا عبدُ الله بنُ المُبَارَكِ، عن يَحْيَى بنِ أَيّوبَ، عن عُبَيْدِ الله بنِ زَحْرٍ، عن عَلِيّ بنِ يَزِيدَ، عن القَاسِمِ، عن أَبي أُمَامَةَ، عن عُقْبَةَ بنِ عَامِرٍ قالَ: قلت: يا رسولَ الله: مَا النّجَاةُ؟ قال: "أمسك عَلَيْكَ لِسَانَكَ وَلْيَسَعْكَ
__________
"باب ما جاءَ في حِفْظِ الّلسان"
قوله: "عن عقبة بن عامر" الجهني صحابي مشهور اختلف في كنيته على سبعة أقوال أشهرها أبو حماد ولي إمرة مصر لمعاوية ثلاث سنين وكان فقيهاً فاضلاً.
قوله : "ما النجاة" أي ما سببها "قال أملك عليك لسانك" أمر من الملك. قال في القاموس: ملكه يملكه ملكاً مثلثة احتواه قادراً على الاستبداد به وأملكه الشيء وملكه إياه تمليكاً بمعنى انتهى. قال الطيبي أي أحفظه عما لا خير فيه. وقال صاحب النهاية: أي لا تجره إلا بما يكون لك لا عليك. وقال القاري في المرقاة: وقع في النسخ المصححة يعني من المشكاة أملك بصيغة المزيدة مضبوطة انتهى.
قلت: الظاهر من حيث المعنى هو أملك من الثلاثي المجرد، وأما أملك من باب الأفعال فلا يستقيم معناه هنا إلا بتكلف "وليسعك" بكسر اللام أمر من وسع يسع. قال الطيبي: الأمر في الظاهر وارد على البيت وفي الحقيقة على المخاطب أي نعرض لما هو سبب هزوم البيت من الاشتعال بالله والتوانسة بطاعته والخلوة(7/87)
بَيْتُكَ وَابُكِ عَلَى خَطِيئَتِكَ" .
هذا حديثٌ حسنٌ.
2518-حدثنا محمّدُ بنُ مُوسَى الْبَصْرِيّ، حدثنا حَمّادُ بنُ زَيْدٍ، عن أَبي الصّهْبَاءِ، عن سَعِيدِ بنِ جُبَيْرٍ، عن أَبي سَعِيد الْخُدْرِيّ رَفَعَهُ قال: "إِذَا أَصْبَحَ ابْنُ آدَمَ فَإِنّ الأَعْضَاءَ كُلّهَا تُكَفّرُ الّلسَانَ فَتَقُولُ: اتَقِ الله فِينَا فَإِنّمَا نَحْنُ بِكَ، فَإِنْ اسْتَقَمْتَ اسْتَقَمْنَا، وَإِنْ اعْوَجَجْتَ اعْوَجَجْنَا" .
__________
عن الأغيار "وابك على خطيئتك" قال الطيبي من بكى معنى الندامة وعداه يعلى أي اندم على خطيئتك باكياً.
قوله : "هذا حديث حسن" قال المنذري في الترغيب بعد ذكر هذا الحديث رواه أبو داود والترمذي وابن أبي الدنيا في العزلة وفي الصمت والبيهقي في كتاب المزهد وغيره كلهم من طريق عبيد الله بن زحر عن علي بن يزيد عن القاسم عن أبي أمامة عنه. وقال الترمذي: حديث حسن غريب انتهى.
قوله : "عن أبي الصهباء" قال في تهذيب التهذيب: أبو الصهباء الكوفي عن سعيد بن جبير عن أبي سعيد الخدري رفعه: إذا أصبح ابن آدم فإن الأعضاء كلها تكفر اللسان الحديث. وعنه حماد بن زيد وغيره ذكره ابن حبان في الثقات انتهى. وقال في التقريب مقبول من السادسة.
قوله : "إذا أصبح ابن آدم" أي دخل في الصباح "فإن الأعضاء" جمع عضو كل عظم وافر بلحمه "كلها" تأكيد "تكفر اللسان" بتشديد الفاء المكسورة، أي نتذلل وتتواضع له منقولهم كفر اليهودي إذا خضع مطاطا رأسه وانحنى لتعظيم صاحبه كذا قيل. وقال في النهاية: التكفير هو أن ينحني الإنسان ويطأطئ رأسه قريباً من الركوع كما يفعل من يريد تعظيم صاحبه "فتقول" أي الأعضاء له حقيقة أو هو مجاز بلسان الحال "اتق الله فينا" أي خفة في حفظ حقوقنا "فإنا نحن بك" أي نتعلق ونستقيم ونعوج بك "فإن استقمت" أي اعتدلت "استقمنا" أي اعتدلنا تبعاً لك "وإن اعوججت" أي ملت عن طريق الهدى "اعوججنا" أي ملنا عنه اقتداء بك. قال الطيبي: فإن قلت: كيف التوفيق بين(7/88)
2519-حدثنا هَنّادٌ، أخبرنا أَبو أُسَامَةَ عن حَمّادِ بنِ زَيْدٍ نَحْوَهُ ولم يَرْفَعْهُ. وهذا أَصَحّ من حديثِ محمدِ بنِ مُوسَى.
هذا حديثٌ لاَ نعرفُه إِلاّ من حديثِ حَمّادِ بنِ زَيْدٍ. وقد رَوَاهُ غيرُ وَاحِد عن حَمّادِ بنِ زَيْدٍ ولم يَرْفَعُوهُ.
2520-حدثنا محمّدُ بنُ عبدِ الأَعْلَى الصّنْعَانِيّ، أَخْبَرنَا عُمَرُ بن عَلِيّ المُقَدّمِيّ، عن أَبي حَازِمٍ، عن سَهْلِ بنِ سَعْدٍ قال: قال رَسُول الله صلى الله عليه وسلم: "مَنْ يَتَوَكّل لِي مَا بَيْنَ لَحْيَيْهِ وَمَا بَيْنَ رِجْلَيْهِ أَتَوَكّلُ لَهُ
__________
هذا الحديث وبينقوله صلى الله عليه وسلم: إن في الجسد لمضغة إذا صلحت صلح الجسد كله وإذا فسدت فسد الجسد كله، ألا وهي القلب. قلت: اللسان ترجمان القلت وخليفته في ظاهر البدن، فإذا أسند إليه الأمر يكون على سبيل المجاز في الحكم، كما في قولك: شفي الطبيب المريض. قال الميداني فيقوله: المرء بأصغريه، يعني بهما القلب واللسان. أي يقوم ويكمل معانيه بهما وأنشد لزهير.
وكائن ترى من صامت لك معجب زيادته أو نقصه في التكلم
لسان الفتى نصف ونصف فؤاده فلم يبق إلا صورة اللحم والدم
انتهى.
قوله : "هذا حديث لا نعرفه إلا من حديث حماد بن زيد" وأخرجه ابن خزيمة في صحيحه والبيهقي في شعب الإيمان وابن أبي الدنيا.
قوله : "حدثنا عمر بن علي" بن عطاء بن مقدم المقدمي بصري أصله واسطي ثقة، وكان يدلس شديداً من الثامنة.
قوله : "من يتوكل لي" بالجزم على أن من شرطية. قال في النهاية: توكل بالأمر إذا ضمن القيام به. وقيل هو بمعنى تكفل انتهى. وفي رواية للبخاري: من يضمن لي. قال الحافظ: بفتح أوله وسكون الضاد المعجمة والجزم من الضمان بمعنى الوفاء بترك المعصية فأطلق الضمان وأراد لازمه. وهو أداء الحق الذي عليه. فالمعنى من أدى الحق الذي على لسانه من النطق بما يجب عليه أو الصمت عما لا يعنيه وأدى الحق الذي على فرجه من وضعه في الحلال انتهى "ما بين لحييه" بفتح(7/89)
بالْجَنّةِ" . وفي البابِ عن أَبي هُرَيْرَةَ وابنِ عَبّاسٍ.
حديثٌ حسنٌ صحيحٌ غريبٌ.
2521-حدثنا أَبو سَعِيدٍ الأَشَجّ، أَخْبَرَنَا أَبو خالِدٍ الاحْمَرُ، عن ابنِ عْجَلاَنَ عن أَبي حَازِمٍ، عن أَبي هُرَيْرَةَ قال: قال رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم: "مَنْ وَقَاهُ الله شَرّ مَا بَيْنَ لَحْيَيْهِ وَشَرّ مَا بَيْنَ رِجْلَيْهِ دَخَلَ الْجَنّةَ" .
هذا حديثٌ حسنٌ صحيحٌ. وأَبو حازِمٍ الذي رَوَى عن سَهْلِ بنِ سَعْدٍ، هُوَ أَبو حازِمٍ الزّاهِدُ مَدِيني واسْمُهُ: سَلَمَةُ بنُ دِينَارٍ. أَبو حازِمٍ الذي رَوَى
__________
اللام وسكون الحاء والتثنية هما العظمان اللذان ينبت عليهما الأسنان علواً وسفلاً. قال الحافظ: والمراد بما بين اللحيين اللسان وما يتأتى به النطق، وبما بين الرجلين الفرج. وقال ابن بطال: دل الحديث على أن أعظم البلاء على المرء في الدنيا لسانه وفرجه، فمن وقى شرهما وقى أعظم الشر انتهى ما في الفتح "أتوكل له" بالجزم جواب الشرط وهو من باب المقابلة "بالجنة" أي دخولها أولاً أو درجاتها العالية.
قوله : "وفي الباب عن أبي هريرة وابن عباس" . أما حديث أبي هريرة فأخرجه الترمذي في هذا الباب، وأما حديث ابن عباس فلينظر من أخرجه.
قوله : "هذا حديث حسن صحيح غريب" وأخرجه البخاري في كتاب الرقاق وفي كتاب المحاربين.
قوله : "من وقاله الله شر ما بين لحييه وشر ما بين رجليه" أراد شر لسانه وفرجه "دخل الجنة" أي بغير عذاب أو مع السابقين.
قوله : "هذا حديث حسن صحيح" قال المنذري في الترغيب بعد ذكر هذا الحديث: رواه الترمذي وحسنه، وابن حبان في صحيحه، ورواه ابن أبي الدنيا إلا أنه قال: من حفظ ما بين لحييه انتهى.
قوله : "وأبو حازم الذي روى عن سهل بن سعد هو أبو حازم الزاهد مديني واسمه سلمة بن دينار" قال في التقريب سلمة بن دينار أبو حازم الأعرج التمار المدني القاص مولى الأسود بن سفيان ثقة عابد من الخامسة "وأبو حازم الذي روى(7/90)
عن أَبي هُرَيْرَةَ اسْمُهُ سَلْمَانُ الأَشْجَعِيّ مَوْلَى عَزّةَ الأَشْجَعِيّةِ وَهُوَ الكُوفِيّ.
2522-حدثنا سُوَيْدُ بنُ نَصْرٍ، أخبرنا عبدُ الله بنُ المُبَارَكِ، عن مَعْمَرٍ، عن الزُهْرِيّ، عن عبدِ الرّحمنِ بنِ مَاعِزٍ، عَنْ سُفْيَانَ بنِ عبدِ الله الثّقَفِيّ قال: "قلت: يَا رَسُولَ الله، حَدّثْنِي بِأَمْرٍ أَعْتَصِمُ بِهِ. قال: قُلْ رَبّي الله ثُمّ اسْتَقِمْ. قال: قلت: يا رسولَ الله، مَا أَخْوَفُ مَا تَخَافُ عَلَيّ؟ فَأَخَذَ بِلِسَانِ نَفْسِهِ ثُمّ قَالَ: هذا" .
هذا حديثٌ حسنٌ صحيحٌ. وقد رُوِيَ من غيرِ وَجْهٍ عن سُفْيَانَ بنِ عبدِ الله الثّقَفِيّ.
__________
عن أبي هريرة اسمه سلمان الأشجعي الخ" تقدم ترجمته.
قوله : "عن عبد الرحمن بن ماعز" قال في التقريب: عبد الرحمن بن ماعز، ويقال محمد بن عبد الرحمن بن ماعز، ويقال ماعز بن عبد الرحمن اختلف علي الزهري في ذلك والأول أقوى مقبول من الثالثة "عن سفيان بن عبد الله" بن ربيعة بن الحارث الثقفي الطائفي صحابي وكان عامل عمر على الطائف.
قوله: "حدثني بأمر أعتصم به" أي أستمسك به "قال قل ربي الله ثم استقم" هو لفظ جامع لجميع الأوامر والنواهي، فإنه لو ترك أمراً أو فعل منهياً فقد عدل عن الطريق المستقيمة حتى يتوب. ومنه {إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا} فإن من رضي بالله رباً يؤدي مقتضيات الربوبية ويحقق مراضيه ويشكر نعماءه "ما أخوف ما تخاف عليّ" ما الأولى استفهامية مبتدأ خبره أخوف وهو اسم تفضيل بني للمفعول نحو أشهد وألوم وأشغل وما الثانية مضاف إليه خوف وهي موصولة والعائد محذوف أي أي شيء أخوف أشياء تخاف منها عليّ. وقال الطيبي: مافي ما تخاف يجوز أن تكون موصولة أو موصوفة وأن تكون مصدرية على طريقة جد جده، وجن جنونه، وخشيت خشيته "فأخذ" أي النبي صلى الله عليه وسلم "بلسان نفسه" الباء زائدة لمزيد التعدية "ثم قال هذا" هو مبتدأ أو خبر. والمعنى هذا أكثر خوفي عليك منه.
قوله : "هذا حديث حسن صحيح" وأخرجه ابن ماجه وابن حبان في صحيحه(7/91)
2523-حدثنا أَبو عَبْدِ الله محمّدُ بنُ أَبِي ثَلْجٍ الْبَغْدَادِيّ صَاحِبُ أَحْمَدَ بنِ حَنْبَلٍ، حدثنا عَلِيّ بنُ حَفْصٍ، أخبرنا إِبْرَهِيمُ بنُ عبدِ الله بنِ حاطِبٍ، عن عبدِ الله بنِ دِينَارٍ، عن ابنِ عُمَرَ قال: قال رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم: "لا تُكْثِرِ الْكَلاَمَ بِغَيْرِ ذِكْرِ الله، فَإِنّ كَثْرَةَ الْكَلاَمِ بِغَيْرِ ذِكْرِ الله قَسْوَةٌ لِلْقَلْبِ، وَإِنّ أَبْعَدَ النّاسِ مِنَ الله الْقَلْبُ الْقَاسِي" .
2524-حدثنا أَبو بَكْرِ بنِ أَبي النّضْرِ، حدثني أَبو النّضْرِ، عن إِبراهيمَ بنِ عبدِ الله بنِ حَاطِبٍ عن عبدِ الله بنِ دِينَارِ عن ابنِ عُمَرَ، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم نَحْوَهُ بمعناه.
__________
والحاكم وقال صحيح الإسناد كذا في الترغيب.
قوله : "حدثنا أبو عبد الله محمد" بن عبد الله بن إسماعيل "بن أبي ثلج" بمثلثة وجيم "البغدادي" أصله من الري صدوق من الحادية عشرة "حدثنا علي ابن حفص" المدائني نزيل بغداد صدوق من التاسعة "أخبرنا إبراهيم بن عبد الله" ابن الحارث "بن حاطب" الجمحي، صدوق، روى مراسيل من السابعة.
قوله : "لا تكثر الكلام بغير ذكر الله" فيه إشارة إلى أن بعض الكلام مباح وهو ما يعنيه "فإن كثرة الكلام بغير ذكر الله قسوة" أي سبب قساوة "للقلب" وهي النبو عن سماع الحق، والميل إلى مخالطة الخلق. وقلة الخشية وعدم الخشوع والبكاء، وكثرة الغفلة عن دار البقاء "وإن أبعد الناس من الله القلب القاسي" أي صاحبه، أو التقدير أبعد قلوب الناس القلب القاسي. أو أبعد الناس من له القلب القاسي. قال الطيبي رحمه الله: ويمكن أن يعبر بالقلب عن الشخص لأنه به كما قيل: المرء بأصغريه أي بقلبه ولسانه فلا يحتاج إذاً إلى حذف الموصول مع بعض الصلة، قال تعالى {ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً} الاَية. وقال عز وجل {أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ} .
قوله : "حدثني أبو النضر" اسمه هاشم بن القاسم بن مسلم الليثي، مولاهم(7/92)
هذا حديثٌ حسنٌ غريبٌ لا نَعْرِفُهُ إِلاّ من حديثِ إِبْراهيمَ بنِ عبدِ الله بنِ حَاطِبٍ.
2525-حدثنا محمّدُ بنُ بَشّارٍ وغيرُ وَاحِدٍ، قالوا: أَخْبَرنَا محمدُ بنُ يَزِيدٍ بن خُنَيْسٍ المَكّيّ قال: سَمِعْتُ سَعِيدَ بنَ حَسَانَ المَخْزُومِيّ قال: حَدّثَتْنِي أُمّ صالحٍ، عن صَفِيّةَ بِنْتِ شَيْبَةَ، عن أُمّ حَبِيبَةَ زَوْحِ النبيّ صلى الله عليه وسلم عن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال: "كل كَلاَم ابْنِ آدَمَ عَلَيْهِ لا لَهُ إِلاّ أَمْرٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ نَهْيٌ عَنْ المُنْكَرِ أَوْ ذِكْرُ الله" .
__________
البغدادي مشهور بكنيته ولقبه قصر ثقة ثبت من التاسعة.
قوله : "هذا حديث غريب الخ" قال المنذري في الترغيب بعد ذكر هذا الحديث: رواه الترمذي والبيهقي. وقال الترمذي: حديث حسن غريب.
قوله : "سمعت سعيد بن حسان المخزومي" المكي قاص أهل مكة، صدوق له أوهام من السادسة "حدثتني أم صالح" بنت صالح، لا يعرف حالها من السابعة "عن صفية بنت شيبة" بن عثمان بن أبي طلحة العبدرية لها رؤية، وحدثت عن عائشة وغيرها من الصحابة. وفي البخاري التصريح بسماعها من النبي صلى الله عليه وسلم، وأنكر الدارقطني إدراكها كذا في التقريب.
قوله : "كلام ابن آدم عليه" أي ضرره ووباله عليه وقيل يكتب عليه "لا له" أي ليس له نفع فيه أو لا يكتب له ذكره تأكيداً "إلا أمر بمعروف" مما فيه نفع الغير مع الأوامر الشرعية "أو نهى عن المنكر" مما فيه موعظة الخلق من الأمور المنهية "أو ذكر الله" أي ما فيه رضا الله من الأذكار الإلهية. قال القاري: وظاهر الحديث أنه لا يظهر في الكلام نوع يباح للأنام، اللهم إلا أن يحمل على المبالغة والتأكيد في الزجر عن القول الذي ليس بسديد. وقد يقال إنقوله لا له تفسير لقوله عليه، ولا شك أن المباح ليس له نفع في العقبى: أو يقال التقدير: كل كلام ابن آدم حسرة عليه لا منفعة له فيه إلا المذكورات وأمثالها فيوافق بقية الأحاديث المذكورة، فهو مقتبس من قوله تعالى: {لا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاحٍ بَيْنَ النَّاسِ} وبه يرتفع اضطراب الشراح في أمر المباح انتهى كلام القاري.(7/93)
هذا حديثٌ حسنٌ غريبٌ، لا نعرفُه إِلاّ من حديثِ محمّدِ بنِ يَزِيدَ بنِ خُنَيْسٍ.
__________
قوله : "هذا حديث غريب" وفي بعض النسخ حسن غريب وأخرجه ابن ماجه والحاكم والبيهقي في شعب الإيمان، قال المنذري في الترغيب: رواته ثقات وفي محمد بن يزيد كلام قريب لا يقدح وهو شيخ صالح انتهى.(7/94)
48 -باب
2526-حدثنا مُحمّدُ بنُ بَشّارٍ، حدثنا جَعْفَرُ بنُ عَوْنٍ، حدثنا أَبُو العُمَيسِ، عن عَوْنِ بنِ أَبي جُحَيْفَةَ، عن أَبِيهِ قالَ: "آخى رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم بَيْنَ سَلْمَانَ وَأَبي الدّرْدَاءِ فَزَارَ سَلْمَانُ أَبَا الدّرْدَاءِ فَرَأَى أُمّ الدّرْدَاءِ
__________
"باب"
قوله: "حدثنا جعفر بن عون" بن جعفر بن عمرو بن حريث المخزومي صدوق من التاسعة "حدثنا أبو العميس" بمهملتين مصغراً اسمه عتبة بن عبد الله ابن عتبة بن مسعود الهذلي المسعودي الكوفي ثقة من السابعة "عن أبيه" هو أبو جحيفة واسمه وهب بن عبد الله السوائي ويقال اسم أبيه وهب أيضاً مشهور بكنيته، ويقال له وهب الخير صحابي معروف وصحب علياً.
قوله : "آخى رسول الله صلى الله عليه وسلم بين سلمان وأبي الدرداء" أي جعل بينهما أخوة. قال الحافظ في الفتح ذكر أصحاب المغازي أن المواخاة بين الصحابة وقعت مرتين الأولى قبل الهجرة بين المهاجرين خاصة على المواساة والمناصرة فكان من ذلك أخوة زيد بن حارثة وحمزة بن عبد المطلب، ثم آخى النبي صلى الله عليه وسلم بين المهاجرين والأنصار بعد أن هاجر وذلك بعد قدومه المدينة. وسيأتي في أولى كتاب البيع حديث عبد الرحمن بن عوف: لما قدمنا المدينة آخى النبي صلى الله عليه وسلم بيني وبين سعد بن الربيع وذكر الواقدي أن ذلك كان بعد قدومه صلى الله عليه وسلم بخمسة أشهر والمسجد يبنى انتهى "فزار سلمان أبا الدرداء"(7/94)
مُتَبَذّلَةً. قَالَ: مَا شَأْنُكِ مُتَبَذّلَةً قَالَتْ: إِنّ أَخَاكَ أَبَا الدّرْدَاءِ لَيْسَ لَهُ حَاجَةٌ فِي الدّنْيَا، لعله قالَ: فَلَمّا جَاءَ أَبُو الدّرْدَاءِ قَرّبَ إليه طَعَاماً فَقَالَ: كُلْ فَإِنّي صَائِمٌ. قالَ مَا أَنَا بآكلٍ حَتّى تَأْكُلَ، قالَ فَأَكَلَ. فَلَمّا كَانَ الّليْلُ ذَهَبَ أَبُو الدّرْدَاءِ لِيَقُومَ. فَقَالَ لَهُ سَلْمَانُ: نَمْ فَنَامَ. ثُمّ ذَهَبَ لِيَقُومَ لَهُ نَمْ فَنَامَ. فَلَمّا كَانَ عِنْدَ الصّبْحِ، قَالَ لَهُ سَلْمَانُ قُمْ الاَنَ، فَقَامَا فَصَلّيَا. فَقَالَ: إِنّ لِنَفسِكَ عَلَيْكَ حَقّا، وَلِرَبّكَ عَلَيْكَ حَقّاً، وَلضَيْفِكَ عَلَيْكَ حَقّاً وَإِنّ
__________
يعني في عهد النبي صلى الله عليه وسلم فوجد أبا الدرداء غائباً "متبذلة" بفتح الفوقية والموحدة وتشديد الذال المعجمة المكسورة أي لابسة ثياب البذلة بكسر الموحدة وسكون الذل وهي المهنة وزناً ومعنى. والمراد أنها تاركة للبس ثياب الزينة. وعند أبي نعيم في الحلية فرأى امرأته رثة الهيئة قال الحافظ: وأم الدرداء. هذه هي خيرة بفتح المعجمة وسكون التحتانية بنت أبي حدرد الاسلمية صحابية بنت صحابي وحديثها عن النبي صلى الله عليه وسلم في مسند أحمد وغيره وماتت أم الدرداء هذه قبل أبي الدرداء ولأبي الدرداء أيضاً امرأة أخرى يقال لها أم الدرداء تابعية اسمها هجيمة عاشت بعد دهراً وروت عنه انتهى "ما شأنك متبذلة" بالنصب على الحالية "ليس له حاجة في الدنيا" وفي رواية الدارقطني من وجه آخر عن جعفر بن عون في نساء الدنيا، وزاد فيه ابن خزيمة عن يوسف بن موسى عن جعفر بن عون يصوم النهار ويقوم الليل "فقال" أي أبو الدرداء "كل فإني صائم قال" أي سلمان ما أنا بآكل حتى تأكل، وفي رواية البزار عن محمد بن بشار شيخ البخاري فيه فقال وأقسمت عليك لتفطرن وغرض سلمان من هذا الإباء أن يصرفه عن رأيه فيما يصنعه من جهد نفسه في العبادة وغير ذلك مما شكته إليه امرأته "فاكل" أي أبو الدرداء "فلما كان الليل" أي في أوله وفي رواية بن خزيمة ثم بات عنده "ذهب" أي أراد وشرع "فقال له سلمان تم" زاد ابن سعد من وجه آخر مرسل فقال له أبو الدرداء اتمنعني أن أصوم لربي وأصلي لربي "فقاما فصليا" في رواية(7/95)
عَلَيْكَ حَقّاً فَأَعْطِ كُلّ ذِي حَقٍ حَقّهُ، فَأَتَيَا النبيّ صلى الله عليه وسلم، فَذَكَرَا ذَلِكَ لَهُ فَقَالَ: "صَدَقَ سَلْمَانُ" .
هذا حديثٌ صحِيحٌ وَأَبُو العُمَيْسِ اسْمُهُ عُتْبَةُ بنُ عَبْدِ الله، وَهُوَ أَخُو عَبْدِ الرّحمَنِ بنِ عَبْدِ الله المَسْعودِيّ.
__________
الطبراني فقاما فتوضأ ثم ركعا ثم خرجا إلى الصلاة "وإن لأهلك عليك حقاً" أي لزوجك عليك حقاً زاد الدارقطني فصم وافطر وصل ونم وائت أهلك "فأتيا النبي صلى الله عليه وسلم فذكرا ذلك له" وفي رواية الدارقطني ثم خرجا إلى الصلاة فدنا أبو الدرداء ليخبر النبي صلى الله عليه وسلم بالذي قال له سلمان فقال له يا أبا الدرداء إن لجسدك عليك حقاً مثل ما قال سلمان ففي هذه الرواية أن النبي صلى الله عليه وسلم أشار إليهما بأنه علم بطريق الوحي ما دار بينهما وليس ذلك في رواية محمد بن بشار فيحتمل الجمع بين الأمرين أنه كاشفهما بذلك أولا ثم اطلعه أبو الدرداء على صورة الحال فقال له صدق سلمان وفي هذا الحديث من الفوائد مشروعية المواخاة في الله وزيارة الإخوان والمبيت عندهم وجواز مخاطبة الأجنبية للحاجة والسؤال عما يترتب عليه المصلحة وإن كان في الظاهر لا يتعلق بالسائل وفيه النصح للمسلم وتنبيه من أغفل وفيه فضل قيام آخر الليل وفيه مشروعية تزيين المرأة لزوجها وثبوت حق المرأة على الزوج وحسن العشرة وقد يؤخذ منه ثبوت حقها في الوطء لقوله ولأهلك عليك حقاً ثم قال وائت أهلك كما في رواية الدارقطني وقرره النبي صلى الله عليه وسلم على ذلك وفيه جواز النهي عن المستحبات إذا خشي أن ذلك يفضي إلى السآمة والملل وتفويت الحقوق المطلوبة الواجبة أو المندوبة الراجح فعلها على فعل المستحب المذكور وأن الوعيد الوارد على من نهي مصلياً عن الصلاة مخصوص بمن نهاه ظلماً وعدواناً وفيه كراهية الحمل على النفس في العبادة كذا في الفتح.
قوله : "هذا حديث صحيح" وأخرجه البخاري.(7/96)
49 -باب
2527-حدثنا سُوَيْدُ بنُ نَصْرٍ، أخبرنا عَبْدُ الله بنُ المُبَارَكِ، عن عَبْدِ الوَهَابِ بنِ الْوَرْدِ، عَنْ رَجُلٍ مِنْ أَهْلِ المَدِينَةِ قالَ: كَتَبَ مُعَاوِيَةُ إِلَى عَائِشَةَ أَنِ اكْتُبِي إِلَىّ كِتَاباً تُوصِينِي فِيهِ وَلاَ تُكْثِرِي عَلَيّ، قالَ: فَكَتَبَتْ عَائِشَةُ رضي الله عنها إِلَى مُعَاوِيَةَ: سَلاَمٌ عَلَيْك أَمّا بَعْدُ فَإِنّي سَمِعْتُ رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: "مَنِ الْتَمَسَ رِضَا الله بِسَخَطِ النّاسِ كَفَاهُ الله مُؤْنَةَ النّاسِ، وَمَنِ الْتَمَسَ رَضَا النّاسِ بِسَخَطِ الله وَكَلَهُ الله إِلَى النّاسِ" وَالسّلامُ عَلَيْكَ.
2528-حدّثنا مُحمدُ بنُ يَحْيَى، أخبرنا مُحمدُ بنُ يُوسُفَ، عن سُفْيَانَ الثوري، عن هِشَامِ بنِ عُرْوَةَ، عن أَبِيهِ، عن عَائِشَةَ أَنّهَا كَتَبَتْ إِلَى مُعَاوِيَةَ. فَذَكَرَ الْحَدِيثَ بِمَعْنَاهُ وَلَمْ يَرْفَعْهُ.
__________
"باب"
قوله: "عن عبد الوهاب بن الورد" بفتح الواو وسكون الراء القرشي مولاهم المكي ثقة عابد من كبار السابعة. ولقب عبد الوهاب هذا وهيب. قال الحافظ في تهذيب التهذيب في ترجمته: واسمه عبد الوهاب ووهيب لقب.
قوله : "من التمس" أي طلب "بسخط الناس" السّخَط والسّخُطُ والسّخْطُ والمسْخَطُ الكراهة للشيء وعدم الرضا به "كفاه الله مؤنة الناس" لأنه جعل نفسه من حزب الله وهو لا يخيب من التجأ إليه، ألا إن حزب الله هم المفلحون. "وكله الله إلى الناس" أي سلط الله الناس عليه حتى يؤذوه ويظلموا عليه. قال المنذري في الترغيب بعد ذكر هذا الحديث: رواه الترمذي ولم يسم الرجل ثم روي بإسناده عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة أنها كتبت إلى معاوية قال فذكر الحديث بمعناه ولم يرفعه. وروى ابن حبان في صحيحه المرفوع منه فقط ولفظه قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من التمس رضا الله بسخط الناس رضي الله عنه وأرضى عنه الناس، ومن التمس رضا الناس بسخط الله سخط الله عليه وأسخط عليه الناس" انتهى(7/97)
أبواب صِفَةُ القِيامَة
1-باب ما جاء في شان الحساب والقصاص
2529-حدثنا هَنّادٌ، حدثنا أَبُو مُعَاوِيَةَ عن الأَعْمَشِ، عن خَيْثَمَةَ، عن عَدِيّ بنِ حَاتِمٍ قالَ: قالَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم: "مَا مِنْكُمْ مِنْ رَجُلٍ إِلاّ سَيُكَلّمُهُ رَبّهُ يَوْمَ القِيَامَةِ وَلَيْسَ بَيْنَهُ تُرْجُمَانٌ فَيَنْظُرُ أَيْمَنَ مِنْهُ فَلاَ يَرَى شَيْئاً إِلاّ شَيْئاً قَدَمَهُ، ثُمّ يَنْظُرُ أَشْأَمَ مِنْهُ فَلاَ يَرَى شَيْئاً إِلاّ شَيْئاً قَدّمَهُ، ثُمّ يَنْظُرُ تِلْقَاءِ وَجْهِهِ فَتَسْتَقْبلُهُ النّارُ" .
__________
"أبواب صفة القيامة"
"باب ما جاء في شأن الحساب والقصاص"
قوله: "ما منكم من رجل" من مزيدة لاستغراق النفي والخطاب للمؤمنين "إلا سيكلمه ربه" أي بلا واسطة والاستثناء مفرغ من أعم الأحوال "وليس بينه وبينه" أي بين الرب والعبد "ترجمان" بفتح الفوقية وسكون الراء وضم الجيم وكزعفران على ما في القاموس أي مفسر للكلام بلغة عن لغة يقال ترجمت عنه والفعل يدل على أصالة التاء. وفي التهذيب: التاء أصلية وليست بزائدة والكلمة رباعية "ثم ينظر" أي ذلك العبد أيمن منه أي من ذلك الموقف، وقيل ضمير منه راجع إلى العبد والمال واحد والمعنى ينظر في الجانب الذي على يمينه "فلا يرى شيئاً إلا شيئاً قدمه" أي من عمله الصالح. وفي المشكاة: فلا يرى إلا ما قدم من عمله "ثم ينظر أشأم منه" أي في الجانب الذي في شماله "فلا يرى شيئاً إلا شيئاً قدمه" أي من عمله السيء وإن النصب في أيمن وأشأم على الظرفية والمراد بهما اليمين والشمال. فقيل نظر اليمين والشمال هنا كالمثل لأن الإنسان من شأنه إذا دهمه أمر أن يلتفت يميناً وشمالاً يطلب الغوث. قال الحافظ: ويحتمل أن يكون سبب الالتفات أنه يترجى أن يجد طريقة يذهب فيها ليحصل له النجاة من النار فلا يرى إلا ما يفضي به إلى النار "ثم ينظر تلقاء وجهه فتستقبله النار" قال ابن هبيرة(7/98)
قالَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم: "مَنْ اسْتَطَاعَ مِنْكُمْ أَنْ يَقِيَ وَجهَهُ حرّ النّارَ وَلَوْ بِشِقّ تَمْرَةٍ فَلْيَفْعَلْ" .
2530-حدّثنا أَبُو السّائِبِ، أخبرنا وَكِيعٌ يَوْماً بِهَذَا الْحَدِيثِ عن الأَعْمَشِ. فَلَمّا فَرَغَ وكِيعٌ مِنْ هَذَا الْحَدِيثِ قال: مَنْ كَانَ هَهُنَا مِنْ أَهْلِ خُرَاسَانَ فَلْيَحْتَسِبْ في إِظْهَارِ هَذَا الْحَدِيثِ بِخُرَاسَانَ.
لأنّ الْجَهْمِيّةَ يُنْكِرونَ هَذَا. اسم أَبي السائب سلم بن جنادة بن خالد بن جابر بن سمرة الكوفي. هذا حديثٌ حسنٌ صحيحٌ.
2531-حدثنا حُمَيْدُ بنُ مَسْعَدَةَ، حدثنا حُصَيْنُ بنُ نُمَيْرٍ أَبُو مُحْصنٍ، أَخْبَرَنَا حُسَيْنُ بنُ قَيْسٍ الرّحَبِي، أَخْبَرَنَا عَطَاءُ بنُ أَبِي رَبَاحٍ عن
__________
والسبب في ذلك أن النار تكون في ممره فلا يمكنه أن يحيد عنها، إذ لا بد له من المرور على الصراط "ولو بشق تمرة" أي ولو بمقدار نصفها أو ببعضها. والمعنى: ولو بشيء يسير منها أو من غيرها. وفي رواية البخاري: اتقوا النار ولو بشق تمرة، فمن لم يجد فبكلمة طيبة. قال الحافظ: أي اجعلوا بينكم وبينها وقاية من الصدقة وعمل البر ولو بشيء يسير.
قوله : "حدثنا أبو السائب" اسمه سلم بن جنادة بن سلم السوائي بضم المهملة بالكوفي ثقة ربما خالف من العاشرة "فليحتسب" أي فليطلب الثواب من الله تعالى "في إظهار هذا الحديث بخراسان" إنما خص وكيع بإظهار هذا الحديث بخراسان لأنه كان فيها الجهمية النافون لصفات الله تعالى "لأن الجهمية ينكرون هذا" أي كلام الله تعالى. قال الكرماني: الجهمية فرقة من المبتدعة ينتسبون إلى جهم بن صفوان مقدم الطائفة القائلة: أن لا قدرة للعبد أصلاً وهم الجبرية بفتح الجيم وسكون الموحدة، ومات مقتولاً في زمن هشام بن عبد الملك انتهى. قال الحافظ: وليس الذي أنكروه على الجهمية مذهب الجبر خاصة، وإنما الذي أطبق السلف على ذمهم بسببه إنكار الصفات حتى قالوا إن القرآن ليس كلام الله وإنه مخلوق.
قوله : "هذا حديث حسن صحيح" وأخرجه الشيخان.
قوله : "حدثنا حصين بن نمير أبو محصن" الواسطي الضرير كوفي الأصل لا بأس به رمى بالنصب من الثامنة "أخبرنا حسين بن قيس الرحبي" أبو علي الواسطي(7/99)
ابنِ عُمَرَ، عن ابنِ مَسْعُودٍ، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم قالَ: "لاَ تَزُولُ قَدَمَ ابنِ آدَمَ يَوْمَ القِيَامَةِ مِنْ عِنْدِ رَبّه حَتّى يُسْأَلَ عن خَمْسٍ: عن عُمْرِهِ فِيمَا أَفْنَاهُ، وعن شَبَابِهِ فِيمَا أَبْلاَهُ، وَعن مَالِهِ مِنْ أَيْنَ اكْتَسَبَهُ وَفِيمَا أَنْفَقَهُ وَمَاذَا عَمِلَ فِيمَا عَلِمَ" .
هذا حديثٌ غَرِيبٌ لاَ نَعْرِفُهُ مِنْ حَدِيثِ ابنِ مَسْعُودٍ عن النبيّ صلى الله عليه وسلم إِلاّ مِنْ حَدِيثِ الحُسَيْنِ بنِ قَيْسٍ. وَحُسَيْنُ بن قَيْس يُضَعّفُ في الْحَدِيثِ مِنْ قِبَلِ حِفْظِهِ. وفي البابِ عن أَبي بَرْزَةَ وَأَبي سَعِيدٍ.
__________
لقيه حنش بفتح المهملة والنون ثم معجمة، متروك من السادسة.
قوله : "حتى يسأل عن خمس" قال الطيبي رحمه الله أنثه بتأويل الخصال "عن عمره" بضمتين ويسكن الميم أي عن مدة أجله "فيما أفناه" أي صرفه "وعن شبابه" أي قوته في وسط عمره "فيما أبلاه" أي ضيعه، وفيه تخصيص بعد تعميم وإشارة إلى المسامحة في طرفيه من حال صغره وكبر. وقال الطيبي فإن قلت هذا داخل في الخصلة الأولى فما وجهه؟ قلت المراد سؤاله عن قوته وزمانه الذي يتمكن منه على أقوى العبادة "وعن ماله من أين اكتسبه" أي أمن حرام أو حلال؟ "وفيما أنفقه" أي طاعة أو معصية "وماذا عمل فيما علم" قال القاري: لعل العدول عن الأسلوب للتفنن في العبارة المؤدية للمطلوب. وقال الطيبي: إنما غير السؤال في الخصلة الخامسة حيث لم يقل: وعن عمله ماذا عمل به. لأنها أهم شيء وأولاه وفيه إيذان بأن العلم مقدمة العمل وهو لا تعتد به لولا العمل انتهى.
قوله : "هذا حديث غريب" وضعيف لأن في سنده حسين بن قيس وهو متروك كما عرفت وضعفه الترمذي أيضاً.
قوله : "وفي الباب عن أبي برزة وأبي سعيد" أما حديث أبي برزة فأخرجه الترمذي في هذا الباب. وأما حديث أبي سعيد فأخرجه البيهقي في كتاب البعث والنشور كذا في المشكاة.(7/100)
2532-حدثنا عَبْدُ الله بنُ عَبْدِ الرّحْمَن، أخبرنا الأَسْوَدُ بنُ عَامِرٍ، أَخْبَرَنَا أَبُو بَكْرِ بنِ عَيّاشٍ، عن الأَعْمَشِ، عن سَعِيدِ بنِ عَبْدِ الله بنِ جُرَيْجٍ، عن أَبي بَرْزَةَ الأَسْلَمِيّ قالَ: قالَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم: " لاَ تَزُولُ قَدَمَا عَبْدٍ يَوْمَ القِيَامَةِ حَتّى يُسْأَلَ عَنْ عُمْرِهِ فِيمَ أَفْنَاهُ، وَعن عِلْمِهِ فِيمَ فَعَلَ، وعن مَالِهِ مِنْ أَيْنَ اكْتَسَبَهُ وَفيمَ أَنْفَقَهُ، وعن جِسْمِهِ فِيمَ أَبْلاَهُ" .
قال: هذا حديثٌ حسنٌ صحيحٌ. وَسَعِيدُ بنُ عَبْدِ الله بنُ جُرَيْجٍ هُوَ بصري وهو مَوْلَى أَبي بَرْزَةَ الأَسْلَمِيّ، وَأَبُو بَرْزَةَ الأَسْلَمِيّ اسْمُهُ: نَضْلَهُ بنُ عُبَيْدٍ.
2533- -حدثنا قتيبة أخبرنا عبد العزيز بن محمد عن العلاء بن عبد الرحمن عن أبيه عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " أتدرون من المفلس؟ قالوا المفلس فينا يا رسول الله من لا درهم له
__________
قوله : "حدثنا عبد الله بن عبد الرحمن" هو الدارمي صاحب المسند "أخبرنا الأسود بن عامر" الشامي نزيل بغداد يكنى أبا عبد الرحمن، ويلقب شاذان ثقة من التاسعة.
قوله: "وعن جسمه فيم أبلاه" كأنه من بلي الثوب وأبلاه كان الشباب في قوته كالثوب الجديد فلما ولى الشباب وضعف البدن فكأنما بلي.
قوله : "هذا حديث حسن صحيح" ذكره المنذري في الترغيب وأقر تصحيح الترمذي "هو مولى أبي برزة الأسلمي" قال في التقريب: سعيد بن عبد الله بن جريج بجيمين وراء مصغراً بصري صدوق ربما وهم من الخامسة "وأبو برزة الأسلمي اسمه ضلة بن عبيد" صحابي مشهور بكنيته أسلم قبل الفتح وغزا سبع غزوات ثم نزل البصرة وغزا خراسان ومات بها سنة خمس وستين على الصحيح
قوله : "أتدرون" أي أتعلمون وهذا سؤال إرشاد لا استعلام. ولذلك قال: إن المفلس كذا وكذا "فينا" أي فيما بيننا "من لا درهم" أي من نقد "له" أي(7/101)
ولا متاع قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :المفلس من أمتي من يأتي يوم القيامة بصلاة وصيام وزكاة ويأتي قد شتم هذا وقذف هذا وأكل مال هذا وسفك دم هذا وضرب هذا فيقعد فيقتص هذا من حسناته وهذا من حسناته فإن فنيت حسناته فيا أن يقتص ما عليه من الخطايا أخذ من خطاياهم فطرح عليه ثم طرح في النار" .
__________
ملكاً "ولا متاع" أي مما يحصل به النقد ويتمتع به من الأقمشة والعقار والجواهر والعبيد والمواشي وأمثال ذلك. والحاصل أنهم أجابوا بما عندهم من العلم بحسب عرف أهل الدنيا كما يدل عليهقولهم "فينا" غفلوا عن أمر الاَخرة وكان حقهم أن يقولوا: الله ورسوله أعلم. لأن المعنى الذي ذكروه كان واضحاً عنده صلى الله عليه وسلم "قال رسول الله صلى الله عليه وسلم المفلس" أي الحقيقي أو المفلس في الاَخرة "من أمتي" أي أمة الإجابة ولو كان غنياً في الدنيا بالدرهم والمتاع "من يأتي يوم القيامة بصلاة وصيام وزكاة" أي مقبولات والباء للتعدية أي مصحوباً بها "ويأتي" أي ويحضر أيضاً "قد شتم هذا" أي حال كونه قد شتم هذا "وقذف هذا" أي بالزنا ونحوه "وأكل مال هذا" أي بالباطل "وسفك دم هذا" أي أراق دم هذا بغير حق "وضرب هذا" أي من غير استحقاق أو زيادة على ما يستحقه والمعنى جمع بين تلك العبادات وهذه السيئات "فيقعد" أي المفلس "فيقتص هذا من حسناته" أي يأخذ هذا من حسناته قصاصاً. قال النووي: يعني حقيقة المفلس هذا الذي ذكرت. وأما من ليس له مال ومن قل ماله فالناس يسمونه مفلساً وليس هذا حقيقة المفلس، لأن هذا أمر يزول وينقطع بموته، وربما انقطع بيسار يحصل له بعد ذلك في حياته بخلاف ذلك المفلس فإنه يهلك الهلاك التام. قال المازري: زعم بعض المبتدعة أن هذا الحديث معارض بقوله تعالى {وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} وهو باطل وجهالة بينه، لأنه إنما عوقب بفعله ووزره فتوجهت عليه حقوق لغرمائه فدفعت إليهم من حسناته فلما فرغت حسناته، أخذ من سيئات خصومه فوضعت عليه. فحقيقة العقوبة مسبة عن ظلمه ولم يعاقب بغير جناية منه انتهى.(7/102)
هذا حديث حسن صحيح.
2534- -حدثنا هناد ونصر بن عبد الرحمن الكوفي قالا، أخبرنا المحاربي عن أبي خالد بن يزيد بن عبد الرحمن ، عن زيد بن أبي أنيسة عن سعيد المقبري عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "رحم الله عبدا كانت لأخيه عنده مظلمة في عرض أو مال فجاءه فاستحله قبل أن يؤخذ وليس ثم دينار ولا درهم فإن كانت حسنات أخذ من حسناته وإن لم تكن له حسنات حملوا عليه من سيئاتهم" هذا حديث حسن صحيح . وقد روى عن مالك بن أنس عن سعيد المقبري عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم نحوه.
__________
قوله : "هذا حديث حسن صحيح" وأخرجه مسلم.
قوله : "عن زيد بن أبي أنيسة" بضم الهمزة وفتح النون مصغراً الغنوي، أبي أسامة الجزري، ثقة من السادسة.
قوله : "كانت لأخيه" أي في الدين "عنده مظلمة" بكسر اللام ويفتح اسم ما أخذه الظالم أو تعرض له "في عرض" بكسر العين هو موضع المدح والذم من الإنسان سواء كان في نفسه أو سلفه أو من يلزمه أمره. وقيل هو جانبه الذي يصونه من نفسه ونسبه وحسبه ويحامي عنه أن ينتقص ويثلب. وقيل نفسه وبدنه لا غير "فجاءه" أي جاء الظالم المظلوم "فاستحله" . قال في النهاية: يقال تحللته واستحللته إذا سألته أن يجعلك في حل "قيل أن يؤخذ" قال المناوي. أي تقبض روحه "وليس ثم" أي هناك يعني في القيامة "دينار ولا درهم" يقضي به "فإن كانت له حسنات أخذ من حسناته" أي فيوفي منها لصاحب الحق "وإن لم تكن له حسنات" أو لم تف بما عليه "حملوا عليه من سيئاتهم" أي ألقي أصحاب الحقوق من ذنوبهم بقدر حقوقهم ثم يقذف في النار.
قوله : "هذا حديث حسن صحيح" وأخرجه البخاري.(7/103)
2535- -حدثنا قتيبة أخبرنا عبد العزيز بن محمد عن العلاء بن عبد الرحمن عن أبيه عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لتؤدن الحقوق إلى أهلها حتى تقاد الشاة الجلحاء من الشاة القرناء" وفي الباب عن أبي ذر وعبد الله بن أنيس حديث أبي هريرة حديث حسن صحيح.
__________
قوله : "لتؤدن" بفتح الدال المشددة. قال التوربشتي: هو على بناء المجهول والحقوق مرفوع، هذه هي الرواية المعتد بها، ويزعم بعضهم ضم الدال ونصب الحقوق والفعل مسند إلى الجماعة الذين خوطبوا به والصحيح ما قدمناه انتهى "حتى تقاد الشاة الجلحاء" بالمد هي الجماء التي لا قرن لها "من الشاة القرناء" أي التي لها قرن. قال النووي: الجلحاء بالمد هي الجماء التي لا قرن لها والقرناء ضدها وهذا تصريح بحشر البهائم يوم القيامة وإعادتها كما يعاد أهل التكليف من الاَدميين والأطفال والمجانين ومن لم تبلغه دعوة. وعلى هذا تظاهرت دلائل القرآن والسنة قال تعالى جل جلاله ولا إله غيره {وَإِذَا الْوُحُوشُ حُشِرَتْ} وإذا ورد لفظ الشرع ولم يمنع من إجرائه على ظاهره شرع ولا عقل، وجب حمله على ظاهره. قالوا: وليس من شرط الحشر والإعادة في القيامة المجازاة والعقاب والثواب. وأما القصاص من القرناء للجلحاء فليس من قصاص التكليف بل هو قصاص مقابلة انتهى.
قوله : "وفي الباب عن أبي ذر وعبد الله بن أنيس" أخرج حديثهما أحمد في مسنده.
قوله : "حديث أبي هريرة حديث حسن صحيح" وأخرجه مسلم.(7/104)
2 -باب
2536-حدثنا سُوَيْدُ بنُ نَصْرِ، أخبرنا ابنُ المُبَارَكِ، أخبرنا عَبْدُ الرحمنِ بنُ يَزِيدَ بنِ جَابِرٍ، حدثني سُلَيمُ بنُ عَامِرٍ، أخبرنا المِقْدَادُ
__________
"باب"
قوله: "حدثني سليم" بالتصغير "بن عامر" الكلاعي ويقال الخبائري بخاء(7/104)
صَاحِبُ رَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم قالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: "إِذَا كانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ أُدْنِيَتِ الشّمْسُ مِنَ العِبَادِ حَتّى يَكُونَ قِيدَ مَيْلٍ أَوْ اثْنَيْنِ"، قالَ سُلَيْمُ بنُ عَامِرٍ: لاَ أَدْرِي أَيّ المَيلَيْنِ عَنَى أَمَسَافَةُ الأَرْضِ أَمْ المَيْلُ الذِي تكتمل بِهِ الْعَيْنُ؟ قالَ: "فَتَصْهَرْهُمْ الشّمْسُ فَيَكُونُونَ فِي الْعَرَقِ بِقَدْرِ أَعْمَالِهِمْ: فَمِنْهُمْ مَنْ يَأْخُذُهُ إِلَى عَقِبِهِ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَأْخُذُهُ إِلَى رُكْبَتَيْهِ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَأْخُذُهُ إِلَى حَقُوَيْهِ، وَمِنْهُمْ مَنْ يُلْجِمُهُ إِلْجَاماً" . فَرَأَيْتُ رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم يُشِيرُ بِيَدِهِ
__________
معجمة وموحدة أبو يحيى الحمصي، ثقة من الثالثة غلط من قال إنه أدرك النبي صلى الله عليه وسلم "أخبرنا المقداد" بن عمرو بن ثعلبة البهراني ثم الكندي ثم الزهري صحابي مشهور من السابقين.
قوله : "أدنيت" بصيغة المجهول من الإدناء أي قربت "الشمس" أي جرمها "حتى يكون" وفي رواية مسلم حتى تكون بالتأنيث وهو الظاهر "قيد ميل" بكسر القاف أي قدر ميل. وفي رواية مسلم كمقدار ميل "أو اثنتين" والظاهر أنه شك من الراوي أي أو ميلين "لا أدري أي الميلين عني" أي أراد رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال الشيخ عبد الحق في اللمعات: الظاهر أن المراد ميل الفرسخ وكفى ذلك في تعذيبم وإيذائهم. وأما احتمال إرادة ميل المكحلة فبعيد "فتصهرهم الشمس" أي تذيبهم من الصهر وهو الإذابة، من فتح يفتح "ومنهم من يأخذه إلى حقويه" الحقو الخصر ومشد الإزار "ومنهم من يلجمه إلجاماً" الإلجام: إدخال اللجام في الفم. والمعنى يصل العرق إلى فمه فيمنعه من الكلام كاللجام كذا في المجمع. قال ابن الملك: إن قلت إذا كان العرق كالبحر يلجم البعض فكيف يصل إلى كعب الاَخر؟ قلنا: يجوز أن يخلق الله تعالى ارتفاعاً في الأرض تحت أقدام البعض، أو يقال يمسك الله تعالى عرق كل إنسان بحسب عمله فلا يصل إلى غيره منه شيء كما أمسك جرية البحر لموسى عليه الصلاة والسلام. قال القاري: المعتمد هو القول الأخير فإن أمر الاَخرة كله على وفق خرق العادة. أما ترى(7/105)
إِلَى فِيهِ، أَيْ يُلْجِمهُ إِلْجَاماً. وفي البَابِ، عن أَبي سَعِيدٍ، وَابنِ عُمَرَ.
هذا حديثٌ حسنٌ صحيحٌ.
2537-حدثنا أَبُو زَكَرِيّا يَحْيَى بن دُرُسْتَ البَصَرِيّ، حدثنا حَمّادُ بنُ زَيْدٍ، عن أَيّوبَ، عن نَافِعٍ، عن ابنِ عُمَرَ. قَالَ حَمّادُ وَهُوَ عِنْدَنَا مَرْفُوعٌ {يَوْمَ يَقُومُ النّاسُ لِرَبّ العَالَمِينَ} قالَ: "يَقُومُونَ في الرّشْحِ إِلَى أَنْصَافِ آذَانِهِمْ".
هذا حديثٌ حسنٌ صحيحٌ.
2538-حدثنا هَنّادٌ، أخبرنا عِيسَ بنُ يُونُسَ، عَنْ ابنِ عَوْنٍ، عَنْ نَافِعٍ، عَنْ ابنِ عُمَر، عَنْ النبيّ صلى الله عليه وسلم نَحْوَهُ.
__________
أن شخصين في قبر واحد يعذب أحدهما وينعم الاَخر ولا يدري أحدهما عن غيره انتهى. وقال القاضي: يحتمل أن المراد عرق نفسه وعرق غيره، ويحتمل عرق نفسه خاصة. وسبب كثرة العرق تراكم الأهوال ودنو الشمس من رؤوسهم وزحمة بعضهم بعضاً.
قوله : "وفي الباب عن أَبي سعيد وابن عمر" أما حديث أَبي سعيد، فلينظر من أَخرجه. وأما حديث ابن عمر فاخرجه مسلم.
قوله : "هذا حديث حسن صحيح" واخرجه احمد ومسلم.
قوله : "حدثنا أبو زكريا يحيى بن درست" بضمتين وسكون المهملة ابن زياد ثقة من العاشرة.
قوله : "قال حماد وهن عندنا مرفوع" يعني أن هذا الحديث ليس بمرفوع صريحاً لكنه مرفوع حكماً {يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ} أي من قبورهم {لِرَبِّ الْعَالَمِينَ} أي لأجل أمره وحسابه وجزائه "قال يقومون في الرشح" وفي رواية مسلم: يقوم أحدهم في رشحه. قال في النهاية: الرشح العرق لأنه يخرج من البدن شيئاً فشيئاً كما يرشح الإناء المتخلخل الأجزاء "إلى أنصاف آذانهم" وفي رواية لمسلم. حتى يغيب أحدهم في رشحه إلى أنصاف أذنيه.
قوله : "هذا حديث حسن صحيح" وأخرجه مسلم.(7/106)
3 -باب مَا جَاءَ فِي شَأْنِ الْحشْر
2539-حدثنا محمُودُ بنُ غَيْلاَنَ، حدثنا أَبُو أَحْمَدَ الزّبَيْرِيّ، حدثنا سُفْيَانُ عَنْ المُغِيرَةِ بنِ النّعْمَانِ، عَنْ سَعِيدِ بنِ جُبَيْرٍ، عَنْ ابنِ عَبّاسِ قالَ: قالَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم: "يُحْشَرُ النّاسُ يَوْمَ القِيَامَةِ حُفَاةً عُرَاةً
__________
"باب مَا جَاءَ فِي شَأْنِ الْحشْر"
الحشر جمع والمراد به حشر الأموات من قبورهم وغيرها بعد البعث جميعاً إلى الموقف قال الله تعالى :{وَحَشَرْنَاهُمْ فَلَمْ نُغَادِرْ مِنْهُمْ أَحَداً} أحداً
قوله : "عن المغيرة بن النعمان" النخعي الكوفي ثقة من السادسة.قوله "يحشر الناس" أي يبعثون "حفاة" بضم الحاء جمع حاف وهو الذي لا نعل له ولا خف "عراة" بضم العين المهملة جمع عار وهو من لا ستر له. قال البيهقي: وقع في حديث أبي سعيد يعني الذي أخرجه أبو داود وصححه ابن حبان أنه لما حضره الموت دعا بثياب جدد فلبسها وقال سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول إن الميت يبعث في ثيابه التي يموت فيها، ويجمع بينها بأن بعضهم يحشر عارياً، وبعضهم كاسياً، أو يحشرون كلهم عراة ثم يكسى الأنبياء فأول من يكسى إبراهيم عليه الصلاة والسلام أو يخرجون من القبور بالثياب التي ماتوا فيها ثم تتناثر عنهم عند ابتداء الحشر فيحشرون عراة ثم يكون أول من يكسى إبراهيم. وحمل بعضهم حديث أبي سعيد على الشهداء لأنهم الذين أمر أن يزملوا في ثيابهم ويدفنوا فيها، فيحتمل أن يكون أبو سعيد سمعه في الشهيد فحمله على العموم. وممن حمله على عمومه معاذ بن جبل. فأخرج ابن أبي الدنيا بسند حسن عن عمرو بن الأسود قال: دفنا أم معاذ بن جبل فأمر بها فكفنت في ثياب جدد وقال: أحسنوا أكفان موتاكم فإنهم يحشرون فيها. قال وحمله بعض أهل العلم على العمل وإطلاق الثياب على العمل وقع في مثل قوله تعالى: {وَلِبَاسُ التَّقْوَى ذَلِكَ خَيْرٌ} وقوله تعالى: {وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ} على أحد الأقوال وهو قول قتادة. قال معناه: وعملك فأخلصه ويؤكد ذلك حديث جابر رفعه: يبعث كل عبد على ما مات عليه أخرجه مسلم ورجح القرطبي الحمل على ظاهر الخبر ويتأيد بقوله تعالى: {وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ} وقوله تعالى: {كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ} وألى ذلك الإشارة(7/107)
غُرْلاً كَمَا خُلِقُوا، ثُمّ قَرَأَ: {كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ وَعْداً عَلَيْنَا إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ} وَأَوَلُ مَنْ يُكْسَى مِنَ الْخلاَئِقِ إِبْرَاهِيمُ، وَيُؤْخَذُ مِنْ
__________
في حديث الباب {كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ} عقبقوله حفاة عراة قال: فيحمل ما دل عليه حديث أبي سعيد على الشهداء لأنهم يدفنون بثيابهم فيبعثون فيها تمييزاً لهم عن غيرهم وقد نقله ابن عبد البر عن أكثر العلماء كذا في الفتح "غرلا" بضم المعجمة وسكون الراء جمع أغرل وهو الأقلف وزنه ومعناه وهو من بقيت غرلته وهي الجلدة التي يقطعها الخاتن من الذكر "ثم قرأ" أي استشهاداً واعتضاداً {كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ} الكاف متعلق بمحذوق دل عليه نعيده أي نعيد الخلق إعادة مثل الأول. والمعنى بدأناهم في بطون أمهاتهم حفاة عراة غرلا كذا نعيدهم يوم القيامة {وَعْداً عَلَيْنَا} أي لازما لا يجوز الخلف فيه {إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ} أي ما وعدناه وأخبرنا به لا محالة "وأول من يكسى من الخلائق إبراهيم" قال القرطبي في شرح مسلم: يجوز أن يراد بالخلائق من عدا نبينا صلى الله عليه وسلم فلم يدخل هو في عموم خطاب نفسه. وتعقبه تلميذه القرطبي أيضاً في التذكرة فقال: هذا حسن لولا ما جاء من حديث علي، يعني الذي أخرجه ابن المبارك في الزهد من طريق عبد الله بن الحارث عن علي قال: أول من يكسى يوم القيامة خليل الله عليه السلام قبطيتين، ثم يكسى محمد صلى الله عليه وسلم حلة حيرة عن يمين العرش. قال الحافظ: كذا ورد مختصراً موقوفاً. وأخرجه أبو يعلي مطلولا مرفوعاً. وأخرج البيهقي من طريق ابن عباس نحو حديث الباب وزاد: وأول من يكسى من الجنة إبراهيم يكسى حلة من الجنة، ويؤتى بكرسي فيطرح عن يمين العرش، ثم يؤتى بي فأكسى حلة من الجنة لا يقوم لها البشر. ثم يؤتى بكرسي فيطرح على ساق العرش، وهو عن يمين العرش. وفي مرسل عبيد بن عمير عند جعفر الفريابي: يحشر الناس حفاة عراة، فيقول الله تعالى: أرى خليلي عرياناً فيكسى إبراهيم ثوباً أبيض، فهو أول من يكسى قيل الحكمة في كون إبراهيم أول من يكسى أنه جرد حين ألقي في النار. وقيل لأنه أول من استن التستر بالسراويل. وقد أخرج ابن مندة من حديث حيدة رفعه قال: أول من يكسى إبراهيم يقول الله أكسو خليلي ليعلم الناس اليوم فضله عليهم. قال الحافظ: لا يلزم من تخصيص(7/108)
أَصْحَابِي بِرِجَالٍ ذَاتَ الْيَمِينِ وَذَاتَ الشّمَالِ، فَأَقُولُ يَا رَبّ أَصْحَابيْ فَيُقَالُ: إِنّكَ لاَ تَدْرِي مَا أَحدَثُوا بَعْدَكَ إِنّهُمْ لَمْ يَزَالُوا مُرْتَدّينَ عَلَى أَعْقَابِهِمْ مُنْذُ فَارَقْتَهُمْ. فَأَقُولُ كَمَا قَالَ العَبْدُ الصّالِحُ: { إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ
__________
إبراهيم عليه السلام بأنه أول من يكسى أن يكون أفضل من نبينا عليه الصلاة والسلام مطلقاً انتهى "ويؤخذ من أصحابي برجال ذات اليمين وذات الشمال" أي إلى جانب اليمين وإلى جانب الشمال، قال الحافظ: وبين في حديث أنس الموضع ولفظه: "ليردن عليّ ناس من أصحابي الحوض، حتى إذا عرفتهم اختلجوا دوني" الحديث. وفي حديث أبي هريرة عند مسلم: "ليذادن رجال عن حوض كما يذاد البعير الضال، أناديهم ألا هلم" "فأقول يا رب أصحابي" أي هؤلاء أصحابي. ولأحمد والطبراني من حديث أبي بكرة رفعه: "ليردن على الحوض رجال ممن صحبني ورآني" . وسنده حسن. وللطبراني من حديث أبي الدرداء نحوه قاله الحافظ "إنهم لم يزالوا مرتدين على أعقابهم منذ فارقتهم" هذا بيان لقوله: ما أحدثوا بعدك. قال النووي: هذا مما أختلف العلماء في المراد على أقوال.
أحدها : أن المراد به المنافقون والمرتدون فيجوز أن يحشروا بالغرة والتحجيل فيناديهم النبي صلى الله عليه وسلم للسيما التي عليهم فيقال ليس هؤلاء ممن وعدت بهم. إن هؤلاء بدلوا بعدك، أي لم يموتوا على ما ظهر من إسلامهم.
والثاني : أن المراد من كان في زمن النبي صلى الله عليه وسلم ثم ارتد بعده فيناديهم النبي صلى الله عليه وسلم وإن لم يكن عليهم سيما الوضوء لما كان يعرفه صلى الله عليه وسلم في حياته من إسلامهم فيقال ارتدوا بعدك.
والثالث : أن المراد أصحاب المعاصي الكبائر الذين ماتوا على التوحيد وأصحاب البدع الذين لم يخرجوا ببدعتهم عن الإسلام. وعلى هذا القول لا يقطع لهؤلاء الذين يذادون بالنار بل يجوز أن يذادوا عقوبة لهم ثم يرحمهم الله سبحانه وتعالى فيدخلهم الجنة بغير عذاب. قال أصحاب هذا القول: ولا يمتنع أن يكون لهم غرة وتحجيل ويحتمل أن يكون كانوا في زمن النبي صلى الله عليه وسلم وبعده لكن عرفهم بالسيما وقال الحافظ ابن عبد البر: كل من أحدث في الدين فهو من المطرودين(7/109)
َإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} .
2540-حدثنا مُحمدُ بنُ بَشّارٍ وَمُحمّدُ بنُ المُثَنّى، قَالاَ أَخْبَرَنَا مُحمّدُ بنُ جَعْفَرٍ، عَنْ شُعْبَةَ، عَنْ المُغِيرَةِ بنِ النّعْمَانِ بهذا الإِسناد فَذَكَرَ نَحْوَهُ.
هذا حديث حسن صحيح.
2541-حدثنا أَحْمَدُ بنُ مَنِيعٍ، أخبرنا يَزِيدُ بنُ هَارُونَ، أخبرنا بَهْزُ بنُ حَكِيمٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدّهِ قَالَ سَمِعْتُ رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إِنّكُمْ محْشَرُونَ رِجَالاً وَرُكْبَاناً وَتُجَرّونَ عَلَى وُجُوهِكُم" وَفِي البَابِ، عَنْ أَبي هُرَيْرَةَ.
هذا حديثٌ حَسَنٌ.
__________
عن الحوض كالخوارج والروافض وسائر أصحاب الهوى. قال: وكذلك الظلمة المترفون في الجور وطمس الحق والمعادون بالكبائر قال: وكل هؤلاء يخاف عليهم أي يكونوا ممن عنوا بهذا الخبر انتهى كلام النووي رحمه الله "فأقول كما قال العبد الصالح" أي عيسى عليه الصلاة والسلام "إن تعذبهم الخ" وفي المشكاة: {وكنت عليهم شهيداً ما دمت فيهم} إلى قوله { الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} وهذه الاَية في آخر سورة المائدة. وحديث ابن عباس هذا أخرجه الشيخان أيضاً.
قوله : "إنكم تحشرون رجالا" بكسر الراء جمع راجل أي مشاة "وركباناً" أي على النوق وهو بضم الراء جمع راكب وهم السابقون الكاملو الإيمان. قال التوربشتي: فإن قيل لم بدأ بالرجال بالذكر قيل أول السابقة؟ قلنا لأنهم هم الأكثرون من أهل الإيمان "وتجرون" بصيغة المجهول من الجر.
قوله : "وفي الباب عن إبي هريرة" أخرجه الترمذي في القدر وفي تفسير سورة القمر. وأخرجه أيضاً أبو داود وابن جرير وابن مردويه والبيهقي في البعث.
قوله : "هذا حديث حسن" قال الحافظ في الفتح وحديث معاوية بن حيدة جد بهز بن حكيم رفعه: إنكم محشورون، ونحا بيده نحو الشام، رجالا وركباناً وتجرون على وجوهكم. أخرجه الترمذي والنسائي وسنده قوي انتهى.(7/110)