عُبَيْدٍ قال:"قُلْتُ لِسَلَمَةَ بنِ الأكْوَعِ:على أيّ شَيْءٍ بَايَعْتُمْ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم يَوْمَ الْحُدَيْبِيةِ؟ قال: على المَوْتِ".
"هذا حديثٌ حسنٌ صحيحٌ" .
1641ـ حدثنا عليّ بنُ حُجْرٍ، أخبرنا إسماعيلُ بنُ جَعْفَرٍ عن عبدِ الله بنِ دينارٍ عن ابنِ عُمَرَ قال: كُنّا نُبَايِعُ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم على السّمْعِ والطاعَةِ، فَيَقُولُ لَنَا فِيما اسْتَطَعْتُمْ ".
هذا حديثٌ حسنٌ صحيحٌ كلاهما.
1642 ـ حدثنا أحمدُ بنُ مَنِيعٍ، حدثنا سُفْيَانُ بنُ عُيَيْنَةَ عن أبي الزّبَيرِ عن جَابِرِ بنِ عبدِ الله قال: "لَمْ نُبَايِعْ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم على المَوْتِ إنّمَا بَايَعْنَاهُ على أن لا نَفِرّ"هذا حديث حسن صحيح
ـــــــ
قوله:"قال على الموت"أي بايعنا على الموت، والمراد بالمبايعة على الموت أن لا يفروا ولو ماتوا، وليس المراد أن يقع الموت، فليس بين هذا الحديث والذي قبله منافاة.
قوله:"هذا حديث حسن صحيح" أخرجه البخاري وغيره.
قوله: "فيقول"أي رسول الله صلى الله عليه وسلم "فيما استطعتم" هذا يقيد ما أطلق في أحاديث أخرى.
قوله:"هذا حديث حسن صحيح"وأخرجه البخاري.
قوله:"هذا"أي حديث جابر "حديث حسن صحيح"وأخرجه مسلم.(5/217)
ومعنى كلا الحديثين صحيح قد بايعه قوم من أصحابه على الموت وإنما قالوا لا نزال بين يديك حتى نقتل وبايعه آخرون فقالوا لا نفر.
ـــــــ
قوله:"ومعنى كلا الحديثين صحيح"أي لا مخالفة بينهما، والمراد بالحديثين، حديث جابر وحديث سلمة بن الأكوع(5/218)
باب في نكث البيعة
...
34ـ باب ما جاء في نَكْثِ البَيْعَة
1643ـ حدثنا أبو عَمّارٍ، حدثنا وَكِيعٌ عن الأعْمَشِ عن أبي صَالحٍ عن أبي هُرَيْرَةَ قال: قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: "ثَلاَثَةٌ لا يُكَلّمُهُمُ الله يَوْمَ الْقِيَامَةِ ولا يُزَكّيهِم وَلَهُمْ عَذَابٌ ألِيمٌ: رَجُلٌ بَايَعَ إمَاماً فإنْ أعطَاهُ وَفَى لَهُ، وإن لم يُعْطِهِ لَمْ يَفِ لَهُ" .
ـــــــ
"باب ما جاء في نَكْثِ البَيْعَة"
أي نقضها، والنكث: نقض العهد.
قوله:"ثلاثة لا يكلمهم الله يوم القيامة"قال النووي:قيل معنى لا يكلمهم الله تكليم من رضي عنه بإظهار الرضا بل بكلام يدل على السخط. وقيل المراد أنه يعرض عنهم، وقيل لا يكلمهم كلاماً يسرهم، وقيل لا يرسل إليهم الملائكة بالتحية ومعنى لا ينظر إليهم: يعرض عنهم، ومعنى نظره لعباده رحمته لهم، ولطفه بهم.ومعنى لا يزكيهم:لا يطهرهم من الذنوب، وقيل لا يثني عليهم انتهى. "رجل بايع إماماً" زاد في رواية البخاري. لا يبايعه إلا لدنيا "فإن أعطاه وفى له" وفي رواية البخاري:فإن أعطاه ما يريد وفى له، وإن لم يف له، وفي رواية:فإن أعطاه ما يريد رضي وإلا سخط.
اعلم أن الترمذي رحمه الله ذكر واحداً من الثلاثة وترك الاثنين اختصاراً، ولفظ الحديث بتمامه في صحيح البخاري هكذا: "ثلاثة لا يكلمهم الله يوم القيامة ولا يزكهم ولهم عذاب أليم:رجل على فضل ماء بالطريق يمنع منه ابن السبيل،(5/218)
باب ماجاء في بيعة العبد
...
35ـ باب ما جاءَ في بَيْعَةِ العَبْد
1644ـ حدثنا قُتَيْبَةُ حدثنا اللّيْثُ بن سعد عن أبي الزّبَيْرِ عن جَابِرٍ أنه قال: "جاءَ عَبْدٌ فَبَايَعَ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم على الهجرة ولا يَشْعُرُ النبيّ صلى الله عليه وسلم أنّهُ عَبْدٌ، فَجَاءَ سَيّدُهُ، فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم بعْنِيهِ ، فاشْتَرَاهُ بِعَبْدَيْنِ أسْوَدَيْنِ وَلَمْ يُبَايِعْ أحَداً بَعْدُ حتى يَسْأَلهُ أعَبْدٌ هُوَ".
ـــــــ
"باب ما جاءَ في بَيْعَةِ العَبْد"
قوله:"فجاء سيده"وفي رواية مسلم: فجاء سيده يريده قوله:"فاشتراه بعبدين أسودين" قال النووي: هذا محمول على أن سيده كان مسلماً ولهذا باعه بالعبدين الأسودين، والظاهر أنهما كانا مسلمين ولا يجوز بيع العبد المسلم بكافر، ويحتمل أنه كان كافراً، وأنهما كانا كافرين، ولا بد من ثبوت ملكه للعبد الذي بايع على الهجرة إما ببينة وإما بتصديق العبد قبل إقراره بالحرية. وفيه جواز بيع عبد بعبدين سواء كانت القيمة متفقة أو مختلفة، وهذا مجمع عليه إذا بيع نقداً، وكذا حكم سائر الحيوان فإن باع عبداً بعبدين أو بعيراً ببعيرين إلى أجل، فمذهب الشافعي والجمهور جوازه، وقال أبو حنيفة والكوفيون لا يجوز، وفيه مذهب لغيرهم انتهى "ولم يبايع أحداً بعد" بالبناء على الضم أي بعد ذلك "حتى يسأله أعبد هو" بهمزة الاستفهام، وفيه أن أحداً إذا جاء الإمام ليبايعه على الهجرة ولا يعلم أنه عبد أو حر فلا يبايعه حتى يسأله، فإن كان حراً يبايعه وإلا فلا.(5/219)
باب ماجاء في بيعة النساء
...
36ـ باب ما جاءَ في بَيْعَةِ النّسَاء
1645 ـ حدثنا قُتَيْبَةُ حدثنا سُفْيَانُ بن عينية عن ابنِ المُنْكَدِرِ سَمِعَ أُمَيْمَةَ بِنْتِ رُقَيْقَةَ تقول:"بَايَعْتُ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم في نِسْوَةٍ، فقالَ لنا " في ما اسْتَطَعْتُنّ وَأَطْقْتُنّ" ، قلتُ الله ورسولُهُ أرحَمُ بِنَا مِنّا بِأَنْفُسِنَا، قُلْتُ يَا رسولَ الله بايعْنَا، قالَ سُفْيَانُ: تَعْنِي صَافِحْنَا، فقالَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم "إ نّمَا قَوْلِي لِمائَةِ امْرَأَةٍ كَقَولِي لاِمْرَأَةٍ وَاحِدَ ةٍ" .
ـــــــ
"باب ما جاءَ في بَيْعَةِ النّسَاء"
قوله:"سمع أميمة"بضم الهمزة وفتح الميمين بينهما تحتانية ساكنة "بنت رقيقة" بضم الراء وفتح القافين بينهما تحتانية ساكنة، قال في التقريب اسم أبيها عبد الله بن بجاد التيمي لها حديثان وهي غير أميمة بنت رقيقة الثقفية تابعية.
قوله: "وأطقتن" من الإطاقة "قال سفيان: تعني صافحنا" أي قال سفيان في تفسير قوله أميمة "بايعنا" تريد به صافحنا، يعني أطلقت لفظ "بايعنا" وأرادت به صافحنا "فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم إنما قولي الخ" كذا روى الترمذي هذا الحديث مختصراً. ورواه النسائي والطبري أنها دخلت في نسوة تبايع فقلن: يا رسول الله ابسط يدك نصافحك، فقال " إني لا أصافح النساء ولكن سآخذ عليكن" ، فأخذ علينا حتى بلغ "ولا يعصينك في معروف" فقال فيما أطقتن واستطعتن إلخ.(5/220)
وفي البابِ عن عائشةَ وعبدِ الله بنِ عمر وأسْمَاءَ بِنْتِ يَزِيدَ.
ـــــــ
قوله:"وفي الباب عن عائشة وعبد الله بن عمرو وأسماء بنت يزيد"أما حديث عائشة فأخرجه البخاري وغيره وفيه:والله ما مست يده يد امرأة قط في المبايعة، ما يبايعهن إلا بقوله قد بايعتك على ذلك. قال الحافظ قوله:قد بايعتك، كلاماً، أي يقول ذلك كلاماً فقط لا مصافحة باليد كما جرت العادة بمصافحة الرجال عند المبايعة، وكأن عائشة أشارت بقولها والله ما مست الخ إلى الرد على ما جاء عن أم عطية، فعند ابن خزيمة وابن حبان والبزار والطبري وابن مردويه من طريق إسماعيل بن عبد الرحمن عن جدته أم عطية في قصة المبايعة قال: فمد يده من خارج البيت ومددنا أيدينا من داخل البيت ثم قال لهم اشهد، وكذا الحديث الذي بعده حيث قالت فيه: قبضت منا امرأة يدها فإنه يشعر بأنهن كن يبايعنه بأيديهن، ويمسكن الجواب عن الأول بأن مد الأيدي من وراء الحجاب إشارة إلى وقوع المبايعة وإن لم تقع مصافحة، وعن الثاني بأن المراد بقبض اليد التأخر عن القبول، أو كانت المبايعة تقع بحائل، فقد روى أبو داود في المراسيل عن الشعبي أن النبي صلى الله عليه وسلم حين بايع النساء أتى ببرد قطري فوضعه في يده وقال لا أصافح النساء. وعند عبد الرزاق من طريق إبراهيم النخعي مرسلاً نحوه، وعند سعيد بن منصور من طريق قيس بن أبي حازم كذلك. وأخرج ابن إسحاق في المغازي من رواية يونس بن بكير عنه عن أبان بن صالح أنه صلى الله عليه وسلم كان يغمس يده في إناء وتغمس المرأة يدها فيه ويحتمل التعدد. وقد أخرج الطبراني أنه بايعهن بواسطة عمر، وقد جاء في أخبار أخرى أنهن كن يأخذن بيده عند المبايعة من فوق ثوب. أخرجه يحيى بن سلام في تفسيره عن الشعبي وفي المغازي لابن إسحاق عن أبان بن صالح أنه كان يغمس يده في إناء فيغمسن أيديهن فيه. انتهى ما في فتح الباري.
اعلم أن السنة أن تكون بيعة الرجال بالمصافحة والسنة في المصافحة أن تكون باليد اليمنى، فقد روى مسلم في صحيحه عن عمرو بن العاص قال: أتيت النبي صلى الله عليه وسلم فقلت أبسط يمينك فلأبايعك، فبسط يمينه الحديث، قال القاري في شرح هذا الحديث أي افتح يمينك ومدها لأضع يميني عليها كما هو العادة في البيعة(5/221)
باب ماجاء في عدة أصحاب بدر
...
37ـ باب ما جاءَ في عِدّةِ "أصْحَابِ"أهلِ بَدْر
1646ـ حدثنا واصِلُ بنُ عبْدِ الأعْلَى حدثنا أبو بَكْرٍ بنِ عَيّاشٍ عن أبي إسحاقَ عن البَرَاءِ قال: "كُنّا نَتحدّثُ أن أصْحَابَ بَدْرٍ يَوْمَ بَدْرٍ كعِدّةِ أصْحَابِ طَالُوتَ ثَلاَثُمَائَةٍ وثَلاَثَة عَشَر".
ـــــــ
"باب ما جاءَ في عِدّةِ "أصْحَابِ" أهلِ بَدْر"
أي الذين شهدوا الوقعة مع النبي صلى الله عليه وسلم ومن ألحق بهم.
قوله:"كعدة أصحاب طالوت"هو ابن قيس من ذرية بنيامين بن يعقوب شقيق يوسف عليه السلام، يقال إنه كان سقاء، ويقال إنه كان دباغاً، والمراد بأصحاب طالوت الذين جاوزا معه النهر ولم يجاوز معه إلا مؤمن كما في رواية البخاري، وقد ذكر الله قصة طالوت في القرآن في سورة البقرة. وذكر أهل العلم في الأخبار أن المراد بالنهر نهر الأردن، وأن جالوت كان رأس الجبارين، وأن طالوت وعد من قتل جالوت أن يزوجه ابنته ويقاسمه الملك، فقتله داود فوفى له طالوت وعظم قدر داود في بني إسرائيل حتى استقل بالمملكة بعد أن كانت نية طالوت تغيرت لداود وهم بقتله فلم يقدر عليه فتاب وانخلع من الملك.(5/222)
باب ماجاء في الخمس
...
38ـ باب ما جاءَ في الْخُمُس
1647ـ حدثنا قُتَيْبَةُ حدثنا عَبّادُ بنُ عبّادٍ المُهَلّبِيّ عن أبي جَمْرَةَ
ـــــــ
"باب ما جاءَ في الْخُمُس"
بضم الخاء المعجمة، والجمهور على أن ابتداء فرض الخمس كان بقوله تعالى. {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ} الآية،وكان الغنائم تقسم على خمسة أقسام فيعزل خمس منها يصرف فيمن ذكر في الآية،وكان خمس هذا الخمس لرسول الله صلى الله عليه وسلم، واختلف فيمن يستحقه بعده، فمذهب الشافعي أنه يصرف في المصالح، وعنه يرد على الأصناف الثمانية المذكورين في الآية،وهو قول الحنفية مع اختلافهم فيهم، وقيل يختص به الخليفة ويقسم أربعة أخماس الغنيمة على الغانمين إلا السلب فإنه للقاتل على الراجح كذا في الفتح
قوله: "عن أبي جمرة" بفتح الجيم وسكون الميم وبالراء اسمه نصر بن عمران(5/223)
عن ابنِ عباسٍ أنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم قال لَوفْدِ عَبْدِ الْقَيْسِ: "آمُرُكُم أن تُؤَدّوا خُمُسَ ما غَنِمْتُمْ" قال وفي الحَدِيثِ قِصّةٌ.
هذا حديثٌ حسنٌ صحيحٌ.
حدثنا قُتَيْبَةُ حدثنا حَمّادُ بنُ زَيْدٍ عن أبي جَمْرَةَ عن ابنِ عباس نَحْوَهُ.
ـــــــ
الضبعي الضاد المعجمة وفتح الموحدة مشهور بكنيته ثقة ثبت من الثالثة.
قوله: "وفي الحديث قصة وهذا حديث حسن صحيح" وأخرجه البخاري ومسلم بقصته(5/224)
باب ماجاء في كراهية النهبة
...
39ـ باب ما جاءَ في كَرَاهِيةِ النّهْبَة
1649 ـ حدثنا هَنّادٌ حدثنا أبو الأحْوصِ عن سعيدِ بنِ مَسْرُوقٍ عن عَبَايَةَ بنِ رِفَاعَةَ عن أبِيهِ عن جَدّهِ رَافِعٍ بن خديج قال: "كُنّا معَ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم في سَفَرٍ فَتَقَدّمَ سَرَعَانُ الناسَ فَتَعَجّلُوا مِنَ الْغَنَائِمِ فاطّبَخُوا ورسولُ الله صلى الله عليه وسلم في أُخْرَى النَاسِ، فَمَرّ بالقُدُورِ فأَمَرَ بها فأُكْفِئْت ثم قَسَمَ بينهم فَعَدَلَ بَعِيراً بِعَشْرٍ شِيَاهٍ".
ـــــــ
"باب ما جاءَ في كَرَاهِيةِ النّهْبَة"
قال في المجمع: النهبة بالفتح مصدر وبالضم المال المنهوب
قوله: "عن عباية" بفتح أوله والموحدة الخفيفة وبعد الألف تحتانية خفيفة "ابن رفاعة" بكسر الراء بن خديج الأنصاري الزرقي المدني ثقة من الثالثة.
قوله: "فتقدم سرعان الناس" قال في المجمع: سرعان الناس هو بفتحتين أوائلهم الذين يتسارعون إلى المشي ويقبلون عليه بسرعة، يجوز سكون الراء "فاطبخوا" هو افتعلوا من الطبخ، وهو عام لمن يطبخ لنفسه وغيره، والإطباخ خاص لنفسه "في أخرى الناس" أي في الطائفة المتأخرة عنهم "فاكفئت بصيغة"(5/224)
وَرَوَى سُفُيَانُ الثّوْرِيُ عن أبيهِ عن عَبَايَةَ عن جَدّهِ رَافِعِ بنِ خَدِيجٍ وَلَمْ يَذْكُرْ فيهِ عن أبيهِ.
ـــــــ
المجهول من الإكفاء أي قلبت وأريق ما فيها لأنهم ذبحوا الغنم قبل القسمة. وقد اختلف في هذا المكان في شيئين: أحدهما سبب الإراقة والثاني هل أتلف اللحم أم لا. فأما الأول فقال عياض: كانوا انتهوا إلى دار الإسلام والمحل الذي لا يجوز فيه الأكل من مال الغنيمة المشتركة إلا بعد القسمة وأن محل جواز ذلك قبل القسمة إنما هو ما داموا في دار الحرب، قال ويحتمل أن سبب ذلك كونهم انتهبوها ولم يأخذوها باعتدال وعلى قدر الحاجة، قال وقد وقع في حديث آخر ما يدل لذلك، يشير إلى ما أخرجه أبو داود من طريق عاصم بن كليب عن أبيه وله صحبة عن رجل من الأنصار قال: أصاب الناس مجاعة شديدة وجهد فأصابوا غنماً فانتهبوها، فإن قدورنا لتغلي بها، إذ جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم على فرسه فأكفأ قدورنا بقوسه ثم جعل يرمل اللحم بالتراب ثم قال: "إن النهبة ليست بأحل من الميتة" انتهى. وهذا يدل على أنه عاملهم من أجل استعجالهم بنقيض قصدهم كما عومل القاتل بمنع الميراث.
وأما الثاني فقال الثوري: المأمور به من إراقة القدور إنما هو إتلاف المرق عقوبة لهم، وأما اللحم فلم يتلفوه بل يحمل على أنه جمع ورد إلى المغنم ولا يظن أنه أمر بإتلافه مع أنه صلى الله عليه وسلم نهى عن إضاعة المال وهذا من مال الغانمين: وأيضاً فالجناية بطبخة لم تقع من جميع مستحقي الغنيمة، فإن منهم من لم يطبخ ومنهم المستحقون للخمس. فإن قيل لم ينقل أنهم حملوا اللحم إلى المغنم، قلنا ولم ينقل أنهم أحرقوه أو أتلفوه، فيجب تأويله على وفق القواعد انتهى.
ويرد عليه حديث أبي داود فإنه جيد الإسناد، وترك تسمية الصحابي لا يضر، ورجال الإسناد على شرط مسلم. ولا يقال لا يلزم من تتريب اللحم إتلافه لإمكان تداركه بالغسل "لأن السياق يشعر أريد المبالغة في الزجر عن ذلك الفعل، فلو كان بصدد أن ينتفع به بعد ذلك لم يكن فيه كبير زجر، لأن الذي يخص الواحد منهم نزر يسير فكان إفسادها عليهم مع تعلق قلوبهم بها وحاجتهم إليها وشهوتهم لها أبلغ في الزجر، كذا في فتح الباري.(5/225)
1650-حدثنا بذلكَ محمودُ بنُ غَيْلاَنَ، حدثنا وَكيعٌ عن سُفْيَانَ وهذا أصح.
قال: وفي الباب عن ثعلبة بن الحكم وأنس وأبي ريمانة وأبي الدرداء وعبدالرحمن بن سمرة وزيد بن خالد وحابر وأبي هريرة وأيوب قال أبو عيسى: وهذا أصح وَعَبَايَةُ بنُ رِفَاعَةَ سَمِعَ مِنْ جَدّهِ رَافِع بنِ خَدِيج.
1651ـ حدثنا محمودُ بنُ غَيْلاَنَ، حدثنا عبدُ الرّزّاقِ عن مَعْمَرٍ عن ثابتٍ عن أنَسٍ قال: قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: "مَن انْتَهَبَ فَلَيْسَ مِنّا" .
ـــــــ
"فعدل بعيراً بعشر شياه"قال الحافظ:وهذا محمول على أن هذا كان قيمة الغنم إذ ذاك، فلعل الإبل كانت قليلة أو نفيسة.والغنم كانت كثيرة أو هزيلة، بحيث كانت قيمة البعير عشر شياه، ولا يخالف ذلك القاعدة في الأضاحي.من أن البعير يجزيء عن سبع شياه لأن ذلك هو الغالب في قيمة الشاة والبعير، المعتدلين. وأما هذه القسمة فكانت واقعة عين فيحتمل أن يكون التعديل لما ذكر من نفاسة الإبل دون الغنم، وحديث جابر عند مسلم صريح في الحكم حيث قال فيه: أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نشترك في الإبل والبقر كل سبعة منا في بدنة، والبدنة تطلق على الناقة والبقرة. وأما حديث ابن عباس: كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم في سفر، فحضر الأضحى، فاشتركنا في البقرة وفي البدنة عشرة، فحسنه الترمذي وصححه ابن حبان وعضده بحديث رافع بن خديج.
هذا والذي يتحرر في هذا أن الأصل أن البعير بسبعة ما لم يعرض عارض من نفاسة ونحوها فيتغير الحكم بحسب ذلك، وبهذا تجتمع الأخبار الواردة في ذلك "وهذا أصح" أخرجه البخاري.
قوله: "وفي الباب عن ثعلبة بن الحكم الخ" . لينظر من أخرج أحاديث هؤلاء الصحابة.
قوله: "من انتهب" أي أخذ ما لا يجوز له أخذه قهراً جهراً "فليس منا" أي ليس من المطيعين لأمرنا، لأن أخذ مال المعصوم بغير إذنه ولا علم رضاه(5/226)
هذا حديثٌ حسنٌ صحيحٌ غريبٌ مِنْ حديثِ أنَسٍ.
ـــــــ
حرام، بل يكفر مستحله، قاله المناوي وقال القاري: ليس من جماعتنا وعلى طريقتنا.
قوله:"هذا حديث حسن صحيح غريب من حديث أنس".وأخرجه أحمد والضياء(5/227)
باب ماجاء في التسليم على أهل الكتاب
...
40ـ باب ما جاءَ في التّسْلِيمِ على أهْلِ الكِتَاب
1652ـ حدثنا قُتَيْبَةُ، حدثنا عبدُ العزيزِ بنُ محمدٍ عن سُهَيْلِ بنِ أبي صالحٍ عن أبيهِ عن أبي هُرَيْرَةَ: أنّ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم قال: "لا تبدَأُوا اليهودَ والنّصَارَى بالسّلاَمِ، وإذا لَقِيتُمْ أحَدَهُمْ في الطّريقِ فاضْطَرّوهُ إلى أضْيَقِهِ" .
ـــــــ
"باب ما جاءَ في التّسْلِيمِ على أهْلِ الكِتَاب"
قوله: "لا تبدأوا اليهود والنصارى"أي ولو كانوا ذمبين فضلاً عن غيرهما من الكفار"بالسلام لأن الابتداء به إعزاز للمسلم عليه، ولا يجوز إعزازهم، وكذا لا يجوز تواددهم وتحاببهم بالسلام ونحوه" ، قال تعالى: {لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} الآية ولأنا مأمورون بإذلالهم كما أشار إليه سبحانه بقوله {وَهُمْ صَاغِرُونَ} . كذا في المرقاة "فاضطروه"أي ألجئوه "إلى أضيقه"أي أضيق الطريق بحيث لو كان في الطريق جدار يلتصق بالجدار وإلا فيأمره ليعدل عن وسط الطريق إلى أحد طرفيه.وفي شرح مسلم للنووي قال بعض أصحابنا:يكره ابتداؤهم بالسلام ولا يحرم، وهذا ضعيف لأن النهي للتحريم، فالصواب تحريم ابتدائهم. وحكى القاضي عياض عن جماعة أنه يجوز ابتداؤهم للضرورة والحاجة.وهو قول علقمة والنخعي.وقال الأوزاعي:إن سلمت فقد سلم الصالحون وإن تركت فقد ترك الصالحون.وأما المبتدع فالمختار أنه لا يبدأ بالسلام إلا لعذر وخوف من مفسده، ولو سلم على من لم(5/227)
وفي البابِ عن ابنِ عُمَرَ وأنَسٍ وأبي بَصْرَةَ الغِفَارِيّ صاحبِ النبيّ صلى الله عليه وسلم.
هذا حديثٌ حسنٌ صحيحٌ.
1653 ـ حدثنا عليّ بنُ حُجْرٍ أخبرنا إسماعيلُ بنُ جَعْفَرٍ عن عبدِ الله بنِ دِينَارٍ عن ابنِ عُمَرَ قال: قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: "إنّ اليَهُود إذا سَلّمَ عليكُم أحَدُهُمْ فإنّمَا يقولُ السّامُ عَلَيْكَم، فَقلْ عَلَيْكَ" .
هذا حديثٌ حسنٌ صحيحٌ.
ـــــــ
لم يعرفه فبان ذمياً استحب أن يسترد سلامه بأن يقول استرجعت سلامي تحقيراً له. وقال لأصحابنا لا يترك للذمي صدر الطريق بل يضطر إلى أضيقه، ولكن التضييق بحيث لا يقع في وهدة ونحوها وإن خلت الطريق عن الزحمة فلا حرج انتهى.
قوله: "وفي الباب عن ابن عمر وأنس وأبي بصرة الغفاري" . وأما حديث ابن عمر فأخرجه الترمذي في هذا الباب، وأما حديث أنس فأخرجه الشيخان مرفوعاً بلفظ: "إذا سلم أهل الكتاب فقولوا وعليكم" . وأما حديث أبي بصرة فلينظر من أخرجه.
قوله: "فإنما يقول السام عليك" أي الموت العاجل عليك "فقل عليك" . وفي المشكاة وعليك بالواو. قال القاري في المشكاة: والمفهوم من كلام القاضي: أن الأصل في هذا الحديث عليك بغير واو وأنه روى بالواو أيضاً.
قوله: "هذا حديث حسن صحيح" وأخرجه الشيخان(5/228)
باب ماجاء في كراهية المقام بين أظهر المشركين
...
41ـ باب ما جاءَ في كَرَاهِيَةِ المقَامِ بَيْنَ أَظْهُرِ المشْرِكين
1654ـ حدثنا هَنّادٌ، حدثنا أبو مُعَاوِيَةَ عن إسماعيلَ بنِ أبي خالدٍ عن قيسِ بنِ أبي حازِمٍ عن جَرِيرِ بنِ عبدِ الله: "أنّ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم بَعَثَ سَرِيّةً إلى خَثْعَمٍ، فاعْتَصَمَ ناسٌ بالسّجُودِ فأسْرَعَ فيهم القَتْل فَبَلَغَ ذلكَ النّبيّ صلى الله عليه وسلم فأمَرَ لهم بِنِصْفِ الْعَقْل وقال: "أنَا بَرِيءٌ مِنْ كُلّ مُسْلِمٍ يُقِيمُ بَيْنَ أظْهُرِ المُشرِكِين" َ، قالوا يَا رسولَ الله: وَلِمَ؟ قال لا تَرَاءَى نَارَاهُمَا ".
1655ـ حدثنا هنادٌ، حدثنا عَبْدَةُ عن إسماعيلَ بنِ أبي خالدٍ عن قَيْسٍ بنِ أبي حازِمٍ مِثْلَ حديثِ أبي مُعَاوِيَةَ ولم يَذْكُرْ فيه عن جَريرٍ. وهذا أصَحّ.
ـــــــ
"باب ما جاءَ في كَرَاهِيَةِ المقَامِ بَيْنَ أَظْهُرِ المشْرِكين"
قوله: "فاعتصم ناس بالسجود" أي ناس من المسلمين الساكنين في الكفار، سجدوا باعتماد أن جيش الإسلام يتركوننا عن القتل حيث يروننا ساجدين. لأن الصلاة علامة الإيمان "فأمر لهم بنصف العقل" أي بنصف الدية. قال في فتح الودود: لأنهم أعانوا على أنفسهم بمقامهم بين الكفرة فكانوا كمن هلك بفعل نفسه وفعل غيره قسقط حصة جنايته "بين أظهر المشركين" أي بينهم، ولفظ أظهر مقحم "لا تراءى ناراهما" من الترائي تفاعل من الرؤية، يقال تراءى القوم إذا رأى بعضهم بعضاً، تراءى الشيء أي ظهر حتى رأيته. والأصل في تراءى تتراءى، فحذت إحدى التاءين تخفيفاً. وإسناد التراءي إلى النار مجاز من قولهم داري تنظر من دار فلان أي تقابلها. قال في النهاية أي يلزم المسلم يجب أن يتباعد منزله عن منزل المشرك، ولا ينزل بالموضع الذي إن أوقدت فيه ناره تلوح وتظهر للشرك إذا أوقدها في منزله، ولكنه ينزل مع المسلمين، هو حث على الهجرة.(5/229)
وفي البابِ عن سَمُرَةَ.
وأكْثَرُ أصحابِ إسماعيلَ عن إسماعيلَ عن قَيْسِ بنِ أبي حازمٍ أن رسولَ الله صلى الله عليه وسلم بَعَثَ سَرِيّةً ولم يَذْكُرُوا فيه عن جَرِيرٍ.
ورواه حَمّادُ بنُ سَلَمَةَ عن الْحَجّاجِ بن أرْطَأَةَ عن إسماعيلَ بنِ أبي خالدٍ عن قَيْسٍ عن جَريرٍ مثلَ حديثِ أبي مُعَاوِيَة. قال وَسَمِعْتُ محمداً يقولُ: الصّحيحُ حديثُ قَيْسٍ عن النبيّ صلى الله عليه وسلم مُرْسَلٌ.
ورَوَى سَمُرَةَ بنُ جُنْدُبٍ عن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال: "لا تُسَاكنُوا المُشْرِكِينَ ولا تُجَامِعُوهُمْ، فَمَنْ سَاكَنَهُمْ أوْ جَامَعَهُمْ فَهُوَ مِثْلُهُمْ" .
ـــــــ
قال الخطابي في معناه: ثلاثة وجوه: قيل معناه لا يستوي حكمهما. وقيل معناه أن الله فرق بين داري الإسلام والكفر، فلا يجوز لمسلم أن يساكن الكفار في بلادهم حتى إذا أوقدوا ناراً كان منهم بحيث يراها. وقيل معناه لا يتسم المسلم بسمة المشرك ولا يتشبه به في هديه وشكله. قوله: "وفي الباب عن سمرة" أخرجه أبو داود عنه مرفوعاً: "من جامع المشرك وسكن معه فهو مثله" ، وذكره الترمذي بنحوه، ولم يذكر سنده. وحديث جرير المذكور في الباب أخرجه أيضاً أبو داود وابن ماجه ورجال إسناده ثقات، ولكن صحح البخاري وأبو حاتم وأبو داود والترمذي والدارقطني إرساله إلى قيس بن أبي حازم، ورواه الطبراني أيضاً موصولاً كذا في النيل(5/230)
باب ماجاء في إخراج اليهود والنصارى من جزيرة العرب
...
42ـ باب ما جاءَ في إخراجِ اليَهودِ والنّصَارَى مِن جَزيرةِ العَرَب
1656ـ حدثنا الحسَنُ بنُ علي الْخَلاّلُ حدثنا أبو عَاصِمٍ وعبدُ الرّزّاقِ
ـــــــ
"باب ما جاءَ في إخراجِ اليَهودِ والنّصَارَى مِن جَزيرةِ العَرَب"
الجزيرة اسم موضع من الأرض. وهو ما بين حفر أبي موسى الأشعري(5/230)
قالا أخبرنا ابنُ جُرَيْجٍ قال أخبرني أبو الزّبْيرِ أنّهُ سَمِعَ جَابِرَ بْنَ عبد الله يقولُ: أخْبَرَنِي عُمَرُ بنُ الْخَطّابِ أنّهُ سَمِعَ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم يقول: "لأُخْرِجَنّ اليَهُودَ والنّصَارَى مِنْ جَزِيرَةِ العربِ فَلاَ أتْرُكُ فيها إلاّ مُسْلِماً" .
هذا حديثٌ حسنٌ صحيحٌ.
1657 ـ حدثنا موسى بنُ عبدِ الرحمَنِ الكِنْدِيّ حدثنا زَيْدُ بنُ الحباب
ـــــــ
إلى أقصى اليمن في الطول، وما بين رمل يزن إلى منقطع السموة في العرض، قاله أبو عبيدة: وقال الأصمعي: من أقصى عدن أبين إلى ريف العراق طولاً. ومن جدة وساحل البحر إلى أطراف الشام1 عرضاً، قال الأزهري سميت جزيرة لأن بحر فارس وبحر السودان أحاطها بجانبيها وأحاط بالجانب الشمالي دجلة والفرات. وعن مالك أن جزيرة العرب مكة والمدينة واليمامة واليمن. وفي القاموس: جزيرة العرب ما أحاط به بحر الهند وبحر الشام ثم دجلة والفرات.
قوله: "فلا أترك فيها إلا مسلماً" قال النووي: أوجب مالك والشافعي وغيرهما من العلماء إخراج الكافر من جزيرة العرب وقالوا لا يجوز تمكينهم سكناها، ولكن الشافعي خص هذا الحكم بالحجاز وهو عنده مكة والمدينة واليمامة وأعمالها دون اليمن وغيره. وقال لا يمنع الكفار من التردد مسافرين في الحجاز ولا يمكنون من الإقامة فيه أكثر من ثلاثة أيام. قال الشافعي إلا مكة وحرمها فلا يجوز تمكين كافر من دخولها بحال، فإن دخلها بخفية وجب إخراجه، فإن مات ودفن فيها نبش وأخرج منها ما لم يتغير. وجوز أبو حنيفة دخولهم الحرم. وحجة الجماهير قوله تعالى: { ِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا} وفي المعالم أراد منعهم من دخول الحرم لأنهم إذا دخلوا الحرم فقد قربوا من المسجد الحرام، قال وجوز أهل الكوفة المعاهد دخول الحرم انتهى.
قوله: "هذا حديث حسن صحيح" وأخرجه مسلم وأبو داود والنسائي وابن ماجه.
ـــــــ
1 كذا بالأصل ولعل المؤلف يقصد أطراف عمان وليس أطراف الشام وبذا يستقيم توجيه العبارة(5/231)
أخبرنا سُفْيَانُ الثّوْرِيّ عن أبي الزّبَيْرِ عن جابرٍ عن عُمرَ بن الخطابِ أن رسولَ الله صلى الله عليه وسلم قال: "لَئِنْ عِشْتُ إنْ شَاءَ الله لأخرجنّ اليَهُودَ والنّصَارَى مِنْ جَزِيرَةِ العرب" .
ـــــــ
قوله:"لئن عشت"أي بقيت قوله:"إن شاء الله"قيد لقوله لأخرجن اليهود والنصارى(5/232)
باب ماجاء في تركة النبي صلى الله عليه وسلم
...
43ـ باب ما جاءَ في تَرِكَةِ رسول الله صلى الله عليه وسلم
1658 ـ حدثنا محمدُ بنُ المُثَنّى حدثنا أبو الوَلِيدِ حدثنا حَمّادُ بنُ سَلَمَةَ عن محمدِ بنِ عَمْرٍو عن أبي سَلَمَةَ عن أبي هريرةَ قال: "جَاءَتْ فَاطِمَةُ إلى أبِي بَكْرٍ فقالَتْ: مَنْ يَرِثُكَ؟ قال: أهْلِي وَوَلَدِي، قالَتْ فَمَا لِي لا أرِثُ أبِي. فقال أبو بكرٍ سَمِعْتُ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم يقول: لا نُورَثُ . ولكن أعُولُ مَنْ كانَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم يَعُولُه وأُنْفِقُ على مَنْ كَانَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم يُنْفِقُ عَلَيْهِ".
ـــــــ
"باب ما جاءَ في تَرِكَةِ رسول الله صلى الله عليه وسلم"
بفتح الفوقانية وكسر الراء ما تركه النبي صلى الله عليه وسلم.
قوله:"لا نورث" بفتح الراء ويصح الكسر، وحكمته أنهم كالآباء للأمة فمالهم لكلهم، أو لئلا يظن بهم الرغبة في الدنيا لوارثتهم. ونزاع علي وعباس قبل علمهما بالحديث وبعده رجعاً، وأعتقد أنه الحق بدليل أن علياً لم يغير الأمر حين يكونا متصرفين بالشركة، وكره عمر القسمة حذراً من دعوى الملك كذا في المجمع "لكن أعول من كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعوله" عال الرجل عياله يعولهم: إذا قام بما يحتاجون إليه من ثوب وغيره.(5/232)
وفي البابِ عن عُمَر وَطَلْحَةَ والزّبَيْرِ وعبدِ الرحمَنِ بنِ عَوْفٍ وسَعْدٍ وعائِشَةَ.
وحديثُ أبي هريرةَ حديثٌ حسنٌ غريبٌ مِنْ هذا الوجهِ إنّمَا أسْنَدَهُ حَمّادُ بنُ سَلَمَةَ وعبدُ الوَهّابِ بن عَطَاء عن محمدِ بنِ عَمْرٍو عن أبي سَلَمَةَ عن أبي هريرةَ وسألت محمداً عن هذا الحديث فقال لا أعلم أحداً رواه عن محمد بن عمرو عن أبي سلمة عن أبي هريرة الأحماد بن سلمة وروى عبد الوهاب بن عطاء عن محمد بن عمرو عن أبي سلمة وعن أبي هريرة نحوه رواية حماد بن سلمة وقد روي هذا الحديث من غير وجه عن أبي بكر الصديق عن النبي صلى الله عليه وسلم.
1659 ـ حدثنا الحسَنُ بنُ عليّ الْخَلاّلُ أخبرنا بِشْرُ بنُ عُمَرَ حدثنا مَالِكُ بنُ أنسٍ عن ابنِ شِهَابٍ عن مالكِ بنِ أوْسٍ بنِ الحدَثَانِ قال: دَخَلْتُ على عُمَرَ بنِ الخطّابِ ودَخَلَ عليهِ عُثْمانُ بنُ عَفّانَ والزّبَيْرُ بنُ العَوّامِ وعبدُ الرحمنِ بنِ عَوْفٍ وسَعْدُ بنُ أبي وقّاصٍ، ثم جاء عليّ والعَبّاسُ يَخْتَصِمَانِ، فقال عُمَر لَهُمْ: أنْشُدُكُمْ بالله الذي بإذْنِهِ تَقُومُ السّمَاءُ والأَرْضُ تَعْلَمُونَ أنّ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم قال " لا نُورَثُ، مَا تَرَكْنَاه صَدَقَةٌ؟" قالوا:
ـــــــ
قوله: "وفي الباب عن عمر وطلحة والزبير وعبد الرحمن بن عوف وسعد وعائشة" أما حديث عمر وغيره فأخرجه الترمذي بعد هذا، وأما حديث عائشة فأخرجه الشيخان عنها أن أزواج النبي صلى الله عليه وسلم حين توفي أردن أن يبعثن عثمان إلى أبي بكر يسألنه ميراثهن، فقالت عائشة: أليس قال النبي صلى الله عليه وسلم: "لا نورث ما تركناه صدقة" .
قوله: "حديث أبي هريرة حديث غريب من هذا الوجه" وأخرجه أحمد، قال صاحب المنتقى بعد ذكر حديث أبي هريرة هذا: رواه أحمد والترمذي وصححه انتهى قلت: ليس في نسخ الترمذي الحاضرة عندنا تصحيح الترمذي إنما فيها تحيسنه فقط. وروى الشيخان حديث أبي هريرة بلفظ: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا تقتسم ورثتي ديناراً، ما بركت بعد نفقة نسائي ومؤنة عاملي فهو صدقة" ، وفي لفظ لأحمد، لا يقتسم ورثتي ديناراً ولا درهماً.
قوله: "أنشدكم بالله" أي أسألكم رافعاً نشدتي صوتي "لا نورث" بالنون،(5/233)
نَعَمْ، قال عُمَرُ:فَلمَا تُوُفّيَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم قال أبو بَكْرٍ: أنا وَلِيّ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم فَجِئْت أنْتَ وهذا إلى أبِي بَكْرٍ تَطْلُبُ أنْتَ مِيرَاثَكَ مِن ابنِ أخِيكَ ويَطْلُبُ هذا مِيرَاثَ امْرَأَتِهِ مِنْ أبيهَا. فقال أبو بَكْرٍ إنّ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم قال: "لا نُورِثُ مَا تَرَكْنَاهُ صَدَقَة" ٌ والله يَعْلَمُ إنّهُ صَادِقٌ بَارّ رَاشِدٌ تَابِعٌ لِلْحَقّ.
ـــــــ
وهو الذي توارد عليه أهل الحديث في القديم والحديث كما قال الحافظ في الفتح "وما تركنا"في موضع الرفع بالابتداء و "سدقة" خبره وقد زعم بعض الرافضة أن "لا نورث" بالياء التحتانية "وصدقة"بالنصب على الحال "وما تركناه" في محل رفع على النيابة، والتقدير: لا يورث الذي تركناه حال كونه صدقة، وهذا خلاف ما جاءت به الرواية ونقله الحفاظ، وما ذلك بأول تحريف من أهل تلك النحلة، ويوضح بطلانه ما في حديث أبي هريرة المذكور بلفظ "فهو صدقة" وقوله "لا تقتسم ورثتي ديناراً" وقوله "إن النبي لا يورث" "قالوا نعم"قد استشكل هذا، ووجه الاستشكال أن أصل القصة صريح في أن العباس وعلياً قد علما بأنه صلى الله عليه وسلم فكيف يطلبانه من أبي بكر؟ وإن كانا إنما سمعاه من أبي بكر في زمنه بحيث أفاد عندهما العلم بذلك فكيف يطلبانه بعد ذلك من عمر.
وأجيب بحمل ذلك على أنهما اعتقدا أن عموم "لا نورث" مخصوص ببعض ما يخلفه دون بعض. ولذلك نسب عمر إلى: علي وعباس أنهما كانا يعتقدان ظلم من خالفهما كما وقع في صحيح البخاري وغيره، وأما مخاصمتهما بعد ذلك عند عمر فقال إسماعيل القاضي فيما رواه الدارقطني من طريقه: لم يكن في الميراث إنما تنازعا في ولاية الصدقة وفي صرفها كيف تصرف، كذا قال، لكن في رواية النسائي وعمر بن شبة من طريق أبي البختري ما يدل على أنهما أرادا أن يقسم بينهما(5/234)
وفي الحديثِ قِصّة طَوِيلَةٌ.
وهذا حديثٌ حسنٌ صحيحٌ غريبٌ مِنْ حديث مالكِ بنِ أنَسٍ.
ـــــــ
على سبيل الميراث ولفظه في آخره: ثم جئتمان الآن تختصمان يقول هذا أريد نصيبي من ابن أخي، ويقول هذا أريد نصيبي من امرأتي، والله لا أقضي بينكما إلا بذلك، أي إلا بما تقدم من تسليمها لهما على سبيل الولاية. وكذا وقع عند النسائي من طريق عكرمة بن خالد عن مالك بن أوس نحوه. وفي السنن لأبي داود وغيره أرادا أن عمر يقسمها بينهما لينفرد كل منهما ما يتولاه فامتنع عمر من ذلك وأراد أن لا يقع عليها اسم القسمة ولذلك أقسم على ذلك، وعلى هذا اقتصر أكثر شراح الحديث واستحسنوه وفيه من النظر ما تقدم كذا في النيل.
قوله: "وفي الحديث قصة طويلة الخ" أخرجه البخاري ومسلم بقصته الطويلة(5/235)
باب ماجاء في قول النبي صلى الله عليه وسلم يوم فتح مكه "إن هذه لا تغزى بعد اليوم"
...
44ـ باب ما جاءَ ما قال النبيّ صلى الله عليه وسلم يَوْمَ فَتْحِ
مَكّةَ إِنّ هذهِ لا تُغْزَى بعدَ اليَوْم
1660ـ حدثنا محمدُ بن بَشّارٍ حدثنا يَحْيَى بنُ سَعِيدٍ حدثنا زَكَرِيّا بنُ أبي زَائِدَةَ عن الشّعْبِيّ عن الْحَارِثِ بنِ مالِك بنِ البَرْصَاءَ قال: سَمِعْتُ النبيّ صلى الله عليه وسلم يَوْمَ فَتْحِ مَكّةَ يقولُ: "لا تُغْزَى هَذِهِ بَعْدَ الْيَوْمِ إلى يَوْمِ الْقِيَامَةِ" .
ـــــــ
"باب ما جاءَ ما قال النبيّ صلى الله عليه وسلم يَوْمَ فَتْحِ
مَكّةَ إِنّ هذهِ لا تُغْزَى بعدَ اليَوْم"
قوله: "عن الحارث بن مالك بن برصاء" قال الحافظ في التقريب: الحارث ابن مالك بن قيس الليثي المعروف بابن البرصاء صحابي له حديث واحد تأخر إلى أواخر خلافة معاوية "لا تغزي" بصيغة المجهول "هذه" أي مكة المكرمة "بعد اليوم" أي بعد يوم فتح مكة. قال في مجمع البحار: أي لا تعود كفر يغزي عليه أو(5/235)
وفي البابِ عن ابنِ عباسٍ وسُلَيْمانُ بن صُرَد ومُطيعٍ.
وهذا حديثٌ حسنٌ صحيحٌ وهو حديثُ زَكَرِيّا بنِ أبي زَائِدَةَ عن الشّعْبِيّ فلا نَعْرِفُهُ إلاّ مِنْ حديثهِ.
ـــــــ
لا يغزوها الكفار أبداً إذ المسلمون قد غزوها مرات، غزوها زمن يزيد بن معاوية بعد وقعة الحرة وزمن عبد الملك بن مروان مع الحجاج وبعده، على أن من غزاها من المسلمين لم يقصدوها ولا البيت. وإنما قصدوا ابن الزبير مع تعظيم أمر مكة وإن جرى عليه ما جرى من رميه بالنار في المنجنيق والحرقة، ولو روى لا تغز، على النهي لم يحتج إلى التأويل انتهى.
قوله: "وفي الباب عن ابن عباس وسليمان بن صرد ومطيع" لينظر من أخرج أحاديث هؤلاء الصحابة رضي الله عنهم.
قوله: "هذا حديث حسن صحيح" هذا الحديث من أفراد الترمذي وقد تفرد بروايته الحارث بن مالك كما عرفت به(5/236)
باب ماجاء في الساعة التي يستحب فيها القتال
...
45 ـ باب ما جاءَ في السّاعَةِ التي يُسْتَحَبّ فيها القِتَال
1661 ـ حدثنا محمدُ بن بَشارٍ حدثنا مُعَاذُ بنُ هِشَامٍ قال حدثني أبي عن قَتَادَةَ عن النّعْمَانِ بن مُقرّنٍ قال:"غَزَوْتُ مع النبيّ صلى الله عليه وسلم فكان إذا طَلَعَ الفَجْرُ أمْسَكَ حتى تَطْلُعَ الشّمْسُ فإذا طَلَعَتْ قَاتَلَ،
ـــــــ
"باب ما جاءَ في السّاعَةِ التي يُسْتَحَبّ فيها القِتَال"
قوله: "عن النعمان بن مقرن" بضم الميم وفتح القاف وتشديد الراء المكسورة وبالنون. قال صاحب المشكاة هو النعمان بن عمرو بن مقرن المزني روى أنه قال: قدمنا على النبي صلى الله عليه وسلم في أربعمائة من مزينة: سكن البصرة ثم تحول إلى الكوفة وكان عامل عمر على جيش نهاوند واستشهد يوم فتحها.
قوله: "فكان" قال الطيبي ما أظهره من دليل على وجود الفاء التفصيلية لأن(5/236)
فإذا انْتَصَفَ النّهَارُ أمْسَكَ حتى تَزُولَ الشّمْسُ فإذَا زَالَتْ الشمس قَاتَلَ حَتّى العَصْر ثم أمْسَكَ حتى يُصَلّيَ العَصْرَ ثم يُقَاتِلُ، قال وكانَ يُقَالُ عندَ ذلكَ تَهِيجُ رِيَاحُ النّصْرِ وَيَدْعُو الْمُؤْمِنُونَ لِجُيُوشِهم في صَلاتِهِم".
وقد رُوِيَ هذا الحديثُ عن النّعْمانِ بن مُقَرّنٍ بإسنادٍ أوْصلَ مِنْ هذا وقَتَادَةَ لم يُدرِك النّعْمَانَ بنَ مُقرِنٍ.مَات النّعْمَانُ في خِلاَفِةِ عُمَربن الخطاب .
ـــــــ
قوله غزوت مع النبي صلى الله عليه وسلم مشتمل مجملاً على ما ذكر بعده مفصلاً "أمسك" أي عن الشروع في القتال "فإذا زالت الشمس" أي وصلى "العصر" أي إلى العصر "وكان يقال" أي يقول الصحابة: الحكمة في إمساك النبي صلى الله عليه وسلم عن القتال إلى الزوال عند ذلك الخ "عند ذلك" أي عند زوال الشمس وهو من جملة المقول ظرف لقوله: "تهيج" أي تجيء "ويدعو المؤمنون لجيوشهم في صلواتهم" أي في أوقات صلوات بعد فراغها أو في أثنائها بالقنوت عند النوازل قاله القاري. قال الطيبي إشارة إلى أن تركه صلى الله عليه وسلم القتال في الأوقات المذكورة كان لاشتغالهم بها فيها، اللهم إلا بعد العصر فإن هذا الوقت مستثنى منها لحصول النصر فيها لبعض الأنبياء. عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "غزا نبي من الأنبياء فدنا من القرية صلاة العصر أو قريباً من ذلك فقال للشمس إنك مأمورة وأنا مأمور اللهم احبسها علينا فحبست حتى فتح الله عليه" . رواه البخاري عن أبي هريرة، ولعل هذا السر خص في الحديث هذا الوقت بالفعل المضارع حيث قال: "ثم يقاتل" وفي سائر الأوقات "قاتل" على لفظ الماضي استحضاراً لتلك الحالة في ذهن السامع تنبيهاً على أن قتاله في هذا الوقت كان أشد وتحريمه فيه أكمل انتهى.
قوله: "وقد روي هذا الحديث عن النعمان بن مقرن بإسناد أوصل من هذا" يعني أن إسناد حديث النعمان المذكور منقطع، وقد روي هذا الحديث بإسناد موصول ليس فيه انقطاع، وذكر الترمذي وجه الانقطاع بقوله: وقتادة لم يدرك(5/237)
1662 ـ حدثنا الْحَسَنُ بنُ عليّ الْخَلاّلُ حدثنا عَفّانُ بن مُسْلِمٍ و الْحَجّاجُ بنُ مِنْهَالٍ قالا حدثنا حَمّادُ بنُ سَلَمَةَ حدثنا أبو عِمْرَانَ الْجَوْنِيّ عن عَلْقَمَةَ بن عبدِ الله الْمُزَنِيّ عن مَعْقِلِ بن يَسَارٍ أنّ عُمَرَ بنَ الخطّابِ بَعَثَ النّعْمَانَ بنَ مُقرّنٍ إلى الهُرْمُزانِ، فذكر الحديثَ بِطُولهِ، فقال النّعْمانُ بنُ مُقَرّنٍ:"شَهِدْتُ معَ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم فكانَ إذا لم يُقَاتِلْ أوّلَ النّهارِ انْتَظَرَ حتى تَزُولَ الشّمْسُ وتَهُبّ الرّيَاحُ ويَنْزِلُ النّصْرُ".
هذا حديثٌ حسنٌ صحيحٌ وعَلْقَمَةُ بنُ عبدِ الله هو أخو بَكْرِ بنِ عبدِ الله المُزَنِيّ
ـــــــ
النعمان الخ، وذكر الإسناد الموصول بقوله:حدثنا الحسن بن علي الخلال الخ.
قوله: "هذا حديث حسن صحيح" وأخرجه البخاري بطوله(5/238)
باب ماجاء في الطيرة
...
46ـ باب ما جاء في الطّيَرَة
1663ـ حدثنا محمدُ بنُ بَشّارٍ حدثنا عبدُ الرحمنِ بنُ مَهْدِي حدثنا سُفْيَانُ عن سَلَمَةَ بنِ كُهَيْلٍ عن عيسى بنِ عَاصِمٍ عن زَر عن عبدِ الله بن مسعود قال:قالَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: "الطّيَرَةُ مِنَ الشّرْكِ، وَمَا مِنّا إلاّ ولكنّ الله يُذْهِبُهُ بالتّوَكّلِ" .
ـــــــ
"باب ما جاء في الطّيَرَة"
بكسر الطاء وفتح التحتانية .
قوله: "الطيرة من الشرك" أي لاعتقادهم أن الطيرة تجلب لهم نفعاً أو تدفع عنهم ضراً فإذا عملوا بموجبها فكأنهم أشركوا بالله في ذلك ويسمى شركاً خفياً. وقال بعضهم: يعني من أعتقد أن شيئاً سوى الله تعالى ينفع أو يضر بالاستقلال(5/238)
1742ـ حدثنا محمدُ بنُ بَشّارٍ حدثنا وَهْبُ بنُ جَرِيرٍ بن حازمٍ حدثنا أبي عن قَتَادَةَ عن أنَسٍ قالَ: "كانَتْ قَبِيعَةُ سَيْفِ رَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم مِنْ فِضّةٍ".
هذا حديثٌ حسنٌ غَرِيبٌ وهَكَذَا رُوِيَ عن هَمّامٍ عن قَتَادَةَ عن أنَسٍ، وقَدْ رَوَى بعضُهُمْ عن قَتَادَةَ عن سَعِيدِ بنِ أبي الْحَسَنِ قَالَ: كانَتْ قَبِيعَةُ سَيْفِ رسُولِ الله صلى الله عليه وسلم مِنْ فِضّةٍ.
ـــــــ
قوله: "حدثنا أبي" أي جرير بن حازم.
قوله: "وكانت قبيعة سيف رسول الله صلى الله عليه وسلم من فضة" في شرح السنة: فيه دليل على جواز تحلية السيف بالقليل من الفضة، وكذلك المنطقة. واختلفوا في اللجام والسرج فأباحه بعضهم كالسيف وحرم بعضهم لأنه من زينة الدابة. وكذلك اختلفوا في تحلية سكين الحرب والمقلمة بقليل من الفضة، فأما التحلية بالذهب فغير مباح في جميعها.
قوله: "هذا حديث حسن غريب" وأخرجه أبو داود والنسائي والدارمي "وهكذا روي عن همام عن قتادة عن أنس" أي كما رواه جرير عن قتادة عن أنس أي كما رواه جرير عن قتادة عن أنس كذلك رواه همام عن قتادة عن أنس وقد رواه النسائي عنهما جميعاً فقال: أخبرنا أبو داود قال حدثنا عمرو بن عاصم قال حدثنا همام وجرير قال حدثنا عن أنس قال: كان نعل سيف رسول الله صلى الله عليه وسلم من فضة وقبيعة سيفه فضة وما بين ذلك حلق فضة "وقد روى بعضهم عن قتادة عن سعيد بن أبي الحسن الخ" المراد من بعضهم هو هشام الدستوائي فقد روى أبو داود والنسائي من طريق هشام عن قتادة عن سعيد بن أبي الحسن قال كانت قبيعة سيف رسول الله صلى الله عليه وسلم فضة، وهذا الحديث مرسل لأن سعيد بن أبي الحسن تابعي، قال الحافظ في التقريب: سعيد بن أبي الحسن البصري أخو الحسن ثقة من الثالثة.(5/239)
وهذا حديث حسن صحيح لا نعرفه إلا من حديث سلمة بن كهيل وروى شعبة أيضاً عن سلمة هذا الحديث
1664ـ حدثنا محمدُ بنُ بَشّارٍ حدثنا ابنُ أبي عَدِيّ عن هِشَامٍ الدّستوائي عن قَتَادَةَ عن أنَسٍ أنّ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم قال: "لا عَدْوَى ولا طِيَرَةَ
ـــــــ
فأخرجه الشيخان، وأما أحاديث حابس وغيره رضي الله تعالى عنهم فلينظر من أخرجها.
قوله: "هذا حديث حسن صحيح الخ" وأخرجه أبو داود وابن حبان في صحيحه. قال الحافظ المنذري: قال أبو القاسم الأصبهاني وغيره: في الحديث إضمار، والتقدير: وما منا إلا وقد وقع في قلبه شيء من ذلك يعني قلوب أمته، ولكن الله يذهب ذلك عن قلب كل من يتوكل على الله ولا يثبت على ذلك، هذا لفظ الأصبهاني، والصواب ما ذكره البخاري وغيره أن قوله "وما منا الخ" من كلام ابن مسعود مدرج غير مرفوع. قال الخطابي: وقال محمد بن إسماعيل: كان سليمان بن حرب ينكر هذا الحرف ويقول ليس من قول رسول الله صلى الله عليه وسلم وكأنه قول ابن مسعود. وحكى الترمذي عن البخاري أيضاً عن سليمان بن حرب نحو هذا انتهى ما في الترغيب.
قوله: "لا عدوى" بفتح فسكون ففتح، قال في القاموس: إنه الفساد، وقال التوربشتي العدوي هنا مجاوزة العلة من صاحبها إلى غيره، يقال أعدى فلان فلاناً من خلفه أو من غرته، وذلك على ما يذهب إليه المتطببة في علل سبع الجذام والجرب والجدري والحصبة والبخر والرمد والأمراض الوبائية.
وقد اختلف العلماء في التأويل، فمنهم من يقول المراد منه نفي ذلك وإبطاله على ما يدل عليه ظاهر الحديث والقرائن المسوقة على العدوى وهم الأكثرون. ومنهم من يرى أنه لم يرد إبطالها، فقد قال صلى الله عليه وسلم: "فر من المجذوم فرارك من الأسد" ، وقال: "لا يوردن ذو عاهة على مصح" ، وإنما أراد بذلك نفي ما كان يعتقده أصحاب الطبيعة، فإنهم كانوا يرون العلل المعدية مؤثرة لا محالة،(5/240)
ـــــــ
فأعلمهم بقوله هذا أن ليس الأمر على ما يتوهمون، بل هو متعلق بالمشيئة إن شاء كان وإن لم يشأ لم يكن. ويشير إلى هذا المعنى قوله: فمن أعدى الأول أي إن كنتم ترون أن السبب في ذلك العدوى لا غير فمن أعدى الأول؟ وبين بقوله: فر من المجذوم، وبقوله: لا يوردن ذو عاهة على مصح، أن مداناة ذلك بسبب العلة فليتقه اتقاء من الجدار المائل والسفينة المعيوبة. وقد رد الفرقة الأولى على الثانية في استدلالهم بالحديثين أن النهي إنما جاء شفقاً على مباشرة أحد الأمرين فتصيبه علة في نفسه أو عاهة في إبله فيعتقد أن العدوى حق.
قلت: وقد اختاره العسقلاني يعني الحافظ ابن حجر في شرح النخبة، وبسطنا الكلام معه في شرح الشرح ومجمله أنه يرد عليه اجتنابه عليه السلام عن المجذوم عند إراد المبايعة مع أن منصب النبوة بعيد من أن يورد لحسم مادة ظن العدوى كلاماً يكون مادة لظنها أيضاً، فإن الأمر بالتجنب أظهر من فتح مادة ظن أن العدوى لها تأثير بالطبع. وعلى كل تقدير فلا دلالة أصلاً على نفي العدوى مبيناً والله أعلم.
قال الشيخ التوربشتي: وأرى الثاني أولى التأويلين لما فيه من التوفيق بين الأحاديث الواردة فيه، ثم لأن القول الأول يفضي إلى تعطيل الأصول الطية ولم يرد الشرع بتعطيلها بل ورد بإثباتها والعبرة بها على الوجه الذي ذكرناه. وأما استدلالهم بالقرائن المنسوقة عليها فإنا قد وجدنا الشارع يجمع في النهي بين ما هو حرام وبين ما هو مكروه، وبين ما ينهى عنه لمعنى، وبين ما ينهى عنه لمعان كثيرة، ويدل على صحة ما ذكرنا قوله صلى الله عليه وسلم للمجذوم المبايع: قد بايعناك فارجع، في حديث الشريد بن سويد الثقفي، وقوله صلى الله عليه وسلم للمجذوم الذي أخذ بيده فوضعها معه في القصعة: " كل ثقة بالله وتوكلاً عليه" ، ولا سبيل إلى التوفيق بين هذين الحديثين إلا من هذا الوجه، بين بالأول التوقي من أسباب التلف وبالثاني التوكل على الله جل جلاله ولا إله غيره، في متاركة الأسباب وهو حاله انتهى. قال القاري وهو جمع حسن في غاية التحقيق انتهى.
قلت: في كون هذا الجمع حسناً نظر كما لا يخفي على المتأمل، وأما القول بأن الشرع ورد بإثبات الأصول الطبية ففيه أن ورود الشرع لإثبات جميع الأصول(5/241)
وأُحِبّ الفَأْلَ" ، قالوا يَا رسولَ الله:وما الفَأْلُ؟ قَالَ: "ال كَلِمَةُ الطّيّبَةُ" .
هذا حديثٌ حسنٌ صحيحٌ.
1665ـ حدثنا محمدُ بنُ رَافِعٍ حدثنا أبو عَامِرٍ العَقَدِيّ عن حَمّادِ بنِ سَلَمَةَ عن حُمَيْدٍ عن أنَسِ بنِ مَالِكٍ:"أنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم كان يُعْجِبُهُ إذا خَرَجَ لِحَاجَة أنْ يَسْمَعَ يَا راَشِدُ يَا نَجِيحُ".
هذا حديثٌ حسنٌ غريبٌ صحيحٌ.
ـــــــ
الطبية ممنوع، بل قد ورد الشرع لإبطال بعضها، فإن المتطببين قائلون بحصول الشفاء بالحرام وقد ورد الشرع بنفي الشفاء بالحرام، وهم قائلون بثبوت العدوى في بعض الأمراض، وقد ورد الشرع بأنه لا عدوى، فالظاهر الراجح عندي في التوفيق والجمع بين الأحاديث المذكورة هو ما ذكره الحافظ في شرح النخبة والله تعالى أعلم.
"ولا طيرة" نفى معناه النهي كقوله تعالى {لا رَيْبَ فِيهِ} "وأحب الفأل" بصيغة المجهول المتكلم من الإحباب "قالوا يا رسول الله ما الفأل" وإنما نشأ هذا السؤال لما نفوسهم من عموم الطيرة الشامل للتشاؤم والتفاؤل المتعارف فيما بينهم "قال" إشارة إلى أنه فرد خاص خارج عن العرف العام معتبر عند خواص الأنام وهو قوله: "الكلمة الطيبة" أي الصالحة لأن يؤخذ منها الفأل الحسن.
قوله: "هذا حديث حسن صحيح" وأخرج الشيخان معناه من حديث أبي هريرة.
قوله: "كان يعجبه" أي يستحسنه ويتفاءل به "أن يسمع يا راشد" أي واجد الطريق المستقيم "يا نجيح" أي من قضيت حاجته(5/242)
باب ماجاء في وصية النبي صلى الله عليه وسلم في القتال
...
47ـ باب ما جاءَ في وصيّته النبيّ صلى الله عليه وسلم في القِتَال
1666ـ حدثنا محمدُ بن بَشّارٍ حدثنا عبدُ الرحمنِ بنُ مَهْدِي
ـــــــ(5/242)
عن سُفْيَانَ عن عَلْقَمَةَ بنِ مرْثدٍ عن سُلَيْمانَ بنِ بُرَيْدَةَ عن أبيهِ قال: كانَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم إذا بَعَثَ أميراً على جَيْشٍ أوْصَاهُ في خَاصّةِ نَفْسِهِ بِتَقْوَى الله ومَنْ مَعَهُ مِنَ المُسْلِمِينَ خيَراً وقال: " اغْزُوا بِسْم الله وفي سبيلِ الله، قَاتِلُوا مَنْ كَفَرَ بالله، ولا تَغلوا تغدروا ولا تَمْثلُوا، ولا تَقْتُلُوا وَليداً، فإذا لَقِيتَ عَدُوُكَ مِنَ المُشْرِكِينَ فادْعُهُمْ إلى إحْدَى ثلاثِ خِصَالٍ أو خِلاَلٍ أيّهَا أجَابُوكَ فاقْبَلْ مِنْهُمْ وكُفّ عنْهُمْ: وادْعُهُمْ إلى الإسلامِ والتّحَولِ مِنْ دَارِهِمْ
ـــــــ
"باب ما جاءَ في وصيّته النبيّ صلى الله عليه وسلم في القِتَال"
قوله: "أوصاه في خاصة نفسه" أي في حق نفسه خصوصاً وهو متعلق بقوله "بتقوى الله" وهو متعلق بأوصاه "ومن معه" معطوف على خاصة نفسه أي وفي من معه "من المسلمين" بيان لمن "خيراً" منصوب بنزع الخافض أي بخير، قال الطيبي: ومن في محل الجر ومن باب العطف على عاملين مختلفين، كأنه قيل أوصى بتقوى الله في خاصة نفسه، وأوصى بخير في من معه من المسلمين، وفي اختصاص التقوى بخاصة نفسه والخير بمن معه من المسلمين إشارة إلى أن عليه أن يشد على نفسه فيها يأتي ويذر، وأن يسهل على من معه من المسلمين ويرفق بهم كما ورد: يسروا ولا تعسروا وبشروا ولا تنفروا "وقال اغزوا بسم الله" أي مستعينين بذكره "وفي سبيل الله" أي لأجل مرضاته وإعلاء دينه "قاتلوا من كفر بالله" جملة موضحة لا غزوا "ولا تغلوا" من الغلول من باب نصر ينصر أي لا تخونوا في الغنيمة "ولا تغدوا" بكسر الدال أي لا تنقضوا العهد، وقيل لا تحاربوهم قبل أن تدعوهم إلى الإسلام "ولا تمثلوا" بضم المثلثة. قال النووي في تهذيبه: مثل به بمثل كقتل إذا قطع أطرافه. وفي القاموس: مثل بفلان مثله بالضمير نكل كمثل تمثيلاً. وفي الفائق إذا سودت وجهه أو قطعت أنفه ونحوه "ولا تقتلوا وليداً" أي طفلاً صغيراً "فإذا لقيت" الخطاب الأمير الجيش، قال الطيبي: هو من باب تلوين الخطاب خاطب أولاً عاماً فدخل فيه الأمير دخولاً أولياً ثم خص الخطاب به فدخلوا فيه على سبيل التبعية كقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ} خص النبي صلى الله عليه وسلم بالنداء "أو خلال" شك من الراوي(5/243)
إلى دَارِ المُهَاجِرِينَ، وأخْبِرْهُمْ إنْ فَعَلُوا ذلكَ فإنّ لَهُمْ ما لِلْمُهَاجِرِينَ وَعَلَيْهِمْ ما عَلَى المُهَاجِرِينَ، وإنْ أبَوْا أنْ يَتَحَوّلُوا فأَخْبِرْهُمْ أنّهُمْ يَكُونُوا كأعْرَابِ المُسْلِمِينَ يَجْرِي عَلَيْهِمْ ما يَجْرِي على الأعْرَابِ، لَيْسَ لَهُمْ في الغَنِيمَةِ والْفَيءِ شَيْءٌ إلاّ أن يُجَاهِدُوا، فإنْ أبَوْا فَاسْتَعِنْ بالله عَلَيْهِمْ وَقَاتِلْهُمْ. وإذا حَاصَرْتَ حِصْناً فَأَرَادُوكَ أنْ تَجْعَلَ لهم ذمة الله و ذِمّةَ نَبيّهِ فلا تَجْعَلَ لَهُمْ ذِمّةَ الله ولا ذِمّةَ نَبِيّهِ واجْعَلْ لَهُمْ ذِمّتَكَ وذِمَمَ أصْحَابِكَ، لأنّكُمْ إن تُخْفِرُوا ذِمّتكُمْ وَذِمَمَ أصْحَابِكُمْ خَيْرٌ مِنْ أنْ تُخْفِرُوا ذِمّةَ الله وذِمّةَ رسولِهِ،
ـــــــ
والخصال والخلال بكسرهما جمع الخصلة والخلة بفتحهما بمعنى واحد "فأيتها أجابوك" أي قبلوها منك "وكف عنهم" بضم الكاف وفتح الفاء المشددة ويجوز ضمها وكسرها أي امتنع عنهم "ادعهم" أي أولاً "والتحول" أي الانتقال "من دارهم" أي من دار الكفر "إلى دار المهاجرين" أي إلى دار الإسلام، وهذا من توابع الخصلة الأولى، بل قيل إن الهجرة كانت من أركان الإسلام قبل فتح مكة "أنهم إن فعلوا ذلك" أي التحول "فإن لهم ما للمهاجرين" أي الثواب واستحقاق مال الفيء، وذلك الاستحقاق كان في زمنه صلى الله عليه وسلم فإنه كان ينفق على المهاجرين من حين الخروج إلى الجهاد في أي وقت أمرهم الإمام سواء كان من بإزاء العدو كافياً أو لا بخلاف غير المهاجرين فإنه لا يجب الخروج عليهم إلى الجهاد إن كان بإزاء العدو من به الكفاية، وهذا معنى قوله: "وعليهم ما على المهاجرين" أي من الغزو "وإن أبوا أن يتحولوا" أي من دارهم "كأعراب المسلمين" أي الذين لازموا أوطانهم في البادية لا في دار الكفر "يجري عليهم ما يجري على الأعراب" وفي رواية مسلم: يجري عليهم حكم الذي يجري على المؤمنين أي من وجوب الصلاة والزكاة وغيرهما والقصاص والدية ونحوهما "إلا أن يجاهدوا" أي مع المسلمين "وإذا حاصرت حصناً" وفي رواية مسلم أهل حصن "فأرادوك أن تجعل لهم ذمة الله وذمة نبيه" أي عهدهما وأمانهما "فلا تجعل لهم ذمة الله وذمة نبيه" أي بالإجماع ولا بالإفراد "فإنكم إن تحفروا" من الإخفار أي تنقضوا(5/244)
وإذا حَاصَرْتَ أهْلَ حِصْنٍ فأرَادُوكَ أنْ تُنزلهم على حُكْمِ الله فلا تُنْزِلُوهُمْ ولكن أنْزِلْهُمْ على حُكْمِكَ فَإِنّكَ لاَ تَدْرِي أتُصِيبُ حُكْمَ الله فيهِمْ أم لا أو نَحْوَ هذا" .
وفي البابِ عن النّعْمانِ بن مُقَرّنٍ وحديثُ بُرَيْدَةَ حديثٌ حسنٌ صحيحٌ.
1667 ـ حدثنا محمدُ بنُ بَشّارٍ حدثنا أبو أحمدَ عن سُفْيَان عن عَلْقَمَةَ بن مَرْثَدٍ نَحْوَهُ بِمَعْنَاهُ وزَادَ فيهِ: "فإنْ أبَوْا فَخُذْ مِنهم الْجِزْيَةَ، فإنْ أبَوْا فاسْتَعِنْ بالله عليهم" .
هكذا رَوَاهُ وَكِيعٌ وغيرُ واحدٍ عن سُفْيَانَ وَرَوَى غَيْرُ محمدِ بنِ بَشّارٍ عن عبدِ الرحمَنِ بن مَهْدِي وَذَكَرَ فيهِ أمْرَ الْجِزْيَةِ.
1668ـ حدثنا الْحَسَنُ بنُ عليّ الْخَلاّلُ حدثنا عَفّانُ حدثنا حَمّادُ بنُ
ـــــــ
"فلا تنزلوهم" أي على حكم الله "فإنك لا تدري أتصيب حكم الله فيهم أم لا" قال النووي: قوله فلا تجعل لهم ذمة الله نهي تنزيه فإنه قد ينقضها من لا يعرف حقها وينتهك حرمتها بعض الأعراب وسواد الجيش، وكذا قوله "فلا تنزلهم على حكم الله" نهي تنزيه، وفيه حجة لمن يقول ليس كل مجتهد مصيباً بل المصيب واحد وهو الموافق لحكم الله في نفس الأمر، ومن يقول إن كل مجتهد مصيب يقول معنى قوله "فإنك لا تدري أتصيب حكم الله فيهم" أنك لا تأمن أن ينزل عليّ وحي بخلاف ما حكمت، كما قال صلى الله عليه وسلم في حديث أبي سعيد من تحكيم سعد بن معاذ في بني قريظة " لقد حكمت فيهم بحكم الله" ، وهذا المعنى منتف بعد النبي صلى الله عليه وسلم فيكون كل مجتهد مصيباً انتهى. قال القاري: وهو مذهب المعتزلة وبعض أهل السنة.
قوله: "وفي الباب عن النعمان بن مقرن" أخرجه أبو داود وأخرجه الترمذي في باب الساعة التي يستحب فيها القتال.
قوله: "وحديث بريدة حديث حسن صحيح" وأخرجه مسلم.
قوله: "وزاد" أي محمد بن بشار في روايته من طريق أبي أحمد "فإن أبوا" أي فإن امتنعوا عن الإسلام "فخذ بهم الجزية" استدل به مالك والأوزاعي(5/245)
سَلَمَةَ حدثنا ثَابِتٌ عن أنَسِ قال:"كان النبيّ صلى الله عليه وسلم لا يُغَيرُ إلاّ عندَ صَلاَةِ الفَجْرِ، فإن سَمِعَ أذَاناً أمْسَكَ وإلاّ أغَارَ، فاسْتَمَعَ ذَاتَ يَوْمٍ فَسَمِعَ رَجُلاً يقول: الله أكبر الله أكبر، فقالَ: على الفِطْرةِ :أشْهَدُ أن لا إلهَ إلا الله، فقال خَرَجْتَ مِنَ النّارِ ".
قال الْحَسَنُ وحدثنا أبو الوَلِيدُ حدثنا حمّادُ بنُ سَلَمَةَ بهذا الإسْنَادِ مِثْلَهُ.
هذا حديثٌ حسنٌ صحيحٌ.
ـــــــ
ومن وافقهما على جواز أخذ الجزية من كل كافر عربياً كان أو عجمياً كتابياً أو غير كتابي، وقد تقدم الكلام في هذه المسألة في باب الجزية.
قوله: "لا يغير" من الإغارة "إلا عند صلاة الفجر" وفي رواية: كان يغير إذا طلع الفجر "فإن سمع أذاناً أمسك وإلا أغار" قال القاضي: أي كان يتثبت فيه ويحتاط في الإغارة حذراً عن أن يكون فيهم مؤمن فيغير عليه غافلاً عنه جاهلاً بحاله. قال الخطابي: فيه بيان أن الأذان شعار لدين الإسلام لا يجوز تركه، فلو أن أهل بلد أجمعوا على تركه كان للسلطان قتالهم عليه انتهى. قال القاري: وكذا نقل عن الإمام محمد من أئمتنا انتهى، وفيه دليل على جواز قتال من بلغته الدعوة بغير دعوة، وفي هذا الحديث دليل على جواز الحكم بالدليل لكونه صلى الله عليه وسلم كف عن القتال بمجرد سماع الأذان، وفيه الأخذ بالأحوط في أمر الدماء لأنه كف عنهم في تلك الحال مع احتمال أن لا يكون ذلك على الحقيقة "واستمع ذات يوم" لفظ "ذات" مقحم "فقال على الفطرة" فيه أن التكبير من الأمور المختصة بأهل الإسلام وأن يصح الاستدلال به على إسلام أهل قرية سمع منهم ذلك "قال خرجت من النار" هو نحو الأدلة القاضية بأن من قال لا إله إلا الله دخل الجنة وهي مطلقة مقيدة بعدم المانع جمعاً بين الأدلة.
قوله: "قال الحسن" هو الحسن بن علي الخلال "وحدثنا الوليد" كذا في النسخة الأحمدية وهو غلط وفي بعض النسخ حدثنا أبو الوليد وهو الصواب، واسمه هشام بن عبد الملك الباهلي مولاهم الطيالسي، روى عن حماد بن سلمة وغيره وعنه الحسن بن علي الخلال وغيره.
قوله: "هذا حديث حسن صحيح" وأخرجه أحمد ومسلم(5/246)
أبواب فضائل الجهاد
باب فضل الجهاد
...
أبواب فضائل الجهاد
عن رسول الله صلى الله عليه وسلم
1ـ باب فَضْلِ الْجِهَاد
1669 ـ حدثنا قتيبة بن سعيد حدثنا أبو عَوَانَةَ عن سُهَيْلِ بنِ أبي صَالِحٍ عن أبيهِ عن أبي هُرَيْرَةَ قال:"قِيلَ يَا رسولَ الله ما يَعْدِلُ الْجِهَادَ قال: لا تَسْتَطِيعُونَهُ ، فردّوا عَلَيْهِ مَرّتَيْنِ أو ثَلاَثاً كُلّ ذلكَ يقولُ: لا تَسْتَطِيعُونَهُ ، فقالَ في الثّالِثَةِ: "مَثَلُ المُجَاهِدِ في سبيلِ الله مَثلُ القائم الصّائِمِ
ـــــــ
"باب فَضْلِ الْجِهَاد"
قوله: "ما يعدل الجهاد" أي أي عمل يساوي الجهاد: يعني في الفضل والثواب "مثل المجاهد في سبيل الله مثل الصائم القائم" ولمسلم من طريق أبي صالح عن أبي هريرة كمثل الصائم القائم القانت بآيات الله، زاد النسائي من هذا الوجه: الخاشع الراكع الساجد، وفي الموطأ وابن حبان: كمثل الصائم القائم الدائم، ولأحمد والبزار من حديث النعمان بن بشير مرفوعاً: " مثل المجاهد في سبيل كمثل الصائم نهاره والقائم ليله" وشبه حال الصائم القائم بحال المجاهد في سبيل الله في نيل الثواب في كل حركة وسكون، لأن المراد من الصائم القائم من لا يفتر ساعة عن العبادة فأجره مستمر، وكذلك المجاهد لا تضيع ساعة من ساعاته بغير ثواب لحديث: إن المجاهد لتستن فرسه فيكتب له حسنات. وأصرح منه قوله تعالى: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ لا يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَلا نَصَبٌ وَلا مَخْمَصَةٌ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا يَطَأُونَ مَوْطِئاً يُغِيظُ الْكُفَّارَ وَلا يَنَالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَيْلاً إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ بِهِ عَمَلٌ صَالِحٌ إِنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ(5/247)
الذي لا يَفْتُرُ مِنْ صلاةٍ ولا صِيَامٍ، حتى يَرْجِعَ المُجَاهِدُ في سبيلِ الله" .
وفي البابِ عن الشّفَاءِ وعبدِ الله بنِ حُبشِيّ وأبي موسَى وأبي سَعِيدٍ وأُمّ مالكٍ البَهْزِيّةِ وأنَسِ.
وهذا حديثٌ حسنٌ صحيحٌ. وقد رُوِيَ مِنْ غَيْرِ وَجْهٍ عن أبي هُرَيْرَةَ عن النبيّ صلى الله عليه وسلم.
1670 ـ حدثنا محمدُ بنُ عبدِ الله بنُ بَزِيعٍ حدثنا المُعْتَمِرُ بنُ سُلَيْمانَ حدثني مَرْزُوقٌ أبو بكرٍ عن قَتَادَةَ عن أنسِ بنِ مالك قال: قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: "يَعْنِي يقولُ الله عز وجل: المُجَاهِدُ في سبيلي هُوَ عَلَيّ ضمان إنْ
ـــــــ
أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ وَلا يُنْفِقُونَ نَفَقَةً صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً وَلا يَقْطَعُونَ وَادِياً إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} لا يفتر" من الفتور من باب نصر ينصر أي لا يسأم ولا يمل "حتى يرجع المجاهد في سبيل الله" أي إلى بيته أو حتى ينصرف عن جهاده.
قوله: "وفي الباب عن الشقاء وعبد الله بن حبشي وأبي موسى وأبي سعيد وأم مالك البهزية وأنس بن مالك" ، أما حديث الشفاء فأخرجه أحمد في مسنده، وأما حديث عبد الله بن حبشي فأخرجه أحمد وأبو داود والنسائي، وأما حديث أبي موسى فأخرجه الترمذي في أواخر فضائل الجهاد، وأما حديث أبي سعيد فأخرجه ابن ماجه في باب فضل الجهاد في سبيل الله من أبواب الجهاد، وأما حديث أم مالك البهزية فأخرجه أحمد في مسنده، وأما حديث أنس بن مالك فأخرجه الترمذي في هذا الباب.
قوله: "هذا حديث حسن صحيح" وأخرجه الشيخان.
قوله: "يعني يقول الله" الظاهر أن قائله أنس، أي يريد صلى الله عليه وسلم أن المجاهد في سبيل الخ من الأحاديث الإلهية. ووقع في حديث ابن عمر رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم فيما يحكي عن ربه قال: "أيما عبد من عبادي خرج مجاهداً في سبيلي ابتغاء مرضاتي ضمنت له إن أرجعته أن أرجعه بما أصاب(5/248)
قَبَضْتُهُ أوْرَثْتُهُ الجَنّةَ، وإنْ رَجَعْتُهُ رَجَعْتُهُ بأجْرِ أو غَنِيمَةٍ" .
هو غريب صحيحٌ من هذا الوَجْهِ.
ـــــــ
من أجر أو غنيمة، وإن قبضته غفرت له" ، رواه النسائي "وهو عليّ ضامن" كذا في النسخ الحاضرة بلفظ ضمان. وفي ترغيب المنذري نقلاً عن الترمذي بلفظ ضامن، وكذا نقله الحافظ في التفح وقال: قوله على ضامن أي مضمون، أو معناه أنه ذو ضمان انتهى "وإن رجعته" أي أرجعته. قال في القاموس: رجع يرجع رجوعاً انصرف، والشيء عن الشيء وإليه رجعا صرفه ورده كأرجعه.
قوله: "هذا حديث غريب صحيح" قال المنذري بعد ذكره: وهو في الصحيحين وغيرهما بنحوه من حديث أبي هريرة وتقدم انتهى.
قلت: ذكر المنذري فيما تقدم عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "تضمن الله لمن خرج في سبيله لا يخرجه إلا الجهاد في سبيلي وإيمان بي وتصديق برسلي فهو ضامن أن أدخله الجنة أو أرجعه إلى منزله الذي خرجه منه نائلاً ما نال من أجر أو غنيمة" الخ، رواه مسلم واللفظ له، ورواه مالك والبخاري والنسائي ولفظهم: تكفل الله من جاهد في سبيله الخ. قال الحافظ في الفتح: تضمن الله وتكفل الله وانتدب الله بمعنى واحد ومحصله تحقيق المذكور في قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ} وذلك التحقيق على وجه الفضل منه سبحانه وتعالى، وقد عبر صلى الله عليه وسلم عن الله سبحانه وتعالى بتفضله بالثواب بلفظ الضمان ونحوه مما جرت به عادة المخاطبين فيما تطمئن به نفوسهم(5/249)
باب ماجاء في فضل من مات مرابطا
...
2ـ باب ما جاءَ في فَضْلِ مَنْ مَاتَ مُرَابِطا
1671 ـ حدثنا أحمدُ بنُ محمدٍ أخبرنا عبدُ الله بنُ المبَارَكِ أخبرنا حَيْوَةَ بنُ شُرَيْحٍ، قال أبو هَانِئ الْخَوْلاَنِيّ أنّ عَمْرو بنَ مَالِكٍ الْجَنْبِي أخْبَرَهُ أنّهُ سَمِعَ فَضَالَةَ بنَ عُبْيْدٍ يُحَدّثُ عن رسولِ الله صلى الله عليه وسلم
ـــــــ
"باب ما جاءَ في فَضْلِ مَنْ مَاتَ مُرَابِطا"
قوله: "أنه سمع فضالة" بفتح الفاء والضاد المعجمة "بن عبيد" بالتصغير(5/249)
أنّهُ قال: "كُلّ مَيّتٍ يُخْتَمُ على عَمَلِهِ إلاّ الّذِي مَاتَ مُرَابِطاً في سبيلِ الله فإنّهُ يُنْمي لَهُ عَمَلَهُ إلى يَوْمِ القيامَةِ ويَأْمَنُ من فِتْنَة الْقَبْرِ" وسَمِعْتُ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم يقول: "المُجَاهِدُ مَنْ جَاهَدَ نَفْسَهُ" .
وفي البابِ عن عُقْبَةَ بنِ عَامِرٍ وَجَابِرٍ.
حديثُ فَضَالَةَ حديثٌ حسنٌ صحيحٌ.
ـــــــ
"كل ميت يختم"بصيغة المجهول "على عمله"أي لا يكتب له ثواب جديد "فإنه ينمي له عمله" بفتح الياء وكسر الميم أي يزيد، ويجوز أن يكون بضم الياء وفتح الميم من الإنماء أي يزاد عمله بأن يصل إليه كل لحظة أجر جديد، فإنه فدى نفسه فيما يعود نفعه على المسلمين، وهو إحياء الدين بدفع أعدائهم من المشركين "ويأمن فتنة القبر" أي مع ذلك، ولعله بهذا امتاز عن غيره الوارد في حديث مسلم عن أبي هريرة مرفوعاً: إذا مات الإنسان انقطع عمله إلا من ثلاثة، الحديث.
قوله: "المجاهد من جاهد نفسه" زاد في رواية الله أي قهر نفسه الأمارة بالسوء على ما فيه رضا الله من فعل الطاعة وتجنب المعصية، وجهادها أصل كل جهاد، فإنه لم يجاهدها لم يمكنه جهاد العدو الخارج.
قوله: "وفي الباب عن عقبة بن عامر وجابر" أما حديث عقبة فأخرجه أحمد والدارمي، وأما حديث جابر فأخرجه الطبراني في الأوسط عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "من رابط يوماً في سبيل الله جعل الله بينه وبين النار سبع خنادق كل خندق كسبع سماوات وسبع أرضين" ، قال المنذري في الترغيب: إسناده لا بأس به إن شاء الله ومتنه غريب.
قوله: "حديث فضالة بن عبيد حديث حسن صحيح" وأخرجه أبو داود وليس في روايته جملة: المجاهد من جاهد نفسه، وأخرجه ابن حبان مع هذه الجملة(5/250)
باب ماجاء في فضل الصوم في سبيل الله
...
3ـ باب ما جاءَ في فَضْلِ الصّوْمِ في سبيلِ الله
1672 ـ حدثنا قُتَيْبَةُ حدثنا ابنُ لَهِيعَةَ عن أبي الأسْوَدِ عن عُرْوَةَ بن الزبير وَ سُلَيْمانَ بنَ يَسَارٍ أنّهُمَا حَدّثَاهُ عن أبي هُرَيْرَةَ عن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال: "مَنْ صَامَ يَوْماً في سَبيلِ الله زَحْزَحَهُ الله عن النّارِ سَبْعِينَ خَرِيفاً" .أحدُهُمَا يقُولُ:سَبْعِينَ والآخر يقولُ:أرْبَعِينَ.
ـــــــ
"باب ما جاءَ في فَضْلِ الصّوْمِ في سبيلِ الله"
قوله:"من صام يوماً في سبيل الله"قال ابن الجوزي:إذا أطلق ذكر سبيل الله فالمراد به الجهاد.وقال القرطبي:سبيل الله طاعة الله، فالمراد من صام قاصداً وجه الله.قال الحافظ: ويحتمل أن يكون ما هو أعم من ذلك، ثم وجدته في فوائد أبي طاهر الذهلي من طريق عبد الله بن عبد العزيز الليثي عن المقبري عن أبي هريرة بلفظ: ما من مرابط يرابط في سبيل الله فيصوم يوماً في سبيل الله الحديث. قال ابن دقيق العيد: العرف الأكثر استعماله في الجهاد، فإن حمل كانت الفضيلة لاجتماع العبادتين، قال: ويحتمل أن يراد بسبيل الله طاعته كيف كانت، والأول أقرب ولا يعارض ذلك أن الفطر في الجهاد أولى لأن الصائم يضعف عن اللقاء لأن الفضل المذكور محمول على من لم يخش ضعفاً ولا سيما من اعتاد به فصار ذلك من الأمور النسبية، فمن لم يضعفه الصوم عن الجهاد فالصوم في حقه أفضل ليجمع بين الفضيلتين انتهى "زحزحه الله" أي بعده "سبعين خريفاً" قال الحافظ: الخريف زمان معلوم من السنة والمراد به هنا العام، وتخصيص الخريف بالذكر دون بقية الفصول الصيف والشتاء والربيع لأن الخريف أزكى الفصول لكونه يجنى فيه الثمار.ونقل الفاكهاني أن الخريف يجتمع فيه الحرارة والبرودة والرطوبة واليبوسة دون غيره، ورد بأن الربيع كذلك. قال القرطبي: ورد ذكر السبعين لإرادة التكثر كثيراً انتهى، ويؤيده أن النسائي أخرج الحديث المذكور عن عقبة بن عامر والطبراني عن عمرو بن عبسة، وأبو يعلى عن معاذ بن أنس فقالوا جميعاً في رواياتهم مائة عام انتهى كلام الحافظ "أحدهما"(5/251)
هذا حديثٌ غريبٌ مِنْ هذَا الوَجْهِ. وأبو الأسودِ اسمُهُ محمدُ بنُ عبدِ الرحمَنِ بنِ نَوْفَلٍ الأسَدِيّ المدنيّ.
وفي البابِ عن أبي سَعِيدٍ وأنَسٍ وَعُقْبَةَ بنِ عَامِرٍ وأبي أُمَامَةَ.
1673ـ حدثنا سَعِيدُ بنُ عبدِ الرحمَنِ المخزومي حدثنا عبدُ الله بنُ الوَلِيدِ العَدَنِيّ حدثنا سُفْيَانَ الثّوْرِي قال وحدثنا محمودُ بنُ غَيْلاَنَ حدثنا عبد الله بنُ موسى عن سُفْيَانَ عن سُهَيْلِ بنِ أبي صَالِحٍ عن النّعْمَانِ بنِ أبي عَيّاشٍ الزّرَقِيّ عن أبي سَعِيدٍ الخُدْرِيّ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا يَصُومُ عَبْدٌ يَوْماً
ـــــــ
أي أحد من عروة وسليمان "يقول سبعين والآخر يقول أربعين"من روى بسبعين فروايته موافقة لحديث أبي سعيد المتفق عليه الآتي في هذا الباب.
قوله:"هذا حديث غريب من هذا الوجه"في إسناده ابن لهيعة وهو ضعيف. قال المنذري في الترغيب: عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "من صام يوماً في سبيل الله زحزح الله وجه عن النار بذلك اليوم سبعين خريفاً" رواه النسائي بإسناد حسن. والترمذي من رواية بن لهيعة وقال: حديث غريب. ورواه ابن ماجه من رواية عبد الله بن عبد العزيز الليثي وبقية رجال الإسناد ثقات انتهى "وأبو الأسود اسمه محمد بن عبد الرحمن بن نوفل الأسدي المديني" قال الحافظ: هو يتيم. عروة ثقة من السادسة.
قوله: "وفي الباب عن أبي سعيد وأنس وعقبة بن عامر وأبي أمامة" ، أما حديث أبي سعيد فأخرجه الشيخان، وأما حديث أنس فلينظر من أخرجه، وأما حديث عقبة بن عامر فأخرجه النسائي، وأما حديث أبي أمامة فأخرجه الترمذي في هذا الباب.
قوله: "حدثنا عبد الله بن الوليد العدني" قال في التقريب: عبد الله بن الوليد بن ميمون أبو محمد المكي المعروف بالعدني صدوق ربما أخطأ من كبار العاشرة عن النعمان "بن أبي عياش" بفتح عين مهملة وشدة تحتية وبشين معجمة "الزرقي" بضم زاي معجمة وفتح راء مهملة الأنصاري المدني ثقة من الرابعة.(5/252)
في سَبِيلِ الله إلاّ بَاعَدَ ذلكَ الْيَوْمُ النّارَ عن وَجْهِهِ سَبْعِينَ خَرِيفاً" .
هذا حديثٌ حسنٌ صحيحٌ.
1674 ـ حدثنا زِيَادُ بنُ أيّوبَ حدثنا يَزِيدُ بنُ هَارُونَ أخبرنا الوليد بن جميل عن القاسم أبي عبد الرحمن عن أبي أُمامة الباهليّ عن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال: "مَنْ صَامَ يَوْماً في سَبِيلِ الله جَعَلَ الله بَيْنَهُ وبَيْنَ النّارِ "خَنْدَقاً كما بَيْنَ السماءِ والأرْضِ" .
هذا حديثٌ غريبٌ مِنْ حديثِ أبي أُمَامَةَ.
ـــــــ
قوله: "إلا باعد ذلك اليوم" أي صومه "النار" بالنصب مفعول باعد. وذكر المنذري في الترغيب هذا الحديث بلفظ: "ما من عبد يصوم يوماً في سبيل الله إلا باعد الله بذلك اليوم وجهه عن النار سبعين خريفاً" وعزاه للبخاري ومسلم والترمذي والنسائي.
قوله: "هذا حديث حسن صحيح" وأخرجه الشيخان وغيرهما كما عرفت آنفاً.
قوله: "حدثنا زياد بن أيوب" هو البغدادي المعروف بدلويه "جعل الله بينه وبين النار خندقاً" الخندق بوزن جعفر حول أسوار المدن معرب كنده كذا في القاموس.
قوله: "هذا حديث غريب" ذكره المنذري في الترغيب وعزاه الترمذي وسكت عنه(5/253)
باب ماجاء في فضل النفقة في سبيل الله
...
4ـ باب ما جاءَ في فَضْلِ النّفَقَةِ في سَبِيلِ الله
1675ـ حدثنا أبُو كُرَيْبٍ حدثنا الحُسَيْن بن علي الجُعَفِيّ عن زَائِدَةَ عن الرّكَينِ بنِ الرّبيعِ عن أبيهِ عن يُسَيْرِ بن عُمَيْلَةَ عن خُرَيْمِ بنِ فَاتِكٍ
ـــــــ
"باب ما جاءَ في فَضْلِ النّفَقَةِ في سَبِيلِ الله"
قوله: "عن الركين" بالتصغير "بن الربيع" بن عميلة الفزاري الكوفي ثقة(5/253)
قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: "مَنْ أنْفَقَ نَفَقَةً في سبيلِ الله كُتِبَتْ لَهُ بسَبْعَمَائَةِ ضِعْفٍ" .
وفي البابِ عن أبي هريرةَ.
وهذا حديثٌ حسنٌ إنما نَعْرِفُهُ مِنْ حديثِ الرّكَيْنِ بنِ الرّبيعِ.
ـــــــ
من الرابعة "عن أبيه"أي عن الربيع بن الفزاري الكوفي وثقه بن معين "عن يسير" بالتصغير "بن عميلة" بفتح المهملة وكسر الميم الفزاري ويقال له أسير أيضاً ثقة من الثالثة "عن خريم" بضم الخاء المعجمة وفتح الراء وسكون التحتية "بن فانك" بالفاء وكسر الفوقية الأسدي صحابي شهد الحديبية ولم يصح أنه شد بدراً، مات في خلافة معاوية بالرقة "من أنفق نفقة" أي صرف نفقة صغيرة أو كبيرة "كتبت له سبعمائة ضعف" أي مثل، وهذا أقل الموعود والله يضاعف لمن يشاء. قال المناوي. أخذ منه بعضهم أن هذا نهاية التضعيف ورد بآية {وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ} انتهى.
قوله: "وفي الباب عن أبي هريرة" أخرجه البزار عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أتى بفرس يجعل كل خطو منه أقصى بصره، فسار وسار معه جبريل فأتى على قوم يزرعون في يوم ويحصدون في كل يوم كلما أحصدوا عاد كما كان، فقال يا جبريل من هؤلاء؟ قال هؤلاء المجاهدون في سبيل الله تضاعف لهم الحسنة بسبع مائة ضعف، وما أنفقوا من شيء فهو يخلفه، وذكر الحديث بطوله، كذا في الترغيب "هذا حديث حسن" وأخرجه النسائي وابن حبان في صحيحه والحاكم وقال صحيح الإسناد، وأخرجه أيضاً أحمد(5/254)
باب ماجاء في فضل الخدمة في سبيل الله
...
5ـ باب ما جاءَ في فَضْلِ الْخِدْمَةِ في سَبِيلِ الله
1676ـ حدثنا محمدُ بنُ رَافِعٍ حدثنا زَيْدُ بنُ حُبَابٍ حدثنا مُعَاوِيَة بنُ صَالِحٍ عن كَثِيرِ بنِ الحَارِثِ عن القَاسِمِ أبي عبدِ الرحمَنِ عن عَدِيّ بنِ
ـــــــ
"باب ما جاءَ في فَضْلِ الْخِدْمَةِ في سَبِيلِ الله"
قوله: "عن كثير بن الحارث" الدمشقي مقبول من السادسة.(5/254)
حَاتِمٍ الطّائِيّ "أنه سألَ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم: أيّ الصّدَقَةِ أفْضَلُ؟ قال: " خِدْمَةُ عَبْدٍ في سَبيلِ الله، أوْ ظِلّ فُسْطَاطٍ، أو طَرُوقَةُ فَحْلٍ في سَبِيلِ الله" .
قال أبو معامية وقد رُوِيَ عن مُعَاوِيَةَ بنِ صَالحٍ هذا الحديثُ مُرْسلاً وَخُولِفَ زَيْدٌ في بَعْضِ إسْنَادِهِ. قال ورَوَى الوَلِيدُ بنُ جَمِيلٍ هذا الحَديثَ عن القَاسِمِ أبي عبدِ الرحمَنِ عن أبي أُمَامَةَ عن النبيّ صلى الله عليه وسلم.
1677ـ حدثنا بذلك زِيَادُ بنُ أيّوبَ. حدثنا يَزِيدُ بنُ هَارُونَ أخبرنا الوَلِيدُ بنُ جَمِيلٍ عن القَاسِمٍ أبي عبدِ الرحمَنِ عن أبي أُمَامَةَ قال: قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: "أفْضَلُ الصّدَقَاتِ ظِلّ فُسْطَاطٍ في سَبِيلِ الله، ومَنِيحَةُ خَادِمٍ في سَبِيلِ الله، أو طَرُوقَةُ فَحْلٍ في سَبِيلِ الله" .
ـــــــ
قوله:"قال خدمة عبد في سبيل الله"وفي رواية أبي أمامة الآتية :منيحة خادم في سبيل الله، فالمراد بقوله خدمة عبد، أي هبة عبد للمجاهد ليخدمه أو عاريته له "أو ظل فسطاط" بضم الفاء وتكسر خيمة يستظل به المجاهد، أي نصب خيمة أو خباء للغزاة يستظلون به "أو طروقة فحل" بفتح الطاء فعولة بمعنى مفعولة أي مركوبة يعني ناقة أو نحو فرس بلغت أن يطرقها الفحل، يعطيه إياها ليركبها إعارة أو قرضاً أو هبة.
قوله: "أفضل الصدقات ظل فسطاط في سبيل الله ومنيحة خادم في سبيل الله أو طروقة فحل في سبيل الله" قال المنذري في الترغيب: طروقة الفحل بفتح الطاء وبالإضافة هي الناقة التي صلحت لطرق الفحل وأقل سنها ثلاث سنين وبعض الرابعة وهذه هي الحقة، ومعناه أن يعطي الغازي خادماً أو ناقة هذه صفتها فإن ذلك أفضل الصدقات.(5/255)
هذا حديثٌ حسنٌ صحيح "غريب"وهو أصَحّ عِنْدِي مِنْ حديثِ مُعَاوِيَةَ بنِ صَالِحٍ
ـــــــ
قوله: "هذا حديث حسن غريب صحيح" قال المنذري في الترغيب بعد ذكر هذا الحديث: رواه الترمذي وقال حديث حسن صحيح، فلم يذكر لفظ غريب، وكذا في الجامع الصغير بغير ذكر لفظ غريب. وقال المناوي: واعترض بأن حقة حسن لا صحيح انتهى وحديث أمامة هذا أخرجه أيضاً أحمد في مسنده(5/256)
باب ماجاء فيمن جهز غازيا
...
6ـ باب ما جاءَ فيمن جَهّزَ غَازِيا
1678ـ حدثنا أبو زَكَرِيّا يَحْيى بنُ دُرُسْتَ البصري حدثنا أبو إسماعيلَ حدثنا يَحْيَى بنُ أبي كَثِيرٍ عَن أبي سَلمَةَ عن بُسْرِ بنِ سَعِيدٍ عن زَيْدِ بنِ خالدٍ الجهَنِيّ عن رسولِ الله صلى الله عليه وسلم قال: "مَنْ جَهّزَ غَازِياً في سَبِيلِ الله فقد غَزَا، وَمَنْ خَلَفَ غَازِياً في أهْلِهِ فَقَدْ غَزَا" .
ـــــــ
"باب ما جاءَ فيمن جَهّزَ غَازِيا"
تجهيز الغازي تحميله وإعداد ما يحتاج إليه في غزوة.
قوله: "حدثنا أبو إسماعيل" اسمه إبراهيم بن عبد الملك البصري أو إسماعيل القناد صدوق في حفظه شيء من السابعة.
قوله: "قال من جهز غازياً" بتشديد الهاء أي هيأ أسباب سفره "في سبيل الله" أي في الجهاد "فقد غزا" أي حكماً وحصل له ثواب الغزاة "ومن خلف" بفتح اللام المخففة "غازياً" أي قام مقام بعده وصار خلفاً له برعاية أموره في أهله "فقد غزا" قال القاضي: يقال خلفه في أهله إذا قام مقامه في إصلاح حالهم ومحافظة أمرهم أي من تولى أمر الغازي وناب منابه في مراعاة أهله زمان غيبته شاركه في الثواب لأن فراغ الغازي له واشتغاله به بسبب قيامه بأمر عياله فكأنه مسبب عن فعله قال الحافظ في الفتح: قوله فقد غزا قال ابن حبان: معناه أنه(5/256)
هذا حديثٌ حسنٌ صحيحٌ. وقد رُوِيَ مِنْ غَيْرِ هذا الوَجْهِ.
1679 ـ حدثنا ابنُ أبي عُمرَ حدثنا سُفْيَان بن عينية عن ابنِ أبي لَيْلَى عن عَطَاءِ عن زَيْدِ بنِ خَالِدٍ الْجُهَنِيّ قال: قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: "مَنْ جهّزَ غَازِياً في سَبِيلِ الله أو خَلَفَهُ في أهْلِهِ فَقَدْ غزَا" .
هذا حديثٌ حسنٌ.
ـــــــ
مثله في الأجر وإن لم يغز حقيقة، ثم أخرج من وجه آخر عن بسر بن سعيد بلفظ: كتب له مثل أجره غير أن لا ينقص من أجره شيء، ولابن ماجه وابن حبان من حديث عمر نحوه بلفظ: من جهز غازياً حتى يستقل كان له مثل أجره حتى يموت أو يرجع. وأفادت فائدتين: إحداهما أن الوعد المذكور مرتب على تمام التجهيز وهو المراد بقوله: حتى يستقل. ثانيهما أنه يستوي معه في الأجر وماله يخبر إلى أن تنقضي تلك الغزوة انتهى.
فإن قلت: ماوجه التوفيق بين حديث الباب وحديث أبي سعيد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث بعثاً وقال: " ليخرج من كل رجلين رجل والأجر بينهما" ، رواه مسلم. وفي رواية له: ثم قال للقاعد: "وأيكم خلف الخارج في أهله كان له مثل نصف أجر الخارج" .
قلت: قال القرطبي: لفظه نصف يشبه أن تكون مقحمة أي مزيدة من بعض الرواة وقال الحافظ: ولا حاجة لدعوى زيادتها بعد ثبوتها في الصحيح، والذي يظهر في توجيهها أنها أطلقت بالنسبة إلى مجموع الثواب للغازي والخالف له بخير، فإن الثواب إذا انقسم بينهما نصفين كان لكل منهما مثل ما للآخر. فلا تعارض بين الحديثين انتهى.
قوله: "هذا حديث حسن صحيح" وأخرجه الشيخان وغيرهما "وقد روى" بصيغة المجهول "من غير هذا الوجه" أي من غير هذا الإسناد المذكور، وقد ذكره الترمذي بقوله حدثنا ابن أبي عمر الخ.(5/257)
1680ـ حدثنا محمدُ بنُ بَشّارٍ حدثنا عبدُ الرحمَنِ بنُ مَهْدِي حدثنا حَرْبُ بنُ شَدّادٍ عن يَحْيَى بنِ أبي كَثِيرٍ عن أبي سَلَمَةَ عن بُسْرِ بنِ سَعِيدٍ عن زَيْدِ بنِ خَالِدٍ الْجُهَنِيّ قال: قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: "مَنْ جَهّزَ غَازِياً في سَبِيلِ الله فَقَدْ غَزَا ومن خلف غازياً في أهله فقد غزا"
هذا حديثٌ حسن صحيحٌ.
1681ـ حدثنا محمد بن بشار حدثنا يحيى بن سعيد حدثنا عبد الملك بن أبي سليمان عن عطاء عن زيد بن خالد الجهني عن النبي صلى الله عليه وسلم نحوه.
ـــــــ
قوله: "حدثنا محمد بن بشار حدثنا يحيى بن سعيد الخ" قد وقعت هذه العبارة أعني قوله حدثنا محمد بن بشار حدثنا يحيى بن سعيد إلى قوله نحوه في بعض النسخ قبل قوله حدثنا محمد بن بشار حدثنا عبد الرحمن بن مهدي الخ "حدثنا عبد الملك بن أبي سليمان" العرزمي صدوق له أوهام من الخامسة كذا في التقريب(5/258)
7ـ باب من اغْبَرّتْ قَدَمَاهُ في سَبِيلِ الله
1682ـ حدثنا أبو عَمّارٍ الحسين بن حريث حدثنا الوَلِيدُ بنُ مُسْلِمٍ عن بريد بنِ أبي مَرْيَمَ قال: لَحِقَنِي عَبَايَةُ بنُ رِفَاعَةَ بنُ رَافِعٍ وأنا مَاشٍ إلَى الجُمُعَةِ
ـــــــ
"باب من اغْبَرّتْ قَدَمَاهُ في سَبِيلِ الله"
أبي بيان ماله من الفضل.
قوله: "لحقني عباية" بفتح المهملة "بن رفاعة" بكسر الراء المهملة "وأنا ماش إلى الجمعة" جملة حالية. اعلم أن كذا وقع عند الترمذي وكذا عند النسائي أن القصة وقعت ليزيد بن أبي مريم مع عباية، وعند البخاري في باب المشي إلى الجمعة من(5/258)
فقال:أبْشِرْ فإنّ خُطَاكَ هَذِهِ في سَبِيلِ الله، سَمِعْتُ أبا عَبْسٍ يقولُ: قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: "مَنِ اغْبَرّتْ قَدَمَاهُ في سَبِيلِ الله فَهُمَا حَرَامٌ على النّارِ" .
هذا حديثٌ حسنٌ غريب صحيحٌ. وأبو عَبْسٍ اسْمُهُ عبدُ الرّحْمَنِ بنُ جَبْرٍ.
وفي البابِ عن أبي بَكْرٍ ورَجُلٍ مِنْ أصْحَابِ النبيّ صلى الله عليه وسلم قال وبريدَ بنِ أبي مَرْيَمَ هو رَجُلٌ شَامِيّ رَوَى عنهُ الوَليدُ بنُ مُسْلِمٍ ويحيَى
ـــــــ
رواية علي بن المديني عن الوليد بن مسلم أن القصة وقعت لعباية مع أبي عباس، فإن كان ما عند الترمذي والنسائي محفوظاً احتمل أن تكون القصة وقعت بكل منهما. كذا في الفتح "فقال" أي عباية "أبشر" من الإبشار، قال في الصراخ: الإبشار شاد شدن يقال بشرته بمولود فأبشر أي سر، ويقال أبشر بخير، ومنه قوله تعالى {وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ} "فإن خطاك" جمع خطوة "في سبيل الله" أي في طريق يطلب فيها رضا الله "سمعت أبا عباس" بسكون الموحدة هو ابن جبير بفتح الجيم وسكون الموحدة "من اغبرت قدماه" أي أصابهما غبار "في سبيل الله" أي في الجهاد. وقال المناوي في شرح الجامع الصغير أي في طريق يطلب فيها رضا الله فشمل الجهاد وغيره كمطلب العلم. قلت: وأراد عباية بن رفاعة في رواية الترمذي وكذا أبو عبس الراوي في رواية البخاري العموم "فهما حرام على النار" أي لا تمسها النار، وفي ذلك إشارة إلى عظم قدر التصرف في سبيل الله فإذا كان مجرد مس الغبار للقدم يحرم عليها النار فكيف بمن سعى وبذل جهده واستنفد وسعه.
قوله: "هذا حديث حسن صحيح غريب" وأخرجه أحمد والبخاري والنسائي.
قوله: "وفي الباب عن أبي بكر ورجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم" لم أقف على من أخرج حديثهما. وفي الباب أيضاً عن أبي الدرداء أخرجه الطبراني في الأوسط، وعن جابر أخرجه ابن حبان ذكر الحافظ لفظهما في الفتح تحت حديث الباب.
قوله: "ويزيد بن أبي مريم وهو رجل شامي" قال في التقريب يقال اسم أبيه(5/259)
بن حمزَةَ وغيرُ واحدٍ مِنْ أهلِ الشّامِ. وبريد بنُ أبي مَرْيَمَ كُوفِيّ أبُوهُ مِنْ أصْحَابِ النبيّ صلى الله عليه وسلم واسْمُهُ مَالِكُ بنُ رَبِيعَةَ.
ـــــــ
ثابت الأنصاري أبو عبد الله الدمشقي إمام الجامع لا بأس به "روى عنه الوليد بن مسلم ويحيى بن حمزة وغير واحد من أهل الشام" كالأوزاعي وسعيد بن عبد العزيز وغيرهما، وهو روى عن أبيه وعن عباية بن رفاعة بن رافع بن خديج ومجاهد وغيرهم. كذا في تهذيب التهذيب "ويزيد بن أبي مريم كوفي" يعني هذا رجل آخر غير يزيد بن أبي مريم الشامي المذكور "أبوه من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم واسمه مالك بن ربيعة" قال في تهذيب التهذيب: مالك بن ربيعة أبو مريم السلولي من أصحاب الشجرة، سكن الكوفة، روى عن النبي صلى الله عليه وسلم في النوم عن الصلاة، وعنه ابنه يزيد بن أبي مريم روى أن النبي صلى الله عليه وسلم دعا له أن يبارك له في ولده فولد له ثمانون ذكراً، قال الحافظ ذكره ابن حبان في الصحابة ثم ذكره ثقات التابعين(5/260)
باب ماجاء في فضل الغبار في سبيل الله
...
8ـ باب ما جاءَ في فَضْلِ الغُبَارِ في سبيلِ الله
1683ـ حدثنا هَنّادٌ، حدثنا ابنُ المُبَارَكِ عن عبدِ الرحمَنِ بنِ عبدِ الله المَسْعُودِيّ عن محمد بنِ عبدِ الرحمَنِ عن عيسى بنِ طَلْحَةَ عن أبي هُرَيْرَةَ قال: قالَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: "لا يَلِجُ النّارَ رَجُلٌ بَكَى مِنْ خَشْيَةِ الله حتى يَعُودَ اللّبنُ فِي الضّرْعِ، ولا يَجْتَمِعُ غُبَارٌ في سبيلِ الله وَدُخَانُ جَهَنّمَ" .
ـــــــ
"باب ما جاءَ في فَضْلِ الغُبَارِ في سبيلِ الله"
قوله: "عن محمد بن عبد الرحمن" بن عبيد القرشي مولى آل طلحة كوفي ثقة.
قوله: "لا يلج النار" أي لا يدخلها "رجل بكى من خشية الله" فإن الغالب من الخشية امتثال الطاعة واجتناب المعصية "حتى يعود اللبن في الضرع" هذا من باب التعليق بالمحال كقوله تعالى {حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ} "ولا يجتمع" أي(5/260)
هذا حديثٌ حسنٌ صحيحٌ.
ومحمدُ بنُ عبدِ الرحمَنِ هو مَوْلَى أبي طَلْحَةَ مدنيّ.
ـــــــ
على عبد، كما في رواية غير الترمذي "غبار في سبيل الله ودخان جهنم"فكأنهما ضدان لا يجتمعان، كما أن الدنيا والآخرة نقيضان.
قوله: "هذا حديث حسن صحيح" وأخرجه النسائي والحاكم والبيهقي إلا أنهم قالوا: ولا يجتمع غبار في سبيل الله ودخان جهنم في منخري مسلم أبداً، وقال الحاكم: صحيح الإسناد(5/261)
باب ماجاء من شاب شيبة في سبيل الله
...
9ـ باب ما جاءَ مَنْ شَابَ شَيْبَةً في سبيلِ الله
1684 ـ حدثنا هَنّادٌ، حدثنا أبو مُعاوِيةَ عن الأعْمَشِ عن عَمْرِو بنِ مُرّةَ عن سَالِمِ بنِ أبي الْجَعْدِ أن شُرَحْبِيلَ بنَ السّمْطِ قال: يا كَعْبُ بنُ مُرّةَ حَدّثْنَا عن رسولِ الله صلى الله عليه وسلم واحْذَرْ، قال: سَمِعْتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم يقولُ: "مَنْ شَابَ شَيْبَةً في الإسْلاَمِ كَانَتْ لَهُ نُوراً يَوْمَ القِيامَةِ" .
وفي البابِ عن فَضَالَةَ بنِ عُبَيْدٍ وعَبْدِ الله بنِ عَمْرٍو.وحَدِيثَ كَعْبِ بنِ
ـــــــ
"باب ما جاءَ مَنْ شَابَ شَيْبَةً في سبيلِ الله"
قوله: "واحذر" أي عن زيادة ونقصان فيه "من شاب شيبة" أي شعرة واحدة بيضاء "في الإسلام" يعني أعم من أن يكون في الجهاد أو غيره "كانت له نوراً يوم القيامة" أي ضياء ومخلصاً عن ظلمات الموقف وشدائده. قال المناوي: أي يصير الشعر نفسه نوراً يهتدي به صاحبه، والشيب وإن كان ليس من كسب العبد لكنه إذا كان بسبب من نحو جهاد أو خوف من الله ينزل منزلة سعيه انتهى.
قوله: "وفي الباب عن فضالة بن عبيد وعبد الله بن عمرو"أما حديث فضالة(5/261)
مُرّةَ.هكذا رَوَاهُ الأعْمَشُ عن عَمْرِو بنِ مُرّةَ.
وقد رُوِيَ هذا الحَدِيثُ عن مَنْصُورٍ عن سَالمِ بنِ أبِي الْجَعْدِ وَأَدْخَلَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ كَعْبِ بنِ مُرّةَ في الإسْنَادِ رَجُلاً. ويُقَالُ كَعْبُ بنُ مُرّةَ ويُقَالُ مُرّةُ بنُ كَعْبٍ البَهْزِيّ. و قد رَوَى عن النبيّ صلى الله عليه وسلم أحَادِيثَ.
1685 ـ حدثنا إسْحَاقُ بنُ مَنْصُورٍ المروزي، أخبرنا حَيْوَة بنُ شُرَيْحٍ عن بَقِيّةَ عن بَجيرٍ بن سَعْدٍ عن خالدِ بنِ مَعْدَانَ عن كَثِيرِ بنِ مُرّةَ الحضرمي
ـــــــ
فأخرجه البزار والطبراني في الكبير والأوسط من رواية ابن لهيعة وبقية إسناده ثقات، كذا في الترغيب ولفظه مثل حديث الباب المذكور. وأما حديث عبد الله بن عمرو فأخرجه أبو داود.
قوله: "حديث كعب بن مرة حديث حسن" وأخرجه النسائي وابن ماجه.
قوله: "هكذا رواه الأعمش عن عمرو بن مرة" أي عن سالم بن أبي الجعد الخ "وقد روى هذا الحديث عن منصور عن سالم بن أبي الجعد وأدخل" أي منصور بينه أي بين سالم بن أبي الجعد "ويقال كعب بن مرة، ويقال مرة بن كعب البهزي الخ" قال في تهذيب التهذيب: كعب بن مرة وقيل مرة بن كعب البهزي السلمي سكن البصرة ثم الأردن روى عن النبي صلى الله عليه وسلم وعنه شرحبيل بن السمط وسالم بن أبي الجعد وقيل لم يسمع منه وعبد الله بن شقيق وقال مرة بن كعب وغيرهم، قال ابن عبد البر: والأكثر يقولون كعب بن مرة له أحاديث مخرجها عن أهل الكوفة يروونها عن شرحبيل عنه، وأهل الشام يروون تلك الأحاديث بأعيانها عن شرحبيل عن عمرو بن عبسة فالله أعلم انتهى.
قوله: "عن كثير بن مرة الحضرمي" الحمصي ثقة من الثانية ووهم من عده في(5/262)
عن عَمْرِو بنِ عَبَسَةَ أنّ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم قالَ:"مَنْ شَابَ شَيْبَةً في سبِيلِ الله كَانَتْ لَهُ نُوراً يَوْمَ القِيَامَةِ".
هذا حديثٌ حسنٌ صحيحٌ غريبٌ.وَحَيْوَةُ بنُ شُرَيْحٍ هو ابنُ يَزِيدَ الحِمْصِيّ.
ـــــــ
الصحابة كذا في التقريب "عن عمرو بن عبسة"بعين موحدة مفتوحتين وإهمال سين، ابن عامر بن خالد السلمي كنيته أبو نجيح صحابي مشهور، أسلم قديماً وهاجر بعد أحد ثم نزل الشام.
قوله:"من شاب شيبة في سبيل الله"وفي رواية النسائي:في الإسلام:قال الطيبي:معناه من مارس المجاهدة حتى يشيب طاقة من شعره فله مالا يوصف من الثواب، دل عليه تخصيص ذكر النور والتنكير فيه، قال ومن روى في الإسلام بدل في سبيل الله أراد بالعام الخاص أو سمى الجهاد إسلاماً لأنه عموده وذروة سنامه انتهى.قلت:ويمكن أن يراد من "سبيل الله"في هذا الحديث أعم من الجهاد والله تعالى أعلم.
"هذا حديث حسن صحيح غريب"قال المنذري بعد ذكر هذا الحديث رواه النسائي في حديث والترمذي وقال: حديث حسن صحيح ولم يذكر المنذري لفظ غريب(5/263)
باب ماجاء من ارتبط فرسا في سبيل الله
...
10ـ باب ما جاءَ مَنْ ارْتَبَطَ فَرَساً في سبيلِ الله
1686ـ حدثنا قُتَيْبَةُ، حدثنا عبدُ العزيزِ بنُ محمدٍ عن سُهَيْلِ بنِ أبي صَالِحٍ عن أبيهِ عن أبي هُرَيْرَةَ قال: قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم:
ـــــــ
باب ما جاءَ مَنْ ارْتَبَطَ فَرَساً في سبيلِ الله
أي احتبسها وأعدها للجهاد.(5/263)
"الْخَيْلُ مَعْقُودٌ في نَوَاصِيهَا الخَيْرُ إلى يَوْمِ القيامةِ. الخَيْلُ لِثَلاَثَةِ:هِيَ لِرَجُلٍ أجْرٌ، وهِيَ لِرَجُلٍ سِتْرٌ، وهِيَ على رَجُلٍ وِزْرٌ. فأمّا الّذِي لَهُ أجْرٌ فالذِي يَتّخِذُهَا في سَبِيلِ الله فَيُعِدّها لَهُ هِيَ لَهُ أجْرٌ لا يغيب في بُطُونِهَا شَيْء إلاّ كَتَبَ الله لَهُ أجْراً" وفي الحديث قصته.
هذا حديثٌ حسنٌ صحيحٌ. وقد رَوَى مَالِك بن أنس عن زَيْدِ بنِ أسْلَمَ عن أبي صَالحٍ عن أبي هُرَيْرَةَ عن النبيّ صلى الله عليه وسلم نَحْوَ هذا الحديث.
ـــــــ
قوله: "الخيل معقود في نواصيها الخير إلى يوم القيامة"سيأتي شرح هذا في باب فضل الخيل "الخيل لثلاثة" قال الحافظ: وجه الحصر في الثلاثة أن الذي يقتني الخيل إما أن يقتنيها للركوب أو للتجارة، وكل منهما إما أن يقترن به فعل طاعة الله وهو الأول أو معصية وهو خير أو يتجرد عن ذلك وهو الثاني "هي لرجل أجر" أي ثواب "وهي لرجل ستر"أي ساتر لفقره ولحاله "وهي على رجل وزر" أي إثم وثقل "لا يغيب"بضم التحتية الأولى وشدة الثانية المكسورة أي لا يدخل والضمير يرجع إلى الموصول، وفي رواية مسلم:لا تغيب بضم الفوقية والضمير يرجع إلى الخيل. وفي الحديث بيان أن الخيل إنما تكون في نواصيها الخير والبركة إذا كان اتخاذها في الطاعة أو في الأمور المباحة وإلا فهي مذمومة. والحديث أخرجه الترمذي مختصراً، ورواه مسلم مطولاً وفيه الخيل ثلاثة: فهي لرجل أجر، ولرجل ستر، ولرجل وزر، فأما الذي هي له أجر فالرجل يتخذها في سبيل الله ويعدها له فلا تغيب شيئاً في بطونها إلا كتب الله له أجراً ولو رعاها في مرج، ما أكلت من شيء إلا كتب الله له بها أجراً، ولو سقاها من نهر كان له بكل قطرة تغيبها في بطونها أجر، حتى ذكر الأجر في أبوالها وأرواثها ولو استنت شرفاً أو شرفين كتب له بكل خطوة تخطوها أجر. وأما الذي هي له ستر فالرجل يتخذها تكرماً وتجملاً ولا ينسى حتى ظهورها وبطونها في عسرها ويسرها، وأما الذي هي عليه وزر فالذي يتخذها أشراً وبطراً وبذبحاً ورياء الناس، فذاك الذي هي عليه وزر، الحديث.
قوله: "هذا حديث حسن صحيح" وأخرجه الشيخان والنسائي وابن ماجه(5/264)
باب ماجاء في فضل الرمي في سبيل الله
...
11ـ باب ما جاءَ في فَضْلِ الرّميِ في سَبيل الله
1687ـ حدثنا أحمدُ بنُ مَنيعٍ، حدثنا يَزِيدُ بنُ هَارُونَ، أخبرنا محمدُ بنُ إسحاقَ عن عبدِ الله بنِ عبدِ الرحمَنِ بنِ أبي حُسَيْنٍ أنّ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم قال: "إنّ الله لَيُدْخِلُ بالسّهْمِ الوَاحِدِ ثَلاَثَةً الْجَنّةَ: صَانِعَهُ يَحْتَسِبُ في صَنْعَتِهِ الْخَيْرَ، والرّامِي بهِ، والمُمِدّ بهِ وقال ارْمُوا وارْكَبُوا، ولأَنْ تَرْمُوا أحَبّ إلَيّ مِنْ أنْ تركَبُوا. كُلّ مَا يَلْهُو بهِ الرّجُلُ المُسْلِمُ بَاطِلٌ إلاّ
ـــــــ
"باب ما جاءَ في فَضْلِ الرّميِ في سَبيل الله"
قوله:"عن عبد الله بن عبد الرحمن بن أبي حسين"بن الحارث بن عامر بن نوفل المكي النوفلي ثقة عالم بالمناسك من الخامسة.
قوله: "ليدخل بالسهم الواحد"أي بسبب رميه على الكفار"ثلاثة"وفي رواية ثلاثة نفر "صانعه"بدل بعض من ثلاثة "يحتسب" أي حال كونه يطلب "في صنعته" أي لذلك السهم "الخير" أي الثواب "والرامي به"أي كذلك محتسباً، وكذا قوله: "والممد به" من الإمداد، قال في المجمع: الممد به أي من يقوم عند الرامي وله فينا سهماً بعد سهم أو يرد عليه النبل من الهدف من أمددته بكذا إذا أعطيته إياه "ارموا واركبوا" أي تقتصروا على الرمي ماشياً واجمعوا بين الرمي والركوب، أو المعنى اعلموا هذه الفضيلة وتعلموا الرمي والركوب بتأديب الفرس والتمرين عليه كما يشير إليه آخر الحديث، وقال الطيبي: عطف واركبوا يدل على المغايرة وأن الرامي يكون راجلاً والراكب رامحاً، فيكون معنى قوله: "ولأن ترموا أحب إلى من أن تركبوا" أن الرمي بالسهم أحب إلي من الطعن بالرمح انتهى كلام الطيبي. وقال القاري: والأظهر أن معناه أن معالجة الرمي وتعلمه أفضل من تأديب الفرس وتمرين ركوبه لما فيه من الخيلاء والكبرياء، ولما فيه الرمي من النفع العام، ولذا قدمه تعالى في قوله: {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ} مع أنه لا دلالة في الحديث على الرمح أصلاً انتهى كلام القاري "كل ما يلهو(5/265)
رَمْيَهُ بقَوْس، وَتَأْدِيبَهُ فَرَسَهُ، وملاعَبَتَهُ أهْلَهُ، فَإِنّهُنّ مِنَ الْحَقّ" .
1688ـ حدثنا أحمدُ بنُ مَنِيعٍ، حدثنا يَزِيدُ بنُ هَارُونَ، أخبرنا هِشَامٌ الدّسْتَوَائِيّ عن يَحْيَى بنِ أبي كَثِيرٍ عن أبي سَلاّمٍ عن عبدِ الله بنِ الأزْرَقِ عن عُقْبَةَ بنِ عَامِرٍ الجهنيّ عن النبيّ صلى الله عليه وسلم مِثْلَهُ.
وفي البابِ عن كَعْبِ بنِ مُرّةَ وَعَمْرِو بنِ عَبَسَةَ وعبدِ الله بنِ عَمْرٍو.
ـــــــ
به الرجل المسلم" أي يشتغل ويلعب به "باطل" لا ثواب له "إلا رميه بقوس" احتراف عن رميه بالحجر والخشب "وتأديبه فرسه" أي تعليمه إياه بالركض والجولان على نية الغزو "وملاعبته أهله، فإنهن من الحق" أي ليس من اللهو الباطل فيترتب عليه الثواب الكامل. قال القاري: وفي معناها كل ما يعين على الحق والعلم والعمل إذا كان من الأمور المباحة كالمسابقة بالرجل والخيل والإبل والتمشية للتنزه على قصد تقوية البدن وتطرية الدماغ، ومنها السماع إذا لم يكن بالآلات المطربة المحرمة انتهى كلام القاري.
قلت: في قوله ومنها السماع الخ نظر ظاهر، فإن السماع ليس مما يعين على الحق، والسماع الذي هو فاش في هذا الزمان بين المتصوفة الجهلة لا شك في أنه معين على الفساد والبطالة: وأما الدليل على أن السماع ليس مما يعين على الحق فقوله تعالى {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ} قال الحافظ في التلخيص: روى ابن أبي شيبة بإسناد صحيح أن عبد الله سئل عن قوله تعالى {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ} قال: الغناء الذي لا إله غيره. وأخرجه الحاكم وصححه والبيهقي انتهى. وعبد الله هذا هو ابن مسعود، وقد صرح الحافظ به فيه، وحديث عبد الله بن عبد الرحمن بن أبي حسين هذا مرسل لأنه من صغار التابعين.
قوله: "عن أبي الإسلام" الحبشي الأسود اسمه ممطور "عن عبد الله بن الأزرق" بتقديم الزاي على الراء. قال في الخلاصة: عبد الله بن زيد الأزرق عن عقبة بن عامر وعنه أبو سلام وثقه ابن حبان.
قوله: "وفي الباب عن كعب بن مرة وعمرو بن عبسة وعبد الله بن عمرو" .(5/266)
وهذا حديثٌ حسنٌ صحيح.
1689ـ حدثنا محمدُ بنُ بَشّارٍ حدثنا مُعَاذُ بنُ هشَامٍ عن أبيهِ عن قَتَادَةَ عن سَالِمِ بنِ أبي الْجَعْدِ عن مَعْدَانَ بنِ أبي طَلْحَةَ عن أبي نَجِيحٍ
ـــــــ
أما حديث كعب بن مرة فأخرجه النسائي وابن حبان في صحيحه عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "من بلغ العدو بسهم رفع الله له درجة" ، فقال له عبد الرحمن بن النحام: وما الدرجة يا رسول الله؟ قال: أما إنها ليست بعتبة أمك ما بين الدرجتين مائة عام. وعنه أيضاً قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "من رمى بسهم في سبيل الله كان كمن أعتق رقبة" ، رواه ابن حبان في صحيحه. وأما حديث عمرو بن عبسة فأخرجه الترمذي في هذا الباب. وأما حديث عبد الله بن عمرو فلينظر من أخرجه.
قوله: "هذا حديث حسن صحيح " الظاهر أن الترمذي أشار بقوله هذا إلى حديث عقبة بن عامر لا إلى حديث عبد الله بن عبد الرحمن بن أبي حسين فإنه مرسل، وفي سنده محمد بن إسحاق وهو مدلس ورواه عنه بالعنعنة. وأما حديث عقبة فرواه أبو داود والنسائي والحاكم وقال صحيح الإسناد، والبيهقي من طريق الحاكم وغيرها وفي لفظ أبي داود "ومنبله" مكان "والممد به" قال المنذري: منبله بضم الميم وإسكان النون وكسر الباء الموحدة، قال البغوي: هو الذي يناول الرامي النبل وهو يكون على وجهين: أحدهما أن يقوم بجنب الرامي أو خلفه يناوله النبل واحداً بعد واحد حتى يرمي، والآخر أن يرد عليه النبل المرمي به، ويروي والممدد به، وأي الأمرين فعل فهو ممد به انتهى. قال المنذري: ويحتمل أن يكون المراد بقوله "منبله" أي الذي يعطيه للمجاهد ويجهّز به من ماله إمداداً له وتقوية. ورواية البيهقي تدل على هذا انتهى.
قلت: في رواية البيهقي أن الله عز وجل يدخل بالسهم الواحد ثلاثة نفر الجنة: صانعه الذي يحتسب في صنعته الخير، والذي يجهّز به في سبيل الله، والذي يرمي به في سبيل الله.(5/267)
السّلَمِيّ رضي الله عنه قال: سَمِعْتُ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم يقولُ: "مَنْ رَمَى بِسَهْمٍ في سبيلِ الله فَهُوَ لَهُ عِدْلُ مُحَرّرٍ" .
هذا حديثٌ صحيحٌ. وأبو نَجِيحٍ هُوَ عَمْرُو بنُ عَبَسَةَ السّلَمِيّ وعبدُ الله بنُ الأزْرَقِ هو عبدُ الله بن يزيد.
ـــــــ
قوله: "فهو له عدل محرر" بكسر العين ويفتح، أي مثل ثواب معتق.
قوله: "هذا حديث حسن صحيح" وأخرجه أبو داود والحاكم وقال صحيح على شرطهما ولم يخرجاه "وأبو نجيح" بفتح النون وكسر الجيم وسكون التحتية وبالحاء المهملة "وهو عمرو بن عبسة" بفتح العين الموحدة وبالسين المهملة صحابي مشهور أسلم قديماً وهاجر بعد أحد ثم نزل الشام "وعبد الله بن الأزرق هو عبد الله بن زيد" والأزرق صفة لزيد فهو عبد الله بن زيد الأزرق كما في الخلاصة وتهذيب التهذيب وميزان الاعتدال(5/268)
باب ماجاء في فضل الحرس في سبيل الله
...
12ـ باب ما جَاءَ في فَضْلِ الْحَرسِ في سبِيلِ الله
1690ـ حدثنا نصرُ بنُ عليّ الجهْضَمِيّ، حدثنا بشْرُ بنُ عُمَرَ، حدثنا شَعَيْبُ بنُ زُرَيْق أبو شَيْبَةَ، حدثنا عَطَاءُ الْخُراسَانِيّ عن عَطَاءِ بن أبي رَبَاحٍ عن ابنِ عباسٍ قال: سَمِعْتُ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم يقول:
ـــــــ
"باب ما جَاءَ في فَضْلِ الْحَرسِ في سبِيلِ الله"
قوله: "حدثنا بشر بن عمر" هو الزهران الأزدي "حدثنا شعيب بن رزيق" بضم الراء المهملة وفتح الزاي مصغراً الشامي أبو شيبة صدوق يخطئ من السابعة "حدثنا عطاء" بن أبي مسلم أو عثمان الخراساني واسم أبيه ميسرة وقيل عبد الله صدوق يهم كثيراً ويرسل ويدلس من الخامسة، لم يصح أن البخاري أخرج له، كذا في التقريب.(5/268)
"عَيْنَانِ لا تَمسّهُمَا النّارُ: عَيْنٌ بَكَتْ مِنْ خَشْيَةِ الله، وَعَيْنٌ بَاتَتْ تَحرُسُ في سبيلِ الله" .
وفي البابِ عن عُثْمَانَ وأبي رَيْحَانَةَ.
وحديثُ ابنِ عباسٍ حديثٌ حسنٌ غريب لا نَعْرِفُهُ إلاّ مِنْ حديثِ شُعْيْبِ بنِ رُزَيْقٍ.
ـــــــ
قوله:"عينان لا تمسهما النار"أي لا تمس صاحبهما، فعبر بالجزء عن الجملة، وعبر بالمس إشارة إلى امتناع ما فوقه بالأولى، وفي رواية "أبداً"وفي رواية "لا تريان النار" "عين بكت من خشية الله" وهي مرتبة المجاهدين مع النفس التائبين عن المعصية سواء كان عالماً أو غير عالم "وعين باتت تحرس" وفي رواية تكلأ "في سبيل الله" وهي مرتبة المجاهدين في العبادة وهي شاملة لأن تكون في الحج أو طلب العلم أو الجهاد أو العبادة، والأظهر أن المراد به الحارس للمجاهدين لحفظهم عن الكفار. قال الطيبي قوله "عين بكت" هذا كناية عن العالم العابد المجاهد مع نفسه لقوله تعالى {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ} حيث حصر الخشية فيهم غير متجاوز عنهم، فحصلت النسبة بين العينين عين مجاهد مع النفس والشيطان وعين مجاهد مع الكفار.
قوله: "وفي الباب عن عثمان وأبي ريحانة" أما حديث عثمان فأخرجه الحاكم وقال صحيح الإسناد ولفظه "حرس ليلة في سبيل الله أفضل من ألف ليلة يقام ليلها ويصام نهارها". وأما حديث أبي ريحانة فأخرجه أحمد ورواته ثقات والنسائي ببعضه، والطبراني في الكبير والأوسط، والحاكم وقال صحيح الإسناد كذا، في الترغيب.
قوله: "حديث ابن عباس حديث حسن صحيح" وأخرجه الضياء والطبراني في الأوسط عن أنس(5/269)
باب ماجاء في ثواب الشهيد
...
13ـ باب ما جَاء في ثوابِ الشهداء
1691ـ حدثنا ابنُ أبي عُمَرَ، حدثنا سُفْيَانُ بنُ عُيَيْنَةَ عن عَمْرِو بنِ دِينارٍ عن الزّهْرِيّ عن ابنِ كَعْبِ بنِ مَالِكٍ عن أبيهِ أنّ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم قال: "إنّ أرْوَاحَ الشّهَدَاءِ في طَيْرٍ خُضْرٍ تَعْلُقُ مِنْ ثَمَرة الْجَنّةِ أو شَجَرِ الْجَنّةِ" .
هذا حديثٌ حسنٌ صحيحٌ.
ـــــــ
"باب ما جَاء في ثوابِ الشهداء"
قوله: "في طير" جمع طائر ويطلق على الواحد "خضر" بضم فسكون جمع أخضر "تعلق" قال المنذري: بفتح المثناة فوق وعين مهملة وضم اللام أي ترعى من أعالي شجر الجنة انتهى. وقال في النهاية: أي تأكل وهو في الأصل للإبل إذا أكلت العضاه، يقال علقت علوقاً فنقل إلى الطير انتهى "من ثمر الجنة أو شجر الجنة" شك من الراوي. وفي حديث ابن مسعود عند مسلم: "أرواحهم في أجواف طير خضر لها قناديل معلقة بالعرش تسرح من الجنة حيث شاءت ثم تأوى إلى تلك القناديل" الحديث. قال في المرقاة: وقد تعلق بهذا الحديث وأمثاله بعض القائلين بالتناسخ وانتقال الأرواح، وتنعيمها في الصور الحسان المرفهة، وتعذيبها في الصور القبيحة، وزعموا أن هذا هو الثواب والعقاب، وهذا باطل مردود لا يطابق ما جاءت به الشرائع من إثبات الحشر والنشر والجنة والنار، ولهذا قال في حديث آخر: حتى يرجعه الله إلى جسده يوم بعثه الأجساد، قال ابن الهمام: اعلم أن القول بتجرد الروح يخالف هذا الحديث كما أنه يخالف قوله تعالى: {فَادْخُلِي فِي عِبَادِي} انتهى. وفي بعض حواشي العقائد: اعلم أن التناسخ عند أهله هو رد الأرواح إلى الأبدان في هذا العالم لا في الآخرة، إذ هم ينكرون الآخرة والجنة والنار، ولذا كفروا انتهى.
قلت: على بطلان التناسخ دلائل كثيرة واضحة في الكتاب والسنة، منها قوله تعالى: {حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحاً فِيمَا تَرَكْتُ كَلَّا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ} .(5/270)
هذا حديثٌ حسنٌ.
1692ـ حدثنا محمدُ بنُ بَشّارٍ، حدثنا عثمانُ بنُ عُمرَ، أخبرنا عليّ بنُ المبارَكِ عن يَحْيى بنِ أبي كَثِيرٍ عن عَامِرٍ العُقَيْليّ عن أبيهِ عن أبي هُرَيْرَةَ أنّ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم قال: "عُرِضَ عَلَيّ أوّلُ ثلاثَةٍ يَدْخُلُونَ الْجَنّةَ: شَهِيدٌ، وَعَفِيفٌ مُتَعَفّفٌ، وَعَبْدٌ أحْسَنَ عِبَادَةَ الله وَنَصَحَ لَمَوالِيهِ" .
ـــــــ
قوله: "هذا حديث حسن صحيح" وأخرجه أحمد في مسنده.
قوله: "حدثنا عثمان بن عمر" بن فارس العبدي بصري أصله من بخارى ثقة، قيل كان يحيى بن سعيد لا يرضاه من التاسعة "عن عامر العقيلي" مقبول من الرابعة "عن أبيه" هو عقبة. قال في تهذيب التهذيب، عقبة العقيلي روى عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم: عرض علي أول ثلاثة يدخلون الجنة الحديث، وعنه ابنه عامر العقيلي انتهى. وقال في التقريب في ترجمته مقبول من الثالثة.
قوله: "عرض" بالبناء للمفعول "أول ثلاثة يدخلون الجنة" بصيغة الفاعل، ويجوز كونه للمفعول. قال الطيبي: أضاف أفعل إلى النكرة للاستغراق، أي أول كل ثلاثة من الداخلين في الجنة هؤلاء الثلاثة، وأما تقديم أحد الثلاثة على الآخرين فليس في اللفظ إلا التنسيق عند علماء المعاني انتهى، قال القاري: وقوله للاستغراق كأنه صفة النكرة أي النكرة المستغرقة لأن النكرة الموصوفة تعم. فالمعنى أول كل ممن يدخل الجنة ثلاثة ثلاثة هؤلاء الثلاثة، ثم لا شك أن التقديم الذكرى يفيد الترتيب الوجودي في الجملة وإن لم يكن قطعياً كما في آية الوضوء، وقد قال صلى الله عليه وسلم: "ابدأوا بما بدأ الله به في {إن الصفا والمروة من شعائر الله} وروى ثلة بالضم وهي الجماعة أي أول جماعة يدخلون الجنة وروى برفع ثلاثة فضم أول للبناء كضم قبل وبعد ظرف عرض أي عرض على أول أوقات العرض ثلاثة أو ثلة يدخلون الجنة "شهيد" فعيل بمعنى الفاعل أو المفعول "وعفيف" عن تعاطي ما لا تحل "متعفف" أي عن السؤال باليسير عن(5/271)
هذا حديث حسن صحيح
1693ـ حدثنا يَحْيَى بنُ طَلْحَةَ اليربوعي الكُوفيّ، حدثنا أبو بكر بنِ عَيّاشٍ عن حُمَيْدٍ عن أنَسٍ قال: قالَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: "الْقَتْلُ في سبيلِ الله يُكَفّرُ كُلّ خَطِيئَةٍ، فقالَ جبريلُ إلاّ الدّيْنَ، فقالَ النبيّ صلى الله عليه وسلم إلاّ الدّيْنَ" .
وفي البابِ عن كعْبِ بنِ عُجْرَةَ و جابِرٍ و أبي هُرَيْرَةَ و أبي قَتَادَةَ.
ـــــــ
طلب المفضول في المطعم والملبس، وقيل أي متنزه عما لا يليق به صابر على مخالفة نفسه وهواه "وعبد" أي مملوك "أحسن عبادة الله" بأن قام بشرائطها وأركانها. وقال الطيبي: أي أخلص عبادته من قوله صلى الله عليه وسلم: "الإحسان أن تعبد الله كأنك تراه" "ونصح لمواليه" أي أراد الخير لهم وقام بحقوقهم.
قوله: "هذا حديث حسن" وأخرجه والحاكم والبيهقي في السنن الكبرى.
قوله: "حدثنا يحيى بن طلحة" بن أبي كثير اليربوعي الكوفي، لين الحديث من العاشرة.
قوله: "القتل" مصدر بمعنى المفعول قوله: "يكفر كل خطيئة" أي يكون سبباً لتكفير كل خطيئة عن المقتول "إلا الدين" أي وما في معناه من حقوق العباد. قال النووي: فيه تنبيه على جميع حقوق الآدميين وأن الجهاد والشهادة وغيرهما من أعمال البر ولا يكفر حقوق الآدميين وإنما تكفر حقوق الله تعالى.
قوله: "وفي الباب عن كعب بن عجرة وجابر وأبي هريرة وأبي قتادة" أما حديث كعب بن عجرة فلينظر من أخرجه، وأما حديث جابر فأخرجه الترمذي في التفسير وابن ماجه والحاكم وقال صحيح الإسناد، وأما حديث أبي هريرة فأخرجه ابن ماجه عنه قال: ذكر الشهداء عند النبي صلى الله عليه وسلم فقال: "لا تجف الأرض من دم الشهيد حتى تبتدره زوجتاه كأنهما ظئران أضلتا فصيلهما في براح من الأرض وفي يد كل واحدة حلة خير من الدنيا وما فيها" ، وله أحاديث(5/272)
وهذا حديثٌ غريبٌ لا نَعْرِفُهُ من حَديثِ أبي بكرٍ إلا من حديثِ هذا الشّيْخِ. قال وسألْتُ محمدَ بنَ إسماعيلَ عن هذا الحديثِ فلم يَعْرِفْهُ وقال أرَى أنه أرادَ حديثَ حُمَيْدٍ عن أنَسٍ عن النبيّ صلى الله عليه وسلم أنه قال: "ليس أحَدٌ من أهلِ الْجَنّةِ يَسُرّهُ أن يَرْجِعَ إلى الدّنْيَا إلاّ الشّهِيدُ" .
1694ـ حدثنا عليّ بنُ حُجْرٍ أخبرنا إسماعيلُ بنُ جَعْفَرٍ عن حُمَيْدٍ عن أنَسٍ عن النبيّ صلى الله عليه وسلم أنه قال: "مَا مِنْ عَبْدٍ يَمُوتُ لَهُ عِنْدَ الله خَيْرٌ يُحِبّ أنْ يَرْجِعَ إلَى الدّنْيَا، وَأَنّ لَهُ الدنيا وما فيها، إلاّ الشّهِيدُ لِمَا يَرَى مِنْ فَضْلِ الشهادَةِ فَإِنّهُ يُحِبّ أنْ يَرْجِعَ إلَى الدّنْيَا فَيُقْتَلَ مَرّةً أُخْرَى" .
ـــــــ
أخرى في هذا الباب ذكرها المنذري في الترغيب في الشهادة وما جاء في فضل الشهداء. وأما حديث أبي قتادة فأخرجه مسلم وأخرجه الترمذي أيضاً في باب من يستشهد وعليه دين.
قوله: "وحديث أنس حديث غريب" وأخرجه مسلم عن عبد الله بن عمرو بلفظ: القتل في سبيل الله يكفر كل شيء إلا الدين "لا نعرفه من حديث أبي بكر إلا من حديث هذا الشيخ" يعني يحيى بن طلحة الكوفي "وقال" أي محمد بن إسماعيل البخاري "أرى" بضم الهمزة وفتح الراء أي أظن "أنه" أي يحيى بن طلحة "أراد حديث حميد عن أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم: أنه قال: ليس أحد من أهل الجنة الخ" يعني أراد يحيى بن طلحة أن يحدث هذا الحديث فاخطأ ووهم وحديث بحديث: القتل يكفر كل شيء الخ.
قوله: "يموت" صفة لعبد "له عند الله خير" أي ثواب صفة أخرى لعبد "يجب أن يرجع" كلمة أن مصدرية ويرجع لازم "وأن له الدنيا" بفتح الهمزة عطف على أن يرجع ويجوز الكسر على أن يكون جملة حالية "إلا الشهيد" مستثنى من قوله يجب أن يرجع "لما يرى" بكسر اللام التعليلية "فيقتل" على صيغة المجهول بالنصب عطف على أن يرجع.(5/273)
هذا حديث حسن صحيح
ـــــــ
قوله:"هذا حديث حسن صحيح"وأخرجه الشيخان(5/274)
باب ماجاء في فضل الشهداء عند الله
...
14ـ باب ما جَاء في فضل الشهداء عند الله
وفي بعض النسخ: في أفضل الشهداء مكان في فضل الشهداء وهو الظاهر.
1695ـ حدثنا قتيبة حدثنا ابن لهيعة عن عطاء بن دنيا عن أبي يَزِيدَ الْخَوْلاَنِيّ أنه سَمِعَ فَضَالَةَ بنَ عُبَيْدٍ يقولُ: سَمِعْتُ عُمَرَ بنَ الْخَطَابَ يقولُ: سَمِعْتُ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم يقولُ: "الشّهَدَاءُ أرْبَعَةٌ: رَجُلٌ مُؤْمِنٌ جَيّدُ الإيمَانِ لَقِيَ العَدُوّ فَصَدَقَ الله حتى قُتِلَ، فَذَاكَ الّذِي يَرْفَعُ الناسُ إليهِ أعْيُنَهُمْ يَوْمَ القِيَامَةِ هَكَذَا، وَرَفَعَ رَأْسَهُ حتى وَقَعَتْ قَلَنْسُوَتُهُ،
ـــــــ
"باب ما جَاء في فضل الشهداء عند الله"
قوله: "عن عطاء بن دينار" الهذلي مولاهم أبو الريان، وقيل أبو طلحة المصري صدوق إلا أن روايته عن سعيد بن جبير عن صحيفته من السادسة "عن أبي يزيد الخولاني" المصري مجهول من الرابعة "أنه سمع فضالة بن عبيد" بن نافذ بن قيس الأنصاري الأوسي، أو ما شهد أحداً ثم نزل دمشق وولى قضاها، مات سنة ثمان وخمسين وقيل قبلها.
قوله: "الشهداء أربعة" أي أربعة أنواع أو أربعة رجال "رجل مؤمن جيد الإيمان" أي خالصه أو كامله "لقي العدو" أي من الكفار "فصدق الله" بتخفيف الدال أي صدق بشجاعته ما عاهد الله عليه، أو بتشديده أي صدقه فيما وعد على الشهادة "حتى قتل" بصيغة المجهول، أي حتى قاتل إلى أن استشهد. قال الطيبي رحمه الله: يعني أن الله وصف المجاهدين الذي قاتلوا لوجهه صابرين محتسبين، فتحرى هذا الرجل بفعله وقالت صابراً فكأنه صدق الله تعالى بفعله، قال تعالى: {رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْه} "فذاك" أي المؤمن "الذي يرفع الناس" أي أهل الموقف "هكذا" مصدر قوله: "يرفع" أي رفعاً مثل رفع رأسي(5/274)
قال فلا أدْرِي قَلْنَسُوَةَ عُمَر أرَادَ أَمْ قَلَنْسُوَةَ النبيّ صلى الله عليه وسلم". قال: وَرَجُلٌ مُؤْمِنٌ جَيّدُ الإيْمَانِ لَقِيَ العَدُوّ فَكَأَنّمَا ضُرِبَ جِلْدُهُ بِشَوْك طَلْحٍ مِنَ الْجُبْنِ أتَاهُ سَهْمٌ غَرْبٌ فَقَتَلَهُ، فَهُوَ في الدّرَجَةِ الثّانِيَةِ. وَرَجُلٌ مُؤْمِنٌ خَلَطَ عَمَلاً صَالِحاً وآخَرَ سَيّئاً لَقِيَ العَدُوّ فَصَدَقَ الله حتى قُتِلَ فَذَاكَ في الدّرَجَةِ الثّالِثَةِ، وَرَجُلٌ مُؤْمِنٌ أسْرَفَ على نَفْسِهِ لَقِيَ العَدُوّ فَصَدَقَ الله حتى قُتِلَ،
ـــــــ
هكذا كما تشاهدون "ورفع رأسه حتى وقعت" أي سقطت "قلنسوته" بفتحتين فسكون فضم أي طاقيته، وهذا القول كناية عن تناهي رفعه منزلته "فلا أدري" هذا قول الراوي عن فضالة بناء على أن قوله "حتى وقعت" كلام فضالة أو كلام عمر، والمعنى فلا أعلم "قلنسوة عمر أراد" أي فضالة "أم قلنسوة النبي صلى الله عليه وسلم قال" أي النبي صلى الله عليه وسلم وإعادته للفصل "ورجل مؤمن جيد الإيمان" يعني لكن دون الأول في مرتبة الشجاعة "فكأنما ضرب" أي مشبهاً بمن طعن "جلده بشوك طلح" بفتح فسكون وهو شجر عظيم من شجر العضاه. قال الطيبي: إما كناية عن كونه يقشعر شعره من الفزع والخوف، أو عن ارتعاد فرائصه وأعضائه، وقوله "من الجبن" بيان التشبيه. قال القاري: الأظهر أن "من" تعليلية، والجبن ضد الشجاعة، وهما خصلتان جبليتان مركوزتان في الانسان، وبه يعلم أن الغرائز الطبيعية المستحسنة من فضل الله ونعمة يستوجب العبد بها زيادة درجة "أتاه سهم غرب" بفتح المعجمة وسكون الراء وفتحها أي مثلاً، والتركيب توصيفي وجوز الإضافة والمعنى لا يعرف راميه "فقتله" أي ذلك السهم مجازاً "فهو في الدرجة الثانية" وفي الحديث إشعار بأن المؤمن القوي أحب إلى الله من المؤمن الضعيف كما روى "ورجل مؤمن خلط عملاً صالحاً وآخر سيئاً" الواو بمعنى الباء أو للدلالة على أن كل واحد منها مخلوط بالآخر، كما ذكره البيضاوي في تفسير قوله تعالى {وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُوا عَمَلاً صَالِحاً وَآخَرَ سَيِّئاً} "حتى قتل" أي بوصف الشجاعة "ورجل مؤمن أسرف على نفسه" أي بكثرة المعاصي "حتى قتل" أي بوصف الشجاعة المفهوم من قوله فصدق الله(5/275)
فَذَاكَ في الدّرَجَةِ الرّابِعَةِ" .
هذا حديثٌ حسنٌ غريبٌ لا نعرفه إلاّ مِنْ حديثِ عَطَاءِ بنِ دِينَارٍ قال سَمِعْتُ محمداً يقولُ: قد رَوَى سَعيدُ بنُ أبي أيوبَ هذا الحديثَ عن عَطَاءِ بنِ دِينَارٍ وقال عن أشْيَاخٍ مِنْ خَوْلاَنَ ولَمْ يَذْكُرْ فيه عن أبي يَزِيدَ، وقال: عَطَاءُ بنُ دِينارٍ لَيْسَ به بَأْسٌ.
ـــــــ
"فذاك في الدرجة الرابعة" في الحديث دلالة على أن الشهداء يتفاضلون وليسوا في مرتبة واحدة. قال الطيبي: الفرق بين الثاني والأول مع أن كليهما جيد الإيمان أن الأول صدق الله في إيمانه لما فيه من الشجاعة، وهذا بذل مهجته في سبيل الله ولم يصدق لما فيه من الجبن، والفرق بين الثاني والرابع أن الثاني جيد الإيمان غير صادق بفعله، والرابع عكسه، فعلم من وقوعه في الدرجة الرابعة أن الإيمان والإخلاص لا يعتريه شيء، وأن مبنى الأعمال على الإخلاص. قال القاري: فيه أنه لا دلالة للحديث على الإخلاص مع أنه معتبر في جميع مراتب الاختصاص، بل الفرق بين الأوليين بالشجاعة وضدها مع اتفاقهما في الإيمان وصلاح العمل، ثم دونهما المخلط، ثم دونهم المسرف مع اتصافهما بالإيمان أيضاً، ولعل الطيبي أراد بالمخلط من جمع بين نية الدنيا والآخرة، وبالمسرف من نوى بمجاهدته الغنيمة أو الرياء والسمعة انتهى.
قوله: "هذا حديث حسن غريب" وأخرجه أحمد "عن أشياخ من خولان" بفتح الخاء وسكون الواو قبيلة باليمن ومنها أبو يزيد الخولاني(5/276)
باب ماجاء في غزو البحر
...
وكانَتْ أُمّ حَرَامٍ تَحْتَ عُبَادَةَ بنِ الصّامِتِ، فَدَخَلَ عليها رسولُ الله صلى الله عليه وسلم يَوماً فأَطْعَمَتْهُ وَجلست تَفْلِي رَأْسَهُ، فَنَامَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم ثم اسْتَيْقَظَ وهو يَضْحَكُ، قالت: فَقُلْتُ ما يُضْحِكُكَ يَا رسولَ الله؟ قال: "نَاسٌ مِنْ أُمّتِي عُرِضُوا عَلَيّ غُزَاةً في سَبِيلِ الله يَرْكَبُونَ ثَبَجَ هذا البَحْرِ مُلُوكٌ على الأسِرّةِ، أوْ مِثْلِ المُلُوكِ على الأسِرّةِ" . قُلْتُ يَا رسولَ الله
ـــــــ
وهي خالة أنس صحابية مشهورة ماتت في خلافة عثمان، وفي رواية البخاري في الاستئذان: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا ذهب إلى قباء يدخل على أم حرام "وكانت أم حرام تحت عبادة بن الصامت" هذا ظاهره أنها كانت حينئذ زوج عبادة، وفي رواية البخاري في باب غزو المرأة في البحر من كتاب الجهاد: فتزوجت عبادة بن الصامت فركبت البحار، وفي رواية لمسلم، فتزوج بها عبادة بعد. وظاهر هاتين الروايتين أنها تزوجته بعد هذه المقالة، ووجه الجمع أن المراد بقوله: وكانت تحت عبادة بن الصامت الإخبار عما آل إليه الحال بعد ذلك وهو الذي اعتمده النووي وغيره تبعاً لعياض: ذكره الحافظ في الفتح في كتاب الاستئذان، وقد بسط الكلام في هذا هناك فمن شاء الوقوف عليه فليراجعه "وحبسته تفلي رأسه" بفتح المثناة وسكون الفاء وكسر اللام أي تفتش ما فيه من القمل "فنام رسول الله صلى الله عليه وسلم" وفي رواية لمسلم: أتانا النبي صلى الله عليه وسلم فقال عندنا "ثم استيقظ وهو يضحك" أي فرحاً وسروراً لكون أمته تبقى بعده متظاهرة أمور الإسلام، قائمة بالجهاد حتى في البحر "قال ناس من أمتي عرضوا عليّ غزاة" جمع غاز كقضاة جمع قاض بالنصب على الحالية، وقوله: عرضوا بصيغة المجهول، وعلى بتشديد التحتية "يركبون ثبج هذا البحر" ، قال الحافظ: الثبج بفتح المثلثة والموحدة ثم جيم ظهر الشيء، هكذا فسره جماعة، وقال الخطابي: متن البحر وظهره، وقال الأصمعي: ثبج كل شيء وسطه قال: والراجح أن المراد هنا ظهره كما وقع في رواية عند مسلم يركبون ظهر البحر "ملوكاً على الأسرة أو مثل الملوك على الأسرة" بالشك من إسحاق الراوي عن أنس كما في رواية(5/277)
ادْعُ الله أنْ يَجْعَلَنِي منهم فَدَعَا لها، ثم وَضَعَ رَأْسَهُ فَنَامَ ثم اسْتَيْقَظَ وهو يَضْحَكُ، قالت فَقُلْتُ ما يَضْحِكُكَ يَا رسولَ الله؟ قال: " نَاسٌ مِنْ أُمّتِي عُرِضُوا عَلَيّ غُزَاةً في سبيلِ الله" نَحْوَ ما قالَ في الأوّلِ.قَالَتْ:فَقُلْتُ
ـــــــ
البخاري: ووقع في رواية كالملوك على الأسرة من غير شك، وفي رواية: مثل الملوك على الأسرة بغير شك أيضاً، وفي رواية لأحمد: مثلهم كمثل الملوك على الأسرة، ذكر الحافظ هذه الروايات في الفتح. قال ابن عبد البر: أراد والله اعلم أنه رأى الغزاة في البحر من أمته ملوكاً على الأسرة في الجنة ورؤياه وحي، وقد قال الله تعالى في صفة أهل الجنة {عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ} وقال {عَلَى الْأَرَائِكِ مُتَّكِئُونَ} والأرائك السرر في الحجال. وقال عياض: هذا محتمل ويحتمل أيضاً أن يكون خبراً عن حالهم في الغزو من سعة أحوالهم وقوام أمرهم وكثرة عددهم وجودة عددهم فكأنهم الملوك على الأسرة. قال الحافظ: وفي هذا الاحتمال بعد والأول أظهر، لكن الإتيان بالتمثيل في معظم طرقه يدل على أنه رأى ما يؤول إليه أمرهم لا أنهم نالوا ذلك في تلك الحالة أو موقع التشبيه أنهم فيما هم من النعيم الذي أثبتوا به على جهادهم ملوك الدنيا على أسرتهم، فالتشبيه بالمحسوسات أبلغ في نفس السامع "فدعا لها" وفي رواية: اللهم اجعلها منهم، وفي رواية لمسلم: فإنك منهم، ويجمع بأنه دعا لها فأجيب فأخبرها جازماً بذلك "نحو ما قال في الأول" ظاهره أن الفرقة الثانية يركبون البحر أيضاً. قال الحافظ: ولكن رواية عمير بن الأسود تدل على أن الثانية إنما غزت في البر لقوله: يغزون مدينة قيصر، وقد حكى ابن التين أن الثانية وردت في غزاة البر وأقره، وعلى هذا يحتاج إلى حمل المثلية في الخبر على معظم ما اشتركت فيه الطائفتان لا خصوص ركوب البحر. ويحتمل أن يكون بعض العسكر الذين غزوا مدينة قيصر ركبوا البحر إليها وعلى أن يكون المراد ما حكى ابن التين فتكون الأولية مع كونها في البر مقيدة بقصد مدينة قيصر وإلا فقد غزوا قبل ذلك في البر مراراً. وقال القرطبي: الأولى في أول من غزا البحر من الصحابة. والثانية في أول من غزا البحر من التابعين. وقال الحافظ: بل كان في كل منهما من الفريقين لكن معظم الأولى من(5/278)
يَا رسولَ الله ادْعُ الله أنْ يَجْعَلَنِي منهم، قال: أنْتِ مِنَ الأوّلِين َ، قال فَرَكِبَتْ أُمّ حَرَامٍ البَحْرَ في زَمَانِ مُعَاوِيَةَ بنِ أبي سُفْيَانَ فَصُرِعَتْ عَنْ دَابّتِهَا حينَ خَرَجَتْ مِنَ البَحْرِ فَهَلَكَتْ".
ـــــــ
الصحابة والثانية بالعكس. وقال عياض والقرطبي: في السياق دليل على أن رؤياه الثانية غير رؤياه الأولى، وأن في كل نومه عرضت طائفة من الغزاة، وأما قول أم حرام: أدع الله أن يجعلى منهم في الثانية فلظنها أن الثانية تساوي الأولى في المرتبة فسألت ثانياً ليتضاعف لها الأجر، لا أنها شكت في إجابة دعاء النبي صلى الله عليه وسلم لها في المرة الأولى وفي جزمه بذلك.
قال الحافظ: لا تنافي بين إجابة دعائه وجزمه بأنها من الأولين وبين سؤالها أن تكون من الآخرين لأنه لم يقع التصريح لها أنها تموت قبل زمان الغزوة الثانية فجوزت أنها تدركها فتغزو معهم ويحصل لها أجر الفريقين، فأعلمها أنها لا تدرك زمان الغزوة الثانية، فكان كما قال صلى الله عليه وسلم انتهى "أنت من الأولين" قال النووي: هذا دليل على أن رؤياه الثانية غير الأولى وأنه عرض فيه غير الأولين "فركبت أم حرام البحر في زمن معاوية بن أبي سفيان" ظاهره يوهم أن ذلك كان في خلافة معاوية وليس كذلك، وقد اغتر بظاهره بعض الناس فوهم، فإن القصة إنما وردت في حق أول من يغزو في البحر، وكان عمر ينهى عن ركوب البحر، فلّما ولي عثمان استأذنه معاوية في الغزو في البحر فأذن له، ونقله أبو جعفر الطبري عن عبد الرحمن بن يزيد بن أسلم. ويكفي في الرد عليه التصريح في الصحيح بأن ذلك كان أول ما غزا المسلمون في البحر. ونقل أيضاً من طريق خالد بن معدان قال: أول من غزا البحر معاوية في زمن عثمان وكان استأذن عمر فلم يأذن له فلم يزل بعثمان حتى أذن له وقال: لا تنتخب أحداً بل من اختار الغزو فيه طائعاً فأعنه ففعل، كذا في الفتح "فصرعت" بصيغة المجهول "عن دابتها حين خرجت من البحر فهلكت" وفي رواية: فلما انصرفوا من غزوهم قافلين إلى الشام قربت إليها دابة لتركبها فصرعت فماتت. وفي رواية عند أحمد: فوقصتها بغلة لها شهباء فوقعت فماتت. وفي رواية: فوقعت فاندقت عنقها. والحاصل أن البغلة الشهباء قربت إليها لتركبها فشرعت لتركب فسقطت فاندقت عنقها فماتت.(5/279)
ـــــــ
تنبيه: قد أشكل على جماعة نومه صلى الله عليه وسلم عند أم حرام وتفليتها رأسه، فقال النووي: اتفق العلماء على أنها كانت محرماً له صلى الله عليه وسلم، واختلفوا في كيفية ذلك، فقال ابن عبد البر وغيره: كانت إحدى خالاته صلى الله عليه وسلم من الرضاعة وقال آخرون: بل كانت خالة لأبيه أو لجده، لأن عبد المطلب كانت أمه من بني النجار انتهى.
قلت: في ادعائه الإنفاق نظر ظاهر، على أن في كونها محرماً له صلى الله عليه وسلم تأملاً، فقد بالغ الدمياطي في الرد على من ادعى المحرمية فقال: ذهل كل من زعم أن أم حرام إحدى خالات النبي صلى الله عليه وسلم من الرضاعة أو من النسب وكل من أثبت لها خؤولة تقتضي محرمية، لأن أمهاته من النسب واللاتي أرضعته معلومات ليس فيهن أحد من الأنصار البتة سوى أم عبد المطلب وهي سلمى بنت عمرو بن زيد بن لبيد بن خراش بن عامر بن غنم بن عدي بن النجار، وأم حرام هي بنت ملحان بن خالد بن زيد بن حرام بن جندب بن عامر المذكور فلا تجتمع أم حرام وسلمى إلا في عامر بن غنم جدهما الأعلى، وهذه خؤولة لا تثبت بها محرمية لأنها خؤولة مجازية، وهي كقوله صلى الله عليه وسلم لسعد بن أبي وقاص: هذا خالي لكونه من بني زهرة وهم أقارب أمة آمنة، وليس سعد أخاً لاَمنة لا من النسب ولا من الرضاعة انتهى.
وذكر ابن العربي عن بعض العلماء أن هذا من خصائصه صلى الله عليه وسلم لأنه كان معصوماً يملك إربه عن زوجته، فكيف عن غيرها مما هو المنزه عنه وهو المبرأ عن كل فعل قبيح وقولة رفث.
ورده عياض بأن الخصائص لا تثبت بالاحتمال وثبوت العصمة مسلم لكن الأصل عدم الخصوصية وجواز الاقتداء به في أفعاله حتى يقوم على الخصوصية دليل.
قيل: يحمل دخوله عليها أنه كان قبل الحجاب. قال الحافظ: ورد بأن ذلك كان بعد الحجاب جزماً، وقد قدمت في أول الكلام على شرحه أن ذلك كان بعد حجة الوداع.
وقال الدمياطي: ليس في الحديث ما يدل على الخلوة بها، فلعل كان ذاك مع ولد أو خادم أو زوج أو تابع. قال الحافظ: وهو احتمال قوي لكنه لا يدفع(5/280)
هذا حديثٌ حسنٌ صحيحٌ.
وأُمّ حَرَامٍ بِنتُ مِلْحَانَ هِيَ أخْتُ أُمّ سُلَيْمٍ، وهي خَالَةُ أنَسٍ بنِ مَالِكٍ.
ـــــــ
الإشكال من أصله لبقاء الملامسة في تفلية الرأس وكذا النوم في الحجر، ثم قال: وأحسن الأجوبة دعوى الخصوصية، ولا يردها كونها لا تثبت إلا بدليل، لأن الدليل على ذلك واضح والله أعلم انتهى.
قوله: "هذا حديث حسن صحيح" وأخرجه أحمد والشيخان وأبو داود والنسائي وابن ماجه(5/281)
باب ماجاء فيمن يقاتل رياء وللدنيا
...
16ـ باب ما جَاءَ فيمَنْ يُقَاتِلُ رِيَاءً وللدّنْيَا
1697ـ حدثنا هَنّادٌ حدثنا أبو مُعَاوِيَةَ عن الأعْمَشِ عن شَقِيق بن سلمة عن أبي مُوسَى قال: "سُئِلَ رسُولُ الله صلى الله عليه وسلم عن الرّجُلِ يُقاتِلُ شَجَاعَةً وَيُقَاتِلُ حَمِيّةً ويُقَاتِلُ رِيَاءً فأَيّ ذَلِكَ في سبيلِ الله؟ قال: "مَنْ قَاتَلَ لِتَكُونَ كَلِمَةُ الله هيَ العُلْيَا فَهُوَ في سَبِيلِ الله" .
ـــــــ
"باب ما جَاءَ فيمَنْ يُقَاتِلُ رِيَاءً وللدّنْيَا"
قوله: "سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الرجل يقاتل شجاعة" أي ليذكر بين الناس ويوصف بالشجاعة "ويقاتل حمية" أي لمن يقاتل لأجله من أهل أو عشيرة أو صاحب "ويقاتل رياء" أي ليرى الناس منزلته في سبيل الله. وفي رواية البخاري في الجهاد ليرى مكانه "من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله" قال الحافظ: المراد بكلمة الله ودعوة الله إلى الإسلام، ويحتمل أن يكون المراد أنه لا يكون في سبيل الله إلا من كان سبب قتاله طلب إعلاء كلمة الله فقط بمعنى أنه لو أضاف إلى ذلك سبباً من الأسباب المذكورة أخل بذلك، ويحتمل أن لا يخل إذا حصل ضمناً لا أصلاً ومقصوداً، وبذلك صرح الطبري(5/281)
وفي البابِ عن عُمرَ.
وهذا حديثٌ حسنٌ صحيحٌ.
ـــــــ
فقال: إذا كان أصل الباعث هو الأول لا يضره ما عرض له بعد ذلك، وبذلك قال الجمهور، لكن روى أبو داود والنسائي من حديث أبو أمامة بإسناد جيد قال: جاء رجل فقال يا رسول الله أرأيت رجلاً غزا يلتمس الأجر والذكر ماله؟ قال لا شيء له، فأعادها ثلاثاً كل ذلك يقول لا شيء له، ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن الله لا يقبل من العمل إلا ما كان له خالصاً وابتغى به وجهه" . ويمكن أن يحمل هذا على من قصد الأمرين معاً على حد واحد فلا يخالف المرجح أولاً، فتصير المراتب خمساً: أن يقصد الشيئين معاً، أو يقصد أحدهما صرفاً، أو يقصد أحدهما ويحصل الآخر ضمناً، فالمحذور أن يقصد غير الإعلاء، فقد يحصل الإعلاء ضمناً وقد لا يحصل، ويدخل تحته مرتبتان، وهذا ما دل عليه حديث أبي موسى ودونه أن يقصدهما معاً فهو محذور أيضاً على ما دل عليه حديث أبي أمامة. والمطلوب أن يقصد الإعلاء صرفاً وقد يحصل غير الإعلاء وقد لا يحصل عير الإعلاء وقد لا يحصل، ففيه مرتبتان أيضاً. قال ابن أبي جمرة: ذهب المحققون إلى أنه إذا كان الباعث الأول قصد إعلاء كلمة الله لم يضره ما انضاف إليه انتهى. قال الحافظ: ويدل على أن دخول غير الإعلاء ضمناً لا يقدح في الإعلاء إذا كان الإعلاء هو الباعث الأصلي ما رواه أبو داود بإسناد حسن عن عبد الله بن حوالة قال: بعثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم على أقدامنا لنغنم فرجعنا ولم نغنم شيئاً فقال: اللهم لا تكلهم إلى الحديث، قال: وفي الحديث بيان أن الأعمال إنما تحتسب بالنية الصالحة، وأن الفضل الذي ورد في المجاهد يختص بمن ذكر، وفي ذم الحرص على الدنيا، وعلى القتال لحظ النفس في غير الطاعة انتهى.
قوله: "وفي الباب عن عمر" أخرجه الترمذي بعد هذا.
قوله: "هذا حديث حسن صحيح" وأخرجه الشيخان وأبو داود والنسائي وابن ماجه.(5/282)
1698ـ حدثنا محمدُ بنُ المثَنّى حدثنا عبدُ الوَهّابِ الثّقَفِيّ عن يَحْيَى بنِ سعيدٍ عن محمدِ بنِ إبراهيم عن عَلْقَمَةَ بنِ وَقّاصٍ اللّيْثِيّ عن عُمَرَ بنِ الْخَطّابِ قال: قالَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: "إنّمَا الأعْمَالُ بالنّيّةِ، وَإِنّمَا لامرئ مَا نَوَى، فَمَنْ كَانَتْ هِجْرَتُهُ إلى الله وإلى رَسُولِهِ فَهِجْرَتُهُ
ـــــــ
قوله: "إنما الأعمال"قال جماهير العلماء من أهل العربية والأصول وغيرهم: لفظه "إنما" موضوعة للحصر نثبت المذكور وتنفي ما سواه، فتقدير هذا الحديث أن الأعمال تحسب بنية ولا تحسب إذا كانت بلا نية قاله النووي: والأعمال أعم من أن تكون أقوالاً أو أفعالاً، فرضاً أو نفلاً، قليلة أو كثيرة، صادرة من المكلفين المؤمنين "بالنية" بالإفراد، ووقع في رواية البخاري في أول صحيحه "بالنيات" بالجمع. قال الحافظ كذا أورد هنا، وهو من مقابلة الجمع بالجمع أي كل عمل بنيته. وقال الحربي: كأنه أشار بذلك إلى أن النية تتنوع كما تتنوع الأعمال، كمن قصد بعمله وجه الله، أو تحصيل موعوده أو الانقاء لوعيده، ووقع في معظم الروايات بإفراد النية، ووجهه أن محل النية القلب وهو متحد فناسب إفرادها، بخلاف الأعمال فإنها متعلقة بالظواهر، وهي متعددة فناسب جمعها، ولأن النية ترجع إلى الإخلاص وهو أحد للواحد الذي لا شريك له انتهى.
قال النووي: والنية القصد وهو عزيمة القلب، وتعقبه الكرماني بأن عزيمة القلب قدر زائد على أصل القصد. وقال البيضاوي: النية عبارة عن انبعاث القلب نحو ما يراه موافقاً لغرض من جلب نفع أو دفع ضرر حالا أو مآلاً، والشرع خصصه بالإرادة المتوجهة نحو الفعل لابتغاء رضا الله وامتثال حكمه، والنية في الحديث محمولة على المعنى اللغوي ليصح تطبيقه على ما بعده، وتقسيمه أحوال المهاجر فإنه تفصيل لما أجمل، ولا بد من محذوف يتعلق به الجار والمجرور، فقيل تعتبر وقيل: تكمل، وقيل: تصح، وقيل: تحصل، وقيل تستقر، وقيل: الكون المطلق، قال البلقيني: هو الأحسن. قال الطيبي: كلام الشارع محمول على بيان الشرع لأن المخاطبين بذلك هم أهل اللسان فكأنهم خوطبوا بما ليس لهم به علم إلا من قبل الشارع فيتعين الحمل على ما يفيد الحكم الشرعي انتهى "وإنما لامريء(5/283)
إلى الله ورَسُولِهِ، ومَنْ كانَتْ هِجْرَتُهُ إلى دُنْيَا يُصِيبُهَا أو امْرَأَةٍ يَتَزَوّجُهَا فَهِجْرَتُهُ إلى ما هَاجَرَ إليهِ" .
ـــــــ
ما نوى" قال الحافظ في الفتح: قال القرطبي: فيه تحقيق لاشتراط النية والإخلاص في الأعمال فجنح إلى أنها مؤكدة. وقال غيره: بل تفيد غير ما أفادته الأولى لأن الأولى نبهت على أن العمل يتبع النية بصاحبها فيترتب الحكم على ذلك، والثانية أفادت أن العامل لا يحصل له إلا ما نواه. وقال ابن دقيق العيد: الجملة الثانية تقتضي أن من نوى شيئاً يحصل له يعني إذا عمله بشرائطه أو حال دون عمله ما يعذر شرعاً بعدم عمله، وكل ما لم ينوه لم يحصل له، ومراده بقوله ما لم ينوه أي لا خصوصاً ولا عموماً أما إذا لم ينو شيئاً مخصوصاً لكن كانت هناك نية عامة تشمله، فهذا مما اختلف فيه أنظار العلماء، ويتخرج عليه من المسائل ما لا يحصي. وقد يحصل غير المتوى لمدرك آخر كمن دخل المسجد فصلى الفرض أو الراتبة قبل أن يقعد فإنه يحصل له تحية المسجد نواها أو لم ينوها، لأن القصد بالتحية شغل البقعة وقد حصل، وهذا بخلاف من اغتسل يوم الجمعة عن الجنابة فإنه لا يحصل له غسل الجمعة على الراجح لأن غسل الجمعة ينظر فيه إلى التعبد لا إلى محض التنظيف فلا بد من القصد إليه بخلاف تحية المسجد والله أعلم.
وقال النووي: أفادت الجملة الثانية اشتراط تعيين المنوي. كمن عليه صلاة فائته لا يكفيه أن ينوي الفائتة فقط حتى يعينها ظهراً مثلاً أو عصراً ولا يخفي أن محله ما إذا لم تنحصر الفائتة "فمن كانت هجرته إلى الله وإلى رسوله فهجرته إلى الله وإلى رسوله" الهجرة الترك، والهجرة إلى الشيء الانتقال إليه عن غيره، وفي الشرع ترك ما نهى الله عنه، وقد وقعت في الإسلام على وجهين: الأول: الانتقال من دار الخوف إلى دار الأمن كما في هجرتي الحبشة وابتداء الهجرة من مكة إلى المدينة. الثاني: الهجرة من دار الكفر إلى دار الإيمان، وذلك بعد أن استقر النبي صلى الله عليه وسلم بالمدينة وهاجر إليه من أمكنه ذلك من المسلمين، وكانت الهجرة إذ ذاك تختص بالانتقال إلى المدينة إلى أن فتحت مكة فانقطع الاختصاص وبقي عموم الانتقال من دار الكفر لمن قدر عليه باقياً.(5/284)
فإن قيل:الأصل تغاير الشرط والجزاء وقد وقعا في هذا الحديث متحدين.
فالجواب: أن التغاير يقع تارة باللفظ وهو الأكثر وتارة بالمعنى ويفهم ذلك من السياق، ومن أمثلته قوله تعالى:{وَمَنْ تَابَ وَعَمِلَ صَالِحاً فَإِنَّهُ يَتُوبُ إِلَى اللَّهِ مَتَاباً}وهو مؤول على إرادة المعهود المستقر في النفس، كقولهم: أنت أنت أي الصديق الخالص، وقولهم: هم هم أي الذين لا يقدر قدرهم، وقول الشاعر:أنا أبو النجم وشعري وشعري، أو هو مؤول على إقامة السبب مقام السبب لاشتهار السبب.وقال ابن مالك:قد يقصد بالخبر الفرد بيان الشهرة وعدم التغير فيتحد بالمبتدأ لفظاً كقول الشاعر:
خليلي خليلي دون ريب وربما ... الآن امرؤ قولاً فظن خليلا
وقد يفعل مثل هذا بجواب الشرط كقولك: من قصدني فقد قصدني أي فقد قصد من عرف بإنجاح قاصده، وقال غيره: إذا اتحد لفظ المبتدأ والخبر والشرط والجزاء علم منهما المبالغة إما في التعظيم وإما في التحقير "إلى الدنيا" بضم الدال وبكسر وهي فعلي من الدنو وهو القرب لدنوها إلى الزوال أو لقربها من الآخرة مناً، ولا تنون لأن ألفها مقصورة للتأنيث أو هي تأنيث أدنى، وهي كافية في منع الصرف وتنويهاً في لغة شاذة، ولإجرائها مجرى الأسماء وخلعها عن الوصفية نكرت كرجعي ولو بقيت على وصفيتها لعرفت كالحسنى. واختلفوا في حقيقتها، فقيل هي اسم مجموع هذا العالم المتناهي، وقيل هي ما على الأرض من الجو والهواء أو هي كل المخلوقات من الجواهر والأعراض الموجودة قبل الآخرة. قال النووي: وهذا هو الأظهر، ويطلق على كل جزاء منها مجازاً وأريد ههنا شيء من الحظوظ النفسانية "يصيبها" أي يحصلها لكن لسرعة مبادرة النفس إليها بالجبلة الأصلية، شبه حصولها بإصابة السهم للغرض، والأظهر أنه حال أي يقصد إصابتها "أو امرأة بتزوجها" خصت بالذكر تنبيهاً على سبب الحديث، وإن كانت العبرة بعموم اللفظ كما رواه الطبراني بسند رجاله ثقات عن ابن مسعود: كان فينا رجل خطب امرأة يقال لها أم قيس فأبت أن تتزوجه حتى يهاجر فهاجر فتزوجها، قال: فكنا نسميه مهاجر أم قيس. وفيه إشارة إلى أنه مع كونه قصد في ضمن الهجرة سنة عظمية أبطل ثواب هجرته فكيف يكون غيره؟ أو دلالة على أعظم فتن الدنيا(5/285)
هذا حديثٌ حسنٌ صحيحٌ.
وقد رَوَى مالكُ بنُ أنَسٍ وسُفْيَانُ الثّوْرِيّ وَغَيْرُ واحِدٍ منَ الأئِمّةِ هذا عن يَحْيَى بن سَعِيدٍ ولا نَعْرِفُهُ إلاّ مِنْ حَدِيثِ يَحْيَى بنِ سَعِيدٍ الأنصاري قال عبد الرحمن بن مهدي: ينبغي أن يضع هذا الحديث في كل باب.
ـــــــ
لقوله تعالى :{زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ} ولقوله عليه السلام:"ما تركت بعدي فتنة أضر على الرجال من النساء" لكن المرأة إذا كانت صالحة تكون خير متاعها ولقوله عليه الصلاة والسلام: "الدنيا كلها متاع وخير متاعها المرأة الصالحة" "فهجرته إلى ما هاجر إليه" أي منصرفة إلى الغرض الذي هاجر إليه فلا ثواب له لقوله تعالى: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الْآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ وَمَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ نَصِيبٍ} أو المعنى فهجرته مردودة أو قبيحة.
قوله: "هذا حديث حسن صحيح" أخرجه الجماعة. قال الحافظ: إن هذا الحديث متفق على صحته أخرجه الأئمة المشهورون إلا الموطأ، ووهم من زعم أنه في الموطأ مغتر بتخريج الشيخين له والنسائي من طريق مالك انتهى.
قلت: قال السيوطي في شرح الموطأ في رواية محمد بن الحسن عن مالك أحاديث يسيرة زائدة على سائر الموطآت منها حديث: إنما الأعمال بالنية الحديث، وبذلك يتبين قول من عزا روايته إلى الموطأ، ووهم من خطأه في ذلك انتهى.
تنبيه: قد تواتر النقل عن الأئمة في تعظيم قدر هذا الحديث. قال أبو عبد الله: ليس في أخبار النبي صلى الله عليه وسلم شيء أجمع وأغنى وأكثر فائدة من هذا الحديث، واتفق عبد الرحمن بن مهدي والشافعي فيما نقله البويطي عنه وأحمد بن حنبل وعلي بن المديني وأبو داود والترمذي والدارقطني وحمزة والكناني على أنه ثلث الإسلام، ومنهم من قال ربعه، واختلفوا في تعيين الباقي. وقال ابن مهدي أيضاً: يدخل في ثلاثين باباً من العلم. وقال الشافعي: يدخل في سبعين باباً، ويحتمل أن يريد بهذا العدد المبالغة. وقال عبد الرحمن بن مهدي أيضاً: ينبغي أن يجعل هذا الحديث رأس كل باب ووجه البيهقي كونه ثلاث العلم بأن كسب العبد يقع بقلبه ولسانه وجوارحه، فالنية أحد أقسامها الثلاثة وأرجحها لأنها قد تكون عبادة مستقلة وغيرها يحتاج إليها، ومن ثم ورد نية المؤمن من خير من عمله، فإذا(5/286)
ـــــــ
نظرت إليها كانت خير الأمرين، وكلام الإمام أحمد يدل على أنه أراد بكونه ثلث العلم أنه أحد القواعد الثلاث التي ترد إليها جميع الأحكام عنده وهي هذا، ومن عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد، والحلال بين والحرام بين.
تنبيه: اعلم أن هذا الحديث المبارك يستأهل أن يفرد لشرحه جزء مبسوط بجيمع فوائده، وما يستنبط منه من الأحكام وغير ذلك، وقد أطنب في شرحه شراح البخاري كالحافظ ابن حجر والعيني وغيرهما إطناباً حسناً مفيداً، وإني قد اقتصرت الكلام في شرحه على ما لا بد منه، فعليك أن تراجع شروح البخاري(5/287)
باب في الغدو والرواح في سبيل الله
...
17ـ باب ما جاء في الغُدُوّ والرّوَاحِ في سبيلِ الله
1699ـ حدثنا عليّ بنُ حُجْرٍ حدثنا إسماعيلُ بنُ جَعْفَرٍ عن حُمَيْدٍ عن أنَسٍ أنّ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم قال: "لَغَدْوَة في سَبِيلِ الله أوْ رَوْحَةٌ خَيْرٌ مِنَ الدّنْيَا وما فيها، ولَقَابُ قَوْسِ أحَدِكُم أو مَوضِعُ يَدِهِ
ـــــــ
"باب ما جاء في الغُدُوّ والرّوَاحِ في سبيلِ الله"
أي الجهاد
قوله: "لغدوة في سبيل الله أو روحه" قال الحافظ: الغدوة بالفتح: المرة الواحدة من الغدو وهو الخروج في أي وقت كان من أول النهار إلى انتصافه، والروحة المرة الواحدة من الرواح وهو الخروج في أي وقت كان من زوال الشمس إلى غروبها "خير من الدنيا وما فيها" قال ابن دقيق العيد: يحتمل وجهين أحدهما أن يكون من باب تنزيل المغيب منزلة المحسوس تحقيقاً له في النفس لكون الدنيا محسوسة في النفس مستعظمة في الطباع، فلذلك وقعت المفاضلة بها، وإلا فمن المعلوم أن جميع ما في الدنيا لا يساوي ذرة مما في الجنة، والثاني أن المراد أن هذا القدر من الثواب خير من الثواب الذي يحصل لمن لو حصلت له الدنيا كلها لأنفقها في طاعة الله تعالى. قال الحافظ: ويؤيد الثاني ما رواه ابن المبارك في كتاب الجهاد من مرسل الحسن قال: بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم جيشاً فيهم عبد الله(5/287)
في الْجَنّةِ خَيْرٌ مِنَ الدّنْيَا وما فيها، وَلَوْ أنّ امْرَأَةً مِنْ نِسَاءِ أهْلِ الْجَنّةِ اطّلَعَتْ إلى الأرضِ لأَضَاءَتْ ما بَيْنَهُمَا ولملأت ما بينهما رِيحاً ولنصِيفُهَا على رأْسِهَا خَيْرٌ مِنَ الدّنْيَا وما فيها" .
هذا حديثٌ صحيحٌ.
ـــــــ
ابن رواحة فتأخر ليشهد الصلاة مع النبي صلى الله عليه وسلم فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: "والذي نفسي بيده لو أنفقت ما في الأرض ما أدركت فضل غدوتهم" . والحاصل أن المراد تسهيل أمر الدنيا وتعظيم أمر الجهاد وأن من حصل له من الجنة قدر سوط يصير كأنه حصل له أمر عظيم من جميع ما في الدنيا، فكيف بمن حصل منها أعلى الدرجات، والنكتة في ذلك أن سبب التأخير عن الجهاد الميل إلى سبب من أسباب الدنيا. فنبه هذا المتأخر أن هذا القدر اليسير من الجنة أفضل من جميع ما في الدنيا "ولقاب قوس أحدكم" أي قدره، والقاب بالقاف وآخره موحدة معناه القدر، وقيل القاب ما بين مقبض القوس وسيته، وقيل ما بين الوتر والقوس، وقيل المراد بالقوس هنا الذراع الذي يقاس به، وكأن المعنى بيان فضل قدر الذراع من الجنة "أو موضع يده شك من الراوي أي مقدار يده "خير من الدنيا وما فيها" أي من إنفاقها فيها لو ملكها، أو نفسها لو ملكها لأنه زائل لا محالة "أطلعت إلى الأرض" أي أشرفت عليها ونظرت إليها "لأضاءت ما بينهما" أي ما بين المشرق والمغرب، أو ما بين السماء والأرض، وما بين الجنة والأرض وهو الأظهر لتحقق ذكرهما في العبارة صريحاً قاله القاري "ولملأت ما بينهما ريحاً" أي طيبة "ولنصيفها" بفتح النون وكسر الصاد المهملة بعدها تحتانية ساكنة ثم فاء هو الخمار بكسر المعجمة وتخفيف الميم "على رأسها" قيد به تحقيراً له بالنسبة إلى خمار البدن جميعه "خير من الدنيا وما فيها" أي فكيف الجنة نفسها وما بها من نعيمها.
قوله: "هذا حديث صحيح" وأخرجه أحمد والشيخان وابن ماجه.(5/288)
1700 ـ حدثنا قُتَيْبَةُ حدثنا العَطّافُ بنُ خالِدٍ المَخْزُومِيّ عن أبي حَازِمٍ عن سَهْلِ بنِ سَعْدِ السّاعِدِيّ قالَ: قالَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: "غُدْوَةٌ في سَبِيلِ الله خَيْرٌ مِنَ الدّنْيَا وما فيها، وموضع سوط في الجنة خير من الدنيا وما فيها" .
وفي البابِ عن أبي هُرَيْرَةَ وابنِ عَبّاسٍ وأبي أيّوبَ وأنَسٍ.
وهذا حديثٌ حسنٌ صحيحٌ.
1701ـ حدثنا أبو سَعِيدٍ الأشَجّ حدثنا أبو خَالِدٍ الأحْمَرُ عن ابنِ
ـــــــ
قوله: "حدثنا العطاف بن خالد المخزومي" قال في التقريب: عطاف بتشديد الطاء بن خالد بن عبد الله بن العاص المخزومي أبو صفوان المدني يهم من السابعة مات قبل مالك انتهى "عن أبي حازم" هو ابن دينار.
قوله: "غدوة" وعند البخاري الروحة والغدوة، وعند ابن ماجه غدوة أو روحة "وموضع سوط في الجنة" خص الصوت لأن من شأن الراكب إذا أراد النزول في منزل أن يلقي سوطه قبل أن ينزل معلماً بذلك المكان لئلا يسبقه إليه أحد.
قوله: "وفي الباب عن أبي هريرة وابن عباس وأبي أيوب وأنس" أما حديث أبي هريرة فأخرجه الترمذي في هذا الباب، وأما حديث ابن عباس فأخرجه أيضاً الترمذي في هذا الباب، وأما حديث أبي أيوب فأخرجه أحمد ومسلم والنسائي، وأما حديث أنس فقد رواه الترمذي وهو أول أحاديث الباب فلعله أشار إلى ما أخرجه أحمد والشيخان وابن ماجه عنه بلفظ: غدوة في سبيل الله أو روحة فيه خير من الدنيا وما فيها.
قوله: "هذا حديث حسن صحيح" وأخرجه الشيخان وغيرهما.(5/289)
عَجْلاَنَ عن أبي حَازِمٍ عن أبي هُرَيْرَةَ عن النبيّ صلى الله عليه وسلم. والْحَجّاجُ عن الحَكَمِ عَنْ مقْسِمٍ عن ابنِ عباسٍ عن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال: "غدْوَةٌ في سَبِيلِ الله أوْرَوْحَةٌ خَيْرٌ مِنَ الدّنْيَا وما فِيهَا" .
هذا حديثٌ حسنٌ غريبٌ. وأبو حَازِمٍ الذي رَوَى عن أبي هُرَيْرَةَ هو أبو حازم الاشجعي الكُوفِيّ واسْمُهُ سَلْمَانُ وهو مَوْلَى عَزّةَ الأشْجَعِيّةِ.
1702ـ حدثنا عُبَيْدُ بنُ أسْبَاطِ بنِ محمد القرشي الكوفي حدثنا أبي عن هِشَامٍ بنِ سَعْدٍ عن سَعِدِ بن أبي هِلاَلٍ عن أبي ذُبَابٍ عن أبي هُرَيْرَةَ قال:
ـــــــ
قوله: "والحجاج عن الحكم" يحتمل أن يكون عطفاً على ابن عجلان فيكون لأبي خالد الأحمر شيخان أحدهما ابن عجلان وهو روى عن أبي حازم عن أبي هريرة والثاني الحجاج وهو روى عن الحكم عن مقسم عن ابن عباس، ويحتمل أن يكون عطفاً على أبي خالد الأحمر فيكون لأبي سعيد الأشج شيخان أحدهما أبو خالد والثاني الحجاج، فليتأمل. والحجاج هذا هو ابن دينار الواسطي، قال في التقريب: لا بأس به وله ذكر في مقدمة مسلم من السابعة انتهى. والحكم هو ابن عتيبة الكندي الكوفي ثقة ثبت فقيه إلا أنه ربما دلس من الخامسة.
قوله: "عن سعيد بن أبي هلال" قال في التقريب: سعيد بن أبي هلال الليثي مولاهم أبو العلاء المصري قبل مدني الأصل وقال ابن يونس: بل نشأ بها، صدوق لم أر لابن حزم في تضعيفه سلفاً، إلا أن الساجي حكى عن أحمد أنه اختلط من السادسة انتهى. وقد وقع في النسخة الأحمدية المطبوعة في الهند عن سعد بن أبي هلال وهو غلط فاحش فإنه ليس في الرجال من اسمه سعد بن أبي هلال "عن ابن أبي ذباب"(5/290)
مَرّ رَجُلٌ مِنْ أصْحَابِ رسول الله صلى الله عليه وسلم بِشِعْبٍ فيهِ عُيَيْنَةٌ مِنْ مَاء عَذْبَةٌ فأعْجَبَتْهُ لِطِيبِهَا، فقال: لَو اعْتَزَلْتُ الناسَ فَأَقَمْتُ في هذا الشّعْبِ وَلَنْ أفْعَلَ حتى أسْتَأْذِنَ رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم، فَذَكَرَ ذلكَ لِرَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم فقال: "لا تَفْعَلْ فإنّ مقَامَ أحَدِكُمْ في سَبيلِ الله أفْضَلُ مِنْ صَلاَتِهِ في بَيْتِهِ سَبْعِينَ عاماً، ألاَ تُحِبّونَ أنْ يَغْفِرَ الله لَكُمْ
ـــــــ
هو عبد الله بن عبد الرحمن بن الحارث بن سعد بن أبي ذباب، بضم المعجمة وموحدتين ثقة من الثالثة.
قوله: "مر رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم بشعب" قال في القاموس: الشعب بالكسر الطريق في الجبل ومسيل الماء في بطن أرض، أما انفرج بين الجبلين انتهى. والظاهر أن المراد هنا هو المعنى الأخير "فيه عيينة" تصغير عين بمعنى المنبع "من ماء" قال الطيبي: صفة عيينة جيء بها مادحه لأن التنكير فيها يدل على نوع ماء صاف تروق بها الأعين وتبهج به الأنفس "عذبه" بالرفع صفة عيينة وبالجر على الجوار أي طيبة أو طيب ماؤها. قال الطيبي: وعذبة صفة أخرى مميزة لأن الطعم الألذ سائغ في المريء، ومن ثم أعجب الرجل وتمنى الاعتزال عن الناس "فأعجبته" أي العيينة وما يتعلق بها من المكان "فقال" أي الرجل "لو اعتزلت الناس" لو للتمني ويجوز أن تكون لو امتناعية، وقوله: "فأقمت في هذا الشعب" عطف على اعتزلت، وجواب لو محذوف أي لكان خيراً لي "فذكر ذلك" أي ما خطر بقلبه "فقال لا نفعل" نهى عن ذلك لأن الرجل صحابي وقد وجب عليه الغزو، فكان اعتزاله للتطوع معصية لاستلزامه ترك الواجب، ذكره ابن الملك تبعاً للطيبي "فإن مقام أحدكم" قال القاري بفتح الميم أي قيامه. وفي نسخة يعني من المشكاة بضمها وهي الإقامة بمعنى ثبات أحدكم "في سبيل الله" أي بالاستمرار في القتال مع الكفار خصوصاً في خدمة سيد الأبرار "أفضل من صلاته في بيته" يدل على أن طلبه كان مفضولاً لا محرماً "سبعين عاماً" قال القاري: المراد به الكثرة لا التحديد فلا ينافي ما ورد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:(5/291)
، ويُدْخلَكُمْ الْجَنّةَ؟ اغْزُوا في سَبِيلِ الله مَنْ قَاتَلَ في سَبِيلِ الله فُوَاقَ نَاقَةٍ وَجَبَتْ لَهُ الْجَنّةُ" .
هذا حديثٌ حَسَنٌ.
ـــــــ
"مقام الرجل في الصف في سبيل الله أفضل عند الله من عبادة الرجل ستين سنة" ، رواه الحاكم عن عمران بن حصين، وقال على شرط البخاري. ورواه ابن عدي وابن عساكر عن أبي هريرة رضي الله عنه ولفظه: قيام أحدكم انتهى. "ألا" بالتخفيف للتنبيه "تحبون أن يغفر الله لكم" أي مغفرة تامة "يدخلكم الجنة" أي إدخالاً أولياً "اغزوا في سبيل الله" أي دوموا على الغزو في دينه تعالى "من قاتل في سبيل الله فواق ناقة" قال في القاموس: الفواق كغراب هو ما بين الحلبتين من الوقت ويفتح، أو ما بين فتح يدك وقبضها على الضرع انتهى. وقال في المجمع: هو ما بين الحلبتين لأنها تحلب ثم تترك سريعة ترضع الفصيل لتدر ثم تحلب انتهى.
قوله: "هذا حديث حسن" وأخرجه الحاكم وقال صحيح على شرط مسلم، ورواه أحمد من حديث أبي أمامة أطول منه إلا أنه قال: ولمقام أحدكم في الصف خير من صلاته ستين سنة، كذا في الترغيب(5/292)
باب ماجاء أي الناس خير
...
18ـ باب ما جاءَ أيّ الناسِ خَيْر
1703ـ حدثنا قُتَيْبَةُ حدثنا ابنُ لَهِيعَةَ عن بُكَيْر بن عبدالله بن الأشَجّ عن عَطَاءِ بنِ يَسَارٍ عن ابنِ عباسٍ أنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم قال: "ألاَ أُخْبِرُكُمْ بِخَيْرِ النّاسِ؟ رَجُلٌ مُمْسِكٌ بِعَنَانِ فَرَسِهِ في سَبِيلِ الله، ألاَ أُخْبِرُكُمْ بالّذِي
ـــــــ
"باب ما جاءَ أيّ الناسِ خَيْر"
قوله: "رجل ممسك بعنان فرسه" وفي رواية: آخذ برأس فرسه "بالذي(5/292)
يَتْلُوهُ؟ رَجُلٌ مُعْتَزِلٌ في غُنَيْمَةٍ له يُؤَدّي حَقّ الله فيها، ألاَ أُخْبِرُكُمْ بِشَرّ النّاسِ؟ رَجُلٌ يُسْأَلُ بالله ولا يُعْطِي بهِ" .
هذا حديثٌ حسنٌ غريبٌ مِنْ هذا الوجْهِ. ويُرْوَى هذا الحديثُ مِنْ غَيْرِ وَجْهٍ عن ابنِ عباسٍ عن النبيّ صلى الله عليه وسلم.
ـــــــ
يتلوه" وفي رواية بالذي يليه "رجل معتزل في غنيمة له" تصغير غنم وهو مؤنث سماعي ولذلك صغرت بالتاء والمراد قطعة غنم، قال النووي: في الحديث دليل لمن قال بتفضيل العزلة على الخلطة وفي ذلك خلاف مشهور، فمذهب الشافعي وأكثر العلماء: أن الاختلاط أفضل بشرط رجاء السلامة من الفتن، ومذهب طوائف من الزهاد أن الاعتزال أفضل، واستدلوا بالحديث: وأجاب الجمهور بأنه محمول على زمان الفتن والحروب، أو فيمن لا يسلم الناس منه ولا يصبر على أذاهم. وقد كانت الأنبياء صلوات الله عليهم وجماهير الصحابة والعلماء والزهاد مختلطين ويحصلون منافع الاختلاط بشهود الجمعة والجماعة والجنائز وعيادة المريض وحلق الذكر وغير ذلك انتهى. "رجل يسأل بالله ولا يعطي به" هذا يحتمل الوجهين أحدهما أن قوله "يسأل" بلفظ وقوله "يعطي" على بناء المعلوم، أي شر الناس من يسأل منه صاحب حاجة بأن يقول اعطني لله وهو بقدر ولا يعطي شيئاً بل يرده خائباً، والثاني أن يكون قوله يسأل على بناء المعلوم وقوله لا يعطي على بناء المفعول، أي يقول اعطني بحق الله ولا يعطي. قال في المجمع: هذا مشكل إلا أن يتهم السائل بعدم استحقاقه. وقال الطيبي: الباء كالباء في كتبت بالقلم أي يسأل بواسطة ذكر الله أو للقسم والاستعطاف أي بقول السائل: اعطوني شيئاً بحق الله. وهذا مشكل إلا أن يكون السائل متهماً بحق الله ويظن أنه غير مستحق انتهى.
قوله: "هذا حديث حسن غريب" وأخرجه النسائي وابن حبان في صحيحه، ورواه مالك عن عطاء بن يسار مرسلاً كذا في الترغيب(5/293)
باب ماجاء فيمن سأل الشهادة
...
19ـ باب ما جاءَ فِيمَنْ سَأَلَ الشّهَادَة
1704ـ حدثنا أحمدُ بنُ مَنِيعٍ حدثنا رَوْحُ بنُ عُبَادَةَ حدثنا ابنُ جُرَيْجٍ عن سُلَيْمانَ بنِ مُوسى عن مالِكِ بنِ يخَامِرَ السّكْسَكِيّ عن مُعَاذِ بنِ جَبَلٍ عن النبيّ صلى الله عليه وسلم قالَ: "من سَأَلَ الله القَتْلَ في سَبِيلِهِ صَادِقاً مِنْ قَلْبِهِ أعْطَاهُ الله أجْر الشهيد" .
هذا حديثٌ حسنٌ صحيحٌ.
1705ـ حدثنا محمدُ بنُ سَهْلِ بنِ عَسْكَرٍ البغدادي حدثنا القَاسِمُ بنُ كَثِيرٍ المصري حدثنا عبدُ الرحمَنِ بنُ شُرَيْحٍ أنّهُ سَمِعَ سَهْلَ بنَ أبي أُمَامَةَ بنِ سَهْلِ بنِ حُنَيْفٍ يُحَدّثُ عن أبيهِ عن جَدّهِ عن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال: "مَنْ
ـــــــ
"باب ما جاءَ فِيمَنْ سَأَلَ الشّهَادَة"
قوله: "عن سليمان بن موسى" الأموي مولاهم الدمشقي الأشدق صدوق فقيه في حديثه بعض لين وخولط قبل موته بقليل من الخامسة "عن مالك بن يخامر" بفتح التحتانية والمعجمة وكسر الميم "السكسكي" الحمصي صاحب معاذ، مخضرم ويقال له صحبة، كذا في التقريب.
قوله: "من سأل الله القتل في سبيله" أي الشهادة "صادقاً من قلبه" قيد به لأنه معيار الأعمال ومفتاح بركاتها "أعطاه الله أجر الشهيد" أي وإن لم يقتل في سبيله.
قوله: "هذا حديث حسن صحيح" وأخرجه النسائي والحاكم كذا في الفتح.
قوله: "حدثنا القاسم بن كثير" بن النعمان الإسكندري أبو العباس القاضي صدوق من العاشرة "حدثنا عبد الرحمن بن شريح" بن عبد الله المعافري أبو شريح الإسكندراني ثقة فاضل لم يصب ابن سعد في تضعيفه من السابعة "أنه سمع سهل بن أبي أمامة(5/294)
سَأَلَ الله الشّهَادَةَ مِنْ قَلْبِهِ صَادِقاً بَلّغَهُ الله مَنَازِلَ الشّهَدَاءِ وإنْ مَاتَ على فِرَاشِهِ" .
هذا حديث سهل بن حنيف حديثٌ حسنٌ غريبٌ لا نعرِفُهُ إلاّ مِنْ حديثِ عبدِ الرحمنِ بنِ شُرَيْحٍ، وقد رَوَاهُ عبدُ الله بنُ صَالحٍ عن عبدِ الرحمَنِ بنِ شُرَيْحٍ. وعبدُ الرحمنِ بنُ شُرَيْحٍ يُكْنَى أبَا شُرَيْحٍ وهو اسْكَنْدَرَانِيّ.
وفي البابِ عن مُعَاذِ بنِ جَبَلٍ.
ـــــــ
ابن سهل بن حنيف" الأناصري المدني نزيل مصر ثقة من الخامسة مات بالإسكندرية "يحدث عن أبيه" أي أبي أمامة بن سهل بن حنيف واسمه أسعد وقيل سعد معروف بكنيته معدود في الصحابة له رؤية ولم يسمع من النبي صلى الله عليه وسلم "عن جده" أي سهل بن حنيف بن واهب الأنصاري الأوسي صحابي من أهل بدر، واستخلفه علي على البصرة ومات في خلافته.
قوله: "من سأل الله شهادة" أي الموت شهيداً "بلغه" بتشديد اللام أي أوصله "الله منازل الشهداء" مجازاة له على صدق طلبه "وإن مات على فراشه" بكسر أوله، أي ولو مات غير شهيد فهو في حكم الشهداء وله ثوابهم. قال القاري: لأن كلا منهما نوى خيراً وفعل مقدوره فاستويا في أصل الأجر انتهى.
قوله: "هذا حديث حسن غريب" وأخرجه مسلم وأبو داود والنسائي وابن ماجه والحاكم.
قوله: "وقد رواه عبد الله بن صالح" بن محمد بن مسلم الجهني أبو صالح المصري كاتب الليث صدوق كثير الغلط ثبت في كتابه وكانت فيه غفلة من العاشرة. قاله في التقريب. وقال في تهذيب التهذيب في ترجمته: روى عن أبي شريح عبد الرحمن بن شريح وغيره. وروى له أبو داود والترمذي وابن ماجه بواسطة الحسن بن علي الخلال.
قوله: "وفي الباب عن معاذ بن جبل" قد أخرج الترمذي حديثه في هذا الباب(5/295)
ـــــــ
فلعله أشار إلى ما روى أبو داود عنه مرفوعاً: "من قاتل في سبيل الله فوافق ناقة فقد وجبت له الجنة، ومن سأل الله القتل من نفسه صادقاً ثم مات أو قتل فإن له أجر شهيد" الحديث(5/296)
باب ماجاء في الماجهد والمكاتب والناكح وعون الله إياهم
...
20ـ باب ما جاءَ في المُجَاهِدِ والنّاكِحِ والمكاتب وعَوْنِ الله إيّاهُم
1706 ـ حدثنا قُتَيْبَةُ حدثنا اللّيْثُ عن ابنِ عَجْلاَنَ عن سَعِيدٍ المَقْبُرِيّ عن أبي هريرةَ قالَ: قالَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: "ثَلاَثَةٌ حَقّ على الله عَوْنُهُمْ: المُجَاهِدُ في سَبِيلِ الله، والمُكَاتَبُ الّذِي يُرِيدُ الأدَاءَ، والنّاكِحُ الّذِي يُرِيدُ العَفَافَ" .
حديثٌ حسنٌ.
ـــــــ
"باب ما جاءَ في المُجَاهِدِ والنّاكِحِ والمكاتب وعَوْنِ الله إيّاهُم"
قوله: "ثلاثة حق على الله عونهم" أي ثابت عنده إعانتهم، أو واجب عليه بمقتضى وعده معاونتهم "المجاهد في سبيل الله" أي بما يتيسر له الجهاد من الأسباب والاَلات "والمكاتب الذي يريد الأداء" أي بدل الكتابة "والناكح الذي يريد العفاف" أي العفة من الزنا. قال الطيبي: إنما آثر هذه الصيغة إيذاناً بأن هذه الأمور من الأمور الشاقة التي تفدح الإنسان وتقصم ظهره، لولا أن الله تعالى يعينه عليها لا يقوم بها، وأصعبها العفاف لأنه قمع الشهوة الجبلية المركوزة فيه، وهي مقتضى البهيمة النازلة في أسفل السافلين، فإذا استعف وتداركه عون الله تعالى ترقى إلى منزلة الملائكة وأعلى عليين.
قوله: "هذا حديث حسن" وأخرجه أحمد والنسائي وابن ماجه وابن حبان في صحيحه والحاكم وقال صحيح على شرط مسلم.(5/296)
1707ـ حدثنا أحمدُ بنُ مَنِيعٍ حدثنا رَوْحُ بنُ عُبَادَةَ حدثنا ابنُ جُرَيْجٍ عن سُلَيْمَانَ بنِ موسى عن مالِكِ بنِ يخَامِرَ عن مُعَاذِ بنِ جَبَلٍ عن النبيّ صلى الله عليه وسلم قالَ: "مَنْ قَاتَلَ في سَبِيلِ الله مِنْ رَجُلٍ مُسْلِمٍ فُوَاقَ نَاقَةٍ وَجَبَتْ لَهُ الْجَنّةُ، ومَنْ جُرِحَ جُرْحاً في سَبِيلِ الله أو نُكِبَ نَكْبَةً فإنها تَجِيءُ يَوْمَ القِيَامَةِ كأَغْزَرَ ما كانَتْ لَوْنُهَا الزّعْفَرَانُ ورِيحُهَا كالمسْكِ" .
ـــــــ
قوله:"ومن جرح"بصيغة المجهول "جرحاً"بضم الجيم وبالفتح هو المصدر أي جراحة كائنة "في سبيل الله" بسلاح من عدو "أو نكب" بصيغة المجهول أو أصيب "نكبة" بالفتح أي حادثة فيها جراحة من غير العدو، فأو للتنويع، قيل الجرح والنكبة كلاهما واحد، وقيل الجرح ما يكون من فعل الكفار والنكبة الجراحة التي أصابته من وقوعه من دابته أو وقوع سلاح عليه. قال القاري هذا هو الصحيح. وفي النهاية نكب أصبعه أي نالتها الحجارة، والنكبة ما يصيب الإنسان من الحوادث "فإنها" أي النكبة التي فيها الجراحة "تجيء يوم القيامة" قال الطيبي: قد سبق شيئان الجرح والنكبة وهي ما أصابه في سبيل الله من الحجارة فأعاد الضمير إلى النبكة، دلالة على أن حكم النكبة إذا كان بهذه المثابة فما ظنك بالجرح بالسنان والسيف، ونظيره قوله تعالى: {وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلا يُنْفِقُونَهَا} انتهى. قال القاري: أو يقال إفراد الضمير باعتبار أن مؤداهما واحد وهي المصيبة الحادثة في سبيل الله فهي تظهر وتتصور "كأغزر ما كانت" أي كأكثر أوقات أكوانها في الدنيا. قال الطيبي: الكاف زائدة وما مصدرية والوقت مقدر يعني حينئذ تكون غزارة دمه أبلغ من سائر أوقاته انتهى "لونها الزعفران وريحها كالمسك" كل منهما تشبيه بليغ.
قوله: "هذا حديث صحيح" وأخرجه أبو داود والنسائي وابن ماجه وابن حبان في صحيحه والحاكم، وقال صحيح على شرطهما كذا في الترغيب(5/297)
باب ماجاء في فضل من يكلم في سبيل الله
...
21ـ باب ما جاءَ فيمن يُكْلَمُ في سَبِيلِ الله
1708ـ حدثنا قُتَيْبَةُ حدثنا عبدُ العزيزِ بنُ محمدٍ عن سُهَيْلِ بنِ أبي صَالِحٍ عن أبيه عن أبي هُرَيْرَةَ قالَ:قالَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: "لاَ يُكلَمُ أحَدٌ في سَبِيلِ الله ـ والله أعْلَمُ بِمَنْ يُكلَمُ في سَبِيلِهِ ـ إلاّ جاءَ يَوْمَ القِيَامَةِ اللّوْنُ لَوْن الدّمِ، والريْحُ ريحُ المِسْكِ" .
هذا حديثٌ حسنٌ صحيحٌ. وقد رُوِيَ مِنْ غَيْرِ وَجْهٍ عن أبي هُرَيْرَةَ عن النبيّ صلى الله عليه وسلم.
ـــــــ
"باب ما جاءَ فيمن يُكْلَمُ في سَبِيلِ الله"
قوله: "لا يكلم" بضم أوله وسكون الكاف وفتح اللام أي يجرح "أحد في سبيل الله" قال السيوطي: أي سواء مات صاحبه منه أم لا كما يؤخذ من رواية الترمذي "والله أعلم بمن يكلم في سبيله" جملة معترضة بين المستثنى والمستثنى منه. قال النووي: هذا تنبيه على الإخلاص في الغزو، وأن الثواب المذكور فيه إنما هو لمن أخلص فيه وقاتل لتكون كلمة الله هي العليا. قالوا: وهذا الفضل وإن كان ظاهره أنه في قتال الكفار، فيدخل فيه من خرج في سبيل الله في قتال البغاة وقطاع الطريق وفي إقامة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ونحو ذلك "إلا جاء يوم القيامة اللون لون الدم والريح ريح المسك" وفي رواية مسلم: إلا جاء يوم القيامة وجرحه يثعب، اللون لون الدم والريح ريح مسك. قال النووي: قوله صلى الله عليه وسلم: "وجرحه يثعب" هو بفتح الياء والعين وإسكان المثلثة بينهما ومعناه يجري متفجراً أي كثيراً، قال: والحكمة في مجيئه يوم القيامة كذلك أن يكون معه شاهد فضيلته وبذله نفسه في طاعة الله تعالى انتهى.
قوله: "هذا حديث صحيح" وأخرجه الشيخان والنسائي(5/298)
باب أي الأعمال أفضل
...
22ـ باب ما جاء أي الأَعْمَال أَفْضَل
1709 ـ حدثنا أبو كُرَيْبٍ حدثنا عَبْدَةُ بن سليمان عن محمدِ بنِ عَمْرٍو حدثنا أبو سَلَمَةَ عن أبي هُرَيْرَةَ رَضِيَ الله عنهُ قال: "سُئِلَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: أيّ الأَعْمَالِ أَفْضَلُ وأي الأعمال خير؟ قالَ: إيمانٌ بالله ورَسُولِهِ ، قيلَ: ثُمّ أيّ شَيْءٍ؟ قَالَ: الجهَادُ سنَامُ العَمَلِ ، قيلَ: ثُمّ أيّ شَيْء يَا رَسُولَ الله؟ قالَ: ثمّ حَجّ مَبْرُورٌ ".
هذا حديثٌ حسنٌ صحيحٌ قد روِيَ مِنْ غَيْرِ وَجْهٍ عن أبي هُرَيْرَةَ عن النبيّ صلى الله عليه وسلم.
ـــــــ
"باب ما جاء أي الأَعْمَال أَفْضَل"
"حدثنا عبدة" هو ابن سليمان الكلابي أبو محمد الكوفي "عن محمد بن عمرو" ابن علقمة بن وقاص الليثي المدني.
قوله: "إيمان" التنكير للتفخيم "قيل: ثم أي شيء؟ قال: الجهاد سنام العمل" وفي رواية البخاري: قيل ثم ماذا؟ قال: الجهاد في سبيل الله، وهو ظاهر. وأما رواية الترمذي هذه، فالظاهر أن الجواب فيها محذوف وأقيم دليله مقامه، والتقدير: قيل ثم أي شيء؟ قال الجهاد في سبيل الله فإنه سنام العمل. هذا ما عندي والله أعلم. وسنام كل شيء أعلاه "ثم حج مبرور" قال في النهاية: الحج المبرور هو الذي لا يخالطه شيء من المآثم، وقيل هو: المقبول المقابل بالبر وهو الثواب، يقال بر حجه وبر حجه وبر الله حجه وأبره براً بالكسر وأبراراً انتهى.
قوله: "هذا حديث حسن صحيح" وأخرجه الشيخان والنسائي(5/299)
23ـ باب
1710ـ حدثنا قُتَيْبَةُ حدثنا جَعْفَرُ بنُ سُلَيْمَانَ الضّبَعِيّ عن أبي عِمْرَانَ الْجَوْنِيّ عن أبي بَكْرِ بنِ أبي مُوسَى الأَشْعَرِيّ قالَ: سَمِعْتُ أبِي بِحَضْرَةِ العَدُوّ يقولُ: قالَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: " إنّ أبْوَابَ الْجَنّةِ تَحْتَ ظِلاَلِ السّيُوفِ" ، فقالَ رَجُلٌ مِنَ الْقَوْمِ رَثّ الْهَيْئَةِ: أأنْتَ سَمِعْتَ هذا من رَسولِ الله صلى الله عليه وسلم يَذْكُرُه؟ قالَ: نَعَمْ، فَرَجَعَ إلى أصْحَابِهِ فقالَ: أَقْرَأ عَلَيْكُمُ السّلاَمَ، وَكَسَرَ جَفْنَ سَيْفِهِ فَضَرَبَ بهِ حتى قُتِلَ".
هذا حديثٌ صحيح غريبٌ لا نَعْرِفُهُ إلاّ مِنْ حديثِ جَعْفَرِ بنِ سُلَيْمانَ
ـــــــ
"باب"
قوله: "بحضرة العدو" قال النووي: هو بفتح الحاء وضمها وكسرها ثلاث لغات، ويقال أيضاً بحضر الفتح الحاء والضاد بحذف الهاء انتهى "أن أبواب الجنة تحت ظلال السيوف" قال النووي في شرح مسلم: قال العلماء معناه أن الجهاد وحضور معركة القتال طريق إلى الجنة وسبب لدخولها. وقال المناوي: هو كناية عن الدنو من العدو في الحرب بحيث تعلوه السيوف بحيث يصير ظلها عليه يعني الجهاد طريق إلى الوصول إلى أبوابها بسرعة، والقصد الحث على الجهاد "رث الهيئة" قال في النهاية: متاع رث أي خلق بال "فرجع" أي الرجل "إلى أصحابه" أي من أهل رحله "قال أقرأ عليكم السلام" أي سلام مودع "وكسر جفن سيفه" هو بفتح الجيم وإسكان الفاء وبالنون: وهو غمده "فضرب به حتى قتل" وفي رواية مسلم: ثم كسر جفن سيفه فألقاه ثم مشى بسيفه إلى العدو فضرب به حتى قتل.
قوله: "هذا حديث حسن غريب" وأخرجه أحمد ومسلم.(5/300)
وأبو عِمْرَانَ الْجَوْنِيّ اسْمُهُ عبدُ المَلِكِ بنُ حَبِيبٍ. وأبو بَكْرِ بن أبي مُوسَى قالَ أحمدُ بنُ حَنْبلٍ هُوَ اسْمُهُ.
ـــــــ
قوله: "هو اسمه" يعني اسمه كنيته(5/301)
باب ماجاء أي الناس أفضل
...
24ـ باب ما جاءَ أيّ النّاسِ أفْضَل
1711ـ حدثنا أبو عَمّارٍ حدثنا الوَلِيدُ بنُ مُسْلِمٍ عن الأوْزَاعِيّ حدثنا الزّهْرِيّ عَنْ عَطَاءِ بنِ يَزِيدَ اللّيْثِيّ عَنْ أبي سَعِيدٍ الْخُدْرِيّ قالَ: "سُئِلَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم أيّ النّاسِ أفْضَلُ؟ قالَ: رَجُلٌ يُجَاهِدُ في سَبِيلِ الله ، قالوا: ثُمّ مَنْ؟ قالَ: ثم مُؤْمِنٌ في شِعْبٍ مِنَ الشّعَابِ يَتّقِي رَبّهُ وَيَدَعُ النّاسَ منْ شَرّهِ ".
ـــــــ
"باب ما جاءَ أيّ النّاسِ أفْضَل"
قوله: "أي الناس أفضل؟" قال القاضي: هذا عام مخصوص وتقديره: هذا من أفضل الناس، وإلا فالعلماء أفضل وكذا الصديقون كما جاءت به الأحاديث "رجل" وفي رواية الشيخين: مؤمن بدل رجل، قال الحافظ: وكان المراد بالمؤمن من قام بما تعين عليه القيام به ثم حصل هذه الفضيلة، وليس المراد من اقتصر على الجهاد وأهمل الواجبات العينية، وحينئذ يظهر فضل المجاهدات لما فيه من بذل نفسه وماله لله تعالى، ولما فيه من النفع المتعدي، وإنما كان المؤمن المعتزل يتلوه في الفضيلة لأن الذي يخالط الناس لا يسلم من ارتكاب الآثام فقد لا يفي هذا بهذا وهو مقيد بوقوع الفتن انتهى "يجاهد في سبيل الله" زاد الشيخان: بنفسه وماله "ثم مؤمن" وفي رواية لمسلم: ثم رجل معتزل "في شعب من الشعاب" قال النووي: الشعب ما انفرج بين الجبلين وليس المراد نفس الشعب بل المراد الانفراد والاعتزال وذكر الشعب مثالاً لأنه خال عن الناس غالباً. قال الحافظ: وفي الحديث فضل الانفراد لما فيه من السلامة من الغيبة واللغو ونحو ذلك، وأما اعتزال الناس(5/301)
هذا حديثٌ صحيحٌ.
ـــــــ
أصلاً فقال الجمهور: محل ذلك عند وقوع الفتن كما سيأتي بسطه في الفتن، ويؤيد ذلك رواية بعجة بن عبد الله عن أبي هريرة مرفوعاً: "يأتي على الناس زمان يكون خير الناس فيه منزلة من أخذ بعنان فرسه في سبيل الله يطلب الموت في مظانه، ورجل في شعب من هذه الشعاب يقيم الصلاة ويؤتي الزكاة ويدع الناس إلا من خير" . أخرجه مسلم وابن حبان من طريق أسامة بن زيد الليثي عن بعجة. قال ابن عبد البر: إنما وردت هذه الأحاديث بذكر الشعب والجبل لأن ذلك في الأغلب يكون خالياً من الناس، فكل موضع يبعد عن الناس فهو داخل في هذا المعنى انتهى "يتقي ربه" أي يخافه فيما أمر ونهى "ويدع" أي يترك "الناس من شره" فلا يخاصمهم ولا ينازعهم في شيء.
قوله: "هذا حديث حسن صحيح" وأخرجه أحمد والشيخان وأبو داود والنسائي وابن ماجه والحاكم بإسناد على شرطهما ولفظه قال: عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه سئل أي المؤمنين أكمل إيماناً؟ قال "الذي يجاهد بنفسه وماله، ورجل يبعد الله في شعب من الشعب وقد كفى الناس شره" . كذا في الترغيب(5/302)
25ـ باب
1712ـ حدثنا عبدُ الله بنُ عبدِ الرحمَنِ حدثنا نُعَيْمُ بنُ حَمّادٍ حدثنا بَقِيّةُ بنُ الوَلِيدِ عن بَجيرِ بنِ سَعِدٍ عن خَالِدِ بنِ مَعْدَانَ عن المِقْدَامِ بنِ
ـــــــ
"باب"
"حدثنا نعيم بن حماد" بن معاوية بن الحارث الخزاعي أبو عبد الله المروزي نزيل مصر، صدوق يخطيء كثيراً أففيه عارف بالفرائض من العاشرة، وقد تتبع ابن عدي ما أخطأ فيه وقال: باقي حديثه مستقيم، كذا في التقريب "عن بحير" بكسر المهملة "بن سعيد" السحولي كنيته أبو خالد الحمصي ثقة ثبت من السادسة، وقد وقع في النسخة الأحمدية المطبوعة عن بحير بن سعد وهو غلط، فإنه ليس في الرجال من اسمه بحير بن سعد.(5/302)
مَعْدِ يكَرِبَ قال: قالَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: "للشّهِيدِ عندَ الله سِتّ خِصَالٍ: يُغْفَرُ لَهُ في أَوّلِ دُفْعَةٍ ويرَى مَقْعَدَهُ مِنَ الْجَنّةِ، ويُجَارُ مِنْ عَذَابِ القَبْرِ، وَيَأْمَنُ مِنَ الفَزَعِ الأكْبَرِ، وَيُوضَعُ على رأْسِهِ تَاجُ الوَقَارِ، اليَاقُوتَةُ منها خَيْرٌ مِنَ الدّنْيَا وما فيها، ويُزَوّجُ اثْنَتَيْنِ وسْبعِينَ زَوْجَةً مِنَ الْحُورِ "الْعِينِ" ، وَيُشَفّعُ في سَبْعِينَ مِنْ أقَارِبِهِ" .
ـــــــ
قوله: "للشهيد عند الله ست خصال" لا يوجد مجموعها لأحد غيره "يغفر له" بصيغة المجهول "في أول دفعة" بضم الدال المهملة وسكوت الفاء هي الدفقة من الدم وغيره قاله المنذري: أي تمحي ذنوبه في أول صبة من دمه. وقال في اللمعات: الدفعة بالفتح المرة من الدفع، وبالضم الدفعة من المطر، والرواية في الحديث بوجهين وبالضم أظهر أي يغفر للشهيد في أول صبة من دمه "ويرى" بضم أوله على أنه من الإراءة ويفتح "مقعده" منصوب على أنه مفعول ثان والمفعول الأول نائب الفاعل أو على أنه مفعول به وفاعله مستكن في يرى وقوله "من الجنة" متعلق به. قال القاري: وينبغي أن يحمل قوله "ويرى مقعده" على أنه عطف تفسير لقوله يغفر له لئلا يزيد الخصال على ست، ولئلا يلزم التكرار في قوله "ويجار من عذاب القبر" أي يحفظ ويؤمن إذ الإجارة مندرجة في المغفرة إذا حملت على ظاهرها روى "يأمن من الفزع الأكبر" قال القاري: فيه إشارة إلى قوله تعالى: {لا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الْأَكْبَرُ} قيل هو عذاب النار، وقيل العرض عليها، وقيل هو وقت يؤمر أهل النار بدخولها، وقيل ذبح الموت فييأس الكفار من التخلص من النار بالموت، وقيل وقت إطباق النار على الكفار، وقيل النفخة الأخيرة لقوله تعالى: {وَيَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ فَفَزِعَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ} انتهى "ويوضع على رأسه تاج الوقار" أي تاج هو سبب العزة والعظمة. وفي النهاية: التاج ما يصاغ للملوك من الذهب والجواهر "الياقوتة منها" أي من التاج، والتأنيث باعتبار أنه علامة العز والشرف أو باعتبار أنه مجموع من الجواهر وغيرها "ويزوج" أي يعطي بطريق الزوجية "اثنتين وسبيعن زوجة" في التقييد بالثنتين والسبعين إشارة إلى أن المراد به التحديد(5/303)
هذا حديث حسن صحيح غريب
1713-حدثنا محمد بن بشار حدثنا معاذ بن هشام حدثني أبي عن قتادة حدثنا أنس بن مالك قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "ما من أحد من أهل الجنة يسره أن يرجع إلى الشهيد فإنه يحب أن يرجع إلى الدنيا يقول حتى أقتل عشر مرات في سبيل الله مما يرى مما أعطاه من الكرامة"
ـــــــ
لا التكثير، ويحمل على أن هذا أقل ما يعطي ولا مانع من التفضل بالزيادة عليها قاله القاري "من الحور العين" أي نساء الجنة، واحدتها حوراء وهي الشديدة بياض العين الشديدة سوادها، والعين جمع عيناء وهي الواسعة العين "ويشفع" بفتح الفاء المشددة على بناء المجهول أي يقبل شفاعته.
قوله: "هذا حديث صحيح غريب" وأخرجه ابن ماجه.
قوله: "غير الشهيد" قال النووي: اختلف في سبب تسميته شهيداً فقال النضر بن شميل لأنه حي فإن أرواحهم شهدت وحضرت دار السلام، وأرواح غيرهم إنما تشهدها يوم القيامة. وقال ابن الأنباري: إن الله تعالى وملائكته عليهم الصلاة والسلام يشهدون له بالجنة. وقيل لأنه شهد عند خروج روحه ما أعده الله تعالى من الثواب والكرامة. وقيل لأن ملائكة الرحمة يشهدونه فيأخذون روحه، وقيل لأنه شهد له بالإيمان وخاتمة الخير بظاهر حاله، وقيل لأنه ممن يشهد على الأمم يوم القيامة بإبلاغ الرسل الرسالة إليهم، وعلى هذا القول يشاركهم غيرهم في هذا الوصف انتهى "فإنه يحب أن يرجع إلى الدنيا يقول حتى أقتل عشر مرات" وفي رواية الشيخين: فإنه يتمنى أن يرجع إلى الدنيا فيقتل عشر مرات "مما يرى مما أعطاه الله من الكرامة" وفي رواية لمسلم: لما يرى من فضل الشهادة. قال ابن بطال: هذا الحديث أجل ما جاء في فضل الشهادة قال: وليس في أعمال البر ما تبذل فيه النفس غير الجهاد، فلذلك عظم فيه الثواب.(5/304)
هذا حديثٌ حسنٌ صحيحٌ غريبٌ.
1714- حدثنا محمد بن بشار حدثنا محمد بن جعفر حدثنا شعبة عن قتادة عن أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم نحوه بمعناه.
1715ـ حدثنا أبو بَكْرِ بنِ أبي النّضْرِ حدثنا أبو النّضْرِ البغدادي حدثنا عبدُ الرحمنِ بنُ عبدِ الله بنِ دِينَارٍ عن أبي حَازِمٍ عَنْ سَهْلِ بنِ سَعْدٍ أنّ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم قالَ: "رِبَاطُ يَوْمٍ في سَبِيلِ الله خَيْرٌ مِنَ الدّنْيَا وَمَا فيْهَا، وموضع سوط أحدكم في الجنة خير من الدنيا وما فيها ولرّوْحَةُ يَرُوحُهَا العَبْدُ في سَبِيلِ الله أو لغَدْوَةُ خَيْرٌ مِنَ الدّنْيَا وَمَاعليها" .
1716ـ حدثنا ابنُ أبي عُمَرَ حدثنا سُفْيَانُ بن عينية حدثنا محمدُ بنُ المُنْكَدِرِ قال: مَرّ سَلْمَانُ الفَارِسِيّ بشُرَحْبِيلَ بنِ السّمْطِ وهو في مُرَابَطٍ لَهُ وقد شقّ
ـــــــ
قوله: "هذا حديث حسن صحيح" وأخرجه الشيخان.
قوله: "رباط يوم" أي ارتباط الخيل في الثغر والمقام فيه. قال في النهاية: الرباط في الأصل الإقامة على جهاد العدو بالحرب، وارتباط الخيل وإعدادها، والمرابطة أن يربط الفريقان خيولهم في ثغر كل منهما معد لصحابه، فسمى المقام في الثغور رباطاً، فيكون الرباط مصدر رابطت أي لازمت انتهى.
قوله: "هذا حديث صحيح" وأخرجه البخاري ومسلم وغيرها، كذا في الترغيب. وقال المناوي: وهو من عزاه لمسلم.
قوله: "مر سلمان الفارسي" أبو عبد الله، ويقال له سلمان الخير، أصله من أصبهان، وقيل من رامهر مز، من أول مشاهده الخندق، مات سنة أربع وثلاثين، يقال بلغ ثلاثمائة سنة، كذا في التقريب. وقال في تهذيب التهذيب في ترجمته:(5/305)
عليه وعلى أصْحَابِهِ، فقالَ:ألاَ أُحَدّثُكَ يا ابنَ السّمْط بِحَدِيثٍ سَمِعْتُهُ مِن رسولِ الله صلى الله عليه وسلم؟ قال: بَلَى، قال:سَمِعْتُ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم يقولُ: "رِبَاطُ يَوْمٍ في سَبِيلِ الله أفْضَلُ ورُبّمَا قَالَ خَيْرٌ مِنْ صِيَامِ شَهْرٍ وَقِيَامِهِ، ومَنْ مَاتَ فِيهِ وُقِيَ فِتْنَةَ القَبْرِ، ونُمِيَ لَهُ عَمَلُهُ إلى يَوْمِ القيامةِ" .
ـــــــ
قال أبو عبد الله بن مندة وكان أدرك وصي عيسى بن مريم عليه الصلاة والسلام فيما قيل وعاش مائتين وخمسين سنة أو أكثر. وقال أبو الشيخ:سمعت جعفر ابن أحمد بن فارس يقول: سمعت العباس بن يزيد يقول لمحمد بن النعمان: أهل العلم يقولون: عاش سلمان ثلاث مائة وخمسين، فأما مائتين وخمسين فلا يشكون فيه. قال الحافظ: قد قرأت بخط أبي عبد الله الذهبي: رجعت عن القول بأنه قارب الثلاثمائة، أو زاد عليها وتبين لي أنه ما جاوز الثمانين، ولم يذكر مستنده في ذلك والعلم عند الله انتهى "بشرحبيل بن السمط" بكسر المهملة وسكون الميم الكندي الشامي، جزم ابن سعد بأن له وفادة ثم شهد القادسية وفتح حمص وعلم عليها لمعاوية، كذا في التقريب. وقال في تهذيب التهذيب: مختلف في صحبته.
قوله: "وهو في مرابط له" اسم ظرف من الرباط قوله: "وقد شق" أي صعب القيام فيه قوله: "رباط يوم" وفي رواية مسلم: يوم وليلة "وربما قال خير" أي مكان أفضل "من صيام شهر وقيامه" قال الحافظ في الفتح: قال ابن بزبزة: لا تعارض بين حديث سلمان: "رباط يوم وليلة خير من صيام شهر وقيامه" ، وبين حديث عثمان: "رباط يوم في سبيل الله خير من ألف يوم فيما سواه من المنازل" ، لأنه يحمل على الإعلام بالزيادة في الثواب على الأول، أو باختلاف العاملين انتهى. "وفي فتنة القبر" أي مما يفتن المقبور به من ضغطة القبر والسؤال والتعذيب "ونمى" ضبط في النسخة الأحمدية بضم النون وكسر الميم بصيغة المجهول، والظاهر أن يكون بفتح النون والميم على البناء للفاعل فإنه لازم. قال في الصراح: نمو بضمتين كواليدن يعني نمو كردن وباليدن نبات وحيوان. وقال في القاموس: نما ينمو نمواً زاد كنما ينمى ونمياً ونماء انتهى "له عمله إلى يوم القيامة" يعني أن ثوابه مجرى له دائماً ولا ينقطع بموته، وفي رواية مسلم: جرى عليه عمله الذي كان يعمله(5/306)
هذا حديثٌ حسنٌ.
1717ـ حدثنا عليّ بنُ حُجْرٍ حدثنا الوَليدُ بنُ مُسْلِمٍ عن إسماعيلَ بن رَافِعٍ عن سُمّي عن أبي صَالحٍ عن أبي هُرَيْرَةَ قالَ: قالَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: "مَنْ لَقِيَ الله بِغَيْرِ أثَرٍ مِنْ جِهَادٍ لَقِيَ الله وفِيهِ ثُلْمَةٌ" .
ـــــــ
وأجرى عليه رزقه وأمن من الفتان. قال النووي: هذه فضيلة ظاهرة للمرابط: وجريان عمله عليه بعد موته فضيلة مختصة به، لا يشاركه فيها أحد، وقد جاء صريحاً في غير مسلم: "كل ميت يختم عليه عمله إلا المرابط فإنه ينمى له عمله إلى يوم القيامة" انتهى.
"هذا حديث حسن" وأخرجه أحمد ومسلم والنسائي وابن حبان والطبراني وفي سند الترمذي انقطاع كما صرح به الترمذي فيما بعد.
قوله: "عن إسماعيل بن رافع" بن عويمر الأنصاري المدني نزيل البصرة يكنى أبا رافع ضعيف الحفظ من السابعة "عن سمى" بصيغة التصغير مولى أبي بكر ابن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام ثقة من السادسة.
قوله: "من لقي الله بغير أثر من جهاد" قال القاري في المرقاة: الأثر بفتحتين ما بقي من الشيء دالاً عليه، قاله القاضي، والمراد هنا العلامة أي من مات بغير علامة من علامات الغزو من جراحه أو غبار طريق أو تعب بدن أو صرف مال أو تهيئة أسباب وتهبه أسلحة انتهى "لقي الله" أي جاء يوم القيامة "وفيه ثلمة" بضم المثلثة وسكون اللام أي خلل ونقصان بالنسبة إلى كمال سعادة الشهادة ومجاهدة المجاهدة، ويمكن أن يكون الحديث مقيداً بمن فرض عليه الجهاد ومات من غير الشروع في تهيئة الأسباب الموصلة إلى المراد، قاله القاري وقال المناوي: قبل وذا خاص بزمن النبي صلى الله عليه وسلم. وقال الطيبي: قوله: "من جهاد" صفة أثر وهي نكرة في سياق النفي فتعم كل جهاد مع العدو والنفس والشيطان، وكذلك الأثر بحسب اختلاف المجاهدة، قال تعالى: {سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ} والثلمة ههنا مستعارة للنقصان وأصلها أن تسعتمل في نحو الجدار، ولما شبه الإسلام(5/307)
هذا حديثٌ غريبٌ مِنْ حديثِ الوَلِيدِ بن مُسْلِمٍ عن إسماعيلَ بنِ رَافِعٍ. وإسماعيلُ بنُ رَافِعٍ قد ضَعّفَهُ بَعْضُ أصحاب الحديثِ. قال وَسَمِعْتُ محمداً يَقُولُ: هُوَ ثِقَةٌ مُقَارِبُ الحدِيثِ.
وقد رُوِيَ هذا الحديثُ مِنْ غَيْرِ هذا الوجْهِ عن أبي هُرَيْرَةَ عن النبيّ صلى الله عليه وسلم. وحديثُ سَلْمَانَ إسْنَادُهُ لَيْسَ بِمُتّصِلٍ. محمدُ بنُ المُنْكَدِرِ لَمْ يُدْرِكْ سَلْمَانَ الفَارِسِيّ.
وقد رُوِيَ هذا الحديثُ عن أيّوبَ بنِ مُوسَى عن مَكْحُولٍ عن شُرَحْبِيلَ بنِ السّمْطِ عن سَلْمَانَ عنِ النبيّ صلى الله عليه وسلم.
1718ـ حدثنا الحسَنُ بنُ عليّ الْخَلاّلُ حدثنا هِشَامُ بنُ عبدِ المَلِكِ حدثنا اللّيْثُ بنُ سَعْدٍ حدثني أبو عَقِيْلٍ زُهْرَةُ بنُ مَعْبَدٍ عَنْ أبي صَالِحٍ مَوْلَى
ـــــــ
بالبناء في قوله: بني الإسلام على خمس، جعل كل خلل فيه ونقصان ثلمة على سبيل الترشيح، وهذا أيضاً يدل على العموم انتهى.
قوله: "هذا حديث غريب الخ" وأخرجه ابن معاوية والحاكم "وسمعت محمداً" يعني البخاري "يقول هو ثقة مقارب الحديث" قد تقدم معنى مقارب الحديث وضبطه في المقدمة "وقد روى هذا الحديث عن أيوب بن موسى" بن عمرو بن سعيد بن العاص كنيته أبو موسى المكي الأموي ثقة من السادسة "عن مكحول عن شرحبيل بن السمط عن سلمان عن النبي صلى الله عليه وسلم نحوه" أخرجه مسلم في صحيحه بهذا السند.
قوله: "حدثنا هشام بن عبد الملك" مولاهم أبو الوليد الطيالسي البصري ثقة ثبت من التاسعة "حدثنا الليث بن سعد" بن عبد الرحمن الفهمي أبو الحارث المصري ثقة ثبت فقيه إمام مشهور من السابعة "حدثني أبو عقيل" بالفتح "زهرة"(5/308)
عثمانَ بن عفان، قال: سَمِعْتُ عثمانَ وهُوَ على المِنْبَرِ يقولُ: إني كَتَمْتُكُمْ حديثاً سَمِعْتُهُ مِن رسولِ الله صلى الله عليه وسلم كَرَاهِيَةَ تَفَرّقِكُمْ عَنّي ثم بَدَا لِي أنْ أُحَدّثَكُمُوهُ لِيَخْتَارَ امْرُؤٌ لِنَفْسِهِ مَا بَدَا لَهُ، سَمِعْتُ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم يقولُ: "رِبَاطُ يَوْمٍ في سَبِيلِ الله خَيْرٌ مِنْ ألْفِ يَوْمٍ في ما سِوَاهُ مِنَ المَنَازِلِ" .
ـــــــ
بضم الزاء وسكون الراء "بن معبد" بفتح الميم وسكون العين المهملة وفتح الموحدة بن عبد الله بن هشام القرشي التيمي المدني نزيل مصر ثقة عابد من الرابعة "عن أبي صالح مولى عثمان بن عفان" مقبول من الثالثة اسمه الحارث ويقال تركان بمثناة أوله ثم راء ساكنة، قاله في التقريب، وقال في تهذيب التهذيب: ذكره ابن حبان في الثقات. وقال العجلي: روى عنه زهرة بن معبد والمصريون ثقة انتهى.
قوله: "كراهية تفرقكم عني" أي مخافة أن تتفرقوا عني وتذهبوا إلى الثغور للرباط بعد سماع الحديث لما فيه من الفضيلة العظيمة "ثم بدا لي" أي ظهر لي "خير من ألف يوم فيما سواه" أي فيما سوى الرباط أو فيما سوى سبيل الله، فإن السبيل يذكر ويؤنث "من المنازل" قال القاري: وخص منه المجاهد في المعركة بدليل منفصل عقلي ونقلي وهو لا ينافي الرباط بانتظار الصلاة بعد الصلاة في المساجد، وقوله صلى الله عليه وسلم: فذلكم الرباط فذلكم الرباط، لأنه رباط دون رباط بل هو مشبه بالرباط للجهاد فإنه الأصل فيه، أو هذا رباط الجهاد الأكبر كما أن ذاك رباط للجهاد الأصغر تفسير لقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا} فإن الرباط الجهادي قد فهم مما قبله كما لا يخفي. وقال الطيبي: فإن قلت: هو جمع محلى بلام الاستغراق فيلزم أن يكون المرابط أفضل من المجاهد في المعركة ومن انتظار الصلاة بعد الصلاة في المسجد وقد قال فيه فذلكم الرباط فذلكم الرباط وقد شرحنا ثمة، قلت: هذا في حق من فرض عليه المرابطة وتعين بنصب الإمام. قال القاري في الفرض العين لا يقاتل إنه خير من غيره لأنه متعين لا يتصور خلافه إذ اشتغاله بغيره معصية انتهى.(5/309)
هذا حديثٌ حسنٌ صحيح غريب.
وقال محمد بن اسماعيل: أبو صَالحٍ مَوْلَى عُثمانَ اسْمُه برْكَانُ.
1719 ـ حدثنا محمدُ بنُ بَشّارٍ و أحمدُ بنُ نَصْرٍ النّيْسَابُورِيّ وغَيْرُ وَاحِدٍ قالوا: حدثنا صَفْوَانُ بنُ عِيسَى حدثنا محمدُ بنُ عَجْلاَنَ عن القَعْقَاعِ بنِ حَكِيمٍ عن أبي صَالحٍ عن أبي هُرَيْرَةَ قالَ: قالَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: "ما يَجِدُ الشّهِيدُ مِنْ مَسّ القَتْلِ إلاّ كَمَا يَجِدُ أحَدُكُمْ مِنْ مَسّ القَرْصَةِ" .
هذا حديثٌ حسنٌ صحيح غريبٌ.
1720ـ حدثنا زِيَادُ بنُ أيّوبَ حدثنا يَزِيدُ بنُ هَارُونَ أنبأنا الوَلِيدُ بنُ جَمِيلٍ الفلسطينيّ عن القَاسِمِ أبي عبدِ الرحمَنِ عن أبي أُمَامَةَ عن النبيّ صلى الله عليه
ـــــــ
قوله: "هذا حديث حسن غريب من هذا الوجه" وأخرجه أحمد والنسائي وابن ماجه.
قوله: "وأحمد بن نصر" بن زياد "النيسابوري" الزاهد المقري أبو عبد الله بن أبي جعفر ثقة ففيه حافظ من الحادية عشرة "حدثنا صفوان بن عيسى" الزهري أبو محمد البصري القسام ثقة من التاسعة.
قوله: "من مس القتل" وفي رواية: ألم القتل "من مس القرصة" وفي رواية: ألم القرصة، وهي بفتح القاف وسكون الراء هي المرة من القرص، قال في القاموس: القرص أخذك لحم إنسان بأصبعيك حتى تؤلمه ولسع البراغيث انتهى. وذا تسلية لهم عن هذا الخطب المهول.
قوله: "هذا حديث حسن غريب صحيح" وأخرجه النسائي وابن ماجه والدارمي وابن حبان في صحيحه ورواه الطبراني في الأوسط عن أبي قتادة.
قوله: "حدثنا الوليد بن جميل" الفلسطيني أبو الحجاج صدوق يخطي من السادسة.(5/310)
وسلم قال: "لَيْسَ شَيْءٌ أحَبّ إلى الله مِنْ قَطْرَتَيْنِ وأثَرَيْنِ:قَطْرَة من دُمُوعٍ في خَشْيَةِ الله، وقَطْرَة دمٍ تُهْرَاقُ في سَبيلِ الله، وأمّا الأثَرَانِ فَأَثَرٌ في سَبيلِ الله وأثَرٌ في فَرِيضَةٍ مِنْ فَرَائِضِ الله" .
قال هذا حديثٌ حسنٌ غريبٌ.
ـــــــ
وله: "قطرة دموع" بحرها على البدل ويجوز رفعها ونصبها أي قطرة بكاء حاصلة "من خشية الله" أي من شدة خوفه وعظمته المورثة لمحبته "قطرة دم تهراق" بصيغة المجهول وسكون الهاء ويفتح وهو بصيغة التأنيث على أنه صفة قطرة "في سبيل الله" وهو بعمومه يشمل الجهاد وغيره من سبيل الخير، ولعل وجه إفراد الدم وجمع الدموع أن الدمع غالباً يتقاطر ويتكاثر بخلاف الدم. وقال الطيبي: المراد بقطرة الدموع قطراتها فلما أضيفت إلى الجمع أفردت ثقة بذهن السامع، وفي إفراد الدم وجمع الدموع إيذان بتفضيل إهراق الدم في سبيل الله على تقاطر الدمع بكاء انتهى. ولما كان ما سبق في قوة قوله: فأما القطرتان فكذا وكذا عطف عليه وقال "وأما الأثران فأثر في سبيل الله" كخطوة أو غبار أو جراحة في الجهاد أو سواد حبر في طلب العلم "وأثر في فريضة من فرائض الله" كإشقاق اليد والرجل من أثر الوضوء في البرد وبقاء بلل الوضوء، واحتراق الجبهة من حر الرمضاء التي يسجد عليها، وخلوف فمه في الصوم واغبرار قدمه في الحج.
قوله: "هذا حديث حسن غريب" وأخرجه الضباء المقدسي(5/311)
أبواب الجهاد
باب في أهل العذر في القعود
...
أبواب الجهاد
1ـ باب في الأهل العُذْرِ في القُعُود
1721ـ حدثنا نَصْرُ بنُ عليّ الْجَهْضَمِيّ حدثنا المُعْتَمِرُ بنُ سُلَيْمَانَ
ـــــــ
"أبواب الجهاد"
"باب في الأهل العُذْرِ في القُعُود"
المراد بالعذر ما هو أعم من المرض وعدم القدرة على السفر، وأما حديث(5/311)
عن أبِيهِ عن أبي إسحاقَ عن البَرَاءِ بنِ عَازِبٍ أنّ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم قال: "ائْتُونِي بالْكَتِفِ أو اللّوْحِ، فكَتَبَ: {لا يَسْتَوِي القَاعِدُونَ مِنَ المُؤْمِنِينَ} ، وَعَمْرُو بنُ أُمّ مَكْتُومٍ خَلْفَ ظَهْرِهِ، فقال: هَلْ لي من رُخْصَةٌ؟ فَنَزَلَتْ {غَيْرُ أُولِي الضّرَرِ} ".
ـــــــ
جابر عند مسلم بلفظ: حبسهم المرض فكأنه محمول على الأغلب.
قوله: "ايتوني بالكتف أو اللوح" الظاهر أن أو للتنويع، ويحتمل أن يكون للشك، وفي رواية للبخاري: ادعوا فلاناً فجاءه ومعه الدواة واللوح والكتف، وفي رواية مسلم: فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم زيداً فجاء بكتف. قال النووي: فيه جواز كتابه القرآن في الألواح والأكتاف، وفيه طهارة عظم المذكي وجواز الانتفاع به "فكتب" أي كتب بأمره، وفي حديث زيد بن ثابت: أملى عليه "هل لي وخصة" وفي حديث زيد عند البخاري: فجاءه ابن أم مكتوم وهو يملها علي قال يا رسول الله، والله لو أستطيع الجهاد لجاهدت وكان أعمى فنزلت {غَيْرُ أُولِي الضّرَرِ} قال النووي: قرئ غير بنصب الراء ورفعها قراءتان مشهورتان في السبع، قرأ نافع وابن عامر والكسائي بنصبها والباقون برفعها، وقرئ في الشاذ بجرها، فمن نصب فعلى الاستثناء، ومن رفع فوصف للقاعدين أو بد منهم، ومن جر فوصف للمؤمنين أو بدل منهم. وقال في قوله تعالى: {لا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ} الآية دليل لسقوط الجهاد عن المعذورين، ولكن لا يكون ثوابهم ثواب المجاهدين بل لهم ثواب نياتهم إن كان لهم فيه صالحة كما قال صلى الله عليه وسلم: ولكن جهاد ونية، وفيه أن الجهاد فرض كفاية ليس بفرض عين، وفيه يرد على من يقول إنه كان في زمن النبي صلى الله عليه وسلم فرض عين وبعده فرض كفاية، والصحيح أنه لم يزل فرض كفاية من حين شرع، وهذه الآية ظاهرة في ذلك لقوله تعالى: {وَكُلّاً وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى وَفَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ عَلَى الْقَاعِدِينَ أَجْراً عَظِيماً} انتهى.(5/312)
وفي البابِ عن ابنِ عَبّاسٍ وجَابرٍ وزَيْدِ بنِ ثَابِتٍ.
وهذا حديثٌ حسنٌ صحيحٌ وهو حديث غريبٌ مِنْ حَدِيثِ سُلَيْمانَ التّيْمِيّ عن أبي إسحاقَ.
وقد رَوَى شُعْبَةُ والثورِيّ عَنْ أبي إسحاقَ هذا الحديثَ.
ـــــــ
قوله: "وفي الباب عن ابن عباس وجابر وزيد بن ثابت" أما حديث ابن عباس فأخرجه البخاري وأخرجه الترمذي أيضاً في التفسير، وأما حديث جابر فأخرجه مسلم عنه قال: كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم في غزاة فقال: "إن بالمدينة لرجالاً ما سرتم مسيراً ولا قطعتم وادياً إلا كانوا معكم حبسهم المرض" ، وفي رواية: "إلا شركوكم في الأجر" ، وأخرجه أيضاً ابن ماجه وابن حبان وأبو عوانة: وأما حديث زيد فأخرجه الشيخان والترمذي في التفسير.
قوله: "هذا حديث حسن صحيح غريب" وأخرجه أحمد والشيخان والنسائي وابن حبان والترمذي في التفسير "وقد روى شبعة والثوري عن أبي إسحاق هذا الحديث" ذكر الحافظ في الفتح أن ثمانية رجال رووا هذا الحديث عن أبي إسحاق(5/313)
باب ماجاء فيمن خرج إلى الغزو وترك أبويه
...
2ـ باب ما جاءَ فِيمَنْ خَرَجَ إلى الغَزوِ وتَرَكَ أبَوَيْه
1722ـ حدثنا محمدُ بنُ بَشّارٍ، حدثنا يَحْيى بنُ سَعِيدٍ عن سُفْيَانَ و شُعْبَةَ عن حَبِيبٍ بنِ أبي ثَابِتٍ عن أبي العبّاسِ عنْ عبدِ الله بنِ عَمْرٍو قال: "جَاءَ رَجُلٌ إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم يَسْتَأْذِنُهُ في الْجِهَادِ، فقال: أَلَكَ
ـــــــ
"باب ما جاءَ فِيمَنْ خَرَجَ إلى الغَزوِ وتَرَكَ أبَوَيْه"
قوله: "جاء رجل" قال الحافظ: يحتمل أن يكون هو جاهمة بن العباس بن مرداس، فقد روى النسائي وأحمد من طريق معاوية بن جاهمة أن جاهمة جاء النبي صلى الله عليه وسلم فقال يا رسول الله أردت الغزو وجئت لأستشيرك، فقال:(5/313)
وَالِدَانِ ؟ قالَ: نَعَمْ، قالَ: فَفِيهِمَا فَجَاهِدْ ".
وفي البابِ عن ابنِ عَبّاسٍ.
ـــــــ
"هل لك من أم" ، قال: نعم، قال: " الزمها" ، الحديث. ورواه البيهقي من طريق ابن جريرج عن محمد بن طلحة بن ركانة عن معاوية بن جاهمة السلمي عن أبيه قال: أتيت النبي صلى الله عليه وسلم أستأذنه في الجهاد فذكره انتهى "قال ففيهما" أي ففي خدمتهما "فجاهد" وفي رواية. فارجع إلى والديك فأحسن صبحتهما. قال الطيبي: فيهما متعلق بالأمر قدم للاختصاص والفاء الأولى جزاء شرط محذوف والثانية جزائية لتضمن الكلام معنى الشرط أي إذا كان الأمر كما قلت فاختص المجاهدة في خدمة الوالدين نحو قوله تعالى: {فَإِيَّايَ فَاعْبُدُونِ} أي إذا لم يخلصوا إلى العبادة في أرض فاخلصوها في غيرها. فحذف الشرط وعوض منه تقديم المفعول المفيد، للاختصاص ضمناً، وقوله فجاهد جيء به مشاكلة، يعني حيث قال فجاهد في موضع فاخدمهما، لأن الكلام في الجهاد، ويمكن أن يكون الجهاد بالمعنى الأعم الشامل للأكبر والأصغر. قال تعالى {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا} انتهى. وقال العيني في العمدة قوله: ففيهما فجاهد، أي ففي الوالدين فجاهد، الجار والمجرور متعلق بمقدر وهو جاهد، ولفظ جاهد المذكور مفسر له لأن ما بعد الفاء الجزائية لا يعمل فيها قبلها، ومعنها خصصهما بالجهاد، وهذا كلام ليس ظاهره مراداً، لأن ظاهر الجهاد إيصال الضرر للغير، وإنما المراد إيصال القدر المشترك من كلفة الجهاد وهو بذل المال وتعب البدن فيؤول المعنى إلى إبذال مالك واتعب بدنك في رضى والديك انتهى. وقال في شرح السنة: هذا في جهاد التطوع لا يخرج إلا بإذن الوالدين إذا كان مسلمين، فإن كان الجهاد فرضاً متعيناً فلا حاجة إلى إذنهما وإن معناه عصاهما وخرج، وإن كانا كافرين فيخرج بدون إذنهما فرضاً كان الجهاد أو تطوعاً، وكذلك لا يخرج إلى شيء من التطوعات كالحج والعمرة والزيارة ولا يصوم التطوع إذا كره الوالدان المسلمان أو أحدهما إلا بإذنهما انتهى.
قوله وفي الباب عن ابن عباس لينظر من أخرجه(5/314)
وهذا حديثٌ حسنٌ صحيحٌ. وأبُو العَبّاسِ هُوَ الشّاعِرُ الأَعْمَى المَكّيّ، واسْمُهُ السّائِبُ بنُ فَرّوخ.
ـــــــ
قوله: "هذا حديث حسن صحيح" وأخرجه الشيخان وأبو داود والنسائي "واسمه السائب بن فروخ" ثقة من الثالثة(5/315)
باب ماجاء في الرجل يبعث سرية واحدة
...
3ـ باب ما جَاءَ في الرّجُلِ يُبْعَثُ وَحْدَهُ سريّة
1723ـ حدثنا محمدُ بنُ يَحْيى النيسابوري، حدثنا الْحَجّاجُ بنُ محمدٍ: حدثنا ابنُ جُرَيْجٍ في قوله: {أَطِيعُوا الله وَأَطِيعُوا الرّسُولَ وأُولِي الأمْرِ مِنْكُمْ} قال: عَبْدُ الله بنُ حُذَافَةَ بنِ قَيْسِ بنِ عَدِي السّهْمِيّ بَعَثَهُ رسولُ الله
ـــــــ
"باب ما جَاءَ في الرّجُلِ يُبْعَثُ وَحْدَهُ سريّة"
لا يظهر عنى هذه الترجمة إلا أن يقدر لفظ "على" قبل سرية، ويقال إن المراد أنه يجوز أن يبعث الرجل وحده أميراً على سرية، هذا ما عندي والله تعالى أعلم بمراد المصنف من هذه الترجمة. وقال في هامش النسخة الأحمدية: لا يناسب هذه الترجمة حديث الباب لأن عبد الله جعل أميراً وله قصة مذكورة في الأصول من أنه قال لرجال السرية: احرقوا أنفسكم إن كنتم تطيعون أولى الأمر فأبوا، لعل المراد بالبعث بعثه عقيب السرية وحده وجعله أميراً عليها والله أعلم، كذا بلغني عن شيخنا انتهى ما في هامش النسخة الأحمدية.
قوله: "حدثنا محمد بن يحيى" هو الإمام الذهلي.
قوله: "قال عبد الله بن حذافة بن قيس بن عدي السهمي: بعثه رسول الله صلى الله عليه وسلم على سرية" ضمير قال راجع إلى ابن جريج، وعبد الله بن حذافة مبتدأ وبعثه خبره، والضمير المنصوب لعبد الله بن حذافة أي قال ابن جريج إن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث عبد الله بن حذافة على سرية، وفي رواية مسلم: قال ابن جريج: نزل { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ} في عبد الله بن حذافة بن قيس بن عدي السهمي بعثه النبي صلى الله(5/315)
صلى الله عليه وسلم على سَرِيّةٍ أَخْبَرَنِيهِ يَعْلَى بنُ مُسْلِمٍ عن سعِيدٍ بنِ جُبَيْر عن ابنِ عَبّاسٍ.
قال ابن عباس هذا حديثٌ حسنٌ صحيحٌ غريبٌ لا نَعْرِفُهُ إِلا مِنْ حَدِيثِ ابنِ جُرَيْجٍ.
ـــــــ
عليه وسلم في سرية "أخبرنيه" هذا مقول ابن جريج "يعلى بن مسلم" بن هرمز المكي، أصله من البصرة، ثقة من السادسة.
قوله: "هذا حديث حسن صحيح" وأخرجه أحمد والشيخان.
تنبيهان: الأول ـ قال العلماء: المراد بأولى الأمر من أوجب الله طاعته من الولاة والأمراء، هذا قول جماهير السلف والخلف من المفسرين والفقهاء وغيرهم، وقيل هم العلماء، وقيل الأمراء والعلماء. وأما من قال الصحابة خاصة فقط فقد أخطأ، قاله النووي. وقال الحافظ: اختلف في المراد بأولى الأمر في الاَية. فعن أبي هريرة قال: هم الأمراء، أخرجه الطبري بإسناد صحيح، وأخرجه عن ميمون بن مهران وغيره نحوه، وعن جابر بن عبد الله قال: هم أهل العلم والخير، وعن مجاهد وعطاء والحسن وأبي العالية: هم العلماء، ومن وجه آخر أصح منه عن مجاهد قال: هم الصحابة. وهذا أخص، وعن عكرمة قال: أبو بكر وعمر، وهذا أخص من الذي قبله، ورجح الشافعي الأول واحتج له بأن قريشاً كانوا لا يعرفون الإمارة ولا ينقادون إلى أمير فأمروا بالطاعة لمن ولى الأمر، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم: "من أطاع أميري فقد أطاعني" . م تفق عليه واختار الطبري حملها على العموم وإن نزلت في سبب خاص انتهى. وذكر العيني في شرح البخاري في تفسير قوله {وَأُولِي الْأَمْرِ} أحد عشر قولاً، وقال: الحادي عشر عام في كل من ولي أمر شيء وهو الصحيح، وإليه مال البخاري بقوله ذوي الأمر انتهى.
قلت: الصحيح عندي هو ما صححه العيني ومال إليه البخاري، من أن المراد بأولى الأمر كان من ولى أمر شيء، والدليل على ذلك أن واحد أولى "ذو" لأنها لا واحد لها من لفظها، ومعنى أولى الأمر ذوو الأمر، ومن الظاهر أن ذا الأمر لا يكون إلا من ولى أمر شيء وأما أهل العلم فهم أولو العلم لا أولو الأمر.(5/316)
ـــــــ
الثاني: روى البخاري في صحيحه عن علي قال: بعث النبي صلى الله عليه وسلم سرية فاستعمل رجلاً من الأنصار وأمرهم أن يطيعوه فغضب، قال: أليس أمركم النبي صلى الله عليه وسلم أن تطيعوني؟ قالوا بلى، فاجمعوا لي حطباً فجمعوا فقال أوقدوا ناراً فأوقدوها فقال ادخلوها. فهموا وجعل بعضهم يمسك بعضاً ويقولون: فررنا إلى النبي صلى الله عليه وسلم من النار فما زالوا حتى خمدت النار فسكن غضبه، فبلغ النبي صلى الله عليه وسلم فقال: "لو دخلوها ما خرجوا منها إلى يوم القيامة، الطاعة في المعروف" . اختلف أهل العلم في هذا الرجل الذي استعمله رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال على السرية فقيل إنه عبد الله بن حذافة السهمي، قال النووي: وهذا ضعيف لأنه وقع في رواية أخرى أنه رجل من الأنصار فدل على أنه غيره انتهى. وقال ابن الجوزي قوله: من الأنصار، وهم من بعض الرواة وإنما هو سهمي، قال الحافظ: ويؤيده حديث ابن عباس عند أحمد في قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ} الآية نزلت في عبد الله ابن حذافة بن قيس بن عدي بعثه رسول الله صلى الله عليه وسلم في سرية انتهى(5/317)
باب ماجاء في كراهية أن يسافر الرجل وحده
...
4ـ باب ما جاءَ في كَرَاهِيَةِ أنْ يُسَافِرَ الرّجُلُ وَحْدَه
1724ـ حدثنا أحمدُ بنُ عَبْدَةَ الضّبِيّ البَصْرِيّ، حدثنا سُفْيَانُ بن عيينة عن عاصِمِ بنِ محمدٍ عن أبيهِ عن ابنِ عُمَرَ أَنّ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم قال: "لَوْ أَنّ النّاسَ يَعْلَمُونَ مَا أَعْلَمُ مِنَ الْوحْدَةِ ما سَرَى رَاكِبٌ بِلَيْلٍ ـ يَعْنِي وَحْدَهُ" .
ـــــــ
"باب ما جاءَ في كَرَاهِيَةِ أنْ يُسَافِرَ الرّجُلُ وَحْدَه"
قوله: "عن عاصم بن محمد" بن زيد بن عبد الله بن عمر بن الخطاب العمري المدني ثقة من السابغة "عن أبيه" أي محمد بن زيد بن عبد الله بن عمر المدني ثقة من الثالثة.
قوله: "ما أعلم من الوحدة" ما موصولة والمعنى لو يعلم الناس ما أعلم ما في الوحدة من الاَفات التي تحصل من ذلك "ما سار راكب بليل يعني وحده" ما نافية، قال(5/317)
1725 ـ حدثنا إسحاقُ بنُ موسى الأنْصَارِيّ، حدثنا مَعْنٌ، حدثنا مَالِكٌ عن عَبْدِ الرحمَنِ بنِ حَرْمَلَةَ عن عَمْرِو بنِ شُعَيْبٍ عن أبيهِ عن جَدّهِ، أنّ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم قال: "الرّاكِبُ شَيْطَانٌ والرّاكِبَانِ شَيْطَانَانِ والثلاَثَةُ رَكْبٌ" .
ـــــــ
الطيبي: وكان من حق الظاهر أن يقال: ما سار أحد وحده، فقيده بالراكب والليل لأن الخطر بالليل أكثر، فإن انبعاث الشر فيه أكثر والتحرز منه أصعب، ومنه قولهم: الليل أخفى للويل، وقولهم: اعذر الليل لأنه إذا أظلم كثر فيه العذر لا سيما إذا كان راكباً فإن له خوف وجل المركوب من النفور من أدنى شيء والتهوي في الوحدة بخلاف الراجل. قال القاري: ويمكن التقييد بالراكب ليفيد أن الراجل ممنوع بطريق الأولى ولئلا يتوهم أن الوحدة لا تطلق على الراكب كما لا يخفى انتهى. قال ابن المنير: السير لمصلحة الحرب أخص من السفر، والخبر ورد في السفر، فيؤخذ من حديث جابر جواز السفر منفرداً للضرورة والمصلحة التي لا تنتظم إلا بالإنفراد، كإرسال الجاسوس والطليعة والكراهة لما عدا ذلك، ويحتمل أن تكون حالة الجواز مقيدة بالحاجة عند الأمن، وحالة المنع مقيدة بالخوف حيث لا ضرورة. وقد وقع في كتب المغازي: بعث كل من حذيفة ونعيم بن مسعود وعبد الله بن أنيس وخوات بن جبير وعمرو بن أمية وسالم بن عمير في عدة مواطن وبعضها في الصحيح ذكره الحافظ في الفتح.
قلت: وحديث جابر الذي أشار إليه ابن المنير أخرجه البخاري في الجهاد وغيره ولفظه: ندب النبي صلى الله عليه وسلم الناس يوم الخندق فانتدب الزبير ثم ندبهم فانتدب الزبير ثم ندبهم فانتدب الزبير ثلاثاً، قال النبي صلى الله عليه وسلم: "إن لكل نبي حوارياً وحوارى الزبير" .
قوله: "الراكب شيطان والراكبان شيطانان" قال المظهر: يعني مشى الواحد منفرداً منهى وكذلك مشى الاثنين، ومن ارتكب منهياً فقد أطاع الشيطان ومن أطاعه فكأنه هو، ولذا أطلق صلى الله عليه وسلم اسمه عليه. وفي شرح السنة:(5/318)
حديث ابن عمر حديث حسنٌ صحيحٌ لا نَعْرِفُهُ إلاّ مِنْ هذا الوجْهِ مِنْ حَدِيثَ عَاصِمٍ، وهُوَ ابنُ محمدِ بنِ زَيْدِ بن عَبْدِ الله بنِ عُمَرَ قال محمد: هو ثقة صدوق وعاصم بن عمر العمريّ ضعيف في الحديث لا أروى عنه شيئاً، وحَدِيثُ عَبْدِ الله بنِ عَمْرو حديث حَسَنٌ.
ـــــــ
معنى الحديث عندي ما روى عن سعيد بن المسيب مرسلاً: الشيطان يهم بالواحد والاثنين فإذا كانوا ثلاثة لم يهم بهم. وقال الخطابي: معناه أن التفرد والذهاب وحده في الأرض من فعل الشيطان وهو شيء يحمله عليه الشيطان ويدعوه إليه وكذلك الاثنان، فإذا صاروا ثلاثة فهو ركب أي جماعة وصحب، قال: والمنفرد في السفر إن مات لم يكن بحضرته من يقوم بغسله ودفنه وتجهيزه، ولا عنده من يوصي إليه في ماله ويحمل تركته إلى أهله ويورد خبره إليهم، ولا معه في سفره من يعينه على الحمولة، فإذا كانوا ثلاثة تعاونوا وتناوبوا المهنة والحراسة وصلوا الجماعة وأحرزوا الحظ فيها انتهى. "والثلاثة ركب" بفتح فسكون أي جماعة. قال في النهاية: الركب اسم من أسماء الجمع كنفر ورهط ولهذا صغر على لفظه، وقيل هو جمع راكب كصاحب وصحب، ولو كان كذلك لقيل في تصغيره رويكبون كما يقال صويحبون، والراكب في الأصل هو راكب الإبل خاصة ثن اتسع فيه فأطلق على كم من ركب دابة انتهى.
قوله: "حديث ابن عمر حديث حسن صحيح" وأخرجه أحمد والبخاري وابن ماجه كذا في الجامع الصغير "لا نعرفه إلا من هذا الوجه من حديث عاصم" قال الحافظ في الفتح: ذكر الترمذي أن عاصم بن محمد تفرد برواية هذا الحديث وفيه نظر، لأن عمر بن محمد أخاه قد رواه معه عن أبيه أخرجه النسائي انتهى.
قوله: "وحديث عبد الله بن عمرو" أي حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده: فإن جده هو عبد الله بن عمرو "أحسن" كذا في النسخة الأحمدية ووفع في بعض النسخ حسن وهو الظاهر بل هو الصحيح. وحديث عبد الله بن عمرو وهذا أخرجه أحمد ومالك وأبو داود والنسائي وصححه(5/319)
باب ماجاء في الرخصة في الكذب والخديعة في الحرب
...
5-باب ما جَاءَ في الرّخْصَةِ
في الكَذِبِ وَالْخَدِيعَةِ في الحَرْب
1726ـ حدثنا أحمدُ بنُ مَنِيعٍ و نَصْرُ بنُ عليّ قالا: حدثنا سُفْيَانُ عن عَمْرِو بنِ دِينَارٍ سَمِعَ جَابرَ بنَ عَبْدِ الله يَقُولُ: قالَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: "الْحَرْبُ خُدْعَةٌ" . .
ـــــــ
"باب ما جَاءَ في الرّخْصَةِ في الكَذِبِ وَالْخَدِيعَةِ في الحَرْب"
قوله: "الحرب خدعة" قال النووي: فيها ثلاث لغات مشهورات اتفقوا على أن أفصحهن خدعة بفتح الخاء وإسكان الدال، قال ثعلب وغيره: وهي لغة النبي صلى الله عليه وسلم، والثانية بضم الخاء وإسكان الدال، والثالثة بضم الخاء وفتح الدال. واتفق العلماء على جواز خداع الكفار في الحرب وكيف أمكن الخداع إلا أن يكون فيه نقض عهد أو أمان فلا يحل. وقد صحح في الحديث جواز الكذب في ثلاثة أشياء أحدها في الحرب، قال الطبري إنما يجوز من الكذب في الحرب المعاريض دون حقيقة الكذب فإنه لا يحل. قال النووي: والظاهر إباحة حقيقة نفس الكذب لكن الاقتصار على التعريض أفضل. وقال ابن العربي: الكذب في الحرب من المستثنى الجائز بالنص رفقاً بالمسلمين لحاجتهم، إليه وليس للعقل فيه مجال، ولو كان تحريم الكذب بالعقل ما انقلب حلالاً انتهى. وقال القاضي عياض في المشارق بعد ذكر أربع لغات فيها وهي الخَدْعَةُ والخُدْعَةُ والْخُدَعَةُ والخَدْعَةُ ما لفظه: فالخدعة بمعنى أن أمرها ينقضي بخدعة واحدة يخدع بها المخدوع فتزل قدمه ولا يجد لها تلافياً ولا إقالة، فكأنه نبه على أخذ الحذر من ذلك، ومن ضم الخاء وفتح الدال نسب الفعل إليها أي تخدع هي من اطمأن إليها أو أن أهلها يخدعون فيها، ومن فتحهما جميعاً كان جمع خادع، يعني أن أهلها بهذه الصفة فلا تطمئن إليهم، كأنه قال أهل الحرب خدعة، وأصل الخدع إظهار أمر وإضمار خلافه. وقال التوربشتي: روي ذلك من وجوه ثلاثة بفتح الخاء وسكون الدال(5/320)
وفي البابِ عَنْ علي وزَيْدِ بنِ ثَابِتٍ وعَائِشَةَ وابنِ عَبّاسٍ وأبي هُرَيْرَةَ وَأَسْمَاءَ بِنْتِ يَزِيدَ وَكَعْبِ بنِ مالِكٍ وأنَسٍ بن مالك.
وهذا حديثٌ حسن صحيحٌ
ـــــــ
أي أنها خدعة واحدة من تيسرت له حق الظفر، وبضم الخاء وسكون الدال أي معظم ذلك المكر والخديعة، وبضم الخاء وفتح الدال أي أنها خداعة للإنسان بما تخيل إليه وتمنيه، ثم إذا لابسها وجد الأمر بخلاف ما خيل إليه انتهى.
قوله: "وفي الباب عن علي وزيد بن ثابت وعائشة وابن عباس وأبي هريرة وأسماء بنت يزيد وكعب بن مالك وأنس بن مالك" أما حديث علي فأخرجه أحمد وأما حديث زيد بن ثابت فأخرجه الطبراني في الكبير، وأما حديث عائشة فأخرجه ابن ماجه، وأما حديث ابن عباس فأخرجه أيضاً ابن ماجه، وأما حديث أبي هريرة فأخرجه الشيخان، وأما حديث أسماء بنت يزيد فأخرجه أحمد والترمذي في باب إصلاح ذات البين من أبواب البر والصلة، وأما حديث كعب بن مالك فأخرجه أبو داود، وأما حديث أنس بن مالك فأخرجه أحمد وابن حبان.
قوله: "هذا حديث حسن صحيح" وأخرجه أحمد والشيخان وأبو داود(5/321)
باب ماجاء في غزوات النبي صلى الله عليه وسلم كم غزا
...
6ـ باب ما جاءَ في غَزَوَاتِ النبيّ
صلى الله عليه وسلم وكَمْ غَزَا
1727ـ حدثنا محمودُ بنُ غَيْلاَنَ، حدثنا وَهْبُ بنُ جَريرٍ و أبو دَاوُدَ
ـــــــ
"باب ما جاءَ في غَزَوَاتِ النبيّ صلى الله عليه وسلم وكَمْ غَزَا"
الغزوات جمع غزوة، وأصل الغزو القصد، ومغزى الكلام مقصده، والمراد بالغزوات هنا ما وقع من قصد النبي صلى الله عليه وسلم الكفار بنفسه وبجيش من قبله، وقصدهم أعم من أن يكون إلى بلادهم أو إلى الأماكن التي حلوها حتى دخل مثل أحد والخندق.(5/321)
قالا: حدثنا شُعْبَةُ عن أبي إسحاقَ قال: كُنْتُ إلى جَنْبِ زَيْدِ بن أرْقَمَ فَقِيلَ لَهُ: كَمْ غَزَا النبيّ صلى الله عليه وسلم مِنْ غَزْوَةٍ قالَ: "تِسْعَ عَشَرَةَ، فَقلت: كَمْ غَزَوْتَ أَنْتَ مَعَهُ؟ قال: سَبْعَ عَشَرَةَ، قلت: وأَيّتُهُنّ كانَ أَوّلَ؟ قالَ ذَاتُ العُشَيْرَاء أو العُسيْرَاء".
ـــــــ
قوله: "فقيل له" قال الحافظ: القائل هو الراوي أبو إسحاق بينه إسرائيل بن يونس عن أبي إسحاق كما سيأتي في آخر المغازي بلفظ: سألت زيد بن أرقم "قال تسع عشرة" كذا قال، ومراده الغزوات التي خرج النبي صلى الله عليه وسلم فيها بنفسه سواء قاتل أو لم يقاتل. قال الحافظ في الفتح: لكن روى أبو يعلى من طريق أبي الزبير عن جابر أن عدد الغزوات إحدى وعشرون وإسناده صحيح وأصله في مسلم. فعلى هذا، ففات زيد بن أرقم ذكر اثنتين منها، ولعلهما الأبواء وبواط، وكأن ذلك خفي عليه لصغره، ويؤيد ما قلته ما وقع عند مسلم بلفظ: قلت ما أول غزوة غزاها؟ قال: ذات العشير أو العشيرة انتهى. والعشيرة كما تقدم هي الثالثة. وأما قول ابن التين: يحمل قول زيد بن أرقم على أن العشيرة أول ما غزا، هو أي زيد بن أرقم والتقدير فقلت: ما أول غزوة غزاي أي وأنت معه؟ قال العشير، فهو محتمل أيضاً، ويكون قد خفي عليه ثنتان مما بعد ذلك أو عد الغزوتين واحدة. فقد قال موسى بن عقبة: قاتل رسول الله صلى الله عليه وسلم في ثمان: بدر ثم أحد ثم الأحزاب ثم المصطلق ثم خيبر ثم مكة ثم حنين ثم الطائف انتهى. وأهمل غزوة قريظة لأنه ضمها إلى الأحزاب لكونها كانت في إثرها وأفردها غيره لوقوعها منفردة بعد هزيمة الأحزاب، وكذا وقع لغيره عد الطائف وحنين واحدة لتقاربهما. فيجتمع على هذا قول زيد بن أرقم وقول جابر، وقد توسع ابن سعد فبلغ عدة المغازي التي خرج فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم بنفسه سبعاً وعشرين، وتبع في ذلك الواقدي وهو مطابق لما عده ابن إسحاق إلا أنه لم يفرد وادي القرى من خيبر، أشار إلى ذلك السهيلي، وكأن الستة الزائدة من هذا القبيل، وعلى هذا يحمل ما أخرجه عبد الرزاق بإسناد صحيح عن سعيد بن المسيب قال: غزا رسول الله صلى الله عليه وسلم أربعاً وعشرين وأخرجه(5/322)
ـــــــ
يعقوب بن سفيان عن سلمة بن شبيب عن عبد الرزاق فزاد فيه أن سعيداً قال أولاً: ثمان عشرة ثم قال أربعاً وعشرين، قال الزهري: فلا أدري أوهم أو كان شيئاً سمعه بعد. قال الحافظ: وحمله على ما ذكرته يدفع الوهم ويجمع الأقوال والله أعلم.
وأما البعوث والسرايا فعند ابن إسحاق ستاً وثلاثين، وعند الواقدي ثمانياً وأربعين. وحكى ابن الجوزي في التلقيح ستاً وخمسين، وعند المسعودي ستين، وبلغها شيخنا في نظم السيرة زيادة على السبعين، ووقع عند الحاكم في الإكليل أنها تزيد على مائة، فلعله أراد ضم المغازي إليها انتهى.
"وأيتهن كان أول" كذا في النسخ الحاضرة عندنا والظاهر أن يكون: وأيتهن كانت "ذات العشيراء والعسيراء" الأول بضم العين المهملة وفتح الشين المعجمة مصغراً، والثاني كذلك لكن بالسين المهملة، كذا في النسخ الحاضرة عندنا. وقال الحافظ في الفتح: ووقع في الترمذي: العشير أو العسير بلا هاء فيهما، وفي رواية مسلم: ذات العسير أو العشير. قال النووي في شرح مسلم: قال القاضي في المشارق: وهي ذات العشيرة بضم العين وفتح الشين المعجمة، قال: وجاء في كتاب المغازي يعني من صحيح البخاري: عسير بفتح العين وكسر السين المهملة بحذف الهاء قال: والمعروف فيها العشيرة مصغرة بالشين المعجمة والهاء، قال: وكذا ذكرها أبو إسحاق وهي من أرض مذحج، وقال الحافظ: قول قتادة: العشيرة بضم العين المهملة وفتح الشين المعجمة وإثبات الهاء هو الذي اتفق عليه أهل السير وهو الصواب، وأما غزوة العسيرة بالمهملة فهي غزوة تبوك، قال الله تعالى: {الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي سَاعَةِ الْعُسْرَةِ} وسميت بذلك لما فيها من المشقة وهي بغير تصغير، وأما هذه فنسبت إلى المكان الذي وصلوا إليه واسمه العشير أو العشيرة يذكر ويؤنث وهو موضع.
وذكر ابن سعد أن المطلوب في هذه الغزاة هي عير قريش التي صدرت من مكة إلى الشام بالتجارة ففاتهم وكانوا يترقبون رجوعها فخرج النبي صلى الله عليه وسلم يتلقاها ليغنمها فبسبب ذلك كانت وقعة بدر. قال ابن إسحاق: فإن السبب في غزوة بدر ما حدثني يزيد بن رومان عن عروة أن أبا سفيان كان بالشام في ثلاثين راكباً(5/323)
هذا حديثٌ حسنٌ صحيحٌ.
ـــــــ
منهم مخرمة بن نوفل وعمرو بن العاص فأقبلوا في قافلة عظيمة فيها أموال قريش، فندب النبي صلى الله عليه وسلم إليهم، وكان أبو سفيان يتجسس الأخبار، فبلغه أن النبي صلى الله عليه وسلم استنفر أصحابه بقصدهم فأرسل ضمضم بن عمرو الغفاري إلى قريش بمكة يحرضهم على المجيء لحفظ أموالهم ويحذرهم المسلمين، فاستنفرهم ضمضم فخرجوا في ألف راكب ومعهم مائة فرس، واشتد حذر أبي سفيان فأخذ طريق الساحل وجد في السير حتى فات المسلمين، فلما أمن أرسل إلى من يلقي قريشاً يأمرهم بالرجوع، فامتنع أبو جهل من ذلك، فكان ما كان من وقعة بدر انتهى.
قوله: "هذا حديث حسن صحيح" وأخرجه الشيخان(5/324)
باب ماجاء في الصف والتعبئة عند القتال
...
7ـ باب ما جاءَ في الصّفّ والتّعْبِئةِ عَنْدَ الْقِتَال
1728ـ حدثنا محمدُ بنُ حُمَيْدٍ الرّازِيّ، حدثنا سَلَمَةُ بنُ الفَضْلِ عن محمدِ بنِ إسحاقَ عن عِكْرَمَةَ عن ابنِ عبّاسٍ عَنْ عبدِ الرحمَنِ بنِ عَوْفٍ قال: "عَبّأَنَا رسولُ الله صلى الله عليه وسلم بِبَدْرٍ لَيْلاً".
ـــــــ
"باب ما جاءَ في الصّفّ والتّعْبِئةِ عَنْدَ الْقِتَال"
قال في القاموس: تعبية الجيش تهيئته في مواضعه.
قوله: "حدثنا سلمة بن الفضل" الأبرش مولى الأنصار قاضي الري صدوق كثير الخطأ من التاسعة.
قوله: "عبأنا رسول الله صلى الله عليه وسلم" قال في النهاية: يقال عبأت الجيش عباً، وعبأتهم تعبئة وتعبيئاً، وقد يترك الهمز فيقال عبيتهم تعبية أي رتبتهم في مواضعهم وهيأتهم للحرب انتهى "ببدر ليلاً" يعني سوى الصفوف وأقام كلا منا مقاماً يصلح له في الليل ليكون على طبقه ووفقه في النهار.(5/324)
وفي البابِ عَنْ أبي أيّوبَ.
وهذا حديثٌ غريبٌ لا نَعْرِفُهُ إلاّ مِنْ هذا الوجْهِ وسأَلْتُ محمدَ بنَ إسماعيلَ عَنْ هذا الحديثِ فَلَمْ يَعْرِفْهُ وقال: محمدُ بنُ إسحاقَ سَمِعَ مِنْ عِكْرِمَةَ، وحِينَ رَأَيْتُهُ كَانَ حَسَنَ الرّأْيِ في محمدِ بنِ حمَيْدٍ الرّازِيّ ثُمّ ضَعّفَهُ بَعْدُ.
ـــــــ
قوله: "وفي الباب عن أبي أيوب" أخرجه أحمد في مسنده.
قوله: "هذا حديث غريب" في سنده محمد بن حميد الرازي وهو ضعيف "وحين رأيته" أي حين لقيت البخاري "ثم ضعفه بعد" في تهذيب التهذيب: قال البخاري فيه نظر، فقيل له ذلك فقال أكثر على نفسه(5/325)
باب ماجاء في الدعاء عند القتال
...
8 ـ باب ما جَاءَ في الدّعاءِ عندَ القتال
1729ـ حدثنا أحمدُ بنُ مَنِيعٍ، حدثنا يَزِيدُ بنُ هَارُونَ، أنبأنا إسماعيلُ بنُ أبي خَالدٍ عن ابنِ أبي أوْفَى قالَ: "سَمِعْتُهُ يقُولُ، يَعْنِي النبيّ صلى الله عليه وسلم، يَدْعُو على الأحْزَابِ فقالَ: "اللّهُمّ مُنْزِلَ الْكِتَابِ سَريعَ الْحِسَابِ، اهْزِمِ الأحْزَابَ وزَلْزِلْهُمْ" .
ـــــــ
"باب ما جَاءَ في الدّعاءِ عندَ القتال"
قوله: "عن ابن أبي أوفى" هو عبد الله بن أبي أوفى علقمة بن خالد بن الحارث الأسلمي صحابي شهد الحديبية وعمر بعد النبي صلى الله عليه وسلم دهراً. مات سنة سبع وثمانين وهو آخر من مات بالكوفة من الصحابة، كذا في التقريب.
قوله: "اللهم" يعني يا الله يا "منزل الكتاب" أي القرآن "سريع الحساب" يعني يا سريع الحساب، إما يراد به أنه سريع حسابه بمجيء وقته، وإما أنه سريع في الحساب "اهزم الأحزاب" هزمهم الله تعالى بأن أرسل عليهم ريحاً وجنوداً لم تروها كما ورد في سورة الأحزاب وهم أحزاب اجتمعوا يوم الخندق "وزلزلهم"(5/325)
وفي البابِ عنِ ابنِ مَسْعُودٍ.
وهذا حديثٌ حسنٌ صحيحٌ.
ـــــــ
قال النووي: أي ازعجهم وحركهم بالشدائد. قال أهل اللغة: الزلزال والزلزلة الشدائد التي تحرك الناس. قال: وقد اتفقوا على استحباب الدعاء عند لقاء العدو انتهى. وقال الحافظ: المراد الدعاء عليهم إذا انهزموا أن لا يستقر لهم قرار. وقال الداودي: أراد أن تطيش عقولهم وترعد أقدامهم عند اللقاء فلا يتثبتوا.
قوله: "وفي الباب عن ابن مسعود" أخرجه أحمد في مسنده.
قوله: "هذا حديث حسن صحيح" وأخرجه الشيخان والنسائي وابن ماجه(5/326)
باب ماجاء في الألوية
...
9ـ باب ما جَاءَ في الأَلْوِيَة
1730 ـ حدثنا محمدُ بنُ عُمَرَ بنِ الوَلِيدِ الكِنْدِيّ الكوفي و أبو كُرَيْبٍ و محمدُ بنُ رَافِعٍ قالُوا: حدثنا يَحْيى بنُ آدَمَ عن شَرِيكٍ عن عَمّارٍ يعني الدّهْنِي عن أبي الزّبَيْرِ عن جَابِرٍ: "أنّ النبي صلى الله عليه وسلم دَخَلَ مَكّةَ وَلِوَاؤُهُ أبْيَضُ".
ـــــــ
"باب ما جَاءَ في الأَلْوِيَة"
جمع لواء بكسر اللام والمد، قال في المغرب: اللواء على الجيش وهو دون الراية، لأنه شقة ثوب يلوي، وبشد إلى عود الرمح، والراية علم الجيش ويكنى أم الحرب وهو فوق اللواء. وقال أبو بكر بن العربي: اللواء غير الراية، فاللواء ما يعقد في طرف الرمح ويلوى عليه، والراية ما يعقد فيه ويترك حتى تصفقه الرياح. وقال التوربشتي: الراية هي التي يتولاها صاحب الحرب ويقاتل عليها وتميل المقاتلة إليها، واللواء علامة كبكبة الأمير تدور معه حيث دار. وفي شرح مسلم: الراية العلم الصغير، واللواء العلم الكبير، كذا في المرقاة.
قوله: "ومحمد بن عمر بن الوليد الكندي" أبو جعفر الكوفي صدوق من الحادية عشرة.
قوله: "دخل مكة" أي يوم الفتح.(5/326)
هذا حديثٌ غريبٌ لاَ نَعْرِفُهُ إلاّ مِنْ حَدِيثِ يَحْيى بنِ آدَمَ عن شَرِيكٍ قال وسَأَلْتُ محمداً عن هذا الْحَديثِ فَلَمْ يَعْرِفْهُ إلاّ مِنْ حَدِيثِ يَحْيَى بنِ آدَمَ عن شَرِيكٍ. وقالَ حدثنا غَيْرُ واحِدٍ عن شَرِيكٍ عن عَمّارٍ عن أبِي الزّبَيْرِ عن جَابِرٍ: "أنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم دَخَلَ مَكّةَ وعَلَيْهِ عِمَامَةٌ سَوْدَاءُ".
قال محمدٌ: والحديثُ هُوَ هذا.
والدّهْنُ بَطْنٌ مِنْ بَجِيلَةَ وَعمّارٌ الدّهْنِيّ هُوَ عَمّارُ بنُ مُعَاوِيَةَ الدّهْنِي، ويُكْنَى أبَا مُعَاوِيَةَ، وهُوَ كُوفِيّ وهو ثِقَةٌ عندَ أهلِ الحديثِ.
ـــــــ
قوله: "هذا حديث غريب" وأخرجه أبو داود والنسائي وابن ماجه "قال محمد: والحديث هو هذا" أي الحديث المحفوظ هو هذا الحديث لأنه رواه غير واحد عن شريك، وأما حديث يحيى بن آدم عن شريك بلفظ: دخل مكة ولواؤه أبيض، فليس بمحفوظ لتفرد يحيى بن آدم به ومخالفته لغير واحد من أصحاب شريك "والدهن" بضم أوله وسكون الهاء بعدها نون(5/327)
باب في الرايات
...
10ـ باب ما جاء في الرّايَات
1731ـ حدثنا أحمدُ بنُ مَنِيعٍ حدثنا يَحْيَى بنُ زَكَرِيّا بنُ أبي زَائِدَةَ حدثنا أبو يَعْقُوبَ الثّقَفِيّ حدثنا يُونُسُ بنُ عُبَيْدٍ مَوْلَى محمدِ بنِ القَاسِمِ قَالَ:
ـــــــ
"باب ما جاء في الرّايَات"
جمع راية قد عرفت معناها، والفرق بينها وبين اللواء في الباب المتقدم، قال الحافظ: وجنح الترمذي إلى التفرقة فترجم بالألوية وأورد حديث جابر، ثم ترجم للرايات وأورد حديث البراء وحديث ابن عباس.
قوله: "حدثنا يونس بن عبيد مولى محمد بن القاسم" الثقفي مقبول من الرابعة(5/327)
بَعَثَنِي محمدُ بن القَاسِمِ إلى البَرَاءِ بنِ عَازِبٍ أسْأَلُهُ عن رَايَةِ رَسولِ الله صلى الله عليه وسلم فقالَ: "كانَتْ سَوْدَاءَ مُربّعَةً مِنْ نَمِرَةَ".
وفي البابِ عن علي والْحَارِثِ بنِ حَسّانَ وابنِ عَبّاسٍ.
وهذا حديثٌ حسنٌ غريبٌ لا نَعْرِفُهُ إلاّ مِنْ حَدِيثِ ابنِ أبي زَائِدَةَ. وأبُو يَعْقُوبَ الثّقَفِيّ اسْمُهُ إسحاقُ بنُ إبراهيمَ، وَرَوَى عنهُ أيضاً عُبَيْدُ الله بن مُوسَى.
1732ـ حدثنا محمدُ بنُ رَافِعٍ حدثنا يَحْيَى بنُ إسحاقَ وهُوَ السّالِحانِيّ
ـــــــ
"قال" أي يونس "بعثني" أي أرسلني "أسأله عن راية رسول الله صلى الله عليه وسلم" أي لونها وكيفيتها "كانت سوداء" قال القاضي: أراد بالسوداء ما غالب لونه سواد بحيث يرى من البعيد أسود، لا ما لونه سواد خالص لأنه قال "من نمرة" بفتح الكسر وهي بردة من صوف يلبسها الأعراب فيها تخطيط من سواد وبياض، ولذلك سمت نمرة تشبيهاً بالنمر، ذكره القاري.
قوله: "وفي الباب عن علي والحارث بن حسان وابن عباس" أما حديث علي فأخرجه أحمد، وأما حديث الحارث بن حسان فأخرجه ابن ماجه، وأما حديث ابن عباس فأخرجه الترمذي في هذا الباب، ولأبي الشيخ عن ابن عباس: كان مكتوباً على رايته: لا إله إلا الله محمد رسول الله. قال الحافظ وسنده واه.
قوله: "هذا حديث حسن غريب" وأخرجه أحمد وأبو داود وابن ماجه "وأبو يعقوب الثقفي اسمه إسحاق بن إبراهيم" الكوفي وثقه ابن حبان وفيه ضعف من الثامنة كذا في التقريب.
قوله: "حدثنا يحيى بن إسحاق هو السالحاني" قال في التقريب: يحيى بن إسحاق السيلحيني بمهملة ممالة وقد تصير ألفاً ساكنة وفتح اللام وكسر المهملة ثم تحتانية ساكنة ثم نون، أبو زكرياً أو أبو بكر نزيل بغداد، صدوق من كبار العاشرة(5/328)
حدثنا يَزِيدُ بنُ حِبّانَ قال سَمِعْتُ أبَا مِجْلَزٍ لاحِقَ بنَ حُمَيْدٍ يُحَدّثُ عن ابن عَبّاسٍ قال: "كانَتْ رَايَةُ رسول الله صلى الله عليه وسلم سَوْداءَ، وَلوِاؤُهُ أبْيَضَ".
هذا حديثٌ حسنٌ غريبٌ مِنْ هذا الوجْهِ من حَديثِ ابنِ عباسٍ.
ـــــــ
"حدثنا يزيد بن حبان" النبطي البلخي نزيل المدائن أخو مقاتل صدوق يخطئ من السابعة "سمعت أبا مجلز" بكسر الميم وسكون الجيم وفتح اللام بعدها زاي "لاحق بن حميد" بن سعيد السدوسي البصري مشهور بكنيته ثقة من كبار الثالثة.
قوله: "كانت راية النبي صلى الله عليه وسلم سوداء" قال ابن الملك: أي ما غالب لونه أسود بحيث يرى من البعيد أسود لا أنه خالص السواد يعني لما سبق أنها كانت من نمرة "ولواؤه أبيض" بالنصب على أنه خبر كان، ويجوز رفعه على الخبرية. وروى أبو داود من طريق سِمَاك عن رجل من قومه عن آخر منهم: رأيت راية رسول الله صلى الله عليه وسلم صفراء، ويجمع بينه وبين أحاديث الباب باختلاف الأوقات.
قوله: "هذا حديث غريب" وأخرجه ابن ماجه والحاكم قال المنذري: وأخرج البخاري هذا الحديث في تاريخه الكبير من رواية يزيد هذا مختصراً على الراية(5/329)
باب ماجاء في الشعار
...
11ـ باب ما جَاءَ في الشّعارِ
1733ـ حدثنا محمودُ بنُ غَيْلاَنَ حدثنا وَكِيعٌ حدثنا سُفْيَانُ عن أبي إسحاقَ عن المهَلّبِ بن أبي صُفْرَةَ، عَمّنْ سَمِعَ النبيّ صلى الله عليه وسلم يقولُ: "إنْ بَيّتَكُمُ العَدُوّ فَقُولُوا: حم لا يُنْصَرُونَ" .
ـــــــ
"باب ما جَاءَ في الشّعارِ"
قال في القاموس: الشعار ككتاب العلامة في الحرب والسفر. وقال في النهاية: ومنه الحديث: إن شعار أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم كان في الغزو يا منصور "أمت أمت" أي علامتهم التي كانوا يتعارفون بها في الحرب انتهى
قوله: "عن المهلب بن أبي صفرة" بضم المهملة وسكون الفاء، واسمه ظالم بن(5/329)
وفي البابِ عن سَلَمَةَ بنِ الأكْوَعِ. وهَكَذَا رَوَى بَعْضُهُمْ عنْ أبي إسحاقَ مِثْلَ رِوَايَةِ الثّوْرِيّ. وَروى عنهُ عن المُهَلّبِ بنِ أبِي صُفْرَةَ عَنِ النبيّ صلى الله عليه وسلم مُرْسَلاً.
ـــــــ
سارق العتكي الأزدي أبي سعيد البصري من ثقات الأمراء وكان عارفاً بالحرب فكان أعداؤه يرمونه بالكذب، من الثانية: وله رواية مرسلة: قال أبو إسحاق السبيعي: ما رأيت أمير أفضل منه. كذا في التقريب.
قوله: "إن بيتكم العدو" أي إن قصدكم بالقتل ليلاً واختلطتم معهم. قال في النهاية: تبييت العدو هو أن يقصد في الليل من غير أن يعلم فيؤخذ بغتة وهو البيات "فقولوا" وفي رواية أبي داود إن بيتم فليكن شعاركم "حم لا ينصرون" بصيغة المجهول. قال القاضي: معناه بفضل السور المفتتحة بحم ومنزلتها من الله لا ينصرون. وقال الخطابي: معناه الخبر، ولو كان بمعنى الدعاء لكان مجزوماً، أي لا ينصرووا، وإنما هو إخبار كأنه قال: والله إنهم لا ينصرفون. وقد روى عن ابن عباس أنه قال: حم اسم من أسماء الله فكأنه حلف بالله أنهم لا ينصرون. وقال الجزري في النهاية: قيل معناه اللهم لا ينصرون، ويريد به الخبر لا الدعاء، لأنه لو كان دعاء لقال لا ينصروا مجزوماً، فكأنه قال والله لا ينصرون، وقيل إن السور التي في أولها حم سور لها شأن، فنبه أن ذكرها لشرف منزلتها مما يستظهر به على استنزال النصر من الله، وقوله "لا ينصرون" كلام مستأنف كأنه حين قال قولوا: حم قبل ماذا يكون إذا قلنا؟ فقال: لا ينصرون انتهى.
قوله: "وفي الباب عن سلمة بن الأكوع" أخرج حديثه أبو داود والنسائي بلفظ: قال غزونا مع أبي بكر زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم فكان شعارناً أمت أمت(5/330)
باب ماجاء في صفة سيف رسول الله صلى الله عليه وسلم
...
12- باب ما جَاءَ في صِفَةِ
سَيْف رَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم
1734ـ حدثنا محمدُ بنُ شُجَاعٍ البَغْدَادِيّ حدثنا أبو عُبيْدَةَ الحَدّادُ
ـــــــ
باب ما جَاءَ في صِفَةِ سَيْف رَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم
قوله: "حدثنا محمد بن شجاع البغدادي" المروزي بفتح الميم وتشديد الراء(5/330)
عن عثمانَ بنِ سَعْدٍ عَنْ ابنِ سِيرِينَ قال: "صَنَعْتُ سَيْفِي على سَيْفِ سَمُرَةَ بن جندب وَزَعَمَ سَمُرَةَ أنّهُ صَنَعَ سَيْفَهُ على سَيْفِ رَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم، وكانَ حَنَفِيّا".
هذا حديثٌ غريبٌ لا نَعْرِفُهُ إلا مِنْ هذا الوجْهِ. وقد تَكَلّمَ يَحْيَى بنُ سعِيدٍ القَطّانُ في عثمانَ بنِ سَعْدٍ الكَاتِبِ وَضَعّفَهُ مِنْ قِبَلِ حِفْظِهِ.
ـــــــ
المضمومة وبالذال المعجمة، ثقة من العاشرة "حدثنا أبو عبيدة الحداد" اسمه عبد الواحد بن واصل السدوسي مولاهم البصري نزيل بغداد ثقة، تكلم فيه الأزدي بغير حجة من التاسعة "عن عثمان بن سعد" التميمي أبي بكر البصري الكاتب المعلم ضعيف من الخامسة.
قوله: "صنعت سيفي على سيف سمرة" أي على هيئة سيفه "وكان حنفياً" قال في المجمع في حديث سيفه وكان حنيفاً هو منسوب إلى أحنف بن قيس تابعي كبير وتنسب إليه لأنه أول من أمر باتخاذها والقياس أحنفي انتهى. وقال في هامش النسخة الأحمدية: قوله حنيفاً أي على هيئة سيوف بني حنيفة قبيلة مسيلمة لأن صانعه منهم أو ممن يعمل كعملهم انتهى.(5/331)
13ـ باب في الفِطْرِ عندَ القِتَال
1735ـ حدثنا أحمدُ بنُ محمدِ بنِ مُوسَى أنبأنا عبدُ الله بنُ المبَارَكِ أنبأنا سَعِيدُ بنُ عبدِ العزيزِ عن عَطِيّةَ بن قَيْسٍ عن قَزَعَةَ عن أبي سَعِيدٍ الخُدْرِيّ قال: لَمّا بَلَغَ النبيّ صلى الله عليه وسلم عام الفَتْحِ مَرّ الظّهْرَانِ فَآذَنَنَا بِلِقَاءِ العَدُوّ فَأَمَرَنَا بالفِطْرِ فَأفْطَرْنَا أَجْمَعين".
ـــــــ
"باب في الفِطْرِ عندَ القِتَال"
قوله: "عن قزعة" بزاي وفتحات ابن يحيى البصري ثقة من الثالثة.(5/331)
هذا حديثٌ حسنٌ
ـــــــ
قوله:"مر الظهران"بفتح الميم والظاء، قال في النهاية:هو واد بين مكة وعسفان واسم القرية المضافة إليه مر بفتح الميم وتشديد الراء انتهى "فآذننا"أي أعلمنا "فأمرنا بالفطر فأفطرنا أجمعين" وفي رواية مسلم: سافرنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ونحن صيام قال فنزلنا منزلاً فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم إنكم قد دنوتم من عدوكم والفطر أقوى لكم رخصة فمنا من صام ومنا من أفطر ثم نزلنا منزلاً آخر فقال إنكم مصبحو عدوكم والفطر أقوى لكم فأفطروا وكانت عزمة فأفطرنا وفيه دليل على أن الفطر لمن وصل في سفره إلى موضع قريب من العدو أولى، لأنه ربما وصل إليهم العدو إلى ذلك الموضع الذي هو مظنة ملاقاة العدو، ولهذا كان الإفطار أولى ولم يتحتم، وأما إذا كان لقاء العدو متحققاً فالإفطار عزيمة، لأن الصائم يضعف عن منازلة الأقران، ولا سيما عند غليان مراجل الضراب والطعان، ولا يخفى ما في ذلك من الإهانة لجنود المحقين وإدخال الوهن على عامة المجاهدين من المسلمين.
قوله: "هذا حديث حسن صحيح" وأخرجه مسلم وأبو داود(5/332)
باب ماجاء في الخروج عند الفزع
...
14ـ باب ما جَاءَ في الْخُروجِ عِنْدَ الفَزَع
1736 ـ حدثنا محمودُ بنُ غَيْلاَنَ حدثنا أبو دَاوُدَ الطّيَالِسِيّ قال:أَنْبَأَنَا شُعْبَةُ عن قَتَادَةَ حدثنا أنَسُ بنُ مالِكٍ قال:"رَكِبَ النبيّ صلى الله عليه وسلم فَرَساً لأَبِي طَلْحَةَ يُقَالُ لَهُ مَنْدُوبٌ، فقال: "ما كانَ مِنْ فَزَعٍ وإنْ وَجَدْنَاهُ لبَحْراً" .
ـــــــ
"باب ما جَاءَ في الْخُروجِ عِنْدَ الفَزَع"
قوله: "ركب النبي صلى الله عليه وسلم فرساً لأبي طلحة" هو زيد بن سهل زوج أم أنس "يقال له مندوب" قال الحافظ: قيل سمى بذلك من الندب وهو الرهن عند السباق، وقيل الندب كان في جسمه وهو أثر الجرح "ما كان من فزع"(5/332)
وفي البابِ عَنْ ابن عَمْرٍو بنِ العَاصِ.
وهذا حديثٌ حسنٌ صحيحٌ.
1737 ـ حدثنا محمدُ بنُ بَشّارٍ حدثنا محمدُ بنُ جَعْفَرٍ و ابنُ أبي عَدِي و أبو دَاوُدَ قالوا حدثنا شُعْبَةُ عن قَتَادَةَ عن أنَسٍ بن مالك قَالَ: "كانَ فَزَعٌ بالمَدِينَةِ فاسْتَعَارَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم فَرَساً لَنَا يُقَالُ لَهُ مَنْدُوبٌ، فقالَ: "ما رأَيْنَا مِنْ فَزَعٍ وإنْ وَجَدْنَاهُ لَبَحْراً" .
هذا حديثٌ حسنٌ صحيحٌ.
ـــــــ
أي خوف "وإن وجدناه لبحراً" قال الخطابي: إن هي النافية واللام في "لبحرا" بمعنى إلا أي ما وجدناه إلا بحراً. قال ابن التين: هذا مذهب الكوفيين، وعند البصريين إن مخففة من الثقيلة واللام زائدة، كذا قال الأصمعي، يقال للفرس بحر إذا كان واسع الجرى أو لأن جريه لا ينفد كما لا ينفد البحر، ويؤيده ما في رواية. وكان بعد ذلك لا يجازي.
قوله: "وفي الباب عن عمرو بن العاص" أخرجه أحمد في مسنده.
قوله: "هذا حديث حسن صحيح" وأخرجه الشيخان.
"حدثنا محمد بن جعفر" الهذلي مولاهم أبو عبد الله البصري المعروف بغندر "وابن أبي عدي" هو محمد بن إبراهيم بن أبي عدي السلمي مولاهم القسملي.
قوله: "كان فزع بالمدينة" أي خوف من عدو "فاستعار رسول الله صلى الله عليه وسلم فرساً لنا" وفي رواية للبخاري: فاستعار النبي صلى الله عليه وسلم فرساً من أبي طلحة.
قوله: "هذا حديث حسن صحيح" وأخرجه الشيخان(5/333)
باب ماجاء في الثبات عند القتال
...
15ـ باب ما جَاءَ في الثّبَاتِ عِنْدَ القِتَال
1738ـ حدثنا محمدُ بنُ بَشّارٍ حدثنا يَحْيَى بنُ سَعِيدٍ حدثنا سُفْيَانُ الثوري حدثنا أبو إسحاقَ عن البَرَاءِ بنِ عَازِبٍ: قال "قالَ لَنا رَجُلٌ أفَرَرتُمْ عَنْ رَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم يَاَ أَبَا عَمُارَةَ؟ قال: لا والله ما وَلّى رسولُ الله صلى الله عليه وسلم وَلَكِنْ وَلّى سَرَعَان النّاسِ تَلَقّتْهُمْ هوَازِنُ بالنّبْلِ وَرَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم على بَغْلَتِهِ، وَأَبُو سُفيانَ بنُ الحَارِثِ بنِ عبدِ المطّلِبِ آخِذٌ بِلِجَامِهَا، وَرَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم يقولُ: "أَنَا النبيّ لا كَذِب، أَنَا ابنُ عَبْدِ المُطّلِب" .
ـــــــ
"باب ما جَاءَ في الثّبَاتِ عِنْدَ القِتَال"
قوله: "أفررتم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم" وفي رواية للبخاري: أتوليت يوم حنين، وفي رواية له: أوليتم مع النبي صلى الله عليه وسلم، وفي رواية أخرى له: أفررتم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم "يا أبا عمارة" هي كنية البراء "ولكن ولى سرعان الناس" قال في النهاية: السرعان بفتح السين والراء أوائل الناس الذين يتسارعون إلى الشيء ويقبلون عليه بسرعة، ويجوز تسكين الراء انتهى "تلقتهم هوازن بالنبل" وفي رواية للبخاري: فرشقتهم هوازن. والرشق بالشين المعجمة والقاف رمي السهام، وهوازن قبيلة كبيرة من العرب فيها عدة بطون ينسبون إلى هوازن بن منصور بن عكرمة بن حفصة بن قيس بن غيلان بن إلياس بن مضر "ورسول الله صلى الله عليه وسلم على بغلته" هذه البغلة هي البيضاء كما في رواية الشيخين "وأبو سفيان بن الحارث بن عبد المطلب" بن هاشم وهو ابن عمر النبي صلى الله عليه وسلم، وكان إسلامه قبل فتح مكة لأنه خرج إلى النبي صلى الله عليه وسلم فلقيه في الطريق وهو سائر إلى فتح مكة، فأسلم وحسن إسلامه، وخرج إلى غزوة حنين فكان فيمن ثبت، كذا في الفتح "ورسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "أنا النبي لا كذب، أنا ابن عبد المطلب" قال الحافظ(5/334)
وفي البابِ عن عليّ وابنِ عُمَرَ.
وهذا حديثٌ حسنٌ صحيحٌ.
ـــــــ
في الفتح قال ابن التين: كان بعض أهل العلم بفتح الباء من قوله لا كذب، ليخرجه عن الوزن.
وقد أجيب عن مقالته صلى الله عليه وسلم هذا الرجز بأجوبة أحدها أنه نظم غيره وأنه كان فيه أنت النبي لا كذب أنت ابن عبد المطلب. فذكره بلفظ أنا في الموضعين.
ثانيها: أنه رجز وليس من أقسام الشعر، وهذا مردود.
ثالثها أنه لا يكون شعراً حتى يتم قطعته، وهذه كلمات يسيرة ولا تسمى شعراً.
رابعها أنه خرج موزوناً ولم يقصد به الشعر، وهذا أعدل الأجوبة. وأما نسبته إلى عبد المطلب دون أبيه عبد الله فكأنها لشهرة عبد المطلب بين الناس لما رزق من نباهة الذكر وطول العمر، بخلاف عبد الله فإنه مات شاباً، ولهذا كان كثير من العرب يدعونه ابن عبد المطلب، كما قال ضمام بن ثعلبة لما قدم: أيكم ابن عبد المطلب، وقيل لأنه كان اشتهر بين الناس أنه يخرج من ذرية عبد المطلب رجل يدعو إلى الله ويهدي الله الخلق على يديه ويكون خاتم الأنبياء، فانتسب إليه ليتذكر ذاك من كان يعرفه، وقد اشتهر ذلك بينهم، وذكره سيف بن ذي يزن قديماً لعبد المطب قبل أن يتزوج عبد الله آمنة وأراد صلى الله عليه وسلم تنبيه أصحابه بأنه لا يدمن ظهوره وأن العاقبة له لتقوى قلوبهم إذا عرفوا أنه ثابت غير منهزم. وأما قوله "لا كذب" ففيه إشارة إلى أن صفة النبوة يستحيل معها الكذب، فكأنه قال: أنا النبي والنبي لا يكذب فلست بكاذب فيما أقول حتى أنهزم وأنا متيقن بأن الذي وعدني الله به من النصر حق فلا يجوز على الفرار. وقيل معنى قوله "لا كذب" أي أنا النبي حقاً لا كذب في ذلك، انتهى ما في الفتح.
قوله: "وفي الباب عن علي وابن عمر" أما حديث علي فأخرجه أحمد، وأما حديث ابن عمر فأخرجه الترمذي في هذا الباب.
قوله: "هذا حديث حسن صحيح" وأخرجه الشيخان.(5/335)
1739ـ حدثنا محمدُ بنُ عُمَرَ بنِ عليّ المُقَدّمِيّ البصري حدثني أبي عن سُفْيَانَ بنِ حُسَيْنٍ عَنْ عُبَيْدِ الله بنِ عُمَر عن نَافِعٍ عن ابنِ عُمَر قالَ: "لَقَدْ رَأَيْتُنَا يَوْمَ حُنَيْنٍ وإنّ الفِئَتَيْنِ لِمُوَلّيَتَينِ وَمَا مَعَ رَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم مِائَةُ رَجُلٍ".
هذا حديثٌ حسنٌ غريبٌ لا نعرفه مِنْ حَدِيثِ عُبَيْدِ الله إلاّ مِنْ هذا الوجْهِ.
1740ـ حدثنا قُتَيْبَةُ حدثنا حَمّادُ بنُ زَيْدٍ عن ثَابِتٍ عن أَنَسٍ قال: "كانَ النبيّ صلى الله عليه وسلم أجرإ الناسِ، وأجْوَد النّاسِ، وأشْجَع
ـــــــ
قوله: "حدثنا محمد بن عمر بن علي" بن عطاء بن مقدم قوله: "المقدمي" بالتشديد البصري صدوق من صغار العاشرة "عن سفيان بن حسين" بن حسن الواسطي ثقة في غير الزهري باتفاقهم من السابعة مات بالري مع المهدي وقيل في أول خلافة الرشيد، كذا في التقريب.
قوله: "وإن الفئتين لموليتان" كذا في النسخ الحاضرة، وأورد الحافظ هذا الحديث في الفتح نقلاً عن الترمذي وفيه: وإن الناس لمولين، مكان: وإن الفئتين لموليتان، حيث قال: وروى الترمذي من حديث ابن عمر بإسناد حسن قال: لقد رأيتنا يوم حنين وإن الناس لمولين وما مع رسول الله صلى الله عليه وسلم مائة رجل. قال الحافظ: وهذا أكثر ما وقفت عليه من عدد من أثبت يوم حنين. وروى أحمد والحاكم من حديث عبد الرحمن بن عبد الله بن مسعود عن أبيه قال: كنت مع النبي صلى الله عليه وسلم يوم حنين فولى عنه الناس وثبت معه ثمانون رجلاً من المهاجرين والأنصار فكنا على أقدامنا. ولم نولهم الدبر وهم الذين أنزل الله عليهم السكينة. وهذا لا يخالف حديث ابن عمر فإنه نفى أن يكونوا مائة، ولبن مسعود أثبت أنهم كانوالا ثمانين.
قوله: "أحسن الناس" أي خلقاً وخلقاً وصورة وسيرة ونسباً وحسباً ومعاشرة(5/336)
الناسِ، قالَ: وقَدْ فَزِعَ أهلُ المَدِينَةِ لَيْلَة سَمِعُوا صَوْتاً قال: فَتَلَقّاهُمُ النبيّ صلى الله عليه وسلم على فَرَسٍ لأبي طَلْحَةَ عُرْيٍ وهو مُتَقَلّدٌ سَيْفَهُ، فقال: لَمْ ترَاعُوا لم تُرَاعُوا ، فقالَ النبيّ صلى الله عليه وسلم: وجَدْتُه بحراً ـ يَعْنِي الفَرَسَ".
هذا حديثٌ صحيحٌ.
ـــــــ
ومصاحبة "وأجود الناس" أي أكثرهم كرماً وسخاوة "وأشجع الناس" أي قوة وقلباً "ولقد فزع" بكسر الزاي أي خاف "ليلة سمعوا صوتاً" أي منكراً "فتلقاهم النبي صلى الله عليه وسلم" وفي رواية لمسلم: فتلقاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم راجعاً وقد سبقهم إلى الصوت "على فرس لأبي طلحة عرى" بضم فسكون أي ليس عليه سرج "وهو" أي النبي صلى الله عليه وسلم "متقلد سيفه" وفي رواية لمسلم: في عنقه السيف "لم تراعوا" بضم التاء والعين مجهول من الروع بمعنى الفزع والخوف أي لم تخافوا ولم تفزعوا، وأتى بصيغة الجحد مبالغة في النفي وكأنه ما وقع الروع والفزع قط "لم تراعوا" كرره تأكيداً أو كل لخطاب قوم من عن يمينه ويساره.
قوله: "هذا حديث صحيح" وأخرجه الشيخان(5/337)
باب ماجاء في السيوف وحليتها
...
16ـ باب ما جاءَ في السّيُوفِ وَحِلْيَتِهَا
1741ـ حدثنا محمدُ بنُ صُدْرَانَ أبُو جَعْفَرٍ البَصْرِيّ حدثنا طَالِبُ بنُ حُجَيْرٍ عن هُودٍ بنُ عبدِ الله بن سَعْدٍ عن جَدّهِ مزِيدَةَ قال: "دَخَلَ
ـــــــ
"باب ما جاءَ في السّيُوفِ وَحِلْيَتِهَا"
قوله: "حدثنا محمد بن صدران أبو جعفر البصري" قال في التقريب: محمد بن إبراهيم بن صدران بضم المهملة والسكون الأزدي السلمي أبو جعفر المؤذن البصري وقد ينسب لجده صدوق من العاشرة "حدثنا طالب بن حجين" بمهملة وجيم مصغراً العبدي البصري صدوق من السابعة "عن هو بن عبد الله بن سعد"(5/337)
رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم يَوْمَ الفَتْحِ وعلى سَيْفِهِ ذَهَبٌ وفِضّةٌ، قالَ طَالِبٌ: فَسَأَلْتُهُ عن الفِضّةِ فقال: كانَتْ قَبِيعَةُ السّيْفِ فِضّةً".
وفي البابِ عن أنَسٍ.
وهذا حديثٌ حسن غريبٌ. وجَدّ هُودٍ اسْمُهُ مَزِيدَةُ العَصَرِيّ.
ـــــــ
العبدي العصري مقبول من الرابعة "عن جده" لأمه "مزيدة" بوزن كبيرة ابن جابر أو ابن مالك وهو أصح، العصري صحابي مقل.
قوله: "دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم" أي مكة "فسألته" أي هوداً "وكانت قبيعة السيف فضة" في النهاية: هي التي تكون على رأس قائم السيف، وقيل ما تحت شاربي السيف، وفي القاموس: قبيعة السيف ما على طرف مقبضه من فضة أو حديدة. وقال الخطابي: قبيعة السيف الثومة التي فوق المقبض انتهى.
قوله: "وفي الباب عن أنس" أخرج حديثه الترمذي في هذا الباب.
قوله: "هذا حديث غريب" قال التوربشتي: حديث مزيدة لا يقوم به حجة إذ ليس له سند يعتد به، ذكر صاحب الاستيعاب حديثه وقال إسناده ليس بالقوي انتهى. وقال الذهبي في الميزان في ترجمة طالب بن حجير بعد ذكر هذا الحديث ما لفظه: قال الترمذي حسن غريب. وقال الحافظ: أبو الحسن القطار هو عندي ضعيف لا حسن، وصدق أبو الحسن تفرد طالب به وهو صالح الأمر إن شاء الله وهذا منكر، فما علمنا في حلية سيفه صلى الله عليه وسلم وسلم ذهباً، انتهى كلام الذهبي.
قلت: ويدل على ضعف هذا الحديث حديث أبي أمامة عند البخاري: لقد فتح الفتوح قوم ما كانت حلية سيوفهم الذهب ولا الفضة إنما كانت حليتهم العلابي والاَنك والحديد.
قال الحافظ في شرح هذا الحديث: وفي هذا الحديث أن تحلية السيوف وغيرها من آلات الحرب بغير الذهب والفضة أولى. وأجاب من أباحها بأن تحلية السيوف بالذهب والفضة إنما شرع لإرهاب العدو، وكان لأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك غنية لشدتهم في أنفسهم وقوتهم في إيمانهم انتهى.(5/338)
1742ـ حدثنا محمدُ بنُ بَشّارٍ حدثنا وَهْبُ بنُ جَرِيرٍ بن حازمٍ حدثنا أبي عن قَتَادَةَ عن أنَسٍ قالَ: "كانَتْ قَبِيعَةُ سَيْفِ رَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم مِنْ فِضّةٍ".
هذا حديثٌ حسنٌ غَرِيبٌ وهَكَذَا رُوِيَ عن هَمّامٍ عن قَتَادَةَ عن أنَسٍ، وقَدْ رَوَى بعضُهُمْ عن قَتَادَةَ عن سَعِيدِ بنِ أبي الْحَسَنِ قَالَ: كانَتْ قَبِيعَةُ سَيْفِ رسُولِ الله صلى الله عليه وسلم مِنْ فِضّةٍ.
ـــــــ
قوله: "حدثنا أبي" أي جرير بن حازم.
قوله: "وكانت قبيعة سيف رسول الله صلى الله عليه وسلم من فضة" في شرح السنة: فيه دليل على جواز تحلية السيف بالقليل من الفضة، وكذلك المنطقة. واختلفوا في اللجام والسرج فأباحه بعضهم كالسيف وحرم بعضهم لأنه من زينة الدابة. وكذلك اختلفوا في تحلية سكين الحرب والمقلمة بقليل من الفضة، فأما التحلية بالذهب فغير مباح في جميعها.
قوله: "هذا حديث حسن غريب" وأخرجه أبو داود والنسائي والدارمي "وهكذا روي عن همام عن قتادة عن أنس" أي كما رواه جرير عن قتادة عن أنس أي كما رواه جرير عن قتادة عن أنس كذلك رواه همام عن قتادة عن أنس وقد رواه النسائي عنهما جميعاً فقال: أخبرنا أبو داود قال حدثنا عمرو بن عاصم قال حدثنا همام وجرير قال حدثنا عن أنس قال: كان نعل سيف رسول الله صلى الله عليه وسلم من فضة وقبيعة سيفه فضة وما بين ذلك حلق فضة "وقد روى بعضهم عن قتادة عن سعيد بن أبي الحسن الخ" المراد من بعضهم هو هشام الدستوائي فقد روى أبو داود والنسائي من طريق هشام عن قتادة عن سعيد بن أبي الحسن قال كانت قبيعة سيف رسول الله صلى الله عليه وسلم فضة، وهذا الحديث مرسل لأن سعيد بن أبي الحسن تابعي، قال الحافظ في التقريب: سعيد بن أبي الحسن البصري أخو الحسن ثقة من الثالثة.(5/339)
ـــــــ
اعلم أن أبا داود والنسائي وغيرهما قد صرحوا بأن حديث هشام عن قتادة عن سعيد بن أبي الحسن هو المحفوظ، فقال أبو داود في سننه: أقوى هذه الأحاديث حديث سعيد بن أبي الحسن والباقية ضعاف. وقال الدارمي في مسنده: باب قبيعة سيف رسول الله صلى الله عليه وسلم حدثنا أبو النعمان حدثنا جرير بن حازم عن قتادة عن أنس قال: كانت قبيعة سيف رسول الله صلى الله عليه وسلم من فضة، قال عبد الله يعني الدارمي: هشام الدستوائي خالفه فقال قتادة عن سعيد ابن أبي الحسن عن النبي صلى الله عليه وسلم وزعم الناس أنه هو المحفوظ. وقال الزيلعي: قال النسائي هذا حديث منكر والصواب قتادة عن سعد بن أبي الحسن وما رواه عن همام غير عمرو بن عاصم انتهى. وقال الحافظ في تهذيب رسول الله التهذيب: قال أحمد حديث جرير عن قتادة عن أنس قال: كانت قبيعة سيف صلى الله عليه وسلم فضة خطأ، والصواب عن قتادة عن سعيد بن أبي الحسن انتهى ما في تهذيب التهذيب محصلاً. لكن قال الحافظ ابن القيم إن حديث قتادة عن أنس محفوظ لاتفاق جرير بن حازم وهمام على قتادة عن أنس، والذي رواه عن قتادة عن سعيد بن أبي الحسن مرسلاً هو هشام الدستوائي، وهشام وإن كان مقدماً في أصحاب قتادة فليس همام وجرير إذاً تفقا بدونه انتهى.
قلت: الظاهر قال ما قال ابن القيم والله تعالى أعلم(5/340)
باب ماجاء في الدرع
...
17ـ باب مَا جَاءَ في الدّرْع
1743ـ حدثنا أبو سَعِيدٍ الأَشَجّ حدثنا يُونُسُ بنُ بُكَيْرٍ عن محمدِ بنِ إسحاقَ عن يَحْيَى بنِ عَبّادِ بنِ عَبْدِ الله بنِ الزّبَيْرِ عن أبِيهِ عن جَدّهِ عبدِ الله بنِ الزّبَيْرِ عن الزبير بنِ العَوّامِ قالَ: "كانَ على النبيّ صلى الله
ـــــــ
"باب مَا جَاءَ في الدّرْع"
قوله: "عن جده عبد الله بن الزبير" بن العوام القرشي الأسدي كان أول مولود في الإسلام بالمدينة من المهاجرين وولي الخلافة تسع سنين: وقتل في ذي الحجة سنة ثلاث وسبعين، كذا في التقريب.(5/340)
عليه وسلم دِرْعَانِ يَوْمَ أُحُدٍ، فَنَهَضَ إلى الصّخْرَةِ فَلَمْ يَسْتَطِعْ، فَأَقْعَدَ طَلْحَةَ تَحْتَهُ، فَصَعِدَ النبيّ صلى الله عليه وسلم عليه حتى اسْتَوَى على الصّخْرَةِ، فقالَ:سَمِعْتُ النبيّ صلى الله عليه وسلم يقولُ: "أوْجَبَ طَلْحَةُ" .
وفي البابِ عن صَفْوَانَ بنِ أُمَيّةَ والسّائِبِ بنِ يَزِيدَ.
وهذا حديثٌ حسن غريبٌ لا نَعْرِفُهُ إلاّ مِنْ حديثِ محمدِ بنِ إسحاقَ
ـــــــ
قوله: "كان على النبي صلى الله عليه وسلم درعان" أي مبالغة في قوله تعالى: {خُذُوا حِذْرَكُمْ} وقوله: {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ} فإنها تشمل الدرع وإن فسرها النبي صلى الله عليه وسلم بأقوى أفرادها حيث قال: "ألا إن القوة الرمي" ، قال القاري: وفيه إشارة إلى جواز المبالغة في أسباب المجاهدة وأنه لا ينافي التوكل والتسليم بالأمور الواقعة المقدرة "يوم أحد" بضمتين موضع معروف بالمدينة "فنهض" أي قام متوجهاً "إلى الصخرة" أي التي كانت هناك يستوي عليها وينظر إلى الكفار ويشرف على الأبرار "أوجب طلحة" أي الجنة كما في رواية، والمعنى أنه أثبتها لنفسه بعمله هذا أو بما فعل في ذلك اليوم، فإنه خاطر بنفسه يوم أحد وفدى بها رسول الله صلى الله عليه وسلم وجعلها وقاية له حتى طعن ببدنه وجرح جميع جسده حتى شلت يده ببضع وثمانين جراحة كذا في المرقاة.(5/341)
باب ماجاء في المغفر
...
18ـ باب ما جَاءَ في المِغْفَر
1744ـ حدثنا قُتَيْبَةُ حدثنا مالِكُ بنُ أَنَسٍ عن ابن شِهَابٍ عن أَنَسِ
ـــــــ
"باب ما جَاءَ في المِغْفَر"
قال في القاموس: المغفر كمنبر وبهاء وكتابة زرد من الدرع يلبس تحت(5/341)
بنِ مَالِكٍ قالَ: "دَخَلَ النبيّ صلى الله عليه وسلم عَامَ الفَتْحِ وعلى رَأْسِهِ المِغْفَرُ فَقِيلَ لَهُ ابنُ خَطَلٍ مُتَعَلّقٌ بِأَسْتَارِ الكَعْبَةِ، فقال: اقْتُلُوهُ ".
هذا حديثٌ حسنٌ صحيحٌ غريب. لا نَعْرِفُ كَبِيرَ أحَدٍ رَوَاهُ غَيْرُ مالِكٍ عن الزّهْرِيّ.
ـــــــ
القلنسوة أو حلق يتقنع بها المتسلح انتهى. وقال في الصراح: زرد بالتحريك زرد بافته زراد زرة كر.
قوله: "وفي الباب عن صفوان بن أبي أمية والسائب بن يزيد" أما حديث صفوان بن أمية فأخرجه أحمد في مسنده، وأما حديث السائب بن يزيد فأخرجه أبو داود وابن ماجه عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم كان عليه يوم أحد درعان قد ظاهر بينهما.
قوله: "هذا حديث حسن غريب الخ" وأخرجه أحمد، كذا في المرقاة
قوله: "عام الفتح" أي عام فتح مكة "وعلى رأسه المغفر" زرد ينسج من الدروع على قدر الرأس، وقيل هو رفرف البيضة. قال في المحكم وفي المشارق: هو ما يجعل من فضل الدروع الحديد على الرأس مثل القلنسوة. وفي رواية زيد بن الحباب عن مالك يوم الفتح: وعليه مغفر من حديد. أخرجه الدارقطني في الغرائب "فقيل له" أي النبي صلى الله عليه وسلم "ابن خطل" بفتح الخاء المعجمة قال الحافظ: والجمع بين ما اختلف فيه من اسمه كان يسمى عبد العزى فلما أسلم سمى عبد الله، وأما من قال هلال فالتبس عليه بأخ له اسمه هلال انتهى. "قال اقتلوه" قال الحافظ: والسبب في قتل ابن خطل وعدم دخوله في قوله: من دخل المسجد فهو آمن، ما روى إسحاق في المغازي حدثني عبد الله بن أبي بكر وغيره أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حين دخل مكة قال: "لا يتقل أحد إلا من قاتل إلا نفراً سماهم، فقال اقتلوهم وإن وجدتموهم تحت أستار الكعبة" ، منهم عبد الله بن خطل وعبد الله بن سعد، وإنما أمر بقتل ابن خطل لأنه كان مسلماً فبعثه رسول الله صلى الله عليه وسلم مصدقاً وبعث معه رجلاً من الأنصار، وكان معه مولى يخدمه وكان مسلماً، فنزل منزلاً فأمر المولى أن يذبح تيساً ويصنع له طعاماً فنام واستيقظ ولم يصنع له شيئاً، فعدى عليه فقتله ثم ارتد مشركاً، وكانت له قينتان تغنيان بهجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم انتهى.
قوله: "هذا حديث حسن صحيح" وأخرجه البخاري في الحج وفي الجهاد وفي المغازي وفي اللباس، وأخرجه مسلم في المناسك، وأبو داود في الجهاد، والنسائي في الحج وفي السير، وابن ماجه في الجهاد.(5/342)
ـــــــ
قوله: "لا نعرف كبير أحد رواه غير مالك عن الزهري" كذا في النسخ الحاضرة عندنا، ونقل الحافظ في الفتح هذه العبارة بلفظ: لا يعرف كثير أحد رواه غير مالك عن الزهري كما ستقف، قال الحافظ: وقيل إن مالكاً تفرد به عن الزهري، وممن جزم بذلك ابن الصلاح في علوم الحديث له في الكلام على الشاذ، وتعقبه شيخنا الحافظ أبو الفضل العراقي بأنه ورد من طريق ابن أخي الزهري وأبي أويس ومعمر والأوزاعي، وقال إن رواية ابن أخي الزهري عند والبزار ورواية أبي أويس عبد ابن سعد وابن عدي وأن رواية معمر ذكرها ابن عدي، وأن رواية الأوزاعي ذكرها المزني ولم يذكر شيخنا من أخرج روايتهما، وقد وجدت رواية معمر في فوائد ابن المقري، ورواية الأوزاعي في فوائد تمام، ثم نقل شيخنا عن ابن السدي أن ابن العربي قال حين قيل له لم يروه إلا مالك: قد رويته من ثلاثة عشر طريقاً غير طريق مالك وإنه وعد بإخراج ذلك ولم يخرج شيئاً. وأطال ابن السدي في هذه القصة وأنشد فيها شعراً وحاصلها أنهم اتهموا ابن العربي في ذلك ونسبوه إلى المجازفة، ثم شرح ابن السدي يقدح في أصل القصة ولم يصب في ذلك، فراوي القصة عدل متقن، والذين اتهموا ابن العربي في ذلك هم الذين أخطأوا لقلة اطلاعهم، وكأنه بخل عليهم بإخراج ذلك لما ظهر له من إنكارهم وتعنتهم وقد تتبعت طرقه حتى وقفت على أكثر من العدد الذي ذكره ابن العربي ولله الحمد، ثم ذكر الحافظ تلك الطرق التي وجدها ثم قال: فتبين بذلك أن إطلاق ابن الصلاح متعقب، وأن قول ابن العربي صحيح، وأن كلام من اتهمه مردود ولكن ليس في طرقه شيء على شرط الصحيح إلا طريق مالك، فيحمل قول من قال انفرد به مالك أي بشرط الصحة، وقول من قال توبع أي في الجملة، وعبارة الترمذي سالمة من الاعتراض فإنه قال بعد تخريجه حسن صحيح غريب لا يعرف كثير أحد رواه غير مالك عن الزهري، فقوله كثير يشير إلى أنه توبع في الجملة انتهى كلام الحافظ مختصراً(5/343)
باب ماجاء في فضل الخيل
...
19ـ باب ما جَاءَ في فَضْلِ الْخَيْل
1745ـ حدثنا هَنّادٌ حدثنا عَبْثَرُ بنُ الْقَاسِمِ عَنْ حُصَيْنٍ عن الشّعْبِيّ
ـــــــ
"باب ما جَاءَ في فَضْلِ الْخَيْل"
قوله: "حدثنا عبثر" بفتح أوله وسكون الموحدة وفتح المثلثة "بن القاسم"(5/343)
عن عُرْوَةَ البَارِقِيّ قال: قالَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: "الْخَيْرُ مَعْقُودٌ في نوَاصِي الْخَيْلِ إلى يَوْمِ القِيَامَةِ: الأجْرُ والمَغْنَمُ" .
ـــــــ
الزبيدي بالضم أو زبيد كذلك الكوفي ثقة من الثامنة "عن عروة البارقي" هو ابن الجعد، ويقال ابن أبي الجعد، ويقال اسم أبيه عياض صحابي، سكن الكوفة وهو أول قاض بها.
قوله: "الخير معقود في نواصي الخيل" أي ملازم بها كأنه معقود فيها، كذا في النهاية: والمراد بالخيل ما يتخذ للغزو بأن يقاتل عليه أو يرتبط لأجل ذلك لقوله صلى الله عليه وسلم: الخيل لثلاثة الحديث، ولقوله في آخر الحديث الأجر والمغنم، قال عياض: إذا كان في نواصيها البركة فيبعد أن يكون فيها شؤم، فيحتمل أن يكون الشؤم في غير الخيل التي ارتبطت للجهاد وأن الخيل التي أعدت له هي المخصوصة بالخير والبركة، أو يقال الخير والشر يمكن اجمتاعهما في ذات واحدة، فإنه فسر الخير بالأجر والمغنم، ولا يمنع ذلك أن يكون ذلك الفرس مما يتشاءم به انتهى. "الأجر والمغنم" بدل من قوله الخير أو هو خير مبتدأ أو محذوف أي هو الأجر والمغنم، ووقع عند مسلم من رواية جرير عن حصين قالوا: بم ذلك يا رسول الله؟ قال الأجر والمغنم، قال الطيبي: يحتمل أن يكون الخير الذي فسر بالأجر والغنم استعاره لظهوره وملازمته، وخص الناصية لرفعة قدرها وكأنه شبهه لظهوره بشيء محسوس معقود على مكان مرتفع، فنسب الخير إلى لازم المشبه به، وذكر الناصية تجديداً للاستعارة، والمراد بالناصية هنا الشعر المسترسل على الجبهة قاله الخطابي وغيره. قالوا: ويحتمل أن يكون كنى بالناصية عن جميع ذات الفرس كما يقال: فلان مبارك الناصية، قال الحافظ: ويبعده لفظ الحديث الثالث يعني حديث أنس: البركة في نواصي الخيل. وقد روى مسلم من حديث جابر قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يلوي ناصية فرسه بأصبعه ويقول، فذكر الحديث، فيحتمل أن تكون الناصية خصت بذلك لكونها المقدم منها إشارة إلى أن الفضل في الإقدام بها على العدو دون المؤخر لما فيه من الإشارة إلا الإدبار.(5/344)
وفي البابِ عن ابنِ عُمَرَ وأبي سَعِيدٍ وجَريرٍ وأبي هُرَيْرَةَ وأسْمَاءَ بِنْتِ يَزِيدَ والمُغِيرَةِ بنِ شُعْبَةَ وَجَابِرٍ.
وهذا حديثٌ حسنٌ صحيحٌ. وعُرْوَةُ هُوَ ابنُ أبي الْجَعْدِ البَارِقِيّ ويقالُ هو عُرْوَة بنُ الْجَعْدِ. قال أحمدُ بنُ حَنْبَلٍ: وفِقْهُ هذا الحديثِ أنّ الْجِهَادِ مَعَ كُلّ إمَامٍ إلى يَوْمِ القيامةِ.
ـــــــ
قوله: "وفي الباب عن ابن عمر، وأبي سعيد وجرير وأبي هريرة وأسماء بنت يزيد والمغيرة بن شعبة وجابر" أما حديث ابن عمر فأخرجه مالك وأحمد والشيخان والنسائي وابن ماجه، وأما حديث أبي سعيد فأخرجه أحمد، وأما حديث جرير فأخرجه أحمد ومسلم والنسائي والطحاوي، وأما حديث أبي هريرة فأخرجه الترمذي في باب من ارتبط فرساً في سبيل الله، وأخرجه أيضاً مسلم والنسائي وابن ماجه، وأما حديث أسماء بنت يزيد فأخرجه أحمد، وأما حديث المغيرة بن شعبة فأخرجه أبو يعلى. وأما حديث جابر فأخرجه أحمد والطحاوي. وفي الباب أحاديث أخرى عن غير هؤلاء الصحابة رضي الله عنهم ذكرها الحافظ في الفتح في شرح باب الجهاد ماض مع البر والفاجر.
قوله: "هذا حديث حسن صحيح" وأخرجه أحمد والشيخان والنسائي وابن ماجه والطحاوي.
قوله: "قال أحمد بن حنبل: وفقه هذا الحديث أن الجهاد مع كل إمام" أي براً كان أو فاجراً "إلى يوم القيامة" يعني أن الجهاد ماض مع كل إمام إلى يوم القيامة. وقال البخاري في صحيحه: باب الجهاد ماض مع البر والفاجر لقول النبي صلى الله عليه وسلم: "الخيل معقود في نواصيها الخير إلى يوم القيامة" قال الحافظ: سبقه إلى الاستدلال بهذا الإمام أحمد لأنه صلى الله عليه وسلم ذكر بناء الخير في نواصي الخيل إلى يوم القيامة وفسره بالأجر والمغنم، والمغنم المقترن بالأجر إنما يكون من الخيل بالجهاد، ولم يقيد ذلك بما إذا كان الإمام عادلاً، فدل على أن لا فرق في حصول هذا الفضل بين أن يكون الغزو مع الإمام العادل والجائر انتهى(5/345)
باب ما يستحب من الخيل
...
20ـ باب ما جاء مَا يُسْتَحَبّ مِنَ الْخَيْل
1746ـ حدثنا عبدُ الله بنُ الصّباحِ الهَاشِميّ البَصْرِيّ حدثنا يَزِيدُ بنُ هَارُونَ أخبرنا شَيْبَانُ يعني بن عبدِ الرحمنِ حدثنا عيسى بنُ عليّ بنِ عبدِ الله بن عباس عن أبيهِ عن ابنِ عَبّاسٍ قالَ: قالَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم: "يُمْنُ الْخَيْلِ في الشّقْرِ" .
هذا حديثٌ حسنٌ غريبٌ. لا نَعْرِفُهُ إلاّ مِنْ هذا الوجْهِ مِنْ حديثِ شيبَانَ.
1747ـ حدثنا أحمدُ بنُ محمدٍ أخبرنا عبدُ الله بنُ المبَارَكِ أخبرنا ابنُ لَهِيعَةَ عن يَزِيدَ بنِ أبي حَبيبٍ عن عليّ بنِ رَبَاحٍ عن أبي قَتَادَةَ عن النبيّ
.ـــــــ
"باب ما جاء مَا يُسْتَحَبّ مِنَ الْخَيْل"
قوله: "حدثنا عيسى بن علي بن عبد الله" بن عباس الهاشمي الحجازي ثم البغدادي، صدوق مقل، كان معتزلاً للسلطان من السابعة "عن أبيه" أي علي بن عبد الله بن عباس، ثقة عابد من الثالثة.
قوله: "بمن يختار" أي بركنها "في الشقر" بضم أوله جمع أشقر وهو أحمر. قال في مختار الصحاح: الشقرة لون الأشقر وهي في الإنسان حمرة صافية وبشرته مائلة إلى البياض، وفي الخيل حمرة صافية يحمر معها العرف والذنب، فإن اسودا فهو الكميت.
قوله: "هذا حديث حسن غريب الخ" وأخرجه أحمد وأبو داود.
قوله: "حدثنا أحمد بن محمد" بن موسى أبو العباس السمسار المعروف بمردويه "عن علي بن رباح" بن قصير ضد الطويل اللخمي البصري ثقة والمشهور فيه علي بالتصغير وكان يغضب منها، من صغار الثالثة.(5/346)
صلى الله عليه وسلم قالَ: "خَيْرُ الْخَيْلِ الأَدْهَمُ الأَقْرَح الأَرْنم ثم الأقْرَحُ المُحَجّلُ طلقُ اليَمِينِ، فإنْ لَمْ يَكُنْ أدْهَمَ فُكَمَيّتٌ على هذه الشّيَةِ" .
1748 ـ حدثنا محمدُ بنُ بَشّارٍ حدثنا وَهْبُ بنُ جَرِيرٍ حدثنا أبي عن يَحْيَى بنِ أيّوبَ عن يَزِيدَ بنِ أبي حَبيبٍ بهذا الاسناد نَحْوَهُ بِمَعْنَاهُ.
هذا حديثٌ حسنٌ غريبٌ صحيحٌ
ـــــــ
قوله: "خير الخيل الأدهم" قال التوربشتي: الأدهم الذي يشتد سواده، وقوله "الأقرح" الذي في وجهه القرحة بالضم وهي ما دون الغرة يعني فيه بياض يسير ولو قدر درهم "الأرثم" بالمثلثة أي في جحفلته العليا بياض يعني أنه الأبيض الشفة العليا، وقيل الأبيض الأنف، قاله القاري، والجحفلة بمنزلة الشفة للخيل والبغال والحمير "ثم" أي بعد ما ذكر من الأوصاف المجتمعة في الفرس "الأقرح المحجل" التحجيل بياض في قوائم الفرس أو في ثلاث منها أو في رجليه قل أو كثر بعد أن يجاوز الأرساغ لا يجاوز الركبتين والعرقوبين "طلق اليمين" بضم الطاء واللام ويسكن إذا لم يكن في إحدى قوائهما تحجيل "فإن لم يكن" أي الفرس "أدهم" أي أسود من الدهمة وهي السواد على مافي القاموس "فكميت" بالتصغير أي بأذنيه وعرفه سواد والباقي أحمر. وقال التوربشتي: الكميت من الخيل يستوي فيه المذكر والمؤنث والمصدر الكميتة وهي حمرة يدخلها فترة. وقال الخليل: إنما صغر لأنه بين السواد والحمرة لم يخلص لواحد منهما فأرادوا بالتصغير أنه قريب منهما "على هذه الشية" بكسر الشين المعجمة وفتح التحتية، وأي العلامة، وهي في الأصل كل لون يخالف معظم لون الفرس وغيره والهاء عوض عن الواو الذاهبة من أوله وهمزها لحن، وهذه إشارة إلى الأفراح الأرثم ثم المحجل طلق اليمين
قوله: "هذا حديث حسن غريب صحيح" وأخرجه أحمد وابن ماجه والدارمي والحاكم(5/347)
باب مايكره من الخيل
...
21ـ باب ما يُكْرَهُ مِنَ الْخَيْل
1749 ـ حدثنا محمد بن بشّارٍ حدثنا يحيى بن سَعِيدٍ حدثنا سفيانُ حدثنا سِلْمُ بنُ عبدِ الرحمَنِ عن أبي زُرْعةَ بنِ عَمْرِو بنِ جَرِيرٍ عن أبي هُرَيْرَةَ عن النبيّ صلى الله عليه وسلم أنّهُ كَرِهَ الشّكَال في الْخَيْلِ.
هذا حديثٌ حسنٌ صحيحٌ. وقد رَوَاهُ شُعْبَةُ عن عَبْدِ الله بنِ يَزِيدَ
ـــــــ
"باب ما يُكْرَهُ مِنَ الْخَيْل"
قوله: "حدثنا سلم بن عبد الرحمن" النخعي الكوفي أخو حصين، قيل يكنى أبا عبد الرحيم صدوق من السادسة له عندهم حديث واحد كذا في التقريب.
قوله: "أنه كره الشكال" بكسر أوله "في الخيل" وفي رواية مسلم في الخيل، وزاد في روايته والشكال أن يكون الفرس في رجله اليمنى بياض وفي يده اليسرى ويده اليمنى ورجله اليسرى. قال النووي: وهذا التفسير هو أحد الأقوال في الشكال. وقال أبو عبيد وجمهور أهل اللغة، والغريب هو أن يكون منه ثلاث قوائم محجلة وواحدة مطلقة تشبيهاً بالشكال الذي يشكل به الخيل فإنه يكون في ثلاث قوائم غالباً. قال أبو عبيد: وقد يكون الشكال ثلاث قوائم مطلقة وواحدة محجلة، قال: ولا يكون المطلقة من الأرجل أو المحجلة إلا الرجل. قال ابن دريد: الشكال أن يكون محجلة من شق واحد في يده ورجله فإن كان مخالفاً قيل الشكال مخالف. قال القاضي: قال أبو عمرو المطرز: قيل الشكال بياض الرجل اليمنى واليد اليمنى، وقيل بياض الرجل اليسرى واليد اليسرى، وقيل بياض اليدين، وقيل بياض الرجلين، وقيل بياض الرجلين ويد واحدة، وقيل بياض اليدين ورجل واحدة. وقال العلماء: إنما كرهه لأنه على صورة المشكول، وقيل يحتمل أن يكون قد جرب ذلك الجنس فلم يكن فيه نجابة. قال بعض العلماء: إذا كان مع ذلك أغر زالت الكراهة لزوال شبه الشكال.
قوله: "هذا حديث حسن صحيح" وأخرجه أحمد ومسلم وأصحاب السنن(5/348)
الْخَثْعَمِيّ عن أبي زُرْعَةَ عن أبي هُرَيْرَةَ نَحْوَهُ. وأبو زُرْعَةَ بنُ عَمْرِو بنِ جَرِيرٍ اسْمُهُ هَرِمٌ.
1750-حدثنا محمدُ بنُ حُمَيْدٍ الرّازِيّ حدثنا جَرِيرٌ عن عُمَارَةَ بنِ القَعْقَاعِ قالَ: قالَ لِي إبراهيم النّخَعِيّ: إذا حَدّثْتَنِي فَحَدّثْنِي عن أبي زُرْعَةَ فَإِنّهُ حَدّثَنِي مَرّةً بِحَدِيثٍ ثُمّ سَأَلْتُهُ بَعْدَ ذَلِكَ بِسِنِينَ فما خَرَمَ مِنْهُ حَرْفاً.
ـــــــ
"وقد رواه شعبة عن عبد الله بن يزيد الخثعمي عن أبي زرعة عن أبي هريرة نحوه" قال في التقريب: عبد الله بن يزيد النخعي الكوفي عن أبي زرعة عن شكال الخيل، قال أحمد صوابه سلم بن عبد الرحمن أخطأ شعبة في اسمه: وقال في تهذيب التهذيب في ترجمته: قال المؤلف وقال عبد الله بن أحمد عن أبيه: شعبة يخطئ في هذا يقول عبد الله بن يزيد وإنما هو سلم بن عبد الرحمن النخعي انتهى.
قوله: "حدثنا محمد بن حميد الرازي" حافظ ضعيف، وكان ابن معين حسن الرأي فيه من العاشرة "حدثنا جرير" هو ابن عبد الحميد.
قوله: "فما خرم" من باب ضرب، أي ما نقص، يعني أنه كان في غاية من الحفظ والإتقان(5/349)
باب ماجاء في الرهان
...
22ـ بابُ مَا جَاء في الرّهَانِ
1751ـ حدثنا محمدُ بنُ وَزِيرِ حدثنا إسحاقُ بنُ يوسفَ الأزْرَقُ عن سُفْيَانَ عن عُبَيدِ الله عن نَافِعٍ عن ابنِ عُمَرَ: "أنّ رَسولَ الله صلى الله عليه وسلم أجْرَى المُضَمّرَ مِنَ الْخَيْلِ مِنَ الْحَفْيَاءِ إلَى ثَنِيّةِ الوَدَاعِ
ـــــــ
"بابُ مَا جَاء في الرّهَانِ"
قال في القاموس: الرهان والمراهنة: المخاطرة والمسابقة على الخيل.
قوله: "حدثنا محمد بن الوزير" بن قيس العبدي الواسطي ثقة عابد من العاشر.
قوله: "أجرى المضمر" الإضمار والتضمير أن تعلف الخيل حتى تسمن وتقوى(5/349)
وبَيْنَهُمَا سِتّةُ أَمْيَالٍ، وما لَمْ يُضَمّر من الخيل مِنَ ثَنِيّةِ الوَادَعِ إلى مَسْجِدِ بَنِي زُرَيْق وَبَيْنَهُمَا ميْلٌ وكُنْتُ فِيمَنْ أجْرَى، فَوَثَبَ بي فَرَسِي جِدَاراً".
ـــــــ
ثم يقلل علفها بعد، بقدر الفوت وتدخل بيتاً وتعشى بالجلال حتى تحمى فتعرق فإذا جف عرقها خف لحمها وقويت على الجري "من الحفياء" بفتح المهملة وسكون الفاء بعدها تحتانية ومد، مكان خارج المدينة ويجوز القصر، وفي رواية للبخاري سابق وهو المراد من قوله أجرى "إلى ثنية الوداع" مكان آخر خارج المدينة وأضيف الثنية إلى الوداع لأنها موضع التوديع "إلى مسجد بني زريق" بضم الزاي وفتح الراء اسم رجل "وبينهما" أي بين الثنية والمسجد "ميل" إنما جعل غاية المضمرة أبعد لكونها أقوى "فوثب بي فرسي جداراً" وفي رواية لمسلم: قال عبد الله فجئت فطفف بي الفرس المسجد، قال النووي: أي علا ووثب إلى المسجد وكان جداره قصيراً، وهذا بعد مجاوزته الغاية، لأن الغاية هي هذا المسجد وهو مسجد بني زريق انتهى. وفي الحديث مشروعية المسابقة وأنه ليس من العبث بل من الرياضة المحمودة الموصلة إلى تحصيل المقاصد في الغزو والانتفاع بها عند الحاجة، وهي دائرة بين الاستحباب والإباحة بحسب الباعث على ذلك. قال القرطبي: لا خلاف في جواز المسابقة على الخيل وغيرها من الدواب على الأقدام، وكذا الترامي بالسهام واستعمال الأسلحة لما في ذلك من التدريب على الحرب.
وفيه جواز الخيل ولا يخفى اختصاص استحبابها بالخيل المعدة للغزو.
وفيه مشروعية الإعلام بالابتداء والانتهاء عند المسابقة.
تنبيه: لم يتعرض في هذا الحديث للمراهنة على ذلك، لكن ترجم الترمذي له باب المراهنة على الخيل، ولعله أشار إلى ما أخرجه أحمد من رواية عبد الله بن عمر المكبر عن نافع عن ابن عمر: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سابق بين الخيل وراهن، قاله الحافظ: وقال وقد أجمع العلماء على جواز المسابقة بغير عوض، لكن قصرها مالك والشافعي على الخف والخافر والنصل، وخصة بعض العلماء بالخيل، وأجازه عطاء في كل شيء، واتفقوا على جوازها(5/350)
ـــــــ
بعوض بشرط أن يكون من غير المتسابقين كالإمام حيث لا يكون له معهم فرس، وجوز الجمهور أن يكون من أحد الجانبين من المتسابقين، وكذا إذا كان معهما ثالث محلل بشرط أن يكون من عنده شيئاً ليخرج العقد عن صورة القمار، وهو أن يخرج كل منهما سبقاً، فمن غلب أخذ السبقين فاتفقوا على منعه، ومنهم من شرط في المحلل أن يكون لا يتحقق السبق في مجلس السبق.
قلت: ويدل على قوله: وكذا إذا كان معهما ثالث محلل الخ حديث أبي هريرة مرفوعاً: "من أدخل فرساً بين فرسين فإن كان يؤمن أن يسبق فلا خير فيه وإن كان لا بد لا يؤمن أن يسبق فلا بأس به" ، رواه في شرح السنة. قال المظهر: اعلم أن المحلل ينبغي أن يكون على فرس المخرجين أو قريباً من فرسيهما في العدو، فإن كان فرس المحلل جواداً بحيث يعلم المحلل أن فرسي المخرجين لا يسبقات فرسه لم يجز بل وجوده كعدمه، وإن كان لا يعلم أنه يسبق فرسي المخرجين يقيناً أو أنه يكون مسبوقاً جاز. وفي شرح السنة ثم في المسابقة من كان المال من جهة الإمام أو من جهة واحد من عرض الناس شرط للسابق من الفارسين مالاً معلوماً فجائز، وإذا سبق استحقه، وإن كان من جهة الفارسين فقال أحدهما لصاحبه: إن سبقتني فلك علي كذا وإن سبقتك فلا شيء لي عليك، فهو جائز أيضاً، فإذا سبق استحق المشروط وإن كان المال من جهة كل واحد منهما بأن قال لصاحبه إن سبقتك فلي عليك كذا، وإن سبقتني فلك علي كذا، فهذا لا يجوز إلا بمحلل يدخل بينهما إن سبق المحلل أخذ السبقين، وإن سبق فلا شيء عليه، وسمى محللاً لأنه محلل للسابق أخذ المال، فبالمحلل يخرج العقد عن أن يكون قماراً، لأن القمار يكون الرجل متردداً بين الغنم والغرم فإذا دخل بينهما لم يوجد فيه هذا المعنى، ثم إذا جاء المحلل أو لا ثم جاء المستبقان معاً أو أحدهما بعد الآخر أخذ المحلل السبقين، وإن جاء المستبقان معاً ثم المحلل فلا شيء لأحد، وإن جاء أحد المستبقين أولاً ثم المحلل والمستبق الثاني إما معاً أو أحدهما بعد الآخر، أحرز السابق سبقه وأخذ سبق المستبق الثاني، ومن جاء المحلل وأحد المستبقين معاً ثم جاء الثاني مصلياً أخذ السابقان سبقه كذا في المرقاة.(5/351)
وفي البابِ عن أبي هُرَيْرَةَ وجَابِرٍ وعائشة وَأَنَسٍ.
وهذا حديثٌ صحيحٌ حسنٌ غريبٌ مِنْ حَديثِ الثّوْرِيّ.
1752 ـ حدثنا أبو كُرَيْبٍ حدثنا وَكِيعٌ عن ابنِ أبي ذِئْبٍ عن نَافِعٍ بنِ أبي نَافِعٍ عن أبي هُرَيْرَةَ عن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال: "لا سَبَقَ إلاّ في نَصْلٍ أوْ خُف أوْ حَافِرٍ" .
ـــــــ
قوله: "وفي الباب عن أبي هريرة وجابر وأنس وعائشة" أما حديث أبي هريرة فأخرجه الترمذي في هذا الباب وله حديث آخر تقدم لفظه، وأما حديث جابر فأخرجه الدارقطني، وأما حديث أنس فأخرجه البخاري، وأما حديث عائشة فأخرجه الشافعي وأبو داود وابن ماجه وابن حبان والبيهقي ومن حديث هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة قالت: سابقت رسول الله صلى الله عليه وسلم فسبقته، فلما حملت اللحم سابقته فسبقني، فقال هذه بتلك. قال الحافظ: واختلف فيه على هشام فقيل هكذا، وقيل عن رجل عن أبي سلمة، وقيل عن أبيه وعن أبي سلمة عن عائشة كذا في التلخيص.
قوله: "هذا حديث حسن صحيح غريب" وأخرجه الشيخان.
قوله: "عن نافع بن أبي رافع" البزار كنيته أبو عبد الله مولى أبي أحمد، ثقة من الثالثة.
قوله: "لا سبق" بفتحتين، وقال في النهاية: هو بفتح الباء ما يجعل من المال رهناً على المسابقة، وبالسكون مصدر سبقت أسبق. وقال الخطابي: الرواية الفصيحة بفتح الباء، والمعنى لا يحل أخذ المال بالمسابقة "إلا في نصل" أي للسهم "أو خف" أي للبعير "أو حافر" أي للخيل. قال الطيبي: ولا بد فيه من تقدير أي ذي نصل وذي خف وذي حافر. وقال ابن الملك: المراد ذو نصل كالسهم، وذو خف كالإبل والفيل، وذو حافر كالخيل والحمير، أي لا يحل أخذ المال بالمسابقة إلا في أحدها وألحق بعض بها المسابقة بالأقدام، وبعض المسابقة بالأحجار. وفي شرح السنة: ويدخل في معنى الخيل البغال والحمير، وفي معنى الإبل الفيل، قيل لأنه أغنى(5/352)
ـــــــ
من الإبل في القتال، وألحق بعضهم الشد على الأقدام والمسابقة عليها، وفيه إباحة أخذ المال على المناضلة لمن نضل، وعلى المسابقة على الخيل والإبل لمن سبق، وإليه ذهب جماعة من أهل العلم لأنها عدة لقتال العدو، وفي بذل الجعل عليها ترغيب في الجهاد. قال سعيد بن المسيب: ليس برهان الخيل بأس إذا أدخل فيها محلل، والسباق بالطير والرجل وبالحمام وما يدخل في معناها مما ليس من عدة الحرب ولا من باب القوة على الجهاد، فأخذ المال عليه قمار محظور. وسئل ابن المسيب عن الدحو بالحجارة فقال لا بأس به، يقال فلان يدحو بالحجارة أي يرمي بها. قال الحافظ في التلخيص بعد ذكر حديث أبي هريرة هذا أخرجه أحمد وأصحاب السنن والشافعي والحاكم من طرق وصححه ابن القطان وابن دقيق العيد. وأعلّ الدارقطني بعضها بالوقف، ورواه الطبراني وأبو الشيخ من حديث ابن عباس انتهى(5/353)
باب ماجاء في كراهية أن ينزي الحمر على الخيل
...
23ـ باب ما جاءَ في كَرَاهِيَةِ
أنْ تنزَى الْحُمُر على الْخَيْل
1753ـ حدثنا أبُو كُرَيْبٍ حدثنا إسماعيلُ بنُ إبراهيم حدثنا أبُو جَهْضَمٍ مُوسى بنُ سَالِمٍ عن عبدِ الله بنِ عُبَيْدِ الله بنِ عَبّاسٍ عن ابنِ عبّاسٍ قال: "كانَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم عَبْداً مأمُوراً ما اخْتَصّنَا دُونَ الناسِ بِشَيْءٍ
ـــــــ
"باب ما جاءَ في كَرَاهِيَةِ أنْ تنزَى الْحُمُر على الْخَيْل"
قوله: "حدثنا موسى بن سالم أبو جهضم" مولى آل العباس صدوق من السادسة "عن عبد الله بن عبيد الله بن عباس" بن عبد المطلب الهاشمي ثقة من الرابعة.
قوله: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم عبداً مأموراً" أي بأوامره منهياً عن نواهيه، أو مأموراً بأن يأمر أمته بشيء وينهاهم عن شيء، كذا قيل. وقال القاضي: أي مطوعاً غير مستبد في الحكم ولا حاكم يقتضى ميله وتشهّيه حتى يخص من شاء بما شاء من الأحكام انتهى. والأظهر أن يقال إنه كان مأموراً بتبليغ الرسالة عموماً لقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ} الآية "ما اختصنا" أي أهل البيت، يريد به نفسه وسائر أهل بيت النبوة "دون الناس"(5/353)
إلا بِثلاثَ: أمَرَنَا أنْ نُسْبِغَ الوُضُوءَ، وأن لا نأكُلَ الصّدَقَةَ، وأن لا نُنْزِيَ حِمَاراً على فَرَسٍ".
ـــــــ
أي متجاوزاً عنهم "إلا بثلاث" أي ما اختصنا بكم لم يحكم به على سائر أمته ولم يأمرنا بشيء لم يأمرهم به انتهى. إلا بثلاث خصال. "أمرنا أن نسبغ الوضوء" بضم أوله أي نستوعب ماءه أو نكمل أعضاءه قال في المغرب: أي وجوباً لأن إسباغ الوضوء مستحب للكل "وأن لا ننزى حماراً على فرس" من أنزى الحمر على الخيل حملها عليه، ولعله كان هذا نهي تحريم بالنسبة إليهم. وقال القاضي: الظاهر أن قوله: أمرنا الخ تفضيل للخصال، وعلى هذا ينبغي أن يكون الأمر أمر إيجاب، وإلا لم يكن فيه اختصاص لأن إسباغ الوضوء مندوب على غيرهم، وإنزاء الحمار على الفرس مكروه مطلقاً لحديث علي، والسبب فيه قطع النسل واستبدال الذي هو أدنى بالذي هو خير البغلة لا تصلح للكر والفر ولذلك لا سهم لها في الغنيمة ولا سبق فيها على وجه، ولأنه علق بأن لا يأكل الصدقة وهو واجب فينبغي أن يكون قرينة أيضاً كذلك وإلا لزم استعمال اللفظ الواحد في معنيين مختلفين، اللهم إلا أن يفسر الصدقة بالتطوع، أو الأمر بالمشترك بين الإيجاب والندب. ويحتمل أن المراد به أنه صلى الله عليه وسلم ما اختصنا بشيء إلا بمزيد الحث والمبالغة في ذلك انتهى.
وفي الحديث رد بليغ على الشيعة حيث زعموا أن النبي صلى الله عليه وسلم اختص أهل البيت بعلوم مخصوصة، ونظيره ما صح عن علي رضي الله عنه حين سئل: هل عندكم شيء ليس في القرآن؟ فقال: والذي خلق الجنة بيده وبرأ النسمة ما عندنا إلا ما في القرآن إلا فهماً يعطي الرجل في كتابه وما في الصحيفة. الحديث.
قال الطحاوي في شرح الآثار بعد رواية حديث ابن عباس المذكور في الباب، وحديث علي الذي أشار إليه الترمذي ما لفظه: ذهب قوم إلى هذا فكرهوا إنزاء الحمر على الخيل وحرموا ذلك ومنعوا منه واحتجوا بهذه الآثار، وخالفهم في ذلك آخرون فلم يروا بذلك بأساً وكان من الحجة لهم في ذلك أن ذلك لو كان مكروهاً لكان ركوب البغال مكروهاً، لأنه لولا رغبة الناس في البغال وركوبهم إياها لما(5/354)
ـــــــ
أنزلت الحمر على الخيل. ألا ترى لما نهى عن إخصاء بني آدم كره بذلك الخصيان لأن في اتخاذهم ما يحمل من تخصيصهم على إخصائهم، لأن الناس إذا تحاموا اتخاذهم لم يرغب أهل الفسق في إخصائهم، ثم ذكر بسنده عن العلاء بن عيسى الذهبي أنه قال: أتى عمر بن عبد العزيز بخصي فكره أن يبتاعه وقال: ما كنت لأعين على الإخصاء، فكل شيء في ترك كسبه ترك لبعض أهل المعاصي لمعصيتهم فلا ينبغي كسبه، فلما أجمع على إباحة اتخاذ البغال وركوبها دل ذلك على أن النهي الذي في الآثار الأول لم يرد به التحريم ولكنه أريد به معنى آخر، ثم ذكر أحاديث ركوبه صلى الله عليه وسلم على البغال ثم قال:
فإن قال قائل: فما معنى قول النبي صلى الله عليه وسلم: إنما يفعل ذلك الذين لا يعلمون.
قيل له: قد قال أهل العلم في ذلك معناه أن الخيل قد جاء في ارتباطها واكتسابها وعلفها الأجر وليس ذلك في البغال. فقال النبي صلى الله عليه وسلم إنما ينزو فرس على فرس حتى يكون عنهما ما فيه الأجر، ويحمل حماراً على فرس فيكون عنهما بغل لا أجر في ارتباطه، ثم ذكر أحاديث فضل ارتباط الخيل ثم قال:
فإن قال قائل: فما معنى اختصاص النبي صلى الله عليه وسلم بني هاشم بالنهي عن إنزاء الحمير على الخيل؟
قيل له: لما حدثنا ابن أبي داود قال حدثنا أبو عمر الحوضي قال حدثنا المرجي هو ابن رجاء قال حدثنا أبو جهضم قال حدثني عبيد الله بن عبد الله عن ابن عباس قال: ما اختصنا رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا بثلاث: أن لا نأكل الصدقة، وأن نسبغ الوضوء، وأن لا ننزي حماراً على فرس، قال فلقيت عبد الله بن الحسن وهو يطوف بالبيت فحدثته، فقال صدق، كانت الخيل قليلة في بني هاشم فأحب أن تكثر فيهم، فبين عبد الله بن الحسن بتفسيره هذا المعنى الذي له اختص رسول الله صلى الله عليه وسلم بني هاشم أن لا ننزأوا الحمار على فرس، وأنه لم يكن للتحريم وإنما كانت العلة قلة الخيل فيهم، فإذا ارتفعت تلك العلة وكثرت الخيل في أيديهم صاروا في ذلك كغيرهم. وفي اختصاص النبي صلى الله عليه وسلم إياهم بالنهي عند(5/355)
وفي البابِ عن عَلِيّ.
وهذا حديثٌ حسنٌ صحيحٌ.
وَرَوَى سُفيانُ الثّوْرِيّ هذا عن أبي جَهْضَمٍ فقالَ: عن عُبَيْدِ الله بنِ عَبْدِ الله بنِ عبّاسٍ عن ابنِ عبّاسٍ. قال وسَمِعْتُ محمداً يقولُ: حَدِيثُ الثّوْرِيّ غَيْرُ مَحْفُوظٍ، وَوَهِمَ فِيهِ الثّوْرِيّ، والصّحِيحُ ما رَوَى إسماعيلُ بنُ عُلَيّةَ وعبدُ الوَارِثِ بنُ سَعِيدٍ عن أبي جَهْضَمٍ عن عَبْدِ الله بنِ عبيد الله بنِ عبّاسٍ عن ابنِ عبّاسٍ.
ـــــــ
ذلك دليل على إباحته إياه لغيرهم. ولما كان صلى الله عليه وسلم قد جعل في ارتباط الخيل ما ذكرنا من الثواب والأجر وسئل عن ارتباط الحمير فلم يجعل في ارتباطها شيئاً والبغال التي هي خلاف الخيل مثلها كان من ترك أن تنتج ما في ارتباطه وكسبه ثواب وأنتج ما لا ثواب في ارتباطه وكسبه من الذين لا يعلمون.
فلقد ثبت بما ذكرنا إباحة نتج البغال لبني هاشم وغيرهم وإن كان إنتاج الخيل أفضل من ذلك وهو قول أبي حنيفة وأبي يوسف ومحمد رحمة الله عليهم أجمعين. انتهى كلام الطحاوي مختصراً.
قلت: في كلام الطحاوي هذا أنظار كما لا يخفى على المتأمل. قال الطيبي: لعل الإنزاء غير جائز والركوب والتزين به جائز من كان كالصور، فإن عملها حرام واستعمالها في الفرش والبسط مباح.
قلت: وكذا تخليل الخمر حرام وأكل الخمر جائز على رأي بعض الأئمة.
قوله: "وفي الباب عن علي" أخرجه أبو داود والطحاوي عنه قال: أهديت لرسول الله صلى الله عليه وسلم بغلة فركبها، فقال علي: لو حملنا الحمير على الخيل فكانت لنا مثل هذه؟ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إنما يفعل ذلك الذين لا يعلمون" .
قوله: "هذا حديث حسن صحيح" وأخرجه النسائي والطحاوي(5/356)
باب ماجاء في الإستفتاح بصعاليك المسلمين
...
24ـ باب ما جاءَ في الاسْتِفْتَاحِ بِصَعَالِيكِ المُسْلِمِين
1754ـ حدثنا أحمدُ بنُ محمدٍ بن موسى حدثنا بنُ المُبَارَكِ أخبرنا عبدُ الرحمَنِ بنُ يَزِيدَ بنِ جَابِرٍ حدثني زَيْدُ بنُ أرْطَأَةَ عن جُبَيْرِ بنِ نُفَيْرٍ عن أبي الدّردَاءِ قالَ: سَمِعْتُ النبيّ صلى الله عليه وسلم يقولُ: "ابْغُونِي في ضُعَفَائِكُمْ، فَإِنّمَا ترْزَقُونَ وَتُنْصَرُونَ بِضُعَفَائِكُمْ" .
ـــــــ
"باب ما جاءَ في الاسْتِفْتَاحِ بِصَعَالِيكِ المُسْلِمِين"
الصعاليك جمع صعلوك. قال في القاموس: والصعلوك كعصفور الفقير وَتَصَعْلَكَ افْتَقَرْ والمراد من الاستفتاح بهم الاستنصار بهم. روى الطبراني عن أمية بن عبد الله بن خالد بن أسيد قال كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يستفتح بصعاليك المسلمين، قال المنذري: رواته رواة الصحيح وهو مرسل، وفي رواية يستنصر بصعاليك المسلمين. قال المناوي في شرح الجامع الصغير: قوله يستنصر بصعاليك المسلمين أي يطلب النصر بدعاء فقرائهم تيمناً بهم ولأنهم لانكسار خواطرهم دعاءهم أقرب إجابة، ورواه في شرح السنة بلفظ: كان يستفتح بصعاليك المهاجرين. قال القاري: أي بفقرائهم وببركة دعائهم. وفي النهاية: أي يستنصر بهم، ومنه قوله تعالى: {إِنْ تَسْتَفْتِحُوا فَقَدْ جَاءَكُمُ الْفَتْحُ} قال القاري: ولعل وجه التقييد بالمهاجرين لأنهم فقراء غرباء مظلومون مجتهدون مجاهدون فيرجى تأثير دعائهم، أكثر من عوام المؤمنين وأغنيائهم انتهى.
قوله: "حدثنا عبد الرحمن بن يزيد بن جابر" الأزدي أبو عتبة الشامي الداراني ثقة من السابعة قوله: "حدثني زيد بن أرطاة" الفزاري الدمشقي أخو عدي ثقة عابد من الخامسة.
قوله: "ابغوني" قال الطيبي بهمزة القطع والوصل يقال: بغى يبغي، بغاء إذا طلب، وهذا نهي عن مخالطة الأغنياء وتعليم منه انتهى.
قلت: الظاهر أنه بهمزة الوصل. قال في القاموس: بغيت الشيء أبغيه بغأ(5/357)
هذا حديثٌ حسنٌ صحيحٌ.
ـــــــ
وبغا وبغية بضمهن وبغية بالكسر طلبته كابتغيته وتبغيته واستبغيته انتهى. وأما بهمزة القطع فلا يناسب ههنا. قال في القاموس: أبغاه الشيء طلبه له وأعانه على طلبه "في ضعفائكم" أي فقرائكم "فإنما ترزقون" بصيغة المجهول "تنصرون" أي على الأعداء، وهذا أيضاً بصيغة المجهول "بضعفائكم" أي بسببهم أو ببركة دعائهم.
قوله: "هذا حديث حسن صحيح" وأخرجه أبو داود والنسائي(5/358)
باب ماجاء في الأجراس على الخيل
...
25ـ باب ما جاءَ في كراهية الأجْرَاسِ على الْخَيْل
1755 ـ حدثنا قُتَيْبَةُ حدثنا عبدُ العَزِيزِ بنُ محمدٍ عن سُهَيْلٍ بنِ أبي صَالِحٍ عن أبِيهِ عن أبي هُرَيْرَةَ أنّ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم قالَ: "لا تَصحَبُ المَلاَئِكَةُ رُفقَةً فيها كَلْبٌ ولا جَرَسٌ" .
ـــــــ
"باب ما جاءَ في كراهية الأجْرَاسِ على الْخَيْل"
الأجراس جمع جرس بالتحريك وهو الذي يعلق في عنق البعير والذي يضرب به أيضاً كذا في القاموس. وقال الجزري في النهاية: فيه حديث لا تصحب الملائكة رفقة فيها جرس هو الجلجل الذي يعلق على الدواب، قيل إنما كرهه لأنه يدل على أصحابه بصوته، وكان عليه السلام يحب أن لا يعلم العدو به حتى يأتيهم فجأة، وقيل غير ذلك انتهى.
قوله: "لا تصحب الملائكة" أي ملائكة الرحمة لا الحفظة "رفقة" بضم أوله أي جماعة ترافقوا، وهي مثلثة الراء على ما في القاموس. وقال النووي بكسر الراء وضمها "فيها كلب" أي لغير الصيد والحراسة "ولا جرس" بزيادة لا للتأكيد. قال الطيبي: جاز عطفه على قوله: فيها كلب وإن كان مثبتاً لأنه في سياق النفي. في المغرب: الجرس بفتحتين ما يعلق بعنق الدابة وغيره فيصوت. قال النووي: وسبب الحكمة في عدم مصاحبة الملائكة مع الجرس أنه شيبه بالنواقيس أو لأنه من المعاليق المنهي عنها لكراهة صوتها، ويؤيده قوله: الجرس مزامير الشيطان،(5/358)
وفي البابِ عن عُمَرَ وعائِشَةَ وأُمّ حَبِيبَةَ وأُمّ سَلَمَةَ.
وهذا حديثٌ حسنٌ صحيحٌ.
ـــــــ
وهو مذهبنا ومذهب مالك وهي كراهة تنزيه. وقال جماعة من متقدمي علماء الشام: يكره الجرس الكبير دون الصغير انتهى.
قلت: لفظ الحديث مطلق فيدخل فيه كل جرس كبيراً كان أو صغيراً فالتقييد بالجرس الكبير يحتاج إلى الدليل. وروى أبو داود في سننه قال: حدثنا علي بن سهل وإبراهيم بن الحسن قالا أنبأنا حجاج عن ابن جريج قال أخبرني عمر بن حفص أن عامر بن عبد الله قال: علي بن سهل بن الزبير أخبره أن مولاة لهم ذهبت بابنه الزبير إلى عمر بن الخطاب وفي رجلها أجراس فقطعها عمر ثم قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إن مع كل جرس شيطاناً" . قال المنذري: مولاة لهم مجهولة، وعامر بن عبد الله بن الزبير لم يدرك عمر انتهى. وروى أيضاً عن بناته مولاة عبد الرحمن بن حيان الأنصاري عن عائشة قالت: بينما هي عندها إذا دخل عليها بجارية وعليها جلاجل يصوتن فقالت لا تدخلها علي إلا أن تقطعوا جلاجلها، وقالت: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "لا تدخل الملائكة بيتاً فيه جرس" . والحديث سكت عنه أبو داود والمنذري.
قوله: "وفي الباب عن عمر وعائشة وأم حبيبة وأم سلمة" أما حديث عمر فأخرجه أبو داود، وأما حديث عائشة فأخرجه أيضاً أبو داود وتقدم لفظه ولفظ حديث عمر آنفاً. وأما حديث أم حبيبة فأخرجه أبو داود والنسائي. وأما حديث أم سلمة فأخرجه النسائي.
قوله: "هذا حديث حسن صحيح" وأخرجه أحمد ومسلم وأبو داود(5/359)
باب من يستعمل على الحرب
...
26ـ باب ما جاء مَنْ يُسْتَعْمَلُ عَلَى الْحَرْب
1756 ـ حدثنا عبدُ الله بنُ أبي زِيَادٍ حدثنا الأحْوَصُ بنُ الجَوّابٍ
ـــــــ
"باب ما جاء مَنْ يُسْتَعْمَلُ عَلَى الْحَرْب"
أي من يجعل عاملاً وأميراً على الحرب.(5/359)
أبو الْجَوّابِ عن يُونُسَ بنِ أبي إسحاقَ عن أبِي إسْحَاقَ عن البَرَاءِ أنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم بَعَثَ جَيْشَيْنِ وَأَمَرَ على أَحَدِهما عَليّ بنَ أبي طالبٍ، وعلى الآخر خَالِدَ بنَ الوَلِيدِ، فقالَ: إذا كانَ القِتَالُ فَعَلِيّ . قالَ: فافْتَتَحَ عَلِيّ حِصْناً فَأَخَذَ مِنْهُ جَارِيَةً، فَكَتَبَ مَعِي خَالِد بن الوليد إلَى النبيّ صلى الله عليه وسلم يَشِي بهِ، فَقَدِمْتُ على النبيّ صلى الله عليه وسلم فَقَرَأَ الكِتَابَ فَتَغَيّرَ لَوْنُهُ ثم قالَ: ما تَرَى في رَجُلٍ يُحِبّ الله وَرَسُولَهُ ويُحِبّهُ الله وَرَسُولُهُ؟ قال قُلْتُ أعوذُ بالله مِنْ غَضَبِ الله وَغَضَبِ رَسُولِهِ وإنّمَا أنَا رَسُولٌ، فَسَكَتَ".
وفي البابِ عن ابنِ عُمَرَ.
وهذا حديثٌ حسنٌ غريبٌ. لا نَعْرِفُهُ إلاّ مِنْ حَدِيثِ الأحْوَصِ بنِ جَوّابٍ. قوله: "يَشِي به" يَعْنِي النّمِيمَةَ.
ـــــــ
قوله: "عن يونس بن أبي إسحاق" السبيعي أبي إسرائيل الكوفي صدوق يهم قليلاً من الخامسة "عن أبي إسحاق" هو السبيعي.
قوله: "بعث جيشين" وفي حديث بريدة عند أحمد: بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم بعثين إلى اليمن "إذا كان القتال فعلي" وفي حديث بريدة: إذا التقيتم فعلي على الناس، وإن افترقتما فكل واحد منكما على جند "قال فافتتح علي حصناً فأخذ منه جارية" وفي حديث بريدة: فلقينا بني زيد من أهل اليمن فاقتتلنا فظهر المسلمون على المشركين فقتلنا المقاتلة وسبينا الذرية فاصطفى على امرأة من السبي لنفسه "بشيء به" قال في القاموس: وشى به إلى السلطان وشياً ووشاية نم وسعى انتهى "فقرأ الكتاب" وفي حديث بريدة: رفعت الكتاب فقريء عليه "وإنما أنا رسول" وفي حديث بريدة: فقلت يا رسول الله هذا مكان العائذ، بعثتني مع رجل وأمرتني أن أطيعه ففعلت ما أرسلت به.
قوله: "وفي الباب عن ابن عمر" لينظر من أخرجه.
قوله: "هذا حديث حسن غريب" في إسناده أبو إسحاق السبيعي وهو مدلس(5/360)
ـــــــ
ورواه عن البراء معنعناً. وقال في التقريب: اختلط بآخره. وأما حديث بريدة عند أحمد ففي سنده أجلح الكندي وهو صدوق شيعي(5/361)
باب ماجاء في الإمام
...
27ـ باب ما جاءَ في الإمام
1757ـ حدثنا قُتَيْبَةُ حدثنا اللّيْثُ عن نَافِعٍ عن ابنِ عُمَرَ عن النبيّ صلى الله عليه وسلم قالَ: "ألاَ كُلّكُمْ رَاعِ وكُلّكُمْ مَسْئُولٌ عن رَعِيّتِهِ: فالأمِيرُ الذي على الناسِ رَاعٍ وَمَسْئُولٌ عن رَعِيّتِهِ، والرّجُلُ رَاعٍ على أهْل بَيْتِهِ وَهُوَ مَسْئُولٌ عنهم، والمَرْأَةُ رَاعِيَةٌ على بَيْتِ بَعْلِهَا وهِيَ مَسْئُولَةٌ عَنْهُ والعبد راع على مال سيده وهو مسئول عنه، ألاَ فَكُلّكُمْ رَاعٍ وكُلّكُمْ مَسْئُولٌ عن رَعِيّتِهِ" .
ـــــــ
"باب ما جاءَ في الإمام"
قوله: "ألا" للتنبيه "كلكم راع وكلكم مسؤل عن رعيته" الراعي هو الحافظ المؤتمن الملتزم صلاح ما اؤتمن على حفظه فهو مطلوب بالعدل فيه والقيام بمصالحه. والرعية كل من شمله حفظ الراعي ونظره "فالأمير الذي على الناس راع" فيمن ولي عليهم "ومسؤل عن رعيته" هل راعي حقوقهم أو لا "والرجل راع على أهل بيته وهو مسؤول عنهم" هل وفاهم حقهم من نحو نفقة وكسوة وحسن عشرة "والمرأة راعية في بيت بعلها" أي زوجها. وفي رواية للبخاري: المرأة راعية على أهل بيت زوجها وولده أي بحسن تدبير المعيشة والنصح له والشفقة والأمانة وحفظ نفسها وماله وأطفاله وأضيافه "هي مسؤولة عنه" أي عن بيت زوجها هل قامت بما عليها أو لا "والعبد راع على مال سيده" بحفظه والقيام بما يستحقه عليه من حسن خدمته ونصحه. قال الخطابي: اشتركوا أي الإمام والرجل ومن ذكر في التسمية أي في الوصف بالراعي ومعانيهم مختلفة، فرعاية الإمام الأعظم حياطة الشريعة بإقامة الحدود والعدل في الحكم، ورعاية الرجل أهله سياسة لأمرهم وإيصالهم حقوقهم، ورعاية المرأة تدبير أمر البيت والأولاد والخدم والنصيحة(5/361)
وفي البابِ عن أبي هُرَيْرَةَ وأنَسٍ وَأبي مُوسَى
حديث ابن عمر حديث حسن صحيح وحديث أبي موسى غير محفوظ وحديث أنس غير محفوظ. ورواه إبراهيم بن بَشّارٍ الرّمَادِيّ عن سُفيَانَ بنِ عُيَيْنَةَ عن بُرَيْدٍ بنِ عبدِ الله بن أبي بُرْدَةَ عن أبي بُرْدَةَ عن أبي موسى عن
ـــــــ
للزوج في كل ذلك، ورعاية الخادم حفظ ما تحت يده والقيام بما يجب عليه من خدمته "ألا فكلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته" قال الطيبي في هذا الحديث: إن الراعي ليس مطلوباً لذاته وإنما أقيم لحفظ ما استرعاه المالك، فينبغي أن لا يتصرف إلا بما أذن الشارع فيه، وهو تمثيل ليس في الباب ألطف ولا أجمع ولا أبلغ منه، فإنه أجمل أولاً ثم فصل وأتى بحرف التنبيه مكرراً. قال والفاء في قوله: ألا فكلكم جواب شرط محذوف، وختم بما يشبه الفذلكة إشارة إلى استيفاء التفصيل. وقال غيره: دخل في هذا العموم المنفرد الذي لا زوج له ولا خادم ولا ولد، فإنه يصدق عليه أنه راع على جوارحه حتى يعمل المأمورات ويجتنب المنهيات فعلاً ونطقاً واعتقاداً، فجوارحه وقواه وحواسه رعيته، ولا يلزم من الاتصاف بكونه راعياً أن لا يكون مرعياً باعتبار آخر.
قوله: "وفي الباب عن أبي هريرة وأنس وأبي موسى" أما حديث أبي هريرة فأخرجه الطبراني في الأوسط ولفظه: ما من راع إلا يسأل يوم القيامة أقام أمر الله أم أضاعه. وأما حديث أنس فأخرجه ابن عدي والطبراني في الأوسط مثل حديث ابن عمر المذكور وزاد في آخره فأعدوا للمسألة جواباً، قالوا وما جوابها؟ قال أعمال البر. ذكره الحافظ في الفتح وقال في سنده حسن. ولابن عدي بسند صحيح عن أنس: إن الله سائل كل عما استرعاه حفظ ذلك أو ضيعه. وأما حديث أبي موسى فأخرجه الترمذي في هذا الباب.
قوله: "حديث ابن عمر حسن صحيح" وأخرجه أحمد والشيخان وأبو داود.
قوله: "ورواه إبراهيم بن بشار الرمادي" بالفتح والتخفيف ومهملة نسبة إلى رمادة قرية باليمن وبفلسطين أبو إسحاق البصري، حافظ، له أوهام من العاشرة "عن بريد بن عبد الله بن أبي بردة" بن أبي موسى الأشعري الكوفي ثقة يخطئ(5/362)
النبيّ صلى الله عليه وسلم أخْبَرَنِي بذلكَ ابنِ بَشّارٍ. قالَ: ورَوَى غَيْرُ وَاحِدٍ عن سُفْيَانَ عن بُرَيْد عن أبي بُرْدَةَ عن النبيّ صلى الله عليه وسلم مُرْسَلاً. وهذا أصَحّ. قال محمدٌ: وَرَوَى إسحاقُ بنُ إبراهيم عن مُعَاذِ بنِ هِشَامِ عن أبِيهِ عن قَتَادَةَ عن أنَسٍ عن النبيّ صلى الله عليه وسلم: "إنّ الله سَائِلٌ كُلّ رَاعٍ عمّا اسْتَرْعَاهُ" قال سَمِعْتُ محمداً يقولُ: هذا غَيْرُ مَحْفُوظٍ، وإنما الصحيحُ عن مُعَاذِ بنِ هِشَامٍ عن أبِيهِ عن قَتَادَةَ عن الْحَسَنِ عن النبيّ صلى الله عليه وسلم مُرْسَلاً.
ـــــــ
قليلاً من السادسة "عن أبي بردة" بن أبي موسى الأشعري قيل اسمه عامر وقيل الحارث ثقة من الثالثة "أخبرني بذلك" أي بما قلنا من أنه رواه إبراهيم بن بشار الرمادي الخ وهذا قول الترمذي "محمد" هو محمد بن إسماعيل البخاري رحمه الله "عن إبراهيم بن بشار" وفي النسخة الأحمدية وغيرها ابن إبراهيم بن بشار بلفظ: ابن مكان عن وهو غلط "قال محمد" يعني البخاري رحمه الله "ورواه غير واحد عن سفيان عن بريد بن أبي بردة عن النبي صلى الله عليه وسلم مرسلاً" أي لم يذكروا أبا بردة وأبا موسى الأشعري "وهذا أصح" لأنه رواه كذلك مرسلاً غير واحد من أصحاب ابن عيينة. وأما رواية إبراهيم بن بشار الرمادي عن ابن عيينة متصلاً فهي وهم منه. قال الحافظ في تهذيب التهذيب في ترجمته: قال البخاري: يهم في الشيء بعد الشيء، وهو صدوق. وقال أيضاً: قال لي إبراهيم الرمادي حدثنا ابن عيينة عن بريد عن أبي بردة عن أبي موسى: كلكم راع. قال أبو أحمد ابن عدي وهو وهم كان ابن عيينة يرويه مرسلاً. قال ابن عدي: لا اعلم أنكر عليه إلا هذا الحديث الذي ذكره البخاري وباقي حديثه مستقيم وهو عندنا "من أهل الصدق" انتهى. "قال محمد" هو البخاري رحمه الله "وروى إسحاق بن إبراهيم" المعروف بابن راهويه المروزي "عن الحسن هو البصري"(5/363)
باب ماجاء في طاعة الإمام
...
28ـ باب مَا جَاءَ في طاعَةِ الإمام
1758 ـ حدثنا محمدُ بنُ يَحْيَى النيسابوري حدثنا محمدُ بنُ يُوسفَ حدثنا يونُسُ بنُ أبي إسحاقَ عن العَيْزَارِ بنِ حُرَيْثٍ عن أُمّ الْحُصَيْنِ الأحمَسِيّةِ قالَتْ: سَمِعْتُ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم يخطُبُ في حَجّةِ الوَدَاعِ وعليه بُرْدٌ قَدْ الْتَفَعَ بهِ مِنْ تَحْتِ إبِطِهِ قالَتْ: فأنا أنظرُ إلى عَضَلَةِ عَضُدِهِ تَرْتَجّ سَمِعَتُهُ يقولُ: "يا أيها الناسُ: اتّقُو الله وإنْ أُمّرَ عَلَيْكُمْ عَبْدٌ حَبَشِيّ مُجَدّعٌ فاسْمَعُوا لَهُ وأطِيعُوا ما أقَامَ لَكمْ كِتَابَ الله" .
وفي البابِ عن أبي هُرَيْرَةَ وعِرْبَاضِ بنِ سَارِيَةَ.
ـــــــ
"باب مَا جَاءَ في طاعَةِ الإمام"
قوله: "حدثنا محمد بن يحيى النيسابوري" هو الإمام الذهلي "عن العيزار" بفتح أوله وسكون التحتانية بعدها زاي وآخره راء "بن حريث" العبدي الكوفي ثقة من الثالثة "عن أم الحصين الأحمسية" صحابية شهدت حجة الوداع.
قوله: "وعليه برد قد التفع به" أي التحف به "وأنا أنظر إلى عضلة عضده" العضلة محركة في البدن كل لحمة صلبة مكتنزة ومنه عضلة الساق كذا في النهاية "ترتج" أي تهتز وتضطرب "وأن أمر عليكم" بصيغة المجهول من باب التفعيل أي جعل أميراً "عبد حبشي مجدع" بتشديد الدال المفتوحة أي مقطوع الأنف والأذن "فاسمعوا له وأطيعوا" فيه حث على المدارة والموافقة مع الولاة، وعلى التحرز عما يثير الفتنة ويؤدي إلى اختلاف الكلمة "ما أقام لكم كتاب الله" أي حكمه المشتمل على حكم الرسول. قال في المجمع: فإن قيل شرط الإمام الحرية والقرشية وسلامة الأعضاء، قلت: نعم لو انعقد بأهل الحل والعقد، أما من استولى بالغلبة تحرم مخالفته وتنفذ أحكامه ولو عبداً أو فاسقاً مسلماً. وأيضاً ليس في الحديث أنه يكون إماماً بل يفرض إليه الإمام أمراً من الأمور انتهى.
قوله: "وفي الباب عن أبي هريرة وعرباض بن سارية" أما حديث أبي هريرة(5/364)
وهذا حديثٌ حسنٌ صحيحٌ وقد رُوِيَ مِنْ غَيْرِ وَجْهٍ عن أُمّ حُصَيْنٍ.
ـــــــ
فأخرجه الشيخان. وأما حديث عرباض بن سارية فأخرجه الترمذي في باب الأخذ بالسنة واجتناب البدعة من أبواب العلم وأخرجه أيضاً أحمد وأبو داود وابن ماجه.
قوله: "هذا حديث حسن صحيح" وأخرجه مسلم(5/365)
باب ماجاء لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق
...
29ـ باب ما جاءَ لا طَاعَةَ لمخلُوقِ في مَعْصِيَةِ الْخَالِق
1759 ـ حدثنا قُتَيْبَةُ حدثنا اللّيْثُ عن عُبَيْدِ الله بنِ عُمَرَ عن نَافِعٍ عن ابنِ عُمَرَ قالَ: قالَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: "السّمْعُ والطّاعَةُ عَلَى المَرْءِ المُسْلِمِ فِيمَا أحَبّ وكَرِهَ ما لم يُؤمَر بِمَعْصِيَة، فإنْ أُمِرَ بِمَعْصِيَةٍ فلا سَمْعَ عليهِ ولا طَاعَةَ" .
ـــــــ
"باب ما جاءَ لا طَاعَةَ لمخلُوقِ في مَعْصِيَةِ الْخَالِق"
قوله: "السمع" الأولى الأمر بإجابة أقوالهم "والطاعة" لأوامرهم وأفعالهم "على المرء المسلم" أي حق وواجب عليه "فيما أحب وكره" أي فيما وافق غرضه أو خالفه "ما لم يؤمر" أي المسلم من قبل الإمام "بمعصية" أي بمعصية الله "فإن أمر" بضم الهمزة "فلا سمع عليه ولا طاعة" تجب بل يحرم إذا لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق. وفيه أن الإمام إذا أمر بمندوب أو مباح وجب. قال المطهر: يعني سمع كلام الحاكم وطاعته واجب على كل مسلم سواء أمره بما يوافق طبعه أو لم يوافقه بشرط أن لا يأمره بمعصية، فإن أمره بها فلا تجوز طاعته، ولكن لا يجوز له محاربة الإمام. وقال النووي في شرح مسلم: قال جماهير أهل السنة من الفقهاء والمحدثين والمتكلمين: لا ينعزل الإمام بالفسق والظلم وتعطيل الحقوق ولا يخلع ولا يجوز الخروج عليه لذلك، بل يجب وعظه وتخويفه، للأحاديث الواردة في ذلك. قال القاضي: وقد ادعى أبو بكر بن مجاهد في هذا الإجماع وقد رد عليه بعضهم هذا بقيام الحسن وابن الزبير وأهل المدينة على بني أمية وبقيام جماعة عظيمة من التابعين والصدر الأول على الحجاج مع ابن الأشعث، وتأول(5/365)
وفي البابِ عن عَلِيّ وعِمْرَانَ بنِ حُصَيْنٍ والحَكَمِ بنِ عَمْرٍو الغِفَارِيّ.
وهذا حديثٌ حسنٌ صحيحٌ
ـــــــ
هذا القائل قوله: أن لا تنازع الأمر أهله في أئمة العدل، وحجة الجمهور أن قيامهم على الحجاج ليس بمجرد الفسق بل ما غير من الشرع وظاهر من الكفر. قال القاضي: وقيل إن هذا الخلاف كان أولا، ثم حصل الإجماع على منع الخروج عليهم انتهى.
قوله: "وفي الباب عن علي وعمران بن حصين والحكم بن عمرو الغفاري" أما حديث علي فأخرجه الشيخان وأبو داود وابن ماجه. وأما حديث عمران بن حصين والحكم بن عمرو الغفاري فأخرجه البزار. قال الحافظ في الفتح: وعند البزار في حديث عمران بن حصين والحكم بن عمرو الغفاري: لا طاعة في معصية الله وسنده قوي انتهى.
قوله: "هذا حديث حسن صحيح" وأخرجه أحمد والشيخان وأبو داود والنسائي وابن ماجه، كذا في الجامع الصغير(5/366)
باب ماجاء في كراهية التحريش بين البهائم والضرب والوسم في الوجه
...
30ـ باب مَا جَاءَ في كَرَاهيَةِ
التحريش بين البهائِم، والضرب والوسم في الوجه
1760 ـ حدثنا أبو كُرَيْبٍ حدثنا يَحْيَى بنُ آدَمَ عن قُطْبَةَ بنِ عبدِ العزِيزِ عن الأعْمَشِ عن أبي يَحْيَى عن مُجَاهِدٍ عن ابنِ عبّاسٍ قالَ: "نَهَى رسولُ الله صلى الله عليه وسلم عن التّحرِيشِ بَيْنَ البَهَائِمِ".
ـــــــ
"باب مَا جَاءَ في كَرَاهيَةِ التحريش بين البهائِم، والضرب والوسم في الوجه"
قوله: "وعن قطبة بن عبد العزيز" بن سياه بكسر مهملة وبخفة مثناه تحتية وبهاء منونة بالصرف وتركه الأسدي الكوفي صدوق من الثامنة "عن أبي يحيى" القتات الكوفي اسمه زاذان، وقيل دينار، وقيل مسلم، وقيل يزيد، وقيل زبان، وقيل عبد الرحمن، لين الحديث من السادسة.
قوله: "عن التحريش بين البهائم" هو الإغراء وتهييج بعضها على بعض كما يفعل(5/366)
1761 ـ حدثنا محمدُ بنُ المُثَنّى حدثنا عبدُ الرحمنِ بنُ مَهْدِي عن سُفْيَانَ عن الأعْمَشِ عن أبي يَحْيَى عن مُجَاهِدٍ: "أنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم نَهَى عن التّحْرِيشِ بَيْنَ البَهَائِمِ" ولَمْ يَذْكُرْ فيهِ عن ابنِ عباسٍ. ويُقالُ هذا أصَحّ مِنْ حَدِيثِ قُطْبَةَ، وَرَوَى شَرِيكٌ هذا الحديثَ عن الأعْمَشِ عن مُجَاهِدٍ عن ابنِ عباسٍ عن النبيّ صلى الله عليه وسلم نَحْوَهُ ولم يَذْكُرْ فيهِ عن أبي يَحْيَى حدثنا بذلك أبو كريب عن يحيى بن آدم عن شريك وَرَوَى أبُو مُعَاوِيَةَ عن الأعْمَشِ عن مُجَاهِدٍ عن النبيّ صلى الله عليه وسلم نَحْوَهُ وأبو يحيى هو العقّاب الكوفي ويقال اسمه زاذان.
قال أبو ذؤيب وفي البابِ عن طَلْحَةَ وَجَابِرٍ وأبي سعيدٍ وعِكْرَاشِ بنِ ذُوَيْبٍ.
1762 ـ حدثنا أحمدُ بنِ مَنِيعٍ حدثنا رَوْح بن عبادة عن ابن جُرَيْجٍ عن أبي الزّبَيْرِ عن جَابِرٍ: "أنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم نَهَى عن الوَسْمِ في الوَجْهِ والضرب".
ـــــــ
بين الجمال والكباش والديوك وغيرها. ووجه النهي أنه إيلام للحيوانات وإلعاب لها بدون فائدة بل مجرد عبث، وحديث ابن عباس هذا أخرجه أبو داود.
قوله: "هذا أصح من حديث قطبة" أي حديث سفيان المرسل أصح من حديث قطبة المتصل، لأن سفيان أحفظ وأتقن من قطبة.
قوله: "وفي الباب عن طلحة وجابر وأبي سعيد وعكراش بن ذويب" أما حديث جابر فأخرجه الترمذي في هذا الباب وله حديث آخر أخرجه أبو داود عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم مر عليه بحمار قد وسم في وجهه فقال: "أما بلغكم أني لعنت من وسم البهيمة في وجهها أو ضربها في وجهها" ، فنهى عن ذلك. وأما حديث طلحة وأبي سعيد وعكراش بن ذويب فلينظر من أخرجه.
قوله: "حدثنا روح" هو ابن عبادة.
قوله: "نهى عن الوسم في الوجه" كله من السمة وهي العلامة بنحو كي فيحرم(5/367)
هذا حديثٌ حسنٌ صحيحٌ.
ـــــــ
وسم الآدمي وكذا غيره في وجهه على الأصح ويجوز في غيره "والضرب" أي في الوجه من كل حيوان محترم فيحرم ولو غير آدمي، لأنه مجمع المحاسن ولطيف يظهر فيه أثر الضرب. قال النووي: وأما الضرب في الوجه فمنهي عنه في كل الحيوان المحترم من الآدمي والحمير والخيل والإبل والبغال والغنم وغيرها لكنه في الآدمي أشد لأنه مجمع المحاسن مع أنه لطيف لأنه يظهر فيه أثر الضرب وربما شانه وربما أذى بعض الحواس. قال: وأما الوسم في الوجه فمنهي عنه بالإجماع. وأما وسم غير الوجه من غير الآدمي فجائز بلا خلاف عندنا لكن يستحب في نعم الزكاة والجزية ولا يستحب في غيرها ولا ينهي عنه انتهى باختصار.
قوله: "هذا حديث حسن صحيح" وأخرجه أحمد ومسلم(5/368)
باب ماجاء في حد بلوغ الرجل ومتى يفرض له
...
31ـ باب مَا جَاءَ في حَدّ بُلُوغِ الرّجُلِ
وَمَتى يُفْرَضُ لَه
1763 ـ حدثنا محمدُ بنُ الوَزِيرِ الوَاسِطِيّ حدثنا إسحاقُ بنُ يوسُفَ الأزرق عن سُفْيَانَ عن عُبَيْدِ الله بنِ عُمَرَ عن نَافِعٍ عن ابنِ عُمَرَ قالَ: "عُرِضْتُ على رسولِ الله صلى الله عليه وسلم في جَيْشٍ وأنا ابنُ أرْبَعَ عَشْرَةَ فلم يَقْبَلْنِي، ثمّ عُرِضْتُ عليهِ من قَابِلٍ في جَيْشٍ وأنا ابنُ خَمْسَ عَشْرَةَ فَقَبِلَنِي".
قالَ نافِعٌ فَحَدّثْتُ بهذا الْحَدِيثِ عُمَرَ بنَ عبدِ العزيزِ فقالَ: هذا حَدّ
ـــــــ
"باب مَا جَاءَ في حَدّ بُلُوغِ الرّجُلِ وَمَتى يُفْرَضُ لَه"
أي متى يقدر له من بيت المال رزق له
قوله: "حدثنا محمد بن وزير الواسطي حدثنا إسحاق بن يوسف عن سفيان" هو الثوري كما صرح به الترمذي في آخر الباب وتقدم هذا الحديث بسنده ومتنه في باب حد بلوغ الرجل والمرأة من أبواب الأحكام وتقدم هناك شرحه.(5/368)
ما بين الصّغِيرِ والكَبِيرِ، ثم كَتَبَ أنْ يُفْرَضَ لِمَنْ بَلَغَ الخَمْسَةَ عَشْرَةَ.
1764- حدثنا ابنُ أبي عُمَر حدثنا سُفْيَانَ بنُ عُيَيْنَةَ عن عُبَيْدِ الله نَحْوَهُ بِمَعْنَاهُ إلاّ أنّهُ قالَ: قالَ عُمَرُ بن عبد العزيز: هذا حَدّ ما بَيْنَ الذّرّيّةِ والمُقَاتِلَةِ ولم يَذْكُرْ أنّهُ كَتَبَ أنْ يُفْرَضَ.
حديثُ إسحاقَ بنِ يوسُفَ حديثٌ حسنٌ صحيحٌ غريبٌ مِنْ حَدِيثِ سُفْيَانَ الثّوْرِيّ.
ـــــــ
قوله: "ثم كتب أن يفرض لمن بلغ الخمس عشرة" وفي رواية البخاري في الشهادات: وكتب إلى عماله أن يفرضوا لمن بلغ خمس عشرة. قال الحافظ: أي يقدروا لهم رزقاً في ديوان الجند، وكانوا يفرقون بين المقاتلة وغيرهم في العطاء وهو الرزق الذي يجمع في بيت المال ويفرق على مستحقيه(5/369)
باب ماجاء فيمن يستشهد وعليه دين
...
32ـ باب ما جاءَ فِيمَنْ يُسْتَشْهَدُ وَعَلَيْهِ دَيْن
1765ـ حدثنا قُتَيْبَةُ حدثنا اللّيْثُ عن سَعِيدِ بنِ أبي سَعِيدٍ المقبري عن عبدِ الله بنِ أبي قَتَادَةَ عن أبيهِ أنّهُ سَمِعَهُ يُحَدّثُ عن رسولِ الله صلى الله عليه وسلم: "أنّهُ قَامَ فيهم فَذَكَرَ لَهُمْ أنّ الْجِهَادَ في سَبِيلِ الله وَالإيمَانَ بالله أفْضَلُ الأعمَالِ، فَقَامَ رَجُلٌ فقالَ: يَا رسولَ الله أَرَأَيْتَ إنْ قُتِلْتُ
ـــــــ
"باب ما جاءَ فِيمَنْ يُسْتَشْهَدُ وَعَلَيْهِ دَيْن"
قوله: "أنه أقام" أي واعظاً "فيهم" أي في أصحابه "أن الجهاد في سبيل الله والإيمان بالله أفضل الأعمال" قال القاري: الواو لمطلق الجمع، ولعل فيه الإشارة إلى أن الجهاد مع الإيمان أفضل أعمال القلب، ولا يشكل بما عليه الجمهور من أن الصلاة أفضل الأعمال لاختلاف الحيثيتين، فالصلاة أفضل لمداومتها والجهاد أفضل لمشقته لا سيما الجهاد يستلزم الصلاة وإلا لا فضيلة له انتهى "أرأيت" أي(5/369)
في سَبِيلِ الله يُكَفّر عنّي خَطَايَايَ؟ فقالَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: "نَعَمْ إن قُتِلْتَ في سَبِيلِ الله وأَنْتَ صَابِرٌ مُحْتَسِبٌ مُقْبِلٌ غَيْرُ مُدْبِرٍ" ، ثُمّ قالَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: كَيْفَ قُلْت ؟ قالَت أَرَأَيْتَ إنْ قُتِلْتُ في سَبِيلِ الله أَيُكَفّرُ عَنّي خَطَايَايَ؟ فقالَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: "نَعَمْ وأنْتَ صَابِرٌ مُحْتَسِبٌ مُقْبِلٌ غْيرُ مُدْبِرٍ إلاّ الدّيْنَ، فإنّ جِبْرَيلَ قالَ لي ذلكَ" .
ـــــــ
أخبرني "إن قتلت في سبيل الله" أي استشهدت "يكفر" على بناء المفعول، والاستفهام مقدر، أي أيمحو الله عني خطاياي؟ "وأنت صابر" أي غير جزع "محتسب" أي طالب للأجر والمثوبة لا للرياء والسمعة "مقبل" أي على العدو "غير مدبر" أي عنه، وهو تأكيد لما قبله. وقال النووي: لعله احتراز ممن يقبل في وقت ويدبر في وقت، والمحتسب هو المخلص لله تعالى، فإن قاتل لعصبية أو لأخذ غنيمة أو لصيت أو نحو ذلك فليس له هذا الثواب ولا غيره "ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: كيف قلت" فقال: "أرأيت" أي قلت أرأيت، أو معناه كيف قلت؟ أعد القول والسؤال، فقال: أرأيت "أيكفر عن خطاياي" ؟ بهمزة الاستفهام هنا أي يمحي "نعم وأنت صابر" أي نعم إن قلت والحال أنك صابر "إلا الدين" استثناء منقطع ويجوز أن يكون متصلاً أي الدين الذي لا ينوي أداءه قاله القاري. وقال التوربشتي: أراد بالدين هنا ما يتعلق بذمته من حقوق المسلمين إذ ليس الدائن أحق بالوعيد والمطالبة منه من الجاني والغاصب والخائن والسارق. وقال النووي: فيه تنبيه على جميع حقوق الآدميين وأن الجهاد والشهادة وغيرهما من أعمال البر لا يكفر حقوق الآدميين وإنما يكفر حقوق الله تعالى "فإن جبريل قال لي ذلك" أي إلا الدين. قال الطيبي فإن قلت: كيف قال صلى الله عليه وسلم كيف قلت وقد أحاط بسؤاله علماً وأجابه بذلك الجواب؟ قلت: يسأل ثانياً ويجيبه بذلك الجواب ويعلق به إلا الدين استدراكاً بعد إعلام جبريل عليه السلام إياه صلوات الله وسلامه عليه.(5/370)
وفي البابِ عن أنَسٍ ومحمدِ بنِ جَحْشٍ وأبي هُرَيْرَةَ.
وهذا حديثٌ حسنٌ صحيحٌ.
ورَوى بعضُهم هذا الحديثَ عن سعيدٍ المَقْبُرِيّ عن أبي هُرَيْرَةَ عن النبيّ صلى الله عليه وسلم نَحْوَ هذا. ورَوَى يَحْيَى بنُ سَعيدٍ الأنْصَارِيّ وغَيْرُ وَاحِدٍ هذا عن سَعِيدٍ المَقْبُرِيّ عن عبدِ الله بنِ أبي قَتَادَةَ عن أبيهِ عن النبيّ صلى الله عليه وسلم. وهذا أصَحّ مِنْ حديثِ سَعِيدٍ المَقْبُرِيّ عن أبي هُرَيْرَةَ.
ـــــــ
قوله: "وفي الباب عن أنس ومحمد بن جحش وأبي هريرة" أما حديث أنس فأخرجه الترمذي في باب ثواب الشهيد. وأما حديث محمد بن جحش فأخرجه النسائي في التغليظ في الدين والطبراني في الأوسط والحاكم وقال صحيح الإسناد. وأما حديث أبي هريرة فلينظر من أخرجه.
قوله: "هذا حديث حسن صحيح" وأخرجه مسلم(5/371)
باب ماجاء في دفن الشهداء
...
33ـ باب ما جَاءَ في دَفْنِ الشّهَدَاء
1766 ـ حدثنا أزهر بن مروان البصري حدثنا عبدُ الوَارِثِ بنُ سَعيدٍ عن أيّوبَ عن حُمَيْدِ بنِ هِلاَلٍ عن أبي الدّهْمَاءِ عن هِشَامِ بنِ عَامِرٍ
ـــــــ
"باب ما جَاءَ في دَفْنِ الشّهَدَاء"
قوله: "حدثنا أزهر بن مروان البصري" الرقاشي بتخفيف القاف والشين المعجمة النواء بنون وواو مثقلة، لقبه فريخ بالخاء المعجمة صدوق من العاشرة "عن أيوب" هو ابن أبي تميمة السختياني "عن حميد بن هلال" العدوي كنيته أبو نصر البصري ثقة عالم، توقف فيه ابن سيرين لدخوله عمل السلطان من الثالثة "عن أبي الدهماء" بفتح المهملة وسكون الهاء والمد، اسمه قرفة بكسر أوله وسكون الراء بعدها فاء، ابن بهيس بموحدة ومصغراً العدوي بصري ثقة من الثالثة(5/371)
قال: "شُكِيَ إلى رَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم الْجِرَاحَاتُ يَوْمَ أُحُدٍ فقالَ "احْفرُوا وأوسِعُوا وأحْسِنُوا وادْفِنُوا الاثْنَيْنِ والثّلاَثَةَ في قَبْرٍ وَاحِدٍ وقَدّمُوا أكْثَرَهُمْ قُرْآناً" . فَمَاتَ أبي فَقُدّمَ بَيْنَ يَدَي رَجُلَينِ".
وفي البابِ عن خَبّابٍ وجَابِرٍ وأنَسٍ.
ـــــــ
"عن هشام بن عامر" بن أمية الأنصاري النجاري صحابي يقال كان اسمه أولاً شهاباً فغيره النبي صلى الله عليه وسلم.
قوله: "شكى إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم الجراحات يوم أحد" وفي رواية أبي داود: جاءت الأنصار إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم أحد فقالوا: أصابنا قرح وجهد فكيف تأمرنا؟ وفي رواية النسائي شكونا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم أحد فقلنا يا رسول الله الحفر علينا لكل إنسان شديد "فقال احفروا" بهمزة وصل من باب ضرب "وأوسعوا" بقطع الهمزة "وأحسنوا" أي أحسنوا إلى الميت في الدفن، قاله في الأزهار. وقال زين العرب تبعاً للمظهر أي اجعلوا القبر حسناً بتسوية قعره ارتفاعاً وانخفاضاً وتقيته من التراب والقذاة وغيرهما. وزاد أبو داود في رواية النسائي: وأعمقوا، قال في القاموس: أعمق البئر جعلها عميقة، وفيه دليل على مشروعية إعماق القبر. وقد اختلف في حد الإعماق، فقال الشافعي: قامه. وقال عمر بن عبد العزيز: إلى السرة. وقال مالك: لا حد لإعماقه. وأخرج ابن أبي شيبة وابن المنذر عن عمر بن الخطاب أنه قال: أعمقوا القبر إلى قدر قامة وبسطة قاله في النيل "وادفنوا الاثنين والثلاثة" بالنصب أي من الأموات "في قبر واحد" فيه جواز الجمع بين جماعة في قبر واحد ولكن إذا دعت إلى ذلك حاجة كما في مثل هذه الواقعة "وقدموا أكثرهم قرآناً" أي إلى جدار اللحد ليكون أقرب إلى الكعبة، وفيه إشارة إلى تعظيم المعظم علماً وعملاً حياً وميتاً "فمات أبي" أي عامر، وهو قول هشام "فقدم بين يدي رجلين" ولفظ النسائي: وكان أبي ثالث في قبر واحد.
قوله: "وفي الباب عن خباب وجابر وأنس" أما حديث خباب فأخرجه أحمد في مسنده. وأما حديث جابر فأخرجه الترمذي في باب ترك الصلاة على الشهيد(5/372)
وهذا حديثٌ حسنٌ صحيحٌ.
ورَوَى سُفْيَانُ الثوري وغَيْرُهُ هذا الحديثَ عن أيّوبَ عن حُمَيْدِ بنِ هِلاَلٍ عن هِشَامِ بنِ عَامِرٍ. وأبُو الدّهْمَاءِ اسْمُهُ قِرْفَةُ بنُ بُهَيْسٍ أو بَيْهَسٍ
ـــــــ
وأخرجه أيضاً البخاري وأبو داود والنسائي وابن ماجه. وأما حديث أنس فأخرجه الترمذي في باب قتلى أحد، وذكره حمزة وأخرجه أيضاً أبو داود.
قوله: "هذا حديث حسن صحيح" وأخرجه أحمد وأبو داود والنسائي وابن ماجه(5/373)
باب ماجاء في المشورة
...
34ـ باب ما جَاءَ في المَشْورَة
1767 ـ حدثنا هَنّادٌ حدثنا أبُو مُعَاوِيَةَ عن الأعْمَشِ عن عَمْرو بن مُرّةَ عن أبي عُبَيْدَةَ عن عبدِ الله قالَ: "لَمّا كانَ يَوْمُ بَدْرٍ وَجِيءَ بالأُسَارَى، قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: "مَا تَقُولُونَ في هَؤلاَءِ الأُسَارَى؟" فذكر قِصّةً طَوِيلَةً".
ـــــــ
"باب ما جَاءَ في المَشْورَة"
قال في المجمع: المشورة بضم معجمة وسكون واو بسكون معجمة وفتح واو لغتان، وقال في القاموس: أشار إليه بكذا أمر به، وهي الشورى والمشورة مفعلة لا مفعولة، واستشار طلب منه المشورة انتهى. وقال الحافظ في الفتح: المشورة بفتح الميم وضم المعجمة وسكون الواو، وبسكون المعجمة وفتح الواو لغتان، والأولى أرجح انتهى.
قوله: "عن أبي عبيدة" قال في التقريب: أبو عبيدة بن عبد الله بن مسعود مشهور بكنيته والأشهر أنه لا اسم له غيرها، ويقال اسمه عامر كوفي ثقة من كبار الثالثة، والراجح أنه لا يصح سماعه من أبيه انتهى.
قوله: "وجيء بالأسارى" بضم الهمزة جمع أسارى وهو جمع أسير "قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ما تقولون في هؤلاء الأسارى؟ وذكر قصة طويلة"(5/373)
ـــــــ
كذا أورده الترمذي هذا الحديث عن عبد الله بن مسعود مختصراً بغير ذكر القصة وأورده البغوي مطولاً عنه قال: لما كان يوم بدر وجيء بالأسارى قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما تقولون في هؤلاء ؟ فقال أبو بكر: يا رسول الله قومك وأهلك استبقهم واستأن بهم لعل الله أن يتوب عليهم، وخذ منهم فدية تكون لنا قوة على الكفار. وقال عمر: يا رسول الله كذبوك وأخرجوك فدعهم نضرب عنقه، مكن علياً من عقيل فيضرب عنقه، ومكن حمزة من العباس فيضرب عنقه، ومكنى من فلان نسيب لعمر فأضرب عنقه، فإن هؤلاء أئمة الكفر. وقال عبد الله بن رواحة: يا رسول الله أنظر وادياً كثير الحطب فأدخلهم فيه ثم اضرمه عليهم ناراً، فقال له العباس: قطعت رحمك. فسكت رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم يجيبهم، ثم دخل، فقال ناس يأخذ بقول أبي بكر، وقال ناس يأخذ بقول عمر، وقال ناس يأخذ بقول ابن رواحة، ثم خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: " إن الله ليلين قلوب رجال حتى تكون ألين من اللين ويشد قلوب رجال حتى تكون أشد من الحجارة، وإن مثلك يا أبا بكر مثل إبراهيم" قال: {مَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَمَنْ عَصَانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} ومثلك يا أبا بكر مثل عيسى قال: {إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} ومثلك يا عمر مثل نوح قال {رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّاراً} ومثلك يا عبد الله بن رواحة كمثل موسى قال {رَبَّنَا اطْمِسْ عَلَى أَمْوَالِهِمْ وَاشْدُدْ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَلا يُؤْمِنُوا حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الْأَلِيمَ} ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "اليوم أنتم عالة فلا يفلتن أحد منهم إلا بفداء أو ضرب عنق" ، قال عبد الله بن مسعود: إلا سهيل بن بيضاء فإني سمعته يذكر الإسلام، فسكت رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: فما رأيتني في يوم أخوف أن تقع على الحجارة من السماء من ذلك اليوم حتى قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "إلا سهيل بن بيضاء" . قال ابن عباس: قال عمر بن الخطاب: فهوى رسول الله صلى الله عليه وسلم ما قال أبو بكر ولم يهو ما قلت وأخذ منهم الفداء، فلما كان من الغد فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر قاعدان يبكيان، فقلت يا رسول الله أخبرني من أي شيء تبكي أنت وصاحبك، فإن وجدت بكاء بكيت، وإن لم أجد بكاء تباكيت لبكائكما؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أبكى على أصحابك من أخذهم الفداء، لقد عرض على عذابهم أدنى من هذه الشجرة" ، لشجرة قريبة من نبي الله صلى الله عليه وسلم،(5/374)
وفي البابِ عن عُمرَ وأبي أيّوبَ وأنَسٍ وأبي هُرَيْرَةَ.
وهذا حديثٌ حسنٌ وأبُو عُبَيْدَةَ لَمْ يَسْمَعْ من أبيهِ.
ويُرْوَى عن أبي هُرَيْرَةَ قالَ: "ما رَأَيْتُ أحَداً أكثَرَ مَشُورَةً لأصحَابِهِ من رسولِ الله صلى الله عليه وسلم".
ـــــــ
فأنزل الله عز وجل عليه: {مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ} الاَية.
وفي الحديث أنه صلى الله عليه وسلم كان يشاور أصحابه، قال الله تعالى: {وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ} وقال {وأمرهم شورى بينهم} . واختلفوا في أمر الله عز وجل رسوله صلى الله عليه وسلم أن يشاور أصحابه، فقالت طائفة: في مكائد الحروب وعند لقاء العدو تطييباً لنفوسهم وتأليفاً لهم على دينهم وليروا أنه يسمع منهم ويستعين بهم وإن كان العدو الله أغناه عن رأيهم بوحيه، روى هذا عن قتادة والربيع وابن وإسحاق. وقالت طائفة: فيما لم يأته وحي ليبين صواب الرأي. وروى عن الحسن والضحاك قالا: ما أمر الله نبيه بالمشاورة لحاجته إلى رأيهم وإنما أراد أن يعلم ما في المشورة من الفضل. وقال آخرون: إنما أمر بما مع غناه عنهم لتدبيره تعالى له وسياسته إياه ليستن به من بعده ويقتدوا به فيما ينزل بهم من النوازل. وقال الثوري: وقد سن رسول الله صلى الله عليه وسلم الاستشارة في غير موضع، استشارة أبا بكر وعمر رضي الله عنهما في أسارى بدر وأصحابه يوم الحديبية.
قوله: "وفي الباب عن عمر وأبي أيوب وأنس وأبي هريرة" أما حديث عمر فأخرجه مسلم في باب الإمداد بالملائكة في غزوة بدر وإباحة الغنائم، وأخرجه أبو داود في باب فداء الأسير بالمال. وأما حديث أبي أيوب وحديث أنس فلينظر من أخرجهما، وأما حديث أبي هريرة فأخرجه الترمذي في أثناء حديث في باب معيشة أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم.
قوله: "هذا حديث حسن" تحسينه لشواهده وإلا فهو منقطع كما صرح به(5/375)
ـــــــ
الترمذي بعد "ويروى عن أبي هريرة قال: ما رأيت أحداً أكثر مشورة الخ" قال الحافظ في الفتح بعد ذكر هذا الحديث: رجاله ثقات إلا أنه منقطع(5/376)
باب ماجاء لاتفادى جيفة الأسير
...
35-باب ما جاءَ لا تُفَادى جيفَة الأسِير
1768ـ حدثنا مَحْمُودُ بنُ غَيْلاَنَ حدثنا أبو أحمدَ حدثنا سُفْيَانُ عن ابنِ أبي لَيْلَى عن الْحَكَمِ عن مِقْسَمٍ عن ابنِ عباسٍ: "أنّ المُشْرِكِينَ أرَادُوا أن يَشْتَرُوا جَسَدَ رَجُلٍ مِنَ المُشْرِكِينَ، فأَبَى النبيّ صلى الله عليه وسلم أنْ يَبِيعَهُمْ ".
ـــــــ
"باب ما جاءَ لا تُفَادى جيفَة الأسِير"
الجيفة جثة الميت إذا أنتن، قاله في النهاية والمراد أنه لا تباع ولا تبادل جثة الأسير بشيء من المال
قوله: "حدثنا سفيان" هو الثوري "عن ابن أبي ليلى" اسمه محمد بن عبد الرحمن بن أبي ليلى "عن الحكم" هو ابن عتيبة.
قوله: "فأبى النبي صلى الله عليه وسلم أن يبيعهم" فيه دليل على أنه لا يجوز بيع جيفة المشرك، وإنما لا يجوز بيعها وأخذ الثمن فيها لأنها ميتة لا يجوز تملكها ولا أخذ عوض عنها، وقد حرم الشارع ثمنها وثمن الأصنام في حديث جابر. وقد عقد البخاري في صحيحه باباً بلفظ: طرح جيف المشركين في البئر ولا يؤخذ لهم ثمن، وذكر فيه حديث ابن مسعود في دعاء النبي صلى الله عليه وسلم على أبي جهل بن هشام وغيره من قريش. وفيه فلقد رأيتهم قتلوا يوم بدر فألقوا في بئر.
قال الحافظ: قوله: ولا يؤخذ لهم ثمن أشار به إلى حديث ابن عباس: أن المشركين أرادوا أن يشتروا جسد رجل من المشركين فأبى النبي صلى الله عليه وسلم أن يبيعهم، أخرجه الترمذي وغيره. وذكر ابن إسحاق في المغازي: أن المشركين سألوا النبي صلى الله عليه وسلم أن يبيعهم جسد نوفل بن عبد الله بن المغيرة وكان اقتحم الخندق. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "لا حاجة لنا بثمنه ولا جسده" ، فقال ابن هشام: بلغنا عن الزهري أنهم بذلوا فيه عشرة آلاف. وأخذه من حديث(5/376)
هذا حديثٌ حسن غريبٌ لا نَعْرِفُهُ إلاّ مِنْ حَدِيثِ الحَكَمِ. وَرَوَاهُ الحَجّاجُ بنُ أرْطأَةَ أيضاً عن الحَكمِ. وقالَ أحمد بن حسن سمعت أحمد بن حنبل يقُولُ: ابن أبي لَيْلَى لا يُحْتَجّ بِحَدِيثِهِ وقالَ محمدُ بنُ إسماعيلَ: ابنُ أبي لَيْلَى صَدُوقٌ ولكِنْ لا يعْرفُ صَحِيح حَدِيثِهِ مِنْ سَقِيمِهِ ولا أروِي عَنْهُ شَيئاً. وابنُ أبي لَيْلَى صَدُوقٌ فقِيهٌ وإنّما يَهِمُ في الإسنادِ.
1769-حدثنا نَصْرُ بنُ عليّ حدثنا عبدُ الله بنُ داودَ عن سُفْيَانَ الثّوْرِيّ قالَ: فُقَهَاؤُنَا ابنُ أبي لَيْلَى وعَبْدُ الله بنُ شُبُرمَةَ.
ـــــــ
الباب من جهة أن العادة تشهد أن أهل قتلى بدر لو فهموا أنه يقبل منهم فداء أجسادهم لبذلوا فيها ما شاء الله، فهذا شاهد لحديث ابن عباس وإن كان إسناده غير قوي انتهى.
قوله: "ابن أبي ليلى لا يحتج بحديثه الخ" قال الحافظ في التقريب: محمد بن عبد الرحمن بن أبي ليلى الأنصاري الكوفي القاضي أبو عبد الرحمن صدوق سيء الحفظ جداً من السابعة انتهى. "قال فقهاؤنا ابن أبي ليلى" قال الحافظ في تهذيب التهذيب: قال عبد الله بن أحمد عن أبيه: كان سيء الحفظ مضطرب الحديث، كان فقه ابن أبي ليلى أحب إلينا من حديثه. وقال أبو حاتم عن أحمد بن يونس: ذكره زائدة فقال: كان أفقه أهل الدنيا "وعبد الله بن شبرمة" بضم المعجمة وسكون الموحدة وضم الراء ابن الطفيل بن حسان الضبي أبو شبرمة الكوفي القاضي ثقة فقيه من الخامسة، قاله الحافظ في التقريب: وقال في تهذيب التهذيب: كان الثوري إذا قيل له من مفتيكم يقول: ابن أبي ليلى وابن شبرمة، وكان ابن شبرمة عفيفاً حازماً عاقلاً فقيهاً يشبه النساك ثقة في الحديث شاعراً حسن الخلق جواداً. وقال محمد بن فضيل عن أبيه: كان ابن شبرمة ومغيرة والحارث العكلي والقعقاع بن يزيد وغيرهم يسمرون في الفقه فربما لم يقوموا إلى الفجر. وقال ابن حبان: كان ابن شبرمة من فقهاء أهل العراق(5/377)
باب ماجاء في الفرار من الزحف
...
36- باب ما جاءَ في الفِرَارِ من الزّحْف
1770 ـ حدثنا ابنُ أبي عُمَرَ حدثنا سُفْيَانُ عن يَزِيدَ بنِ أبي زِيادٍ عن عبدِ الرحمَنِ بنِ أبي لَيْلَى عن ابنِ عُمَرَ قال: "بَعَثَنَا رسولُ الله صلى الله عليه وسلم في سَرِيّةٍ فَحَاصَ الناسُ حَيْصَةً فقَدِمْنَا المَدِينَةَ فاخْتَبينا بها وقُلْنَا هَلَكْنَا، ثم أتَيْنَا رَسولَ الله صلى الله عليه وسلم فقُلْنَا يَا رسولَ الله نَحْنُ الفَرّارُونَ، قالَ: "بَلْ أنْتُمْ العَكّارُونَ وأنا فِئَتُكُم" .
ـــــــ
"باب ما جاءَ في الفِرَارِ من الزّحْف"
أي من الجهاد ولقاء العدو في الحرب، والزحف الجيش يزحفون إلى العدو أي يمشون يقال زحف إليه زحفاً إذا مشى نحوه كذا في النهاية.
قوله: "بعثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم في سرية" قال في النهاية: السرية طائفة من الجيش يبلغ أقصارها أربعمائة تبعث إلى العدو، وجمعها السرايا، سموا بذلك لأنهم يكونون خلاصة العسكر وخيارهم من الشيء السري النفيس، وقيل: سموا بذلك لأنهم ينفذون سراً وخفية وليس بالوجه لأن لام السر راء وهذه باء انتهى. "فحاص الناس" بإهمال الحاء والصاد أي جالوا جولة يطلبون الفرار قاله في النهاية. وفي المرقاة للقاري: أي مالوا عن العدو ملتجئين إلى المدينة ومنه قوله تعالى: {وَلا يَجِدُونَ عَنْهَا مَحِيصاً} أي مهرباً، ويؤيد هذا المعنى قول الجوهري: حاص عنه عدل وحاد، وفي الفائق: حاص حيصة أي انحرف وانهزم انتهى. "فاختبأنا بها" أي في المدينة حياء، وفي بعض النسخ فاختفيا بها "وقلنا" أي في أنفسنا أو لبعضنا "هلكنا" أي عصينا بالفرار، ظناً منهم أن مطلق الفرار من الكبائر. وفي رواية أبي داود: فحاص الناس حيصة فكنت فيمن حاص، فلما برزنا قلنا كيف نصنع وقد فررنا من الزحف وبؤنا بالغضب؟ فقلنا ندخل المدينة فنثبت فيها لنذهب ولا يرانا أحد، قال فدخلنا فقلنا: لو عرضنا أنفسنا على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإن كانت لنا توبة أقمنا وإن كان غير ذلك ذهبنا، قال فجلسنا لرسول الله صلى الله عليه وسلم قبل صلاة الفجر، فلما خرج قمنا إليه فقلنا نحن(5/378)
هذا حديثٌ حسنٌ لا نَعْرِفُهُ إلاّ مِنْ حَدِيثِ يزيدَ بنِ أبي زِيادٍ ومَعْنَى قوله: فَحَاصَ الناسُ حَيْصَةً يَعْنِي أنهم فَروا مِنَ القِتَالِ. ومَعْنَى قوله: بَل أنْتُم العَكّارُونَ، والعَكّارُ الذي يَفِرّ إلى إمامِهِ لَيَنْصُرَهُ لَيْسَ يُريدُ الفِرارَ مِنَ الزّحْفِ.
ـــــــ
الفرارون الخ "قال بل أنتم العكارون" أي أنتم العائدون إلى القتال والعاطفون، يقال عكرت على الشيء إذا عطفت عليه وانصرفت إليه بعد الذهاب عنه. قال الأصمعي: رأيت أعرابياً يفلي ثيابه فيقتل البراغيث ويترك القمل، فقلت لم تصنع هذا؟ قال أقتل الفرسان ثم أعكر على الرجالة "وأنا فئتكم" في النهاية: الفئة الجماعة من الناس في الأصل والطائفة التي تقوم وراء الجيش، فإن كان عليهم خوف أو هزيمة التجأوا إليه انتهى. وفي الفائق: ذهب النبي صلى الله عليه وسلم في قوله: "وأنا فئتكم" إلى قوله تعالى: {أَوْ مُتَحَيِّزاً إِلَى فِئَةٍ} يمهد بذلك عذرهم في الفرار، أي تحيزتم إلي فلا حرج عليكم.
قوله: "هذا حديث حسن" وأخرجه أبو داود وابن ماجه(5/379)
37ـ باب
1771 ـ حدثنا محمودُ بنُ غَيْلاَنَ حدثنا أبو داود أخبرنا شُعْبَةُ عن الأَسْوَدِ بنِ قَيْسٍ قالَ: سَمِعْتُ نُبَيْحاً العَنزِيّ يُحَدّثُ عن جَابر قال: "لمّا كانَ يَوْمُ أُحُدٍ جَاءَتْ عَمّتِي بأبي لِتَدْفِنَهُ في مَقَابِرِنَا، فنَادَى
ـــــــ
"باب"
قوله: "عن الأسود بن قيس" العبدي ويقال البجلي الكوفي يكنى أبا قيس ثقة من الرابعة "سمعت نبيحاً العنزي" قال في التقريب نبيح بمهملة مصغراً ابن عبد الله العنزي بفتح المهملة والنون ثم زاي أبو عمر الكوفي مقبول من الثالثة انتهى
قوله: "جاءت عمتي" عمة جابر هذه فاطمة بنت عمرو بن حرام الأنصاري كما(5/379)
مُنَادِي رَسولِ الله صلى الله عليه وسلم: "رُدّوا القَتْلَى إلى مَضَاجِعِهم" .
هذا حديثٌ حسنٌ صحيحٌ.
ـــــــ
في المرقاة "بأبي" الباء للتعدية "لتدفنه في مقابرنا" أي في المدينة "ردوا القتلى" جمع القتيل وهو المقتول أي الشهداء "وإلى مضاجعها" أي مقاتلهم، والمعنى لا تنقلوا الشهداء من مقتلهم بل ادفنوهم حيث قتلوا. قال القاري: وكذا من مات في موضع لا ينقل إلا بلد آخر، قال بعض علمائنا. وقال في الأزهار: الأمر في قوله صلى الله عليه وسلم: "ردوا القتلى للوجوب" ، وذلك أن نقل الميت من موضع إلى موضع يغلب فيه التغير حرام، وكان ذلك زجراً عن القيام بذلك والإقدام عليه، وهذا أظهر دليل وأقوى حجة في تحريم النقل وهو التصحيح نقله السيد، والظاهر أن نهي النقل مختص بالشهداء لأنه نقل ابن أبي وقاص من قصره إلى المدينة بحضور جماعة من الصحابة ولم ينكروا، والأظهر أن يحمل النهي على نقلهم بعد دفنهم لغير عذر، ويؤيده لفظ "مضاجعهم" ولعل وجه تخصيص الشهداء قوله تعالى: {قُلْ لَوْ كُنْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلَى مَضَاجِعِهِمْ} وفيه حكمة أخرى وهو اجتماعهم في مكان واحدة حياة وموتاً وبعثاً وحشراً، ويتبرك الناس بالزيارة إلى مشاهدهم، ويكون وسيلة إلى زيارة جبل أحد حيث قال عليه الصلاة والسلام: "أحد جبل يحبنا ونحبه" ، انتهى كلام القاري.
وقال الحافظ في الفتح: اختلف في جواز نقل الميت من بلد إلى بلد فقيل يكره لما فيه من تأخير دفنه وتعريضه لهتك حرمته، وقيل يستحب. والأولى تنزيل ذلك على حالتين، فالمنع حيث لم يكن هناك غرض راجح كالدافن في البقاع الفاضلة، وتختلف الكراهة في ذلك فقد تبلغ التحريم والاستحباب حيث يكون ذلك بقرب مكان فاضل، كما نص الشافعي على استحباب نقل الميت إلى الأرض الفاضلة كمكة وغيرها والله أعلم انتهى.
قوله: "هذا حديث حسن صحيح" وأخرجه أحمد وأبو داود والنسائي وابن ماجه والدارمي(5/380)
باب ماجاء في تلقي الغائب إذا قدم
...
38ـ باب ما جاءَ في تَلَقّي الغائِبِ إذا قَدِم
1772ـ حدثنا ابنُ أبي عُمَر و سَعيدُ بنُ عبدِ الرحمَنِ المخزومي قالا حدثنا سُفْيَانُ بن أبي عينية عن الزّهْرِيّ عن السّائِبِ بنِ يزيدَ قال: "لمّا قَدِمَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم مِنْ تَبُوكَ خَرَجَ النّاسُ يَتَلَقّوْنَهُ إلى ثَنِيّةِ الوَدَاعِ، قال السّائبُ: فَخَرَجْتُ مع النّاسِ وأنا غُلاَمٌ".
هذا حديثٌ حسنٌ صحيحٌ.
ـــــــ
"باب ما جاءَ في تَلَقّي الغائِبِ إذا قَدِم"
قوله: "لما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم من تبوك" أي من غزوة تبوك وهي مكان معروف وهو نصف طريق المدينة إلى دمشق، ويقال بين المدينة وبينها أربع عشرة مرحلة، والمشهور فيها عدم الصرف للتأنيث والعلمية، ومن صرفها أراد الموضع كذا في الفتح قوله: "يتلقونه إلى ثنية الوداع" موضع بالمدينة سميت بها لأن من سافر كان يودع ثمة ويشرع إليها. والثنية ما ارتفع من الأرض وقيل الطريق في الجبل "فخرجت مع الناس وأنا غلام" وفي رواية البخاري: خرجت مع الغلمان إلى ثنية الوداع.
قوله: "هذا حديث حسن صحيح" وأخرجه البخاري في باب استقبال الغزاة وغيره، وأخرجه أبو داود في الجهاد(5/381)
باب ماجاء في الفئ
...
39ـ باب ما جَاءَ في الفَيء
1773ـ حدثنا ابن أبي عمرَ حدثنا سُفْيَانُ بن عينية عن عَمْرِو بنِ دِينَارٍ عن ابنِ
ـــــــ
"باب ما جَاءَ في الفَيء"
قال الجزري في النهاية الفيء ما حصل للمسلمين من أموال الكفار من غير حرب ولا جهاد. وأصل الفيء الرجوع، يقال فاء يفيء وفيوءاً كأنه كان في الأصل لهم فرجع إليهم، ومنه قيل للظل الذي يكون بعد الزوال فيء لأنه يرجع من جانب(5/381)
شهَابٍ عن مَالِكِ بنِ أوْسِ بنِ الْحَدَثَانِ قال: "سَمِعْتُ عُمَرَ بنَ الخطّابِ يقولُ: كانَتْ أمْوالُ بَنِي النّضِيرِ مِمّا أفاءَ الله على رَسُولِهِ مِمّا لَمْ يُوجِفْ المُسْلِمُونَ عَلَيْهِ بِخَيْلٍ ولاَ رِكَابٍ، وكانَتْ لِرَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم خَالِصاً، وكانَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم يَعْزِلُ نَفَقَةَ أهْلِهِ سَنَةً ثم يَجْعَلُ ما بَقِيَ في الكرَاعِ والسّلاَحِ عُدّةً في سَبيلِ الله".
ـــــــ
الغرب إلى جهة المشرق. وقال: الغنيمة ما أصيب من أموال أهل الحرب وأوجف عليه المسلمون بالخيل والركاب، يقال: غنمت أغنم غنماً وغنيمة والغنائم جمعها، والمغانم جمع مغنم، والغنم بالضم الاسم وبالفتح المصدر، والغانم آخذ الغنيمة والجمع الغانمون انتهى.
قوله: "عن مالك بن أوس بن الحدثان" بفتح المهملة والمثلثة النصري بالنون المدني له رؤية وروى عن عمر، قاله في التقريب "مما لم يوجف المسلمون عليه" في النهاية: الإيجاف سرعة السير وقد أوجف دابته يوجفها إيجافاً إذا حثها انتهى. "بخيل ولا ركاب" قال في القاموس: الركاب ككتاب الإبل واحدتها راحلة ج ككتب وركابات وركائب انتهى "فكانت لرسول الله صلى الله عليه وسلم خالصاً" كذا في نسخ الترمذي بالتذكير، وفي رواية للبخاري خالصة بالتأنيث وهو الظاهر، وفي رواية أخرى له خاصة "ثم يجعل ما بقي في الكراع والسلاح عدة في سبيل الله" الكراع بالضم: اسم لجميع الخيل كذا في النهاية. والعدة ما أعد للحوادث أهبة وجهازاً للغزو. وقال الحافظ: وهذا لا يعارض حديث عائشة: أنه صلى الله عليه وسلم توفي ودرعه مرهونة على شعير لأنه يجمع بينهما بأنه كان يدخر لأهله قوت سنتهم ثم في طول السنة يحتاج لمن يطرقه إلى إخراج شيء منه فيخرجه فيحتاج إلى أن يعوض من يأخذ منها عوضة فلذلك استدان انتهى. وقال السيوطي لا يعارضه خبر أنه كان لا يدخر شيئاً لغد لأن الادخار لنفسه وهذا لغيره. وقال النووي: في هذا الحديث جواز ادخار قوت سنة وجواز الادخار للعيال وأن هذا لا يقدح في التوكل، وأجمع العلماء على جواز الادخار فيما يستغله الإنسان من قريته كما جرى للنبي صلى الله عليه وسلم. وأما إذا أراد أن يشتري من السوق ويدخره(5/382)
هذا حديثٌ حسنٌ صحيحٌ.
ـــــــ
لقوت عياله فإن كان في وقت ضيق الطعام لم يجز بل يشتري على المسلمين كقوت أيام أو شهر، وإن كان في وقت اشترى سنة وأكثر، هكذا نقل القاضي هذا التفصيل عن أكثر العلماء، وعن قوم: إباحته مطلقاً انتهى.
واختلف العلماء في مصرف الفيء فقال مالك: الفيء والخمس سواء، يجعلان في بيت المال ويعطي الإمام أقارب النبي صلى الله عليه وسلم بحسب اجتهاده وفرق الجمهور بين خمس الغنيمة وبين الفيء، فقالوا: الخمس موضوع فيما عينه الله فيه من أصناف المسلمين في آية الخمس من سورة الأنفال لا يتعدى بت إلى غيرهم، وأما الفيء فهو الذي يرجع النظر في مصرفه إلى رأي الإمام بحسب المصلحة. وانفرد الشافعي كما قال ابن المنذر وغيره بأن الخمس وأن أربعة أخماسه للنبي صلى الله عليه وسلم وله خمس الخمس كما في الغنيمة، وأربعة الخمس لمستحق نظيرها من الغنيمة. وقال الجمهور: مصرف الفيء كله إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، واحتجوا بقول عمر: فكانت هذه لرسول الله صلى الله عليه وسلم خاصة. وتأول الشافعي قول عمر المذكور بأنه يريد الأخماس الأربعة كذا في الفتح.
قوله: "هذا حديث حسن صحيح" وأخرجه الشيخان وأبو داود والنسائي(5/383)
أبواب اللباس
باب ماجاء في الحرير والذهب للرجال
...
أبواب اللباس عن رسول الله عليه وسلم
1ـ باب ما جَاءَ في الْحَرِيرِ والذّهَب
1774 ـ حدثنا إسحاقُ بنُ منصورٍ حدثنا عبدُ الله بنُ نُمَيْرٍ حدثنا عُبَيْدُ الله بنُ عُمَرَ عن نَافِعٍ عن سَعيدِ بنِ أبي هِنْد عن أبي موسى الأشعَرِيّ أنّ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم قال: "حُرّمَ لِبَاسُ الْحَرِيرِ والذّهَب على ذُكُورِ أُمّتِي وأُحِلّ لإنَاثِهمْ" .
ـــــــ
أبواب اللباس عن رسول الله عليه وسلم
"باب ما جَاءَ في الْحَرِيرِ والذّهَب"
قوله: "حرم لباس الحرير والذهب" بالرفع عطف على لباس الحرير "على(5/383)
وفي البابِ عن عُمَرَ وعَليّ وعُقْبَةَ بنِ عَامِرٍ وأنسٍ وأُمّ هَانِئ وحُذَيْفَةَ وأم هانئ وعبدِ الله بنِ عَمْرِو وعِمْرَانَ بنِ حُصَيْنٍ وعبدِ الله بنِ الزّبَيْرِ وجابرٍ وأبي رَيْحَانَة وابنِ عُمَرَ والبراء.
هذا حديث حسنٌ صحيحٌ.
ـــــــ
ذكور أمتي" والذكور بعمومه يشمل الصبيان أيضاً لكنهم حيث لم يكونوا من أهل التكليف حرم على من ألبسهم. والمراد بالذهب حلية، وإلا فالأولى من الذهب والفضة حرام على الذكور والإناث، وكذا حلي الفضة مختص بالنساء إلا ما استثنى للرجال من الخاتم وغيره "وأحل" أي ما ذكر أو كل منهما لإناثهم بكسر الهمزة أي لإناث أمتي.
قوله: "وفي الباب عن عمر وعلي وعقبة بن عامر وأم هانئ وأنس وحذيفة وعبد الله بن عمرو وعمران بن حصين وعبد الله بن الزبير وجابر وأبي ريحانة وابن عمر والبراء" أما حديث عمر وأنس وابن الزبير فأخرجه الشيخان، ففي المشكاة وعن عمر وأنس وابن الزبير وأبي أمامة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من لبس الحرير في الدنيا لم يلبسه في الآخرة" ، متفق عليه انتهى. وأما حديث علي رضي الله عنه فأخرجه أحمد وأبو داود والنسائي وابن ماجه وابن حبان ولفظه: أن النبي صلى الله عليه وسلم أخذ حريراً فجعله في يمينه وأخذ ذهباً فجعله في شماله ثم قال: إن هذين حرام على ذكور أمتي. وأما حديث عقبة بن عامر فأخرجه الشيخان. وأما حديث أم هانيء فأخرجه أحمد. وأما حديث حذيفة والبراء فأخرجه الجماعة. وأما حديث عبد الله بن عمرو فأخرجه ابن ماجه والبزار وأبو يعلى والطبراني وفي إسناده الإفريقي وهو ضعيف. وأما حديث عمران بن حصين فأخرجه أحمد وأبو داود. وأما حديث جابر فأخرجه أحمد. وأما حديث أبي ريحانة فأخرجه أحمد وأبو داود والنسائي، وأما حديث ابن عمر فأخرجه الشيخان عنه قالا: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إنما يلبس الحرير في الدنيا من لا خلاق له في الآخرة" .
قوله: "هذا حديث حسن صحيح" وأخرجه أحمد وأبو داود والنسائي والحاكم وصححه والطبراني وفي إسناده سعيد بن أبي هند عن أبي موسى. قال أبو حاتم: إنه لم يلفه. وقال الدارقطني في العلل: لم يسمع سعيد بن أبي هند من أبي موسى.(5/384)
1775 ـ حدثنا محمدُ بنُ بَشّارٍ حدثنا مُعَاذُ بنُ هِشَامٍ حدثنا أبي عَنْ قَتَادَةَ عن الشّعْبِيّ عن سُوَيْدِ بنِ غَفَلَةَ عن عُمَرَ: "أنه خَطَبَ بالْجَابِيَةِ فقالَ: نَهَى نبيّ الله صلى الله عليه وسلم عن الْحَرِير إلاّ مَوْضِعَ أُصْبُعَيْنِ أو ثلاثٍ أو أرْبَعٍ".
ـــــــ
وقال ابن حبان في صحيحه: حديث سعيد بن أبي هند عن أبي موسى معلول لا يصح، وقد روي من طريق يحيى بن سليم عن عبيد الله بن عمر عن نافع عن ابن عمر، ذكر ذلك الدارقطني في العلل، قال: والصحيح عن نافع عن سعيد بن أبي هند عن أبي موسى، وقد اختلف فيه على نافع فرواه أيوب وعبيد الله بن عمر عن نافع عن سعيد مثله، ورواه عبد الله بن عمر العمري عن نافع عن سعيد عن رجل عن أبي موسى كذا في النيل.
قوله: "عن سويد بن غفلة" بفتح المعجمة والفاء كنيته أبو أمية الجعفي مخضرم من كبار التابعين، قدم المدينة يوم دفن النبي صلى الله عليه وسلم وكان مسلماً في حياته ثم نزل الكوفة ومات سنة ثمانين وله مائة وثلاثون سنة كذا في التقريب.
قوله: "بالجابية" بالجيم وكسر الموحدة مدينة بالشام إلا موضع "أصبعين" أي مقدار أصبعين "أو ثلاث أو أربع" أو ههنا للتنويع والتخيير، وفيه دلالة على إباحة العلم من الحرير في الثوب إذا لم يزد على أربع أصابع وعليه الجمهور. قال قاضي خان: روى بشر عن أبي يوسف عن أبي حنيفة أنه لا بأس بالعلم من الحرير في الثوب إذا كان أربع أصابع أو دونها ولم يحك فيها خلافاً، كذا قال القاري في المرقاة. وقال النووي في شرح مسلم: في هذه الرواية إباحة العلم من الحرير في الثوب إذا لم يزد على أربع أصابع وهذا مذهبنا ومذهب الجمهور. وعن مالك رواية بمنعه، وعن بعض أصحابه بإباحة العلم بلا تقدير بأربع أصابع بل قال يجوز وإن عظم، وهذان القولان مردودان بهذا الحديث الصريح والله تعالى أعلم انتهى. وقال الحافظ في فتح الباري: وفيه حجة لمن أجاز لبس العلم من الحرير إذا كان في الثوب وخصه بالقدر المذكور وهو أربع أصابع. وهذا هو الأصح عند الشافعية، وفيه حجة على من أجاز العلم في الثوب مطلقاً ولو زاد على أربعة(5/385)
هذا حديثٌ حسنٌ صحيحٌ.
ـــــــ
أصابع، وهو منقول عن بعض المالكية، وفيه حجة على من منع العلم في الثوب مطلقاً، وهو ثابت عن الحسن وابن سيرين وغيرهما، ولكن يحتمل أن يكونوا منعوه ورعاً وإلا فالحديث حجة عليهم فلعلهم لم يبلغهم انتهى.
قوله: "هذا حديث حسن صحيح" وأخرجه مسلم. قال النووي: هذا الحديث مما استدركه الدارقطني على مسلم وقال: لم يرفعه عن الشعبي إلا قتادة وهو مدلس، ورواه شعبة عن أبي السفر عن الشعبي من قول عمر موقوفاً، ورواه بيان وداود ابن أبي هند عن الشعبي عن سويد عن عمر موقوفاً عليه، وكذا قال شعبة عن الحكم عن خيثمة عن سويد، وقاله ابن عبد الأعلى عن سويد وأبو حصين عن إبراهيم عن سويد، هذا كلام الدارقطني، وهذه الزيادة في هذه الرواية انفرد بها مسلم لم يذكرها البخاري، وقد قدمنا أن الثقة إذا انفرد برفع ما وقفه الأكثرون كان الحكم لروايته وحكم بأنه مرفوع على الصحيح الذي عليه الفقهاء والأصوليون ومحققو المحدثين، وهذا من ذاك والله أعلم انتهى.
قلت: لم يجب النووي عن تدليس قتادة إلا أنه قال في مقدمة شرحه: اعلم أن ما في الصحيحين عن المدلسين بعن ونحوهما فمحمول على ثبوت السماع من جهة أخرى، وقد جاء كثير منه في الصحيحين بالطريقين جميعاً، فيذكر رواية المدلس بعن ثم يذكرها بالسماع ويقصد به هذا المعنى الذي ذكرته انتهى(5/386)
باب ماجاء في لبس الحرير في الحرب
...
2 ـ باب ما جَاءَ في لُبْسِ الْحَرِيرِ في الْحَرْب
1776 ـ حدثنا محمودُ بنُ غَيْلاَنَ حدثنا عبدُ الصّمَد بنُ عبدِ الوارِثِ حدثنَا هَمّامٌ حدثنا قَتَادَةُ عن أنَسٍ بن مالك أنّ عبدَ الرحمَنِ بن عَوْفٍ و الزّبَيْرَ بنَ العَوّامِ شَكَيَا القَمْلَ إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم في غَزَاةٍ لَهُمَا، فَرَخّصَ لَهُمَا في قُمُصِ الْحَرِيرِ قال: ورَأَيْتُهُ علَيهما".
ـــــــ
"باب ما جَاءَ في لُبْسِ الْحَرِيرِ في الْحَرْب"
قوله: "شكيا القمل" قال في الصراح: قمل سبس قملة بكى انتهى "فرخص(5/386)
ـــــــ
لهما في قمص الحرير" بضم القاف والميم جمع قميص، وفي رواية الشيخين: رخص رسول الله صلى الله عليه وسلم للزبير وعبد الرحمن بن عوف في لبس الحرير لحكة بهما. ورجح ابن التين الرواية التي فيها الحكة وقال لعل أحد الرواة تأولها فأخطأ وجمع الداودي باحتمال أن يكون إحدى العلتين بأحد الرجلين، وقال ابن العربي: قد ورد أنه أرخص لكل منها فالإفراد يقتضي أن لكل حكمة. قال الحافظ في الفتح: ويمكن الجمع بأن الحكة حصلت من القمل فنسبت العلة تارة إلى السبب وتارة إلى سبب السبب انتهى.
وقد ترجم الإمام البخاري في صحيحه باب الحرير في الحرب، وروى فيه حديث الباب عن خمس طرق وفي بعضها أن عبد الرحمن والزبير شكيا إلى النبي صلى الله عليه وسلم يعني القمل فأرخص لهما في الحرير فرأيته عليهما في غزاة. قال الحافظ في الفتح: وأما تقييده بالحرب فكأنه أخذه من قوله: فرأيته عليهما في غزاة، ووقع في رواية أبو داود: في السفر من حكة، وجعل الطبري جوازه في الغزو مستنبطاً من جوازه للحكة فقال: الرخصة في لبسه بسبب الحكة أن من قصد بلبسه ما هو أعظم من أذى الحكة كدفع سلاح العدو ونحو ذلك فإنه يجوز، وقد تبع الترمذي البخاري فترجم له: باب ما جاء في لبس الحرير في الحرب، ثم المشهور عن القائلين بالجواز أنه لا يختص بالسفر وعن بعض الشافعية يختص. وقال القرطبي: الحديث حجة على من منع إلا أن يدعي الخصوصية بالزبير وعبد الرحمن ولا تصح تلك الدعوى. قال الحافظ: قد جنح إلى ذلك عمر فروى ابن عساكر من طريق ابن عوف عن ابن سيرين أن عمر رأى على خالد بن الوليد قميص حرير فقال ما هذا، فذكر له خالد قصة عبد الرحمن بن عوف، فقال وأنت مثل عبد الرحمن، أولك مثل ما لعبد الرحمن، ثم أمر من حضره فمزقوه برجاله ثقات، إلا أن فيه انقطاعاً.
وقد اختلف السلف في لباسه فمنع مالك وأبو حنيفة مطلقاً. وقال الشافعي وأبو يوسف بالجواز للضرورة، وحكى ابن حبيب عن ابن الماجشون أنه يستحب في الحرب. وقال المهلب: لباسه في الحرب لإرهاب العدو وهو مثل الرخصة في الاحتيال في الحرب. ووقع في كلام النووي تبعاً لغيره أن الحكمة في لبس الحرير(5/387)
هذا حديثٌ حسنٌ صحيحٌ.
ـــــــ
للحكة لما فيه من البرودة، وتعقب بأن الحرير حار، فالصواب أن الحكمة فيه لخاصة فيه لدفع ما تنشأ عنه الحكة كالقمل انتهى كلام الحافظ.
قوله: "هذا حديث حسن صحيح" أخرجه الجماعة(5/388)
3ـ باب
1777 ـ حدثنا أبو عَمّارٍ حدثنا الفَضْلُ بنُ مُوسى عن محمدِ بنِ عَمْرِو حدثنا وَاقِدُ بنُ عَمْرِو بنِ سَعْدِ بنِ مُعَاذٍ قال: "قَدِمَ أنَسُ بنُ مالِكٍ فَأَتَيْتُهُ فقالَ: مَنْ أَنْتَ؟ فَقلت: أنا وَاقِدُ بنُ عَمْرو بن سعيد بن معاذٍ، قالَ: فَبَكَى وقالَ: إنّكَ لَشَبِيهٌ بِسَعْدٍ، وإنّ سَعْداً كانَ مِنْ أعْظَمِ النّاسِ، وأطْوَلَهم، وإنّهُ بُعِثَ إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم جُبّةٌ مِنْ دِيبَاحٍ مَنْسُوجٌ فيها الذّهَبُ، فلَبِسَها رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم فَصَعِدَ المِنْبَرَ فَقَامَ أو قَعَدَ، فَجَعَلَ النّاسُ يَلْمسُونها،
ـــــــ
"باب"
قوله: "حدثنا واقد بن عمرو بن سعد بن معاذ" الأنصاري الأشهلي أبو عبد الله المدني ثقة من الرابعة.
قوله: "فبكى" أي أنس "وقال إنك لشبيه بسعد" أي سعد بن معاذ "وإن سعداً" أي بن معاذ "كان من أعظم الناس" أي رتبة "وأطول" أي جسماً "وإنه بعث إلى النبي صلى الله عليه وسلم جبة من ديباج منسوج فيها الذهب" الضمير في أنه للشأن، وبعث بصيغة المجهول، وجبة بالرفع نائب لفاعل، ومنسوج بالرفع على أنه صفة لجبة، والذي بعثها هو أكيدر دومة كما يدل عليه رواية أحمد، فإنه روى في مسنده عن أنس عن مالك رضي الله عنه أن أكيدر دومة أهدى إلى النبي صلى الله عليه وسلم جبة سندس أو ديباج قبل أن ينهى عن الحرير فلبسها، فتعجب الناس عنها، فقال: والذي نفسي بيده لمناديل سعد بن معاذ في الجنة أحسن منها "فلبسها رسول الله صلى الله عليه وسلم" كان هذا قبل النهي عن الحرير كما في رواية(5/388)
فقالوا: ما رأيْنَا كاليْوَمِ ثَوْباً قَطّ. فقَالَ: أتعجَبُونَ مِنْ هذه؟ لَمَنادِيلُ سَعْدٍ في الْجَنّةِ خَيْرٌ مِمّا تَرَوْنَ".
قال وفي البابِ عن أسْمَاءَ بِنْتِ أبي بَكْرٍ.
وهذا حديثٌ صحيحٌ.
ـــــــ
أحمد المذكورة "فقام أو قعد" فشك من الراوي، أي قام على المنبر أو جلس عليه "لمناديل سعد" جمع منديل بكسر الميم ما يحمل في اليد للوسخ والامتهان "خير مما ترون" يعني الجبة، أشار بت إلى أن عظيم رتبته أي أدنى ثياب سعد بن معاذ الأوسي خير من هذه الجبة، وخصه لكون منديله كان من جنس ذلك الثوب لوناً أو كان الحال يقتضي استمالة قلبه، أو كان يحب ذلك الجنس، أو كان اللامسون المتعجبون من الأنصار كذا في المجمع.
قوله: "وفي الباب عن أسماء بنت أبي بكر" أخرجه مسلم بلفظ: أنها أخرجت جبة طيالسة كسروانية لها لبنة ديباج وفرجيها مكفوفين بالديباج وقالت: هذه جبة رسول الله صلى الله عليه وسلم كان عند عائشة، فلما قبضت قبضتها، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يلبسها فنحن نغسلها للمرضى نستشفي بها.
قوله: "هذا حديث حسن صحيح" وأخرجه أحمد والنسائي(5/389)
باب ماجاء في الرخصة في الثوب الأحمر للرجال
...
4ـ باب ما جَاءَ في الرّخْصَةِ في الثّوْبِ الأَحْمَرِ للرّجَال
1778ـ حدثنا محمودُ بنُ غَيْلاَنَ حدثنا وكيعٌ حدثنا سُفْيَان عن أبي إسحاقَ عن البَرَاءِ قال: مَا رأيْتُ من ذِي لِمّةٍ في حُلّةٍ حَمْراءَ أحْسَن مِنْ
ـــــــ
"باب ما جَاءَ في الرّخْصَةِ في الثّوْبِ الأَحْمَرِ للرّجَال"
قوله: "ما رأيت من ذي لمة" بكسر اللام وتشديد الميم. قال الجزري في النهاية: الجمة من شعر الرأس ما سقط على المنكبين، واللمة من شعر الرأس دون الجمة سميت بذلك لأنها ألمت بالمنكبين، والوفرة من شعر الرأس إذا وصل إلى شحمة الأذن "في حلة" قال في القاموس: الحلة بالضم إزار ورداء برد أو غيره(5/389)
رَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم، لَهُ شَعْرٌ يَضْرِبُ مَنكِبيْهِ، بَعِيدٌ ما بَيْنَ المَنْكِبَيْنِ، لَمْ يَكُنْ بالقَصِيرِ ولا بالطّوِيلِ.
ـــــــ
ولا يكون حلة إلا من ثوبين أو ثوب له بطانة انتهى. وقال النووي: الحلة هي ثوبان إزار ورداء، قال أهل اللغة: لا تكون إلا ثوبين، سميت بذلك لأن أحدهما يحل على الآخر، وقيل لا يكون الحلة إلا الثوب الجديد الذي يحل من طيه "حمراء" . قال ابن الهمام: الحلة الحمراء عبارة عن ثوبين من اليمن فيها خطوط حمر وخضر لا أنه أحمر بحت. وقال ابن القيم: غلط من ظن أنها كانت حمراء بحتاً لا يخالطها غيرها، وإنما الحلة الحمراء بردان يمانيان منسوجان بخطوط حمر مع الأسود كسائر البرود اليمانية وهي معروفة بهذا الإسم باعتبار ما فيها من الخطوط، وإنما وقعت شبهة من لفظ الحلة الحمراء انتهى.
قال الشوكاني: ولا يخافك أن الصحابي قد وصفها بأنها حمراء وهو من أهل اللسان، والواجب الحمل على المعنى الحقيقي وهو الحمراء البحت، والمصير إلى المجاز أعني كون بعضها أحمر دون بعض لا يحمل ذلك الوصف عليه إلا لموجب، فإن أراد يعني ابن القيم أن ذلك معنى الحلة الحمراء لغة فليس في كتب اللغة ما يشهد لذلك وإن أراد أن ذلك حقيقة شرعية فيها، فالحقائق الشرعية لا تثبت بمجرد الدعوى، والواجب حمل مقالة ذلك الصحابي على لغة العرب لأنها لسانه ولسان قومه، فإن قال إنما فسرها بذلك التفسير للجمع بين الأدلة فمع كون كلامه آبباً عن ذلك لتصريحه بتغليط من قال إنها الحمراء البحت لا ملجأ إليه لإمكان الجمع بدونه مع أن حملة الحلة الحمراء على ما ذكر ينافي ما احتج به في أثناء كلامه من إنكاره صلى الله عليه وسلم على القوم الذين رأى على رواحلهم أكسية فيها خطوط حمر، وفيه دليل على كراهية ما فيه الخطوط وتلك الحلة كذلك بتأويله انتهى "له شعر يضرب منكبيه" أي إذا تدلى شعره الشريف يبلغ منكبيه "بعيد ما بين المنكبين" بالرفع على أنه خبر مبتدأ محذوف وروى مكبراً أو مصغراً أي عريض أعلى الظهر. ووقع في حديث أبي هريرة عند ابن سعد: رحب الصدر "ليس بالقصير ولا بالطويل" أي المعيوبين. والحديث يدل على جواز لبس الثوب الأحمر للرجال، ويدل على ذلك أيضاً حديث أبي جحيفة عند البخاري قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم في قبة حمراء من أدم(5/390)
ـــــــ
الحديث وفيه: وخرج النبي صلى الله عليه وسلم في حلة حمراء مشمراً صلى إلى العنزة بالناس ركعتين الخ. وحديث هلال بن عامر عن أبيه قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم بمنى يخطب على بغلة وعليه برد أحمر وعليّ أمامه يعبر عنه، أخرجه أبو داود. قال الحافظ في الفتح: وإسناده حسن. وللطبراني بسند حسن عن طارق المحاربي نحوه لكن قال بسوق المجاز، وحديث جابر عن البيهقي: أنه كان له صلى الله عليه وسلم ثوب أحمر يلبسه في العيدين والجمعة. وروى ابن خزيمة في صحيحه نحوه بدون ذكر الأحمر. وحديث بريدة قال: خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فأقبل الحسن والحسين عليهما قميصان أحمران يعثران ويقومان، الحديث أخرجه أبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجه، وقال الترمذي هذا حديث حسن غريب. ونقل المنذري تحسين الترمذي وأقره.
قال الشوكاني في النيل: قد احتج بهذه الأحاديث من قال بجواز لبس الأحمر وهم الشافعية والمالكية وغيرهم. وقال الحافظ في الفتح: جاء الجواز مطلقاً عن علي وطلحة وعبد الله بن جعفر والبراء وغير واحد من الصحابة وعن سعيد بن المسيب والنخعي والشعبي وأبي قلابة وأبي وائل وطائفة من التابعين.
وذهبت الحنفية إلى الكراهة واحتجوا بحديث عبد الله بن عمر وقال: مر بالنبي صلى الله عليه وسلم ثوبان أحمران فسلم عليه فلم يرد عليه، أخرجه الترمذي وأبو داود. وقال الحافظ: هو حديث ضعيف الإسناد وإن وقع في بعض نسخ الترمذي أنه قال: حديث حسن. وقال المنذري في إسناده أبو يحيى القتات. وقد اختلف في اسمه، فقيل عبد الرحمن بن دينار، وقيل زاذان، وقيل عمران، وقيل مسلم، وقيل زياد، وهو كوفي لا يحتج بحديثه. وقال أبو بكر البزار: هذا الحديث لا نعلمه يروى بهذا اللفظ إلا عن عبد الله بن عمر، ولا نعلم له طريقاً إلا هذه الطريق ولا نعلم رواه عن إسرائيل إلا إسحاق بن منصور.
ومن أدلتهم حديث رافع بن خديج عند أبي داود قال: خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في سفر فرأى على رواحلنا وعلى إبلنا أكسية فيها خطوط عن حمر: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم، "ألا أرى هذه الحمرة قد علتكم" ، فقمنا سراعاً لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم، حنى نفر بعض إبلنا فأخذنا الأكسية(5/391)
ـــــــ
فنزعناها عنها. وهذا الحديث لا تقوم به حجة لأن في إسناده رجلاً مجهولاً.
ومن أدلتهم حديث: أن امرأة من بني أسد قالت: قلت يوماً عند زينب امرأة رسول الله صلى الله عليه وسلم ونحن نصبغ ثياباً لها بمغرة فبينا نحن كذلك إذا طلع علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم فلما رأى المغرة رجع، فلما رأت زينب علمت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد كره ما فعلت فأخذت فغسلت ثيابها ووارت كل حمرة، ثم إن رسول الله صلى الله عليه وسلم رجع فاطلع فلما لم ير شيئاً دخل، أخرجه أبو داود. وقال الحافظ: وفي سنده ضعف، وقال المننذري: في إسناده إسماعيل بن عياش وابنه محمد بن إسماعيل بن عياش وفيهما مقال انتهى.
ومن أقوى حججهم ما في صحيح البخاري من النهي عن المياثر الحمر، وكذلك ما في سنن أبي داود والنسائي وابن ماجه والترمذي من حديث عليّ قال: نهاني رسول الله صلى الله عليه وسلم عن لبس القسي والميثرة الحمراء، ولكنه لا يخفى عليك أن هذا الدليل أخص من الدعوى، وغاية ما في ذلك تحريم الميثرة الحمراء، فما الدليل على تحريم ما عداها مع ثبوت لبس النبي صلى الله عليه وسلم له مرات.
ومن أصرح أدلتهم حديث رافع بن برد أو رافع بن خديج كما قال ابن قانع مرفوعاً بلفظ:"من الشيطان يحب الحمرة فإياكم والحمرة وكل ثوب ذي شهرة"أخرجه الحاكم في الكني وأبو نعيم في المعرفة وابن قانع وابن السكن وابن منده وابن عدي، ويشهد له ما أخرجه الطبراني عن عمران بن حصين مرفوعاً بلفظ: "إياكم والحمرة فإنها أحب الزينة إلى الشيطان". وأخرج نحوه عبد الرزاق من حديث الحسن مرسلاً. قال الشوكاني: وهذا إن صح كان أنص أدلتهم على المنع، ولكنك قد عرفت لبسه صلى الله عليه وسلم للحلة الحمراء في غير مرة، ويبعد منه صلى الله عليه وسلم أن يلبس ما حذرنا من لبسه معللاً ذلك بأن الشيطان يحب الحمرة، ولا يصح أن يقال ههنا فعله لا يعارض القول الخاص بنا كما صرح بذلك أئمة الأصول، لأن تلك العلة مشعرة بعدم اختصاص الخطاب بنا إذ تجنب ما يلابسه الشيطان هو صلى الله عليه وسلم أحق الناس به.
فإن قلت: فما الراجح إن صح ذلك الحديث؟.
قلت: قد تقرر في الأصول أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم إذا فعل فعلاً(5/392)
ـــــــ
لم يصاحبه دليل خاص يدل على التأسي به فيه كان مخصصاً له عن عموم القول الشامل له بطريق الظهور فيكون لبس الأحمر مختصاً به، ولكن ذلك الحديث غير صالح للاحتجاج به كما صرح بذلك الحافظ وجزم بضعفه لأنه من رواية أبي بكر الهذلي وقد بالغ الجوزقاني فقال باطل، فالواجب البقاء على البراءة الأصلية المعتضده بأفعاله الثابتة في الصحيح، لا سيما مع ثبوت لبسه لذلك بعد حجة الوداع، ولم يلبث بعدها إلا أياماً يسيرة.
واحتجوا أيضاً بالأحاديث الواردة في تحريم المصبوغ بالعصفر، قالوا لأن العصفر يصبغ صباغاً أحمر وهي أخص من الدعوى وستعرف أن الحق أن ذلك النوع من الأحمر لا يحل لبسه. وقد احتج من قال بتحريم لبس الأحمر للرجال بهذه الأحاديث، وقد عرفت أنه لا يصلح واحد منها للاحتجاج.
وقد ذكر الحافظ في هذه المسألة سبعة أقوال: الأول الجواز مطلقاً، والثاني المنع مطلقاً، والثالث يكره لبس الثوب المشبع بالحمرة ما كان صبغه خفيفاً، جاء ذلك عن عطاء وطاؤس ومجاهد، وكان الحجة فيه حديث ابن عمر: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن المفدم، أخرجه ابن ماجه والمفدم بالفاء وتشديد الدال وهو المشبع بالعصفر فسره في الحديث، والرابع يكره لبس الأحمر مطلقاً لقصد الزينة والشهرة ويجوز في البيوت والمهنة، جاء ذلك عن ابن عباس، والخامس يجوز لبس ما كان صبغ غزله ثم نسج ويمنع ما صبغ بعد النسج، جنح إلى ذلك الخطابي واحتج بأن الحلة الحمراء إحدى حلل اليمن وكذلك البرد الأحمر، وبرود اليمن يصبغ غزلها ثم ينسج، والسادس اختصاص النهي بما يصبغ بالعصفر لورود النهي عنه ولا يمنع ماصبغ بغيره من الأصباغ، قال الحافظ: ويعكر عليه حديث المغرة المتقدم، والسابع تخصيص المنع بالثوب الذي يصبغ كله وأما ما فيه لون آخر غير الأحمر من بياض وسواد وغيرهما فلا، وعلى ذلك تحمل الأحاديث الواردة في الحلة الحمراء فإن الحلل اليمانية غالباً تكون ذات خطوط حمر وغيرها. وقال الطبري بعد أن ذكر غالب هذه الأقوال: الذي أراه جواز لبس الثياب المصبغة بكل لون إلا أني لا أحب لبس ما كان مشبعاً بالحمرة ولا لبس الأحمر مطلقاً ظاهراً فوق الثياب لكونه ليس من لباس أهل المروءة في زماننا، فإن مراعاة زي(5/393)
وفي البابِ عن جَابرِ بنِ سَمُرَةَ وأبي رِمْثَةَ وأبي جُحَيْفَةَ.
وهذا حديثٌ حسنٌ صحيحٌ.
ـــــــ
الزمان من المروءة ما لم يكن إثماً، وفي مخالفته الزي ضرب من الشهرة وهذا يمكن أن يلخص منه قول ثامن انتهى كلام الحافظ.
قلت: الراجح عندي من هذه الأقوال هو القول السادس، وأما قول الحافظ: ويعكر عليه حديث المغرة المتقدم ففيه أن في سنده ضعفاً كما صرح بت الحافظ نفسه. وقال المنذري في إسناده إسماعيل بن عياش وابنه محمد بن إسماعيل بن عياش وفيهما مقال انتهى هذا ما عندي والله تعالى أعلم.
قوله: "وفي الباب عن جابر بن سمرة وأبي رمثة وأبي جحيفة" أما حديث جابر بن سمرة فأخرجه الترمذي في باب الرخصة في لبس الحمرة للرجال من أبواب الأدب، وأما حديث أبي رمثة فلينظر من أخرجه، وأما حديث أبي جحيفة فأخرجه البخاري في باب الصلاة في الثوب الأحمر وفي عدة أبواب من صحيحه.
قوله: "هذا حديث حسن صحيح" وأخرجه الشيخان وأبو داود والنسائي وابن ماجه(5/394)
باب متجاء في كراهية المعصفر للرجال
...
5ـ باب ما جَاءَ في كَرَاهِيَةِ المُعَصْفَرِ لِلرّجَال
1779 ـ حدثنا قُتَيْبَةُ، حدثنا مالكُ بنُ أنَسٍ عن نافِعٍ عن إبراهيم بنِ عبدِ الله بنِ حُنَيْنٍ عن أبيهِ عن عليّ قال: "نَهَى النبيّ صلى الله عليه وسلم عن لُبْسِ القَسِيّ والمُعَصْفَرِ".
ـــــــ
"باب ما جَاءَ في كَرَاهِيَةِ المُعَصْفَرِ لِلرّجَال"
قوله: "عن إبراهيم بن عبد الله بن حنين" الهاشمي مولاهم المدني "عن أبيه" أي عبد الله بن حنين الهاشمي مولاهم مدني ثقة من الثالثة.
قوله: "نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن لبس القسي" بفتح القاف وكسر السين المهملة المشددة على الصحيح. قال أهل اللغة وغريب الحديث: هي ثياب(5/394)
وفي البابِ عن أنَسٍ وعبدِ الله بنِ عَمْرو.
ـــــــ
مضلعة بالحرير تعمل بالقس بفتح القاف موضع من بلاد مصر على ساحل البحر قريب من التنيس، وقيل إنها منسوبة إلى القز وهو رديء الحرير فأبدلت الزاي سيناً "والمعصفر" هو المصبوغ بالعصفر كما في كتب اللغة وشروح الحديث، والعصفر يصغ صباغاً أحمر.
والحديث دليل على تحريم لبس المعصفر للرجال لأن الأصل في النهي التحريم. قال الشوكاني في النيل: الراجح تحريم الثياب المعصفرة، والعصفر وإن كان يصبغ صبغاف أحمر كما قال ابن القيم فلا معارضة بينه وبين ما ثبت في الصحيحين من أنه صلى الله عليه وسلم كان يلبس حلة حمراء لأن النهي في هذه الأحاديث يتوجه إلى نوع خاص من الحمرة وهي الحمرة الحاصلة عن صباغ العصفر انتهى.
وقد عقد الترمذي في أبواب الآداب باباً أيضاً بلفظ: باب ما جاء في كراهية لبس المعصفر للرجال وأورد فيه حديث عبد الله بن عمرو أنه قال: مر رجلٌ وعليه ثوبان أحمران فسلم على النبي صلى الله عليه وسلم فلم يرد عليه النبي صلى الله عليه وسلم السلام ثم قال: ومعنا هذا الحديث عند أهل العلم أنه كره لبس المعصفر ورأوا أن ما صبغ بالحمرة بالمدر أو غير ذلك فلا بأس به إذا لم يكن معصفراً انتهى.
قوله "وفي باب عن أنس وعبد الله بن عمرو" أما حديث أنس فلينظر من أخرجه وأما حديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنه فأخرجه مسلم عنه قال: رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم على ثوبيه معصفرين فقال إن هذه من ثياب الكفار فلا تلبثها، وفي الرواية الأخرى قال: رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم عليّ ثوبين معصفرين فقال: " أمك أمرتك بهذا" ؟ قلت: أغسلهما، قال: " بل أحرقهما" . وفي الباب أيضاً عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال: أقبلنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم من ثنية فالتفت إليّ زعليّ ريطة مضرجة بالعصفر فقال ما هذا؟ فعرفت ما كره فأتيت أهلي وهم يسجرون تنورهم فقذفتها فيه ثم أتيته من الغد فقال يا عبد الله ما فعلت الريطة، فأخبرته فقال: ألا كسوتها بعض أهلك؟ أخرجه أحمد وكذلك أبو داود وابن ماجه وزاد: فإنه لا بأس بذلك للنساء.(5/395)
وحديثُ عليّ حديثٌ حسنٌ صحيحٌ.
ـــــــ
قوله "حديث علي حديث حسن صحيح" أخرجه الجماعة إلا البخاري وابن ماجه كذا في المنتقى.(5/396)
باب ماجاء في لبس الفراء
...
6ـ باب ما جَاءَ في لُبْسِ الفِرَاء
1780ـ حدثنا إسماعيلُ بن موسى الفَزَارِيّ، حدثنا سَيْفُ بنُ هارُونَ البرجميّ عن سُلَيْمانَ التّيْمِيّ عن أبي عُثمانَ عن سَلْمانَ قالَ: "سُئِلَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم عن السّمْنِ والْجُبن والفِرَاءِ فقالَ: "الْحَلاَلُ ما أحَلّ الله في كِتَابِهِ. والْحَرَامُ ما حَرّمَ الله في كِتَابِهِ، وَمَا سَكَتَ عَنْهُ فَهُوَ مِمّا عفى عنهُ" .
ـــــــ
"باب ما جَاءَ في لُبْسِ الفِرَاء"
بكسر الفاء جمع فرو وهو لبس كالجبة يبطن من جلود بعض الحيوانات كالأرانب والسمور، يقال له بالفارسية بوستين.
قوله: "عن سيف بن هارون" البرجمي قال في النيل: هو ضعيف متروك، وقال في تهذيب التهذيب في ترجمته: روى له الترمذي وابن ماجه حديثاً واحداً في السؤال عن الفراء والسمن والجبن الحديث.
قوله: "عن السمن والجبن" كعتل هو لبن يجمد يقال له بالفارسية بنير "والفراء" قال القاري: بكسر الفاء والمد جمع الفراء مداً وقصراً وهو حمار الوحش قال القاضي: وقيل هو ههنا جمع الفرو الذي يلبس ويشهد له صنيع بعض المحدثين كالترمذي فإنه ذكره في باب لبس الفرو، وذكره ابن ماجه في باب السمن والجبن وقال بعض الشراح من علمائنا، وقيل هذا غلط بل جمع الفرو الذي يلبس وإنما سألوه عنها حذراً من صنيع أهل الكفر في اتخاذهم الفراء من جلود الميتة من غير دباغ، ويشهد له أن علماء الحديث أوردوا هذا الحديث في باب اللباس انتهى. "الحلال ما أحل الله" أي بين تحليله "في كتابه والحرام ما حرم الله" أي بين تحريمه "في كتابه" يعني إما مبيناً وإما مجملاً بقوله. "وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم(5/396)
ـــــــ
عنه فانتهوا" لئلا يشكل بكثير من الأشياء التي صح تحريمها بالحديث وليس بصريح في الكتاب. قال الشوكاني في النيل: المراد من هذه العبارة وأمثالها مما يدل على حصر التحليل والتحريم على الكتاب العزيز هو باعتبار اشتماله على جميع الأحكام ولو بطريق العموم أو الإشارة أو باعتبار الأغلب لحديث: إني أوتيت القرآن ومثله معه. وهو حديث صحيح انتهى "وما سكت" أي الكتاب "عنه" أي عن بيانه أو وما أعرض الله عن بيان تحريمه وتحليله رحمة من غير نسيان "فهو مما عفا عنه" أي عن استعماله وأباح في أكله، وفيه أن الأصل في الأشياء الإباحة، ويؤيده قوله تعالى: {هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً} .
تنبيه: اعلم أن بعض أهل العلم قد استدل على إباحة أكل التنباك وشرب دخانه بقوله تعالى {هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً} وبالأحاديث التي تدل على أن الأصل في الأشياء الإباحة. قال القاضي الشوكاني في إرشاد السائل إلى أدلة المسائل بعد ما أثبت أن كل ما في الأرض حلال إلا بدليل ما لفظه: إذا تقرر هذا علمت أن هذه الشجرة التي سماها بعض الناس التنباك وبعضهم التوتون لم يأت فيها دليل على تحريمها وليست من جنس المسكرات ولا من السموم ولا من جنس ما يضر آجلاً أو عاجلاً، فمن زعم حرام فعليه الدليل ولا يفسد مجرد القال والقيل انتهى.
قلت: لا شك في أن الأصل في الأشياء الإباحة لكن بشرط عدم الإضرار، وأما إذا كانت مضرة في الأجل أو العاجل فكلا ثم كلا. وقد أشار إلى ذلك الشوكاني رحمه الله بقوله: ولا من جنس ما يضر آجلاً أو عاجلاً، وأكل التنباك وشرب دخانه بلا مرية وإضراره عاجلاً ظاهر غير خفي، وإن كان فيه شك فليأكل منه وزن ربع درهم أو سدسه ثم لينظر كيف يدور رأسه وتختل حواسه وتتقلب نفسه حيث لا يقدر أن يفعل شيئاً من أمور الدنيا أو الدين، بل لا يستطيع أن يقوم أو يمشي، وما هذا شأنه فهو مضر بلا شك. فقول الشوكاني: ولا من جنس ما يضر آجلاً أم عاجلاً ليس بصحيح. وإذا عرفت هذا ظهر لك أن إضراره عاجلاً هو الدليل على عدم إباحة أكله وشرب دخانه. هذا ما عندي والله تعالى أعلم.(5/397)
وفي البابِ عن المُغِيرَةِ.
وهذا حديثٌ غريبٌ لا نَعْرِفُهُ مرفوعاً إلا مِنْ هذا الوجهِ.
ورَوَى سُفْيَانُ وَغَيْرُهُ عن سُليمانَ التّيْمِيّ عن أبي عُثْمانَ قَوْلَه. وكأنّ الحديثَ المَوْقُوفَ أصَحّ
ـــــــ
قوله: "وفي الباب عن المغيرة" لينظر من أخرجه.
قوله: "هذا حديث غريب" وأخرجه ابن ماجه والحاكم في المستدرك وفي سنده سيف بن هارون وهو ضعيف كما عرفت(5/398)
باب ماجاء في لبس جلود الميتة إذا دبغت
...
7ـ باب ما جَاءَ في جُلُودِ المَيْتَةِ إذا دُبِغَت
1781 ـ حدثنا قُتَيْبَةُ، حدثنا اللّيْثُ عن يزيدَ بنِ أبي حَبيبٍ عن عَطَاء بنِ أبي رَبَاحٍ قالَ: سَمِعْتُ ابنَ عباسٍ يقولُ: "ماتَتْ شَاةٌ فقالَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم لأهْلِهَا: "أَلاّ نَزَعْتُمْ جِلْدَهَا ثم دَبَغْتُمُوهُ فَاسْتَمْتَعْتُمْ بهِ" .
وفي البابِ عن سَلَمَةَ بنِ المُحَبّقِ وَمَيْمُونَةَ وعائشةَ، وحديثُ بنِ عباسٍ
ـــــــ
"باب ما جَاءَ في جُلُودِ المَيْتَةِ إذا دُبِغَت"
قوله: "ألا نزعتم جلدها ثم دبغتموه فاستمتعتم به" فيه دليل على أن جلود الميتة لا يجوز الاستمتاع بها أي استمتاع كان إلا بعد الدباغ، وأما قبل الدباغ فلا يجوز الانتفاع كالبيع وغيره، وهو القول الراجح المعول عليه. ولم يقع في رواية البخاري والنسائي ذكر الدباغ فهي محمولة على الرواية المقيدة بالدباغ.
قوله: "وفي الباب عن سملة بن المحبق" بضم وفتح حاء مهملة وشدة موحدة مكسورة وبقاف والمحدثون يفتحون الباء كذا في المغني "وميمونة وعائشة" أما حديث سلمة بن المحبق فأخرجه ابن حبان عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "دباغ جلود الميتة طهورها" . وقد أخرج غير ابن حبان هذا الحديث بألفاظ أخرى(5/398)
حسنٌ صحيحٌ. وقد رُوِيَ مِنْ غَيْرِ وَجْهٍ عنْ ابنِ عبّاسٍ عن النبيّ صلى الله عليه وسلم نَحْوَ هَذَا. ورُوِيَ عن ابنِ عباسٍ عن مَيْمُونَةَ عن النبي صلى الله عليه وسلم ورُوِيَ عن سَوْدَةَ. وَسَمِعْتُ محمداً يُصَحّحُ حديثَ ابنِ عباسٍ عن النبيّ صلى الله عليه وسلم وحديثَ ابنِ عباسٍ عن مَيْمُونَةَ وقال: أحْتَمِلُ أنْ يَكونَ رَوَى ابنُ عَبّاسٍ عن مَيْمُونَةَ عن النبيّ صلى الله عليه وسلم. ورَوَى ابنُ عباسٍ عن النبيّ صلى الله عليه وسلم ولَمْ يَذْكُرْ فيهِ عن مَيْمُونَةَ. والعملُ على هذا عند أكثرَ أهلِ العلمِ وهُوَ قَوْلُ سُفيَانَ الثورِيّ وابنِ المبَارَكِ والشافعيّ وأحمدَ وإسحاقَ.
1782 ـ حدثنا قُتَيْبَةُ، وحدثنا سُفيانُ بنُ عُيَيْنَةَ و عبدُ العزيزِ بنُ محمدٍ عن زَيْدِ بنِ أسْلَمَ عن عبدِ الرحمَنِ بنِ وَعْلَةَ عن ابنِ عباسٍ قالَ: قال
ـــــــ
ذكرها صاحب السبل. وأما حديث ميمونة فأخرجه مالك وأبو داود والنسائي وغيرهم وفيه فقال: لو أخذتم إهابها، فقالوا إنها ميتة، فقال: يطهرها الماء والقرظ. وأما حديث عائشة فأخرجه الخمسة إلا الترمذي ولفظه: أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر أن ينتفع بجلود الميتة إذا دبغت.
قوله: "حديث ابن عباس حديث حسن صحيح" أخرجه الجماعة إلا أن ابن ماجه قال فيه عن ميمونة جعل من مسندها.
قوله: "والعمل على هذا عند أكثر أهل العلم، وهو قول سفيان الثوري وابن المبارك والشافعي وأحمد وإسحاق" وهو قول أبي حنيفة رحمه الله. قال الإمام محمد رحمه الله في موطأه بعد ذكر حديث: إذا دبغ الإهاب فقد طهر. وبهذا نأخذ إذا دبغ إهاب الميتة فقد طهر وهو ذكاته ولا بأس بالانتفاع به ولا بأس ببيعه، وهو قول أبي حنيفة والعامة من فقهائنا رحمهم الله انتهى. وقال بعض أهل العلم: إنه لا يطهر شيء من الجلود بالدباغ، واستدلوا بحديث عبد الله بن عكيم الآتي وهو حديث لا يصلح للاحتجاج كما ستعرف.
قوله: "وعن عبد الرحمن بن وعلة" بفتح الواو وسكون المهملة المصري(5/399)
رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: "أَيّمَا إهَابٍ دُبِغَ فَقَدْ طَهُرَ" .
هذا حديث حسن صحيح والعملُ على هذا عندَ أكثر أهلِ العلمِ قالوا في جُلودِ المَيْتَةِ إذا دُبِغَتْ فَقَدْ طَهُرَتْ. وقال الشافعيّ: أيما إهابٍ دُبِغَ فقد طَهُرَ إلاّ الكَلْبَ والْخنْزِيرَ. وكره بعضُ أهلِ الْعِلْمِ مِنْ أصحابِ النبيّ صلى الله عليه وسلم وغيرِهم جُلودَ السّبَاعِ وشدّدُوا في لُبْسِهَا والصّلاَةِ فيها.
ـــــــ
صدوق "أيما إهاب" ككتاب الجلد أو ما لم يدبغ قاله في القاموس. وفي الصحاح الإهاب الجلد ما لم يدبغ "دبغ" بصيغة المجهول صفة الإهاب، والدباغ بكسر الدال عبارة عن إزالة الرائحة الكريهة والرطوبات النجسة باستعمال الأدوية أو بغيرها. وقد أخرجه الإمام محمد في كتاب الآثار عن أبي حنيفة عن حماد عن إبراهيم قال: كل شيء يمنع الجلد من الفساد فهو دباغ "فقد طهر" أي ظاهره وباطنه، ويجوز استعماله في الأشياء اليابسة والمائعة ولا فرق بين مأكول اللحم وغيره.
قوله: "هذا حديث حسن صحيح" وأخرجه أحمد ومسلم وابن ماجه "وقال الشافعي: أيما إهاب دبغ فقد طهر إلا الكلب والخنزير" . استدل الشافعي على استثناء الخنزير بقوله تعالى {فإِنَّهُ رِجْسٌ} وجعل الضمير عائداً إلى المضاف إليه وقاس الكلب عليه بجامع النجاسة قال لأنه لا جلد له. قال الشوكاني متعقباً على الإمام الشافعي ما لفظه: واحتجاج الشافعي بالآية على إخراج الخنزير وقياس الكلب عليه لا يتم إلا بعد تسليم أن الضمير يعود إلى المضاف إليه دون المضاف وأنه محل نزاع ولا أقل من الاحتمال إن لم يكن رجوعه إلى المضاف راجحاً والمحتمل لا يكون حجة على الخصم، وأيضاً لا يمتنع أن يقال رجسية الخنزير على تسليم شمولها لجميعه لحماً وشعراً وجلداً وعظماً مخصصة بأحاديث الدباغ انتهى "وكره بعض أهل العلم من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم لبس جلود السباع وشددوا في لبسها والصلاة فيها" لحديث أبي المليح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه ينهى عن جلود السباع، وزاد الترمذي في رواية: أن تفترش، وسيأتي في باب ما جاء في النهي عن جلود السباع. قال الشوكاني: أما الاستدلال بأحاديث النهي عن جلود السباع(5/400)
قال إسحاقُ بنُ إبراهيمَ: إنّما مَعْنَى قولِ رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أَيّمَا إهَابٍ دُبِغَ فَقَدْ طَهُرَ" إنما يعنى به جِلْد ما يُؤْكَلُ لَحْمُهُ. هكَذَا فَسّرَهُ النّضْرُ بنُ شُمَيْل وقال: إنما يقال إهاب الِجلْدِ ما يؤْكلُ لحمُهُ. وكره ابن مبارك وأحمد وإسحاق و الحميدي الصلاة في جلود السباع.
1783ـ حدثنا محمدُ بنُ طَرِيفٍ الكُوفِيّ، حدثنا محمدُ بنُ فُضَيْلٍ
ـــــــ
على أن الدباغ لا يطهر جلود السباع بناء على أنها مخصصة للأحاديث القاضية بأن الدباغ مطهر على العموم فغير ظاهر لأن غاية ما فيها مجرد النهي عن الركوب عليها وافتراشها ولا ملازمة بين ذلك وبين النجاسة كما لا ملازمة بين النهي عن الذهب والحرير ونجاستهما فلا معارضة، بل يحكم بالطهارة بالدباغ مع منع الركوب عليها ونحوه، مع أن يمكن أن يقال إن أحاديث النهي عن جلود السباع أعم من وجه من الأحاديث القاضية بأن الدباغ مطهر على العموم لشمولها لما كان مدبوغاً من جلود السباع وما كان غير مدبوغ انتهى كلام الشوكاني. "قال إسحاق بن إبراهيم: إنما معنى قول النبي صلى الله عليه وسلم: "أيما إهاب دبغ فقد طهر" ، إنما يعني بت جلد ما يؤكل لحمه هكذا فسره النضر بن شميل، وقال: إنما يقال إهاب الجلد ما يؤكل لحمه" قال الشوكاني: هذا يخالف ما قال أبو داود في سننه قال النضر بن شميل: إنما يسمى إهاباً ما لم يدبغ فإذا دبغ لا يقال له إهاب إنما يسمى شناً وقربة انتهى. فليس في رواية أبي داود تخصيصه بجلد المأكول، ورواية أبي داود عنه أرجح لموافقتها ما ذكره أهل اللغة كصاحب الصحاح والقاموس والنهاية وغيرها والمبحث لغوي فيرجح ما وافق اللغة ولم نجد في شيء من كتب أهل اللغة ما يدل على تخصيص الإهاب بإهاب مأكول اللحم كما رواه الترمذي عنه انتهى كلام الشوكاني، قلت الأمر كما قال الشوكاني "وكره ابن المبارك وأحمد وإسحاق والحميدي الصلاة في جلود السباع" أي ولو كانت مدبوغة لحديث المقدام بن معد يكرب أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن لبس جلود السباع والركوب عليها.(5/401)
عن الأعْمَشِ والشّيْبَانِيّ عن الْحَكَمِ عن عبدِ الرحمَنِ بنِ أبي لَيْلَى عن عبدِ الله بن عُكَيْمٍ قال: "أتَانَا كِتَابُ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم أن لا تَنْتَفِعُوا منَ المَيْتَةِ بإهَابٍ ولا عَصَبٍ".
هذا حديثٌ حسنٌ. ويُرْوَى عن عبدِ الله بنِ عُكَيْمٍ عن أشْيَاخٍ له هذا الحديثُ ولَيْسَ العملُ على هذا عندَ أكثَر أهلِ العلمِ. وقد رُوِيَ هذا الحديثُ عن عبدِ الله بن عُكَيْمٍ أنه قال: "أتَانَا كِتَابُ النبي صلى الله عليه وسلم قَبْلَ وَفَاتِهِ بشَهْرَيْنِ".
قال وسمعتُ أحمدَ بنَ الْحَسَنِ يقولُ: كان أحمدُ بنُ حنبلٍ يَذْهَبُ إلى هذا الْحَدِيثِ لِمَا ذُكِرَ فيهِ قَبْلَ وَفَاتِهِ بِشَهْرَيْنِ وكانَ يقولُ كَانَ هذا آخرُ أمْرِ النبيّ صلى الله عليه وسلم ثم تَرَكَ أحمدُ بن حنبل هذا الحديثَ لَمّا اضْطَرَبُوا في إسْنَادِهِ
ـــــــ
قوله: "عن عبد الله بن عكيم" بالتصغير مخضرم من الثانية "أن لا تنتفعوا من الميتة بإهاب ولا عصب" بفتحتين قال في شرح مواهب الرحمن: وعصب الميتة نجس في الصحيح من الرواية لأن فيه حياة بدليل تألمه بالقطع، وقيل طاهر فإنه عظم غير متصل. قال التوربشتي قيل إن هذا الحديث ناسخ للأخبار الواردة في الدباغ لما في بعض طرقه أتانا كتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل موته بشهر، والجمهور على خلافه لأنه لا يقاوم تلك الأحاديث صحة واشتهاراً، ثم إن ابن عكيم لم يلق النبي صلى الله عليه وسلم وإنما حدث عن حكاية حال، ولو ثبت فحقه أن يحمل على نهي الانتفاع قبل الدباغ كذا في المرقاة.
قوله: "هذا حديث حسن" وأخرجه النسائي وابن ماجه، وفي كونه حسناً كلا كما ستقف عليه "وليس العمل على هذا عند أكثر أهل العلم" . قال صاحب المنتقى: أكثر أهل العلم على أن الدباغ يطهر في الجملة لصحة النصوص بت، وخبر ابن عكيم لا يقاربها في الصحة والقوة لينسخها انتهى "ثم ترك أحمد هذا الحديث(5/402)
حَيْثُ رَوَى بَعضُهم فقال عن عبدِ الله بنِ عُكَيْمٍ عن أشْيَاخٍ له مِنْ جُهَيْنَةَ.
ـــــــ
لما اضطروا في إسناده الخ" قال المنذري في تلخيص السنن بعد نقل كلام الترمذي هذا: وقال أبو بكر بن حازم الحافظ وقد حكى الخلال في كتابه أن أحمد توقف في حديث ابن عكيم لما رأى تزلزل الرواة فيه، وقال بعضهم رجع عنه، وقال أبو الفرج عبد الرحمن بن علي في الناسخ والمنسوخ: تصنيفه. وحديث ابن عكيم مضطرب جداً فلا يقاوم الأول لأنه في الصحيحين يعني حديث ميمنونة. وقال أبو عبد الرحمن والنسائي في كتاب السنن: أصح ما في هذا الباب في جلود الميتة إذا دبغت حديث الزهري عن عبيد الله بن عبد الله عن ابن عباس عن ميمونة والله أعلم انتهى كلام المنذري(5/403)
باب ماجاء في كراهية جر الإزار
...
8 ـ باب ما جَاءَ في كَرَاهِيَةِ جَرّ الإزَار
1784 ـ حدثنا الأنصَارِيّ حدثنا مَعْنٌ حدثنا مالِكٌ، وحدثنا قُتَيْبَةُ عن مَالِكٍ عن نافِعٍ و عبدِ الله بنِ دِينَارٍ و زَيْدِ بنِ أسْلَمَ كلّهم يُخْبِرُ عن عبدِ الله بنِ عُمَرَ أنّ رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم قال: "لا يَنْظُرُ الله يَوْمَ الْقِيَامَةِ إلى مَنْ جَرّ ثَوْبَهُ خُيلاَءَ" .
ـــــــ
"باب ما جَاءَ في كَرَاهِيَةِ جَرّ الإزَار"
قوله: "لا ينظر الله" قال الحافظ في الفتح أي لا يرحمه فالنظر إذا أضيف إلى الله كان مجازاً وإذا أضيف إلى المخلوق كان كناية، ويحتمل أن يكون المراد لا ينظر الله إليه نظر رحمة. وقال شيخنا الحافظ العراقي في شرح الترمذي: عبر عن المعنى الكائن عند النظر بالنظر لأن من نظر إلى متواضع رحمه، ومن نظر إلى متكبر مقته، فالرحمة والمقت متسببان عن النظر. وقال الكرماني: نسبة النظر لمن يجوز عليه النظر كناية لأن من اعتد بالشخص التفت إليه ثم كثر حتى صار عبارة عن الإحسان وإن لم يكن هناك نظر. ولمن لا يجوز عليه حقيقة النظر وهو تقليب الحدقة، والله منزه عن ذلك فهو بمعنى الإحسان مجاز عما وقع في حق غيره كناية. وقوله يوم القيامة إشارة إلى أنه محل الرحمة المستمرة رحمة الدنيا فإنها قد(5/403)
وفي البابِ عن حُذَيْفَةَ وأبي سَعِيدٍ وأبي هريرةَ، وسَمُرَةَ وأبي ذَر وعائشةَ وهُبَيْبِ بنِ مُغفلٍ.
وحديثُ ابنِ عُمَر حديثٌ حسنٌ صحيحٌ.
ـــــــ
تنقطع بما يتجدد من الحوادث. ويؤيده ما ذكر من حمل النظر على الرحمة أو المقت ما أخرجه الطبراني وأصله في أبي داود من حديث أبي جري أن رجلاً ممن كان قبلكم لبس بردة فتبختر فيها فنظر الله إليه فمقته فأمر الأرض فأخذته الحديث انتهى. قلت: الأولى بل المتعين أن يحمل ما ورد من النظر ونحوه من صفات الله تعالى على ظاهره من غير تأويل، وقد تقدم الكلام في هذه المسألة مراراً "إلى من جر ثوبه" هو شامل للإزار والرداء وغيرهما. وروى أبو داود والنسائي وابن ماجه من رواية سالم بن عبد الله عن أبيه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " الإسبال في الإزار والقميص والعمامة من جر منها شيئاً خيلاء لم ينظر الله إليه يوم القيامة" "خيلاء" بضم المعجمة وفتح التحتية وبالمد. قال النووي: هو والمخيلة والبطر والكبر والزهو والتبختر كلها متقاربة.
قوله: "وفي الباب عن حذيفة وأبي سعيد وأبي هريرة وسمرة وأبي ذر وعائشة وهبيب بن مغفل" أما حديث حذيفة فأخرجه ابن ماجه في باب موضع الإزار أين هو. وأما حديث أبي سعيد فأخرجه أبو داود وابن ماجه. وأما حديث أبي هريرة فأخرجه الشيخان. وأما حديث سمرة فأخرجه أحمد. وأما حديث أبي ذر فأخرجه مسلم وأبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجه. وأما حديث عائشة فأخرجه البيهقي وفيه: لا ينظر الله إلى مسبل. وأما حديث هبيب بن مغفل فأخرجه أحمد بإسناد جيد وأبو يعلى والطبراني، وهبيب بضم الهاء وفتح الموحدة مصغراً. ومغفل بضم الميم وسكون المعجمة وكسر الفاء. وقال الذهبي في التجريد: قيل لوالد هبيب مغفل لأنه أغفل سمة إبله.
قوله: "حديث ابن عمر حديث حسن صحيح" وأخرجه مالك والبخاري ومسلم والنسائي وابن ماجه.
تنبيه: قال الحافظ في الفتح: في هذه الأحاديث أن إسبال الإزار للخيلاء(5/404)
ـــــــ
كبيرة، وأما الإسبال لغير الخيلاء فظاهر الأحاديث تحريمه أيضاً، لكن استدل بالتقييد في هذه الأحاديث بالخيلاء على أن الإطلاق في الزجر الوارد في ذم الإسبال محمول على المقيد هنا فلا يحرم الجر والإسبال إذا سلم من الخيلاء. قال ابن عبد البر: مفهومه أن الجر لغير الخيلاء لا يلحقه الوعيد إلا أن جر القميص وغيره من الثياب مذموم على كل حال. وقال النووي: الإسبال تحت الكعبين للخيلاء حرام فإن كان لغيرها فهو مكروه، وهكذا نص الشافعي على الفرق بين الجر للخيلاء ولغير الغيلاء قال: والمستحب أن يكون الإزار إلى نصف الساق والجائز بلا كراهة ما تحته إلى الكعبين وما نزل من الكعبين ممنوع منع تحريم إن كان للخيلاء وإلا فمنع تنزيه، لأن الأحاديث الواردة في الزجر عن الإسبال مطلقه فيجب تقييدها بالإسبال للخيلاء انتهى. وقال ابن العربي: لا يجوز للرجل أن يجاوز بثوبه كعبه ويقول لا أجره خيلاء لأن النهي قد تناوله لفظاً ولا يجوز لمن تناوله اللفظ حكماً يقول لا أمنثله لأن تلك العلة ليست في فإنها دعوى غير مسلمة، بل إطالته ذيله دالة على تكبره انتهى.
وحاصله أن الإسبال يستلزم جر الثوب وجر الثوب يستلزم الخيلاء ولو لم يقصد اللابس الخيلاء. ويؤيده ما أخرجه أحمد من منيع من وجه آخر عن ابن عمر في أثناء حديث رفعه: "وإياك وجر الإزار فإن جر الإزار من المخيلة" . وأخرجه الطبراني من حديث أبي أمامة بينما نحن مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا لحقنا عمرو بن زرارة الأنصاري في حلة إزار ورداء قد أسبل، فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم أخذ بناحية ثوبه ويتواضع لله ويقول "عبدك وابن عبدك وأمتك" حتى سمعها عمرو، فقال يا رسول الله إني حمش الساقين، فقال "يا عمرو إن الله قد أحسن كل شيء خلقه، يا عمرو وإن الله لا يحب المسبل" الحديث. وأخرجه أحمد من حديث عمرو نفسه لكن قال في روايته عن عمرو بن فلان، وأخرجه الطبراني أيضاً فقال عن عمرو بن زرارة وفيه: وضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم بأربع أصابع تحت ركبة عمرو فقال: "يا عمرو هذا موضع الإزار" ، ثم ضرب بأربع أصابع تحت الأربع فقال: "يا عمرو هذا موضع الإزار" ، ثم ضرب بأربع تحت الأصابع فقال: يا عمرو هذا موضع الإزار، الحديث ورجاله ثقات. وظاهره أن عمراً المذكور لم يقصد بإسباله الخيلاء، وقد منعه من ذلك لكونه مظنته. وأخرج الطبراني من حديث الشريد الثقفي قال: أبصر النبي صلى الله عليه وسلم رجلاً قد(5/405)
ـــــــ
أسبل إزاره فقال "ارفع إزارك" ، فقال: إني أحنف تصطك ركبتاي، قال "ارافع إزارك فكل خلق الله حسن" . وأخرجه مسدد وأبو بكر بن أبي شيبة من طرق عن رجل من ثقيف لم يسم وفي آخره: وذاك أقبح مما بساقك. وأما ما أ خرجه ابن أبي شيبة عن ابن مسعود بسند جيد أنه كان يسبل إزاره فقيل له في ذلك فقال إني حمش الساقين فهو محمول على أنه أسبله زيادة على المستحب وهو أن يكون إلى نصف الساق ولا يظن به أنه جاوز به الكعبين والتعليل يرشد إليه، ومع ذلك فلعله لم تبلغه قصة عمرو بن زرارة والله أعلم. وأخرجه النسائي وابن ماجه وصححه ابن حبان من حديث المغيرة بن شعبة. رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم أخذ يرداء سفيان بن سهيل وهو يقول: "يا سفيان لا تسبل فإن الله لا يحب المسبلين"(5/406)
باب ماجاء في ذيول النساء
...
9ـ باب ما جاءَ في ذُيُولِ النّسَاء
1785 ـ حدثنا الحسَنُ بنُ عليّ الْخَلاّلُ، حدثنا عبدُ الرّزّاق، أخبرنا مَعْمَرٌ عن أيّوبَ عن نافِعٍ عن ابنِ عُمَرَ قالَ: قالَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم: "مَنْ جَرّ ثَوْبَهُ خُيَلاَءَ لَمْ يَنْظُر الله إليهِ يَوْمَ القِيَامَةِ" ، فَقَالَتْ أُمّ سَلَمَةَ: فَكَيْفَ يَصْنَعُ النّسَاءُ بِذُيُولِهِنّ؟ قالَ: " يُرْخِينَ شِبْراً" ، فقَالَتْ إذاً تَنْكَشِفُ أَقْدَامُهُنّ، قالَ: "فَيُرْخِينَهُ ذِرَاعاً لا يَزِدْنَ عَلَيْهِ" .
ـــــــ
"باب ما جاء في جر ذيول النساء"
قال في القاموس: الذيل آخر كل شيء ومن الإزار والثوب ما جر.
قوله: "يرخين" بضم أوله من الإرخاء وهو الإرسال أي يرسلن من ثيابهن "شبراً" أي من نصف الساقين "إذاً" بالتنوين "فيرخينه" أي الذيل "لا يزدن عليه" أي على قدر الذارع. قال الطيبي: المراد به الذراع الشرعي، إذ هو أقصر من العرفي.
تنبيه: اعلم أن حديث ابن عمر هذا أخرجه البخاري في صحيحه وليست فيه زيادة: فقالت أم سلمة فكيف يصنع النساء بذيولهن الخ. قال الحافظ في شرح(5/406)
حديثٌ حسنٌ صحيحٌ.
وفي الحديث رخصة للنساء في جر الإزار لأنه يكون أستر لهن.
ـــــــ
حديث أبي هريرة: "لا ينظر الله يوم القيامة إلى من جر إزاره بطراً" ما لفظه: قوله ومن يتناول الرجال والنساء في الوعيد المذكور على هذا الفعل المخصوص وقد فهمت ذلك أم سلمة رضي الله عنها فأخرجه النسائي والترمذي وصححه من طريق أيوب عن نافع بن عمر، فقال أم سلمة فكيف تصنع النساء بذيولهن، فقال يرخين شبراً. فقالت إذاً تنكشف أقدامهن. قال فيرخينه ذراعاً لا يزدن عليه، لفظ الترمذي. وقد عزا بعضهم هذه الزيادة لمسلم فوهم فإنها ليست عنده، وكأن مسلماً أعرض عن هذه الزيادة للاختلاف فيها على نافع، فقد أخرجه أبو داود والنسائي وغيرهما من طريق عبيد الله بن عمر عن سليمان بن يسار عن أم سلمة، وأخرجه أبو داود من طريق أبي بكر بن نافع والنسائي من طريق أيوب بن موسى ومحمد بن إسحاق ثلاثهم عن نافع عن صفية بنت أبي عبيد عن أم سلمة، وأخرجه النسائي من رواية يحيى بن أبي كثير عن نافع عن أم سلمة نفسها وفيه اختلافات أخرى، ومع ذلك فله شاهد من حديث ابن عمر أخرجه أبو داود من رواية أبي بكر الصديق عن ابن عمر قال: رخص رسول الله صلى الله عليه وسلم لأمهات المؤمنين شبراً، ثم استزدنه فزادهن شبراً، فكن يرسلن إلينا فنذرع لهن ذراعاً. وأفادت هذه الرواية قدر الذراع المأذون فيه وأنه شبران بشبر اليد المعتدلة انتهى.
قوله: "هذا حديث حسن صحيح" وأخرجه النسائي "وفي الحديث رخصة للنساء في جر الإزار لأنه يكون أستر لهن" قال الحافظ: إن للرجال حالين: حال استحباب وهو أن يقتصر بالإزار على نصف الساق وحال جواز وهو إلى الكعبين، وكذلك للنساء حالان: حال استحباب وهو ما يزيد على ما هو جائز للرجال بقدر الشبر، وحال جواز بقدر ذراع. ويؤيد هذا التفصيل في حق النساء ما أخرجه الطبراني في الأوسط من طريق معتمر عن حميد عن أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم شبر لفاطمة من عقبها شبراً وقال: "هذا ذيل المرأة" ، وأخرجه أبو يعلى بلفظ: شبر من ذيلها شبراً أو شبرين وقال لا تزدن على هذا ولم يسم فاطمة. قال الطبراني:(5/407)
1786 ـ حدثنا إسحاقُ بنُ مَنْصُورٍ، أخبرنا عَفّانُ، حدثنا حَمّادُ بنُ سَلَمَةَ عن عليّ بنِ زَيْدٍ عن أُمّ الْحَسَنِ أنّ أُمّ سَلمَةَ حَدّثَتْهُمْ: "أنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم شَبّرَ لِفَاطِمَةَ شِبْراً مِنْ نِطَاقِهَا".
ورواه بَعْضُهُمْ عن حَمّادِ بنِ سَلْمَةَ عن عليّ بنِ زَيْدٍ عن الْحَسَنِ عن أُبيهِ عنْ أُمّ سَلَمَةَ.
ـــــــ
تفرد به معتمر، و "أو" شك من الراوي، والذي جزم بالشبر هو المعتمد، ويؤيده ما أخرجه الترمذي من حديث أم سلمة يعني الذي يأتي بعد هذا.
قوله: "عن علي بن يزيد" هو معروف بعلي بن زيد بن جدعان ضعيف من الرابعة كذا في التقريب. قلت: وقال الترمذي: صدوق إلا أنه ربما رفع الشيء الذي يوقفه غيره. يروي عن الحسن البصري وأمه خيرة وخلق "عن أم الحسن" الحسن هذا هو البصري واسم أمها خيرة. قال في التقريب: خيرة أم الحسن البصري مولاة أم سلمة مقبولة من الثانية "شبر" من التشبير. قال في القاموس: شبر تشبيراً قدر "لفاطمة شبراً" بكسر الشين هو ما بين أعلى الإبهام وأعلى الخنصر "من نطاقها" بكسر النون، قال في القاموس: النطاق ككتاب شقة تلبسها المرأة تشد وسطها فترسل الأعلى على الأسفل إلى الأرض، والأسفل ينجر على الأرض ليس لها حجزة ولا نفيق ولا ساقان انتهى. والمعنى أن النبي صلى الله عليه وسلم قدر لفاطمة النبي صلى الله عليه وسلم أن ترخي قدر شبر من نطاقها. قال النووي: أجمعوا على جواز الجر للنساء.
قوله: "ورواه بعضهم عن حماد بن سلمة عن علي بن يزد عن الحسن عن أمه عن أم سلمة" عليّ بن يزد يروي عن الحسن البصري وعن أمه أيضاً، فالظاهر أنه روى هذا الحديث عن أم الحسن بواسطة الحسن وعنها بلا وساطة أيضاً، ولم يحكم الترمذي على هذا الحديث بشيء من الصحة والضعف، وفي سنده علي بن يزيد وقد عرفت حاله(5/408)
باب ماجاء في لبس الصوف
...
10ـ باب ما جاءَ في لُبْسِ الصّوف
1787ـ حدثنا أحمدُ بنُ مَنِيعٍ، حدثنا إسماعيلُ بنُ إبراهيمَ، حدثنا أيّوبُ عن حُمَيْدٍ بنِ هِلاَلٍ عن أبي بُرْدَةَ قالَ: "أَخْرَجَتْ إلَيْنَا عَائِشَةُ كِسَاءً مُلَبّداً وإزَاراً غَلِيظاً، فَقَالَتْ: قُبِضَ روح رَسولُ الله صلى الله عليه وسلم في هَذَيْنِ".
وفي البابِ عن عليّ وابنِ مَسْعُودٍ. وحَدِيثُ عَائِشَةَ حديثٌ حسنٌ صحيحٌ.
ـــــــ
"باب ما جاءَ في لُبْسِ الصّوف"
قال في الصراح: صوف يشم كوسيند. قال ابن بطال: كره مالك لبس الصوف لمن يجد غيره لما فيه من الشهرة بالزهر لأن إخفاء العمل أولى، قال: ولم ينحصر التواضع في لبسه بل في القطن وغيره ما هو بدون ثمنه.
قوله: "كساء" بكسر الكاف هو ما يستر أعلى البدن والإزار ما يستر أسفله "ملبداً" اسم مفعول من التلبيد. قال في النهاية أي مرقعاً، وقال الحافظ في الفتح: قال المهلب: يقال للرقعة التي يرقع القميص لبدة، وقال غيره: التي ضرب بعضها في بعض حتى تتراكب وتجتمع "قبض رسول الله صلى الله عليه وسلم في هذين" أي في هذين الثوبين وكأنه إجابة لدعائه صلى الله عليه وسلم: "اللهم أحيني مسكيناً وأمتني مسكينا" ً. قال النووي: في أمثال هذا الحديث بيان ما كان عليه صلى الله عليه وسلم من الزهادة في الدنيا والإعراض عن متاعها وملاذها، فيجب على الأمة أن يقتدوا وأن يقتفوا على أثره في جميع سيره.
قوله: "وفي الباب عن علي وابن مسعود" أما حديث علي فأخرجه أبو يعلى ذكره المنذري في الترغيب في ترك الترفع في اللباس تواضعاً واقتداء بأشرف الخلق محمد صلى الله عليه وسلم، وأما حديث ابن مسعود فأخرجه الترمذي في هذا الباب.
قوله: "حديث عائشة حديث حسن صحيح" وأخرجه الشيخان.(5/409)
1788ـ حدثنا عليّ بنُ حجرٍ، حدثنا خَلَفُ بنُ خَليفَةَ عن حُمَيْدٍ الأَعْرَجِ عن عَبْدِ الله بنِ الْحَارِثِ عن ابنِ مَسْعُودٍ عن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال: "كانَ عَلَى مُوسَى يوم كَلّمَهُ رَبّهُ كِسَاءُ صُوفٍ وَجُبّةُ صُوفٍ وكُمّهُ صُوفٍ وسَرَاوِيلُ صُوفٍ، وكانَتْ نَعْلاَهُ مِنْ جِلْدِ حِمَارٍ مَيّتٍ" .
هذا حديثٌ غريبٌ لا نَعْرِفُهُ إلاّ مِنْ حَدِيثِ حُمَيْدٍ الأَعْرَجِ. وَحُمَيْدٌ هو ابنُ عليّ الكوفي قال سمعت محمداً يقول حميد بن علي الأَعْرَجُ مُنْكَرُ الْحَدِيثِ. وَحُمَيْدٍ بنُ قَيْسٍ الأَعْرَجُ المَكّيّ صَاحِبُ مُجَاهِدٍ ثِقَةٌ. والكُمّةُ القَلَنْسُوَةُ الصغيرة
ـــــــ
قوله: "حدثنا خلف بن خليفة" بن صاعد الأشجعي مولاهم أبو أحمد الكوفي نزل واسط ثم بغداد صدوق اختلط بآخره وادعى أنه رأى عمرو بن حريث الصحابي فأنكر عليه ذلك ابن عيينة وأحمد، من الثامنة، كذا في التقريب "عن حميد الأعرج" الكوفي القاضي الملائي، يقال هو ابن عطاء أو ابن علي أو غير ذلك، ضعيف من السادسة.
قوله: "وكمة صوف" بضم كاف وشدة ميم هي القلنسوة الصغيرة.
قوله: "هذا حديث غريب الخ" وأخرجه الحاكم وقال صحيح على شرط البخاري قال المنذري: توهم الحاكم أن حميداً الأعرج هذا هو حميد بن قيس المكي وإنما هو حميد بن علي، وقيل ابن عمار أحد المتروكين(5/410)
باب ماجاء في العمامة السوداء
...
11ـ باب ما جاءَ في العِمَامَةِ السّوْدَاء
1789ـ حدثنا محمدُ بنُ بَشّارٍ، حدثنا عبدُ الرحمنِ بنُ مَهْدِي عن حَمّادِ بنِ سَلَمَةَ عن أبي الزّبَيْرِ عن جَابرٍ قال: "دَخَلَ النبيّ صلى الله عليه وسلم مَكّةَ يَوْمَ الفَتْحِ وعَلَيْهِ عِمَامَةٌ سَوْدَاءُ".
ـــــــ
"باب ما جاءَ في العِمَامَةِ السّوْدَاء"
قوله: "وعليه عمامة سوداء" فيه دليل على مشروعية العمامة السوداء.(5/410)
قال وفي البابِ عن علي و عَمَرِو بنِ حُرَيْثٍ وابنِ عباسٍ وَرُكَانَةَ.
حَدِيثُ جَابِرٍ حديثٌ حسنٌ صحيحٌ.
ـــــــ
قوله: "وفي الباب عن عمرو بن حريث وابن عباس وركانة" أما حديث عمرو بن حريث فأخرجه مسلم والترمذي وأبو داود والنسائي وابن ماجه عنه قال: رأيت النبي صلى الله عليه وسلم على المنبر وعليه عمامة سوداء قد أرخى طرفها بين كتفيه كما في النيل، وأما حديث ابن عباس وحديث ركانة فلينظر من أخرجهما.
قوله: "حديث جابر حديث حسن صحيح" وأخرجه مسلم وأبو داود والنسائي وابن ماجه(5/411)
باب سدل العمامة بين الكتفين
...
12ـ باب في سَدْلِ العِمَامَةِ بَيْنَ الكَتِفَيْن
1790ـ حدثنا هارونُ بنُ إسحاقَ الْهَمَدَانِيّ، حدثنا يَحْيَى بنُ محمدٍ المدني عن عَبْدِ العَزِيزِ بنِ محمدٍ عن عُبَيْدِ الله بنِ عُمَرَ عن نافِعٍ عن ابنِ عُمَرَ قال: "كانَ النبيّ صلى الله عليه وسلم إذا اعْتَمّ سَدلَ عِمَامَتَهُ بَيْنَ كَتِفَيْهِ".
ـــــــ
"باب في سَدْلِ العِمَامَةِ بَيْنَ الكَتِفَيْن"
أي إرسالها وإرخائها بينهما، ولم يقع هذا الباب في بعض النسخ.
قوله: "حدثنا يحيى بن محمد المديني" قال في التقريب: يحيى بن محمد بن عبد الله بن مهران المدني مولى بني نوفل يقال له الجاري بجيم وراء خفيفة، صدوق يخطيء من كبار العاشرة.
قوله: "إذا اعتم" بتشديد الميم أي لف العمامة على رأسه "سدل" أي أرسل وأرخى "عمامته" أي طرفها الذي يسمى العلامة والعذبة "بين كتفيه" بالتثنية، والحديث يدل على استحباب إرخاء طرفها بين الكتفين. وقد ورد في إرخاء العذبة أحاديث على أنواع: فمنها ما يدل على إرخائها بين الكتفين كحديث الباب وحديث عمرو بن حريث رضي الله عنه الذي أشار إليه الترمذي في الباب المتقدم وتقدم لفظه هناك، وحديث الحسن بن علي رضي الله عنه قال: رأيت النبي صلى الله عليه وسلم على المنبر وعليه عمامة سوداء قد أرخى طرفها بين كتفيه،(5/411)
قالَ نَافِعٌ: وكانَ ابنُ عُمَرَ يَسْدِلُ عِمَامَتَهُ بَيْنَ كَتِفَيْهِ: قالَ عُبَيْدُ الله: ورَأَيْتُ القَاسِمَ وسَالِماً يَفْعَلاَنِ ذَلِكَ.
ـــــــ
أخرجه أبو داود على ما في عمدة القاري، وحديث عبد الأعلى بن عدي أخرجه أبو نعيم في معرفة الصحابة من رواية إسماعيل بن عياش عن عبد الله بن بشر عن عبد الرحمن بن عدي البهراني عن أخيه عبد الأعلى بن عدي: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم دعا علي بن أبي طالب يوم غدير خم فعممه وأرخى عذبة العمامة من خلفه ثم قال: "هكذا فاعتموا" الحديث. وحديث عبد الله بن ياسر قال: بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم عليّ بن أبي طالب إلى خيبر فعممه بعمامة سوداء ثم أرسلها من روائه أو قال على كتفه اليسرى، أخرجه الطبراني وحسنه السيوطي، وحديث جابر قال: كان للنبي صلى الله عليه وسلم وعليه عمامة سوداء يلبسها في العيدين ويرخيها خلفه، أخرجه ابن عدي وقال لا أعلم يرويه عن أبي الزبير غير العزرمي وعنه حاتم بن إسماعيل. وحديث أبي موسى أن جبرئيل نزل على النبي صلى الله عليه وسلم وعليه عمامة سوداء قد أرخى ذؤابته من ورائه، أخرجه الطبراني.
ومنها ما يدل على إرخائها بين يدي المعتم ومن خلفه كحديث عبد الرحمن بن عوف عممني رسول الله صلى الله عليه وسلم فسد لها من بين يدي ومن خلفي، أخرجه أبو داود وفي إسناده شيخ مجهول. وحديث عائشة أخرجه ابن أبي شيبة عن عروة عنها: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم عمم عبد الرحمن بن عوف بعمامة سوداء من قطن وأفضل له من بين يديه مثل هذه، وفي رواية عن نافع عن ابن عمر قال: عمم رسول الله صلى الله عليه وسلم ابن عوف بعمامة سوداء كرابيس وأرخاها من خلفه قدر أربع أصابع قال: "هكذا فاعتم" ، وحديث ثوبان: رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا اعتم أرخى عمامته بين يديه ومن خلفه، أخرجه الطبراني في الأوسط وفي الحجاج بن رشد وهو ضعيف.
ومنها ما يدل على إرخائها من الجانب الأيمن كحديث أبي أمامة قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم قلما يولي والياً حتى يعممه ويرخي لها من جانبه الأيمن نحو الأذن، أخرجه الطبراني في الكبير وفي إسناده جميع بن ثوب وهو متروك.(5/412)
ـــــــ
وقد استدل على جواز ترك العذبة ابن القيم في الهدي بحديث جابر عند مسلم وأبي داود والترمذي والنسائي وابن ماجه بلفظ: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم دخل مكة وعليه عمامة سوداء، بدون ذكر الذؤابة، قال: فدل على أن الذوابة لم يكن يرخيها دائماً بين كتفيه انتهى وفيه نظر، إذ لا يلزم من عدم ذكر الذؤابة في هذا الحديث عدمها في الواقع حتى يستدل به على أنه صلى الله عليه وسلم لم يكن يرخي الذؤابة.
وأقوى أحاديث هذه الأنواع كلها وأصحها هو حديث عمرو بن حريث في إرخاء العذبة بين الكتفين. قال العيني في العمدة: قال شيخنا زين الدين: ما المراد بسدل عمامته بين كتفيه؟ هل المراد سدل الطرف الأسفل حتى تكون عذبة؟ أو المراد سدل الطرف الأعلى بحيث يغرزها ويرسل منها شيئاً خلفه؟ يحتمل كلا من الأمرين ولم أر التصريح يكون المرخي من العمامة عذبة إلا في حديث عبد الأعلى بن عدي وفيه: وأرخى عذبة العمامة من خلفه وتقدم، وقال الشيخ مع أن العذبة الطرف كعذبة السوط وكعذبة اللسان أي طرفه، فالطرف الأعلى يسمى عذبة من حيث اللغة وإن كان مخالفاً للاصطلاح العرفي الاَن. وفي بعض طرق حديث ابن عمر ما يقتضي أن الذي كما يرسله بين كتفيه من الطرف الأعلى، رواه أبو الشيخ وغيره من رواية أبي عبد السلام عن ابن عمر رضي الله عنه قال: قلت لابن عمر: كيف كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعتم؟ قال: كان يدير كور العمامة على رأسه ويغرزها من ورائه ويرخي له ذؤابة بين كتفيه انتهى.
فائدة: قد أخرج الطبراني في الأوسط عن ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم عمم عبد الرحمن بن عوف فأرسل من خلفه أربع أصابع أو نحوها ثم قال: "هكذا فاعتم فإنه أعرب وأحسن" . قال السيوطي: وإسناده حسن وأخرج ابن أبي شيبة أن عبد الله بن الزبير كان يعتم بعمامة سوداء قد أرخاها من خلفه نحواً من ذراع. وروى سعد بن سعيد عن رشدين قال: رأيت عبد الله بن الزبير يعتم بعمامة سوداء ويرخيها شبراً أو أقل من شبر. قال في السبل: من آداب العمامة تقصير العذبة فلا تطول طولاً فاحشاً. وقال النووي في شرح المهذب: إرسال العذبة إرسالاً فاحشاً كإرسال الثوب يحرم للخيلاء ويكره لغيره انتهى.(5/413)
ـــــــ
"فائدة أخرى": قال السيوطي في الحاوي في الفتاوي: وأما مقدار العمامة الشريفة فلم يثبت في حديث وقد روى البيهقي في شعب الإيمان عن ابن سلام بن عبد الله بن سلام قال: سألت ابن عمر كيف كان النبي صلى الله عليه وسلم يعتم؟ قال كان يدير العمامة على رأسه ويغرزها من ورائه ويرسل لها ذؤابة بين كتفيه، وهذا يدل على أنها عدة أذرع. والظاهر أنها كانت نحو العشرة أو فوقها بيسير انتهى. قال الشوكاني: ولا أدري ما هذا الظاهر الذي زعمه، فإن كان الظهور من هذا الحديث الذي ساقه باعتبار ما فيه من ذكر الإدارة والغرز إرسال الذؤابة فهذه الأوصاف تحصل في عمامة دون ثلاثة أذرع، وإن كان من غيره فما هو بعد إقراره بعدم ثبوت مقدارها في حديث انتهى. وفي المرقاة قال الجزري في تصحيح المصابيح: قد تتبعت الكتب وتطلبت من السير والتواريخ لأقف على قدر عمامة النبي صلى الله عليه وسلم فلم أقف على شيء حتى أخبرني من أثق به أنه وقف على شيء من كلام النووي ذكر فيه: أنه كان له صلى الله عليه وسلم عمامة قصيرة وعمامة طويلة، وأن القصيرة كانت سبعة أذرع والطويلة اثنى عشر ذراعاً ذكره القاري: وقال وظاهر كلام المدخل أن عمامته كانت سبعة أذرع مطلقاً من غير تقييد بالقصير والطويل انتهى.
قلت: لا بد لمن يدعي أن مقدار عمامته صلى الله عليه وسلم كان كذا وكذا من الذراع أن يثبته بدليل صحيح، وأما الادعاء المحض فليس بشيء.
فائدة أخرى: قال في السبل: من آداب العمامة إرسال العذبة بين الكتفين ويجوز تركها بالأصالة. وقال النووي في شرح المهذب: لبس العمامة بإرسال طرفها وبغير إرساله ولا كراهة في واحد منهما ولم يصح في النهي عن ترك إرسالها شيء انتهى.
فائدة أخرى: لم أجد في فضل العمامة حديثاً مرفوعاً صحيحاً، وكل ما جاء فيه إما ضعيفة أو موضوعة.
فمنها ما رواه القضاعي والديلمي في مسند الفردوس عن علي مرفوعاً: العمائم تيجان العرب، والاحتباء حيطانها، وجلوس المؤمن في المسجد رباطه. قال في المقاصد: ضعيف، وأخرج البيهقي معناه من قول الزهري.
ومنها حديث: عليكم بالعمائم فإنها سيما الملائكة وأرخوها خلف ظهوركم.(5/414)
هذا حديثٌ حسن غريبٌ.
وفي البابِ عن عليّ ولا يَصِحّ حَدِيثُ عليّ في هذا مِن قِبَلِ إسْنَادِهِ.
ـــــــ
أخرجه ابن عدي والبيه قي في الخلاصة وهو موضوع. وقال في اللاَلئ: لا يصح، وقال: له طريق آخر عن ابن عباس، أخرجه الحاكم في المستدرك.
ومنها ما رواه ابن عساكر والديلمي عن ابن عمر مرفوعاً: صلاة تطوع أو فريضة بعمامة تعدل خمساً وعشرين صلاة بلا عمامة، وجمعة بعمامة تعدل سبعين جمعة بلا عمامة. قال المناوي: قال ابن حجر: موضوع وكذلك قال الشوكاني في كتابه الفوائد المجموعة في الأحاديث الموضوعة. وفي الباب روايات أخرى ذكرها الشوكاني وغيره في موضوعاتهم.
قوله: "هذا حديث غريب" لم يحكم الترمذي على هذا الحديث بشيء من الصحة والضعف، والظاهر أنه حسن، ويعضده حديث عمرو بن حريث عند مسلم وغيره الذي أشار إليه الترمذي في الباب الذي قبله.
قوله: "وفي الباب عن علي" لينظر من أخرجه(5/415)
باب ماجاء في كراهية خاتم الذهب
...
13ـ باب ما جاءَ في كَرَاهِيَةِ خَاتَمِ الذّهَب
1791ـ حدثنا سَلَمَةُ بنُ شَبِيبٍ و الْحَسَنُ بنُ عليّ وغَيْرُ وَاحِدٍ قالُوا حدثنا عَبْدُ الرّزّاقِ، أخبرنا مَعْمَرٌ عن الزّهْرِيّ عن إبراهيم بنِ عَبْدِ الله بنِ حُنَيْنٍ عن أبِيهِ عن عليّ بن أبي طَالِبٍ قالَ: "نَهَانِي النبيّ صلى الله عليه وسلم عن التّخَتّمِ بالذّهَبِ، وعَنْ لِبَاسِ القَسِيّ، وعن القِرَاءَةِ في الرّكُوعِ والسّجُودِ وعَنْ لُبْاسِ المُعَصْفر".
ـــــــ
"باب ما جاءَ في كَرَاهِيَةِ خَاتَمِ الذّهَب"
الخاتم بفتح التاء وكسرها هما لغتان واضحتان وفيه لغات أخرى.
قوله: "عن التختم بالذهب" أي عن لبس خاتم الذهب، وهذا النهي للرجال(5/415)
هذا حديثٌ حسنٌ صحيحٌ.
1792ـ حدثنا يُوسُفُ بنُ حَمّادٍ المَعْنِيّ البَصْرِيّ، حدثنا عَبْدُ الوَارِثِ بنُ سَعِيدٍ عن أبي التّيّاحِ، حدثنا حَفْصٌ اللّيْثِيّ قال: أشْهَدُ على عِمْرَانَ بنِ حُصَيْنٍ أنه حدثنا أنه قال: "نَهَى رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم عن التّخَتّمِ بالذّهَبِ".
ـــــــ
لا للنساء، فإن الذهب حرام عليهم لا عليهن "وعن لباس القسي" تقدم ضبط القسي ومعناه في باب كراهية المعصفر للرجال "وعن القراءة في الركوع والسجود" لأن الركوع موضع التسبيح وكذا السجود "وعن لبس المعصفر" هو المصبوغ بالعصفر. واستدل به من قال بتحريم لبس الثوب المصبوغ بالمعصفر، وقد تقدم الكلام في هذه المسألة في باب كراهية المعصفر للرجال.
قوله: "هذا حديث حسن صحيح" أخرجه الجماعة إلا البخاري وابن ماجه، وقد تقدم هذا الحديث في باب النهي عن القراءة في الركوع والسجود.
قوله: "حدثنا يوسف بن حماد المعنى" بفتح الميم وسكون العين المهملة وكسر النون وبياء النسبة.
قوله: "أشهد على عمران بن حصين أنه حدثنا" أراد حفص بقوله أشهد على عمران التأكيد للرواية "نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن التختم بالذهب" قال النووي في شرح مسلم: أجمع المسلمون على إباحة خاتم الذهب للنساء وأجمعوا على تحريمه على الرجال إلا ما حكي عن أبي بكر بن عمر بن محمد بن حرم أنه أباحه، وعن بعض أنه مكروه لا حرام، وهذان النقلان باطلان وقائلهما محجوج بهذه الأحاديث التي ذكرها مسلم مع إجماع من قبله على تحريمه مع قوله صلى الله عليه وسلم في الذهب والحرير: إن هذين حرام على ذكور أمتي حل لإناثها انتهى.(5/416)
قال وفي البابِ عَنْ علي و ابنِ عُمَرَ وأبي هُرَيْرَةَ و مُعَاوِيَةَ حَدِيثُ عِمْرَانَ حديثٌ حسنٌ. و أبُو التيّاح اسْمُهُ يَزِيدُ بنُ حُمَيْدٍ.
ـــــــ
قوله: "وفي الباب عن علي وابن عمر وأبي هريرة ومعاوية" أما حديث علي فقد تقدم آنفاً، فالظاهر أنه أشار إلى ما أخرجه عنه أحمد وأبو داود والنسائي أن النبي صلى الله عليه وسلم أخذ حريراً فجعله في يمينه وأخذ ذهباً فجعله في شماله ثم قال: إن هذين حرام على ذكور أمتي. وأما حديث ابن عمر رضي الله عنه فأخرجه الشيخان، وأما حديث أبي هريرة فأخرجه مسلم، وأما حديث معاوية فأخرجه أبو داود.
قوله: "حديث عمران حديث حسن صحيح" وأخرجه أحمد(5/417)
باب ماجاء في خاتم الفضة
...
14ـ باب ما جاءَ في خَاتَمِ الْفِضّة
1793 ـ حدثنا قُتَيْبَةُ وغَيْرُ وَاحِدٍ عَنْ عَبْدِ الله بنِ وَهْبٍ عَنْ يُونسَ عن ابنِ شِهَابٍ عَنْ أنَسٍ قال: "كانَ خَاتَمُ النبيّ صلى الله عليه وسلم مِنْ وَرِقٍ وكانَ فصّهُ حَبَشيّا".
ـــــــ
"باب ما جاءَ في خَاتَمِ الْفِضّة"
قوله: "من ورق" بفتح الواو وكسر الراء أي فضة "وكان فصه حبشياً" ووقع في رواية أخرى لأنس: وكان فصه منه أي من الورق. قال الحافظ في الفتح: لا يعارضه قوله في رواية أخرى: وكان فصه حبشياً لأنه إما أن يحمل على التعدد وحينئذ فمعنى قوله حبشياً أي كان حجراً من بلاد الحبشة أو على لون الحبشة أو كان جزعاً أو عقيقاً لأن ذلك قد يؤتى من بلاد الحبشة. ويحتمل أن يكون هو الذي فصه منه ونسب إلى الحبشة لصفة فيه إما الصياغة أو النقش انتهى.
قوله: "وفي الباب عن ابن عمر وبريدة" أما حديث ابن عمر فأخرجه الشيخان،(5/417)
قل وفي البابِ عن ابنِ عُمَرَ وبُرَيْدَةَ.
هذا حديثٌ حسنٌ صحيحٌ غريبٌ مِنْ هذا الوَجْهِ.
ـــــــ
وأماحديث بريدة فأخرجه الترمذي في أواخر اللباس، وأخرجه أيضاً أبو داود والنسائي.
قوله: "هذا حديث حسن صحيح الخ" قال الحافظ أخرجه مسلم وأصحاب السنن(5/418)
باب ماجاء مايستحب من فص الخاتم
...
15ـ باب ما جَاءَ مَا يُسْتَحَبّ في فَصّ الْخَاتَم
1794 ـ حدثنا محمودُ بنُ غَيْلاَنَ حدثنا حَفْصُ بنُ عُمَرَ بنِ عُبَيْدِ الله الطّنَافِسِيّ حدثنا زُهيْرٌ أبو خَيْثَمَةَ عن حُمَيْدٍ عن أنَسٍ قال: "كانَ خاتَمُ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم مِنْ فِضّةٍ فَصّهُ مِنْهُ".
ـــــــ
"باب ما جَاءَ مَا يُسْتَحَبّ في فَصّ الْخَاتَم"
قال الجوهري: الفص بفتح الفاء والعامة تكسرها وأثبتها غيره لغة، وزاد بعضهم الضم، وعلي جزى ابن مالك في المثلث. وقال في القاموس: الفص للخاتم مثلثة والكسر غير لحن ووهم الجوهري انتهى.
قوله: "حدثنا حفص بن عمر عبيد الطنافسي" الكوفي ثقة من العاشرة "حدثنا زهير أبو خيثمة" هو ابن معاوية بن حديج بضم مهملة وفتح دال مهملة وبجيم "عن حميد" هو ابن أبي حميد الطويل.
قوله: "فصه" أي فص الخاتم "منه" أي من الفضة وتذكيره لأنه بتأويل الورق، وقيل الضمير راجع إلى ما صنع منه الخاتم وهو الفضة وهو بعيد ويمكن من في "منه" للتبعيض والضمير للخاتم أي فصه بعض من الخاتم بخلاف ما إذا كان حجراً فإنه منفصل عنه مجاور له، وفي رواية أبي داود من طريق زهير بن معاوية عن حميد عن أنس: كان خاتم النبي صلى الله عليه وسلم من فضلة كله. قال الحافظ: فهذا نص في أنه كله من فضة، وأما ما أخرجه أبو داود والنسائي من طريق إياس بن الحارث بن معيقيب عن جده قال: كان خاتم النبي صلى الله عليه وسلم من حديد ملوياً عليه فضه فربما كان في يدي، قال: وكان معيقيب على خاتم النبي(5/418)
هذا حديثٌ حسنٌ صحيحٌ غريبٌ مِنْ هذا الوَجْهِ.
ـــــــ
صلى الله عليه وسلم يعني كان أميناً عليه، فيحمل على التعدد. وقد أخرج له ابن سعد شاهداً مرسلاً عن مكحول: أن خاتم رسول الله صلى الله عليه وسلم كان من حديد ملوياً عليه فضة غير أن فصه باد، وآخر مرسلاً عن إبراهيم النخعي مثله دون ما في آخره، وثالثاً من رواية سعيد بن عمرو بن سعيد بن العاص: أن خالد بن سعيد يعني ابن العاص أتى وفي يده خاتم، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم "ما هذا اطرحه" فطرحه فإذا خاتم من حديد ملوي عليه فضة، قال: ما نقشه؟ قال محمد رسول الله، قال فأخذه فلبسه: ومن وجه آخر عن سعيد بن عمرو والمذكور أن ذلك جرى لعمرو بن سعيد أخي خالد بن سعيد انتهى كلام الحافظ.
قوله: "هذا حديث حسن صحيح غريب من هذا الوجه" وأخرجه البخاري وأبو داود والنسائي(5/419)
باب ماجاء في لبس الخاتم في اليمين
...
16ـ باب ما جَاءَ في لُبْسِ الْخَاتَمِ في الْيَمِين
1795 ـ حدثنا محمدُ بنُ عُبَيْدٍ المُحَارِبِيّ حدثنا عَبْدُ العَزِيزِ بنُ
ـــــــ
"باب ما جَاءَ في لُبْسِ الْخَاتَمِ في الْيَمِين"
إعلم أنه قد وردت الأحاديث في التختم في اليمين وفي التختم في اليسار، وقد اختلف أهل العلم في الجمع بين هذه الأحاديث المختلفة، فجنحت طائفة إلى استواء الأمرين وجمعوا بذلك بين مختلف الأحاديث، وإلى ذلك أشار أبو داود حيث ترجم: باب التختم في اليمين واليسار، ثم أورد الأحاديث مع اختلافها في ذلك بغير ترجيح، وقال البيهقي في الأدب: يجمع بين هذه الأحاديث بأن الذي لبسه في يمينه وهو خاتم الذهب كما صرح به في حديث ابن عمر والذي لبسه في يساره وهو خاتم الفضة، وأما رواية الزهري عن أنس التي فيها التصريح بأنه كان من فضة ولبسه في يمينه فكأنها خطأ فقد تقدم أن الزهري وقع له وهم في الخاتم الذي طرحه النبي صلى الله عليه وسلم، وأنه وقع في روايته أنه الذي كان من فضة وأن الذي في(5/419)
أبي حَازِمٍ عَنْ موسى بنِ عُقْبَةَ عن نَافِعٍ عن ابنِ عُمَرَ أنّ النبيّ صلى الله
ـــــــ
رواية غيره أنه الذي كان من ذهب، فعلى هذا فالذي كان لبسه في يمينه هو الذهب انتهى ملخصاً.
وجمع غيره أنه لبس الخاتم أولاً في يمينه ثم حوله إلى يساره، واستدل له بما أخرجه أبو الشيخ وابن عدي من رواية عبد الله بن عطاء عن نافع عن ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم تختم في يمينه ثم إنه حوله في يساره. قال الحافظ: فلو صح هذا لكان قاطعاً للنزاع ولكن سنده ضعيف انتهى. وأخرج ابن سعد من طريق جعفر بن محمد عن أبيه قال: طرح رسول الله صلى الله عليه وسلم خاتمه الذهب ثم تختّم خاتماً من ورق فجعله في يساره، وهذا مرسل أو معضل. وقد جمع البغوي في شرح السنة بذلك وأنه تختم أولاً في يمينه ثم تختم في يساره وكان ذلك آخر الأمرين، وتعقبه الطبري بأن ظاهره النسخ وليس ذلك مراده بل الإخبار بالواقع اتفاقاً.
قال الحافظ: ويظهر لي أن ذلك يختلف باختلاف القصد، فإن كان اللبس للتزين به فاليمين أفضل وإن كان للتختم به فاليسار أولى، لأنه كالمودع فيها ويحصل تناوله منها باليمين، وكذا وضعه فيها، ويترجح التختم في اليمين مطلقاً لأن اليسار آلة الاستنجاء فيصان الخاتم إذا كان في اليمين عن أن تصيبه النجاسة، ويترجح التختم في اليسار بما أشر إليه من التناول انتهى.
وقال النووي في شرح مسلم: أجمع الفقهاء على جواز التختم في اليمين وعلى جوازه في اليسار ولا كراهة في واحدة منهما، واختلفوا أيتهما أفضل فتختم كثيرون من السلف في اليمين وكثيرون في اليسار، واستحب مالك اليسار وكره اليمين، وفي مذهبنا وجهان لأصحابنا الصحيح أن اليمين أفضل لأنه زينة واليمين أشرف وأحق بالزينة والإكرام انتهى
قوله: "حدثنا محمد بن عبيد" بن محمد بن واقد المحاربي الكندي أبو جعفر النحاس الكوفي صدوق من العاشرة.(5/420)
عليه وسلم صَنَعَ خَاتَماً مِنْ ذَهَبٍ فَتَخَتّمَ بهِ في يَمِينِهِ ثُمّ جَلَسَ على المِنْبَرِ فقالَ: "إنّي كُنْتُ اتّخَذْتُ هذا الْخَاتَمَ في يَمِينِي، ثُمّ نَبَذَهُ وَنَبَذَ النّاسُ خَوَاتِيمَهُمْ" .
قال وفي البابِ عَنْ عَلِيّ وجَابِرٍ وعَبْدِ الله بنِ جَعْفَرٍ وابنِ عَبّاسٍ وَعَائِشَةَ وأنَسٍ.
حديثُ ابنِ عُمَرَ حَدِيثٌ حسنٌ صحيحٌ. وقد رُوِيَ هذا الحَدِيثُ عَنْ نَافِعٍ عن ابنِ عُمَرَ نَحْوَ هذا من غير هذا الوَجْهِ، ولم يذْكرْ فيهِ أنّهُ تَخَتّمَ في يَمِينِهِ.
ـــــــ
قوله: "صنع خاتماً" أي أمر بصنعه فصنع له "من ذهب" أي ابتدأ قبل تحريم الذهب على الرجال "ثم نبذه الخ" وهذا يحتمل أن يكون كرهه من أجل المشاركة أو لما رأى من زهوهم بلبسه. ويحتمل أن يكون لكونه من ذهب وصادق وقت تحريم لبس الذهب على الرجال، ويؤيد هذا رواية عبد الله بن دينار عن ابن عمر عند البخاري بلفظ: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يلبس خاتماً من ذهب فنبذه فقال لا ألبسه أبداً، وحديث ابن عمر هذا، كذا رواه الترمذي مختصراً، وزاد البخاري من طريق عبيد الله عن نافع وقال لا ألبسه أبداً ثم اتخذ خاتماً من فضة فاتخذ الناس خواتيم الفضه.
قوله: "وفي الباب عن علي وجابر وعبد الله بن جعفر الخ" أما حديث علي فأخرجه أبو داود والنسائي والترمذي في الشمائل وابن حبان في صحيحه عنه: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يتختم في يمينه. وأما حديث جابر فأخرجه الترمذي في الشمائل، قال الحافظ بسند لين، وأما حديث عبد الله بن جعفر وحديث ابن عباس فأخرجهما الترمذي في هذا الباب. وأما حديث عائشة فأخرجه البزار بسند لين وأبو الشيخ بسند حسن قاله الحافظ في الفتح. وأما حديث أنس فأخرجه مسلم عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لبس خاتم فضة في يمينه فيه فص حبشي كان يجعل فصه مما يلي كفه. وفي الباب أيضاً عن أبي أمامة عند الطبراني بسند(5/421)
1797ثنا محمدُ بنُ حُمَيْدٍ الرّازِيّ حدثنا جَرِيرٌ عَنْ محمدِ بنِ إسحاقَ عن الصّلْتِ بنِ عَبْدِ الله بنِ نَوْفَلٍ قالَ: رَأَيْتُ ابنَ عَبّاسٍ يَتَخَتّمُ في يَمِينِهِ ولا إخَالُهُ إلاّ قالَ: "رَأَيْتُ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم يَتَخَتّمُ في يَمِينِهِ".
قال محمدُ بنُ إسماعيلَ حَدِيثُ محمدِ بنِ إسحاقَ عن الصّلتِ بنِ عبدِ الله بنِ نَوْفَلٍ حديثٌ حسنٌ صحيحٌ.
ـــــــ
ضعيف، وعن أبي هريرة عند الدارقطني في غرائب مالك بسند ساقط، قاله الحافظ في الفتح.
قوله: "وحديث ابن عمر حديث حسن صحيح" وأخرجه ابن سعد وأصله في الصحيحين.
قوله: "حدثنا جرير" هو ابن عبد الحميد "عن محمد بن إسحق" هو إمام المغازي "عن الصلب بن عبد الله بن نوفل" بن الحارث بن عبد المطلب الهاشمي روى عن ابن عباس وعنه والزهري وابن إسحاق وغيرهما وثقه ابن حبان، وقال الزبير بن بكار: كان فقيهاً عابداً كذا في الخلاصة وتهذيب التهذيب.
قوله: "ولا إخاله" بكسر الهمزة، قال في القاموس: خال الشيء يخال خيلا وخيلة ويكسران وخالا وخيلا لا محركه ومخيلة ومخالة وخيلولة ظنه، وتقول في مستقبله إخال بكسر الألف وتفتح في لغة انتهى.
قوله: "قال محمد بن إسماعيل" يعين الإمام البخاري رحمه الله "حديث محمد بن إسحاق عن الصلت بن عبد الله بن نوفل حديث حسن صحيح" وفي بعض النسخ حسن فقط وليس فيه صحيح، والحديث أخرجه أبو داود وللطبراني من وجه آخر عن ابن عباس: كان النبي صلى الله عليه وسلم يتختم في يمينه، وفي سنده لين قاله الحافظ في الفتح.(5/422)
1797 ـ حدثنا قُتَيْبَةُ حدثنا حَاتِمُ بنُ إسماعيلَ عن جَعْفَرِ بنِ محمدٍ عن أبيهِ قال: "كانَ الحَسَنُ وَالحُسَيْنُ يَتَخَتّمَانِ في يَسَارِهِمَا".
هذا حديثٌ حسن صحيحٌ.
1798 ـ حدثنا أحمدُ بنُ مَنيعٍ حدثنا يَزِيدُ بنُ هَارُونَ عن حَمّادِ بنِ سَلَمَةَ قَالَ: "رَأَيْتُ ابنَ أبي رَافِعٍ "هو عبيدالله بن أبي رافع عن رسول الله صلى الله عليه وسلم واسم ابن أبي رافع" يَتَخَتّمُ في يَمِينِهِ فَسَأَلْتُهُ عن ذلكَ فقالَ: رَأَيْتُ عَبْدَ الله بنَ جَعْفَرٍ يَتَخَتّمُ في يَمِينِهِ، وقالَ عبدالله بن جعفر كانَ النبيّ صلى الله عليه وسلم يَتَخَتّمُ في يَمِينِهِ".
ـــــــ
"حدثنا حاتم بن إسماعيل" هو المدني "عن جعفر بن محمد" هو المعروف بالصادق "عن أبيه" هو محمد بن علي الحسين بن علي بن أبي طالب أبو جعفر الباقر ثقة فاضل من الرابعة كذا في التقريب.
قوله: "كان الحسن والحسين يتختمان في يسارهما" هذا الأثر لا يناسب الباب ولو زاد الترمذي في ترجمة الباب لفظ "واليسار" بعد قوله في اليمين لطابقه هذا الأثر أيضاً.
قوله: "هذا حديث صحيح وأخرجه البيهقي في الأدب من طريق أبي جعفر الباقر" قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم وأبو بكر وعمر وعلي والحسن والحسين يتختمون في اليسار ذكره الحافظ في الفتح.
قوله: "رأيت ابن أبي رافع" هو عبد الرحمن بن أبي رافع ويقال بن فلان بن أبي رافع، روى عن عبد الله بن جعفر وعن عمه عن أبي رافع وعن عمته سلمى عن أبي رافع وعنه حماد بن سلمة قال إسحاق بن منصور عن ابن معين صالح له عند الترمذي في التختم في اليمين وآخر حديث في دعاء الكرب، كذا في تهذيب التهذيب "فقال رأيت عبد الله بن جعفر" ابن أبي طالب الهاشمي أحد الأجواد ولد بأرض الحبشة وله صحبة، كذا في التقريب "كان النبي صلى الله عليه وسلم يتختم في يمينه" أي يلبس الخاتم في خنصر يده اليمنى.(5/423)
قال وقالَ محمد بن اسماعيل: هذا أصَحّ شيء رُوِيَ عن النبي صلى الله عليه وسلم في هذا الباب.
ـــــــ
قوله: "قال محمد" يعني الإمام البخاري رحمه الله "وهذا أصح شيء روي عن النبي صلى الله عليه وسلم في هذا الباب" وأخرجه أحمد وابن ماجه(5/424)
باب ماجاء في نقش الخاتم
...
17ـ بابُ ما جَاءَ في نَقْشِ الْخَاتَم
1799ـ حدثنا محمدُ بن بَشّارٍ و محمدُ بنُ يَحْيَى وغَيْرُ وَاحِدٍ قالُوا حدثنا محمدُ بنُ عَبْدِ الله الأَنْصَارِيّ حدثني أبِي عن ثُمَامَةَ عن أنَسِ بنِ مَالِكٍ قال: "كانَ نَقْشُ خَاتَمِ النبيّ صلى الله عليه وسلم ثَلاَثَةَ أسْطُرٍ: محمدٌ سَطْرٌ، وَرَسُولٌ سَطْر: والله سَطْرٌ" ولَمْ يذكر محمدُ بنُ يَحْيى في حَدِيثِهِ "ثَلاَثَةَ أسْطُرٍ".
ـــــــ
"بابُ ما جَاءَ في نَقْشِ الْخَاتَم"
قوله: "ومحمد بن يحيى" هو الإمام الحافظ الذهلي "حدثنا محمد بن عبد الله الأنصاري" هو محمد بن عبد الله بن المثنى الأنصاري "حدثني أبي" أي عبد الله بن المثنى الأنصاري "عن ثمامة" هو ابن عبد الله بن أنس بن مالك الأنصاري. قوله: "كان نقش خاتم النبي صلى الله عليه وسلم ثلاثة أسطر" قال ابن بطال: ليس كون نقش الخاتم ثلاثة أسطر أو سطرين أفضل من كونه سطراً واحداً. قال الحافظ: قد يظهر أثر الخلاف من أنه إذا كان سطراً واحداً يكون الفص مستطيلاً لضرروة كثرة الأحرف فإذا تعددت الأسطر أمكن كونه مربعاً أو مستديراً وكل منهما أولى من المستطيل انتهى "محمد سطر ورسول سطر والله سطر" قال الحافظ: هذا ظاهره أنه لم يكن فيه زيادة على ذلك، لكن أخرج أبو الشيخ في أخلاق النبي صلى الله عليه وسلم من رواية عرعرة بن البريد عن عزرة بن ثابت عن ثمامة عن أنس قال: كان فص خاتم النبي صلى الله عليه وسلم حبشياً مكتوباً عليه لا إله إلا الله(5/424)
وفي الباب عن ابن عمر. حديث أنس حديث حسن صحيح غريب
1800ـ حدثنا الحَسَنُ بنُ عليَ الْخَلاّلُ حدثنا عبدُ الرّزّاقِ أخبرنا مَعْمَرٌ عن ثَابِتٍ عَنْ أَنَسِ بنِ مَالِكٍ أنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم صَنَعَ خَاَتَماً مِنْ وَرِقٍ فَنَقَشَ فيهِ: محمدٌ رَسُولُ الله، ثُمّ قالَ: "لاَ تَنْقُشُوا عَلَيْهِ" .
ـــــــ
محمد رسول، وعرعرة ضعفه ابن المديني وزيادته هذه شاذة قال: وظاهره أيضاً أنه كان على هذا الترتيب لكن لم تكن كتابته على السياق العادي، فإن ضرورة الاحتياج إلى أن يختم به يقتضي أن تكون الأحرف المنقوشة مقلوبة ليخرج الخاتم مستوياً وأما قول بعض الشيوخ إن كتابته كانت من أسفل إلى فوق يعني أن الجلالة في أعلى الأسطر الثلاثة ومحمد في أسفلها فلم أر التصريح بذلك في شيء من الأحاديث بل رواية الإسماعيلي يخالف ظاهر ذلك فإنه قال فيها: محمد سطر والسطر الثاني رسول، والسطر الثالث الله، ولك أن تقرأ محمد بالتنوين ورسول بالتنوين وعدمه، والله بالرفع والجر انتهى.
قوله: "وفي الباب عن ابن عمر" أخرجه الشيخان عنه قال: اتخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم خاتماً من ورق وكان في يده ثم كان بعد في يدي أبي بكر، ثم كان بعد في يد عمر، ثم كان بعد في يد عثمان حتى وقع بعد في بئر أريس نقشه: محمد رسول الله.
قوله: "حديث أنس حديث حسن صحيح غريب" وأخرجه البخاري.
قوله: "لا تنقشوا عليه" في رواية الشيخين: فلا ينقش أحد على نقشه، وفي حديث ابن عمر عند مسلم: "لا ينقش أحد على نقش خاتمي هذا" ، قال النووي: سبب النهي أنه صلى الله عليه وسلم إنما اتخذ الخاتم ونقش فيه ليختم به كتبه إلى ملوك العجم وغيرهم فلو نقش غيره مثله لدخلت المفسدة وحصل الخلل. قال: وفي الحديث جواز نقش الخاتم وجواز نقش اسم الله تعالى، هذا مذهبنا ومذهب سعيد بن المسيب ومالك والجمهور. وعن ابن سيرين وبعضهم كراهة نقش اسم الله تعالى(5/425)
هذا حديثٌ صحيح حسنٌ. ومَعْنَى قَوْلِهِ "لا تَنْقُشُوا عَلَيْهِ" نَهْى أنْ يَنْقُشَ أحَدٌ على خَاتَمِهِ محمدٌ رَسُولُ الله.
1801ـ حدثنا إسحاقُ بنُ مَنْصُورٍ أخبرنا سعِيدُ بنُ عَامِرٍ و الحجّاجُ بنُ مِنْهَالٍ قالا حدثنا هَمّامٌ عن ابنِ جُرَيْجٍ عن الزّهْرِيّ عن أنَسٍ قالَ: "كانَ رسول الله صلى الله عليه وسلم إذَا دَخَلَ الْخَلاَءَ نَزَعَ خَاتَمهُ".
ـــــــ
وهذا ضعيف انتهى. قال الحافظ: وقد أخرج ابن أبي شيبة بسند صحيح عن ابن سيرين أنه لم يكن يرى بأساً أن يكتب الرجل في خاتمه حسبي الله ونحوها، فهذا يدل على أن الكراهة عنه لم يثبت، ويمكن الجمع بأن الكراهة حيث يخاف عليه حمله للجنب والحائض والاستنجاء بالكف التي هو فيها، والجواز حيث حصل الأمن من ذلك فلا تكون الكراهة لذلك بل من جهة ما يعرض لذلك انتهى. قال النووي قال العلماء: وله أن ينقش عليه اسم نفسه أو أن ينقش عليه كلمة حكمة وأن ينقش ذلك مع ذكر الله تعالى.
قوله: "هذا حديث حسن صحيح" وأخرجه الشيخان.
قوله: "حدثنا سعيد بن عامر" الضبعي أبو محمد البصري ثقة صالح، وقال أبو حاتم: ريما هو من التاسعة "والحجاج بن منهال" الأنماطي أبو محمد السلمي مولاهما البصري ثقة فاضل من التاسعة "حدثنا همام" هو ابن يحيى الأزدي العوذي.
قوله: "إذا دخل الخلاء" أي أراد دخوله قوله: "نزع" أي أخرج من أصبعه "خاتمه" قال القاري في المرقاة لأن نقشه محمد رسول الله، وفيه دليل على تنحية المستنجي اسم الله واسم رسوله والقرآن، كذا قاله الطيبي قال الأبهري: ويعم الرسل. وقال ابن حجر: استفيد منه أنه يندب لمريد التبرز أن ينحي كل ما عليه معظم من اسم الله تعالى أو نبي أو ملك، فإن خالف كره انتهى. وهذا هو الموافق لمذهبنا انتهى كلام القاري.(5/426)
هذا حديثٌ حسنٌ غريبٌ.
ـــــــ
قوله: "هذا حديث حسن صحيح" قال الحافظ في التلخيص: حديث أنه صلى الله عليه وسلم إذا دخل الخلاء وصنع خاتمه، أخرجه أصحاب السنن وابن حبان والحاكم من حديث الزهري عن أنس به. قال النسائي: هذا حديث غير محفوظ. وقال أبو داود: منكر، وذكر الدارقطني الاختلاف فيه وأشار إلى شذوذه وصححه الترمذي، وقال النووي: هذا مردود عليه، قاله في الخلاصة وقال المنذري: الصواب عندي تصحيحه، فإن رواته ثقات أثبات. وتبعه أبو الفتح القشيري في آخر الاقتراح وعلته أنه من رواية همام عن ابن جريج عن الزهري عن أنس ورواته ثقات، لكن لم يخرج الشيخان رواية همام عن ابن جريج، وابن جريج قيل لم يسمعه من الزهري وإنما رواه عن زياد بن سعد عن الزهري بلفظ آخر، وقد رواه مع همام مع ذلك مرفوعاً يحيى بن الضريس البجلي ويحيى بن المتوكل وأخرجهما الحاكم والدارقطني، وقد رواه عمرو بن عاصم وهو من الثقات عن همام موقوفاً على أنس، وأخرج له البيه قي شاهداً أو أشار إلى ضعفه ورجاله ثقات، ورواه الحاكم أيضاً ولفظه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لبس خاتماً نقشه محمد رسول الله فكان إذا دخل الخلاء وضعه، وله شاهد من حديث ابن عباس رواه الجوزقاني في الأحاديث الضعيفة وينظر في سنده فإن رجاله ثقات إلا محمد بن إبراهيم الرازي فإنه متروك انتهى كلام الحافظ(5/427)
باب ماجاء في الصورة
...
18ـ باب ما جاءَ في الصّورَة
1802ـ حدثنا أحمدُ بنُ مَنِيعٍ حدثنا رَوْحُ بنُ عُبَادَةَ حدثنا ابنُ جُرَيْجٍ أخبرني أبُو الزّبَيْرِ عن جَابِرٍ قال: "نَهَى رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم عن الصّورَةِ في البَيْتِ، ونَهَى أنْ يُصْنَعَ ذَلِكَ".
ـــــــ
"باب ما جاءَ في الصّورَة"
المراد بيان حكمها من جهة مباشرة صنعتها ثم من جهة استعمالها واتخاذها.
قوله: "نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الصورة في البيت" أي عن(5/427)
ـــــــ
اتخاذها وإدخالها فيه لأن الملائكة لا تدخل بيتاً فيه كلب ولا تصاوير كما في حديث أبي طلحة عند الشيخين، والمراد بالبيت المكان الذي يستقر فيه الشخص سواء كان بناء أو خيمة أم غير ذلك. قال النووي في شرح مسلم: قال أصحابنا وغيرهم من العلماء: تصوير صورة الحيوان حرام شديد التحريم وهو من الكبائر لأنه متوعد عليه بهذا الوعيد الشديد المذكور في الأحاديث، وسواء صنعه لما يمتهن أو لغيره فصنعته حرام بكل حال لأن فيه مضاهاة بخلق الله تعالى، وسواء ما كان في ثوب أو بساط أو درهم أو دينار أو فلس أو إناء أو حائط أو غيرها، وأما تصوير صورة الشجر ورحال الإبل وغير ذلك مما ليس فيه صورة حيوان فليس بحرام هذا حكم نفس التصوير، وأما اتخاذ المصور فيه صور حيوان فإن كان معلقاً على حائط أو ثوباً ملبوساً أو عمامة ونحو ذلك مما لا يعد ممتهناً فهو حرام، وإن كان في بساط يداس ومخدة ووسادة ونحوها مما يمتهن فليس بحرام، ولا فرق في هذا كله بين ماله ظل ومالا ظل له، هذا تلخيص مذهبنا في المسألة، وبمعناهن قال جماهير العلماء من الصحابة والتابعين ومن بعدهم وهو مذهب الثوري ومالك وأبي حنيفة وغيرهم. وقال بعض السلف: إنما ينهى عما كان له ظل ولا بأس بالصور التي ليس لها ظل، وهذا مذهب باطل وإن الستر الذي أنكر النبي صلى الله عليه وسلم الصورة فيه لا يشك أحد أنه مذموم وليس لصورته ظل مع باقي الأحاديث المطلقة في كل صورة. وقال الزهري: النهي في الصورة على العموم، وكذلك استعمال ما هي فيه ودخول البيت الذي هي فيه سواء كانت رقماً أو غير رقم، وسواء كانت في حائط أو ثوب أو بساط ممتهن أو غير ممتهن عملاً بظاهر الأحاديث لا سيما حديث النمرقة الذي ذكره مسلم، وهذا مذهب قوي. وقال آخرون: يجوز منها ما كان رقماً في ثوب سواء امتهن أم لا، وسواء علق في حائط أم لا، وكرهوا ما كان له ظل أو كان مصوراً في الحيطان وشبهها سواء كان رقماً أو غيره، واحتجوا بقوله في بعض أحاديث الباب "إلا ما كان رقماً في ثوب"، وهذا مذهب القاسم بن محمد، وأجمعوا على منع ما كان له ظل ووجوب تغييره. انتهى كلام النووي.
قلت: قال ابن العربي: إن الصورة التي لا ظل لها إذا بقيت على هيئتها حرمت سواء كانت مما يمتهن أم لا، وإن قطع رأسها أو فرقت هيئتها جاز انتهى.(5/428)
قال وفي البابِ عَنْ عَلِيّ وَأَبِي طَلْحَةَ وَعَائِشَةَ وأبِي هُرَيْرَةَ وأبِي أيّوبَ.
حَدِيثُ جَابِرٍ حَدِيثٌ حسنٌ صحيحٌ.
ـــــــ
وهذا القول هو الأحوط عندي وهو المنقول عن الزهري وقواه النووي كما عرفت آنفاً. وقال ابن عبد البر: إنه أعدل الأقوال.
فائدة: روى البخاري عن عائشة قالت: كنت ألعب بالبنات عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان لي صواحب يلعبن معي، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا دخل ينقمعن منه فيسر بهن إلي فيلعبن معي. قال الحافظ: استدل بهذا الحديث على جواز اتخاذ صور البنات واللعب من أجل لعب البنات بهن، وخص بذلك من عموم النهي عن اتخاذ الصور. وبه جزم عياض ونقله عن الجمهور وأنهم أجازوا بيع اللعب للبنات لتدريهن من صغرهن على أمر بيوتهن وأولادهن. قال وذهب بعضهم إلى أنه منسوخ، وإليه مال ابن بطال. وحكى عن ابن أبي زيد عن مالك أنه كره أن يشتري الرجل لابنته الصور، ومن ثم رجح الداودي أنه منسوخ. وقد ترجم ابن حبان لصغار النساء اللعب باللعب. وترجم له النسائي إباحة الرجل لزوجته اللعب بالبنات فلم يقيد بالصغر وفيه نظر. قال البيهقي بعد تخريجه: ثبت النهي عن اتخاذ الصور فيحمل على أن الرخصة لعائشة في ذلك كان قبل تحريم، وبه جزم ابن الجوزي. وقال المنذري: إن كانت اللعب كالصورة فهو قبل التحريم وإلا فقد يسمى ما ليس بصورة لعبة، وبهذا جزم الحليمي فقال: إن كانت صورة كالوثن لم يجز وإلا جاز انتهى.
قلت: قول الحليمي هو المختار عندي والله تعالى أعلم.
قوله: "وفي الباب عن علي وأبي طلحة وعائشة وأبي هريرة وأبي أيوب" . أما حديث علي فأخرجه أبو داود والنسائي وابن حبان في صحيحه عنه مرفوعاً: "لا تدخل الملائكة بيتاً فيه صورة ولا جنب ولا كلب" . قال المنذري: كلهم من رواية عبد الله بن يحيى، قال البخاري: فيه نظر وأما حديث أبي طلحة فأخرجه الترمذي في هذا الباب، وأما حديث عائشة فأخرجه الشيخان، وعنها في الباب أحاديث، وأما حديث أبي هريرة فأخرجه الترمذي في باب: إن الملائكة(5/429)
1803ـ حدثنا إسحاقُ بنُ مُوسَى الأنْصَارِيّ حدثنا مَعْنٌ حدثنا مَالِكٌ عَنْ أبي النّضْرِ عَنْ عُبَيْدِ الله بنِ عَبْدِ الله بنِ عُتْبَةَ: "أنّهُ دَخَلَ على أبي طَلْحَةَ الأَنْصَارِيّ يَعُودُهُ قال فَوَجَدَت عِنْدَهُ سَهْلَ بنَ حُنَيْفٍ، قالَ: فَدَعَا أبُو طَلْحَةَ إنْسَاناً يَنْزِعُ نَمَطاً تَحْتَهُ، فقالَ لَهُ سَهْلٌ: لِمَ تَنْزِعُهُ؟ فقال: لأنّ فِيهَا تَصَاوِيرَ، وقد قالَ فيهِ النبيّ صلى الله عليه وسلم ما قَدْ عَلِمْتَ، قالَ سَهْلٌ: أوَلَمْ يَقُلْ: إلاّ مَا كَانَ رَقْماً في ثَوْبٍ؟ فقَالَ: بَلَى، وَلَكِنّهُ أطْيَبُ لِنَفْسِي".
ـــــــ
لا تدخل بيتاً فيه صورة ولا كلب من أبواب الاستئذان والأدب، وأما حديث أبي أيوب فلينظر من أخرجه.
قوله: "يعوده" أي لعيادته في مرضه "فوجد عنده" أي عند أبي طلحة "سهل بن حنيف" بصيغة التصغير "ينزع نمطاً تحته" أي ليخرج نمطاً كان تحته، والنمط بفتح النون والميم وهو ظهارة الفراش وقيل ظهر الفراش، ويطلق أيضاً على بساط لطيف له خمل يجعل على الهودج وقد يجعل ستراً "لم تنزعه" أي لأي سبب تخرجه من تحتك "لأن فيها" وفي رواية مالك في الموطأ: لأن فيه بتذكير الضمير وهو الظاهر أي في ذلك النمط "ما قد علمت" أي من أن الملائكة لا تدخل بيتاً فيه صورة "إلا ما كان رقماً" بالفتح أي نقشاً. قال النووي: يحتج به من يقول إباحة ما كان رقماً مطلقاً، وجوابنا وجواب الجمهور عنه أنه محمول على رقم على صورة الشجر وغيره ما ليس بحيوان، وقد قدمنا أن هذا جائز عندنا انتهى. وقال الحافظ في الفتح: قال ابن العربي: حاصل ما في اتخاذ الصور أنها إن كانت ذات أجسام حرم بالإجماع، وإن كانت رقماً فأربعة أقوال. الأول: يجوز مطلقاً على ظاهر قوله في حديث الباب: إلا رقماً في ثوب، الثاني: المنع مطلقاً حتى الرقم، الثالث: إن كانت الصورة باقية الهيئة قائمة الشكل حرم، وإن قطعت الرأس أو تفرقت الأجزاء جاز، قال: وهذا هو الأصح. الرابع: إن كان مما يمتهن جاز، وإن كان معلق لم يجز انتهى وقد حكم ابن عبد البر على القول الثالث(5/430)
هذا حديثٌ حسنٌ صحيحٌ.
ـــــــ
بأنه أعدل الأقوال كما في التعليق الممجد "قال بلى" أي قد قال ذلك "أطيب لنفسي" أي أطهر واختيار الأولى.
واستدل بهذا الحديث على أن التصاوير إذا كانت في فراش أو بساط أو وسادة فلا بأس بها. قال محمد في موطئه بعد رواية هذا الحديث ما لفظه: وبهذا نأخذ ما كان فيه من تصاوير من بساط يبسط أو فراش يفرش أو وسادة فلا بأس بذلك إنما يكره من ذلك في الستر وما ينصب نصباً، وهو قول أبي حنيفة والعامة من فقهائنا انتهى.
قلت: في الاستدلال بهذا الحديث على هذا المطلوب نظر من وجهين: الأول أن المراد بقوله: إلا ما كان رقماً في ثوب غير الحيوان جمعاً بين الأحاديث كما صرح بت النووي، والثاني أنه لو كان المراد مطلق التصاوير سواء كان للحيوان أو لغيره لزم أن يكون اتخاذ التصاوير كلها جائزاً سواء كانت في الستر أو في ما ينصب نصباً أو في البساط والوسادة لأنه مطلق ليس فيه تقييد بكونها في البساط أو غيره وهو كما ترى.
قوله: "هذا حديث حسن صحيح" وأخرجه مالك في الموطأ(5/431)
باب ماجاء في المصورين
...
19ـ باب ما جَاءَ في المُصَوّرِين
1804ـ حدثنا قُتَيْبَةُ حدثنا حَمّادُ بنُ زَيْدٍ عن أيّوبَ عن عِكْرِمَةَ عن ابنِ عَبّاسٍ قالَ: قالَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: "مَنْ صَوّرَ صُورَةً عَذّبَهُ الله حَتّى يَنْفُخَ فيهَا، يَعْنِي الرّوحَ، وَلَيْسَ بِنَافِخٍ فِيهَا، ومن اسْتَمَعَ
ـــــــ
"باب ما جَاءَ في المُصَوّرِين"
قوله: "من صور صورة" كذا أطلق وظاهره التعميم فيتناول صورة ما لا روح فيه، لكن الذي فهم ابن عباس من بقية الحديث التخصيص بصورة ذوات الأرواح من قوله: كلف أن ينفخ فيها الروح، فاستثنى ما لا روح فيه كالشجر "عذبه الله حتى ينفخ فيها" أي في تلك الصورة. قال الحافظ: استعمال "حتى" هنا نظير(5/431)
إلى حَدِيثِ قَوْمٍ يَفِرّونَ به مِنْهُ صُبّ في أُذُنِهِ الاَنُكُ يَوْمَ القيامَةِ" .
قال وفي البابِ عن عَبْدِ الله بنِ مَسْعُودٍ وأبي هُرَيْرَةَ وأبي جُحَيْفَةَ وعَائِشَةَ وابنِ عُمَرَ.
ـــــــ
استعمالها في قوله تعالى {حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ} وكذا قولهم لا أفعل كذا حتى يشيب الغراب أي لا يمكنه ذلك فيكون معذباً دائماً. وقد استشكل هذا الوعيد في حق المسلم، فإن وعيد القاتل عمداً ينقطع عند أهل السنة مع ورود تخليده بحمل على مدة مديدة، وهذا الوعيد أشد منه لأنه مغيا بما لا يمكن وهو نفخ الروح فلا يصح أن يحمل على أن المراد أنه يعذب زماناً طويلاً ثم يتلخص والجواب أنه يتعين تأويل الحديث على أن المراد به الزجر الشديد بالوعيد بعقاب الكافر أبلغ في الارتداع، وظاهره غير مراد، وهذا في حق المعاصي بذلك، وأما من فعله مستحلاً فلا إشكال فيه. قال النووي في شرح مسلم: هذه الأحاديث يعني حديث ابن عباس وغيره صريحة في تحريم تصوير الحيوان وأنه غليظ التحريم، وأما الشجر ونحوه مما لا روح فيه فلا يحرم صنعته ولا التكسب به، وسواء الشجر المثمر أو غيره، وهذا مذهب العلماء كافة إلا مجاهداً فإنه جعل الشجر المثمر من المكوره قال القاضي لم يقله أحد غير مجاهد، واحتج مجاهد بقوله تعالى: "ومن أظلم ممن ذهب يخلق خلقاً كخلقي" ، واحتج الجمهور بقوله صلى الله عليه وسلم: "ويقال لهم أحيوا ما خلقتم" ، أي اجعلوه حيواناً ذا روح كما ضاهيتم وعليه رواية: ومن أظلم ممن ذهب يخلق خلقاً كخلقي، ويؤيده حديث ابن عباس: إن كنت لا بد فاعلاً فاصنع الشجر وما لا نفس له انتهى "ومن استمع إلى حديث قوم يفرون منه" أي يبتعدون منه ومن استماعه كلامهم "صب" بضم صاد مهملة وتشديد موحدة أي سكب "في أذنه الاَنك" بالمد وضم النون ومعناه الأسرب بالفارسية، وفي النهاية هو الرصاص الأبيض، وقيل الأسود، وقيل الخالص "يوم القيامة" الجملة دعاء، كذا قيل، والأظهر أنه إخبار كما يدل عليه السابق واللاحق.
قوله: "وفي الباب عن عبد الله بن مسعود وأبي هريرة وأبي جحيفة وعائشة(5/432)
حَدِيثُ ابنِ عَبّاسٍ حديثٌ حسنٌ صحيحٌ
ـــــــ
وابن عمر" أما حديث عبد الله بن مسعود فأخرجه الشيخان عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "أشد الناس عذاباً عند الله المصورون" . وأما حديث أبي هريرة فأخرجه أحمد والشيخان عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "قال الله تعالى: ومن أظلم ممن ذهب يخلق كخلقي، فليخلقوا ذرة أو ليخلقوا حبة أو شعيرة" . وأما حديث أبي جحيفة فأخرجه البخاري في باب من لعن المصور. وأما حديث عائشة فأخرجه الشيخان. وأما حديث ابن عمر فأخرجه الشيخان عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إن الذين يصنعون هذه الصور يعذبون يوم القيامة يقال لهم أحيوا ما خلقتم" .
قوله: "حديث ابن عباس حديث حسن صحيح" وأخرجه البخاري(5/433)
باب ماجاء في الخضاب
...
20ـ باب ما جَاءَ في الخُضَاب
1805ـ حدثنا قُتَيْبَةُ حدثنا أبُو عَوَانَةَ عن عُمَرَ بنِ أبي سَلَمَةَ عن أبيهِ عَنْ أبي هُرَيْرَةَ قالَ: رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم: "غَيّرُوا الشَيْبَ ولا تَشَبّهُوا باليَهُودِ" .
ـــــــ
"باب ما جَاءَ في الخُضَاب"
أي تغيير لون شيب الرأس واللحية
قوله: "غيروا الشيب" أي بالخضاب "ولا تشبهوا" بحذف إحدى التاءين "باليهود" أي في ترك خضاب الشيب، وفي رواية أحمد وابن حبان زيادة "والنصارى" وفي رواية الشيخين: أن اليهود والنصارى لا يصبغون فخالفوهم. قال في النيل: يدل هذا الحديث على أن العلة في شرعية الصباغ وتغيير الشيب هي مخالفة اليهود والنصارى، وبهذا يتأكد استحباب الخضاب وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يبالغ في مخالفة أهل الكتاب ويأمر بها. وهذه السنة قد كثر اشتغال السلف بها، ولهذا ترى المؤرخين في التراجم لهم يقولون: وكان يخضب(5/433)
وفي البابِ عن الزّبَيْرِ وابن عَبّاسٍ وجَابِرٍ وأبي ذَرّ وأنَسٍ وأبي رِمْثَةَ والجَهْدَمَةِ وأبي الطّفَيْلِ وجَابِرِ بنِ سَمُرَةَ وأبي جُحَيْفَةَ وابنِ عُمَرَ. حديثُ أبي هُرَيْرَةَ حديثٌ حسنٌ صحيحٌ. وقد رُوِيَ مِنْ غَيْرِ وَجْهٍ عن أبي هُرَيْرَةَ عن النبيّ صلى الله عليه وسلم.
ـــــــ
وكان لا يخضب. قال ابن الجوزي: قد اختضب جماعة من الصحابة والتابعين. وقال أحمد بن حنبل وقد رأى رجلاً قد خضب لحيته: إني لأرى رجلاً يحيي ميتاً من السنة وفرح به حين رآه صبغ بها انتهى.
قوله: "وفي الباب عن الزبير وابن عباس وجابر وأبي ذر وأنس وأبي رمثة والجهدمة وأبي الطفيل وجابر بن سمرة وأبي جحيفة وابن عمر" أما حديث الزبير وهو ابن العوام فأخرجه ابن أبي عاصم من حديث هشام عن أبيه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "غيروا الشيب ولا تشبهوا باليهود" ، كذا في عمدة القاري ورواه النسائي أيضاً. وأما حديث ابن عباس فأخرجه أبو داود والنسائي عنه مرفوعاً: "يكون قوم يخضبون في آخر الزمان بالسواد" الحديث، وسيأتي بتمامه وأخرجه أيضاً وابن حبان في صحيحه والحاكم وقال صحيح الإسناد. وأما حديث جابر وهو ابن عبد الله فأخرجه الجماعة إلا البخاري والترمذي عنه قال: جيء بأبي قحافة يوم الفتح الحديث وسيأتي بتمامه. وأما حديث أبي ذر فأخرجه الترمذي في هذا الباب. وأما حديث أنس فأخرجه أحمد وسيأتي. وأما حديث أبي رمثة فأخرجه أحمد عنه قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم يخضب بالخاء والكتم وكان شعره يبلغ كتفيه أو منكبيه، وفي لفظ لأحمد والنسائي وأبي داود. أتيت النبي صلى الله عليه وآله وسلم مع أبي وله لمة بها ردع من حناء، ردع بالعين المهملة أي لطخ يقال به ردع من دم أو زعفران، كذا في المنتقى والنيل. وأما حديث الجهدمة وأبي الطفيل وجابر بن سمرة وأبي جحيفة فلينظر من أخرجها. وأما حديث ابن عمر فأخرجه النسائي.
قوله: "وحديث أبي هريرة حديث حسن صحيح" وأخرج معناه الشيخان وغيرهما.(5/434)
1806ـ حدثنا سُوَيْدُ بنُ نَصْرٍ أخبرنا ابنُ المُبَارَك عن الأجْلَحِ عن عَبْدِ الله بن بُرَيْدَةَ عن أبي الأسْوَدِ عَنْ أبي ذَر عن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال: "إنّ أَحْسَنَ ما غُيّرَ بِهِ الشّيْبُ الْحِنّاءُ والكَتَمُ" .
هذا حديثٌ حسنٌ صحيحٌ. وَأَبُو الأَسْوَدِ الدّيْلِيّ اسْمُهُ ظَالِمُ بنُ عَمْرِو بنِ سُفْيَانَ.
ـــــــ
قوله: "إن أحسن ما غير" بصيغة المجهول "به" الباء للسببية "الشيب" نائب الفاعل "الحاء والكتم" بالرفع وهو خبر إن والكتم بفتحتين وتخفيف التاء. قال في النهاية قال أبو عبيد: الكتم بتشديد التاء والمشهور التخفيف وهو نبت يخلط مع الوسمة ويصبغ به الشعر أسود، وقيل هو الوسمة ومنه حديث إن أبا بكر كان يصبغ بالحناء والكتم. ويشبه أن يراد استعمال الكتم مفرداً عن الحناء، فإن الحناء إذا خضب به مع الكتم جاء أسود وقد صح النهي عن السواد. ولعل الحديث بالحناء أو الكتم على التخيير، ولكن الروايات على اختلافها بالحناء والكتم انتهى. وقال الحافظ في الفتح: وهذا يحتمل أن يكون على التعاقب ويحتمل الجمع. وقد أخرج مسلم من حديث أنس قال اختضب أبو بكر بالحناء والكتم، واختضب عمر بالحناء بحتاً، وقوله "بحتاً" بموحدة مفتوحة ومهملة ساكنة بعدها مثناة أي صرفا، هذا يشعر بأن أبا بكر كان يجمع بينهما دائماً. والكتم نبات باليمن يخرج الصبغ أسود يميل إلى الحمرة، وصبغ الحناء أحمر فالصبغ بهما معاً يخرج بين السواد والحمرة انتهى.
قوله: "هذا حديث حسن صحيح" وأخرجه أحمد وأبو داود والنسائي وابن ماجه.
قوله: "وأبو الأسود الديلي إلخ" قال في التقريب بكسر المهملة وسكون التحتانية ويقال الدؤلي بالضم بعدها همزة مفتوحة البصري اسمه ظالم بن عمرو بن سفيان، ويقال عمرو بن ظالم، ويقال بالتصغير فيهما، ويقال عمرو بن عثمان أو عثمان بن عمرو ثقة فاضل مخضرم انتهى.
فائدة: قال الحافظ في الفتح: قد تمسك به يعني بحديث أبي هريرة المذكور من أجاز الخضاب بالسواد، وقد تقدمت في باب ذكر بني إسرائيل من أحاديث الأنبياء مسألة استثناء الخضب بالسواد لحديثي جابر وابن عباس، وأن من العلماء(5/435)
ـــــــ
من رخص فيه في الجهاد ومنهم من رخص فيه مطلقاً وأن الأولى كراهته. وجنح النووي إلى أنه كراهة تحريم، وقد رخص فيه طائفة من السلف منهم سعد بن أبي وقاص وعقبة بن عامر والحسن والحسين وجرير وغير واحد واختاره ابن أبي عاصم في كتاب الخضاب له، وأجاب عن حديث ابن عباس رفعه: "يكون قوم يخضبون بالسواد لا يجدون ريح الجنة" ، بأنه لا دلالة فيه على كراهة الخضاب بالسواد بل فيه الإخبار عن قوم هذه صفتهم. وعن حديث جابر: جنبوه السواد بأنه في حق من صر شيب رأسه مستشبعاً ولا يطرد ذلك في حق كل أحد انتهى. وما قاله خلاف ما يتبادر من سياق الحديثين، نعم يشهد له ما أخرجه هو عن ابن شهاب قال: كنا نخضب بالسواد إذا كان الوجه، جديداً فلما نغض الوجه والأسنان تركناه. وقد أخرج الطبراني وابن أبي عاصم من حديث أبي الدرداء رفعه: "من خضب بالسواد سود الله وجهه يوم القيامة" ، وسنده لين ومنهم من فرق في ذلك بين الرجل والمرأة فأجازه لها دون الرجل. واختاره الحليمي وأما خضب اليدين والرجلين فلا يجوز للرجال إلا في التداوي انتهى كلام الحافظ.
قلت: من أجاز الخضاب بالسواد استدل بأحاديث منها: حديث أبي هريرة المذكور فإن قوله صلى الله عليه وسلم: "غيروا الشيب" بإطلاقه يشمل التغير بالسواد أيضاً ووقع في رواية البخاري وغيره "إن اليهود والنصارى لا يصبغون فخالفوهم" قال الحافظ ابن أبي عاصم: قوله: "فخالفوهم" إباحة منه أن يغيروا الشيب بكل ما شاء المغير له إذ لم يتضمن قوله: "خالفوهم" أن أصبغوا بكذا وكذا دون كذا وكذا انتهى.
ومنها حديث جابر قال: أتى بأبي قحافة أو جاء عام الفتح أو يوم الفتح وبرأسه ولحيته مثل الثغام أو الثغامة فأمر أو فأمر به إلى نسائه قال: غيروا هذا بشيء، فإن قوله صلى الله عليه وسلم غيروا هذا بشيء بإطلاقه يشمل التغيير بالسواد أيضاً.
وأجاب المانعون عن هذين الحديثين بأن المراد بالتغيير فيهما بغير السواد، فإن حديث جابر هذا رواه مسلم من طرق ابن جريج عن أبي الزبير عنه وزاد واجتنبوا السواد في هذه الزيادة دلالة واضحة على أن المراد بالتغيير في الحديثين المذكورين التغيير بغير السواد.(5/436)
ـــــــ
وأجابا المجوزون عن هذه الزيادة بأن في كونها من كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم نظراً، ويؤيده أن ابن جريج راوي الحديث عن أبي الزبير كان يخضب بالسواد كما استقف عليه.
ومنها حديث أبي ذر المذكور فإنه يدل على استحباب الخضاب بالحناء مخلوطاً بالكتم وهو يسود الشعر.
وأجيب عنه بأن الخلط يختلف، فإن غلب الكتم أسود، وكذا إن استويا، وإن غلب الحناء أحمر، والمراد بالخلط في الحديث إذا كان الحناء غالباً على الكتم جمعاً بين الأحاديث.
وفيه أن الحديث مطلق ليس مقيداً بصورة دون صورة، ووجه الجمع ليس بمنحصر فيما ذكر. ومنها حديث صهيب رواه ابن ماجه قال: حدثنا أبو هريرة الصيرفي محمد بن فراس حدثنا عمر بن الخطاب بن زكريا الراسي حدثنا دفاع بن دغفل السدوسي عن عبد الحميد بن صيفي عن أبيه على جده صهيب الخير قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن أحسن ما اختضبتم به لهذا السواد أرغب لنسائكم فيكم، وأهيب لكم في صدور عدوكم" . ويؤيد هذا الحديث ما روى عن عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه أنه كان يأمر بالخضاب بالسواد ويقول: هو تسكين للزوجة وأهيب للعدور. وذكره العيني في العمدة.
وأجاب المانعون عن هذا الحديث بوجهين: أحدهما أن دفاع بن دغفل وعبد الحميد بن صيفي ضعيفان كما في التقريب، وثانيهما أن عبد الحميد بن صيفي "وهو عبد الحميد بن زياد بن صيفي" عن أبيه عن جده لا يعرف سماع بعضهم من بعض، قاله البخاري كما في الميزان.
وأجيب عن الوجه الأول: بأن دفاع بن دغفل ضعفه أبو حاتم ووثقه ابن حبان، قاله الذهبي في الميزان. وقال الحافظ في تهذيب التهذيب: قال أبو حاتم: ضعيف الحديث وذكره ابن حبان في الثقات، فتضعيف أبي حاتم وقوله ضعيف الحديث غير قادح لأنه لم يبين السبب. قال الزيعلي: في نصب الرواية في الكلام على معاوية بن صالح، وقول أبي حاتم لا يحتج به غير قادح، فإنه لم يذكر السبب وقد تكررت هذه اللفظة منه في رجال كثير بن من أصحاب الصحيح للثقات الأثبات(5/437)
ـــــــ
من غير بيان السبب كخالد الحذاء وغيره انتهى. فتوثيق ابن حبان هو المعتمد، وعبد الحميد بن صيفي لم يثبت فيه جرح مفسر. وقال أبو حاتم هو شيخ. وذكره ابن حبان في الثقات.
وأجيب عن الوجه الثاني بأن قول الإمام البخاري: لا يعرف سماع بعضهم من بعض مبني على ما اشترطه في قبول الحديث المعنعن من بقاء بعض رواته من بعض ولو مرة. وأما الجمهور فلم يشترطوا ذلك، والمسألة مذكورة مبسوطة في مقامها.
ومنها حديث عائشة مرفوعاً: "إذا خطب أحدكم المرأة وهو يخضب بالسواد فليعلم ما أنه يخضب" ، رواه الديلمي في مسند الفردوس.
وأجيب عنه بأنه ضعيف لضعف عيسى بن ميمون. قاله المناوي.
واستدل المجوزون أيضاً بأن جمعاً من الصحابة رضي الله تعالى عنهم من الخلفاء الراشدين في غيرهم قد اختضبوا بالسواد ولم ينقل الإنكار عليهم من أحد. فمنهم أبو بكر رضي الله عنه، روى البخاري في صحيحه عن أنس بن مالك قال: قدم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة فكان أسن الصحابة أبو بكر فعلها بالحناء حتى قنأ لونها وفي القاموس قنأ لحيته سودها كفنأها انتهى. وفي المنجد قنأ قنوء الشيء اشتدت حمرته اللحية من الخضاب اسودت قنأ ـ قنأ وقنأ تقنئة وتقنيأ لحيته سودها بالخضاب قنأ الشيء حمره شديداً انتهى.
وأجيب عنه بأن المراد بقوله: "حتى قنأ لونها" اشتد حمرتها، ففي النهاية في باب القاف مع النون: مررت بأبي بكر فإذا لحيته قانئة، وفي حديث آخر: وقد قنأ لونها، أي شديدة الحمرة انتهى. وقال الحافظ في الفتح: قوله: حتى قنأ بفتح القاف والنون والهمزة، أي اشتدت حمرتها انتهى. وقال العيني: أي حتى اشتد حمرتها حتى ضربت إلى السواد انتهى. وروى عن قيس بن أبي حازم قال: كان أبو بكر الصديق رضي الله تعالى عنه يخرج إلينا وكأن لحيته ضرام العرفج من الحناء والكتم، ذكره العيني في العمدة. قال الجوزي في النهاية بعد ذكر هذا الأثر: الضرم لهب النار شبهت به لأنه كان يخضبها بالحناء. وقال في مادة "ع ز ف" العرفج شجر معروف صغير سريع الاشتعال بالنار وهو من نبات الصيف.(5/438)
ـــــــ
ومنهم عثمان رضي الله عنه. قال الحافظ ابن القيم في زاد المعاد: قد صح عن الحسن والحسين رضي الله عنهما أنهما كانا يخضبان بالسواد، ذكر ذلك ابن جرير عنهما في كتاب تهذيب الآثار وذكره عن عثمان بن عفان وعبد الله بن جعفر وسعد بن أبي وقاص وعقبة بن عامر والمغيرة بن شعبة وجرير بن عبد الله وعمرو بن العاص رضي الله عنهم أجمعين، وحكاه عن جماعة من التابعين منهم عمرو بن عثمان وعلي بن عبد الله بن عباس وأبو سلمة بن عبد الرحمن وعبد الرحمن بن الأسود وموسى بن طلحة والزهري وأيوب وإسماعيل بن معد يكرب رضي الله عنهم أجمعين. وحكاه ابن الجوزي عن محارب بن دثار ويزيد وابن جريج وأبي يوسف وأبي إسحاق وابن أبي ليلى وزياد بن علافة وغيلان بن جامع ونافع بن جبير وعمرو بن علي المقدمي والقاسم بن سلام رضي الله عنهم أجمعين انتهى.
قلت: وكان ممن يخضب بالسواد ويقول به محمد بن إسحاق صاحب المغازي والحجاج بن أرطأة والحافظ بن أبي عاصم وابن الجوزي ولهما رسالتان مفردتان في جواز الخضاب بالسواد، وابن سيرين وأبو بردة وعروة بن الزبير وشرحبيل بن السمط وعنبسة بن سعيد وقال: إنما شعرك بمنزلة ثوبك فاصبغه بأي لون شئت وأحبه إلينا أحلكه.
وأجيب عن ذلك بأن خضب هؤلاء الصحابة رضي الله عنهم وغيرهم بالسواد ينفيه الأحاديث المرفوعة فلا يصلح للاحتجاج، وأما عدم نقل الإنكار فلا يستلزم عدم وقوعه. وفيه أن الأحاديث المرفوعة في هذا الباب مختلفة فبعضها ينفيه، وبعضها لا بل يثبته ويؤيده فتفكر.
واستدل المانعون عن الخضاب بالسواد بأحاديث منها حديث جابر الذي رواه مسلم من طريق ابن جريج عن أبي الزبير عنه قال: أتى بأبي قحافة يوم فتح مكة ورأسه ولحيته كالثغامة بياضاً فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "غيروا هذا بشيء واجتنبوا السواد" فقوله صلى الله عليه وسلم: "واجتنبوا السواد" دليل واضح على النهي عن الخضاب بالسواد.
وأجيب عنه بأنه قوله: "واجتنبوا السواد" مدرج في هذا الحديث وليس من كلام النبي صلى الله عليه وسلم، والدليل على ذلك أن مسلماً روى هذا الحديث(5/439)
ـــــــ
عن أبي خيثمة عن أبي الزبير عن جابر إلى قوله: غيروا هذا الشيء فحسب ولم يزد فيه قوله: "واجتنبوا السواد" وقد سأل زهير أبا الزبير: هل قال جابر في حديثه جنبوه السواد؟ فأنكر وقال: لا. ففي مسند أحمد حدثنا عبد الله حدثني أبي حدثنا حسن وأحمد بن عبد الملك قالا حدثنا زهير عن أبي الزبير عن جابر قال أحمد في حديثه حدثنا الزبير عن جابر قال: أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم بأبي قحافة أو جاء عام الفتح ورأسه ولحيته مثل الثغام أو مثل الثغامة، قال حسن فأمر به إلى نسائه قال: غيروا هذا الشيب، قال حسن قال زهير قلت لأبي الزبير: قال جنبوه السواد؟ قال: لا انتهى وزهير هذا هو زهير بن معاوية المكنى بأبي خيثمة أحد الثقات الأثبات، وحسن هذا هو حسن بن موسى أحد الثقات.
ورد هذا الجواب بأن حديث جابر هذا رواه ابن جرير والليث بن سعد وهما ثقتان ثبتان عن أبي الزبير عنه مع زيادة قوله: "واجتنوا السواد" كما عند مسلم وأحمد وغيرهما، وزيادة الثقات الحفاظ مقبولة والأصل عدم الإدراج. وأما قول أبي الزبير لا في جواب سؤال زهير فمبني عليه أنه قد نسي هذه الزيادة، وكم من محدث قال قد نسي حديثه بعدما أحدثه، وخضب ابن جريج بالسواد لا يستلزم كون هذه الزيادة مدرجة كما لا يخفى.
ومنها حديث ابن عباس رواه أبو داود وغيره عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يكون قوم يخضبون في آخر الزمان بالسواد كخواصل الحمام لا يريحون رائحة الجنة" ، فهذا الحديث صريح في حرمة الخضاب بالسواد.
وأجاب المجوزون عن هذا الحديث بوجوه ثلاثة.
الأول: أن في سند عبد الكريم بن أبي المخارق: أبا أمية كما صرح به ابن الجوزي وهو ضعيف لا يحتج بحديثه.
وقد رد هذا الجواب بأن عبد الكريم هذا ليس هو ابن المخارق أبا أمية بل هو عبد الكريم بن مالك الجزري أبو سعيد وهو من الثقات. قال الحافظ بن حجر في القول المسدد: أخطأ ابن الجوزي فإنما فيه عبد الكريم الجزري الثقة المخرج له في الصحيح انتهى. وقال الحافظ المنذري في الترغيب بعد ذكر هذا الحديث: ذهب بعضهم إلى أن عبد الكريم هذا هو ابن أبي المخارق وضعف(5/440)
ـــــــ
الحديث بسببه والصواب أنه عبد الكريم بن مالك الجزري وهو ثقة احتج به الشيخان وغيرهما انتهى.
والثاني: أن الوعيد الشديد المذكور في هذا الحديث ليس على الخضب بالسواد بل على معصية أخرى لم تذكر كما قال الحافظ ابن أبي عاصم، ويدل على ذلك قوله صلى الله عليه وسلم: يكون قوم يخضبون في آخر الزمان بالسواد وقد عرفت وجود طائفة قد خضبوا بالسواد في أول الزمان وبعده من الصحابة والتابعين وغيرهم رضي الله عنهم، فظهر أن الوعيد المذكور ليس على الخضب بالسواد، إذا لو كان الوعيد على الخضب بالسواد لم يكن لذكر قوله في آخر الزمان فائدة، فالاستدلال بهذا الحديث على كراهة الخضب بالسواد ليس بصحيح.
والثالث: أن المراد بالخضب بالسواد في هذا الحديث الخضب به لغرض التلبيس والخداع لا مطلقاً، جمعاً بين الأحاديث المختلفة وهو حرام بالاتفاق.
ومنها حديث أنس رواه أحمد في مسنده عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "غيروا الشيب ولا تقربوه السواد" .
وأجيب عنه بأن في سنده ابن لهيعة وهو ضعيف. قال الحافظ في التلخيص قال البيقي: أجمع أصحاب الحديث على ضعف ابن لهيعة وترك الاحتجاج بما ينفرد به انتهى، ثم هو مدلس ورواه عن خالد بن أبي عمران بالعنعنة.
ومنها حديث أبي الدرداء مرفوعاً: "من خضب بالسواد سود الله وجهه يوم القيامة" ، أخرجه الطبراني وابن أبي عاصم.
ومنها حديث ابن عمر مرفوعاً: "الصفرة خضاب المؤمن والحمرة خضاب المسلم والسواد خضاب الكافر" ، أخرجه الطبراني والحاكم.
ومنها حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده رفعه: "من غير البياض بالسواد لم ينظر الله إليه" ، ذكره الحافظ في لسان الميزان.
وأجيب عن هذه الأحاديث الثلاثة بأنها ضعيفة لا يصلح واحد منها للاحتجاج. أما الأول: فقد ضعفه الحافظ في الفتح كما عرفت: وأما الثاني: فقال المناوي في التيسير. أنه منكر. وأما الثالث: ففي سنده محمد بن مسلم العنبري وهو ضعيف كما في الميزان واللسان.(5/441)
ـــــــ
هذا وقد ذكرنا دلائل المجوزين والمانعين مع بيان مالها وما عليها، فعليك أن تتأمل فيها. وقد جمع الحافظ ابن القيم في زاد المعاد بين حديث جابر وحديث ابن عباس المذكورين بوجهين فقال: فإن قيل قد ثبت في صحيح مسلم النهي عن الخضاب بالسواد والكتم يسود الشعر، فالجواب من وجهين: أحدهما أن النهي عن التسويد البحت. فأما إذا أضيف إلى الحناء شيء آخر كالكتم ونحوه فلا بأس به فإن الكتم والحناء يجعل الشعر بين الأحمر والأسود بخلاف الوسمة فإنها تجعله أسود فاحماً وهذا أصح الجوابين: الجواب الثاني: أن الخضاب بالسواد المنهي عنه خضاب التدليس كخضاب شعر الجارية والمرأة الكبيرة تغر الزوج والسيد بذلك وخضاب الشيخ يغر المرأة بذلك فإنه من الغش والخداع، فأما إذا لم يتضمن تدليساً ولا خداعاً فقد صح عن الحسن والحسين رضي الله عنهما أنهما كانا يخضبان بالسواد الخ.
قلت: الجواب الأول هو أحسن الأجوبة بل هو المتعين عندي، وحاصله أن أحاديث النهي عن الخضب بالسواد محمولة على التسويد البحت، والأحاديث التي تدل على إباحة الخضب بالسواد محمولة على التسويد المخلوط بالحمرة. هذا ما عندي والله تعالى أعلم(5/442)
باب ماجاء في الجمة وإتخاذ الشعر
...
21ـ باب ما جَاءَ في الجُمّةِ وَاتخَاذِ الشّعْر
1807 ـ حدثنا حُمَيْدُ بنُ مَسْعَدَةَ حدثنا عَبْدُ الوَهّابِ الثقفيّ عن حُمَيْدٍ عن أنَسٍ قالَ: "كَانَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم رَبْعَةً لَيْسَ بالطّوِيلِ وَلاَ بالقَصِيرِ حَسَنَ الْجِسْمِ، أسْمَرَ اللّوْنَ، وكانَ شَعْرُهُ لَيْسَ بجَعْدَ ولا سَبْطٍ إذَا مَشَى يَتَكَفّأُ".
ـــــــ
باب ما جَاءَ في الجُمّةِ وَاتخَاذِ الشّعْر
الجمة بضم الجيم وشدة الميم هي: من شعر الرأس ما سقط على المنكبين، والوفرة: هي شعر الرأس إذا وصل إلى شحمة الأذن، واللمة بكسر اللام وشدة الميم هي: الشعر المتجاوز شحمة الأذن ويكون دون الجمة.
قوله: "ربعة" بفتح الراء وسكون الموحدة وقد تفتح يقال رجل ربعة ومربوع إذا كان بين الطويل والقصير "ليس بالطويل ولا بالقصير" تفسير وبيان لربعة(5/442)
وفي البابِ عن عَائِشَةَ والبَرَاءِ وأبي هُرَيْرَةَ وابن عَبّاسٍ وأبي سَعِيدٍ وجابر وَوَائِلِ بنِ حُجْرٍ وأُمّ هَانِئ.
حَدِيثُ أنَسٍ حديثٌ حسنٌ صحيح غريبٌ مِنْ هذا الوَجْهِ مِنْ حَدِيثِ حُمَيْدٍ.
ـــــــ
"ليس بجعد ولا سبط" بكسر الموحدة وفتحها وسكونها وهو من السبوطة ضد الجعودة وهو الشعر المنبسط كما في غالب شعور الأعاجم. ففي القاموس: السبط ويحرك وككتف نقيض الجعد وفيه الجعد من الشعر خلاف السبط أو القصير منه جعد ككرم جعودة وجعادة وتجعد وجعده وهو جعد، وهي بهاء انتهى "إذا مشى يتكفأ" أي يتمايل إلى قدام، وقيل أي يرفع القدم من الأرض ثم يضعها ولا يمسح قدمه على الأرض كمشي المتبختر، كأنما ينحط من صبب أي يرفع رجله من قوة وجلادة، والأشبه أن تكفأ بمعنى صب الشيء دفعة.
قوله: "وفي الباب عن عائشة والبراء وأبي هريرة وابن عباس وأبي سعيد ووائل بن حجر وجابر وأم هانيء" أما حديث عائشة فأخرجه الشيخان بلفظ: قالت كنت أرجل رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا حائض. وأما حديث البراء فأخرجه الشيخان أيضاً بلفظ: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم مريوعاً بعيد ما بين المنكبين له شعر بلغ شحمه أذنيه الحديث. وأما حديث أبي هريرة فأخرجه أبو داود مرفوعاً بلفظ: "من كان له شعر فليكرمه" . وأما حديث ابن عباس فأخرجه الشيخان وفيه ذكر فرق الناصية. وأما حديث أبي سعيد فلينظر من أخرجه، وأما حديث وائل فأخرجه داود والنسائي وابن ماجه، وأما حديث جابر فأخرجه أبو داود والنسائي عنه قال: أتانا النبي صلى الله عليه وسلم فرأى رجلاً ثائر الرأس فقال: "أما يجد هذا ما يسكن به شعره" ؟ وهذا لفظ النسائي. وأما حديث أم هانيء فأخرجه الترمذي فيما بعد في باب بغير ترجمة.
قوله: "حديث أنس حديث حسن غريب صحيح الخ" أصله في الصحيحين.(5/443)
1808ـ حدثنا هَنّادٌ، حدثنا عَبْدُ الرحمنِ بنُ أبي الزّنَادِ عَنْ هِشَامِ بنِ عُرْوَةَ عن أبيهِ عن عَائِشَةَ قالَتْ: "كُنْتُ أغْتَسِلُ أنَا وَرَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم مِنْ إناء وَاحِدٍ، وكانَ لَهُ شَعْرٌ فَوْقَ الْجُمّةِ وَدُونَ الوَفْرَةِ".
هذا حديثٌ حسنٌ صحيح غريبٌ مِنْ هَذا الوَجْهِ.
وقد رُوِيَ مِنْ غَيْرِ وَجْهٍ عَنْ عَائِشَةَ أنها قالَتْ: "كُنْتُ أغْتَسِلُ أنَا وَرسولُ الله صلى الله عليه وسلم مِنْ إنَاءٍ وَاحِدٍ"، وَلَمْ يَذْكُرُوا فيه هذا الْحَرْفَ "وكانَ لَهُ شَعْرٌ فَوْقَ الجُمّةِ ودون الوفرة". عَبْدُ الرحمَنِ بنُ أبِي الزّنَادِ وهو ثِقَةٌ حافظ
ـــــــ
قوله: "كنت أغتسل أنا ورسول الله" يحتمل أن يكون مفعولاً معه، ويحتمل أن يكون عطفاً على الضمير وهو من باب تغليب المتكلم على الغائب لكونها هي السبب في الاغتسال فكأنها أصل في الباب "وكان له شعر فوق الجمّة ودون الوفرة" بفتح الواو وسكون الفاء بعده راء ما وصل إلى شحمة الأذن، كذا في جامع الأصول والنهاية وشرح السنة، وهذا بظاهر يدل على أن شعره صلى الله عليه وسلم كان أمراً متوسطاً بين الجمّة والوفرة وليس بجمة ولا وفرة، لكن جاء في بعض الروايات أنه صلى الله عليه وسلم كان له جمة ولعل ذلك باعتبار اختلاف أحواله صلى الله عليه وسلم.
قوله: "هذا حديث حسن غريب صحيح" وأخرجه أيضاً في الشمائل بهذا اللفظ.
تنبيه: اعلم أن أبا داود أخرج هذا الحديث في سننه من طريق ابن أبي الزناد عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة بلفظ: كان شعر رسول الله صلى الله عليه وسلم فوق الوفرة ودون الجمة. فلفظ أبي داود هذا عكس لفظ الترمذي: قال الحافظ في الفتح: وجمع بينها شيخنا في شرح الترمذي بأن المراد بقوله: فوق ودون بالنسبة إلى المحل وتارة بالنسبة إلى الكثرة والقلة، فقوله فوق الجمة أي أرفع في المحل، وقوله دون الجمة أي في القدر، وكذا بالعكس، وهو جمع جيد لولا أن(5/444)
ـــــــ
مخرج الحديث متحد انتهى كلام الحافظ. وقال في فتح الودود بعد ذكر الاختلاف بين لفظ الترمذي وأبي داود ما لفظه: فتحمل رواية الترمذي على أن المراد بقوله فوق ودون بالنسبة إلى محل وصول الشعر، أي أن شعره صلى الله عليه وسلم كان أرفع في الملح من الجمة وأنزل فيه من الوفرة. وفي رواية أبي داود بالنسبة إلى طول الشعر وقصرها أي أطول من الوفرة وأكثر من الجمة فلا تعارض بين الروايتين انتهى "ولم يذكروا فيه هذا الحرف" أي هذه الجملة. فالمراد بقوله الحرف الجملة وقد بينه بقوله وكان له شعر فوق الجمة "وهو ثقة حافظ" يعني وزيادة الثقة لحافظ مقبولة(5/445)
باب ماجاء في النهي عن الترجل إلا غبا
...
22ـ باب ما جَاءَ في النّهْيِ عن التّرَجُلِ إلاّ غِبا
1809 ـ حدثنا عليّ بنُ خَشْرَمٍ، أخبرنا عيسى بنُ يُونُسَ عن هِشَامٍ عن الْحَسَنِ عن عَبْدِ الله بنِ مُغَفّلٍ قالَ: "نَهَى رسولُ الله صلى الله عليه وسلم عن التّرَجّلِ إِلاّ غِبّا".
1810- حدثنا محمدُ بنُ بَشّارٍ، حدثنا يَحْيى بنُ سَعِيدٍ عن هِشَامٍ نَحْوَهُ.
ـــــــ
"باب ما جَاءَ في النّهْيِ عن التّرَجُلِ إلاّ غِبا"
قوله: "عن هشام" هو ابن حسان الأزدي الفردوس "عن الحسن" هو البصري.
قوله: "نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الترجل" قال في النهاية: الترجل والترجيل: تسريح الشعر وتنظيفه وتحسينه انتهى "إلا غباً" بكسر الغين المعجمة وشدة الموحدة. قال القاضي: الغب أن يفعل يوماً ويترك يوماً والمراد به النهي عن المواظبة عليه والاهتمام به لأنه مبالغة في التزيين وتهالك في التحسين انتهى. وقال في النهاية: زرغباً تزدد حباً، الغب من أوراد الإبل أن ترد الماء يوماً وتدعه يوماً ثم تعود فنقله إلى الزيارة وإن جاء بعد أيام، يقال غب الرجل(5/445)
هذا حديثٌ حسنٌ صحيحٌ.
ـــــــ
إذا جاء زائراً بعد أيام، وقال الحسن: في كل أسبوع، ومنه الحديث: اغبوا في عيادة المريض أي لا تعوده في كل يوم لما يجد من ثقل العواد انتهى. والحديث يدل على كراهة الاشتغال بالترجيل في كل يوم لأنه نوع من الترفة. وقد ثبت عن فضالة بن عبيد عند أبي داود أنه قال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان ينهانا عن كثير من الإرفاه.
فإن قلت: ما وجه التوفيق بين حديث الباب وبين ما رواه النسائي عن أبي قتادة أنه كانت له جمة ضخمة فسأل النبي صلى الله عليه وسلم، فأمره أن يحسن إليها، وأن يترجل كل يوم، ورجال إسناده كلهم رجال الصحيح؟
قلت: قال المناوي: حديث أبي قتادة محمول على أنه كان محتاجاً للترجيل كل يوم لغزارة شعره: أو هو لبيان الجواز. وذكر الحافظ السيوطي في حاشية أبي داود قال الشيخ ولي الدين العراقي في حديث أبي داود نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يتمشط أحدنا كل يوم. هو نهي تنزيه لا تحريم، والمعنى فيه أنه من باب الترفه والتنعم فيجتنب، ولا فرق في ذلك بين الرأس واللحية، قال: فإن قلت روى الترمذي في الشمائل عن أنس قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يكثر دهن رأسه وتسريح لحيته، قلت: لا يلزم من الإكثار التسريح كل يوم بل الإكثار قد يصدق على الشيء الذي يفعل بحسب الحاجة.
فإن قلت: نقل أنه كان يسرح لحيته كل يوم مرتين.
قلت: لم أقف على هذا بإسناد ولم أر من ذكره إلا الغزالي في الإحياء ولا يخفى ما فيه من الأحاديث التي لا أصل إليها.
قوله: "هذا حديث حسن صحيح" وأخرجه أحمد وأبو داود والنسائي. قال أبو الوليد الباجي: وهذا الحديث وإن كان رواته ثقات إلا أنه لا يثبت، وأحاديث الحسن عن عبد الله بن مغفل فيها نظر. قال المنذري بعد نقل كلام الباجي هذا ما لفظه: وفي ما قاله نظر. وقد قال الإمام أحمد ويحيى بن معين وأبو حاتم الرازي إن السن سمع من عبد الله بن مغفل وقد صحح الترمذي حديثه عنه غير أن الحديث في إسناده اضطراب انتهى.(5/446)
قال وفي البابِ عَنْ أَنَسٍ
ـــــــ
قوله: "وفي الباب عن أنس" أخرجه الترمذي في شمائله عنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يكثر دهن رأسه، وتسريح لحيته، ويكثر القناع حتى كأن ثوبه ثوب زيات(5/447)
باب ماجاء في الإكتحال
...
23ـ باب ما جَاء في الإكْتِحَال
1811ـ حدثنا محمدُ بنُ حُمَيْدٍ، حدثنا أَبُو دَاوُدَ هو الطّيَالِسِيّ عن عَبّادِ بنِ مَنْصُورٍ عَنْ عِكْرِمَةَ عن ابنِ عَبّاسٍ أَنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم قالَ: "اكْتَحِلُوا بالإثْمِدِ، فإنهُ يَجْلُو الْبَصَرَ ويُنْبِتُ الشّعْرَ" وزَعَمَ أَنّ النبيّ
ـــــــ
"باب ما جَاء في الإكْتِحَال"
قوله: "اكتحلوا بالإثمد" بكسر الهمزة والميم بينهما ثاء مثلثة ساكنة. وحكي فيه ضم الهمزة حجر معروف أسود يضرب إلى الحمرة يكون في بلاد الحجاز وأجوده يؤتى به من أصبهان. واختلف هل هو اسم الحجر الذي يتخذ منه الكحل أو هو نفس الكحل ذكره ابن سيده. وأشار إليه الجوهري كذا في الفتح. قال التوربشتي: هو الحجر المعدني وقيل هو الكحل الأصفهاني ينشف الدمعة والقروح ويحفظ صحة العين ويقوي غصنها لاسيما للشيوخ والصبيان، وفي رواية: بالإثمد المروح، وهو الذي أضيف المسك الخالص. قاله الترمذي: وفي سنن أبي داود: أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالإثمد المروح عند النوم وقال ليقه الصائم، كذا في المرقاة "فإنه يجلو البصر" من الجلاء أي يحسن النظر ويزيد نور العين وينظف الباصرة لدفع المواد الرديئة النازلة إليها من الرأس "وينبت" من الإنبات "الشعر" بفتحتين ويجوز إسكان العين لكن قال ميرك الرواية بفتحها. قال القاري: ولعل وجهه مراعاة لفظ البصر وهو من المحسنات اللفظية البديعة والمناسبات السجعية، ونظيره ورود المشاكلة في لا ملجأ ولا منجا. ورواية أذهب الباس رب الناس بإبدال همزة الباس ونحوهما، والمراد بالشعر هنا الهدب وهو بالفارسية مرّه وهو الذي ينبت على أشفار العين. وعند أبي عاصم والطبري من حديث علي(5/447)
صلى الله عليه وسلم كانَتْ لَهُ مُكْحُلَةٌ يَكْتَحِلُ بهَا كُلّ لَيْلَةٍ، ثَلاَثَةً في هَذِهِ وثَلاَثَة في هَذِهِ.
ـــــــ
بسند حسن: عليكم بالإثمد فإنه منبتة للشعر مذهبة للقذى مصفاة للبصر "وزعم" أي ابن عباس وهو المفهوم من رواية ابن ماجه وروايات الترمذي في الشمائل أيضاً وهو أقرب وبالاستدلال أنس وقيل أي محمد بن حميد شيخ الترمذي قاله القاري.
قلت: الأول هو المتعين المتعمد، يدل عليه رواية الترمذي في باب السعوط من أبواب الطب. ثم قال القاري: والزعم قد يطلق ويراد به القول المحقق وإن كان أكثر استعماله في المشكوك فيه أو في الظن الباطل. قال تعالى: {زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا} ، وفي الحديث: بئس مطية الرجل زعموا على ما رواه أحمد وأبو داود عن حذيفة، فإن كان الضمير لابن عباس عن ما هو المتبادر من السياق فالمراد به القول المحقق كقول أم هانئ عن أخيها علي رضي الله عنه للنبي صلى الله عليه وسلم زعم ابن أمي أنه قاتل فلان وفلان لاثنين من أصهارها أجرتهما فقال النبي صلى الله عليه وسلم "أجرنا من أجرت" . وإن كان لمحمد بن حميد على ما زعم بعضهم فالزعم باق على حقيقيته من معناه المتبادر إشارة إلى ضعف حديثه بإسقاط الوسائط بينه وبين النبي صلى الله عليه وسلم، لكن الظاهر من العبارة أنه لو كان القائل ابن عباس لقبل وإن النبي، ولم يكن لذكر زعم فائدة إلا أن يقال إنه أتى به لطول الفصل كما يقع عادة قال في كثير من العبارات، وإيماء إلى الفرق بين الجملتين بأن الأولى حديث قولي والثانية حديث فعلي. هذا ويؤيده أن السيوطي جعل الحديث حديثين وقال: روى الترمذي وابن ماجه عن ابن عباس أنه صلى الله عليه وسلم كان له مكحلة يكتحل منها كل ليلة ثلاثة في هذه وثلاثة في هذه. ولما كان زعم تستعمل غالباً بمعنى ظن ضبط قوله: أن النبي صلى الله عليه وسلم بفتح الهمزة "كان له مكحلة" بضمتين بينهما ساكنة اسم آلة الكحل، وهو الميل على خلاف القياس والمراد ههنا ما فيه الكحل "يكتحل بها" قال القاري كذا بالياء في بعض نسخ المشكاة وفي جميع روايات الشمائل بلفظ: منها فالباء بمعنى من كما قيل في قوله تعالى {عَيْناً يَشْرَبُ بِهَا} ويمكن أن تكون الباء للسببية "كل ليلة" أي قبل أن ينام كما في رواية، وعند النوم كما في أخرى "ثلاثة" أي ثلاث مرات متوالية "في هذه" أي اليمني "وثلاثة" أي متتابعة(5/448)
1812- حدثنا عليّ بنُ حُجْرٍ ومحمدُ بنُ يَحْيى، قالا حدثنا يَزِيدُ بنُ هَارُونَ عن عَبّادِ بنِ مَنْصُورٍ نَحْوَهُ.
وفي البابِ عن جَابِرٍ وابن عُمَرَ.
ـــــــ
"في هذه" أي اليسرى والمشار إليها عين الراوي بطريق التمثيل. وقد ثبت أنه صلى الله عليه وسلم قال: "من اكتحل فليوتر" على ما رواه أبو داود. وفي الإيتار قولان أحدهما ما سبق وعليه الروايات المتعددة وهو أقوى في الإعتبار لتكرار تحقق الإيتار بالنسبة إلى كل عضو، كما اعتبر التثليث في أعضاء الوضوء، وثانيهما أن يكتحل فيهما خمسة، ثلاثة في اليمني ومرتين في اليسرى على ما روى في شرح السنة. وعلى هذا ينبغي أن يكون الإبتداء والإنتهاء باليمين تفصيلاً لها على اليسار كما أفاده الشيخ مجد الدين الفيروزآبادي، وجوز اثنين في كل عين وواحدة بينهما أو في اليمني ثلاثاً متعاقبة وفي اليسرى ثنتين فيكون الوتر بالنسبة إليهما جميعاً، وأرجحهما الأول لما ذكر من حصول الوتر شفعاً مع أنه يتصور أن يكتحل في كل عين واحدة ثم، بجامع التنظيف والتزيين هو الأول فتأمل.
قوله: "وفي الباب عن جابر وابن عمر" قال الحافظ في الفتح: وفي الباب عن جابر عند الترمذي في الشمائل وابن ماجه وابن عدي من ثلاث طرق عن ابن المنكدر عنه بلفظ: "عليكم بالإثمد فإنه يجلو البصر وينبت الشعر" ، وعن علي عند ابن أبي عاصم والطبراني ولفظه: عليكم بالإثمد فإنه منبتة للشعر مذهبة للقذي مصفاة للبصر وسنده حسن. وعن ابن عمر بنحوه عند الترمذي في الشمائل، وعن أنس في غريب مالك للدارقطني بلفظ: كان يأمرنا بالإثمد. وعن سعيد بن هوذة عند أحمد بلفظ: أكتحلوا بالإثمد فإنه الحديث. وهو عند أبي داود من حديثه بلفظ: أنه أمر بالإثمد المروح عند النوم. وعن أبي هريرة بلفظ: خير أكحالكم الإثمد فإنه الحديث، أخرجه البزار وفي سنده مقال. وعن أبي رافع أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يكتحل بالإثمد أخرجه البيهقي وفي سنده مقال. وعن عائشة: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إثمد يكتحل به عند منامه في كل عين ثلاثاً، أخرجه أبو الشيخ في كتاب أخلاق النبي صلى الله عليه وسلم بسند ضعيف انتهى.(5/449)
حَدِيثُ ابنِ عَبّاسٍ حديثٌ حسنٌ غريب لا نَعْرِفُهُ عَلَى هَذَا اللّفْظِ إِلاّ مِنْ حَدِيثِ عَبّادِ بنِ مَنْصُورٍ.
وقد رُوِيَ مِنْ غَيْرِ وَجْهٍ عن النبيّ صلى الله عليه وسلم أنّهُ قالَ: "عَلَيْكُمْ بالإْثْمِدِ فإنّهُ يَجْلُو البْصَرَ ويُنْبِتُ الشّعْرَ" .
ـــــــ
قوله: "حديث ابن عباس حديث حسن الخ" وأخرجه ابن ماجه وصححه ابن حبان(5/450)
باب ماجاء في النهي عن إشتمال الصماء والإحتباء في الثوب الواحد
...
24ـ باب ما جاءَ في النّهْيِ عن اشْتِمَالِ الصّمّاءِ
والاحتباءِ في الثّوْبِ الوَاحِد
1813 ـ حدثنا قُتَيْبَةُ، حدثنا يَعقُوبَ بنُ عبدِ الرحمَن الإسكندرانيّ عن سهيل بنِ أبي صَالِحٍ عَنْ أبيهِ عَنْ أبي هُرَيرَةَ: "أنّ النبي صلى الله عليه وسلم نَهَى عن لِبْسَتَيْنِ: الصّمَاءِ، وَأَنْ يَحْتَبِيَ الرّجُلُ بثوبه لَيْسَ على فَرْجِهِ مِنْهُ شَيءٌ".
ـــــــ
"باب ما جاءَ في النّهْيِ عن اشْتِمَالِ الصّمّاءِ والاحتباءِ في الثّوْبِ الوَاحِد"
قوله: "نهى عن لبستين" بكسر اللام لأن المراد بالنهي الهيئة المخصوصة لا المرة الواحدة من اللبس "الصماء" بالصاد المهملة والمد. قال أهل اللغة: هو أن يجلل جسده بالثوب لا يرفع منه جانباً ولا يبقى ما يخرج منه يده. قال ابن قتيبة: سميت صماء لأنه يسد المنافذ كلها فيصير كالصخرة الصماء التي ليس فيها خرق. وقال الفقهاء: هو أن يلتحف بالثوب ثم يرفعه من أحد جانبيه فيضعه على منكبيه فيصير فرجه بادياً، قال النووي: فعلى تفسير أهل اللغة يكون مكروهاً لئلا تعرض له حاجة فيتعسر عليه إخراج يده فيلحقه الضرر، وعلى تفسير الفقهاء يحرم لأجل انكشاف العورة. قال الحافظ: ظاهر سياق البخاري من رواية يونس في اللباس أن التفسير(5/450)
وفي البابِ عن عليّ وابنِ عُمَرَ وَعَائِشَةَ وأبي سَعِيدٍ وجَابِرٍ وَأَبِي أُمَامَةَ وحديثُ أبي هُرَيْرَةَ حسنٌ صحيحٌ غريب من هذا الوجه.
وقد رُوِيَ هَذَا مِنْ غِيرِ وَجْهٍ عن أبي هُرَيْرَةَ عن النبي صلى الله عليه وسلم.
ـــــــ
المذكور فيها مرفوع وهو موافق لما قال الفقهاء، وعلى تقدير أن يكون موقوفاً فهو حجة على الصحيح لأنه تفسير من الراوي لا يخالف ظاهر الخبر انتهى.
قلت: رواية يونس في كتاب اللباس من صحيح البخاري التي فيها تفسير الصماء هكذا: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن لبستين وعن بيعتين الحديث، وفيه والصماء أن يجعل ثوبه على عاتقيه فيبدو أحد شقيه ليس عليه ثوب الخ "وأن يحتبي الرجل الخ" الاحتباء، أن يقعد على إليته وينصب ساقيه ويلف عليه ثوباً ويقال له الحبوة وكانت من شأن العرب.
قوله: "وفي الباب عن علي وابن عمر وعائشة وأبي سعيد وجابر وأبي أمامة" أما حديث علي وابن عمر وأبي أمامة فلينظر من أخرجها، وأما حديث عائشة فأخرجه ابن ماجه، وأما حديث أبي سعيد فأخرجه الجماعة إلا الترمذي، وأما حديث جابر فأخرجه مسلم وأبو داود والنسائي.
قوله: "حديث أبي هريرة حديث حسن صحيح" وأخرج معناه الشيخان(5/451)
باب ماجاء في مواصلة الشعر
...
25ـ باب ما جَاءَ في مُوَاصَلَةِ الشّعْر
1814 ـ حدثنا سُوَيْد، أخبرنا عَبْدُ الله بنُ المُبَارَكِ عن عُبَيْدِ الله بنِ عُمَرَ عن نَافِعٍ عن ابنِ عُمَرَ أنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم قالَ: "لَعَنَ الله الوَاصِلَةَ والمُسْتَوصِلَةَ والوَاشِمَةَ والمُسْتَوشِمَةَ" قَالَ نَافِعٌ: الوَشْمُ في اللّثَةِ. .
ـــــــ
"باب ما جَاءَ في مُوَاصَلَةِ الشّعْر"
قوله: "قوله لعن الله الواصلة" أي التي تصل الشعر، سواء كان لنفسها أم لغيرها(5/451)
هذا حديثٌ حسنٌ صحيحٌ.
قال: وفي البابِ عن عائشة وابن مسعود وأَسْمَاءَ بِنْتِ أبي بَكْرٍ وابنِ عَبّاسٍ ومعقل بن يسار ومُعَاوِيَةَ
ـــــــ
"والمستوصلة" أي التي تطلب وصل شعرها "والواشمة" هي التي تشم من الوشم. قال أهل اللغة: الوشم بفتح ثم سكون أن يغرز في العضو إبرة أو نحوها حتى يسيل الدم ثم يخشى بنورة أو غيرها فيخضر. وقال أبو داود في السنن: الواشمة التي تجعل الخيلان في وجهها بكحل أو مداد، والمستوشمة المعمول بها انتهى. وذكر الوجه للغالب وأكثر ما يكون في الشفة. وفي آخر حديث الباب قال نافع: الوشم في اللثة، فذكر الوجه ليس قيداً وقد يكون في اليد وغيرها من الجسد، وقد يفعل ذلك نقشاً ويجعل دوائر وقد يكتب اسم المحبوب وتعاطيه حرام بدلالة اللعن كما في حديث الباب، ويصير الموضع الموشوم نجساً لأن الدم النجس فيه فيجب إزالته إن أمكن ولو بالجرح إلا إن خاف منه تلفاً أو شيئاً أو فوات منفعة عضو فيجوز إبقاؤه وتكفي التوبة في سقوط الإثم، ويستوي في ذلك الرجل والمرأة، قاله الحافظ في الفتح "والمستوشمة" وهي التي تطلب الوشم.
"قال نافع: الوشم في اللثة" ذكر اللثة للغالب كما عرفت.
قوله: "هذا حديث حسن صحيح" وأخرجه الشيخان وأبو داود والنسائي وابن ماجه.
قوله: "وفي الباب عن ابن مسعود وعائشة وأسماء بنت أبي بكر ومعقل بن يسار وابن عباس ومعاوية" أما حديث ابن مسعود فأخرجه الأئمة الستة، وأما حديث عائشة فأخرجه الشيخان، وأما حديث أسماء فأخرجه الشيخان وابن ماجه، وأما حديث معقل بن يسار فأخرجه أحمد، وأما حديث ابن عباس فأخرجه أبو داود وغيره، وأما حديث معاوية فأخرجه البخاري(5/452)
باب ماجاء في ركوب المياثر
...
26ـ باب ما جَاءَ في رُكُوبِ المَيَاثِر
1815ـ أخبرنا عليّ بنُ حُجْرٍ، حدثنا عليّ بنُ مُسْهِرٍ، حدثنا أبو إسحاقَ الشّيْبَانِيّ عن أشْعَثَ بنِ أبي الشّعْثَاءِ عن مُعَاوِيَةَ بنِ سُوَيْدٍ بنِ مُقَرّنٍ عن البَرَاءِ بنِ عَازِبٍ قالَ: "نهى رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم عن رُكُوبِ المَيَاثِرِ"
ـــــــ
"باب ما جَاءَ في رُكُوبِ المَيَاثِر"
بفتح الميم جمع ميثرة بكسر الميم وسكون التحتانية وفتح المثلثة بعدها راء ثم هاء ولا همز فيها، وأصلها من الوثارة أو الوثرة بكسر الواو وسكون المثلثة، والوثير هو الفراش الوطيء وامرأة وثير كثيرة اللحم. قال البخاري رحمه الله في صحيحه: والميثرة كانت النساء تصنعه لبعولتهن أمثال القطائف يصفونها. قال الحافظ في الفتح: أي تجعلونها كالصفة وإنما قد يستعملونها بلفظ المذكر للإشارة إلى أن النساء يصنعن ذلك والرجال هم الذين يصنعونها في ذلك. قال الزبيدي اللغوي: والميثرة مرفقة كصفة السرج. وقال الطبري: هو وطاء يوضع على سرج الفرس أو رحل البعير كانت النساء تصنعه لأزواجهن من الأرجوان الأحمر ومن الديباج وكانت مراكب العجم. وقيل هي أغشية للسروج من الحرير، وقيل هي سروج من الديباج، فحصلنا على أربعة أقوال في تفسيره الميثرة، هي هي وطاء للدابة أو لراكبها، أو هي السرج نفسه أو غشاوة، وقال أبو عبيد: المياثر الحمر كانت من مراكب العجم من حرير أو ديباج.
قوله: "نهانا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ركوب المياثر" وفي رواية أخرى للبخاري: نهانا النبي صلى الله عليه وسلم عن المياثر الحمر. قال الحافظ: قال أبو عبيد: الحمر التي جاء النهي عنها كانت من مراكب العجم من ديباج وحرير. وقال الطبري: هي وعاء يوضع على سرج الفرس أو رجل البعير من الأرجوان. وحكى في المشارق قولاً أنها سروج من ديباج، وقولا أنها أغشية للسروج من حرير، وقولاً أنها تشبه المخدة تخشى بقطن أو ريش يجعلها الراكب تحته، وهذا يوفق(5/453)
قال وفي البابِ عَنْ عَلِي ومُعَاوِيَةَ.
وحَدِيثُ البَرَاءِ حديثٌ حسنٌ صحيحٌ. ، وقد رَوَى شُعْبَةُ عن أشْعَثَ بنِ أبي الشّعْثَاءِ نَحْوَهُ. وفي الْحَدِيثِ قِصّةٌ.
ـــــــ
تفسير الطبري، والأقوال الثلاثة يحتمل أن تكون متحالفة بل الميثرة تطلق على كل منها. وتفسير أبي عبيد يحتمل الثاني والثالث. وعلى كل تقدير فالميثرة إن كانت من حرير فالنهي فيها كالنهي عن الجلوس على الحرير ولكن تقييدها بالأحمر أخص من مطلق الحرير فيمتنع إن كانت حريراً، ويتأكد المنع إن كانت مع ذلك حمراء وإن كانت من غير حرير، فالنهي فيها الزجر عن التشبه بالأعاجم. قال ابن بطال: كلام الطبري يقتضي التسوية في المنع من الركوب عليه سواء كانت من حرير أم من غيره، فكأن النهي عنها إذا لم يكن للحرير للتشبيه أو للصرف أو التزين وبحسب ذلك تفصيل الكراهة بين التحريم والتنزيه، وأما تقييدها بالحمرة فمن يحمل المطلق على المقيد وهم الأكثر المنع بما كان أحمر، انتهى كلام الحافظ.
قوله: "وفي الباب عن علي ومعاوية" أما حديث علي فأخرجه مسلم عنه: نهاني رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الجلوس على المياثر، والمياثر قسي كانت تصنعه النساء لبعولتهن على الرحل كالقطائف من الأرجوان، وقد أخرج الجماعة إلا البخاري بغير هذا اللفظ، وأما حديث معاوية فلينظر من أخرجه.
قوله: "حديث البراء حديث حسن صحيح" وأخرجه الشيخان "وقد روى شعبة عن أشعث بن أبي الشعثاء ونحوه وفي الحديث قصة" لعل الترمذي رحمه الله أراد بقوله في الحديث قصة طوله، فقد روى البخاري في باب خواتيم الذهب حديث الباب بلفظ: نهانا النبي صلى الله عليه وسلم عن سبع: نهانا عن خاتم الذهب، أو قال حلقه الذهب وعن الحرير والإستبرق والديباج والميثرة الحمراء والقسي وآنية الذهب، وأمرنا بسبع: بعيادة المريض، واتباع الجنائز، وتشميت العاطس، ورد السلام، وإجابة الداعي، وإبرار المقسم، ونصر المظلوم. وقد بسط الحافظ الكلام ههنا في بيان طرقه وألفاظه فعليك أن تراجع الفتح(5/454)
باب ماجاء في فراش النبي صلى الله عليه وسلم
...
27ـ باب ما جاءَ في فِرَاشِ النبيّ صلى الله عليه وسلم
1816ـ حدثنا عليّ بنُ حُجْرٍ، أخبرنا عليّ بنُ مُسْهِرٍ عَنْ هشَامِ بنِ عُرْوَةَ عَنْ أبيهِ عن عَائِشَةَ قالَتْ: "إنّمَا كانَ فِرَاشُ رسول الله صلى الله عليه وسلم الّذِي يَنَامُ عَلَيْهِ أدَمٌ حَشْوَهُ لِيفٌ".
هذا حديثٌ حسنٌ صحيحٌ.
قال وفي البابِ عن حَفْصَةَ وجَابِرٍ.
ـــــــ
"باب ما جاءَ في فِرَاشِ النبيّ صلى الله عليه وسلم"
قوله: "إنما كان فراش النبي صلى الله عليه وسلم" بكسر الفاء، وفي رواية ابن ماجه: كان ضجاع رسول الله صلى الله عليه وسلم، أو ما حشوه ليف، والضجاع بكسر الضاد المعجمة مما يرقد عليه "أدم" كذا وقع في نسخ الترمذي الحاضرة عندنا بالرفع، ووقع هذا الحديث في صحيح مسلم بعين إسناد الترمذي ولفظه فيه: أدماً بالنصب الظاهر، والأدم بفتحتين: إسم لجمع الأديم وهو الجلد المدبوغ على ما في المغرب "حشوة ليف" قال في القاموس: ليف النخل بالكسر معروف. وقال في الصراح ليف بالكسر يوست درخت خرماً. وفي الحديث جواز اتخاذ الفراش، والوسادة والنوم عليها والارتفاق بها، قاله النووي. قال القاري: الأظهر أنه يقال فيه بالاستحباب لمداومته عليه السلام، ولأنه أكمل للاستراحة التي قصدت بالنوم للقيام على النشاط في العبادة.
قوله: "هذا حديث حسن صحيح" وأخرجه الشيخان.
قوله: "وفي الباب عن حفصة وجابر" أما حديث حفصة فأخرجه الترمذي في الشمائل بلفظ: كان فراشه مسحاً، والمسح بكسر الميم: البلاس كما في القاموس. وأما حديث جابر فلينظر من أخرجه(5/455)
باب ماجاء في القمص
...
28ـ باب مَا جَاءَ في القُمُص
1817 ـ حدثنا محمدُ بنُ حُمَيْدٍ الرّازِيّ، حدثنا أبو ثنيلَةَ والفَضْلُ بنُ موسَى وزَيْدُ بنُ حُبَاب عن عَبْدِ المُؤْمِنِ بنِ خَالِدٍ عن عَبْدِ الله بنِ بُرَيْدَةَ عن أُمّ سَلَمَةَ قالَتْ: "كانَ أحَبّ الثّيَابِ إلى النّبي صلى الله عليه وسلم القَمِيصُ".
ـــــــ
"باب مَا جَاءَ في القُمُص"
جمع قمص
قوله "عن عبد المؤمن بن خالد" المروزي القاضي لا بأس به من السابعة.
قوله: "كان أحب الثياب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم القميص" قال ميرك في شرح الشمائل: نصب القميص هو المشهور في الرواية ويجوز أن يكون القميص مرفوعاً بالإسمة وأحب منصوباً بالخبرية. ونقل غيره من الشراح أنهما روايتان. قال الحنفي: والسر فيه أنه إن كان المقصود تعيين الأحب فالقميص خبره وإن كان المقصود بيان حال القميص عنده عليه السلام فهو اسمه، ورجحه العصام بأن أحب وصف فهو أولى بكونه حكماً، ثم المذكور في المغرب أن الثوب ما يلبسه الناس من الكتان والقطن والحرير والصوف والخز والفراء، وأما الستور فليس من الثياب. والقميص على ما ذكره الجزري وغيره ثوب مخيط بكمين غير مفرج يلبس تحت الثياب، وفي القاموس: القميص معلوم وقد يؤنث ولا يكون إلا من القطن، وأما الصوف فلا، انتهى. ولعل حصره المذكور للغالب في الاستعمال، لكن ظاهر أن كونه من القطن مراد هنا لأن الصوف يؤذي البدن ويدر العرق ورائحته يتأذى بها. وقد أخرج الدمياطي: كان قميص رسول الله صلى الله عليه وسلم قطناً قصير الطول والكمين. ثم قيل وجه أحبية القميص إليه صلى الله عليه وسلم أنه أستر للأعضاء من الإزار والرداء ولأنه أقل مؤنة وأخف على البدن، ولأن لبسه أكثر تواضعاً، كذا في المرقاة. وقال الشوكاني في النيل تحت هذا الحديث: والحديث يدل على استحباب لبس القميص، وإنما كان أحب الثياب إلى رسول الله(5/456)
هذا حديثٌ حسنٌ غريبٌ. إنّمَا نَعْرِفُهُ مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ المُؤْمِنِ بنِ خَالِدٍ تَفَرّدَ بِهِ وَهُوَ مَرْوَزِي، وَرَوَى بَعْضُهمْ هذا الْحَديثَ عن أبي ثميلَةَ عن عَبْدِ المُؤْمِنِ بنِ خَالِدٍ عن عبد لله بنِ بُرَيْدَةَ عن أُمّهِ عَنْ أُمّ سَلَمَةَ.
1818ـ حدثنا زِيَادُ بنُ أيّوبَ البغدادي حدثنا أبُو ثميلَةَ عَنْ عَبْدِ المُؤْمِنِ بنِ خالِد عَنْ عبدِ الله بنِ بُرَيْدَةَ عن أُمّهِ عن أُمّ سَلَمَةَ قالَتْ: "كانَ أَحَبّ الثّيَابِ إلَى النبي صلى الله عليه وسلم القَمِيصَ" قال وَسَمِعْتُ محمدَ بنَ إسماعيلَ يقول: حديثُ بنُ بُرَيْدَةَ عَنْ أُمّهِ عَنْ أُمّ سَلَمَةَ أصَحّ وإنّمَا يُذْكَرُ فيهِ أبُو تُمَيْلَةَ عَنْ أُمّهِ.
1819 ـ حدثنا عليّ بنُ حُجْرٍ أخبرنا الفَضْلُ بنُ مُوسَى عن عَبْدِ الْمُؤْمِنِ بنِ خَالِدٍ عن عبدِ الله بنِ بُرَيْدَةَ عن أُمّ سَلمة قالَتْ: "كَانَ أَحَبّ الثّيَابِ إلَى رسولِ الله صلى الله عليه وسلم القَمِيصَ".
ـــــــ
صلى الله عليه وسلم لأنه أمكن في الستر من الرداء والإزار اللذين يحتاجان كثيراً إلى الربط والإمساك وغير ذلك بخلاف القميص، ويحتمل أن يكون المراد من أحب الثياب إليه القميص لأنه يستر عورته ويباشر جسمه فهو شعار الجسد بخلاف فوقه من الدثار، ولا شك أن كل ما قرب من الإنسان كان أحب إليه من غيره، ما يلبس ولهذا شبه صلى الله عليه وسلم الأنصار بالشعار الذي يلي البدن بخلاف غيرهم فإنه شبههم بالدثار، وإنما سمى القميص قميصاً لأن الآدمي ينقمص فيه، أي يدخل فيه ليستره، وفي حديث المرجوم أنه يتمقص في أنهار الجنة أي ينقمص فيها.
قوله: "هذا حديث حسن غريب" وأخرجه أحمد وأبو داود والنسائي "وروى بعضهم" كزياد بن أيوب كما في الرواية الاَتية "هذا الحديث عن أبي تميلة" بضم الفوقانية وفتح الميم مصغراً المروزي اسمه يحيى بن واضح الأنصاري مولاهم مشهور بكنيته ثقة من كبار التاسعة "عن عبد الله بن بريدة عن أمه عن أم سلمة" أي بزيادة عن أمه.(5/457)
1820ـ حدثنا نَصْر بن عليّ الْجَهْضَمِيّ حدثنا عَبْدُ الصّمَدِ بنُ عَبْدِ الوَارِثِ حدثنا شُعْبَة عن الأَعْمَشِ عن أبِي صَالِحٍ عن أبي هُرَيْرَةَ قالَ: "كانَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم إذا لَبِسَ قَمِيصاً بَدَأَ بِمَيَامِنِهِ".
رَوَى غَيْرُ وَاحِدٍ هذَا الْحَدِيثَ عن شُعْبَةَ بِهَذَا الإسْنَادِ عن أبي هريرة موقوفاً ولا نعلم أحداً رفعه فير عبدالصمد بن عبدالوارث عن شعبة.
1821 ـ حدثنا عَبْدُ الله بنُ محمدِ بن الْحَجّاجِ الصّوّاف البَصْرِيّ حدثنا مُعَاذُ بنُ هِشَامٍ الدّسْتَوائِيّ عَنْ بُدَيْل بن ميسرة العُقَيْلِيّ عن شَهْرِ بنِ حَوشَبٍ عَنْ أَسْمَاءِ بِنْتِ يَزِيدَ بنِ السّكَنِ الأَنْصَارِيّةَ قالَتْ: "كانَ كُمّ يَدِ رَسُولِ
ـــــــ
قوله: "حدثنا عبد الصمد بن عبد الوارث" بن سعيد العنبري مولاهم التنوري أبو سهل البصري صدوق ثبت في شعية من التاسعة.
قوله: "بدأ" بالهمز أي ابتدأ في اللبس "بميامنه" أي بجانب يمين القميص ولذلك جمعه ذكره الطيبي، وكأنه أراد أن كل قطعة من جانب يمين القميص يطلق عليه القميص، ويمكن أن يكون الجمع لإرادة التعظيم، لا سيما إذا كان المراد بيده اليمنى أنه كان يخرج اليد اليمنى من الكم قبل اليسرى.
قوله: "وقد روى غير واحد هذا الحديث الخ" والحديث أخرجه أيضاً النسائي وذكره الحافظ في التلخيص وسكت عنه، ويشهد له حديث: "إذا توضأتم وإذا لبستم فابدأوا بميامنكم" ، أخرجه ابن حبان والبيهقي والطبراني: قال ابن دقيق العيد: هو حقيق بأن يصحح ويشهد له أيضاً حديث عائشة المتفق عليه بلفظ: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعجبه التيامن في تنعله وترجله وطهوره وفي شأنه كله.
قوله: "حدثنا عبد الله بن محمد بن الحجاج" بن أبي عثمان الصواف أبو يحيى البصري وقد ينسب إلى جده وكان ختن معاذ بن هشام صدوق من الحادية عشرة(5/458)
الله صلى الله عليه وسلم إلى الرّسْغِ".
ـــــــ
"عن أسماء بنت يزيد بن السكن الأنصارية" تكنى أم سلمة ويقال أم عامر صحابية لها أحاديث.
قوله: "كان كم يد رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الرسغ" كذا في نسخ الترمذي الموجودة، ووقع في المشكاة بالصاد. قال القاري في المرقاة: بضم فسكون، وفي نسخه يعني من المشكاة إلى الرسغ بالسين المهملة. قال الطيبي: هكذا هو بالصاد في الترمذي وأبي داود، وفي الجامع بالسين المهملة. قال القاري: أراد بالترمذي في جامعه وإلا فنسخ الشمائل بالسين بلا خلاف، وأراد بالجامع جامع الأصول، ثم هو كذا بالسين في المصابيح. وقال التوربشتي: هو بالسين المهملة والصاد لغة فيه، وكذا في النهاية هو بالسين المهملة والصاد لغة فيه، وهو مفصل ما بين الكف والساعد انتهى ويسمى الكوع. قال الجزري: فيه دليل على أن السنة أن لا يتجاوز كم القميص الرسغ، وأما غير القميص فقالوا السنة فيه أن لا يتجاوز رؤوس الأصابع من جبة وغيرها انتهى. ونقل في شرح السنة أن أبا الشيخ بن حبان أخرج بهذا الإسناد بلفظ: كان يد قميص رسول الله صلى الله عليه وسلم أسفل من الرسغ. وأخرج ابن حبان أيضاً من طريق مسلم بن يسار عن مجاهد عن ابن عباس قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يلبس قميصاً فوق الكعبين مستوي الكمين بأطراف أصابعه، هكذا ذكره ابن الجوزي في كتاب الوفاء نقلاً عن ابن حبان. وفي الجامع: الصغير برواية ابن ماجه عن ابن عباس أنه صلى الله عليه وسلم كان يلبس قميصاً فوق الكمين الحديث. وروى الحاكم في مستدركه عنه أيضاً ولفظه: كان قميصه فوق الكعبين وكان كمه مع الأصابع، ففيه أنه يجوز أن يتجاوز بكم القميص إلى رؤوس الأصابع ويجمع بين هذا وبين حديث الكتاب، إما بالحمل على تعدد القميص أو بحمل رواية الكتاب على رواية التخمين، أو بحمل الرسغ على بيان الأفضل وحمل الرؤوس على نهاية الجواز، انتهى ما في المرقاة. قال ابن رسلان: والظاهر أن نساءه صلى الله عليه وسلم كن كذلك يعني أن أكمامهن إلى الرسغ إذا لو كانت أكمامهن تزيد على ذلك لنقل ولو نقل لوصل إلينا كما نقل في الذيول من رواية النسائي وغيره أن أم سلمة لما سمعت: "من جر ثوبه خيلاء لم ينظر الله إليه" ، قالت يا رسول الله: فكيف يصنع النساء بذيولهن؟ قال(5/459)
هذا حديثٌ حسنٌ غريبٌ.
ـــــــ
"يرخيه شبرا ً " ، قالت إذن ينكشف أقدامهن، قال "يرخينه ذراعاً ولا يزدن عليه" . ويفرق بين الكف إذا ظهر وبين القدم أن قدم المرأة عورة بخلاف كفها انتهى.
تنبيه: قال الحافظ في الفتح: قال ابن العربي: لم أر للقميص ذكراً صحيحاً إلا في آية {اذهبوا بقميصي هذا} وقصة ابن أبي ولم أر لهما ثالثاً فيما يتعلق بالنبي صلى الله عليه وسلم، قال هذا في كتابه سراج المريدين، وكأنه صنفه قبل شرح الترمذي فلم يستحضر حديث أم سلمة ولا حديث أبي هريرة: كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا لبس قميصاً بدأ بميامنه، ولا حديث أسماء بنت يزيد: كانت يدكم النبي صلى الله عليه وسلم إلى الرسخ، ولا حديث معاوية بن قرة بن إياس المدني، حدثني أبي قال: أتيت النبي صلى الله عليه وسلم في رهط من مزينة فبايعناه وإن قميصه لمطلق فبايعته ثم أدخلت يدي في جيب قميصه فمسست الخاتم، ولا حديث أبي سعيد: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا استجد ثوباً سماه باسمه قميصاً أو عمامة أو رداء ثم يقول: "اللهم لك الحمد" الحديث وكلها في سنن وأكثرها في الترمذي. وفي الصحيحين حديث عائشة: كفن رسول الله صلى الله عليه وسلم في خمسة أثواب ليس فيها قميص ولا عمامة، وحديث أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم رخص لعبد الرحمن بن عوف في قميص الحرير لحكة كانت به، وحديث ابن عمر رفعه: لا يلبس المحرم القميص ولا العمائم الحديث وغير ذلك انتهى.
قوله: "هذا حديث حسن غريب" في إسناده شهر بن حوشب، وفيه مقال مشهور، والحديث أخرجه أيضاً أبو داود والنسائي(5/460)
باب ماجاء فيما يقول إذا لبس ثوبا جديدا
...
29ـ باب مَا يَقُولُ إذَا لَبِسَ ثَوْبَاً جَدِيدا
1822ـ حدثنا سُوَيْد أخبرنا عَبْدُ الله بنُ الْمُبَارَكِ عَنْ سَعِيدٍ الْجريرِيّ عَنْ أبي نَضْرَةَ عَنْ أبي سَعِيدٍ قالَ: "كانَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم إذا اسْتَجَدّ ثَوْباً سَمّاهُ باسْمِهِ عِمَامَةً أوْ قَمِيصاً أوْ رِدَاءً. ثُمّ يَقُولُ: "اللّهُمّ لَكَ الْحَمْد ُ
ـــــــ
"باب مَا يَقُولُ إذَا لَبِسَ ثَوْبَاً جَدِيدا"
قوله: "إذا استجد" أي لبس ثوباً جديداً. وأصله على ما في القاموس صير(5/460)
أنْتَ كَسَوْتَنِيهِ، أَسْأَلُكَ خَيْرَه وَخَيْرَ مَا صُنِعَ لَهُ، وَأَعُوذُ بِكَ مِنْ شَرّهِ وَشَرّ مَا صُنِعَ لَهُ" .
وفي البابِ عن عُمَرَ وابنِ عُمَرَ.
1823- حدثنا هِشَامُ بنُ يُونُسَ الكُوفِيّ حدثنا القَاسِمُ بن مَالِكٍ الْمُزَنِيّ عن الْجريريّ نَحْوَهُ.
ـــــــ
ثوبه جديداً وعند ابن حبان من حديث أنس قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا استجد ثوباً لبس يوم الجمعة. وكذا رواه الخطيب والبغوي في شرح السنة، فالمعنى إذا أراد أن يلبس ثوباً جديداً لبسه يوم الجمعة "سماه" أي الثوب المراد به الجنس "باسمه" أي المتعارف المتعين المشخص الموضوع له "عمامة أو قميصاً أو رداء أي أو غيرها كالإزار والسروال والخف ونحوها والمقصود التعميم" فالتخصيص للتمثيل بأن يقول رزقني الله أو أعطاني أو كساني هذه العمامة أو القميص أو الرداء، وأو للتنويع، أو يقول هذا قميص أو رداء أو عمامة "أسألك خيره وخير ما صنع له وأعوذ بك من شره وشر ما صنع له" قال ميرك: خير الثوب بقاؤه ونقاؤه وكونه ملبوساً للضرورة والحاجة، وخير ما صنع له هو الضرورات التي من أجلها يصنع اللباس من الحر والبرد والبرد وستر العورة، والمراد سؤال الخير في هذه الأمور وأن يكون مبلغاً إلى المطلوب الذي صنع لأجله الثوب من العون على العبادة والطاعة لموليه، وفي الشر عكس هذه المذكورات، وهو كونه حراماً ونجساً ولا يبقى زماناً طويلاً. أو يكون للمعاصي والشرور والإفتخار والعجب والغرور عدم القناعة بثوب الدون وأمثال ذلك انتهى. والحديث يدل على استحباب حمد الله تعالى عند لبس الثوب الجديد. وقد أخرج الحاكم في المستدرك عن عائشة رضي الله تعالى عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما اشترى عبد ثوباً بدينار أو بنصف دينار فحمد الله إلا لم يبلغ ركبتيه حتى يغفر الله له" ، وقال حديث لا أعلم في إسناده أحداً ذكر بجرح.
قوله: "وفي الباب عن عمر وابن عمر" أما حديث عمر فأخرجه الترمذي في الدعوات وابن ماجه والحاكم وصححه، وأما حديث ابن عمر فأخرجه النسائي وابن(5/461)
وهذا حديثٌ حسنٌ غريب صحيح.
ـــــــ
ماجه وابن حبان وصححه وأعله النسائي. وفي الباب أحاديث أخرى ذكرها الحافظ في الفتح في باب ما يدعى لمن لبس ثوباً جديداً.
قوله: "هذا حديث حسن" وأخرجه أبو داود والنسائي وسكت عنه أبو داود، ونقل المنذري تحسين الترمذي وأقره(5/462)
باب ماجاء في لبس الجبة والخفين
...
30ـ باب مَا جَاء في لُبْسِ الْجُبّةِ والخفّيْن
1824ـ حدثنا يُوسُفُ بنُ عيسى حدثنا وَكِيعٌ حدثنا يُونُسُ بنُ أبي إسحاقَ عن الشّعْبِيّ عن عُرْوَةَ بنِ المُغِيرَة بنِ شُعْبَةَ عن أبِيهِ "أنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم لَبِسَ جبة رُومِيّةً ضَيّقَةَ الْكُمّيْنِ".
ـــــــ
"باب مَا جَاء في لُبْسِ الْجُبّةِ والخفّيْن"
قوله: "عن عروة بن المغيرة بن شعبة" الثقفي كنيته أبو يعفور الكوفي ثقة.
قوله: "لبس" أي في السفر "جبة" بضم الجيم وتشديد الموحدة ثوبان بينهما قطن إلا أن يكونا من صوف فقد تكون واحدة غير محشوة، وقد قيل جبة البرد جنة البرد بضم الجيم وفتحها "رومية" بتشديد الياء لا غير. قال ميرك: ولأبي داود: جبة من صوف من جباب الروم، لكن وقع في أكثر روايات الصحيحين وغيرهما: جبة شامية، ولا منافاة بينهما لأن الشام حينئذ داخل تحت حكم قيصر ملك الروم فكأنهما واحد من حيث الملك، ويمكن أن يكون نسبة هيئتها المعتاد لبسها إلى أحدهما ونسبة خياطتها أو إتيانها إلى الأخرى "ضيقة الكمين" بيان رومية أو ضعفه ثانية، وهذا كان في سفر كما دل عليه رواية من طريق زكريا بن زائدة عن الشعبي بهذا الإسناد عن المغيرة قال: كنت مع النبي صلى الله عليه وسلم في سفر الخ، ووقع في رواية مالك وأحمد وأبي داود أن ذلك كان في غزوة تبوك، ذكره ميرك ثم قال: ومن فوائد الحديث الانتفاع بثياب الكفار حتى يتحقق نجاستها لأنه صلى الله عليه وسلم لبس الجبة الرومية ولم يستفصل.(5/462)
هذا حديثٌ حسنٌ صحيحٌ.
1825ـ حدثنا قُتَيْبَةُ حدثنا ابنُ أبي زَائِدَةَ عن الْحَسَنِ بنِ عَيّاشٍ عن أبي إسحاقَ هو الشّيْبَانِيّ عن الشّعْبِي قال: قال الْمُغِيرَة بنِ شُعْبَةَ أَهْدَى دِحْيَةُ الْكَلْبِيّ لِرَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم خُفّيْنِ فَلَبِسَهُمَا.
وقالَ إسْرَائِيلُ عن جَابِرٍ عن عَامِرٍ: وجُبّةً فَلَبِسَهُمَا حَتّى تَخَرّقَا لا يَدْرِي النبيّ صلى الله عليه وسلم أذكيّ هُمَا أَمْ لاَ".
ـــــــ
واستدل به القرطبي على أن الصوف لا ينجس بالموت لأن الجبة كانت شامية وكانت الشام إذ ذاك دار كفر.
قوله: "هذا حديث حسن صحيح" وأخرجه الشيخان وغيرهما.
قوله: "حدثنا ابن أبي زائدة" المعروف بابن أبي زائدة رجلان زكريا وولده يحيى، والظاهر أن المراد هنا هو الثاني. قال في التقريب: يحيى بن زكريا بن أبي زائدة الهمداني أبو سعيد الكوفي ثقة متقن من كبار التاسعة "عن الحسن بن عياش" بتحتانية ثم معجمة ابن سالم الأسدي كنيته أبو محمد الكوفي أخو أبي بكر المقري صدوق من الثامنة "عن أبي إسحاق" اسمه سليمان بن أبي سليمان "الشيباني" بفتح معجمة فتحتية موحدة الكوفي ثقة من الخامسة.
قوله: "أهدى دحية" بكسر الدال وحكى فتحها لغتان، ويقال إنه الرئيس بلغة أهل اليمن وهو ابن خليفة الكلبي صحابي جليل كان أحسن الناس وجهاً وأسلم قديماً وبعثه النبي صلى الله عليه وسلم في آخر سنة ست وبعد أن رجع من الحديبية بكتابه إلى هرقل، وكان وصول إلى هرقل في المحرم سنة سبع، قاله القاري "وقال إسرائيل عن جابر" أي ابن يزيد الجعفي "عن عامر" هو الشعبي "وجبة" يعني زاد بعد قوله خفين وجبة "حتى تخرقا" من التخرق أي تمزقا وانخرقا "أذكى" بهمزة الاستفهام، وذكى بوزن فعيل "هما" أي الخفان فاعل لقوله ذكي "أم لا" المعنى أنه صلى الله عليه وسلم لا يدري أن الخفين اللذين أهداهما دحية الكبي هل(5/463)
وهذا حديثٌ حسنٌ غريبٌ. هُوَ أبُو إسحاقَ اسْمُهُ سُلَيْمَانُ. وَالْحَسَنُ بنُ عَيّاشٍ هُوَ أخُو أبي بَكْر بنِ عَيّاشٍ.
ـــــــ
كانا من جلد المذكاة أو الميتة، وفيه دليل على أن الدباغ يطهر الإهاب وإن كان من الميتة(5/464)
باب ماجاء في شد الأسنان بالذهب
...
31 ـ باب ما جَاءَ في شَدّ الأَسْنَانِ بِالذّهَب
1826 ـ حدثنا أحمدُ بنُ مَنِيعٍ حدثنا عليّ بنُ هَاشِم بنِ البَرِيدِ وَ أَبُو سَعْدٍ الصّنْعَانِيّ عن أبي الأَشْهَبِ عن عبدِ الرحمَنِ بنِ طَرَفَةَ عن عَرْفَجَةَ بنِ أسْعَدَ قالَ: "أُصِيبَ أنْفِي يَوْمَ الكُلاَبِ في الْجَاهِلِيّةِ فَاتّخَذْتُ أنْفاً
ـــــــ
"باب ما جَاءَ في شَدّ الأَسْنَانِ بِالذّهَب"
قوله: "حدثنا علي بن هاشم بن البريد" بفتح الموحدة وبعد الراء تحتانية ساكنة صدوق يتشيع من صغار الثامنة "وأبو سعد الصنعاني" اسمه محمد بن ميسر بتحتانية ومهملة وزن محمد الجعفي الصاغاني بمهملة ثم معجمة البلخي الضرير نزيل بغداد، ويقال له محمد بن أبي زكريا ضعيف، ورمى بالإرجاء من التاسعة كذا في التقريب. وقد ذكر الترمذي في نسبه الصنعاني بتفح صاد مهملة وسكون نون وبعين مهملة فألف فنون أخرى. وقال الحافظ في تهذيب التهذيب والخزرجي في الخلاصة: الصاغاني بصاد مهملة ثم ألف ثم معجمة فألف فنون قوله: "عن أبي الأشهب" اسمه جعفر بن حيان السعدي العطاردي البصري مشهور بكنيته ثقة من السادسة "عن عبد الرحمن بن طرفة" بفتح المهملة والراء والفاء بعدها هاء التأنيث ابن عرفجة بفتح المهملة والفاء بينهما راء ساكنة ثم جيم ابن سعد التميمي، وثقه العجي من الرابعة "عن عرفجة بن أسعد" التميمي صاحبي نزل البصرة.
قوله: "أصيب أنفي" أي قطع "يوم الكلاب" بضم الكاف وتخفيف اللام اسم ماء كان هناك وقعة بل وقعتان مشهورتان يقال لهما الكلاب الأول والثاني.(5/464)
مِنْ وَرِقٍ فَأَنْتَنَ عليّ، فَأَمَرَنِي رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم أنْ أتّخِذَ أنْفاً مِنْ ذَهَبٍ".
1827- حدثنا عليّ بنُ حُجْرٍ حدثنا الرّبِيعُ بنُ بَدْرٍ ومحمدُ بنُ يَزِيدَ الوَاسِطِيّ عن أبي الأَشْهَبِ نَحْوَهُ.
هذا حديثٌ حسنٌ غريب إنما نَعْرِفُهُ مِنْ حَدِيثِ عبدِ الرحمَنِ بنِ طَرَفَةَ. وقد رَوَى سَلْمُ بنُ زَرِيرٍ عن عبدِ الرحمَنِ بنِ طَرَفَةَ نَحْوَ حديثِ أبي الأَشْهَبِ. وقد رويَ غَيْرُ واحِدٍ مِنْ أَهْلِ العلمِ أنّهُمْ شَدّوا أَسْنَانَهُمْ بالذّهَبِ، وفي هَذا الْحَدِيثِ حُجّةٌ لَهُمْ.
ـــــــ
قال التوربشتي: ماء عن يمين جبلة والشام وهما جبلان ويومه يوم الواقعة التي كانت عليه وللعرب به يومان مشهوران في أيام أكثم بن صيفي، والحاصل أن يوم الكلاب اسم حرب معروفة من حروبهم "فأمرني رسول الله صلى الله عليه وسلم أن اتخذ أنفاً من ذهب" وبه أباح العلماء اتخاذ الأنف من الذهب، وكذا اربط الأسنان بالذهب.
قوله: "حدثنا الربيع بن بدر" بن عمر بن جراد والتميمي السعدي البصري يلقب عليلة بمهملة مضمومة ولا مين متروك من الثامنة.
قوله: "هذا حديث حسن" وأخرجه أبو داود والنسائي "وقد روى سلم بن زرير عن عبد الرحمن بن طرفة الخ" وصله النسائي في سننه قال أخبرنا محمد بن معمر قال حدثنا حبان قال حدثنا سلم بن زرير قال حدثنا عبد الرحمن بن طرفة عن جده عرفجة بن أسعد أنه أصيب أنفه يوم الكلاب في الجاهلية فاتخذ أنفاً من ورق الحديث. وسلم بفتح السين المهملة وسكون اللام وأبوه زرير بفتح الزاي المعجمة وبالراءين المهملتين بينهما تحتية بوزن عظيم العطاردي أبو بشرى البصري وثقه أبو(5/465)
ـــــــ
حاتم وقال النسائي ليس بالقوي من السادسة كذا في التقريب "وقال ابن مهدي: سلم بن زرين وهو وهم، وزير أصح" وفي تاريخ البخاري: قال ابن مهدي: سلم بن رزين يعني بالنون وتقديم الراء قال أبو أحمد الحاكم: وهو وهم. وقال أبو علي الجياني: وقع لبعض رواة الجامع زرير بضم الزاي وهو خطأ والصواب الفتح انتهى كذا في تهذيب التهذيب "وقد روى عن غير واحد من أهل العلم أنهم شدوا أسنانهم بالذهب، وفي هذا الحديث حجة لهم" قال الزيلعي في نصب الراية: وفي الباب أحاديث مرفوعة وموقوفة روى الطبراني في معجمه الوسط عن عبد الله بن عمرو أن أباه سقطت ثنيته فأمره النبي صلى الله عليه وسلم أن يشدها بذهب انتهى. وقال لم يروه عن هشام بن عروة إلا أبو الربيع السمان. حديث رواه ابن قانع في معجم الصحابة عن عبد الله بن عبد الله بن أبي سلول قال: اندقت ثنيتي يوم أحد فأمرني النبي صلى الله عليه وسلم أن أتخذ ثنية من ذهب انتهى. ذكر الزيلعي هذين الحديثين بإسنادهما قال: وروى الطبراني في معجمه عن محمد بن سعدان عن أبيه قال: رأيت أنس بن مالك يطوف به بنوه حول الكعبة على سواعدهم وقد شدوا أسنانه بذهب انتهى. أثر آخر: في مسند عن واقد بن عبد الله التميمي عن من رأى عثمان بن عفان أنه ضبب أسنانه بذهب انتهى. وليس من رواية أحمد. أثر آخر: روى النسائي في كتاب الكنى عن إبراهيم بن عبد الرحمن أبي سهيل مولى موسى بن طلحة قال. رأيت موسى بن طلحة قد شد أسنانه بذهب انتهى. أثر آخر: روى ابن سعد في الطبقات في ترجمة عبد الملك بن مروان أخبرنا حجاج بن محمد عن ابن جريج أن ابن شهاب الزهري سئل عن شد الأسنان بالذهب فقال لا بأس به قد شد عبد الملك بن مروان أسنانه بالذهب انتهى. أثر آخر: قال ابن سعد أيضاً: أخبرنا عمرو بن الهيثم أبو قطن قال: رأيت بعض أسنان عبد الله بن عون مشدودة بالذهب انتهى. قال ابن سعد: وعبد الله بن عون بن أرطبان مولى عبد الله بن درة يكنى أبا عون كان ثقة ورعاً عابداً، توفي في خلافه أبي جعفر سنة إحدى وخمسين ومائة(5/466)
باب ماجاء في النهي عن جلود السباع
...
32ـ باب ما جَاءَ في النّهْيِ عن جُلُودِ السّبَاع
1828ـ حدثنا أبو كُرَيْبٍ حدثنا ابنُ الْمُبَارَكِ و محمدُ بنُ بِشْرٍ وَعَبْدُ الله بنُ إسماعيلَ عن سَعِيدِ بنِ أبي عَروبَةَ عن قَتَادَةَ عن أبي المَلِيحِ عن أبِيهِ "أنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم نَهَى عن جُلُودِ السّبَاعِ أنْ تُفْتَرَشَ".
1829- حدثنا محمدُ بنُ بَشّارٍ حدثنا يَحْيَى بنُ سَعِيدٍ حدثنا سَعِيدٌ عن قَتَادَةَ عن أبي المَلِيحِ عن أبِيهِ "أنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم نَهَى عن جُلُودِ السّبَاعِ". ولا نَعْلَمُ أحَداً قالَ عن أبي المَلِيحِ عن أبِيهِ غَيْرَ سَعِيدِ بنِ أبي عَرُوبَةَ.
ـــــــ
"باب ما جَاءَ في النّهْيِ عن جُلُودِ السّبَاع"
قوله: "وعبد الله بن إسماعيل" بن أبي خالد. قال أبو حاتم: مجهول، وذكره ابن حبان في الثقات كذا في تهذيب التهذيب "عن أبي المليح" بن أسامة بن عمير أو عامر بن حنيف بن ناجية الهذلي اسمه عامر وقيل زيد وقيل زياد ثقة من الثالثة "عن أبيه" هو أسامة بن عمير بن عامر الأقيشر الهذلي صحابي تفرد ولده عنه "نهى عن جلود السباع أن تفترش" وفي حديث المقدام بن معد يكرب: نهى عن لبس جلود السباع والركوب عليها، أخرجه أبو داود والنسائي. وفي حديث أبي معاوية بن سفيان نهى عن جلود النمور أن يركب عليها أخرجه أحمد وأبو داود. وفي حديث أبي هريرة لا تصحب الملائكة رفقة فيها جلد نمر، أخرجه أبو داود، والنمور جمع نمر بفتح النون وكسر الميم، ويجوز سكونها مع كسر النون، هو سبع أجرأ وأخبث من الأسد وهو منقط الجلد نقط سود وبيض وفيه شبه من الأسد إلا أنه أصغر منه ورائحة فمه طيبة بخلاف الأسد، وبينه وبين الأسد عداوة، وهو بعيد الوثبة فربما وثب أربعين ذراعاً. وأحاديث الباب تدل على أن جلود السّباع لا يجوز الانتفاع بها. وقد اختلف في حكمة النهي فقال البيهقي: إن النهي وقع لما يبقى عليها من الشعر لأن الدباغ لا يؤثر فيه. وقال غيره: يحتمل أن النهي(5/467)
1830ـ حدثنا محمدُ بنُ بَشّارٍ حدثنا محمدُ بنُ جَعْفَرٍ حدثنا شُعْبَة عن يَزِيدَ الرّشْكِ عن أبي المَلِيحِ عن النبيّ صلى الله عليه وسلم: "أنّهُ نَهَى عن جُلُودِ السّبَاعِ" وهذَا أصَحّ.
ـــــــ
عما لم يدبغ منها لأجل النجاسة، أو أن النهي لأجل أنها مراكب أهل السرف والخيلاء. قال الشوكاني: وأما الاستدلال بأحاديث الباب على أن الدباغ لا يطهر جلود السباع بناء على أنها مخصصة للأحاديث القاضية بأن الدباغ مطهر على العموم فغير ظاهر لأن غاية ما فيها مجرد النهي عن الركوب عليها وافتراشها ولا ملازمة بين ذلك وبين النجاسة انتهى، وتقدم كلامه الباقي في باب جلود الميتة إذا دبغت.
قوله: "عن يزيد الرشك" بكسر الراء وسكون المعجمة. قال في التقريب: تزيد بن أبي يزيد الضبعي مولاهم أبو الإزهر البصري يعرف بالرشك ثقة عابد وهم من لينه من السادسة.
قوله: "وهذا أصح" لأن شعبة أحفظ وأتقن من سعيد بن أبي عروبة. والحديث أخرجه أحمد وأبو داود والنسائي(5/468)
باب ماجاء في نعل النبي صلى الله عليه وسلم
...
33ـ باب ما جَاء في نَعْلِ النبيّ صلى الله عليه وسلم
1831ـ حدثنا إسحاقُ بنُ مَنْصُورٍ أخبرنا حَبّانُ بنُ هِلاَلٍ حدثنا هَمّامٌ حدثنا قَتَادَةَ عن أنَسٍ "أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم كانَ نَعْلاَهُ لَهُمَا قِبَالاَنِ".
ـــــــ
"باب ما جَاء في نَعْلِ النبيّ صلى الله عليه وسلم"
في النهاية: النعل مؤنثة وهي التي تلبس في المشي تسمى الآن تاسومة. وقال ابن العربي: النعل لباس الأنبياء وإنما اتخذ الناس غيرها لما في أرضهم من الطين. وقد يطلق النعل على كل ما يقي القدم: قال صاحب المحكم: النعل والنعلة ما وقيت به، كذا في الفتح.
قوله: "كان نعلاه لهما قبالان" بكسر القاف تثنية قبال. قال الحافظ في الفتح:(5/468)
هذا حديثٌ حسنٌ صحيحٌ.
قال وفي البابِ عن ابنِ عَبّاسٍ وأبي هُرَيْرَةَ.
1832ـ حدثنا محمدُ بنُ بَشّارٍ حدثنا أبو دَاوُدَ حدثنا هَمّامٌ عن قَتَادَةَ قال: "قُلْتُ لأَنَسِ بنِ مَالِكٍ: كَيْفَ كانَ نَعْلُ رَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم؟ قالَ: لَهُمَا قِبَالاَنِ". هذا حديثٌ حسنٌ صحيحٌ
ـــــــ
القبال هو الزمام وهو السير الذي يعقد فيه الشسع الذي يكون بين أصبعي الرجل انتهى. وقال الجزري في النهاية: الشسع أحد سيور النعل، وهو الذي يدخل بين الأصبعين ويدخل طرفه في الثقب الذي في صدر النعل المشدود في الزمام. وقال القاري قال الجزري: كان لنعل رسول الله صلى الله عليه وسلم سيران يضع أحدهما بين إبهام رجله والتي تليها ويضع الآخر بين الوسطى التي تليها ومجمع السيرين إلى السير الذي على وجه قدمه صلى الله عليه وسلم وهو الشراك انتهى.
قوله: "هذا حديث حسن صحيح" وأخرجه البخاري.
قوله: "وفي الباب عن ابن عباس وأبي هريرة" أما حديث ابن عباس فأخرجه الترمذي في الشمائل وابن ماجه بسند قوي، وأما حديث أبي هريرة فأخرجه البزار والطبراني في الصغير كما في الفتح.
قوله: "كيف كان نعل رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لهما" وفي بعض النسخ لها بالإفراد(5/469)
باب ماجاء في كراهية المشي النعل الواحدة
...
34ـ باب ما جاءَ في كَرَاهِيَةِ
المَشْي في النّعْلِ الْوَاحِدَة
1833ـ حدثنا قُتَيْبَةُ عن مَالِكٍ ح وحدثنا الأَنْصَارِيّ حدثنا مَعْنٌ حدثنا مَالِكٌ عن أبي الزّنَادِ عن الأَعْرَجِ عن أبي هُرَيْرَةَ أنّ رَسُولَ الله صلى
ـــــــ(5/469)
الله عليه وسلم قالَ: "لاَ يَمْشِي أحَدُكُمْ في نَعْلِ وَاحِدَةٍ لِيُنْعِلْهُمَا جَمِيعاً أو لِيُحْفِهمَا جميعاً" .
ـــــــ
"باب ما جاءَ في كَرَاهِيَةِ المَشْي في النّعْلِ الْوَاحِدَة"
قوله: "لا يمشي أحد" نفي بمعنى النهي للتنزيه، وفي الشمائل لا يمشين "في نعل واحدة" وفي رواية في الشمائل واحد بالتذكير لتأويل النعل بالملبوس "لينعلهما" بضم الياء وكسر العينم من باب الإفعال وبفتح الياء والعين من باب علم. قال في القاموس: نعل كفرح وتنعل وانتعل لبسها وأنعل الدابة ألبسها النعل انتهى. قال الحافظ في الفتح: قال ابن عبد البر: أراد القدمين وإن لم يجر لهما ذكر، وهذا مشهور في لغة العرب، وورد في القرآن أن يؤتى بضمير لم يتقدم له ذكر لدلالة السياق عليه، وينعلهما ضبطه النووي بضم أوله من أنعل، وتعقبه شيخنا في شرح الترمذي بأن أهل اللغة نعل بفتح العين وحكى كسرها وانتعل أي لبس النعل، لكن قد قال أهل اللغة أيضاً أنعل رجله ألبسها نعلاً، ونعل دابته جعل لها نعلاً. وقال صاحب المحكم: أنعل الدابة والبعير ونعلهما بالتشديد، وكذا ضبط عياض في حديث عمر أن غسان تنعل الخيل بالضم أي تجعل لها نعالاً. والحاصل أن الضمير إن كان للقدمين جاز الضم والفتح وإن كان للنعلين تعين الفتح "أو ليحفهما" قال الحافظ: كذا للأكثر، ووقع في رواية أبي مصعب في الموطأ: أو لينعلهما، وكذا في رواية لمسلم انتهى. والإحفاء ضد الإفعال: وهو جعل الرجل حافية بلا نعل وخف، أي ليمش حافي الرجلين. قال القاضي: إنما نهى عن ذلك لقلة المروة والإختلال والخبط في المشي. وما روي عن عائشة أنها قالت: ربما مشى النبي صلى الله عليه وسلم في نعل واحدة إن صح فشيء نادر لعله اتفق في داره بسبب. قلت: وعلى تقدير كونه بعد النهي يحمل على حال الضرورة أو بيان الجواز وأن النهي ليس للتحريم. قال الخطابي: المشي يشق على هذه الحالة مع سماحته في الشكل وقبح منظره في العين، وقيل لأنه لم يعدل بين جوارحه وربما نسب فاعل ذلك إلى اختلال الرأي وضعفه. وقال ابن العربي: العلة فيه أنها مشية الشيطان.
تكملة: قال الحافظ في الفتح: قد يدخل في هذا كل لباس شفع كالخفين(5/470)
هذا حديثٌ حسنٌ صحيحٌ.
قال وفي البابِ عن جَابِرٍ.
1834 ـ حدثنا أَزْهَرُ بنُ مَرْوَانَ البَصْرِيّ أخبرنا الْحَارِثُ بنُ نَبْهَانَ عن مَعْمَرٍ عن عَمّارٍ بنِ أبي عَمّار عن أبي هُرَيْرَةَ قالَ: "نَهَى رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم أنْ يَنْتَعِلَ الرّجُلُ وَهُوَ قَائِمٌ".
ـــــــ
وإخراج اليد الواحدة من الكم دون الأخرى، والترمذي على أحد المنكبين دون الآخر قاله الخطابي، قال: وقد أخرج ابن ماجه حديث الباب من رواية محمد بن عجلان عن سعيد المقبري عن أبي هريرة بلفظ: لا يمشي أحدكم في نعل واحدة ولا خف واحد، وهو عند مسلم أيضاً من حديث جابر، وعند أحمد من حديث أبي سعيد، وعند الطبراني من حديث ابن عباس وإلحاق إخراج اليد الواحدة من الكم وترك الأخرى بلبس النعل الواحدة أو الخف الواحد بعيد إلا إن أخذ من الأمر بالعدل بين الجوارح وترك الشهرة، وكذا وضع طرف الرداء على أحد المنكبين انتهى.
قوله: "هذا حديث حسن صحيح وأخرجه الشيخان وغيرهما "وفي الباب عن جابر" أخرجه مسلم.
قوله: "أخبرنا الحارث بن نبهان" بفتح النون وسكون الموحدة الجرمي أبو محمد البصري متروك من الثامنة "عن عمار بن أبي عمار" مولى بني هاشم صدوق ربما أخطأ من الثالثة.
قوله: "نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن ينتعل" من باب الافتعال أي يلبس النعل "وهو قائم" جملة حالية قال الخطابي إنما نهى عن لبس النعل قائماً لأن لبسها قاعداً أسهل عليه وأمكن له وربما كان ذلك سبباً لانقلابه إذا لبسها قائماً. فأمر بالقعود له والاستعانة باليد فيه ليأمن غائلته. وقال المظهر: هذا فيما يلحقه التعب في لبسه كالخف والنعال التي تحتاج إلى شد شراكها.(5/471)
هذا حديثٌ حسن غريبٌ. وَرَوَى عُبَيْدُ الله بنُ عَمْرٍو الرّقّيّ هذا الْحَدِيثَ عن مَعْمَرٍ عن قَتَادَةَ عن أنَسٍ وكِلاَ الْحَدِيثَيْنِ لاَ يَصِحّ عِنْدَ أَهْلِ الْحَدِيثِ. والْحَارِثُ بنُ نَبْهَانَ لَيْسَ عِنْدَهُمْ بِالْحَافِظِ. ولا نَعْرِفُ لِحَدِيثِ قَتَادَةَ عن أنَسٍ أصْلاً.
1835 ـ حدثنا أبُو جَعْفَرٍ السّمْنَانِيّ حدثنا سُلَيْمَانُ بنُ عُبَيْدِ الله الرّقّيّ حدثنا عُبَيْدِ الله بنُ عَمْرٍو الرقّي عن مَعْمَرٍ عن قَتَادَةَ عن أنَسٍ: "أنّ رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم نَهَى أنْ يَنْتَعِلَ الرّجُلُ وَهُوَ قَائِمٌ".
ـــــــ
قوله: "هذا حديث غريب" وأخرجه ابن ماجه، ولا نعرف لحديث قتادة عن أنس أصلاً. كذا قال الترمذي. وحديث النهي عن الإنتعال قائماً، أخرجه أبو داود عن جابر بلفظ: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن ينتعل الرجل قائماً، وسكت عنه هو والمنذري، وأخرجه ابن ماجه عن ابن عمر رضي الله عنه بهذا اللفظ وإسناده هكذا: حدثنا علي بن محمد حدثنا وكيع عن سفيان عن عبد الله بن دينار عن ابن عمر الخ وهذا إسناد صحيح، وأخرجه ابن ماجه أيضاً عن أبي هريرة بهذا اللفظ وإسناده هكذا: حدثنا علي بن محمد حدثنا أبو معاوية عن الأعمش عن أبي صالح عن أبي هريرة وهذا إسناد رواته كلهم ثقات، فقول الترمذي: لا نعرف لحديث قتادة عن أنس أصلاً محل تأمل.
قوله: "أبو جعفر" اسمه محمد بن جعفر "السمناني" بكسر السين المهملة وسكون الميم ونونين القوسي ثقة من الحادية عشرة "حدثنا سليمان بن عبيد الله" الأنصاري أبو أيوب الرقي. قال الخزرجي في الخلاصة: قال أبو حاتم: صدوق. وقال النسائي: ليس بالقوي "حدثنا عبيد الله بن عمرو" بن أبي الوليد الرقي أبو وهب الأسدي ثقة فقيه ربما وهم من الثالثة.(5/472)
هذا حديثٌ غريبٌ. وقالَ محمدُ بنُ إسماعيلَ: وَلاَ يَصِحّ هذا الْحَدِيثُ وَلاَ حَدِيثُ مَعْمَرٍ عن عَمّار بنِ أبي عَمّارٍ عن أبي هُرَيْرَةَ.
ـــــــ
قوله: "هذا حديث غريب" وأخرجه الضياء المقدسي.
اعلم أن حديث أبي هريرة وحديث أنس المذكورين لا يطابقان الباب، وكان للترمذي أن يعقد لهما باباً آخر بلفظ باب ما جاء في النهي عن الإنتعال قائماً(5/473)
باب ماجاء في الرخصة في النعل الواحدة
...
35 ـ باب مَا جَاءَ من الرّخْصَةِ في المشي في النّعْلِ الْوَاحِدَة
1836ـ حدثنا القَاسِمُ بنُ دِينَارٍ حدثنا إسحاقُ بنُ مَنْصُورٍ السّلُولِيّ كوفِيّ حدثنا هُرَيْم بنُ سفيانَ البَجَلِيّ الكوفي عن لَيْثٍ عن عبدِ الرحمَنِ بنِ القَاسِمِ عن أبيهِ عن عَائِشَةَ قَالَتْ: "رُبّمَا مَشَى النبيّ صلى الله عليه وسلم في نَعْلٍ وَاحِدَةٍ".
ـــــــ
"باب مَا جَاءَ من الرّخْصَةِ في المشي في النّعْلِ الْوَاحِدَة"
قوله: "حدثنا إسحاق بن منصور السلولي" بفتح المهملة وضم اللام الأولى مولاهم أبو عبد الرحمن صدوق، تكلم فيه للتشيع من التاسعة "حدثنا هريم" مصغراً "وهو ابن سفيان البجلي" أبو محمد الكوفي صدوق من كبار التاسعة "عن ليث" هو ابن أبي سليم "عن عبد الرحمن بن القاسم" بن محمد بن أبي بكر الصديق التيمي أبو محمد المدني، ثقة جليل. قال ابن عيينة: كان أفضل أهل زمانه من السادسة "عن أبيه" أي القاسم بن محمد بن أبي بكر الصديق ثقة أحد الفقهاء بالمدينة. قال أيوب: ما رأيت أفضل منه من كبار الثالثة. كذا في التقريب.
قوله: "ربما" بتشديد الموحدة وتخفيفها وهو هنا للقلة أي قليلاً "مشى النبي صلى الله عليه وسلم في نعل واحدة" هذا على تقدير صحته محمول على حال الضرورة أو بيان الجواز وأن النهي ليس للتحريم كما تقدم.(5/473)
1837ـ حدثنا أحمدُ بنُ مَنِيعٍ حدثنا سُفْيَانُ بنُ عُيَيْنَةَ عن عَبْدِ الرحمنِ بنِ الْقَاسِمِ عن أبِيهِ عن عَائِشَةَ: "أنّهَا مَشَتْ بِنَعْلٍ وَاحِدَةٍ".
وهذَا أصَحّ. هَكَذَا رَوى سُفْيَانُ الثّوْرِيّ وغير واحد عن عبدِ الرحمَنِ بنِ الْقَاسِمِ مَوْقُوفاً. وهذَا أصَحّ.
ـــــــ
قوله: "أنها مشت بنعل واحدة" ذكر في شرح السنة أنه قد ورد في الرخصة بالمشي في نعل واحدة أحاديث، وروى عن علي وابن عمر، وكان ابن سيرين لا يرى بها بأساً كذا في المرقاة.
قوله: "وهذا أصح" أي حديث ابن عيينة عن عبيد الرحمن بن القاسم موقوفاً أصح من حديث ليث مرفوعاً لأنه كان قد اختلط أخيراً ولم يتميز حديثه فترك. وأما ابن عيينة فهو ثقة حافظ وقد تابعه سفيان الثوري وغيره(5/474)
باب ماجاء بأي رجل يبدأ إذا انتعل
...
36ـ باب ما جَاء بِأيّ رِجْلٍ يَبْدَأُ إذَا انْتَعَل
1838ـ حدثنا الأَنْصَارِيّ حدثنا مَعْنٌ حدثنا مَالِكٌ ح وحدثنا قُتَيْبَةُ عن مَالِكٍ ح عن أبي الزّنَادِ عن الأَعْرَجِ عن أبي هُرَيْرَةَ أنّ رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم قالَ: "إذَا انْتَعَلَ أحَدُكُمْ فَلْيَبْدَأْ بِالْيَمِين، وَإِذَا نَزَعَ فَلْيَبْدَأ بِالشّمَالِ، فلتكن اليمنى أوّلَهُمَا تُنْعَلُ وآخِرهُمَا تُنْزَعُ" .
ـــــــ
"باب ما جَاء بِأيّ رِجْلٍ يَبْدَأُ إذَا انْتَعَل"
قوله: "إذا انتعل أحدكم" أي أراد لبس النعل "فليبدأ باليمين" وفي رواية باليمنى "وإذا نزع" وفي رواية مسلم: وإذا خلع "فلتكن اليمنى أولهما تنعل وآخرهما تنزع" قال الحافظ: زعم ابن وضاح فيما حكاه ابن التين أن هذا القدر مدرج وأن المرفوع انتهى عند قوله: "بالشمال" وضبط قوله أولهما وآخرهما بالنصب على أنه خبر كان أو على الحال والخبر تنعل وتنزع، وضبط بمثاتين فوقانيتين وتحتانيتين(5/474)
هذا حديثٌ حسنٌ صحيحٌ.
ـــــــ
مذكرين باعتبار النعل والخلع. وقال الطيبي: يحتمل الرفع على أنه مبتدأ وتنعل خبره والجملة خبر كان. قال ابن العربي: البداءة باليمين مشروعة في جميع الأعمال الصالحة لفضل اليمين حساً في القوة وشرعاً في الندب إلى تقديمها. وقال النووي: يستحب البداءة باليمين في كل ما كان من باب التكريم أو الزينة، والبداءة باليسار في ضد ذلك كالدخول في الخلاء ونزع النعل والخف والخروج من المسجد والاستنجاء وغيره من جميع المستقذرات. وقال الحليمي وجه الإبتداء بالشمال عند الخلع أن اللبس كرامة لأنه وقاية للبدن، فلما كانت اليمنى أكرم من اليسرى بدأ بها في اللبس وأخرت في الخلع لتكون الكرامة لها أدوم وحظها منها أكثر انتهى.
قوله: "هذا حديث حسن صحيح" وأخرجه أحمد والشيخان وابن ماجه(5/475)
باب ماجاء في ترقيع الثوب
...
37ـ باب ما جاءَ في تَرْقِيعِ الثّوْب
1839ـ حدثنا يَحْيَى بنُ مُوسَى حدثنا سَعِيدُ بنُ محمدٍ الوَرّاق وَ أَبُو يَحْيَى الْحِمّانِيّ قالا: حدثنا صَالِحُ بنُ حَسّان عن عُرْوَةَ عن عَائِشَةَ قالت: قالَ لِي رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: "إذا أَرَدْتِ اللّحُوقَ بي فَلْيَكْفِكِ مِنَ الدّنْيَا كَزَادِ الرّاكِبِ، وَإِيّاكِ وَمُجَالَسَةَ الأَغْنِيَاءِ، ولا تستخلعي ثوباً حَتّى ترفّعِيهِ" .
ـــــــ
"باب ما جاءَ في تَرْقِيعِ الثّوْب"
قوله: "حدثنا يحيى بن موسى" البلخي لقبه خت بفتح المجعمة وتشديد المثناة أصله من الكوفة ثقة من العاشرة "حدثنا سعيد بن محمد الوراق" الثقفي أبو الحسن الكوفي نزيل بغداد ضعيف من صغار الثامنة "وأبو يحيى الحماني" بكسر المهملة وتشديد الميم اسمه عبد الحميد بن عبد الرحمن الكوفي لقبه بشمين صدوق يخطئ ورمى بالإرجاء من التاسعة "حدثنا صالح بن حسان" النضري أبو الحارث المدني نزيل البصرة متروك من السابعة.
قوله: "إن أردت اللحوق بي" أي ملازمتي في درجتي في الجنة كذا في التيسير(5/475)
هذا حديثٌ غريبٌ لا نَعْرِفُهُ إلاّ مِنْ حَدِيثِ صَالِحٍ بنِ حَسّانَ. قال وسَمِعْتُ محمداً يَقُولُ: صَالِحُ بنُ حَسَانَ مُنْكَرُ الحدِيثِ. وصَالِحُ بنُ أبي حَسَان الذي رَوَى عَنْهُ ابنُ أبي ذِئْبٍ ثِقَةٌ.
وَمَعْنَى قَوْلِهِ "وإياك وَمُجَالَسَةِ اْلأَغْنِيَاء" هو نحو ما رُويَ عن أبي هُرَيْرَةَ عن النبيّ صلى الله عليه وسلم أنّهُ قالَ: "مَنْ رَأَى مَنْ فُضّلَ عَلَيْهِ في الْخَلْقِ والرّزْقِ. فَلْيَنْظُرْ إلَى مَنْ هُوَ أسْفَلُ مِنْهُ مِمّنْ فُضّلَ هُوَ عَلَيْهِ فَإِنّهُ أَجْدَرُ أن لا يَزْدَرِيَ نِعْمَةَ الله " .
ـــــــ
"فليكفك من الدنيا كزاد الراكب" أي مثله وهو فاعل يكف أي اقتنعي بشيء يسير من الدنيا فإنك عابرة سبيل إلى منزل العقبى "وإياك ومجالسة الأغنياء" تحذير أي اتقى من مجالسة الأغنياء "ولا تَسْتَخْلِعي ثوباً" بالخاء المعجمة والقاف أي لا تعديه خلقاً، من استخلق الذي هو نقيض استجد "حتى ترقعيه" بتشديد القاف أي تخيطي عليه رقعة ثم تلبسيه. في شرح السنة قال أنس: رأيت عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه وهو يومئذ أمير المؤمنين وقد رقع ثوبه برقاع ثلاث لبد بعضها فوق بعض. وقيل: خطب عمر رضي الله تعالى عنه وهو خليفته وعليه إزار فيه اثنا عشر رقعة انتهى.
قوله: "هذا حديث غريب" قال المنذري في الترغيب بعد ذكر هذا الحديث: رواه الترمذي والحاكم والبيهقي من طريقه وغيرها كلهم من رواية صالح بن حسان وهو منكر الحديث عن عروة عنها. وقال الحاكم: صحيح الإسناد وذكره رزين فزاد فيه: قال عروة: فما كانت عائشة تستجد ثوباً حتى ترقع ثوبها وتنكسه، ولقد جاءها يوماً من عند معاوية ثمانون ألفاً فما أمسى عندها درهم، قالت لها جاريتها: فهلا اشتريت لنا منه لحماً بدرهم؟ قالت لو ذكرتني لفعلت انتهى "سمعت محمداً" يعني الإمام البخاري رحمه الله "وصالح بن أبي حسان الخ" يعني أن صالح بن أبي حسان الذي روى عنه ابن أبي ذئب غير صالح بن حسان المذكور في إسناد هذا الحديث، فإن ذا ضعيف كما عرفت وهذا ثقة. قال الحافظ في التقريب: صالح بن أبي حسان المدني صدوق من الخامسة.
قوله: "من رأى من فضل عليه" بالفاء والمعجمة على البناء للمجهول "في الخلق"(5/476)
وَيُرْوَى عن عَوْنِ بنِ عَبْدِ الله قال: صَحبتُ الأغْنِيَاءَ فَلَمْ أرَ أحَداً، أكْبَرَ هَمّا مِنّي، أرَى دَابّةً خَيْراً مِنْ دَابّتِي، وَثَوْباً خَيْراً مِنْ ثَوْبِي، وَصَحِبْتُ الْفُقَرَاءَ فَاسْتَرَحْتُ.
ـــــــ
بفتح الخاء أي الصورة، ويحتمل أن يدخل في ذلك الأولاد والأتباع وكل ما يتعلق بزينة الحياة الدنيا "فلينظر إلى من هو أسفل منه" وفي رواية: فلينظر إلى من تحته، ويجوز في أسفل الرفع والنصب والمراد بذلك ما يتعلق بالدنيا "ممن هو فضل عليه" بصيغة المجهول "فإنه أجدر ألا يزدري نعمة الله" أي هو حقيق بعدم الإزدراء وهو افتعال من زريت عليه وأزريت بت إذا نقصته في القاموس: هو يتنقصه يقع فيه ويذمه. وفي معناه ما أخرجه الحاكم من حديث عبد الله بن الشخير رفعه: أقلوا الدخول على الأغنياء فإنه أحرى أن لا تزدروا نعمة الله. قال ابن بطال: هذا الحديث جامع لمعاني الخير لأن المرء لا يكون بحال تتعلق بالدين من عبادة ربه مجتهداً فيها إلا وجد من هو فوقه، فمتى طلبت نفسه اللحاق بت استقصر حاله فيكون أبداً في زيادة تقربه من ربه، ولا يكون على حال خسيسة من الدنيا إلا وجد من أهلها من هو أخس حالاً منه، فإذا تفكر في ذلك علم أن نعمة الله وصلت إليه دون كثير ممن فضل عليه بذلك من غير أمر أوجبه، فيلزم نفسه الشكر فيعظم اغتباطه بذلك في معاده. وقال غيره: في هذا الحديث دواء الداء لأن الشخص إذا نظر إلى من هو فوقه لم يأمن أن يؤثر ذلك فيه حسداً ودواؤه أن ينظر إلى من هو أسفل منه ليكون ذلك داعياً إلى الشكر. وحديث أبي هريرة هذا أخرجه الشيخان(5/477)
38ـ باب
1840ـ حدثنا ابنُ أبي عُمَرَ حدثنا سُفْيَان بنُ عُيَيْنَةَ عن ابنِ أبي نَجِيحٍ عن مُجَاهِدٍ عن أُمّ هَانِئ قَالَتْ: "قَدِمَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم مَكّةَ وَلَهُ أرْبَعُ غَدَائِرَ".
ـــــــ
"باب"
قوله: "وله أربع غدائر" جمع غديرة: وهي الذؤابة كما في القاموس والنهاية.(5/477)
هذا حديثٌ غريبٌ.
1841حدثنا محمدُ بنُ بَشّارٍ حدثنا عَبْدُ الرحمنِ بنُ مَهْدِيّ حدثنا إبراهيم بنُ نَافِعٍ المَكّيّ عن ابنِ أبي نَجِيحٍ عن مُجَاهِدٍ عن أُمّ هَانِئ قَالَتْ "قَدِمَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم مَكّةَ وَلَهُ أَرْبَعُ ضَفَائِرَ".
هذا حديثٌ حسنٌ غريب. وَعَبْدُ الله بنُ أبي نَجِيحٍ مَكّيّ أبو نجيح اسمه يسار. قال محمد: لا أعرف المجاهد سماعاّ من أم هانئ.
ـــــــ
وقال في الصراح: غديره كيسوي بافته، وزاد في رواية ابن ماجه: تعني ضفائر وهو تفسير غدائر من بعض الرواة.
قوله: "قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة" زاد أحمد في روايته مرة: وكان له صلى الله عليه وسلم قدومات أربعة بمكة: عمرة القضاء وفتح مكة وعمرة الجعرانة وحجة الوداع، وبعض الروايات تدل على أن هذا المقدم يوم فتح مكة لأنه حينئذ اغتسل وصلى الضحى في بيتها قاله القاري في المرقاة "وله أربع ضفائر" جمع ضفيرة، قال في مجمع البحار: قوله: ضفائر وهي الذوائب المضفورة ضفر الشعر أدخل بعضه في بعض انتهى. والحديث رواه أبو داود وترجم له باب ضفر الرجل شعره ورواه ابن ماجه وترجم له: باب اتخاذ الجمة والضفائر. قال في إنجاح الحاجة حاشية ابن ماجه. وله أربع غدائر لعله فعل ذلك لدفع الغبار انتهى. قلت: وهو الظاهر لأنه صلى الله عليه وسلم كان في السفر.
قوله: "هذا حديث حسن" وأخرجه أحمد وأبو داود وابن ماجه كلهم من طريق ابن أبي نجيح عن مجاهد عن أم هانئ. فإن قلت: كيف حسن الترمذي الحديث مع أنه قد نقل عن الإمام البخاري أنه قال لا أعرف لمجاهد سماعاً من أم هانئ. قلت: لعله حسنه على مذهب جمهور المحدثين، فإنهم قالوا إن عنعنة غير المدلس محمولة على السماع إذا كان اللقاء ممكناً وإن لم يعرف السماع والله تعالى أعلم(5/478)
39ـ باب
1842ـ حدثنا حُمَيْدُ بنُ مَسْعَدَةَ حدثنا محمدُ بنُ حُمْرَانَ عن أبِي سَعِيدٍ وَهُوَ عَبْدُ الله بنُ بُسْرٍ قال سَمِعْتُ أبَا كَبْشَةَ الأنْمَارِيّ يَقُول: "كانَتْ كِمَامُ أصْحَابِ رَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم بُطْحاً".
ـــــــ
"باب"
قوله: "حدثنا محمد بن حمران" بن عبد العزيز القيسي البصري صدوق فيه لين من التاسعة "عن أبي سعيد وهو عبد الله بن بسر" السكسكي الحبراني الحمصي سكن البصرة ضعيف من الخامسة "سمت أبا كبشة الأنماري" بفتح الهمزة وسكون النون منسوب إلى أنمار قاله في المغني. وقال في التقريب: أبو كبشة الأنماري هو سعيد بن عمرو أو عمرو بن سعيد، وقيل عمر أو عامر بن سعد صحابي نزل الشام له حديث واحد وروى عن أبي بكر انتهى "وكانت كمام أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم" بكسر الكاف جمع كمة بالضم كقباب وقبة وهي القلنسوة المدورة سميت بها لأنها تغعطي الرأس. قال الجزري في النهاية بعد ذكر هذا الحديث ما لفظه: وفي رواية أمته هما جمع كثرة وقلة للكمة القلنسوة، يعني أنها كانت منبطحة غير منتصبة انتهى. وقال في القاموس: الكمة بالضم القلنسوة المدروة. وقال المنذري في الترغيب: الكمة بمض الكاف وتشديد الميم القلنسوة الصغيرة "بطحاً" بمض الموحدة فسكون المهملة جمع بطحاء أي كانت مبسوطة على الرأس غير مرتفعة عنها. وقيل هي جمع كم بالضم لأنهم قلما كانوا يلبسون القلنسوة، ومعنى بطحاء حينئذ أنها كانت عريضة فهو جمع أبطح من قولهم للأرض المتسعة بطحاء، والمراد أنها ما كانت ضيقة رومية أو هندية بل كان وسعها بقدر شبر كما سبق، كذا قال في القاري في المرقاة. وأشار بقوله كما سبق إلى ما نقل عن بعض كتب الحنفية أنه يستحب اتساع الكم بقدر شبر. وقال بن حجر الهيثمي المكي: وأما ما نقل عن الصحابة من اتساع الكم فمبني على توهم أن الأكمام1 جمع كم ولي كذلك بل جمع كمه وهي ما يجعل على الرأس كالقلنسوة، فكأن قائل ذلك لم يسمع قول الأئمة
ـــــــ
1 كذا في المرقات المطبوعة والظاهر أنه الكمام .(5/479)
هذا حديثٌ مُنْكَرٌ. وَعَبْدُ الله بنُ بُسْرٍ بَصْرِيّ هو ضَعِيفٌ عِنْدَ أهْلِ الْحَدِيثِ ضَعّفَهُ يَحْيَى بنُ سَعِيدٍ وغَيْرُهُ. وبُطْحٌ يَعْنِي وَاسِعَةٌ.
ـــــــ
أن من البدع المذمومة اتساع الكمين انتهى. قال القاري متعقباً عليه بأن يمكن حمل هذا على السعة المفرطة، وما نقل عن الصحابة على خلاف ذلك وهو ظاهر بل متعين انتهى.
قلت: الحديث يحتمل الاحتمالين، واختار الترمذي الاحتمال الثاني حيث فسر قوله: "بطحاً" بقوله يعني واسعة، ولا شك في أنه إن كان معنى بطحاً واسعة فالمراد السعة الغير المفرطة كما قال القاري، فإن الاتساع المفرط في الأكمام مذموم بلا شك. قال الحافظ ابن القيم في زاد المعاد: وأما الأكمام الواسعة الطوال التي هي كالأخراج فلم يلبسها هو ولا أحد من أصحابه البتّة، وهي مخالفة لسنته، وفي جوازها نظر فإنها من جنس الخيلاء انتهى. وقال الشوكاني في النيل: وقد صار أشهر الناس بمخالفة هذه السنة في زماننا هذا العلماء فيرى أحدهم وقد يجعل لقميصه كمين يصلح كل واحد منهما أن يكون جبة أو قميصاً لصغير من أولاده أو يتيم، وليس في ذلك شيء الفائدة إلا العبث وتثقيل المؤنة على النفس ومنع الانتفاع باليد في كثير من المنافع وتشويه الهيئة ولا الدينية إلا مخالفة السنة والإسبال والخيلاء انتهى. وأما الأكمام الضيقة فقد ثبت أنه صلى الله عليه وسلم لبس جبة ضيقة الكمين في السفر كما روى الشيخان عن المغيرة بن شعبة أن النبي صلى الله عليه وسلم لبس جبة رومية ضيقة الكمين، كذا في المشكاة، وترجم الإمام البخاري لحديث المغيرة هذا في صحيحه في كتاب اللباس باب من لبس جبة ضيقة الكمين في السفر. قال الحافظ في الفتح: كأنه يشير إلى لبس النبي صلى الله عليه وسلم الجبة الضيقة إنما كان لحال السفر لاحتياج المسافر إلى ذلك، وأن السفر يغتفر فيه لبس غير المعتاد في الحضر.
قوله: "هذا حديث منكر وعبد الله بن بسر بصري ضعيف عند أهل الحديث الخ" قال الذهبي في الميزان. عبد الله بسر الجبراني الحمصي عن عبد الله بن بسر المازني الصحابي وغيره. قال يحيى بن سعيد القطان: رأيته وليس بشيء روي عن ابن بسر وأبي راشد الجيراني. وقال أبو حاتم وغيره: ضعيف، وقال(5/480)
ـــــــ
النسائي ليس بثقة. ثم ذكر الذهير حديث الباب في مناكيره. وقال في الخلاصة: ضعفه القطان والنسائي والدارقطني ووثقه ابن حبان انتهى(5/481)
40ـ باب
1843ـ حدثنا قُتَيْبَةُ، حدثنا أبُو الأَحْوَصِ عن أبِي إسحاقَ عن مُسْلِمِ بنِ نذيْرٍ عن حذَيْفَةَ قالَ: "أخَذَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم بِعَضَلَةِ سَاقِي أوْ سَاقِهِ فقال "هذا مَوْضِعُ الاْزَارِ، فَإِنْ أَبَيْتَ فَأَسْفَل، فَإِنْ أبَيْتَ فَلاَ حَقّ لِلإِزَارِ في الكعَبَيْنِ" .
ـــــــ
"باب"
قوله: "عن أبي إسحاق" هو السبيعي "عن مسلم بن نذير" بالنون والذال المعجمة مصغراً، ويقال ابن يزيد كوفي يكنى أبا عياض مقبول من الثالثة كذا في التقريب. وقال في الخلاصة: قال أبو حاتم لا بأس به "بعضلة ساقي أو ساقه" شك من الراوي، والعضلة محركة وكسفينة كل عصبة معها لحم غليظ كذا في القاموس: وعضلة الساق هو المحل الضخم منه "هذا موضع الإزار" وفي رواية النسائي: موضع الإزار إلى أنصاف الساقين "فإن أبيت فأسفل" كذا وقعت هذه الجملة مرة واحدة ووقعت في رواية ابن ماجه مرتين هكذا: فإن أبيت فأسفل، وقوله فأسفل بصيغة الأمر. قال في القاموس: وقد سفل ككرم وعلم ونصر سفالا وسفولاً وتسفل وسفل في خلقه وعلمه ككرم سفلاً ويضم وسفالا ككتاب وفي الشيء سفولاً بالضم نزل من أعلاه إلى أسفله انتهى "فإن أبيت فلا حق للإزار في الكعبين" وفي رواية النسائي: فإن أبيت فيمن رواه الساق ولا حق للكعبين في الإزار. والحديث يدل على أن موضع الإزار إلى أنصاف الساقين ويجوز إلى الكعبين ولا حق للإزار في الكعبين. وفي الباب أحاديث غير حديث الباب، فأخرج أبو داود والنسائي وصححها الحاكم من حديث أبي جرى رفعه قال في أثناء حديث مرفوع: وارفع إزارك إلى نصف الساق فإن أبيت فإلى الكعبين وإياك(5/481)
هذا حديثٌ حسنٌ صحيحٌ رَوَاهُ الثّوْرِيّ وشعبة عن أبي إسحاقَ.
ـــــــ
وإسبال الإزار فإنه من المخيلة وإن الله لا يحب المخيلة. وروى البخاري في صحيحه عن أبي هريرة مرفوعاً "ما أسفل من الكعبين من الإزار في النار" . وللطبراني من حديث ابن عباس رفعه: "كل شيء جاوز الكعبين من الإزار في النار" . وله من حديث عبد الله بن مغفل رفعه: "إزرة المؤمن إلى أنصاف الساقين وليس عليه حرج فيما بينه وبين الكعبين وما أسفل من ذلك ففي النار" "هذا حديث حسن صحيح" وأخرجه النسائي وابن ماجه وصححه الحاكم كذا في الفتح(5/482)
41ـ باب
1844ـ حدثنا قُتَيْبَةُ حدثنا محمدُ بنُ رَبِيعَةَ عن أبي الْحَسَنِ الْعَسْقَلاَنِي عن أبي جَعْفَرِ بنِ محمدِ بنِ رُكَانَةَ عن أبِيهِ "أنّ رُكَانَةَ صَارَعَ النبيّ صلى الله عليه وسلم فَصَرَعَهُ النبيّ صلى الله عليه وسلم، قالَ رُكَانَةُ سَمِعْتُ رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم، يَقُولُ: "إنّ فَرْقَ مَا بَيْنَنَا وَبَيْنَ المُشْرِكِينَ، العَمَائِمُ على القَلاَنِسِ" .
ـــــــ
"باب"
قوله: "عن أبي الحسن العسقلاني" قال في التقريب: مجهول "عن أبي جعفر بن محمد بن ركانة" قال في التقريب: مجهول "أن ركانة" بضم أوله وتخفيف الكاف بن عبد يزيد بن هاشم بن عبد المطلب بن عبد مناف المطلبي من مسلمة الفتح ثم نزل المدينة ومات في أول خلافه معاوية "صارع النبي صلى الله عليه وسلم" قال في الصراح: مصارعه كشتى كرفتن، يقال صارعته فصرعته أصرعة صرعاً بالفتح لتميم وبالكسر لقيس "فصرعه النبي صلى الله عليه وسلم" أي غلبه في المصارعة وطرحه على الأرض "إن فرق ما بيننا وبين المشركين العمائم على القلانس" جمع قلنسوة أي الفارق بيننا معشر المسلمين وبين المشركين لبس العمائم فوق القلانس، فنحن نتعمم على القلانس(5/482)
هذا حديثٌ حسن غريبٌ وَإِسْنَادُهُ لَيْسَ بالقَائِمِ، ولا نَعْرِفُ أبَا الْحَسَنِ الَعَسْقَلاَنِي ولا ابنَ رُكَانَةَ.
ـــــــ
وهم يكفنون بالعمائم ذكره الطيبي وغيره من الشراح، وتبعهما ابن الملك كذا في المرقاة. وقال العزيزي: فالمسلمون يلبسون القلنسوة وفوقها العمامة ولبس القلنسوة وحدها زي المشركين انتهى. وكذا نقل الجزري عن بعض العلماء، ربه صرح القاضي أبو بكر في شرح الترمذي. وقال ابن القيم في زاد المعاد: وكان يلبسها يعني العمامة ويلبس تحتها القلنسوة، وكان يلبس القلنسوة بغير عمامة، ويلبس العمامة بغير قلنسوة انتهى. وفي الجامع الصغير برواية الطبراني عن ابن عمر قال: كان يلبس قلنسوة بيضاء، قال العزيزي: إسناده حسن، وفيه برواية الروياني وابن عساكر عن ابن عباس: كان يلبس القلانس تحت العمائم وبغير العمائم، ويلبس العمائم بغير قلانس، وكان يلبس القلانس اليمانية، وهن البيض المضربة ويلبس القلانس ذوات الاَذان في الحرب، وكان ربما نزع قلنسوته فجعلها سترة بين يديه وهو يصلي الحديث.
قلت: لم أقف على إسناد رواية ابن عباس هذه، فلا أدري هل هي صالحة للاحتجاج أم لا.
قوله: "هذا حديث غريب" وأخرجه أبو داود "وإسناده ليس بالقائم الخ" فيه ثلاثة مجاهيل كما عرفت(5/483)
42ـ باب
1845ـ حدثنا محمدُ بنُ حُمَيْدٍ حدثنا زَيْدُ بنُ حُبَابٍ و أبُو ثمَيْلَةَ عن عَبْدِ الله بنِ مُسْلِمٍ عن ابنِ بُرَيْدَةَ عن أبِيهِ قالَ: "جَاءَ رَجُلٌ إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم وعليه خَاتَمٌ مِنْ حَدِيدٍ، فقالَ: "مَالِي أَرَى عَلَيْك َ
ـــــــ
"باب"
قوله: "عن عبد الله بن مسلم" السلمي كنيته أبو طيبة بفتح الطاء المهملة بعدها(5/483)
حِلْيَةَ أهْلِ النّارِ" ؟ ثُمّ جَاءَهُ وَعَلَيْهِ خَاتَمٌ مِنْ صُفْرٍ، فقالَ: "مَالِي أَجِدُ مِنْكَ رِيحَ الأَصْنَام" ؟ ثُمّ أَتَاهُ وَعَلَيْهِ خَاتَمٌ مِنْ ذَهَبٍ، فقالَ: "ارْم عنك حِلْيَةَ أهْلِ الْجَنّةِ" ؟ قالَ: مِنْ أيّ شَيْءٍ أتّخِذُهُ؟ قالَ: "مِنْ وَرِقٍ وَلا تُتِمّهُ مِثْقَالاً" .
هذا حديثٌ غريبٌ وفي الباب عن عبد الله بن عمرو وعَبْدُ الله بنُ مسْلِمٍ يُكْنَى أبَا طَيبَةَ وهُوَ مَرْوَزِيّ.
ـــــــ
تحتانية ساكنة ثم موحدة المروزي قاضيها صدوق يهم من الثامنة "مالي أرى عليك" مقوله صلى الله عليه وسلم وما استفهام إنكار ونسبه إلى نفسه والمراد به المخاطب أي مالك "حلية أهل النار" بكسر الحاء أي زينة بعض الكفار في الدنيا أو زينتهم في النار بملابسة السلاسل والأغلال، وتلك في المتعارف بيننا متخذة من الحديد، وقيل إنما كرهه لأجل النتن "وعليه خاتم من صفر" بضم الصاد المهملة وسكون الفاء يقال له بالهندية بيتل. ووقع في رواية أبي داود: وعليه خاتم من شبه قال القاري بفتح الشين المعجمة والموحدة شيء يشبه الصفر، وبالفارسية يقال له برنج سمى به لشبهه بالذهب لوناً. وفي القاموس: الشبه محركة النحاس الأصفر ويكسر انتهى كلام القاري "مالي أجد منك ريح الأصنام" لأن الأصنام تتخذ من الصفر، قاله الخطابي وغيره "ارم عنك حلية أهل الجنة" يعني أن خاتم الذهب من حلية أهل الجنة يتختمون به فيها، وأما في الدنيا فهو حرام على الرحال "قال من ورق" أي اتخذه من فضة، والورق بكسر الراء الفضة "ولا تتمه" بضم أوله وتشديد الميم المفتوحة نهى من الإنمام أي لا نكمله "مثقالاً" أي لا نكمل وزن الخاتم من الورق مثقالاً. قال ابن الملك تبعاً للمظهر: هذا نهى إرشاد إلى الورع، فإن الأولى أن يكون الخاتم أقل من مثقال لأنه أبعد من السرف. وذهب جمع من الشافعية إلى تحريم ما زاد على المثقال. لكن رجح الاَخرون الجواز، منهم الحافظ العراقي في شرح الترمذي، فإنه حمل النهي المذكور على التنزيه، قاله القاري "هذا حديث غريب" وأخرجه أبو داود والنسائي. قال الحافظ ابن حجر في(5/484)
ـــــــ
الفتح: أخرجه أصحاب السنن وصححه ابن حبان وفي سنده أبو طيبة بفتح المهملة وسكون التحتانية بعدها موحدة اسمه عبد الله بن مسلم المروزي، قال أبو حاتم الرازي: يكتب ولا يحتج به. وقال ابن حبان في الثقات: يخطيء ويخالف، فإن كان محفوظاً حمل المنع على ما كان حديداً صرفاً. وقد قال التيفاشي في كتاب الأحجار: خاتم الفولاذ مطردة للشيطان إذا لوى عليه فضة، فهذا يؤيد المغايرة في الحكم انتهى كلام الحافظ. قال في عون المعبود شرح أبي داود: هذا الحديث مع ضعفه يعارض حديث أبي هريرة مرفوعاً بلفظ: "ولكن عليكم بالفضة فالعبوا بها" ، أخرجه أبو داود وإسناده صحيح، فإن هذا الحديث يدل على الرخصة في استعمال الفضة للرجال، وأن في تحريم الفضة على الرجال لم يثبت فيه شيء عن النبي صلى الله عليه وسلم، وإنما جاءت الأخبار المتواترة في تحريم الذهب والحرير على الرجال فلا يحرم عليهم استعمال الفضة إلا بدليل ولم يثبت فيه دليل، وقال: قد استدل العلامة الشوكاني في رسالته الوشي المرقوم في تحريم حلية الذهب على العموم بهذا الحديث على إباحة استعمال الفضة للرجال بقوله صلى الله عليه وسلم: "عليكم بالفضة فالعبوا بها" ، وقال: إسناده صحيح ورواته محتج بهم. وأخرجه أحمد في مسنده من حديث أبي موسى الأشعري حدثنا عبد الصمد حدثنا عبد الرحمن بن عبد الله بن دينار حدثني أسيد بن أبي أسيد عن ابن أبي موسى عن أبيه أو عن ابن أبي قتادة عن أبيه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "من سره أن يحلق حبيبته حلقة من نار فليحلقها حلقة من ذهب، ومن سره أن يسور حبيبته سواراً من نار فليسورها سواراً من ذهب ولكن الفضة فالعبوا بها لعباً" انتهى، وحسن إسناده الحافظ الهيثمي في مجمع الزوائد وأخرجه الطبراني في الكبير والأوسط من حديث سهل بن سعد مرفوعاً بلفظ: "من أحب أن يسور ولده سواراً من نار فليسوره سواراً من ذهب ولكن الفضة فالبعوا بها كيف شئتم" . قال الهيثمي في مجمع الزوائد: في إسناده عبد الرحمن بن زيد بن أسلم وهو ضعيف انتهى.
قلت: في الاستدلال على إباحة استعمال الفضة للرجال بقوله صلى الله عليه وسلم: "ولكن عليكم بالفضة فالعبوا بها" عندي نظر، فإن المراد باللعب بالفضة التحلية بها للنساء من التحليق والتسوير بها لهن، وليس المراد به اللعب بها للرجال، يدل على ذلك صدر الحديث أعني قوله صلى الله عليه وسلم: "من سره أن يحلق حبيبته(5/485)
ـــــــ
حلقه من نار فليحلقها حلقة من ذهب، ومن سره أن يسور حبيبته سواراً من نار فليسورها سواراً من ذهب، كما في رواية أحمد. ومعنى الحديث أن لا تحلقوا نساءكم حلقة من ذهب ولا تسوروهن سواراً من الذهب ولكن العبوا لهن بالفضة من التحليق والتسوير بها لهن، أو ما شئتم من التحلية بها لهن. هذا ما عندي والله تعالى أعلم(5/486)
43ـ باب
1846ـ حدثنا ابنُ أبي عُمَرَ، حدثنا سُفْيَانُ عن عَاصِمِ بنِ كُلَيْبٍ عن ابنِ أبي مُوسَى قالَ: سَمِعْتُ عَلِيّا يَقُولُ: "نَهَانِي رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم عَن القَسّيّ والمِيْثَرَةِ الْحَمْرَاءِ، وَأَنْ أَلْبَسَ خَاتَمِي في هَذِهِ وفي هَذِهِ، وَأشَارَ إلَى السّبّابَةِ والوُسْطَى".
ـــــــ
"باب"
قوله: "عن عاصم بن كليب" بن شهاب بن المجنون الجرمي الكوفي صدوق رمى بالإرجاء من الخامسة.
قوله: "نهاني رسول الله صلى الله عليه وسلم عن القسي" تقدم تفسير القسي في باب النهي عن القراءة في الركوع والسجود "والميثرة الحمراء" هي بكسر الميم وسكون التحتانية وفتح المثلثة بعدها راء ثم هاء ولا همز فيها وأصلها من الوثارة أو الوثرة بكسر الواو وسكون المثلثة، والوثير هو الفراش الوطيء وامرأة وثيرة كثيرة اللحم، وقد تقدم تفسير الميثرة في باب ركوب المياثر "وأن ألبس خاتمي في هذه وفي هذه وأشار إلى السبابة والوسطى" قال النووي: أجمع المسلمون على أن السنة جعل خاتم الرجل في الخنصر، وأما المرأة فإنها تتخذ خواتيم في أصابع، قالوا والحكمة في كونه في الخنصر أنه أبعد من الامتهان فيما تعاطي باليد لكونه طرفاً لأنه لا يشغل اليد عما تناولته من اشتغالها بخلاف غير الخنصر، ويكره للرجل جعله في الوسطى والتي تليها لهذا الحديث وهي كراهة تنزيه انتهى.(5/486)
هذا حديثٌ حسنٌ صحيحٌ.
وابنُ أبي مُوسَى هُوَ أبُو بُرْدَةَ بنُ أبِي مُوسَى واسْمُهُ عَامِر بن عبد الله بن قيس.
ـــــــ
قوله: "هذا حديث حسن صحيح" وأخرجه مسلم(5/487)
44ـ باب
1847ـ حدثنا محمدُ بنُ بَشّارٍ، حدثنا مُعَاذُ بنُ هِشَامٍ، حدثني أبي عن قَتَادَةَ عن أنَسٍ قال: "كانَ أَحَب الثّيَابِ إلى رسولِ الله صلى الله عليه وسلم يَلْبَسُهَا الحِبرَةَ". هذا حديثٌ حسنٌ صحيحٌ غريبٌ.
ـــــــ
"باب"
قوله: "كان أحب الثياب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يلبسها" وفي رواية البخاري: أن يلبسها بزيادة "أن" فقوله "يلبسها" في رواية الترمذي صفة لأحب أو الثياب وخرج به ما يفرشه ونحوه والضمير المنصوب للثياب أو لأحب والتأنيث باعتبار المضاف إليه، وأما قوله: "أن يلبسها" فقيل بدل من الثياب، وقال الطيبي: متعلق بأحب أي كان أحب الثياب لأجل اللبس "الحبرة" بالنصب على أنه خبر كان وأحب اسمه، ويجوز أن يكون بالعكس. والحبرة بكسر الحاء المهملة وفتح الموحدة بوزن عنبة نوع من برود اليمن بخطوط حمر وربما تكون بخضر أو زرق فقيل هي أشرف الثياب عندهم تصنع من القطن فلذا كان أحب، وقيل لكونها خضراء وهي من ثياب أهل الجنة، وقد ورد أنه كان أحب الألوان إليه الخضرة على ما رواه الطبراني في الأوسط وابن السني وأبو نعيم في الطلب قال: القرطبي: سميت حبرة لأنها تحبر أي تزين والتحبير التحسين، قيل ومنه قوله تعالى: {فَهُمْ فِي رَوْضَةٍ يُحْبَرُونَ} وقيل إنما كانت هي أحب الثياب إليه صلى الله عليه وسلم لأنه ليس فيه كثير زينة، ولأنها أكثر احتمالاً للوسخ. قال الجزري: وفيه دليل على استحباب لبس الحبرة وعلى جواز لبس المخطط. قال ميرك: وهو مجمع عليه.
قوله: "هذا حديث حسن صحيح غريب" وأخرجه الشيخان وأبو داود والنسائي(5/487)
أبواب الأطعمة
باب ماجاء على ماكان يأكل النبي صلى الله عليه وسلم
...
أبواب الأطعمة
عن رسول الله صلى الله عليه وسلم
1ـ باب مَا جَاءَ عَلى مَا كانَ يَأْكلُ
النبي صلى الله عليه وسلم
1848ـ حدثنا محمدُ بنُ بَشّارٍ، حدثنا مُعَاذُ بنُ هِشَامٍ، حدثني أبي عن يُونُسَ عن قَتَادَةَ عن أَنَسٍ قال: "ما أَكَلَ رسول الله صلى الله عليه وسلم في خوَانٍ ولا في سُكُرّجَةٍ
ـــــــ
"أبواب الأطعمة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم"
"باب مَا جَاءَ عَلى مَا كانَ يَأْكلُ النبي صلى الله عليه وسلم"
قوله: "عن يونس" هو الإسكاف كما في رواية البخاري ووقع رواية ابن ماجه عن يونس بن أبي الفرات الإسكاف. قال الحافظ في الفتح: وهو بصري وثقه أحمد وابن معين وغيرهما. وقال ابن عدي: ليس بالمشهور. وقال ابن سعد: كان معروفاً وله أحاديث. وقال ابن حبان: لا يجوز أن يحتج به كذا قال، ومن وثقه أعرف بحاله من ابن حبان، والراوي عنه هشام هو الدستوائي وهو من المكثرين عن قتادة وكأنه لم يسمع منه هذا انتهى.
قوله: "على خوان" الخاء بكسر الخاء المعجمة وبضم أي مائدة. قال التوربشتي: الخوان الذي يؤكل عليه معرب، والأكل عليه لم يزل من دأب المترفين وصنيع الجبارين لئلا يفتقروا إلى التطاطؤ عند الأكل كذا في المرقاة. وقال العيني في العمدة: قوله على الخوان بسكر الخاء المعجمة وهو المشهور رجاء ضمها، وفيه لغة ثالثة إخوان بكسر الهمزة وسكون الخاء وهو معرب. قال الجوالقي: تكلمت(5/488)
ولا خُبِرَ لَهُ مُرَقّقٌ: قال فَقُلْتُ لِقَتَادَةَ: فَعَلام مَا كانُوا يَأْكُلُونَ؟ قالَ: على هَذِهِ السفَرِ".
ـــــــ
به العرب قديماً. وقال ابن فارس: إنه اسم أعجمي. وعن ثعلب: سمي بذلك لأنه يتخون ما عليه أي ينتقص. وقال عياض: إنه المائدة ما لم يكن عليه طعام ويجمع على أخونه في القلة وخوون بالضم في الكثرة. قال العيني: ليس فيما ذكر كله بيان هيئة الخوان وهو طيق كبير من نحاس تحته كرسي من نحاس ملزوق به طوله قدر ذراع يرص فيه الزباد ويوضع بين يدي كبير من المترفين ولا يحمله إلا اثنان فما فوقهما انتهى "ولا سكرجة" بضم السين والكاف والراء والتشديد إناء صغير يؤكل فيه الشيء القليل من الأدم وهي فارسية، وأكثر ما يوضع فيه الكوامخ ونحوها كذا في النهاية. قيل والعجم كانت تستعملها في الكواميخ وما أشبهها من الجوارشات يعني المخللات على الموائد حول الأطعمة للتشهي والهضم، فأخبر النبي صلى الله عليه وسلم لم يأكل على هذه الصفة قط. قال العراقي في شرح الترمذي: تركه الأكل في السكرجة إما لكونها لم تكن تصنع عندهم إذ ذاك أو استصغاراً لها لأن عادتهم للاجتماع على الأكل أو لأنها كانت تعد لوضع الأشياء التي تعين على الهضم ولم يكونوا غالباً يشبعون فلم يكن لهم حاجة بالهضم انتهى.
"ولا خبز" ماض مجهول "له" أي لأجله "مرقق" قال القاضي عياض: أي ملين محسن كخبز الحوارى وشبهه، والترقيق التليين ولم يكن عندهم مناخل، وقد يكون المرقق الرقيق الموسع انتهى. قال الحافظ: هذا هو متعارف، وبه جزم ابن الأثير قال: الرقاق الرقيق مثل طوال طويل وهو الرغيف الواسع الرقيق. وقال ابن الجوزي: هو الخفيف كأنه مأخوذ من الراقاق وهي الخشبة التي يرقق بها انتهى "نقلت" القائل هو يونس "فعلى ما" وكذا في أكثر نسخ البخاري، وفي بعضها فعلام بميم مفردة أي فعلى أي شيء.
واعلم أن حرف الجر إذا دخل على ما الاستفهامية حذف الألف لكثرة الاستعمال لكن قد ترد في الاستعمالات القليلة على الأصل نحو قول حسان: على ما قال يشتمني لئيم.(5/489)
هذا حديثٌ حسنٌ غريبٌ. قالَ محمدُ بنُ بَشّارٍ: يُونُسُ هَذَا هُوَ يُونُسُ الإسْكَافُ. وقد روى عَبْدُ الوَارِثِ بن سعيد عن سَعِيدِ بنِ أبي عَرُوبَةَ عن قَتَادَةَ عن أنَسٍ عن النبي صلى الله عليه وسلم نَحْوَهُ.
ـــــــ
ثم اعلم أنه إذا اتصل الجار بما الاستفهامية المحذوفة الألف نحو حتام وعلام كتب معها بالألف لشدة الاتصال بالحروف "قال" أي قتادة "على هذه السفر" بضم ففتح جمع سفرة، في النهاية: السفرة الطعام يتخذه المسافر وأكثر ما يحمل في جلد مستدير فنقل اسم الطعام إلى الجلد وسمي بت كما سميت المزادة رواية وغيره ذلك من الأسماء المنقولة انتهى. ثم اشتهرت لما يوضع عليه الطعام جلداً كان أو غيره ما عدا المائدة لما مر من أنه شعار المتكبرين غالباً.
قوله: "هذا حديث حسن غريب" وأخرجه البخاري في الأطعمة والنسائي في الرقائق والوليمة وابن ماجه في الأطعمة(5/490)
باب ماجاء في أكل الأرنب
...
2ـ باب ما جاءَ في أَكْلِ الأَرْنَب
1849ـ حدثنا محمودُ بنُ غَيْلاَنَ، حدثنا أبُو دَاوُدَ، أخبرنا شُعْبَةُ عن هِشَامِ بنِ زَيْدٍ قالَ سَمِعْتُ أنَساً يَقُولُ: "أَنْفَجْنَا أَرْنَباً بِمَرّ الظّهْرَانِ فَسَعَى
ـــــــ
"باب ما جاءَ في أَكْلِ الأَرْنَب"
قال الحافظ في الفتح: هو دويبة معروفة تشبه العناق لكن في رجليها طول يخلان بها، والأرنب اسم جنس للذكر والأرنب اسم جنس للذكر والأنثى، ويقال للذكر أيضاً الخزز وزن عمر بمعجمات وللأنثى عكرشة وللصغير خرنق هذا هو المشهور. وقال الجاحظ: لا يقال أرنب إلا للأنثى، ويقال إن الأرنب شديدة الجبن كثيرة الشبق وأنها تكون سنة ذكراً وسنة أنثى وأنها تحيض ويقال إنها تنام مفتوحة العين انتهى. ويقال للأرنب بالفارسية خركوش
قوله: "عن هشام بن زيد" بن أنس بن مالك الأنصاري ثقة من الخامسة.
قوله: "أنفجنا أرنباً" بفاء مفتوحة وجيم ساكنة أي أثرنا، يقال نفج الأرنب(5/490)
أصحابُ النبي صلى الله عليه وسلم خلْفَهَا، فَأَدْرَكْتُهَا فَأَخَذْتُهَا، فَأَتَيْتُ بِهَا أبَا طَلْحَةَ فَذَبَحَهَا بِمَرْوَةٍ فَبَعَثَ مَعِي بِفَخِذِهَا أوْ بِوَرِكِهَا إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم فَأَكَلَهُ، قال قُلْتُ أكَلَهُ؟ قالَ قَبِلَهُ".
وفي البابِ عَنْ جَابِرٍ وعمّار ومحمدِ بنِ صَفْوَانَ. ويُقَالُ محمدُ بنُ صَيْفِي.
ـــــــ
إذا ثار وعدا وانتفج كذلك وأنفجته إذا أثرته من موضعه، ويقال إن الانتفاج الاقشعرار، فكأن المعنى جعلناها بطلبنا لها تنتفج، والإنتفاع أيضاً ارتفاع الشعر وانتفاشه "بمر الظهران" مر بفتح الميم وتشديد الراء والظهران بفتح المعجمة بلفظ تثنية اسم موضع على مرحلة من مكة، وقد يسمى بإحدى الكلمتين تخفيفاً وهو المكان الذي تسميه عوام المصريين بطن مرو، والصواب مر بتشديد الراء "فذبحها بمروة" بفتح ميم وسكون راء حجر أبيض ويجعل منه كالسكين "فبعث معي بفخذها أو بوركها" هو شك من الراوي والورك بالفتح والكسر وككتف ما فوق الفخذ مؤنثة كذا في القاموس "فأكله فقلت أكله، قال قبله" قال الطيبي. الضمير راجع إلى المبعوث أو بمعنى اسم الإشارة أي ذاك انتهى. وحاصله أنه راجع إلى المذكور، وهذا الترديد لهشام بن زيد وقف جده أنساً على قوله أكله فكأنه توقف في الجزم به وجزم بالقبول. وقد أخرج الدارقطني من حديث عائشة: أهدى إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أرنب وأنا نائمة فخبأ لي منها العجز فلما قمت أطعمني، وهذا الوصح لأشغر بأنه أكل منها لكن سنده ضعيف. ووقع في الهداية للحنفية أن النبي صلى الله عليه وسلم أكل من أرنب حين أهدي إليه مشوياً وأمر أصحابه بالأكل منه، وكأنه تلقاه من حديثين فأوله من حديث الباب وقال ظهر ما فيه، والآخر من حديث أخرجه النسائي من طريق موسى بن طلحة عن أبي هريرة: جاء أعرابي إلى النبي صلى الله عليه وسلم بأرنب قد شواها فوضعها بين يديه فأمسك وأمر أصحابه أن يأكلوا، ورجاله ثقات إلا أنه اختلف فيه على موسى ابن طلحة اختلافاً كثيراً.
قوله: "وفي الباب عن جابر وعمار ومحمد بن صفوان ويقال محمد بن صيفي" أما حديث جابر فأخرجه الترمذي في باب الذبح بالمروة وأخرجه أيضاً ابن حبان(5/491)
وهذا حديثٌ حسنٌ صحيحٌ. والعملُ على هذَا عِنْدَ أكْثَرِ أهْلِ الْعِلْمِ لا يَرَوْنَ بَأَكْلِ اْلأَرْنَبِ بَأْساً. وقد كَرِهَ بَعْضُ أهلِ الْعِلْمِ أكْلَ الأَرْنَبِ وقالُوا: إنّهَا تُدْمى.
ـــــــ
والبيهقي، وأما حديث عمار فلينظر من أخرجه، وأما حديث محمد بن صفوان فأخرجه أحمد وأبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجه وابن حبان والحاكم عنه أنه صاد أرنبين فذبحهما بمروتين فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأمره بأكلهما، كذا في المنتقى والنيل. وقال الحافظ في التلخيص بعد ذكر حديث محمد بن صفوان هذا: وفي رواية محمد بن صيفي، قال الدارقطني: من قال محمد بن صيفي فقد وهم.
قوله: "هذا حديث حسن صحيح" أخرجه الجماعة كما في المنتقى.
قوله: "والعمل على هذا عند أكثر أهل العلم لا يرون بأكل الأرنب بأساً" قال النووي في شرح مسلم: أكل الأرنب حلال عند مالك وأبي حنيفة والشافعي وأحمد والعلماء كافة إلا ما حكى عن عبد الله بن عمرو بن العاص وابن أبي ليلى أنهما كرهاها، دليل الجمهور هذا الحديث يعني حديث الباب مع أحاديث مثله ولم يثبت في النهي عنها شيء انتهى "وقد كره بعض أهل العلم الخ" كعبد الله بن عمرو من الصحابة وعكرمة من التابعين ومحمد بن أبي ليلى من الفقهاء واحتجوا بحديث خزيمة بن جزء: قلت يا رسول الله ما تقول في الأرنب؟ قال "لا آكله ولا أحرمه" ، قلت: فإن آكل ما لا تحرمه ولم يا رسول الله؟ قال: "نبئت أنها تدمي" . قال الحافظ: وسنده ضعيف، ولو صح لم يكن فيه دلالة على الكراهة وله شاهد عن عبد الله بن عمرو بلفظ: جيء بها إلى النبي صلى الله عليه وسلم فلم يأكلها ولم ينه عنها وزعم أنها تحيض، أخرجه أبو داود وله شواهد عن عمر عند إسحاق بن راهويه في مسنده انتهى.
قلت: حديث عبد الله بن عمرو في سنده خالد بن الحويرث، قال الحافظ في تهذيب التهذيب في ترجمته: قال عثمان بن سعيد الدارمي سألت يحيى بن معين عنه فقال لا أعرفه. وقال ابن عدي: إذا كان يحيى لا يعرفه فلا يكون له شهرة ولا يعرف،(5/492)
ـــــــ
وذكره ابن حبان في الثقات انتهى. وفي سنده أيضاً محمد ابنه وهو مستور كما صرح بت الحافظ في التقريب وتهذيب التهذيب. وأما حديث عمر فقال الحافظ في باب الضب بعد ذكره سنده: حسن(5/493)
باب ماجاء في أكل الضب
...
3ـ باب ما جاءَ في أكْلِ الضّب
1850ـ حدثنا قُتَيْبَةُ، حدثنا مَالِكُ بنُ أَنَسٍ عن عَبْدِ الله بنِ دِينَارٍ عن ابنِ عُمَرَ "أنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم سُئِلَ عن أكْلِ الضّبّ، فقالَ: "لاَ آكُلُهُ ولاَ أُحَرّمُهُ" .
ـــــــ
"باب في أكْلِ الضّب"
قال الحافظ: هو دويبة تشبه الجرذون لكنه أكبر منه ويكنى أبا حسل ويقال للأنثى ضبة، ويقال إن لأصل ذكر الضب فرعين، ولهذا يقال له ذكران، وذكر ابن خالويه أن الضب يعيش سبعمائة سنة وأنه لا يشرب الماء ويبول في كل أربعين يوماً قطرة ولا يسقط له سن، ويقال بل أسنانه قطعة واحدة. وحكى غيره أن أكل لحمه يذهب العطش، ومن الأمثال لا أفعل كذا حتى يرد الضب، بقوله من أراد أن لا يفعل الشيء لأن الضب لا يرد بل يكتفي بالنسيم وبرد الهواء ولا يخرج من جحره في الشتاء انتهى. ويقال له بالفارسية سوسمار وبالهندية كوه
قوله: "لا آكله ولا أحرمه" فيه جواز أكل الضب. قال النووي: أجمع المسلمون على أن أكل الضب حلال ليس بمكروه إلا ما حكي عن أصحاب أبي حنيفة من كراهته، وإلا ما حكاه القاضي عياض عن قوم أنهم قالوا هو حرام، وما أظنه يصح عند أحد. وإن صح عن أحد فمحجوج بالنصوص وإجماع من قبله انتهى.
فإن قلت: لما لم يكن الضب حراماً فما سبب عدم أكله صلى الله عليه وسلم:
قلت: روى البخاري في صحيحه عن عبد الله بن عباس عن خالد بن الوليد: أنه دخل مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بيت ميمونة فأتى بضب محنوذ فأهوى(5/493)
قال وفي البابِ عن عُمَرَ وأبي سَعِيدٍ وابنِ عَبّاسٍ وثَابِتِ بنِ وَدِيعَة وجَابِرٍ وَعَبْدِ الرحمنِ بنِ حَسَنَةَ.
ـــــــ
إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم بيده، فقال بعض النسوة أخبروا رسول الله صلى الله عليه وسلم بما يريد أن يأكل، فقالوا: هو ضب يا رسول الله، فرفع يده، فقلت: أحرام هو يا رسول الله؟ قال: "لا ولكن لم يكن بأرض قومي فأجدني أعافه" ، قال خالد: فاجتررته فأكلته ورسول الله صلى الله عليه وسلم ينظر. قال الحافظ قوله: فأجدني أعافه أي أكره أكله. ووقع في رواية سعيد بن جبير: فتركهن النبي صلى الله عليه وسلم كالمتقذر لهن، ولو كن حراماً لما أكلن على مائدة النبي صلى الله عليه وسلم ولما أمر بأكلهن، كذا أطلق الأمر، وكأنه تلقاه من الإذن المستفاد من التقرير، فإنه لم يقع في شيء من طرق حديث ابن عباس بصيغة الأمر إلا في رواية يزيد بن الأصم عند مسلم فإنها فيها: فقال لهم كلوا، فأكل الفضل وخالد والمرأة، وكذا في رواته الشعبي عن ابن عمر: فقال النبي صلى الله عليه وسلم "كلوا وأطعموا فإنه حلال أو قال لا بأس به ولكنه ليس طعامي" . وفي هذا كله بيان سبب ترك النبي صلى الله عليه وسلم وأنه بسبب أنه ما اعتاده. وقد ورد لذلك سبب آخر أخرجه مالك من مرسل سليمان بن يسار فذكر معنى حديث ابن عباس وفي آخره: فقال النبي صلى الله عليه وسلم: " كلا" ، يعني لخالد وابن عباس "فإنني يحضرني من الله حاضرة" . قال المازري: يعني الملائكة، وكان للحم الضب ريحاً فترك أكله لأجل ريحه كما ترك أكل الثوم مع كونه حلالاً. قال الحافظ: وهذا إن صح يمكن ضمه إلى الأول ويكون لتركه الأكل من الضب سبيان انتهى.
قوله: "وفي الباب عن عمر وأبي سعيد وابن عباس وثابت بن وديعه وجابر وعبد الرحمن بن حسنة" أما حديث عمر فأخرجه مسلم وابن ماجه عن جابر أن عمر بن الخطاب قال في الضب إن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يحرمه، وأن عمر قال إن الله لينفع به غير واحد، وإنما طعام عامة الرعاء منه، ولو كان عندي طعمته. وأما حديث أبي سعيد فأخرجه أحمد ومسلم وابن ماجه عنه قال رجل يا رسول الله إنا بأرض مضبة فما تأمرنا؟ قال: ذكر لي أن أمة من بني إسرائيل مسحت فلم يأمر ولم ينه. وأما حديث ابن عباس فأخرجه الشيخان عنه قال:(5/494)
هذا حديثٌ حسنٌ صحيحٌ.
وقد اختلَفَ أهْلُ العِلْمِ في أكْلِ الضّبّ، فَرَخّصَ فيهِ بَعْضُ أهْلِ الْعِلْمِ مِنْ أَصْحَابِ النبيّ صلى الله عليه وسلم وغَيْرِهِمْ وكَرِهَهُ بَعْضُهُمْ. ويُرْوَى
ـــــــ
أهدت خالتي أم حفيد إلى النبي صلى الله عليه وسلم أقطاً وسمناً وأضباً،. فأكل من الأقط والسمن وترك الأضب تقذراً. قال ابن عباس: فأكل على مائدته، ولو كان حراماً لما أكل على مائدة رسول الله صلى الله عليه وسلم كذا في نصب الراية. وأما حديث ثابت بن وديعة فأخرجه أبو داود والنسائي عنه قال: كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في جيش فأصبنا ضباباً قال فشويت منها ضباً فأتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فوضعته بين يديه، قال فأخذ عوداً فعد به أصابعه ثم قال: "إن أمة من بني إسرائيل مسخت دواباً في الأرض وإني لا أدري أي الدواب هي" ، قال: فلم يأكل ولم ينه. قال الحافظ: وسنده صحيح. وأما حديث جابر فأخرجه مسلم عنه قال: أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم بضب فأبى أن يأكل منه وقال "لا أدري لعله من القرون التي مسخت" . وروى ابن ماجه عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يحرم الضب ولكن قذره وإنه طعام عامة الرعاء وإن الله عز وجل لينفع به غير واحد ولو كان عندي لأكلته. وأما حديث عبد الرحمن بن حسنة فأخرجه أحمد وأبو داود وابن حبان والطحاوي عنه قال: نزلنا أرضاً كثيرة الضباب الحديث وفيه أنهم طبخوا منها، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "إن أمة من بني إسرائيل مسخت دواب في الأرض فأخشى أن تكون هذه فاكفئوها" . قال الحافظ: وسنده على شرط الشيخين إلا الضحاك فلم يخرجا له انتهى.
قوله: "هذا حديث حسن صحيح" وأخرجه الشيخان "وقد اختلف أهل العلم في أكل الضب فرخص فيه بعض أهل العلم من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وغيرهم" وهو قول الجمهور، وهو الراجح المعول عليه. وقد استدلوا على ذلك بأحاديث تدل على إباحة أكله، فمنها حديث ابن عمر المذكور في الباب، ومنها أحاديث ابن عباس وعمر وجابر التي أشار إليها الترمذي وذكرنا ألفاظها، ومنها حديث خالد بن الوليد وقد تقدم لفظه، ومنها حديث ابن عمر أخرجه البخاري(5/495)
عن ابنِ عَبّاسٍ أنّهُ قالَ: "أُكِلَ الضبّ على مَائِدَةِ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم، وإنّمَا تَرَكَهُ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم تَقَذّراً".
ـــــــ
ومسلم عنه قال: كان ناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم فيه سعد فذهبوا يأكلون من لحم، فنادتهم امرأة من بعض أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم أنه لحم ضب فأمسكوا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "كلوا واطعموا فإنه حلال" ، أو قال "لا بأس به ولكنه ليس من طعامي" ، كذا في نصب الراية.
ومنها حديث يزيد بن الأصم أخرجه مسلم والطحاوي عنه قال: دعانا عروس بالمدينة فقرب إلينا ثلاثة عشر ضباً فآكل وتارك، فلقيت ابن عباس من الغد فأخبرته فأكثر القوم حوله حتى قال بعضهم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "لا آكله ولا أنهى عنه ولا أحرمه" ، فقال ابن عباس: بئسما قلتم ما بعث نبي الله صلى الله عليه وسلم إلا محللاً ومحرماً، إن رسول الله صلى الله عليه وسلم بينما هو عند ميمونة وعنده الفضل بن عباس وخالد بن الوليد وامرأة أخرى إذ قرب إليهم خوان عليه لحم، فلما أراد النبي صلى الله عليه وسلم أن يأكل قالت له ميمونة إنه لحم ضب فكيف يده وقال: "هذا لحم لم آكله قط وقال لهم كلوا" ، فأكل منه الفضل وخالد بن الوليد والمرأة، وقالت ميمونة لا آكل من شيء إلا شيء يأكل منه رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ومنها حديث سليمان بن يسار المرسل وقد تقدم.
ومنها حديث أبي هريرة أخرجه الطحاوي عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم أتى بصحفة فيها ضباب، فقال كلوا فإني عائفه.
ومنها حديث خزيمة بن جزء أخرجه ابن ماجه قال: قلت: يا رسول الله جئتك لأسألك عن أحناش الأرض ما تقول في الضب؟ قال لا آكله ولا أحرمه، قال: قلت فإني آكل مما لم تحرم، ولم يا رسول الله؟ قال: فقدت أمة من الأمم ورأيت خلقاً رابني "وكرهه بعضهم" قال الطحاوي في شرح الآثار: وقد كره قوم أكل الضب منهم أبو حنيفة وأبو يوسف ومحمد رحمة الله عليهم أجمعين. واحتج لهم محمد بن الحسن بحديث عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم أهدى له ضب(5/496)
ـــــــ
فلم يأكله، فقام عليهم سائل فأرادت عائشة رضي الله عنها أن تعطيه، فقال لها النبي صلى الله عليه وسلم: "أتعطيه ما لا تأكلين" ؟ قال محمد: فقد دل ذلك على أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كره لنفسه ولغيره أكل الضب، قال فبذلك نأخذ.
قال الطحاوي: ما في هذا دليل على الكراهة، قد يجوز أن يكون كره لها أن تطعمه السائل لأنها إنما فعلت ذلك من أجل أنها عافته ولولا أنها عافته لما أطعمته إياه، وكان ما تطعمه السائل فإنما هو لله تعالى، فأراد النبي صلى الله عليه وسلم أن لا يكون ما يتقرب به إلى الله عز وجل إلا من خير الطعام، كما قد نهى أن يتصدق بالبسر الرديء والتمر الرديء. قال فلهذا المعنى الذي كره رسول الله صلى الله عليه وسلم لعائشة رضي الله تعالى عنها الصدقة بالضب لا لأن أكله حرام انتهى.
واستدل لهم أيضاً بحديث ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "وددت أن عندي خبرة بيضاء من برة سمراء ملبقة بسمن ولبن" ، فقام رجل من القوم فاتخذه فجاء به، فقال: "في أي شيء كان هذا" ؟ قال: في عكة ضب، قال: "ارفعه" ، أخرجه أبو داود وابن ماجه.
وأجيب عنه بأن أبا داود قال بعد روايته: هذا حديث منكر على أنه ليس في هذا الحديث دلالة على تحريم أكل الضب أو على كراهته. قال الطيبي: إنما أمر برفعه لتنفر طبعه عن الضب لأنه لم يكن بأرض قومه، كما دل عليه حديث خالد، لا لنجاسة جلده وإلا لأمره بطرحه ونهاه عن تناوله.
واستدل لهم أيضاً بحديث عبد الرحمن بن حسنة نزلنا أرضاً كثيرة الضباب الحديث، وفيه أنهم طبخوا منها، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "إن أمة من بني إسرائيل مسخت دواب في الأرض فأخشى أن تكون هذه فأفئوها" ، وبحديث عبد الرحمن بن شبل أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن أكل لحم الضب. أخرجه أبو داود.
وأجيب عن ذلك بأن علة الأمر بالإكفاء والنهي عن الأكل إنما هي خشيته صلى الله عليه وسلم أن تكون الضباب من الأمة الممسوخة وعدم علمه بأن الأمة الممسوخة لا يكون لها نسل ولا عقب، فلما علم صلى الله عليه وسلم أن الله عز وجل لم يهلك قوماً أو يمسخ قوماً فيجعل لهم نسلاً ولا عاقبة ارتفعت العلة، ومن(5/497)
ـــــــ
المعلوم أنه إذا ارتفعت العلة يرتفع المعلول، على أن هذين الحديثين لا يقاومان الأحاديث الصحيحة المتقدمة التي تدل صراحة على إباحة أكل الضب. وقال الحافظ في الفتح بعد ذكر هذين الحديثين والأحاديث الماضية وإن دلت على الحل تصريحاً وتلويحاً نصاً وتقريراً فالجمع بينها وبين هذا حمل النهي فيه على أول الحال عند تجويز أن يكون مما مسخ وحينئذ أمر بإكفاء القدور ثم توقف فلم يأمر به ولم ينه عنه، وحمل الإذن فيه على ثاني الحال لما علم أن الممسوخ لا نسل له، ثم بعد ذلك كان يستقذره فلا يأكله ولا يحرمه وأكل على مائدته، فدل على الإباحة وتكون الكراهة للتنزيه في حق من يتقذره. وتحمل الإباحة على من لا يتقذره ولا يلزم، من ذلك أنه يكره مطلقاً انتهى "ويروى عن ابن عباس أنه قال: أكل الضب الخ" رواه البخاري ومسلم وتقدم لفظه(5/498)
باب ماجاء في أكل الضبع
...
4ـ باب ما جَاءَ في أكْلِ الضّبُع
1851 ـ حدثنا أحمدُ بنُ مَنِيعٍ، حدثنا إسماعيلُ بنُ إبراهيمَ، أخبرنا ابنُ جُرَيْجٍ عن عَبْدِ الله بنِ عُبَيْدِ بنِ عُمَيْرٍ عن ابنِ أبي عَمّارٍ، قالَ: قُلْتُ
ـــــــ
"باب ما جَاءَ في أكْلِ الضّبُع"
بفتح الضاد المعجمة وضم الباء الموحدة: حيوان معروف يقال له بالفارسية كفتار وبالهندية بجو بكسر الجيم الموحدة وضم الجيم المشددة كما في نفائس اللغات ومخزن الأدوية وغيرهما، وقيل هو بالهندية هندار كما في غياث اللغات والأول هو الظاهر لأن الضبع معروف بنبش القبور، والحيوان الذي يقال له بالهندية هندار لم يعرف بنبش القبور قال في النيل: ومن عجب أمره أنه يكون سنة ذكراً وسنة أنثى فيلقح في حال الذكورة ويلد في حال الأنوثة وهو مولع بنبش القبور لشهوته للحوم بني آدم انتهى.
قوله: "عن عبد الله بن عبيد" بالتصغير "بن عمير بالتصغير أيضاً الليثي المكي ثقة من الثالثة، استشهد غازياً سنة ثلاث عشرة ومائة "عن ابن أبي عمار" هو عبد الرحمن بن عبد الله بن أبي عمار بفتح العين وتشديد الميم المكي حليف بني جميع الملقب بالقس ثقة عابد من الثالثة.(5/498)
لِجَابِرٍ: "الضّبُعُ صَيْدٌ هِيَ؟ قالَ: نَعَمْ، قال قُلْتُ آكُلُهَا؟ قالَ نَعَمْ، قال قلت: أقَالَهُ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم؟ قالَ: نَعَمْ".
هذا حديثٌ حسنٌ صحيحٌ.
وقد ذَهَبَ بَعْضُ أهلِ الْعِلْمِ إلى هذا وَلَمْ يَرَوْا بِأَكْلِ الضّبُعِ بَأْساً، وهُوَ قَوْلُ أحمدَ وإسحاقَ. ورُوِيَ عن النبيّ صلى الله عليه وسلم حَدِيثٌ في كَرَاهِيَةِ أكْلِ الضّبُعِ وَلَيْسَ إسْنَادُهُ بالْقَوِيّ. وقد كَرِهَ بَعْضُ أهلِ الْعِلْمِ أكْلَ الضّبُعِ، وهُوَ قَوْلُ ابنِ المُبَارَكِ. قال يَحْيَى بن القَطّانِ: وَرَوَى جَرِيرُ بنُ حَازِمٍ هذا الحدِيثَ عن عَبْدِ الله بنِ عُبَيْدِ بنِ عُمَيْرٍ عن ابنِ أبي عَمّارٍ عن جَابِرٍ عن عُمَرَ قَوْلَهُ. وحَدِيثُ ابنِ جُرَيْجٍ أصَحّ.
ـــــــ
قوله: "الضبع أصيد هي قال نعم" زاد في رواية أبي داود ويجعل فيه كبش إذا صاده المحرم "قلت آكلها" بصيغة المتكلم "قال نعم" فيه دليل على أن الضبع حلال وبه قال الشافعي وأحمد.
قوله: "هذا حديث حسن صحيح" أخرجه النسائي والشعبي وابن ماجه وابن حبان في صحيحه والبيهقي وقال الترمذي في علله: قال البخاري حديث صحيح انتهى. وقال الحافظ في التلخيص: وصححه البخاري والترمذي وابن حبان وابن خزيمة والبيهقي، وأعله ابن عبد البر بعبد الرحمن بن أبي عمار فوهم لأنه وثقه أبو زراعة والنسائي ولم يتكلم فيه أحد ثم إنه لم ينفرد به انتهى وقد ذهب بعض أهل العلم إلى هذا ولم يروا بأساً بأكل الضبع "وهو قول أحمد وإسحاق" وهو قول الشافعي، قال الشافعي: ما زال الناس يأكلونها ويبيعونها بين الصفا والمروة من غير نكير، ولأن العرب تسطييه وتمدحه انتهى "وروى عن النبي صلى الله عليه وسلم حديث في كراهية أكل الضبع الخ" وهو حديث خزيمة بن جزء الآتي بعد هذا "وقد كره بعض أهل العلم أكل الضبع وهو قول ابن المبارك" وهو قول أبي حنيفة ومالك، واستدل لهم بحديث خزيمة من جزء، وهو حديث ضعيف لا يصح(5/499)
1852ـ حدثنا هَنّادٌ، حدثنا أبو مُعَاوِيَةَ عن إسماعيلَ بنِ مُسْلِمٍ عن عَبْدِ الكَرِيمِ بن أبي المخارق أبي أُمَيّةَ عن حِبّانَ بنِ جَزْء عن أخِيهِ خُزَيْمَةَ بنِ جَزْءٍ
ـــــــ
الاحتجاج به كما ستقف عليه. واستدل لهم أيضاً بأنها سبع، وقد نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن كل ذي ناب من السباع، ويجاب بأن حديث الباب خاص فيقدم على حديث كل ذي ناب. قال الخطابي في المعالم: وقد اختلف الناس في أكل الضبع. فروى عن سعد بن أبي وقاص أنه كان يأكل الضبع، وروى عن ابن عباس إباحة لحم الضبع، وأباح أكلها عطاء والشافعي وأحمد وإسحاق وأبو ثور، وكرهه الثوري وأصحاب الرأي ومالك وروي ذلك عن سعيد بن المسيب واحتجوا بأنها سبع وقد نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أكل كل ذي ناب من السباع. قال الخطابي: وقد يقوم دليل الخصوص فينزع الشيء من الجملة، وخبر جابر خاص وخبر تحريم السباع عام انتهى. وقال ابن رسلان: وقد قيل من الضبع ليس لها ناب وسمعت من يذكر أن جميع أسنانها عظم واحد كصفيحة نعل الفرس فعلى هذا لا يدخل في عموم النهي انتهى "وحديث ابن جريج" أي المرفوع المذكور في الباب "أصح" فإن ابن جريج قد تابعه على رفعه إسماعيل بن أمية عند ابن ماجه، وأما جرير بن حازم فلم يتابعه أحد على وقفه.
قوله: "حدثنا أبو معاوية" اسمه محمد بن خاذم الضرير الكوفي "عن إسماعيل بن مسلم" هو المكي أبو إسحاق البصري "عن حبان" بكسر الحاء المهملة "بن جزء" بفتح الجيم بعدها زاي ثم همزة صدوق من الثالثة قاله في التقريب وقال في تهذيب التهذيب في ترجمته أخرج له الترمذي وابن ماجه حديثاً واحداً في السؤال عن الضب والأرنب والضبع والذئب وضعف إسناده الترمذي انتهى "عن أخيه خزيمة بن جزء" صحابي لم يصح الإسناد إليه قاله في التقريب. قاتل في تهذيب التهذيب في ترجمته: روى عن النبي صلى الله عليه وسلم وعنه أخواه خالد وحبان. قال أبو منصور البارودي لم يثبت حديثه لأنه من حديث عبد الكريم أبي أمية. وقال البخاري في التاريخ لما ذكر حديثه في الحشرات: فيه نظر. وقال البغوي: ولا أعلم له غيره. وقال الأزدي لا يحفظ. روى عنه إلا "حبان" ولا يحفظ له غير هذا الحديث، قال وفي إسناده نظر انتهى.(5/500)
قالَ "سألَتُ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم عن أكْلِ الضّبُع قال: "أو يَأْكُلُ الضّبُعَ أحَد" ٌ؟ وسَأَلْتُهُ عَنْ الذّئْبِ ققال: "أو يَأْكُلُ الذّئْبَ أحَدٌ فيهِ خَيْر ٌ " ؟".
هذا حديثٌ لَيْسَ إسْنَادُهُ بالقَوِيّ لاَ نَعْرِفُهُ إلاّ مِنْ حَدِيثِ إسماعيلَ بنِ مُسْلِمٍ عن عَبْدِ الكَرِيمِ أبي أُمَيّةَ، وقد تكلم بعض أهل الحديث في إسماعيل وعبد الكريم أبي أمية وهُوَ عَبْدُ الكَرِيمِ بنُ قَيْسٍ بنُ أبي المُخَارِقِ، وَعَبْدُ الكَرِيمِ بنُ مَالِكٍ الْجَزَرِيّ ثِقَةٌ.
ـــــــ
قوله: "سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أكل الضبع فقال: ويأكل الضبع أحد؟" بتقدير همزة الاستفهام الإنكاري، وفي المشكاة: أو يأكل الضبع أحد؟ في رواية ابن ماجه ومن يأكل الضبع "وسألته عن أكل الذئب" بالهمز ويبدل "ويأكل" وفي المشكاة أو يأكل أي أجهلت حكمه ويأكل "الذئب أحد فيه خبر" أي صلاح وتقوى، صفة أحد واستدل بهذا الحديث من قال بحرمته الضبع، والحديث ضعيف لا يصلح للاحتجاج.
قوله: "هذا حديث ليس إسناده بالقوي لا نعرفه إلا من حديث إسماعيل بن مسلم عن عبد الكريم أبي أمية، وقد تكلم بعض أهل الحديث في إسماعيل وعبد الكريم أبي أمية" قال الزيلعي في نصب الراية بعد نقل كلام الترمذي هذا، وضعفه ابن حزم بأن إسماعيل بن مسلم ضعيف وابن المخارق ساقط وحبان بن جزء مجهول انتهى. وقال الحافظ في التقريب: إسماعيل بن مسلم المكي أبو إسحاق ضعيف الحديث وقال في التلخيص: وأما ما رواه الترمذي من حديث خزيمة بن جزء قال: أيأكل الضبع أحد فضعيف لاتفاقهم على ضعف عبد الكريم أبي أمية والراوي عنه إسماعيل بن مسلم انتهى "وهو عبد الكريم بن قيس هو بن أبي المخارق" قال في التقريب: عبد الكريم بن أبي المخارق بضم الميم وبالخاء المعجمة أبو أمية المعلم البصري نزيل مكة واسم أبيه قيس وقيل طارق ضعيف من السادسة. وقد شارك الجزري في بعض المشائخ فربما التبس به على من لا فهم له انتهى "وعبد الكريم(5/501)
ـــــــ
بن مالك الجزري ثقة" قال في التقريب: عبد الكريم بن مالك الجزري أبو سعيد مولى بني أمية وهو الخضرمي بالخاء والضاد المعجمتين نسبة إلى قرية من اليمامة ثقة متقن من السادسة انتهى.
تنبيه" قال القاري في المرقاة معترضاً على قول الترمذي: ليس إسناده بالقوي ما لفظه: وفيه أن الحسن أيضاً يستدل به على أن الجهاد المستند إليه سابقاً يدل على أن صحيحه في نفس الأمر وإن كان ضعيفاً بالنسبة إلى إسناد واحد من المحدثين، ويقويه رواية ابن ماجه لفظه: ومن يأكل الضبع، ويؤيده أن ذو ناب من السباع فأكله حرام، ومع تعارض الأدلة في التحريم والإباحة فالأحوط حرمته، وأما قوله عليه الصلاة والسلام: الضبع لست آكله ولا أحرمه كما رواه الشيخان وغيرهما فيفيد ما اختاره مالك من أنه يكره أكله، إذ المكروه عنده ما أثم آكله ولا يقطع بتحريمه، ومقتضى قواعد أثمننا أن أكله مكروه كراهة تحريم لا أنه حرام محض لعدم دليل قطعي مع اختلاف فقهي انتهى كلام القاري بلفظه.
قلت: في كلام القاري هذا أوهام وأغلاط، فأما قوله إن الحسن أيضاً يستدل به، ففيه أن لا شك أن الحديث الحسن يستدل به، لكن حديث خزيمة بن جزء هذا ليس بحسن بل هو ضعيف لا يصلح للاحتجاج كما عرفت. وأما قوله إن اجتهاد المستند إليه سابقاً يدل على أنه صحيح في نفس الأمر الخ ففاسد، وقد بينا فساده فيما سبق. وأما قوله ويقويه رواية ابن ماجه ولفظه: ومن يأكل الضبع. ففيه أن في رواية ابن ماجه أيضاً عبد الكريم فكيف تقويه. وأما قوله إنه ذو ناب من السباع فممنوع وسند المنع حديث جابر المذكور في الباب، ولو سلم أنه ذو ناب من السباع فحرمته ممنوعة لهذا الحديث. وأما قوله ومع تعارض الأدلة في التحريم والإباحة فالأحوط حرمته، ففيه أن هذا كان دليل الحرمة ودليل الإباحة كلاهما صحيحين، وأما إذا كان دليل الحرمة ضعيفاً ودليل الإباحة صحيحاً كما في ما نحن فيه فكون الحرمة أحوط ممنوع. وأما قوله إن قوله: عليه الصلاة والسلام الضبع لست آكله ولا أحرمه كما رواه الشيخان ولا غيرهما: الضبع لست آكله ولا أحرمه بل رووا الضب لست آكله ولا أحرمه والضب غير الضبع. قال الحافظ بن القيم في الإعلام:(5/502)
ـــــــ
وأما الضبع فروى عنه فيها حديث صححه كثير من أهل العلم بالحديث فذهبوا إليه وجعلوه مخصصاً لعموم أحاديث التحريم كما خصصت العرايا لأحاديث المزابنة، وطائفة لم تصححه وحرموا الضبع لأنها من جملة ذات الأنياب، وقالوا: وقد تواترت الآثار عن النبي صلى الله عليه وسلم بالنهي عن أكل كل ذي ناب من السباع وصحت صحة لا مطعن فيها من حديث علي وابن عباس وأبي هريرة وأبي ثعلبة الخشني قالوا: وأما حديث الضبع فتفرد به عبد الرحمن بن أبي عمارة، وأحاديث تحريم ذوات الأنياب كلها تخالفه.
قالوا: ولفظ الحديث يحتمل معنيين: أحدهما أن يكون جابر رفع الأكل إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأن يكون إنما رفع إليه كونها صيداً فقط، ولا يلزم من كونها صيداً جواز أكلها فظن جابر أن كونها صيداً يدل على أكلها فأفتى به من قوله، ورفع النبي صلى الله عليه وآله وسلم ما سمعه من كونها صيداً. فروى الترمذي عن عبد الرحمن بن أبي عمارة قال: قلت لجابر بن عبد الله آكل الضبع؟ قال نعم، قلت أصيد هي؟ قال نعم، قلت أسمعت ذلك من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم؟ قال نعم. وهذا يحتمل أن المرفوع منه هو كونها صيداً، ويدل على ذلك أن جرير بن حازم قال عن عبيد بن عمير عن ابن أبي عمارة عن جابر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه سئل عن الضبع فقال: "هي صيد وفيها كبش" .
قالوا: وكذلك حديث إبراهيم الصائغ عن عطاء عن جابر يرفعه: "الضبع صيد إذا أصابه المحرم ففيه جزاء كبش مسن ويؤكل" ، قال الحاكم: حديث صحيح، وقوله ويؤكل يحتمل الوقف والرفع، وإذا احتمل ذلك لم يعارض به الأحاديث الصحيحة الصريحة التي تبلغ مبلغ التواتر في التحريم.
قالوا: ولو كان حديث جابر صريحاً في الإباحة لكان فرداً، وأحاديث تحريم ذوات الأنياب مستفيضة متعددة، ادعى الطحاوي وغيره تواترها، فلا يقدم حديث جابر عليها.
قالوا: والضبع من أخبث الحيوان وأشرهه وهو مغري بأكل لحوم الناس ونبش القبور الأموات وإخراجهم وأكلهم ويأكل الجيف ويكسر بنابه.(5/503)
ـــــــ
قالوا: والله سبحانه قد حرم علينا الخبائث وحرم رسول الله صلى الله عليه وسلم ذوات الأنياب، والضبع لا يخرج عن هذا وهذا.
قالوا: وغاية حديث جابر يدل على أنها صيد يفدى في الإحرام ولا يلزم من ذلك أكلها، وقد قال بكر بن محمد: سئل أبو عبد الله يعني الإمام أحمد عن محرم قتل ثعلباً، فقال عليه الجزاء هي صيد ولكن لا يؤكل، وقال جعفر بن محمد: سمعت أبا عبد الله سئل عن الثعلب فقال: الثعلب سبع فقد نص على أنه سبع وأنه يفدي في الإحرام، ولما جعل النبي صلى الله عليه وسلم في الضبع كبشاً ظن جابر أنه يؤكل فأفتى به.
والذين صححوا الحديث جعلوه مخصصاً لعموم تحريم ذي الناب من غير فرق بينهما حتى قالوا: ويحرم أكل كل ذي ناب من السباع إلا الضبع، وهذا لا يقع مثله في الشريعة أن يخصص مثلاً على مثل من كل وجه من غير فرقان بينهما، وبحمد الله إلى ساعتي هذه ما رأيت في الشريعة مسألة واحدة كذلك أعني شريعة التنزيل لا شريعة التأويل ومن تأمل لفظه صلى الله عليه وسلم الكريمة تبين له اندفاع هذا السؤال فإنه إنما حرم ما اشتمل على الوصفين أن يكون له ناب وأن يكون من السباع العادية بطبعها كالأسد والذئب والنمر والفهد، وأما الضبع فإنما فيها أحد الوصفين وهو كونها ذات ناب وليست من السباع العادية ولا ريب أن السباع أخص من ذوات الأنياب، والسبع إنما حرم لما فيه من القوة السبعية التي تورث المغتذي بها شبهها، فإن الغاذي شبيه بالمغذي، ولا ريب أن القوة السبعية التي في الذئب والأسد والنمر والفهد ليست في الضبع حتى تجب التسوية بينهما في التحريم، ولا تعد الضبع من السباع لغة مرفوعاً انتهى ما في الأعلام.
قلت: في أقوال المحرمين التي نقلها الحافظ ابن القيم خدشات، أما قولهم إن حديث الضبع انفرد به عبد الرحمن بن أبي عمار ففيه أنه ثقة ولم يتفرد به قال الحافظ في التلخيص: وأعله ابن عبد البر بعبد الرحمن بن أبي عمار فوهم لأنه وثقه أبو زرعة والنسائي ولم يتكلم فيه أخذ ثم إنه لم ينفرد به انتهى. وقال في الفتح: وقد ورد في حل الضبع أحاديث لا بأس بها انتهى.
وأما قولهم: لفظ الحديث يحتمل معنيين أحدهما أن يكون جابر رفع الأكل إلى النبي صلى الله عليه وسلم وأن يكون إنما رفع إليه كونها صيداً فقط، ففيه أن(5/504)
ـــــــ
ظاهر الحديث يدل على أن جابراً رضي الله عنه رفع الأكل، وكونها صيداً كليهما إلى النبي صلى الله عليه وسلم، ويؤيده رواية أحمد بلفظ: سألت جابر بن عبد الله عن الضبع فقال حلال، فقلت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال نعم.
وأما قولهم: والضبع لا يخرج عن هذا وهذا، ففيه أن حديث جابر المذكور صحيح ثابت قابل للاحتجاج، فخورج الضبع عن هذا وهذا ظاهر، وللفريقين مقالات أخرى في ذكرها طول(5/505)
باب ماجاء في أكل لحوم الخيل
...
5ـ باب ما جَاء في أكْلِ لُحُومِ الْخَيْل
1853ـ حدثنا قُتَيْبَةُ وَنَصْرُ بنُ عليّ قالا حدثنا سُفْيَانُ عن عَمْرِو بنِ دِينَارٍ عن جَابِرٍ قالَ: "أطْعَمَنَا رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم لُحُومَ الْخَيْلِ وَنَهَانَا عن لُحُومِ الْحُمُرِ".
ـــــــ
"باب ما جَاء في أكْلِ لُحُومِ الْخَيْل"
قوله: "قالا حدثنا سفيان" هو ابن عيينة.
قوله: "أطعمنا رسول الله صلى الله عليه وسلم لحوم الخيل" وفي رواية البخاري: رخص في لحوم الخيل، وفي رواية مسلم: أذن بدل رخص، وفي حديث ابن عباس عند الدارقطني: أمر: قال الطحاوي في شرح الآثار: وذهب أبو حنيفة إلى كراهة أكل الخيل، وخالفه صاحباه وغيرهما، واحتجوا بالأخبار المتواترة في حلها، ولو كان ذلك مأخوذاً من طريق النظر لما كان بين الخيل والحمر الأهلية فرق، ولكن الآثار إذ صحت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وتواترت أولى أن يقال بها من النظر، ولا سيما إذا قد أخبر جابر أنه صلى الله عليه وسلم أباح لهم لحوم الخيل في الوقت الذي منعهم فيه من لحوم الحمر الأهلية، فدل ذلك على اختلاف حكمها انتهى كلام الطحاوي.
قلت: الأمر كما قال الطحاوي ولا شك أن القول بحل أكل لحوم الخيل من دون كراهة هو الحق لأحاديث الباب التي هي صحيحة صريحة في الحل، وهو قول(5/505)
ـــــــ
جمهور أهل العلم، وقد نقل الحل بعض التابعين عن الصحابة من غير استثناء أحد. فأخرجه ابن أبي شيبة بإسناد صحيح على شرط الشيخين عن عطاء قال: لم يزل سلفك يأكلونه، قال ابن جريج: قلت له أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فقال نعم، ذكره الحافظ في الفتح. قال النووي: اختلف العلماء في إباحة لحوم الخيل، فمذهب الشافعي الجمهور من السلف والخلف أنه مباح لا كراهة فيه، وبه قال عبد الله بن الزبير وفضالة بن عبيد وأنس بن مالك وأسماء بنت أبي بكر وسويد بن غفلة وعلقمة والأسود وعطاء وشريج وسعد بن جبير والحسن البصري وإبراهيم النخعي وحماد بن سلمان وأحمد وإسحاق وأبو يوسف ومحمد وداود وجماهير المحدثين وغيرهم، وكرهها طائفة منهم ابن عباس والحكم ومالك وأبو حنيفة، قال أبو حنيفة: يأثم بأكله ولا يسمى حراماً انتهى كلام النووي. وقال الحافظ: وصح الكراهة عن الحكم ابن عيينة ومالك وبعض الحنفية وعن بعض المالكية والحنيفة التحريم. وقال الفاكهي: المشهور عند المالكية الكراهة والصحيح عند المحققين منهم التحريم انتهى. وقال العيني في شرح البخاري في باب لحوم الخيل: قيل الكراهة عند أبي حنيفة كراهة تحريم وقيل كراهة تنزيه، وقال فخر الإسلام وأبو معين: هذا هو الصحيح، قال وأخذ أبو حنيفة في ذلك بقوله تعالى: {وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا} خرج مخرج الامتنان، والأكل من أعلى منافعها، والحكيم لا يترك الامتنان بأعلى النعم ويمتن بأدناها. قال: واحتج أيضاً بحديث أخرجه أبو داود عن خالد بن الوليد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن أكل لحوم الخيل والبغال والحمير. وأخرجه النسائي وابن ماجه والطحاوي، ولما رواه أبو داود سكت عنه، فسكوته دلالة رضاه به ويعارض حديث جابر والترجيح للمحرم انتهى. وقال العيني في غزوة خيبر مثل هذا وقال: سند حديث خالد جيد ولهذا لما أخرجه أبو داود سكت عنه فهو حسن عنده انتهى.
قلت: قول العيني: سند حديث خالد جيد ليس بجيد وليس ممّا يلتفت إليه، فإن مدار هذا الحديث على صالح بن يحيى بن يحيى بن المقدام بن معد يكرب، وصالح هذا قال البخاري: فيه نظر كما في تهذيب التهذيب، وقال ابن الهمام في التحرير: إذا قال البخاري للرجل فيه نظر فحديثه لا يحتج به ولا يستشهد به، ولا يصح للاعتبار انتهى. فحديث خالد هذا لا يصلح للاحتجاج ولا للاستشهاد ولا للاعتبار. وقد(5/506)
وفي البابِ عن أسْمَاءِ بِنْتِ أبِي بَكْرٍ.
ـــــــ
ضعفه أحمد والبخاري والدارقطني والخطابي وابن عبد البر وعبد الحق وآخرون فلا يصلح لمعارضة حديث جابر وغيره من أحاديث الباب. فإن قلت قال العيني: وصالح هذا وثقه ابن حبان وحديثه حسن عند أبي داود. فإذا كان كذلك صحت المعارضة فإذا تعارضا يرجح المحرم، قلت: توثيق ابن حبان صالحاً هذا وسكون أبي داود على حديثه لا يزن بشيء في جنب قول البخاري: فيه نظر، وتضعيف الأئمة المذكورين، ولذلك لم يسكت عنه المنذري في تلخيص السنن بل قال: قال أبو داود: هذا منسوخ وقال الإمام أحمد: هذا حديث منكر. وقال البخاري: صالح بن يحيى المقدام بن معد يكرب الكندي الشامي عن أبيه فيه نظر. وذكر الخطابي أن حديث جابر إسناده جيد. وأما حديث خالد بن الوليد ففي إسناده نظر، وصالح بن يحيى بن المقدام عن أبيه عن جده لا يعرف سماع بعضهم عن بعضهم. وقال موسى بن هارون الحافظ: لا يعرف صالح بن يحيى ولا أبوه إلا بجده. وقال الدارقطني: هذا حديث ضعيف. وقال الدارقطني أيضاً: هذا إسناد مضطرب. وقال الواقدي: لا يصح هذا لأن خالداً أسلم بعد فتح مكة. وقال البخاري: خالد لم يشهد خيبر. وكذلك قال الإمام أحمد بن حنبل لم يشهد خيبر إنما أسلم بعد الفتح. وقال أبو عمر النمري: ولا يصح لخالد بن الوليد مشهد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل الفتح. وقال البيهقي: إسناده مضطرب ومع اضطرابه مخالف لحديث الثقات انتهى. "ونهانا عن لحوم الحمر" أي الأهلية وسيأتي حكم الحمر الأهلية في الباب الذي بعده.
قوله: "وفي الباب عن أسماء بنت أبي بكر" أخرجه البخاري: قالت ذبحنا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فرساً ونحن بالمدينة فأكلناه. وأخرجه مسلم أيضاً. وفي الباب أيضاً عن ابن عباس، أخرجه الدارقطني بسند قوي ولفظه: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن لحوم الحمر الأهلية وأمر بلحوم الخيل. قاله الحافظ في الفتح.(5/507)
قال أبو عيسى: وهذا حديثٌ حسنٌ صحيحٌ. وهكذَا رَوَى غَيْرُ واحِدٍ عن عَمْرو بنِ دِينَارٍ عن جَابِرٍ. وَرَواه حَمّادُ بنُ زَيْدٍ عن عَمْرِو بنِ دِينَارٍ عن محمدِ بنِ عليّ عن جَابِرٍ، وَرِوَايَةُ ابنِ عُيَيْنَةَ أصَحّ. قال وَسَمِعْتُ محمداً يقولُ: سُفْيَانُ بنُ عُيَيْنَةَ أحْفَظُ مِنْ حَمّادِ بنِ زَيْدٍ.
ـــــــ
قوله: "هذا حديث حسن صحيح" وأخرجه البخاري ومسلم وأبو داود والنسائي.
قوله: "وروى حماد بن زيد عن عمرو بن دينار عن محمد بن علي عن جار" بإدخال محمد بن علي بين عمرو وجابر. ومحمد بن علي هذا هو محمد بن علي بن الحسين بن علي وهو الباقر أبو جعفر. وهذه الرواية أخرجها البخاري ومسلم وأخرجها النسائي وقال: لا أعلم أحداً وافق حماداً على ذلك. "ورواية بين عيينة أصح وسمعت محمداً يقول سفيان بن عيينة أحفظ من حماد بن زيد" لكن اقتصر البخاري ومسلم على تخريج طريق حماد بن زيد، وقد وافقه ابن جريج عن عمر وعلي إدخال الواسطة بين عمرو وجابر لكنه لم يسمه. أخرجه أبو داود من طريق ابن جريج. وله طريق أخرى عن جابر أخرجها مسلم من طريق ابن جريج وأبو داود من طريق حماد والنسائي من طريق حسين بن واقد، كلهم عن أبي الزبير عنه وأخرجه النسائي صحيحاً عن عطاء عن جابر أيضاً، وأغرب البيهقي فجزم بأن عمرو بن دينار لم يسمعه من جابر، واستغرب بعض الفقهاء دعوى الترمذي أن رواية ابن عيينة أصح مع إشارة البيهقي إلى أنها منقطعة وهو ذهول، فإن كلام الترمذي محمول على أنه صح عنده اتصاله، ولا يلزم من دعوى البيهقي انقطاعه كون الترمذي يقول بذلك، والحق أنه إن وجدت رواية فيها تصريح عمر بالسباع من جابر فتكون رواية حماد بن المزيد في متصل الأسانيد. وإلا فرواية حماد بن زيد هي المتصلة، وعلى تقدير وجود التعارض من كل جهة فللحديث طريق أخرى عن جابر غير هذه، فهو صحيح على كل حال قاله الحافظ(5/508)
باب ماجاء في لحوم الحمر الأهلية
...
6ـ باب ما جاءَ في لُحُومِ الْحُمُرِ الأَهْلِيّة
1854ـ حدثنا محمدُ بنُ بَشّارٍ حدثنا عَبْدُ الْوَهّابِ الثّقَفِيّ عن يَحْيَى بنِ سَعِيدٍ الأَنْصَارِيّ عن مَالِكِ بنِ أنَسٍ عن الزّهْرِيّ وحدثنا ابنُ أبي عُمَرَ حدثنا سُفْيَانُ بنُ عُيَيْنَةَ عن الزّهْرِيّ عن عَبْدِ الله وَ الْحَسَنِ ابْنَي محمدِ بنِ عَلِيّ عن أبِيهِمَا عن عَلِيّ قالَ: "نَهَى رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم عن مُتْعَةِ النّسَاءِ زَمَنَ خَيْبَرَ، وعَنْ لُحُومِ الْحُمُرِ الأَهْلِيّةِ".
ـــــــ
"باب ما جاءَ في لُحُومِ الْحُمُرِ الأَهْلِيّة"
أي غير الوحشية ويقال لها الحمر الإنسية والأنسية.
قوله: "عن عبد الله والحسن ابني محمد بن علي" أي ابن أبي طالب. ومحمد بن علي هذا هو الذي يعرف بابن الحنفية. وابنه عبد الله يكنى بأبي هاشم وثقه ابن سعد والنسائي والعجلي وابنه الحسن يكنى بأبي محمد ثقة فقيه "عن أبيهما" أي محمد بن علي المعروف بابن الحنفية الهاشمي أبي القاسم ثقة عالم من كبار التابعين "عن علي" أي ابن أبي طالب رضي الله عنه.
قوله: "نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن متعة النساء" يعني نكاح المتعة، وهو تزويج المرأة إلى أجل فإذا انقضى وقعت الفرقة "زمن خيبر" قد أبيحت متعة النكاح مراراً ثم حرمت إلى يوم القيامة وقد تقدم بيانه في كتاب النكاح "وعن لحوم الحمر الأهلية" فيه دليل على حرمة لحوم الحمر الأهلية، ويؤخذ من التقييد بالأهلية جواز أكل لحوم الحمر الوحشية. وقد تقدم صريحاً في حديث أبي قتادة في الحج، وقد جاء في حديث أنس عند البخاري بيان علة الحرمة ففيه. أن الله ورسوله ينهاكم عن لحوم الحمر الوحشية فإنها رجس. قال النووي: قال بتحريم الحمر الأهلية أكثر العلماء من الصحابة فمن بعدهم ولم نجد أحد من الصحابة في ذلك خلافاً لهم إلا عن ابن عباس. وعند المالكية ثلاث روايات ثالثها الكراهة.(5/509)
1855- حدثنا سَعِيدُ بنُ عَبْدِ الرّحْمَنِ الْمَخْزُومِيّ حدثنا سُفْيَانُ عَنْ الزّهْرِيّ عَنْ عَبْدِ الله والْحَسَنِ ابْنَي مُحَمّدِ بنِ علي قَالَ الزّهْرِيّ: وَكَانَ أرْضَاهُمَا الْحَسَنُ بنُ مُحَمّدٍ فذكر نحوه. وَقَالَ غَيْرُ سَعِيدِ بنِ عبدِ الرحمَنِ عَنْ ابنِ عُيَيْنَةَ وَكَانَ أرْضَاهُمَا عَبْدُ الله بنُ مُحَمّدٍ.
ـــــــ
وأما الحديث الذي أخرجه أبو داود عن غالب بن الحر قال: أصابتنا سنة فلم يكن في مالي ما أطعم أهلي إلا سمان حمر، فأتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت إنك حرمت لحوم الحمر الأهلية وقد أصابتنا سنة قال: "أطعم أهلك من سمين حمرك فإنما حرمتها من أجل حوالي القرية" يعني الجلالة وإسناده ضعيف، والمتن شاذ مخالف للأحاديث الصحيحة فالاعتماد عليها.
وأما الحديث الذي أخرجه الطبراني عن أم نصر المحاربية: أن رجلاً سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الحمر الأهلية، فقال: "أليس ترعى الكلأ وتأكل الشجر" ؟ قال: نعم، قال: "فأصب من لحومها" . وأخرجه ابن أبي شيبة من طريق رجل من بني مرة قال: سألت فذكر نحوه، ففي السندين مقال، ولو ثبت احتمل أن يكون قبل التحريم، كذا في الفتح. وحديث علي هذا أخرجه الشيخان، وأخرجه الترمذي أيضاً في باب نكاح المتعة من أبواب النكاح.
قوله: "قال الزهري وكان أرضاهما الحسن بن محمد" وذكر البخاري في التاريخ بلفظ: وكان الحسن أوثقهما "وقال غير سعيد بن عبد الرحمن عن ابن عيينة وكان أرضاهما عبد الله بن محمد" كذا عند الترمذي ولأحمد عن سفيان: وكان الحسن أرضاهما إلى أنفسنا، وكان عبد الله يتبع السبئية انتهى. والسبئية بمهملة ثم موحدة ينسبون إلى عبد الله بن سبا وهو من رؤساء الروافض. وكان المختار بن أبي عبيد على رأيه، ولما غالب على الكوفة وتتبع قتلة الحسين فقتلهم أحبته الشيعة ثم فارق أكثرهم لما ظهر منه من الأكاذيب. وكان من رأى السبئية موالاة محمد بن علي بن أبي طالب، وكانوا يزعمون أنه المهدي وأنه لا يموت حتى يخرج في آخر الزمان. ومنهم من أقر بموته، وزعم أن الأمر بعده صار إلى ابنه أبي هاشم هذا، ومات أبو هاشم في آخر ولاية سليمان بن عبد الملك سنة ثمان أو تسع وتسعين قاله الحافظ.(5/510)
1856ـ حدثنا أبُو كُرَيْبٍ حدثنا حُسَيْنُ بنُ عَلِيّ الجعفىّ عن زَائِدَةَ عَنْ مُحَمّدِ بنِ عَمْرِو عن أبِي سَلَمَةَ عن أبِي هُرَيْرَةَ: "أنّ رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم، حَرّمَ يَوْمَ خَيْبَرَ، كُلّ ذِي نَابٍ مِنَ السّبَاعِ وَالْمُجَثّمَة وَالْحِمَارِ الإنسي".
قال وفي البابِ عَنْ عَلِيّ وَجَابِرٍ وَالْبَرَاءِ وابنِ أبِي أوْفَى وَأَنَسٍ والعِرْبَاضِ بنِ سَارِيَةَ وأبي ثَعْلَبَةَ وَابنِ عُمَرَ وأبي سَعِيدٍ.
ـــــــ
قوله: "حدثنا حسين بن علي" بن الوليد الجعفي مولاهم الكوفي المقري ثقة عابد سنة ثلاث أو أربع ومائتين وله أربع أو خمس وثمانون سنة قال موسى بن داود. كنت عند ابن عيينة فجاء حسين الجعفي، فقام سفيان فقبل يده. وكان زائدة يختلف إليه إلى منزله يحدثه فكان أروى الناس عنه، وكان الثوري إذا رآه عانقه وقال: "هذا واهب جعف عن زائدة" هو ابن قدامة.
قوله: "حرم يوم خيبر كل ذي ناب من السباع" قال في شرح السنة: أراد بكل ذي ناب ما يعدو بنابه على الناس وأموالهم كالذئب والأسد والكلب ونحوها "والمجثمة" قال الجزري في النهاية: هي كل حيوان ينصب ويرمي ليقتل إلا أنها تكثر في الطير والأرانب وأشباه ذلك مما يجثم في الأرض أي يلزمها ويلتصق بها، وجثم في الطير جثوماً وهو بمنزلة البروك للإبل انتهى. "والحمار الإنسي" بكسر الهمزة وسكون النون منسوب إلى الأنس ويقال فيه الأنسي بفتحتين، وقد صرح الجوهري أن الأنس بفتحتين ضد الوحشة والمراد بالحمار الإنسي الحمار الأهلي.
قوله: "وفي الباب عن علي وجابر والبراء وابن أبي أوفى وأنس والعرباض، من سارية وأبي ثعلبة وابن عمر وأبي سعيد" أما حديث علي فأشار إلى غير حديثه الذي أخرجه في هذا الباب ولم أقف عليه فلينظر من أخرجه. وأما حديث جابر فقد تقدم تخريجه في الباب المتقدم. وأما حديث البراء فأخرجه الشيخان. وأما حديث ابن أبي أوفى أخرجه أيضاً الشيخان. وأما حديث أنس فأخرجه أيضاً الشيخان. وأما حديث العرباض بن سارية فأخرجه الترمذي في باب كراهية أكل(5/511)
قال أبو سعيط هذا حديثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ.
وَرَوَى عَبْدُ الْعَزِيزِ بنُ مُحَمّدٍ وَغَيْرُهُ عَنْ مُحَمّدِ بنِ عُمَرَو. هَذَا الْحَدِيث وَإِنّمَا ذَكَرُوا حَرْفاً وَاحِداً: "نَهَى رسولُ الله صلى الله عليه وسلم عن كلّ ذِي نَابٍ مِنَ السّبَاعِ".
ـــــــ
المصبورة. وأما حديث أبي ثعلبة فأخرجه الشيخان. وأما حديث ابن عمر فأخرجه الشيخان أيضاً وأما حديث أبي سعيد فلينظر من أخرجه.
قوله: "هذا حديث حسن صحيح" وأخرجه أحمد.
قوله: "وإنما ذكروا حرفاً واحداً" أي جملة واحدة "نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن كل ذي ناب من السباع" بيان لقوله حرفاً واحداً يعني اقتصروا على هذه الجملة ولم يذكروا النهي عن المجثمة والحمار الإنسي(5/512)
باب ماجاء في الأكل في أنية الكفار
...
7ـ باب ما جاءَ في الأَكْلِ في آنِيَةِ الْكُفّار
1857ـ حدثنا زَيْدُ بنُ أخْزَمَ الطّائِيّ حدثنا سَلْمُ بنُ قُتَيْبَة حدثنا شُعْبَةُ عن أيّوبَ عن أبِي قِلاَبَةَ عَنْ أبي ثَعْلَبَةَ قالَ: سُئِلَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم عن قُدُورِ الْمَجُوسِ فقَالَ: "أنْقُوهَا غَسْلاً وَاطْبُخُوا فِيهَا" وَنَهَى
ـــــــ
"باب ما جاءَ في الأَكْلِ في آنِيَةِ الْكُفّار"
قوله: "حدثنا زيد بن أخزم" بمعجمتين "الطائي" النبهاني أبو طالب البصري ثقة حافظ من الحادية عشرة "حدثنا سلم بن قتيبة" بفتح السين المهملة وسكون اللام الشعيري أبو قتيبة الخراساني نزيل البصرة صدوق من التاسعة، كذا في التقريب. ووقع في النسخة الأحمدية: مسلم بن قتيبة بالميم وهو غلط "عن أبي قلابة" قال الحافظ في تهذيب التهذيب: أبو قلابة لم يدرك أبا ثعلبة الخشني انتهى. ففي هذا الإسناد انقطاع "عن أبي ثعلبة" الخشني صحابي مشهور بكنيته. واختلف في اسمه اختلافاً كثيراً.
قوله: "سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن قدور المجوس" القدور جمع(5/512)
ـــــــ
قدر قال في القاموس: القدر بالكسر معروف، وقال في الصراح: بقدر بالكسر ديك وهي مؤنث وتصغيرها قدير بغير هاء على خلاف قياس انتهى. "أنقوها" من الإنقاء "غسلاً" أي بالغسل "واطبخوا" الطبخ الإنضاج اشتواء واقتداراً طبخ كنصر ومنع قاله في القاموس "فيها" أي في قدور المجوس.
إعلم أن البخاري رح عقد باباً بلفظ: باب آنية المجوس والميتة. وأورد فيه حديث أبي ثعلبة وفيه: أما ما ذكرت أنكم بأرض أهل الكتاب فلا تأكلوا في آنيتهم إلا أن لا تجدوا بداً فإن لم تجدوا فاغسلوا وكلوا. قال الحافظ قال ابن التين كذا ترجم وأتى بحديث أبي ثعلبة وفيه ذكر أهل الكتاب فلعله يرى أنهم أهل كتاب. وقال ابن المنير: ترجم للمجوس والأحاديث في أهل الكتاب لأنه بنى على أن المحذور من ذلك واحد وهو عدم توقيهم النجاسات. وقال الكرماني أو حكمه على أحدها بالقياس على الآخر، وباعتبار أن المجوس يزعمون أنهم أهل كتاب. قال الحافظ وأحسن من ذلك أنه أشار إلى ما ورد في بعض طرق الحديث منصوصاً على المجوس، فعند الترمذي من طريق أخرى عن أبي ثعلبة: سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن قدور المجوس فقال أنقوها غسلاً واطبخوا فيها. وفي لفظ من وجه آخر عن أبي ثعلبة قلت: إنا نمر بهذا اليهود والنصارى والمجوس فلا نجد غير آنيتهم الحديث. وهذه طريقة يكثر منها البخاري فما كان في سنده مقال يترجم به ثم يورد في الباب ما يؤخذ الحكم منه بطريق الإلحاق ونحوه. والحكم في آنمية المجوس لا يختلف مع الحكم في آنية أهل الكتاب لأن العلة إن كانت لكونهم تحل ذبائحهم كأهل الكتاب فلا إشكال أو لا تحل فتكون الاَنية التي يطبخون فيها ذبائحهم ويغرفون قد تنجست بملاقاة الميتة. فأهل الكتاب كذلك باعتبار أنهم لا يتدينون باجتناب النجاسة، وبأنهم يطبخون فيها الخنزير ويضعون فيها الخنزير ويضعون فيها الخمر وغيرها ويؤيد الثاني ما أخرجه أبو داود والبزار عن جابر: كنا نغزو مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فنصيب من آنية المشركين فنستمع بها فلا يعيب ذلك علينا. لفظ أبي داود في رواية البزار: فنغسلها ونأكل فيها انتهى. قال النووي قد يقال هذا الحديث مخالف لما يقول الفقهاء فإنهم يقولون إنه يجوز استعمال أواني المشركين إذا غسلت ولا كراهة فيها بعد الغسل سواء وجد غيرها أم لا. وهذا الحديث يقتضي كراهة استعمالها إن وجد غيرها ولا يكفي غسلها في نفي الكراهة وإنما يغسلها ويستعملها إذا لم يجد(5/513)
عن كُلّ سَبُعٍ ذِي نَابٍ".
هذا حديثٌ مَشْهُورٌ مِنْ حَدِيثِ أبي ثَعْلَبَةَ، وَرُوِيَ عَنْهُ مِنْ غَيْرِ هذا الوَجْهِ. وأبُو ثَعْلَبَةَ اسْمُهُ جرثوب ويُقَالُ جُرْهُمُ وَيُقَالُ نَاشِبٌ. وقَدْ ذُكِرَ هَذا الْحَدِيثُ عن أبي قِلاَبَةَ عن أبي أسْمَاءَ الرّحَبِيّ عن أبي ثَعْلَبَةَ.
ـــــــ
غيرها. والجواب أن المراد النهي عن الأكل في آنيتهم التي كانوا فيها لحم الخنزير ويشربون كما صرح به في رواية أبي داود: وإنما نهى عن الأكل فيها بعد الغسل للاستقذار وكونها معتادة للنجاسة. كما يكره الأكل في المحجمة المغسولة، وأما الفقهاء فمرادهم مطلق آنية الكفار التي ليست مستعملة في النجاسات، فهذه يكره استعمالها قبل غسلها فإذا غسل فلا كراهة فيها لأنها طاهرة وليس فيها استقذار ولم يريدوا نفي الكراهة عن آنيتهم المستعملة في الخنزير وغيره من النجاسات انتهى. وقال الحافظ في الفتح: ومشى ابن حزم على ظاهريته فقال لا يجوز استعمال آنية أهل الكتاب إلا بشرطين: أحدهما أن لا يجد غيره والثاني غسلها. وأجيب بأن أمره بالغسل عند فقد غيرها دال على طهارتها بالغسل، والأمر باجتنابها عند وجود غيرها للمبالغة في التنفير عنها كما في حديث سلمة الآتي بعد في الأمر بكسر القدور التي طبخت فيها الميتة: فقال رجل أو نغسلها فقال: أو ذاك. فأمر بالكسر للمبالغة في التنفير عنها ثم أذن في الغسل ترخيصاً فكذلك يتجه هذا هنا انتهى. "ونهى عن كل سبع ذي ناب" الناب السن الذي خلف الرباعية جمعه أنياب. قال ابن سينا لا يجتمع في حيوان واحد قرن وناب معاً وذو الناب من السباع كالأسد والذئب والنمر والفيل والقرد وكل ماله ناب يتقوى به ويصطاد. وقال في النهاية: وهو يفترس الحيوان ويأكل قسراً كالأسد والنمر والذئب ونحوها. قال في القاموس: السبع بضم الباء وفتحها المفترس من الحيوان انتهى. ووقع الخلاف في جنس السباع المحرمة، فقال أبو حنيفة رحمه الله كل ما أكل اللحم فهو سبع حتى الفيل والضب واليربوع والسنور. وقال الشافعي يحرم من السباع ما يعدو على الناس كالأسد والذئب والنمر. وأما الضبع والثعلب فيحلان عنده لأنهما لا يعدوان كذا في النيل.
قوله: "وقد ذكر هذا الحديث عن أبي قلابة عن أبي أسماء الرحبي عن أبي ثعلبة" أي بزيادة أبي أسماء الرحبي بين أبي قلابة وأبي ثعلبة فهذا الإسناد متصل.(5/514)
1858 ـ حدثنا عليّ بنُ عِيسَى بنُ يَزِيدَ البَغْدَادِيّ حدثنا عُبَيْدُ الله بنُ مُحَمّدٍ الَفرضيّ حدثنا حَمّادُ بنُ سَلَمَةَ عن أيّوبَ وَ قَتَادَةَ عن أبي قِلاَبَةَ عَنْ أبي أسْمَاءَ الرّحَبِيّ عن أبي ثَعْلَبَةَ الْخُشَنِيّ أنّهُ قَالَ: "يَا رَسُولَ الله إنّا بِأَرْضِ أهْلِ الكِتَابٍ فَنَطْبُخُ فِي قُدُورِهِمْ وَنَشْرَبُ في آنِيَتِهِمْ؟ فَقَالَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم: "إنْ لَمْ تَجِدُوا غَيْرَهَا فارْحَضُوهَا بِالْمَاء" ِ، ثُمّ قَالَ: يَا رَسولَ الله إنّا بِأَرْضِ صَيْدٍ فَكَيْفَ نَصْنَعُ؟ قال "إذَا أرْسَلْتَ كَلْبَكَ الْمُكَلّبَ وَذَكَرْت اسْمَ الله فَقَتَلَ فَكُلْ، وَإِنْ كان غَيْرَ مُكَلّبٍ فَذُكّيَ فَكُلْ، وإذا رَمَيْتَ بِسَهْمِكَ وَذَكَرْتَ اسْمَ الله فَقَتَلَ فَكُلْ" .
ـــــــ
قوله: "حدثنا عبيد الله بن محمد العيشي" قال في التقريب عبيد الله بن محمد بن عائشة اسم جده حفص بن عمر بن موسى بن عبيد الله بن معمر التيمي، وقيل له ابن عائشة والعائشي والعيشي نسبة إلى عائشة بنت طلحة لأنه من ذريتها ثقة جواد رمى بالقدر ولم يثبت من كبار العاشرة انتهى. ووقع في النسخة الأحمدية عبيد الله بن محمد القرشي بزيادة لفظ بن القرشي مكان العيشي وهو غلط.
قوله: "فارحضوها" أي اغسلوها: قال في القاموس: رحضة كمنعه غسله كأرحضه انتهى. قال الخطابي: والأصل في هذا أنه إذا كان معلوماً من حال المشركين أنهم يطبخون في قدورهم الخنزير ويشربون في آنيتهم الخمر فإنه لا يجوز استعمالها إلا بعد الغسل والتنظيف فأما ثيابهم ومياههم فإنها على الطهارة كمياه المسلمين وثيابهم إلا أن يكونوا من قوم لا يتحاشون النجاسات أو كان من عاداتهم استعمال الأبوال في طهورهم فإن استعمال ثيابهم غير جائز إلا أن يعلم أنها لم يصبها شيء من النجاسات انتهى "إنا بأرض صيد" الإضافة لأدنى ملابسة أي بأرض يوجد فيها الصيد أو يصيد أهلها "إذا أرسلت كلبك المكلب" أي المعلم، قال في النهاية: المكلب المسلط على الصيد المعود بالاصطياد الذي قد ضرى به انتهى. "فذكى بصيغة المجهول من التذكية أي ذبح" .(5/515)
هذا حديثٌ حسنٌ صحيحٌ.
ـــــــ
قوله: "هذا حديث حسن صحيح" وأخرجه الشيخان(5/516)
باب ماجاء في الفأرة تموت في السمن
...
8ـ باب ما جَاءَ في الْفَأْرَةِ تَمُوتُ في السّمْن
1859ـ حدثنا سَعِيدُ بنُ عبدِ الرحمَنِ المخزومي وأَبُو عَمّارٍ قالا: حدثنا سُفْيَانَ عن الزّهْرِيّ عن عُبَيْدِ الله عَنِ ابنِ عَبّاسٍ عَنْ مَيْمُونَةَ أنّ فَأْرَةً وَقَعَتْ في سَمْنٍ فَمَاتَتْ، فَسُئِلَ عَنْهَا النّبِيّ صلى الله عليه وسلم فقالَ: "ألْقُوهَا وَمَا حَوْلَهَا فكلوه" .
ـــــــ
"باب ما جَاءَ في الْفَأْرَةِ تَمُوتُ في السّمْن"
قوله: "حدثنا سعيد بن عبد الرحمن" هو المخزومي "وأبو عمار" اسمه حسين بن حريث الخزاعي "حدثنا سفيان" هو ابن عيينة "عن عبيد الله" بن عبد الله ابن عتبة.
قوله: "أن فأرة وقعت في سمن" وفي رواية النسائي من طريق عبد الرحمن بن مهدي عن مالك في سمن جامد، "فماتت" أي فيه "فسئل عنها" أي ما يترتب على موتها "فقال ألقوها" أي أخرجوا الفأرة واطرحوها "وما حولها" أي كذلك إذا كان جامداً "فكلوه" أي السمن يعني باقية في شرح السنة فيه دليل على أن غير الماء من المائعات إذا وقعت فيه نجاسة ينجس، قل ذلك المائع أو كثر بخلاف الماء حيث لا ينجس عند الكثرة ما لم يتغير بالنجاسة. واتفقوا على أن الزيت إذا مات فيه فأرة أو وقعت فيه نجاسة أخرى أنه ينجس ولا يجوز أكله، وكذا لا يجوز بيعه عند أكثر أهل العلم. وجوز أبو حنيفة بيعه، واختلفوا في الانتفاع به، فذهب جماعة إلى أنه يجوز الانتفاع به لقوله صلى الله عليه وسلم: فلا تقربوه. وهو أحد قولي الشافعي وذهب قوم إلى أنه يجوز الانتفاع به بالاستصباح وتدهين السفن ونحوه، وهو قول أبي حنيفة وأظهر قولي الشافعي. والمراد من قوله: "فلا تقربوه" أكلا وطعماً لا انتفاعاً انتهى. قال الحافظ وقد تمسك ابن العربي بقوله وما حولها(5/516)
وفي البابِ عن أبي هُرَيْرَةَ. هذا حديثٌ حسنٌ صحيحٌ. وقَدْ رُوِيَ هَذَا الْحَدِيثُ عَنْ الزّهْرِيّ عن عُبَيْدِ الله عن ابنِ عَبّاسٍ. "أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم سُئِلَ" وَلَمْ يَذْكُرُوا فِيهِ عن مَيْمُونَةَ. وحَدِيثُ ابنِ عَبّاسٍ عن مَيْمونَةَ أصَحّ. وَرَوَى مَعْمَرٌ عن الزّهْرِيّ عن سَعِيدِ بنِ المُسَيّبِ عن أبي هُرَيْرَةَ عن النّبيّ صلى الله عليه وسلم نَحْوَهُ. وهو حَدِيثٌ غَيْرُ مَحْفُوظٍ، قال وسَمِعْتُ مُحَمّدَ بنَ إِسْمَاعِيلَ يَقُولُ: وحديثُ مَعْمَرٍ عن الزّهْرِيّ عن سَعِيدِ بنِ المُسَيّبِ عن أبي هُرَيْرَةَ عن النّبيّ صلى الله عليه وسلم وذكر فيه أنه سئل عنه فقال إذا كان جامداً فألقوها وما هو لها وإن كان ما مائعاً فلا تقربوه. هَذَا خَطَأٌ أخطأ فيه معمر قال والصّحِيحُ حَدِيث الزّهْرِيّ عن عُبَيْدِ الله عن ابنِ عَبّاسٍ عن مَيْمُونَةَ.
ـــــــ
على أنه كان جامداً. قال لأنه لو كان مائعاً لم يكن له حول، لأنه لو نقل من أي جانب منها نقل لخلفه غيره في الحال، فيصير مما حولها فيحتاج إلى إلقائه كله، كذا قال: وقد وقع عند الدارقطني من رواية يحيى القطان عن مالك في هذا الحديث فأمر أن يقور ما حولها فيرمي به. قال الحافظ: وهذا ظهر في كونه جامداً من قوله: وما حولها، فيقوي ما تمسك به ابن العربي انتهى.
قوله: "وفي الباب عن أبي هريرة" أخرجه أحمد وأبو داود عنه مرفوعاً: إذا وقعت الفأرة في السمن فإن كان جامداً فألقوها وما حولها، وإن كان مائعاً فلا تقربوه.
قوله: "هذا حديث حسن صحيح" وأخرجه البخاري وأبو داود والنسائي "وحديث ابن عباس عن ميمونة أصح الخ" قد ذكر الحافظ في الفتح في باب ما يقع من النجاسات في السمن والماء من كتاب الوضوء وجه كون حديث ابن عباس عن ميمونة أصح وكذا ذكر فيه أيضاً وجه كون حديث معمر عن الزهري عن سعيد بن المسيب عن أبي هريرة خطأ فمن شاء الوقوف على ذلك فليراجعه(5/517)
باب النهي عن الأكل والشرب بالشمال
...
9ـ باب ما جاءَ في النّهْيِ عن الأَكْلِ والشّرْبِ بِالشّمَال
1860ـ حدثنا إسْحَاقُ بنُ مَنْصُورٍ أخبرنا عبدُ الله بنُ نُمَيْرٍ حدثنا عُبَيْدُ الله بنُ عُمَرَ عن ابنِ شِهَابٍ عن أبي بَكْرٍ بنِ عُبَيْدِ الله بنِ عَبْدِ الله بنِ عُمَرَ عن عَبْدِ الله بنِ عُمَرَ أنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم قال: "لاَ يَأْكُلْ أحَدُكُمْ بِشِمَالِهِ وَلاَ يَشْرَبْ بِشِمَالِهِ فَإِنّ الشيطانَ يَأْكُلُ بِشمَالِهِ وَيَشْرَبُ بِشِمَالِهِ" .
ـــــــ
"باب ما جاءَ في النّهْيِ عن الأَكْلِ والشّرْبِ بِالشّمَال"
قوله: "حدثنا عبد الله بن نمير" هو الهمداني أبو هشام الكوفي "عن أبي بكر بن عبيد الله بن عبد الله بن عمر" بن الخطاب ثقة من الرابعة.
قوله: "لا يأكل أحدكم بشماله ولا يشرب بشماله" قال الشوكاني فيه النهي عن الأكل والشرب بالشمال والنهي حقيقة في التحريم كما تقرر في الأصول ولا يكون لمجرد الكراهة فقط إلا مجازاً مع قيام صارف. قال النووي: وهذا إذا لم يكن عذر فإن كان عذر يمنع الأكل والشرب باليمين من مرض أو جراحة أو غير ذلك فلا كراهة في الشمال وقال فيه استحباب الأكل والشرب باليمين وكراهتهما بالشمال.
قلت: بل في هذا الحديث وجوب الأكل والشرب باليمين كما قال الشوكاني، ويدل على الوجوب قوله صلى الله عليه وسلم: "إذا أكل أحدكم فليأكل بيمينه وإذا شرب فليشرب بيمينه" الحديث، وقوله صلى الله عليه وسلم لعمر بن أبي سلمة: كل بيمينك، فإن الأصل في الأمر الوجوب. قال الحافظ: قال شيخنا يعني الحافظ العراقي في شرح الترمذي: حمله أكثر الشافعية على الندب وبه جزم الغزالي ثم النووي، لكن نص الشافعي في الرسالة وفي موضع آخر من الأم على الوجوب، قال ويدل على وجوب الأكل باليمين ورود الوعيد في الأكل بالشمال، ففي صحيح مسلم من حديث سلمة بن الأكوع أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى رجلاً يأكل بشماله فقال: "كل بيمينك" ، قال: لا أستطيع قال "لا استطعت" ، فما رفعها إلى فيه بعد وأخرج(5/518)
قال وفي البابِ عن جَابِرٍ وعُمَرَ بنِ أبي سَلَمَةَ وسَلَمَةَ بنِ الأكْوَعِ وَأَنَسِ بنِ مَالِكٍ وَحَفْصَةَ.
ـــــــ
الطبراني من حديث سبيعة الأسلمية من حديث عقبة بن عامر أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى سبيعة الأسلمية تأكل بشمالها فقال أخذها داء غزة ، فقال إن بها قرحة قال وإن ، فمرت بغزة فأصابها طاعون فماتت. وأخرج محمد بن الربيع الجيزي في مسند الصحابة الذين نزلوا مصر وسنده حسن. وثبت النهي عن الأكل بالشمال وأنه من عمل الشيطان من حديث ابن عمر ومن حديث جابر عند مسلم وعند أحمد بسند حسن عن عائشة رفعته: "من أكل بشماله أكل معه الشيطان" . الحديث انتهى "فإن الشيطان يأكل بشماله الخ" قال التوربشتي: المعنى أنه يحمل أولياءه من الإنس على ذلك الصنيع ليضاد به عباد الله الصالحين ثم إن من حق نعمة الله والقيام بشكرها أن تكرم ولا يستهان بها، ومن حق الكرامة أن تتناول باليمين ويميز بها بين ما كان من النعمة وبين ما كان من الأذى: قال الطيبي: وتحريره أن يقال لا يأكلن أحدكم بشماله ولا يشربن بها فإنكم فعلتم ذلك كنتم أولياء الشيطان فإن الشيطان يحمل أولياءه من الإنس على ذلك انتهى: قال الحافظ: وفيه عدول عن الظاهر والأولى حمل الخبر على ظاهره وأن الشيطان يأكل حقيقة لأن العقل لا يحيل ذلك وقد ثبت الخبر به فلا يحتاج إلى تأويله. وقال القرطبي: ظاهره أن من فعل ذلك تشبه بالشيطان، وأبعد وتعسف من أعاد الضمير في شماله إلى الأكل انتهى.
قوله: "وفي الباب عن جابر وعمر بن أبي سلمة وسلمة بن الأكوع وأنس بن مالك وحفصة" أما حديث جابر فأخرجه مسلم عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لا تأكلوا بالشمال فإن الشيطان يأكل بالشمال" . وأما حديث عمر بن أبي سلمة فأخرجه الشيخان عنه قال: كنت في حجر رسول الله صلى الله عليه وسلم وكانت يدي تطيش في الصحفة، فقال لي "يا غلام سم الله وكل بيمينك وكل مما يليك" . وأما حديث سلمة بن الأكوع فأخرجه مسلم وتقدم لفظه. وأما حديث أنس بن مالك فلينظر من أخرجه. وأما حديث حفصة فأخرجه أحمد.(5/519)
هذا حديثٌ حسنٌ صحيحٌ. وَهَكَذَا رَوَى مَالكٌ وابنُ عُيَيْنَةَ عن الزّهْرِيّ عن أبي بَكْرٍ بنِ عُبَيْدِ الله عن ابنِ عُمَرَ. وَرَوَى مَعْمَر وَعقَيْل عن الزّهْرِيّ عن سَالِمٍ عن ابنِ عُمَرَ. وَرِوَايَةُ مَالِكٍ وابنِ عُيَيْنَةَ أصَحّ.
ـــــــ
قوله: "هذا حديث حسن صحيح" وأخرجه أحمد ومسلم "ورواية مالك وابن عيينة أصح" لأن مالكاً وابن عيينة أجل وأوثق من معمر وعقيل، وقد تابعهما عبيد الله بن عمر(5/520)
باب ماجاء في لعق الأصابع
...
10- باب مَا جَاءَ في لَعْقِ الأَصَابِعِ
1861ـ حدثنا محمدُ بنُ عَبْدِ المَلِكِ بنِ أبي الشّوَارِبِ حدثنا عَبْدُ العَزِيزِ بنُ المُخْتَارِ عن سُهَيْلِ بنِ أبي صَالِحٍ عن أبيهِ عن أبي هُرَيْرَةَ قالَ: قالَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: "إذَا أكَلَ أحَدُكُمْ فَلْيَلْعَقْ أصَابِعَهُ فَإِنّهُ لاَ يَدْرِي في أَيّتِهِنّ البَرَكَةُ" .
ـــــــ
"باب مَا جَاءَ في لَعْقِ الأَصَابِعِ"
قوله: "حدثنا عبد العزيز بن المختار" الدباغ البصري مولى حفصة بنت سيرين ثقة من السابعة.
قوله: "إذا أكل أحدكم فليعلق" بفتح الياء والعين أي فليلحس "أصابعه" وقع في حديث كعب بن عجرة عند الدارقطني في الأوسط صفة لعمق الأصابع ولفظه: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يأكل بأصابعه الثلاث بالإبهام والتي تليها والوسطى، ثم رأيته يلعق أصابعه الثلاث قبل أن يمسحها الوسطى ثم التي تلي ثم الإبهام. قال الحافظ. قال شيخنا يعني الحافظ العراقي في شرح الترمذي كأن السر فيه أن الوسطى أكثر تلويثاً لأنها أطول فيبقى فيها من الطعام أكثر من غيرها، ولأنها لطولها أول ما تنزل في الطعام، ويحتمل أن الذي يعلق يكون بطن كفه إلى جهة وجهة فإذا ابتدأ بالوسطى انتقل إلى السبابة على جهة يمينه، وكذلك الإبهام انتهى "فإنه لا يدري في أيتهن" أي في أية أصابعه "البركة" أي حاصله أو تكون(5/520)
وفي البابِ عن جَابِرٍ وَكَعْبِ بنِ مَالِكٍ وَأَنسٍ.
هذا حديثٌ حسنٌ غريبٌ لا نَعْرِفُهُ إلا مِنْ هَذا الوَجْهِ مِنْ حديث سُهَيْلٍ. وسألت محمداً عن هذا الحديث فقال هذا حديث عبد العزيز من المختلف لا يعرف الأمن حديثه.
ـــــــ
البركة وفي حديث جابر عند مسلم: "إنكم لا تدرون في أية البركة" . قال النووي: معناه أن الطعام الذي يحضر الإنسان فيه بركة ولا يدري أن تلك البركة فيما أكله أو فيما بقي على أصابعه أو فيما بقي في أسفل القصعة أو في اللقمة الساقطة، فينبغي أن يحافظ على هذا كله لتحصل البركة. وأصل البركة: الزيادة وثبوت الخير والامتناع به، والمراد هنا ما يحصل به التغذية وتسلم عافيته من أذى، ويقوي على طاعة الله تعالى وغير ذلك انتهى.
وفي الحديث رد على من كره لعق الأصابع استقذاراً نعم. يحصل ذلك لو فعله في أثناء الأكل لأنه يعيد أصابعه في الطعام وعليها أثر ريقه.
قوله: "وفي الباب عن جابر وكعب بن مالك وأنس" أما حديث جابر فأخرجه أحمد ومسلم عنه: أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بلعق الأصابع والصحفة وقال "إنكم لا تدرون في أية البركة" . وأما حديث كعب بن مالك فأخرجه أحمد وأبو داود والنسائي عنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أكل بثلاث أصابع ويعلق يده قبل أن يمسحها. وأما حديث أنس فأخرجه الترمذي في الباب الذي يليه.
قوله: "هذا حديث حسن غريب" وأخرجه مسلم(5/521)
باب ماجاء في اللقمة تسقط
...
11ـ باب مَا جَاءَ في اللّقْمَةِ تَسْقُط
1862ـ حدثنا قُتَيْبَةُ حدثنا ابنُ لَهِيعَةَ عن أبي الزّبَيْرِ عن جَابِرٍ أنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم قالَ: "إذَا أكَلَ أحَدُكُمْ طَعَاماً فَسَقَطَتْ لُقْمَةٌ فَلْيُمِطْ ما رَابَهُ منها ثم لِيَطْعَمْهَا وَلاَ يَدَعهَا لِلشّيْطَانِ" .
ـــــــ
"باب مَا جَاءَ في اللّقْمَةِ تَسْقُط"
قوله: "فلبمط" بضم الياء وكسر الميم من الإماطة أي فلنزل "ما رابه منها"(5/521)
وفي البابِ عن أنَسٍ.
1863ـ حدثنا الْحَسَنُ بنُ عليّ الْخَلاّلُ حدثنا عَفّانُ بنُ مُسْلِمٍ حدثنا حَمّادُ بنُ سَلَمَةَ حدثنا ثِابتٌ عن أنَسٍ أنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم كَانَ إذَا أكَلَ طَعَاماً لَعَقَ أصَابِعَهُ الثلاثَ وقال: "إذَا وَقَعَتْ لُقْمَةُ أحَدِكُمْ فَلْيُمِطْ عنها الأَذَى وَلْيَأْكُلْهَا وَلاَ يَدَعُهَا للشّيْطَانِ" ، وَأَمَرَنَا أنْ نَسْلُتَ الصّحْفَةَ وقالَ: "إنّكُمْ لا تَدْرُونَ في أيّ طَعَامِكُمْ البَرَكَةُ" .
ـــــــ
أي من اللقمة الساقطة، والمعنى فلنزل ولينح ما يكره من غبار وتراب وقذى ونحو ذلك. قال في المجمع: رابني الشيء وأرابني بمعنى شككني. وقال فيه أيضاً: وفي حديث فاطمة: يريبني ما يريبها أي يسوؤني ما يسؤها ويزعجني ما يزعجها، من رابني وأرابني إذا رأيت منه ما تكره انتهى. وفي رواية مسلم فليأخذها فليمط ما كان بها من أذى "ثم ليطعمها" في رواية مسلم: وليأكلها "ولا يدعها" بفتح الدال أي لا يتركها "للشيطان" قال التوربشتي: إنما صار تركها للشيطان لأن فيه إضاعة نعمة الله والاستحقار بها من غير ما بأس، ثم إنه من أخلاق المتكبرين، والمانع عن تناول تلك اللقمة في الغالب هوا لكبر وذلك من عمل الشيطان انتهى. قال النووي: في الحديث استحباب أكل اللقمة الساقطة بعد مسح أذى يصيبها، هذا إذا لم تقع على موضع نجس، فإن وقعت على موضع نجس تنجست ولا بد من غسلها إن أمكن، فإن تعذر أطعمها حيواناً ولا يتركها للشيطان انتهى. وحديث جابر هذا أخرجه مسلم.
قوله: "وفي الباب عن أنس" أخرجه الترمذي بعد هذا.
قوله: "لعق أصابعه الثلاث" وكان صلى الله عليه وسلم يأكل بأصابعه الثلاث بالإبهام والتي تليها والوسطى "وأمرنا أن نسلت الصحفة" أي نمسحها ونتتبع ما بقي فيها من الطعام، يقال سلت الصحفة يسلتها من باب نصر ينصر إذا تتبع ما بقي فيها من الطعام ومسحها بالأصبع ونحوها والصحفة بالفارسية كاسه بزراً. قال(5/522)
هذا حديثٌ حسنٌ غريب صحيحٌ.
1864ـ حدثنا نَصْرُ بنُ علي الْجَهْضَمِيّ أخبرنا المعلى بن راشد قالَ حَدثتَنِي جَدّتِي أُمّ عَاصِمٍ، وكانَتْ أُمّ وَلَدٍ لِسِنَانِ بنِ سَلَمَةَ قالَتْ: دخَلَ عَلَيْنَا نُبَيْشَةَ الْخَيْرُ وَنَحْنُ نَأْكُلُ في قَصْعَةٍ فَحَدّثَنَا أنّ رَسولَ الله صلى الله عليه وسلم قالَ: "مَنْ أَكَلَ في قَصْعَةٍ ثمّ لَحسَهَا اسْتَغْفَرَتْ لَهُ القَصْعَةُ" .
ـــــــ
الكسائي أعظم القصاع الجفنة، ثم القصعة تليها تشبع العشرة، ثم الصفحة تشبع الخمسة ثم الميكلة تشبع الرجلين والثلاثة، ثم الصحيفة تشبع الرجل، كذا في الصراح.
قوله: "هذا حديث حسن صحيح" وأخرجه أحمد ومسلم وأبو داود والنسائي.
قوله: "حدثنا المعلى" بضم أوله وفتح ثانيه وتشديد اللام المفتوحة "ابن راشد" الهذلي "أبو اليمان" النبال البصري مقبول من الثامنة قاله في التقريب. وقال في تهذيب التهذيب في ترجمته، قال أبو حاتم شيخ يعرف بحديث حدث به عن جدته عن نبيشة الخير في لعق الصحفة. وقال النسائي: ليس به بأس وذكره ابن حبان في الثقاتّ، له في السنن الحديث الذي أشار إليه أبو حاتم انتهى "حدثتني جدتي أم عاصم" مقبولة من الثالثة "وكانت أم ولد لسنان بن سلمة" ابن المحبق البصري الهذلي ولد يوم حنين فله رؤية وقد أرسل أحاديث، مات في آخر إمارة الحجاج "قالت دخل علينا نبيشة الخير" قال في التقريب: نبيشة بمعجمة مصغراً ابن عبد الله الهذلي ويقال له نبيشة الخير صحابي قليل الحديث.
قوله: "من أكل" أي طعاماً "في قصعة" أي ونحوها "ثم لحسها" بكسر الحاء من باب سمع أي لعقها، والمراد أنه لحس ما فيها من طعام تواضعاً وتعظيماً، لما أنعم الله عليه ورزقه وصيانة له عن التلف "استغفرت له القصعة" ولعله أظهر في موضع المضمر لئلا يتوهم أن قوله بصيغة المتكلم، قال القاري: ولما كانت تلك المغفرة بسبب لحس القصعة وتوسطها جعلت القصعة كأنها تستغفر له مع أنه(5/523)
هذا حديثٌ غريبٌ لا نَعْرِفُهُ إلاّ مِنْ حديثِ المُعلّى بنِ رَاشِدٍ. وقد رَوَى يَزِيدُ بنُ هَارُونَ وَغيْرُ وَاحِدٍ مِنْ الأَئِمّةِ عن المُعَلّى بنِ رَاشِدٍ هذا الْحَدِيثَ.
ـــــــ
لا مانع من الجمل على الحقيقة. قال التوربشتي: استغفار القصعة عبارة عما تعودت فيه من أمارة التواضع ممن أكل منها وبراءته من الكبر وذلك مما يوجب له المغفرة فأضاف إلى القصعة لأنها كالسبب لذلك انتهى.
قلت: الحمل على الحقيقة في هذا وأمثاله هو المتعين، ولا حاجة إلى الحمل على المجاز.
قوله: "هذا حديث غريب" وأخرجه أحمد وابن ماجه والدارميغ كذا في المشكاة(5/524)
باب ماجاء في كراهية الأكل من وسط الطعام
...
12ـ باب مَا جَاءَ في كَرَاهِيَةِ الأَكْلِ مِنْ وَسَطِ الطّعَام
1865ـ حدثنا أبو رَجَاء حدثنا جَرِيرٌ عن عَطَاءِ عن السائب عن سَعِيدِ بنِ جُبَيْرٍ عن ابنِ عَبّاسٍ أنّ النبي صلى الله عليه وسلم قالَ: "إنّ الْبَرَكَةَ تَنْزِلُ وَسَطَ الطّعَامِ فَكُلُوا مِنْ حَافَتَيْهِ وَلاَ تَأْكُلُوا مِنْ وَسَطِهِ" .
ـــــــ
"باب مَا جَاءَ في كَرَاهِيَةِ الأَكْلِ مِنْ وَسَطِ الطّعَام"
قوله: "حدثنا أبو رجاء" لم يظهر لي أن أبا رجاء هذا من هو وما اسمه "حدثنا جرير" هو ابن عبد الحميد "عن سعيد بن جبير" بمضمومة فمفتوحة وسكون ياء الأسدي مولاهم الكوفي ثقة ثبت فقيه من الثالثة، وروايته عن عائشة وأبي موسى ونحوهما مرسلة، قتل بين يدي الحجاج سنة خمس وتسعين ولم يكمل الخمسين كذا في التقريب.
"إن البركة تنزل وسط الطعام" بسكون السين ويفتح، والوسط أعدل المواضع فكان أحق بنزول البركة فيه "فكلوا من حافيته" أي جانبيه. قال في(5/524)
هذا حديثٌ حسنٌ صحيحٌ. إنّمَا يُعْرَفُ مِنْ حَدِيثِ عَطَاءِ بنِ السّائبِ وقد روى شُعْبَةُ والثّورْيّ عن عَطَاءِ بنِ السّائِبِ.
وفي البابِ عن ابنِ عُمَرَ.
ـــــــ
القاموس: حافتا الوادي وغيره جانباه والجمع حافات انتهى. وليس المراد هنا خصوص التثنية، ففي المشكاة أنه كتى بقصعة من ثريد فقال: كلوا من جوانبها، وفي الجامع الصغير للسيوطي: فكلوا من حافاته، وفي رواية ابن ماجة فخذوا من حافته "ولا تأكلوا من وسطه" فيه مشروعية الأكل من جوانب الطعام قبل وسطه. قال الرافعي وغيره: يكره أن يأكل من أعلى الثريد ووسط القصعة، وأن يأكل مما يلي أكيله ولا بأس بذلك في الفواكه، وتعقبه الإسنوي بأن الشافعي نص على التحريم فإن لفظه في الأم: فإن أكل مما لا يليه أو من رأس الطعام أتم بالفعل الذي فعله إذا كان عالماً. واستدل بالنهي عن النبي صلى الله عليه وسلم وأشار إلى هذا الحديث. قال الغزالي: وكذا لا يأكل من وسط الرغيف بل من استدارته إلا إذا قل الخبز فليكسر الخبر، والعلة في ذلك ما في الحديث من كون البركة تنزل في وسط الطعام، كذا في النيل.
قوله: "هذا حديث حسن صحيح" وأخرجه أحمد وأبو داود والنسائي وابن ماجة والدارمي وابن حبان في صحيحه والحاكم.
قوله "وفي الباب عن ابن عمر" لينظر من أخرجه.(5/525)
باب ماجاء في كراهية أكل الثوم والبصل
...
13ـ باب ما جاءَ في كَرَاهِيَةِ أَكْلِ الثّوْمِ والْبَصَل
1866ـ حدثنا إسْحَاقُ بنُ مَنْصُورٍ، أخبرنا يَحْيَى بنُ سَعِيدٍ القَطّانُ عن ابنِ جُرَيْجٍ حدثنا عَطَاءٌ عن جَابِر قالَ: قالَ رَسولُ الله صلى الله عليه وسلم: "مَنْ أَكَلَ مِنْ هَذِهِ قال أوّلَ مَرّةٍ الثوم ثُم قَالَ الثومَ والبَصَلَ والكُرّاثَ، فلا يَقْرَبْنَا في مساجدنا" .
ـــــــ
"باب ما جاءَ في كَرَاهِيَةِ أَكْلِ الثّوْمِ والْبَصَل"
قوله: "من أكل من هذه" أي هذه الشجرة قوله: "قال أول مرة الثوم" هذا قول(5/525)
ـــــــ
ابن جريج، والضمير المرفوع في قال يرجع إلى عطاء كما فتح الباري في شرح باب الثوم الني والبصل والكراث، وقوله الثوم بالحربيان لهذه "ثم قال" أي عطاء مرة أخرى "الثوم والبصل والكراث" الثوم بضم الثاء المثلثة يقال له بالفارسية والهندية كندنا "فلا يقربنا في مسجدنا" قال النووي بعد أن ذكر حديث مسلم بلفظ: فلا يقربن المساجد، هذا تصريح بنهي من أكل الثوم ونحوه عن دخول كل مسجد، وهذا مذهب العلماء كافة إلا ما حكاه القاضي عياض عن بعض العلماء أن النهي خاص بمسجد النبي صلى الله عليه وسلم لقوله في رواية: فلا يقربن مسجدنا. وحجة الجمهور فلا يقربن المساجد. قال ابن دقيق العيد: ويكون مسجدنا للجنس أو لضرب المثال، فإنه معلل إما بتأذى الآدميين أو بتأذي الملائكة الحاضرين وذلك قد يوجد في المساجد كلها. ثم إن النهي إنما هو عن حضور المسجد لا عن أكل الثوم والبصل ونحوهما، فهذه البقول حلال بإجماع من يعتد به. وحكى القاضي عياض عن أهل الظاهر تحريمها لأنها تمنع عن حضور الجماعة وهي عندهم فرض عين، وحجة الجمهور قوله صلى الله عليه وسلم في أحاديث: كل فإني أناجي من لا تناجي، قوله صلى الله عليه وسلم " أيها الناس إنه ليس لي تحريم ما أحل الله ولكنها شجرة أكره ريحها" . أخرجه مسلم وغيره.
قال العلماء: ويلحق بالثوم والبصل والكراث كل ماله رائحة كريهة من المأكولات وغيرها. وقال القاضي عياض: ويلحق به من أكل فجلا وكان يتجشى، قال: وقال ابن المرابط: ويلحق به من به بخوفي فيه أو به جرح له رائحة. قال القاضي: وقاس العلماء على هذا مجامع الصلاة غير المسجد كمصلي العيد والجنائز ونحوها من مجامع العبادات، وكذا مجامع العلم والذكر والولائم ونحوها، ولا يلتحق بها الأسواق ونحوها انتهى. قال الشوكاني: وفيه أن العلة إن كانت هي التأذي فلا وجه لإخراج الأسواق، وإن كانت مركبة من التأذي وكونه حاصلاً للمشتغلين بطاعة صح ذلك، ولكن العلة المذكورة في الحديث هي تأذي الملائكة فينبغي الاقتصار على إلحاق المواطن التي تحضرها الملائكة. وقد ورد في حديث عند مسلم بلفظ: لا يؤذينا بريح الثوم، وهي تقتضي التعليل بتأذي بني آدم. قال ابن دقيق العيد: والظاهر أن كل واحد منهما علة مستقلة انتهى وعلى هذا الأسواق كغيرها من مجامع العبادات.(5/526)
هذا حديثٌ حسنٌ صحيحٌ.
قال وفي الباب عن عُمَرَ وأبي أيّوبَ وأبي هُرَيْرَةَ وأبي سَعِيدٍ وجَابِرٍ بنِ سَمُرَةَ وَقُرّةَ بن إياس المزني وابنِ عُمَرَ.
ـــــــ
قوله: "هذا حديث حسن" وأخرجه الشيخان وغيرهما.
قوله: "وفي الباب عن عمر وأبي أيوب وأبي هريرة وأبي سعيد وجابر بن سمرة وقرة وابن عمر" أما حديث عمر فأخرجه مسلم والنسائي وابن ماجة عنه أنه خطيب يوم الجمعة فقال في خطبته: ثم إنكم أيها الناس تأكلون شجرتين لا أراهما إلا خبيثتين البصل والثوم لقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا وجد ريحهما من الرجل في المسجد أمر به فأخرج إلى البقيع، فمن أكلهما فليمطهما طبخاً وأما حديث أبي أيوب فأخرجه مسلم في باب إباحة أكل الثوم وأما حديث أبي هريرة فأخرجه مسلم والنسائي وابن ماجة عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من أكل من هذه الشجرة فلا يقربن مسجدنا ولا يؤذينا بريح الثوم" ، وأما حديث أبي سعيد فأخرجه مسلم عنه وفيه، من أكل من هذه الشجرة الخبيثة شيئاً فلا يقربنا في المسجد، فقال الناس: حرمت حرمت، فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم، فقال "أيها الناس إنه ليس لي تحريم ما أحل الله لي ولكنها شجرة أكره ريحها" ، وأما حديث جابر بن سمرة فأخرجه الترمذي في الباب الذي يليه. وأما حديث قرة فأخرجه أبو داود والنسائي عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن هاتين الشجرتين وقال: من أكلهما فلا يقربن مسجدنا. وقال إن كنتم لا بد آكليهما فأميتوهما طبخاً وأم حديث ابن عمر فأخرجه الشيخان وأبو داود(5/527)
باب ماجاء في الرخصة في أكل الثوم مطبوخا
...
14ـ باب ما جاءَ في الرخصة في أَكْلِ الثّوْمِ مطبوخا
1867ـ حدثنا محمودُ بنُ غَيلاَنَ، حدثنا أبُو دَاوُدَ أَنْبَأنَا شُعْبَةُ عن سِمَاكِ بنِ حَرْبٍ سَمِعَ جَابِرَ بنَ سَمُرَةَ يقولُ: "نَزَلَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم على أبي أيّوبَ، وكانَ إذَا أكَلَ طَعَاماً بَعَثَ إليهِ بِفَضْلِهِ، فَبَعَثَ إليهِ
ـــــــ
"باب ما جاءَ في الرخصة في أَكْلِ الثّوْمِ مطبوخا"
قوله: "نزل رسول الله صلى الله عليه وسلم على أبي أيوب" أي حين قدم من(5/527)
يَوْمَاً بِطَعَامٍ ولَمْ يَأْكُلُ مِنْهُ النبيّ صلى الله عليه وسلم فَلَمّا أتَى أبُو أيّوبَ النبي صلى الله عليه وسلم فَذَكَرَ ذلكَ لَهُ، فقالَ "فِيهِ ثوم" ، فقالَ يَا رسُولَ الله أحَرَامٌ هُوَ؟ قالَ: "لا ولَكِنّي أكْرَهُهُ مِنْ أجْلِ رِيحهِ" .
هذا حديثٌ حسنٌ صحيحٌ.
1868 ـ حدثنا محمدُ بنُ مَدّويِه، حدثنا مُسَدّدٌ، حدثنا الْجَرّاحُ بنُ
ـــــــ
مكة إلى المدينة مهاجراً "وكان إذا أكل بعث إليه بفضله" قال النووي: قال العلماء في هذا أنه يستحب للأكل والشارب أن يفضل مما يأكل ويشرب فضله ليواسي بها من بعده لاسيما إن كان مما يتبرك بفضلته، وكذا إذا كان في الطعام قلة ولهم إليه حاجة ويتأكد هذا في حق الضيف لاسيما إن كانت عادة أهل الطعام أن يخرجوا كل ما عندهم وينتظر عيالهم الفضلة كما يفعله كثير من الناس، ونقلوا أن السلف كانوا يستحبون إفضال هذه الفضلة المذكورة، وهذا الحديث أصل ذلك كله "أحرام هو قال لا ولكني أكرهه من أجل ريحه" هذا تصريح بإباحة الثوم وهو مجموع عليه، لكن يكره لمن أراد حضور المسجد. أو حضور جمع في غير المسجد أو مخاطبة الكبار، ويلحق بالثوم كل ماله رائحة كريهة. قال النووي: واختلف أصحابنا في حكم الثوم في حقه صلى الله عليه وسلم وكذلك البصل والكراث ونحوها، فقال بعض أصحابنا: هي محرمة عليه، والأصح عندهم أنها مكروهة كراهة تنزيه ليست محرمة لعموم قوله صلى الله عليه وسلم لا في جواب قوله أحرام هي؟ ومن قال بالأول يقول: معنى الحديث ليس بحرام في حقكم انتهى.
قوله هذا حديث حسن صحيح وأخرجه مسلم.
قوله: "حدثنا محمد بن مدويه" هو محمد بن أحمد بن الحسين بن مدويه القرشي أبو عبد الرحمن الترمذي قوله: "حدثنا مسدد" بن مسرهد بن مسربل بن مستورد الأسدي البصري أبو الحسن ثقة حافظ يقال إنه أول من صنف المسند بالبصرة من العاشرة، ويقال اسمه عبد الملك بن عبد العزيز، كذا في التقريب "حدثنا الجراح(5/528)
مَلِيحٍ والد وكيع عن أبي إسحاقَ عن شَرِيكِ بنِ حنْبَلٍ عن عَلِيّ أنّهُ قالَ: "نُهِيَ عن أَكْلِ الثّوْمِ إلاّ مَطْبُوخَاً". وقد روى هذا عن عليّ أنه قال نهي عن أكل الثوم إلا مطبوخاً " قوله
1869ـ حدثنا هَنّادٌ، حدثنا وَكِيعٌ عن أبيهِ عن أبي إسحاقَ عن شَرِيكِ بنِ حَنْبَلٍ عن عَلِي قال "أنه كره أكل الثوم إلا مطبوخاً".
هذا الحَدِيثُ لَيْسَ إسْنَادُهُ بذلك القَوِيّ، ورُوِيَ عن شَرِيك بنِ حَنْبَلٍ عن النبيّ صلى الله عليه وسلم مُرْسلاً.
1870ـ حدثنا الْحَسَنُ بنُ الصّبّاحِ البزّارُ، حدثنا سُفْيَانُ بنُ عُيَيْنَةَ عن عُبَيْدِ الله بن أبي يَزِيدَ عن أبِيهِ عن أُمّ أَيّوبَ أخْبَرَتْهُ أن النّبِيّ صلى الله
ـــــــ
ابن مليح" بن عدي الرؤاسي والد وكيع صدوق يهم من السابعة قوله: "عن أبي إسحاق" هو السبيعي "عن شريك بن حنبل" العبسي الكوفي وقيل ابن شرحبيل، ثقة من الثانية ولم يثبت أن له صحبة كذا في التقريب. وقال في تهذيب التهذيب في ترجمته روى له أبو دارد والترمذي حديثاً في الثوم انتهى.
قوله: "أنه قال نهى" بصيغة المجهول قوله: "عن أكل الثوم" وفي معناه البصل والكراث ونحوهما "إلا مطبوخاً" هذا الحديث يفيد تقييد ما ورد من الأحاديث المطلقة في النهي "وقد روى هذا عن علي أنه قال الخ" يعني حديث على المذكور بلفظ أنه قال نهى عن أكل الثوم الخ مرفوع، وقد روى عنه هذا موقوفاً عليه ورواه الترمذي بعد هذا بقوله حدثنا هناد حدثنا وكيع الخ.
قوله: "هذا حديث ليس إسناده بذلك القوي" في سنده أبو إسحاق السبيعي وهو مدلس وقد اختلط بآخره، والحديث أخرجه أبو داود أيضاً.
قوله: "عن عبيد الله" بالتصغير "ابن أبي يزيد" المكي مولى آل قارظ بن شيبة ثقة كثير الحديث من الرابعة. ووقع في النسخة الأحمدية عن عبد الله مكبراً وهو(5/529)
عليه وسلم نَزَلَ عليهم، فَتَكَلّفُوا له طَعَاماً فيهِ مِنْ بَعْضِ هذه البُقُولِ، فَكَرِهَ أكْلَهُ، فقال لأصحابِه: "كُلُوهُ فإني لَسْتُ كَأَحَدِكُمْ إني أخَافُ أنْ أُوذِيَ صَاحِبي" .
هذا حديثٌ حسنٌ صحيحٌ غريبٌ. وأُمّ أَيّوبَ هِيَ امْرَأَةُ أبي أيّوبَ الأنصاري.
1871ـ حدثنا محمدُ بنُ حُمَيْدٍ، حدثنا زَيْدُ بنُ الْحُبَابِ عن أبي خَلْدَةَ عن أبي الَعَالِيَةِ قال: الثّوْمُ مِنْ طَيّبَاتِ الرّزْقِ. وأبو خَلْدَةَ اسْمُهُ خَالِدُ بنُ دِينَارٍ، وهُوَ ثِقَةٌ عِنْدَ أهْلِ الْحَدِيثِ. وقد أدْرَكَ أنَسَ بنَ مَالِكٍ وسَمِعَ منه. وأبو العَالِيَةِ اسْمُهُ رُفَيعٌ وهو الرّيَاحِيّ. قالَ عَبْدُ الرحمَنِ بنُ مَهْدِيّ كانَ أبُو خَلْدَةَ خِيَاراً مُسْلِماً.
ـــــــ
غلط "عن أبيه" أي أبي يزيد المكي حليف بني زهرة يقال له صحبة وثقه ابن حبان من الثانية كذا في التقريب قوله: "عن أم أيوب" قال في تهذيب التهذيب: أم أيوب الأنصارية الخزرجية زوج أبي أيوب وهي بنت قيس بن سعد بن أمريء القيس، روت عن النبي صلى الله عليه وسلم، روى عبيد الله بن أبي يزيد عنها أنهم تكلفوا للنبي صلى الله عليه وسلم طعاماً فيه بعض هذه البقول، فقربوه فكرهه الحديث انتهى.
قوله: "فتكلفوا له طعاماً" قال في المجمع: تكلفت الشيء تجشمته على مشقة وعلى خلاف عادتك انتهى "فيه من بعض هذه القبول" من الثوم والبصل حديث جابر عند الشيخين: فإني أناجي من لاتناجى.
قوله: "هذا حديث حسن صحيح" وأخرجه ابن خزيمة وابن حبان كما في الفتح.
قوله: "عن أبي خلدة" قال في التقريب: خالد بن دينار التميمي السعدي أبو خلدة بفتح المعجمة وسكون اللام مشهور بكنيته البصري الخياط صدوق من(5/530)
ـــــــ
الخامسة "عن أبي العالية" اسمه رفيع بالتصغير ابن مهران الرياحي، ثقة كثير الإرسال من الثانية، كذا في التقريب.
قوله: "الثوم من طيبات الرزق" يعني هو حلال، وما ورد من النهي فيه فهو لأجل ريحه لا لأنه حرام كما مر في حديث أبي أيوب(5/531)
باب ماجاء في تخمير الإناء وإطفاء السراج والنار عند المنام
...
15ـ باب ما جَاءَ في تَخْمِيرِ الإنَاءِ
وإطفاء السّراجِ والنار عند المنام
1872 ـ حدثنا قُتَيْبَةُ عن مَالِكٍ عن أبي الزّبَيْرِ عن جَابِرٍ قالَ: قالَ النبيّ صلى الله عليه وسلم: "أغْلِقُوا البَابَ وَأوْكِئوا السّقَاءَ وأكْفِئُوا الإنَاءَ أوْ خَمّرُوا الإنَاءَ، واطْفِئُوا المِصْبَاحَ، فإنّ الشّيْطَانَ لا يَفْتَحُ غلقاً، ولا يَحلّ
ـــــــ
"باب ما جَاءَ في تَخْمِيرِ الإنَاءِ وإطفاء السّراجِ والنار عند المنام"
قوله "أغلقوا الباب" من الإغلاق، زاد مسلم في رواية: واذكروا اسم الله "وأوكوا" بفتح الهمزة وضم الكاف من الإيكاء "السقاء" بكسر السين أي شدوا واربطوا رأس السقاء بالوكاء وهو ما يشد به فم القربة. وزاد مسلم: واذكروا اسم الله "وأكفئوا الإناء" أي اقلبوه، قال في القاموس: كفأه كمنعه صرفه وكبه وقلبه كأكفأه انتهى "أو خمروا الإناء" بفتح معجمة وتشديد ميم أي غطوه، وفي رواية لمسلم: وخمروا آنيتكم واذكروا اسم الله ولو أن تعرضوا عليها شيئاً "وأطفئوا" بهمزة قطع وكسر فاء فهمزة مضمومة "المصباح" أي السراج "فإن الشيطان لا يفتح غلقاً" بضم الغين المعجمة واللام أي مغلقاً. قال في القاموس: باب غلق بضمتين مغلق انتهى. واللام في الشيطان للجنس إذ ليس المراد فرداً بعينه، والمعنى أن الشيطان لا يقدر على فتح باب أغلق مع ذكر الله عليه. قال ابن الملك: وعن بعض الفضلاء أن المراد بالشيطان شيطان الإنس لأن غلق الأبواب لا يمنع الشياطين الجن، وفيه نظر لأن المراد بالغلق الغلق(5/531)
وِكَاءً، ولا يَكْشِفُ آنِيَةً، وإنّ الفُوَيْسِقَةَ تضْرِمُ على الناسِ بَيْتَهُمْ" .
قال وفي البابِ عن ابنِ عُمَرَ وأبي هُرَيْرَةَ وابنِ عَبّاسٍ.
ـــــــ
المذكور فيه اسم الله تعالى، فيجوز أن يكون دخولهم من جميع الجهات ممنوعاً ببركة التسمية وإنما خص الباب بالذكر لسهولة الدخول منه فإذا منع منه كان المنع من الأصعب بالأولى. وفي الجامع الصغير عن أبي أمامة مرفوعاً: "أجيفوا أبوابكم وأكفئوا آنيتكم وأوكؤا أسقيتكم وأطفئوا سرجكم فإنهم لم يؤذن لهم بالتسور عليكم" ، رواه أحمد "ولا يحل" بضم الحاء أي لا ينقض. قال في القاموس: حل العقدة نقضها "وكاء" بكسر الواو "ولا يكشف آنية" أي بشرط التسمية عند الأفعال جميعها، وفي رواية لمسلم: "غطوا الإناء وأوكوا السقاء فإن في السنة ليلة ينزل فيها وباء لا يمر بإناء ليس عليه غطاء، أو سقاء ليس عليه وكاء إلا نزل فيه من ذلك الوباء" . قال النووي: ذكر العلماء للأمر بالتغطية فوائد، منها الفائدتان اللتان وردتا في هذه الأحاديث وهما صيانته من الشيطان، فإن الشيطان لا يكشف غطاء ولا يحل سقاء، وصيانته من الوباء الذي ينزل في ليلة من السنة. والفائدة الثالثة صيانته من النجاسة والمقذرات. والرابعة صيانته من الحشرات والهوام فربما وقع شيء منها فيه فشربه، وهو غافل أو في الليل فيتضرر به انتهى "فإن الفويسقة" قال القاري تعليل لقوله: وأطفئوا المصباح، واعترض بينهما بالعلل للأفعال السابقة ولو ثبت الرواية هنا بالواو لكانت العلل مرتبة على طريق اللف والنشر، ثم رأيت في القاموس أن الفاء تجيء بمعنى الواو انتهى. والفويسقة تصغير الفاسقة والمراد الفأرة لخروجها من جحرها على الناس وإفسادها "تضرم" بضم التاء وإسكان الضاد أي تحرق سريعاً. قال أهل اللغة: ضرمت النار بكسر الراء وتضرمت وأضرمت أي التهبت، وأضرمتها أنا وضرمتها "على الناس بيتهم" وفي رواية البخاري: واطفئوا المصابيح فإن الفويسقة ربما جرت الفتيلة فأحرقت أهل البيت.
قوله: "وفي الباب عن ابن عمر وأبي هريرة وابن عباس" أما حديث ابن عمر فأخرجه الترمذي في هذا الباب. وأما حديث أبي هريرة فأخرجه ابن ماجة. وأما حديث ابن عمر فأخرجه الترمذي في هذا الباب. وأما حديث ابن عباس فأخرجه أبو داود وابن حبان والحاكم عنه قال: جاءت(5/532)
هذا حديثٌ حسنٌ صحيحٌ. وقد رُوِيَ مِنْ غَيْرِ وَجْهٍ عن جَابِرٍ.
1873 ـ حدثنا ابنُ أبي عُمَرَ وغَيْرُ وَاحِدٍ، قالوا حدثنا سُفْيَانُ عن الزّهْرِيّ عن سَالِمٍ عن أبيهِ قالَ: قالَ رسُولُ الله صلى الله عليه وسلم: "لا تَتْرُكُوا النّارَ في بُيُوتِكُمْ حِينَ تَنَامُونَ" .
هذا حديثٌ حسنٌ صحيحٌ.
ـــــــ
فأرة تجر الفتيلة فألقتها بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم على الخمرة التي كان قاعداً عليها فأحرقت منها مثل موضع الدرهم، فقال "إذا نمتم فأطفئوا سرجكم فإن الشيطان يدل مثل هذه على هذا فيحرقكم" .
قوله: "هذا حديث حسن صحيح" وأخرجه البخاري ومسلم وأبو داود وابن ماجة.
قوله: "لا تتركوا النار في بيوتكم حين تنامون" قال النووي: هذا عام يدخل فيه نار السراج وغيرها، وأما القناديل المعلقة في المساجد وغيرها فإن خيف حريق بسببها، دخلت في الأمر بالإطفاء، وإن أمن ذلك كما هو الغالب فالظاهر أنه لا بأس بها لانتفاء العلة لأن النبي صلى الله عليه وسلم علل الأمر بالإطفاء في الحديث السابق بأن الفويسقة تضرم على أهل البيت بيتهم، فإذا انتفت العلة زال المانع انتهى.
قوله: "هذا حديث حسن صحيح" أخرجه أحمد والشيخان وأبو داود وابن ماجه(5/533)
باب ماجاء في كراهية القران بين التمرتين
...
16 ـ باب ما جاءَ في كَرَاهِيَةِ الْقِرانِ بَيْنَ التّمْرَتَيْن
1874 ـ حدثنا محمودُ بنُ غَيْلاَنَ، حدثنا أبو أحمدَ الزّبَيْرِيّ و عُبَيْدُ الله عن الثّوْرِيّ عن جَبَلَةَ بنِ سُحَيْمٍ عن ابنِ عُمَرَ قال: "نَهَى رسولُ الله
ـــــــ
"باب ما جاءَ في كَرَاهِيَةِ الْقِرانِ بَيْنَ التّمْرَتَيْن"
القران بكسر القاف وتخفيف الراء ضم تمرة إلى تمرة، لمن أكل مع جماعة.
قوله: "وعبيد الله" هو ابن موسى العبسي الكوفي "عن جبلة" بفتح الجيم(5/533)
صلى الله عليه وسلم أنْ يقْرنَ بَيْنَ التّمْرَتَيْنِ حتّى يَسْتَأْذِنَ صَاحِبَهُ".
ـــــــ
والموحدة "بن سحيم" بمهملتين مصغراً كوفي ثقة من الثالثة.
قوله: "نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يقرن" أي يجمع وهو بضم الراء وكسرها لغتان يقال قرن بين الشيئين. قالوا: ولا يقال أقرن "بين التمرتين" أي بأن يأكلهما دفعة "حتى يستأذن صاحبه" وفي رواية لمسلم: حتى يستأذن أصحابه أي الذين اشتركوا معه في ذلك التمر، فإذا أذنوا جاز له القران، قال النووي: هذا النهي متفق عليه حتى يستأذنهم، فإذا أذنوا فلا بأس. واختلفوا في أن هذا النهي على التحريم أو على الكراهة والأدب، فنقل القاضي عياض عن أهل الظاهر أنه للتحريم، وعن غيرهم أن للكراهة والأدب، والصواب التفصيل، فإن كان الطعام مشتركاً بينهم فالقران حرام إلا برضاهم ويحصل الرضا بتصريحهم به أو بما يقوم مقام التصريح من قرينة حال أو إدلال عليهم كلهم بحيث يعلم يقيناً أو ظناً قوياً أنهم يرضون به، ومتى شك في رضاهم فهو حرام وإن كان الطعام لغيرهم أو لأحدهم اشترط رضاه وحده، فإن قرن بغير رضاه فحرام ويستحب أن يستأذن الآكلين معه ولا يجب وإن كان الطعام لنفسه وقد ضيفهم به فلا يحرم عليه القران ثم إن كان في الطعام قلة فحسن أن يقرن لتساويهم، وإن كان كثيراً بحيث يفضل عنهم فلا بأس بقرانه، لكن الأدب مطلقاً التأدب في الأكل وترك الشره إلا أن يكون مستحيلاً ويريد الإسراع لشغل آخر. وقال الخطابي: إنما كان هذا في زمنهم وحين كان الطعام ضيقاً، فأما اليوم مع اتساع الحال فلا حاجة إلى الإذن، وليس كما قال، بل الصواب ما ذكرنا من التفضيل، فإن الاعتبار لعموم اللفظ لا لخصوص السبب لو ثبت السبب، كيف وهو غير ثابت انتهى كلام النووي.
تنبيه: قد أخرج ابن شاهين في الناسخ والمنسوخ وهو في مسند البزار من طريق ابن بريدة عن أبيه رفعه: كنت نهيتكم عن القران في التمر وإن الله وسع عليكم فاقرنوا. قال الحافظ: في سنده ضعف. وقال الحازمي: حديث النهي أصح وأشهر إلا أن الخطب فيه يسير لأنه ليس من باب العبادات وإنما هو من قبيل المصالح الدنيوية فكيتفي فيه بمثل ذلك، ويعضده إجماع الأمة على جواز ذلك. قال الحافظ: مراده بالجواز في حال كون الشخص مالكاً لذلك المأكول ولو(5/534)
قال وفي البابِ عن سَعْدٍ مَوْلَى أبي بَكْرٍ.
هذا حديثٌ حسنٌ صحيحٌ.
ـــــــ
بطريق الإذن له فيه كما قرره النووي وإلا فلم يجز أحد من العلماء أن يستأثر أحد بمال غيره بغير إذنه حتى لو قامت قرينة تدل على أن الذي وضع الطعام بين الضيفان لا يرضيه استئثار بعضهم على بعض، حرم الاسئثار جزماً، وإنما تقع المكارمة في ذلك إذا قامت قرينة الرضا. وذكر أو موسى المديني في ذيل الغربيين عن عائشة وجابر استقباح القران لما فيه من الشره والطمع المزري بصاحبه. وقال مالك: ليس بجميل أن يأكل أكثر من رفقته.
قوله: "وفي الباب عن سعد مولى أبي بكر" أخرجه ابن ماجه.
قوله: "هذا حديث حسن صحيح" وأخرجه أحمد والشيخان وأبو داود والنسائي وابن ماجه(5/535)
باب ماجاء في إستحباب التمر
...
17 ـ باب ما جَاءَ في اسْتِحْبَابِ التّمْر
1875 ـ حدثنا محمدُ بنُ سَهْيل بن عَسْكَرٍ البغدادي و عَبْدُ الله بنُ عَبْدِ الرّحمَنِ قالا حدثنا يَحْيَى بنُ حَسّانَ حدثنا سُلَيْمَانُ بنُ بِلالٍ عن هِشَامِ بنِ عُرْوَةَ عن أبِيهِ عن عَائِشَةَ عن النبيّ صلى الله عليه وسلم قالَ: "بَيْتٌ لا تَمْرَ فيهِ جِيَاعٌ أهْلُهُ" .
ـــــــ
"باب ما جَاءَ في اسْتِحْبَابِ التّمْر"
قوله: "حدثنا يحيى بن حسان" التنيسي من أهل البصرة، ثقة من التاسعة "حدثنا سليمان بن بلال" التيمي مولاهم أبو محمد، ويقال أبو أيوب المدني، ثقة من الثامنة.
قوله: "بيت لا تمر فيه جياع" بكسر الجيم جمع جائع "أهله" قيل أراد به أهل المدينة ومن كان قوتهم التمر، أو المراد به تعظيم شأن التمر. قال القاضي(5/535)
وفي البابِ عن سلْمَى امْرَأَةِ أبي رَافِعٍ.
هذا حديثٌ حسنٌ غريبٌ لا نَعْرِفُهُ مِنْ حَدِيثِ هِشَامِ بنِ عُرْوَةَ إلا مِنْ هذا الوَجْهِ
ـــــــ
أبو بكر بن العربي في شرح الترمذي: لأن التمر كان قوتهم فإذا خلا منه البيت جاع أهله، وأهل كل بلدة بالنظر إلى قوتهم يقولون كذلك. وقال النووي: فيه فضيلة التمر وجواز الادخار للعيال والحث عليه. قال الطيبي: ويمكن أن يحمل على الحث على القناعة في بلدة يكثر فيه التمر يعني بيت فيه تمر وقنعوا به لا يجوع أهله وإنما الجائع من ليس عنده تمر، وينصره حديث عائشة: كان يأتي علينا الشهر ما نوقد فيه ناراً إنما هو التمر والماء إلا أن يؤتى باللحم، أخرجه الشيخان.
قوله: "وفي الباب عن سلمى امرأة أبي رافع" أخرجه ابن ماجه عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: بيت لا تمر فيه كالبيت لا طعام فيه.
قوله: "هذا حديث حسن غريب الخ" وأخرجه أحمد ومسلم وأبو داود وابن ماجه(5/536)
باب في الحمد على الطعام إذا فرغ منه
...
18ـ باب ما جاءَ في الْحَمْدِ على الطّعَامِ إذَا فُرغَ مِنْه
1876ـ حدثنا هَنّادٌ و محمودُ بنُ غَيْلاَنَ قالا حدثنا أبُو أُسَامَةَ عن زَكَرِيّا بنِ أبي زَائِدَةَ عن سَعِيدِ بنِ أبي بُرْدَةَ عن أنَسِ بنِ مَالِكٍ أنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم قال: "إنّ الله ليَرْضَى عن الْعَبْدِ أنْ يَأْكُلَ الأكْلَةَ أوْ يَشْرَبَ الشّرْبَةَ فَيَحْمَدَهُ عليها" .
ـــــــ
"باب ما جاءَ في الْحَمْدِ على الطّعَامِ إذَا فُرغَ مِنْه"
قوله: "حدثنا أبو أسامة" اسمه حماد بن أسامة "عن سعيد بن أبي بردة" بمضمومة فساكنة وإهمال دال ابن أبي موسى الأشعري الكوفي ثقة ثبت وروايته عن ابن عمر مرسلة من الخامسة كذا في التقريب.
قوله: "إن الله ليرضى عن العبد أن يأكل" أي بسبب أن يأكل أو لأجل أن(5/536)
قال وفي البابِ عن عُقْبَةَ بنِ عَامِرٍ وأبي سَعِيدٍ وعائشةَ وأبي أيُوبَ وأبي هُرَيْرَةَ.
هذا حديثٌ حسنٌ. وقد رَوَاهُ غَيْرُ واحِدٍ عن زَكَرِيّا بنِ أبي زَائِدَةَ نَحْوَهُ، ولا نَعْرِفُهُ إلاّ مِنْ حديث زَكَرِيّا بنِ أبي زَائِدَةَ.
ـــــــ
يأكل، أو مفعول به ليرضى، يعني يجب منه أن يأكل "الأكلة" قال النووي: الأكلة هنا بفتح الهمزة وهي المرة الواحدة من الأكل كالغذاء أو العشاء انتهى. وقال القاري: بفتح الهمزة أي المرة من الأكل حتى يشبع، ويروي بضم الهمزة أي اللقمة وهي أبلغ في بيان اهتمام أداء الحمد لكن الأول أوفق مع قوله أو يشرب الشربة فإنها بالفتح لا غير، وكل منها مفعول مطلق لفعله "فيحمده" بالنصب وهو ظاهر ويجوز الرفع أي العبد يحمده "عليها" أي على لك واحدة من الأكلة والشربة. قال ابن بطال: اتفقوا على استحباب الحمد بعد الطعام ووردت في ذلك أنواع يعني لا يتعين شيء منها. وقال النووي في الحديث استحباب حمد الله تعالى عقب الأكل والشرب، وقد جاء في البخاري صفة التحميد الحمد كثيراً طيباً مباركاً فيه غير مكفى ولا مودع ولا مستغنى عنه ربنا. وجاء غير ذلك، ولو اقتصر على الحمد لله حصل أصل السنة انتهى.
قوله: "وفي الباب عن عقبة بن عامر وأبي سعيد وعائشة وأبي أيوب وأبي هريرة" أما حديث عقبة بن عامر فلينظر من أخرجه، وأما حديث أبي سعيد فأخرجه الترمذي في أبواب الدعوات. وأما حديث عائشة فلينظر من أخرجه. وأما حديث أبي أيوب فأخرجه أبو داود والنسائي وابن حبان عنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أكل أو شرب قال: "الحمد لله الذي أطعم وسقى وسوغه وجعل له مخرجا ً" . وأما حديث أبي هريرة فأخرجه النسائي وابن حبان والحاكم كما في الفتح.
قوله: "هذا حديث حسن" وأخرجه أحمد ومسلم والنسائي(5/537)
باب ماجاء في الأكل مع المجذوم
...
19ـ باب ما جاءَ في الأكْلِ مَعَ المَجْذوم
1877ـ حدثنا أحمدُ بنُ سَعِيدٍ الأَشْقَرُ و إبراهيم بنُ يَعْقُوبَ قالا حدثنا يُونُسُ بنُ محمدٍ حدثنا المُفَضّلُ بنُ فَضَالَةَ عن حَبِيبِ بنِ الشّهِيدِ عن محمدِ بنِ المُنْكَدِرِ عن جَابِرِ بن عبد الله: "أنّ رَسولَ الله صلى الله عليه وسلم أخَذَ بِيَدِ مَجْذُومٍ، فَأَدْخَلَهُ مَعَهُ في القَصْعَةِ، ثُمّ قالَ: "كُلْ بِسْمِ الله ثِقَةً بالله وَتَوَكّلاً عَلَيْهِ" .
ـــــــ
"باب ما جاءَ في الأكْلِ مَعَ المَجْذوم"
قوله: "حدثنا أحمد بن سعيد الأشقر" قال في التقريب: أحمد بن سعيد بن إبراهيم المروزي أبو عبد الله الأشقر ثقة حافظ من الحادية عشرة "وإبراهيم بن يعقوب" هو الجوزجاني "حدثنا يونس بن محمد" بن مسلم البغدادي أبو محمد المؤدب ثقة ثبت من صغار التاسعة "حدثنا المفضل بن فضالة" بن أبي أمية البصري كنيته أبو مالك أخو مبارك بن فضالة ضعيف من التاسعة كذا في التقريب، وقال في تهذيب التهذيب في ترجمته: روى عن أبيه وحبيب بن الشهيد وغيرهما. وعنه يونس بن محمد المؤدب وغيره. قال الدوري عن ابن معين: ليس بذاك، وقال النسائي: ليس بالقوي، وذكره ابن حبان في الثقات له في السنن حديثه عن حبيب عن ابن المنكدر عن جابر: أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم بيد مجذوم فوضعها معه في القصعة الحديث، قال ابن عدي: لم أر له أنكر من هذا يعني حديث جابر انتهى.
قوله: "أخذ بيد مجذوم" قال الأردبيلي: المجذوم الذي وضع رسول الله صلى الله عليه وسلم أو عمر يده في القصعة وأكل معه هو معيقيب بن أبي فاطمة الدوسي "فأدخله معه" وفي رواية ابن ماجه: فأدخلها معه، وفي رواية أبي داود: فوضعها معه، فتذكير الضمير في قوله: أدخله في رواية الترمذي بتأويل العضو في "القصعة" بفتح القاف، وفيه غاية التوكل من جهتين إحداهما الأخذ بيده،(5/538)
هذا حديثٌ غريبٌ لا نَعْرِفُهُ إلاّ مِنْ حَدِيثِ يُونُسَ بنِ محمدٍ عن المُفضّلِ بنِ فَضَالَةَ، هذا شَيْخٌ بَصْرِي. والمُفَضّلُ بنُ فَضَالَةَ شَيْخٌ آخَرٌ بصري أوثَقُ مِنْ هَذَا وأشْهَرُ. وقد رَوَى شُعْبَةُ هذا الْحَدِيثَ عن حَبِيبٍ بنِ الشّهِيدِ عن ابنِ بُريْدَةَ أنّ ابن عُمَرَ أخَذَ بِيَدِ مَجْذُومٍ. وحَدِيثُ شُعْبَةُ أثبت عِنْدِي وَأصَحّ.
ـــــــ
وثانيهما الأكل معه، وأخرج الطحاوي عن أبي ذر: كل مع صاحب البلاء تواضعاً لربك إيماناً "كل بسم الله ثقة بالله" بكسر المثلثة مصدر بمعنى الوثوق كالعدة والوعد وهو مفعول مطلق، أي كل معي أثق ثقة بالله أي اعتماداً به وتفويضاً للأمر إليه "وتوكلا" أي وأتوكل توكلاً "عليه" والجملتان ح الآن ثانيتهما مؤكدة للأولى. قال الأدبيلي: قال البيهقي: أخذه صلى الله عليه وسلم بيد المحذوم ووضعها في القصعة وأكله معه في حق من يكون حاله الصبر على المكروه وترك الاختيار في موارد القضاء، وقوله صلى الله عليه وسلم: فر من المجذوم كما تفر من الأسد، وأمره صلى الله عليه وسلم في مجذوم بني ثقيف بالرجوع في حق من يخاف على نفسه العجز عن احتمال المكروه والصبر عليه فيحرز بما هو جائز في الشرع من أنواع الاحترازات انتهى. قال النووي قال القاضي: قد اختلفت الآثار عن النبي صلى الله عليه وسلم في قصة المجذوم فثبت عنه الحديثان المذكوران، يعني حديث فر من المجذوم وحديث المجذوم في وفد ثقيف. وروى عن جابر أن النبي صلى الله عليه وسلم أكل مع المجذوم وقال له: كل ثقة بالله وتوكلا عليه. وعن عائشة قالت: كان لنا مولى مجذوم فكان يأكل في صحافي ويشرب في أقداحي وينام على فراشي. قال: وقد ذهب عمر وغيره من السلف إلى الأكل معه ورأوا أن الأمر باجتنابه منسوخ، والصحيح الذي قاله الأكثرون ويتعين المصير إليه أنه: لا نسخ بل يجب الجمع بين الحديثين، وحمل الأمر باجتنابه والفرار منه على الاستحباب والاحتياط لا الوجوب، وأما الأكل معه ففعله لبيان الجواز انتهى.
قوله: "هذا حديث غريب" وأخرجه أبو داود والنسائي وابن ماجه وابن حبان والحاكم "والمفضل بن فضالة شيخ آخر بصري الخ" قال في التقريب:(5/539)
ـــــــ
المفضل بن فضالة بن عبيد بن ثمامة القتباني المصري أبو معاوية القاضي ثقة فاضل عابد أخطأ ابن سعد في تضعيفه من الثامنة انتهى. وروي شعبة هذا الحديث عن حبيب بن الشهيد عن ابن بريدة قال الحافظ في تهذيب التهذيب: ابن بريدة هو عبد الله وأخوه سليمان، قال البزار: أما علقمة بن مرثد ومحارب بن دثار ومحمد بن جحادة فإنما يحدثون عن سليمان فحيث أبهموا ابن بريدة فهو سليمان وكذا الأعمش عندي. وأما من عدا هؤلاء حيث أبهموا ابن بريدة فهو عبد الله انتهى "وحديث شعبة أشبه عندي وأصح" حديث شعبة هذا منقطع، قال الحافظ في تهذيب التهذيب في ترجمة عبد الله بن بريدة: قال ابن أبي حاتم في المراسيل: قال أبو زرعة: لم يسمع من عمر انتهى(5/540)
باب ماجاء أن المؤمن يأكل في معا واحد
...
20ـ باب ما جاءَ أنّ المؤْمِنَ يَأْكُلُ في معىً واحدٍ والكافر يأكل
1878ـ حدثنا محمدُ بنُ بَشّارٍ، حدثنا يَحْيَى بنُ سَعِيدٍ، حدثنا عُبَيْدُ الله عن نَافِعٍ عن ابنِ عُمَرَ عن النبيّ صلى الله عليه وسلم قالَ: "الكافِرُ يَأْكُلُ في سَبْعَةِ أمْعَاءٍ والمُؤْمِنُ يأكل في معَىً واحِدٍ" .
هذا حديثٌ حسنٌ صحيحٌ.
قال وفي البابِ عن أبي هُرَيْرَةَ وأبي سَعِيدٍ وأبي بصرة الغفاري وأبي مُوسَى وجَهْجَاهٍ الغِفَارِيّ ومَيْمُونَةَ وعَبْدِ الله بنِ عَمْرٍو.
ـــــــ
"باب ما جاءَ أنّ المؤْمِنَ يَأْكُلُ في معىً واحدٍ والكافر يأكل"
قوله: "الكافر يأكل في سبعة أمعاء والمؤمن يأكل في معاً واحد" بكسر الميم منوناً ويكتب بالياء قال في القاموس: المعي بالفتح وكإلى من أعفاج البطن وقد يؤنث والجمع أمعاء، والعفج بالكسر والتحريك وككتف: ما ينتقل الطعام إليه بعد المعدة والجمع أعفاج انتهى.
قوله: "هذا حديث حسن صحيح" وأخرجه والشيخان وابن ماجه.
قوله: "في الباب عن أبي هريرة وأبي سعيد وأبي بصرة الغفاري وأبي موسى وجهجاه(5/540)
1879ـ حدثنا إسحاقُ بنُ مُوسَى الأنصاري حدثنا مَعْنٌ حدثنا مَالِكٌ عن سُهَيْلِ بنِ أبي صَالِحٍ عن أبيهِ عن أبي هُرَيْرَةَ: "أنّ رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم ضَافَهُ ضَيْفٌ كافِرٌ فأَمَرَ لَهُ رَسولُ الله صلى الله عليه وسلم بِشَاةٍ فَحُلِبَتْ فَشَرِبَ ثُمّ أُخْرَى فَشَربَهُ. ثُمّ أُخْرَى فَشَرِبَهُ حتى شَرِبَ حِلاَبَ
ـــــــ
الغفاري وميمونة وعبد الله بن عمرو" أما حديث أبي هريرة فأخرجه الترمذي بعد هذا وأما حديث أبي سعيد فلينظر من أخرجه. وأما حديث أبي نضرة فلم أقف عليه. اعلم أنه قد وقع في النسخ الحاضرة عن أبي نضرة بالنون والضاد المعجمة ولم أقف على من كنيته أبو نضرة بالنون والضاد المعجمة من الصحابة، نعم أبو بصرة بالموحدة والصاد المهملة صحابي، قال في التقريب: حميل مثل حميد لكن آخره لام وقيل بفتح أوله وقيل بالجيم ابن بصرة بفتح الموحدة ابن وقاص أبو بصرة الغفاري صحابي سكن مصر ومات بها انتهى. وقد روى عنه ما يتعلق بالباب. ففي مسند أحمد عن أبي بصرة الغفاري قال: أتيت النبي صلى الله عليه وسلم لما هاجرت وذلك قبل أن أسلم فحلب لي شويهة كان يحتلبها فشربتها فلما أصبحت أسلمت الحديث. وفيه أن الكافر يأكل في سبعة أمعاء الخ. وأما حديث أبي موسى فأخرجه مسلم وابن ماجه. وأما حديث جهجاه الغفاري فأخرجه ابن أبي شيبة وأبو يعلى والبزار والطبراني كما في الفتح وأما حديث ميمونة فأخرجه أحمد وأما حديث عبد الله بن عمرو فأخرجه الطبراني بسند جيد عنه قال: جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم سبعة رجال فأخذ كل رجل من الصحابة رجلاً وأخذ النبي صلى الله عليه وسلم رجلاً، فقال له "ما اسمك" ؟ قال: أبو غزوان، قال: فحلب له سبع شياه فشرب لبنها كله، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: "هل لك يا أبا غزوان أن تسلم" ؟ قال: نعم، فأسلم، فسح رسول الله صلى الله عليه وسلم صدره، فلما أصبح حلب له شاة واحدة فلم يتم لبنها، فقال: "ما لك يا أبا غزوان" ؟ قال: والذي بعثك نبياً لقد رويت، قال: " إنك أمس كان لك سبعة أمعاء وليس لك اليوم إلا معي واحد" ، كذا في الفتح.
قوله: "ضافه" أي نزل به "فأمر له رسول الله صلى الله عليه وسلم بشاة" أي بأحلابها "فحلبت" بصيغة المجهول "فشرب" أي الضيف الكافر حلابها "ثم أخرى"(5/541)
سَبْعِ شِيَاهٍ، ثُمّ أصْبَحَ مِنَ الغَدِ فأَسْلَمَ فأمر لَهُ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم بِشَاةٍ فَحُلِبَتْ فَشَرِبَ حِلاَبَهَا، ثُمّ أمَرَ لَهُ بِأُخْرَى فَلَمْ يَسْتَتِمّهَا، فقالَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: "المُؤْمِنُ يَشْرَبُ في معىً واحِدٍ، والكَافِرُ يَشْرَبُ في سَبْعَةِ أمْعَاء" .
ـــــــ
أي ثم حلبت شاة أخرى "حتى شرب حلاب سبع شياه" الحلاب بكسر الحاء المهملة وخفة اللام اللبن الذي تحلبه والإناء الذي تحلب فيه اللبن، والمراد هنا الأول "ثم أصبح" أي الضيف الكافر "فلم يستتمها" أي فلم يقدر أن يشرب لبن الشاة الثانية على التمام "والمؤمن يشرب في معاً واحد" الخ قال الحافظ في الفتح: اختلف في معنى الحديث، فقيل ليس المراد به ظاهره وإنما هو مثل ضرب للمؤمن وزهده في الدنيا، والكافر وحرصه عليها، فكان المؤمن لتقلله من الدنيا يأكل في معى واحد، والكافر لشدة رغبته فيها واستكثاره منها يأكل في سبعة أمعاء، فليس المراد حقيقة الأمعاء ولا خصوص الأكل، وإنما المراد التقلل من الدنيا والاستكثار منها، فكأنه عبر عن تناول الدنيا بالأكل وعن أسباب ذلك بالأمعاء، ووجه العلاقة ظاهر.
وقيل: المعنى أن المؤمن يأكل الحلال والكافر يأكل الحرام والحلال أقل من الحرام في الوجود، نقله ابن التين. ونقل الطحاوي عن أبي جعفر بن عمران نحو الذي قبله. وقيل المراد حض المؤمن على قلة الأكل إذا علم أن كثرة الأكل صفة الكافر، فإن نفس المؤمن تنفر من الاتصاف بصفة الكافر. ويدل على أن كثرة الأكل من صفة الكفار قوله تعالى: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ كَمَا تَأْكُلُ الْأَنْعَامُ} .
وقيل: بل هو على ظاهر، ثم اختلفوا في ذلك على أقوال أحدها: أنه زود في شخص بعينه واللام عهدية لا جنيسة، جزم بذلك ابن عبد البر فقال: لا سبيل إلى حمله على العموم لأن المشاهدة تدفعه، فكم من كافر يكون أقل أكلاً من مؤمن وعكسه، وكم من كافر أسلم فلم يتغير مقدار أكله، قال: وحديث أبي هريرة يدل على أنه ورد في رجل بعينه، ولذلك عقب به مالك الحديث والمطلق. وكذا(5/542)
ـــــــ
البخاري، فكأنه قال هذا إذا كان كافراً كان يأكل في سبعة أمعاء فلما أسلم عوفي وبورك له في نفسه فكفاه جزء من سبعة أجزاء مما كان يكفيه وهو كافر انتهى. وقد تعقب هذا الحمل بأن ابن عمر راوي الحديث فهم منه العموم فلذلك منع الذي رآه يأكل كثيراً من الدخول عليه واحتج بالحديث، ثم كيف يتأتى حمله على شخص بعينه مع ما تقدم من ترجيح تعدد الواقعة، ويورد الحديث المذكور عقب كل واحدة منها في حق الذي وقع له نحو ذلك.
القول الثاني: أن الحديث خرج مخرج الغالب وليست حقيقة العدد مرادة، قالوا تخصيص السبعة للمبالغة في التكثير كما في قوله تعالى {وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ} والمعنى أن من شأن المؤمن التقلل من الأكل لاشتغاله بأسباب العبادة ولعلمه بأن مقصودا الشرع من الأكل ما يسد الجوع ويمسك الرمق ويعين على العبادة، ولخشيته أيضاً من حساب ما زاد على ذلك، والكافر بخلاف ذلك، كله فإنه لا يقف مع مقصود الشرع بل هو تابع لشهوة نفسه مسترسل فيها غير خائف من تبعات الحرام، فصار أكل المؤمن لما ذكرته إذا نسب إلى أكل الكافر كأنه بقدر السبع منه، ولا يلزم من هذا اطراده في كل مؤمن وكافر، فقد يكون في المؤمنين من يأكل كثيراً إما بحسب العادة وإما لعارض يعرض له من مرض باطن أو لغير ذلك، ويكون في الكفار من يأكل قليلاً إما لمراعاة الصحة على رأي الأطباء، وإما للرياضة على رأي الرهبان، وإما لعارض كضعف المعدة.
القول الثالث: أن المراد بالمؤمن في هذا الحديث التام الإيمان لأن من حسن إسلامه وكمل إيمانه اشتغل فكره فيما يصير إليه من الموت ما بعده، فيمنعه شدة الخوف وكثرة الفكر والإشفاق على نفسه من استيفاء شهوته، كما ورد في حديث لأبي أمامة رفعه: من كثر تفكره قل طعمه، ومن قل تفكره كثر طعمه وقسا قلبه. ويشير إلى ذلك حديث أبي سعيد الصحيح: إن هذا المال حلوة خضرة فمن أخذ بإشراف نفس كان كالذي يأكل ولا يشبع، فدل على أن المراد بالمؤمن من يقصد في مطعمه، وأما الكافر فمن شأنه الشره فيأكل بالنهم كما تأكل البهيمة،(5/543)
هذا حديثٌ صحيح حسنٌ غريبٌ.
ـــــــ
ولا يأكل بالمصلحة لقيام البنية. وقد رد هذا الخطابي وقال: قد ذكر عن غير واحد من أفاضل السلف الأكل الكثير فلم يكن ذلك نقصاً في أيمانهم.
الرابع: أن المراد أن المؤمن يسمي الله تعالى عند طعامه وشرابه، فلا يشركه الشيطان فيكفيه القليل، والكافر لا يسمي فيشركه الشيطان. وفي صحيح مسلم في حديث مرفوع: "إن الشيطان يستحل الطعام إن لم يذكر اسم الله تعالى عليه" .
الخامس: قال النووي: المختار أن المراد أن بعض المؤمنين يأكل في معاً واحد وأن أكثر الكفار يأكلون في سبعة أمعاء، ولا يلزم أن يكون كل واحد من السبعة مثل معى المؤمن انتهى. ويدل على تفاوت الأمعاء ما ذكره عياض عن أهل التشريح: أن أمعاء الإنسان سبعة: المعدة ثم ثلاثة أمعاء بعدها متصلة بها: البواب ثم الصائم ثم الرقيق والثلاثة رقاق، ثم الأعور والقولون والمستقيم وكلها غلاظ، فيكون المعنى أن الكافر لكونه يأكل بشره لا يشبعه إلا ملء أمعائه السبعة، والمؤمن يشبعه ملء معاً واحد.
السادس: قال النووي: يحتمل أن يريد بالسبعة في الكافر، صفات: هي الحرص والنشرة وطول الأمل والطمع وسوء الطبع والحسد وحب السمن وبالواحد في المؤمن سد خلته.
السابع: قال القرطبي: شهوات الطعام سبع: شهوة الطبع، وشهوة النفس، وشهوة العين، وشهوة الفم، وشهوة الأذن، وشهوة الأنف، وشهوة الجوع، وهي الضرورية التي يأكل بها المؤمن، وأما الكافر فيأكل بالجميع انتهى ما في الفتح.
قلت: في أكثر هذه الأقوال بعد كما لا يخفي، والظاهر عندي هو القول الثاني والله تعالى أعلم.
قوله: "هذا حديث حسن غريب" وأخرجه أحمد ومسلم(5/544)
باب ماجاء في طعام الواحد يكفي الإثنين
...
21- باب ما جاءَ في طَعَامِ الوَاحِدِ يَكْفِي الاثنَيْن
1880ـ حدثنا الأَنْصَارِيّ، حدثنا مَعْنٌ، حدثنا مالِكٌ، وحدثنا قُتَيْبَةُ عن مالِكٍ ح عن أبي الزّنَادِ عن الأَعْرَجِ عن أبي هُرَيْرَةَ قالَ: قالَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: "طَعَامُ الاثْنَيِنِ كافِي الثّلاَثة، وطَعَامُ الثّلاَثَةِ كافِي الأَرْبَعَة" .
قال وفي البابِ عن جابر وابنِ عُمَرَ.
هذا حديثٌ حسنٌ صحيحٌ.
وَرَوَى جَابِرٌ وابن عمر عن النبيّ صلى الله عليه وسلم: قال "طَعَامُ الوَاحِدِ يَكْفِي الاثْنَيْنِ
ـــــــ
"باب ما جاءَ في طَعَامِ الوَاحِدِ يَكْفِي الاثنَيْن"
قوله: "حدثنا الأنصاري" هو إسحاق بن موسى الأنصاري "طعام الاثنين" أي ما يشبعهما "كما في الثلاثة" أي يكفيهم على وجه القناعة ويقويهم على الطاعة، ويزيل الضعف عنهم لا أنه يشبعهم، والغرض منه أن الرجل ينبغي أن يقنع بدون البشع ويصرف الزائد إلى محتاج آخر "وطعام الثلاثة كما في الأربعة" قال السيوطي: أي شبع الأقل قوت الأكثر، فيه الحث على مكارم الأخلاق والتقنع بالكفاية.
قوله: "وفي الباب عن ابن عمر وجابر" أما حديث ابن عمر فأخرجه الطبراني عنه مرفوعاً: "كلوا جميعاً ولا تفرقوا فإن طعام الواحد يكفي الاثنين" الحديث وأما حديث جابر فأخرجه الترمذي بعد هذا وأخرجه أيضاً أحمد ومسلم والنسائي.
قوله: "هذا حديث حسن صحيح" وأخرجه مالك والشيخان.
قوله: "وروى جابر عن النبي صلى الله عليه وسلم: "طعام الواحد يكفي الأثنين وطعام الاثنين يكفي الأربعة" الخ" في شرح السنة حكى إسحاق بن راهويه عن جرير قال:(5/545)
وطَعَامُ الاثْنَيْنِ يَكْفِي الأَرْبَعَةَ، وطَعَامُ الأَرْبَعَةِ يَكْفِي الثّمَانِيَةِ" .
حدثنا محمدُ بنُ بَشّارٍ، حدثنا عَبْدُ الرحمنِ بنُ مَهْدِي، عن سُفْيَان عن الأعمَش عن أبي سُفْيَانَ عن جَابِرٍ عن النبيّ صلى الله عليه وسلم بهَذَا.
ـــــــ
تأويله شبع الواحد قوت الاثنين، وشبع الاثنين قوت الأربعة قال عبد إبراهيم بن عروة: تفسير هذه ما قال عمر رضي الله عنه عام الرفادة: لقد هممت أن أنزل على أهل كل بيت مثل عددهم فإن الرجل لا يهلك على نصف بطبه. قال النووي: فبه الحث على المواساة في الطعام وأنه وإن كان قليلاً حصلت منه الكفاية المقصودة ووقعت فيه بركة تعم الحاضرين عليه انتهى. وقال الحافظ وعند الطبراني من حديث ابن عمر "يعني الذي أشار إليه الترمذي وذكرنا لفظه" ما يرشد إلى العلة في ذلك فيؤخذ منه أن الكفاية تنشأ عن بركة الاجتماع، وأن الجمع كلما كثرت ازدادت البركة انتهى.
قوله: "عن أبي سفيان" اسمه طلحة بن نافع الواسطي الإسكاف، نزل مكة صدوق من الرابعة(5/546)
باب ماجاء في أكل الجراد
...
22ـ باب ما جاءَ في أكْلِ الْجَرَاد
1881ـ حدثنا أحمدُ بنُ مَنِيعٍ حدثنا سُفْيَانُ عن أبي يَعْفُورَ العَبْدِيّ
ـــــــ
"باب ما جاءَ في أكْلِ الْجَرَاد"
بفتح الجيم وتخفيف الراء معروف، والواحد جرادة والذكر والأنثى سواء كالحمامة، ويقال إنه مشتق من الجرد لأنه لا ينزل على شيء إلا جرده. وخلقة الجرادة عجيبة فيها عشرة من الحيوانات ذكر بعضها ابن الشهرزوري في قوله:
لها فخذاً أبكر وساقاً نعامة ... وقادمتا نسر وجؤجؤ ضيغم
جنتها أفاعي الرمل بطناً وأنعمت ... عليها جياد الخيل بالرأس والفم
قيل: وفاته عين الفيل وعنق الثور وقرن الأيل وذنب الحية، وهو صنفان طيار ووثاب، ويبيض في الصخر فيتركه حتى ييبس وينتشر فلا يمر بزرع إلا اجتاحه. وقدأجمع العلماء على جواز أكله بغير تذكية إلا أن المشهور عند المالكية(5/546)
عن عَبْدِ الله بنِ أبي أوْفَى أنّهُ سُئِلَ عن الْجَرَادِ فقال: "غَزَوْتُ مَعَ النبيّ صلى الله عليه وسلم سِتّ غَزَوَاتٍ نَأْكُلُ الْجَرَادَ".
هَكَذَا رَوَى سُفْيَانُ بنُ عُيَيْنَةَ عن أبي يَعْفُورٍ هذا الْحَدِيثَ وقالَ: سِتّ غَزَاوتٍ. وَرَوَى سُفْيَانُ
ـــــــ
اشتراط تذكيته، واختلفوا في صفتها فقيل بقطع رأسه، وقيل إن وقع في قدر أو نار حل. قال ابن وهب: أخذه ذكاته، ووافق مطرف منهم الجمهور في أنه لا يفتقر إلى ذكاته لحديث ابن عمر: "أحلت لنا ميتتان ودمان، السمك والجراد والكبد والطحال" ، أخرجه أحمد والدارقطني مرفوعاً، وقال إن الموقوف أصح. ورجح البيهقي أيضاً الموقوف إلا أنه قال: إن له حكم الرفع، كذا في الفتح
قوله: "حدثنا سفيان" هو ابن عيينة كما صرح به الترمذي بعد "عن أبي يعفور" بفتح التحتانية وسكون العين وضم الفاء وبالراء اسمه وقدان بفتح الواو وسكون القاف العبدي الكوفي مشهور بكنيته وهو الأكبر، ويقال اسمه واقد ثقة من الرابعة، كذا في التقريب.
قوله: "نأكل الجراد" زاد البخاري في روايته "معه" قال الحافظ في الفتح: يحتمل أن يريد بالمعية مجرد الغزو دون ما تبعه من أكل الجراد، ويحتمل أن يريد مع أكله، ويدل على الثاني أنه وقع في رواية أبي نعيم في الطب: ويأكل معنا. وهذا إن صح يرد على الصميري من الشافعية في زعمه أنه صلى الله عليه وسلم عافه كما عاف الضب، ثم وقفت على مستند الصميري وهو ما أخرجه أبو داود من حديث سلمان: سئل صلى الله عليه وسلم عن الجراد فقال لا آكله ولا أحرمه، والصواب مرسل. ولابن علي في ترجمة ثابت بن زهير عن نافع عن ابن عمر أنه صلى الله عليه وسلم سئل عن الضب فقال: لا آكله ولا أحرمه، وسئل عن الجراد فقال مثل ذلك، وهذا ليس ثابتاً لأن ثابتاً قال فيه النسائي ليس بثقة ونقل النووي الإجماع على حل أكل الجراد، لكن فصل ابن العربي في شرح الترمذي بين جراد الحجاز وجراد الأندلس، فقال في جراد الأندلس لا يؤكل لأنه ضرر محض، وهذا إن ثبت أنه يضر أكله بأن يكون فيه سمية تخصه دون غيره من جراد البلاد تعين استثناؤه انتهى كلام الحافظ بلفظه.
قوله: "هكذا روى سفيان بن عبينة عن أبي يعفور هذا الحديث وقال ست(5/547)
الثّوْرِيّ وغيرواحد هذا عن أبي يَعْفُورَ فقال سَبْعَ غَزَوَاتٍ.
قال وفي البابِ عن ابنِ عُمَرَ وجَابِرٍ.
هذا حديث حسن صحيح. وأبو يعفور اسمه واقد ويقال وقدان أيضاً. وأبو يعفور الآخر اسمه عبد الرحمن بن عبيد بن بسطاس.
1882ـ حدثنا محمودُ بنُ غَيْلاَنَ حدثنا أبو أحمدَ و المؤمّلُ قالا حدثنا سُفْيَانُ عن أبي يَعْفُور عن ابنِ أبي أوْفَى قالَ: "غَزَوْنَا مَعَ رَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم سَبْعَ غَزَوَاتٍ نَأْكُلُ الْجَرَادَ". وروى شُعْبَةُ هذا الحديثَ عن أبي يَعْفُور عن ابنِ أبي أوْفَى قال: "غزوتُ مَعَ رَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم غَزَوَاتٍ نَأْكُلُ الْجَرادَ".
ـــــــ
غزوات، وروى سفيان الثوري عن أبي يعفور هذا الحديث وقال سبع غزوات" ووقع في رواية شعبة عند البخاري عن أبي يعفور عن ابن أبي أوفي: سبع غزوات أو ستاً بالشك. قال الحافظ في الفتح: دلت رواية شعبة على أن شيخهم كان يشك فيحمل على أنه جزم مرة بالسبع، ثم لما طرأ عليه الشك صار يجزم بالست لأنه المتيقن، ويؤيد هذا الحمل أن سماع سفيان بن عيينة عنه متأخر دون الثوري ومن ذكر معه، ولكن وقع عند ابن حبان من رواية أبي الوليد شيخ البخاري فيه سبعاً أو ستاً يشك شعبة انتهى.
قوله: "وفي الباب عن ابن عمر وجابر" أما حديث ابن عمر فقد تقدم تخريجه، وأما حديث جابر فلينظر من أخرجه.
قوله: "هذا حديث حسن صحيح" قال في المنتقي رواه الجماعة إلا ابن ماجة وأبو يعفور الآخر اسمه عبد الرحمن بن عبيد بن نسطاس بكسر النون وسكون السين المهملة كوفي ثقة من الخامسة كذا في التقريب. وأبو يعفور هذا هو الأصغر والأول الأكبر.
قوله: "حدثنا أبو أحمد" هو الزبير "والمؤمل" هو ابن إسماعيل "حدثنا سفيان" هو الثوري.(5/548)
1883ـ حدثنا بذلكَ محمدُ بنُ بَشّارٍ حدثنا محمدُ بنُ جَعْفَرٍ حدثنا شُعْبَةُ بهذَا.
ـــــــ
قوله: "غزونا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم غزوات نأكل الجراد" كذا في هذه الرواية من غير تقييد بالست أو السبع، وعند البخاري سبع غزوات أو ستاً بالشك(5/549)
باب ماجاء في أكل لحوم الجلالة وألبانها
...
23ـ باب ما جاءَ في أكْلِ لُحُومِ الْجلاَلَةِ وأَلْبَانِهَا
1884ـ حدثنا هَنّادٌ حدثنا عَبْدَةُ عن محمدِ بنِ إسحاقَ عن ابنِ أبي نَجِيحٍ عن مُجَاهِدٍ عن ابنِ عُمَرَ قال: "نَهَى رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم عن أكْلِ الْجَلاّلَةِ وَأَلْبَانِهَا".
ـــــــ
"باب ما جاءَ في أكْلِ لُحُومِ الْجلاَلَةِ وأَلْبَانِهَا"
بفتح الجيم وتشديد اللام من أبنية المبالغة وهي الحيوان الذي يأكل العذرة من الجلة بفتح الجيم وهي البعرة. وقال في القاموس: الجلة مثلثة البعر أو البعرة انتهى، وتجمع على جلالات على لفظ الواحدة وجوال كدابة ودواب، يقال: جلت الدابة الجلة وأجلتها فهي جالة وجلالة، وسواء في الجلالة البقر والغنم والإبل وغيرها كالدجاج والأوز وغيرهما. وادعى ابن حزم أنها لا تقع إلا على ذات الأربع خاصة والمعروف التعميم. ثم قيل إن كان أكثر علفها النجاسة فهي جلالة، وإن كان أكثر علفها الطاهر فليست جلالة. وجزم به النووي في تصحيح التنبيه. وقال في الروضة تبعاً للرافعي: الصحيح أنه لا اعتداد بالكثرة بل بالرائحة والنتن، فإن تغير ريح مرقها أو لحمها أو طعمها أو لونها فهي جلالة، كذا في النيل.
قوله: "حدثنا عبدة" هو ابن سليمان الكلابي قوله: "عن ابن أبي نجيح" قال في التقريب: عبد الله بن أبي نجيح يسار المكي أبو يسار الثقفي مولاهم ثقة رمى بالقدر وربما دلس من السادسة انتهى.
قوله: "نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أكل الجلالة وألبانها" أي وعن شرب ألبانها. قال الخطابي: اختلف الناس في أكل لحوم الجلالة وألبانها فكره(5/549)
قال وفي البابِ عن عَبْدِ الله بنِ عَبّاسٍ.
هذا حديثٌ حسنٌ غريبٌ. وَرَوَى الثّوْرِيّ عن ابنِ أبي نَجِيحٍ عن مُجَاهِدٍ عن النبيّ صلى الله عليه وسلم مُرْسَلاً.
1885ـ حدثنا محمدُ بنُ بَشّارٍ حدثنا مُعَاذُ بنُ هِشَامٍ حدثني أبي عن قَتَادَةَ عن عِكْرِمَةَ عن ابنِ عَبّاسٍ أنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم: "نَهَى عن المُجَثّمَةِ ولَبَنِ الْجَلاّلَةِ وعن الشّرْبِ مِنْ في السّقَاء".
قالَ محمدُ بنُ بَشارٍ
ـــــــ
ذلك أصحاب الرأي والشافعي وأحمد بن حنبل وقالوا: لا يؤكل حتى تحبس أياماً وتعلف علفاً غيرها فإذا طاب لحمها فلا بأس بأكله، وقد روي في حديث: أن البقر تعلف أربعين يوماً ثم يؤكل لحمها. وكان ابن عمر يحبس الدجاجة ثلاثة أيام ثم يذبح. وقال إسحاق بن راهويه: لا بأس أن يؤكل لحمها بعد أن يغسل غسلاً جيداً. وكان الحسن البصري لا يرى بأساً بأكل لحوم الجلالة، وكذا قال مالك بن أنس انتهى. وقال ابن رسلان في شرح السنن: وليس للحبس مدة مقدرة وعن بعضهم في الإبل والبقر أربعين يوماً، وفي الغنم سبعة أيام، وفي الدجاجة ثلاثة، واختاره في المهذب والتحرير. ووقع في رواية لأبي داود: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الجلالة في الإبل أن يركب عليها أو يشرب من ألبانها. وعلة النهي عن الركوب أن تعرق فتلوث ما عليها بعرقها، وهذا ما لم تحبس، فإذا حبست جاز ركوبها عند الجميع، كذا في شرح السنن.
قوله: "وفي الباب عن عبد الله بن عباس" أخرجه الترمذي في هذا الباب.
قوله: "هذا حديث حسن غريب" وأخرجه أبو داود وابن ماجة والحاكم وروى الثوري عن ابن نجيح عن مجاهد عن النبي صلى الله عليه وسلم مرسلاً قال الشوكاني: وقد اختلف في حديث ابن عمر علي ابن أبي نجيح فقيل عنه عن مجاهد عن ابن عمر، وقيل عن مجاهد مرسلاً، وقيل عن مجاهد عن ابن عباس انتهى.
قوله: "نهى عن المجثمة" بالجيم والمثلثة المفتوحة التي تربط وتجعل غرضاً للرمي، فإذا مانت من ذلك لم يحل أكلها، والجثوم للطير ونحوها بمنزلة البروك للإبل،(5/550)
وحدثنا ابنُ أبي عَدِيّ عن سَعِيدِ بن أبي عَرُوبَةَ عن قَتَادَةَ عن عِكْرِمَةَ عن ابنِ عَبّاسٍ عن النبيّ صلى الله عليه وسلم نَحْوَهُ.
هذا حديثٌ حسنٌ صحيحٌ.
وفي البابَ عن عبدِ الله بنِ عَمْرٍو.
ـــــــ
فلو جثمت بنفسها فهي جاثمة ومجثمة بكسر المثلثة، وتلك إذا صيدت على تلك الحالة فذبحت جاز أكلها وإن رميت فماتت لأنها تصير موقوذة "عن لبن الجلالة" قد اختلف في طهارة لبن الجلالة، فالجمهور على الطهارة لأن النجاسة تستحيل في باطنها فيظهر بالاستحالة كالدم يستحيل في أعضاء الحيوانات لحماً ويصير لبناً. ويأتي بقية الكلام في الجلالة في الباب الآتي "وعن الشرب من في السقاء" أي من فم القربة وسيأتي الكلام في هذه المسألة في باب اختناث الأسقية من أبواب الأشربة.
قوله: "وفي الباب عن عبد الله بن عمرو" أخرجه أحمد وأبو داود والنسائي والحاكم والدارقطني والبيهقي عنه قال: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن لحوم الحمر الأهلية وعن الجلالة، عن ركوبها وأكل لحومها(5/551)
باب ماجاء في أكل الدجاج
...
24ـ باب ما جَاءَ في أَكْلِ الدّجَاج
1886ـ حدثنا زَيْدُ بنُ أخْزَمَ الطائي حدثنا أبو قُتَيْبَةَ عن أبي العَوّامِ
ـــــــ
"باب ما جَاءَ في أَكْلِ الدّجَاج"
هو اسم جنس مثلث الدال ذكره المنذري في الحاشية وابن مالك وغيرهما ولم يحك النووي الضم والواحدة دجاجة مثلث أيضاً، وقيل إن الضم فيه ضعيف. قال الجوهري: دخلتها الهاء للوحدة مثل الحمامة. وأفاد إبراهيم الحربي في غريب الحديث أن الدجاج بالكسر اسم للذكران دون الإناث، والواحد منها ديك، وبالفتح الإناث دون الذكران، والواحدة دجاجة بالفتح أيضاً، قال وسمي لإسراعه(5/551)
عن قَتَادَةَ عن زَهْدَمٍ الْجَرْمِيّ قالَ: "دَخَلْتُ على أبي مُوسَى وهُوَ يَأْكُلُ دَجَاجَةً فقالَ: ادْنُ فَكُلْ فَإِني رَأَيْتُ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم يَأْكُلُهُ".
هذا حديثٌ حسنٌ. وقد رُوِيَ هذا الحديثُ مِنْ غَيْرِ وَجْهٍ عن زَهْدَمٍ ولا نعرفه إلا من حديث زهدم. وأبو العوام هو عمران القطان.
1887ـ حدثنا هناء حدثنا وكيع عن سفيان عن أيوب عن أبي قلابة عن زهدم عن أبي موسى قال: "رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يأكل لحم دجاج".
قال: وفي الحديث كلام أكثر من هذا
ـــــــ
في الإقبال والإدبار من دج يدج إذا أسرع انتهى. وفي القاموس: الدجاجة معروف للذكر والأنثى ويثلث انتهى
قوله: "حدثنا زيد بن أخزم" هو الطائي قوله: "حدثنا أبو قتيبة" اسمه سلم بن قتيبة "عن أبي العوام" بفتح العين المهملة وشدة الواو اسمه عمران بن داور القطان البصري صدوق يهم ورمى برأي الخوارج من السابعة كذا في التقريب "عن زهدم" بوزن جعفر هو ابن مضرب بضم أوله وفتح الضاد المعجمة وتشديد الراء المكسورة بعدها موحدة "الجرمى" بفتح الجيم أبو مسلم البصري ثقة من الثالثة.
قوله: "وهو يأكل الدجاجة" أي لحمها "فقال ادن" أمر من دنا يدنو دنواً ودناوة أي قرب "فكل فإني رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يأكله" في الحديث دخول المرء على صديقه في حال أكله واستدناه صاحب الطعام الداخل وعرضه دخول المرء على صديقه في حال أكله واستدناه صاحب الطعام الداخل وعرضه الطعام عليه ولو كان قليلاً لأن اجتماع الجماعة على الطعام سبب للبركة فيه كما تقدم، وفيه إباحة لحم الدجاج وملاذ الأطعمة.
قوله: "عن سفيان" هو الثوري "عن أيوب" هو السختياني.
قوله: "رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يأكل لحم دجاج" فيه جواز أكل الدجاج إنسية ووحشية وهو بالانفاق إلا عن بعض المتعمقين على سبيل الورع، إلا أن بعضهم استثنى الجلالة وهي ما تأكل الأقذار، وظاهر صنيع أبي موسى أنه(5/552)
ـــــــ
لم يبال بذلك. وقد أخرج ابن أبي شيبة بسند صحيح عنابن عمر أنه كان يحبس الدجاجة الجلالة ثلاثاً. وقال مالك والليث: لا بأس الجلالة من الدجاج وغيره وإنما جاء النهي عنها للتقذر. وقد ورد النهي عن أكل الجلالة من طرق أصحها ما أخرجه الترمذي وصححه وأبو داود والنسائي من طريق قتادة عن عكرمة عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم: نهى عن المجثمة وعن لبن الجلالة وعن الشرب من في السقاه. وهو على شرط البخاري في رجاله إلا أن أيوب رواه عن عكرمة فقال عن أبي هريرة أخرجه البيهقي والبزار من وجه آخر عن أبي هريرة: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الجلالة وعن شرب ألبانها وأكلها وركوبها. ولابن أبي شيبة بسند حسن عن جابر: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الجلالة أن يؤكل لجمخا أو يشرب لبنها. ولأبي داود والنسائي من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم خيبر عن لحوم الحمر الأهلية وعن الجلالة عن ركوبها وأكل لحمها، وسنده حسن. وقد أطلق الشافعية كراهة أكل الجلالة إذا تغير لحمها بأكل النجاسة، وفي وجه إذا أكثرت من ذلك. ورجح أكثرهم أنها كراهة تنزيه، وهو قضية صنيع أبي موسى، ومن حجتهم أن العلف الطاهر إذا صار في كرشها تنجس فلا تتغذى إلا بالنجاسة، ومع ذلك فلا يحكم على اللحم واللبن بالنجاسة، فكذلك هذا.
وتعقب بأن العلف الطاهر إذا تنجس بالمجاورة جاز إطعامه الدابة لأنها إذا أكلته لا تتغذى بالنجاسة وإنما تتغذى بالعلف بخلاف الجلالة، وذهب جماعة من الشافعية وهو قول الحنابلة إلى أن النهي للتحريم، وبه جزم ابن دقيق العيد عن الفقهاء وهو الذي صححه أبو إسحاق المروزي والقفال وإمام الحرمين والبغوي والغزالي، وألحقوا بلحمها ولبنها بيضها. وفي معنى الجلالة ما يتغذى بالنجس كالشاة ترضع من كلبة. والمعتبر في جواز أكل الجلالة زوال رائحة النجاسة بعد أن تعلف بالشيء الطاهر على الصحيح. وجاء عن السلف فيه توقيت، فعند ابن أبي شيبة عن ابن عمر أنه كان يحبس الدجاجة الجلالة ثلاثاً كما تقدم. وأخرج البيهقي بسند فيه نظر عن عبد الله بن عمر ومرفوعاً أنها لا تؤكل حتى تعلف أربعين يوماً، قاله الحافظ في الفتح.
اعلم أن الترمذي أورد هذا الحديث مختصراً مقتصراً على القدر المذكور وساقه(5/553)
وهذا حديث حسن صحيح وقد روى أيوب السختياني هذا الحديث أيضاً عن القاسم التميمي وعن أبي قلابة عن زهدم الجرمي
ـــــــ
في الشمائل مطولاً إلى هذا أشار بقوله "وفي الحديث كلام أكثر من هذا" وقد أخرجه البخاري مطولاً في باب لحم الدجاج وغيره ومسلم في الإيمان.
قوله: "هذا حديث حسن صحيح" وأخرجه الشيخان "وقد روى أيوب السختياني هذا الحديث عن القاسم التميمي" هو ابن عاصم التميمي ويقال الكليني بضم الكاف وفتح اللام بعدها تحتانية ثم نون نسبة إلى كلين قرية من قرى العراق مقبول من الرابعة.(5/554)
باب ماجاء في أكل الحبارى
...
25ـ باب ما جَاء في أَكْلِ الْحُبَارى
1888ـ حدثنا الفَضْلُ بنُ سَهْلٍ الأعْرَج البَغْدَادِيّ، حدثنا إبراهيم بنُ عَبْدِ الرحمَنِ بنِ مَهْدِي عن إبراهيم بنِ عُمَر بنِ سَفِينَةَ عن أبيهِ عن جَدّهِ
ـــــــ
"باب ما جَاء في أَكْلِ الْحُبَارى"
بضم الحاء وفتح الراء المهملتين مقصوراً، قال في القاموس: الحبارى طائر للذكر والأنثى والواحد والجمع وألفه للتأنيث، وغلط الجوهري إذ لو لم تكن له لانصرفت والجمع حباريات انتهى. وفي حياة الحيون للدميري: الحباري طائر كبير العنق رمادي اللون في منقاره بعض طول ومن شأنها أن تصيد ولا تصاد انتهى.
وفي الصراح حباري بالضم شوات. قال في غيات اللغات: شوات بفتح وضم أول وتاء فوقاني سرخاب ازبرهان وجهاً نكيري ودر تحفة السعادة وسروري بمعنى جرزكه بعربي حباري كويند وبعض كوبندكه فيل مرغ انتهى. وهو نوع من الطير مذكرها ومؤنثها وواحدها وجمعها سواء، وإن شئت قلت في الجمع حباريات. وفي المثل كل شيء يحب ولده حتى الحباري، وإنما خصوا الحباري لأنه يضرب بها المثل في الحمق فهي على حمقها تحب ولدها وتعلمه الطيران انتهى.
قوله "حدثنا إبراهيم بن عبد الرحمن بن مهدي" البصري صدوق له مناكير(5/554)
قال: "أكَلْتُ مَعَ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم لَحْمَ حُبَارَى".
هذا حديثٌ غريبٌ لا نَعْرِفُهُ إلاّ مِنْ هذا الَوجْهِ. وإبراهيم بن عُمَرَ بنِ سَفِينَةَ رَوَى عنه ابنُ أبي فُدَيْكٍ ويقولُ بريد بن عُمَرَ بنِ سَفِينَةَ.
ـــــــ
قيل إنها من قبل الراوي عنه من العاشرة كذا في التقريب "عن إبراهيم بن عمر بن سفينة" لقبه بريه وهو تصغير إبراهيم مستور من السابعة "عن أبيه" أي عمر بن سفينة مولى أم سلمة صدوق من الثالثة قوله: "عن جده" أي سفينة مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم كان عبداً لأم سلمة رضي الله عنها فأعتقته وشرطت عليه أن يخدم النبي صلى الله عليه وآله وسلم.
قوله: "أكلت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم لحم حباري" فيه دلالة على أن الحباري حلال.
قوله: "هذا حديث غريب" وأخرجه أبو داود. قال في التلخيص بعد ذكر هذا الحديث إسناده ضعيف ضعفه العقيلي وابن حبان "روى عنه ابن أبي فديك" بالفاء مصغراً هو محمد بن إسماعيل بن مسلم بن أبي فديك الديلي مولاهم المدني أبو إسماعيل صدوق من صغار الثامنة قوله: "ويقول" أي ابن أبي فديك في روايته "بريه" بضم الموحدة وفتح الراء بعدها تحتانية ساكنة وهاء وقد، عرفت أنه تصغير إبراهيم. قال الحافظ في تهذيب التهذيب في ترجمته: اسمه إبراهيم وبريه لقب غلب عليه. روى عن أبيه عن جده في أكل الحبارى. وعنه ابن أبي فديك وغيره. قال البخاري: إسناده مجهول، وقال العقيلي: لا يعرف إلا به انتهى(5/555)
باب ماجاء في أكل الشواء
...
26ـ باب ما جاءَ في أَكْلِ السوَاء
1889ـ حدثنا الْحَسَنُ بنُ محمدٍ الزّعْفَرَانِيّ، حدثنا حَجّاجُ بنُ محمدٍ
ـــــــ
"باب ما جاءَ في أَكْلِ السوَاء"
بكسر المعجمة والمد، قال في القاموس: شوى اللحم شياً فاشتوى وانشوى هو الشواء بالكسر والضم انتهى.(5/555)
قالَ: قالَ ابنُ جُريْجٍ أخْبَرَنِي محمدُ بنُ يُوسُفَ أنّ عَطَاءَ بنَ بشّار أخْبَرَهُ أنّ أمّ سَلَمَةَ أخْبَرَتْهُ: "أنّهَا قَرّبَتْ إلى رسولِ الله صلى الله عليه وسلم جَنْبَاً مَشْوِيّا فأَكَلَ مِنْهُ ثم قامَ إلى الصّلاَةِ وما تَوَضّأَ".
قال وفي البابِ عن عَبْدِ الله بنِ الْحَارِثِ والمُغِيرَةِ وأبي رَافِعٍ.
ـــــــ
قوله: "حدثنا حجاج بن محمد" هو الصيصي الأعور "أخبرني محمد بن يوسف" بن عبد الله بن يزيد الكندي المدني الأعرج ثقة ثبت من الخامسة.
قوله: "إنها قربت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم جنباً مشوياً فأكل منه" أي من الجنب المشوي.
فإن قلت: ما وجه الجمع بين هذا الحديث وبين حديث أنس: ما أكل النبي صلى الله عليه وسلم خبزاً مرقفاً ولا شاة مسموطة حتى لقي الله عز وجل، أخرجه البخاري.
قلت: قال ابن بطال ما ملخصه: يجمع بين هذا وبين حديث عمرو بن أمية أنه رأى النبي صلى الله عليه وسلم يحتز من كنف شاة، وحديث أم سلمة الذي أخرجه الترمذي بأن يقال: يحتمل أن يكون لم يتفق أن تسمط له شاة بكمالها لأنه قد احتز من الكتف مرة ومن الجنب الأخرى وذلك لحم مسموط، أو يقال إن أنساً قال لا أعلم ولم يقطع به، ومن علم حجة على من لم يعلم. وتعقبه ابن المنير بأنه ليس في حز الكنف ما يدل على أن الشاة كانت مسموطة بل إنما حزها لأن العرب كانت عادتها غالباً أنها لا تنضج اللحم فاحتيج إلى الحز. قال الحافظ: ولا يلزم أيضاً من كونها مشوية واحتز من كتفها أو جنبها أن تكون مسموطة فإن شيء المسلوخ أكثر من شيء المسموط، لكن قد ثبت أنه أكل الكراع وهو لا يؤكل إلا مسموطاً، هذا لا يرد على أنس في نفي رواية الشاة المسموطة انتهى.
قوله: "وفي الباب عن عبد الله بن الحارث والمغيرة وأبي رافع" أما حديث عبد الله بن الحارث فأخرجه أحمد ص وأما حديث المغيرة فأخرجه أبو داود والترمذي وابن ماجه، وأما حديث أبي رافع فأخرجه أحمد.(5/556)
هذا حديثٌ حسنٌ صحيحٌ غريبٌ مِنْ هَذا الوَجْهِ.
ـــــــ
قوله: "هذا حديث حسن صحيح غريب" وأخرجه أحمد(5/557)
باب ماجاء في كراهية الأكل متكئا
...
27ـ باب مَا جَاءَ في كَرَاهِيَةِ الأَكْلِ مُتّكِئا
1890 ـ حدثنا قُتَيْبَةُ، حدثنا شَرِيكٌ عن عَلِيّ بنِ الأقْمَرِ عن أبي جُحَيْفَةَ قالَ: قالَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: "أمّا أنَا فَلاَ آكُلُ مُتّكِئاً" .
ـــــــ
"باب مَا جَاءَ في كَرَاهِيَةِ الأَكْلِ مُتّكِئا"
قوله: "أما أنا فلا آكل متكئاً" سبب هذا الحديث قصة الأعرابي المذكور في حديث عبد الله بن بسر عند ابن ماجه والطبراني بسند حسن قال: أهديت النبي صلى الله عليه وسلم شاة فجثى على ركبتيه يأكل، فقال له أعرابي ما هذه الجلسة؟ فقال: "إن الله جعلني عبداً كريماً ولم يجعلني جباراً عنيداً" . قال ابن بطال: إنما فعل النبي صلى الله عليه وسلم تواضعاً لله. ثم ذكر من طريق أيوب عن الزهري قال: أتى النبي صلى الله عليه وسلم ملك لم يأته قبلها فقال: "إن ربك يخيرك بين أن تكون عبداً نبياً أو ملكاً نبياً" قال: فنظر إلى جبريل كالمستشير له فأومأ إليه أن تواضع فقال: "بل عبدا نبيا" قال: فما أكل متكئا انتهى. قال الحافظ: وهذا مرسل أو معضل وقد وصله النسائي من طريق الزبيدي عن الزهري عن محمد بن عبد الله بن عباس قال كان ابن عباس يحدث فذكر نحوه . وأخرج أبو داود من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص قال ما رؤي النبي صلى الله عليه وسلم يأكل متكئاً قط وأخرج ابن أبي شيبة عن مجاهد قال : ما أكل النبي صلى الله عليه وسلم متكئا إلا مرة ثم نزع فقال "اللهم إني عبدك ورسولك" ، وهذا مرسل. ويمكن الجمع بأن تلك المرة التي في أثر مجاهد ما اطلع عليها عبد الله بن عمرو، فقد أخرج ابن شاهين في ناسخه من مرسل عطاء بن يسار أن جبريل رأى النبي صلى الله عليه وسلم يأكل متكئاً فنهاه ومن حديث أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم لما نهاه جبريل عن الأكل متكئاً لم يأكل متكئاً بعد ذلك.(5/557)
ـــــــ
واختلف في صفة الاتكاء، فقيل أن يتمكن في الجلوس للأكل على أي صفة كان، وقيل أن يميل على أحد شقيه، وقيل أن يعتمد على يده اليسرى من الأرض، قال الخطابي: تحسب العامة أن المتكئ هو الأكل على أحد شقيه وليس كذلك بل هو المعتمد على الوطاء الذي تحته، قال ومعنى الحديث إني لا أقعد متكئاً على الوطإ عند الأكل فعل من يستكثر، من الطعام فإني لا آكل إلا البلغة من الزاد فلذلك أقعد مستوفزاً. وفي حديث أنس أنه صلى الله عليه وسلم أكل تمراً وهو مقع، وفي رواية وهو محتضر، والمراد الجلوس على وركيه غير متمكن وأخرج ابن عدي بسند ضعيف زجر النبي صلى الله عليه وسلم أن يعتمد الرجل على يده اليسرى عند الأكل، قال مالك: هو نوع من الاتكاء. قال الحافظ: وفي هذا إشارة من مالك إلى كراهة كل ما يعد الأكل فيه متمكناً ولا يختص بصفة بعينها. وجزم ابن الجوزي في تفسير الاتكاء بأنه الميل على أحد الشقين ولم يلتفت لإنكار الخطابي ذلك. وحكى ابن الأثير في النهاية أن من فسر الاتكاء بالميل على أحد الشقين تأوله على مذهب الطب بأنه لا ينحدر في مجاري الطعام سهلاً ولا يسيغه هنيئاً وربما تأذى.
واختلف السلف في حكم الأكل متكئاً فزعم ابن القاص أن ذلك من الخصائص النبوية، وتعقبه البيهقي فقال قد يكره لغيره أيضاً لأنه من فعل المتعظمين، وأصله مأخوذ من ملوك العجم، قال فإن كان بالمرء مانع لا يتمكن معه من الأكل إلا متكئاً لم يكن في ذلك كراهة، ثم ساق عن جماعة من السلف أنهم أكلوا كذلك، وأشار إلى حمل ذلك عنهم على الضرورة وفي الحمل نظر. وقد أخرج ابن أبي شيبة عن ابن عباس وخالد بن الوليد وعبيدة السلماني ومحمد بن سيرين وعطاء بن يسار والزهري جواز ذلك مطلقاً وإذا ثبت كونه مكروهاً أو خلاف الأولى فالمستحب في صفة الجلوس للأكل أن يكون جاثياً على ركبتيه وظهور قدميه أو ينصب الرجل اليمنى ويجلس على اليسرى، واستثنى الغزالي من كراهة الأكل مضطجعاً أكل البقل.
واختلف في علة الكراهة، وأقوى ما ورد في ذلك ما أخرجه ابن أبي شيبة من طريق إبراهيم النخعي قال: كانوا يكرهون أن يأكلوا اتكاءة مخافة أن تعظم بطونهم، وإلى ذلك يشير بقية ما ورد فيه من الأخبار فهو المعتمد. ووجه الكراهة فيه ظاهر، وكذلك ما أشار إليه ابن الأثير من جهة الطب كذا في الفتح.(5/558)
قال وفي البابِ عن عَلِيّ وعَبْدِ الله بنِ عَمْرٍو وعَبْدِ الله بنِ عَبّاسِ.
هذا حديثٌ حسنٌ صحيحٌ لا نَعْرِفُهُ إلاّ مِنْ حَدِيثِ عَلِيّ بنِ الأقْمرِ.
ورَوَى زَكَرِيّا بنُ أبِي زَائِدَةَ وسُفْيَانُ الثوري وابنُ سَعِيدٍ وغَيْرُ واحِدٍ عن عليّ بنِ الأقْمَر هذا الْحَدِيثَ. ورَوَى شُعْبَةُ عن سُفْيَانَ الثّورْيّ هذا الْحَدِيثَ عن عَلِيّ بن الأَقْمَرِ.
ـــــــ
قوله: "وفي الباب عن علي وعبد الله بن عمرو وعبد الله بن العباس" أما حديث علي فلينظر من أخرجه. وأما حديث عبد الله بن عمرو فأخرجه أبو داود وابن ماجه وتقدم لفظه. وأما حديث عبد الله بن العباس فأخرجه النسائي كما في الفتح.
قوله: "هذا حديث حسن صحيح" وأخرجه البخاري وأبو داود والنسائي وابن ماجه(5/559)
باب ماجاء في حب النبي صلى الله عليه وسلم الحلواء والعسل
...
28ـ باب مَا جَاءَ في حُبّ النبي
صلى الله عليه وسلم الْحَلْوَاءَ والعَسَل
1891ـ حدثنا سَلَمَةَ بنُ شَبِيبٍ و محمودُ بنُ غَيْلاَنَ و أحمدُ بنُ إبراهيم الدّوْرَقِيّ قالوا حدثنا أبُو أُسَامَةَ عن هِشَامِ بنِ عُرْوَةَ عن أبيهِ عن عَائِشَةَ قَالَتْ
ـــــــ
باب مَا جَاءَ في حُبّ النبي صلى الله عليه وسلم الْحَلْوَاءَ والعَسَل
الحلواء بالمد والقصر لغتان وهي عند الأصمعي بالقصر تكتب بالياء، وعند الفراء بالمد تكتب بالألف. وقال الليث الأكثر على المد وهو كل حلو يؤكل. وقال الخطابي: اسم الحلوى لا يقع إلا على ما دخلته الصنعة. وفي المخصص لابن سيده: هي ما عولج من الطعام بحلاوة وقد تطلق على الفاكهة.
قوله: "حدثنا سلمة بن شبيب" هو النيسابوري "حدثنا أبو أسامة" اسمه حماد ابن أسامة "عن هشام بن عروة" بن الزبير بن العوام الأسدي ثقة فقيه ربما دلس من الخامسة "عن أبيه" أي عروة بن الزبير بن العوام بن خويلد الأسدي المدني ثقة فقيه مشهور من الثانية.(5/559)
: "كانَ النبيّ صلى الله عليه وسلم يُحِبّ الْحَلْواءَ والعَسَلَ".
هذا حديثٌ حسنٌ صحيحٌ غريبٌ. وقد رَوَاهُ عَلِيّ بنُ مُسْهِرٍ عن هِشَامِ بنِ عُرْوَةَ. وفي الحَدِيثِ كَلاَمٌ أكْثَرُ مِنْ هَذَا.
ـــــــ
قوله: "كان النبي صلى الله عليه وسلم يحب الحلواء والعسل" قال النووي: المراد بالحلواء هنا كل شيء حلو، وذكر العسل بعدها تنبيهاً على شرافته ومزبته وهو من باب ذكر الخاص بعد العام انتهى. قال ابن بطال: الحلوى والعسل من جملة الطيبات المذكورة في قوله تعالى: {كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ} وفيه تقوية لقول من قال المراد به المستلذ من المباحات، ودخل في معنى هذا الحديث كل مايشابه الحلوى والعسل من أنواع المآكل اللذيذة. وقال الخطابي وتبعه ابن التين: لم يكن حبه صلى الله عليه وسلم على معنى كثرة التثهي لها وشدة نزاع النفس إليها وإنما كان ينال منها إذا أحضرت إليه نيلاً صالحاً فيعلم بذلك أنها تعجبه انتهى.
قوله: "هذا حديث حسن صحيح غريب" وأخرجه البخاري في الطلاق والأطعمة والأشربة والطب وترك الحيل، وأخرجه مسلم في الطلاق، وأبو داود في الأشربة والنسائي في الوليمة والطب، وابن ماجه في الأطعمة "وفي الحديث كلام أكثر من هذا" يعني أن هذا الحديث مطول، واختصره الترمذي، وأخرجه البخاري مطولاً في الطلاق والحيل ومسلم في الطلاق(5/560)
باب ماجاء في إكثار المرقة
...
29ـ باب ما جَاءَ في إكْثَارِ ماء الْمَرَقَة
1892 ـ حدثنا محمدُ بنُ عُمَرَ بنِ علِي المُقَدّمِيّ حدثنا مُسْلِمُ بنُ إبراهيم
ـــــــ
"باب ما جَاءَ في إكْثَارِ ماء الْمَرَقَة"
قال في القاموس: المرق بالتحريك هو من الطعام معروف والمرقة أخص انتهى، ويقال لها بالفارسية شوربا.
قوله: "حدثنا مسلم بن إبراهيم" الإزدي الفراهيدي أبو عمر والبصري ثقة مأمون(5/560)
حدثنا محمدُ بنُ فَضَاءٍ حدثني أبِي عن عَلْقَمَةَ بنِ عَبْدِ الله المُزَنيّ عن أبيهِ قالَ: قالَ النبي صلى الله عليه وسلم: "إذَا اشْتَرَى أحَدُكُمْ لَحْماً فَلْيُكْثِرْ مَرَقَتَهُ، فإنْ لَمْ يَجِدْ لَحْماً أصَابَ مَرَقَة وَهُوَ أحَدُ اللّحْمَيْن" .
وفي البابِ عن أبي ذرّ.
هذا حديثٌ غريبٌ لا نَعْرِفُهُ إلاّ مِنْ هذا الْوَجْهِ مِنْ حديثِ محمدِ بنِ فَضَاءٍ. ومحمدُ بنُ فَضَاءِ هُوَ المُعَبّرُ، وقد تكَلّمَ فيهِ سُلَمَانُ بنُ حَرْبٍ. وعَلْقَمَةُ بن عبدالله هُوَ أخُو بَكْرٍ بنِ عَبْدِ الله المُزَنِيّ.
ـــــــ
مكثر عمى بآخره من صغار التاسعة، مات سنة اثنتين وعشرين وهو أكبر شيخ لأبي داود "حدثنا محمد بن فضاء" بفتح الفاء والمعجمة مع المد الأزدي أبو بحر البصري ضعيف من السادسة قوله: "حدثنا أبي" أي فضاء بن خالد الجهضمي البصري مجهول قوله: "عن علقمة بن عبد الله المزني" قال في التقريب: علقمة بن عبد الله بن سنان وقبل اسم جده عمر والمزني البصري ثقة من الثالثة "عن أبيه" أي عبد الله بن سنان بن نبيشة ابن سلمة المزني وقيل هو عبد الله بن عمرو بن هلال صحابي نزل البصرة وكان أحد البكائين، كذا في التقريب.
قوله: "إذا اشترى أحدكم لحماً" ليطبخه والمراد حصله بشراء أو غيره، فذكر الشراء غالبي "فليكثر" من الإكثار "فإن لم يجد" أي أحدكم "وهو أحد اللحمين" لأن دسم اللحم يتحلل فيه فيقوم مقام اللحم في التغذي والنفع.
قوله: "وفي الباب عن أبي ذر" أخرجه الترمذي بعد هذا.
قوله: "هذا حديث غريب" وأخرجه الحاكم والبيهقي وهو حديث ضعيف "ومحمد بن فضاء هي المعبرة وقد تكلم فيه سليمان بن حرب" قال الحافظ في تهذيب التهذيب في ترجمته: قال البخاري: سمعت سليمان بن حرب يضعفه ويقول كان يبيع الشراب، قال ابن معين: ضعيف الحديث ليس بشيء، وقال ابن الجنيد: قلت لابن معين محمد بن فضاء كان يعبر الرؤيا قال: نعم وحديثه مثل تعبيره،(5/561)
1893ـ حدثنا الحُسَيْنُ بنُ عليّ بنِ الأَسْوَدِ البَغْدَادِيّ حدثنا عَمْرُو بنُ محمدٍ العَنْقَزِيّ حدثنا إسرائيلُ عن صَالِحِ بنِ رُسْتُمْ أبِي عَامِرٍ الخَزّازِ عن أبِي عِمْرَانَ الجَوْنِيّ عن عَبْدِ الله بنِ الصّامِتِ عن أبي ذَر قالَ: قالَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: "لاَ يَحْقِرَنّ أَحَدُكُمْ شَيْئاً مِنَ المَعْرُوفِ
ـــــــ
وقال أبو زرعة: ضعيف الحديث، وقال النسائي: ضعيف الحديث، وقال مرة: ليس بثقة انتهى "وعلقمة هو أخو بكر بن عبد الله المزني" كذا قال الترمذي وكذا قال غير واحد من أئمة الحديث. قال الحافظ في تهذيب التهذيب في ترجمته: وقال ابن حبان في الثقات: علقمة بن عبد الله بن عمرو بن هلال المزني أخو بكر بن عبد الله المزني، روى عنه أهل البصرة، مات سنة مائة في خلافة عمر بن عبد العزيز وكذا قال البخاري في التاريخ الكبير وأبو حاتم وأبو عبد الله بن مندة وأبو عمر بن عبد البر وغيرهم إنه أخو بكر بن عبد الله بن عمرو المزني، وكذا قال ابن عساكر في الأطراف وتبعه المؤلف، وتردد هنا لما رواه الاَجري عن أبي داود من أنه قيل لأبي داود: علقمة بن عبد الله هو أخو بكر بن عبد الله؟ قال: لا، انتهى.
قوله: "حدثنا الحسين بن علي بن الأسود البغدادي" العجلي أبو عبد الله الكوفي صدوق يخطيء كثيراً لم يثبت أن أبا داود روى عنه من الحادية عشرة "حدثنا عمرو بن محمد العنقزي" بفتح العين المهملة والقاف بينها نون ساكنة وبالزاي أبو سعيد الكوفي ثقة من التاسعة. ووقع في النسخة الأحمدية: عمرو بن محمد بن العنقزي بزيادة لفظ ابن بين محمد والعنقزي وهو غلط "حدثنا إسرائيل" هو ابن يونس "عن صالح بن رستم أبي عامر الخزاز" بمعجمات المزني مولاهم البصري، صدوق كثير الخطأ من السادسة.
قوله: "لا يحقرن أحدكم شيئاً من المعروف" قال الطيبي: المعروف اسم جامع لكل ما عرف من طاعة الله تعالى والإحسان إلى الناس وهو من الصفات الغالبة أي أمر معروف بين الناس إذا رأوه لم ينكروه، ومن المعروف النصفة وحسن(5/562)
وإن لَمْ يَجِدْ فَلْيَلْقَ أخَاهُ بِوَجْهٍ طَلِقٍ، وإن اشْتَرَيْتَ لَحْماً أوْ طَبَخْتَ قِدْراً فَأَكْثِرْ مَرَقَتَهُ واغْرِفْ لِجَارِكَ مِنْهُ" .
هذا حديثٌ حسنٌ. وقد روه شُعْبَةُ عن أبِي عِمْرَانَ الْجَوْنِيّ.
هذا حديثٌ حسنٌ.
ـــــــ
الصحبة مع الأهل وغيرهم وتلقي الناس بوجه طلق "وإن لم يجد" أي أحدكم شيئاً من المعروف قوله: "فليلق أخاه بوجه طلق" ضد العبوس وهو الذي فيه البشاشة والسرور، فإنه يصل إلى قلبه سرور، ولا شك أن إيصال السرور إلى قلب مسلم حسنة "وإذا اشتريت لحماً أو طبخت قدراً" الظاهر أن أو للشك، ويحتمل أن تكون للتنويع، والمعنى إذا طبخت لحماً أو طبخت قدراً من غير اللحم كالسلق وغيره "واغرق لجارك منه" أي أعط غرفة منه لجارك، قال في القاموس: غرف الماء يغرفه، ويغرفه: أخذه بيده كاغترافه، والغرفة للمرة انتهى.
قوله: "هذا حديث حسن صحيح" قال الحافظ في الفتح: أخرجه النسائي الترمذي وصححه وكذلك ابن حبان(5/563)
باب ماجاء في فضل الثريد
...
30ـ باب ما جَاءَ في فَضْلِ الثرِيد
1894ـ حدثنا محمدُ بنُ المُثَنّى حدثنا محمدُ بنُ جَعْفَرٍ حدثنا شُعْبَةُ عن عَمْرِو بنِ مُرّةَ الهمداني عن أبي مُوسَى عن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال: "كَمُلَ مِنَ الرّجَالِ كَثِيرٌ وَلَمْ يَكْمُلْ مِنَ النّسَاءِ إلاّ مَرْيَمُ بِنْت
ـــــــ
"باب ما جَاءَ في فَضْلِ الثرِيد"
بفتح المثلثة وكسر الراء معروف وهو أن يثرد الخبز بمرق اللحم، وقد يكون معه اللحم، ومن أمثالهم: الثريد أحد اللحمين، وربما كان أنفع وأقوى من نفس اللحم النضيج إذا ثرد بمرقته.
قوله: "كمل" بتثليث الميم، قال في القاموس: كمل كنصر وكرم وعلم كمالاً وكمولاً انتهى أي صار كاملاً أو بلغ مبلغ الكمال قوله: "من الرجال كثير" أي كثيرون(5/563)
عِمْرَانَ وآسِيَةُ امْرَأَةُ فِرْعَوْنَ، وفَضْلُ عَائِشَةَ على النّسَاءِ كَفَضْلِ الثّرِيدِ على سَائِرِ الطعَامِ" .
ـــــــ
من أفراد هذا الجنس حتى صاروا رسلاً وأنبياء وخلفاء وعلماء وأولياء "ولم يكمل من النساء إلا مريم بنت عمران وآسية امرأة فرعون" والتقدير إلا قليل منهن، ولما كان ذلك القليل محصوراً فيهما بإعتبار الأمم السابقة نص عليهما بخلاف الكمل من الرجال فإنه يبعد تعدادهم واستقصاؤهم بطريق الانحصار، سواء أريد بالكمل الأنبياء أو الأولياء. قال الحافظ في الفتح: استدل بهذا الحصر على أنهما نبيتان لأن أكمل الإنسان الأنبياء ثم الأولياء والصديقون والشهداء، فلو كانتا غير نبيتين للزم أن لا يكون في النساء ولية ولا صديقة ولا شهيدة، والواقع أن هذه الصفات في كثير منهن موجودة، فكأنه قال ولم ينبأ من النساء إلا فلانة وفلانة، ولو قال: لم تثبت صفة الصديقية أو الولاية أو الشهادة إلا لفلانة وفلانة لم يصح لوجود ذلك في غيرهن إلا أن يكون المراد في الحديث كمال غير الأنبياء فلا يتم الدليل على ذلك لأجل ذلك انتهى.
وقال الكرماني: لا يلزم من لفظ الكمال ثبوت نبوتهما لأنه يطلق لتمام الشيء وتناهيه فيه بابه، فالمراد ببلوغهما إليه في جميع الفضائل التي للنساء. قال: وقد نقل الإجماع على عدم نبوة النساء كذا قال. وقد نقل عن الأشعري: من النساء من نبيء وهن ست: حواء وسارة وأم موسى وهاجر وآسية ومريم، والضابط عنده أن من جاه الملك عن الله بحكم من أمر ونهى أو بإعلام مما سيأتي فهو نبي، وقد ثبت مجيء الملك لهؤلاء بأمور شتى من ذلك من عند الله عز وجل، ووقع التصريح بالإيحاء لبعضهن في القرآن. وذكر ابن حزم في الملل والنحل أن هذه المسألة لم يحدث التنازع فيها إلا في عصره بقرطبة وحكى عنهم أقوالاً ثالثها الوقف قال: وحجة المانعين قوله تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجَالاً} قال وهذا لا حجة فيه فإن أحداً لم يدع فيهن الرسالة وإنما، الكلام في النبوة فقط، قال: وأصرح ما ورد في ذلك قصة مريم، وفي قصة أم موسى، ما يدل على ثبوت ذلك لها من مبادرتها بإلقاء ولدها في البحر بمجرد الوحي إليها بذلك، قال: وقد قال الله تعالى بعد أن ذكر مريم والأنبياء بعدها {أُولَئِكَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ(5/564)
قال وفي البابِ عن عَائِشَةَ وَأَنَسٍ.
هذا حديثٌ حسنٌ صحيحٌ.
ـــــــ
النَّبِيِّينَ} فدخلت في عمومه والله تعالى أعلم. وقال القرطبي: الصحيح أن مريم نبية لأن الله تعالى أوحى إليها بواسطة الملك، وأما آسية فلم يرد ما يدل على نبوتها، كذا في الفتح "وفضل عائشة على النساء" أي على جنسهن من نساء الدنيا جميعهن، أو على نساء الجنة أو على نساء زمانها. أو على نساء هذه الأمة "كفضل الثريد على سائر الطعام" قال الحافظ: ليس فيه تصريح بأفضلية عائشة رضي الله تعالى عنها على غيرها لأن فضل الثريد على غيره من الطعام إنما هو لما فيه من تيسير المؤنة وسهولة الإساغة، وكان أجل أطعمتهم يومئذ، وكل هذه الخصال لا تستلزم ثبوت الأفضلية له من كل جهة، فقد يكون مفضولاً بالنسبة لغيره من جهات أخرى، ويأتي بقية الكلام في هذا في فضل عائشة من أبواب المناقب.
قوله: "هذا حديث حسن صحيح" وأخرجه البخاري في كتاب الأنبياء وفي فضل عائشة وفي الأطعمة، وأخرجه مسلم في الفضائل والنسائي في الماتب وفي عشرة النساء، وابن ماجه في الأطعمة(5/565)
باب ماجاء انهشوا اللحم نهشا
...
31ـ باب ما جَاءَ أنه قال: انْهَسوا اللّحْمَ نَهْسا
1895 ـ حدثنا أحمدُ بنُ مَنِيعٍ حدثنا سُفْيَان عن عَبْدِ الكَرِيمِ عن عَبْدِ الله بنِ الحَارِثِ قال: "زَوّجَنِي أبِي فَدَعَا
ـــــــ
"باب ما جَاءَ أنه قال: انْهَشوا اللّحْمَ نَهْشا"
قوله: "عن عبد الله بن الحارث" بن نوفل بن الحارث بن عبد المطلب الهاشمي أبو محمد المدني أمير البصرة له رواية ولأبيه وجده صحبة قال ابن عبد البر: أجمعوا على توثيقه، كذا في التقريب.(5/565)
أُنَاساً فيهم صَفْوَانُ بنُ أُمَيّةَ فقال إنّ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم قالَ:
"انْهَسُوا اللّحْمَ نَهْساً "أنهشوا اللحم نهشاً" فإنّهُ أَهْنَأُ وَأَمْرَأُ" .
وفي البابِ عن عَائِشَةَ وأبي هُرَيْرَةَ.
ـــــــ
قوله: "انهسوا اللحم نهساً" بالسين المهملة، وفي بعض النسخ: أنهشوا اللحم نهشاً، بالشين المعجمة. قال في القاموس: نهس اللحم كمنع وسمع أخذه بمقدم أسنانه ونتفه، وقال في باب الشين المعجمة: نهشه كمنعه نهسه ونسعه وعضه أو أخذه بأضراسه، وبالسين أخذه بأطراف الأسنان انتهى، وقال الحافظ في الفتح: النهش بفتح النون وسكون الهاء بعدها شين معجمة أو مهملة وهما بمعنى عند الأصمعي، وبه جزم الجوهري وهو القبض على اللحم بالفم وإزالته عن العظم أو غيره، وقيل بالمعجمة هذا وبالمهملة تناوله بمقدم الفم، وقيل النهس بالمهملة القبض على اللحم ونتره عند الأكل انتهى "فإنه" أي النهس "أهنأ" من الهنيء وهو اللذيذ الموافق للغرض "وأمرأ" من الاستمراء وهو ذهاب كظة الطعام وثقله، ويقال هنأ الطعام ومرأ إذا كان سائغاً أو جارياً في الحلق من غير تعب. قال الحافظ في الفتح: قال شيخنا يعني الحافظ العراقي: الأمر فيه محمول على الإرشاد فإنه علله بكونه أهنأ وأمرأ أي أشد هنأ ومراءة، ويقال هنيء صار هنيئاً، ومرئ صار مريئاً، وهو أن لا يثقل على المعدة وينهضم عنها. قال: ولم يثبت النهي قطع اللحم بالسكين بل ثبت الحز من الكتف فيختلف بإختلاف اللحم كما إذا عسر نهشه بالسن قطع بالسكين، وكذا إذا لم تحضر السكين، وكذا يختلف بحسب العجلة والتأني انتهى.
قوله: "وفي الباب عن عائشة وأبي هريرة" أما حديث عائشة فأخرجه أبو داود والبيهقي في شعب الإيمان عنها قالت قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا تقعطوا اللحم بالسكين فإنه من صنع الأعاجم وأنهسوه فإنه أهنأ وأمراً" ، قال أبو داود: وليس هو بالقوي. وقال المنذري: في إسناده أبو معشر السدي المدني واسمه نجيح وكان يحيى بن سعيد القطان لا يحدث عنه ويستضعفه جداً ويضحك إذا ذكره غيره، وتكلم فيه غير واحد من الأئمة. وقال أبو عبد الرحمن(5/566)
وهذا حديثٌ لا نَعْرِفُهُ إلاّ مِنْ حديثِ عَبْدِ الكَرِيمِ. وقد تَكَلّمَ بَعْضُ أهلِ الْعِلْمِ في عَبْدِ الكَرِيمِ المُعَلّمِ مِنْ قِبَلِ حِفْظِهِ منهم أيوب السختياني.
ـــــــ
النسائي: أبو معشر له أحاديث مناكير منها هذا، ومنها عن أبي هريرة: ما بين المشرق والمغرب قبله. وأما حديث أبي هريرة فأخرجه الترمذي في الباب الآتي بعد باب.
قوله: "هذا حديث لا نعرفه إلا من حديث عبد الكريم" وأخرجه أحمد والحاكم(5/567)
باب ماجاء عن النبي صلى الله عليه وسلم من الرخصة في قطع اللحم بالسكين
...
32ـ باب ما جَاء عن النبيّ صلى الله عليه وسلم
مِنَ الرّخْصَةِ في قَطْعِ اللّحْمِ بالسّكّين
1896ـ حدثنا محمودُ بنُ غَيْلاَنَ حدثنا عَبْدُ الرّزّاقِ أخبرنا مَعْمَرٌ عن الزّهْرِيّ عن جَعْفَرِ بنِ عَمْرِو بنِ أُمَيّةَ الضّمرِيّ عن أبيهِ "أنّهُ رأَى النبيّ صلى الله عليه وسلم احْتَزّ مِنْ كَتِفِ شَاةٍ فَأَكَلَ منها ثُمّ مَضَى إلى الصّلاَةِ وَلَمْ يَتَوّضأْ".
ـــــــ
"باب ما جَاء عن النبيّ صلى الله عليه وسلم مِنَ الرّخْصَةِ في قَطْعِ اللّحْمِ بالسّكّين"
وفيه لغة أخرى وهي السكينة والأول أشهر، قال الجوهري: السكين يذكر ويؤنث والغالب عليه التذكير انتهى، ويقال له بالفارسية كارد.
قوله: "عن جعفر بن عمرو بن أمية الضمري" المدني، وهو أخو عبد الملك ابن مروان من الرضاعة ثقة من الثالثة "عن أبيه" أي عمرو بن أمية بن خويلد ابن عبد الله الضمري صحابي مشهور، أول مشاهده ببر معونة، مات في خلافة معاوية.
قوله: "احتز" أي قطع بالسكين، قال في النهاية: هو افتعل من الحز القطع ومنه الحزة وهي القطعة من اللحم وغيره، وقيل الحز القطع في الشيء من غير(5/567)
هذا حديثٌ حسنٌ صحيحٌ. وفي البابِ عَنْ المُغِيرَةِ بنِ شُعْبَةَ.
ـــــــ
إِبانة، يقال حززت العود احزه حزاً انتهى "من كتف شاة" قال في القاموس: الكتف كفرح ومثل وجبل انتهى "ثم مضى إلى الصلاة ولم يتوضأ" وفي رواية البخاري في الأطعمة: فدعى إلى الصلاة فألقاها. والسكين التي يحتز بها ثم قام فصلى ولم يتوضأ. قال العيني في العمدة: فيه جواز قطع اللحم بالسكين للأكل حسن، ولا يكره أيضاً قطع الخبز بالسكين إذ لم يأت نهى صريح عن قطع الخبز وغيره بالسكين. فإن قلت: روى الطبراني عن ابن عباس وأم سلمة رضي الله تعالى عنهم: لا تقطعوا بالسكين ولكن ليأخذه بيده فلينهسه بفيه فإنه أهنأ وأمرأ، وروى أبو داود من رواية أبي معشر عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة رضي الله تعالى عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا تقطعوا اللحم بالسكين فإنه من صنيع الأعاجم فانهسوه فإنه أهنأ وأمراً" . قلت: في سند حديث الطبراني عباد بن كثير الثقفي وهو ضعيف، وحديث أبي داود قال النسائي: أبو معشر له أحاديث مناكير منها هذا، وقال ابن عدي: لا يتابع عليه هو ضعيف، انتهى كلام العيني بلفظه.
قوله: "هذا حديث حسن صحيح" وأخرجه البخاري في الطهارة والصلاة والجهاد والأطعمة وأخرجه النسائي في الوليمة وابن ماجه في الطهارة.
قوله: "وفي الباب عن المغيرة بن شعبة" قال الحافظ في الفتح: أخرج أصحاب السنن الثلاثة من حديث المغيرة بن شعبة: بت عند رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان يحز لي من جنب حتى أذن بلال فطرح السكين وقال ماله تربت يداه(5/568)
باب ماجاء أي اللحم كان أحب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم
...
33ـ باب ما جَاء في أي اللّحْمِ كانَ أَحَبّ إلى رسولِ الله صلى الله عليه وسلم
1897ـ حدثنا وَاصِلُ بنُ عَبْدِ الأَعْلَى حدثنا محمدُ بنُ فضَيْلِ عن
ـــــــ
"باب ما جَاء في أي اللّحْمِ كانَ أَحَبّ إلى رسولِ الله صلى الله عليه وسلم"
قوله: "حدثنا واصل بن عند الأعلى" الأسد الكوفي "حدثنا محمد بن الفضيل"(5/568)
أبي حَيّانَ التَيْمِيّ عن أبي زُرْعَةَ عن أبي هُرَيْرَةَ قَالَ: "أُتِيَ النبيّ صلى الله عليه وسلم بِلَحْمٍ فَرفِعَ إليهِ الذّرَاعُ، وكانت تعْجِبُهُ، فَنَهَسَ مِنْهَا".
قال وفي البابِ عن ابنِ مَسْعُودٍ وعَائِشَةَ وَعَبْدِ الله بنِ جَعْفَرٍ وأَبِي عُبَيْدَةَ.
ـــــــ
هو الضبي الكوفي "عن أبي زرعة بن عمرو بن جرير" بن عبد الله البجلي الكوفي، قيل اسمه هرم، وقيل عمرو، وقيل عبد الله، وقيل عبد الرحمن، وقيل جرير، ثقة من الثالثة.
قوله: "فدفع إليه الذراع" قال في القاموس: الذراع بالكسر من طرف المرفق إلى طرف الأصبع الوسطى والساعد وقد يذكر فيهما والجمع أذرع وذرعان بالضم، ومن يدي البقر والغنم فوق الكراع، ومن يد البعير فوق الوظيف، وكذلك من الخيل والبغال والحمير انتهى "وكان" أي الذراع "يعجبه" أي يروقه وهو يستحسنه ويحبه. قال النووي: محبته صلى الله عليه وسلم للذراع لنضجها "فنهس منها" أي من الذراع، قيل استحب النهس للتواضع وعدم التكبر، ولأنه أهنأ وأمرأ كما مر في حديث صفوان بن أمية.
قوله: "وفي الباب عن ابن مسعود وعائشة وعبد الله بن جعفر وأبي عبيدة" أما حديث ابن مسعود فأخرجه أبو داود والنسائي عنه قال: كان أحب العراق إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم عراق الشاة. قال في القاموس: العراق وكغراب العظم أكل لحمه جمعه ككتاب وغراب نادر، أو العرق العظم بلحمه فإذا أكل لحمه فعراق أو كلاهما لكليهما انتهى. وأما حديث عائشة فأخرجه الترمذي بعد هذا. وأما حديث عبد الله بن جعفر فأخرجه أحمد وابن ماجه والحاكم والبيهقي عنه أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم قال والقوم يلقون لرسول الله صلى الله عليه وسلم اللحم يقول: "أطيب اللحم لحم الظهر" . وأما حديث أبي عبيدة فلينظر من أخرجه.(5/569)
هذا حديثٌ حسنٌ صحيحٌ. وأبو حَيّانَ اسْمُهُ يَحْيَى بنُ سَعِيدِ بنِ حَيّانَ. وأبو زُرْعَةَ بنُ عَمْرِو بنِ جَرِيرٍ اسْمُهُ هَرِم.
1898 ـ حدثنا الْحَسَنُ بنُ محمدٍ الزّعْفَرَانِيّ، حدثنا يَحْيَى بنُ عَبّادٍ أَبُو عَبّادٍ، حدثنا فُلَيْحُ بنُ سُلَيْمانُ عن عَبْدِ الْوَهّابِ بنِ يَحْيَى مِنْ وَلَدِ عَبّادِ بنِ عَبْدِ الله بنِ الزّبَيْرِ عن عَبْدِ الله بنِ الزّبَيْرِ عن عَائِشَةَ قالَتْ: "ما كانَ الذّرَاعُ أحَبّ اللّحْمِ إلى رسولِ الله صلى الله عليه وسلم، ولَكِنْ كانَ لا يَجِدُ اللّحْمَ إلاّ غبّا. فكَانَ يعْجَلُ إليهِ لأَنّهُ أَعْجَلُهَا نُضْجَاً".
هذا حديثٌ غريب لا نَعْرِفهُ إلا مِنْ هذا الوَجْهِ.
ـــــــ
قوله: "هذا حديث حسن صحيح" وأخرجه ابن ماجه.
قوله: "حدثنا يحيى بن عباد أبو عباد" الضبعي البصري نزيل بغداد، صدوق من التاسعة "حدثنا فليح بن سليمان" هو المدني "عن عبد الوهاب بن يحيى من ولد عباد الخ" قال في التقريب: عبد الوهاب بن يحيى بن عباد بن عبد الله بن الزبير مقبول من الخامسة.
قوله: "ولكن كان لا يجد اللحم إلا غباً" بكسر الغين المعجمة وشدة الموحدة قال في المجمع: لا يأكلون اللحم إلا غباً أي لا يديمون على أكله وهو في أوراد الإبل أن تشرب يوماً وتدعه يوماً، وفي غيره أن تفعل الشيء يوماً وتدعه أياماً انتهى. "فكان يعجل" بصيغة المجهول من التعجيل أي فكان يعجل في تقديم الذراع وإحضاره إليه "إليه" صلى الله عليه وسلم "لأنه" أي لأن لحم الذراع "أعجلها" أي أعجل اللحوم "نضجاً" قال في القاموس: نضج التمر واللحم كسمع نضجاً ونضجاً أدرك انتهى. قيل كون الذراع أعجل اللحوم نضجاً أحد وجوه الإعجاب فلا مخالفة بين هذا الحديث وبين حديث أبي هريرة المتقدم(5/570)
باب ماجاء في الخل
...
34ـ باب ما جَاءَ في الْخَل
1899ـ حدثنا الْحَسَنُ بنُ عَرَفَةَ، حدثنا مُبَارَكُ بنُ سَعِيدٍ هو أخُو سُفْيَانَ بنِ سَعِيدٍ الثوري عن سُفْيَانَ عن أبي الزّبَيْرِ عن جَابِرٍ عن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال: "نِعْمَ الإدَامُ الْخَلّ" .
1900- حدثنا عبدة بن عبد الله الخزاعي البصري حدثنا معاوية ابن هشام عن سفيان عن محارب بن دثار عن جابر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "نعم الأدام الخل" .
ـــــــ
"باب ما جَاءَ في الْخَل"
قوله: "حدثنا الحسن بن عروة" هو العبدي البغدادي "حدثنا مبارك بن سعيد أخو سفيان الخ" قال في التقريب: مبارك بن سعيد بن مسروق الثوري الأعمى أبو عبد الرحمن الكوفي نزيل بغداد صدوق من الثامنة انتهى. وقال في تهذيب التهذيب في ترجمته: روى عن أبيه وأخويه سفيان وعمر وغيرهم، وعنه الحسن ابن عرفة وغيره.
قوله: "نعم الإدام الخل" قال النووي: الإدام بكسر الهمزة ما يؤتدم به يقال أدم الخبز يأدمه بكسر الدال، وجمع الإدام أدم بضم الهمزة والدال كإهاب وأهب وكتاب وكتب والأدم بإسكان الدال مفرد كإدام انتهى. وقال في النهاية: الإدام بالكسر والأدم بالضم ما يؤكل مع الخبز أي شيء كان انتهى. قال الخطابي: معنى الحديث مدح الإقتصار في المأكل ومنع النفس عن ملاذ الأطعمة كأن يقول: ائتدموا بالخل وما كان في معناه مما تخف مؤنته ولا يعز وجوده، ولا تتأنقوا في الشهوات فإنها مفسدة للدين مسقمة للبدن. وذكر النووي كلام الخطابي هذا ثم قال: والصواب الذي ينبغي أن يجزم به أنه مدح للخل نفسه، وأما الاقتصار في المطعم وترك الشهوات فمعلوم من قواعد أخر انتهى.
قوله: "حدثنا عبدة بن عبد الله الخزاعي" الصفار أبو سهل البصري كوفي اوصل ثقة من الحادية عشرة "حدثنا معاوية بن هشام" القصار أبو الحسن الكوفي(5/571)
قال وفي الباب عن عائشة وأم هانئ. وهذا أصَحّ مِنْ حديثِ مُبَارَكِ بنِ سَعِيدٍ.
1901ـ حدثنا محمدُ بنُ سَهْلِ بنِ عَسْكَرٍ الْبَغْدَادِيّ، حدثنا يَحْيَى بنُ حَسّان حدثنا سُلَيْمَانُ بنُ بِلاَلٍ عن هِشَامٍ بنِ عُرْوَةَ عن أبيهِ عن عَائِشَةَ أنّ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم قال: "نِعْمَ الإدَامُ الْخَلّ" .
1902- حدثنا عَبْدُ الله بنُ عبدِ الرحمَنِ أخبرنا يَحْيىَ بنُ حَسّانَ عن سُلَيْمَانَ بنِ بِلاَلٍ بِهَذَا الإسْنَادِ نَحْوَهُ إلاّ أنّهُ قالَ: "نِعْمَ الإدَامُ أو الأُدْمُ الْخَلّ" .
هذا حديثٌ حسنٌ صحيحٌ غريبٌ مِنْ هذا الوَجْهِ لا نعرفه مِنْ حَدِيثِ هِشَامِ بنِ عُرْوَةَ إلاّ مِنْ حديثِ سُلَيْمانَ بنِ بِلاَلٍ.
ـــــــ
مولى بني أسد صدوق أوهام من صغار التاسعة "عن محارب بن دثار" قال في التقريب: محارب بضم أوله وكسر الراء بن دثار بكسر المهملة وتخفيف المثلثة السدوسي الكوفي القاضي ثقة إمام زاهد من الرابعة.
قوله: "وفي الباب عن عائشة وأم هانيء" أخرجهما الترمذي بعد هذا.
قوله: "وهذا أصح الخ" والحديث أخرجه أحمد ومسلم وأبو داود والنسائي وابن ماجه.
قوله: "حدثنا يحيى بن حسان" هو التنيسي "أخبرنا سليمان بن بلال" هو التميمي.
قوله: "نعم الإدام الخل" فيه فضيلة الخل. وأنه يسمى أدماً، وأنه أدم فاضل جيد.
قوله: "حدثنا عبد الله بن عبد الرحمن" هو الدارمي.(5/572)
1903ـ حدثنا أبو كُرَيْبٍ بن العلاء حدثنا أبُو بَكْرٍ بنِ عَيّاشٍ عن أبي حَمْزَةَ الثّمَالِيّ عن الشّعْبِيّ عن أُمّ هانئ بِنْتِ أبِي طَالِبٍ قالَتْ: "دَخَلَ عَلَيّ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم فقَالَ: "هَلْ عِنْدَكُمْ شَيْءٌ" ؟ فَقلت: لا، إلاّ كِسَرٌ يَابِسَةٌ وَخَلّ، فقالَ النبيّ صلى الله عليه وسلم: " قَرّبِيهِ، فَمَا أَقْفَرَ بَيْتٌ مِنْ أُدْمٍ فيه خَلّ" .
ـــــــ
قوله: "هذا حديث حسن صحيح غريب الخ" وأخرجه مسلم.
قوله: "حدثنا أبو كريب" اسمه محمد بن العلاء "حدثنا أبو بكر بن عياش" هو الأسدي الكوفي "عن أبي حمزة" الثمالي بضم المثلثة اسمه ثابت بن أبي صفية كوفي ضعيف رافضي من الخامسة مات في خلافة أبي جعفر.
قوله: "هل عندكم شيء؟" أي مما يؤكل "فقلت لا" أي لا شيء عندنا "إلا كسر" بكسر الكاف وفتح السين المهملة جمع كسرة وهي القطعة من الشيء المكسور والمراد هنا كسر الخبز، وفي المشكاة إلا خبز يابس "يابسة" صفة "وخل" عطف على كسر، قيل المستثنى منه محذوف والمستثنى بدل منه، ونظيره في الصحاح قول عائشة إلا شيء بعثت به أم عطية. قال المالكي فيه: شاهد على إبدال ما بعد إلا من يحذف، لأن الأصل لا شيء عندنا إلا شيء بعثت به أم عطية "قريبة" أي أحضري ما عندك "فما أقفر" بالقاف قبل الفاء "بيت من أدم" متعلق بأقفر. وقوله: "فيه خل" صفة بيت. قال الجزري في النهاية: أي ما خلا من الإدام ولا عدم أهله الأدم. والقفار الطعام بلا أدم، وأقفر الرجل إذا أكل الخبز وحده من القفر والقفار وهي الأرض الخالية التي لا ماء بها انتهى.
فإن قلت: لفظ بين موصوف وفيه خل صفته ووقع بينهما الفصل بقوله "ن أدم" وهو أجنبي عنهما، والفصل بين الموصوف وصفته بالأجنبي لا يجوز.
قلت: قال القاري في المرقاة: يمكن أن يقال إنه حال على تقدير الموصوف، أي بيت من البيوت، كذا قاله الطيبي: وفي شرح المفتاح للسيد في بحث الفصاحة(5/573)
هذا حديثٌ حسنٌ غريبٌ مِنْ هذا الوَجْهِ لا نَعْرِفُهُ مِنْ حَدِيثِ أُمّ هانئ إلاّ مِنْ هذا الوَجْهِ. وأبو حكزة الثمالي اسمه ثابت بن أبي صفية وأُمّ هانئ مَاتَتْ بَعْدَ عَلِيّ بنِ أبي طَالِبٍ بِزَمَانٍ.
ـــــــ
أنه يجوز الفصل بين الصفة والموصوف، وأن يجيء الحال عن النكرة العامة بالنفي ولا يحتاج إلى تقديره الصفة. وقال ابن حجر: هو صفة بيت ولم يفصل بينهما بأجنبي من كل وجه لأن أقفر عامل في بيت وصفته وفيما فصل بينهما انتهى.
قوله: "هذا حديث حسن غريب" وأخرجه الطبراني في الكبير وأبو في الحلية(5/574)
باب ماجاء في أكل البطيخ بالرطب
...
35ـ باب مَا جَاءَ في أَكْلِ البَطّيخٍ بالرّطَب
1904 ـ حدثنا عَبْدَةُ بنُ عَبْدِ الله الْخُزَاعِيّ، حدثنا مُعَاوِيَةُ بنُ هِشَامٍ عن سُفْيَانَ عن هِشَام بنِ عُرْوَةَ عن أبيهِ عن عَائِشَةَ "أنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم كانَ يَأْكُلُ البِطّيخَ بالرّطَبِ".
ـــــــ
"باب مَا جَاءَ في أَكْلِ البَطّيخٍ بالرّطَب"
البطيخ بكسر الموحدة وتشديد الطاء المهملة المكسورة بالفارسية خربزة وبالهندية خربوزه، والرطب بضم الراء وفتح الطاء وفتح الطاء نضيج البسر.
قوله: "كان يأكل البطيخ بالرطب" زاد أبو داود في روايته: يقول نكسر حر هذا ببرد هذا وبرد هذا بحر هذا. قال الحافظ في الفتح: وقع في رواية الطبراني كيفية أكله لهما فأخرج في الأوسط وهو في الطب لأبي نعيم من حديث أنس كان أكله لهما فأخرج في الأوسط وهو في الطب لأبي نعيم من حديث أنس كان يأخذ الرطب بيمينه والبطيخ بيساره فيأكل الرطب بالبطيخ، وكان أحب الفاكهة إليه، وسنده ضعيف. وأخرج النسائي بسند صحيح عن حميد عن أنس: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يجمع بين الرطب والخزير وهو بكسر الخاء المعجمة وسكون الراء وكسر الموحدة بعدها زاي نوع من البطيخ الأصفر،(5/574)
قال وفي البابِ عن أنَس.
هذا حديثٌ حسنٌ غريبٌ. وَرَوَاهُ بَعْضُهُمْ عن هَشَامِ بنِ عُرْوَةَ عن أبيهِ عن النبيّ صلى الله عليه وسلم مرسل ولَمْ يَذْكُرْ فيهِ عن عَائِشَةَ. وقد رَوَى يَزِيدُ بنُ رُومَانَ عن عروة عن عائِشَةَ هذا الحديثَ.
ـــــــ
وفي هذا تعقب على من زعم أن المراد بالبطيخ في الحديث الأخضر، واعتل بأن في الأصفر حرارة كما في الرطب، وقد ورد تعليل بأن أحدهما يطفيء حرارة الآخر، والجواب عن ذلك بأن في الأصفر بالنسبة للرطب برودة وإن كان فيه لحلاوته طرف حرارة انتهى: وقيل أراد قبل أن ينضج البطيخ ويصير حلواً فإنه بعد نضجه حار وقبله بارد انتهى. قال الخطابي: فيه إثبات الطب والعلاج ومقابلة الشيء الضار بالشيء المضاد له في طبعه على مذهب الطب والعلاج.
قوله: "وفي الباب عن أنس" تقدم تخريجه في كلام الحافظ.
قوله: "هذا حديث حسن غريب" وأخرجه أبو داود والنسائي والبيهقي في السنن الكبرى. قال الحافظ ابن القيم في زاد المعاد: جاء في البطيخ عدة أحاديث لا يصح منهاشيء غير هذا الحديث الواحد "وقد روى يزيد بن رومان" المدني مولى آل الزبير، ثقة من الخامسة، وروايته عن أبي هريرة مرسلة، كذا في التقريب(5/575)
باب ماجاء في أكل القثاء بالرطب
...
36 ـ باب مَا جَاءَ في أَكْلِ القِثّاءِ بالرّطَب
1905ـ حدثنا إسماعيلُ بنُ مُوسَى الفَزَارِيّ، حدثنا إبراهيم بنُ
ـــــــ
"باب مَا جَاءَ في أَكْلِ القِثّاءِ بالرّطَب"
قال في المصباح: القثاء بكسر القاف وتشديد الثاء المثلثة ويجوز ضم القاف وهو اسم جنس لما يقوله الناس الخيار، وبعض الناس يطلق القثاء على نوع يشبه الخيار وهو مطابق لقول الفقهاء: لو حلف لا يأكل الفاكهة حث بالقثاء والخيار، وهو يقتضي أن يكون نوعاً غيه فتفسير القثاء بالخيار تسامح انتهى.(5/575)
سَعْدٍ عن أبيهِ عن عَبْدِ الله بنِ جَعْفَر قالَ: "كانَ النبيّ صلى الله عليه وسلم يَأْكُلُ القِثّاءَ بالرّطَبِ".
هذا حديثٌ حسنٌ صحيحٌ غريبٌ، لا نَعْرِفُهُ إلاّ مِنْ حَديثِ إبراهيم بنِ سَعْدٍ.
ـــــــ
قوله: "حدثنا إبراهيم بن سعد" هو الزهري أبو إسحاق المدني "عن أبيه" أي سعد بن إبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف "عن عبد الله بن جعفر" بن أبي طالب الهاشمي "كان النبي صلى الله عليه وسلم يأكل القثاء بالرطب" وقع في رواية الطبراني صفة أكله لهما، فأخرج في الأوسط من حديث عبد الله بن جعفر قال: رأيت في يمين النبي صلى الله عليه وسلم قثاء وفي شماله رطباً وهو يأكل من ذامرة ومن ذامرة، وفي سنده ضعف، كذا في الفتح قال النووي: فيه جواز أكلهما معاً والتوسع في الأطعمة، ولا خلاف بين العلماء في جواز هذا، وما نقل عن بعض السلف من خلاف هذا فمحمول على كراهة اعتياد التوسع والترفه والإكثار منه لغير مصلحة دينية انتهى.
وقال القرطبي: يؤخذ من هذا الحديث جواز مراعاة صفات الأطعمة وطبائعها واستعمالها على الوجه الأليق بها على قاعدة الطب لأن في الرطب حرارة وفي القثاء برودة فإذا أكلا معاً اعتدلا، وهذا أصل كبير في المركبات من الأدوية، ومن فوائد أكل هذا المركب المعتدل تعديل المزاج وتسمين البدن كما أخرجه ابن ماجه من حديث عائشة أنها قالت: أرادت أمي أن تهيئني للسمن لتدخلني على النبي صلى الله عليه وسلم، فما استقام لها ذلك حتى أكلت الرطب بالقثاء، فسمنت كأحسن السمن انتهى.
قوله: "هذا حديث حسن صحيح غريب" وأخرجه أحمد والشيخان وأبو داود وابن ماجه وأبو يعلى(5/576)
باب ماجاء في شرب أبوال الإبل
...
37ـ باب ما جَاءَ في شُرْبِ أبْوَالِ الإبِل
1906ـ حدثنا الْحَسَنُ بنُ محمدٍ الزّعْفَرَانِيّ، حدثنا عَفّانُ، حدثنا حَمّادُ بنُ سَلمَةَ أخبرنا حُمَيْدٌ و ثَابِتٌ وَقَتَادَةُ عن أَنَسٍ: "أنّ نَاساً مِنْ عُرَيْنَةَ قَدِمُوا المَدِينَةَ فاجْتَوَوْهَا، فَبَعَثَهُمْ النبيّ صلى الله عليه وسلم في إبِلِ الصّدَقَةِ وقالَ "اشرَبوا مِنْ أَلْبَانِهَا وأبوالها " .
هذا حديثٌ حسنٌ صحيحٌ غريبٌ مِنْ هذا الوجه. وقد رُوِيَ هذا الْحَدِيثُ مِنْ غَيْرِ وَجْهٍ عن أنَسٍ، رَوَاهُ أبُو قِلاَبَةَ عن أنَسٍ وَرَوَاهُ سَعِيدُ بنُ أبي عَرُوبَةَ عن قَتَادَةَ عن أَنَسٍ.
ـــــــ
"باب ما جَاءَ في شُرْبِ أبْوَالِ الإبِل"
قوله: "أن ناساً من عرينة الخ" تقدم هذا الحديث في باب ما جاء في بول ما يؤكل لحمه بإسناده ومتنه وتقدم هناك شرحه(5/577)
باب الوضوء قبل الطعام وبعده
...
38ـ باب ما جاء في الوُضُوءِ قَبْلَ الطّعَامِ وبَعْدَه
1907ـ حدثنا يَحْيىَ بنُ مُوسَى، حدثنا عَبْدُ الله بنُ نُمَيْرٍ، حدثنا قَيْسُ بنُ الرّبِيعِ، وَحدثنا قُتَيْبَةُ، حدثنا عَبْدُ الْكَرِيمِ الْجُرْجَانِيّ عن قَيْسِ بنِ الرّبِيعِ، المَعْنَى وَاحِدٌ عن أبي هَاشِمٍ عن زَاذَانَ عن سَلْمَانَ قال: "قَرَأْتُ
ـــــــ
"باب ما جاء في الوُضُوءِ قَبْلَ الطّعَامِ وبَعْدَه"
قوله: "حدثنا يحيى بن موسى" هو البلخي "حدثنا عبد الله بن نمير" هو الهمداني أبو هشام الكوفي "حدثنا قيس بن الربيع" هو الأسدي أبو محمد الكوفي "حدثنا عبد الكريم" بن محمد الجرجاني القاضي مقبول من التاسعة مات قديماً في حدود الثمانين ومائة كذا في التقريب "عن أبي هاشم" الرماني الواسطي اسمه يحيى(5/577)
في التّوْرَاةِ أنّ بَرَكَةَ الطّعَامِ الوُضُوءُ بَعْدَهُ، فَذَكَرْتُ ذَلِكَ للنبيّ صلى الله عليه وسلم فأَخْبَرْتُهُ بِمَا قَرَأْتُ في التّوْرَاةِ، فقالَ رسُولُ الله صلى الله عليه وسلم: "بَرَكَةَ الطّعَامِ الوُضُوءُ قَبْلَهُ والوُضُوءُ بَعْدَهُ" .
ـــــــ
ابن دينار، وقيل ابن الأسود، وقيل ابن نافع ثقة من السادسة "عن زاذان" هو أبو عمر الكندي البزار "عن سلمان" أي الفارسي رضي الله تعالى عنه.
قوله: "قرأت في التوراة" أي قبل الإسلام "أن بركة الطعام" بفتح أن ويجوز كسرها "الوضوء" أي غسل اليدين والفم من الزهومة إطلاقاً للكل على الجزء مجازاً أو بناء على المعنى اللغوي والعرفي "بعده" أي بعد أكل الطعام "فذكرت ذلك" المقروء المذكور "وأخبرته بما قرأت في التوراة" هو عطف تفسيري، ويمكن أن يكون المراد بقوله فذكرت أي سألت هل بركة الطعام الوضوء بعده والحال أني أخبرته بما قرأته في التوراة من الاختصار على تقييد الوضوء بما بعده "بركة الطعام الوضوء قبله" تكريماً له "والوضوء بعده" إزالة لما لصق. قال القاري: وهذا يحتمل منه صلى الله عليه وسلم أن يكون إشارة إلى تحريف ما في التوراة، وأن يكون إيماء إلى أن شريعته زادت الوضوء قبله أيضاً استقبالاً للنعمة بالطهارة المشعرة للتعظيم على ما ورد: بعثت لأتمم مكارم الأخلاق، وبهذا يندفع ما قاله الطيبي من أن الجواب من أسلوب الحكيم. قيل: والحكمة في الوضوء أولاً أيضاً أن الأكل بعد غسل اليدين يكون أهنأ وأمرأ ولأن اليد لا تخلو عن التلوث في تعاطي الأعمال، فغسلها أقرب إلى النظافة والنزاهة، ولأن الأكل يقصد به الاستعانة على العبادة فهو جدير بأن يجري مجرى الطهارة من الصلاة فيبدأ بغسل اليدين، والمراد من الوضوء الثاني غسل اليدين والفم من الدسومات. قال صلى الله عليه وسلم: "من بات وفي يده غمر ولم يغسله فأصابه شيء فلا يلومن إلا نفسه" ، أخرجه الترمذي، قيل ومعنى بركة الطعام من الوضوء قبله النمو والزيادة فيه نفسه، وبعده النمو والزيادة في فوائدها وآثارها بأن يكون سبباً لسكون النفس وقرارها وسبباً للطاعات وتقوية للعبادات، وجعله نفس البركة للمبالغة وإلا فالمراد أنها تنشأ عنه انتهى.(5/578)
قال وفي البابِ عن أَنَسٍ وأبي هُرَيْرَةَ. لا نَعْرِفُ هذا الْحَدِيثَ إلاّ مِنْ حَدِيثِ قَيْسِ بنِ الرّبِيعِ، وقَيْس بن الربيع يُضَعّفُ في الْحَديثِ وَأَبُو هَاشِمٍ الرّمَانِيّ اسْمُهُ يَحْيى بنُ دِينَارٍ.
ـــــــ
قوله: "وفي الباب عن أنس وأبي هريرة" أما حديث أنس فأخرجه عنه ابن ماجه قال حدثنا بن المغلس حدثنا كثير بن سليم سمعت أنس بن مالك يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من أحب أن يكثر الله خير بيته فليتوضأ إذا حضر غذاؤه وإذا رفع" ، وهو من ثلاثيات ابن ماجه وجبارة وكثير كلاهما ضعيفان. وأما حديث أبي هريرة فأخرجه الترمذي في آخر الأطعمة. وأخرج ابن ماجه عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه خرج من الغائط فأتى بطعام، فقال رجل يا رسول الله ألا آتيك بوضوء، قال أأريد الصلاة.
قوله: "لا نعرف هذا الحديث إلا من حديث قيس بن الربيع" وأخرجه أحمد وأبو داود والحاكم "وقيس يضعف في الحديث" قال المنذري بعد نقل كلام الترمذي هذا: قيس بن الربيع صدوق وفيه كلام لسوء حفظه لا يخرج الإسناد عن حد الحسن انتهى "وأبو هاشم الرماني" بضم الراء وتشديد الميم وكان نزل قصر الرمان كذا في الخلاصة(5/579)
39ـ باب في تَرْكِ الوُضُوء قَبْلَ الطّعَام
1908ـ حدثنا أحمدُ بنُ مَنِيعٍ، حدثنا إسماعيلُ بنُ إبراهيم عن أَيّوبَ عن ابنِ أبي مُلَيْكَةَ عن ابنِ عَبّاسٍ: "أنّ رسولَ الله صلى الله عليه
ـــــــ
"باب في تَرْكِ الوُضُوء قَبْلَ الطّعَام"
قوله: "حدثنا إسماعيل بن إبراهيم" هو المعروف بابن علية "عن أيوب" هو السختياني "عن ابن أبي مليكة قال في التقريب: عبد الله بن عبيد الله بن أبي مليكة" بالتصغير ابن عبد الله بن جدعان، قال اسم أبي مليكة زهير التيمي المدني أدرك ثلاثين من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ثقة فقيه من الثالثة انتهى.(5/579)
وسلم خَرَجَ مِنَ الْخَلاءِ فَقُرّبَ إليهِ طَعَامٌ، فَقَالُوا أَلاَ نَأْتِيكَ بِوُضُوء؟ قال: "إنمَا أُمِرْتُ بالوُضُوء إذَ قُمْتُ إلَى الصّلاَةِ" .
هذا حديثٌ صحيح حسنٌ وقد رَوَاهُ عَمْرو بنُ دِينَارٍ عن سَعِيدِ بنِ الْحُوَيْرِثِ عن ابنِ عَبّاسٍ وَقالَ عليّ بنُ المَدينِيّ: قالَ يَحْيىَ بنُ سَعِيدٍ: كَانَ سُفْيَانُ الثّوْرِيّ يَكْرَهُ غَسْلَ الْيَدِ قَبْلَ الطّعَامِ، وكَانَ يَكْرَهُ أنْ يُوَضَعَ الرّغِيفُ تَحْتَ القَصْعةِ.
ـــــــ
قوله: "خرج من الخلاء" بفتح الخاء ممدوداً المكان الخالي وهو هنا كناية عن موضع قضاء الحاجة "فقالوا" أي بعض الصحابة رضي الله عنهم "ألا تأتيك بوضوء" بفتح الواو أي ماء يتوضأ به، ومعنى الاستفهام على العرض نحو ألا تنزل عندنا، والمعنى ألا تتوضأ في رواية، ظناً منهم أن الوضوء واجب قبل الأكل "قال إنما أمرت" أي وجوباً "بالوضوء" أي بعد الحدث "إذا قمت إلى الصلاة" أي أردت القيام لها، وهذا باعتبار الأعم الأغلب وإلا فيجب الوضوء عند سجدة التلاوة ومن الصحف وحال الطواف، وكأنه صلى الله عليه وسلم علم من السائل أنه اعتقد أن الوضوء الشرعي قبل الطعام واجب مأمور به، فنفاه على طريق الأبلغ حيث أتى بأداة الحصر وأسند الأمر لله تعالى، وهو لا ينافي جوازه بل استحبابه فضلاً عن استحباب الوضوء العرفي سواء غسل يديه عند شروعه في الأكل أم لا، والأظهر أنه ما غسلهما لبيان الجواز مع أنه أكد لنفي الوجوب المفهوم من جوابه صلى الله عليه وسلم. وفي الجملة لا يتم استدلال من احتج به على نفي الوضوء مطلقاً قبل الطعام مع أن في نفس السؤال إشعاراً بأنه كان الوضوء عند الطعام من دأبه عليه السلام، وإنما نفى الوضوء الشرعي فبقي الوضوء العرفي على حاله، ويؤيده المفهوم أيضاً فمع وجود الاحتمال سقط الاستدلال، كذا قال القاري في المرقاة.
قلت: وفي بعض كلامه نظر كما لا يخفي.
قوله: "هذا حديث حسن" وأخرجه مسلم وأبو داود والنسائي "وقد رواه عمرو(5/580)
ـــــــ
بن دينار عن سعيد بن الحويرث" ويقال ابن أبي الحويرث المكي مولى السائب ثقة من الرابعة "عن ابن عباس" أخرجه مسلم في صحيحه بهذا الطريق "وقال علي بن المديني قال يحيى بن سعيد: كان سفيان الثوري يكره الخ" قال النووي في شرحه حديث ابن عباس: المراد بالوضوء الوضوء الشرعي، وحمله القاضي عياض على الوضوء اللغوي وجعل المراد غسل الكفين. وحكى اختلاف العلماء في كراهة غسل الكفين قبل الطعام واستحبابه. وحكى الكراهة عن مالك والثوري والظاهر ما قدمناه أن المراد الوضوء الشرعي انتهى. وقال الحافظ بن القيم في حاشية السنن: في هذه المسألة قولان لأهل العلم: أحدهما يستحب غسل اليدين عند الطعام، والثاني لا يستحب، وهما في مذهب أحمد وغيره الصحيح أنه لا يستحب. وقال الشافعي في كتابه الكبير: باب ترك غسل اليدين قبل الطعام، ثم ذكر من حديث بن جريج عن سعيد بن الحويرث عن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم تبرز ثم خرج فطعم ولم يمس ماء وإسناده صحيح، ثم قال غسل الجنب يده إذ طعم، وساق من حديث الزهري عن أبي سلمة عن عائشة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا أراد أن ينام وهو جنب توضأ وضوءه للصلاة، وإذا أراد أن يأكل غسل يديه، وهذا التبويب والتفصيل في المسألة هو الصواب. وقال الخلال في الجامع عن مهنا: قال سألت أحمد عن حديث قيس بن الربيع عن أبي هاشم عن زاذان عن سلمان فذكر الحديث فقال أبو عبد الله: هو منكر، فقلت: ما حدث هذا إلا قيس بن الربيع قال لا. وسألت يحيى بن معين وذكرت له حديث قيس بن الربيع فقال لي يحيى بن معين: ما أحسن الوضوء قبل الطعام وبعده، فقلت له: بلغني عن سفيان الثوري أنه كان يكره الوضوء قبل الطعام، قال مهنا: سألت أحمد قلت: بلغني عن يحيى بن سعيد أنه قال: كان سفيان يكره غسل اليد عند الطعام، قلت: لم كره سفيان ذلك؟ قال لأنه من زي العجم. وضعف أحمد حديث قيس بن الربيع. قال الخلال: وأنبأنا أبو بكر المروزي قال: رأيت أبا عبد الله يغسل يديه قبل الطعام وبعده وإن كان على وضوء انتهى كلام ابن القيم.(5/581)
باب ماجاء في أكل الدباء
...
40- باب مَا جَاءَ في أكْلِ الدّبّاء
1909 ـ حدثنا قُتَيْبَةُ بنُ سَعِيدٍ، حدثنا اللّيْثُ عن مُعَاوِيَةَ بنِ صَالحٍ عن أبي طَالُوتَ قالَ: "دَخَلْتُ على أَنَسِ بنِ مَالِكٍ وهُوَ يَأْكُلُ القَرْعَ وهُوَ يَقُولُ: يَا لَكِ شَجَرَةً مَا أَحبكِ إلاّ لحُبّ رَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم إيّاكِ".
قال وفي البابِ عن حَكِيمِ بنِ جَابِرٍ عن أبيهِ.
هذا حديثٌ غريبٌ مِنْ هَذَا الوَجْهِ.
ـــــــ
"باب مَا جَاءَ في أكْلِ الدّبّاء"
بضم الدال وتشديد الموحدة والمد وقد يقصر القرع والواحدة دباءة، ويقال له بالفارسية والهندية كدو، وقيل هو خاص بالمستدير من القرع.
قوله: "حدثنا الليث" هو ابن سعد "عن معاوية بن صالح" بن حدير الحضرمي "عن أبي طالوت" الشامي مجهول من الخامسة قاله في التقريب. وقال في تهذيب التهذيب في ترجمته: روى عن أنس في أكل القرع وعنه معاوية بن صالح الحضرمي قال الذهبي لا يدري من هو انتهى.
قوله: "وهو يأكل القرع" بفتح القاف وسكون الراء "يا لك" اللام للتعجب "شجرة" بالنصب على التمييز "ما أحبك" صيغة التعجب.
قوله: "وفي الباب عن حكيم بن جابر عن أبيه" قال الحافظ في الفتح أخرج الترمذي والنسائي وابن ماجه من طريق حكيم بن جابر عن أبيه قال: دخلت على النبي صلى الله عليه وسلم في بيته وعنده هذا الدباء فقلت ما هذا، قال القرع وهو الدباء نكثر منه طعامنا انتهى.
قوله: "هذا حديث غريب من هذا الوجه" وفي سنده أبو طالوت وهو مجهول كما عرفت.(5/582)
1910 ـ حدثنا محمدُ بنُ مَيْمُونٍ المَكّيّ، حدثنا سُفْيَانُ بنُ عُيَيْنَةَ حدثني مَالِك بن أنس عن إسْحَاقَ بنِ عَبْدِ الله بنِ أبي طَلْحَةَ عن أَنَسِ بنِ مَالِكٍ قالَ: "رَأَيْتُ رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم يَتَتَبّعُ في الصّحْفَةِ، يَعْنِي الدّبّاءَ، فَلاَ أَزَالُ أُحِبّهُ".
هذا حديثٌ حسنٌ صحيحٌ.
وقد رُوِيَ هذا الْحَدِيثُ مِنْ غَيْرِ وَجْهٍ عن أَنَس بن مالك.
ـــــــ
قوله: "حدثنا محمد بن ميمون" الخياط البزار أبو عبد الله المكي أصله من بغداد صدوق ربما أخطأ من العاشرة.
قوله: "يتتبع" أي يتطلب "في الصحفة" وفي رواية الشيخين يتتبع الدباء من حوالي القصعة أي جوانبها. والقصعة بفتح القاف ما يشبع عشرة أنفس، والصحفة ما يشبع خمسة أنفس "فلا أزال أحبه" قال النووي: في الحديث فضيلة أكل الدباء وأنه يستحب أن يحب الدباء وكذلك كل شيء كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحبه، وأنه يحرص على تحصيل ذلك. وأما تتبع الدباء من حوالي الصحفة يحتمل وجهين أحدهما من حوالي جانبه وناحية من الصحفة لا من حوالي جميع جوانبها، فقد أمر بالأكل مما يلي الإنسان، والثاني أن يكون من جميع جوانبها وإنما نهى ذلك لئلا يتقذره جليسه، ورسول الله صلى الله عليه وسلم لا يتقذره أحد، بل يتبركون بآثاره صلى الله عليه وسلم، فقد كانوا يتبركون ببصاقه صلى الله عليه وسلم ونخامته ويدلكون بذلك وجوههم، وشرب بعضهم بوله وبعضهم دمه، وغير ذلك مما هو معروف من عظيم اعتنائهم بآثاره صلى الله عليه وسلم التي يخالفه فيها غيره.
قوله: "هذا حديث حسن صحيح" وأخرجه الشيخان وأبو داود والنسائي(5/583)
باب ماجاء في أكل الزيت
...
41ـ باب ما جاءَ في أكْلِ الزّيْت
1911ـ حدثنا يَحْيىَ بنُ مُوسَى، حدثنا عَبْدُ الرّزّاقِ عن مَعْمَرٍ عن زَيْدِ بنِ أسْلَمَ عن أبيهِ عن عُمَرَ بن الْخَطّابِ قالَ: قالَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم: "كُلُوا الزّيْتَ وَادّهِنُوا بِهِ فَإِنّهُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبَارَكَةٍ" .
هذا حديثٌ لا نَعْرِفُهُ إلاّ مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ الرّزّاقِ عَنْ مَعْمَرٍ. وكَانَ عَبْدُ الرّزّاقِ يَضْطَرِبُ في رِوَايَةِ هَذَا الْحَدِيثِ، فَرُبّمَا ذَكَرَ فيهِ عَنْ عُمَرَ عن النبيّ صلى الله عليه وسلم، ورُبّمَا رَوَاهُ على الشّكّ فقالَ أحْسَبُهُ عن عُمرَ عن النبيّ صلى الله عليه وسلم، ورُبّمَا قالَ: عَنْ زَيْدِ بنِ أسْلَمَ عن أبيهِ عن النبيّ صلى الله عليه وسلم مُرْسَلاً.
ـــــــ
"باب ما جاءَ في أكْلِ الزّيْت"
قوله: "حدثنا يحيى بن موسى" هو البلخي "حدثنا عبد الرزاق" هو الحميري مولاهم أبو بكر الصنعاني "عن معمر" هو ابن راشد الأزدي.
قوله: "كلوا الزيت" أي مع الخبز واجعلوه إداماً. فلا يرد أن الزيت مائع فلا يكون تناوله أكلاً "وأدهنوا به" أمر من الإدهان بتشديد الدال وهو استعمال الدهن فنزل منزله اللازم "فإنه" أي الزيت يحصل "من شجره مباركة" يعني {زَيْتُونَةٍ لا شَرْقِيَّةٍ وَلا غَرْبِيَّةٍ يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ نُورٌ} ثم وصفتها بالبركة لكثرة منافعها وانتفاع أهل الشام بها كذا قيل. والأظهر لكونها تنبت في الأرض التي بارك الله فيها للعالمين، قيل بارك فيها سبعون نبياً منهم إبراهيم عليه السلام وغيرهم. ويلزم من بركة هذه الشجرة بركة ثمرتها وهي الزيتون وبركة ما يخرج منها وهو الزيت، كذا في المرقاة.
قوله: "هذا حديث لا نعرفه إلا من حديث عبد الرزاق عن معمر" وأخرجه بن ماجه "وكان عبد الرزاق يضطرب في رواية هذا الحديث" قال المنذري في(5/584)
1912- حدثنا أبُو دَاوُدَ سُلَيْمانُ بنُ مَعْبَدٍ، حدثنا عَبْدُ الرّزّاقِ عَنْ مَعْمَرٍ عن زَيْدِ بنِ أسْلَمَ عن أبيهِ عن النبيّ صلى الله عليه وسلم نَحْوَهُ ولَمْ يَذْكُرْ فيهِ عَنْ عُمَر.
1913ـ حدثنا محمودُ بنُ غَيْلاَنَ، حدثنا أبُو أحمدَ الزّبَيْرِيّ و أبُو نُعَيْمٍ قالاَ: حدثنا سُفْيَانُ عن عَبْدِ الله بنِ عيسى عن رَجُلٍ يُقَالُ لَهُ عَطَاءٌ مِنْ أَهْلِ الشّامِ عن أبي أَسِيدٍ قالَ: قالَ النبيّ صلى الله عليه وسلم: "كُلُوا مِنَ الزّيْتِ وادّهِنُوا بِهِ فَإِنّهُ من شَجَرَة مُبَارَكَة" .
ـــــــ
الترغيب بعد نقل كلام الترمذي هذا ما لفظه: ورواه الحاكم وقال صحيح على شرط الشيخين وهو كما قال انتهى.
قوله: "حدثنا أبو داود سليمان بن معبد" بن كوسجان السنجي ثقة صاحب حديث رحال أديب من الحادية عشرة.
قوله: "وأبو نعيم" اسمه الفضل بن دكين "حدثنا سفيان" هو الثوري "عن عبد الله بن عيسى" بن عبد الرحمن بن أبي ليلى الأنصاري الكوفي، ثقة فيه تشيع من السادسة "عن رجل يقال له عطاء من أهل الشام" قال الحافظ في التقريب: عطاء الشامي أنصاري سكن الساحل مقبول من الرابعة انتهى. وقال في تهذيب التهذيب في ترجمته: روى عن أبي أسيد بن ثابت الأنصاري عن النبي صلى الله عليه وسلم: "كلوا الزيت وادهنوا به" ، وعنه عبد الله بن عيسى بن عبد الرحمن بن أبي ليلى، ذكره ابن حبان في الثقات. قال البخاري: لم يقم حديثه وذكره العقيلي في الضعفاء انتهى "عن أبي أسيد" قال في التقريب: أبو أسيد بن ثابت الأنصاري المدني صحابي، قيل اسمه عبد الله له حديث، والصحيح فيه فتح الهمزة، قاله الدارقطني انتهى.
قوله: "فإنه" أي فإن ما يخرج منه الزيت "شجرة مباركة" أي كثيرة المنافع.(5/585)
هذا حديثٌ غريبٌ مِنْ هَذَا الوَجْهِ إنّمَا نَعْرِفُهُ مِنْ حَدِيثِ سفيان الثوري عن عَبْدِ الله بنِ عِيسى.
ـــــــ
قوله: "هذا حديث غريب الخ" وأخرجه أحمد والحاكم وقال صحيح الإسناد(5/586)
باب ماجاء في الأكل مع المملوك
...
42ـ باب مَا جَاء في الأكْلِ مَعَ المَمْلوكِ
1914ـ حدثنا نَصْرُ بنُ عَلِيّ، حدثنا سُفْيَانُ عن إسماعيلَ بنِ أبي خَالِدٍ عن أبيهِ عن أبي هُرَيْرَةَ يُخْبِرُهُمْ بِذَلِكَ عن النبيّ صلى الله عليه وسلم قالَ: "إذَا كَفَا أَحَدَكُمْ خَادِمُهُ طَعَامَهُ حَرّةُ وَدُخَانَة، فَلْيَأْخُذْ بِيَدِهِ فَلْيُقْعِدْهُ مَعَهُ، فإِنْ أبَى فَلْيَأْخُذْ لُقْمَةً فَلْيُطْعِمْهَا إياهُ" .
ـــــــ
"باب مَا جَاء في الأكْلِ مَعَ المَمْلوكِ"
قوله: "عن أبيه" أي أبي خالد البجلي الأحمسي اسمه سعد أو هرمز أو كثير مقبول من الثالثة.
قوله: "ذلك" وفي بعض النسخ بذلك، وهذا اللفظ لا وجه لذكره ههنا كما لا يخفى "إذا كفا أحدكم" بالنصب "خادمه" يعني إذا قام خادم أحدكم مقامه في صنع الطعام وتحمل مشقته، من كفاه الأمر إذا قام به مقامه "حره ودخانه" بالنصب بدل من طعامه "فليأخذه بيده" أي بيد الخادم "فليقعد معه" أمر من الإقعاد للاستحباب "فإن أبى" قال الحافظ: فاعل أبي يحتمل أن يكون السيد، والمعنى إذا ترفع عن مؤاكلة غلامه، ويحتمل أن يكون الخادم إذا تواضع عن مؤاكلة سيده، ويؤيد الاحتمال الأول أن في الأول رواية جابر عند أحمد: أمرنا أن ندعوه فإن كره أحدنا أن يطعم معه فليطعمه في يده، وإسناده حسن انتهى "فليأخذ لقمة فليطعمه إياها" وفي رواية البخاري: فليناوله أكلة أو أكلتين. قال الحافظ: بضم الهمزة أي اللقمة أو للتقسيم بحسب حال الطعام وحال الخادم.(5/586)
هذا حديثٌ حسنٌ صحيحٌ. وَأَبُو خَالِدٍ وَلَدُ إسماعيلَ اسْمُهُ سَعْدٌ.
ـــــــ
وفي رواية مسلم تقييد ذلك بما إذا كان الطعام قليلاً ولفظه: فإن كان الطعام مشفوهاً قليلاً ومقتضى ذلك أن الطعام إذا كان كثيراً فإما أن يقعده معه وإما أن يجعل حظه منه كثيراً انتهى. قال النووي: في هذا الحديث الحث على مكارم الأخلاق والمواساة في الطعام لا سيما في حق من صنعه أو حمله، لأنه ولى حره ودخانه وتعلقت به نفسه وشم رائحته، وهذا كله محمول على الاستحباب انتهى.
قوله: "هذا حديث حسن صحيح" وأخرجه الشيخان وأبو داود وابن ماجه(5/587)
باب ماجاء في فضل إطعام الطعام
...
43ـ باب ما جَاءَ في فَضْلِ إطْعَامِ الطّعَام
1915 ـ حدثنا يُوسُفُ بنُ حَمّادٍ المعنى البصري حدثنا عُثْمانُ بنُ عبدِ الرحمَنِ الْجُمَحِيّ عن محمدِ بنِ زِيَادٍ عن أبي هُرَيْرَة عن النبيّ صلى الله عليه وسلم قالَ: "أَفْشُوا السّلاَمَ وأَطْعِمُوا الطّعَامَ، واضْرِبُوا الْهَامَ تُوَرَثُوا الْجِنَانَ" .
ـــــــ
"باب ما جَاءَ في فَضْلِ إطْعَامِ الطّعَام"
قوله: "حدثنا يوسف بن حماد" هو المعنى البصري "حدثنا عثمان بن عبد الرحمن الجمحي" البصري ليس بالقوي من الثامنة كذا في التقريب. وقال في تهذيب التهذيب في ترجمته: له عند الترمذي حديث أبي هريرة: أفشوا السلام، وعند ابن ماجه حديث أنس: صنعت أم سليم خبزة انتهى "عن محمد بن زياد" هو الجمحي أبو الحارث البصري.
قوله: "أفشوا السلام" أي أظهروه وعموا به الناس ولا تخصوا المعارف "وأطعموا الطعام" أراد به قدراً زائداً على الواجب في الزكاة، سواء فيه الصداقة والهدية والضيافة "واضربوا الهام" رؤوس الكفار جمع هامة بالتخفيف الرأس "تورثوا" بصيغة المجهول "الجنان" التي وعد بها المتقون لأن أفعالهم هذه لما كانت تخلف عليهم الجنان فكأنهم ورثوها.(5/587)
قال وفي البابِ عن عَبْدِ الله بنِ عَمْرٍو وابنِ عُمَرَ وَأَنَسٍ وعَبْد الله بنِ سَلاَمٍ وعَبْدِ الرحمَنِ بنِ عَائِشة وشُرَيْح بنِ هَانِئ عن أبيهِ.
هذا حديثٌ حسنٌ صحيحٌ غَرِيبٌ مِنْ حَدِيثِ ابن زيادٍ عن أبي هُرَيْرَةَ.
1916 ـ حدثنا هَنّادٌ، حدثنا أبُو الأَحْوَصِ عن عَطَاءِ بنِ السّائِبِ عن أبيهِ عن عَبْدِ الله بنِ عَمْرٍو قالَ: قالَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم: "اعْبُدُوا الرحمنَ، وأَطْعِمُوا الطّعَامَ، وأَفْشُوا السّلاَمَ تَدْخُلُوا الْجَنّةَ بِسلاَمٍ" .
هذا حديثٌ حسنٌ صحيحٌ.
ـــــــ
قوله: "وفي الباب عن عبد الله بن عمرو وابن عمر وأنس وعبد الله بن سلام وعبد الرحمن بن عائش وشريح بن هانئ عن أبيه" أما حديث عبد الله بن عمرو فأخرجه الترمذي في هذا الباب. وأما حديث ابن عمر فأخرجه ابن ماجه. وأما حديث أنس فأخرجه البيهقي عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أفضل الصدقة أن تشبع كبداً جائعاً" . وأما حديث عبد الله بن سلام فأخرجه الترمذي قبل صفة أبواب الجنة. وأما حديث عبد الرحمن بن عائش فأخرجه البغوي في شرح السنة، وذكره صاحب المشكاة في الفصل الثاني من باب المساجد ومواضع الصلاة، وأما حديث شريح بن هانيء عن أبيه فأخرجه الطبراني عنه أنه قال: يا رسول الله أخبرني بشيء يوجب لي الجنة، قال "طيب الكلام، وبذل السلام، وإطعام الطعام" ، وأخرجه أيضاً ابن حبان في حديث والحاكم وصححه.
قوله: "حدثنا أبو الأحوص" اسمه سلام بن سليم الحنفي مولاهم الكوفي.
قوله: "ابعدوا الرحمن" أي أفردوه بالعبادة "تدخلوا الجنة بسلام" أي فإنكم إذا فعلتم ذلك ومتم عليه دخلتم الجنة آمنين لا خوف عليكم ولا أنتم تحزنون.
قوله: "هذا حديث حسن صحيح" ذكره الحافظ المنذري في الترغيب ونقل تصحيح الترمذي وأقره(5/588)
باب ماجاء في فضل العشاء
...
44ـ باب ما جاءَ في فَضْلِ العَشَاء
1917ـ حدثنا يَحْيىَ بنُ مُوسَى، حدثنا محمدُ بنُ يَعْلَى الكُوفِيّ، حدثنا عَنْبَسَةُ بنُ عَبْدِ الرحمَنِ القُرَشِيّ عن عَبْدِ المَلِكِ بنِ عَلاّق عن أنَسٍ بنِ مَالِكٍ قالَ: قالَ النبيّ صلى الله عليه وسلم: "تَعَشّوْا ولو بِكَفّ مِنْ حَشَفٍ، فإنّ تَرْكَ العَشَاءِ مَهْرَمَةٌ" .
هذا حديثٌ مُنْكَرٌ لا نَعْرِفُهُ إلاّ مِنْ هذَا الوَجْهِ. وعَنْبَسَةُ يُضَعّفُ في الْحَدِيثِ. وعَبْدُ المَلِكِ بنُ عَلاّقٍ مَجْهُولٌ.
ـــــــ
"باب ما جاءَ في فَضْلِ العَشَاء"
بفتح العين بوزن سماء هو طعام العشي، والشعي والعشية آخر النهار، كذافي القاموس.
قوله: "حدثنا يحيى بن موسى" هو البلخي "حدثنا محمد بن يعلى الكوفي" السلمي لقبه زنبور ضعيف من التاسعة "عن عبد الملك بن علاق" بمهملة مفتوحة ولا مثقلة مجهول من الخامسة كذا في التقريب اعلم أنه وقع في التقريب والخلاصة علاق بالقاف، ووقع في المغنى وتهذيب التهذيب بالفاء، ووقع في الميزان بالقاف وعلى هامشه بالفاء ولم يصرح واحد من أصحاب هذه الكتب أنه بالقاف أو بالفاء فليحرر.
قوله: "تعشوا" من التعشي وهو أكل طعام العشي "ولو بكف" أي بملء كف "من حشف" بفتحتين أردأ التمر أو الضعيف لا نوى له، أو اليابس الفاسد، أي لا تتركوا العشاء ولو بشيء حقير يسير "فإن ترك العشاء مهرمة" أي مظنة للهرم وهو الكبر. قال القتيبي: هذه الكلمة جارية على ألسنة الناس ولست أدري أرسول الله صلى الله عليه وسلم ابتدأها أم كانت تقال قبله، كذا في النهاية. وقال المناوي: بفتح الميم والراء أي مظنة للضعف والهرم، لأن النوم مع خلو المعدة يورث تحليلاً للرطوبات الأصلية لقوة الهاضمة انتهى.
قوله: "هذا حديث منكر لا نعرفه إلا من هذا الوجه وعنبسة بضعف في(5/589)
ـــــــ
الحديث وعبد الملك بن علاق مجهول" وفي محمد بن يعلى الكوفي وهو أيضاً ضعيف والحديث تفرد به الترمذي من بين أصحاب الكتب الستة(5/590)
باب ماجاء في التسمية على الطعام
...
45ـ باب ما جَاءَ في التّسْمِيَةِ على الطّعَام
1918ـ حدثنا عَبْدُ الله بنُ الصّبّاحِ الهَاشِميّ، حدثنا عَبْدُ الأَعْلَى عن مَعْمَرٍ عن هِشَامِ بنِ عُرْوَةَ عن أبيهِ عن عُمَرَ بنِ أبي سَلَمَةَ "أنّهُ دَخَلَ على رسولِ الله صلى الله عليه وسلم وعِنْدَهُ طَعَامٌ، قالَ: "ادْنُ يَا بُنَيّ، وسَمّ الله وكُلْ بِيَمِينِكَ وكُلْ مِمّا يَلِيكَ" .
ـــــــ
"باب ما جَاءَ في التّسْمِيَةِ على الطّعَام"
قال الحافظ في الفتح: المراد بالتسمية على الطعام قول بسم الله في ابتداء الأكل، وأصرح ما ورد في صفة التسمية ما أخرجه أبو داود والترمذي من طريق أم كلثوم عن عائشة مرفوعاً: "إذا أكل أحدكم طعاماً فليقل بسم الله، فإن نسي فليقل بسم الله في أوله وآخره" . وله شاهد من حديث أمية بن مخشى عند أبي داود والنسائي. وأما قول النووي في آداب الأكل من الأذكار صفة التسمية من أهم ما ينبغي معرفته والأفضل أن يقول بسم الله الرحمن الرحيم، فإن قال بسم الله كفاه وحصلت السنة، فلم أر لما ادعاه من الأصلية دليلاً خاصاً. وأما ما ذكره الغزالي في آداب الأكل من الإحياء أنه لو قال في كل لقمة بسم الله كان حسناً وأنه يستحب أن يقول مع الأولى بسم الله ومع الثانية بسم الله الرحمن ومع الثالثة بسم الله الرحمن الرحيم فلم أر لاستحباب ذلك دليلاً، والتكرار قد بين هو وجهه بقوله حتى لا يشغله الأكل عن ذكر الله انتهى كلام الحافظ.
قوله: "حدثنا عبد الأعلى" هو ابن عبد الأعلى "عن عمر بن أبي سلمة" بن عبد الأسد المخزومي ربيب النبي صلى الله عليه وسلم صحابي صغير أمه أم سلمة زوج النبي صلى الله عليه وسلم وأمره علي على البحرين، ومات سنة ثلاث وثمانين على الصحيح، كذا في التقريب.
قوله: "أنه دخل على رسول الله صلى الله عليه وسلم وعند طعام قال أدن يا بني(5/590)
وقد روى عن هشام بن عروة عن أبي وجزة السعدي عن رجل من مزينة عن عمر بن أبي سلمة وقد اختلف أصحاب هشام بن عروة في رواية هذا الحديث وأبو وحزة السعدي اسمه يزيد بن عبيد.
ـــــــ
فسم الله وكل بيمينك وكل ما يليك" أي مما يقربك لا من كل جانب، وفي رواية الشيخين يقول: كنت غلاماً في حجر رسول الله صلى الله عليه وسلم وكانت يدي تطيش في الصحفة فقال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: يا غلام سم الله الحديث. قال النووي: فيه استحباب التسمية في ابتداء الطعام، وهذا مجمع عليه، وكذا يستحب حمد الله تعالى في آخره كما سبق في موضعه، وكذا تستحب التسمية في أول الشراب، بل في أول كل أمر ذي بال. قال العلماء: ويستحب أن يجهر بالتسمية ليسمع غيره وينبهه عليها. ولو ترك التسمية في أول الطعام عامداً أو ناسياً أو جاهلاً أو مكرهاً أو عاجزاً لعارض آخر ثم تمكن في أثناء أكله منها استحب أن يسمي ويقول بسم الله أوله وآخره. والتسمية في شرب الماء واللبن والعسل والمرق والدواء وسائر المشروبات كالتسمية على الطعام في كل ما ذكرناه، وتحصل التسمية بقوله: بسم الله، فإن قال بسم الله الرحمن الرحيم كان حسناً، وسواء في استحباب التسمية الجنب والحائض وغيرهما، قال: وفيه استحباب الأكل مما يليه لأنه أكله من موضع يد صاحبه سوء عشرة وترك مروءة فقد يتقذره صاحبه لا سيما في الأمراق وشبهها، وهذا في الثريد والأمراق وشبهها فإن كان تمراً وأجناساً فقد نقلوا إباحة اختلاف الأيدي في الطبق ونحوه. والذي ينبغي تعميم النهي حملاً للنهي على عمومه حتى يثبت دليل مخصص انتهى قال القاري: سيأتي حديث عكراش أنه صلى الله عليه وسلم قال في أكل التمر يا عكراش كل من حيث شئت فإنه من غير لون واحد.
قلت: حديث عكراش هذا أخرجه الترمذي بعد هذا وهو ضعيف جداً كما ستقف عليه. وقال الحافظ في نقل النووي الإجماع على استحباب التسمية على الطعام في أوله نظر إلا أن أريد بالاستحباب أنه راجح الفعل، وإلا فقد ذهب جماعة إلى وجوب ذلك وهو قضية القول بإيجاب الأكل باليمين لأن صيغة الأمر بالجميع واحدة انتهى.
قوله: "وقد روى عن هشام بن عروة عن أبي وجزة السعدي عن رجل من(5/591)
1919-حدثنا محمد بن بشار حدثنا العلاء بن الفضل بن عبد الملك بن أبي سوية أبو الهذيل حدثنا عبيد الله بن عكراش عن أبيه عكراش بن ذؤيب قال ثم بعثني بنو مرة بن عبيد بصدقات أموالهم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقدمت عليه المدينة فوجدته جالسا بين المهاجرين والأنصار قال ثم أخذ بيدي فانطلق بي إلى بيت أم سلمة فقال "هل من طعام" فأتينا بجفنة كثيرة الثريد والوذر وأقبلنا نأكل منها فخبطت بيدي من نواحيها وأكل رسول الله صلى الله عليه وسلم من
ـــــــ
مزينة عن عمر بن أبي سلمة" قال المنذري في تلخيص السنن بعد نقل كلام الترمذي هذا: وأخرجه النسائي أي كما ذكره الترمذي وقال النسائي: هذا هو الصواب عندي والله أعلم "وقد اختلف أصحاب هشام بن عروة في رواية هذا الحديث" قال الحافظ: فكأن البخاري عرج عن هذه الطريق لذلك انتهى. وحديث عمر بن أبي سلمة أخرجه الشيخان وأبو داود والنسائي وابن ماجه "أبو وجزة السعدي الخ" قال في التقريب: يزيد بن عبيد أبو وجزة بفتح الواو وسكون الجيم بعدها زاي السعدي المدني الشاعر ثقة من الخامسة.
قوله حدثنا العلاء بن الفضل بن عبد الملك بن أبي السوية أبوالهذيل المنقري البصري ضعيف من صغر التاسعة حدثني عبيد الله بن عكراش بكسر المهملة وسكون الكاف وآخره معجمة ابن ذؤيب التميمي قال البخاري لا يثبت حديثه من الثالثة كذا في التقريب عن أبيه عكراش بن ذؤيب بمضمومة وبمثناة تحت وبموحدة تصغير ذئب السعدي صحابي قليل الحديث عاش مائة سنة
قوله فأتينا أي جيء لنا بجفنة بفتح جيم فسكون فاء أي قصعة كثيرة الثريد والوذر بفتح الواو وسكون الذال المعجمة جمع وذرة وهي قطع من اللحم لا عظم فيها على ما في الفائق وغيره وفي القاموس الوذرة من اللحم القطعة الصغيرة لا عظم فيها ويحرك فخبطت أو ضربت بيدي في نواحيها من خبط البعير بيده إذا ضربه بها وقال الطيبي أي ضربت فيها من غير استواء من قولهم(5/592)
بين يديه فقبض بيده اليسرى على يدي اليمنى ثم قال "يا عكراش كل من موضع واحد فإنه طعام واحد" ثم أتينا بطبق فيه ألوان الرطب أو من ألوان الرطب عبيد الله شك قال فجعلت آكل من بين يدي وجالت يد رسول الله صلى الله عليه وسلم في الطبق وقال "يا عكراش كل من حيث شئت لون واحد" ثم أتينا بماء فغسل رسول الله صلى الله عليه وسلم يديه ومسح ببلل كفيه وجهه وذراعيه ورأسه وقال "يا عكراش هذا الوضوء مما غيرت النار"
ـــــــ
خبط خبط عشواء وراعى الأدب حيث قال في جانب رسول الله صلى الله عليه وسلم وجالت يد رسول الله صلى الله عليه وسلم من الجولان والمعنى أدخلت يدي أو أوقتها في نواحي القصعة وأكل رسول الله صلى الله عليه وسلم من بين يديه أي مما يليه فقبض بيده اليسرى على يدي اليمنى يجوز فتح ياء الإضافة وسكونها وهذا ملاحظة فعلية كل من موضع واحد أي مما يليك فإنه طعام واحد أي فلا يحتاج إلى جانب آخر مع ما فيه من التطلع على ما في أيدي الناس والشره والحرص والطمع الزائد ثم أتينا بطبق بفتحتين الذي يؤكل عليه فيه ألوان التمر أي أنواع من التمر فجعلت آكل من بين يدي أي تأدبا وجالت من الجولان أي ودارت في الطبق أي في جوانبه وحواليه وهذا تعليم فعلي لبيان الجواز قال تأكيدا لما فيه من الفعل كل من حيث شئت أي الآن والظاهر استثناء الأوسط فإنه محل تنزل الرحمة ويحتمل أنه يكون مخصوصا بلون واحد أو بالمختلط حتى صار كأنه شيء واحد فإنه اي التمر الموجود في لون واحد بل ألوان كما سبق قال ابن الملك فيه تنبيه على أن الفاكهة إذا كان لونها واحدا لا يجوز أن أن يخبط بيده كالطعام وعلى أن الطعام إذا كان ذا ألوان يجوز أن يخبط ويأكل من أي نوع يريده وقال يا عكراش هذا الوضوء أي العرفي مما غيرت النار اي مسته قال الطيبي قوله مما غيرت النار خبر المبتدأ ومن ابتدائية اي هذا الوضوء لأجل طعام طبخ بالنار(5/593)
هذا حديث غريب لا نعرفه إلا من حديث العلاء بن الفضل وقد تفرد العلاء بهذا الحديث وفي الحديث قصة
1920ـ حدثنا أبو بَكْرٍ محمدُ بنُ أَبَانَ، حدثنا وَكيعٌ، حدثنا هِشَامٌ الدّسْتَوَائِيّ عن بُدَيْل بنِ مَيْسَرَةَ العقيلِيّ عن عَبْدِ الله بنِ عُبَيْدِ بنِ عُمَيْرٍ عن أُمّ كُلْثُومَ عن عَائِشَةَ قالَتْ: قالَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم:
ـــــــ
قوله هذا حديث غريب الخ وأخرجه ابن ماجة مختصرا وقد تفرد العلاء بهذا الحديث قال الحافظ في تهذيب التهذيب في ترجمته عبيد الله بن عكراش بعد نقل كلام الترمذي هذا قال الساجي وحدثني أبو زيد سمعت العباس بن عبد العظيم يقول وضع العلاء بن الفضل هذا الحديث حديث صدقات قومه الذي رواه عن عبيد الله وقال إذنه قال البخاري في إسناده نظر وقال ابن حزم عبيد الله بن عكراش ضعيف جدا انتهى وفي الحديث قصة قال الحافظ في تهذيب التهذيب في ترجمة العلاء بن الفضل ذكر ابن حبان حديث عبيد الله بن عكراش بطوله انتهى
قوله: "عن بديل" مصغراً "بن ميسرة" العقيلي بضم العين البصري ثقة من الخامسة "عن عبيد الله بن عبيد بن عمير" هو الليثي "عن أم كلثوم" قال في تهذيب التهذيب: أم كلثوم الليثية المكية عن عائشة في التسمية على الأكل والشرب، وعنها عبد الله بن عبيد عن عمير الليثي. ووقع في رواية أبي داود من طريق عبد الله بن عبيد الله بن عمير المذكور عن امرأة منهم يقال لها أم كلثوم، ولهذا ترجم المصنف بكونها ليثية، لكن الترمذي قال عقب حديثها: أم كلثوم هذه هي بنت محمد بن أبي بكر الصديق، فعلى هذا نقول ابن عمير عن امرأة منهم قابل للتأويل فينظر فيه فلعل منهم أي كانت منهم بسبب إما بالمصاهرة أو بغيرها من الأسباب، والعمدة على قول الترمذي انتهى. وقال المنذري في تلخيص السنن: ووقع في بعض روايات الترمذي أم كلثوم الليثية وهو الأشبه لأن عبيد بن عمير ليثي ومثل بنت أبي بكر لا يكنى عنها بامرأة ولا سيما مع قوله منهم، وقد سقط هذا من بعض نسخ(5/594)
"إذَا أَكَلَ أَحَدُكُمْ طَعَاماً فَلْيَقُلْ بِسْمِ الله، فإنْ نَسِيَ في أَوّلِهِ فَلْيَقُلْ بِسْمِ الله في أَوّلِهِ وآخِرِهِ" .
وبِهَذَا الإسْنَادِ عن عَائِشَةَ قالَتْ: "كانَ النبي صلى الله عليه وسلم: يَأْكُلُ طَعَاماً في سِتّة مِنْ أصْحَابِهِ فَجَاءَ أَعرابي فأكله بلقمتين فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "أَمَا إِنّهُ لَوْ سَمّى كفاكم" .
ـــــــ
الترمذي وسقوط الصواب، والله عز وجل أعلم. وقد ذكر الحافظ أبو القاسم الدمشقي في أطرافه لأم كلثوم بنت أبي بكر عن عائشة أحاديث وذكر بعدها أم كلثوم الليثية ويقال المكية، وذكر لها هذا الحديث. وقد أخرج أبو بكر بن أبي شيبة هذا الحديث في مسنده عن عبد الله بن عبيد بن عمير عن عائشة ولم يذكر فيه أم كلثوم انتهى.
قلت: ليس في نسخ جامع الترمذي الموجودة عندنا بلفظ الليثية بعد أم كلثوم، وكذا ليس فيها عقب هذا الحديث أم كلثوم هذه هي بنت محمد بن أبي بكر الصديق. قوله: "فإن نسي" بفتح النون وكسر السين المخففة أي ترك نسياناً "في أوله" أي فإن نسي حين الشروع في الأكل ثم تذكر في أثنائه أنه ترك التسمية أولاً "فليقل بسم الله في أوله وآخره" والمعنى في جميع أجزائه كما يشهد له المعنى الذي قصد به التسمية، فلا يقال ذكرهما يخرج الوسط، فهو كقوله تعالى: {وَلَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيهَا بُكْرَةً وَعَشِيّاً} مع قوله عز وجل {أكلها دائم} ويمكن أن يقال: المراد بأوله النصف الأول وبآخره النصف الثاني فيحصل الاستيفاء والاستحباب.
وفي الحديث دليل على مشروعية التسمية للأكل وأن الناسي يقول أثنائه: بسم الله في أوله وآخره، وكذا التارك للتسمية عمداً يشرع له التدارك في أثنائه. قال في الهدي: والصحيح وجوب التسمية عند الأكل وهو أحد الوجهين لأصحاب أحمد، وأحاديث الأمر بها صحيحة صريحة لا معارض لها ولا إجماع يسوغ مخالفتها ويخرج عن مظاهرها انتهى.
قوله: "فأكله بلقمتين" أي بغير التسمية "أما" حرف التنبيه "إنه لو سمي" وفي رواية ابن ماجه إنه لو كان قال بسم الله "لكفاكم" أي الطعام.(5/595)
هذا حديث حسن صحيح
ـــــــ
قوله: "هذا حديث حسن صحيح" وأخرجه أحمد وأبو داود والنسائي وابن ماجه(5/596)
باب ماجاء في كراهية البيتوتة وفي يده غمر
...
46ـ باب ما جَاء في كَرَاهِيَةِ البَيْتُوتَةِ وفي يَدِهِ ريح غَمَر
1921 ـ حدثنا أحمدُ بنُ مَنِيعٍ، حدثنا يَعْقُوبُ بنُ الوَلِيدِ المزني عن ابنِ أبي ذِئْبٍ عن المَقْبُرِيّ عن أبي هُرَيْرَةَ قالَ: قالَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: "إنّ الشّيْطَانَ حَسّاسٌ لَحّاسٌ، فاحْذَرُوهُ على أنْفُسِكُمْ، مَنْ بَاتَ وفي يَدِهِ رِيحُ غَمَرٍ فأَصَابَهُ شَيْءٌ فَلاَ يَلُومَنّ إلاّ نَفْسَهُ" .
هذا حديثٌ غريبٌ مِنْ هذا الوَجْهِ. وقد رُوِيَ مِنْ حَدِيثِ سُهَيْلِ بنِ أبي صَالحٍ عن أبيهِ عن أبي هُرَيْرَةَ عن النبيّ صلى الله عليه وسلم.
ـــــــ
باب ما جَاء في كَرَاهِيَةِ البَيْتُوتَةِ وفي يَدِهِ ريح غَمَر
قال في النهاية: الغمر بالتحريك الدمس والزهومة من اللحم كالوضر من السمن انتهى.
قوله: "إن الشيطان حساس" بحاء مهملة وشدة السين الهملة أي شديد الحس والإدراك "لحاس" بالتشديد أي يلحس بلسانه اليد المتلوثة من الطعام "فاحذروه على أنفسكم" أي خافوه عليها فاغسلوا أيديكم بعد فراغ الأكل من أثر الطعام "وفي يده غمر" بفتحتين أي دسم ووسخ وزهومة من اللحم والجملة حالية "فأصابه شيء" عطف على بات، والمعنى وصله شيء من إيذاء الهوام، وقيل أومن الجان لأن الهوام وذوات السموم ربما تقصده في المنام لرائحة الطعام في يديه فتؤديه. وللطبراني من حديث أبي سعيد: من بات وفي يده ريح غمر فأصابه وضح أي برص "فلا يلومن إلا نفسه" لأنه مقصر في حق نفسه.
قوله: "هذا حديث غريب من هذا الوجه" قال المنذري في الترغيب بعد ذكر هذا الحديث: رواه الترمذي والحاكم كلاهما عن يعقوب بن الوليد المدني عن ابن أبي ذئب عن المقبري عن أبي هريرة. وقال الترمذي: حديث غريب من هذا الوجه. وقد روى من حديث سهيل بن أبي صالح عن أبيه عن أبي هريرة انتهى.(5/596)
1922ـ حدثنا محمدُ بنُ إسحاقَ أَبُو بَكْرٍ الْبَغْدَادِيّ الصاغانيّ، حدثنا محمدُ بنُ جَعْفَرٍ المَدَائِنِيّ، حدثنا مَنْصُورُ بنُ أبي الأسْوَدِ عن الأعْمَشِ عن أبي صَالِحٍ عن أبي هُرَيْرَةَ قالَ: قالَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم: "مَنْ بَاتَ وفي يَدِهِ ريح غَمْر فَأَصَابَهُ شَيْءٌ فَلاَ يَلُومَنّ إلاّ نَفْسَهُ" .
هذا حديثٌ حسنٌ غريبٌ لا نَعْرِفُهُ مِنْ حَدِيثِ الأعْمَشِ إِلاّ مِنْ هذا الوَجْهِ.
آخر أبواب الأطعمة
ـــــــ
وقال الحاكم صحيح الإسناد. قال يعقوب بن الوليد الأزدي: هذا كذب وإنهم لا يحتجون به، لكن رواه البيهقي والبغوي وغيرهما من حديث زهير بن معاوية عن سهيل بن أبي صالح عن أبيه أبي هريرة كما أشار إليه الترمذي. وقال البغوي في شرح السنة: حديث حسن وهو كما قال، فإن سهيل بن أبي صالح وإن كان تكلم فيه فقد روى له مسلم في الصحيح احتجاجاً واستشهاداً. وروى له البخاري مقروناً. قال السلمي: سألت الدارقطني: لم ترك سهيلاً في الصحيح؟ فقال لا أعرف له فيه عذراً. وبالجملة فيه طويل، وقد روى عنه شعيبة ومالك ووثقه الجمهور وهو حديث حسن انتهى كلام المنذري "وقد روى من حديث سهيل بن أبي صالح عن أبيه عن أبي هريرة الخ" كذا ذكره الترمذي معلقاً ووصله أبو داود وابن ماجه.
قوله: "حدثنا محمد بن إسحاق" الصغاني "أبو بكر البغدادي" ثقة ثبت من الحادية عشرة "حدثنا محمد بن إسحاق" البزاز أبو جعفر المدائني صدوق فيه لين من التاسعة "حدثنا منصور بن أبي الأسود" الليثي الكوفي يقال اسم أبيه حازم صدوق رمى بالتشيع من الثالثة.
قوله: "من بات" وفي رواية أبي داود من نام "وفي يده غمر" زاد أبو داود: ولم يغسله. قال الشوكاني: وفي رواية إطلاقه يقتضي حصول السنة بمجرد الغسل بالماء. قال ابن رسلان: والأولى غسل اليد منه بالأشنان والصابون وما في معناهما.
قوله: "هذا حديث حسن غريب الخ" وأخرجه أبو داود وابن ماجه وابن حبان في صحيحه وأخرجه ابن ماجه أيضاً عن فاطمة رضي الله تعالى عنها بنحوه(5/597)
أبواب الأشربة
باب ماجاء في شارب الخمر
...
أبواب الأشربة
عن رسول الله صلى الله عليه وسلم
1ـ باب ما جَاءَ في شَارِبِ الْخَمْر
1923 ـ حدثنا أبو زكريا يَحْيىَ بنُ دُرُسْتَ البصري، حدثنا حَمّادُ بنُ زَيْدٍ عن أَيّوبَ عن نَافِعٍ عن ابنِ عُمَرَ قالَ: قالَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: "كُلّ مُسْكِرٍ خَمْرٌ وكُلّ مُسْكِرٍ حَرَامٌ، ومِنْ شَرِبَ الْخَمْرَ في الدّنْيَا فَمَاتَ وَهُوَ يُدْمِنُهَا لَمْ يَشْرَبْهَا في الاَخِرَةِ" .
ـــــــ
أبواب الأشربة
جمع شراب وهو ما يشرب من ماء وغيره من المائعات
باب ما جَاءَ في شَارِبِ الْخَمْر
أي من الوعيد والتهديد.
قوله: "حدثنا يحيى بن درست" بضم الدال والراء المهملتين وسكون السين المهملة ابن زياد البصري ثقة، روي عن حماد بن زيد وإسماعيل القناد، وعنه الترمذي والنسائي وابن ماجه وغيرهم، كذا في التقريب والخلاصة "كل مسكر خمر" فيه دليل عل أن كل مسكر يسمى خمراً وهو مذهب الجمهور وهو القول المنصور، وسيأتي الكلام في هذا في باب الحبوب التي يتخذ منها الخمر "وكل مسكر حرام" قال النووي: فيه تصريح بتحريم جميع الأنبذة المسكرة وأن كلها تسمى خمراً سواء في ذلك الفضيخ ونبيذ التمر والرطب والبسر والزبيب والشعير والذرة والعسل وغيرها، هذا مذهبنا وبه قال مالك وأحمد والجماهير من السلف والخلف انتهى "فمات وهو يدمنها" أي يداوم على شربها بأن لم يتب عنها حتى مات على ذلك. قال في القاموس: أدمن الشيء أدامه "لم يشربها في الاَخرة" وفي رواية لمسلم: "من شرب الخمر في الدنيا فلم يتب منها حرمها في الآخرة" . قال النووي: معناه أنه يحرم شربها في الجنة وإن دخلها، فإنها من فاخر شراب الجنة فيمنعها هذا العاصي(5/598)
قال وفي البابِ عن أبي هُرَيْرَةَ وأَبِي سعَيدٍ وعَبْدِ الله بنِ عَمْرٍو وعُبَادَةَ وأبي مَالِكٍ الأشْعَرِيّ. وابن عباس
ـــــــ
بشربها في الدنيا، قيل إنه ينسى شهوتها لأن الجنة فيها كل ما يشتهى، وقيل لا يشتهيها وإن ذكرها ويكون هذا نقص نعيم في حقه تمييزاً بينه وبين تارك شربها وفي هذا الحديث دليل على أن التوبة تكفر المعاصي الكبائر وهو مجمع عليه انتهى. وقال الجزري في النهاية. هذ من باب التعليق في البيان أراد أنه لم يدخل الجنة لأن الخمر من شراب أهل الجنة فإذ لم يشربها في الآخرة لم يكن قد دخل الجنة انتهى. وكذلك قال الخطابي والبغوي والأولى عندي أن يحمل قوله صلى الله عليه وسلم: لم يشربها في الآخرة على ظاهره، ففي إحدى روايات البيهقي: "من شرب الخمر في الدنيا ولم يتب لم يشربها في الآخرة وإن دخل الجنة" . روى أحمد بسند حسن عن عبد الله بن عمر ورفعه: "من مات من أمتي وهو يشرب الخمر حرم الله عليه شربها في الجنة" . وفي حديث أبي سعيد مرفوعاً: "من لبس الحرير في الدنيا لم يلبسه في الآخرة وإن دخل الجنة لبسه أهل الجنة ولم يلبسه هو" ، أخرجه الطيالسي وصححه ابن حبان. قال ابن العربي: ظاهر الحديثين أنه لا يشرب الخمر في الجنة ولا يلبس الحرير فيها، وذلك لأنه استعجل ما أمر بتأخيره ووعد به فحرمه عند ميقاته. كالوارث فإنه إذا قتل مورثة فإنه يحرم ميراثه لا ستعجاله، وبهذا قال نفر من الصحابة ومن العلماء انتهى. وقال القرطبي: ظاهر الحديث تأييد التحريم، فإن دخل الجنة شرب من جميع أشربتها إلا الخمر ومع ذلك فلا يتألم لعدم شربها ولا يحسد من يشربها وبكون حاله كحال أصحاب المنازل في الخفض والرفعة، فكما لا يشتهي منزلة من هو أرفع منه لا يشتهيها أيضاً وليس ذلك بعقوبة له انتهى.
قوله: "وفي الباب عن أبي هريرة وأبي سعيد وعبد الله بن عمرو وعبادة وأبي مالك الأشعري وابن عباس" أما حديث أبي هريرة فأخرجه البخاري ومسلم وأبو داود والترمذي والنسائي، وعنه في الباب أحاديث أخرى ذكرها الحافظ المنذري في الترغيب والترهيب. وأما حديث أبي سعيد فأخرجه مسلم. وأما حديث عبد الله بن عمرو فأخرجه أحمد والطبراني عنه وعن النبي صلى الله عليه وسلم قال "من مات من أمتي وهو يشرب الخمر حرم الله عليه شربها في الجنة، ومن(5/599)
حَدِيثُ ابنُ عُمَرَ حديثٌ حسنٌ صحيحٌ. وقد رُوِيَ مِنْ غَيْرِ وَجْهٍ عن نَافِعٍ عن ابنِ عُمَر عن النبيّ صلى الله عليه وسلم. ورَوَاهُ مَالِكُ بنُ أَنَسٍ عن نَافِعٍ عن ابنِ عُمَرَ مَوْقُوفاً ولَمْ يَرْفَعْهُ.
1924 ـ حدثنا قُتَيْبَةُ، حدثنا جَرِير بن عبدالحميد عن عَطَاءِ بنِ السّائِبِ عن عَبْدِ الله بنِ عُبَيْدِ بنِ عُمَيْرٍ عن أبيهِ قالَ: قالَ عَبْدُ الله بنُ عُمَرَ:
ـــــــ
مات من أمتي وهو يتحلى الذهب حرم الله عليه لباسه في الجنة" . قال المنذري: رواه أحمد ثقات. وأما حديث عبادة فأخرجه عبد الله بن أحمد في زياداته عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "والذي نفسي بيده ليبيتن أناس من أمتي على أشر وبطر ولعب ولهو فيصبحوا قردة وخنازير باستحلالهم المحارم واتخاذهم القينات وشربهم الخمر وبأكلهم الربا ولبسهم الحرير" . وأما حديث أبي مالك الأشعري فأخرجه ابن ماجه وابن حبان في صحيحه عنه أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "تشرب ناس من أمتي الخمر يسمونها بغير اسمها يضرب على رؤوسهم بالمعازف والقينات يخسف الله بهم الأرض ويجعل الله منهم القردة والخنازير" . وأما حديث ابن عباس فأخرجه أحمد عن ابن المنكدر قال: حدثت عن ابن عباس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "مدمن الخمر إن مات لقي الله كعابد وثن" قال المنذري رواه أحمد هكذا ورجاله رجال الصحيح ورواه ابن حبان في صحيحه عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من لقي الله مدمن خمر لقيه كعابد وثن" . وفي الباب أحاديث أخرى عن عدة من الصحابة غير الذين ذكرهم الترمذي إن شئت الوقوف عليها فارجع إلى الترغيب والترهيب للمنذري.
قوله: "حديث ابن عمر حديث حسن صحيح" وأخرجه البخاري ومسلم وأبو داود والنسائي.
قوله: "عن عبد الله بن عبيد" ابن عمير بالتصغير أيضاً الليثي الجندعي المكي روى عن أبيه وعن ابن عمر، وعنه بديل بن ميسرة وغيره، وثقه أبو حاتم قال(5/600)
قالَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: "مَنْ شَرِبَ الْخَمْرَ لَمْ يقبل الله لَهُ صَلاَة أرْبَعِينَ صَبَاحاً، فإنْ تَابَ تَابَ الله عَلَيْهِ، فإنْ عَادَ لَمْ يَقْبَلْ الله لَهُ صَلاَةً أَرْبَعِينَ صَبَاحاً، فإنْ تَابَ تابَ الله عَلَيهِ فإن عاد لم يقبل الله له صلاة أربعين صبحاً فإن تاب تاب الله عليه. فإنْ عَادَ الرابعة لَمْ يَقْبَل الله لَهُ صَلاَةُ أرْبَعِينَ صَبَاحاً، فإنْ تَابَ لَمْ يَتُبْ الله عَلَيْهِ وسقَاهُ مِنْ نَهْرِ الْخَبَالِ". قِيلَ يا أبَا عَبْدِ الرحمَنِ ومَا نَهْرُ الْخَبَالِ؟ قالَ: نَهْرٌ مِنْ صَدِيدِ أهْلِ النّارِ".
ـــــــ
عمرو بن علي مات سنة ثلاث عشرة ومائة "عن أبيه" هو عبيد بن عمير بن قتادة الليثي أبو عاصم المكي ولد على عهد النبي صلى الله عليه وسلم، قاله مسلم، وعده غيره في كبار التابعين، وكان قاض أهل مكة مجمع على ثقته.
قوله: "من شرب الخمر" أي ولم يتب منه "لم تقبل له صلاة" بالتنوين "أربعين صباحاً" ظرف. قال القاري في المرقاة. وفي نسخة يعني من المشكاة بالإضافة يعني بإضافة صلاة إلى أربعين، والمعنى لم يكن له ثواب وإن برئ الذمة وسقط القضاء بأداء أركانه مع شرائطه كذا قالوا. وقال النووي: إن لكل طاعة اعتبارين أحدهما سقوط القضاء عن المؤدي، وثانيهما ترتيب حصول الثواب، فعبر عن عدم ترتيب الثواب بعدم قبول الصلاة انتهى. وخص الصلاة بالذكر لأنها سبب حرمتها أو لأنها أم الخبائث على ما رواه الدارقطني عن ابن عمر، كما أن الصلاة أم العبادات، كما قال الله تعالى: {إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ} وقيل إنما خص الصلاة بالذكر لأنها أفضل عبادات البدن، فإذا لم يقبل منها فلأن لا يقبل منها عبادة أصلاً كان أولى. ولتبادر إلى الفهم من قوله أربعين صباحاً أن المراد صلاة الصبح وهي أفضل الصلوات، ويحتمل أن يراد به اليوم أي صلاة أربعين يوماً "فإن تاب" أي من شرب الخمر بالإقلاع والندامة "تاب الله عليه" أي قبل توبته "فإن عاد" أي إلى شربها "فإن عاد الرابعة" أي رجع الرابعة "فإن تاب لم يتب الله عليه" هذا مبالغة في الوعيد والزجر الشديد، وإلا فقد ورد: ما أصر من استغفر وإن عاد في اليوم سبعين مرة رواه أبو داود والترمذي عن أبي بكر الصديق رضي الله(5/601)
هذا حديثٌ حسنٌ.
وقد رُوِيَ نَحْوُ هذَا عَنْ عَبْدِ الله بنِ عَمْرٍو وابنِ عَبّاسٍ عن النبيّ صلى الله عليه وسلم.
ـــــــ
عنه "وسقاه من نهر الخبال" بفتح الخاء المعجمة، والمعنى أن صديد أهل النار لكثرته يصير جارياً كالأنهار.
قوله: "هذا حديث حسن" وأخرجه الحاكم وقال صحيح الإسناد، وأخرجه النسائي موقوفاً على ابن عمر مختصراً ولفظه: من شرب الخمر فلم ينتش لم تقبل له صلاة ما دام في جوفه أو عروقه منها شيء، وإن مات مات كافراً وإن انتشى لم تقبل له صلاة أربعين يوماً، وإن مات فيها مات كافراً.
قوله: "وقد روى نحو هذا عن عبد الله بن عمرو" أخرجه النسائي ولفظه: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: من اشرب الخمر فجعلها في بطنه لم تقبل منه صلاة سبعاً، وإن مات فيها مات كافراً، فإن أذهبت عقله عن شيء من الفرائض وفي رواية عن القرآن لم تقبل منه صلاة أربعين يوماً، وإن مات فيها مات كافراً "وابن عباس" أخرجه أبو داود(5/602)
باب ماجاء كل مسكر حرام
...
2ـ باب ما جَاءَ كُلّ مُسْكِرٍ حَرَام
1925ـ حدثنا الأنْصَارِيّ حدثنا مَعْنٌ حدثنا مَالِكُ بنُ أَنَسٍ عن ابنِ شِهَابٍ عن أبي سَلَمَةَ عن عَائِشَةَ "أنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم سُئِلَ عن البِتْعِ؟ فَقَالَ: "كُلّ شَرَابٍ أسكَرَ فَهُوَ حَرَامٌ" .
ـــــــ
باب ما جَاءَ كُلّ مُسْكِرٍ حَرَام
قوله: "سئل عن البتع" بكسر الموحدة وسكون الفوقية وقد يحرك وهو نبيذ العسل، كذا وقع تفسيره في رواية الشيخين، وقال في القاموس: البتع بالكسر وكعنب نبيذ العسل المشتد أو سلالة العنب أو بالكسر الخمر "فقال كل شراب أسكر فهو حرام" وهو مذهب الشافعي ومالك وأحمد والجماهير من السلف والخلف كما تقدم وهو الحق. قال الطيبي: قوله: "كل شراب أسكر فهو حرام" ، جواباً عن(5/602)
1926ـ حدثنا عُبَيْدُ بنُ أَسْبَاطَ بنِ مُحمدٍ القُرَشِيّ الكوفي و أَبُو سَعِيدٍ الأَشَجّ قَالا: حدثنا عَبْدُ الله بنُ إدْرِيسَ عن محمدِ بنِ عَمْرٍو عَنْ أبي سَلَمَةَ عن ابنِ
ـــــــ
سؤالهم عن البتع يدل على تحريم كل مسكر، وعلى جواز القياس بالطرد العلة انتهى. فإن قال أهل الكوفة إن قوله صلى الله عليه وسلم: كل شراب أسكر يعني به الجزء الذي يحدث عقبه السكر فهو حرام، فالجواب أن الشراب اسم جنس فيقتضي أن يرجع إلى التحريم إلى الجنس كله كما يقال: هذا الطعام مشبع والماء مر ويريد به الجنس، وكل جزء منه يفعل ذلك الفعل، فاللقمة تشبع العصفور وما هو أكبر منها يشبع ما هو أكبر من العصفور، وكذلك جنس الماء يروي الحيوان على هذا الحد فكذلك النبيذ. قال الطبري: يقال لهم أخبرونا عن الشربة التي يعقبها السكر أهي التي أسكرت صاحبها دون ما تقدمها من الشراب، أم أسكرت باجتماعها مع ما تقدم وأخذت كل شربة بحظها من الإسكار؟ فإن قالوا إنما أحدث له السكر الشربة الآخرة التي وجد خبل العقل عقبها، قيل لهم: وهل هذه التي أحدثت له ذلك إلا كبعض ما تقدم من الشربات قبلها في أنها لو انفردت دون ما قبلها كانت غير مسكرة وحدها وأنها إنما أسكرت باجتماعها واجتماع عملها فحدث عن جميعها السكر، كذا في النيل.
واعلم أن حديث عائشة هذا أخرجه أحمد والشيخان وأبو داود والنسائي وابن ماجه لكن الترمذي لم يقل بعد روايته بأن حسن أو صحيح. وروى بعد هذا حديث ابن عمر وقال بعد روايته هذا حديث حسن صحيح ثم قال وفي الباب عن عمر الخ، ثم قال: هذا حديث حسن، فإن كانت الإشارة بقوله: هذا حديث حسن إلى حديث عائشة المذكور ففيه بعد كما لا يخفى، وإن كانت الإشارة إلى حديث ابن عمر فهو غير صحيح لأنه قد أشار إليه بقوله: هذا حديث حسن صحيح، فالظاهر أن يكون قوله: هذا حديث حسن صحيح بعد روايته حديث عائشة، وأن يكون قوله: هذا حديث حسن بعد رواية حديث ابن عمر.
قوله: "حدثنا عبيد بن أسباط" بمفتوحة وسكون مهملة وبموحدة وطاء مهملة وترك صرف كذا في المغني "بن محمد القرشي" الكوفي روى عن أبيه وعبد الله بن إدريس، وعنه زت ق وثقه مطين، وقال مات سنة خمسين ومائتين كذا في الخلاصة.(5/603)
عُمَرَ قالَ: سَمِعْتُ النبيّ صلى الله عليه وسلم يقول: "كُلّ مُسْكِرٍ حَرَامٌ" . هذا حديث حسن صحيح.
قال وفي البابِ عَنْ عُمَر وعَلِيّ وابنِ مَسْعُودٍ وأنسٍ وأبِي سَعِيدٍ وأبِي مُوسَى والأَشَجّ العصْرِيّ ودَيْلَمَ ومَيْمُونَةَ وعائشة وابنِ عَبّاسٍ وقَيْسِ بنِ سَعْدٍ والنّعْمَانِ بنِ بَشِيرٍ ومُعَاوِيَةَ وعَبْدِ الله بنِ مُغفَلٍ وأُمّ سَلَمَةَ وبرَيْدَةَ وأَبِي هُرَيْرَةَ ووائل بن حجر وقرة المزني.
ـــــــ
قوله: "كل مسكر حرام" تقدم الكلام عليه.
قوله: "هذا حديث حسن صحيح" حديث ابن عمر هذا أخرجه الترمذي مطولاً في الباب المتقدم.
قوله: "وفي الباب عن عمر وعلي الخ" حديث عمر بلفظ: كل مسكر حرام عند أبي يعلى وفيه الإفريقي، وحديث علي بلفظ: اجتنبوا ما أسكر عند أحمد وهو حسن، وحديث ابن مسعود عند ابن ماجه من طريق لين بلفظ عمر، وأخرجه أحمد من وجه آخر لين أيضاً بلفظ علي، وحديث أبي سعيد أخرجه البزار بسند صحيح بلفظ عمر. وحديث الأشج العصري أخرجه أبو يعلى كذلك بسند جيد وصححه ابن حبان، وحديث ديلم أخرجه أبو داود بسند حسن فيه قال: هل يسكر؟ قال: نعم، فاجتنبوه. وحديث ميمونة أخرجه أحمد بسند حسن بلفظ: ولك شراب أسكر فهو حرام. وحديث ابن عباس أخرجه أبو داود من طريق جيد بلفظ عمر، والبزار من طريق لين بلفظ: واجتنبوه كل مسكر. وحديث قيس بن سعد أخرجه أحمد بلفظ حديث عمر. وحديث النعمان بن بشير أخرجه أبو داود بسند حسن بلفظ: وإني أنهاكم عن كل مسكر. وحديث معاوية أخرجه ابن ماجه بسند حسن بلفظ عمر، وحديث عبد الله بن مغفل أخرجه أحمد بلفظ: اجتنبوا المسكر. وحديث أم سلمة أخرجه أبو داود بسند حسن بلفظ: نهى عن كل مسكر ومفتر. وحديث بريدة أخرجه مسلم في أثناء حديث ولفظه مثل لفظ عمر. وحديث أبي هريرة أخرجه النسائي بسند حسن. وحديث وائل بن حجر(5/604)
هذا حديثٌ حسن. وقد رُوِيَ عن أبِي سَلَمَةَ عن أبِي هُرَيْرَةَ عن النبيّ صلى الله عليه وسلم نَحْوَهُ. وكِلاَهُمَا صَحِيحٌ. رَوَاه غَيْرُ وَاحِدٍ عن محمدِ بنِ عَمْروٍ عَنْ أبِي سَلَمَةَ عن أبي هُرَيْرَةَ عن النبيّ صلى الله عليه وسلم نَحْوَهُ. وعن أبي سَلَمَةَ عن ابنِ عُمَرَ عن النبيّ صلى الله عليه وسلم.
ـــــــ
أخرجه ابن عاصم. وحديث قرة المزني أخرجه البزار بلفظ عمر بسند لين كذا في الفتح.
قلت: وأما حديث أبي موسى فأخرجه أحمد والشيخان وأبو داود والنسائي وابن ماجه. وأما حديث عائشة فأخرجه الترمذي في الباب الاَتي. وفي الباب أحاديث أخرى عن غير هؤلاء الصحابة رضي الله عنهم ذكرها الحافظ في الفتح في باب الخمر من العسل وهو البتع "وقد روى عن أبي سلمة عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم نحوه" أخرجه أحمد والنسائي(5/605)
باب ما أسكر كثيره فقليله حرام
...
3ـ باب ما جاء ما أَسْكَرَ كَثِيرهُ فَقَلِيلُهُ حَرَام
1927ـ حدثنا قُتَيْبَةُ، حدثنا إسماعيلُ بنُ جَعْفَرٍ وحدثنا عَلِي بنُ حُجْرٍ أخبرنا إسماعيلُ بنُ جَعْفَرٍ عن دَاوُدَ بنِ بَكْرٍ بنِ أبِي الفُرَاتِ عن ابنِ المُنْكَدِرِ عن جَابِرٍ بنِ عَبْدِ الله أنّ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم قالَ: "مَا أَسْكَرَ كَثِيرُهُ فَقَلِيلُهُ حَرَامٌ" .
ـــــــ
"باب ما جاء ما أَسْكَرَ كَثِيرهُ فَقَلِيلُهُ حَرَام"
قوله: "عن داود بن بكر بن أبي الفرات" الأشجعي مولاهم المدني صدوق من السابعة.
قوله: "ما أسكر كثيره فقليله حرام" فيه رد على من قال من الحنفية إن الخمر يحرم قليله وكثيره وغيره من المسكرات يحرم قدر المسكر منه دون القليل، وهو باطل يبطله الأحاديث الكثيرة الصحيحة الصريحة.(5/605)
وفي البابِ عن سَعْدٍ وَعَائِشَةَ وعَبْدِ الله بنِ عَمْرٍو وابنِ عُمَر وخَوّاتِ بنِ جُبَيْرٍ.
هذا حديثٌ حسنٌ غريبٌ مِنْ حَدِيثِ جَابِرٍ.
1928 ـ حدثنا محمدُ بنُ بَشّارٍ حدثنا عَبْدُ الأَعْلَى بنُ عَبْدِ الأَعْلَى عن هِشَامِ بنِ حَسّانَ عن مَهْدِيّ بنِ مَيْمُونٍ وحدثنا عَبْدُ الله بنُ مُعَاوِيَةَ الجُمَحِيّ حدثنا مَهْدِي بنِ مَيْمُونٍ، المَعْنَى وَاحِدٌ، عن أبِي عُثْمانَ الأَنْصَارِيّ
ـــــــ
قوله: "وفي الباب عن سعد وعائشة وعبد الله بن عمرو وابن عمر وخوات بن جبير" أما حديث سعد وهو ابن أبي وقاص فأخرجه الدارقطني والنسائي عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن قليل ما أسكر كثيره. وأما حديث عائشة فأخرجه أحمد عنها مرفوعاً: "ما أسكر منه الفرق فملء الكف منه حرام" . وأما حديث عبد الله بن عمرو فأخرجه الدراقطني وفيه: حرام قليل ما أسكر كثيره، وأخرجه أيضاً أحمد والنسائي وابن ماجه. وأما حديث ابن عمر فأخرجه أحمد وابن ماجه والدارقطني وصححه ولفظه مثل لفظ حديث الباب. وأما حديث خوات بن جبير فأخرجه الدارقطني والطبراني والحاكم في المستدرك. وقال المنذري بعد الكلام على حديث جابر المذكور في الباب ما نصه: وقد روى هذا الحديث من رواية علي بن أبي طالب وسعد بن أبي وقاص وعبد الله بن عمرو، وحديث سعد بن أبي وقاص أجودها إسناداً، فإن النسائي رواه في سننه عن محمد بن عبد الله بن عمار الموصلي وهو أحد الثقات عن الوليد بن كثير، وقد احتج به البخاري ومسلم في الصحيحين عن الضحاك بن عثمان، وقد احتج به مسلم في صحيحه عن بكير بن عبد الله الأشج عن عارم بن سعد بن أبي وقاص، وقد احتج البخاري ومسلم بهما في الصحيحين انتهى.
قوله: "هذا حديث حسن غريب من حديث جابر" وأخرجه أبو داود والنسائي وابن ماجه وابن حبان وصححه، وقال الحافظ ابن حجر: رجاله ثقات.
قوله: "عن مهدي بن ميمون" الأزدي المغولي البصري ثقة من صغار السادسة(5/606)
عن القَاسِمِ بنِ محمدٍ عن عَائِشَةَ قَالَتْ: قالَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: "كُلّ مُسْكِرٍ حَرَامٌ، مَا أَسْكَرَ الْفَرَقُ مِنْهُ فَمِلْءُ الكَفّ مِنْهُ حَرَامٌ" .
قالَ أحَدُهُمَا في حَدِيثِهِ: الحسْوَةُ مِنْهُ حَرَامٌ.
قال هذا حديثٌ حسنٌ. قد رَوَاهُ لَيْثُ بنُ أبِي سُلَيْمٍ والرّبِيعُ بنُ صَبِيْحٍ عن أبِي عُثْمَانَ الأَنْصَارِيّ نَحْوَ رِوَايَةِ مَهْدِيّ بنِ مَيْمونٍ. وأَبُو عُثْمانَ الأنْصَارِيّ اسْمُهُ عَمْرُو بنُ سَالِمٍ ويُقَالُ عُمَرُ بنُ سَالِمٍ.
ـــــــ
"عن عثمان الأنصاري" المدني قاضي مرو مقبول من الرابعة.
قوله: "ما أسكر الفرق" بفتح الراء وسكونها والفتح أشهر، وهو مكيال يسع ستة عشر رطلاً، وقيل هو بفتح الراء كذلك فإذا سكنت فهو مائة وعشرون رطلاً "منه" أي من كل مسكر "فملء الكف منه حرام" قال الطيبي: الفرق وملء الكف عبارتان عن التكثير والتقليل لا التحديد، ويؤيده الحديث السابق.
قوله: "قال أحدهما" أي محمد بن بشار وعبد الله بن معاوية "في حديثه الحسوة منه حرام" أي مكان ملء الكف منه حرام، والحسوة بضم الحاء المهملة وسكون السين، الجرعة من الشراب بقدر ما يحسى مرة وبالفتح المرة.
قوله: "هذا حديث حسن" وأخرجه أحمد وأبو داود ورواته كلهم محتج بهم في الصحيحين سوى أبي عثمان عمرو، ويقال عمر بن سالم الأنصاري مولاهم المدني ثم الخراساني، وهو مشهور ولي القضاء بمرو، ورأى عبد الله بن عمر بن الخطاب رضي الله عنه وعبد الله بن عباس، وسمع من القاسم بن محمد بن أبي بكر الصديق، وروى عنه غير واحد. قال المنذري: لم أر أحداً قال فيه كلاماً. وقال الحاكم: هو معروف بكنيته وأخرجه أيضاً ابن حبان وأعله الدارقطني بالوقف كذا في النيل(5/607)
باب ماجاء في نبيذ الجر
...
4ـ باب ما جَاء في نَبِيذِ الجر
1929ـ حدثنا أَحمدُ بنُ مَنِيعٍ حدثنا ابنُ عُلَيّةَ و يَزِيدُ بنُ هَارُونَ قالا أخبرنا سُلَيْمانُ التّيْمِيّ عَنْ طَاوسٍ أنّ "رَجُلاً أتَى ابنَ عُمَرَ فَقَالَ: نَهَى رسولُ الله صلى الله عليه وسلم عن نَبِيذِ الْجَرّ؟ فَقَالَ: نَعَمْ، فَقَالَ طاوس: والله إِنّي سَمِعْتُهُ مِنْهُ".
ـــــــ
"باب ما جَاء في نَبِيذِ الجر"
قال الجزري في النهاية النبيذ هو ما يعمل من الأشربة من التمر والزبيب والعسل والحنطة والشعير وغير ذلك، يقول نبذت التمر والعنب: إذا تركت عليه الماء ليصير نبيذاً، فصرف من مفعول إلى فعيل، وانتبذته اتخذته نبيذاً، وسواء كان مسكراً أو غير مسكر انتهى. والنبيذ حلال اتفاقاً ما دام اتفاقاً ما دام حلواً ولم ينته إلى حد الإسكار لقوله صلى الله عليه وسلم: كل مسكر حرام. والجر بفتح الجيم وتشديد الراء جمع جرة كتمر جمع تمرة، وهو بمعنى الجرار، الواحدة جرة، وهي كل ما يصنع من مدر.
قوله: "حدثنا ابن علية" هو إسماعيل بن إبراهيم بن مقسم "حدثنا سليمان التيمي" هو ابن طرخان "عن طاؤس" هو ابن كيسان.
قوله: "نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم" بحذف همزة الاستفهام، وفي رواية النسائي: أنهى بذكر الهمزة "فقال نعم" أي نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن نبيذ الجر. قال في النهاية: الجر والجرار جمع جرة وهو الإناء المعروف من الفخار. وأراد بالنهي عن الجرار المدهونة لأنها أسرع في الشدة والتخمير انتهى. وهذا يدخل فيه جميع أنواع الجرار من الختم وغيره وهو منسوخ كما سيأتي. وروى مسلم عن سعيد بن جبير أنه قال لابن عباس: ما الجر؟ فقال: كل شيء يصنع من المدر. قال النووي: هذا تصريح من ابن عباس بأن الجر يدخل فيه جميع أنواع الجرار المتخذة من المدر الذي هو التراب انتهى "فقال طاؤس الخ" هذا قول سليمان التيمي.(5/608)
قال وفي البابِ عن ابنِ أبي أوْفَى وأبي سَعِيدٍ وسُوَيْدٍ وعَائِشَةَ وابنِ الزّبَيْرِ وابنِ عَبّاسٍ.
هذا حديثٌ حسنٌ صحيحٌ.
ـــــــ
قوله: "وفي الباب عن ابن أبي أوفى وأبي سعيد وسويد وعائشة وابن الزبير وابن عباس" أما حديث ابن أبي أوفى فأخرجه البخاري وغيره عنه قال: نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن الجر الأخضر، قلت: أيشرب في الأبيض؟ قال: لا. وأما حديث أبي سعيد فأخرجه مسلم. وأما حديث سويد وهو ابن مقرن فأخرجه أحمد عنه قال: أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم بنبيذ في جرة فسألته فنهاني عنها فكسرتها. وأما حديث عائشة فأخرجه ابن ماجه عنها أنها قالت: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن ينبذ في الجر وفي كذا وفي كذا إلا الخل. وأما حديث ابن الزبير فأخرجه النسائي. وأما حديث ابن عباس فأخرجه أحمد ومسلم وأبو داود والنسائي.
قوله: "هذا حديث حسن صحيح" وأخرجه مسلم والنسائي(5/609)
باب ماجاء في كراهية أن ينبذ في الدباء والنقير والخنتم
...
5ـ باب ما جَاءَ في كَرَاهِيَة أنْ يُنْبَذَ في الدّبّاءِ والنّقِيرِ والْحَنْتَم
1930ـ حدثنا أبو مُوَسى محمدُ بنُ المثَنّى حدثنا أبُو دَاوُدَ الطّيَالِسِيّ حدثنا شُعْبَةُ عن عَمْرِو بنُ مُرّةَ قالَ سَمِعْتُ زَاذَانَ يقولُ: "سأَلْتُ ابنَ عُمَرَ
ـــــــ
"باب ما جَاءَ في كَرَاهِيَة أنْ يُنْبَذَ في الدّبّاءِ والنّقِيرِ والْحَنْتَم"
الدباء بضم الدال المهملة وتشديد الباء وهو القرع اليابس، وهو من الاَتية التي يسرع الشراب في الشدة إذا وضع فيها، وأما النقير فبالنون المفتوحة والقاف وهو فعيل بمعنى مفعول من نقر ينقر، وكانوا يأخذون أصل النخلة فينقرونه في جوفه ويجعلونه إناء ينتبذون فيه لأن له تأثيراً في شدة الشراب. وأما الحنتم فبحاء مهملة مفتوحة ثم نون ساكنة ثم تاء مثناة من فوق مفتوحة ثم ميم الواحدة حنتمة.
قوله: "عن عمرو بن مرة" هو الجميل المرادي أبو عبد الله الكوفي.(5/609)
عمّا نَهَى عَنْهُ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم من الأَوْعِيَةِ أخْبِرْنَاهُ بِلُغَتِكم وَفَسّرْهُ لَنَا بِلُغَتِنَا. فقَالَ: نَهَى رَسولُ الله صلى الله عليه وسلم عن الْحَنْتَمَةِ وهِيَ الْجَرّةُ، ونَهَى عن الدّبّاءِ وهِيَ القرعَةُ، ونَهَى عن النّقِيرِ وِهو أصْلُ النّخْلِ يُنْقَرُ نَقْراً أوْ ينسح نَسْحاً، ونَهَى عن المُزَفّتِ وَهُي المُقَيّرُ، وَأَمَرَ أنْ يُنْبَذَ في الأَسْقِيَةِ".
ـــــــ
قوله: "سألت ابن عمر عن ما نهى عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم من الأوعية الخ" وفي رواية مسلم: قال: قلت لابن عمر حدثني بما نهى عنه النبي صلى الله عليه وسلم من الأشربة بلغتك وفسره لي بلغتنا، فإن لكم لغة سوى لغتنا "وأخبرناه بلغتكم" أي وقلت له أخبرناه أي حدثنا بما نهى النبي صلى الله عليه وسلم بلغتكم "وهي الجرة" قال النووي: اختلف في الحنتم وأصبح الأقوال وأقواها أنها جرار خضر، وهذا التفسير ثابت في كتاب الأشربة من صحيح مسلم عن أبي هريرة، وهو قول عبد الله بن مغفل الصحابي وبه قال الأكثرون أو كثيرون من أهل اللغة وغريب الحديث والمحدثين والفقهاء. والثاني أنها الجرار كلها، قاله عبد الله بن عمر وسعيد بن جبير وأبو سلمة والثالث أنها جرار يؤتى بها من مصر مقيرات الأجواف وروى ذلك عن أنس بن مالك رضي الله عنه ونحوه عن ابن أبي ليلى وزاد أنها حمر. والرابع عن عائشة رضي الله تعالى عنها جرار أحمر أعناقها في جنوبها يجلب فيها الخمر من مصر. والخامس عن ابن أبي ليلى أيضاً أفواهها في جنوبها يجلب فيها الخمر من الطائف وكان ناس ينتبذون فيها يضاهون به الخمر. والسادس عن عطاء جرار كانت تعمل من طين وشعر ودم انتهى. "وهي القرعة" أي اليابسة "ونهى عن النقير وهي أصل النخل ينقر نقراً أي ينسج نسجاً" كذا في النسخ الموجودة بالجمي. قال الجزري في النهاية: هي النخلة تنسج نسجاً هكذا جاء في مسلم والترمذي. وقال بعض المتأخرين: هو وهم وإنما هو بالحاء المهملة، قال: ومعناه أن ينحى قشرها عنها وتملس وتحفر. وقال الأزهري: النسج ما تحات عن التمر من قشره وأقماعه مما يبقى في أسفل الوعاء انتهى. ووقع في رواية مسلم: تنسح نسحاً بالحاء المهملة. قال النووي: هكذا هو في معظم الروايات، والنسح بسين وحاء مهملتين أي تقشر(5/610)
ـــــــ
ثم تنقر فتصير نقيراً، ووقع لبعض الرواة في بعض النسخ تنسج بالجيم، قال القاضي وغيره: هو تصحيف، وادعى بعض المتأخرين أنه وقع في نسخ صحيح مسلم وفي الترمذي بالجيم وليس كما قال بل معظم نسخ مسلم بالحاء انتهى "ونهى عن المزفت" بتشديد الفاء المفتوحة وهو الإناء المطلي بالزفت وهو الإناء المطلي بالزفت وهو القير "وهو النفير" بضم الميم وفتح القاف والياء المشددة. قال النووي: معنى النهي عن هذه الأربع هو أنه نهى عن الإنتباذ فيها وهو أن يجعل في الماه حبات من تمر أو زبيب أو نحوهما ليحلو ويشرب وإنما خصت هذه بالنهي لأنه يسرع إليه الإسكار فيها فيصير حراماً نجساً وتبطل ماليته، فنهى عنه لما فيه من إتلاف المال ولأنه ربما شربه بعد إسكاره من لم يطلع عليه انتهى "وأمر أن ينتبذ في الأسقية" قال النووي: لم ينه عن الإنتباذ في أسقية الأدم بل أذن فيها لأنها لرقتها لا يحفى فيها المسكر بل إذا صار مسكراً شقها غالباً انتهى.
وقال القاري: المراد بالنهي عن هذه الأربع ليس استعمالها مطلقاً بل النقيع فيها والشرب منها ما يسكر وإضافة الحكم إليها خصوصاً إما لاعتيادهم استعمالها في المسكرات أو لأنها أوعية تسرع بالإشتداد فيها يستنقع لأنها غليظة لا يترشح منها الماء ولا ينفذ فيها الهواء فلعلها تغير النقيع في زمان قليل ويتناوله صاحبه على غفلة بخلاف السقاء فإن التغير فيه يحدث على مهل، والدليل على ذلك ما روى أنه قال: نهيتكم عن النبيذ إلا في سقاء، فاشربوا في الأسقية كلها ولا تشربوا مسكراً. وقيل هذه الظروف كانت مختصة بالخمر فلما حرمت الخمر حرم النبي صلى الله عليه وسلم استعمال هذه الظروف إما لأن في استعمالها تشبيهاً بشرب الخمر، وإما لأن هذه الظروف كان فيها أثر الخمر، فلما أمضت مدة أباح النبي صلى الله عليه وسلم استعمال هذه الظروف، فإن أثر الخمر زال عنها. وأيضاً في ابتداء تحريم شيء يبالغ ويشدد ليتركه الناس مرة فإذا تركه الناس واستقر الأمر يزول التشديد بعد حصول المقصود انتهى كلام القاري.
قال النووي: ثم إن هذا النهي كان في أول الأمر ثم نسخ بحديث بريدة رضي الله عنها يعني الذي يأتي في الباب الذي يليه.(5/611)
قال وفي البابِ عن عُمَر وَعَلِيّ وابنِ عبّاسٍ وأبي سَعِيدٍ وأبي هُرَيْرَةَ وعَبْدِ الرحمنِ بنِ يَعْمُرَ وسَمُرَةَ وأنَسٍ وَعَائِشَةَ وعِمْرَانَ بنِ حُصَيْنٍ وعَائِذ ابنِ عمْرو والْحَكَمِ الغِفَارِيّ ومَيْمُونَةَ.
هذا حديثٌ حسنٌ صحيحٌ.
ـــــــ
قوله: "وفي الباب عن عمر وعلي وابن عباس الخ" أما حديث عمر فلينظر من أخرجه. وأما حديث علي فأخرجه الشيخان وأبو داود والنسائي. وأما حديث ابن عباس فأخرجه أيضاً الشيخان وأبو داود والنسائي. وأما حديث أبي سعيد فأخرجه أحمد. وأما حديث أبي هريرة فأخرجه أحمد ومسلم وأبو داود والنسائي. وأما حديث عبد الرحمن بن يعمر بفتح التحتانية وسكون المهملة وفتح الميم فأخرجه ابن ماجه عنه قال: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الدباء والحنتم. وأما حديث سمرة فأخرجه أحمد. وأما حديث أنس فأخرجه الشيخان والنسائي. وأما حديث عائشة فأخرجه أيضاً الشيخان والنسائي. وأما حديث عمران بن حصين فأخرجه أحمد. وأما حديث عائذ بن عمرو وحديث الحكم الغفاري فلينظر من أخرجهما. وأما حديث ميمونة فأخرجه أحمد عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا تنبذوا في الدباء ولا في المزفت ولا في النقير ولا في الجرار وقال: كل مسكر حرام" .
قوله: "هذا حديث حسن صحيح" وأخرجه أحمد ومسلم والنسائي(5/612)
باب ماجاء في الرخصة أن ينتبذ في الظروف
...
6ـ باب مَا جَاءَ في الرّخْصَةِ أنْ يُنْبذ في الظّرُوف
1931ـ حدثنا محمدُ بنُ بَشّارٍ وَ الْحَسَنُ بنُ عَلِي وَ محمودُ بنُ غَيْلاَنَ قَالُوا حدثنا أبُو عَاصِمٍ حدثنا سُفْيَانُ عن عَلْقَمَةَ بنِ مَرْثَدٍ عن سُلَيْمانَ بنِ بُرَيْدَةَ
ـــــــ
"باب مَا جَاءَ في الرّخْصَةِ أنْ يُنْبذ في الظّرُوف"
قوله: "والحسن بن علي" هو الخلال الحلواني "حدثنا أبو عاصم" اسمه الضحاك بن مخلد النبيل "حدثنا سفيان" هو الثوري.(5/612)
عن أبِيهِ قالَ: قالَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: "إنّي كُنْتُ نَهَيْتُكُمْ عن الظّرُوفِ. وإنّ ظَرْفاً لا يُحِلّ شَيْئاً ولا يُحَرّمُهُ، وكُلّ مُسْكِرٍ حَرَامٌ" .
هذا حديثٌ حسنٌ صحيحٌ.
1932 ـ حدثنا محمودُ بنُ غَيْلاَنَ حدثنا أبُو دَاوُدَ الْحفرِيّ عن سُفْيَانَ عن مَنْصُورٍ عن سَالِم بنِ أبي الْجَعْدِ عن جَابِرِ بنِ عَبْدِ الله قالَ: "نَهَى رسولُ
ـــــــ
قوله: "إني كنت نهيتكم عن الظروف" أي عن الإنتباذ في ظرف من هذه الظروف المذكورة في الباب المتقدم "وأن ظرفاً لا يحل" بضم أوله أي لا يبيح "ولا يحرمه وكل مسكر حرام" وفي رواية لمسلم: "نهيتكم عن النبيذ إلا في سقاء فاشربوا في الأسقية كلها ولا تشربوا مسكراً" . قال النووي: كان الإنتباذ في الحنتم والدباء والنقير والمزفت منهياً عنه في أول الإسلام خوفاً من أن يصير مسكراً فيها ولا نعمل به لكثافتها فيتلف ماليته وربما شربه الإنسان ظاناً أن لم يصر مسكراً فيصير شارباً للمسكر، وكان العهد قريباً بإباحة المسكر، فلما طال الزمان واشتهر تحريم المسكرات وتقرر ذلك في نفوسهم نسخ ذلك وأبيح لهم الإنتباذ في كل وعاء بشرط أن لا تشربوا مسكراً، وهذا صريح قوله صلى الله عليه وسلم في حديث بريدة: كنت نهيتكم عن الإنتباذ إلا في سقاء الحديث. قال هذا الذي ذكرناه من كونه منسوخاً هو مذهبنا ومذهب جماهير العلماء. قال الخطابي: القول بالنسخ هو أصح الأقاويل. قال وقال قوم: التحريم باق وكرهوا الإنتباذ في هذه الأوعية، ذهب إليه مالك وأحمد وإسحاق وهو مروي عن عمر وابن عباس رضي الله عنهم انتهى.
قوله: "هذا حديث حسن صحيح" قال في المنتقى: رواه الجماعة إلا البخاري وأبا داود.
قوله: "عن سفيان" هو الثوري "عن منصور" هو ابن المعتمر "عن سالم ابن أبي الجعد" هو الأشجعي الكوفي.(5/613)
الله صلى الله عليه وسلم عن الظّرُوفِ، فَشَكَتْ إليه الأَنْصَارُ، فَقَالُوا لَيْسَ لَنَا وِعَاءٌ، قَالَ: فَلاَ إذَنْ ".
قال وفي البابِ عن ابنِ مَسْعُودٍ وأبي سعيد وأبي هُرَيْرَةَ وعَبْدِ الله بنِ عَمْرٍو.
ـــــــ
قوله: "نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الظروف" جمع ظرف وهو الوعاء أي عن الإنتباذ فيها. وفي رواية مسلم من طريق أبي الزبير عن جابر: نهى عن الدباء والمزفت "فقالوا ليس لنا وعاء" وفي رواية البخاري: فقالت الأنصار إنه لا بد لنا منها "قال" أي رسول الله صلى الله عليه وسلم "فلا إذاً" قال الحافظ: جواب وجزاء، أي إذا كان كذلك لا بد لكم منها فلا تدعوها، وحاصله أن النهي كان ورد على تقدير عدم الاحتياج أو وقع وحي في الحال بسرعة، أو كان الحكم في تلك المسألة مفوضاً لرأيه صلى الله عليه وسلم. وهذه الاحتمالات ترد على من جزم بأن الحديث حجة في أنه صلى الله عليه وسلم كان يحكم بالاجتهاد انتهى. وفي عمدة القاري: قال ابن بطال: النهي عن الأوعية إنما كان قطعاً للذريعة فلما قالوا لا بد لنا، قال: انتبذوا فيها، وكذلك كل نهي كان لمعنى النظر إلى غيره، كنهيه عن الجلوس في الطرقات، فلما ذكروا أنهم لا يجدون بداً من ذلك قال: إذا أبيتم فأعطوا الطريق حقه. وقال أبو حنيفة وأصحابه: الإنتباذ في جميع الأوعية كلها مباح، وأحاديث النهي عن الإنتباذ منسوخة بحديث جابر هذا، ألا ترى أنه عليه الصلاة والسلام أطلق لهم جميع الأوعية والظروف حين قال له الأنصار لا بد لنا منها، فقال: فلا إذاً ولم يستثن منها شيئاً انتهى.
قوله: "وفي الباب عن ابن مسعود وأبي هريرة وأبي سعيد وعبد الله بن عمرو" أما حديث ابن مسعود فأخرجه ابن ماجه عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إني كنت نهيتكم عن نبيذ الأوعية، ألا وإن وعاء لا يحرم شيئاً، كل مسكر حرام" . وأما حديث أبي هريرة وحديث أبي سعيد فلينظر من أخرجهما. وأما حديث عبد الله بن عمرو فأخرجه الشيخان عنه قال: لما نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن النبيذ في الأوعية قالوا: ليس كل الناس يجد، فأرخص لهم في الجر غير المزفت.(5/614)
هذا حديثٌ حسنٌ صحيحٌ.
ـــــــ
قوله: "هذا حديث حسن صحيح" وأخرجه البخاري وأبو داود والنسائي(5/615)
باب ماجاء في السقاء
...
7ـ باب مَا جَاء في السّقَاء
1933ـ حدثنا محمدُ بنُ المُثَنّى حدثنا عَبْدُ الوَهّابِ الثّقَفِيّ عن يُونسَ بنِ عُبَيْدٍ عن الْحَسَنِ البَصَرِيّ عن أُمّهِ عن عَائِشَةَ قَالَتْ: "كُنّا نَنْبِذُ لِرَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم في سِقَاءِ يُوكَأُ في أَعْلاَهُ له عَزْلاَءُ نَنْبِذُهُ غُدْوَةً وَيَشْرَبُهُ عِشَاءً، وَنَنْبِذَهُ عِشَاءً وَيَشْرَبُهُ غُدْوَةً".
ـــــــ
"باب مَا جَاء في السّقَاء"
أي في الإنتباذ في السقاء.
قوله: "عن يونس بن عبيد" بن دينار العبدي "عن أمه" اسمها خيرة مولاة أم سلمة مقبولة من الثانية.
قوله: "كنا ننبذ" بكسر الموحدة ويجوز ضم النون الأولى مع تخفيف الموحدة وتشديدها، وفي القاموس: النبذ الطرح، والفعل كضرب، والنبيذ الملقى وما نبذ من عصير ونحوه، وقد نبذه وأنبذه وانتبذه ونبذه انتهى، أي نطرح الزبيب ونحوه "في سقاء" بكسر أوله ممدوداً "يوكأ أعلاه" أي يشد رأسه بالوكاء وهو الخيط الذي يشد به رأس القربة. اعلم أنه قد وقع في النسخ الموجودة يوكأ بالهمز وكذا وقع في صحيح مسلم. قال النووي: قولها في سقاء يوكأ هذا مما رأيته يكتب ويضبط فاسداً وصوابه يوكي بالياء غير مهموز انتهى. وذكر صاحب القاموس في المعتل وقال الوكاء ككساء رباط القرية وغيرها، وقد وكاها وأوكاها وعليها انتهى، وكذا ذكره صاحب النهاية في المعتل، ويدل على أنه معتل لا مهموز قوله صلى الله عليه وسلم أوكوا السقاء في حديث جابر بضم الكاف "له" أي للسقاء "عزلاء" بفتح العين المهملة وإسكان الزاي وبالمد وهو الثقب الذي يكون في أسفل المزادة والقربة. قال ابن الملك: أي له ثقبة في أسفله يشرب منه الماء(5/615)
قال وفي البابِ عن جَابِرٍ وأبي سَعِيدٍ وابنِ عبّاسٍ.
هذا حديثٌ غريبٌ لا نَعْرِفُهُ مِنْ حَدِيثِ يُونُسَ بنِ عُبَيْدٍ إلاّ مِنْ هَذَا الوجه. وقد روي هذا الحديث مِنْ غيْر هَذَا الوَجْهِ عن عَائِشَةَ أيْضاً.
ـــــــ
"ننبذه" أي نطرح التمر ونحوه في السقاء "غدوة" بالضم ما بين الصلاة الغدوة وطلوع الشمس "ويشربه" أي هو يعني النبي صلى الله عليه وسلم من ذلك المنبوذ "عشاء" بكسر العين وفتح الشين وبالمد وهو ما بعد الزوال إلى المغرب على ما في النهاية وحديث عائشة هذا لا يخالف حديث ابن عباس: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ينبذ له الزبيب في السقاء فيشربه يومه والغد وبعد الغد، فإذا كان مساء الثالثة شربه وسقاه، فإن فضل شيء أهراقه، أخرجه مسلم وأبو داود والنسائي وابن ماجه، فإن الشرب في يوم لا يمنع الزيادة. وقال بعضهم: لعل حديث عائشة كان زمن الحر وحيث يخشى فساده في الزيادة على يوم، وحديث أبي عباس في زمن يؤمن فيه التغير قبل الثلاث، وقيل حديث عائشة محمول على نبيذ قليل يفرغ في يومه، وحديث ابن عباس في كثير لا يفرغ فيه.
قوله: "وفي الباب عن جابر وأبي سعيد وابن عباس" أما حديث جابر فأخرجه مسلم وأبو داود والنسائي وابن ماجه عنه قال: كان ينتبذ لرسول الله صلى الله عليه وسلم في سقاء فإذا لم يجدوا سقاء، نبذ له في تور من حجارة. وأما حديث أبي سعيد فلينظر من أخرجه وأما حديث ابن عباس فقد تقدم تخريجه ولفظه آنفاً.
قوله: "وهذا حديث حسن غريب" وأخرجه مسلم وأبو داود(5/616)
بابماجاء في في الحبوب التي يتخذ منها الخمر
...
8ـ باب مَا جَاءَ في الْحُبُوبِ التي يُتّخَذُ منها الْخَمْر
1934ـ حدثنا محمدُ بنُ يَحيَى حدثنا محمدُ بنُ يُوسُفَ حدثنا إسْرَائِيلُ حدثنا إبراهيم بنُ مُهَاجِرٍ عن عَامِرٍ الشّعْبِيّ عن النّعْمَانِ بنِ بَشِيرٍ قالَ: قالَ
ـــــــ
"باب مَا جَاءَ في الْحُبُوبِ التي يُتّخَذُ منها الْخَمْر"
قوله: "حدثنا محمد بن يحيى" الظاهر أنه هو الذهلي "حدثنا محمد بن يوسف"(5/616)
رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: "إِنّ مِنَ الْحِنْطَةِ خَمْراً، ومِنَ الشّعِيرِ خَمْراً، ومِنَ التّمْرِ خَمْراً، ومِنَ الزّبِيبِ خَمْراً، ومِنَ العَسَلِ خَمْراً" .
ـــــــ
هو الضبي مولاهم الفريابي "حدثنا إسرائيل" هو ابن يونس "حدثنا إبراهيم بن مهاجر" هو البجلي الكوفي.
قوله: "إن من الحنطة خمراً" قال ابن الملك: تسميته خمراً مجاز لإزالته العقل.
قلت: قول ابن الملك هذا ليس بصحيح بل هذا الحديث نص صريح في أن تسميته خمراً على سبيل الحقيقة لا على سبيل المجاز، وقد قال عمر رضي الله عنه: إنه قد نزل تحريم الخمر وهي من خمسة أشياء: العنب والتمر والحنطة والشعير والعسل، والخمر ما خامر العقل. أخرجه الشيخان. قال الخطابي: في حديث النعمان بن بشير تصريح من النبي صلى الله عليه وسلم بما قاله عمر من كون الخمر من هذه الأشياء، وليس معناه أن الخمر لا تكون إلا من هذه الخمسة بأعيانها، وإنما جرى ذكرها خصوصاً لكونها معهودة في ذلك الزمان، فكلما كان في معناها من ذرة أو سلت أو لب ثمرة وعصارة شجرة فحكمها حكمها كما قلنا في الربا ورددنا إلى الأشياء الأربعة المذكورة في الخبر كلما كان في معناها من غير المذكور فيه انتهى. قال الحافظ في الفتح: هذا الحديث يعني قول عمر: نزل تحريم الخمر وهي من خمسة أشياء الخ أورده أصحاب المسانيد والأبواب في الأحاديث المرفوعة لأن له عندهم حكم الرفع لأنه خبر صحابي شهد التنزيل أخبر عن سبب نزولها، وقد خطب به عمر على المنبر بحضرة كبار الصحابة وغيرهم، فلم ينقل عن أحد منهم إنكاره، وأراد عمر بنزول تحريم الخمر نزول قوله تعالى {إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ} الآية فأراد عمر التنبيه على أن المراد بالخمر في هذه الآية ليس خاصاً بالمتخذ من العنب بل يتناول المتخذ من غيرها: قال قوله: والخمر ما خامر العقل أي غطاه أو خالطه فلم يتركه على حاله، وهو من مجاز التشبيه، والعقل هو آلة التمييز فلذلك حرم ما غطاه أو غيره لأن بذلك يزول الإدراك الذي طلبه الله من عباده ليقوموا بحقوقه. قال الكرماني هذا تعريف بحسب اللغة، وأما بحسب العرف فهو ما يخامر العقل من عصير العنب خاصة. قال الحافظ: وفي نظر لأن عمر ليس في مقام تعريف اللغة بل هو في مقام تعريف الحكم الشرعي فكأنه قال: الخمر الذي وقع تحريمه في لسان الشرع(5/617)
ـــــــ
هو ما خامر العقل، على أن عند أهل اللغة اختلافاً في ذلك كما قدمته، ولو سلم أن الخمر في اللغة يختص بالمتخذ من العنب فالاعتبار بالحقيقة الشرعية، وقد تواردت الأحاديث على أن المسكر من المتخذ من غير العنب يسمى خمراً، والحقيقة الشرعية مقدمة على اللغوية، وقد ثبت في صحيح مسلم عن أبي هريرة سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "الخمر من هاتين الشجرتين: النخلة والعنبة" ، قال البيهقي: ليس المراد الحصر فيهما لأنه ثبت أن الخمر تتخذ من غيرهما في حديث عمر وغيره، وإنما فيه الإشارة إلى أن الخمر شرعاً لا تختص بالمتخذ من العنب. وقال الحافظ يحمل حديث أبي هريرة على الغالب أي أكثر ما يتخذ الخمر من العنب والتمر، ويحمل حديث عمر ومن وافقه على إرادة استيعاب ذكر ما عهد حينئذ أنه يتخذ منه الخمر.
قال الراغب في مفردات القرآن: سمى الخمر لكونه خامراً للعقل أي ساتراً له، وهو عند بعض الناس اسم لكل مسكر، وعند بعضهم للمتخذ من العنب خاصة، وعند بعضهم للمتخذ من العنب والتمر، وعند بعضهم لغير المطبوخ، فرجح أن كل شيء يستر العقل يسمى خمراً حقيقة، وكذا قال أبو نصر بن القشيري في تفسيره. سميت الخمر خمراً لسترها العقل أو لاختمارها، وكذا قال غير واحد من أهل اللغة منهم أبو حنيفة الدينوري وأبو نصر الجوهري. ونقل عن ابن الأعرابي قال سميت الخمر لأنها تركت حتى اختمرت واختمارها يغير رائحتها، وقيل سميت بذلك لمخامرتها العقل. نعم جزم ابن سيده في المحكم بأن الخمر حقيقة إنما هي للعنب وغيرها من المسكرات يسمى خمراً مجازاً. وقال صاحب الفائق في حديث: إياكم والغبيراء فإنها خمر العالم هي نبيذ الحبشة متخذة من الذرة، سميت الغبيراء لما فيها من الغيرة، وقوله خمر العالم أي هي مثل خمر العالم لا فرق بينها وبينها، وقيل أراد أنها معظم خمر العالم.
وقال صاحب الهداية من الحنفية: الخمر عندنا ما اعتصر من ماء العنب إذا اشتد وهو المعروف عند أهله اللغة وأهل العلم، قال: وقيل هو اسم لكل مسكر لقوله صلى الله عليه وسلم "كل مسكر خمر" . ولأنه من مخامرة العقل وذلك موجود في كل مسكر، قال: ولنا إطباق أهل اللغة على تخصيص الخمر بالعنب ولهذا اشتهر استعمالها فيه، ولأن تحريم الخمر قطعي وتحريم ما عدا المتخذ من العنب ظني، قال: وإنما(5/618)
ـــــــ
سمي الخمر خمراً لتخمره لا لمخامرة العقل، قال: ولا ينافي ذلك كون الاسم خاصاً فيه كما في النجم فإنه مشتق من الظهور ثم هو خاص بالثريا انتهى.
قال الحافظ: والجواب عن الحجة الأولى: ثبوت النقل عن بعض أهل اللغة بأن غير المتخذ من العنب يسمى خمراً. وقال الخطابي: نزعم قوم أن العرب لا تعرف الخمر إلا من العنب، فيقال لهم: إن الصحابة الذين سموا غير المتخذ من العنب خمراً عرب فصحاء، فلو لم يكن هذا الاسم صحيحاً لما أطلقوه. وقال ابن عبد البر: قال الكوفيون: إن الخمر من العنب لقوله تعالى: {أَعْصِرُ خَمْراً} قال: فدل على أن الخمر هو ما يعتصر لا ينتبذ، قال: ولا دليل فيه على الحصر. وقال أهل المدينة وسائر الحجازيين وأهل الحديث كلهم: كل مسكر خمر وحكمه حكم ما اتخذ من العنب. ومن الحجة لهم أن القرآن لما نزل بتحريم الخمر فهم الصحابة وهم أهل اللسان أن كل شيء يسمى خمراً يدخل في النهي، فأراقوا المتخذ من التمر والرطب والم يخصوا ذلك بالمتخذ من العنب. وعلى تقدير التسليم فإذا ثبت تسمية كل مسكر خمراً من الشرع كان حقيقة شرعية وهي مقدمة على الحقيقة اللغوية.
وعن الثانية: أن اختلاف مشتركين في الحكم في الغلط لا يلزم منه افتراقهما وفي التسمية كالزنا مثلاً فإنه يصدق على من وطيء أجنبية وعلى وطء امرأة جاره، والثاني أغلظ من الأول، وعلى من وطئ محرماً له وهو أغلظ، واسم الزنا مع ذلك شامل للثلاثة. وأيضاً فالأحكام الفرعية لا يشترط فيها الأدلة القطعية، فلا يلزم من القطع بتحريم المتخذ من العنب وعدم القطع بتحريم المتخذ من غيره أن لا يكون حراماً بل يحكم بتحريمه إذا ثبت بطريق ظني تحريمه، وكذا تسميته خمراً.
وعن الثالثة ثبوت النقل عن أعلم الناس بلسان العرب بما نفاه هو، وكيف يستجيز أن يقول لا لمخامرة العقل مع قول عمر بمحضر الصحابة الخمر ما خامر العقل، وكان مستنده ما ادعاه من اتفاق أهل اللغة، فيحمل قول عمر على المجاز، لكن اختلف قول أهل اللغة في سبب الخمر خمراً، فقال أبو بكر بن الأنباري: سميت الخمر خمراً لأنها تخامر العقل أي تخالطه، قال: ومنه قولهم خامره الداء أي خالطه، وقيل لأنها تخمر العقل أي تستره، ومنه خمار المرأة لأنه يستر وجهها.(5/619)
ـــــــ
وهذا أخص من التفسير الأول لأنه لا يلزم من المخالطة التغطية، وقيل سميت خمراً لأنها تخمر حتى تدرك كما يقال: خمرت العين فتخمر أي تركته حتى أدرك، ومنه خمرت الرأي أي تركته حتى ظهر وتحرر، وقيل سميت خمراً لأنها تغطي حتى تغلي ومنه حديث المختار بن فلفل قلت لأنس: الخمر من العنب أو من غيرها؟ قال: ما خمرت من ذلك فهو الخمر، أخرجه ابن أبي شيبة بسند صحيح، ولا مانع من صحة هذه الأقوال كلها لثبوتها عن أهل اللغة وأهل المعرفة باللسان. قال ابن عبد البر: الأوجه كلها موجودة في الخمر لأنها تركت حتى أدركت وسكنت، فإذا شربت خالطت العقل حتى تغلب عليه وتغطيه.
وقال القرطبي: الأحاديث الواردة عن أنس وغيره على صحتها وكثرتها تبطل مذهب الكوفيين القائلين بأن الخمر لا يكون إلا من العنب وما كان من غيره لا يسمى خمراً ولا يتناوله اسم الخمر، وهو قول مخالف للغة العرب وللسنة الصحيحة وللصحابة لأنهم لما نزل تحريم الخمر فهموا من الأمر باجتناب الخمر تحريم كل مسكر ولم يفرقوا بين ما يتخذ من العنب وبين ما يتخذ من غيره، بل سووا بينهما وحرموا كل ما يسكر نوعه، ولم يتوقفوا ولا استفصلوا ولم يشكل عليهم شيء من ذلك، بل بادروا إلى إتلاف ما كان من غير عصير العنب وهم أهل اللسان وبلغتهم نزل القرآن فلو كان تقرر عندهم من النهي عن إضاعة المال، فلما لم يفعلوا ذلك وبادروا إلى الإتلاف علمنا أنهم فهموا التحريم نصاً، فصار القائل بالتفريق سالكاً غير سبيلهم، ثم انضاف إلى ذلك خطبة عمر بما يوافق ذلك وسمعه الصحابة وغيرهم فلم ينقل عن أحد منهم إنكار ذلك، وقد ذهب إلى التعميم عمر وعلي وسعد وابن عمر وأبو موسى وأبو هريرة وابن عباس وعائشة، ومن التابعين سعيد بن المسيب وعروة والحسن وسعيد بن جبير وآخرون، وهو قول مالك الأوزاعي والثوري وابن المبارك والشافعي وأحمد وإسحاق وعامة وأهل الحديث.
قال الحافظ: ويمكن الجمع بأن من أطلق على غير المتخذ من العنب حقيقة يكون أراد الحقيقة الشرعية، ومن نفي أراد الحقيقة اللغوية، وقد أجاب بهذا ابن عبد البر وقال: إن الحكم إنما يتعلق بالاسم الشرعي دون اللغوي، وقد تقرر(5/620)
قال وفي البابِ عن أبي هُرَيْرَةَ.
هذا حديثٌ غريبٌ.
1935ـ حدثنا الْحَسَنُ بنُ عَلِي الْخَلاّلُ حدثنا يَحْيَى بنُ آدَمَ عن إسْرَائِيلَ نَحْوَهُ.
ورَوَى أبُو حَيّانَ التّيْمِيّ هذا الْحَديث عن الشّعْبِيّ عن ابنِ عُمَرَ عن عُمَرَ قالَ: "إنّ من الْحِنْطَةِ خَمْراً" فَذَكَرَ هذا الْحَدِيثَ. أخبرنا بِذَلِكَ أحمدُ بنُ مَنِيعٍ حدثنا عَبْدُ الله بنُ إدْرِيسَ عن أبي حَيّانَ التّيْميّ عن الشّعْبِيّ عن ابنِ عُمَرَ عن عُمَرَ بنِ الْخَطّابِ: "إنّ مِنَ الْحنْطَةِ خمْراً" بهذا وهذا أصَحّ مِنْ حَدِيثِ إبراهيم بنِ مُهَاجِرٍ. وقالَ عَلِيّ بنُ المَدينِيّ قالَ: يَحْيَى بنُ سَعِيدٍ. لَمْ يَكُنْ إبراهيم بنُ المُهَاجِرِ بالْقَويّ.
ـــــــ
أنه نزل تحريم الخمر وهي من البسر إذ ذاك، فيلزم من قال إن الخمر حقيقة في ماء العنب مجاز في غيره أن يجوز إطلاق اللفظ الواحد على حقيقته ومجازه، لأن الصحابة لما بلغهم تحريم الخمر أراقوا كل ما يطلق عليه لفظ الخمر حقيقة ومجازاً، وهو لا يجوز ذلك، فصح أن الكل خمر حقيقة ولا انفكاك عن ذلك: وعلى تقدير إرخاء العنان والتسليم بأن الخمر حقيقة من ماء العنب خاصة فإنما ذلك من حيث الحقيقة اللغوية، فأما من حيث الحقيقة الشرعية فالكل خمر حقيقة لحديث: كل مسكر خمر، فكل ما اشتد كان خمراً، وكل خمر يحرم قليله وكثيره، وهذا يخالف قولهم وبالله التوفيق انتهى كلام الحافظ.
قوله: "وفي الباب عن أبي هريرة" أخرجه الترمذي بعد هذا.
قوله: "هذا حديث غريب" أخرجه الخمسة إلا النسائي، كذا في المنتقى. قال الشوكاني: في إسناده إبراهيم بن المهاجر البجلي الكوفي، قال المنذري: قد تكلم فيه غير واحد من الأئمة انتهى. قال ابن المديني لإبراهيم بن مهاجر نحو أربعين(5/621)
في الحديث وقد روى من غير وجه أيضاً عن الشعبيّ عن النعمان بن بشير.
1936 ـ حدثنا أحمدُ بنُ محمدٍ حدثنا عَبْدُ الله بنُ المُبَارَكِ حدثنا الأُوْزَاعِيّ و عِكْرِمَةُ بنُ عَمّارٍ قالا حدثنا أَبُو كَثِيرٍ السّحَيْمِيّ قالَ سَمِعْتُ أبَا هُرَيْرَةَ يقُولُ: قالَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: "الْخَمْرُ مِنْ هَاتَيْنِ الشّجَرَتَيْنِ: النّخْلَة والعِنَبَة" .
هذا حديثٌ حسنٌ صحيحٌ. وأبُو كَثِيرٍ السّحيْمِيّ هُوَ الغبرِيّ واسْمُهُ يَزِيدُ بنُ عَبْدِ الرّحْمَنِ بنِ غُفَيْلَةَ .
ـــــــ
حديثاً وقال أحمد: لا بأس به، وقال النسائي والقطان: ليس بالقوي انتهى.
قلت: وقال في التقريب: صدوق لين الحفظ.
قوله: "الخمر من هاتين الشجرتين النخلة والعنبة" قال الخطابي: هذا غير مخالف لما تقدم ذكره من حديث النعمان بن بشير، وإنما وجهه ومعناه أن معظم ما يتخذ منه الخمر إنما هو من النخلة والعنبة وإن كانت الخمر قد تتخذ أيضاً من غيرهما، وإنما هو من باب التوكيد لتحريم ما يتخذ من هاتين الشجرتين لضرواته وشدة سورته، وهذا كما يقال: الشبع في اللحم والدفء في الوبر ونحو ذلك من الكلام، وليس فيه نفي الشبع من غير اللحم ولا نفي الدفء عن غير الوبر، ولكن فيه التوكيد لأمرهما والتقديم لهما على غيرهما في نفس ذلك المعنى انتهى.
قلت: الأمر كان قال الخطابي، وغاية ما هناك أن مفهوم الخمر المدلول عليه باللام معارض بالمنطوقات وهي أرجح بلا خلاف.
قوله: "هذا حديث حسن صحيح" أخرجه الجماعة إلا البخاري كذا في المنتقى "وأبو كثير السحيمي" بضم السين وفتح الحاء المهملتين مصغراً "هو الغبري" بضم الغين المعجمة وفتح الموحدة "اسمه يزيد بن عبد الرحمن بن غفيلة" بضم الغين المعجمة وفتح الفاء مصغراً اليمامي الأعمى ثقة من الثالثة(5/622)
باب ماجاء في خليط البسر والتمر
...
9ـ باب مَا جَاءَ في خَلِيطِ البُسْرِ والتّمْر
1937ـ حدثنا قُتَيْبَةُ حدثنا اللّيْثُ بنُ سَعْدٍ عن عَطَاءٍ بنِ أبي رَبَاحٍ عن جَابِر بنِ عَبْدِ الله أنّ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم: "نَهَى أنْ يُنْبَذَ البُسْرُ والرّطَبُ جَمِيعاً".
ـــــــ
"باب مَا جَاءَ في خَلِيطِ البُسْرِ والتّمْر"
أصل الخلط تداخل أجزاء الأشياء بعضها في بعض، والبسر بضم الموحدة نوع من ثمر النخل معروف، والمراد هنا التمر قبل إرطابه كما في القاموس.
"عن عطاء بن أبي رباح" بفتح الراء والموحدة واسم أبي رباح أسلم القرشي المكي ثقة فقيه فاضل لكنه كثير الإرسال من الثالثة، وقيل أنه تغير بآخره مولاهم ولم يكن ذلك منه.
قوله: "نهى أن ينتبذ البسر والرطب جميعاً" وفي رواية لمسلم: نهى أن يخلط الزبيب والتمر والبسر والتمر، وفي أخرى له: لا تجمعوا بين الرطب والبسر وبين الزبيب والتمر نبيذاً. قال النووي: هذه الأحاديث صريحة في النهي عن انتباذ الخليطين وشربهما وهما تمر وزبيب، أو تمر ورطب، أو تمر وبسر، أو رطب وبسر، أو زهو وواحد من هذه المذكورات ونحو ذلك. قال أصحابنا وغيرهم من العلماء: سبب الكراهة فيه أن الإسكار يسرع إليه بسبب الخلط قبل أن يتغير طعمه فيظن الشارب أنه ليس مسكراً ويكون مسكراً. ومذهبنا ومذهب الجمهور أن هذا النهي لكراهة التنزيه ولا يحرم ذلك ما لم يصر مسكراً، وبهذا قال جماهير العلماء. وقال بعض المالكية: هو حرام، وقال أبو حنيفة وأبو يوسف في روايته عنه: لا كراهة فيه ولا بأس به لأن ما حل مفرداً حل مخلوطاً، وأنكر عليه الجمهور وقالوا منابذة لصاحب الشرع، فقد ثبت الأحاديث الصحيحة الصريحة في النهي عنه، فإن لم يكن حراماً كان مكروهاً. واختلف أصحاب مالك في أن النهي هل يختص بالشرب أم يعمه وغيره، والأصح التعميم، أما خلطهما لا في الإنتباذ بل في معجون وغير فلا بأس به انتهى كلام النووي وقال العيني في شرح البخاري:(5/623)
هذا حديثٌ صحيحٌ.
ـــــــ
هذه جرأة شنيعة على إمام أجل من ذلك، وأبو حنيفة لم يكن قال ذلك برأيه وإنما مستنده في ذلك أحاديث منها ما رواه أبو داود عن عبد الله الجربي عن مسعر عن موسى بن عبد الله عن امرأة من بني أسد عن عائشة رضي الله تعالى عنها أن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم كان ينبذ له زبيب فيلقى فيه تمر، أو تمر فيلقى فيه زبيب. وروى أيضاً عن زياد الحساني حدثنا أبو بحر حدثنا عتاب بن عبد العزيز حدثتني صفية بنت عطية قالت: دخلت مع نسوة من عبد القيس على عائشة رضي الله عنها فسألنا عن التمر والزبيب فقالت: كنت آخذ قبضة من تمر وقبضة من زبيب فألقيه في الإناء فأمرسه ثم أسقيه النبي صلى الله عليه وسلم. وروى محمد بن الحسن في كتاب الآثار أخبرنا أبو حنيفة عن أبي إسحاق وسليمان الشيباني عن ابن زياد أنه أفطر عند عبد الله بن عمر رضي الله عنهما فسقاه شراباً فكأنه أخذ منه، فلما أصبح غدا إليه، فقال له ما هذا الشراب ما كدت أهتدي إلى منزلي؟ فقال ابن عمر: ما زدناك على عجوة وزبيب.
فإن قلت: قال ابن حزم في الحديث الأول لأبي داود امرأة لا تسم، وفي الثاني أبو بحر لا يدري من هو، عن عتاب وهو مجهول عن صفية ولا يدري من هي.
قلت: هذه ثلاثة أحاديث يشد بعضها بعضاً انتهى كلام العيني.
قلت: في سند حديث عائشة الأول امرأة مجهولة وفي سند حديثها الثاني صفية بنت عطية وهي أيضاً مجهولة، وفي أبو بحر عبد الرحمن بن عثمان، قال المنذري: لا يحتج بحديثه. وأما الحديث الثالث فليس بمرفوع فكيف يقال إن هذه الأحاديث يشد بعضها بعضاً، ولو سلم أن بعضها يشد بعضاً فغاية ما فيها أنها تدل على مطلق الجواز فهي قرينة على أن النهي في حديث جابر وما في معناه من الأحاديث الصحيحة المرفوعة محمول كراهة التنزيه، ولذلك ذهب الجمهور إلى الكراهة التنزيهية، ولذلك أنكروا على الإمام أبي حنيفة رحمه الله تعالى في قوله بالجواز بلا كراهة فاعتراض العيني على النووي بقوله: هذه جرأة شنيعة الخ ليس مما ينبغي.
قوله: "هذا حديث صحيح" وأخرجه الشيخان وأبو داود والنسائي وابن ماجه بزيادة.(5/624)
1938ـ حدثنا سُفْيَانُ بنُ وَكِيعٍ حدثنا جَرِيرٌ عن سُلَيْمانَ التّيْمِيّ عَنْ أبي نَضْرَةَ عن أبي سَعِيدٍ: "أنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم نَهَى عن البُسْرِ والتّمْرِ أنْ يُخْلَطَ بَيْنَهُمَا، وعن الزّبِيبِ وَالتّمْرِ أنْ يُخْلَطَ بَيْنَهُمَا، ونَهَى عن الْجِرَارِ أنْ ينبذ فِيهَا".
قال وفي البابِ عن جابر و أنَسٍ وأبي قَتَادَةَ وابنِ عَبّاسٍ وأُمّ سَلَمَةَ وَمَعْبَدِ بنِ كَعْبٍ عن أُمّهِ".
هذا حديثٌ حسنٌ صحيحٌ.
ـــــــ
قوله: "حدثنا جرير" هو ابن عبد الحميد "عن سليمان التيمي" هو ابن طرخان "عن أبي نضرة" عن العبدي.
قوله: "نهى عن البسر والتمر أن يخلط بينهما" يعني في الانتباذ، وفي رواية لمسلم: من شرب النبيذ منكم فليشربه زبيباً فرداً أو تمراً فرداً أو بسراً فرداً.
قوله: "وفي الباب عن أنس وجابر وقتادة وابن عباس وأم سلمة ومعبد بن كعب عن أمه" ، أما حديث أنس فأخرجه أحمد والنسائي عنه قال: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نجمع بين شيئين نبيذاً يبغي أحدهما على صاحبه. وأما حديث جابر فأخرجه الجماعة إلا الترمذي بلفظ: نهى أن ينبذ التمر والزبيب جميعاً ونهى أن ينبذ الرطب والبسر جميعاً. قال في المنتقى بعد ذكره: رواه الجماعة إلا الترمذي فإن له منه فصل الرطب والبسر انتهى. وأما حديث أبي قتادة فأخرجه الشيخان وأبو داود والنسائي وابن ماجه. وأما حديث ابن عباس فأخرجه مسلم والنسائي. وأما حديث أم سلمة فأخرجه أبو داود عن كبشة بنت أبي مريم قالت: سألت أم سلمة رضي الله تعالى عنها ما كان النبي صلى الله عليه وسلم ينهى عنه؟ قالت: كان ينهانا أن نعجم النوى طبخاً أو نخلط الزبيب والتمر. وأما حديث معبد بن كعب عن أمه فلينظر من أخرجه.
قوله: "هذا حديث حسن صحيح" وأخرجه أحمد ومسلم(5/625)
باب ماجاء في كراهية الشرب في أنية الذهب والفضة
...
10ـ باب ما جاءَ في كَراهِيَةِ الشّرْبِ
في آنِيَةِ الذّهَب وَالفِضّة
1939 ـ حدثنا محمدُ بنُ بَشّارٍ حدثنا محمدُ بنُ جَعْفَرٍ حدثنا شُعْبَةُ عن الْحَكَمِ قالَ سَمِعْتُ ابنَ أبي لَيْلَى يُحَدّثُ أنّ حُذَيْفَةَ اسْتَسْقَى فأتاهُ إنْسَانٌ بإِنَاء مِنْ فِضّة فَرَمَاهُ بِهِ وقالَ إنّي كنْتُ قد نَهَيْتُهُ فأَبَى أنْ يَنْتَهِيَ "إنّ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم نَهَى عن الشّرْبِ في آنِيَةِ الفِضّةِ والذهب ولُبْسِ الْحَرِيرِ والدّيْبَاجِ وقالَ: "هِيَ لَهُمْ في الدّنْيَا وَلَكُمْ في الآخرة" .
ـــــــ
"باب ما جاءَ في كَراهِيَةِ الشّرْبِ في آنِيَةِ الذّهَب وَالفِضّة"
قوله: "حدثنا بندار" هو محمد بن بشار "سمعت ابن أبي ليلى" هو عبد الرحمن.
قوله: "إن حذيفة استسقى" وفي رواية البخاري: كان حذيفة بالمدائن فاستسقى، والمدائن اسم بلفظ الجمع هو بلد عظيم على دجلة بينها وبين بغداد سبعة فراسخ وكان حذيفة رضي الله عنه عاملاً عليها في خلافة عمر ثم عثمان إلى أن مات بعد قتل عثمان "فأتاه إنسان" وفي رواية للبخاري: فأتاه دهقان، وفي رواية أخرى له: فسقاه مجوسي، قال الحافظ: لم أقف على اسمه بعد البحث "فرماه به" وفي رواية: فرمى به في وجهه "وقال إني كنت قد نهيته فأبى أن ينتهي" وفي رواية للبخاري: فقال إني لم أرمه إلا أني نهيته فلم ينته "إن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن الشرب في آنية الذهب والفضة" كذا وقع في معظم الروايات عن حذيفة الإقتصار على الشرب، ووقع عند أحمد عن طريق مجاهد عن ابن أبي ليلى بلفظ: نهى أن يشرب في آنية الذهب والفضة وأن يؤكل فيها "ولبس الحرير والديباج" قال في النهاية: الديباج هو الثياب المتخذة من الإبريسم فارسي معرب وقد تفتح داله ويجمع على ديباج ودبابيج بالياء والباء، لأن أصله دباج انتهى. قيل الديباج(5/626)
وفي البابِ عن أُمّ سَلَمَة والبَرَاءِ وعَائِشَةَ.
ـــــــ
نوع من الحرير مختص بهذا الاسم فتخصيصه لئلا يتوهم عدم دخوله فيه "وقال" أي رسول الله صلى الله عليه وسلم "هي لهم" أي للكفار "في الدنيا ولكم في الآخرة" ليس المراد بقوله هي لهم في الدنيا إباحة استعمالهم إياها وإنما المعنى هم الذين يستعملونها مخالفة لزي المسلمين، وكذا قوله: ولك في الآخرة، أي تستعملونها مكافأة لكم على تركها في الدنيا، ويمنع أولئك جزاء لهم على معصيتهم باستعمالها، قاله الإسماعيلي. قال الحافظ: ويحتمل أن يكون فيه إشارة إلى أن الذي يتعاطى ذلك في الدنيا لا يتعاطاه في الآخرة كما في شرب الخمر انتهى.
قوله: "وفي الباب عن أم سلمة والبراء وعائشة" أما حديث أم سلمة فأخرجه الشيخان عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "الذي يشرب في آنية الفضة إنما يجرجر في بطنه نار جهنم" ، وفي رواية لمسلم: إن الذي يأكل ويشرب في آنية الفضة والذهب كذا في المشكاة. وأما حديث البراء فأخرجه الشيخان أيضاً عنه قال: أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بسبع ونهانا عن سبع: أمرنا بعيادة المريض الحديث وفيه: ونهانا عن خواتيم الذهب وعن الشرب في الفضة الخ. وأما حديث عائشة فأخرجه أحمد وابن ماجه بنحو حديث أم سلمة. وفي الباب أيضاً عن أبي هريرة وابن عمر، ذكر حديثيهما المنذري في كتابه الترغيب والترهيب، أحاديث الباب تدل على تحريم الأكل والشرب في آنية الذهب والفضة على كل مكلف رجلاً كان أو امرأة، ولا يلتحق ذلك بالحلى للنساء لأنه ليس من التزين الذي أبيح لها في شيء. قال القرطبي وغيره: في الحديث تحريم استعمال أواني الذهب والفضة في الأكل والشرب، ويلحق بهما ما في معناهما مثل الطيب والتكحل وسائر وجود الاستعمالات وبهذا قال الجمهور، كذا في فتح الباري.
قلت: وقد أجاز الأمير والقاضي الشوكاني استعمال الأواني من الفضة في غير الأكل والشرب كالتطيب والتكحل وغير ذلك، قال الأمير في السبل: الحديث دليل على تحريم الأكل والشرب في آنية الذهب والفضة وصحافهما سواء أكان الإناء خالصاً ذهباً أو مخلوطاً بالفضة إذ هو ما يشمله أنه إناء ذهب وفضة، قال: وهذا في الأكل والشرب فيما ذكر لا خلاف فيه، وأما غيرهما ففيها الخلاف من(5/627)
هذا حديثٌ حسنٌ صحيحٌ.
ـــــــ
سائر الاستعمالات، قيل لا تحرم لأن النص لم يرد إلا في الأكل والشرب، وقيل تحرم سائر الاستعمالات إجماعاً، ونازع في الأخير بعض المتأخرين وقال النص في الأكل والشرب لا غير وإلحاق سائر الاستعمالات بهما قياساً لا يتم فيه شرائط القياس، والحق ما ذهب إليه القائل بعدم تحريم غير الأكل والشرب فيهما إذ هو الثابت بالنص ودعوى الإجماع غير صحيحة انتهى كلام صاحب السبل مختصراً.
قال الشوكاني في النيل: ولا شك أن أحاديث الباب تدل على تحريم الأكل والشرب وأما سائر الاستعمالات فلا والقياس على الأكل والشرب قياس مع الفارق، فإن علة النهي عن الأكل والشرب هي التشبه بأهل الجنة حيث يطاف عليه بآنية من فضة، وذلك مناط معتبر للشارع كما ثبت عنه لما رأى رجلاً متختماً بخاتم من ذهب فقال مالي أرى عليك حلية أهل الجنة. أخرجه الثلاثة من حديث بريدة، وكذلك في الحرير وغيره وإلا لزم تحريم التحلي بالحلي والإفتراش للحرير لأن ذلك استعمال وقد جوزه البعض من القائلين بتحريم الاستعمال. والحاصل أن الأصل الحل فلا تثبت الحرمة إلا بدليل يسلمه الخصم، ولا دليل في المقام بهذ الصفة، فالوقوف على ذلك الأصل المعتضد بالبراءة الأصلية هو وظيفة المنصف الذي لم يخبط بسوط هيبة الجمهور لا سيما وقد أيد هذا الأصل حديث: "ولكن عليكم بالفضة فالعبوا بها لعباً" ، أخرجه أحمد وأبو داود، ويشهد له ما سلف: أن أم سلمة جاءت بجلجل من فضة فيه شعر من شعر رسول الله فخضخضت الحديث انتهى كلام الشوكاني باختصار.
قلت: أثر أم سلمة في استعمالها الجلجل من الفضة أخرجه البخاري عن عثمان بن عبد الله بن موهب قال: أرسلني أهلي إلى أم سلمة بقدح من ماء فجاءت بجلجل من فضة فيه شعر من شعر رسول الله صلى الله عليه وسلم فكان إذا أصاب الإنسان عين أو شيء بعث إليها بإناء فخضخضت له فشرب منه، فاضطلعت في الجلجل فرأيت شعرات حمراً. قال الكرماني: ويحمل على أنه كان مموهاً بفضة لا أنه كان كله فضة. قال الحافظ: وهذا ينبيء على أن أم سلمة كانت لا تجيز استعمال آنية الفضة في غير الأكل والشرب، ومن أين له ذلك؟ فقد أجاز ذلك جماعة من العلماء قال الشوكاني: والحق الجواز في الأكل والشرب لأن الأدلة لم تدل على غيرها بين الحالتين انتهى.(5/628)
ـــــــ
قلت: وأما قول الشوكاني بأنه قد أيد هذا الأصل حديث: ولكن عليكم بالفضلة فالعبوا بها لعباً، ففيه نظر ظاهر قد بينا ذلك في أواخر أبواب اللباس.
قوله: "هذا حديث صحيح حسن" أخرجه الأئمة الستة.(5/629)
باب ماجاء في النهي عن الشرب قائما
...
11ـ باب ما جَاء في النّهْيِ عن الشّرْبِ قَائِما
1940ـ حدثنا محمدُ بنُ بَشّارٍ حدثنا ابنُ أبِي عَدِي عن سَعِيد بن أبي عروبة عن قَتَادَةَ عن أنَسٍ "أنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم نَهَى أنْ يَشْرَبَ الرّجُلُ قَائِماً. فَقِيلَ: الأَكْلُ؟ قالَ: ذَاكَ أَشَد ".
هذا حديث صحيح
1941- حدثنا حميد بن مسعدة حدثنا خالد بن الحارث عن سعيد عن قتادة عن أبي مسلم عن الجارود بن المعلى ثم أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن الشرب قائما وفي الباب عن أبي سعيد وأبي هريرة وأنس .
ـــــــ
"باب ما جَاء في النّهْيِ عن الشّرْبِ قَائِما"
قوله: "عن سعيد" هو ابن أبي عروبة.
قوله: "فقيل الأكل قال ذاك أشد" وفي رواية مسلم: قال قتادة: فقلنا فالأكل؟ فقال: ذاك أشعر أو أخبث، وسيأتي الجمع بينه وبين ما يخالفه في الباب الذي يليه.
قوله: "هذا حديث صحيح" وأخرجه أحمد ومسلم.
قوله: "حدثنا خالد بن الحارث" هو الهجميمي أبو عثمان البصري "عن سعيد" هو ابن أبي عروبة "عن أبي مسلم الجذمي" بالجيم المعجمة مقبول من الثالثة "عن الجارود بن العلاء" قال في التقريب: الجارود العبدي اسمه بشر واختلف في اسم أبيه فقيل المعلى أو العلاء وقيل عمرو، صحابي جليل استشهد سنة إحدى وعشرين.
قوله: "نهى عن الشرب قائماً" أي نهى تنزيه كما سيتضح لك.
قوله: "وفي الباب عن أبي سعيد وأبي هريرة وأنس" أما حديث سعيد فأخرجه أحمد ومسلم بلفظ: نهى عن الشرب قائماً، وفي رواية لمسلم: زجر عن الشرب قائماً. وأما حديث أبي هريرة فأخرجه مسلم عنه قال: قال رسول الله(5/629)
هذا حديث غريب حسن وهكذا روى غير واحد هذا الحديث عن سعيد عن قتادة عن أبي مسلم عن الجارود عن النبي صلى الله عليه وسلم وروي عن قتادة عن يزيد بن عبد الله بن الشخير عن أبي مسلم عن الجارود أن النبي صلى الله عليه وسلم "قال ضالة المسلم حرق النار" والجارود
ابن المعلى ويقال له ابن العلاء والصحيح ابن المعلى
ـــــــ
صلى الله عليه وسلم: "لا يشربن أحد منكم قائماً فمن نسي فليستق" ، وأما حديث أنس فأخرجه مسلم وأبو داود بلفظ: زجر عن الشرب قائماً.
قوله: "هذا حديث حسن غريب" وأخرجه الطحاوي في معاني الآثار "وهكذا روى غير واحد هذا الحديث عن سعيد عن قتادة عن أبي سليم عن جارود عن النبي صلى الله عليه وسلم" يعني بغير واسطة بين قتادة وبين أبي مسلم "وروى عن قتادة عن يزيد بن عبد الله بن الشخير عن أبي مسلم عن الجارود" يعني بذكر واسطة يزيد بن عبد الله بين قتادة وبين أبي مسلم. ولا يلزم من هذا انقطاع حديث الجارود في النهي عن الشرب قائماً المذكور في الباب، فإن الظاهر أن قتادة سمع حديث النهي عن الشرب قائماً من أبي مسلم بغير واسطة وروى حديث الضالة عن أبي مسلم بواسطة يزيد بن عبد الله وقتادة كما يروى عن يزيد بن عبد الله كذلك يروى عن أبي مسلم أيضاً. قال الحافظ في تهذيب التهذيب في ترجمة أبي مسلم الجذمي: روى عن الجارود العبدي وغيره، وعنه مطرف وأبو العلاء يزيد ابنا عبد الله بن الشخير وقتادة وغيرهم، وقال في ترجمة يزيد بن عبد الله بن الشخير: روى عنه قتادة وغيره.
قوله "ضالة المسلم" في النهاية هي الضائعة من كل ما يقتضى من الحيوان وغيره، يقال ضل الشيء إذا ضاع وهي في الأصل فاعلة ثم اتسع فيها فصارت من الصفات الغالبة وتقع على الذكر والأنى والاثنين والجمع ويجمع على ضوال، والمراد بها في هذا الحديث الضالة من الإبل والبقر مما يحمى نفسه ويقدر على الإبعاد في طلب المرعى والماء بخلاف الغنم "حرق النار" بفتح الحاء والراء وقد يسكن لهبها أي أن ضالة المؤمن إذا أخذها إنسان ليتملكها أدته إلى النار، كذا في النهاية وحديث الجارود هذا أخرجه أحمد والنسائي وابن حبان والدارمي.(5/630)
المجلد السادس
تابع أبواب الأشربة
باب ماجاء في الرخصة في الشرب قائماً
...
بسم الله الرحمن الرحيم
وبه نستعين
12 ـ باب ما جَاءَ في الرّخْصَةِ في الشّرْبِ قَائِما
1942 ـ حدّثنا أبو السّائِبِ سَلْمُ بنُ جُنَادَةَ بنِ سَلْمٍ الكُوفِيّ حدثنا حَفْصُ بنُ غِيَاثٍ عن عُبَيْدِ الله بن عُمَرَ عن نافِع عن ابنِ عُمَرَ قال: "كُنّا نَأَكُلُ على عَهْدِ رَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم وَنَحْنُ نَمْشِي، وَنَشْرَبُ وَنَحْنُ قِيَامٌ".
هذا حديثٌ حسنٌ صحيحٌ غريبٌ مِنْ حَدِيثِ عُبَيْدِ الله بنِ عُمَرَ عن نَافِع عن ابنِ عُمَرَ، وَرَوَى عِمْرانُ بنُ حُدَيْرٍ هذا الْحَدِيثَ عن أبي البَزَرِيّ عن ابنِ عُمَرَ وَأَبُو البَزَرِيّ اسْمُه يَزِيدُ بنُ عُطَارِد.
ـــــــ
"باب ما جاء في الرخصة في الشرب قائما"
قوله: "كنا نأكل على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم" أي في زمانه "ونحن نمشي" جملة حالية "ونشرب" عطف على نأكل "ونحن قيام" قيد للأخير. وفي هذا الحديث دلالة على جواز الأكل ماشياً، وحديث أنس المذكور في الباب المتقدم يدل على المنع. فيحمل حديث أنس على كراهية التنزيه، وحديث ابن عمر على الجواز مع الكراهة جمعاً بين الحديثين.
قوله: "هذا حديث حسن صحيح غريب" وأخرجه أحمد وابن ماجة والدارمي.
قوله: "وروى عمران بن حدير" بمهملات مصغراً السدوسي أبو عبيدة البصري ثقة من السادسة "وأبو البزري" بفتح الموحدة والزاي بعدها راء "اسمه يزيد بن عطارد" مقبول من الرابعة.(6/3)
1943 ـ حدّثنا أَحْمدُ بنُ مَنِيعٍ حدثنا هُشَيْمٌ حدثنا عَاصِمٌ الأَحْوَلُ و مُغِيرَةُ عن الشّعْبِيّ عن ابنِ عَبّاسٍ: "أَنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم شَرِبَ مِنْ زَمْزَم وَهُوَ قَائِمٌ".
وفي البابِ عن عَلِيٍ وسَعْدٍ وعَبْدِ الله بنِ عَمْرٍو وعَائِشَةَ.
هذا حديثٌ حَسَنٌ صحيحٌ.
1944ـ حدّثنا قُتَيْبَةُ حدثنا محمدُ بنُ جَعْفَرٍ عن حُسَيْنٍ المُعَلّمِ عن عَمْرِو بنِ شُعَيْبٍ عن أبيِه عن جَدّهِ قالَ: "رأيْتُ رَسولَ الله صلى الله عليه وسلم يَشْرَبُ قَائِماً وقاعداً".
هذا حديثٌ حَسَنٌ صحيحٌ.
ـــــــ
قوله: "حدثنا هشيم" هو ابن بشير بن القاسم بن دينار السلمي "ومغيرة" هو ابن مقسم الضبي مولاهم أبو هشام الكوفي.
قوله: "أن النبي صلى الله عليه وسلم شرب من زمزم وهو قائم" قال السيوطي: هذا لبيان الجواز وقد يحمل على أنه لم يجد موضعاً للقعود لإزدحام الناس على ماء زمزم أو ابتلال المكان.
قوله: "وفي الباب عن علي وسعد وعبد الله بن عمرو وعائشة" أما حديث علي فأخرجه أحمد والبخاري عنه أنه في رحبة الكوفة شرب وهو قائم إن ناساً يكرهون الشرب قائماً وإن رسول الله صلى الله عليه وسلم صنع مثل ما صنعت. كذا في المنتقي. وأما حديث سعد وهو ابن أبي وقاص فأخرجه الترمذي. وأما حديث عبد الله بن عمرو فأخرجه الترمذي بعد هذا. وأما حديث عائشة فأخرجه البزار وأبو علي الطوسي في الأحكام كما في الفتح.
قوله: "هذا حديث حسن صحيح" وأخرجه الشيخان.
قوله: "حدثنا محمد بن جعفر" هو المدني البصري المعروف بغندر "عن حسين المعلم" هو ابن ذكوان العوذي.
قوله: "رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم" أي أبصرته حال كونه "يشرب قائماً"(6/4)
ـــــــ
أي مرة أو مرتين لبيان الجواز أو لمكان الضرورة "وقاعداً" أي في سائر أوقاته. وأحاديث الباب كلها تدل على جواز الشرب قائماً، وأحاديث الباب المتقدم تدل على النهي عنه.
قال الحافظ في الفتح: وسلك العلماء في ذلك مسالك أحدها الترجيح، وأن أحاديث الجواز أثبت من أحاديث النهي، وهذه طريقة أبي بكر الأثرم فقال حديث أنس يعني في النهي جيد الإسناد، ولكن قد جاء عنه خلافه يعني في الجواز، قال: ولا يلزم من كون الطريق إليه في النهي أثبت من الطريق إليه في الجواز أن لا يكون الذي يقابله أقوى لأن الثبت قد يروي هو ومن دونه الشيء فيرجح عليه، فقد رجح نافع على سالم في بعض الأحاديث عن ابن عمر وسالم مقدم على نافع في التثبت، وقدم شريك على الثوري في حديثين وسفيان مقدم عليه في جملة أحاديث ثم أسند عن أبي هريرة قال لابأس بالشرب قائماً. قال الأثرم: فدل على أن الرواية عنه في النهي ليست ثابتة وإلا لما قال لابأس به قال: ويدل علي وهذه أحاديث النهي أيضاً اتفاق العلماء على أنه ليس لأحد شرب قائماً أن يستقيء.
المسلك الثاني: دعوى النسخ وإليها جنح الأثرم وابن شاهين فقررا على أن أحاديث النهي على تقدير ثبوتها منسوخة بأحاديث الجواز بقرينة عمل الخلفاء الراشدين ومعظم الصحابة والتابعين بالجواز، وقد عكس ذلك ابن حزم فادعى نسخ أحاديث الجواز بأحاديث النهي متمسكاً بأن الجواز على وفق الأصل وأحاديث النهي مقررة لحكم الشرع، فمن ادعى الجواز بعد النهي فعليه البيان فإن النسخ لا يثبت بالاحتمال، وأجاب بعضهم بأن أحاديث الجواز متأخرة لما وقع منه صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع كما تقدم ذكره في حديث الباب عن ابن عباس، وإذا كان ذلك الأخير من فعله صلى الله عليه وسلم دل على الجواز ويتأيد بفعل الخلفاء الراشدين بعده.
المسلك الثالث: الجمع بين الخبرين بضرب من التأويل، فقال أبو الفرج الثقفي: المراد بالقيام هنا المشي، يقال: قام في الأمر إذا مشى فيه، وقمت في حاجتي إذا سعيت فيها وقضيتها، ومنه قوله تعالى: {إلَّا مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قَائِماً} أو مواظباً بالمشي عليه، وجنح الطحاوي إلى تأويل آخر وهو حمل النهي على من لم(6/5)
ـــــــ
يسم عند شربه، وهذا إن سلم له في بعض ألفاظ الأحاديث لم يسلم له في بقيتها. وسلك آخرون في الجمع حمل أحاديث النهي على كراهة التنزيه، وأحاديث الجواز على بيانه، وهي طريقة الخطابي وابن بطال في آخرين.
قال الحافظ: وهذا أحسن المسالك وأسلمها وأبعدها من الاعتراض، وقد أشار الأثرم إلى ذلك أخيراً، فقال إن ثبتت الكراهة حملت على الإرشاد والتأديب لا على التحريم، وبذلك جزم الطبري وأيده بأنه لو كان جائزاً ثم حرمه أو كان حراماً ثم جوزه لبين النبي صلى الله عليه وسلم ذلك بياناً واضحاً، فلما تعارضت الأخبار بذلك جمعنا بينهما بهذا. وقيل إن النهي عن ذلك إنما هو من جهة الطب مخافة وقوع ضرر به، فإن الشرب قاعداً أمكن وأبعد من الشرق وحصول الوجع في الكبد أو الحلق، وكل ذلك قد لايأمن منه من شرب قائماً. انتهى كلام الحافظ.
وقال النووي: الصواب أن النهي فيها محمول على كراهة التنزيه، وأما شربه صلى الله عليه وسلم قائماً فبيان للجواز فلا إشكال ولا تعارض، وهذا الذي ذكرناه يتعين المصير إليه. وأما من زعم نسخاً أو غيره فقد غلط غلطاً فاحشاً، وكيف يصار الى النسخ مع إمكان الجمع بين الأحاديث لو ثبت التاريخ وأنى له بذلك، فإن قيل: كيف يكون الشرب قائماً مكروهاً وقد فعله النبي صلى الله عليه وسلم؟ فالجواب أن فعله صلى الله عليه وسلم إذا كان بياناً للجواز لا يكون مكروهاً، بل البيان واجب عليه صلى الله عليه وسلم فكيف يكون مكروهاً، وقد ثبت أنه صلى الله عليه وسلم توضأ مرة مرة وطاف على بعير مع أن الإجماع على أن الوضوء ثلاثاً ثلاثاً، والطواف ماشياً أكمل، ونظائر هذا غير منحصرة، فكان صلى الله عليه وسلم ينبه على جواز الشيء مرة أو مرات ويواظب على الأفضل منه، وهكذا كان أكثر وضوئه ثلاثاً ثلاثاً، وأكثر طوافه ماشياً، وأكثر شربه جالساً، وهذا واضح لا يتشكك فيه من له أدنى نسبة إلى علم. وأما قوله صلى الله عليه وسلم فمن نسي فليستقيء فمحمول على الاستحباب والندب فيستحب لمن شرب قائماً أن يتقيأه لهذا الحديث الصحيح الصريح، فإن الأمر إذا تعذر حمله على الوجوب حمل على الاستحباب. وأما قول القاضي عياض: لا خلاف بين أهل العلم أن من شرب(6/6)
ناسياً ليس عليه أن يتقيأ فأشار بذلك إلى تضعيف الحديث فلا يلتفت إلى إشارته. وكون أهل العلم لم يوجبوا الاستقاء لا يمنع كونها مستحبة، فإن ادعى مدع منع الاستحباب فهو مجازف لا يلتفت إليه، فمن أين له الإجماع على منع الاستحباب؟ وكيف تترك هذه السنة الصحيحة الصريحة بالتوهمات والدعاوي والترهات؟ ثم اعلم أنه تستحب الاستقاءة لمن شرب قائماً ناسياً ومتعمداً، وذكر الناسي في الحديث ليس المراد به أن القاصد يخالفه بل للتنبيه به على غيره بطريق الأولى لأنه إذا أمر بالناسي وهو غير مخاطب فالعامد المخاطب المكلف الأولى، وهذا واضح لا شك فيه(6/7)
باب ماجاء في التنفس في الإناء
...
13ـ باب ما جَاءَ في التّنَفّسِ في الإنَاء
1945ـ حدّثنا قُتَيْبَةُ و يُوسُفُ بنُ حَمّادٍ قالا: حدثنا عَبْدُ الوَارِثِ بنُ سَعِيدٍ عن أبي عِصَامٍ عن أَنَسِ بنِ مَالِكٍ: "أَنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَتَنَفّسُ في الإنَاءِ ثَلاَثاً ويَقُولُ: هُوَ أَمْرَأُ وَأَرْوَى" .
ـــــــ
"باب ما جاء في التنفس في الإناء"
قوله: "عن أبي عصام" قال الحافظ في تهذيب التهذيب: أبو عصام المزني البصري روى عن أنس في التنفس في الإناء، وعنه شعبة وهشام الدستوائي وعبد الوارث بن سعيد ذكره ابن حبان في الثقات انتهى. وقال المنذري في تلخيص السنن: أبو عصام هذا لا يعرف اسمه وانفرد به مسلم وليس له في كتابه سوى هذا الحديث انتهى. "كان يتنفس في الإناء ثلاثاً" ووقع في رواية مسلم: يتنفس في الشراب ثلاثاً، ووقع في رواية أخرى له مثل رواية الترمذي. قال النووي: معناه في أثناء شربه من الإناء أو في اثناء شربه الشراب "ويقول" إن النبي صلى الله عليه وسلم "هو" أي تعدد التنفس أو التثليث "أمرأ" من مرأ الطعام إذا وافق المعدة أي أكثر انصياغاً وأقوى هضماً، ومعناه بالفارسية كواراتر "وأروي" من الري بكسر الراء غير مهموز أي أكثر رياً وأدفع للعطش، ومعناه بالفارسية سيراب كننده تر. ووقع في رواية مسلم: أنه أروى وأبرأ وأمرأ بزيادة أبرأ(6/7)
هذا حديثٌ حَسَنٌ. وَرَوَاهُ هِشَامٌ الدّسْتَوَائِي عن أَبي عِصَامٍ عن أَنَسٍ. وَرَوَى عَزْرَةُ بنُ ثَابِتٍ عن ثُمَامَةَ عن أَنَس: "أَنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَتَنَفّسُ في الإنَاءِ ثَلاَثاً".
1946ـ حدثنا بندار حدثنا عبد الرحمن بن مهدي حدثنا عَزْرَةُ بنُ ثَابِتٍ الأَنْصَارِيّ عن ثُمَامَةَ بنِ أَنَسٍ عن أَنسِ بنِ مَالِكٍ: "أَنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم كانَ يَتَنَفّسُ في الإِنَاءِ ثَلاَثاً".
هذا حديثٌ حسنٌ صحيحٌ.
1947ـ حدّثنا أَبو كُرَيْبٍ حدثنا وَكِيعٌ عن يَزيِدَ بنِ سِنَانٍ الْجَزَرِيّ عن ابنٍ لِعَطَاءِ بنِ أبي رَبَاحٍ عن أبيهِ عن ابنِ عَبّاس قالَ: قالَ رَسُولُ الله
ـــــــ
قال النووي: معنى أبرأ أي أبرأ من ألم العطش، وقيل أبرأ أي أسلم من مرض أو أذى يحصل بسبب الشرب في نفس واحد انتهى. وقال الحافظ في الفتح: أبرأ بالهمز من البراءة أو من البرء أي يبرئ من الأذى والعطش، ووقع في رواية أبي داود: أهنأ بدل قوله: أروى، من الهنأ. قال: والمعنى أنه يصير هنياً مرياً برياً أي سالماً أو مبرياً من مرض أو عطش، ويؤخذ من ذلك أنه أقمع للعطش وأقوى على الهضم وأقل أثراً في ضعف الأعضاء وبرد المعدة، واستعمال أفعل التفضيل في هذا يدل على أن للمرتين في ذلك مدخلا في الغضل المذكور، ويؤخذ منه أن النهي عن الشرب في نفس واحد للتنزيه. النتهى كلام الحافظ.
قوله: "هذا حديث حسن" وأخرجه مسلم وأصحاب السنن قاله الحافظ.
قوله: "ورواه هشام الدستوائي عن أبي عصام عن أنس" أخرجه مسلم "وروى عزرة بن ثابت عن ثمامة عن أنس ألخ" أخرجه الشيخان وأخرجه الترمذي في هذا الباب.
قوله: "كان في يتنفس الإناء" أي في أثناء شربه من الإناء كما تقدم.
قوله: "هذا حديث صحيح" تقدم تخريجه آنفاً.
قوله: "عن يزيد بن سنان الجزري" بفتح جيم وزاي وبراء منسوب إلى جزيرة(6/8)
صلى الله عليه وسلم: "لاَ تَشْرَبُوا واحِداً كَشُرْبِ البَعِيرِ وَلَكِنْ اشْرَبُوا مَثْنَى وَثُلاثَ وسَمّوا إذا أَنْتُمْ شَرِبْتُمْ، واحْمدُوا إذا أَنتمْ رَفَعْتُمْ" .
هذا حديثٌ غريب. وَيَزيدُ بنُ سِنَانٍ الجَزَرِيّ هُوَ أبو فَرْوَةَ الرّهَاوِيّ
ـــــــ
وهي بلاد بين الفرات ودجلة كذا في المغني ضعيف من كبار السابعة "عن ابن لعطاء بن أبي رباح" لم أقف على اسمه.
قوله: "لا تشربوا واحداً" أي شرباً واحداً "كشرب البعير" أي كما يشرب البعير دفعة واحدة لأنه يتنفس في الإناء "ولكن اشربوا مثنى وثلاث" أي مرتين مرتين أو ثلاثة ثلاثة "وسمّوا" أي قولوا بسم الله الرحمن الرحيم "إذا أنتم شربتم" أي أردتم الشرب "وأحمدوا إذا أنتم رفعتم" أي الإناء عن الفم في كل مرة أو في الاَخر قاله القاري. قلت: قاله الحافظ في الفتح: أخرج الطبراني في الأوسط بسند حسن عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يشرب في ثلاثة أنفاس إذا أدنى الإناء إلى فيه. يسمي الله فإذا أخره حمد الله بفعل ذلك ثلاثاً. وأصله في ابن ماجة وله شاهد من حديث ابن مسعودعند البزار والطبراني. وأخرج الترمذي من حديث ابن عباس: وسموا إذا أنتم شربتم وأحمدوا إذا أنتم وقعتم. وهذا يحتمل أن يكون شاهداً لحديث أبي هريرة المذكور، ويحتمل أن يكون المراد به في الابتداء والانتهاء فقط والله أعلم انتهى كلام الحافظ.
قوله: "هذا حديث غريب" قال الحافظ في الفتح: سنده ضعيف انتهى(6/9)
باب ماذكر في الشرب بنفسين
...
14 ـ باب ما ذُكِرَ في الشّرْبِ بِنَفَسَيْن
1948ـ حدّثنا عليّ بْنُ خَشْرَمٍ حدثنا عيسَى بنُ يونُسَ عن رِشْدِينَ بن كُرَيْبٍ عن أبِيِه عن ابنِ عَباسٍ: "أَنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم كانَ إِذَا شَرِبَ يَتَنَفّسُ مَرّتَيْنِ"
ـــــــ
"باب ما ذكر في الشرب بنفسين"
قوله: "عن رشدين" بكسر الراء "بن كريب" بالتصغير.
قوله: "كان إذا شرب يتنفس مرتين" فيه ثبوت الشرب بنفسين، لكن قال(6/9)
هذا حديثٌ حَسَنٌ غريبٌ لا نَعْرِفُهُ إِلاّ مِنْ حَدِيثِ رِشْدِينَ بنِ كُرَيْبٍ.
قال: وسَأَلتُ أبا محمد عَبْدَ الله بنَ عَبْدِ الرحمنِ عن رِشْدِينَ بن كُرَيْبٍ قلت: هُوَ أَقْوَى أَمْ محمدُ بنُ كُرَيْبٍ؟ قالَ: ما أقْرَبَهُماَ ورِشْدِينُ بنُ كُرِيْبٍ أَرْجَحُهُما عِنْدِي، قال: وَسَأَلْتُ محمدَ بنَ إسماعيلَ عن هذا، فقال: محمدُ بنُ كُرَيْبٍ أَرْجَحُ من رِشْدِينَ بنِ كُرَيْبٍ. والقَوْلُ عندي ما قال أبو محمدٍ عبدُ الله بنْ عبدِ الرحمنِ: رِشْدِينُ بنُ كُرَيْبٍ أَرْجَحُ وأكْبرُ، وقد أدركَ ابنَ عباسٍ ورآهُ وهُما أَخَوَانِ وعندهُما مَنَاكِيرُ.
ـــــــ
الحافظ في الفتح بعد ذكر هذا الحديث: هذا ليس نصاً في الاقتصار على المرتين بل يحتمل أن يراد به التنفس في أثناء الشرب، فيكون قد شرب ثلاث مرات وسكت عن التنفس الأخير لكونه من ضرورة الواقع انتهى.
قوله: "هذا حديث غريب" وفي بعض النسخ: هذا حديث حسن غريب. قال الحافظ في الفتح: سنده ضعيف، والحديث أخرجه أيضاً ابن ماجة "قال" أي أبو عيسى الترمذي "وسألت عبد الله بن عبد الرحمن" هو الدارمي الحافظ صاحب المسند "ما أقربهما" بصيغة التعجب "ورشدين كريب أرجحهما عندي" إعلم أن رشديناً ومحمداً هما أخوان ابنان لكريب وكلاهما ضعيفان لكنهما ليسا متساويين في الضعف، فعند الدارمي رشدين أرجح من محمد. وعند البخاري بالعكس، ووافقه أبو حاتم فقال: يكتب حديثه وهو أحب إلي من أخيه رشدين، وقال الترمذي ربما قال الدارمي(6/10)
باب ماجاء في كراهية النفخ في الشراب
...
15 ـ باب ما جاء في كَرَاهِية النّفْخِ في الشّرَاب
1949 ـ أخبرنا عليّ بنُ خَشْرَمٍ حدّثنا عيسى بنُ يُونسَ عن مالكِ بنِ أَنَسٍ عن أيوبَ وهُوَ ابنُ حبيبٍ أنه سمعَ أبا المُثَنّى الجُهَنيّ يَذْكُرُ عن
ـــــــ
"باب ما جاء في كراهية النفخ في الشراب"
قوله: "عن أيوب وهو ابن حبيب" الزهري المدني ثقة من السادسة "سمع أبا(6/10)
أبي سعيدٍ الْخدْرِيّ: "أَنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم نَهَى عن النّفْخِ في الشّرَابِ، فقال رجلٌ: اْلقَذَاةُ أَرَاهَا في الإِناء؟ فَقال: أَهْرِقْهَا ، فقال: فإني لا أَرْوَى من نَفَسٍ وَاحِدٍ؟ قال: فأَبِنْ القَدَحَ إِذنْ عَنْ فِيكَ" .
هذا حديثٌ حسنٌ صحيحٌ.
1950ـ حدّثنا ابن أبي عُمَرَ، حدثنا سُفْيَانُ بن عُيينة عن عبدِ الْكَرِيمِ الْجَزَرِيّ عن عِكْرِمَةَ عن ابنِ عباس: "أنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم نَهَى أن يُتَنَفّس في الإِناءِ أو يُنْفَخَ فِيهِ".
ـــــــ
المثنى الجهني" المدني مقبول من الثالثة "نهى عن النفخ في الشراب" قال الجزري في النهاية: إنما نهى عنه من أجل ما يخاف أن يبدر من ريقه فيقع فيه فربما شرب بعده غيره فيتأذى به "القذاة أراها" أي أبصرها، والقذاة منصوب على شريطة التفسير "في الإناء" أي الذي فيه الشراب فلا بدلي أن أنفخ في الشراب لتذهب تلك القذاة "فقال أهرقها" بسكون الهاء من الإراقة بزيادة الهاء أي فارق تلك القذاة عن الشراب ولا تنفخ فيه. قال القاري: أي بعض الماء لتخرج تلك القذاة منها، والماء قد يؤنث كما ذكره المظهر في حاشية البيضاوي عند قوله تعالى: {فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا} . وأشار صاحب القاموس يقول: مويه ومويهة "فقال" أي الرجل "فإني لا أروي" بفتح الواو "من نفس واحد" بفتح الفاء أي بتنفس واحد أي لا يحصل لي الري من الماء في تنفس واحد فلا بد لي أن أتنفس في الشراب "قال فأبن القدح" أي أبعده أمر من الإبانة "عن فيك" أي عن فمك، زاد في رواية: ثم تنفس. وفي الحديث دليل على إباحة الشرب من نفس واحد لأنه لم ينه الرجل عنه بل قال ما معناه إن كنت لا تروي من واحد فأبن القدح، وقد ورد النهي عن ذلك كما عرفت في الباب المتقدم، ومجرد الجواز لا ينافي الكراهة.
قوله: "هذا حديث حسن صحيح" وأخرجه أحمد والدارمي ومحمد بن الحسن في موطنه.
قوله: "نهى أن يتنفس" بصيغة المجهول أي لخوف بروز شيء من ريقه فيقع(6/11)
هذا حديثٌ حسنٌ صحيحٌ.
ـــــــ
في الماء وقد يكون متغير الفم فتعلق الرائحة بالماء لرقته ولطافته، فيكون الأحسن في الأدب أن يتنفس بعد إبانة الإناء عن فمه وأن لا يتنفس فيه "أو ينفخ" بصيغة المجهول أيضاً لأن النفخ إنما يكون لأحد معنيين، فإن كان من حرارة الشراب فليصبر حتى يبرد، وإن كان من أجل قذى يبصره فليمطه بأصبع أو بخلال أو نحوه ولا حاجة إلى النفخ فيه بحال "فيه" أي في الإناء الذي يشرب منه، والإناء يشمل إناء الطعام والشراب فلا ينفخ في الإناء ليذهب ما في الإناء من قذاة ونحوها فإنه لا يخلو النفخ غالباً من بذاق يستقذر منه، وكذا لا ينفخ في الإناء لتبريد الطعام الحار بل يصبر إلى أن يبرد. وقال المهلب: ومحل هذا الحكم إذا أكل وشرب مع غيره، وأما لو أكل وحده أو مع أهله أو من يعلم أنه لا يتقذر شيئاً مما يتناوله فلابأس. قال الحافظ: والأولى تعميم المنع لأن لا يؤمن مع ذلك أن تفضل فضلة أو يحصل التقذر من الإناء أو نحو ذلك انتهى.
قلت: بل هو المتعين عندي والله تعالى أعلم.
قوله: "هذا حديث حسن صحيح" وأخرجه أبو داود وابن ماجة، وسكت عنه أبو داود، ونقل المنذري تصحيح الترمذي وأقره(6/12)
باب ماجاء في كراهية التنفس في الإناء
...
16 ـ باب ما جاء في كَرَاهِيَةِ التنَفّسِ في الإِناء
1951ـ حدّثنا إسحاقُ بنُ منصورٍ، حدثنا عبدُ الصّمَدِ بنُ عبدِ الوَارِثِ، حدثنا هِشَامٌ الدسْتوَائِي عن يَحيَى بنِ أبي كَثِيرٍ عن عبدِ الله بنِ أبي قَتَادَةَ عن أبِيهِ، أَنّ رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم قال: "إذا شرِبَ أحَدُكُمْ فَلاَ يَتَنَفّسْ في الإِناءِ".
ـــــــ
"باب ما جاء في كراهية التنفس في الإناء"
قوله:"إذا شرب أحدكم فلا يتنفس في الإناء" هذا بظاهره مخالف لحديث أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يتنفس في الإناء ثلاثاً. قال الجزري في النهاية: الحديثان صحيحان وهما باختلاف تقديرين: أحدهما: أن يشرب وهو يتنفس في الإناء(6/12)
هذا حديثٌ حسنٌ صحيحٌ.
ـــــــ
من غير أن يبينه عن فيه وهو مكروه، والاَخر أن يشرب من الإناء ثلاثة أنفاس يفصل فيها فاه عن الإناء، يقال أكرع في الإناء نفساً أو نفسين أي جرعة أو جرعتين انتهى كلام الجزري.
قوله: "هذا حديث حسن صحيح" وأخرجه الشيخان.(6/13)
ماجاء في إختناث الأسقية
...
17 ـ باب ما جاء في النهي عنْ اخْتِناثِ اْلأَسْقِيَة
1952ـ حدّثنا قُتَيْبَةُ، حدثنا سُفْيَانُ عن الزّهْرِيّ عن عُبَيْدِ الله بنِ عبدِ الله عن أبي سعيدٍ رِوَايَةً: "أنه نَهَى عن اخْتِنَاث الأسْقِيَةِ". وفي الباب عن جابرٍ وابنِ عباسٍ وأبي هُرَيْرَةَ.
ـــــــ
"باب ما جاء في اختناث الأسقية"
جمع السقاة وهو القربة. قال الجزري في النهاية: خنثت السقاء إذا أثنيت فمه إلى خارج وشربت منه. وقبعته إذا اثنيته إلى داخل
. قوله: "عن أبي سعيد رواية" أي عن النبي صلى الله عليه وسلم "أنه" أي النبي صلى الله عليه وسلم "نهى عن اختناث الأسقية" إنما نهي عنه لأنه ينتنها فإن إدامة الشرب هكذا مما يغير ريحها، وقيل لا يؤمن أن يكون فيها هامة، وقيل لئلا يترشش الماء على الشارب لسعة فم السقاء، وقد جاء في حديث آخر إباحته، ويحتمل أن يكون النهي خاصاً بالسقاء الكبير دون الإداوة أو ذا للضرورة والحاجة والنهي عن الاعتياد، أو الثاني ناسخ للأول، كذا في النهاية وغيرها.
قوله: "وفي الباب عن جابر وابن عباس وأبي هريرة" أما حديث جابر فلينظر من أخرجه. وأما حديث ابن عباس فأخرجه الجماعة إلا مسلماً عنه قال: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الشرب من في السقاء. وأما حديث أبي هريرة فأخرجه أحمد.(6/13)
هذا حديثٌ حسنٌ صحيحٌ.
ـــــــ
قوله: "هذا حديث حسن صحيح" وأخرجه أحمد والشيخان وأبو داود وابن ماجة(6/14)
18 ـ باب الرّخْصَةِ في ذَلِك
1953ـ حدّثنا يَحْيَى بنُ مُوسَى حدثنا عبدُ الرّزّاقِ أَخْبرنا عبدُ الله بن عُمَرَ عن عيسى بنِ عبدِ الله بنِ أُنَيْسٍ عن أَبِيِه قال: "رَأَيْتُ النبيّ صلى الله عليه وسلم قامَ إِلى قِرْبَةٍ مُعَلّقَةٍ فَخَنَثَهَا ثُمّ شَرِبَ مِنْ فِيهَا".
وفي البابِ عن أُمّ سُلَيْمٍ.
هذا حديثٌ ليس إِسنادُهُ بصحيحٍ. وعبدُ الله بن عُمَرَ يُضَعّفُ من قبل حفظه، ولا أدري سَمِعَ من عيسى أمْ لا.
ـــــــ
"باب الرخصة في ذلك"
قوله: "حدثنا عبد الله بن عمر" هو العمري "عن عيسى بن عبد الله بن أنيس" بالتصغير الأنصاري المدني مقبول من الرابعة "عن أبيه" هو عبد الله بن أنيس. قال المنذري في تلخيص السنن: أبو عيسى هذا هو عبد الله بن أنيس الأنصاري وهو غير عبد الله بن أنيس الجهني فرقي بينهما علي بن المديني وخليفة بن خياط شباب وغيرهما انتهى. وقال الحافظ في تهذيب التهذيب: وجعلهما واحداً أبو علي بن الكن وغير واحد وهو المعتمد، فإن كونه أنصارياً لا ينافي كونه جهنياً لما تقدم في الجهني أنه حليف الأنصار انتهى "فخنثها" أي اثني فيها إلى الخارج "ثم شرب من فميها" أي من فمها.
قوله: "وفي الباب عن أم سليم" أخرجه أحمد عنها قالت: دخل علي رسول الله صلى الله عليه وسلم وفي البيت قربة معلقة فشرب منها فقطعت فاها فإنه لعندي، وأخرجه الترمذي في الشمائل والطبراني والطحاوي في معاني الآثار وابن شاهين.
قوله: "هذا حديث ليس إسناده بصحيح" وأخرجه أبو داود.(6/14)
1954ـ حدّثنا ابنُ أبي عُمَرَ، حدثنا سُفْيَانُ عن يزيدَ بن يزيد بنِ جابرٍ عن عبدِ الرحمنِ بنِ أبي عَمْرَةَ عن جَدّتِهِ كَبْشَةَ قالت: "دَخَلَ عَلَيّ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم فَشَرِبَ مِنْ فِي قِرْبَةٍ مُعَلَقَةٍ قائِماً فَقُمْتُ إِلى فِيهَا فَقَطَعْتُهُ".
ـــــــ
قوله: عن "يزيد بن جابر" الأزدي الدمشقي ثقة فيه من السادسة "عن عبد الرحمن بن ابي عمرة" الأنصاري البخاري القاص قال ابن سعد: ثقة كثير الحديث، كذا في الخلاصة "عن جدته كبشة" قال في تهذيب التهذيب: كبشة يقال كبيشة بالتصغير بنت ثابت بن المنذر الأنصارية أخت حسان يقال لها البرصاء، روت عن النبي صلى الله عليه وسلم في الشرب قائماً من فم القربة، وعنها عبد الرحمن بن أبو عمرة وهي جدة انتهى.
قوله: "فشرب من قربة" أي من فمها "فقمت إلى فيها" أي إلى فمها "فقطعته" لعله للتبرك به لوصول فم النبي صلى الله عليه وسلم، وأحاديث الباب تدل على جواز الشرب من في القربة. وأحاديث الباب المتقدم تدل على خلافها. قال الحافظ. قال شيخنا يعني الحافظ العراقي في شرح الترمذي: لو فرق بين ما يكون لعذر كأن تكون القربة معلقة ولم يجد المحتاج إلى الشرب إناء متيسر ولم يتمكن من التناول بكفه فلا كراهة حينئذ، وعلى ذلك تحمل الأحاديث المذكورة يعني أحاديث الإباحة وبين ما يكون لغير عذر فتحمل عليه أحاديث النهي انتهى. قال الحافظ ابن حجر: ويؤيد أن أحاديث الجواز كلها فيها أن القربة كانت معلقة والشرب من القربة المعلقة أخص من مطلق القربة، ولا دلالة في أحاديث الجواز على الرخصة مطلقاً بل على تلك الصورة وجدها وحملها على الضرورة جمعاً بين الخبرين أولى من حملها على النسخ. وقد سبق إبن العربي إلى نحو ما أشار إليه شيخنا فقال: يحتمل أن يكون شربه صلى الله عليه وسلم في حال ضرورة إما عند الحرب وإما عند عدم الإناء. أو مع وجوده لكن لم يتمكن لشغلة من التفريغ من السقاء في الإناء انتهى كلام الحافظ.
قلت: قد رد القاضي الشوكاني على ما جمع به الحافظ العراقي بما فيه كلام ثم(6/15)
هذا حديثٌ حسنٌ صحيحٌ غريبٌ. ويزيدُ بنُ يَزيد هُوَ أخو عبدِ الرحمنِ بنِ يَزِيدَ بنِ جابِرٍ، وهُوَ أَقْدَمُ منه مَوْتاً.
ـــــــ
قال: فالأولى الجمع بين الأحاديث بحمل الكراهة على التنزيه ويكون شربه صلى الله عليه وسلم بياناً للجواز انتهى.
قوله: "هذا حديث حسن صحيح" وأخرجه أحمد وابن ماجة(6/16)
باب ماجاء أن الأيمنين أحق بالشرب
...
19 ـ باب ما جاء أَنّ الأَيْمَنِينَ أَحَقّ بالشّرْب
1955 ـ حدثنا الأنْصَارِيّ حدثنا مَعْنٌ حدثنا مالِكٌ عن ابنِ شِهَابٍ وحدثنا قُتَيْبَةُ عن مالِكٍ عن ابنِ شِهَابٍ عن أَنَسِ بنِ مالِكٍ "أنّ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم أُتِيَ بِلَبَنٍ قَدْ شيْبَ بِمَاءٍ وَعَنْ يَمِينِهِ أَعْرَابِي وَعَنْ يَسَارِهِ أبو بكرٍ فَشَرِبَ ثُمّ أَعْطَى الأعرابيّ وقال: الأيْمَنُ فالأيْمَنُ" .
ـــــــ
"باب ما جاء في أن الأيمنين أحق بالشرب"
قوله: "قد شيب بماء" أي مزج بالماء، وإنما كانوا يمزجونه بالماء لأن اللبن يكون عند حلبه حاراً، وتلك البلاد في الغالب حارة فكانوا يمزجونه بالماء لذلك. وقال النووي: قوله شيب أي خلط، وفيه جواز ذلك، وإنما ينهي عن شربه إذا أراد بيعه لأنه غش. قال العلماء: والحكمة في شربه أن يبرد أو يكثر أو للمجموع انتهى "ثم أعطى الأعرابي وقال: الأيمن فالأيمن" يجوز أن يكون قوله الأيمن مبتدأ خبره محذوف، أي الأيمن مقدم أو أحق، ويجوز أن يكون منصوباً على تقدير قدموا الأيمن أو أعطوا. وقال النووي: ضبط الأيمن بالنصب والرفع وهما صحيحان، النصب على تقدير أعطى الأيمن، والرفع على تقدير الأيمن أحق أو نحو ذلك، وفي الرواية الأخرى: الأيمنون وهو يرجح الرفع انتهى. وفيه دليل على أنه يقدم من على يمين الشارب في الشرب هلم جرآ وهو مستحب عند الجمهور. وقال ابن حزم يجب، ولا فرق بين شراب اللبن وغيره كما في حديث سهل بن سعد وغيره. وقال النووي: فيه بيان استحباب التيامن في كل ما كان من أنواع الإكرام وفيه(6/16)
وفي البابِ عن ابنِ عباسٍ وسَهْلِ بنِ سَعْدٍ وابنِ عُمَرَ وعبدِ الله بنِ بُسْر.
ـــــــ
أن الأيمن في الشراب ونحوه يقدم وإن كان صغيراً أو مفضولا لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم قدم الأعرابي والغلام على أبي بكر رضي الله عنه. وأما تقديم الأفاضل والكبار فهو عند التساوي في باقي الأوصاف، ولهذا يقدم الأعلم والأقرأ على الأسن الشيب في الإمامة في الصلاة انتهى. وقال الحافظ: في الحديث: إن سنة الشرب العامة تقديم الأيمن في كل موطن، وإن تقديم الذي على اليمين ليس لمعنى فيه بل المعنى في جهة اليمين وهو فضلها على جهة اليسار، فيؤخذ منه أن ذلك ليس ترجيحا لمن هو على اليمين بل هو ترجيح لجهته.
وقد يعارض حديث أنس يعني المذكور في الباب وحديث سهل يعني الذي أشار إليه الترمذي في الباب حديث سهل بن أبي خيثمة الاَتي في القسامة كبر كبر، وتقدم في الطهارة حديث ابن عمر في الأمر بمناولة السواك الأكبر، وأخص من ذلك حديث ابن عباس الذي أخرجه أبو يعلي بسند قوي قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا سقي قال ابدأوا بالكبير .
ويجمع بأنه محمول على الحالة التي يجلسون فيها متساوين إما بين يدي الكبير أو عن يساره كلهم أو خلفه أو حيث لا يكون فيهم فتخص هذه الصورة من عموم تقديم الأيمن، أو يخص من عموم هذه الأمر بالبداءة بالكبير أما إذا جلس بعض عن يمين الرئيس وبعض عن يساره، ففي هذه الصورة يقدم الصغير على الكبير والمفضول على الفاضل. ويظهر من هذا أن الأيمن ما امتاز لمجرد الجلوس في الجهة اليمنى بل بخصوص كونها يمين الرئيس، فالفضل إنما فاض عليه من الأفضل انتهى كلام الحافظ.
قوله: "وفي الباب عن ابن عباس وسهل بن سعد وابن عمر وعبد الله بن بسر" أما حديث ابن عباس فأخرجه أحمد والترمذي في الدعوات وابن ماجة، وأما حديث سهل بن سعد فأخرجه الشيخان عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أتي بشراب فشرب منه وعن يمينه غلام وعن يساره الأشياخ، فقال للغلام أتأذن لي أن أعطي هؤلاء؟ فقال الغلام: والله يا رسول الله لا اوثر بنصيبي منك احدا. قال فتله رسول الله صلى الله عليه وسلم في يده. وأما حديث ابن عمر فلينظر(6/17)
هذا حديثٌ حسنٌ صحيحٌ.
ـــــــ
من أخرجه. وأما حديث عبد الله بن بسر فأخرجه مسلم وأبو داود والنسائي.
قوله: "هذا حديث حسن صحيح" وأخرجه الشيخان وأبو داود والنسائي وابن ماجة.(6/18)
باب ماجاء ان ساقي القوم آخرهم شرباً
...
20 ـ باب ما جاءَ أنّ سَاقِيَ الْقَوم آخِرُهُمْ شُرْبا
1956ـ حدّثنا قُتَيْبَةُ، حدثنا حَمّادُ بنُ زَيْدٍ عن ثابِتٍ البُنانيّ عن عبدِ الله بنِ رَبَاحٍ عن أبي قَتَادَةَ عن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال: "سَاقِي الْقَوْمِ آخِرُهُمْ شُرْباً" قال: وفي البابِ عن ابنِ أبي أوْفَى.
هذا حديثٌ حسنٌ صحيحٌ.
ـــــــ
"باب ما جاء في أن ساقي القوم آخرهم شربا"
قوله: "عن عبد الله بن رباح" هو الأنصاري أبو خالد المدني.
قوله: "ساقي القوم آخرهم شرباً" فيه دليل على أنه يشرع لمن تولى سقاية قوم أن يتأخر في الشرب حتى يفرغوا عن آخرهم، وفيه إشارة إلى أن كل من ولي من أمور المسلمين شيئاً يجب عليه تقديم إصلاحهم على ما يخص نفسه، وأن يكون غرضه إصلاح حالهم وجر المنفعة إليهم ودفع المضار عنهم، والنظر لهم في دق أمورهم وجلها، وتقديم مصلحتهم على مصلحته، وكذا من يفرق على القوم فاكهة فيبدأ بسقي كبير القوم أو بمن عن يمينه إلى أخرهم وما بقي شربه. ولا معارضة بين هذا الحديث وحديث: ابدأ بنفسك، لأن ذاك عام وهذا خاص، فيبني العام على الخاص.
قوله: "وفي الباب عن ابن أبي أوفى" أخرجه أبو داود بمثل حديث أبي قتادة. قال المنذري: رجال إسناده ثقات.
قوله: "هذا حديث حسن صحيح" وأخرجه ابن ماجة هكذا مختصراً وأخرجه(6/18)
ـــــــ
مسلم مطولا وفيه: فقلت لا اشرب حتى يشرب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: إن ساقي القوم آخرهم(6/19)
باب ماجاء أي الشراب أحب الى رسول الله صلى الله عليه و سلم
...
21 ـ باب ما جاءَ أَيّ الشّرَابِ كانَ أَحَبّ إِلى رَسُول الله صلى الله عليه وسلم
1957 ـ حدّثنا ابنُ أبي عُمَرَ، حدثنا سُفْيَانُ بنُ عُيَيْنَةَ عن مَعْمَرٍ عن الزّهْرِيّ عن عُرْوَةَ عن عائَشةَ قالت: "كانَ أحَبّ الشّرَابِ إلى رَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم الحُلْوَ الْبَارِدَ".
هكذا روَاهُ غَيرُ واحِدٍ عن ابنِ عُيَيْنَةَ مِثْلَ هذا عن مَعْمَرٍ عن الزّهْرِيّ عن عُرْوَةَ عن عائِشةَ. والصحيحُ ما رَوَى الزُهْرِيّ عن النبيّ صلى الله عليه وسلم مُرْسَلاً.
1958 ـ حدّثنا أحمدُ بن محمدٍ، حدثنا عبدُ الله بنُ المُبَارَكِ، حدثنا
ـــــــ
"باب ما جاء أي الشراب كان أحب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم"
قوله: "كان أحب الشراب" بالرفع ونصبه أحب "الحلو البارد" بالنصب ورفعه أرفع. قال القاري: ومعنى أحب ألذ لأن ماء زمزم أفضل، وكذا اللبن عنده أحب كما سيأتي، اللهم إلا أن يراد هذا الوصف على الوجه الأعم فيشمل الماء القراح واللبن والماء المخلوط به أو بغيره كالعسل أو المنقوع فيه تمر أو زبيب، وبه يحصل الجمع بينه وبين ما رواه أبو نعيم في الطب عن ابن عباس: كان أحب الشراب إليه اللبن. وما أخرجه ابن السني وأبو نعيم في الطب عن عائشة رضي الله تعالى عنها: كان أحب الشراب إليه العسل انتهى كلام القاري.
قلت: وقيل المراد بقوله أحب الشراب في هذه الأحاديث: أي من أحب الشراب أو كون هذه الأشياء أحب إليه صلى الله عليه وسلم كان من جهات مختلفة والله أعلم. وحديث عائشة هذا أخرجه أحمد والحاكم.(6/19)
مَعْمَرٌ ويُونُسُ عن الزّهْرِيّ: "أنّ رَسُولُ صلى الله عليه وسلم سُئِلَ: أَيّ الشّرَابِ أَطْيَبُ؟ قال: الحُلْوُ الْبَارِدُ".
وهكذا رَوَى عبدُ الرّزّاقِ عن مَعْمَرٍ عن الزّهريّ عن النبيّ صلى الله عليه وسلم مُرْسَلاً. وهذا أصَحّ من حديثِ ابنِ عُيَيْنَةَ.
ـــــــ
قوله: "حدثنا أحمد بن محمد" هو أبو العباس السمسار المعروف بمردويه، "ويونس" هو ابن يزيد بن أبي النجاد الأيلي.
قوله: "الحلو" بضم الحاء المهملة وسكون اللام ضد المر "البارد" لأنه أطفأ للحرارة وأبعث على الشكر وأنفع للبدن.(6/20)
أبواب البر و الصله عن رسول الله صلى الله عليه و آله سلم
باب ماجاء في بر الوالدين
...
بسم الله الرحمن الرحيم
أبواب البر والصلة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم
1 ـ باب ما جاءَ في بِرّ الْوَالدَيْن
1959ـ حدّثنا محمد بن بَشار، اخبرنا يَحيَى بنُ سعيدٍ، أخبرنا بَهْزُ بنُ حَكيِمٍ، حدثني أَبي عن جَدّي قال: قلت: "يا رسولَ الله، مَنْ أَبَرّ؟ قال: أمّكَ، قال: قلت: ثُمّ مَنْ؟ قال: أُمّكَ، قال: قلت: ثُمّ مَنْ؟ قال أُمكَ، قال: قلت: ثُمّ مَنْ؟ قال: ثُمّ أَبَاكَ ثُمّ الأقْرَبَ فالأقْرَبَ" .
ـــــــ
أبواب البر والصلة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم
"باب ما جاءَ في بِرّ الْوَالدَيْن"
قال في النهاية: البر بالكسر الإحسان، وهو في حق الوالدين وحق الأقربين من الأهل ضد العقوق وهو الإساءة إليهم والتضييع لحقهم، يقال بر يبر فهو بار وجمعه بررة. قال: والبر والبار بمعنى، وجمع البر أبرار وهو كثيراً ما يخص بالأولياء والزهاد والعباد انتهى.
وقال في القاموس: البر ضد العقوق بررته وأبره كعلمته وضربته. وصلة الرحم كناية عن الإحسان إلى الأقربين من ذوي النسب والأصهار والتعطف عليهم والرفق بهم، وقطع الرحم ضد ذلك، يقال وصل رحمه يصلها وصلا وصلة.
قوله: "أخبرنا بهز" بفتح موحدة وسكون هاء فزاي "ابن حكيم" أي ابن معاوية بن حيدة القشيري البصري "حدثني أبي" أي حكيم "عن جدي" أي معاوية ابن حيدة وهو صحابي نزل البصرة ومات بخراسان "من أبر" بفتح الموحدة وتشديد الراء على صيغة المتكلم أي من أحسن إليه ومن أصله "قال أمك" بالنصب، أي بر أمك وصلها أولاً "قلت ثم من" أي ثم من أبر "ثم الأقرب فالأقرب" أي(6/21)
وفي البابِ عن أبي هريْرَةَ وعبدِ الله بنِ عَمْرٍو وعائِشةَ وأبي الدّرداءِ.
وبَهْزُ بنُ حَكيِمٍ هُوَ أبو مُعَاوِيَةَ بنِ حَيْدَةَ القُشَيْرِيّ.
وهذا حديثٌ حسنٌ.
وقد تكلّمَ شُعْبَةُ في بَهْزِ بنِ حكيمٍ، وهو ثِقَةٌ عند أهلِ الحديثِ، ورَوَى عنه مَعْمَرٌ وسفيانُ والثّوْرِيّ وحَمّادُ بنُ سلَمةَ وغيرُ وَاحِدٍ من الأئمّةِ.
ـــــــ
إلى آخر ذوي الأرحام. قال النووي: فيه الحث على بر الأقارب وأن الأم أحقهم بذلك، ثم بعدها الأب ثم الأقرب فالأقرب. قالوا: وسبب تقديم الأم كثرة تعبها عليه وشفقتها وخدمتها انتهى. وفي التنزيل إشارة إلى هذا التأويل في قوله تعالى: {حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهاً وَوَضَعَتْهُ كُرْهاً وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلاثُونَ شَهْراً} فالتثليث في مقابلة ثلاثة أشياء مختصّة بالأم، وهي تعب الحمل ومشقة الوضع ومحنة الرضاع.
قوله: "وفي الباب عن أبي هريرة" أخرجه البخاري ومسلم "وعبد الله بن عمرو" أخرجه النسائي والدارمي مرفوعاً: لا يدخل الجنة منان ولا عاق ولا مدمن خمر. وله في هذا الباب أحاديث أخرى "وعائشة" أخرجه البغوي في شرح السنة والبيهقي في شعب الإيمان، "وأبي الدرداء" أخرجه الترمذي في باب الفضل في رضا الوالدين.
قوله: "وهذا حديث حسن" وأخرجه أبو داود.
قوله: "قد تكلم شعبة في بهز بن حكيم وهو ثقة عند أهل الحديث" ، قال الذهبي في الميزان: وثقة ابن المديني ويحيى والنسائي، وقال أبو حاتم: لا يحتج به، وقال أبو زرعة: صالح، وقال البخاري: يختلفون فيه، وقال ابن عدى: لم أر له حديثاً منكراً، ولم أر أحداً من الثقات يختلف في الرواية عنه، وقال صالح جزرة بهز عن أبيه عن جده إسناد أعرابي. وقال أحمد بن بشير: أتيت بهزاً فوجدته يلعب بالشطرنج، وقال الحاكم ثقة إنما أسقط من الصحيح لأن روايته عن أبيه عن جده شاذة لا متابع له عليها. وقال أبو داود: هو حجة عندي.(6/22)
2 ـ باب
1960ـ حدّثنا أحمدُ بنُ محمدٍ، أخبرنَا عبدُ الله بنُ المُبَارَكِ عن المَسْعُودِيّ عن الوَلِيدِ بنِ الْعَيْزَارِ عن أبي عَمْرٍو الشّيْبَانِيّ عن ابنِ مسعودٍ قال: سألْتُ رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم، فقلت: "يا رسولَ الله، أَيّ الأعمالِ أَفْضَلُ؟ قال: الصّلاَةُ لمِيقَاتِهَا ، قلت: ثُمّ ماذَا يا رسولَ الله؟ قال: بِرّ الْوَالِدَيْنِ، : قلت: ثُمّ ماذَا يا رسولَ الله؟ قال: الجِهَادُ في سَبِيلِ الله، ثُمّ سَكَتَ عَنّي رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم ولو اسْتَزَدْتُه لزَادَني".
ـــــــ
"باب"
قوله: "عن الوليد بن العيزار" بن حريث العبدي الكوفي ثقة من الخامسة.
قوله: "أي الأعمال أفضل" قال الحافظ: محصل ما أجاب به العلماء عن هذا الحديث وغيره مما اختلفت فيه الأجوبة بأنه أفضل الأعمال أن الجواب اختلف لاختلاف أحوال السائلين بأن أعلم كل قوم بما يحتاجون إليه، أو بما لهم فيه رغبة أو بما هو لائق بهم، أو كان الاختلاف باختلاف الأوقات بأن يكون العمل في ذلك الوقت أفضل منه في غيره، فقد كان الجهاد في ابتداء الإسلام أفضل الأعمال لأنه الوسيلة إلى القيام بها والتمكن من أدائها، وقد تضافرت النصوص على أن الصلاة أفضل من الصدقة، ومع ذلك ففي وقت مواساة المضطر تكون الصدقة أفضل، أو أن أفضل ليست على بابها، بل المراد بها الفضل المطلق أو المراد من أفضل الأعمال فحذفت من وهي مرادة انتهى. "قال الصلاة لميقاتها" وفي رواية الصحيحين: لوقتها، وفي رواية لهما: على وقتها، وفي رواية الحاكم والدارقطني والبيهقي: في أول وقتها. قال النووي في شرح المهذب: إن رواية في أول وقتها ضعيفة انتهى "قلت ثم ماذا؟" قال الطيبي: ثم لتراخي الرتبة لا لتراخي الزمان، أي ثم بعد الصلاة أي العمل أفضل؟ "قال بر الوالدين" أي أو أحدهما. قال بعض العلماء: هذا الحديث موافق لقوله تعالى: {أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ} وكأنه أخذه من تفسير ابن عيينة(6/23)
هذا حديثٌ حسنٌ صحيحٌ.
وقد رواهُ الشّيْبَانيّ وَشُعْبَةُ وغيرُ واحدٍ عن الوَلِيدِ بنِ العَيْزَارِ. وقد رُوِيَ هذا الحديثُ من غيرِ وَجْهٍ عن أبي عَمْرٍو الشّيْبَانيّ عن ابنِ مسعودٍ. وأبو عَمْرو الشّيْبانيّ اسمُه سَعْدُ بنُ إِيَاسٍ.
ـــــــ
حيث قال: من صلى الصلوات الخمس فقد شكر الله، ومن دعا لوالديه عقبهما فقد شكر لهما، كذا في الفتح "الجهاد في سبيل الله" قال ابن بزبزة: الذي يقتضيه النظر تقديم الجهاد على جميع أعمال البدن لأن فيه بذل النفس، إلا أن الصبر على المحافظة على الصلوات وأدائها في أوقاتها والمحافظة على بر الوالدين أمر لازم متكرر دائم لا يصبر على مراقبة أمر الله فيه إلا الصديقون "ثم سكت عني رسول الله صلى الله عليه وسلم" هو مقول عبد الله بن مسعود "ولو استزدته" أي النبي صلى الله عليه وسلم، يعني لو سألته أكثر من هذا "لزادني" في الجواب.
قوله: "هذا حديث حسن صحيح" وأخرجه الشيخان وأبو داود والنسائي. وفي المرقاة: روى الدارقطني والحاكم وابن خزيمة وابن حبان والبيهقي عن ابن مسعود أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل أي الأعمال أفضل؟ قال: الصلاة لأول وقتها، قال الحاكم والبيهقي في خلافياته: صحيح على شرطهما.
قوله: "وقد رواه الشيباني" هو سليمان بن أبي سليمان أبو إسحاق الشيباني، وقد تقدم هذا الحديث بشرحه في باب ما جاء في الوقت الأول من الفضل(6/24)
3 ـ باب الْفَضْلِ في رضَا الْوَالِدَيْن
1961 ـ حَدّثنا ابنُ أبي عُمَرَ، حدثنا سُفْيَانُ عن عطاءِ بنِ السّائِبِ، عن أبي عبدِ الرّحمنِ السّلَمِيّ عن أبي الدّرداءِ قال: "إِنّ رَجُلاً أَتَاهُ فَقَالَ إِن لِي امْرَأَةً وَإِنّ أُمي تَأْمُرُني بِطَلاَقِهَا، فقال أبو الدّرداءِ: سَمِعْتُ رَسُولَ الله
ـــــــ
"باب الفضل في رضا الوالدين"
قوله: "الوالد أوسط أبواب الجنة" قال القاضي: أي خير الأبواب وأعلاها، والمعنى أن أحسن ما يتوسل به إلى دخول الجنة ويتوسل به إلى وصول درجتها(6/24)
صلى الله عليه وسلم يقول: "الْوَالِدُ أَوْسَطُ أَبْوَابِ الجَنّةِ، فإِن شِئْتَ فأَضِعْ ذلكَ البابَ أو احْفَظْهُ" ، وَرُبّمَا قال سُفيانُ: إنّ أُمّي، وربما قال: أَبِي. هذا حديثٌ صحيحٌ.
وأبو عبدِ الرحمنِ السّلَمِيّ اسمُه عبدُ الله بنُ حبيبٍ.
1962ـ حدّثنا أبو حَفْصٍ عَمْرُو بنُ عَلِيٍ، حدثنا خالِدُ بنُ الحارِثِ حدثنا شُعْبَةُ عن يَعْلَى بنِ عطاء عن أبيهِ عن عبدِ الله بنِ عَمْرٍو عن النبيّ صلى الله عليه وسلم قالَ: "رِضاَ الرّبّ في رِضَا الْوَالِدِ وسَخَطُ الرّبّ في سَخَطِ الْوَالِدِ" .
1963ـ حدّثنا محمدُ بنُ بَشّارٍ، حدثنا محمدُ بنُ جعفرٍ، حدثنا شعبةُ عن يَعْلَى بن عَطَاءٍ عن أبيه عن عبد الله بن عمرو نجوه ولم يرفعه. وهذا أصح. ةهكا روى أصحاب شعبة عن شعبة عن يعلى بن عطاء عن أبيه عن
ـــــــ
العالية مطاوعة الوالد ومراعاة جانبه، وقال غيره: إن للجنة أبواباً وأحسنها دخولا أوسطها، وإن سبب دخول ذلك الباب الأوسط هو محافظة حقوق الوالد انتهى. فالمراد بالوالد الجنس، أو إذا كان حكم الوالد هذا فحكم الوالدة أقوى وبالاعتبار أولى "فأضع" فعل أمر من الإضاعة "ذلك الباب" بترك المحافظة عليه "أو أحفظه" أي داوم على تحصيله.
قوله: "هذا حديث صحيح" وأخرجه ابن ماجة وابن حبان في صحيحه وأبو داود الطيالسي والحاكم في مستدركه، وصححه وأقره الذهبي.
قوله: "رضا الرب في رضا الوالد" وكذا حكم الوالدة بل هو أولى، ورواه الطبراني بلفظ: رضا الرب في رضا الوالدين وسخطه في سخطهما "وسخط الرب" بفتحتين ضد الرضا "في سخط الوالد" لأنه تعالى أمر أن يطاع الأب ويكرم، فمن أطاعه فقد أطاع الله، ومن أغضبه فقد أغضب الله، وهذا وعيد شديد يفيد أن العقوق كبيرة.
قوله: "وهذا أصح" أي الموقوف أصح من المرفوع، وأخرجه ابن حبان(6/25)
عبدِ الله بن عَمْرٍو موقوفاً، ولا نعلمُ أحداً رَفَعَهُ غيرُ خالِد بن الحارثِ عن شُعْبَةَ. وخالِدُ بنُ الحارثِ ثِقَةٌ مأْمُونٌ. سَمِعْتُ محمدَ بنَ المُثَنّى يقول: ما رأيْتُ بالبَصْرَةِ مِثْلَ خالدِ بنِ الحارثِ ولا بالكُوفَةِ مِثْلَ عَبْدِ الله بنِ إدريسَ.
وفي البابِ عن ابنِ مسعودٍ.
ـــــــ
مرفوعاً في صحيحه والحاكم وقال صحيح على شرط مسلم، كذا في الترغيب.
قوله: "وفي الباب عن ابن مسعود" أخرجه الترمذي في الباب المتقدم ولم أقف على حديث عنه يطابق الباب نصاً وصراحة.(6/26)
4 ـ باب ما جاءَ في عُقُوقِ الْوالِدَيْن
1964ـ حَدّثنا حُمَيْدُ بنُ مَسْعَدَةَ، حدّثنا بِشْرُ بنُ المُفَضّلِ حدثنا الْجَرِيرِيّ عن عبدِ الرّحمنِ بن أبي بَكْرَةَ عن أبِيهِ قالَ: قالَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم: "ألاَ أحَدّثُكُمْ بِأَكْبَرِ الْكَبَائِرِ؟ قالوا: بَلى يا رسولَ
ـــــــ
"باب ما جاء في عقوق الوالدين"
يقال عق والده يعقه عقوقاً: إذا آذاه وعصاه وخرج عليه، وأصله من العق وهو الشق والقطع.
قوله: "ألا أحدثكم بأكبر الكبائر؟" الكبائر جمع الكبيرة وهي السيئة العظيمة التي خطيئتها في نفسها كبيرة وعقوبة فاعلها عظيمة بالنسبة إلى معصية ليست بكبيرة، وقيل الكبيرة ما أوعد عليه الشارع بخصوصه، وقيل ما عين له حد، وقيل النسبة إضافية فقد يكون الذنب كبيرة بالنسبة لما دونه صغيرة بالنسبة إلى ما فوقه، وقد يتفاوت باعتبار الأشخاص والأحوال. وقد بسط الحافظ الكلام في تفسير الكبيرة والصغيرة وما يتعلق بهما في الفتح في باب عقوق الوالدين من الكبائر من كتاب الأدب، والنووي في شرح مسلم في باب الكبائر وأكبرها من كتاب الإيمان.
وقوله: "أكبر الكبائر" ليس على ظاهره من الحصر، بل من فيه مقدرة، فقد(6/26)
الله، قال: الإِشْرَاكُ بالله، وعُقُوقُ الْوَالِدَيْنِ ، قالَ: وجَلَسَ وكانَ مُتّكِئاً، قالَ: وشَهَادَةُ الزّورِ أو قَوْلُ الزّورِ، فما زالَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم يَقُولُها حَتّى قُلْنَا لَيْتَهُ سَكَتَ".
ـــــــ
ثبت في أشياء أخر أنها أكبر من الكبائر منها حديث أنس في قتل النفس أخرجه الشيخان والترمذي والنسائي. وحديث ابن مسعود أي الذنب أعظم، فذكر فيه الزنا بحليلة الجار. وحديث عبد الله بن أنيس الجهني مرفوعاً قال: من أكبر الكبائر، فذكر منها اليمين الغموس أخرجه الترمذي بسند حسن، وله شاهد من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص عند أحمد. وحديث أبي هريرة رفعه: إن من أكبر الكبائر استطالة المرء في عرض رجل مسلم، أخرجه ابن أبي حاتم بسند حسن، وحديث بريدة رفعه: من أكبر الكبائر فذكر منها منع فضل الماء ومنع الفحل، أخرجه البزار بسند ضعيف. وحديث ابن عمررفعه: أكبر الكبائر سوء الظن بالله، أخرجه ابن مردويه بسند ضعيف، ذكره الحافظ في الفتح "وعقوق الوالدين" بضم العين المهملة مشتق من العق وهو القطع والمراد به صدور ما يتأذى به الوالد من ولده من قول أو فعل إلا في شرك أو معصية ما لم يتعنت الوالد، وضبطه ابن عطية بوجوب طاعتهما في المباحات فعلا وتركا، واستحبابها في المندوبات وفروض الكفاية كذلك، ومنه تقديمهما عند تعارض الأمرين، وهو كمن دعته أمه ليمرضها مثلا بحيث يفوت عليه فعل واجب إن أستمر عندها ويفوت ما قصدته من تأنيسه لها وغير ذلك أن لو تركها وفعله وكان مما يمكن تداركه مع فوات الفضيلة كالصلاة أول الوقت أو في الجماعة "قال وجلس" أي للاهتمام بهذا الأمر وهو يفيد تأكيد تحريمه وعظم قبحه "وكان متكئاً" جملة حالية، وسبب الاهتمام بذلك كون قول الزور أو شهادة الزور، أسهل وقوعاً على الناس والتهاون بها أكثر، فإن الإشراك ينبو عنه قلب المسلم. والعقوق يصرف عنه الطبع، وأما الزور فالحوامل عليه كثيرة كالعداوة والحسد وغيرهما فاحتيج إلى الاهتمام بتعظيمه، وليس ذلك لعظمهما بالنسبة إلى ما ذكر معها من الإشراك قطعاً، بل لكون مفسدة الزور متعدية إلى غير الشاهد بخلاف الشرك فإن مفسدته قاصرة غالباً. وهذا الحديث يأتي أيضاً بسنده ومتنه في الشهادات.(6/27)
وفي البابِ عن أبي سعيدٍ.
هذا حديثٌ حسنٌ صحيحٌ. وأبو بَكْرَةَ اسمُه نُفَيْعٌ.
1965 ـ حدّثنا قُتَيْبَةَ، حدثنا اللّيْثُ بنُ سَعْدٍ عن ابنِ الْهَادِ عن سَعْدِ بنِ إبراهيمَ عن حُمَيْدِ بنِ عبدِ الرّحمنِ عن عبدِ الله بن عَمْرٍو قال: قالَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم: "مِنَ الْكَبَائِرِ أَنْ يَشْتِمَ الرّجُلُ وَالِدَيْهِ قالوا: يا رسولَ الله وهَلْ يَشْتُمُ الرّجُلُ وَالِدَيْهِ؟ قال: نَعَمْ، يَسُبّ أبا الرّجُلِ فَيَسُبّ أَبَاهُ، ويَشْتُمُ أُمّهُ فَيَشْتِمُ أُمّهُ" .
هذا حديثٌ صحيحٌ.
ـــــــ
قوله "وفي الباب عن أبي سعيد" أخرجه أبو داود.
قوله "من الكبائر أن يشتم الرجل والديه" ولفظ البخاري: إن من أكبر الكبائر أن يلعن الرجل والديه، وهذا يقتضي أن سب الرجل والديه من أكبر الكبائر. ورواية الترمذي تقتضي أنه كبيرة وبينهما فرق من حيث أن الكبائر متفاوتة وبعضها أكبر من بعض "وهل يشتم" بكسر عينه ويضم أي يسب "الرجل والديه" أي هل يقع ذلك وهو استبعاد من السائل لأن الطبع المستقيم يأبى ذلك، فبين في الجواب أنه وإن لم يتعاط السب بنفسه في الأغلب الأكثر لكن قد يقع التسبب فيه وهو مما يمكن وقوعه كثيراً "قال نعم" أي يقع حقيقة تارة وهو نادر ومجازً أخرى وهو كثير لكن ما تعرفونه، ثم بينه بقول "يسب أبا الرجل فيسب" أي الرجل "أباه" أي أبا من سبه "ويشتم" أي تارة أخرى، وقد يجمع ويشتم أيضاً "أمه" أي أم الرجل "فيشتم" أي الرجل "أمه" أي أم سابه، وفي الجمع بين الشتم والسب تفنن، ففي القاموس شتمه يشتمه ويشتمه سبه، وقد يفرق بينهما، ويقال السب أعم فإنه شامل للعن أيضاً بخلاف الشتم.
قوله "هذا حديث صحيح" وأخرجه البخاري في الأدب، ومسلم في الإيمان، وأبو داود في الأدب(6/28)
5 ـ باب في إِكْرَامِ صَدِيقِ الْوَالِد
1966ـ حَدّثنا أَحمدُ بنُ محمدٍ حدثنا عَبْدُ الله بنُ المُبَارَكِ حدثنا حَيْوَةُ بنُ شُرَيْحٍ حدثنا الوَلِيدُ بنُ أَبِي الوَلِيدِ عن عَبْد الله بنِ دينَارٍ عن ابنِ عُمَرَ قال: سَمِعْتُ النبيّ صلى الله عليه وسلم يقول: "إِنّ أَبَرّ الْبِرّ أَنْ يَصِلَ الرّجُلُ أَهْلَ وُدّ أَبِيهِ" . قال: وفي البابِ عن أَبي أُسَيْدٍ.
هذا حديث إسْنَاده صحيحٌ. وقد رُوِيَ هذا الْحَدِيثُ عن ابنِ عُمَر مِنْ غَيْرِ وَجْهٍ.
ـــــــ
"باب ما جاء في إكرام صديق الوالد"
قوله "حدثنا أحمد بن محمد" هو المعروف بمردويه "حدثنا الوليد بن أبي الوليد" قال في التقريب: الوليد بن أبي الوليد عثمان، وقيل: ابن الوليد مولى عثمان أو إبن عمر المدني أبو عثمان لين الحديث من الرابعة.
قوله "إن أبر البر" أي أفضله بالنسبة إلى والده وكذا الوالدة أو هي بالأولى "أن يصل الرجل أهل ود أبيه" بضم الواو بمعنى المودة أي أصحاب مودته ومحبته. قال النووي: الود هنا مضموم الواو، وفي هذا فضل صلة أصدقاء الأب والإحسان إليهم بإكرامهم، وهو متضمن لبر الأب وإكرامه لكونه بسببه، وتلتحق به أصدقاء الأم والأجداد والمشائخ والزوج والزوجة، وقد سبقت الأحاديث في إكرامه صلى الله عليه وسلم خلائل خديجة رضي الله تعالى عنها انتهى.
قوله "وفي الباب عن أبي أسيد" أخرجه أبو داود وابن ماجة وهو بضم الهمزة وفتح السين المهملة مصغراً.
قوله "هذا حديث إسناده صحيح" وأخرجه مسلم وأبو داود(6/29)
6 ـ باب في بِرّ الْخَالَة
1967ـ حَدّثنا سُفْيَانُ بنُ وَكِيِع حدثنا أَبي عن إسْرَائيِلَ وحدثنا محمدُ بنُ أحمدَ وهُوَ ابنُ مَدّويه حدثنا عُبَيْدُ الله بنُ مُوسَى عن إسرائيلَ واللّفْظُ لِحَديِثِ عُبَيْدِ الله عن أبي إسحاقَ الهَمْدَانِيّ عن البَراءِ بنِ عَازِبٍ عن النبيّ صلى الله عليه وسلم قالَ: "الْخَالةُ بِمَنْزِلَةِ الأُمّ" .
وفي الْحَدِيثِ قِصّةٌ طَوِيلَةٌ. هذا حديثٌ صحيحٌ.
1968ـ حدّثنا أبُو كُرَيْبٍ حدثنا أَبُو مُعَاوِيَةَ عن محمدِ بنِ سُوقَة عن أَبي بَكْرِ بنِ حَفْص عن ابنِ عُمَر: "أَنّ رَجُلاً أَتى النبيّ صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسولَ الله إنّي أَصَبْتُ ذَنْبَاً عَظِيماً فَهَلْ لِي تَوْبَةٌ؟ قَالَ هَلْ لَكَ
ـــــــ
"باب في بر الخالة"
قوله "الخالة بمنزلة الأم" في الحضانة عند فقد الأم وأماتها، لأنها تقرب منها في الحنو والاهتمام إلى ما يصلح الولد.
قوله "وفي الحديث قصة طويلة" أخرجه الشيخان بقصته الطويلة، ولفظهما هكذا: عن البراء بن عازب قال: صالح النبي صلى الله عليه وسلم يوم الحديبية على ثلاثة أشياء: على أن من أتاه من المشركين رده إليهم، ومن أتاهم من المسلمين لم يردوه، وعلى أن يدخلها من قابل ويقيم بها ثلاثة أيام، فلما دخلها ومضى الأجل خرج فتبعته ابنة حمزة تنادي يا عم يا عم، فتناولها علي فأخذ بيدها، فاختصم فيها علي وزيد وجعفر قال علي: أنا أخذتها وهي بنت عمي، وقال جعفر: بنت عمي وخالتها تحتي، وقال زيد: بنت أخي، فقضى بها النبي صلى الله عليه وسلم لخالتها وقال: الخالة بمنزلة الأم ، وقال لعلي: أنت مني وأنا منك ، وقال لجعفر: أشبهت خلقي وخلقي ، وقال لزيد: أنت أخونا ومولانا انتهى.
قوله "إني أصبت ذنباً عظيماً" يجوز أنه أراد عظيما عندي، لأن عصيان الله تعالى عظيم وإن كان الذنب صغيراً، ويجوز أن يكون ذنبه كان عظيما من الكبائر(6/30)
مِن أُمّ؟ قالَ: لا، قال: هَلْ لَك مِنْ خَالَةٍ؟ قَالَ: نعم قال: فَبِرّها" .
وفي البابِ عَنْ عَلِيّ.
1969 ـ حدّثنا ابنُ أَبي عُمَرَ حدثنا سُفْيَانُ بنُ عُيَيْنَةَ عن محمدِ بنِ سُوقَةَ عن أبيِ بَكْرِ بنِ حَفْصٍ عن النبيّ صلى الله عليه وسلم نَحْوَهُ، ولَمْ يَذْكُرْ فيه عن ابنِ عُمَرَ. وهذَا أَصَح مِنْ حَدِيثِ أَبي مُعَاوِيَةَ. وأَبُو بَكْرِ ابن حَفْصٍ هُوَ ابنُ عُمَرَ بنِ سَعْدِ بنِ أَبي وَقّاصٍ.
ـــــــ
وإن هذا النوع من البر يكون مكفراً له وكان مخصوصاً بذلك الرجل علمه النبي صلى الله عليه وسلم من طريق الوحي، قاله الطيبي "هل لك من أم" أي ألك أم؟ فمن زائدة أو تبعيضية قال "فبرها" بفتح الموحدة وتشديد الراء من بررت فلاناً بالكسر أبره بالفتح أي أحسنت إليه. والمعنى أن صلة الرحم من جملة الحسنات التي يذهبن السيئات. وحديث ابن عمر هذا أخرجه أيضاً ابن حبان في صحيحه والحاكم إلا أنهما قالا: هل لك والدان بالتثنيه؟ وقال الحاكم: صحيح على شرطهما، كذا في الترغيب.
قوله "وفي الباب عن علي" أخرجه أبو داود بلفظ: الخالة أم.
قوله "أبو بكر بن حفص هو ابن عمر بن سعد بن أبي وقاص" في التقريب: عبد الله بن حفص بن عمر بن سعد بن أبي وقاص الزهري، أبو بكر المدني مشهور بكنيته من الخامسة(6/31)
7 ـ باب مَا جَاء في دَعاء الْوَالِدَيْن
1970 ـ حَدّثنا عليّ بنُ حُجْرٍ أخبرنا إسماعيلُ بنُ إبراهيمَ عن هِشَامٍ الدّسْتَوَائِيّ عن يَحْيَى بن أبي كَثِيرٍ عن أَبِي جَعفَرٍ عن أَبي هُرَيْرَةَ قالَ: قالَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم: "ثَلاَثُ دَعَوَاتٍ مُسْتَجَابَاتٌ لا شَك فِيهن ّ
ـــــــ
"باب ما جاء في دعاء الوالدين"
قوله "ثلاث دعوات" مبتدأ "مستجابات" خبر "لا شك فيهن" أي في(6/31)
دَعْوَةُ المَظْلُومِ، ودَعْوَةُ المُسافِرِ، ودَعْوَةُ الْوَالِدِ على وَلَدِهِ" .
وقد رَوَى الْحَجّاجُ الصّوّافُ هذا الْحَديِثَ عن يَحْيَى بنِ أبي كَثِيرٍ نَحْوَ حَدِيثِ هِشَامٍ. وأَبو جَعْفَرٍ الّذِي رَوَى عن أَبي هُرَيْرَةَ يُقَالُ لَهُ أَبو جَعْفَرٍ المُؤَذّنُ ولا نَعْرِفُ اْسمَهُ. وقد رَوَى عَنْهُ يَحْيَى بنُ أبي كَثِيرٍ غَيْرَ حَدِيثٍ
ـــــــ
استجابتهن "ودعوة الوالد على ولده" أي لضرره، وحديث أبي هريرة هذا أورده السيوطي في الجامع الصغير وقال: رواه أحمد في مسنده والبخاري في الأدب المفرد وأبو داود والترمذي عن أبي هريرة.
قوله: "وأبو جعفر الذي روى عن أبي هريرة يقال له أبو جعفر المؤذن ولا نعرف اسمه" في التقريب: أبو جعفر المؤذن الأنصاري المدني مقبول من الثالثة، ومن زعم أنه محمد بن علي بن الحسين فقد وهم(6/32)
8 ـ باب مَا جاءَ في حَقّ الْوَالِديْن
1971 ـ حَدّثنا أَحمد بنُ محمدِ بنِ مُوسَى أخبرنا جَرِيرٌ عن سُهَيْلٍ بنِ أبِي صَالحٍ عن أبيه عن أَبي هُرَيْرَةَ قالَ: قالَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم: "لا يَجْزي وَلَدٌ وَالِداً إلاّ أَنْ يَجِدَهُ مَملُوكاً فَيَشْتَرِيَهُ فَيُعْتِقَهُ" .
ـــــــ
"باب ما جاء في حق الوالدين"
قوله: "لا يجزي" بفتح أوله وسكون الياء في آخره أي لا يكافئ "ولد والداً" أي إحسان والد "إلا أن يجده مملوكاً" منصوب على الحال من الضمير المنصوب في يجده "فيشتريه فيعتقه" بالنصب فيهما. قال الجزري في النهاية: ليس معناه استئناف العتق فيه بعد الشراء لأن الإجماع منعقد على أن الأب يعتق على الابن إذا ملكه في الحال، وإنما معناه أنه إذا اشتراه فدخل في ملكه عتق عليه، فلما كان الشراء سبباً لعتقه أضيف العتق إليه وإنما كان هذا جزاء له لأن العتق أفضل ما ينعم به أحد على أحد إذا خلصه بذلك من الرق وجبر به النقص الذي فيه وتكمل له أحكام الأحرار في جميع التصرفات انتهى.(6/32)
هذا حديثٌ حسنٌ صحيح لا نَعْرِفُهُ إلاّ مِنْ حَدِيثِ سُهَيْلِ بنِ أبي صَالحٍ وقد رَوَى سُفْيَانُ الثّوْرِيّ وغَيْرُ واحِدٍ عن سُهَيْلٍ هذا الحديث.
ـــــــ
قلت: في قوله لأن الإجماع منعقد على أن الأب يعتق على الابن إذا ملكه في الحال نظر، فإن بعض أهل الظاهر ذهبوا إلى أن الأب لا يعتق على الابن بمجرد الملك بل لا بد من إنشاء العتق واحتجوا بهذا الحديث.
قوله: "هذا حديث حسن صحيح" وأخرجه مسلم وأبو داود وابن ماجة(6/33)
9 ـ باب ماَ جاءَ في قَطِيعَةِ الرّحِم
1972 ـ حَدّثنا ابنُ أَبي عُمَرَ و سَعِيدُ بنُ عَبْدِ الرحمنِ المَخْزُوميّ قالا: حدثنا سُفْيَانُ بنُ عُيَيْنَةَ عن الزّهْرِيّ عن أَبي سَلَمَةَ قالَ: اشْتَكَى أَبو الدرداء فَعادَهُ عَبْدُ الرحمنِ بنُ عَوْفٍ فقالَ: خَيْرُهُمْ وَأَوْصَلُهُمْ ما عَلِمْتُ أَبو محمدٍ، فقالَ عَبْدُ الرحمنِ: "سَمِعْتُ رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم يقول: قال الله تَبارَكَ وتَعالى: أَنَا الله وَأَنَا الرّحْمنُ، خَلَقْتُ الرّحِم وَشَقَقْتُ لَهَا مِنْ اْسِمي، فَمَنْ وَصَلَهَا وَصَلْتُهُ وَمَنْ قَطَعَهَا بَتَتّهُ" .
ـــــــ
"باب ما جاء في قطيعة الرحم"
قوله "عن أبي سلمة" هو ابن عبد الرحمن بن عوف الزهري.
قوله: "فقال" أي أبو الدرداء "خيرهم" مبتدأ "وأوصلهم" عطف على المبتدأ "أبو محمد" خبر وهو كنية عبد الرحمن بن عوف. والمعنى خير الناس وأوصلهم في علمي أبو محمد عبد الرحمن بن عوف "أنا الله" كان هذا توطته للكلام حيث ذكر العلم الخاص، ثم ذكر الوصف المشتق من مادة الرحم فقال "وأنا الرحمن" أي المنصف بهذه الصفة "خلقت الرحم" أي قدرتها أو صورتها مسجدة "وشقفت" أي أخرجت وأخذت اسماً "لها" أي للرحم "من اسمي" أي الرحمن وفيه إيماء إلى أن المناسبة الإسمية واجبة الرعاية في الجملة، وإن كان المعنى على أنها أثر من آثار رحمة الرحمن، ويتعين على المؤمن التخلق بأخلاق الله تعالى والتعلق(6/33)
وفي البابِ عن أَبي سَعِيدٍ وابنِ أَبي أَوْفَى وعَامِرِ بنِ رَبِيعَةَ وأَبي هُرَيْرَةَ وجُبَيْرِ بنِ مُطْعِمٍ.
حَديِثُ سُفْيَانَ عن الزّهْريّ حَدِيثٌ صحيحٌ. ورَوَى مَعْمَرٌ عن الزّهْرِيّ هذا الحديث عن أَبي سَلَمَةَ عن رَدّادٍ الليثي عن عَبْدِ الرّحمنِ بنِ عَوفٍ وَمَعْمَرٍ كذَا يقولُ، قال محمدٌ: وحديثُ مَعْمَرٍ خَطَأٌ.
ـــــــ
بأسمائه وصفاته، ولذا قال "فمن وصلها وصلته" أي إلى رحمتي أو محل كرامتي، "ومن قطعها بتته" بتشديد الفوقية الثانية أي قطعته من رحمتي الخاصة من البت وهو القطع.
قوله: "وفي الباب عن أبي سعيد" أخرجه إسماعيل القاضي في الأحكام كما في الفتح "وابن أبي كوفى" هو عبد الله بن أبي أوفى الجهني الأنصاري شهد أحداً وما بعدها. وأخرج حديثه البيهقي في شعب الإيمان مرفوعاً: لا تنزل الرحمة على قوم فيهم قاطع رحم ، وأخرجه أيضاً البخاري في الأدب المفرد "وعامر بن ربيعة" لم أقف على من أخرجه "وأبي هريرة" أخرجه الشيخان "وجبير بن مطعم" أخرجه البخاري ومسلم وأبو داود والترمذي في الباب الاَتي.
قوله: "حديث سفيان عن الزهري حديث صحيح" قال المنذري في الترغيب بعد ذكر هذا الحديث: رواه أبو داود والترمذي من رواية أبي سلمة عن عبد الرحمن بن عوف. وقال الترمذي: حديث حسن صحيح. قال المنذري: وفي تصحيح الترمذي له نظر، فإن أبا سلمة بن عبد الرحمن لم يسمع من أبيه شيئاً قاله يحيى بن معين وغيره. ورواه أبو داود وابن حبان في صحيحه من حديث معمر عن الزهري عن أبي سلمة عن رداد الليثي عن عبد الرحمن بن عوف، وقد أشار الترمذي إلى هذا، ثم حكى عن البخاري أنه قال: وحديث معمر خطأ انتهى. والحديث أخرجه أيضاً أحمد في مسنده والبخاري في الأدب المفرد والحاكم "عن رداد" بفتح الراء وتشديد الدال المهملة بعدها ألف ثم دال مهملة. وقال بعضهم أبو الرداد وهو أصوب. حجازي مقبول من الثانية "ومعمر كذا يقول" أي عن أبي سلمة عن رداد عن عبد الرحمن "قال محمد" يعني الإمام البخاري "وحديث معمر خطأ" وقال ابن حبان في ثقات التابعين: وما أحسب معمراً حفظه، روى هذا(6/34)
الخبر أصحاب الزهري عن أبي سلمة عن ابن عوف، كذا في تهذيب التهذيب(6/35)
10 ـ باب ماَ جاءَ في صِلَةِ الرّحم
1973 ـ حَدّثنا ابنُ أبي عُمَرَ حدثنا سُفْيَانُ حدثنا بَشِيرٌ أبُو إسماعيلَ و فطرُ بنُ خَلِيفَةَ عن مُجَاهِدٍ عن عَبْدِ الله بن عَمْرٍو عن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال: "لَيْسَ الْوَاصِلُ بالمُكَافِئِ، ولَكِنّ الوَاصِلَ الّذِي إذَا انْقَطَعَتْ رَحِمُهُ وصَلَها" .
ـــــــ
"باب ماَ جاءَ في صِلَةِ الرّحم"
بفتح الراء وكسر الحاء المهملة يطلق على الأقارب وهم من بينه وبين الاَخر نسب سواء كان يرثه أم لا، وسواء كان ذا محرم أم لا، وقيل هم المحارم فقط، والأول هو المرجح لأن الثاني يستلزم خروج أولاد الأعمام وأولاد الأخوال من ذوي الأرحام وليس كذلك. يقال: وصل رحمه يصلها وصلا وصلة، والهاء فيها عوض عن الواو المحذوفة، فكأنه بالإحسان إليهم قد وصل ما بينه من علاقة القرابة والصهر قال ابن أبي جمرة: تكون صلة الرحم بالمال، وبالعون على الحاجة، وبدفع الضرر وبطلاقة الوجه، وبالدعاء. والمعنى الجامع إيصال ما أمكن من الخير، ودفع ما أمكن من الشر بحسب الطاقة، وهذا إنما يستمر إذا كان أهل الرحم أهل استقامة، فإن كانوا كفاراً أو فجاراً فمقاطعتهم في الله هي صلتهم، بشرط بذل الجهد في وعظهم ثم إعلامهم إذا أصروا أن ذلك بسبب تخلفهم عن الحق، ولا يسقط مع ذلك صلتهم بالدعاء لهم بظهر الغيب أن يعودوا إلى الطريق المثلى.
قوله: "وفطر بن خليفة" المخزومي مولاهم أبو بكر الحناط. صدوق رمي بالتشيع من الخامسة.
قوله: "ليس الواصل" أي بالرحم "بالمكافئ" بكسر فاء وهمز أي المجازي لأقاربه إن صلة فصلة، وإن قطعاً فقطع، والمراد به نفي الكمال "ولكن" بتشديد النون "الواصل" بالنصب أي الواصل الكامل "الذي إذا انقطعت رحمه". وفي رواية البخاري: إذا قُطعتْ رحمه "وصلها" ، هذا من باب الحث على(6/35)
هذا حديثٌ حسنٌ صحيحٌ. وفي البابِ عن سَلْمَانَ وَعَائِشَةَ.
1974ـ حدّثنا ابنُ أبِي عُمَرَ وَنَصْرُ بنُ عَلِيّ وَسَعِيدُ بنُ عَبْدِ الرحمنِ المَخْزُومِيّ، قالوا حدثنا سُفْيانُ عن الزهْرِيّ عن محمد بن جُبَيْرِ بنِ مُطْعِمٍ عن أبِيِه قال: قالَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم: "لا يَدْخُلُ الْجَنّةّ قَاطِعٌ" قالَ ابن أبي عُمَرَ قالَ سُفْيَانُ يَعْنِي قَاطِعَ رَحِم.
هذا حديثٌ حسنٌ صحيحٌ.
ـــــــ
مكارم الأخلاق كقوله تعالى: {ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ السَّيِّئَةَ } ومنه قوله صلى الله عليه وسلم: صل من قطعك وأحسن إلى من أساءك. الحديث، رواه البخاري عن علي رضي الله عنه. قال الطيبي: التعريف في الواصل للجنس أي ليس حقيقة الواصل ومن يعتد بوصله من يكافئ صاحبه بمثل فعله. ونظيره قولك: هو ليس بالرجل بل الرجل من يصدر منه المكارم والفضائل انتهى.
قوله: "هذا حديث حسن صحيح" وأخرجه البخاري وأبو داود.
قوله: "وفي الباب عن سليمان" لينظر من أخرجه "وعائشة" أخرجه البخاري ومسلم مرفوعاً بلفظ: الرحم معلقة بالعرش، تقول: من وصلني وصله الله، ومن قطعني قطعه الله.
قوله: "لا يدخل الجنة قاطع" أي للرحم، وقد أخرجه البخاري في الأدب المفرد وقال فيه: قالطع رحم. قال النووي وغيره: يحمل تارة على من يستحل القطيعة، وأخرى على أن لا يدخلها مع السابقين.
قوله: "هذا حديث حسن صحيح" وأخرجه البخاري ومسلم وأبو داود(6/36)
باب ما جاء في حب الوالد ولده
...
11 ـ باب ما جاءَ في حُبّ الْوَلدِ وَلَدَه
1975ـ حَدّثنا ابنُ أبِي عُمَرَ حدثنا سُفْيَانُ عن إبراهيمَ بنِ مَيْسَرَةَ قالَ سَمِعْتُ ابنَ أبي سُوَيْدٍ يقولُ سَمِعْتُ عُمَرَ بن عَبْدِ العَزِيز يقولُ زَعَمَتْ
ـــــــ
"باب ما جاء في حب الولد ولده"
قوله: "سمعت ابن أبي سويد" اسمه محمد. قال في التقريب: محمد بن أبي(6/36)
المَرْأَةُ الصّالِحَةُ خَوْلَةُ بِنْتُ حَكِيمٍ قاَلتْ: خَرَجَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم ذَاتَ يَومٍ وَهُوَ مُحْتَضِنٌ أَحد ابْنَيْ ابْنَتهِ وَهُوَ يَقُولُ: "إنّكُمْ لَتَبخّلُونَ وَتُجَبّنُونَ وَتُجَهّلُونَ وَإِنّكُمْ لَمِنْ رَيْحَانِ الله" .
ـــــــ
سويد الثققي الطائفي مجهول من الرابعة، وليس هو ابن سويد راوي قصة غيلان انتهى.
قلت: ابن سويد الذي روى قصة غيلان اسمه أيضاً محمد. وقد أخرج الترمذي قصة غيلان في باب الرجل يسلم وعنده عشر نسوة من أبواب النكاح. ومحمد بن سويد الذي روى قصته ثقة كما في تهذيب التهذيب "خولة بنت حكيم" بدل من المرأة الصالحة، وهي ابنة حكيم بن أمية السلمية، يقال لها خويلة أيضاً بالتصغير صحابية مشهورة، يقال إنها التي وهبت نفسها للنبي صلى الله عليه وسلم وكانت قبل تحت عثمان بن مظعون كذا في التقريب.
قوله: "وهو محتضن" من الاحتضان أي جاعل في حضنه، والحضن ما دون الإبط إلى الكشح أو الصدر والعضدان وما بينهما كذا في القاموس، "أحد ابني ابنته" فاطمة رضي الله عنها وهو إما الحسن أو الحسين رضي الله عنهما "إنكم لتبخلون وتجبنون وتجهلون" الصيغ الثلاث من باب التفعيل أي تحملون على البخل والجبن والجهل، فإن من ولد له جبن عن القتال لتربية الولد، وبخل له وجهل حفظاً لقلبه، والجبن والجبان ضد الشجاعة والشجاع "وإنكم لمن ريحان الله" قال في النهاية: الريحان يطلق على الرحمة والرزق والراحة بالرزق سمي الولد ريحاناً انتهى. وقال في المجمع: ويجوز إرادة الريحان المشموم، لأنهم يشمون ويقبلون، وهو من باب الرجوع، ذمهم أولا ثم رجع إلى المدح أي مع كونهم مظنة أن يحملوا الاَباء على البخل والجبن عن الغزو، من ريحان الله أي رزقة انتهى. وقال العيني في العمدة: وجه التشبيه أن الولد يشم ويقبل، فكأنهم من جملة الرياحين. وقال الكرماني: الريخان الرزق أو المشموم. قال العيني: لا وجه هنا أن يكون بمعنى الرزق على ما لا يخفى. وروى الترمذي من حديث أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يدعو الحسن والحسين فيشمهما ويضمهما إليه. وروى الطبراني في الأوسط من طريق أبي أيوب قال: دخلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم والحسن(6/37)
وفي البابِ عن ابنِ عُمَرَ والأَشْعَثِ بنِ قَيْسٍ.
حَدِيثُ ابنِ عُيَيْنَةَ عن إبراهيمَ بنِ مَيْسَرَةَ لا نَعْرِفُهُ إلاّ من حَدِيثِهِ، ولا نَعْرِفُ لِعُمَر بنِ عَبْدِ العَزِيزِ سَمَاعاً مِنْ خَوْلَةَ.
ـــــــ
والحسين يلعبان بين يديه، فقلت: أتحبهما يا رسول الله؟ قال: وكيف لا؟ وهما ريحانتاي من الدنيا أشمهما انتهى.
قوله: "وفي الباب عن ابن عمر" أخرجه الترمذي في مناقب الحسن والحسين "والأشعث بن قيس" أخرجه أحمد في مسنده ص 112 ج 5.
قوله: "ولا نعرف لعمر بن عبد العزيز سماعا من خولة" قال الحافظ في تهذيب التهذيب في ترجمته: روى عن خولة بنت حكيم مرسلا انتهى فحديث عمر بن عبد العزيز هذا عن خولة منقطع(6/38)
12 ـ باب ماَ جاءَ في رحْمَةِ الْوَلَد
1976ـ حَدّثنا ابنُ أَبي عُمَرَ وسَعِيدُ بنُ عَبْدِ الرحمن قالا حدثنا سُفْيَانُ عن الزّهْرِيّ عن أَبي سَلَمَةَ عن أَبي هُرَيْرَةَ قالَ: "أَبْصَرَ اْلأَقْرَعُ بنُ حَابِسٍ الّنبيّ صلى الله عليه وسلم وهُوَ يُقَبّلُ الْحَسَنَ. وقالَ ابن أَبي عُمَرَ الْحَسَن أو الْحُسَيْنَ، فقالَ إنّ لي مِنَ الْوَلَدِ عَشَرَةً ما قَبّلْتُ أحَداً مِنْهُمْ، فقالَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم: "إنّهُ مَن لاَ يَرْحَمْ لا يُرْحَمْ" .
ـــــــ
"باب ما جاء في رحمة الولد"
قوله "أبصر الأقرع بن حابس" هو من المؤلفة وممن حسن إسلامه "وهو يقبّل الحسن" جملة حالية أي رأى الأقرع النبي صلى الله عليه وسلم حال كونه يقبل الحسن فقال أي الأقرع "ما قبلت منهم أحداً" إما للاستكبار أو للاستحقار "إنه" الضمير للشأن "من لا يرحم لا يرحم" الأول بصيغة المعروف، والثاني بصيغة المجهول أي من لا يرحم الناس لا يرحمه الله. وفي رواية البخاري: ثم نظر إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم قال: من لا يرحم لا يرحم. قال الحافظ:(6/38)
وفي البابِ عن أَنَسٍ وعَائِشَةَ. وأَبو سَلَمَةَ بنُ عَبْدِ الرحمَنِ، اسْمُهُ عَبْدُ الله بنُ عبدِ الرحمنِ. وهذا حديثٌ حسنٌ صحيحٌ.
ـــــــ
هو بالرفع فيهما على الخبر. وقال عياض: هو للأكثر. وقال أبو البقاء: من موصولة، ويجوز أن تكون شرطية فيقرأ بالجزم فيهما انتهى.
قوله: "وفي الباب عن أنس" أخرجه البخاري في الجنائز ومسلم في الفضائل "وعائشة" أخرجه البخاري ومسلم.
قوله: "وهذا حديث حسن صحيح" ، وأخرجه البخاري في الأدب ومسلم في الفضائل(6/39)
باب ما جاء في النفقات على البنات و الأخوات
...
13ـ باب ماَ جاءَ في النفقة على البَنَاتِ والأَخَوَات
1977ـ حَدّثنا أَحمدُ بنُ محمدٍ أخبرنا عبدُ الله بنُ المُبَارَكِ أخبرنا ابنُ عُيَيْنَةَ عن سُهَيْلٍ بنِ أبي صَالِحٍ عن أَيّوبَ بن بَشِيرٍ عن سَعِيدٍ الأَعْشَى عن أَبي سَعِيدٍ الْخُدْرِيّ قالَ: قالَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم: "مَنْ كَانَتْ لَهُ ثَلاَثُ بَنَات أو ثَلاثُ أخَوَاتٍ أو ابْنَتَانِ أوْ أُخْتَانِ فَأَحْسَنَ صُحْبَتَهُنّ واتّقَى الله فِيهنّ فَلَهُ الْجَنّةُ" .
ـــــــ
"باب ما جاء في النفقة على البنات"
قوله: "عن أيوب بن بشير" بن سعد بن النعمان، كنيته أبو سليمان المدني، له رؤية وثقه أبو داود وغيره "عن سعيد الأعشى" هو سعيد بن عبد الرحمن بن مكمل الأعشى الزهري المدني، مقبول من السادسة، كذا في التقريب. وقال في الخلاصة: وثقة ابن حبان.
قوله: "من كانت له ثلاثة بنات أو ثلاث أخوات" أو للتنويع لا للشك، وكذا في قوله أو أبنتان أو أختان.
قوله: "فأحسن صحبتهن واتقي الله فيهن" ، أي في أداء حقوقهن.(6/39)
1978ـ حدّثنا قُتَيْبَةُ، حدثنا عَبْدُ العَزِيزِ بنُ محمدٍ عن سُهَيْلٍ بنِ أبي صاَلِحٍ عن سَعِيدِ بنِ عَبْدِ الرحمنِ عن أَبي سَعِيد الْخُدْرِيّ أَنّ رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم قالَ: "لا يَكُونُ لأَحَدِكُمْ ثَلاَثُ بَنَاتٍ أَو ثَلاَثُ أَخَوَاتٍ فَيُحْسِنُ إلَيْهِنّ إلاّ دَخَلَ الْجَنّةَ" .
وفي البابِ عن عَائِشَةَ وعُقْبَةَ بن عَامِرٍ وأَنسٍ وجاَبِرٍ وابنِ عَبّاسٍ.
وأَبو سَعِيدٍ الْخُدْرِيّ اسْمُهُ سَعْدُ بنُ مَالِكِ بنِ سِناَنٍ وسَعْدُ بنُ أَبي وَقّاصٍ هُوَ سَعْدُ بنُ مَالِكِ بنُ وُهَيْبٍ.
ـــــــ
قوله: "عن سعيد بن عبد الرحمن" هو سعيد الأعشى المذكور في الإسناد السابق.
قوله: "فيحسن إليهن" وقع في حديث عقبة بن عامر في الأدب المفرد. فصبر عليهن، وكذا وقع في ابن ماجة زاد: وأطعمهن وسقاهن وكساهن . وفي حديث ابن عباس عند الطبراني: فأنفق عليهن وزوجهن وأحسن أدبهن . وفي حديث جابر عند أحمد. وفي الأدب المفرد: يؤدبهن ويرحمهن ويكفلهن ، زاد الطبراني فيه: ويزوجهن قال الحافظ في الفتح بعد ذكر هذه الألفاظ: وهذه الأوصاف يجمعها لفظ الإحسان.
قوله: "وفي الباب عن عائشة" لها حديثان في الباب أخرجهما الترمذي في هذا الباب "وعقبة بن عامر" أخرجه ابن ماجة والبخاري في الأدب المفرد "وأنس" أخرجه الترمذي في هذا الباب "وجابر" أخرجه أحمد والبخاري في اللأدب المفرد. والبزار والطبراني في الأوسط. "وابن عباس" أخرجه ابن ماجه بإسناد صحيح. وابن حبان في صحيحه من رواية شرحبيل عنه. والحاكم، وقال صحيح الإسناد، كذا في الترغيب.
قوله: "وأبو سعيد الخدري اسمه سعد بن مالك بن سنان" اشتهر بكنيته، له ولأبيه صحبة، أستصغر بأحد ثم شهد ما بعدها، وكان من الحفاظ المكثرين، مات سنة أربع وسبعين ودفن بالبقيع "وسعد بن أبي وقاص هو سعد بن مالك بن وهيب"(6/40)
وقد زَادُوا في هذَا الإِسْنَادِ رَجُلاً.
1979ـ حدّثنا العَلاءُ بنُ مَسْلَمَةَ، حدثنا عَبْدُ المَجِيدِ بنُ عَبْدِ العَزِيزِ عن مَعْمَرٍ عن الزّهْرِيّ عن عُرْوَةَ عن عَائِشَةَ قاَلتْ: قالَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم: "مَنْ ابْتُلِيَ بِشَيْءٍ مِنَ البَنَاتِ فَصَبَرَ عَلَيْهنّ، كُنّ لَهُ حِجاباً مِنَ النّارِ" .
ـــــــ
هو أحد العشرة المبشرة بالجنة، أسلم قديماً وهو ابن سبع عشرة سنة، وقال كنت ثالث الإسلام وأنا أول من رمى السهم في سبيل الله، شهد المشاهد كلها مع النبي صلى الله عليه وسلم، مات في قصره بالعقيق قريباً من المدينة فحمل على رقاب الرجال إلى المدينة ودفن بالبقيع سنة خمس وخمسين. وإنما ذكر الترمذي ههنا سعد بن ابي وقاص لأنه كان مشاركاً في اسم أبي سعيد واسم أبيه فذكر ترجمته ليتميز عنه.
قوله: "وقد زادوا في هذا الإسناد" أي الإسناد الثاني بين سعيد بن عبد الرحمن وأبي سعيد الخدري "رجلاً" هو أيوب بن بشير، فروى أبو داود في سننه قال حدثنا مسدد، حدثنا خالد، أخبرنا سهيل يعني ابن أبي صالح عن سعيد الأعشى عن أيوب بن بشير الأنصاري عن أبي سعيد الخدري قال: قال: رسول الله صلى الله عليه وسلم: من عال ثلاث بنات فأدبهن الحديث، ثم قال: حدثنا يوسف بن موسى، أخبرنا جرير عن سهيل بهذا الإسناد بمعناه. قال المنذري في تلخيص السنن. وأخرجه الترمذي من حديث سهيل عن سعيد بن عبد الرحمن عن أبي سعيدقال: وقد زادوا في هذا الإسناد رجلا، وأخرجه أيضاً من حديث سفيان بن عيينة عن سهيل عن أيوب بن بشير عن سعيد بن عبد الرحمن عن أبي سعيد. وقال البخاري في تاريخه. وقال ابن عيينة: عن سهيل عن أيوب عن سعيد الأعشى ولا يصح انتهى.
قوله "حدثنا العلاء بن مسلمة" بن عثمان الرواس مولى بني تميم بغدادي يكنّى أبا سالم متروك، ورماه ابن حبان بالوضع من العاشرة "حدثنا عبد المجيدبن عبد العزيز" هو ابن أبي رداد.
قوله: "من ابتلى بشيء من البنات" بصيغة المجهول أي امتحن قال الحافظ(6/41)
هذا حديثٌ حسنٌ.
1980ـ حدّثنا أحمدُ بنُ محمدٍ، حدثنا عَبْدُ الله بنُ المُبَارَكِ، حدثنا مَعْمَرٌ عن ابنِ شِهَابٍ حدثنا عَبْدُ الله بنُ أبي بَكْرِ بنِ حَزْمٍ عن عُرْوَةَ عن عَائِشَةَ قالَتْ: "دَخَلَتْ امرأَةٌ مَعَهَا ابنَتَانِ لَهَا فَسَألَتْ فَلَمْ تَجِدْ عِنْدِي شَيئاً غَيْرَ تَمْرَةٍ فَأعْطَيْتُهَا إيّاهاَ فَقَسَمَتْهَا بَيْنَ ابْنَتَيْهَا وَلَمْ تَأْكُلْ مِنْهَا ثمّ قَامَتْ
ـــــــ
في الفتح: اختلف في المراد بالابتلاء هل هو نفس وجودهن أو ابتلى بما يصدر منهن، وكذلك هل هو على العموم في البنات أو المراد من اتصف منهن بالحاجة إلى ما يفعل به. وقال النووي تبعاً لابن بطال: إنما سماه إبتلاء لأن الناس يكرهون البنات، فجاء الشرع بزجرهم عن ذلك ورغب في إبقائهن وترك قتلهن بما ذكر من الثواب الموعود به من أحسن إليهن وجاهد نفسه في الصبر عليهن. وقال الحافظ العراقي في شرح الترمذي: يحتمل أن يكون معنى الابتلاء هنا الاختبار أي من اختبر بشيء من البنات لينظر ما يفعل أيحسن إليهن أو يسيء؟ ولهذا قيده في حديث أبي سعيد بالتقوى فإن من لم يتق الله لايأمن أن يتضجر بمن وكله الله إليه أو يقصر عما أمر بفعله أو لا يقصد بفعله امتثال أمر الله وتحصيل ثوابة والله أعلم "كن له حجاباً من النار" أي يكون جزاؤه على ذلك وقاية بينه وبين نار جهنم حائلا بينه وبينها، وفيه تأكيد حق البنات لما فيهن من الضعف غالباً عن القيام بمصالح أنفسهن بخلاف الذكور لما فيهم من قوة البدن وجزالة الرأي وإمكان التصرف في الأمور المحتاج إليها في أكثر الأحوال.
قوله: "هذا حديث حسن" في سنده العلاء بن مسلمة وهو متروك فتحسين الترمذي له لشواهده.
قوله: "فلم تجد عندي شيئاً غير تمرة" وفي رواية البخاري: غير تمرة واحدة. قال العيني: فإن قلت: وقع في رواية عراك بن مالك عن عائشة: جاءتني مسكينة تحمل ابنتين لها فأطعمتها ثلاث تمرات فأعطت كل واحدة منهما تمرة ورفعت تمرة إلى فيها لتأكلها فاستطعمتها ابنتاها فشقت التمرة التي كانت تريد أن تأكلها فأعجبني شأنها الحديث، أخرجه مسلم، فما الجمع بينهما؟ قلت: قيل(6/42)
فَخَرَجَتْ ودَخَلَ النبيّ صلى الله عليه وسلم فَأَخْبَرْتُهُ، فقالَ النبيّ صلى الله عليه وسلم: "مَنْ ابْتُلِيَ بِشَيْءٍ مِنْ هَذِهِ البَنَاتِ كُنّ لَهُ سِتْراً مِنَ النّارِ" .
هذا حديث حسن صحيحٌ.
1981ـ حدّثنا محمدُ بنُ وَزِيرٍ الوَاسِطيّ حدثنا محمدُ بنُ عُبَيْدٍ هو الطنافسي حدثنا محمدُ بنُ عَبْدِ العَزَيزِ الرّاسِبِيّ عن أبي بَكْرِ بنِ عُبَيْدِ الله بنِ أَنسِ بنِ ماَلِكٍ عن أنس قالَ: قالَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم: "مَنْ عَالَ جاَرِيتَيْنِ دَخَلْتُ أَنَا وهُوَ الْجَنّةَ كَهاَتَيْنِ وَأَشَارَ بإِصْبَعَيْهِ" .
ـــــــ
يحتمل أنها لم تكن عندها في أول الحال سوى تمرة واحدة فأعطتها ثم وجدت ثنتين، ويحتمل تعدد القصة انتهى. "فأعطيتها إياها" أي التمرة ولم تستحقرها لقوله تعالى {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ} ولقوله عليه السلام: أتقوا النار ولو بشق تمرة . "ولم تأكل منها" أي مع جوعها إذ يستبعد أن تكون شبعانة مع جوع ابنتيها "فأخبرته" أي بما جرى "من ابتلى بشيء من هذه البنات" زاد في رواية البخاري: فأحسن إليهن "كن له" أي للمبتلي "ستراً" بكسر أوله أي حجاباً دافعاً "من النار" أي دخولها. واختلف في المراد بالإحسان هل يقتصر به على قدر الواجب أو بما زاد عليه، والظاهر الثاني. وشرط الإحسان أن يوافق الشرع لا ما خالفه، والظاهر أن الثواب المذكور إنما يحصل لفاعله إذا استمر إلى أن يحصل استغناؤهن بزوج أو غيره.
قوله: "هذا حديث حسن صحيح" وأخرجه أحمد والشيخان والنسائي.
قوله: "حدثنا محمد بن عبيد" هو الطنافسي "حدثنا محمد بن عبد العزيز الراسبي" أبو روح البصري ثقة من السابعة "عن أبي بكر بن عبيد الله بن أنس" بن مالك مجهول الحال من الخامسة.
قوله: "من عال جاريتين" زاد في رواية مسلم حتى تبلغا. قال النووي معنى عالهما قام عليهما بالمؤنة والتربية ونحوهما مأخوذ من العول وهو القرب منه ابدأ بمن تعول "دخلت أنا وهو" أي الذي عالهما "الجنة" بالنصب "كهاتين وأشار بإصبعيه"(6/43)
هذا حديثٌ حسنٌ غريبٌ.
وقد روى محمد بن عبيد عن محمد بن عبد العزيز غير حديث بهذا الإسناد وقال عن أبي بكر بن عبيد الله بن أنس، والصحيح هو عبيد الله بن أبي بكر بن أنس.
ـــــــ
أي السبابة والوسطى. وسيأتي توضيح قوله "كهاتين" في الباب الذي يليه.
قوله: "هذا حديث حسن غريب" وأخرجه مسلم وابن حبان في صحيحه "غير حديث" أي غير واحد من الحديث "والصحيح هو عبيد الله، بن أبي بكر بن أنس" وكذا رواه مسلم في صحيحه، قال حدثني عمرو الناقد أخبرنا أبو أحمد الزبيري أخبرنا محمد بن عبد العزيز عن عبيد بن أبي بكر بن أنس عن أنس بن مالك إلخ. وعبيد الله بن أبي بكر بن أنس هذا كنيته أبو معاذ، قال في التقريب: ثقة من الرابعة(6/44)
14 ـ باب ماَ جاءَ في رَحْمَةِ الْيَتِيمِ وكفَالته
1982ـ حَدّثنا سَعِيدُ بنُ يَعْقُوبَ الطّالِقَانيّ حدثنا المعْتَمِرُ بنُ سُلَيْماَنَ قالَ: سَمِعْتُ أَبي يُحَدّثُ عن حَنَشٍ عنِ عِكْرِمَةَ عن ابنِ عَبّاسٍ أَنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم قالَ: "مَنْ قَبَضَ يَتِيماً بَيْنَ المُسْلِمينَ إلىَ طَعَامِهِ وَشَرَابِهِ أَدْخَلَهُ الله الجَنّةَ البَتّةَ إلاّ أَنْ يَعْمَلَ ذَنْباً لا يُغْفَرُ له" .
ـــــــ
"باب ما جاء في رحمة اليتيم"
أي الذي مات أبوه وهو صغير، يستوي فيه المذكر والمؤنث، قيل اليتيم من الناس من مات أبوه ومن الدواب من مات أمه
قوله: "من قبض يتيما بين المسلمين" أي تسلم وأخذ، وفي رواية شرح السنة: من آوى يتيما، كما في المشكاة "إلى طعامه وشرابه" الضميران لمن، والمعنى من يضم اليتيم إليه ويطعمه "أدخله الله الجنة البتة" أي إدخالاً قاطعاً بلا شك وشبهة "إلا أن يعمل ذنباً لا يغفر" المراد منه الشرك لقوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ(6/44)
وفي البابِ عن مُرّةَ الفِهرِيّ وأبي هُرَيْرَة وأَبي أُماَمَةَ وسَهْلِ بنِ سَعْدٍ.
وَحَنَشٌ هُوَ حُسَيْنُ بنُ قَيْسٍ وهُوَ أَبو عَلِيّ الرّحْبِيّ. وسُلَيْمَانُ التّيْمِيّ يقولُ: حنَش: وهُوَ ضَعِيِفٌ عِندَ أَهلِ الحَدِيثِ.
1983ـ حدّثنا عَبْدُ الله بنُ عِمْرَانَ أَبو القَاسِمِ المَكّيّ القُرْشِيّ، حدثنا عَبْدُ العَزِيزِ ابنُ أَبي حَازِمٍ عن أَبيهِ عن سِهْلِ بنِ سَعْدٍ قالَ: قَالَ
ـــــــ
أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} كذا ذكره الطيبي. وقال ابن الملك: أي الشرك، وقيل مظالم الخلق. قال القاري في المرقاة: والجمع هو الأظهر للإجماع على أن حق العباد لا يغفر بمجرد ضم اليتيم البتة، مع أن من جملة حقوق العباد أكل مال اليتيم، نعم يكون تحت المشيئة، فالتقدير إلا أن يعمل ذنباً لا يغفر إلا بالتوبة أو بالاستحلال ونحوه. وحاصله أن سائر الذنوب التي بينه وبين الله تغفر إن شاء الله تعالى.
قوله: "وفي الباب عن مُرّة" أخرجه البخاري في الأدب المفرد والطبراني كما في الفتح "وأبي هريرة" أخرجه ابن ماجة مرفوعاً بلفظ، خير بيت في المسلمين بيت فيه يتيم يحسن إليه، وشر بيت في المسلمين بيت فيه يتيم يساء إليه وأخرجه البخاري في الأدب المفرد، وأبو نعيم في الحلبة "وأبي أمامة" أخرجه أحمد والترمذي "وسهل بن سعد" أخرجه الترمذي في هذا الباب.
قوله: "وحنش هو حسين بن قيس وهو أبو علي الرحبي" بفتح الراء والموحدة قال الحافظ في التقريب: حسين بن قيس الرحبي أبو علي الواسطي لقبه حنش بفتح المهملة والنون ثم معجمة متروك من السادسة انتهى "وسليمان التيمي يقول حنش" يعني يذكره بلقبه حنش "وهو ضعيف عند أهل الحديث". قال أحمد: متروك، وقال أبو زرعة وابن معين: ضعيف، وقال البخاري: لا يكتب حديثه، وقال السعدي: أحاديثه منكرة جداً، وقال الدارقطني: متروك، كذا في الميزان.
قوله "حدثنا عبد الله بن عمران" بن رزين بن وهب المخزومي العابدي "أبو القاسم المكي القرشي" صدوق معمر من العاشرة.(6/45)
رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم: "أنَا وَكَافِلُ اليَتِيمِ في الْجَنّةِ كَهَاَتَيْنِ، وأَشاَرَ بإِصْبعَيْهِ يَعْنِي السّبّابَةَ وَالوُسْطَي" .
هذا حديثٌ حسنٌ صحيحٌ.
ـــــــ
قوله: "أنا وكافل اليتيم" أي مربيه قال في النهاية: الكافل هو القائم بأمر اليتيم المربي له "في الجنة" خبر أنا ومعطوفة "كهاتين". قال ابن بطال: حق على من سمع هذا الحديث أن يعمل به ليكون رفيق النبي صلى الله عليه وسلمفي الجنة، ولا منزلة في الاَخرة أفضل من ذلك. وفي رواية البخاري في اللعان: وفرج بينهما شيئاً أي بين السبابة والوسطى، وفيه إشارة إلى أن بين درجة النبي صلى الله عليه وسلم وكافل اليتيم قدر تفاوت ما بين السبابة والوسطى. وهو نظير الحديث الاَخر: بعثت أنا والساعة كهاتين الحديث. وزعم بعضهم أنه صلى الله عليه وسلم لما قال ذلك استوت اصبعاه في تلك الساعة، ثم عادتا على حالهما الطبيعية الأصلية تأكيداً لأمر كفالة اليتيم. قال الحافظ: ومثل هذا لا يثبت بالاحتمال. ويكفي في إثبات قرب المنزلة من المنزلة أنه ليس بين الوسطى والسبابة أصبع أخرى. وقد وقع في رواية لأم سعيد عند الطبراني: معي في الجنة كهاتين، يعني المسبحة والوسطى إذا اتقى. ويحتمل أن يكون المراد قرب المنزلة حالة دخول الجنة لما أخرجه أبو يعلي من حديث أبي هريرة رفعه: أنا أول من يفتح باب الجنة، فإذا امرأة تبادرني فأقول من أنت؟ فتقول أنا امرأة تأيمت على أيتام لي. ورواته لابأس بهم. وقوله: تبادرني أي لتدخل معي أو تدخل في إثري. ويحتمل أن يكون المراد مجموع الأمرين، سرعة الدخول وعلو المنزلة قال العراقي في شرح الترمذي: لعل الحكمة في كون كافل اليتيم يشبه في دخول الجنة أو شبهت منزلته في الجنة بالقرب من النبي أو منزلة النبي لكون النبي شأنه أن يبعث إلى قوم لا يعقلون أمر دينهم، فيكون كافلا لهم ومعلماً ومرشداً، وكذلك كافل اليتيم يقوم بكفالة من لا يعقل أمر دينه بل ولا دنياه، ويرشده ويعلمه ويحسن أدبه، فظهرت مناسبة ذلك، ذكره الحافظ في الفتح.
قوله: "هذا حديث حسن صحيح" وأخرجه أحمد والبخاري وأبو داود.(6/46)
15 ـ باب ماَ جاءَ فِي رَحْمَةِ الصبْيَان
1984ـ حَدّثنا محمدُ بنُ مَرْزوقٍ البَصْرِيّ حدثنا عُبَيْدُ بنُ وَاقِدٍ عن زَرْبِيٍ قالَ: سَمِعْتُ أَنَسَ بنَ مَالِكٍ يَقُولُ: "جَاءَ شَيْخٌ يُرِيدُ النبيّ صلى الله عليه وسلم، فَأَبْطَأَ القَوْمُ عَنْهُ أَنْ يُوَسّعُوا لَهْ، فقالَ النبيُ صلى الله عليه وسلم: "لَيْسَ مِناّ مَنْ لَمْ يَرْحَمْ صَغِيرَنَا ولَمْ يُوَقّرْ كَبِيرَنَا" .
وفي البابِ عن عَبْدِ الله بنِ عَمْرٍو وأَبي هُرَيْرَةَ وابنِ عَباّسٍ وأَبيِ أُمَامَةَ.
هذا حديثٌ غريبٌ، وزَرْبِيٌ لَهُ أَحَادِيثُ مَنَاكِيرُ عن أَنَسِ بنِ مَالِكٍ وغَيْرِهِ.
ـــــــ
"باب ما جاء في رحمة الصبيان"
جمع الصبي
قوله "حدثنا عبيد بن واقد" القيسي أو الليثي أبو عباد، ضعيف من التاسعة "عن زربى" بفتح الزاي وسكون الراء بعدها موحدة، ثم تحتانية مشددة، ابن عبد الله الأزدي مولاهم أبي يحيى البصري ضعيف من الخامسة.
قوله "ليس هنا" قيل أي ليس على طريقتنا، وهو كناية عن التبرئة ويأتي تفسيره من الترمذي في آخر الباب "من لم يرحم صغيرنا" أي من لا يكون من أهل الرحمة لأطفالنا "ولم يوقر" من التوقير أي لم يعظم "كبيرنا" هو شامل للشاب والشيخ.
قوله "وفي الباب عن عبد الله بن عمرو" أخرجه الترمذي في هذا الباب "وأبي هريرة" أخرجه الترمذي في باب رحمة الولد "وابن عباس" أخرجه الترمذي في هذا الباب "وأبي أمامة" أخرجه أحمد في مسنده ص 257 ج 5.
قوله: "وزربى له أحاديث مناكير عن أنس بن مالك وغيره" وقال البخاري في حديثه نظر.(6/47)
1985 ـ حدّثنا أَبو بَكْرٍ محمدُ بنُ أَبَانَ حدثنا محمدُ بنُ فُضَيْلٍ عن محمدِ بنِ إسحاقَ عن عَمْرٍو بنِ شُعَيْبٍ عن أَبيِه عن جَدّهِ قالَ: قالَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم: "لَيْسَ مِنّا مَنْ لَمْ يَرْحَمْ صَغِيرَنَا وَيَعْرِفْ شَرَفَ كَبِيرِنَا" .
1986ـ حدّثنا أَبو بَكْرٍ محمدُ بنُ أَبَانَ حدثنا يَزِيدُ بنُ هَارُونَ عن شَرِيكٍ عن لَيْثٍ عن عِكْرِمَةَ عن ابنِ عَبّاسٍ قالَ: قالَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم: "لَيْسَ مِنّا مَنْ لَمْ يَرْحَمْ صَغِيرَنَا وَيوقّرْ كَبِيرَنَا وَيأُمُرْ بالمَعْرُوفِ وَيَنْهَ عَنِ المُنْكَرِ" .
هذا حديثٌ حسنٌ غريبٌ وحَدِيثُ محمدِ بنِ إسحاقَ عن عَمْرٍو بنِ شُعَيْبٍ حديثٌ حسنٌ صحيحٌ. وقد رُوِيَ عن عَبْدِ الله بنِ عَمْرٍو مِنْ غَيْرِ هذَا الوَجْهِ
ـــــــ
قوله: "ويعرف شرف كبيرنا" عطف على يرحم أي لم يعرف شرف كبيرنا سناً أو علماً، وفي بعض النسخ: ولم يعرف.
قوله: "ويوقر كبيرنا ويأمر بالمعروف وينه عن المنكر" بالجزم في الأفعال الثلاثة عطف علي يرحم، أي ولم يوقر كبيرنا، ولم يأمر بالمعروف، ولم ينه عن المنكر.
وقوله: "هذا حديث غريب" وأخرجه أحمد "وحديث محمد بن إسحاق عن عمرو بن شعيب حديث حسن صحيح" فإن قلت: محمد بن إسحاق مدلس وقد رواه عن عمرو بن شعيب بالعنعنة فكيف صحح الترمذي حديثه. لهذا قلت: الظاهر أنه صححه بتعدد طرقه وشواهده. وحديث عمرو بن شعيب هذا أخرجه أيضاً أحمد وأبو داود والبخاري في الأدب المفرد والحاكم "وقد روي عن عبد الله بن عمرو عن غير هذا الوجه أيضاً" أخروجه أبو داود من طريق ابن أبي شيبة وابن السرح عن سفيان عن إبن أبي نجيح عن ابن عامر عن عبد الله بن عمرو.(6/48)
أيْضاً. قالَ بَعْضُ أَهْلِ العِلْمِ: مَعْنَى قَوْلِ النبيّ صلى الله عليه وسلم: "لَيْسَ مِنّا يقول: ليس من سنتنا، لَيْسَ مِنْ أَدَبِنَا". وقالَ عليّ بنُ المَدِينيّ قال يَحْيَى بنُ سَعِيدٍ: كانَ سُفْيَانُ الثّوْرِيّ يُنْكِرُ هذا التّفْسِيرَ: لَيْسَ مِنّا يَقول: لَيْس قلنا مِنْ مِلّتِنَا.
ـــــــ
"قال بعض أهل العلم: معنى قول النبي صلى الله عليه وسلم ليس منا إلخ" تقدم الكلام مفصلاً في تفسير قوله صلى الله عليه وسلم: ليس منا، في باب النهي عن ضرب الخدود وشق الجيوب من أبواب الجنائز(6/49)
16 ـ باب ما جاءَ في رَحْمَةِ النّاس
1987ـ حَدّثنا محمد بن بَشّار حدثنا يَحْيىَ بنُ سَعِيدٍ عن إسماعِيلَ بنِ أبِي خَالِدٍ حدثنا قَيْس بنُ أبي حَازِمٍ حدثنا جَرِيرُ بنُ عَبْدِ الله قالَ: قالَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم: "مَنْ لا يَرْحَمْ النّاسَ لاَ يَرْحَمُهُ الله" .
هذا حديثٌ حسنٌ صحيحٌ. وفي البابِ عن عَبْدِ الرحمنِ بنِ عَوْفٍ وأبي سَعِيدٍ وابنِ عُمَرَ وأَبي هُرَيْرَةَ وعَبْدِ الله بنِ عَمْرٍو.
ـــــــ
"باب ماجاء في رحمة الناس"
قوله: "من لم يرحم الناس لا يرحمه الله" وفي رواية البخاري. من لا يرحم لا يرحم، ووقع عند الطبراني: من لا يرحم من في الأرض لا يرحمه من في السماء. وفي حديث الأشعث بن قيس عند الطبراني في الأوسط: من لم يرحم المسلمين لم يرحمه الله. قال ابن بطال: فيه الحض على استعمال الرحمة لجميع الخلق، فيدخل المؤمن والكافر والبهائم والمملوك منها وغير المملوك، ويدخل في الرحمة التعاهد بالإطعام والسقي والتخفيف في الحمل وترك التعدي بالضرب انتهى.
قوله: "هذا حديث حسن صحيح" وأخرجه البخاري ومسلم.
قوله: "وفي الباب عن عبد الرحمن بن عوف" أخرجه الترمذي في باب قطيعة الرحم "وأبي سعيد" أخرجه الترمذي في باب الرياء والسمعة من أبواب الزهد "وابن عمر" أخرجه أحمد "وأبي هريرة" أخرجه الترمذي في هذا الباب "وعبد الله بن عمرو" أخرجه أيضاً الترمذي في هذا الباب.(6/49)
1988ـ حدّثنا محمودُ بنُ غَيْلاَنَ حدثنا أبو دَاوُدَ أخبرنا شُعْبَةُ قالَ: كَتَبَ بِهِ إِلَيّ منْصُورٌ وقَرَأْتُهُ عَلَيْهِ: سَمِعَ أَبَا عُثْمَانَ مَوْلَى المُغِيرَةِ بنِ شُعْبَةَ عن أَبي هُرَيْرَةَ قالَ: سَمِعْتُ أَبَا القَاسِمِ صلى الله عليه وسلم يقولُ: "لا تُنْزَعُ الرّحْمَةُ إِلاّ مِنْ شَقِيّ.
هذا حديث حسن، قالَ أبو عُثْمَانَ الذي رَوَى عن أَبي هُرَيْرَةَ لا يُعْرَفُ اسْمَهُ، ويُقَالُ هُوَ وَالِدُ مُوسَى بنِ أبي عُثْمَانَ الذِي رَوَى عَنْهُ أَبُو الزّنَادِ.
وقد رَوَى أَبُو الزّنَادِ عن مُوسَى بنِ أَبي عُثْمَانَ عن أَبيِه عن أَبي هُرَيْرَةَ عن النبيّ صلى الله عليه وسلم غَيْرَ حَدِيثٍ.
ـــــــ
قوله: "كتب به" أي بالحديث "إلى" بتشديد الياء "وقرأته عليه" أي قرأت الحديث على منصور. والمعنى أن منصوراً كتب الحديث إلى شعبة أولا، ثم لقيه شعبة وقرأ الحديث عليه "سمع" أي منصور.
قوله: "لا تنزع الرحمة" بصيغة المجهول أي لا يسلب الشفقة على خلق الله، ومنهم نفسه التي هي أولى بالشفقة والمرحمة عليها من غيرها، بل فائدة شفقته على غيره راجعة إليها لقوله تعالى: {إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لَأَنْفُسِكُمْ} "إلا من شقي" قال الطيبي: لأن الرحمة في الخلق رقة القلب، والرقة في القلب علامة الإيمان، فمن لا رقة له لا إيمان له، ومن لا إيمان له شقي، فمن لا يرزق الرقة شقي انتهى.
قوله: "هذا حديث حسن" وأخرجه أحمد والبخاري في الأدب المفرد، وأبو داود وابن حبان في صحيحه، والحاكم في مستدركه. قال المناوي: إسناده صحيح.
قوله: "وأبو عثمان الذي روى عن أبي هريرة لا نعرف اسمه يقال هو والد موسى بن أبي عثمان إلخ" قال في التقريب: أبو عثمان التبان مولى المغيرة بن شعبة قيل اسمه سعيد، وقيل عمران مقبول من الثالثة.(6/50)
1989 ـ حدّثنا ابنُ أبِي عُمَر، حدثنا سُفْيَانُ عن عَمْرِو بنِ دِينَارٍ عن أَبِي قَابُوسَ عن عَبْدِ الله بنِ عَمْرٍو قالَ: قال رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم: "الرّاحِمُونَ يَرْحَمُهُمُ الرّحْمَنُ. ارْحَمُوا مَنْ في اْلأَرْضِ يَرْحَمْكُمْ مَنْ في السّماءِ. الرّحِمُ شِجْنَةٌ مِنَ الرحمَنِ فَمَنْ وَصَلَهَا وَصَلَهُ الله وَمَنْ قَطَعَهَا قَطَعَهُ الله" .
ـــــــ
قوله: "عن أبي قابوس" غير منصرف للعجمة والعلمية. قطع بهذا غير واحد ممن يعتمد عليه، كذا في مرقاة الصعود وأبو قابوس هذا هو مولى عبد الله بن عمرو بن العاص مقبول من الرابعة.
قوله: "الراحمون" لمن في الأرض من آدمى وحيوان محترم بنحو شفقة وإحسان ومواساة "يرحمهم الرحمن" أي يحسن إليهم ويتفضل عليهم، والرحمة مقيدة باتباع الكتاب والسنة، "فإقامة الحدود والإنتقام لرحمة الله لا ينافي كل منهما الرحمة "ارحموا من في الأرض" قال الطيبي: أتي بصيغة العموم ليشمل جميع أصناف الخلق فيرحم البر والفاجر، والناطق والبهم، والوحوش والطير انتهى. وفيه إشارة إلى أن إيراد "من" لتغليب ذوي العقول لشرفهم على غيرهم أو للمشاكلة المقابلة بقوله "يرحمكم من في السماء" وهو مجزوم على جواب الأمر أي الله تعالى، وقيل المراد من سكن فيها وهم الملائكة فإنهم يستغفرون للمؤمنين، قال الله تعالى: {الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْماً فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ} ، وفي السراج المنير. وقد روي بلفظ: ارحموا أهل الأرض يرحمكم أهل السماء، والمراد بأهل السماء الملائكة، ومعنى رحمتهم لأهل الأرض دعائهم لهم بالرحمة والمغفرة كما قال تعالى: {وَيَسْتَغْفِرُونَ} لمن آمن "الرحم شجنة" بكسر المعجمة وسكون الجيم بعدها نون وجاء بضم أوله وفتحه رواية ولغة، وأصل الشجنة عروق الشجر المشتبكة، والشجن بالتحريك واحد الشجون، وهي طرق الأودية، ومنه قولهم: الحديث ذو شجون، أي يدخل بعضه في بعض "من الرحمن" أي أخذ اسمها من هذا الاسم كما في حديث عبد الرحمن بن عوف في السنن مرفوعاً: أنا الرحمن خلقت الرحم وشققت لها اسماً من اسمي. والمعنى(6/51)
هذا حديثٌ حسنٌ صحيحٌ.
ـــــــ
أنها أثر من آثار الرحمة مشتبكة بها، فالقاطع لها منقطع من رحمة الله تعالى. وقال الإسماعيلي: معنى الحديث أن الرحم اشتق اسمها من اسم الرحمن فلها به علقة، وليس معناه أنها من ذات الله، تعالى الله عن ذلك، ذكره الحافظ في الفتح.
قوله: "هذا حديث حسن صحيح" وأخرجه أبو داود وسكت عنه، ونقل المنذري تصحيح الترمذي وأقره، والحديث أخرجه أحمد والحاكم أيضاً.
واعلم أن هذا الحديث هو الحديث المسلسل بالأولية. قال ابن الصلاح في مقدمته: فلما تسلم المسلسلات من ضعف، أعني في وصف التّسَلْسُل لا في أصل المتن، ومن المسلسل ما ينقطع تسلسله في وسط إسناده، وذلك نقص فيه وهو كالمسلسل بأول حديث سمعته على ما هو الصحيح في ذلك انتهى(6/52)
باب ما جاء في النصيحة
...
17 ـ باب ما في النّصِيحَة
1990ـ حَدّثنا محمد بن بَشّار حدثنا صَفْوَانُ بنُ عيسَى عن محمدِ بنِ عَجْلاَنَ عن القَعْقَاعِ بنِ حَكِيمٍ عن أَبي صَالِحٍ عن أَبي هُرَيْرَةَ قالَ: قالَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم: "الدّينُ النّصِيحَةُ، ثَلاَثَ مِرَارٍ، قالُوا يا رسولَ الله: لِمَنْ؟ قَالَ: لله وَلِكِتَابِهِ وَلأَئِمّةِ المُسْلِمِينَ وَعَامّتِهِمْ" .
ـــــــ
"باب في النصيحة"
قوله: "الدين النصيحة" أي عماد الدين وقوامه هو النصيحة "ثلاث مرار" أي ذكرها ثلاثاً للتأكيد بها والاهتمام بشأنها "قالوا" أي الصحابة رضي الله عنهم "لمن؟" أي النصيحة لمن "قال: لله ولكتابه ولأئمة المسلمين وعامتهم". قال الجزري في النهاية: النصيحة كلمة يعبر بها عن جملة هي إرادة الخير للمنصوح له، وليس يمكن أن يعبر هذا المعنى بكلمة واحدة تجمع معناه غيرها. وأصل النصح في اللغة الخلوص، ويقال نصحته ونصحت له. ومعنى نصيحة الله صحة الاعتقاد في وحدانيته وإخلاص النية في عبادته، والنصيحة لكتاب الله هو التصديق به والعمل بما فيه، ونصيحة رسوله التصديق بنبوته ورسالته والانقياد لما أمر به ونهى عنه(6/52)
هذا حديثٌ حسنٌ. وفي البابِ عن ابنِ عُمَر وَتَمِيمٍ الدّارِيّ وجَرِيرٍ وحَكِيمِ بنِ أَبِي يَزِيدَ عن أَبِيهِ وَثَوْبَانَ.
1991 ـ حدّثنا محمدُ بنُ بَشّارٍ حدثنا يَحْيَى بنُ سَعِيدٍ عن إسماعيلَ بنِ أَبيِ خَالِدٍ عن قَيْسِ بنِ أَبي حَازِمٍ عن جَريرِ بنِ عَبْدِ الله قالَ: "بَايَعْتُ النبيّ صلى الله عليه وسلم على إقَامِ الصّلاةِ وإِيتاءِ الزكاة والنّصْحِ لِكُلّ مُسْلِمِ".
ـــــــ
ونصيحة الأئمة أن يطيعهم في الحق ولا يرى الخروج عليهم إذا جاروا، ونصيحة عامة المسلمين إرشادهم إلى مصالحهم انتهى. وقد بسط النووي في شرح هذا الحديث في شرح مسلم بسطاً حسناً.
قوله: "هذا حديث حسن" وأخرجه مسلم من حديث تميم الداري.
قوله: "وفي الباب عن ابن عمر وتميم الداري وجرير وحكيم بن أبي يزيد عن أبيه وثوبان". أما حديث ابن عمر فأخرجه البزار. وأما حديث تميم الداري فأخرجه مسلم والنسائي وأبو داود. وأما حديث جرير فأخرجه الترمذي في هذا الباب. وأما حديث حكيم بن أبي يزيد عن أبيه فلينظر من أخرجه. وأما حديث ثوبان فأخرجه الطبراني في الأوسط.
قوله: "على إقام الصلاة" أي إقامتها وإدامتها، وحذف تاء الإقامة عند الإضافة للإطالة "وإيتاء الزكاة" أي إعطائها. قال النووي إنما اقتصر على الصلاة والزكاة لكونهما أمي العبادات المالية والبدنية، وهما أهم أركان الإسلام بعد الشهادتين وأظهرها انتهى. لا يقال لعل غيرهما من الصوم والحج لم يكونا واجبين حينئذ لأنه أسلم عام توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم "والنصح" بضم فسكون أي وبالنصيحة "لكل مسلم" أي من خاصة المسلمين وعامتهم. قال النووي في شرح مسلم: ومما يتعلق بحديث جرير منقبة ومكرمة لجرير رواها الحافظ أبو القاسم الطبراني بإسناده. اختصارها أن جريراً أمر مولاه أن يشتري له فرساً بثلثمائة درهم، وجاء به وبصاحبه لينقده الثمن، فقال جرير لصاحب الفرس: فرسك خير من ثلثمائة درهم أتبيعه بأربعمائة؟ قال ذلك إليك يا أباعبد الله، فقال فرسك خير من ذلك أتبيعه بخمسمائة، ثم لم يزل يزيده مائة فمائة وصاحبه يرضى وجرير(6/53)
وهذا حديثٌ صَحيحٌ.
ـــــــ
يقول فرسك خير إلى أن بلغ ثمان مائة درهم فاشتراه بها، فقيل له في ذلك، فقال إني بايعت رسول الله صلى الله عليه وسلم على النصح لكل مسلم انتهى.
قوله: "حديث حسن صحيح" وأخرجه الشيخان(6/54)
18 ـ بابُ مَا جاءَ في شَفَقَةِ المسلِمِ على المُسْلِم
11992 ـ حَدّثنا عُبَيْدُ بِنُ أَسْبَاطِ بنِ محمدٍ القُرَشِيّ، حدثني أَبي عن هِشَامِ بنِ سَعْدٍ عن زَيْدِ بنِ أَسْلَمَ عن أَبِي صَالِحٍ عن أَبي هُرَيْرَةَ قالَ: قالَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم: "المُسْلِمُ أَخُو المُسْلِمِ لاَ يَخُونُهُ ولا يَكْذِبُهُ، وَلاَ يَخْذُلُهُ، كُلّ المُسْلِمِ عَلَى المُسْلَمِ حَرَامٌ: عِرْضُهُ وَمَالُهُ ودَمُهُ، التّقْوَى هَهُنَا
ـــــــ
"باب ما جاء في شفقة المسلم على المسلم"
قوله: "المسلم أخو المسلم" أي فليتعامل المسلمون فيما بينهم وليتعاشروا معاملة الإخوة، ومعاشرتهم في المودة والرفق والشفقة والملاطفة والتعاون في الخير ونحو ذلك مع صفاء القلوب والنصيحة بكل حال "لا يخونه" من الخيانة خبر في معنى الأمر "ولا يخذله" بضم الذال المعجمة من الخذلان وهو ترك النصرة والإعانة. قال النووي: معناه إذا استعان به في دفع ظالم ونحوه لزمه إعانته إذا أمكنه ولم يكن له عذر شرعي "كل المسلم على المسلم حرام: عرضه" بكسر العين المهملة وسكون الراء. قال الجزري في النهاية: العرض موضع المدح والذم من الإنسان سواء كان في نفسه أو في سلفه أو من يلزمه أمره. وقيل هو جانبه الذي يصونه من نفسه وحسبه، ويحامي عنه أن ينتقص ويثلب. وقال ابن قتيبة: عرض الرجل نفسه وبدنه لا غير انتهى. "التقوى ها هنا" زاد في رواية مسلم: ويشير إلى صدره. قال في مجمع البحار: أي لا يجوز تحقير المتقي من الشرك والمعاصي، والتقوى محله القلب يكون مخفياً عن الأعين فلا يحكم بعدمه لأحد حتى يحقره، أو يقال محل التقوى هو القلب، فمن كان في قلبه التقوى لا يحقر مسلماً، لأن المتقي لا يحقر مسلماً انتهى.(6/54)
بِحَسْبِ امرئ مِنَ الشّرّ أَنْ يَحْتَقِرَ أَخَاهُ المُسْلِمَ".
هذا حديثٌ حسنٌ غريبٌ.
1993 ـ حدّثنا الْحَسَنُ بنُ عَلِيّ الْخَلاّلُ وغَيْرُ وَاحِدٍ، قالُوا حدثنا أَبُو أُسَامَةَ عن بُرَيْدِ بنِ عَبْدِ الله بنِ أَبي بُرْدَةَ عن جَدّهِ أَبي بُرْدَةَ عن أَبِي مُوسَى الأَشْعَرِيّ قالَ: قالَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم: "المُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِ كالْبُنْيَانِ يَشُدّ بَعْضُهُ بَعْضاً" .
هذا حديثٌ حسنٌ صحيحٌ.
ـــــــ
"بحسب امرئ من الشر أن يحتقر أخاه المسلم" أي حسبه وكافيه من خلال الشر ورذائل الأخلاق احتقار أخيه المسلم. فقوله "بحسب امرئ" مبتدأ، وألباء فيه زائدة، وقوله "أن يحتقر" خبره.
قوله: "هذا حديث حسن غريب" وأخرجه مسلم.
قوله: "المؤمن للمؤمن" التعريف للجنس والمراد بعض المؤمن للبعض ذكره الطيبي "كالبنيان" أي البيت المبني "يشد بعضه" أي بعض البنيان، والجملة حال أو صفة أو استئناف بيان لوجه الشبه، وهو الأظهر "بعضاً" قال الكرماني، نصب بعضاًبنزع الخافض، وقال غيره: بل هو مفعول يشد. قال الحافظ: ولكل وجه قال ابن بطال: والمعاونة في أمور الاَخرة وكذا في اللأمور المباحة من الدنيا مندوب إليها وقد ثبت حديث أبي هريرة: والله في عون العبد ما دام العبد في عون أخيه. والحديث هكذا أخرجه الترمذي وغيره مختصراً، وزاد البخاري: ثم شبك بين أصابعه إلخ. قال الحافظ: هو بيان لوجه التشبيه أيضاً، أي يشد بعضهم بعضاً مثل هذا الشد انتهى. وقال النووي: هذا الحديث صريح في تعظيم حقوق المسلمين بعضهم بعضاً وحثهم على التراحم والملاطفة والتعاضد في غير أثم ولا مكروه، وفيه جواز التشبيه وضرب الأمثال لتقريب المعاني إلى الأفهام.
قوله: "هذا حديث صحيح" وأخرجه الشيخان.(6/55)
وفي الباب عن علي وأبي أيوب.
1994 ـ حدّثنا أَحمدُ بنُ محمدٍ، أخبرنا عَبْدُ الله بنُ المُبَارَكِ، أخبرنا يَحْيَى بنُ عُبَيْدِ الله عن أَبيِه عن أَبي هُرَيْرَةَ قالَ: قالَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم: "إِنّ أَحَدَكُمْ مِرْآةُ أَخِيِه، فإِنْ رَأَى بِهِ أَذىً فَلْيُمِطْهُ عَنْهُ" .
ويَحْيَى بنُ عُبَيْدِ الله ضَعّفَهُ شُعْبَةُ. قالَ: وفي البابِ عن أَنَسٍ.
ـــــــ
قوله: "وفي الباب عن علي وأبي أيوب" أما حديث علي فلينظر من أخرجه. وأما حديث أبي أيوب فأخرجه أحمد والشيخان.
قوله: "إن أحدكم مرآة أخيه" بكسر ميم ومد همز أي آلة لإراءة محاسن أخيه ومعايبه، لكن بينه وبينه، فإن النصيحة في الملأ فضيحة، وأيضاً هو يرى من أخيه ما لا يراه من نفسه كما يرسم في المرآة ما هو مختف عن صاحبه فيراه فيها أي إنما يعلم الشخص عيب نفسه بإعلام أخيه كما يعلم خلل وجهه بالنظر في المرآة "فإن رأى" أي أحدكم "به" أي بأخيه "أذى" أي عيباً مما يؤذيه أو يؤذي غيره "فليمطه" من الإماطة، والمعنى فليزل ذلك الأذى "عنه" أي عن أخيه إما بإعلامه حتى يتركه أو بالدعاء له حتى يرفع عنه، وحديث أبي هريرة هذا ضعيف لضعف يحيى بن عبيد الله. وأخرج نحوه أبو داود من وجه آخر. قال المنذري: وفيه كثير بن زيد أبو محمد المدني مولى الإسلمتين. قال ابن معين: ليس بذلك القوي يكتب حديثه. وقال النسائي: ضعيف.
قوله: "ويحي بن عبيد الله ضعفه شعبة" قال في التقريب: يحيى بن عبيد الله بن عبد الله بن موهب التيمي المدني متروك، وأفحش الحاكم فرماه بالوضع انتهى. وقال الذهبي في الميزان في ترجمته: قال شعبة: رأيته يصلي صلاة لا يقيمها فتركت حديثه انتهى.
قوله: "وفي الباب عن أنس" أخرجه الطبراني في الأوسط والضياء بلفظ: المؤمن مرآة المؤمن. قال المناوي بإسناد حسن(6/56)
19 ـ باب ما جاءَ في السّتْر عَلَى المسلمين
1995 ـ حَدّثنا عُبَيْدُ بنُ أَسْبَاطٍ بن محمد القُرَشِيّ، حدثنا أَبي، حدثنا الأَعْمَش، قالَ حُدّثْتُ عن أَبي صَالِحٍ عن أَبي هُرَيْرَةَ عن النبيّ صلى الله عليه وسلم قالَ: "مَنْ نَفّسَ عن مُسْلِمٍ كُرْبَةً مِنْ كُرَبِ الدّنْياَ نَفّسَ الله عَنْهُ كُرْبَةً مِنْ كُرَبِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَمَنْ يَسّرَ على مُعْسِرٍ في الدّنْياَ يَسّرَ الله عَلَيْهِ في الدّنْيَا وَالاَخِرَةِ، ومَنْ سَتَر على مُسْلِمٍ في الدّنْيَا سَتَرَ الله عَلَيْهِ في الدّنْياَ والاَخِرَةِ، والله في عَوْنِ العَبْدِ ما كَانَ العَبْدُ في عَوْنِ أَخيهِ" .
وفي البابِ عن ابنِ عُمَرَ وعُقْبَةَ بنِ عَامِرٍ.
هذا حديثٌ حسنٌ. وقد رَوَى أَبُو عَوَانَةَ وَغَيْرُ وَاحِدٍ، هذا الحَدِيثَ عن الأَعْمَشِ عن أَبي صاَلِحٍ عن أَبي هُرَيْرَةَ عن النبيّ صلى الله عليه وسلم نَحْوَهُ ولَمْ يَذْكُرُوا فيِه حُدّثتُ عن أَبي صَالحٍ.
ـــــــ
"باب ما جاء في الستر على المسلمين"
قوله: "حدثت عن أبي صالح" بصيغة المجهول، وهذا يدل على أن بين الأعمش وأبي صالح واسطة ولم يسمع هذا الحديث منه ولم يذكر من حدثه عنه. وقد روى أبو عوانة وغير واحد هذا الحديث عن الأعمش عن أبي صالح عن أبي هريرة كما بينه الترمذي فما بعد، وهذا يدل على أن الأعمش سمع هذا الحديث من أبي صالح من غير واسطة فالتوفيق أن الأعمش رواه عنه بواسطة، ثم لقيه فسمعه منه من غير واسطة والله تعالى أعلم.
قوله: "من نفس إلخ" قد تقدم هذا الحديث مع شرحه في باب الستر على المسلم من أبواب الحدود، وفي عقد الترمذي هذا الباب هناك وإيراده هذا الحديث فيه ثم عقده ها هنا وإيراده فيه تكرار.
قوله: "هذا حديث حسن" وأخرجه مسلم وأبو داود والنسائي وابن ماجة(6/57)
باب ما جاء في الذب على المسلم
...
20 ـ باب ما جاءَ في الذّبّ عن عِرْضِ المسْلِم
1996 ـ حَدّثنا أَحمدُ بنُ محمدٍ، أخبرنا ابنُ المُبَارَك عن أَبي بَكْرٍ النَهْشَلِيّ عن مرزُوقٍ أبي بَكْرٍ التّيْميّ عن أُمّ الدّرْداءِ عن أَبِي الدّرْدَاءِ عن النبيّ صلى الله عليه وسلم قالَ: "مَنْ رَدّ عن عِرْضِ أَخِيهِ رَدّ الله عَنْ وَجْهِهِ النّارَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ" قال: وفي البابِ عن أَسمَاءَ بِنْتِ يَزِيدَ.
هذا حديثٌ حسنٌ.
ـــــــ
"باب ما جاء في الذب عن المسلم"
في القاموس: ذب عنه: أي دفع عنه ومنع.
قوله: "عن أبي بكر الهشلي" الكوفي صدوق رمي بالإرجاء من السابعة "عن مرزوق أبي بكر التيمي" مقبول من السادسة.
قوله: "من رد عن عرض أخيه" أي منع غيبة عن أخيه "رد الله عن وجهه النار" أي صرف الله عن وجه الراد نار جهنم. قال المناوي: أي عن ذاته العذاب وخص الوجه لأن تعذيبه أنكى في الإيلام وأشد في الهوان.
قوله: "وفي الباب عن أسماء بنت يزيد" أخرجه البيهقي في شعب الإيمان عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: من ذب عن لحم أخيه بالغيبة كان حقاً على الله أن يعتقه من النار، كذا عزاه صاحب المشكاة إلى البيهقي. قال القاري في المرقاة: وفي التصحيح رواه الطبراني محيى السنة، وفي سنده ضعف: وقال الحافظ المنذري في الترغيب: رواه أحمد بسند حسن وابن أبي الدنيا والطبراني وغيرهم: نقله ميرك انتهى ما في المرقاة.
قوله: "هذا حديث حسن" ورواه أحمد وابن أبي الدنيا وأبو الشيخ في كتاب التوبيخ ولفظه: من ذب عن أخيه رد الله عنه عذاب النار يوم القيامة، وتلا رسول الله صلى الله عليه وسلم: {وكان حقاً علينا نصر المؤمنين}(6/58)
21 ـ باب ما جاءَ في كَرَاهِيَةِ الْهجرة
1997 ـ حَدّثنا ابنُ أَبِي عُمَرَ، حدثنا سُفْيَانُ، حدثنا الزّهْرِيّ ح. قالَ: وحدثنا سَعِيدُ بنُ عَبْدِ الرحمنِ حدثنا سُفْيَانُ عن الزّهْرِيّ عن عَطاَءِ بنِ يَزِيدَ اللّيْثِيّ عن أَبي أَيّوبَ الأنصَارِيّ أَنّ رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم قالَ: "لا يَحِلّ لِلْمُسْلِمِ أَنْ يَهْجُرَ أَخَاهُ فَوْقَ ثَلاَثٍ، يلْتَقِيَانِ فَيَصُدّ هذا ويَصُدّ هذا
ـــــــ
"باب ما جاء في كراهية الهجرة"
بكسر الهاء وسكون الجيم وهي مفارقة كلام أخيه المؤمن مع تلاقيهما وإعراض كل واحد منهما عن صاحبه عند الاجتماع. وليس المراد بالهجر هنا مفارقة الوطن إلى غيره فإن هذه تقدم حكمها.
قوله: "لا يحل للمسلم أن يهجر" بضم الجيم "أخاه" أي المسلم وهو أعم من أخوة القرابة والصحابة. قال الطيبي: وتخصيصه بالذكر إشعار بالعلية والمراد به أخوة الإسلام، ويفهم منه أنه إن خالف هذه الشريطة وقطع هذه الرابطة جاز هجرانه فوق ثلاثة انتهى. قيل: وفيه أنه حينئذ يجب هجرانهم "فوق ثلاث" ، وفي رواية الشيخين فوق ثلاث ليال والمراد بأيامها. قال النووي في شرح مسلم: قال العلماء: في هذا حديث تحريم الهجر بين المسلمين أكثر من ثلاث ليال وإباحتها في الثلاث الأول بنص الحديث، والثاني بمفهومه قالوا: وإنما عفا عنها في الثلاث لأن الاَدمى مجبول من الغضب وسوء الخلق ونحو ذلك فعفا عن الهجر الثلاث ليذهب ذلك العارض. وقيل إن الحديث لا يقتضي إباحة الهجر الثلاثة، وهذا على مذهب من يقول لا يحتج بالمفهوم ودليل الخطاب انتهى.
فإن قلت: لم هجرت عائشة ابن الزبير أكثر من ثلاثة أيام؟
قلت: قد أجاب الطبري بأن المحرم إنما هو ترك السلام فقط، وأن الذي صدر من عائشة ليس فيه أنها امتنعت من السلام على ابن الزبير ولا من رد السلام عليه لما بدأها بالسلام، قال: وكانت عائشة لا تأذن لأحد من الرجال أن يدخل عليها إلا بإذن، ومن دخل كان بينه وبينها حجاب إلا إن كان ذا محرم منها، ومع(6/59)
وَخَيْرُهُما الذي يَبْدَأُ بالسّلامِ" قالَ: وفي البابِ عن عَبْدِ الله بنِ مسعودٍ وَأَنَسٍ وأَبي هُرَيْرَةَ وَهِشَامِ بنِ عامرٍ وأَبي هِنْدٍ الدّارِيّ.
ـــــــ
ذلك لا يدخل عليها حجابها إلا بإذنها، فكانت في تلك المدة منعت ابن الزبير من الدخول عليها كذا قال: قال الحافظ في الفتح: ولا يخفى ضعف المأخذ الذي سلكه من أوجه لا فائدة للإطالة بها، والصواب ما أجاب به غيره أن عائشة رأت أن ابن الزبير ارتكب بما قال أمراً عظيماً وهو قوله: لأحجرن عليها، فإن فيه تنقيصاً لقدرها، ونسبة لها إلى ارتكاب ما لا يجوز من التذبير الموجب لمنعها من التصرف فيما رزقها الله تعالى، مع اتصاف إلى ذلك من كونها أم المؤمنين وخالته أخت أمه، ولم يكن أحد عندها في منزلته كما تقدم التصريح به في أوائل مناقب قريش، فكأنها رأت أن في ذلك الذي وقع منه نوع عقوق، والشخص يستعظم ممن يلوذ به ما لا يستعظمه من الغريب، فرأت أن مجازاته على ذلك بترك مكالمته كما نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن كلام كعب بن مالك وصاحبيه عقوبة لهم لتخلفهم عن غزوة تبوك بغير عذر، ولم يمنع من كلام من تخلف عنها من المنافقين مؤاخذة للثلاثة لعظيم منزلتهم وازدراء بالمنافقين لحقارتهم، فعلى هذا يحمل ما صدر كثير عائشة. وقد ذكر الخطابي أن هجر الوالد ولده والزوج زوجته ونحو ذلك لا يتضيق بالثلاث، واستدل بأنه صلى الله عليه وسلم هجر نساءه شهراً، وكذلك ما صدر من كثير من السلف في استجازتهم ترك مكالمة بعضهم بعضاً مع علمهم بالنهي عن المهاجرة اهـ. ما في الفتح "يلتقيان" أي يتلاقيان "فيصد هذا ويصد هذا" قال النووي: معنى يصد يعرض أي يوليه عرضه بضم العين وهو جانبه، والصد بضم الصاد، وهو أيضاً الجانب والناحية اهـ. "وخيرهما الذي يبدأ بالسلام" أي هو أفضلهما. قال النووي: فيه دليل لمذهب الشافعي ومالك ومن وافقهما أن السلام يقطع الهجر ويرفع الإثم فيها ويزيله. وقال أحمد وابن القاسم المالكي: ترك الكلام إن كان يؤذيه لم يقطع السلام هجره. قال أصحابنا: ولو كاتبه أو راسله عند غيبته عنه هل يزول إثم الهجر فيه وجهان: أحدهما لا يزول لأنه لم يكلمه، وأصحهما يزول لزوال الوحشة اهـ.
قوله: "وفي الباب عن عبد الله بن مسعود" أخرجه البزار ورواته. رواه الصحيح. قال المنذري في الترغيب "وأنس" أخرجه الترمذي في باب الحسد(6/60)
هذا حديثٌ حسنٌ صحيحٌ.
ـــــــ
"وأبي هريرة" أخرجه أحمد ومسلم بلفظ : لا هجرة بعد ثلاث، وأخرجه أبو داود والنسائي عنه مرفوعاً بلفظ: لا يحل لمسلم أن يهجر أخاه فوق ثلاث، فمن هجر فوق ثلاث فمات دخل النار " وهشام بن عامر" أخرجه أحمد ورواته محتج بهم في الصحيح، وأبو يعلى الطبراني وابن حبان في صحيحه وأبو بكر بن أبي شيبة كذا في الترغيب "وأبي هند الداري" لينظر من أخرجه.
قوله: "هذا حديث حسن صحيح" وأخرجه مالك والشيخان وأبو داود(6/61)
22 ـ باب ما جاءَ في مُواسَاةِ الأَخ
1998ـ حَدّثنا أَحمدُ بنُ مَنِيعٍ حدثنا إسماعيلُ بنُ إبراهيمَ حدثنا حُمَيْدٌ عن أَنَسٍ قالَ: "لَمّا قَدِمَ عَبْدُ الرحمَنِ بنُ عَوْفٍ الْمَدِينَةَ آخَى رسولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم بَيْنَهُ وبَيْنَ سَعْدِ بنِ الرّبيعِ، فقالَ لَهُ: هَلُمّ أُقاَسِمْكَ مَالي نِصْفَيْنِ وَلِيَ امْرَأَتَانِ فَأُطَلّقُ إِحْدَاهُماَ فإِذَا انْقَضَتْ عِدّتُهَا فَتَزَوّجْهَا، فَقَالَ: بَارَكَ الله لَكَ في أَهْلِكَ وَمَالِكَ، دُلّوني على السّوق، فَدَلّوهُ عَلَى السّوقِ،
ـــــــ
" باب ما جاءَ في مُواسَاةِ الأَخ"
قال في القاموس: آساه بماله مواساة أناله منه وجعله فيه أسوة أو لا يكون ذلك إلا من كفاف، فإن كان من فضلة فليس بمواساة1هـ. وقال في الصراح: مواساة بمال وتن باكسى غموار كي كردن. يقال آسيته بمالي وواسيته لغة ضعيفة فيه.
قوله: "آخي رسول الله صلى الله عليه وسلم بينه وبين سعد بن الربيع" أي جعل بينهما أخوة "فقال" أي سعد بن الربيع "له" أي لعبد الرحمن بن عوف "هلم" أي تعال، قال الخليل: أصله لم من قولهم: لمّ الله شعثه أي جمعه أراد لمّ نفسك إلينا، أي أقرب وها للتنبيه وحذفت ألفها وجعلا اسماً واحداً يستوي فيه الواحد والجمع والتأنيث في لغة أهل الحجاز وأهل نجد يعرفونها فيقولون للاثنين(6/61)
فَمَا رَجَعَ يَوْمَئِذٍ إلاّ وَمَعَهُ شَيْءٌ مِنْ أَقطٍ وَسَمْنٍ قد اسْتَفْضَلَهُ، فَرَآهُ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم بَعْدَ ذَلِكَ وَعَلَيْهِ وَضَر من صُفْرَةٍ، قالَ: مَهْيَمْ، فقالَ: تَزَوّجْتُ امْرَأةً مِنَ الأَنْصَارِ، فقالَ: فَمَا أَصْدَقْتَهَا؟ قالَ: نَوَاةً. قال حُمَيْدٌ أَوْ قالَ: وَزْنَ نَوَاةٍ مِنْ ذَهَبٍ، فقالَ: أَوْلِمْ وَلَوْ بِشَاةٍ".
هذا حديثٌ حسنٌ صحيحٌ. وقالَ أَحمدُ بنُ حَنْبَلٍ: وَزْنُ نَوَاةٍ مِنْ ذَهَبٍ وَزْنُ ثلاثةِ دَرَاهِمَ وَثُلُثٍ وقال إسحاق: وَزْنُ نَوَاةٍ مِنْ ذَهَبٍ وَزْنُ خَمْسَةِ دَرَاهِمَ. أخبرني بذلك إسحاقُ بنُ مَنْصُورٍ عن أحمد بن حنبل وإسحاق.
ـــــــ
هلما، وللجمع هلموا وللمرأة هلمي، وللنساء هلممن، والأول أفصح، كذا في الصراح "أقاسمك" بالجزم جواب هلم "قد استفضله" قال في القاموس: أفضلت منه الشيء واستفضلت بمعنى "وعليه وضر صفرة" بفتح الواو والضاد المعجمة وآخره راء هو في الأصل الأثر، والمراد بالصفر صفرة الخلوق، والخلوق طيب يصنع من زعفران وغيره "فقال مهيم" أي ما شأنك أو ما هذا وهي كلمة استفهام مبنية على السكون "قال نواة" بالنصب بتقدير الفعل أي أصدقتها نواة، ويجوز الرفع على تقدير مبتدأ أي الذي أصدقها نواة "قال حميد: أو قال وزن نواة من ذهب" هذا شك من حميد "فقال أو لم ولو بشاة" قال الحافظ: ليست لو هذه الامتناعية وإنما هي التي للتقليل.
قوله: "هذا حديث حسن صحيح" وأخرجه الشيخان.
قوله: "وقال أحمد بن حنبل: وزن نواة من ذهب وزن ثلاثة دراهم وثلث وقال إسحاق: وزن نواة من ذهب وزن خمسة دراهم إلخ" اختلف في المراد بقوله نواة فقيل المراد واحدة نوى التمر كما يوزن بنوى الخروب وأن القيمة عنها يومئذ كانت خمسة دراهم، وقيل كان قدرها يومئذ ربع دينار.
ورد بأن نوى التمر يختلف في الوزن فكيف يجعل معياراً لما يوزن به.
وقيل: لفظ النواة من ذهب عبارة عما قيمته خمسة دراهم من الورق، وجزم به الخطابي واختاره الأزهري. ونقله عياض عن أكثر العلماء، ويؤيده أن في(6/62)
ـــــــ
رواية للبيهقي من طريق سعيد بن بشر عن قتادة: وزن نواة من ذهب قومت خمس دراهم. وقيل: وزنها من الذهب خمسة دراهم حكام ابن قتيبة وجزم به إبن فارس، وجعله البيضاوي الظاهر واستبعد لأنه يستلزم أن يكون ثلاثة مثاقيل ونصفاً، ووقع في رواية حجاج بن أرطاة عن قتادة عند البيهقي: قومت ثلاثة دراهم وثلثاً وإسناد ضعيف. ولكن جزم به أحمد. وعن بعض المالكية: النواة عند أهل المدينة ربع دينار، ويؤيد هذا ما وقع عند الطبراني في الأوسط في آخر حديث أنس قال: جاء وزنها ربع دينار، وقد قال الشافعي: النواة ربع النش والنش نصف أوقية والأوقية أربعون درهماً فيكون خمسة دراهم، وكذا قال أبو عبيد: أن عبد الرحمن بن عوف دفع خمسة دراهم وهي تسمى نواة كما تسمى الأربعون أوقية، وبه جزم أبو عوانة وآخرون كذا في الفتح(6/63)
23 ـ باب ما جاءَ في الغِيبَة
1999ـ حَدّثنا قُتَيْبَةُ حدثنا عَبْدُ العَزِيزِ بنُ محمدٍ عن العَلاءِ بنِ عَبْدِ الرحمن عن أَبيه عن أَبي هُرَيْرَةَ قالَ: "قيلَ يا رسولَ الله ما الغِيبَةُ؟ قالَ: ذِكْرُكَ أَخَاكَ بِمَا يَكْرَهُ. قالَ: أَرأَيْتَ إنْ كانَ فيهِ مَا أَقُولُ؟ قالَ :
ـــــــ
"باب ما جاءَ في الغِيبَة"
قوله: "قال قيل يا رسول الله ما الغيبة؟" بكسر الغين المعجمة "قال ذكرك" أي أيها المخاطب خطاباً عاماً "أخاك" أي المسلم "بما يكره" أي بما لو سمعه لكرهه. قال النووي: اعلم أن الغيبة من أقبح القبائح وأكثرها انتشاراً في الناس حتى لا يسلم منها إلا القليل من الناس، وذكرك أخاك بما يكره عام سواء كان في بدنه أو دينه، أو دنياه، أو نفسه، أو خلقه، أو ماله، أو ولده، أو والده، أو زوجه، أو خادمه، أو ثوبه أو مشيه وحركته، وبشاشته وعبوسته وطلاقته، أو غير ذلك مما يتعلق به، سواء ذكرته بلفظك أو كتابك، أو رمزت أو أشرت إليه بعينك أو يدك أو رأسك ونحو ذلك، وضابطه أن كل ما أفهمت به غيرك نقصان مسلم فهو غيبة محرمة، ومن ذلك المحاكاة بأن يمشي متعرجاً أو مطأطأ أو(6/63)
إن كَانَ فِيه ما تَقُولُ فقد اغْتَبْتَهُ، وإِن لم يَكُنْ فيِه ما تَقُولُ فَقَدْ بَهَتّهُ" . قال وفي البابِ عن أَبي بَرْزَةَ وابنِ عُمْرَ وَعَبْدِ الله بنِ عَمْرٍو.
هذا حديثٌ حسنٌ صحيحٌ.
ـــــــ
على غير ذلك من الهيئات مريد حكاية هيئة من ينقصه بذلك "قال أرأيت" أي أخبرني "إن كان فيه" أي في الأخ "ما أقول" من المنقصة، والمعنى. أيكون حينئذ ذكره بها أيضاً غيبة كما هو المتبادر من عموم ذكره بما يكره "قال: إن كان فيه ما تقول" أي من العيب "فقد اغتبته" أي لا معنى للغيبة إلا هذا وهو أن تكون المنقصة فيه "وإن لم يكن فيه ما تقول فقد بهته" بفتح الهاء المخففة وتشديد التاء على الخطاب أي قلت عليه البهتان وهو كذب عظيم يبهت فيه من يقال في حقه.
قوله: "وفي البابن أبي برزة وابن عمر وعبد الله بن عمرو" وأما حديث أبي برزة فأخرجه أحمد في مسنده ص 421 ج 4. وأما حديث ابن عمر فأخرجه أبو داود والطبراني والحاكم وقال صحيح الإسناد، كذا في الترغيب. وأما حديث عبد الله بن عمرو فأخرجه الأصبهاني: قال المنذري بإسناد حسن من طريق عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أنهم ذكروا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلاً، فقالوا لا يأكل حتى يطعم، ولا يرحل حتى يرحل له، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: اغتبتموه، فقالوا يا رسول الله إنما حدثنا بما فيه، قال حسبك إذا ذكرت أخاك بما فيه(6/64)
24 ـ باب ما جاءَ في الْحَسَد
2000 ـ حَدّثنا عَبْدُ الجَبّارِ بنُ العلاَءِ العَطّارُ وسَعِيدُ بنُ عَبْدِ الرحْمَنِ، قالا حدثنا سُفْيَانُ بنُ عُيَيْنَةَ عن الزّهْرِيّ عن أَنَسٍ قالَ:
ـــــــ
"باب ما جاء في الحسد"
وهو تمني الشخص زوال النعمة عن مستحق لها أعم من أن يسعى في ذلك أولاً، فإن سعى كان باغياً، وإن لم يسع في ذلك ولا أظهره ولا تسبب في تأكيد اسباب الكراهة التي نهي المسلم عنها في حق المسلم نظر، فإن كان المانع له من ذلك(6/64)
قالَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم: "لاَ تَقَاطَعُوا، وَلاَ تَدَابَرُوا، وَلاَ تَبَاغَضُوا، وَلاَ تَحَاسدُوا، وكُونُوا عِبَادَ الله إخْوَاناً، وَلاَ يَحِلّ لِلْمُسْلِم أَنْ يَهْجُرَ أَخَاهُ فَوْقَ ثَلاَثٍ" .
هذا حديثٌ حسنٌ صحيحٌ.
ـــــــ
العجز بحيث لو تمكن لفعل فهذا مأزور، وإن كان المانع له من ذلك التقوى فقد يعذر لأنه لا يستطيع دفع الخواطر النفسانية فيكفيه في مجاهداتها أن لا يعمل بها ولا يعزم على العمل بها. وقد أخرج عبد الرزاق عن معمر عن إسماعيل بن علية رفعه: ثلاث لا يسلم منها أحد: الطيرة والظن والحسد، قيل فما المخرج منها يا رسول الله؟ قال: إذا تطيرت فلا ترجع، وإذا ظننت فلا تحقق، وإذا حسدت فلا تبغ. وعن الحسن البصري قال: ما من آدمي إلا وفيه الحسد، فمن لم يجاوز ذلك إلى البغي والظلم لم يتبعه منه شيء، كذا في فتح الباري.
قوله: "لا تقاطعوا" أي يقاطع بعضكم بعضاً، والتقاطع ضد التواصل "ولا تدابروا" قال الخطابي: لا تتهاجروا فيهجر أحدكم أخاه، مأخوذ من تولية الرجل الاَخر دبره إذا أعرض عنه حين يراه. وقال ابن عبد البر: قيل للإعراض مدابرة لأن من أبغض أعرض، ومن أعرض ولي دبره، والمحب بالعكس انتهى. "ولا تباغضوا" أي لا تتعاطوا أسباب البغض، لأن البغض لا يكتسب ابتداء "ولا تحاسدوا" أي لا يتمنى بعضكم زوال نعمة بعض، سواء أرادها لنفسه أو لا "وكونوا عباد الله إخواناً" أي يا عباد الله بحذف حرف النداء، وفيه إشارة إلى أنكم عبيد الله فحقكم أن تتواخوا بذلك، وقيل قوله عباد الله خبر لقوله كونوا، وإخواناً خبر ثان له. قال الفرطبي: المعنى كونوا كإخوان النسب في الشفقة والرحمة والمحبة والمواساة والمعاونة والنصيحة "ولا يحل للمسلم أن يهجر أخاه فوق ثلاث" تقدم شرحه.
قوله: "هذا حديث حسن صحيح" وأخرجه مالك والبخاري وأبو داود والنسائي وأخرجه مسلم أخصر منه.(6/65)
وفي البابِ عن أَبي بَكْرٍ الصّدّيقِ وَالزّبَيْرِ بنِ العَوّامِ وابنِ مَسْعُودٍ وَأَبي هُرَيْرَةَ.
2001 ـ حدّثنا ابنُ أَبيِ عُمَرَ حدثنا سُفْيَانُ حدثنا الزّهْرِيّ عن سَالمٍ عن أبيِه قالَ: قالَ رَسُول الله صلى الله عليه وسلم: "لا حَسَدَ إِلاّ في اثْنَتَيْنِ: رَجلٌ آتَاهُ الله مَالاً فَهُوَ يُنْفِقُ منهُ آنَاءَ اللّيْلِ وآنَاءَ النّهَارِ، وَرَجُلٌ آتَاهُ الله القُرْآنَ فَهُوَ يَقُومُ بِهِ آنَاءَ اللّيْلِ وَآنَاءَ النّهَارِ" .
ـــــــ
قوله: "وفي الباب عن أبي بكر الصديق الزبير بن العوام وابن عمر وابن مسعود وأبي هريرة" أما حديث أبي بكر الصديق فأخرجه أحمد في مسنده ص 3 ج 1. وأما حديث الزبير بن العوام فأخرجه أحمد والترمذي والبزار بإسناد جيد والبيهقي. وأما حديث ابن عمر فأخرجه الترمذي بعد هذا. وأما حديث ابن مسعود، فأخرجه الشيخان وغيرهما. وأما حديث أبي هريرة، فأخرجه مالك والشيخان وأبو داود وأخرجه الترمذي مختصراً في باب ظن السوء.
قوله: "لا حسد" قال العلماء: الحسد قسمان: حقيقي ومجازي، فالحقيقي تمني زوال النعمة عن صاحبها، وهذا حرام بإجماع الأمة مع النصوص الصحيحة، وأما المجازي فهو الغبطة وهو أن يتمنى مثل النعمة التى على غيره من غير زوالها عن صاحبها، فإن كانت من أمور الدنيا كانب مباحة، وإن كانت طاعة فهي مستحبة. والمراد بالحسد في هذا الحديث معناه المجازي أي لا غبطة محبوبة إلا في هاتين الخصلتين وما في معناهما "إلا في اثنتين" بتاء التأنيث أي لا حسد محموداً في شيء إلا في خصلتين، وعلى هذا فقوله "رجل" بالرفع، والتقدير خصلة رجل حذف المضاف وأقيم المضاف إليه مقامه "آتاه الله" بالمد في أوله أي أعطاه الله من الإيتاء وهو الإعطاء "مالا" نكرة ليشمل والقليل والكثير "فهو ينفق منه آناء الليل وآناء النهار" قال النووي: أي ساعاته وواحدة إنا وأنا وإني وإنو أربع لغات انتهي. وقال في الصراح: آناء الليل ساعاته واحدها إني مثل معي وأمعاء، وإني وأنو أيضاً، يقال مضى إنوان وإنيان من الليل انتهى. "فهو يقوم به" المراد بالقيام به العمل مطلقاً أعم من تلاوته داخل الصلاة أو خارجها من تعليمه والحكم(6/66)
هذا حديثٌ حسنٌ صحيحٌ. وقد رُوِيَ عن ابنِ مَسْعُودٍ وَأَبي هُرَيْرَةَ عن النبيّ صلى الله عليه وسلم نَحْوُ هذَا.
ـــــــ
والفتوى بمقتضاه. ولأحمد من حديث يزيد بن الأخنس السلمي: رجل أتاه الله القرآن فهو يقوم به آناء الليل وآناء النهار ويتبع ما فيه.
قوله: "هذا حديث حسن صحيح" وأخرجه الشيخان.
قوله: "وقد روي عن ابن مسعود" أخرج روايته البخاري في العلم وفي الزكاة وفي الأحكام وفي الاعتصام، ومسلم في الصلاة والنسائي في العلم، وابن ماجة في الزهد "وأبي هريرة إلخ" أخرج روايته البخاري في فضائل القرآن والنسائي(6/67)
25 ـ باب ما جاءَ في التّبَاغُض
2002 ـ حَدّثنا هَنّادٌ حدثنا أَبو مُعَاوِيةَ عن الأعمش عن أَبي سُفْيَانَ عن جَابِرٍ قالَ: قالَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم: "إِنّ الشّيطَانَ قَدْ أَيِسَ أَنْ يَعْبُدَهُ المُصَلّونَ وَلَكِنْ في التَحْرِيشِ بَيْنَهُمْ" .
ـــــــ
"باب ما جاء في التباغض"
قوله: "إن الشيطان" يحتمل الجنس والأظهر أن المراد به إبليس رئيسهم "قد أيس" قال في القاموس: أيس منه كسمع إياساً قنط انتهى. أي يئس وصار محروماً "أن يعبده المصلون" أي من أن يعبده المؤمنون، وزاد في رواية مسلم: في جزيرة العرب قال القاري في المرقاة: اختصر القاضي كلام الشراح. وقال عبادة الشيطان عبادة الصنم لأنه الاَمر به والداعي إليه بدليل قوله: يا أبت لا تعبد الشيطان والمراد بالمصلين المؤمنون كما في قوله عليه الصلاة والسلام: نهيتكم عن قتل المصلين. سموا بذلك لأن الصلاة أشرف الأعمال وأظهر الأفعال الدالة على الإيمان. ومعنى الحديث أيس من أن يعود أحد من المؤمنين إلى عبادة الصنم ويريد إلى شركه في جزيرة العرب، ولا يرد على ذلك ارتداد أصحاب مسيلمة ومانعي الزكاة وغيرهم ممن ارتدوا بعد النبي صلى الله عليه وسلم لأنهم لم يعبدوا الصنم انتهى. قال القاري: وفيه أن دعوة الشيطان عامة إلى أنواع الكفر غير مختص بعبادة الصنم، فالأولى(6/67)
وفي البابِ عن أَنَسِ وَسُلَيْمَانَ بن عَمْرٍو بن الأحْوَصِ عن أبيهِ.
هذا حديثٌ حسنٌ وأبو سُفْيَانَ اسْمُهُ طَلْحَةُ بنُ نَافِعٍ.
ـــــــ
أن يقال: المراد أن المصلين لا يجمعون بين الصلاة وعبادة الشيطان كما فعلته اليهود والنصارى انتهى "ولكن في التحريش" خبر لمبتدأ محذوف أي هو في التحريش أو ظرف لمقدر أي يسعى في التحريش "بينهم" أي في إغراء بعضهم على بعض والتحري بالشر بين الناس من قتل وخصومة. والمعنى لكن الشيطان غير آيس من إغراء المؤمنين وحملهم على الفتن بل له هو مطمع في ذلك. قال النووي: هذا الحديث من المعجزات النبوية، ومعناه آيس أن يعبده أهل جزيرة العرب. ولكنه يسعى في التحريش بينهم بالخصومات والشحناء والحروب والفتن ونحوها انتهى.
قوله: "وفي الباب عن أنس" أخرجه الترمذي في الباب الذي قبله "وسليمان بن عمرو بن الأحوص عن أبيه" لينظر من أخرجه.
قوله: "هذا حديث حسن" وأخرجه أحمد ومسلم(6/68)
26 ـ باب ما جاءَ في إِصْلاَحِ ذَاتِ الْبَيْن
2003 ـ حَدّثنا محمدُ بنُ بَشّارٍ حدثنا أَبو أَحمدَ الزّبيري حدثنا سُفْيَانُ قالَ: وحدثنا محمودُ بنُ غَيْلاَنَ حدثنا بِشْرُ بنُ السّرِيّ وَ أَبُو أحمدَ قالا: حدثنا سُفْيَانُ عن عَبْد الله بن عُثمان بنِ خُثَيْمٍ عن شَهْرِ بنِ حَوْشَبٍ عن أَسْمَاءَ بنْتِ يَزِيدَ قَالتْ: قالَ رَسُولُ
ـــــــ
"باب ما جاءَ في إِصْلاَحِ ذَاتِ الْبَيْن"
قال في المجمع: ذات الشيء نفسه وحقيقته، والمراد ما أضيف إليه، ومنه إصلاح ذات البين أي إصلاح أحوال بينكم حتى يكون أحوال ألفة ومحبة واتفاق كعليم بذات الصدور أي بمضمراتها، لما كانت الأحوال ملابسة للبين قيل لها ذات البين، وإصلاحها سبب الاعتصام بحبل الله وعدم التفرق بين المسلمين فهو درجة فوق درجة من اشتغل بخويصة نفسه بالصيام والصلاة فرضاً ونفلا انتهى.
قوله: "عن بن خثيم" بضم الخاء المعجمة وفتح المثلثة مصغراً، هو عبد الله ابن عثمان.(6/68)
الله صلى الله عليه وسلم: "لاَ يَحِلّ الكَذِبُ إِلاّ في ثَلاَث: يُحَدّثُ الرّجُلُ امْرَأَتَهُ ليُرْضِيَهَا، والكَذِبُ فِي الْحَرْبِ، وَالكَذِبُ لِيُصْلِحَ بَيْنَ النّاسِ" .
وقال محمودٌ فِي حَدِيِثهِ: "لا يَصْلُحُ الكَذِبُ إِلاَ فِي ثَلاَثٍ"
ـــــــ
قوله: "يحدث الرجل امرأته ليرضيها" قال القاري: حذف قرينته للاكتفاء أو للمقايسة أو وقع اختصاراً من الراوي انتهى.
قلت: وقع في حديث أم كلثوم عند مسلم قالت: ولم أسمعه يرخص في شيء مما يقول الناس إلا في ثلاث: الحرب والإصلاح بين الناس وحديث الرجل امرأته وحديث المرأة زوجها. قال النووي في شرح مسلم: قال القاضي: لا خلاف في جواز الكذب في هذه الصور. واختلفوا في المراد بالكذب المباح فيها ما هو؟ فقالت طائفة: هو على إطلاقه وأجازوا قول ما لم يكن في هذه المواضع للمصلحة، وقالوا الكذب المذموم ما فيه مضرة، واحتجوا بقول إبراهيم صلى الله عليه وسلم: بل فعله كبيرهم، وإني سقيم. وقوله: إنها أختي، وقول منادي يوسف صلى الله عليه وسلم: "أيتها العير إنكم لسارقون" قالوا: ولا خلاف أنه قصد ظالم قتل رجل هو عنده مختف وجب عليه الكذب في أنه لا يعلم أين هو. وقال آخرون منهم الطبري: لا يجوز الكذب في شيء أصلا، قالوا: وما جاء من الإباحة في هذا المراد به التورية واستعمال المعاريض لا صريح الكذب، مثل أن يعد زوجته أن يحسن إليها أو يكسوها كذا، وينوي إن قدر الله ذلك. وحاصله أن يأتي بكلمات محتملة يفهم المخاطب منها ما يطيب قلبه، وإذا سعى في الإصلاح نقل عن هؤلاء إلى هؤلاء كلاماً جميلاً، ومن هؤلاء إلى هؤلاء كذلك وورى. وكذا في الحرب بأن يقول لعدوّه مات إمامكم الأعظم وينوي إمامهم في الأزمان الماضية، أو غداً يأتينا مدد أي طعام أو نحو هذا من المعاريض المباحة، فكل هذا جائز. وتأولوا قصة إبراهيم ويوسف وما جاء من هذا على المعاريض. وأما كذبه لزوجته وكذبها له، فالمراد به في إظهار الود والوعد بما لا يلزم، ونحو ذلك. فأما المخادعة في منع حق عليه أو عليها أو أخذ ما ليس له أو لها فهو حرام بإجماع المسلمين، انتهى كلام النووي.(6/69)
هذا حديثٌ لاَ نَعْرِفُهُ مِنْ حَدِيثِ أَسْمَاءَ، إِلاَ مِنْ حَدِيث ابنِ خُثَيْمٍ. ورَوَى دَاودُ بنُ أَبِي هِنْدٍ هذا الْحَدِيثَ عَن شَهْرِ بنِ حَوْشَبٍ عن النبيّ صلى الله عليه وسلم، وَلَمْ يَذْكُرْ فِيه عن أَسْمَاءَ. حدثنا بذَلكَ محمدُ بن العلاء حدثنا ابنُ أَبِي زَائِدَةَ عن دَاودَ وفي البابِ عن أَبِي بَكْرٍ رَضِيَ الله عَنْهُ.
2004 ـ حدّثنا أَحمدُ بنُ مَنِيعٍ، حدثنا إسماعيلُ بنُ إبراهيمَ عن مَعْمَرٍ عن الزّهْرِيّ عن حُمَيْدِ بنِ عَبْدِ الرحمنِ عن أُمّهِ أُمّ كُلْثُومٍ بِنْتِ عُقْبَةَ قالَتْ: سَمِعْتُ رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم يقول: "لَيْسَ بالكَاذِبِ مَنْ أَصْلَحَ بَيْنَ النّاسِ فقالَ خَيْراً، أو نمَا خَيْراً" .
ـــــــ
قوله: "هذا حديث حسن" وأخرجه أحمد.
قوله: "وفي الباب عن أبي بكر رضي الله عنه" لينظر من أخرجه.
قوله: "عن حميد بن عبد الرحمن" بن عوف الزهوي المدني "عن أمه أم كلثوم بنت عقبة" بن أبي معيط الأموية أسلمت قديماً، وهي أخت عثمان لأمه صحابية لها أحاديث ماتت في خلافة علي.
قوله: "ليس بالكاذب من أصلح بين الناس" أي ليس بالكاذب المذموم من أصلح بين الناس بل هذا محسن "فقال خيراً" أي قولا متضمناً للخير دون الشر بأن يقول للإصلاح مثلا بين زيد وعمرو: يا عمرو يسلم عليك زيد ويمدحك ويقول أنا أحبه، وكذلك يجيء إلى زيد ويبلغ من عمرو مثل ما سبق "أو نمى خيراً" شك من الراوي قال الجزري في النهاية: يقال نميت الحديث أنميه إذا بلغته على وجه الإصلاح وطلب الخير، فإذا بلغته على وجه الإفساد والنميمة قلت نميته بالتشديد، هكذا قال أبو عبيد وابن قتيبة وغيرهما من العلماء. وقال الحربي: نمى مشددة وأكثر المحدثين يقولونها مخففة وهذا لا يجوز، ورسول الله صلى الله عليه وسلم لم يكن يلحن. ومن خفف لزمه أن يقول خير بالرفع قال الجزري: وهذا(6/70)
وهذا حديثٌ حسنٌ صحيحٌ.
ـــــــ
ليس بشيء فإنه ينتصب بنمى كما انتصب بقال، وكلاهما على زعمه لازمان وإنما نمى متعد، يقال نميت الحديث أي رفعته وأبلغته انتهى.
قوله: "وهذا حديث حسن صحيح" وأخرجه أحمد والبخاري ومسلم وأبو داود والنسائي(6/71)
باب ما جاء في الخيانة و الغش
...
27 ـ باب ما جاءَ في الْخِيَانَةِ وَالغِش
2005 ـ حَدّثنا قُتَيْبَةُ حدثنا اللّيْثُ عن يَحْيَى بن سَعِيدٍ عن محمدٍ بنِ يَحْيى بنِ حَبّانَ عن لُؤْلُؤةَ عن أَبي صِرْمَةَ أَنّ رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم قالَ: "مَنْ ضَارّ ضَارّ الله به، وَمَنْ شَاقّ شَاقّ الله عليه" .
هذا حديثٌ حسنٌ غَريبٌ.
ـــــــ
" باب ما جاءَ في الْخِيَانَةِ وَالغِش"
قال في القاموس: غشه لم يمحضه النصح أو أظهر له خلاف ما أضمر كغششه، والغش بالكسر الاسم منه والغل والحقد وانتهى.
قوله: "عن لؤلؤة" مولاة الأنصار مقبولة من الرابعة "عن أبي صرمة" بكسر الصاد المهملة وسكون الراء المازني الأنصاري صحابي اسمه مالك بن قيس، وقيل قيس بن صرمة وكان شاعراً.
قوله: "من ضار" بشد الراء أي أوصل ضرراً إلى مسلم "ضار الله به" أي أوقع به الضرر البالغ "ومن شاق" بشد القاف أي أوصل مشقة إلى أحد بمحاربة وغيرها "شق الله عليه" أي أدخل عليه ما يشق عليه، قيل إن الضرر والمشقة متقاربان لكن الضرر يستعمل في إتلاف المال والمشقة في إيصال الأذية إلى البدن كتكليف عمل شاق.
قوله: "وفي الباب عن أبي بكر" أخرجه الترمذي بعد هذا.
قوله: "هذا حديث حسن غريب" وأخرجه أحمد وأبو داود والنسائي وابن ماجة.(6/71)
2006 ـ حدّثنا عَبْدُ بنُ حُمَيْدٍ، حدثنا زَيْدُ بنُ الحُبَابٍ العُكْلِيّ، حدثني أَبُو سَلَمَةَ الكِنْدِيّ، حدثنا فَرْقَدُ السّبَخِيّ عن مُرّةَ بنِ شَرَاحِيلَ الهمْدَانِيّ وَهُوَ الطّيّبُ عن أَبِي بَكْرٍ الصّدّيقِ قالَ: قالَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم: "مَلْعُونٌ مَنْ ضَارّ مُؤْمِناً أَو مَكَرَ بِهِ" .
هذا حديثٌ غريبٌ.
ـــــــ
قوله: "حدثني أبو سلمة الكندي" مجهول من السابعة "عن مرة بن شراحيل الهمداني وهو الطيب" قال في التقريب: مرة بن شراحيل الهمداني أبو إسماعيل الكوفي هو الذي يقال له مرة الطيب، ثقة عابد من الثانية.
قوله: "ملعون" أي مبعد من رحمة الله "من ضار مؤمناً" أي ضرراً ظاهراً "أو مكر به" أي بإيصال الضرر إليه خفية.
قوله: "هذا حديث غريب" في سنده أبو سلمة الكندي وهو مجهول كما عرفت آنفاً(6/72)
28 ـ باب ما جاءَ في حَقّ الْجِوَار
2007 ـ حَدّثنا محمدُ بنُ عَبْدِ الأَعْلَى، حدثنا سُفْيَانُ بن عيينة عن دَاودَ بنِ شَابُورَ وبَشِيرٍ أَبي إسماعيلَ عن مُجَاهِدٍ: أَنّ عَبْدَ الله بنَ عَمْرٍو ذُبِحَتْ لَهُ شَاةٌ
ـــــــ
" باب ما جاءَ في حَقّ الْجِوَار"
قال في الصراح: جوار بالكسر والضم، والكسر أفصح همساً بكى كردن.
قوله: "حدثنا سفيان" هو ابن عيينة "عن داود بن شابور" بالمعجمة والموحدة أبي سليمان المكي، وقيل إن اسم أبيه عبد الرحمن وشابور جده، ثقة من السابعة، روى عن سويد بن حجير وطاوس وغيرهما، وعنه شعبة وابن عيينة وثقه أبو زرعة الرازي وابن معين "وبشير أبي إسماعيل" هو
ابن سليمان الكندي الكوفي والد الحكم، ثقة يغرب من السادسة.(6/72)
في أَهْلِهِ فلما جَاءَ قالَ: أَهْدَيْتُمْ لجَارِنَا اليَهُودِيّ؟ أَهْدَيْتُمْ لِجَارِنَا اليَهُودِيّ؟ سَمِعْتُ رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم يقول: "مَا زَالَ جِبْرَيلُ يُوصِينِي بالجَارِ حتى ظَنَنْتُ أَنّهُ سَيُوَرّثُهُ" .
وفي البابِ عن عَائِشَةَ وابنِ عَبّاسٍ وعقبة بن عامر وَأَبي هُرَيْرَةَ وَأَنَس وَعَبْدِ الله بنِ عَمْرٍو والمِقْدَادِ بنِ الأَسْوَدِ وَأَبي شُرَيْحٍ وَأَبي أُمَامَةَ.
ـــــــ
قوله: "أهديتم" بتقدير همزة الاستفهام "ما زال جبرائيل يوصيني بالجار حتى ظننت أنه سيورثه" أي يأمر عن الله بتوريث الجار من جاره. واختلف في المراد بهذا التوريث فقيل يجعل له مشاركة في المال بفرض سهم يعطاه مع الأقارب، وقيل المراد أن ينزل منزلة من يرث بالبر والصلة، والأول أظهر فإن الثاني استمر، والخبر مشعر بأن التوريث لم يقع. ويؤيده ما أخرجه البخاري من حديث جابر نحو حديث الباب بلفظ: حتى ظننت أنه يجعل له ميراثاً. واسم الجار يشمل المسلم والكافر، والعابد والفاسق، والصديق والعدو، والغريب والبلدي، والنافع والضار، والقريب والأجنبي، والأقرب داراً والأبعد، وله مراتب بعضه أعلى من بعض فأعلاها من اجتمعت فيه الصفات الأول كلها ثم أكثرها وهلم جرا إلى الواحد وعكسه من اجتمعت فيه الصفات الأخرى كذلك، فيعطى كل حقه بحسب حاله. وقد تتعارض صفتان فأكثر فيرجع أو يساوي. وقد حمله عبد الله بن عمرو الراوي على العموم، فإنه أمر لما ذبحت له شاة أن يهدي منها لجاره اليهودي. وقد أخرج الطبراني من حديث جابر مرفوعاً: الجيران ثلاثة: جار له حق وهو المشرك له حق الجوار، وجار له حقان وهو المسلم له حق الجواز وحق الإسلام وجار له ثلاثة حقوق مسلم له رحم له حق الجوار والإسلام والرحم، هذا تلخيص ما في فتح الباري.
قوله: "وفي الباب عن عائشة وابن عباس الخ" أما حديث عائشة فأخرجه البخاري ومسلم عنها وعن ابن عمر قالا: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما زال جبريل عليه السلام يوصيني بالجار حتى ظننت أنه سيورثه وأخرجه الترمذي عن عائشة وحدها. وأما حديث ابن عباس فأخرجه الطبراني وأبو يعلى عنه مرفوعاً:(6/73)
هذا حديثٌ حسنٌ غريبٌ مِن هذَا الوَجْهِ. وقد رُوِيَ هذَا الحَدِيثُ عن مُجاهِدٍ عن عَائِشَةَ وَأَبي هُرَيْرَةَ أَيْضاً عن النبيّ صلى الله عليه وسلم.
2008 ـ حدّثنا قُتَيْبَةُ، حدثنا اللّيْثُ بنُ سَعْد عن يَحْيَى بنِ سَعِيد عن أَبي بَكْرِ بنِ محمدٍ، وَهُوَ ابنُ عَمْرِو بنِ حَزْمٍ، عن عَمْرَةَ عن عَائِشَةَ أَنّ
ـــــــ
ليس المؤمن الذي يشبع وجاره جائع . قال المنذري: رواته ثقات. وأما حديث عقبة بن عامر فأخرجه أحمد عنه مرفوعاً بلفظ: أول خصمين يوم القيامة جاران . قال المنذري: ورواه الطبراني بإسنادين أحدهما جيد. وأما حديث أبي هريرة فأخرجه البخاري ومسلم عنه مرفوعاً: من كان يؤمن بالله وباليوم الاَخر فلا يؤذي جاره ، الحديث. وأما حديث أنس فأخرجه مسلم عنه مرفوعاً بلفظ: والذي نفسي بيده لا يؤمن عبد حتى يحب لجاره أو لأخيه ما يحب لنفسه . وأما حديث عبد الله بن عمرو فأخرجه الترمذي في هذا الباب. وأما حديث المقداد فأخرجه أحمد وفيه: لأن يزني الرجل بعشرة نسوة أيسر عليه من أن يزني بامرأة جاره الحديث. قال المنذري رواته ثقات. وأما حديث أبي شريح فأخرجه البخاري عنه مرفوعاً: والله لا يؤمن. والله لا يؤمن، قيل: ومن يا رسول الله؟ قال: الذي لا يأمن جاره بوائقه . وأما حديث أبي أمامة فأخرجه الطبراني قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو على ناقته الجدعاء في حجة الوداع يقول: أوصيكم بالجار حتى أكثر، فقلت إنه يورثه . قال المنذري: إسناده جيد ورواته رواة الصحيح انتهى. وفي الباب أحاديث كثيرة ذكرها الحافظ المنذري في كتابه الترغيب.
قوله: "هذا حديث حسن غريب من هذا الوجه". وأخرجه أبو داود والبخاري في الأدب المفرد "وقد روي هذا الحديث عن مجاهد عن عائشة وأبي هريرة أيضاً عن النبي صلى الله عليه وسلم" قال المنذري: قد روي هذا المتن من طرق كثيرة وعن جماعة من الصحابة رضي الله عنهم.
قوله: "عن يحيى بن سعيد" هو الأنصاري "عن أبي بكر بن محمد وهو ابن عمرو بن حزم" الأنصاري البخاري المدني القاضي اسمه وكنيته واحد ثقة عابد من رجال الكتب السنة "عن عمرة" بنت عبد الرحمن بن سعد بن زرارة الأنصارية(6/74)
رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم قالَ: "ما زَال جِبْرَئِيلُ صَلَوَاتُ الله عَلَيْهِ يُوصِيني بالجَارِ حَتّى ظَنَنْتُ أَنّهُ سَيُوَرّثهُ" .
2009 ـ حدّثنا أَحمدُ بنُ محمدٍ، حدثنا عَبْدُ الله بنُ المُبَارَكِ عن حَيْوَةَ بنِ شُرَيْحٍ عن شُرَحْبِيلَ بنِ شَرِيكٍ عن أَبي عَبْدِ الرحْمَنِ الحُبُلِيّ عن عَبْدِ الله ابن عَمْرٍو قالَ: قالَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم: "خَيْرُ الأَصْحَابِ عِنْدَ الله خَيْرُهُمْ لِصَاحِبِهِ، وَخَيرُ الجِيرَانِ عِنْدَ الله خَيْرُهُمْ لِجَارِهِ" .
هذا حديثٌ حسنٌ غريبٌ. وَأَبو عَبْدِ الرحمنِ الحُبلِيّ اسْمُهُ عَبْدُ الله ابنُ يَزِيدَ.
ـــــــ
المدنية أكثرت عن عائشة، ثقة من الثالثة.
قوله: "صلوات الله عليهما" ضمير التثنية راجع إلى رسول الله وإلى جبرئيل صلوات الله عليهما والسلام "يوصيني بالجار حتى ظننت أنه سيورثه" تقدم شرحه وحديث عائشة هذا أخرجه البخاري ومسلم.
قوله: "خير الأصحاب عند الله" أي أكثرهم ثواباً عنده "خيرهم لصاحبه" أي أكثرهم إحساناً إليه ولو بالنصيحة "وخير الجييران عند الله خيرهم لجاره" ، أي ولو برفع الأذى عنه.
قوله: "هذا حديث حسن غريب" ، وأخرجه ابن خزيمة وابن حبان في صحيحيهما والحاكم وقال على شرط مسلم كذا في الترغيب(6/75)
29 ـ باب ما جاءَ في الإِحسان إلى الْخَادَم
2010 ـ حَدّثنا بُنْدَارٌ، حدثنا عَبْدُ الرحمنِ بنُ مَهدِيٍ، حدثنا سُفْيَانُ عن وَاصِلٍ عن المَعرُورِ بنِ سُوَيْدٍ عن أَبي ذَرٍ قالَ: قالَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم: "إِخْوَانُكُمْ جَعَلَهُمْ الله فِتْيَةً تَحْتَ أَيْدِيكُمْ، فَمَنْ كَانَ أَخُوهُ
ـــــــ
"باب ما جاء في الإحسان إلى الخادم"
قوله: "إخوانكم" أي خولكم كما في رواية، وفي رواية هم إخوانكم، والمعنى(6/75)
تَحْتَ يَدِهِ فَلْيُطْعِمْهُ مِنْ طَعَامِهِ وَلْيُلْبِسْهُ مِنْ لِبَاسِهِ وَلا يُكَلّفْهُ ما يَغْلِبُهُ، فإن كَلّفَهُ ما يَغْلِبُهُ فَلْيُعِنْهُ" .
وفي البابِ عن عَلِيّ وَأُمّ سَلَمَةَ وَابنِ عُمرَ وَأَبي هُرَيْرَةَ.
ـــــــ
هم مماليككم قاله القاري. وفي رواية للبخاري في كتاب الإيمان: إخوانكم خولكم. قال القسطلاني: بفتح أوله المعجم والواو، أي خدمكم أو عبيدكم الذين يتخولون الأمور أي يصلحونها انتهى. "جعلهم الله فتية" بكسر الفاء وسكون الفوقية بعدها تحتية مفتوحة جمع فتى أي غلمة، وفي النسخة المصرية قنية بالقاف والنون أي ملكا لكم. قال في القاموس: القنية بالكسر والضم ما اكتسب "تحت أيديكم" مجاز عن القدرة أو الملك "فليطعمه من طعامه وليلبسه من لباسه" قال النووي: الأمر بإطعاهم من طعامه، وإلباسهم من لباسه، محمول على الاستحباب. ويجب على السيد نفقة المملوك وكسوته بالمعروف بحسب البلدان والأشخاص، سواء كان من جنس نفقة السيد ولباسه أو دونه أو فوقه حتى لو قتر السيد على نفسه تقتيراً خارجاً عن عادة أمثاله، إما زهداً أو شحاً لا يحل تقتيره على المملوك وإلزامه بموافقته إلا برضاه انتهى.
قلت: الأمر كما قال النووي، ففي الموطأ ومسلم عن أبي هريرة مرفوعاً: للمملوك طعامه وكسوته بالمعروف ولا يكلف من العمل ما لا يطيق، وهو يقتضي الرد إلى العرف فمن زاد عليه كان متطوعاً " ولا يكلفه" من العمل "ما يغلبه" أي ما يعجز عنه لصعوبته "فإن كلفه ما يغلبه فليعنه" من الإعانة أي بنفسه أو بغيره.
قوله: "وفي الباب عن علي وأم سلمة وابن عمر وأبي هريرة" ، أما حديث علي فأخرجه أحمد وأبو داود. وأما حديث أم سلمة فأخرجه البيهقي في شعب الإيمان عنها عن النبي صلى الله عليه وسلم: كان يقول في مرضه الصلاة وما ملكت أيمانكم كذا في المشكاة. وفيه وروى أحمد وأبو داود عن علي نحوه. وأما حديث ابن عمر فأخرجه الطبراني بنحو حديث أم سلمة، ففي الجامع الصغير للسيوطي: الصلاة وما ملكت أيمانكم، الصلاة وما ملكت أيمانكم، حم ن ه حب عن أنس حم ه عن أم سلمة طب عن ابن عمر انتهى. يعني أخرجه أحمد في مسنده والنسائي وابن ماجة(6/76)
هذا حديثٌ حسنٌ صحيحٌ.
2011ـ حدّثنا أحمدُ بنُ مَنِيعٍ، حدثنا يَزيِدُ بنُ هَارُونَ عن هَمّامِ بنِ يَحْيَى عن فَرْقَدٍ السبخي عن مُرّةَ عن أَبي بَكرٍ الصّدّيقِ عن النبيّ صلى الله عليه وسلم قالَ: "لاَ يَدْخُلُ الْجَنّةَ سَيّءُ الْمَلَكَةِ" .
هذا حديثٌ غريبٌ.
وقد تَكَلّمَ أَيّوبُ السّخْتِيَانيّ وَغَيْرُ وَاحِدٍ في فَرْقَد السّبَخِيّ مِنْ قِبَلِ حِفْظِهِ.
ـــــــ
وابن حبان في صحيحه عن أنس، وأحمد في مسنده، وابن ماجة عن أم سلمة، والطبراني عن ابن عمر. قال المناوي في التيسير في شرح الجامع الصغير: بأسانيد صحيحة وأما حديث أبي هريرة فتقدم تخريجه آنفا. وفي الباب أحاديث أخرى.
قوله: "هذا حديث حسن صحيح" وأخرجه الشيخان وغيرهما.
وقوله: "عن فرقد" بن يعقوب السبخي بفتح المهملة والموحدة وبخاء معجمة البصري صدوق عابد لكنه لين الحديث كثير الخطأ.
قوله: "لا يدخل الجنة سيء الملكة" بفتح الميم واللام بمعنى الملك، يقال ملكه يملكه ملكا مثلثة وملكة محركة ومملكة بضم اللام أو يثلث كذا في القاموس وقال الجزري في النهاية: يقال فلان حسن الملكة إذا كان حسن الصنيع إلى مماليكه وسيء الملكة أي الذي يسيء صحبة المماليك.
قوله: "هذا حديث غريب" وأخرجه ابن ماجة "وقد تكلم غير واحد في فرقد السبخي قبل حفظه" قال الذهبي في الميزان: قال أبو حاتم: ليس بقوي. وقال ابن معين: ثقة. وقال البخاري: في حديثه مناكير. وقال النسائي: ليس بثقة. وقال أيضاً هو والدارقطني: ضعيف. وقال يحيى القطان: ما يعجبني الرواية عن فرقد انتهى(6/77)
باب النهى عن ضرب الخدم و شتمهم
...
30 ـ باب النّهْي عن ضَرْبِ الخُدّامِ وَشَتْمِهِمْ
2012 ـ حَدّثنا أَحمدُ بنُ محمدٍ، أخبرنا عَبْدُ الله بن المبَارَكِ عن فُضَيْلِ بنِ غَزْوانَ عن ابنِ أَبي نُعْمٍ عنرج أَبي هُرَيْرَةَ قالَ: قالَ أَبُو القَاسِمِ صلى الله عليه وسلم نَبِيّ التّوْبَةِ: "مَنْ قَذَفَ مَمْلُوكَهُ بريئاً مِمّا قالَ لَهُ، أَقامَ الله عَلَيْهِ الحَدّ يَوْمَ القِيَامَةِ إِلاّ أَنْ يَكُونَ كَمَا قَالَ" .
هذا حديثٌ حسنٌ صحيحٌ.
ـــــــ
"باب النّهْي عن ضَرْبِ الخُدّامِ وَشَتْمِهِمْ"
قوله: "حدثنا أحمد بن محمد" بن موسى المروزي أبو عباس السمسمار مردوية الحافظ "أخبرنا عبد الله" هو ابن المبارك "عن فضيل بن غزوان" ابن جرير الضبي الكوفي وثقه ابن معين "عن ابن أبي نعم" بضم النون وسكون العين المهملة وقد بين الترمذي اسمه فيما بعد، وهو صدوق عابد.
قوله: "نبي التوبة" بدل من قوله أبو القاسم. قال في مجمع البحار: نبي التوبة لأنه تواب يستغفر كل يوم سبعين أو مائة. وقال فيه أيضاً: نبي التوبة والرحم أي جاء بقبولها بالقول والاعتقاد. لا يقتل الأنفس، وجاء بالتراحم نحو رحماء بينهم انتهى "من قذف مملوكه" أي رماه بالزنا "بريئاً مما قال له" أي والحال أن مملوكه بريء مما قال سيده. وفي رواية الشيخين: وهو بريء مما قال "أقام الله عليه" أي على السيد القاذف "الحد يوم القيامة" وفي رواية الشيخين: جلد يوم القيامة "إلا أن يكون كما قال" أي أن يكون العبد كما قال السيد في الواقع ولم يكن بريئاً فإن لا يقيم الله عليه الحد لكونه صادقاً في نفس الأمر، وهو تصريح بما علم ضمناً وهو استثناء منقطع. قال النووي: فيه إشارة إلى أنه لا حد على قاذف العبد في الدنيا، وهذا مجمع عليه، ولكن يعزر قاذفه لأن العبد ليس بمحصن سواء فيه من هو كامل الرق أو فيه شائبة الحرية والمدير والمكاتب وأم الوالد انتهى.
قوله: "هذا حديث حسن صحيح" وأخرجه أحمد والشيخان وأبو داود(6/78)
وفي البابِ عن سُوَيْدِ بنِ مُقَرّنٍ وَعَبْدِ الله بنِ عُمرَ وابنُ أَبي نُعْمٍ هُوَ عَبْدُ الرحمنِ بنُ أَبي نُعْمٍ البَجَلِيّ يُكْنَى أَبَا الحَكَمِ.
2013ـ حدّثنا محمودُ بنُ غَيلاَنَ، حدثنا مُؤَمّلٌ، حدثنا سُفْيَانُ عن الأَعْمَشِ عن إبراهيمَ التّيْميّ عن أبيه عن أبي مسعود الأنصاري قالَ: "كُنْتُ أضْرِبُ مَمْلوكاً لي فَسَمعْتُ قائِلاً مِنْ خَلْفِي يقول: احْلَمْ أَبَا مَسْعُودٍ احْلَمْ أبَا مَسْعُودٍ فَالتَفَتّ فإذَا أَنَا بِرَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم فقال: لله أَقْدَرُ عَلَيْكَ مِنْكَ عَلَيْهِ". قالَ أَبُو مَسْعُودٍ: فَمَا ضَرَبْتُ ممْلُوكاً لِي بَعْدَ ذَلِكَ.
ـــــــ
قوله: "وفي الباب عن سويد بن مقرن وعبد الله بن عمر" وأما حديث سويد بن مقرن فأخرجه أحمد ومسلم وأبو داود. وأما حديث عبد الله بن عمر فأخرجه مسلم عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: من ضرب غلاماً له حداً لم يأته أو لطمه فإن كفارته أن يعتقه .
قوله: "حدثنا مؤمل" بن إسماعيل العدوي مولاهم أبو عبد الرحمن البصري روى عن شعبة والثوري وجماعة وعنه أحمد وإسحاق وطائفة وثقه ابن معين، وقال البخاري: منكر الحديث، كذا في الخلاصة وقال الحافظ: صدوق سيء الحفظ "حدثنا سفيان" هو الثوري.
قوله: "أبا مسعود" أي يا أبا مسعود "لله" بفتح اللام "أقدر عليك منك عليه" أي أتم وأبلغ من قدرتك على عبدك. قال الطيبي: لله مبتدأ وأقدر خبره، وعليك صلة أقدر ومنك متعلق أفعل، وقوله: عليه لا يجوز أن يتعلق بقوله أقدر لأنه أخذ ماله ولا بمصدر مقدر عند قوله منك أي من قدرتك كما ذهب إليه المظهر لأن المعنى يأباه بل هو حال من الكاف أي أقدر منك حال كونك قادراً عليه كذا في المرقاة "قال أبو مسعود: فما ضربت مملوكاً لي بعد ذلك" ولفظ مسلم هكذا: كنت ضرب غلاماً لي فسمعت من خلفي صوتاً احلم أبا مسعود لله أقدر عليك منك عليه، فالتفت فإذا هو رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقلت يا رسول الله: هو حر لوجه الله، فقال أما لو لم تفعل للفحتك النار أو لمستك النار .(6/79)
هذا حديثٌ حسنٌ صحيحٌ.
وإبراهيمُ التّيْمِيّ هُوَ إبراهيمُ بنُ يَزِيدَ بنِ شَرِيكٍ
ـــــــ
قوله: "هذا حديث حسن صحيح" وأخرجه مسلم وتقدم لفظه آنفا(6/80)
31 ـ باب مَا جَاءَ في أَدَبِ الْخَادِم
2014ـ حَدّثنا أَحمدُ بنُ محمدٍ، حدثنا عَبْدُ الله بن المبارك عن سُفْيَانَ عن أَبي هَارُونَ العَبْدِيّ عن أَبي سَعِيدٍ الخدري قالَ: قالَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم: "إذَا ضَرَبَ أَحَدُكُمْ خَادِمَهُ فَذَكَرَ الله فارْفَعُوا أَيْدِيَكُمْ" .
قال أبو عيسى: وأَبُو هَارونَ العَبْدِيّ اسْمُهُ عُمَارَةُ بنُ جُوَيْنٍ. قالَ: قالَ ابو بكر العطار: قالَ علي بن المديني قالَ يَحْيَى بنُ سَعِيدٍ: ضَعّفَ شُعْبَةُ
ـــــــ
"باب مَا جَاءَ في أَدَبِ الْخَادِم"
قوله: "حدثنا أحمد بن محمد" بن موسى المروزي "حدثنا عبد الله" أي ابن المبارك "عن سفيان" هو الثوري "عن أبي هارون العبدي" اسمه عمارة بن جوين بضم الجيم مصغراً مشهور بكنيته متروك ومنهم من كذبه شيعي كذا في التقريب.
قوله: "إذا ضرب أحدكم خادمه فذكر الله" أي استغاث به واستشفع باسمه تعالى "فارفعوا أيديكم" أي امنعوها عن ضربه تعظمًا لذكره تعالى. قال الطيبي هذا إذا كان الضرب لتأديبه، وأما إذا كان حداً فلا، وكذا إذا استغاث مكراً انتهى. والحديث أخرجه البيهقي في شعب الإيمان لكن عنده فليمسك بدل فارفعوا أيديكم كذا في المشكاة.
قوله: "وقال يحيى بن سعيد" القطان "ضعف شعبة أبا هارون العبدي" قال الذهبي في الميزان في ترجمته: تابعي لين بمرة كذبه حماد بن زيد، وقال شعبة: لأن أقدم فتضرب عنقي أحب إلي من أن أحدث عن أبي هارون. وقال أحمد: ليس بشيء وقال ابن معين: لا يصدق في حديثه. وقال النسائي: متروك الحديث. وقال الدارقطني: يتلون خارجي وشيعي فيعتبر بما روى عنه الثوري. وقال ابن(6/80)
أَبَا هَارُونَ العَبْدِيّ. قالَ يَحْيَى: ومَا زَالَ ابنُ عَوْنٍ يَرْوِي عن أَبي هُرَيْرَةَ حتى ماتَ
ـــــــ
حبان: يروى عن أبي سعيد ما ليس من حديثه، وقال الجوزجاني: أبو هارون كذاب مفتر "قال يحيى" وهو ابن سعيد القطان(6/81)
32 ـ باب ما جاءَ في الْعَفْوِ عن الْخَادِم
2015 ـ حَدّثنا قُتَيْبَةُ حدثنا رِشْدِينُ بنُ سَعْدٍ عن أَبي هَانِئ الْخَوْلاَنِيّ عن عَبّاسِ بنِ جُلَيْدٍ الْحَجْرِيّ عن عَبْدِ الله بنِ عُمَر قالَ: "جَاءَ رَجُلٌ إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم فقالَ: يا رسولَ الله كَمْ أَعْفُو عن الْخَادِمِ؟ فَصَمتَ عَنْهُ النبيّ صلى الله عليه وسلم، ثم قالَ: يا رسولَ الله كَمْ أَعْفُو عن الْخَادِمِ؟ قالَ: كُلّ يَوْمٍ سَبْعِينَ مَرّةً" .
هذا حديثٌ حسنٌ غريبٌ. وَرَوَاهُ عَبْدُ الله بنُ وَهْبٍ عن أَبي هَانِئ الْخَوْلاَنِيّ بهذا الإسناد نَحْو هذا.
ـــــــ
"باب ما جاء في العفو عن الخادم"
قوله: "عن أبي هانئ الخولاني" اسمه حميد بن هانئ المصري لابأس به وهو أكبر شيخ لابن وهب، قاله الحافظ "عن عباس بن جليد" بضم جيم مصغراً "الحجري" بفتح المهملة وسكون الجيم مصري ثقة من الرابعة "عن عبد الله بن عمر" بلا واو.
قوله: "فصمت عنه النبي صلى الله عليه وسلم" أي سكت ولم يجبه ولعل السكوت لانتظار الوحي، وقيل لكراهة السؤال، فإن العفو مندوب إليه مطلقاً دائماً لا حاجة فيه إلى تعيين عدد مخصوص والله تعالى أعلم "قال: كل يوم سبعين مرة" أي أعف عنه كل يوم سبعين عفوة، فنصب سبعين على المصدر، والمراد به الكثرة دون التحديد، كذا قيل والله تعالى أعلم.
قوله: "هذا حديث حسن غريب" وأخرجه أبو داود. قال القاري: قال(6/81)
2016ـ حدّثنا قُتَيْبَةُ، حدثنا عَبْدُ الله بنُ وَهْبٍ، عن أَبي هَانِئ الْخَوْلاَنِيّ بهذَا الإِسْنَادِ نَحْوَهُ. وَرَوَى بَعْضُهُمْ هذا الحَديِثَ عن عَبْدِ الله بن وَهْبٍ بهذَا الإِسْنَادِ، وقالَ عن عَبْدِ الله بنِ عَمْرٍو.
ـــــــ
ميرك: وفي بعض النسخ يعني نسخ الترمذي: حسن صحيح. ورواه أبو يعلى بإسناد جيد، كذا ذكره المنذري انتهى.
قوله: "وروى بعضهم هذا الحديث عن عبد الله بن وهب بهذا الإسناد وقال عن عبد الله بن عمرو" أي بالواو، وروى أبو داود في سننه حديث الباب من طريق أحمد بن سعيد الهمداني عن ابن وهب عن أبي هانئ الخولاني عن العباس بن جليد الحجري عن عبد الله بن عمر قال المنذري: هكذا وقع في سماعنا وفي غيره عن عبد الله بن عمر وأخرجه الترمذي كذلك. وقال حسن غريب. قال: وروى بعضهم هذا الحديث عن عبد الله بن وهب بهذا الإسناد. وقال عن عبد الله بن عمرو، وذكر بعضهم أن أبا داود أخرجه من حديث عبد الله بن عمرو العباس بن جليد بضم الجيم وفتح اللام وسكون الياء آخر الحروف وبعدها دال مهملة مصري ثقة ذكره ابن يونس في تاريخ المصريين، وذكر أنه يروي عن عبد الله بن عمر بن الخطاب وعبد الله بن الحارث بن جزء. وذكر ابن أبي حاتم أنه يروي عن ابن عمر، وذكر الأمير أبو نصر أنه يروي عن ابن عمر وعبد الله بن عمرو بن العاص وعبد الله بن جزء. وأخرج البخاري هذا في تاريخه من حديث عباس بن جليد عن عبد الله بن عمرو بن العاص، ومن حديث عباس بن جليد عن ابن عمر وقال: وهو حديث فيه نظرة انتهى كلام المنذري(6/82)
33 ـ باب ما جاءَ في أَدَبِ الوَلَد
2017 ـ حَدّثنا قُتَيْبَةُ، حدثنا يَحْيَى بنُ يَعْلَى، عن نَاصِحٍ عن سِمَاكٍ
ـــــــ
"باب ما جاء في أدب الولد"
قوله: "حدثنا يحيى بن يعلى" الأسلمي الكوفي القطراني، قال الحافظ: شيعي ضعيف "عن ناصح" هو ابن عبد الله أو ابن عبد الرحمن التميمي المحلمي بالمهملة(6/82)
عن جَابِرِ بن سَمُرَةَ قالَ: قالَ رَسُول الله صلى الله عليه وسلم: "لأَنْ يُؤَدّبَ الرجُلُ وَلَدَهُ خَيْرٌ مِنْ أَنْ يَتَصَدّقَ بِصَاعٍ." .
هذا حديثٌ غريبٌ. ونَاصِحُ هو أبو العَلاَءِ الكُوفِيّ لَيْسَ عِنْدَ أَهلِ الْحَدِيثِ بالقَوِيّ ولا يُعْرَفُ هذا الْحَدِيثُ إِلاّ مِنْ هذَا الوَجْهِ، وَنَاصِحٌ شَيْخٌ آخَرٌ بَصْرِيٌ يَرْوِي عن عَمّارِ بنِ أَبي عَمّارٍ وَغَيْرِهِ وهُوَ أَثْبَتُ مِنْ هذَا.
ـــــــ
وتشديد اللام أبو عبد الله الحائك صاحب سِمَاك بن حرب ضعيف من كبار السابعة كذا في التقريب. وزعم الترمذي بأن ناصحاً هذا هو ابن العلاء الكوفي وهو وهم منه كما ستقف عليه.
قوله: "لأن يؤدب الرجل ولده خير من أن يتصدق بصاع" أي والله تأديب الرجل ولده تأديباً واحداً خير له من تصدقه بصاع، وإنما قلنا تأديباً واحداً ليلائم قوله خير من أن يتصدق بصاع، وإنما يكون خيراً له لأن الأول واقع في محله لا محالة بخلاف الثاني فإنه تحت الاحتمال، أو لأن الأول إفادة علمية حالية والثاني عملية مالية، أو لأن أثر الثاني سريع الفناء ونتيجة الأول طويلة البقاء، أو لأن الرجل بترك الأول قد يعاقب وبترك الثاني لم يعاتب، ذكره القاري.
وقال المناوي: لأنه إذا أدبه صارت أفعاله من صدقاته الجارية، وصدقة الصاع ينقطع ثوابها انتهى.
قوله: "هذا حديث غريب" وهو حديث ضعيف لأن ناصحاً الراوي عن سِمَاك ليس بقوي "وناصح بن علاء الكوفي ليس عند أهل الحديث بالوقى الخ" كذا قال الترمذي إن ناصحاً هذا هو ابن العلاء الكوفي وهذا وهم من الترمذي، فإن ناصحاً هذا هو ابن عبد الله الكوفي. قال الذهبي في الميزان: ناصح بن عبد الله الكوفي المحلمي الحائك عن سِمَاك بن حرب ويحيى بن أبي كثير ضعفه النسائي وغيره وقال البخاري: منكر الحديث، وقال الفلاس: متروك، وقال ابن معين: ليس بشيء، وقال مرة: ليس بثقه. قال الذهبي: وكان من العابدين ذكره الحسن بن صالح فقال: رجل صالح نعم الرجل، ثم ذكر الذهبي حديث جابر بن سمرة المذكور في الباب وذكر إسناده هكذا: يحيى بن يعلى الأسلمي عن ناصح بن عبد الله عن سِمَاك(6/83)
2018 ـ حدّثنا نَصْرُ بنُ عَليّ الجهضمي، حدثنا عَامِرُ بنُ أَبِي عَامِرٍ الْخَزّازُ، حدثنا أَيّوبُ بنُ مُوسَى عن أَبِيه عن جَدّهِ أَنّ رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم قالَ: "ما نَحَلَ والدٌ وَلَداً مِنْ نُحْلٍ أَفْضَلَ مِنْ أَدَبٍ حَسَنٍ" .
ـــــــ
عن جابر بن سمرة مرفوعاً: لأن يؤدب الرجل ولده الخ. قال الحافظ في تهذيب التهذيب في ترجمة ناصح بن عبد الله المحلمي المذكور ما لفظه: روى له الترمذي حديثه عن سِمَاك عن جابر لأن يؤدب الرجل ولده خير له من أن يتصدق بصاع. وقال: ناصح هو ابن العلاء الكوفي ليس بالقوي عند أهل الحديث، وناصح شيخ آخر بصري هو أثبت من هذا. قال المزي: هكذا قال الترمذي وهو وهم، وإنما ابن العلاء هو البصري لا الكوفي وسنذكره. قلت: وقال أبو عبد الله الحاكم: ناصح بن العلاء هو البصري ثقة، وإنما المطعون عليه ناصح بن عبد الله المحلمي فإنه روى عن سِمَاك بن حرب المناكير. وقال الحاكم: أبو أحمد ناصح بن عبد الله ذاهب الحديث. وقال الدارقطني: ضعيف. وقال ابن حبان: تفرد بالمناكير عن المشاهير، انتهى كلام الحافظ.
قوله: "حدثنا عامر بن أبي عامر الخزاز" بمعجمات قال الذهبي في الميزان عامر بن أبي عامر صالح بن رستم الخزاز عن يونس بن عبيدة وغيره. قال أبو حاتم: ليس بالقوي. وقال ابن عدي: في حديثه بعض النكرة، ثم ذكر الذهبي حديثه المذكور في الباب. وقال الحافظ في التقريب: صدوق سيء الحفظ أفرط فيه ابن حبان فقال يضع انتهى "حدثنا أيوب بن موسى" بن عمرو بن سعيد بن العاص أبو موسى المكي الأموي ثقة "عن أبيه" أي موسى بن عمرو، قال في التقريب: مستور، وقال الخزرجي: وثقه ابن حبان "عن جده" يحتمل أن يعود الضمير على أيوب، ويحتمل أن يعود على موسى، وسيأتي تفصيله في آخر الباب.
قوله: "ما نحل" أي ما أعطى والد ولداً "من نحل" بضم النون ويفتح أي عطية أو إعطاء ففي النهاية: النحل العطية والهبة ابتداء من غير عوض ولا استحقاق، يقال: نحله ينحله نحلا بالضم، والنحلة بالكسر العطية "أفضل من أدب حسن" أي من تعليمه ذلك ومن تأديبه بنحو توبيخ وتهديد وضرب على فعل الحسن وتجنب القبيح، فإن حسن الأدب يرفع العبد المملوك إلى رتبة الملوك.(6/84)
هذا حديثٌ غريبٌ، لا نَعْرِفُهُ إِلاّ مِنْ حَدِيثِ عَامِرِ بنِ أَبِي عَامِرٍ الْخَزّازِ وهو عامر بن صالح بن رستم الخزاز وأَيّوبُ بنُ مُوسَى: هُوَ ابْنُ عَمْرِو بنِ سَعِيدِ بنِ العاص. وهذَا عِنْدِي حَدِيثٌ مرسَلٌ.
ـــــــ
قوله: "هذا حديث غريب" وأخرجه البيهقي في شعب الإيمان "وهذا عندي حسن مرسل" قال الحافظ في تهذيب التهذيب في ترجمة موسى بن عمرو بن سعيد بن العاص بعد نقل كلام الترمذي هذا الضمير في جده يعود على موسى، فالحديث عن رواية سعيد وقد ولد في حياة النبي صلى الله عليه وسلم، والظاهر أن له رؤية. وأما عمرو وهو الأشدق فلا صحبة له بل ولم يولد إلا في زمان عثمان، والحديث على كل حال مرسل. وقال في ترجمة سعيد بن العاصي: قال ابن سعد: قبض النبي صلى الله عليه وسلم ولسعيد تسع سنين، روى عن النبي صلى الله عليه وسلم مرسلاً، وقال فيها أيضاً: يحتمل أن يكون ضمير الجد على أيوب وهذا ظاهر، ويحتمل أن يعود على موسى فيكون الحديث من مسند سعيد بن العاص، فيستفاد منه أن الترمذي أخرج لسعيد أيضاً وهو مع ذلك مرسل إذ لم يثبت سماع سعيد انتهى(6/85)
باب ما جاء في قبول الهدية و المكافئأة عليها
...
34 ـ باب ما جَاءَ في قَبُولِ الهدِيّةِ والمكافأَةِ عَلَيْهَا
2019 ـ حَدّثنا يَحْيَى بنُ أَكْثَمَ و عَلِيّ بنُ خَشْرَمٍ قالا: حدثنا عيسَى بنُ يُونسَ عن هِشَامِ بنِ عُرْوَةَ عن أَبِيه عن عَائِشَةَ: "أنّ النبيّ صلى الله
ـــــــ
"باب ما جاء في قبول الهدية والمكافأة عليها"
قال في القاموس: كافأه مكافأة جازاه، وقال في الصراح: مكافأة باذاش دادن
قوله: "حدثنا يحيى بن أكثم بفتح الهمزة وبالمثلثة" ابن محمد بن قطن التميمي المرزي أبو محمد القاضي فقيه صدوق إلا أنه رمي بسرقة الحديث ولم يقع ذلك له وإنما كان يرى الرواية بالإجازة والواجادة، روى عنه الترمذي والبخاري في غير صحيحه وعلي بن خشرم وهو من أقرانه وغيرهم، وكان قد غلب على المأمون حتى لم يتقدمه أحد عنده من الناس جميعاً، فكانت الوزراء لا تعمل في تدبير الملك إلا شيئاً بعد مطالعته "حدثنا عيسى بن يونس" بن أبي إسحاق السبيعي الكوفي نزل الشام مرابطاً ثقة مأمون.(6/85)
عليه وسلم كانَ يَقْبَلُ الهَدِيّةَ ويُثيبُ عَلَيْهَا".
وفي البابِ عن أَبي هُرَيْرَةَ وأَنَسٍ وابنِ عُمَر وجَابِرٍ.
ـــــــ
قوله: "كان يقبل الهدية ويثيب عليها" من أثاب يثيب أي يعطي الذي يهدي له بدلها، والمراد بالثواب المجازاة وأقله ما يساوي قيمة الهدية. واستدل بعض المالكية بهذا الحديث على وجوب الثواب على الهدية إذا أطلق الواهب وكان ممن يطلب مثله الثواب كالفقير للغني بخلاف ما يهبه الأعلى للأدنى، ووجه الدلالة منه مواظبته صلى الله عليه وسلم ومن حيث المعنى أن الذي أهدى قصد أن يعطي أكثر مما أهدى فلا أقل أن يعوض بنظير هديته، وبه قال الشافعي في القديم، وقال في الجديد كالحنفية: الهبة للثواب باطلة لا تنعقد لأنها بيع بثمن مجهول، ولأن موضوع الهبة التبرع، فلو أبطلناه لكان في معنى المعاوضة.
وقد فرق الشرع والعرف بين البيع والهبة، فما استحق العوض أطلق عليه لفظ البيع بخلاف الهبة، وأجاب المالكية بأن الهبة لو لم تقتضي الثواب أصلاً لكانت بمعنى الصدفة وليس كذلك، فإن الأغلب من حال الذي يهدي أنه يطلب الثواب ولا سيما إذا كان فقيراً، كذا في الفتح.
قوله: "وفي الباب عن أبي هريرة وأنس وابن عمر وجابر" أما حديث أبي هريرة فأخرجه الترمذي وأبو داود والنسائي بلفظ: أن أعرابياً أهدى لرسول الله صلى الله عليه وسلم بكرة فعوضه منها ست بكرات الحديث. وأما حديث أنس فأخرجه أبو داود والنسائي عنه قال: قال المهاجرون يا رسول الله ذهب الأنصار بالأجر كله، ما رأينا قوماً أحسن بذلا لكثير، ولا أحسن مواساة في قليل منهم، ولقد كفونا المؤنة، قال: أليس تثنون عليهم به وتدعون لهم؟ قالوا: بلى، قال: فذاك بذاك. وأما حديث ابن عمر فأخرجه أبو داود والنسائي وابن حبان في صحيحه والحاكم وقال صحيح على شرطهما، كذا قال المنذري في الترغيب، وذكر لفظه وفيه: ومن أتي إليكم معروفاً فكافئوه، فإن لم تجدوا فادعوا له حتى تعلموا أن قد كافأتموه نموه وأما حديث جابر فأخرجه الترمذي في باب المتشبع بما لم يعطه.(6/86)
هذا حديثٌ حسنٌ صحيحٌ غريبٌ مِنْ هذَا الوَجْهِ، لا نَعْرِفُهُ مَرْفُوعاً إِلاّ مِنْ حَديثِ عِيسَى بنِ يُونسَ.
ـــــــ
قوله: "هذا حديث حسن صحيح غريب" وأخرجه البخاري في الهبة وأبو داود في البيوع.(6/87)
35 ـ باب ما جاءَ في الشّكْرِ لِمَنْ أَحْسَنَ إِلَيْك
2020 ـ حَدّثنا أحمدُ بنُ محمدٍ، أخبرنا عَبْدُ الله بنُ المُبَارَكِ، حدثنا الرّبِيَعُ بنُ مُسْلِم، حدثنا محمدُ بنُ زِيادٍ عن أَبي هُرَيْرَةَ قالَ: قالَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم: "مَنْ لاَ يَشْكُرِ النّاسَ لاَ يَشْكُرِ الله" .
هذا حديثٌ حسنٌ صحيحٌ.
2021 ـ حدّثنا هَنّادٌ، حدثنا أَبُو مُعَاوِيَةَ عن ابنِ أَبِي لَيْلَى، وحدثنا
ـــــــ
"باب ما جاء في الشكر لمن أحسن إليك"
قوله: "حدثنا الربيع بن مسلم" الجمحي أبو بكر البصري ثقة من السابعة "عن محمد بن زياد" الجمحي مولاهم المدني نزيل البصرة ثقة ثبت ربما أرسل من الثالثة.
قوله: "من لا يشكر الناس لا يشكر الله" قال القاضي: وهذا إما لأن شكره تعالى إنما يتم بمطاوعته وامتثال أمره وأن مما أمر به شكر الناس الذين هم وسائط في إيصال نعم الله إليه، فمن لم يطاوعه فيه لم يكن مؤدياً شكر نعمه، أو لأن من أخل بشكر من أسدى نعمة من الناس مع ما يرى من حرصه على حب الثناء والشكر على النعماء وتأذيه بالإعراض والكفران كان أولى بأن يتهاون في شكر من يستوي عنده الشكر والكفران انتهى.
قوله: "هذا حديث صحيح" وأخرجه أحمد وأبو داود. قال المنذري في الترغيب بعد ذكر هذا الحديث ما لفظه: روي هذا الحديث برفع الله وبرفع الناس وروي أيضاً بنصبهما وبرفع الله ونصب الناس وعكسه أربع روايات انتهى.
قوله: "عن ابن أبي ليلى" اسمه محمد بن عبد الرحمن، بن أبي ليلى، روى(6/87)
سُفْيَانُ بنُ وَكِيعٍ، حدثنا حُمَيْدُ بنُ عَبْدِ الرحمنِ الرّوَاسِيّ عن ابنِ أَبي لَيْلَى عن عَطِيّةَ عن أَبِي سَعِيدٍ قالَ: قالَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم: "مَنْ لم يَشْكُرِ النّاسَ لَمْ يَشكُرِ الله".
وفي البابِ عن أَبي هُرَيْرَةَ والأَشعَثِ بنِ قَيْسٍ والنّعْمَانِ بنِ بَشِيرٍ.
هذا حديثٌ حسنٌ.
ـــــــ
عن عطية بن سعد العوفي الجدلي "عن عطية" بن سعد بن جنادة العوفي الجدلي الكوفي صدوق يخطئ كثيراً.
قوله: "من لم يشكر الناس الخ" قال الخطابي: هذا يتأول على وجهين أحدهما أن من كان من طبعه وعادته كفران نعمة الناس وترك الشكر لمعروفهم كان من عادته كفران نعمة الله تعالى وترك الشكر له، والوجه الاَخر أن الله سبحانه لا يقبل شكر العبد على إحسانه إليه إذا كان العبد لا يشكر إحسان الناس ويكفر معروفهم لاتصال أحد الأمرين بالاَخر انتهى.
قوله: "وفي الباب عن أبي هريرة والأشعت بن قيس والنعمان بن بشير" أما حديث أبي هريرة فأخرجه الترمذي في هذا الباب، فلعله أشار إلى حديث آخر له وأما حديث الأشعث بن قيس فأخرجه أحمد عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن أشكر الناس لله تبارك وتعالى أشكرهم للناس، وفي رواية: لا يشكر الله من لا يشكر الناس. قال المنذري: ورواته ثقات. قال: ورواه الطبراني من حديث أسامة بن زيد بنحو الأولى. وأما حديث النعمان بن بشير فأخرجه عبد الله ابن أحمد في زوائده عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: من لم يشكر القليل لم يشكر الكثير، ومن لم يشكر الناس لم يشكر الله، الحديث. قال المنذري: بإسناد لابأس به، قال: ورواه ابن أبي الدنيا في كتاب اصطناع المعروف باختصار.
قوله: "هذا حديث حسن" وأخرجه أحمد والضياء(6/88)
باب ما جاء في صانع المعروف
...
36 ـ باب ما جاءَ في صَنَائِعِ المَعْرُوف
2022 ـ حَدّثنا عَبّاسُ بنُ عَبْدِ العَظِيمِ العَنْبَرِيّ، حدثنا النّضْرُ بنُ محمدٍ الجُرَشِيّ اليَمامِيّ، حدثنا عِكْرِمَةُ بنُ عَمّارٍ، حدثنا أَبُو زُمَيْلٍ عن مالِكِ بنِ مَرْثَدِ عن أَبيِه عن أَبِي ذَرّ قالَ: قالَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم: " تَبَسّمُكَ في وَجْهِ أَخِيكَ لَكَ صَدَقَةٌ، وَأَمْرُكَ بِالمَعْروفِ ونهيُكَ عن المُنْكَرِ صَدَقَةٌ، وإِرْشَادُكَ الرّجُلَ في أَرْضِ الضّلاَلِ لَكَ صَدَقَةٌ، وبَصَرُكَ لِلرّجُلِ الرّدِيءِ البَصَرِ لَكَ صَدَقَةٌ، وإِمَاطَتُكَ الْحَجَرَ والشّوْكَ والعَظْمَ عن الطّرِيقِ لَكَ صَدَقَةٌ، وإِفْرَاغُكَ مِنْ دَلْوِكَ في دَلْوِ أَخِيكَ لَكَ صَدَقَةٌ" .
ـــــــ
"باب ما جاءَ في صَنَائِعِ المَعْرُوف"
قال في القاموس: الصنيع الإحسان كالصنيعة والجمع الصنائع.
قوله: "عن مالك بن مرثد" بفتح الميم والمثلثة بينهما راء ساكنة ابن عبد الله الزماني ثقة من الثالثة "عن أبيه" أي مرثد وهو مقبول الثالثة.
قوله: "تبسمك في وجه أخيك" في الدين "لك صدقة" يعني إظهارك البشاشة والبشر إذا لقيته تؤجر عليه كما تؤجر على الصدقة "وأمر بالمعروف" أي بما عرفه الشرع بالحسن "ونهيك عن المنكر" أي ما أنكره وقبحه "صدقة" كذلك "وإرشادك الرجل في أرض الضلال" أضيفت إلى الضلال كأنها خلقت له وهي التي لا علامة فيها للطريق فيضل فيها الرجل "لك صدقة" بالمعنى المقرر "وبصرك للرجل الرديء البصر" بالهمز ويدغم أي الذي لا يبصر أصلاً أو يبصر قليلاً، والبصر محركة حس العين كذا في القاموس. والمعنى إذا أبصرت رجلاً رديء البصر فإعانتك إياه صدقة لك وفي المشكاة نصرك بالنون. قال القاري: وضع النصر موضع القياد مبالغة في الإعانة كأنه ينصره على كل شيء يؤذيه "وإماطتك" أي إزالتك "الحجر والشوك والعظم" أي ونحوها "عن الطريق" أي المسلوك أو المتوقع السلوك "وإفراغك" أي صبك "من دلوك" بفتح فسكون واحد الدلاء التي يستىق بها "في دلو أخيك" في الإسلام.(6/89)
وفي البابِ عن ابنِ مَسْعُودٍ وجَابِرٍ وحُذَيْفَةَ وعَائِشَةَ وأَبي هُرَيْرَةَ.
هذا حديثٌ حسنٌ غريبٌ. وأَبُو زُمَيْلٍ اسمه سِمَاكُ بنُ الوَلِيدِ الْحَنَفِيّ والنضر بن محمد هو الجرشي اليمامي.
ـــــــ
قوله: "وفي الباب عن ابن مسعود وجابر وحذيفة وعائشة وأبي هريرة" أما حديث ابن مسعود فلينظر من أخرجه. وأما حديث جابر وحذيفة فأخرجه الشيخان عنهما قالا: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: كل معروف صدقة . وأما حديث عائشة فأخرجه مسلم. وأما حديث أبي هريرة فأخرجه الشيخان.
قوله: "هذا حديث حسن غريب" وأخرجه البخاري في الأدب المفرد وابن حبان في صحيحه(6/90)
37 ـ باب مَا جاءَ في المِنْحَة
2023 ـ حَدّثنا أَبُو كُرَيْبٍ، حدثنا إِبراهيمُ بنُ يُوسُفَ بن أَبِي إِسحاقَ، عن أَبيِه عن أَبِي إِسحاقَ، عن طَلْحَةَ بنِ مُصَرّفٍ قالَ: سَمِعْتُ عَبْدَ الرحمنِ بنَ عَوْسَجَةَ يَقُولُ سَمِعْتُ الْبَرَاءَ بنَ عَازِبٍ يَقُولُ: سَمِعْتُ النبيّ
ـــــــ
" باب مَا جاءَ في المِنْحَة"
قال في القاموس: منحه كمنعه وضربه أعطاه، والاسم المنحة بالكسر ومنحه الناقة جعل له وبرها ولبنها وولدها، وهي المنحة والمنيحة انتهى. وقال الحافظ في الفتح: المنيحة بالنون والمهملة وزن عظيمة هي في الأصل العطية. قال أبو عبيدة: المنيحة عند العرب على وجهين أحدهما أن يعطي الرجل صاحبه صلة فتكون له، والاَخر أن يعطيه ناقة أوشاء ينففح بحلبها ووبرها زمناً ثم يردها. وقال القزاز: قيل لا تكون المنيحة إلا ناقة أو شاة والأول أعرف انتهى.
قوله: "حدثنا إبراهيم بن يوسف بن أبي إسحاق" قال في التقريب: إبراهيم بن يوسف بن إسحاق بن أبي إسحاق السبيعي صدوق يهم من السابعة "عن أبيه" أي يوسف بن إسحاق بن أبي إسحاق وقد ينسب لجده ثقة من السابعة "سمعت عبد الرحمن بن عوسجة" الهمداني الكوفي ثقة من الثالثة.(6/90)
صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: "مَنْ مَنَحَ مَنِيحَةَ لَبَنٍ أَوْ وَرِقٍ، أَوْ هَدَى زُقَاقَاً كَانَ لَهُ مِثْلُ عِتْقِ رَقَبَةٍ" .
هذا حديثٌ حسنٌ صحيحٌ غريبٌ مِنْ حَدِيثِ أَبِي إِسحاقَ عن طَلْحَةَ بنِ مُصَرّفٍ لا نَعْرِفُهُ إِلاّ مِنْ هَذَا الوَجْهِ. وقد رَوَى مَنْصُورُ بنُ المُعْتَمِرِ وَشُعْبَةُ عن طَلْحَةَ بنِ مُصَرّفٍ هذا الْحَديثَ.
وفي البابِ عن النّعْمَانِ بنِ بَشِيرٍ. وَمَعْنَى قَوْلِهِ "مَنْ مَنَحَ مَنِيحَةَ وَرِقٍ" إنّما يَعْني به قَرْضىَ الدّراهِمِ. قوله: : "أَوْ هَدَى زُقَاقاً" قالَ: إِنّمَا يَعْنيِ بِه هِدَايَةَ الطّرِيقِ وَهُوَ إِرْشَادُ السّبِيلِ.
ـــــــ
قوله: "من منح أي أعطى "منيحة لبن أو ورق" بكسر الراء وسكونها أي فضة. قال الجزري في النهاية منحة الورق القرض، ومنحة اللبن أن يعطيه ناقة أو شاة ينتفع بلبنها ويعيدها، وكذلك إذا أعطاه لينتفع بوبرها وصوفها زماناً ثم يردها، ومنه الحديث المنحة مردودة انتهى "أو هدى زقاقاً" قال في النهاية: الزقاق بالضم الطريق، يريد من دل الضال أو الأعمى على طريقه، وقيل أراد من تصدق بزقاق من النخل وهي السكة منها والأول أشبه لأن هدى من الهداية لا من الهدية. انتهى.
قلت: وقع في حديث النعمان بن بشير الذي أشار إليه الترمذي: أهدى زقاقاً من الإهداء فالمراد بالزقاق في هذا الحديث هو السكة من النخل وبالإهداء التصدق "كان له" أي ثبت له "مثل عتق رقبة" أي كان ما ذكر له مثل عتاق رقبة، ووجه الشبه نفع الخلق والإحسان إليهم.
قوله: "هذا حديث حسن صحيح غريب" وأخرجه أحمد وابن حبان في صحيحه.
قوله: "وفي الباب عن النعمان بن بشير" أخرجه أحمد في مسنده عنه مرفوعاً: من منح منيحة ورقاً أو ذهباً أو سقى لبناً أو أهدى زقاقاً فهو كعدل رقبة(6/91)
38 ـ باب ما جاءَ في إِماطَةِ الأَذَى عن الطرِيق
2024 ـ حَدّثنا قُتَيْبَةُ عن مَالِكِ بنِ أَنَسٍ عن سُمَيٍ عن أَبِي صاَلِحٍ عن أَبي هُرَيْرَةَ عن النبيّ صلى الله عليه وسلم قالَ: "بَيْنَمَا رَجُلٌ يَمْشِي في الطّرِيقِ إِذْ وَجَدَ غُصْنَ شَوْكٍ فَأَخّرَهُ فَشَكَرَ الله لَهُ فَغَفَرَ لَهُ" .
وفي الباب عن أبي بَرْزَةَ وابن عَبّاسٍ وَأَبي ذَرّ.
هذا حديثٌ حسنٌ صحيحٌ.
ـــــــ
"باب ما جاءَ في إِماطَةِ الأَذَى عن الطرِيق"
أي إزالة ما يؤذي الناس عن الطريق
قوله: "فأخره" بتشديد الخاء المعجمة بعدها راء أي عزل عن الطريق "فشكر الله له" قال الجزري في النهاية: في أسماء الله تعالى الشكور هو الذي يزكو عنده القليل من أعمال العباد فيضاعف لهم الجزاء فشكره لعباده مغفرته لهم.
قوله: "وفي الباب عن أبي برزة" أخرجه مسلم وابن ماجة "وابن عباس" أخرجه ابن خزيمة في صحيحه "وأبي ذر" أخرجه مسلم وابن ماجة. وفي الباب أحاديث أخرى ذكرها المنذري في الترغيب في باب إماطة الأذى من كتاب الأدب.
قوله: "هذا حديث حسن صحيح" وأخرجه البخاري في أبواب المظالم والقصاص ومسلم في كتاب البر والصلة والاَداب(6/92)
باب ما جاء أن المجالس بالأمانة
...
39 ـ باب ما جاءَ أَنّ المَجَالِس أَمَانَة
2025 ـ حَدّثنا أَحمدُ بنُ محمدٍ، حدثنا عَبْدُ الله بنُ المُبَارَكِ عن ابنِ
ـــــــ
" باب ما جاءَ أَنّ المَجَالِس أَمَانَة"
هذا لفظ حديث أخرجه الخطيب في تاريخه عن علي مرفوعاً كما في الجامع الصغير، وروى أبو داود في سننه عن جابر بن عبد الله مرفوعاً: للجالس بالأمانة إلا ثلاثة مجالس: سفك دم حرام، أو فرح حرام، أو اقتطاع مال بغير حق،(6/92)
أَبِي ذِئْبٍ قال: أَخْبَرَنِي عَبْدُ الرحمنِ بنُ عَطَاءٍ عن عَبْدِ المَلِكِ بنِ جَابِرِ بنِ عَتيكٍ عن جاَبِرِ بن عَبْدِ الله عن النبيّ صلى الله عليه وسلم قالَ: "إِذَا حَدّثَ الرّجُلُ الْحَدِيثَ ثم الْتَفَتَ فَهِيَ أَمَانَةٌ" .
هذا حديثٌ حسنٌ وإِنّمَا نَعْرِفُهُ مِنْ حَدِيثِ ابنِ أَبي ذِئبٍ.
ـــــــ
وهو حديث ضعيف. والباء في قوله: المجالس بالإمانة تتعلق بمحذوف والتقدير تحسن المجالس أو حسن المجالس وشرفها بأمانة حاضريها على ما يقع فيها من قول وفعل، فكأن المعنى ليكن صاحب المجلس أميناً لما يسمعه أو يراه.
قوله: "أخبرني عبد الرحمن بن عطاء" القرشي مولاهم أبو محمد المديني ويقال له ابن أبي لبيب صدوق فيه لين من السادسة "عن عبد الملك بن جابر بن عتيك" الأنصاري المدني ثقة من الرابعة.
قوله: "إذا حدث الرجل" أي عند أحد "الحديث" أي الذي يريد إخفاءه "ثم التفت" أي يميناً وشمالاً أحتياطاً "فهي" أي ذلك الحديث، وأنت باعتبار خبره، وقيل لأن الحديث بمعنى الحكاية، وقيل أي الكلمة التي حدث بها "أمانة" أي عند من حدثه أي حكمه حكم الأمانة فيجب عليه كتمه. قال ابن رسلان: لأن التفاته إعلام لمن يحدثه أنه يخاف أن يسمع حديثه أحد وأنه قد خصه سره، فكان الالتفات قائماً مقام اكتم هذا عني أي خذه عني واكتمه وهو عندك أمانة انتهى.
قوله: "هذا حديث حسن" وأخرجه أحمد وأبو داود قال المنذري بعد نقل كلام الترمذي هذا: في إسناده عبد الرحمن بن عطاء المدني. قال البخاري: عنده مناكير، وقال أبو حاتم الرازي شيخ قيل له أدخله البخاري في كتاب الضعفاء قال يحول من ههنا. وقال الموصلي: عبد الرحمن بن عطاء عن عبد الملك بن جابر لا يصح انتهى(6/93)
40 ـ باب ما جَاءَ في السّخَاء
2026 ـ حَدّثنا أَبُو الْخَطّابِ زِيَادُ بنُ يَحْيَى الْحَسّانِيّ البَصْرِيّ،
ـــــــ
" باب ما جَاءَ في السّخَاء"
بفتح السين. وهو إعطاء ما ينبغي لمن ينبغي، وبذلك ما يقتنى بغير عوض،(6/93)
حدثنا حاتِمُ بنُ وَرْدَانَ، حدثنا أَيّوبُ عن ابنِ أَبِي مُلَيْكَةَ عن أَسْمَاءَ بِنْتِ أَبِي بَكْرٍ قالَتْ: "قُلْتُ يا رسولَ الله إِنّهُ لَيْسَ لي مِنْ شَيْءٍ إِلاّ مَا أَدْخَلَ عَلَيّ الزّبَيْرُ، أَفأُعْطِي؟ قالَ نَعَمْ، لا تُوكِي فَيُوكَى عَلَيْكِ" . يَقُولُ لا تُحْصِي فَيُحْصَى عَلَيْكِ.
ـــــــ
وهو من جملة محاسن الأخلاق بل هو من أعظمها، والبخل ضده قاله العيني
قوله: "حدثنا حاتم بن وردان" بن مروان السعدي أبو صالح البصري ثقة من الثامنة "حدثنا أيوب" هو السختياني.
قوله: "إنه ليس لي من شيء" وفي رواية للبخاري: مالي مال "إلا ما أدخل عليّ" بتشديد الباء "الزبير" هو ابن العوام كان زوجها "أفأعطى" وفي رواية للبخاري: أفأتصدق "لا توكي" من أوكى يوكي إيكاه، يقال أوكي ما في سقائه إذا شده بالوكاء وهو الخيط الذي يشد به رأس القربة وأوكى علينا أو بخل "فيوكي عليك" بفتح الكاف بصيغة المجهول، وفي رواية مسلم: فيوكي الله عليك. قال الجزري في النهاية: أي لا تدخري وتشدي ما عندك وتمنعي ما في يدك، فتنقطع مادة الرزق عنك انتهى. فدل الحديث على أن الصدقة تنمي المال وتكون سبباً إلى البركة والزيادة فيه، وأن من شح ولم يتصدق فإن الله يوكي عليه ويمنعه من البركة في ماله والنماء فيه "يقول لا تحصى فيحصى عليك" هذا تفسير لقوله: لا توكي فيوكي عليك من بعض الرواة، وضمير يقول راجع إلى النبي صلى الله عليه وسلم. وروى البخاري في صحيحه من طريق عبد الله بن نمير عن هشام بن عروة عن فاطمة عن أسماء أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: انفقي ولا تحصى فيحصي الله عليك، ولا نوعي فيوعي الله عليك. قال الحافظ: الاحصاء معرفة قدر الشيء وزناً أو عدداً وهو من باب المقابلة، والمعنى النهي عن منع الصدقة خشية النفاد، فإن ذلك أعظم الأسباب لقطع مادة البركة لأن الله يثيب على العطاء بغير حساب. وقيل المراد بالإحصاء عد الشيء لأن يدخر ولا ينفق منه، وإحصاء الله قطع البركة عنه أو حبس بمادة الرزق أو المحاسبة عليه في الاَخرة انتهى.(6/94)
وفي البابِ عن عَائِشَةَ وَأَبي هُرَيْرَةَ. هذا حديثٌ حسنٌ صحيحٌ. وَرَوَى بَعْضُهُمْ هذا الحَدِيثَ بهذا الإِسْنَادِ عن ابنِ أَبي مُلَيْكَةَ عن عَبّادِ بنِ عَبْدِ الله بنِ الزّبَيْرِ عن أَسْمَاءَ بِنْتِ أَبي بَكْرٍ. وَرَوَى غَيْرُ وَاحِدٍ هذا عن أَيّوبَ وَلَمْ يَذْكُرُوا فيِه عن عَبّادِ بنِ عَبْدِ الله بنِ الزّبَيْرِ.
2027 ـ حدّثنا الحَسَنُ بنُ عَرَفَةَ، حدثنا سَعِيدُ بنُ محمدٍ الورّاقُ عن يحيى بنِ سَعيدٍ عن الأّعْرَج عن أبي هُرَيرة عن النبيّ صلى الله عليه وسلم قالَ: "والسّخِيّ قَرِيبٌ مِنَ الله، قَرِيبٌ مِنَ الْجَنّةِ، قَرِيبٌ مِنَ النّاسِ،
ـــــــ
قوله: "وفي الباب عن عائشة وأبي هريرة" أما حديث عائشة فأخرجه الطبراني في الأوسط بنحو حديث أبي هريرة الاَتي وأما حديث أبي هريرة، فأخرجه الترمذي بعد هذا.
قوله: "هذا حديث حسن صحيح" وأخرجه البخاري في الزكاة وفي الهبة، ومسلم في الزكاة، وأبو داود والنسائي "وروى بعضهم هذا الحديث بهذا الإسناد عن ابن أبي مليكة عن عباد بن عبد الله بن الزبير عن أسماء بنت أبي بكر" رواه الشيخان في صحيحهما من طريق ابن جريج عن ابن أبي مليكة عن عباد بن عبد الله ابن الزبير عن أسماء "وروى غير واحد هذا عن أيوب ولم يذكروا فيه عن عباد ابن عبد الله بن الزبير" قال الحافظ: وقد روى أيوب هذا الحديث عن ابن أبي مليكة عن أسماء بغير واسطة، أخرجه أبو داود والترمذي، وصححه النسائي، وصرح أيوب عن ابن أبي مليكة بتحديث أسماء له بذلك، فيحمل على أنه سمعه من عباد عنها ثم حدثته به انتهى.
قوله: "عن يحيى بن سعيد" بن قيس الأنصاري القاضي.
قوله: "السخي" هو الذي اختار رضا المولى في بذله على الغني "قريب من الله" أي من رحمته "قريب من الجنة" بصرف المال وإنفاقه فيما ينبغي "قريب من الناس" لأن السخي يحبه جميع الناس ولو لم يحصل لبعضهم نفع من سخاوته(6/95)
بَعِيدٌ مِنَ النّارِ. وَالبَخِيلُ بَعِيدٌ مِنَ الله، بَعِيدٌ مِنَ الْجَنّةِ، بَعِيدٌ مِنَ الناسِ، قَرِيبٌ مِنَ النّارِ. وَالْجَاهِلُ السّخِيّ أَحَبّ إِلى الله عَزَ وَجَلّ مِنْ عَابِدٍ بَخِيلٍ" .
هذا حديثٌ غريبٌ لاَ نَعْرِفُهُ مِنْ حَدِيثِ يَحْيى بنِ سَعِيدٍ عن الأعْرَج عن أَبي هُرَيْرَةَ إِلاّ مِنْ حَدِيثِ سَعِيدِ بنِ محمدٍ، وقد خُولِفَ سَعِيدُ بنُ محمدٍ في رِوَايَةِ هذا الْحَدِيث عن يَحْيى بنِ سَعِيدٍ، إِنّمَا يُرْوى عن يَحْيَى بنِ سَعِيدٍ عن عَائِشَةَ شَيْءٌ مُرْسَلٌ
ـــــــ
كحبه العادل "والبخيل" هو الذي لا يؤدي الواجب عليه "بعيد من الله بعيد من الجنة بعيد من الناس قريب من النار" معنى هذه الجملة ظاهر من ماقبلها، والأشياء تتبين بأضدادها "والجاهل السخي" قال القاري: أراد به ضد العابد وهو من يؤدي الفرائض دون النوافل، لأن ترك الدنيا رأس كل عبادة وإنما عبر عنه بالجاهل لأنه أراد به أنه مع كونه جاهلاً غير عالم بما لم يجب عليه وجوب عين "أحب إلى الله من عابد" أي كثير النوافل سواء يكون عالماً أم لا "بخيل" لأن حب الدنيا رأس كل خطيئة، وأيضاً النخيل الشرعي هو من ترك الواجب الشرعي المالي والسخي ضده، ولا شك أن من قام بالفرائض وترك النوافل أفضل ممن قام بالنوافل وترك الفرائض، قال وهذا الذي قررنا أولى من قول الطيبي: يفهم منه أن جاهلاً غير عابد أحب من عالم عابد رعاية للمطابقة، فيا لها من حسنة غطت خصلتين ذميمتين، ويا لها من سيئة غطت حسنتين كريمتين.
قوله: "هذا حديث غريب" وأخرجه البيهقي في شعب الإيمان عن جابر بن عبد الله والطبراني في الأوسط عن عائشة. قال المناوي: بأسانيد ضعيفة يقوي بعضها بعضاً "لا نعرفه من حديث يحيى بن سعيد عن الأعرج عن أبي هريرة إلا من حديث سعيد بن محمد" الوراق المذكور وهو ضعيف.
قوله: "وقد خولف سعيد بن محمد في رواية هذا الحديث عن يحيى بن سعيد الخ" أي خالفه غيره في رواية هذا الحديث عن يحيى بن سعيد، فرواه هو عن يحيى عن الأعرج عن أبي هريرة متصلا وجعله من مسند أبي هريرة، ورواه غيره عن يحيى عن عائشة مرسلاً يعني منقطعاً وجعله من مسند عائشة.(6/96)
ـــــــ
تنبيه: قد أورد الحافظ السيوطي هذا الحديث في كتابه الجامع الصغير نقلا عن الترمذي بلفظ: ولجاهل سخي أحب إلى الله من عالم بخيل قال المناوي في شرحه: لأن الأول سريع الانقياد إلى ما يؤمر به من نحو تعلم، وإلى ما ينهى عنه بخلاف الثاني انتهى.
قلت: في نسخ الترمذي الموجودة عندنا كلها: من عابد بخيل، وكذلك في المشكاة، وكذلك في الترغيب للمنذري، وليس في واحد منها: من عالم بخيل، فالظاهر أنه من وهم الناسخ والله تعالى أعلم(6/97)
41 ـ باب ما جاءَ في البُخْل
2028 ـ حَدّثنا أَبُو حَفْصٍ عَمْرُو بنُ عَلِيّ، حدثنا أَبُو دَاوُدَ، حدثنا صَدَقَةُ بنُ مُوسَى حدثنا مَالِكُ بنُ دِينَارٍ عن عَبْدِ الله بنِ غَالِبٍ الْحُدّانِيّ عن أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيّ قالَ: قالَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم: "خَصْلَتَانِ لا تَجْتَمِعَانِ في مُؤْمِنٍ: البُخْلُ، وسُوءِ الْخُلُقِ" .
ـــــــ
"باب ما جاءَ في البُخْل"
قوله: "عن عبد الله بن غالب الحداني" بضم المهملة وتشديد الدال، البصري العابد، صدوق قليل الحديث من الثالثة.
قوله: "خصلتان لا يجتمعان في مؤمن البخل وسوء الخلق" قيل أي لا ينبغي أن يجتمعا فيه. وقال التوربشتي: تأويل هذا الحديث أن نقول المراد به اجتماع الخصلتين فيه مع بلوغ النهاية بحيث لا ينفك عنهما ويوجد منه الرضاء بهما، فأما الذي يبخل حيناً ويسوء خلقه في وقت أو في أمر دون أمر ويندر منه فيندم ويلوم نفسه أو تدعوه النفس إلى ذلك فينازعها فإنه بمعزل عن ذلك انتهى.
وقوله: "خصلتان لا تجتمعان في مؤمن" خبر موصوف والمبتدأ البخل وسوء الخلق قاله ابن الملك. وقال ابن حجر: خصلتان مبتدأ سوغه إبدال المعرفة منه في قوله البخل وسوء الخلق والخبر لا تجتمعان. وقال القاري: الظاهر أن لا تجتمعان صفة مخصصة مسوغة لكون المبتدأ نكرة والخبر قوله البخل وسوء الخلق(6/97)
وفي البابِ عن أَبِي هُرَيْرَةَ.
هذا حديثٌ غريبٌ لا نَعْرِفُهُ إِلاَ مِنْ حَدِيثِ صَدقةَ بنِ مُوسَى.
2029 ـ حدّثنا أَحمدُ بنُ مَنِيعٍ حدثنا يَزِيدُ بنُ هَارُونَ حدثنا صَدَقَةُ بنُ مُوسَى عن فَرْقَدٍ السّبَخِيّ عن مُرّةَ الطّيّبِ عن أَبِي بَكر الصّدّيقِ عن النبيّ صلى الله عليه وسلم قالَ: "لا يَدْخُلُ الْجَنّةَ خَبّ ولا بَخِيلٌ ولا مَنّانٌ" .
هذا حديثٌ حسنٌ غريبٌ.
2030ـ حدّثنا محمدُ بنُ رَافِعِ، حدثنا عَبْدُ الرّزّاقِ عن بِشْرِ بنِ رَافِعِ عن يَحْيَى بنِ أَبي كَثِيرٍ عن أَبِي سَلَمَةَ عن أَبي هُرَيْرَةَ قالَ: قالَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم: "المُؤْمِنُ غِرّ كَرِيمٌ، والفَاجِرُ خَبّ لَئِيمٌ" .
ـــــــ
قوله: "وفي الباب عن أبي هريرة" أخرجه الترمذي في هذا الباب.
قوله: "هذا حديث غريب" وأخرجه البخاري في الأدب المفرد.
قوله: "لا يدخل الجنة" أي دخولاً أولياً "خب" بفتح الخاء ويكسر أي خداع يفسد بين الناس بالخداع "ولا بخيل" يمنع الواجب من المال "ولامنان" من المنة أي يمن على الفقراء بعد العطاء أو من المن بمعنى القطع لما يجب أن يوصل وقيل لا يدخل الجنة مع هذه الصفة حتى يجعل طاهراً منها إما بالتوبة عنها في الدنيا أو بالعقوبة بقدرها تمحيصاً في العقبى، أو بالعفو عنه تفضلا وإحساناً. ويؤيده قوله تعالى: {وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ} كذا في المرقاة.
قوله: "عن بشر بن رافع" الحارثي كنيته أبو الأسباط النجراني فقيه ضعيف الحديث من السابعة.
قوله: "المؤمن غر" بكسر الغين المعجمة وتشديد الراء "كريم" أي موصوف بالوصفين أي له الاغترار بكرمه وله المسامحة في حظوظ الدنيا لا لجهله "والفاجر خب لئيم" أي بخيل لجوج سيء الخلق وفي كل منهما الوصف الثاني سبب للأول وهو نتيجة الثاني فتأمل فكلاهما من باب التذييل والتكميل. وفي النهاية: أي ليس(6/98)
هذا حديثٌ غريبٌ لا نَعْرِفُهُ إِلاّ مِنْ هذا الوَجْهِ
ـــــــ
بذي مكر، فهو ينخدع لانقياده ولينه، وهو ضد الخب، يريد أن المؤمن المحمود من طبعه الغرارة وقلة الفطنة للشر وترك البحث عنه، وليس ذلك منه جهلا، ولكنه كرم وحسن خلق، كذا في المرقاة. وقال المناوي: أي يغره كل أحد ويغيره كل شيء ولا يعرف الشر وليس بذي مكر، فهو ينخدع لسلامة صدره وحسن ظنه.
قوله: "هذا حديث غريب" وأخرجه أحمد وأبو داود والحاكم(6/99)
42 ـ باب ما جاءَ في النّفَقَةِ علَى الأَهْل
2031ـ حَدّثنا أَحمدُ بنُ محمدٍ، حدثنا عَبْدُ الله بنُ المُبَارَكِ عن شُعْبَةَ عن عَدِيّ بنِ ثَابِتِ عن عَبْدِ الله بنِ يَزِيدَ عن أَبِي مَسْعُودٍ الأَنْصَارِيّ عن النبيّ صلى الله عليه وسلم قالَ: "نَفَقَةُ الرّجُلِ على أَهْلِهِ صَدَقَةٌ" .
ـــــــ
"باب ما جاء في النفقة على الأهل"
قوله: "نفقة الرجل على أهله" وفي رواية للشيخين إذا أنفق المسلم نفقة على أهله وهو يحتسبها. قال الحافظ: المراد بالاحتساب القصد إلى طلب الأجر. وقال القرطبي في قوله يحتسبها أفاد بمنطوقه أن الأجر في الإنفاق إنما يحصل بقصد القربة واجبة أو مباحة، وأفاد بمفهومه أن من لم يقصد القربة لم يؤجر لكن تبرأ ذمته من الواجبة لأنها معقولة المعنى "صدقة" قال الحافظ: المراد بالصدقة الثواب وإطلاقها عليه مجازي، وقرينته الإجماع على جواز الإنفاق على الزوجة الهاشمية مثلاً، وهو من مجاز التشبيه، والمراد به أصل الثواب لا في كميته وكيفيته، قال: وقوله على أهله: يحتمل أن يشمل الزوجة والأقارب ويحتمل أن يختص بالزوجة ويلحق به من عداها بطريق الأولى لأن الثواب إذا ثبت فيما هو واجب فثبوته فيما ليس بواجب أولى. وقال الطبري ما ملخصه: الإنفاق على الأهل واجب والذي يعطيه يؤجر على ذلك بحسب قصده، ولا منافاة بين كونها واجبة وبين تسميتها صدقة بل هي أفضل من صدقة التطوع. وقال المهلب: النفقة على الأهل واجبة(6/99)
وفي البابِ عن عَبْدِ الله بنِ عَمْرٍو وعَمْرِو بنِ أُمَيّةَ وأَبي هُرَيْرَةَ.
هذا حديثٌ حسنٌ صحيحٌ.
2032ـ حدّثنا قُتَيْبَةُ حدثنا حَمّادُ بنُ زَيْدٍ عن أَيّوبَ عن أَبِي قِلاَبَةَ عن أَبِي أَسْمَاءَ عن ثَوْبَانَ عن النبيّ صلى الله عليه وسلم قالَ: "أَفْضَلُ الدّينَارِ دِيَنارٌ يُنْفِقُهُ الرّجُلُ على عيالِهِ، ودِينارٌ يُنْفِقُهُ الرّجُلُ على دابّتِهِ في سَبيل الله، وَدِينارٌ يُنْفِقُهُ الرّجُلُ على أَصْحَابِهِ في سَبِيلِ الله" . قالَ أَبُو قِلاَبَةَ بَدَأَ بالعِيَالِ، ثمّ قالَ: وأيّ رَجُلٍ أَعْظَمُ أَجْراً مِنْ رَجُلٍ يُنْفِقُ على عِيَالٍ لَهُ صغار
ـــــــ
وإنما سماها الشارع صدقة خشية أن يظنوا أن قيامهم بالواجب لا أجر لهم فيه، وقد عرفوا ما في الصدقة من الأجر، فعرفهم أنها لهم صدقة حتى لا يخرجوها إلى غير الأهل إلا بعد أن يكفوهم، ترغيباً لهم في تقديم الصدقة الواجبة قبل صدقة التطوع انتهى. ٍ
قوله: "وفي الباب عن عبد الله بن عمرو وعمرو بن أمية وأبي هريرة". أما حديث عبد الله بن عمرو فأخرجه مسلم في باب فضل النفقة على العيال والمملوك من كتاب الزكاة. وأما حديث عمرو بن أمية، فأخرجه أحمد وأبو يعلى والطبراني ورواته ثقات ذكره المنذري في الترغيب في باب النفقة على الزوجة والعيال. وأما حديث أبي هريرة فأخرجه مسلم.
قوله: "هذا حديث حسن صحيح" وأخرجه البخاري في الإيمان وفي المغازي وفي النفقات، ومسلم في الزكاة، والنسائي في الزكاة وفي عشرة النساء.
قوله: "أفضل الدينار" يراد به العموم "ودينار ينفقه الرجل على دابته" أي دابة مربوطة "في سبيل الله" من نحو الجهاد ودينار ينفقه الرجل على اصحابه" أي حال كونهم مجاهدين "في سبيل الله" يعني الإنفاق على هؤلاء الثلاثة على الترتيب أفضل من الإنفاق على غيرهم، ذكره ابن الملك، قيل: ولا دلالة في الحديث على الترتيب لأن الواو لمطلق الجمع إلا أن يقال الترتيب الذكري الصادر من الحكيم لا يخلو عن حكمة "قال أبو قلابة بدأ" أي النبي صلى الله عليه وسلم "ثم قال" وفي رواية مسلم: ثم قال أبو قلابة "وأي رجل" وفي بعض النسخ فأي رجل(6/100)
يُعِفّهم الله بِهِ وَيُغْنِيِهم الله بِهِ" .
هذا حديثٌ حسنٌ صحيحٌ.
ـــــــ
"يعفهم الله به" من الإعفاف أي يكفهم به عما لا يحل.
قوله: "هذا حديث حسن صحيح" وأخرجه مسلم(6/101)
باب ما جاء في الضيافة و غاية الضيافة كم هي
...
43 ـ باب ما جاءَ في الضّيَافَةِ وغاية الضيافة الي كم هي؟
2033 ـ حَدّثنا قُتَيْبَةُ، حدثنا اللّيْثُ بنُ سَعْدٍ عن سَعِيدِ بنِ أَبِي سَعِيدٍ الْمَقْبريّ عن أَبي شُرَيْحٍ العدويّ أَنّهُ قالَ: "أَبْصَرَتْ عَيْنَايَ رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم وسَمِعَتْهُ أُذَنَايَ حينَ تَكَلّم بِهِ قالَ: مَنْ كَانَ يُؤمِنُ بالله واليَوْمِ الاَخِرِ فَلْيُكْرِمْ ضَيْفَهُ جَائِزَتَهُ. قالوا وَماَ جائِزَتُهُ؟ قالَ: يَوْمٌ وَلَيْلَةٌ قالَ: والضّيَافَةُ ثَلاَثَةُ أَيّامٍ ومَا كَانَ بَعْدَ ذَلِكَ فَهُوَ صَدَقَةٌ. ومَنْ كَانَ يُؤْمِنُ
ـــــــ
"باب ما جاء في الضيافة وغاية الضيافة كم هو"
قوله: "أبصرت عيناي رسول الله صلى الله عليه وسلم وسمعته أذناي حين تكلم به" فائدة ذكره التوكيد "من كان يؤمن بالله واليوم الاَخر" المراد بقوله يؤمن الإيمان الكامل، وخصه بالله واليوم الاَخر إشارة إلى المبدأ والمعاد أي من آمن بالله الذي خلقه وآمن بأنه سيجازيه بعمله "فليكرم ضيفه" قالوا إكرام الضيف بطلاقة الوجه وطيب الكلام والإطعام ثلاثة أيام في الأول بمقدوره وميسوره والباقي بما حضره من غير تكلف، ولئلا يثقل عليه وعلى نفسه، وبعد الثلاثة يعد من الصدقات إن شاء فعل وإلا فلا "جائزته" هي العطاء مشتقة من الجواز لأنه حق جوازه عليهم، وانتصابه بأنه مفعول ثان للإكرام لأنه في معنى الإعطاء أو هو كالظرف أو منصوب بنزع الخافض أي بجائزته "قال يوم وليلة" أي جائزته يوم وليلة. وجواز وقوع الزمان خبراً عن الجنة باعتبار أن له حكم الظرف، وإما فيه مضاف مقدر تقديره أي زمان جائزته يوم وليلة "والضيافة ثلاثة أيام وما كان بعد ذلك فهو صدقة" قال ابن بطال: سئل عنه مالك فقال يكرمه ويتحفه يوماً وليلة وثلاثة أيام ضيافة. قال الحافظ: اختلفوا هل الثلاث غير(6/101)
بالله واليَوْمِ الاَخِرِ فَلْيَقُلُ خَيْراً أَوْ لِيَسْكُتْ" .
ـــــــ
الأول أو يعد منها، فقال أبو عبيد: يتكلف له في اليوم الأول بالبر والإلطاف، وفي الثاني والثالث يقدم له ما حضره ولا يزيده على عادته، ثم يعطيه ما يجوز به مسافة يوم وليلة وتسمى الجيزة، وهي قدر ما يجوز به المسافر من منهل إلى منهل. ومنه الحديث الاَخر: أجيزوا الوفد بنحو ما كنت أجيزهم. وقال الخطابي: معناه أنه إذا نزل به الضيف أن يتحفه ويزيده في البر على ما بحضرته يوماً وليلة، وفي اليومين الأخيرين يقدم له ما يحضره، فإذا مضى الثلاث فقد قضي حقه، فما زاد عليها مما يقدمه له يكون له صدقة. وقد وقع في رواية عبد الحميد بن جعفر عن سعيد المقبري عن أبي شريح عند أحمد مسلم بلفظ: الضيافة ثلاثة أيام وجائزتة يوم وليلة. وهذا يدل على المغايرة، ويؤيده ما قال أبو عبيد، وأجاب الطيبي بأنها جملة مستأنفة بيان للجملة الأولى، كأنه قيل كيف يكرمه؟ قال: جائزتة، ولا بد من تقدير مضاف أي زمان جائزته أي بره، والضيافة يوم وليلة. فهذه الرواية محمولة على اليوم الأول، ورواية عبد الحميد على اليوم الأخير أي قدر ما يجوز به المسافر ما يكفيه يوم وليلة. فينبغي أن يحمل على هذا عملاً بالروايتين انتهى. ويحتمل أن يكون المراد بقوله وجائزته بياناً لحالة أخرى وهي أن المسافر تارة يقيم عند من ينزل عليه فهذا لا يزاد على الثلاث بتفاصيلها أو تارة لا يقيم فهذا يعطى ما يجوز به قدر كفايته يوماً وليلة، ولعل هذا أعدل الأوجه انتهى كلام الحافظ.
قال النووي: أجمع المسلمون على الضيافة، وأنها من متأكدات الإسلام. ثم قال الشافعي ومالك وأبو حنيفة رحمهم الله تعالى والجمهور: وهي سنة ليست بواجبة. وقال الليث وأحمد: هي واجبة يوماً وليلة على أهل البادية وأهل القرى دون أهل المدن، وتأول الجمهور هذه الأحاديث وأشباهها على الاستحباب ومكارم الأخلاق، وتأكد حق الضيف كحديث: غسل الجمعة واجب على كل محتلم أي متأكد الاستحباب، وتأولها الخطابي رحمه الله وغيره على المضطر انتهى.
قلت: قد اختار القاضي الشوكاني وجوب الضيافة واستدل عليه بدلائل عديدة فقال في النيل: والحق وجوب الضيافة لأمور ثم ذكرها، فمنها إباحة العقوبة بأخذ المال لمن ترك ذلك، وهذا لا يكون في غير واجب، ومنها قوله فما كان وراء ذلك(6/102)
هذا حديثٌ حسنٌ صحيحٌ.
2034ـ حدّثنا ابنُ أَبِي عُمَرْ حدثنا سُفْيَانُ عن ابنِ عَجْلاَنَ عن سَعِيدٍ المَقْبُريّ عن أَبِي شُرَيْحٍ الكَعْبِيّ أَنّ رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم قالَ: "الضّيَافَةُ ثَلاَثَةُ أَيّامٍ، وجاَئِزَتُهُ يَوْمٌ ولَيْلَةٌ، وَمَا أَنْفَقَ عَلَيْهِ بَعْدَ ذَلِكَ فَهُوَ صَدَقَةٌ، وَلاَ يَحِلّ لَهُ أَنْ يَثْوِيَ عِنْدَهُ حتى يُحْرِجَهُ" .
ومَعْنَى قوله: "لاَ يَثْوِيَ عِنْدَهُ" يَعْنِي الضّيْفَ لاَ يُقِيمُ عِنْدَهُ حتى يَشْتَدّ على صاحِبِ المَنْزِلِ، وَالْحَرَجُ هُوَ الضّيقُ. إِنّمَا قوله: "حتى يُحْرِجَهُ" يَقُولُ: حتى يُضيّقَ عَلَيْهِ. وفي البابِ عن عَائِشَةَ وأَبي هُرَيْرَةَ. وقد رَوَى مَالِكُ بنُ أَنَسٍ واللَيثُ بنُ سَعْدٍ عن سَعِيدٍ المَقْبُرِيّ.
ـــــــ
فهو صدقة، فإنه صريح أن ما قبل ذلك غير صدقة بل واجب شرعاً، ومنها قوله صلى الله عليه وسلم: ليلة الضيف حق واجب ، فهذا تصريح بالوجوب لم يأت ما يدل على تأويله.
قلت: وجوب الضيافة هو الظاهر الراجح عندي والله تعالى أعلم.
قوله: "هذا حديث حسن صحيح" أخرجه الشيخان وأصحاب السنن.
قوله: "ولا يحل له أن يثوي عنده" هو بكسر الواو وبفتحها في الماضي وبكسرها في المضارع من الثواء وهو الإقامة بمكان معين "حتى يحرجه" من الإحراج أو من التحريج أي لا يضيق صدره بالإقامة عنده بعد الثلاثة، وفي رواية لمسلم: حتى يؤثمه أي يوقعه في الإثم، لأنه قد يغتابه لطول مقامه أو يعرض له بما يؤذيه أو يظن به ظناً سيئاً. وفي رواية لأحمد عن أبي شريح قيل يا رسول الله: وما يؤثمه؟ قال: يقيم عنده لا يجد شيئاً يقدمه " حتى يشتد على صاحب المنزل" أي يثقل عليه "حتى يضيق عليه" من الضييق.
قوله: "وفي الباب عن عائشة" لينظر من أخرجه "وأبي هريرة" أخرجه(6/103)
هذا حديثٌ حسنٌ صحيحٌ. وأَبُو شُرَيْحٍ الْخُزَاعِيّ هُوَ الكَعْبِيّ، وَهُو العدوِيّ، واسْمُهُ خُوَيْلد بنُ عَمْرٍو.
ـــــــ
الشيخان "واسمه خويلد بن عمر" صحابي، نزل المدينة، مات سنة ثمان وستين على الصحيح(6/104)
باب ما جاء في السعى على الأرملة و اليتيم
...
44 ـ باب ما جاءَ في السّعْيِ على الأَرْمَلَةِ واليَتِيم
2035ـ حَدّثنا الأَنْصَارِيّ، حدثنا مَعْنٌ، حدثنا مَالِكٌ عن صَفْوَانَ بنِ سُلَيْمٍ يَرْفَعُهُ إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم قالَ: "السّاعي على الأَرْمَلَةِ والمِسْكِينِ كالمُجَاهِدِ في سَبِيلِ الله، أَوْ كَالّذِي يَصْومُ النّهَارَ وَيَقُومُ اللّيْلَ" .
ـــــــ
" باب ما جاءَ في السّعْيِ على الأَرْمَلَةِ واليَتِيم"
الأرملة بفتح الهمزة وسكون الراء وفتح الميم، وقال في القاموس: امرأة أراملة محتاجة أو مسكينة والجمع أرامل وأرملة، والأرمل العزب وهي بهاء ولا يقال للعزبة الموسرة أرملة انتهى.
قوله: "الساعي على الأرملة" قال النووي: المراد بالساعي الكاسب لهما العامل لمؤنتهما، والأرملة من لا زوج لها سواء تزوجت قبل ذلك أم لا، وقيل التي فارقها زوجها قال ابن قتيبة: سمعت أرملة لما يحصل لها من الإرمال وهو الفقر وذهاب الزاد بتفقد الزوج، يقال أرمل إذا فني زاده: قال القاري: وهذا مأخذ لطيف في إخراج الغنية من عموم الأرملة وإن كان ظاهر إطلاق الحديث يعم الغنية والفقيرة. قال الطيبي: وإنما كان معنى الساعي على الأرملة ما قاله النووي لأنه صلى الله عليه وسلم عداه بعلي مضمناً فيه معنى الإنفاق "والمسكين" هو من لا شيء له، وقيل من له بعض الشيء، وقد يقع على الضعيف، وفي معناه الفقير بل بالأولى عند بعضهم "كالمجاهد في سبيل الله" أي ثواب القائم بأمرهما وإصلاح شأنهما والإنفاق عليهما كثواب الغازي في جهاده فإن المال شقيق الروح وفي بذلة مخالفة النفس ومطالبة رضا الرب "أو كالذي يصوم النهار ويقوم الليل" وفي رواية للبخاري: أو القائم الليل الصائم النهار. قال العيني: شك من الراوي(6/104)
2036 ـ حدّثنا الأَنْصَارِيّ حدثنا مَعْنٌ حدثنا مَالِكٌ عن ثَوْرِ بنِ زَيْدٍ الديلي عن أَبِي الغَيْثِ عن أَبي هُرَيْرَةَ عن النبيّ صلى الله عليه وسلم مِثْلَ ذَلِكَ.
وهذا الحديثُ حديثٌ حسنٌ صحيحٌ غريبٌ: وأَبُو الغَيْثِ اسْمُهُ سَالِمٌ مَوْلَى عَبْدِ الله ابنِ مُطِيعٍ. وثَوْرُ بنُ يَزِيدَ شَامِيٌ، وَثَوْرُ بنُ زَيْدٍ مَدَنِيٌ.
ـــــــ
وفي رواية معن بن عيسى وابن وهب وابن بكير وآخرين عن مالك بلفظ أو كالذي يصوم النهار ويقوم بالليل. وفي رواية ابن ماجة من رواية الدراوردي عن ثور مثله ولكن بالواو لا بأو انتهى.
قوله: "عن ثور بن زيد" باسم الحيوان المعروف، الديلي بكسر المهملة بعدها تحتانية المدني ثقة من السادسة "عن أبي الغيث" إسمه سالم المدني مولى إبن مطيع ثقة من الثالثة.
قوله: "هذا حديث حسن صحيح غريب" وأخرجه الشيخان وغيرهما.
اعلم أن الإسناد الأول مرسل والثاني موصول. قال الحافظ في الفتح: وأكثرهم ساقه على لفظ رواية مالك عن صفوان بن سليم به مرسلاً ثم قال: وعن ثور بسنده مثله انتهى.
قوله: "ثور بن يزيد شامي وثور بن زيد مدني" يعني أن هذين رجلان الأول شامي والثاني مدني وقد عرفت ترجمة ثور بن زيد آنفاً، وأما ترجمة ثور بن يزيد فقال الحافظ: ثور بن يزيد بزيادة تحتانية في أول اسم أبيه أبو خالد الحمصي ثقة ثبت إلا أنه يرى القدر من السابعة(6/105)
باب ما جاء في طلاقة الوجه و حسن البشر
...
45 ـ باب ما جاءَ في طَلاَقَةِ الوجْهِ وحُسْنِ البِشْر
2037 ـ حَدّثنا قُتَيْبَةُ حدثنا المُنْكَدِرُ بن محمد بن المُنْكَدِرُ عن أَبِيه عن جاَبِرِ بنِ عَبْدِ الله
ـــــــ
" باب ما جاءَ في طَلاَقَةِ الوجْهِ وحُسْنِ البِشْر"
قال في القاموس: البشر بالكسر الطلاقة، وقال فيه طلق ككرم وهو طلق الوجه مثلثة وكنيف وأمير أي ضاحكه ومشرقه.(6/105)
قالَ: قالَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم: "كُلّ مَعْرُوفٍ صَدَقَةٌ وإِنّ منَ المَعْرُوفِ أَنْ تَلْقَى أَخَاكَ بِوَجْهٍ طَلْقٍ وأَنْ تُفْرِغَ من دَلْوِكَ في إنَاءِ أَخِيكَ" .
وفي البابِ عن أَبِي ذَرٍ.
هذا حديثٌ حسنٌ.
ـــــــ
قوله: "كل معروف صدقة" قال الراغب: المعروف اسم كل فعل يعرف حسنه بالشرع والعقل معاً ويطلق على الاقتصاد لثبوت النهي عن السرف: وقال ابن أبي جمرة: يطلق اسم المعروف على ما عرف بأدلة الشرع أنه من أعمال البر، سواء جرت به العادة أم لا. قال: والمراد بالصدقة الثواب، فإن قارنته النية أجر صاحبه جزماً وإلا ففيه احتمال: قال: وفي هذا الكلام إشارة إلى أن الصدقة لا تنحصر في الأمر المحسوس منه، فلا تختص بأهل اليسار مثلاً، بل كل واحد قادر على أن يفعلها في أكثر الأحوال بغير مشقة "وإن من المعروف" أي من جملة أفراده "أن تلقي أخاك" أي المسلم "بوجه" بالتنوين "طلق" يعني تلقاه منبسط الوجه متهلله "وأن تفرغ" من الإفراغ أي نصب "من دلوك" أي استقاءك "في إناء أخيك" لئلا يحتاج إلى الاستقاء أو لاحتياجه إلى الدلو.
قوله: "وفي الباب عن أبي ذر" أخرجه الترمذي في باب صنائع المعروف.
قوله: "هذا حديث حسن صحيح" وأخرجه أحمد. قال القاري في المرقاة: وفي كثير من نسخ الترمذي حسن فقط، وليس في سنده غير المنكدر بن محمد بن المنكدر. قال الذهبي: فيه لين، وقد وثقه أحمد، كذا ذكره ميرك انتهى.
قلت قال الحافظ في التقريب: المنكدر بن محمد بن المنكدر القرشي التيمي المدني لين الحديث من الثامنة(6/106)
باب ما جاء في الصدق و الكذب
...
46 ـ باب ما جاءَ في الصّدْقِ وَالْكَذِب
2038 ـ حَدّثنا هَنّادٌ حدثنا أَبُو مُعَاوِيَةَ عن الاعْمَشِ عن شَقِيقِ بنِ سَلَمَةَ عن عَبْدِ الله بنِ مَسْعُودٍ قالَ: قالَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم: "عَلَيْكُمْ بِالصّدْقِ فإِنّ الصّدْقَ يَهْدِي إلى البِرّ، وإنّ البِرّ يَهْدِي إلى الْجَنّةِ، وَمَا يَزَالُ
ـــــــ
"باب ما جاء في الصدق والكذب"
قوله: "عليكم بالصدق" أي الزموا الصدق وهو الإخبار على وفق ما في الواقع(6/106)
الرجُلُ يَصْدُقُ وَيَتَحَرّى الصّدْقَ حَتّى يُكْتَبَ عِنْدَ الله صِدّيقاً، وإيّاكم والكذِبَ، فإنّ الكَذِبَ يَهْدِي إلَى الفُجُورِ، وإِنّ الفُجُورَ يَهْدِي إِلَى النّارِ وَمَا يزَالُ العبْدُ يَكْذِبُ وَيَتَحَرّى الكَذِبَ حَتّى يُكْتَبَ عِنْدَ الله كَذّاباً" .
وفي البابِ عن أَبِي بَكْرٍ الصدِيق وعُمَر وعَبْدِ الله بنِ الشّخِير وابنِ عُمَر.
ـــــــ
"فإن الصدق" أي على وجه ملازمته ومداومته "يهدي" أي صاحبه "إلى البر" بكسر الموحدة أصله التوسع في فعل الخير، وهو اسم جامع للخيرات من اكتساب الحسنات واجتناب السيئات، ويطلق على العمل الخالص الدائم المستمر معه إلى الموت "وإن البر يهدي إلى الجنة" قال ابن بطال: مصداقه في كتاب الله تعالى {إِنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ} "وما يزال الرجل يصدق" أي في قوله وفعله "ويتحرى الصدق" أي يبالغ ويجتهد فيه "حتى يكتب" أي يثبت "عند الله صديقاً" بكسر الصاد وتشديد الدال أي مبالغاً في الصدق ففي القاموس: الصديق من يتكرر منه الصدق حتى يستحق اسم المبالغة في الصدق. وفي الحديث إشعار بحسن خاتمته وإشارة إلى أن الصديق يكون مأمون العاقبة "فإن الكذب يهدي إلى الفجور" قال الراغب: أصل الفجر الشق. فالفجور شق ستر الديانة، ويطلق على الميل إلى الفساد وعلى الانبعاث فيه المعاصي وهو اسم جامع للشر انتهى. وفي القاموس: فجر فسق وكذّب وعصي وخالف "حتى يكتب عند الله كذاباً" قال الحافظ في الفتح: المراد بالكتابة الحكم عليه بذلك وإظهاره للمخلوقين من الملأ الأعلى وإلقاء ذلك في قلوب أهل الأرض، وقد ذكره مالك بلاغاً عن ابن مسعود وزاد فيه زيادة مفيدة ولفظه: لا يزال العبد يكذب ويتحرى الكذب فينكت في قلبه نكتة سوداء حتى يسود قلبه فيكتب عند الله من الكاذبين انتهى. قال النووي: قال العلماء: في هذا الحديث حث على تحري الصدق والاعتناء به، وعلى التحذير من الكذب والتساهل فيه فإنه إذا تساهل فيه كثر منه فيعرف به.
قوله: "وفي الباب عن أبي بكر وعمر وعبد الله بن الشخير وابن عمر" أما حديث أبي بكر فأخرجه ابن حبان في صحيحه مرفوعاً: عليكم بالصدق فإنه مع البر وهما في الجنة، وإياكم والكذب فإنه مع الفجور وهما في النار . وأما حديث عمر،(6/107)
هذا حديث حسن صحيح.
2039ـ حدّثنا يَحْيَى بنُ مُوسَى قالَ: "قُلْتُ لِعَبْدِ الرحيمِ بنِ هَارُونَ الغَسّانِيّ: حَدّثَكُمْ عَبْدُ العَزيز بنُ أَبِي رَوادٍ عن نَافِعٍ عن ابنِ عُمَرَ عن النبيّ صلى الله عليه وسلم قالَ: "إذا كَذَبَ العَبْدُ تَبَاعَدَ عَنْهُ المَلَكُ مَيْلاً مِنْ نَتْنِ ما جاءَ به" .
قالَ يَحْيَى فَأَقَرّ بِهِ عَبْدُ الرحيمِ بنُ هَارُون؟ فقالَ: نَعَمْ.
هذا حديثٌ حسنٌ جَيد غريبٌ لاَ نَعْرِفُهُ إِلاّ مِنْ هذا الوَجْهِ، تَفَرّدَ بِهِ عَبْدُ الرحيمِ بنُ هَارُونَ.
ـــــــ
وحديث عبد الله بن الشخير فلينظر من أخرجهما. وأما حديث ابن عمر فأخرجه الترمذي بعد هذا.
قوله: "هذا حديث حسن صحيح" وأخرجه الشيخان وغيرهما.
قوله: "قلت لعبد الرحيم بن هارون الغساني" هو أبو هشام الواسطي نزيل بغداد ضعيف كذبه الدارقطني من التاسعة "حدثكم" بحذف همزة الاستفهام ويأتي جوابه في آخر الحديث "عبد العزيز بن أبي رواد" بفتح الراء وتشديد الواو صدوق عابد ربما وهم ورمي بالإرجاء من السابعة.
قوله: "إذا كذب العبد تباعد عنه الملك" يحتمل أن حرف التعريف جنسية، ويحتمل أنها عهدية والمعهود الحافظ "ميلا" وهو ثلث الفرسخ أو قطعة من الأرض أو مد البصر، ذكره ابن الملك "من نتن ما جاء به" أي عفونته، وهو بفتح النون وسكون التاء، في القاموس هو ضد الفوح، والمعنى من نتن شيء جاء ذلك الشيء بالنتن أي من نتن الكذب أو جاء العبد به، والباء للتعدية.
قوله: "فأقر عبد الرحيم بن هارون وقال نعم" هذا متعلق بقوله: قلت لعبد الرحيم بن هارون الغساني: حدثكم إلخ.
قوله: "هذا حديث حسن جيد غريب" وأخرجه أبو نعيم في الحلية وابن أبي(6/108)
ـــــــ
الدنيا في كتاب الصمت "تفرد به عبد الرحيم بن هارون" قال الحافظ في تهذيب التهذيب بعد نقل هذه العبارة: ذكره ابن حبان في الثقات وقال: يعتبر بحديثه إذا حدث عن الثقات من كتابه. فإن فيما حدث من حفظه بعض المناكير. وقال الدارقطني: متروك الحديث يكذب انتهى(6/109)
47 ـ باب ما جاءَ في الْفُحْشِ والتّفَحُش
2040 ـ حَدّثنا محمدُ بنُ عَبْدِ الأَعْلَى الصّنْعَانِيّ وغَيْرُ واحِدٍ قالُوا: حدثنا عَبْدُ الرزاقِ عن مَعْمَرٍ عن ثابتٍ عن أَنَسٍ قالَ: قالَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم: "ما كَانَ الفُحْشُ في شَيْءٍ إِلاّ شَانَهُ، وَماَ كَانَ الْحَيَاءُ في شَيْءِ إِلا زَانَهُ" . وفي البابِ عَنْ عَائِشَةَ.
هذا حديثٌ حسنٌ غريبٌ لا نَعْرِفُهُ إِلاّ مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ الرّزّاقِ.
ـــــــ
" باب ما جاءَ في الْفُحْشِ"
قال في النهاية: الفحش هو كل ما يشتد قبحه من الذنوب والمعاصي، وكثيراً ما ترد الفاحشة بمعنى الزنا، وكل خصلة قبيحة من الأقوال والأفعال. وقال في القاموس: الفاحشة الزنا وما يشتد قبحه من الذنوب وكل ما نهى الله عز وجل عنه، وقد فحش ككرم فحشاً، والفحش عدوان الجواب، ومنه: لا تكوني فاحشة لعائشة رضي الله تعالى عنها.
قوله: "ما كان الفحش" أي ما اشتد قبحه من الكلام "إلا شانه" أي عيبه الفحش، وقيل المراد بالفحش العنف لما في رواية عبد بن حميد والضياء عن أنس أيضاً: ما كان الرفق في شيء إلا زانه ولا نزع من شيء إلا شانه "وما كان الحياء في شيء إلا زانه" أي زينه. قال الطيبي: قوله في شيء فيه مبالغة أي لو قدر أن يكون الفحش أو الحياء في جماد لزانه أو شانه فكيف بالإنسان.
قوله: "وفي الباب عن عائشة" أخرجه مسلم.
قوله: "هذا حديث حسن غريب" وأخرجه أحمد في مسنده، والبخاري في الأدب المفرد وابن ماجة.(6/109)
2041 ـ حدّثنا محمودُ بنُ غَيْلاَنَ، حدثنا أَبو دَاوُدَ قالَ: أَنْبَأَناَ شُعْبَةُ عطن الأَعمَشِ قالَ: سَمِعْتُ أَبَا وائلٍ يُحَدّثُ عن مَسْروقٍ عن عبد الله بن عمرٍو قال: قالَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم: خِيَارُكُمْ أَحَاسِنُكُمْ أَخْلاَقاً . وَلَمْ يَكُنِ النبيّ صلى الله عليه وسلم فاحِشاً ولا مُتَفَحّشَاً.
هذا حديثٌ حسنٌ صحيحٌ.
ـــــــ
قوله: "خياركم" بكسر الخاء المعجمة جمع خيرهم ضد الأشرار "أحاسنكم أخلاقاً" أي شمائل مرضية "فاحشاً ولا متفحشاً" الفاحش ذو الفحش في كلامه وأفعاله، والمتفحش من يتكلفه ويتعمده أي لم يكن الفحش له جبلياً ولا كسبياً.
قوله: "هذا حديث حسن صحيح" وأخرجه الشيخان.(6/110)
48 ـ باب ما جاءَ في اللّعْنَة
2042 ـ حَدّثنا محمد بنُ المثَنّى، حدثنا عَبْدُ الرحمنِ بنُ مَهْدِيّ، حدثنا هِشَامٌ عن قَتَادَةَ عن الْحَسَنِ عَنْ سَمُرَةَ بنِ جُنْدُبٍ قالَ: قالَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم: "لاَ تَلاَعَنُوا بِلَعْنَةِ الله ولا بِغَضَبِهِ ولا بالنّارِ" .
ـــــــ
"باب ما جاء في اللعنة"
قوله: "لا تلاعنوا" بحذف إحدى التاءين "بلعنة الله" أي لا يلعن بعضكم بعضاً فلا يقل أحد لمسلم معين عليك لعنة الله مثلاً "ولا بغضبه" بأن يقول غضب الله عليك "ولا بالنار" بأن يقول أدخلك الله النار أو النار مثواك. وقال الطيبي: أي لا تدعوا على الناس بما يبعدهم الله من رحمته إما صريحاً كما تقولون لعنة الله عليه أو كناية كما تقولون عليه غضب الله أو أدخله الله النار. فقوله لا تلاعنوا من باب عموم المجاز لأنه في بعض أفراده حقيقة وفي بعضه مجاز وهذا مختص بمعين، لأنه يجوز اللعن بالوصف الأعم كقوله لعنة الله على الكافرين، أو بالأخص كقوله لعنة الله على اليهود، أو على كافر معين مات على الكفر كفرعون وأبي جهل انتهى.(6/110)
وفي البابِ عن ابن عَبّاسِ وأَبي هُرَيْرَةَ وابنِ عُمَرَ وعِمْرَانَ بنِ حُصَيْنٍ.
هذا حديثٌ حسنٌ صحيحٌ.
2043 ـ حدّثنا محمدُ بنُ يَحْيَى الأَزْدِيّ البَصْرِيّ، حدثنا محمدُ بنُ سَابِقٍ عن إِسْرَائِيلَ عن الأَعمَشِ عن إِبراهيمَ عن عَلْقَمَةَ عن عبدِ الله قالَ: قالَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم: "لَيْسَ المُؤْمِنُ بالطّعّانِ ولاَ اللّعّانِ ولا الفَاحِشِ ولا البَذِيّ" .
ـــــــ
قوله: "وفي الباب عن ابن عباس وأبي هريرة وابن عمر وعمران بن حصين" أما حديث ابن عباس فأخرجه الترمذي في هذا الباب. وأما حديث أبي هريرة فأخرجه مسلم بلفظ: لا ينبغي لصديق أن يكون لعاناً. وأما حديث ابن عمر فأخرجه الترمذي في باب اللعن والطعن. وأما حديث عمران بن حصين فأخرجه مسلم وغيره.
قوله: "هذا حديث حسن صحيح" وأخرجه أبو داود والحاكم وقال صحيح الإسناد.
قوله: "حدثنا محمد بن يحيى الأزدي البصري" قال في التقريب: محمد بن يحيى بن عبد الكريم بن نافع الأزي البصري نزيل بغداد ثقة من كبار الحادية عشر "حدثنا محمد بن ستبق" التميمي أبو جعفر أو أبو سعيد البزار الكوفي نزيل بغداد صدوق من كبار العاشرة.
قوله: "ليس المؤمن" أي الكامل "بالطعان" أي عياباً الناس "ولا اللعان" ولعل اختيار صيغة المبالغة فيها لأن الكامل قل أن يخلو عن المنقصة بالكلبة "ولا الفاحش" أي فاعل الفحش أو قائله. وفي النهاية: أي من له الفحش في كلامه وفعاله، قيل أي الشاتم، والظاهران المراد به الشتم القبيح الذي يقبح ذكره "ولا البذي" قال القاري: بفتح موحدة وكسر ذال معجمة وتشديد تحتيته وفي نسخة يعني من المشكاة بسكونها وهمزة بعدها وهو الذي لا حياة له كما قاله بعض الشراح. وفي النهاية: البناء بالمد الفحش في القول وهو بذي اللسان وقد يقال بالهمز وليس بكثير انتهى. قال القاري فعلى هذا يخص الفاحش بالفعل لئلا(6/111)
هذا حديثٌ حسنٌ غريبٌ. وقد رُوِيَ عن عَبْدِ الله مِنْ غَيْرِ هذا الوَجْهِ.
2044 ـ حدّثنا زَيْدُ بنُ أَخْزَمَ الطّائيّ البَصْرِيّ حدثنا بِشْرُ بنُ عُمَرَ حدثنا أَبَانُ بنُ يزِيدَ عن قَتَادَةَ عن أَبِي العَالِيَةِ عن ابنِ عَبّاسٍ: أَنّ رَجُلاً لَعَنَ الرّيحَ عِنْدَ النبيّ صلى الله عليه وسلم فقالَ: "لاَ تَلعَنِ الرّيحَ فإنّهاَ مَأْمُوَرةٌ، وإِنّهُ مَنْ لَعَنَ شَيْئَاً لَيْسَ لَهُ بِأَهْلٍ رَجَعَتَ الّلعْنَةُ عَلَيْهِ" .
قال أبو عيسى: هذا حديثٌ حسنٌ غريبٌ لا نَعْلَمُ أَحداً أَسْنَدَهُ غَيْرَ بِشْرِ بنِ عُمَرَ.
ـــــــ
يلزم التكرار أو يحمل على العموم، والثاني يكون تخصيصاً بعد تعميم لزيادة الاهتمام به لْانه متعد، وقد يقال عطف تفسير ولا زائدة انتهى.
قوله: "هذا حديث حسن غريب" وأخرجه أحمد والبخاري في تاريخه وابن حبان في صحيحه والحاكم في مستدركه والبيهقي في شعب الإيمان. قال ميرك: ورجاله رجال الصحيحين سوى محمد بن يحيى شيخ الترمذي وثقة بن حبان والدارقطني.
قوله: "حدثنا بشر بن عمر" بن الحكم الزهراني بفتح الزاي الأزدي أبو محمد البصري ثقة من التاسعة "حدثنا أبان بن يزيد" العطار البصري أبو يزيد، ثقة له أفراد من السابعة.
قوله: "أن رجلا لعن الريح عند النبي صلى الله عليه وسلم" وفي رواية أبي داود: أن رجلا نازعته الريح رداءه فلعنها "لاتلعن الريح فإنها مأمورة" أي بأمر ما والمنازعة من خاصيتها ولوازم وجودها عادة أو فإنها مأمورة حتى بهذه المنازعة أيضاً إبتلاء لعباده "وإنه" أي الشأن "من لعن شيئاً ليس" أي ذلك الشأن "له" أي اللعن "بأهل" أي بمستحق "رجعت اللعنة عليه" أي على اللاعن، لأن اللعنة وكذا الرحمة تعرف طريق صاحبها.
قوله: "هذا حديث حسن غريب" وأخرجه أبو داود وابن حبان في صحيحه "لا نعلم أحداً أسنده غير بشر بن عمر" قال المنذري بعد نقل كلام الترمذي هذا ما لفظه: وبشر بن عمر هذا هو الزهراني احتج به البخاري ومسلم(6/112)
49 ـ باب ما جاءَ في تَعْلِيمِ النّسَب
2045 ـ حَدّثنا أحمدُ بنُ محمدٍ، أخبرنا عَبْدُالله بنُ المُبَارَكِ عن عَبْدِ المَلِكِ بنِ عِيسَى الثّقَفِيّ عن يَزِيدَ مَوْلَى المُنْبَعثِ عن أَبِي هُرَيْرَةَ عن النبيّ صلى الله عليه وسلم قالَ: "تَعَلّمُوا مِنْ أَنْسَابِكُمْ ماَ تَصِلوُنَ بِهِ أَرْحَامَكُمْ، فإنّ صِلَةَ الرّحِمِ مَحَبّةٌ في الأَهْلِ مَثْرَاةٌ في المَالِ، مَنْسَأَةٌ في الأَثَرِ" .
ـــــــ
"باب ما جاء في تعليم النسب"
قال في القاموس: النسب محركة، والنسبة بالكسر وبالضم القرابة أو في الاَباء خاصة انتهى.
قوله: "عن عبد الملك بن عيسى الثقفي" ابن عبد الرحمن بن جارية بالجيم التحتانية مقبول من السادسة "عن يزيد مولى المنبعث" بضم الميم وسكون النون وفتح الموحدة وكسر المهملة بعدها مثلثة مدني صدوق من الثالثة.
قوله: "تعلموا من أنسابكم" أي من أسماء آبائكم وأجدادكم وأعمامكم وأخوالكم وسائر أقاربكم "ما" أي قدر ما "تصلون به أرحامكم" فيه دلالة على أن الصلة تتعلق بذوي الأرحام كلها لا بالوالدين فقط كما ذهب إليه البعض. والمعنى تعرفوا أقاربكم من ذوي الأرحام ليمكنكم صلة الرحم وهي التقرب لديهم والشفقة عليهم والإحسان إليهم، فتعلم النسب مندوب "فإن صلة الرحم محبة" بفتحات وتشديد موحدة مفعلة من الحب، مصدر المبني للمفعول. قال القاري: وفي نسخة يعني من المشكاة بكسر الحاء أي مظنة للحب وسبب للود "في الأهل" أي في أهل الرحم "مثراة في المال" بفتح الميم وسكون المثلثة. وفي النهاية: هي مفتعلة من الثري وهو الكثرة أي سبب لكثرة المال وهو خبر ثان "منسأة" بفتح الهمزة مفعلة من النساء وهو التأخير "في الأثر" بفتحتين أي لأجل، والمعنى أنها سبب لتأخير الأجل وموجب لزيادة العمر، وقيل باعث دوام واستمرار في النسل. والمعنى أن يمن الصلة يفضي إلى ذلك. وقال في اللمعات: والمراد بتأخير الأجل بالصلة إما حصول البركة والتوفيق في العمل وعدم ضياع العمر فكأنه زاد، أو(6/113)
هذا حديثٌ غريبٌ مِنْ هذَا الوَجْهِ. وَمَعْنَى قوله: "مَنْسَأَةٌ فِي الأَثَرِ" يَعْنِي به الزّيَادَةَ في العُمْر.
ـــــــ
بمعنى أنه سبب لبقاء ذكره الجميل بعده، أو وجود الذرية الصالحة. والتحقيق أنها سبب لزيادة العمر كسائر أسباب العالم. فمن أراد الله تعالى زيادة عمره وفقه لصلة الأرحام، والزيادة إنما هو بحسب الظاهر بالنسبة إلى الخلق، وأما في علم الله فلا زيادة ولا نقصان، وهو وجه الجمع بين قوله صلى الله عليه وسلم: جف القلم بما هو كائن، وقوله تعالى يمحو الله ما يشاء ويثبت انتهى.
قوله: "هذا حديث غريب" وأخرجه أحمد في مسنده والحاكم وقال صحيح(6/114)
50 ـ باب ما جاءَ في دَعْوَةِ الأَخِ لأَخِيِه بِظَهرِ الغَيْب
2046 ـ حَدّثنا عَبْدُ بنُ حُمَيْدٍ، حدثنا قَبِيصَةُ عن سُفْيَانَ عن عَبْدِ الرحمنِ بنِ زِيَادِ بنِ أَنْعَمَ عن عَبْدِ الله بنِ يَزِيدَ عن عَبْدِ الله بنِ عَمْرٍو عن النّبيّ صلى الله عليه وسلم قالَ: "مَا دَعْوَةٌ أَسْرَعَ إِجَابَةً مِنْ دَعْوَةِ غَائِبٍ لِغَائِبٍ" .
هذا حديثٌ غريبٌ لا نَعْرِفُهُ إِلاّ مِنْ هذَا الوَجْهِ، وَالإِفْرِيقيّ يُضَعّفُ في الحَدِيثِ، وَهُوَ عبد الرحمن بن زياد بن أنعم الإفريقي.
ـــــــ
" باب ما جاءَ في دَعْوَةِ الأَخِ لأَخِيِه بِظَهرِ الغَيْب"
لفظ الظهر مقحم للتأكيد، أي في غيبة المدعو له عنه وإن كان حاضراً معه بأن دعا له بقلبه حينئذ أو بلسانه ولم يسمعه.
قوله: "ما دعوة أسرع إجابة" تمييز، وفي رواية أبي داود: إن أسرع الدعاء إجابة دعوة غائب لغائب "من دعوة غائب لغائب" لخلوصه، وصدق النية، وبعده عن الرياء والسمعة.
قوله: "هذا حديث غريب" وأخرجه أبو داود(6/114)
51 ـ باب ما جاءَ في الشّتْم
2047 ـ حَدّثنا قُتَيْبَةُ حدثنا عَبْدُ العَزِيزِ بنُ محمدٍ عن العَلاَءِ بن عَبْدِ الرحمنِ عن أَبِيِه عن أَبي هُرَيْرَةَ أَنّ رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم قالَ: "المُسْتَبّانِ مَا قَالاَ فَعَلَى البادئ مِنْهُمَا مَاَلمْ يَعْتدِ المَظْلُومُ" .
وفي البابَ عن سَعْدٍ وابنِ مَسْعُودٍ وَعَبْدِ الله بنِ مُغَفّلٍ.
هذا حديثٌ حسنٌ صحيحٌ.
ـــــــ
"باب ما جاء في الشتم"
قوله: "المستبان" بتشديد الموحدة تثنية اسم الفاعل من باب الافتعال أي المتشاتمان وهما اللذان سب كل منهما الاَخر، ولكن الاَخر أراد رد الاَخر أو قال شيئاً من معائبه الموجودة فيه، هو مبتدأ خبره جملة "ما قالا" أي إثم قولهما "فعلى البادئ" أي على المبتدئ فقط، والفاء إما لكون ما شرطية أو لأنها موصولة متضمنة للشرط ثم البادئ بالهمز، وإنما كان الإثم كله عليه لأنه كان سبباً لتلك المخاصمة. وقيل إثم ما قالا للبادئ أكبر مما يحصل المظلوم "ما لم يعتد المظلوم" فإن جاوز الحد بأن أكثر المظلوم شتم البادئ وإيذاءه صار إثم المظلوم أكثر من إثم البادئ. وقيل إذا تجاوز فلا يكون الإثم على البادئ فقط بل يكون الاَخر آثماً أيضاً باعتدائه. وحاصل الخلاف يرجع إلى خلاف الاعتداء. وفي الشرح السنة: من أربى الربا من يسب سبتين بسبة. وفي رواية لأحمد والبخاري في الأدب عن عياض بن حماد: المستبان شيطانان يتهاتران ويتكاذبان والتهاتر التعالج في القول.
قوله: "وفي الباب عن سعد وابن مسعود وعبد الله بن مغفل" أما حديث سعد فأخرجه ابن ماجة. وأما حديث ابن مسعود فأخرجه الترمذي في هذا الباب. وأماحديث عبد الله بن مغفل فأخرجه الطبراني.
قوله: "هذا حديث حسن صحيح" وأخرجه أحمد ومسلم وأبو داود بلفظ: المستبان ما قالا فعلى البادئ منهما حتى يعتدي المظلوم.(6/115)
2048 ـ حدّثنا محمودُ بنُ غَيْلاَنَ، حدثنا أَبُو دَاوُدَ الْحُفَرِيّ عن سُفْيَانَ عن زِيَاد بنِ عِلاَقَةَ قالَ سَمِعْتُ المُغَيرَةَ بن شُعْبَةَ يقولُ: قالَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم: "لا تَسُبّوا الأَمْوَاتَ فَتُؤْذُوا الأَحْيَاءَ" .
ـــــــ
قوله: "حدثنا أبو داود الحفري" بفتح المهملة والفاء، نسبة إلى موضع بالكوفة اسمه عمر بن سعد بن عبيد، ثقة عابد من التاسعة.
قوله: "لا تسبوا الأموات" المسلمين "فتؤذوا" أي بسبكم "الأحياء" أي من أقاربهم. وفي حديث عائشة عند البخاري وغيره: لا تسبوا الأموات فإنهم قد أفضوا إلى ما قدموا. قال العيني في العمدة: قوله الأموات الألف واللام للعهد أي أموات المسلمين، ويؤيده ما رواه الترمذي من حديث ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: اذكروا محاسن موتاكم وكفوا عن مساويهم، وأخرجه أبو داود أيضا في كتاب الأدب من سننه، ولا حرج في ذكر مساوئ الكفار ولا يؤمر بذكر محاسن موتاهم، إن كانت لهم، من صدقة وإعتاق وإطعام طعام ونحو ذلك، اللهم إلا أن يتأذى بذلك مسلم من ذريته فيجتنب ذلك حينئذ، كما ورد في حديث ابن عباس عند أحمد والنسائي أن رجلاً من الانصار وقع في أبي العباس كان في الجاهلية فلطمه العباس، فجاء قومه فقالوا والله لنلطمنه كما لطمه، فلبسوا السلاح، فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم، فصعد المنبر فقال: أيها الناس أي أهل الأرض أكرم عند الله؟ قالوا أنت، قال: فإن العباس مني وأنا منه فلا تسبوا أمواتنا فتؤذوا أحياءنا، فجاء القوم فقالوا يا رسول الله نعوذ بالله من غضبك . وفي كتاب الصمت لابن أبي الدنيا في حديث مرسل صحيح الإسناد من رواية محمد بن علي الباقر قال: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يسب قتلى بدر من المشركين وقال: لا تسبوا هؤلاء فإنه لا يخلص إليهم شيء مما تقولون وتؤذون الأحياء. ألا إن البذاء لؤم، وقال ابن بطال: ذكر شرار الموتى من أهل الشرك خاصة جائز لأنه لا شك أنهم في النار وقال: سب الأموات يجري مجرى الغيبة فإن كان أغلب أحوال المرء الخير وقد تكون منه الفتنة فالأغتياب له ممنوع، وإن كان فاسقاً معلناً فلا غيبة له فكذلك الميت انتهى.(6/116)
وقد اخْتَلَفَ أَصْحَابُ سُفْيَانَ في هذَا الحَديثِ فرَوَى بَعضُهُمْ مِثْلَ رِوَايَةَ الحُفَرِيّ، وَرَوَى بَعْضُهُم عن سُفْياَنَ عن زِيَاد بن عِلاَقَةَ قَال: سَمِعْتُ رَجُلاً يُحَدّثُ عند المُغِيرةِ بنِ شُعْبَةَ عن النبيّ صلى الله عليه وسلم نَحْوَهُ.
2049 ـ حَدّثنا محمودُ بنُ غَيْلاَنَ حدثنا سُفْيَانُ عن زُبَيْدِ بنِ الْحَارِثِ عن أَبِي وَائِلٍ عن عَبْدِ الله بن مسعود قالَ: قالَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم: "سِبَابُ المُسْلِمِ فُسُوقٌ وَقِتاَلُهُ كُفْرٌ" . قالَ زُبَيْدٌ: قُلْتُ لأَبِي وَائِلٍ: أنْتَ
ـــــــ
قوله: "فروى بعضهم" كوكيع وأبي نعيم "مثل رواية الحفري" يعني عن سفيان عن زياد بن علاقة عن المغيرة بن شعبة عن النبي صلى الله عليه وسلم ففي مسند أحمد حدثنا عبد الله حدثني أبي حدثنا وكيع حدثنا سفيان عن زياد بن علاقة عن المغيرة بن شعيبة قال: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن سب الأموات، وفيه حدثنا عبد الله حدثني أبي حدثنا أبو نعيم، حدثنا سفيان عن زياد قال: سمعت المغيرة بن شعبة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لاتسبوا الأموات فتؤذوا الأحياء. "وروى بعضهم" كعبد الرحمن بن مهدي "عن سفيان عن زياد بن علاقة قال سمعت رجلا يحدث عند المغيرة بن شعبة الخ" في مسند أحمد حدثنا عبد الله حدثني أبي حدثنا عبد الرحمن حدثنا سفيان عن زياد ابن علاقة قال: سمعت رجلاً عند المغيرة بن شعبة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا تسبوا الأموات فتؤذوا الأحباء. فالظاهر أن زياد بن علاقة سمع هذا الحديث أولاً من رجل يحدثه عند المغيرة عن النبي صلى الله عليه وسلم، ثم سمع المغيرة هذا الحديث من النبي صلى الله عليه وسلم فحدث به زياد بن علاقة، فروى زياد عن المغيرة عن النبي صلى الله عليه وسلم.
قوله: "حدثنا سفيان" هو الثوري.
قوله: "سباب المسلم" بكسر السين وتخفيف الموحدة أي سبه وشتمه، وهو مصدر. قال إبراهيم الحربي: السباب أشد من السب وهو أن يقول في الرجل ما فيه وما ليس فيه يريد بذلك عيبه. وقال غيره: السباب هنا مثل القتال فيقتضي(6/117)
سَمِعْتَهُ مِنْ عَبْدِ الله؟ قال: نَعَمْ. هذا حديثٌ حسنٌ صحيحٌ.
ـــــــ
المفاعلة "فسوق" الفسق في اللغة الخروج، وفي الشرع الخروج عن طاعة الله ورسوله وهو في عرف الشرع أشد من العصيان. قال الله تعالى {وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ} ففي الحديث تعظيم حق المسلم والحكم على من سبه بغير حق بالفسق "وقتاله كفر" قال القاري في المرقاة: لما يعني مجادلته ومحاربته بالباطل. "كفر" بمعنى كفران النعمة والإحسان في أخوة الإسلام، أو أنه ربما يؤول هذا الفعل بشؤمه إلى الكفر، أو أنه فعل الكفرة، أو أراد به التغليظ والتهديد والتشديد في الوعيد كما في قوله صلى الله عليه وسلم: من ترك صلاة متعمداً فقد كفر . نعم قتله مع استحلال قتله كفر صريح، ففي النهاية: السب الشتم يقال سبه يسبه سباً وسباباً قيل هذا محمول على من سب أو قاتل مسلماً من غير تأويل، وقيل إنما ذلك على جهة التغليظ لا أنه يخرجه إلى الفسق والكفر. وفي شرح السنة: إذا استباح دمه من غير تأويل ولم ير الإسلام عاصماً له فهو ردة وكفر انتهى ما في المرقاة. قال الحافظ في الفتح: لم يرد حقيقة الكفر التي هي الخروج عن الملّة بل أطلق عليه الكفر مبالغة في التحذير معتمداً على ما تقرر من القواعد أن مثل ذلك لا يخرج عن الملّة مثل حديث الشفاعة ومثل قوله تعالى {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} انتهى.
قوله: "هذا حديث حسن صحيح" ، وأخرجه أحمد والشيخان والنسائي والحاكم وابن ماجة(6/118)
52 ـ باب ما جاءَ في قَوْلِ المَعرُوف
2050 ـ حَدّثنا عَلِيّ بنُ حُجْرٍ، حدثنا عَلِيّ بنُ مُسْهِرٍ عن
ـــــــ
" باب ما جاءَ في قَوْلِ المَعرُوف"
قال في النهاية: المعروف هو اسم جامع لكل ما عرف من طاعة الله والتقرب إليه والإحسان إلى الناس، وكل ما ندب إليه الشرع ونهى عنه من المحسنات والمقبحات، وهو من الصفات الغالبة، أي أمر معروف بين الناس إذا رأوه لا ينكرونه، والمعروف النصفة وحسن الصحبة مع الأهل وغيرهم من الناس، والمنكر ضد ذلك جميعة انتهى.(6/118)
عَبْدِ الرحمنِ بنِ إسحاقَ عن النّعْمَانِ بنِ سَعْدٍ عن عَلِيٍ قالَ: قالَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم: "إِنّ في الْجَنّةِ غُرَفاً تُرَى ظُهُورُهَا مِنْ بُطُونِهَا، وبُطُونُها مِنْ ظُهُورِهَا. فَقَامَ أَعْرَابِيٌ فقال: لِمَنْ هِيَ يا رسولَ الله؟ فَقَالَ: لِمَنْ أَطَابَ الكَلاَمَ، وَأَطْعَمَ الطّعَامَ، وَأَدَامَ الصّيَامَ، وَصَلّى بالّليْلِ وَالنّاسُ نِيامٌ" .
هذا حديثٌ غَرِيبٌ لا نَعْرِفُهُ إِلاّ مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ الرحمنِ بنِ إسْحاقَ.
ـــــــ
قوله: "عن عبد الرحمن بن إسحاق" : ابن الحارث الواسطي يقال الكوفي ضعيف من السابعة.
قوله: "إن في الجنة غرفاً" جمع غرفة، أي علالي في غاية من اللطافة ونهاية من الصفاء والنظافة "ترى" بالبناء للمفعول "ظهورها من بطونها وبطونهامن ظهورها" لكونها شفافة لا تحجب ما ورائها. وفي رواية أحمد وابن حبان والبيهقي: يري ظاهرها من باطنها وباطنها من ظاهرها " لمن أطلب الكلام" وروى ألان. وروى: ألين كأجود على الأصل، وروى: لين بتشديد الياء، والمعنى لمن له خلق حسن مع الأنام قال تعالى: {وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلاماً} فيكون من عباد الرحمن الذين يمشون على الأرض هوناً. الموصوفين بقوله: {أُولَئِكَ يُجْزَوْنَ الْغُرْفَةَ بِمَا صَبَرُوا} . "وأطعم الطعام" للعيال والفقراء والأضياف ونحو ذلك "وأدام الصيام" أي أكثر منه بعد الفريضة بحيث تابع بعضها بعضاً ولا يقطعها رأساً، قاله ابن الملك. وقيل أقله أن يصوم من كل شهر ثلاثة أيام، وفيه وفيما قبله إشارة إلى قوله تعالى: {وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَاماً} مع أن قوله تعالى: {بِمَا صَبَرُوا} صريح في الدلالة على الصوم "وصلى بالليل" لله "والناس" أي غلبهم "نيام" جمع نائم أو غافلون عنه، لأنه عبادة لا رياء يشوب عمله ولا شهود غير الله، أشارة إلى قوله تعالى: {وَالَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّداً وَقِيَاماً} المنيء وصفهم بذلك عن أنهم في غاية من الإخلاص لله.
قوله: "هذا حديث غريب" وأخرجه أحمد وابن حبان في صحيحه والبيهقي في شعب الإيمان عن أبي مالك الأشعري.(6/119)
53 ـ باب ما جاءَ في فَضْلِ المَملُوكِ الصّالِح
2051 ـ حَدّثنا ابنُ أَبِي عُمَر، حدثنا سُفْيَانُ عن الأَعَمشِ، عن أَبي صَالحٍ عن أَبي هُرَيْرَةَ أَنّ رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم قالَ: "نَعِمّا لأَحَدِهِمْ أَن يُطِيعَ رَبّهُ وَيُؤَدّيَ حَقّ سَيّدِهِ" يَعْنِي المَمْلُوكَ. وقالَ كَعْبٌ: صَدَقَ الله وَرَسُولُه.
وفي البابِ عن أَبِي مُوسَى و ابنِ عُمَر.
ـــــــ
"باب ما جاءَ في فَضْلِ المَملُوكِ الصّالِح"
قوله: "نعم ما" ما نكرة غير موصولة ولا موصوفة، بمعنى شيء، أي نعم شيئاً "لأحدهم" وفي رواية البخاري: نعما المملوك. قال الحافظ في الفتح: بفتح النون وكسر العين وإدغام الميم في الأخرى، ويجوز كسر النون، وتكسر النون وتفتح أيضاً مع إسكان العين وتحريك الميم، فتلك أربع لغات "أن يطيع ربه ويؤدي حق سيده" مخصوص بالمدح، والمعنى نعم شيئاً له إطاعة الله وأداء حق سيده "يعني المملوك" هذا تفسير من بعض الرواة لقوله لأحدهم "وقال كعب: صدق الله ورسوله" كعب هذا هو كعب الأحبار. قال الحافظ في التقريب: كعب بن مانع الحميري أبو إسحاق المعروف بكعب الأحبار ثقة من الثانية مخضرم كان من أهل اليمن فسكن الشام، مات في خلافة عثمان وقد زاد على المائة وليس له في البخاري رواية. وفي مسلم رواية لأبي هريرة عنه من طريق الأعمش عن أبي صالح انتهى. وقال في تهذيب التهذيب في ترجمته: وقد وقع ذكر الرواية عنه في مواضع في مسلم في أواخر كتاب الإيمان، وفي حديث أبي معاوية عن الأعمش عن أبي صالح عن أبي هريرة رفعه: إذا أدى العبد حق الله وحق مواليه كان له أجران. قال فحدثت به كعباً فقال كعب ليس عليه حساب لا على مؤمن مزهد انتهى.
قوله: "وفي الباب عن أبي موسى وابن عمر" أما حديث أبو موسى فأخرجه البخاري عنه مرفوعاً: المملوك الذي يحسن عبادة ربه ويؤدي إلى سيده الذي عليه من الحق والنصيحة والطاعة له أجران. وأما حديث ابن عمر فأخرجه الشيخان.(6/120)
هذا حديثٌ حسنٌ صحيحٌ.
2052 ـ حدّثنا أَبُو كُرَيْبٍ، حدثنا وَكِيعٌ عن سُفْيَانَ عن أَبِي اليَقْظَانِ عن زَاذَانٍ عن ابنِ عُمَر قالَ: قالَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم: "ثَلاَثَةٌ عَلَى كُثْبَانِ المِسْكِ، أُرَاهُ قَالَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ: عَبْدٌ أَدّى حَقّ الله وَحَقّ مَوَالِيِه، وَرَجُلٌ أَمّ قَوْماً وَهُم بِهِ رَاضُونَ، وَرَجُلٌ يُنَادِي بالصّلَوَاتِ الْخَمْسِ في كُلّ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ" .
هذا حديثٌ حسنٌ غريبٌ، لا نَعْرِفُهُ إِلاَ مِنْ حَدِيثِ سُفْيَانَ
ـــــــ
وأبو داود عنه مرفوعاً: إن العبد إذا نصح لسيده وأحسن عبادة الله فله أجره مرتين.
قوله: "هذا حديث حسن صحيح" ، وأخرجه الشيخان بلفظهما: المملوك أن يتوفاه الله يحسن عبادة ربه وطاعة سيده نعماً له.
وقوله: "عن زاذان" هو أبو عمر الكندي البزار، ويكني أبا عبد الله أيضاً صدوق يرسل وفيه شيعية من الثانية.
قوله: "ثلاثة على كثبان المسك" جمع كثيب بمثلته، رمل مستطيل محدودب "أراه" بضم الهمزة يعني أظنه، والظاهر أن الضمير المنصوب راجع إلى ابن عمر وقائله هو زاذان، والمعنى إني أظن أن ابن عمر قال بعد لفظ: على كثبان المسك لفظ يوم القيامة "عبد" قن ذكر أو أنثى "أدى حق الله وحق مواليه" أي قام بالحقين معاً. فلم يشغله أحدهما عن الاَخر "ورجل ينادي" أي يؤذن محتسباً، كماجاء في رواية.
قوله: "هذا حديث حسن" أخرجه أحمد والطبراني في الأوسط والصغير بإسناد لا بأس به، ولفظه: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ثلاثة لا يهولهم الفزع الأكبر ولا ينالهم الحساب، هم على كثيب من مسك حتى يفرغ من حساب الخلائق: رجل قرأ القرآن ابتغاء وجه الله وأم به قوماً وهم به راضون، وداع يدعو إلى الصلوات ابتغاء وجه الله، وعبد أحسن فيما بينه وبين ربه، وفيما بينه وبين(6/121)
وَأَبُو اليَقْظَانِ اسْمُهُ عُثْمَانُ بنُ قَيْسٍ.
ـــــــ
مواليه. ورواه في الكبير بنحوه إلا أنه قال في آخره: ومملوك لم يمنعه رق الدنيا من طاعة ربه.
قوله: "وأبو اليقظان اسمه عثمان بن قيس" قال في التقريب: عثمان بن عمير بالتصغير ويقال ابن قيس، والصواب أن قيساً جد أبيه وهو عثمان بن أبي حميد أيضاً البجلي أبو اليقظان الكوفي الأعمى ضعيف، واختلط وكان يدلس ويغلو في التشيع من السادسة(6/122)
54 ـ باب ما جاءَ في مُعَاشَرَةِ النّاس
2053 ـ حَدّثنا محمد بن بشار، حدثنا عَبْدُ الرحمنِ بنُ مَهْدِيّ، حدثنا سُفْيَانُ عن حَبِيبِ بنِ أَبِي ثَابِتٍ عن مَيْمُونِ بنِ أَبِي شَبِيبِ عن أَبِي ذَرٍ قالَ: قالَ لي رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم: "اتّقِ الله حَيْثُ مَا كُنْتَ، وَأَتْبِعِ السّيّئَةَ الْحَسَنَةَ تَمْحُهَا، وَخَالِقِ النّاسَ بِخُلُقٍ حَسَنٍ" .
ـــــــ
"باب ما جاء في معاشرة الناس"
قوله: "عن ميمون بن أبي شبيب" الربعي أبو نصر الكوفي، صدوق، كثير الإرسال من الثالثة.
قوله: "اتق الله" أي بالإتيان بجميع الواجبات والانتهاء عن سائر المنكرات، فإن التقوى أساس الدين وبه يرتقي إلى مراتب اليقين "حيث ما كنت" أي في الخلاء وفي النعماء والبلاء، فإن الله عالم بسر أمرك كما أنه مطلع على ظواهرك، فعليك برعاية دقائق الأدب في حفظ أوامره ومراضيه، والاحتراز عن مساخطه ومساويه "وأتقوا الله إن الله كان عليكم رقيباً" "وأتبع" أمر من باب الأفعال وهو متعد إلى مفعولين "السيئة" الصادرة منك صغيرة وكذا كبيرة على ما شهد به عموم الخبر وجرى عليه بعضهم لكن خصه الجمهور بالصغائر "الحسنة" صلاة أو صدقة أو استغفارا أو نحو ذلك "تمحها" أي تدفع الحسنة السيئة وترفعها، والإسناد مجازي، والمراد يمحو الله بها آنارها من القلب أو من ديوان الحفظة، وذلك لأن المرض يعالج بضده فالحسنات يذهبن السيئات "وخالق الناس" أمر(6/122)
وفي البابِ عن أَبي هُرَيْرَةَ. هذا حديثٌ حسنٌ صحيحٌ.
2054 ـ حدّثنا محمودُ بنُ غَيْلاَنَ، حدثنا أبو أحمدُ و أبو نُعَيْمٍ عن سُفْيَانَ عن حَبِيبٍ بهذا الإسْنَادِ. قالَ محمودٌ: حدثنا وَكيعٌ عن سُفْيَانَ عن حبيب بنِ أَبِي ثَابِتٍ عن مَيْمُونِ بنِ أَبِي شَبِيبٍ عن مُعَاذِ بنِ جَبَلِ عن النبيّ صلى الله عليه وسلم نَحْوَهُ.
قالَ محمودٌ: والصّحيحُ حَدِيثُ أَبي ذَرّ.
ـــــــ
من المخالفة مأخوذ من الخلق مع الخلق أي خالطهم وعاملهم "بخلق حسن" أي تكلف معاشرتهم بالمجاملة في المعاملة وغيرها من نحو طلاقة وجه، وخفض جانب، وتلطف وإيناس، وبذل ندى، وتحمل أذى، فإن فاعل ذلك يرجي له في الدنيا الفلاح، وفي الاَخرة الفوز بالنجاة والنجاح.
قوله: "وفي الباب عن أبي هريرة" أخرجه أبو داود والدارمي.
قوله: "هذا حديث حسن صحيح" وأخرجه أحمد والدارمي والحاكم في الإيمان وقال على شرطهما، ونوزع والبيهقي في شعب الأيمان.
قوله: "عن معاذ بن جبل عن النبي صلى الله عليه وسلم نحوه" أخرجه أحمد والبيهقي في شعب الإيمان(6/123)
55 ـ باب ما جاءَ في ظَنّ السّوء
2055 ـ حَدّثنا ابن أَبِي عُمَر حدثنا سُفْيَانُ عن أَبِي الزّنَادِ عن الأَعْرَجِ
ـــــــ
" باب ما جاءَ في ظَنّ السّوء"
قال في الصراح: سوء مساءة مسائية الذوهلين كردن سوء بالضم اسم فيه وقرئ قوله تعالى: {عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ السَّوْءِ} يعني الهزيمة والشر، ويقال هذا رجل سوء على الإضافة ثم تدخل عليه الألف واللام فتقول هذا رجل السوء. قال الأخفش: لا يقال الرجل السوء ويقال الحق اليقين وحق اليقين جميعاً لأن السوء ليس بالرجل واليقين هو الحق، قال ولا يقال هذا رجل السوء بضم السين انتهى.(6/123)
عن أَبي هُرَيْرَةَ أَنّ رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم قالَ: "إِيّاكُمْ وَالظّن فإِنّ الظّنّ أَكْذَبُ الْحَدِيثِ" .
هذا حديثٌ حسنٌ صحيحٌ.
وسَمِعْتُ عَبْدَ بنَ حُمَيْدٍ يَذْكُرُ عن بَعْضِ أَصْحَابِ سفيانَ قالَ: قالَ سفيانُ الظّنّ ظَنّانِ: فَظَنّ إِثمٌ، وَظَنّ لَيْسَ بإِثمٍ. فأَمّا الظّنّ الذي هُوَ إِثْمٌ: فالذي يَظُنّ ظَنّاً وَيَتَكَلّمُ به، وأمّا الظّنّ الذي لَيْسَ بإِثْمٍ: فالذي يَظُنّ وَلاَ يَتَكَلّمُ بِهِ.
ـــــــ
قوله: "إياكم والظن" أي اتقوا سوء الظن بالمسلمين قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيراً مِنَ الظَّنِّ} وهو ما يستقر عليه صاحبه دون ما يخطر بقلبه "إن بعض الظن" وهو أن يظن ويتكلم "إثم" فلا تجسسوا أو احذروا اتباع الظن في أمر الدين الذي مبناه على اليقين. قال تعالى: {وَمَا يَتَّبِعُ أَكْثَرُهُمْ إِلَّا ظَنّاً إِنَّ الظَّنَّ لا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً} قال القاضي هو تحذير عن الظن فيما يجب فيه القطع أو التحدث به عند الاستغناء عنه أو عما يظن كذبه انتهى. أو اجتنبوا الظن في التحديث والإخبار، ويؤيده قوله: فإن الظن أكذب الحديث. ويقويه حديث: كفى بالمرء كذباً أن يحدث بكل ما سمع، والظاهر أن المراد التحذير عن الظن بسوء في المسلمين وفيما يجب فيه القطع من الاعتقاديات "فإن الظن" أقام المظهر مقام المضمر حثاً على تجنبه "أكذب الحديث" أي حديث النفس لأنه بإلقاء الشيطان في نفس الإنسان، قال في المجمع: معنى كون الظن أكذب الحديث مع أن الكذب خلاف الواقع فلا يقبل النقص وضده أن الظن أكثر كذباً. أو أن إثم هذا الكذب أزيد من إثم الحديث الكاذب، أو أن المظنونات يقع الكذب فيها أكثر من المجزومات انتهى. قال الحافظ: وقد استشكلت تسمية الظن حديثاً، وأجيب بأن المراد عدم مطابقة الواقع سواء كان قولاً أو فعلاً، ويحتمل أن يكون المراد ما ينشأ عن الظن فوصف الظن به مجازاً انتهى ما في الفتح.
قوله: "هذا حديث حسن صحيح" وأخرجه الشيخان مطولاً(6/124)
56 ـ باب ما جاءَ في المِزَاح
2056 ـ حَدّثنا عَبْدُ الله بنُ الوَضّاحِ الكُوفِيّ، حدثنا عَبْدُ الله بنُ إِدْرِيسَ عن شُعْبَةَ عن أَبِي التّيّاحِ عن أَنَسٍ قالَ: "إِنْ كَانَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم لَيُخَالِطُنَا حتى إِنْ كَانَ ليقُولَ لأَخٍ لي صَغِيرٍ: يَا أَبَا عُمَيْر مَا فَعَلَ النّغَيْر؟" .
ـــــــ
"باب ما جاء في المزاح"
في القاموس: مزح كمنع مزحاً مزاحاً ومزاحة بضمهما داعب ومازحه ممازحة ومزاحاً بالكسر وتمازحاً انتهى. وفي الصراح: مزح لاغ كردن. قال النووي: اعلم أن المزاح المنهي هو الذي فيه إفراط ويداوم عليه فإنه يورث الضحك وقسوة القلب ويشغل عن ذكر الله والكفر في مهمات الدين، ويؤول في كثير من الأوقات إلى الإيذاء، ويورث الأحقاد، ويسقط المهابة والوقار. فأما ما سلم من هذه الأمور فهو المباح الذي كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يفعله على الندرة، لمصلحة تطييب نفس المخاطب ومؤانسته، وهو سنة مستحبة، فاعلم هذا فإنه مما يعظم الاحتياج إليه انتهى.
قوله: "حدثنا عبد الله بن الوضاح الكوفي" أبو محمد اللؤلؤي مقبول من كبار الحادية عشر "عن أبي التاح" بمثناة ثم تحتانية ثقيله وآخره مهملة اسمه يزيد بن حميد الضبعي بضم المعجمة وفتح الموحدة بصري مشهور بكنيته ثقة ثبت من الخامسة.
قوله: "إن" مخففة من المثقلة واسمها ضمير الشان أي إنه "ليخالطنا" بفتح اللام وتسمى لام الفارقة وفي نسخة للشمائل: ليخاطبنا، والمعنى ليخالطنا غاية المخالطة، ويعاشرنا نهاية المعاشرة، ويجالسنا ويمازحنا "حتى إن" مخففة من المثقلة "كان ليقول لأخ لي" أي من أمي وأبوه أبو طلحة زيد بن سهل الأنصاري "يا أبا عمير" بالتصغير "ما فعل" بصيغة الفاعل، أي ما صنع "النّغَيْر" بضم ففتح تصغير نغر بضم النون وفتح الغين المعجمة، طائر يشبه العصفور أحمر المنقار(6/125)
2057 ـ حدّثنا هَنّادٌ، حدثنا وَكِيعٌ عن شُعْبَةَ عن أَبِي التّيّاحِ عن أَنَسِ نَحْوَهُ.
هذا حديثٌ حسنٌ صحيحٌ. وأَبُو التّيّاحِ اسْمُهُ يَزِيدُ بنُ حُمَيْدٍ الضّبيعيّ.
2058 ـ حدّثنا العَبّاسُ بنُ محمد الدّوْرِيّ البغدادي حدثنا عليّ بن الحسن حدثنا عَبْدُ الله بنُ المُبَارَكِ عن أُسَامَةَ بنِ زَيْدٍ عن سَعِيدٍ المَقْبُرِيّ
ـــــــ
وقيل هو العصفور، وقيل هو الصعو صغير المنقار أحمر الرأس، وقيل أهل المدينة يسمونه البلبل، والمعنى ما جرى له حيث لم أره معك. وزاد في رواية الصحيحين: وكان له نغير يلعب به فمات. ففي قوله صلى الله عليه وسلم تسلية له على فقده بموته. قال الطيبي: حتى غاية قوله يخالطنا وضمير الجمع لأنس وأهل بيته أي انتهت مخالطته لأهلنا كلهم حتى الصبي وحتى الملاعبة معه وحتى السؤال عن فعل النغير. وقال الراغب: الفعل التأثير من جهة مؤثرة، والعمل كل فعل يكون من الحيوان بقصد وهو أخص من الفعل، لأن الفعل قد ينسب إلى الحيوانات التي يقع منها بغير قصد وقد ينسب إلى الجمادات انتهى كلامه. فالمعنى ما حاله وشأنه؟ ذكره الطيبي.
تنبيه: قال الحافظ في الفتح: ذكر أبو العباس أحمد بن أبي أحمد الطبري المعروف بابن القاص الفقيه الشافعي في أول كتابه أن بعض الناس عاب على أهل الحديث أنهم يروون أشياء لا فأئدة فيها أو مثل ذلك بحديث أبي عمير هذا، قال وما درى أن في هذا الحديث من وجوه الفقه وفنون الأدب والفائدة ستين وجهاً ثم ساقها مبسوطة فلخصتها مستوفياً بمقاصده ثم أتبعته بما تيسر من الزوائد عليه، ثم ذكر الحافظ ما لخصه وما زاد عليه، فإن شئت الوقوف عليه فراجع الفتح في شرح حديث أنس المذكور في باب الكنية للصبي قبل أن يولد له.
قوله: "هذا حديث حسن صحيح" وأخرجه الشيخان.
قوله: "عن أسامة بن زيد" الليثي مولاهم كنيته أبو زيد المدني صدوق يهم من السابعة.(6/126)
عن أَبي هُرَيْرَةَ قالَ: "قَالُوا يا رسولَ الله إِنّكَ تُدَاعِبُنا؟ قالَ: إِنّي لاَ أَقُولُ إِلاّ حَقّا" .
هذا حديثٌ حسنٌ. وَمَعْنَى قوله: "إِنّكَ تُدَاعِبُنَا" إِنّمَا يَعْنُونَ أَنّكَ تُمَازحُنا.
2059 ـ حدّثنا محمودُ بنُ غَيْلاَنَ، حدثنا أَبُو أُسَامَةَ عن شَرِيكٍ عن عاصِمٍ الأَحْوَلِ عن أَنَسِ بنِ مَالِكٍ: "أَنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم قالَ لَهُ: يَا ذَا الأُذُنَيْنِ" قالَ محمودٌ: قالَ أَبُو أُسَامَةَ: إنما يَعْني به أنه يمازحه.
2060 ـ حدّثنا قُتَيْبَةُ، حدثنا خَالِدُ بنُ عَبْدُ الله الوَاسِطيّ، عن
ـــــــ
قوله: "إنك تداعبنا" من الدعابة أي تمازحنا ومن ذلك قوله لعجوز: لا تدخل الجنة عجوز، أي لا تبقى عجوزاً عند دخولها، وكأنهم استبعدوه منه لذلك أكدوا الكلام بأن، والأظهر أن منشأ سؤالهم أنه صلى الله عليه وسلم نهاهم عن المزاح كما سيجيء في باب المراء عن ابن عباس رضي الله عنه "قال إني لا أقول إلا حقاً" أي عدلاً وصدقاً لعصمتي عن الزلل في القول والفعل، ولا كل أحد منكم قادر على هذا الحصر لعدم العصمة فيكم.
قوله: "هذا حديث حسن" وأخرجه أحمد في مسنده.
قوله: "يا ذا الأذنين" معناه الحض والتنبيه على حسن الاستماع لما يقال له، لأن السمع بحاسة الأذن ومن خلق الله له الأذنين وغفل ولم يحسن الوعي لم يعذر، وقيل إن هذا القول من جملة مداعباته صلى الله عليه وسلم ولطيف أخلاقه، قاله صاحب النهاية، كذا في المرقاة.
قلت: ما قال صاحب النهاية: هو الظاهر عندي وهو الذي فهمه الترمذي وشيخ شيخه، والحديث أخرجه أبو داود وسكت عنه هو والمنذري.
قوله: "حدثنا خالد بن عبد الله الواسطي" الطحان المزني مولاهم ثقة ثبت في الثامنة.(6/127)
حُمَيْدٍ عن أَنَسٍ: "أَنّ رَجُلاً اسْتَحْمَلَ رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم قالَ إِنّي حَامِلُكَ على وَلَدِ نَاقَةٍ، فقالَ يا رسولَ الله ما أَصْنَعُ بِوَلَدِ النّاقَةِ؟ فقالَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم: وهَلْ تَلِدُ الإِبِلَ إِلاّ النّوقُ"؟ .
هذا حديثٌ حسنٌ صحيحٌ غَريبٌ.
ـــــــ
قوله: "إن رجلاً" قيل وكان به بله "استحمل رسول الله صلى الله عليه وسلم" أي سأله الحملان، والمراد به أن يعطيه حمولة يركبها "إني حاملك على ولد ناقة" قاله مباسطاً له بما عساه أن يكون شفاء لبلهه بعد ذلك "ما أصنع بولد الناقة" حيث توهم أن الولد لا يطلق إلا على الصغير وهو غير قابل للركوب "هل تلد الإبل" أي جنسها من الصغار والكبار "إلا النوق" بضم النون جمع الناقة وهي أنثى الإبل، والمعنى أنك لو تدبرت لم تقل ذلك، ففيه مع المباسطة له الإشارة إلى إرشاده وإرشاد غيره بأنه ينبغي لمن سمع قولاً أن يتأمله ولا يبادر إلى رده إلا بعد أن يدرك غوره.
قوله: "هذا حديث صحيح غريب" وأخرجه أبو داود(6/128)
57 ـ باب ماَ جاَءَ في المِرَاء
2061 ـ حَدّثنا عُقْبَةُ بنُ مُكْرَمٍ العمي البَصْرِيّ، حدثنا ابنُ أَبي فُدَيْكٍ قالَ أَخْبَرَنِي سَلْمَةُ بنُ وَرْدَانَ الّليْثِيّ عن أَنَسِ بنِ مَالِكٍ قالَ: قالَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم: "مَنْ تَرَكَ الكَذِبَ وهُوَ بَاطِلٌ بُنيَ لَهُ في رَبَضِ
ـــــــ
" باب ماَ جاَءَ في المِرَاء"
بكسر الميم: أي الجدال.
قوله: "أخبرني سلمة بن وردان الليثي" أبو يعلى المدني ضعيف من الخامسة.
قوله: "من ترك الكذب" أي وقت مرائه، كما يدل عليه القرينة الاَتية، ويحتمل الإطلاق والله أعلم "وهو باطل" جملة معترضة بين الشرط والجزاء للتنفير(6/128)
الْجَنّةِ، وَمَن تَرَكَ المِرَاءَ وَهُوَ مُحِقٌ بُنِيَ لَهُ فِي وَسَطِهَا، وَمَنْ حَسّنَ خُلُقَهُ بُنِيَ لَهُ في أَعْلاَهَا" .
ـــــــ
عن الكذب، فإن الأصل فيه أنه باطل، أو جملة خالية من المفعول أي والحال أنه باطل لا مصلحة فيه من مرخصات الكذب كما في الحرب أو إصلاح ذاب البين والمعاريض، أو حال من الفاعل أي وهو ذو باطل بمعنى صاحب بطلان "بني له" بصيغة المجهول وله نائبه أي بنى الله له قصراً "في ربض الجنة" قال في النهاية: هو بفتح الباء ما حولها خارجاً عنها تشبيهاً بالأبنية التي تكون حول المدن وتحت القلاع انتهى. وقال القاري في المرقاة: أي نواحيها وجوانبها من داخلها ولا من خارجها. وأما قول الشارح هو ما حولها خارجاً عنها تشبيهاً بالأبنية التي حول المدن وتحت القلاع، فهو صريح اللغة لكنه غير صحيح المعنى، فإنه خلاف النمقول ويؤدي إلى المنزلة بين المنزلتين حساً كما قاله المعتزلة معنى، فالصواب أن المراد به أدناها كما يدل عليه قوله "ومن ترك المراء" بكسر الميم أي الجدال "وهو محق" أي صادق ومتكلم بالحق "في وسطها" بفتح السين ويسكن أي في أوسطها لتركه كسر قلب من يجادله ودفعه رفعة نفسه وإظهار، نفاسة فضله، وهذا يشعر بأن معنى صدر الحديث أن من ترك المراء وهو مبطل فوضع الكذب موضع المراء لأنه الغالب، فيه أو المعنى أن من ترك الكذب ولو لم يترك المراء بني له في ربض الجنة لأنه حفظ نفسه عن الكذب لكن ما صانها عن مطلق المراء، فلهذا يكون أحط مرتبة منه انتهى ما في المرقاة "ومن حسن" بتشديد السين أي أحسن بالرياضة "خلقه" بضمتين ويسكن اللام أي جميع أخلاقه التي من جملتها ترك المراء وترك الكذب "بني له في أعلاها" أي حساً ومعنى، وهذا يدل على أن الخلق مكتسب وإن كان أصله غريزياً، ومنه خبر صحيح: اللهم حسن خلقي كما حسنت خلقي، وكذا خبر مسلم: اللهم اهدني لأحسن الأخلاق لا يهدي لأحسنها إلا أنت. قال الإمام حجة الإسلام: حد المراء الاعتراض على كلام الغير بإظهار خلل فيه إما لفظاً أو معنى أو في قصد المتكلم، وترك المراء بترك الاعتراض والإنكار، فكل كلام سمعته فإن كان حقاً فصدق به، وإن كان باطلاً ولم يكن متعلقاً بأمور الدين فاسكت عنه.(6/129)
هذا الحديثُ حديثٌ حسنٌ لا نَعْرِفُهُ إِلاّ مِنْ حَدِيثِ سَلْمَةَ بنِ وَرْدَانَ عن أَنَس.
2062 ـ حدّثنا فَضَالَةُ بنُ الفَضلِ الكُوفِيّ، حدثنا أَبو بَكْرِ بن عَيّاشٍ عن ابنِ وَهْبِ ابن مُنَبّهٍ عن أَبِيِه عن ابنِ عَبّاسٍ قالَ: قالَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم: "كَفَى بِكَ إِثْماً أَنْ لاَ تَزَالَ مُخَاصِمَاً" .
هذا حديثٌ غريبٌ لاَ نَعْرِفُهُ إِلاّ مِنْ هذا الوَجْهِ.
2063 ـ حدّثنا زِيَادُ بنُ أَيّوبَ البَغْدَادِيّ، حدثنا المُحَارِبِيّ، عن الليث وَهُوَ ابنُ أَبِي سُلَيْمٍ عن عَبْدِ المَلِكِ عن عِكْرِمَةَ عن ابنِ عَبّاسٍ
ـــــــ
قوله: "هذا حديث حسن" قال ميرك نقلاً عن التصحيح: وسلمة تكلم فيه لكن حسن حديثه الترمذي وللحديث شواهد انتهى.
قلت: ومنها حديث أبي أمامة رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أنا زعيم ببيت في ربض الجنة لمن ترك المراء وإن كان محقاً، وببيت في وسط الجنة لمن ترك الكذب وإن كان مازحاً، وببيت في أعلى الجنة لمن حسن خلقه. رواه أبو داود واللفظ له وابن ماجة والترمذي كذا في الترغيب. ومن عادات الترمذي أنه يحسن الحديث الضعيف للشواهد وقد بينته في المقدمة.
قوله: "حدثنا فضالة بن الفضل" بن فضالة التميمي أبو الفضل الكوفي صدوق ربما أخطأ من صغار العاشرة "عن ابن وهب بن منبة" مجهول من السادسة وكان لوهب ثلاثة أولاد عبد الله وعبد الرحمن وأيوب كذا في التقريب وقال في الميزان: ابن وهب بن منبة عن أبيه لا يعرف وعنه أبو بكر بن عياش، فبنو وهب عبد الله وعبد الرحمن وأيوب وليسوا بالمشهورين انتهى "عن أبيه" أي وهب ابن منبه بن كامل اليماني أبي عبد الله الأبناوي بفتح الهمزة وسكون الموحدة بعدها نون ثقة من الثالثة "كفى بك إثماً أن لا تزال مخاصماً" لأن كثرة المخاصمة تقضي إلى ما يذم صاحبه.
قوله: "هذا حديث غريب" قال المناوي في شرح الجامع الصغير: إسناده ضعيف.
قوله: "حدثنا المحاربي" هو عبد الرحمن بن محمد "عن ليث" هو ابن أبي سليم "عن عبد الملك" بن أبي بشير البصري نزيل المداين ثقة من السادسة.(6/130)
عن النبيّ صلى الله عليه وسلم قالَ: "لاَ تُمَارِ أَخَاكَ وَلاَ تُمَازِحْهُ وَلاَ تَعدْهُ مَوْعِداً فَتُخْلِفَهُ" .
قال أبو عيسى: هذا حديثٌ حسنٌ غريبٌ لا نَعْرِفُهُ إِلاّ مِنْ هذا الوَجْهِ.
ـــــــ
قوله: "لا تمار" بضم أوله من المماراة أي لا تجادل ولا تخاصم "أخاك" أي المسلم "ولا تمازحه" أي مزاحاً يقضي إلى إيذائه من هتك العرض ونحوه "ولا تعده موعداً" أي وعداً أو زمان وعد أو مكانه "فتخلفه" من الإخلاف وهو منصوب. قال الطيبي: إن روي منصوباً كان جواباً للنهي على تقدير أن فيكون مسبباً عما قبله فعلى هذا التنكير في موعد للنوع من الموعد وهو ما يرضاه الله تعالى بأن يعزم عليه قطعاً ولا يستثنى فيجعل الله ذلك سبباً للإخلاف أو ينوي في الوعد كالمنافق فإن آية النفاق الخلف في الوعد كما ورد: إذا وعد أخلف. ويحتمل أن يكون النهي عن مطلق الوعد لأنه كثيراً ما يفضي إلى الخلف، ولو روي مرفوعاً كان النهي الوعد المستعقب للإخلاف أي لا تعده موعداً فأنت تخلفه على أنه جملة خبرية معطوفة على إنشائية. قال النووي: أجمعوا على أن من وعد إنساناً شيئاً ليس بمنهي عنه فينبغي أن يفي بوعده، وهل ذلك واجب أو مستحب فيه خلاف، ذهب الشافعي وأبو حنيفة والجمهور إلى أنه مستحب، فلو تركه فاته الفضل وارتكب المكروه كراهة شديدة ولا أثم يعني من حيث هو خلف. وإن كان يأثم إن قصد به الأذى. قال: وذهب جماعة إلى أنه واجب، منهم عمر بن عبد العزيز وبعضهم إلى التفصيل، ويؤيد الوجه الأول ما أورده في الإحيا حيث قال: وكان النبي صلى الله عليه وسلم إذا وعد وعداً قال: عسى، وكان ابن مسعود لا يعد وعداً إلا ويقول إن شاء الله تعالى، وهو الأولى. ثم إذ افهم مع ذلك الجزم في الوعد فلا بد من الوفاء إلا أن يتعذر، كان عند الوعد عازماً على أن لا يعني به فهذا هو النفاق انتهى.
قوله: "هذا حديث غريب" في سنده ليث بن أبي سليم قال الحافظ صدوتق اختلط أخيراً ولم يتميز حديثه فترك.(6/131)
58 ـ باب ما جاءَ في المُدَارَاة
2064 ـ حَدّثنا ابنُ أَبِي عُمَر، حدثنا سُفْيَانُ بن عيينة عن محمدِ بنِ المُنْكَدِرِ عن عُرْوَةَ بنِ الزّبَيْرِ عن عَائِشَةَ قَالَتْ: "اسْتَأْذَنَ رَجُلٌ على رَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم وأَنَا عِنْدَهُ، فقالَ: بِئْسَ ابنُ العَشِيرَةِ أَوْ أَخُو العَشِيرَةِ، ثُمّ أَذِنَ لَهُ فَأَلاَنَ لَهُ القَوْلَ، فَلَمّا خَرَجَ قُلْتُ لَهُ يا رسولَ الله: قلتَ لَهُ
ـــــــ
"باب ما جاء في المداراة"
قال في النهاية: المداراة بلا همز ملاينة الناس وحسن صحبتهم واحتمالهم لئلا ينفروا عنك وقد يهمز.
قوله: "عن محمد بن المنكدر" بن عبد الله بن الهدير بالتصغير التيمي ثقة فاضل من الثالثة، وقد وقع في النسخة الأحمدية محمود بن المنكدر وهو غلط والصواب محمد بن المنكدر.
قوله: "بئس ابن العشيرة وأخو العشيرة" أو للشك فقبل يحتمل أن يكون الشك من سفيان فإن جميغ أصحاب المنكدر رووه عنه بدون الشك، وفي رواية للبخاري: بئس أخو العشيرة وابن العشيرة من غير شك. قال الطيبي: العشيرة القبيلة، أي بئس هذا الرجل من هذه العشيرة، كما يقال يا أخا العرب لرجل منهم. قال النووي: واسم هذا الرجل عيينة بن حصن ولم يكن اسلم حينئذ وإن كان قد أظهر الأسلام فأراد النبي صلى الله عليه وسلم أن يبين حاله ليعرفه الناس ولا يغتر به من لم يعرف بحاله، وكان منه في حياته صلى الله عليه وسلم وبعده ما دل على ضعف إيمانه، ووصف النبي صلى الله عليه وسلم بأنه يئس ابن العشيرة أو أخو العشيرة من أعلام النبوة لأنه ارتد بعده صلى الله عليه وسلم وجيء به أسيراً إلى الصديق "ألان له القول" وفي المشكاة: تطلق النبي صلى الله عليه وسلم في وجهه وانبسط إليه، أي أظهر له طلاقة الوجه وبشاشة البشرة وتبسم له. قال النووي: وإنما ألان له القول تألفا له ولأمثاله على الإسلام. وفيه مداراة من يتقى فحشه وجواز غيبة الفاسق. وفي شرح السنة: فيه دليل على أن ذكر الفاسق بما فيه ليعرف أمره فيتقى لا يكون من الغيبة، ولعل الرجل كان مجاهراً بسوء أفعاله،(6/132)
مَا قُلْتَ ثم أَلَنْتَ لَهُ الْقَوْلَ؟ قالَ يا عَائِشَةُ إِنّ مِنْ شَرّ النّاسِ مَنْ تَرَكَهُ النّاسُ أَوْ وَدَعَهُ النّاسُ اتّقَاءَ فُحْشِهِ" .
هذا حديثٌ حسنٌ صحيحٌ.
ـــــــ
ولا غيبة لمجاهر. قال النووي: ومن الذين يجوز لهم الغيبة المجاهر بفسقه أو بدعته فيجوز ذكره بما يجهر به ولا يجوز بغيره "إن من شر الناس" وفي رواية: إن شر الناس عند الله منزلة يوم القيامة "من تركه الناس" أي ترك الناس التعرض له "أو ودعه" أو للشك من بعض الرواة "اتقاء فحشه" وفي رواية اتقاء شره، أي كيلا يؤذيهم بلسانه، وفيه رخصة المداراة لدفع الضرر، وقد جمع هذا الحديث كما قاله الخطابي علماً وأدباً، وليس قوله عليه السلام في أمته بالأمور التي يسهم بها ويضيفها إليهم ممن المكروه غيبة وإنما يكون ذلك من بعضهم في بعض، بل الواجب عليه صلى الله عليه وسلم أن يبين ذلك ويفصح به ويعرف الناس أمورهم، فإن ذلك من باب النصيحة والشفقة على الأمة، ولكنه لما جبل عليه من الكرم وأعطيه من حسن الخلق أظهر له البشاشة ولم يجبه بالمكروه، وليقتدي به أمته في اتقاء شر من هذا سبيله وفي مداراته ليسلموا من شره وغائلته. وقال القرطبي: فيه جواز غيبة المعلن بالفسق أو الفحش ونحو ذلك مع جواز مداراتهم اتقاء شرهم ما لم يؤد ذلك إلى المداهنة، ثم قال تبعاً للقاضي حسين: والفرق بين المداراة والمداهنة أن المداراة بذل الدنيا لصلاح الدنيا أو الدين أو هما معاً وهي مباحة وربما استحسنت، والمداهنة بذل الدين لصلاح الدنيا انتهى. وهذه فائدة جليلة ينبغي حفظها والمحافظة عليها. فإن أكثر الناس عنها غافلون وبالفرق بينهما جاهلون.
قوله: "هذا حديث حسن صحيح" وأخرجه الشيخان وغيرهما(6/133)
باب ما جاء في الإقتصاد في الحب و البغض
...
59 ـ باب ما جاءَ في الاقْتِصَادِ في الْحُبّ والبُغْض
2065 ـ حَدّثنا أَبُو كُرَيْبٍ، حدثنا سُوَيْدُ بنُ عَمْرٍو الكَلْبِيّ عن
ـــــــ
" باب ما جاءَ في الاقْتِصَادِ في الْحُبّ والبُغْض"
قال في الصراح: قصد ميانه رفتن دهر جيز واقتصاد مثله، يقال فلان مقتصد في النفقة لا إسراف ولا تقتير انتهى.
قوله: "حدثنا سويد بن عمرو الكلبي" أبو الوليد الكوفي العابد من كبار(6/133)
حَمّادِ بنِ سَلَمَةَ عن أَيّوبَ عن محمدِ بنِ سِيرِينَ عن أَبي هُرَيْرَةَ، أُرَاهُ رَفَعَهُ قَالَ: "أْحْبِبْ حَبِيبَكَ هَوْناً ما، عَسَى أَنْ يَكُونَ بَغِيضَكَ يَوْماً ما، وَأَبْغِضْ بَغِيضَكَ هَوْناً ما عَسَى أَنْ يَكُونَ حَبِيبَكَ يَوْماً ما" .
هذا حديثٌ غريبٌ لا نَعْرِفُهُ بهذا الإِسْنَادِ إِلاّ مِنْ هذا الوَجْهِ.
وقد رُوِيَ هذا الْحَدِيثُ عن أَيّوبَ بإِسْنَادٍ غَيْرِ هذا، رَوَاهُ الْحَسَنُ بنُ أَبِي جَعْفَرٍ. وهُوَ حَدِيثٌ ضَعِيفٌ أَيْضاً، بإِسْنَادٍ لَهُ عن عَلِيّ عن النبيّ صلى الله عليه وسلم. والصحِيحُ عَنْ عَلِيّ مَوْقوف.
ـــــــ
العاشرة ثقة، وأفحش ابن حبان القول فيه ولم يأت بدليل "عن حماد بن سلمة" ابن دينار البصري، أبي سلمة ثقة عابد أثبت الناس في ثابت وتغير حفظه بآخره من كبار الثامنة.
قوله: "أراه" بضم الهمزة أي أظنه "أحبب حبيبك هوناً ما" من باب الأفعال أي أحببه حباً قليلاً فهوماً منصوب على المصدر صفة لما اشتق منه أحبب. وقال في المجمع: أي حباً مقتصداً لا إفراط فيه، ولفظ ما للتقليل "عسى أن يكون بغيضيك يوماً ما الخ" قال المناوي في شرح الجامع الصغير: إذ ربما انقلب ذلك بتغير الزمان والأحوال بغضاًفلا تكون قد اسرفت في حبه فتندم عليه إذا أبغضته، أو حباً فلا تكون قد أسرفت في بغضه فتستحي منه إذا أحببته. ولذلك قال الشاعر: فهونك في حب وبغض فربما بدا صاحب من جانب بعد جانب.
قوله: "هذا حديث غريب لا نعرفه بهذا الإسناد إلا من هذا الوجه الخ" قال المناوي في شرح الجامع الصغير: وأخرجه البيهقي في شعب الإيمان عن أبي هريرة والطبراني في الكبير عن ابن عمر بن الخطاب، وعن ابن عمرو بن العاص والدارقطني في الأفراد وابن عدي في الكامل والبيهقي في شعب الإيمان عن علي مرفوعاً والبخاري في الأدب المفرد والبيهقي عن علي موقوفاً عليه، قال الترمذي هذا هو الصحيح انتهى(6/134)
60 ـ باب ما جاءَ فِي الْكِبر
2066 ـ حَدّثنا أَبُو هِشَامٍ الرّفَاعِيّ حدثنا أَبو بَكْرِ بنِ عَيّاشٍ عن الأَعْمشِ عن إِبراهيمَ عن عَلْقَمَةَ عن عَبْدِ الله قالَ: قافلَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم: "لاَ يَدْخُلُ الْجَنّةَ مَنْ كانَ في قَلْبِهِ مِثْقَالُ حَبّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ
ـــــــ
"باب ما جاء في الكبر"
بكسر الكاف وسكون الموحدة ثم راء، قال الراغب: الكبر والتكبير والاستكبار متقارب، فالكبر الحالة التي يختص بها الأنسان من إعجابه بنفسه وذلك أن يرى نفسه أكبر من غيره، وأعظم ذلك أن يتكبر على ربه بأن يمتنع من قبول الحق والإذعان له بالتوحيد والطاعة. والتكبر يأتي على وجهين أحدهما أن تكون الأفعال الحسنة زائدة على محاسن الغير ومن ثم وصف سبحانه وتعالى بالمتكبر، والثاني أن يكون متكلفاً لذلك متشبعاً بما ليس فيه وهو وصف عامة الناس نحو قوله: "كذلك يطبع الله على كل قلب متكبر جبار" والمستكبر مثله. وقال الغزالي: الكبر على قسمين فإذا ظهر على الجوارح يقال تكبر وإذا لم يظهر يقال في نفسه كبر، فالأصل هو الخلق في النفس وهو الاسترواح والركون إلى رؤية النفس فوق المتكبر عليه، فإن الكبر يستدعي متكبراً عليه ليرى نفسه فوقه في صفات الكمال ومتكبراً به، وبه يفصل الكبر عن العجب، فإن العجب لا يستدعي غير المعجب به بل لو لم يخلق إلا وحده تصور أن يكون معجباً ولا يتصور أن يكون متكبراً.
قوله: "حدثنا أبو هشام الرفاعي" اسمه محمد بن يزيد بن محمد بن كثير العجلي الكوفي قاضي المدائن ليس بالقوى من صغار العاشرة، وذكره ابن عدي في شيوخ البخاري، وجزم الخطيب بأن البخاري روى عنه لكن قد قال البخاري: رأيتهم مجمعين على ضعفه كذا في التقريب.
قوله: "من كان في قلبه مثقال حبة" أي مقدار وزن حبة. قال في المجمع: المثقال في الأصل مقدار من الوزن، أي شيء كان من قليل أو كثير، والناس يطلقونه في العرف على الدينار خاصة وليس كذلك انتهى "من خردل" قيل إنه(6/135)
مِنْ كِبْرٍ، ولا يَدْخُلُ النّارَ مَنْ كانَ في قَلْبِهِ مِثْقَالُ حَبّةٍ مِنْ إِيمَانٍ" ، وفي البابِ عن أَبي هُرَيْرَةَ وابنِ عَبّاسٍ وسَلَمَةَ بنِ الأكوعِ وأَبِي سَعيِدٍ.
ـــــــ
الحبة السوداء وهو تمثيل للقلة كما جاء مثقال ذرة. قال النووي: قد اختلف في تأويل قوله صلى الله عليه وسلم: لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال حبة من خردل من كبر، فذكر الخطابي فيه وجهين، أحدهما أن المراد التكبر عن الإيمان فصاحبه لا يدخل الجنة أصلاً إذا مات عليه، والثاني أنه لا يكون في قلبه كبر حال دخوله الجنة كما قال الله عز وجل {وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ} وهذان التأويلان فيهما بعد، فإن هذا الحديث ورد في سباق النهي عن الكبر المعروف وهو الارتفاع على الناس واحتقارهم ودفع الحق، فلا ينبغي أن يحمل على هذين التأويلين المخرجين له عن المطلوب، بل الظاهر ما اختاره القاضي عياض وغيره من المحققين أنه لا يدخلها دون مجازاة إن جازاه، وقيل هذا جزاؤه لو جازاه وقد تكرم بأنه لا يجازيه بل لا بد أن يدخل كل الموحدين الجنة إما أولاً وإما ثانياً بعد تعذيب أصحاب الكبائر الذين ماتوا مصرين عليها. وقيل لا يدخلها مع المتقين أول وهلة انتهى "لايدخل النار من كان في قلبه الخ" المراد به دخول الكفار وهو دخول الخلود والتأبيد. قال الطيبي في قوله صلى الله عليه وسلم: مثقال حبة، إشعار بأن الإيمان قابل للزيادة والنقصان.
قلت: الأمر كما قال الطيبي، فلا شك في أن هذا الحديث يدل على أن الإيمان يزيد وينقص.
قوله: "وفي الباب عن أبي هريرة وابن عباس وسلمة بن الأكوع وأبي سعيد" أما حديث أبي هريرة فأخرجه مسلم. وأما حديث ابن عباس فأخرجه الطبراني والبزار بإسناد حسن كذا في الترغيب، وله حديث آخر عند ابن ماجة وابن حبان وأما حديث سلمة بن الأكوع فأخرجه الترمذي في هذا الباب كما سيأتي، وأما حديث أبي سعيد فأخرجه مسلم عنه مرفوعاً بلفظ: احتجت الجنة والنار فقالت النار: في الجبارون والمتكبرون، وقالت الجنة: في ضعفاء المسلمين ومساكينهم، فقضى الله بينهما إنك الجنة رحمتي أرحم بك من أشاء، وإنك النار عذابي أعذب بك من أشاء ولكليهما على ملؤها.(6/136)
هذا حديثٌ حسنٌ صحيحٌ.
2067ـ حدّثنا محمدُ بنُ المثنّى وعَبْدُ الله بنُ عَبْدِ الرحمنِ قالا: حدثنا يَحْيَى بنُ حَمّادٍ، حدثنا شُعْبَةُ عن أَبَانَ بنِ تَغْلِبٍ عن فُضَيْلِ بنِ عَمْرٍو عن إِبراهيمَ عن عَلْقَمَةَ عن عَبْدِ الله عن النبيّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "لاَ يَدْخُلُ الْجَنّةَ منْ كَانَ في قَلْبِهِ مِثْقَالُ ذَرّةٍ منْ كِبْرٍ، ولا يَدخُلُ النّارَ يعني مَنْ كَانَ في قَلْبِهِ مِثْقَالُ ذَرّةٍ مِنْ إِيمَان. قالَ: فقالَ لَهُ رَجُلٌ إِنّهُ يُعْجِبُنِي أَنْ يَكُونَ ثَوْبِي حَسَنَاً وَنَعْلِي حسنة، قالَ: إِن الله يُحِبّ الْجَمَالَ، ولَكِنّ الكِبْرَ مَنْ
ـــــــ
قوله: "هذا حديث حسن صحيح" وأخرجه مسلم.
قوله: "حدثنا يحيى بن حماد" بن أبي زياد الشيباني مولاهم البصري ختن أبي عمرانة ثقة عابد من صغار التاسعة "عن أبان بن تغلب" قال النووي: يجوز صرف أبان وترك صرفه وإن الصرف أفصح، وتغلب بفتح المثناة وسكون المعجمة وكسر اللام أبي سعيد الكوفي تكلم فيه للتشيع من السابعة "عن فضيل بن عمرو" الفقيمي بالفاء والقاف مصغراً أبي النصر الكوفي ثقة من السادسة.
قوله: "فقال رجل" قال النووي في شرح مسلم: هو مالك بن مزارة الرهاوي، قاله القاضي عياض، وأشار إليه أبو عمر بن عبد البر قال: وقد جمع أبو القاسم خلف بن عبد الملك بن بشكوال الحافظ في اسمه أقوالاً من جهات ثم سردها النووي "إنه يعجبني أن يكون ثوبي حسناً ونعلي حسناً" أي من غير أن أراعي نظر الخلق، وما يترتب عليه من الكبر والخيلاء، والسمعة والرياء، ثم النعل ما وقيت به القدم وهي مؤنثة سماعية ذكرها ابن الحاجب في رسالته فيما يجب تأنيثه. فالتذكير هنا باعتبار معناها، وهو ما وقيت به القدم، ولعل سبب ذلك السؤال ما ذكره الطيبي: أنه لما رأى الرجل العادة في المتكبرين لبس الثياب الفاخرة ونحو ذلك سأل ما سأل "قال" مجيباً له "إن الله يحب الجمال" وفي رواية: إن الله جميل يحب الجمال، أي حسن الأفعال كامل الأوصاف، وقيل: أي مجمل، وقيل جليل، وقيل مالك النور والبهجة، وقيل جميل الأفعال بكم والنظر إليكم يكلفكم اليسير(6/137)
بَطَرَ الْحَقّ وغَمصَ النّاسَ" . هذا حديثٌ حسنٌ صحيحٌ غَريبٌ.
2068ـ حدّثنا أَبُو كُرَيْبٍ، حدثنا أَبو مُعَاوِيَةَ عَنْ عُمَر بنِ رَاشِدٍ عَن إِيَاسِ بنِ سَلَمَةَ بنِ الأَكْوَع عن أَبِيِه قالَ: قالَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم: "لا يَزَالُ الرّجُلُ يَذْهَبُ بِنَفْسِهِ حَتّى يُكْتَبَ في الْجَبّارِينَ
ـــــــ
ويعين عليه ويثيب عليه الجزيل ويشكر عليه. وقال المناوي: إن الله جميل أي له الجمال المطلق جمال الذات وجمال الصفات وجمال الأفعال. يحب الجمال أي التجمل منكم في الهيئة أو في قلة إظهار الحاجة لغيره والعفاف عن سواه انتهى. "ولكن الكبر" أي ذا الكبر بحذف المضاف كقوله تعالى: {وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ} "من بطر الحق" أي دفعه ورده "وغمص الناس" أي احتقرهم ولم يرهم شيئاً. من غمصته غمصاً وفي رواية: الكبر بطر الحق وغمط الناس. قال في المجمع: الغمط الاستهانة والاستحقار وهو كالغمص وأصل البطر شدة الفرح والنشاط، والمراد هنا قيل سوء احتمال الغنى، وقيل الطغيان عند النعمة، والمعنيان متقاربان. وفي النهاية بطر الحق هو أن يجعل ما يجعله الله حقاً من توحيده وعبادته باطلاً، وقيل هو أن يتجبر عند الحق فلا يراه حقاً، وقيل هو أن يتكبر عن الحق فلا يقبله. وقال: التوربشتي: وتفسير على الباطل أشبه لما ورد في غير هذه الرواية: إنما ذلك من سفه الحق وغمص الناس أي رأى الحق سفهاً.
قوله: "هذا حديث حسن صحيح غريب" وأخرجه مسلم.
قوله: "عن عمر بن راشد" وقع في النسخة الأحمدية: عمرو بن راشد بالواو، والصواب بغير الواو، وقال الحافظ في التقريب: عمر بن راشد بن شجرة بفتح المعجمة والجيم اليمامي ضعيف من السابعة ووهم من قال إن اسمه عمرو وكذا من زعم إنه ابن أبي خثعم انتهى. "عن إياس بن سلمة بن الأكوع" الأسلمي كنيته أبو سلمة ويقال أبو بكر ثقة من الثالثة.
قوله: "لا يزال الرجل يذهب بنفسه" قال المظهر وغيره الباء للتعدية، أي يعلي نفسه ويرفعها ويبعدها عن الناس في المرتبة ويعتقدها عظيمة القدر أو المصاحبة، أي يرافق نفسه في ذهابها إلى الكبر ويعززها ويكرمها كما يكرم الخليل الخليل(6/138)
فَيُصِيبَهُ مَا أَصَابَهُمْ" . هذا حديثٌ حسنٌ غريب.
2069 ـ حدّثنا عَلِيّ بنُ عيسَى بنُ يَزِيدَ البَغْدَادِيّ، حدثنا شَبَابَةُ بن سَوّارٍ أخبرنا ابنُ أَبِي ذِئْبٍ عن القَاسِمِ بنِ عَبّاسٍ عن نَافِعِ بنِ جُبَيْرِ بنِ مُطْعِمٍ عن أَبِيِه قَالَ: يَقُولُونَ لِي فِيّ التّيهُ وقد رَكِبْتُ الحِمَارَ وَلَبِسْتُ الشّمْلَةَ وقدْ حَلَبْتُ الشّاةَ وقَدْ قَالَ لِي رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم: "مَنْ فَعَلَ هذا فَلَيْسَ فِيه مِنَ الكِبْرِ شَيءٌ" . هذا حديثٌ حسنٌ غريبٌ.
ـــــــ
حتى تصير متكبرة. وفي أساس البلاغة يقال: ذهب به مره مع نفسه. قال القاري: ومن قبيل الأول قوله تعالى {ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ} أي أذهب ورهم. وخلاصة المعنى أنه لا يزال يذهبها عن درجتها ومرتبتها إلى مرتبة أعلى وهكذا "حتى يكتب" أي اسمه أو يثبت رسمه "في الجبارين" أي في ديوان الظالمين والمتكبرين أو معهم في أسفل السافلين "فيصيبه" بالنصب وقيل بالرفع أي فينال الرجل من بليات الدنيا وعقوبات العقبى "ما أصابهم" أي الجبارين كفرعون وهامان وقارون.
قوله: "هذا حديث حسن غريب" ذكره المنذري في الترغيب، ونقل تحسين الترمذي وأقره.
قوله: "حدثنا علي بن عيسى بن يزيد البغدادي" الكراجكي، بفتح الكاف وكسر الجيم التي بعد الألف وقد تبدل شيئاً مقبول من الحادية عشر "أخبرنا ابن أبي ذئب" سقط هذا من بعض النسخ والصواب ثبوته "عن القاسم بن عباس" ابن محمد بن معتب بن أبي لهب الهاشمي أبي العباس المدني ثقة من السادسة.
قوله: "يقولون لي فِيّ التّيه" بالكسر الكبر أي في نفسي الكبر "وقد ركبت الحمار" الواو حالية "ولبست الشملة" بفتح الشين وسكون الميم. قال في النهاية هو كساء يتغطى به ويتلفف فيه. وقال في الصراح شمله كليم خردكه بخود دركشند "من فعل هذا" أي المذكور من ركوب الحمار ولبس الشملة وحلب الشاة "فليس فيه من الكبر شيء" فإن هذه الأفعال لا يأنف منها إلا المتكبرون(6/139)
61 ـ باب ما جاءَ في حسْنِ الْخُلُق
2070ـ حَدّثنا ابنُ أَبِي عُمَرَ، حدثنا سفيان، حدثنا عَمرُو بنُ دِينَارٍ عن ابنِ أَبِي مُلَيْكَةَ عن يَعْلَى بنِ مَمْلَكِ عن أَمّ الدّرْدَاءِ عن أَبي الدّرْدَاءِ: أَنّ النّبي صلى الله عليه وسلم قالَ: "مَا شيْءٌ أَثْقَلُ في مِيزَانِ المُؤْمِنِ يَوْمَ القِيَامةِ مِنْ خُلُقٍ حَسَن فَإِنّ الله تعالى ليُبْغِضُ الفاحِشَ البَذِيءَ" . وفي البابِ عن عَائِشَةَ وأَبي هُرَيْرَةَ وأَنَسٍ وَأُسَامَةَ بنِ شَرِيكٍ.
ـــــــ
"باب ما جاء في حسن الخلق"
قوله: "عن يعلى بن مملك" بوزن جعفر المكي مقبول من الثالثة "عن أم الدرداء" زوج أبي الدرداء اسمها هجيمة وقيل حميمة الأوصابية الدمشقية وهي الصغرى جهيمة وأما الكبرى فاسمها خيرة ولا رواية لها في الكتب الستة، والصغرى ثقة فقيهة من الثالثة كذا في التقريب.
قوله: "ماشيء" أي ثوابه أو صحيفته أو عينه المجسد "من خلق حسن" فإنه تعالى يحبه ويرضى عن صاحبه "فإن الله يبغض" وفي نسخة ليبغض "الفاحش" الذي يتكلم بما يكره سماعه أو من يرسل لسانه بما لا ينبغي "البذيء" قال المنذري في الترغيب: البذي بالذال المعجمة ممدوداً هو المتكلم بالفحش وروى الكلام. وقال في النهاية: البذاء بالمد الفحش في القول، بذا يبدو وأبذي يبذي فهو بذي اللسان. وقد يقال بالهمز وليس بالكثير انتهى. قال القاري ومن المقرر أن كل ما يكون مبغوضاً لله ليس له وزن وقدر كما أن كل ما يكون محبوباً له يكون عنده عظيماً، قال تعالى في حق الكفار {فَلا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْناً} وفي الحديث المشهور: كلمتان خفيفتان على اللسان ثقيلتان في الميزان حبيبتان إلى الرحمن: سبحان الله وبحمده سبحان الله العظيم. وبهذا تمت المقابلة بين القرينتين انتهى.
قوله: "وفي الباب عن عائشة وأبي هريرة وأنس وأسامة بن شريك" أما حديث عائشة فأخرجه أبو داود وابن حبان في صحيحه والحاكم، وقال صحيح على شرطهما ولفظه إن المؤمن ليدرك بحسن خلقه درجة الصائم
القائم. وأما حيث(6/140)
هذا حديثٌ حسنٌ صحيحٌ.
2071 ـ حدّثنا أَبو كُرَيْبٍ، حدثنا قُبَيْصَةُ بنُ اللّيثِ الكُوفِي عن مُطَرّفٍ عن عَطَاء عن أُمّ الدّرْدَاءِ عن أَبِي الدّرْدَاءِ قَالَ: سَمِعْتُ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: "مَا مِنْ شَيْءِ يُوضَعُ في المِيزَانِ أَثْقَلُ مِنْ حُسْنِ الْخُلُقِ، وإِنّ صَاحِبَ حُسْنِ الْخُلُقِ لَيَبْلُغُ بِهِ دَرَجَةَ صَاحِبِ الصّوْمِ والصّلاَةِ" .
هذا حديثٌ غَرِيبٌ من هذَا الوَجْهِ.
ـــــــ
أبي هريرة فأخرجه الترمذي في هذا الباب، وأما حديث أنس فأخرجه ابن أبي الدنيا والطبراني والبزار وأبي يعلي بإسناد جيد رواته ثقات، ولفظ أبي يعلي قال: لقي رسول الله صلى الله عليه وسلم أبا ذر فقال: يا أبا ذر، ألا أدلك على خصلتين هما أخف على الظهر وأثقل في الميزان من غيرهما، قال بلى يا رسول الله قال عليك بحسن الخلق وطول الصمت، فوالذي نفسى بيده ما عمل الخلائق بمثلهما. وله حديث آخر ذكره المنذري في الترغيب. وأما حديث أسامة بن شريك فأخرجه الطبراني وابن حبان في صحيحه. قال المنذري: رواة الطبراني محتج بهم في الصحيح انتهى.
قوله: "هذا حديث حسن صحيح" وأخرجه ابن حبان في صحيحه، وأخرجه أبو داود، لكن اقتصر على الجملة الأولى كذا في الترغيب.
قوله: "حدثنا قبيصة بن الليث" بن قبيصة برمة الأسدي الكوفي، صدوق من التاسعة "عن عطاء" بن نافع الكيخاراني. قال ابن أبي خيثمة عن ابن معين: عطاء الكيخاراني ثقة. وكذا قال النسائي: له عندهم حديث واحد في حسن الخلق. كذا في تهذيب التهذيب، وقال في التقريب ثقة من الرابعة.
قوله: "وإن صاحب حسن الخلق ليبلغ به إلخ" وفي حديث عائشة عند أبي داود إن المؤمن ليدرك بحسن خلقه درجة قائم الليل وصائم النهار.
قوله: "هذا حديث غريب" وأخرجه البزار بإسناد جيد كذا في الترغيب.(6/141)
2072 ـ حدّثنا أَبُو كُرَيْبٍ محمّدُ بنُ الْعَلاَءِ حدثنا عَبْدُ الله بنُ إِدْرِيسَ حدثني أَبِي عن جَدّي عن أَبِي هُرَيْرَةَ قالَ: "سُئِلَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم عَنْ أَكْثَرَ مَا يُدْخِلُ النّاسَ الْجَنّةَ، قالَ: تَقْوَى الله وَحُسْنُ الْخُلُقِ، وَسُئِلَ عَنْ أَكْثَرَ مَا يُدْخِلُ النّاسَ النّارَ، قالَ: الفَمُ وَالْفَرْجُ" .
هذا حديثٌ صحيحٌ غريبٌ. وعبْدُ الله بنُ إِدْرِيسَ هُوَ ابنُ يَزِيدَ بنِ عبْدِ الرحمنِ الأَوْديّ.
ـــــــ
قوله: "حدثني أبي" أي إدريس بن يزيد بن عبد الرحمن الأودي ثقة من السابعة "عن جدي" أي يزيد بن عبد الرحمن بن الأسود الزعافري أبي داود الأودي مقبول من الثالثة.
قوله: "عن أكثر ما يدخل الناس الجنة" أي عن أكثر أسباب إدخالهم الجنة مع الفائزين "تقوى الله" وله مراتب أدناها التقوى عن الشرك "وحسن الخلق" أي مع الخلق، وأدناه ترك أذاهم وأعلاه الإحسان إلى من أساء إليه منهم "الفم والفرج" لأن المرء غالباً بسببهما يقع في مخالفة الخالق وترك المخالفة مع المخلوق. قال الطيبي قوله: تقوى الله إشارة إلى حسن المعاملة مع الخالق بأن يأتي جميع ما أمره به وينتهي عن ما نهى عنه وحسن الخلق إشارة إلى حسن المعاملة مع الخلق وهاتان الخصلتان موجبتان لدخول الجنة ونقيضهما لدخول النار. فأوقع الغم والفرج مقابلا لهما. أما الفم فمشتمل على اللسان، وحفظه ملاك أمر الدين كله وأكل الحلال رأس التقوى كله. وأما الفرج فصوته من أعظم مراتب الدين قال تعالى: {وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ} لأن هذه الشهوة أغلب الشهوات على الإنسان وأعصاها على العقل عند الهيجان، ومن ترك الزنا خوفاً من الله تعالى مع القدرة وارتفاع الموانع وتيسر الأسباب لا سيما عند صدق الشهوة وصل إلى درجة الصديقين قال تعالى {وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى} ومعنى الأكثرية في الجملتين أن أكثر أسباب السعادة الأبدية الجمع بين الخلتين وأن أكثر أسباب الشقاوة السرمدية الجمع بين هاتين الخصلتين.
قوله: "هذا حديث صحيح غريب" وأخرجه ابن حبان في صحيحه والبيهقي في الزهد وغيره وكذا في الترغيب.(6/142)
2073 ـ حدّثنا أَحمدُ بنُ عبْدَةَ الضبي، حدثنا أَبُو وَهْبٍ عن عبْدِ الله بنِ المُبَارَكِ، أَنّهُ وَصَفَ حُسْنَ الْخُلُقِ فَقَالَ: هُوَ بَسْطُ الْوَجْهِ، وبَذْلُ المَعْرُوفِ، وكَفّ الأَذَى.
ـــــــ
قوله: "هو بسط الوجه إلخ" قال ابن رجب في كتابه جامع العلوم والحكم: قد روى عن السلف تفسير حسن الخلق فعن الحسن قال حسن الخلق الكرم والبذلة والاحتمال وعن الشعبي قال: حسن الخلق البلة والعطية والبشر الحسن وكان الشعبي كذلك. وسئل سلام بن أبي مطيع عن حسن الخلق فأنشد شعراً فقال:
تراه إذا ما جئته متهللاً
...
كأنك تعطيه الذي أنت سائله
ولو لم يكن في كفه غير روحه
...
لجاد بها فليتق الله سائله
هو البحر من أي النواحي أتيته
...
فلجته المعروف والجود ساحله
وقال الإمام أحمد: حسن الخلق، أن لا تغضب ولا تحقد. وعنه أنه قال: حسن الخلق أن تحتمل ما يكون من الناس. وقال إسحاق بن راهويه هو بسط الوجه وأن لا تغضب ونحو ذلك، قال محمد بن نصر(6/143)
باب ما جاء في الإحسان و العفو
...
62 ـ بابُ ما جاءَ في الإِحْسَانِ وَالْعَفْو
2074 ـ حَدّثنا بُنْدَارٌ و أَحمدُ بنُ مَنِيع و محمودُ بنُ غَيْلاَنَ، قَالوا: حدثنا أَبُو أَحمدَ الزبيري عن سُفْيَانَ عن أَبِي إِسْحَاقَ عن أَبِي الأَحْوَصِ عن أَبِيِه قَالَ
ـــــــ
"بابُ ما جاءَ في الإِحْسَانِ وَالْعَفْو"
الإحسان ضد الإساءة، قال في الصراح: إحسان نكوثي كردن يقال أحسن إليه كقوله تعالى {وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ} وأحسن به كقوله تعالى {وَقَدْ أَحْسَنَ بِي} وقال في المجمع: العفو التجاوز عن الذنب وترك العقاب وأصله المحو والطمس عفا يعفو انتهى
قوله: "عن أبيه" هو مالك بن نضلة قال في التقريب: ويقال مالك بن عوف ابن نضلة الجثمي بضم الجيم وفتح المعجمة صحابي قليل الحديث.(6/143)
"قلت: يَا رَسولَ الله، الرّجُلُ أَمُرّ بِهِ فَلاَ يَقْرِينِي وَلاَ يُضِيفُنِي فَيَمُرّ بِي أَفأَجْزِيهِ؟ قالَ: لا، أَقْرِهِ. قال وَرَآنِي رَثّ الثّيَابِ فَقَالَ: هَلْ لَكَ مِنْ مَالٍ؟ قلت: مِنْ كلّ الْمَالِ قَدْ أَعْطَانِيَ الله مِنَ الإِبِلِ وَالْغَنَمِ، قال: فَلْيُرَ عَلَيْكَ" .
وفي البابِ عن عائِشَة وجَابِرٍ وأَبي هُرَيْرَةَ.
ـــــــ
قوله: "فلا يقريني" بفتح أوله تفسيره قوله "ولا يضيفني" بضم أوله "أفأجزيه" بفتح الهمز وسكون الياء أي أكافئه بترك القرى منع الطعام كما فعل بي أم أقريه وأضيفه، "قال لا" أي لاتجزه وتكافئه "أقره" أي أضفه، وفيه حث على القرى الذي هو من مكارم الأخلاق، ومنها دفع السيئة بالحسنة كقوله تعالى {ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ السَّيِّئَةَ} . "رث الثياب" قال في النهاية: متاع رث ومنال رث خلق بال. وفي القاموس: الرثاثة والرثوثة البذاذة. وفي رواية: أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلي ثوب دون "قلت من كل المال" من للتبعيض والمعنى بعض كل المال "من الإبل والغنم" بيان لمن المراد منه البعض، وفي رواية: من الإبل والبقر والغنم والخيل والرقيق "قال فلير عليك" بصيغة المجهول، أي فليبصر وليظهر، وفي رواية: فإذا أتاك الله مالا فلير أثر نعمة الله عليك وكرامته والمعنى: لبس ثوباً جيداً ليعرف الناس أنك غني وأن الله أنعم عليك بأنواع النعم. وفي شرح السنة: هذا في تحسين الثياب بالتنظيف والتجديد عند الإمكان من غير أن يبالغ في النعامة والدقة، ومظاهرة الملبس على اللبس على ما هو عادة العجم. قال القاري اليوم زاد العرب على العجم.
قلت: الأمر في هذا الزمان أيضاً كما قال القاري. وقال البغوي: وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان ينهي عن كثير من الإرفاه انتهى. وروى البيهقي عن أبي هريرة وزيد بن ثابت أنه صلى الله عليه وسلم نهى عن الشهرتين رقة الثياب وغلظها ولينها وخشونتها وطولها وقصرها، ولكن سداد فيما بين ذلك واقتصاد.
قوله: "وفي الباب عن عائشة وجابر وأبي هريرة" أما حديث عائشة فأخرجه الشيخان وفيه ما انتقم رسول الله لنفسه في شيء قط إلا أن ينتهك حرمة الله فينتقم الله بها. وأما حديث جابر فأخرجه الشيخان أيضاً وفيه قصة الأعرابي الذي اخترط(6/144)
هذا حديثٌ حسنٌ صحيحٌ.
وأَبُو الأَحْوَصِ اسْمُهُ عَوْفُ بنُ مَالِكِ بنِ نَضْلَةَ الْجُشَمِيّ.
ومَعْنَى قَوْلِه "أَقْرِهِ" أَضِفْهُ، والْقِرَى: هُو الضّيَافَةُ.
2075ـ حدّثنا أبو هاشِم الرّفَاعيّ، حدثنا محمّدُ بنُ فُضَيْلٍ عن الْوَلِيدِ بنِ عبْدِ الله بنِ جُمَيْعٍ عن أَبِي الطّفَيْلِ عن حُذَيْفَةَ قالَ: قالَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم: "لا تَكُونُوا إِمّعةً تَقُولُونَ إِن أَحْسَنَ النّاسُ أَحْسَنّا، وإِنْ
ـــــــ
سيف النبي صلى الله عليه وسلم وهو نائم وعفوه صلى الله عليه وسلم عنه. وأما حديث أبي هريرة فأخرجه مسلم.
قوله: "هذا حديث حسن صحيح" وأخرجه أحمد والنسائي.
قوله: "عن الوليد بن عبد الله بن جميع" بضم الجيم وفتح الميم مصغراً، الزهري المكي نزيل الكوفة صدوق يهم، ورمي بالتشيع من الخامسة.
قوله: "لا تكونوا إمعة" بكسر الهمزة وتشديد الميم والهاء للمبالغة وهمزته أصلية ولا يستعمل ذلك في النساء فلا يقال امرأة إمعة كذا في النهاية. وقال صاحب الفائق: هو الذي يتابع كل ناعق ويقول لكل أحد أنا معك لأنه لا رأي له يرجع إليه. ومعناه: المقلد الذي يجعل دينه تابعاً لدين غيره بلا رؤية ولا تحصيل برهان انتهى كلامه. قال القاري بعد نقل هذا الكلام عن الفائق ما لفظه: وفيه إشعار بالنهي عن التقليد المجرد حتى في الأخلاق فضلاً عن الاعتقادات والعبادات. وفي القاموس: الإمع كهلع وهلعة ويفتحان الرجل يتابع كل واحد على رأيه لا يثبت على شيء، ومتبع الناس إلى الطعام من غير أن يدعى والمحقب الناس دينه والمتردد في غير صنعة، ومن يقول أنا مع الناس ولا يقال امرأة إمعة، أو قد يقال وأتأمع واستأمع صار إمعة، وقيل: هو الرجل الذي يكون لضعف رأيه مع كل واحد. والمراد هنا من يكون مع ما يوافق هواه ويلائم أرب نفسه وما يتمناه. وقيل المراد هنا الذي يقول أنا مع الناس كما يكونون معي إن خيراً فخير وإن شراً فشر.
قال القاري: وهذا المعنى هو المتعين كما يدل عليه قوله "تقولون إن أحسن(6/145)
ظَلَمُوا ظَلَمْنَا، وَلَكِنْ وَطّنُوا أَنْفُسَكُمْ، إِنْ أَحْسَنَ النّاسُ أَنْ تُحْسِنُوا، وإِنْ اسَاءُوا فَلاَ تَظْلمُوا" .
هذا حديثٌ حسنٌ غريبٌ لا نَعْرِفُه إِلا من هذا الْوَجْهِ.
ـــــــ
الناس" أي إلينا أو إلى غيرنا "أحسنا" أي جزاء أو تبعاً لهم "وإن ظلموا" أي ظلمونا أو ظلموا غيرنا فكذلك نحن "ظلمنا" على وفق أعمالهم. قال الطيبي قوله تقولون الخ بيان وتفسير للإمعة، لأن معنى قوله إن أحسن الناس وإن ظلموا أنا مقلد الناس في إحسانهم وظلمهم ومقتفي أثرهم "ولكن وطنوا أنفسكم إن أحسن الناس أن تحسنوا الخ" قال في القاموس: توطين النفس تمهيدها وتوطنها تمهدها انتهى. وفي المنجد: وطن نفسه على الأمر وللأمر هيأها لفعله وحملها عليه انتهى. وفي أساس البلاغة: أوطن الأرض ووطنها واستوطنها، ومن المجاز وطنت نفسي على كذا فتوطنت قال الشاعر:
ولا خير فيمن لا يوطن نفسه
...
على نائبات الدهر حين تنوب
قال الطيبي: إن تحسنوا متعلق بقوله وطنوا، وجواب الشرط محذوف يدل عليه إن تحسنوا، والتقدير وطنوا أنفسكم على الإحسان إن أحسن الناس فأحسنوا وإن أساؤوا فلا تظلموا لأن عدم الظلم إحسان.(6/146)
63 ـ باب ما جاءَ في زِيَارَةِ الإِخْوَان
2076 ـ حَدّثنا محمّدُ بنُ بَشّارٍ وَالْحُسَيْنُ بنُ أَبِي كَبْشَةَ الْبَصْرِيّ، قَالاَ: حدثنا يُوسُفُ بنُ يَعْقُوب السّدُوسِي، حدثنا أَبُو سِنَانٍ القَسْملي هو الشامي، عن عُثْمانَ بنِ
ـــــــ
"باب ما جاء في زيارة الإخوان"
قوله: "والحسين بن" سلمة بن إسماعيل بن يزيد بن "أبي كبشة" بموحدة ومعجمة الأزدي الطحان "البصري" صدوق من التاسعة "حدثنا يوسف بن يعقوب السدوسي" مولاهم أبو يعقوب السلمي بكسر المهملة وفتح اللام وقيل بفتح أوله ثم سكون البصري الضبعي صدوق من التاسعة "حدثنا أبو سنان القسملي" بفتح القاف وسكون المهملة وفتح الميم وتخفيف اللام هو عيسى بن سنان الحنفي الفلسطيني(6/146)
أَبِي سَوْدَةَ عن أَبي هُرَيْرَةَ قالَ: قالَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم: "مَن عَادَ مَرِيضاً أَوْ زَارَ أَخاً لَهُ في الله نَادَاهُ مُنَادٍ أَنْ طِبْتَ وَطَابَ مَمْشَاكَ وَتَبَوّأْتَ مِنَ الْجَنّةِ مَنْزِلاً" .
هذا حديثٌ حسنٌ غريبٌ.
وأَبو سِنَانٍ اسمُه عِيسَى بنُ سِنَانٍ.
وقد رَوَى حَمّادُ بنُ سَلَمَةَ عن ثَابِتٍ عن أَبِي رَافِعٍ عن أَبي هُرَيْرَةَ عن النبيّ صلى الله عليه وسلم شَيْئَاً مِن هَذَا.
ـــــــ
نزيل البصرة، لين الحديث من السادسة "عن عثمان بن أبي سودة" المقدسي ثقة من الثالثة.
قوله: "من عاد مريضاً" أي محتسباً "أو زار أخاً له" أي في الدين "في الله" أي لوجه الله لا للدنيا "مناد" أي ملك "أن طبت" دعاء له بطيب عيشه في الدنيا والأخرى "وطلب ممشاك" مصدر أو مكان أو زمان مبالغة. قال الطيبي: كناية عن سيره وسلوكه طريق الاَخرة بالتعري عن رذائل الأخلاق والتحلي بمكارمها "وتبوأت" أي تهيأت "من الجنة" أي من منازلها العالية "منزلاً" أي منزلة عظيمة ومرتبة جسيمة بما فعلت. وقال الطيبي دعاء له بطيب العيش في الأخرى. كما أن طبت دعاء له بطيب العيش في الدنيا، وإنما أخرجت الأدعية في صورة الأخبار إظهار للحرص على عيادة الأخيار.
قوله: "هذا حديث غريب" قال المنذري في الترغيب بعد ذكر هذا الحديث: رواه ابن ماجة والترمذي واللفظ له وقال حديث حسن، وابن حبان في صحيحه.
قلت: ليس في النسخ الموجودة عندنا لفظ حسن بل فيها حديث غريب "شيئاً من هذا" أي شيئاً مختصراً من هذا الحديث(6/147)
64 ـ باب ما جاءَ في الْحَيَاء
2077ـ حَدّثنا أَبُو كُرَيْبٍ حدثنا عَبْدَةُ بنُ سُلَيْمانَ وعبْدُ الرّحِيمِ ومحمّدُ بنُ بِشْرٍ عن محمّدٍ بنِ عَمْرٍو، حدثنا أَبو سَلَمَةَ عن أَبي هُرَيْرَةَ قالَ: قالَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم: "الْحَيَاءُ مِنَ الإِيمَانِ، وَالإِيمَانُ فِي الْجنّةِ: وَالْبَذَاءُ مِنَ الْجَفَاء، وَالْجَفَاءُ فِي النّارِ".
ـــــــ
"باب ما جاءَ في الْحَيَاء"
هو بالمد وهو في اللغة تغير وانكسار يعتري الأنسان من خوف ما يعاب به. وقد يطلق على مجرد ترك الشيء بسبب. والترك إنما هو من لوازمه، وفي الشرع خلق يبعث على اجتناب القبيح ويمنع من التقصير في حق ذي الحق
قوله: "حدثنا عبدة بن سليمان" الكلابي أبو محمد الكوفي، ويقال اسمه. عبد الرحمن ثبت ثقة من صغار الثامنة "وعبد الرحيم" الظاهر أنه عبد الرحيم بن سليمان الكناني أو الطائي أبو علي الأشل المروزي نزيل الكوفة ثقة له تصانيف من صغار الثامنة "ومحمد بن بشر" بكسر الموحدة. قال الحافظ في تهذيب التهذيب محمد بن بشر بن الفرافصة بن المختار الحافظ العبدي أبو عبد الله الكوفي روي عن محمد بن عمرو بن علقمة وغيره وعنه أبو كريب وغيره انتهى. وقال في التقريب ثقة حافظ من التاسعة "عن محمد بن عمرو" بن علقمة بن وقاص الليثي المدني، صدوق له أوهام من السادسة.
قوله: "الحياء من الإيمان" أي بعضه أو من شعبه "والإيمان" أي أهله قال الطيبي: جعل أهل الإيمان عين الإيمان دلالة على أنهم تمحضوا منه وتمكنوا من بعض شعبه الذي هو أعلى الفرع منه كما جعل الإيمان مقراً ومبوأ لأهله في قوله تعالى {وَالَّذِينَ تَبَوَّأُوا الدَّارَ وَالْأِيمَانَ} لتمكنهم من الإيمان واستقامتهم عليه "والبذاء" بفتح الباء خلاف الحياء والناشئ منه الفحش في القول، والسوء في الخلق "من الجفاء" وهو خلاف البر الصادر منه الوفاء "والجفاء" أي أهله التاركون للوفاء. الثابتون على غلاظة الطبع وقساوة القلب "في النار" أما مدة أو أبداً(6/148)
وفي البابِ عن ابنِ عُمَرَ وأَبِي بَكْرَةَ وأَبِي امَامَةَ وعِمْرَانَ بنِ حُصَيْنٍ.
ـــــــ
لأنه في مقابل الإيمان الكامل، أو مطلقه فصاحبه من أهل الكفران أو الكفر.
قوله: "وفي الباب عن ابن عمر وأبي بكرة وأبي امامة وعمران بن حصين". أما حديث ابن عمر فأخرجه الشيخان وله أحاديث أخرى في هذا الباب. وأما حديث أبي بكرة فأخرجه البخاري في الأدب وابن ماجة والحاكم والبيهقي. وأما حديث أبي أمامة فأخرجه أحمد والحاكم والطبراني. وأما حديث عمران بن حصين بلفظ فأخرجه الشيخان عنه مرفوعاً: الحياء لا يأتي إلا بخير . وفي رواية: الحياء خير كله .
تنبيه: قال النووي في شرح مسلم: حديث كون الحياء كله خير أو لا يأتي إلا بخير، يشكل على بعض الناس من حيث أن صاحب الحياء قد يستحي أن يواجه بالحق من يجله ويعظمه، فيترك أمره بالمعروف ونهيه عن المنكر. وقد يحمله الحياء على الإخلال ببعض الحقوق وغير ذلك مما هو معروف في العادة والجواب ما أجاب به عنه جماعة من الأئمة منهم الشيخ أبو عمرو بن الصلاح: إن هذا المانع الذي ذكرناه ليس بحياء حقيقة بل هو عجز وخور، وإنما تسميته حياء من إطلاق بعض أهل العرف، أطلقوه مجازاً لمشابهته الحياء الحقيقي: وإنما حقيقة الحياء خلق يبعث على ترك القبيح، ويمنع من التقصير في حق ذي الحق ونحو هذا. ويدل عليه ما روينا في رسالة الإمام أبي القاسم القيشري عن السيد الجليل أبي القاسم الجنيد رحمه الله قال: الحياء رؤية الاَلاء أي النعم ورؤية التقصير، فيتولد بينهما حالة تسمى الحياة. وقال القاضي عياض وغيره. إنما جعل الحياء من الإيمان لأنه قد يكون تخلقاً واكتساباً كسائر أعمال البر، وقد يكون غريزة ولكن استعماله على قانون الشرع يحتاج إلى اكتساب ونية وعلم، فهو من الإيمان لهذا، ولكونه باعثاً على أفعال البر ومانعاً من المعاصي انتهى. وقال الطيبي: ويمكن أن يحمل التعريف على العهد ويكون إشارة إلى ما ورد في قوله صلى الله عليه وسلم: الاستحياء من الله أن يحفظ الرأس وما وعي والبطن وما حوى الحديث، انتهى.(6/149)
هذا حديثٌ حسنٌ صحيحٌ.
ـــــــ
قوله: "هذا حديث حسن صحيح" وأخرجه أحمد ورجاله رجال الصحيح، وابن حبان في صحيحه. والحاكم والبيهقي كذا في الترغيب والمرقاة(6/150)
باب ما جاء في التأني و العجلة
...
65 ـ باب ما جاءَ فِي التّأَنّي وَالْعَجَلَة
2078 ـ حَدّثنا نَصْرُ بنُ عَلِيٍ الجهضمي حدثنا نُوحُ بنُ قَيْسٍ عن عبدِ الله بنِ عمْرَانَ عن عاصِمِ الأحْوَلِ عن عبدِ الله بنِ سَرْجِسَ المُزَنِيّ أَنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم قالَ: "السّمْتُ الَحسَنُ وَالتّؤَدَةُ وَالإقْتِصَادُ جُزءٌ مِنْ أَرْبَعَةٍ
ـــــــ
" باب ما جاءَ فِي التّأَنّي وَالْعَجَلَة"
العجلة والعجل محركتين السرعة، والتأني ترك الاستعجال من تأنى في الأمر إذا توقف فيه
قوله: "حدثنا نوح بن قيس" بن رباح الأزدي أبو روح البصري أخو خالد صدوق رمى بالتشيع "عن عبد الله بن عمران" التيمي الطلحي البصري مقبول من السادسة وقال في تهذيب التهذيب: روى له الترمذي حديثاً واحداً في فضل السمت الحسن وغيره. "عن عبد الله بن سرجس" بفتح المهملة وسكون الراء وكسر الجيم بعدها مهملة المزني حنيف بني مخزوم صحابي سكن البصرة.
قوله: "السمت الحسن" أي السيرة المرضية والطريقة المستحسنة قيل السمت الطريق، ويستعار لهيئة أهل الخير. وفي الفائق السمت أخذ المنهج ولزوم المحجة "والتؤدة" بضم التاء وفتح الهمزة أي التأني في جميع الأمور "والاقتصاد" أي التوسط في الأحوال والتحرز عن طرفي الإفراط والتفريط. قال التوربشتي: الاقتصاد على ضربين أحدهم ما كان متوسطاً بين محمود ومذموم، كالمتوسط بين الجور والعدل والبخل والجود. وهذا الضرب أريد بقوله تعالى ومنهم مقتصد. والثاني محمود على الإطلاق وذلك فيما له طرفان إفراط وتفريط كالجود فإنه بين الإسراف والبخل، والشجاعة فإنها بين النهور والجبن. وهذا الذي في الحديث هو الاقتصاد المحمود على الإطلاق "جزء" أي كلها أو كل منها "من أربعة(6/150)
وَعِشْرِينَ جُزْأً مِنَ النّبُوّةِ" . وفي البابِ عن ابنِ عَبّاسٍ وهذا حديثٌ حسنٌ غريب.
2079 ـ حدّثنا قُتَيْبَةُ حدثنا نُوحُ بنُ قَيْسٍ عن عبدِ الله بنِ عمْرَانَ عن عبدِ الله بن سَرْجِسَ عن النبيّ صلى الله عليه وسلم نَحْوَهُ ولم يَذْكُرْ فِيِه عن عاصِمٍ، وَالصّحِيحُ حَدِيثُ نَصْرِ بنِ عَلِي.
ـــــــ
وعشرين جزءاً" ويؤيد الأخير ما رواه الضياء عن أنس مرفوعاً: السمت الحسن جزء من خمسة وسبعين جزءاً من النبوة مع زيادة إفادة أن المراد بالعدد المذكور التكثير لا التحديد، وينصره حديث ابن عباس عند أبي داود: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال إن الهدى الصالح والسمت الصالح والاقتصاد جزء من خمس وعشرين جزءاً من النبوة، على أنه يمكن الاختلاف بحسب اختلاف الكمية والكيفية الحاصلة في المتصف به "من النبوة" أي من أجزائها قال الخطابي: الهدى والسمت حالة الرجل ومذهبه، والاقتصاد سلوك القصد في الأمور والدخول فيها برفق على سبيل تمكن الدوام عليها، يريد أن هذه الخصال من شمائل الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، وأنها جزء من أجزاء فضائلهم فاقتدوا بهم فيها وتابعوهم عليها، وليس معناها أن النبوة تتجزأ ولا أن من جمع هذه الخصال كان نبياً، فإن النبوة غير مكتسبة وإنما هي كرامة يخص الله بها من يشاء من عباده والله أعلم حيث يجعل رسالته. ويحتمل أن يكون معناه أن هذه الخلال مما جاءت به النبوة ودعا إليها الأنبياء. وقيل معناه أن من جمع هذه الخصال لقيسه الناس بالتوقير والتعظيم، وألبسه الله لباس التقوى الذي ألبس أنبياءه عليهم الصلاة والسلام. فكأنها جزء من النبوة. قال التوربشتي: والطريق إلى معرفة ذلك العدد ووجهه بالاختصاص من قبل الرأي والاستنباط مسدود فإنه من علوم النبوة.
قوله: "وفي الباب عن ابن عباس" أخرجه أبو داود والحاكم.
قوله: "والصحيح حديث نصر بن علي" قال الحافظ في تهذيب التهذيب.(6/151)
2080 ـ حدّثنا محمّدُ بنُ عبدِ الله بن بَزِيعٍ، حدثنا بِشْرُ بنُ المُفَضّلِ عن قُرّةَ بنِ خالِدٍ عن أَبِي جَمْرَةَ عن ابنِ عَبّاسٍ: "أَنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم قالَ لأشَجّ عبدِ القَيْسِ: إِنّ فِيكَ خَصْلَتَيْنِ يُحِبّهُمَا الله: الحِلْمُ وَالأَنَاةُ" .
وفي البابِ عن الأشَج الْعَصْرِيّ.
ـــــــ
في ترجمة عبد الله بن عمران: روي عن عبد الله بن سرجس، وقيل عن عاصم الأحول عنه انتهى.
قوله: "حدثنا محمد بن عبد الله بن بزيع" بفتح الموحدة وكسر الزاي البصري ثقة من العاشرة "عن قرة بن خالد" السدوسي البصري ثقة ضابط من السادسة "عن أبي جمرة" اسمه نصر بن عمران.
قوله: "لأشج عبد القيس" بالإضافة وأسماء المنذر بن عائذ كان وافد عبد القيس وقائدهم ورئيسهم وعبد القيس قبيلة. "إن فيك خصلتين يحبهما الله الحلم والأناة" ويجوز فيه وجهان النصب على البدلية والرفع على أنه خبر مبتدأ محذوف، أي هما الحلم والأناة. قال النووي: الحلم هو العقل، والأناة هي التثبت وترك العجلة، وهي مقصورة يعني بوزن نواة. وسبب قول النبي صلى الله عليه وسلم ذلك له ما جاء في حديث الوفد أنهم لما وصلوا إلى المدينة بادروا إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وأقام الأشج عند رحالهم فجمعها وعقل ناقته ولبس أحسن ثيابه، ثم أقبل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقربه النبي صلى الله عليه وسلم وأجلسه إلى جانبه، ثم قال لهم النبي صلى الله عليه وسلم تبايعون على أنفسكم وقومكم، فقال القوم نعم، فقال الأشج: يا رسول الله إنك لم تزاود الرجل عن شيء أشد عليه من دينه، نبايعك على أنفسنا ونرسل إليهم من يدعوهم، فمن اتبعنا كان منا ومن أبى قاتلناه. قال: صدقت إن فيك خصلتين الحديث. قال القاضي عياض: فالأناءة تربصه حتى نظر في مصالحه ولم يعجل. والحلم هذا القول الذي قاله الدال على صحة عقله وجودة نظره للعواقب انتهى. وحديث ابن عباس هذا أخرجه مسلم في صحيحه.
قوله: "وفي الباب عن الأشج العصري" أخرجه أحمد في مسنده، والعصري بمهملتين وهو أشج عبد القيس المذكور. قال في تهذيب التهذيب: الأشج(6/152)
2081 ـ حدّثنا أَبُو مُصْعَبٍ المدنِيّ حدثنا عبدُ المُهَيْمِنِ بنُ عَبّاسٍ بنِ سَهْلٍ بنِ سَعْدٍ السّاعِدِيّ عن أَبِيِه عن جَدّه قالَ: قالَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم: "الأَنَاةُ مِنَ الله وَالْعَجَلَةُ مِنَ الشّيْطَانِ" .
هذا حديثٌ غريبٌ وقد تَكَلّمَ بعض أَهلِ الحديث في عبدِ المُهَيْمِنِ بنِ عَبّاس بن سهل وَضَعّفَهُ مِنْ قِبَلِ حِفْظِهِ
ـــــــ
العصري، اسمه المنذر بن عائد بن المنذر بن الحارث بن النعمان بن زياد بن عصر العصري أشج عبد القيس، كان سيد قومه، وفد على النبي صلى الله عليه وسلم فقال له: إن فيك لخصلتين يحبهما الله تعالى الحديث انتهى.
قوله: "حدثنا عبد المهيمن بن عباس بن سهل بن سعد الساعدي" الأنصاري المدني ضعيف من الثامنة "عن أبيه" أي عباس بن سهل "عن جده" أي سهل بن سعد.
قوله: "الأناة من الله والعجلة من الشيطان" قال المناوي في شرح الجامع الصغير: أي هو الحامل عليها بوسوسته، لأن العجلة تمنع من التثبت والنظر في العواقب وذلك موقع في المعاطب، وذلك من كيد الشيطان ووسوسته ولذلك قال المرقش:
يا صاحبي تلوما لا تعجلاً ... إن النجاح رهين أن لا تعجلا
وقال عمرو بن العاص: لا يزال المرء يجتني من ثمرة العجلة الندامة. ثم العجلة المذمومة ما كان في غير طاعة ومع عدم التثبت وعدم خوف الفوت. ولهذا قيل لأبي العيناء: لا تعجل فالعجلة من الشيطان، فقال: لو كان كذلك لما قال موسى: وعجلت إليك رب لترضى والحزم ما قال بعضهم: لاتعجل عجلة الأخرق ولا تحجم إحجام الواني الفرق انتهى. قيل ويستثنى من ذلك ما لا شبهة في خيريته قال تعالى: {إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ} . قال القاري بون بين المسارعة والمبادرة إلى الطاعات، وبين العجلة في نفس العبادات، فالأول محمود والثاني مذموم انتهى.
قوله: "هذا حديث غريب" كذا في النسخ الموجودة وكذا في المشكاة. وقال القاري قال ميرك: وفي بعض النسخ حسن غريب "وقد تكلم بعض أهل العلم في عبد المهيمن بن عباس وضعفه من قبل حفظه" قال القاري: أي وقع طعن البعض فيه من جهة حفظه فإنه عدل ثقة فأمره سهل انتهى.(6/153)
ـــــــ
قلت: في قول القاري فإنه عدل ثقة نظراً لظاهر، فقد عرفت آنفاً أن الحافظ قال في التقريب: إنه ضعيف. وقال في تهذيب التهذيب قال البخاري: منكر الحديث. وقال النسائي: ليس بثقة. وقال ابن حبان: لما فحش الوهم في روايته بطل الاحتجاج به. وقال النسائي في موضع آخر: متروك الحديث. وقد ذكر الحافظ فيه أقوال غير هؤلاء، كلها تدل على أنه ليس بثقة(6/154)
66 ـ باب ما جاءَ في الرّفْق
2082 ـ حَدّثنا ابْنُ أَبِي عُمَرَ، حدثنا سُفْيَانُ بن عَيينة عن عَمْرِو بنِ دينَارٍ عن ابنِ أَبِي مُلَيْكَةَ عن يَعْلَى بنِ مَمْلَكٍ عن أُمّ الدّرْدَاءِ عن أَبِي الدّرْدَاءِ عن النبيّ صلى الله عليه وسلم: قَالَ "مَنْ أُعْطِيَ حَظّهُ مِنَ الرّفْقِ فَقَدْ أُعْطِيَ حَظّهُ مِنَ الْخَيْرِ، وَمَنْ حُرِمَ حَظّهُ مِنَ الرّفْقِ فَقَدْ حُرِمَ حَظّهُ مِنَ الْخَيْرِ" .
وفي البابِ عن عائِشَةَ وَجَرِيرِ بنِ عبدِ الله وأَبي هُرَيْرَةَ.
ـــــــ
"باب ما جاءَ في الرّفْق"
بالكسر ضد العنف وهو المداراة مع الرفقاء ولين الجانب واللطف في أخذ الأمر بأحسن الوجوه وأيسرها
قوله: "من أعطى" بصيغة المجهول "حظه" بالنصب على أنه مفعول ثان أي نصيبه "من الرفق" أي اللطف "ومن حرم" على بناء المفعول "حظه" بالنصب على أنه مفعول ثان "فقد حرم حظه من الخير" إذ به تنال المطالب الدنيوية والأخروية وبفوته تفوتان، ففيه فضل الرفق والحث على التخلق به وذم العنف. وقال في اللمعات: يعني أن نصيب الرجل من الخير على قدر نصيبه من الرفق وحرمانه منه على قدر حرمانه منه انتهى.
قوله: "وفي الباب عن عائشة وجرير بن عبد الله وأبي هريرة" أما حديث عائشة فأخرجه الشيخان عنها مرفوعاً أن الله رفيق يحب الرفق في الأمر كله. ولها أحاديث أخرى في هذا الباب. أما حديث جرير بن عبد الله فأخرجه مسلم(6/154)
هذا حديثٌ حسنٌ صحيحٌ.
ـــــــ
وأبو داود كذا في الترغيب. وأما حديث أبي هريرة فأخرجه البخاري وفيه: فإنما يعثتم ميسرين ولم تبعثوا معسرين.
قوله: "هذا حديث حسن صحيح" وأخرجه أحمد(6/155)
67 ـ باب ما جاءَ في دَعَوةِ المظْلُوم
2083 ـ حَدّثنا أَبُو كُرَيْبٍ. حدثنا وَكِيعٌ عن زَكَرِيّا بنِ إِسْحَاقَ عن يَحْيَى بنِ عبدِ الله بنِ صَيْفِيٍ عن أبي مَعْبَدٍ عن ابنِ عَبّاسٍ: "أَنّ رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم بَعَثَ مُعَاذ بن جبل إِلَى الْيَمَنِ فَقَالَ: اتّقِ دَعْوَةَ المَظْلُومِ فإِنها لَيْسَ بَيْنَها وَبَيْنَ الله حِجَابٌ" .
وفي البابِ عن أَنَسٍ وأَبي هُرَيْرَةَ وعبدِ الله بنِ عَمْرٍو وأَبِي سَعِيدٍ
ـــــــ
"باب ما جاءَ في دَعَوةِ المظْلُوم"
قوله: "عن أبي معبد" اسمه نافذ بفاء معجمة مولى ابن عباس المكي ثقه من الرابعة.
قوله: "بعث معاذاً" بضم الميم أي أرسله أميراً وقاضياً "أتق دعوة المظلوم" أي اجتنب دعوة من تظلمه وذلك مستلزم لتجنب سائر أنواع الظلم "فإنه" أي الشأن "ليس بينها وبين الله" أي قبولها لها "حجاب" أي مانع بل هي معروضة عليه تعالى، وقيل هو كناية عن سرقة القبول. قال الطيبي رحمه الله: هذا تعليل للاتقاء وتمثيل للدعوة لمن يقصد إلى السلطان متظلماً فلا يحجب عنه.
قوله: "هذا حديث حسن صحيح" وأخرجه الشيخان وأبو داود والنسائي وابن ماجة.
قوله: "وفي الباب عن أنس وأبي هريرة وعبد الله بن عمرو وأبي سعيد" أما حديث أنس فأخرجه أحمد في مسنده وأبو يعلى، والضياء المقدسي عنه مرفوعاً: اتقوا دعوة المظلوم وإن كان كافراً فإنه ليس دونها حجاب. قال المناوي في التيسير: إسناده صحيح. وأما حديث أبي هريرة فأخرجه الترمذي في باب دعاء الوالدين(6/155)
ـــــــ
وقد تقدم. وأما حديث أبي سعيد فلينظر من أخرجهما(6/156)
68 ـ باب ما جاء في خُلُق النَّبيِّ صلى الله عليه و سلم
2085 حدثنا قتيبة حدثنا جعفر بن سليمان الضبعي عن ثابت عن أنس قال ثم خدمت النبي صلى الله عليه وسلم عشر سنين فما قال لي أف قط وما قال لشيء صنعته لم صنعته ولا لشيء تركته لم تركته
ـــــــ
" باب ما جاء في خلق النبي لى الله عليه وسلم"
قوله خدمت من باب ضرب ونصر عشر سنين وفي رواية مسلم تسع سنين قال النووي معناه أنها تسع سنين وأشهر فإن النبي صلى الله عليه وسلم أقام بالمدينة عشر سنين تحديدا لا تزيد ولا تنقص وخدمه أنس في أثناء السنة الأولى ففي رواية التسع لم يحسب الكسر بل اعتبر السنين الكوامل وفي رواية العشر حسبها سنة كاملة وكلاهما صحيح انتهى فما قال لي أف بضم الهمز وكسر الفاء المشددة منونة وغير منونة وفيها لغات كثيرة قال النووي في شرح مسلم ذكر القاضي وغيره فيها عشر لغات أف بفتح الفاء وضمها وكسرها بلا تنوين وبالتنوين فهذه ست وأف بضم الهمزة وإسكان الفاء وإف بكسر الهمزة وفتح الفاء وأفي وأفه بضم همزتهما قالوا وأصل الأف والتف وسخ الأظفار وتستعمل هذه الكلمة في كل ما يستقذر وهي اسم فعل تستعمل في الواحد والاثنين والجمع والمؤنث والمذكر بلفظ واحد قال الله تعالى {فَلا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ} قال الهروي يقال لكل ما سضجر منه ويستثقل أف له وقيل معناه الاحتقار مأخوذ من الأنف وهو القليل انتهى وقال في القاموس أف كلمة تكره وأفق تأفيفا وتأفق قالها ولغاتها أربعون ثم ذكرها وما قال لشيء صنعته لم صنعته ولا لشيء تركته لم تركته يعني لم يقل لشيء صنعته لم أصنعته ولا لشيء لم صنعه وكنت مأمورا به لم لا صنعته واعلم أن ترك اعتراض النبي صلى الله عليه وسلم على أنس رضي الله تعالى عنه فيما خالف أمره إنما يفرض فيما يتعلق بالخدمة وا داب لا فيما يتعلق بالتكاليف الشرعية فإنه لا يجوز ترك الاعتراض فيه وفيه أيضا مدح أنس فإنه لم يرتكب أمرا يتوجه إليه من النبي صلى الله(6/156)
وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم من أحسن الناس خلقا ولامسست خزا قط ولا حريرا ولا شيئا كان ألين من كف رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا شممت مسكا قط ولا عطرا كان أطيب من عرق النبي صلى الله عليه وسلم قال أبو عيسى وفي الباب عن عائشة والبراء وهذا حديث حسن صحيح
2085-حدثنا محمود بن غيلان حدثنا أبو داود قال أنبأنا شعبة عن أبي إسحاق قال سمعت أبا عبد الله الجدلي يقول ثم سألت عائشة عن خلق رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت لم يكن فاحشا ولا متفحشا ولا
ـــــــ
عليه وسلم اعتراض ما وما مسست بكسر السين الأولى ويفتح خزا قال في النهاية الخز المعروف أولا ثياب تنسج من صوف وإبريسم وهي مباحة وقد لبسها الصحابة والتابعون فيكون النهي عنها لأجل التشبه بالعجم وزي المترفين وإن أريد بالخز النوع الاخر وهو المعروف الان فهو حرام لأن جميعه معمول من الابريسم وعليه يحمل الحديث الاخر قوم يستحلون الخز والحرير انتهى ولا حريرا أي مطلقا ولا شممت بكسر الميم ويفتح قال الحافظ مسست بكسر المهملة الأولى على الأفصح وكذا شممت بكسر الميم وفتحها لغة ويقال في المضارع أمسه وأشمه بالفتح فيهما على الأفصح وبالضم على اللغة المذكورة وفي الحديث بيان كمال خلقه صلى الله عليه وسلم وحسن عشرته وحلمه وصفحه
قوله وفي الباب عن عائشة والبراء أما حديث عائشة فأخرجه الشيخان وغيرهما بألفاظ من طرق متعددة وأما حديث البراء فأخرجه البخاري في صفة النبي صلى الله عليه وسلم
قوله هذا حديث حسن صحيح وأخرجه الشيخان قوله لم يكن فاحشا أي ذا فحش في أقواله وأفعاله ولا متفحشا أي متكلفا فيه ومتعمدا كذا في النهاية قال القاضي نفت عنه تولي الفحش والتفوه(6/157)
صخابا في الأسواق ولا يجزي بالسيئة السيئة ولكن يعفو ويصفح. هذا حديث حسن صحيح وأبو عبد الله الجدلي اسمه عبد بن عبد ويقال عبد الرحمن بن عبد
ـــــــ
به طبعا وتكلفا ولا صخابا أي صياحا ولا يجزي بالسيئة السيئة بل بالحسنة ولكن يعفو أي في الباطن ويصفح أي يعرض في الظهر عن صاحب السيئة لقوله تعالى {فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ}
قوله "هذا حديث حسن صحيح" وأخرج نحوه البخاري من حديث عبد الله بن عمرو قوله وأبو عبد الله الجدلي اسمه إلخ قال الحافظ في التقريب أبو عبد الله الجدلي اسمه عبد أو عبد الرحمن بن عبد ثقة رمي بالتشيع من كبار الثالثة(6/158)
69-باب ما جاء في حسن العهد
2086 ـ حَدّثنا أبُو هِشَامٍ الرّفاعيّ حدثنا حَفْصُ بنُ غِيَاثٍ عن هِشَامٍ بنِ عُرْوَةَ عن أَبِيِه عن عائِشَةَ قَالَتْ: "ما غِرْتُ عَلَى أَحَدٍ مِنْ أَزْوَاجِ النبيّ صلى الله عليه وسلم مَا غِرْتُ عَلَى خَدِيجَةَ وَمَا بِي أَنْ أَكُونَ أَدْرَكْتُهَا وَمَا ذَاكَ
ـــــــ
" باب ما جاءَ في حُسْنِ الْعَهد"
وفي صحيح البخاري باب حسن العهد من الإيمان. قال أبو عبيد العهد هنا رعاية الحرمة وقال عياض: هو الاحتفاظ بالشيء والملازمة له. وقال الراغب: حفظ الشيء ومراعاته حالاً بعد حال
قوله: "ما غرت على أحد من أزواج النبي صلى الله عليه وسلم" بكسر الغين المعجمة من غار يغار نحو خاف يخاف "ما غرت على خديجة" ما الأولى نافية والثانية موصولة أو مصدرية. أي ما غرت مثل التي غرتها أو مثل غيرتي عليها والغيرة الحمية والأنف. قال الحافظ قوله على خديجة يريد من خديجة، فأقام على مقام من وحروف الجر تتناوب في رأي أو على سببية، أوبسبب خديجة،(6/158)
إِلاّ لِكَثْرَةِ ذِكْرِ رَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم لَها، وإِنْ كَانَ لَيَذْبَحُ الشّاةَ فَيَتَتَبّعُ بِهَا صَدَائقَ خَدِيجَةَ فَيُهْديهَا لَهُنّ".
هذا حديثٌ حسن صحيح غريب.
ـــــــ
وفيه ثبوت الغيرة، وأنها غير مستنكر وقوعها من فاضلات النساء فضلاً عمن دونهن. وأن عائشة كانت تغار من نساء النبي صلى الله عليه وسلم لكن كانت تغار من خديجة أكثر. وقد بينت سبب ذلك وإنه لكثرة ذكر النبي صلى الله عليه وسلم إياها، وأصل غيرة المرأة من تخيل محبة غيرها أكثر منها. وكثرة الذكر تدل على كثرة المحبة. وقال القرطبي: مرادها بالذكر لها مدحها والثناء عليها "وما بي أن أكون أدركتها" الجملة حالية وما نافية وفي رواية للشيخين: وما رأيتها، وهي تقتضي عدم الغيرة لعدم الباعث عليها غالباً، ولذا قالت "وما ذاك إلا لكثرة ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم لها" وفي رواية للنسائي من كثرة ذكره إياها وثنائه عليها "وإن" من مخففة المثقلة "ليذبح الشاة" أي شاة من الشياه "فيتتبع" أي يتطلب. قال في القاموس: تتبعه تطلبه، وقال فيه طلبه وتطلبه واطلبه كافتعله حاول وجوده وأخذه "بها" أي بالشاة المذبوحة يعني بأعضائها. وفي رواية للشيخين: وربما ذبح الشاة ثم يقطعها أعضاء ثم يبعثها في صدائق خديجة. "صدائق خديجة" أي أصدقائها جمع صديقة وهي المحبوبة "فيهديها لهن" من الإهداء أي يتحفهن إياها. ومطابقة الحديث للباب في إهداء النبي صلى الله عليه وسلم اللحم لأصدقاء خديجة وخلائلها رعياً منه لذمامها وحفظاً لعهدها. وقد أخرج الحاكم والبيهقي في الشعب من طريق صالح بن رستم عن ابن أبي مليكة عن عائشة رضي الله تعالى عنها قالت: "جاءت عجوز إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: كيف أنتم كيف حالكم كيف كنتم بعدنا، قالت بخير بأبي أنت وأمي يا رسول الله. فلما خرجت قلت يا رسول الله تقبل على هذه العجوز هذا الإقبال فقال: يا عائشة إنها كانت تأتينا زمان خديجة وإن حسن العهد من الإيمان" .
قوله: "هذا حديث حسن صحيح غريب" وأخرجه الشيخان(6/159)
70 ـ باب ما جاءَ في مَعَالِي الأَخْلاَق
2087 ـ حَدّثنا أَحمدُ بنُ الْحَسَنِ بنِ خِرَاشٍ الْبَغْدَادِي حدثنا حَبّانّ بنُ هِلاَلٍ، حدثنا مُبَارَكُ بنُ فَضَاَلةَ حدثني عَبْدُ رَبّهِ بنُ سَعِيدٍ عن محمّدِ بنِ المُنْكَدِرِ عن جابِرٍ أَنّ رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم قال: "إنّ مِنْ أَحَبّكُمْ إِلَيّ وَأقْرَبِكُمْ مِنّي مَجْلِساً يَوْمَ القِيَامَةِ أَحَاسِنَكُمْ أَخْلاَقاً، وإِنّ مِنْ أَبْغَضِكُمْ إِلَيّ وَأَبْعَدِكُمْ مِنّي مجلساً يَوْمَ القِيَامَةَ الثّرثَارُونَ وَالمُتَشَدّقُونَ وَالمُتَفَيْهِقُونَ، قاُلوا:
ـــــــ
"باب ما جاءَ في مَعَالِي الأَخْلاَق"
جمع المعلاة قال في القاموس: المعلاة كسب الشرف، وقال في الصراح: علاء بالفتح والمد بلندي درقدر ونزلت على بالضم والقصر معلاة بالفتح، كذلك والجمع المعالي
قوله: "حدثنا أحمد بن الحسن بن خراش البغدادي" أبو جعفر صدوق، من الحادية عشرة "حدثنا حبان بن هلال" بفتح الحاء المهملة وتشديد الموحدة أبو حبيب البصري ثقة ثبت من التاسعة "حدثنا مبارك بن فضالة" بفتح الفاء وتخفيف المعجمة أبو فضالة البصري صدوق يدلس ويسوي من السادسة "حدثني عبد ربه بن سعيد" بن قيس الأنصاري أخو يحيى المدني ثقة من الخامسة.
قوله: "إن من أحبكم إلي" أي في الدنيا "أحاسنكم أخلاقاً" نصبه على التمييز وجمعه لإرادة الأنواع أو لمقابلة الجمع بالجمع "وإن من أبغضكم إلي" أي في الدنيا وأبعدكم مني يوم القيامة الثرثارون". وفي حديث أبي ثعلبة الخشني عند البيهقي: وأبعدكم متى مساويكم أخلاقاً الثرثارون الحديث. قال القاري: ويروي أساويكم جمع أسوء كأحاسن جمع أحسن وهو مطابق لما في أصل المصابيح. وقال القاضي أفعل التفضيل إذا أضيف على معنى أن المراد به زائد على المضاف إليهم في الخصلة التي هودهم مشتركون فيها، جاز الإفراد والتذكير في الحالات كلها، وتطبقه لما هو وصف له لفظاً ومعنى. وقد جمع الوجهان في الحديث فأفرد أحب وبغض(6/160)
يا رسولَ الله قَدْ عَلِمْنَا الثّرثَارِينَ وَالمُتَشَدّقِينَ فَما المُتَفَيْهِقُونَ؟ قال المُتَكَبّرُونَ" .
وفي البابِ عن أَبي هُرَيْرَةَ.
ـــــــ
وجمع أحاسن وأساويء في رواية من روى أساويكم بدل مساويكم، وهو جمع مسوئ كمحاسن في جمع محسن. وهو إما مصدر ميمي نعت به ثم جمع أو اسم مكان بمعنى الأمر الذي فيه السوء، فأطلق على المنعوت به مجازاً. وقال الدارقطني: أراد بأبغضكم بغيضكم وبأحبكم التفضيل فلا يكون المخاطبون بأجمعهم مشتركين في البغض والمحبة. وقال الحاجبي تقديره أحب المحبوبين منكم وأبغض المبغوضين منكم ويجوز إطلاق العام وإرادة الخاص للقرينة. قال الطيبي: إذا جعل الخطاب خاصاً بالمؤمنين فكما لا يجوز أبغضكم لا يجوز بغيضكم لاشتراكهم في المحبة، فالقول ما ذهب إليه ابن الحاجب، لأن الخطاب عام يدخل فيه البر والفاجر والموافق والمنافق، فإذا أريد به المنافق الحقيقي فالكلام ظاهر، وإذا أريد به غير الحقيقي كما سبق في باب علامات النفاق فمستقيم أيضاً، كما يدل عليه قوله الثرثارون. وفي النهاية الثرثارون هم الذي يكثرون الكلام تكلفاً وخروجاً عن الحق، والثرثرة كثرة الكلام وترديده. "والمتشدقون" قال في النهاية: المتشدقون هم المتوسعون في الكلام من غير احتياط واحتراز. وقيل أراد بالمتشدق المستهزئ بالناس يلوي شدقه بهم وعليهم انتهى. والشدق جانب الفم "والمتفيهقون" هم الذين يتوسعون في الكلام ويفتحون به أفواههم، مأخوذ من الفهق وهو الامتلاء والاتساع، كذا في النهاية.
قيل وهذا من الكبر والرعونة. وقال المنذري في الترغيب: الثرثار بثائين مثلثين مفتوحتين هو الكثير الكلام تكلفاً، والمتشدق هو المتكلم بملئ شدقه تفاصحاً وتعظيماً لكلامه، والمتفيهق أصله من الفهق وهو الامتلاء، وهو بمعنى المتشدق لأنه الذي يملأ فمه بالكلام ويتوسع فيه إظهاراً لفصاحته وفضله واستعلاء على غيره. ولهذا فسره النبي صلى الله عليه وسلم بالمتكبر انتهى.
قوله: "وفي الباب عن أبي هريرة" أخرجه الطبراني في الصغير والأوسط عنه مرفوعاً: إن أحبكم إلى أحاسنكم أخلاقاً الموطئون أكنافاً الذين يألفون(6/161)
وهذا حديثٌ حسنٌ غريبٌ من هذا الْوَجْهِ.
الثّرْثَارُ: هُوَ الكَثِيرُ الْكَلامِ، وَالمُتَشَدّقُ: الْذِي يَتَطاوَلُ عَلَى النّاسِ في الْكَلامِ ويَبْذُو عَلَيْهِم وَرَوَى بَعْضُهُمْ هذا الحديثَ عن المُبَارَكِ بنِ فَضَالَةَ عن محمدِ بنِ المُنْكَدِرِ عن جابِرِ عن النبيّ صلى الله عليه وسلم، ولم يَذْكُرْ فِيهِ عن عَبْدِ رَبّهِ بن سَعِيدٍ. وهذا أصَحّ.
ـــــــ
ويؤلفون، وإن أبغضكم إلى المشاؤن بالنميمة، المفرقون بين الأحبة، الملتمسون للبراء العيب. كذا في الترغيب.
قوله: "هذا حديث حسن غريب من هذا الوجه" وأخرجه أحمد والطبراني وابن حبان في صحيحه عن أبي ثعلبة الخشني كذا في الترغيب.
قوله: "والمتشدق هو الذي يتطاول على الناس في الكلام ويبذو عليهم" كذا فسره الترمذي وتفسيره المشهور هو ما ذكره المنذري وصاحب النهاية. "وهذا أصح" قال الحافظ في تهذيب التهذيب في ترجمة مبارك بن فضالة: روي عن أبن المنكدر وعبد ربه بن سعيد وغيرهما انتهى. فالظاهر أن مبارك بن فضالة روى هذا الحديث أولاً عن ابن المنكدر بواسطة عبد ربه بن سعيد، ثم لقيه فرواه عنه بغير واسطة(6/162)
باب ما جاء في اللعن و الطعن
...
71 ـ باب ما جاءَ في اللّعْنِ وَالطّعْن
2088 ـ حَدّثنا محمد بن بشار، حدثنا أبُو عامِرٍ عن كَثِيرِ بنِ زَيْدٍ عن سَالِم
ـــــــ
" باب ما جاءَ في اللّعْنِ وَالطّعْن"
قال في القاموس لعنه كمنعه طرده وأبعده. وقال في المجمع: اللعنة هي الطرد والإبعاد، ولعن الكافر إبعاده عن الرحمة كل الإبعاد ولعن الفاسق إبعاده عن رحمة تخص المطيعين انتهى. وقال في القاموس: طعنه بالرمح كمنعه ونصره طعناً ضربه ووخزه فهو مطعون وطعين وفيه بالقول طعناً وطعناناً انتهى. وقال في النهاية: لا يكون المؤمن طعاناً، أي وقاعاً في أعراض الناس بالذم والغيبة ونحوهما.(6/162)
عن ابنِ عُمَرَ قال: قال النبيّ صلى الله عليه وسلم: "لا يَكُونُ المُؤْمِنُ لَعّاناً" .
وفي الباب عن عبد الله بن مسعود وهذا حديث حسن غريب. وروى بَعْضُهُمْ بهذا الإسناد عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا يَنْبَغِي لِلمُؤمِنِ أَنْ يَكُونَ لَعّاناً" .
ـــــــ
وهو فعال من طعن فيه وعليه بالقول يطعن بالفتح والضم إذا عابه، ومنه الطعن في النسب انتهى
قوله: "عن كثير بن زيد" الأسلمي ثم السهمي مولاهم المدني، يقال له ابن صاقنة وهي أمه. روى عن سالم بن عبد الله بن عمر، وغيره وعنه أبو عامر العقدي وغيره صدوق يخطئ من السابعة.
قوله: "لا يكون المؤمن لعاناً" أي كثير اللعن، وهو الطرد، والمراد به هنا الدعاء بالبعد عن رحمة الله تعالى وإنما أتى بصيغة المبالغة لأن الاحتراز عن قليله نادر الوقوع في المؤمنين. قال ابن الملك: وفي صيغة المبالغة إيذان بأن هذا الذم لا يكون لمن يصدر منه اللعن مرة أو مرتين. وفي حديث أبي هريرة عند مسلم مرفوعاً: لا ينبغي تصديق أن يكون لعاناً .
قوله: "وفي الباب عن ابن مسعود" أخرجه الترمذي في باب ما جاء في اللعنة.
قوله: "هذا حديث حسن غريب" ذكر المنذري هذا الحديث في ترغيبه، ونقل تحسين الترمذي وسكت عنه.
قوله: "لا ينبغي للمؤمن" أي لا يجوز له وقد جاء في الكتاب والسنة: لا ينبغي بمعنى لا يجوز كما في قوله تعالى {وَمَا يَنْبَغِي لِلرَّحْمَنِ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَداً} وتقدم تحقيقه في المقدمة. ووقع في بعض نسخ الترمذي بعد هذا: وهذا الحديث مفسر يعني أن هذه الرواية بهذا اللفظ مفسرة للرواية السابقة بلفظ: لا يكون المؤمن لعاناً. يعني أن النفي فيها بمعنى النهي.
تنبيه: اعلم أن الترمذي رحمه الله قد عقد فيما تقدم باباً بلفظ باب ما جاء في اللعنة، ثم عقد ههنا هذا الباب، ففيه تكرار، فلو أدخل حديث هذا الباب في الباب المتقدم وأسقط هذا الباب لكان أولى(6/163)
72 ـ باب ما جاءَ في كَثْرَةِ الْغضَب
2089 ـ حَدّثنا أبو كُرَيْبٍ وحدثنا أبو بَكْرِ بنِ عَيّاشٍ عن أبِي حَصِيْنٍ عن أبِي صالِحٍ عن أَبي هُرَيْرَةَ قال: "جَاءَ رَجُلُ إِلَى النبيّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: "عَلّمْنِي شَيْئاً وَلاَ تُكْثِرْ عَلَيّ لَعَلّي أَعِيهُ. قال: لا تَغْضَبْ، فَرَدّدَ ذَلِكَ مِرَاراً، كلّ ذَلِكَ يَقُولُ لا تَغْضَبْ" .
ـــــــ
"باب ما جاء في كثرة الغضب"
قال في القاموس: الغضب بالتحريك ضد الرضا كالمغضبة، غضب كسمع عليه وله إذا كان حياً وغضب به إذا كان ميتاً. وقال بعض المحققين: الغضب فوران دم القلب أو عرض يتبعه ذلك لدفع المؤذيات وللانتقام بعد وقوعها
قوله: "علمني شيئاً" أي أرشدني بخصوصي إلى عموم ما ينفعني ديناً ودنيا ويقربني إلى الله زُلْفَى "ولا تكثر على" من الإكثار وعلي صلة له والمعنى لا تعلمني أشياء كثيرة "لعلي أعيه" أي أحفظه. قال في القاموس: وعاه يعيه حفظه وجمعه "لا تغضب" قيل لعل السائل كان غضوباً وكان النبي صلى الله عليه وسلم يأمر كل أحد بما هو أولى به فلهذا اقتصر في وصيته له على ترك الغضب. وقال الخطابي معنى قوله لا تغضب: اجتنب أسباب الغضب ولا تتعرض لما يجلبه. وأما نفس الغضب فلا يتأتى النهي عنه لأنه أمر طبعي لا يزول من الجبلة. وقيل معناه لا تغضب لأن أعظم ما ينشأ عنه الغضب الكبر لكونه يقع عند مخالفة أمر يريده فيحمله الكبر على الغضب. فالذي يتواضع حتى يذهب عنه عزة النفس يسلم من شر الغضب. وقيل معناه: لا تفعل ما يأمرك به الغضب. وقال ابن التين: جمع صلى الله عليه وسلم في قوله: لا تغضب خير الدنيا والاَخرة، لأن الغضب يؤول إلى التقاطع ومنع الرفق وربما آل إلى أن يؤذي المغضوب عليه فينتقص ذلك من الدين "فردد ذلك" أي الرجل السؤال يلتمس أنفع من ذلك، أو أبلغ أو أعم فلم يزده على ذلك "مراراً" أي مرة بعد أخرى "كل ذلك يقول لا تغضب" في رواية عثمان بن أبي شيبة قال: لاتغضب ثلاث مرات، وفيها بيان عدد المرار(6/164)
وفي البابِ عن أَبِي سَعِيدٍ وَسُلَيْمانَ بنِ صُرَدَ. وهذا حديثٌ حسنٌ صحيحٌ غريب من هذا الْوَجْهِ. وأبو حَصِينٍ اسمُه عُثْمانُ بنُ عاصِمٍ الأسَدِيّ.
ـــــــ
قاله الحافظ. فإن قلت هذا الحديث لا يطابق الباب فإن قوله لا تغضب يدل على النهي عن مطلق الغضب لا عن كثرة الغضب. قلت: الظاهر أن المراد بقوله لا تغضب النهي عن كثرة الغضب لأن مطلق الغضب غريزة لا يمكن الاجتناب عنه فالمطابقة ظاهرة "وفي الباب عن أبي سعيد وسليمان بن صرد" أما حديث أبي سعيد فأخرجه الترمذي في باب خبر النبي صلى الله عليه وسلم بما هو كائن إلى يوم القيامة من أبواب الفتن. وأما حديث سليمان بن صرد فأخرجه الشيخان.
قوله: "هذا حديث حسن صحيح غريب" وأخرجه أحمد والبخاري "وأبو حصين اسمه عثمان بن عاصم الأسدي" قال في التقريب: عثمان بن عاصم بن حصين الأسدي الكوفي، أبو حصين بفتح المهملة. ثقة ثبت سني وربما دلس من الرابعة(6/165)
باب ما جاء في كظم الغيظ
...
73 ـ باب في كَظْمِ الْغَيْظ
2090 ـ حَدّثنا الْعَبّاسُ بنُ محمّدٍ الدّودِيّ وغَيْرُ وَاحِدٍ، قالوا حدثنا عبدُ الله بنُ يَزِيدَ المُقْرِي حدثنا سَعِيدُ بنُ أَبِي أيّوبَ، حدثني أبو مَرْحُومٍ عبدُ الرّحِيمِ بنُ مَيْمُونٍ عن سَهْلِ ابنِ معَاذٍ بنِ أَنَسٍ الْجُهَنِيّ عن أَبِيِه عن النبيّ
ـــــــ
" باب في كَظْمِ الْغَيْظ"
قد سقط هذا الباب من بعض النسخ
قوله: "أخبرنا سعيد بن أبي أيوب" الخزاعي مولاهم المصري أبو يحيى بن مقلاص ثقة ثبت من السابعة "عن سهل بن معاذ بن أنس الجهني" نزيل مصر لابأس به إلا في روايات زبان عنه من الرابعة "عن أبيه" أي معاذ بن أنس الجهني الأنصاري صحابي، نزل مصر وبقي إلى خلافة عبد الملك.(6/165)
صلى الله عليه وسلم قال: "مَنْ كَظَمَ غيْظاً وَهُوَ يَسْتَطِيعُ أَنْ يَنَفّذَهُ دَعَاهُ الله يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى رُؤوس الْخَلاَئقِ حَتّى يُخَيّرَهُ فِي أَيّ الْحُورِ شاءَ" .
هذا حديث حسن غريب.
ـــــــ
قوله: "من كظم غيظاً" أي اجترع غضباً كامناً فيه. قال في النهاية كظم الغيظ تجرعه واحتمال سببه والصبر عليه انتهى. "وهو يستطيع أن ينفذه" بتشديد الفاء أي يمضيه. وفي حديث أبي هريرة عند ابن ابي الدنيا: وهو يقدر على إنفاذه فيجوز تخفيف الفاء والجملة حالية وجواب الشرط "دعاه الله يوم القيامة على رؤوس الخلائق" أي شهره بين الناس وأثنى عليه وتباهى به ويقال في حقه هذا الذي صدرت منه هذه الخصلة العظيمة "حتى يخيره" أي يجعله مخيراً "في أي الحور شاء" أي في أخذ أيهن شاء، وهو كناية عن إدخاله الجنة المنيعة، وإيصاله الدرجة الرفعية. قال الطيبي: وإنما حمد الكظم لأنه قهر للنفس الأمارة بالسوء، ولذلك مدحهم الله تعالى بقوله: {وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ} ومن نهى النفس عن هواه فإن الجنة مأواه والحور العين جزاه. قال القاري: وهذا الثناء الجميل والجزاء الجزيل هذا ترتب على مجرد كظم الغيظ فكيف إذا انضم العفو إليه أو زاد بالإحسان عليه.
قوله: "هذا حديث حسن غريب" ، وأخرجه أحمد في مسنده وأبو داود وابن ماجة(6/166)
74 ـ باب ما جاءَ في إِجْلاَلِ الكَبِير
2091 ـ حَدّثنا محمدُ بنُ المُثَنّى، حدثنا يَزِيد بن بَيَانٍ الْعُقَيلِيّ، حدثني
ـــــــ
" باب ما جاءَ في إِجْلاَلِ الكَبِير"
أي تعظيمه والمصدر مضاف إلى المفعول
قوله: "حدثنا يزيد بن بيان العقيلي" بالضم أبو خالد البصري ضعيف من التاسعة. وقال في تهذيب التهذيب: يزيد بن بيان العقيلي أبو خالد البصري، المعلم الضرير المؤذن، روى عن أبي الرحال الأنصاري عن أنس حديث: ما أكرم شاب شيخاً(6/166)
أبو الرّحّالِ الأنصَارِيّ عن أَنَسِ بنِ مَالِكٍ قال: قال رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم: "مَا أَكْرَمَ شَابٌ شَيْخاً لِسِنّهِ إِلاّ قَيّضَ الله لَهُ مَنْ يُكْرِمُهُ عِنْدَ سِنّهِ" .
ـــــــ
لسنه الحديث "حدثني أبو الرحال الأنصاري" بفتح الراء وتشديد الحاء المهملة البصري اسمه محمد بن خالد وقيل خالد بن محمد.
اعلم أن كون أبي الرحال بفتح الراء وتشديد الحاء المهملة هو الصواب في هذا السند وأما قول الترمذي في آخر هذا الباب وأبو الرجال الأنصاري آخر فهو بكسر الراء وتخفيف الجيم فاحفظ هذا. وقد وقع في النسخة الأحمدية في هذا السند أبو الرجال بكسر الراء وتخفيف الجيم، قال في هامشها: قوله أبو الرجال بالجيم وفي آخر الباب بالحاء هذا ما وجدته في الكتب الدهلوبة وفي نسخة صحيحة منقولة من العرب عكسه وعليهما فيها علامة الصحة انتهى.
قلت: ما في النسخة الصحيحة المنقولة من العرب من كون أبي الرحال بالحاء المهملة في هذا السند وكون أبي الرجال بالجيم في آخر الباب هو الصواب لما عرفت آنفاً في عبارة تهذيب التهذيب من أن يزيد بن بيان العقيلي روى حديث الباب عن أبي الرحال، ولأن الحافظ رمز على أبي الرحال بفتح الراء وتشديد الحاء المهملة بحرف ت ورمز على أبي الرجال بكسر الراء وتخفيف الجيم بحروف خ م س ق، ولأن الحافظ قال في ترجمة أبي الرحال بالحاء المهملة روى عن أنس وغيره وعنه يزيد بن بيان العقيلي وغيره. فهذه الوجوه الثلاثة تدل بمجموعها على أن في هذا السند أبا الرحال بالحاء المهملة دون أبي الرجال بالجيم وأبو الرحال بفتح الراء وتشديد الحاء المهملة الأنصاري البصري اسمه محمد بن خالد وقيل خالد بن محمد ضعيف من الخامسة. وأما أبو الرجال فقال في التقريب محمد بن عبد الرحمن بن حارثة الأنصاري أبو الرجال بكسر الراء وتخفيف الجيم، مشهور بهذه الكنية وهي لقبه، وكنيته في الأصل أبو عبد الرحمن ثقة من السابعة.
قوله: "ما أكرم" أي ما أعظم ووقر "لسنه" أي لأجل سنه، لا لأمر آخر قاله المناوي. وقال القاري: أي كبر عمره لأن الغالب عليه زيادة علم وعمل مع سبق إيمانه انتهى "إلا قيض الله" بتشديد التحتية ومنه قوله تعالى: {وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَاناً فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ} أي سلط ووكل "له" أي(6/167)
هذا حديث غريبٌ لا نَعْرِفُهُ إِلا من حديثِ هذا الشّيْخِ يَزِيدَ بنِ بَيَانٍ وأبو الرّجّالِ الأنصَارِيّ آخَرُ.
ـــــــ
للشاب "من يكرمه" أي قريناً يعظمه ويخدمه لأن من خدم خدم "عند سنه" أي حال كبره مجازاة له على فعله بأن يقدر له عمراً يبلغ به إلى الشيخوخة ويقدر له من يكرمه.
قوله: "هذا حديث غريب" في سنده ضعيفان كما عرفت فالحديث ضعيف(6/168)
75 ـ بابُ ما جاءَ في المُتَهَاجِرَيْن
2092 ـ حَدّثنا قُتَيْبَةُ حدثنا عبدُ العَزِيزِ بنُ محمّدٍ عن سُهَيْلِ بنِ أَبِي صالحٍ عن أَبِيِه عن أَبي هُرَيْرَةَ أَنّ رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم قال: "تُفْتَحُ أَبْوَابُ الْجَنّةِ يَوْمَ الاِثْنَيْنِ وَالْخَمِيسِ فَيُغْفَرُ فِيهِمَا لِمَنْ لاَ يُشْرِكُ بالله شيئاً إِلاّ المُتَهَاجِرِيْنِ يَقُولُ: رُدّوا هَذَيْنِ حَتّى يَصْطَلِحَا" .
ـــــــ
"باب ما جاء في المتهاجرين"
قوله: "عن سهيل بن أبي صالح" ذكون السمان أبي يزيد المدني صدوق تغير حفظه بآخره، روى له البخاري مقروناً وتعليقاً من السادسة.
قوله: "تفتح أبواب الجنة" أي حقيقة، لأن الجنة مخلوقة الاَن وفتح أبوابها ممكن، أو هو بمعنى إزالة المانع ورفع الحجب وفي شرح مسلم قال القاضي قال الباجي معنى فتحها كثرة الصفح والغفران ورفع المنازل وإعطاء الثواب الجزيل. قال القاضي: ويحتمل أن يكون على ظاهره وأن فتح أبوابها علامة لذلك انتهى. قلت: هذا الاحتمال هو الظاهر، فالأولى أن يحمل الحديث على ظاهره "يوم الاثنين والخميس" أي لكثرة الرحمة النازلة فيهما الباعثة على الغفران "إلا المهتجرين" أي المتقاطعين "يقول ردوا" وفي رواية مسلم انظروا: أي أمهلوا أي لا تعطوا منها أنصباء هذين المتهاجرين المتعاديين، وأخروا مغفرتهما من ذنوبهما مطلقاً، زجراً لهما أو من ذنب الهجران فقط "حتى يصطلحا" أي يتصالحا(6/168)
هذا حديثٌ حسنٌ صحيحٌ.
ويُروَى في بعضِ الحديثِ: "ذَرُوا هَذَيْنِ حَتّى يَصْطَلِحَا" قال: ومعنَى قَوْلِه المُتَهَاجِرَيْن: يَعْنِي المُتَصَارِمَيْنِ. وهذا مِثْلُ مَا رُوِيَ عن النبيّ صلى الله عليه وسلم أنه قال: "لا يَحِلّ لِمُسْلِمٍ أَنْ يَهْجُرَ أَخَاهُ فَوقَ ثَلاَثَةِ أَيّامٍ" .
ـــــــ
ويزول عنهما الشحناء فلا يفيد التصالح للسمعة والرياء. والظاهر أن مغفرة كل واحد متوقفة على صفائه وزوال عدوانه سواء صفا لصاحبه أم لا. قال الطبيبي وأتى باسم الإشارة بدل الضمير لمزيد التمييز والتعيين.
قوله: "هذا حديث حسن صحيح" وأخرجه مسلم والبخاري في الأدب المفرد وأبو داود.
قوله: "ردوا هذين" أي ادعوهما "ومعنى قوله المتهاجرين يعني المتصارمين" أي المتقاطعين قال في القاموس: صرمه يصرمه صرماً ويضم: قطعه قطعاً بائناً، وفلاناً قطع كلامه انتهى.
قوله: "وهذا مثل ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم" قال: لا يحل لمسلم أن يهجر أخاه فوق ثلاثة أيام رواه مسلم عن عبد الله بن عمر، ورواه الترمذي من حديث أبي أيوب الأنصاري في باب كراهية الهجرة(6/169)